تاريخ الحروب الصليبية (1)
دولة السلاجقة
وبروز مشروع إسلامى لمقاومة
التغلغل الباطنى والغزو الصليبى
الدكتور
علي محمد محمد الصَّلاَّبي(/)
جميع الحقوق محفوظة
الطبعة الأولى
1427هـ - 2006م
رقم الإيداع: 7925/ 2006م
بطاقة الفهرسة
فهرسة أثناء النشر إعداد الهيئة المصرية العامة
لدار الكتب والوثائق القومية
إدارة الشئون الفنية
الصلابي، على محمد.
دولة السلاجقة / على محمد محمد الصلابي. ط1 - القاهرة
مؤسسة اقرأ للنشر والتوزيع والترجمة، 2006
مج1 (624ص)، 24 سم ... تدمك: 4 - 82 - 6119 - 977
1 - الدولة السلجوقية ... 2 - العنوان
953.739
مؤسسة اقرأ
للنشر والتوزيع والترجمة
10 ش أحمد عمارة - بجوار حديقة الفسطاط
القاهرة ت: 5326610 ... محمول: 0102327302 - 101175447
www.iqraakotob.com
E-mail:info@iqraakotob.com(1/2)
الإهداء
إلى كل مسلم حريص على إعزاز دين الله ونصرته، أهدي هذا الكتاب سائلاً المولى, عز وجل، بأسمائه الحسنى وصفاته العُلى أن يكون خالصاً لوجهه الكريم.
قال تعالى: {فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحًا وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف: 111].(1/3)
المقدمة
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مُضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُم مُّسْلِمُونَ} [آل عمران: 102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأرْحَامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء: 1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا - يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب: 70،71].
يارب لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك, ولك الحمد حتى ترضى، ولك الحمد إذا رضيت، ولك الحمد بعد الرضا، فلله تعالى الحمد كما ينبغي لجلاله, وله الثناء كما يليق بكماله، وله المجد كما تستدعيه عظمته وكبرياؤه, أما بعد:
هذا الكتاب امتداد لما سبقه من كتب درست عهد النبوة وعهد الخلافة الراشدة، وقد صدر منها: السيرة النبوية عرض وقائع وتحليل أحداث، أبو بكر الصديق، وعمر بن الخطاب، وعثمان بن عفان، وعلي بن أبي طالب، والحسن بن علي رضي الله عنهم جميعاً، والدولة الأموية, وقد سميت هذا الكتاب «دولة السلاجقة وبروز مشروع إسلامي لمقاومة التغلغل الباطني والغزو الصليبى» , ويعتبر حلقة مهمة ضمن سلسلة حلقات تاريخ أمتنا والمتعلقة بالحروب الصليبية والتي نسأل الله تعالى بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يوفقنا لإتمامها وأن تكون خالصة لوجهه الكريم ويطرح في كل الكتب القبول والبركة من عنده، وهذا الكتاب يتحدث عن السلاجقة وأصولهم وسلاطينهم ومواطنهم وبداية ظهورهم، وعن اتصال الأتراك بالعالم الإسلامي، وعن المشرق الإسلامي قبيل ظهور السلاجقة, وعن الدولة السامانية والغزنوية والصراع الغزنوي السلجوقي، ومعركة دندانقان وقيام السلطنة السلجوقية, ويتحدث عن الدولة القراخانية، وعن البويهيين وتشيعهم وإهانتهم للخلفاء العباسيين، وعن صلتهم بالقرامطة، وموقفهم من حماية حدود الدولة الإسلامية، وعن جهودهم في مناصرة حركة التشيع وإثارة التفرقة والنعرات الضيقة وإنشائهم مراكز شيعية متخصصة في التأليف والتعليم وإشاعة الآراء المنحرفة للفلاسفة مثل حركة إخوان الصفا،(1/5)
وعن نهاية الدولة البويهية، ويتحدث عن اجتماع السلاجقة على زعامة طغرل بك وتوسع دولتهم واعتراف الخليفة العباسي بهم، ويتكلم هذا الكتاب عن النفوذ الفاطمي العبيدي في العراق وفتنة البساسيري، وعقيدة الدولة الفاطمية العبيدية وصلتها بالقرامطة، وعن حكم العلماء في الفرق الباطنية، وعن جهود هبة الله الشيرازي في نشر الفكر الباطني في العراق وما حولها ودعمه للحركة الانقلابية التي قام بها القائد العسكري البساسيري للقضاء على الخلافة العباسية وضم العراق للدولة الفاطمية العبيدية، وعن استيلاء البساسيري على بغداد
وإقامة الخطبة فيها للفاطميين، وعن رسالة الخليفة القائم بأمر الله من أسره إلى طغرل بك، واستجابته لنداء الخليفة ومقتل البساسيري ومحاربة السلاجقة للدعوة الفاطمية العبيدية، وعن موقف الدولة السلجوقية من الدولة البيزنطية في عهد طغرل بك, وعن جهود الوزير السلجوقي عميد الملك الكندري في خدمة الدولة، ويتضمن هذا الكتاب سيرة السلطان السلجوقي ألب أرسلان الذي تولى السلطنة بعد طغرل بك وعن جهاده في سبيل الله، وحملته على الشام وضم حلب وعن انتصاره الشهير الكبير في معركة ملاذكرد سنة 463هـ على الروم ووقوع ملكهم في الأسر وما ترتب على تلك المعركة من نتائج، ويتحدث عن وفاة ألب أرسلان وتولى ابنه ملكشاه من بعده السلطنة, وعن سيرة ملكشاه بنوع من التفصيل، وعن سيرة الحسن الصباح والدعوة النزارية الإسماعيلية الحشيشية وسيطرته على قلعة ألموت وعن مراتب ودرجات أعضاء الدعوة النزارية الباطنية، ومهام الدعاة عندهم، ومراحل الدعوة لديهم، ومنطلقات الحركات الباطنية، وأساليبهم في خداع جماهير الناس، وعن المراسلة التي تمت بين الحسن الصباح، والسلطان ملكشاه، ويعطي نبذة مختصرة عن دولة الإسماعيلية في إيران، ويتكلم عن الخليفة القائم بأمر الله العباسي وخلافة ابنه المقتدى بالله، وتدهور العلاقات بين ملكشاه والمقتدى بأمر الله، ويبرز الكتاب المشروع السني الذي قام به الوزير السلجوقي نظام الملك في عهد ألب أرسلان وملكشاه، ويفصل في سيرة هذا السياسي الكبير، فيتحدث عن ضبطه لأمور الدولة، والتصور النظري عنده لها واهتمامه بالتنظيمات الإدارية، والبعد الاقتصادي وعنايته بالمنشآت المدنية، ودوره في النهوض بالحركة العلمية والأدبية، وعن عبادته، وتواضعه, ومدح الشعراء له, وعن وفاته وتأثر أهل بغداد والمسلمين بوفاته ورثاء الشعراء له بقصائد منهم مقاتل بن عطية حيث قال:
كان الوزير نظام الملك لؤلؤة ... يتيمة صاغها الرحمن من شرف
عزَّت فلم تعرف الأيام قيمتها ... فردَّها غيرةً منه إلى الصدف(1/6)
ويمضي الكتاب مع القارئ إلى عهد التفكك وضعف وانهيار الدولة السلجوقية، ويشير إلى الصراع بين بركيارق بن ملكشاه، وتركان خاتون زوجة أبيه التي قاتلت من أجل تولى ابنها محمود الطفل الصغير للسلطنة ويفصل الكتاب في الصراعات الداخلية والقتال الذي حدث داخل البيت السلجوقي، ووفاة بركيارق بن ملكشاه وتولي محمد بن ملكشاه السلطنة والذي قام بمحاربة الباطنية. وتناول الكتاب سيرة الخليفة المستظهر بالله، وسيرة السلطان السلجوقي سنجر بن ملكشاه، والصراع الداخلي في البيت السلجوقي على السلطنة، وسيرة السلطان مسعود بن محمد بن ملكشاه، وصراعه مع الخليفة العباسي المسترشد بالله الذي حاول انتزاع حقوق الخليفة من السلاطين السلاجقة وإعادة هيبة الخلافة إلا أنه وقع في الأسر ثم قُتل بواسطة الباطنية, ثم تولى الخليفة الراشد بعد والده المسترشد إلا أنه عزل ثم قُتل في عهد السلطان مسعود السلجوقي، وتحدثت عن مظاهر السيطرة السلجوقية على الخلافة العباسية والتي منها: نقل مقر الحكومة خارج بغداد، وتفويض السلطة من الخليفة إلى السلطان السلجوقي، وتدخل السلاجقة في ولاية العهد، وحرمان الخلافة العباسية خلال فترة السيطرة السلجوقية من إعادة تشكيل الجيش. وتكلمت عن بداية انتعاش الخلافة العباسية في عهد المقتفي لأمر الله المتوفى سنة 555هـ والذي سيأتي الحديث عنه بإذن الله عند حديثنا عن الزنكيين، وأشرت إلى نهاية الدولة السلجوقية وأسباب زوالها.
وفي الفصل الثاني تطرقت إلى نظام الوزارة العباسية في العهد السلجوقي وعن صفات وزير الخليفة العباسي من العلم، والرأي السديد، والعدل، والكفاية والسياسة والشئون الدينية، وقوانين الوزارة والبلاغة وحسن الترسل والمحبة لدى العامة والخاصة, والمعرفة بقواعد ديوان الخلافة, وعن صفات الوزير السلجوقي، من محبة العلم والعلماء والعدل، والصلاح والفقه، وإجادة اللغتين العربية والفارسية, والكفاية، وتدبير البلاد والجيوش، والشهامة والصبر, وعن مراسم تقليد الوزير العباسي والسلجوقي وألقابهم وامتيازاتهم وصلاحياتهم الإدارية والسياسية والمالية والعسكرية، وعن أساليب العزل والمصادرة، وعن المساومة والمنافسة على منصب الوزارة العباسية والوزارة السلجوقية, وترجمت لأشهر وزراء الخلفاء العباسيين في العهد السلجوقي كفخر الدولة بن جهير، وعميد الدولة بن جهير, والوزير أبى شجاع محمد بن الحسين الروذراوري وهو القائل عن الوزارة:
تولاها وليس له عدو ... وفارقها وليس له صديق
والوزير الحسن بن علي بن صدقة، وشرف الدين علي بن طراد الزينبي، والوزير الكبير عون الدين بن هبيرة الذي ستأتي - بإذن الله- ترجمته مفصلة في سيرة نور الدين زنكي عند(1/7)
حديثنا عن الزنكيين ودورهم المجيد في دحر الصليبيين، كما أشرت إلى وزراء سلاطين السلاجقة وأهم أعمالهم.
وفي الفصل الثالث اهتممت بالمؤسسة العسكرية السلجوقية التي كانت القوة الضاربة للدولة، ففصلت في أسس الإدارة العسكرية السلجوقية، كالتنشئة العسكرية للأبناء، والجهاد في سبيل الله، والحرص على كسب ولاء الجيش وقادته، والخبرة والتجربة، والإخلاص والتضحية، والحيطة والحذر والمتابعة، والعلاقة بين الجند وقادتهم, والتدرج في الرتب العسكرية، والجمع بين الرأي والتدبير والقوة العسكرية، والاعتماد على أجناس مختلفة، وزيادة عدد أفراد الفرق العسكرية، والتقسيم العشري كأمراء المئين مقدمى الألوف، وأمراء العشرات، والخمسات، والإقطاع العسكري، وخصائصه، وعوامل التوسع فيه وموقف العلماء منه، ونظام الرهائن، والإعداد المعنوي للجيش، كما تحدثت عن نظم الإدارة العسكرية كالمناصب القيادية، كالأمير الحاجب الكبير، وصفات قائد الجيش ورواتب الجند، والقائد العام وأمير الحرس, والمقدم والعميد والأتابك، وقاضي العسكر وديوان عرض الجيش، كتنظيم سجلات أسماء الجند، وعرض الجيش، وتحديد المهام الموكلة إلى الجند والإشراف على النواحي التموينية، والنواحي المالية، والإشراف على التسليح وعلى زي الجند، وثكناتهم، وعن أقسام الجيش السلجوقي من القوة النظامية، والقبائل التركمانية، وفرق الولايات وقوات المدن والمتطوعة والأوباش والطلائع وفرق إعداد المنازل التي سيمر بها الجيش، وعن عناصر الجيش من الأتراك والعرب، والأكراد والديلم والأرمن، وفرق الجيش، كالفرسان والنشابة والنفاطيين والمنجنيقيين، وعن التعليم والتدريب العسكري، وحجم الجيش السلجوقي ونظام العيون والجواسيس، والإسناد العسكري بالجند، والمهندسين، وحمل الأثقال والتموين والإسناد الطبي, وعن الخيل ودورها في القتال، وشعار السلاجقة وأعلامهم والموارد المالية لجيوشهم، وتحدثت عن الأسلحة الهجومية وأسلحة الوقاية والدفاع عن النفس، وأسلحة العرض والزينة، ونظام حماية المدن ووسائل الحصار, وصناعة الأسلحة
وخزائنها والخطط والفنون القتالية عند السلاجقة، كالقدرة على التحرك، مثل السرعة، واستخدام الكمائن، والتراجع الزائف، وخطة تطويق العدو، والمباغتة والمفاجأة والرمي بالسهام والالتحام مع العدو والاستنزاف وسياسة الأرض المحروقة والتأثير على جيش العدو، والسيطرة على الطرق وعلى موارد المياه، والتأمين العسكري والمهام الخاصة الطارئة والحربية, والحراسة ونظام التعبئة, وأفردت مبحثاً عن أثر نظم السلاجقة في الدولة الزنكية، والأيوبية والمماليك، وقد تأثرت كذلك الدولة العثمانية بتلك النظم العسكرية، وقد(1/8)
أشرت إلى دور المرأة في العهد السلجوقي.
وفي الفصل الرابع كان الحديث عن المدارس النظامية منُذ نشأتها وعن أهدافها التعليمية ووسائل نظام الملك في تحقيق أهداف المدارس، كاختيار الأماكن، والأساتذة والعلماء، وتحديد منهج الدراسة، وتوفير الإمكانات المادية، وتنظيم الهيئة التدريسية، من تعيين الأساتذة وفصلهم وأثر تلك المدارس في العالم الإسلامي, فقد أدت رسالتها من تخريج العلماء على المذهب السني الشافعي وزودت الجهاز الحكومي للسلاجقة بالموظفين ردحاً من الزمن وبخاصة دوائر القضاء والحسبة والاستفتاء وهي من أهم وظائف الدولة في ذلك العصر وانتشر هؤلاء في العالم الإسلامي حتى اخترقوا حدود الباطنية في مصر وبلغوا الشمال الأفريقي ودعموا الوجود السني بها, وقد ساهمت هذه المدارس في إعادة دور منهج أهل السنة(1/9)
في حياة الأمة بقوة, وتقليص نفوذ الفكر الشيعي خاصة بعد أن خرجت المؤلفات المناهضة له من هذه المدارس وكان الإمام الغزالي صاحب القدح المعلى في الوقوف أمام المد الشيعي الباطني الإسماعيلي, وقد مهدت المدارس النظامية بتراثها ورجالها وعلمائها السبيل ويسرته أمام نور الدين زنكي والأيوبيين كي يكملوا المسيرة التي من أجلها أنشئت النظاميات، وتتمثل في سيادة الإسلام الصحيح خاصة في المناطق التي كانت موطناً للنفوذ الباطني الرافضي في تلك المرحلة، كالشام ومصر وغيرها، كما أنها أمدت الأمة بالعقيدة الصحيحة والفكر الثاقب، والثقافة العميقة، والمناهج التربوية الرائدة التي أسهمت في تخريج قادة الجهاد في العهد الزنكي وامتد تأثيرها الفكري والعقائدي إلى الدولة الأيوبية والمماليك بل تعدى مداها الزمني إلى يومنا هذا.
وقد قامت المدارس النظامية على فقه الإمام الشافعي وتراثه في الأصول والفقه، كما كان لتراثه تأثير كبير في المدارس النظامية, ولذلك رأيت من المناسب أن نعرِّف بهذا الإمام الكبير، فذكرت شيئاً من سيرته، وأصوله في إثبات العقيدة، ومنهجه في إثباتها، كحقيقة الإيمان ودخول الأعمال في مسماه, وزيادة الإيمان ونقصانه، وحكم مرتكب الكبيرة، وتوحيد الألوهية، وطريقته في الاستدلال على وجود الله، وتوحيد الأسماء والصفات، وعقيدته في الصحابة وعناصر المنهج في فقه الإمام الشافعي, وعن توافر شروط المجدد في مجال الفقه وأصوله، كما ترجمت للإمام أبي الحسن الأشعري، فقد أسهم هذا الإمام بتراثه وأفكاره التي وضعها في كتبه في نشاط المدارس النظامية التي اعتمدت ما وصل إليه من بحوث في عقائد أهل السنة والردود على المعتزلة والمخالفين لأصول أهل السنة والجماعة, وقد بينت المراحل التي مرَّ بها وكيف استقر في المرحلة الثالثة على أصول منهج أهل السنة والجماعة، وتحدثت عن سر عظمة الأشعري في التاريخ ووضحت عقيدته التي يدين بها وآخر ما مات عليه من معتقد، وأثر تراثه في المدارس النظامية وكيف امتد ذلك التأثير في عهد الأيوبيين والمماليك والعثمانيين، وتحدثت عن إنصاف ابن تيمية لأعلام الأشاعرة وثنائه على أبي الحسن الأشعري، وموقفه من الباقلاني والجويني والغزالي وأفردت مبحثاً عن أشهر علماء المدارس النظامية، كأبي إسحاق الشيرازي، وتكلمت عن مكانته وثناء الناس عليه ومؤلفاته وشيء من شعره، وترجمت لإمام الحرمين عبد الملك الجويني وأشرت إلى ثناء الناس عليه وأهم أخلاقه وصفاته، وذكرت القيمة العلمية لكتاب الإمام الجويني غياث الأمم، وعودته إلى مذهب السلف ورجوعه عن علم الكلام ونهيه أصحابه عنه, ومؤلفاته في العقيدة والفقه وأصوله والخلاف والجدل والسياسة، وترجمت للإمام الغزالي الذي كان من كبار الأساتذة في المدارس النظامية، وتحدثت عن اجتهاده في طلب العلم،
وملازمته إمام الحرمين، وتعيينه مدرساً على نظامية بغداد، وعن أسباب نبوغ الغزالي وشهرته والتحول الكبير الذي غير مجرى حياته وعودته للتصدي للتعليم، والترتيب الزمني لمؤلفاته، وموقفه من الشيعة الباطنية وموقفه من الفلاسفة والفلسفة وعلم الكلام والتصوف، ومنهجه الإصلاحي وصفات هذا المنهج، وتشخيصه لأمراض المجتمع، وتكلمت عن ميادين الإصلاح عنده، ووضع منهاج جديد للتربية والتعليم وبناء العقيدة الإسلامية وإحياء رسالة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ونقد سلاطين الظلمة والدعوة للعدالة الاجتماعية، ومحاربة التيارات الفكرية المنحرفة، وأشرت إلى دوره في إصلاح الفكر، كدور العقل، ورفض التقليد، والدعوة إلى الكتاب والسنة, والالتزام بمنهج السلف, وعن موقفه من الاحتلال الصليبي، وترجمت للإمام البغوي وبينت جهوده في خدمة الكتاب والسنة في العهد السلجوقي وأثر كتبه في العلماء وطلاب العلم ونشر السنة، وتكلمت عن سيرة أبي إسماعيل الأنصاري الهروي، وكتابه منازل السائرين، ومكائد خصومه له، ولقد أوضحت من خلال دراسة المدارس النظامية أن البعد العقدي والفكري لا بد منه لأي مشروع سياسي أو عسكري أو حضاري يراد له النجاح في أوساط المسلمين وأن من عوامل نهوض الأمة أن تكون القيادة السياسية مبدعة في التفكير، وفي تحديد الأهداف صادقة في الانتماء لعقيدة الأمة ودينها وتاريخها وقادرة على توظيف الطاقات العلمية والفكرية وجميع الأمكانات وتحويلها من أعمال فردية إلى أعمال جماعية، عاملة على وحدة الصف ومحاربة الانشقاق، كما أن قدرة العلماء على النزول بأفكارهم وعلمهم إلى الجمهور الإسلامي العريض من عوامل نهوض الأمة.
وفي الفصل الخامس تحدثت عن الحروب الصليبية في العهد السلجوقي فتحدثت عن(1/10)
الجذور التاريخية للحروب الصليبية، وأهم أسباب ودوافع هذا الغزو، كالدافع الديني والسياسي، والاجتماعي والاقتصادي، وتبدل ميزان القوى في حوض البحر المتوسط، واستنجاد إمبراطور بيزنطة بالبابا أوربان الثاني وشخصية البابا أوربان الثاني ومشروعه الشامل للغزو الصليبي، والخطبة التي ألقاها أوربان الثاني، ونتائج مهمة من خطاب البابا، كتدعيمه خطابه بعدد من النصوص الواردة في الكتاب المقدس، وترتيب الأولويات عنده، وقدرته على تقديم مشروع عام استوعب طاقات غرب أوربا وتحريك أوربا لاحتلال بلاد الشام والهيمنة على المشرق، ووصفت بدء الحرب الصليبية الأولى، ابتداءً من حملة العامة الغوغاء ومروراً بحملة الأمراء، وموقف الإمبراطور البيزنطي من ذلك، وسقوط نيقية، ومعركة دوريليوم، وسقوط قونية وهرقلة، وإمارة الرها، وإمارة أنطاكية، وبيت المقدس، وطرابلس، وصيدا, وحللت أسباب نجاح الحملة الصليبية الأولى وبينت أهم أسبابها، كانعدام الوحدة السياسية في العالم الإسلامي، والصراع على السلطنة في داخل البيت السلجوقي، ووجود الدولة الفاطمية، وسقوط الخلافة الأموية بالأندلس ودور النصارى الذين كانوا يعيشون في بلاد الشام، وموقف بعض الإمارات العربية من الغزو الصليبي، ودور الباطنية الإسماعيلية في عرقلة الجهاد ضد الصليبيين، كتعاونهم مع الصليبيين، واغتيال القادة المسلمين، وإشاعة الرعب والخوف في المجتمع الإسلامي، ونقلت فتوى ابن تيمية في الحركات الباطنية، ومن الأسباب التي ذكرتها، انتشار الفكر الشيعي الرافضي الباطني، وتدهور الحياة الاقتصادية قبيل الغزو الصليبي، وضعف الدولة البيزنطية، وتمرس فرسان الإفرنج على الحرب, والإمدادات الأوربية المستمرة لهم، وأثر الاستبداد على الدين والحياة، والمعارك في فقه الفروع، وذكرت استراتيجية الحملة الصليبية بعد الاحتلال وأفردت مبحثاً عن
حركة المقاومة الإسلامية في العهد السلجوقي فيما بين الغزو الصليبي وظهور عماد الدين زنكي، وعن دور الفقهاء والقضاة واستجابتهم لمقاومة الغزو، وتحريضهم على الجهاد بالكتابة والتأليف والمشاركة الفعلية في ساحات الجهاد، وتطرقت لجهود الشعراء ودورهم في حركة المقاومة، وأنصفت قادة الجهاد من السلاجقة قبل عماد الدين، كجهاد قوام الدولة كربوقا صاحب الموصل، وجكرمش صاحب الموصل وسقمان بن أرتق صاحب ماردين وديار بكر، ومعركة البليخ وانتصار المسلمين على الصليبيين، ونتائج تلك المعركة، وتحدثت عن الأعمال الجهادية التي قام بها قلج أرسلان في آسيا الصغرى ومعركة مرسيفان وهرقلة الأولى والثانية, ووصفت حملات شرف الدولة مودود بن التونتكين ضد الصليبيين وما ترتب على حملاته من نتائج، وترجمت للمجاهد الكبير نجم الدين إيلغازي صاحب ماردين،(1/11)
وأشرت إلى انتصاره في معركة ساحة الدم، وأثر وفاته على المسلمين وكيف تولى الأمير بلك بن بهرام ابن أخ إيلغازي راية الجهاد وكان خصماً عنيداً للصليبيين وكان يتطلع للقضاء عليهم لا في منطقة الجزيرة فقط، بل وفي بلاد الشام واستطاع أن يأسر بعض ملوك الصليبيين في حروبه، وبعد استشهاده رفع راية الجهاد أمير الموصل آق سُنقُر البرسقي، وتحدثت عن مقتل البرسقي بيد الباطنية وهو في الصف الأول عند صلاة الجمعة وكان تركياً خيراً يحب أهل العلم والصالحين، ويرى العدل ويفعله, وكان من خيرة الولاة يحافظ على الصلوات في أوقاتها، ويصلي من الليل متهجداً، وحذرت من خطر الباطنية، فقد كانوا من أخطر معوقات حركة الجهاد، فقد اتضح عداؤهم الكامل لقادة الجهاد الإسلامي في ذلك العصر وكأن خناجرهم المسمومة كانت تشق للصليبيين طريقاً نحو تثبيت أقدامهم في بلاد الشام والجزيرة على حساب المسلمين, ومن فضل الله على هذه الأمة أن قائمة المجاهدين عامرة ومتأهبة للقتال في سبيل الله، ففي عام 521هـ/1127م عهد السلطان محمود بإمارة الموصل إلى
عماد الدين زنكي وبظهوره على مسرح الأحداث بدأت صفحة جديدة في ميزان القوى بين المسلمين والصليبيين، وقد بدأ عماد الدين بتكوين جبهة إسلامية متحدة ضد الصليبيين, ويؤكد ابن الأثير أهمية ظهور عماد الدين بقوله: «ولولا أن الله تعالى منَّ على المسلمين بولاية الشهيد لكان الفرنج استولوا على الشام جميعه». وسوف يأتي الحديث - بإذن الله تعالى- عن عماد الدين والأسرة الزنكية في كتابنا القادم - بإذن الله تعالى- عن الحروب الصليبية في عهد الزنكيين وسيرة نور الدين محمود الشهيد الملك العادل.
إن أي أمة تريد أن تنهض من كبوتها لا بد أن تحرك ذاكرتها التاريخية لتستخلص منها الدروس والعبر والسنن في حاضرها وتستشرف مستقبلها، وإيجاد الكتب النافعة في هذا المجال من الضرورات في عالم الصراع والحوار، والدعوة والجدال مع الآخر، وهذا يدخل ضمن سنة التدافع في الأفكار والعقائد، والثقافات والمناهج, وهي تسبق التدافع السياسي والعسكري، فأي برنامج سياسي توسعي طموح يحتاج لعقائد وأفكار وثقافة تدفعه، فالحرف هو الذي يلد السيف، واللسان هو الذي يلد السنان والكتب هي تلد الكتائب.
إن الأمة الإسلامية تمر بأمور عصيبة، فالعلل القديمة تتجمع ونذر العاصفة المدمرة من أعداء الإسلام تظهر في الأفق القريب يحاولون بها السيطرة الفكرية والثقافية والعقائدية والسياسية والاقتصادية على قلب العالم الإسلامي، فالخطط تنفذ حالياً لضرب القلب بعد قص الأجنحة، فقد نجح الصليبيون في تنصير أربعة أخماس الفلبين ثم اتَّجهوا إلى جزر إندونيسيا يحملون الخطة ذاتها، وقد محوا المعالم الإسلامية من «سنغافورة» وهم الآن يبعثرون(1/12)
طلائعهم في شرق وجنوب آسيا، والمشروع اليهودي في فلسطين لا يكل ولا يمل، والأمريكي ماض بقوة السلاح والنفوذ السياسي والإعلامي وقدراته الاقتصادية لغزو الأمة، ومواز لهما، التغلغل الباطني، ومشروعه السياسي الهادف إلى إضلال الأمة وإبدال دينها الصحيح بالبدع والخرافات والمعتقدات الفاسدة، فالمشاريع الباطنية واليهودية والصليبية تنخر في هذه الأمة العظيمة!! كيف لا يقشعر جلد المؤمن وهو يتابع ويطالع هذه المخططات والأنباء؟ كيف يطيب له منام أو طعام؟!
إن المسلمين في العالم أجمع ينتظرون من علمائهم ومفكريهم بلورة مشروع إسلامي عقائدي، سياسي، فكري، اجتماعي، اقتصادي، إعلامي .. على أصول أهل السنة للوقوف أمام هذه المشاريع المدمرة، وها هي الأمة الإسلامية قد أحسَّت الخطر المحدق وهبت لتحيا، وعلائم الصحو تنتشر بسرعة مع اقتراب الفزع واكفهرار الجو وإني لمؤمل الخير من وراء هذه اليقظة الشاملة، بيد أني أحذر من الأمراض القديمة، من فساد السياسة بالفرقة، وفساد الثقافة بالجهل والهوى، فيجب علينا أن نتعاون في المتفق عليه، ونتسامج في المختلف فيه في الحدود التي يسمح بها الشرع وفق قواعد السياسة الشرعية وفقه المقاصد، والمصالح والمفاسد، وفقه الخلاف، وعلينا أن نتساند صفاً واحداً في مواجهة الهجمة الجديدة على ديننا وأرضنا حتى نردها على أعقابها وعلى أهل المسئولية الإسراع في جمع القوى، وسد الثغرات، وحشد كل شيء لاستنقاذ وجودنا المهدَّد، إنّ أي أحد يشغل المسلمين بغير ذلك إمّا منافق يمالئ العدو ويعينه على هزيمتنا، وإمَّا أحمق يمثل دور الصديق الجاهل، ويخذل أمته من حيث لا يدري, وكلا الشخصين ينبغي الحذر منه وتنبيه الأمّة إلى شره، ولا بد من الالتزام بهدي القرآن الكريم وسيرة سيد المرسلين والأخذ بعوامل النهوض، وأسباب النصر، والتي منها: صفاء العقيدة ووضوح المنهج، وتحكيم شرع الله في الأفراد والأسر والجماعات والمجتمعات والشعوب والدول، ووجود القيادة الربانية التي تنظر بنور الله، ولها القدرة على التعامل مع سنن الله في تربية الأمم، وبناء الدول وسقوطها، ومعرفة علل المجتمعات، وأطوار الأمم، وأسرار التاريخ، ومخططات الأعداء من الصليبيين والملاحدة والفرق الباطنية والمبتدعة، وإعطاء كل عامل حقه الطبيعي في التعامل معه دون إفراط أو تفريط، فقضايا فقه النهوض والمشاريع النهضوية البعيدة المدى متداخلة متشابكة لا يستطيع استيعابها إلا من فهم كتاب الله عز وجل وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - وارتبط
بالفقه الراشدي المحفوظ عن علمائنا الربانيين، فعلم معالمه وخصائصه وأسباب وجوده وعوامل زواله واستفاد من التاريخ الإسلامي وتجارب النهوض، فأيقن بأن هذه الأمة ما فقدت الصدارة قط وهي وفية(1/13)
لربها ونبيها - صلى الله عليه وسلم - , وعلم أن الهزائم العسكرية عرض يزول، أما الهزائم الثقافية، فجرح مميت والثقافة الصحيحة تبني الإنسان المسلم، والأسرة المسلمة، والمجتمع المسلم والدولة المسلمة، على قواعدها المتينة من كتاب الله وسنة رسوله وهدي الخلفاء الراشدين ومن سار على نهجهم، وعبقرية البناء الحضاري الصحيح هي التي أبقت صرح الإسلام إلى يومنا هذا بعد
توفيق الله.
أيها الإخوة الكرام, يا من تهمهم قضايا الإسلام والمسلمين, علينا الابتعاد عن القضايا التي لا تمس الحاضر ولا المستقبل والتي تشغل الفراغ وتقتل الوقت وحسب, وإنما نعطي الأولوية للقضايا التي تنهض بالأمة وتعطيها دورها الحضاري من جديد في هداية الناس لدين الله, وعلينا أن نقدم نماذج إصلاحية نهضوية ملكت الرؤية النظرية، ونجحت في التطبيق العملي، ونعطي لفقه المصلحين أولوية ونستخرج هذا الفقه العزيز من سيرهم العطرة، سواء كان في مجال العلم، أو السياسة أو الإدارة أو التنظيم، أو التربية، أو الاقتصاد، أو المقاومة والجهاد ... إلخ.
إن الإسلام يتعرض لمحنة كبرى وأعداؤنا لم يكتموا من نيَّاتهم شيئاً لأنهم لم يروا أمامهم ما يبعث الكتمان أو الحذر, فاليهود يقولون: لا قيمة لإسرائيل بدون القدس، ولا قيمة للقدس بدون الهيكل والمعنى واضح فإن الهيكل المطلوب فوق تراب المسجد الأقصى، والصليبيون الجدد يقولون: خلقت إسرائيل لتبقى .. والباطنيون، يستبيحون الدماء ويهتكون الأعراض، ويصادرون الأموال ويعملون ليل نهار لتصفية رموز أهل السنة، وممارسة التطهير المذهبي ونشر الثقافات المغلوطة والبدع والخرافات التي تمس عقيدتنا وتاريخنا ورجالنا وأخلاقنا.
أيها الإخوة الكرام إن المعركة في حقيقتها حول وجود الإسلام كله ويتساءل الأعداء: لماذا يبقى الإسلام أكثر مما بقى؟ أنستسلم للفناء، وندع ديننا ورسالتنا للجزارين الجدد أم ماذا؟
إن العالم الإسلامي لا يبيع دينه، ويؤثر أن يهلك دونه ولا يغض من موقفه نفر شُذاذ من الخونة والجبناء، فقدوا الدين والشرف، ونشدوا العيش على أي حاجة، وبأي ثمن!! ولكى نحسن الوقوف أمام عدو الله وعدوَّنا يجب أن تتوافر لجبهتنا عناصر مهمة منها:
أ- يعود الولاء للإسلام ويستعلن الانتماء إليه وفي حرب تعلن علينا باسم الدين لا مجال لإطفائها بالتنكر لديننا (1) ولا بد من أن يكون المنهج الذي كان عليه رسول الله وخلفاؤه الراشدون وأصحابه الكرام واضحاً لا لبس فيه حتى نخرج من أوحال البدع
_________
(1) هموم داعية، ص 56.(1/14)
ومستنقعات الخرافة والأوهام التي تنبث في الأمة باسم الإسلام الحبيب العزيز. إننا نرى الآن في صراع المسلمين مع خصوم الإسلام في بعض دياره يغيّب الإسلام، ويضخم البعد الوطني القطري على حساب الدين والعقيدة, وقد تبنى هذا الطرح بعض المحسوبين على العلماء وطلاب العلم, وهذا هو الانتحار وطريق الدمار بل هو قرة عين الأعداء سواء من الداخل أو الخارج مع عدم إهمالنا لحب الإنسان لوطنه وإخلاصه له ولكن بالتوازن.
ب- الولاء الشكلي للإسلام مخادعة محقورة ويجب أن تعود الروح لعقائدنا وشعائرنا وشرائعنا، والمسلم الذي يستحي من عرض عقيدته ومنهجه وتاريخه عليه أن يعتبر بالباطنيين الجدد الذين يعتزون ببدعهم وخرافاتهم، وكذلك اليهود الذين لا يستحيون من عقيدتهم وشعائرهم في أرقى العواصم.
جـ- يُقصى من ميدان التدين الذين يحرقون البخور بين أيدي الساسة المنحرفين، ويزينون لهم مجونهم ونكوصهم وبعض الذين يدَّعون العلم فيشغلون الناس بقضايا نظرية عفى عليها الزمن، أو خلافات فرعية لا يجوز أن تصدع الشمل أو تمزق الأهل والعلماء الذين يظلمون الإسلام بسوء الفهم ويرونه في سياسة الحكم والمال ظهيراً للاستبداد والاستغلال وإضاعة الشعوب. إن المسلمين في المشارق والمغارب مهيأون ليقظة عامة تحمي كيانهم, والأحوال المعاصرة صورة طبق الأصل لما كان عليه المسلمون عند الهجوم الصليبي في العصور الوسطى. إن سنن الله تعالى تقتص من المستضعفين المفرطين، كما تقتص من المجرمين المعتدين، إن عوامل الهدم وإبر التنويم الغربية والباطنية تعمل في هذه الأمة المثخنة من الداخل والخارج حتى يتم الإجهاز الكامل عليها، وقد استطاع الاستعمار الثقافي والفكر الباطني خلق جيل مهزوز الإيمان والفقه، ضعيف الثقة بربه ومنهجه ودينه وأمته ونفسه، فهو يعطي الدنية في دينه غير مُبال بعواقب الأمور، إننا بحاجة إلى يقظة عامة تتناول أوضاعنا كلها حتى نحسن الدفاع عن وجودنا ورسالتنا في عالم لا تسمع فيه إلا أصوات الجبارين من أصحاب المشاريع الشيطانية، ومن ثم نتمكن من تبليغ رسالة الإسلام الخالدة للعالمين ويتحقق فينا قول الله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ} [آل عمران: 110]. وقول الله تعالى: {الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاَتِ اللهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلاَ يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلاَّ اللهَ وَكَفَى بِاللهِ حَسِيبًا} [الأحزاب: 39].
إن في هذا الكتاب دروسًا وعبرًا في ميدان الصراع بين دعوة الله الخالدة وبين التغلغل الباطني والغزو الصليبي، فقد لاحظت أن العقائد الصحيحة والفكر السليم والتصور الراشد الذي قامت عليه المدارس النظامية في عهد السلاجقة استطاعت أن تكبّد الفكر الباطني خسائر(1/15)
كبيرة في ميدان الفكر والعقائد والثقافة والدعوة, وجعلها تنزوي وتنكمش، كما أن مناهج المدارس النظامية أخرجت علماء وقادة وساسة وقضاة، كان لهم تأثير كبير في الدولة الزنكية واستمر التأثير الفكري والعقائدى لعهد الأيوبيين والمماليك والعثمانيين على المستوى العقائدي للدول. إن الثمرة الحقيقية من دراسة التاريخ هي استخراج العبر واستلهام الدروس واستيعاب السنن ومن هذه الدروس والعبر:
أهمية المبادرة في حركة النهوض: ففي كثير من مراحل التاريخ وفي شتى المذاهب والأديان هناك مبادرات من رجال أخلصوا لمعتقداتهم وأفكارهم فكانت لها آثار كبيرة غيرت مجرى التاريخ، ففي عهد السلاجقة ظهرت مبادرة نظام الملك في تأسيس المدارس النظامية، فكان لهذه المبادرة أثر كبير في الانتصار السني على المد الباطني والمساهمة في تحجيمه وتقليصه، كما أسهمت في امداد الأمة بكوادر علمية وتربوية وسياسية وقيادية أسهمت في حركة الجهاد ومقاومة الصليبيين في العهد الزنكي والأيوبي, وفي المقابل كانت مبادرة أوربان الثاني في تقديمه مشروعًا صليبيًا جمع طاقات غرب أوربا وقذف بها نحو المشرق؛ فنظام الملك كانت له مبادرة مع رؤية نهوض ومشروع حضاري، كما أن البابا كانت له مبادرة ومشروع استعماري استيطاني وتصارع المشروعان حوالي مائتى عام وانتصر المشروع الإسلامي على المشروع الغربي والمغولي والفضل لله تعالى ثم لمبادرة نظام الملك والإمام الغزالي وقادة حركة الجهاد كالأمير مودود وعماد الدين ونور الدين وصلاح الدين والظاهر بيبرس وقطز والناصر بن قلاوون والعز بن عبد السلام وابن تيمية وغيرهم كثير ..
والمسلمون الآن لا تنقصهم إمكانات مادية ولا معنوية ولا خيارات وإنما قيادات حكيمة تستوعب فقه المبادرة كي تستطيع أن تفجر طاقات المجتمع وتوجهه نحو التكامل لتحقيق الخير والغايات المنشودة، فمجتمعاتنا غنية بالطاقات المتعددة في المجالات المتنوعة في ساحات الفكر والمال والتخطيط والتنظيم والقوى المادية، ويأتي دور القيادة الربانية التي تحسن فقه المبادرة لتربط بين كل الخيوط والخطوط، والتنسيق بين المواهب والطاقات، وتتجه بها نحو خير الأمة ورفعتها، وفق رؤية نهوض شاملة تتحدى كل العوائق وتسد كل الثغرات التي تحتاجها الأمة في النهوض وتبث روح الأمل والتفاؤل في أوساط الناس، وتحضهم على التمسك بعقيدتهم وقيمهم ومبادئهم والترفع على حطام الدنيا وإحياء معاني التضحية، وشحذ الهمم، وتقوية العزائم في نفوس النخب والجمهور العريض في الأمة، وتأخذ بها رويداً نحو الأهداف المرسومة لمشروع النهوض, وعلينا أن نتذكر قول الله تعالى: {إِن تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللهِ مَا لاَ يَرْجُونَ} [النساء: 104].(1/16)
- أهمية العامل الديني في شحن الأتباع: إن أكثر ما يثير حماس الإنسان ويؤثر على أحاسيسه وعواطفه عامل الدين, وقد استطاع أوربان الثاني توظيف هذا العامل إلى حد كبير في مشروعه الصليبي، كما أن الباطنيين وعلى رأسهم حسن الصباح استطاعوا تحميس أتباعهم ضد أهل الإسلام الصحيح، وعندما أخذت العقيدة الإسلامية مجراها في نفوس القادة والشعوب وعظمت مكانتها في نفوس المؤمنين، قاموا بجهاد عظيم وتضحيات كبرى، وأخذوا بفقه التمكين، وحققوا شروطه ومارسوا أسبابه واستوعبوا سننه، وقطعوا مراحله وطبقوا أهدافه، فانتصروا على التغلغل الباطني والغزو الصليبي, وسوف ترى في هذا الكتاب دور العلماء والفقهاء والقضاة والخطباء في تحميس المسلمين وإلهاب عواطفهم، وإحياء عقيدتهم, فمطلوب من علماء الأمة وفقهائها وخطبائها أن يقوموا بهذا الدور الكبير وأن يترفعوا عن حظوظ النفس وحطام العاجلة، وأن ينشغلوا بتربية الأمة على معاني الإيمان والتضحية والفداء والإخلاص لهذا الدين، ولا نريد من علماء الأمة أن يكونوا أكاديميين علاقتهم بالأمة من خلال الطلاب تنتهي مع درس الجامعة, وإنما نريدهم أن يتحقق فيهم قول الله تعالى: {أَوَمَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأنعام: 122] وقول الله تعالى: {وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ - وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَن قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ - فَآتَاهُمُ اللهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ
ثَوَابِ الآَخِرَةِ وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران: 146 - 148].
- أهمية الاتحاد والوحدة في التصدي للأخطار الداخلية والخارجية: في بداية الزحف الصليبي على بلاد الشام، تمزقت الكيانات السياسية الصغيرة، وحاولت أن تستنجد بالخليفة العباسي والسلطان السلجوقي؛ ولذلك كثرت الوفادات على بغداد دون فائدة، والمهم في هذا الدرس أن نعطي أولوية للجهات الفاعلة ومحاولة التحالف ثم الاتحاد معها, وكان يفترض على الخليفة العباسي أن يقوم بدوره المعنوي والمادي إلا أنه كان منزوع السلطات، ونلاحظ في حصار حلب -كما سوف يمر بنا في هذا الكتاب بإذن الله- أن المسلمين استطاعوا دحره عندما اتحدوا مع أهل الموصل، كما كان للتحالفات على مستوى الموصل وحلب ودمشق وغيرها من مدن الشام أثر كبير في صد الكثير من الهجمات الصليبية وتكبيدها الخسائر، فقد استطاع أهالي الشام مع أهل الموصل وديار بكر ومناطق الأكراد إيجاد حالة من التنسيق والتعاون والتحالف للحد من حالة التدهور المريع التي مرت بها بلاد الشام.
هذه بعض الدروس والعبر, والقارئ الكريم - بإذن الله تعالى- سوف يجد الكثير الكثير(1/17)
من هذه العبر، ويلاحظ سنن الله في حركة المجتمعات وطبيعة الصراع بين الإيمان والكفر، والحق والباطل, والهدى الضلال، والخير والشر .. في هذا الكتاب.
هذا, وقد انتهيت من هذا الكتاب يوم السبت الساعة الثانية عشرة إلا أربع دقائق ليلاً 18من صفر1427هـ الموافق 18من مارس 2006م والفضل لله من قبل ومن بعد، وأسأله سبحانه أن يتقبل هذا العمل، ويشرح صدور العباد للانتفاع به, ويبارك فيه بمنه وكرمه وجوده, قال تعالى: {مَا يَفْتَحِ اللهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلاَ مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلاَ مُرْسِلَ لَهُ مِن بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [فاطر: 2].
ولايسعني في نهاية هذه المقدمة إلا أن أقف بقلب خاشع منيب بين يدي الله - عز وجل - معترفاً بفضله وكرمه وجوده، فهو المتفضل وهو المكرم وهو المعين وهو الموفِّق فله الحمد على ما منَّ به عليَّ أولاً وآخراً، وأسأله - سبحانه - بأسمائه الحسنى وصفاته العُلى: أن يجعل عملي لوجهه خالصاً، ولعباده نافعاً، وأن يثيبني على كل حرف كتبته ويجعله في ميزان حسناتي، وأن يثيب إخواني الذين أعانوني بما يملكون من أجل إتمام هذا الجهد المتواضع، وأرجو من كل مسلم يطلع على هذا الكتاب ألا ينسى العبد الفقير إلى عفو ربه ومغفرته ورحمته ورضوانه من دعائه، قال تعالى: {رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ} [النمل: 19].
سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
الفقير إلى عفو ربه ومغفرته ورحمته ورضوانه
علي محمد محمد الصَّلاَّبيَّ
18من صفر 1427هـ
الإخوة الكرام, يسرني أن تصل ملاحظاتكم وانطباعاتكم حول هذا الكتاب وغيره من كتبي من خلال دور النشر, وأطلب من إخواني الدعاء بظهر الغيب بالإخلاص لله رب العالمين، والصواب للوصول للحقائق ومواصلة المسيرة في خدمة تاريخ أمتنا.
البريد الإلكتروني
E- MAIL: ABUMOHAMED2@MAKTOOB.COM(1/18)
الفصل الأول
السلاجقة، أصولهم وسلاطينهم
المبحث الأول
أصولهم ومواطنهم وبداية ظهورهم
ينحدر السلاجقة من قبيلة «قنق» التركمانية، وتمثل مع ثلاث وعشرين قبيلة أخرى مجموعة القبائل التركمانية المعروفة بـ «الغز» (1) وفي منطقة ما وراء النهر والتي نسميها اليوم «تركستان» والتي تمتد من هضبة منغوليا وشمال الصين شرقاً إلى بحر الخزر (بحر قزوين) غرباً، ومن السهول السيبيرية شمالاً إلى شبه القارة الهندية وفارس جنوباً، استوطنت عشائر الغز (2) وقبائلها الكبرى تلك المناطق وعرفوا بالترك أو الأتراك (3) , ثم تحركت هذه القبائل في النصف الثاني من القرن السادس الميلادي بالانتقال من موطنها الأصلي نحو آسيا الصغرى في هجرات ضخمة، وذكر المؤرخون مجموعة من الأسباب التي أسهمت في هجرتهم، فالبعض يرى أن ذلك بسبب عوامل اقتصادية؛ فالجدب الشديد وكثرة النسل، جعلت هذه القبائل تضيق ذرعاً بمواطنها الأصلية، فهاجرت بحثاً عن الكلأ والمراعي والعيش الرغيد (4)، والبعض الآخر يعزو تلك الهجرات لأسباب سياسية، حيث تعرضت تلك القبائل لضغوط كبيرة من قبائل أخرى فاضطرت إلى ترك أراضيها (5)، بحثاً عن نعمة الأمن والاستقرار, وذهب إلى هذا الرأي الدكتور عبد اللطيف عبد الله بن دهيش (6)، واضطرت تلك القبائل المهاجرة أن تتجه غرباً، ونزلت بالقرب من شواطئ نهر جيحون ثم استقرت بعض الوقت في طبرستان، وجرجان (7)، فأصبحوا بالقرب من الأراضي الإسلامية
التي فتحها المسلمون بعد معركة نهاوند وسقوط الدولة الساسانية في بلاد فارس
سنة 21هـ - 641م (8).
_________
(1) أخبار الدولة السلجوقية، ص 2، 3، نظام الوزارة للزهراني، ص 31.
(2) تاريخ الترك في آسيا الوسطى، ترجمة أحمد العيد، ص 106الدولة العثمانية، ص 23.
(3) أخبار الأمراء والملوك السلجوقية، تحقيق د. محمد نور الدين، ص 2 - 4.
(4) كتاب السلوك، أحمد المقريزي ج 1 قسم 1، ص 3.
(5) قيام الدولة العثمانية، ص 8.
(6) الكامل في التاريخ (8/ 22).
(7) نهاوند، شوقي أبو خليل، ص 55 - 70.
(8) للتوسع في أصولهم انظر: الخلافة العباسية السقوط والانهيار، فاروق عمر فوزي، تاريخ الزنكيين في الموصل وبلاد الشام، محمد سهيل طقوس، العصر العباسي، د. خالد عزام.(1/19)
أولاً: اتصال الأتراك بالعالم الإسلامي:
في عام 22هـ - 642م تحركت الجيوش الإسلامية إلى بلاد الباب لفتحها, وكانت تلك الأراضي يسكنها الأتراك، وهناك التقى قائد الجيش الإسلامي عبد الرحمن بن ربيعة بملك الترك شهربراز، فطلب من عبد الرحمن الصلح وأظهر استعداده للمشاركة في الجيش الإسلامي لمحاربة الأرمن، فأرسله عبد الرحمن إلى القائد العام سراقة بن عمرو، وقد قام شهربراز بمقابلة سراقة فقبل منه ذلك، وكتب للخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه يعلمه بالأمر، فوافق على ما فعل، وعلى إثر ذلك عقد الصلح، ولم يقع بين الترك والمسلمين أي قتال، بل سار الجميع إلى بلاد الأرمن لفتحها ونشر الإسلام فيها (1)، وتقدمت الجيوش الإسلامية لفتح البلدان في شمال شرق بلاد فارس حتى تنتشر دعوة الله فيها، بعد سقوط دولة الفرس أمام الجيوش الإسلامية والتي كانت تقف حاجزاً منيعاً أمام الجيوش الإسلامية في تلك البلدان, وبزوال تلك العوائق، ونتيجة للفتوحات الإسلامية، أصبح الباب مفتوحاً أمام تحركات شعوب تلك البلدان والأقاليم ومنهم الأتراك، فتم الاتصال بالشعوب الإسلامية واعتنق الأتراك الإسلام، وانضموا إلى صفوف المجاهدين لنشر الإسلام وإعلاء كلمة الله (2).
وفي عهد الخليفة الراشد عثمان بن عفان رضي الله عنه ثم فتح بلاد طبرستان، ثم عبر المسلمون نهر جيحون سنة 31هـ ونزلوا بلاد ما وراء النهر، فدخل كثير من الترك في دين الإسلام، وأصبحوا من المدافعين عنه والمشتركين في الجهاد لنشر دعوة الله بين العالمين (3)، وواصلت الجيوش الإسلامية تقدمها في تلك الأقاليم فتم فتح بلاد بخارى في عهد معاوية بن أبي سفيان - رضي الله عنه -، وتوغلت تلك الجيوش المظفرة حتى وصلت سمرقند، وما إن ظهر عهد الدولة الراشدية الإسلامية حتى صارت بلاد ما وراء النهر جميعها تحت عدالة الحكم الإسلامي وعاشت تلك الشعوب حضارة إسلامية عريقة (4)، وازداد عدد الأتراك في بلاط الخلفاء والأمراء العباسيين, وشرعوا في تولي المناصب القيادية والإدارية في الدولة، فكان منهم الجند والقادة والكتّاب، وقد التزموا بالهدوء والطاعة حتى نالوا أعلى المراتب، ولما تولى المعتصم العباسي الخلافة فتح الأبواب أمام النفوذ التركي، وأسند إليهم مناصب الدولة القيادية وأصبحوا بذلك يشاركون في تصريف شئون الدولة، وكانت سياسة المعتصم تهدف
_________
(1) تاريخ الأمم والملوك للطبري (3/ 256، 257).
(2) الدولة العثمانية والشرق العربي، محمد أنيس، ص 12،13.
(3) فتوح البلدان للبلاذري، ص 405 - 409.
(4) الدولة العثمانية للصَّلاَّبي، ص 25.(1/20)
إلى تقليص النفوذ الفارسي، الذي كانت له اليد المطلقة في إدارة الدولة العباسية منُذ عهد الخليفة المأمون (1)، وقد تسبب اهتمام المعتصم بالأتراك في نقمة الناس عليه، فأسس مدينة جديدة هي (سامراء)، تبعد عن بغداد حوالي 125كم وسكنها هو وجنده وأنصاره، وهكذا بدأ الأتراك منُذ ذلك التاريخ في الظهور في أدوار مهمة على مسرح التاريخ الإسلامي حتى أسسوا لهم دولة إسلامية كبيرة كانت على صلة قوية بخلفاء الدولة العباسية عرفت بالدولة السلجوقية (2).
ثانياً: بداية ظهور السلاجقة:
ينتسب السلاجقة إلى جدهم دقاق الذي كان وأفراد قبيلته في خدمة أحد ملوك الترك الذي كان يعرف باسم بيغو (3)، وكان دقاق في هذه المرحلة من تاريخ السلاجقة، مقدم الأتراك الغُز؛ مرجعهم إليه، لا يخالفون له قولاً، ولا يتعدون له أمراً (4)، وكان سلجوق بن دقاق في خدمة (بيغو) كما كان والده من قبل، حيث كان يشغل وظيفة عسكرية مهمة تعني «مقدم الجيش» , وفي هذا الوقت تذكر المصادر أن مظاهر التقدم وعلامات القيادة بدت واضحة عليه (5) حتى إن زوجة الملك أخذت تثير مخاوف زوجها منه لما رأت من حب الناس له وانصياعهم إليه، إلى الحد الذي أغرته بقتله (6) وما إن عرف سلجوق بذلك حتى أخذ أتباعه ومن أطاعه وتوجه إلى دار الإسلام وأقام بنواحي جند (7) قريباً من نهر سيحون، وفيها أعلن سلجوق إسلامه وأخذ يشن غاراته على الكفار الترك (8)، وبعد وفاة سلجوق في جند، خلف عدداً من الأولاد ساروا على سياسة والدهم في شن الغارات على الترك الوثنيين وبذلوا جهوداً كبيرة في حماية السكان المسلمين الآمنين من غاراتهم (9)، فازدادت قوتهم وتوسعت أراضيهم وقد أكسبهم ذلك كله احترام الحكام المسلمين المجاورين لهم (10) , فقد غزا ميكائيل بن سلجوق بعض بلاد الكفار من الترك فقاتل حتى استشهد في سبيل الله (11).
ثالثاً: المشرق الإسلامي قبيل ظهور السلاجقة:
1 - السامانيون: 204 - 395هـ: ينسبون إلى جدهم سامان وهو أحد الدهاقين الفرس المعروفين, وهم ينحدرون من أسرة فارسية عريقة، أما موطنهم الأصلي، فكان مدينة بلخ,
_________
(1) قيام الدولة العثمانية، ص 12.
(2) قيام الدولة العثمانية، ص 12.
(3) الدولة السلجوقية منذ قيامها، سميرة الجبوري ص68.
(4) المصدر نفسه، ص 69، الكامل في التاريخ (8/ 22).
(5) أخبار الدول وآثار الأول (2/ 451).
(6) الدولة السلجوقية منذ قيامها ص70.
(7) الدولة السلجوقية منذ قيامها ص70.
(8) الدولة السلجوقية منذ قيامها ص70.
(9) الكامل في التاريخ (8/ 22) , الدولة السلجوقية منذ قيامها، ص 73.
(10) الدولة السلجوقية منذ قيامها، ص 73.
(11) دولة سلجوق للبنداري، ص 5، الدولة السلجوقية، سميرة الجبوري، ص 73.(1/21)
وكان أول اتصال لسامان بهذه الدولة الإسلامية في عهد الخليفة الأموي هشام بن عبد الملك ابن مروان «105هـ - 125هـ»، عندما وفد على أسد بن عبد الله القسري - والى خراسان آنذاك - حيث كانت الاضطرابات وهجمات الأتراك والدهاقين المتكررة التي شهدها إقليم خراسان بشكل عام وبلخ بشكل خاص هي التي أجبرت سامان على الفرار والالتجاء إلى أسد القسري للاحتماء به، فقد كان هذا ملجأ المضطهدين من العرب والفرس على حد سواء (1)، وقد أكرمه وقدم له الحماية وساعده على قهر خصومه وأعاده إلى بلخ (2)، فاعتنق سامان الإسلام على يديه وسمى ابنه أسدًا تيمناً به وحبا له, وكان أسد بن سامان هذا من جملة أصحاب علي بن عيسى بن ماهان عندما ولاه الخليفة هارون الرشيد أمر خراسان، وتوفي في ولايته (3)، وفي عهد الخليفة هارون الرشيد، خرج رافع بن الليث في ما وراء النهر وبسط سلطته على سمرقند، فأرسل الخليفة ضده جيشاً بقيادة هرثمة بن أعين، وهنا نجد أبناء أسد بن سامان يقفون إلى جانب هرثمة ويشدون من أزره واستطاعوا بجهودهم تلك أن يحملوا رافع بن الليث على عقد الصلح مع هرثمة وبذلك أبعدوا سيطرته عن سمرقند (4)،
وفي خلافة المأمون (198 - 218هـ) لقي أبناء أسد الأربعة احتراماً وتقديراً عند المأمون حيث قربهم إليه وشملهم برعايته لإخلاصهم في خدمته، فطلب من واليه على خراسان غسان بن عباد أن يسند إلى كل منهم ولاية على أكبر أقاليم بلاد ما وراء النهر، فأصبح نوح والياً على سمرقند، وأحمد على فرغانة، ويحيى على الشاش وأشروسنة, وإلياس على هراة (5) وقد تمكن هؤلاء أن يثبتوا أنهم أهل للمسئولية التي أنيطت بهم بأن أعادوا الأمن والاستقرار إلى هذه الأقاليم وأكدوا سلطة الخلافة العباسية عليها, ولم تعد هذه الأقاليم كما كانت قبل هذه الحقبة موطناً لحركات التمرد والعصيان على الخلافة، وعلى الرغم من كل ذلك فقد استطاعوا توطيد نفوذهم في إقليم ما وراء النهر واكتسبوا بذلك مكانة رفيعة وسمعة طيبة في أنحاء الإقليم (6). وقد برز من هؤلاء الإخوة الأربعة أحمد الذي أصبح إليه حكم فرغانة والشاس وقسم من الصغد وسمرقند واستمر في حكم المنطقة حتى وفاته عام 250هـ (7)، فتولى بعده ابنه نصر الذي حكم المنطقة حتى سنة 259هـ وصار يتبع الخلافة مباشرةً لانتهاء حكم الطاهريين هناك (8).
وفي سنة 263هـ عين الخليفة المعتمد، نصر بن أحمد
_________
(1) تاريخ بخارى منذ أقدم العصور، ص 14.
(2) الدولة السلجوقية منذ قيامها، ص 14.
(3) الدولة السلجوقية منذ قيامها، ص 14.
(4) الدولة السلجوقية منذ قيامها، ص 14.
(5) المصدر نفسه, ص 15.
(6) تاريخ ابن خلدون (4/ 226) , الدولة السلجوقية، سميرة الجبوري، ص 15.
(7) الكامل في التاريخ, نقلاً عن الدولة السلجوقية منذ قيامها، ص 15.
(8) الدولة السلجوقية منذ قيامها، ص 16.(1/22)
والياً على بلاد ما وراء النهر بأكملها وقد تولى مناصب الولاية والحكم في مرحلة مهمة جداً في تاريخ السامانيين حيث يمكن اعتبارها البداية الحقيقية لقيام الدولة السامانية، فقد هيأت الظروف السائدة في هذا الإقليم البعيد عن مركز الخلافة العباسية للسامانيين فرصة وطدوا من خلالها حكمهم هناك، فأصبحوا شبه مستقلين آخذين على عاتقهم مسئولية حماية الأراضي الإسلامية، فضلاً عن تأمين استمرار التجارة وتدفق السلع المختلفة إلى مناطقهم, واستطاعوا أن يحققوا لأنفسهم استقراراً سياسياً واقتصادياً جعلهم فيما بعد قادرين على التوجه نحو خراسان (1)، وبعد وفاة نصر تولى مقاليد الأمور في الدولة السامانية أخوه إسماعيل بن أحمد سنة 279هـ (2) والذي يُعد من أعظم حكام السامانيين بلا منازع في المجالات السياسية والحربية والإدارية على السواء، فقد شهدت الدولة السامانية في عهده، رفاهاً واستقراراً سياسياً حيث اتسعت حدودها وتوطّد استقلالها أكثر من ذي قبل (3) وقد اتخذ إسماعيل من بخارى عاصمة له فشهدت في عهده ازدهاراً فكرياً واسعاً حيث ترعرعت ونشطت الثقافة الإسلامية (4) وبعد وفاة إسماعيل (5) تولى الحكم في الدولة السامانية ابنه أحمد وذلك عام 295هـ وأقر الخليفة المكتقي (289 - 295هـ) حكمه عندما بعث إليه بعهده على خراسان وما وراء النهر في ربيع الآخر من السنة نفسها (6)،
وقد أثبت الأمير الساماني أحمد بن إسماعيل جدارة في الحكم؛ فقد تغلب على جميع المتاعب وتمكن من تذليل مشاكل الحكم التي واجهته خلال عهده، فقد انتصر في عدة مواقع على الأتراك الرحالة الوثنيين خارج حدود الخلافة, وعلى ذلك ولاه الخليفة شرطة بغداد، وأعمال فارس وكرمان (7)، وقد اهتم السامانيون بنشر الإسلام في صفوف الترك، وقاموا بتغيير استراتيجيتهم في القتال مع الترك؛ وذلك أن السامانيين عدلوا عن أسلوب الدفاع الذي كان متبعاً في وادي سيحون ضد الكفار من الترك منُذ شرع قتيبة بن مسلم في فتح هذه البلاد, وكان هذا الأسلوب القديم يعتمد على إقامة الحصون، وحفر الخنادق التي تحمي المسلمين من غارات الترك المفاجئة، فلما جاء السامانيون عدلوا عن موقف الدفاع من وراء الحصون والخنادق عند وادي سيحون إلى موقف الهجوم على مناطق المراعي لتأديب الأتراك المغيرين،
_________
(1) مدخل إلى تاريخ الحروب الصليبية، سهيل، ص 16.
(2) تاريخ الطبري, نقلاً عن الدولة السلجوقية منذ قيامها، ص 17.
(3) الدولة السلجوقية منذ قيامها، ص 17.
(4) الدويلات الإسلامية في الشرق، محمد علي حيدر، ص 97.
(5) الدولة السلجوقية منذ قيامها، ص 18.
(6) تاريخ الطبري, نقلاً عن الدولة السلجوقية منذ قيامها، ص 19.
(7) الدولة السلجوقية منذ قيامها، ص 19.(1/23)
كما عدلوا عن إنشاء وترميم ما تهدم من هذه الحصون, وكان لهذا التطور في طريقة الدفاع عن الأراضي الإسلامية تأثيره على علاقة الإسلام بالتركستان، إذ عبر كثير من سكان ما وراء النهر في جماعات متتابعة إلى مناطق المراعي بل وإلى داخل المناطق الصحراوية حيث أنشأوا مدناً صغيرة في شكل مستعمرات سكانية استقروا بها، وبدأوا منها نشاطهم الاقتصادي وواكب هذا النشاط الاقتصادي نشاط ملحوظ في الدعوة إلى الإسلام قام بالدور الأساسي فيه الدعاة إلى الله المتجردون المخلصون، فقد كان لهذا التطور - بالإضافة إلى ما صاحبه وسبقه من نشاط تجاري- دوره الكبير في تعرف الأتراك على الإسلام، هذا التعرف الذي انتهى بهم إلى الدخول فيه (1)،
نظراً لما تتميز به عقائد الإسلام من بساطة تناسب طبيعتهم البدوية بالإضافة إلى ما تميز به الإسلام من سمو روحي، وتفوق مادي حضاري أدركوا أثرهما في سلوك مواطنيهم الذين سبق أن هاجروا إلى ما وراء النهر، ثم عاد بعضهم مع القادمين الجدد الذين أقاموا المدن المستعمرة بين ظهرانيهم في المراعي داخل الصحراء (2)، ومن فضل الله وتوفيقه أن الإسلام الذي انتشر بين صفوف الترك في ظل آل سامان كان الإسلام السني (3)، وقد كان الأتراك متحمسين لهذا المذهب.
أ- نهاية الدولة السامانية: أثبت الأمير الساماني أحمد بن إسماعيل جدارة في الحكم, فقد تغلب على جميع المتاعب وتمكن من تذليل مشاكل الحكم التي واجهته خلال عهده، وبعد وفاته سنة 301هـ، خلفه السعيد نصر الذي كان طفلاً في الثامنة من عمره، فاضطربت أمور الدولة السامانية في أول عهده وظهرت الفتن وتمرد أمراء الأطراف محاولين الاستقلال بولاياتهم، ولكن هذا الأمير الساماني الذي طال حكمه مدة ثلاثين عاماً تمكن أثناءها من التغلب على هؤلاء الطامعين جميعاً (4) , ولكن ينبغي ألا ننسى أن بوادر الضعف وعلائم الانهيار ظهرت منُذ منتصف القرن الرابع الهجري، حيث ظهرت حركات الانقسام في صفوف الأسرة السامانية الحاكمة نفسها، وذلك عندما أراد إسحاق بن أحمد عم السعيد نصر الاستيلاء على الحكم, وقد اتخذ سمرقند قاعدة لفعالياته (5)، وبدأت الدولة السامانية في الضعف ووافق ظهور الدولة البويهية الشيعية التي كانت قد تمكنت من العراق, وقد تطلع البويهيون إلى السيطرة على أملاك الدولة السامانية واشتبك الطرفان في حروب, وقد تعرضت الدولة السامانية لضغوط متزايدة من كل الجهات، فمن الشمال والغرب تعرضت لضغط الديلم والعلويين، كما تعرضت لضغط خانات الأتراك الذين دخلوا الإسلام على
_________
(1) التاريخ السياسي والفكري للمذهب السني في المشرق الإسلامي، ص 101.
(2) التاريخ السياسي والفكري للمذهب السني في المشرق الإسلامي، ص 101.
(3) المصدر نفسه، ص 102.
(4) الدولة السلجوقية منذ قيامها، ص 19.
(5) تاريخ الطبري, نقلاً عن الدولة السلجوقية منذ قيامها، ص 19.(1/24)
يد السامانيين (1)، وقد استطاع البويهيون انتزاع كرمان من السامانيين والاستيلاء عليها وجباية أموالها التي قاموا بإنفاقها على جيوشهم عام 324هـ (2)، كما أسهمت الأوضاع التي وصل إليها السامانيون في اقتسام أملاكهم بين القراخانيين والغزنويين، حيث أخذ القراخانيون ما وراء النهر، أما ما تبقى من مناطق أخرى فكان من حق الغزنويين (3).
2 - الغزنويون: 351 - 582 هـ: أخذت الدولة الغزنوية اسمها من مدينة غزنة إحدى المدن في أفغانستان، ويرجع ظهور هذه الدولة إلى أحد القادة المسلمين المسمى «سبكتكين» فقد تولى منطقة غزنة من قِبل السامانيين، ثم مد سبكتكين سلطانه في الشرق حيث ضم إقليم خراسان الذي ولاه عليه نوح بن منصور الساماني في سنة 384هـ مكافأة له على قمع الثوار في بلاد النهر, لكن سبكتكين اتجه بأعماله نحو الهند ولم يكن اتجاهه نحو البلاد التي كانت في حوزة السامانيين إلا تلبية لرغبته حين استعانوا به على قمع حركات الخارجين عليهم في خراسان، فقد انضم بقواته إلى نوح بن نصر الساماني في قتال الخارجين في خراسان وفي قتاله للبويهيين الذين رغبوا في الاستيلاء على خراسان من أملاك السامانيين, واستطاع سبكتكين وابنه محمود مع قوات السامانيين الانتصار على هؤلاء الخارجين، كما انتصروا على بني بويه وأعادوا للسامانيين مدينة نيسابور, وبعودة نيسابور إلى السامانيين ولى نوح الساماني ابنه محمود بن سبكتين عليها، كما ولاه على جيوش خراسان ولقبه بـ «سيف الدولة» ولقب أخاه سبكتكين بـ «ناصر الدولة» (4) وقد ولى سبكتكين منُذ أول الأمر وجهه شطر الأقاليم الهندية (5) فتمكن وعظم، وأخذ يُغير على أطراف الهند، وافتتح قلاعاً، وتمت له ملاحم مع الهنود (6) واشتبك مع أحد ملوكهم - ويدعى جيبال- في حروب طاحنة, واستطاع سبكتكين أن يلحق به الهزيمة سنة 369هـ وأجبره على طلب الصلح على مال يؤديه وبلاد يسلمهما وخمسين فيلاً يحملها إليه، فاستقر ذلك ورهن عنده جماعة من أهله على تسليم البلاد، وسير معه سبكتكين من يتسلمها، فلما أبعد جيبال ملك الهند قبض على من معه من المسلمين وجعلهم عنده عوضاً عن رهائنه، فلما سمع سبكتكين بذلك ..
سار نحو الهند فأخرب كل ما مر عليه من بلادهم، وقصد «لمغان» وهي من أحسن قلاعهم فافتتحها عنوة، وهد بيوت الأصنام وأقام فيها شعائر الإسلام .. ثم عاد إلى غزنة وسار خلفه جيبال في مائة ألف مقاتل، فلقيه سبكتكين وألحق به هزيمة كبيرة وأسر منهم ما لا يعد وغنم أموالهم
_________
(1) العالم الإسلامي في العصر العباسي، ص 366.
(2) الدولة السلجوقية منذ قيامها، ص 20.
(3) الكامل في التاريخ, نقلاً عن الدولة السلجوقية.
(4) العالم الإسلامي في العصر العباسي، ص 386.
(5) العالم الإسلامي في العصر العباسي، ص 386.
(6) سير أعلام النبلاء (17/ 484).(1/25)
وأثقالهم، وذل الهنود بعد هذه الموقعة، ولم يكن لهم بعد راية، ورضوا بألا يطلبوا في أقاصي بلادهم، ولما قوى سبكتكين بعد هذه الموقعة أطاعه الأفغان (1)، وكانت دولته نحواً من عشرين سنة، وكان فيه عدل وشجاعة ونبل مع عسف (2)، وبعد وفاته عام 378هـ عهد بالإمرة إلى ابنه إسماعيل, واستطاع ابنه محمود أن ينتزع الإمارة من أخيه إسماعيل بعد قتال مهول (3).
أ- محمود الغزنوي: من المؤسف حقاً ألا يعرف كثير من المثقفين وخريجي الجامعات شيئاً عن هذا السلطان السني العظيم ومملكته في بلاد الأفغان وما كان عليه من حب للعمل وتقرب إلى الله بحمل راية الدعوة وبث روح الجهاد والاستشهاد في جنده، ونشر السنة، وقمع البدع, وما كان يتحلى به من قيم إسلامية مثلى كان لها أعمق الأثر في ازدهار مملكته والتفاف الناس حوله في محبة وتفان ووفاء (4).
إن سيرة السلطان محمود الغزنوي ودولته السُّنية تستحق أن تُفرد لها دراسة خاصة بها وندعو طلاب العلم والمهتمين بالتاريخ الإسلامي وفق منهج أهل السنة والجماعة إلى القيام بهذا الواجب لسد ثغرة في المكتبة الإسلامية ويوضح أهمية الالتزام بالسنة وأثر ذلك في قوة الدولة وينسف أكاذيب وشبهات الرافضة والباطنية حول هذا البطل السني العظيم, ومع هذا لا يمنع من الحديث عنه في هذه العجالة، فقد وصفه ابن كثير بالملك العادل الكبير المثاغر (5)، المرابط المؤيد المنصور المجاهد يمين الدولة أبو القاسم محمود بن سبكتكين صاحب بلاد غزنة وتلك الممالك الكبار، وفاتح أكثر بلاد الهند قهراً، وكاسر بُدودِهم (6)، وأوثانهم كسراً، وقاهر هنودهم وسلطانهم الأعظم قهراً (7)، وقد سار في الرعية سيرة عادلة وقام بأعباء الإسلام قياماً تاماً، وفتح فتوحات كثيرة في بلاد الهند وغيرها، وعظم شأنه في العالمين، واتسعت مملكته وامتدت رعاياه وطالت أيامه، ولله الحمد والمنة، وكان يخطب في سائر ممالكه للخليفة العباسي القادر بالله، وكانت رسل الفاطميين من الديار المصرية تَفِد إليه بالكتب والهدايا والتحف فيحرق كتبهم ويُخرّق حللهم (8)، ولما قدم التاهرتي الداعي مندوب الدعوة الفاطمية من مصر على السُّلطان يدعوه سراً إلى مذهب الباطنية، وكان التاهرتي يركب بغلاً يتلون كل ساعة من كل لون، ففهم السلطان محمود سِرَّ دعوتهم، فغضب، وقتل
_________
(1) الكامل في التاريخ, نقلاً عن العالم الإسلامي في العصر العباسي، ص 369.
(2) سير أعلام النبلاء (16/ 500).
(3) المصدر نفسه (17/ 485).
(4) تاريخنا بين تزوير الأعداء وغفلة الأبناء, للعظم، ص 180.
(5) المثاغر: أي المرابط على الثغور.
(6) البدود: جمع البُدّ وهو الصنم بالفارسية.
(7) البداية والنهاية (15/ 628).
(8) المصدر نفسه (15/ 633).(1/26)
التَّاهَرتي الخبيث، وأهدى بغله إلى القاضي أبي منصور محمد الأزدي شيخ هراة، وقال: كان يركبه رأس الملحدين، فليركبه رأس المُوحَّدين (1).
وأما فتوحاته فقد اتفقت له في بلاد الهند فتوحات لم تتفق لغيره من الملوك، لا قبله ولا بعده, وغنم مغانم كثيرة لا تنحصر ولا تنضبط كثرة من الذهب واللآلئ والسَّبْي، وكسر من أصنامهم وأبدادهم وأوثانهم شيئاً كثيراً جداً، بيَّض الله وجهه وأكرم مثواه, وكان من جملة ما كسر من أصنامهم صنم عظيم للهنود يقال له سُومَنات (2)، الذي كان يعتقد كفرة الهند أنه يحيى ويُميت ويحُجُّونه، ويقربون له النفائس، بحيث إن الوقوف عليه بلغت عشرة آلاف قرية، وامتلأت خزائنه من صنوف الأموال، وفي خدمته من البراهمة ألفا نفس، ومائة جوقة مغاني رجال ونساء، فكان بين بلاد الإسلام وبين قلعة هذا الصَّنم مفازة نحو شهر، فسار السلطان في ثلاثين ألفاً، فيسَّر الله فتح القلعة في ثلاثة أيام، واستولى محمود على أموال لا تحصى (3)، بلغ ما تحصل منه من الذهب عشرين ألف دينار، وكسر ملك الهند الكبير الذي يقال له «جيبال». وقهر ملك الترك الأعظم الذي يقال له: إيلك خان، وأباد ملك السامانية، وقد ملكوا بخراسان مائة سنة بلاد سمرقند وما حولها، ثم هلكوا, وبنى على جيحون جسراً غرم عليه ألْفيْ ألف دينار، وهذا شيء لم يتفق لغيره من الملوك، وكان معه في جيشه أربعمائة فيل تقاتل، وهذه أمور هائلة ومرتبة طائلة، وجرت له فصول ذكر تفصيلها يطول، وكان في غاية الديانة والصيانة، يحب العلماء والمحدثين ويكرمهم ويجالسهم ويحسن إليهم، وكان حنفيّ المذهب، ثم صار شافعياً على يدي أبي بكر القفال الصغير (4) وكان صادق النية في إعلاء الدين، مظفراً كثير الغزو، وكان ذكياً بعيد الغور صائب الرأي، دخل ابن فورك على السلطان محمود، فقال: لا يجوز أن يوصف الله بالفوقية لأنَّ لازم ذلك وصفه بالتحتية، فمن جاز له أن يكون له فوق، جاز أن يكون له تحت.
فقال السلطان: ما أنا وصفته حتى يلزمني، بل هو وصف نفسه، فبهت ابن فورك، فلما
خرج من عنده مات (5). وكان السلطان محمود مُكرماً لأمرائه وأصحابه، وإذا نقم عاجل، وكان لا يفتر ولا يكاد يَقِرُّ، وكان يعتقد في الخليفة العباسي ويخضع لجلاله ويحمل
إليه قناطير الذهب, وكان إلباً على القرامطة والإسماعيلية وعلى المتكلمين (6) وعندما
ملك الري كتب إلى الخليفة القادر بالله يذكر أنه وجد لمجد الدولة البويهي من النساء الحرائر ما يزيد على خمسين امرأة ولدن له نيفاً وثلاثين ولداً، ولما سئل عن ذلك قال: هذه عادة سلفي، وصلب من أصحاب الباطنيين خلقاً كثيراً، ونفى المعتزلة إلى خراسان
_________
(1) سير أعلام النبلاء (17/ 486).
(2) البداية والنهاية (15/ 634).
(3) سير أعلام النبلاء (17/ 485).
(4) البداية والنهاية (15/ 634).
(5) سير أعلام النبلاء (17/ 487).
(6) سير أعلام النبلاء (17/ 487).(1/27)
وأحرق كتب الفلسفة والنجوم (1).
ب- الصراع الغزنوي السلجوقي: تمكن السلطان محمود الغزنوي من توسيع حدود دولته فغزا الهند سبع عشرة غزوة ووصلت حملاته إلى هضبة الدكن وضم إلى دولته كذلك إقليم البنجاب وأخضع بلاد الغزنويين «غزنة وهراة» ومدَّ نفوذه إلى بلاد ما وراء النهر (2)، وبذلك أصبحت حدود دولته تمتد من شمال الهند في الشرق إلى العراق في الغرب، ومن خراسان وطخارستان وجزء من بلاد ما وراء النهر في الشمال إلى سجستان في الجنوب, وقد اتخذ من مدينة لاهور مقراً لحكمه في الهند حيث عين نائباً له هناك (3)، فلا غرابة في أن أخذ يرنو إلى القضاء على البويهيين في بغداد (4)، وكانت قوة السلاجقة في بلاد ما وراء النهر قد تعاظمت في بداية القرن الخامس الهجري مما أثار حفيظة السلطان محمود الغزنوي فقام في سنة 415هـ بعبور نهر جيحون لمقاتلتهم، فنجح في القبض على زعيمهم أرسلان وولده قتلمش وعدد من كبار أصحابه وبعث بأرسلان إلى الهند حيث مات في السجن بعد أن قضى فيه سبع سنوات (5) وبعد أربع سنوات 419هـ خرج السلطان محمود لقتال السلاجقة مرة أخرى بناء على التماس سكان مدينتي (نسا) و «باورد» فأنزل بهم هزيمة ساحقة (6).
ج- معركة دندانقان وقيام السلطنة السلجوقية: لقد ظل السلاجقة بعد الهزيمة يتحينون الفرص للثأر من الغزنويين فكان لهم ذلك بعد وفاة السلطان محمود وقيام ابنه مسعود بمهام السلطنة عام 421هـ، حيث تمكنوا من الانتصار على جيوشه (7)، لكنهم اتصلوا به وعرضوا عليه الصلح والدخول في طاعته فاستجاب لهم ومنح زعماءهم الولايات وأسبغ عليهم الألقاب وأغدق عليهم الخلع (8)، وعلى الرغم من ذلك فقد كان الغزنويون يدركون مدى الخطر الذي كان يشكله السلاجقة عليهم؛ لذلك فقد أمر السلطان مسعود عامله على خراسان سنة 429هـ بقتال السلاجقة فدارت الحرب بين الطرفين قرب مدينة سَرخس وقد انتهت دولتهم حيث اندفعوا بعدها بقيادة زعيمهم ظفر بك نحو نيسابور التي دخلها وأعلن نفسه سلطاناً على السلاجقة وجلس على عرش السلطان مسعود الغزنوي في السنة نفسها 429هـ (9)، وكان من
_________
(1) الكامل في التاريخ, نقلاً عن: أيعيد التاريخ نفسه؟، ص 66.
(2) الدولة السلجوقية منذ قيامها، ص 23.
(3) الدولة السلجوقية منذ قيامها، ص 24.
(4) أخبار الدولة السلجوقية للحسين، ص 513.
(5) النجوم الزاهرة (5/ 50) , الدولة السلجوقية منذ قيامها، ص 24.
(6) الدولة السلجوقية منذ قيامها، ص 24.
(7) الكامل في التاريخ, نقلاً عن الدولة السلجوقية منذ قيامها، ص 25.
(8) الدولة السلجوقية منذ قيامها، ص 25.
(9) الدولة السلجوقية منذ قيامها، ص 25.(1/28)
نتيجة ذلك أن زحف مسعود بجيوشه نحو خراسان واشتبك مع السلاجقة بمعركة حاسمة في مكان يعرف باسم دَنَدانقان، انتهت بهزيمة الغزنويين وكان ذلك عام 431هـ، لم يلبث السلطان مسعود أن لقي مصرعه عام 432هـ، فخلفه ابنه مودود، وقد أصبح السلاجقة بعد معركة دَنَدانقان أكبر قوة في خراسان في حين كان الغزنويون قد ضعفوا بعد أن فقدوا غالبية جيوشهم وخسروا العديد من ممتلكاتهم، واستطاع الغزنويون في أفغانستان الاستيلاء على أملاكهم في الهند سنة 582هـ (1).
د- نتائج معركة دندانقان:
* وضعت معركة دندانقان حداً نهائياً لحكم الغزنويين في خراسان، ونصَّب طغرل بك التخت في مكان المعركة وجلس عليه، وجاء الأعيان يسلمون عليه بإمارة خراسان.
* حرَّر طغرل بك الرسائل على الأمراء المجاورين لإعلامهم بخبر الانتصار.
* طاردت القوات السلجوقية القوات الغزنوية المنهزمة حتى شواطئ نهر جيحون بهدف قسرهم على الهرب إلى ما وراء النهر، حتى يقدموا برهاناً ملموساً على النصر.
* أتاحت المعركة قيام سلطنة إسلامية جديدة، وانحسار ظل واحدة، كما تُعدَُ إحدى المعارك الكبرى الفاصلة في التاريخ الإسلامي، بل إن نتائجها تعدت العالم الإسلامي وأثرت على عالم العصور الوسطى (2).
* أعرب مسعود من ناحيته في رسالة أرسلها إلى القراخانيين عن ثقته في قيامهم بمساعدته في حملته المقبلة لاستئصال شأفة السلاجقة، غير أن صدمة الخسارة قد أذهلته لدرجة فقد معها الرغبة في المقاومة، فخيل إليه أنه لا بد من ترك ليس بلخ وتوابعها بل وغزنة أيضاً، على الرغم من محاولات أركان حربه وكبار رجال دولته إقناعه بانتفاء أُسس هذه المخاوف وقرر الانسحاب نهائياً إلى الهند (3).
* اقتسمت العشائر السلجوقية، بعد الانتصار, الأراضي التي استولوا عليها، فكان نصيب جفري مدينة مرو، فاستقر بها واتَّخذ منها عاصمة لملكه، كما ملك أكثر خراسان, وكان نصيب أبي علي الحسن بن موسى، ولاية بُست وهراة (4) وسجستان (5) وما يجاور ذلك من
_________
(1) الدولة السلجوقية منذ قيامها ص26.
(2) مدخل إلى تاريخ الحروب الصليبية، ص 29.
(3) تاريخ البيهقي، ص 727، 728، تاريخ سلاجقة الروم في آسيا الصغرى، محمد طقوش، ص 29.
(4) هراة: مدينة عظيمة من أمهات مدن خراسان، ياقوت الحموي (5/ 396).
(5) سجستان: ناحية كبيرة وولاية واسعة بينها وبين هراة عشرة أيام.(1/29)
النواحي. وأخذ قاورد أكبر أبناء جفري، ولاية الطبس (1) ونواحي كرمان (2) وحصل إبراهيم بن ينال على همذان (3)، كما حصل ياقوتي على أبهر (4)، وزنجان (5)، ونواحي أذربيجان (6)، وكان من نصيب قُتلمش بن إسرائيل جرجان ودامغان (7). والواقع أن فكرة التقسيم هذه تتعارض مع الفكرة الإيرانية عن الملك بوصفه صاحب السلطة المطلقة في الدولة، وهي غريبة على السلاجقة الأوائل إلا أن المسئولين السلاجقة هدفوا من وراء ذلك إلى إحاطة السلطنة الغزنوية ومنعها من محاولة استعادة خراسان ثم تأمين فتح طريق جيحون من أجل قدوم مهاجرين غز جدد (8).
* يُعد عام 429هـ البداية الفعلية لقيام السلطنة السلجوقية في خراسان، لأن طغرل بك باشر، منُذ ذلك التاريخ, مهامه السياسية والقيادية والإدارية. وأما اعتراف الخليفة العباسي به سلطاناً, والذي جاء متأخراً، في عام 432هـ، فلم يغير من الواقع فاعتراف الخليفة هو بمثابة اعتراف بالأمر الواقع، كما أنه شكلي فقط لإضفاء الشرعية على السلطنة الناشئة حتى يرضى عنها الناس ويقبلوا بحكمها، لأن الخلافة لم تكن تملك قوة مادية تسمح بالتدخل والمساهمة في الأحداث السياسية، وكان الخليفة يعترف عادة بالسلطان المنتصر والدولة المنتصرة (9).
* كان لقيام السلطنة السلجوقية أثر كبير في تاريخ المشرق الإسلامي وغربي آسيا بشكل خاص، والتاريخ الإسلامي بعامة؛ ذلك أن السلطنة قد أسهمت في توجيه الأحداث السياسية في المشرق الإسلامي بشكل بارز، وفي رسم سياسة توسعية باتجاه العالم النصراني، لنشر العقيدة الإسلامية (10).
* إن ما حقَّقه طغرل بك من نجاح، أغراه بالتمدد نحو العراق، قلب العالم الإسلامي, للسيطرة على الخلافة العباسية وإقامة دولة سلجوقية مترامية الأطراف، يُعد هذا التوجه
_________
(1) الطَّبس: قصبة ناحية بين نيسابور وأصفهان, ياقوت (4/ 20).
(2) كرمان: ولاية مشهورة وناحية كبيرة ذات بلاد وقرى ومدن واسعة بين فارس ومكران وسجستان وخراسان.
(3) همذان: أكبر مدينة بالجبال، شتاؤها مفرط البرد وتقع في منطقة الجبال شرق عراق العجم. الحموي (5/ 410 - 417).
(4) أبهر: مدينة مشهورة بين قزوين وزنجان وهمذان من نواحي الجبل. معجم البلدان, الحموي (1/ 82).
(5) زنجان: بلد كبير مشهور من نواحي الجبال بين أذربيجان وبينها.
(6) أذربيجان: إقليم واسع مشهور يحده من الشمال بلاد الديلم.
(7) دامغان: بلد كبير بين الري ونيسابور وهو قصبة قومس.
(8) تاريخ سلاجقة الروم في آسيا الصغرى، ص 30.
(9) المصدر نفسه، ص 36.
(10) المصدر نفسه, ص31.(1/30)
طبيعياً، فكل من سبقوه في السيطرة على خراسان تطلَّعوا إلى التمدد نحو الغرب للسيطرة على بغداد والتحكم بمقدرات الخلافة العباسية، ولنا في محاولات السامانيين والصفّاريين والغزنويين أمثلة كافية، أضف إلى ذلك، فقد هدف طغرل بك إلى إنقاذ الخلافة، والمذهب السنيَّ من السيطرة البويهية الشيعية (1).
3 - القراخانيون: 349هـ - 536هـ: في عام 349هـ أسلمت قبائل كثيرة من الأتراك ودخلوا في الإسلام، وكان من نتائج ذلك أن ظهرت أول دولة تركية مسلمة مقابلة لأتراك الشرق، هي الدولة القراخانية نسبة لأحد ملوكها وهو ساتوق بغراخان عبد الكريم الذي كان يسمى أيضاً «قراخان»، فقد اتخذ هذا الملك مدينة كاشغر عاصمة له, ولكنه نقل العاصمة بعد ذلك إلى بلاساتمون حيث حاول القراخانيون من هناك فتح بلاد ما وراء النهر (2)، وما إن قامت هذه الدولة حتى شرعت في محاربة أعداء الإسلام ولاسيما المجاورين لها من الأتراك الوثنيين، وقد قاد ظهور القراخانيين في هذه المنطقة إلى اصطدامهم بالسامانيين وكان ذلك في عام 379هـ.
وقد تمكن القراخانيون من إلحاق الهزيمة بجيش السامانيين وأسر جماعة من القواد، واستطاعوا احتلال بخارى عام 388هـ بدون مقاومة وبذلك أنهوا حكم السامانين (3) بها وبقي القراخانيون يتنازعون فيما بينهم للسيطرة على مناطق ما وراء النهر, وكان بعضهم يستنجد بملوك الصين والبعض الآخر بالسلاجقة حين أصبحوا تابعين لهم بعد إقامة الدولة السلجوقية، وقد حدثت موقعة قطوان بين الأتراك الوثنيين «الخطا» الذين كان يساعدهم ملك الصين وبين الأتراك المسلمين الذين كان يساعدهم سنجر السلجوقي (511هـ - 548هـ) , وكانت نتيجة هذه المعركة أن انتصر الأتراك الوثنيون (4)، ويصف ابن خلدون الموقف بقوله: واستقرت الدولة فيما وراء النهار للخطا .. وهم يؤمئذ على دين الكفر وانقرضت دولة الخانية المسلمين الذين كانوا فيها وذلك سنة 536هـ (5).
4 - البويهيون: 334هـ - 447هـ: تنتسب هذه الأسرة إلى بويه بن فنّاخسرو الديلمي الفارسي, وقد حكمت العراق وفارس لمدة تزيد على القرن، وكان الخليفة العباسي في بغداد ضعيفاً بإزائهم أكثر مما كان مع الأتراك من قبل, ولا تختلف هذه الأسرة عن أي أسرة أخرى
_________
(1) تاريخ سلاجقة الروم في آسيا الصغرى، ص 31.
(2) نهاية الأرب (26/ 52) , الدولة السلجوقية منذ قيامها، ص 27.
(3) تاريخ ابن خلدون, نقلاً عن الدولة السلجوقية، ص 29.
(4) الدولة السلجوقية منذ قيامها، ص 32.
(5) تاريخ ابن خلدون, نقلاً عن الدولة السلجوقية, ص32.(1/31)
في هذا العصر من ناحية الاستبداد والفساد الاقتصادي والاجتماعي وإن المؤسسين لهذه الدولة: علي بن بويه والحسن بن بويه فيهم سيادة ومداراة وحلم، ولكن الجيل الثاني والثالث فيهم بطش وقسوة وتعصب للمذهب الشيعي (1).
أ- لمحة تاريخية عن البويهيين: ظهر أولاد بويه: علي والحسن وأحمد على مسرح التاريخ بظهور أكبرهم الملقب عماد الدولة عام 321هـ وكان متولياً من قِبل أحد ملوك الديلم واسمه «مرداويح» على منطقة صغيرة اسمها (كرج) ولم يزل يتلطف الناس ويحسن إليهم حتى اشتهر بين البلاد المجاورة وأحبوه وخضعوا له ونزلوا على طاعته وساعده في ذلك إخوته حتى استولى على إقليم فارس, وفي سنة 334هـ زحف أحمد بن بويه إلى بغداد، ودخلها دون قتال، وغدت العراق تحت سيطرة بني بويه، وأظهروا الطاعة للخليفة، وأخذوا ألقابهم منه، فلقب أحمد «معز الدولة» وبقي حاكماً على العراق نائباً عن أخيه عماد الدولة نيفاً وعشرين سنة, ت 356هـ, وأما ركن الدولة الحسن بن بويه فقد حكم أصبهان وطبرستان وجرجان، وأخوهم الكبير عماد الدولة، شيراز وما حولها، ولكنه هو المقدم فيهم الذي يسمعون كلامه (2).
ب- تشيع البويهيين: لم يخف البويهيون تشيعهم، بل شجعوا المذهب الشيعي في بغداد للقيام بالأعمال الاستفزازية ضد أهل السنة، فكانت لا تمر سنة دون شغب واصطدامات تقع بين السنة والشيعة تذهب فيها الأرواح والممتلكات وتحرق الأسواق، وجاء في حوادث 351هـ: وكتب الشيعة في بغداد بأمر معز الدولة على المساجد بلعن معاوية والخلفاء الثلاثة, والخليفة العباسي لا يقدر على منع ذلك (3)، وفي سنة 352هـ أمر معز الدولة الناس أن يغلقوا دكاكينهم ويبطلوا الأسواق والبيع والشراء وأن يظهروا النياحة وأن تخرج النساء منتشرات الشعور، مسودات الوجوه، يدرن في البلد بالنوائح ويلطمن وجوههن على الحسين بن علي - رضي الله عنه - ففعل الناس ذلك ولم يكن للسنة قدرة على المنع منه لكثرة الشيعة ولأن السلطان معهم (4)، وهذا أول ما نيح عليه (5) وقد وصف ابن كثير ما يفعل الشيعة من تعد لحدود الكتاب والسنة في دولة بني بويه في حدود الأربعمائة وما حولها فقال: فكانت الدَّبادب (6) تضرب ببغداد ونحوها من البلاد في يوم عاشوراء ويُذرُّ الرماد والتبن في الطرقات والأسواق وتعلق المسوح على الدكاكين ويظهر الناس الحزن والبكاء وكثير منهم
_________
(1) أيعيد التاريخ نفسه، ص 48.
(2) أيعيد التاريخ نفسه، ص 48.
(3) أيعيد التاريخ نفسه، ص 48.
(4) الكامل في التاريخ, نقلاً عن: أيعيد التاريخ نفسه، ص 49.
(5) البداية والنهاية (11/ 577).
(6) الدبادب: جمع الدّبداب وهو الطبل.(1/32)
لا يشرب الماء ليلتئذ موافقة للحسين، لأنه قتل عطشان, ثم تخرج النساء حاسرات عن وجوههن ينحن ويلطمن وجوههن وصدورهن حافيات في الأسواق إلى غير ذلك من البدع الشنيعة والأهواء الفظيعة والهتائك المخترعة (1).
جـ- إهانتهم للخلفاء: تابع البويهيون سياسة الأتراك في إضعاف هيبة الخلافة وجعلها كأنها غير موجودة، وهم بهذا العمل إنما يدللون على بعدهم عن أي حس حضاري زيادة عما في قلوبهم من حقد على السنة، وكانوا يرون أن العباسيين مغتصبون للخلافة, ولذلك فكر معز الدولة بإعادة الخلافة إلى «آل علي» - رضي الله عنه -، فاستشار خواص أصحابه في إخراج الخلافة عن العباسيين والبيعة للمعز العبيدي في مصر، ولكن أحد أصحابه قال له: ليس هذا برأي، فإنك اليوم مع خليفة تعتقد أنت وأصحابك أنه ليس من أهل الخلافة، ولو أمرتهم بقتله لقتلوه، ومتى أجلست بعض العلويين خليفة كان معك من تعتقد أنت وأصحابك صحة خلافته فلو أمرهم بقتلك لفعلوه (2). واستحسن معز الدولة هذا الرأي وأعرض عن فكرته (3)، وعندما قلّت الأموال عند بهاء الدولة حسّن له وزيره القبض على الخليفة الطائع وأطمعه في ماله، ودخل بهاء الدولة على الخليفة وأنزله عن سريره، وهو يستغيث ولا يلتفت إليه أحد, وأخذ ما في داره من الذخائر ونهب الناس بعضهم بعضًا (4)، وكان سلفه معز الدولة البويهي هو الذي أهان المستكفي وأمر الجنود بشده من عمامته ثم أمر به إلى السجن ولم يزل فيه حتى وفاته (5).
د- وزراؤهم: كما وزر للعبيديين الفاطميين اليهود والنصارى كذلك وزر للبويهيين النصارى، ففي عهد عضد الدولة (فنّاخسرو بن الحسن بن بويه) كان وزيره نصر بن هارون, وقد أذن له عضد الدولة بعمارة البيَع والأديرة وأطلق الأموال لفقراء النصارى (6).
هـ- الصلة بين البويهيين والقرامطة: إن الذي يقرأ التاريخ مجزأ مقطعاً قد لا يدرك ولا يتنبه إلى الصلات التي كانت بين الحركات الباطنية ولا إلى الصلات بين الدولة الشيعية وهذه الحركات, ويظن أن كل دولة قائمة بنفسها ولا تربطها صلات مع الأخرى، وهكذا يظن البعض الآن، فلا يرون أن هناك صلات بين الرافضة والباطنية وإذا كان هناك شيء من هذا فهو يظن أنه للمصلحة السياسية المؤقتة. ولكن من يقرأ التاريخ ويقرأ الحاضر ويقارن بينهما لن يجد فرقاً يذكر
_________
(1) البداية والنهاية (11/ 577).
(2) الكامل في التاريخ, نقلاً عن: أيعيد التاريخ نفسه، ص 49.
(3) أيعيد التاريخ نفسه، ص 49.
(4) الكامل في التاريخ, نقلاً عن: أيعيد التاريخ نفسه، ص 50.
(5) البداية والنهاية, نقلاً عن: أيعيد التاريخ نفسه، ص 50.
(6) البداية والنهاية, نقلاً عن: أيعيد التاريخ نفسه، ص 50.(1/33)
في المواقف (1). وجاء في حوادث سنة 360هـ: وفي ذي القعدة أخذت القرامطة دمشق وقتلوا نائبها جعفر بن فلاح وكان رئيس القرامطة الحسين بن أحمد بن بهرام، وقد أمده معز الدولة البويهي من بغداد بالسلاح والعدد الكثيرة (2).
وكتب الملك البويهي أبو كاليجار إلى المؤيد داعي الدعاة الفاطمي العبيدي عند سفره إلى مصر سنة 438هـ بعد أن تأثر بدعوته الإسماعيلية يقول: فيجب أن تصور لتلك الحضرة الشريفة «المستنصر العبيدي في مصر» ما اطلعت عليه من شواهد صفاء عقيدتنا وتُعلمها أن هؤلاء التركمان «السلاجقة» المسئولين عن أعمال خراسان والري لا يقصر خطابهم عن بلادها المحروسة «الشام ومصر» إلا ثبات عساكرنا المنصورة في وجوههم وبذْلنا الأموال في كف عاديتهم (3). فهذا الملك البويهي يطلب شهادة حسن سلوك من الدولة العبيدية في مصر، ويشعرهم في الوقت نفسه أنه هو المدافع عنهم أمام الزحف التركماني السلجوقي السني (4). ومن هنا يتضح لنا درس مهم وهو حقيقة استعدادهم للتحالف والتعاون فيما بينهم مع الاختلاف في العقائد ومع ذلك يتحالفون ضد العدو المشترك.
و- موقفهم من حماية حدود الدولة الإسلامية: استغاث أهل الجزيرة بالعاصمة بغداد لصد غارات الروم واستجاب الشعب في بغداد لهذا النداء، وتجهزوا للجهاد، وأرسل بختيار بن معز الدولة إلى الخليفة يطلب مالاً لتجهيز الناس للغزو، واضطر الخليفة لبيع أثاث بيته ليدفع له الأموال, ولكن بختيار أنفقها على مصالحه الشخصية وأبطل أمر الغزو (5). وهكذا ظهر أن بختيار كان مراوغاً ولم يكن صادقاً في طلب الأموال أو التهيؤ للغزو والجهاد (6) وإنما كان يقصد استنزاف أكثر قدر ممكن للقدرة المالية للخلافة العباسية رغم ضعفها.
ز- البويهيون والإقطاع العسكري: من بدع البويهيين وظلمهم وجورهم التي ما سبقهم إليها أحد إقطاعهم الأرض للقادة العسكريين وللجنود، وذلك بدلاً من الرواتب النقدية التي كانت تصرف لهم، وهذه الأرض المعطاة ليست من أراضي الدولة أو من الأرض الموات التي تقطع لإحيائها, بل هي من الأرض المصادرة تعسفاً وظلماً من أصحابها الفلاحين, وكان هؤلاء الجنود إذا لم تعجبهم الأرض أو لم تغل عليهم ما يريدون تركوها وأخذوا غيرها، وأدى هذا النظام إلى تدمير الحياة الزراعية وإفقار خزانة الدولة، ولم تحل
_________
(1) أيعيد التاريخ نفسه، ص 50.
(2) أيعيد التاريخ نفسه ص 50, نقلاً عن البداية والنهاية.
(3) دخول الترك الغز إلى الشام, د. شاكر مصطفى، ص 323.
(4) أيعيد التاريخ نفسه، ص 51.
(5) البداية والنهاية, نقلاً عن: أيعيد التاريخ نفسه، ص 51.
(6) أيعيد التاريخ نفسه، ص 51.(1/34)
مسألة الرواتب، يقول الدكتور عبد العزيز الدوري: والذي أراه هو أن خط البويهيين هو بداية الإقطاع العسكري ويبدو لي أن البويهيين انطلقوا من نظرة قبلية تعتبر الأرض المفتوحة غنيمة بحق الغزو وأهملوا المفهوم الإسلامي بالنسبة للأرض (1)، كما أن بدعة ضمان القضاء بدأت في عهدهم، ففي سنة 350هـ أمر معز الدولة بتسمية عبد الله بن الحسن بن أبي الشوارب قاضياً على بغداد على أن يؤدي مائتي ألف درهم في كل سنة (2). وهكذا نرى ظلم هذه الدولة وتعسفها وتعصبها فهي لم تقدم جديداً للحضارة الإسلامية، وأما كرم وزيرهم الصاحب بن عباد وتشجيعه للأدب وتنظيم عضد الدولة لبعض المشاريع في العراق وإنشاؤه المستشفى العضدي، فكل ذلك لا يذكر أمام اتجاه الدولة العام في تمزيق أواصر المجتمع الإسلامي وتخريبه عقدياً واقتصادياً ووصف مؤسسها عماد الدولة بالعقل والحلم لا يغير من النتيجة العامة، وهي أن ضررها أكثر من نفعها، قال الذهبي: وضاع أمر الإسلام بدولة بني بويه وبني عبيد الرافضة، وتركوا الجهاد وهاجت نصارى الروم، وأخذوا المدائن وقتلوا وسبوا (3).
وقال: فلقد جرى على الإسلام في المائة الرابعة بلاء شديد بالدولة العبيدية بالمغرب، وبالدولة البُويهية بالمشرق، وبالأعراب القرامطة، فالأمر لله تعالى (4). وقال عن عضد الدولة أبو شجاع فنّاخسرو: .. وكان شيعياً جلداً أظهر بالنجف قبراً زعم أنه قبر الإمام علي بنى عليه المشهد، وأقام شعار الرفض ومأتم عاشوراء، ونُقل أنه لما احتُضر ما انطلق لسانه إلا بقوله تعالى: {مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ - هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ} [الحاقة: 28،29] (5).
ح- مناصرة الأمراء البويهيين لحركة التشيع وإثارة التفرقة والنعرات الضيقة:
بحلول سنة 334هـ / 945م كانت الأوضاع العامة في العراق سياسياً واقتصادياً واجتماعياً غاية في السوء, وعدم تمكن البويهيين من بغداد زاد الأمور سوءاً وكشفوا عن تشيعهم وإيمانهم بعقيدتهم معاضدين أبناء الفرق الشيعية العلوية الأخرى التي كانت منتشرة في بغداد وبعض المراكز الحضرية في العراق آنذاك مثيرين للفتن الطائفية ولم يكن حال الخلفاء خلال هذه الفترة يسمح لهم بمواجهة بني بويه, فقد تولى الخلافة خلال العصر البويهي خمسة من الخلفاء تفاوتت مدد خلافتهم وفقاً لموقف الأمير البويهي من كل منهم, وقد لاقى كل من أولئك الخلفاء الكثير من ضروب الإهانة والاستخفاف والعنت من البويهيين (6)، ومن
_________
(1) نشأة الإقطاع في المجتمعات الإسلامية, بحث في مجلة الاجتهاد، ص 259.
(2) الفكر السامي في تاريخ الفكر الإسلامي, للحجوي (2/ 142).
(3) سير أعلام النبلاء (16/ 232).
(4) المصدر نفسه (16/ 252).
(5) المصدر نفسه (16/ 250).
(6) الحياة العلمية في العراق خلال العصر البويهي، ص 60.(1/35)
منطلق اعتقاد بني بويه بأن سيطرتهم على الخلافة وإضعاف نفوذ الخليفة لن يمكن أهل السنة من التصدي لهم، فقد باشروا خططهم في محاولة نشر التشيع العلوي في المجتمع ومحاربة السنة مساندين في ذلك دعاة التشيع من أمثال موسى بن داود الشيرازي الذي اشتهر بلقب المؤيد في الدين وهو من عائلة عريقة في التشيع على المذهب القرمطي وكان أبوه محل احترام الخلفاء العبيديين، كما كان هو أيضاً محل احترام المرزبان بن عماد الدين أبو كاليجار البويهي وكان إذا كاتبه خاطبه بقوله: لشيخنا وظهيرنا ومعتمدنا المؤيد في الدين عصمة أمير المؤمنين أبي النصر أطال الله بقاءه وأدام عزه وتأييده (1)، وقد كان المؤيد في الدين هبة الله الشيرازي من المجيدين للغتين العربية والفارسية وله الكثير من المؤلفات التي يعتمد عليها الإسماعيلية إلى يومنا هذا (2)،
وقد لعبت كتبه دوراً كبيراً في نشر الضلال والانحراف والزيغ وعبرت عن مدى تمسكه بمبادئ الحركة القرمطية، ومن أشهر كتبه كتاب المجالس المؤيدية ويضم ما كان يلقيه في مجالس الدعوة الإسماعيلية بعد أن ترقى في سنة 451هـ/1059م إلى مرتبة داعي الدعاة, وله أيضاً كتاب الإيضاح والتبصير في فضل يوم الغدير بالإضافة إلى عدة كتب أخرى وديوان شعر منحرف أيضاً (3)، وهكذا وبدعم أمراء بني بويه لأمثال هذا الداعية الشيعي لم يمض وقت طويل حتى بدأت الفتن العارمة التي نجم عنها العديد من المعارك الداخلية وحالات الاقتتال الطائفي تأخذ مداها بين أهل السنة والشيعة (4).
وأول إشارة إلى الفتن بين الشيعة وأهل السنة خلال العصر البويهي حصلت سنة 338هـ /949م وقد كان من نتيجتها أن نهبت الكرخ (5)، وفي رمضان من سنة 340هـ/ 951م وقعت فتنة عظيمة بالكرخ بسبب المذهب (6)، وفي السنة نفسها ظهر ببغداد رجل ادعى أن أرواح الأنبياء والصديقين تنتقل إليه، وقد وجدت في داره كتب تدينه بالزندقة فتم القبض عليه, فلما تحقق أنه هالك ادعى أنه شيعي ليحضر عند معز الدولة بن بويه وقد كان معز الدولة بن بويه يؤيد الرافضة، فلما اشتهر عنه ذلك، لم يتمكن الوزير منه خوفاً على نفسه من معز الدولة وأن تقوم عليه الشيعة، وإنا لله وإنا إليه راجعون (7). وتقدم هذه الحادثة الدليل الواضح على مدى مساندة بني بويه لفرق الشيعة الرافضة الأخرى ومدى تشجيعهم ومناصرتهم لهم، وللمنتسبين لهم حتى ولو كانوا من الزنادقة, ويدعم هذا الرأي ما حدث في سنة 341هـ / 952م حيث ظفر الوزير المهلبي بقوم من التناسخية وفيهم امرأة تزعم أن روح فاطمة, رضي الله عنها، انتقلت إليها، وفيهم آخر يزعم أنه جبريل، فضربوا
_________
(1) القرامطة أول حركة اشتراكية في الإسلام، طه الولي، ص 200.
(2) الحياة العلمية في العراق خلال العصر البويهي، ص 63.
(3) الحياة العلمية في العراق خلال العصر البويهي، ص 63.
(4) المصدر نفسه، ص 64.
(5) المصدر نفسه، ص 64.
(6) المصدر نفسه، ص 65.
(7) المصدر نفسه، ص 65.(1/36)
فتعذروا بالانتماء لأهل البيت فأمر معز الدولة بإطلاقهم لتشيع كان فيهم، والمشهور عن بني بويه التشيع والرفض (1)، وهكذا كان لمغالاة بني بويه في التشيع نتائج سيئة الأثر حيث عمت الفوضى والانحرافات العقدية ولم تعد الفوضى مقصورة على بغداد أو مدن العراق الأخرى، بل شملت بعض أنحاء الدولة العباسية الأخرى, وفي سنة 346هـ/957م تجددت الفتنة بين السنة والشيعة في بغداد بسبب سب الصحابة وكان من نتيجة ذلك أن قتل من الفريقين خلق كثير دون أن تتحرك السلطة لمعالجة الصراع, وفي السنة التالية 347هـ /958م انتشرت ظاهرة سب وتكفير الصحابة في كثير من البلدان (2)
واشتدت الفتنة الطائفية بين الرافضة والسنة ووقعت في جمادى الأولى سنة 348هـ / 959م حرب شديدة بين أتباع مذاهب السلف من أهل بغداد والمتشيعة وقتل فيها جماعة واحترق من البلد كثير, وفي السنة التي تلت، أي سنة 349هـ/960م وبسبب الفتنة الطائفية تعطلت صلاة الجمعة في جميع مساجد بغداد (3)، وفي سنة 351هـ كتب العامة على مساجد بغداد لعن معاوية بن أبي سفيان ولعن من غصب (4) فاطمة فدكاً، ومن أخرج العباس (5) من الشورى ومن نفي أبا ذر الغفاري (6) ومن منع دفن الحسن عند جده, ولم يمنع معز الدولة ذلك (7) , وقد ثار أهل السنة من هذا التعريض المباشر بصحابة النبي - صلى الله عليه وسلم -، وخصوصاً الخلفاء الراشدين الثلاثة الأول وأقدموا خلال ساعات الليل على إزالة الشعارات التي رفعها الرافضة، غير أن الأمير البويهي معز الدولة أصر على ضرورة إعادة تلك الشعارات وإبقائها مرفوعة رغم ما تشكل من تحد سافر لمشاعر عموم المسلمين من أتباع مذاهب السلف وأهل السنة، وقد نصحه وزيره المهلبي بالامتناع عن ذلك مداراة للرأي العام وبأن يكتب مكان ما محى: لعن الله الظالمين لآل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (8)، وصرحوا بلعن معاوية فقط (9). وهكذا يثبت الأمير البويهي مدى ضيق أفقه وتحزبه الأعمى لأبناء مذهبه, فقد أيد الروافض وتعصبهم وموقفهم المنافي لعقيدة الإسلام التي نزلت على رسول الله من الله تعالى وبينها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للمسلمين.
وقد اتسع نطاق الصراعات الطائفية ولم تعد مقصورة على بغداد بل إنها شملت البصرة وهمذان وقتل فيها خلق كثير (10)، مما قدم الدليل على أن أمراء بني بويه -وعلى رأسهم معز
_________
(1) النجوم الزاهرة (3/ 307، 308).
(2) الحياة العلمية في العراق خلال العصر البويهي، ص 67.
(3) الحياة العلمية في العراق خلال العصر البويهي، ص 67.
(4) يقصدون أبا بكر وكذبوا في ذلك لأن أبا بكر نفذ حكم رسول الله في فدك.
(5) يقصدون عمر في ترشيحه لأهل الشورى حيث كانوا من العشرة المبشرين بالجنة.
(6) يقصدون عثمان, وعثمان لم ينف أبا ذر ولكن أبا ذر اختار ذلك.
(7) المنتظم (7/ 7، 8).
(8) الحياة العلمية في العراق خلال العصر البويهي، ص 68.
(9) تاريخ الخلفاء، ص 639.
(10) الكامل في التاريخ, نقلاً عن الحياة العلمية في العصر البويهي، ص 68.(1/37)
الدولة- قد ساندوا الشيعة الغلاة الذين كانوا يطمعون في تشيع المجتمع خلال فترة سيطرة البويهيين على مقاليد الحكم وتسلطهم على الخلافة ودون إعطاء أي اعتبار للخليفة العباسي السني الذي يحكمون باسمه (1) وقد توسع في بيان تشجيع الأمراء البويهيين لحركة التشيع وإثارة التفرقة والنعرات الضيقة الدكتور رشاد عباس معتوق فمن أراد التفصيل فليراجع كتابه القيم «الحياة العلمية في العراق خلال العصر البويهي». ويعتبر العصر البويهي من أقبح عهود التاريخ الإسلامي وأشدها؛ فقد احتل البويهيون قسماً كبيراً من شرقي بلاد الخلافة العباسية بما فيها العراق وبغداد وكانوا شيعة غلاة ولم يلغوا الخلافة العباسية لأسباب سياسية فأدى الأمر إلى صراع مرير جداً بين السنة والشيعة وكانت بغداد خاصة مسرح هذا الصراع (2).
ط- إنشاء مراكز شيعية متخصصة في التأليف والتعليم في بغداد والنجف والكاظمية: كان لتشيع البويهيين دوره الخطير في تشجيع العلماء القائلين بوجهة نظرهم, فقد عملوا على الاهتمام بالعلوم المذهبية وتقديم الرعاية للعلماء والمتشيعين للعلويين بصفة عامة حتى يظهروا أمام أتباعهم بمظهر الحريص على المذهب المدافع عنه وهم بذلك يعبرون عن ميول شيعية متعصبة دفعتهم إلى تأسيس العديد من المراكز الشيعية في العراق والتي خدمت أغراض تعصبهم المذهبي, فقد حرصوا على تحويل المجتمع الإسلامي نحو الإيمان بمعتقدهم, وهكذا تجدهم يقربون علماء الشيعة ويرعونهم ويشجعونهم على الكتابة في الكثير من التخصصات الفلسفية والمنطقية بالإضافة إلى الرياضيات وعلم الهيئة، وشجعوهم بشكل خاص على التأليف في العلوم التي تخدم المذهب الشيعي, وهكذا ظهرت العديد من المجاميع الخاصة بهم والتي كرست لوضع الأحاديث المكذوبة على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومن أمثلة ذلك المحدث الرافضي أبو الفضل الشيباني (ت387هـ / 997م). الذي كان يروي غرائب الأحاديث، وكان ممن يضع الأحاديث للرافضة (3)، وقد التبس أمره على الناس فكتبوا الكثير من مروياته فلما ظهر لهم كذبه مزقوا أحاديثه (4)،
وقد شهد العصر البويهي عدداً غير قليل من محدثي الشيعة كابن الجعابي وأبي الطيب الدوري، والمعبدي وابن البقال والنوبختي والكلوذاني وغيرهم ممن عملوا على إسباغ صبغة الاعتزال والتشيع على مروياتهم, وكان ذلك بمناصرة ومعاضدة أمراء بني بويه لخدمة أهدافهم في تشييع المجتمع الإسلامي (5)، ولم يتوان أمراء بني بويه عن تشجيع عدد كبير من فقهاء التشيع والرفض في إظهار مساهماتهم
_________
(1) الحياة العلمية في العراق خلال العصر البويهي، ص 69.
(2) المصدر نفسه، ص 90.
(3) تاريخ بغداد (5/ 466، 467).
(4) الحياة العلمية في العراق خلال العصر البويهي، ص 104.
(5) الحياة العلمية في العراق خلال العصر البويهي، ص 104.(1/38)
في نشر التشيع بين عامة الناس في المجتمع الإسلامي, وكان خطر هؤلاء المبتدعة كبيراً على الأمة الإسلامية لما اتصفوا به من انحراف في المعتقد وتزييف للحقائق وافتراء على المشرع, ومن أولئك على سبيل المثال أبو القاسم علي أحمد العلوي الكوفي (ت352/ 963م) وهو من الشيعة الغلاة ومن كتبه: «الاستغاثة في بدع الثلاثة»، ويقصد بالثلاثة الخلفاء أبا بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم، وقد قال في جملة ما قاله في هذا الكتاب بأن القرآن الذي بين أيدي الناس هو قرآن ناقص (1)، ومنهم أبو عبد الله محمد بن محمد النعمان المعروف بالشيخ المفيَد (ت 413هـ/1022م) وكان ذا مكانة كبيرة لدى أمراء بني بويه (2)، وكانت له تصانيف كثيرة (3) ويكفي الإشارة إلى ما كتبه الخطيب البغدادي عن الشيخ المفيد بن المعلم ليظهر مدى خطره على الناس من العامة خاصة، فلقد ترجم له بقوله: شيخ الرافضة والمتعلم على مذاهبهم، صنف كتباً كثيرة في ضلالاتهم والذب عن اعتقاداتهم ومقالاتهم والطعن على السلف الماضين من الصحابة والتابعين وعامة الفقهاء المجتهدين, وكان أحد أئمة الضلال هلك به خلق من الناس إلى أن أراح الله المسلمين منه (4)،
وقد أدى اهتمام البويهيين بالعلم والعلماء إلى انتشار خزانات الكتب وإلى جانبها دور للعلم يمكن اعتبارها من المؤسسات المساعدة لمراكز التشيع حيث كان الغرض منها حث علماء الشيعة على الاطلاع والتأليف ومن بينها دار العلم ببغداد وهي دار ابتاعها الوزير أبو نصر سابور بن أردشير 383هـ/993 بمحلة الكرخ جدد عمارتها ونقل إليها كتبًا كثيرة وأوقف عليها أوقافاً كثيرة وسماها دار العلم (5)، ومن بينها الدار التي أسسها نقيب العلويين الشريف الرضي المتوفي سنة 406هـ/1015م في الكاظمية على الجانب الغربي من دجلة مقابل مقابر قريش وأسماها دار العلم وفتحها لطلبة العلم ووفر لهم كل ما يحتاجونه (6)، ويعتبر أبو عبد الله المرزباني من الأدباء والكتاب الذين جعلوا دورهم مراكز للتشيع والاعتزال فقد كان المرزباني معتزلياً يتشيع (7)، ولقد أنشأ البويهيون خلال مدة حكمهم العديد من مراكز التشيع واعتنوا عناية كبيرة بتلك التي كانت موجودة وقائمة قبل وصولهم، ووجدت هذه المراكز في كل من كرخ بغداد والكوفة والنجف وكربلاء والكاظمية والبصرة والحلة (8) وقد لعبت تلك المراكز أدواراً مهمة في تجميع الشيعة وتوحيد صفوفهم ودفعهم إلى نشر أفكارهم
_________
(1) أعياد الشيعة, نقلاً عن الحياة العلمية في العراق خلال العصر البويهي105.
(2) الحياة العلمية في العراق خلال العصر البويهي، ص 106.
(3) الحياة العلمية في العراق خلال العصر البويهي، ص 106.
(4) تاريخ بغداد (3/ 231).
(5) المنتظم (7/ 172) , الحياة العلمية في العراق خلال العصر البويهي، ص 110.
(6) البداية والنهاية, نقلاً عن الحياة العلمية، ص 111.
(7) تاريخ بغداد (3/ 135، 136).
(8) الحياة العلمية في العراق خلال العصر البويهي ص111.(1/39)
ومعتقداتهم خاصة أنهم وجدوا مناصرة ومعاضدة من المتسلطين على الخلافة العباسية من أمراء بني بويه، وكذلك من وزرائهم الذين نهج معظمهم نفس النهج (1).
ى- إشاعة الآراء المنحرفة للفلاسفة مثل حركة إخوان الصفا: من أخطر الحركات الفلسفية التي ظهرت خلال العصر البويهي حركة إخوان الصفا التي تتمثل في أفكارها الانحرافات الباطنية والتي تعبر عنها شكلاً ومضموناً، وقد اختلف المؤرخون حول زمن نشأة حركة إخوان الصفا، وإن أقدم من ذكر إخوان الصفا هو أبو حيان التوحيدي، ومن خلال ما أورده عنهم يتبين أن موطن نشأتهم كان مدينة البصرة منبت حركة الاعتزال ومرتع المتشيعة والمقر التاريخي لصاحب حركة الزنج، ولقد عرفت جماعة إخوان الصفا في منتصف القرن الرابع الهجري، وهي فترة شهدت ضعفاً وتردياً كبيراً في قوة ومكانة الخلافة العباسية وتسلطاً أجنبياً خبيثاً ومنحرفاً، وقد تهيأت الظروف خلال هذه المرحلة لظهور العديد من الأفكار والحركات، ومن بينها أفكار إخوان الصفا، وتكاد المصادر تجمع على أن جماعة إخوان الصفا جماعة سرية تتألف من طبقات متفاوتة وفق أسس ذكروها في رسائلهم، كما تتفق على أنهم من الشيعة الإسماعيلية وتمثل آراؤهم وأفكارهم الفلسفية المبادئ الأساسية لفرقة الإسماعيلية التي تقوم أساساً على التأويل الباطني، ويصف إخوان الصفا الصلاة مثلاً (2) بأنها هي المقصودة بالقيود، بل إنهم يقرون أن للدين ظاهراً وباطناً, ولقد حظيت آراء وأفكار الفلاسفة خلال العصر البويهي بالكثير من التشجيع والمعاضدة فلقد كانت عناية أمراء بني بويه كبيرة بكل ما له اتصال بالفلسفة والمنطق والكلام والتنجيم وأولت المختصين بها عناية فائقة (3)، وقد حفلت مجالس البويهيين على الدوام بحضور العديد من المعتزلة والفلاسفة والمنطقيين وغيرهم من العلماء المتشيعين الذين سخروا علمهم لخدمة أمراء بني بويه والشيعة الرافضة (4).
ك- نهاية الدولة البويهية: تمت على أيدي السلاجقة بعد أن بدأ الانقسام والنزاع بين أفراد البيت البويهي، حيث تنازع أبناء عضد الدولة فيما بينهم على الحكم واستقرت الأمور بيد بهاء الدولة حتى نشب الصراع ثانية بين أولاده سلطان الدولة وشرف الدولة وجلال الدولة واندلعت الحروب بينهم (5)، مما صرفهم على مواجهة خصومهم في الخارج، فكانت نهاية حكمهم على يد السلطان السلجوقي طغرل بك الذي أزال الله به ملكهم وأراح المسلمين
_________
(1) الحياة العلمية في العراق خلال العصر البويهي ص113.
(2) الإنسان في فكر إخوان الصفا، عبد اللطيف محمد العبد ص 37.
(3) الحياة العلمية في العراق خلال العصر البويهي، ص 137.
(4) المصدر نفسه، ص 138.
(5) الدولة السلجوقية منذ قيامها، ص 39.(1/40)
من شرهم، عندما دخل بغداد وقبض على آخر حاكم منهم وهو الملك الرحيم أبو نصر خسرو, وذلك سنة 447هـ, وبعث به مقيداً إلى الري وأسقط اسمه من الخطبة في شهر رمضان من تلك السنة وبذلك زالت الدولة البويهية من الوجود لتأخذ مكانها الدولة السلجوقية (1).
5 - اجتماع السلاجقة على زعامة طغرل بك وتوسع دولتهم: كانت الغنائم التي حصل عليها السلاجقة في معركة دَنَدانقان كثيرة جداً، وبعد انتصارهم في تلك المعركة عاد طغرل بك إلى نيسابور فدخلها مع جموع في أواخر عام 431هـ وأوائل 432هـ (2)، ولم تنج المدينة هذه المرة من النهب، فلما أحرز السلاجقة النصر في هذه المعارك ازدادوا قوة ولحقت بهم جيوشهم المتفرقة في أطراف خراسان، فاشتد وقعهم في القلوب وتقرر الملك لهم، واجتمع بعد ذلك الإخوان جغري بك وطغرل بك مع عمهما موسى بن سلجوق الذي كان يطلق عليه «بيغو» وأبناء أعمامهم وكبار قومهم وقواد جنودهم، وتعاهدوا على الاتحاد والتعاون فيما بينهم (3) ويقول الراوندي: ولقد سمعت أن طغرل بك أعطى لأخيه سهماً وقال له: اكسره. فتناول أخوه السهم وكسره في هوادة، ثم جمع له سهمين فكسرها أيضاً في هوادة ثم أعطاه ثلاثة فكسرها بصعوبة، فلما بلغ عدد السهام أربعة تعذر عليه كسرها، فقال له طغرل بك: إن مثلنا مثل ذلك فإذا تفرقنا هان لأقل الناس كسرنا وأما إذا اجتمعنا فلا يستطيع أحد أن يظفر بنا، فإذا نشأ خلاف بيننا لم يتيسر لنا فتح العالم، وتغلب علينا الأعداء وذهب الملك من أيدينا (4). وجدد السلاجقة العهد لطغرل بك كقائد أعلى لجيوشهم وسلطان لهم على دولتهم، ورغم أن جغري بك كان أكبر منه سناً، إلا أن طغرل بك كان يتميز بشجاعته النادرة وقوة شخصيته مع تدين ملحوظ وذكاء حاد (5)، وكلها صفات رجحت كفته، وهكذا قامت دولة السلاجقة (6).
وقد شملت فتوح السلاجقة الأولى خراسان وكرمان وأذربيجان وهمدان وجرجان، فقسموا هذه الولايات التي كانوا قد استولوا عليها فيما بينهم (7)، وكانت بلخ من أقوى مراكز السلاجقة في الشرق، ونيسابور في الغرب، ومن هذين المركزين أخذ نفوذهم في الانتشار والتوسع (8)، وقد اختار طغرل بك مدينة الري لتكون حاضرة ملكه (9).
_________
(1) الدولة السلجوقية منذ قيامها، ص 39.
(2) تاريخ البيهقي، ص 695، الدولة السلجوقية منذ قيامها، ص 128.
(3) الدولة السلجوقية منذ قيامها، ص 128.
(4) راحة الصدور للراوندي، ص 165.
(5) النجوم الزاهرة نقلاً عن الدولة السلجوقية، ص 128.
(6) الدولة السلجوقية منذ قيامها، ص 128.
(7) المصدر نفسه، ص 129, تاريخ الإسلام حسن إبراهيم (4/ 10).
(8) الدولة السلجوقية، ص 129.
(9) راحة الصدور للراوندي، ص 104, الدولة السلجوقية، ص 129.(1/41)
أ- تنظيم إدارة الدولة في عهدها الأول: من أجل تنظيم إدارة دولتهم فقد قسمها السلاجقة إلى أقاليم، وعينوا على كل إقليم منها حاكماً، من أفراد البيت السلجوقي أطلقوا عليه لقب «شاه» و «ملك» وأما الرئيس الأعلى للدولة بأجمعها، فأطلق عليه لقب «سلطان» وكانت له الكلمة النافذة في جميع أنحاء الدولة، وبهذا التنظيم وطّد طغرل بك سلطته في تلك البلاد، وضمن الوحدة بين أفراد أسرته، لقد كان إخوة طغرل بك وأبناؤهم يتولون الحكم في أطراف البلاد تحت سلطته (1)، ومذهبهم السياسي في الحكم أنهم كانوا يعدون المناطق المفتوحة ملكاً لأفراد الأسرة المالكة ولم يعمل طغرل بك على إقامة حكم فردي ينحصر في شخصيته، بل منح حكم المناطق التي تدخل في حوزة السلاجقة حديثاً إلى المقربين من آل سلجوق وترك لهم سلطة الحكم كاملة, وكان هدفه من ذلك الإبقاء على الترابط والوحدة بين طغرل بك وإخوته وأبنائهم, وهكذا تتضح بشكل جلي الطبيعة القبلية في سلوك السلاجقة وحبهم للرئاسة والجاه وقد حاول طغرل بك زعيمهم إرضاء هذه النزعة فعينهم حكاماً وقادة وملوكاً، لكل منهم جيشه الخاص ووزيره وحجابه ومعاونوه في الحكم والإدارة، كما حرص السلاجقة على تكريم علماء الدين وشيوخ الصوفية كي يثنوا عليهم ويزداد حكمهم قوة (2)، ومع ذلك فإن تقسيم الدولة إلى ولايات شبه مستقلة أصبح شراً في عهد ضعف السلاجقة وكثرة المنازعات في أرجاء الدولة، مما ساعد على تمزقها وسرعة انهيارها وزوالها (3).
ب- اعتراف الخليفة العباسي بالسلاجقة: بعد أن وطّد طغرل بك أركان دولته وأرسى قواعدها لم يبق سوى الحصول على اعتراف من الخليفة به ليكسب سلطته الصفة الشرعية في أعين المسلمين، لذلك أنفذ في عام 432هـ رسالة إلى الخليفة العباسي القائم بأمر الله حملها إليه أبو إسحاق القفاعي (4)، تضمنت ولاء السلاجقة له، وتأكيد تمسكهم بالدين الإسلامي، والتزامهم بالجهاد في سبيل الله وحبهم للعدل والتماسهم الحصول على اعتراف الخليفة بقيام دولتهم (5). وكان السلاجقة في أشد الحاجة للدعم المعنوي من الخليفة العباسي صاحب النفوذ الروحي على العالم الإسلامي السني, وكانت نوعية هذه العلاقة بين السلاطين والخلفاء من ثقافة ذلك العصر الذي ضعفت فيه مؤسسة الخلافة وتقلص نفوذها وسلطانها وصلاحياتها وهي ظاهرة مرضية في الأمة.
_________
(1) الدولة السلجوقية منذ قيامها، ص 130.
(2) إيران والعراق، حسنين ص 41.
(3) الدولة السلجوقية منذ قيامها، ص 130.
(4) دولة آل سلجوق للبنداري، ص 8، الدولة السلجوقية، ص 131.
(5) راحة الصدور، ص 166، 167، الدولة السلجوقية، ص 131.(1/42)
وقد جاء في هذه الرسالة ما نصه: «نحن معشر آل سلجوق أحطنا دائماً الحضرة النبوية المقدسة وأحببناها من صميم قلوبنا، ولقد اجتهدنا دائماً في غزو الكفار وإعلان الجهاد، ودوامنا على زيارة الكعبة المقدسة وكان لنا عَمٌ مقدم محترم بيننا اسمه إسرائيل بن سلجوق فقبض عليه يمين الدولة محمود بن سبكتكين بغير جرم أو جناية وأرسله إلى قلعة كالنجرد ببلاد الهند فقضى في أسره سبع سنوات حتى مات، واحتجز كذلك في القلاع الأخرى الكثير من أهلنا وأقاربنا، فلما مات محمود وجلس في مكانه ابنه مسعود لم يقم على مصالح الرعية، واشتغل باللهو والطرب، فلا جرم إذ طلب منا أعيان خراسان ومشاهيرها أن نقوم على حمايتهم، ولكن مسعود وجه إلينا جيشه فوقعت بيننا وبينه معارك تناوبناها بين كر وفر، وهزيمة وظفر، حتى ابتسم لنا الحظ الحسن، فانحاز إلينا آخر مدد لمسعود ومعه جيش جرار، وظفرنا بالغلبة بمعونة الله عز وجل، بفضل إقبالنا على الحضرة المقدسة المطهرة، وانكسر مسعود وأصبح ذليلاً وانكفأ علمه، وولى الأدبار تاركاً لنا الدولة والإقبال، وشكراً لله على ما أفاء علينا من فتح ونصر، فنشرنا عدلنا وإنصافنا على العباد وابتعدنا عن طريق الظلم والجور والفساد, ونحُن نرجو أن نكون في هذا قد نهجنا وفقاً لتعاليم الدين ولأمر أمير المؤمنين (1).
وما إن وصلت هذه الرسالة إلى الخليفة العباسي القائم بأمر الله حتى سُرَّ بها غاية السرور، وأظهر رغبته في التقرب إليهم وبادر بإيفاد رسول إلى السلطان طغرل بك الذي كان في مدينة الري سنة 435هـ وكان ذلك الرسول هو أبو الحسن علي بن محمد الماوردي, وقد تضمنت الرسالة رغبة الخليفة العباسي في عقد صلح بينه وبين الأمير البويهي أبي كاليجار (2)، وتقبيح ما فعل أصحابه من فساد، كما أمر الخليفة رسوله أن يتقرب إلى طغرل بك ويدعوه للحضور إلى دار الخلافة في بغداد (3)، فضلاً عن الرسالة فقد كان الماوردي يحمل معه إلى طغرل بك الخلع السلطانية التي منحها إياه الخليفة، مع كتاب تفويض بحكم البلاد (4)، وعاد الماوردي إلى بغداد سنة 436هـ بعد أن مكث مدة عام في جرجان (5)، فأخبر الخليفة بطاعة طغرل بك له وتعظيمه لأوامره والتزامه بها (6)، كما أرسل طغرل بك إلى الخليفة مع الماوردي عشرين ألف دينار (7). لقد كان لاعتراف الخليفة العباسي بقيام دولة السلاجقة أثر كبير في تقرب السلاجقة من الخلافة العباسية، فأخذت العلاقات بين طغرل بك والخليفة العباسي القائم بأمر الله تتوطد على مر الأيام، كما كان لهذا الاعتراف أثر في اكتمال الكيان الشرعي لدولة السلاجقة أمام المسلمين الخاضعين لسلطتهم في المشرق (8).
_________
(1) الدولة السلجوقية منذ قيامها، ص 131.
(2) المصدر نفسه، ص 132.
(3) راحة الصدور، ص 168، دولة آل سلجوق، ص 8.
(4) المنتظم لابن الجوزي, نقلاً عن قيام الدولة السلجوقية، ص 134.
(5) المنتظم لابن الجوزي نقلاً عن قيام الدولة السلجوقية، ص 134.
(6) وفيات الأعيان (2/ 400).
(7) المنتظم, نقلاً عن قيام الدولة السلجوقية، ص 132.
(8) الدولة السلجوقية منذ قيامها، ص 133.(1/43)
جـ- اتساع رقعة الدولة: بعد أن شعر طغرل بك أول سلاطين السلاجقة بالاطمئنان على دولته إثر اعتراف الخليفة العباسي القائم بأمر الله بها، وتوجه أمراء السلاجقة كل إلى المنطقة المخصصة له، شرع بتنفيذ ما تبقى من خطته الرامية إلى إتمام سيطرة السلاجقة على بلاد فارس، ومن ثم التوجه منها للسيطرة على العراق، ففي عام 433هـ تحرك طغرل بك على رأس جيش كبير من أجل تحقيق ذلك الهدف، وكان الديالمة يسيطرون آنذاك على معظم أجزاء بلاد فارس والعراق ولكنهم مع ذلك كانوا في نزاع مستمر مما أضعفهم وسهل على السلطان السلجوقي طغرل بك التغلب عليهم وإنهاء حكمهم، فقد كان النصر حليفه في جميع حروبه معهم والتي انتهت بسيطرته على بلاد فارس والعراق حيث دخل حاضرة الخلافة العباسية بغداد (1)،فقد بدأ طغرل بك بالهجوم أولاً على جرجان وطبرستان من أجل القضاء على حكم أنوشروان الزياري الديلمي الذي كان يسيطر على هذين الإقليمين, وإدراكاً من هذا الأخير لقوة السلاجقة وأنه لا طاقة له بقتال طغرل بك، قرر أن يخضع له وأعلن تعهده بطاعته وأداء إتاوة سنوية له، وبذلك ضم طغرل بك هذين الإقليمين إلى دولة السلاجقة، ثم لم يلبث أن أزال حكم الزياريين الديالمة منها، وعين عليها والياً من قبله فكان هذا إيذاناً بسقوط الدولة الزيارية وانتهاء نفوذها في بلاد فارس (2)، وبعد ذلك توجه طغرل بك، إلى خوارزم لفتحها وكان ذلك عام 434هـ (3) وما إن تم له ذلك حتى سيطر على ما يجاورها من المناطق، فأصبح السلاجقة أكبر قوة في بلاد فارس وما وراء النهر، وكان هذا سبباً في مسارعة حكام الأقاليم إلى إعلان طاعتهم وولائهم لهم وموافقتهم على دفع إتاوة سنوية, كل هذا أتاح الفرصة لطغرل بك للتوجه إلى وسط بلاد فارس وغزو مدينة الري (4)،فسار على رأس جيش كبير نحوها في العام نفسه فدخلها فاتحاً عاصمة له ومقراً لحكومته (5)، وكان لهذه الانتصارات التي حققها السلاجقة بزعامة السلطان طغرل بك في بلاد فارس وفي ما وراء النهر انعكاساتها على الخليفة العباسي القائم بأمر الله في بغداد، فما كان منه ألا أن بعث رسولاً من قبله إلى مدينة الري يحمل رسالة منه للسلطان السلجوقي يدعوه فيها لزيارة بغداد (6)
لقد أبلغ مبعوث الخليفة السلطان السلجوقي بأن الخليفة قد سُرَّ برسالة السلاجقة إليه كثيراً، وردَّ عليها برد حسن تضمن موافقته على قيام دولة السلاجقة، وأن الخليفة يسره أن يستقبل سلطان السلاجقة في بغداد عاصمة الخلافة كضيف عزيز كريم (7)، واستقبل السلطان طغرل بك مبعوث الخليفة العباسي أحسن استقبال ورحب بدعوته إياه لزيارة بغداد،
_________
(1) الدولة السلجوقية منذ قيامها، ص 134.
(2) الكامل في التاريخ, نقلاً عن الدولة السلجوقية، ص 134.
(3) الكامل في التاريخ, نقلاً عن الدولة السلجوقية، ص 134.
(4) المنتظم لابن الجوزي (8/ 10).
(5) الدولة السلجوقية مُنذ قيامها، ص 135.
(6) إيران والعراق، ص 43، الدولة السلجوقية ص135.
(7) دولة آل سلجوق، ص 11 - 67.(1/44)
ووعد بالقيام بها في الوقت المناسب (1) ومن جهة أخرى فقد بقي مبعوث الخلافة في الري مدة ثلاث سنوات من أجل مرافقة طغرل بك عند توجهه لزيارة بغداد, ولكنه اضطر إلى الرجوع وحده إلى بغداد، بعد أن أكد له طغرل بك حرصه على هذه الزيارة وأنه سيلبيها بعد فراغه من غزو الأقاليم الغربية والجنوبية من بلاد فارس, وقد فرغ السلاجقة من بسط سيطرتهم على الأقاليم الشرقية منها (2)، وبعد ذلك أخذ طغرل بك يبسط سيطرته على الأقاليم الغربية من بلاد فارس، فتمكن من ذلك دون عناء كبير بسبب ضعف أمراء الديلم هناك، فخضعت له قزوين وأبهر وزنجان وهمذان وأذربيجان (3)، ودان له حكامها بالطاعة والولاء، بعدها أرسل جيشاً لفتح كرمان التي خضعت له في شهر محرم من عام 443هـ، وبخضوعها انتهت دولة الديالمة في تلك المنطقة (4) وكان طغرل بك قد حاول استغلال الوقت أثناء حصار جيشه لأصفهان، فأرسل جزءاً منه لفتح إقليم فارس وما جاورها فتمت له بذلك السيطرة التامة على المنطقة الجنوبية من بلاد فارس بأجمعها (5)،
بعد ذلك توجه طغرل بك بجيشه لتفقد المناطق الشمالية الغربية من بلاد فارس وتوطيد سيطرة السلاجقة عليها، فسار في عام 446هـ إلى إقليم أذربيجان، ودخل عاصمته تبريز وشمل نفوذه جميع أجزاء أذربيجان، فضلاً عن بعض أجزاء من بلاد الروم آسيا الصغرى (6)، المتاخمة لأذربيجان، بعدها عاد إلى عاصمته الري عام 447هـ، وهكذا شمل نفوذ السلاجقة أكثر أجزاء بلاد فارس، فضلاً عن أجزاء من الدول المجاورة لها، وبهذا أصبح طغرل بك مستعداً لدخول عاصمة بغداد بناء على استدعاء الخليفة وبعد ذلك تمت سيطرتهم على معظم أنحاء العراق, وقد أرسل طغرل بك أخاه من أمه إبراهيم ينال إلى همذان والأجزاء الغربية المجاورة لها من أجل تثبيت نفوذ السلاجقة فيها، فتوجه إليها عام 437هـ (7)، فرحل من كرمان إليها، وهناك حدثته نفسه بالتمرد واتخاذها قاعدة له مما أجبر طغرل بك على التوجه نحوه بنفسه وذلك عام 441هـ وما إن اقترب منها حتى أرسل إلى أخيه يطلب منه أن يسلم القلاع التي في يده إليه، غير أنه رفض ذلك فهاجمه طغرل بك وانتصر عليه ثم عفا عنه بعد أن استسلم له، ولم يعاقبه على تمرده هذا (8).
واستمر طغرل بك في تفقده للأقاليم التابعة لدولة السلاجقة غربي بلاد فارس من أجل إحكام سيطرته عليها، كما استطاع أن يبسط نفوذه على ديار بكر بعد أن وافق حاكمها نصر
_________
(1) راحة الصدور، ص 105, الدولة السلجوقية، ص 135.
(2) الدولة السلجوقية منذ قيامها، ص 135.
(3) المصدر نفسه، ص 136.
(4) البداية والنهاية, نقلاً عن الدولة السلجوقية، ص 136.
(5) الكامل في التاريخ, نقلاً عن الدولة السلجوقية، ص 136.
(6) الدولة السلجوقية منذ قيامها، ص 136.
(7) الكامل في التاريخ, نقلاً عن الدولة السلجوقية،، ص 137.
(8) الدولة السلجوقية منذ قيامها، ص 137.(1/45)
الدولة بن مروان على ذكر اسمه في الخطبة، وإعلان طاعته وولائه للسلاجقة (1)، وفي عام 441هـ توجه طغرل بك نحو أصبهان التي كان قد حاصرها عام 438هـ، فحاصرها وفيها حاكمها أبو منصور فرامرز بن علاء الدولة وضيق عليه كثيراً لكنه لم يوفق في ذلك, ولكن في النهاية تم الصلح بين الطرفين على مال يقدمه فرامرز بن علاء الدولة لطغرل بك، فضلاً عن الخطبة له في أصبهان وأعمالها (2).
د- التوسع نحو الأناضول: في سنة 440هـ قام إبراهيم ينال بغزو الروم حيث ظفر بهم وغنم كثيرًا وكان السبب في ذلك أن جموعاً كثيرة من الغز فيما وراء النهر قد جاءوا إليه يريدون الاستقرار في بلادهم، ولكنه رفض ذلك وحاول إفهامهم أن بلاده ومصادرها تعجز عن حاجتهم، ونصحهم بالتوجه إلى غزو الروم والجهاد في سبيل الله فضلاً عن حصولهم على الغنائم، كما أخبرهم أنه سيلحق بهم ويساعدهم فاستجابوا له وساروا أمامه فتبعهم (3)، فلما وصلوا إلى ملاذكرد وأردن الروم وقاليقلا وطرابزون لقيهم جيش كبير من الروم والأبخاز، تذكر المصادر أن عدده ثمانية وخمسون ألفاً فدار بينهم قتال شديد تبادل فيه الفريقان النصر والهزيمة وكان النصر في النهاية للمسلمين وقتلوا عدداً كبيراً من الروم وأسروا العديد منهم بينهم كثير من البطارقة، وكان من بين الأسرى قاريط ملك الأبخاز الذي فدى نفسه بثلاثمائة ألف دينار وبهدايا قُدر ثمنها بمائة ألف (4)، ولكن لم يقبل ذلك منه, ومع ذلك فقد استمر إبراهيم ينال يغزو تلك البلاد وينهبها ولم يبق بينه وبين القسطنطينية سوى خمسة عشر يوماً، وكان من نتيجة هذه الغارات والغزوات أن غنم المسلمون الكثير، وسبوا ما يزيد على مائة ألف رأس، فضلاً عما لا يحصى من البغال والدواب والأموال حتى قيل إن الغنائم كانت قد حُملت على عشرة آلاف عجلة وإن من جملة الغنائم تسعة عشر ألف درع وكان لهذه الغزوة آثار كبيرة فقد ألحق السلطان طغرل بك بالروم خسائر كبيرة بما قام به من نهب وقتل وأسر, وبعد ذلك توجه للري وأقام بها حتى حلول 447هـ وعاد بعدها إلى العراق (5).
* * *
_________
(1) الكامل في التاريخ, نقلاً عن الدولة السلجوقية، ص 137.
(2) المنتظم لابن الجوزي, نقلاً عن الدولة السلجوقية، ص 137.
(3) الدولة السلجوقية منذ قيامها، ص 139.
(4) الكامل في التاريخ, نقلا عن الدولة السلجوقية، ص 141.
(5) نهاية الأرب (26/ 287) , الدولة السلجوقية ص141.(1/46)
المبحث الثاني
علاقة السلاجقة بالخلافة
ودخول العراق والقضاء على الدعوة الشيعية الرافضة الباطنية
أصبح السلاجقة في عام 447هـ أكبر قوة في العالم الإسلامي خاصة بعد أن فرضوا سيطرتهم على بلاد فارس وتغلبوا على الغزنويين والبويهيين (1)، وتوغلوا داخل أراضي الدولة البيزنطية واصطدموا بجيش الروم وبذلك أعطوا دفعة قوية للجهاد ضد الروم الذين عاثوا فساداً أيام البويهيين في أراضي الخلافة العباسية لعدم قدرة الخلافة ولعدم اكتراث أمراء البويهيين بالجهاد، وقد أكسب هذا العمل وبهذه الصورة السلاجقة شعبية كبيرة وسمعة حسنة بين جماهير الناس التي كانت في الماضي القريب ترى وتسمع عن تغطرس الروم وتنادي السلطة بضرورة مجابهتهم دون جدوى (2). وكانت السلطة البويهية في بغداد تتداعى بسبب الخلافات بين الأمراء البويهيين من جهة ورجال الدولة من جهة أخرى، والانشقاق في صفوف الجيش البويهي خاصة بين فرعيه الرئيسين التركي والديلمي، ويبدو أن الدعوة وجهت السلاجقة لاحتلال بغداد ليس من قبل الخليفة العباسي فقط بل من قبل الوزير رئيس الرؤساء والذي كان على خلاف شديد مع قائد الجيش التركي أبو الحارث البساسيري الذي اعتنق مذهب الفاطميين العبيديين وخطب لهم (3). لقد كان الوضع السياسي في العراق مشجعاً لطغرل بك على دخول بغداد، وهذا ما قام به فعلاً في شهر المحرم من سنة 447هـ وكان طغرل بك قد أظهر أنه يريد الحج وإصلاح طريق مكة والمسير إلى الشام ومصر والقضاء على حكم المستنصر بالله الفاطمي هناك، فسار إلى همذان وأمر أتباعه بإعداد الأقوات والمؤن (4)، وأرسل إلى الخليفة العباسي يخبره بأنه يدين له بالطاعة ويستأذنه في دخول بغداد - وهو في طريقه إلى مكة - فأذن له، ودخل العراق عن طريق حلوان من السنة نفسها (5).
لقد ساند السلاجقة الخلافة العباسية في بغداد ونصروا مذهبها السنّي بعد أن أوشكت على الانهيار بسبب النفوذ البويهي الشيعي في إيران والعراق، والنفوذ العبيدي «الفاطمي» في مصر والشام، فقضى السلاجقة على النفوذ البويهي تماماً وتصدوا للخلافة العبيدية «الفاطمية» (6)، لقد استطاع طغرل بك الزعيم السلجوقي أن
_________
(1) الدولة السلجوقية منذ قيامها، ص 141.
(2) الخلافة العباسية السقوط والانهيار (2/ 164).
(3) المصدر نفسه (2/ 165).
(4) الكامل في التاريخ, نقلاً عن الدولة السلجوقية منذ قيامها، ص 145.
(5) المصدر نفسه، ص 145.
(6) السلاطين في الشرق العربي، د. عصام محمد شبارو، ص 171.(1/47)
يسقط الدولة البويهية عام 447هـ في بغداد وأن يقضي على الفتن, وأزال من على أبواب المساجد سب الصحابة، وقتل شيخ الروافض أبا عبد الله الجلاب لغلوه في الرفض (1).
لقد كان النفوذ البويهي الشيعي مسيطراً على بغداد والخليفة العباسي، فبعد أن أزال السلاجقة الدولة البويهية من بغداد ودخل سلطانهم طغرل بك إلى عاصمة الخلافة العباسية استقبله الخليفة العباسي القائم بأمر الله استقبالاً عظيماً وخلع عليه خلعة سنية وأجلسه إلى جواره، وأغدق عليه ألقاب التعظيم، ومن جملتها أنه لقب بالسلطان ركن الدين طغرل بك، كما أصدر الخليفة العباسي أمره بأن ينقش اسم السلطان طغرل بك على العملة، ويذكر اسمه في الخطبة في مساجد بغداد وغيرها، مما زاد من شأن السلاجقة، ومنُذ ذلك الحين حل السلاجقة محل البويهيين في السيطرة على الأمر في بغداد، وتسيير الخليفة العباسي حسب إرادتهم (2).
أولاً: النفوذ الفاطمي العبيدي في العراق وفتنة البساسيري:
1 - النفوذ الفاطمي العبيدي في العراق: استغلت الحركات السرية المتكتمة ضعف الخلافة وراحت تنشط لإيجاد أرض لها وتغوي الناس بستار ظاهره التشيع وباطنة الكفر المحض، واستطاعت الحركة الإسماعيلية السرية التي تتخذ من بلدة «سلمية» (3) مقراً لها أن تجد أرضاً خصبة في شمال أفريقيا بعد أن مهد لها وأزال العقبات من طريقها داعيتهم الحسين بن أحمد بن محمد بن زكريا الصنعاني الملقب بأبي عبد الله الشيعي، وقد وصف بأنه من الرجال الدهاة، دخل أفريقيا وحيداً بلا مال ولا رجال ولم يزل يسعى إلى أن ملكها (4)، وكان رئيسه في الدعوة ابن حوشب قد كلفه بأن يلتقي بقبيلة كتامة من المغرب في موسم الحج، وعندما التقى بهم استطاع بدهائه أن يؤثر فيهم ويتلاعب بعقولهم، وأعجبوا به فرحل معهم إلى بلادهم، والتفت حوله قبيلة كتامة وغيرها، وحارب القبائل الأخرى وسقطت مدن المغرب الأوسط سجلماسة وميلة وتاهرت ورقادة، حتى إذا ما مهّد للأمر, واستقرت به الأحوال أرسل إلى زعيم الدعوة طالباً إليه المجيء ليسلم إليه مقاليد الأمور، وهذا الزعيم هو عبيد الله من ذرية عبد الله بن ميمون القداح الفارسي الباطني على رأي بعض المؤرخين، والبعض يقول إنه ربيب الحسين بن محمد بن أحمد بن عبد الله بن ميمون القداح (5)، ولكنه زعم أنه من ذرية فاطمة رضي الله عنها، وأكثر العلماء والمؤرخين والنسابين ينفون عنه هذا
_________
(1) أيعيد التاريخ نفسه؟، محمد العبده، ص 67.
(2) قيام الدولة العثمانية، ص 19.
(3) بلدة في سوريا شرق مدينة حماه.
(4) وفيات الأعيان (2/ 192).
(5) الكامل في التاريخ, نقلاً عن: أيعيد التاريخ نفسه؟ ص 38.(1/48)
النسب (1)،واستطاع عبيد الله النجاة من المراقبة الشديدة التي وضعت عليه بعد مغادرته لبلاد الشام وحتى وصوله إلى المغرب، ولكن والي سجلماسة ظفر به وأودعه السجن ولم يقتله، وهذا من الغفلة المعهودة، ثم إن أبا عبد الله الشيعي استطاع إنقاذه وتقديمه للناس إماماً للدعوة, وقد بايعه هؤلاء، ولقب نفسه المهدي وهو مؤسس الدولة العبيدية التي تسمى بـ «الفاطمية» (2)، وهذه الدولة دولة باطنية وليست فاطمية، وهذا رأي أكثر علماء الأمة الذين حققوا نسبهم وعلموا بواطنهم وأسرارهم (3).
أ- عقيدتهم وصلتهم بالقرامطة: إن كثيراً من الكتاب المحدثين الذين كتبوا عن الدولة العبيدية لا يذكرون إلا سيرتهم السياسية، ولا يتطرقون من قريب أو بعيد إلى سوء اعتقاد ملوكها وأنهم باطنيون وإن أظهروا خلاف ذلك، لأنهم يستعملون التقية أمام الشعب الذي يحكمونه, وعندما استولى السلطان صلاح الدين على دولتهم وعزم على عزل العاضد آخر ملوكهم استفتى العلماء في قتله فأفتوه بجواز ذلك لما كان عليه العاضد وأشياعه من انحلال العقيدة، وكان أكثرهم مبالغة في الفتيا الشيخ نجم الدين الخبوشاني فإنه عدَّد مساوئ هؤلاء القوم وسلب عنهم الإيمان (4)، يقول ابن خلكان: وكان العاضد شديد التشيع مغالياً في سب الصحابة، وإذا رأى سنياً استحل دمه (5). وصلتهم بالقرامطة الملاحدة صلة أكيدة، ودعوتهم دعوة واحدة، فقد كتب المعز إلى القرامطة عندما سمع بنبأ محاولتهم حصار مصر يذكر فضل نفسه وأهل بيته وأن الدعوة واحدة، وأن القرامطة إنما كانت دعوتهم إليه وإلى آبائه من قبله (6)، ويقول الإمام الشاطبي: أما الدجالون فمنهم معد من العبيدية الذين ملكوا إفريقية، فقد حكي عنه أنه جعل المؤذن يقول: أشهد أن معداً رسول الله، فهمّ المسلمون بقتله «أي المؤذن» ثم رفعوه إلى معد ليروا هل هذا عن أمره، فلما انتهى كلامهم إليه قال: اردد عليهم أذانهم لعنهم الله (7)، وعندما أقدم أبو طاهر القرمطي على شناعاته وإجرامه وأعماله الكفرية في مكة وبلغ ذلك عبيد الله المهدي كتب إليه ينكر عليه ذلك ويلومه ويقول: قد حققت على شيعتنا ودعاة دولتنا اسم الكفر والإلحاد بما فعلت (8)،وعندما قُبض على الباطنية في بغداد وكانوا يكاتبون القرامطة قال أحدهم: وإمامنا المهدي محمد بن إسماعيل بن جعفر الصادق المقيم في بلاد المغرب (9) وفي حوادث 414هـ قام رجل من المصريين (العبيديين) لضرب الحجر الأسود بآلة
_________
(1) أيعيد التاريخ نفسه، ص38.
(2) أيعيد التاريخ نفسه، ص38.
(3) أيعيد التاريخ نفسه، ص38.
(4) وفيات الأعيان (3/ 111).
(5) المصدر نفسه (3/ 110).
(6) الكامل في التاريخ, نقلاً عن: أيعيد التاريخ نفسه؟ ص 42.
(7) الاعتصام (2/ 97).
(8) الكامل في التاريخ, نقلاً عن: أيعيد التاريخ نفسه؟ ص 42.
(9) المصدر نفسه، ص 43.(1/49)
ثقيلة والسيف في يده الأخرى وهو يقول: إلى متى يعبد الحجر الأسود ومحمد وعلي؟! فتمكن منه أحد الحجاج من اليمن فضربه بخنجر فقتله (1)، وكل الإرهاب الذي زرعه الحشاشون في أنحاء العالم الإسلامي إنما هو ثمرة من ثمار الدعوة الإسماعيلية العبيدية الفاطمية في مصر, فإن حسن الصباح زعيم قلعة ألموت الذي أرسل رجاله يقتلون العلماء والأمراء المجاهدين إنما تلقي الدعوة على أيدي أصحابها في مصر (2)، وقد ناقش مجموعة من العلماء وطلاب العلم عقائدهم مثل الدكتور سليمان السَّلومي في كتابه «أصول الإسماعيلية»، وأستاذي وشيخي الدكتور أحمد محمد جلي في كتابه «دراسة الفرق في تاريخ المسلمين - الخوارج والشيعة»، والأستاذ علوي طه الجبل «الشيعة الإسماعيلية رؤية من الداخل»، والدكتور محمد أحمد الخطيب في كتابه «الحركات الباطنية» , والدكتور غالب العواجي في كتابه «فرق معاصرة تنتسب إلى الإسلام»، والأستاذ محمد بن أحمد الجوير في كتابه «الإسماعيلية المعاصرة»، فمن أراد التواسع فليرجع إليها وإن مد الله في العمر وبارك في الوقت، فلنا لقاء موسع لدراسة الدولة الفاطمة العبيدية، فنسأل الله التوفيق والسداد.
ب- حكم العلماء في الفرق الباطنية:
* يقول الإمام أبو حامد الغزالي في كتابه «فضائح الباطنية» وهو من مشاهير أهل
العلم الذين خبروهم وعرفوا أسرارهم: إن مذهب الباطنية مذهب ظاهره الرفض وباطنه
الكفر المحض (3).
* وحينما تحدث البغدادي في الباب الرابع من كتابه «الفرق بين الفرق» وضع عنواناً لهذا الباب قائلاً: بيان الفرق التي انتسبت إلى الإسلام وليست منه - ثم ذكر من هذه الفرق الباطنية وقال: إن ضررها على فرق المسلمين أعظم من ضرر اليهود والنصارى والمجوس، بل أعظم من مضرة الدهرية وسائر أصناف الكفرة عليهم بل أعظم من ضرر الدجال الذي يظهر في آخر الزمان، لأن الذين ضلوا بدعوة الباطنية من وقت ظهور دعوتهم إلى يومنا أكثر من الذين يضلون بالدجال في وقت ظهوره، لأن فتنة الدجال لا تزيد مدتها على أربعين يوماً وفضائح الباطنية أكثر من عدد الرمل والقطر .. إلى أن قال: الذي يصبح عندي من دين الباطنية أنهم دهرية زنادقة يقولون بقدم العالم وينكرون الرسل والشرائع كلها لميلهم إلى استباحة كل ما يميل إليه الطبع ... وفي آخر الباب قال: وقد بينا خروج فرق الباطنية عن جميع فرق الإسلام بما فيه كفاية والحمد لله على ذلك (4)، وفي كتابه «أصول الدين» ذكر أن طائفة
_________
(1) الكامل في التاريخ, نقلاً عن: أيعيد التاريخ نفسه؟، ص 43.
(2) الكامل في التاريخ, نقلاً عن: أيعيد التاريخ نفسه؟، ص 43.
(3) فضائح الباطنية للغزالي، ص 37.
(4) الفرق بين الفرق للبغدادي، ص 220، 265، 266، 278، 299.(1/50)
الباطنية خارجة عن فرق الأهواء وداخلة في فرق الكفر الصريح، لأنها لم تتمسك بشيء من أحكام الإسلام في أصوله ولا في فروعه وأن دعاتهم خالفوا المسلمين في التوحيد والنبوات وفي تأويل الآثار والآيات وأنهم كانوا دعاة المجوس بالتمويه إلى دين الثنوية ... وبعد أن يستعرض عقائدهم يقول: واختلف أصحابنا في حكمهم. فمنهم من قال: هم مجوس، وأجاز أخذ الجزية منهم وحرم ذبائحهم ونكاحهم, ومنهم من قال: حكمهم حكم المرتدين إن تابوا وإلا قتلوا, وهذا هو الصحيح عندنا. ثم ساق البغدادي بعد ذلك فتوى الإمام مالك في الباطني، والزنديق وأنه قال عنهما: إن جاءا تائبين ابتداء قبلنا التوبة منهما وإن أظهرا التوبة بعد العثور عليهما لم تقبل التوبة منهما وإن هذا هو الأحوط فيهم (1).
* وتحدث ابن حزم عن دار الإسلام ودار الحرب واعتبر أن الأراضي التي حكمها بعض الفرق الباطنية تعتبر دار كفر وذلك لصريح كفرهم كالقرامطة مثلاً وهم من فرق الإسماعيلية (2).
وأما ديار العبيديين لظهور الإسلام فيها فإنها وإن حكمها العبيديون تعتبر دار إسلام وإن كان حكامها في حقيقة أمرهم كفاراً, يقول ابن حزم عن ذلك: إن من سكن في طاعة أهل الكفر من الغالية كالعبيديين ومن جرى مجراهم لا يعتبر كافراً لأن أرض مصر والقيروان وغيرهما الإسلام فيها هو الظاهر وولاؤهم على كل ذلك لا يجاهرون بالبراءة من الإسلام بل إلى الإسلام ينتمون وإن كانوا في حقيقة أمرهم كفاراً، وأما من سكن في أرض القرامطة مختاراً، فكافر بلا شك لأنهم معلنون بالكفر وترك الإسلام (3). فابن حزم يجزم بكفر القرامطة والعبيديين وهما من الإسماعيلية حيث الأولى فرقة من فرقهم وأما العبيديون فإنهم أئمة الإسماعيلية في فترة الظهور وعددهم اثنا عشر حاكماً (4).
ويصف الشاطبي الباطنية، بأنهم ثنوية دهرية إباحية ينكرون النبوة والشرائع وأمور المعاد، بل إنهم ينكرون الربوبية (5) , وأما ابن تيمية - رحمه الله- فقال لما سئل عنهم: إن جمهور المصنفين من المتقدمين والمتأخرين ذكروا بطلان نسبهم حتى صنف العلماء في كشف أسرارهم وهتك أستارهم ومن ذلك القاضي أبو بكر الباقلاني ألف كتابه المشهور في كشف أسرارهم وهتك أستارهم وذكر أنهم من ذرية المجوس وذكر من مذاهبهم ما بين فيه أن مذاهبهم شر من مذاهب اليهود والنصارى، بل ومن مذاهب الغالية الذين يدعون ألوهية
_________
(1) أصول الدين للبغدادي، ص 329 - 331.
(2) أصول الإسماعيلية, د. سليمان السّلومي (2/ 66).
(3) المحلى لابن حزم (13/ 139).
(4) أصول الإسماعيلية (2/ 66).
(5) الاعتصام للشاطبي (1/ 253).(1/51)
علي أو نبوته فهم أكفر من هؤلاء، وكذلك القاضي أبو يعلى في كتابه «المعتمد» ذكر فصلاً طويلاً في شرح زندقتهم وكفرهم وكذلك أبو حامد الغزالي ذكر في كتابه الذي سماه «فضائل المستظهرية وفضائح الباطنية»، بأن ظاهر مذهبهم الرفض وباطنه الكفر المحض، وكذلك القاضي عبد الجبار بن أحمد وأمثاله من المعتزلة المتشيعة يجعلون هؤلاء من أكابر المنافقين الزنادقة، فهذه مقالة المعتزلة في حقهم، فكيف تكون مقالة أهل السنة والجماعة, والرافضة الإمامية يعلمون مقالة هؤلاء مقالة الزنادقة المنافقين ويعلمون أن مقالة هؤلاء الباطنية شر من مقالة الغالية الذين يعتقدون إلهية علي - رضي الله عنه - .. إلى أن قال: ... وبالجملة فعلم الباطن الذي يدعون مضمونه الكفر بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر (1).
وأما ابن القيم فقال فيهم: ومن أشر طوائف المجوس الذين لا يقرون بصانع ولا معاد ولا نبوة ولا حلال ولا حرام الخرمية أصحاب بابك الخرمي وعلى مذهبهم طوائف القرامطة والإسماعيلية والنصيرية والدرزية وسائر العبيدية يسمون أنفسهم الفاطمية وهم من أكفر الكفار, فكل هؤلاء يجمعهم هذا المذهب ويتفاوتون في التفصيل، فالمجوس شيوخ هؤلاء كلهم وأئمتهم وقدوتهم، وإن كان المجوس قد يتقيدون بأصل دينهم وشرائعهم وهؤلاء لا يتقيدون بدين من ديانات العالم ولا بشريعة من الشرائع (2).
ونقل الشيخ محمد بن عبد الوهاب إجماع أهل العلم على كفر أئمة الإسماعيلية «العبيدية» وقال: إن بني عبيد لما أظهروا الشرك ومخالفة الشريعة وظهر منهم ما يدل على نفاقهم وشدة كفرهم أجمع أهل العلم على أنهم كفار يجب قتالهم وأن دارهم دار حرب ولذلك غزاهم المسلمون واستنقذوا ما بأيديهم من بلدان المسلمين (3).
هذه هي نماذج من أقوال أهل العلم قديماً وحديثاً وحكمهم.
2 - المؤيد في الدين هبة الله الشيرازي داعية الفاطمية العبيدية: كانت الدولة الفاطمية تسعى للسيطرة على العراق والمشرق ولذلك قامت بإرسال الدعوة إليها، فقد واصل الخلفاء الفاطميون جهودهم في نشر دعوتهم مستغلين الاضطراب الذي ساد بلاد العراق بسبب النزاع بين أمراء بني بويه على السلطة وثورات الجند، وتدخل قادتهم في تولية الأمراء وعزلهم فأرسل الخليفة الظاهر لإعزاز دين الله الفاطمي الدعاة إلى بغداد سنة 425هـ، فاستجاب لهم كثير من الناس (4)، كما سير المستنصر بالله الفاطمي إلى قرواش بن
_________
(1) مجموع الفتاوى (35/ 129 - 131، 133، 134، 135).
(2) إغاثة اللهفان لابن القيم (2/ 247 - 249).
(3) مختصر سيرة الرسول، ص 33.
(4) اتعاظ الحنفا, للمقريزي (2/ 189).(1/52)
المقلد - أمير الموصل - أعلاماً وخلعاً في عام 436هـ، فأرسل إليه الخليفة القائم يعاتبه فاعتذر إليه، ولبس السواد- شعار العباسيين - مرة أخرى ورجع عن دعوة المستنصر (1)، وازداد نشاط الدعاة في بلاد المشرق الإسلامي على عهد المستنصر بالله الفاطمي، فعهد إلى دعاته بالرحيل إلى فارس وخراسان وما وراء النهر, وقد أشار المقريزي إلى ذلك بقوله: وكان المستنصر قد بث دعاته سراً إلى الآفاق يدعون إليه ويستميلون من تصل القدرة إلى استمالته. فدفع بجماعة من دعاته في خراسان إلى ما وراء النهر فلقيت الدعوة الفاطمية في بلاد الفرس تأييداً كبيراً فاستجاب لهم كثير من الناس، ولما وصل الخبر إلى بغراخان (2)، صاحب بلاد ما وراء النهر احتال على الدعاة حتى أوقع بهم وأنفذ برسالة إلى الخليفة القائم بأمر الله بالأمر، فأجيب بالشكر والثناء (3).
ومن أشهر دعاة وفلاسفة المذهب الإسماعيلي الفاطمي المؤيد في الدين هبة الله الشيرازي وعرف أحياناً بالمؤيد فقط، ولكن اللقب الذي غلب عليه هو المؤيد في الدين, يدل على ذلك أن الملك كاليجار البويهي أرسل إليه يقول: لشيخنا وظهيرنا ومعتمدنا المؤيد في الدين عصمة أمير المؤمنين أبي النصر أطال الله بقاءه وأدام عزه وتأييده (4). وكان هذا الرجل داعياً للمذهب الفاطمي بشيراز (5).
اتصل المؤيد بالسلطان أبي كاليجار البويهي، واستطاع بدهائه أن يكسب عطفه، وأن يظل في شيراز يتابع نشر المذهب الإسماعيلي ثم لم يلبث أن توثقت صلته بالسلطان البويهي حتى طمع في إدخاله في الدعوة الفاطمية، واستطاع المؤيد أن يؤثر فيه، فكتب إليه يقول: إني أسلمت نفسي وديني إليك، وإني راض بجملة ما أنت عليه (6)، ودخل أبو كاليجار في الدعوة الفاطمية وأخذ يجتمع بالمؤيد مساء كل خميس للاستزادة من فهم المذهب الإسماعيلي، ولم يكتف المؤيد بنشر الدعوة في شيراز، بل سافر إلى الأهواز وأدخل في الأذان عبارة «حى على خير العمل» وأمر الناس بإقامة الخطبة للمستنصر الفاطمي (7)، ولكن لم تدم الخطبة على منابر الأهواز طويلاً للخليفة الفاطمي إذ أرسل قاضيها أبو الحسن عبد الوهاب ابن منصور بن المشتري برسالة إلى الخليفة القائم بأمر الله يخبره بالأمر, وأشار عليه أن يعمل على إيقاف الدعوة الفاطمية في بلاد فارس فأنفد الخليفة وزيره أبا القاسم بن المسلمة
_________
(1) اتعاظ الحنفا, للمقريزي (2/ 193).
(2) هو بغراخان الثالث محمود بن يوسف, حاكم بلاد ما وراء النهر.
(3) الأحوال السياسية والدينية في بلاد العراق والمشرق، ص 65.
(4) المجالس المؤيّدية، تحقيق وتعليق محمد الغفّار، ص 7.
(5) المجالس المؤيّدية، تحقيق وتعليق محمد الغفّار، ص 7.
(6) السيرة المؤيدية، ص 61.
(7) ديوان المؤيد في الدين، ص 28، المجالس المؤيدية، ص 9.(1/53)
-رئيس الرؤساء- إلى شيراز حيث التقى بالأمير كاليجار وسلمه رسالة الخليفة التي تضمنت التهديد بالاستعانة بالسلاجقة إن لم يقبض على المؤيد في الدين وإنفاذه مكبلاً بصحبة رئيس الرؤساء (1)، إلى بغداد ووقف النشاط الفاطمي في بلاده (2).
ولما علم المؤيد في الدين بما تضمنته الاتصالات بين الخليفة العباسي والأمير البويهي الذي كان يؤازره في نشر دعوته في بلاده, رأى أن يترك بلاد فارس بعد انصراف أبي كاليجار عن تأييده, وسار إلى الحلة ونزل بدار الأمير منصور بن الحسن وظل مقيماً هناك حتى رأى أبو كاليجار -الذي كان يطمح في تولي السلطة في بغداد بعد وفاة جلال الدولة- أن يعمل على إبعاد المؤيد في الدين لإرضاء الخليفة العباسي، فكتب إلى صاحب الحلة يخبره أن وجود المؤيد في بلده فيه خطر على دولة بني بويه طالباً إبعاده, ويتجلى ذلك فيما جاء في رسالة أبى كاليجار إلى منصور بن الحسن: إنك من الشفقة على ملكنا ودولتنا بحيث لا تعتمد لأحد هوادة فيه وقد عرفت صورة أبي فلان «المؤيد في الدين هبة الله الشيرازي» ... وإننا كل يوم في صراع من جهة الديلم - الذين اعتنق كثير منهم الدعوة الفاطمية في بلاد فارس والعراق - باحتجاجات باطلة يتشبثون بها ظاهراً وهو مغزاهم وغرضهم منها باطناً، ثم إنه قامت رغبتنا في بغداد وامتلاكها وليس يكاد يتم الغرض فيه إلا بالمجلس الخليفي الإمامي (مواقعة الخليفة القائم بأمر الله العباسي، إذا استقر به العالم أن هذا الإنسان مقيم بفناء حضرتنا على جملته كان ذلك ردحاً في وجه ما تؤثر بلوغه وحاجزاً بيننا وبينه وقد انتهى إلينا معاودة الأهواز، فالله الله أن توجده سبيلاً إلى ذلك, فإنه إن عاود وقعت فتنة نصلى بنارها صليًا) (3).
اضطر المؤيد في الدين إلى الرحيل عن الحلة وأخذ في التنقل بين مدن العراق فسار إلى الكوفة، ثم اتجه إلى الموصل حيث أقام فترة قصيرة عند قرواش بن المقلد - أمير بني عقيل - وأخيراً رحل إلى مصر سنة 438هـ (4)، بعد أن أعرض عنه الجميع تحت وطأة المعارضة السنية وخوفاً من غضب الخليفة القائم بأمر الله العباسي (5). وعلى الرغم من رحيل المؤيد في الدين إلى مصر، فإن جهوده في نشر الدعوة الفاطمية ببلاد العراق تركت آثاراً خطيرة على الخلافة العباسية في عهد القائم بأمر الله، إذ انضم إليها كثيرمن قادة الترك والديلم وهم الذين يمثلون عماد القوة التي تعتمد عليها البلاد في التصدي لأعداء الخلافة فظلوا يشجعون الدعوة الفاطمية ويقربون إليهم أتباعها.
_________
(1) سيرة المؤيد في الدين هبة الله الشيرازي، ص 56.
(2) الأحوال السياسية والدينية في بلاد العراق والمشرق الإسلامي في عهد الخليفة القائم بأمر الله، ص 66.
(3) سيرة المؤيد في الدين، ص 73، 74.
(4) المصدر نفسه، ص 74، 57.
(5) الأحوال السياسية والدينية في بلاد العراق والمشرق الإسلامي في عهد الخليفة القائم بأمر الله، ص 67.(1/54)
ومن الدروس والفوائد المهمة من قصة المؤيد الشيرازي:
- على مكانته وقدره في الدعوة الفاطمية إلا أنه قام بالدور التنفيذي لمخططات الدعوة في المشرق بنفسه وتحمل مخاطر ومتاعب ومشاق مع أن دعوته قائمة على الضلال والبدع والخرافات، ومن باب أولى أن يقوم بمثل هذا الجلد والتفاني أصحاب الدعوة الإسلامية الصحيحة السائرة على هدي النبي - صلى الله عليه وسلم - وخلفائه الراشدين.
- تعاون فرق الشيعة فيما بينهم ومساندتهم لبعضهم وإيجاد قواسم مشتركة فيما بينهم تخدم تطلعاتهم وأهدافهم.
- على أهل السنة أن يتعاونوا فيما بينهم من أجل نشر دعوة الله في المشارق والمغارب ويستعلوا على حظوظ النفس والخلافات الجزئية التي تعرقل مسيرة النهوض.
- أهمية التهديد واستخدام لغة القوة في التضييق على هبة الله الشيرازي, ويظهر ذلك عندما هدد الخليفة العباسي الأمير كاليجار البويهي بالاستعانة بالسلاجقة إذا لم يقبض على هبة الله الشيرازي وإرساله مكبلاً إلى بغداد ووقف النشاط الفاطمي في بلاده.
- خطورة التهاون بالحرب الثقافية والفكرية والعقائدية التي يشنها الباطنيون ضد أهل السنة والجماعة فلا بد من المواجهة المدروسة للقضاء على مشروعهم الخبيث الذي يستهدف إضلال الناس وإخراجهم عن دين الله ومواجهة الفتنة في بدايتها أسهل بكثير من مواجهتها بعدما تتغلغل.
3 - فتنة البساسيري في العراق, 450هـ: كان البساسيري من القواد المقربين من الخليفة العباسي إلا أن الدعوة الفاطمية تغلغلت بين الناس وأثرت في بعض الأعيان والقواد, وممن تأثر بهذه الدعوة قائد قواد الجند التركي أبو الحارث أرسلان البساسيري بدعوة هبة الله الشيرازي, وأصبح يكاتب الفاطميين ويعمل على قلب نظام الحكم في بغداد لصالح الدولة الفاطمية, وتدهورت العلاقات بين الخلافة والبساسيري حين علم البساسيري بالاتصالات السرية التي كانت تجري بين الخليفة القائم بأمر الله والسلاجقة وبخاصة مكاتبة الخليفة لهم بالمسير إلى العراق، فترك البساسيري بغداد وسار إلى واسط، فانتهز الوزير رئيس الرؤساء الفرصة وأخذ يوغر صدر الخليفة القائم بأمر الله على البساسيري وأخبره بأن البساسيري يكاتب أعداء الخلافة ويعمل على خلعه من الخلافة. وفي الوقت نفسه حرض الأتراك والعامة على الاعتداء على أملاك البساسيري في بغداد بعدما ظهرت ميوله الشيعية وظهرت نواياه السيئة للخلافة العباسية وأهل السنة فقاموا بنهب داره والاستيلاء على ممتلكاته سنة 447هـ،(1/55)
وفضلاً عن ذلك، أخذ رئيس الرؤساء يؤلب الأترك البغداديين على قائدهم البساسيري واتهامه بأنه المتسبب في نقص رواتبهم وسوء أحوالهم, فسار جماعة منهم إلى الخليفة القائم بأمر الله واستأذنوه في نهب دور البساسيري، فلما تأكد من صحة ما نسب إليه أذن لهم في ذلك (1)
خاصة بعد أن قدم إليه طائفة من الأتراك من أصحاب البساسيري بواسط وأخبروه بما عزم من نهب دار الخلافة (2) والقبض على الخليفة. إن فتنة البساسيري تعطيناً درساً بليغاً في أهمية الاعتناء بالقادة العسكريين والوزراء السياسيين وأهل الفكر والرأي العام وتربيتهم على هدي القرآن الكريم وسيرة الرسول - صلى الله عليه وسلم - وفقه الخلافة الراشدة حتى لا يقعوا ضحايا للدعوات المنحرفة والمناهج الضالة والعقائد الفاسدة.
أ- التواصل بين البساسيري والمؤيد هبة الله الشيرازي: اتخذ البساسيري من الرحبة مركزاً للاتصالات مع الفاطميين، ذلك أن المؤيد في الدين كان يتابع أحداث العراق، وبخاصة أنه وقف على المكاتبات التي تبودلت بين الخليفة القائم بأمر الله والسلطان السلجوقي وأدرك مدى خطورتها على الخلافة الفاطمية، فعول على الاستفادة من الموقف المتدهور بين الخلافة والبساسيري وأصحابه، فأنفذ إليهم كتباً تضمنت تأييد الخليفة الفاطمي وحكومته لهم واستعدادهم لمدهم بالسلاح والمال، فوصلت إليهم هذه الكتب قبيل رحيلهم إلى واسط، فزادت من ثقتهم بأنفسهم وقويت شوكتهم, ورد البساسيري على مكاتبات الفاطميين برسالة بعث بها إلى المؤيد في الدين شكره فيها على اهتمامه بحركتهم وتأييدهم له ولأتباعه والتمس منه الإمداد السريع بالمال والخيل والسلاح لإظهار الدعوة الفاطمية ببلاد العراق: فإن أخذتم بأيدينا، أخذنا لكم البلاد وإن قلدتمونا نجاد نصركم وإنجادكم فتحنا من جهتكم الأغوار والأنجاد (3). وأظهر الخليفة المستنصر بالله الفاطمي اهتماماً كبيراً برسالة البساسيري وعمل على تدبير الإمدادات اللازمة لإنجاح حركته على الرغم مما كانت تعانيه مصر من غلاء وأزمة اقتصادية (4)، فلما أتم إعداد الأموال والخلع والسلاح، عهد إلى المؤيد في الدين بحملها إلى البساسيري، فسار على رأس عدد من الرجال ومعهم خمسمائة ألف دينار ومن الثياب ما قيمته مثل ذلك وخمسمائة فرس وعشرة آلاف قوس ومن الرماح والنشاب شيء كبير (5).
_________
(1) المختصر في أخبار البشر (2/ 182).
(2) الأحوال السياسية والدينية في بلاد العراق، ص 69.
(3) ديوان المؤيد في الدين، ص 41، 42.
(4) الأحوال السياسية والدينية في بلاد العراق والمشرق، ص 70.
(5) النجوم الزاهرة (5/ 12).(1/56)
ب- الجهود التي بذلها المؤيد هبة الله الشيرازي لدعم فتنة البساسيري: لما وصل المؤيد في الدين إلى دمشق وهو في طريقه إلى الرحبة، رأى أن يستعين بثمال بن صالح
ابن مرداس - صاحب حلب - لإمداده بالرجال ولتأمين وصول الإمدادات الفاطمية إلى البساسيري وأصحابه, فكتب إليه بالمهمة التي عهد إليه بها، ثم ما لبث أن التقى المؤيد بثمال ابن صالح في الروستان (1) , فسلم المؤيد في الدين الأحمال إلى الأمير ثمال ليكون في حمايته (2)، ثم سار إلى معرة النعمان حيث وفد إليهما فريق من أصحاب البساسيري لاصطحابهم إلى الرحبة, وخلال ذلك تلقى المؤيد في الدين خطاباً من نصر الدولة بن مروان - صاحب ديار بكر وميافارقين- يعلن فيه خلع طاعة السلاجقة والدخول في طاعة الفاطميين معتذراً عن عدم إقامة الخطبة للسلاجقة على منابر بلاده خوفاً من بطشهم (3) وسار المؤيد هبة الله الشيرازي بصحبته الأمير ثمال بن مرداس على رأس جنده قاصداً الرحبة، فلما اقترب منها خرج لاستقباله البساسيري على رأس جيشه فالتقى بهم على بعد مرحلتين من المدينة وأظهر أسمى آيات الشكر والترحيب بمبعوث الخليفة الفاطمي، وقام المؤيد من جانبه بتوزيع الخلع الفاطمية على البساسيري وأصحابه ومنحهم الأموال وأخذ البيعة منهم بالطاعة للخليفة المستنصر بالله الفاطمي (4) ثم قام المؤيد وتقدم إلى أبي الحارث البساسيري وخلع عليه الخلعة الخاصة التي أرسلها الخليفة الفاطمي إليه وقرأ عهده (5)،
ولم يكتف المؤيد هبة الله الشيرازي بما حققته الدعوة الفاطمية من انتصارات كبيرة في بلاد العراق تجلت في انضمام كل من البساسيري ونصر الدولة بن مروان، وعدد كبير من القادة والجند والديلم والأتراك، بل أخذ في العمل على جذب أمراء العراق إلى دعوته، فكتب إلى دبيس بن مزيد- أمير الحلة - يطلب منه اللقاء في الرحبة، فلما التقى به هناك، استطاع أن يستميله للدعوة الفاطمية، وطلب منه الانضمام إلى البساسيري في مسيره إلى العراق، وذلك بعد أن قلده رئاسة غرب العراق وجعل له حكم ما يفتحه من البلاد بعهد من الخليفة المستنصر بالله الفاطمي ولقبه «الأمير سلطان ملوك العرب، سيف الخلافة، صفي أمير المؤمنين» (6). كان لنجاح المؤيد في الدين في ضم أمراء الأطراف إلى جانب القائد التركي أبي الحارث البساسيري أثر كبير في انتصاره على قوات السلاجقة ومن انضم إليهم من أصحاب قريش بن بدران - صاحب الموصل - في موقعه سنجار سنة 448هـ (7)، والتي كان من
_________
(1) الروستان: موضع يلي حمص على جسر نهر العاصي.
(2) سيرة المؤيد في الدين، ص 107، 108.
(3) الأحوال السياسية والدينية في بلاد العراق، ص 70.
(4) ديوان المؤيد في الدين، ص 42، 43.
(5) سيرة المؤيد في الدين، ص 121 - 124.
(6) الإشارة إلى من نال الوزارة، ص 44.
(7) الأحوال السياسية والدينية في بلاد العراق والمشرق، ص 72.(1/57)
نتائجها انحياز قريش بن بدران إلى جانب البساسيري وإقامة الخطبة للخليفة المستنصر بالله الفاطمي على منابر الموصل، كما انضم محمود بن الأخرم - أمير خفاجة - إلى الدعوة الفاطمية وأقام الخطبة على منابر الكوفة للخليفة الفاطمي (1)، أما أمير واسط علاء الدين أبو الغنائم بن المحلبان فقد خلع طاعة الخليفة القائم بأمر الله وخطب للمستنصر بالله الفاطمي، وأمر أن تصبغ مساجد واسط باللون الأبيض - شعار الفاطميين- (2)، وفضلاً عن ذلك ضرب النقود باسم الخليفة الفاطمي في واسط، مما ترتب عليه إصدار الخليفة القائم بأمر الله محضراً آخراً بالطعن في نسب الفاطميين سنة 448هـ (3)، محاولاً بذلك التصدي للدعوة الفاطمية.
وعلى الرغم من الانتصارات التي حققتها الدعوة الفاطمية في مدن العراق فإن جهود عميد الملك الكندري - وزير السلاجقة- في العمل على تفريق شمل أمراء العرب، أدت إلى اختلاف كلمة هؤلاء الأمراء وعدولهم عن معاونة البساسيري، بل واضطر البساسيري وأتباعه إلى العودة إلى الرحبة، ثم ما لبث أن سار نحو حلب حيث التقى بالمؤيد في بالس - على مقربة من حلب- (4)، وعهد المؤيد هبة الله الشيرازي إلى البساسيري وقريش بن بدران بمواصلة نشر النفوذ الفاطمي في بلاد العراق، فطلب إليهما العودة إلى الرحبة على أن يتجه قريش إلى الموصل لاستعادتها بعد أن علم بخروج إبراهيم ينال عنها، ثم سار إلى مصر حتى يتسنى له إرسال الإمدادات إليهما (5)، فقام البساسيري وقريش بن بدران بالمسير إلى الموصل، وتمكنا من دخولها والاستيلاء عليها سنة 450هـ (6)، ولما علم السلطان طغرل بك بانتزاع الموصل منه سار إليها بصحبة أخيه إبراهيم ينال، فلما اقتربا منها فارقها كل من البساسيري وقريش بن بدران، غير أنه سار في آثرهما فاتجه إلى نصيبين ليتتبع آثارهم ويخرجهم من البلاد التي يستولون عليها، وبينما هو في طريقه انصرف عنه أخوه ينال وسار إلى همذان بعد أن استولى على أموال أخيه فوصلها في أواخر رمضان سنة 450هـ مما اضطر طغرل بك إلى تتبع أثره للقضاء على فتنته فتم له ذلك في جمادى الآخرة من العام نفسه (7). ومن الدروس في هذا المجال أن من يخون ثم يعفى عنه علينا أن نجرده من مصادر القوة ومراكز القيادة لإمكانية الغدر من جديد, وهذا ما فعله إبراهيم ينال حيث خرج مرّة ثانية وشغل طغرل بك واستفاد من هذا الخروج الشيعة الفاطميون العبيديون.
جـ- استيلاء البساسيري على بغداد وإقامة الخطبة فيها للفاطميين: أدى خروج
_________
(1) الأحوال السياسية والدينية في بلاد العراق والمشرق، ص 72.
(2) الأحوال السياسية والدينية في بلاد العراق والمشرق، ص 72.
(3) الأحوال السياسية والدينية في بلاد العراق والمشرق، ص 72.
(4) الأحوال السياسية والدينية في بلاد العراق والمشرق، ص 72.
(5) سيرة المؤيد في الدين، ص 176.
(6) الكامل في التاريخ, نقلاً عن الأحوال السياسية والدينية، ص 73.
(7) المنتظم في تاريخ الملوك والأمم (8/ 202).(1/58)
إبراهيم ينال على طاعة أخيه ومسير طغرل بك في أثره لمحاربته إلى خلو بغداد من الحامية السلجوقية مما أتاح للبساسيري الفرصة للاستيلاء على حاضرة الخلافة العباسية وإقامة الخطبة فيها للفاطميين فزحف إليها على رأس أربعمائة فارس، حاملاً الرايات الفاطمية التي طرزت باسم «الإمام المستنصر بالله أبو تميم معد أمير المؤمنين» (1)، وتبعه حليفه قريش بن بدران على رأس مائتي فارس من بني عقيل، وأقيمت الخطبة للخليفة المستنصر بالله الفاطمي بجامع المنصور في يوم الجمعة الثالث عشر من ذي القعدة سنة 450هـ (2) وزيد في الأذان: حي على خير العمل (3)، وانقطعت دولة بني العباس من بغداد وأخرج الخليفة وحُمل إلى الأنبار وحبس بالحديثة (4)، عند صاحبها مهارش بن مجلي العقيلي، فتولى خدمة الخليفة بنفسه وكان أحد وجوه بني عقيل، وخطب لبني عبيد - الفاطميين-، في بغداد أربعين جمعة في ولاية المستنصر (5). وحاول البساسيري نقض الاتفاق الذي عقده مع قريش بن بدران وعزم على أخذ الخليفة العباسي وترحيله إلى مصر، إلا أن قريشاً تصدى لهذه المحاولة وعهد إلى ابن عمه الأمير محيى الدين بن مهارش العقيلي - صاحب حديثة عانة- بالتحفظ على الخليفة وتأمين حياته، بعد أن استنجد به الخليفة قائلاً: عرفت ما استقر العزم عليه من إبعادي عنك وإخراجي من يديك، وما سلمت نفسي إليك إلا لما أعطيتني الذمام الذي يلزمك الوفاء به، وقد دخلت إليك ووجب لي ذمام عليك، فالله الله في نفسي، فمتى سلمتني أهلكتني وضيعتني, وما ذلك معروف في العرب (6).
وعلى الرغم من ذلك فلم يسمح البساسيري للخليفة القائم بأمر الله بالرحيل إلى الحديثة إلا بعد أن أرغمه على كتابة اعتراف بعدم أحقية بني العباس في الخلافة الإسلامية مع وجود بني فاطمة الزهراء عليها السلام (7) , ولم يكتف البساسيري بذلك بل استولى على ثوب الخليفة وعمامته وشباكه (8)، وأنفذها إلى الخليفة المستنصر بالله الفاطمي. أما عن أقارب الخليفة، فقد أذكى البساسيري عليهم العيون وشدد في البحث عنهم، إلا أنهم صاروا يتنقلون من مسجد إلى آخر هرباً منه ثم لجأوا إلى أبي الغنائم بن المحلبان (9).
د- مقتل رئيس الرؤساء، أبي القاسم بن المسلمة والانتقام من أهالي بغداد: كان
_________
(1) الأحوال السياسية والدينية في بلاد العراق، ص 73.
(2) تاريخ بغداد (9/ 400،401).
(3) أخبار الدول المنقطعة للأزدي (2/ 427).
(4) البداية والنهاية (15/ 757).
(5) أخبار الدول المنقطعة للأزدي (3/ 430).
(6) المختصر في أخبار البشر (2/ 177، 178).
(7) الخطط للمقريزي (1/ 439).
(8) الشباك: هو الشرفة التي يجلس فيها الخليفة ويتوكأ بيديه على حافتها.
(9) الأحوال السياسية والدينية في بلاد العراق، ص 75.(1/59)
البساسيري قد شرع في استخدام طائفة من العوام ودفع إليهم السلاح من دار المملكة، وكان قد جمع العيّارين وأطمعهم في نهب دار الخلافة ونهب أهل الكرخ - الشيعة - ودور أهل السنة بباب البصرة، ونهبت دار قاضي القضاة الدَّمغانيَّ، وهلك أكثر السِّجلات والكتب الحكيمة، وبيعت للعطارين، ونُهبت دور المتعلقين بالخليفة، وأعادت الرَّوافض الأذان بحيَّ على خير العمل، وأُذِّن به في سائر جوامع بغداد في الجُمُعات والجماعات، وخطب ببغداد وضربت له السَّكةُ على الذهب والفضة وحُوصرت دار الخلافة فدافع الوزير أبو القاسم بن المسلمة المُلقَّب برئيس الرؤساء بمن معه من المستخدمين دونها، فلم يُفد ذلك، فركب الخليفة بالسَّواد والبُردة على كتفيه، وعلى رأسه اللواء وبيده سيف مُصلتُ، وحوله زمرة من الهاشميين والجواري حاسرات عن وجُوههن، ناشرات شعورهن، معهن المصاحف على رُءُوس الرماح وبين يديه الخدم بالسيوف المُسَللةِ، ثم إن الخليفة أخذ ذِِماماً من أمير العرب قريش بن بدران لنفسه وأهله ووزيره ابن المُسلمة فأمَّنه على ذلك كله، وأنزله في خيمة، فلامه البساسيري على ذلك، وقال: قد علمت ما كان وقع الاتفاق بيني وبينك من أنك لا تستبد برأي دوني، ولا أنا دونك، ومهما ملكنا فبيني وبينك، واستحضر البساسيري أبا القاسم بن مسلمة فوبّخه ولامه لوماً شديداً، ثم ضربه ضربًا مبرحاً، واعتقله مهاناً عنده، ونهبت العامة دار الخلافة، فلا يُحصَى ما أخذوا منها من الجواهر والنَّفائس والدَّيباج والأثاث والثياب، وغير ذلك مما لا يُحَدُّ ولا يُوصَفُ (1)
وفي يوم عيد الأضحى من سنة 450هـ ألبس البساسيري الخطباء والمؤذنَّين البياض، وعليه هو وأصحابه كذلك، وعلى رأسه الألوية المستنصرية والمطارد المصرية، وخطب للمستنصر الفاطمي صاحب مصر، والرَّوافض في غاية السرور والأذان في سائر بلاد العراق بحيَّ على خير العمل، وانتقم البساسيريُّ من أعيان أهل بغداد انتقاماً عظيماً، وغرَّق خلقا ممن كان يعاديه، وبسط على آخرين الأرزاق والعطايا. ولما كان يوم الإثنين لليلتين بقيتا من ذي الحجة أُحضر بين يديه الوزير أبو القاسم بن المسلمة المُلقَّبُ برئيس الرؤساء وعليه جُبَّةُ صوف، وطرطور من لبد أحمر وفي رقبته مِخنقة من جلود كالتعاويذ، فأُركب جملاً (2)، وطيف به في البلد وخلفه من يصفعه بقطعة من جلد، وحين اجتاز بالكرخ نثروا عليه خُلقان المداسات، وبصقوا في وجهه ولعنوه وسبُّوه, وهذه هي عادتهم عندما يتمكنون من مخالفيهم في كل زمان ومكان،
وأُوقف بإزاء دار الخلافة، وهو في ذلك يتلو قوله تعالى: {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ
تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاءُ وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَن تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَن تَشَاءُ بِيَدِكَ
_________
(1) البداية والنهاية (15/ 756، 757) ..
(2) المصدر نفسه (15/ 759).(1/60)
الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [آل عمران: 16].
فألبس جلد ثور بقرنيه وعُلِّق بكلّوب في شِدْقيه، ورفع إلى الخشبة حيًّا، فجعل يضطرب إلى آخر النهار، فمات رحمه الله، وكان آخر كلامه أن قال: الحمد لله الذي أحياني سعيداً وأماتني شهيداً (1). وكان هذا الوزير قد سمع الحديث من أبي أحمد الفَرَضيَّ وغيره، ثم كان أحد المعَدَّلين، ثم استكتبه الخليفة القائم بأمر الله واستوزره ولقَّبه رئيس الرؤساء، شرف الوزراء، جمال الورى، وكان متضلعاً بعلوم كثيرة مع سداد رأي ووفور عقل، وقد مكث في الوزارة ثنتي عشرة سنة وشهراً, ولما قتل كان له من العمر ثنتان وخمسون سنة
وخمسة أشهر (2).
4 - القائم بأمر الله وعبادته ودعاؤه الذي علق على الكعبة: سار الخليفة القائم بأمر الله إلى محل اعتقاله إلى حديثة عانة فكان عند مهارش أميرها حولاً كاملاً وليس معه أحد من أهله، فحكي عن الخليفة القائم بأمر الله أنه قال: لما كنت بحديثة عانة قمت ليلة إلى الصلاة، فوجدت في قلبي حلاوة المناجاة، ثم دعوت الله بما سنح لي، ثم قلت: اللهم أعِدْني على وطني، واجمع بيني وبين أهلي وولدي ويَسر اجتماعنا، وأعد روض الأُنس زاهراً، وربع القرب عامراً، فقد قلّ العزاء وبرح الخفاءُ، قال: فسمعت قائلاً على شاطئ الفرات يقول: نعم نعم, فقلت: هذا رجل يخاطب آخر، ثم أخذت في السؤال والابتهال فسمعت ذلك الصائح يقول: إلى الحول إلى الحول، فعلمت أنه هاتف أنطقه الله بما جرى الأمر عليه. وكان كذلك، خرج من داره من ذي القعدة من هذه السنة، ورجع إليها في ذي القعدة من السنة المقبلة، وقد قال الخليفة القائم في مقامه بالحديثة شعراً يذكر فيه حاله، فمنه قوله:
خابت طنوني فيمن كنت آمُلُه ... ولم يَجُلْ ذكر من واليت في خلدي
تعلَّموا من صروف الدهر كلُّهُم ... فما أرى أحداً يحنو على أحد (3)
ومن ذلك أيضاً قوله:
مالي من الأيام إلا موعِدٌ ... فمتى أَرَى ظَفَراً بذاك الموعد
يومي يَمُرُّ وكلما قضَّيتُه ... علَّلْتُ نفسي بالحديث إلى غد
أحيا بنفسي تستريح إلى المنُى ... وعلى مطامعها تروح وتفتِدي (4)
_________
(1) البداية والنهاية (15/ 759).
(2) المصدر نفسه (15/ 763).
(3) المصدر نفسه (15/ 758).
(4) البداية والنهاية (15/ 758).(1/61)
أ- دعاء القائم بأمر الله الذي علق على الكعبة المشرفة: أرسل الخليفة القائم بأمر الله هذا الدعاء مع بدوي وأمره أن يعلقه على الكعبة وهو في أسره, وإليك نص الدعاء: «إلى الله العظيم من عبدك المسكين، اللهم إنك العالم بالسرائر المحيط بمكنونات الضمائر، اللهم إنك غني بعلمك واطلاعك على أمور خلقك عن إعلامي، بما فيه عبد من عبيدك قد كفر بنعمتك، وما شكرها، وألقى العواقب وما ذكرها، أطغاه حلمك، وتجبر بأناتك حتى تعدى علينا بغياً، وأساء إلينا عتواً وعدواناً. اللهم قلَّ الناصرون لنا، واغتر الظالم، وأنت المطلع العالم، والمنصف الحاكم، بك نعتز عليه، وإليك نهرب من يديه، فقد تعزز علينا بالمخلوقين، ونحن نعتز بك يا رب العالمين. اللهم إنا حاكمناه إليك، وتوكلنا في إنصافنا منه عليك، وقد رفعت ظلامتي إلى حرمك ووثقت في كشفها بكرمك، فاحكم بيني وبينه وأنت خير الحاكمين، وأرنا منه ما نرتجيه فقد أخذته العزة بالإثم، اللهم فاسلبه عزه، ومكنا بقدرتك من ناصيته يا أرحم الراحمين». فحملها البدوي وعلقت على باب الكعبة. فحُسب ذلك اليوم فوُجد أن البساسيري قتل وجيء برأسه إلى بغداد بعد سبعة أيام من التاريخ (1). فقد نفع الله القائم بأمر الله بهذا الدعاء فكذلك ينبغي لكل من قُهر وبُغي عليه أن يستغيث بالله تعالى، وإن صَبر وغفر فإن في الله كفاية ووقاية (2).
ب- رسالة الخليفة القائم بأمر الله من أسره إلى طغرل بك: أرسل الخليفة من أسره رسالة إلى السلطان طغرل بك جاء فيها: بحق الله أدرك الإسلام فقد ساد العدو اللعين وأخذ ينشر مذهب القرامطة (3). فلما فرغ السلطان طغرل بك من تمرد أخيه إبراهيم ينّال وأسره وقتله، وتمكن من أمره وطابت نفسه واستقر حاله، ولم يبق له في تلك البلاد منازع كتب إلى قريش بن بدران، من الأعراب، يأمره بأن يعاد الخليفة إلى داره، على ما كان عليه، وتوعّده على ترك ذلك بأساً شديداً, فكتب إليه قريش يتلطفُ به ويسالمه، ويقول: أنا معك على البساسيريَّ بكلَّ ما أقدر عليه، حتى يمكن الله منه، ولكن أخشى أن أتسرع في أمر يكون فيه على الخليفة مفسدة، أو يبدر إليه أحد بأذيةٍ، ولكنَّي سأعمل لما أمرتني بكل ما يمُكنني. وأمر بردَّ امرأة الخليفة الخاتون المعظمة أرسلان خاتون إلى دارها وقرارها، ثم راسل البساسيريَّ وأشار إليه بعودة الخليفة إلى داره، وخوّفه من جهة الملك طغُرل بك وقال له فيما قال: إنك دعوتنا إلى طاعة المستنصر صاحب مصر وبيننا وبينه ستمائة فرسخ، ولم يأتنا من جهته رسول ولا أحد، ولم يفكر في شيء مما أرسلنا إليه، وهذا الملك من ورائنا بالمرصاد (4)، ومما جاء في
_________
(1) أخبار الدول المنقطعة (2/ 430،431).
(2) سير أعلام النبلاء (18/ 307).
(3) تطورات الأحداث السياسية بين العباسيين والفاطميين، ص 177.
(4) البداية والنهاية (15/ 766).(1/62)
رسالة طغرل بك إلى الأمير علم الدين أبي المعالي قريش بن بدران: ... ولكل مُجْترم في العراق عفونا وأمننا مما بدر منه إلا البساسيري فإنه لا عهد له ولا أمان منّا، وهو موكول على الشيطان وتساويله فقد أرتكب في دين الله عظيماً، وهو -إن شاء الله- مأخوذ حيث وجد ومُعذَّب على ما عمل، فقد سعى في دماء خلق كثير بسوء دخيلته، ودلَّت أفعاله على سوء عقيدته.
وكتب في رمضان سنة إحدى وخمسين وأربعمائة، وبعث بهذا الكتاب مع رسولين من أهل العمل وبعث معهما بتحف عظيمة للخليفة وأمرهما أن يخدما الخليفة نيابة عنه، جزاه الله عن الإسلام خيراً، ولما وصل الكتاب إلى قريش بن بدران، استعلم أخبار الملك طغرل بك من الرسل وغيرهم، فإذا معه جنود عظيمة، فخاف من ذلك خوفاً شديداً، وبعث إلى البريّة فأمر بحفر أماكن للماء وتجهيز علوفات كثيرة إلى هناك ونفَّذ الكتاب والأخبار إلى البساسيريَّ، فانزعج لذلك البساسيري، وخارت قوته وضعف أمره، وبعث إلى أهله فنقلهم عن بغداد وأرصد له إقامات عظيمة بواسط وجعلها دار مقرته، ووافق على عودة الخليفة إلى بغداد، ولكنه اشترط شروطاً كثيرة لتُذهب خجله. ولما انتقل أهل البساسيريَّ من بغداد وصَحِبَهم أهل الكرخ والروافض، وانحدروا في دجلة إلى واسط كان خروجهم عن بغداد في سادس ذي القعدة من هذه السنة وفي مثله من العام الماضي دخلوا بغداد، وعند ذلك ثار الهاشميون وأهل السنة من باب البصرة إلى الكرخ، فنهبوه وأحرقوا منه محالَّ كثيرة جداً انتقاماً لما فعل الروافض فيهم، واحترق من جملة ذلك دار العلم التي وقفها الوزير أردشير من مدة سبعين سنة وفيها من الكتب شيء كثير، وكان من جملة ما احترق درب الزعفران، وفيه ألف ومائتا دار لكل دار منها قيمة جليلة عظيمة، وترحَّل قريش بن بدران إلى أرض الموصل وبعث إلى حديثة عانة يقول لأميرها مُهارِش بن مُجَليَّ الذي سلم إليه الخليفة: المصلحة تقتضي أن الخليفة تُحوَّله إلىَّ حتى نستأمن لأنفسنا بسببه، ولا تُسلمه حتى تستأمن لنا وتأخذ أمانا في يدك دون يَدِي. فامتنع عليه مُهارشُ وقال: قد غرّني البساسيري، ووعدني بأشياء فلم أرها، ولست بمرسله إليك أبداً، وله في عنقي أيمان كثيرة لا أعذرها.
وكان مُهارِشٌ رجلاً صالحاً ثقة أميناً رحمه الله، فقال للخليفة: من المصلحة أن نسير إلى بلد بدر بن مهلهل ونظرنا لأنفسنا، فإنا نخشى من البساسيري أن يأتينا فيحضرنا. فقال له الخليفة: افعل ما فيه المصلحة. فسار في الحادي عشر من ذي القعدة إلى أن حلا بقلعة تَلَّ عُكْبَرَا فلقيته رسل السلطان طغرل بك بالهدايا والتُحف التي كان أنفذها إليه وهو متشوق إليه كثيراً (1) وجاء في رواية: أن الإمام القائم رأى- في الليلة التي أطلق في
_________
(1) البداية والنهاية (15/ 769).(1/63)
غدها - رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يقول له: لا تأكل الطعام الذي يقرب إليك في غد فإنه مسموم، وقد قرب خلاصك. قال: فأصبح، وقُدَّم إليه دجاج مسموم، فامتنع من الأكل، وأطلق في عصر ذلك اليوم، ورُدَّ إلى بغداد (1).
جـ- دخول طغرل بك بغداد ولقاؤه بالخليفة القائم بأمر الله: جاءت الأخبار بأن السلطان طغرل بك قد دخل بغداد وكان يوماً مشهوداً، غير أن الجيش نهب البلد سوى دار الخلافة وصُودِر خلق كثير من التجار، وأخذت منهم أموال كثيرة، وشرعوا في عمارة دار المُلك وأرسل السلطان إلى الخليفة مراكب كثيرة من أنواع الخيول وغيرها وسُرادق عظيمة وملابس سَنيّة، وما يليق بالخليفة في السفر، أرسل ذلك مع الوزير عميد الملك الكندريَّ ولما انتهوا إليه أرسلوا بتلك الآلات قبل أن يصلوا إليه، وقال لمن حوله: اضربوا السرادِق وليلبس الخليفة ما يليق به، ثم نجىءُ نحن فنستأذن عليه فلا يأذن لنا إلا بعد ساعة طويلة فلما دخل الوزير ومن معه قبَّلوا الأرض وأخبروه سرور السلطان بما حصل من العودة إلى بغداد واشتياقه إليه جداً وأخبروا مُهارِشاً بشكر السلطان له ونيته له بما ينبغي لمثله من الإكرام، وكتب عميد الملك كتاباً إلى السلطان يعلمه بصفة ما جرى الأمرُ عليه، وأحَبَّ أن يأخذ خطَّ الخليفة في أعلى الكتاب ليكون أقر لعين السلطان فلم يكن عند الخليفة دواة وأحضر الوزير دَواته، ومعها سيف، وقال: هذه خدمة السيف والقلم، فأعجب الخليفة ذلك، وترَحَّلوا من منزلهم ذلك بعد يومين، فلما وصلوا إلى النهروان خرج السلطان طغرل بك من بغداد لتلقيه، فلما انتهى إلى السُرادق قبَّل الأرض بين يديه فأخذها الملك فقبلها، ثم جلس عليها كما أشار أمير المؤمنين، وقدم إلى الخليفة الحبل الياقوت الأحمر الذي كان لبني بُوَيه فوضعه بين يدي الخليفة، وأخرج اثنتي عشرة حبَّة من لؤلؤ كبار، وقال: أرسلان خاتون - يعنى زوجة الخليفة- تخدم وتسأل أن تُسبَّحَ بهذه السبحة وجعل يعتذر عن تأخره عن الحضرة بسبب عصيان أخيه إبراهيم: فقتلته واتَّفق موت أخي الأكبر داود فاشتغلت بترتيب أولاده من بعده، وكنت عزمت على أن أصمُدَ إلى الحديثة، لأصون المهجة الشريفة، ولكن لما بلغني، بحمد الله، أمر مولاي
أمير المؤمنين الخليفة فرحت بذلك، وأنا شاكر لمهارش بما كان منه من خدمة أمير المؤمنين، وأنا إن شاء الله تعالى أمضي وراء هذا الكلب - البساسيريَّ - وأقتنصه، وأعود إلى الشام، وأفعل بصاحب مصر ما ينبغي أن يجازى به من سوء المقابلة بما كان من فعل البساسيري هاهنا، فدعا له الخليفة وشكره على ذلك، كل ذلك يترجمه عميد الملك بين الخليفة والملك طغرل بك، وأعطى الخليفة للملك سيفاً كان معه، لم يبق معه من
_________
(1) أخبار الدول المنقطعة (2/ 431).(1/64)
أمور الخلافة سواه، واستأذن الملك لبقية الأتراك أن يخدموا الخليفة، فرفعت الأستار من جوانب الخَرْكاه، فلما شاهد الأتراك الخليفة قبَّلوا الأرض ثم دخل بغداد يوم الإثنين لخمس بقين من ذي القعدة وكان ذلك يوماً مشهوداً، الجيش كله معه والقضاة، والأعيان بين يديه، والملك طغرل بك أخذ بلجام بغلته، حتى وصل إلى باب الحجرة، ولما وصل الخليفة إلى دار مملكته، ومقرَّ خلافته استأذنه السلطان طغرل بك في الخروج وراء البساسيريَّ، فأذن له وكان قد عزم أن يمضي معه فقال: يا أمير المؤمنين، أنا أكفيك ذلك إن شاء الله. وأطلق الملك لمهارش عشرة آلاف دينار فلم يرض (1).
د- مقتل البساسيري: شرع السلطان طغرل بك في ترتيب الجيوش للمسير وراء البساسيري، فأرسل جيشاً من ناحية الكوفة ليمنعوه من الدخول إلى الشام، وخرج هو في التاسع والعشرين من الشهر في بقية الجيش, وأما البساسيري فإنه مقيم بواسط في جمع غلاّت وتمور يُهيَّئها لقتال أهل بغداد ومن فيها من الغُزَّ، وعنده أن الملك طغرل بك ومن معه ليسوا بشيء يخاف منه، وذلك لما يُريده الله تعالى من إهلاكه على يَدى الملك طغرل بك، جزاه الله عن الإسلام خيراً (2) ولما سار السلطان نحوه وصلت إليه السَّرية الأولى فلقوه بأرض واسط، ومعه ابن مزيد، فاقتتلوا هنالك، وانهزم أصحابه، ونجا البساسيري بنفسه على فرس فتبعه بعض الغلمان، فرمى فرسه بنشابة فألقته إلى الأرض، فجاء الغلام، فضربه على وجهه، ولم يعرفه، وأسره واحد منهم يقال له كُمُشتكتين، وحزّ رأسه وحمله إلى السلطان، وأخذت الأتراك من جيش البساسيري من الأموال ما عجزوا عن حمله, ولما وصل الرأس إلى السلطان أمر أن يذهب به إلى بغداد، وأن يرفع على قناة، وأن يطاف به في المحالَّ بالدّبادب والبُوقات والنفاطون معه، وأن يخرج الناس والنساء للفرجة عليه فُفعل ذلك (3)، كان البساسيري مقدماً عند الخليفة القائم بأمر الله، لا يقطع أمراً دونه وخطب له على منابر العراق كلها، ثم طغى وبغى وتمرد وعتا وخرج على الخليفة، بل وعلى المسلمين، ودعا إلى خلافة الفاطميين، فتم له ما رامه من الأمل الفاسد واستدرج، ثم كان أخذه في هذه السنة (4)، 451هـ، وقد كان مع البساسيري خلق من أهل بغداد خرجوا معه، ظانين أنه سيعود إليها، محبة فيه، فهلكوا ونهبت أموالهم كلها، ولم ينج من أصحابه إلا القليل (5).
هـ - محاربة السلاجقة للدعوة الفاطمية العبيدية: أدرك السلاجقة الخطر الذي
_________
(1) البداية والنهاية (15/ 771).
(2) البداية والنهاية (15/ 771).
(3) المصدر نفسه (15/ 772).
(4) المصدر نفسه (15/ 774).
(5) المصدر نفسه (15/ 772).(1/65)
يتهددهم من وراء انتشار الدعوة الفاطمية في بلدان الخلافة العباسية، لذلك اتبعوا سياسة حكيمة بعد أن قبضوا على زمام الأمور في بغداد تتمثل في مناهضة الدعوة الفاطمية (1) ودعاتها بالحزم والشدة، فتعقبوا دعاة الإسماعيلية الذين قاموا بنشر الدعوة الفاطمية في بلاد فارس, كما قاموا بإقصاء الموظفين المتشيعين للمذهب الإسماعيلي عن دواوين الحكومة والوظائف الدينية وعينوا من أهل السنة بدلاً منهم، فقد تم عزل أبي الحسين بن المهتدي من الخطابة بجامع المنصور لأنه كان قد أقام الخطبة للخليفة المستنصر بالله الفاطمي ببغداد خلال فتنة البساسيري وعين أبا علي الحسن بن عبد الودود بن المهتدي بالله خطيباً في مكانه سنة 451هـ (2)،
ومن العوامل التي ساعدت على ضعف شأن الدعوة الفاطمية في أواخر عهد الخليفة القائم بأمر الله إلى جانب مناهضة السلاجقة لهذه الدعوة، انصراف الخلافة الفاطمية في مصر عن مواصلة جهودها لنشر دعوتها في بلاد العراق كما كانت الحال عند قيام البساسيري بحركته، وذلك بسبب انشغالها بالقضاء على الفتن والاضطرابات الداخلية، فقد ظهر التنافس بين العناصر الأجنبية وبخاصة السودان والأتراك، كما خرج ناصر الدولة الحسين بن حمدان التغلبي قائد الأتراك على طاعة الخليفة المستنصر بالله الفاطمي وأنفذ رسالة إلى ألب أرسلان سلطان السلاجقة سنة 462هـ سأله أن يمده بالنجدات ليقيم الدعوة العباسية على أن تؤول إليه السيادة على مصر، فلما علم الخليفة الفاطمي بمراسلة ناصر الدولة، السلطان ألب أرسلان جهز جيشاً لمحاربته غير أن ناصر الدولة أوقع به الهزيمة وأقام الخطبة للخليفة القائم بأمر الله العباسي على منابر الإسكندرية ودمياط وجميع أنحاء الوجه البحري (3)، ولم يكتف ناصر الدولة بن حمدان بحذف اسم الخليفة الفاطمي من الخطبة بالوجه البحري بل أنفذ كتاباً إلى الخليفة القائم بأمر الله يلتمس منه الإمدادات والخلع حتى يظهر الدعوة العباسية بالديار المصرية, ولم ينتظر رد الخلافة العباسية بل سار إلى الفسطاط على رأس قواته واستولى عليها، وتولى الحكم فيها، وأنفذ إلى الخليفة المستنصر وأظهر ميله إلى المذهب السني, غير أن ناصر الدولة لم تستقر له الأمور بالقاهرة طويلاً، فقد ثار به الأتراك ونجحوا في القضاء عليه (4)، وكان للشدة العظمي التي تعرضت لها مصر مدة سبع سنوات ووصفها صاحب النجوم الزاهرة فقال: ..
هذا والغلاء بمصر يتزايد، حتى إنه جلا من مصر خلق كثير لما حصل بها من الغلاء الزائد عن الحد، والجوع الذي لم يعهد مثله في الدنيا، فإنّه
_________
(1) سياسة الفاطميين الخارجية، جمال سرور، ص 208.
(2) الكامل في التاريخ, نقلاً عن الأحوال السياسية والدينية، ص 78 ..
(3) تاريخ مصر، ابن ميسر، ص 19، 20.
(4) الأحوال السياسية والدينية في بلاد العراق، ص 79.(1/66)
مات أكثر أهل مصر، وأكل بعضهم بعضاً، وظهروا على بعض الطبّاخين أنه ذبح عدة من الصَّبيان والنساء وأكل لحومهم وباعها بعد أن طبخها وأكلت الدواب بأسرها (1) -كان لهذه الشدة أثر بالغ في شغل الخلافة الفاطمية عن مواصلة إرسال الدعاة وإمدادهم بالأموال فاقتصر اهتمامها على الاحتفاظ بما تبقى لها من نفوذ في الجزيرة العربية، وتأييد دعاة الإسماعيلية في بلاد فارس واليمن (2).
5 - دخلت الدولة السلجوقية في صراع مع الروم واستطاع إبراهيم ينال أن يأسر ملكًا كبيرًا للروم، فبذل في نفسه أموالاً عظيمة فأبى عليه، فبعث نصر الدولة صاحب الجزيرة وميّافارقين يشفع في فكاكه فبعثه طغرل بك إلى نصر الدولة بلا فداء فتأثر ملك الروم، وأهدى إلى طغرل بك مائتي ألف دينار، وخمسمائة أسير، وألفاً وخمسمائة ثوب، ومائة لبنة فضة، وألف عنز أبيض، وثلاثمائة برذون شهري (3) وبعث إلى نصر الدولة تحفاً ومسكاً كثيراً (4). وقد قام طغرل بك بإرسال رسوله ناصر بن إسماعيل العلوي إلى ملكة النصارى، فاستأذنها ناصر في الصلاة بجامع قسطنطينية جماعة يوم جمعة، فأذنت له فخطب للخليفة القائم، وكان هناك رسول خليفة مصر. بعث ملك الروم إلى طغرل بك هدايا وتحفاً، والتمس الهدنة، فأجابه، وعُمّر مسجد القسطنطينية، وأقام فيها الخطبة لطغرل بك،
وتمكن ملكه (5).
6 - خِطبة طغرل بك بابنة الخليفة وزواجه منها ووفاته: في سنة 543هـ خطب الملك طغرل بك ابنة الخليفة فانزعج الخليفة من ذلك، وقال: هذا شيء لم تَجْر العادة بمثله, ثم طلب أشياء كثيرة كهيئة المبعد له، من ذلك ما كان لزوجته التي توفيت من الإقطاعات بأرض واسط وصداق ثلاثمائة ألف دينار، وأن يقيم الملك ببغداد لا يترحَّلُ منها ولا يحيد عنها يوماً أبداً، فوقع الاتفاق على بعض ذلك، وأرسل إليها بمائة ألف دينار مع ابنة أخيه داود زوجة الخليفة أرسلان خاتون، وأشياء كثيرة من آلات الذهب والفضة والنَّشار والجواري والكُراغ، ومن الجواهر ألفين ومائتي قطعة، من ذلك سبعمائة وعشرون قطعة جوهر وزن كل واحدة ما بين الثلاثة مثاقيل إلى المثقال، وأشياء كثيرة. فتمنع الخليفة لفوات بعض الشروط، فغضب عميد الملك الكندري الوزير لمخدومه السلطان، وجرت شُرور طويلة اقتضت أن أرسل السلطان كتاباً يأمر فيه بانتزاع ابنة أخيه السيدة أرسلان خاتون،
_________
(1) النجوم الزاهرة (5/ 15، 16).
(2) الأحوال السياسية والدينية في بلاد العراق ص79.
(3) البرذون الشهري: بين الرَّمَكةِ والفرس العتيق.
(4) سير أعلام النبلاء (18/ 111).
(5) سير أعلام النبلاء (18/ 110).(1/67)
ونقلها من دار الخلافة إلى دار المِلكِ حتى تنفصل هذه القضية، وعزم الملك على النُّقلة من بغداد، فانزعج الناس لذلك، وجاء كتاب السلطان إلى شحنة - رئيس- بغداد برشقٍ يأمره بعدم المراقبة وكثرة العسف في مقابلة ردَّ أصحابنا بالحرمان، وبعزم على نقلة الخاتون إلى دار المملكة ويرسل من يحملها إلى البلدة التي هو فيها، وكلُّ ذلك غضب على الخليفة، فإنا لله وإنا إليه راجعون (1)
وفي عام 454هـ وردت الكتب الكثيرة من الملك طغرل بك يشكو قلة إنصاف الخليفة، وعدم موافاته له بما أسداه إليه من الخدم والنَّعم إلى ملوك الأطراف، وقاضي القضاة الدامغاني، فلما رأى الخليفة ذلك، وأن الملك قد أرسل إلى نوابه بالاحتياط على أملاك الخليفة - وقد انزعج لذلك - كتب إلى الملك طغرل بك يجيبه إلى ما سأل، فلما وصل إلى الملك فرح فرحًا شديداً، وأرسل نوابه أن يطلقوا أملاك الخليفة، فلما انتهت الركابية إلى بغداد، دقّت البشائر بدار الخلافة، وطيف بالركابية وبين أيديهم الدبادبُ والبوقات وفرح الناس بإجابة الخليفة إلى ذلك، واتَّفقت الكلمة، فوكل الخليفة في العقد، وكتب بذلك وَكالة، ثم وقع العقد بمدينة تبريز بحضرة الملك طُغرل بك، وعمل سِماطا عظيماً، فلمّا جيء بالوكالة قام لها الملك، وقبَّل الأرض عند رؤيتها، ثم أوجب العقد على صداق أربعمائة ألف دينار، وكثُر دعاء الناس للخليفة، وذلك في يوم الخميس الثالث عشر من شعبان من هذه السنة، ثم بعث ابنة أخيه أرسلان خاتون زوجة الخليفة في شوال بتُحَفِ عظيمة وذهب كثير، وجواهر عديدة ثمينة، وهدايا عظيمة لأمِّ العروس وأهلها كلِّهم، وقال الملك جهرة للناس: أنا عبد للخليفة ما بقيت، لا أملك شيئاً سوى ما عليَّ من الثياب (2).
أ- دخول الملك طُغرل بك على بنت الخليفة ووفاته: لما استقر الملك طغرل بك ببغداد أرسل وزيره عميد الملك إلى الخليفة يُطالبه بنقل السيدة من الدار العزيزة النبوية إلى دار المملكة، فتمنَّع الخليفة من ذلك، وقال: إنكم سألتم أن يعقد العقد فقط لحصول التشريف والتزمتم لنا بعدم المطالبة بها، فتردَّد في ذلك بين الخليفة والملك، وأرسل الملك زيادة على النقد مائة ألف دينار ومائة وخمسين ألف درهم، وتُحفاً أخَرَ، وأشياء لطيفة، فلما كان ليلة الإثنين الخامس عشر من صفر هذه السنة زُفَّت السيدة ابنة الخليفة إلى دار المملكة، فضربت لها السُّرادقات من دجلة إلى دار المملكة، وضربت الدَّبادب والبُوقات عند دخولها دار المملكة وكانت ساعة عظيمة، فأجلست على سرير مُكَلل بالذهب وعلى وجهها بُرقعٌ، ودخل الملك طُغرل بك، فوقف بين يديها، فقبَّل الأرض ولم تقم له ولم تَره، ولم يجلس حتى
_________
(1) البداية والنهاية (15/ 871،782) ..
(2) البداية والنهاية (15/ 785) , تاريخ دولة آل سلجوق، ص 26.(1/68)
انصرف إلى صحن الدار، والحُجَّابُ والأتراك يرقصون هناك فرحاً وسُروراً (1)،
وبعث لها مع الخاتون أرسلان ابنة أخيه زوجة الخليفة عقدين فاخرين وقطعة ياقوت حمراء كبيرة هائلة، ودخل من الغد فقبَّل الأرض، وجلس على سرير مكلَل بالفضة بإزائها ساعة ثم خرج وأرسل لها جواهر نفيسة كثيرة مثمَّنة، وفَرَجية نسيج مُكللَّة باللؤلؤ، وما زال كذلك كلّ يوم يدخل ويقبَّل الأرض ويجلس على سرير بإزائها، ثم يخرج فبعث بالتحف والهدايا ولم يكن منه إليها شيء مقدار سبعة أيام، ويَمُدُّ كلَّ يوم من هذه الأيام السبعة سِماطاً عظيماً، وخلع يوم السابع على جميع الأمراء، ثم عرض له سفر واعتراه مرض، فاستأذن الخليفة بالانصراف بالسيدة معه إلى تلك البلاد مدة قريبة، ثم يعود بها، فأذن له الخليفة بعد تمنع شديد وحزن عظيم، فخرج بها معه وليس معها من دار الخلافة سوى ثلاث نسوة، برسم خدمتها، وتألمت والدتها لفقدها ألماً عظيماً جداً لا يُعَبَّرُ عنه وخرج السلطان وهو مريض مُدْنِفٌ ميئوس منه مُثْقَلٌ لا ترجى منه العافية فلما كانت ليلة الأحد الرابع والعشرين من رمضان جاء الخبر بأن الملك طغرل بك توفي في ثامن الشهر رحمه الله (2)، وكان الملك طغرل بك عاقلاً حليماً كثير الاحتمال شديد الكتمان للسَّر محافظاً على الصلوات وعلى صوم الإثنين والخميس، مواظباً على لبس البياض وكان عمره يوم مات سبعين سنة، ولم يترك ولداً وكان مدة ملكه بحضرة القائم سبع سنين وأحد عشر شهراً (3)، وكان طغرل بك كثير الصدقات حريصاً على بناء المساجد متعبداً متهجداً، ويقول: أستحي من الله أن أبني داراً ولا أبني بجنبها مسجداً (4). وحكى عميد الملك أن طغرل بك قال له: رأيت في منامي في مبتدأ أمري بخراسان كأني رفعت إلى السماء وقيل لي: سل حاجتك تُقض، فقلت: ما شيء أحب إلى من طول العمر، فقيل: عمرك سبعون.
قال عميد الملك: وكنت سألته عن السنة التي ولد فيها، فقال: السنة التي خرج فيها الخان الفلاني بما وراء النهر، فلما توفي حسبت المدة فكانت سبعين سنة كاملة، ولما وصل خبر وفاته إلى بغداد جلس الوزير فخر الدولة ابن جهير للعزاء في صحن السلام في السادس والعشرين من شهر رمضان (5).
7 - الوزير السلجوقي الأول عميد الملك الكندري: هو الوزير الكبير، عميد الملك، أبو نصر، محمد بن منصور بن محمد الكندري، وزير السلطان طغرل بك، كان أحد رجال الدهر سؤدداً وجوداً وكتابة، تفقه وتأدب، وكان كاتباً لرئيس، ثم ارتقى وولى خوارزم، وعظم، ثم
_________
(1) البداية والنهاية (15/ 789) ..
(2) البداية والنهاية (15/ 789).
(3) المصدر نفسه (15/ 790).
(4) تاريخ دولة آل سلجوق للأصفهاني، ص 28.
(5) تاريخ دولة آل سلجوق للأصفهاني، ص 28.(1/69)
عصى السلطان، وتزوج بامرأة ملك خوارزم، فتحيَّل السلطان حتى ظفر به، وخصاه لتزوجه بها، ثم رقَّ له، وتداوى وعُوفي ووزر له، وقدم بغداد، ولقَّبه القائم سيد الوزراء، وكان معتزلياً، له النظم والنثر (1)، وكان ذكياً فصيحاً شاعراً، لديه فضائل جمّة، حاضر الجواب سريعه، ولمّا أرسله طغرل بك إلى الخليفة يخطب إليه ابنته، وامتنع الخليفة من ذلك أشد الامتناع أنشد متمثلاً بقول المتنبي:
ما كل ما يتمنى المرء يُدركه
فتمَّمَه الوزير:
تجري الرياح بما لا تشتهي السفن
فسكت الخليفة وأطرق (2)
ويقال: غَنَّتْهُ بنت الأعرابي في جماعة من الناس، فطرب، وأمر لها بألفي دينار، ووهب أشياء، ثم أصبح، وقال: كفارة المجلس أن أتصدق بمثل ما بذلت البارحة. وقيل:
إنه أنشد عند قتله:
إن كان بالناس ضِيقٌ عن منافستي ... فألموت قد وسَّع الدنيا على الناس
مضيت والشامت المغبون يتبعني ... كل بكأس المنايا شارب حاسي
وقال: ما أسعدني بدولة بني سلجوق؛ أعطاني طغرل بك الدنيا، وأعطاني ألب أرسلان الآخرة (3)، ووزر تسع سنين وأخذوا أمواله، منها ثلاثمائة مملوك، وقتل صبراً وطيف برأسه (4)، قال الذهبي: وما بلغنا عنه كبير إساءة لكن ما على غضب الملك عيار (5). قتل بمرو الرُّوذ في ذي الحجة سنة ستَّ وخمسين وأربعمائة وله اثنتان وأربعون سنة, وكان يؤذي الشافعية، ويبالغ في الانتصار لمذهب أبي حنيفة (6)، وذكرت له ترجمة موسعة في رسالة للماجستير للسيدة سميعة عزيز محمود بعنوان (الوزارة العباسية من 447هـ إلى 590هـ «العهد السلجوقي») (7).
_________
(1) سير أعلام النبلاء (18/ 113، 114).
(2) البداية والنهاية (15/ 6).
(3) سير أعلام النبلاء (18/ 114).
(4) المصدر نفسه (18/ 114).
(5) المصدر نفسه (18/ 114).
(6) المصدر نفسه (18/ 114).
(7) الوزارة العباسية 447هـ /590هـ العهد السلجوقي، ص 169.(1/70)
المبحث الثالث
ألب أرسلان (محمد) الأسد الشجاع
هو السلطان الكبير، الملك العادل، عضد الدولة، أبو شجاع ألب أرسلان، محمد بن السلطان جغري بك داود ميكائيل بن سلجوق بن تُقاق بن سلجوق التركماني، الغُزَّي، من عظماء ملوك الإسلام وأبطالهم (1)، ملك بعد عمه طغرل بك، وكان عادلاً سار في الناس سيرة حسنة، كريماً رحيماً، شفوقاً على الرعية رفيقاً على الفقراء، بارّا بأهله وأصحابه ومماليكه كثير الدعاء بدوام ما أنعم به عليه، كثير الصدقات يتصدق في كل رمضان بخمسة عشر ألف دينار، ولا يعرف في زمانه جناية ولا مصادرة، بل يقنع من الرّعايا بالخراج في قسطين، رفقا بهم (2).
أولاً: اجتماع الكلمة عليه: اعتمد ألب أرسلان في الوزارة على نظام الملك، وكان وزير صدق، يكرم العلماء والفقراء، ولما عصى الملك شهاب الدولة قُتُلمش، وخرج عن الطاعة، وطمع في أخذ الملك من ألب أرسلان وكان من بني عم طغرل بك، فجمع وحشد واحتفل له ألب أرسلان فقال له الوزير: أيها الملك، لا تخف؛ فإني قد استخدمت لك جنداً ليلياً يدعون لك وينصرونك بالتوجه في صلواتهم وخلواتهم، وهم العلماء والصلحاء، فطابت نفسه بذلك، فحين التقى مع قتلمش لم ينظره أن كسره، وقتل خلقاً من جنوده، وقُتل قتلمش في المعركة واجتمعت الكلمة على ألب أرسلان (3)، وعظم أمره، وخطب له على منابر العراق والعجم وخراسان ودانت له الأمم (4).
ثانياً: سماحه للسيدة زوجة طغرل بك وابنة الخليفة بالرجوع إلى بغداد: ففي سنة 456هـ أذن ألب أرسلان للسيدة ابنة الخليفة في الرجوع إلى بغداد وأرسل معها بعض القضاة والأمراء، فدخلت بغداد في تجُّمل عظيم، وخرج الناس للنظر إليها، فدخلت ليلاً في أبهة عظيمة، ففرح الخليفة وأهلها بذلك وأمر الخليفة بالدعاء للملك ألب أرسلان على المنابر في الخطب فقيل في الدعاء: اللهم وأصلح السلطان المعظم عَضُدَ الدولة وتاج الملة ألب أرسلان أبا شجاع محمد بن داود. وجلس الخليفة للناس جلوساً عاماً وبايعهم للملك ألب أرسلان وأرسل إليه بالخلع والتقليد مع الشريف نقيب العباسيين طراد بن محمد الزيني، وأبي محمد
_________
(1) سير أعلام النبلاء (18/ 414).
(2) البداية والنهاية (16/ 39).
(3) المصدر نفسه (15/ 793).
(4) سير أعلام النبلاء (18/ 415).(1/71)
التميمي، وموفق الخادم، ولقب بالوزير نظام الملك قوام الدين والدولة رضي أمير المؤمنين، وإنما كان يقال له قبل ذلك: خواجا بزرك. وأرسل الملك ألب أرسلان بالهدايا والتحف النفيسة المفتخرة، واستقر أمره على بغداد وجميع بلاد العراق (1).
ثالثاً: جهاده في سبيل الله: كان ألب أرسلان - كعمه طغرل بك - قائداً ماهراً مقداماً وقد اتخذ سياسة خاصة تعتمد على تثبيت أركان حكمه في البلاد الخاضعة لنفوذ السلاجقة، قبل التطلع إلى إخضاع أقاليم جديدة، وضمها إلى دولته، كما كان متلهفاً للجهاد في سبيل الله، ونشر دعوة الإسلام في داخل الدولة المسيحية المجاورة له، كبلاد الأرمن وبلاد الروم، وكانت روح الجهاد الإسلامي هي المحركة لحركات الفتوحات التي قام بها ألب أرسلان وأكسبتها صبغة دينية، وأصبح قائد السلاجقة زعيماً للجهاد، وحريصاً على نصرة الإسلام ونشره في تلك الديار، ورفع راية الإسلام خفاقة على مناطق كثيرة من أراضي الدولة البيزنطية (2)، لقد بقي سبع سنوات يتفقد أجزاء دولته المترامية الأطراف، قبل أن يقوم بأي توسع خارجي، وعندما أطمأن على استتباب الأمن وتمكن حكم السلاجقة في جميع الأقاليم والبلدان الخاضعة له، أخذ يخطط لتحقيق أهدافه البعيدة، وهي فتح البلاد المسيحية المجاورة لدولته، وإسقاط الخلافة الفاطمية «العبيدية في مصر»، وتوحيد العالم الإسلامي تحت راية الخلافة العباسية السنية ونفوذ السلاجقة، فأعد جيشاً كبيراً اتجه به نحو بلاد الأرمن وجورجيا فافتتحها وضمها إلى مملكته، كما عمل على نشر الإسلام في تلك المناطق (3). وأغار ألب أرسلان على شمال الشام وحاصر الدولة المرداسية في حلب، والتي أسسها صالح بن مرداس على المذهب الشيعي سنة 414هـ وأجبر أميرها محمود بن صالح بن مرداس على إقامة الدعوة للخليفة العباسي بدلاً من الخليفة الفاطمي العبيدي سنة 462هـ (4)،
ثم أرسل قائد الترك أتسنسر بن أوق الخوارزمي في حملة إلى جنوب الشام فانتزع الرملة وبيت المقدس بدلاً من الفاطميين العبيديين، ولم يستطيع الاستيلاء على عسقلان التي تعتبر بوابة الدخول إلى مصر، وبذلك أضحى السلاجقة على مقربة من قاعدة الخليفة العباسي والسلطان السلجوقي داخل بيت المقدس (5)، وفي سنة 462هـ ورد رسول صاحب مكة محمد بن أبي هاشم إلى السلطان يخبره بإقامة الخطبة للخليفة القائم وللسلطان، وإسقاط خطبة حاكم مصر العبيدي، وترك الأذان بـ «حي على خير العمل» فأعطاه السلطان ثلاثين ألف دينار وقال له:
_________
(1) البداية والنهاية (16/ 794).
(2) قيام الدولة العثمانية، ص 20.
(3) قيام الدولة العثمانية، ص 20.
(4) السلاطين في المشرق العربي د. عصام محمد، ص 25.
(5) مرآة الزمان لسبط بن الجوزي، ص 161.(1/72)
إذا فعل أمير المدينة كذلك أعطيناه عشرين ألف دينار (1)، وكان حريصاً على إقامة العدل في رعاياه وحفظ أموالهم وأعراضهم، بلغه أن غلاماً من غلمانه أخذ إزاراً لبعض التجار، فصلبه فارتدع سائر المماليك به، خوفاً من سطوته، وكتب إليه بعض السُّعاة في نظام الملك، فاستدعاه وقال له: إن كان هذا صحيحاً فهذَّب أخلاقك، وأصلح أحوالك، وإن لم يكن صحيحاً فاغفر لهم زلتهم بمُهمَّ يشغلهم عن السعاية بالناس (2)، وكان كثيراً ما يقرأ عليه تواريخ الملوك وآدابهم، وأحكام الشريعة، ولما اشتهر بين الملوك بحُسن سيرته، ومحافظته على عهوده أذعنوا له بالطاعة والموافقة بعد الامتناع وحضروا عنده من أقاصي ما وراء النهر إلى أقاصي الشام (3).
ومن الدروس مما مضى، أهمية دراسة التاريخ للقادة السياسيين وزعماء الأمة، فمن خلاله يتعرفون على سنن الله وعوامل نهوض الدول وأسباب سقوطها، فقد كان ألب أرسلان مهتما بدراسة تاريخ الأمم.
رابعاً: حملة السلطان ألب أرسلان على الشام وضم حلب: وضع السلطان ألب أرسلان نصب عينيه تحقيق هدفي السلاجقة وهما التوسع باتجاه الأراضي البيزنطية وطرد الفاطميين في بلاد الشام والحلول مكانهم ثم استخلاص مصر منهم، وقد أثاره احتمال تقارب بين البيزنطيين والفاطميين فحرص على أن يحمي نفسه من بيزنطة بفتح أرمينية والاستقرار في ربوعها، قبل أن يمضي في تحقيق الهدف الثاني وهو مهاجمة الفاطميين. والواقع أنه كان من الصعب على السلطان السلجوقي، من الناحية العسكرية والسياسية، أن يتجاوز محور الرها إلى جنوبي بلاد الشام ثم مصر دون تقدير الموقف البيزنطي من جهة، ومواقف أمراء الجزيرة وبلاد الشام من جهة أخرى، إذ إن أي اضطراب في العلاقة مع هذه الأطراف من شأنه أن يهدد بقطع خط الرجعة على جيشه الذي سيكون بعيداً عن قواعده الخلفية (4)، واشتدت في هذه الأثناء غارات الأتراك على أراضي الدولة البيزنطية، وتوغلوا فيها، ففتح هارون بن خان أرتاح عام 460هـ بعد أن حاصرها خمسة أشهر (5)، ونهض الإمبراطور البيزنطي رومانوس الرابع ديوجينوس ليوقف تقدم المغيرين، ومنعهم من التوغل أكثر في عمق الأراضي البيزنطية، وقاد حملتين عسكريتين ضد الأجزاء الشمالية لبلاد الشام بين عامي 461هـ و462هـ فهاجم منطقة حلب، عقدة المواصلات التجارية والعسكرية بين العراق
_________
(1) أيعيد التاريخ نفسه؟ ص 68، البداية والنهاية (16/ 229).
(2) البداية والنهاية (16/ 39).
(3) الكامل لابن الأثير (6/ 253).
(4) في التاريخ الشامي، شاكر مصطفى (2/ 131).
(5) زبدة الحلب في تاريخ حلب (1/ 256).(1/73)
وأرمينية والأناضول وبلاد الشام، واصطدمت قواته بقوات محمود بن نصر المرداسي وبني كلاب، وابن حسان الطائي ومن معهم من جموع العرب وانتصر عليهم (1)،إلا أن الإمبراطور انسحب من المنطقة على عجل دون أن يستثمر انتصاره، بعد ورود أخبار عن توغل قوات تركية بقيادة الأفشين في عمق الأراضي البيزنطية، وفتحها مدينة عمورية، وأنها بصدد التوجه نحو القسطنطينية، كما أن نفاد المؤن كان سبباً آخر دفعه إلى العودة إلى بلاده (2). وكان السلطان ألب أرسلان ينتظر فرصة سانحة ليحقق حلمه بضم بلاد الشام ومصر إلى الأملاك السلجوقية، وأتاح له النزاع الذي حصل بين أركان الحكم في مصر من أجل السيطرة والتسلط على المستنصر الفاطمي هذه الفرصة، كان ناصر الدولة الحسين بن الحسن الحمداني أحد أبرز القادة في القاهرة، وقد انتصر على تحالف ضم الوزير ابن أبي كدية وألدكوز قائد عسكر الأتراك وذلك في عام 462هـ، وتمادى في تخطيطه وقرّر القضاء على الدولة الفاطمية وإقامة الدعوة العباسية، فأرسل أبا جعفر محمد بن البخاري قاضي حلب، إلى السلطان السلجوقي يطلب منه أن يرسل جيشاً إلى مصر، يساعده في تحقيق هدفه, وفور تسلمه الدعوة، جهَّز ألب أرسلان جيشاً كبيراً وخرج على رأسه من خراسان متوجهاً إلى بلاد الشام لإخضاعها لسيطرة السلاجقة، ومن ثمَّ متابعة زحفه إلى مصر لإسقاط الدولة الفاطمية وضمَّ هذا البلد إلى السلطنة السلجوقية، لكن تحركه كان بطيئاً بسبب ما صادفه من عقبات كانت أولاها في الرها الواقعة تحت الحكم البيزنطي، فحاصرها في عام 463هـ وقاوم الرهاويون الحصار ببسالة بقيادة باسيل بن أسار الذي عيَّنه الإمبراطور البيزنطي رومانوس الرابع ديوجينوس حاكماً على المدينة، وقطع السلاجقة أشجار الحدائق وطمروا الخنادق بجانب الأسوار الشرقية كي يعبروا عليها، وقذفوا المدينة بالمجانيق، وشرع النقابون في حفر فجوات في السور، ولكن دون جدوى، واستعصت المدينة على السلطان ألب أرسلان واضطر إلى التفاهم مع سكانها بعد نيف وثلاثين يوماً من الحصار المتواصل ثم تابع طريقه إلى حلب (3)
لضمها حتى يمنع أي محاولة التفاف من جانب البيزنطيين من جهة الجنوب، غير أن قسماً من جيشه تقاعس عن المضي معه بسبب تأخير أرزاقهم، فاضطر أن يتابع زحفه بمن بقي معه من الجيش وعددهم أربعة آلاف مقاتل، فعبر نهرالفرات 463هـ ودخل أراضي الإمارة وقدم له جميع أمراء الجزيرة الولاء أمثال شرف الدولة مسلم بن قريش العقيلي أمير الموصل، ونصر بن مروان أمير ميافارقين، وابن وثاب أمير حرّان، بالإضافة إلى أمراء الترك والديلم (4).
_________
(1) زبدة الحلب في تاريخ حلب (1/ 257).
(2) تاريخ السلاجقة في بلاد الشام ص113.
(3) المصدر نفسه، ص 114.
(4) المصدر نفسه، ص 114.(1/74)
1 - حصار حلب وإخضاعها صلحاً للدولة السلجوقية: تقاعس محمود بن نصر أمير حلب، ويبدو أن لذلك علاقة بالمدى الذي وصلت إليه معارضة الشيعة في حلب، وربما أدرك أنه سوف يفقد استقلاله إذا تجاوب مع مطالب السلطان السلجوقي (1)، فأرسل إليه القاضي أبا جعفر محمد بن البخاري يدعوه للقدوم إليه لتقديم الولاء والطاعة ودوس بساطه أسوة بسائر أمراء الجزيرة، وفتح أبواب حلب لاستقباله (2)، ولكن محموداً رفض الدعوة بتحريض من ابن خان، وآثر الاعتصام بحلب والدفاع عنها، واستنفر الرجال من جميع أنحاء بلاد الشام، وتأهب لمقاومة الحصار الذي سوف يفرضه الجيش السلجوقي على المدينة، ويبدو أنه اطمأن إلى أن ولاءه للعباسيين، وللسلطان السلجوقي، وارتداء خلع الخليفة التي أرسلت إليه في عام 462هـ، كافيان لحمايته من هجوم السلطان، لكنه فوجئ بوصوله إلى حلب في 463هـ وضربه الحصار عليها، واتخذ السلطان من الفنيدق (3)، مركزاً لقيادته, وكانت الخيام والعساكر من حلب إلى نقرة بني أسد، إلى عزاز إلى الأثارب، متقاربة بعضها من بعض، ولم يتعرض أحد من العسكر لمال أحد، ولاسُبيت حرمة، ولا قاتل، ولم يأخذ عليقة تبن من فلاح إلا بثمنه واستمر الحصار مدة شهرين ويومين ولم يجر قتال غير يوم واحد، وكان يقول لأتباعه: أخشى أن أفتح هذا الثغر بالسيف فيصير إلى الروم (4)،
ومهما يكن من أمر، فقد فشل السلطان في اقتحام المدينة، ولعل مرد ذلك يعود إلى شدة المقاومة ومتانة الأسوار، وإشراك محمود بن نصر جميع القبائل العربية في الدفاع عنها، بالإضافة إلى طبيعة تكوين الجيش السلجوقي الذي يعتمد على الفرسان الخفاف، والمعروف أن عمليات الحصار تتطلب جنوداً من المشاة وهو ما افتقده الجيش السلجوقي, ولم تتوقف المفاوضات خلال أيام الحصار للوصول إلى حل لكن دون جدوى بسبب التصلب في المواقف، واضطر السلطان أخيراً إلى فك الحصار عن المدينة، إلا أنه خشي على سمعته بعد إخفاقه في اقتحام الرها وأخذ حلب مما سينعكس سلباً على دولته الناشئة وبخاصة بعد ورود أنباء عن ظهور الإمبراطور البيزنطي رومانوس الرابع ديوجينوس في أرمينية وهو عازم على مهاجمة خراسان (5)، لذلك لجأ إلى السياسة لتفريق الكلابيين وإضعاف موقف محمود بن نصر، فاستدعى جميع أمراء بني كلاب ليختار أميراً منهم يعيّنه على حلب ويفوَّضه في السعي للاستيلاء على المدينة وانتزاعها من يد محمود بن نصر، على أن يتفرغ هو لمواجهة الخطر البيزنطي (6)، فلبَّى الأمراء دعوة السلطان، وامتثلوا لأمره، ويدل هذا على أن التنازع كان متفشياً بين العشائر
_________
(1) تاريخ السلاجقة في بلاد الشام، ص 114.
(2) المصدر نفسه، ص 115.
(3) الفنيدق: من أعمال حلب، ويعرف الآن بتل السلطان.
(4) زبدة الحلب في تاريخ حلب (1/ 262، 263).
(5) تاريخ السلاجقة في بلاد الشام، ص 115 ..
(6) تاريخ السلاجقة في بلاد الشام، ص 115.(1/75)
الكلابية، وأن محموداً لم يمكن من جمع شمل القبيلة تحت رايته, وعندما علم محمود بهذا التحول، خشي على سلطانه في حلب وبخاصة «أن البلد قد أشرف على الفتح» (1)، كما أن موقف ألب أرسلان في إدارته للأحداث يدل على حنكة سياسية حقق من خلالها أهدافه بأقصر السبل وأقل التكاليف.
2 - تحرك محمود بن نصر أمير حلب للمصالحة: عندما علم محمود بهذا التحول، خشي على سلطته في حلب فتحرك بسرعة باتجاه السلطان، وسعى إلى التوصل إلى مصالحة معه تحفظ ملكه وتفوِّت الفرصة على خصومه من الأمراء الكلابيين (2)، ومهما يكن من أمر، فقد خرج محمود بن نصر من حلب متخفياً بزي الأتراك في ليلة الأول من شعبان 463هـ بصحبة والدته منيعة بنت وثاب النميري، وتوجه إلى معسكر السلطان، فرحَّب به هذا الأخير، وجرت مفاوضات بين الرجلين أسفرت عما يلي:
أ- يخرج محمود بن نصر في اليوم التالي علنًا ليزور معسكر السلطان ويدوس بساطه، ويقدم فروض الولاء والطاعة له.
ب- يوافق السلطان على بقاء محمود أميرًا على حلب، على أن يكون تابعاً له ويدعو للخليفة العباسي والسلطان السلجوقي (3) وفعلاً خرج محمود في اليوم التالي من حلب، وتوجّه إلى معسكر السلطان وحمل معه مفاتيح البلد، واصطحب معه والدته، فاستقبلهما السلطان، ورحب بهما وأكرمهما وأحسن إليهما، وأعلن عن بقاء محمود أميراً على حلب، وكتب له توقيعاً بذلك (4)، وقد أضحى بموجبه تابعا فعلياً ورسمياً للسلطان، ومتولياً من قبله وبتوقيعه، وليس أميراً حاكماً بقوته يستطيع في كل لحظة نقض الولاء (5).
3 - التوغل السلجوقي في جنوبي بلاد الشام: غادر السلطان ألب أرسلان المنطقة بعد ذلك، وعاد إلى بلاد ما وراء النهر للقتال هناك، وترك بعض عسكره وأتباعه بقيادة
أتسز بن أوق الخوارزمي وكان معه إخوته، جاولي والمأمون وفزلو وشكلي، وأذن لهم بالاصطدام بالفاطميين وإخراجهم من بلاد الشام، وكان القاضي أمين الدولة أبو طالب عبد الله بن محمد بن عمار قد استبدَّ بحكم طرابلس وخلع طاعة أمير الجيوش بدر الجمالي، وضم مدينة جبيل الواقعة على الساحل اللبناني إلى نفوذه، واضعًا بذلك النواة الأولى لقيام إمارة بني عمار المستقلة (6)، وحتى يدعم موقفه في طرابلس تقرّب من السلاجقة، فأرسل إليه
_________
(1) تاريخ السلاجقة في بلاد الشام، ص 115.
(2) زبدة الحلب في تاريخ حلب (1/ 263،264).
(3) تاريخ السلاجقة في بلاد الشام، ص 116.
(4) تاريخ السلاجقة في بلاد الشام، ص 116.
(5) تاريخ السلاجقة في بلاد الشام، ص 116.
(6) تاريخ طرابلس، تدمري، ص 351(1/76)
السلطان ألب أرسلان، قبل أن يغادر المنطقة قوة عسكرية بقيادة أحد كتابه هو جابر بن سقلاب الموصلي (1)، لم يوضَّح المؤرخون ما تقرر بين السلطان ألب أرسلان وأمير طرابلس، لكن يغلب على الظن أن معاهدة عدم اعتداء عقدت بين الطرفين يسمح بموجبها لجماعة من الأتراك بالإقامة في أعمال طرابلس (2)، وتنفيذاً لأوامر السلطان قاد محمود بن نصر وايتكين السليماني قواتهما وتوجها جنوباً لمهاجمة دمشق وانتزاعها من أيدي الفاطميين وذلك في 464هـ وتوقفا في بعلبك ليخططا لحملتيهما، وعلم محمود بن نصر وهو في بعلبك بأن عمه عطية هاجم حلب بالتعاون مع البيزنطيين في أنطاكية، وأحرق قسماً من معرة المصرين (3)، فاضطر للعودة إلى مقر إمارته للدفاع عنها، واشتبك مع البيزنطيين في عدة معارك، فانهزم أمامهم، وعندما وجد نفسه عاجزاً عن الوقوف في وجههم استعان بأتسز وإخوته، وكانوا في الجنوب يحاولون انتزاع فلسطين من أيدي الفاطميين، فلبوا دعوته، وقدموا إلى حلب، وتمكّن محمود بن نصر بفضل مساعدتهم من:
* صد البيزنطيين، ووقف أعمالهم ضد أراضيه.
* استعاد الرحبة من مسلم بن قريش في عام 465هـ.
وبعد أن قضى منهم ما أراد، وأمن جانب البيزنطيين، طلب منهم أن يغادروا حلب، وأغراهم بالمال والخيل، فغادروا إلى الجنوب. ويبدو أنهم تركوا قسماً منهم في خدمته يبلغ ألف فارس بقيادة أحمد شاه، بدليل أنه عندما أغار البيزنطيون على أراضي حلب عام 466هـ، صدّهم محمود بن نصر بمساعدة الأتراك الموجودين في حلب كما فتح قلعة السن الواقعة تحت الحكم البيزنطي وضمَّها إلى أملاكه (4). وتوجه الأتراك بزعامة أتسز، بعد رحيل السلطان ألب أرسلان عن المنطقة إلى دمشق بهدف ضمَّها، فضربوا عليها حصاراً مركزاً، وأغاروا على أعمالها، وقطعوا الميرة عنها، ورعوا زرعها، ومع ذلك فقد فشلوا في اقتحامها (5)، فغادروها إلى فلسطين، فضموا الرملة، وبيت المقدس، بعد حصار، وطردوا منها الحامية الفاطمية وانتزعوا طبرية من أيدي الفاطميين، وحاصروا يافا، فهرب حاكمها رزين الدولة الفاطمي، وألغى أتسز الدعوة للمستنصر الفاطمي، وخطب للخليفة العباسي والسلطان السلجوقي وأرسل إلى بغداد يخبر بما حقَّقه في بلاد الشام (6).
_________
(1) مدخل إلى تاريخ الحروب الصليبية، ص 282.
(2) تاريخ السلاجقة في بلاد الشام، ص 118.
(3) معرة المصرين: بليدة وكورة بنواحي حلب ومن أعمالها.
(4) تاريخ دمشق, ابن القلانسي، ص 166 - 168.
(5) تاريخ السلاجقة في بلاد الشام، ص 119.
(6) الكامل في التاريخ, نقلاً عن تاريخ السلاجقة في الشام، ص 119.(1/77)
خامساً: موقعة ملاذ كردسنة 463هـ: قام ألب أرسلان بحملة كبيرة ضد الأقاليم النصرانية المجاورة لحدود دولته، وقاد جيشه نحو جنوب أذربيجان واتجه غرباً لفتح بلاد الكُرج والمناطق المطلة على بلاد البيزنطيين وكان سكان الكرج يكثرون من الغارة على أذربيجان فأصبحوا مصدر قلق لسكان المنطقة، وانضم إليه وهو في مدينة مرند في أذربيجان أحد أمراء التركمان ويدعى طغتكين، وكان دائم الغارة على تلك المنطقة، عارفاً بمسالكها, واجتاز الجيش السلجوقي نهر الرس (1)، في طريقه إلى بلاد الكُرج، وفصل ألب أرسلان أثناء زحفه، قوة عسكرية بقيادة ابنه ملكشاه ووزيره نظام الملك هاجمت حصوناً ومدناً بيزنطية منها حصن سُرماري (2) ومدينة مريم نشين الحصينة وفتحها واستمرت فتوحاته الكبيرة في الأراضي الأرمينية, ويبدو أن ملك الكُرج هاله التوغل السلجوقي في عمق المناطق الأرمينية فهادن ألب أرسلان وصالحه على دفع الجزية, ونتيجة لهذا التوغل السلجوقي أضحى الطريق مفتوحاً أمام السلاجقة للعبور إلى الأناضول بعد أن سيطروا على قلب أرمينية، فأغاروا على المناطق الحدودية واستولوا على دروب الأمانوس في عام 459هـ، وهاجموا قيصرية حاضرة كبادوكية في العام التالي (3) جرى كل ذلك ولم يبذل الإمبراطور البيزنطي جهداً كبيراً لمقاومة هذه الغارات، مما شجعهم على التوغل في عمق الأناضول فوصلوا إلى نيكسار (4)، وعمورية (5)
في عام 461هـ وإلى قونية في العام التالي، وإلى خونية القريبة من ساحل بحر إيجه في عام 463هـ، شكل فتح السلاجقة لبلاد الكرج والقسم الأكبر من أرمينية، تحدياً لبيزنطة وبخاصة بعد أن أدرك الإمبراطور البيزنطي، أن ألب أرسلان يصبغ غزوه للبلاد بصبغة الجهاد الديني، وهو يطبع المناطق المفتوحة بالطابع الإسلامي، مما جعل نشوب الحرب بين المسلمين والبيزنطيين أمرًا لا مفر منه (6).
1 - تآمر ملك الروم على الإسلام: خرج ملك الروم (رومانوس) في جمع كبير من الروم والروس والكرج والفرنجة وغيرهم من الشعوب النصرانية، حتى قدر ذلك الجمع بثلاثمائة ألف جندي (7)، أعدهم الإمبراطور لملاقاة السلطان السلجوقي، الذي ما إن علم باقتراب الروم ومن معهم حتى استعد للأمر واحتسب نفسه ومن معه، وكان في قلة من
_________
(1) الرس: نهر يخرج من قاليقلا ويمر بأران.
(2) سُرماري: قلعة عظيمة وولاية واسعة بين تفليس وخلاط.
(3) تاريخ سلاجقة الروم في آسيا الصغرى, ص41،42.
(4) نيكسار: إحدى مدن ولاية سيواس تقع شمال شرق تركيا.
(5) عمورية: مدينة في بلاد الروم ..
(6) تاريخ سلاجقة الروم في آسيا الصغرى، ص 42.
(7) الفتوح الإسلامية عبر العصور للعمري، ص197.(1/78)
أصحابه لا تقارن بعدد الروم وأتباعه, قيل إنهم قرابة خمسة عشر ألفًا (1)، ولم يكن لديه وقت لاستدعاء مدد من المناطق التابعة له وقال قولته المشهورة: أنا أحتسب عند الله نفسي, وإن سعدت بالشهادة ففي حواصل الطيور الخضر من حواصل النسور الغبر رمسي، وإن نصرت فما أسعدني وأنا أمسي ويومي خير من أمسي (2)، وهجم بمن معه على مقدمة الأعداء وكان فيها عشرون ألفاً معظمهم من الروس، فأحرز المسلمون عليهم انتصاراً عظيماً وتمكنوا من أسر معظم قوادهم (3).
2 - عرض السلطان ألب أرسلان المصالحة على ملك الروم: ثم أرسل السلطان ألب أرسلان من قبله وفداً إلى إمبراطور الروم وعرض عليه المصالحة ولكنه تكبر وطغى ولم يقبل العرض (4)، وقال: هيهات!! لا هدنة ولا رجوع إلا بعد أن أفعل ببلاد الإسلام مثل ما فُعل ببلاد الروم (5)، وجاء في رواية: لا هدنة إلا ببذل الري، فحمى السلطان وشاط (6)، فقال إمامه أبو نصر محمد بن عبد الملك البخاري الحنفي (7): إنك تقاتل عن دين وعد الله بنصره وإظهاره على سائر الأديان، وأرجو أن يكون الله قد كتب باسمك هذا الفتح فالقهم يوم الجمعة في الساعة التي يكون الخطباء على المنابر، فإنهم يدعون للمجاهدين (8).
3 - اندلاع المعركة وانتصار المسلمين: أعد المسلمون العدة للمعركة الفاصلة واجتمع الجيشان يوم الخميس الخامس والعشرين من ذي القعدة سنة 463هـ، فلما كان وقت الصلاة من يوم الجمعة صلى السلطان بالعسكر ودعا الله تعالى وابتهل وبكى وتضرع وقال لهم: نحن مع القوم تحت الناقص (9) وأريد أن أطرح نفسي عليهم في هذه الساعة التي يُدعى فيها لنا وللمسلمين على المنابر، فإما أن أبلغ الغرض وإما أن أمضي شهيداً إلى الجنة، فمن أحب أن يتبعني منكم فليتبعني، ومن أحب أن ينصرف فليمض مصاحباً فما هاهنا سلطان بأمر ولا عسكر يؤمر فإنما أنا اليوم واحد منكم، وغاز معكم، فمن تبعني، ووهب نفسه لله تعالى فله الجنة أو الغنيمة, ومن مضى حقت عليه النار والفضيحة. فقالوا: مهما فعلت تبعناك فيه وأعناك عليه (10)، فبادر ولبس البياض وتحنط استعداداً للموت وقال: إن قتلت
_________
(1) مختصر تاريخ دولة آل سلجوق، ص 40.
(2) مختصر تاريخ دولة آل سلجوق، ص 40.
(3) المنتظم (8/ 261).
(4) الفتوح الإسلامية عبر العصور، ص 198
(5) المنتظم (8/ 361).
(6) سير أعلام النبلاء (18/ 415).
(7) الدولة العثمانية للصَّلاَّبي، ص 30.
(8) سير أعلام النبلاء (18/ 413).
(9) يقصد بهذه العبارة قلة العدد.
(10) المنتظم (8/ 262) , الفتوح الإسلامية عبر العصور، ص 199.(1/79)
فهذا كفني (1)، ثم وقع الزحف بين الطرفين ونزل السلطان ألب أرسلان عن فرسه ومرغ وجهه بالتراب وأظهر الخضوع والبكاء لله تعالى وأكثر من الدعاء ثم ركب وحمل على الأعداء، وصدق المسلمون القتال وصبروا وصابروا حتى زلزل الله الأعداء وقذف الرعب في قلوبهم، ونصر الله المسلمين عليهم، فقتلوا منهم مقتلة عظيمة وأسروا منهم جموعاً كبيرة، كان على رأسهم ملك الروم نفسه الذي أسره أحد غلمان المسلمين فأحضر ذليلاً إلى السلطان (2)، فقّنعه بالمِقرعة، وقال: ويلك ألم أبعث أطلب منك الهدنة؟ قال: دعني من التوبيخ. قال: ما كان عزمك لو ظفرت بي؟ قال: كل قبيح, قال: فما تؤمَّلُ وتظُن بي؟ القتل أو تُشهّرني في بلادك، والثالثة بعيدة: العفو وقبول الفداء.
قال: ما عزمت على غيرها، فاشترى نفسه بألف ألف دينار وخمسمائة ألف دينار، وإطلاق كل أسير في بلاده، فخلع عليه، وبعث معه عدة وأعطاه نفقة توصله. وأما الروم فبادروا وملَّكوا آخر، فلما قرب أرمانوس شعر بزوال ملكه، فلبس الصوف، وترهب، ثم جمع ما وصلت يده إليه نحو ثلاثمائة ألف دينار، وبعث بها، واعتذر وقيل: إنه غلب على ثغور الأرمن (3).
لقد غزا ألب أرسلان بلاد الروم مرتين، وافتتح قلاعاً، وأرعب الملوك، ثم سار
إلى أصبهان ومنها إلى كرمان وذهب إلى شيراز ثم عاد إلى خراسان، وكاد يتملك مصر (4).
4 - نتائج ملاذكرد, 463هـ:
أ- تعتبر معركة «ملاذكرد» من المعارك الفاصلة في التاريخ ويسميها بعض المؤرخين باسم الملحمة الكبرى، وتعد أكبر نكسة في تاريخ الإمبراطورية البيزنطية وأصبحت الأراضي البيزنطية تحت رحمة السلاجقة, وبذلك يكون السلاجقة قد تابعوا الجهاد الذي قام به المسلمون ضد الروم (5).
ب- لم يكن هذا الانتصار انتصاراً عسكرياً فقط بل كان انتصاراً دعوياً للإسلام، إذ انتشر السلاجقة في آسيا الصغرى عقب معركة ملاذكرد وضموا إلى ديار الإسلام مساحة تزيد على 400 ألف كم، عم الإسلام تلك الجهات منُذ ذلك الوقت ولم يكن دخلها أبداً من قبل (6)، فإن هذه المرحلة من تاريخ الإسلام كانت مرحلة امتداد وتوسع أيضاً ولم تكن مرحلة جمود وتوقف كما يتصور كثير من الناس ممن يقرأون التاريخ الإسلامي على عجالة
_________
(1) الكامل في التاريخ, نقلاً عن الفتوح الإسلامية، ص 199.
(2) الفتوح الإسلامية عبر العصور، ص 199.
(3) سير أعلام النبلاء (18/ 416).
(4) سير أعلام النبلاء (18/ 416).
(5) الحروب الصليبية، المقدمات السياسية، علية الجنزوري ص511، 212.
(6) التاريخ الإسلامي، الدولة العباسية، محمود شاكر (6/ 360).(1/80)
ويتوقفون عند نهاية العصر العباسي الأول ويجملون العصر الثاني بكلمات تدل على الضعف والتفكك والتوقف (1)، وخصوصاً إذا ذهبنا إلى المغرب والأندلس حيث دولة المرابطين السنية التابعة للخلافة العباسية، فبعد ست سنوات من معركة ملاذكرد, أي في عام 469هـ, استطاع المرابطون في المغرب أن يفتحوا عاصمة إمبراطورية غانا «كومبي صالح» وأن يفرضوا الإسلام على جميع البلاد, وقد وافق ملك غانا «تنكامنين» على الدخول في الإسلام والخضوع لسلطان المرابطين، وقد دخل كثير من الشعب في الإسلام أيضاً، وبذا تكون ديار الإسلام قد امتدت في إفريقيا على مساحة جديدة تقرب من نصف مليون كيلو متر مربع وفي الوقت نفسه فقد اتسعت ديار الإسلام في الجنوب الشرقي في الهند وفتحت مساحات واسعة من شمال تلك البلاد (2).
جـ- تعتبر هزيمة البيزنطيين في ملاذكرد نقطة تحول في التاريخ الإسلامي البيزنطي فلأول مرة يقع الإمبراطور نفسه أسيراً في أيدي المسلمين (3)، فهي لا تقل أهمية عن اليرموك ونتائجها، فإذا كانت هذه الأخيرة قررت مصير بلاد الشام، فإن الأولى قد قررت مصير آسيا الصغرى، التي نجح الأتراك السلاجقة في فتحها والتوغل فيها، وكانت بذلك لبنة اجتثت من بناء الدولة البيزنطية فمهدت لسقوطها، فعندما فقدت الإمبراطورية ولاياتها الغنية في آسيا الصغرى، أصبحت القسطنطينية رأساً حُرم من الجسد الذي يسنده, وبذلك غدت آسيا الصغرى برمتها مكشوفة أمام السلاجقة، وهكذا بضربة واحدة دفعت الحدود التقليدية التي طالما فصلت بين الإسلام والمسيحية 400 ميل إلى الغرب, ولأول مرة استطاع الأتراك السلاجقة أن يحرزوا مكاناً ثابتاً في تلك البقاع (4)، ومنُذ ذلك الحين فقد الرؤساء والجنود شجاعتهم، ولم تحرز الإمبراطورية نصراً على الإطلاق (5).
د- ومن نتائج ملاذكرد أن قضى السلاجقة على التحالف البيزنطي الفاطمي، واضطرت بيزنطة إلى مصالحتهم، أما أرمينية فقد زالت منها الإدارة البيزنطية بعد أن هجرها سكانها وخضعت المدن الأرمينية للسلاجقة (6)، كما انهار نظام الدفاع البيزنطي الذي تولاه أمراء التخوم، وبذلك تعرض نظام الثغور لضربة قاسية لاسيما أن بيزنطة لجأت بعد المعركة إلى إنزال حاميات من الجند المرتزقة في أرمينية، ولم تحاول الاستعانة بالسكان الأصليين (7).
_________
(1) التاريخ الإسلامي، الدولة العباسية، محمود شاكر (6/ 360).
(2) التاريخ الإسلامي، الدولة العباسية، محمود شاكر (6/ 360).
(3) العلاقات الإقليمية والحروب الصليبية، دكتور كمال بن مارس، ص 62.
(4) المجتمع الإسلامي، أحمد رمضان، ص 49، 50.
(5) العلاقات الإقليمية والحروب الصليبية، ص 62.
(6) العلاقات الإقليمية والحروب الصليبية، ص 62.
(7) العلاقات الإقليمية والحروب الصليبية، ص 63.(1/81)
هـ- تُعد معركة ملاذكرد أشد ما وقع في التاريخ البيزنطي من كوارث، بل إنها أكبر كارثة حلت بالإمبراطورية البيزنطية حتى نهاية القرن الخامس الهجري، وجاءت دليلاً على نهاية دور الدولة البيزنطية في حماية النصرانية من ضغط الإسلام, وفي حراسة الباب الشرقي لأوربا من غزو المسلمين، وتراءى للصليبيين فيما بعد أن البيزنطيين فقدوا على أرض المعركة ما اتخذوه من لقب حماة العالم النصراني، وبررت هذه المعركة ما جرى من تدخل الغرب الأوربي، لأن بيزنطة لم يعد بوسعها حماية العالم النصراني في الشرق وأصبحت عاجزة عن أن تُلقي بجيش في المعركة لأعوام عديدة (1). كما أن هذه المعركة مهدت الطريق ويسرت السبل للقضاء على سيطرة البيزنطيين على أكثر أجزاء منطقة آسيا الصغرى، مما ساعد على القضاء على الدولة البيزنطية نفسها، بعد ذلك على أيدي الأتراك العثمانيين (2).
و يعد الأتراك أكثر العناصر العسكرية الأجنبية إفادة من الأوضاع المضطربة التي سادت المجتمع البيزنطي والوضع السياسي بعد معركة ملاذكرد. فقد حاولت الأطراف المتنازعة في بيزنطة أن تستعين بالقوات التركية ضد بعضها البعض مما أتاح للسلاجقة، التوغل في صميم الحياة البيزنطية (3).
ز أقدمت السلطات البيزنطية في القسطنطينية على عزل الإمبراطور رومانوس الرابع وأجلست مكانه ميخائيل السابع بن قسطنطين العاشر دوقاس، وحاول رومانوس في غمرة هذا الصراع أن يستعين بالقوات التركية، غير أن الهزيمة لحقت به وتقرر إلقاء القبض عليه وسمل عينيه.
ح- انتهج معظم الأباطرة البيزنطيين بعد رومانوس الرابع نهجه في الاستعانة بالأتراك كلما واجهتهم محنة، فعندما أعلن روبيل بايليل قائد قوات الفرنج المرتزقة العصيان على الدولة البيزنطية استعان ميخائيل السابع بالقوات التركية لقمع حركته، كما استعان بالأخوين منصور وسليمان، من أقارب السلطان ألب أرسلان، للقضاء على ثورة نقفور بوتانياتسى، على أن الأخوين لم يلبثا أن تخليا عن الإمبراطور ودخلا في خدمة بوتانياتس، فأنزلهما في مدينة نيقية (4)، وعلى هذا النحو استولى الأتراك على مقاطعتي جالايتا في وسط بلاد الأناضول وفريجيا المجاورة.
ط- لقد حقَّق ألب أرسلان هدفه، إذ كفل الحماية لجناح جيشه، وأزال خطر التقارب
_________
(1) الحروب الصليبية, رنسيمان (1/ 110).
(2) تاريخ سلاجقة الروم في آسيا الصغرى، ص 51.
(3) تاريخ سلاجقة الروم في آسيا الصغرى، ص 51.
(4) نيقية من أعمال القسطنطينية على البر الشرقي.(1/82)
بين بيزنطة والفاطميين، وانصرف بعد ذلك لمواصلة القتال في إقليم ما وراء النهر حيث قضى نحبه عام 465هـ ولم ينفذ ابنه وخليفته في الحكم، ملكشاه, إلى آسيا الصغرى، غير أن رعاياه من الأتراك اتخذوا من سهول وسط آسيا الصغرى، مراعى تنتجعها الأغنام، وعهد إلى ابن عمه سليمان بن قُتلمش بأن يستولي على هذا الإقليم لصالح الأقوام التركية (1).
دروس وعبر وفوائد: تظهر مجموعة من الفوائد والدروس والعبر من معركة ملاذكرد منها:
- أهمية الإخلاص لله والاستعداد للموت في سبيله واللجوء إليه في تحقيق انتصارات المسلمين في معاركهم الكبرى.
- دور العلماء في تثبيت القادة والجنود وتذكيرهم بالله واليوم الآخر وأثر الوعظ والتذكير في شجاعة الجنود واندفاعهم وخصوصاً عندما يكون العلماء في ميادين النزال وساحات المعارك.
- من أسباب النصر وجود القائد الخبير المحنك والجيش القوى المنظم.
- أهمية الصبر عند مواجهة الأعداء في المعارك, تلك الصفة الربانية التي أمر الله بها: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [آل عمران: 200] فالجيوش الإسلامية التي تتحلى بهذه الصفة يحالفها نصر الله تعالى.
1 - وفاة السلطان ألب أرسلان, الأسد الشجاع: في سنة خمس وستين وأربعمائة قصد السلطان ألب أرسلان ما وراء النهر وعبر نهر جيحون، في مائتي ألف فارس، فأتي بعلج يقال له: يوسف الخُوارزمي, كانت بيده قلعة، قد ارتكب جريمة في أمر الحصن، فحمل مقيداً، فلما قرب منه أمر أن تُضرب له أربعة أوتاد لتشد أطرافه الأربعة إليها ويعذبه ثم يقتله فقال له يوسف: يا مخنث، مثلي يقتل هذه القتلة؟ فاحتد السلطان، وأخذ القوس والنشابة، وقال: حلّوه من قيوده، فَحُلّ، فرماه فأخطأه، وكان مُدِلاًّ برميه، قلما يخطئ فيه، وكان جالساً على سريره، فنزل فعثر ووقع على وجهه، فبادره يوسف المذكور، وضربه بسكين كانت معه في خاصرته، فوثب عليه فرَّاش أرمني، فضربه في رأسه بمرزبة فقتله، فانتقل ألب أرسلان إلى خيمة أخرى مجروحاً وأحضر وزيره نظام الملك وأوصى إليه، وجعل ولده ملكشاه أبا شجاع محمد وليّ عهده (2)، ثم توفي السلطان وذلك في جمادي الآخرة سنة خمس
_________
(1) تاريخ سلاجقة الروم في آسيا، ص 52.
(2) شذرات الذهب (51/ 274).(1/83)
وستين وأربعمائة، وله أربعون سنة (1)، وترك من الأولاد ملكشاه، وإياز، وتَكِشى، وبورى برس وأرسلان أرغون وسارّة وعائشة وبنتاً أخرى (2)، وقيل: توفي عن إحدى وأربعين سنة، ودفن عند والده بالري, رحمه الله تعالى (3)،
ويحكى أنه قال لما عاين ألموت بعينه: ما كنت قط في وجه قصدته ولا عدو أردته، إلا توكلت على الله في أمري، وطلبت منه نصري، وأما في هذه النوبة، فإني أشرفت من تل عال، فرأيت عسكري في أجمل حال، فقلت: أين من له قدر مصارعتي، وقدرة معارضتي، وإني أصل بهذ العسكر إلى أقصى الصين، فخرجت عليّ منيتي من الكمين (4)، وجاء في رواية: .. فقلت في نفسي: أنا ملك الدنيا وما يقدر أحد عليّ فعجّزني الله تعالى بأضعف خلقه وأنا أستغفر الله وأستقيله من ذلك الخاطر وعلى القادة والحكام أن يستشعروا نعائم الله عليهم ويتذكروا فضله وإحسانه وينسبوا الفضل لله تعالى صاحب المنّ والعطاء والإحسان والإكرام. ولما بلغ موته أهل بغداد أقام الناس له العزاء وغُلقت الأسواق وأظهر الخليفة الجزع عليه وتسَلبت (5) ابنته الخاتون وجلست على التراب (6).
* * *
_________
(1) سير أعلام النبلاء (18/ 417).
(2) البداية والنهاية (16/ 39، 40).
(3) البداية والنهاية (16/ 39، 40).
(4) تاريخ دولة آل سلجوق، ص 48.
(5) تسلبت المرأة: أحدَّت ولبست السَّلاب، وهو ثوب أسود تغطي به المحدُّ رأسها.
(6) البداية والنهاية (16/ 38).(1/84)
المبحث الرابع
السلطان ملكشاه
هو السلطان الكبير جلال الدولة أبو الفتح ملكشاه بن السلطان ألب أرسلان محمد بن جغري بك السلجوقي التركي، تملك بعد أبيه، ودبّر دولته النظام الوزير بوصية من ألب أرسلان إليه في سنة خمس وستين (1).
أولاً: تربية ملكشاه على إدارة السلطنة وتوطيد الملك له:
1 - تربيته على إدارة السلطنة: بعد معركة سمرقند التي قام بها السلطان ألب أرسلان سنة 465هـ وقبل وفاته على أثر جرحه بيد يوسف الخوارزمي أمر القواد بمبايعة ابنه، ملكشاه، للمرة الثالثة، وعين وزيره النظام وصيًّا عليه وطلب احترامهما وطاعة أوامرهما (2)، وكان قد أعدّه إعداداً ملكياً ودربه تدريباً سلطانياً، مثلماً أعده أبوه - جغرى بك - من قبل وقد ساعده على ذلك وزيره النظام حيث رغّبه في دراسة العلوم ومرنه على المثابرة والجلد في الحروب، وبهذا تعاون الوالد والوزير معاً على تهيئته لعرش آل سلجوق، ولذلك لم يكتف بتدريبه النظري، كما يربى معظم أبناء الملوك وإنما أنزله الميادين وأشركه في القتال حتى مرن على الحرب وعرف خططها وخدعها وكذلك أراد له أن يتعلم أصول الحكم وتدبير شئون الرعايا بالممارسة وليس عن ظهر قلب فمنحه حكومة «كيلان» وأصدر بذلك منشوراً (3).
2 - تولي السلطنة: وبناء على توصية السلطان الراحل فقد اجتمع قواد الجيش، وأعيان الدولة في حلف خطير لإجراء مراسم الجلوس، وبايعوا السلطان «ملكشاه» سنة 465هـ وعمره - حينذاك - ثمانية عشر عاماً، وقال في خطاب العرش- حينما طلب إليه النظام أن يتكلم (4) -: الأكبر منكم أبي، والأوسط أخي, والأصغر ابني، وسأفعل معكم ما لم أسبق إليه. فأمسكوا فأعاد القول، فأجابوه بالسمع والطاعة (5)، وهي كلمة تدل على نزعته العادلة وامتثاله الآداب الإسلامية, وقد تكون من وضع الوصي عليه «نظام الملك»،
كما تولى هو وأبو سعد المتولي أخذ البيعة له من الأمراء والوجهاء وأطلق الأموال
_________
(1) سير أعلام النبلاء (19/ 55).
(2) المنتظم سنة 465هـ, نقلاً عن نظام الملك د. عبد الهادي محبوبة، ص 344.
(3) نظام الملك، د. عبد الهادي محبوبة، ص 344.
(4) المصدر نفسه، ص 345.
(5) البداية والنهاية (16/ 38).(1/85)
عليهم (1)، لذلك أجمعت المصادر التاريخية على أن «النظام» لعب دوراً كبيراً في تنصيب السلطان الجديد، كما كان له الفضل الأكبر في إرساء دعائم الدولة وانتصاراتها الحربية (2) والفكرية والعقائدية على الباطنية والفلاسفة وذلك باهتمامه الكبير بعلماء أهل السنة ونشر المدارس النظامية في أرجاء الدولة السلجوقية, وسيأتي بيان ذلك بالتفصيل بإذن الله عند الحديث عن المدارس النظامية ودورها في حفظ منهج أهل السنة ودحر المد الباطني.
وقد أثبت السلطان الجديد مقدرة فائقة في الحرب، ورغبة نادرة في الإصلاح والتعمير حتى عده أحد المؤرخين المؤسس الحقيقي للإمبراطورية السلجوقية المترامية الأطراف وذلك بنشاطه وحنكة وزيره (3)، ويعتبر النظام هو الموجه لسياسة الدولة (4)، فسواء أكان المؤسس لدولة السلاجقة، طغرل بك، أو ألب أرسلان، أو ملكشاه، فإنهم قد تعاونوا على إنشائها وتوطيد دعائمها ثم اتساع رقعتها حتى كان لثالثهم من أقصى بلاد الترك إلى أقصى بلاد اليمن، وقد خطب له من حدود الصين إلى آخر الشام (5).
3 - خروج عمّه والقضاء عليه: لم يتربع ملكشاه على العرش السلجوقي حتى صدقت ظنون أبيه في وصيته، وخرج عليه أعضاء أسرته مطالبين بالعرش، وكان أول هؤلاء وأشدهم بأساً وأقواهم حجة, قاروت ملك كرمان أخو السلطان ألب أرسلان ولم يكن يخفى عليه أن النصر لا يكون له إلا إذا كسب الجيش وربح مؤازرته، فاستمال القواد والجنود بزيادة رواتبهم وتحسين حالتهم إذا أتى إلى الحكم, فقامت بذلك مظاهرتهم مطالبين بمجيء «قاروت» إلى العرش وأحقيته بالسلطان، وكتب إلى ابن أخيه في نفس الوقت يقول: إني أحقّ منك بالعرش لأني الأخ الأكبر للسلطان الراحل وأنت أصغر أبنائه. وسار بجيشه إلى الري (6)، وقد أدرك النظام خطورة هذه الفتنة وشدّتها، وأنها تهدد عرش السلطان ومنصب وزيره وأنها ستقضي عليهما وعلى أهدافه إذا كتب لها النصر, فقرر الإسراع بجيشهما نحو الري حتى بلغها قبل وصوله، وأجاب على رسالة عم السلطان: إن الابن أحقّ بالعرش من الأخ (7)، فالتقوا بقرب همذان، فانكسر جمعه، وأتي بعمه أسيراً، فوبّخه، فقال: أمراؤك كاتبوني، وأحضر خريطة فيها كتبهم، فناولها لنظام الملك ليقرأها، فرماها في منقل نار، ففرح الأمراء وبذلوا الطاعة (8)،
وأدخل قاروت السجن ولكن ما أدخله في روع الجنود من زيادة
_________
(1) نظام الملك، ص 345.
(2) نظام الملك، ص 345.
(3) نظام الملك، ص 345.
(4) المصدر نفسه، ص 346.
(5) المصدر نفسه، ص 346.
(6) المصدر نفسه، ص 346.
(7) النجوم الزاهرة, نقلاً عن نظام الملك، ص 347.
(8) سير أعلام النبلاء (19/ 55).(1/86)
رواتبهم لم يزل يدفعهم إلى التظاهر والعصيان، والتهديد بمبايعة الأمير السجين إذا لم تلب طلباتهم، وأحس النظام بحرج الموقف ودقته وأنه لا بد أن يتخذ رأيا حاسماً لقطع النزاع، فوافق رؤساء الجيش على مشروعية مطالبهم ووعدهم بأنه سيحدث السلطان ويقنعه بتنفيذها، وهدأت الأحوال، وذهب لمقابلة السلطان وأخبره بما انتهى إليه الحال وأشار عليه -كما يذكر معظم المؤرخين - بقتل عمه في الحال, فأصدر السلطان أمره وقتل وما إن عاد رؤساء الجيش ليستفسروا عما تمّ بخصوص مطالبهم حتى فاجأهم «النظام» بأنه ما استطاع مفاتحة السلطان بأمرهم حيث وجده حزيناً على فقد عمه الذي امتص السّم من خاتم في أصبعه ومات في السجن، فعادوا واجمين خائفين، ولم يستطع أحدهم القيام بحركة مناوأة، واستتبّ الأمن في البلاد (1)، ولم يتخلص السلطان من عمه حتى زحف نحو سمرقند وعبر نهر جيحون سنة 467هـ ليأخذ بثأر أبيه من البلاد التي اغتيل فيها، ولكنه لم يصل إليها حتى هرب حاكمها - خاقان البتكين - فتوسط له «النظام» وأجيب لذلك (2). ثم استمرت شفاعات «النظام» تترى على السلطان في طلب الصفح عن الخارجين بعد اعتذارهم، وإعادتهم إلى مقر وظائفهم واتخذ وسيلة جديدة هذه المرة في سياسته الحربية كان فيها رسول سلام ابتداءً من سنة 467هـ إلى 473هـ، حيث خرج على السلطان أخوه «تكش» بعد أن التحق بجيشه الجنود الذين فصلهم من سلك الخدمة العسكرية خلافاً لرأي وزيره «النظام»، وكان بـ «بوشنج» واستولى على مرو الروز الشاهجلمان، فسار السلطان إلى خراسان ودخل نيسابور قبل أن يصلها أخوه ثم التقيا «بترمذ» واصطلحا أيضاً سنة 473هـ.
ثانياً: اهتمامه بالرعية وشيء من عدله ومواقفه:
1 - تفقده للرعية: زار الأقاليم وتفقد أحوال الرعية واحتياجاتهم بنفسه وبنى المخافر في السبل فانتشر الأمن من حدود الصين إلى البحر المتوسط، ومن جورجيا إلى اليمن جنوباً، وقام بجولة من أصبهان إلى الأنبار ومنها إلى الموصل، ثم سار إلى حلب حيث قضى على بعض أمرائها، وكان وزيره النظام يرافقه في جميع سفراته وجولاته وهو الذي يدبر الأمور له (3)، وكانت دولته، صارمة، والطرقات في أيامه آمنة، ومع عظمته يقف للمسكين والمرأة والضعيف فيقضي حوائجهم (4)، وقد عمّر العمارات الهائلة، وبنى القناطر، وأسقط المكوس والضرائب وحفر الأنهار الكبار، وبنى مدرسة أبي حنيفة والسوق وبنى الجامع الذي يقال له: جامع السلطان ببغداد (5).
_________
(1) نظام الملك، ص 347.
(2) الكامل في التاريخ (6/ 265).
(3) نظام الملك 348.
(4) البداية والنهاية (16/ 130).
(5) البداية والنهاية (16/ 130).(1/87)
2 - تشييعه لركب الحجاج العراقي: شيَّعَ مرة ركب العراق إلى العُذيَب (1)، فصاد شيئاً كثيراً، فبنى هناك منارة القرون من حوافر الوحوش وقرونها، ووقف يتأمل الحجاج، فرقّ ونزل وسجد، وعفَّر وجهه وبكى، وقال بالعجمية: بلغوا سلامي إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقولوا: العبد العاصي الآبق أبو الفتح يخدم ويقول: يا نبي الله، لو كنت ممّن يصلح لتلك الحضرة المقدسة، كنت في الصحبة، فضجّ الناس وبكوا، ودعوا له (2).
3 - مناصرة المظلومين: كانت لملكشاه أفعال حسنة وسيرة صالحة، من ذلك أن فلاحاً أنهى إليه أن غلماناً له أخذوا له حمل بطيخ هو رأس ماله، فقال: اليوم أرُدُّ عليك حملك، ثم قال لمن حوله: أريد أن تأتوني ببطيخ، ففتشوا، فإذا في خيمة الحاجب بطيخ، فحملوه إليه، فاستدعى الحاجب فقال: من أين لك هذا البطيخ؟ قال: جاء به الغلمان. فقال: أحضرهم. فذهب فهربهم، فأرسل إليه، فأحضره وسلمه إلى الفلاح، وقال: خذ بيده، فإنه مملوكي ومملوك أبي، فإياك أن تفارقه، فرد عليه حمله، فخرج الفلاح يحمله وفي يده الحاجب، فاستفدى نفسه منه بثلاثمائة دينار (3).
4 - دعاؤه لله أن ينصر الأصلح للمسلمين: ولما توجه لقتال أخيه تكشى، اجتاز بطُوس، فدخل لزيارة قبر عليَّ بن موسى الرَّضا -على زعم بعض المؤرخين- ومعه نظام الملك، فلمّا خرَجا قال للنَّظام: بم دعوت؟ قال: دعوت الله أن يظفرك على أخيك. فقال: لكني قلت: اللهمَّ إن كان أخي أصلح للمسلمين فظفره بي، وإن كنت أصلح لهم فظفَّرني به (4). وقد سار ملكشاه هذا بعسكره من أصبهان إلى أنطاكية فما عرف أنَّ أحداً من جيشه ظلم أحداً من رعيتهِ (5).
5 - الستر على أعراض المسلمين: اشتكى إليه تركماني أن رجلاً افتضَّ بكارة ابنته، وهو يريد أن يمكنه من قتله، فقال له: يا هذا إن ابنتك لو شاءت ما مكَّنته من نفسها، فإن كنت لابد فاعِلاً فاقتلها معه، فسكت الرجل، ثم قال الملك: أوخير من ذلك؟ قال: وما هو؟ قال: فإنَّ بكارتها قد ذهبت، فزوَّجها من ذلك الرجل وأمهرها من بيت المال كفايتها، ففعل (6).
6 - واعظ مع ملكشاه: وحكى له بعض الوعّاظ أنَّ كسرى اجتاز يوماً في بعض أسفاره بقرية منفرداً من جيشه، فوقف على باب دار فاستسقى، فأخرجت إليه جارية إناء فيه ماء قصب السُّكر بالثلج فشرب منه فأعجبه، فقال: كيف تصنعين هذا؟ فقالت: إنَّه سهل علينا
_________
(1) هو ماء بين القادسية والمغيثة, معجم البلدان (4/ 92).
(2) سير أعلام النبلاء (19/ 56).
(3) البداية والنهاية (16/ 131).
(4) البداية والنهاية (16/ 131).
(5) البداية والنهاية (16/ 131).
(6) البداية والنهاية (16/ 131).(1/88)
اعتصاره على أيدينا، فطلب منها شربة أخرى، فذهبت لتأتيه بها فوقع في نفسه أن يأخذ هذا المكان منهم ويُعَوَّضهم عنه، فأبطأت عليه ثم خرجت وليس معها شيء فقال: مالك؟ فقالت: كأن نيّة سُلطاننا تغيَّرت علينا، فتعسَّر علىَّ اعتصاره - وهي لا تعرف أنَه السلطان - فقال: اذهبي فإنك الآن تقدرين، وغير نيته إلى غيرها، فذهبت، وجاءته بشربة أخرى سريعاً فشربها وانصرف. فقال له ملكشاه: هذه تصلح لي، ولكن قُصَّ على الرعيَّة حكاية كسرى الأخرى حين اجتاز ببُستان، فطلب من ناطوره، عنقوداً من حصرم، فإنه قد أصابته صفراء، وعطش. فقال له الناطور: إنَّ السلطان لم يأخذ حقه منه، فلا أقدر أن أعطيك منه شيئاً. قال: فعجب الناس من ذكاء الملك وحسن استحضاره هذه في مقابلة تلك (1).
7 - إقامة العدل على الأمراء: واستعداه رجلان من الفلاحين على الأمير خُمارتكين أنه أخذ منهما مالاً جزيلاً وكسر ثنيَتيهما وقالاً: سمعنا بعدلك في العالم، فإن أقدتنا منه كما أمرك الله وإلا استعدينا عليك الله يوم القيامة، وأخذا بركابه، فنزل عن فرسه وقال لهما: خُذا بكُمَّى فاسْحبَانى إلى دار نظام الملك، فهابا ذلك، فعزم عليهما، ففعلا ما أمرهما به، فلما علم النظام بمجيء السلطان إليه خرج مسرعاً من خيمته، فقال له الملك: إنَّي قلدتك الأمر لتُنصف المظلوم ممَّن ظلمه، فكتب من فوره بعزل خمارتكين وحلَّ إقطاعه وأن يرد إليهما أموالهما وأن يقلعا ثنيَّتيه إن قامت عليه البيَّنة، وأمر لهما الملك من عنده بمائة دينار (2).
8 - المال مال الله والعباد عبيده: أسقط مرة بعض المكوس، فقال رجل من المستوفين: يا سلطان العالم إن هذا يعدل ستَّمائة ألف دينار وأكثر. فقال ويحك، إن المال مال الله، والعباد عبيده، والبلاد بلاده، وإنَّما يبقى هذا لي عند الله, ومن نازعني في هذا ضربت عنقه (3).
9 - إني أغار على هذا الوجه الجميل من النار: غنَّته امرأة حسناء فَطرِب وتاقت نفسه إليها، فهم بها، فقالت: أيها الملك، إنَّي أغار على هذا الوجه الجميل من النار وبين الحلال والحرام كلمة واحدة، فاستدعى القاضي فزوجه بها (4).
10 - أقمت لك جيشاً يسمى جيش الليل: كان نظام الملك يهتم بالعلماء والزهاد والمدارس العلمية وينفق الأموال الضخمة على الأساتذة والطلاب جميعاً، فسعى بالوشاية إلى السلطان ملكشاه خصومه وقالوا له إن النظام ينفق في كل سنة على الفقهاء والصوفية والقراء ثلاثمائة ألف دينار (5)، ولو صرف هذا المال على جيش لرفع رايته على أسوار
_________
(1) البداية والنهاية، (16/ 132).
(2) البداية والنهاية، (16/ 132).
(3) البداية والنهاية (16/ 132).
(4) المصدر نفسه (16/ 133).
(5) في سراج الملوك للطرطوشي: ستمائة ألف دينار، ص 227.(1/89)
القسطنطينية، فاستجوب السلطان وزيره فقال له: يا بني أنا شيخ أعجمي لو نودي عليّ لما زادت قيمتي على ثلاثة دنانير، وأنت تركي لتلك تبلغ المائة دينار، وقد أنعم الله عليك وعليّ بواسطتك ما لم يعطه أحداً من خلقه، أفلا تعوضه عن ذلك في حملة دينه وحفظة كتابه بثلاثمائة ألف دينار .. ثم إنك تنفق على الجيوش المحاربة في كل سنة أضعاف هذا المال مع أن أقواهم وأرماهم لا تبلغ رميته ميلاً، ولا يضرب سيفه إلا ما قرب منه، وأنا أقمت لك بهذا المال جيشاً يسمى جيش الليل, قام بالدعاء إذا نامت جيوشك، فمدوا إلى الله أكفهم وأرسلوا دموعهم فتصل من دعائهم سهام (1) على العرش لا يحجبها شيء عن الله، فأنت وجيوشك في خفارتهم تعيشون وبدعائهم تثبتون وببركاتهم ترزقون (2) .. فبكى السلطان وقال: شاباش يا أبت شاباش -بالتركي- ومعناه بالعربي: استكثر من هذا الجيش (3).
11 - زواج الخليفة المقتدي بابنة ملكشاه: تزوج الخليفة المقتدي بابنته بسفارة شيخ الشافعية أبي إسحاق، وكان عرسها في سنة 480هـ وعملت دعوة بجيش السلطان ما سُمع بمثلها أبداً، فمما دخل فيها أربعون ألف مَنٍّ سكراً، فولدت له جعفر (4)، وكان ملكشاه يريد أن يجعل الخلافة العباسية تتحول إلى من أمه ابنته، كما زوج ابنته الأخرى إلى المستظهر العباسي ولم يتمكن من حصر الخلافة والسلطنة في شخص حفيده (5).
12 - وصف جهاز ابنة السلطان ملكشاه وزفتها: في المحرم نُقل جهاز ابنة السلطان ملكشاه إلى دار الخلافة على مائة وثلاثين جملاً مجلّلة بالديباج الرومي، وكان أكثر الأحمال الذهب والفضة وثلاث عمّاريات، وعلى أربعة وسبعين بغلاً مجلَّلة بأنواع الديباج الملكي، وأجراسها وقلائدها من الذهب والفضة وكان على ستة منها اثنا عشر صندوقاً من فضة لا يقدر ما فيه من الجواهر والحلي، وبين يدي البغال ثلاثة وثلاثون فرساً من الخيل الرائقة، عليها مراكب الذهب مرصَّعة بأنواع الجواهر، ومهد عظيم كثير الذهب، وسار بين يدي الجهاز سعد الدولة كوهرائين، والأمير برسق، وغيرهما، ونثر أهل نهر مُعلى عليهم الدنانير والثياب، وكان السلطان قد خرج عن بغداد متصيّداً، ثم أرسل الخليفة الوزير أبا شجاع إلى تركان خاتون، زوجة السلطان، وبين يديه نحو ثلاثمائة موكبيّة، ومثلها مشاعل، ولم يبق في الحريم دكّان إلا وقد أشعل فيها الشمعة والاثنتان والأكثر من ذلك, وأرسل الخليفة مع ظفر
_________
(1) نظام الملك، ص 651.
(2) الحقيقة في نظر الغزالي, د. سلمان دنيا، ص 16.
(3) نظام الملك، ص 261، أخبار الدولة السلجوقية، ص 66، 67.
(4) سير أعلام النبلاء (19/ 57).
(5) السلاطين في المشرق العربي ص30، الدولة العثمانية للصَّلابي، ص 92.(1/90)
خادمه محفة لم يُر مثلها حُسناً وقال الوزير لتركان خاتون: سيّدنا ومولانا أمير المؤمنين يقول: {إِنَّ اللهَ يَأمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الأمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} [النساء:58] وقد أذن في نقل الوديعة إلى داره، فأجابت بالسمع والطاعة، وحضر نظام الملك ومن دونه من أعيان دولة السلطان وكل منهم معه من الشمع والمشاعل الكثير، وجاء نساء الأمراء الكبار ومن دونهم كل واحدة منهن منفردة في جماعتها وتجمّلها وبين أيديهن الشمع والموكبيات والمشاعل يحمل ذلك جميعه الفرسان ثم جاءت الخاتون ابنة السلطان، بعد الجميع في محفة مجللة، عليها من الذهب والجواهر أكثر شيء وقد أحاط بالمحفّة مائتا جارية من الأتراك بالمراكب العجيبة وسارت إلى دار الخلافة وكانت ليلة مشهودة لم يُر ببغداد مثلها (1).
ثالثاً: الاستقرار السلجوقي في بلاد الشام: بذل السلاجقة جهوداً كبيرة للسيطرة على بلاد الشام، وبعد أن ثبَّت ملكشاه أقدامه في الحكم واطمأن على سلطنته التفت إلى بلاد الشام، وأحيا مشروع أبيه السلطان ألب أرسلان بغزو هذه البلاد وضم مصر إليها والقضاء على الدولة الفاطمية، فاختار أن يولي على هذه الجبهة البعيدة أميراً سلجوقياً ويشغله في نفس الوقت عن التفكير بالشغب عليه أو منافسته، ويؤمَّن الإقطاع لقسم كبير من الجيش السلجوقي المتزايد، وكان تتش قد اختص بمجموعة من المماليك الذين يتولون تربيته وتدريبه وشنّ الحملات باسمه والدفاع عنه، على عادة السلاجقة، لأنه كان لا يزال فتى، وسرعان ما انتشرت الأخبار بما عزم السلطان عليه وبلغت مسامع أتسز الخوارزمي صاحب بلاد الشام، فكتب للسلطان يشرح له ما بذله من جهد في خدمة الدولة السلجوقية، وأنه ما يزال الخادم المطيع، ووعده بدفع مبلغ ثلاثين ألف دينار في السنة مقابل إبقائه حاكماً على بلاد الشام (2)، وأصرّ ملكشاه على تنفيذ مشروعه فولى أخاه تاج الدولة تتش حكم بلاد الشام وما يفتحه في تلك النواحي، كما أشرنا، وأمره بالمسير إليها، وكتب إلى القوى المتمركزة في إقليم الجزيرة وبلاد الشام بالانضمام إليه ومساعدته كان من بينهم مسلم بن قريش العقيلي أمير الموصل ووثاب بن محمود، وزعماء القوى التركية، غير أن هذه النجدة لم تصل إلى حلب وتشتتَّ قبل ذلك، حيث قضى عليها سابق حاكم حلب بالتعاون مع مسلم بن قريش في وادي بزاعة، فتحرّج موقف تُتُش نتيجة ذلك، وما إن ابتعدت قواته عن أسوار حلب وهي تطارد البدو حتى خرجت القوات الحلبية من وراء الأسوار وهاجمت معسكراته وغنمت ما كان فيها (3)،
ويبدو أنه لم يحقق أي نجاح في مطاردته للعرب، عندما علم بنهب معسكراته، قرّر عبور
_________
(1) الكامل في التاريخ (6/ 308، 309).
(2) تاريخ السلاجقة في بلاد الشام، ص 125.
(3) المصدر نفسه، ص 128.(1/91)
الفرات للانتقام من مسلم بن قريش، ولكن هذا الأخير كان يقظاً، فاضطر مكرها إلى التخلي عن خطته وذهب إلى ديار بكر حيث أمضى فصل الشتاء في مضارب بني مروان (1)، وهكذا تفرق التحالف الذي أنشأه السلطان ملكشاه، وأخفق أمام أسوار حلب وكتب تُتُش من مشتاه إلى أخيه يشرح له ما آلت إليه الأوضاع في شمالي بلاد الشام ويطلب منه نجدة أخرى، ثم غادر مع قواته الجديدة التي وصلت إليه متوجها إلى حلب للاستيلاء عليها إلا أنه فشل وغادر وقواته المنهكة مدينة حلب بعد أن أدرك عدم جدوى الاستمرار في الحصار والاستيلاء على حلب، فيمم وجهه نحو دمشق (2).
1 - الاستيلاء على دمشق: غادر تُتُش وقواته المنهكة مدينة حلب وفي نفسه شيء منها متوجهاً نحو الجنوب، فاستولى على حماة والمعرة وما جاورهما, وأطاعه أمير حمص خلف بن ملاعب، فأقرّه على حكمها. وإذا كان التوغل السلجوقي في بلاد الشام قد بدأ بوصول تُتش، إلا أنه لم يحقق حتى ذلك الوقت أي إنجاز يذكر وتبين من خلال أعماله أنه كان عسوفًا ذا سطوة وجبروت وظلم وتدمير وسلب ونهب (3)، وقد سنحت له الفرصة ليضع يده على مقدرات بلاد الشام ويؤسس دولة سلجوقية في ربوعها وكان لذلك علاقة بالمحاولات الفاطمية الهادفة إلى استعادة نفوذ الفاطميين في هذه البلاد، فقد حدث أن أرسل بدر الجمالي جيشاً فاطمياً بقيادة ناصر الدولة الجيوشي إلى بلاد الشام لإعادة بسط السيادة الفاطمية عليها فحاصر دمشق عام 471هـ واستولى على أعمالها وأعمال فلسطين (4)، وأدرك أتسز أنه لا قبل له بهذا الجيش الكبير فاضطر أن يطلب المساعدة من تُتُش، ووعده بتسليمه دمشق ويكون تابعاً له (5)،
وكان هذا هو الحل الوحيد أمامه، وهو أن يضع نفسه تحت الحماية المباشرة للسلاجقة العظام (6)، رحب تُتُش بهذه الدعوة، وكان ينوي متابعة زحفه إلى دمشق بعد فشله أمام حلب، وسار قاصداً المدينة لنجدتها ولم يكن يقترب منها حتى فكَّ ناصر الدولة الجيوشي الحصار عنها وانسحب باتجاه الجنوب، لأن قواته كانت عاجزةً عن أن تقف في وجه القوة السلجوقية، وبخاصة أن طرابلس وصور امتنعتا عن تقديم المساعدة له، بل إن حاكميها صانعا السلاجقة بالهدايا والملاطفات (7)، وعندما وصل تُتش إلى مرج عذراء الواقع إلى الشمال الشرقي من دمشق استقبله أتسز، فبذل له الطاعة وسلمه البلد وبعد أن أقام بضعة أيام في مرج عذراء توجّه إلى المدينة، فاستقبله أتسز عند أسوارها ولم يذهب أبعد من
_________
(1) تاريخ السلاجقة في بلاد الشام، ص 128.
(2) تاريخ السلاجقة في بلاد الشام، ص 128.
(3) المصدر نفسه، ص 129.
(4) تاريخ دمشق لابن القلانسي، ص 183.
(5) تاريخ دمشق لابن القلانسي، ص 183.
(6) تاريخ السلاجقة في بلاد الشام، ص 129.
(7) تاريخ دمشق لابن القلانسي، ص 182.(1/92)
ذلك للقائه، فاغتاظ منه تُتُش وعاتبه على ذلك، فاعتذر بأمور لم يقبلها (1)، ويبدو أن تُتُش خشي من طموحات أتسز، ولم يطمئن إلى وجوده إلى جانبه، فاتخذ من ذلك حجة وتخلص منه، كما قتل أخاه جاولي وتسلم دمشق دون قتال، وأسس لنفسه ولأسرته حكماً فيها (2)، وبذلك أضحى تتش يسيطر على الأقاليم الوسطى من بلاد الشام، وجهد بعد ذلك للعمل على بسط سلطاته على كامل بلاد الشام وبخاصة المدن الساحلية التي كانت تدين بالطاعة للدولة الفاطمية أو تُحكم من قبلها مباشرةً وإنشاء دولة أخرى للسلاجقة في هذه البلاد يتولى حكمها بمعزل عن السلاجقة العظام في خراسان وفارس (3).
2 - زوال الإمارة المرداسية وقيام الإمارة العقيلية في حلب: ضاق الأمر كثيراً بأهل حلب تحت حكم سابق بن محمود المرداسي، فراسلوا مسلم بن قريش ليخلصهم مما هم فيه، فسار إليهم سنة 472هـ، فأغلق سابق أبواب حلب في وجهه ومعه بداخل حلب الشريف أبو علي الحسين بن هبة الله الهاشمي العباسي المعروف بالحتيتي (4) فخرج ابن له من داخل حلب إلى الصيد فقبض ابن قريش عليه وجعله رهينة بيده كي تستسلم له المدينة، فاستسلمت له فعلاً ودخلها هي والقلعة بسلام (5)، ويقول ابن الجوزي: إن سابق ابن محمود هو الذي أوحى لمسلم بن قريش بالقدوم إليه لتسليمه المدينة, ومما قاله له: أنت أولى بي من الغير والعربية تجمعنا, فإن كنت مأكولاً فكن أنت آكلي .. وسار مسلم بن قريش إلى حلب فوصلها ثاني عشر من ذي الحجة ومعه بنو كلاب وكلب ونمير وجميع القبائل وقد أطاعوه خوفاً من الغز وأنفق عليهم الأموال فكسر الأحداث (6) الأبواب يوم الجمعة لعشر بقين من ذي الحجة ودخل أصحابه إليها ولم يتأذ أحد من أهلها، ولا أغلق فيها دكان وراسل سابق بن محمود وهو في القلعة مراسلة انتهت إلى أن يزوجه سابق بابنته ويعوضه مالاً على أن يسلم القلعة فرضي وحط سابق رحله وماله في البلد ولم يبق إلا أن ينزل فوثب أخواه شبيب ووثاب فقبضا عليه واستوليا على القلعة، فجمع مسلم مقدمي بني كلاب وقال: علمتم أني أنفقت أموالاً وبعدت عن بلادي في حراسة بلادكم وأموالكم وكفّ عادية الغز عنكم، وهذه مقابلة ما أعرفها فإن كنتم رجعتم فهأنذا راجع بلادي ومبرئ منكم فأنكروا ما جرى وشرطوا السعي فيه وإزالة ما تجدد منه، فدخل حلب واستقامت له (7).والذي
_________
(1) الكامل في التاريخ (6/ 471).
(2) تاريخ السلاجقة في بلاد الشام، ص 129.
(3) تاريخ السلاجقة في بلاد الشام، ص 130.
(4) زبدة الحلب (2/ 67، 68).
(5) المتنظم (8/ 323).
(6) منتظمة الأحداث تتولى المحافظة على مصالح السكان في المدينة وعلى النظام العام وحماية الأسوار والأبواب ومساعدة الجيوش النظامية.
(7) مرآة الزمان، سبط ابن الجوزي 202،203.(1/93)
يتضح أن أوضاع حلب تردَّت كثيراً بسبب ما تعرضت له من حصار ومنازعات بين السلاجقة وغيرهم من الأمراء العرب مما جعل سابق بن محمود يوصي إلى مسلم بن قريش العقيلي كي يأتي إليه ليسلمه المدينة، أما الرواية التي تقدمت بأن مسلم بن قريش جاء وحاصر حلب ولم تستسلم له في بادئ الأمر لامتناع سابق عليه، فإنه يمكن القول إنه كان متردداً في ذلك, وقد أوصى لمسلم بن قريش عندما كان السلاجقة يهددونه، وعندما جاء مسلم بن قريش وزال الخطر تراجع عن التسليم إليه، ثم وجد ألا مناص فتنازل له عن حلب وانتهى الأمر على ذلك بالرغم من معارضة أخويه وثاب وشبيب (1)، وقد أرسل شرف الدولة مسلم بن قريش إلى السلطان السلجوقي ملكشاه يخبره بما فعل وطلب منه إقراره على حلب, وتعهد أن يرسل في كل سنة ثلاثمائة ألف دينار فأقره السلطان (2)، وهكذا تبدو سياسة الأمير العقيلي مسلم بن قريش، سياسة تنبع من المصلحة الشخصية التي كانت قائمة على سياسة المد والجزر، فهو يلاين السلطان ويسايره، ويعده بالولاء والطاعة وإرسال الأموال، وفي الوقت نفسه يعمل على تقليص النفوذ السلجوقي من الشام والجزيرة، ليبني له زعامة مستقلة عن حكمهم، والآن وقد انقسمت الشام إلى إمارتين كبيرتين إحداهما في الجنوب ومقرها دمشق لتتش ابن السلطان ألب أرسلان وثانيتهما في الشمال ومقرها حلب لمسلم بن قريش العقيلي، فما العلاقة التي قامت بين هاتين الإمارتين اللتين تدَّعي إلى كل منهما الولاء والطاعة لبني سلجوق؟ (3).
3 - علاقة مسلم بن قريش مع تتش ابن السلطان ألب أرسلان في الشام: بدأت أعمال التوتر والاستفزاز تظهر بينهما، كما بدأ كل واحد منهما يوسع من دائرة أحلافه وأنصاره استعداداً للمعركة الفاصلة (4) وقام مسلم بن قريش بمهاجمة حمص سنة 475هـ، وكان يليها خلف بن ملاعب، مطيعاً لتتش السلجوقي، فكتب إليه: إن هذا صاحبي ومنتم إليَّ فارحل عنه. فبعث مسلم إليه: إن هذا رجل مفسد في أعمال السلطان، قاطع سبلها، فإن كان صاحباً لك فخذه إليك. فسار تتش لنجدته، فخاف ابن قريش عتب السلطان ملكشاه في مقاتلة أخيه تتش، فانسحب عنه، وفي طريقه قبض على ما يقرب من ثلاثمائة فارس من التركمان وفرقهم في القلاع، فكان آخر العهد بهم (5).
4 - حملة مسلم بن عقيل على دمشق سنة 475هـ: وردت كتب في هذه السنة من بعض أمراء العرب إلى مسلم بن قريش يحثونه فيها على ضرورة تخليص بلاد الشام مما هي
_________
(1) سلاجقة الشام والجزيرة، د. أرشيد يوسف، ص 80.
(2) تاريخ دولة آل سلجوق، ص 72.
(3) سلاجقة الشام والجزيرة، أرشيد يوسف، ص 81.
(4) سلاجقة الشام والجزيرة، أرشيد يوسف، ص 81.
(5) سلاجقة الشام والجزيرة، أرشيد يوسف، ص 81.(1/94)
فيه وكان عندئذ مقيماً في الجزيرة (1)، وتصادف مع ذلك خروج تتش من دمشق إلى نواحي أنطاكية (2)، فانتهز ابن قريش هذه الفرصة وجمع عساكره من العرب والأكراد وأسرع بهم نحو دمشق ليأخذها من السلاجقة، ثم اتصل بالفاطميين طالباً العون منهم (3)، غير أن هذه الحملة فشلت وارتد مسلم بن قريش عائداً عنها إلى الجزيرة، وقد ذكر المؤرخون أن فشله يعود إلى جملة أسباب منها: أن الفاطميين تقاعسوا عن نصرته، ثم عاد تتش مسرعاً عندما علم بحملته، كما عصى أهل حران عليه في الجزيرة مما أجبره على العودة إليها (4).
5 - مقتل شرف الدولة مسلم بن قريش العقيلي سنة 478هـ: استولى سليمان بن قتلمش السلجوقي على أنطاكية من أيدي الروم سنة 478هـ بعد أن كانت بيدهم منذ سنة 358هـ، فلما ملكها سليمان أرسل إليه شرف الدولة مسلم بن قريش يطلب منه ما كان يحمله إليه الفردوس من المال، ويخوّفه معصية السلطان، فأجابه: أما طاعة السلطان، فهي شعاري، ودثاري، والخطبة له، والسكّة في بلادي، وقد كاتبته بما فتح الله على يدي بسعادته من هذا البلد، وأعمال الكفّار (5)،
وأمّا المال الذي كان يحمله صاحب أنطاكية قبلي، فهو كان كافراً، وكان يحمل جزية رأسه وأصحابه، وأنا - بحمد الله- مؤمن، ولا أحمل شيئاً، فنهب شرف الدولة بلد أنطاكية، ونهب سليمان أيضاً بلد حلب، فلقيه أهل السواد يشكون إليه نهب عسكره فقال: أنا كنت أشد كراهية لما يجري، ولكن صاحبكم أحوجني إلى ما فعلت، ولم تجر عادتي بنهب مال مسلم، ولا أخذ ما حرمته الشريعة، وأمر أصحابه بإعادة ما أخذوه منهم فأعاده، ثم إن شرف الدولة جمع الجموع من العرب والتركمان، وكان ممن معه جبق أمير التركمان في أصحابه وسار إلى أنطاكية ليحصرها، فلما سمع سليمان الخبر جمع عساكره، وسار إليه فالتقيا في الرابع والعشرين من صفر سنة ثمان وسبعين وأربعمائة في طرف من أعمال أنطاكية واقتتلوا، فمال تركمان جبق إلى سليمان، فانهزمت العرب، وتبعهم شرف الدولة منهزماً، فقُتل بعد أن صبر، وقُتل بين يديه أربعمائة غلام من أحداث حلب، وكان يوم قتل في يده ديار ربيعة ومضر من أرض الجزيرة والموصل وحلب، وما كان لأبيه وعمّه قرواش، وكان الأمن في بلاده عامًّا، والرخص شاملاً وكان يسوس بلاده سياسة عظيمة، بحيث يسير الراكب والراكبان فلا يخافان شيئاً، وكان له في كل بلد وقرية عامل، وقاض، وصاحب خبر، بحيث لا يتعدى أحد على أحد، ولما قتل قصد بنو عقيل أخاه
_________
(1) زبدة الحلب (2/ 79).
(2) النجوم الزاهرة (5/ 115) , سلاجقة الروم والجزيرة، ص 81.
(3) النجوم الزاهرة (5/ 115) , سلاجقة الروم والجزيرة، ص 81.
(4) خطط الشام (1/ 266، 267) , سلاجقة الروم والجزيرة، ص 82.
(5) الكامل في التاريخ (6/ 294).(1/95)
إبراهيم بن قريش، وهو محبوس، فأخرجوه وملكوه أمرهم (1)، وتزوج صفية خاتون عمة السلطان ملكشاه (زوجة مسلم أخيه سابقاً) غير أن السلطان ملكشاه لم يعترف بهذه الزعامة، فأمر إبراهيم بن قريش بالقدوم عليه بأصفهان، فقبض عليه وسجنه وأرسل مكانه على بني عقيل، أبا عبد الله محمد بن مسلم بن قريش وأقطعه الرحبة وحرّان والرقة وسروج في الجزيرة، ثم زوجه بأخته زليخة خاتون سنة479هـ (2).
6 - النزاع بين تتش وسليمان بن قتلمش: انسحب سليمان بن قتلمش إلى أنطاكية بعد المعركة التي قتل فيها مسلم بن قريش وأرسل إلى ابن الحتيتي «القائم بأعمال حلب بعد ابن قريش» يطلب منه طاعته والتبعية له فرد عليه يماطله ويعتذر حتى يكاتب السلطان السلجوقي في هذا الأمر، وفي الوقت نفسه قام ابن الحتيتي بمراسلة تتش للقدوم إليه لتسليمه المدينة (3)، اتجه كل من سليمان بن قتلمش وتتش إلى حلب طمعاً فيها، فالتقت عساكرهما في شهر صفر 479هـ فانهزم أصحاب سليمان وثبت هو في القلب، فلما رأى انهزام عساكره أخرج سكيناً معه فقتل نفسه, وقيل: بل قتل في المعركة، واستولى تتش على عسكره, وكان سليمان بن قُتلمش في السنة الماضية في صفر قد أنفذ جثة شرف الدولة إلى حلب على بغل ملفوف في إزار وطلب من أهلها أن يسلموها إليه، وفي هذه السنة في صفر أرسل تُتُش جثة سليمان في إزار ليسلّموها إليه، فأجابه ابن الحتيتي أنه يكاتب السلطان، ومهما أمره فعل، فحصر تُتش البلد، وأقام عليه، وضيق على أهله، وكان ابن الحُتيتي قد سلم كل برج من أبراجها إلى رجل من أعيان البلد ليحفظه، وسلّم برجاً فيها إلى إنسان يعرف بابن الرعوي. ثم إن ابن الحتيتي أوحشه بكلام أغلظ له فيه، وكان هذا الرجل شديد القوة، ورأى ما الناس فيه من الشدة، فدعاه ذلك إلى أن أرسل إلى تتش يستدعيه، وواعده ليلة يرفع الرجال إلى السور في الجبال، فأتى تُتش للميعاد الذي ذكره، فأصعد الرجال في الحبال والسلالم، وملك تُتش المدينة، واستجار ابن الحُتيتيّ بالأمير فشفع فيه, وأمّا القلعة فكان بها سالم بن مالك بن بدران، وهو ابن عم شرف الدولة مسلم بن قريش، فأقام تُتُش يحصر القلعة سبعة عشر يوماً، فبلغه الخبر بوصول مقدمة أخيه السلطان ملكشاه، فرحل عنها (4).
7 - السلطان ملكشاه يتسلم حلب: كان ابن الحُتيتي قد كاتب السلطان ملكشاه يستدعيه ليسلم إليه حلب، لمّا خاف تاج الدولة تُتُش، فسار إليه من أصبهان في جمادى الآخرة، وجعل على مقدمته الأمير برسق، وبوزان وغيرهما من الأمراء، وجعل طريقه إلى
_________
(1) الكامل في التاريخ (6/ 394،295).
(2) سلاجقة الشام والجزيرة، ص 83.
(3) سلاجقة الشام والجزيرة، ص 83.
(4) الكامل في التاريخ (6/ 300).(1/96)
الموصل، فوصلها في رجب، وسار منها، فلمّا وصل إلى حران سلّمها إليه ابن الشاطر، فأقطعها السلطان لمحمّد بن شرف الدولة، وسار إلى الرُّها، وهي بيد الروم فحصرها وملكها، وكانوا قد اشتروها من ابن عطير، وسار إلى قلعة جعبر، فحصرها يوماً وليلة وملكها، وقتل من بها من بني قشير، وأخذ جعبر من صاحبها (1) -وهو شيخ أعمى- ولدين له، وكانت الأذية بهم عظيمة يقطعون الطرق ويلجأون إليها، ثم عبر الفرات إلى مدينة حلب، فملك في طريقه مدينة منيح، فلمّا قارب حلب رحل عنها أخوه تُتش، وكان قد ملك المدينة، كما ذكرنا، وسار عنها يسلك البرية، ومعه الأمير أُرتق، فأشار بكبس عسكر السلطان، وقال: إنَّهم قد وصلوا وبهم وبدوابّهم من التعب ما ليس عندهم معه امتناع؛ ولو فعل لظفر بهم. فقال تتش: لا أكسر جاه أخي الذي أنا مستظل بظله، فإنّه يعود بالوهن عليّ أوّلاً.
وسار إلى دمشق، ولمّا وصل السلطان إلى حلب تسلم المدينة، وسلَّم إليه سالم بن مالك القلعة على أن يعّوضه عنها قلعة جعبر، وكان سالم قد امتنع بها أوّلاً، فأمر السلطان أن يُرمي إليه رشقاً واحداً بالسهام، فرمى الجيش، فكادت الشمس تحتجب لكثرة السهام، فصانع عنها بقلعة جعبر وسلمها، وسلم السلطان إليه قلعة جعبر، فبقيت بيده وبيد أولاده إلى أن أخذها منهم نور الدين محمود زنكي، على ما نذكره إن شاء الله تعالى، وأرسل إليه الأمير نصر بن علي بن منقذ الكنانيُّ، صاحب شَيزر، فدخل في طاعته، وسلم إليه اللاذقية، وكفر طاب، وأفامية، فأجابه إلى المسالمة، وترك قصده، وأقر عليه شَيزر، ولما ملك السلطان حلب سلمها إلى قسيم الدولة آق سنقر، فعمرها، وأحسن السيرة فيها، وأمّا ابن الحتيتي فإنّه كان واثقاً بإحسان السلطان ونظام الملك إليه، لأنّه استدعاهما، فلمَّا ملك السلطان البلد وطلب أهلها أن يعفيهم من ابن الحُتَيْتي، فأجابهم إلى ذلك، واستصحبه معه، وأرسله إلى ديار بكر، فافتقر، وتوفي بها على حال شديدة من الفقر وقتل ولده بأنطاكية، قتله الفرنج لما ملكوها (2).
رابعاً: تأسيس سلطنة سلاجقة الروم: 470 هـ - 479هـ: أتاحت معركة ملاذكرد 463هـ للسلاجقة الأنسياب إلى جوف آسيا الصغرى، وشجعتهم النزاعات والحروب الداخلية التي نشبت بين البيزنطيين على الاستقرار في ربوعها، وتأسيس سلطنة عُرفت في التاريخ باسم «سلطنة سلاجقة الروم» أسَّسها سليمان بن قتلمش الذي يعد بحق جد سلاطين آسيا الصغرى، أخذ سليمان على عاتقه إدارة شئون المنطقة الشمالية الغربية بعد رحيل ألب
_________
(1) الكامل في التاريخ، ص (6/ 300).
(2) المصدر نفسه (6/ 301).(1/97)
أرسلان عن آسيا الصغرى، وعزم على أن يقيم لنفسه سلطنة في قونية وآقسرا وغيرهما من المدن التي كانت تحت حكم قُتلمش، ويتولى حكمها مع الاعتراف بسيادة ملكشاه سلطان السلاجقة العظام الذي خلف أباه ألب أرسلان وكان الأول قد عهد إليه بإدارة المنطقة لصالح الأتراك (1)، وقد ساعد سليمان في تحقيق غايته عاملان:
أ التغير الديمجرافي الناتج عن الفتوح، إذ أضحت المناطق الشمالية والشرقية شبه خالية بعد أن هجرها سكانها، ذلك أن القبائل التركية التي ساندت سليمان في فتوحه، كانت تطوف أرجاء الأناضول تلتمس الماء والكلأ، فاضطر السكان إلى مغادرة قراهم ومزارعهم إلى مناطق أكثر أمناً فدخل إليها السلاجقة واستقروا فيها وغيروا معالمها.
ب الأوضاع البيزنطية المضطربة، استفاد السلاجقة خلال الأعوام التي انقضت بعد ملاذكرد من الأوضاع المضطربة داخل الأجهزة البيزنطية، وراحوا يتدخلون في الشئون الداخلية لأطراف النزاع وظهروا كحلفاء ومساعدين لبعضهم، مما يسَّر لهم التوغل بعيداً حتى وصلوا إلى المقاطعات الغربية في آسيا الصغرى (2).
وقد ازدادت الفوضى في بلاد الأناضول نتيجة استمرار الانتفاضات على الحكومة المركزية، بالإضافة إلى التوسع السلجوقي، وفقدت الدولة البيزنطية سيطرتها على المنطقة، وتعطلت طرق المواصلات بفعل تدمير البدو لها، ولم يكن ثمة سياسة بيزنطية مدروسة، ويبدو أن ما جرى من استخدام القوات التركية هيَّأ للسلاجقة الاستقرار والإقامة في غربي آسيا الصغرى، واعترف الأتراك بسليمان زعيماً، ولم تكد تنتهي سنة 471هـ إلا وكانت حامية نيقية السلجوقية قد أعلنت العصيان على نقفور الثالث الذي أقامها في هذه المدينة، وبذلك فقدت الإمبراطورية البيزنطية أهم مدنها بعد أن سيطر عليها السلاجقة، وكان السلطان ملكشاه يراقب تحركات سليمان ونشاطه في آسيا الصغرى عن بعد، ورأى أن يعينه حاكماً على سلاجقة الروم بعد أن ضمَّ إليه قونية وآقسرا وقيصرية وتوابعها (3)، وفي الحقيقة استطاع سليمان أن يضع أساس سلطنة سلاجقة الروم (4)، وأن يجعل من مدينة نيقية عاصمة لها (5).
_________
(1) تاريخ سلاجقة الروم في آسيا الصغرى، ص 53، 54.
(2) المصدر نفسه، ص 56.
(3) تاريخ سلاجقة الروم في آسيا، ص 56.
(4) المصدر نفسه، ص 57.
(5) تاريخ سلاجقة بلاد الشام، ص 139.(1/98)
خامساً: الحسن بن الصباح والدعوة النزارية الإسماعيلية «الحشيشية»: نشأت الدعوة الإسماعيلية النزارية بصورة خاصة في المشرق الإسلامي، وكان أنصارها يعرفون كذلك بالباطنية والحشيشية أو الحشاشين، وتعود جذور الدعوة النزارية إلى سنة 478هـ حين توفي الخليفة الفاطمي المستنصر دون أن يبايع لابنه الأكبر نزار رغم أنه أبدى رغبته في ذلك في أواخر أيامه إلا أن الحاشية وعلى رأسها أمير الجيوش الوزير بدر الجمالي حالت دون ذلك، وقد بويع بعد وفاة المستنصر ابنه الأصغر المستعلي بالله وبذلك انشقت الدعوة الإسماعيلية إلى شقين: النزارية والمستعلية وكان الحسن بن الصباح الحميري قد نشأ بالري في بلاد فارس، وتأثر في شبابه بالدعوة الإسماعيلية الفاطمية وزار مصر والتقى بالمستنصر (1). وظل الحسن بن الصباح مقيماً في مصر زهاء ثمانية عشر شهراً، كان خلالها موضع حفاوة المستنصر، فأمده بالأموال، وأمره بأن يدعو الناس إلى إمامته في بلاد العجم (2)، وكان الحسن بن الصباح يرى أن تولية نزار تتفق مع التعاليم الإسماعيلية التي تشترط في الإمام أن يكون أكبر أبناء أبيه (3)، ولا شك أن إقامة الحسن بن الصباح في مصر أتاحت له التعرُّف على أحوال الدولة الفاطمية، وما آلت إليه الدعوة الإسماعيلية في ظل سيطرة بدر الجمالي، وقد عزم على إقامة الدعوة للمستنصر في فارس وخراسان وحرص على تكوين مجتمع إسماعيلي (4) صرف وحين عاد إلى بلاد فارس بدأ بنشر دعوته إلى نزار رافضاً البيعة للمستعلي معتبراً نفسه نائب الإمام مخططاً لإنشاء دولة إسماعيلية جديدة في المشرق الإسلامي (5).
1 - السيطرة على قلعة ألموت عام 483هـ: اتصل الحسن بن الصباح ببلاط السلاجقة - قبل ذهابه لمصر - مع نظام الملك لدى السلطان ملكشاه، ثم هرب من الري، بسبب نشاطه في الدعوة الإسماعيلية وإيوائه لمجموعة من دعاة الفاطميين, وخرج إلى مصر تلبية لطلب الداعي الكبير عبد الملك بن عطاش ليحضر دروس العلم الباطنية في مصر وليقابل إمامهم المستنصر ويعلن له الولاء وبشكل مباشر، وخرج من الري في طريقه إلى مصر عام 467هـ داعياً إلى نحلة القوم، في كل بلد يمر بها، ووصل القاهرة عام 471هـ، فاستقبله المستنصر بحفاوة في قصره وتحدثا في شئون الدعوة، وكيف تقام في بلاد العجم، وقال الحسن للمستنصر: من إمامي بعدك؟ قال: ابني نزار، وقد أكرمه المستنصر وأعطاه مالاً، وأمره أن يدعو الناس إلى إمامته (6)، وبعد أن رجع إلى فارس، وبلغ أصفهان سنة 473هـ باشر دعوته
_________
(1) الخلافة العباسية، فاروق فوزي (2/ 188).
(2) التاريخ الفاطمي د. محمد طقوس، ص 392، 393.
(3) التاريخ الفاطمي د. محمد طقوس، ص 392، 393.
(4) التاريخ الفاطمي د. محمد طقوس، ص 392، 393.
(5) الخلافة العباسية (2/ 188).
(6) الجهاد والتجديد في القرن السادس الهجري، ص 31.(1/100)
السرية، ولما ضيق نظام الملك عليه الخناق، رحل إلى قزوين، واستولى هناك على قلعة «ألموت» الحصينة، وجعلها مقراً له ولجماعته (1)، فتوسعوا وأكثروا الفساد في البلاد (2).
2 - مراتب ودرجات أعضاء الدعوة النزارية الباطنية: منذ البداية حاول الحسن الصباح أن يحصن نفسه وأتباعه في قلاع متناثرة في أقاليم وعرة مثل أقاليم بحر قزوين وثبت مركزه في قلعة ألموت بنواحي قزوين سنة 483هـ، كما اعتمد أسلوبه على العنف والاغتيال وبث الرعب في نفوس الناس، وكان أول ضحاياه الوزير السلجوقي نظام الملك الذي شدد على الدعوة النزارية وحاربها، كما شارك الحشاشون - فيما بعد - في قتل الخلفاء العباسيين المسترشد والراشد وهددوا ملكشاه السلجوقي وصلاح الدين الأيوبي وأمراء مسلمين. وروج الحسن بن الصباح لنظرية الإمام المستور، وألقى على نفسه مهمة الدعوة له معتبراً نفسه رئيس الدعوة ونائب الإمام، أما الإمام المستور فهو نزار بن المستنصر ومن بعد مقتله أبناؤه، كما ادعى الحسن الصباح بأنه مصدر المعرفة لأنه نائب الإمام المستور وأنه تعلم معرفته من الإمام المعصوم مباشرة وزعم وأخذ يبشر بالعقيدة الباطنية التي تقول إن لكل ظاهر باطنًا ولكل تنزيل تأويلاً وأن الباطن هو المهم لأنه اللب, وكانت تأويلاته تتفق مع نزعته السياسية وأهدافه التي يريد تحقيقها وكانت الدعوة النزارية دعوة منظمة بدقة وأعضاؤها منقسمون إلى مراتب ودرجات (3).
المرتبة الأولى: مرتبة رئيس الدعوة أو داعي الدعاة, وكان أيضاً يسمى نائب الإمام المستور في بلاد الشام, وسمي «شيخ الجبل».
المرتبة الثانية: كبار الدعاة.
المرتبة الثالثة: الدعاة.
المرتبة: الرابعة: الرفاق.
المرتبة الخامسة: الضراوية وهم الفئة المسلحة في الدعوة التي يشترط فيها التفاني والتضحية في خدمة الدعوة حتى ولو أدى ذلك إلى ألموت الذي اعتبروه أشرف نهاية لأنه يضمن لهم السعادة في جنة الإمام.
المرتبة السادسة: اللاصقون.
_________
(1) حركة الحشاشين: محمد عثمان الخشت، ص 65، 66.
(2) الجهاد والتجديد في القرن السادس الهجري، ص 32.
(3) الخلافة العباسية، (2/ 189).(1/101)
المرتبة السابعة: المستجيبون وهم عامة الناس المؤيدون للدعوة (1). وإليك تفصيل مهام دعاة الباطنية:
3 - مهام الدعاة: لقد أنيطت بالدعاة مهام يجب عليهم العمل بموجبها وتحقيقها وتتمثل تلك المهام في الآتي:
أ- أن يبدأ الدعاة بمناقشة الطالب في المسائل الدينية وتفاسير القرآن ويعلموه أن مسائل الدين أمور شديدة التعقيد، ولا يستطيع فهمها إلا رجال كالدعاة الذين تبحروا في درسها، ويأخذون عليه العهد بألا يذيع شيئاً مما يعلمونه من النظريات والشروح.
ب- يعَلّم الطالب أن كل التفاسير والأحكام التي قال بها المجتهدون السابقون خاطئة، باطلة، وأن الأحكام الصحيحة هي التي يقول بها الأئمة الذين تلقوها من الله.
جـ- أن هؤلاء أئمة الإسماعيلية وهم سبعة آخرهم محمد بن إسماعيل.
د- أن الأنبياء الذين تقدموا آل البيت سبعة أيضاً هم: آدم ونوح وإبراهيم وموسى والمسيح ومحمد - صلى الله عليه وسلم - ومحمد بن إسماعيل.
هـ- يبدأ الدعاة بتنفيذ مهمتهم الحقيقية وهي هدم العقيدة الدينية، فيعلمون الطالب ألا يؤمن بالسنَّة وأن يرفض تعاليم محمد - صلى الله عليه وسلم -.
و- يسعون إلى إقناع الطالب بأن كل الأديان وما أمرت به من الفروض كالصوم والصلاة وغيرها إن هي إلا أكاذيب وحيل ابتكرت لإخضاع المجتمعات البشرية وأن جميع الشرائع لا بد أن تخضع لشريعة العقل والعلم، ويدللون على أقوالهم بنظريات أرسطو وأفلاطون وفيثاغورس، مما يدل على قوة ارتباطهم وتأثرهم بالفلسفة اليونانية.
ز- يلقَّى الطالب تعاليم الثنوية، وبذلك تهدم عقيدة التوحيد الإسلامية وكل صفات الألوهية.
ح- يشكك الطالب في حقيقة الرسالة، ويعلم بأن الرسل الحقيقيين هم رسل العمل الذين يعنون بالشئون الدنيوية كالنظم وإنشاء الحكومات المثلى.
ط- ويدخل الطالب إلى حظيرة الأسوار، ويعلم أن كل التعاليم الدينية أوهام محضة (2). وهكذا يبدأ الباطنية مع من يدعونه إلى الدخول بمذهبهم فيشككونه في مبادئ الدين
_________
(1) الخلافة العباسية (2/ 190).
(2) تاريخ الحركات السرية، محمد عنان، ص 42.(1/102)
ونصوصه وتعاليمه وينتهون به في النهاية إلى الخروج من الدين بالجملة (1).
الدكتور الخطيب يربط بين هذه الأساليب والحيل لهذه الفرقة وبين أساليب ومراحل التدرج عند الماسونية في عصرنا الحاضر، فيقول: والمطلع على أساليب الماسونية في العصر الحاضر، وطرق الدخول فيها، والتكريس الذي تمارسه على الدخول في محافلها، يستطيع أن يقارن بين أساليب الباطنية عموماً وبالأخص الإسماعيلية، وأساليب التكريس الماسوني، بحيث لا نبتعد عن الحقيقة إذا قلنا إن هناك خيطاً رفيعاً يجمع بين الباطنية والماسونية، يمكن أن نرده إلى اليهودية العالمية التي استطاعت أن توجد الباطنية وفرقها في القديم، والماسونية العالمية ومؤسساتها في العصر الحديث (2). من هذا العرض يتضح أن الغاية القصوى من هذه الأساليب والحيل التي اتخذها دعاة الإسماعيلية إثارة الشكوك وزعزعة العقيدة الإسلامية وهدم المبادئ والقيم الاجتماعية والأدبية ومحاربة النظم السياسية (3)، وقد كان لتلك الدعوة وما قامت عليه من أسس وتنظيمات سرية دقيقة أثر كبير في نشر المذهب الإسماعيلي، ويعزز أحد دعاة الإسماعيلية المعاصرين هذه الحقيقة (4) فيقول: إنه بفضل هذا التنظيم الدقيق انتشرت الحركة الإسماعيلية بشكل لم تعهده أية دعوة في العالم (5)، بل إن الحركة في جملتها مدينة لوجودها حتى اليوم إلى تلك التنظيمات وتلك المراتب. كما يقول عارف تامر (6).
4 - مراحل الدعوة: وللإسماعيلية حيل ووسائل يصطادون الناس بها، يتدرج بها الداعي مع المستجيب من مرحلة، ابتدعوها ليسلحوا أتباعهم بها اعتقاداً منهم أن كل هذه الحيل والمراحل مشروعة لبلوغ المآرب الدنيوية: لا حقيقة في هذا الوجود. وكل
أمر مباح (7).
وأولى هذه الحيل والمراحل:
أ- التفرس: ومن شروطه القوة على التلبيس، ومعرفة حال المدعو؛ لذا منعوا إلقاء البذرة في الأرض السبخة، والتكلم في بيت فيه سراج؛ بمعنى أن من لا أمل في إغوائه
لا ينبغي أن يضيع الوقت معه، كما لا ينبغي محاولة نشر الدعوة في بلد فيه شخص
_________
(1) الإسماعيلية المعاصرة، محمد أحمد الجوير، ص 65.
(2) الحركات الباطنية في العالم الإسلامي, د. محمد أحمد الخطيب، ص 129.
(3) الإسماعيلية المعاصرة، ص 66.
(4) الإسماعيلية المعاصرة، ص 66.
(5) تاريخ الدعوة الإسماعيلية، مصطفى غالب، ص 34.
(6) القرامطة، عارف تامر، ص 69.
(7) الإسماعيلية المعاصرة، ص 61.(1/103)
متنور بنور الإسلام (1).
ب- التأنيس: بعث الأمن والطمأنينة في نفوس المدعوين وتزيين مذهب الشخص في عينه، ثم سؤاله عن تأويل ما يعتقد.
جـ- التشكيك: زعزعة عقيدة المدعو بإلقاء أسئلة عليه، كسؤاله عن معاني حروف الهجاء في أوائل السور مثلاً.
د- التعليق: ترك المدعو متأرجحاً في عقيدته متلهفاً إلى معرفة المذهب الإسماعيلي.
هـ- الربط: وهو أن يربط لسان المدعو بأيمان مغلظة وعهود مؤكدة بألا يفشى
ما سمعه.
و- التدليس: وهو لجوء الداعي إلى التمويه وإغراء المدعو، وتشويقه للدخول إلى المذهب الإسماعيلي، مع بيانهم للمدعو أن الظواهر عذاب وأن الرحمة في الباطن،
متأولين الآية الكريمة {فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَّهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِن قِبَلِهِ الْعَذَابُ} [الحديد، 13].
ز- التأسيس: تثبيت المعلومة والحقائق التي أدلى بها الداعي للمستجيب حتى تستقر
في ذهنه.
ح- الخلع أو السلخ: يقصد به إقصاء المدعو عن المذهب السني نهائياً (2).
5 - منطلقات الحركات الباطنية: إذا أراد الباحث أن يفهم أساليب الدعوة الباطنية وكيفية نشرها بين الناس وسر انتشارها، ينبغي له الوقوف على طبيعة منطلقاتها العامة التي انطلقت منها أولاً والتي يمكن تلخيصها بما يأتي:
أ الشمولية: حاولت الحركة الباطنية تشكيل بنية الفكر الباطني في صورة مذهب جامع شامل، يقوم على الجمع والتلفيق بين عقائد شتى، متنوعة ومتباينة في أصولها ومصادرها بحيث تجد هوى في نفوس جماعات مختلفة في العنصر والدين من مزدكيين ومانويين وصابئين ويهود ومسيحيين ومسلمين (3)، وهي قاعدة فكرية مركبة من شأنها أن تستهوي أناساً من مشارب شتى باعتبارها تبشر بحرية الفكر والعقيدة، وتدعو إلى ديانة أممية تزول فيها الفوارق ودواعي الاختلاف, وقد نقلت المصادر جملة من عباراتهم الدالة على
_________
(1) الإسماعيلية المعاصرة، ص 61.
(2) فضائح الباطنية، ص 121، 132.
(3) أصول الإسماعيلية، ص 194، 195.(1/104)
هذا المعنى لعل من أكثرها تعبيراً عن ذلك قولهم (1): وينبغي لإخواننا أيّدهم الله ألا يعادوا علماً من العلوم أو يهجوا كتاباً من الكتب ولا يتعصبوا على مذهب من المذاهب لأن رأينا ومذهبنا يستغرق المذاهب كلها ويجمع العلوم جميعها (2).
ب انتقاء الدعاة: عملت هذه الحركة على انتقاء الداعى إلى دعوتهم في حدود مواصفات دقيقة تواضعوا على ضرورة توافرها فيه، إذ هو الأداة التي يتوصل بها إلى أفراد المجتمع والنافذة التي تظل بها الدعوة الباطنية على العالم الخارجي، ومن أبرز الصفات التي ينبغي أن تتوافر في الداعي أن يكون فطناً ذكياً صحيح الحدس صادق الفراسة متفطناً للبواطن بالنظر إلى الشمائل والظواهر، وأن يكون في أسلوب عمله متبعاً لثلاثة أمور:
- أن يميز من يجوز أن يطمع في استدراجه بلين عريكته لقبول ما يلقي إليه من العقائد والمبادئ المخالفة لما ألفه واعتقد به أصلاً.
- أن يكون ذكي الخاطر قوي الحدس في القدرة على تعبير الظواهر وردّها
إلى البواطن.
- أن يدرس عقيدة المدعو وميله في طبعه ومذهبه قبل الإقدام على مخاطبته.
ولكي يتمتع الداعي بهذه الصفات لابد من إعداده إعداداً خاصاً في مدارس معينة تستطيع أن تقدم له كل أساليب الحيلة وصنوف المعرفة، وقد قامت الدولة الفاطمية العبيدية، بإنشاء المدارس السرية الخاصة بإعداد الدعاة، فكانت أولى هذه المدارس في مدينة المهدية قاعدة الدولة الفاطمية العبيدية في عهد مؤسسها عبيد الله المهدي ثم راجت في المنصورية في عهد حفيده المنصور، ثم في القاهرة في عهد المعزّ ومن جاء بعده من حكام العبيديين فكانت هذه المدارس تخرج الدعاة الذين ينبثون في عامة البلاد الإسلامية ينشرون هذا المذهب ويكونون على اتصال دائم بمركز الدعوة والدولة (3).
ج- السرية: تشكل البنية التنظيمية للجمعيات الباطنية بصورة جمعيات سرية لها درجاتها ورموزها ومراتبها ودعاتها وقادتها وأساليب عملها المتقنة، ولهذه الجمعيات السرية عهود ومواثيق مقدسة واحتفالات دينية تضفي من خلالها على هياكلها التنظيمية معنى القداسة الروحية (4)، ويشير ابن النديم إلى هذه السرية عند كلامه عن بني القداح أساس البلاء في الحركات الباطنية بقوله: وقد كان قبل بني القداح قريب ممن يتعصب للمجوس ودولتها،
_________
(1) التسلل الباطني في العراق، مكي خليل، ص 126.
(2) رسائل إخوان الصفا, نقلاً عن التسلل الباطني في العراق، ص 126.
(3) عبيد الله المهدي، حسن إبراهيم حسن، ص 58.
(4) التسلل الباطني في العراق، ص 129.(1/105)
وتجرد لردّها في أوقات، منها بالمجاهرة، ومنها بالحيلة سراً، فأحدثوا لذلك في الإسلام حوادث منكرة (1)، وكانت هذه السرية تشمل سرية الوسائل وسرية الأهداف معاً، كما تشمل السرية رجالات هذه الحركة (2)، ويشير الدكتور حسن إبراهيم حسن إلى شدة السرية في الحركة العبيدية (3) الفاطمية، ولذلك آمنت معظم الفرق الباطنية باستتار الإمام الذي لا ينبغي أن يتفوه باسمه، أو قالت بغيبته وعدم ظهوره إلاّ حينما يجد الوقت المناسب لذلك (4).
د- اختيار البيئة الملائمة: اهتمت الدعوة الباطنية بدراسة البيئة التي تحاول أن تبث فيها أفكارها وعقائدها وتنشئ فيها تنظيماتها، فكانت تشترط على دعاتها الذين تميزوا بقوة الذكاء وحضور الفطنة، أن يكونوا متوقدي الفراسة في اختيار المناطق التي ينشرون فيها أفكارهم وانتقاء الشرائح الاجتماعية التي يمكن أن تتقبل دعوتهم وأن يميزوا «بين من يجوز أن يطمع في استدراجه ويوثق بلين عريكته لقبول ما يلقى إليه على خلاف معتقده، فربّ رجل جمود على ما سمعه لا يمكن أن ينتزع من نفسه ما يرسخ فيه، فلا يضعف الداعي كلامه مع مثل هذا، وليقطع طمعه منه، وليلتمس من فيه انفعال وتأثر بما يلقي إليه من الكلام» (5) لذلك انتشرت الدعوة الباطنية في البيئات التي يكثر فيها الجهل والضلالات، وبلاد الأعاجم التي جهل عوامهم فيها الإسلام بسبب جهل عوامهم باللغة العربية ورسوخ كثير من الديانات والمذاهب القديمة، كبلاد المشرق، وقد اهتم دعاة الباطنية بهذه الأصناف من الناس في دعوتهم (6):
- العوام والجهلاء من أهل السواد وجفاة الأعاجم وسفهاء الأحداث، ممن لم يطلعوا على الإسلام حق الاطلاع, قال الغزالي: ولعل هذا الصنف هم أكبر الناس عدداً، وكيف يستبعد قبولهم لذلك ونحن نشاهد جماعة في بعض المدائن القريبة من البصرة يعبدون أناسا يزعمون أنهم ورثوا الربوبية من آبائهم المعروفين بالشباسية (7). وقد اعتقدت طائفة في عليّ - رضي الله عنه - أنه إله السماوات والأرض رب العالمين (8).
- ألموتورون الحاقدون من أبناء الأكاسرة والدهاقين وأولاد المجوس الذين انقطعت الدولة عن أسلافهم بدولة الإسلام فاستمكن الحقد في صدورهم كالداء الدفين، فإذا ما وجد من يحركه اشتعلت نيرانه في قلوبهم، فأذعنوا لآية دعوة تشوقهم إلى إدراك ثأرهم من المسلمين.
_________
(1) الفهرست، لابن النديم, ص 39.
(2) التسلل الباطني في العراق، ص 129.
(3) عبيد الله المهدي، ص 270، 271.
(4) التسلل الباطني في العراق، ص 130.
(5) المصدر السابق، ص 132.
(6) منسوبة إلى شباس أوابن الذي كان بالبصرة في سنة 450هـ.
(7) فضائح الباطنية، ص 34.
(8) التسلل الباطني في العراق، ص 133.(1/106)
- الطامحون إلى التسلط والاستيلاء على مقاليد الأمور من غير كفاءة في أنفسهم ولا مزية يمتازون بها، ممن يريدون القفز إلى الحكم على أكتاف المضلل بهم من جهلة الناس, ويظهر ذلك جلياً من دراسة سير الطامحين الذين قاموا بحركات مسلحة وقوّادهم، واستمالة بعض رجالات الدولة العباسية. كما حدث مع البساسيري.
- أدعياء العلم والمعرفة ممن يعملون على التميز عن عامة الناس ويترفعون عن مشابهتهم، ويزعمون أنهم المطلعون وحدهم على الحقائق وأن بقية الخلق لا يفهمون من الأمور إلا ظواهرها، فيجتهدون بتعلم هذه المعارف الغريبة مخالفة لبقية الناس (1).
- اتباع فرق الغلاة ممن شوّهوا الإسلام واعتقدوا فيه اعتقادات ليست منه، وتدينوا بسب الصحابة من المهاجرين والأنصار حيث وجدوا في الحركة الباطنية ما يساعدهم على تحقيق أغراضهم، ونشر مبادئهم الخسيسة.
- الملحدون من الفلاسفة والثنوية والمتحيرة في الدين ممن اعتقدوا أن الشرائع قوانين ملفقة وقد عمل زعماء الباطنية على إكرامهم وإغداق ذخائر الأموال عليهم فانحازوا إليها طلباً للدنيا وحطامها وهؤلاء الذين ألفَّوا لهم الكتب ولفقوا الشبه مستخدمين معارفهم في شروط الجدل وحدود المنطق، ودلوا مكامن التلبيس والمغالطة فيها تحت عبارات كلية وألفاظ مجملة مبهمة قلما يهتدي الناظر الضعيف إلى فك تعقيداتها وكشف الغطاء عن مكامنها، وتدليسها، بل يقف في كثير من الأحيان معجبًا بها هياباً منها لعدم قدرته على فك رموزها ومعرفة المقصود منها (2).
- الإباحيون ممن استولت عليهم الشهوات فاستدرجتهم متابعة اللذات واشتد عليهم وعيد الشرع وثقلت عليهم تكاليفه، فسارعوا إلى هذه الدعوة واستحسنوها لتوافق مذهبها مع مذهبهم في هذا المجال ودافعوا عنها وحاولوا نشرها بين الناس تحقيقاً لأغراضهم، ونشراً لمبادئهم.
هـ-طبيعة المرشد الروحي: يتضح من دراسة تاريخ الحركات الباطنية أن زعماءها وقادة جمعياتها السرية وحركاتها المسلحة كانوا في الأغلب الأعم شخصيات تحسن استخدام أساليب الشعوذة والمخاريق والتظاهر بالولاية والتأله، وتضفي على ذاتها سمات المرشد الروحي، الذي يختص بصفات المنقذ الإلهي الموعود, ونظراً لما لهذا الداعي المتزعم من
_________
(1) التسلل الباطني في العراق، ص 133.
(2) المصدر نفسه، ص 135.(1/107)
صفات روحية فائقة فليس أمام حشد المريدين وقطعان الأتباع المقلدين له إلا الدخول في طاعته، والامتثال لأوامره والانصياع لتوجيهاته، بلا نظر وتبصر وتحقيق، فيتحولون في الغاية والنهاية إلى أدوات صمّاء جامدة لا إرادة لها ولا تدبير يحركها الزعيم المتأله الروحي، كما شاء وأراد فهو المطاع الذي تنحسر إزاء إرادته ومشيئته إرادة الجميع .. يفعلون ما يؤمرون بلا عقل أو وعي أو ضمير (1).
و- التدرج في الدعوة: قامت الحركات الباطنية على أساس من التشكيلات الهرمية المتدرجة في القيادة والمسئولية وكسب المؤيدين والأتباع وعدم كشف أسرارهم الكبرى إلى كل أحد من الناس إلا بعد تدرجّه في مراتب التنظيم على وفق خطة مدروسة دقيقة يتوقف فيها الداعي مع من يريد كسبه إلى المرحلة التي يراها مناسبة له، ثم يستمر مع من يجد في نفسه قبولاً واستعداداً، فيكشف له أسرار الدعوة الخفيّة في نهاية الأمر بعد أن يكونوا قد وثقوا به الوثوق كله وأخذوا عليه العهود والمواثيق. وقد ذكر ابن النديم ما يؤيد التدرج في الدعوة الباطنية من خلال كتابهم «البلاغات السبعة» وقال: لهم البلاغ الثاني لفوق هؤلاء قليلاً، كتاب البلاغ الثالث لمن دخل في المذهب سنة, كتاب البلاغ الرابع لمن دخل في المذهب سنتين، كتاب البلاغ الخامس لمن دخل في المذهب ثلاث سنين، وكتاب البلاغ السابع وفيه نتيجة المذهب والكشف الأكبر (2) وذكر ابن النديم أن كتب الباطنية كانت شائعة متداولة بين الناس أيام معز الدولة البويهي وأن الدعاة منبثون في كل صقع وناحية (3).
6 - من أساليب الباطنية: حاول دعاة الباطنية خداع جماهير الناس بأساليب عديدة منها:
أ مظاهر التدين: عمل زعماء الدعوة الباطنية على التظاهر بالإسلام والالتزام بتعاليمه والغلو فيه من أجل الوصول إلى غاياتهم وتحقيق برامجهم الداعية إلى هدم الشريعة الإسلامية ومن ثم إدخال التأثيرات الغربية في دائرة الفكر الديني الإسلامي (4)، يقول ابن الجوزي: إن الثنوية والمجوس أرادوا إرجاع مماليكهم وإبطال الإسلام ولكنهم رأوا ضرورة إخفاء مقاصدهم بالتستر بالإسلام (5).
وقد أشار الغزالي إلى تظاهر دعاتهم بالتدين والأخلاق الفاضلة في أول اجتماعهم مع المبتدئين، قال: وقد رسموا للدعاة والمؤذنين أن يجعلوا مبيتهم كل ليلة عند واحد من المستجيبين، ويجتهدوا في استصحاب من له صوت طيب في قراءة القرآن ليقرأ عندهم زمانا،
_________
(1) المصدر نفسه، ص 136.
(2) التسلل الباطني في العراق، ص 139.
(3) المصدر نفسه، ص 140.
(4) المصدر نفسه، ص 148.
(5) المنتظم (5/ 110).(1/108)
ثم يتبع الداعي ذلك كله بشيء من الكلام الرقيق وأطراف من المواعظ اللطيفة الآخذة بمجامع القلوب، ثم يردف ذلك بالطعن في السلاطين وعلماء الزمان وجهال العوام، ويذكر أن الفرج منتظر من كل ذلك ببركة أهل بيت رسول الله وهو فيما بين ذلك يبكي أحياناً ويتنفس الصعداء، وإذا ذكر آية أو خبراً ذكر أن لله سراً في كلماته لا يطلع عليه إلا من اجتباه الله من خلقه وميزه بمزيد لطفه، فإن قدر على أن يتهجد بالليل مصلياً وباكياً عند غيبة صاحب البيت بحيث يطلع عليه صاحب البيت، ثم إذا أحس بأنه اطلع عليه عاد إلى مبيته واضطجع كالذي يقصد إخفاء عبادته (1).
ب الانتساب إلى آل البيت والدعوة إليهم: يقول أبو عثمان العراقي الحنفي: ومن وصاياهم أن يتشيع الداعي لأهل الشيعة ويستميلهم ويظهر من نفسه أنه منهم ويظهر لهم ما فعل بأهل البيت، كيف قتلوا وكيف سبيت ذراريهم ونساؤهم, ويكتب معايب الصحابة (2) , بالكذب والافتراء. ويقول الدكتور عبد الله سلوم: ..... إن التستر في الولاء لآل بيت الرسول - صلى الله عليه وسلم - وسيلة تحقق لهم غرضين في آن واحد:
- الإمعان في التستر والحماية على مواقفهم وعدم تعرضهم للاتهام والانتقام.
- الإساءة لآل البيت من خلال إضفاء صفات عليهم لا يقرها الشرع (3). والأدلة التاريخية تبين أن عدداً كبيراً منهم إما ادعى نصرة آل البيت والأخذ بحقهم، وإما ادعى أنه من صلبهم يعمل على الأخذ بحقه في ولاية المسلمين (4)، وكانت أشد الدعوات خطورة دعوة العبيديين الذين زعموا أنهم فاطميون وتمكنوا من تكوين دولة استولت على كثير من بقاع العالم الإسلامي وهددت الخلافة الإسلامية العباسية (5).
جـ - نصرة المستضعفين: من الشعارات التي رفعتها الحركات الباطنية الدعوة إلى نصرة المستضعفين وتحقيق العدل والإنصاف وقهر الظالمين وإقامة دولة العدالة والإنصاف (6).
د - التقية: أجازت الشريعة الإسلامية استعمال التقية في حالات قليلة جداً وفي حدود ضيقة جداً أيضاً، ولكن الغلاة والباطنية استعملوها بأكثر من الحد الذي تجيزه شريعة الله عز وجل بل أصبحت دينًا لهم يتدينون به (7). فقد عملت الحركات الباطنية على مخاطبة الفئات والشرائح الاجتماعية المتنافرة بما تشتهي وبما يحقق مصالحها الذاتية، ويميزون لخطاب كل فئة
_________
(1) التسلل الباطني في العراق، ص 149.
(2) الفرق المتفرقة بين أهل الزيغ والزندقة، ص 109.
(3) الغلو والفرق الغالية، ص 164.
(4) التسلل الباطني في العراق، ص 154.
(5) المصدر نفسه، ص 156.
(6) المصدر نفسه، ص 156.
(7) المصدر نفسه, ص 158.(1/109)
عبارات يلبسونها ثوب الخداع ويتسترون على حقيقتها، ويقدمون لبعضهم وعوداً مختلفة عن الوعود التي يقدمونها للبعض الآخر من أجل جمع كميّة من المؤيدين (1)، ويقول الغزالي عن الحركة الباطنية ودراسة دعاتها لطبائع الناس وميولهم ووضع الخطط المناسبة لكسبهم ومخاطبتهم بما تشتهي أنفسهم: فإن رآه مائلاً إلى الزهد والتقشف دعاه إلى الطاعة والانقياد واتباع الأمر من المطاع وزجره عن اتباع الشهوات وندبه إلى وظائف العبادات، وتأدية الأمانات؛ من الصدق وحسن المعاملة، والأخلاق الحسنة، وخفض الجناح لذوي الحاجات, ولزوم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, وإن كان طبعه مائلاً إلى المجون والخلاعة قرر في نفسه أن العبادة بله وأن الورع حماقة وأن هؤلاء المعذبين بالتكاليف مثالهم مثال الحمر المعناة بالأحمال الثقيلة، وإنما الفطنة في اتباع الشهوة ونيل اللذة وقضاء الوطر من هذه الدنيا المنقضية التي لا سبيل إلى تلاقي لذّاتها عند انقضاء العمر (2) .. إلخ.
هـ- استمالة بعض رجالات الدولة والتنسيق معهم: من الأساليب التي اتبعتها هذه الحركات في محاولة السيطرة على الدولة العباسية، كسب بعض ذوي النفوذ من الأمراء والقّواد والأعاجم المحبين للسلطان والسيطرة من غير اعتبار لمبدأ أو دين, ومن أمثلة ذلك ما قام به المؤيد هبة الله الشيرازي من استهداف مقدم الأتراك أبي الحارث البساسيري بالدعوة الفاطمية وقد كان هذا المقدم يشغل آنذاك منصب رئيس الأتراك في عهد الخليفة القائم وقد تلقى دعمًا ماديًّا وعسكريًا للسيطرة على العراق (3) وقد مر ذكر فتنته.
و - استخدام الإرهاب والعنف: ومن أساليبها استخدام الإرهاب والهجمات المسلحة ضد الخصوم (4)، فسوف نرى بإذن الله أعمالهم الوحشية في هذا المضمار.
7 - رسالة السلطان جلال الدين ملكشاه إلى حسن الصباح: كانت سياسة ملكشاه تجاه حركة حسن الصباح تتراوح بين المهادنة لهم حيناً، ومقاومتهم حيناً آخر، فعندما استولى الحسن الصباح على قلعة ألموت في عام 483هـ وانتشر فدائيوه يغتالون الآمنين، أرسل له ملكشاه الإمام أبا يوسف يعقوب بن سليمان وكان فقيهاً عالماً بالأصول على مذهب أهل السنة لمناظرتهم، ولكن يبدو أن هذه المناظرة لم تحقق الهدف الذي تطلع إليه ملكشاه من محاولة إقناعهم بالحكمة والموعظة الحسنة، ومن ثم لجأ إلى العمل المسلح فأرسل الأمير أرسلان طاش سنة 485هـ فحاصر قلعة ألموت، ولكن هزم، كما أرسل في العام ذاته أحد قواده فحاصر قلعة «ديرة» وهي مركز آخر من مراكزهم, ويبدو أن الباطنية التابعة لحسن
_________
(1) التسلل الباطني في العراق، ص 158.
(2) المصدر نفسه، ص 159.
(3) المصدر نفسه، ص162، 163.
(4) المصدر نفسه، ص 164.(1/110)
الصباح أصبحوا شوكة حتى إن ابن كثير عندما تحدث عن أهم أحداث عام 494هـ قال: فيها عظم الخطب بأصبهان ونواحيها بالباطنيّة، فقتل السلطان منهم خلقاً كثيراً، وأبيحت ديارهم وأموالهم للعامَّة، كلّ ُمن يقدرون عليه فلهم قتله وماله, وكانوا قد استحوذوا على قلاع كثيرة، وأوّل قلعة ملكوها في سنة 483هـ، وكان الذي ملكها الحسن الصبّاح، أحد دعاتهم، وكان قد دخل مصر وتعلَّم من الزنادقة الذين كانوا بها، ثم صار إلى تلك النواحي ببلاد أصبهان، فكان لا يدعو إلا غبيًّا لا يعرف يمينه من شماله، ثم يطعمه العسل بالجوز والشونيز (1)،
حتى يحترق مزاجه ويفسد دماغه، ثم يذكر له شيئاً من أخبار أهل البيت ويكذب له من أقاويل الرافضة الضُّلال، أنهم ظُلِمُوا ومُنعُوا حقَّهم، ثم يقول له: فإذا كانت الخوارج تقاتل مع بني أميّة لعليّ، فأنت أحقُّ أن تقاتل في نصرة إمامك علي بن أبي طالب، ولا يزال يسقيه من هذا وأمثاله حتى يستجيب له، ويصير أطوع له من أبيه وأمَّه، ويظهر له أشياء كثيرة من المخرقة والنَّيرنجات والحيل التي لا تروج إلا على الجهال، حتى التفَّ عليه بشر كثير وجم غفير، وقد بعث إليه السلطان ملكشاه يتهدده ويتوعّده وينهاه عن بعثه الِفداويّة إلى العلماء (2)، وهذا نص رسالة ملكشاه إلى الحسن الصّباح: أنت حسن صباح قد أظهرت ديناً وملة جديدة فأغريت الناس وخرجت على ولي عصرك، فجمعت حولك بعض سكان الجبال ثم أغويتهم بكلامك حتى حملتهم على قتل الناس وطعنت في الخلفاء العباسيين الذين هم خلفاء الإسلام وبهم استحكم قوام الملك والملّة ونظام الدين والدولة، فعليك أن ترجع عن هذه الضلالة وتكون مسلماً وإلا فقد عينت لك جيوشاً وأرجأت توجهها حتى تجيء إلينا أنت وجوابك، وحذار حذار على نفسك ونفوس تابعيك فارحمها ولا تلقها في ورطة الهلاك، ولا تغتر باستحكام قلاعك ولتعتقد حقيقة أن قلعة (ألموت) المستحكمة لو كانت برجاً من بروج السماء لجعلتها أرضاً يبابا ولساويتها مع التراب بعناية الله تعالى (3). فلما قرأ الكتاب بحضرة الرسول، قال لمن حضره من الشباب: إنَّي أريد أن أرسِلَ منكم رسولاً إلى مولاه، فاشرأبَّت وجوه الحاضرين منهم، ثم قال لشاب منهم: اقتل نفسك. فأخرج سكِّيناً فضرب بها غَلْصَمتَه (4)، فسقط ميِّتاً، وقال لآخر منهم: ألق نفسك من هذا الموضع، فرمى نفسه من رأس القلعة إلى أسفل خندقها فتقطع. فقال للرسول:
هذا الجواب (5). وجاء في رواية: أخبر سيدك أن عندي من هؤلاء عشرين ألفاً هذا
حد طاعتهم لي. فعاد الرسول إلى السلطان فأخبره بما رأى فعجب من ذلك،
_________
(1) الشونيز: الحبة السوداء.
(2) البداية والنهاية (16/ 175) ..
(3) نظام الملك، عبد الهادي محمد رضا، ص 605.
(4) الغلصمة: رأس الحلقوم بشواربه.
(5) البداية والنهاية (16/ 176).(1/111)
وترك كلامهم (1). وقد وضعت وفاة ملكشاه في عام 485هـ حداً لهذه المحاولات التي قام بها (2)، على أنه يلاحظ أن ملكشاه لم يبذل في مقاومتهم جهداً يتناسب مع قوته ومكانته فلم يتوجه بنفسه - مثلاً - لحربهم كما فعل في مناسبات كثيرة عندما كان يتهدد دولته خطر من الأخطار، كما أنه صم أذنيه عن نصائح وزيره نظام الملك عندما حذره من أخطار هذه الفئة, ولعل العذر الوحيد الذي يغفر لملكشاه سلوكه هذا أنه لم يمتد به العمر طويلاً بعد استيلاء الحسن على قلعة ألموت, وربما لو أنه مد في أجله لكان من الممكن أن يكون له مواقف (3) أكثر حزماً.
8 - جواب حسن الصبَّاح إلى السلطان ملكشاه السلجوقي: حرص الحسن الصبّاح على مراسلة السلطان ملكشاه لعله يؤثر فيه أو يجعله يتعاطف معه وإليك شيئًا من الرسالة: .... والآن أشرح شيئاً من أحوالي واعتقادي متمنياً أن يصغى السلطان إليّ ويعيرني فكره وألا يشاور في أمري من أركان دولته لا سيما «نظام الملك» لأن عدائي وخصومتي معهم غير خافية على السلطان، ثم بعد ذلك لا بد لي ولا مفر من اتباع رأي الملك المطاع الذي يحصل لديه كلامي ويتحققه من كتابي, وإذا خالفت أنا حسن ذلك الرأي السديد فإني أعد نفسي خارجاً عن دين الإسلام، أمّا إذا اتبع السلطان في أمري هؤلاء الخصوم فإنه يجب عليّ حينذاك أن أحتاط لنفسي وأفكر في أمري لأن أمامي خصمًا قويًا يجعل الباطل حقاً ويضع الحق محل الباطل، كما فعل كثيراً ولا سيما بالنسبة إليّ فلا يكن ذلك خفياً عن رأي السلطان وفكره. أما حال هذا العبد فإن أبي كان مسلماً على مذهب الإمام الشافعي المطلبي، ولما بلغت الرابعة من عمري أرسلني أبي إلى المكتب لتحصيل العلوم ولم أبلغ الرابعة عشرة حتى مهرت في سائر أنواع العلوم خصوصاً، علوم القرآن والحديث ثم جاء دور الدين، فنظرت في كتب الشافعي فرأيت في فضل أولاد النبي - صلى الله عليه وسلم - وآله وإمامتهم روايات كثيرة، فملت إلى جانبهم وأصبحت أفحص وأتجسس وأفتش عن إمام الوقت، ثم بلغ بي الحال بواسطة حكام العصر أن وقعت في أعمال الدين التي يستكبرها ويستعظمها الناس حتى نسيت تلك الفكرة وغفلت عن ذلك الجد والعمل الأولى وأصبح قلبي كله منصرفاً إلى الدنيا وخدمة المخلوق، أمّا عمل الآخرة فقد جعلته ورائي ظهرياً ولكن الله تعالى لم يرض لي بذلك فحرك عليّ خصمائي حتى أخرجوني منه بالقهر والاضطراب فهربت وسحت في البلدان والصحاري وقد لحقتني من ذلك أتعاب وزحمات كثيرة.
كما لم يخف على السلطان
_________
(1) المنتظم (9/ 121).
(2) التاريخ السياسي والفكري للمذهب السني، ص 136.
(3) المصدر نفسه، ص 136.(1/112)
حالي مع نظام الملك ولمّا أخرجني الله من تلك الهلكة علمت أن الإعراض عن الخالق والتوجه إلى المخلوق لا يثمر إلا كما أثمر لي، لذلك قمت بعزم الرجال إلى العمل الديني وطلب الآخرة وانتقلت من الري إلى بغداد وأقمت هناك مدة غير قصيرة حتى اطلعت على الأحوال والأوضاع وتفحصت عن حال الخلفاء وزعماء الدين فرأيت أن هؤلاء العباسيين خارجون عن مراتب المروءة والفتوة الإسلامية حتى أيقنت أن بناء الإسلام والديانة إن كان قائماً على إمامة هؤلاء وخلافتهم فإن الكفر والزندقة أولى وأحسن من ذلك الدين، فغادرت بغداد إلى مصر وفيها خليفة الحق الإمام المستنصر بالله ففتّشت حاله وقست خلافته بخلافة العباسيين فرأيته أحق فأقررت به ورفضت خلافة العباسيين، لذلك فقد أرسل بنو العباس إلى أمير الجيوش ثلاثة بغال ذهباً عدا سواها من الأموال والهدايا وأوعزوا إليه أن يرسل إليهم حسن صباح أو يبعث إليهم برأسه، وحيث إن عناية المستنصر كانت تشملني يومذاك فقد نجوت من تلك الهلكة، ثم لمّا كان العباسيون قد حرّكوا أمير الجيوش وأغروه بالأموال ارتأى ترشيحي إلى الروم داعياً الإفرنج والكفار إلى دين الحق، ولما سمع الإمام بذلك جعلني في كنفه وتحت رعايته ثم بعد ذلك دفع إليّ منشوراً وأمرني بإرشاد الناس إلى طريق الحق بكل ما أوتيت من قوة ومعرفة وأن أطلعهم على إمامة خلفاء مصر وحقيقتهم، فإذا نظر السلطان إلى سعادة {أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأمْرِ مِنْكُمْ} [النساء: 59]. فلابد أنه لم يعرض. وجاء في الرسالة أنه قال: بل إن هذا الدين الذي أنا عليه اليوم هو الذي كان في زمن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، وسيبقى هذا مذهب الحق حتى يوم القيامة، والآن فإن ديني هو دين الإسلام. أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله.
لم ألتفت إلى الدنيا ولا إلى أعمالها بل كل عمل أعمله وكل قول أقوله لم يكن إلا خالصاً مخلصاً لدين الحق، وإني لأعتقد أن أولاد النبي - صلى الله عليه وسلم - أحق بخلافة أبيهم من أولاد العباس وأليق بها من غيرهم، فإن رضيت أنت (ملكشاه) أن تكون هذه المملكة العظيمة التي تحملت في قبضها واستملاكها هذه الزحمات والمشقات الكثيرة وبذلت نفوس هاتيك الجنود المجندة حتى ملكتها من أقصى الشرق إلى أقصى الغرب ومن محاذاة القطب الشمالي إلى الهند تصبح خارجة من أيدي أولادك ويصبح أولادك مشردين في أنحاء المعمورة أينما وجدوا قتلوا وصلبوا.
أقول: إذا رضيت بهذا فسترضى بالخلافة لهؤلاء، فكيف ببني العباس وهم أناس أذكر لك قليلاً مما شاهدته أنا بنفسي منهم فأقول: إنهم في كل دين وملة لا يرتضيهم كل أحد ولن يرتضيهم وإذا حصل من لم يقف على حالهم فيعتقد بهم ويرى أحقية خلافتهم فإني قد وقفت على أعمالهم وأحوالهم كيف يسوغ لي أن أقبلهم وأعتقد بأحقيتهم؟ فإذا كان السلطان بعد اطلاعه ووقوفه على هذا الحال لن ينهض إلى دفعهم ورفع شرهم عن رءوس المسلمين فإني(1/113)
لا أعلم كيف يجيب ربه يوم القيامة عندما يسأله عنهم؟ وكيف ينجو من جوابه؟ هذا هو ديني منُذ كنت وما دمت حيّاً، لم أنكر ولا أنكر الخلفاء الراشدين الأربعة ولا العشرة المبشرة بل إن حبّهم في قلبي كان ويكون وهو كائن ولم أجد ديناً جديداً لم أكن اتخذته قبلاً ولم أظهر ديناً ومذهباً لم يكن قبلي، وأن مذهبي هو المذهب الذي كان لدى الصحابة في زمن الرسول - صلى الله عليه وسلم - وسيكون إلى يوم القيامة, والآن نأتي إلى القول بأني وأتباعي قد عصينا بني العباس وطغينا عليهم: إن كل مسلم مطّلع عارف بدينه وملته، كيف لا يشنّع على قوم بدؤهم ونهايتهم كان وهو كائن وسيكون على التزوير والتدليس والفسق والفجور والفساد وإن أحوالهم وأفعالهم وإن لم تكن مستورة ومختفية على العالم، غير أني أجملها لتكون لي الحجة على حضرة السلطان، نذكر أولاً أعمال أبي مسلم الخراساني، ذلك الرجل الذي سعى ذلك السعي الحثيث وتحمل تلك الزحمات العظيمة، ولم يبق من عقله وتدبيره وقوته حتى قصّر يد ظلمة بني مروان عن إراقة الدماء وأخذ أموال المسلمين وأزال عن بيت النبوة الطاهر ذلك اللعن (1)
الذي كان أليق بهم من آل الرسول، ورفع الظلم عن الدنيا، ثم أقامها بالعدل والإنفاق, انظر إلى هذا الرجل المحسن كيف غدروا به حتى أراقوا دمه ظلماً وقتلوا الألوف من أولاد رسول الله الطاهرين في أطراف البلاد وأكنافها وخلفوا الآخرين مشردين وفي الزوايا مختفين حتى خلع بعضهم ثوب السيادة حفظاً لأرواحهم ومات الكثير منهم على ذلك الحال ولم يعرفوا. ثم لم يبلغوا الخلافة «أي بنو العباس» حتى شغلوا بشرب المدام والزنا واللواط وقد بلغ فسادهم إلى أن هارون الرشيد وهو أعلمهم وأفضلهم كان يحضر النساء مجلس شرابه ولم يمنع ندماءه من ذلك المجلس حتى إن جعفر بن يحيى البرمكي الذي كان من المقيمين في مجلسه قد تصرف -أو قل زنى- بأخت الرشيد «العباسة» وولدت منه ولداً أخفوه عن الرشيد إلى أن حج في السنين ورآه هناك فقتل جعفر وكانت له أخت أصغر منها فائقة الحسن والجمال قد قربها إليه ذات يوم وزنى بها (2) ومن اللطائف المشهورة: أن الأمين ابن الرشيد لمّا ولى الخلافة بعد أبيه قرّب هذه الجميلة إليه وهي عمته فزنى بها ظانًا أنها لم تزل بكراً، ولما سألها عن ذلك، أجابت: أي بكر في بغداد لم يفضها أبوك حتى يدع أخته بكراً (3)، وبالجملة فلو أردنا تعداد أعمال هؤلاء لما وفى العمر بعددها، هؤلاء هم الخلفاء
_________
(1) هذه من الروايات التاريخية الموضوعة والضعيفة, ونلاحظ توظيف حسن الصباح لأكاذيب أسلافه لإضلال الناس, ونرى حقارة أخلاق الباطنية في بهتان رموز الأمة كهارون الرشيد وغيره والدفاع عن المجرمين كأبي مسلم الخراساني ..
(2) هذه من الأكاذيب التي دست في سيرة هارون الرشيد.
(3) من الأكاذيب والأباطيل.(1/114)
الراشدون وهؤلاء هم أركان المسلمين الذين بهم يكون قوام الملك والملة ونظام الدين والدولة فلتعط النصف إذا طعنت بهم أنا أو طعن بهم غيري، إنّا عصيناهم فهل هذا حق منا أم باطل؟ وأمّا القول: بأنّا أغرينا الجهّال، فإن من الواضح عند أرباب البصائر أن ليس من شيء أشرف من الروح وما من أحد يعاف نفسه ولا سيما رجل مثلي قليل البضاعة قليل الاستطاعة في إنجاز مثل هذا العمل (1) ...
من حدود خراسان جمع من غلمان السلطان ومن النظامية وأرباب المعاملات كانوا قد انحرفوا أكثر من هذا بين المسلمين عن العرف والمرسوم فبعضهم مد يده إلى عورات المسلمين وحريم الزهّاد والعباد حتى اختطفوا النساء بحضور أزواجهن, وبعضهم خان معاملات الديوان ولم ينصفه، وكلما استغاث الناس بأركان الدولة لم يغاثوا بل كان البلاء ينزل عليهم وعلى من تكلم وصرح بحقه. هذا «نظام الملك» مدير المملكة ووزيرها قد قتل الخواجة أبا نصر الكندري وهو الوزير الوحيد الذي لم يعهد مثله في أي ملك وفي أي عصر، إذ كان عاملاً ناصحاً وذلك بتهمة تصرفه في أملاك السلطان وأمواله حتى أعدمه من الوجود. أمّا اليوم فقد أشرك معه الظلمة في أعماله إذ كان الخواجة أبو نصر يقبض العشرة دراهم فيوصلها إلى الخزينة، أما هذا فإنه يقبض الخمسين درهماً ولا يعرف النصف درهم من أعمال السلطان. أما ما يصنعه في الطين والآجر في أطراف المملكة فذلك أظهر من الشمس؛ أين كان للخواجة أبي نصر من ولد أو بنت وهل صرف ديناراً واحداً في الخشب والطين؟ فهل لهذا العصر مع هذا العجز والصنعة أمل في النجاة؟ فإذا ما اضطر أحدهم لرفع العار أن يبذل روحه ويتركها ليدفع واحداً أو اثنين من هؤلاء الظلمة فليس ذلك ببعيد وإذا فعل فهو معذور ....
فما لحسن الصّباح وهذه القضايا؟ وما حجته بها وما هو نافع له إذا أغرى أحداً؟ وأي عمل من أعمال الدنيا يمكنه إيجاده مالم يتعلق به تقدير سماوي؟ (2) وأما أمركم بأني أترك هذا النوع وإلا نعوذ بالله أن يصدر مني عمل يخالف رأي السلطان ولكن لما كان لي أضداد وكانوا يسعون في طلبي، اخترت هذه الزاوية وجعلتها ملجأ لي وسكناً حتى أنهى حالي إلى أعتاب السلطان بعد السكون والدعة واستقرار البال، فإذ فرغت من أمر خصومي فسأتوجه إلى عتبة حضرة السلطان وأنخرط في سلك خدامه لأعمل بكل ما أوتيت من قوة على النصح بما أوجبته النصيحة من تحسين دنيا السلطان وما تبقى من أمر آخرته. أمّا إذا صدر مني خلاف، ولم أطع أوامر السلطان فسأكون ملوماً في الدنيا مطعوناً من البعيد والقريب، وسيقال إني خالفت ولي الأمر ولم أحظ بسعادة {أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ
_________
(1) الظاهر أنه هنا قد سقطت عبارة تربط الكلام.
(2) نظام الملك، ص 610، 611.(1/115)
وَأُولِي الأمْرِ مِنْكُمْ} [النساء: 59]. كما أن خصومي سوف يفترون عليّ عند السلطان بما لا علم لي به وينزلون قدري وحرمتي لديه، كما يشهرون أعمالي على الناس بالسوء والشناعة وإن كانت حسنة حتى يقضوا على سمعتي وذكرى الحسن، وإذا قدمت على السلطان ومثلت بين يديه مع وجود «نظام الملك» وخصومته لي وما عمله معي من الظلم، وما سيعمله غير مبال بكل ذلك مضافاً إلى التزام السلطان بمتابعة بني العباس، وعدم مخالفته أوامرهم ونواهيهم ومع علمه بسعيهم الحثيث في طلبي والقبض عليّ حتى ذهبت إلى مصر ولم يظفروا بي في الطريق رغم كثرة رسلهم خلفي وجواسيسهم عليّ حتى خدعوا أمير الجيوش وأقنعوه بالأموال ليقصدني ولولا عناية المستنصر بالله الخليفة الحق لكنت من الهالكين .. وأخيراً ..
وأخيراً أرسلني أمير الجيوش إلى الإفرنج من طريق البحر لأدعو الكفار إلى الحق، وبفضل الله نجوت أيضاً من تلك الورطة، ثم توجهت إلى العراق بعد جهد جهيد وبعد تلك المشقات والزحمات, وكان بنو العباس لم يزالوا ساعين في طلبي (1) واليوم وقد بلغت هذا المقام وأظهرت دعوة الخلفاء العلويين وحصلت على عدد من المجتمعات في طبرستان وقهستان والجبال واجتمع حولي كثير من الأحباب والمؤنسين والشيعة والعلويين حتى أصبح بنو العباس يخشون جانبي ويخافون سطوتي، وإذا ما تغير مزاج السلطان عليّ وسعى في قصدي لإمكان طلب العباسيين إياي منه لا يعلم ماذا سيكون وماذا سيحدث، وإذا حدث شيء على أي نوع كان فإنه لا يخلو من شناعة إذ لو أجابهم السلطان إلى طلبهم فإنه لا يعذر في شرع المروءة والإنصاف وإن لم يجب التماسهم تقوّل عليه بعض الجهال ونالوا منه وامتد على السلطان لسان التشنيع وقيل فيه: «ما هذه الغاشية التي تحملها السلطان منهم وما هو عدم تسليمه حسن صباح لهم» (2). ومن المحتمل أيضاً أن تحصل بينهم المقاومة والنزاع وفي الأخير لا تعلم نهاية الأمر. وأما حديث «سرسنك» وأمركم بأنه لو كان برجاً من بروج السماء .. فإن أهالي سرسنك يعتقدون ويثقون من قول الدهر الحق (3)، بأن هذا البرج لا يخرج من أيديهم إلى زمن بعيد ومدة قصيرة لأنه يتعلق بعناية الله تعالى، والآن وأنا قابع في هذه الزاوية عاملاً بكل فرض وسنة أرجو وأطلب من الله تعالى ورسوله أن يهتدي السلطان وأركان دولته إلى طريق الصواب، وأن يرزقهم الله دين الحق وأن يرفع فسق بني العباس وفجورهم عن الناس (4).
_________
(1) نظام الملك، ص 612.
(2) فقد ورد في حوادث سنة 458هـ أن السلطان «ألب أرسلان» ولي ابنه ملكشاه وحمل بين يديه الغاشية. دول الإسلام (1/ 407).
(3) المقصود هنا: هو المستنصر بالله الخليفة الفاطمي في مصر.
(4) نظام الملك، ص 613.(1/116)
وفي هذه الرسالة محاولة من حسن الصباح لزعزعة ملكشاه في معتقده في البيت العباسي والخلافة العباسية وحشد لها أكاذيب وأباطيل، كما أراد أن يضعف العلاقة بين ملكشاه ونظام الملك وعمل على التأثير الفكري والعقائدي على السلطان نفسه, ولا ندري مدى تأثير هذه الرسالة على ملكشاه وإن كان ابن الجوزي ذكر عن ابن عقيل؛ أن السلطان ملكشاه، كان قد فسدت عقيدته بسبب معاشرته بعض الباطنيّة، ثم تَنَصَّل من ذلك ورجع إلى الحق (1)، وهذا يظهر خطورة الدعوات الباطنية الباطلة على حكام المسلمين والنخب وإن كانوا صالحين ما لم يتحصنوا بعقيدة أهل السنة والجماعة ويتواصلوا مع العلماء الربانيين، كما أننا نلاحظ أثر الرسائل في دعوة الآخرين والتأثير عليهم سلباً أو إيجاباً, والذي يبدو أن هيبة الخليفة والخلافة العباسية قد زالت من نفس السلطان ملكشاه، فقد عزم على نفي الخليفة من بغداد, وسيأتي بيان ذلك في محله بإذن الله.
9 - دولة الإسماعيلية في إيران:
لم يكد الحسن الصباح يستولي على قلعة ألموت حتى بادر بالاستيلاء على القلاع المجاورة، فأطلق دعاته لتحقيق هذا المأرب (2). ولم يمض وقت طويل حتى كان الصباح قد استولى على المنطقة الواقعة جنوبي بحر قزوين برمتها بعد أن سيطر دعاته على القلاع المتناثرة في أرجائها، والتي تبلغ نحو الستين قلعة، كانت هذه القلاع تقع في الغالب وسط وديان صالحة للزراعة وبالقرب من موارد ثابتة للمياه، فالملاحظ أن القلاع الرئيسية في أراضي الإسماعيلية كانت تقع بالقرب من نهر «شاهرود» وفروعه (3)، وكانت القلعة تكون وحدة اقتصادية عسكرية مستقلة بذاتها، يعيش أهلها معتمدين على أنفسهم في زراعة الأرض والدفاع عن القلعة وما حولها في مواجهة أي غزو أو اعتداء، ولقد كان للوفرة والتنوع الذي امتازت به المحاصيل التي يمكن أن تزرع في هذه المنطقة أكبر الأثر في تحقيق استقلالها وتكاملها الاقتصادي, وكانت المحاصيل تزرع في الأرض المحيطة بالقلاع، ويبدو أن الإسماعيلية كانوا يضطرون إلى التحصن بقلاعهم في أثناء الحملات التي كان يشنها عليهم أعداؤهم ويتركون الأراضي المزروعة حول القلعة دون حماية مما كان يعرض محاصيلهم ومزروعاتهم للنهب والغارة والتلف، ولكن ذلك لا يعني أن هذه القلاع كانت تعيش في معزل عن بعضها البعض أو يحكمها مقدموها دون رقيب أو معقب، وإنما كانت كل واحدة من هذه القلاع تكون وحدة محلية تابعة للسلطة المركزية في قلعة ألموت، فقد كان رؤساء هذه القلاع يتبعون
_________
(1) البداية والنهاية (16/ 133).
(2) دولة الإسماعيلية في إيران، محمد السعيد، ص 95.
(3) دولة الإسماعيلية في إيران، ص 95.(1/117)
مباشرة الحاكم الإسماعيلي في قلعة ألموت الذي كان يمثل السلطة العليا (1)، ...
وكانت المناطق التي تسيطر عليها هذه القلاع جميعاً تمثل رقعة واحدة من الأرض تقع جنوبي بحر قزوين وتمتد فتشمل الطالقان في الجنوب الشرقي حتى حدود قزوين جنوباً كما تمتد غرباً حتى بهرام آباد ورودبار على الحدود المتاخمة لشرقي آذربيجان وذلك يعني أن المناطق التي سيطر عليها الإسماعيلية كانت ذات حدود سياسية تفصلها عن المناطق المجاورة لها والتي تقع تحت سيطرة غيرهم، غير أن هناك ولاية تقع خارج نطاق هذه الحدود استطاع الإسماعيلية الاستيلاء عليها وهي ولاية قهستان (2) المجاورة لخراسان منُذ سنة 484هـ، فأصبحت
تابعة للدولة، وظل حكامها المحليون يتبعون ملوك الإسماعيلية في ألموت حتى قضى
عليهم المغول (3).
10 - نظام الملك ومشروعه في محاربته للمد الباطني:
إن كتب الفرق من السنة يعتبرون الإسماعيلية بجميع فروعها من فاطمية «عبيدية» أو قرامطة أو نزارية «حشيشية» أو غيرها من فرق الغلاة الباطنية لأنهم تطرفوا في العقيدة وانحرفوا عن الإسلام الصحيح، وللرد على مزاعم الإسماعيلية الباطنية، ألف - مثلاً- أبو حامد الغزالي كتابه الموسوم بـ «فضائح الباطنية» داحضاً لادعاءاتهم، ثم إن السلطنة السلجوقية حاربت البدع الإسماعيلية، وتميز من السلاجقة وزيرهم نظام الملك الذي أدرك نشاط الدعوة الإسماعيلية في كسب أعداد كبيرة من عامة الناس، فبدأ بتأسيس عدد من دور الثقافة والتعليم من أجل نشر الوعي والثقافة الإسلامية الصحيحة لتحصين الفرد ضد دعوات الإسماعيلية وهذه المؤسسات عرفت بالمدارس النظامية, وقد أنشئت في بغداد والموصل وأصفهان ونيسابور ومرو وبلخ وهراة وغيرها من المدن، بل إن رواية تاريخية تشير إلى أنه أنشأ في كل مدينة عراقية وخراسانية مدرسة (4). وسيأتي الحديث عن المدارس النظامية في العهد السلجوقي بالتفصيل بإذن الله تعالى.
* * *
_________
(1) دولة الإسماعيلية في إيران، ص 96.
(2) هي الجبال التي بين هراة ونيسابور.
(3) دولة الإسماعيلية في إيران، ص 97.
(4) الخلافة العباسية (2/ 191).(1/118)
المبحث الخامس
وفاة الخليفة القائم بأمر الله وتولي أمر الخلافة المقتدي بالله
أولاً: وفاة الخليفة القائم بأمر الله:
في عهد السلطان ملكشاه وفي سنة 467هـ (1) توفي أمير المؤمنين القائم بأمر الله، أبو جعفر عبد الله بن القادر بالله أحمد بن الأمير إسحاق بن المقتدر بالله جعفر بن المعتضد العباسي البغدادي، كان مولده في سنة إحدى وتسعين وثلاثمائة وأمه أرمينية تُسمى بدر الدجى وقيل: قطر الندى، كان -رحمه الله- جميلاً وسيماً أبيض بحمرة ذا دين وخير وبر وعلم وعدل, بويع سنة اثنتين وعشرين وأربعمائة، وأنه نكب سنة خمسين في نائبة البساسيري، ففّر إلى البرية في ذِمَام أمير للعرب، ثم عاد إلى خلافته بعد عام بهمة السلطان طغرل بك، وأُزيلت خطبة خليفة مصر المستنصر بالله من العراق وقتل البساسيري (2). وقد مّر ذلك مفصلاً. ظهر عليه مَاشَرا (3) فافتصد ونام، فانفجر مضاده، وخرج دم كثير، وضعف، وخارت قواه، وكان ذا حظ من تعبد وصيام وتهجد، لما أعيد إلى خلافته قيل: إنه لم يسترد شيئاً مما نُهب من قصره، ولا عاقب من آذاه، واحتسب وصبر. وكان تاركاً للملاهي - رحمه الله - وكانت خلافته خمساً وأربعين سنة وغسله شيخ الحنابلة أبو جعفر بن أبي موسى الهاشمي، وعاش ستاً وسبعين سنة، وبويع بعده ابن ابنه المقتدي بالله (4).
ثانياً: خلافة المقتدي بالله:
هو أبو القاسم عدّة الدين عبد الله بن الأمير ذخيرة الدين محمد بن الخليفة القائم بأمر الله عبد الله بن القادر العباسي وأمه أرمينية تسمى أرجوان، وتدعى قرّة العين، وأدركت خلافته وخلافة ولديه المستظهر والمسترشد، وقد كان أبوه توفي وهو حمل، فحين ولد ذكراً فرح جده والمسلمون به فرحاً شديداً؛ إذ حفظ الله على المسلمين بقاء الخلافة في البيت القادري، لأنَّ من عداهم يبتذلون في الأسواق مع العوامَّ، وكانت القلوب تنفر من تولية مثل أولئك الخلافة على الناس، ونشأ هذا في حجر جدَّه القائم بأمرالله يرُبيه بما يليق بأمثاله، ويدربه على أحسن السجايا، وكان عمْر المقتدي حين ولي الخلافة عشرين سنة وهو في غاية الجمال خلْقاً وخُلُقاً، وكانت بيعته يوم الجمعة الثالث عشر من شعبان من هذه السنة،
_________
(1) سير أعلام النبلاء (18/ 318).
(2) المصدر نفسه (18/ 307).
(3) الماشرا: في عرف الأطباء هو ورم حارّ عن دم صفراوي يعم الوجه.
(4) سير أعلام النبلاء (18/ 308).(1/119)
وجلس في دار الشجرة بقميص أبيض، وعمامة بيضاء لطيفة ... وجاء الوزراء والأمراء والأشراف ووجوه الناس فبايعوه، فكان أوّل من بايعه الشريف أبو جعفر بن أبي موسى الحنبلي وأنشده قول الشاعر:
إذا سيدٌ منا مضى قام سيَّدٌ
ثم أُرتج عليه فلم يدر ما بعده، فقال الخليفة:
قئول لما قال الكرام فَعُولُ
وبايعه من شيوخ العلم الشيخ أبو إسحاق الشيرازي، والشيخ أبو نصر بن الصَّباغ، الشافعيان، والشيخ أبو محمد التميمي الحنبلي، وبرز فصلّى بالناس العصر، ثم بعد ساعة أخرج تابوت جده بسكون ووقار من غير صراخ ولا نواح فصلى عليه وحمل إلى المقبرة رحمه الله، وقد كان المقتدي بالله شهماً شُجاعاً، أيامه كلها مباركة، والرزق دار، والخلافة معظمة جدًّا، وتصاغرت الملوك له، وتضاءلوا بين يديه، وخطب له بالحرمين وبيت المقدس، والشامات كلها، واسترجع المسلمون الرُّها وأنطاكية من أرض العدو، وعُمَّرت بغداد وغيرها من البلاد، واستوزر ابن جهير ثم أبا شجاع، ثم أعاد ابن جهير وقاضيه الدّمغاني، ثم أبو بكر الشامي وهؤلاء من خيار القضاة والوزراء ولله الحمد (1)، وفي شعبان من خلافته أخرج المفسدات من الخواطئ من بغداد على حُمُرات ينادين على أنفسهن بالعار والفضيحة، وخرّب دورهن وأسكنهن الجانب الغربيَّ، وخرَّب أبرجة الحمام، ومنع من اللعب بها، وألزم الناس بالمآزر في الحمّامات ومنع أصحاب الحمّامات أن يصرفوا فضلاتها إلى دجلة وألزمهم بحفر آبار لتلك المياه القذرة صيانة لماء الشرب (2).
ثالثاً: تدهور العلاقة بين ملكشاه والمقتدي:
أخذت علاقة الخليفة بالسلطان تسوء شيئاً فشياً، وكانت بداية هذه الانتكاسة تعود إلى سوء التفاهم الذي وقع بين المقتدي وزوجته خاتون ابنة السلطان ملكشاه سنة 482هـ, وقد تطور هذا الخلاف وانكشف أمره عندما أخبرت خاتون أباها بالأمر وشكت له إعراض المقتدي عنها، وعلى الفور أرسل السلطان إلى الخليفة يطلب ابنته التي توجهت إلى بيت أبيها في أصبهان بموكب يليق بها مع ابنها الأمير أبي الفضل جعفر بن المقتدي وما كادت تستريح في بيت والدها حتى فارقت الحياة في السنة نفسها، فتمت التعزية بها في أصبهان ومدينة بغداد، وبدأ السلطان ملكشاه من الآن فصاعداً يخطط لإزعاج الخليفة والانتقام منه عندما
_________
(1) البداية والنهاية (16/ 49، 50).
(2) المصدر نفسه (16/ 51).(1/120)
تسنح الفرصة (1) وفي سنة 484هـ دخل السلطان مدينة بغداد ومكث في دار المملكة حتى يكون على مقربة من المقتدي، الذي بدأ نفوذه يتقلص أكثر فأكثر حتى لم يعد له من الأمر إلا الاسم، لا يتعدى حكمه بابه ولا يتجاوز جنابه (2)،
وأقام السلطان أيضاً عيد ميلاده على نهر دجلة وازدانت بغداد بزينة باهرة في هذه المناسبة، في البر والنهر، وبعد كل ما جرى من تحطيم لمعنويات المقتدي، أقدم السلطان ملكشاه على التدخل المباشر في مصير الخلافة العباسية، وطلب من المقتدي أن يجعل أبا الفضل جعفر ابن بنت السلطان ولياً لعهده بدلاً من ابنه الأكبر الإمام المستظهر بالله الذي كان المقتدي قد بايع له بالخلافة من بعده (3)، وحاول الخليفة أن يتملص من هذا الأمر، إلا أن السلطان كان مصمماً على الانتقام من المقتدي وإجلائه نهائياً عن مدينة بغداد، فحين دخلها سنة 485هـ، بعث إلى الخليفة يقول له: لا بد أن تترك لي بغداد وتنصرف إلى أي البلاد شئت، فانزعج الخليفة من هذا انزعاجاً شديداً ثم طلب من السلطان أن يمهله شهراً واحداً فرفض السلطان وقال: ولا ساعة واحدة. ثم اتصل الخليفة بوزير السلطان تاج الملك أبي الغنائم الذي تمكن من إقناع السلطان أن يمهل الخليفة عشرة أيام كي يرتب أموره ويرحل إلى البصرة أو إلى أي بلد يختاره (4). وهكذا حل بالمقتدي ذل وهوان لا مثيل له في حياته كلها وهو لا يستطيع أن يرد عن نفسه ولا يستطيع أن يقف في وجه ملكشاه، فالتجأ إلى ربه يدعوه ليلاً ونهاراً أن يفرج عنه ويخرجه من هذا المأزق وكان يقوم الليل ويصوم النهار خاشعاً متضرعاً إلى الله تعالى, وفي هذه الفترة خرج السلطان إلى الصيد فعاد مريضاً ومات قبل أن تنتهي فترة الإنذار التي أعطاها للخليفة وعد هذا الأمر كرامة للمقتدي، وقد تخلص من عار محقق ومأساة واقعة، وهكذا وصل الخليفة إلى درجة من الضعف لا يحسده عليها عدو (5).
وقد علق ابن كثير على دخول ملكشاه إلى بغداد وإرادته إخراج الخليفة منها بقوله: وقدم السلطان بغداد في رمضان بنية غير صالحة، فلقَّاه الله في نفسه ما يتمنَّاه لأعدائه، وذلك أنه لما استقر ركابه ببغداد، وجاء الناس للسّلام عليه والتهنئة بقدومه، وأرسل إليه الخليفة يُهنئهُ بعث إلى الخليفة يقول له: لا بد أن تترك لي بغداد وتتحول إلى أيَّ البلاد شئت، فأرسل إليه الخليفة يستنظره شهراً، فقال: ولا ساعة واحدة، فأرسل يتوسل إليه في إنظاره عشرة أيام، فأجاب إلى ذلك بعد تمنُّع شديد، فما استتم الأجل حتى خرج السلطان يوم عيد الفطر إلى العيد، فأصابته حُمى شديدة،
_________
(1) المنتظم (9/ 46، 47) , الحضارة الإسلامية في بغداد، محمد حسين، ص 37.
(2) المنتظم (9/ 57).
(3) وفيات الأعيان (5/ 288).
(4) المنتظم (9/ 62) , الحضارة الإسلامية في بغداد، ص 39.
(5) وفيات الأعيان (5/ 389) , الحضارة الإسلامية في بغداد، ص 39.(1/121)
فافتصد فما قام منها حتى مات قبل العشرة أيام ولله الحمد والمنة (1).
وبموت السلطان ملكشاه انقضى العصر الذهبي للسلطة السلجوقية وبدأ عهد الانقسامات السياسية والحروب بين ورثة العرش السلجوقي مما أدى إلى تشتيت صفوفهم وإضعاف سلطتهم, ولكن رغم هذا الضعف فقد حرص سلاطين السلاجقة على الاستئثار بالسلطة دون الخلفاء وكانوا ينتهزون كل فرصة للتعبير عن هذه الرغبة (2)، وقبل الحديث عن عهد تدهور الدولة السلجوقية لا بد من الإشارة إلى شيء من سيرة نظام الملك رحمه الله.
رابعاً: نظام الملك:
قال عنه الذهبي: الوزير الكبير، نظام الملك، قوام الدين، أبو علي الحسن بن علي بن إسحاق الطوسي، عاقل، سائس، خبير سعيد متدين، محتشم، عامر المجلس بالقراء والفقهاء، أنشأ المدرسة الكبرى ببغداد وأخرى بنيسابور، وأخرى بطوس، ورغب في العلم وأدر على الطلبة الصلات، وأملى الحديث، وبعد صيته (3) تنقلت به الأحوال إلى أن وزر للسلطان ألب أرسلان، ثم لابنه ملكشاه، فدبر ممالكه على أتم ما ينبغي، وخفف المظالم، ورفق بالرعايا، وبنى الوقوف، وهاجرت الكبار إلى جانبه (4)، وأشار إلى ملكشاه بتعيين القواد والأمراء الذين فيهم خلق ودين وشجاعة, وظهرت آثار تلك السياسة فيما بعد، ومن هؤلاء القواد الذين وقع عليهم الاختيار آق سنقر جد نور الدين محمود، الذي ولي على حلب وديار بكر، والجزيرة، قال عنه ابن كثير: من أحسن الملوك سيرة وأجودهم سريرة (5)، وقام ولده عماد الدين زنكي ببداية الجهاد ضد الصليبيين، ثم قام من بعده نور الدين محمود، هذه الأسرة هي التي وضعت الأساس لانتصارات صلاح الدين والظاهر بيبرس وقلاوون ضد الصليبيين، وافتتحت عهد التوحيد والوحدة في العالم الإسلامي (6)، وكذلك كان آق سنقر البرسقي من قواد السلطان محمود السلجوقي، وكان أميراً للموصل، واشتغل بجهاد الصليبيين، وفي سنة 520هـ قتله الباطنيون وهو يصلي في الجامع الكبير في الموصل, قال عنه ابن الأثير: وكان مملوكاً تركياً خيراً، يحب أهل العلم والصالحين ويرى العدل ويفعله، وكان خير الولاء، يحافظ على الصلوات في أوقاتها، ويصلي من الليل متهجداً (7).ويحدثنا المؤرخ
_________
(1) البداية والنهاية (16/ 122،123).
(2) الكامل في التاريخ, نقلاً عن الحضارة الإسلامية في بغداد في النصف الثاني من القرن الخامس الهجري،
ص 40.
(3) سير أعلام النبلاء (19/ 94).
(4) المصدر نفسه (19/ 95).
(5) البداية والنهاية (12/ 157).
(6) أيعيد التاريخ نفسه؟، ص 68.
(7) الكامل في التاريخ, نقلاً عن: أيعيد التاريخ نفسه؟ ص 68.(1/122)
أبو شامة عن آثار السلاجقة لا سيما في زمن نظام الملك: فلما ملك السلجوقية جددوا من هيبة الخلافة ما كان قد درس لاسيما في وزارة نظام الملك، فإنه أعاد الناموس والهيبة إلى أحسن حالاتها (1).
1 - ضبطه لأمور الدولة: لما تولى ملكشاه أمور الدولة انفلت أمر العسكر وبسطوا أيديهم في أموال الناس وقالوا: ما يمنع السلطان أن يعطينا الأموال إلا نظام الملك، وتعرض الناس لأذى شديد، فذكر ذلك نظام الملك للسلطان، وبين له ما في هذا الفعل من الضعف، وسقوط الهيبة والوهن ودمار البلاد، وذهاب السياسة، فقال له: افعل في هذا ما تراه مصلحة، فقال له نظام الملك: ما يمكنني أن أفعل إلا بأمرك، فقال السلطان: قد رددت الأمور كلها كبيرها وصغيرها إليك، فأنت الوالد، وحلف له، وأقطعه إقطاعاً زائداً على ما كان، وخلع عليه، ولقبه ألقاباً من جملتها: أتابك، ومعناه الأمير الوالد، فظهر من كفايته وشجاعته وحسن سيرته ما أثلج صدور الناس، فمن ذلك أن امرأة ضعيفة استغاثت به، فتوقف يكلمها وتكلمه، فدفعها بعض حجّابه، فأنكر ذلك عليه، وقال: إنما استخدمتك لأمثال هذه، فإن الأمراء والأعيان لا حاجة لهم إليك. ثم صرفه عن حجابته (2).
2 - التصور النظري للدولة عند نظام الملك: كان النظام مؤمناً بالإسلام مقدساً لتعاليمه كما كان شغوفاً بعلومه محترماً لأعلامه حتى صار دينه ودولته على السواء، وأن كلاّ منهما يكمل الآخر كما تستكمل الأرض بالسماء .. ولفرط تثمين النظام للدين وشدة دفاعه عن الدولة يحار فإنه يرى الدولة وسيلة من وسائل نشر الإسلام وإذاعته بين الناس وقد ظهر علماء كرام في عهد النظام، بينوا ارتباط الدين بالدولة، بحيث صار وسيلة لها وغاية في آن واحد، فالإمام الغزالي والماوردي يقولان: إنه ليس دين زال سلطانه إلا بدلت أحكامه وطمست أعلامه وكان لكل زعيم فيه بدعة، كما أن السلطان إن لم يكن على دين تجتمع به القلوب حتى يرى أهل الطاعة فيه فرضاً والتناصر له حتماً (3). وقيل: الدين أس والسلطان حارس، وما لا أس له فمهزوم وما لا حارس له فضائع (4).
وشاعت هذه المقولة أيضاً في شرق العالم الإسلامي وأخذ يرددها الطرطوشي وابن خلدون (5) وغيرهم في غربه (6) ... وبذلك الدافع من إيمانه القوي في الدين واعتقاده الراسخ
_________
(1) الروضتين في أخبار الدولتين, نقلاً عن: أيعيد التاريخ نفسه؟.
(2) الكامل في التاريخ, نقلاً عن: الدولة العثمانية للصَّلابي.
(3) أدب الدين والدنيا، ص 115، نظام الملك، ص 412.
(4) الاقتصاد في الاعتقاد للغزالي، ص 135.
(5) المقدمة، ص 115، نظام الملك، ص 413.
(6) نظام الملك، ص 413.(1/123)
في إصلاحه للحياة الفانية، وبذلك اليقين من أعماق نفسه بضرورة الدولة العادلة لرعاية الناس وإسعادهم كتب رسالته في السياسة ووضع فيها الأسس العامة للدولة الجديدة التي كان ولم يزل يدأب من أجلها ويضع الخطط اللازمة لتكوينها (1)، وما كان النظام خيالياً حالماً وهو يخطط لمعالم دولته المنشودة، كمن يرسم صورة زيتية على ورقة بيضاء استجابة لداعي الفن أو كمن سبقه من أصحاب الجمهوريات والمدن الفاضلة وإنما كان أقرب إلى الواقع منه إلى الخيال (2)، وقد انطلقت رؤيته للدولة من أصول المذهب السني والتي نظّر لها علماء عصره -كالغزالي والجويني- وهؤلاء دعمهم النظام دعماً معنوياً ومادياً يأتي بيانه في محله بإذن الله تعالى، وقد كان سلاطين السلاجقة الأوائل يدينون بالإسلام وكانوا في أشد الحاجة لفهمه ولذلك فقد حاول وزيرهم الكبير نظام الملك أن يوجه عنايتهم إلى العلم، وحرمتهم للعلماء (3) فقد تكلم في الكتاب عن السلطان وعن واجباته واختصاصه، وعن خزينة الدولة والمراسيم السلطانية، والحاشية السلطانية، والمائدة السلطانية، والاستقبالات السلطانية، والحرس السلطاني، وناظر الخاصة، والوزير والوزارة، والموظفين في الدولة، والسفراء بين الدول، والقضاة والقضاء، والمحتسبين للمراقبة، والولاة وأمراء الإقطاع، والغلمان والتجنيد، والجيش وإعداده، والألقاب وتحديدها (4).
3 - اهتمام نظام الملك بالتنظيمات الإدارية: اهتم نظام الملك بالتنظيمات الإدارية فكان اليد الموجهة لأداء الدولة في عهد السلطان ألب أرسلان، واتسعت سلطاته في عهد السلطان ملكشاه (5)، فأشرف بنفسه على رسم سياسة الدولة الداخلية والخارجية بشكل كبير، مستفيداً من فهمه ومعرفته لنظم الإدارة، وقد تضمن كتاب «سياست نامه» الذي ألفه هذا الوزير في الآراء والنظريات الإدارية التي تعتبر أساساً لنظام الحكم وإدارة الدول والممالك (6)، وتظهر من خلال كتاب «سياست نامه» أهم الطرق الإدارية التي اتبعها الوزير نظام الملك في إدارته للدولة السلجوقية، ويأتي في مقدمتها وقوفه بشدة ضد تدخل أصدقاء السلطان المقربين في شئون الدولة، حتى لا يتسبب ذلك في اضطراب إدارتها (7). كذلك كان يهتم بشكل خاص بالبريد الذي كان رجاله يوافون الحكومة بكل أخبار البلاد الخاضعة لها (8). هذا فضلاً عن حرصه الشديد على إرسال المخبرين إلى جميع الأطراف في هيئة التجار والسياح والمتصوفة والدراويش
_________
(1) نظام الملك، ص 413.
(2) نظام الملك، ص 413.
(3) المصدر نفسه، ص 415.
(4) المصدر نفسه، ص 409 - 451.
(5) نظام الوزارة في الدولة العباسية، د محمد الزهراني 172.
(6) نظام الوزارة في الدولة العباسية، د محمد الزهراني 172.
(7) نظام الملك: سياست نامه، ص 234.
(8) المصدر نفسه، ص 102.(1/124)
والعقارين (1)، يتنسمون الأخبار، ويرسلونها للسلطان أولاً بأول حتى لا يخفى عليه شيء من أمور مملكته (2). وقد نجح نظام الملك في إحباط عدد من المؤامرات ضد الحكومة المركزية بفضل ما كان يصل إليه عن طريق أولئك المخبرين (3)، كما عمل نظام الملك على الحد من استغلال الموظفين والعمال لسلطاتهم حتى لا يرهقوا الرعية بالرسوم والضرائب الباهظة (4)، وكان يغير الولاة والعمال مرة كل سنتين أو ثلاث ضماناً لعدم تلاعبهم في أعمالهم (5)،
ولما ألغى السلطان ألب أرسلان وظيفة «صاحب البريد» ووظيفة «صاحب الخبر» (6)، رتب وزيره نظام الملك في كل مدينة رجلاً نزيهاً لمراقبة الوالي والقاضي والمحتسب ومن يجري مجراهم من الموظفين وموافاتهم بأخبارهم أولاً بأول، كذلك كان نظام الملك يدقق في اختيار الموظفين، فيختار من كان منهم أغزر علماً وأزهد نفساً وأعف يداً وأقل طمعاً. وكان يختار لوظيفتي «صاحب البريد» و «صاحب الخبر» أناساً لا يرقى الشك إليهم لحساسية هذا العمل، ويتم تعيينهم من قِبل السلطان نفسه، وكان نظام الملك يصرف مرتبات مجزية لموظفي الدولة، خشية أن يضطر الموظف إلى الاختلاس من مال الدولة، أو يستغل منصبه ويتسلط على أموال الرعية (7).كما كان حريصاً على مراجعة حسابات الدولة في نهاية كل عام لمعرفة الدخل والمنصرف والموازنة بينهما، ولكي يضمن هذا لنظام الملك تنفيذ خطته الإدارية بدقة استعان بعدد من كبار موظفي الدولة المخلصين والأكفاء، وكون منهم ما يشبه المجلس الاستشاري (8)، مهمته - فيما يبدو- دراسة ما يعرض عليه من أمور مهمة ووضع الحلول الملائمة لها، ومن ثم متابعة تنفيذها بدقة (9)، وكانت شئون دولة السلاجقة قبل تولي نظام الملك الوزارة غير منظمة، فتطرق الخلل إلى إدارة الولايات التابعة لها، وساءت الحالة المالية فيها نتيجة لخراب أراضيها، ولعدم قيام المشرفين عليها بما تحتاج إليه من عمارة وإصلاح، فلما جاء نظام الملك إلى الوزارة نظم شئون تلك الولايات، وعمر أراضيها، وأقر سلطة الدولة في النواحي التي كادت تخرج من حظيرتها.
4 - نظام الملك والتفكير الاقتصادي: كان لنظام الملك دور مهم في إصلاح الأراضي الزراعية، وتنظيم توزيعها، فقد جرت العادة لدى الخلفاء والأمراء أن تجني الأموال في البلاد، وتجمع في العاصمة (10)، فلما اتسعت رقعت الدولة السلجوقية في عهد نظام الملك لاحظ أن دخل الدولة من خراج الأراضي الزراعية قليل لحاجتها إلى الإصلاح، فضلاً عن عدم اهتمام
_________
(1) العقارين: باعة العقاقير الطبية.
(2) سياست نامة, ص 107.
(3) سياست نامة, ص 107.
(4) المصدر نفسه، ص 51، 52.
(5) المصدر نفسه، ص 69.
(6) المصدر نفسه، ص 102.
(7) نظام الوزارة في الدولة العباسية للزهراني، ص 174.
(8) نظام الوزارة في الدولة العباسية للزهراني، ص 174.
(9) نظام الوزارة في الدولة العباسية للزهراني، ص 174.
(10) نظام الوزارة في الدولة العباسية للزهراني، ص 174.(1/125)
الولاة بها (1)، فوجد أن من الأصلح للدولة أن توزع النواحي على شكل إقطاعات على رؤساء الجند، على أن يدفع كل مقطع مبلغاً من المال لخزانة الدولة مقابل استثماره للأراضي التي أقطعت له، فكان هذا الإجراء سبباً في تنمية الثروة الزراعية إذ اهتم المقطعون بعمارتها مما أدى إلى زيادة إنتاجها، وظل هذا النظام قائماً حتى زالت الدولة السلجوقية (2)، ويلاحظ أن نظام الإقطاع في العهد السلجوقي يختلف كثيراً عن الإقطاع في العهد البويهي، لأن الإقطاع في العهد البويهي لم يكن عاماً شاملاً، ولم يشمل كل العسكريين، وكان الهدف منه تعويض الجند عن أرزاقهم المتأخرة، وليس الإصلاح الزراعي حتى إن بعض القواد البويهيين كانوا يخربون إقطاعاتهم ثم يردونها ويعتاضون عنها بإقطاعات أخرى يختارونها من أجل تحسين دخلهم الشخصي لا دخل الدولة (3) أما في العهد السلجوقي فيتعلق حق المقطع بخراج الأرض لا بالأرض ذاتها وليست له سيطرة على المشتغلين بها، كما أنه يخضع لسلطة الحكومة وعليه ألا يسيء استعمال إقطاعه، كما يجوز نزع الإقطاع من المقطع إذا لم يقم بالالتزامات المفروضة عليه (4)،
وكان الإقطاع في العهد السلجوقي لفترة محددة، لهذا عمل المقطعون جهدهم على تحسين إقطاعاتهم وتنظيمها والاستفادة منها، وتنفيذ جميع الالتزامات المفروضة عليهم كي يكسبوا رضا الحكومة ويستمروا في استثمار الأراضي التي أقطعت لهم (5)، وكذلك طلب الوزير نظام الملك من العمال والولاة أن يكونوا على صلة تامة بالمزارعين، ويتفقدوا أحوالهم، ويمدوا لهم يد المساعدة بتزويد من يحتاج منهم بالبذور والدواب، وأن يحسنوا معاملة الزراع، حتى لا يضطروا إلى هجر مواطنهم (6)، ويبدو أن الوزير نظام الملك استهدف من توزيعه الأراضي على رؤساء الجند كإقطاعات عدة أمور، وهي أنه أدرك أن معظم أفراد الجيش السلجوقي من قبائل مختلفة العناصر، فأراد أن يجعل تلك الجماعات تستقر في أراض تقطع لها، فترتبط بالأرض، وتشعر بشعور المواطنة، مما يسهل على الدولة السيطرة عليها، وتقل المنازعات فيما بينها، مما يخفف أعباء الحكومة المركزية الإدارية والحربية، إذ تصبح تلك الإقطاعيات مستقلة بتنظيم أحوالها وتستطيع الوقوف في وجه من يحاول الاعتداء عليها، كما أن سكن تلك الجماعات في أراض زراعية محددة يدفعها إلى استصلاح الأرض وزراعتها والاستفادة من خيراتها، فتزدهر الزراعة التي تعد من موارد الثروة (7).
_________
(1) آل سلجوق للبنداري، ص 55.
(2) طبقات الشافعية (4/ 317).
(3) تجارب الأمم مسكويه (2/ 76، 97).
(4) العراق في العصر السلجوقي، حسين أمين، ص 207.
(5) سياست نامه، ص 69.
(6) نظام الوزارة في الدولة العباسية، ص 181.
(7) نظام الوزارة في الدولة العباسية، ص 181.(1/126)
5 - عناية نظام الملك بالمنشآت المدنية: كان للوزير السلجوقي نظام الملك الطوسي اهتمام كبير بالمنشآت المدنية، خاصة دور العبادة، فبنى كثيراً من المساجد في مختلف البلاد الخاضعة للسلاجقة (1)، كما اهتم بعمارة الحرمين الشريفين بمكة المكرمة والمدينة النبوية، وأقام العديد من الرباطات بالعراق وفارس للعباد والزهاد وأهل الصلاح والفقراء، ورتب لهم ما يحتاجون إليه من غذاء وكساء (2)، وبنى الوزير نظام الملك مارستانًا بمدينة نيسابور (3).
6 - أثره في النهوض بالحركة العلمية والأدبية: بذل الوزير نظام الملك جهداً واضحاً للنهوض بالحركة العلمية والأدبية وكان محباً لأهل العلم، كثير الإحسان إليهم، حتى إنه رتب للعلماء رواتب ثابتة تصرف لهم بانتظام (4)، وكان يقوم بصرف مرتبات ثابتة لاثنى عشر ألف رجل من رجال العلم في مختلف أنحاء الدولة الإسلامية, وكان مجلس الوزير نظام الملك يضم فحول العلماء في شتى فنون المعرفة، وقام بإنشاء المكتبات وزودها بالكتب، فكانت سوق العلم في أيامه -كما يقول ابن الجوزي- قائمة والعلماء في عهده مرفوعي الهامة (5)، وقام بتأسيس المدارس النظامية، وقد انتشرت في كل من بغداد والبصرة والموصل وأصفهان وآمل وطبرستان ومرو ونيسابور وهراة وبلخ (6)، وقام نظام الملك بإنشاء هذه المدارس في عهد السلطان السلجوقي ألب أرسلان (7) وسيأتي الحديث عنها في مبحث مستقل بإذن الله تعالى. كان النظام رحمه الله يحب العلم وخصوصاً الحديث، شغوفاً به وكان يقول: إني أعلم بأني لست أهلاً للرواية ولكني أحب أن أربط في قطار (8) نقلة حديث رسول الله (9)، فسمع من القشيري، وأبي مسلم بن مهر بن يزيد، وأبي حامد الأزهري (10)، وكان حريصاً على أن تؤدي المدارس التي بناها رسالتها المنوطة بها, فعندما أرسل إليه أبو الحسن محمد بن علي الواسطي الفقيه الشافعي أبياتاً من الشعر يستحثه على المسارعة للقضاء على الفتن التي حدثت بين الحنابلة والأشاعرة فقام نظام الملك وقضى على الفتنة (11).
وكان مجلسه عامراً بالفقهاء والعلماء حيث يقضي معهم جُلّ نهاره فقيل له: إن
_________
(1) دول الإسلام (1/ 269) , نظام الوزارة في الدولة العباسية، ص 197.
(2) طبقات الشافعية (4/ 312) , نظام الوزارة في الدولة العباسية، ص 197.
(3) طبقات الشافعية (4/ 312) , نظام الوزارة في الدولة العباسية، ص 197.
(4) آل سلجوق، للبنداري, ص 56.
(5) نظام الوزارة في الدولة العباسية، ص 190.
(6) المدارس النظامية في بغداد، مجلة سومر ج2، المجلد التاسع، ص 317.
(7) نظام الوزارة في الدولة العباسية، ص 190.
(8) قطار: قافلة.
(9) البداية والنهاية (12/ 150).
(10) سير أعلام النبلاء (19/ 95).
(11) الكامل في التاريخ (6/ 276) , الدولة العثمانية للصَّلاَّبي، ص 35.(1/127)
هؤلاء شغلوك عن كثير من المصالح، فقال: هؤلاء جمال الدنيا والآخرة، ولو أجلستهم على رأسي لما استكثرت ذلك، وكان إذا دخل عليه أبو القاسم القشيري، وأبو المعالي الجويني قام لهما وأجلسهما معه في المقعد، فإن دخل أبو علي الفارندي قام وأجلسه مكانه، وجلس بين يديه, فعوتب في ذلك فقال: إنهما إذا دخلا عليّ قالا: أنت وأنت، يطرونني، ويعظمونني ويقولون فيّ ما لا فيّ، فأزداد بهما ما هو مركوز في نفس البشر، وإذا دخل عليّ أبو علي الفارندي ذكرني عيوبي وظلمي، فأنكسر، فأرجع عن كثير مما أنا فيه (1).
7 - شيء من عبادته وتواضعه ومدح الشعراء له: قال عنه ابن الأثير: وأما أخباره، فإنه كان عالماً ديناً, وجواداً عادلاً، حليماً، كثير الصفح عن المذنبين، طويل الصمت، كان مجلسه عامراً بالقراء، والفقهاء، وأئمة المسلمين، وأهل الخير والصلاح (2) كان من حفظة القرآن، ختمه وله إحدى عشرة سنة واشتغل بمذهب الشافعي، وكان لا يجلس إلا على وضوء، وما توضأ إلا تنفَّل (3)، وإذا سمع المؤذن أمسك عن كل ما هو فيه وتجنبه فإذا فرغ لا يبدأ بشيء قبل الصلاة، وكان إذا غفل المؤذن ودخل الوقت أمره بالأذان، وهذا قمة حال المنقطعين للعبادة في حفظ الأوقات، ولزوم الصلوات, وكانت له صلة بالله عظيمة، وكان يواظب على صيام الإثنين والخميس، وله الأوقاف الدّارة الصدقات الباّرة (4). وقال ذات مرة: رأيت في المنام إبليس فقلت له: ويحك خلقك الله وأمرك بالسجود له مشافهة فأبيت، وأنا لم يأمرني بالسجود له مشافهة وأنا أسجد له في كل يوم مرات, فأنشد يقول:
من لم يكن للوصال أهلاً ... فكل إحسانه ذنوب
وقد أجلسه المقتدي مرة بين يديه وقال له: يا حسن رضي الله عنك رضا أمير المؤمنين عنك (5).
وكان يتمنى أن يكون له مسجد يعبد الله فيه مكفول الرزق, قال في هذا المعنى: كنت أتمنى أن يكون لي قرية خالصة، ومسجد أتفرد لعبادة ربي، ثم تمنيت بعد ذلك أن يكون لي رغيف كل يوم، ومسجد أعبد الله فيه (6)، ومن تواضعه أنه كان ليلة يأكل الطعام، وبجانبه أخوه أبو القاسم، وبالجانب الآخر عميد خُراسان، وإلى جانب العميد إنسان فقير، مقطوع اليد، فنظر نظام الملك فرأى العميد يتجنب الأكل مع المقطوع فأمره بالانتقال إلى الجانب الآخر، وقرب المقطوع إليه
_________
(1) البداية والنهاية (16/ 129).
(2) الكامل في التاريخ (6/ 337).
(3) سير أعلام النبلاء (19/ 96).
(4) البداية والنهاية (16/ 126).
(5) المصدر نفسه (16/ 127).
(6) الكامل في التاريخ (6/ 338) , الدولة العثمانية للصَّلاَّبي، ص 3.(1/128)
فأكل معه. وكانت عادته أن يحضر الفقراء طعامه ويقربهم إليه ويدنيهم (1)، ومن شعره:
بعد الثمانين ليس قوة ... قد ذهبت شهوة الصبوة
كأنني والعصا بكفي ... موسى ولكن بلا نُبُوَّة (2)
وينسب إليه أيضاً:
تقوس بعد طول العُمر ظهري ... وداستني الليالي أيَّ دوس
فأمشي والعصا تمشي أمامي ... كأن قوامها وتر بقوس
وكان يتأثر بسماع الشعر, فعندما دخل عليه أبو علي القومَسَاني في مرضة مرضها يعوده فأنشد يقول:
إذا مرضنا نَوينا كل صالحة ... فإن شفينا فمنا الزيغ والزّللُ
نرجو الإله إذا خفنا, ونسخطه ... إذا أمنا فما يزكو لنا عمل
فبكى نظام الملك وقال: هو كما يقول (3).
وقد مدحه الشعراء ومما قالوا فيه:
إذا زاره العافي تهلل وجهه ... وبشَّره منه التبسُّمُ والبشر (4)
وقالوا فيه:
ما خلق الله تعالى وجلّ ... مثل وزير الوزراء الأجلّ
أروع كالنَّصل ولكنَّه ... أمضى من النصل إذا ما يسل (5)
8 - وفاته 485هـ: في عام 485هـ يوم الخميس في العاشر من شهر رمضان وحان وقت الإفطار، صلّى نظام الملك المغرب، وجلس على السماط، وعنده خلق كثير من الفقهاء والقراء والصوفية، وأصحاب الحوائج فجعل يذكر شرف المكان الذي نزلوه من أراضي نهاوند، وأخبار الوقعة التي كانت بين الفرس والمسلمين، في زمان أمير المؤمنين عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -، ومن استشهد هناك من الأعيان، ويقول: طوبى لمن لحق بهم، فلما فرغ من إفطاره، خرج من مكان قاصداً مضرب حرمه فبدر إليه حدث ديلمي، كأنه مُستميح أو مستغيث، فعلق به وضربه، وحمل إلى مضرب الحرم، فيقال: إنه أول مقتول قتلته الإسماعيلية
_________
(1) الكامل (6/ 338).
(2) طبقات الشافعية (4/ 328).
(3) حول الأدب في العصر السلجوقي، ص 128.
(4) حول الأدب في العصر السلجوقي، ص 128.
(5) حول الأدب في العصر السلجوقي، ص 128.(1/129)
«الباطنية»، فانبث الخبر في الجيش وصاحت الأصوات، وجاء السلطان ملكشاه حين بلغه الخبر، مظهراً الحزن، والنحيب والبكاء, وجلس عند نظام الملك ساعة، وهو يجود بنفسه حتى مات، فعاش سعيداً فقيداً حميداً (1)، وكان قاتله قد تعثر بأطناب الخيمة، فلحقه مماليك نظام الملك وقتلوه, وقال بعض خدامه: كان آخر كلام نظام الملك أن قال: لا تقتلوا قاتلي، فإني قد عفوت عنه وتشهّد ومات (2) ولما بلغ أهل بغداد موت نظام الملك حزنوا عليه وجلس الوزير والرؤساء للعزاء ثلاثة أيام, ورثاه الشعراء بقصائد منهم مقاتل بن عطية حيث قال:
كان الوزير نظام الملك لؤلؤة ... يتيمة صاغها الرحمن من شرف
عزَّت فلم تعرف الأيام قيمتها ... فردّها غيرة منه إلى الصدف
قال عنه ابن عقيل: بهر العقول سيرة النظام جوداً وكرماً وعدلاً وإحياء لمعالم الدين، كانت أيامه دولة أهل العلم، ثم ختم له بالقتل وهو مارٌّ إلى الحج في رمضان فمات ملكاً في الدنيا ملكاً في الآخرة, رحمه الله (3)، وقيل إن قتله كان بتدبير السلطان، فلم يُمهل بعده إلا نحو شهر (4).
* * *
_________
(1) طبقات الشافعية الكبرى (4/ 322، 323).
(2) المصدر نفسه (4/ 323)، سير أعلام النبلاء (19/ 95).
(3) سير أعلام النبلاء (19/ 96).
(4) سير أعلام النبلاء (19/ 96).(1/130)
المبحث السادس
عهد التفكك والضعف وانهيار الدولة السلجوقية
بعد وفاة السلطان ملكشاه تفككت الدولة السلجوقية وبدأت عوامل الضعف والانهيار تدب في أوصالها بين أبنائه وإخوته وأحفاده، فضعفت بالتالي سيطرة الدولة على مختلف أقاليمها, ومن الأسباب التي أدت إلى هذا الضعف تنافس الأمراء على عرش السلطنة، الأمر الذي أحدث انقساماً كبيراً وبصفة خاصة بين بركيارق الابن الأكبر لملكشاه وأخيه الأصغر محمود، وكان لكل منهم مؤيدون وموازرون حين كان يؤيد بركيارق نظام الملك قبل وفاته ومن بعده أبناؤه وأتباعه وأفراد أسرته في حين أن محمود كانت أمه تركان خاتون (1) , تقف إلى جانبه والوزير تاج الملك الشيرازي الذي خلف نظام الملك، وانقسم السلاجقة إلى فريقين متنازعين كل منهما يجاهر بالعداء للآخر وصولاً إلى عرش السلطنة, وقد استطاعت تركان خاتون بالاتفاق والتدبير مع تاج الملك إخفاء نبأ وفاة السلطان ملكشاه حتى يتسنى لها أن ترتب أمورها وحتى تتم البيعة لابنها محمود الذي كان يبلغ من العمر وقتئذ أربع سنين وشهورًا (2)، وكان عند وفاة أبيه في بغداد، أما بركيارق فكان في الثالثة عشرة من عمره عندما مات أبوه وكان حينئذ في أصفهان (3).
أولاً: اعتراف الخليفة العباسي بمحمود بن ملكشاه سلطاناً:
كانت الظروف في صالح محمود في أول الأمر، وقد بايعه العسكر لأمور أحدها أن أمه «تركان خاتون» كانت مستولية ومسيطرة على الأمور في أيام السلطان ملكشاه، وكانت محسنة للأجناد ومن ثم قدموا ولدها وبايعوه. والثاني: أنها كانت من نسل الملوك الترك، وقيل إنها من نسل أفراسياب، والثالث: أن الأموال كانت بيدها ففرقتها فيهم فبايعوه وأخذوه معهم وعادوا به إلى أصفهان (4)، وقد بعثت تركان خاتون إلى الخليفة العباسي المقتدي بأمر الله في بغداد تطلب منه أن يعهد بالسلطنة لابنها محمود بن ملكشاه وأن تكون الخطبة باسمه، ولكن الخليفة لم يجبها إلى ما طلبت ورد عليها قائلاً: إن ابنك طفل صغير وهو لا يليق بالملك. غير أن الخليفة العباسي ما لبث أن اضطر إلى الاعتراف به سلطاناً عقب وفاة
_________
(1) هي ابنة طغراج الملك وهم من نسل أفراسياب وهم الأيلخانيون حكام بلاد ما وراء النهر وتركستان. وباشرت أمور الدولة بعد ملكشاه وكانت حازمة قادت الجيوش بنفسها.
(2) مرآة الزمان (1/ 221)، السلاجقة في التاريخ والحضارة، ص 45.
(3) الدولة السلجوقية في عهد السلطان سنجر، ص 28.
(4) الدولة السلجوقية في عهد السلطان سنجر، ص 28.(1/131)
أبيه (1)، ومما قيل في هذا الصدد أن الخليفة العباسي المقتدي بأمر الله اضطر إلى الاعتراف بسلطنة محمود، لأن ملكشاه كان يحتفظ بابنه الأمير جعفر (2) عنده ليهدد به الخليفة, وقد كان برفقة جده السلطان ملكشاه بعد وفاة والدته خاتون وكان السلطان ملكشاه عازماً على توليته الخلافة بدلاً من أخيه المسترشد الذي ولي عهد الخليفة المقتدي بأمر الله، ولكن وفاة السلطان ملكشاه غيرت مجرى الأمور وعاد أبو الفضل جعفر إلى والده المقتدي بعد وفاة جده السلطان ملكشاه (3). فخشي الخليفة من تكرار التجربة مع سلاطين السلاجقة ولذلك وافق على ما رأته خاتون من إنفاذ الأمير جعفر إلى بغداد لقاء اعتراف الخليفة بسلطنة ولدها محمود (4)، ومهما يكن من أمر، فإن الخليفة العباسي منزوع النفوذ والسلطان ولا يملك القدرة على الاعتراض.
وفي 22 من شوال سنة 485هـ، أقيمت الخطبة لمحمود في مساجد بغداد ومنحه الخليفة العباسي المقتدى بأمر الله الخلع السلطانية ولقبه «ناصر الدنيا والدين» (5)، واشترط الخليفة العباسي على تركان خاتون أن تكون السلطنة لولدها محمود، والخطبة له، بينما يختص الأمير أنر (6) بتدبير الجيوش ورعاية البلاد، ويختص تاج الملك بجباية الأموال، وترتيب العمال، إلا أن تركان خاتون في بداية الأمر كانت غير موافقة على هذه الشروط، وكان أبو حامد الغزالي يقوم بدور الوساطة بين الخليفة العباسي وأم محمود، وبعد ذلك أقنع أبو حامد الغزالي تركان خاتون بالموافقة على شروط الخليفة، ومن ثم وافقت على تلك الشروط (7). ثم أرسلت تركان خاتون أحد أتباعها ليقبض على بركيارق، وبالفعل تم القبض على بركيارق وإيداعه السجن من قبل أتباعها لكي لا يكون طليقاً ومن ثم يصبح محمود في مأمن منه، غير أن الأمر لم ينته عند هذا الحد الذي تخيلته تركان خاتون بأنه لو تم القبض على بركيارق لأصبحت في مأمن من كل محاولة لمنازعة ابنها في الحكم، فأتباع نظام الملك ومؤيدو بركيارق في أصفهان تمكنوا من إخراجه من سجن أصفهان ونصبوه سلطاناً في أصفهان وذلك نكاية في تركان خاتون.
وهكذا وجد سلطانان في وقت واحد: محمود في بغداد وبركيارق في أصفهان، ومن ثم أصبحت المنازعة بينهما على عرش السلطنة أمراً حتمياً (8).
_________
(1) مرآة الزمان (1/ 221، 223).
(2) الدولة السلجوقية في عهد السلطان سنجر، ص 29.
(3) الدولة السلجوقية في عهد السلطان سنجر، ص 29.
(4) الحياة السياسية ونظم الحكم في العراق، ص 99.
(5) المنتظم (9/ 62، 63) , دولة السلاجقة, لحسنين، ص 75.
(6) هو من أمراء عسكر تركان خاتون والدة محمود.
(7) الكامل في التاريخ (6/ 341).
(8) الدولة السلجوقية في عهد السلطان سنجر، ص 30.(1/132)
1 - القتال على عرش السلطنة بين بركيارق وتركان خاتون: كانت تركان خاتون هي البادئة بالنزاع والهجوم فسارت من بغداد إلى أصفهان مع الجيش ومعها ابنها السلطان محمود والوزير تاج الملك الشيرازي، ولما قاربت تركان خاتون أصفهان خرج منها بركيارق ومن يؤيده من النظامية متجهين نحو الري فأرسلت تركان خاتون الجيش إلى قتال بركيارق، والتقى الجيشان في بروجرد (1)، وكان ذلك في أواخر ذي الحجة 485هـ وجرت الحرب بينهم، واشتد القتال وانحاز جماعة من عسكر تركان خاتون إلى بركيارق، فلحقت الهزيمة بتركان خاتون وابنها وعادوا إلى أصفهان وتبعهم بركيارق وحاصرهم فيها (2)، واتفق الطرفان على الصلح بشرط أن تدفع تركان خاتون خمسمائة ألف دينار لبركيارق، وأن تكون بلاده أصفهان، وبلاد فارس لتركان خاتون وابنها، أما باقي البلاد فتكون لبركيارق وهو السلطان (3).
وفي شهر المحرم من سنة 486هـ نشبت معركة عنيفة بين المعسكرين: المعسكر الأول لبركيارق والمعسكر الثاني لمحمود وأمه تركان خاتون، وكانت الغلبة والكفة الراجحة للمعسكر الأول بسبب مساعدة أتباع نظام الملك وبسبب انحياز جماعة من الأمراء الذين يتبعون المعسكر الثاني لتركان خاتون وابنها محمود منهم الأمير ورجحت كفة بركيارق وقوى أمره والتقى العسكران مرة أخرى وانهزم عسكر تركان خاتون وابنها، ومن ثم هربت إلى مدينة أصفهان وتحصنت بها، وفر الوزير تاج الملك الشيرازي هارباً إلا أن النظامية قبضوا عليه وأخذوه وانتهى الأمر بقتله في المحرم سنة 486هـ، وبعد أن لاذت تركان خاتون بالفرار إلى أصفهان، وقوى بركيارق بمساعدة النظامية تتبع تركان خاتون وحاصرها في أصفهان، ولكن سرعان ما عدل عن ذلك حتى يجد الفرصة سانحة للاستيلاء على أصفهان، فتوجه إلى همذان وسعى جاهداً في تكوين جيش قوي العتاد كبير العدد حتى يستطيع به الاستيلاء على أصفهان، وقد تم له ما أراد حيث توجه بجيشه الذي أعده كما يريد إلى أصفهان وتم فتحها وقضى على تركان خاتون وأنصارها. واعترافا من بركيارق بجميل النظامية عليه اتخذ عز الملك الحسين بن نظام الملك وزيراً له (4)، وكان مقيماً في أصفهان عند وقوع هذه الأحداث (5) ولقد اتفقت تركان خاتون مع خال بركيارق إسماعيل ياقوتي (6)، ووعدته بالزواج على أن يتقدم لمحاربة بركيارق، وبالفعل توجه إسماعيل ياقوتي على رأس جيشه
_________
(1) الدولة السلجوقية في عهد السلطان سنجر، ص 30.
(2) تاريخ الإسلام، حسن إبراهيم حسن (4/ 38).
(3) الدولة السلجوقية في عهد السلطان سنجر، ص 31.
(4) المصدر، ص 33.
(5) المصدر، ص 33.
(6) العالم الإسلامي في العصر العباسي، ص 602.(1/133)
لمحاربة ابن أخته, والتقى الجيشان في رمضان 486هـ، حيث كان النصر حليف بركيارق، أما إسماعيل ياقوتي فقد أسر وقتل في نفس السنة المذكورة (1)،
وفي سنة 487هـ سار بركيارق إلى أصفهان, وفي بداية الأمر لم يسمح له بالدخول إليها، وبعد ذلك سمحوا له بالدخول خديعة كي يتم القبض عليه, وعندما قارب أصفهان خرج إليه محمود فلقيه ودخل البلد وأحاطوا به (2).
2 - وفاة محمود بن ملكشاه: ولقد حم وجدر محمود ومات في شوال من العام نفسه، وكان ذلك بمثابة الفرج بعد الشدة وجلس بركيارق للعزاء في أخيه محمود، ثم إن بركيارق جدر بعد أخيه ولكنه شفى، ولما تم شفاؤه كاتب وزيره مؤيد الملك أمراء العراق وخراسان ومن ثم عادوا إلى بركيارق، فكثر جنده وأصبح شأنه عظيماً (3).
ثانياً: انتصار بركيارق واعتراف الخليفة العباسي به سلطانا للسلاجقة سنة 487هـ:
توجه بركيارق إلى بغداد في السابع عشر من ذي القعدة عام 486هـ، وكان برفقته وزيره الجديد عز الملك الحسين بن نظام الملك، حيث طالب الخليفة العباسي المقتدى بأمر الله بأن يعترف به سلطاناً على السلاجقة، فما كان من الخليفة العباسي المقتدى بأمر الله إلا أن أجابه إلى طلبه واعترف به سلطاناً على السلاجقة في 14 محرم سنة 487هـ، ولقبه بركن الدين (4)، ونودي بركيارق سلطاناً ببغداد في 14محرم سنة 487هـ, وخطب له على المنابر وشاء القدر أن توفي الخليفة العباسي المقتدي بأمر الله في 15 محرم سنة 487هـ، وخلفه ابنه وولي عهده أبو العباس أحمد الذي لقب المستظهر بالله الذي ما كان منه إلا أن اعترف أيضاً ببركيارق سلطاناً للسلاجقة، كما بايعه بركيارق بالخلافة، وظل بركيارق في بغداد حتى ربيع الأول من سنة 487هـ ثم سار عنها متجهًا إلى الموصل (5).
1 - النزاع بين بركيارق وعمه تتش على عرش السلطنة 488هـ: لم يقتصر النزاع بين بركيارق وأخيه الأصغر محمود فحسب بل ظهر منافس آخر له ينازعه على عرش السلطنة وهو عمه تاج الدولة تتش (6)، الذي كان والياً على دمشق وما جاورها من بلاد الشام، والذي ولاه البلاد أخوه السلطان ملكشاه، ولما علم بوفاة أخيه رأى أنه أحق بأمور السلطنة من أبناء أخيه لأن أكبرهم بركيارق لم يكن يزيد على الثانية عشرة من عمره، إضافة إلى النزاع بينه وبين أخيه الأصغر محمود على السلطنة، وقد بدأ تتش في السعي للسيطرة على
_________
(1) العالم الإسلامي في العصر العباسي، ص 602.
(2) العالم الإسلامي في العصر العباسي، ص 602.
(3) المصدر نفسه، ص 34.
(4) المصدر نفسه، ص 36.
(5) الدولة السلجوقية في عهد سنجر، ص 37.
(6) المصدر نفسه، ص39.(1/134)
السلطنة وراسل تركان خاتون أرملة أخيه قبل وفاتها واتفق معها على الزواج وتواعدا على اللقاء والتعاون، فقدمت إليه فماتت في الطريق فتفرق عساكرها وانضم أكثرهم إلى بركيارق (1) , ومضى تتش في مشروعه، فاستطاع أن يغتصب حلب من آق سنقر ويمد نفوذه إلى أنطاكية ويخطب لنفسه بالسلطنة فيها سنة 486هـ، كما استطاع أن يستولى على نصيبين ويقتل من أهلها عدداً كبيراً ثم يمد نفوذه على الموصل وميا فارقين وديار بكر ويتوجه إلى أذربيجان، وكان نفوذ بركيارق في ذلك الوقت قد قوى، فسار لملاقاة عمه الثائر المغتصب، فلما التقى الجمعان، انضم آق سنقر بجيوشه إلى بركيارق كما تفرقت جيوش تتش فانهارت قوته ولم يستطع مواجهة جيوش بركيارق فقفل راجعاً إلى بلاد الشام، وقد أقام آق سنقر عند بركيارق فترة عاد بعدها إلى بلاده ليكون عيناً على تتش (2)، ولم تهدأ نفس تتش بعد هذه الهزيمة، إذ صمم على الانتقام من آقسنقر، وقد استمر النزاع بين بركيارق وعمه تتش إلى أن تمكن بركيارق من إلحاق الهزيمة به في النهاية سنة 88هـ وقيل: إن قتله كان على أيدي جماعة من أنصار آق سنقر كانوا قد أقسموا على أن يثأروا له (3).
وقد استمرت البلاد الشامية وأتابكية الموصل مسرحاً لحروب كثيرة بين صغار الأمراء، وبيئة صالحة لدسائس البيت السلجوقي في بغداد حتى استطاع عماد الدين زنكي ونور الدين محمود من بعده أن يوحدا هذه البلاد من جديد ويخضعاها لسلطة واحدة (4). ويجب أن نشير هنا إلى أن هذا التفكك الذي حدث في قلب الدولة السلجوقية كان من أكبر عوامل نجاح الحملة الصليبية الأولى على بلاد الشام، إذ لم تكن هناك القوة الإسلامية التي تستطيع أن تقف في وجهها، ففضلاً عن المنازعات التي قامت بين رضوان ودقاق ابني تتش فإن هذه البلاد كانت مسرحاً لنشاط الفاطميين في مصر (5)، كما سيأتي بيان ذلك في محله بإذن الله. وهكذا نجد أن النزاع الذي قام بين أفراد البيت السلجوقي في هذا الجزء من الشرق الإسلامي قد أدى إلى انتزاع الصليبيين معظم بلاد الشام من المسلمين (6).
2 - منافسة أرسلان أرغون بركيارق على السلطنة: ظهر منافس آخر للسلطان بركيارق ينازعه في أمور السلطنة وهو عمه أرسلان أرغون، الذي كان مقيماً في بغداد عند أخيه ملكشاه، ولما توفي ملكشاه وحدث نزاع بين بركيارق وأخيه الأصغر محمود على عرش
_________
(1) سلاجقة الشام والجزيرة، ص 101.
(2) تاريخ الدولة الأتابكية، ملوك الموصل، ص 24، 25.
(3) الشرق الإسلامي قبيل الغزو المغولي، ص 53.
(4) تاريخ الدولة الأتابكية، ملوك الموصل، ص 30 - 37.
(5) الشرق الإسلامي قبيل الغزو المغولي، ص 54.
(6) الشرق الإسلامي قبيل الغزو المغولي، ص 54.(1/135)
السلطنة توجه أرسلان أرغون إلى نيسابور، وأراد أن يفرض نفوذه عليها ولكن امتنع أهلها عن تسليمها له فسار منها إلى مرو حيث قام شحنتها -حاكمها- بتسليمها له وبذلك قوى نفوذ أرسلان أرغون بمساعدته وتوسعت مملكته وامتد سلطانه على بلخ وترمذ ونيسابور وسائر خراسان، وكاتب أرسلان أرغون ابن أخيه السلطان بركيارق يخبره بأنه تم بسط نفوذه وسلطانه على الأقاليم التي كانت لجده داود، وأنه راض كل الرضا بما سيطر عليه من هذه الأقاليم ولن يتعداها، أو يطمع في غيرها من أقاليم أخرى، إضافةً إلى أنه لن يخرج عن طوعه وأنه منفذ لما يأمره به، وكان السلطان بركيارق آنذاك مشغولاً بأخيه محمود، فأظهر موافقته على ما كاتبه به عمه أرسلان أرغون، بينما لم يكن في حقيقة الأمر موافقاً على ذلك, ومالبث أن سير عمه الآخر بورى برس بن ألب أرسلان لقتال أرسلان أرغون إلى حدود خراسان، والتقى العسكران فانهزم أرسلان أرغون وعاد إلى بلخ، حيث جمع الكثير من الأجناد وانضمت إليه حشود كبيرة من التركمان، وحينما شعر بقوته سار إلى مرو وفتحها عنوة بعد ما خرب أسوارها وقتل الكثير من أهلها، وسار إليه بورى برس بقصد قتاله، واجتمع إليه العسكران عند مرو فانهزم بوري برس وأسره واعتقله أخوه أرسلان أرغون في ترمذ، وهناك تم قتله، وبعد ذلك استبد أرسلان أرغون في حكم خراسان فهدم كل حصن فيها وخرب البلاد وظلم العباد، وكان أرسلان أرغون شديد الهيبة والظلم لغلمانه، فكانوا يخافونه خوفاً شديداً، مما دفع إلى قتله سنة 490هـ (1)،
وقد أرسل السلطان بركيارق جيشاً إلى خراسان لمحاربة عمه أرسلان أرغون ولم يكن قد علم بوفاة عمه على يد أحد غلمانه، وجعل أخاه معز الدين أبا الحارث سنجر بن ملكشاه على خراسان -الذي ولد بمدينة سنجر عام 479هـ وهي إحدى مدن الجزيرة والتي سمى على اسمها على عادة الأتراك- على رأس الجيش وأرسل معه الأمير قماج ليعاونه حتى يقضيان على فتنة عمه. وكان بركيارق قد أصدر أمراً بتولية سنجر حاكماً على خراسان حينما علم باستيلاء عمه عليها (2)، وبعد أن حاربه عمه سار بركيارق على رأس جيش آخر إلى خراسان، وقبل أن يصل إلى خراسان علم بمقتل عمه، ومن ثم دانت له بلاد خراسان، ثم أجلس أخاه سنجر على عرش خراسان سنة 490هـ ثم رجع إلى بغداد، وقد تولى سنجر الحكم على بلاد خراسان في عهد أخيه السلطان بركيارق لمدة عشرين عاماً وكان والياً على بلاد ما وراء النهر ومن ثم فقد سمى ملك المشرق (3).
_________
(1) تاريخ دولة آل سلجوق، ص 238، الدولة السلجوقية في عهد السلطان سنجر، ص 50 ..
(2) السلاجقة في التاريخ والحضارة، ص 48.
(3) العالم الإسلامي في العصر العباسي، ص 610.(1/136)
ثالثاً: النزاع بين بركيارق وأخويه محمد وسنجر على عرش السلطنة:
عاد النزاع على عرش السلطنة من جديد داخل البيت السلجوقي مرة أخرى بين بركيارق وأخويه محمد وسنجر، وقد استمر هذا النزاع خمس سنوات من عام 492هـ حتى 497هـ، وليس من المهم أن نذكر أن محمداً استطاع أن يدخل بغداد وأن يقيم الخطبة لنفسه فيها سنة 492هـ بموافقة الخليفة المستظهر العباسي الذي خلع عليه الخلع والهدايا، وكان بركيارق في هذه الأثناء مريضاً (1)، ثم استمرت الحرب مع محمد طوال عهد بركيارق الذي تمكن من إعادة الخطبة لنفسه في بغداد، ومن المهم أن نذكر أن الخليفة هو الذي كان يسمح بإعادة الخطبة لكل من دخل بغداد من هذين السلطانين المتنازعين, وهذا يدلنا على مقدار ما وصلت إليه الخلافة من ضعف, ويلاحظ أن سنجر بن ملكشاه كان قد انضم إلى أخيه محمد في صراعه مع بركيارق، ويرجع السبب في ذلك لكونهما كانا ولدين لأم واحدة (2)، وقد انتهت الحرب بين محمد وبركيارق سنة 497هـ، إذ عقد الصلح بين الطرفين في هذه السنة، يقول السيوطي: إن الحروب لما تطاولت بينهما وعم الفساد وصارت الأموال منهوبة، والدماء مسفوكة، والبلاد مخربة، والسلطنة مطموعاً فيها، وأصبح الملوك مقهورين بعد أن كانوا قادرين .. دخل العقلاء بينهما في الصلح وكتبت العهود والأيمان والمواثيق (3). ولقد تقرر أن يكون للصلح قواعد نوردها فيما يلي:
- ألا يعترض بركيارق أخاه محمد في الطبل (4).
- ألا يذكر اسم بركيارق بجانب اسم محمد في البلاد التي صارت له.
- أن يكون الاتصال بينهما عن طريق الوزراء.
- ألا يعترض أحد العسكرين الآخر في داخل حدود كل منهما.
- أن يمتد نصيب محمد من نهر اسبيندروذ (5)، إلى باب الأبواب (6)، وديار بكر والجزيرة والموصل والشام، ويكون له في العراق البلاد التي كانت تحت حكم سيف الدولة
_________
(1) الشرق الإسلامي قبيل الغزو المغولي، ص 55, وفيات الأعيان (2/ 61).
(2) تاريخ الخلفاء، ص 283 الشرق الإسلامي قبيل الغزو المغولي، ص 55.
(3) تاريخ الخلفاء، ص 283.
(4) كان من شعائر السلطنة أن تضرب الطبلخانات للسلطان خمس مرات في اليوم. انظر الدولة السلجوقية في عهد السلطان سنجر، ص 65.
(5) نهر اسبيندروذ: يطلق عليه النهر الأبيض وهو على بعد عدة فراسخ من همذان.
(6) باب الأبواب: تقع في أقصى شمالي بلاد شروان وهي ميناء على بحر قزوين.(1/137)
صدقة بن مزيد (1) وأرسل بركيارق إلى الخليفة العباسي المستظهر بالله الرسل حاملة شروط وقواعد الصلح بينه وبين أخيه محمد، فما كان من الخليفة إلا أن أجابه وأمر بإقامة الخطبة لبركيارق سنة 497هـ (2). وقد عين بركيارق سنجراً والياً على خراسان، لما يتمتع به من هيبة كبيرة وخبرة بقواعد وقوانين السلطنة والحكم في البلاد مما جعل حكمه يستمر واحدًا وستين عاماً، منها عشرون عاماً ملكاً على خراسان من قبل أخيه بركيارق، وواحد وأربعون عاماً سلطاناً للسلاجقة (3)، ومن هنا يتبين أنه بعدما طالت الحروب والنزاعات من أبناء السلطان ملكشاه، وما ترتب على ذلك من ويلات لتلك الحروب من سفك الدماء، والدمار والخراب الذي عم البلاد وانتشر بسبب النزاع على عرش السلطنة، مما أدى إلى ضعف وتفكك السلاجقة -أدرك الإخوة المتصارعون ما عم البلاد من خراب فتداعوا إلى الصلح (4).
رابعاً: وفاة بركيارق وتولى محمد بن ملكشاه السلطنة:
توفى السلطان بركيارق في سنة 498هـ ببروجرد (5) على أثر مرض أصابه، وقد عين السلطان بركيارق قبيل وفاته ابنه ملكشاه ولياً لعهده، وكان طفلاً صغيراً لم يبلغ الخامسة من عمره آنذاك, ولذلك عين الأمير أياز (6)، أتابكًا له، وسار الأمير أياز وبرفقته ملكشاه بن بركيارق إلى بغداد ونال موافقة الخليفة العباسي المستظهر بالله بإقامة الخطبة له في بغداد ولقبه بلقب جلال الدولة (7)، وكان السلطان محمد وقتذاك قد توجه إلى الموصل يخبره بأن الموصل من الأقاليم التي دانت له بعد الصلح بينه وبين أخيه السلطان بركيارق، وما كان من جكرمش إلا أن رفض تسليمها إياه مدعياً بأن ما وصل إليه من كتب السلطان بركيارق بعد الصلح تأمره ألا يسلمها إلى غيره، ولما وصل الخبر بوفاة السلطان بركيارق إلى جكرمش لم يكن أمامه مفر من أن يبذل الطاعة للسلطان محمد، وأن يسلم الموصل له (8)، وقد أسرع السلطان محمد إلى بغداد بعد أن أقيمت الخطبة بها لملكشاه بن بركيارق ودخلها من الجانب الغربي وخطب له في مساجد هذا الجانب، بينما كانت الخطبة قائمة باسم جلال الدولة ملكشاه بن بركيارق في الجانب الشرقي ومن ثم أصبح هناك سلطانان في وقت واحد (9)،
_________
(1) الدولة السلجوقية في عهد السلطان سنجر، ص 66.
(2) تاريخ الإسلام السياسي والديني والثقافي والاجتماعي (4/ 41، 42).
(3) السلاجقة في التاريخ والحضارة، ص 114.
(4) الدولة السلجوقية في عهد السلطان سنجر، ص 66.
(5) بروجرد: مدينة حسنة عرضها أكثر من طولها بنحو نصف فرسخ من مدن إقليم الجبال.
(6) من مماليك السلطان ملكشاه وقد جعله بركيارق أتابكا لابنه.
(7) الحياة السياسية ونظم الحكم في العراق، ص 204.
(8) دول الإسلام, ص 227.
(9) الحياة السياسية ونظم الحكم في العراق، ص 205.(1/138)
واستشار الأتابك أياز أتباع السلطان ملكشاه بن بركيارق فيما يفعله مع السلطان محمد، فاستقر بهم الرأي على قتاله ومنعه من السلطنة ولكن وزيره الصفي أبا المحاسن، أشار عليه بالصلح مع السلطان محمد وتسليمه السلطنة، فأرسل أياز وزيره الصفى أبا المحاسن إلى السلطان محمد طلباً للصلح، وتسليمه السلطنة، واعتذاره عما بدر منه، وطلب العهد والأمان لملكشاه بن بركيارق ولنفسه وللأمراء الذين معه, وأجاب السلطان محمد الأمير أياز إلى ما التمسه منه (1)، وكان الذي أخذ البيعة بالصُّلح إلكيا الهراس مدرس النظامية (2)، فهذا الفقيه لم يقف أمام تلك الصراعات الدامية التي كانت تهدد كيان الدولة الإسلامية آنذاك موقف المتفرج، وإنما كان له دور كبير في فض كثير من المنازعات القائمة بين الحكام والملوك في بعض البلدان الإسلامية حرصاً على تماسك المسلمين ووحدتهم، وقد نجح بالفعل إلى حد كبير في الصلح بين ملكشاه بن بركيارق وعمه السلطان محمد (3)، وأصبحت السلطنة لمحمد دون منازع وخطب له في سنة 498هـ، يقول ابن كثير فيمن توفي من الأعيان عام 498هـ: بركيارق بن ملكشاه ركن الدولة السلجوقي، خطب له ببغداد سِتَّ مرات وعزل عنها ست مرات وكان عمره يوم مات أربعاً وعشرين سنة وشهوراً وقام من بعده ولده ملكشاه، فلم يتم أمره بسبب منازعة عمه محمد له (4). وقال الذهبي: وكان بركيارق شاباً شهماً شجاعاً لعاباً، فيه كرم وحلم، وكان مدمناً للخمر، تسلطن وهو حدث، له ثلاث عشرة سنة، فكانت دولته في نكد وحروب بينه وبين أخيه محمد، يطول شرحها وهي مذكورة في الحوادث ...
مات بعلة السلَّ والبواسير، وكان في أواخر دولته قد توطَّد ملكه وعظم شأنه ولما احتضر، عهد بالأمر من بعده لابنه ملكشاه بمشورة الأمراء، فعقدوا له، وهو ابن خمسة أعوام (5) وقد تولى محمد بن ملكشاه وحكم أكثر من ثلاثة عشر عاماً عمت الفوضى في أثنائها جميع أنحاء الدولة فضعف الشرق الإسلامي أمام الصليبيين في بلاد الشام وأمام القوات الأخرى المعادية في جوف الدولة الإسلامية وأهمها الطائفة الإسماعيلية (6). وانقسمت الدولة السلجوقية بعد وفاة بركيارق وأصبح كل جزء من الدولة السلجوقية تابعًا لوالٍ مستقل، فالأجزاء الشرقية تخضع لحكم سنجر، والأجزاء الشمالية تخضع لحكم أخيه محمد, وبلاد الشام تحت سيطرة أبناء تتش، وآسيا الصغرى تحت حكم أبناء سليمان ابن قتلمش,
_________
(1) الدولة السلجوقية في عهد السلطان سنجر، ص 70.
(2) البداية والنهاية (16/ 188).
(3) دور الفقهاء والعلماء المسلمين في الشرق الأقصى في الجهاد ضد الصليبيين، ص 83.
(4) الشرق الإسلامي قبيل الغزو المغولي، ص 56.
(5) سير أعلام النبلاء (19/ 196).
(6) الشرق الإسلامي قبيل الغزو المغولي، ص 56.(1/139)
وتفككت وحدة الدولة عما كانت عليه في عهد السلاجقة العظام (1).
1 - موعظة رهيبة بليغة يحضرها السلطان محمد بن ملكشاه: في سنة 501هـ من يوم الجمعة زار السلطان محمد بن ملكشاه السلجوقي مشهد الإمام أبي حنيفة، وكان معه الوزير أحمد نظام الملك، والبرسقي صاحب الشرطة ببغداد، وجماعة من الأمراء والأعيان، ثم أدى صلاة الجمعة، في جامع المهدي بالرصافة (2)، وقد خطب الجمعة الشيخ أبو سعد المعمر ابن علي، فكانت خطبته رهيبة وقد وجّه الكلام فيها إلى الوزير أحمد نظام الملك قال: الحمد لله ولي الإنعام، وصلى الله على من هو للأنبياء ختام، وعلى آله سرج الظلام، زينه الله بالتقوى، وختم أعماله بالحسنى, وجمع له بين خيري الآخرة والدنيا.
معلوم يا صدر الإسلام أن آحاد الرعية من الأعيان، مخيَّرون في القاصد والوافد، إن شاءوا وصلوه وإن شاءوا فصَلوه، فأمّا من توشَّح بولائه، وشرشح لآلآئه، فليس مخيراً في القاصد والوافد، لأنّ من هو على الحقيقة أمير، فهو في الحقيقة أجير، قد باع نفسه وأخذ ثمنه، فلم يبق له من نهاره، ما يتصرف فيه على اختياره، ولا له أن يصلي نفلاً، ولا يدخل معتكفاً, دون التبتّل لتدبيرهم، والنظر في أمورهم، لأن هذا فضل، وهذا فرض لازم, وأنت يا صدر الإسلام، وإن كنت وزير الدولة، فأنت أجير الأمة, استأجرك جلال الدولة بالأجرة الوافرة، لتنوب عنه في الدنيا والآخرة، فأما في الدنيا ففي مصالح المسلمين، وأما في الآخرة فلتجب عند ربّ العالمين، فإنه سيقفه بين يديه، ويقول له: ملكتك البلاد، وقلدتك أزمّة العباد فما صنعت في إقامة البذل وإفاضة العدل؟ فلعله يقول: يا رب اخترت من دولتي شجاعاً عاقلاً حازماً، وسمّيته قوام الدين نظام الملك، وها هو قائم في جملة الولاة, وبسطت يده في السوط والسيف والقلم، ومكنته في الدينار والدرهم فاسأله يا ربّ ماذا صنع في عبادك وبلادك؟ أفتحسن أن تقول في الجواب: نعم تقلّدت أمور البلاد وملكت أزمّة العباد، ودنوت من تلقائك، اتخذت الأبواب والنّواب، والحجاب والحُجّاب، ليصّدوا عني القاصد، ويردّوا عني الوافد؟ فاعُمر قبرك كما عمّرت قصرك، وانتهز الفرصة، ما دام الدهر يقبل أمرك، فلا تعتذر فما ثّم من يقبل عذرك.
فهذا ملك الهند، وهو عابد صَنَم، ذهب سمعه، فدخل عليه أهل مملكته يعزّونه في سمعه فقال: ما حزني لذهاب هذه الجارحة من بدني ولكن لصوت مظلوم كيف لا أسمعه فأغيثه! ثم قال: إن كان ذهب سمعي، فما ذهب بصري، فليؤمر كل ذي ظلامه أن يلبس أحمر، حتى إذا رأيته عرفته وأنصفته، وأنت يا صدر الإسلام أحق بهذه المأثرة، وأولى بهذه المعدلة،
_________
(1) الشرق الإسلامي قبيل الغزو المغولي، ص 56.
(2) الدولة السلجوقية في عهد السلطان سنجر، ص 71.(1/140)
وأحرى من أعد جواباً لتلك المسألة، فإنّه الله الذي تكاد السماوات يتفطرن منه، في موقف ما فيه إلا خاشع أو خاضع أو مقنع, ينخلع فيه القلب، ويحكم فيه الرب، ويعظم الكرب, ويشيب الصغير والكبير ويُعزَل الملك والوزير {يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الإِنْسَانُ مَا سَعَى} {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا}. وقد استجلبت لك الدعاء وخلّدت لك الثناء مع براءتي من التهمة، فليس لي في الأرض ضيعة ولا قرية, ولا بيني وبين أحد خصومه، ولا بي بحمد الله فقر ولا فاقة (1). فلما سمع الوزير أحمد نظام الملك هذه الموعظة بكى بكاء شديداً، وأمر له بعد الصلاة بمائة دينار، فأبى أن يأخذها الخطيب. وقال: أنا في ضيافة أمير المؤمنين الخليفة، ومن يكون في ضيافة الخليفة يقبح أن يأخذ عطاء غيره. فقال له الوزير: فضّها على الفقراء. فأجابه الشيخ الخطيب: الفقراء على بابك أكثر منهم على بابي. ولم يأخذ شيئاً (2)،
وبعد انتهاء الصلاة، اجتمع الفقهاء بحضرة السلطان محمد بن ملكشاه فقال لهم: هذا يوم قد انفردت فيه مع الله تعالى، فخلّوا بيني وبين المكان, فصعدوا إلى أعاليه، فأمر غلمانه بغلق الأبواب وألا يمكنّوا الأمراء من الدخول إليه، وقام يصلى ويدعو ويخشع وأعطاهم خمسمائة دينار، وقال: اصرفوا هذه في مصالحكم وادعوا لي (3).
2 - نصيحة الإمام الغزالي لمحمد بن ملكشاه: عندما علم الإمام أبو حامد الغزالي أن السلطان محمد بن ملكشاه تولى الحكم، أرسل له كتاباً يخاطبه فيه قائلاً: اعلم يا سلطان العالم أن بني آدم طائفتان: طائفة غفلاء نظروا إلى مشاهد حال الدنيا، وتمسكوا بتأميل العمر الطويل ولم يتفكروا في النفس الأخير، وطائفة عقلاء جعلوا النفس الأخير نصب أعينهم لينظروا إلى ماذا يكون مصيرهم وكيف يخرجون من الدنيا، ويفارقونها وإيمانهم سالم, وما الذي ينزل من الدنيا في قبورهم وما الذي يتركون لأعاديهم من بعدهم ويبقى عليهم وباله ونكاله (4). ولا شك أنها نصيحة غالية ودرس عظيم فقد نصح الإمام الغزالي محمد بن ملكشاه بعدم الغفلة والاغترار بمباهج الدنيا ونسيان الآخرة والأعمال الصالحة التي تنفع صاحبها في آخرته ظناً منه بامتداد العمر، موضحاً له أنه من العقل ألا يتجاهل الإنسان أن الأجل قريب وأنه لا بد أن يسرع بعمل الأعمال الصالحة ويؤدي ما عليه لله تعالى حتى يخرج من الدنيا كامل الإيمان، فالإنسان لن يأخذ معه إلى قبره إلا العمل الصالح، ثم ينصحه
_________
(1) المنتظم (9/ 155، 73 - 174) , تاريخ الأعظمية، ص 261.
(2) المنتظم, نقلاً عن: تاريخ الأعظمية، ص 261.
(3) المنتظم, نقلاً عن: تاريخ الأعظمية، ص 261.
(4) وفيات الأعيان (5/ 72، 73).(1/141)
الإمام الغزالي نصيحة غير مباشرة يتفجر من كل حرف فيها الحث على جهاد الأعداء، فيخبره أن العقلاء يخططون ويدرسون ما الذي يتركون لأعدائهم من بعدهم ويبقى عليهم وباله ونكاله، أي يجب أن يتخذوا حيال أعدائهم أعمالاً من شأنها أن تظل مؤثرة فيهم حتى بعد أن يموت هؤلاء العقلاء، وتظل آثار أعمالهم في ذاكرة أعدائهم، فكان لهذه النصيحة العظيمة رد فعل كبير عند السلطان محمد بن ملكشاه، فبمجرد أن انفرد بالسلطنة بدأ في بعث حركة الجهاد الإسلامي ضد الصليبيين (1) , وسيأتي تفصيل ذلك في محله بإذن الله تعالى.
وقد جاءت روايات أخرى في نصيحة الإمام الغزالي ذكر فيها: ويجب أن تعلم أن صلاح الناس في حسن سيرة الملك، فينبغي للملك أن ينظر في أمور رعيته، ويقف عند قليلها وكثيرها وعظيمها وحقيرها، لا يشارك رعيته في الأفعال المذمومة، ويجب احترام الصالحين، وأن يثبت على الفعل الجميل، ويمنع من الفعل الرديء الوبيل، ويعاقب في ارتكاب القبيح، ولا يحابي من أصر على القبيح، ليرغب الناس في الخيرات ويحذروا من السيئات، ومتى كان السلطان بلا سياسة وكان لا ينهى المفسد عن فساده ويتركه عن مراده، أفسد سائر أموره في بلاده. وقال الحكماء: إن طباع الرعية نتيجة طباع الملك، لأن العوامّ إنما يبخلون، ويركبون الفساد، وتضيق أعينهم اقتداء منهم بملوكهم، فإنهم يتعلمون منهم، ويلزمون طباعهم، ألا ترى أنه قد ذُكر في التاريخ أن الوليد بن عبد الملك - من بني أمية - كان مصروف الهمة إلى العمارة والزراعة وكان سليمان بن عبد الملك همّته في كثرة الأكل وتطيب الطعام، وقضائه الأوطار، وبلوغ الشهوات (2)، وكانت همّة عمر بن عبد العزيز في العبادة والزهادة. قال محمد بن علي بن الفضيل: ما كنت أعلم أمور الرعية تجري على عادة ملوكها، حتى رأيت الناس في أيام الوليد بن عبد الملك قد اشتغلوا بعمارة الكُرم والبساتين، واهتموا ببناء الدور، وعمارة القصور, ورأيتهم في زمان سليمان بن عبد الملك قد اهتموا بكثرة الأكل وطيب الطعام، حتى كان الرجل يسأله صاحبه: أيَّ لون اصطنعت، وما الذي أكلت؟ ورأيتهم في أيام عمر بن عبد العزيز قد اشتغلوا بالعبادة، وتفرغوا لتلاوة القرآن وأعمال الخيرات، وإعطاء الصدقات لتعلم أن في كل زمان تقتدي الرعية بالسلطان، ويعملون بأعماله، ويقتدون بأفعاله من القبيح والجميل، واتباع الشهوات، وإدراك الكمالات، كما يقال (3).
وقد ذكر بعض المؤرخين أن كتاب الغزالي «التبر المسبوك في نصيحة الملوك» هو عبارة عن توجيهات للسلطان محمد بن ملكشاه الذي كان مستولياً في عهد المستظهر بالله العباسي،
_________
(1) دور العلماء والفقهاء المسلمين في الشرق الأدني، ص 84.
(2) قد ناقشت ما نسب إلى سليمان بن عبد الملك في كتابي عن الدولة الأموية.
(3) التبر المسبوك, نقلاً عن صلاح الأمة (3/ 201).(1/142)
خاطب فيه الغزالي السلطان محمد وذكّره بنعم الله عليه وأهم تلك النعم نعمة الإيمان, وبين له أن للإيمان عشرة أصول وعشرة فروع: أما أصول الإيمان فهي: اعلم أيها السلطان أنك مخلوق ولك خالق وهو خالق العالم وجميع الكون: اعلم أن الباري تعالى ليس له صورة ولا مثل، وأنه على كل شيء قدير، وأن علمه محيط بكل شيء، وأنه سميع بصير ويقول للشيء كن فيكون، وأمره تعالى على جميع الخلق نافذ، وأن جميع ما في العالم مخلوق له تعالى وليس معه شريك، وبعد ألموت حساب وسؤال وصراط وجنة ونار.
وجعل الله رسوله - صلى الله عليه وسلم - آخر الأنبياء وأوصل نبوته إلى درجة الكمال وأمر الخلائق من الإنس والجن بطاعته (1)، وأما فروع شجرة الإيمان فهي: العدل والإنصاف, واستماع نصيحة العلماء المخلصين، وأن يحارب الظلم من أي جهة صدر، ويبتعد عن الغضب ويميل إلى العفو والكرم والتجاوز، ويرضى لنفسه ما يرضاه للمسلمين, وقضاء حوائج المسلمين أفضل من نوافل العبادات، وأن يبتعد عن الشهوات، والرفق واللطف خير من الشدة والعنف، وكسب رضا الرعية ضمن موافقة الشرع، ألا يطلب رضا أحد بمخالفة الشرع، ومن نصائحه أن يعرف لماذا وجد الإنسان في الدنيا، وأن يعرف مصيره، ثم يحذره من الجور والفساد، وأن يبتعد عن أعمال اللهو كلعب الشطرنج والنرد وشرب الخمر وضرب الكرة والصولجان والصيد لأن ذلك يمنعه من أمور الرعية وعلى السلطان أن يعين رعيته في أوقات الأزمات الاقتصادية، وأن يكون عالي الهمة، وأن يتحلى بالحكمة، وأن يستعمل عقله. ثم ذكر شروط الوزير: أن يكون كاتباً، صالحاً عادلاً، وهو حاجة ملحة، كما يذكر شروط الكاتب ومنها: خفة الروح, عالماً ببراية القلم, وأن يعطى كل حرف حقه. كما يتعرض لخير النساء وهي الولود الخفيفة المهر، صاحبة الديانة والعفاف والستر (2). ويبدو أن هذا السلطان كان يصغى لنصائح الغزالي وأخذ ببعضها فقد حرص على العدل والإحسان وتقريب أهل الدين والمعرفة.
3 - محاربته للباطنية: انتهزت الباطنية الإسماعيلية فرصة الاضطرابات التي حدثت بعد وفاة ملكشاه والصراع الذي وقع بين أبناء البيت السلجوقي، فسعوا إلى التمكين لأنفسهم عن طريق الاستيلاء على مزيد من القلاع والأماكن الحصينة والتسلل إلى بلاد السلاطين وإلى جيوشهم، وكان جيش بركيارق من الجيوش التي تزايد فيها نفوذهم، وانتشر فيه دعاتهم, ويبدو أن بركيارق لم يشأ أن يصطدم معهم بسبب انشغاله في الصراعات الدائرة
_________
(1) التبر المسبوك, نقلاً عن الحضارة الإسلامية في بغداد، ص 234.
(2) المنتظم (9/ 121).(1/143)
مع أهل بيته إلى أن اتهم بالميل إليهم، وتبين له خطرهم وأشار عليه أعوانه أن يفتك بهم قبل أن يعجز عن تلافي أمرهم، فأذن السلطان في قتلهم في عام 494هـ فأخذوا من خيامهم، وأخرجوا إلى ميدان عام فقتلوا فيه: ولم يفلت منهم إلا من لم يعرف (1)، ويذكر أبو الفرج بن الجوزي: أن القتلى بلغوا ثلاثمائة (2) وسرعان ما تتبعهم أمراء الأقاليم فقد قتل «جاولي سقاوو» خلقاً كثيراً منهم بمنطقة «خوزستان» يقارب الثلاثمائة (3)، وأرسل بركيارق إلى الخليفة العباسي يشير عليه بتتبع الموجودين منهم في عاصمة الخلافة، فأمر بالقبض على قوم يظن فيهم ذلك «ولم يتجاسر أحد أن يشفع في أحد لئلا يظن ميله إلى ذلك المذهب» (4).
وطاردهم السلطان سنجر في نفس العام 494هـ فقتلت عساكره منهم خلقاً كثيراً، وحاصروا قلعة «طبس» وخربوا سورها وأوشكت على السقوط، فلجأ الباطنية إلى رشوة قائد العسكر الأمير «بزغش» واستنزلوه عما كان يريده منهم فرحل عنهم وتركهم فأعادوا عمارة ما انهدم من سورها وملأوها ذخائر من سلاح وأقوات وغير ذلك ثم عاودهم «بزغش» سنة 497هـ ومعه كثير من المتطوعة إلى قلعة «طبس» مرة أخرى فخربها هي وما جاورها من القلاع والقرى، وأكثر فيهم القتل والنهب والسبي، ومع ذلك فإن أصحاب سنجر أشاروا عليه بأن يؤمنهم مقابل ألا يبنوا حصناً ولا يشتروا سلاحاً، ولا يدعوا أحداً إلى مذهبهم (5).
وقد أثار هذا الصلح سخط كثير من الناس على سنجر، بسبب ما وقع عليهم من أذى بأيدي هذه الفئة، ولعلمهم أيضاً بأنهم لن يحترموا هذا الأمان ولا هذا الصلح، وهذا ما حدث بالفعل، ففي عام 498هـ خرج جمع كبير منهم من قلعة «طريثيت» قرب مدينة بيهق وأغاروا على النواحي المجاورة لهم، وأكثروا من القتل ونهب الأموال، وسبي النساء «ولم يقفوا على الهدنة المتقدمة» (6)، وكان عام 498هـ هو نهاية المرحلة التي قاوم السلاجقة فيها نفوذ الباطنية مقاومة فيها الكثير من الحذر بسبب الخلاف الذي كان محتدماً بين أفراد البيت السلجوقي، واستغلال الباطنية هذا الخلاف في التسلل إلى المراكز المهمة في بلاط السلاطين وليس أدل على وجود هذا النفوذ من موقف قائد سنجر عندما قبل رشوتهم في عام 494هـ ورحل عنهم بعد أن أوشكت قلعتهم على السقوط، ثم عندما عقد معهم سنجر معاهدة الأمان في عام 497هـ، بعد أن أنزل بهم عساكره خسائر فادحة، إن هذا التهاون معهم في
_________
(1) الكامل في التاريخ, نقلاً عن التاريخ السياسي والفكري، ص 138.
(2) المنتظم (9/ 121).
(3) الكامل في التاريخ, نقلاً عن التاريخ السياسي والفكري، ص 138.
(4) المنتظم (9/ 121).
(5) الكامل في التاريخ, نقلاً عن التاريخ السياسي والفكري، ص 138.
(6) دائرة المعارف الإسلامية (3/ 377) , مادة إسماعيلية.(1/144)
هاتين الحادثتين رغم النصر الذي حققته عساكر سنجر عليهم فيه دليل على تغلغل نفوذهم داخل بلاط السلاطين، أو على الأقل فيه دليل على تخوف السلاطين وحذرهم منهم, وقد كان لهذه المقاومة الحذرة ردود فعل من جانب الباطنية بدأوها باغتيال نظام الملك عندما أرسل عسكراً قاموا بحصار الحسن بن الصباح إثر استيلائه على «ألموت» في عام 483هـ (1)،
وفي عام 490هـ قتلوا «أرغش النظامي» مملوك نظام الملك بمدينة الري، كما قتلوا في العام ذاته الأمير «برسق» من كبار قواد طغرل بك، وأول من تولى شِحنة بغداد, وفي عام 498هـ خرجوا على قافلة الحجاج القادمة مما وراء النهر وخراسان عند مدينة الري فقتلوا من فيها، وغنموا أموالهم ودوابهم، كما قتلوا في نفس العام شيخ الشافعية بمدينة «الري» الفقيه أبا جعفر (2) المشاط
* مرحلة أخرى في محاربة الباطنية: نبهت هذه الجرائم - وأمثالها - التي ارتكبها الباطنية سلاطين السلاجقة إلى أنه لابد من مقاومة جدية لهذه الطائفة وإلا استشرى خطرها، وعم ضررها وهددت أمن الدولة ونظامها، وتميزت هذه المرحلة بأنه قد بدا فيها واضحاً حرص السلطان محمد - الذي استقرت له الأمور بعد وفاة أخيه بركيارق في عام 498هـ- على استئصال هذا الداء، ولم يكن هذا الهدف واضحاً في المرحلة السابقة التي كانت تستهدف - فقط - الحد من خطرهم، وسنركز على عملين كبيرين - كنموذج - قام بهما السلطان محمد في مجال محاولة القضاء على هذه الفئة:
أ- إسقاطه لقلعة أصبهان «شاه دز» وقتل الزعيم الكبير ابن عطاش الذي كان متحصناً بها.
ب- حصاره لقلعة ألموت مدة تزيد على ست سنوات .. بدأ السلطان محمد حصاره لقلعة أصبهان في عام 500هـ بعد أن استفحل بها أمر الداعي أحمد بن عطاش, فكان يرسل أصحابه لقطع الطريق وأخذ الأموال، وقتل من قدروا على قتله .. وجعلوا له على القرى السلطانية، وأملاك الناس ضرائب يأخذونها ليكفوا عنها الأذي، فلما صفت السلطنة لمحمد ولم يبق له منازع لم يكن عنده أمر أهم من قصد الباطنية وحربهم، فرأى البداية بقلعة أصبهان لأن الأذى بها أكثر، وهي متسلطة على سرير ملكه, فخرج بنفسه فحاصرهم (3). ولأول مرة نرى سلطاناً سلجوقياً يخرج بنفسه لقتال الباطنية، وقد تمكن من الاستيلاء على هذه القلعة في ذي القعدة من عام 500هـ بعد حصار دام حوالي ثلاثة شهور، ووقع ابن
_________
(1) الكامل في التاريخ, نقلاً عن التاريخ السياسي والفكري، ص 139.
(2) الكامل في التاريخ, نقلاً عن التاريخ السياسي والفكري، ص 139.
(3) الكامل في التاريخ, نقلاً عن التاريخ السياسي والفكري، ص 140.(1/145)
عطاش أسيراً هو وابنه فقتلا، وحمل رأساهما إلى بغداد (1)، لم يحصل السلطان محمد على هذا النصر في أول لقاء مباشر بينه وبين هذه الطائفة بثمن بخس، وإنما واجه كثيراً من المواقف الحرجة التي صمد أمامها حتى تحقق هدفه, ومن ذلك أنه لما عزم على حربهم في رجب من عام 498هـ استخدم المشايعون لهم في عسكره حرب الشائعات، ليصرفوه عن غايته، فأذاعوا أن قلج أرسلان سلطان سلاجقة الروم، قد ورد بغداد وملكها، وافتعلوا في ذلك مكاتبات ثم أظهروا أن خللاً حدث بخراسان، وكان هدفهم من ذلك كله إبعاد السلطان عن أصفهان حتى لا يتحقق الهدف الذي يسعى إليه، لكن السلطان توقف حتى تحقق من بطلان الشائعات فانصرف لغايته (2).
- محاولة الباطنية الإسماعلية هدم شرعية قتالهم: عندما شدد السلطان محمد بن ملكشاه الحصار عليهم لجأ الباطنية إلى الخداع، فكتبوا إلى الفقهاء السنيين يطلبون فتواهم في قوم يؤمنون بالله ورسوله، ولكن يخالفون الإمام هل يجوز للسلطان مهادنتهم وموادعتهم، وأن يقبل طاعتهم، ويحرسهم من كل أذى؟ وكادت اللعبة تنجح بعد أن أفتى أكثر الفقهاء بجواز ذلك، وتوقف البعض عن الفتوى، فجمع السلطان الفقهاء للمناظرة، فانتصر رأي الفقيه الشافعي أبي الحسن على بن عبد الرحمن السمنجاني الذي أفتى بإباحة دمائهم نظراً لرأيهم في الإمام الذي يستطيع أن يحرم عليهم ما أحل الله، ويحل لهم ما حرم الله، وتكون طاعته في هذه الحالة - حسب اعتقادهم فيه - واجبة (3). كان هدف الباطنية من هذه الخطوة أن يهدموا شرعية قتِالهم، حتى يضعف السلطان وينصرف الجند والناس عنه ما دام يقاتل قوماً مؤمنين، ولما لم تفلح هذه الخطة لجأوا إلى المطاولة وكسب الوقت، فطلبوا من السلطان أن يرسل إليهم من يناظرهم، فصعد إليهم بعض العلماء، ثم عادوا بغير طائل، وأخيراً طلبوا أن يؤمنوا ويتركوا القلعة مقابل أن يوصلهم السلطان إلى بعض قلاعهم الأخرى على دفعات، فإذا عاد إليهم من أخبرهم بوصول الدفعة الأولى إلى القلاع سالمين، نزل ابن عطاش ومن بقي معه ليوصلهم السلطان إلى الحسن الصباح في «ألموت»، ووافق السلطان محمد على ذلك، ووصل الفوج الأول إلى القلاع التي عينوها، فلما تأكد ابن عطاش أن أتباعه وصلوا سالمين نقض عهده، واستمر في العناد إلى أن انتهت مقاومته وسقط أسيراً (4).
وكان هذا النصر الذي حققه السلطان محمد على أحمد بن عبد الملك بن عطاش في أصفهان دافعاً إلى ملاحقة الباطنية، وخاصة في عاصمتهم «ألموت» ففي عام 503 هـ، أرسل وزيره أحمد بن
_________
(1) التاريخ السياسي والفكري للمذهب السني، ص 140.
(2) التاريخ السياسي والفكري للمذهب السني، ص 140.
(3) المصدر نفسه، ص 141.
(4) الكامل في التاريخ, نقلاً عن التاريخ السياسي والفكري، ص 141.(1/146)
نظام الملك فحاصر هذه القلعة لكنه اضطر للرحيل عنها عند حلول الشتاء، وحاول الباطنية الانتقام من هذا الوزير في نفس العام فطعنوه بالسكاكين في أحد مساجد بغداد إلا أن الطعنات لم تكن قاتلة فبرئت جراحه (1).
- الاستمرار في محاربة الباطنية: وكرر السلطان المحاولة في عام 505هـ وندب لقتال الحسن أحد الأمراء واسمه أنوشتكين شيركبر، فملك من الباطنية عدة قلاع ولكنه وقع في الخطأ الذي وقع فيه سلطانه قبل ذلك، فأمن من كانوا في هذه القلاع، وسيرهم إلى ألموت ثم سار هو بعد ذلك بحصارها بعد أن ازدادت قوة ومنعة باطنية القلعة بمن توجه إليها من الباطنية, وأمده السلطان بعدد من الأمراء وانعقد عزمهم على إسقاط هذه القلعة مهما كلفهم من جهد، فبنوا المساكن حولها، وعين لكل طائفة من الأمراء - بالتناوب - أشهراً يقيمون فيها لحصارها، على أن يقيم القائد العام «أنوشتكين» إقامة دائمة, ولم يتوقف السلطان في هذه الظروف عن إمدادهم بالمؤن والذخائر والرجال حتى اشتد الأمر على الباطنية، وعدمت عندهم المؤن بسبب طول الحصار، ولم يجدوا بدًا من إنزال نسائهم يطلبن الأمان لهم، على أن يسلموا القلعة ويوسع لهم كي يمضوا إلى أي طريق شاءوا، ولكن أنوشتكين أدرك الأخطار التي ترتبت على منحهم الأمان في الماضي، وكان من أبرز هذه الأخطار أن هذه القلعة «ألموت» أضحت أكبر مركز لتجمعاتهم بعد أن وفد عليها الكثيرون من القلاع الأخرى التي سقطت قبل ذلك، لهذا رفض أن يمنحهم الأمان، وأعاد النساء إلى القلعة قصدا كي يموت الجميع جوعاً، لكن ما أمله هذا القائد لم يتحقق بسبب وفاة السلطان محمد في عام 511هـ وإصرار الأمراء والجند على الرحيل بعد سماعهم هذا النبأ. وذلك بعد أن استمر حصار القلعة ما يقرب من ست سنوات وبعد أن كان سقوطها وشيك الوقوع، ولم يبق أمام القلعة بعد وفاة السلطان غير أنوشتكين، فانتعشت آمال الباطنية، وقويت نفوسهم واضطر هذا القائد إلى الانسحاب بجنده فغنم الباطنية ما تخلف منهم (2).وبوفاة السلطان محمد توقف تنفيذ مشروعاته للقضاء على هذه الفئة ووجد الباطنية فرصة مجددة لتقوية أنفسهم مستفيدين من الصراع على السلطة الذي أعقب وفاة السلطان محمد بين ولده محمود وعمه السلطان سنجر، وخلال الخمس عشرة سنة التي أعقبت وفاته استطاعوا بوسائلهم المتعددة أن يمدوا نفوذهم إلى بلاد الشام، وأن يستولوا فيها على بعض القلاع والحصون (3).
4 - وفاة السلطان محمد بن سنجر: سنة 511 هـ: كان السلطان محمد فحل آل
_________
(1) التاريخ السياسي والفكري للمذهب السني، ص 141.
(2) الكامل في التاريخ (6/ 533).
(3) التاريخ السياسي والفكري للمذهب السني، ص 142.(1/147)
سلجوق وله بر في الجملة وحسن سيرة مشوبة، فمن عدله أنه أبطل ببغداد المكْسَ والضرائب ومنع من استخدام يهودي أو نصراني، وكسا في نهار أربعمائة فقير، وقد كان كفَّ مماليكه عن الظلم، ودخل يوماً إلى قُبة أبي حنيفة، وأغلق على نفسه يُصلي ويدعو، وقيل: إنه خلَّف من الذهب العين أحد عشر ألف ألف دينار ومات معه في العام صاحب قسطنطينية، وصاحب القُدس بغدوين لعنهما الله (1)، قال أحمد القرماني: .. ثم مرض زماناً طويلاً فقيل له: مرضك سحري، وإنما سحرتك زوجتك، فأعضل داؤك وأبطل دواؤك! وحملوا السلطان إلى أن كحَّلها وحبسها في بيت ضيق، واعتقلها، وأخرجوا خاتم السلطان وقالوا إنه أمر بخنقها، ومن عجيب القدر أن الزوجين توفيا في ساعة واحدة، فالختون في بيتها خنقت، والسلطان على فراشه نفسه زهقت في أواخر سنة إحدى عشرة وخمسمائة وخلف خمسة بنين، وهم محمود، ومسعود، وطغرل، وسليمان وسلجق (2)، وكلهم تولوا السلطنة سوى سلجق، ولما أيس السلطان من نفسه أحضر ولده محموداً وبكى كل منهما، وأمره أن يخرج ويجلس على سرير الملك، وينظر في أمور الناس، فقال له ولده: فإن هذا اليوم غير مبارك, فقال: صدقت، ولكن على أبيك، وأما عليك، فمبارك، فامتثل أمره وجلس على سرير الملك أبو القاسم محمود بن محمد بن ملكشاه مكان والده وأحكم قواعده، وهو يومئذ في سن الحلم قويّ المعرفة باللغة العربية (3)، مات السلطان محمد بن ملكشاه في آخر سنة إحدى عشرة وخمسمائة بأصبهان، ودفن بمدرسة كبيرة له، وقد تزوج المقتفي بابنته فاطمة، وعاش ثمانياً وثلاثين سنة (4).
خامساً: الخليفة العباسي المستظهر بالله:
هو الإمام أمير المؤمنين، أبو العباس أحمد بن المقتدي بأمر الله أبي القاسم عبد الله بن الذّخيرة محمد بن القائم بأمر الله عبد الله بن القادر الهاشمي العباسي البغدادي (5) استخلف عند وفاة أبيه في تاسع عشر المحرم، وله ستَّ عشرة سنة وثلاثة أشهر، وذلك في سنة سبع وثمانين وأربعمائة (6)، فكان أول من بايعه الوزير أبو منصور بن جهير، ثم أخذت البيعة له من الملك ركن الدولة بركيارق بن السلطان ملكشاه ثم من بقيَّة الأمراء والرُّؤساء وصلى على الخليفة الأمراء والوزراء، ومن العلماء حضر الغزالي والشاشيُّ وابن عقيل وبايعوه يوم ذلك، وقد كان المستظهر بالله كريم الأخلاق حافظاً للقرآن فصيحاً
_________
(1) سير أعلام النبلاء (19/ 57).
(2) أخبار الدول وآثار الأول (2/ 458، 459).
(3) أخبار الدول وآثار الأول (2/ 458، 459).
(4) سير أعلام النبلاء (19/ 507).
(5) سير أعلام النبلاء (19/ 396).
(6) سير أعلام النبلاء (19/ 396).(1/148)
بليغاً شاعراً مُطبَّقا, ومن لطيف شعره قوله:
أذاب حَرُّ الجوى في القلب ما حمدا ... يوماً مددت على رسم الوداع يدا
فكيف أسْلُكُ نهج الاصطبار وقد ... أرى طرائق في مهوى الهوى قِددا
قد أخلف الوعد بدر قد شغفت به ... من بعد ما قد وَفى دهراً بما وعدا
إن كنت أنقض عهدَ الحب في خلدي ... من بعد هذا فلا عاينته أبدا (1)
وفوض المستظهر أمور الخلافة إلى وزيره أبي منصور عميد الدولة ابن جهير فدبّرها له أحسن تدبير، ومَهَّد الأمور أتم تمهيد، وساس الرّعايا، وكان من خيار الوزراء, وفي ثالث عشر من شعبان سنة 487هـ عزل الخليفة أبا بكر الشاشيّ عن القضاء وفوّضه إلى أبي الحسن بن الدامغانيّ، وفي السنة نفسها وقعت فتنة بين السنة والروافض فأحرقت محال كثيرة وقتل ناس كثيرون، فإنا لله وإنا إليه راجعون (2).
1 - قيام المستظهر للتراويح واهتمامه بالقرآن الكريم: حكى أبو طالب بن عبد السميع عن أبيه أن المستظهر بالله طلب من يُصلي به، ويُلقن أولاده، وأن يكون ضريراً، فوقع اختياره على القاضي أبي الحسن المبارك بن محمد بن الدَّواس مقرئ واسط قبل القلانسي، فكان مكرماً له، حتى إنه من كثرة إعجابه به كان أول رمضان قد شرع في التراويح، فقرأ في الرَّكعتين الأوليين آية آية، فلما سلم، قال له المستظهر: زدنا من التلاوة، فتلا آيتين آيتين، فقال له: زدنا, فلم يزل حتى كان يقوم كل ليلة بجزء، وإنه ليلة عطش، فناوله الخليفة الكُوز، فقال خادم: ادع لأمير المؤمنين، فإنه شرّفَكَ بمناولته إيَّاك (3). وقال السَّلفي: قال لي أبو الخطاب بن الجرَّاح: صليت بالمستظهر في رمضان، فقرأت «إن ابنَكَ سُرَّق» (4) (يوسف: 81)، رواية رويناها عن الكسائي، فلما سلمت قال: هذه قراءة حسنة فيه تنزيه أولاد الأنبياء عن الكذب (5). قال الذهبي: قلت: كيف بقولهم «فأكله الذَّئب» «وجاءوا على قميصه بدم كذب (6)» وهذه لفتة جميلة من الذهبي تدل على سعة علمه وقدرته العقلية الكبيرة على النقد واستقامة موازينه العلمية.
2 - من أقوال المستظهر: قال أبو طالب بن عبد السميع: كان من ألفاظ المستظهر:
- خير ذخائر المرء لدنياه ذكر جميل، ولآخرته ثواب جزيل.
_________
(1) البداية والنهاية (16/ 142).
(2) سير أعلام النبلاء (19/ 397).
(3) سير أعلام النبلاء، (19/ 397).
(4) سير أعلام النبلاء، (19/ 397).
(5) سير أعلام النبلاء، (19/ 397).
(6) سير أعلام النبلاء، (19/ 397).(1/149)
- شُحُّ المرء بفلسه من دناءة نفسه.
- الصبر على الشدائد ينتج الفوائد.
- أدب السائل أنفع من الوسائل.
- بضاعة العاقل لا تخسر وربحها يظهر في المحشر (1).
3 - موقف الإمام الغزالي من المستظهر: إن خير كتاب يعطينا صورة لموقف الغزالي من الخليفة المستظهر هو كتابه «فضائح الباطنية وفضائل المستظهرية»، والغزالي ألف هذا الكتاب بناء على طلب المستظهر نفسه حتى يرد به على عقيدة الباطنية (2)، والباب التاسع من الكتاب خصصه الغزالي بأكمله لإقامة البراهين الشرعية على أن الإمام الحق القائم بالحق الواجب على الخلق طاعته هو الإمام المستظهر، كما بين أنه يجب على علماء الدهر الفتوى على البت والقطع بوجوب طاعته على الخلق ونفوذ أقضيته بمنهج الحق وصحة توليته للولاة وتقليده للقضاة وأنه خليفة الله على الخلق وأن طاعته على جميع الخلق فرض (3)، وهذا الباب يمتد من الصفحة 169 إلى الصفحة 225، وهو من أوله إلى آخره دعوه لطاعة المستظهر وللالتفاف حول منصب الخلافة، وقد أورد صفات الإمام وواجباته السياسية والدينية (4)، ونلاحظ أن الإمام الغزالي رمى بثقله الفكري والثقافي والعقائدي لدعم مشروعية الخلافة العباسية والخليفة المستظهر وذلك ليقينه من الخطر الباطني الذي يريد إسقاط المرجعية العباسية وتثبيت الشرعية الفاطمية الباطنية تحت شعار الإنتساب زوراً لأهل البيت فكراً ونسباً. وعلم الغزالي أنه إذا تمّ هذا الأمر فإن في ذلك ضياع الدولة السنية، لذلك رمى بثقله للحفاظ على الشرعية السنية العباسية أمام المد الباطني.
4 - علاقة المستظهر بالمرابطين: كانت الخلافة الفاطمية في مصر والسلطنة السلجوقية في إيران في تنافس مستمر من أجل السيطرة على البلاد الإسلامية، ونفوذ المستظهر الديني مرتبط بامتداد حكم السلاجقة السنيين، أما في الشمال الإفريقي، فقد سيطر المرابطون على مراكش وسواحل الأطلسي ثم على بلاد الأندلس بعد معركة الزلاقة سنة 479هـ، وتمكن يوسف بن تاشفين من إقامة دولة قوية متشعبة الأطراف، هذه الدولة رفضت أن تعطي ولاءها للخليفة الفاطمي بالقاهرة بسبب اعتناقه المذهب الشيعي وهم سنيون حريصون على انتمائهم للخلافة العباسية وهذه محمدة كبيرة تحسب للمرابطين وتفيدنا درساً مهمًا وهو أن
_________
(1) سير أعلام النبلاء، (19/ 397).
(2) فضائح الباطنية، ص 3.
(3) المصدر نفسه، ص 169.
(4) الحضارة الإسلامية في بغداد , ص230.(1/150)
الأخوة في الدين والعقيدة الإسلامية والسعي لإيجاد علاقات حممية فيها تعاون على البر والتقوى، وحرصاً على وحدة الأمة وخصوصاً في وقتنا الحاضر (1)، لذلك أراد يوسف بن تاشفين أن يتقرب من الخليفة العباسي، ويأخذ منه البيعة كي يتصف حكمه بالصفة الشرعية، وحتى تصبح طاعته على الكافة واجبة، وهذا الرأي أشار به فقهاء المغرب (2)،
وقبل أن يبادر أمير المرابطين إلى الاتصال بالمستظهر نفذ في بلاده عدة خطوات؛ فقد نقش المرابطون اسم الخليفة العباسي على السكة وكانت نقودهم تحمل «عبد الله» ويقصد به الخليفة العباسي حتى لا تتغير السكة بتغير الخلفاء العباسيين, ويدل على ذلك الرسالة التي بعث بها علي بن يوسف بن تاشفين إلى المستظهر ذاكراً لفظة «عبد الله» مع أن اسم الخليفة «أحمد» وبعد أن اتسعت دولة المرابطين رأى زعماؤها أن يتخذ أميرهم يوسف بن تاشفين لقب «أمير المؤمنين»، ولكنه رفض هذا الاقتراح تقرباً إلى خلفاء بني العباس، واحتراماً لهم وقال: حاشا لله أن نتسمى بهذا الاسم، وإنما يتسمى به خلفاء بني العباس لكونهم من تلك السلالة الكريمة، ولأنهم ملوك الحرمين مكة والمدينة وأنا رجلهم والقائم بدعوتهم (3). ثم اتخذ المرابطون السواد -شعار العباسيين- شعاراً لهم في ملابسهم وراياتهم، وخطبوا للخليفة العباسي على منابر بلادهم (4) وبعد ذلك أرسل يوسف بن تاشفين بعثة إلى المستظهر سنة 498هـ تحمل إليه البيعة والهدايا وكتاباً يذكر فيه البلاد التي فتحها وحروبه مع الفرنج، ثم طلبت البعثة من الخليفة أن يعضد ليوسف بن تاشفين على المغرب والأندلس وما يفتحه بالمستقبل بسيف أمير المؤمنين، فأجابه المستظهر لما أراد ولقبه «بأمير المسلمين وناصر الدين» وسير معه الخلع واللواء، وكتب له عهداً بذلك، كما أن الإمام الغزالي والقاضي الطرطوشي، أرسلا إليه خطاباً يحثانه على خدمة الإسلام ويفتيانه في ملوك الطوائف (5)،
وبعد وفاة يوسف بن تاشقين سنة 500هـ، ملك ابنه علي بن يوسف بن تاشفين الذي واصل سياسة والده في موالاة الخليفة العباسي ومناصرة الشريعة الإسلامية, وفي سنة 512هـ أرسل إليه المستظهر مرسوماً، جواباً عن رسالة سابقة يطلب فيها عهداً من المستظهر, وتبدأ الرسالة بحمد الله وشكره والصلاة والسلام على محمد بن عبد الله - صلى الله عليه وسلم - الذي حمل الدعوة الإسلامية، فأنقذ الأمة من الضلال وأنار القلوب وأعز الدين، ثم الصلاة على العباس عم الرسول - صلى الله عليه وسلم - وذريته، ثم يذكر مواهب الله على أمير المسلمين الذي يحكم بالعدل
_________
(1) الحلل الموشية في ذكر الأخبار المراكشية, لابن الخطيب، ص 16.
(2) مرآة الجنان لليافعي (3/ 164).
(3) الحلل الموشية، ص 16.
(4) النجوم الزاهرة (5/ 191) , الحضارة الإسلامية في بغداد، ص 132.
(5) الكامل في التاريخ, نقلاً عن الحضارة الإسلامية في بغداد، ص 132.(1/151)
ويحرص على مصلحة الرعية ويرد عنها نوائب الأيام، ثم يدعو بالنصر والظفر لجيوشه على أعدائهم، يوافقه على جهاد الكفرة والتوسع في البلاد المحاذية لمملكته، ثم يأمره أن يتخذ القرآن والسنة ويتمسك بالتقوى وأن يثابر على الجهاد ضد الأعداء، وأن يدعو لأمير المؤمنين على منابر دولته أن يكون ظاهراً وظافراً ثم يختمها بالسلام عليه وعلى أهل الطاعة (1)، وبقيت دعوة بني العباس قائمة في المغرب حتى انقطعت دولة المرابطين (2).
5 - موقف المستظهر من الحملات الصليبية: واجهت الخلافة العباسية في عهد المستظهر خطرين داهمين: الخطر الأول جاء من الشرق على يد الحركة الباطنية التي صممت على مناهضة الخلافة العباسية عسكرياً وفكرياً.
والخطر الثاني جاء من الغرب وقد أحدثته الحركة الصليبية التي استهدفت احتلال الشرق وتخليص بيت المقدس من أيدي المسلمين. حدثت الحروب الصليبية في وقت كان فيه المشرق الإسلامي يعاني من شر الانقسامات السياسية والمذهبية، فالسلطنة السلجوقية تتصارع مع الخلافة الفاطمية المصرية، وكانت بلاد الشام مسرحاً أساسياً لسباق السيطرة بين الطرفين، وأما على صعيد الدولة السلجوقية الذاتي فالأمر كان أدهى وأمر، فقد غرق سلاطين الدولة السلجوقية بعد وفاة ملكشاه في حروب مدمرة حول عرش السلطنة, وهذه الحروب أتت على الأخضر واليابس، مما ترك المجال واسعاً أمام أعداء السلطنة في الداخل والخارج، وكانت فرصة مناسبة للصليبيين الذين سيطروا على سواحل بلاد الشام بدون مقاومة تذكر (3)، هذا التفكك الذي أصاب الدولة السلجوقية كان من أكبر عوامل نجاح الحملات الصليبية (4)، وسيأتي الحديث عن الحروب الصليبية في محله بإذن الله تعالى.
6 - صراع سلاطين السلاجقة وموقف المستظهر منهم: رغم العلاقة الحسنة التي كانت قائمة بين المستظهر وسلاطين السلاجقة فإنه لم يتمكن من تحقيق أي نوع من الاستقلال ولو في إدارة شئون مدينة بغداد الداخلية، كما أنه وقف متفرجاً أمام النزاعات العنيفة التي عصفت بوحدة البيت السلجوقي ولم ينتهز الفرصة السانحة كي يحقق لنفسه شيئاً من القوة والسيادة، إلا أن هيبته قويت في عهد السلطان محمد بن ملكشاه (5)، واغتنم المستظهر فرصة الصفاء والاحترام القائمة بينه وبين السلطان محمد فأراد أن يوثق صلته أكثر فأكثر بالبيت السلجوقي، فأرسل سنة 502هـ إلى السلطان يطلب أخته تركان خاتون
_________
(1) الحلل الموشية لابن الخطيب، ص 64، 65.
(2) الحضارة الإسلامية في بغداد، ص 133.
(3) الحضارة الإسلامية في بغداد، ص 136.
(4) المصدر نفسه، ص 137.
(5) المصدر نفسه، ص 116.(1/152)
الثانية بنت ملكشاه زوجةً له، فاستقبل طلبه بالترحاب وتحولت العلاقة بين السلطان محمد والخليفة إلى نوع من المحبة والمودة انعكست آثارها علي حياة الناس ببغداد، رفاهية ورخاء وازدهاراً (1).
7 - وفاة المستظهر عام 512هـ: كان المستظهر موصوفاً بالسخاء والجود ومحبة العلماء وأهل الدين، والتفقد للمساكين، مع الفضل والنبل والبلاغة، وعلوَّ الهمّة، وحسن السيرة، وكان رضيَّ الأفعال، سديد الأقوال (2)، راغباً في البر والخيرات مسارعاً إلى ذلك، لا يردُّ سائلاً، وكان جميل المعاشرة لا يُصغى إلى أقوال الوشاة في الناس ولا يثق بالمباشرين، قد ضبط أمور الخلافة جيداً، وأحكمها وعرفها وعلمها، ولديه علم وفضل كثير وفضل كبير وتوفي عام 512هـ وقد ولي غسله الإمام ابن عقيل وابن السُّنَّي وصلى عليه ولده أبو منصور الفضل، وكبر أربعاً، ودفن في حجرة كان يسكنها، والعجب أنّه لما مات السلطان ألب أرسلان مات بعده الخليفة القائم بأمر الله، ثم لما مات السلطان ملكشاه مات بعده الخليفة المقتدي بأمر الله، ثم لما مات السلطان محمود مات بعده الخليفة المستظهر بالله، رحمهم الله, وكانت وفاة المستظهر بالله سادس عشر ربيع الآخر من هذه السنة -512هـ - وله من العمر إحدى وأربعون سنة، وثلاثة أشهر وأحد عشر يوماً (3).
سادساً: سنجر والسلطنة السلجوقية:
بعد وفاة السلطان محمد بن ملكشاه عام 511هـ بدأت المنازعات من جديد حول عرش السلطنة مما أحدث انقساماً كبيراً بين السلاجقة, ويرجع السبب في هذه المنازعات إلى أن السلطان محمد قبيل وفاته أمر بإسناد السلطنة إلى ابنه محمود، الذي ارتقى عرش السلطنة بعد وفاة أبيه، وكان حينئذ في الرابعة عشرة من عمره، ووافق الخليفة العباسي المستظهر بالله «487 - 512هـ» على إقامة الخطبة للسلطان محمود ببغداد في يوم الجمعة الموافق الثالث والعشرين من محرم سنة 512هـ، ولكن عمه سنجر لم يرض عن تولي ابن أخيه عرش السلطنة لأنه يعتبر نفسه أحق منه بالسلطنة بعد وفاة أخيه محمد، فأعلن نفسه سلطاناً على السلاجقة فغير لقبه من ناصر الدين إلى لقب معز الدين وهو لقب أبيه ملكشاه, وأدى ذلك إلى انقسام الدول السلجوقية (4) واندلاع القتال بين سنجر وابن أخيه، وقد التقى محمود بعمه سنجر بالقرب من مدينة ساوة سنة 513هـ، واستعان سنجر في هذه المعركة بفرقة من الفيلة كانت السبب في انتصاره، على أن الصلح لم يلبث أن تم بين الفريقين وسار محمود إلى
_________
(1) الحضارة الإسلامية في بغداد، ص 125، 126.
(2) سير أعلام النبلاء (19/ 397).
(3) البداية والنهاية (16/ 237).
(4) المصدر السابق نفسه.(1/153)
عمه سنجر فأكرمه وصفح عنه وسامحه على بدر منه، وعامله معاملة حسنة وقبل شفاعته في آخرين, واستقر الرأي على أن يبقى محمود بن محمد شهراً في خدمة عمه السلطان سنجر بالري وألا يدق له البوق (1) في حالة ركوبه أو نزوله، وأن يسير مترجلاً في ركاب عمه، وأن يترك كل ما يتعلق بشعائر السلطنة ورسومها (2).
وأطاع محمود عمه السلطان سنجر ونفذ ما استقر عليه الرأي بينهما، فقرر السلطان سنجر اختياره ولياً لعهده ونائباً عنه في العراق سنة 513هـ، وسمح السلطان سنجر له بأن يلقب بلقب سلطان؛ وبتلك يعتبر أول من جلس على عرش سلطنة السلاجقة بالعراق هو السلطان محمود بن محمد، وأصبح سلطان العراق من الناحية الرسمية خاضعاً وتابعاً لسلطنة السلطان الأعظم سنجر في خراسان، بمعنى أن سلطنة العراق في عهد السلطان سنجر لا تكون إلا لمن ارتضاه وأقره سنجر, وكان سلاطين العراق يخضعون للسلطان سنجر ويذكرون اسمه في الخطبة قبل أسمائهم، وقد اعترف الخليفة العباسي المسترشد بالله بمحمود بن محمد سلطاناً على سلاجقة العراق رغم صغر سنه (3)، وفي سنة 514هـ خطب للسلطان سنجر وابن أخيه السلطان محمود معاً (4)، وبذلك أصبح هناك سلطانان في آن واحد إلا أن محمودًا كان يحكم بأمر من السلطان سنجر ومن ثم فهو خاضع له خضوعاً كاملاً في جميع أمور السلطنة، وقد أعاد السلطان سنجر لابن أخيه محمود بن محمد جميع البلاد التي كانت تحت سلطانه وحوزته ما عدا الري التي كان يراقب منها السلطان سنجر أعمال محمود خشية أن يخرج عليه ويعصيه مرة أخرى، وفي واقع الأمر فإن سلطان محمود الفعلي كان مقصورًا على العراقين العربي والعجمي، وظل يحكم أربعة عشر عاماً حاملاً لقب سلطان حتى توفي عام 525هـ (5). قال عنه ابن كثير: كان من خيار الملوك وكان فيه حلم وأناة وبر وصلابة وجلسوا لعزائه ثلاثة أيام، سامحه الله (6).
1 - بسط نفوذ سنجر على بقية أقاليم الدولة السلجوقية: وافق الخليفة العباسي المسترشد بالله في سنة 513هـ على تنصيب سنجر سلطاناً أعظم للسلاجقة وإقامة الخطبة باسمه بعد الخليفة في جميع أقاليم الدولة السلجوقية (7)، وبناء على ذلك اتسع نفوذه وسلطانه وشمل بالإضافة إلى خراسان أكثر أقاليم إيران والعراق. هذا وقد أكرم سنجر -بعد أن أصبح سلطاناً أعظم للدولة السلجوقية- أبناء أخيه محمد فوزع عليهم حكم مدن وأقاليم إيران والعراق، واستطاع السلطان سنجر أن يعيد بسط نفوذه وسلطانه على أراضي
_________
(1) البوق: هي أداة مجوفة ينفخ فيها ويزمر.
(2) دول الإسلام (2/ 41).
(3) الدولة السلجوقية في عهد السلطان سنجر، ص 94.
(4) دول الإسلام (2/ 41).
(5) العالم الإسلامي في العصر العباسي، ص 617.
(6) البداية والنهاية (16/ 290).
(7) الدولة السلجوقية في عهد السلطان سنجر، ص 97.(1/154)
ما وراء النهر بعد العملية الناجحة التي خاضها ضد محمد خان، ويعتبر السلطان سنجر من السلاطين السلاجقة الذين أبدوا اهتماماً خاصاً بمجريات الأمور في بلاد ما وراء النهر، فكان يضطر دائماً للذهاب إلى أقاليم ما وراء النهر للتأكد من استقرار سلطته على هذه الأقاليم (1)، واستطاع أن يخضع حركات التمرد في دولته, وأمر السلطان سنجر بجمع الضرائب من مدن العراق وجميع البلاد التي بسط نفوذه عليها وأصبح يلقب بالسلطان الأعظم «سلطان جميع الممالك السلجوقية» وامتد نفوذه إلى سائر البلاد حتى قيل إن الخطبة له وصلت إلى كاشغر، وأقصى بلاد اليمن ومكة والطائف ومكران وأذربيجان وغزنة وسمرقند، وخراسان وطبرستان، وكرمان، وسجستان، وأصفهان، وهمذان، والري، وآرنيه، وآرمينية، وبغداد والعراقين، والموصل، وديار بكر، وديار ربيعة (2)،
والشام والحرمين، كما كانت تضرب له السكة في هذه الأقاليم جميعها، وأصبحت جميع هذه البلدان تخضع لنفوذ السلطان سنجر آخر السلاجقة العظام لأنه استطاع أن يعيد للدولة السلجوقية هيبتها ووحدتها، وأن يجعل كل أجزائها خاضعة لأمر سلطان واحد، وأعاد بذلك عصر السلاجقة العظام (3).
2 - النزاع بين محمود ومسعود ابنىْ محمد بن ملكشاه: كثرت النزاعات وظهرت الفتن بين سلاطين السلاجقة في العراق أبناء السلطان محمود ملكشاه، وكذلك فيما بينهم وبين الخلفاء العباسيين، وكان للسلطان سنجر دور كبير في التدخل في تلك النزاعات وإخماد الفتن وقمعها والقضاء عليها لإقرار الأوضاع واستتباب الأمن في أجزاء الدولة السلجوقية (4)، فبعد أن تولى السلطان محمود أمر السلطنة جعل أخاه مسعودًا على الموصل مع أتابكه جيوش بك، وفي سنة 514هـ دب النزاع بين الأخوين وخرج مسعود عن طاعة السلطان محمود، وكان سبب ذلك أن دبيس بن صدقة صاحب الحلة، كاتب جيوش بك أتابك مسعود وأغراه بالعصيان على السلطان محمود، ووعده بطلب السلطنة لمسعود وشرع جيوش بك في جمع العسكر وبلغ ذلك الخبر للسلطان محمود فأرسل إليه وإلى أخيه مسعود ووعدهما الإحسان والصفح إن عادا إلى طاعته وتهددهما إن أصرا على معصيته ولم يستجيبا للسلطان محمود وواصلا عصيانهما له. وسار كل من جيوش بك ومسعود نحو السلطان مسعود والتقى الجمعان عند أسد أباد (5) وسير محمود إلى السلطان سنجر القاضي أبا سعد الهروي، يفيده ويخبره بما استجد على الساحة من النزاع بينه وبين أخيه مسعود, وقد
_________
(1) الدولة السلجوقية في عهد السلطان سنجر، ص 101.
(2) ديار ربيعة: تقع في إقليم الجزيرة بالعراق.
(3) زبدة التاريخ للحسيني، ص 180.
(4) العالم الإسلامي في العصر العباسي، ص 617.
(5) الدولة السلجوقية في عهد السلطان سنجر، ص 106.(1/155)
أسفر اللقاء عن هزيمة جيش مسعود وجيوش بك، وأسر أبو إسماعيل الحسين بن علي الطغرائي (1)،
وزير مسعود الذي قتله السلطان محمود، ثم أرسل مسعود إلى أخيه السلطان محمود يطلب منه الأمان والصفح، وجاء إليه وتعانقا وتصافيا، وأرسل السلطان محمود إلى السلطان سنجر يخبره بما فعل مع أخيه مسعود، فما كان من السلطان سنجر إلا أن سعد بتصافى الأخوين وإنهاء الخلاف والنزاع بينهما (2).
3 - البداية الفعلية للنزاع بين الخلافة العباسية والدولة السلجوقية: في سنة 519هـ كانت البداية الفعلية للنزاع بين الخلافة العباسية والدولة السلجوقية، عندما لجأ دبيس بن صدقة إلى طغرل بن محمد حيث حسن له الاستيلاء على العراق وطلب السلطنة، فاستجاب طغرل لإغراء دبيس له فسار الاثنان على رأس جيش كبير إلى بغداد لقتال الخليفة المسترشد بالله والسلطان محمود بن محمد، وكان سبب مسيرة دبيس بن صدقة لحرب الخليفة ما بينهما من نزاع وخلاف، بينما كان هدف طغرل هو انتزاع لقب السلطان من أخيه محمود بن محمد، وحينما بلغ الخليفة أن طغرل ودبيس بن صدقة أعدا جيشاً لقتاله، أعد هو الآخر جيشاً وخرج لصدهما إلا أن طغرل مرض فجأة ومن ثم لم يشترك في الحرب ضد الخليفة المسترشد بالله، وتقابل جيش الخليفة مع جيش دبيس بن صدقة، إلا أن دبيساً طلب العفو من الخليفة وقبل الأرض بين يديه، مما جعل الخليفة يصفح عنه (3).
4 - اضطراب الأحوال بين الخليفة العباسي المسترشد باللهوالسلطان محمود:
وكان سبب هذا الاضطراب بينهما أن الخليفة هدد الشحنة (4)، فاضطر إلى مغادرة بغداد خوفاً من أن يصيبه أذى فلحق بالسلطان محمود الذي أغراه بالخليفة في رجب سنة 540هـ وحذره من الخليفة وأخبره أنه يعد العدة ضده ليمنعه من دخول بغداد، فلما علم الخليفة بذلك أرسل إليه يطلب منه تأجيل خروجه إلى حين إصلاح البلاد على أثر ما سببه دبيس وجيشه من فساد وكثرة الغلاء، ثم استعد الخليفة لإرسال المال على شرط أن يتأخر في القدوم إلى بغداد، فما كان جواب السلطان إلا أن نفذ ما قرره له الزكوى، وصمم العزم على التوجه إلى بغداد، ونزل بباب الشماسية (5)، فلما بلغ الخبر الخليفة العباسي المسترشد بالله عبر مع أهله إلى الجانب الغربي راحلاً من بغداد, فغضب السلطان لقوله وتوجه إلى بغداد وبقي الخليفة بالجانب الغربي، وكان لخطبته في عيد الأضحى أثر كبير في نفوس الناس
_________
(1) وفيات الأعيان (2/ 185 - 190).
(2) دول الإسلام (2/ 41).
(3) الدولة السلجوقية في عهد سنجر، ص 107.
(4) الشحنة: مندوب الخليفة أو السلطان ويرأس شرطة المدينة.
(5) الشماسية: تقع خارج بغداد وينسب إليها باب الشماسية أحد أبواب بغداد.(1/156)
طبع عليهم طابع الحزن مما هم فيه، ويبدو أن خطبة الخليفة أوعزت إليهم بالاستعداد لدخول الحرب مع السلطان محمود (1).
5 - القتال بين عماد الدين زنكي وأحد خواص الخليفة: أرسل الخليفة المسترشد عفيفاً الخادم، أحد خواصه إلى واسط ليمنع عنها نواب السلطان، فوصلها ونزل بالجانب الغربي وكان عماد الدين زنكي بن آق سنقر (2)، بالجانب الشرقي، فأرسل عماد الدين زنكي إلى عفيف يطلب منه الرحيل فرفض، فعبر إليه عماد الدين وحدث القتال وانهزم عسكر عفيف وقتل منهم عدد كبير بالإضافة إلى الأسرى، وقد نجا عفيف من القتل ودخل جماعة من عسكر السلطان محمود في دار الخلافة في أول محرم سنة 521هـ ونهبوا التاج وحجر الخليفة، وخرج عليهم عسكر الخليفة العباسي المسترشد بالله من مخابئهم وهم منشغلون بالنهب، ونالوا من عسكر السلطان محمود وأسروا جماعة من الأمراء وقتل آخرون في الطريق (3)،
ثم عبر الخليفة إلى الجانب الشرقي ومعه ثلاثون ألف مقاتل، وخوفاً من تسلل جيش السلطان محمود إلى بغداد أمر الخليفة الجند بحفر خندق حول بغداد فسارعوا بتنفيذ ذلك ليلاً، وعندما وصل جيش السلطان صعب عليه دخول بغداد مما أدى إلى حدوث قتال بين الجيشين، وكاد جيش الخليفة ينتصر لولا أن غدر بهم الأمير أبو الهيجاء الكردي (4) صاحب أربل, وانضم إلى جيش السلطان، ولعل الذي دفعه إلى هذا اعتقاده بكثرة جيش السلطان محمود خاصة بعد وصول الإمدادات العسكرية البرية والبحرية برفقة عماد الدين زنكي، هذا الموقف جعل الخليفة يفكر جدياً في الأمر خاصة بعد أن أرسل السلطان رسلا بعرض الصلح عليه، وكان السلطان يهدف من وراء ذلك إلى إرضاء الخليفة لما يتمتع به من مكانة دينية عند الناس وتفانهيم في سبيله، وترددت الرسل بينهما ثم تم الصلح بينهما في العاشر مع ربيع الآخر من السنة نفسها، وعفا السلطان محمود عن أهل بغداد وأهداه الخليفة المسترشد بالله مالاً وخيلا وسلاحاً، ونظراً للمواقف السامية التي وقفها عماد الدين زنكى مع السلطان محمود، قام السلطان بالتشاور مع رجال دولته بإضافة ولاية العراق إليه، فلقى تأييداً منهم على ذلك (5)، ثم رحل السلطان محمود إلى همذان (6).
6 - حكمة السلطان سنجر في التعامل مع محمود ابن أخيه: أثار دبيس بن صدقة
_________
(1) الدولة السلجوقية في عهد السلطان سنجر، ص 109.
(2) عماد الدين زنكي مؤسس الدولة الزنكية سوف يأتي الحديث عنه بإذن الله.
(3) الدولة السلجوقية في عهد السلطان سنجر، ص 110.
(4) الدولة السلجوقية في عهد السلطان سنجر، ص 110.
(5) الكامل في التاريخ, نقلاً عن الدولة السلجوقية في عهد السلطان سنجر، ص 111.
(6) الكامل في التاريخ, نقلاً عن الدولة السلجوقية في عهد السلطان سنجر، ص 111.(1/157)
السلطان سنجر على كل من الخليفة العباسي المسترشد بالله والسلطان محمود وأخبره أنهما اتفقا على إبعاده وأن السلطان محمود خرج عن طاعته، مما أثار نفس سنجر عليه وهنا يتضح مدى الحقد في نفس دبيس على الخليفة وهذا يرجع إلى سوء علاقته بالخليفة، وقد استطاع أن يؤثر على السلطان سنجر مما دفعه إلى أن يسير جيشاً إلى العراق سنة 522هـ، ولما وصل إلى الري أرسل في طلب السلطان محمود، وهنا يأتي دور الحنكة السياسية القوية التي تربطه بالسلطان محمود، حيث إنه ابن أخيه وزوج ابنته وكذلك تأثير والدة سنجر (جدة محمود) عليه، كل هذا جعله يستدعي السلطان محمود من همذان كي يتثبت مما أخبره به دبيس بن صدقة وتأكد سنجر أن السلطان محمود ما زال على طاعته وأجلسه معه على التخت, وأقام محمود عند السلطان سنجر حتى آخر هذه السنة ومن هذه الحادثة أو القصة يتضح لنا دور المفسدين وأصحاب الأغراض الخبيثة في التفريق بين أمراء المسلمين، فلا بد من الحذر من تقريب أمثال هذه النوعيات المفسدة وإبعادها عن أصحاب القرار والسعي لتقريب المصلحين من أصحاب الكفاءات العالية, لتتم الاستفادة الحقيقية من دروس التاريخ، وبعد ذلك عاد سنجر إلى خراسان وأوصى محموداً بإعادة دبيس إلى بلده وأن يسأل الخليفة الصفح عنه، محرم سنة 523هـ، وأعاد دبيساً إلى بلده واسترضى الخليفة فرضى عنه وطلب منه الصفح فصفح عنه (1)، مقابل بذل مائة ألف دينار نظراً لرغبة السلطان محمود في انتقال ولاية الموصل من عماد الدين زنكي إلى دبيس بن صدقة تقديراً لاهتمام عمه سنجر به (2)، إلا أن عماد الدين زنكي أقنع السلطان محمود بأهميته في ولاية الموصل.
7 - السلطان مسعود بن محمد بن ملكشاه السلجوقي: استمر النزاع بين أبناء البيت السلجوقي بعد وفاة السلطان محمود بن محمد بن ملكشاه عام 525هـ، فقد انقسم السلاجقة أنفسهم إلى معسكرات ثلاثة, لكل أطماعه الخاصة في السلطنة، ولكل مؤيدوه من القواد والجند؛ معسكر على رأسه داود بن السلطان محمود الذي نودي به سلطاناً عقب وفاة أبيه، ومعسكر على رأسه كل من مسعود وسلجوقشاه شقيقي السلطان المتوفى، ومع أن هذين الأخوين كانا متفقين على مبدأ عزل ابن أخيهما داود، إلا أنهما كانا مختلفين فيما بينهما، إذ كل منهما يعمل على أن تكون السلطة لنفسه بعد إسقاط عدوهما المشترك, ولذا دارت بين الفريقين حروب طويلة، واستعان مسعود في هذا النزاع بعماد الدين زنكي الذي كان قد استطاع أن يوطد سلطانه في شمال العراق وسوريا في ذلك الوقت، واستمرت الحرب سجالاً
_________
(1) العبر في خبر من غبر (4/ 50) , الدولة السلجوقية في عهد السلطان سنجر، ص 112.
(2) الدولة السلجوقية في عهد السلطان سنجر، ص 112.(1/158)
بين الأخوين المتحاربين إلى أن اضطرا إلى عقد الصلح بعد أن تدخل الخليفة المسترشد العباسي بينهما، واتفق الطرفان على أن تكون السلطنة لمسعود، وأن تؤول إلى سلجوقشاه من بعده ويرجع السبب في نجاح مسعى الخليفة في هذا الصلح إلى ظهور العدو المشترك، وهو سنجر بن ملكشاه وأما المعسكر الثالث فكان يتكون من طغرل بن السلطان محمود، يناصره عمه سنجر، وقد استطاع سنجر أن يجمع من إقليم خراسان عدداً كبيراً من الجند هزم به مسعوداً وأنصاره عند مدينة همذان، ونادى بالسلطنة لابن أخيه طغرل (1).
ولم يكن من المعقول أن يرضى المعسكران الآخران عن تولية طغرل السلطنة؛ لذا تضاربت مصالح البيت السلجوقي وتعقدت، فنشبت الحروب بين هذه القوى الثلاث، وأدى ذلك كله إلى اضطراب الشرق الإسلامي في ذلك الوقت وقد انتهت أدوار النزاع بين أفراد السلاجقة بجلوس السلطان مسعود على عرش السلطنة عام 528هـ, قال ابن خلكان عن السلطان مسعود: كان عادلاً ليناً، كبير النفس، فرق مملكته على أصحابه وما ناوأه أحد إلا وظفر به، وقتل خلقاً من كبار الأمراء ... وأقبل مسعود على اللّذات والبطالة، وحدثت له علَّةُ الغثيان مدة، وجرت بينه وبين عمه سنجر منازعة ثم تصالحا (2). كان كثير المزاح، حسن الخلق كريماً، عفيفاً عن أموال الرعية، من أحسن السلاطين سيرة وألينهم عريكة (3). قال عنه الذهبي: أبطل مكوساً ومظالم كثيرة، وعدل، واتسع ملكه، وكان يميل إلى العلماء والصالحين، ويتواضع لهم (4). ويستجيب للوعظ ففي يوم الجمعة المنتصف من ذي القعدة جلس ابن العبَّادي الواعظ، فتكلم والسلطان مسعود حاضر, وكان قد وضع على الناس مكساً في البيع فاحشاً فقال في جملة وعظه: يا سلطان العالم، أنت تطلق في بعض الأحيان للمُغني إذا طربت قريباً ممَّا وضعت على المسلمين من هذا المَكْس فهبني مغنياً وقد طربت فهب لي هذا المكس شكراً لنعم الله عليك وأسقطه عن الناس، فأشار السلطان بيده أن قد فعلت فضج الناس بالدُّعاء له، وكتب بذلك سجلات، ونودي في البلد بإسقاط ذلك المكس، ففرح الناس بذلك (5). كان السلطان مسعود بطلاً شجاعاً، ذا رأي وشهامة، تليق به السلطنة (6) مات في جمادي الآخرة سنة سبع وأربعين وخمسمائة. قال عنه ابن كثير: حصل له من التمكن والسعادة شيء كثير لم يحصل لغيره, وجرت له خطوب كثيرة وحروب طويلة (7).
- وفاة السلطان مسعود عام 547هـ: توفي السلطان مسعود بن محمد بن ملكشاه بهمذان عام 547هـ, وعهد إلى ابن أخيه ملكشاه بن السلطان محمود بن محمد، وخطب له
_________
(1) الشرق الإسلامي قبيل الغزو المغولي, ص 58.
(2) سير أعلام النبلاء (20/ 385).
(3) المصدر نفسه (20/ 385).
(4) المصدر نفسه (20/ 385).
(5) البداية والنهاية (16/ 340).
(6) سير أعلام النبلاء (20/ 385).
(7) البداية والنهاية (16/ 367).(1/159)
ببلاد الجبل، وكان الغالب على البلاد والعساكر أيام السلطان مسعود خاصبك بن بلنكري، فقام بأمر ملكشاه، ولم يمهله غير قليل حتى قبض عليه، وكتب إلى أخيه الملك محمد بن محمود، وهو بخُوزستان، يستدعيه إليه ليخطب له بالسلطنة، وكان غرض خاصبك أن يقبض عليه أيضاً فيخلو وجهه من منازع من السلجوقية وحينئذ يطلب السَّلطنة لنفسه، فلما كاتب محمداً أجابه على الحضور عنده، وسار إليه وهو بهمذان، واجتمع به وخدمه خدمة عظيمة، فلما كان الغد دخل عليه خاصبك فقتله محمد، وألقى رأسه إلى أصحابه، فتفرَّقوا، واستقر محمد وثبتت قدمه، واستولى على بلاد الجبل جميعها، وكان قتل خاصبك سنة ثمان وأربعين وبقي مطروحاً حتى أكلته الكلاب (1) وذكر الوزير يحيى بن هُبيرة في كتاب «الإفصاح» أنه لما تطاول على الخليفة المقتفي أصحاب مسعود وأساءوا الأدب، ولم يمكن المجاهرة بالمحاربة، اتَّفق الرَّأي على الدُّعاء على مسعود بن محمد شهراً، كما دعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على رعْل وذكوان (2) وهما قبيلتان من بني سُليَم، أجابتا عامر بن الطفيل إلى قتل القراء الدعاة الذين بعثهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأهل نجد سنة 4هـ, وسمّوا قتلى بئر معونة (3). واستمر الوزير يحيى ابن هبيرة والخليفة المقتفي في الدعاء شهراً، فابتدأ هو والخليفة سِراً، كل واحد في موضعه يدعو شهراً، من ليلة تسع وعشرين من جُمادى الأولى سنة سبع وأربعين وخمسمائة واستمر الأمر على ذلك كلَّ ليلة، فلما كان ليلة تسع وعشرين من جمادي الآخرة كان موت مسعود على سريره، لم يزد على الشهر يوماً ولا نقص يوماً ..
فأزال الله يده ويد أتباعه عن العراق، وأورثنا أرضهم وديارهم، فتبارك الله رب العالمين، مجيب دعوة الدّاعين. قال: وكان الشيخ محمد بن يحيى يقول: لا أدلّ على وجود موجود أعظم من أن يُدعى فيجيب (4).
سابعاً: الخليفة المسترشد بالله العباسي:
هو أمير المؤمنين أبو منصور الفضل بن المستظهر بالله أحمد بن المقتدي بأمر الله عبد الله بن محمد بن القائم عبد الله بن القادر القرشي الهاشمي العباسي البغدادي (5).
1 - بيعته: بويع له بالخلافة سنة 512هـ, وخطب له على المنابر وقد كان ولي العهد من مدة ثلاث وعشرين سنة، وكان الذي أخذ البيعة له قاضي القضاة أبو الحسن الدّامغاني, ولما استقرت البيعة له هرب أخوه أبو الحسن في سفينة ومعه ثلاثة نفر، وأحسن إليه، فقلق المسترشد بالله من ذلك فراسل دُبيسًا في ذلك مع نقيب النقباء الزّينبي، فهرب أخو الخليفة
_________
(1) كتاب الروضتين في أخبار الدولتين (1/ 287).
(2) المصدر نفسه (1/ 287).
(3) سيرة ابن هشام (3/ 193 - 199).
(4) كتاب الروضتين في أخبار الدولتين (1/ 288).
(5) سير أعلام النبلاء (19/ 561).(1/160)
من دبيس فأرسل إليه جيشاً فالجأوه إلى البرّية, فلحقه عطش شديد فلقيه بدويَّان فسقياه ماء وحملاه إلى بغداد، فأحضره أخوه إليه، فتعانقا وبكيا، وأنزله الخليفة داراً كان يسكنها قبل الخلافة وأحسن إليه، وطيب نفسه، وكان مُدَّة غيبته عن بغداد أحد عشر شهراً واستقرت الخلافة بلا منازعة للمسترشد (1).
2 - من صفاته وشعره: كان له خط بديع، ونثر صنيع، ونظم جيَّد، مع دين ورأي وشهامة وشجاعة، وكان خليقاً للإمامة، قليل النظير (2)، كان يتنسك في أوَّل زمنه، ويلبس الصوف، ويتعبد، وختم القرآن، وتفقه، ولم يكن من الخلفاء من كتب أحسن منه، وكان يستدرك على كُتَّابه، ويصلح أغاليط في كتبهم (3)، وكانت أيامه مكدّرة بتشويش المخالفين، وكان يخرج بنفسه لدفع ذلك ومباشرته، إلى أن خرج، فكُسر وأسر، ثم استشهد على يد الملاحدة، وقد سمع الحديث (4)، وكان له نظم ونثر مليح ونبل رأى (5) وكان شاعراً فمن شعره:
قالوا تُقيم وقد أحاط ... بك العدوُّ ولا تَفِرُّ
فأجبتهم: المرء مالم ... يتعظ بالوعظ غِرُّ
لا نِلت خيراً ما حييت ... ولا عداني الدّهر شرُّ
إن كنت أعلم أن غير ... الله ينفع أو يَضرُّ
ومن شعره أيضاً:
أنا الأشقر الموعود بي في الملاحم ... ومن يملك الدنيا بغير مزاحم
ستبلغ أرض الروم خيلي وتُنتضى ... بأقصى بلاد الصَّين بيض صوارمي (6)
وقيل: إنه قال لما أسر مستشهداً:
ولا عجباً للأُسد إن ظفرت بها ... كلاب الأعادي من فصيح وأعجم
فحربة وحشيٍّ سقت حمزة الرَّدى ... وموت عليٍّ من حُسام ابن ملجم (7)
3 - جهود الخليفة المسترشد بالله في إرجاع هيبة الخلافة: قام الخليفة المسترشد بالله
_________
(1) البداية والنهاية (16/ 237).
(2) سير أعلام النبلاء (19/ 561).
(3) المصدر نفسه (19/ 562).
(4) المصدر نفسه (19/ 562).
(5) المصدر نفسه (19/ 562).
(6) سير أعلام النبلاء (19/ 562).
(7) المصدر نفسه (19/ 563).(1/161)
بأعمال إصلاحية جذبت إليه تأييد الناس، ثم دعاهم للجهاد ضد المتمردين الذين عاثوا فساداً في بغداد وما حولها وبخاصة دبيس بن صدقة صاحب الحلة ودخلت أعداد كبيرة تحت راية الخليفة الذي قادهم ضد دبيس وانتصر عليه (1) في عام 526هـ، وكان لهذا الانتصار أثر كبير في نفوس الناس فكسب الخليفة تأييد الرأي العام وولاءه واستطاع أن يستعيد بعض نفوذه السياسي (2). وفي عهد الخليفة المسترشد بالله، بدأت حركة اليقظة الشعبية العامة في بغداد والتي كان من زعمائها الشيخ عبد القادر الجيلاني، وسيأتي الحديث عنه لاحقاً عند حديثنا عن الزنكيين ودورهم في الجهاد ضد الصليبيين بإذن الله تعالى.
4 - حصار الخليفة المسترشد بالله للموصل: حاصر الخليفة المسترشد بالله الموصل قرابة ثلاثة شهور، ولم تجد نفعاً عروض عماد الدين زنكي بدفع الأموال للخليفة مقابل أن يفك الحصار عن هذه المدينة، ولما أدرك الخليفة عدم جدوى الحصار عاد إلى بغداد (3)، ويظهر أن عماد الدين زنكي خشي مغبة خلافه مع الخلافة العباسية، فأراد أن يصلح ما أفسده سابقاً بعدائه لها، فأرسل في سنة 528هـ إلى الخليفة المسترشد بالله أحد قضاة الموصل، ومعه التحف والهدايا والخيل والسلاح طالباً الصلح، فوافق الخليفة (4)، وكانت موافقة الخليفة على الصلح مع عماد الدين زنكي أكبر دليل على حكمته وحنكته السياسية حيث أتاح له هذا الصلح التفرغ الكامل للسلاجقة فضلا عن كونه استطاع أن يحول عداء زنكي إلى صداقة وولاء (5).
5 - القتال بين الخليفة والسلطان مسعود ووقوعه في الأسر ومقتله: لم تنته متاعب الخليفة المسترشد بالله مع السلاجقة، فقد نقض السلطان مسعود اتفاقه مع الخليفة، فكان رد الفعل المباشر لهذا هو قطع الخطبة له في بغداد، كما أن السلطان مسعود ضعفت سلطتة 528هـ بعد أن انضم معظم عسكره إلى أخيه طغرل (6)، على أن الخليفة المسترشد بالله ما لبث أن دعا مسعودًا إلى القدوم إلى بغداد يعيده إلى منصبه، فلبى مسعود دعوته (7)، وكان هدف الخليفة هو الاستفادة قدر الإمكان من نزاع السلاجقة لإضعافهم، ولهذا أخذ يحرض السلطان مسعود على السير لحرب أخيه طغرل. ولكن السلطان مسعودًا لم يجب طلبه (8)، وتجدد الخلاف بعد ذلك بين الخليفة المسترشد بالله وبين السلطان مسعود، فقد اكتشف وزير الخليفة خطاباً أرسله طغرل إلى بعض الأمراء الموالين له في بغداد، فقبض الخليفة على
_________
(1) سياسة الخليفة الناصر لدين الله الداخلية، أحلام النقيب، ص 11.
(2) المصدر نفسه، ص 12.
(3) مختصر الدول لابن العبري، ص 354.
(4) الأنباء في تاريخ الخلفاء لابن العمراني، ص 218.
(5) نظام الوزارة في الدولة العباسية، ص 54.
(6) نظام الوزارة في الدولة العباسية، ص 54.
(7) نظام الوزارة في الدولة العباسية، ص 54.
(8) نظام الوزارة في الدولة العباسية، ص 54.(1/162)
أحدهم، بينما لجأ الباقون إلى السلطان مسعود ورفض أن يسلمهم للخليفة، فغضب الخليفة منه، وأمره بالرحيل عن بغداد فخرج منها في شهر ذي الحجة من عام 528هـ (1). غير أن الخليفة علم بمسير طغرل على رأس جيشه إلى العراق، فاضطر إلى مصالحة السلطان مسعود ليقفا معًا في وجه عدوهما المشترك (2)، ثم جاءت الأخبار بوفاة طغرل وهو في طريقه إلى بغداد، فسار السلطان مسعود إلى همذان، وتولى الحكم في أول عام 529هـ (3)،
ولما استقرت السلطنة لمسعود في همذان، أخذ الأمراء الذين لجأوا إليه خوفاً من الخليفة يحرضونه على المسير لحرب الخليفة لإخضاعه للنفوذ السلجوقي، فانصاع السلطان مسعود إليهم، وأخذ يجهز جيشه لمهاجمة بغداد مما حمل الخليفة على قطع الخطبة له، وأخذ يعد العدة لحربه (4)، ثم خرج الخليفة المسترشد بالله من بغداد لقتال السلطان مسعود، ويذكر ابن الأثير أن جيش الخليفة المسترشد بالله كان سبعة آلاف جندي، بينما لم يتجاوز جيش عدوه ألفا وخمسمائة جندي، إلا أن السلطان مسعود لجأ إلى السياسة وأخذ يستميل أمراء الأطراف الذين كانوا على اتصال بالخليفة. ولكن تريث الخليفة في الطريق ساعد السلطان مسعودًا على استمالة أولئك الأمراء، وضمهم إلى جيشه، وكان الخليفة يعتقد أنه إذا خرج للقتال فسيكون الناس إلى جانبه ضد السلاجقة (5)، لكن الأمور لم تسر وفق ما خطط لها المسترشد بالله، بل حدث العكس، فلما التقت قواته بجيش السلطان مسعود، غدر به الأمراء الأتراك وأتباعهم فانسحبوا من جيشه، وانضموا إلى جيش السلاجقة، فانهزم جيش الخلافة، ووقع الخليفة نفسه في الأسر (6)، مع خواصه، فحبسهم السلطان مسعود بقلعة بقرب همذان، فبلغ أهل بغداد ذلك فحثوا على رءوسهم التراب في الأسواق، وبكوا وضجّوا، وخرجت النساء حاسرات يندبن الخليفة ومنعوا الصلاة والخطبة وكسروا منابر الجوامع (7). قال ابن الجوزي: وزلزلت بغداد مراراً كثيرة والناس يستغيثون فأرسل السلطان سنجر إلى ابن أخيه مسعود يقول: ساعة وقوف الولد على هذا الكتاب يدخل على أمير المؤمنين ويقبل الأرض بين يديه ويسأل العفو والصفح، فقد ظهر عندنا من الآيات السماوية والأرضية ما لا طاقة لنا بسماع مثلها فضلاً عن المشاهدة من العواصف والبروق والزلازل وتشويش العساكر وانقلاب البلدان.
ولقد خفت على نفسي من جانب الله تعالى وظهور آياته وامتناع الناس من الصلوات في الجوامع ومنع الخطباء مما لا طاقة لي بحمله، فالله الله بتلافي أمرك وتعيد أمير
_________
(1) المنتظم (10/ 36).
(2) المصدر نفسه (10/ 41).
(3) نظام الوزارة في الدولة العباسية، ص 54.
(4) المنتظم (10/ 43).
(5) نظام الوزارة في الدولة العباسية، ص 55.
(6) المنتظم (10/ 44 , 45).
(7) أخبار الدول وآثار الأول (2/ 169).(1/163)
المؤمنين إلى مقر عزه وتحمل الغاشية بين يديه (1)، كما جرت به عادة السلاطين من قبلنا، ففعل السلطان مسعود جميع ما أمر به وهم فيما هم فيه، إذ هجم سبعة عشر رجلاً من الباطنية على الخليفة وهو في خيمته، فقتلوه وقتلوا معه جماعة من أصحابه (2)، فما شعر بهم العسكر إلا وقد فرغوا من شغلهم فأخذوهم وقتلوهم، فلما وصل الخبر إلى بغداد واشتد ذلك على الناس وخرجوا حفاة مخرقي الثياب والنساء ناشرات الشعور، يلطمن على خدودهن، ويقلن المراثي، لأن المسترشد كان محبباً فيهم (3)، وكانت دولته سبع عشرة سنة وسبعة أشهر وعاش ستاً وأربعين سنة (4).
ثامناً: الخليفة الراشد بالله:
أمير المؤمنين أبو جعفر منصور بن المسترشد بالله الفضل بن أحمد العباسي، ولد سنة اثنتين وخمسمائة في رمضان، فقيل: ولد بلا مخرج ففتُق له مخرج بآلة من ذهب، وأمه أم ولد خطب له بولاية العهد سنة ثلاث عشرة وخمسمائة، واستخلف في ذي القعدة سنة تسع وعشرين (5). وقد بايعه الأعيان ببغداد والأمراء، وخطب له على المنابر ببغداد وسائر البلاد (6).
1 - الخلاف بين السلطان مسعود والخليفة الراشد: وقع الخلاف بين الخليفة والسلطان بسبب أنه أرسل إلى الخليفة يطلب منه ما كان كتب له والده المسترشد حين أسره، التزم به بأربعمائة ألف دينار، فامتنع من أداء ذلك وقال: ليس بيننا وبينكم إلا السيف فوقع بينهما الخلاف، فاستجاش السلطان العساكر، واستنهض الخليفة الأمراء وأرسل إلى عماد الدين زنكي فجاء، والتفَّ عليه خلائق، وجاء في عُيون ذلك السلطان داود بن محمود بن محمد بن ملكشاه، فخطب له الخليفة في بغداد وخلع عليه وبايعه على الملك، فتأكدت الوحشة بين السلطان والخليفة جدًا، وبرز الخليفة إلى ظاهر بغداد، ومشى الجيش بين يديه، كما كانوا يعاملون به أباه قبله, وخرج السلطان داود من جانب، فلما بلغهم كثرة جيوش السلطان مسعود حسَّن عماد الدين زنكي للخليفة أن يذهب معه إلى بلاد الموصل واتفق دخول السلطان مسعود إلى بغداد في غيبتهم، فاستحوذ على دار الخلافة بما فيها جميعه، ثم استخلص من نساء الخليفة وحظاياه الحُلِىَّ والمصاغ والثياب التي للزَّينة، وغير ذلك (7)،
_________
(1) الغاشية سرج من أديم مخروزة بالذهب.
(2) أخبار الدول وآثار الأولى (2/ 170).
(3) المصدر نفسه (2/ 170) , النبراس في تاريخ خلفاء بني العباس، ص 139.
(4) سير أعلام النبلاء (19/ 567).
(5) سير أعلام النبلاء, (19/ 569).
(6) سير أعلام النبلاء, (19/ 569).
(7) المصدر نفسه (16/ 309).(1/164)
وهذا ظلم وعسف وجور.
2 - عزل الخليفة الراشد: جمع السلطان مسعود القضاة والفقهاء وأبرز لهم خط الراشد أنه متى خرج من بغداد لقتال السلطان فقد خلع نفسه من الخلافة فأفتى الفقهاء بخلعه، فخُلع في يوم الإثنين سادس عشر من شهر ذي القعدة بحُكم الحاكم وفُتيا أكثر الفقهاء (1). وجاء في رواية عن خلعه: .. اجتمع الوزير أبو القاسم علي بن طراد الزينبي، وكاتب الإنشاء ابن الأنباري وصاحب المخزن أبو الفتوح طلحة يوم الإثنين سادس عشر من ذي القعدة سنة ثلاثين, وكتبوا محضراً فيه شهادة جماعة من العدول بما جرى من الراشد بالله من الظلم وأخذ الأموال، وسفك الدماء، وشرب الخمر وذكروا فسقه وعدوا أفعاله وارتكابه المحارم واستفتوا الفقهاء فيمن فعل ذلك، هل تصح إمامته أم لا؟ وهل إذا ثبت فسقه بما ذكر عنه يجوز لسلطان الوقت أن يخلعه، ويستبدل به من أهل بيته من هو خير منه طريقة وديناً؟ فأفتى الفقهاء الذين في ذلك الوقت بخلعه، وفسخ عهده، وحل عقده، والاستبدال به غيره إذا كان بهذه الصفة، وعرضت هذه الفتوى والمحضر على السلطان مسعود, فقال: هذا أمر قد قلدتكم إياه وأنا منه بريء عند الله. ثم قال: اختاروا رجلاً من هذا البيت يصلح لهذا الأمر، فوقع الاختيار بواسطة الزينبي أن يولي أبا عبد الله محمد بن المستظهر بالله، فلما كان يوم الثلاثاء السابع عشر من ذي القعدة سنة ثلاثين وخمسمائة، حضر السلطان مسعود والجماعة الذين حضروا دار الخلافة في الدار التي على دجلة، وتعرف بالمثمنة، وأحضر أبو عبد الله، محمد بن المستظهر بالله ولقب بالمقتفي لأمر الله، وعاد السلطان مسعود إلى داره، ثم فتح باب الدار القائمية، بكرة يوم الأربعاء، ثامن عشر ذي القعدة، فبايعه الفقهاء والقضاة والشهود وأعيان الناس، ثم خلع الراشد وكان مقيماً بالموصل (2).
وهذه الفتوى كان لها حظ من سخط السلطان مسعود على الخليفة الراشد ولولا الخلاف الذي وقع بين الخليفة والسلطان لما سمعنا بها أصلاً.
3 - تتبع السلطان مسعود للراشد: كتب السلطان مسعود إلى عماد الدين زنكي أمير الموصل في القبض على الراشد وإرساله إلى بغداد، فمنعه من ذلك زين الدين أبو الحسن على بن بكتكين صاحب أربل وقال لعماد الدين: هو ضيف عندنا وفي كرامتنا وقد كان بالأمس خليفتنا, والله لاسلمناه، ولو أريقت دونه الدماء ما دامت الأرض والسماء، فاعتذر عماد الدين للسلطان مسعود وقال: إني أخرجه من ولايتنا، فأرسل إليه أنت عسكراً يقبض
_________
(1) سير أعلام النبلاء، (16/ 309).
(2) النبراس في تاريخ خلفاء بني العباس، ص 141.(1/165)
عليه في غير جهتنا، وأعد له زين الدين جماعة من الأكراد، فساروا بين يديه على طريق قريبة لا يعرفها من الناس إلا آحاد أو بعض آحاد فوصل مراغة أذربيجان (1).
4 - مقتل الراشد: كان الراشد حسن السيرة، مؤثراً للعدل، فصيحاً عذب العبارة، أديبًا شاعراً، جواداً، لم تَطل أيامه حتى خرج إلى الموصل ثم إلى أذربيجان، وعاد إلى أصبهان، فأقام على بابها مع السلطان داود محاصراً لها، فقتلته الملاحدة - الباطنية - هناك وكان بعد خروجه من بغداد مجيء السلطان مسعود بن محمد بن ملكشاه (2)، ومن كلامه الجميل: إنا نكره الفتن إشفاقاً على الرعيَّة ونؤثر العدل والأمن في البرية، ويأبى المقدور إلا تصعُّب الأمور واختلاط الجمهور، فنسأل الله العون على لمّ شَعَث الناس بإطفاء نائرة الباس (3)، وقد أعطى الله الراشد مع الخلافة صورة يوسفية وسيرة عمرية (4). وقد ذكر الذهبي في مقتله؛ بأن الراشد خرج من الموصل إلى بلاد أذربيجان إلى مراغة وكان معه جماعة فصادروا أهلها، وعاثوا ثم ذهبوا إلى همذان فقتلوا بها، وحلقوا لحى جماعة من الفقهاء، وعتوا ومضوا إلى نواحي أصبهان، فانتهبوا القُرى، وحاصروا البلد في جمع من أجناد داود بن محمد بن محمد بن ملكشاه، فمرض الراشد مرضاً أشفى منه، بلغنا أن جماعة من العجم فراشين كانوا في خدمته، اتصلوا به هناك، فدخلوا عليه في رمضان سنة اثنتين وثلاثين فقتلوه بالسكاكين، وقُتلُوا بعده كلهم. وقيل: كان قد سقي سُمّاً، ثم دفن بالمدينة العتيقة في حجرة من بناء نظام الملك وجاء الخبر إلى عمَّه المقتفي، فعقدوا له العزاء يوماً واحداً (5). ومع مجيء عهد المقتفي يبدأ عصر جديد للدولة العباسية حيث حرص على إعادة هيبة الخلفاء بذكاء ودهاء ونجح في ذلك إلى حد كبير، كما سيأتي بيانه بإذن الله تعالى.
تاسعاً: مظاهر السيطرة السلجوقية على الخلافة:
على الرغم من أن السلاجقة دخلوا بغداد بدعوة من الخليفة العباسي القائم فإنهم عدوا أنفسهم فاتحين ومنقذين للخلافة العباسية التي هدد زوالها النفوذ الفاطمي، وأصبح الجيش السلجوقي هو جيش الخلافة (6)، لذا لم تختلف علاقة السلاجقة مع خلفاء بني العباس عن علاقة البويهيين بالخلافة، على الرغم من اختلاف النظرة الدينية للسلاجقة إلى الخلافة، فعلى الرغم من اعترافهم بشرعية الخليفة العباسي باعتباره خليفة الله فإن هذا الأمر
_________
(1) النبراس في تاريخ خلفاء بني العباس، ص 143.
(2) سير أعلام النبلاء (19/ 569).
(3) سير أعلام النبلاء (19/ 570).
(4) سير أعلام النبلاء (19/ 570).
(5) سير أعلام النبلاء (19/ 572).
(6) الجيش وتأثيراته في سياسة الدولة الإسلامية، ص 243.(1/166)
لم يغير من العلاقة بين السلاجقة والخلفاء العباسيين كثيراً وازداد نفوذ السلاجقة في العراق بعد أن قضى طغرل بك على حركة البساسيري، فسيطر على البلاد جميعاً وتنازل الخليفة له عن صلاحياته حيث فوض إليه الأمور، وانزوى في قصره يعيش على وارد بعض الإقطاعات التي خصصها له السلاجقة. ومن مظاهر السيطرة السلجوقية على الخلافة:
1 - نقل مقر الحكومة خارج بغداد: لم يتخذ سلاطين السلاجقة بغداد مقرا لحكمهم، بل جعلوا العراق إقليماً من أقاليم دولتهم الواسعة، وأرسلوا نواباً عسكريين ولم تعد بغداد مقر الحكومة في الإسلام (1)، فقد تنقل السلاجقة بين مرو وأصفهان وهمذان وأنابوا عنهم في حكم العراق موظفاً سلجوقياً يعرف بالعميد وهو نائب السلطان في بغداد وموظف آخر يعرف بالشحنة وهو مسئول عن الأمن في بغداد، ووضعت تحت تصرفهما قوة من الجند السلجوقي (2).
2 - الإصهار إلى البيت السلجوقي: ظهرت في عصر السيطرة السلجوقية مسألة إصهار السلاجقة إلى البيت العباسي وذلك لتوثيق علاقتهم بالخلفاء ولنيل الشرعية الدينية والسياسية وعلى الرغم من أن الخلفاء أرغموا على هذه المصاهرة إلا أنهم حاولوا من ورائها تحقيق مكاسب سياسية كبقائهم في الحكم وضمان سلامتهم واستمرار الدعم السلجوقي لهم، ففي سنة 453هـ طلب طغرل بك من الخليفة القائم ابنته، فدهش الخليفة وغضب غضباً شديداً (3)، إلا أن ضعف الخليفة وضغط السلطان وتهديده أجبره على الموافقة وتزوج الخلفاء من بنات السلاطين، فقد تزوج القائم من ابنة أخ السلطان
طغرل بك (4).
3 - تفويض السلطة: تنازل الخلفاء عن سلطاتهم واكتفوا باسم الخلافة واستقبال الملوك والسلاطين وتقديم العهود والخلع وفوضوا الأمور إلى السلاطين السلاجقة، ففي سنة (449هـ) فوض الخليفة القائم بأمر الله السلطان طغرل بك تفويضاً كاملاً بالسلطة، إذ قال عن طريق الترجمان: إن أمير المؤمنين حامد لسعيك شاكر لفضلك، آنس بقربك ... وقد ولاك جميع ما ولاه الله تعالى من بلاده ورد إليك فيه مراعاة عباده فاتق الله فيما ولاك (5). وفوض الخليفة المقتدي بأمر الله السلطان ملكشاه سنة 479هـ، أمر البلاد والعباد (6) وبهذا التفويض
_________
(1) الجيش وتأثيراته في سياسة الدولة الإسلامية، ص 243.
(2) المنتظم (8/ 216).
(3) المصدر نفسه (8/ 169 - 170).
(4) المصدر نفسه (8/ 322، 9/ 159،160،10/ 85).
(5) المصدر نفسه (8/ 182) , تاريخ آل سلجوق، ص 16.
(6) تاريخ آل سلجوق، ص 79، 80.(1/167)
يكون الخلفاء قد جردوا أنفسهم من كل نفوذ ومع هذا فقد أحصى السلاجقة على الخلفاء حركاتهم، ودسوا بينهم موظفين يقومون بمراقبتهم ورفع المطالعات عن تحركاتهم (1).
4 - ولاية العهد: تدخل السلاجقة في تعيين ولي العهد، فبعد أن عين الخليفة المقتدى بالله ابنه الأكبر المستظهر بالله ولياً للعهد اعترض السلطان ملكشاه، وأراد أن يكون جعفر ابن الخليفة من ابنة السلطان ملكشاه ولياً للعهد بدل المستظهر، ولما رفض المقتدي، قدم ملكشاه إلى بغداد سنة 485هـ عازماً على خلع الخليفة حيث كتب إليه: تخرج من بغداد وتسكن أي بلد شئت، فطلب المقتدى أن يمهله شهراً، فقال ملكشاه: ولا ساعة واحدة، وبعد وساطة تاج الملك وزير ملكشاه وافق على أن يؤخره عشرة أيام (2)، إلا أن وفاة السلطان فجأة أنقذت الخليفة (3)، ويروي أن السلطان ملكشاه فكر في نقل مركز الخلافة إلى أصفهان، إلا أن وفاته أماتت المحاولة (4) وعلى الرغم من أن السلاجقة تدخلوا في تعيين ولي عهد الخليفة فإنهم تجاوزوا موافقته أو حتى إعلام الخليفة في حالة تعيين السلاطين لمن يخلفهم، ففي سنة 458هـ أخذ السلطان ألب أرسلان العهود والمواثيق لولده ملكشاه وخلع على جميع الأمراء وأمرهم بإقامة الخطبة له في جميع البلاد الخاضعة لنفوذه (5).
5 - شارات الخلافة: تظهر سلطة السلاطين ونوابهم على الخلافة من خلال استيلائهم على شاراتها وعدوها حقاً من حقوقهم لا ينازعهم فيها أحد، فقد ذكرت أسماء السلاطين في خطبة الجمعة في بغداد (6)، وضربت أسماؤهم وألقابهم على السكة (7). وحذا نواب السلاجقة حذو سلاطينهم، فشارك بعضهم الخليفة العباسي امتيازاته، فكانت الطبول تقرع على باب كوهرائين شحنة بغداد في أوقات الصلوات (8)، وقرعت الطبول أمام دار الوزير السلجوقي مؤيد الملك بن نظام الملك أثناء إقامته في بغداد سنة 475هـ وعد ذلك من منكرات الأحداث (9).
6 - الألقاب: تجاوز السلاطين السلاجقة الحد في اتخاذهم الألقاب التي تعكس قوتهم وسلطانهم من جهة وضعف الخلافة من جهة أخرى، فنقشت ألقابهم على السكة وكتبت في المخاطبات فعند دخول طغرل بك بغداد لقبه الخليفة القائم بلقب ركن الدولة يمين أمير المؤمنين (10)، ثم تلقب بلقب ملك المشرق والمغرب (11)، وتلقب السلطان ألب أرسلان
_________
(1) المنتظم (9/ 62).
(2) المنتظم (9/ 62).
(3) تاريخ دولة آل سلجوق، ص 71.
(4) الكامل في التاريخ نقلاً عن الجيش وتأثيراته في سياسة الدولة، ص 245.
(5) الكامل في التاريخ نقلاً عن الجيش وتأثيراته في سياسة الدولة، ص 245.
(6) الكامل في التاريخ نقلاً عن الجيش وتأثيراته في سياسة الدولة، ص 245.
(7) الكامل في التاريخ نقلاً عن الجيش وتأثيراته في سياسة الدولة، ص 245.
(8) المصدر نفسه، ص 246.
(9) المصدر نفسه، ص 246.
(10) راحة الصدور، ص 169.
(11) المنتظم (8/ 181، 183) , أخبار الدولة السلجوقية، ص 17، 18.(1/168)
بلقب عضد الدولة برهان أمير المؤمنين (1)، وبعد موقعة ملاذكرد سنة 463هـ التي انتصر فيها السلاجقة على الروم وأسروا الإمبراطور رومانوس ذكره الخليفة القائم بخطاب التهنئة (الولد السيد الأجل) المؤيد المنصور المظفر، السلطان الأعظم مالك العرب والعجم، سيد ملوك الأمم، ضياء الدين غياث المسلمين، ظهير الإيمان، كهف الأنام، عضد الدولة القاهرة، تاج الملة الباهرة، سلطان ديار المسلمين برهان أمير المؤمنين (2)، وعرف السلطان ملكشاه بن أرسلان بلقب السلطان معز الدنيا والدين قسيم أمير المؤمنين (3)، ثم لقب بلقب السلطان المعظم شاهنشاه ركن الإسلام معز الدنيا والدين ومولى العرب والعجم، سلطان أرض الله ركن الإسلام والمسلمين يمين أمير المؤمنين (4).
7 - إعادة تشكيل الجيش: حرمت الخلافة العباسية خلال فترة السيطرة العسكرية على مقاليد الأمور فيها من القوة العسكرية التي تدين لها بالولاء، ومنُذ مقتل المتوكل أصبح الجند المتعددي الأجناس يدينون بولائهم إلى قادتهم أكثر من ولائهم للخليفة, وهم لا يقاتلون عن دين ولا حمية ولا غيرة على سيادة الدولة، بل تتحكم في تصرفاتهم مصالحهم الشخصية من أموال وسيطرة ونفوذ، واستمر حال الخلافة على هذا الوضع بعد أن فقدت السيطرة على الجند الذين تنقلوا من قائد إلى آخر بحثاً عن الامتيازات, ولكي يتخلص الخليفة من تدخلاتهم وتجاوزاتهم وشغبهم المتواصل للمطالبة بالأموال استحدث منصب أمير الأمراء وهو القائد العام للجيش، ومن الطبيعي أن يكون لكل أمير من الأمراء جيش خاص يدين له بالولاء، ولفشل أمير الأمراء في السيطرة على الجيش، ازداد الاضطراب والفوضى فاستعان الخليفة بقوة البويهيين العسكرية، ولسيطرة البويهيين على الخلافة لم تعد الخلافة تملك جيشاً قائماً حتى بالشكل الذي عرفته سابقاً بعد أن أصبح الجيش البويهي هو جيش الخلافة وحاميها، وكذلك حذا السلاجقة حذو البويهيين بموقفهم من جيش الخلافة حيث لم يسمحوا للخليفة بتجنيد الجنود أو اتخاذ حرس خاص به وعدوا أنفسهم عسكر الخليفة (5)، ومما لاشك فيه أن افتقاد الخلافة لجيش خاص بها موالٍ لها، كان أحد الأسباب التي أدت إلى ضعفها .. وخلق حالة من الفوضى ذهبت ضحيتها الخلافة ومؤسساتها (6).
ولما كان الجيش هو أحد أركان الدولة وممثلاً لهيبتها وسيادتها على رعاياها فقد سعى المتغلبون على حرمانها من أسباب قوتها لتسهل عليهم عملية الهيمنة عليها والتحكم بأمورها، وعليه نلاحظ أن
_________
(1) الجيش وتأثيراته في سياسة الدولة الإسلامية، ص 246.
(2) المنتظم (8/ 260 - 265).
(3) راحة الصدور، ص 179.
(4) الأنباء في تاريخ الخلفاء، ص 197.
(5) الجيش وتأثيراته في سياسة الدولة الإسلامية، ص 247.
(6) الجيش وتأثيراته في سياسة الدولة الإسلامية، ص 247.(1/169)
بعض الخلفاء شرعوا في العمل لإعادة هيبة الخلافة وسلطتها، ففكروا في تشكيل جيش الدولة الخاص بها، لتتمكن من خوض صراعها ضد المتغلبين عليها، وبما أن الجيش يشكل خطراً على سيطرة المتغلبين، فقد سعى السلاجقة إلى حرمان الخلافة من هذه القوة، لذا امتازت الفترة من 447هـ - 512هـ والتي حكم فيها ثلاثة من الخلفاء هم (القائم بأمر الله، والمقتدى لأمر الله، والمستظهر بالله) بالخضوع التام لسلاطين السلاجقة ونوابهم في بغداد حتى تقلد المسترشد بالله الخلافة سنة 512هـ (1)، فكان أول خليفة في هذه الفترة يتنبه لضرورة تكوين جيش خاص بالخلافة مستغلاً ضعف السلاجقة ونزاعهم على السلطنة بعد وفاة السلطان ملكشاه (2)، فبعد أن انفرد السلطان محمد بن ملكشاه بالحكم 498هـ - 511هـ نشب النزاع بين ورثته بعد وفاته، على الرغم من أن الخلافة سمحت بالخطبة لسلطانين في آن واحد (3)، غير أن الخليفة المسترشد حاول أن يستفيد من الصراع القائم بين العائلة السلجوقية على السلطنة، فاستعان في بداية الأمر بجيش السلطنة في بغداد وقوات بني عقيل ودعا إلى الجهاد لملاقاة دبيس بن صدقة المزيدي صاحب الحلة وتمكن من القضاء على نفوذه (4)، ثم استغنى عن الوزير السلجوقي وطلب نقل الشحنة من بغداد (5)،
كما استطاع الوقوف بوجه السلطان طغرل ودبيس بن صدقة وانتصر عليهما وفي هذه الأثناء كان المسترشد قد أمر وزيره بإعادة ديوان الجند، وتسجيل العرب والأكراد والأتراك في الديوان وابتدأ في شراء المماليك الأتراك وأمر بتدريبهم على فنون القتال (6) وعقد محالفات مع أمراء الأطراف العربية والكردية، وتقرب من العامة وأمر بإعلان النفير العام للتجنيد (7)، حتى بلغ جيشه سنة 525هـ ثلاثين ألف مقاتل من أهل بغداد والسواد (8)، وتبين من كتاب السلطان سنجر الذي أرسله إلى السلطان محمود مدى خشية السلاجقة من هذا الجيش حين كتب إليه يقول: إن الخليفة قد عزم على أن يمكر بي وبك، فإذا اتفقتما علىَّ فرغ مني وعاد إليك، ... ويجب بعد هذا أن تمضي إلى بغداد ومعك العساكر فتقبض على وزير الخليفة وتقتل الأكراد الذين دونهم وتأخذ النزل الذي قد عمله وجميع آلة السفر وتقول: أنا سيفك
_________
(1) المنتظم (9/ 197).
(2) الحياة السياسية في العراق في العصر العباسي الأخير، ص 41.
(3) السلطان محمود والسلطان سنجر، المنتظم (9/ 216).
(4) المنتظم (9/ 217، 218).
(5) الجيش وتأثيراته في سياسة الدولة الإسلامية، ص 248.
(6) المنتظم (9/ 254، 255).
(7) المصدر نفسه (10/ 607).
(8) الجيش وتأثيراته في سياسة الدولة الإسلامية، ص 249.(1/170)
وخادمك (1). وعندما علم المسترشد بقدوم السلطان محمود إلى بغداد عزم على مواجهته وقال: فوضنا أمورنا إلى آل سلجوق، فبغوا علينا، فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم وكثير منهم فاسقون (2). فاستعد الخليفة للمواجهة وعبر بالناس إلى الجانب الغربي من بغداد، ثم عبر إلى الجانب الشرقي حيث نزل السلاجقة وأرغمهم على الخروج من بغداد إلا أن الخليفة أذعن لشروط الصلح مع السلطان محمود بعد أن خذله أصحابه من الأمراء (3)،
فسلم الخليفة وقبل بشروط عدم تجهيز الجيوش وتدوين العسكر وما لبثت الأمور أن جاءت لصالح الخليفة، حيث خرج على السلطان محمود أخوه مسعود وعمه سنجر وعدد من الأمراء، فرحل السلطان محمود عن بغداد فبعث إليه المسترشد يقول له: إنك تعلم ما بيني وبينك من العهد واليمين وإني لا أخرج ولا أدون عسكراً، وإذا خرجت عاد العدو وملك الحلة وربما تجدد منه ما تعلم، فكتب إليه السلطان محمود قائلاً: متى رحلت عن العراق وجدت له حركة، وخفت على نفسك وعلى المسلمين وتجدد لي أمر مع أخي فلم أقدر على المجيء فقط نزلت عن اليمين التي بيننا، فمهما رأيت من المصلحة فافعله (4) , فشرع المسترشد بتعبئة الجند استعداداً لمد نفوذ الخلافة وخرج بنفسه يقود الجيش ويباشر القتال (5)، واستطاع أن يصد جيوش عماد الدين زنكي ودبيس بن صدقة الذين توجهوا إلى بغداد (6)، وحاصر الموصل وأخضع تكريت لسلطان الخلافة (7)، إلا أن صحوة الخلافة ونهضتها بعد طول سيطرة وتصميم على التخلص نهائياً من سيطرة السلاجقة، جعلت المسترشد أكثر اندفاعاً دون أن يستكمل قوته ويستغل الظروف الملائمة وكان لإصراره على الخروج من بغداد لملاقاة السلطان مسعود دون أن يلتفت لنصيحة خاصته ومستشاريه في البقاء في بغداد (8)، أثر في تفكك جيش الخلافة بعد أن تخاذل بعض القادة الأتراك وانضموا إلى السلطان مسعود، فلم يبق مع الخليفة سوى من تبعه من أهل بغداد مما سهل على السلاجقة أسره واشترطوا عليه على مال يؤديه وألا يعود لجمع العساكر ولا يخرج من داره (9)، ثم قتل كما بينا سابقاً. وتولى الخلافة بعد مقتل المسترشد ابنه أبو جعفر الملقب بالراشد (10)،
وحدد
_________
(1) المنتظم (9/ 254، 255).
(2) الجيش وتأثيراته في سياسة الدولة الإسلامية، ص 249.
(3) المنتظم (10/ 3).
(4) المصدر نفسه (10/ 20) ..
(5) المصدر نفسه (10/ 45 - 50).
(6) مآثر الإنافة (2/ 25، 26).
(7) الباهر لابن الأثير، ص 47.
(8) ذيل تاريخ دمشق لابن القلانسي، ص 250،251.
(9) الجيش وتأثيراته في سياسة الدولة الإسلامية، ص 250.
(10) المنتظم (10/ 50).(1/171)
السلطان مسعود مسئوليات الخليفة بقوله: لا أريد أن يجلس إلا من لا يداخل نفسه في غير أمور الدين ولا يجند ولا يتخذ ولا يجمع علي ولا على أهل بيتي (1)، لذا اشترط على الخليفة الراشد ألا يقوم بتجنيد الجند أو الخروج لحرب السلطان أو أحد أصحابه ومتى فعل ذلك فقد خلع نفسه (2)، وانتهى أمر الراشد إلى ما قد علمنا.
8 - بداية انتعاش الخلافة العباسية: ولى السلاجقة أبا عبد الله محمد بن المستظهر الذي تلقب بالمقتفى لأمر الله 530هـ - 555هـ وحرص السلطان مسعود بعد قضائه على جيش الخلافة، أن يقضي على أسباب قوتها ونهوضها بوجه السيطرة السلجوقية، فاستولى على جميع ما كان في دار الخلافة من خيل وبغال وأثاث وذهب وفضة .. ولم يترك في الإصطبل الخاص سوى أربعة رءوس من الخيل وثلاثة من البغال برسم الماء ... وبايعوا على ألا يكون عنده خيل ولا آلة سفر (3)، كما استخلف المقتفي على ألا يشتري مملوكاً تركيًا (4)، وأخذت عليه العهود بألا يلجأ إلى تجنيد الجند، وأن يحسن السيرة ولا يتعرض لمحاربة أحد (5)، وضيقوا عليه وسلبوا أمواله حتى باع عقاره (6)، كما سيطروا على دار الضرب في بغداد (7)، ولم يكن للخليفة المقتفي في بداية حكمه إلا الاسم، فنراه يكتب إلى وزير السلطان مسعود بعد أن ضيق عليه بالأموال: وما بقي إلا أن نخرج من الدار ونسلمها (8)، إلا أن المقتفي كان يرقب ما يدور من نزاع بين أفراد البيت السلجوقي على السلطنة ومحاولة استغلاله في محاولة لاسترجاع سلطاته (9)،
وفي سنة 543هـ حاصر قسم من أمراء السلاجقة بغداد مخالفين أمر السلطان مسعود فهرب شحنتها (10)، فكتب المقتفي إلى السلطان مسعود يقول له: أما الشحنة الذي من قبلك فقد هرب هو وأمير الحج إلى تكريت وقد أحاط العسكر بالبلد، وما يمكنني أن آخذ عسكراً لأجل العهد الذي بيننا، فدبر الآن، فكتب إليه: قد برئت ذمة أمير المؤمنين من العهد الذي بيننا، وقد أذنت لك أن تجند عسكراً وتحتاط لنفسك وللمسلمين, فجند، وأظهر السرادقات والخيم وحضر الخنادق وسد العقود (11).
_________
(1) مفرج الكروب (1/ 61، 62).
(2) ذيل تاريخ دمشق، ص 257، 258.
(3) الجيش وتأثيراته في سياسة الدولة الإسلامية, ص 251.
(4) تاريخ دولة آل سلجوق, ص 217، الجيش وتأثيراته، ص 252.
(5) مفرج الكروب (1/ 131).
(6) المنتظم (10/ 62).
(7) المصدر نفسه (10/ 66).
(8) المصدر نفسه (10/ 66، 119).
(9) مآثر الإنافة (2/ 37، 38).
(10) المنتظم (10/ 132).
(11) المنتظم (10/ 132).(1/172)
وحرض وزير الخليفة أبو المظفر يحيى بن هبيرة على تجنيد الأتراك والعامة في بغداد (1)، واستمر القتال بين عساكر السلاجقة، وعساكر بغداد وأهلها إلى أن تفرق المحاصرون وكفوا عن القتال (2). وبموت السلطان مسعود سنة 547هـ ماتت معه سعادة البيت السلجوقي، فلم يقم له بعده راية يعتد بها ولا يلتفت إليها (3)، فسيطر الخليفة على ما كان للشحنة في بغداد بعد هربه إلى تكريت (4). وجمع الرجال والعساكر وأكثر التجنيد وأعلن: إنه من تخلف من الجند ولم يحضر الديوان ليدون ويجري على عادته في إقطاعه أبيح دمه وماله (5)، وكان لإعادة تشكيل الجيش العباسي أثر كبير في استعادة هيبة الخلافة وبسط سلطانها على الولايات المحيطة بها، ومناوأة أعدائها، فقد تمكن من تحرير الخلافة من الهيمنة الأجنبية بعد طول سيطرة وخضوع، وبسطت الخلافة سيطرتها على الحلة والكوفة وواسط والبصرة (6)،
وتمكن الجيش من مقاومة الحصار السلجوقي لبغداد بقيادة محمد شاه السلجوقي في سنة 552هـ، وأفشل محاولة دخوله إلى المدينة بعد حصار دام ثلاثة أشهر (7)، وكان انسحابه نهاية لحكم السلاجقة في العراق فلم تنجح كل المحاولات التي قاموا بها بعد ذلك لدخول بغداد (8)، يقول ابن الأثير: الخليفة المقتفي: هو أول من استبد بالعراق منفرداً عن سلطان يكون معه من أول أيام الديلم إلى الآن، وأول خليفة تمكن من الخلافة وحكم على عسكره وأصحابه من حيث تحكم المماليك على الخلفاء (9). إن عودة هيبة الخلافة ونفوذها وقوتها من العوامل التي ساعدت الزنكيين في محاربة الصليبيين وتحقيق انتصارات كبيرة عليهم، كما سيأتي بيانه بإذن الله تعالى.
عاشراً: نهاية الدولة السلجوقية وزوالها:
زال سلطان السلاجقة في فارس بوفاة آخر سلاطينهم الأقوياء وهو السلطان سنجر عام 552هـ, قال عنه الذهبي, هو السلطان ملك خراسان، معز الدين، سنجر بن السلطان ملكشاه بن ألب أرسلان بن جغريبك بن ميكائيل بن سلجوق الغُزي التركي السلجوقي
_________
(1) الجيش وتأثيراته في سياسة الدولة الإسلامية، ص 253.
(2) المنتظم (10/ 132،133).
(3) راحة الصدور، ص 254.
(4) الكامل في التاريخ, نقلاً عن الجيش وتأثيراته، ص 253.
(5) المنتظم (10/ 147) , الجيش وتأثيراته، ص 254.
(6) المنتظم (10/ 170 - 171).
(7) المنتظم (10/ 170 - 171).
(8) الحياة السياسية في العراق في العصر العباسي الأخير، ص 61.
(9) الجيش وتأثيراته في سياسة الدولة الإسلامية, ص 254.(1/173)
صاحب خراسان وغزنة وبعض ما وراء النهر, كان وقوراً حيياً، كريماً سخياً، مشفقاً، ناصحاً لرعيته كثير الصفح، جلس على سرير الملك قريباً من ستين سنة (1).كان من أعظم الملوك همّة، وأكثرهم عطاءً, ذكر أنه اصطبح خمسة أيام متوالية ذهب بها في الجود كل مذهب، فبلغ ما وهب من العين سبعمائة ألف دينار سوى الخلع والخيل (2)، واجتمع له في خزائنه من الجوهر ألف وثلاثون رطلاً، ولم يسمع بمثل هذا، ولا بما يقاربه عند أحد من الملوك واجتمع أيضاً في جملة ثيابه ألف ديباج أطلس أعطاها في يوم واحد. وأخبر خازنه أنه اجتمع في خزائنه من الأموال ما لم يسمع عن أحد من الأكاسرة أنه اجتمع له مثله (3)، ولم يزل في ازدياد إلى أن ظهرت عليه الغُزُّ في سنة 548هـ وهي وقعة مشهورة استشهد فيها الفقيه محمد ابن يحيى، فكسروه وانحل نظام ملكه، وملكوا نيسابور، وقتلوا خلقاً كثيراً، وأخذوا السلطان، وضربوا رقاب عدة من أمرائه، ثم قبّلوا الأرض، وقالوا: أنت سلطاننُا، وبقي معهم مثل جنديَّ يركب أكديشا ويجوع وقتاً، وأتوا به، فدخلوا معه مرو، فطلبها منه أميرهم بختيار إقطاعاً، فقال: كيف يصير هذا؟ هذه دار الملك. فصفى له وضحكوا، فنزل عن الملك، ودخل إلى خانقاه مَرْو، وعملت الغُزُّ ما لا تعمله الكفار من العظائم، وانضمت العساكر، فملَّكوا مملوك سنجر أيَبَه، وجرت مصائب على خراسان، وبقي في أسرهم ثلاث سنين وأربعة أشهر، ثم أفلت منهم، وعاد إلى خراسان (4)
وزال بموته ملك بني سلجوق عن خراسان، استولى على أكثر مملكته خوارزم شاه أُتسِز بن محمد بن نوشتكين ومات أُتِسز قبل سنجر (5)، وقد ذكر أبو شامة في كتاب «الروضتين في أخبار الدولتين النورية والصلاحية» في حوادث سنة اثنتين وخمسين وفاة السلطان سنجر عقيب خلاصه من الشدة التي وقع فيها والأسر الذي حصل فيه وكان قد ورد كتابه في أواخر صفر من سنة 552هـ إلى نور الدين محمود زنكي بالتشوق إليه والإحماد لخلاله، وما ينتهي إليه من جميل أفعاله، وإعلامه ما من الله عليه من خلاصه من الشدة التي وقع فيها، والأسر الذي بُلي به في أيدي الأعداء الكفرة، من ملوك تركمان، بحيلة دبرها، وسياسة أحكمها وقرَّرها، بحيث عاد إلى منصبه من السلطنة المشهورة واجتماع العساكر المتفرقة عنه إليه (6)، ومع وفاة سنجر أخذت الدولة السلجوقية في الضعف والتضعضع ثم الانهيار وكان ذلك في عهد الخليفة الناصر لدين الله، فقد استقر رأيه على الاستعانة بعلاء الدين تكش خوارزم شاه ضد السلطان طغرل، فأرسل إلى
_________
(1) الجيش وتأثيراته في سياسة الدولة الإسلامية (20/ 363).
(2) المصدر نفسه (20/ 364).
(3) الشهب اللامعة، ص 432.
(4) سير أعلام النبلاء (20/ 364).
(5) المصدر نفسه (20/ 365).
(6) كتاب الروضتين في أخبار الدولتين (1/ 359، 360).(1/174)
خوارزمشاه شاكياً من السلطان طغرل السلجوقي، ويطلب من خوارزمشاه أن يساعده عليه، وأرفق الرسالة بمنشور يقضي بإقطاع خوارزمشاه كل البلاد التي كانت آنذاك تحت نفوذ السلاجقة (1)، فلبى خوارزمشاه رغبة الخليفة العباسي وسار على رأس جيشه لقتال السلطان طغرل، والتقى به قريباً من الري، وذلك بمنتصف عام 590هـ فدارت الدائرة على الجيش السلجوقي وقتل السلطان طغرل (2)، وهكذا زالت الدولة السلجوقية (3).
كان سوء سياسة السلاجقة الداخلية وعدم إيجاد قانون لوراثة العرش يحترمه الجميع، من أهم العوامل التي أدت إلى انحلال دولتهم ثم زوالها، وبذلك وجدها الخوارزميون لقمة سهلة ولم يجدوا صعوبة في ابتلاعها، فورثوا ما كان للسلاجقة من سلطان، على أننا نلاحظ أن النزاع الذي قام بين الخلفاء العباسيين وبين البويهيين والسلاجقة، نلاحظ أن هذا النزاع قد استمر أيضاً بينهم وبين الخوارزميين، وقد استفحل النزاع بين الطرفين، ولم ينته إلا بانتهاء كل من الخوارزميين والخلافة العباسية بعد أن قضى المغول على القوتين الواحدة تلو الأخرى (4).
لقد تضافرت عوامل عديدة في سقوط السلطنة السلجوقية التي مهدت بدورها لسقوط الخلافة العباسية ومن هذه العوامل:
1 - الصراع داخل البيت السلجوقي بين الإخوة والأعمام والأبناء والأحفاد.
2 - تدخل النساء في شئون الحكم.
3 - إذكاء نار الفتنة بين الحكام السلاجقة من قبل بعض الأمراء والوزراء والأتابك.
4 - ضعف الخلفاء العباسيين أمام القوة العسكرية السلجوقية، فلم يتورعوا
عن الاعتراف بشرعية كل من يجلس على عرش السلطنة السلجوقية والخطبة لكل
منتصر قوي (5).
5 - عجز الدولة السلجوقية عن توحيد بلاد الشام ومصر والعراق تحت راية
الخلافة العباسية.
6 - الانقسام الداخلي بين السلاجقة والذي وصل إلى المواجهة العسكرية المستمرة، وهذا ما أنهك قوة السلاجقة حتى انهارت سلطنتهم في العراق.
_________
(1) الكامل في التاريخ, نقلاً عن نظام الوزارة في الدولة العباسية، ص 67.
(2) دولة آل سلجوق، ص 277، 278.
(3) نظام الوزارة في الدولة العباسية، ص 67.
(4) الشرق الإسلامي قبيل الغزو المغولي، ص 60.
(5) السلاطين في المشرق العربي، ص 50.(1/175)
7 - المكر الباطني الخبيث بالدولة السلجوقية, وتمثل ذلك في حملة التصفيات والمحاولات المستمرة لاغتيال سلاطين السلاجقة وزعمائهم وقادتهم.
8 - الغزو الصليبي القادم من وراء البحار وصراع الدولة السلجوقية مع جحافل الغزو الوحشية القادمة من أوربا .. وغير ذلك من الأسباب والعوامل. إلا أن سلاطين السلاجقة كانت لهم أعمال جليلة من أهمها:
أ- كان لهم دور في تأخير زوال الخلافة العباسية، حوالي قرنين من الزمان حيث أوشكت قبل مجيئهم على الانقراض في ظل سيطرة البويهيين الشيعة الروافض.
ب- منعت الدولة السلجوقية الدولة العبيدية في مصر من تحقيق أغراضها الهادفة إلى توحيد المشرق الإسلامي تحت الراية الباطنية العبيدية الفاطمية الرافضة.
ج- كانت الجهود التي بذلتها الدولة السلجوقية تمهيداً لتوحيد المشرق الإسلامي والذي تم على يد صلاح الدين الأيوبي وتحت راية الخلافة العباسية السنية (1).
د- قام السلاجقة بدور ملموس في النهوض بالمنطقة الخاضعة لهم علمياً وإدارياً ونشروا الأمن والاستقرار فيها.
هـ- وقفوا في وجه التحركات الصليبية من جانب الإمبراطوية البيزنطية، وقام نوابهم بمحاربة الجحافل الصليبية التي احتلت بيت المقدس وطرابلس والرها، وجزءًا من بلاد الشام وسواحلها. ومن أبرز هؤلاء الأمراء عماد الدين زنكي.
و- رفعوا من شأن المذهب السني وعلمائه في تلك المناطق (2)، فهذه نبذه موجزة عن سلاطين السلاجقة السنيين ودورهم في نصرة الإسلام، وإن كان للقوم أخطاء وملاحظات على سيرتهم إلا أن من الظلم والزور والبهتان أن نطلق على أولئك الأبطال كلمة الشراذم كما فعل الأستاذ نجيب زبيب في الموسوعة العامة لتاريخ المغرب والأندلس (3)، وفي المباحث القادمة سنتكلم عن مؤسسات الدولة المهمة ودور السلاجقة الحضاري, وخصوصاً ما يتعلق بالمدارس النظامية وعلمائها وتأثيرها على عموم الأمة، ونجاحها في حسر المد الشيعي الرافضي الباطني الفاطمي وإحياء الأمة في دورها الجهادي ضد الصليبيين.
* * *
_________
(1) السلاطين في المشرق العربي، ص 51.
(2) قيام الدولة العثمانية، ص 24.
(3) الموسوعة العامة لتاريخ المغرب والأندلس (3/ 10).(1/176)
الفصل الثاني
نظام الوزارة العباسية في العهد السلجوقي
في ظل نفوذ السلاجقة صار للخليفة العباسي الحق في اتخاذ وزراء له، فالخليفة القائم بأمر الله اتخذ في سنة 453هـ أبا الفتح منصور بن أحمد بن دارست وزيرًا له (1)، إلا أن الخليفة القائم بأمر الله عزل هذا الوزير في سنة 454هـ واستوزر بدلاً عنه فخر الدولة أبا نصر بن جهير في نفس العام، وخلال فترة انتعاش الخلافة العباسية، انتعشت معها الوزارة بحيث أصبحت للوزير مكانة مرموقة، وظهرت عليه الأبهة والاحترام والوقار (2)، مما دفع إلى زيادة مخاوف السلاجقة سلاطين ووزراء وتدخلهم في عزل بعض الوزراء (3). ففي عام 484هـ أصبح موقف السلطان ملكشاه من الوزير أبي شجاع وزير الخليفة المقتدى موقفاً متزمتاً ومتشدداً، وحاول جاهداً عزله من منصب الوزارة, وبالفعل طلب من الخليفة فعزله (4)، وتميز هذا العصر بوقوف وزراء بني العباس موقفاً مشرفاً ونبيلاً تجاه خلفائهم، خاصة في المواقف الصعبة التي مرت بها الدولة العباسية، كما تميز هذا العهد بوجود وزيرين أحدهما للخليفة العباسي والآخر للسلطان السلجوقي، وكان الأخير أقوى نفوذاً لأنه يستمد قوته من مركز السلطان صاحب النفوذ الفعلي (5). وفي هذا العصر برزت ظاهرة استحداث منصب نائب الوزير، ففي سنة 481هـ خرج الوزير ظهير الدين محمد بن الحسين أبو شجاع وزير الخليفة المقتدى بأمر الله لأداء فريضة الحج، فأبقى ابنه ربيب الدولة الحسين بن محمد، ونقيب النقباء على بن طراد الزينبي نائباً له (6).
* * *
_________
(1) الوزارة العباسية من 447هـ /590هـ في العهد السلجوقي، ص 29.
(2) الحياة السياسية ونظم الحكم في العراق، فاضل الخالدي، ص 29.
(3) الوزراة العباسية من 447هـ / 590هـ، ص 29.
(4) الأنباء في تاريخ الخلفاء، ص 202.
(5) العالم الإسلامي في العصر العباسي، ص 580.
(6) الكامل في التاريخ, نقلاً عن الوزارة العباسية، ص 32.(1/177)
المبحث الأول
صفات وزير الخليفة العباسي والسلطان السلجوقي
أولاً: صفات وزير الخليفة العباسي:
كان خلفاء بني العباس حريصين أشد الحرص على الالتزام ببعض الصفات في اختيارهم لوزرائهم, فالشخص الراغب للوصول إلى منصب الوزارة كان لا بد من أن تتوافر فيه بعض الصفات منها الصدق والأمانة وغزارة العلم (1) , ومنها:
1 - العلم: فالوزير فخر الدولة أبو نصر محمد بن محمد بن محمد بن جهير الذي ولى الوزارة للخليفة العباسي القائم بأمر الله كان من رجال العلم رئيساً جليلاً (2). وعرف الوزير أبي شجاع محمد بن الحسين الروذراوري وزير الخليفة المقتدى بأمر الله بغزارة علمه وثقافته، وقد عد من خيرة علماء عصره، فكان عالماً باللغة العربية، وله تصانيف منها ذيل تجارب الأمم (3).
2 - الرأي السديد: ويشترط في الوزير أن يتصف بالرأي السديد (4)، فالوزير أبو القاسم بن الحسن بن المسلمة رئيس الرؤساء عرف بسداد الرأي ورجاحة العقل (5). وأما الوزير شرف الدين علي بن طراد الزينبي الذي وزر للخليفة المسترشد بالله والمقتفي لأمر الله، فقد عرف عنه سداد الرأي.
3 - العدل: ومن الصفات الواجب توافرها في الوزير العدل؛ ليكون منصفاً في حكمه وتسلم الرعية من ظلم غيره وظلمه (6). فالوزير أبو شجاع ظهير الدين محمد بن الحسين الروذراورى عرف بعدله للرعية فكان يصلي الظهر ويجلس لكشف المظالم إلى وقت العصر (7)، وعرف الوزير عون الدين يحيى بن هبيرة الشيباني، الذي وزر للخليفة المقتفي لأمر الله والمستنجد بالله بالعدل لذا نال مكانة مرموقة (8) ويقال عنه إنه كان شامة بين الوزراء لعدله (9).
_________
(1) الأحكام السلطانية، ص 22 الوزارة العباسية، ص 34.
(2) شذرات الذهب (3/ 301).
(3) المنتظم (9/ 90، 91).
(4) الأحكام السلطانية، ص 22, الوزارة العباسية، ص 36.
(5) النجوم الزاهرة (5/ 64).
(6) الوزارة العباسية، ص 36.
(7) تحفة الأمراء للثعالبي، ص 61.
(8) الوزارة العباسية، ص 36.
(9) النبراس في تاريخ خلفاء بني العباس، ص 157.(1/178)
4 - الكفاية: فضلاً عن ذلك يجب أن تتوافر بالوزير الكفاية: وهي العلم بالأعمال السلطانية، والتصرفات، ووجوه تثمير الأموال والاستخراجات فيضع الأمور في مواضعها، ويرتب الأعمال على قواعدها (1)، فقد كان الوزير رئيس الرؤساء أبو القاسم على بن الحسين بن المسلمة يمتاز بالفضل والكفاية (2)، وقد قضى الوزير عميد الدولة بن جهير على الفوضى والاضطرابات وأدى مهامه الإدارية بنجاح (3)، وكان الوزير أبو علي بن الحسن بن علي بن صدقة، له دراية وخبرة بأمور الحساب وأعمال السواد (4)، لذا نجح في إدارة أمور البلاد (5).
5 - السياسة: ويشترط بعض الفقهاء أن يكون عالماً بأمور السياسة؛ فيعرف مداراة الجند، وتأليفهم، وجمعهم، وتفريقهم ويكون خبيراً بالمكائد الحربية، والخدع، وحفظ البلاد، والثغور والقلاع (6)، فالوزير رئيس الوزارة أبو القاسم علي بن الحسن بن المسلمة عرف عنه حسن معرفته وتدبيره لأمور السياسة (7) ففي سنة 544هـ ولي أبو المظفر يحيى بن هبيرة وزارة المقتفي لأمر الله (8)، فظهرت منه عظمة كفايته السياسية عندما نزل المعسكر السلجوقي بظاهر بغداد، فاستطاع بحسن تدبيره ردهم على أعقابهم، فرغب الخليفة فيه، فاستوزره (9).
6 - الشئون الدينية: ومن الشروط الواجب توافرها في الوزير هي معرفته للشئون الدينية والفقه والحديث النبوي وما إلى ذلك من أمور تتعلق بالشريعة الإسلامية، وعلى هذا الأساس نال رئيس الرؤساء علي بن الحسين، الوزارة وكان عالماً وفقيهاً بارعاً وله دراية بالحديث (10)، وكان الوزير أبو الفتح محمد بن منصور بن دارست وزير الخليفة القائم بأمر الله، إذا جلس في دار الوزارة حضر أئمة الفرق وفقهاؤها للمناظرات (11). وكان الوزير جلال الدين أبو علي الحسن بن علي بن صدقة وزير الخليفة المسترشد بالله، حسن السيرة والسلوك، تقياً عالماً فاضلاً (12)، وكان الوزير عون الدين يحيى بن هبيرة الشيباني الذي وزر
_________
(1) شذرات الذهب (4/ 191).
(2) راحة الصدور، ص 172, الوزارة العباسية، ص 37.
(3) البداية والنهاية, نقلاً عن الوزارة العباسية، ص 37.
(4) الوزارة العباسية، ص 37.
(5) الوزارة العباسية، ص 37.
(6) تحفة الأمراء للثعالبي، ص 61،62.
(7) الأنباء في تاريخ الخلفاء، ص 188.
(8) الوزارة العباسية، ص 38.
(9) دولة آل سلجوق، ص 205، الوزارة العباسية، ص 38.
(10) الوزارة العباسية، ص 38.
(11) دولة آل سلجوق، ص 197.
(12) النجوم الزاهرة (5/ 233) , الوزارة العباسية، ص 38.(1/179)
للخليفة المقتفي لأمر الله من أعيان الفقهاء الصالحين (1)، صنف كتاب الإفصاح وقرأ القرآن، والحديث وتفقه على مذهب الإمام أحمد، صنف كتباً جيدة من ذلك الإفصاح في مجلدات، شرح فيه الحديث وتكلم فيه عن مذاهب العلماء (2). وكان عالماً في الفقه والأحاديث والقرآن الكريم وتفسيره.
7 - قوانين الوزارة: واشترط الخلفاء العباسيون وسلاطين السلاجقة في الوزير أن يكون عالماً بقوانين الوزارة، فقد كان الوزير جلال الدين أبو علي الحسن بن علي بن صدقة وزير الخليفة المسترشد بالله حافظاً لقوانين الوزارة وعالماً بأمور الرياسة (3). وأما الوزير أبو القاسم علي بن طراد الزينبي، فكان ملماً بقوانين الوزارة عارفاً بأمور السياسة، فلما استوزره الخليفة المسترشد بالله قال له: كل من ردت إليه الوزارة شرف بها، إلا أنت فإن الوزارة شرفت بك (4).
8 - البلاغة وحسن الترسل: وفضل الخلفاء أن تتوافر بعض الصفات الأخرى كأن يكون بليغاً وحسن الترسل وأديباً وشاعراً وعالماً في النحو (5)، فالوزير محمد بن محمد بن جهير الذي وزر للخليفتين القائم بأمر الله والمقتدي بأمر الله، عرف بتراسله البديع وأشعاره الرقيقة (6)، وكان الوزير أبو شجاع محمد بن الحسين الروذراوري كاتباً بليغاً وشاعراً مرهفاً وعرف عنه حسن نثره وروعة رسائله ومعرفته بالأدب وبراعته في رواية الأخبار (7)، وعرف عن الوزير جلال الدين أبو علي الحسن بن علي بن صدقة فصاحة اللسان وبلاغة الكلام، بحيث طغت على كتاباته صفة البلاغة مما جعله موضع إعجاب خلفاء بني العباس (8)، وأما الوزير أبو شروان بن خالد القاشاني الذي وزر للخليفة المسترشد بالله وللسلطان مسعود السلجوقي، فعرف عنه حبه للأدب، وإليه يعود الفضل في عمل وتطوير مقامات الحريري (9)، وكان الوزير يحيى بن هبيرة فصيح اللسان، بليغاً، كاتباً بارعاً وعالماً بأمور النحو واللغة وشاعراً رقيقاً (10).
9 - المحبة لدى العامة والخاصة: فضل الخلفاء في الوزير أن يكون محبوباً لدى العامة
_________
(1) المنتظم (10/ 217).
(2) البداية والنهاية, نقلاً عن الوزارة العباسية، ص 39.
(3) الوزارة العباسية، ص 39.
(4) المنتظم (9/ 234) , الوزارة العباسية، ص 39.
(5) الوزارة العباسية، ص 39.
(6) النجوم الزاهرة (5/ 130) , الوزارة العباسية، ص 40.
(7) المنتظم (9/ 90، 91) , الوزارة العباسية، ص 40.
(8) الأنباء في تاريخ الخلفاء، ص 201 الوزارة العباسية، ص 40.
(9) تاريخ ابن الورد (2/ 29) , الوزارة العباسية، ص 40.
(10) الأنباء في تاريخ الخلفاء، ص 225, الوزارة العباسية، ص 41.(1/180)
والخاصة من الناس، وهذا واضح عندما عاد الوزير فخر الدولة أبو نصر محمد بن محمد بن جهير إلى منصب الوزارة في عهد الخليفة المقتدي بأمر الله، فرح الناس فرحاً شديداً وخرجوا لاستقباله، وقاموا بنحر الذبائح (1).
وأما الوزير الحسن بن علي بن صدقة أبو علي جلال الدين وزير الخليفة المسترشد بالله، فقد كان محبوباً لدى الخاصة والعامة مما ساعده على أداء مهماته الإدارية بنجاح (2).
10 - المعرفة بقواعد ديوان الخلافة: من الصفات اللازم توافرها في الوزير إلمامه بقواعد ديوان الخلافة, ونتيجة هذا الشرط عزل خلفاء بني العباس بعض الوزراء لجهلهم بقواعد ديوان الخلافة، فقد قبض الخليفة المسترشد بالله على الوزير سديد الملك أبي المعالي ابن عبد الرزاق في سنة 496هـ بسبب جهله بقواعد ديوان الخلافة (3).
وتجدر الإشارة إلى أن الماوردي حدد الصفات الواجب توافرها في الوزير وهي: الصدق والأمانة وغزارة العلم والفضل والرأي السديد والكفاية في تصريف الأعمال والأموال وحسن التصرف في مخاطبة الأعداء والأصدقاء (4). أما الثعالبي فقد حدد الصفات الواجب توافرها في الوزير بقوله: أن تجتمع فيه الأخلاق الحميدة، والأفعال الرشيدة، والآراء السديدة، وجودة التدبير، وصواب الآراء المفيدة، فتكون فيه العدالة والنزاهة والشجاعة والسياسة، إذا كان زمان السلم والهدنة يصلح أن يكون الوزير حليما ساكناً، وإذا كان زمان الفتن والحروب يصلح أن يكون شجاعاً صارماً (5). ومن الوزراء الذين جمعوا بين الثقافة العامة وحسن إدارته للبلاد يحيى بن هبيرة وزير الخليفتين المقتفي لأمر الله والمستنجد بالله، حيث جمع معلومات وافية عن الدولة العباسية، وله دراية في معرفة مشاكلها، مما جعل له القابلية على حل مشاكل الخلافة العباسية، بما فيها تخلص الدولة العباسية من سيطرة السلاجقة (6).
ثانياً: صفات الوزير السلجوقي:
حدد سلاطين السلاجقة بعض الصفات الواجب توافرها في الوزير ومن هذه الصفات:
1 - محبة العلم والعلماء: أن يكون محباً للعلم والعلماء وفاضلاً وكريماً، فقد عرف
_________
(1) الوزارة العباسية، ص 41.
(2) ذيل تاريخ دمشق، ص 224.
(3) الوزارة العباسية، ص 42.
(4) الأحكام السلطانية، ص 22, الوزارة العباسية، ص 42.
(5) تحفة الأمراء، ص 61, الوزارة العباسية، ص 43.
(6) خلفاء بني العباس ووزراؤهم، ص 128, الوزارة العباسية، ص 43.(1/181)
عن الوزير نظام الملك أبي علي الحسن بن إسحاق الطوسي حبه للعلم والعلماء, وهذا واضح من خلال إنشائه العديد من المدارس (1).
2 - سداد الرأي: ويجب أن تتوافر في الوزير صفة سداد الرأي, فالوزير عميد الملك أبو نصر محمد بن منصور الكندري، وزير السلطان طغرل بك عرف بسداد الرأي ووفور العقل (2).
3 - العدل: أن يكون الوزير عادلاً بعيداً عن ظلم الرعية فالوزير نظام الملك أبو علي الحسن بن إسحاق الطوسي كان رجلاً عادلاً منصفاً، حافظاً لرعيته، فيقال عنه: إذا اجتاز بضيعة فأفسدها العسكر غرم لصاحبها ما أفسدوا (3)، وفي سنة 533هـ نال الوزير كمال الدين محمد بن علي الخازن الرازي وزارة السلطان مسعود، فأخذ يعمل على نشر العدل وإزالة الظلم (4).
4 - الصلاح والفقه: يجب أن يكون الوزير صالحاً فقيهاً وسمع الحديث وقرأ القرآن وشجع علماء الدين، فالوزير نظام الملك أبو علي الحسن بن إسحاق الطوسي، اشتغل بالحديث والفقه، وكان يحب علماء الدين والفقهاء ويجزل صلاتهم، وينفق عليهم أموالاً (5)، كما سمع الحديث وتفقه على مذهب الشافعية وقرأ القرآن واشتغل بالعلم (6).
5 - إجادة اللغتين العربية والفارسية: فيجب أن يكون الوزير أديباً بليغاً وكاتباً ناجحاً وشاعراً يجيد اللغتين العربية والفارسية بفصاحة فالوزير محمد بن منصور عميد الملك الكندري وزير السلطان طغرل بك كان مترجماً بارعاً (7)، وكاتباً يجمع في العربية والفارسية بين الفصاحتين (8). وكان أديباً وشاعراً ناجحاً ومن شعره:
إذا كان بالناس مزاحمتي ... فألموت قد وسع الدنيا على الناس
قضيت والشامت المغرور يتبعني ... إن المينة كأس كلنا حاسِ (9)
6 - الكفاية: لا بد أن تتوافر في الوزير صفة الكفاية، فالوزير سعد الملك أبو المحاسن سعد بن محمد الآبيّ الذي استوزر للسلطان محمد بن ملكشاه، عرف بسداد الرأي ووفور
_________
(1) التاريخ الباهر، ص 9.
(2) شذرات الذهب (3/ 301).
(3) ذيل تاريخ دمشق، ص 16, الوزارة العباسية، ص 45.
(4) دولة آل سلجوق، ص 170، أخبار الدولة السلجوقية، ص 122.
(5) ذيل تاريخ دمشق، ص 16 الوزارة العباسية، ص 45.
(6) الوزارة العباسية، ص 45.
(7) دولة آل سلجوق، ص 31، العالم الإسلامي في العصر العباسي، ص 573، 574.
(8) دولة آل سلجوق، ص 31، الوزارة العباسية، ص 45.
(9) النجوم الزاهرة (5/ 76).(1/182)
العقل والكفاية العالية، فقد استطاع هذا الوزير جمع العساكر على الطاعة السلطانية، وبذلك استطاع أن يزيل الخلافات والفتن في دولة السلاجقة (1).
7 - تدبير البلاد والجيوش: ويجب أن يمتاز الوزير بحسن تدبيره للبلاد والجيوش، فقد كان الوزير نظام الملك أبو علي الحسن الطوسي عارفاً بأمور البلاد، وناجحاً في تدبيرها (2). وكان يهتم بأمور الجيش وتفريقه وبحفظ البلاد، فلما عاد ملك شاه من محاربة عمه قاورد تطاول جند السلطان قائلين: إنَّا قد ظفرنا بهذا الفتح وهزمنا جيشاً جراراً فنريد زيادة أرزاقنا وإذا لم تزد أرزاقنا وقطائعنا فسوف ندعو بالسعادة إلى قاورد. إلا أن الوزير نظام الملك أبا علي الطوسي استطاع أن يخمد غضب الجند ويجددوا ولاء الطاعة للسلطان (3).
8 - الشهامة والصبر: فهناك بعض الصفات التي لا بد أن تتوافر في الوزير السلجوقي مثل الشهامة والصبر، فقد عرف الوزير عميد الملك أبو نصر محمد بن منصور الكندري بشهامته وكرمه (4). أما أبو علي الحسن الطوسي فقد عرف عنه ثباته وصبره خاصة في الأزمات التي مرت بها الدولة السلجوقية والأزمات التي مر بها الوزير شخصياً، فكان شهماً (5)، وكان الوزير نظام الملك محبوباً لدى الناس، وكان شديد الاحترام والنفوذ في مملكة السلطان ملكشاه (6).
والجدير بالذكر أن سلاطين السلاجقة كانوا حريصين في اختيار وزرائهم وحددوا بعض الصفات التي تتوافر في الوزير، لأن أغلب سلاطين السلاجقة كانوا جاهلين بالعلوم والمعارف واللغة والفقه وبطبيعة المؤسسات الإدارية, وكيفية إدارة أمور البلاد، فأوكلوا هذه المهام لوزرائهم لتمشية المهام السياسية والإدارية والمالية، بينما بقيت أمور الجيش والحرب بأيدي السلاطين لأنهم بطبيعتهم رجال حرب (7)، وعلى الرغم من ذلك فإن سلاطين السلاجقة قاموا باختيار بعض الوزراء الذين لم تتوافر فيهم صفات الوزير الجيد، وإنما كان اختيارهم بدافع حصول السلاطين على الأموال، وبحكم الظروف العصيبة والصراع الذي دار بين الأسرة السلجوقية حول كرسي السلطنة (8).
* * *
_________
(1) دولة آل سلجوق، ص 88.
(2) الوزارة العباسية، ص 46.
(3) راحة الصدور، ص 200.
(4) شذرات الذهب (3/ 301) الوزارة العباسية، ص 47.
(5) شذرات الذهب (3/ 301) الوزارة العباسية، ص 47.
(6) المنتظم (8/ 207) , الوزارة العباسية، ص 47.
(7) الوزارة العباسية، ص 48.
(8) المصدر نفسه، ص 48.(1/183)
المبحث الثاني
ميزات وخصائص ومراسيم تقليد الوزير العباسي والسلجوقي وألقابهم
أولاً: مراسيم تقليد الوزير العباسي:
كان الخليفة العباسي يختار وزيره بناء على معرفته للشخص المرشح للوزارة وثقته فيه, نتيجة لما قدمه من خدمات للدولة تثبت كفايته لهذا المنصب وعلى سبيل المثال استوزر الخليفة المقتفي لأمر الله عون الدين يحيى بن هبيرة بناء على ما بذله ابن هبيرة من جهد أثناء توليه ديوان الزمام، ولما قدمه من آراء صائبة للخليفة بشأن علاقة الخلافة العباسية بالسلطنة السلجوقية (1)، وفي بعض الأحيان كان الخليفة يستشير المقربين إليه فيمن يرونه أهلاً لتولي وزارته، فيشيرون عليه بتولية شخص معين لخبرته الإدارية وأمانته، فيقبل الخليفة تزكيتهم، ويسند وزارته إلى ذلك الشخص، وهذا ما حدث عندما استوزر الخليفة القائم بأمر الله أبا الفتح منصور بن أحمد بن دارست سنة 453هـ (2). وقد يحدث أن يرشح السلطان السلجوقي شخصاً معيناً ليكون وزيراً للخليفة، فيوافق الخليفة على ترشيح السلطان أو يرفضه كما حدث عندما رفض الخليفة القائم بأمر الله ترشيح السلطان ألب أرسلان لأبي العلاء محمد بن الحسين سنة 464هـ (3)، بينما قبل الخليفة المسترشد بالله في سنة 516هـ ترشيح السلطان محمود بن محمد بن ملكشاه لأحمد بن نظام الملك واستوزره الخليفة فعلاً (4).وإذا استقر رأي الخليفة على إسناد منصب الوزارة إلى شخص معين، أمر باستدعائه إلى دار الخلافة، وفي اليوم المقرر لإجراء مراسيم التعيين يحضر الشخص المرشح إلى دار الخلافة ومعه كبار رجال الدولة قاضي القضاة وصاحب المخزن، وكاتب الإنشاء، وحاجب دار الخلافة فيبلغ الخليفة الشخص المرشح مشافهة باختياره وزيراً له (5)،
ويخلع عليه خلع الوزارة، وتشمل جبة وعمامة وسيفاً ومركباً وفرساً، ويسلم إليه العهد بالوزارة، ثم يركب الوزير من دار الخلافة إلى مقر الوزارة والناس بين يديه، ومن بينهم كبار الدولة، وعندما يجلس في دست الوزارة يقرأ كاتب الإنشاء عهد الخليفة له بالوزارة (6).
ويختتم الحفل بقراءة ما تيسر من القرآن، وإنشاد ما نظمه الشعراء لهذه المناسبة من
_________
(1) أخبار الدولة السلجوقية، ص 120, وفيات الأعيان (6/ 231، 232).
(2) تاريخ دولة آل سلجوق، ص 21.
(3) المصدر نفسه، ص 42.
(4) الكامل في التاريخ, نقلاً عن نظام الوزارة في الدولة العباسية، ص 127.
(5) المنتظم (10/ 125).
(6) وفيات الأعيان (6/ 233).(1/184)
مدائح (1) وقد جرت العادة أن الوزير الجديد إذا وصل إلى الديوان، وجلس في دست الوزارة أن يبادر إلى كتابة رسالة للخليفة تتضمن الدعاء والثناء له إشعاراً بتسلمه مهام منصبه (2). وكان الخليفة العباسي إذا أراد أن يزيد من تكريم من يختاره للوزارة أو لنيابة الوزارة، أصدر توقيعاً موجزاً، يثني فيه على الشخص المرشح ويشيد فيه بصفاته الحميدة ليرفع من شأنه أمام الناس، وكانت إجراءات تعيين نائب الوزير لا تختلف كثيراً عما كان يتبع عند تعيين الوزير غير أن الخليفة كان ينيب عنه من يتولى تقليد نائب الوزير وتسليمه العهد ومنحه الخلع (3).
ثانياً: مراسيم تقليد الوزير السلجوقي:
يقوم السلطان السلجوقي بتحديد الشخص المراد توليه منصب الوزارة معتمداً على بعض الضوابط في اختياره لوزيره منها: مدى ممارسة الشخص للمهمات الإدارية كأن يكون كاتباً للإنشاء أو صاحب ديوان، وفي بعض الأحيان يعتمد على استشارة بعض المقربين إليه (4)، ولذا تدرج بعض الأشخاص في المناصب الإدارية حتى وصلوا إلى منصب الوزارة، فالوزير نظام الملك أبو علي الحسن الطوسي كان كاتباً للأمير تاجر صاحب بلخ (5)، وكان يكتب لأبي علي بن شاذان، إلا أن أبا علي كان يصادر نظام الملك أبا علي الحسن الطوسي لذلك هرب نظام الملك، واتجه للعمل في دواوين السلطان داود بن ميكائيل، فأثبت للسلطان قدراته الإدارية ونجح في أداء مهامه الإدارية بحيث أصبحت بيده جميع الأمور, بعدها يقوم السلطان بإرسال حاجبه لاستدعاء الشخص المراد توليه منصب الوزارة ومثوله أمام حضرة السلطان، وبعد مثول الشخص أمام حضرة السلطان، تجري محادثات ومشاورات واتفاقيات بين السلطان والشخص المراد له نيل الوزارة لتحديد المهمات الإدارية والسياسة والمالية، وتحديد الحقوق والواجبات لكلا الطرفين (6)، ومن المتعارف عليه أن الشخص المراد توليه منصب الوزارة، عندما يستدعى إلى حضرة السلطان ليقرأ عليه عهد السلطان بتولية منصب الوزارة, يأتي الوزير محملاً بالهدايا الثمينة بما فيها الخيول والخيم والسيوف والذهب، فلما جاء فخر الملك أبو علي عمار بن محمد بن نظام الملك سنة 512هـ من خراسان لنيل منصب الوزارة جاء محملاً بالهدايا الثمينة بما فيها الذهب والخيول، والسيوف والخيم والطبول، فقدمها هدية للسلطان بمناسبة تولية الوزارة (7).
_________
(1) وفيات الأعيان (6/ 233) , ذيل طبقات الحنابلة (1/ 253).
(2) مضمار الحقائق للأيوبي، ص 205، نظام الوزارة، ص 128.
(3) رسوم السلاجقة ونظمهم الاجتماعية، ص 81.
(4) المنتظم (9/ 64، 65) , الوزارة العباسية، ص 56.
(5) المنتظم (9/ 64)، النجوم الزاهرة (5/ 137).
(6) الوزارة العباسية، ص 56.
(7) المصدر نفسه، ص 57.(1/185)
ثالثاً: ألقاب الوزير العباسي:
استمر خلفاء بني العباس في العهد السلجوقي في تلقيب وزرائهم كسابق عهدهم في عهد بني بويه، غير أنه كانت هناك فروق واضحة بين العهدين البويهي والسلجوقي بالنسبة للألقاب وتتمثل فيما يلي:
1 - كان للألقاب في العهد السلجوقي احترامها، فهي مصونة، ولاتمنح إلا لمن يستحقها (1) فعلاً من كبار رجال الدولة، وفي مقدمتهم الوزراء، وكان الخلفاء والسلاطين لا يسرفون في بذل الألقاب.
2 - يرجع تعدد الألقاب في العهد السلجوقي إلى عاملين، أولهما: أن بعض الوزراء كان يحمل لقباً قبل أن يلي الوزارة، فلما ولي هذا المنصب لقبه الخليفة لقباً ثانياً كالمتبع في تقليد الوزراء إذ ذاك. أما العامل الثاني في تعدد الألقاب، فيرجع إلى حرص الخلفاء والسلاطين على منح الوزراء الذين يبذلون جهداً كبيراً في خدمة الدولة ألقاباً تقديرًا لكفايتهم، وقد ظهر تعدد ألقاب وزراء الخلافة العباسية بشكل واضح في نزاع الخلافة مع السلطنة السلجوقية للتخلص من نفوذها.
3 - تجلت في الألقاب ظاهرة الإضافة إلى الدين بالنسبة لوزراء الخلفاء العباسيين، كظهير الدين، وجلال الدين، وعون الدين، أما بالنسبة لوزارة سلاطين السلاجقة فكان يضاف إلى ألقابهم الملك، مثل نظام الملك وعميد الملك وفخر الملك وتاج الملك, ويذكر السيوطي أن أول تلقيب أضيف إلى الدين كان سنة 476هـ، عندما استوزر الخليفة العباسي المقتدي بأمر الله أبا شجاع محمد بن الحسين الروذراوري ولقَّبه «ظهير الدين» (2)، وقد تجلت ظاهرة تعدد ألقاب وزراء الخلفاء العباسيين بشكل واضح أثناء فترة نزاع الخلافة العباسية مع السلطنة السلجوقية، أما قبل ذلك فلم يتلقب بأكثر من لقب سوى الوزير محمد بن محمد بن جهير، وكان يتلقب بعميد الدولة، شرف الدين (3)، وقيل بل كان يتلقب بلقب واحد، هو عميد الدولة (4)، ولما ولي الخليفة المسترشد بالله الخلافة أخذ يمنح الألقاب لوزرائه، ويبدو أن الخليفة قصد من ذلك دفعهم لبذل جهد أكبر في تنفيذ سياسة الخلافة التي انطوت على التخلص من نفوذ سلاطين السلاجقة واستعادة هيبة الخلافة وسلطتها (5)، ولما استوزر المسترشد بالله أبا علي الحسن بن علي بن صدقة، منحه عدة ألقاب هي: جلال الدين سيد الوزراء،
_________
(1) الروضتين في أخبار الدولتين (1/ 24).
(2) تاريخ الخلفاء نقلاً عن نظام الوزارة في الدولة العباسية، ص 132.
(3) حسن المحاضرة (2/ 198) نظام الوزارة، ص 133.
(4) المصدر نفسه، ص 134.
(5) نظام الوزارة في الدولة العباسية، ص 133.(1/186)
صدر الشرق والغرب، صفي أمير المؤمنين (1)، وقيل: صدر الوزراء، صفي أمير المؤمنين (2).
هذا فضلاً عن لقبه السابق عميد الدولة (3)، وفي سنة 544هـ استدعى الخليفة المقتفي لأمر الله يحيى بن هبيرة إلى دار الخلافة وقلده منصب الوزارة وقد أثبت هذا الوزير كفاءته ومقدرته الإدارية العالية حتى نال ثقة الخليفة، كما كانت له اليد القوية في إنهاء النفوذ السلجوقي في بغداد، لذا لقبه الخليفة بالألقاب الرنانة منها: عون الدين، جلال الإسلام، صفي الإمام، شرف الأنام، معز الدولة، مجير المّلة، عماد الأمة، مصطفى الخلافة، تاج الملوك والسلاطين، صدر الشرق والغرب، سيد الوزراء (4). إلا أن الوزير عون الدين يحيى بن هبيرة رفض مناداته بلقب سيد الوزراء وقال: لا تقولوا في ألقابي سيد الوزراء، فإن الله تعالى سمي هارون وزيراً (5).
رابعاً: ألقاب الوزير السلجوقي:
وأما بالنسبة للسلطان السلجوقي فقد سار على المنوال نفسه الذي سار عليه خلفاء بني العباس في تلقيب وزرائهم بالألقاب الرنانة، فقد أخذ سلاطين السلاجقة يلقبون الوزراء ممن تتوافر فيهم صفة الكفاءة الإدارية الناجحة وما يقدمه الوزير من أعمال جليلة للسلطان بحيث يكسب ود ورضا السلطان عنه، ففي سنة 455هـ، خلع السلطان طغرل بك أبو شجاع محمد بن ميكائيل بن سلجوق على وزيره عميد الملك أبي نصر محمد بن منصور الكندري وزاده في ألقابه جزاء على توصله لرضا السلطان عنه (6). وخلال هذا العصر استفحلت ظاهرة تعدد الألقاب (7) ويعتبر الوزير السلجوقي نظام الملك الطوسي أول وزير تلقب بأكثر من لقب في العهد السلجوقي، ويرجع هذا بلا شك إلى إخلاص نظام الملك في عمله، ومكافأة له على جهوده التي بذلها في إدارة الدولة السلجوقية، إذ كان اليد الموجهة لها في عهد السلطانين ألب أرسلان وابنه ملكشاه، كان لقب هذا الوزير في عهد السلطان ألب أرسلان هو: نظام الملك خواجه بزرك (8)، ثم زاد الخليفة القائم بأمر الله في تكريم نظام الملك فلقبه بقوام الدين والدولة، رضي أمير المؤمنين (9). ولما ولي ملكشاه السلطنة زاد في ألقاب نظام الملك لقب: «أتابك الجيوش» (10) , ويأتي الوزير السلجوقي أحمد بن نظام الملك في المرتبة الثانية بعد والده نظام الملك في التلقب بأكثر من لقب، فكان يلقب قبل إسناد الوزارة إليه «ضياء الملك» (11). فلما استوزره السلطان محمد بن
_________
(1) نظام الوزارة في الدولة العباسية، ص 134.
(2) الأنباء في تاريخ الخلفاء، ص 210.
(3) الأنباء في تاريخ الخلفاء، ص 210.
(4) شذرات الذهب في أخبار من ذهب (6/ 321).
(5) شذرات الذهب في أخبار من ذهب (6/ 321).
(6) المنتظم (8/ 230)، الوزراة العباسية، ص 62.
(7) الوزارة العباسية، ص 62.
(8) المنتظم (8/ 435) , ذيل تاريخ دمشق، ص 121.
(9) البداية والنهاية نقلاً عن نظام الوزارة، ص 132.
(10) البداية والنهاية نقلاً عن نظام الوزارة، ص 132.
(11) دولة آل سلجوق، ص 88، نظام الوزارة في العهد العباسي، ص 132.(1/187)
ملكشاه سنة 500هـ منحه ثلاثة ألقاب هي: قوام الدين، نظام الملك، صدر الإسلام (1).
ويبدو أن السلطان محمد قد منح أحمد بن نظام الملك هذه الألقاب الثلاثة وفاء لحق والده نظام الملك وتقديراً لإخلاصه في خدمة دولة السلاجقة، كما يظهر في النص التالي: استشار السلطان فيمن يجعله وزيراً، فذكر له جماعة، فقال السلطان إن آبائي رأوا على نظام الملك البركة، وله عليهم الحق الكثير، وأولاده أغذياء نعمتنا، ولا معدل عنهم (2).
خامساً: امتيازات وشارات الوزير العباسي:
نال الوزير العباسي امتيازات واسعة بعد نيله دست الوزارة، ومن أول هذه الامتيازات تمليكه داراً يقيم فيها ولإنجاز مهامه الإدارية (3)، وأصبح للوزير الحق في الجلوس في صدر الرواق, ويجلس بين يديه الحجاب والقواد، وعندما ينال الوزير دست الوزارة يقوم الخليفة العباسي بتعيين مجموعة من الحرس يقفون على بابه ويكون واجبهم هو حماية الوزير والمحافظة عليه (4)، وإذا حضر الوزير مجلسه فسرعان ما يحضر معه عدد من الغلمان المسلحين لحمايته، وإذا خرج الوزير فسرعان ما يخرج معه الغلمان شاهرين أسلحتهم، وقد نال وزراء العباسيين مكانة مرموقة لدى خلفائهم بحيث زادت امتيازاتهم ومنها أن الخليفة سمح لهم بأن يضرب البوق عندما يخرجون لأداء أعمالهم (5)، ومن امتيازات الوزير أنه سُمح له حضور مجلس الخليفة في أيام محددة من الأسبوع أو في المناسبات وإذا حضر المجلس فإنه لابد أن يجلس في المكان المخصص له، وغالباً ما يكون مواجهاً للخليفة ومعه دواته (6). أما من حيث شارات الوزير، فقد كان الوزير العباسي يلبس الملابس السوداء وهو اللباس الرسمي له لأنه يعبر عن شعار الدولة العباسية، فلباسه يتكون من الجبة على العادة والفرجية والعمامة السوداء (7)،وكان الوزير العباسي يلبس في الاحتفالات الرسمية ملابس خلعة الوزارة التي خلعها عليه الخليفة حينما ولى دست الوزارة، وهي ملابس رسمية مكونة من قباء وسيف بمنطقة وقميص وعمامة سوداء (8)، وحينما يخرج الوزير لاستقبال الوفود الآتية إلى حضرة الخليفة أو لأداء فريضة الحج كان يخرج في موكب فخم ويمشي بين يديه أصحاب المناصب العالية، ففي عهد الخليفة القائم بأمر الله عندما خرج الوزير رئيس الرؤساء أبو القاسم على بن أحمد بن المسلمة لاستقبال السلطان السلجوقي طغرل بك، خرج في موكب فخم ومعه أصحاب المناصب العالية والمراتب وقاضي القضاة والشهود
_________
(1) الكامل في التاريخ نقلاً عن نظام الوزارة، ص 132.
(2) المصدر نفسه، ص 133.
(3) الوزارة العباسية، ص 65.
(4) الوزارة العباسية، ص 65.
(5) المنتظم (10/ 273).
(6) الوزارة العباسية، ص 66.
(7) الأنباء في تاريخ الخلفاء، ص 212.
(8) المنتظم (10/ 222).(1/188)
والجنود (1). وأما بالنسبة إلى راتب الوزير العباسي خلال هذا العصر، فقد اتضح أن الغالبية العظمى من وزراء بني العباس الذين وصلوا إلى دست الوزارة، كانوا بالأساس من الطبقات الغنية وهذا ما دفع الكثير منهم إلى رفض رواتبهم الشهرية ففي سنة 453هـ، نال الوزير ابن الفتح منصور بن أحمد بن دارست الوزارة حيث رفض استلام رواتبه خلال توليه الوزارة وبذلك فإنه خدم بغير إقطاع، علماً بأنه كان غنياً ويعمل تاجراً (2) وعندما ولي الخليفة المقتدي بأمر الله الوزارة لظهير الدين أبي شجاع محمد بن الحسين الروذراوري، كان الوزير يمتلك ستمائة ألف دينار، وقد أنفقها جميعاً على الفقراء والمحتاجين واليتامى والأرامل حال استلام دست الوزارة (3)، أما الوزير ظهير الدين أبو بكر منصور بن أبي القاسم نصر بن العطار الذي استوزر للخليفة العباسي المستضيء، كان غنياً ويعمل تاجراً في ابتداء أمره (4)، وعلى الرغم من ثراء وزراء بني العباسي فإن الخلفاء العباسيين أصروا على منح وزرائهم الرواتب، والمخصصات والقطائع والمنح، كبديل لما يقدمونه من خدمات وأعمال جليلة تخدم بها كيان الدولة العباسية، ففي سنة 477هـ، أقطع الخليفة المقتدي بأمر الله وزيره أبا شجاع محمد بن الحسين بن عبد الله الروذراوري: قطائع تقدر ببضعة عشر ألف دينار (5)،
وفي زمن الخليفة المقتفي لأمر الله نال عون الدين، يحيى بن هبيرة الوزارة، وكانت إيرادات مشاهرته في كل سنة مائة ألف دينار (6)، ولما نجح الخليفة المقتفي لأمر الله في استعادة سلطته في العراق أقطع وزيره عون الدين يحيى بن هبيرة جميع ما كان لوزير السلطان السلجوقي وعماله في بلاد العراق من إقطاعات (7)، وفي بعض الأحيان كان الخليفة العباسي يعطي للوزير الرواتب العينية من أرزاق وملابس، فالوزير فخر الدولة أبو نصر محمد بن جهير وزير الخليفة المقتدي بأمر الله، كان راتبه في كل يوم ألف رطل لحم هذا سوى الشوايا والدجاج والحلواء والفاكهة، إضافة إلى الملابس (8)، ويتضح أن راتب الوزير في العصر السلجوقي شهد زيادة ملحوظة، فبينما كان راتب الوزير البويهي خمسين ألف دينار في العام أصبح راتب وزير الخليفة في عصر السلاجقة مائة ألف دينار (9).
سادساً: امتيازات وشارات الوزير السلجوقي:
من أولى امتيازات الوزير السلجوقي أن تخصص له دار يجلس فيها عند استدعائه لنيل الوزارة،
_________
(1) دولة آل سلجوق، ص 12, الوزارة العباسية، ص 67.
(2) دولة آل سلجوق، ص 24، الوزارة العباسية، ص 67.
(3) المنتظم (9/ 90) , الوزارة العباسية، ص 68.
(4) الفخري، ابن طباطبا، ص 68.
(5) المنتظم (9/ 10) , الوزراة العباسية، ص 68.
(6) الوزارة العباسية، ص 68.
(7) دولة آل سلجوق، ص 215، نظام الوزارة، ص 131.
(8) رسوم السلاجقة ونظمهم الاجتماعية، ص 86.
(9) الفخري، ابن طباطبا، ص 227، الوزارة العباسية، ص 69.(1/189)
ومن امتيازات الوزير السلجوقي، أنه كان يضرب على بابه الطبول في أوقات الصلوات دلالة على فخامته وعظمة منزلته، فعندما نزل الوزير مؤيد الملك بن نظام الملك بداره في سنة 475هـ ضرب له النوبة على بابه، وكان يحق للوزير مرافقة السلطان السلجوقي في الأعياد والمناسبات وأثناء تفقده الأقاليم والولايات، وكان يحق له حضور المجلس العام للسلطان (1)، ويمتاز موكب الوزير أثناء خروجه مع السلطان، أو لاستقبال وفد الخليفة والدول، بالفخامة والأبهة، ويذكرالبنداري أن موكب الوزير عميد الملك الكندري أبي نصر محمد بن منصور، عندما دخل مع السلطان طغرل بك إلى بغداد سنة 447هـ، امتاز بالفخامة والهيبة بحيث لا يقل عن هيبة موكب السلطان (2)، ومن امتيازات الوزير السلجوقي، عندما يخرج من الديوان متجها للجامع أو للبيت كان يسير في موكب فخم بين يديه الغلمان حاملين السيوف، فعندما خرج الوزير كمال الملك أبو الحسن بن أحمد السميرمي من بغداد إلى همذان، ركب الوزير وكان بين يديه الغلمان حاملين السيوف (3)، فضلاً عن ذلك كان للوزير السلجوقي علامة خاصة به وهي بمثابة التوقيع، فالوزير نظام الملك أبو علي الطوسي كانت علامته «الحمد لله على نعمه» (4). و «الحمد لله المنعم» (5) وأما بالنسبة لراتب الوزير، فلكون هؤلاء الوزراء من الأغنياء فإنهم لم يكن الراتب الشهري دافعاً لهم للتطلع إلى الوزارة (6).
كما كان أغلب وزراء السلاجقة يقدمون الكثير من الهدايا الثمينة والأموال إلى السلطان لينالوا منصب الوزارة، فالوزير فخر الملك أبو الفتح المظفر بن نظام الملك أبو علي الطوسي، قدم الكثير من الأموال والهدايا الثمينة للسلطان بركيارق بن ملكشاه، عندما أراد الوصول إلى دست الوزارة (7). وعلى الرغم من غنى وزراء السلاطين، فإن سلاطين السلاجقة خصصوا لوزرائهم رواتب شهرية أو منحًا مالية، حيث أخذ الوزير نظام الملك أبو علي الحسن الطوسي راتباً قدره عشر مال السلطان (8)، كما خلع السلطان ملكشاه على الوزير نظام الملك أبي علي الطوسي عندما نال الوزارة خلعاً وأعطاه عشرين ألف دينار. كما نال وزراء السلاطين الكثير من المنح والقطائع عند توليهم دست الوزارة، فقد أعطى ملكشاه وزيره نظام الملك أبا علي الطوسي بلدة طوس (9).
_________
(1) رسوم السلاجقة ونظمهم الاجتماعية، ص 86.
(2) دولة آل سلجوق، ص 12، الوزارة العباسية، ص 70.
(3) الوزارة العباسية، ص 70.
(4) المصدر نفسه، ص 70, دولة آل سلجوق، ص 59.
(5) الوزارة العباسية، ص 70.
(6) نظام الوزارة في الدولة العباسية، ص 129.
(7) الوزارة العباسية، ص 70.
(8) المصدر نفسه، ص 71، آثار البلاد وأخبار العباد، ص 412.
(9) الوزارة العباسية، ص 71.(1/190)
المبحث الثالث
صلاحيات الوزير العباسي والسلجوقي
أولاً: صلاحيات الوزير العباسي:
1 - الإدارية:
ازداد عدد الدواوين في العصر العباسي وكثرت واجباتها وتركبت وتعقدت تشكيلاتها الإدارية، لكي تلبي حاجة الدولة والمجتمع الكبير الذي تنظم شئونه وقد أصبح توزيع أعمال الدواوين دقيقاً بحيث لم يكن هناك مرفق من مرافق الدولة والمجتمع إلا وله ديوان يختص بشئونه ويعنى بمشاكله، ونتيجة لأهمية الدواوين فقد أوكل خلفاء بني العباس لوزرائهم الإشراف على هذه الدواوين وخوّلوا لهم تعيين رؤساء هذه الدواوين وعزلهم (1). فضلاً عن أن الوزراء العباسيين كانوا حريصين على تنفيذ أوامر الخليفة، حيث يقوم الوزير باستدعاء القضاة إلى دار الوزارة وإبلاغهم بقرار تعيينهم أو عزلهم (2). وفي زمن الخليفة المقتدى بأمر الله، نال الوزير عميد الدولة محمد بن محمد بن جهير منصب الوزارة، وأصبحت له مكانة عالية عند المقتدى لدرجة أن الخليفة فوضه جميع أمور الدولة (3)، كما فوض الخليفة المستظهر بالله أمور الخلافة إلى وزيره أبي منصور عميد الدولة محمد بن جهير، فأجاد في إدارة أمور البلاد، ونظم شئونها (4). ولما بويع الخليفة المستنجد بالله بالخلافة سنة 555هـ نصب عون الدين يحيى بن هبيرة على الوزارة، وفوض إليه أمور البلاد وقال له: انهض أنت إلى الديوان لتنفيذ المهام وتثق بشمول الإنعام ولتأمر بالحاضرين بالانكفاء إلى الخدمات. وعندما استلم الوزير مهامه قبض على القاضي علي بن المرخم الذي عرف بسوء تصرفه وسوء عدله وأخذ الرشاء من الرعية، وأخيراً أمر الوزير بمصادرة أمواله (5)، ومن صلاحيات الوزير العباسي أنه كان ينوب عن الخليفة في بعض المناسبات فمنها أن الوزير كان يجلس نيابة عن الخليفة في مجلس العزاء (6)،
ففي سنة 486هـ، توفي جعفر بن الخليفة المقتدي بأمر الله فجلس الوزير عميد الدولة محمد بن جهير للعزاء به ثلاثة أيام (7).
ومن صلاحيات الوزير أنه يجلس نيابة عن الخليفة في مجلس الهناء، فعندما ولد للقائم
_________
(1) الكامل في التاريخ, نقلاً عن الوزارة العباسية، ص 71.
(2) تحفة الأمراء، ص 84، الوزارة العباسية، ص 73.
(3) الوزارة العباسية، ص 74.
(4) المنتظم (9/ 82) , الوزارة العباسية، ص 74.
(5) المنتظم (10/ 193، 194).
(6) الوزارة العباسية، ص 75.
(7) المنتظم (9/ 165) , الوزارة العباسية، ص 75.(1/191)
ولده ذخيرة الدين أبو العباس بن القائم سنة 44هـ جلس الوزير رئيس الرؤساء أبو القاسم علي بن حسن بن مسلمة ثلاثة أيام للهناء، وحضر عميد الملك أبو نصر بن منصور الكندري وجماعة الأمراء (1). فضلاً عما تم ذكره، فإن صلاحيات الوزير العباسي بدأت تزداد اتساعاً لدرجة أنه أخذ على عاتقه متابعة موظفيه فيما يقومون به من أعمال وعندما يثبت لديه سوء أعمال موظفيه والاشتباه بسوء نياتهم سرعان ما يقوم بمحاسبتهم واعتقالهم ومصادرة أموالهم، كما قام باعتقال ومحاسبة الوزراء السابقين وأولادهم وموظفيهم (2). وعلى هذا الأساس كان من المحتمل أن بقاء الوزير في منصبه يتوقف على مدى نجاحه في اختيار الموظفين والعمال الأكفاء ومراقبة أعمالهم بدقة، ولذا عمد بعض الوزراء عند توليهم الوزارة إلى عزل الموظفين السابقين، واختيار غيرهم ممن يعتقد أنهم سيتعاونون معه في القيام بأعمال الدولة الإدارية على أفضل وجه، وبذلك أصبح من صلاحيات الوزير العباسي الإشراف على الأعمال الإدارية والمالية للدولة (3)، وتعيين وعزل ولاة الأقاليم (4)، خاصة الأقاليم التي كانت خاضعة للنفوذ الخليفة العباسي فسرعان ما يقوم الوزير العباسي باختيار الموظفين الذين يكونون محل ثقة فيعينهم ولاة لهذه الأقاليم، لكي يؤمنوا وصول جبايات الأقاليم إلى خزانة الخلافة (5)،
وخلال العصور العباسية المتأخرة، أصبحت صلاحيات الوزير واسعة لدرجة أنه أخذ ينظر في المظالم بعد أن كانت من صلاحيات الخليفة العباسي، فالوزير أبو شجاع محمد بن الحسن الروذراوري (6) وزير الخليفة المقتدى بأمر الله 467هـ، كان يجلس للمظالم بعد صلاة الظهر، وكان الحجاب ينادون في الناس لرفع قصص المظالم إلى الوزير للنظر فيها (7)، وأنيط بالوزير العباسي مسئولية حفظ الأمن والنظام في الدولة وكشف المؤامرة والدسائس التي تهدد كيان الدولة العباسية، من ذلك أن الوزير رئيس الرؤساء أبا القاسم على بن حسن بن أحمد بن مسلمة أعلم الخليفة القائم بأمر الله بنوايا البساسيري (8)، ومراسلته لليازوري وزير المستنصر بالله الفاطمي بمصر مستهدفاً خلع القائم بأمر الله، فلما تحقق من صحة ما نسب إلى البساسيري، حاول التخلص منه نهائياً (9). ويقول الثعالبي إن من صلاحيات الوزير هي: يتعين على الوزير أن يمعن النظر في دقائق المملكة، وتحسينها وما يعود بقوتها، وتمكينها، ويذكي العيون، ويستعلم الأخبار، ولا يغفل عن خلل يتوهم، وفساد
_________
(1) دولة آل سلجوق، ص 14, الوزارة العباسية، ص 76.
(2) الحياة السياسية في العراق، ص 158, الوزارة العباسية، ص 76.
(3) الأحكام السلطانية، ص 27, الوزارة العباسية، ص 77.
(4) المصدر نفسه.
(5) الوزارة العباسية، ص 77.
(6) الوزارة العباسية، ص 77.
(7) النجوم الزاهرة (5/ 111).
(8) تاريخ بغداد (9/ 450) , الوزارة العباسية، ص 78.
(9) المنتظم (8/ 163).(1/192)
يظهر، فقد قال الحكيم: لا تتهاون بصغير يحتمل الزيادة (1).
2 - السياسية: كان الوزير العباسي من صلاحياته السياسية أنه مسئول عن استقبال الوفود قبل دخولهم إلى حضرة الخليفة، ويقوم بأداء مراسيم الضيافة والتوديع (2)، فعندما خرج السلطان السلجوقي ملكشاه من بغداد متوجهاً نحو أصفهان وكان معه وزيره نظام الملك أبو علي الحسن بن إسحاق الطوسي، خرج الوزير العباسي محمد بن حسين بن عبد الله أبو شجاع لتوديعه، فودعه في النهروان (3)، وكذلك عندما دخل السلطان السلجوقي مسعود بن محمد بن ملكشاه بغداد في سنة 546هـ، خرج الوزير العباسي عون الدين يحيى بن هبيرة، وأرباب الدولة في موكب فخم لاستقباله (4)، فضلاً عن ذلك، فإن صلاحيات الوزراء ازدادت بحيث كانوا يتولون أخذ البيعة للخليفة عند توليه ويشرفون على المراسم الخاصة بذلك (5)، ومن صلاحيات الوزير العباسي أنه كان يقوم بدور السفير بين الخليفة العباسي والسلطان السلجوقي حاملاً الرسائل إلى أمراء السلاطين وناقلاً إليهم آراء وأوامر الخليفة وبالعكس، فقد كان الخليفة القائم بأمر الله والخليفة المقتدي بأمر الله يوفدان الوزير عميد الدولة محمد بن محمد بن جهير في رسائل إلى سلاطين السلاجقة (6). فضلاً عن ذلك أصبح الوزير له الحق أن يجلس مع الخليفة ويتشاور معه في أمور البلاد، لدرجة أن الخليفة المقتفي لأمر الله عندما استوزر شرف الدين علي بن طراد الزينبي، كان لا يستطيع الخليفة أن يثبت في أمر من أمور الخلافة إلا بمشورته (7)،
ونال الوزير العباسي صلاحيات واسعة حيث أخذ يكاتب ويراسل ويتفاوض مع أمراء الأطراف والإمارات المتاخمة الذين أبدوا العصيان للخليفة العباسي، فعندما نال فخر الدولة، أبو نصر محمد بن جهير منصب الوزارة، كانت بعض الأطراف المتاخمة ترفض إبداء الولاء للخليفة العباسي، إلا أن حسن مراسلة الوزير وطيب علاقته وحسن سفارته مع أمراء الأطراف، استطاع أن يعيد هذه الإمارات وأن تبدي ولاءها للخليفة العباسي (8)، فضلاً عن ذلك فإن الوزير العباسي أخذ يحضر مجلس الخليفة، عند قدوم سلاطين السلاجقة وأمراء الأطراف، ثم يقوم بقراءة القرارات التي اتخذها الخليفة، وإبلاغها للوفود الحاضرة في مجلس الخليفة (9).
3 - المالية: اتسعت صلاحيات الوزير المالية خلال العصور العباسية المتأخرة خاصة في
_________
(1) تحفة الأمراء، ص 80, الوزارة العباسية، ص 78.
(2) الحياة السياسية في العراق، ص 108.
(3) المنتظم (9/ 37).
(4) الوزارة العباسية، ص 79.
(5) النظم الإسلامية، دراسة تاريخية، فاروق عمر, ص 66.
(6) الوزارة العباسية، ص 81.
(7) المنتظم (10/ 85).
(8) الوزارة العباسية، ص 83.
(9) الوزارة العباسية، ص 83.(1/193)
ظل الوزراء الأقوياء الذين سيطروا على زمام الأمور، فقد أصبح الوزير يشرف على القطائع الخاصة بالخليفة العباسي فالوزير عميد الدولة محمد بن محمد بن جهير عندما نال دست الوزارة كسب ود الخليفة وأثبت مقدرته الإدارية، باشر هذا الوزير بالإشراف على قطائع الخليفة (1)، كما حمل الوزراء على عاتقهم مسئوليات توفير المواد الغذائية للسكان وبأسعار ثابتة - معقولة - فالوزير ظهير الدين أبو شجاع الروذراورى عندما نال الوزارة في سنة 476هـ منع وعاقب الموظفين الذين يحاولون استغلال مناصبهم لتحقيق رغباتهم الشخصية كالاعتداء على أموال الناس وبذلك عم الرخاء، وانخفضت أسعار المواد الغذائية (2). ويذكر الثعالبي: أن من أهم الصلاحيات المالية للوزير العباسي هي السعي في عمارة البلاد، وإصلاح خللها، وتثمير الأموال والمزروعات، وبالأموال تشمخ وتكثر الأعوان (3)، فضلاً عن الإشراف على دخل الدولة من الأموال والمجوهرات والمواد النفيسة التي تضاف إلى بيت المال، ومعرفة مصروفاتها على مؤسسات الدولة، وما يصرف على بلاط الخليفة وغيرها من الأموال (4)، وأشرف الوزراء على إصلاح الأراضي الزراعية وسد البثوق وعمارة البلاد وزيادة واردات المال، كما نال الوزراء صلاحيات واسعة بيّنها الماوردي قائلاً: يجوز للوزير أن يتصرف في أموال بيت المال يقبض ما يستحق له ويدفع ما يجب فيه (5).
4 - العسكرية: نال الوزراء مكانة مرموقة لدى خلفاء بني العباس، ولذا أوكلوا إليهم قيادة الجيوش العباسية لمحاربة أي عدوان أجنبي، كما خولوا لهم الإشراف على الجيوش العباسية، فقد لعب الوزير يحيى بن هبيرة دوراً لامعاً في قيادة الجيوش العباسية التي سرعان ما هددت كيان الدولة السلجوقية والقضاء عليها في العراق (6)، وقد شارك كثير من وزراء بني العباس خلفاءهم في قيادة الجيوش المحاربة، فعندما خرج الخليفة المسترشد بالله لقتال السلطان مسعود السلجوقي في سنة 529هـ خرج الوزير على بن طراد الزينبي معه إلا أنه وقع في الأسر مع الخليفة العباسي، كما وقف الوزير علي بن الحسن بن صدقة إلى جانب الخليفة العباسي المسترشد بالله في قيادة العساكر ومقارعة السلاجقة (7)، فضلاً عن ذلك فإن الوزير يتولى استعراض الجيوش في المناسبات وقيادة الجيوش العباسية لقمع الفتن والاضطرابات في الأقاليم التابعة والخاضعة لنفوذ الخليفة العباسي (8)، كما خول للوزير
_________
(1) دولة آل سلجوق، ص 37, الوزارة العباسية، ص 84.
(2) وفيات الأعيان (5/ 135، 136).
(3) تحفة الأمراء، ص 69، الوزارة العباسية، ص 85.
(4) الأحكام السلطانية، ص 27.
(5) الوزارة العباسية، ص 86.
(6) المنتظم (10/ 214).
(7) الوزارة العباسية، ص 86.
(8) المنتظم (10/ 214).(1/194)
العباسي صلاحيات تقديم المشورات العسكرية للخليفة العباسي ولما طلب السلطان محمد شاه من السلطان محمود بن الخليفة العباسي المقتفي لأمر الله، مبلغاً من المال مقداره ثلاثون ألف دينار مقابل رفع الحصار عن بغداد، أشار الوزير عون الدين يحيى بن هبيرة على الخليفة بعدم دفع المبلغ المحدد للسلطان، وإن وجب صرفه لإعداد جيش جرار للخلافة يمكن من خلاله صد قوات السلطان محمد شاه فقبل الخليفة رأي الوزير عون الدين يحيى بن هبيرة، وفوض إليه إعداد هذا الجيش (1)، ولذلك كان للوزير عون الدين يحيى بن هبيرة الدور الفاعل في قمع إمارة السلاجقة (2)، كما أصبحت مهام الوزير مقتصرة على تسيير الجيوش وتدبير الحروب (3)،
ويذكر الثعالبي أن من مهمات الأمور أن ينظر في أمر الأجناد فيسوسها على ما يليق بها، ويولي عليهم العراض فيكتب حلالهم وشتات خيلهم، وصفات أسلحتهم، ويثبت أقطاعهم، وأرزاقهم، ويعجل ما يستحق منها (4)، ويضيف الثعالبي أن صلاحيات الوزير هي: حسن النظر في أمور الجند، فلا يؤخر عنهم العطاء، ولا يلجئهم إلى الشعب والغوغاء, ويسوسهم، ويؤلف كلمتهم (5).
ثانياً: صلاحيات الوزير السلجوقي:
1 - الإدارية: أصبح الوزير السلجوقي ثاني شخصية مهمة في الدولة يأتي بعد السلطان السلجوقي حيث وكل للوزير الإشراف على جميع مرافق الدولة (6)، فعندما دخل السلطان السلجوقي طغرل بك محمد بن ميكائيل بن سلجوق إلى بغداد في سنة 447هـ، استقبله أصحاب المناصب العالية، وعندما استقر ببغداد أطلق يد وزيره عميد الملك أبي نصر محمد بن منصور الكندري في الحل والعقد والحبس والإطلاق والنظر في المظالم (7)، وعندما استقر السلطان السلجوقي ألب أرسلان على عرش السلطنة في عام 455هـ، أسند منصب الوزارة إلى الوزير نظام الملك أبي علي الحسن بن إسحاق الطوسي، فخول إليه مطلق الصلاحيات من حل وعقد، وقبض وبسط وتفويض وعزل (8)، وبذلك سيطر الوزير السلجوقي على جميع مرافق الدولة السياسية والاقتصادية والاجتماعية، ولم يترك للسلطان سوى قيادة الجيوش (9). وبالرغم من الصلاحيات الواسعة للوزير السلجوقي إلا أنه كان مسئولاً عن تصرفاته أمام السلطان
_________
(1) دولة آل سلجوق، ص 205.
(2) البداية والنهاية, نقلاً عن الوزارة العباسية، ص 88.
(3) الأحكام السلطانية، ص 27.
(4) تحفة الأمراء، ص 79.
(5) المصدر نفسه، ص 69, الوزارة العباسية، ص 88.
(6) السلاجقة في التاريخ والحضارة، ص 210.
(7) دولة آل سلجوق، ص 13.
(8) الوزارة العباسية، ص 89.
(9) السلاجقة في التاريخ والحضارة، ص 210.(1/195)
السلجوقي، وغالباً ما كان يحذره في حالة وقوعه في بعض الأخطاء ويمنعه من تكرارها وإلا فسوف يخضع لأشد العقوبة، كما يتضح من خلال الدراسة أن الصلاحيات الإدارية للوزير السلجوقي في العصور العباسية المتأخرة كانت أقوى من صلاحيات الوزير العباسي، وذلك لأنه يستمد قوته من قوة السلطان السلجوقي صاحب النفوذ الفعلي في الدولة العباسية (1).
2 - السياسية: يعد الوزير السلجوقي أهم شخصية سياسية بعد السلطان حيث يشغل أرفع منصب في الدولة (2)، فكان يشرف على شئون الدولة السياسية والاقتصادية والاجتماعية، خاصة إذا كان الوزير يمتلك خبرة إدارية عالية، وملماً بقوانين الوزارة كنظام الملك أبي علي الحسن بن إسحاق الطوسي، فالوزير السلجوقي نال صلاحيات سياسية واسعة، حيث كان الوزير يجلس مع السلطان ويتشاور معه لتحديد ورسم سياسة الدولة السلجوقية (3)، وقد أصبح الوزير السلجوقي مفوضاً في تنفيذ وصية السلطان، فالوزير نظام الملك أبو علي بن الحسن الطوسي أصبح مفوضاً في تنفيذ وصية السلطان ألب أرسلان بجعل ابنه ملكشاه أبي شجاع محمد ولياً لعهده وأن يكون سلطاناً من بعده، فنفذ الوزير ذلك (4)، وبذلك لعب وزراء السلاجقة الأقوياء دوراً كبيراً في تنصيب بعض الشخصيات كسلاطين لدولة السلاجقة، خاصة الوزير نظام الملك أبا علي بن الحسن الطوسي وأولاده (5). وقد نال وزراء السلاجقة صلاحيات واسعة لدرجة أنهم تحكموا بسلاطينهم، فالسلطان ملكشاه كان لا يستطيع مخالفة أوامر نظام الملك أبي علي الحسن الطوسي لكثرة مماليكه ومحبة الأمراء والعساكر له (6)،
وكان الوزير السلجوقي مسئولاً عن تنظيم وصول أمراء السلاجقة ودخولهم إلى حضرة الخليفة العباسي، وإعطاء نبذة عن حياة كل أمير, وقد قام بعض وزراء السلاجقة بفض النزاعات الدائرة بين سلاطين السلاجقة حول عرش السلطنة، ومن ثم إجراء مفاوضات الصلح بينهم، مثل ما قام بذلك الوزير كمال الملك ما بين السلطان محمود وعمه سنجر، كما أدى الوزير السلجوقي مهام المترجم في ديوان الخليفة، فعندما دخل السلطان السلجوقي طغرل بك على الخليفة القائم بأمر الله كان مع السلطان وزيره محمد بن منصور الكندري الذي أخذ يترجم كلمات الخليفة العباسي من اللغة العربية إلى الفارسية وبالعكس ليفهمها السلطان السلجوقي (7).
3 - المالية: اتخذ سلاطين السلاجقة سياسة جديدة هي توزيع الأراضي على الأمراء وقادة
_________
(1) الوزارة العباسية، ص 94.
(2) السلاجقة في التاريخ والحضارة، ص 210.
(3) الوزارة العباسية، ص 94.
(4) النجوم الزاهرة (5/ 134) , الوزارة العباسية، ص 96.
(5) النجوم الزاهرة (5/ 134) الوزارة العباسية، ص 96.
(6) التاريخ الباهر، ص 10, الوزارة العباسية، ص 98.
(7) الوزارة العباسية، ص 100، المنتظم (8/ 182).(1/196)
الجيوش، وقد أوكلت هذه المهام إلى الوزير السلجوقي حيث حمل على عاتقه مراقبة القطائع وتنظيمها وتحديد قطائع الأمراء (1)، وكان الوزير مسئولاً عن خزانة السلطان الخاصة، والمكلف بجمع الأموال من الولايات الخاضعة لنفوذ السلطان السلجوقي وتأمين وصولها إلى خزائن السلطان الخاصة، وقد اتسعت صلاحيات الوزير السلجوقي لدرجة أنهم أخذوا يتصرفون بخزائن السلطنة، وقد ذكرت والدة السلطان محمود بن محمد في سنة 512هـ للسلطان سنجر، فقالت له: أدرك ابن أخيك وإلا تلف فإن الأموال قد تمزقت والبلاد أشرفت على الأخذ، وهو صبي وحوله من يلعب بالملك. فكان الوزير أبو القاسم علي بن القاسم الانسباذي (2)، سيئ التدبير حيث أنفق ما في خزائن محمد شاه في أربعة أشهر وباع الجواهر والأثاث لصرفها على العساكر لكسبهم إلى جانبه خوفاً من مجيء السلطان سنجر شاه إلى البلاد (3).
4 - العسكرية: تميزت إمارة السلاجقة بكونها دولة حرب استطاعت أن تكون إمبراطورية عظيمة معتمدة على قوتها العسكرية، ولذا كان لا بد من توفير مستلزمات ديمومتها وبقائها من خلال توفير احتياجات الجيش الفعلية، من أرزاق ومصروفات، ولذا أوكلت هذه المهام إلى الوزير السلجوقي بحيث أصبحت من صلاحياته العسكرية، فالوزير كمال الدين محمد بن علي الخازن، كان يعطي للجيش مؤناً بقدر وحساب (4). فضلاً عن ذلك فإن الوزير السلجوقي عمل جاهداً لجباية الأموال من البلاد والإمارات الخاضعة تحت نفوذ السلطان السلجوقي، لغرض توفير الرواتب والمخصصات المالية وصرفها للجند؛ ولذا قرر لكل جندي ألف دينار في السنة (5)، كما حاول بعض الوزراء الأقوياء كنظام الملك أبي علي الحسن الطوسي أن يحدد الأهداف للدولة السلجوقية، والعمل على تحقيقها، مما دفعه إلى الاهتمام بالجيش لتحقيق الأهداف المرسومة له ومنها التوسع في آسيا الصغرى (6). كما أصبح الوزير السلجوقي مسئولاً عن إعداد الجيوش وتسليحها بأنواع الأسلحة لغرض إخماد الحركات التي ثارت ضد سياسة السلطان السلجوقي طوال مدة حكمهم، فعندما نشبت الحرب بين السلطان ألب أرسلان وقتلمش (7)، في سنة 456هـ قام الوزير نظام الملك أبو علي الطوسي بتعبئة الكتائب وتسليحهما ومن ثم قيادة الجيش، مما أدى إلى تحقيق النصر على قتلمش (8)، وقد اهتم وزراء السلاجقة اهتماماً كبيراً بنواحي الجيش بحيث شمل جميع مرافقها، خاصة نظام الملك أبا علي الحسن بن إسحاق الطوسي الذي أعطى للجيش أهمية كبيرة (9).
_________
(1) العالم الإسلامي في العصر العباسي، ص 582، 583.
(2) الوزارة العباسية، ص 103.
(3) النجوم الزاهرة (8/ 169).
(4) راحة الصدور، ص 333، الوزارة العباسية، ص 104.
(5) دولة آل سلجوق، ص 60, الوزارة العباسية، ص 104.
(6) دولة آل سلجوق، ص 60, الوزارة العباسية، ص 104.
(7) الوزارة العباسية، ص 110.
(8) المصدر نفسه، ص 105.
(9) الوزارة في عهد السلاطين، ص 39, الوزارة العباسية، ص 108.(1/197)
المبحث الرابع
العزل والمصادرة لوزراء بني العباس والسلاجقة
أولاً: العزل والمصادرة لوزراء بني العباس:
تظاهرت عدة عوامل لظاهرة العزل والمصادرة للوزراء في العصر العباسي، ويعد العامل السياسي من أهم العوامل التي دفعت خلفاء بني العباس إلى عزل وزرائهم ومصادرتهم، حيث برزت خلال هذا العصر ظاهرة وجود وزيرين في آن واحد (1)، أحدهما للخليفة العباسي والثاني للسلطان السلجوقي، فكان الاثنان في صراع مستمر للحصول على النفوذ السياسي المرموق والسيطرة، مما دفع الاثنين إلى توجيه الاتهامات السياسية لبعضهما البعض عند خلفائهم وسلاطينهم لغرض عزلهم (2)، كما أن ظلم الوزير لرعيته من الأسباب التي دفعت الخليفة العباسي إلى عزل وزيره (3)، ففي سنة 563هـ نال أبو جعفر أحمد بن محمد بن البلدي، منصب الوزارة، وأصبح ظلم هذا الوزير على الكتاب والعمال وأولاد الوزراء السابقين أمراً مألوفاً فذهب ضحية لهذه المعاملة الجائرة كل من أولاده الوزير عون الدين يحيى بن هبيرة ورئيس الرؤساء، فصادر أموالهم وسلب قطائعهم، وبذلك ساءت سمعة هذا الوزير، مما دفع الخليفة المستنجد بالله إلى عزله (4)، ومن الأسباب في العزل، قلة خبرة الوزير الإدارية وقصور كفايته، وعجزه في إدارة أمور البلاد، مما دفع خلفاء بني العباس إلى عزل وزرائهم (5)، ففي سنة 454هـ عزل الخليفة القائم بأمر الله وزيره أبو الفتح محمد بن منصور بن دارست من وزارته، وذلك لما ثبت قصور هذا الوزير بالحفاظ على الأموال وجمعها من عمال الولايات (6)،
ومن الأسباب في العزل عدم ولاء الوزير للخليفة وخيانته له مما دفع كثيرًا من خلفاء بني العباس إلى عزل وزرائهم (7) ففي سنة 460هـ، كتب قاضي القضاة محمد بن علي الدامغاني محضراً صادراً من الخليفة العباسي القائم بأمر الله يوعز فيه بعزل وزيره فخر الدولة أبي نصر محمد بن محمد ابن جهير وذلك لما ارتكبه هذا الوزير من أخطاء في حق الخليفة (8)، ولما تبين للخليفة المقتفي لأمر الله خيانة الوزير شرف الدين علي بن طراد الزينبي، عزله ونسب إليه مواطأة الأتراك وتآمره مع السلطان السلجوقي ضد الخليفة العباسي الراشد بالله (9). حيث كتب محضراً وقع
_________
(1) الوزارة العباسية، ص 110.
(2) الوزارة العباسية، ص 110.
(3) قوانين الوزارة، للماوردي، ص 195، 196، 197 الوزارة العباسية، ص 112.
(4) الوزارة العباسية، ص 112.
(5) قوانين الوزارة للماوردي، ص 121، 122، 123.
(6) الوزارة العباسية، ص 113.
(7) الوزارة العباسية، ص 113.
(8) الوزارة العباسية، ص 113.
(9) الأنباء في تاريخ الخلفاء، ص 225، الوزارة العباسية، ص 114.(1/198)
عليه عدد من القضاة شهدوا فيه زوراً بتعدد المنكرات والكبائر التي اتهموا بها الخليفة العباسي الراشد بالله وبتأييد صريح من السلطان السلجوقي مما أدى على خلع الخليفة (1) وزيادة على ذلك كان للوشاة طريق في عزل الوزراء، حيث سخر الواشون العديد من الأساليب لعزل الوزراء، فمنهم من سخر الشعراء في تشويه سمعة الوزير والتقليل من مكانته وإثبات قصوره في إدارة شئون البلاد، مما يدفع الخليفة وعامة الناس إلى المطالبة بعزله وخير دليل على ذلك ما حدث في عام 555هـ حيث ذهب بعض الوشاة إلى الخليفة المستنجد بالله لكي يلفقوا الكثير من الكبائر للوزير عون الدين يحيى بن هبيرة، فكتب الخليفة إلى الوزير يعلمه بما جرى في حقه من وشاية في بلاطه، فكتب الوزير للخليفة يقول:
زرعت زروعاً تجتني ثمراتها ... فلا ذنب لي أن حنظلت شجراتها
فهم نقلوا عن الذي أمه بها ... وما آفة الأخبار إلا رواتها
يطول على مثلى بأني كلما ... سمعت نباحاً من كلاب خسأتها (2)
ومن الملاحظ أن أغلب الوزراء الذين تعرضوا لعملية العزل، لم يفلتوا من التعذيب والتنكيل والقتل والمصادرة (3)، وبالرغم من ذلك حدثت حالات شاذة حيث عزل بعض خلفاء بني العباس بعض وزرائهم على أحسن حال، حيث انصرف هذا المعزول مع حاشيته إلى داره معززاً مكرماً، وهذا ما حدث في عام 484هـ، حيث عزل الخليفة العباسي المقتدي بأمر الله وزيره أبو شجاع ظهير الدين محمد بن الحسين المروذراوري على أحسن حال، بحيث لم يعزل وزيراً مثله من قبل (4). ومن الملاحظ أن العزل يحدث بطريقتين، فإما أن يصدر الخليفة العباسي قرارًا بعزله شفاهًا وإما أن يحدث العزل بتقرير خطي مكتوب من قبل الخليفة (5)، وأما المصادرة، فغالباً ما كانت تصاحب ظاهرة العزل، وقد عمد بعض خلفاء بني العباس إذا ما اختلفوا مع وزرائهم إلى عزلهم ومن ثم مصادرة أموالهم المنقولة وغير المنقولة (6).
ثانياً: العزل والمصادرة لوزراء سلاطين السلاجقة:
لم تختلف ظاهرة عزل سلاطين السلاجقة لوزرائهم، عن خلفاء بني العباس
من حيث أسباب العزل، فقد لعب العامل السياسي الدور المهم في العزل، خاصة بعد
_________
(1) النجوم الزاهرة (5/ 258) , الوزارة العباسية، ص 114.
(2) الوزارة العباسية، ص 115.
(3) المصدر نفسه، ص 115.
(4) الإسلام في حضارته ونظمه الإدارية، أنور الرفاعي، ص 112.
(5) الوزارة العباسية، ص 116.
(6) الوزارة العباسية 117.(1/199)
ازدياد النفوذ السياسي للوزير السلجوقي مما أدى في النهاية إلى توسيع دائرة الصراع بينهما (1)، ومن أسباب العزل أيضاً، أن بعض الوزراء عندما نالوا منصب الوزارة عجزوا عن تمشية أمور البلاد بشكل صحيح، مما دفع سلاطين السلاجقة إلى عزلهم، فالسلطان بركيارق أراد أن يرد جميل أسرة نظام الملك ومساندتهم له بتعيين أحد أبنائهم وزيراً له ولذلك عين عز الملك الحسن بن نظام الملك وزيراً، إلا أن هذا الوزير كان قليل الخبرة الإدارية لذا عجز عن تمشية أمور الرعية وشئون الدولة بشكل صحيح، مما دفع السلطان بركيارق إلى عزله، واستوزر بدلاً منه أخاه مؤيد الملك عبيد الملك بن نظام الملك (2)، ومن الأسباب في العزل أن الوزير الذي تتوافر فيه صفات النزاهة في أداء أعماله وثبوت كفاءته الإدارية، سرعان ما يكون مكروها من قبل رجال البلاط لأن نزاهة الوزير تتضارب مع مصلحة رجال البلاط الذين يرغبون في استغلال الناس لتحقيق رغباتهم الشخصية، فعندما نال الوزير، كمال الدين محمد الحسين بن الخازن وزارة السلطان مسعود بن محمد، أثبت هذا الوزير كفاءته الإدارية، وضرب على أيدي رجال البلاط المتلاعبين بقدرات الدولة، وحدد مخصصات الجند، وقطائعهم، ونتيجة لذلك واجه صراعًا حادًا مع رجال البلاط الذين حرضوا أمراء الولايات على التمرد، مما أدى بالنتيجة إلى عزل الوزير وقتله (3)، ومن العوامل التي أدت إلى عزل الوزير السلجوقي ظلمه للرعية، كما أسهمت الوشايات كثيراً في عزل الوزراء، ومن المعلوم أن أغلب الوزراء الذين تم عزلهم، تعرضوا لعملية التنكيل والقتل على أيدي سلاطينهم (4).
ثالثاً: المنافسة والمساومة على منصب الوزارة العباسية:
يعد منصب الوزارة من أرفع المناصب في الدولة العباسية, وتأتي منزلة الوزير بعد منزلة الخليفة، ولأهمية هذا المنصب أصبح محل منافسة ونزاع لدى رجال البلاط والخاصة لكي ينالوا هذا المنصب (5) وخلال العصور العباسية المتأخرة بدأت حالات الضعف تظهر على خلفاء بني العباس من جهة وسلاطين السلاجقة من جهة أخرى، ومما دفع رجال البلاط إلى اتباع طريق الرشوة والدس وازدياد حالة المنافسة للوصول إلى كرسي الوزارة ومن العوامل التي أدت إلى زيادة حدة الصراع بين الوزير ورجال البلاط والخاصة, قوة الوزير الشخصية وثبات مقدرته الإدارية والسياسية، بحيث تضارب نفوذ الوزير مع نفوذ بعض رجال البلاط، مما أدى إلى توسيع دائرة المنافسة وحدوث التمرد، ففي زمن الخليفة القائم بأمر الله ازدادت
_________
(1) الوزارة العباسية، ص 120.
(2) المصدر نفسه، ص 121.
(3) دولة آل سلجوق, نقلاً عن الوزارة العباسية، ص 121.
(4) الوزارة العباسية، ص 122.
(5) الوزارة العباسية،، ص 132.(1/200)
المنافسة بين الوزير رئيس الرؤساء أبي القاسم علي بن الحسن بن مسلمة، وقائد الجيش التركي ابن الحارث أرسلان الباسسيري - الذي تأثر بالدعوة الفاطمية العبيدية - وبالنتيجة تمرد البساسيري على الخليفة القائم بأمر الله، واستطاع أن يخرج الخليفة من بغداد - ويحدث انقلاباً خطيراً - ثم إلقاء القبض على الوزير رئيس الوزراء فعذبه وقتله (1).
وقد أدت الأحداث السياسية والصراعات الدائرة بين الخليفة العباسي وأصحاب الولايات والأقاليم الخاضعة لنفوذ الخليفة العباسي إلى نشوء منافسة حادة بين أصحاب الولايات ووزراء الخليفة العباسي، لدرجة أنهم أخذوا يطلبون من الخليفة أن يعزل وزيره، فعندما أراد الخليفة العباسي المسترشد بالله أن يعيد العلاقة مع دبيس بن صدقة صاحب الحلة ويعقد معه الصلح اشترط دبيس على الخليفة أن يقبض على وزيره، فاستجاب الخليفة لطلبه (2)، وكذلك فإن إخلاص الوزير في أداء مهامه الإدارية، وحرصه على تطبيق قواعد الشريعة الإسلامية، كالضرب على أيدي رجال البلاط الذين حاولوا اختلاس أموال الرعية، والعمل على زيادة خزانة الدولة وتحديد البلاط، جعلهم يتآمرون على الوزير لعزله، ففي سنة 564هـ طبق الوزير شرف الدين أحمد بن محمد بن سعيد بن البلدي قانون الشريعة الإسلامية بقطع أيدي الموظفين الذين سرقوا أموال الرعية، إلا أنه واجهه صراع حاد من قبل رجال البلاط كأستاذ الدار وقائد الجيش قيماز التركي (3)، ومن الواضح أن الوزير العباسي لم يواجه منافسة من قبل رجال بلاط الخليفة فحسب، وإنما أخذ يواجه منافسة رجال بلاط السلطان السلجوقي ووزرائهم ويتضح من ذلك أن ظاهرة المنافسة التي واجهت الوزير العباسي جاءت نتيجة عدة عوامل وأسباب منها سياسية واقتصادية واجتماعية تضافرت فيما بينها لتؤثر على الوزير وبالتالي على عزله (4). وأما بالنسبة للمساومات على الوزارة، فبالنظر لأهمية منصب الوزارة، وما يتمتع به الوزير من مكانة مرموقة لدى الخليفة العباسي أصبح واسع النفوذ سياسياً، واقتصادياً واجتماعياً (5)،ولذلك حاول كثير من رجال البلاط والخاصة من ديوان الخليفة الوصول إلى منصب الوزارة بأي ثمن كان، ولذا دفعت هذه الرغبة إلى تفشي ظاهرة المساومات وبذل الأموال لنيل منصب الوزارة (6).
رابعاً: المنافسة والمساومة على الوزارة السلجوقية:
ولي منصب الوزارة في العهد السلجوقي عدد كبير من الوزراء حظي بعضهم بشهرة
_________
(1) الأنباء في تاريخ الخلفاء، ص 188.
(2) المنتظم (9/ 233).
(3) الكامل في التاريخ, نقلاً عن الوزارة العباسية، ص 134.
(4) الوزارة في عهد السلاجقة، عباس إقبال, ص 43.
(5) الوزارة في عهد السلاجقة، عباس إقبال, ص 43.
(6) الوزارة العباسية، ص 135.(1/201)
واسعة، ومكانة رفيعة، وأسهم بعضهم في توسيع نفوذ السلاجقة, ومن أولئك الوزراء عميد الملك الكندري ونظام الملك أبو علي الحسين الطوسي، وقد استطاع هؤلاء الوزراء أن يستمروا في مناصبهم مدة طويلة بفضل ما كانوا يتمتعون به من كفاية إدارية وعسكرية، بالإضافة إلى ثقافتهم العالية التي أكسبتهم احترام الناس وتقديرهم (1)،
وقد حدث صراع عنيف وحاد بين تركان خاتون زوجة السلطان ملكشاه والوزير نظام الملك أبي علي الحسن بن إسحاق الطوسي حول تسمية ولي العهد، فتركان خان ترغب في أن يكون ولدها محمود ولياً للعهد بينما كان هوى الوزير في بركيارق -لكونه أكبر إخوته- فاحتدم الصراع بينهما، وكانت الغلبة للخاتون التي تمكنت من تعيين تاج الملك أبي الغنائم بعد مقتل نظام الملك، فضلاً عن ذلك فقد أدت الوشايات إلى استفحال حدة المنافسة وأخذ الواشون يطلقون الاتهامات الباطلة ضد خصومه لغرض عزله من منصبه (2)، ففي سنة 476هـ وشى به كل من أبي الرضا وابنه سيد الرؤساء أبي المحاسن كمال الملك اللذين كانا يشغلان منصب ديوان الرسائل والطغراء في عهد ملكشاه حيث اتهما الوزير نظام الملك بأخذ أموال الدولة لصالحه، فطلبا من السلطان أن يسلمها إلى الوزير نظام الملك أبي علي الطوسي مقابل مبلغ قدره مليون دينار تدفع للسلطان، إلا أن الوزير علم بالوشاية فجمع الغلمان بسلاحهم وأرسل للسلطان يقول: أفنيت عمري في خدمتك وخدمة أبيك وجدك ولي على هذه الدولة حق الخدمة, لقد قال الوشاة إني آخذ عشر أموال الدولة، وهذا حق لكني أنفقها على هؤلاء الغلمان الذين جلبتهم لخدمتك, كما أتصدق ببعض المال وأهب بعضه، وأرصد جانباً منه وقفاً يعود ثوابه على السلطان، وإن أموالي وكل ممتلكاتي في يد مولاي السلطان، إن أرادها أخذها، وسأتخذ لنفسي موقفاً في زاوية. فأمر السلطان بالقبض على أبي المحاسن وسمل عينيه (3).
وتجدر الإشارة إلى أن معظم حالات المنافسة التي ظهرت بين الوزراء ورجال البلاط كانت تنتهي بمقتل الوزير، فقد حدث في سنة 517هـ أن بعث السلطان سنجر بطلب الوزير عثمان بن نظام الملك وزير السلطان محمود بن ملكشاه إلا أن المنافسين لهذا الوزير أوغروا صدر السلطان لقتله، فقال أبو نصر المستوفي للسلطان: متى بعث به حياً إلى عمك سنجر شاه لم تأمنه، اقتله وابعث برأسه. فبعث عنبر الخادم لقتله فقتله (4). وقد حدث أن اصطدم الوزير كمال الدين محمد بن الحسين الخازن وزير السلطان مسعود بن محمد مع رجال البلاط حول تحديد مخصصاتهم وقطائعهم، مما أدى إلى زيادة حدة
_________
(1) الوزارة العباسية،، ص 136.
(2) المصدر نفسه، ص 139.
(3) الكامل في التاريخ, نقلاً عن الوزارة العباسية، ص 140.
(4) المنتظم (9/ 245، 146) , الوزارة العباسية، ص 141.(1/202)
المنافسة بين رجال البلاط والوزير كمال الدين الخازن، مما دفع رجال البلاط إلى تحريض أمراء الولايات والمطالبة بخلع الوزير، ولذلك وقعت وحشة بين الوزير وأمراء الولايات وأخذوا يطالبون بعزله (1). فكاتبوا الأتابك قره سنقر قائلين: لقد ضقنا بظلم هذا الوزير ويئسنا من الحياة. فأرسل قره سنقر رسالة للسلطان قائلاً: إذا لم ترسل إلى رأس محمد الخازن ويده، ورجحت كفة ذلك الخائن علي فإني لن أذهب إلى المهمة التي كلفت بها، ومعاذ الله أن أتهم بالتمرد والعصيان (2). وبذلك أذن السلطان بقتل الوزير (3)،
وتعد المنافسة من أهم العوامل التي أدت بأي شكل من أشكالها إلى حدوث تنازعات بين الوزراء ورجال البلاط، وبين الوزراء والسلاطين، وبالتالي انعكست على الأسرة السلجوقية، فأصابتها الانقسامات والضعف وبدا الصراع واضحاً بين سلاطين السلاجقة، مما أدى إلى إضعاف الدولة السلجوقية وانهيارها (4)، وقد لعبت المساومة دوراً بارزاً في إيصال بعض العناصر الهزيلة إلى دست الوزارة والذين عرف عنهم قلة كفاءتهم الإدارية وجهلهم بأمور الدولة لدرجة أنهم أصبحوا ألعوبة بيد رجال البلاط (5)، كما برزت المساومات واستفحلت لدرجة أن أمراء الولايات تخلصوا من منافسيهم من الوزراء، وساعدهم في ذلك حب السلطان للمال (6)، ففي سنة 523هـ طلب الوزير كمال الدين أبو البركات الدركزيني من السلطان سنجر أن يتوسط له لدى السلطان محمود لنيل دست الوزارة مقابل تعهد الوزير كمال الدين الدركزيني بدفع مبلغ من المال للسلطان محمود قدره (3000000) دينار على سبيل الرشوة، فاستجاب السلطان محمود لذلك (7)، ولكن بالرغم من ذلك ظهرت حالات شاذة رفض فيها بعض سلاطين السلاجقة أسلوب المساومة لنيل دست الوزارة، ففي سنة 476هـ، رفض السلطان ملكشاه مساومة أبي الرضا وابنه سيد الرؤساء أبي المحاسن كمال الملك اللذين يعملان في ديوان الرسائل والطغراء، فعمل الاثنان على إرشاء السلطان بإعطاء الكثير من الأموال مقابل عزل وزيره حيث قال أبو المحاسن للسلطان: سلم إليّ نظام الملك أبا علي الحسن الطوسي وأصحابه، وأنا أسلم إليك منهم ألف ألف دينار (8)، إلا أن السلطان رفض تلك المساومة وألقي القبض على أبي المحاسن وسمل عينيه (9).
_________
(1) راحة الصدور، ص 333، 334 الوزارة العباسية، ص 142.
(2) راحة الصدور، ص 333، 334 الوزارة العباسية، ص 142.
(3) الوزارة العباسية، ص 142.
(4) دولة السلاجقة، ص 140، 141 ..
(5) الوزارة العباسية، ص 142.
(6) المصدر نفسه، ص 143.
(7) المصدر نفسه، ص 143.
(8) الكامل في التاريخ, نقلاً عن الوزارة العباسية, ص 144.
(9) الوزارة العباسية، ص 144.(1/203)
المبحث الخامس
أشهر وزراء الخلفاء العباسيين والسلاجقة
أولاً: أشهر وزراء الخلفاء العباسيين:
1 - فخر الدولة بن جهير: هو محمد بن محمد بن جهير أبو النصر فخر الدولة، ولد بالموصل عام 398هـ وبها نشأ، عاش بداية حياته في هذه المدينة خالياً من المال والجاه فقيراً معدماً يكد لغرض نيل العيش الرغيد، واستمرت به الأحوال هكذا لحين اتصل بإمبراطور الروم عندما مضى برسالة إليه، فمن خلالها منحه الإمبراطور مبلغاً قدره عشرون ألف دينار، وبذلك تغير أمره من فقير معدم إلى ثري مالك (1)، وبعد ذلك اتصل الوزير فخر الدولة محمد بن جهير بصاحب ميارفارقين وديار بكر (2)، استوزره معز الدولة بن صالح بن مرداس، بعدها نال وزارة أحمد بن مروان بن دوستك الكردي (3)، وراسل الخليفة القائم بأمر الله فخر الدولة وتم تعيينه وزيرًا للخليفة القائم بأمر الله عام 454هـ بعدما عزل الوزير أبو الفتح منصور بن أحمد بن دارست (4)، ولم تدم حالة الاستقرار عند الوزير فخر الدولة لأنه واجه صراعًا حادًا وطلب الوزير نظام الملك من القائم بأمر الله عزله، فاستجاب الخليفة لطلبه (5)، وعلى أثر هذا الصراع قرر الوزير فخر الدولة بن جهير أن يترك بغداد ويتجه إلى الحلة ويستقر بها ليقوم بخدمة نور الدولة دبيس بن مزيد (6) وفعلاً مكث هناك مدة من الوقت (7). إلا أن الخليفة القائم بأمر الله بعد مدة من الوقت أخذ يطالب بفخر الدولة بن جهير ويطلب منه العودة إلى بغداد لاستلام الوزارة ثانية سنة 461هـ (8)
ولما ولي المقتدي بأمر الله الخلافة سنة 467هـ أقر فخر الدولة بن جهير على وزارته، بناء على وصية من الخليفة القائم بأمر الله (9)، وبعد أربع سنوات عزل فخر الدولة بن جهير من الوزارة للمرة الثانية تلبية لطلب الوزير السلجوقي نظام الملك الذي اتهمه بتدبير الفتنة التي قامت بين الحنابلة والشافعية ببغداد وقتل فيها جماعة من طلاب المدرسة النظامية (10). وعلى إثر ذلك
_________
(1) المختصر في أخبار البشر (2/ 181).
(2) الوزارة العباسية، ص 146.
(3) المصدر نفسه، ص 147.
(4) نظام الوزارة في الدولة العباسية، ص 146.
(5) دولة آل سلجوق، ص 55, الوزارة العباسية، ص 148.
(6) الوزارة العباسية، ص 148.
(7) النجوم الزاهرة (5/ 11).
(8) دولة آل سلجوق، ص 36.
(9) الكامل في التاريخ, نقلاً عن نظام الوزارة في الدولة العباسية، ص 146.
(10) وفيات الأعيان (5/ 128) , نظام الوزارة، ص 147.(1/204)
لزم فخر الدولة داره، وخلفه ابنه عميد الدولة في وزارة الخليفة (1). وفي سنة 476هـ استدعى السلطان ملكشاه فخر الدولة، وعقد له على ديار بكر، وسيره على رأس جيش كبير لانتزاعها من بني مروان وسمح السلطان لفخر الدولة بأن يخطب لنفسه بها، وينقش اسمه على السكة فسار فخر الدولة إلى ديار بكر واستولى عليها (2). ويروى أن فخر الدولة عندما رأى احتلال دولة بني مروان اتصل بنظام الملك، ووصف له ما يوجد بديار بكر من ذخائر وأموال، وضمن له الاستيلاء عليها دون عناء، فتحدث نظام الملك مع السلطان ملكشاه في ذلك، فوافق على توجيه فخر الدولة للاستيلاء عليها (3). وانتهت حياة فخر الدولة بن جهير بوفاته سنة 483هـ، بمدينة الموصل (4).
2 - عميد الدولة بن جهير: وكان عميد الدولة أديباً فاضلاً بليغاً، سخياً وقائداً عسكرياً محنكاً قاد الجيوش لفتح الموصل، وكان من أعظم الوزراء وأبعدهم أثراً في سياسة الدولة وتدبيرها، فضلاً عن ذلك فقد عرف بحسن سفارته وأداء مهامه بنجاح، بحيث كسب ثقة الخلفاء وسلاطين السلاجقة، وتعد هذه الصفة من عوامل وصول عميد الدولة بن جهير إلى منصب الوزارة، ففي عام 462هـ أرسله الخليفة القائم بأمر الله إلى الري (5). وكان الهدف من سفارته هذه هو تحقيق اتفاقية مراسيم خطبة ابنة السلطان لولي العهد المقتدي بأمر الله (6)، ولما أثبت عميد الدولة بن جهير حسن سفارته وأداء مهمته بنجاح، زاد من استحسان ورضا الخليفة عليه، مما دفع إلى استوزاره وتكريمه بالخلعة (7)، كما نال الوزير عميد الدولة بن جهير إحسان ورضا السلطان السلجوقي، مما دفع بالسلطان إلى أن يأمر أتباعه بتقديم الهدايا الثمينة والخلع لعميد الدولة، ومن ثم توديعه بموكب فخم أثناء مروره في مدينة أصفهان (8)، كما نال عميد الدولة رضا الوزير السلجوقي نظام الملك أبي علي الحسن الطوسي، حيث زوجه ابنته زبيدة في هذه السفرة (9). بحيث أصبح هذا الزواج محل خير لعميد الدولة، حيث أعيد للوزارة بعد أن خلعه الخليفة العباسي (10)، ويذكر ابن
_________
(1) الكامل في التاريخ, نقلاً عن نظام الوزارة، ص 147.
(2) وفيات الأعيان (5/ 128) , نظام الوزارة في الدولة العباسية، ص 147.
(3) نظام الوزارة في الدولة العباسية، ص 147.
(4) المنتظم (9/ 54) , نظام الوزارة في الدولة العباسية، ص 147.
(5) الوزارة العباسية، ص 152.
(6) دولة آل سلجوق، ص 45، 46, الوزارة العباسية، ص 152.
(7) خلفاء بني العباس ووزراؤهم في العهد السلجوقي، ص 121.
(8) دولة آل سلجوق، ص 45، 46.
(9) البداية والنهاية, نقلاً عن الوزارة العباسية، ص 153.
(10) المنتظم (9/ 6) , دولة آل سلجوق ص37.(1/205)
الجوزي أن الخليفة القائم بأمر الله كان معجباً بابن جهير، فقد خاطب المقتدي بقوله: يا بني قد استوزت ابن المسلمة وابن دارست وغيرهما فما رأيته مثل ابن جهير (1).
بقي عميد الدولة وزيراً للخليفة المقتدي بأمر الله حتى عام 476هـ ثم عزل، وخلفه أبو شجاع الروذراوري، فخرج عميد الدولة مع والده وأسرته من بغداد، وساروا إلى الري، حيث عقد لأبيه فخر الدولة على ديار بكر (2). أما هو فقد سيره السلطان ملكشاه على رأس جيش كبير لفتح الموصل، ونجح عميد الدولة في إعادة الموصل إلى حظيرة الدولة السلجوقية بدون قتال (3). وفي سنة 484هـ ولي عميد الدولة ابن جهير الوزارة للمرة الثانية بوساطة الوزير نظام الملك، ويروى أن هذا الوزير وكبار أمراء السلاجقة ساروا إلى عميد الدولة، وهنأوه بالوزارة (4). ولما تولى المستظهر بالله الخلافة في سنة 487هـ، أقر عميد الدولة في الوزارة، وفوضه في تدبير أمور دولته (5)، فظل يلي وزارته حتى عام 493هـ، ثم قبض عليه الخليفة، وسجنه فتوفي في محبسه (6). وكان عزل هذا الوزير بتدبير من الوزير السلجوقي مؤيد الملك بن نظام الملك (7). كان عميد الدولة بن جهير من أكفأ وزراء الخلافة العباسية في العهد السلجوقي، ويصفه المؤرخون بأنه كان حسن التدبير، كافياً في المهمات، كثير الصدقات واسع المعروف، خاصة على العلماء (8)، ويذكر ابن خلكان أن الوزير نظام الملك كان معجباً بعميد الدولة، وكان يستشيره في أهم أمور الدولة، ويقدمه على أكفأ الموظفين في الإدارة السلجوقية (9).كما كان هذا الوزير من المهتمين بالأدب والحديث والفقه، ودرس مختلف أنواع العلوم (10).
3 - الوزير أبو شجاع محمد بن الحسين الروذراوري: هو الوزير ظهير الدين أبو شجاع محمد بن الحسين بن عبد الله بن إبراهيم من أهالي روذراور, ولد سنة 437هـ، يقول ابن الجوزي إن الوزير أبا شجاع يعود أصله إلى بلدة روذراور من نواحي همذان، أحوازي المولد (11). ولي أبو شجاع الوزارة للمرة الأولى في سنة 471هـ، خلفاً للوزير فخر الدولة
_________
(1) المنتظم (9/ 181) , الوزارة العباسية، ص 153.
(2) تاريخ الفارقي، ص 208, نظام الوزارة العباسية، ص 151.
(3) الكامل في التاريخ نقلاً عن نظام الوزارة العباسية، ص 151.
(4) المنتظم (9/ 57) , دولة آل سلجوق، ص 73.
(5) المنتظم (9/ 58) , نظام الوزارة، ص 151.
(6) وفيات الأعيان (5/ 132) , نظام الوزارة، ص 151.
(7) نظام الوزارة، ص 151.
(8) المنتظم (9/ 118).
(9) وفيات الأعيان (5/ 131) , نظام الوزارة، ص 152.
(10) نظام الوزارة، ص 152.
(11) المنتظم (9/ 90) , الوزارة العباسية، ص 156.(1/206)
بن جهير ثم عزل في السنة التالية بعد أن أصلح بنو جهير حالهم مع الوزير نظام الملك. ولما عاد بنو جهير إلى الوزارة بعث السلطان ملكشاه إلى الخليفة يطلب إخراج أبي شجاع من بغداد، فسير الخليفة أبا شجاع إلى أصبهان، ومعه رسول يحمل رسالة بخط الخليفة لنظام الملك ذكر فيها الخليفة منزلة أبي شجاع لديه وفضله ودينه، وطلب من نظام الملك عدم الاستماع لأعداء أبي شجاع. ولما اطلع نظام الملك على رسالة الخليفة، أعاد أبا شجاع إلى بغداد (1) ويبدو أن طلب إبعاد أبي شجاع من بغداد كان بتدبير بني جهير، خوفاً من منافسته لهم بالوزارة، خاصة أنه كان يتمتع بتقدير واحترام الخليفة، وقد صدق حدس بني جهير فقد عُزل عميد الدولة سنة 476هـ، وخلفه أبو شجاع في الوزارة (2). كان الوزير أبو شجاع رجلاً ديناً خيراً كثير البر والصدقات (3)، نجح في ضبط أمور الدولة أثناء وزارته وحفظ للخلافة هيبتها واحترامها (4). وكان شديداً في تطبيق قوانين الشرع (5)،
ولم يترك فرصة للموظفين والعمال لاستغلال وظائفهم والاعتداء على أموال الناس (6)، فعم الأمن، وزاد الرخاء، وانخفضت الأسعار (7). وكان -رحمه الله- يملك ثروة هائلة بلغت حوالي ستمائة ألف دينار أنفقها على الفقراء والضعفاء والمحتاجين (8)، يقول أبو جعفر الخرقي: كنت أنا من أحد عشر يتولون إخراج صدقاته، فحسبت ما خرج على يدي فكان مائة ألف دينار، ووقف الوقوف وبنى المساجد وأكثر الإنعام على الأرامل (9). وكان هذا الوزير محبوباً محترماً يؤيده أكثر العامة (10). ويصف ابن خلكان حالة الخلافة في عهده، فيقول نقلاً عن ابن الهمذاني: كانت أيامه (أبو شجاع) أوفى الأيام سعادة للدولتين (11)، وبركة على الرعية، وأعمها أمناً، وأشملها رخصاً، وأكملها صحة، لم يغارها (12) بؤس ولم تشبها (13) مخافة، وقامت للخلافة في نظره من الحشمة والاحترام ما أعادت سالف الأيام (14)، وظل أبو شجاع يلي وزارة الخليفة المقتدي بأمر الله حتى عام 484هـ ثم عزل منها وجاء أمر العزل وهو في الديوان،
_________
(1) طبقات الشافعية (4/ 137) , نظام الوزارة، ص 148.
(2) المنتظم (9/ 6) , نظام الوزارة، ص 148.
(3) البداية والنهاية نقلاً عن نظام الوزارة، ص 148.
(4) وفيات الأعيان (5/ 135, 136) , نظام الوزارة، ص 148.
(5) نظام الوزارة في الدولة العباسيّة، ص 148.
(6) طبقات الشافعية (4/ 138) ..
(7) وفيات الأعيان (5/ 135، 136) , نظام الوزارة، ص 148.
(8) الوزارة العباسية، ص 157.
(9) المنتظم (9/ 90، 91).
(10) الوزارة العباسية، ص 158.
(11) يقصد بالدولتين: الخلافة العباسية والدولة السلجوقية.
(12) يغارها: أي يصيبها.
(13) تشبها: أي تخالطها.
(14) وفيات الأعيان (5/ 135، 136).(1/207)
فانصرف وهو ينشد:
تولاها وليس له عدو ... وفارقها وليس له صديق (1)
ويذكر بعض المؤرخين عدة أسباب لعزل الوزير أبي شجاع، منها أنه كان يعارض طلبات رجال الديوان والجيش التي تتنافى مع الشرع (2). ومنها أنه كان شديداً على أهل الذمة، وقد ألزمهم بلبس الغبار (3). ولما عزل أبو شجاع من الوزارة خرج إلى الجامع ماشياً، ومعه جماعة من العلماء والزهاد (4)، فالتف الناس حوله يصافحونه، ويدعون له، فقيل للخليفة إن أبا شجاع أراد بهذا التشنيع عليه، فصدر أمر الخليفة بأن يلزم أبو شجاع داره، ولا يخرج منها، فبنى أبو شجاع في دهليز داره مسجداً يصلي فيه، وردت أوامر الوزير نظام الملك، بإخراج أبي شجاع من بغداد إلى بلده روذراور، فسار إليها، وأقام بها مدة (5)، ثم توجه منها إلى الحج (6)، قال عنه ابن كثير: كان من خيار الوزراء كثير الصدقات والإحسان إلى العلماء والفقهاء وسمع الحديث من الشيخ أبي إسحاق الشيرازي وغيره وصنف كُتباً .. ووقف الوقوف الحسنة وأكثر الإنعام على الأرامل والأيتام قال له رجل: إلى جانبنا أرملة لها أربعة أيتام وهم عراة وجياع، فبعث إليهم مع رجل من خاصته نفقة وكسوة وطعاماً، ونزع عنه ثيابه في البرد الشديد، وقال: والله لا ألبسها حتى ترجع إليَّ بخبرهم، فذهب الرجل مسرعاً فقضى حاجتهم وأوصلهم ذلك الإحسان، ثم عاد والوزير يركض من البرد فلما أخبره عنهم بما سره لبس ثيابه.
وجيء إليه مرةً بقطائف سكر، فلما وضعت بين يديه تنغص عليه بمن لا يقدر عليها، فأرسلها كلها إلى المساجد وكانت كثيرة جدّاً، فأطعمها الفقراء والعميان وكان لا يجلس في الديوان إلا وعنده الفقهاء فإذا وقع له أمر مشكل سألهم عنه فحكم بما يفتونه, وكان كثير التواضع مع الناس، خاصتِهم وعامَّتِهم، ثم عزل عن الوزارة فسار إلى الحج وجاور المدينة (7). قال عنه الذهبي: وكان كثير التلاوة والتهجد، ويكتب مصاحف، ويجلس للمظالم، فيغتص الديوان بالسادة والكبراء ويُنادي الحُجّاب: أين أصحاب الحوائج؟ فيُنصف المظلوم، ويؤدَّي عن المحبوس، وله في عدله حكايات في إنصاف الضعيف من الأمير، وخلعت عليه بنت السلطان ملكشاه حين تزوَّجت بالمقتدي، فاستعفى من لبس
_________
(1) وفيات الأعيان (5/ 135)، سير أعلام النبلاء (19/ 30).
(2) نظام الوزارة، ص 149, المنتظم (9/ 56).
(3) نظام الوزارة، ص 149, المنتظم (9/ 56).
(4) المنتظم (9/ 569) , نظام الوزارة، ص 149.
(5) دولة آل سلجوق، ص 73، نظام الوزارة، ص 150.
(6) نظام الوزارة، ص 150.
(7) البداية والنهاية (16/ 151).(1/208)
الحرير، فنفَّذت له عمامة ودبيقيَّة (1)، بمائتين وسبعين دينار فلبسها ... وكان كاملاً في فنون، وله يد بيضاء في البلاغة والبيان وكتابته طبقة عالية على طريقة ابن مُقلة (2)، وزر سبع سنين وسبعة أشهر ثم عزل بأمر السلطان ملكشاه للخليفة لموجدة (3). ثم قال الذهبي: ثم حج بعد موت النظام والسلطان والخليفة ونزل المدينة وتزهد. ومات بها ودفن بالبقيع سنة 488هـ عن إحدى وخمسين سنة (4). ونلاحظ من حديثنا عن الوزراء أن أهل الخير والصلاح والعدل هم الذين أثروا في الناس وبقي ذكرهم في المحافل وثناء الخلق عليهم، وما عند الله خير وأبقى، كما أن من الدروس المستفادة تغير الزمان ودوام الحال من المحال فعلى العاقل ألا يركن إلى الدنيا ويبني آماله عليها وعليه أن يحتسب في عماله ويتقي الله ما استطاع.
4 - الوزير الحسن بن علي بن صدقة: نال الوزير جلال الدين أبوالرضا محمد بن أحمد بن صدقة وزارة الخليفة المسترشد بالله عام 513هـ وعزل عنها في سنة 516هـ. ويبدو أنه كان لهذا الوزير دور كبير في صد الغارات التي كان يشنها والي الحلة دبيس بن صدقة على بغداد، فلما تقرر الصلح بين هذا الوالي وبين الخليفة المسترشد بالله، اشترط دبيس على الخليفة أن يعزل وزيره ابن صدقة مقابل عودته إلى طاعة الخلافة فاستجاب له الخليفة، وعزل هذا الوزير (5)، ويذكر ابن طباطبا أن عزل جلال الدين بن صدقة، كان تحقيقاً لرغبة الوزير السلجوقي عثمان بن نظام الملك (6)، الذي كان يرغب في تولية أخيه أحمد الوزارة للخليفة المسترشد بالله، فولي أحمد بن نظام الملك وزارة الخليفة فعلاً بطلب من السلطان السلجوقي ووزيره (7)، ولم يكتف الوزير السلجوقي بذلك، بل طلب من الخليفة أن يخرج جلال الدين بن صدقة من بغداد حتى تخلو الوزارة لأخيه, فلم يجد الخليفة بداً من إخراج وزيره المعزول من حاضره الخلافة (8). ولما عزل السلطان محمود وزيره عثمان بن نظام الملك في سنة 517هـ، بادر الخليفة إلى عزل أخيه أحمد بن نظام الملك، وكتب إلى جلال الدين بن صدقة يستدعيه للعودة إلى الوزارة (9) قائلاً: أجب يا جلال الدين داعي التوفيق مع من حضر من الأصحاب لتعود في هذه الساعة إلى مستقر عزك مكرماً (10)، وهذا يدل على أن الخليفة
_________
(1) سيرأعلام النبلاء (19/ 29). والدبيقية نوع من الثياب ينتسب إلى دبيق, وهي بلدة بين الفرما وتنيس.
(2) ابن مقلة الوزير الكاتب المشهور يضرب بحسن خطه المثل. توفي سنة 316هـ.
(3) سير أعلام النبلاء (19/ 30).
(4) سير أعلام النبلاء (19/ 30).
(5) المنتظم (9/ 233) , نظام الوزارة، ص 154.
(6) الفخري، ص 221، نظام الوزارة، ص 155.
(7) المنتظم (9/ 234) , نظام الوزارة، ص 155.
(8) المنتظم (9/ 234) , نظام الوزارة، ص 155.
(9) المنتظم (9/ 245، 246).
(10) المصدر نفسه (9/ 246) , نظام الوزارة، ص 155.(1/209)
المسترشد بالله كان مكرها على عزل ابن صدقة من وزارته في السنة السابقة (1)،
وظل جلال الدين بن صدقة يلي وزارة الخليفة المسترشد بالله حتى توفي سنة 552هـ وقد قام بدور مهم في مناهضة النفوذ السلجوقي في العراق، فقاد جيشًا لمحاربة السلطان طغرل في سنة 519هـ الذي قصد بغداد وأرغمه على العودة (2)، فلما تولى السلطان محمود السلطنة، حذره السلطان سنجر من الوزير ابن صدقة، ونصحه بالقبض عليه إذا أراد أن يستقر له الحكم (3)، ولما عزم السلطان سنجر على المسير إلى بغداد، وقف الوزير ابن صدقة في وجهه، وكتب إليه يمنعه من القدوم إليها، ويهدده بالحرب إن فعل ذلك (4). ولما مرض هذا الوزير سنة 522هـ عاده الخليفة المسترشد بالله في بيته لما كان له من منزلة رفيعة لديه، وتوفي في العام نفسه (5).
5 - الوزير شرف الدين علي بن طراد الزينبي: أبو القاسم, وكان نقيب النقباء في أيام الخليفة المستظهر بالله وهو أول هاشمي يلي الوزارة لخلفاء بني العباس (6)، كانت له مكانة مرموقة ومنزلة عظيمة، وهو من أصل له حسب ونسب عظيم (7)، وقد امتاز هذا الوزير بصفات حميدة جعلته يتصدر وظائف الدولة المهمة، فقد امتاز بحسن تدبيره للأمور، وكان داهية، شجاعاً، مهيباً (8)، فضلاً عن ذلك كان عالماً محبًا لأهل العلم يقرأ القرآن والحديث، وكان مجلسه عامراً بالفقهاء، ويخلو بنفسه للعبادة (9)، وكان حنفي المذهب بارعاً به (10)، وقد كسب ود الخليفة العباسي المسترشد بالله، فتقرب منه، وبعد وفاة الوزير علي بن صدقة سنة522هـ، ناب على بن طراد الوزارة من بعده ثم بعد مدة قصيرة ولاه الخليفة المسترشد بالله الوزارة (11)، وعندما جلس الوزير في دست الوزارة قال له الخليفة المسترشد بالله: كل من ردت إليه الوزارة شرف بها إلا أنت فإن الوزارة شرفت بك (12)، وبعد مقتل الخليفة المسترشد السلجوقي وتولية الخلافة لأبي عبد الله بن المستظهر بالله، الذي بويع بالخلافة سنة 530هـ وتلقب بالمقتفي لأمر الله استوزر شرف الدين بن طراد الزينبي، فتمتع بسلطة واسعة في وزارته حتى إن الخليفة كان لا يستطيع أن يبت في أمر من أمور الخلافة إلا بمشورته، وبلغ من نفوذه أنه عندما عين الخليفة بعض الموظفين والعمال سنة 534هـ دون أخذ رأيه، استاء
_________
(1) نظام الوزارة في الدولة العباسية، ص 155.
(2) نظام الوزارة في الدولة العباسية، ص 155.
(3) المنتظم (9/ 254،255) , نظام الوزارة، ص 155.
(4) الفخر بن طباطبا، ص 222، نظام الوزارة، ص 156.
(5) نظام الوزارة، ص 156.
(6) الفخر بن طباطبا، ص 222، نظام الوزارة، ص 156.
(7) الكامل في التاريخ, نقلاً عن نظام الوزارة، ص 156.
(8) ذيل تاريخ دمشق، ص 224.
(9) الوزارة العباسية، ص 162.
(10) الوزارة العباسية، ص 162.
(11) المنتظم (10/ 9) , الوزارة العباسية، ص 162.
(12) الوزارة العباسية، ص 163.(1/210)
الوزير من ذلك، وانقطع عن العمل حتى صالحه الخليفة (1).
ولما ازداد تدخل هذا الوزير في شئون الخليفة لم يستطيع الخليفة عزله بل لجأ إلى السلطان السلجوقي مسعود يشكو له من تصرفاته، فأصدر السلطان أمراً بعزل الوزير الزينبي من الوزارة (2)، كان شرف الدين الزينبي فقيها بارعاً في مذهب الإمام أبي حنيفة، وكان يتمتع بمنزلة رفيعة لدى الناس (3). هذا فضلاً عما كان يتصف به من حلم وكرم مع معرفة واسعة بقوانين الوزارة ومتطلباتها (4)، بقي شرف الدين الزينبي بعد عزله ملازماً داره حتى توفي 538هـ (5) وكان عمره ستًا وسبعين سنة (6)، وقد نسب لهذا الوزير العباسي تعاونه مع الأتراك في عزل الراشد وعد هذا العامل مع عوامل أخرى دفعت بالخليفة العباسي المقتفي لأمر الله إلى عزله وبهذه المناسبة قال الخليفة المقتفي لأمر الله: إذا فعلوا هذا مع غيري فهم يفعلونه معي (7).
6 - الوزير عون الدين بن هبيرة: تدرج عون الدين يحيى بن هبيرة في المناصب الإدارية، حيث شغل أولاً منصب كاتب ديوان الزمام ببغداد عام 542هـ، وفي سنة 544هـ نال وزارة الخليفة المقتفي لأمر الله (8)، ونتيجة لمكانته المرموقة لدى الخليفة العباسي المقتفي لأمر الله لقبه، عون الدين (9)، كما وزر للخليفة العباسي المستنجد بالله (10). وقد اشتهر الوزير يحيى بن هبيرة باطلاعه الواسع على علوم الفقه والحديث, وكان عالماً بأمور النحو، بليغاً في كتاباته (11). شجع العلم والمعرفة من خلال مساهمته ببناء المدرسة في باب البصرة عام 557هـ، وعندما توفي الوزير ابن هبيرة دفن جثمانه في هذه المدرسة، ولشدة تمسكه بمبادئ الدين الإسلامي، رفض لبس الحرير, وكان عادلاً، يخصص جزءًا من وقته للنظر في المظالم ونصرة المظلوم (12). فضلاً عن ذلك فقد عرف عنه سداد الرأي وحسن التدبير (13)، وقد أورد المؤرخون عدة أسباب لتولي ابن هبيرة الوزارة، منها أن الخليفة أمر ابن هبيرة - وكان يتولى ديوان الزمام - أن يكتب للسلطان
_________
(1) المنتظم (10/ 85) نظام الوزارة، ص 158.
(2) المنتظم (10/ 85) نظام الوزارة، ص 158.
(3) النجوم الزاهرة (5/ 274).
(4) نظام الوزارة في الدولة العباسية، ص 158.
(5) نظام الوزارة في الدولة العباسية، ص 158.
(6) البداية والنهاية (16/ 334).
(7) النجوم الزاهرة (5/ 260) , الوزارة العباسية، ص 164.
(8) الوزارة العباسية، ص 166, تاريخ ابن الوردي (2/ 49).
(9) الأنباء في تاريخ الخلفاء، ص 225.
(10) دولة آل سلجوق، ص 205.
(11) الأنباء في تاريخ الخلفاء، ص 225.
(12) النبراس في تاريخ خلفاء بني العباس، ص 157.
(13) النبراس في تاريخ خلفاء بني العباس، ص 157.(1/211)
السلجوقي، فكتب ابن هبيرة رسالة طويلة للسلطان السلجوقي ذكر فيها ما عرف عن سلاطين السلاجقة من حسن الطاعة، والتأدب مع الخلفاء, والحرص على الذب عنهم ممن يحاول النيل منهم، وأشار إلى شكوى الخليفة من الشحنة. فكان لرسالته أبلغ الأثر في نفس السلطان فكتب للخليفة يعتذر ويستنكر ما فعله الشُحنة، كما أوقف الشُحنة عند حده. فسرَّ الخليفة من ابن هبيرة، وزاد تقديره له، فولاه وزارته (1)،
ومن المرجح أن السبب في إسناد الوزارة إليه يرجع إلى مشورته على الخليفة المقتفي لأمر الله بألا يؤدي أي مبلغ من المال لمحمد شاه بن السلطان محمود، مقابل رفع حصاره عن بغداد، لأن هذا سيكون حافزاً للسلاجقة للمطالبة بالمزيد، وأشار بصرف المبلغ المطلوب، وقدره ثلاثون ألف دينار في إعداد جيش للخلافة من الترك والأكراد وأهل بغداد وأعمال العراق لصد قوات محمد شاه، فقبل الخليفة رأي ابن هبيرة، وفوضه في إعداد هذا الجيش، فلم تمض أيام قليلة حتى اجتمع عسكر كثير فخرج به ابن هبيرة لقتال محمد شاه وأصحابه، فهزمهم، فلما أيقن الخليفة بحسن رأي ابن هبيرة استدعاه وولاه الوزارة سنة 544هـ (2) وظل ابن هبيرة وزيراً للمقتفي لأمر الله، حتى توفي هذا الخليفة سنة 555هـ وخلفه المستنجد بالله، فأقر ابن هبيرة في الوزارة. ويذكر ابن كثير أن الخليفة المستنجد بالله، وعد ابن هبيرة بأن يظل محتفظاً بمنصبه حتى وفاته (3)، وقد قام الوزير بدور كبير في تخليص الخلافة العباسية من النفوذ السلجوقي واستعادة سلطة الخلفاء العباسيين في الدولة، وقد استطاع بمساعدة الجيش الذي أعده تخليص العراق وجميع أعماله من سيطرة السلاجقة (4). ويصف المؤرخون ابن هبيرة بأنه كان عالماً فاضلاً، ذا رأي صائب، يقرب أهل العلم من الفقهاء والمحدثين والأدباء، ويبالغ في إكرامهم (5)، وكان ينفق عليهم وعلى الفقراء كل ما يدخل عليه من مال، حتى قيل إنه لم تجب عليه زكاة قط (6).
وقد لاحظنا أن حركة النهوض التي قام بها نور الدين محمود ونجاحه في حرب الصليبيين من أسباب خروج مؤسسة الخلافة والوزارة من الركود والضعف إلى النشاط والحيوية والقوة، ودعمها المعنوي والمادي لنشاطات نورالدين الجهادية وكذلك صلاح الدين، كما سيأتي بيانه بإذن الله تعالى. توفي الوزير ابن هبيرة سنة 560هـ، وكان يوم وفاته يوماً
_________
(1) وفيات الأعيان (6/ 231، 232) , نظام الوزارة، ص 160.
(2) أخبار الدول المنقطعة، ص 162، دولة آل سلجوق، ص 202، 203.
(3) البداية والنهاية, نقلاً عن نظام الوزارة، ص 161.
(4) نظام الوزارة، ص 161.
(5) وفيات الأعيان (6/ 333).
(6) ذيل طبقات الحنابلة (1/ 256) , المنتظم (10/ 215).(1/212)
مشهوداً، فحضر جنازته خلق كثير، وأغلقت الأسواق، ودفن في المدرسة التي بناها بباب البصرة (1)، وأيد سنة وفاته ابن الجوزي, وقال: عندما غسل الوزير ابن هبيرة رأيت في وقت غسله آثاراً بوجهه وجسده تدل على أنه مسموم (2).
ثانياً: من وزراء سلاطين دولة السلاجقة:
تحدثت فيما مضى من الصفحات عن الوزير عميد الملك الكندري ونظام الملك الطوسي كل في محله, ولذلك لا داعي للإعادة هنا وإنما نتحدث عن بعض الوزراء الآخرين منهم:
1 - الوزير نصير الدين أبو المحاسن سعد الآبي: سعد الملك سعد بن محمد الآبي, كان يعمل في أول الأمر مع الوزير تاج الملك أبي الغنائم، ثم ولي ديوان الاستيفاء في وزارة مؤيد الملك بن نظام الملك، وولي الوزارة إثر ذلك للسلطان محمد بن ملكشاه (3). يعد هذا الوزير من أكفأ وزراء سلاطين السلاجقة، ومن أكثرهم نزاهة وإخلاصاً، وفهماً للأعمال الإدارية (4) وقد لعب دوراً بارزاً في نزاع السلطان محمد مع أخيه السلطان بركيارق، ونجح في جمع العساكر حول السلطان محمد (5)، فحفظ له السلطان تلك الخدمة، وزاد في إقطاعه، وفوضه في تدبير دولته (6)، كذلك نجح الوزير سعد الملك في قيادة عدة حملات ضد الباطنية، وفتح بحسن تدبيره، قلعتين من قلاعهم الحصينة، وهما: قلعة «شاهدز» (7)، وقلعة «خان لنجان» بالقرب من أصفهان (8)، أثار النفوذ الكبير الذي تمتع به الوزير سعد الملك حقد كبار موظفي الدولة عليه، فعملوا على عزله من الوزارة، وكان حاكم أصفهان من قبل السلطان محمد -ويدعى عبد الله الخطيبي- على رأس أعداء هذا الوزير، بسبب عزمه على عزله من منصبه لعدم كفايته، فخشي الخطيبي أن يحرم من عمله، فاتهم الوزير بالميل إلى مذهب الباطنية، وساعده في ذلك بعض خواص السلطان، فقبض السلطان على وزيره، وكان لدى الوزير سعد الملك ما يثبت اتصال الخطيبي بزعيم الباطنية، ومع ذلك لم ينج من القتل (9).
_________
(1) البداية والنهاية, نقلاً عن نظام الوزارة، ص 161.
(2) المنتظم (10/ 217).
(3) الكامل في التاريخ, نقلاً عن نظام الوزارة، ص 152.
(4) أخبارالدولة السلجوقية، ص 83.
(5) دولة آل سلجوق، ص 83، نظام الوزارة، ص 152.
(6) الكامل في التاريخ, نقلاً عن نظام الوزارة، ص 152.
(7) شاهدز: قلعة حصينة على جبل أصفهان، كان يتحصن زعيم الباطنية بها.
(8) دولة آل سلجوق، ص 83، 84, نظام الوزارة، ص 152.
(9) دولة آل سلجوق 84، 85، نظام الوزارة، ص 153.(1/213)
ويروى أن السبب في قتله يرجع إلى اتهام السلطان محمد له بتدبير مؤامرة ضده، باتفاق مع أخيه السلطان سنجر (1).
2 - الوزير كمال الملك السميرمي: تمتع الوزير كمال الملك بنفوذ واسع في الدولة أثناء وزارته وذلك لكفايته وحزمه وحسن إدارته، ولعلمه، فله مؤلفات في الفارسية منها: رياض ناضرة المناظرين. وضع فيه قوانين الوزارة وقواعدها (2). عمل في أول الأمر ضمن موظفي كاتب كهرخاتون زوجة السلطان محمد بن ملكشاه ثم ناب عنه في كتابتها، واستطاع أن ينظم ديوانها من حيث المرتبات وعدد الوظائف، فارتاحت كهرخاتون له، وولته كتابتها، ثم توسطت له لدى السلطان فولاه ديوان «أشراف المملكة» فارتفعت منزلته بذلك (3)، ولما توفي ربيب الدولة بن أبي شجاع، وزير السلطان محمود بن محمد بن ملكشاه في سنة 512هـ، ولي كمال الملك الوزارة خلفاً له (4) وكانت الحرب في تلك الأثناء قائمة بين السلطان محمود وعمه سنجر بن ملكشاه، فعمل كمال الملك على إزالة الخلاف بينهما وقال للسلطان محمود: هذا عمك وهو في مقام والدك والكبير في البيت، والرأي موافقته (5). وتعهد بالإصلاح بينهما فوافق السلطان محمود، وسار كمال الملك إلى السلطان سنجر، وأقنعه بقبول الصلح وإنهاء الحرب، فاستجاب له السلطان سنجر، وبالتالي اجتمع السلطان سنجر بابن أخيه محمود، وتم الصلح بينهما, ثم عاد السلطان سنجر بجيشه إلى خراسان (6). وقد قتل الوزير كمال الملك السميرمي في سنة 515هـ، وكان آنذاك مع السلطان محمود ببغداد، حيث وثب عليه جماعة من الباطنية وقتلوه (7).
ويروى أن هذا الوزير قتل بيد أحد غلمان الوزير السلجوقي مؤيد الدين الطغرائي (8) وكان كمال الملك قد اتهم هذا الوزير بالإلحاد، فقتل نتيجة لذلك، مما أثارحقد غلمانه على كمال الملك، فعزموا على قتله انتقاماً لسيدهم، وتم لهم ذلك سنة 515هـ (9).
3 - الوزير كمال الدين محمد بن الحسين الخازن: كان من أفضل من ولي الوزارة
_________
(1) النجوم الزاهرة (5/ 194).
(2) الوزارة العباسية، ص 82، دولة آل سلجوق، ص 124.
(3) دولة آل سلجوق، ص 84 , 85.
(4) المصدر نفسه، ص 115.
(5) أخبار الدولة السلجوقية، ص 88, نظام الوزارة، ص 153.
(6) أخبار الدولة السلجوقية، ص 88 , 89.
(7) المنتظم (9/ 240) , دولة آل سلجوق، ص 123.
(8) نظام الوزارة، ص 154.
(9) وفيات الأعيان (2/ 189).(1/214)
لسلاطين السلاجقة سيرة وتدبيراً, ولي الوزارة سنة 533هـ، للسلطان مسعود، فأخذ يعمل على إصلاح أوضاع الدولة، وإقرار العدل، وإزالة الظلم (1)، ونجح في ذلك, يقول البنداري عنه: وأحيا معالم للملك قد دثرت، ونظم عقوداً للمصالح انتثرت، وابتدأ بكسر الجبارين، وجبر المنكسرين (2) كان مما ساعد هذا الوزير على القيام بكثير من الإصلاحات أثناء وزارته شجاعته وجرأته في تنفيذ الأحكام، فضلاً عن عدله (3). ويذكر ابن الجوزي أن الوزير كمال الدين الخازن لما ألغى الضرائب والمكوس التي كانت تثقل كاهل الرعية، دخل عليه رجلان يعرضان عليه أن يدفعا له مائة ألف دينار مقابل أن يفوضهما في استخلاص الضرائب والمكوس الملغاة، فرفع أمرهما إلى السلطان، وشهر بهما في البلد مسودي الوجوه، ثم أودعهما السجن (4)، ونجح الوزير كمال الدين في ضبط وإصلاح الحالة المالية للدولة السلجوقية، فانتظم دخل الدولة، وصارت الأموال تحمل إلى خزانة السلطان بانتظام من أماكن معينة (5). واستطاع بذكائه كشف المساوئ المالية التي كانت تتم دون علم السلطان (6) ومنع الأمراء من التدخل في إدارة الدولة، وقرر للجيش ما يحتاج إليه من نفقات (7)،
أثار إخلاص هذا الوزير حفيظة الأمراء وكبار الموظفين الذين حد من نفوذهم، فأخذوا يتآمرون للتخلص منه قبل أن يستفحل نفوذه فاتصلوا بالأتابك قرا سنقر حاكم أذربيجان، وأقنعوه بأن الوزير أثار السلطان مسعود عليه، فأنفذ قراسنقر إلى السلطان مسعود يطلب منه التخلص من وزيره، ويهدده بالخروج عن طاعته إذا لم يتم ذلك، فأشار الموظفون الحاقدون على الوزير على السلطان بقتله تلافياً للفتنة، فاستمع لمشورتهم (8).
* * *
_________
(1) المنتظم (10/ 78) , دولة آل سلجوق، ص 170.
(2) نظام الوزارة، ص 159.
(3) الكامل في التاريخ, نقلاً عن نظام الوزارة، ص 159.
(4) المنتظم (11/ 79).
(5) دولة آل سلجوق، ص 170, نظام الوزارة، ص 159.
(6) الكامل في التاريخ, نقلاً عن نظام الوزارة، ص 159.
(7) الكامل في التاريخ, نقلاً عن نظام الوزارة، ص 159.
(8) راحة الصدور، ص 333، نظام الوزارة، ص 159.(1/215)
الفصل الثالث
النظم الحربية عند السلاجقة
المبحث الأول
أسس الإدارة العسكرية السلجوقية
يعتبر الوزير السلجوقي الشهير نظام الملك الرأس المدبر لتطوير وتدعيم البنية الإدارية في مختلف المجالات، فقد ضمَّن كتابه «سياست نامه» الكثير من هذه النظم التي قام عليها بناء الإدارة العسكرية عند السلاجقة (1)، وقد أثر فكره الإداري على قادة عصره ومن جاء بعده حتى نهاية القرن الخامس الهجري، حتى عده ريجارد كوك أعظم إداري أنجبته آسيا كلها (2)،
وقد تأثرت الدولة الزنكية والأيوبية ودولة المماليك - فيما بعد- بالنظم الحربية عند السلاجقة، والأسس الإدارية، والمدارس النظامية التي سيأتي الحديث عنها لاحقاً، وهذا يعطى مفاهيم عميقة في النهوض الحضاري للأمة، بأن التأثير في الأجيال يحتاج إلى عقود من الزمن، حتى تجني الأمة ثمارًا يانعة للجهود التي يبذلها قادتها العسكريون والسياسيون والإداريون والمفكرون والعلماء، وقد أراد الساسة السلاجقة أن تسير الإدارة العسكرية السلجوقية، على أسس واضحة, فقد تطلع نظام الملك إلى تثبيت تقسيمات الوظائف الإدارية مدنية كانت أو عسكرية وحذّر من تعدد وتداخل الألقاب بين المدنيين والعسكريين؛ ولذلك تعد وفاته حداً فاصلاً لسيطرة المدنيين على المناصب الإدارية في الدولة، وبداية لتأثير العسكريين في هذه المناصب إضافة إلى مناصبهم العسكرية، فأصبح نفوذهم كبيراً في جميع أنحاء الدولة السلجوقية مما مكنهم من توجيه الأحداث والتدخل المباشر في الصراعات بين سلاطين السلاجقة وتحديد نتائجها (3)، ومن أهم الأسس التي قامت عليها الإدارة العسكرية السلجوقية:
أولاً: مقومات الفكر العسكري السلجوقي:
كان لدى السلاجقة فكرهم العسكري الخاص بهم والذي ميزهم عن غيرهم وأسهم
_________
(1) النظم الحربية عند السلاجقة، ص 45 للدكتور نائف بن حمود أبو قريحة. وهذا الكتاب مرجعي الرئيسي في هذا الفصل, فجل ما فيه مختصر منه، وأصل هذا الكتاب رسالة دكتوراه، اختصر لنا بها الباحث جهودًا ضخمة، فأشرت إلى ذلك للأمانة العلمية، وفضل الله واسع لي وله ولمن شارك في هذا الجهد.
(2) بغداد مدينة السلام (1/ 157).
(3) النظم الحربية عند السلاجقة، ص 46.(1/216)
في بروزهم على مسرح الأحداث قوة عسكرية ضاربة سيطرت على مناطق واسعة بقضائها على كثير من القوى التي اصطدمت بها، فقد وصف الراوندي السلاجقة بأنهم: كانوا أناساً يمتازون بالتقوى والدين واليقظة وعدم الإهمال (1)، كما وصفهم الحسيني بأنهم: أقوام نفوسهم ربطت بآداب الوغى (2) فكانت انتصاراتهم ونجاحاتهم التي حققوها في معاركهم نتيجة مقومات وأسس اتخذها السلاجقة ركائز لفكرهم العسكري, وهذا الأمر من سنن الله التي حث الرسول - صلى الله عليه وسلم - المؤمنين على الأخذ بها, فمن أخذ بالأسباب وأحسن التعامل معها بأكبر قدر ممكن وصدق في توكله على الله فإن الله ينصره ويوفقه. ومن أهمها:
1 - التنشئة العسكرية للأبناء: كان اهتمام سلاطين السلاجقة بالفنون العسكرية كبيراً منذ بداية أمرهم ولذلك اهتموا بتربية أبنائهم على فنون الحرب والقتال وإتقانها، ولهذا نجد جدهم الأول سلجوق، يجتهد - قدر طاقته - في تربية وتنشئة حفيديه: طغرل بك، وجغري بك تنشئة عسكرية، آتت أكلها بعد ذلك في نجاح كل منهما في قيادة السلاجقة وإدارة معاركهم ضد أعدائهم، وقد أسهمت إلى حد ما هذه التنشئة في تولي أكثر زعماء السلاجقة للقيادة العامة للجيش بل ويقاتلون بأنفسهم في أرض المعركة نظراً للتدريب المبكر لهم على ذلك، فقد غزا ميكائيل بن سلجوق بلاد الأتراك وباشر القتال بنفسه حتى استشهد في سبيل الله (3)، ووصف البيهقي - وهو شاهد عيان - بلاء جغري بك في أرض المعركة بقوله: يا له من فارس مغوار (4)، وكان ألب أرسلان، يجيد الرمي بالقوس الذي لم يكن يفارقه في أي مكان (5)، كما كان ملكشاه أرمى الناس لم يخطئ قط، وأطعن الناس برمح (6)، وكان يجيد أيضاً استعمال الأسلحة جميعها مع مهارة كبيرة في ركوب الخيل (7). فهذه الروح العسكرية المتوثبة عند أمراء السلاجقة انعكست على قوادهم وجندهم وكانت - بدون شك - وراء النجاحات التي حققها السلاجقة في حروبهم وعكست مهارات عسكرية مكنتهم من قيادة الجيوش في أرض المعارك، وخوض غمارها وتحقيق النصر على الأعداء في عدد من الجبهات (8).
2 - الجهاد في سبيل الله: أعلن السلاجقة منذ بدايتهم دفاعهم عن الإسلام والذود عنه، فشكل الجهاد أساساً من الأسس المهمة في فكرهم العسكري، فقد قام جدهم الأول سلجوق - بعد اعتناقه وقبيلته الإسلام - بحماية المسلمين سكان المناطق المجاورة له من
_________
(1) راحة الصدور، ص 145.
(2) أخبار الدولة السلجوقية، ص 8. الوغى: الحرب.
(3) العرب والأتراك، ص 74، النظم الحربية، ص 48.
(4) تاريخ البيهقي، ص 622.
(5) أخبار الدولة السلجوقية، ص 54.
(6) المصدر نفسه، ص 73.
(7) راحة الصدور، ص 197, النظم الحربية، ص 49.
(8) النظم الحربية عند السلاجقة، ص 49.(1/217)
غارات بني جلدته من الكفار (1)، كما استشهد ابنه ميكائيل في جهاده ضدهم (2)، وتنطق رسالة السلاجقة للخليفة العباسي القائم بأمر الله بالتأكيد على ذلك: ولقد اجتهدنا دائماً في غزو الكفار وإعلان الجهاد (3). ويذكرون فيها أيضاً «وشكراً لله على ما أفاء علينا من فتح ونصر، فنشرنا عدلنا وإنصافنا على العباد وابتعدنا عن طريق الظلم والجور والفساد ونحن نرجو أن نكون في هذا الأمر قد نهجنا وفقاً لتعاليم الدين ولأمر أمير المؤمنين» (4) وقد قام السلطان طغرل بك - كما مر معنا - بغزو الروم معلناً بذلك جهاده ضدهم (5)، والذي تميز بقوة كبيرة زرعت الهلع في قلوبهم حتى أسر بعض ملوكهم وأطلقه دون فداء (6)، كما عبر السلطان ألب أرسلان نهر جيحون (7)، مجاهداً سنة 465هـ، وكان قد أبلى بلاء حسناً - قبل ذلك - في جهاده ضد الروم في ملاذكرد (8)
سنة 463هـ، وتؤكد خطبته قبيل نشوب المعركة بساعات روحاً جهادية متوثبة تتوق للاستشهاد في سبيل الله أو النصر، حيث يقول: أنا أحتسب عند الله نفسي، وإن سعدت بالشهادة ففي حواصل الطيور الخضر من حواصل النسور الغبُر رمسي، وإن نصرت فما أسعدني وأنا أمسي ويومي خير من أمسي (9)، بالإضافة إلى مشاركته السابقة مع عمه طغرل بك في عمليات الجهاد (10)، واستطاع سليمان بن قتلمش أن يضم مدينة أنطاكية إلى أملاك السلاجقة (11)، حيث سار على خطى أبيه الذي كان قد قام بعده بحملات جهادية على كرجستان (12)، وديار الروم فاستولى على كثير من قلاع الروم هناك (13)، وإذا كان السلاجقة قد اعتراهم الضعف بعد وفاة ملكشاه سنة خمس وثمانين وأربعمائة فإن قلج أرسلان، نجح في إحراز انتصارات باهرة على البيزنطيين، كما كان موفقاً في معاركه مع الصليبيين (14)، وتابع السلطان محمد بن ملكشاه مسيرة الجهاد
_________
(1) مالك الأبصار, للعمري, نقلاً عن: النظم الحربية، ص 49.
(2) الكامل في التاريخ نقلاً عن النظم الحربية، ص 50.
(3) راحة الصدور، ص 166، 167, النظم الحربية، ص 50.
(4) راحة الصدور، ص 166، 167, النظم الحربية، ص 50.
(5) المنتظم (8/ 160) , فن الحرب الإسلامي للعسلي (3/ 342).
(6) فن الحرب الإسلامي (3/ 344) , النظم الحربية، ص 50.
(7) جيحون: نهر يصب في بحيرة خوارزم عليه مدن عديدة ويتشعب منه عدة أنهار.
(8) ملاذكرد: مدينة حصينة على نهر الفرات وتكتب أيضاً: ملازكرد ومنازكرد، ومنزكرت وملاسكرد، معجم البلدان (5/ 202).
(9) تاريخ دولة آل سلجوق، ص 40.
(10) فن الحرب (3/ 343) , النظم الحربية، ص 51.
(11) تاريخ الخلفاء، ص 424، النظم الحربية، ص 51.
(12) كرجستان: الإقليم المسمى الآن جورجيا وعاصمته تفليس.
(13) النظم الحربية، ص 51.
(14) المصدر نفسه، ص 52.(1/218)
ضد الصليبيين وكان مهتماً بتجهيز الجيوش مرات عديدة لهذا الغرض (1)، كما اعتبر جهاده ضد الإسماعيلية وصدهم جهاداً في سبيل الله (2)، ولم يغفل السلطان سنجر جهاده في الشرق ضد كفار الأتراك، فقام بعدة حملات عسكرية عليهم (3)
وعلى الرغم مما تعرضت له الفكرة الجهادية من بعض الفتور أثناء الصراعات بين أفراد الأسرة السلجوقية على السلطة أو مع غيرهم من الحكام، فقد ظل الجهاد في سبيل الله لدى السلاجقة يشكل ركيزة مهمة في فكرهم العسكري (4)، فقد كان مفهوم الجهاد واضحاً في حروب السلاجقة، وعرف ذلك عنهم معاصروهم وعلى رأسهم عدد من الفقهاء وقتذاك، يقول الإمام الجويني في وصفهم: أليس بهم (أي السلاجقة) انحصار الكفار في أقاصي الديار؟ وبهم تخفق بنود الدين على الخافقين، وبهم أقيمت دعوة الحق في الحرمين (5)، فإذا كانوا عصاماً لدين الإسلام ووزراً للشريعة، فما القول في أقوام بذلوا في الذب عن دين الله حشاشات الأرواح وركبوا نهايات الغرر متجردين لله تعالى في الكفاح (6).
3 - الحرص على كسب ولاء الجيش وقادته: حرص سلاطين السلاجقة على كسب ولاء جندهم لمن يرشح من أبناء الأسرة السلجوقية لاعتلاء عرش السلطنة واهتموا بهذا الأمر اهتماماً كبيراً إيماناً منهم بأهمية ذلك ودوره في كفاءة السلطان الجديد وتأييد الناس له واستقرار الأحوال في عهده ونجاحه في إدارتها، فقد كان تعيين طغرل بك سلطاناً على السلاجقة، وقائداً أعلى لجيوشهم - بالرغم من أنه لم يكن الابن الأكبر لميكائيل حيث كان أخوه جغري بك أكبر منه سناً - بناءً على قدرته وشخصيته الأمر الذي أدى إلى التفاف الجند والقبائل حوله ودعمهم له (7)، فقد كان متسامحاً معهم، وعندما أراد تولية الحكم من بعده لسليمان ابن أخيه داود وزّع على الجند سبعمائة ألف دينار وثياباً وأسلحة تساوي مائتي ألف دينار استمالة لهم ولكنهم في النهاية مالوا إلى ألب أرسلان (8)، وكلَّف السلطان ألب أرسلان بعد إصابته وإحساسه بدنو أجله الوزير نظام الملك بالقيام بأخذ العهود على الجند بالتأييد والمبايعة لابنه ملكشاه (9). وتعطينا هذه الحادثة تصوراً لهذه الأهمية بدليل تكليف الوزير للقيام بها بنفسه، ولم يكتف السلطان بذلك، بل أخذ العهود على نظام الملك، وأوصاه به كما أوصى الجند كذلك (10)، تأكيداً منه على ضمان ولائهم
_________
(1) النظم الحربية، ص 52.
(2) السلاجقة في التاريخ والحضارة، ص 53.
(3) النظم الحربية، ص 52.
(4) السلاجقة في التاريخ والحضارة، ص 53.
(5) غياث الأمم، ص 230.
(6) المصدر نفسه، ص231.
(7) دولة السلاجقة، حسنين، ص 31.
(8) المنتظم (8/ 231).
(9) المصدر نفسه (8/ 279) , النظم الحربية، ص 55.
(10) وفيات الأعيان (5/ 283) , أخبار الدولة السلجوقية، ص 55.(1/219)
لابنه ملكشاه الذي ما إن تولى الحكم سنة 465هـ حتى أنفق أموالاً طائلة استمال بها قلوب أمراء العسكر والحشم (1).
4 - الخبرة والتجربة: يذكر الماوردي (توفى 450هـ) أن انعدام الاستفادة من هذين الجانبين من الدلالات الظاهرة على ضعف الدول (2). وعبارة الماوردي هذه مهمة وخطيرة جداً تحتاج لتأمل من قيادة الفكر والرأي والاستفادة منها ومن التاريخ بشكل عام ومن دروسه وعبره لمن يريد النهوض بالأمة في هذا العصر, وقد مثلت الاستفادة من قِبل السلاجقة من الخبرة والتجربة فكر عصرهم بالفعل، ولهذا استعمل بعض سلاطين السلاجقة المشورة العسكرية في أرض المعركة للاستفادة الكاملة من الخبرات المتواجدة في الجيش السلجوقي، خاصة ممن لهم خبرة ودراية واسعة في المجال الحربي, فقد ذكر البيهقي - وهو شاهد عيان - مدى الخبرة والتدريب الموجودة لدى جند السلاجقة وقادتهم (3)، وأظهر السلطان طغرل بك اهتماماً بالنصائح التي قُدَّمت له من ذوي الخبرة والتجربة الواسعة حتى بلغ به الأمر إلى طلبها منهم بنفسه (4)، وقد كان للسلطان ألب أرسلان في بعض معاركه مجلس حرب, وقد عقد اجتماعاً مع كبار قادته قبيل معركة ملاذكرد وناقش معهم خطة المعركة. ثم بدأ بعد ذلك بخطبته المشهورة ثم عاد مرة أخرى للاجتماع بقادته بعد انتهاء خطبته في الجند، حيث بحث معهم الوسائل لتحقيق النصر على أعدائه (5)، كما استأنس برأي فقيهه أبي نصر محمد بن عبد الملك البخاري الذي أشار عليه بالقتال يوم الجمعة بعد الزوال والخطباء على منابرهم طلباً للنصر باعتباره يدافع عن دين الله (6)، فكانت هذه المعركة خير مثال للاستفادة الكاملة من الخبرة والتجربة العسكرية (7).
وبلغ من اهتمام الوزير السلجوقي نظام الملك بالخبرة أن عقد فصلاً لها في كتابه يقول فيه: ينبغي تدبر الأمور باستشارة الحكماء المسنين وذوي التجارب والأسفار (8)، فاستشارة ذوي الخبرة والتجربة سبيل للوصول إلى الرأي الصائب (9)، كما يسوق احترام السلاجقة للخبرة ومعرفة قيمتها بقوله: كان من عادة الملوك اليقظين أن يرعوا حرمة المسنين المجربين جوابي الآفاق ... والعارفين بشئون الحرب، بأن يجعلوا لكل منهم مقاماً ومنزلة أثيرة لديهم ... وكان إذا جدّ
_________
(1) المنتظم (8/ 277) , أخبار الدولة السلجوقية، ص 55.
(2) التحفة الملوكية، ص 80, النظم الحربية، ص 57.
(3) تاريخ البيهقي، ص 674، 683.
(4) النظم الحربية، ص 58.
(5) النظم الحربية عند السلاجقة، ص 58.
(6) تاريخ دولة آل سلجوق، ص 42.
(7) تاريخ إيران، مكاريوس، ص 124النظم الحربية، ص 58.
(8) سياست نامه، ص 128.
(9) المصدر نفسه، ص 130.(1/220)
طارئ عدواني وحربي يتخذون التدابير كلها مع من مارسوا الحروب، ولهم فيها خبرات وتجارب كثيرة فيأتي الأمر موافقاً للهدف المرسوم، وكانوا إذا ما نشبت الحرب يرسلون إليها من خاض غمار المعارك الكثيرة، وهزم الجيوش العديدة واحتل القلاع، وذاع اسمه في العالم باسم الرجل الشجاع، وكانوا على الرغم من كل هذا يرسلون شخصاً مسناً ممن جابوا البلاد من ذوي الخبرات لتجنب الوقوع في الخطأ (1).
5 - الإخلاص والتضحية: عندما أراد الخليفة العباسي القائم بأمر الله البقاء في معسكر السلطان طغرل بك والخروج معه للقتال قال السلطان: الله الله! ما هذا مما يجوز أن يكون مثله، ونحن الذي يصلح للحرب والسفر والتهجم والخطر، دون أمير المؤمنين, وإذا خرج بنفسه فأي حكم لنا وأي خدمة تقع منا, وامتنع أن يجيبه إلى ذلك (2)، وفي ذلك دلالة على إخلاص السلطان في حماية الخليفة من خطر المعركة، كما تمتع بعض قواد السلاجقة كذلك بإخلاص نادر وصل إلى حد التضحية بأنفسهم في سبيل خدمة السلطان وحمايته فعندما هجم قاتل السلطان ألب أرسلان عليه, كان سعد الدولة كوهرائين (3)، شحنة بغداد واقفاً في خدمة السلطان فرمى بنفسه على السلطان يريد حمايته فأصابه هو أيضاً جرح، ولكنه لم يكن مميتاً (4).
6 - الحيطة والحذر والمتابعة: عمد السلاجقة إلى وضع الحيطة والحذر نصب أعينهم، فقد ظل طغرل بك - بعد انسحابه من فراوة (5)، أمام الغزنويين - مستعداً للحرب أياماً فلم يخلع حذاءه، ولم ينزع عنه الزرد وكان يتوسد درعه حين ينام, وإذا كان حال قائد هذه الجماعة على هذا النحو فمن اليسير معرفة حال الآخرين (6)، وعندما هزم السلاجقة جيش مسعود الغزنوي, لم يُنزل - أي داود قائد السلاجقة- عسكره ثلاثة أيام عن ظهور دوابهم لا يفارقونها إلا لما بد لهم منه من مأكول ومشروب وغير ذلك (7)، مما يدل على اتخاذه الحذر والاحتياط من عودة العدو إليهم، وبات جند السلاجقة على ظهور خيلهم أثناء حصارهم لمدينة مريم نشين في عهد السلطان ألب أرسلان (8)، وعندما أحضر رسول ملك الروم الجزية أخذه نظام الملك معه إلى كاشغر (9)، حيث أذن له هناك في العودة إلى بلاده وقال:
_________
(1) النظم الحربية عند السلاجقة، ص 59.
(2) المنتظم (8/ 208) النظم الحربية عند السلاجقة، ص 60.
(3) النظم الحربية عند السلاجقة، ص 60.
(4) راحة الصدور، ص 191.
(5) فراوة: مدينة في إقليم جرجان يعتقد أنها تطابق قزل أروات الحديثة.
(6) تاريخ البيهقي، ص 668.
(7) الكامل في التاريخ, نقلاً عن النظم الحربية، ص 61.
(8) أخبار الدولة السلجوقية، ص 36.
(9) كاشغر: مدينة في إقليم سيجون قرب بلاساغن، بلدان الخلافة، ص 530.(1/221)
أحب أن يذكر عنا في التواريخ أن ملك الروم حمل الجزية وأوصلها إلى باب كاشغر؛ لينهي إلى صاحبه سعة ملك السلطان ليعظم خوفه منه ولا يحدث نفسه بخلاف الطاعة (1)، وهذا احتياط من جانب الوزير السلجوقي بإظهار عظمة سلطان السلاجقة وسعة بلادهم لرسول ملك الروم (2)، وكان السلاجقة يرون ضرورة المتابعة لأحوال الحرس والخفر والبوابين ومعرفتهم جميعاً والاطلاع على أحوالهم سراً وعلانية، لأنهم أسرع انخداعاً بالمال والإغراء (3)،
وإذا ما شوهد بينهم غريب فينبغي السؤال عنه والتأكد منه، ويجب أن يراقبوا ويتأكد منهم ويوضعوا تحت الإشراف المباشر كل ليلة عندما يتسلمون واجباتهم، وينبغي عدم إغفال هذا الأمر ليلاً أو نهاراً لأنه دقيق جداً (4). ويرى نظام الملك الوزير السلجوقي أن على السلاطين تحري أخبار الجيش فيقول: على الملوك أن يتحروا أحوال الرعية والجيش، وكل بعيد وقريب وأن يعرفوا كل كبيرة وصغيرة في المملكة (5).
7 - العلاقة بين الجند وقادتهم والتدرج في الرتب العسكرية: اتخذ السلاجقة من التنظيم الدقيق للعلاقة بين الجند وقادتهم واحترام التدرج في الرتب العسكرية وربط ذلك بمبدأ الثواب والعقاب أساساً من أسس فكرهم العسكري, ويفصَّل الوزير السلجوقي الشهير نظام الملك هذا التنظيم قائلاً: إن تكن للجند حاجة ما ينبغي أن تُطلب بألسنة قادتهم ورؤسائهم؛ لأنهم إن أُجيبوا إلى ذلك إجابة حسنة يكونوا قد توصلوا إلى احتياجاتهم بأنفسهم ويكسبوا احترام أفرادهم؛ لأنهم طلبوا ما يحتاجون بأنفسهم فنالوه دون حاجة إلى وساطة تذهب باحترامهم لو لجأوا إليها. فإذا ما تطاول جندي على قائده ولم يحترمه أو يرع حرمته، بل تجاوز حده يجب أن يعاقب كيما يمتاز الرئيس عن المرءوس (6). وهذا النظام هو القائم إلى الآن في العالم.
8 - الجمع بين الرأي والتدبير والقوة العسكرية: كان الفكر العسكري السلجوقي يعتمد على الرأي الصائب والحكم السديد بجانب استخدام القوة (7)، ولذلك يرى بعض المؤرخين أن السلطانين السلجوقيين الأول والثاني، طغرل بك وألب أرسلان تميزا بأنهما فاتحان عسكريان, أما خلفهما ملكشاه فمهمته كانت تنظيم إدارة الدولة، ولدى الحاجة إلى توسيعها كان يلجأ إلى العمليات العسكرية وإلى الوسائل الدبلوماسية أيضاً (8)، وهو أمر
_________
(1) الكامل في التاريخ, نقلاً عن النظم الحربية، ص 62.
(2) النظم الحربية، ص 62.
(3) سياست نامه، ص 168.
(4) النظم الحربية، ص 62.
(5) سياست نامه، ص 100, النظم الحربية، ص 62.
(6) سياست نامه, ص 163، النظم الحربية، ص 63.
(7) سياست نامه، ص 200, النظم الحربية، ص 64.
(8) الشرق الإسلامي في العصر الوسيط، ص 356.(1/222)
طبيعي في نشأة الدولة في أن يعتمد مؤسسوها على القوة والغلبة ثم يأتي خلفاؤهم، فيعتنون بالإدارة وإعادة ترتيب الأولويات فيها، مما يؤكد أن السلاجقة كانوا رجال حرب وإدارة وحسن تدبير بحق في تلك الفترة (1). وكان الوزير نظام الملك يقول: إن المشورة في الأمور من قوة الرأي، خاصة إذا كانت الاستشارة لمن هم على قدر كبير من الخبرة وسعة التجربة وصولاً إلى الرأي الصائب الذي يتحتم العمل على أساسه (2)، كما يؤكد الوزير السلجوقي أن انعدام الشورى ومناقشة الآراء المختلفة والاستبداد بالرأي من الدلالات الواضحة على ضعفه وعدم جدوى العمل به (3)، وكانت نصيحة نظام الملك لسلطانه في مجال سياسة الأعداء أن يحارب الأعداء حرباً تترك باب الصلح مفتوحاً، وأن يصالحهم صلحاً لا يوصد باب الحرب، وأن يوطد علاقاته مع الصديق والعدو بنحو يمكنه من أن يفصم عراها، أو يعيد بناءها أنّى يشاء (4).
وهي قاعدة مهمة في الفكر العسكري تنم عن رأي خبير في سياسة الحروب وإدارة الدول لا يقل حصافة وسداداً عن أي فكر حديث حصيف (5)، والعبارة السابقة قريبة لدرجة كبيرة من القاعدة التي تقول: لا صداقات دائمة ولا عداوات دائمة وإنما مصالح دائمة. ونحن نوجه كلمة المصالح إلى مصالح الإسلام, وكان من بين النصائح التي قدمها الغزالي لسلطانه محمد بن ملكشاه قوله: إنه مهما أمكنك الأمور بالرفق واللطف فلا تعملها بالشدة والعنف (6)، ويقول أيضاً: وترتيب الوزراء مهما أمكنهم أن يحاربوا بالكتب فليحاربوا فإن لم تتأت الأمور بالاحتيال والتدبير فليجتهدوا في تأتيها بعطاء الأموال وبذل الصلات والنوال (7)، فإنه من رأيه عدم التسرع في الأمور لأنه: قد يمكن قتل الأحياء ولا يمكن إحياء القتلى (8) فهو ينصح بالتدرج في ذلك والبدء أولاً بإعمال الرأي والفكر في أفضل الوسائل للعمل بها، وجعل استخدام القوة والعنف آخر الحلول تطبيقاً وفي ذلك حفاظ على قدرات الدولة من أن تهدر في أمور يمكن العمل على حلها بالرأي والتدبير دون الحاجة إلى تسيير الجيوش وإرهاق الدولة بباهظ تكاليفها (9)، لأن الحرب في سائر
الأحوال تفني ذخائر الأموال وفيها تبذل كرائم النفوس ومصونات الأرواح (10). فكان
من أسس الفكر عند السلاجقة سلاطين ووزراء وعلماء الجمع بين الرأي والتدبير
والتدرج في استخدام القوة العسكرية واستعمال كل منها في الموقف الذي يلائمه،
_________
(1) النظم الحربية عند السلاجقة، ص 64.
(2) سياست نامه، ص 129، 130.
(3) النظم الحربية، ص 65.
(4) سياست نامه، ص 298، 299, النظم الحربية، ص 65.
(5) النظم الحربية عند السلاجقة، ص 65.
(6) التبر المسبوك في نصيحة الملوك، ص 138.
(7) المصدر نفسه، ص 278، 279.
(8) المصدر نفسه، ص 278، 279.
(9) النظم الحربية، ص 66.
(10) التبر المسبوك في نصيحة الملوك، ص 278.(1/223)
ودرء القوة ما أمكن غيرها (1).
ثانياً: الاعتماد على أجناس مختلفة:
اعتمد السلاجقة في جيشهم على أجناس مختلفة من الأتراك وجميع الطوائف المتمثلة في القبائل التركمانية والأكراد والديلم والعرب والفرس وغيرهم من الأجناس الأخرى، وكان التركمان هم العنصر المهم فيه يليهم الأكراد ثم المماليك المتمرسون على القتال وخوض المعارك (2). ويؤكد الوزير السلجوقي نظام الملك ذلك في حديثه عن الرهائن ووجوب أخذهم من أمراء العرب والأكراد والديالمة والروم وغيرهم (3)، مما يؤكد حقيقة اعتماد السلاجقة على عدد كبير من الأجناس والشعوب، ويضيف أنه: ينبغي أن يؤسس الجيش من كل جنس وملّة وأن يرابط بالقصر ألفا رجل من الديلم وخراسان يحتفظ بالموجود منهم الآن ثم يهيأ الباقي بعد ذلك. ولا ضير في أن يكون بعض هؤلاء من الكرجيين (4)، وشبانكاريي فارس (5)، لأنهم قوم طيبون لا غبار عليهم (6)، ويضرب مثالاً على نجاح ذلك بجيش محمود الغزنوي المكون من أجناس عدة، ففيه الترك والخراسانيون والعرب والهنود والغوريون والديلم (7)، ويدافع الوزير السلجوقي عن تأييده لتعدد الأجناس بأن: اتخاذ الجيش من جنس واحد مدعاة لظهور الأخطار والتخريب والفساد، وعدم الجدية والبلاء في الحرب (8). وتكمن خطورة الاعتماد على جنس واحد في انعدام التنافس بين أفراد الجيش في مجال الخدمة العسكرية (9)
أما في حالة التعدد في الأجناس فإن كل جنس منهم يقاتل في المعارك والحروب، ببسالة ومضاء حفاظاً على سمعته وخوف العار والهزيمة، وكي لا يقول أحد بأن الجنود من الجنس الفلاني وهنوا في القتال وتقاعسوا، وكان كل فريق في القتال يبُلي بلاء حسناً ويبذل غاية جهده إظهاراً لقدرته وتفوقه على الآخرين، ولما كانت قاعدة اختيار المحاربين تتم على ذلك النحو، فقد كانوا جميعهم جادين مستبسلين وطلاب سمعة وشهرة، ولا جرم أنهم إذا ما هرعوا إلى السلاح لم يكونوا يتراجعون قبل أن يهزموا الجيش المعادي وينتصروا عليه (10). وهناك فائدة مهمة كان السلاجقة يضعونها بعين الاعتبار في اتخاذ
_________
(1) النظم الحربية عند السلاجقة، ص 66.
(2) السلاجقة في التاريخ والحضارة، ص 69.
(3) سياست نامه، ص 142.
(4) الكرجيين: نسبة إلى إقليم كرجستان في جورجيا حالياً.
(5) شبانكاريي فارس: نسبة إلى قرية من قرى إقليم فارس.
(6) سياست نامه، ص 140, النظم الحربية، ص 69.
(7) سياست نامه، ص 140.
(8) النظم الحربية، ص 70.
(9) الحضارة الإسلامية، أحمد عبد الرازق ص 189.
(10) سياست نامه، ص 140، 141, النظم الحربية عند السلاجقة، ص 70.(1/224)
الجيش من أجناس مختلفة وقبائل شتى وهي ألا يتهيأ لهم الاتفاق على رأي
واحد في الخلاف (1).
ثالثاً: زيادة عدد أفراد الفرق العسكرية:
كان حرص سلاطين السلاجقة واضحاً على زيادة عدد أفراد الفرق العسكرية وعدم الاستغناء عن أي فرقة منها - إلا في حالات نادرة جداً - حتى كان حجم الجيش السلجوقي الكبير عددياً مجالاً رحباً لافتخار السلاطين على أعدائهم وتهديدهم به، وقد واجه نظام الملك الدعوة المناوئة له والتي تقول بعدم الحاجة إلى الأعداد الكبيرة للفرق العسكرية السلجوقية احتجاجاً بالتوفير وعدم قوة الأعداء متهماً من يقف وراء هذه الدعوة بالسعي لتدمير الدولة فكان مما قاله: لقد ادعى، لهذا، أن لا حاجة لأربعمائة ألف رجل لهم رواتب في الدولة، وأنه يجب أن يكتفي بسبعين ألف فارس يُدَّخرون لما قد يطرأ من أحداث ومهام، فبهذا تسترد الدولة جرايات الجند الآخرين غير السبعين ألفاً ورواتبهم، فتؤمَّن لخزانة الدولة في كل سنة بضعة ألف ألف دينار، بالذهب والمال في مدة يسيرة (2). ثم يقول مخاطباً السلطان: .. إن يكن لديك أربعمائة ألف رجل، فليس من شك في أن تستحوذ على خراسان وما وراء النهر إلى حدود كاشغر, لقد كنت أطمح أن يكون لك سبعمائة ألف رجل بدلاً من هذه الأربعمائة ألف، فلو كان رجالك أكثر لحزت غزنين والسند والهند وكل تركستان والصين .. ولكانت لك ثمة أشياء في المغرب والشام .. ولحطت لك الروم عصا الطاعة. إن عدد ولايات كل ملك رهن بعدد جيشه، تكثر بكثرته وتقل بقلته، وكلما قل عدد الجيش تناقص عدد الولايات، وبالعكس (3). إن تعليمات هذا الوزير السلجوقي وفلسفته في إدارة الدولة وتركيزه على قوتها العسكرية يجعلنا نضعه باطمئنان في مصاف قادة الفكر السياسي في الحضارة الإسلامية ونظمها الحربية، بل إن نصائحه لسلطانه توحي لنا بأننا ننصت إلى أحد قواد، بل علماء, الحرب الحديثة (4).
رابعاً: التقسيم العشري:
قسم السلاجقة قادتهم العسكريين بشكل هرمي ابتداء من كبار القادة أمراء المائة مروراً بأمراء الطبلخاناه ثم العشرات فالخمسات وهي أقل من هذه الدرجات, فهناك في المصادر ما يؤكد نسبة هذا التقسيم للسلاجقة، فقد قدم الوزير السلجوقي نظام الملك للخليفة العباسي
_________
(1) كتاب الإشارة، للمرادي، ص 125, النظم الحربية، ص 70.
(2) سياست نامه، ص 209, النظم الحربية، ص 73.
(3) النظم الحربية، ص 73.
(4) المصدر نفسه، ص 75.(1/225)
أمراء الجيش في عهد ملكشاه واحداً بعد الآخر قائلاً للخليفة في تقديمه لهؤلاء الأمراء: هذا العبد الخادم فلان بن فلان ولايته كذا وعسكره كذا وذلك الأمير يقبَّل الأرض وكانوا أكثر من أربعين أميراً (1)، وترتبط الإمرة في هذا التقسيم بشكل وثيق بعدد الجند تحت قيادة كل منهم فهناك:
1 - أمراء المئين مقدمو الألوف: ويطلق على أحدهم أمير مائة وتقترن عادة بلقب مقدم ألف، والمقصود بهذه التسمية المركبة مرتبة واحدة يكون في خدمة حاملها مائة مملوك، ويقع تحت قيادته في الحرب ألف أو ألوف من الجند وربما زاد العدد عن ذلك، وهي أعلى مراتب الأمراء، من عهد السلاجقة إلى المماليك بمصر ومنهم أصحاب المناصب العليا في الدولة (2).
2 - أمراء الطبلخاناه: يرتبط اسم هذه الطبقة بأن لهم الحق في دق الطبول وغيرها في المواكب الرسمية، تشريفاً لهم، كما يفعل السلطان وأمراء المئين ولكن بصورة مصغرة, ويتزعم كل منهم أربعين فارساً يزيد بعضهم على ذلك إلى سبعين وثمانين فارساً فيكون في خدمته ما يساوي هذا العدد ويطلق عليهم - نتيجة لذلك - أمراء سبعين أو ثمانين، ولا تكون هذه الرتبة لمن كانت إمرته على أقل من أربعين, وأمراء هذه الطبقة تحت قيادة أمراء المئين فكان جندهم - تبعاً لذلك - أقل منهم، وكان عدد أمراء الطبلخاناه أكثر من أمراء المئين، ومن أمراء الطبلخاناه يكون أكابر الولاة (3).
3 - أمراء العشرات: ربما كان منهم من له أكثر عدداً من ذلك إلى أقل من الأربعين, ومع ذلك يُعد في أمراء العشرات ومنهم صغار الولاة (4).
4 - أمراء الخمسات: وكان عددهم قليلاً وأكثرهم من أولاد الأمراء المتوفين, تعطى للواحد منهم هذه الرتبة رعاية لسلفه، فكانوا يعتبرون كأكابر الأجناد (5). أما عن أصل هذا التقسيم العشري فيبدو أن الرأي القائل بأن السلاجقة نقلوه من أوطانهم الأولى هو الأقرب (6)، فقد كان معروفاً -فيما يبدو- لدى إحدى قبائل التركمان حيث قام زعيمها باستدعاء أصحاب المئات والعشرات استعداداً للحرب (7)، فاستفاد السلاجقة بعد ذلك من هذا النظام فطبقوه في جيوشهم وأصبح أحد أسس تقسيماتها، ثم شاع هذا التقسيم في
_________
(1) المنتظم (9/ 35) , تاريخ دولة آل سلجوق، ص 79.
(2) الخطط (2/ 215، 216) , جيش مصر، ص 27.
(3) النظم الحربية عند السلاجقة، ص 77.
(4) النظم الحربية عند السلاجقة، ص 77.
(5) جيش مصر، ص 27، 28، تاريخ السلاجقةص 293.
(6) النظم الحربية عند السلاجقة، ص 78.
(7) النظم الحربية عند السلاجقة، ص 78.(1/226)
الجيوش بعدهم، فيذكر المقريزي أن جنكيز خان: رتب لعساكره أمراء وجعلهم أمراء ألوف وأمراء مئين وأمراء عشرات (1) وعمل به المماليك في مصر بعد ذلك (2).
خامساً: الإقطاع العسكري: ينقسم الإقطاع إلى قسمين هما:
1 - إقطاع تمليك.
2 - إقطاع استغلال (3)، ومن هذا النوع ما أطلق عليه بعض الباحثين الإقطاع العسكري أو الحربي، وذكر الماوردي في حديثه عن إقطاع الاستغلال أن «أهل الجيش هم أخص الناس بجواز الإقطاع» (4)، ويُعد قدوم السلاجقة علامة مهمة في تاريخ امتلاك الأرض نظرياً وعملياً، فلم يصبح السلطان مجرد حاكم للناس بل أصبح يتمتع بحقوق الملكية للأراضي التي يحكمها (5)، فقد جرت العادة أن يقوم السلطان بالصرف على شئون الدولة من الإيرادات التي ترد من الولايات التابعة لها والخاضعة لسلطانها، وكان على رأس ذلك مصروفات الجيش والإنفاق على شئونه المختلفة فضلاً عن مرتبات الجند، فلما كان عهد السلطان ملكشاه قام وزيره نظام الملك بتعميم نظام الإقطاع في جميع أنحاء الدولة السلجوقية وذلك بتوزيع ولايات الدولة على شكل إقطاعات للأمراء والجند للاستفادة منها عوضاً عن إعطائهم المرتبات النقدية (6)، فكان صاحب الإقطاع يستفيد منه مادياً مقابل تجهيزه لجنده الذين يشارك بهم في الجيش السلجوقي عند الاسنفار للحرب (7)، ولم يكن هذا التنظيم يتعارض مع الملكية الفردية أو يمسها لأنه كان يتعلق بخراج الأرض دون الأرض نفسها (8). ويعتبر كثير من المؤرخين هذا الوزير السلجوقي أول من قام بتوزيع الإقطاعات (9)، وقد عارض بعض المؤرخين ذلك (10)،
ويبدو أنه بالإمكان الاطمئنان إلى الرأي القائل إن الإقطاع العسكري قد وجد قبل السلاجقة وأصبح عاماً شاملاً منذ مطلع العصر السلجوقي، حيث أعطاه الوزير السلجوقي نظام الملك شكله النهائي وأقامه في مناطق لم يوجد بها من قبل (11)، مستفيداً من تجارب الدول التي سبقته خاصة الدولة البويهية بدليل إدخاله بعض
_________
(1) الخطط (2/ 221) , النظم الحربية عند السلاجقة، ص 78.
(2) النظم الحربية عند السلاجقة، ص 78.
(3) الأحكام السلطانية، ص 190 - 197.
(4) المصدر نفسه، ص 195.
(5) النظم الحربية عند السلاجقة، ص 79.
(6) تاريخ دولة آل سلجوق، ص 60.
(7) النظم الحربية عند السلاجقة، ص 79.
(8) السلاجقة في التاريخ والحضارة، ص 201.
(9) أخبار الدولة السلجوقية، ص 68.
(10) النظم الحربية عند السلاجقة، ص 80.
(11) السلاجقة في التاريخ والحضارة، ص 83.(1/227)
الإصلاحات بهدف تجنب المساوئ التي أسفر عنها تطبيق هذا النظام في العهد البويهي (1). فكانت المحصلة النهائية لذلك أن تميَّز الإقطاع العسكري عند السلاجقة بخصائص، وضوابط خاصة جعلت له كياناً مستقلاً عن غيره من الأنظمة التي سبقته, وسنعرض لدراسة هذه الخصائص فيما يلي:
1 - خصائص الإقطاع عند السلاجقة: اهتم الوزير السلجوقي نظام الملك بالإقطاع اهتماماً بالغاً يدل عليه إفراده الفصل الخامس في كتابه في المستقطعين والتحقق من معاملتهم للرعية، حيث وضع فيه القواعد المعتبرة في العلاقة بين صاحب الإقطاع ومن يعملون عنده, والعقوبات اللازمة في حقه في حالة قسوته عليهم, فيقول في ذلك: ليعلم المستقطعون أن لا شأن لهم على الرعايا سوى تحصيل الأموال المستحقة عليهم بالحسنى على أن يكونوا بعد ذلك آمنين على أنفسهم وأموالهم ونسائهم وأبنائهم وضياعهم وما يملكون، دون أن يكون لأصحاب الإقطاعات عليهم من سبيل أو يمنعوهم من الذهاب إلى القصر، لبسط أحوالهم بأنفسهم إذا ما رغبوا في ذلك, أما من لا يلتزم بهذا، أو يتقيد، فينبغي الضرب على يده، ونزع إقطاعاته منه، ومجازاته؛ ليكون عبرة للآخرين، على أصحاب الإقطاعات أن يعلموا أيضاً، أن الملك والرعية جميعاً في حقيقة الأمر، للسلطان وعليهم وعلى الولاة، وهم رؤساء ومسئولون، أن يعاملوا الناس معاملة الملك للرعية ليحظوا بتأييده، وقبوله، ويسلموا من عقابه، وينجوا من عذاب الآخرة (2) ويرى نظام الملك أنه يجب إطلاق أيدي أصحاب الإقطاع في إقطاعاتهم, ولكن بنظام معلوم، والتأكيد عليهم -في حالة غياب أحد الجند بوفاته أو لسبب آخر - الإعلان عن ذلك وعدم كتمانه، وهو إجراء لا يختلف كثيراً عن الأنظمة الحديثة في هذا المجال. ويذكر كذلك وجوب بث العيون والجواسيس على أصحاب الإقطاع للتعرف على أحوالهم مخافة خروجهم عن طاعة السلطان (3)، ولذلك ينبغي استبدال المستقطعين كل سنتين أو ثلاث قبل أن يثبتوا أقدامهم ويحصنوا أنفسهم، أو يصبحوا مبعث قلق، وحتى يحسنوا معاملة الناس وتظل الولاية عامرة (4).
وفي حالة وصول أخبار عن خراب في ناحية من النواحي يرسل أحد الثقات إليها - دون علم أحد بمهمته - فيقيم فيها الفترة اللازمة لاستطلاع أحوالها والاستماع لما يقال عن صاحب الإقطاع والعودة بحقيقة الحال للتصرف على أساسها (5)، وذلك نوع من إحكام الرقابة الإدارية على
الولاة
_________
(1) النظم الحربية، ص 84.
(2) سياست نامه، ص 67.
(3) المصدر نفسه، ص 111.
(4) المصدر نفسه، ص 76.
(5) المصدر نفسه، ص 174.(1/228)
والقواد وهو إجراء مشهور عند العباسيين من قبل وما زالت له نظائر في
الأنظمة الحديثة (1). ومن المعروف أن كبار القادة كانوا يمنحون إقطاعات بدلاً من الرواتب بصفة عامة (2).
2 - عوامل التوسع في الإقطاع العسكري: يرى بعض المؤرخين أن الوزير السلجوقي نظام الملك في تطبيقه لنظام الإقطاع أراد توطين القبائل المختلفة العناصر التي تكون منها الجيش السلجوقي حتى تستقر وترتبط بالأرض المقطعة (3)، ويمكن تلخيص عوامل التوسع في الإقطاع العسكري فيما يلي:
- صعوبة تحصيل الأموال من ولايات الدولة.
- كثرة الأعباء المالية على خزانة الدولة والرغبة في تخفيفها.
- اتساع الدولة وصعوبة السيطرة عليها.
- الرغبة في عمارة الأرض والمحافظة عليها.
- توطين قبائل الجيش السلجوقي واستقرارها (4).
وعندما قام الحكام والموظفون بنهب الأموال من الفلاحين اضطر هؤلاء إلى ترك أراضيهم، ذلك أن المسئولين كانوا يجمعون الضرائب قبل حصاد المحصول وليس بعده، كما هو معروف، بالإضافة إلى المعاملة السيئة التي يتعرض لها الفلاحون من قبل الإقطاعيين وممثليهم وإخضاعهم للسخرة مما اضطر نظام الملك وزير السلطان ملكشاه أن يسعى إلى إيجاد تحديد دقيق لحقوق وواجبات أصحاب الإقطاع (5)، ويبدو أن الأمر في الاستفادة من نظام الإقطاع من عدمها يتعلق بمدى المتابعة الدقيقة له من قبل المسئولين عنه، لأن استعراض القواعد التي حددها الوزير السلجوقي نظام الملك للإقطاع في مختلف الجوانب يدل على مدى كفاءتها في تحقيق الاستفادة من هذا النظام، وهو ما حدث بالفعل في بداية تطبيق السلاجقة لنظام الإقطاع بفضل المتابعة له، ثم بدأت عوامل الفساد تدخل فيه، فبرزت سلبياته بشكل واضح حتى أصبح عبئاً على الدولة وسبباً في تفكك أجزائها (6).
3 - موقف العلماء من الإقطاع: أثار الخوف المتزايد على الأرض اهتمام العديد من العلماء، فعبر الغزالي عن عدم رضاه عن الفوضى في الريف، لأنه لا يمكن أن يكون تقدم دون أن يكون هناك عدل، وأن الدولة لن تزدهر في ظل الظلم والطغيان، وسيضطر الفلاحون لترك أراضيهم معطياً أمثلة عدة للازدهار الذي وجد في العصر الساساني في ظل
_________
(1) النظم الحربية عند السلاجقة، ص 85.
(2) راحة الصدور، ص 501، النظم الحربية، ص 85.
(3) تاريخ العراق في العصر السلجوقي، حسين أمين، ص 210.
(4) النظم الحربية عند السلاجقة، ص 89.
(5) المصدر نفسه، ص 90.
(6) المصدر نفسه، ص 91.(1/229)
الحكام العادلين، وأن الحكام مسئولون عن سوء تصرفات موظفيهم ضد رعاياهم (1)، ويقول: عمارة البلاد بالعدل في العباد (2)، يعقد الغزالي فصلاً كاملاً عن كيفية التعامل مع الحكام الظالمين (3)، ويحذر من الدخول عليهم وأخذ الأموال منهم والتي يعتبرها حراماً لأنها مجموعة من الخراج المضروب على المسلمين (4)، بالرغم من علاقته بالسلطان السلجوقي محمد بن ملكشاه حيث ألف كتابه: التبر المسبوك, وفيه يخاطب السلطان مذكراً إياه بنعم الله مضمناً إياه نصائح من أهمها الالتزام بالعدل (5) ولم يكن الغزالي الوحيد الذي وقف في وجه الظلم ضد الفلاحين بل وافقه مجموعة من العلماء كنجم الدين الرازي والإمام السبكي ممن جاءوا بعده، وبإزاء ذلك كله يذكر الماوردي موقفه من إقطاع الجند بقوله عنهم: إن أهل الجيش هم أخص الناس بجواز الإقطاع، لأن لهم أرزاقاً مقدرة تصرف إليهم مصرف الاستحقاق، لأنها تعويض عما أرصدوا نفوسهم له من حماية البيضة والذب عن الحريم (6). والفرق بينه وبين آراء العلماء الآخرين أن موقفه يبدو مؤيداً للإقطاع العسكري بينما يعارض بعض العلماء السلبيات التي أفرزها تطبيق هذا النظام (7).
سادساً: الرهائن:
قامت فكرة أخذ الرهائن عند السلاجقة من الأمراء بمختلف أجناسهم ومن أصحاب الإقطاع -خاصة من الداخلين في طاعة الدولة حديثاً - ضماناً للولاء والطاعة (8) للسلطان السلجوقي، فإذا ما حدَّث هؤلاء أنفسهم بالعصيان كان التلويح لهم بقتل رهائنهم الذين كانوا من ذوي القربى لهم, بالإضافة إلى الاستفادة من وجود هؤلاء الرهائن في القيام بمهمات البلاط السلطاني، وقد دخل هذا النظام عند السلاجقة حيَّز التنفيذ منُذ بداية دولتهم، كواحد من النظم التي جلبها السلاجقة معهم من أوطانهم الأولى، حيث كان هذا النظام سائداً لدى بعض القبائل التركية قبل دخولهم الإسلام, ومن خلال الدراسة لهذا الموضع في التراث السلجوقي نستنتج بعض الضوابط التي قام عليها نظام الرهائن عندهم والتي منها:
- أخذ الرهائن على الأمراء من الأجناس المختلفة ممن دخلوا في طاعة السلاجقة.
- أن تكون الرهينة من ذوي القربى لهؤلاء الأمراء ابناً أو أخاً ومن في حكمهم.
_________
(1) التبر المسبوك في نصيحة الملوك، ص 108 - 140، 171 - 281.
(2) المصدر نفسه، ص 186.
(3) إحياء علوم الدين (2/ 142 - 152).
(4) إحياء علوم الدين (2/ 142 - 152).
(5) التبر المسبوك، ص 92، 93، 107، 129.
(6) الأحكام السلطانية، ص 195.
(7) النظم الحربية عند السلاجقة، ص 93.
(8) المصدر نفسه، ص 93.(1/230)
- ألا يقل عدد الرهائن عن خمسمائة.
- أن تتم عملية استبدالهم سنوياً بآخرين غيرهم.
- أن يتم الاحتفاظ بالرهائن حتى وصول البدلاء إلى القصر.
- تقديم أصحاب الإقطاع خمسمائة رجل منهم ليقيموا في البلاط السلطاني.
- اختيار ألف من أبناء التركمان غلماناً في القصر يقومون مقام الرهائن ضماناً للولاء (1).
سابعاً: الإعداد المعنوي للجيش:
اعتبر السلاجقة حروبهم جهاداً في سبيل الله كما سبقت الإشارة إليه في الفكر العسكري؛ مما شكل عاملاً بارزاً في رفع الروح المعنوية لديهم، وتُعد معركة ملاذكرد خير مثال لارتفاع الروح المعنوية لدى جند السلاجقة, فقد برزت غيرتهم على الإسلام فاستماتوا في القتال بحماس شديد حتى النصر (2). ولم يكن أثر الجانب المعنوي خافياً على الوزير السلجوقي نظام الملك فكان يعطيه حقه من الاهتمام في مواضع متعددة، فعندما خاف السلطان ألب أرسلان من قتلمش السلجوقي بعد خروجه عن طاعته ثبته الوزير نظام الملك ورفع من روحه المعنوية قائلاً: قد جعلت لك من خراسان جنداً ينصرونك ولا يخذلونك ويرمون ذلك بسهام لا تخطئ, وهم العلماء والزهاد، فقد جعلتهم بالإحسان إليهم من أعظم أعوانك (3) وجاء في رواية ابن كثير: .. لا تخف فإني قد استدمت لك جنداً ما بارزوا عسكراً إلا كسروه كائناً ما كان .. جند يدعون لك وينصرونك بالتوجه في صلواتهم وخلواتهم وهم العلماء والفقراء والصلحاء (4). فكان نظام الملك يرى أن الانتصار المتكرر يعمل على بث روح النصر في نفوس الجند دائماً (5)، وينصح الغزالي سلطانه محمد بن ملكشاه بالعمل على إطلاق الأسرى من الجند من أيدي الأعداء عن طريق شرائهم بالأموال وذلك: ليسمع الجند بصنيعه فتقوى قلوبهم إذا باشروا حروبهم (6)، ولا شك أن للمدارس النظامية دوراً عظيماً في الإعداد المعنوي للجيش السلجوقي والأمة عموماً, ويأتي بيان ذلك في محله بإذن الله تعالى.
* * *
_________
(1) النظم الحربية عند السلاجقة، ص 96.
(2) السلاجقة في التاريخ والحضارة، ص 35.
(3) الكامل في التاريخ, نقلاً عن النظم الحربية، ص 98.
(4) البداية والنهاية, نقلاً عن النظم الحربية، ص 98.
(5) النظم الحربية، ص 98.
(6) التبر المسبوك، ص 279.(1/231)
المبحث الثاني
نظم الإدارة العسكرية عند السلاجقة
تمثلت هذه النظم بالمناصب العسكرية المتعددة عند السلاجقة التي أسهمت في تحديد المهام المنوطة بكل منصب من ناحية وإيجاد التدرج في الرتب العسكرية بشكل هرمي يضمن النجاح في تنفيذ هذه المهام من ناحية أخرى (1) وإليك تفصيل نظم الإدارة العسكرية السلجوقية.
أولاً: المناصب القيادية:
يجسد الوزير السلجوقي نظام الملك النظر إلى كبار قادة الجيش على أنهم زينة الملك (2)، وأن الحفاظ على ألقاب الأشخاص ومراتبهم وأقدارهم جزء من شرف المملكة (3)، كما كان ينصح بضرورة عدم اللجوء إلى إسناد عملين لشخص واحد أو عمل واحد إلى شخصين قط (4)، فقد أراد تثبيت تقسيمات الوظائف التي ميزت عصر السلاجقة، وحذر من تداخل الألقاب بين المدنيين والعسكريين وأنها لا بد أن تتناسب مع القائمين على هذه المناصب (5)، كما يرى الوزير السلجوقي نظام الملك وجود وضع العيون على أصحاب المناصب القيادية فهو يقول: أما أصحاب المناصب الهامة الرفيعة، فيجب أن يعين عليهم من يراقبهم سراً دون أن يعلموا ليكونوا على اطلاع دائم بأعمالهم وأحوالهم (6). وأما أهم المناصب العسكرية القيادية عند السلاجقة حسب تدرّجها فهي:
1 - الأمير الحاجب الكبير: وهو من المناصب الرئيسية لدى سلاطين السلاجقة، فكان الأمير الحاجب الكبير هو الذي يسمع مشافهة السلطان ويؤديها إلى الوزير, فهو الناهي الآمر (7)، فكانت مهامه في البداية تنحصر في تنظيم الدركاه (باب السلطان) حيث يشرف على سير الأمور في بلاط السلطان، فكان بذلك حلقة الوصل بينه وبين رجالات الدولة والرعية (8)، ثم أضيفت إليه مهمة قيادة الجيوش التي يوجهها السلطان للقضاء على أعدائه (9). وقد بين المؤرخون أن
_________
(1) النظم الحربية عند السلاجقة، ص 103.
(2) سياست نامه، ص 214.
(3) المصدر نفسه، ص 191.
(4) المصدر نفسه، ص 201.
(5) النظم الحربية عند السلاجقة، ص 103.
(6) سياست نامه، ص 66.
(7) تاريخ دولة آل سلجوق، ص 111.
(8) رسوم السلاجقة، ص 93, النظم الحربية، ص 105.
(9) النظم الحربية، ص 105.(1/232)
التدرج في الخدمة العسكرية يصل في النهاية إلى الحجابة وهي قمة الهرم العسكري عند السلاجقة وأسمى الألقاب التي كانت تعطي القادة عند السلطان (1) ويعتبر الحاجب هو عارض السلطان الذي يتولى أمور الجيش وقيادته وهو أعلى المناصب القيادية السلجوقية بعد السلطان والوزير، فكان في المرتبة الثالثة في مناصب الدولة (2).
أ- صفات قائد الجيش: يفضل نظام الملك أن توكل قيادات الجيش إلى الكهول المجربين لا الشبان الناشئين (3)، تأكيدًا منه على أهم الشروط الواجبة في القائد وهو وجود الخبرة والتجربة فلا يتولى المناصب العليا من لم يبلغ الخامسة والثلاثين أو الأربعين من عمره (4). حتى يتحقق له النجاح في منصبه بقوة واقتدار، ويسانده في ذلك الغزالي -وهو من علماء السلاجقة - بقوله فإن الرجل يصير رجلاً في أربعين سنة (5). ويذكر صاحب كتاب آثار الأول أن من صفات القائد أن يكون قدره كبيراً وأمره نافذاً، خبيراً بالحُلا (6)، والعروض ومعرفة الرجال ورتبهم وأقدارهم وموقعه من الدولة، ويتقى أمر الحلية فلا يشتبه عليه شخص بشخص وشياة الدواب والسلاح، ولتكن له هيبة وحرمة كبيرة حتى لا يجسر أحد على التدليس ولا غيره، ويحترز عند العروض فهو الأصل في انتظام أمر الجيش (7)، ويذكر ابن الأزرق أربع صفات للقائد هي: الشجاعة والحزم، وحسن التدبير، والسخاء (8)، ويقول إن من صفات نجاح قائد الجيش في منصبه معرفته بمواطن طاعة جنده (9) ومن الصفات اللازمة لقائد الجيش أن يكون: كامل العقل ثابت القلب تام الشجاعة، وافر اليقظة كثير الحذر شديد الحزم بصيراً بأحكام الحروب ومواضع الفرص منها عارفاً بالحيل والمكايد والخداع فيها, عالماً بتدبير العساكر وترتيب الجيوش خبيراً بالطرق .. عارفاً بالخيل .. وأصناف السلاح (10).
ب- واجبات قائد الجيش: وهي الاهتمام بحماية الجيش من مفاجأة العدو له، واختيار الموقع المناسب للجيش، وإعداد ما يحتاج إليه الجيش من مؤن، ومعرفة أخبار عدوه لئلا يتعرض لمكروه، وترتيب الجيش في أرض المعركة، وتقوية عزيمة الجند وبث روح الانتصار فيهم، وأن يعدهم بثواب الله في الآخرة والغنيمة في الدنيا، ومشاورة
_________
(1) النظم الحربية، ص 108.
(2) العرب والأتراك، ص 96.
(3) سياست نامه، ص 223.
(4) المصدر نفسه، ص 145.
(5) التبر المسبوك، ص 279، النظم الحربية، ص 109.
(6) الحُلا: ما يُحلي به من أدوات الزينة.
(7) النظم الحربية، ص 109.
(8) بدائع السلك (1/ 203، 204).
(9) النظم الحربية، ص 109.
(10) تفريج الكروب في تدبير الحروب, نقلاً عن النظم الحربية، ص110.(1/233)
ذوي الرأي فيما يشكل عليه لئلا يخطئ (1).
جـ- رواتب الجند: كان كبار القادة يمنحون إقطاعات بدلاً من الرواتب - كما سبق أن أشرنا إلى ذلك في حديثنا عن الإقطاع - بصفة عامة، فقد كان الأمراء الأربعون الذين قدّمهم الوزير نظام الملك تحت أيديهم أربعون ولاية على سبيل الإقطاع، وأحياناً يقطع الأمير بضع ولايات، فقد منح السلطان بركيارق الأمير أنر ولاية فارس أولاً ثم ولاية العراق وكان إيرادهما السنوي يتجاوز المليون دينار، وفي عهد السلطان محمد بن ملكشاه أقطع الأمير أحمديل ولاية أذربيجان ذات الإيراد السنوي الذي يبلغ أربعمائة ألف دينار (2)، وهكذا كان الأمراء والولاة يقطعون هذه الإقطاعات بمثابة الراتب لهم، بينما كان الغلمان من ذوي الرواتب يحصلون على رواتبهم من الخزانة أربع مرات في السنة (3).
2 - الأسفهسلار (4) , وهو قائد القواد أو القائد العام: وُجد هذا اللقب قبل السلاجقة، فيذكر البيهقي وجوده عند الغزنويين في عهد السلطان مسعود (5)، وكان الأسفهسلار: زمام كل زمام وإليه أمور الأجناد (6)، ويؤكد الغزالي وجود منصب الأسفهسلار عند السلاجقة (7)، وقد أشار بعض المؤرخين إلى أن من يصل إلى مرتبة أمير الأمراء أو ملك الأمراء يكون بذلك القائد العام للجيوش السلجوقية ويطلق عليه أسفهسلار، أو بيلربي (8)، ويمكن قبول تولي الأسفهسلار قيادة الجيش في حالة غياب الحاجب الذي يتولى إمرة الجيش وعرضه, أما في حالة وجوده في المعركة فهو القائد الأعلى للجيش ويصبح الأسفهسلار حلقة الاتصال بينه وبين قادة الفرق المقدمين (9).
3 - أمير الحرس: كانت إمارة الحرس من المناصب المهمة في كل العصور، فكانت لها أهميتها في العصر السلجوقي؛ إذ لم يكن في البلاط أعظم وأكثر أبهة بعد الأمير الحاجب العظيم من أمير الحرس (10) ويبرر الوزير السلجوقي نظام الملك أهمية هذا المنصب بقوله: لأن عمله مختص بالعقوبات، والجميع يخشون غضب الملك وعقابه (11)، فإذا غضب
_________
(1) الأحكام السلطانية، ص 43.
(2) النظم الحربية عند السلاجقة، ص 113.
(3) سياست نامه، ص 139.
(4) الأسفهسلار معناه مقدم العسكر, مركب من لفظين فارسي وتركي, فأسفه بالفارسية بمعنى المقدم وسلار بالتركية بمعنى العسكر.
(5) تاريخ البيهقي، ص 363, النظم الحربية، ص 115.
(6) الخطط (1/ 403) , النظم الحربية، ص 115.
(7) التبر المسبوك، ص 182.
(8) أمير الأمراء القائد الأعلى للجيش.
(9) النظم الحربية، ص 117.
(10) سياست نامه، ص 177.
(11) المصدر نفسه، ص 177, النظم الحربية، ص 118.(1/234)
السلطان على شخص ما فإنه يأمر أمير الحرس بضرب العنق، أو قطع اليد والرجل، أو الشنق أو الجلد أو الزج به في السجن، أو الإلقاء في إحدى الآبار حتى كان الناس لا يترددون في افتداء أنفسهم وأرواحهم بالمال (1)، مما يؤكد أن من المهام التنفيذية لأمير الحرس إيقاع كثيرة من العقوبات بالإضافة إلى متابعة المشرفين على الحرس واحتياجاتهم اللازمة حتى لا يتعرضوا للإغراءات من قبل من يحاول ذلك، فيتهادنوا في أداء واجباتهم المنوطة بهم، ولم يقتصر هذا المنصب على البلاط السلطاني، بل كان لكل أمير من أمراء السلاجقة حرس يخصه يرأسهم شخص يطلق عليه أمير الحرس (2).
4 - المقدم: يطلق على القادة الذين تولوا قيادة الفرق في الجيش السلجوقي، وهو ما ذهب إليه بعض المؤرخين حول هذا المنصب (3)، وإذا كان المقدم أميراً للحرس أطلق عليه لقب جندر، وإن كان قائداً لقلعة حمل لقب دزدار (4)، كما أطلق على قائد الأقاليم الثغرية المتاخمة للأعداء لفظ سالار (5)، وأطلق عليه لقب غازي، وكانت الدولة تعفي الثغور من الضرائب والخراج، بل تقدم لهم المساعدات المالية والرواتب (6) حتى يكونوا على مستوى من القوة والولاء تساعدهم على الصمود.
5 - العميد: استحدث السلاجقة وظيفة العميد (7)، الذي يعاون الشحنة في إدارة الولاية وتوجيه القوات العسكرية في حال الاضطرابات، وكانت سلطات العميد أوسع من سلطات الشحنة، فهو يشرف على العراق بأكمله بينما يشرف الشحنة على بغداد فقط (8)، ويذكر نظام الملك أن من المناصب عميد بغداد وعميد خراسان وعميد خوارزم في حصره للمناصب المهمة التي تضاف ألقابها إلى الملك, لتتضح درجة العظيم ومرتبته عما دونه (9)، وهو ما يثبت لنا وجود هذا المنصب وأهمية صاحبه في الدولة السلجوقية (10). وأما عن مهام ومسؤوليات هذا المنصب فهي ضمان بغداد بمبلغ معين والنظر في أعمالها وعمارتها (11)
_________
(1) رسوم السلاجقة، ص 112، النظم الحربية، ص 118.
(2) دولة السلاجقة، حسنين، ص 148.
(3) آثار الأول, نقلاً عن النظم الحربية، ص 119.
(4) العرب والأتراك، ص 97.
(5) الكامل في التاريخ, نقلاً عن النظم الحربية، ص 120.
(6) قيام الدولة العثمانية، محمد كوبريلي ص 129.
(7) نظام الإقطاع عند السلاجقة، ص 75, النظم الحربية، ص 121.
(8) السلاجقة في التاريخ والحضارة، ص 159.
(9) سياست نامه، ص 200، النظم الحربية عند السلاجقة، ص 122.
(10) النظم الحربية عند السلاجقة، ص 122.
(11) الكامل في التاريخ, نقلاً عن النظم الحربية عند السلاجقة، ص 122.(1/235)
والمحافظة على الأمن والقضاء على الفتن في مركز الخلافة (1) والنظر في المظالم، والاهتمام بأمر الحج وتعيين الخفراء للحجيج وترتيب إقامة السلطان في بغداد (2)، وقد تقلّص نفوذ العميد ومهامه بمرور الزمن، فأنيطت أكثر مهامه بالشحنة (3).
6 - الشحنة (4): وهو منصب جديد استحدثه السلاجقة، فقد اعتادوا منذ بداية دولتهم على تعيين الشحنة على القبائل التركمانية، وإعطائه صلاحيات خاصة، وكان عمل صاحب هذا المنصب يتلخص في حسم القضايا الخفيفة في البلد الذي يتولاه (5)، وهو مشابه لعمل العميد فيما عدا ضمان العميد لبغداد بمبلغ من المال، ومن ثم لم يكن لعمله حدود واضحة ولكنه بعد أن تقلد نظام الملك الوزارة أصبح الشحنة بمثابة الوالي أو النائب عن السلطان، فهو المسئول عن إدارة المصالح السلجوقية وإقرار الأمن والنظام (6)، فهو قائد الحامية العسكرية في المدينة وله صلاحيات أمنية وإدارية واسعة (7)، وهي أشبه ما تكون بوظيفة الحاكم العسكري في عصرنا الحاصر (8). وأما عن شروط من يعتلى هذا المنصب فتقوم على أساس قدرته على ضبط الأمور وإدارتها بدقة، بالإضافة إلى أمن السلطان في بغداد (9)، ولذلك أعطى هذا المنصب مثل آق سنقر (10)، وعماد الدين زنكي (11).
7 - الأتابك (12): من الوظائف السلجوقية المهمة منصب الأتابك, ويذكر ابن الأثير والسيوطي أن معنى أتابك هو الأمير الوالد (13) بينما يذكر ابن خلكان أنه الذي يربي أولاد الملوك, فالأتا بالتركية هو الأب وبك هو الأمير (14)، وعبّر القلقشندي عن هذا اللفظ بقوله: ويعبر عن صاحبها بأتابك العساكر ... وأصله أطابك ومعناه الوالد الأمير، وأول من لقب بذلك نظام الملك وزير ملكشاه بن ألب أرسلان حين فوض إليه ملكشاه تدبير المملكة سنة خمس وستين وأربعمائة، ولقبه بألقاب منها هذا، وقيل أطابك أمير أب والمراد أبو الأمراء
_________
(1) تاريخ ابن أبي الهيجاء، ص 107.
(2) النظم الحربية، ص 122.
(3) النظم الحربية، ص 122.
(4) يشبه منصب المحافظ والمتصرف حالياً.
(5) تاريخ ابن خلدون, نقلاً عن النظم الحربية، ص 123.
(6) العرب والأتراك، ص 97.
(7) النظم الحربية، ص 123.
(8) نور الدين محمود، عماد الدين خليل، ص 74.
(9) الكامل في التاريخ, نقلاً عن النظم الحربية، ص 124.
(10) تاريخ حلب، ص 354.
(11) النظم الحربية، ص 124.
(12) يطلق على من يعهد إليه بتربية الأمراء ومراقبتهم وتصريف أمورهم وحمايتهم.
(13) تاريخ الخلفاء، ص 422، النظم الحربية عند السلاجقة، ص 125.
(14) وفيات الأعيان (1/ 365).(1/236)
وهو أكبر الأمراء المقدمين (1).
ثم حمل لقب الأتابك العسكريون الموكول إليهم تربية الأمراء الفتيان من مختلف فروع العائلة السلجوقية، ومنذ عهد السلطان بركيارق أصبح الأتابك عسكرياً من القادة ذوي الشهرة، حيث يلعب دور الأب تماماً، فيتزوج أم الفتى عندما تصبح أرملة وبلغ الأمر بالأتابك من الناحية العملية حد توريث وظيفته حتى على مستوى امتلاك الحكم (2)، ولا شك أن في هذا الرأي استقراء لتطور هذا اللقب عند السلاجقة وتحوله من أصحاب المناصب المدنية في البداية إلى القادة العسكريين بعد ذلك (3).
8 - قاضي العسكر: كان القضاة هم الذين يرعون الشئون الشرعية في البلاد في عهد السلاجقة، وكانوا على قسمين: أحدهما للعساكر والآخر لعامة الناس، فكان قاضي الجيش ينظر في القضايا الخاصة التي توجد داخل الجيش (4)، ويذكر الوزير نظام الملك أن من شروط القاضي أن يكون عالماً أميناً زاهداً ويرى وجوب عزل كل من لا يتصف بهذه الصفات، وأن يعطى القاضي راتباً شهرياً يكفيه حتى لا تضطره الحاجة إلى الخيانة لما فيها من خطر كبير، لأن دماء المسلمين وأموالهم بيد القضاة ومعاقبتهم على أخطائهم إضافة إلى عزلهم, وأن من واجب السلطان مساعدة القاضي في أداء مهام منصبه بإجبار من يرفض الحضور إلى مجلس القضاء كي يسود العدل وينصف المظلوم (5) , لأن القضاة نواب السلطان فيجب عليه أن يشد أزرهم ويحفظ لهم مكانتهم، كما يجب تحري أحوال القاضي صغيرها وكبيرها وإرسال الثقاة للقيام بذلك (6)، ويرى المرادي أن من واجب القاضي أن يتصف بالوقار والفطنة والاحتراس والعبادة وفصاحة اللسان (7)، وكانت المنازعات التي تنشب بين منسوبي الجيش السلجوقي يفصل فيها قاضي العسكر (8)، الذي التزم أيضاً الفصل في القضايا التي تخص الجند كقضايا الميراث والغنائم والبيع والشراء وغيرها، وبيان أحكام الشرع لهم (9).
9 - الدزدار: تشير المصادر السلجوقية إلى منصب آخر هو الدزدار, فيذكر ابن بيبي أنه
_________
(1) صبح الأعشى (4/ 18) , النظم الحربية، ص 126.
(2) الشرق الإسلامي، ص 367، النظم الحربية، ص 126.
(3) النظم الحربية، ص 126.
(4) المصدر نفسه، ص 128.
(5) المصدر نفسه، ص 128.
(6) سياست نامه، ص 83، النظم الحربية عند السلاجقة، ص 128.
(7) تاريخ البيهقي، ص 603، 604.
(8) النظم الحربية عند السلاجقة، ص 129.
(9) النظم الحربية عند السلاجقة، ص 129.(1/237)
يطلق على القائد الذي يقوم بحراسة القلعة (1)، كما يفسر البعض معناها بحاكم الحصن (2)، وصاحب هذا المنصب مستقل في منصبه عن حاكم الإقليم كما يذكر القلقشندي وعادة ما تكون رتبته القيادية أمير طبلخاناه يتزعم أربعين وقد يصل إلى سبعين وتحت إمرته حراس يتناوبون العمل على حراسة القلعة في الليل والنهار، كما هو الحال في قلعتي دمشق وحلب على سبيل المثال (3).
10 - سلاح دار: وتعني هنا أمير السلاح، فقد جاء مصطلح سلاح دار في كتاب سياست نامه (4)، وفي تاريخ البيهقي، أنه يطلق على الشخص الذي يقوم بمهمة حراسة دار السلاح أو الذي يحمل سلاح الحاكم أثناء المراسم والاحتفالات، وتحق إمرته لأشخاص أُطلق على الواحد منهم سلاح دار (5)، ويفرق ابن كنان بين أمير السلاح الذي يجلس إلى جانب السلطان على المسيرة وهو من أكابر الأمراء وهو المختص بالسلاح خاناه (6)، وبين سلاح دار الذي يحمل آلة من آلات الحرب التي تختص بالسلطان حين القتال (7)، والذي هو واحد ممن يتزعمهم أمير السلاح (8).
ثانياً: ديوان عرض الجيش:
كان هذا الديوان يرعى مهمات الجيش واحتياجاته وأسماء الجند في السجلات الموجودة في هذا الديوان، فهو يقابل وزارة الحرب في عصرنا ويسمى رئيس هذا الديوان العارض (9)، حيث يُخبر السلطان بأحوال هذا الديوان إما بنفسه مباشرة أو بمن يرسله إليه (10)، ويسمى أحياناً ديوان الإقطاع (11) ومن مهام هذا الديوان:
1 - تنظيم سجلات أسماء الجند: ترصد في الجريدة السوداء (12) سنوياً أسماء الرجال وأنسابهم ومبالغ أرزاقهم وسائر أحوالهم وهي الأصل الذي يرجع إليه في ديوان الجيش في كل شيء, ويتم هذا الرصد تحت قياداتهم قائداً قائداً (13)، ويُصرح الراوندي بوجود الجرائد
_________
(1) العرب والأتراك، ص 130، النظم الحربية، ص 130.
(2) النظم الحربية عند السلاجقة، ص 130.
(3) صبح الأعشى (4/ 224، 225).
(4) سلاح دار: داراي ممسك, تعني الذي يحمل سلاح السلطان.
(5) تاريخ السلاجقة، ص 293، النظم الحربية، ص 131.
(6) النظم الحربية عند السلاجقة، ص 131.
(7) النظم الحربية عند السلاجقة، ص 131.
(8) النظم الحربية عند السلاجقة، ص 131.
(9) دولة السلاجقة، ص 147، نظم دولة سلاطين المماليك (1/ 139).
(10) صبح الأعشى (4/ 18).
(11) الحرب عند العرب، ص 327.
(12) الجريدة السوداء: وهي من دفاتر ديوان الجيش تكتب فيها الأسماء.
(13) تاريخ البيهقي، ص 134.(1/238)
الديوانية لدى السلاجقة في عهد السلطان ملكشاه وأنه كانت تكتب فيها أسماء الجند ويُرصد فيها توزيع الإقطاعات عليهم (1) ويعتبر تسجيل أسماء الجند في السجلات
الخاصة بديوان الجيش، هو أحد مظاهر التنظيم الإداري العسكري الدقيق في عهد
السلاجقة العظام (2).
2 - عرض الجيش: كان العارض - رئيس هذا الديوان - يشرف بنفسه على عرض الجيش، فيجب عليه الحذر عند العرض: فهو الأصل في انتظام أمر الجيش (3)، وقد اعتاد سلاطين السلاجقة - بحكم تربيتهم وميولهم العسكرية- على الاهتمام بجندهم اهتماماً بالغاً وكان من مظاهر هذا الاهتمام متابعة إعداد الجيش واستعراضه، وتفقد أحوال الجند ومدى استعدادهم للمعركة في مكان متسع قبل خوض المعارك (4)، ويقدم لنا ابن العبري وصفاً جيداً للعرض العسكري الذي يتم بشكل يومي في عهد السلطان طغرل بك فقد اعتاد الجنود أن يتوافدوا كل يوم فوجاً ليؤدوا الطاعة لطغرل بك يتألف كل فوج من ألفي شخص، وكانوا ينحدرون عن خيلهم من بعيد ويقبَّلون الأرض ويقفون، ثم يشير الحاجب إليهم بأن تحيتهم قد قبلت فكانوا يقبلون الأرض ثانية ويركبون وينصرفون فيأتي فوج ثان، ولم يكن يدنو منه أحد أو يحدثه (5)، كما كان السلطان سنجر يزود قواده بضرورة استعراض جندهم أمامه، وكان من النصائح العسكرية المقدمة للسلطان مسعود بن محمد بن ملكشاه في عرض الجيش قوله: واختبرهم عند العرض ولا تثبت منهم إلا الوفي الكمي، الذي لا يعدل عن الوفاء ولا ينكل عن الهيجاء فإن المراد بهم قوة العدة لا كثرة العدد (6).
3 - تحديد المهام الموكلة إلى الجند: اهتم السلاجقة منذ بداية أمرهم بتحديد المهام الموكلة لفرسانهم وقوادهم وجندهم، فقد كلف السلطان طغرل بك الحاجب آيتكين بالمحافظة على الطرق المؤدية إلى بغداد وحراستها (7)، ويذكر نظام الملك أهمية تحديد المهمة بدقة متناهية، وأن يصدر بها أمر من البلاط السلطاني فيقول: ينبغي ألا يرسل أي غلام ما لم تكن ثمة مهمة وألا يكون إرساله دون أمر .. لتجري الأمور على نصابها (8)، ويقول في تعظيم الأوامر السامية والمراسيم الصادرة عن البلاط السلطاني: فإذا لم يكن ثمة أمر مهم ينبغي ألا
_________
(1) راحة الصدور، ص 204، 205 النظم الحربية، ص 134.
(2) النظم الحربية، ص 135.
(3) النظم الحربية، ص 135.
(4) المصدر نفسه، ص 135.
(5) تاريخ الزمان، ص 93, النظم الحربية، ص 136.
(6) راحة الصدور، ص 344.
(7) المصدر نفسه، ص 173.
(8) سياست نامه، ص 110، النظم الحربية، ص 138.(1/239)
يصدر عن الديوان العالي أمر خطي ألبتة (1).
4 - الإشراف على النواحي التموينية: كان إشراف الديوان على هذه النواحي دقيقاً في البداية عند السلاجقة، فقد اهتم بعض قادة الجيش السلجوقي بشراء المؤن لجيشهم في عهد السلطان ألب أرسلان ووضع نظام الملك حلولاً صائبة للقضاء على ما قد يعترض الجيش السلجوقي من صعوبات في مجال التموين وتجنب إرهاق الرعية ووقوع الظلم عليهم ووزع مؤن الجيش على مختلف أقاليم الدولة خاصة المناطق الواقعة على الطرق الرئيسية, وقد أسهمت حلول نظام الملك بشكل فاعل في حل مشكلة التموين للجيش، فاستطاع الديوان بهذه الطريقة أن يوفر المؤن اللازمة للجيش بكل يسر وسهولة (2).
5 - الإشراف على النواحي المالية: أشار الغزالي إلى وجوب المحافظة على أرزاق الجند (3) ودفعها لهم كل إنسان منهم على قدر (4)، فكان ديوان الجيش يتولى متابعة هذه الأرزاق، ويذكر ابن الأزرق أن من أسس الحكم تعجيل أرزاق الجند لهم في مواعيدها وعدم تأخيرها عليهم (5)، لما في ذلك من الأضرار البالغة على الجند أولاً وعلى الدولة ثانياً (6)، ويعبَّر المرادي عن ذلك بقوله: إن الجيش أعوان يكفلهم المال (7)، في إشارة منه لأهمية الأموال للجيش وصرف مستحقات الجند في أوقاتها (8)، وكان السلطان ملكشاه قد جعل مخصصات الجند ورواتبهم مقسمة على مختلف الأقاليم وأمر لهم بمخصصات في كل مكان ينزلون منه على الرعايا من إمداد الجيش السلجوقي واحتياجاته (9)، وأما فيما بعد فقد أدت العوامل التي سبق ذكرها في الإقطاع إلى الاستعاضة عن المرتبات النقدية للمحاربين بالإقطاعات من الأرض من قبل وزير ملكشاه -نظام الملك - حتى صار الإقطاع الحربي
هو القاعدة، فكان ديوان عرض الجيش هو المشرف على تنظيم الرواتب والإقطاعات
على حد سواء (10).
6 - الإشراف على التسليح: ذكر ابن الجوزي أن الجيش السلجوقي في عهد السلطان طغرل بك كان يحوي - ضمن محتوياته المتعددة- النجارين القادرين على تلبية احتياجات تسليحه صناعة وصيانة, كما أنه عند مسيره من بغداد سنة ثمان وأربعين وأربعمائة كان قد
_________
(1) النظم الحربية، ص 138.
(2) المصدر نفسه، ص 139.
(3) التبر المسبوك، ص 279.
(4) المصدر نفسه، ص 279.
(5) النظم الحربية، ص 141.
(6) النظم الحربية، ص 141.
(7) النظم الحربية، ص 141.
(8) النظم الحربية، ص 141.
(9) راحة الصدور، ص 204، 205 النظم الحربية، ص 142.
(10) النظم الحربية، ص 142.(1/240)
انتهى من صناعة الأسلحة الثقيلة اللازمة للجيش كالعرادات والمنجنيقات (1)، ويذكر ابن الأثير أن جيش طغرل بك كان يحتوي على خزائن السلاح والمنجنيقات (2)، ومن الطبيعي أن تحوي هذه الخزائن مختلف أنواع الأسلحة اللازمة للجند على سبيل الاحتياط إضافة إلى وجود الصناع القادرين على صنع الأسلحة وصيانتها عند الحاجة، كما أكد ابن الأثير أن عملية تأمين احتياجات الجيش من الأسلحة والعتاد تتم حتى في أثناء المعركة (3)، فكان ديوان الجيش يقوم بالإشراف على هذه النواحي (4).
7 - الإشراف على زي الجند: حافظ السلاجقة على ملابسهم الخاصة التي عرفوها في آسيا الوسطى فكانت هذه الملابس الخاصة بالأتراك سبباً في تعرف السلاجقة الأتراك - أثناء موقعة ملاذكرد - على أبناء عمومتهم من الأوزو البجناق الذين كانوا يحاربون في صفوف الجيش البيزنطي الذين انضموا لجيش السلاجقة بعد ذلك، فكانت الهزيمة على البيزنطيين (5)، وقد يكون ذلك أيضاً من خلال معرفة بعض أنواع أسلحتهم التي يتمنطقون بها وهيئتهم التي يقفون عليها، فكان من مهام الديوان الإشراف على زي الجند.
8 - ثكنات الجند: كانت إقامة الجند تتم في العنابر الملحقة بقصر السلطان السلجوقي، فكانوا بذلك قريبين من السلطان لتنفيذ أوامره، ويطلق على هذه العنابر أتاق (6)، وحرَّفت الكلمة إلى وثاق (7)، وهذا الأمر خاص بالغلمان الذين جعلوا لخدمة السلطان خاصة بالإضافة إلى الحرس السلطاني, أما بقية الجيش فلهم ثكنات خاصة بهم في أماكن أخرى.
ثالثاً: أقسام الجيش السلجوقي:
كان الجيش السلجوقي سبباً من الأسباب الرئيسية في نجاح السلاجقة وتفوقهم على القوة المعاصرة لهم وقد كان للجيش السلجوقي أقسام متعددة هي:
1 - القوة النظامية: والمقصود بها الجيش النظامي الثابت في خدمته للدولة بشكل دائم، وتتألف القوة النظامية من الغلمان العبيد، أو ممن نالوا حريتهم منهم للقيام بالواجبات
_________
(1) النظم الحربية، ص 143, المنتظم (8/ 173).
(2) الكامل في التاريخ, نقلاً عن النظم الحربية، ص 143.
(3) الكامل في التاريخ, نقلاً عن النظم الحربية، ص 143.
(4) النظم الحربية عند السلاجقة، ص 143.
(5) النظم الحربية عند السلاجقة، ص 144.
(6) المصدر نفسه، ص 144.
(7) تاريخ البيهقي، ص 805، النظم الحربية، ص 145.(1/241)
اليومية, وطريقة الحصول على هؤلاء الغلمان الشراء، والهدايا للسلاجقة من حكام آخرين، بالإضافة إلى أسرى الحروب والرسوم المقررة على الدول الخاضعة لهم (1)، كما استفادوا بشكل كبير من العناصر التي دخلت في خدمة الدولة بعد قيامها (2).
2 - القبائل التركمانية: كانت هذه القبائل تعيش حياة بدوية تحت قيادة زعماء العشائر سواء وجدت هذه القبائل في خدمة الدولة أم لا، كما حافظوا على أساليبهم التقليدية في القتال والمعتمدة على رماة السهام من الفرسان (3)، وحتى النساء والأطفال كانوا يعيشون حياة عسكرية تحت زعامة رئيس القبيلة الذي يلقب بباش بوغا, وكانت القبائل التركمانية التي تعيش في الثغور أكثر أهمية وكان يطلق على صاحبها لقب سالار - وهو منصب أعلى من وظيفة الشحنة الذي كان يُعين على القبائل التركمانية الأخرى، ولكن بصلاحيات خاصة- وكانت الدولة تُعفي الثغور من الضرائب والخراج بل وتقدم لهم المساعدات المالية، وتمنح الغزاة والسالارات فيها رواتب ثابتة (4) كما اضطر سلاطين السلاجقة إلى إعطاء أفراد القبائل التركمانية - أحياناً - رواتب ثابتة اتقاء لخطرهم الذي يظهر مباشرة حين توقف الدولة هذه المرتبات (5)، وعلى أي حال فقد لعبت القبائل التركمانية الدور الأساسي في مرحلة تأسيس الدولة السلجوقية (6). ويرى الوزير السلجوقي نظام الملك أنه: على الرغم من النفرة والملالة من التركمان وكثرة عددهم فإن لهم حقاً ثابتاً على الدولة؛ إذ أسهموا في خدمتها أبان قيامها، وتحملوا في سبيلها المتاعب والمشاق فضلاً عن أنهم من ذوي القربى (7).
3 - فرق الولايات: تشكل قوات حكام الولايات جزءاً كبيراً من القوات التي تلتحق بجيش الدولة في حالة إعلان الحرب وفقاً لما تعهد به هؤلاء الحكام خلال إسناد مهمة الولاية لهم حيث تكونت من عناصر متعددة حسب حالتها (8)، فكان لدى الحاكم قوة دائمة يحتفظ بها إضافة إلى من يستدعيه وقت الحرب (9)، ويضاف إلى هؤلاء الفرق التابعة لأصحاب الإقطاع (10). والتي يختلف عددها تبعاً لعدد الأفراد الموجودين تحت إمرة صاحب الإقطاع
_________
(1) النظم الحربية عند السلاجقة، ص 150.
(2) المصدر نفسه، ص 150.
(3) إمارة حلب، محمد صامن، ص 130, النظم الحربية، ص 154.
(4) النظم الحربية، ص 154.
(5) دولة السلاجقة، ص 20، النظم الحربية، ص 154.
(6) سياست نامه، ص 143.
(7) سياست نامه، ص 143.
(8) الحرب عند العرب، ص 329.
(9) النظم الحربية عند السلاجقة، ص 157.
(10) النظم الحربية عند السلاجقة، ص 157.(1/242)
وإن كانوا أقل عدداً من تلك القوات التي يجلبها حكام الولايات (1).
4 - قوات الأمراء: والمقصود بها تلك القوات التي تساعد الجيش السلجوقي في حروبه في حالة إعلان الحرب، ويدخل في ذلك نوعان من الأمراء، الأول: الغلمان الذين تدرجوا في المناصب حتى أصبحوا أمراء, والثاني: الأمراء العرب الذين كان لقواتهم دور فاعل في الانتصارات التي حققها جيش السلاجقة، فقد كان للأمير العربي مسلم بن قريش أثر فاعل في القضاء على حركة قاورد ضد السلطان ملكشاه, فعندما التقى الجيشان قام بالهجوم بقواته على ميسرة قاورد فهزمها (2)، كما كان اجتماع قوات العرب من بني كلاب إلى تتش بن ألب أرسلان عندما وصل إلى الشام سبباً مهماً من أسباب قوته (3) إلا أن توثق العلاقة بينهم وبين سلاطين السلاجقة لم يستمر طويلاً فقد قام السلطان مسعود بالقضاء على اثنى عشر أميراً كانوا قد وقعوا في أسره، منهم صدقة بن دبيس أمير العرب فأمر بقتلهم جميعاً (4)، مما يعطي إشارة إلى تحول سلاطين السلاجقة عن الاعتماد على هؤلاء الأمراء وقواتهم (5).
5 - قوات المدن والمتطوعة والأوباش: لم يكن الجيش السلجوقي يتكون من القوة النظامية والقبائل التركمانية وفرق الولايات وأصحاب الإقطاع وقوات الأمراء فقط، بل يوجد عدا هذه الأقسام جحافل كثيرة من القوات التي تنضم إلى الجيش من المدن القريبة من ميدان الحرب والتي تختلف أعدادها باختلاف هذه المناطق، فكانت تسمى بأسماء المدن والأقاليم التي جاءت منها, فتذكر في بعض المصادر عبارة عساكر العراق وغيرها (6)، ويضم الجيش السلجوقي كذلك المتطوعة الذين يلتحقون بالجيش لفترة محددة، أو دائمة لتأدية فريضة الجهاد (7)، ويعرَّفهم الماوردي بأنهم الخارجون عن ديوان الجيش من أهل البادية وسكان المدن ممن انضموا للجيش حين النفرة للحرب (8)، وهناك طوائف ذكرت في المصادر باسم أوباش ورغم إضافتها للجيش لم يكن لها تأثير يُذكر في نتيجة الحرب مثل القوى الرئيسية في الجيش السلجوقي (9)، وهذا لا يقلل من الجهود البارزة لهاتين الطائفتين في
_________
(1) النظم الحربية، ص 157.
(2) أخبار الدولة السلجوقية، ص 158.
(3) ذيل تاريخ دمشق, نقلاً عن النظم الحربية، ص 158.
(4) أخبار الدولة السلجوقية، ص 110.
(5) النظم الحربية عند السلاجقة، ص 158.
(6) الكامل في التاريخ, نقلاً عن النظم الحربية عند السلاجقة، ص 159.
(7) الحرب عند العرب، ص 330.
(8) الأحكام السلطانية، ص 159.
(9) النظم الحربية عند السلاجقة، ص 160.(1/243)
الجيش واستفادته منهما؛ فقد كان لإخلاص المتطوعة واستماتتهم في القتال طلباً للشهادة دور فاعل في إثارة حماس الجند للقتال (1)، وعلى سبيل المثال، كيف استفاد الجيش السلجوقي في عهد السلطان ملكشاه بن ألب أرسلان من جهود الأوباش في أعمال الردم للخندق حول مدينة ترمذ، فنجح الجيش بعد ذلك في فتح المدينة وقلعتها (2).
6 - الطلائع: كانت الطلائع تسير متقدمة أثناء تحرك الجيش وتتبعها المقدمة على مسافة كافية، وكان عمل الطلائع ينحصر باستطلاع الإقليم واحتلال النقاط المهمة فيه ولم يكن واجبها خوض المعركة بل اكتشاف مكان العدو وقوته، فإذا اصطدمت بقوة صغيرة من العدو فغالباً ما تكون قوات استطلاع مماثلة (3)، ويذكر البيهقي أن السلاجقة جعلوا في طلائع جيشهم المحاربين الممتازين (4)، إيماناً منهم بأهميتها ودورها الحيوي في تحقيق سلامة الجيش وتأمين سيره، يضاف إلى ذلك الدقة الكاملة في اختيار قيادة هذه الطلائع, فقد كانوا يشترطون في قائدها أن يكون رجلاً مذكوراً ثقة ناصحاً عاقلاً مدبراً جسوراً شديد الحذر (5).
7 - الجاويشية: مفردها جاويش، وهو لفظ تركي مهمته القيام بالنداء في الجيش (6). وكان في الجيش فئة من الضباط برتبة جاويش كانوا يؤدون وظيفتهم ضباطاً للجند، كل حسب درجته في الجيش, وكانوا بصفة عامة يعملون على تحقيق الانضباط في الجيش إلى جانب عملهم ضباطاً، وكانوا يتقدمون موكب السلطان يفسحون له الطريق (7)، ومراقبة الطريق أثناء سير الجيش إضافة إلى المراسلة وإيصال البريد، فكان لرجال الدولة السلجوقية جاويشية أيضاً ذكرت خدماتهم في سرعة إيصال البريد، فأطلق عليهم لفظ بيكان أي الذي يمشي بسرعة, وظلت وظيفة الجاويش حتى عند العثمانيين بمسمى جاويش الديوان السلطاني (8).
8 - فرق المنزل: هناك تشكيلات يطلق عليها تشكيلات المنزل يكون عملها الاهتمام بإعداد المنازل التي سيمر بها الجيش على الطريق، فتقوم بإعداد ما يلزمه من مأكل ومشرب (9)، وكان لعمل هذه الفرق أثر واضح في اختيار المواقع المناسبة لنزول الجيش
_________
(1) النظم الحربية عند السلاجقة،، ص 160.
(2) النظم الحربية عند السلاجقة، ص 160، أخبار الدولة السلجوقية، ص 60، 61.
(3) فن الحرب (3/ 442) , النظم الحربية عند السلاجقة، ص 160.
(4) تاريخ البيهقي، ص 625، 626، 633، 687.
(5) مختصر سياسة الحروب، ص 48، النظم الحربية، ص 160.
(6) النوادر لابن شداد، ص 62.
(7) الدر المنتخب، لابن الشحنة, ص258, النظم الحربية، ص 162.
(8) النظم الحربية عند السلاجقة، ص 162.
(9) النظم الحربية عند السلاجقة، ص 163.(1/244)
وكيفية إقامة الخيام وتوزيعها على شكل مجموعات متناسقة فيما بينها (1). وبالإضافة إلى هذه الأقسام المحاربة يضم الجيش السلجوقي فئات أخرى غير محاربة مثل منسوبي الحرم السلطاني، والخزانة وحملة الأثقال وكتبة الجيش والعلماء، والندماء ومنسوبي المطبخ الخاص والمتعاملين في سَوْق الجيش وغيرهم ممن لا يشتركون في القتال (2).
رابعاً: عناصر الجيش:
تكّون الجيش السلجوقي من عناصر متعددة، كالترك والغز والأعاجم والكرد والديلم والعرب وغيرهم من الأجناس. وأهم العناصر في الجيش السلجوقي:
1 - الأتراك: اعتمد السلاجقة على بني جلدتهم من الأتراك, ويتضح ذلك من النصوص الواردة في بعض المصادر عن تفضيل بعض سلاطين السلاجقة لبني جنسهم, يقول السلطان ألب أرسلان مخاطباً جنده الأتراك: ... لقد قلت لكم مرة ومرتين ومائة مرة: أنتم الأتراك جيش خراسان وما وراء النهر، إنكم لغرباء في هذه الديار، لقد أعز الله عز وجل الترك اليوم وسلطهم على رقاب الديالمة، لأنهم مسلمون خلّص أطهار لا يعرفون البدع والأهواء (3). وقد صدق السلطان ألب أرسلان في هذه العبارة حيث جعل اتباع السنة والتمسك بها والابتعاد والبعد عن الأهواء سبباً في إعزاز الله لهم ونصرتهم, كما أن في قوله ذلك دلالة واضحة على تقديمه الأتراك وتفضيله لهم على بقية العناصر واعتبارهم العماد الأول لجيشه، بل كانوا العنصر الرئيسي للقوة النظامية في الجيش السلجوقي (4).
2 - العرب: اشتهر العنصر العربي منذ القدم بصفاته الحربية الثابتة في المعارك ومهارته العالية في ركوب الخيل فيها، وإجادتهم استخدام الرماح الطويلة (5)، ويعد العرب أحد عناصر الجيش السلجوقي (6) وله أهميته في بعض المعارك الحاسمة (7).
3 - الأكراد: كان الأكراد أحد العناصر التي تكون منها الجيش عند السلاجقة، فقد اجتمع إلى السلطان ألب أرسلان عشرة آلاف من العنصر الكردي في معركة ملاذكرد الشهيرة (8)، ويتميز الأكراد بالشجاعة في القتال رجّالة وفرسانا (9).
4 - الفرس: هم أحد العناصر التي شكلت الجيش السلجوقي بوضوح وأهم ما يميزهم
_________
(1) النظم الحربية عند السلاجقة، ص 163.
(2) النظم الحربية عند السلاجقة، ص 163.
(3) المصدر نفسه، ص 165.
(4) المصدر نفسه، ص 165.
(5) المصدر نفسه، ص 165.
(6) المصدر نفسه، ص 165.
(7) النظم الحربية عند السلاجقة، ص 167، 168.
(8) تاريخ ابن أبي الهيجاء، ص 118، 119.
(9) النظم الحربية عند السلاجقة، ص 169.(1/245)
- عسكرياً - الشجاعة والصبر وإجادة الرمي بالنشاب (1).
5 - الديلم (2): هم أحد العناصر التي دخلت في تكوين الجيش السلجوقي وهم أهل فروسية وشجاعة ويجيدون الرمي بالمزاريق (3).
6 - الأرمن: ورد ذكر الأرمن ضمن عناصر الجيش السلجوقي من خلال بعض الحوادث, ومما يدل على ذلك أنه عندما عُهد إلى سعد الدولة كوهرائين بالقضاء على قاورد - عم السلطان ملكشاه - أسند المهمة إلى أحد الأرمن الذي قام بقتله خنقاً (4)، وكان عنصر الأرمن ثابتاً في جيوش السلاجقة في هجومهم على آسيا الصغرى أو مواجهة
جيوش الصليبيين كفرق وجنود أيضاً (5). هذه هي أهم العناصر التي تكون منها
الجيش السلجوقي (6).
خامساً: فرق الجيش:
1 - الرجالة: كانت الفئة المحاربة في الجيش السلجوقي تتكون - بصفة عامة - من الرجَّالة (المشاة) والخيالة (الفرسان) وكانت الرجالة تتقدم على الفرسان في الجيش (7).
2 - الفرسان: تمثل فرقة الفرسان القوة الضاربة الرئيسية للجيوش، وكانت الفئة المحاربة في الجيش السلجوقي ويمثلون الجزء الفعَّال من جيش السلاجقة لما توافر لديهم من سرعة ومرونة ساعدهم عليها خفة حركتهم وسرعة عدو خيلهم وخفة أسلحتهم التي يحملونها (8)، وتتمثل في الغالب في القوس وهو السلاح الرئيسي لهم, ولكنهم كانوا يحملون أيضاً الترس والرمح والسيف والهراوة (9)، وكان استخدامهم للسهام على ظهور الخيل مميزاً، فكانوا يطلقونها ببراعة دون الحاجة إلى التوقف أو الترجل عن خيلهم، وكانت هذه الميزة لديهم حتى في أثناء تراجعهم عن أرض المعركة فكانوا يدورون فوق السرج ليطلقوا السهام على مطارديهم بفعالية واضحة (10)، وقد مكنت خفة الأسلحة الفرسان من حملها واستعمالها بسهولة على ظهور الخيل. (11)
_________
(1) النظم الحربية عند السلاجقة، ص 169.
(2) الديلم هم أهل طبرستان والجبال.
(3) المزاريق: نوع من أنواع الرماح يُزرق بها. تبصرة أرباب الألباب، ص 11.
(4) النجوم الزاهرة (5/ 94) , النظم الحربية، ص 171.
(5) النظم الحربية عند السلاجقة، ص 171.
(6) النظم الحربية عند السلاجقة، ص 171.
(7) مختصر سياسة الحروب، ص 37، النظم الحربية، ص 173.
(8) النظم الحربية، ص 176.
(9) الحروب الصليبية, سميل، ص 77.
(10) النظم الحربية عند السلاجقة، ص 177.
(11) النظم الحربية عند السلاجقة، ص 177.(1/246)
3 - النشابة والنفاطيون والمجنيقيون والدبابون: النشابون هم رماة النشاب (1)، حيث أجاد السلاجقة الرمي بالنشاب حتى أصبح ميزة من مميزات الجيش السلجوقي، ويذكر أحد شهود العيان أن النشابة كانوا في مقدمة الجيش السلجوقي وأن عددهم وصل إلى عشرة آلاف من الرجالة، وفي الكثافة العددية للنشاب في المعركة دلالة قاطعة على كثرة تعداد من يقوم بإطلاقها، وكان الفرسان أيضاً يستخدمون النشاب في قتالهم كذلك، ويؤكد كثير من المؤرخين وجود النشابة في الجيش السلجوقي وفعاليتهم في معاركهم (2). والنفاطون هم رماة النفظ لإحراق حصون الأعداء (3)، وغيرها من العوائق التي تعوق تقدم الجيش (4)، فمثلاً عندما سار السلطان ألب أرسلان إلى ناحية شكي (5)، من بلاد الأبخاز ووجد بها غياضاً وآجاماً يحتمي بها اللصوص أمر السلطان النفاطين بإحراقها، إدراكاً منه لما تشكله هذه المنطقة من خطورة على الجيش السلجوقي, وأما المنجنيقيون فهم رماة المنجنيق (6) التي تشبه المدفعية الميدانية الثقيلة في عصرنا الحاضر ويؤكد كثير من المؤرخين وجودهم في الجيش واعتماد السلاجقة عليهم، وأن المنجنيقات كانت أهم أسلحة جيشهم الثقيلة (7)، وكانت الفرقة التي تقوم عليها ترافق الجيش في كثير من الميادين (8)، وأما الدبابون فقد كانوا يدخلون داخل الدبابة وهي آلة حربية على هيئة هودج كبير، يتسع لمجموعة من المقاتلين يحتمون ويزحفون في داخلها حتى يقتربوا من السور للمدينة المحاصرة، ومن ثم يقومون بنقبه في نقاط الضعف فيه (9).
سادساً: التعليم والتدريب العسكري:
حرص زعماء السلاجقة على تدريب أبنائهم وتنشئتهم على إجادة الفنون العسكرية بأنواعها المختلفة، ووصف شاهد عيان حروب السلاجقة مع الغزنويين أن لدى السلاجقة الكثير من الرجال المدربين (10)، فقد كان القصر يمثل مدرسة للتدريب تتخرج منها العناصر العاملة في الجيش والتي تؤدي دوراً مهماً في حياة الدولة باعتبار مواقعهم الدائمة في الجيش وليس باعتبار وظائفهم المؤقتة في قصر الحاكم (11). ومن
_________
(1) أخبار الدولة السلجوقية، ص 80.
(2) تاريخ البيهقي، ص 628، أخبار الدولة السلجوقية، ص 80.
(3) الحرب عند العرب، ص 330.
(4) الحرب عند العرب، ص 330.
(5) شكي: ناحية من بلاد الأبخاز.
(6) أخبار الدولة السلجوقية، ص 44، النظم الحربية، ص 179.
(7) النظم الحربية، ص 179.
(8) النظم الحربية، ص 179.
(9) تاريخ السلاجقة، ص 276.
(10) تاريخ البيهقي، ص 674، 683.
(11) النظم الحربية عند السلاجقة، ص 181.(1/247)
مميزات الجيش التركي أن أفراده كانوا يهبون أنفسهم دائماً لواجبهم العسكري، وكانوا يتخذون من العسكرية مهنة دائمة فكان أفراد الجيش يمضون أوقاتهم في التدريب العسكري وإجراء المناورات، ولهذا السبب كانوا يفتخرون بمهارتهم العسكرية بين المحاربين وانعكست حياة الجد على الألعاب التي يمارسونها في أوقات اللهو عندهم - أيضاً - فكانوا يقضونها في التدرب على بعض الأسلحة كاللعب بالسيف والترس والرماية وسباق الخيل إلى جانب الألعاب المختلفة الأخرى (1)، ويفهم من التدرج الذي ذكره الوزير السلجوقي نظام الملك في خدمة الغلمان وطول فترة إعدادهم إلى أن يبلغوا سن الخامسة والثلاثين أو الأربعين من العمر فيولون منصباً قيادياً متقدماً (2) أن التدريب العسكري عند السلاجقة يعتمد على جانبين مهمين هما: الدقة في التدريب المتمثَّل في تتبع أحوال الغلام بدقة متناهية, والثاني: إكسابه الخبرة العسكرية اللازمة والتي تتأتي من طول فترة ممارسته للأعمال العسكرية وتدريبه عليها حتى يصل إلى منصب قيادي متقدم مثل منصب الحجابة (3)،
رغبة في تدريبهم تدريجياً وإكسابهم الخبرة اللازمة بالتدرج ريثما يصبحون مؤهلين للوظائف العسكرية الأعلى، كما يذكر أن مهام الوزير: أن يدرب الرجال الشجعان بآلات الحرب (4).
سابعاً: حجم الجيش السلجوقي:
يذكر ابن الأزرق أن كثرة الجيش من الأمور الظاهرة المسببة للنصر (5)، وتبرز المصادر التاريخية عظم الجيش السلجوقي وكثرة جنده، ويصف البيهقي - وهو شاهد عيان الحروب السلجوقية الغزنوية - السلاجقة بقوله: ومعهم جيش كبير العدد (6)، وذكر الراوندي أنهم: كانوا جنوداً موفقين وأناساً كثيرين، تعدادهم كبير ومالهم وفير (7)، وعندما سار السلطان طغرل بك إلى العراق كان: معه جند اهتزت الأرض لوطأتهم، واضطربت الجبال من كثرتهم (8)، وذكر العطيمي أنه عندما دخل طغرل بك بغداد امتد جيشه من دار الخلافة إلى النهروان مسافة أربعة فراسخ (9)، وعندما وضع السلطان ألب أرسلان لجيشه جسراً على نهر جيحون، أقام العسكر يعبر عليه شهراً (10)، وفي مجال تحديد تعداد الجيش السلجوقي.
_________
(1) دولة السلاجقة، عبد المنعم حسنين, ص 167.
(2) سياست نامه، ص 144، 145.
(3) تاريخ البيهقي، ص 683، النظم الحربية، ص 182.
(4) التبر المسبوك، ص 279، النظم الحربية عند السلاجقة، ص 182.
(5) النظم الحربية عند السلاجقة، ص 183.
(6) تاريخ البيهقي، ص 66، النظم الحربية، ص 183.
(7) راحة الصدور، ص 145.
(8) المصدر نفسه، ص 175.
(9) وفيات الأعيان (5/ 69، 70).
(10) وفيات الأعيان (5/ 69، 70).(1/248)
ذكر البيهقي أن عدد جيش السلاجقة عندما دخلوا سرخس كانوا عشرين ألف فارس (1)، وذكر ابن العمراني أن جيش طغرل بك عندما ذهب إلى بغداد كان خمسين ألف فارس (2)، وذكر الحسيني العدد نفسه لجيش ألب أرسلان سنة خمس وستين وأربعمائة (3)، وفي الوقت الذي ورد فيه أن جيش السلاجقة في عهد السلطان ألب أرسلان قُدّر بأربعمائة ألف من الجند (4)، يذكر ابن كثير أن جند السلطان ملكشاه بن ألب أرسلان كانوا مائتي ألف (5)، ويذكر الوزير السلجوقي نظام الملك أن الجيش كان أربعمائة ألف رجل واقترح زيادة عدده ليصل إلى سبعمائة ألف (6).
ثامناً: العيون والجواسيس:
استخدم السلاجقة نظام العيون والجواسيس وحرصوا على توافر صفات وشروط معينة فيمن يتولاه وأن تكون مهمته شاملة وذلك لتأمين وصول أخبار أعدائهم إليهم لاتخاذ التدابير اللازمة حيالها، فهو من أهم نظمهم في مواجهة الأعداء منذ بداية ظهورهم, ويذكر بعض المؤرخين أن بث العيون في جيش الأعداء من واجبات السلطان للتعرف على أخبارهم (7)، وكان الوزير السلجوقي نظام الملك يرى أنه يجب بعث العيون في كل الأطراف دائماً في زي تجار وسياح ومتصوفة وبائعي أدوية ودراويش لنقل كل ما يسمعون من أخبار حتى لا يظل ثمة شيء خافياً وحتى يمكن تلافي أي طارئ جديد في حينه. فما أكثر ما كان الولاة والمستقطعون والعمال والأمراء يضمرون للملك خلافاً وعصياناً ويتربصون به الدوائر سراً لكن الجواسيس كانوا يكتشفون ذلك ويخبرون الملك به فيركب من وقته، وينقض عليهم بغتة، فيحيق بهم ويحبط مآربهم ويفشل مقاصدهم ... ولهذا كانوا ينهون إليه أخبار الرعية خيرها وشرها أولاً بأول، فيتعهدهم السلاطين بدورهم (8).يقول الوزير نظام الملك أيضاً: ينبغي وضع السعاة على الطرق المعروفة دائماً وتخصيص أجور شهرية ومكافآت لهم فبهذا يهتمون بنقل ما يقع من أحداث وأخبار ليل نهار من على بُعد خمسين فرسخاً, وكما جرت به العادة من قبل يجب تعيين نقباء لمراقبتهم والإشراف عليهم حتى لا
_________
(1) تاريخ البيهقي، ص 624, النظم الحربية، ص 185.
(2) الأنباء في تاريخ الخلفاء، ص 189.
(3) أخبار الدولة السلجوقية، ص 53.
(4) خطط الشام (1/ 147، 236).
(5) البداية والنهاية نقلاً, عن النظم الحربية عند السلاجقة، ص 186.
(6) سياست نامه، ص 209، النظم الحربية، ص 186.
(7) تبصرة أرباب الألباب، ص 24 النظم الحربية، ص 188.
(8) سياست نامه، ص 111.(1/249)
يتوانوا في أداء واجباتهم (1)، ولا يكاد يختلف نظامهم في هذا المجال عن نظم الاستخبارات في الجيوش الحديثة (2).
تاسعاً: الإسناد العسكري:
استخدم السلاجقة كل الوسائل المتاحة في عصرهم لتقديم المساندة التي يحتاجها الجيش في معاركه، حيث تمثل الإسناد العسكري عندهم في جوانب متعددة هي:
1 - الإمدادات العسكرية بالجند: حرص سلاطين السلاجقة على إمداد جيشهم بقوات إضافية بالسرعة المطلوبة، حين الحاجة إليها، ففي صراع السلطان طغرل بك مع أخيه إبراهيم ينال, طلب المساعدة من أبناء أخيه داود فقام ألب أرسلان بن داود بنجدته مسرعاً، حيث قطع المسافة من سجستان إلى حدود العراق في عشرة أيام فقط سالكاً طريق الصحراء، طلباً لاختصار الوقت وطول الطريق, كما أنجدته أيضاً زوجته التي سارت مع جيش من الأتراك من بغداد متجهة إلى همذان (3)، كما اهتموا بتأمين احتياجات جندهم للأسلحة والعتاد حتى في وسط المعارك، ففي الصراع بين السلطان بركيارق بن ملكشاه وأخيه محمد احتاج الرجالة في جيش بركيارق إلى تراس - جمع ترس- أمر السلطان بركيارق بتوزيعها مباشرة على الجند (4).
2 - المهندسون: ويطلق عليهم الفعلة, ومهمتهم تمهيد الطرق، وإزالة العوائق أمام الجيش، وتنظيم عبور الجيش للمضائق حيث يحملون معهم العتاد اللازم لمساعدتهم في عملهم هذا (5). فقد استصحب السلطان طغرل بك - عند مسيره من بغداد إلى الموصل - النجارين، كما عمل المهندسون العرادات والمجانيق (6)، حيث يمثل صانعو الأسلحة بأنواعها المختلفة وبناة الجسور جزءاً من وحدات الجيش السلجوقي عند سيره (7)، ويدل استخدام السلاجقة للجسور لعبور الأنهار (8)، على وجود المهندسين المهرة في الجيش السلجوقي الذين يقومون ببناء مثل هذه الجسور التي يستطيع الجيش العبور عليها، وكان الجيش
_________
(1) المصدر نفسه، ص 123, النظم الحربية، ص 189.
(2) النظم الحربية عند السلاجقة، ص 189.
(3) الكامل في التاريخ, نقلاً عن النظم الحربية عند السلاجقة، ص 191.
(4) الكامل في التاريخ, نقلاً عن النظم الحربية عند السلاجقة، ص 191.
(5) فن الحرب (3/ 443) , النظم الحربية عند السلاجقة، ص 191.
(6) المنتظم (8/ 173) , النظم الحربية عند السلاجقة، ص 191.
(7) النظم الحربية عند السلاجقة، ص 191.
(8) وفيات الأعيان (5/ 69، 70) , فن الحرب (3/ 346).(1/250)
السلجوقي قد عمل سفناً عندما وصل إلى مدينة نقجوان (1)، لحصارها في عهد السلطان ألب أرسلان كما أعد نظام الملك في حصار مدينة مريم نشين (2)، ما يحتاج إليه الجيش ومنها السفن حتى فتحها (3).
3 - حمل الأثقال: أعطى السلاجقة اهتماماً خاصاً بالأثقال في جيشهم ممثلة في أنواع الأسلحة والأعلاف وغيرها (4)، فقد اعتمدوا على الجمال لحمل هذه الأثقال منذ هجرة جدهم الأول سلجوق (5)، واستمروا في اعتمادهم عليها لهذا الغرض بعد قيام دولتهم، وبالإضافة إلى الجمال فقد اعتمد السلاجقة في حمل أثقال الجيش على البغال (6).
4 - التموين: كان اهتمام السلاجقة بتوفير التموين لجيشهم كبيراً منذ بداية عهدهم, ويذكر البيهقي أن إمدادات الجيش السلجوقي دائماً معه (7)، وعندما دخل السلاجقة نيسابور في عهد طغرل بك كان هناك تموين كاف للجيش كله، ويروي الوزير نظام الملك أن السلطان طغرل بك كان حريصاً على توفير المؤن في كل الظروف حتى كان إذا أراد السفر أمر بحمل الكثير منها على سبيل الاحتياط فكانت كثرتها تعجب الأمراء والأتراك أثناء تناولهم الطعام (8)، ويبدو أن اهتمامه هذا قد انعكس على الجيش السلجوقي وعدم تعرضه لنقص المؤن في عهده واستمر هذا الاهتمام في عهد ألب أرسلان وملكشاه. ويشير ابن خلكان إلى أن دخول الجيش السلجوقي في عهده إلى بلد من البلدان كان مقروناً برخص الأسعار لما يدخل معه من مؤن كثيرة تزيد عن حاجته فترخص أسعارها، كما يحصل التجار من وجوده على مكاسب كبيرة (9). وهي نتيجة طبيعية لكثرة تعداد الجيش وضخامته، وكانت مدينة حلب قد اتخذت - من قبل بعض السلاطين السلاجقة - مركزاً تموينياً استراتيجياً يحصلون منه على احتياجاتهم أثناء حروبهم ضد البيزنطيين (10).
_________
(1) نقجوان: مدينة في إقليم أذربيجان.
(2) مريم نشين: مدينة حصينة سورها من الحجر المشدود بالرصاص.
(3) فن الحرب (3/ 345) , النظم الحربية عند السلاجقة، ص 192.
(4) النظم الحربية عند السلاجقة، ص 192.
(5) النظم الحربية عند السلاجقة، ص 192.
(6) المصدر نفسه، ص 193.
(7) تاريخ البيهقي، ص 666، النظم الحربية عند السلاجقة، ص 194.
(8) سياست نامه، ص 169، النظم الحربية عند السلاجقة 194.
(9) وفيات الأعيان (5/ 286) , النظم الحربية عند السلاجقة 194.
(10) إمارة حلب، ص 129.(1/251)
عاشراً: الإسناد الطبي:
ترجع بعض المراجع استخدام السلاجقة للمستشفى إلى وقت مبكر من تاريخهم (1)، وكان يعرف في وقتهم بالبيمارستان (2)، فكان اهتمام وزير السلطان طغرل بك عميد الملك كبيراً بتنظيم بيمارستانان بغداد سنة 449هـ (3)، وكان للسلطان محمد بن ملكشاه دور كبير في دعم البيمارستانات في بغداد بالأموال؛ إذ أمر بصرف مائة ألف دينار في مصالحها سنة إحدى وخمسمائة (4)، وتدل بعض المصادر التاريخية على أن السلاجقة لم يكتفوا بذلك بل تجاوزوه إلى استخدام المستشفى المتنقل في حلهم وترحالهم، فكان البيمارستان (5) المحمول (6)، في جيش السلطان محمود بن محمد بن ملكشاه السلجوفي كبيراً جداً، بحيث كان يحتاج حمله إلى أربعين جملاً، وكان هذا البيمارستان ملازماً للجيش السلجوقي دائماً (7)، حرصاً منهم على توفير الإسناد الطبي الدائم للجيش، وقد كان أبو الحكم عبيد الله بن المظفر الباهلي الحكيم الأديب المعروف بالمغربي طبيب هذا المستشفى، كما كان أبو الفداء يحيى بن سعيد ابن يحيى المظفر المعروف بابن المرخّم - الذي صار أقضى القضاة ببغداد في أيام المقتفي - فاصداً وطبيباً فيه أيضاً (8)، وفي معركة قطوان سنة 536هـ ما يدل على وجود الأطباء ومصاحبتهم للجيش السلجوقي في عهد السلطان سنجر، فكان من نتائج هذه المعركة وفاة الطبيب شرف الدين محمد إيلاقي (9)،
وهو ما يؤكد اشتراكه في المعركة وعمله طبيباً في الجيش، ويدل المرض الذي أصاب السلطان مسعود بن محمد سنة 546هـ وأدى إلى وفاته على أن الأطباء كانوا في البلاط السلطاني بشكل دائم حيث أشرفوا على تطبيب السلطان إضافة إلى من تم استدعاؤهم من أطباء العراق حيث اشتركوا جميعاً في معالجته التي لم يكتب لها النجاح لاستشراء المرض الذي أدى إلى وفاته (10)، وهو شاهد من الشواهد على تواجد الأطباء بالقرب من السلطان دائماً (11).
_________
(1) تاريخ إيران، ص 126.
(2) وفيات الأعيان (3/ 124) , العرب والأتراك، ص 97.
(3) تاريخ البيمارستانات، ص 189.
(4) الخدمات العامة في بغداد،، ص 300.
(5) النظم الحربية عند السلاجقة، ص 196.
(6) النظم الحربية عند السلاجقة، ص 196.
(7) وفيات الأعيان (3/ 124) , تاريخ البيمارستانات، ص 14.
(8) وفيات الأعيان (3/ 123، 124).
(9) السلاجقة في التاريخ والحضارة، ص 398.
(10) راحة الصدور، ص 354.
(11) النظم الحربية عند السلاجقة، ص 197.(1/252)
الحادي عشر: الخيل ودورها في الجيش السلجوقي:
كان الأتراك في مقدمة الشعوب قدرة على ترويض الخيل وركوبها, وكانت بعض قبائلهم أقدر على ذلك من غيرها، وكان من واجبات قائد الجيش تفقد الخيل ومدى سلامتها في جيشه، كتفقده للجند, وأن يمنع ما يصلح منها للحرب (1)، وأما عن طرق توفير إعداد الخيل فتأتي غنائم الحروب في مقدمة تلك الطرق ثم تربيتها عندهم, وبعد ذلك عن طريق الشراء من الأسواق المختلفة في المدن, وتأتي كذلك عن طريق الهدايا التي تقدم لهم فقد كانت الخيل في مقدمة ما يهدي لهم (2) وقد تميزت الخيل عند السلاجقة بصغر حجمها وتوسط طول قامتها، حيث استخدموا النوع المعروف بالحصان التركماني (3)، الذي اشتهر بسرعة العدو ورشاقة الجسم (4)، نتيجة التدريب الجيد لها، كما كان لها لباس خاص لحمايتها ووقايتها (5). فعُملت لها التجفاف (6) أو الجل أو البركستونات (7)، وهي الدروع الواقية التي كانت تتخذ من الحديد والفولاذ المبطن باللبود (8)، حماية لها من أسلحة الأعداء في أرض المعركة (9)، ويحرص السلاجقة على تعويد خيلهم على الجرأة وانتزاع الخوف منها تحسباً لأي طارئ في المعارك فكانوا يدربون خيلهم على معايشة الحيوانات الأخرى الأكبر حجماً منها كالجمل والفيل والدب، فإذا رأوا بعض خيلهم تخاف من أي من هذه الأنواع قاموا بتكثيف فترات وجودها مع هذا النوع حتى تتعود عليه، كما قاموا بتدريبها على الرياضات المعروفة عندهم (10).
الثاني عشر: الموارد المالية للجيش السلجوقي:
اعتمد السلاجقة في مواردهم المالية على تعددها، فكانت الغنائم والجزية والخراج والمكس، وضمان المدن من أهم الإيرادات التي ساعدت سلاطين السلاجقة على الإنفاق في دولتهم خاصة في مجال استكمال النفقات الأساسية ليتمكن الجيش من أداء واجباته في المحافظة على كيان الدولة (11) وقد استفاد السلاجقة من قتال الغزنويين في حصولهم على
_________
(1) النظم الحربية عند السلاجقة،، ص 201.
(2) المصدر نفسه، ص 202.
(3) المصدر نفسه، ص 203.
(4) عالم الصليبيين، يوشع براور، ص 214.
(5) النظم الحربية عند السلاجقة ص203.
(6) التجفاف: وهو ما يجلل به الفرس من سلاح وآلة تقيه الجراح.
(7) البركستونات: حافظ لحم الصدر.
(8) نظم دولة سلاطين المماليك (1/ 77).
(9) النظم الحربية عند السلاجقة، ص 203.
(10) المصدر نفسه، ص 203.
(11) النظم الحربية، ص 215.(1/253)
غنائم وصلت قيمتها إلى خمسمائة ألف دينار (1)، بينما ارتفعت بعد ذلك لتصل في معركة نسا إلى نحو عشرة ملايين دينار من الألبسة والأسلحة والدواب والأمتعة (2)، كما غنموا ما لا حصر له من الذهب والفضة والملابس والدواب في معركة داندانقات (3)، وكانت الغنائم التي حصلوا عليها بعد معركة ملاذكرد توزن بالأرطال من الذهب والفضة لكثرتها (4) ويذكر البنداري نزول الأسعار بشكل كبير بسبب هذه الغنائم السلجوقية, وقد صاحب انتصارات الجيش السلجوقي في معاركه المختلفة بعد ذلك حصوله على الكثير من الغنائم (5)، أما عن الجزية باعتبارها مورداً من الموارد المالية للسلاجقة، فقد ذكر بعض المؤرخين أن الروم كانوا قد اعتادوا دفع الجزية للسلاجقة سنوياً قبل هذه المعركة (6)، كما تؤكد المصادر استمرارهم بدفعها بعد ذلك, فقد وصل رسول إمبراطور الروم ومعه الجزية سنة 482هـ، ومما يدل على استمراره في دفعها أن السلطان ملكشاه كان يأخذ خراج ملك القسطنطينية كل سنة (7)،
وكان مقدارها ثلاثمائة ألف دينار سنوياً (8)، وكان السلطان ألب أرسلان قد قنع من الرعايا بالخراج الأصلي يؤخذ منهم كل سنة دفعتين رفقاً بهم (9).
الثالث عشر: شعار السلاجقة وأعلامهم:
تشير بعض المصادر إلى أنه كان للسلاجقة نظمهم في اتخاذ الأعلام والسفارات, فقد اتخذوا منذ بدايتهم شعار القوس والسهم في رسائلهم دلالة على دولتهم، كما اتخذ السلاجقة السواد لوناً لأعلامهم في المعارك، وهو شعار الدولة العباسية (10).
_________
(1) العرضة لابن النظام، ص 33، النظم الحربية، ص 215.
(2) راحة الصدور، ص 156، النظم الحربية، ص 215.
(3) تاريخ البيهقي، ص 695، النظم الحربية، ص 215.
(4) تاريخ دولة آل سلجوق، ص 215.
(5) النظم الحربية عند السلاجقة، ص 215.
(6) تاريخ الزمان، ابن العبري ص 109, النظم الحربية عند السلاجقة 216.
(7) الباهر لابن الأثير، ص 11.
(8) تاريخ دولة آل سلجوق، ص 71.
(9) الكامل في التاريخ, نقلا عن النظم الحربية عند السلاجقة، ص 216.
(10) النظم الحربية عند السلاجقة، ص 217، 218.(1/254)
المبحث الثالث
الأسلحة والتحصينات الحربية
أولاً: الأسلحة الفردية الخفيفة:
1 - الأسلحة الهجومية: ومن أهمها:
أ- القوس (1).
ب- السيف (2).
جـ- الرمح (3).
د- الدبوس.
هـ- السكين.
و - الطبر (4).
ز- المقاليع (5).
2 - أسلحة الوقاية والدفاع عن النفس:
أ - الترس: وهو من أسلحة الوقاية من ضرب الوجه وما حوله، ويُسمى الجُنة وتتخذ من الحديد والجلد، وله أصناف متعددة كل صنف منها يصلح لاستعمال معين (6).
ب - الدرع: وهو جبّة من الزَّرد المنسوج يلبسه المقاتل للوقاية من السيوف والسهام وله أنواع متعددة (7).
ج - البيضة: وهي خوذة من الحديد أو الفولاذ تُبطَّن بالمواد اللينة كالقطن وغيره لحماية الرأس (8).
ثانياً: الأسلحة الجماعية الثقيلة:
1 - المنجنيق والعرادة: المنجنيق آلة من خشب لها دفّتان قائمتان بينهما سهم طويل رأسه ثقيل وذنبه خفيف، وفيه تجعل كفّة المنجنيق التي تحمل الحجر، يجذب حتى ترفع أسافله على أعاليه، ثم يرسل فيرتفع عموده الذي فيه الكفة فيخرج الحجر منه فما أصاب شيئاً إلا أهلكه (9)، وهو من أعظم آلات الحصار فعالية ونكاية, وله أنواع وأحجام متعددة، ويرمى
_________
(1) فصل ابن سلام في القوس وأنواعها وأسماء أجزائها في كتاب السلاح، ص 22 - 28.
(2) ذكر ابن سلام أنواع السيوف وأسماءها وأجزاءها تفصيلاً.
(3) الرمح: ذكر ابن سلام تفصيلاً للرماح وأنواعها وأسمائها في كتاب السلاح.
(4) الطبر: وتسمى المدية وتختلف أحوالها بحسب الحاجة إليها.
(5) النظم الحربية عند السلاجقة، ص 248.
(6) المصدر نفسه، ص 249.
(7) المصدر نفسه، ص 250.
(8) المصدر نفسه، ص 252، الحرب عند العرب، ص 74.
(9) صبح الأعشى (2/ 152) , النظم الحربية، ص 254.(1/255)
به الحجارة والنفظ وغيرها، ويشبه المنجنيق المدفعية الميدانية الثقيلة في عصرنا الحاضر، وقد استخدمه الجيش السلجوقي (1) وأما العرادة: فهي منجنيق لطيف أصغر حجماً
من المنجنيق (2) فما يقذف الحجارة الثقيلة، هو المنجنيق وما يقذف الحجارة الخفيفة نسبياً
يقال له عرَّادة (3).
2 - الدبابة والبرج ورأس الكبش: الدبابة آلة ساترة تتخذ من الخشب وتغلف باللبود أو الجلد المنقوع بالخل لمنع النار من أن تحرقها، وتركّب على عجل مستدير وتحرك، وربما جعلت برجاً من الخشب فيدفعها الرجال وهي عريضة من أسفل دقيقة من أعلى على شكل مربع مضلّع تدفع إلى السور، وتكون أعلى منه فيصعد الرجال أعلاها فيسيطر به على سور المدينة (4). وكانت تلبَّس بصفائح الحديد (5)، وهي من أسلحة الهجوم الجماعية، وتختلف في أحجامها كبراً وصغراً بحسب الحاجة (6)، ويستخدم في الدبابة أو البرج رأس الكبش, وهو عبارة عن عمود خشبي طوله عشرة أمتار أو أكثر يركب في نهايته مما يلي السور رأس من الحديد أو الفولاذ يشبه رأس الكبش تماماً يعلق بالبرج للأمام والخلف حتى يتأرجح، فيصطدم بالسور حيث تعاد الكرة مرات عديدة حتى تنهار أمامه حجارة السور (7)، وتحتل الأبراج التي يُزحف بها على الحصون (8) والبرج المتحرك منها مكان الصدارة في الأسلحة الثقيلة المستخدمة في حصار المدن المحصنة (9) فقد قام السلاجقة ببناء الأبراج لإضعاف مقاومة المدن المحاصرة، وكذلك القيام من خلالها بعمليات الحراسة والمراقبة. كان ذلك في عهد طغرل بك وألب أرسلان وملكشاه (10).
ثالثاً: أسلحة العرض والزينة:
وهي الأسلحة المرصعة بالجواهر وغيرها، والتي يحتفظ بها في الخزانة ويتم إخراجها وقت الاحتفالات أو وصول رسل إلى السلطان، الذي يأمر باتخاذ مظاهر الزينة ومنها الأسلحة المحلاة بالذهب والفضة أو الجواهر (11)، وفي عهد ملكشاه اقترح نظام الملك أن
_________
(1) النظم الحربية عند السلاجقة، ص 254.
(2) المصدر نفسه، ص 256.
(3) المصدر نفسه، ص 256.
(4) الإسلام في حضارته ونظمه، أنور الرفاعي، ص 198, النظم الحربية عند السلاجقة، ص 259.
(5) النوادر لابن شداد، ص 140.
(6) تبصرة أرباب الألباب، ص 18.
(7) الجيش الأيوبي، ص 309، 312، 313، النظم الحربية ص259.
(8) تبصرة أرباب الألباب، ص 18.
(9) عالم الصليبيين، ص 203.
(10) النظم الحربية عند السلاجقة، ص 260.
(11) المصدر نفسه، ص 260.(1/256)
يكون عدد أسلحة الزينة عشرين قطعة لعشرين غلاماً يلبسون الألبسة الجميلة ويقفون بها حول سرير الملك مراعاة لهيبة السلطان وزينة مجلسه (1)، وكان من رأي نظام الملك أن تكون لأمير الحرس أحسن الوسائل وأدوات الزينة والتجمل وأبهاها (2).
رابعاً: نظام حماية المدن:
وهي الوسائل التي تعتمد عليها المدن في حمايتها من هجمات أعدائها, وقد استخدمت في العصر السلجوقي لحماية المدن؛ الأسوار والخنادق، والقلاع والحصون (3).
خامساً: وسائل الحصار:
من وسائل الحصار التي استخدمها الجيش السلجوقي، المنجنيق والعرادة والدبابة والأبراج ورأس الكبش بالإضافة إلى الجسور، وسلالم الحصار، والسفن والزوارق (4).
سادساً: صناعة الأسلحة وخزائنها:
اشتهر الأتراك بصناعة الأسلحة التي كانوا يحاربون بها, ومهارتهم معروفة في صنع السهام والنبال وتطويع الحديد وصناعة السلاح مثل السيوف والرماح، وغيرها (5).
* * *
_________
(1) سياست نامه، ص 132.
(2) المصدر نفسه، ص 177، النظم الحربية، ص 261.
(3) النظم الحربية عند السلاجقة، ص 262، 263، 264.
(4) المصدر نفسه، ص 266، 267.
(5) المصدر نفسه، ص 270.(1/257)
المبحث الرابع
الخطط والفنون القتالية
كان لدى السلاجقة تعبئة عسكرية محكمة تجلت في كثير من الخطط والفنون على النحو التالي:
أولاً: القدرة على التحرك:
اشتهر الجيش السلجوقي بسرعة الحركة على العموم مما أتاح له المرونة اللازمة لتطبيق العديد من الفنون العسكرية التي أثرت في خططه العسكرية خلال حروبه الطويلة وكان بعضها يشبه قتال سكان الصحاري المعتمد على الكر والفر, وكانت أهم مظاهر قدرة الجيش السلجوقي على التحرك (1):
1 - السرعة: كانت السرعة واحدة من أبرز سمات حروب الترك, ومن أهم العوامل التي ساعدتهم على سرعة الحركة، معرفتهم للأرض شبراً شبراً مما جعلهم سريعي الحركة للتفرق والتجمع في وقت قصير (2)، ومن ثم ساعدتهم في تحقيق انتصاراتهم فكان داود قائد جيش السلاجقة يرى أن الفارس المتخفف يصبح أكثر جرأة (3) ويقول مخاطباً جنده: أما نحن فخفاف لا متاع لنا (4)، وكانت سرعة الحركة في الجيش السلجوقي قد حققت له العديد من الانتصارات على جيوش البيزنطيين (5)، كما أكسبته تميزاً واضحاً على الجيوش الصليبية، حيث اكتشفوا نقطة الضعف فيها المتمثلة في ثقلها (6)، ويمكن إرجاع هذه السرعة التي تميز بها الجيش السلجوقي - بالإضافة إلى ما ذكرناه سابقاً من معرفتهم بالأرض وطرقها - إلى خفة الأسلحة التي يحملها فرسان الجيش السلجوقي من ناحية، والحركة السريعة للخيل المدربة (7)، بالإضافة إلى التبديل المستمر للخيل المتعبة أثناء الحرب، بمجموعة خيل أخرى معدة بالقرب من مكان المعركة للاستعانة بها عند الحاجة (8)، ولهذا كان الجيش يزخر بالحركة والجري المستمر (9)، ومرونة تتيح له المواجهة أو المناورة في الوقت المناسب (10).
2 - استخدام الكمائن: استخدم السلاجقة الكمائن في أرض المعركة, ففي عهد
_________
(1) النظم الحربية عند السلاجقة،، ص 280.
(2) النظم الحربية عند السلاجقة،، ص 280.
(3) تاريخ البيهقي، ص 683, النظم الحربية عند السلاجقة، ص 281.
(4) النظم الحربية عند السلاجقة، ص 281.
(5) النظم الحربية عند السلاجقة، ص 281.
(6) عالم الصليبيين، ص 217.
(7) النظم الحربية عند السلاجقة، ص 281.
(8) تاريخ ابن أبي الهيجاء، ص 188.
(9) تاريخ ابن أبي الهيجاء، ص 188.
(10) النظم الحربية عند السلاجقة، ص 282.(1/258)
السلطان طغرل بك كانت الكمائن سبباً في هزيمة العرب الذين خرجوا عن طاعته (1)، كما كان للكمائن دورها في انتصار السلطان ألب أرسلان على البيزنطيين في معركة ملاذكرد، فقد اعتمد في حرب الكمائن على الجناحين، عندما اختبأت أجنحة اليمين واليسار في التلال الموجودة بجانب ميدان المعركة ففاجأت الجيش البيزنطي، مما أدى إلى هزيمته (2)، حيث حدد بعض المؤرخين عددها بأربعة كمائن (3)، وفي سنة 491هـ، استخدم القائد كربوقاالكمائن في معركته ضد الصليبيين في أنطاكية (4)، كما حقق السلاجقة بواسطتها انتصارات عديدة ومهمة في حروبهم الأخرى المتكررة ضد الصليبيين (5).
3 - التراجع الزائف: استخدم السلاجقة هذه الخطة وكانت أكثر وضوحاً في صراع السلاجقة مع البيزنطيين، ففي عهد السلطان ألب أرسلان تظاهر جيش السلاجقة خلال معركة ملاذكرد بالفرار من أرض المعركة في محاولة ناجحة لإغراء البيزنطيين بملاحقتهم (6)، ويعبَّر البنداري عن ذلك بقوله عن خيل السلاجقة: واستجرَّت الروم إلى أن صار الكمين من ورائها (7)، وفي الوقت الذي كانوا يقومون فيه بتطبيق خطة التراجع الزائف تلك كانوا يستخدمون سهامهم بمهارة فائقة (8)، فكانت الوحدات المتقدمة في الجيش تشتبك مع العدو لفترة وجيزة، ثم تنسحب تدريجياً باتجاه الكمائن المعدة متظاهرة بالهزيمة، وحينما تتقدم وحدات العدو لتعقّب تلك الوحدات المنسحبة تنقض عليها الكمائن (9)، وطبقوا هذا التراجع الزائف - كذلك - في المعارك الأخرى التي خاضوها ضد البيزنطيين بعد ملاذكرد، مثل معركة ميريو كيفالون سنة 572هـ (10)، وفي حروب السلاجقة مع الصليبيين كان تظاهر الجيش السلجوقي بالهرب من أرض المعركة بتطبيق خطة التراجع الزائف نحو الكمائن عاملاً مهماً في هزيمتهم للصليبيين في معركة ضور يليوم تحت قيادة قلج أرسلان سنة 491هـ (11).
4 - خطة تطويق العدو: كان السلاجقة في حربهم مع الغزنويين يفرقون قواتهم حتى يتمكنوا من محاولة تطويق جيش أعدائهم بالرغم من ضخامة جيش الغزنويين (12)، وقد
_________
(1) الكامل في التاريخ, نقلاً عن النظم الحربية عند السلاجقة، ص 283.
(2) النظم الحربية عند السلاجقة، ص 283.
(3) تاريخ دولة آل سلجوق، ص 42.
(4) الكامل في التاريخ, نقلاً عن النظم الحربية عند السلاجقة، ص 284.
(5) العلاقات السياسية والكنسية، ص 85، النظم الحربية، ص 284.
(6) الصليبيون في الشرق، ص 30.
(7) تاريخ دولة آل سلجوق ص43.
(8) النظم الحربية عند السلاجقة، ص 285.
(9) النظم الحربية عند السلاجقة، ص 285.
(10) النظم الحربية عند السلاجقة، ص 285.
(11) المصدر نفسه، ص 486.
(12) الكامل في التاريخ, نقلاً عن النظم الحربية عند السلاجقة، ص 286.(1/259)
طبق السلاجقة هذا التطويق لأعدائهم في حروبهم ضد البيزنطيين، فكان انقضاض السلاجقة على أعدائهم في معركة ميريوكيفالون 572هـ من جهات عديدة، كما كانت معركة ضور يليوم بين السلاجقة والصليبيين ميداناً آخر لتطبيق هذه الخطة حيث هاجم السلاجقة أعداءهم من الصليبيين وأحاطوا بهم من كل جانب (1)، ويذكر شاهد عيان لبعض حروب السلاجقة مع الصليبيين أن السلاجقة لجأوا إلى محاولة تطويق عدوهم في معظم هذه المعارك (2).
5 - المباغتة والمفاجأة: استخدم الجيش السلجوقي عنصر المباغتة والمفاجأة واعتبرها من ثوابت خططه في حربه ضد البيزنطيين (3)، وكانوا يفاجئون المدن البيزنطية في هجماتهم مما ساعدهم على فتح كثير منها (4)، وقد عانى الصليبيون من اعتماد السلاجقة على المباغتة لهم (5)، حتى وصف شاهد عيان هجوم السلاجقة المفاجئ وحصارهم للصليبيين بقوله: نظام كهذا لم يكن معروفاً لنا (6).
ثانياً: الرمي بالسهام:
ارتبط تاريخ السلاجقة بإجادتهم الرمي بالسهام، فكانوا يطلقونها وهم على ظهور الخيل بإتقان دون التوقف أو الترجُّل عنها (7)، كما أثر عن سلاطينهم إجادة معظم الفنون العسكرية ومنها الرمي بالسهام (8)، وفي عهد السلطان طغرل بك كان إمطار الجيش السلجوقي مدينة قزوين سنة 434هـ بوابل من السهام سبباً في عدم مقدرة أهلها على الوقوف على سور المدينة للدفاع عنها مما اضطرهم إلى الدخول في طاعة السلاجقة (9)، ويذكر سبط بن الجوزي أن جيش السلاجقة كان يخرج منه أثناء المعركة عشرة آلاف نشابة دفعة واحدة (10)، وقد وصل عدد رماة السهام في مقدمة الجيش السلجوقي إلى حوالي عشرة آلاف رجل (11)، وهو ما يفسر ذكر بعض المصادر أن السلاجقة كانوا يمطرون أعداءهم بوابل من السهام الغزيرة (12)، فكانت الكثافة العددية لهذه السهام -المترتبة على كثرة تعداد
_________
(1) النظم الحربية عند السلاجقة، ص 287.
(2) تاريخ الحملة إلى القدس، ص 49، 138, النظم الحربية، ص 287.
(3) النظم الحربية عند السلاجقة، ص 289.
(4) النظم الحربية عند السلاجقة، ص 289.
(5) النظم الحربية عند السلاجقة، ص 289.
(6) النظم الحربية عند السلاجقة، ص 289.
(7) المصدر نفسه، ص 290.
(8) راحة الصدور، ص 186، أخبار الدولة السلجوقية، ص 54، 73.
(9) الكامل في التاريخ, نقلاً عن النظم الحربية عند السلاجقة، ص 290.
(10) مرآة الزمان (2/ 500).
(11) النظم الحربية عند السلاجقة، ص 291.
(12) تاريخ البيهقي، ص 628، مرآة الزمان (2/ 500).(1/260)
من يقوم بإطلاقها أو استخدام قوس الحسبان المتعدد السهام- من أهم عوامل فعاليتها البالغة، وقد وزع السلطان ألب أرسلان أثناء حصار حلب ثمانين ألف نشابة (1)، وعندما تسلَّم السلطان مدينة حلب استعصت عليه قلعتها فأمر برشقها بالسهام دفعة واحدة فرشقها الجيش حتى كادت الشمس تحجب لكثرة السهام، فسلمت القلعة له نتيجة لذلك (2)،
وقد أثبت استخدام السلاجقة للسهام في حروبهم ضد الصليبيين فعالية واضحة في إلحاق الهزائم بأعدائهم عن طريق إجادتهم استخدامها بدقة بالغة فضلاً عن غزارتها (3)، فقد استطاع رماة النشاب في الجيش السلجوقي سنة 515هـ أن يفنوا الجيش الصليبي بكامله عندما دخل أرضاً موحلة فلم يفلت منهم أحد (4).
ثالثاً: الالتحام مع العدو:
يظهر أن الالتحام مع العدو عند السلاجقة يتم على مرحلتين:
1 - مرحلة الالتحام الأوّلى: يقوم الجيش السلجوقي بالالتحام مع الأعداء في البداية لإيهام العدو ببدء المعركة، وهو ما وصفه ابن الأثير بقوله: فصبر لهم ساعة (5)، في ذكره أحداث المعركة بين السلاجقة والعرب الذين خرجوا عن الطاعة في عهد السلطان طغرل بك (6)، فقد التحم السلاجقة مع أعدائهم لفترة وجيزة ثم تراجعوا كالمنهزمين نحو كمائنهم، فكان هذا الالتحام المبدئي لإقناع الجانب الآخر بالبدء الفعلي للمعركة ثم الانتظار قبل بدء تطبيق خطة التراجع الزائف لإيهام الأعداء بالهزيمة ومن ثم نجاح الكمائن في مفاجأة الأعداء ومباغتتهم، وتحقيق النصر عليهم (7).
2 - مرحلة الالتحام الكامل: لم يقتصر استخدام السلاجقة للقوس والسهم على الالتحام المبدئي فقط، بل نجد استخدام السلاجقة لها في الالتحام الكامل كذلك، فقد استخدموها بفعالية واضحة في جميع الحروب الميدانية التي خاضوها ضد أعدائهم (8) وكان السيف أحد الأسلحة الخفيفة التي يستخدمها السلاجقة في الالتحام مع العدو، بل كان من أهم الأسلحة التي استخدمها المحارب السلجوقي في التحامه مع العدو (9). ويصف
_________
(1) تاريخ بلاد الشام، ص 129.
(2) الكامل في التاريخ, نقلاً عن النظم الحربية، ص 291.
(3) عالم الصليبيين، ص 215، النظم الحربية عند السلاجقة، ص 292.
(4) الكامل في التاريخ, نقلاً عن النظم الحربية، ص 292.
(5) المصدر نفسه، ص 393.
(6) الكامل في التاريخ, نقلاً عن النظم الحربية،، ص 393.
(7) الكامل في التاريخ, نقلاً عن النظم الحربية،، ص 393.
(8) تاريخ البيهقي، ص 628، أخبار الدولة السلجوقية، ص 293.
(9) الحروب الصليبية، عزيز عطية, ص 46،47.(1/261)
البيهقي -وهو شاهد عيان لحروب السلاجقة مع الغزنويين- ذلك بقوله: وعلت قعقعة السيوف (1)، كما استخدمه السلطان ألب أرسلان في معركة ملاذكرد أثناء اشتباكه مع أعدائه البيزنطيين (2)، كما وجد استخدام السيف عند السلاجقة في حروبهم مع الصليبيين (3)، كما استخدم السلاجقة الرمح والخنجر عند الالتحام (4).
رابعاً: الاستنزاف:
طبق السلاجقة سياسة الاستنزاف ضد أعدائهم، فكانوا يؤجلون الالتحام مع أعدائهم، حتى يتم استنزاف قوة جيش الأعداء، ويصل إلى درجة كبيرة من الإنهاك فيتسنّى لهم هزيمته، وتبدو الأهمية الكبرى للنتائج التي حققها الجيش السلجوقي من الاستنزاف لقوة الأعداء في حربهم ضد الصليبيين، فكان تطبيق السلاجقة لهذا الفن الحربي سبباً في التعب والإنهاك الذي لحق بجيش الصليبيين (5)، فضلاً عن المجاعة الكبيرة التي أحدقت بهم (6). وسيأتي بيان ذلك في محله بإذن الله.
خامساً: سياسة الأرض المحروقة:
أدرك السلاجقة أهمية مصادر المياه للجيوش المحاربة، ولذلك قاموا أثناء حروبهم الأولى مع الدولة الغزنوية بتدمير مصادر المياه أثناء انسحابهم كواحدة من الوسائل المستخدمة في سياسة الأرض المحروقة، ففي معركة دندانقان سنة 431هـ بادر السلاجقة على الفور بتغوير مياه آبارها وتخريبها (7). ويصف السلطان مسعود الغزنوي ذلك بقوله: وجدنا الأعداء قد ردموا الآبار ... وجعلوها قبوراً (8)، بأن قاموا بإلقاء الجيف فيها مما حرم الجيش الغزنوي من الاستفادة من مياهها وتعرض بالتالي للعطش الشديد (9)، وقد قاسى البيزنطيون كثيراً من الأثر التدميري الكبير الذي خلفته حملات السلاجقة على الأقاليم والمدن التي هاجموها، خاصة تلك الحملة الكبرى التي قادها السلطان طغرل بك على أرمينية سنة 446هـ (10). وقد فشل البيزنطيون في منع السلاجقة في تخريب المناطق التي يمرون بها قبل لقائهم معهم في معركة ميريو كيفالون سنة 572هـ التي انتصر فيها السلاجقة (11)،
_________
(1) تاريخ البيهقي، ص 635.
(2) أخبار الدولة السلجوقية، ص 49.
(3) النظم الحربية عند السلاجقة، ص 294.
(4) النظم الحربية عند السلاجقة، ص 294.
(5) المصدر نفسه، ص 297.
(6) النظم الحربية عند السلاجقة، ص 298.
(7) تاريخ البيهقي، ص 688، 699، راحة الصدور، ص 163.
(8) تاريخ البيهقي، ص 699.
(9) راحة الصدور، ص 163، النظم الحربية عند السلاجقة، ص 298.
(10) الكامل في التاريخ, نقلاً عن النظم الحربية عند السلاجقة، ص 299.
(11) النظم الحربية عند السلاجقة، ص 300.(1/262)
وعندما دمّر السلاجقة الآبار ومجاري المياه التي طالتها أيديهم عانى الصليبيون ودوابهم الكثير من العطش خاصة مع حرارة الصيف واشتداد الحاجة إلى الماء (1)، وفي المقابل كانوا عند انسحابهم يأتون على كل ما يمكن أن يستفيد منه عدوهم حرقاً وهدماً وتخريباً (2).
سادساً: التأثير على جيش العدو:
حاول السلاجقة التأثير على جيش أعدائهم بمكاتبة بعض قادته وجنده لاستمالتهم وإرسال المرجفين لتفرقة كلمتهم فينشغلون عن الاستعداد الأمثل للمعركة، وقد استهدفوا العناصر التركية بالتأثير، وقد تعدى نشاط السلاجقة في تحقيق ذلك حدود الجند في أرض المعركة إلى شراء ولاء عيون الأعداء وجواسيسهم، فقد ذكر أحد المرافقين للجيش الغزنوي في حربه ضد السلاجقة قوله: وكان جواسيسنا قد كذبوا كثيراً في هذا الشأن، وقد أغرتهم الرشوة وتبين اليوم أن كل ما قالوه كان بهتاناً وزوراً (3). ويذكر ابن الأثير أن السلاجقة نجحوا في مراسلتهم لقائد الجيش الغزنوي نفسه؛ فاستمالوه ورغّبوه فنفَّس عنهم وتراخى في تتبعهم (4)، وفي معركة ملاذكرد نجح السلاجقة في استقطاب أبناء عمومتهم من الأوزو البجناق الذين كانوا يحاربون مع الجيش البيزنطي إلى جانبهم في الوقت الحاسم من المعركة بدافع العصبية لهم, ويذكر بعض المؤرخين أن انضمامهم كان سبباً مباشراً في انتصار السلاجقة على البيزنطيين في هذه المعركة (5).
سابعاً: السيطرة على الطرق:
أدرك السلاجقة أهمية الدراية الواسعة بمعرفة الأرض معرفة كاملة تشمل المناطق التي يعيشون فيها (6)، ففي حربهم مع الغزنويين في معركة دنقدانقان كان السلاجقة قد استولوا على الطرق وسيطروا على الجبال والمرتفعات (7)، حيث وضعوا الحراس فوقها لمراقبة جيش العدو (8)، وبذلك سيطر السلاجقة على الطرق المحيطة بأرض المعركة وحاولوا قطع خطوط الإمداد والتموين للجيش الغزنوي (9)، وفي سنة ست وخمسين وأربعمائة جهز السلطان ألب
_________
(1) النظم الحربية عند السلاجقة، ص 300.
(2) النظم الحربية عند السلاجقة، ص 300.
(3) تاريخ البيهقي، ص 627، النظم الحربية عند السلاجقة، ص 301.
(4) الكامل في التاريخ, نقلاً عن النظم الحربية عند السلاجقة، ص 301.
(5) بناء الجبهة الإسلامية، ص 23.
(6) النظم الحربية عند السلاجقة، ص 303.
(7) زين الأخبار، ص 331، النظم الحربية عند السلاجقة، ص 303.
(8) تاريخ البيهقي، ص 666، النظم الحربية عند السلاجقة 303.
(9) تاريخ البيهقي 628، 634 النظم الحربية، ص 303.(1/263)
أرسلان جيشاً للقضاء على قطاع الطرق الأكراد (1) وسيطر السلاجقة على معظم الطرق في آسيا الصغرى أثناء صراعهم مع البيزنطيين، حتى وصف بعض معاصريهم هذا الوضع بقوله إنه لم يوجد طريق لم يحتلوه (2)، فكانت سيطرتهم على كل الطرق، والخطوط الرئيسية المهمة، ولهذا كانوا في مركز يؤهلهم للنجاح في التقدم في آسيا الصغرى (3)، كما يؤمَّنون هذه السيطرة على الطرق بحراستها وإشعال نيران المراقبة فوق المرتفعات ليلاً (4).
ثامناً: السيطرة على موارد المياه:
أدرك السلاجقة أهمية المياه للجيوش المحاربة فكان اهتمامهم كبيراً بالسيطرة على الموارد المائية قرب أرض المعركة، ففي المعارك التي خاضها السلاجقة ضد الجيوش الغزنوية، يقول البيهقي - وهو شاهد عين- بعد معركة سرخس: إن السلاجقة كانوا يعملون على تحويل مجرى هذا النهر الذي نقيم على شاطئه (5)، ثم يقول بعد ذلك: إذا بماء هذا النهر ينقطع جريانه ... وبعد عنا الماء الجاري واضطررنا إلى التعويل على مياه الآبار (6). ويؤكد بعض المؤرخين أن جيش السلطان مسعود الغزنوي عانى من قلة المياه في ملاحقته لجيش السلاجقة وأن ذلك كان سبباً مباشراً في انتصار السلاجقة عليه في المعركة التي حدثت في الصحراء الواقعة بين سرخس ومرو في مكان يُعرف بدندانقان سنة 431هـ.
تاسعاً: التأمين العسكري:
ذكر قائد جيش السلاجقة في بداية دولة جغري بك داود أن الأحمال الثقيلة هي نقطة الضعف الوحيدة في جيش الغزنويين لارتباطهم بها، فكانت سبباً في هزائمهم المتكررة من قبل السلاجقة (7)، وتبعاً لما أكدته الرسائل التي بعث بها جواسيس الجيش الغزنوي إلى السلطان مسعود فقد اعتبر السلاجقة خلو جيشهم من الأثقال والأمتعة التي تعوق تحركاته من تقاليدهم الحربية التي يجب المحافظة عليها (8)، ويذكر البيهقي أن السلاجقة جعلوا أثقالهم خلفهم على بعد ثلاثين فرسخا (9) (تسعين ميلاً) فكانوا - حينما يشعرون بالخطر يرسلون عيالهم وأمتعتهم وأثقالهم إلى مخابئ آمنة في الصحراء يعرفونها بواسطة جزء من فرسانهم لحراستها، حتى يتهيأ لهم القتال بحرية أكبر، وهو ما
_________
(1) أخبار الدولة السلجوقية، ص 34، 35، النظم الحربية عند السلاجقة، ص 304.
(2) النظم الحربية عند السلاجقة، ص 304.
(3) النظم الحربية عند السلاجقة، ص 304.
(4) المصدر نفسه، ص 305.
(5) تاريخ البيهقي، ص 633.
(6) المصدر نفسه، ص 634.
(7) المصدر نفسه، ص 624، 625.
(8) المصدر نفسه، ص 633.
(9) المصدر نفسه، ص 625، النظم الحربية عند السلاجقة، ص 307.(1/264)
أكدته كثير من المصادر التاريخية وذلك رغبة منهم في تأمينها بعيداً عن متناول يد العدو في أرض المعركة (1)، ففي اعتقادهم العسكرية أن الفارس المتخفف يصبح أكثر جرأة، كما يقول قائد الجيش السلجوقي داود (2). وظل السلاجقة على نظرتهم تلك للأثقال حتى إن السلطان ألب أرسلان عندما أراد ملاقاة البيزنطيين في ملاذكرد أمر بإبعاد الأثقال مع زوجته ووزيره نظام الملك إلى همذان وسار بجيشه نحو المعركة (3).
عاشراً: المهام الخاصة الطارئة:
اهتم السلاجقة اهتماماً كبيراً بالمهام الطارئة منذ بداية أمرهم فأعدوا العدة لها،، واهتموا بتحديد المهام الموكلة لفرسانهم وقوادهم وجندهم، فاهتم رجالات الدولة بهذه المهام حتى كان من رأي الوزير السلجوقي نظام الملك أنه ينبغي أن تسجل في الديوان باستمرار أسماء أربعة آلاف رجل من كل الأجناس احتياطاً، ألف للملك خاصة، وثلاثة آلاف لأفواج الأمراء وقادة الجيش للاستعانة بهم في الملمات وحين الحاجة (4)، وتشمل تطبيقات السلاجقة لهذه المهام الخاصة عدة جوانب أهمها:
1 - المهام الحربية (العسكرية): ففي قتال السلطان طغرل بك للبساسيري أرسل السلطان سرية من الجيش بقيادة خمارتكين عن طريق الكوفة لإشغاله عن الذهاب إلى الشام (5)، كما عهد إلى فرقة مكونة من عشرين فارساً بإخضاع دير كمّول فقاموا بتنفيذ هذه المهمة (6) وعندما خرج السلطان ألب أرسلان لقتال الإمبراطور البيزنطي رومانوس عام 463هـ وأرسل في البداية وحدة عسكرية من المماليك تحت قيادة أحد الحجّاب استطاعت أن تهزم قوة بيزنطية مكونة من عشرة آلاف شخص، وحينما أعيد الإمبراطور بعد أسره في موقعة ملاذكرد إلى بلاده أمر السلطان بأن ترافقه وحدة عسكرية من الغلمان تتكون من مائة غلام تحت قيادة حاجبين (7)، وفي سنة تسعين وأربعمائة كلف السلطان بركيارق فرقة من الجيش السلجوقي بمفاجأة أمير أميران الذي خرج عن طاعته فقامت بتنفيذ هذه المهمة على أكمل وجه وعادت به أسيراً بعد قتال يسير (8). وقد أبدى السلاطين السلاجقة اهتماماً بالغاً
_________
(1) تاريخ بخاري، ص 129، 132، النظم الحربية، ص 307.
(2) تاريخ البيهقي، ص 683.
(3) الكامل في التاريخ, نقلاً عن النظم الحربية، ص 307.
(4) الكامل في التاريخ, نقلاً عن النظم الحربية، ص 307.
(5) المنتظم (8/ 208، 209) , تاريخ ابن أبي الهيجاء، ص 9
(6) تاريخ الزمان، ص 101.
(7) بنو مرداس، ص 178، النظم الحربية عند السلاجقة، ص 315.
(8) الكامل في التاريخ, نقلاً عن النظم الحربية عند السلاجقة، ص 315.(1/265)
بتجهيز العوامل وتهيئة الظروف المناسبة لتمكين قادتهم من تحقيق المهام الحربية المنوطة بهم، كاختيار المواقع العسكرية الإستراتيجية المناسبة وإسناد المهام الكبرى إلى القادة الأكفاء.
وفي مواجهة السلاجقة لخطر الذين هددوا المصالح السلجوقية في آسيا الصغرى وسوريا نجد اهتمام السلاجقة بالموصل لموقعها المهم فاتخذوها - بمرور الزمن - قاعدة لانطلاق القوات السلجوقية لمواجهة الصليبيين، كما عينوا عليها أهم قوادهم مثل كربوقا وجاولي سقاوة، والأمير مودود وآق سنقر البرسقي وعماد الدين زنكي، كما وضعوا تحت تصرفهم عدداً كبيراً من الجيوش ليتمكنوا من تحقيق المهام التي كلفّوا بها فأبلوا بلاءً حسناً في قتال الصليبيين (1).
2 - مهام الحراسة: تدخل الحراسة كجانب من جوانب المهام الخاصة الطارئة عند السلاجقة، وتزداد أهميتها في حالة دخولهم معركة من المعارك، يقول شاهد عيان في وصفه حراس الجبال عند السلاجقة: كان الحراس (الديدبانات) المعينون فوق الجبل يجري بعضهم إلى بعض ويقولون إن السلطان مسعود الغزنوى قد جاء وأبلغ الخبر إلى طغرل وداود (2). وهو ما يحمل معنى متقدماً من أن السلاجقة لم يكتفوا بحراسة الطرق بل تجاوزوا ذلك إلى مراقبة العدو وحراسته للتعرف على اتجاه سيره لأخذ الاحتياطات اللازمة لذلك, وتتبوأ الحراسة العسكرية ليلاً مكانة مهمة في تأمين الجيش (3)، فقد ساعدت سيطرة السلاجقة على المرتفعات والجبال على سهولة الحراسة والمراقبة، فكانوا يشعلون النيران عليها ليلاً لهذا الغرض (4).
الحادي عشر: نظام التعبئة:
تؤكد كثير من المصادر التاريخية أن كثيراً من سلاطين السلاجقة استخدموا نظام التعبئة القائم على توزيع الجيش إلى مقدمة وميمنة وقلب وميسرة وساقة (5). هذه هي أهم الخطط والفنون القتالية التي استخدمها السلاجقة.
* * *
_________
(1) السياسة السلجوقية في العراق، فاضل مهدي بيان، ص 115.
(2) تاريخ البيهقي، ص 666، النظم الحربية عند السلاجقة، ص 316.
(3) بدائع السلك في طبائع الملك لابن الأزرق (1/ 168).
(4) النظم الحربية عند السلاجقة، ص 316.
(5) المصدر نفسه، ص 319.(1/266)
المبحث الخامس
أثر نظم السلاجقة في الدولة الزنكية والأيوبية والمماليك
أولاً: الدولة الزنكية:
أحدث السلاجقة تأثيراً واضحاً في الدول التي حلت محلهم أو جاءت بعدهم في مختلف الجوانب العسكرية، فيذكر ابن الأثير أن ديوان زنكي كان يشبه إلى حد كبير دواوين السلاجقة في نظمه من كثرة الحاشية وجمال الزينة ونفاذ الأمر (1)، وهذا - بدون شك - من آثار نظم السلاجقة الواضحة في أتابكتهم الذين ترسموا خطاهم فساروا عليها في جميع أحوالهم، وبهذا كان الزنكيون أول من طبق النظم السلجوقية وعلى رأسها النظم العسكرية (2)، فكان عماد الدين زنكي (ت 541هـ) رجلاً عسكريا اعتنى بجيشه وبتنظيماته فجعل ديواناً خاصاً يعنى بطعامهم ومرتباتهم وأسلحتهم, وكان يتولى أمور الجيش أمير حاجب يرجع للسلطان مباشرة (3)، وكل هذه التنظيمات قد وجدت عند السلاجقة. وجاء من بعده ابنه سيف الدين غازي (ت544هـ) الذي تربّى في بلاط السلاجقة، فكان لهذا تأثير كبير في سياسته واطلاعه على أمور الحرب وإدارة الدواوين فكان يقلد سلاطين السلاجقة في زيه وركوبه وإظهار قوته (4)، ونظراً للاتصال الكبير بين السلاجقة وعماد الدين فقد تأثر بكثير مما وجد لدى السلاجقة، فكان يشارك السلطان محمود السلجوقي في لعب الكرة على ظهور الخيل وسار أولاده على نهجه (5)، حتى كان نور الدين محمود يداوم على اللعب بالكرة تدريباً للخيل ومنعاً لبدانتها حتى أتقن اللعب بها تماماً (6)، وكان يأمر قواده أن يلعبوا بالكرة مع أفراد الجيش كل يوم بعد صلاة العصر خشية أن يركن الجيش إلى الكسل (7)، وهذا يدل على تأثر الزنكيين بالنظم السلجوقية الفكرية والثقافية والعلمية كما سيأتي بيانه بإذن الله.
ثانياً: الأيوبيون والمماليك:
أشار القلقشندي إلى أن أهم الدول والإمارات التي قامت في المنطقة كانت تستمد نظمها من السلاجقة في معظم الأحيان، وذكر بعض المؤرخين أن بعض تلك الدول قد حذت حذو
_________
(1) الباهر، ص 83.
(2) تاريخ الموصل، سعيد الديوه حي, ص 283.
(3) النظم الحربية عند السلاجقة، ص 340.
(4) المصدر نفسه، ص 340.
(5) المصدر نفسه، ص 340.
(6) الباهر، ص 168، 169.
(7) تاريخ الموصل، ص 446.(1/267)
السلاجقة في كل شيء كالدولة الأيوبية (1) فقد اعتاد الجيش المصاحب لشيركوه على الأنظمة المتوارثة عن السلاجقة، فكانت أنظمتها العسكرية وسياستها الحربية مستمدة من الأنظمة السلجوقية التي عايشها الأيوبيون الأوائل عندما كانوا في كنف عماد الدين زنكي، بل كان مجيء صلاح الدين إلى مصر في جيش من جيوش نور الدين بن عماد الدين زنكي، فقد اعتمد نور الدين محمود نفس النظم التي كان السلاجقة قد أرسوا قواعدها والتي كان أبوه زنكي قد اعتمدها- من قبل - وأفاد منها إلى حد كبير وجاء الأيوبيون والمماليك في أعقابهم ليسيروا بهذه النظم نحو مزيد من النضج والشمول (2)، حيث يذكر القلقشندي أن المماليك تأثروا في نظمهم بالسلاجقة بفعل ما أخذوه عن الأيوبيين الذين نقلوه بدورهم عن السلاجقة عن طريق أتابكتهم (3)، ومن هنا يؤيد عماد الدين خليل الرأي القائل بأن المنطقة كلها قد تأثرت في هذه المرحلة التاريخية بشكل كبير، أو صغير, بما أنشأه السلاجقة من نظم حربية مختلفة (4) ويذكر حسن حبشي أن السلاجقة كانوا من أسباب التأثير الحضاري غير المباشر للشرق على الغرب والذي نجم عن الاحتكاك العسكري عبر الحروب الصليبية (5)،
كما تأثرت الأجهزة المدنية والعسكرية في الدولة العثمانية بما وجد لدى السلاجقة حتى اعتبرت امتداداً لتلك التنظيمات (6)، ليس بحكم أصل النشأة, فالجميع أتراك, وإنما بتأثير الامتداد والتعاقب الحضاري, ويمكن محاولة تتبع هذه التأثيرات السلجوقية بدراسة المجالات العسكرية المتنوعة والتي منها:
1 - أجناس وعناصر الجند: قام السلطان صلاح الدين بإعادة تنظيم الجيش بعد فتحه لمصر، فصار مكوناً من الأكراد والأتراك والتركمان بشكل رئيسي (7) , وفي هذا التغيير دلالة على ثقته الكبيرة في هذه العناصر العسكرية من خلال المعرفة السابقة لها في جيش نور الدين وإقصاء العناصر التي كان يتألف منها الجيش الفاطمي، وما زالت متأثرة بالولاء للدولة الفاطمية (8)، ويذكر المقريزي التزام المماليك بعد الأيوبيين في الاعتماد على هذه العناصر بقوله إنه بعد زوال دولتهم بقيام عبيدهم المماليك الأتراك فحذوا حذو مواليهم بني أيوب واقتصروا على الأتراك وشيء من الأكراد واستجدوا من المماليك التي تجلب من بلاد الترك شيئاً كثيراً (9).
_________
(1) نور الدين محمود، عماد الدين خليل، ص 67, النظم الحربية، ص 341.
(2) النظم الحربية عند السلاجقة، ص 342.
(3) صبح الأعشى (4/ 3، 4).
(4) نور الدين محمود، عماد الدين خليل, ص 67.
(5) السلاجقة, مجلة الرسالة، عدد 663، ص 302.
(6) قيام الدولة العثمانية، ص 171 ..
(7) الصليبيون في الشرق، ص 189، النظم الحربية، ص 343.
(8) النظم الحربية عند السلاجقة، ص 343.
(9) الخطط للمقريزي (1/ 95).(1/268)
2 - تكوين الجيش: تكون الجيش الأيوبي من فرق كانت تعرض أمام السلطان فرقة بعد فرقة وموكباً بعد موكب، بلغ عددها مائة وسبعة وستين فرقة، وكانت تعرف وقتذاك باسم طلب يتكون ما بين مائتي فارس إلى مائة إلى سبعين فارساً (1)، وكانت عملية جمع الجيش الأيوبي للقيام بالحملات الكبرى مشابهة في أساسها ومضمونها لما عند السلاجقة، فيتم استدعاء فرق الأمراء الذين أقطعوا المدن والأقاليم للمشاركة بجيوشهم في هذه الحملات (2).
3 - فرق الجيش: كان في الجيش الأيوبي فرقة النشابين الذين يرمون بالنشاب وفرقة النفاطين وهم الذين يرمون النفط لإحراق حصون الأعداء, والمنجنيقيين وهم رماة المنجنيق والعيارين رماة الحجارة كانوا يملأون مخالي (3)، الخيل بها (4)،كذلك أتباع العسكر أو الأوباش والرعاع ويسمون سوقة أو حواش (5) ويذكر المقريزي أن الجاويشية قد وجدوا عند المماليك وكانت مهمتهم تنظيم سير مواكب سلاطينهم (6)، وهذه كلها تنظيمات وفرق مشهورة في الجيش السلجوقي ووجودها عند الأيوبيين والمماليك يدل دلالة واضحة على التأثير السلجوقي في الجيش الأيوبي والمملوكي (7).
4 - الخطط والفنون القتالية: استعمل الأيوبيون في قتالهم طريقة المصاف، بتقسيم الجيش إلى ميمنة وميسرة وقلب بالإضافة إلى المقدمة والساقة، فيصف شاهد عيان كيف قسم السلطان صلاح الدين جيشه إلى ميمنة وميسرة وقلب استعداداً للقتال (8)، كما استخدم التقسيم في معركة الرملة كذلك (9)، وهو من الأساليب التي اتخذها السلاجقة في قتالهم، ومعلوم أن هذا التقسيم نظام قديم ومعروف ولكن التشابه في استخدامه يشير إلى التأثير السلجوقي على الأيوبيين كجانب من جوانب التأثير لديهم (10) وعندما نأتي لدراسة عهد الدولة الأيوبية -بإذن الله تعالى- سوف نرى الخطط والفنون القتالية التي تأثر بها الأيوبيون بالسلاجقة، كالحرب الخاطفة والمباغتة، وتطويق العدو، والكمائن، واستدراج العدو, ومحاولة تحديد مكان المعركة (11)، وغير ذلك.
5 - وسائل نقل الأخبار ووسائل الاتصال: تأثرت وسائل الاتصال الأيوبية في عهد
_________
(1) الخطط (1/ 86) , جيش مصر، نظير سعداوي، ص 9.
(2) النظم الحربية عند السلاجقة، ص 344.
(3) ما يجعل على ظهر الخيل من جلد أو غيره يوضع بها ما يراد حمله على الخيل.
(4) جيش مصر, ص 20.
(5) الفتح القسي، للعماد الأصفهاني ص 565.
(6) الخطط (2/ 209).
(7) النظم الحربية عند السلاجقة، ص 345.
(8) النوادر لابن شداد، ص 34، النظم الحربية، ص 345.
(9) النوادر، ص 53, النظم الحربية، ص 345.
(10) النظم الحربية، ص 345.
(11) المصدر نفسه، ص 351.(1/269)
صلاح الدين بما وجد لدى سيده نور الدين محمود في مجال استخدام الحمام الزاجل الذي كانت تعلّق فيه الكتب حيث تعود بها إلى أوكارها فيوصل المسئول عنها الكتاب إلى من وجَّه إليه، ونسب بعض الباحثين إلى عماد الدين زنكي استخدام الحمام الزاجل قبل ابنه نور الدين (1)، ويعتبر عماد الدين من ولاة السلاجقة، وقد أظهر الخليفة العباسي الناصر في العصر السلجوقي العناية بالحمام وتربيته (2)، واستخدمه الفاطميون وبالغوا في الاهتمام به حتى أفردوا له ديواناً بأنسابه (3)، فاستفاد صلاح الدين من الحمام وإيصاله لأخبار العدو إليه، حتى كان بعض الجند يتخذ حماماً يدرَّبه تدريجياً على الطيران من مسافات بعيدة، وعمل له الأبراج الخشبية قرب خيمته حيثما نزل، كما استفاد منه في التعرف على أخبار مدينة عكا وحصار الصليبيين لها والتنسيق مع أهلها لمقاومته (4)، وأسهم استخدام الحمام في مباغتة صلاح الدين للصليبيين أثناء محاولتهم الاستيلاء على الإسكندرية ودمياط نتيجة لوصول أخبارهم إليه مباشرة بهذه الوسيلة (5)، وكان تأثر الصليبيين بهذه الوسيلة في نقل الأخبار كبيرًا، فأعجبوا بها ونقلوها إلى بلدانهم (6)، وقد استخدم الحمام الزاجل بعد ذلك في عصر المماليك فأطلق على المشرف على أبراجه برَّاج (7).
6 - الإقطاع العسكري: يقول المقريزي بعد حديثه عن الوزير نظام الملك والإقطاع موضحاً التأثير السلجوقي في هذا المجال على من جاء بعدهم: واقتدى بفعله من جاء بعده من الملوك من أعوام بضع وثمانين وأربعمائة إلى يومنا هذا (8). هذا كما وجد عند الأيوبيين كناحية من نواحي التأثير المتعددة للسلاجقة على الدولة الأيوبية، ويرى بعض المؤرخين أن الإقطاع ذا الصبغة العسكرية في عهد صلاح الدين كان استمراراً لوجوده السابق عند السلاجقة وأتابكتهم (9)، ووجد الإقطاع أيضاً عند المماليك بعد ذلك بينما احتفظ العثمانيون بما كان متبعاً لدى السلاجقة في مجال الإقطاع (10)، وفي ذلك كله دلالة واضحة على التأثير الذي أحدثه نظام الإقطاع
_________
(1) النظم الحربية، ص 351.
(2) صبح الأعشى (14/ 435، 346) , النظم الحربية، ص 351.
(3) صبح الأعشى, نقلاً عن النظم الحربية، ص 351.
(4) الحرب عند العرب، ص 337، النظم الحربية، ص 351.
(5) النظم الحربية عند السلاجقة، ص 351.
(6) النظم الحربية عند السلاجقة، ص 351.
(7) الإسلام في حضارته ونظمه، ص 145، النظم الحربية، ص 352.
(8) الخطط (1/ 95) , النظم الحربية، ص 355.
(9) الجيش الأيوبي، محسن محمد، ص 129, النظم الحربية، ص 355.
(10) قيام الدولة العثمانية، محمد فؤاد، ص 170، 171.(1/270)
العسكري السلجوقي لدى الدول التي جاءت بعد السلاجقة (1).
7 - التقسيم العشري: اتبع السلاجقة التقسيم القائم على تقسيم القادة العسكريين ابتداءً من كبار القادة أمراء المائة ومروراً بأمراء الطبلخاناه ثم العشرات فالخمسات, وهي أقل هذه الدرجات, وهي من التنظيمات المهمة في عصر السلاجقة، وكان لها تأثيرها البالغ في بعض من جاء بعدهم من الدول، فكان عماد الدين زنكي قد اتبع هذا التنظيم العسكري، ثم اتخذ أساساً لتنظيمات الأيوبيين في هذا المجال (2)، وبلغ أوج استقراره ونضجه لدى المماليك بعد ذلك (3).
8 - الألقاب العسكرية:
أ- الأتابك: كانت بداية هذا اللقب عند السلاجقة، وتطور حتى وصل بالأتابك من الناحية العملية بعد ذلك إلى حد توريث وظيفته حتى على مستوى امتلاك الحكم، فكان صلاح الدين قد تدرّع بكونه أتابكاً للملك الصالح إسماعيل بن نور الدين, وعن هذا الطريق ضم سوريا - كما سيأتي بيانه عند حديثنا عن صلاح الدين في الدولة الأيوبية بإذن الله- كما ظلَّ هذا اللقب حرفة مستقلة كذلك حتى عهد المماليك (4).
ب- الأسفهسلار: وكانت مهمته الإشراف على الجند في العصر السلجوقي، ثم انتقل اللقب عن طريق الدولة النورية إلى الدولة الأيوبية (5)،
جـ- اللباس العسكري: يفصل القلقشندي التأثيرات السلجوقية في هذا المجال على الأيوبيين عن طريق أتابكتهم، فكان اللباس العسكري الأيوبي مماثلاً، سواء في ذلك القادة أو الجند، فكانوا يلبسون الكلوتات (6) الصفر على رءوسهم مكشوفة بغير عمائم، وذوائب شعورهم مرخاة تحتها، سواء في ذلك المماليك والأمراء وغيرهم (7)، ويوافقه محسن محمد على ذلك حتى إن التغييرات التي أحدثها بعض الأتابكة، كسيف الدين غازي بن عماد الدين زنكي ثاني أتابكة الموصل (544هـ) حينما استحدث حمل السنجق (8)، على رأسه،
_________
(1) النظم الحربية، ص 356.
(2) النظم الحربية، ص 356.
(3) المصدر نفسه، ص 356, الخطط (2/ 215 - 219).
(4) النظم الحربية عند السلاجقة، ص 357.
(5) الألقاب الإسلامية، حسن الباشا, ص 157.
(6) الكلوتات نوع من اللباس يوضع على الرأس.
(7) النظم الحربية، ص 358، صبح الأعشى (4/ 5، 41).
(8) السنجق لفظ تركي يطلق في الأصل على الرمح, والجمع سناجق, وهي رايات صفر صغار يحملها السنجقدار في موكب السلطان.(1/271)
وألزم الجند بشد السيوف في أوساطهم، وجعل الدبابيس تحت ركبهم عند الركوب، قام السلطان صلاح الدين بتطبيق ذلك (1)، ويؤكد ذلك القلقشندي بقوله عن صلاح الدين إنه: جرى على هذا النهج أو ما قاربه (2)، ومعلوم أن اللباس عند الأتابكة قبل تعديلات سيف الدين غازي هو بذاته لباس السلاجقة, وبذلك يكون التأثير السلجوقي قد انتقل بواسطة أتابكتهم، وكان من عادة السلاجقة استخدام الجاليش في مقدمة الجيش السلجوقي وهو عبارة عن خصلة من شعر الحصان توضع في أعلى الراية أمام الجيش ثم انتقلت على مقدمة الجيش, وقد انتقلت هذه العادة إلى الأيوبيين (3)، فهذه بعض الإشارات العابرة حول أثر نظم السلاجقة في الدول الأخرى.
* * *
_________
(1) الجيش الأيوبي، ص 122، 123.
(2) صبح الأعشى (4/ 6) , النظم الحربية عند السلاجقة، ص 358.
(3) التاريخ العباسي، إبراهيم الأيوب ص 196.(1/272)
المبحث السادس
المرأة في العهد السلجوقي
رغماً مما وجد في العصر السلجوقي من فكر عن ضعف المرأة تمثَّل في نظرة كبار رجالات الدولة وبعض علمائها فإنه كان لبعضهن دور كبير في الميادين العسكرية والسياسية والاجتماعية, ويرى الوزير نظام الملك أن النساء: محجبات مستورات، ناقصات العقول، الغاية منهن الإنجاب لحفظ النسل (1)، ويعقد الغزالي للنساء بابا خاصاً في كتابه التبر المسبوك يرى فيه: أن المرأة أسيرة الرجل، ويجب على الرجال مداراة النساء لنقص عقولهن، وبسبب عقولهن لا يجوز لأحد أن يتدبر بآرائهن ولا يلتفت إلى أقوالهن, ومن اعتمد على آرائهن ودبر نفسه بمشورتهن خسر (2) فهو يتفق مع الوزير السلجوقي نظام الملك في مقصوده وهو وجوب إبعاد النساء عن التدخل في شئون الدولة ويبين الوزير رأيه هذا على شكل استقراء تاريخي يقول فيه: لقد اختط الملوك وأولو العزم من الرجال لأنفسهم طرقاً، وعاشوا حياة لم يكن للنساء أو وصيفاتهن فيها أدنى علم بأسرارهم, وقضوا حياتهم في منأى عن قيودهن، وأهوائهن وأوامرهن ولم يقعوا تحت ربقة نيرهن قط (3)، ويحذر من نتائج وصولهن إلى مواقع السلطة بقوله: إن كل من يجعل النساء قيَّمات على الرجال يستحمل وحده جرم أي خطأ أو انحراف، لأنه هو الذي سمح بذلك وتخطى العادة المتبعة (4). ولكن على الرغم من هذا الرأي فقد شاركت المرأة في العصر السلجوقي، في النشاط العسكري والسياسي والاجتماعي, وإليك بعض الأمثلة:
أولاً: زوجة طغرل بك:
كانت زوجة السلطان طغرل بك -كما يقول ابن تغري بردي-: صاحبة رأي وتدبير وحزم وعزم, وكان زوجها السلطان طغرل بك سامعاً لها ومطيعاً، والأمور مردودة إلى عقلها، وكانت تسير بالعساكر وتنجده وتقاتل أعداءه (5)، فقد سارت نجدة لزوجها السلطان طغرل بك في صراعه مع أخيه إبراهيم ينال متخطية آراء المعارضين لها في هذا العمل
_________
(1) سياست نامه، ص 224.
(2) التبر المسبوك، ص 381.
(3) سياست نامه، ص 227.
(4) المصدر نفسه، ص 231.
(5) النجوم الزاهرة (5/ 101).(1/273)
العسكري (1). كما كلف السلطان ألب أرسلان قبل معركة ملاذكرد سنة 463هـ زوجته بالمسير مع الوزير نظام الملك لإيصال أثقال الجيش إلى همذان (2)، وعندما صادر الوزير السلجوقي نظام الملك أموال كوهر خاتون عمة السلطان السلجوقي ملكشاه حاولت التحرك بجمع الجيوش لقتال الوزير الذي أشار على السلطان بقتلها فقتلها سنة 476هـ، وقضى بذلك على حركتها (3).
ثانياً: تركان خاتون زوجة السلطان ملكشاه:
عندما توفي زوجها استولت على السلطة بعده وساست الأمور سياسة عظيمة، وأنفقت الأموال التي كانت تزيد على عشرين مليون دينار، فأرضت بها العسكر واتفقت مع الخليفة على ترتيب ولدها محمود في السلطنة وعمره يومئذ خمس سنين وعشرة شهور، وخطب له على منابر الحضرة وترتب لوزارته تاج الملك أبو الغنائم المرزبان بن خسرو، وجاء عميد الدولة بخلع من الخليفة، فأفاضها على محمود ودخل إلى أمه فعزاها وهنأها عن الخليفة، ثم خرجت إلى أصفهان (4)، وكان ينافس ابنها أخوه بركيارق، فجرت بين عساكر الطرفين معارك انتصر فيها بركيارق، بعد أن قتل تاج الملك، وعندما فشلت في مواجهة بركيارق أثارت ضده خاله إسماعيل بن ياقوتي أمير أذربيجان ولكنه هزم أمام قوات بركيارق, وكانت مصممة على الاتصال بتاج الدولة تتش بن ألب أرسلان حين وافتها المنية سنة 467هـ، وكان بيدها أصفهان ومعها عشرة آلاف فارس من الأتراك (5)، وهكذا باشرت الحروب ودبرت الجيوش وقادت العساكر وبموتها انحل أمر ابنها محمود وعقد الأمر
لبركيارق بن ملكشاه (6).
ثالثاً: خاتون بنت ملكشاه الثانية زوجة المستظهر:
في سنة 502هـ تزوج المستظهر خاتون بنت ملكشاه، وقد جرى عقد الزواج في مدينة أصفهان، عاصمة الدولة السلجوقية وفي سنة 504هـ بعث الخليفة زين الإسلام أبا سعد محمد نصر الهروي إلى أصفهان لاستدعاء زوجته الخاتون فدخلت بغداد ونزلت بدار المملكة عند أخيها السلطان محمد, وزينت بغداد ونقل جهازها في رمضان، فكان على مائة واثنين
_________
(1) تاريخ بغداد (9/ 400، 401).
(2) الكامل في التاريخ, نقلاً عن النظم الحربية، ص 228.
(3) النجوم الزاهرة (5/ 101).
(4) المنتظم (9/ 62).
(5) الكامل في التاريخ, نقلاً عن النظم الحربية، ص 228.
(6) الحضارة الإسلامية في بغداد 172.(1/274)
وستين جملاً وسبعة وعشرين بغلاً، وجاءت النجائب والمهور والجواري والمزينات وغلقت الأسواق ونصبت القباب وتشاغل الناس بالفرح، وكان الزفاف في ليلة العاشر من رمضان، وكانت ليلة زفافها من ليالي السرور العظيمة (1)، وفي سنة 517هـ، أمر المسترشد بعمارة السور على بغداد الشرقية، وقد تناوب على العمارة أهل كل محلة لمدة أسبوع، وكانوا يخرجون بالطبول والملاهي وعزم الخليفة على ختان أولاده، وزينت بغداد وعمل الناس القباب وعملت خاتون زوجة المستظهر قبة بباب النوبي وعلقت عليها من الثياب والجواهر والديباج ما أدهش الناس وعملت قبة في درب الدواب وعليها غرائب منحوتة مع الحلل ونصب عليها سترات من الديباج الرومي (2) وفي سنة 530هـ حصلت لها محمدة, وذلك حين حاصر السلطان مسعود (3)، الخليفة الراشد بن المسترشد وخاف أهل بغداد فحمل كثير منهم أموالهم إلى دار الخليفة ودار الخاتون ثم خرج الراشد من بغداد بعد أن سلم دار الخلافة ومفاتيحها إلى خاتون فأخرجت أصحابها لحفظ باب النوبي وهو باب من أبواب دار الخلافة وترك الراشد نساءه وأولاده عند الخاتون أيضاً, ودخل مسعود بغداد واستولى على ممتلكات الراشد، فذهبت إليه خاتون وردت إلى أهل الراشد كل ما أخذه تقريباً وهكذا عظمت منزلتها كثيراً (4).
وقد لعبت هذه السيدة دوراً مهماً في الأحداث الكبرى, يقول عنها ابن الساعي: كانت رئيسة جليلة من أعقل النساء، وأشدهن حزماً وسداداً, وأنشأت مدرسة بشارع سوق العسكر ووقفتها على أصحاب الإمام أبي حنيفة وليس في الدنيا مدرسة أكبر منها (5).
رابعاً: قهرمانة المقتدي:
ومن النساء اللواتي كان لهن التأثير المباشر في وصول المستظهر إلى مركز الخلافة قهرمانة المقتدي التي كانت تتمتع بنفوذ كبير فهي تنفذ مهام الدار العزيزة كما ينفذ الوزير مهام الديوان العزيز، وحين قدمت الطبق للمقتدي كان عنده جارية صغيرة، فمات فجأة، فأغلقت باب الحجرة ووكلت بالباب من يحرسه وأرسلت إلى الوزير، وتعاهدت وإياه على تأمين مصلحة أصحابها وأصحابه، وعندما أخذت منه اليمين قالت: أحسن الله عزاءك في أمير المؤمنين، فقط زممت أمر الدار، فزم أنت أمر البلد, ثم أدخلته على ولي العهد المستظهر، وأخبره بموت المقتدي وخلافته بعده, ومضى الوزير إلى السلطان بركيارق وتدارس معه
_________
(1) المنتظم (9/ 159، 160، 165، 166).
(2) الحضارة الإسلامية في بغداد، ص 173.
(3) المصدر نفسه، ص 174.
(4) المنتظم (10/ 27) , الحضارة الإسلامية، ص 175.
(5) نساء الخلفاء، ص 108، 109, الحضارة الإسلامية، ص 175.(1/275)
الأمر ثم عاد وأجلس المستظهر وأشاع موت المقتدى, كل ذلك كان بتدبير القهرمانة (1).
خامساً: خاتون السفرية:
كانت حظية ملكشاه ومن جواريه فولدت له محمداً وسنجر، وكانت تتدين، وتبعث حمال السبيل إلى طريق مكة ولما حصلت على الملك بحثت عن أهلها وأمها وأخواتها حتى عرفت مكانهم ثم بذلت الأموال لمن يأتيها بهم، فلما وصلوا إليها ودخلت أمها كانت قد فارقتها منذ أربعين سنة، فجلست البنت بين جوار يقاربنها في الشبه حتى تنظر هل تعرفها أم لا، فلما سمعت الأم صوتها نهضت إليها فقبلتها وأسلمت الأم، فلما توفيت خاتون قعد لها السلطان محمود في العزاء (2).
سادساً: عالمات وزاهدات وواعظات في العهد السلجوقي:
وأما على الصعيد العلمي فقد اشتهر عدد من النساء منهن:
1 - دلال بنت أبي الفضل محمد بن عبد العزيز بن المهتدي، سمعت أباها, توفيت سنة 508هـ.
2 - رابعة بنت أبي الحكم بن أبي عبد الله الحيري, سمعت من الجوهري وابن المسلمة وابن النقور وغيرهم, وحدثت وروى عنها ولدها وكانت خيرة (3).
3 - الحرانية وبنت الجنيد وبنت الغراد: تتلمذ عليهن في الزهد أبو الوفاء علي بن عقيل وهو فريد دهره وإمام عصره، وبنت الغراد كانت منقطعة إلى قعر بيتها لم تصعد قط, ولها كلام في الورع (4).
4 - فاطمة بنت عبد الله الخيري الفرضي: سمعت الحديث وحدثت به. وأما في ميدان الزهد والتعبد فقد اشتهرت ببغداد:
5 - السيدة فاطمة بنت الحسين بن الحسن بن فضلويه الرازي, كانت واعظة متعبدة لها رباط تجتمع فيه الزاهدات, سمعت أبا جعفر بن المسلمة وأبا بكر الخطيب وسمع منها صاحب المنتظم بقراءة شيخه أبي الفضل بن ناصر كتاب ذم الغيبة لإبراهيم الحربي, وروت مسند الشافعي (5).
_________
(1) الحضارة الإسلامية في بغداد، ص 176.
(2) المنتظم (10/ 87، 88).
(3) الحضارة الإسلامية في بغداد، ص 176.
(4) المصدر نفسه، ص 177.
(5) المنتظم (9/ 212، 229) , الحضارة الإسلامية في بغداد، ص 177.(1/276)
سابعاً: اختلاط النساء بالرجال:
لم يكن المجتمع البغدادي يستسيغ الاختلاط بين النساء والرجال في الطرق, وكان المحتسب لا يسمح حتى للزوجين أن يجتمعا في طريق خال من المارة, وكان يفصل بين النساء والرجال أثناء ركوب الزوارق عند عبور دجلة, ولم يكتف المحتسب بذلك بل أصدر أمره سنة 502هـ بمنع النساء من العبور مع الرجال في نفس الزورق، وصدر التشديد على النساء من المستظهر سنة 494هـ حين أمر المحتسب بمنعهن من الخروج ليلاً للتفرج عند افتتاح جامع القصر، ومع عناية المستظهر بحفظ أخلاق الناس، كانت تقع حوادث فيها مخالفة للقوانين الشرعية فبعضها يفلت من مراقبة الحكومة والبعض الآخر تتمكن من التعرف عليه (1)، وكان بعض الناس يخرجون على القيم الاجتماعية، فكان الرجال يلتقون بالنساء خفية
في الليل ولكن ذلك كان من قبيل المغامرة إذ إنهم بمحاولتهم الالتقاء بالنساء
يعرضون أنفسهم لانتقام ذويهن كما حدث سنة 500هـ، عندما دخل صبي إلى داره فوجد فيها رجلاً غريباً عند أخته فما كان منه إلا أن أسرع إلى قتل ذلك الرجل، وقد يقوم
بمهمة القتل هذه زوج المرأة إذا علم باتصالها برجل آخر ولا يعبأ بالنتائج المترتبة على هذا القتل بسبب الغيرة على العرض (2).
* * *
_________
(1) الحضارة الإسلامية في بغداد، ص 178.
(2) المنتظم (9/ 123، 148، 157، 159)، الحضارة الإسلامية في بغداد، ص 178.(1/277)
الفصل الرابع
المدارس النظامية في عهد السلاجقة
المبحث الأول
نشأة المدارس وأهدافها
أولاً: نشأتها:
اختلف المؤرخون وأهل العلم حول بداية نشأة المدارس الإسلامية، فمنهم من قال إنها ظهرت في عهد نظام الملك الذي أنشأ المدرسة النظامية سنة 459هـ ومنهم من قال إنها كانت قد ظهرت قبل ذلك بكثير، ولكن بالرجوع إلى المصادر والكتب المتخصصة نجد أن أول ظهور للمدرسة كان في أواخر القرن الثاني وأوائل القرن الثالث الهجري, وهذه المدرسة هي مدرسة الإمام أبي حفص الفقيه البخاري «150هـ - 217هـ» ويبدو من نسبتها إلى مؤسسها أنها قد أسست أثناء حياته، وأبو حفص البخاري من الفقهاء الذين تزعموا الحركة الفكرية في مدينة بخارى، ثم نشطت حركة إنشاء المدارس في بلاد المشرق بعد هذا التاريخ، فقد تم إنشاء مدرسة بنيسابور منذ بداية القرن الرابع الهجري (1) أنشأها الإمام أبو حاتم محمد بن حبان التميمي الشافعي (270 - 354هـ). وقد كانت المدارس التي أسست في ذلك الوقت مدارس أحادية المذهب تفردت بتدريس مذهب واحد، ذلك لأن التنافس المذهبي الذي كانت تعيشه بغداد حاضرة الخلافة قد امتد إلى بلاد ما وراء النهر (2)، ومن الجدير بالذكر أن المدارس كانت قد ظهرت في دمشق قبل ظهورها في بغداد، فقد تم إنشاء أول مدرسة فيها عام 391هـ وهذه المدرسة هي المدرسة الصادرية المنسوبة إلى منشئها، صادر بن عبد الله، وتبعه بعد ذلك مقرئ دمشق «رشأ بن نضيف» حيث قام بتأسيس المدرسة الرشائية في حدود الأربعمائة، وإلى هذه المدارس خرج الطلبة من الحلق التي كانت تعقد في المسجد إلى مكان يختص بتلقي علم معين فيوقف عليهم وعلى شيوخهم المال وتوفر لهم أسباب التعليم (3)،وفيما يلي ذكر لبعض المدارس التي أنشئت قبل المدرسة النظامية وهي حسب التسلسل الزمني لظهورها وعلى سبيل المثال لا الحصر:
_________
(1) الإدارة التربوية في المدارس في العصر العباسي، ص 94.
(2) المدرسة مع التركيز على النظاميات للسامرائي، ص 336، 337.
(3) نظم التعليم عند المسلمين، عارف عبد الغني، ص 89, الإدارة التربوية في المدارس في العصر العباسي، ص 95.(1/278)
1 - مدرسة الإمام أبي حفص الفقيه البخاري (150هـ - 217هـ).
2 - مدرسة ابن حيان، في بداية القرن الرابع الهجري وفي حوالي سنة 305هـ شيد أبو حاتم بن حيان البستي داراً في بلده بست وجعل فيها خزانة كتب وبيوتاً للطلبة.
3 - مدرسة أبي الوليد، قبل سنة (349هـ) أنشئت مدرسة أبي الوليد حسان بن أحمد النيسابوري الشافعي (ت 349هـ) ويذكر أنه كان كثير الملازمة لها.
4 - مدرسة محمد بن عبد الله بن حماد (ت 388هـ) الذي وصفه السبكي بأنه كان إلى أن خرج من دار الدنيا وهو ملازم لمسجده ومدرسته.
5 - المدرسة الصادرية التي أنشأها الأمير شجاع الدولة صادر بن عبد الله سنة 391هـ في مدينة دمشق.
6 - المدرسة البيهقية بنيسابور والتي أنشئت قبل أن يولد نظام الملك -وقد ولد سنة 408هـ- فتكون هذه المدرسة أنشئت قبل هذا التاريخ.
7 - مدرسة أبي بكر البستي (ت429هـ) والتي بناها لأهل العلم بنيسابور على باب داره ووقف جملة من ماله عليها وكان هذا الرجل من كبار المدرسين والناظرين بنيسابور.
8 - مدرسة الإمام أبي حنيفة التي أنشئت بجوار مشهد أبي حنيفة وأسسها أبو سعد ابن المستوفي حيث تم افتتاحها قبل افتتاح المدرسة النظامية بخمسة شهور (1). وقد ذكر بعض المؤرخين أن الغزنويين اهتموا بالمدارس من خلال بعض أمرائهم، كالنصر بن سبكتكين حينما كان والياً على نيسابور وسماها السعدية (2) , وجاء نظام الملك فوجد أمامه هذه النماذج العديدة من المدارس، ورأى الفاطميين قد سبقوه إلى تشييد الأزهر، والاعتماد عليه في دعوتهم ودراسة مذهبهم فكانت هذه مصادر إيحاء وتحفيز للقيام بإنشاء مجموعة من المدارس وليست مدرسة واحدة لتشارك المجاهدين في حربهم ضد المبتدعين بنفس السلاح (3)، لقد تسربت الباطنية في سوريا وفارس والعراق وأخذت بفضل إغراء الدعاة وإثارتهم فطاف ناصر خسرو ومن بعده حسن الصباح يدعوان للمذهب الباطني الإسماعيلي الشيعي الرافضي، وقام إبراهيم ينال ثم البساسيري في الموصل وبغداد بثورتين عنيفتين كادتا تقضيان على الخلفاء السلاجقة جميعاً، وكان لدار الحكمة والأزهر اللذين أسسهما الفاطميون في القرن العاشر الهجري بالقاهرة الفضل الأكبر في بث مبادئ التشيع الإسماعيلي ونشر الحكم
_________
(1) التعليم الإسلامي بين الأصالة والتجديد، ص 351.
(2) نظام الملك، ص 365.
(3) نظام الملك، ص 365.(1/279)
الفاطمي (1)، ولم يكن إيقاف حركة الباطنية هذه -فضلاً عن القضاء عليها- بالأمر الهيّن، فجذورها قد تغلغلت في جسم البلد الإسلامي الكبير بحيث لم يبق عضو منه سليماً وبخاصة إقليم خراسان فإنه كان موطن المغذين لها بالآراء الفلسفية والبراهين المنطقية إن لم يكن من المؤسسين لها، وقد اتخذ هؤلاء وسيلتهم الإقناع والحجة عن طريق الحوار والمناقشة (2)،
لقد بدأ التفكير الفعلي في إنشاء هذه المدارس النظامية للوقوف أمام المد الشيعي الإمامي والإسماعيلي الباطني عقب اعتلاء السلطان ألب أرسلان عرش السلاجقة في عام 455هـ، فقد استوزر هذا السلطان رجلاً قديراً وسنياً متحمساً هو الحسن بن علي بن إسحاق الطوسي، الملقب بنظام الملك، فرأى هذا الوزير أن الاقتصار على مقاومة الشيعة الإمامية والإسماعيلية الباطنية سياسياً لن يكتب له النجاح إلا إذا وازى هذه المقاومة السياسية مقاومة فكرية، ذلك أن الشيعة -إمامية كانوا أو إسماعيلية- نشطوا في هذه الفترة وما قبلها إلى الدعوة لمذهبهم بوسائل فكرية متعددة، وهذا النشاط الفكري ما كان ينجح في مقاومته إلا نشاط سني مماثل يتصدى له بالحجة والبرهان، خاصة أن السلاجقة ورثوا في فارس والعراق نفوذ بني بويه الشيعيين، وهؤلاء لم يألوا جهداً في تشجيع الإمامية على نشر فكرهم، كما غضوا الطرف عن نشاط دعاة الإسماعيلية في فارس والعراق وترتب على ذلك كله تزايد نفوذ الشيعة فيهما، خاصة بعد أن لجأ الشيعة إلى إنشاء مؤسسات تعليمية تتولى الترويج لعقائدهم، وتعمل على نشرها، فقد أنشاء أبو علي بن سِوار الكاتب أحد رجال عضد الدولة (ت 372هـ) دار كتب في مدينة البصرة وأخرى في مدينة رام هرمز وجعل فيها إجراء على من قصدهما، ولزم القراءة والنسخ وكان في الأولى منهما شيخ يدرس عليه علم الكلام على مذهب المعتزلة (3)، كما أسس أبو نصر سابور بن أرد شير وزير بهاء الدولة (ت 416هـ) داراً للعمل في الكرخ في عام 383هـ، ووقف فيها كتبًا كثيرة، ذكر ابن الأثير أنها بلغت عشرة آلاف وأربعمائة مجلد في أصناف العلوم، وأسند النظر في أمرها ورعايتها إلى رجلين من العلويين يعاونهما أحد القضاة (4)،
وبعد وفاة سابور آلت مراعاة هذه الدار إلى الشريف الرضى نقيب الطالبيين (5) كذلك اتخذ الشريف الرضي (ت 406هـ) الشاعر الإمامي المشهور دارًا أسماها دار العلم، وفتحها لطلاب العلم، وعين لهم جميع ما يحتاجون
_________
(1) نظام الملك، ص 353.
(2) المصدر نفسه، ص 353، 354.
(3) تاريخ التربية عند الإمامية، عبد الله فياض، ص 87 - 89.
(4) المنتظم (8/ 205) , الحضارة الإسلامية في القرن الرابع (1/ 330).
(5) التاريخ السياسي والفكري د. عبد المجيد أبو الفتوح، ص 177.(1/280)
إليه (1). ويدل مجرد اسم هذه المؤسسات على الفرق بينها وبين دور الكتب القديمة، فكانت دار الكتب تسمى قديماً خزانة الحكمة، وهي خزانة كتب ليس غير، أما المؤسسات الجديدة فتسمى دور العلم، وخزانة الكتب جزء منها (2). وهذا يشير إلى أن هذه الدور الجديدة كانت لها وظيفة تعليمية أيضاً (3)، وإلى جانب دور العلم هذه كان كثير من أئمة الشيعة الإمامية يقومون بالدعوة إلى مذهبهم ونشر عقائدهم في بيوتهم الخاصة، أو في مشاهدهم وأعنى بها المساجد التي دفن فيها أئمتهم - على حد قولهم لأن بعضها لا يثبت- والتي عرفت عندهم بالعتبات المقدسة (4): فقد كان الشيخ المفيد محمد بن محمد النعمان، شيخ الإمامية المتوفي في عام 413هـ يعقد مجلس نظر بدار يحضره جميع العلماء وكانت له منزلة عند أمراء الأطراف يميلهم إلى مذهبه (5)
وأما أبو جعفر الطوسي محمد بن الحسن فقيه الإمامية (ت 460هـ)، فقد فر إلى النجف بعد أن هوجمت داره في بغداد، ونهبت محتوياتها في عام 448هـ في حملة الضغط التي تعرض لها الشيعة في بغداد عقب دخول السلاجقة إليها وتمكن الطوسي في مقره الجديد من مواصلة نشاطه العلمي والتعليمي فألف مجموعة من الكتب في الفقه والحديث على مذهب الإمامية احتلت مكاناً بارزاً في الدراسات الشيعية الإمامية، كالتهذيب والاستبصار، وهما من الكتب الأربعة المعول عليها عندهم والتي تحفل بالروايات الضعيفة والموضوعة والتي لا وزن لها في الميزان العلمي الصحيح، كما أملى الطوسي - في مشهد النجف - على طلبته كثيراً من الدروس جمعها في كتاب سماه الأمالي (6). هذه بعض الجهود التي قام بها الإمامية للترويج لمذهبهم والدعاية له، أما الإسماعيلية، فكانوا أساتذة هذا الميدان ولهم القدم الراسخة فيه إذ حازوا قصب السبق في إنشاء المؤسسات التعليمية، وتوجيهها وجهة مذهبية. (7) بدأ الفاطميون نشاطهم في هذا المجال منذ قيام دولتهم في الشمال الإفريقي, وكان عهدهم الذهبي بإنشاء الجامع الأزهر عام 359هـ وجعلوا منه مؤسسة تعليمية تعنى بنشر مذهبهم في عام 378هـ عندما سأل الوزير يعقوب بن كلس الخليفة العزيز في صلة رزق جماعة من الفقهاء فأطلق لهم ما يكفي كل واحد منهم، وأمر لهم بشراء دار وبنائها فبنيت بجانب الجامع الأزهر، فإذا كان يوم الجمعة حضروا إلى الجامع وتحلقوا فيه بعد الصلاة إلى أن تصلى العصر، وكان لهم من مال الوزير صلة في كل سنة.
ثم
_________
(1) تاريخ التربية الإسلامية، د. أحمد شلبي ص 139.
(2) التاريخ السياسي والفكري د. عبد المجيد أبو الفتوح، ص 177.
(3) التاريخ السياسي والفكري د. عبد المجيد أبو الفتوح، ص 177.
(4) المنتظم (8/ 11) , التاريخ السياسي والفكري، ص 178.
(5) المنتظم (8/ 11) , التاريخ السياسي والفكري، ص 178.
(6) تاريخ التربية عند الإمامية، ص 275، 276.
(7) التاريخ السياسي والفكري، عبد المجيد أبو الفتوح، ص 178.(1/281)
أنشأ الحاكم بأمر الله دار العلم «دار الحكمة» للغرض ذاته في عام 395هـ وحملت الكتب إليها من خزائن القصور، ومن خزائن مقر الدولة الفاطمية, وأجرى الأرزاق على من رسم له بالجلوس فيها، والخدمة لها من فقيه وغيره، وحضرها الناس على طبقاتهم فمنهم من يحضر لقراءة الكتب ومنهم من يحضر للنسخ، ومنهم من يحضر للتعلم وجعل فيها ما يحتاج الناس إليه من الحبر والأقلام والورق والمحابر (1)، هذا بالإضافة إلى البرامج التعليمية التي كانت تعد بعناية خاصة في عاصمة الخلافة الفاطمية لإعداد الدعاة، وتثقيفهم ثقافة مذهبية واسعة قبل إرسالهم إلى البلاد الإسلامية لنشر المذهب الإسماعيلي، وكان لذلك أثره في رواج هذا المذهب في بعض مناطق الشرق الإسلامي نتيجة لهذه الجهود المنظمة المستمرة في نشر هذه الدعوة (2)، لذلك كله فكر نظام الملك في أن يقاوم النفوذ الشيعي بنفس الأسلوب الذي ينتشر به، ومعنى ذلك أنه رأى أن يقرن المقاومة السياسية للشيعة بمقاومة فكرية
أيضاً (3)، وتربية الأمة على كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - وعقيدة أهل السنة والجماعة المستمدة من الوحي الإلهي. ومن هنا كان تفكيره في إنشاء المدارس النظامية التي نسبت إليه، لأنه الذي جد في إنشائها وخطط لها، وأوقف عليها الأوقاف الواسعة، واختار لها الأكفاء من الأساتذة فكان من الطبيعي أن تنسب إليه من دون السلاجقة (4). لقد كان نظام الملك شافعياً سنياً حريصاً على الإسلام الصحيح وقد عاصرته آراء وأفكار متباينة مختلفة كانت منتشرة في العالم الإسلامي كالمعتزلة والباطينة وبقايا القرامطة وغيرهم من أصحاب الملل والنحل. وكان نظام الملك يرمي بدرجة كبيرة إلى توجيه الرعية وجهة تخدم مصلحة الدولة وتبعث على الاستقرار والسكينة والأمن، لذا كان هم نظام الملك التأكيد في مواضع الدراسة على إفهام الناس عامة ومنتسبي النظامية خاصة أصول الدين الصحيحة، ولما كان نظام الملك شافعياً، كان يرى أن يدرس الفقه والأصول المستمدة من أفكار وآراء الشافعية, وكان من شروط النظامية أن يكون المدرس من الشافعية أصلاً وفرعاً (5).
إن من الأخطار العظيمة التي تواجه الأمة اليوم المد الباطني في أنحاء المعمورة, وقد استهدف عقيدة الأمة وكتاب ربها وسنة نبيها وتاريخها وعظماءها، والكثير من رموز الأمة الإسلامية في عالم السياسة والفكر والعلم والتاريخ والثقافة في حالة استرخاء وفتور، والبراكين المدمرة تجري من تحتهم، فهلا نستلهم الدرس، ونستخرج العبرة، ونعمل بالسنن
_________
(1) خطط المقريزي (2/ 272) , التاريخ السياسي والفكري عبد المجيد أبو الفتوح، ص 178.
(2) التاريخ السياسي والفكري، ص 179.
(3) التاريخ السياسي والفكري، ص 179.
(4) التاريخ السياسي والفكري، ص 179.
(5) بحوث في تاريخ الحضارة الإسلامية، ص 105.(1/282)
والقوانين الإلهية في الدعوة إلى الإسلام الصحيح الذي جاء به محمد - صلى الله عليه وسلم -، فيكون من حكامنا، مثل ألب أرسلان في غيرته، ومن وزرائنا كنظام الملك في همته، ومن علمائنا كالجويني والغزالي، وابن عقيل والبغوي وغيرهم في دفاعهم عن الكتاب والسنة والصحابة، وقضايا الفكر، ونوظف الوسائل الحديثة في بث عقائد الإسلام الصحيحة وتاريخه الموثق وفكره البديع من خلال الفضائيات والإنترنت والمطابع والجرائد والمجلات والكتب والندوات والمؤتمرات والمناهج والمدارس والجامعات ووسائل الدعوة بأنواعها، نريد بذلك وجه الله وأجره ومثوبته ومرافقة النبيين والصديقين والشهداء والصالحين.
ثانياً: الأهداف التعليمية للمدارس الإسلامية وخصوصاً النظامية:
إن من أبرز الأهداف التي عملت المدارس على تحقيقها في بداية ظهورها:
1 - تحقيق العبودية الخالصة لله تعالى، وذلك بأن يكون العبد يعبد ربًا واحدًا. وأن تستقيم وتنتظم حياة البشر ضمن هذه الغاية، ولا يتوصل إلى المعرفة الحقة والعبودية الخالصة لله إلا بوجود دوائر تعمل على تحقيق هذه الغاية، ولذلك كانت المدرسة التي عملت وسعت لتحقق وتوضح هذا الهدف في نفوس طلابها, قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56].
2 - الأداء الأمثل للتكاليف الشرعية المختلفة، وذلك لأن معالم الشريعة لا تكون واضحة ولا تعرف أحكام الدين إلا عن طريق التعليم الإسلامي القويم، والتعليم الصحيح هو الطريق الأمثل للوصول إلى مراد الشارع سبحانه وتعالى إذ يقول في كتابه الكريم: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} [النحل: 89]. إذ إن العبادات كافة التي شرعت ما كانت إلا لعبادة الله سبحانه وتعالى, التي يترتب عليها الهداية والرحمة.
3 - ويترتب على الهدف السابق هدف آخر هو إعداد الإنسان الصالح بنفسه المصلح لغيره، ولذلك اعتبر هذا الهدف مهماً من وجهة نظر التعليم الإسلامي، فالتعليم الإسلامي يعد الفرد لكي يكون آمراً بالمعروف معيناً عليه وعلى فعله، وناهياً عن المنكر داعياً إلى تركه بعد أن يكون هو نفسه قد امتثل هذا الأمر أو النهي (1).
4 - توفير جو علمي، تهدف المدرسة الإسلامية إلى توفير جو علمي يساعد الأساتذة والمعلمين على أن يفكروا ويؤلفوا ويبتكروا، فيضيفوا كل جديد إلى العلوم المختلفة بصفة مستمرة.
_________
(1) الإدارة التربوية للمدارس في العصر العباسي، ص 109.(1/283)
5 - العمل على توسيع الأفق الفكري لدى الطلاب، فالمدرسة لا تكتفي بتنمية الخبرات، بل تعمل على أن تكسب الطالب الخبرات الجديدة الناتجة عن تجارب الأمم السابقة والمعاصرة, وهذا ما يسمى عند علماء التربية الإسلامية «نقل التراث» (1)، وهذا يكون من خلال إطلاع الطلبة على التراث الحضاري والفكري لدى الأمة مما يؤدي إلى توسيع الأفق لديهم نتيجة لإطلاعهم على تلك الخبرات (2).
6 - إعداد الكوادر الفنية، تهدف المدرسة من وراء تعليمها للطلبة إلى إعداد الكوادر الفنية المؤهلة لممارسة الأعمال المختلفة سواء في الجهاز الحكومي أو في غيره، خصوصاً أن الوظائف قد تشعبت وكثرت وتضخمت، ولذلك قامت المدرسة بتخريج الأفراد الذين عملوا على تحمل مسئولياتهم في تلك الوظائف (3) فهذه الأهداف للمدارس الإسلامية تشترك فيها المدارس النظامية بالإضافة إلى:
- نشر الفكر السني ليواجه تحديات الفكر الشيعي ويعمل على تقليص نفوذه.
- إيجاد طائفة من المعلمين السنيين المؤهلين لتدريس المذهب السني ونشره في الأقاليم المختلفة.
- خلق طائفة من الموظفين السنيين ليشاركوا في تسيير مؤسسات الدولة وإدارة دواوينها، وبخاصة في مجال القضاء والإدارة (4).
ثالثاً: وسائل نظام الملك في تحقيق الأهداف وحله للمشاكل:
أبدى نظام الملك اهتماماً كبيراً بوسائل تحقيق أهداف المدارس النظامية؛ فاختار الموقع الجغرافي الذي يمكن أن تثمر فيه والمدرسين الممتازين، وأظهر ذكاء ملحوظاً في تحديد المنهج العلمي الذي ستسير عليه، ثم بذل أقصى جهوده لتوفير الإمكانات المادية التي تعين هذه المدارس على العطاء الفكري السخي (5).
1 - الأماكن: فمن ناحية الأماكن التي أنشئت النظاميات فيها يقول السبكي عن نظام الملك: إنه بنى مدرسة ببغداد ومدرسة ببلخ، ومدرسة بنيسابور، ومدرسة بهراة، ومدرسة بأصفهان، ومدرسة بالبصرة، ومدرسة بمرو، ومدرسة بآمل طبرستان ومدرسة بالموصل (6).
_________
(1) أصول التربية الإسلامية وأساليبها للنحلاوي، ص 135.
(2) الإدارة التربوية للمدارس، ص 110.
(3) المصدر نفسه، ص 111.
(4) التاريخ السياسي والفكري، ص 179.
(5) التاريخ السياسي والفكري، ص 179.
(6) طبقات الشافعية، ص 180.(1/284)
هذه إذن هي أمهات المدارس النظامية التي أنشئت في المشرق الإسلامي, ويتضح من توزيعها الجغرافي أن معظمها أنشئ إما في بعض المدن التي تحتل مركز القيادة والتوجيه الفكري، كبغداد وأصفهان، حيث كانت الأولى عاصمة للخلافة العباسية السنية، ويتركز فيها عدد كبير من المفكرين السنيين أيضاً. والثانية كانت عاصمة للسلطنة السلجوقية في عهد ألب أرسلان وملكشاه (عصر نظام الملك) , وإما في بعض المناطق التي كانت مركزاً لتجمع شيعي في تلك الفترة كالبصرة ونيسابور، وطبرستان، وخوزستان، والجزيرة الفراتية (1). إن هذا التوزيع الجغرافي يشير بوضوح إلى أن وضع المدارس النظامية في الأماكن السابقة لم يأت اعتباطاً، وإنما كان أمراً مقصوداً ومدروساً حتى تقوم بدورها في محاربة الفكر الشيعي في هذه المناطق، وتفتح الطريق أمام غلبة المذهب السني.
2 - اختيار الأساتذة والعلماء: وإلى جانب الاختيار المدروس لأماكن المدارس النظامية فإنه تم اختيار أساتذتها بعناية تامة بحيث كانوا أعلام عصرهم في علوم الشريعة، ويشير العماد الأصفهاني إلى دقة نظام الملك في هذه الناحية فيقول عنه: وكان بابه مجمع الفضلاء، وملجأ العلماء، وكان نافذا بصيراً ينقب عن أحوال كل منهم، فمن تفرس فيه صلاحية الولاية ولاه .. ومن رأى الانتفاع بعلمه أغناه، ورتب له ما يكفيه حتى ينقطع إلى إفادة العلم ونشره وتدريسه، وربما سيره إلى إقليم خال من العلم ليحلِّي به عاطله، ويحيي به حقه، ويميت به باطله (2). وفي كثير من الأحيان كان نظام الملك لا يعين الواحد منهم إلا بعد أن يستمع إليه ويثق في كفاءته, حدث ذلك مع الإمام الغزالي الذي كان يتفقه على إمام الحرمين في نظامية نيسابور، فلما مات أستاذه في عام 478هـ قصد مجلس نظام الملك، وكان مجمع أهل العلم وملاذهم، فناظر الأئمة العلماء في مجلسه، وقهر الخصوم، وظهر كلامه عليهم واعترفوا بفضله وتولاه الصاحب «نظام الملك» بالتعظيم والتبجيل وولاه تدريس مدرسته ببغداد (3). وفعل مثل ذلك مع أبي بكر محمد بن ثابت الخُجندي (ت 496هـ) الذي سمعه نظام الملك وهو يعظ بمرو، فأعجب به وعرف محله من الفقه والعلم، فحمله إلى أصفهان وعينه مدرساً بمدرستها فنال جاها عريضاً (4). كما استدعى الشريف العلوي الدبوسي (ت 483هـ)، ليدرس بنظامية بغداد، لأنه كان بارعاً في الفقه والجدل (5).
وفي بعض الأحيان كان نظام الملك يكتشف الأستاذ أولاً فيبني له مدرسة باسمه, حدث هذا مع
_________
(1) التاريخ السياسي والفكري، ص 180.
(2) تاريخ آل سلجوق، ص 56، 57.
(3) طبقات الشافعية (4/ 103).
(4) الكامل في التاريخ, نقلاً عن التاريخ السياسي والفكري، ص 181.
(5) المنتظم (9/ 27، 50) , التاريخ السياسي والفكري، ص 181.(1/285)
الشيخ أبي إسحاق الشيرازي (ت 476هـ) الذي بنى له نظامية بغداد، ومع إمام الحرمين الذي بنى له نظامية نيسابور, وكان نظام الملك يحوط هؤلاء العلماء برعايته، ويمدهم بتأييده، حتى احتلوا منزلة عليا في البلاد التي حلوا بها، وصار لبعضهم وجاهة في بلاط السلطان كأبي إسحاق الشيرازي الذي اختاره الخليفة المقتدي في عام 475هـ، ليحمل شكواه من عميد العراق أبي الفتح بن أبي الليث إلى السلطان ملكشاه ووزيره نظام الملك، فأكرماه وأجيب إلى جميع ما التمسه، وجرت بينه وبين إمام الحرمين مدرس نظامية نيسابور مناظرة، بحضرة نظام الملك، ولما عاد أبو إسحاق إلى بغداد أهين العميد، ورفعت يده على جميع ما يتعلق بالخليفة (1).
3 - تحديد منهج الدراسة: كما عنى نظام الملك باختيار الأساتذة الأكفاء لمدارسه، فإنه حدد منهج الدراسة الذي ستسير عليه هذه المدارس، ويتضح هذا المنهج مما ورد في وثيقة وقفية نظامية ببغداد من أنها: وقف على أصحاب الشافعي أصلاً وفرعاً, وكذلك شرط في المدرس الذي يكون بها والواعظ الذي يعظ بها، ومتولي الكتب (2). وينقل الأستاذ سعيد نفيسي عن المفروخي، مؤلف كتاب محاسن أصفهان قوله: إن نظام الملك أمر بابتناء مدرسة تجاور جامع أصفهان للفقهاء الشافعية: فابتنيت كأحسن ما رئي هيئة وهيكلاً وصنعة وعملاً ومحلاً ومنزلاً (3)، ومما لا شك فيه أن تراث الإمام الشافعي في الفقه والأصول والعقائد وسيرته الذاتية كان لها أثر على تلك المدارس، وليس في الفقه فقط المتعلق بالأحكام الشرعية العملية، وقد اعتاد بعض الباحثين القول بأن معظم الشافعية -في هذه الفترة - يتبعون أصول مذهب الإمام الأشعري، كما أن أبا الحسن الأشعري في مجال الاعتقاد مر بأطوار واستقر في آخر حياته على مذهب السلف، والأشاعرة من أهل السنة والجماعة، ولذلك سنبين -بإذن الله تعالى- شيئًا من سيرة الإمامين الشافعي وأبي الحسن الأشعري اللذين على تراثهما العلمي قامت المدارس النظامية التي كانت تخرج العلماء الذين يتبنون عقيدة الدولة السلجوقية، كان اهتمام المدارس النظامية قد انصرف إلى التركيز على مادتين أساسيتين هما: الفقه على المذهب الشافعي، وأصول العقيدة على مذهب الأشعري, وإلى جانب ذلك كانت تدرس بعض المواد كالحديث، والنحو, وعلمي اللغة والأدب، ويشير ابن الجوزي إلى أن وقفية نظام الملك الخاصة بمدرسة بغداد نصت على أن يكون في المدرسة نحوي يدرس العربية (4)، وقام بتدريس الأدب في نظامية بغداد أبو زكريا التبريزي، شارح ديوان الحماسة
_________
(1) طبقات الشافعية (3/ 91، 92).
(2) المنتظم (9/ 66).
(3) التاريخ السياسي والفكري، ص 183.
(4) المنتظم (9/ 66).(1/286)
(ت 502هـ) ثم خلفه في التدريس العالم اللغوي المشهور أبو منصور الجواليقي
(ت 540هـ)، كانت المدرسة الأشعرية السنية مؤهلة لمواجهة الشيعة فكرياً، وهم الذين تسلحوا بدراسة الفلسفات المختلفة واستخدموا الجدل في الدفاع عن عقائدهم، وأخذوا عن المعتزلة معظم أصولهم فأصبحت تشكل لبنات مهمة في منهجهم الكلامي، لقد كانت من الفئات القادرة على الجهاد الدعوي في هذا الميدان الفكري وهم الذين استوعبوا تراث أبي الحسن الأشعري ولذلك نقول: إن نظام الملك وفق تماماً في اختيار المنهج الملائم لتحقيق الهدف الذي سعى إليه (1). ويأتي تفصيل ذلك في محله بإذن الله.
4 - توفير الإمكانات المادية: لم يبخل نظام الملك بتوفير الإمكانات المادية التي تعين هذه المدارس على النهوض برسالتها على أكمل وجه، ولذا نراه ينفق عليها بسخاء ويخصص لها الأوقاف الواسعة، فيذكر ابن الجوزي أن نظام الملك وقف على مدرسته ببغداد ضياعاً وأملاكاً، وسوقاً بنيت على بابها وأنه فرض لكل مدرس وعامل بها قسطًا من الوقف، وأجرى للمتفقهة (الطلاب) أربعة أرطال خبز يومياً لكل واحد منهم (2)، أما مدرسة أصفهان فقدرت نفقاتها وقيمة أوقافها بعشرة آلاف دينار، وكان للمدرسة النظامية في نيسابور أوقاف عظيمة (3)، وقد اهتم نظام الملك بتوفير السكن للطلاب داخل هذه المدارس، ويفهم من بعض الروايات التاريخية أن كل طالب كانت له غرفة خاصة به، إذ روي أن واحداً من طلابها ويدعى يعقوب الخطاط توفي في عام 547هـ وكانت له غرفة في النظامية، فحضر متولي التركات، وختم على غرفته في المدرسة (4)،كما حرص نظام الملك على توفير الحياة المعيشية الكريمة لطلاب مدارسه، فإنه حرص أيضاً على تهيئة المناخ العلمي الذي يساعدهم على الدراسة والبحث فاهتم اهتماماً كبيراً بتوفير المراجع العلمية داخل هذه المدارس، فكانت في كل مدرسة مكتبة عامرة يتولى أمرها قوام على شئونها, وأشار ابن الجوزي إلى أن وقفية نظامية بغداد نصت على أن يكون متولي الكتب بها أيضاً شافعياً، كما أشارت إلى أن نظام الملك وقف على هذه المدرسة كثيراً من الكتب (5)،
وكان نظام الملك يتفقد هذه المدارس خاصة نظامية بغداد- ففي المحرم من عام 480هـ زار هذه المدرسة وجلس في خزانة كتبها، وقرأ بها كتباً، ثم شارك في التدريس، فقرأ الفقهاء عليه شيئاً من
_________
(1) التاريخ السياسي والفكري، ص 185.
(2) المنتظم (8/ 247، 256) , التاريخ السياسي والفكري، ص 185.
(3) التاريخ السياسي والفكري، ص 185.
(4) المنتظم (10/ 146).
(5) المصدر نفسه (9/ 66) , التاريخ السياسي والفكري، ص 186.(1/287)
الحديث الشريف، وأملى عليهم بعضاً منه (1)، وكان من الطبيعي أن تؤدي هذه الجهود التي بذلها نظام الملك في تشييد هذه المدارس وتيسير سبل العلم فيها، وتوفير الحياة الكريمة بداخلها, إلى رواج سوق العلم بها، فأقبل عليها طلاب العلم والجاه حتى بلغ عددهم في نظامية بغداد سنة 488هـ ثلاثمائة طالب كانوا يتفقهون على الإمام الغزالي (2)، أما نظامية نيسابور فكان يقعد بين يدي إمام الحرمين كل يوم نحو من ثلاثمائة رجل من الأئمة
ومن الطلبة (3).
5 - تطلع الأساتذة إلى التدريس بالنظامية: ولم يكن الإقبال على هذه المدارس مقصوراً على الطلاب فقط، بل شمل أيضاً الأساتذة الذين تطلعوا إلى التدريس بها حتى وصل الأمر ببعضهم إلى أن يضحي في سبيل هذه الغاية بالتخلي عن مذهبه في عصر كان التعصب المذهبي سمة من سماته البارزة، ومن هؤلاء: أبو الفتح أحمد بن علي بن تركان المعروف بابن الحمامي (ت 518هـ) , كان حنبلياً، فانتقل إلى مذهب الشافعي، وتفقه على أبي بكر الشاشي والغزالي، فجعله أصحاب الشافعي مدرساً بالنظامية (4)، ويبدو أن انتقال الحنابلة إلى مذهب الشافعي في هذه الفترة كان أمراً كثير الحدوث بدرجة أزعجت أحد أئمتهم وهو أبو الوفاء بن عقيل (ت 513هـ) حيث ينقل عنه أبو الفرج بن الجوزي قوله: إن أكثر أعمال الناس لا يقع إلا للناس إلا من عصم الله. أي أن معظم الناس لا يبتغون بأعمالهم وجه الله, وإنما يحاولون التقرب بها إلى ذوي النفوذ والجاه طمعاً في متاع الدنيا، وقد ضرب أبو الوفاء المثل على ذلك بما حدث عندما جاءت دولة نظام الملك، وعظم شأن الأشعرية والشافعية، فوجد كثيراً من أصحاب المذاهب انتقلوا عن مذاهبهم، وتوثقوا بمذهب الأشعري والشافعي طمعاً في العز والجرايات (5).
6 - حله للمشاكل: كان النظام حريصاً على أن تؤدي المدارس التي بناها رسالتها المنوطة بها, فعندما أرسل إليه أبو الحسن محمد بن علي الواسطي الفقيه الشافعي أبياتاً من الشعر يستحثه على المسارعة للقضاء على الفتن التي حدثت بين الحنابلة والأشاعرة قام نظام الملك وقضى على الفتنة, ومما قاله أبو الحسن الواسطي من الشعر:
يا نظام الملك قد حلّ ... ببغداد النظام
_________
(1) المنتظم (9/ 36) , الكامل في التاريخ نقلاً عن التاريخ السياسي والفكري، ص 189.
(2) التاريخ السياسي والفكري، ص 186.
(3) طبقات الشافعية (3/ 252).
(4) المنتظم (9/ 251).
(5) المصدر نفسه (9/ 93).(1/288)
وابنك القاطن فيها ... مستهان مستضام
وبها أودى لقتلى ... غلام، وغلام
والذي منهم تبقى ... سالماً فيه سهام
يا قوام الدين لم ... يبق ببغداد مقام
عظم الخطب وللحرب ... اتصال ودوام
فمتى لم تحسم الداء ... أياديك الحسام
ويكف القوم في ... بغداد قتل وانتقام
فعلى مدرسة فيها ... ومن فيها السلام
واعتصام بحَريم ... لك من بعد حرام (1)
وكانت سياسة نظام الملك تجنب الانحياز إلى جانب دون الآخر من عقائد أهل السنة, وكان يعمل على شد أزر رجال الدين لا العمل على إدخال الخلاف والشقاق في صفوفهم, وأعلن استحالة تغيير أي شيء من عقائد أصحاب مذهب سني (2) وقال إنه لا يمكن تغيير المذاهب ولا نقل أهلها عنها وصرح بأن الغالب على تلك الناحية مذهب أحمد وبأن محله معروف عند الأئمة وقدره معلوم عند السنة (3)، وسُرَّ الحنابلة بهذا التوجه الحكيم (4). وأول صراع وخلاف حاد بين الحنابلة والأشاعرة كان في عهد نظام الملك, وتعرف هذه المحنة بفتنة ابن القشيري (5).
رابعاً: تنظيم الهيئة التدريسية:
تعد الهيئة التدريسية على درجة كبيرة من الأهمية في أي مدرسة كانت، وذلك لأن نجاح أي مدرسة مقرون بنجاح المدرسين فيها وأدائهم لمهماتهم على أفضل وجه (6) , وإليك بعض الأمور المتعلقة بتنظيم الهيئة التدريسية وهي:
1 - تعيين الأساتذة وفصلهم: كان اختيار الأساتذة للتعليم في النظاميات يجري وفق
_________
(1) الكامل في التاريخ (6/ 276).
(2) شرح اللُّمع لأبي إسحاق الشيرازي (1/ 42).
(3) المصدر نفسه (1/ 41).
(4) المصدر نفسه (1/ 41).
(5) ابن الحنبلي وكتابه الرسالة الواضحة، ص 50.
(6) الإدارة التربوية في المدارس في العصر العباسي، ص 132.(1/289)
تقاليد تشبه أرقى الجامعات الحديثة، فقد كان «النظام» يختبر معلوماتهم خلال المناظرات التي كان يعقدها في المناسبات المختلفة، ويلقى عليهم أسئلة كان قد فكّر وأعدّها، فإذا لمس في أحدهم علماً وذكاء وجهه إلى المسلك الذي يريده، فالذين يكونون أهلاً للتعليم عيّنهم أساتذة في الحال وأسّس لهم مدرسة ومكتبة أو يوفدهم إلى ولاية سكانها جهلاء (1)، وإذا صدر الأمر بالتعيين سار المدرس إلى الجهة التي اختير لها، فإذا كان إلى بغداد مثلاً توجه إلى دار الخلافة عند وصوله حيث يوافق على التعيين، ثم يخلع عليه طرحة زرقاء وأهبة سوداء (2)، ويحتفل به في المدرسة حين يقدم لأول مرة ويحضر درسه كبار رجال الدولة والأساتذة والشعراء, وحين ينتهي من درسه تلقى الخطب والقصائد في الترحيب به والثناء عليه (3). وإذا ما أريد فصل مدرس لسبب ما استدعى من قبل ممثل «نظام الملك» وغالباً ما كان أحد أولاده، وينزع منه كسوته (4).
2 - مراتب التدريس: وقد جرى العرف أنه إذا تم تعيين من تتوافر فيه شرائط القدم والشهرة أن يبقى في منصبه طوال حياته, فإذا دنت منه الوفاة فغالباً ما يوصي بمن يخلفه من كبار أبنائه أو المتفوقين من طلابه، إلا في مدارس «النظام» فقد خرجت على هذا المتعارف لأسباب سياسية بعد أن خضعت هذه المدارس لحكم وإرادة مؤسسها، وقد يتناوب مدرسان على كرسي واحد خلافاً للمألوف.
أ- المدرس: كان هذا اللفظ لا يطلق إلا على المختص بتدريس الفقه, وإلقاء الدروس التي لا يقصد بها في العادة سوى مواضيع الفقه فإذا بلغ المدرس مرحلة عالية من الشهرة في الاطلاع والتأليف صار أستاذاً وأصبح له كرسي المادة دون منازع فيه.
ب- النائب: وهو المكلف بالقيام بتدريس الموضوع نيابة عن المدرس إذا كان مشغولاً بعمل إداري أو قضائي أو لمرض أو سدّ الشاغر في فترة لا يوجد فيها مدرس (5).
جـ- المعيد: يختار المدرس من بين طلبته معيدين لدروسه وقد يكتفي بواحد حسب حاجته، ومهمته أن يلقي الدرس على الطلبة وأن يساعدهم في فهمه, لذلك فهو يحتاج إلى لباقة واطلاع, لذا كان من هؤلاء المعيدين مدرسون في مكان آخر (6).
3 - مرتبة الصدر: وصاحب هذه المرتبة له الصدارة المطلقة في المدرسة، ويشغلها من
_________
(1) تاريخ آل سلجوق، ص 45, نظام الملك، ص 356.
(2) الأهبة: البزة الرسمية، كما في تاريخ المماليك, أو السلاح التام.
(3) نظام الملك، ص 357.
(4) نظام الملك، ص 357.
(5) نظام الملك، ص 357.
(6) المصدر نفسه، ص 358.(1/290)
كان يطلق عليه لفظ الصدر، والظاهر أن الصدر هو إمام العصر في الفقه أو الحديث أو التفسير، أو في أي علم من العلوم، أو هو من أكبر الأئمة في عصره، وأكثرهم تمكناً من مادته العلمية، وعلى يديه يتخرج الكثير من نوابغ المدرسين، وإليه يذهب الملوك والأمراء والوزراء والفضلاء لسماعه والإفادة منه، وليس من الضروري أن يكون في كل مدرسة صدر, فأولئك قلة، ومن حسن حظ المدرسة وكمال شهرتها أن يتصدر للتدريس بها أحدهم (1).
4 - مراتب المتعلمين: لعل أولى درجات الدارس أن يطلق عليه اسم تلميذ أو طالب ثمّ بعد أن يصل إلى المرحلة العالية في المعرفة يقال له: مثقف ثم فقيه؛ فإذا أكمل دراسة منهجه وبقي ملازماً لأستاذه ليستكمل علومه يسمى بالصاحب، وقد يعتمد عليه أستاذه فيعينه معيداً لدروسه، وناسخاً لمؤلفاته تحت إشرافه (2).
5 - الكتاب المدرسي: كان التأليف من الاعتبارات التي تراعي عند اختيار أساتذة النظامية، وكانت الدرجات العلمية التي تمنح لهم أو يعينون بها أو ينتقلون بموجبها إنما تعتمد على هذا الأساس في الغالب، وكان الكتاب المدرسي الذي يضم مجموعة محاضرات الأستاذ سرعان ما ينتشر فما إن يمله على طلبته ويسمعوا عنه حتى يستنسخوه ويتبادلوا النسخ المصحّحة أو المجازة من قبل مؤلفها، ولا تمر فترة قصيرة حتى يتدارسه المعنيون بموضوعه، وقد يطلق على مجموعة تقريرات الأستاذ في الفقه اسم التعليقة، فيحفظها الطلبة ويتناقلونها، ومن هذه التعليقات ما يبلغ بضعة مجلدات، وكلما كانت التعليقة أكثر أصالة كانت أكثر انتشاراً وتدارساً من قبل المعنيين وكان من عادات الأساتذة إذا ختموا كتاباً احتفلوا لذلك، ومما يروى بهذا الشأن أن الإمام الجويني عندما أتمّ تصنيف كتابه - نهاية المطلب في دراسة المذهب - وكان قد درسه للخواص من تلاميذه, عقد مجلساً حضره الأئمة الكبار، وختم الكتاب على رسم الإملاء والاستملاء، ودعا له الجماعة (3).
6 - القبول والتخرج: ليست هناك سن محددة للقبول في هذه المدارس فقد يدخلها الطالب وهو ابن الثلاثين أو أكثر إلا أنه لا يقل عن العشرين في العادة حيث قضاها في التعليم بين المسجد والكتاتيب، فإذا انتمى لإحدى النظاميات وانتظم في سلك طلبتها وتلقى دروسها، فليست هناك سنّ معينة تمنع من سماعها فقد يحضرها وهو في سنّ الثمانين، وليس
_________
(1) الإدارة التربوية في المدارس في العصر العباسي، ص 135.
(2) نظام الملك، ص 358.
(3) المصدر نفسه، ص 359.(1/291)
هناك وقت محدد للمادة التي يستغرقها الدرس أو عدد الدروس اليومية فقد يستمر ساعة أو ساعتين وهناك نصّ يمكننا الاستفادة منه في تحديد أقل مدة يصل فيها الطالب مرحلة الاعتماد على نفسه، والاستغناء عن الجلوس بين يدي أستاذه حيث ذكر ابن الجوزي في ثنايا ترجمته لأبي علي الفارقي أحد تلاميذ أبي إسحاق الشيرازي أنها أربع سنوات (1).
7 - الإجازة: (شهادة التخرج): هي الوثيقة المدرسية, وكان الاستماع للمحاضرات من شرائطها، لأنها لا تفي بالقصد من الدراسة والغرض من التعلم إذا لم يصحبها حضور، وهذا ما علّل به الماوردي عدم صحة حمل الإجازة والرواية بها فقال: ولو جازت لبطلت الرحلة (2). وقد يمنح الطالب عدة شهادات من شيوخ متعددين, والحصول عليها في العادة يكون بناء على طلب يتقدم به لمدرسه بعد أن ينهى دراسته، وقد أصبحت هذه ضرورة بعد تأسيس النظاميات وانتشار المدارس، فإذا نال إجازته فقد أصبح مهيأ لأن يشغل أحد مناصب القضاء، أو الإفتاء، أو التدريس، أو المناظرة، وقد يحظى بأكثر من واحدة منها فيكون قاضياً ومفتياً ومدرساً في آن واحد، أو أن يكون حرًّا، فيعمل ليكون محدثاً أو متكلماً أو واعظاً أو خطيباً في أحد المساجد (3).
خامساً: أثر المدارس النظامية في العالم الإسلامي:
وفق الله تعالى النظام توفيقاً قل نظيره في التاريخ السياسي والعلمي والديني، فقد عاشت مدارسه أمداً طويلاً وعلى الخصوص نظامية بغداد التي طاولت الزمن زهاء أربعة قرون، إذ كان آخر من عرفنا ممن درس فيها صاحب القاموس الفيروز آبادي المتوفي 817هـ حيث زالت في نهاية القرن التاسع الهجري (4). وأدت رسالتها من تخريج العلماء على المذهب السني الشافعي وزودت الجهاز الحكومي بالموظفين ردحاً من الزمن وبخاصة دوائر القضاء والحسبة والاستفتاء, وهي أهم وظائف الدولة في ذلك العصر، وانتشر هؤلاء في العالم الإسلامي حتى اخترقوا حدود الباطنية (5) في مصر وبلغوا الشمال الإفريقي ودعموا الوجود السني بها, لقد تخرج في هذه المدارس جيل تحقق على يديه معظم الأهداف التي رسمها نظام الملك فوجدنا كثيراً من الذين تخرجوا فيها يرحلون إلى أقاليم أخرى ليقوموا بتدريس الفقه الشافعي والحديث الشريف، وينشروا عقيدة أهل السنة في الأمصار التي انتقلوا إليها أو يتولوا مجالس القضاء والفتيا، أو يتولوا بعض الوظائف الإدارية المهمة في
_________
(1) طبقات السبكي (4/ 209) , المنتظم- حوادث سنة 528هـ.
(2) نظام الملك، ص 364.
(3) نظام الملك، ص 364.
(4) المصدر نفسه، ص 401.
(5) المصدر نفسه، ص 401.(1/292)
دواوين الدولة، وينقل السبكي عن أبي إسحاق الشيرازي - أول مدرس بنظامية بغداد قوله: خرجت إلى خراسان فما بلغت بلدة ولا قرية إلا وكان قاضيها أو مفتيها أو خطيبها تلميذي أو من أصحابي (1) وقد أسهمت هذا المدارس في إعادة دور منهج السنة في حياة الأمة بقوة، وكان من أبرز آثارها أيضاً تقلص نفوذ الفكر الشيعي خاصة بعد أن خرجت المؤلفات المناهضة له من هذا المدارس, وكان الإمام الغزالي على قمة المفكرين الذين شنوا حرباً شعواء على الشيعة وخاصة الباطنية الإسماعيلية فقد ألف كتباً عدة، أشهرها فضائح الباطنية الذي كلف بتأليفه عام 487هـ من قبل الخليفة المستظهر (2)،
وسيأتي الحديث عن مؤلفاته عند الحديث عن ترجمته بإذن الله. هذا وقد نجحت المدارس النظامية في نشر مذهب الإمام الشافعي وقوى عوده، ودخل مناطق جديدة وبدأ يشق له طريقاً في العراق وفي المشرق الإسلامي بعد أن كانت السيادة في هذه الأقاليم - عدا بغداد - من أتباعه (3) وقد صارت النظاميات مدعاة لبناء المدارس ومثاراً للتنافس بقدر ما أصبحت نموذجاً يحتذيه مؤسسو المعاهد منذ بداية تشييدها إلى ما بعد ذلك بعصور طويلة (4)، وقد مهدت المدارس النظامية بتراثها ورجالها وعلمائها السبيل ويسرته أمام نور الدين زنكي والأيوبيين كي يكملوا المسيرة التي من أجلها أنشئت النظاميات، وتتمثل في العمل على سيادة الإسلام الصحيح، خاصة في المناطق التي كانت موطناً لنفوذ الشيعة (5)، في تلك المرحلة كالشام ومصر وغيرها.
لقد كانت المدارس من خير ما اهتدى إليه العقل البشري للتفرغ للعلم وفق معطيات ذلك العصر، وكانت «النظاميات» من أفضل الوسائل لنشره وتعميمه وتحقيق الأهداف التي رسمها نظام الملك من سيادة الكتاب والسنة وعقيدة أهل السنة والجماعة على الدولة والأمة الإسلامية ودحر المد الشيعي الباطني الرافضي الذي كانت الدولة الفاطمية بمصر تدعمه.
_________
(1) طبقات الشافعية (3/ 89) , التاريخ السياسي والفكري، ص 190.
(2) التاريخ السياسي والفكري، ص 194.
(3) المصدر نفسه، ص 199.
(4) نظام الملك، ص 401.
(5) التاريخ السياسي والفكري، ص 203.(1/293)
المبحث الثاني
الإمام الشافعي وأثره في المدارس النظامية
قامت المدارس النظامية على فقه الإمام الشافعي وتراثه في الأصول والفقه، كما كان لتراثه تأثير كبير في المدارس النظامية, ولذلك رأيت من المناسب أن نعرف بهذا الإمام الكبير الذي يعتبر من أقرب الأئمة الأربعة لبيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فهو قرشي, ولربما كان من أسباب اختيار نظام الملك للمذهب الشافعي قربه من النسب النبوي حيث إن من أهداف المدارس النظامية تقويض المذهب الشيعي الباطني الذي تبنته الدولة الفاطمية والتي يزعم مؤسسوها أنهم من أهل البيت وأنهم أحق بالخلافة من غيرهم كما أن لمكانة الإمام الشافعي في المذهب السني سبباً في اختيار تراثه وفقهه حيث إن المالكية يفتخرون به لكونه من تلاميذ الإمام مالك والإمام أحمد بن حنبل يجله ويحترمه ويعتبره من شيوخه، كما أن الشافعي تتلمذ على يدي محمد بن الحسن الشيباني تلميذ أبي حنيفة فهو واسطة العقد بين المذاهب السنية الأربعة الشهيرة، كما أن نزعته النقلية وانتصاره للدليل، وحدة ذكائه واستخدامه للعقل في إقامة الحجة على الخصوم وما تميزت به كتابته في أصول الفقه وبيان الخاص والعام والمطلق والمقيد والمجمل والمفصل .. إلخ ربما كانت من أسباب اعتماد تراثه في المدارس النظامية.
أولاً: اسمه ونسبه وشيء من سيرته:
1 - اسمه ونسبه: هو محمد بن إدريس بن العباس بن عثمان بن شافع بن السائب بن عبيد بن هاشم بن المطلب بن عبد مناف بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب أبو عبد الله القرشي الشافعي المكي؛ نسيب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وابن عمه (1). قال النووي رحمه الله: الشافعي - رضي الله عنه - قرشي مطلبي بإجماع أهل النقل من جميع الطوائف وأمه أزدية (2). وينسب إلى جده شافع بن السائب صحابي صغير لقي النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو شاب مترعرع, ويروى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان ذات يوم في فسطاط إذ جاءه السائب بن عبيد ومعه ابنه - يعني شافع بن السائب - فنظر النبي - صلى الله عليه وسلم - إليه فقال: «من سعادة المرء أن يشبه أباه» (3).
2 - لقبه: يلقب -رحمه الله- بناصر الحديث وذلك لما اشتهر عنه من نصرته للحديث وحرصه على اتباعه.
_________
(1) منهج الإمام الشافعي في إثبات العقيدة، ص 19.
(2) تهذيب الأسماء واللغات (1/ 144).
(3) الإصابة (2/ 11) , ضعفه الألباني في ضعيف الجامع رقم 5301.(1/294)
3 - مولده ونشأته: اتفق المؤرخون على أنه ولد عام 150هـ وهو العام الذي توفي فيه الإمام أبو حنيفة رحمه الله (1).
4 - مكان ولادته: اختلفت الروايات في مكان ولادته فأشهرها أنه ولد بغزة وقيل بعسقلان وقيل باليمن (2). وقد قال ابن حجر في ذلك: إنه لا مخالفة بين الأقوال لأن عسقلان هي الأصل في قديم الزمان وهي وغزة متقاربتان وعسقلان هي المدينة، فحيث قال الشافعي غزة أراد القرية وحيث قال عسقلان أراد المدينة. والذي يجمع بين الأقوال أنه ولد بغزة عسقلان, ولما بلغ سنتين حولته أمه إلى الحجاز ودخلت به إلى قومها وهم من أهل اليمن لأنها كانت أزدية فنزلت عندهم، فلما بلغ عشراً خافت على نسبه الشريف أن ينسى ويضيع فحولته إلى مكة (3)، وبهذا الجمع يذهب اللبس في اختلاف الروايات, والله أعلم (4).
5 - نشأته وطلبه للعلم: قال الشافعي: كنت يتيماً في حجر أمي ولم يكن معها ما تعطي المعلم فرضي مني أن أخلفه إذا قام فلما ختمت القرآن دخلت المسجد فكنت أجالس العلماء فأحفظ الحديث أو المسألة وكانت دارنا في شعب الخيف فكنت أكتب في العظم، فإذا كثر طرحته في جرة عظيمة (5). وقد واظب الإمام الشافعي على طلب العلم، فحفظ القرآن وهو ابن سبع سنين وحفظ الموطأ وهو ابن عشر، وأفتى وهو ابن خمس عشرة سنة وقيل ابن ثماني عشرة, أذن له شيخه مسلم بن خالد الزنجي, وعنى بالشعر واللغة وحفظ شعر الهذليين وأقام عندهم نحوًا من عشر سنين وقيل عشرين سنة فتعلم منهم لغات العرب وفصاحتها وسمع الحديث الكثير على جماعة المشايخ والأئمة وقرأ بنفسه الموطأ على مالك من حفظه فأعجبته قراءته وهمته وأخذ عنه علم الحجازيين بعد أخذه عن مسلم بن خالد الزنجي, وروى عن خلق كثير وقرأ القرآن على إسماعيل بن قسطنطين عن شبل عن ابن كثير عن مجاهد عن ابن عباس عن أبي بن كعب عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (6).
وأما اهتمامه بالفقه فيروى أن الذي أشار عليه بتعلم الفقه هو شيخه مسلم بن خالد الزنجي، فقد قال الشافعي: خرجت أطلب النحو والأدب فلقيني مسلم بن خالد فقال: يا فتى من أين أنت؟ قلت: من أهل مكة, قال: وأين منزلك بها؟ قلت: بشعب الخيف, قال: من أي قبيلة أنت؟ قلت: من ولد عبد مناف, قال: بخ بخ لقد شرفك الله في الدنيا والآخرة
_________
(1) منهج الإمام الشافعي في إثبات العقيدة، ص 21.
(2) منهج الإمام الشافعي في إثبات العقيدة، ص 21.
(3) توالي التأسيس، ص 51،52 بتصرف.
(4) منهج الإمام الشافعي في إثبات العقيدة، ص 23.
(5) توالي التأسيس، ص 54.
(6) البداية والنهاية (10/ 263) , منهج الإمام الشافعي في إثبات العقيدة، ص 24.(1/295)
ألا جعلت فهمك هذا في الفقه فكان أحسن بك (1). فالشافعي بعد أن حفظ القرآن رحل إلى هذيل ومنازلها في أطراف مكة ثم بعد أن حفظ أشعارهم ولغتهم حول همته إلى الفقه وتتلمذ على مفتي مكة مسلم بن خالد الزنجي، فلما أتقن ما عنده رحل رحلته الأولى
إلى المدينة (2).
6 - رحلته إلى المدينة ولقاؤه بالإمام مالك: يحكي الشافعي قصة ذهابه إلى مالك فيقول: خرجت من مكة فلزمت هُذيلاً في البادية أتعلم كلامها وآخذ بلغتها وكانت أفصح العرب، فأقمت معهم أرحل برحيلهم وأنزل بنزولهم، فلما رجعت إلى مكة جعلت أنشد الأشعار وأذكر أيام الناس فمر بي رجل من الزهريين فقال لي: يا أبا عبد الله, عز علي ألا تكون في العلم والفقه هذه الفصاحة والبلاغة. قلت: من بقي ممن يقصد؟ فقال: مالك بن أنس سيد المسلمين قال: فوقع ذلك في قلبي فعمدت إلى الموطأ فاستعرته من رجل بمكة وحفظته ثم دخلت على والي مكة فأخذت كتابه إلى والي المدينة وإلى مالك بن أنس فقدمت المدينة فبلغت الكتاب، فلما قرأ والى المدينة الكتاب قال: يا بني إن مشيي من جوف المدينة إلى جوف مكة حافياً راجلاً أهون علي من المشي إلى باب مالك فإني لست أرى الذل حتى أقف على بابه. فقلت: إن رأى الأمير أن يوجه إليه ليحضر, فقال: هيهات. ليت أني إن ركبت أنا ومن معي وأصابنا تراب العقيق يقضي حاجتنا. فواعدته العصر وقصدناه فتقدم رجل وقرع الباب، فخرجت إلينا جارية سوداء فقال لها الأمير: قولي لمولاك إنني بالباب, فدخلت فأبطأت ثم خرجت فقالت: إن مولاي يقول: إن كانت مسألة فارفعها إلى في رقعة حتى يخرج إليك الجواب, وإن كان للحديث فقد عرفت يوم المجلس فانصرف. فقال لها: قولي له إن معي كتاب والي مكة في مهم, فدخلت ثم خرجت وفي يدها كرسي فوضعته فإذا بمالك شيخ طوال قد خرج وعليه المهابة وهو متطليس فدفع إليه الوالي الكتاب فبلغ إلى قوله: إن هذا الرجل شريف من أمره وحاله فتحدثه.
فرمى الكتاب من يده وقال: يا سبحان الله قد صار علم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يؤخذ بالوسائل, قال: فرأيت الوالي وهو يهابه أن يكلمه فتقدمت إليه فقلت: أصلحك الله إني رجل مطلبي من حالي وقصتي, فلما أن سمع كلامي نظر إليّ ساعة وكانت لمالك فراسة فقال لي: ما اسمك؟ فقلت: محمد قال: يا محمد اتق الله واجتنب المعاصي فإنه سيكون لك شأن من الشأن. فقلت: نعم وكرامة. فقال إذا كان غدا تجيء من يقرأ لك الموطأ. فقلت: إني أقرأه ظاهراً. قال فغدوت إليه وابتدأت فكلما تهيبت مالكاً وأردت أن أقطع أعجبه حسن قراءتي وإعرابي. يقول: يا فتى زد, حتى قرأته عليه في
_________
(1) مناقب البيهقي (1/ 97).
(2) منهج الإمام الشافعي في إثبات العقيدة، ص 26.(1/296)
أيام يسيرة ثم قمت بالمدينة إلى أن توفي مالك بن أنس - رضي الله عنه - ثم ذكر خروجه إلى اليمن (1). وفي نصيحة الرجل الزهري للإمام الشافعي دروس وعبر منها: أهمية النصيحة في تغيير مسار الإنسان نحو الأفضل وكم كان لأثر هذه النصيحة على الشافعي والأمة الإسلامية.
7 - رحلته إلى اليمن: لما ولي بعض الطالبيين اليمن مشت أمه إلى بني عمه ليكلموه ليصحبه معه إلى اليمن فوافق ولم يكن عندها ما تعطيه فرهنت دارها بستة عشر ديناراً وأعطته إياها (2)، يقول الشافعي عن ذهابه إلى اليمن: فتحملت بها معه فلما قدمنا اليمن استعملني على عمل فَحُمِدت فيه فزاد في عملي وقدم العمال مكة في رجب فأثنوا علي وصار لي بذلك ذكر, فقدمت من اليمن فلقيت ابن أبي يحيى وقد كنت أجالسه فسلمت عليه فوبخني وقال: تجالسوننا وتضعون فإذا شرع لأحدكم شيء دخل فيه أو نحو هذا من الكلام. قال: فتركته, ثم لقيت سفيان بن عيينة فسلمت عليه فرحب بي وقال: قد بلغني ولايتك فما أحسن ما انتشر عنك وما أديت كل الذي لله تعالى عليك ولا تعد قال: فجاءت موعظة سفيان إياي أبلغ مما صنع ابن أبي يحيى, ثم ذكر رجوعه إلى اليمن وذكر بعض أعماله وحرصه على إشاعة العدل وحرصه على طلب العلم حتى شاع ذكره بين الناس وربما حسده لذلك أهل الدنيا أو خافوا من ميل الناس له أن يحدث انقسامًا في الدولة ولذلك كتب بعض قواد هارون الرشيد إلى هارون كتابا يخوفونه فيه من شأن العلويين وأن عندهم رجلاً يقال له محمد بن إدريس يعمل بلسانه ما لا يعمل المقاتل بسيفه فإن كانت لك بالحجاز حاجة فاحملهم منها، فحمل مقيداً إلى العراق مع بعض العلويين (3).
8 - محنته: جاء في بعض الروايات عند ابن عبد البر قال: دخل الشافعي ومن معه من العلويين على الرشيد وكان دخولهم واحداً واحداً يكلم أحدهم وهم يسمعون من خلف الستر. قال الشافعي: إلى أن بقي حدث علوي من أهل المدينة وأنا, فقال للعلوي: أأنت الخارج علينا والزاعم أني لا أصلح للخلافة؟ فقال العلوي: أعوذ بالله أن أدعي ذلك أو أقوله قال: فأمر بضرب عنقه فقال له العلوي إن كان لابد من قتلي فأنظرني أكتب إلى أمي بالمدينة فهي عجوز لم تعلم بخبري فأمر بقتله فقتل ثم قدمت ومحمد بن الحسن جالس معه فقال لي مثل ما قال للفتى فقلت: يا أمير المؤمنين لست بطالبي ولا علوي وإنما دخلت في القوم بغياً علي وإنما أنا رجل من بني المطلب بن عبد مناف من قصي ولي مع ذلك حظ من
_________
(1) المناقب للبيهقي (1/ 102، 103) , توالى التأسيس، ص 53 - 56.
(2) منهج الإمام الشافعي في إثبات العقيدة، ص 29.
(3) المناقب للبيهقي (1/ 105 - 107) , منهج الإمام الشافعي في إثبات العقيدة، ص 30.(1/297)
العلم والفقه والقاضي يعرف ذلك، أنا محمد بن إدريس بن العباس بن عثمان بن شافع بن السائب بن عبيد بن عبد يزيد بن هاشم بن المطلب بن عبد مناف. فقال لي: أنت محمد بن إدريس؟ قلت: نعم يا أمير المؤمنين قال: ما ذكرك لي محمد بن الحسن. ثم عطف على محمد ابن الحسن فقال: يا محمد, ما يقول هذا هو كما يقوله؟ قال: بلى وله من العلم محل كبير وليس الذي رفع عليه من شأنه. قال: فخذه إليك حتى أنظر في أمره (1). قال ابن كثير: فحمل الشافعي على بغل في قيد إلى بغداد فدخلها في سنة أربع وثمانين ومائة وعمره أربع وثلاثون سنة فاجتمع بالرشيد فتناظر هو ومحمد بن الحسن بين يدي الرشيد وأحسن القول فيه محمد بن الحسن وتبين للرشيد براءته مما نسب إليه وأنزله محمد بن الحسن عنده, وكان أبو يوسف قد مات قبل ذلك بسنة أو سنتين وأكرمه محمد بن الحسن وكتب الشافعي عنه وقر بعير (2).
وكان الإمام الشافعي معظماً لمحمد بن الحسن تمام التعظيم مع ما يجري بينهما من مناظرات وخلافات مشهورة بين المذهبين فالشافعي -رحمه الله- على مذهب أهل الحديث ومحمد بن الحسن -رحمه الله- على مذهب أهل الرأي ومعلوم ما بين المذهبين من اختلاف (3) ومع هذا يقول الشافعي عن محمد بن الحسن: ما رأيت أحدًا يسأل عن مسألة فيها نظر إلا رأيت الكراهة في وجهه إلا محمد بن الحسن (4).
9 - رجوعه إلى مكة وحضور الإمام أحمد إلى مجالسه: بعدما حصل الشافعي على ما استطاع من علم العراق وعلم الحجاز شعر أن الوقت حان لنشر ما عنده من علم فقرر العودة إلى مكة بعد أن ذاع ذكره واشتهر أمره وعلا قدره وبدأ يلقي دروسه في الحرم المكي, وكان الحجاج من ديار الإسلام قد سمعوا عن فتى من قريش قد بهر الناس علمه وفقهه فكانوا يحرصون على السماع منه فشاع بذلك ذكره في البلاد (5) والتقى به في هذه المدة كثير من العلماء وكانوا يعجبون بسعة اطلاعه واستحضاره للدليل وحرصه على متابعة السنة وعظم فقهه واستنباطه وكانوا يعجبون من أصوله التي أصلها وقواعده التي قعدها وكلها مأخوذة من الكتاب والسنة وأكثرها لم يسمع به من قبل, ومن أشهر من سمع منه هذه المرة الإمام أحمد بن حنبل -رحمه الله- الذي وفد حاجاً إلى مكة ودخل المسجد الحرام للالتقاء بكبار العلماء والمحدثين وكان أشهرهم سفيان بن عيينة شيخ الإمام الشافعي لكنه وجد شيئاً في حلقة الشافعي لم يجده عند غيره لذلك بدأ الإمام بالاقتراب من حلقة الإمام الشافعي
_________
(1) الانتقاء، ص 97, منهج الإمام الشافعي في إثبات العقيدة، ص 33.
(2) البداية والنهاية, نقلاً عن منهج الإمام الشافعي في إثبات العقيدة، ص 33.
(3) منهج الإمام الشافعي في إثبات العقيدة، ص 33.
(4) مناقب البيهقي (1/ 159).
(5) منهج الإمام الشافعي في إثبات العقيدة، ص 35.(1/298)
فرأى منه شيئاً جديداً غير رواية الأحاديث رأى فيه فقها وفهما ثاقبين وقواعد لم يكن سمعها من قبل فبدأ بحضور حلقته وترك من أجل ذلك حلقات كبار المشايخ, قال محمد بن الفضل الفراء: سمعت أبي يقول: حججت مع أحمد بن حنبل، فنزلت في مكان واحد معه فخرج باكراً وخرجت معه فدرت في المسجد فلم أره في مجلس ابن عيينة ولا غيره حتى وجدته جالساً مع أعرابي (1).
فقلت: يا أبا عبد الله تركت ابن عيينة وجئت إلى هذا! فقال لي: اسكت إنك إن فاتك حديث بعلو وجدته بنزول وإن فاتك عقل هذا أخاف ألا تجده, ما رأيت أحدًا أفقه في كتاب الله من هذا الفتى, قلت: من هذا؟ قال: محمد بن إدريس (2)، وعن إسحاق بن راهويه قال: كنت مع أحمد بمكة فقال لي: تعال حتى أريك رجلاً لم تر عيناك مثله, فأراني الشافعي (3). وتوثقت العلاقة بين الفقيهين العظيمين الكبيرين ومدح الإمام أحمد الشافعي, فقد روى البيهقي بسنده عن أبي إسماعيل الترمذي قال: سمعت أحمد ابن حنبل ذكر الشافعي فقال: لقد كان يذب عن الآثار (4)، وبسنده عن عبد الله بن أحمد بن حنبل قال: قال أبي: قال لنا الشافعي: إذا صح عندكم الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فأعلمني به أذهب إليه (5)، وبسنده عن أحمد بن أبي عثمان قال: سمعت أحمد بن حنبل يقول: كان أحسن أمر الشافعي أنه كان إذا سمع الخبر لم يكن عنده قال به وترك قوله (6).
10 - رحلته الثانية إلى العراق: رحل الشافعي إلى العراق عام 195هـ فقد روى البيهقي بسنده عن أبي ثور قال: لما ورد الشافعي - رضي الله عنه - العراق جاءني حسين الكرابيسي -وكان يختلف معي إلى أصحاب الرأي- فقال: قد ورد رجل من أصحاب الحديث يتفقه قم بنا نسخر منه، فقام وذهبنا حتى دخلنا عليه، فسأله الحسين عن مسألة فلم يزل الشافعي يقول: قال الله عز وجل وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - , حتى أظلم علينا البيت فتركنا بدعتنا واتبعناه, وهناك التقي به أحمد بن حنبل وكان قد التقى به قبل ذلك وأخذ عنه وأثنى عليه وقال: كانت أقضيتنا أصحاب الحديث في أيدي أصحاب أبي حنيفة ما تنزع حتى رأينا الشافعي, وكان أفقه الناس في كتاب الله وسنة رسوله الله - صلى الله عليه وسلم - ما كان يكفيه قليل الطلب في الحديث (7) وعن الحسن بن محمد الزعفراني قال: كان أصحاب الحديث رقوداً حتى أيقظهم الشافعي - رضي الله عنه - (8)، وقال إبراهيم الحربي رحمه الله تعالى: قدم الشافعي بغداد وفي المسجد الجامع
_________
(1) شبه الشافعي بالأعرابي لأنه كان يلبس لباسهم لإقامته بينهم أو لفصاحته وحفظه كلامهم. والله أعلم.
(2) توالي التأسيس، ص 56.
(3) صفة الصفوة (2/ 250).
(4) المناقب للبيهقي (1/ 471).
(5) المصدر نفسه (1/ 476).
(6) المصدر نفسه (1/ 476) , منهج الشافعي في إثبات العقيدة، ص 43.
(7) منهج الإمام الشافعي في إثبات العقيدة، ص 37.
(8) منهج الإمام الشافعي في إثبات العقيدة، ص 37.(1/299)
الغربي عشرون حلقة لأصحاب الرأي فلما كان في الجمعة الثانية لم يثبت منها إلا ثلاث حلقات أو أربع حلقات، ولم تكن إقامته في العراق مستمرة بل كان يتردد بينها وبين مكة, قال الحسن بن محمد الزعفراني: قدم علينا الشافعي سنة خمس وتسعين ومائة فأقام
عندنا سنتين ثم خرج إلى مكة ثم قدم علينا سنة ثمان وتسعين ومائة فأقام عندنا أشهراً ثم خرج إلى مصر (1).
11 - رحلته إلى مصر: كانت نفسه تتوق إلى مصر رغماً عنها, وكان لا يدري حقيقة هذه الرغبة ولكنه استسلم أخيراً لقضاء الله وخرج من العراق إلى مصر وفي ذلك يقول:
لقد أصبحت نفسي تتوق إلى مصر ... ومن دونها أرض المهامه والقفر
فوالله ما أدري أ للفوز والغنى ... أساق إليها أم أساق إلى القبر (2)
وحين قدم الشافعي -رحمه الله- مصر ذهب إلى جامع عمرو بن العاص وتحدث به لأول مرة فأحبه الناس وتعلقوا به (3). قال هارون بن سعيد الأيلي: ما رأيت مثل الشافعي قدم علينا مصر فقيل قدم رجل من قريش فجئناه وهو يصلي فما رأينا أحسن صلاة منه ولا أحسن وجهاً منه فلما تكلم ما رأينا أحسن كلاماً منه فافتتنا به (4)، وهناك برز للناس علم الشافعي وسعة اطلاعه واستفاد هو من رحلاته وعمد إلى كتبه التي كتبها من قبل يراجعها ويصحح ما أخطأ فيه ورجع عن كثير من أقواله وأظهر مذهبه الجديد وأعاد تأليف كتبه ولازمه كثير من العلماء الذين أثر فيهم علم الشافعي ومنهجه وحرصه على متابعة السنة (5). ومما مضى من سيرة الشافعي نستفيد الدروس الآتية:
* في نصيحة الرجل الزهري خير عظيم ترتب عليه للشافعي والأمة، فتظهر أهمية النصح الصادق لخير الأمة، وأهمية الاستجابة لهذا النصح الكريم.
* في والدة الشافعي نموذج للأم الصالحة التي تستحق الاقتداء بها وتقديرها، فرغم فقرها وحاجتها فإننا نرى كيف تبذل وتضحي في سبيل تعليم ابنها وقد أقر الله عينها، فرأت ثمار تعبها في هذا الإمام العظيم.
* التلطف وحسن الخلق في النصح وحسن المدخل عندما قال الرجل الزهري: يا أبا عبد الله يعز علي ألا تكون في العلم والفقه هذه الفصاحة.
_________
(1) توالي التأسيس، ص 72, منهج الإمام الشافعي، ص 37.
(2) ديوان الشافعي، ص 47.
(3) مناقب البيهقي (1/ 463).
(4) المصدر نفسه (2/ 284).
(5) منهج الإمام الشافعي في إثبات العقيدة، ص 39.(1/300)
12 - وفاته: مكث الشافعي آخر عمره مشتغلاً بنشر العلم والتصنيف في مصر حتى أضر ذلك بجسده، فأصيب بالبواسير التي كانت تسبب له خروج الدم ولكن حبه للعلم جعله يؤثر طلبه ونشره والتصنيف فيه على نفسه, واستمر هكذا حتى وافته منية ألموت في آخر شهر رجب سنة 204هـ رحمه الله رحمةً واسعة (1). وقال المزني: دخلت على الشافعي -رحمه الله- في مرضه الذي مات فيه فقلت له: كيف أصبحت يا أستاذ؟ فقال: أصبحت من الدنيا راحلاً، ولإخواني مفارقاً, ولكأس المنية شارباً، وعلى الله وارداً، ولسوء عملي ملاقياً ما أدري أروحي إلى الجنة فأهنيها, أم إلى النار فأعزيها؟ ثم رمى بطرفه إلى السماء واستعبر وأنشد:
إليك إله الخلق أرفع رغبتي ... وإن كنت ياذا المن والجود مجرما
ولما قسا قلبي وضاقت مذاهبي ... جعلت الرجا مني لعفوك سلما
تعاظمني ذنبي فلما قرنته ... بعفوك ربي كان عفوك أعظما
وما زلتَ ذا عفو عن الذنب لم تزل ... تجود وتعفو منه وتكرما
فلولاك لم يصمد لإبليس عابد ... فكيف وقد أغوى صفيك آدما
فإن تعف عني تعف عن متمرد ... ظلوم غشوم ما يزايل مأثما
وإن تنتقم مني فلست بآيس ... ولو أدخلت نفسي بجرمي جهنما
فجرمي عظيم من قديم وحادث ... وعفوك يا ذا العفو أعلى وأجسما (2)
ثانياً: أصول الشافعي في إثبات العقيدة:
سار الإمام الشافعي على منهج أهل السنة في إثبات العقيدة, ومن أهم أصول الشافعي في هذا المجال:
الأصل الأول: الالتزام بالكتاب والسنة وتقديمهما على العقل: والأخذ بظاهر الكتاب والسنة أول أصل من أصول أهل السنة والجماعة وذلك لأنهما المصدران الوحيدان لتلقي العقيدة الإسلامية ولا يجوز للمسلم أن يستبدل بهما غيرهما فما أثبتاه وجب أن يثبته المسلم وما نفياه وجب على المسلم نفيه, ولا هدى ولا صلاح إلا بالتمسك بهما (3). قال تعالى:
_________
(1) المناقب للبيهقي (2/ 291) , منهج الإمام الشافعي، ص 39.
(2) ديوان الشافعي، ص 78، آداب الشافعي ومناقبه، ص 77.
(3) منهج الإمام الشافعي في إثبات العقيدة، ص 80.(1/301)
{وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب: 36]. وهذا شأن المؤمنين بالله ورسوله ولذلك نفى الله الإيمان عمن أبى وتكبر عن متابعة النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال سبحانه: {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء: 65]. وأمر الله المؤمنين عند التنازع بأن يردوا ما تنازعوا فيه إليهما فإن فيهما حلاً لكل ما تنازع فيه الناس فقال تعالى: {فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآَخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} [النساء: 59] والشافعي -رحمه الله- أحد أئمة السلف حيث ذهب في ذلك مذهب السلف الصالح فهو يرى أن الكتاب والسنة هما مصدر التشريع وإليهما يرجع المفتي ولذلك تراه عند إثبات مفردات العقيدة يبدأ بذكر النصوص الواردة في ذلك من الكتاب والسنة ويحتج بما جاء بهما على المخالف, ولم نسمع أنه تعرض -رحمه الله- إلى تأويلها وإلى ردها بشيء من حجج
أهل الكلام (1).
ويرى الإمام الشافعي -رحمه الله- أن السنة مثل القرآن في التشريع فما ثبت في
السنة كالذي ثبت في القرآن وما حرم في السنة كالذي حرم في القرآن, والسبب
في ذلك أنهما جميعاً من الله (2)، وبين -رحمه الله- أن سنة النبي - صلى الله عليه وسلم - هي الحكمة التي قرنها الله مع كتابه في آيات كثيرة، كقوله تعالى: {لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلاَلٍ
مُّبِينٍ} [آل عمران: 164].
وقال -رحمه الله-: كل ما سن رسول الله مما ليس فيه كتاب وفيما كتبنا في كتابنا هذا - الرسالة - من ذكر ما منَّ الله به على العباد من تعلم الكتاب والحكمة دليل على أن الحكمة سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ثم بين منزلة السنة من القرآن وأنها شارحة له مبينة لمراد الله فيها, وأنها قد تستقل ببعض الأحكام وإن لم يرد لها أصل في الكتاب, فقال: مع ما ذكرنا مما افترض الله على خلقه من طاعة رسوله وبين من موضعه الذي وضعه الله به من دينه الدليل على أن البيان في الفرائض المنصوصة في كتاب الله من أحد هذه الوجوه, منها ما أتى الكتاب على غاية البيان فيه فلم يُحتج مع التزيل فيه إلى غيره.
ومنها ما أتى الكتاب على غاية البيان في فرضه، وافترض طاعة رسوله فبين رسول الله عن الله: كيف فرضه وعلى من فرضه ومتى يزول بعضه ويثبت ويجب.
ومنها: ما بينه عن سنة نبيه بلا نص كتاب ولكل شيء منها بيان في كتاب الله. فكل من
_________
(1) منهج الإمام الشافعي في إثبات العقيدة، ص 81.
(2) المصدر نفسه، ص 86.(1/302)
قبل عن الله فرائضه في كتابه قبل عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سننه بفرض الله طاعة رسوله على خلقه وأن ينتهوا إلى حكمه، ومن قبل عن رسول الله فعن الله قبل، لما افترض الله من طاعته (1) ثم ذكر الأدلة على حجية السنة, ومما لا شك فيه أن هذا الأصل قد درّس في المدارس النظامية والتي كان من نظم مناهجها كتب الإمام الشافعي.
الأصل الثاني: خبر الآحاد ومكانته عند الإمام الشافعي: قسم علماء الحديث والأصول حديث النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى قسمين:
- متواتر. ... - وآحاد.
والمتواتر: ما رواه عدد كبير تحيل العادة تواطؤهم على الكذب عن مثلهم وأسندوه إلى شيء محسوس. والآحاد: هو ما فقد شروط المتواتر أو أحدها (2). وهو من حيث القبول والرد على أقسام, فمنه المقبول ومنه المردود على حسب حال رواته من حيث العدالة وعدمها وغير ذلك من شروط قبول الرواية, وقد ذكر الشافعي رحمه الله هذا التقسيم وسماه علم عامة وعلم خاصة. فقال: قال لي قائل: ما العلم وما يجب على الناس في العلم؟ فقلت له: العلم علمان: علم عامة لا يسع بالغاً غير مغلوب على عقله جهله, قال: مثل ماذا؟ قلت مثل الصلوات الخمس وأن لله على الناس صوم شهر رمضان وحجّ البيت إذا استطاعوه وزكاة في أموالهم وأنه حرم الزنا والقتل والسرقة والخمر وما كان في معنى هذا مما كلفَ العباد أن يعقلوه ويعملوه ويعطوه من أنفسهم وأموالهم وأن يكفوا عنه ما حرم عليهم منه وهذا الصنف موجود نصاً في كتاب الله وموجود عاماً عند أهل الإسلام ينقله عوامهم عمن مضى من عوامهم يحكونه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا يتنازعون في حكايته ولا وجوبه عليهم وهذا العلم العام الذي لا يمكن فيه الغلط من الخبر ولا التأويل ولا يجوز فيه التنازع. قال: فما الوجه الثاني؟ قلت له: ما ينوب العباد من فروع الفرائض وما يخص به من الأحكام وغيرها مما ليس فيه نص كتاب ولا في أكثره نص سنة وإن كانت في شيء منه سنة فإنما هي من أخبار الخاصة لا أخبار العامة وما كان منه يحمّل التأويل ويستدرك قياساً (3).
شروط صحة الحديث وقبوله عند الشافعي:
وضع الإمام الشافعي في كتابه «الرسالة» شروطاً في قبول الحديث هي أصل الشروط التي وضعها علماء المصطلح وهي:
_________
(1) الرسالة، ص 32، 33.
(2) نخبة الفكر، ص 4 - 8, الإحكام للآمدي (2/ 31).
(3) الرسالة، ص 357 - 359.(1/303)
أ- اتصال السند. ... ب - عدالة الرواة. ج - أن يكون الراوي ضابطا.
د - سلامته من الشذوذ وهو مخالفة الراوي لمن هو أوثق منه.
هـ - سلامته من العلة القادحة (1).
وهذه الشروط ذكرها الإمام الشافعي في كتابه «الرسالة» وإن لم يرتبها كما رتبها علماء الحديث بعده مما يدل على عظم فهمه لعلم الحديث ولذلك فقد ملأ كتبه بالأدلة على حجية السنة والرد على من أنكر حجيتها أو احتج ببعضها وأنكر حجية البعض الآخر (2).
العمل بخبر الواحد: أجمع الصحابة رضي الله عنهم ومن بعدهم من التابعين وسلف الأمة على وجوب العمل بخبر الواحد سواء من قال: إنه يفيد العلم أو يفيد الظن, ولم يخالف في هذا إلا من لا اعتبار بخلافه كبعض المعتزلة والرافضة (3). وقد نصر الإمام الشافعي رحمه الله مذهب السلف في العمل بخبر الواحد في جميع مسائل الدين ويدخل في ذلك أمور العقيدة, ولم يرد عنه أنه فرق بين أمور العقيدة وبقية المسائل بل روي عنه أنه قال في حديث الرؤية لما سأله سعيد بن أسد: ما تقول في حديث الرؤية؟ فقال لي: يا بن أسد أقضى عليَّ حييتُ أو مِتُّ: أن كل حديث يصح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإني أقول به وإن لم يبلغني (4).
الأصل الثالث: تعظيمه لفهم الصحابة وإتباعه لهم - رضي الله عنه -:
وقال في ذلك: ما كان الكتاب والسنة موجودين فالعذر عمن سمعهما مقطوع إلا باتباعهما فإذا لم يكن صرنا إلى أقاويل أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أو واحد منهم ثم كان قول الأئمة أبي بكر أو عمر أو عثمان إذا صرنا فيه إلى التقليد أحب إلينا (5). إلى أن قال: والعلم طبقات شتى الأولى: الكتاب والسنة إذا ثبتت السنة. الثانية: الإجماع فيما ليس فيه كتاب ولا سنة.
الثالثة: أن يقول بعض أصحاب النبي ولا نعلم له مخالفاً منهم. الرابعة: اختلاف أصحاب النبي صلى الله وسلم في ذلك.
الخامسة: القياس على بعض الطبقات ولا يصار إلى شيء غير الكتاب والسنة وهما موجودان وإنما يؤخذ العلم من أعلى (6). ومما يدل على اتباعه للصحابة رضي الله عنهم وتعظيمه لفهمهم ما ذكره البيهقي من كلام الشافعي - رحمه الله - في الرسالة القديمة برواية
_________
(1) منهج الإمام الشافعي في إثبات العقيدة، ص 109.
(2) منهج الإمام الشافعي في إثبات العقيدة، ص 109.
(3) إرشاد الفحول، ص 48،49.
(4) المناقب للبيهقي (1/ 421).
(5) الأم (7/ 265) , منهج الإمام الشافعي في إثبات العقيدة، ص 129.
(6) الأم (7/ 265).(1/304)
الحسن بن محمد الزعفراني حيث يقول الشافعي: وقد أثنى الله تبارك وتعالى على أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في القرآن والتوراة والإنجيل وسبق لهم على لسان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الفضل ما ليس لأحد بعدهم فرحمهم الله وهنَّاهم بما آتاهم من ذلك ببلوغ أعلى منازل الصديقين والشهداء والصالحين هم أدوا إلينا سنن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وشاهدوه والوحي ينزل عليه، فعلموا ما أراد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عاماً وخاصاً وعزماً وإرشاداً وعرفوا من سنته ما عرفنا وجهلنا وهم فوقنا في كل علم واجتهاد وورع وعقل وأمر استدرك به علم واستنبط به وآراؤهم لنا أحمد وأولى بنا من آرائنا عندنا لأنفسنا (1).
الأصل الرابع: مجانبة أهل الأهواء والبدع والكلام وذمهم:
حذر السلف - رحمهم الله - من مجالسة أهل البدع والأهواء وأوجبوا هجرهم وأخرجوهم من مجالسهم, وسار على هذا النهج الإمام الشافعي, وقد روي أن سبب تركه بغداد وهجرته إلى مصر ظهور المعتزلة ببدعهم وتسلطهم على الناس وقد كانت الدولة خاضعة لهم, ومن أقواله رحمه الله في هجر المبتدعة قوله: ما ناظرت أحداً علمت أنه مقيم على بدعة (2). قال البيهقي: وهذا لأن المقيم على البدعة قلما يرجع بالمناظرة عن بدعته وإنما كان يناظر من يرجو رجوعه إلى الحق إذا بينه له وبالله التوفيق (3)، وقد جعل الشافعي رحمه الله علامة الإيمان متابعة السنة وعلامة البدعة مخالفة السنة ولم ينظر إلى ما سوى ذلك مما يدلس به المبتدعة على الناس بما يظهرونه من شعوذة ودجل ويسمونه كرامة (4) فعن يونس بن عبد الأعلى قال: قلت لمحمد بن إدريس الشافعي: قال صاحبنا الليث بن سعد: لو رأيت صاحب هوى يمشي على الماء ما قبلته. فقال الشافعي: أما إنه قصر, لو رأيته يمشي في الهواء ما قبلته (5). وقد ذم الإمام الشافعي علم الكلام فقال فيه: لقد اطلعت من أهل الكلام على شيء والله ما توهمته قط ولأن يبتلى المرء بجميع ما نهى الله عنه ما خلا الشرك بالله خير من أن يبتليه الله بالكلام (6). وقال: حكمي في أهل الكلام أن يضربوا بالجريد والنعال ويجعلوا على الإبل ويطاف بهم في العشائر والقبائل وينادى عليهم, هذا جزاء من ترك الكتاب والسنة وأقبل على الكلام (7). هذه بعض الأصول في إثبات العقيدة التي نظّر لها الإمام الشافعي وكتب عنها ولا شك أن المدارس النظامية اعتمدتها في مدارسها.
_________
(1) إعلام الموقعين (1/ 80) , منهج الشافعي في إثبات العقيدة، ص 130.
(2) مناقب البيهقي (1/ 175).
(3) المصدر نفسه (1/ 175) , منهج الشافعي في إثبات العقيدة، ص 138.
(4) منهج الإمام الشافعي في إثبات العقيدة، ص 139.
(5) مناقب البيهقي (1/ 470).
(6) المصدر نفسه (1/ 454).
(7) شرح السنة, للبغوي (1/ 218).(1/305)
ثالثاً: عقيدته في الإيمان ومنهجه في إثباتها:
1 - حقيقة الإيمان ودخول الأعمال في مسماه: اتفق أهل السنة والجماعة على أن الإيمان اعتقاد بالجنان ونطق باللسان وعمل بالأركان يزيد بالطاعات وينقص بالمعاصي كما استفاض ذلك في كتبهم (1)، ومن تتبع ما روى لنا عن الإمام الشافعي رحمه الله وما حكاه لنا الأئمة في كتبهم من أقواله نجد مذهبه مطابقاً لمذهب السلف - رحمهم الله - تمام المطابقة فهو يقول إن الإيمان قول وعمل ويزيد وينقص (2)، قال الحافظ اللالكائي: قال الشافعي في كتاب الأم في باب النية في الصلاة: نحتج بأنه لا يجزئ صلاة إلا بنية لحديث عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إنما الأعمال بالنيات». ثم قال: وكان الإجماع من الصحابة والتابعين من بعدهم ممن أدركناهم: أن الإيمان: قول وعمل ونية ولا يجزئ واحد من الثلاثة إلا بالآخر (3). وروى أبو نعيم في كتابة «الحلية» بسنده عن الربيع بن سليمان قال: سأل رجل من أهل بلخ الشافعي عن الإيمان فقال للرجل: فما تقول أنت فيه؟ قال: أقول: إن الإيمان قول. قال ومن أين قلت؟ قال: من قول الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [البقرة: 277]. فصارت الواو فصلاً بين الإيمان والعمل فالإيمان قول والأعمال شرائعه.
فقال الشافعي: وعندك الواو فصل؟ قال: نعم, قال: فإذا كنت تعبد إلهين إلها في المشرق وإلها في المغرب لأن الله تعالى يقول: {رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ} [الرحمن: 17] فغضب الرجل وقال: سبحان الله أجعلتني وثنياً؟! فقال الشافعي: بل أنت جعلت نفسك كذلك قال: كيف؟ قال بزعمك أن الواو فصل, فقال الرجل: فإني أستغفر الله مما قلت بل لا أعبد إلا رباً واحداً ولا أقول بعد اليوم إن الواو فصل بل أقول إن الإيمان قول وعمل ويزيد وينقص، قال الربيع: فأنفق على باب الشافعي مالاً عظيماً وجمع كتب الشافعي وخرج من مصر سُنياً (4).
2 - زيادة الإيمان ونقصانه: قال الربيع: سمعت الشافعي يقول: الإيمان قول وعمل ويزيد وينقص، يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، ثم تلا هذه الآية: {وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا} [المدثر: 31] (5) وممن نقل القول عن الإمام الشافعي -رحمه الله - بالزيادة والنقصان ابن أبي حاتم، والحافظ اللالكائي، والنووي، وابن تيمية والذهبي وابن القيم وابن حجر -رحمهم الله كلهم- نقل عن الإمام الشافعي القول بزيادة الإيمان ونقصانه، بل نقل بعضهم أن الشافعي حكى الإجماع على ذلك من السلف، كابن تيمية وابن رجب (6).
_________
(1) منهج الإمام الشافعي في إثبات العقيدة، ص 155.
(2) فتح الباري (1/ 47).
(3) شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة (5/ 886).
(4) منهج الإمام الشافعي في إثبات العقيدة، ص 164.
(5) الحلية (9/ 115).
(6) منهج الإمام الشافعي في إثبات العقيدة، ص 173.(1/306)
3 - حكم مرتكب الكبيرة: يرى الإمام الشافعي أن مرتكب الكبيرة لا يخرج من الإسلام بذنبه وأنه إن تاب تاب الله عليه وإن أقيم عليه, الحد فهو كفارة له, وإن
مات مصراً على ذنبه فهو إلى الله إن شاء غفر له، وإن شاء عذبه, إلا أنه لا يخلد في النار (1) والله أعلم.
رابعاً: توحيد الألوهية:
يرى الإمام الشافعي أن توحيد الألوهية هو إفراد الله بالعبادة وهو حقيقة التوحيد فمن أتى به فقد أدى حق الله تبارك وتعالى عليه لأنه متضمن للإقرار بربوبية الله على خلقه وللإيمان بأسمائه وصفاته, ويرى أن هذا النوع هو الذي قاتل النبي - صلى الله عليه وسلم - الناس من أجله ولولا أنه حقيقة دين الإسلام لما قاتل النبي - صلى الله عليه وسلم - , وهم يقرون بربوبية الله سبحانه وتعالى على خلقه (2) ولهذا لما جاء رجل إلى المزني -وهو من كبار تلاميذ الإمام الشافعي- وسأله عن شيء من الكلام قال له: إني أكره هذا بل أنهى عنه كما نهى عنه الإمام الشافعي, لقد سمعت الشافعي يقول: سئل مالك عن الكلام والتوحيد فقال: محال أن نظن بالنبي - صلى الله عليه وسلم - أنه علم أمته الاستنجاء ولم يعلمهم التوحيد (3). والتوحيد ما قاله النبي - صلى الله عليه وسلم -: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله» (4)، فما عصم به الدم والمال حقيقة التوحيد (5).
1 - الحكمة من خلق الجن والإنس: قال الشافعي: قال الله تبارك وتعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56] قال الشافعي: خلق الله الخلق لعبادته (6) وقال في موضع آخر: وأنزل الله عز وجل فيما يثبّته به إذا ضاق من أذاهم - المشركين - {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ - فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُن مِّنَ السَّاجِدِينَ} ففرض عليه إبلاغهم وعبادته .. وأبان ذلك في غير آية من كتابه ولم يأمره بعزلتهم (7)، وأنزل عليه: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ - لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ} [الكافرون: 1،2]. فيتبين من كلام الشافعي أن الحكمة من خلق الجن والإنس وإرسال الرسل إفراد الله سبحانه بالعبادة (8) وقال في تفسير قوله تعالى: {أَيَحْسَبُ الإِنْسَانُ أَن يُتْرَكَ سُدًى} [القيامة: 36] قال: لم يختلف أهل العلم بالقرآن فيما علمت أن السدى الذي لا يؤمر ولا ينهى (9).
_________
(1) منهج الإمام الشافعي في إثبات العقيدة، ص 205.
(2) المصدر نفسه، ص 241. .
(3) المصدر نفسه، ص 242.
(4) مسلم 21، 22.
(5) سير أعلام النبلاء (10/ 26).
(6) منهج الإمام الشافعي في إثبات العقيدة، ص 243.
(7) الأم (4/ 159،160).
(8) منهج الإمام الشافعي في إثبات العقيدة، ص 243.
(9) الرسالة، ص 25.(1/307)
2 - تسوية القبر: قال الإمام الشافعي: وأحب ألا يزاد في القبر من غيره، وليس بأن يكون فيه تراب من غيره بأس إذا زيد فيه تراب من غيره ارتفع جداً وإنما أحب أن يشخص على وجه الأرض شبراً أو نحوه (1)، وهذا الذي ذكره الإمام الشافعي رحمه الله هو السنة وقد دلت النصوص على تحريم رفع القبر، منها حديث أبي الهياج الأسدي قال: قال لي علي بن أبي طالب: ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ألا تدع تمثالاً إلا طمسته ولا قبراً إلا سويته (2).
3 - البناء على القبور وتجصيصها: قال الشافعي: وأحب ألا يبنى ولا يجصص، فإن ذلك يشبه الزينة والخيلاء وليس ألموت موضع واحد منها ولم أر قبور المهاجرين والأنصار مجصصة .. وقد رأيت من الولاة من يهدم بمكة ما يبنى فيها فلم أر الفقهاء يعيبون ذلك. قال: وأكره وطء القبر والجلوس والاتكاء عليه (3)، ثم ساق بسنده عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: لأن أجلس على جمرة فتحرق ردائي ثم قميصي ثم إزاري ثم تفضي إلى جلدي أحب إلي من أن أجلس على قبر امرئ مسلم» (4).
4 - بناء المساجد على القبور: قال الإمام الشافعي: وأكره أن يُبنى على القبر مسجد وأن يسوى أو يصلى عليه وهو غير مسوى أو يصلى إليه وإن صلى إليه أجزأه وقد أساء (5) أخبرنا مالك أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «قاتل الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد, لا يبقى دينان في جزيرة العرب» (6). هذا رأي الإمام الشافعي في مسألة بناء المساجد على القبور فهو يكره ذلك والكراهة هنا - والله أعلم - للتحريم وهو ما دلت عليه النصوص الصريحة التي لعنت من فعل ذلك وقد علل سبب ذلك بثبوت النهي عن ذلك وإلى الخوف من تعظيم القبور مما قد يقع بسبب المعظم إلى الغلو المؤدي إلى الشرك, ثم تكلم عن حكم الصلاة على القبور فكرهها وعلل ذلك بنجاسة المقابر (7).
5 - زيارة القبور: قال الشافعي: ولا بأس بزيارة القبور. وساق بسنده عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها ولا تقولوا هجراً» (8). قال: ولكن لا يقال عندها هجر من القول وذلك بالدعاء بالويل والثبور والنياحة، فأما إذا زرت
_________
(1) شرح النووي على مسلم (2/ 666).
(2) المصدر نفسه (2/ 335).
(3) منهج الإمام الشافعي في إثبات العقيدة، ص 258.
(4) صحيح مسلم (1/ 667).
(5) منهج الإمام الشافعي في إثبات العقيدة، ص 261.
(6) موطأ مالك (2/ 892) مرسلاً.
(7) منهج الإمام الشافعي في إثبات العقيدة، ص 261.
(8) مسلم (2/ 672).(1/308)
تستغفر للميت ويرق قلبك وتذكر أمور الآخرة فهذا مما لا أكرهه (1).
6 - رأى الإمام الشافعي في الحلف بغير الله: يمكن تلخيص رأي الإمام الشافعي في الحلف بما يأتي:
- كراهية الحلف مطلقاً وقد دل على ذلك الكتاب والسنة.
- أن من حلف بالله أو باسم من أسمائه فحنث فعليه الكفارة.
- أن الحلف بغير الله مكروه.
- أن من حلف بغير الله فحنث فلا كفارة عليه لأنها ليست يميناً.
- جواز الحلف بالله واستحبابه إذا كان في طاعة كالجهاد ونحوه. سواء فهمت الكراهة على التنزيه أو على التحريم, فقد كره الإمام الشافعي الحلف بغير الله. (2)
خامساً: طريقة الشافعي في الاستدلال على وجود الله:
روى أبو نعيم بسنده مناظرة حدثت بينه وبين بشر المريسي بحضرة هارون الرشيد. قال بشر: أخبرني ما الدليل على أن الله تعالى واحد؟ فقال الشافعي: يا بشر ما تدري من لسان الخواص فأكلمك على لسانهم (3)، إلا أنه لا بد لي أن أجيبك على مقدارك من حيث أنت الدليل عليه به ومنه وإليه واختلاف الأصوات من المصوت إذا كان المحرك واحداً واختلاف الصور دليل على أنه واحد (4) وعدم الضد في الكل على الدوام دليل على أنه واحد (5)،
وأربع نيران مختلفات في جسد واحد متفقات الدوام على تركيبه في استقامة الشكل دليل
_________
(1) الأم (1/ 278).
(2) منهج الإمام الشافعي في إثبات العقيدة، ص 271، 272.
(3) الخواص عند الإمام الشافعي هم علماء السنة أهل الحديث والأثر وليس علماء الكلام, فإن بشراً المريسي من أهل الكلام ويعرف لسانهم ولكن الذي لا يعلمه بشر هو طريقة السلف في الاستدلال لذلك ذكر له دليل الآيات المشهور.
(4) يعني أن آلات الصوت والكلام في الإنسان من لسان وأسنان وشفتين وحلق وحنجرة وحبال صوتية وقوة دافعة للهواء واحدة في كل بني آدم ومع ذلك تجد بين الأفراد اختلافاً كبيراً بل نجد الاختلاف في ذلك بين الوالد وأبنائه فمن الذي فرق بين الأصوات بهذا الشكل الدقيق الذي لا نجد اثنين مهما كانت قرابتهما متفقين في صوتهما؟! فهذا يدل على وجود الله ووحدانيته في الربوبية.
(5) قوله وعدم الضد في الكل على الدوام معناه أن الإنسان مع ما فيه من تغير وتبدل من حال إلى حال فهو قد كان نطفة ثم علقة ثم تطور إلى أن خرج وصار طفلاً ثم شاباً ثم كهلاً ثم شيخاً ومع ما يعتريه في حياته من مرض وصحة وسمن وهزال ومع ذلك فالإنسان هو هو لم يتغير صوته ولم تتغير صورته ..(1/309)
على أن الله تعالى واحد (1)، وأربع طبائع مختلفات في الخافقين أضداد غير أشكال مؤتلفات على صلاح الأحوال دليل على أن الله واحد (2). قال تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللهُ مِنَ السَّمَاءِ مِن مَّاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لآَيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [البقرة: 164]. وروي عن الشافعي أنه قال: استقبلني سبعة عشر زنديقاً في طريق غزة فقالوا: ما الدليل على الصانع؟ فقلت لهم: إن ذكرت دليلاً شافياً هل تؤمنون؟ قالوا: نعم، قلت ورق الفرصاد (3)
طعمها ولونها وريحها سواء فيأكلها دود القز فيخرج من جوفها الإبريسم ويأكلها النحل فيخرج من جوفها العسل, وتأكلها الشاة فيخرج من جوفها البعر فالطبع واحد وإن كان موجباً عندك فيجب أن يوجب شيئاً واحداً لأن الحقيقية الواحدة لا توجب إلا شيئاً واحداً ولا توجب متضادات متنافرة, ومن جوز هذا كان عن المنقول خارجاً وفي التيه والجاً، فانظر كيف تغيرت الحالات عليها فعرفت أنه فعل صانع عالم قادر يحول عليها الأحوال ويغير التيارات, قال: فبهتوا ثم قالوا: لقد أتيت بالعجب فآمنوا وحسن إيمانهم. وقال الشافعي لقد أتيت قلعة حصينة ملساء ولا فرجة فيها ظاهرها كالفضة وباطنها كالذهب وجدرانها حصينة محكمة ثم رأيت الجدار ينشق فيخرج من القلعة حيوان سميع بصير مصوت، فعلمت ضرورة أن الطبيعة لا تقدر على ذلك وأنه فعل صانع حكيم، فالقلعة هي البيضة والحيوان هو الدجاجة (4). وكان -رحمه الله- كثيراً ما يتمثل بهذه الأبيات:
فياعجباً كيف يعصى الإله ... أم كيف يجحده الجاحد
ولله في كل تحريكة ... وتسكينة أبداً شاهد
وفي كل شيء له آية ... تدل على أنه واحد (5)
_________
(1) وتفسيره أن في البدن نيرانا أربعًا إحداها: نار الشهوة وثانيتها حرارة الغضب، وثالثتها الحرارة القائمة بأعضاء الغذاء ورابعتها الحرارة الغريزية المتولدة في قلبه وهي الحرارة المؤثرة التي يتم بها أمر الحياة، فهذه الأنواع الأربعة من الحرارة نيران مختلفة بالماهية ثم إنها اجتمعت في بدن الإنسان تبقى كل واحدة منها على صفتها المخصوصة وطبيعتها المخصوصة وهي كامنة في بدن الإنسان لا تظهر إلا عند الحاجة إليها ثم إنها مع اختلافها وتبيانها متوافقة على تحصيل مصلحة الإنسان وموجبة لاستقامة سلامة ذلك الجسد.
(2) وتفسيره أن أبدان الحيوانات على قول الأطباء متولدة من الأرض والماء والهواء والنار ثم إنها أضداد متغايرة متنافرة متعاندة بطبائعها فاجتماعها في البدن الواحد لا بد أن يكون بقدرة قادر وتدبير مدبر قدير.
(3) الفرصاد: التوت. انظر: لسان العرب (3/ 333) ..
(4) مفيد العلوم للقزويني، ص 25، 26.
(5) مفيد العلوم للقزويني، ص 25، 26.(1/310)
سادساً: توحيد الأسماء والصفات:
قال الشافعي في أول خطبة الرسالة: الحمد لله الذي هو كما وصف به نفسه وفوق ما يصفه به خلقه (1)، فبينَ رحمه الله - أن الله موصوف بما وصف به نفسه في كتابه وعلى لسان رسوله - صلى الله عليه وسلم - (2)، ومن هذا النص وغيره نعرف مذهب الشافعي فقد ذكر أبو يعلى بسنده عن يونس بن عبد الأعلى المصري قال: سمعت أبا عبد الله محمد بن إدريس الشافعي يقول وقد سئل عن صفات الله وما ينبغي أن يؤمن به فقال: لله تبارك وتعالى أسماء وصفات جاء بها كتابه وأخبر بها نبيه - صلى الله عليه وسلم - أمته لا يسع أحداً قامت عليه الحجة ردها لأن القرآن نزل بها وصح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - القول بها فيما رَوى عنه العدل, فإن خالف ذلك بعد ثبوت الحجة عليه فهو بالله كافر، فأما قبل ثبوت الحجة عليه من جهة الخبرة فمعذور بالجهل لأن علم ذلك لا يدرك بالعقل ولا بالرؤية والفكر .. فإن هذه المعاني التي وصف الله بها نفسه ووصفه بها رسوله - صلى الله عليه وسلم - مما لا تدرك حقيقته بالفكر والرؤية فلا يكفر بالجهل بها أحد إلا بعد انتهاء الخبر إليه بها، فإن كان الوارد بذلك خبراً يقوم في الفهم مقام المشاهدة في السماع وجبت الدينونة على سامعه بحقيقته والشهادة عليه كما عاين وسمع من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - , ولكن يثبت هذه الصفات وينفي التشبيه كما نفى ذلك عن نفسه تعالى ذكره فقال: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11]. وقال ابن كثير وقد روي عن الربيع وغير واحد من رءوس أصحابه ما يدل على أنه كان يمر بآيات الصفات وأحاديثها كما جاءت من غير تكييف ولا تشبيه ولا تعطيل ولا تحريف على طريقة السلف (3)، ومما سبق يتضح لنا مذهب الشافعي رحمه الله في الباب ويتخلص في القواعد الآتية:
الأولى: يثبت لله جميع الأسماء والصفات التي نطق بها القرآن أو دلت عليها السنة الصحيحة إثباتاً بلا تشبيه وتنزيهًا بلا تعطيل على حد قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ}.
الثانية: ينزه الله سبحانه وتعالى عن مشابهة خلقه مع إثبات حقيقة هذه الصفات.
الثالثة: التوقف عن الخوض فيما لا مجال للعقل فيه من اليأس وقطع الطمع عن إدراك كيفية هذه الصفات كما روى ابن أبي حاتم بسنده عن أبي إسحاق بن محمد قال: سمعت الشافعي يقول: إن للعقل حداً ينتهي إليه كما أن للبصر حداً ينتهي إليه (4).
_________
(1) المناقب للبيهقي (2/ 109).
(2) الرسالة، ص 7، 8.
(3) منهج الإمام الشافعي في إثبات العقيدة، ص 335.
(4) آداب الشافعي ومناقبه، ص 271.(1/311)
إن الإمام الشافعي يؤمن بجميع ما وصف الله سبحانه وتعالى به نفسه أو وصفه به رسوله - صلى الله عليه وسلم - على مذهب السلف وأنه كان يمر بآيات الصفات كما جاءت من غير تكييف ولا تشبيه ولا تعطيل ولا تحريف (1). قال الربيع بن سليمان: سألت الشافعي رحمه الله عن صفات الله تعالى فقال: حرام على العقول أن تمثل الله تعالى وعلى الأوهام أن تحده وعلى الظنون أن تقطع وعلى النفوس أن تفكر وعلى الضمائر أن تعمق وعلى الخواطر أن تحيط وعلى العقول أن تعقل إلا ما وصف به نفسه أو على لسان نبيه عليه الصلاة والسلام (2) قال رحمه الله: آمنت بالله وبما جاء عن الله على مراد الله وآمنت برسول الله وبما جاء عن رسول الله على مراد رسول الله (3).
سابعاً: عقيدته في الصحابة:
قال الشافعي رحمه الله: وقد أثنى الله تبارك وتعالى على أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في القرآن والتوراة والإنجيل - يشير إلى قوله تعالى: {مُحَمَّدٌ رَّسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} [الفتح: 29] وسبق لهم على لسان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الفضل ما ليس لأحد بعدهم، فرحمهم الله وهنّاهم بما آتاهم من ذلك أعلى منازل الصديقين والشهداء والصالحين, هم أدوا إلينا سنن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وشاهدوه والوحي ينزل عليه فعملوا ما أراد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عاماً وخاصاً وعزماً وإرشاداً, وعرفوا من سنته ما عرفنا وجهلنا, وهم فوقنا في كل علم واجتهاد وورع وعقل وأمر استدرك به علم واستنبط به, وآراؤهم لنا أحمد وأولى بنا من آرائنا عندنا لأنفسنا, ومن أدركنا ممن نرضى أو حكي لنا عنه ببلدنا, وما صاروا فيما لم يعلموا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيه سنة إلى قولهم أن اجتمعوا وقول بعضهم أن تفرقوا فهكذا نقول ولم تخرج من أقاويلهم وإن قال واحد منهم ولا يخالفه أحد غيره أخذنا بقوله (4)، وفي هذا النص تعظيم عظيم للصحابة ومعرفته لحقهم ولعلو منزلتهم في الإسلام وهو ما يعتقده كل أهل السنة والجماعة (5).
وقال رحمه الله: ما أرى أن الناس ابتلوا بشتم أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا ليزيدهم الله -أي الصحابة- بذلك ثوابا عند انقطاع عملهم, وفي رواية الربيع بمعناه وقال:
_________
(1) منهج الإمام الشافعي في إثبات العقيدة، ص 387.
(2) مجموع الفتاوى نقلاً عن منهج الإمام الشافعي، ص 388.
(3) مجموع الفتاوى نقلاً عن منهج الإمام الشافعي، ص 388.
(4) مناقب الشافعي (1/ 442، 443).
(5) منهج الإمام الشافعي في إثبات العقيدة، ص 446.(1/312)
إلا ليجزي الله عز وجل لهم الحسنات وهم أموات (1)، ولا شك أن هذا حاصل لهم بإذن الله لأن الله توعد من اغتاب المسلمين أو سبهم بالأخذ من حسناته إلى من سبهم كما في حديث المفلس وفيه: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سأل أصحابه عن المفلس فقالوا: المفلس فينا من لا دينار له ولا درهم فقال - صلى الله عليه وسلم -: «المفلس من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام، كأمثال الجبال ويأتي وقد شتم هذا وضرب هذا وأخذ مال هذا، فيأخذ هذا من حسناته وهذا من حسناته ثم يلقي في النار» (2)، فإذا كان هذا ثابتاً لعامة المسلمين فثبوته لصفوتهم وخيرهم وأفضلهم من باب أولى (3).
1 - فضل الخلفاء الراشدين ودرجتهم بين الصحابة: قال -رحمه الله- في فضل الخلفاء الراشدين ودرجتهم بين الصحابة: أفضل الناس بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي رضوان الله عليهم (4)، وقال: التفضيل يبدأ بأبي بكر وعمر، وعثمان وعلي (5)، وقال الربيع بن سليمان: سمعت الشافعي يقول في التفضيل: أبو بكر وعمر وعثمان وعلي (6).
2 - سكوته عما شجر بين الصحابة: ومن اعتقاده -رحمه الله- في أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سكوته عن كل ما شجر بينهم رضي الله عنهم, وروى رحمه الله بسنده أن عمر بن عبد العزيز سئل عن قتلى صفين فقال: تلك دماء طهر الله منها يدي فلا أحب أن أخضب لساني بها. قال الشافعي رحمه الله معلقاً على هذا القول: هذا حسن جميل لأن سكوت الإنسان عما لا يعنيه هو الصواب (7)، وكان رحمه الله يقول للربيع: اقبل مني ثلاثة أشياء: لا تخض في أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - فإن خصمك النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم القيامة, ولا تشتغل بالكلام فإني اطلعت من أهل الكلام على أمر عظيم, ولا تشتغل بالنجوم فإنه يجر إلى التعطيل (8).
3 - موقفه من أصحاب الفرق البدعية والشيعة الرافضة: قال البويطي: سألت الشافعي: أصلى خلف الرافضي؟ قال: لا تصل خلف الرافضي ولا القدري ولا المرجئ. قلت: صفهم لنا. قال: من قال الإيمان قول فهو مرجئ, ومن قال: إن أبا بكر وعمر ليسا بإمامين رافضي، ومن جعل المشيئة إلى نفسه فهو قدري (9)، وقال أبو حاتم: سمعت يونس
_________
(1) مناقب البيهقي (1/ 441) , منهج الإمام الشافعي في إثبات العقيدة، ص 446.
(2) مسلم، كتاب البر (4/ 1997).
(3) منهج الإمام الشافعي في إثبات العقيدة، ص 447.
(4) مناقب البيهقي (1/ 433).
(5) المصدر نفسه (1/ 432).
(6) المصدر نفسه (1/ 432).
(7) مناقب ابن أبي حاتم، ص 314، منهج الإمام الشافعي، ص 453.
(8) توالي التأسيس، ص 73.
(9) منهج الإمام الشافعي في إثبات العقيدة، ص 480.(1/313)
ابن عبد الأعلى يقول: سمعت الشافعي يقول: أجيز شهادة أهل الأهواء كلهم إلا الرافضة فإنهم يشهد بعضهم لبعض (1)، وكان الشافعي إذا ذكر الرافضة عابهم أشد العيب فيقول: شر عصابة (2)، وقال: لم أر أحداً أشهد بالزور من الرافضة. وقال في الرافضي: يحضر الوقعة ولا يعطى من الفيء شيئاً لأن الله تعالى ذكر آية الفيء ثم قال: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ} [الحشر: 109]، فمن لم يقل بها لم يستحق. قال القرطبي: هذه الآية دليل على وجوب محبة الصحابة لأنه جعل لمن بعدهم حظاً من الفيء ما أقاموا على محبتهم وموالاتهم والاستغفار لهم, وأن من سبهم أو واحداً منهم أو اعتقد فيهم شراً أنه لا حق له في الفيء, روي ذلك عن مالك وغيره قال مالك: من كان يبغض أحداً من أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - أو كان في قلبه عليهم غل فليس له حق في فيء المسلمين, ثم قرأ {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِن بَعْدِهِمْ} (3). ولعل الإمام الشافعي -رحمه الله- أخذ هذا القول عن الإمام مالك فهو شيخه كما هو معلوم (4).
4 - الشافعي واتهامه بمذهب الشيعة الرافضة: ومع هذا الوضوح في عقيدة الإمام الشافعي وبعده عن مذهب الشيعة الرافضة وتبديعه لهم ورده لشهادتهم ومنعه من الصلاة خلفهم نجد من يتهم الإمام بالتشيع, وهذا من أعجب العجب؛ فمن صدرت منه كل هذه الأقوال في حق الشيعة كيف يتهم بالتشيع؟! وقد مر بنا موقفه من الصحابة عموماً وموقفه من الخلفاء الراشدين وموافقته لأهل السنة في ترتيب الخلفاء فكيف ينسب إلى التشيع؟! (5). قال البيهقي: ومما حكي عن أبي داود السجستاني أن أحمد بن حنبل أخبر أن يحيى بن معين ينسب الشافعي إلى التشيع فقال أحمد: تقول هذا لإمام المسلمين!! قال يحيى: إني نظرت في كتابه في قتال أهل البغي، فإذا قد احتج من أوله إلى آخره بعلي - رضي الله عنه - , فقال أحمد: عجباً لك، فمن كان يحتج الشافعي في قتال أهل البغي وأول من ابتلى من هذه الأمة بقتال أهل البغي علي بن أبي طالب؟! وهو الذي سن قتالهم وأحكامهم, وليس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا عن الخلفاء غيره فيه سنة فبمن كان يستن؟! فخجل يحيى من ذلك (6)، وروى البيهقي بسنده عن أبي عبد الله أحمد بن حنبل وسئل عن محمد بن إدريس الشافعي قال أحمد: لقد منّ الله علينا به, لقد كنا تعلمنا كلام القوم وكتبنا كتبهم حتى قدم علينا الشافعي، فلما سمعنا كلامه علمنا أنه أعلم من غيره وقد جالسناه الأيام والليالي، فما رأينا معه إلا كل خيرًا -رحمة الله عليه-
_________
(1) آداب الشافعي ومناقبه، ص 189.
(2) مناقب البيهقي (1/ 468).
(3) تفسير القرطبي (18/ 32).
(4) منهج الإمام الشافعي في إثبات العقيدة، ص 487.
(5) منهج الإمام الشافعي في إثبات العقيدة، ص 487.
(6) مناقب البيهقي (1/ 450 - 541).(1/314)
فقال له رجل: يا أبا عبد الله فإن يحيى بن معين وأبا عبيد لا يرضيانه -يعني في نسبتهما إياه إلى التشيع- فقال أحمد لمن حوله: اعلموا -رحمكم الله تعالى- أن الرجل من أهل العلم إذا منحه الله شيئاً من العلم وحرمه قرناؤه وأشكاله حسدوه فرموه بما ليس فيه. وبئست الخصلة في أهل العلم (1).
وقال ابن كثير بعد ذكر بعض النصوص من عقيدة الإمام الشافعي في الخلفاء: وفيها موافقته لأهل السنة في ذلك فهذه أسانيد صحيحة، ونصوص صريحة عن الإمام أبي عبد الله الشافعي في مذهب أهل السنة والجماعة سلفاً وخلفاً (2). فتبين لهذا قول أحمد بن عبد الله العجلي في الشافعي أنه شيعي وهذا القول من العجلي مجازفة بلا علم وإنما غرّه في ذلك ما قدمناه من أن أهل اليمن لما رموه في جملة أولئك القرشيين وحمل معهم إلى الرشيد وكان فيهم تشيع اعتقد من لا يعلم أن الشافعي إذ ذاك على مذهبهم وإلا فالإمام الشافعي أعظم محلاً وأجل قدراً من أن يرى رأي الشيعة الرافضة وهو ذو الفهم التام والذكاء الزائد والحفظ الخارق والفكر الصحيح والعقل الرجيح, ثم ذكر الأدلة على متابعته لمذهب السلف من الصحابة ... ثم ذكر الأبيات الموهمة لتشيعه وهي:
يا راكبا قف بالمحصب من منى ... واهتف بقاعد خيفها والناهض
سحراً إذا فاض الحجيج إلى منى ... فيضا كملتطم الفرات الفائض
إن كان رفضاً حب آل محمد ... فليشهد الثقلان أني رافضي (3)
ثم قال: قلت: ليس برفض حب آل محمد, وكل أهل السنة يحبون آل محمد - صلى الله عليه وسلم - ويجب عليهم ذلك كما يجب عليهم حب أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أجمعين, ومع حب الآل يقدم أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي كل نص عليه الشافعي وأئمة الإسلام (4). وكما رد ابن كثير هذه التهمة فقد ردها الذهبي حيث يقول: من زعم أن الشافعي يتشيع فهو مفتر لا يدري ما يقول. وقال: لو كان شيعياً -وحاشاه من ذلك- لما قال: الخلفاء الراشدون خمسة بدأ بالصديق وختم بعمر بن عبد العزيز (5)، والصحيح أن خامس الخلفاء الراشدين الحسن بن علي - رضي الله عنه - , وقد بينت ذلك في كتابي عن الحسن بن علي - رضي الله عنه - ونقلت أقوال أهل العلم في ذلك. ومما يشهد للشافعي على سلامته من عقيدة الشيعة غير ما سبق رده على زعم الشيعة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نص على إمامة علي - رضي الله عنه - قوله: «من كنت مولاه فعلي مولاه» (6)، فقال: يعني
_________
(1) مناقب البيهقي (2/ 259).
(2) منهج الإمام الشافعي في إثبات العقيدة، ص 492.
(3) طبقات السبكي (1/ 299).
(4) منهج الإمام الشافعي في إثبات العقيدة، ص 493.
(5) السير (10/ 58، 59).
(6) مسند أحمد (1/ 84) , إسناده صحيح، صحيح الجامع رقم 6399.(1/315)
بذلك ولاء الإسلام, وذلك قول الله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لاَ مَوْلَى لَهُمْ} [محمد: 11]. وبهذا يتبين لنا براءة الإمام الشافعي مما اتهم به من التشيع وبعده عن ذلك، وموافقته لمذهب أهل السنة والجماعة (1). قال الإمام سحنون: لم يكن في الشافعي بدعة، فصدق -والله- فرحم الله الشافعي وأين مثل الشافعي -والله- في صدقه وشرفه ونبله وسعة علمه وفرط ذكائه ونصره للحق وكثرة مناقبه رحمه الله تعالى (2).
إن تراث الإمام الشافعي في العقائد تلقته الأمة بالقبول لموافقته منهج أهل السنة والجماعة، واستفادت منه المدارس النظامية في عهد السلاجقة وأسهم في البعث الحضاري للأمة, وكان من اللبنات التي أسست البناء الشامخ لأهل السنة والذي أسهم في صد المد الباطني الرافضي الذي كانت تدعمه الدولة الفاطمية, وكان فكر الإمام الشافعي وتراثه الفقهي من الأسس المهمة التي بنى عليها مشروع النهوض والتصدي للصليبيين في عهد الزنكيين والأيوبيين والمماليك. ومن الدروس المهمة التي نستخرجها أهمية التراث الفكري والعقائدي للعلماء في بناء النهوض الحضاري، فلربما يسهم تراث بعض المصلحين في نهضة الأمة بعد وفاته بقرون، كالذي نراه في دراستنا الحالية لسيرة الإمام الشافعي، ولذلك اعتبره بعض الباحثين من المجددين لكون كتبه وآثاره ذائعة مشهورة، وأحدث نقلة نوعية في حياة الناس، فلعل أحداً من المجددين لم يبلغ الإمام الشافعي في ذلك، فقد ذاع صيته، وطارت شهرته في الآفاق، وتناقل العلماء وطلبة العلم كتبه، ورحل إليه أهل الحديث والفقه من شتى أطراف العالم الإسلامي ليأخذو عنه العلم, وظلت كتبه وآثاره محجة للأجيال التي جاءت من بعده وإلى يوم الناس هذا (3).
ثامناً: عناصر المنهج في فقه الإمام الشافعي:
يسير البحث عند الإمام الشافعي -رحمه الله- في الموضوعات والمسائل الفقهية بطريقة منتظمة وفق الخطوات التالية:
1 - استقراء آيات الكتاب الحكيم.
2 - استقراء السنة المطهرة، والآثار عن الصحابة رضوان الله عليهم.
3 - الاعتماد على اللغة العربية في فهم النصوص.
4 - تطبيق القواعد الأصولية.
5 - الاستدلال بالمعقول ومظاهره.
6 - ضبط المسائل والأحكام المستنبطة بالقواعد والضوابط الفقهية.
_________
(1) منهج الإمام الشافعي في إثبات العقيدة، ص 494.
(2) سير أعلام النبلاء (10/ 93 - 95) بتصرف.
(3) التجديد في الفكر الإسلامي، ص 95.(1/316)
7 - التوضيح بالفروق الفقهية. فهذه أهم عناصر المنهج في فقه الإمام الشافعي (1)، وقد تحدث عنها وشرحها بالتفصيل الدكتور عبد الوهاب إبراهيم أبو سليمان في كتابه «منهجية الإمام محمد بن إدريس الشافعي في الفقه وأصوله- تأصيل وتحليل».
تاسعاً: هل الإمام الشافعي من المجددين؟
توافرت في الإمام الشافعي مآثر وصفات رفعته إلى مصافَّ المجددين, ولعل من أبرزها:
1 - دفاعه عن عقيدة النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه وحربه للمنحرفين عنها.
2 - تدوينه علم أصول الفقه: ويعد الشافعي أول من صنَّف في أصول الفقه، وأرسى قواعده بلا اختلاف ولا ارتياب، وذلك في كتابه «الرسالة».
3 - نصرته للسنة: وقد برزت نصرته للسنة في عدة ميادين:
أ- وضعه لقواعد أصول الحديث: يقول أحمد شاكر: وليس كتاب الرسالة أول كتاب ألف في علم أصول الفقه، بل هو أول كتاب في علم أصول الحديث، لأن ما عرض له الشافعي في كتاب الرسالة من بيان لحجية خبر الواحد، وشروط صحة الحديث، وعدالة الرواة، وردَّ الخبر المرسل والمنقطع إلى غير ذلك، هو أدق وأغلى ما كتب العلماء في أصول الحديث، بل إن المتفقه في علوم الحديث يعرف أن ما كتب بعده، إنما هو فروع منه وعالة عليه, وأنه جمع ذلك وصنفه على غير مثال سبق (2).
ب- تعظيم السنة ورد شبهات المنكرين لحجيتها أو حجية بعضها.
جـ- جمعه بين رواية السنة ودرايتها: فقد كان أصحاب الحديث يعنون بالرواية والنقل، أكثر من عنايتهم بالفقه والاستنباط مما جعلهم عاجزين عن المناظرة والمجادلة، وغير قادرين على تزيين طريق أصحاب الرأي، فجاء الإمام الشافعي، فأقام توازناً بين الفقه والحديث، وبين الرواية والدراية، من غير غلو ولا شطط، وأعاد الناس إلى منهج الاعتدال والوسطية؛ لذلك فرح أصحاب الحديث بالشافعي فرحاً شديداً وأثنوا عليه ثناء حاراً، وسموه ناصر السنة (3)، وقال إبراهيم الحربي: سألت أبا عبد الله عن الشافعي فقال: حديث صحيح ورأي صحيح (4). وقال محمد بن الحسن: إن تكلم أصحاب الحديث يوماً فبلسان الشافعي، يعني لما وضع من كتبه (5)، وقال أحمد: ما كان أصحاب الحديث يعرفون معاني
_________
(1) منهجية الإمام محمد بن إدريس الشافعي، ص 31.
(2) تحقيقات كتاب الرسالة للإمام الشافعي، أحمد شاكر، ص 13.
(3) التجديد في الفكر الإسلامي، ص 93.
(4) سير أعلام النبلاء (8/ 395).
(5) تهذيب الأسماء واللغات (1/ 71).(1/317)
أحاديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فبيَّنها لهم (1).
د- إنصافه ورجوعه إلى الدليل وعدم تعصبه: فقد قال: إذا صح عندكم الحديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقولوا به ودعوا قولي، فإني أقول به وإن لم تسمعوا مني وفي رواية: فلا تقلدوني. وفي رواية: فلا تلتفتوا إلى قولي. وفي رواية: فاضربوا بقولي عُرض الحائط، فلا قول لي مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (2)، وقال الحميدي: روى الشافعي يوماً حديثاً فقلت: أتاخذ به؟ فقال: رأيتني خرجت من كنيسة أو عليَّ زنار حتى إذا سمعت عن رسول الله حديثاً لا آخذ به؟! (3). وكان يقول لأحمد: يا أبا عبد الله إذا صح عندكم الحديث، فأعلمني به أذهب إليه حجازياً كان أو شامياً، أو عراقياً أو يمنياً (4).
هـ - عموم علمه ونفعه أهل الإسلام: ومن خلال ما مضى عن سيرة الإمام الشافعي يتضح لنا أن اختيار نظام الملك لتراث الإمام الشافعي وفقهه في مناهج المدارس النظامية كان صحيحاً، وقد كانت جهود الوزير نظام الملك في نصرة المذهب الشافعي ذات أثر بالغ الأهمية في تثبيت دعائمه في المشرق, وتزامنت هذه الجهود مع وفرة عدد من كبار فقهاء الشافعية المتبحرين من الذين رسخت أقدامهم في العلم، وليس أدل على المكانة المرموقة التي حظي بها الوزير نظام الملك عند علماء الشافعية من تصنيف إمام الحرمين الجويني - وهو من أكابر الشافعية - كتاباً في أحكام الشريعة وجهه لنظام الملك وسماه بالنظامي، ثم تصنيفه لكتاب الغياثي، والمسمى أيضاً غياث الأمم في التياث الظلم, وهو في أحكام السياسة الشرعية كذلك، حيث جعل قسماً كبيراً منه موجهاً للوزير نظام الملك، بعد أن أثنى عليه في مقدمة الكتاب ثناء حسناً ومدحه ببعض أبيات الشعر (5).
* * *
_________
(1) تهذيب الأسماء واللغات (1/ 80).
(2) البداية والنهاية, نقلاً عن التجديد في الفكر الإسلامي، ص 94.
(3) البداية والنهاية, نقلاً عن التجديد في الفكر الإسلامي، ص 94.
(4) تهذيب الأسماء واللغات (1/ 83).
(5) المدخل إلى مذهب الشافعي، ص 356، الغياثي، ص 10 - 12.(1/318)
المبحث الثالث
الإمام أبو الحسن الأشعري
أسهم الإمام أبو الحسن الأشعري بتراثه وأفكاره التي وضعها في كتبه وبواسطة تلاميذه في نشاط المدارس النظامية التي اعتمدت ما وصل إليه من بحوث في عقائد أهل السنة والردود على المعتزلة والمخالفين لأصول أهل السنة والجماعة.
أولاً: اسمه ونسبه وموطنه ومولده ومكانته العلمية:
1 - اسمه ونسبه: هو أبو الحسن علي بن إسماعيل بن أبي بشر إسحاق بن سالم بن إسماعيل بن عبد الله بن موسى بن أمير البصرة بلال بن أبي بردة بن صاحب رسول - صلى الله عليه وسلم - أبي موسى عبد الله بن قيس بن حضار الأشعري اليماني البصري، وكنيته أبو الحسن (1) فالأشعري من أولاد الصحابي الجليل أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه - (2).
2 - موطنه ومولده: ولد أبو الحسن الأشعري في البصرة، وبعد خروجه على الاعتزال غادرها وسكن بغداد، ولهذا يقولون عنه: بصري سكن بغداد (3)، وأما عن مولده فقد اختلف المؤرخون في تحديد ولادة الأشعري: فابن عساكر يذكر عن أبي بكر الوزان رواية مفادها: أنه وُلد سنة ستين ومائتين ثم يؤكد ابن عساكر صحة هذه الرواية بقوله: لا أعلم لقائل هذا القول في تاريخ مولده مخالفاً (4). وأما ابن خلكان فيرى أن مولد الأشعري كان سنة سبعين ومائتين (5) ولهذا قال الذهبي رحمه الله: مولده سنة ستين ومائتين، وقيل: بل ولد سنة سبعين (6)، والمقريزي يذكر أن مولده كان سنة ست وستين ومائتين، وقيل
سنة سبعين (7) ولكن أكثر المصادر التاريخية التي ترجمت للأشعري تذكر أنه ولد سنة
ستين ومائة (8).
3 - مكانته العلمية وثناء العلماء عليه: كان الأشعري -رحمه الله- من العلماء الذين حملوا لواء العلم في كل ميادينه وصنوفه، ويعد من العلماء الذين جمعوا بين شتى المعارف
_________
(1) سير أعلام النبلاء (15/ 86).
(2) شعبة العقيدة بين أبي الحسن الأشعري والمنتسبين إليه، ص 20.
(3) تبيين كذب المفتري، ص 36.
(4) المصدر نفسه، ص 146.
(5) وفيات الأعيان (3/ 307).
(6) سير أعلام النبلاء (15/ 85).
(7) الخطط للمقريزي (3/ 307).
(8) شعبة العقيدة بين أبي الحسن الأشعري والمنتسبين إليه، ص 21.(1/319)
والعلوم والفنون (1). قال الخطيب البغدادي: أبو الحسن الأشعري المتكلم، صاحب التصانيف في الرد على الملاحدة وغيرهم من المعتزلة والرافضة والجهمية والخوارج وسائر أصناف المبتدعة (2). وقال الذهبي عنه: العلامة إمام المتكلمين أبو الحسن .. وكان عجباً في الذكاء وقوة الفهم، ولما برع في معرفة الاعتزال، كرهه وتبرأ منه، وصعد للناس، فتاب إلى الله تعالى منه، ثم أخذ يرد على المعتزلة ويهتك عوارهم. قال الفقيه أبو بكر الصيرفي: كانت المعتزلة قد رفعوا رءوسهم حتى نشأ الأشعري فحجزهم في أقماع السمسم. وعن ابن الباقلاني قال: أفضل أحوالي أن أفهم كلام الأشعري (3)، وذكر الذهبي عنه أيضاً: ولأبي الحسن ذكاء مفرط، وتبحر في العلم، ويقول: رأيت لأبي الحسن أربعة تواليف في الأصول يذكر فيها قواعد مذهب السلف في الصفات وقال فيها: تمر كما جاءت، ثم قال: وبذلك أقول وبه أدين، ولا تؤول (4)
وقال عنه القاضي عياض: وصنف لأهل السنة التصانيف، وأقام الحجج على إثبات السنة وما نفاه أهل البدع من صفات الله تعالى ورؤيته وقدم كلامه وقدرته، وأمور السمع الواردة من الصراط، والميزان، والشفاعة، والحوض وفتنة القبر التي نفتها المعتزلة، وغير ذلك من مذاهب أهل السنة والحديث، فأقام الحجج الواضحة عليها من الكتاب والسنة والدلائل الواضحة العقلية، ودفع شبه المبتدعة ومن بعدهم من الملحدة والرافضة، وصنف في ذلك التصانيف المبسوطة التي نفع الله بها الأمة (5)، وأما ابن عساكر فقد أفرد كتاباً في الدفاع عنه، ومدحه كثيراً، وجعله من المجددين، وذكر الروايات الواردة في مدح قومه وأسرته (6) وكذلك السبكي في طبقات الشافعية، وكان مما قال فيه: شيخنا وقدوتنا إلى الله تعالى الشيخ أبو الحسن الأشعري البصري شيخ طريقة أهل السنة والجماعة، وإمام المتكلمين، وناصر سنة سيد المرسلين والذاب عن الدين، والساعي في حفظ عقائد المسلمين، سعياً يبقى أثره إلى يوم يقوم الناس لرب العالمين، إمام حبر، وتقي برّ، حمى جناب الشرع من الحديث المفترى، وقام في نصرة الإسلام فنصرها نصراً مؤزراً (7). وغيرهم من العلماء الذين مدحوه وأثنوا على ما قام به من نصر السنة والرد على المبتدعة من
المعتزلة وغيرهم (8).
ثانياً: المراحل التي مر بها:
مر أبو الحسن الأشعري بأطوار ثلاثة في حياته الاعتقادية:
_________
(1) شعبة العقيدة بين أبي الحسن الأشعري والمنتسبين إليه، ص 22.
(2) تاريخ بغداد (11/ 347).
(3) سير أعلام النبلاء (15/ 86).
(4) سير أعلام النبلاء (15/ 86).
(5) ترتيب المدارك (5/ 24).
(6) موقف ابن تيمية من الأشاعرة (1/ 339).
(7) طبقات السبكي (3/ 347).
(8) موقف ابن تيمية من الأشاعرة (1/ 340).(1/320)
الطور الأول: تكاد تجمع كل المصادر التي ترجمت للأشعري على أنه عاش طوره الأول في ظل المعتزلة والاعتزال وأنه بقي فيه ملازماً شيخه وزوج أمه الجبائي حتى بلغ أربعين سنة من عمره (1).
الطور الثاني: بعد خروجه على المعتزلة، سلك طريق عبد الله بن سعيد بن كلاب البصري (2)، وبدأ يرد على المعتزلة معتمداً على القوانين والقضايا التي قالها عبد الله بن كلاب (3)، يقول ابن تيمية رحمه الله: وكان أبو الحسن الأشعري لما رجع عن الاعتزال سلك طريق أبي محمد بن كلاب (4)، وهذا الطور يمثله كتاب اللمع في الرد على أهل الزيغ والبدع (5) وكان ابن كلاب يرد على المعتزلة والجهمية ومن تبعهم بطريقة يميل فيها إلى مذهب أهل السنة والحديث، ولكن لما كثر جداله معهم ورده عليهم ومناظرته لهم بالطرق القياسية، سلَّمَ لهم أصولاً هم واضعوها، فمن هنا دخلت البدعة في طريقته (6)، وكان ابن كلاب قد أحدث مذهباً جديداً، فيه ما يوافق السلف وفيه ما يوافق المعتزلة والجهمية (7)، وفي هذا يقول ابن تيمية رحمه الله: كان الناس قبل أبي محمد بن كلاب صنفين: فأهل السنة والجماعة يُثبتون ما يقوم بالله تعالى من الصفات والأفعال التي يشاؤها ويقدر عليها، والجهمية من المعتزلة وغيرهم تنكر هذا وهذا، فأثبت ابن كلاب قيام الصفات اللازمة به، ونفى أن يقوم به ما يتعلق بمشيئته وقدرته من الأفعال وغيرها (8)، ووافقه على ذلك أبو العباس القلانسي وأبو الحسن الأشعري (9)، وهذا الأصل الذي أحدثه ابن كلاب دفع الإمام أحمد بن حنبل وغيره من أئمة السلف إلى أن يحذروا منه ومن أتباعه الكلابية (10)،
وهذه الطريقة التي أحدثها ابن كلاب البصري لم يسبقه إليها غيره، ووافقه عليها الأشعري وردَّ من خلالها على الجهمية والمعتزلة (11).
الطور الثالث: مكث الأشعري زمناً على طريقة ابن كلاب يرد على المعتزلة وغيرهم من خلال ما اعتقده في هذه الطريقة ولكن الله تعالى مَنَّ عليه بالحق فنوَّر بصيرته وذلك
_________
(1) شعبة العقيدة بين أبي الحسن والمنتسبين إليه، ص 39.
(2) سير أعلام النبلاء (11/ 174).
(3) شعبة العقيدة بين أبي الحسن والمنتسبين إليه، ص 42.
(4) الفتاوى (3/ 103) (5/ 556).
(5) شعبة العقيدة بين أبي الحسن الأشعري والمنتسبين إليه، ص 42.
(6) المصدر نفسه، ص 43.
(7) المصدر نفسه، ص 44.
(8) الفتاوى (13/ 131 - 154).
(9) موافقة صريح المعقول لصحيح المنقول- على هامش منهاج السنة (2/ 4، 5).
(10) مجموع الفتاوى (12/ 368).
(11) شعبة العقيدة بين أبي الحسن الأشعري والمنتسبين إليه، ص 45.(1/321)
بالرجوع التام إلى مذهب أهل السنة والجماعة، والتزام طريقتهم، واتباع منهجهم ومسلكهم, وكان هذا الذي أراد أن يلقى الله تعالى عليه، متبرئاً من المذاهب التي عاشها، وداعياً إلى طريقة السلف ومذهبهم، ومنتسباً إلى الإمام أحمد بن حنبل -رحمه الله- وهذا الطور نظراً لأهميته في المجال الاعتقادي فقد أثبتناه له - بعد توفيق الله- بثلاثة وجوه: (1)
الوجه الأول: أقوال العلماء: لقد شهد كثير من العلماء والأئمة برجوع الأشعري الرجوع التام إلى مذهب السلف الصالح، وهؤلاء الأئمة ما قالوا هذه الشهادة إلا بعد أن سبروا حياته وعرفوا ما كان عليه وما استقر عليه, ومن هؤلاء العلماء (2):
* شيخ الإسلام ابن تيمية (3).
* تلميذه الحافظ ابن القيم (4).
* الحافظ ابن كثير، وقد قال رحمه الله: ذكروا للشيخ أبي الحسن الأشعري ثلاثة أحوال:
أولها: حال الاعتزال التي رجع عنها لا محالة.
الحال الثاني: إثبات الصفات العقلية السبع: وهي الحياة والعلم والقدرة والإرادة والسمع والبصر والكلام. وتأويل الخبرية، كالوجه واليدين والقدم والساق ونحو ذلك.
الحال الثالث: إثبات ذلك كله من غير تكييف ولا تشبيه جرياً على منوال السلف, وهي طريقته في الإبانة التي صنفها آخراً (5).
* الشيخ نعمان الآلوسي (6).
* الشيخ أبو المعالي محمود الآلوسي (7).
* العلامة محب الدين الخطيب. وقال رحمه الله في بيان أطوار الأشعري ورجوعه التام إلى مذهب السلف: أبو الحسن الأشعري علي بن إسماعيل من كبار أئمة الكلام في الإسلام، نشأ أول أمره على الاعتزال، وتتلمذ فيه على الجبائي. ثم أيقظ الله بصيرته وهو في منتصف عمره وبداية نضجه، فأعلن رجوعه عن ضلالة الاعتزال، ومضى في هذا الطور نشيطاً يؤلف ويناظر ويُلقي الدروس في الرد على المعتزلة، سالكاً طريقاً وسطاً بين طريقة الجدل والتأويل، وطريقة السلف، ثم محض طريقته وأخلصها لله بالرجوع الكامل إلى طريقة السلف في إثبات
_________
(1) شعبة العقيدة بين أبي الحسن الأشعري والمنتسبين إليه، ص 47.
(2) شعبة العقيدة بين أبي الحسن الأشعري والمنتسبين إليه، ص 47.
(3) الفتاوي (6/ 53).
(4) اجتماع الجيوش الإسلامية، ص 112.
(5) إتحاف السادة المتقين للمرتضى الزبيدي، ص 48.
(6) جلاء العينين، ص 213.
(7) غاية الأماني في الرد على النبهاني (2/ 408).(1/322)
كل ما ثبت بالنص من أمور الغيب التي أوجب الله على عباده إخلاص الإيمان بها. وكتب بذلك كتبه الأخيرة ومنها في أيدي الناس كتاب «الإبانة» وقد نص مترجموه على أنه آخر كتبه، وهذا ما أراد أن يلقى الله عليه، وكل ما خالف ذلك مما ينُسب إليه، أو صارت تقول به الأشعرية، فإن الأشعري رجع عنه إلى ما في كتاب الإبانة وأمثاله (1).
الوجه الثاني: التقاؤه بالحافظ زكريا الساجي: بعد خروجه من الاعتزال والتخلص من طريقة ابن كلاب لجأ إلى الأئمة من أهل الحديث ممن عُرفوا بسلامة عقيدتهم وصفاء منهجهم ليأخذ منهم مقالة السلف وأصحاب الحديث, ومن أشهرهم الحافظ الثبت محدث البصرة زكريا الساجي (2)، يقول ابن تيمية عن الأشعري: وأخذ عن زكريا الساجي أصول الحديث بالبصرة، ثم لما قدم بغداد أخذ عن حنبلية بغداد أموراً أخرى، وذلك آخر أمره، كما ذكره هو وأصحابه في كتبهم (3)، وقال الذهبي عندما ترجم للحافظ الساجي: وعنه أخذ أبو الحسن الأشعري الأصولي تحرير مقالة أهل الحديث والسلف (4)، وقال في مكان آخر عن الساجي: أخذ عنه أبو الحسن الأشعري مقالة السلف في الصفات واعتمد عليها أبو الحسن في عدة تآليف (5)، ومن الذين أثبتوا للأشعري هذا اللقاء مع المحدث الحافظ زكريا الساجي، وجعلوه نقطة تحول كبيرة عند الأشعري (6)؛ الإمامان: ابن القيم (7) وابن كثير (8)، وغيرهما (9).
الوجه الثالث: تأليفه كتاب الإبانة وإثباته له. إن آخر الكتب التي ألفها الأشعري رحمه الله هو كتاب الإبانة, وقد ذكر في هذا الكتاب انتسابه للإمام أحمد رحمه الله، والتزامه بعقيدة السلف الصالح، واتباع أئمة الحديث، وذكر بعد هذا عقيدة السلف الصالح في أمور الدين، ولقد أثبت هذا الكتاب للأشعري جمع كثير من الأئمة، من المتقدمين والمتأخرين (10)، وأقرب العلماء زمناً بزمن الأشعري هو ابن النديم (ت 385هـ) فقد ذكر في كتابه «الفهرست» ترجمة للأشعري وذكر جملة من كتبه التي ألفها، ومنها كتاب «التبيين عن أصول الدين» وجاء بعده ابن عساكر وانتصر للأشعري، وأثبت له كتاب «الإبانة» ونقل منه كثيراً
_________
(1) انظر المنتقى للذهبي, تعليق محب الدين رقم 3، ص 41.
(2) شعبة العقيدة بين أبي الحسن الأشعري والمنتسبين إليه، ص 49.
(3) الفتاوى (3/ 288).
(4) تذكرة الحافظ الذهبي (2/ 709).
(5) سير أعلام النبلاء (14/ 198).
(6) شعبة العقيدة بين أبي الحسن الأشعري والمنتسبين إليه, ص50.
(7) اجتماع الجيوش الإسلامية، ص 97.
(8) البداية والنهاية (11/ 131).
(9) شعبة العقيدة بين أبي الحسن الأشعري والمنتسبين إليه، ص 50.
(10) كتب الشيخ حماد الأنصاري رسالة أثبت فيها رجوع الأشعري إلى مذهب السلف.(1/323)
في كتابه التبيين «للإشادة بحسن عقيدة الأشعري» قال ابن عساكر عن الأشعري: وتصانيفه بين أهل العلم مشهورة معروفة، بالإجادة والإصابة للتحقيق عند المحققين موصوفة، ومن وقف على كتابه المسمى «الإبانة» , عرف موضوعه من العلم والديانة (1). ثم جاء ابن ورباس (ت 659هـ)، وألف كتاباً في الذب عن الأشعري وأثبت له كتاب الإبانة. وقال: أما بعد .. فاعلموا معشر الإخوان وفقنا الله وإياكم للدين القويم وهدانا جميعاً للصراط المستقيم بأن كتاب «الإبانة عن أصول الديانة» الذي ألفه الإمام أبو الحسن علي بن إسماعيل الأشعري، هو الذي استقر عليه أمره فيما كان يعتقده، وبما كان يدين الله سبحانه وتعالى بعد رجوعه عن الاعتزال لمنّ الله ولطفه، وكل مقالة تنسب إليه الآن مما يخالف ما فيه، فقد رجع عنها، وتبرأ إلى الله سبحانه منها، كيف وقد نصَّ فيه على أنه ديانته التي يدين لله سبحانه بها.
وروى وأثبت ديانة الصحابة والتابعين وأئمة الحديث الماضين، وقول أحمد بن حنبل رضي الله عنهم أجمعين: وأنه ما دل عليه كتاب الله وسنة رسوله، فهل يسوغ أن يُقال: إنه رجع إلى غيره؟ فإلي ماذا يرجع تراه، يرجع عن كتاب الله وسنة نبي الله، خلاف ما كان عليه الصحابة والتابعون، وأئمة الحديث الماضون، وقد علم أنه مذهبهم ورواه عنهم. هذا لعمري ما لا يليق نسبته إلى عوام المسلمين كيف بأئمة الدين؟! وقد ذكر هذا الكتاب، واعتمد عليه وأثبته عن الإمام أبي الحسن رحمه الله وأثنى عليه بما ذكره فيه، وبرأه من كل بدعة نسبت إليه، ونقل منه إلى تصنيفه جماعة من الأئمة الأعلام من فقهاء الإسلام، وأئمة القراء وحفاظ الحديث وغيرهم (2) ثم ذكر -رحمه الله- جماعة من هؤلاء الأئمة الذين أثبتوا كتاب «الإبانة» للأشعري ومنهم:
- إمام القراء أبو علي الحسن بن علي بن إبراهيم الفاسي (ت 446هـ).
- الحافظ أبو عثمان الصابوني (ت 449هـ).
- الفقيه الحافظ أبو بكر البيهقي (ت 458هـ).
- الإمام الفقيه أبو الفتح نصرالمقدسي (ت 490هـ).
- الفقيه أبو المعالي مجلي صاحب كتاب الذخائر في الفقه (ت 550هـ) (3).
وهناك جمع كثير من العلماء ممن أثبت كتاب «الإبانة» للأشعري، غير الذين ذكرهم ابن درباس ومنهم.
_________
(1) تبيين كذب المفترى، ص 28.
(2) رسالة الذب عن أبي الحسن الأشعري لابن درباس، ص 107.
(3) شعبة العقيدة بين أبي الحسن الأشعري والمنتسبين إليه، ص 52.(1/324)
- الإمام ابن تيمية رحمه الله (ت 728هـ).
- الحافظ الذهبي (ت 748هـ) وقال: وكتاب الإبانة من أشهر تصانيف أبي الحسن، شهره الحافظ ابن عساكر واعتمد عليه ونسخه بخطة الإمام محيى الدين النووي (1).
- الإمام ابن القيم (ت 571هـ).
- الحافظ ابن كثير (ت 774هـ).
- العلامة ابن فرحون المالكي (ت 799هـ) (2). وهناك جمع كثير لا يُحصى عددهم من العلماء والأئمة الذين أثبتوا كتاب الإبانة للأشعري وأنه آخر ما صنف (3).
وقد ذكر المؤرخون مجموعة من الأسباب في سبب رجوع أبي الحسن إلى مذهب أهل السنة وترك الاعتزال, وأهمها رحمة الله به وهدايته له.
ثالثاً: سّر عظمة الأشعري في التاريخ:
نهض أبو الحسن الأشعري بعد هذا التحول العظيم، يدعو إلى عقيدة أهل السنة، ويدافع عنها في حماسة وإيمان، ويرد على المعتزلة ويتتبعهم في مجالسهم ومراكزهم يحاول إقناعهم بما اقتنع به أخيراً من عقائد أهل السنة، ومذاهب السلف، وكان نشاطه في ذلك أعظم من نشاطه في السابق، وكان يقصدهم بنفسه يناظرهم، فكُلِّم في ذلك وقيل له: كيف تُخالط أهل البدع وتقصُدهم بنفسك وقد أمرت بهجرهم؟ فقال: هم أولو رياسة، منهم الوالي والقاضي، ولرياستهم لا ينزلون إليَّ، فإذا كانوا هم لا ينزلون إلي، ولا أسير أنا إليهم، فكيف يظهر الحق، ويعلمون أن لأهل السنة ناصراً بالحجة (4)؟ وهذه الجهود العظيمة والمثابرة الصابرة في مناصرة مذهب أهل السنة تستحق الثناء والتقدير.
وكان أبو الحسن الأشعري مستواه العقلي أعلى من مستوى معاصريه وأقرانه، وكان صاحب نبوغ وابتكار في العقليات, وكان يرد على حُجج المعتزلة وعقائدهم في سهولة وينقُضها بمقدرة وثقة، كما يرد الأستاذ الكبير على شبه تلاميذه، ويحل مشاكلهم، وقد كان أبو الحسن الأشعري إماماً مجتهداً في علم الكلام، وأحد مؤسسيه, وقد خضع كلُّ من جاء بعده من المتكلمين لعبقريته، وعمق كلامه، ودقة نظره وإصابة فكره (5).
_________
(1) مختصر العلو، ص 239.
(2) الديباج المذهب، ص 195.
(3) شعبة العقيدة بين أبي الحسن الأشعري والمنتسبين إليه، ص 53.
(4) تبيين كذب المفترى، ص 116.
(5) رجال الفكر والدعوة في الإسلام (1/ 143، 144).(1/325)
1 - أبو الحسن الأشعري يشرح عقيدته التي يدين بها: فيقول: وقولنا الذي نقول به، وديانتنا التي نَدين بها، التمسك بكتاب ربنا عز وجل، وبسنة نبينا عليه السلام، وما رُوي عن الصحابة والتابعين وأئمة الحديث، ونحن بذلك معتصمون، وبما كان يقول به أبو عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل - نضر الله وجهه، ورفع درجته، وأجزل مثوبته - قائلون، ولما خالف قوله مخالفون؛ لأنه الإمام الفاضل، والرئيس الكامل الذي أبان الله به الحق، ورفع به الضلال، وأوضح به المنهاج، وقمع به بدع المبتدعين، وزيغ الزائغين، وشَكَّ الشاكين، فرحمة الله عليه من إمام مُقَدَّم، وخليل معظم مضخم. ولم تقتصر خدمة الأشعري على تأييد عقائد أهل السنة والسلف تأييداً إجمالياً، فقد كان الحنابلة والمحدثون قائمين به غير مقصَّرين فيه، إن عبقريته تتجلى في أنه أقام البراهين والدلائل العقلية والكلامية على هذه العقائد، وناقش المعتزلة والمتفلسفة عقيدة عقيدة، وذلك كله في لغة يفهمونها، وأسلوب يألفونه ويُجلونه, وبذلك أثبت أن هذا الدين وعقيدته الواضحة مؤيَّدان بالعقل، وأن العقل الصحيح يؤيد الدين الصريح، ولا صراع بينهما (1) ولا تناقض.
2 - مصدر العقيدة عن أبي الحسن الأشعري: كان الأشعري مؤمناً بأن مصدر العقيدة والمسائل التي تتصل بالإلهيات وما وراء الطبيعية هو الكتاب والسنة وما جاء به الأنبياء, وليس العقل المجرد والمقياس والميتافيزيقا اليونانية، ولكنه لم يكن يرى السكوت والإعراض عن المباحث التي حدثت بتطورات الزمان، واختلاط هذه الأمة بالأمم والديانات والفلسفات الأجنبية، حتى تكونت على أساسها فرق ونحل، وكان يرى أن السكوت عن هذه المباحث يضر بالإسلام، ويُفقد مهابة السنة ويحمل على ذلك ضعف السنة العلمي والعقلي، وعجز علماء الدين وممثليه عن مواجهة هذه التيارات ومقاومة هذه الهجمات، ويهَتبلهُ أهل الفرق الضالة، فينفذون في أهل السنة والعقيدة الصحيحة، فينفُثون سمومَهم فيهم، ويزرعون الشكوك، ويستميلون شبابهم الذكي المثقف إلى أنفسهم، وكان الأشعري مؤمناً بأن مصدر العقيدة هو الوحي والنبوة المحمدية، والطريق إلى معرفته هو الكتاب والسنة وما ثبت عن الصحابة رضي الله عنهم، وهذا مُفترق الطريق بينه وبين المعتزلة، فإنه يتجه في ذلك اتجاهاً معارضاً لاتجاه المعتزلة، ولكنه رغم ذلك يعتقد مخلصاً أن الدفاع عن هذه العقيدة السليمة، وغَرسها في قلب الجيل الإسلامي الجديد، يحتاج إلى الحديث بلغة العصر العلمية السائدة، واستعمال المصطلحات العلمية، ومناقشة المعارضين بأسلوبهم العقلي، ولم يكن يسوغ ذلك، بل يَعدُّه أفضل الجهاد وأعظم القربات في ذلك العصر، وهذا مفترق الطرق بينه
_________
(1) رجال الفكر والدعوة في الإسلام، ص 5.(1/326)
وبين - بعض - من الحنابلة والمحدثين الذين كانوا يتأثمون ويتحرجون من النزول إلى هذا المستوى (1).
3 - العلاقة بين العقليات والحِسَّيات والعقيدة والديانات: كان يعتقد أن المباحث التي تتصل بالعقليات والِحسيات لا صلة لها في الحقيقة بالعقيدة والديانات، ولكنَّ المعتزلة والفلاسفة مزجوا البحث فيها بالبحث في العقيدة، بل جعلوها بذلاقة لسانهم وذكائهم مقدمات للبحث في الدين، بل فارقاً بين الحق والباطل، وكان الأشعري يعتقد أن الفرار من البحث فيها، بحجة أنها لا تتصل بالدين والعقيدة لا يصح، بل بالعكس من ذلك، يجب على من قام لنُصرة السنة أن يواجههم فيها ويثبت مذهب أهل الحق، وكان يعتقد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه لم يسكتوا عن هذه المسائل جهلاً، بل لأن هذه المسائل ما نشأت في عصرهم، ولم تمسَّ الحاجة إلى البحث فيها شأن الفقه والجزئيات الكثيرة التي حدثت بعد عصرهم فتأمل فيها الفقهاء والمجتهدون، وأبدوا رأيهم فيها، واستنبطوا وفرَّعوا وحلوا المشكلات الجديدة، وبذلك عصموا الأمة والجيل الجديد عن الإلحاد والفوضى في العمل والتعطل، كذلك يجب على حراس الشريعة، ومتكلمي أهل السنة، أن يُواجهوا الأسئلة الجديدة التي أثارها المعتزلة والمتفلسفة في موضوع الإلهيات، ويُجيبوا عن الاعتراضات والمطاعن التي يوجهونها إلى أهل السنة ومُطابقتها للعقل والمنطق، وقد ألف في هذا الموضوع رسالة أسماها: استحسان الخوض في الكلام، وقد سار الأشعري في طريقه مجاهداً، ومناضلاً، منتجاً، معرضاً عن سخط - المعارضين - لا يعبأ بما يقال فيه مؤمناً بأنه هو الذي ينفع الدين في عصره ويرد إلى الشريعة الإسلامية مهابتها وكرامتها ويحرس للناشئة دينها وعقيدتها، حتى استطاع بعمله المتواصل، وشخصيته القوية وعقله الكبير، وإخلاصه النادر، أن يردَّ سيل الاعتزال والتفلسف الجارف الذي كان يتهدد الدين، ويثبت كثيراً من الذين تزلزلت أقدامهم، واضطربت عقولهم وعقيدتهم، وأن يوجد في أهل السنة ثقة جديدة بعقيدتهم، ونشاطاً جديداً في دعوتهم, وزالت سطوة المعتزلة على العقول والأفكار،
واشتغلوا بالدفاع عن الهجوم, وتعرضت حركة الاعتزال ودعوتها للخطر، وقد خمدوا وانطفأوا بمعارضة إمام كبير، كأبي الحسن الأشعري (2).
4 - اجتماع أهل السنة على المعتزلة وأهل البدع: دخل أهل السنة والجماعة في صراع جدلي عنيف في القرنين الثاني والثالث مع المخالفين الذين شذوا عن منهج الحق, وقد اشتهر أهل السنة آنذاك بالانتساب إلى الحديث النبوي، فكانوا يسمّون «أهل الحديث» , ولما
_________
(1) رجال الفكر والدعوة (1/ 148).
(2) رجال الفكر والدعوة (1/ 149).(1/327)
برز الإمام أحمد بن حنبل في الدفاع عن السنة نُسب أهل السنة إليه فكانوا يسمَّون «الحنابلة» , وقد ظلت المعارك الجدلية قائمة بين علماء السنة ومخالفيهم من المعتزلة والجهمية وتقوى علماء السنة بانضمام أبي الحسن الأشعري ,إليهم وكان دفاعه عن الكتاب والسنة وردُّه القوي على المعتزلة والجهمية سببًا في مكانته المرموقة عند أهل الحديث وقد سُمي أتباع أبي الحسن الأشعري بالأشاعرة وظل الوئام بين أهل الحديث وبين الأشاعرة، وأصبحوا جميعاً ضد المعتزلة ونحوهم (1) وفي ذلك يقول الإمام ابن تيمية: والأشعرية فيما يثبتونه من السنة فرع على الحنبلية، كما أن متكلمة الحنبلية فيما يحتجون من القياس العقلي فرع عليهم، وإنما وقعت الفرقة بسبب فتنة القشيري (2)، وكان من أكبر المنظرين لطريقة أبي الحسن الأشعري فيمن بعده أبو بكر الباقلاني، الإمام العلامة، أوحد المتكلمين، مقدم الأصوليين، القاضي أبو بكر، محمد بن الطيب الباقلاني، صاحب التصانيف, وكان يضرب المثل بفهمه وذكائه (3)،
وكان ثقة إماماً بارعاً، صنّف في الرَّد على الرافضة والمعتزلة والخوارج والجهمية والكرَّامية وانتصر لطريقة أبي الحسن الأشعري، وقد يخالفه في مضائق فإنه من نظرائه، وقد أخذ علم النظر عن أصحابه (4)، وقد ذكره القاضي عياض في طبقات المالكية، فقال: هو الملقب بسيف السنة، ولسان الأمة، المتكلم على لسان أهل الحديث، وطريق أبي الحسن، وإليه انتهت رئاسة المالكية في وقته، وكان له بجامع البصرة حلقة عظيمة (5)، وقد سار القاضي رسولاً عن أمير المؤمنين إلى طاغية الروم، وجرت له أمور، منها أن الملك أدخله عليه من باب خوخة ليدخل راكعاً للملك ففطِن لها القاضي ودخل بظهره (6)، ومنها أنه قال لراهبهم: كيف الأهل والأولاد؟ فقال الملك: مه, أما علمت أنّ الراهب يتنزه عن هذا؟ فقال: تُنزَّهونه عن هذا، ولا تُنزَّهون ربَّ العالمين عن الصاحبة والولد؟! (7)، وقيل: إنّ الطاغية سأله: كيف جرى لزوجة نبيكم - يقصد توبيخاً - فقال: كما جرى لمريم بنت عمران، وبرأهما الله، لكنَّ عائشة لم تأت بولد، فأفحمه (8)، وكان الحافظ الدارقطني يحترمه ويقدره، فعن أبي ذر الهروي قال: إني كنت ماشياً ببغداد مع الحافظ الدارقطني، فلقينا أبا بكر بن الطيب فالتزمه الشيخ أبو الحسن وقبَّل وجهه وعينيه، فلما فارقناه، قلت له: من هذا الذي صنعت به ما لم اعتقد أنَّك تصنعه وأنت إمام وقتك؟ فقال: هذا إمام المسلمين، والذَّاب عن الَدَّين, هذا القاضي أبو بكر محمد بن الطيب (9).
قال الذهبي: هو الذي كان ببغداد يناظر عن السنة
_________
(1) الرسائل الشمولية, د. عبد العزيز الحميدي، ص 64.
(2) مجموع الفتاوى (6/ 53) , والقشيري هو أبو نصر عبد الرحيم.
(3) سير أعلام النبلاء (17/ 190).
(4) سير أعلام النبلاء (17/ 190).
(5) المصدر نفسه (17/ 191).
(6) المصدر نفسه (17/ 191).
(7) المصدر نفسه (17/ 192).
(8) المصدر نفسه (17/ 192).
(9) المصدر نفسه (17/ 558).(1/328)
وطريقة الحديث بالجدل والبرهان وبالحضرة رءوس المعتزلة والرافضة والقدريَّة وألوان البدع، ولهم دولة وظهور بالدولة البويهية، وكان يردُّ على الكرّامية، وينصر الحنابلة عليهم، وبينه وبين أهل الحديث عامِرٌ، وإن كانوا قد يختلفون في مسائل دقيقة فلهذا عامله الدارقطني بالاحترام، وقد ألف كتاباً سمَّاه الإبانة، يقول فيه: فإن قيل: فما الدليل على أن لله وجهاً ويداً؟ قال: قوله {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ} [الرحمن: 27] وقوله: {مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص: 75] فأثبت تعالى لنفسه وجهاً ويداً. إلى أن قال: فإن قيل: فهل تقولون: إنَّه في كل مكان؟ قيل: معاذ الله، بل هو مستوٍ على عرشه كما أخبر في كتابه. إلى أن قال: وصفات ذاته التي لم يزل ولا يزال موصوفاً بها: الحياة والعلم والقدرة والسمع والبصر والكلام والإرادة والوجه واليدان والعينان والغضب والرضا. فهذا نصّ كلامه (1). وقال نحوه في كتاب «التمهيد» له, وفي كتاب «الذَّبَّ عن الأشعريَّ». وقال: قد بَيَّنَّا دين الأمة وأهل السنة أن هذه الصفات تمر كما جاءت بغير تكييف ولا تحديد ولا تجنيس ولا تصوير (2). قال الذهبي: فهذا المنهج هو طريقة السلف، وهو الذي أوضحه أبو الحسن وأصحابه، وهو التسليم لنصوص الكتاب والسُّنَّة، وبه قال ابن الباقلاني وابن فورك، والكبار إلى زمن أبي المعالي، ثم زمن الشيخ أبي حامد - يقصد الغزالي - فوقع اختلاف وألوان نسأل الله العفو (3).
ومن الدروس المستفادة معاملة الدارقطبي للباقلاني، وأهمية وجود الأذكياء المناظرين لمنهج أهل السنة المستوعبين لشبهات وحجج المخالفين والذين يملكون القدرات الكافية عقلاً وفصاحة وتأليفاً وعلماً والنية الصادقة للدفاع عن دين الله تعالى وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - , ولا يخلو عصر من أهل الضلال, ولابد من وجود أهل الحق المدافعين عن عقيدة الأمة, ولا بد من إعطاء من يقوم بهذا الدور قدره من الاحترام والتقدير والمحبة والنصرة لكونهم على ثغر كبير يحتاج من يسده. وقد مات الإمام أبو بكر الباقلاني عام 403هـ وصلى عليه ابنه حسن وكانت جنازته مشهودة وكان سيفاً على المعتزلة والرافضة والمشبهة وغالب قواعده على السنة، وقد أمر شيخ الحنابلة أبو الفضل التميميُّ منادياً يقول بين يدي جنازته: هذا ناصر السنة والدين والذابّ عن الشريعة (4).
5 - اتجاهات أهل السنة في بداية القرن الرابع: بعد ظهور أبي الحسن الأشعري وأبي منصور الماتريدي في بداية القرن الرابع صار أهل السنة على اتجاهين, الأول: التمسك بظاهر النصوص الشرعية وذلك في إثبات معاني الصفات مع تنزيه الله تعالى عن مشابهة المخلوقين، وقد سُمي هؤلاء أهل الحديث ثم غلبت عليهم التسمية بالحنابلة.
_________
(1) سير أعلام النبلاء (17/ 559).
(2) سير أعلام النبلاء (17/ 559).
(3) سير أعلام النبلاء (17/ 559).
(4) المصدر نفسه (17/ 193).(1/329)
والثاني: التمسك بظاهر النصوص في بعض الصفات مع تنزيه الله تعالى عن مشابهة المخلوقين وتأويل بعضها الآخر لأنه في نظرهم يوهم التشبيه، وقد اشتهر بهذا المذهب الأشاعرة والماتريدية, وكان هؤلاء مقبولين عند أهل الحديث من بداية القرن الرابع إلى ما بعد منتصف القرن الخامس، لدفاعهم عن السنة ووقوفهم القوي ضد الجهمية والمعتزلة, ولم يتجاوز الخلاف بينهم حدود الحوار العلمي مع التورع عن الاتهام في العقيدة والحكم بالضلال أو البدعة، وإنما كانوا يعتمدون على مبدأ الحكم بالخطأ على المخالف إذا كان من أهل الاجتهاد، إلى أن ظهر ابن القشيري وكان متعصباً لمذهبه إلى حد الغلو والتشدد، فحول الخلاف الدائر بين طائفتين من أهل السنة إلى شقاق ونزاع (1)، ولخص ابن رجب هذه الفتنة بعد أن ذكر ما قام به الحنابلة من إنكار المنكرات عام أربعة وستين وأربعمائة: ومضمون ذلك أن أبا نصر القشيري ورد بغداد سنة تسع وستين وأربعمائة، وجلس في النظامية، وأخذ يذم الحنابلة وينسبهم إلى التجسيم، وكان المتعصب له أبو سعد الصوفي، ومال إلى نصره أبو إسحاق الشيرازي، وكتب إلى نظام الملك الوزير يشكو الحنابلة ويسأله المعونة، فاتفق جماعة من أتباعه على الهجوم على الشريف أبي جعفر في مسجده، والإيقاع به, فرتب الشريف جماعة أعدهم لرد الخصومة إن وقعت، فلما وصل أولئك إلى باب المسجد رماهم هؤلاء بالآجر، فوقعت الفتنة، وقتل من أولئك رجل من العامة وجرح آخرون وأخذت ثياب، وأغلق أتباع ابن القشيري أبواب سوق مدرسة النظام وصاحوا: المستنصر بالله يا منصور - يعنون العبيدي الفاطمي صاحب مصر - وقصدوا بذلك التشنيع على الخليفة العباسي وأنه ممالئ للحنابلة، ولاسيما والشريف أبو جعفر ابن عمه (2) ... إلخ وللأسف أن يصل بهؤلاء الخلاف إلى حد إظهار الاستعانة بالباطني على الخليفة الشرعي.
ومن ذلك الوقت كان الصراع العنيف يظهر على فترات من التاريخ وأصبح الحكم على المخالفين يتسم بالاتهام بالضلال والبدعة وبالكفر أحياناً, وفي العصر الحديث بلغ الصراع العقدي أشده بين بعض علماء الطرفين وتبادل بعضهم الاتهامات بالضلال والبدعة، خصوصاً من طلاب العلم، والمنهج الحق أن تتسع صدور الفريقين للنقد الهادف وأن تكون هناك حوارات علمية تقوم على اعتبار قواعد الأخوة الإسلامية والأدب العلمي، مع استبعاد قضية البراءة من المخالفين ووصفهم بالابتداع والضلال فضلاً عن الفسق والكفر (3).
6 - ميادين الصراع الفكري في العصر الحديث: إن هذا الصراع الفكري بين علماء
_________
(1) الرسائل الشمولية، ص 67.
(2) ذيل طبقة الحنابلة (1/ 19 - 21) , الرسائل الشمولية، ص 65.
(3) الرسائل الشمولية، ص 67.(1/330)
المسلمين قد شغلهم عن ميادين المعركة الحقيقية مع المخالفين من الأعداء أو المنتسبين للإسلام, وإن من أهم علامات نجاح الداعية أن يدرس واقع الجاهلية المعاصرة له بتمعن وتعمق مع فهم واقع المسلمين الفكري والسلوكي, ثم يركز دعوته على محاربة المخالفات السائدة في عصره، فهذا يجاهد في ميدانه الحقيقي الحيوي (1).
هذا, ومن أبرز الأمثلة على النجاح في هذا المجال دعوة شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- فإنه قد نجح نجاحاً باهراً، حيث قام بتشخيص المخالفات المعاصرة له، فقام بالرد على المخالفين بعلم راسخ وهدوء وروية أحياناً، وبشدة أحياناً أخرى حينما يقتضي المقام ذلك، فاستطاع أن يشد طلاب العلم إلى الكتاب والسنة, وأن يقلص من الآثار الفكرية البعيدة عن هذا المنهج، ولكن ليس من الحكمة ولا من الدعوة أن نعيد المعارك العلمية التي خاضها ابن تيمية في هذا العصر، لأن لكل عصر مخالفات متميزة وصوراً للجاهلية تختص به، كذلك فإن من أبرز أمثلة هذا النجاح دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب، فإنه قد نجح في دعوته نجاحاً كبيراً، فهو قد قرأ كتب ابن تيمية واستفاد منها، ولكنه لم يسر على منهاجه، وإنما قام بتشخيص المخالفات المعاصرة له، ثم قام بتركيز دعوته على تصحيح المفاهيم الإسلامية حول تلك المظاهر، فنجده مثلاً في كتابه المتميز الذي يعتبر أهم كتبه وهو كتاب «التوحيد الذي هو حق الله على العبيد» يركز في جُلَّ أبوابه على تصحيح المفاهيم حول توحيد الألوهية، وذلك بعد دراسة المخالفات في عصره وعلاجها في ضوء الكتاب والسنة، بينما لم يعقد للحكم بما أنزل الله إلا باباً واحداً، وذلك لأن المحيط الذي يعيش فيه لا يحتاج إلى ذلك، حيث إن الأحكام تقوم على المحاكم الشرعية، كما أننا نجده لم يعقد للأسماء والصفات إلا باباً واحداً، لأن المخالفات السائدة في محيطه ليست في هذا المجال، فكان ذلك من أسباب نجاحه في تصحيح المفاهيم السائدة في مجتمعه وإقامة دولة إسلامية كبيرة (2)، ولو أنه طبق منهج ابن تيمية بالكامل فشغل نفسه بالردود على المخالفين من أصحاب المناهج العقلية والباطنية وغلاة الصوفية ونحوهم لوافاه الأجل ولم يصنع شيئاً سوى إضافة كتب حول هذه الموضوعات إلى المكتبة الإسلامية (3)،
وقد تغيرت الأوضاع في عصرنا الحاضر، فظهرت صور للجاهلية لم توجد من قبل كالمذاهب الفكرية المنبثقة من الشيوعية والحضارة الغربية وتضخم وجود بعض الصور التي كانت ضئيلة في الماضي كالحكم بغير ما أنزل الله تعالى, وتوجيه السياسة على غير منهج الإسلام, وحصر مفاهيم الإسلام في نطاق ضيق، وتضاءلت في بعض البلاد صور انحرافات كانت كبيرة في العصور الماضية، كعبادة الأموات والأشجار والأحجار، فليس المطلوب من
_________
(1) الرسائل الشمولية، ص 68.
(2) الرسائل الشمولية، ص 69.
(3) الرسائل الشمولية، ص 69.(1/331)
الدعاة أن يركزوا على دراسة صور من الجاهليات القديمة، ولا أن يعيدوا دراسة المباحث الكلامية في مجالات النقد والردود على المخالفين بالمنهج نفسه الذي سار عليه المصلحون السابقون، وإنما لكل عصر دولة ورجال، والبراعة كل البراعة في دراسة الأوضاع المعاصرة دراسة دقيقة عميقة، ثم تسليط الأضواء عليها من خلال الكتاب والسنة، مع الاستفادة من اجتهادات أعلام الدعوة السابقين في دراستهم أوضاع مجتمعاتهم والقيام بالدعوة في تصحيح المفاهيم الخاطئة وتوجيه الأمة على هدى الإسلام الحنيف (1).
7 - بعض مؤلفات أبي الحسن الأشعري: لم يقتصر أبو الحسن الأشعري على المناظرة والمعارضة، بل خلَّف مكتبة كثيرة من مؤلفاته في الدفاع عن السنة، وشرح العقيدة الحسنة, وقد ألَّف تفسيراً للقرآن، أقل ما قيل في أجزائه إنه في ثلاثين مجلداً, وقد ذكر بعض المؤلفين أن مؤلفاته تبلغ ثلاثمائة مؤلف (2)، أكثرها في الرد على المعتزلة، وبعضها في الرد على مذاهب وفرق أخرى, ومنها كتاب «الفصول» الذي رد فيه على الفلاسفة والطبيعيين، والدهرية، والبراهمة، واليهود، والنصاري، والمجوس، وهو كتاب كبير يحتوي على اثني عشر كتاباً، وقد ذكر ابن خلكان من مؤلفاته كتاب «اللمع» و «إيضاح البرهان» «والتبيين عن أصول الدين» و «الشرح والتفصيل في الرد على أهل الإفك والتضليل». وله - عدا العلوم العقلية والكلام - مؤلفات في علوم الشريعة منها: «كتاب القياس» , و «كتاب الاجتهاد» , و «خبر الواحد» وكتاب في الرد على ابن الراونديَّ في إنكاره للتواتر، وقد ذكر في كتابه «العمد» مؤلفاته التي فرغ منها سنة 320هـ, يعنى قبل وفاته بأربع سنوات، وهي ثمانية وستون مؤلفاً، وكثير منها يقع في عشرة مجلدات أو أكثر، وقد ألَّف في آخر حياته كتباً كثيرة, ويدل كتابه «مقالات الإسلاميين» على أنه لم يكن متكلماً، فحسب، بل كان مؤرّخاً أميناً لعلم العقائد، وقد اعترف بدقته وأمانته وتحرَّيه للصدق في النقل المستشرقون (3)، وكتب الفرق والديانات تدلُّ على أمانته ودقته في النقل (4).
8 - اجتهاده في العبادة: لم يكن أبو الحسن الأشعري رجل علم وعقل وبحث ونظر فحسب، بل كان - مع وصوله إلى درجة الإمامة والاجتهاد في العلم والعقل - مجتهداً في العبادات متحلياً بالأخلاق الفاضلة، وذلك ما يمتاز به العلماء الأقدمون؛ فإن اشتغالهم بالعلم لم يكن مانعاً عن الاجتهاد في العبادات والحرص على الطاعات, وكانوا يجمعون بين الدراسة والإفادة والعبادة والزهادة. قال أحمد بن علي الفقيه: خدمت الإمام أبا الحسن
_________
(1) الرسائل الشمولية، ص 70.
(2) تبيين كذب المفتري، ص 136.
(3) رجال الفكر والدعوة (1/ 150).
(4) رجال الفكر والدعوة (1/ 150).(1/332)
بالبصرة سنين، وعاشرته ببغداد إلى أن توفي -رحمه الله- فلم أجد أورعَ منه، وأغضَّ طرفاً، ولم أر شيخاً أكثر حياءً منه في أمور الدنيا، ولا أنشط منه في أمور الآخرة (1) ويحكي أبو الحسين السَّروي من عبادته في الليل واشتغاله، ما يدل على حرصه وقوته في العبادة (2)، قال ابن خلكان: وكان يأكل من غَلةِ ضيعة وقفها بلال بن أبي بردة بن أبي موسى على عَقبِه، وكانت نفقته في كل يوم سبعة عشر درهماً، هكذا قاله الخطيب (3).
رابعاً: عقيدة أبي الحسن الأشعري التي مات عليها:
قال أبو الحسن الأشعري: هذه حكاية جملة ما عليه أهل الحديث والسنة:
1 - الإقرار بالله وملائكته ورسله وأن محمداً عبده ورسوله.
2 - وأن الجنة حق وأن النار حق وأن الساعة آتية لا ريب فيها وأن الله يبعث من في القبور.
3 - وأن الله سبحانه وتعالى على عرشه كما قال: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5].
4 - وأن له يدين بلا كيف كما قال: {خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [طه: 75].
5 - وأن له عينين بلا كيف كما قال: {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} [القمر: 14].
6 - وأن له وجهاً كما قال: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلاَلِ وَالإِكْرَامِ} [الرحمن: 27].
7 - وأن أسماء الله لا يقال إنها غير الله كما قالت المعتزلة والخوارج.
8 - وأقروا أن لله سبحانه علماً كما قال: {أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ} [النساء: 166] وقال:
{وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلاَ تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ} [فاطر: 11].
9 - وأثبتوا السمع والبصر ولم ينفوا ذلك عن الله كما نفته المعتزلة.
10 - وأثبتوا لله القوة كما قال: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً}
[فصلت: 15].
11 - وقالوا: إنه لا يكون في الأرض من خير ولا شر إلا ما شاء الله.
12 - وأن الأشياء تكون بمشيئة الله، كما قال عز وجل: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلاَّ أَن يَشَاءَ اللهُ} [التكوير: 29]. وكما قال المسلمون: ما شاء الله كان وما لا يشاء لا يكون.
13 - وقالوا: إن أحداً لا يستطيع أن يفعل شيئاً قبل أن يفعله أو يفعل شيئاً علم الله أنه لا يفعله.
_________
(1) تبيين كذب المفتري، ص 141.
(2) رجال الفكر والدعوة (1/ 151).
(3) وفيات الأعيان (1/ 412).(1/333)
14 - وأقروا أنه لا خالق إلا الله, وأن سيئات العباد يخلقها الله, وأن أعمال العباد يخلقها الله عز وجل, وأن العباد لا يقدرون أن يخلقوا شيئاً.
15 - ويقولون إن القرآن كلام الله غير مخلوق.
16 - والكلام في الوقف واللفظ, ومن قال باللفظ أو الوقف فهو مبتدع عندهم لا يقال اللفظ بالقرآن مخلوق أو غير مخلوق.
17 - ويقولون إن الله سبحانه يُرى بالأبصار يوم القيامة كما يُرى القمر ليلة البدر, يراه المؤمنون ولا يراه الكافرون لأنهم عن الله محجوبون، قال الله عز وجل: {كَلاَّ إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ} [المطففين: 15] وأن موسى عليه السلام سأل الله سبحانه الرؤية في الدنيا وأن الله سبحانه تجلى للجبل فجعله دكا فأعلمه أنه لا يراه في الدنيا بل يراه في الآخرة.
18 - ولا يكفِّرون أحداً من أهل القبلة بذنب يرتكبه كنحو الزنا والسرقة وما أشبه ذلك من الكبائر ومعهم بما هم من الإيمان مؤمنون وإن ارتكبوا الكبائر.
19 - والإيمان عندهم هو الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله وبالقدر خيره وشره حلوه ومره, وأن ما أخطأهم لم يكن ليصيبهم وما أصابهم لم يكن ليخطئهم.
20 - والإسلام هو أن يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله على ما جاء في الحديث، والإسلام عندهم غير الإيمان.
21 - ويقرون بأن الله سبحانه مقلب القلوب.
22 - ويقرون بشفاعة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنها لأهل الكبائر من أمته، وبعذاب القبر، وأن الحوض حق والصراط حق، والبعث بعد ألموت حق.
23 - والمحاسبة من الله عز وجل للعباد حق والوقوف بين يدي الله حق.
24 - ويقرون بأن الإيمان قول وعمل يزيد وينقص, ولا يقولون مخلوق ولا غير مخلوق.
25 - ويقولون: أسماء الله هي الله.
26 - ولا يشهدون على أحد من أهل الكبائر بالنار ولايحكمون بالجنة لأحد من الموحدين، حتى يكون الله سبحانه ينزلهم حيث شاء, ويقولون: أمرهم إلى الله إن شاء عذبهم وإن شاء غفر لهم، ويؤمنون بأن الله سبحانه يخرج قوماً من الموحدين من النار على ما جاءت به الروايات عن رسول الله.
27 - وينكرون الجدال والمراء في الدين, والخصومة في القدر, والمناظرة فيما يتناظر فيه(1/334)
أهل الجدل ويتنازعون فيه من دينهم بالتسليم للروايات الصحيحة, والآثار التي رواها الثقات عدلاً عن عدل حتى ينتهي ذلك إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
28 - ويقولون: إن الله لم يأمر بالشر بل نهى عنه وأمر بالخير ولم يرض بالشر وإن كان مريداً له.
29 - ويعرفون حق الذين اختارهم الله سبحانه لصحبة نبيه - صلى الله عليه وسلم - ويأخذون بفضائلهم ويمسكون عما شجر بينهم صغيرهم وكبيرهم.
30 - ويقدمون أبا بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علياً رضوان الله عليهم.
31 - ويقرون أنهم الخلفاء الراشدون المهديون أفضل الناس كلهم بعد النبي - صلى الله عليه وسلم -.
32 - ويصدقون بالأحاديث التي جاءت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إن الله سبحانه ينزل إلى السماء الدنيا فيقول هل من مستغفر؟» كما جاء الحديث عن رسول الله.
33 - ويأخذون بالكتاب والسنة كما قال الله عز وجل: {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ}.
34 - ويرون اتباع من سلف من أئمة الدين لا يبتدعون في دينهم ما لم يأذن به الله.
35 - ويقرون أن الله سبحانه يجيء يوم القيامة, كما قال: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا} [الفجر: 22].
36 - وأن الله يقرب من خلقه كيف شاء, كما قال: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} [ق: 16].
37 - ويرون العيد والجماعة خلف كل إمام بر وفاجر.
38 - ويثبتون المسح على الخفين سُنة ويرونه في الحضر والسفر.
39 - ويثبتون فرض الجهاد للمشركين منذ بعث الله نبيه - صلى الله عليه وسلم - إلى آخر عصابة تقاتل الدجال وبعد ذلك.
40 - ويرون الدعاء لأئمة المسلمين بالصلاح وألا يخرجوا عليهم بالسيف وألا يقاتلوا في الفتنة.
41 - ويصدقون بخروج الدجال وأن عيسى بن مريم يقتله.
42 - ويؤمنون بمنكر ونكير والمعراج والرؤيا في المنام.(1/335)
43 - وأن الدعاء لموتى المسلمين والصدقة عنهم بعد موتهم تصل إليهم.
44 - ويصدقون بأن في الدنيا سحرة وأن الساحر كافر كما قال الله، وأن السحر كائن موجود في الدنيا.
45 - ويرون الصلاة على كل من مات من أهل القبلة, برهم وفاجرهم, وموارثتهم.
46 - ويقرون أن الجنة والنار مخلوقتان.
47 - وأن من مات مات بأجله وكذلك من قتل قتل بأجله.
48 - وأن الأرزاق من قبل الله سبحانه يرزقها عباده حلالاً كانت أم حراماً.
49 - وأن الشيطان يوسوس للإنسان ويشككه ويخبطه.
50 - وأن الصالحين قد يجوز أن يخصهم الله بآيات تظهر عليهم.
51 - وأن السنة لا تنسخ القرآن (1).
52 - وأن الأطفال أمرهم إلى الله إن شاء عذبهم وإن شاء فعل بهم ما أراد.
53 - وأن الله عالم ما العباد عاملون وكتب أن ذلك يكون وأن الأمور بيد الله.
54 - ويرون الصبر على حكم الله والأخذ بما أمر الله به والانتهاء عما نهى عنه, وإخلاص العمل والنصيحة للمسلمين، ويدينون بعبادة الله في العابدين والنصيحة لجماعة المسلمين، واجتناب الكبائر والزنا وقول الزور والعصبية والفخر والكبر والإزراء على الناس والعجب.
55 - ويرون مجانبة كل داع إلى بدعة.
56 - ويرون التشاغل بقراءة القرآن وكتابة الآثار والنظر في الفقه مع التواضع وحسن الخلق وبذل المعروف وكف الأذى وترك الغيبة والنميمة والسعاية وتفقد المأكل والمشرب.
فهذه جملة ما يأمرون به ويستعملونه ويرونه. وبكل ما ذكر من قولهم نقول وإليه نذهب وما توفيقنا إلا بالله وهو حسبنا ونعم الوكيل وبه نستعين وعليه نتوكل وإليه المصير (2). هذه عقيدة الإمام الأشعري التي استقر عليها وصرح بها، وهي من الآثار التي تركها بعد وفاته, وقد أسهمت بلا شك في توعية الأمة وتربيتها على أصول أهل السنة والجماعة سواء في
_________
(1) مسألة فيها خلاف يطول عند أهل السنة.
(2) اعتقاد أهل السنة أصحاب الحديث, شرح جملة ما حكاه عنهم أبو الحسن الأشعري وقرّره في مقالاته د. محمد عبد الرحمن الخميس، ص 11 إلى 171 وقد قام الدكتور بشرح هذه الأصول.(1/336)
المدارس النظامية في عهد السلاجقة أوفى عهد الزنكيين والأيوبيين والمماليك والعثمانيين وإلى يومنا هذا, ومن الإنصاف العلمي القول بأن المذهب الأشعري لم يستقر على ما مات عليه الإمام أبو الحسن الأشعري, بل حدث تطور في المذهب الأشعري بحيث إن أقوال الأشاعرة تعددت واختلفت في مسائل عديدة, ومن أشهر الذين اجتهدوا وخالفوا أبا الحسن الأشعري، في بعض المسائل، أبو بكر الباقلاني وابن فورك وعبد القاهر البغدادي، والبيهقي والقشيري، والجويني والغزالي وغيرهم على درجات متفاوتة بينهم في ذلك, وقد قام الدكتور عبد الرحمن بن صالح بن صالح المحمود بتتبع هذا التطور بنوع من التفصيل في كتابه القيم «موقف ابن تيمية من الأشاعرة».
- وفاته: وكانت وفاته سنة 324هـ ودفن ببغداد في مشرعة الروايا (1)، ونودي على جنازته: اليوم مات ناصر السنة (2).
خامساً: جهود الأشاعرة في الدفاع عن الكتاب والسنة:
كانت للأشاعرة جهود مشكورة في الدفاع عن كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - وقد أشار إلى هذه الجهود ابن تيمية في كتبه حيث:
1 - وصفهم بأنهم من أهل السنة في مقابل المعتزلة والرافضة: يقول ابن تيمية: وإن كان في كلامهم من الأدلة الصحيحة وموافقة السنة ما لا يوجد في كلام عامة الطوائف، فإنهم أقرب طوائف أهل الكلام إلى السنة والجماعة والحديث، وهم يعدون من أهل السنة والجماعة عند النظر إلى مثل المعتزلة والرافضة وغيرهم، بل هم أهل السنة والجماعة في البلاد التي يكون أهل البدع فيها هم المعتزلة والرافضة ونحوهم (3)، ويلاحظ وصفه لهم بأنهم هم أهل السنة في البلاد التي يغلب فيها أهل البدعة من الرافضة والمعتزلة, وهذا منتهى الإنصاف والاعتراف (4). وذكر عنهم ابن تيمية بأنهم من المتكلمين المنتسبين إلى السنة (5). ويصنفهم مع بقية أهل السنة (6).
2 - ردودهم على الباطنية والملاحدة وغيرهم: فالباطنية لما استفحل أمرهم كان لهم علماء أهل السنة بالمرصاد, ومن أبرز علماء السنة الذين فضحوهم علماء الأشاعرة (7)، يقول ابن تيمية: وكانت الرافضة والقرامطة - علماؤها وأمراؤها - قد استظهرت في أوائل
_________
(1) وفيات الأعيان (1/ 412).
(2) رجال الفكر والدعوة (1/ 151).
(3) موقف ابن تيمية من الأشاعرة (2/ 703).
(4) موقف ابن تيمية من الأشاعرة (2/ 703).
(5) الجواب الصحيح (1/ 252).
(6) موقف ابن تيمية من الأشاعرة (2/ 703).
(7) المصدر نفسه (2/ 705).(1/337)
الدولة السلجوقية، حتى غلبت على الشام والعراق، وأخرجت الخليفة القائم ببغداد إلى تكريت وحبسوه بها في فتنة البساسيري المشهورة, فجاءت بعد ذلك السلجوقية حتى هزموهم وفتحوا الشام والعراق وقهروهم بخراسان وحجروهم بمصر، وكان في وقتهم من الوزراء مثل «نظام الملك»، ومن العلماء مثل أبي المعالي الجويني، فصاروا بما يقيمونه من السنة ويردونه من بدعة هؤلاء ونحوهم لهم من المكانة عند الأمة بحسب ذلك، وكذلك المتأخرون من أصحاب مالك الذين وافقوه كأبي الوليد الباجي، والقاضي أبي بكر بن العربي ونحوهما لا يعظمون إلا بموافقة السنة، والحديث (1)، والوزير نظام الملك هو صاحبنا الذي تحدثنا عنه فيما مضى, ويعتبر من أبرز من نصر مذهب الأشعري من خلال المدارس النظامية التي أنشأها في أنحاء متفرقة من العراق وخراسان، وهو يذكر فضله فيما قام به من دعم للسلاجقة السنة في مقابل البويهيين الشيعة (2). والدولة الفاطمية العبيدية ودعاتها.
3 - دفاعهم عن السنة وردودهم على أهل البدع: يقول ابن تيمية بعد كلام طويل عن
الأشاعرة: ثم إنه ما من هؤلاء إلا له في الإسلام مساع مشكورة، وحسنات مبرورة، وله في الرد على كثير من أهل الإلحاد والبدع، والانتصار لكثير من أهل السنة والدين ما لا يخفى على من عرف من أحوالهم، وتكلم فيهم بعلم وصدق وعدل وإنصاف، لكن لما التبس عليهم هذا الأصل المأخوذ ابتداء من المعتزلة، وهم فضلاء عقلاء, احتاجوا إلى طرده والتزام لوازمه فلزمهم بسبب ذلك من الأقوال ما أنكره المسلمون من أهل العلم والدين، وصار الناس بسبب ذلك: منهم من يعظمهم لما لهم من المحاسن والفضائل، ومنهم من يذمهم لما وقع في كلامهم من البدع والباطل، وخير الأمور أوساطها، وهذا ليس مخصوصاً بهؤلاء، بل مثل هذا وقع لطوائف من أهل العلم والدين, والله يتقبل من جميع عباده المؤمنين الحسنات ويتجاوز لهم عن السيئات {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلاَ تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ} (3) [الحشر: 10]. وفي موضع آخر يذكر ما لهؤلاء من حسنات، فإنها إما موافقة لأهل السنة، أو رد على أهل البدعة. (4) فيقول: ولم يتبع أحد مذهب الأشعري ونحوه إلا لأحد هذين الوصفين أو كليهما، وكل من أحبه وانتصر له من المسلمين وعلمائهم فإنه يحبه وينتصر له بذلك، فالمصنف في مناقبه، الدافع للطعن واللعن عنه - كالبيهقي والقشيري أبي القاسم، وابن عساكر الدمشقي - إنما يحتجون لذلك بما يقوله
_________
(1) مجموع الفتاوى (4/ 18).
(2) موقف ابن تيمية من الأشاعرة (2/ 705).
(3) موقف ابن تيمية من الأشاعرة (2/ 705) , درء التعارض (2/ 102، 103).
(4) موقف ابن تيمية من الأشاعرة (2/ 708).(1/338)
من أقوال أهل السنة والحديث، أو بما رد من أقوال مخالفيهم.
لا يحتجون له عند الأمة وعلمائها وأمرائها إلا بهذين الوصفين، ولولا أنه كان من أقرب بني جنسه إلى ذلك لألحقوه بطبقته الذين لم يكونوا كشيخه الأول أبي علي، وولده أبي هاشم، لكن كان له من موافقة مذهب السنة والحديث في الصفات والقدر، والإمامة، والفضائل، والشفاعة، والحوض، والصراط والميزان، وله من الردود على المعتزلة والقدرية، والرافضة، والجهمية، وبيان تناقضهم ما أوجب أن يمتاز بذلك عن أولئك، ويعرف له حقه وقدره {قَدْ جَعَلَ اللهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا} [الطلاق: 3]. وبما وافق فيه السنة والحديث صار من القبول والاتباع ما صار، لكن الموافقة التي فيها قهر المخالف وإظهار فساد قوله هي من جنس المجاهد المنتصر، فالرادُّ على أهل البدع مجاهد (1).
4 - جهودهم في كسر سورة المعتزلة والجهمية: وللأشاعرة جهود في كسر سورة المعتزلة والجهمية، يقول ابن تيمية عن أعلامهم كابن مجاهد والباقلاني والإسفراييني وابن فورك: وصار هؤلاء يردون على المعتزلة ما رده عليهم ابن كلاب والقلانسي، والأشعري وغيرهم من مثبتة الصفات، فيبينون فساد قولهم بأن القرآن مخلوق وغير ذلك، وكان في هذا من كسر سورة المعتزلة والجهمية ما فيه ظهور شعار السنة، وهو القول بأن القرآن كلام الله غير مخلوق، وأن الله يُرى في الآخرة، وإثبات الصفات والقدر وغير ذلك من أصول السنة (2)، وفي موضع آخر يذكر ما رده الأشعرية من بدع المعتزلة والرافضة والجهمية وغيرهم، وبينوا تناقضهم، وعظموا الحديث والسنة ومذهب الجماعة، فحصل بما قالوه من بيان تناقض أصحاب البدع الكبار وردهم ما انتفع به خلق كثير (3)، وكان ابن تيمية -رحمه الله- يرى أن لهم حسنات وفضائل وسعياً مشكوراً وخطؤهم بعد الاجتهاد مغفور (4).
5 - إنصاف ابن تيمية لأعلام الأشاعرة يرحمهم الله جميعاً: أنصف ابن تيمية أعلام الأشاعرة، وعلى الرغم من مناقشاته الشديدة لهم إلا أنه ذكر ما عندهم من إيجابية
وما لهم من جهود عظيمة في خدمة الإسلام والدفاع عنه، ويعتمد منهج ابن تيمية في ذلك على أمرين:
أحدهما: أن القاعدة عنده التي يطبقها على الأشاعرة وغيرهم هي التفريق بين العقيدة المسيطرة في الكتب وبين أصحابها، فهو يحكم على ما هو مدون أو منقول من عقائد هؤلاء
_________
(1) مجموع الفتاوى (4/ 12، 13).
(2) مجموع الفتاوى (5/ 557 - 558).
(3) المصدر نفسه (13/ 99).
(4) النبوات، ص 220، موقف ابن تيمية من الأشاعرة (2/ 709).(1/339)
وأدلتهم ومناقشاتهم، ويبين ما في ذلك من خطأ أو صواب، فإذا ما وصل في الحديث إلى الشخص نفسه صاحب العقيدة, فإنه ينظر إليه نظرة أخرى مبنية على أنه قد يكون صادقاً في خدمته للإسلام، ولا يحمل غشاً لأهله, ولذلك فهو لا يتعمد الكذب والافتراء, وأنه مجتهد، وأن هذا الذي قاله هو مبلغ علمه، أو أنه كان مقلداً لغيره في هذه المسائل.
وأنه ربما ما مات على هذا الظلم، فقد يكون ممن رجع وتاب، وصرح بذلك, أو أنه في آخر عمره رضي مسلك أهل الحديث.
والثاني: أن لهؤلاء الأعلام - على أخطائهم - جهودًا لا تنكر في الجهاد في سبيل الله، والدفاع عن العقيدة، والرد على أعدائها من الملاحدة والمتفلسفة والرافضة وغيرهم، وهي جهود تكون في موازينهم يوم القيامة ولا يحرمون أجرها عند الله تعالى (1).
أ- موقف ابن تيمية من أبي الحسن الأشعري: دافع ابن تيمية عن شيوخ
الأشاعرة - وعلى رأسهم ابن كلاب - وكثيراً ما يقرن الأشعري بابن كلاب والكلابية، فيقول مثلاً: لهذا كان المتكلمة الصفاتية كابن كلاب والأشعري وابن كرام خيراً وأصح طريقاً في العقليات والسمعيات من المعتزلة، والمعتزلة خيراً وأصح طريقاً في العقليات والسمعيات من المتفلسفة، وإن كان في قول كل من هؤلاء ما ينكر عليه وما خالف فيه العقل والسمع، ولكن من كان أكثر صواباً وأقوم قيلاً كان أحق بأن يقدم على من هو دونه تنزيلاً وتفصيلاً (2). وأما كلامه عن أبي الحسن الأشعري فقد دافع عنه وذكر أنه: ابتلى بطائفتين، طائفة تبغضه وطائفة تحبه، كل منهما يكذب عليه، ويقول: إنما صنف هذه الكتب تقية وإظهاراً لموافقة أهل الحديث والسنة من الحنبلية وغيرهم، وهذا كذب على الرجل, فإنه لم يوجد له قول باطن يخالف الأقوال التي أظهرها, ولا نقل أحد من خواص أصحابه ولا غيرهم عنه ما يناقض هذه الأقوال الموجودة في مصنفاته، فدعوى المدعي أنه كان يبطن خلاف ما يظهر دعوى مردودة شرعاً وعقلاً، بل من تدبر كلامه في هذا الباب - في مواضع- تبين له قطعاً أنه كان ينصر ما أظهره, ولكن الذين يحبونه ويخالفونه في إثبات الصفات الخبرية، يقصدون نفي ذلك عنه لئلا يقال: إنهم خالفوه، مع كون ما ذهبوا إليه من السنة قد اقتدوا فيه بحجته التي على ذكرها يعولون، وعليها يعتمدون، والفريق الآخر دافعوا عنه لكونهم رأوا المنتسبين إليه لا يظهرون إلا خلاف هذا القول، ولكونهم اتهموه بالتقية، وليس كذلك، بل هو انتصر للمسائل المشهورة عند أهل السنة التي خالفهم فيها المعتزلة كمسألة الرؤية، والكلام، وإثبات الصفات، ونحو ذلك، لكن كانت خبرته بالكلام مفصلة،
_________
(1) موقف ابن تيمية من الأشاعرة (5/ 710).
(2) شرح الأصفهانية، ص 55.(1/340)
وخبرته بالسنة مجملة (1)،
كما ذكر أن الأشعري كان ينتسب إلى الإمام أحمد، وأنه أقرب إليه من بعض الحنابلة، يقول: وكان الأشعري أقرب إلى مذهب الإمام أحمد بن حنبل وأهل السنة من كثير من المتأخرين المنتسبين إلى أحمد الذين مالوا إلى بعض كلام المعتزلة كابن عقيل وصدقة بن الحسين، وابن الجوزي وغيرهم (2). ويقول: والأشعري كان من أجل المتكلمين المنتسبين إلى الإمام أحمد - رحمه الله - المنتصرين لطريقه، كما يذكر الأشعري ذلك في كتبه .. ثم يقول: وأما الأشعري فهو أقرب إلى أصول أحمد من ابن عقيل وأتبع لها، فإنه كلما كان عهد الإنسان بالسلف أقرب كان أعلم بالمعقول والمنقول .. ويقول: ولما أظهرت كلام الأشعري - ورآه الحنابلة - قالوا: هذا خير من كلام الشيخ الموفق ... (3). ويذكر أيضاً أن الأشعري أخذ مذهب أهل الحديث والسنة من شيخه المشهور زكريا بن يحيى الساجي (4)، كما ذكر ما تميز به الأشعري من حرص على نصرة مذهب أهل الحديث بقوله عنه: وهو دائماً ينصر في المسائل التي فيها النزاع بين أهل الحديث وغيرهم قول أهل الحديث (5)، وذكر أنه بين طريقة السلف في أصول الدين، واستغناءها عن الطريقة الكلامية، كطريقة الإعراض ونحوها, وإن القرآن نبه على الأدلة، ليس دلالته - كما يظنه بعض أهل الكلام - من جهة الخبر فقط، وأين هذا من أهل الكلام الذين يقولون: إن الكتاب والسنة لا يدلان على أصول الدين بحال، وإن أصول الدين تستفاد بقياس العقل المعلوم من غيرهما (6)،
ويذكر ابن تيمية أن الأشعري من مثبتة الصفات الخبرية، ويرد على الذين يزعمون أن له فيها قولين؛ يقول: وأما الأشعري نفسه وأئمة أصحابه فلم يختلف قولهم في إثبات الصفات الخبرية، وفي الرد على من يتأولها، كمن يقول: استوي بمعنى استولى، وهذا مذكور في كتبه كلها كالموجز الكبير والمقالات الصغيرة، والكبيرة، والإبانة، وغير ذلك، وهكذا نقل سائر الناس عنه، حتى المتأخرون كالرازي والآمدي، ينقلون عنه إثبات الصفات الخبرية، ولا يحكون عنه في ذلك قولين. فمن قال: إن الأشعري كان ينفيها، وإن له في تأويلها قولين فقد افترى عليه ولكن هذا فعل طائفة من متأخري أصحابه كأبي المعالي ونحوه، فإن هؤلاء أدخلوا في مذهبه أشياء من أصول المعتزلة (7). كما دافع عن الأشعري فيما نسب إليه من أنه يقول: إن الله لم يكن قادراً على الفعل في الأزل. وبين ابن تيمية أن من يبغض الأشعري
_________
(1) مجموع الفتاوى (12/ 204).
(2) درء التعارض (1/ 270) , شرح الأصفهانية، ص 78.
(3) مجموع الفتاوى (3/ 226، 227).
(4) مجموع الفتاوى (5/ 386).
(5) الإيمان، ص 115, موقف ابن تيمية من الأشاعرة (2/ 713).
(6) الاستقامة (1/ 6).
(7) مجموع الفتاوى (12/ 203).(1/341)
ينسب إليه هذا لتنفر عنه قلوب الناس (1)، وكثيراً ما يشير ابن تيمية إلى أنه أقرب إلى السلف من كثير ممن أتى بعده (2). وكثيراً ما ينقل من كتب الأشعري ويستشهد بأقواله (3).
ب- موقف ابن تيمية من الباقلاني: يرى ابن تيمية أن الباقلاني فحل الطائفة الأشعرية، ويقول عنه: إنه أفضل المتكلمين المنتسبين إلى الأشعري، ليس فيهم مثله، ولا قبله ولا بعده (4)، ويذكر عنه أنه: أكثر إثباتاً بعد الأشعري في الإبانة (5)، وقد امتدحه كثيراً في ردوده على الباطنية، ومواقفه العظيمة من النصارى (6).
جـ- موقف ابن تيمية من الجويني: وأما الجويني فيدافع عنه على الرغم من كونه ممن مال إلى المعتزلة أكثر ممن سبقه من الأشاعرة، وبعد أن نقل عنه الأقوال في الكلام ونسبته إلى أهل السنة ما ليس من مذهبهم (7)، رد عليه ابن تيمية وقال: وأبو المعالي وأمثاله أجلّ من أن يتعمد الكذب، لكن القول المحكي قد سمع من قائل لم يضبطه، وقد يكون القائل نفسه لم يحرر قولهم (8). ويحتج بأقواله ويصححها في معرض ردوده على الجهمية (9)، وابن رشد (10).
د- ثناء ابن تيمية على الغزالي: ومع أن ابن تيمية نقد الغزالي كثيراً وفي مناسبات مختلفة، ونقل ردود العلماء عليه، فإنه أنصفه ومدحه وذلك من خلال:
* بيانه أن الغزالي لا يتعمد الكذب، ولذلك لما نسب إلى الإمام أحمد أنه يقول بالتأويل رد عليه ابن تيمية بأن: نقله عن المجهول لا يعرف, وذلك المجهول أرسله إرسالاً عن أحمد، ولا يتنازع من يعرف أحمد وكلامه أن هذا كذب مفترى عليه، ونصوصه المنقولة عنه بنقل الثقات الأثبات والمتواتر عنه يرد هذا الهذيان الذي نقله عنه، بل إذا كان أبو حامد ينقل عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعن الصحابة والتابعين من الأكاذيب ما لا يحصيه إلا الله، فكيف ما ينقله عن مثل أحمد. ثم يعقب ابن تيمية مدافعاً عن الغزالي: ولم يكن ممن يتعمد الكذب، فإنه كان أجل قدراً من ذلك، وكان من أعظم الناس ذكاء، وطلباً للعلم وبحثاً عن الأمور، وكان من أعظم الناس قصداً للحق، وله من الكلام الحسن المقبول أشياء عظيمة بليغة، ومن حسن التقسيم والترتيب ما هو به من أحسن المصنفين, لكن كونه لم يصل إلى ما جاء به الرسول من
_________
(1) درء التعارض (2/ 264).
(2) شرح الأصفهانية، ص 77، 78، درء التعارض (2/ 308).
(3) القاعدة المراكشية، ص 67 - 71, درء التعارض (1/ 256 - 261).
(4) مجموع الفتاوى (5/ 98).
(5) المصدر نفسه (5/ 52).
(6) منهاج السنة (2/ 39).
(7) موقف ابن تيمية من الأشاعرة (2/ 715).
(8) درء التعارض (2/ 310).
(9) المصدر نفسه (5/ 186 - 190).
(10) المصدر نفسه (9/ 110 - 112).(1/342)
الطرق الصحيحة كان ينقل ذلك بحسب ما بلغه لا سيما مع هذا الأصل، إذ جعل النبوات فرعاً على غيرها (1).
* يعترف للغزالي بجهوده في ردوده على الفلاسفة: ويمتدحه كثيراً في ذلك، ولما احتج الفلاسفة على نفي الصفات بالتركيب وما يلزم, رد عليهم الغزالي ووافقه ابن تيمية فقال: ما ذكره أبو حامد مستقيم مبطل لقول الفلاسفة، وما ذكره ابن رشد إنما نشأ من جهة ما في اللفظ من الإجمال والاشتراك (2). ثم قال مناقشاً ابن رشد: وهذه الطريق التي سلكها أبو حامد عن احتجاجهم بلفظ المركب جواب صحيح (3)، ويقول ابن تيمية عن ابن رشد: وقد رد على أبي حامد في «تهافت التهافت» رداً أخطأ في كثير منه، والصواب مع أبي حامد ... وقد تكلمت على ذلك وبينت تحقيق ما قاله أبو حامد في ذلك من الصواب الموافق لأصول الإسلام، وخطأ ما خالفه من كلام ابن رشد وغيره من الفلاسفة، وإن ما قالوه من الحق الموافق للكتاب والسنة لا يرد، بل يقبل، وما قصر فيه أبو حامد من إفساد أقوالهم الفاسدة، فيمكن رده بطريق أخرى يعان بها أبو حامد على قصده الصحيح (4)، كما امتدح ابن تيمية ردود الغزالي على الفلاسفة في مسألة إثبات الصانع ونقل ما ذكره من الطعن في طريقة ابن سينا وأمثاله، ثم يقول ابن تيمية معقباً: وهذا الوجه الذي ذكره أبو حامد أحسن فيه، وكنت قد كتبت على توحيد الفلاسفة ونفيهم الصفات كلاماً بينت فيه فساد كلامهم في طريقة التركيب قبل أن أقف على كلام أبي حامد، ثم رأيت أبا حامد قد تكلم بما يوافق ذلك الذي كتبته (5).
* ذكره لرجوعه في آخر عمره إلى الحديث وأنه مات وهو يشتغل بالبخاري ومسلم (6)، ويذكر أنه رجع واستقر أمره على التلقي من طريقة أهل الحديث، بعد أن أيس من نيل مطلوبه من طريقة المتكلمين والمتفلسفة والمتصوفة أيضاً (7). هذه بعض مواقف ابن تيمية الإيجابية من الأشاعرة وفيها من بيان الحق والإنصاف ما يشهد له بالأمانة، وكان -رحمه الله- يناقش الأشاعرة، ويبين لمن أخطأ منهم خطأه بعلم وإنصاف.
ومن الفائدة أن نقول: إن كان تراث الإمام الشافعي وأبي الحسن الأشعري قامت على أسسه المدارس النظامية في العهد السلجوقي، فإن تراث ابن تيمية قامت عليه حركة الشيخ محمد بن عبد الوهاب, وتأثرت به كثير من الحركات المعاصرة والعلماء وطلاب العلم والدعاة
_________
(1) موقف ابن تيمية من الأشاعرة (2/ 716).
(2) درء التعارض (3/ 402).
(3) المصدر نفسه (3/ 438).
(4) المصدر نفسه (3/ 252، 253).
(5) المصدر نفسه (8/ 156).
(6) الصفدية (1/ 212) , درء التعارض (1/ 162).
(7) درء التعارض (6/ 210) , موقف ابن تيمية من الأشاعرة (2/ 717).(1/343)
المبحث الرابع
أشهر علماء المدارس النظامية
في العهد السلجوقي
أولاً: أبو إسحاق الشيرازي: هو الشيخ، الإمام، القدوة، المجتهد، شيخ الإسلام، أبو إسحاق، إبراهيم بن علي بن يوسف الفيروز آبادي، الشيرازي، الشافعي، نزيل بغداد، قيل: لقبه جمال الدين (1)، كان مولده سنة ثلاث وتسعين وثلاثمائة (2).
1 - شيوخه وتلاميذه: تفقه على أبي عبد الله البيضاوي، وعبد الوهاب بن رامين بشيراز, وأخذ بالبصرة عن الخرزي, وقدم بغداد سنة خمس عشرة وأربعمائة، فلزم أبا الطيب الطبري، وبرع وصار مُعيده، وكان يُضرب المثلُ بفصاحته وقوة مناظرته، وسمع من أبي علي بن شاذان، وأبي بكر البرقاني ومحمد بن عبيد الله الخرجُوشي، وحدث عنه: الخطيب، وأبو الوليد الباجي، والحميديُّ، وإسماعيل بن السمرقندي، والزاهد يوسف بن أيوب، وأبو نضر أحمد بن محمد الطوسي، وأبو الحسن بن عبد السلام، وأحمد بن نصر بن حِمّان الهمذاني خاتمة من روى عنه (3).
2 - مكانته وثناء الناس عليه: قال السمعاني: هو إمام الشافعية ومدرس النظامية، وشيخ العصر، رحل الناس إليه من البلاد وقصدوه، وتفرد بالعلم الوافر مع السيرة الجميلة والطريقة المرضيّة، جاءته الدنيا صاغرة، فأباها، واقتصر على خشونة العيش أيام حياته, صنف في الأصول والفروع والخلاف والمذهب، وكان زاهداً، ورعاً، متواضعاً، ظريفاً، كريماً، جواداً، طلق الوجه، دائم البشر، مليح المحاورة (4). وقال أبو بكر الشاشي: أبو إسحاق حجة الله على أئمة العصر (5)، وقال الموفق الحنفي: أبو إسحاق أمير المؤمنين في الفقهاء (6). ولما قدم أبو إسحاق نيسابور رسولاً تَلقَّوه، وحمل إمام الحرمين غاشيته، ومشى بين يديه وقال: أفتخر بهذا (7). وكان عامة المدرسين بالعراق والجبال تلامذته وأتباعه - وكفاهم بذلك فخراً- وكان ينشد الأشعار المليحة، ويوردها، ويحفظ منها الكثير (8). وكان الوزير ابن جهير كثيراً ما يقول: الإمام أبو إسحاق وحيد عصره, وفريد دهره، ومستجاب الدعوة (9). وأثنى
_________
(1) سير أعلام النبلاء (18/ 453).
(2) سير أعلام النبلاء (18/ 453).
(3) المصدر نفسه (18/ 454).
(4) المصدر نفسه (18/ 454).
(5) طبقات السبكي (4/ 227).
(6) طبقات السبكي (4/ 227).
(7) المنتظم (9/ 8) , طبقات السبكي (4/ 222).
(8) تهذيب الأسماء واللغات (2/ 173).
(9) طبقات السبكي (4/ 227).(1/344)
نظام الملك على أبي إسحاق، وقال: كيف حالي مع رجل لا يُفرَّق بيني وبين نهروز الفَرَّاش في المخاطبة؟ قال لي: بارك الله فيك, وقال له لما صبَّ عليه كذلك (1). وقال محمد بن عبد الملك الهمذاني: حكى أبي قال: حضرت مع قاضي القضاة أبي الحسن الماوردي عزاءً، فتكلم الشيخ أبو إسحاق واجلاً، فلما خرجنا قال الماوردي: ما رأيت كأبي إسحاق، لو رآه الشافعي لتجمَّل به (2)،
وقال السلفي: سألت شجاعاً الذُّهلي عن أبي إسحاق فقال: إمام أصحاب الشافعي والمقدم عليهم في وقته ببغداد، كان ثقة، ورعاً، صالحاً، عالماً بالخلاف علماً لا يشاركه فيه أحد (3)، قال محمد بن عبد الملك: ندب المقتدى بالله أبا إسحاق للرسلية إلى المعسكر، فتوجَّه في آخر سنة خمس وسبعين، فكان يخرج إليه أهل البلد بنسائهم وأولادهم يمسحون أردانه (4)، ويأخذون تراب نعليه يستشفون به، وخرج الخبَّازون ونثروا الخبز، وهو ينهاهم، ولا ينتهون، وخرج أصحاب الفاكهة والحلواء، ونثروا على الأساكفة، وعملوا مداسات صغاراً ونثروها، وهي تقع على رءوس الناس، والشيخ يعجب، وقال لنا: رأيتم النَّثار، وما وصل إليكم منه؟ فقالوا: يا سيدي وأنت أيَّ شيء كان حظك منه؟ قال: أنا غطَّيت نفسي بالمحَفَّة (5). وهذا الأثر يدل على محبة الناس له ومكانته في قلوبهم, وقد حاول الشيخ أن ينهاهم عن هذه التصرفات, وهذه هي أخلاق العلماء, ولكنّ العوام تصدر منهم مثل هذه الأمور نتيجة العاطفة وإن كان فيها بعض التجاوزات. وقال شيرويه الدّيلمي في تاريخ همذان: أبو إسحاق إمام عصره قدم علينا رسولاً إلى السلطان ملكشاه، سمعت منه، وكان ثقة زاهداً في الدنيا على التحقيق، أوحد زمانه (6)، وقال الذهبي عنه: درّس بها - أي المدرسة النَّظامية - بعد تمنع، ولم يتناول جَامِكية (7)، أصلاً، وكان يقتصر على عمامة صغيرة وثوب قطني، ويقنع بالقوت، وكان الفقيه رافع الحمال رفيقه في الاشتغال، فيحمل شطر نهاره بالأُجرة، وينفق على نفسه وعلى أبي إسحاق، ثم إن رافعاً حجَّ وجاور، وصار فقيه الحرم في حدود الأربعين وأربعمائة (8).
3 - مؤلفاته وشيء من شعره: قال الشيخ أبو إسحاق: كنت أُعيد كل قياس ألف مرة، فإذا فرغت أخذت قياساً آخر على هذا، وكنت أُعيد كل درس ألف مرة، فإذا كان في المسألة
_________
(1) سير أعلام النبلاء (18/ 459).
(2) المصدر نفسه (18/ 459) , طبقات السبكي (4/ 227).
(3) سير أعلام النبلاء (18/ 460).
(4) الأردان: جمع رُدن وهو أصل الكُم. وفي طبقات السبكي: أركانه.
(5) طبقات السبكي (4/ 220) , سير أعلام النبلاء (18/ 460).
(6) سير أعلام النبلاء (18/ 460).
(7) الجامكية: رواتب خدم الدولة.
(8) سير أعلام النبلاء (18/ 461).(1/345)
بيت يُستشهد به حفظت القصيدة التي فيها البيت (1). وكان يصلى عند فراغ كل فصل من المهذب (2)، وكان إماماً في الفقه والأصول والحديث وفنون كثيرة، وله المصنفات الكثيرة النافعة (3)، وبحسن نيته في العلم اشتهرت تصانيفه في الدنيا (4)، كالمهذَّب في المذهب، والتنبيه, والنكت في الخلاف, واللمع في أصول الفقه، والتبصرة والمعونة, وطبقات الفقهاء وغير ذلك (5)، ومن شعره الذي نظمه:
أحِبُّ الكأس من غير المدام ... وألهو بالحساب بلا حرام
وما حُبَّي لفاحشة ولكن ... رأيت الحُبَّ أخلاق الكرام
وقال: ... سألت الناس عن خِلٍّ وفيَّ ... فقالوا: ما إلى هذا سبيل
تمسك إن ظفرت بِوُدَّ حُرَّ ... فإن الحُرَّ في الدنيا قليل (6)
وقال:
ولو أنَّي جُعِلتُ أمير جيش ... لما قاتلت إلا بالسُّؤَال
لأنّ الناس ينهزمون منه ... وقد ثبتوا لأطراف العوالي (7)
وقد امتدحه الشعراء في حياته, ومنهم عاصم بن الحسن حيث قال فيه:
تراه من الذَّكاء نَحيفَ جسم ... عليه من توقِّده دليل
إذا كان الفتى ضخم المعاني ... فليس يضيره الجسم النحيل (8)
4 - وفاته: توفي ليلة الحادي والعشرين من جمادي الآخرة سنة ستَّ وسبعين وأربعمائة ببغداد، وغسَّله أبو الوفا بن عقيل الحنبليُّ، وصُلى عليه بباب الفردوس من دار الخلافة وشهد الصلاة عليه المقتدي بأمر الله، وتقدم للصلاة عليه أبو الفتح المظفَّرُ ابن رئيس الرُّؤساء، وكان نائب الوزارة، ثم صُلى عليه مرة ثانية بجامع القصر ودُفن بباب أبرز في تُربة مجاورة للناحية، رحمه الله تعالى (9)، وعمل العزاء بالنَّظامية، ثم رَتَّب، المؤيد ابن نظام الملك
_________
(1) صفة الصفوة (4/ 66) , تهذيب الأسماء واللغات (2/ 173).
(2) طبقات السبكي (4/ 217).
(3) البداية والنهاية (16/ 87).
(4) سير أعلام النبلاء (18/ 462).
(5) البداية والنهاية (16/ 87).
(6) سير أعلام النبلاء (18/ 462).
(7) المصدر نفسه (18/ 464).
(8) وفيات الأعيان (1/ 30).
(9) البداية والنهاية (16/ 87).(1/346)
بعده في تدريس النظامية أبا سعد المتولي، فلما بلغ ذلك النظام، كتب بإنكار ذلك، وقال: كان من الواجب أن تُغلق المدرسة سنة من أجل الشيخ، وعاب على من تولَّى، وأمر أن يُدرَّس الإمام أبو نصر عبد السيد بن الصباغ بها (1). وممن رثاه أبو القاسم بن ناقياء الأديب الشاعر حيث قال:
أجرى المدامع بالدم المهراق ... خطب أقام قيامة الآماق
خطب شَجَا مِنّا القلوب بلوعة ... بين التراقي ما لها من راق
ما لِليالي لا تُؤَلف شملها ... بعد ابن بجدتها (2) أبي إسحاق
إن قيل مات فلم يمت مَن ذكرُه ... حيٌّ على مر الليالي باق (3)
ومات أبو إسحاق، ولم يخلف درهماً ولا عليه درهم، وكذا فليكن الزهد، وما تزوج فيما أعلم (4)، ولم يمت إلا بعد أن ترك أثراً نافعاً خلفه من المصنفات والعلماء والخطباء والقضاة، فعن أبي إسحاق قال: خرجت إلى خراسان فما دخلت بلدة إلا كان قاضيها أو خطيبها أو مفتيها من أصحابي (5).
ثانياً: إمام الحرمين عبد الملك الجويني:
الإمام الكبير، شيخ الشافعية، إمام الحرمين، أبو المعالي، عبدُ الملك, ابن الإمام أبي عبد الله بن يوسف بن عبد الله بن يوسف بن محمد بن حَيويه الجُويني، ثم النيسابوري، ضياء الدين الشافعي صاحب التصانيف, ولد في أول سنة تسع عشرة وأربعمائة (6).
1 - شيوخه: دأب إمام الحرمين منذ صغره على تحصيل العلم، وبذل من أجل ذلك جهدًا عظيماً، فكان يصل الليل بالنهار (7)، تلقياً عن كبار علماء ومشايخ عصره، واستمر الجويني في ذلك حتى بعد أن قعد للتدريس في مجلس والده (8)، ومن أشهر شيوخه والده أبو محمد الجويني، وأبو القاسم الإسفراييني، وكان من رؤساء متكلمي الأشاعرة، وأعيان الشافعية، والمعروفين في الفتوى, وكان يميل إلى الزهد والورع، وله قدم في النظر والتدريس مع ميل إلى طريق السلف, وتتلمذ على الشيخ أبي إسحاق الشيرازي، وكان إمام الحرمين،
_________
(1) سير أعلام النبلاء (18/ 461).
(2) البجدة: دِخلة الأمر وباطنه، يقال للعالم بالشيء ابن بجدتها.
(3) سير أعلام النبلاء (18/ 463).
(4) المصدر نفسه (18/ 462).
(5) المصدر نفسه (18/ 463).
(6) المصدر نفسه (18/ 468).
(7) طبقات الشافعية (5/ 175).
(8) العقيدة النظامية لإمام الحرمين عبد الله الجويني، ص 81.(1/347)
يلازمه ويقرأ عليه الأصول حتى تخرج بطريقته (1) , ومن شيوخه أبو عبد الله الخبازي، اختص بالقراءة حتى أصبح شيخ القراء في عصره، وكان إمام الحرمين يبكر كل يوم قبل الاشتغال بالتدريس إلى مجلس الخبازي ويقرأ عليه القرآن (2)، ومن شيوخه القاضي حسين بن محمد بن أحمد، أبو علي المروذي، كان فقيه خراسان في عصره وشيخاً للشافعية, ويقال حبر الأمة تفقه على إمام الحرمين وكان يقول فيه: إنه حبر المذهب على الحقيقة (3)
, ومن شيوخه أبو نعيم الأصفهاني الحافظ, وكان من كبار الصوفية والمحدثين الحفاظ الثقات، والفقهاء الكبار، وأتقن الحديث دراية ورواية, من تصانيفه المشهورة: حلية الأولياء، ودلائل النبوة, وتاريخ أصبهان، ومعرفة الصحابة، والمستخرج على البخاري ومسلم، أخذ عنه إمام الحرمين وحصل على الإجازة منه (4)، ومن شيوخه أبو القاسم الفوراني، اشتغل بالفقه وأصوله، وله مصنفات كثيرة في المذهب والأصول والخلاف والجدل والملل والنحل، كان الجويني يحضر درسه وهو شاب بمرو (5)، ومن شيوخه أبو الحسن المجاشعي الذي اشتهر بالنحو لذا يقال له: النحوي, صنّف العوامل والهوامل، وشرح عنوان الإعراب، والإشارة في تحسين العبارة (6)، ومن شيوخه أبو سعيد الميهني وكان من أهل التصوف, له أحوال وكرامات, نقده الذهبي وتكلم فيه ابن حزم الأندلسي ودافع عنه السبكي وقال: وكان صحيح الاعتقاد حسن الطريقة أحواله تبهر العقول (7) .. روى عنه إمام الحرمين, ويمكن أن تكون نفحة الصوفية التي لازمت إمام الحرمين بفعل أبي سعيد الميهني (8)، وغير أولئك من المشايخ.
2 - تلامذته: لا خلاف بين أصحاب التراجم، بأن الجويني قد أصبح في نيسابور محط أنظار العلماء والتلامذة، لذا رحل إليه الطلبة والمشايخ من مختلف الأرجاء، وثابروا على حضور مجالسه العلمية، وحلقات درسه، فتخرج على يديه كثير من العلماء، ومما أسهم في كثرة تلامذة إمام الحرمين؛ تسلمه عمادة أمر النظامية التي بنيت في نيسابور والتدريس بها، واستمر على هذا الحال زهاء عشرين عاماً وكان يجلس في حلقات درسه كل يوم نحو ثلاثمائة رجل من الطلبة والأئمة (9) وفي السنة التي توفي بها الجويني، كان عدد تلامذته في النظامية قريباً من أربعمائة طالب علم، وتلامذة الجويني في أغلبهم لم يكونوا من العلماء
_________
(1) العقيدة النظامية لإمام الحرمين عبد الله الجويني، ص 82.
(2) المصدر نفسه، ص 83، تذكرة الحفاظ (3/ 1127).
(3) العقيدة النَّظامية، ص 83، تاريخ الإسلام حوادث 461 - 470هـ, ص 62.
(4) العقيدة النظامية، ص 84, وفيات الأعيان (1/ 91).
(5) العقيدة النظامية، ص 84, سير أعلام النبلاء (18/ 264).
(6) العقيدة النظامية، ص 85, المنتظم (9/ 33).
(7) العقيدة النظامية، ص 85, سير أعلام النبلاء (17/ 622).
(8) العقيدة النظامية، ص 85, سير أعلام النبلاء (17/ 622).
(9) طبقات الشافعية (1/ 255، 256).(1/348)
المغمورين، وإنما قد اشتهر كثير منهم، وذاع صيته، وأصبح علماً للعلم في ميدانه، ومن هؤلاء التلامذة (1):
أ- الإمام الغزالي. ب - أبو نصر القشيري. ... ج- الكياهراس (2).
3 - ثناء العلماء عليه: عاش إمام الحرمين في عصر كثر فيه العلماء الأعلام من مختلف المذاهب العامة، والأقطاب الشافعية، ففي وقت قصير نسبياً، تمكَّن بواسع علمه، وعمق ثقافته، من دفع أقرانه من الشافعية والأشاعرة على حد سواء، إلى الاعتراف بعلو مكانته، وأقروا له بزعامتهم ورئاستهم، إذ «قُلِّد زعامة الأصحاب ورياسة الطائفة (3)، كذلك تولى الجويني مناصب أخرى، كان أغلب معاصريه يحرصون على توليها، ومن هذه المناصب: أمور الأوقاف، والمحراب والمنبر، ومجلس التذكير يوم الجمعة، والخطابة (4)، ومما يؤكد المكانة العالية التي تبوأها هذا الإمام، أنه عندما بُنيت نظامية نيسابور، طلب إليه تولي إدارتها، والتدريس بها، والخطابة، والمناظرة بها (5)، وكان لتولي الجويني أمر هذه النظامية دور كبير في نجاحها، وإقبال الطلبة عليها من كل حدب وصوب، ويذكر المؤرخون أن عدد الطلبة في هذه المدرسة أيام إمام الحرمين كان يصل إلى نحو من أربعمائة رجل من الأئمة والطلبة (6). وقال عنه أبو محمد الجرجاني: إمام عصره، ونسيج وحده، ونادرة دهره، عديم المثل في حفظ لسانه (7). وقال سعيد السَّمعاني: كان أبو المعالي، إمام الأئمة على الإطلاق, مُجمعاً على إمامته شرقاً وغرباً، لم تر العيون مثله، تفقَّه على والده، وتُوفي أبوه ولأبي المعالي عشرون سنة فدرس مكانه، وكان يتردَّدُ إلى مدرسة البيهقي، وأحكم الأصول على أبي القاسم الإسفراييني الإسكاف.
وكان ينفق من ميراثه ومن معلوم له، إلى أن ظهر التعصب بين الفريقين، واضطربت الأحوال فاضطر إلى السفر عن نيسابور، فذهب إلى المعسكر، ثم إلى بغداد وصحب الوزير أبا نصر الكندري مدة يطوف معه، ويلتقي في حضرته بكبار العلماء، ويناظرهم، فتحنَّك بهم، وتهذَّب، وشاع ذكره، ثم حَجَّ وجاور أربع سنين يدرَّس ويفتي، ويجمع طرق المذهب، إلى أن رجع إلى بلده بعد مُضيَّ نوبة التعصب، فدرّس بنظامية نيسابور، واستقام الأمر، وبقي على ذلك ثلاثين سنة غير مزاحم ولا مدافع، مُسلمًا له المحراب والمنبر والخطبة والتدريس، ومجلس الوعظ يوم الجمعة، وظهرت تصانيفه وحضر درسه الأكابر والجمع العظيم من الطلبة، كان يقعد بين يديه نحو من ثلاثمائة، وتفقه به أئمة (8).
_________
(1) العقيدة النظامية، ص 87 - 89.
(2) العقيدة النظامية، ص 87 - 89.
(3) طبقات الشافعية (5/ 177).
(4) وفيات الأعيان (3/ 168).
(5) وفيات الأعيان (3/ 168).
(6) طبقات الشافعية للإسنوي (1/ 199).
(7) المصدر نفسه (5/ 173).
(8) سير أعلام النبلاء (18/ 470).(1/349)
4 - من أخلاقه وصفاته: حباه الله صفات عالية وأخلاقاً سامية هيأت له تلك المنزلة التي شغلها بين العلماء، وجعلته جديراً بالمكانة التي اعتلاها بين الحكماء, ومن هذه الأخلاق:
أ- التواضع: فقد ذكروا أنه كان من التواضع لكل أحد بمحل يتخيل منه الاستهزاء لمبالغته فيه، وما كان يستصغر أحداً حتى يسمع كلامه، ولا يستنكف أن يعزو الفائدة المستفادة إلى قائلها، ويقول: هذه الفائدة مما استفدته من فلان (1). وكان يتعلم من تلاميذه بعضد الفنون التي ينبغون فيها، ولا يجد في ذلك حرجًا ولا غضاضة، وجاء في ترجمة الإمام عبد الرحيم, ابن الإمام أبي القاسم القشيري: تخرج على إمام الحرمين .. وواظب على درسه، وصحبه ليلاً ونهاراً ... وكان الإمام يعتد به ويستفرغ أكثر أيامه معه مستفيداً منه بعض مسائل الحساب في الفرائض، والدور، والوصية (2). وكان يُعنى بأقواله في الفقه, قال السبكي عن ذلك: وأعظم ما عظم به الإمام عبد الرحيم أن إمام الحرمين نقل عنه في كتاب الوصية، وهذه مرتبة رفيعة (3).
ب- حر الرأي والضمير: كان حر الرأي والضمير لا يقلد أحداً، فمنذ شبابه رفض أن يقلد والده وأصحابه، وأخذ في التحقيق (4). وفي هذا المجال لم يكن يحابي أحداً ولو كان أباه، أو أحد الأئمة المشهورين. قال في اعتراض عن والده: وهذه زلة من الشيخ رحمه الله (5).
جـ- قوة الذاكرة: كان يتمتع بذاكرة نادرة وحافظة لاقطة. رووا عنه أنه كان يذكر دروساً يقع كل واحد منها في عدة أوراق ولا يتلعثم في كلمة منها ولا يحتاج إلى إبدال كلمة منها مكان غيرها, بل يمر فيها مراً كالبرق الخاطف بصوت مطابق كالرعد القاصف (6).
د- صبره في طلب العلم: تميز -رحمه الله- بصبر ودأب نادرين في طلب العلم والبحث، فمع أنه قعد للتدريس مكان أبيه لم يشغله ذلك عن البحث والدرس، فكان يبكر قبل الاشتغال بدرس نفسه إلى مسجد الأستاذ أبي عبد الله الخبازي يقرأ عليه القراءات ويقتبس من كل نوع من العلوم (7)، وعن أبي الحسن بن أبي عبد الله بن أبي الحسين: سمعت إمام الحرمين في أثناء كلام له يقول: أنا لا أنام، ولا آكل عادة، وإنما أنام إذا غلبني
_________
(1) فقه إمام الحرمين, د. عبد العظيم الديب، ص 56.
(2) طبقات الشافعية (7/ 165) , فقه إمام الحرمين، ص 57.
(3) النهاية لإمام الحرمين (4/ 26) , نقلاً عن فقه إمام الحرمين، ص 57.
(4) فقه إمام الحرمين، ص 57.
(5) شذرات الذهب, نقلاً عن فقه إمام الحرمين، ص 57.
(6) وفيات الأعيان (2/ 341).
(7) كذب المفترى, نقلاً عن فقه إمام الحرمين، ص 58.(1/350)
النوم ليلاً أو نهاراً, وآكل إذا اشتهيت الطعام أيَّ وقت كان ... ثم يقول أبو الحسن: كان لذته ولهوه وتفننه في مذاكرة العلم، وطلب الفائدة من أي نوع كان (1)، قال عنه المجاشعي النحوي: ما رأيت عاشقاً للعلم مثل هذا الإمام (2).
هـ- رقة القلب وخشوعه: رزقه الله رقة القلب وخشوعه، وشفافية نادرة، قالوا: ومن رقة قلبه أنه كان يبكي إذا سمع بيتاً أو تفكر في نفسه ساعة، وإذا شرع في حكاية الأحوال، خاصة في علوم الصوفية، في فصول مجالسه بالغدوات أبكى الحاضرين ببكائه، وقطر الدماء من الجفون بزعقاته وإشاراته لاحتراقه في نفسه، وتحققه مما يجري من دقائق الأسرار (3). ويصور السبكي هذا قائلاً: وإذا وعظ ألبس الأنفس من الخشية ثوباً جديداً، ونادته القلوب: إننا بشر فأسجح فلسنا بالجبال ولا الحديد (4). إن التصوف في حقيقته هو التزكية وحفظ الجوارح من المعاصي, وتطهير النفوس من أمراضها, والزهد في الدنيا, والتعلق بالله وحده, مع الخلو من البدع والانحرافات والخرافات والغلو التي ما أنزل الله بها من سلطان, وهو في جوهره جزء من الإسلام، لأنه عبارة عن تربية النفس لتوثيق صلتها بالله تعالى، وتعميق مراقبتها له في كل لحظة, واستمرار القلب واللسان في ذكر الله تعالى، وكان العلماء في سلف هذه الأمة يهتمون بتزكية نفوسهم والإكثار من الذكر والأوراد, ويحاسبون أنفسهم قبل أن يحاسبوا، إلا أن طريق التصوف في وقتنا الحالي يحتاج إلى تنقية وعرض تراثه على كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، فقد تسربت بعض الأفكار الدخيلة إلى العقيدة مما ينكره الدين والإسلام، فعلم التزكية له أصوله من عهد الرسول - صلى الله عليه وسلم - والصحابة الكرام والتابعين بإحسان، من أمثال الحسن البصري ومالك بن دينار ومحمد بن واسع وعبد الله بن المبارك وغيرهم كثير.
و- كرمه وجوده: وأما كرمه وسخاؤه، فقد كان مضرب المثل، لم يشغل بمال يثمره، ولا براتب يدخره، فقد كان ينفق على طلبة العلم، ويبحث عمن يدرس الفقه لينفق عليهم (5). هذه بعض صفاته التي ذكرها المؤرخون.
5 - القيمة العلمية لكتاب الإمام الجويني غياث الأمم: من مقدمة كتاب «غياث الأمم في التياث الظلم» يمكن الاستنتاج بأن هذا الكتاب قد وضع أصلاً لتبيان حقيقة الدين الإسلامي في أمور الإمامة والولاية وجملة الشريعة وفق اجتهاده، والخطاب فيه موجه إلى وزير الدولة نظام الملك، فقد حاول تبيان أهمية الدور الذي لعبه الوزير نظام الملك في تثبيت أركان المذهب السني وإعزاز
_________
(1) كذب المفترى, نقلاً عن فقه إمام الحرمين، ص 58.
(2) كذب المفترى, نقلاً عن فقه إمام الحرمين، ص 58.
(3) فقه إمام الحرمين، ص 59.
(4) طبقات الشافعية, نقلاً عن فقه إمام الحرمين، ص 59.
(5) الإمام الجويني، ص 208, طبقات الشافعية (5/ 170، 175).(1/351)
مكانته في الدولة السلجوقية, وقد بالغ في وصفه في مقدمة الكتاب حيث قال: سيد الورى وموصل الدين والدنيا، وملاذ الأمم، مستخدم السيف والقلم, ومن ظَل ظل الملك بيمن مساعيه ممدوداً، ولواء النصر معقوداً, فكم باشر أوار الحرب, وأدار رحى الطعن والضرب (1)، الخ.
إن كتاب «غياث الأمم في التياث الظلم» كتاب شامل في مسائل الإمامة وما يتصل بها من أمور، وهي شمولية لا تتصف بها كتب السابقين وخصوصاً كتاب «الأحكام السلطانية» , كما أنه لا يقوم على الاجتهاد المحض كما هو الأمر لدى الماوردي، بل على الأدلة الشرعية التي تخص المسألة المطروحة للبحث (2)، والبنية الأساسية لموضوع الكتاب هي الرد على المخالفين لأهل السنة وعلى الأخص الفرق الإسلامية من الشيعة في موضوع الإمامة، ولذا أصبح مرجعاً في هذا الشأن، كما يعد كتاب غياث الأمم في التياث الظلم أوسع كتاب ظهر في الفكر السياسي الإسلامي في مسائل الإمامة إذا قارناه بالأحكام السلطانية للماوردي، والسياسة الشرعية لابن تيمية، وتحرير الأحكام لابن جماعة، إضافة إلى المنهج النقدي الذي اتبعه إمام الحرمين في دراسته، إذ لا يكتفي بعرض الموضوع من الناحية الشرعية فقط وآراء الفقهاء السابقين عليه حوله، بل يُمحص هذه الآراء ويفنّد الخاطئة منها، وهذا أمر قلّ حدوثه في المؤلفات الإسلامية في حقل السياسة (3)، وقد ناقش الإمام الجويني في كتابه غياث الأمم، نظرية الإمامة وما يدور حولها، كوجوب نصب الأئمة وقادة الأمة، والجهات التي تعين الإمامة وتوجب الزعامة، وصفات أهل الحل والعقد واعتبار العدد فيمن إليه العهد، وصفات الإمام القوام على أهل الإسلام، والطوارئ التي توجب الخلع والانخلاع، وإمامة المفضول، ونصب إمامين، وتفصيل ما إلى الأئمة والولاة (4). وكتاب غياث الأمم والتياث الظلم يعطي صورة واضحة عن الفكر السياسي السني في ظل الذروة التي وصل إليها المذهب السني على يد السلاجقة واستقرار الأمن الفكري على يد الوزير نظام الملك (5).
إن شخصية الإمام الجويني -رحمه الله- تتميز بالاستقلالية، والإضافة, والأمانة - بالنسبة لكتابته - وهذه الأمور الثلاثة هي أكثر ما نحتاج إليه في البحوث الإسلامية المعاصرة, إنه لم يكن يرضى بتقليد والده مع أنه كان إماماً في عصره, وكان لا يستنكف أن يعزو الفائدة المستفادة إلى قائلها ويقول: إن هذه الفائدة مما استفدته من فلان، وأخيراً فإن هناك ثلاثة كتب تعد من أنفع
_________
(1) غياث الأمم، ص 9، 10.
(2) دراسة في السياسة الشرعية عند فقهاء أهل السنة للبغدادي، ص 182.
(3) المصدر نفسه، ص 183.
(4) المصدر نفسه، ص 184.
(5) المصدر نفسه، ص 179.(1/352)
كتب التراث للاقتصاديين المسلمين، وهي: الغياثي لإمام الحرمين وهو أسبقها، وقواعد الأحكام لسلطان العلماء وهو أمتعها، ومقدمة ابن خلدون وهو أشملها (1).
6 - عودته إلى مذهب السلف ورجوعه عن علم الكلام:
يعتبر الجويني إمام الحرمين من أعظم أعلام الأشاعرة، ولا يكاد يذكر المذهب الأشعري إلا يسبق إلى الذهن هذا الإمام المشهور كأحد من يتمثل هذا المذهب في أقواله وكتبه، وقد قام إمام الحرمين باجتهادات داخل المذهب الأشعري، فالجويني وإن تبنى أقوال شيوخه السابقين ونقلها إلا أنه رد أو ناقش منها ما يرى أنه يستحق الرد والمناقشة (2)، ولما كان الجويني ممن خاض في مسائل علم الكلام أكثر ممن سبقه وما تميزت به شخصيته من استقلال واعتداد، بحيث لا يرى غضاضة في مخالفة شيوخه ولو كانوا أعلاماً كالأشعري والباقلاني وابن فورك وأبي إسحاق الإسفراييني وغيرهم، فقد برز في كتبه ما يدل على تراجعه على بعض أقواله ويمكن عرض الشواهد التالية:
أ- حيرته في مسأله العلو: وسُئل عن قوله: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5] فقال: كان الله ولا عرش. وهو الآن على ما كان عليه، فرد عليه أحد العارفين، لكن الضرورة في قلوبنا تطلب العلو ولا نلتفت يمنة ولا يسرة، وما قال عارف قط يا رباه إلاّ وسبقه نظره إلى فوق، فما كان من إمام الحرمين إلا أن ضرب بكمه السرير، وصاح بالحيرة والدهشة (3)، وجاء في رواية الذهبي: أخبرني أبو جعفر الحافظ، سمعت أبا المعالي وسئل عن قوله: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 50] فقال: كان الله ولا عرش. وجعل يتخبَّطُ، فقلت: هل عندك للضرورات من حيلة؟ فقال: ما معنى هذه الإشارة؟ قلت: ما قال عارف قط: يا رباه إلا قبل أن يتحرك لسانه قام من باطنه قصد لا يلتفت يمنة ولا يسرة - يقصد الفوق - فهل لهذا القصد الضروري عندك من حيلة؛ فتنبئنا نتخلص من الفوق والتحت؟ وبكيت وبكى الخلق، فضرب بكمه على السرير، وصاح الحيرة، ومَزَّق ما كان عليه، وصارت قيامة في المسجد، ونزل يقول: يا حبيبي: الحيرة الحيرة والدهشة (4)، وجاء في رواية: حيرني الهمذاني (5).
ب- عودته إلى مذهب السلف في الصفات: قال أبو المعالي في كتاب الرسالة النظامية:
_________
(1) الفكر الاقتصادي عند إمام الحرمين الجويني للدكتور رفيق يونس، ص 87، 88.
(2) موقف ابن تيمية من الأشاعرة (2/ 602).
(3) طبقات الشافعية (5/ 190)، العقيدة النّظامية، ص 78.
(4) سير أعلام النبلاء (18/ 47) , العلو للذهبي، ص 18.
(5) مختصر العلو للألباني، ص 277، إسناد هذه القصة صحيح مسلسل بالحفاظ.(1/353)
اختلفت مسالك العلماء في الظواهر التي وردت في الكتاب والسنة، وامتنع على أهل الحقَّ فحواها (1)، فرأى بعضهم تأويلها والتزم ذلك في القرآن، وما يصح من السُّنن، وذهب أئمة السلف إلى الانكفاف عن التأويل وإجراء الظواهر على مواردها، وتفويض معانيها إلى الرب تعالى، والذي نرتضيه رأياً، وندين لله به عقداً اتباع سلف الأُمَّة، فالأولى الاتباع، وترك الابتداع (2) , والدليل السمعي القاطع في ذلك أن إجماع الأمة حجة متبعة، وهو مستند معظم الشريعة، وقد درج صحبُ الرسول - صلى الله عليه وسلم - على ترك التعرض لمعانيها ودرك ما فيها وهم صفوة الإسلام المستقلون بأعباء الشريعة، وكانوا لا يألون جهداً في ضبط قواعد الملة والتواصي بحفظها وتعليم الناس ما يحتاجون إليه منها، فلو كان تأويل هذه الظواهر مسوغاً أو مختوماً؛ لأوشك أن يكون اهتمامهم بها فوق اهتمامهم بفروع الشريعة، فإذا تصرم عصرهم وعصر التابعين على الإضراب عن التأويل؛ كان ذلك قاطعاً بأنه الوجه المتبع، فحقَّ على ذي الدين أن يعتقد تنزُّه الباري عن صفات المُحدَثين، ولا يخوض في تأويل المشكلات، ويَكِل معناها إلى الرب، فليُجْر آية الاستواء والمجيء - أي {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا} [الفجر: 22] وقوله: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص: 75] و {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ} [الرحمن: 27]، و {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} [القمر: 14]- وما صح من أخبار الرسول كخبر النزول وغيره على ما ذكرناه (3).
وحكى الفقيه أبو عبد الله الحسن بن العباس الرُّستمي قال: حكى لنا أبو الفتح الطبري الفقيه قال: دخلت على أبي المعالي في مرضه، فقال: اشهدوا عليَّ أني قد رجعت عن كل مقالة تخالف السُّنة، وإني أموت على ما يموت عليه عجائز نيسابور (4)، وقال في كتابه الغياثي - الذي ألفه بعد النظامية فهو من آخر كتبه- موصياً مغيث الدولة الذي هو نظام الملك قائلاً: والذي أذكره الآن لائقاً بمقصود هذا الكتاب أن الذي يحرص الإمام عليه جمع عامة الخلق على مذاهب السلف السابقين، قبل أن نبغت الأهواء وزاغت الآراء، وكانوا - رضي الله عنهم - ينهون عن التعرض للغوامض والتعمق في المشكلات، والإمعان في ملابسة المعضلات، والاعتناء بجميع الشبهات، وتكلف الأجوبة عما لم يقع من السؤالات، ويرون صرف العناية إلى الاستحثاث على البر والتقوى، وكف الأذى، والقيام بالطاعة حسب الاستطاعة، وما كانوا ينكفون - رضي الله عنهم - عما تعرض له المتأخرون عن وعي وحصر، وتبلد في القرائح، هيهات، قد كانوا أذكى الخلائق أذهاناً، وأرجحهم بياناً (5).
_________
(1) في النظامية المطبوعة بتحقيق العلامة الكوثري، ص 23 بعد هذه العبارة ما نصه: وإجراؤها على موجب تبرزه أفهام أرباب اللسان.
(2) العقيدة النظامية، ص 74.
(3) سير أعلام النبلاء (18/ 474).
(4) سير أعلام النبلاء (18/ 474).
(5) غياث الأمم، ص (190،191).(1/354)
جـ- نهيه أصحابه عن علم الكلام: فقد رجع عن علم الكلام وهو من الأمور المشهورة عنه, ومن أقوله ما رواه الفقيه غانم الموشلي: سمعت الإمام أبا المعالي يقول: لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما اشتغلت بالكلام (1) وروي عنه أنه قال: قرأت خمسين ألفاً في خمسين، ثم خليت أهل الإسلام بإسلامهم فيها وعلومهم الظاهرة، وركبت البحر الخضم، وغصت في الذي نهى أهل الإسلام، كل ذلك في طلب الحق، وكنت أهرب في سالف الدهر من التقليد، والآن فقد رجعت إلى كلمة الحق، عليكم بدين العجائز، فإن لم يدركني الحق بلطيف بره فأموت على دين العجائز، ويختم عاقبة أمري عند الرحيل على كلمة الإخلاص: لا إله إلا الله، فالويل لابن الجويني (2).
7 - مؤلفاته: ترك الإمام الجويني -رحمه الله- ثروة هائلة من الكتب والمصنفات, ومن أهم مؤلفاته:
* في العقيدة:
- لمع الأدلة في قواعد أهل السنة.
- الإرشاد إلى قواطع الأدلة في أصول الاعتقاد.
- الشامل في أصول الدين.
- شفاء الغليل في بيان ما وقع في التوراة والإنجيل من التبديل.
- رسالة في أصول الدين.
- مسائل الإمام عبد الحق الصقلي وأجوبتها.
- مختصر الإرشاد للباقلاني.
- العقيدة النظامية.
- كتاب النفس.
- كتاب الكرامات.
- مدارك العقول.
* كتبه في الفقه وأصوله:
- نهاية المطلب في دراية المذهب.
- مختصر النهاية.
- البرهان في أصول الفقه.
- الورقات.
- التلخيص في أصول الفقه.
* مؤلفات في الخلاف والجدل والسياسة:
- مغيث الخلق في اختيار الأحق.
- الأساليب في الخلاف.
- الدرة المعنية فيما وقع من خلاف بين الشافعية والحنفية.
_________
(1) سير أعلام النبلاء (18/ 474).
(2) المنتظم (9/ 19) , موقف ابن تيمية من الأشاعرة (2/ 620).(1/355)
- الكافية في الجدل. ... - العمد.
- غياث الأمم في التياث الظلم (1). ومن أراد التوسع فليراجع مقدمة كتاب العقيدة النظامية. فقد أفاض محقق الكتاب الدكتور محمد الزبيدي في سيرة الجويني وآثاره، وكذلك كتاب فقه إمام الحرمين للدكتور عبد العظيم الديب، وكتاب الإمام الجويني إمام الحرمين للدكتور محمد الزحيلي.
8 - وفاته: أصيب الجويني قبل وفاته بمرض اليرقان عدة أيام، انقطع خلالها عن المجالس وحلقات التدريس بالنظامية ثم تعافى من المرض ورجع إلى التدريس والمناظرة، وأضفى ذلك سروراً بالغاً على تلامذته ومحبيه، لكن المرض عاوده من جديد واشتد عليه، فزاد ضعفه، ولم يقو على مزاولة أعماله, ثم نقل إلى بلدة بشتقان إحدى قرى نيسابور، وكانت معروفة باعتدال هوائها. إلا أن المرض تمكّن منه وبدت عليه أحوال ألموت، ثم توفي في هذه البلدة وقت صلاة العشاء في الخامس والعشرين شهر ربيع الآخر سنة ثمان وسبعين وأربعمائة للهجرة، وكان عمره تسعاً وخمسين سنة (2)، ثم نقل جثمان الجويني في تلك الليلة إلى نيسابور، وحمل في يوم الأربعاء بين الصلاتين إلى ميدان الحسين في المدينة وصلى عليه ثم أعيد إلى داره ودفن فيها، لكن جثمانه نقل فيما بعد إلى مقبرة الحسين في نيسابور ودفن إلى جانب والده (3). وكان لوفاة الجويني وقع شديد على أهالي نيسابور والبلاد المجاورة بعامة، وعلى تلامذته ومحبيه بخاصة (4)، فقد كسروا منبره، وغلقت الأسواق، ورثي بقصائد، وكان له نحو من أربعمائة تلميذ، كسروا محابرهم وأقلامهم، وأقاموا حولاً، ووضعت المناديل عن الرءوس عاماً، بحيث ما اجترأ أحد على ستر رأسه, وكان الطلبة يطوفون في البلد نائحين عليه، مبالغين في الصياح والجزع (5). وقد علق الذهبي على ذلك فقال: هذا كان من زيّ الأعاجم لا من فعل العلماء المتبعين (6) , ومما رثي به:
قلوب العالمين على المقالي ... وأيام الورى شبه الليالي
أيثمر غصن أهل العلم يوما ... وقد مات الإمام أبو المعالي (7)
* * *
_________
(1) العقيدة النظامية، ص 93 - 102.
(2) طبقات الشافعية للإسنوي (5/ 187) , العقيدة النظامية، ص 79.
(3) وفيات الأعيان (3/ 169).
(4) العقيدة النَّظامية، ص 80.
(5) سير أعلام النبلاء (18/ 476).
(6) سير أعلام النبلاء (18/ 476).
(7) وفيات الأعيان (3/ 170).(1/356)
المبحث الخامس
الإمام الغزالي، من كبار علماء المدارس النَّظامية
أولاً: اسمه ونسبه ونشأته:
1 - اسمه ونسبه: الشيخ الإمام البحر، حجة الإسلام، أعجوبة الزمان، زين العابدين, أبو حامد بن محمد بن محمد بن أحمد الطوسي، الشافعي، الغزالي، صاحب التصانيف والذكاء المفرط (1). وقد نسبه البعض إلى غزالة - بتخفيف الزاي - وهي بلدته التي ولد فيها, وهي نسبة صحيحة من حيث اللغة, والبعض نسبه إلى: الغزَّالي - بتشديد الزاي -نسبة إلى الغزال حرفة والده التي كانت يكتسب منها وهي نسبة صحيحة أيضاً من حيث اللغة.
2 - نشأته ومولده: ولد «بطوس» (2)، سنة خمسين وأربعمائة هجرية, وأما والده فقد كان فقيراً صالحاً لا يأكل إلا من كسب يده حيث كان يغزل الصوف ويبيعه في دكانه بطوس، وكان يختلف في أوقات فراغه إلى مجالسة العلماء ويطوف عليهم ويتوفر على خدمتهم, ويجدّ في الإحسان إليهم والتفقه بما يمكنه عليهم, وكان إذا سمع كلامهم بكى وتضرع إلى الله أن يرزقه ابنا يجعله فقيهاً وواعظاً، فرزقه الله بولدين هما أبو حامد وأخوه أحمد (3)، غير أن الأقدار لم تمهله حتى يرى رجاءه قد تحقق ودعوته قد استجيبت، فقد توفي وما يزال أبو حامد صغيراً لم يبلغ سن الرشد. أما أم (أبي حامد) فقد عاشت حتى شهدت بزوغ شمس ابنها في سماء المجد وتبوأه أكبر مركز علمي في ذلك العهد (4) , وكان والده قد أوصى به وبأخيه إلى صديق له متصوف من أهل الخير وقال له: إن لي لتأسفاً عظيماً على تعلم الخط، وأشتهي استدراك ما فاتني في ولديّ هذين، فعلمهما ولا عليك أن تنفذ في ذلك جميع ما أخلفه بهما، فلما مات أقبل الصوفي على تعليمهما إلا أنه ما فتئ أن نفد ذلك النَّزر اليسير الذي خلفه لهما أبوهما، وتعذر على الصوفي القيام بقوتهما، فقال لهما: اعلما أني قد أنفقت عليكما ما كان لكما، وأنا رجل من الفقر والتجريد لا مال لي فأواسيكما به، وأصلح ما أرى لكما أن تلجآ إلى مدرسة فإنكما من طلبة العلم فيحصل لكما قوت يعينكما على قوتكما، ففعلا ذلك، وكان هو السبب في سعادتهما وعلو درجتهما, وكان الغزالي يحكي
_________
(1) سير أعلام النبلاء (18/ 322، 323).
(2) مدينة بخراسان تقع شمال شرق إيران وتسمى الآن بشهر.
(3) وفيات الأعيان (1/ 207) , التصوف بين الغزالي وابن تيمية، ص 46.
(4) طبقات الشافعية (6/ 193، 194) بتصرف.(1/357)
هذا ويقول: طلبنا العلم لغير الله، فأبى أن يكون إلا الله (1).
3 - اجتهاده في طلب العلم: قرأ في صباه طرفاً من الفقه ببلده طوس على أستاذه أحمد بن محمد الرازكاني (2)، وكان أستاذه الأول بها (يوسف النساج)، وبعد تناول الغزالي هذا القدر اليسير من الفقه في بلدته يشد الرحال إلى جرجان، حيث التقى بأستاذه أبي نصر الإسماعيلي ويدون ما يسمعه منه كمرحلة أولى من التلقي والتعليم، ثم يرجع إلى طوس وفي أثناء رجوعه حدث له ما جعله يحفظ ما كتب ويفهم ما علم, وفي هذا يقول: قطعت علينا الطريق وأخذ العيارون جميع ما معي، ومضوا فتبعتهم، فالتفت إلى مقدمهم وقال: ارجع ويحك وإلا هلكت، قلت له: أسألك بالذي ترجو السلامة منه أن ترد علىَّ تعليقتي فقط فما هي بشيء تنتفعون به, فقال لي: وما هي تعليقتك؟ فقلت: كتب في تلك المخلاة هاجرت لسماعها وكتابتها ومعرفة علمها، فضحك، وقال: كيف تدعى أنك عرفت علمها، وقد أخذناها منك، فتجردت من معرفتها وبقيت بلا علم؟ ثم أمر بعض أصحابه فسلم إلىّ المخلاة. قال الغزالي: هذا منطق أنطقه الله ليرشد به أمرى، فلما وافيت طوس أقبلت على الاشتغال ثلاث سنين حتى حفظت جميع ما علقته، وصرت بحيث لو قطع على الطريق لم أتجرد من علمي (3).
4 - ملازمته إمام الحرمين: قدم الغزالي نيسابور - وهي عاصمة السلجوقيين، ومدينة العلم بعد بغداد - ولازم إمام الحرمين - وهو من عرفنا شخصيته وجلالته في العلم والتدريس- وجد واجتهد حتى برع في المذهب والخلاف والجدل والأصول, وكانت العلوم السائدة في عصره, وأعجب بذكائه وغوصه على المعاني الدقيقة واتساع معلوماته إمام الحرمين، فكان يقول: الغزالي بحر مغدق (4). وفاق أقرانه -وهم أربعمائة- حتى أصبح معيداً لأستاذه ونائباً عنه (5)، وقيل إنه ألف المنخول، فرآه أبو المعالي، فقال: دفنتني وأنا حيٌ، فهلا صبرت الآن، كتابك غطى على كتابي (6).
5 - تعيينه مدرساً على نظامية بغداد: ولما مات إمام الحرمين عام 478هـ خرج الغزالي إلى المعسكر قاصداً الوزير نظام الملك، وهو لم يتجاوز الثامنة والعشرين من سِنّه، وقد ظهر فضله وذاع صيته، وكان مجلس الوزير مجمع أهل العلم وملاذهم, وكانت المجالس
_________
(1) الإمام الغزالي، صالح الشامي، ص 19.
(2) الرازكاني: نسبة إلى بلدة صغيرة بنواحي طوس.
(3) الإمام الغزالي، صالح أحمد الشامي.
(4) طبقات الشافعية (6/ 195) , التصوف بين الغزالي وابن تيمية، ص 47.
(5) رجال الفكر والدعوة (1/ 172).
(6) سير أعلام النبلاء (19/ 335).(1/358)
حتى المآتم لا تخلو من المناظرات الفقهية والمطارحات الكلامية، فناظر الغزاليُّ الأئمة العلماء في مجلس نظام الملك، وقهر الخصوم، وظهر كلامه عليهم، واعترفوا بفضله، وتلقَّاه الصاحب بالتعظيم والتبجيل، وولاه تدريس مدرسته النظامية ببغداد, وكان ذلك غاية ما يطمح إليه العلماء ويتنافسون فيه، فقدم بغداد في سنة أربع وثمانين وأربعمائة ولم يتجاوز الرابعة والثلاثين من عمره، وقلَّما تقلَّد هذا المنصب الرفيع عالم وهو في هذه السن، درّس الغزالي بالنظامية، وأعجب الخلق حسن كلامه، وكمال فضله، وفصاحة لسانه، ونُكتهُ الدقيقة، وإشاراته اللطيفة، وأحبُّوه (1). قال معاصره عبد الغافر الفارسي: وعلت حشمته ودرجته في بغداد حتى كانت تغلب حشمة الأكابر والأمراء ودار الخلافة (2)، وكان يقرأ عليه جمٌّ غفير من الطلبة المحصلين: يقول في «المنقذ من الضلال» في وصف حاله والنظامية: وأنا مهتم بالتدريس والإفادة لثلاثمائة نفس من الطلبة ببغداد (3). وأخذ في تأليف الأصول والفقه والكلام والحكمة (4).
6 - من أسباب نبوغ الغزالي وشهرته: تجمعت عدة عوامل كانت سبباً في نبوغ الغزالي وشهرته منها:
- نشأته العلمية، فقد كان شغوفاً بالعلم باحثاً عن اليقين، وعن حقائق الأمور، ودرس علوم عصره ونبغ فيها وفاق أقرانه.
- ما كان يتمتع به من حافظة قوية.
- ما كان يتمتع به من شدة الذكاء، فقد كان شديد الذكاء سديد النظر، مفرط الإدراك، بعيد الغور، غواصاً على المعاني الدقيقة.
- تدريسه بالمدرسة النظامية التي أنشأها السلاجقة لتعليم مبادئ أهل السنة، فقد كان ذلك من أسباب شهرته (5).
7 - التحول الكبير الذي غير مجرى حياته: بلغ الغزالي في تلك الأيام قمة المجد، وأتته الدنيا خاضعة ذليلة، أتته بالمال والشهرة وذيوع الاسم، كما أتته بالجاه ونفوذ الكلمة، واستمتع بذلك كله، ومع ذلك لم ينقطع عن طلب العلم، فطالع العلوم الدقيقة والكتب المصنفة فيها. مما كان له كبير الأثر في التحول الكبير الذي غير مجرى حياته فيما بعد (6)،
_________
(1) طبقات الشافعية (4/ 106).
(2) رجال الفكر والدعوة (1/ 173).
(3) المنقذ من الضلال، ص 85.
(4) سير أعلام النبلاء (19/ 173).
(5) التصوف بين الغزالي وابن تيمية، ص 50.
(6) الإمام الغزالي، صالح الشامي، ص 23.(1/359)
ولنترك للإمام الغزالي الحديث، فهو خير من يشرح لنا قصته في هذا التحول: ابتدأت بمطالعة كتبهم مثل «قوت القلوب» لأبي طالب المكي رحمه الله، وكتب الحارث المحاسبي، والمتفرقات المأثورة عن الجنيد ..
فعلمت يقيناً أنهم أرباب الأحوال لا أصحاب الأقوال، وأن ما يمكن تحصيله بطريق العلم فقد حصلته ولم يبق إلا ما لا سبيل إليه بالسماع والتعليم، بل بالذوق والسلوك، وكان قد ظهر عندي أنه لا مطمع في سعادة الآخرة إلا بالتقوى، وكفَّ النفس عن الهوى، وأن رأس ذلك كله قطع علاقة القلب عن الدنيا، بالتجافي عن دار الغرور، والإنابة إلى دار الخلود، والإقبال بكنه الهمة على الله تعالى، وأن ذلك لا يتم إلا بالإعراض عن الجاه والمال، والهرب من الشواغل والعلائق, ثم لاحظت أحوالي, فإذا أنا منغمس في العلائق، وقد أحدقت بي من الجوانب، ولاحظت أعمالي -وأحسنها التدريس والتعليم - فإذا أنا فيها مقبل على علوم غير مهمة ولا نافعة في طريق الآخرة، ثم تفكرت في نيتي في التدريس، فإذا هي غير صالحة لوجه الله تعالى، بل باعثها ومحركها طلب الجاه، وانتشار الصيت، فتيقنت أني على شفا جرف هار، وأني أشفيت على النار، إن لم أشتغل بتلافي الأحوال، فلم أزل أفكر فيه مدة، وأنا بعد على مقام الاختيار، أصمم العزم على الخروج من بغداد ومفارقة تلك الأحوال يوماً، وأحل العزم يوماً، وأقدم فيه رجلاً، وأؤخر عنه أخرى، لا تصدق لي رغبة في طلب الآخرة بكرة، إلا وتحمل عليها جنود الشهوة جملة فتفترها عشية، فصارت شهوات الدنيا تجاذبني سلاسلها إلى المقام، ومنادي الإيمان ينادي: الرحيل الرحيل، فلم يبق من العمر إلا القليل، وبين يديك السفر الطويل، وجميع ما أنت فيه من العلم والعمل رياء وتخييل، فإن لم تستعد الآن للآخرة، فمتى تستعد؟ وإن لم تقطع هذه العوائق فمتى تقطع؟ فعند ذلك تنبعث الداعية، وينجزم العزم على الهرب والفرار، ثم يعود الشيطان ويقول: هذه الحال عارضة، إياك أن تطاوعها، فإنها سريعة الزوال، فإن أذعنت لها وتركت هذا الجاه العريض والشأن المنظوم الخالي عن التكدير والتنغيص، والأمن المسلم الصافي عن منازعة الخصوم، ربما التفتت إليك نفسك ولا يتيسر لك المعاودة، فلم أزل أتردد بين تجاذب شهوات الدنيا، ودواعي الآخرة، قريباً من ستة أشهر، أولها رجب سنة ثمان وثمانين وأربعمائة, وفي هذا الشهر جاوز الأمر حد الاختيار إلى الاضطرار، إذ قفل الله على لساني حتى اعتقل عن التدريس، فكنت أجاهد نفسي أن أدرس يوماً واحداً تطييباً للقلوب المختلفة إليَّ, فكان لساني لا ينطق بكلمة واحدة، ولا أستطيعها ألبتة ... ثم لما أحسست بعجزي، وسقط بالكلية اختياري، التجأت إلى الله تعالى، التجاء المضطر، الذي لاحيلة له، فأجابني الذي يجيب المضطر إذا دعاه، وسهل على قلبي الإعراض عن الجاه والمال والأولاد(1/360)
والأصحاب (1). وغادر الغزالي بغداد في شهر ذي القعدة سنة ثمان وثمانين، فحج وتوجه إلى الشام، فأقام بها عشر سنين، قضى بعضها في بيت المقدس, وكان غالب وقته فيها عزلة وخلوة، ورياضة ومجاهدة للنفس، واشتغالاً بتزكيتها، وتصفية القلب لذكر الله تعالى، وكان يعتكف في منارة مسجد دمشق طول النهار (2)، ويصف معاصره عبد الغافر انقلابه هذا فيقول: وسلك طريق الزهد والتأله، وطرح ما نال من الدرجة للاشتغال بأسباب التقوى وزاد الآخرة، فخرج عما كان فيه .. وأخذ في مجاهدة النفس وتغيير الأخلاق، وتحسين الشمائل، فانقلب شيطان الرعونة وطلب الرياسة والجاه والتخلق بالأخلاق الذميمة إلى سكون النفس، وكرم الأخلاق، والفراغ عن الرسوم والترتيبات, وتزيا بزي الصالحين، وقصر الأمل .. والاستعداد للرحيل إلى الدار الباقية (3) وأخذ في التصانيف المشهورة مثل إحياء علوم الدين والكتب المختصرة منه، مثل الأربعين وغيرها من الرسائل، التي من تأملها علم محل الرجل من فنون العلم (4).
8 - عودته للتصدي للتعليم: ثم عاد بعد تلك العزلة التي استمرت عشر سنوات إلى بلده طوس، ليتابع عزلته سنة أخرى وتحت إلحاح الولاة وتكرار طلبهم بالخروج إلى الناس .. خرج إلى نيسابور ليدرس بالمدرسة النظامية فيها, وكان ذلك في شهر ذي القعدة سنة 499هـ وقال في ذلك: ويسر الله الحركة إلى نيسابور للقيام بهذا المهم في ذي القعدة سنة تسع وتسعين وأربعمائة، وبلغت مدة العزلة إحدى عشرة سنة (5)، ويشرح لنا الغزالي عودته إلى التعليم، وأنها كانت بأسلوب جديد، ونية جديدة، وهدف جديد يختلف كل الاختلاف عما كان عليه سابقاً, فيقول: وأنا أعلم أني وإن رجعت إلى نشر العلم، فما رجعت، فإن الرجوع عود إلى مكان. وكنت في الزمان أنشر العلم الذي به يكسب الجاه وأدعو إليه بقولي وعملي، وكان ذلك قصدي ونيتي، وأما الآن فأدعو إلى العلم الذي به يترك الجاه ويعرف به سقوط رتبة الجاه, هذا هو الآن نيتي وقصدي وأمنيتي يعلم الله ذلك مني, وأنا أبغي أن أصلح نفسي وغيري, ولكني أؤمن إيمان يقين ومشاهدة أنه لا حول ولا قوة إلا بالله العظيم، وأني لم أتحرك لكنه حركني، وأني لم أعمل لكنه استعملني، فأسأله أن يصلحني أولاً، ثم يصلح بي، ويهديني، ثم يهدي بي، وأن يريني الحق حقاً ويرزقني اتباعه، ويريني الباطل باطلاً ويرزقني اجتنابه (6)، ولم تطل إقامته في نيسابور وكانت المدة التي درسها في النظامية فيها يسيرة، ثم
_________
(1) المنقذ من الضلال، ص 139 - 143.
(2) الإمام الغزالي للشامي، ص 25.
(3) المصدر نفسه، ص 26.
(4) المصدر نفسه، ص 26.
(5) المنقذ من الضلال، ص 159.
(6) المنقذ من الضلال، ص 159 - 160.(1/361)
ترك ذلك، وعاد إلى بيته في طوس، واتخذ في جواره مدرسة للطلبة، وخانقاه للصوفية، ووزَّع أوقاته على وظائف: من ختم القرآن، ومجالسة ذوي القلوب, والقعود للتدريس, حتى توفي بعد مقاساة لأنواع من القصد، والمناوأة من الخصوم والسعي فيه إلى الملوك، وحفظ الله له عن نوش أيدي النكبات (1).
وكانت خاتمة أمره إقباله على طلب الحديث ومجالسة أهله، ومطالعة الصحيحين، ولو عاش، لسبق الكل في ذلك الفن بيسير من الأيام, وهذا توفيق من الله تعالى كبير للإمام الغزالي أن جعل خاتمته على الحديث والسنة, ونحسب أن الله تعالى وفقه لهذه النهاية بكرم وفضل منه ومنة. ولم يتفق له أن يروي، ولم يعقب إلا البنات وكان له من الأسباب إرثاً وكسباً ما يقوم بكفايته، وقد عُرضت عليه أموال فما قبلها (2). ومما كان يعترض به عليه وقوع خلل من جهة النحو في أثناء كلامه، وروجع فيه فأنصف، واعترف أنه ما مارسه واكتفى بما كان يحتاج إليه في كلامه، مع أنه كان يُؤلف الخُطب، ويشرح الكتب بالعبارة التي يعجز الأدباء والفصحاء عن أمثالها (3).
9 - الترتيب الزمني لمؤلفات الغزالي المقطوع بصحة نسبتها إليه حسب تاريخ تأليفها?
* المرحلة الأولى: من 465هـ - 478هـ: أي قبل وفاة شيخه أبي المعالي الجويني:
- التعليقة في فروع المذهب, وهي التي أخذها منه قطاع الطرق ثم ردوها إليه.
- المنخول في أصول الفقه.
* المرحلة الثانية: من 478هـ - 488هـ:
- البسيط في فروع المذهب. قال فيه ابن خلكان: ما صنف في الإسلام مثله.
- الوسيط (ملخص من البسيط).
- الوجيز.
- خلاصة المختصر ونقاوة المعتصر, أو الخلاصة في الفقه الشافعي.
- المنتحل في علم الجدل (في المناظرة والخلاف).
- مآخذ الخلاف.
- تحصين المآخذ (في علم الخلاف).
- المبادئ والغايات (في أصول الفقه).
- شفاء الغليل (في القياس والتعليل).
- فتوى لابن تاشفين (من جملة فتاوى الغزالي).
_________
(1) سير أعلام النبلاء (19/ 325).
(2) المصدر نفسه (19/ 326).
(3) المصدر نفسه (19/ 326).(1/362)
- الفتوى اليزيدية (في حكم من كفر يزيد بن معاوية).
- مقاصد الفلاسفة (بيان مبادئ الفلسفة).
- تهافت الفلاسفة.
- معيار العلم. بعد التهافت وقبل سفره إلى دمشق (1).
- معيار العقول.
- محك النظر في المنطق. ويذكر الذهبي أنه ألفه بدمشق.
- ميزان العقل.
- المستظهري - وهو رد على الباطنية.
- حجة الحق، كذلك بيان فساد مذهب الباطنية.
- قواصم الباطنية؛ يرد فيه على شبههم.
- الاقتصاد في الاعتقاد.
- الرسالة القدسية في العقائد.
- المعارف العقلية والأسرار الإلهية.
هذه أهم كتبه في هذه المرحلة
* المرحلة الثالثة: من 488هـ - 499هـ: وكتب هذه المرحلة كثيرة أهمها:
- إحياء علوم الدين.
* المرحلة الرابعة (بين 499هـ - 503هـ) وأهم كتب هذه المرحلة:
- المنقذ من الضلال.
- المستصفى في علم الأصول.
* السنوات الأخيرة من 503هـ - 505هـ:
- منهاج العابدين في الزهد والأخلاق والعبادات.
- إلجام العوام عن علم الكلام. وهو آخر كتبه التي ألفها عام 505هـ وقبيل موته بأيام. جرى على مذهب السلف ونسب ما دونه من المذاهب إلى البدعة (2).
ثانياً: موقف الغزالي من الشيعة الباطنية:
إذا كانت إحدى ثمرات المدارس النظامية أنها مهدت الطريق لسيادة المذهب السني الأشعري، فإنه كان من أبرز آثارها أيضاً تقلص نفوذ الفكر الشيعي، خاصة بعد أن خرجت المؤلفات المناهضة له من هذه المدارس، وكان الإمام الغزالي - العالم السني - على قمة
_________
(1) أبو حامد الغزالي والتصوف، عبد الرحمن دمشقية، ص 35 - 40.
(2) أبو حامد الغزالي والتصوف، عبد الرحمن دمشقية، ص 35 - 40.(1/363)
المفكرين الذين شنوا حرباً شعواء على الشيعة خاصة الباطنية الإسماعيلية إذ يذكر هو أنه ألف في ذلك كتباً عدة: أشهرها فضائح الباطنية الذي كلف بتأليفه في 487هـ من قبل الخليفة المستظهر (1)، على أن الشيء المثير للإعجاب هو شجاعة الغزالي في حملته على الإسماعيلية الباطنية التي جاءت في وقت انتشر فيه دعاتهم في فارس، وتزايد خطرهم حتى أقاموا الحصون والقلاع، وهددوا أمن الناس وسلامتهم، وقاموا بالاغتيالات على نطاق واسع فشملت كثيراً من الساسة والمفكرين وعلى رأسهم نظام الملك نفسه, والغزالي قام بهذه الحملة بتوجيه من السلطة, مع رغبة الغزالي العالم السني في القيام بواجبه في الدفاع عن الإسلام الحقيقي (2)، وهذا شيء جميل أن تلتقي جهود السلطة السياسية مع علمائها في تحقيق أهداف الإسلام من خلال مؤسسات نافعة للمجتمعات والدول والحضارات، كالذي قامت به المدارس النظامية في مقاومة الفكر والنفوذ الشيعي الباطني. كانت الدولة الفاطمية قد تدرعت بالفلسفة وظهرت في مظهر ديني سياسي، فكانت -كما يقول الأستاذ أبو الحسن الندوي - أشد خطراً على الإسلام من الفلسفة، فقد كانت الفلسفة تعيش في برجها العاجي بعيداً عن الشعب والجمهور (3)،
وأما الباطنية، فكانت تتسرب إلى المجتمع وتنفث سمومها فيه، وكانت لها الإغراءات المادية القوية، ولم يكن في العالم الإسلامي في آخر القرن الخامس أحد أجدر بالرد عليها، والكشف عن أسرارها، ونقض ما تبني عليه دعوتها, من الغزالي.
1 - بنية كتاب «فضائح الباطنية»: الكتاب قسمان: القسم الأول خصصه الغزالي لإظهار «فضائح الباطنية»، وخصّص القسم الثاني لإثبات شرعية خلافة المستظهر بالله. ويمكن أن نتبيّن تقسيماً داخلياً للقسم الأول يحتوي على أكثر من عشرة فصول، مشروعية الرد عليهم، بيان صفاتهم، منشؤهم، أغراضهم، أتباعهم، مذهبهم ويشمل الإلهيات والنبوة والإمامة والحشر والنشر، استدلالهم بالأعداد والحروف، الكشف عن فتوى الشرع في حقهم من التكفير وسفك الدماء، أحكام من قضي بكفر منهم، في قبول توبتهم أو ردها، العهد معهم كيف يبطل ومتى .. (4) إلخ.
فالغزالي بدأ حديثه بمشروعية الرد على الباطنية ذاكراً أن التأليف في الرد عليهم هو فرض عين (5)، ثم عمد فيما بعد إلى الخوض في المسائل العملية محدداً من منهم يستحق
_________
(1) التاريخ السياسي والفكري، عبد المجيد بدوي، ص 194.
(2) رجال الفكر والدعوة (1/ 204) , الغزالي للقرضاوي، ص 57.
(3) الجهاد من الهجرة إلى الدعوة والدولة، محمد الرحموني، ص 147.
(4) الجهاد من الهجرة إلى الدعوة والدولة، محمد الرحموني، ص 147.
(5) فضائح الباطنية، ص 4، الجهاد للرجموني، ص 147.(1/364)
التكفير ومن منهم يستحق التبديع، ومتى تقبل توبتهم ومتى ترد. إلخ.
فالغزالي لا يواجه كفّاراً مقطوعاً بكفرهم وإنما يواجه مجموعة ما فتئت تؤكد من خلال أفكارها وعقائدها وممارساتها أنها من داخل الأمة بل هي تقدم نفسها على أنها تروم تطهير الدين من الضلالات كما يقول إخوان الصفا، لذلك كان عليه أن يجتهد في إخراج هذه الجماعة من حظيرة الإسلام حتى يكون جهادها مشروعاً، ولا يتسنى له ذلك إلا بالكشف عن أصولها وأتباعها وعقائدها وغايتها القريبة والبعيدة، وحينما يتم ذلك تصبح معاملتهم معاملة الكفّار «أي جهادهم» أمراً مشروعاً ويجري عليهم حينئذ ما يجري على الكفّار من شروط وأحكام وطرائق (1).
2 - مضمون الكتاب: منذ فاتحة الكتاب وإلى نهاية القسم الأول يطالعنا الغزالي بحرصه الشديد على الربط بين مذهب الباطنية والكفر.
أ- فهُم كفّار في نشأتهم: ولكن تشاور جماعة من المجوس والمزدكية وشرذمة
من الثنوية الملحدين وطائفة كبيرة من ملحدة الفلاسفة المتقدمين وضربوا سهام
الرأي في استنباط تدبير يخفّف عنهم ما نابهم من استيلاء أهل الدين وينفّس عنهم
ما دهاهم من أمر المسلمين (2).
ب- وهمْ كفار في صفاتهم: لا يرجون لله وقاراً, ولو خاطبهم دعاة الحق ليلاً ونهاراً لم يزدهم دعاؤهم إلا فراراً, فإذا أطّل عليهم سيف أهل الحق آثروا الحق إيثاراً, وإذا انقشع عنهم ظلّه أصروا واستكبروا استكبارا (3).
جـ- وهم أيضاً كفّار إذ غرضهم الأقصى إبطال الشرائع: ففي مستوى الإلهيات هم يقولون بإلهين قديمين لا أول لوجودهما من حيث الزمان (4)، وهم بذلك يلتقون مع الثنوية والمجوس, وفي مستوى النبوات «رؤيتهم للنبي والنبوة» هم يرون أن النبي عبارة عن شخص فاضت عليه من السابق «الإله الأول» بواسطة التالي (الإله الثاني) قوة قدسية صافية مهيأة لأن تنتقش عند الاتصال بالنفس الكلية بما فيها من الجزئيات (5).
د- أما القرآن في مفهومهم فهو تعبير عن المعارف التي فاضت على الرسول من العقل
_________
(1) الجهاد من الهجرة إلى الدعوة إلى الدولة، ص 148.
(2) فضائح الباطنية، ص 28.
(3) فضائح الباطنية, نقلاً عن الجهاد من الهجرة إلى الدعوة إلى الدولة، ص 148.
(4) فضائح الباطنية، ص 37.
(5) فضائح الباطنية، ص 37.(1/365)
الذي هو المراد باسم جبريل (1).
هـ- أما عن الإمامة, فقد اتفقوا على أن الإمام يساوي النبي في العصمة والاطّلاع على حقائق الحق في كل الأمور, إلا أنه لا ينزل إليه الوحي وإنما يتلقى ذلك من النبي خليفته وبإزاء منزلته (2).
و- وأما القيامة والمعاد فقد أنكروهما وأوّلوهما على أنهما مجرد رمز خروج الإمام وقيام قائم الزمان (3).
ز- وأما موقفهم من التكاليف الشرعية، فينبني على استباحة المحظورات واستحلالها وإنكار الشرائع (4). إن هذه الصفات والمعتقدات تسوي الباطنية بالكفار إلا أن الكفَّار يهددون الإسلام من الخارج, في حين أن الباطنية يهددونه من الداخل، فهم عنصر مخرب من داخل العقيدة ذاتها بما أنهم ينتسبون إلى الإسلام ويستظلون برايته ويدعون أنهم حماته والمعبرون عنه بصدق، لذلك فإن طريقة التعامل معهم يجب أن تكون أشد وأقسى من تلك التي يعامل بها الكفار (5)، كان لكتابات الغزالي أثر قوي في مجال الرد على الباطنية، فقد استطاع بفكره القوي وبما نال من شهرة أن يكون ذا تأثير قوي في مقاومة الباطنية، وأن يناصر المذهب السني، فقد استطاع توظيف العلوم الشرعية، والعلوم العقلية, من الفلسفة والمنطق والكلام, في نسف جذور المذهب الباطني, وقال فيهم كلمته التي سارت مسير الأمثال: ظاهرهم الرفض وباطنهم الكفر المحض، فهم يتسترون بالتشيع وما هم من الشيعة في شيء, وإنما هو قناع يخفون وراءه كيدهم لأهل الإسلام (6)، ومما يذكر للغزالي: استمراره على نقد هذه الطائفة، وكشف اللثام عن تناقض أفكارها، وفضائح أعمالها، وسوء نواياها، برغم ما كان معلوماً في ذلك الوقت أن هذا النقد قد يكلفه حياته، وقد رأى بنفسه مصرع رجل الدولة الكبير، الوزير نظام الملك وفخر الملك ابن نظام الملك أيضاً، فلم يجد بدًا أمام ضغطه من الإذعان, وكان الباطنية يهددون كل من يرونه خطراً عليهم -من رجال الملك
أو رجال العلم - بالانتقام في صورة طعنة في خنجر، أو سم يدس في طعام أو غير ذلك
من الأساليب التي أتقنوها ونفذوها بكل دقة، وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على
شجاعة الغزالي في صدعه بالحق، ومواجهة الباطل، مهما تكن النتيجة ولن يصيبه
_________
(1) فضائح الباطنية، ص 41
(2) المصدر نفسه، ص 42.
(3) المصدر نفسه، ص 42.
(4) المصدر نفسه، ص 44.
(5) الجهاد من الهجرة إلى الدعوة إلى الدولة، ص 149.
(6) الإمام الغزالي بين مادحيه وناقديه للقرضاوي، ص 60.(1/366)
إلا ما كتب الله له (1). وهذا درس وتذكير للعلماء المعاصرين أن يصدقوا الله في مقاومة الباطنيين الجدد، وقد رأيت بعض المحسوبين على العلماء يخشونهم، ويخافون من القتل والاغتيال أو تهمة الوهم بالطائفية أو وقوعهم تحت إبر التخدير الباطنية، أو نتيجة مجاملات لا وزن لها في ميزان الشريعة أو حسابات دنيوية زائلة, ولذلك تركوهم يعبثون بعقائد الأمة ومقدساتها، وأسهم بعض علماء الأمة في تخدير الجمهور العريض من أبناء المسلمين مع علم هؤلاء العلماء بخطر هؤلاء القوم على عقائد الأمة وأخلاقها، أما يخشى هؤلاء الناس من يوم تتقلب فيه القلوب والأبصار ويسأل الله فيه الصادقين عن صدقهم؟!.
3 - البعد السياسي في كتابات الغزالي: يعتبر الغزالي المنظر الكبير للدولة السلجوقية السنية, ولم يكن يعيش بعيداً عن الأحداث وصراعات السلاجقة مع خصومهم الفاطميين الإسماعيليين، فقد كان قبل عزلته وتركه للنظامية «فيلسوف الدولة» الذي عاش في كنفها، بالمعنى الإيديولوجي الكامل لكلمة «فيلسوف». لقد انخرط في سلك حاشية الوزير السلجوقي نظام الملك منذ الثامنة والعشرين من عمره، وباستثناء كتابين في الفقه (التعليق والمنخول)، فإن جميع ما كتبه الغزالي كتبه بعد انخراطه في سلك كبار رجال الدولة السلجوقية، وكما هو معروف فلقد كان الخصم الأساسي والخطير لهذه الدولة الإسماعيلية الباطنية - إسماعيلية «ألموت» - بزعامة الحسن بن الصباح. وقد ركزت الإسماعيلية آنذاك في دعوتها السياسية على القول بضرورة «المعلم» أي الإمام، وكما هو معروف فقد كتب الغزالي في الرد على الباطنية، وقد كتبه كما صرح هو بنفسه بأمر من الخليفة العباسي المستظهر بالله، فأهداه إليه وسمي الكتاب أيضاً «المستظهري» , ومذهب الإسماعيلية مذهب ديني فلسفي سياسي، وإبطال آرائهم السياسية والدينية يتطلب أيضاً إبطال فلسفتهم، ولم تكن فلسفتهم شيئاً آخر غير الفلسفة التي كان يلتقي عندها في المشرق فلاسفة العصر يومئذ (2) أعني الأفلاطونية المحدثة في صيغتها المشرقية الهرمسية.
ومن هنا كان هجوم الغزالي على الفلسفة (3) وعندما نفحص كتاب فضائح الباطنية، نتبين بوضوح كيف أن التهافت قد كتب فعلاً من أجل فضائح الباطنية، إذ هناك أمور تفهم بقراءة الفضائح, في مقدمة تلك الأمور الدافع إلى الهجوم على الفلاسفة والذي هو دافع عقائدي واضح، لأن الفلاسفة يمدون الباطنية بالجانب التنظيري لمذهبهم، فقد كان الفلاسفة نصيراً قوياً ومعيناً لهم من ذلك، مثلاً عقيدتهم في المعاد, فالملاحظ -كما يقول الغزالي- أن مذهبهم في المعاد هو بعينه مذهب
_________
(1) الإمام الغزالي بين مادحيه وناقديه للقرضاوي، ص 62.
(2) أبو حامد الغزالي, دراسات في فكره وعصره وتأثيره، ص 68.
(3) المصدر نفسه، ص 91.(1/367)
الفلاسفة، وإنما شاع فيهم لما انتدب لنصرة مذهبهم جماعة من الثنوية والفلاسفة، فكل واحد نصر مذهبهم طمعاً في أموالهم وخلعهم واستظهارًا بأتباعهم لما كان قد ألفه في مذهبه، فصار أكثر مذهبهم موافقاً للثنوية والفلاسفة في الباطن، وللروافض والشيعة في الظاهر (1)، فقد انتشر مذهب الباطنية عندما انتصر له الفلاسفة، وانتصر له الفلاسفة طمعاً في أموالهم وصلاتهم, والنتيجة وجود المصلحة المتبادلة التي ينتج عنها توافق في القول بين الفلاسفة والباطنية (2) ولذلك كان الهجوم الكبير من الغزالي على الفلاسفة, واستطاع تحويل المعركة التي كانت تدور فيما سبق بين الأشاعرة والمعتزلة إلى معركة بين الأشاعرة والفلاسفة, وكتاب تهافت الفلاسفة ألفه الغزالي في المرحلة التي كان فيها أستاذ المدرسة النظامية دون منازع (3)،
وأما الجانب الآخر فهو أن دعوى «المعلم» و «التعليم» التي ركزت عليها الإسماعيلية يومئذ هناك من يقول إنه لا سبيل إلى إبطالها إلا بطرح بديل؛ والبديل- عند الغزالي- هو المنطق, وبالتالي فإلحاح الغزالي على ضرورة اصطناع المنطق منهجاً وحيداً في تحصيل العلم لم يكن من أجل المنطق ذاته، بل كان ضد نظرية «التعليم» العرفانية الإسماعيلية الباطنية, ومن أجل تقوية المذهب الأشعري الذي كانت الدولة السلجوقية قائمة على أسسه الفكرية والعقائدية, وبالتالي كان هذا البعد يعتبر توجيه ضربة قوية لخصوم السلاجقة كالدولة الفاطمية الإسماعيلية ودعاتها في مرتكزاتها الفكرية. ويبقى الجانب الثالث وهو الدعوة إلى التصوف، والتصوف -كما هو معروف- كان الأساس الإيديولوجي والتنظيمي لكيان الدولة السلجوقية، وإذن فموقف الغزالي من هذه الناحية مفهوم ومبرر، ليس هذا فحسب، بل إن الغزالي من هذه الناحية قد أدرك بوضوح أن الجانب الروحي في العرفان الشيعي عامة لا يمكن تعويضه باصطناع المنطق، فلم يبق إذن إلا تجريد التصوف الباطني من طابعه السياسي الذي طبعته به الشيعة الإمامية والإسماعيلية, ومحاولة توظيفه توظيفاً سنياً، وقد فعل الغزالي ذلك انطلاقًا من التراث السني العظيم .. إذن فالأطراف الثلاثة: الدعوة إلى التصوف، ومهاجمة الفلاسفة, والدعوة إلى اصطناع المنطق ربما تجسم فعلاً تناقضاً واضحاً، ولكن فقط على صعيد الفكر المجرد، أما على صعيد السياسة والإيديولوجيا، فقد كانت -في وقتها- أسلحة ثلاثة متكاملة موجهة نحو خصم واحد (4).
_________
(1) أبو حامد الغزالي, دراسة في فكره وعصره وتأثيره، ص 91.
(2) أبو حامد الغزالي, دراسة في فكره وعصره وتأثيره، ص 91.
(3) موقف ابن تيمية من الأشاعرة (2/ 630).
(4) أبو حامد الغزالي, دراسة في فكره وعصره وتأثيره، ص 68.(1/368)
ثالثاً: موقف الغزالي من الفلاسفة والفلسفة:
يمتاز الغزالي عن كل من سبقه في محاربة الفلسفة، أنهم اتخذوا موقف الدفاع عن الإسلام وعقائده، والاعتذار عن الدين الإسلامي, فكانت الفلسفة تهاجم الإسلام، وهؤلاء يدافعون عن الإسلام وينفون التهم الموجهة إليه، ويحاولون أن يبرروا موقفه، ويلتمسوا العذر لعقائده ونظرياته، فكأنَّ علم الكلام كان جُنَّة تتلقَّى هجمات الفلسفة وتُحصّن العقيدة الإسلامية، ولم يجترئ أحد من المتكلمين أن يُهاجم الفلسفة ويغزوها في عقر دارها، لعدم تعمقهم في الفلسفة وتضلعهم من أصولها وفروعها، ولعدم تسلحهم بالأسلحة التي يُواجهون بها الفلسفة ويوسعونها جرحاً ونقداً؛ فكان موقفهم موقف الدفاع عن قضية، وموقف الدفاع دائماً ضعيف، أما الغزالي، فقد هاجم الفلسفة وتناولها بالفحص والنقد، وهجم عليها هجوماً عنيفاً مبنياً على الدراسة والبحث العلمي، حجة مثل حجة الفلسفة، وعقل مثل عقل الفلاسفة الكبار، ومدوَّني الفلسفة، وألجأ الفلسفة إلى أن تقف موقف المتهم، وألجأ مُمثليها إلى أن يقفوا موقف المدافعين، فكان تطوراً عظيماً في موقف الدين والفلسفة، وكان انتصاراً عظيماً للعقيدة الإسلامية عادت به الثقة إلى نفوس أتباعها والمؤمنين بها وزالت عنهم مهابة الفلسفة وسيطرتها العلمية (1).
1 - دراسته للفلسفة: لم يتهور الغزالي في الهجوم على الفلسفة, وإنما درس الفلسفة أولاً كما حكى هو بنفسه في «المنقذ من الضلال» وكان يؤمن بأنه: لا يقف على فساد نوع من العلوم من لا يقف على منتهى ذلك العلم، حتى يساوي أعلمهم في أصل ذلك العلم، ثم يزيد عليه ويجاوز درجته. فجد واجتهد في دراستها ومعرفة حقيقتها وأغوارها، حتى اطَّلع على منتهى علومهم، ثم لم يستعجل كذلك ولم يبدأ بالهجوم, بل رأى أن المباحث الفلسفية لا تزال غامضة معقَّدة ليست في متناول الأوساط من الناس، وأن الكُتب الفلسفية قد ألفت في لغة رمزية وفي أسلوب غير واضح وكأنّ مؤلفيها قد تعمدوا ذلك ليقيموا سياجاً حول الفلسفة يحوطها من تناول العامة، أولم يكونوا يُحسنون التأليف، فرأى أن يؤلف كتاباً يذكر فيه المباحث الفلسفية ونظريات الفلسفة ومسائلها في لغة سهلة واضحة، وفي أسلوب مشرق، وقد رُزق الغزالي قدرة عجيبة في تبسيط المسائل العلمية وإيضاحها, فكسر ذلك السياج، ورفع الاحتكار العلمي، وألف كتاب «مقاصد الفلاسفة» (2) وذكر فيه المصطلحات الفلسفية، وبحوث الفلسفة, وعرضها أحسن عرض، الأمر الذي لم يحسنه رجال الفلسفة، وذلك دون أن ينتقدها أو يعلق عليها, وقد برهن الدكتور سليمان دنيا في مقدمته الثانية
_________
(1) رجال الفكر والدعوة (1/ 969).
(2) رجال الفكر والدعوة (1/ 969).(1/369)
لكتاب «تهافت الفلاسفة» على أن عرض الغزالي لمسائل الفلسفة كان أحسن من عرض الفلاسفة أنفسهم لهذه المسائل، عندما قارن في بعض المسائل بين أسلوب الغزالي، وأسلوب ابن سينا، وخلص إلى القول بأن منهج الغزالي أوضح وأدق (1). وبطرح كتاب «مقاصد الفلاسفة» استطاع الغزالي أن يحقق أموراً مهمة ساعدته على كسب المعركة القادمة منها أنه:
- أزال الهالة الكبيرة عن الفلسفة وجعلها في المتناول.
- اعترف له الجميع - بمن فيهم الفلاسفة - بالأستاذية في هذا الفن كما هو شأنه؛ الأمر الذي مهد له السبيل إلى أن يقول كلمته فيما بعد ... فيجد من يستمع إليها، وقد ظن الفلاسفة يومئذ أنهم كسبوا إلى صفهم علماً جديداً من أساطين الفلسفة.
- حدد الغزالي ما ينبغي الوقوف عنده من الفلسفة حين أرجعها إلى ستة أصول، وأن أكثر هذه الأصول لا تتعارض مع الدين, فألقى الأضواء بذلك على مكان
المعركة المرتقب.
وقد بين الإمام الغزالي في كتابه (المنقذ من الضلال) أن الفلسفة انتصرت
ووقفت على رجليها بآفتين?إحداهما?نابعة من جهل المندفعين في الدفاع عن الإسلام بإنكار الفلسفة كلياً (2). وقال في بيان هاتين الآفتين: الأولى أن من ينظر فيها «أي في الرياضيات التي هي من الفلسفة يومئذ» يتعجب من دقائقها، ومن ظهور براهينها، فيحسن بسبب ذلك اعتقاده في الفلاسفة، فيحسب أن جميع علومهم - في الوضوح، وفي وثاقة البرهان- كهذا العلم، ثم يكون قد سمع من كفرهم، وتعطيلهم، وتهاونهم بالشرع، ما تداولته الألسنة، فيكفر بالتقليد المحض، ويقول: لو كان الدين حقاً لما اختفى على هؤلاء مع تدقيقهم في هذا العلم .. فهذه آفة عظيمة. والآفة الثانية: نشأت من صديق للإسلام جاهل، ظن أن الدين ينبغي أن ينتصر بإنكار كل علم منسوب إليهم, فأنكر جميع علومهم وادعى جهلهم فيها، حتى أنكر قولهم في الكسوف والخسوف وزعم أن ما قالوه على خلاف الشرع، فلما قرع ذلك سمع من عرف ذلك بالبرهان القاطع، لم يشك في برهانه، لكن اعتقد أن الإسلام مبني على الجهل، وإنكار البرهان القاطع, فازداد للفلسفة حباً، وللإسلام بغضاً, ولقد عظمت على الدين جناية من ظن أن الإسلام ينصر بإنكار هذه العلوم، وليس في الشرع تعرض لهذه العلوم بالنفي والإثبات، ولا في هذه العلوم تعرض للأمور الدينية (3).
2 - ضربة قاصمة: وبعد أن أخذ الغزالي مكانته في المجتمع كفيلسوف يشهد له الجميع ..
_________
(1) تهافت الفلاسفة، تحقيق سليمان دنيا، ص 23، 29.
(2) الإمام الغزالي للشامي، ص 81.
(3) المنقذ من الضلال، ص 114، 115.(1/370)
ألف كتابه «تهافت الفلاسفة» الذي قيل عنه: إنه طعن الفلسفة طعنة لم تقم لها بعد في الشرق قائمة (1) , يقول الدكتور سليمان دنيا: واختار له اسم (تهافت الفلاسفة) وعنى بهذا الاسم - فوق دلالته على الكتاب - التشهير بالفلاسفة، والإعلان عنهم بأنهم متهافتون، فحسب من يقرأ عنوان الكتاب فقط، أو حتى يسمع به، أن يعرف أنه محاولة لإثبات تهافت الفلاسفة، وعنى بالتهافت ما أوضحه في المقدمة الأولى من الكتاب نفسه بقوله: .. فلنقتصر على إظهار التناقض في رأي مقدمهم الذي هو الفيلسوف المطلق والمعلم الأول. فالتهافت الذي اختاره مضافاً إلى الفلاسفة، معناه التناقض، أي تناقض الفلاسفة، يعني تناقض أفكارهم وتعارضها وتساقطها، وليس كالتناقض اسم يؤدي ما يؤديه من دلالة على هوان الفكر الموصوف به، وسخفه وحقارته، فكان الغزالي أقسى ما يكون على الفلاسفة بهذه التسمية (2). يقول الشيخ الأستاذ أبو الحسن الندوي في وصف الكتاب: ويتسم هذا الكتاب بقوة التعبير، وسلامة العبارة، وسهولة الأسلوب، بخلاف عامة الكتب التي أُلفت في الموضوع، ويدل على أن مؤلفه ممتلئ بالإيمان والثقة بدينه، والاعتداد بشخصيته وتفكيره. ينظر إلى الفلاسفة القدماء كأقران وزملاء، ورجال من مستواه العقلي والفكري، يناقشهم ويباحثهم بحرية، ويقرع الحجة بالحجة، وكان المسلمون في حاجة شديدة إلى هذا الطراز من المؤلفين، والباحثين، الذي يواجه الفلسفة بإيمان وثقة، وعقل حر، وشجاعة علمية، يكفر بعصمة الفلاسفة وقدسيتهم وعبقريتهم وكونهم فوق مستوى البشر في العقل والتفكير. وبهذه الصفة يتجلى الغزالي في كتابه (تهافت الفلاسفة) فجاء في أوانه وقضى حاجة زمانه (3).
ويشرع الغزالي - بعد أربع مقدمات ذكر فيها منهاجه - في البحث، وشرح حال الفلاسفة، وفرق علومهم التي تصادم الشريعة، والتي لا تصادمها، وناقش الفلاسفة في شرائعهم ومقدماتهم للبحوث الإلهية، وبعد هذا كله يشرع الغزالي في بيان مسائل الفلاسفة ومناقشتهم في ذلك في ضوء البحث العلمي والحجة العقلية، وهي ست عشرة مسألة في الإلهيات وما بعد الطبيعيات، وأربع في الطبيعيات، ويبين فيها ضعف استدلالهم وتناقضهم واختلافهم وتهافت عقيدتهم (4). وقد ساعد الغزالي على نجاحه في تسديد هذه الضربة القاصمة أمور منها:
التمهيد لها كما رأينا.
- تحديد ميدان المعركة وهو الجانب الإلهي من الفلسفة، واستبعاد الجوانب الأخرى
_________
(1) تهافت الفلاسفة، تحقيق د. سليمان دنيا، ص 15.
(2) تهافت الفلاسفة، تحقيق د. سليمان دنيا، ص 15.
(3) رجال الفكر والدعوة (1/ 201، 202).
(4) المصدر نفسه (1/ 201).(1/371)
من رياضيات ومنطق.
- مكانة الإمام الغزالي وعلمه بدقائق الفلسفة، كما يعلمها كبار الفلاسفة.
- استعماله كل الأسلحة التي توافرت لديه، فهو يقول في حديثه عن ذلك: ليعلم أن المقصود تنبيه من حسن اعتقاده في الفلاسفة وظن أن مسالكهم نقية عن التناقض، ببيان وجوه تهافتهم، فلذلك أنا لا أدخل في الاعتراض عليهم ما اعتقدوه مقطوعاً بإلزامات مختلفة، فألزمهم تارة مذهب المعتزلة، وأخرى مذهب الكرامية، وطوراً مذهب الفرق إلباً واحداً عليهم، فإن سائر الفرق ربما خالفونا في التفصيل، وهؤلاء يتعرضون لأصول الدين فلنتظاهر عليهم، فعند الشدائد تذهب الأحقاد (1).
وقد كان الغزالي واثقاً من انتصاره بعد أن أحكم الوسائل وخطط للمعركة التخطيط السديد، ولذلك نجده - وقد نزل إلى ساحة المعركة- غير مبال بخصمه، ساخرا منه، مستهزئاً بعقله الذي يتبجَّح به. ولننظر إلى بعض النصوص التي أوردها في كتابه «تهافت الفلاسفة» وهو يستعمل سلاح السخرية (2) قلنا: ما ذكرتموه تحكمات، وهي على التحقيق ظلمات فوق ظلمات، لو حكاها الإنسان عن منام رآه لاستدل به على سوء مزاجه (3). وقال ذلك في مقام الحديث عن نشأة الكائن الأول الواحد عن الإله ونشأة ثلاثة كائنات عن هذا الكائن الأول الواحد. وقال: فلست أدري كيف يقنع المجنون من نفسه بمثل هذه الأوضاع، فضلاً عن العقلاء الذين يشقون الشعر - بزعمهم- في المعقولات (4). ومما دفعه إلى هذا الأسلوب موقفهم المشابه من الإسلام والمسلمين وإلا فالغزالي يحترم العلم ويقدر أهله ولكن هؤلاء جاهروا بالكفر وترفعوا على الناس وظنوا بأنفسهم الفطنة - كما يقول في المقدمة - فاستحقوا هذا الأسلوب. وفي مقدمة الكتاب هجوم عنيف، فيصبح عاجزاً عن تدارك أمره، وكان هذا الهجوم في نص أدبي رائع في معناه ومبناه (5).
وعلق الإمام الغزالي على بحثهم واجب الوجود، وأنَّه يعقل نفسه ولا يعقل غيره بكلمته اللاذعة القوية: فقد انتهى بهم التعمق في الفطنة، إلى أن أبطلوا كل ما يُفهم من العظمة، وقربوا حاله تعالى في حال الميت الذي لا خبر له بما يجري في العالم، إلا أنه فارق الميت في شعوره بنفسه فقط، وهكذا يفعل الله سبحانه بالزَّائغين عن سبيله، والنَّاكبين عن طريق الهدى، المنكرين لقوله تعالى {مَا أَشْهَدتُّهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلاَ خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ} [الكهف: 51]، {الظَّانِّينَ بِاللهِ ظَنَّ السَّوْءِ} [الفتح: 6] المعتقدين أن أمور الربوبية، تستولي
_________
(1) تهافت الفلاسفة، ص 82.
(2) الإمام الغزالي، للشامي، ص 85.
(3) تهافت الفلاسفة، تحقيق سليمان دنيا ص 146.
(4) المصدر نفسه، ص 153.
(5) الإمام الغزالي، ص 86.(1/372)
على كُنْهها القوى البشرية، المغرورين بعقلهم زاعمين أن فيها مندوحة عن تقليد الرسول - صلوات الله عليهم وسلامه - وأتباعهم - رضوان الله عليهم - فلا جرم اضطروا إلى الاعتراف بأن لُباب معقولاتهم رجع إلى ما لو حكي في منام لتعجَّب منه (1). وهكذا يستمر الغزالي في نقد الفلاسفة وتشريحهم إلى آخر الكتاب، حتى يأتي على جميع المسائل التي تكفَّل الرَّد عليها، وهي عشرون مسألة، أكثرها في الإلهيات، وكفَّرهم في ثلاث مسائل، إحداها: مسألة قدم العالم، وقولهم أن الجواهر كلها قديمة، والثانية: قولهم إن الله تعالى لا يُحيط علماً بالجزئيات الحادثة في الأشخاص. والثالثة: إنكارهم بعث الأجساد وحشوها. قال: فهذه المسائل الثلاثة، لا تلائم الإسلام بوجه، ومعتقدها معتقد كَذبِ الأنبياء - صلوات الله عليهم وسلامه - وأنَّهم ذكروا ما ذكروه على سبيل المصلحة، تمثيلاً لجماهير الخلق وتفهيماً، وهذا هو الكفر الصراح الذي لم يعتقده أحد من فرق المسلمين (2).
3 - تأثير كتاب تهافت الفلاسفة: ليست أهمية الكتاب في تكفير الفلاسفة، بل إن غاية الكتاب هو إسقاط قيمة الفلسفة العلمية، والحطُّ من مكانتها، وإثبات أنها مجموع أفكار وتَخيلات، وقياسات وتخمينات، وبذلك خدم الغزالي الدين خدمة باهرة، وخلَّف الفلسفة التي كانت وَتحُلُّ من نفوسهم محلَّ القدسية والإجلال، خلفَّها الغزالي بضرباته الموجعة وهجماته العنيفة إلى الوراء، أو وقفها على الأقل وشغلها بنفسها والدفاع عن نفسها, ولم تستطع الأوساط الفلسفية أن تُقدم كتاباً قوياً جديراً بالذكر يرد على «تهافت الفلاسفة» (3) , يقول علماء الإفرنج: إن الغزالي طعن الفلسفة في الشرق العربي طعنة قاضية، وكاد يكون نصيبها في الغرب كذلك، لو لم تَلق في ابن رشد حامياً لها أحياها قرناً من الزمان (4).
4 - خلاصة عمل الغزالي في ميدان الفلسفة: نستطيع تلخيص عمل الغزالي في ميدان الفلسفة بما يلي:
* حاربها دفاعاً عن الإسلام وخدمة لدينه، وقد كانت الفلسفة حرباً على الدين.
* لم يحارب الفلسفة كلها، إنما حدد معركته مع الفلسفة الإلهية الإغريقية.
* أبعد عن الفلسفة العلوم الأخرى التي كانت منضوية تحت لوائها، فجعلها وحيدة بعيدة عن جنودها الذين كانت تستخدمهم كسياج في الدفاع عنها، وقد أصبحت هذه العلوم
_________
(1) المنقذ من الضلال، ص 118.
(2) المصدر نفسه، ص 313 - 315.
(3) رجال الفكر والدعوة (1/ 204).
(4) المصدر نفسه (1/ 204).(1/373)
فيما بعد مستقلة قائمة بذاتها مثل: الرياضيات، والطبيعة -الفيزياء- والمنطق، وعلم الأخلاق، والسياسة.
* رفع الحصانة عنها، وأزال تلك الهالة التي كانت تضفي عليها التقديس والاحترام وأثبت أنها مجموعة أفكار، وتخيلات وقياسات وتخمينات. وهكذا لم ير الغزالي فيها بعد تعريتها ما يصلح أن يكون «علماً» , ولذلك عندما تحدث في كتابه «الإحياء» عن العلوم لم يعد الفلسفة علماً, وأوضح ذلك بقوله: «وأما الفلسفة فليست علماً برأسها بل هي أربعة أجزاء:
أحدها: الهندسة والحساب.
الثاني: المنطق: وهو بحث عن وجه الدليل وشروطه.
الثالث: الإلهيات .. وكما أن الاعتزال ليس علماً برأسه بل أصحابه طائفة من المتكلمين .. فكذلك الفلاسفة.
الرابع: الطبيعيات: وبعضها مخالف للشرع. وبعضها بحث عن صفات الأجسام (1). ويعطينا خلاصة رأيه في كتابه المنقذ من الضلال فيقول: ثم إني لما فرغت من علم الفلسفة، وتحصيله، وتفهيمه وتزييف ما يزيف منه، علمت أن ذلك أيضاً غير واف بكمال الغرض، وأن العقل ليس مستقلاً بالإحاطة بجميع المطالب، ولا كاشفاً للغطاء عن جميع المعضلات (2).
5 - موقف الغزالي بين العقل والنقل: يؤكد الغزالي هنا مبدأ مهماً - عمقه ووسعه ابن تيمية فيما بعد في كتابه الكبير درء تعارض العقل والنقل - على اختلاف بينهما في تطبيقه - وهو أن العقل والشرع لا يتعارضان تعارضاً حقيقياً من الناحية النظرية لأن كليهما نور من عند الله، فلا ينقض أحدهما الآخر، ولا من الناحية العملية، فلم يثبت أن اصطدمت حقيقة دينية بحقيقة عقلية، بل يرى الغزالي أن أحدهما يؤيد الآخر ويصدقه (3)، بل نراه في (المستصفى) وهو من أواخر ما صنف، يعتبر العقل قاضياً، والشرع شاهداً، حيث يقول بعد الديباجة: أما بعد فقد تناطق قاضي العقل، وهو الحاكم الذي لا يعزل ولا يبدل، وشاهد الشرع، وهو الشاهد المزكى المعدل بأن الدنيا دار غرور لا دار سرور .. ومحل تجارة، لا مسكن عمارة، ومتجر بضاعتها الطاعة، والطاعة طاعتان؛ عمل وعلم، والعلم أنجحها وأربحها فإنه أيضاً من العمل، ولكنه عمل القلب الذي هو أعز الأعضاء، وسعي العقل
_________
(1) الإمام الغزالي للشامي، ص 87, إحياء علوم الدين (1/ 22).
(2) المنقذ من الضلال، ص 130.
(3) الغزالي بين مادحيه وناقديه، ص 43، 44.(1/374)
الذي هو أشرف الأشياء لأنه مركب الديانة، وحامل الأمانة، إذ عرضت على الأرض والجبال والسماء، فأشفقن من حملها وأبين أن يحملنها غاية الإباء (1). وها هو في الإحياء نراه يدعو إلى المزج بين العلوم العقلية والعلوم الدينية ويبين الحاجة إلى كل منهما، ويقرر أنه لا غنى بالعقل عن السمع، ولا غنى بالسمع عن العقل. فالداعي إلى محض التقليد مع عزل العقل بالكلية جاهل, والمكتفي بمجرد العقل عن أنوار القرآن والسنة مغرور، فإياك أن تكون من أحد الفريقين، وكن جامعاً بين الأصلين، فإن العلوم العقلية كالأغذية والعلوم الشرعية كالأدوية، والشخص المريض يستضر بالغذاء متى فاته الدواء، فكذلك أمراض القلوب، لا يمكن علاجها إلا بالأدوية المستفادة من الشريعة (2).
ثم يحمل الغزالي بقوة على من يظن أن هناك تناقضاً بين العقليات والشرعيات فيقول: وظن من يظن أن العلوم العقلية متناقضة للعلوم الشرعية وأن الجمع بينهما غير ممكن، هو ظن صادر عن عمى في عين البصيرة نعوذ بالله منه، بل هذا القائل ربما يناقض عنده بعض العلوم الشرعية لبعض فيعز عن الجمع بينهما، فيظن أنه تناقض في الدين، فيتحير به، فينسل من الدين، انسلال الشعرة من العجين، وإنما ذلك لأن عجزه في نفسه خيل إليه نقصاً في الدين وهيهات (3).
6 - انتصار الفكر السني في العهد السلجوقي: إن المعارك الفكرية ليست بأقل خطراً في حياة الأمة من المعارك العسكرية، ذلك أن الغزو الفكري أسوأ وأشد خطراً على الأمة من الغزو العسكري. ولقد انتصر الغزالي في معركته مع الفلسفة دفاعاً عن الإسلام، فاستطاع في أقل التقديرات أن يرد الفلسفة، فيجعلها في موقع الدفاع بعد أن كانت في موقع الهجوم, واستحق بجدارة أن يلقب بحجة الإسلام، وانفرد بهذا اللقب الذي بيَّن مكانة الرجل في تاريخ الفكر (4). إن الأمة اليوم في أشد الحاجة لحجة إسلام جديد يفضح المناهج الغربية والدساتير الوضعية، والشعارات البرّاقة في مجال الحريات، والعدل، وحقوق الإنسان والمرأة، ونظام الحكم، ومحاسبة الحكام، وغير ذلك من الشعارات والمبادئ الزائفة، فيقدم البدائل الصحيحة من خلال كتاب الله وسنة رسوله وعقيدة الأمة وتراثها، فينتصر للإسلام في المعركة الفكرية الخطيرة التي تدار رحاها بين الثقافات والحضارات، فيبين عوار مناهج الخصوم، ويستفيد من الحق الذي معه ويطرح المشروع الفكري الإسلامي في أبهى حلة، مع جمال الألفاظ في العرض، وعمق المعاني في الأسلوب مؤيداً لأفكاره بالحجج الدامغة والبراهين الساطعة والأدلة الواضحة.
_________
(1) المستصفى (1/ 3).
(2) الإحياء (3/ 17).
(3) الإحياء (3/ 179) , الإمام الغزالي بين مادحيه وناقديه، ص 46.
(4) الإمام الغزالي للشامي، ص 88.(1/375)
رابعاً: الغزالي وعلم الكلام:
ما من شك أن الغزالي ألف كتباً في علم الكلام, ونترك الغزالي يحدثنا عما استقر رأيه في هذا العلم فقد قال: إني ابتدأت بعلم الكلام، فحصلته، وعقلته، وطالعت كتب المحققين منهم، وصنفت فيه ما أردت أن أصنف، فصادفته علماً وفياً بمقصوده، غير وافٍ بمقصودي. وإنما مقصوده، حفظ عقيدة أهل السنة، وحراستها من تشويش أهل البدعة، فقد ألقى الله تعالى إلى عباده على لسان رسوله عقيدة هي الحق، على ما فيه صلاح دينهم ودنياهم، كما نطق بمعرفته القرآن والأخبار، ثم ألقى الشيطان في وساوس المبتدعة أموراً مخالفة للسنة، فلهجُوا بها، وكادوا يشوشون عقيدة الحق على أهلها، فأنشأ الله طائفة المتكلمين، وحرك دواعيهم لنصر السنة بكلام مرتب، يكشف عن تلبيسات أهل البدعة المحدثة، فمنه نشأ علم الكلام وأهله (1). هكذا نشأ علم الكلام وصَرّح الغزالي أنه لم يف بحاجته عند الفحص، ووجده قاصراً عن أداء المهمة الموكلة إليها، خاصة أن أصحابه قد أكثروا الخوض فيه، وخاضوا في البحث عن الجوهر والأعراض وأحكامها .. ولم يحصل من علمهم ما يمحو ظلمات الحيرة (2). ولهذا لما تحدث الغزالي في كتابه (الإحياء) عن العلوم قال: اعلم أن حاصل ما يشتمل عليه علم الكلام من الأدلة التي ينتفع بها، فالقرآن والأخبار مشتملة عليه، وما خرج عنهما فهو إما مجادلة مذمومة وهي من البدع .. وإما مشاغبة بالتعلق بمناقضات الفرق لها، وتطويل بنقل لمقالات أكثرها ترهات وهذيانات، تزدريها الطباع وتمجها الأسماع، وبعضها خوض فيما لا يتعلق بالدين (3). ثم بين أن ذلك لم يكن في الصحابة فقال: .. فلقد قبض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن آلاف من الصحابة -رضي الله عنهم- كلهم علماء بالله أثنى عليهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولم يكن فيهم أحد يحسن صنعة الكلام (4).
وقد بين الغزالي أن بعض الفرق ضلت بسلوكها طريق علم الكلام، ولفت النظر إلى أن القرن الأول لم يسلكوا هذا المسلك فقال: ولكنه عميت بصيرته، فلم يلتفت إلى القرن الأول، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - شهد لهم بأنهم خير الخلق، وأنهم قد أدركوا كثيراً من أهل البدع والهوى، فما جعلوا أعمارهم ودينهم عرضاً للخصومات والمجادلات .. وإذا رأوا مصراً على ضلالته هجروه وأعرضوا عنه وأبغضوه في الله ولم يلزموا الملاحاة معه طول العمر، بل قالوا: إن الحق هو الدعوة إلى السنة، ومن السنة ترك الجدل في الدعوة إلى السنة، إذ روى أبو أمامة الباهلي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «ما ضل قوم قط بعد هدى كانوا عليه أوتوا الجدل» (5).
_________
(1) المنقذ من الضلال، ص 96 وما بعدها.
(2) المصدر نفسه، ص 101.
(3) إحياء علوم الدين (1/ 22).
(4) المصدر نفسه (1/ 23).
(5) سنن الترمذي، قال الترمذي: حسن صحيح.(1/376)
ثم إنهم رأوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقد بعث إلى كل أهل الملل، فلم يقعد معهم في مجلس مجادلة لإلزام وإفحام وتحقيق حجة، ودفع سؤال وإيراد إلزام، فما جادلهم إلا بتلاوة القرآن المنزل عليهم، ولم يزد في المجادلة عليه، لأن ذلك يشوش القلوب (1).
وبين الغزالي الغلط في إطلاق لفظ «التوحيد» على علم الكلام فقال: لفظ التوحيد: وقد جعل الآن عبارة عن صناعة الكلام، ومعرفة طريق المجادلة، والإحاطة الآن عبارة عن صناعة الكلام، ومعرفة طريق المجادلة، والإحاطة بطرق مناقضات الخصوم والقدرة على التشدق فيها. حتى لقب طوائف منهم أنفسهم بأهل العدل والتوحيد، وسمي المتكلمون: العلماء بالتوحيد، مع جميع ما هو خاصة هذه الصناعة، لم يكن يعرف منها شيء في العصر الأول، بل كان يشتد منهم النكير على من كان يفتح باباً من الجدل والمماراة، فأما ما يشتمل عليه القرآن من الأدلة الظاهرة التي تسبق الأذهان إلى قبولها في أول السماع، فلقد كان ذلك معلوماً للكل، وكان العلم بالقرآن هو العلم كله، وكان التوحيد عندهم عبارة عن أمر آخر، لا يفهمه أكثر المتكلمين، وإن فهموه لم يتصفوا به، وهو أن يرى الأمور كلها من الله عز وجل (2). وأنكر الغزالي على عوام الناس ان يشتغلوا بعلم الكلام. وقال: إن دين عوام الناس ينبغي أن يكون صافياً نقياً بعيداً عن تعقيدات الجدليين المتكلمين؛ ولهذا ينبغي إلجام العوام عن علم الكلام (3). ثم بين الإمام الغزالي أن إيمان العوام الحاصل لهم بتواتر السماع إنما يقوى بكثرة العبادة والذكر فيقول: والإيمان الراسخ على الحقيقة هو إيمان العوام الحاصل على قلوبهم من الصبا بتواتر السماع، وتمام تأكيده بلزوم العبادة والذكر، فإن من تمادت به العبادة إلى حقيقة التقوى وتطهير القلب من كدرات الدنيا وملازمة ذكر الله دائماً تجلت أنوار المعرفة وصارت الأمور - التي كان قد أخذها تقليداً - عنده كالمعاينة والمشاهدة .. والكلام المستفاد من الدليل الكلامي ضعيف جداً مشرف على الزوال بكل شبهة (4).
وقال: لست أنكر أنه يجوز أن يكون ذكر أدلة المتكلمين أحد أسباب الإيمان في حق بعض الناس، لكن ليس ذلك بمقصور عليه وهو أيضاً نادر، بل الأنفع الكلام الجاري في معرض الوعظ كما يشتمل عليه القرآن. فأما الكلام المحَّرر على رسم المتكلمين، فإنه يُشعر نفوس المستمعين بأن فيه صنعة وجدلاً، ليعجز عنه العاميّ، لا لكونه حقاً في نفسه؛ وربما يكون ذلك سبباً لرسوخ العناد في قلبه، ولذلك لا ترى مجلس مناظرة للمتكلمين ولا للفقهاء ينكشف عن واحد انتقل من الاعتزال أو بدعة إلى غيره، ولا عن مذهب الشافعي إلى مذهب أبي حنيفة،
_________
(1) إحياء علوم الدين (3/ 394 - 395).
(2) المصدر نفسه (1/ 33).
(3) إلجام العوام عن علم الكلام، ص 38.
(4) فيصل التفرقة للإمام الغزالي، ص 204.(1/377)
ولا على العكس، وتجري هذه الانتقالات بأسباب أخرى حتى في القتال بالسيف، ولذلك لم تجر عادة السلف بالدعوة لهذه المجادلات، بل شددوا القول على من يخوض في الكلام ويشتغل بالبحث والسؤال (1). وازداد الغزالي - مع الأيام، وبعد التجارب العلمية - اقتناعاً بأن أسلوب القرآن في الإقناع أبلغ وأنفع وأعم وأشمل للطبقات والمستويات الفكرية المختلفة، وبأن علم الكلام علاج مؤقت ومختص بمن نشأ عنده شكوك وشبهات ولا حاجة للطبائع السليمة والعقول المستقيمة له. أما القرآن فكان الغذاء الصالح، والماء السائغ، يحتاج إليهما كل إنسان وينتفع، ولا ضرر فيه ولا خطر. يقول في كتابه «إلجام العوام عن علم الكلام» الذي هو من آخر مؤلفاته (2): فأدلة القرآن مثلُ الغذاء، ينتفع به كل إنسان، وأدلة المتكلمين مثل الدواء، ينتفع به آحاد الناس، ويستضُّر به الأكثرون؛ بل أدلة القرآن كالماء الذي ينتفع به الصبي الرضيع، والرَّجل القوي، وسائر الأدلة كالأطعمة التي ينتفع بها الأقوياء مّرة، ويمرضون بها أخرى، ولا ينتفع بها الصبيان أصلاً (3).
ويذكر تجربته ومشاهدته كشاهد على ذلك: والدليل على تضرر الخلق به، المشاهد والعيان والتجربة، وما ثار من الشر منذ نبغ المتكلمون وفشت صناعة الكلام، مع سلامة العنصر الأول من الصحابة عن مثل ذلك (4).
وهكذا تتجلى شخصية الغزالي في نقد الفلسفة وعلم الكلام شخصية فريدة مستقلة التفكير، قوية التأثير تمتاز بسلامة الفكر، واتّزان العقل، وحصافة الرأي، وعمق النظر، والثقة بالنفس، له منهج خاص في نقد الفلسفة، وعلم الكلام، وإثبات العقيدة الإسلامية، وهو ممن توفرت عنده أدوات الاجتهاد في هذا الموضوع، فكان من أئمة هذا الفن المجتهدين، ومن كبار المؤلفين المنتجين (5).
خامساً: الغزالي والتصوف:
كان التصوف أحد العلوم الشرعية الحادثة في الملة، وأصله العكوف على العبادة والانقطاع إلى الله تعالى، والإعراض عن زخارف الدنيا وزينتها، والانفراد عن الخلق وهذه الصفات كانت عامة في الصحابة والسلف، ولما فشا الإقبال على الدنيا في القرن الثاني وما بعده اختص المقبلون على العبادة باسم الصوفية والمتصوفة (6). ويغلب على الظن أن هذا
_________
(1) فيصل التفرقة، ص 69 - 70.
(2) رجال الفكر والدعوة (1/ 211).
(3) إلجام العوام عن علم الكلام، ص 20.
(4) المصدر نفسه، ص 20.
(5) رجال الفكر والدعوة (1/ 211).
(6) الإمام الغزالي للشامي، ص 99 نقلاً عن مقدمة ابن خلدون.(1/378)
المصطلح كان إفرازاً أنتجه الواقع عندما بدأت تخصصات العلوم تأخذ أبعادها، فقد كانت كلمة «الفقه» تشمل كل ما انضوى تحت كلمة التصوف، فلما اقتصر مفهوم كلمة الفقه على فقه العبادات وفقه المعاملات في جانبها الظاهر، واستبعدت منه بحوث الأخلاق والسلوك، كان لا بد لهذه الجوانب المستبعدة من الاستقلال والانضواء تحت عنوان يمثلها, فكان التصوف ومن السهل تعداد ما يشتمل عليه هذا العنوان: فالأخلاق الكريمة هي الأساس والزهد الذي يعني الترفع عن الدنيا ولا يعني ذلك أن الفقر هو الطريق، وكثرة العبادة هي وسيلة القرب إلى الله تعالى, وبتطبيق العلم مع الإخلاص تكون النجاة (1)، يقول الغزالي في رسالته «أيها الولد»: ينبغي لك أن يكون قولك وفعلك موافقاً للشرع، إذ العلم والعمل بلا اقتداء الشرع ضلالة، وينبغي لك ألا تغتر بشطح الصوفية وطاماتهم، لأن سلوك هذا الطريق يكون بالمجاهدة وقطع شهوة النفس، لا بالطامات والترهات (2). تلك هي العناصر التي انضوت تحت هذا العنوان .. ثم تبعتها فضوليات ليست في الإسلام في شيء وهي التي أشار إليها الغزالي بالطامات والترهات, وظهرت مصطلحات أخرى مثل «أهل الإرادة» و «أرباب السلوك» التي استعملها ابن القيم رحمه الله.
ولكنها لم تنتشر انتشار المصطلح الأول، ومن غير الصواب أن ينظر إلى الفضوليات التي أدخلت على التصوف على أنها الأصل، وتنسى العناصر الأصيلة، فيحارب التصوف كله بما فيه من حق وباطل وهو المسلك الذي سلكه ابن تيمية (3) رحمه الله حيث قال في شأن الصوفية عندما علق على كلام أبي القاسم القشيري: والثابت الصحيح عن أكابر المشايخ (الصوفية) يوافق ما كان عليه السلف. وهذا هو الذي كان يجب أن يذكر، فإن في الصحيح الصريح المحفوظ عن أكابر المشايخ مثل الفضيل بن عياض، وأبي سليمان الداراني، ويوسف بن أسباط، وحذيفة المرعشي، ومعروف الكرخي إلى الجنيد بن محمد، وسهل بن عبد الله التستري، وأمثال هؤلاء ما بين حقيقة مقالات المشايخ, وقد جمع المشايخ إما بلفظه أو بما فهمه هو - أي القشيري - غير واحد، فصنف أبو بكر محمد بن إسحاق الكلاباذي كتاب «التعرف لمذاهب التصوف» وهو أجود مما ذكره أبو القاسم وأصوب، وأقرب إلى مذهب سلف الأمة وأئمتها وأكابر مشايخها، وكذلك معمر بن زياد الأصفهاني شيخ الصوفية، وأبو عبد الرحمن السلمي جامع كلام الصوفية، هما في ذلك أعلى درجة وأبعد عن البدعة والهوى من أبي القاسم، وكذلك عامة المشايخ الذين سماهم أبو القاسم في «رسالته» لا يعرف عن شيخ منهم أنه كان ينصر طريقة
_________
(1) الإمام الغزالي، ص 100.
(2) أيها الولد للغزالي نقلاً عن الإمام الغزالي للشامي، ص 100.
(3) الإمام الغزالي، ص 101.(1/379)
الكلابية (1)،
وبعد أن أثنى ابن تيمية على عقيدة هؤلاء المشايخ من الصوفية، عتب على أبي القاسم القشيري أنه لم يذكر في رسالته الأولياء الكاملين الذين كانوا في القرون الثلاثة الأولى (2)، فقال: وما ذكره أبو القاسم في رسالته في اعتقادهم وأخلاقهم وطريقتهم، فيه من الخير والحق والدين أشياء كثيرة، ولكن فيه نقص عن طريقة أكثر أولياء الله الكاملين، وهم نقاوة القرون الثلاثة ومن سلك سبيلهم، ولم يذكر في كتابه أئمة المشايخ من القرون الثلاثة (3).
وهكذا نرى أن ابن تيمية لم ينكر طريقة الصوفية في أصلها بل أثنى على مشايخها الذين استقاموا على الطريق، ولم يعدهم خارجين على طريق السلف (4)، وقد نقل كلام القشيري التالي: اعلموا أن شيوخ هذه الطائفة بنوا قواعد أمرهم على أصول صحيحة في التوحيد، صانوا بها عقائدهم عن البدع، ودانوا بما وجدوا عليه السلف وأهل السنة من توحيد، ليس فيه تمثيل ولا تعطيل. ثم قال ابن تيمية: قلت: هذا كلام صحيح، فإن كلام أئمة المشايخ الذين لهم في الأمة لسان صدق، كانوا على ما كان عليه السلف وأهل السنة، من توحيد ليس فيه تمثيل ولا تعطيل، وهذه الجملة يتفق على إطلاقها عامة الطوائف المنتسبين إلى السنة، وإن تنازعوا في مواضع (5). وهكذا يثني ابن تيمية على الصوفية - السليمة - بأن اهتمامهم بالعمل أكثر من اهتمامهم بالقول. ولا بد من هذه التوطئة عند الحديث عن الغزالي والصوفية ولا ندعي العصمة للغزالي ولا غيره لأن العصمة للأنبياء والمرسلين أما غيرهم من الناس فيخطئ ويصيب.
1 - بدء طريق التصوف عند الغزالي: قد تحدثت فيما مضى عن التحول الكبير الذي حدث للغزالي, وكيف استطاع أن يتغلب على أمراض النفس من حب الصيت والجاه والمنصب والشهرة بعد أن أعانه الله على ذلك, ويبدو أن الغزالي اختار طريق الصوفية بعد جهد جهيد وهو بنفسه يوضح لنا كيف سلك الطريق فقد قال: ثم إني أقبلت بهمتي على طريق الصوفية، وعلمت أن طريقتهم إنما تتم بعلم وعمل, وكان حاصل عملهم، قطع عقبات النفس، والتنزه عن أخلاقها المذمومة، وصفاتها الخبيثة، حتى يتوصل بها إلى تخلية القلب عن غير الله تعالى, وتحليته بذكر الله. وكان العلم أيسر عليَّ من العمل، فابتدأت بتحصيل علمهم من مطالعة كتبهم، مثل «قوت القلوب» لأبي طالب المكي، رحمه الله, وكتب الحارث المحاسبي، والمتفرقات المأثورة عن الجنيد، والشبلي، وأبي يزيد البسطامي،
_________
(1) الاستقامة (1/ 82 - 84).
(2) الإمام الغزالي للشامي، ص 13.
(3) الاستقامة (1/ 89).
(4) الإمام الغزالي للشامي، ص 13.
(5) الاستقامة (1/ 90 - 91).(1/380)
قدس الله أرواحهم، وغير ذلك من كلام مشايخهم، حتى اطلعت على كنه مقاصدهم العلمية وحصلت ما يمكن أن يحصل من طريقهم بالتعليم والسماع، فظهر لي أن أخص خواصهم: ما لايمكن الوصول إليه بالتعلم، بل بالذوق، والحال وتبدل الصفات. ثم قال: وكم من الفرق بين أن يعلم حد الصحة وحد الشبع، وأسبابهما، وشروطهما، وبين أن يكون صحيحاً وشبعان وبين أن يعرف حد السكر .. وبين أن يكون سكران بل السكران لا يعرف حد السكر، والصاحي يعرف حد السكر وأركانه، وما معه من السكر شيء. والطبيب - في حالة المرض - يعرف حد الصحة وأسبابها، وأدويتها، وهو فاقد الصحة، وكذلك فرق بين أن تعرف حقيقة الزهد وشروطها، وأسبابها، وبين أن يكون حالك «الزهد» وعزوف النفس عن الدنيا. ثم تحدث عن خلاصة ما توصل إليه بشأن المتصوفة، فقال: فعلمت -يقيناً- أنهم أرباب «الأحوال» لا أصحاب «الأقوال» وأن ما يمكن تحصيله من طريق العلم، فقد حصلته، ولم يبق إلا ما لا سبيل إليه بالسماع والتعلم، بل بالذوق والسلوك (1).
2 - نتائج الدراسة: كان من نتائج دراسة الغزالي للتصوف أنه نظر في نفسه وتفحص ما هو فيه، فإذا به يرى غروراً كاذباً، وحياة غلبت عليها المظاهر، ففقدت روحها وهويتها وقاس نفسه بمقاييس الإسلام الحقة، فأشفق على نفسه .. لقد تبين له من نفسه:
أنه كان جل اهتمامه بالجانب النظري من العلم دون الجانب العملي وأن ما كان يعده عملاً يتقرب إلى الله تعالى به من التدريس والتعليم، كان فاقداً لشرط القبول وهو النية .. وإذا به فجأة يجد نفسه بلا رصيد في مقياس الآخرة.
وأنه يفتقد عنصراً مهماً في ميداني النظر والعمل وهو «الإخلاص».
فاكتشف من نفسه ما دفعه إلى الخوف، وإلى الحرص على الوقت فيما تبقى من عمره أن يصرف في مرضاة الله (2). وانتهى به المطاف إلى طريق الصوفية، فعلم يقيناً - كما يقول هو - أنهم هم السالكون لطريق الله تعالى خاصة، وأن سيرتهم أحسن السير، وطريقهم أصوب الطرق، وأخلاقهم أزكى الأخلاق، بل لو جمع عقل العقلاء، وحكم الحكماء الواقفين على أسرار الشرع من العلماء، ليغيروا شيئاً من سيرهم وأخلاقهم، ويبدلوه بما هو خير منه، لم يجدوا إلى ذلك سبيلاً .. وأن جميع حركاتهم وسكناتهم في ظاهرهم وباطنهم مقتبسة من نور النبوة، وليس على وجه الأرض نور يستضاء به (3). وبالجملة فماذا يقول القائلون في طريقة طهارتها - وهي أول شروطها - تطهير القلب بالكلية عما سوى الله تعالى .. ومفتاحها
_________
(1) المنقذ من الضلال، ص 139 - 141 ..
(2) الإمام الغزالي للشامي، ص 106.
(3) الغزالي بين مادحيه وناقديه، ص 118.(1/381)
الجاري منها مجرى التحريم من الصلاة - استغراق القلب بالكلية بذكر الله، وآخرها الفناء بالكلية في الله؟. وهذا الآخر بالإضافة إلى ما يدخل تحت الاختبار والكسب ولكن الترقي مستمر حتى ينتهي إلى درجات يضيق عنها نطاق النطق، ولا يحاول معبر أن يعبر عنها إلا اشتمل لفظه على خطأ صريح، لا يمكن الاحتراز عنه، قال: وعلى الجملة: ينتهي الأمر إلى قرب يكاد يتخيل منه طائفة «الحلول» وطائفة «الاتحاد» وطائفة «الموصل» .. وكل ذلك خطأ ويأخذ على الغزالي دخوله إلى التصوف. وقد كان دخول المحب العاشق لا دخول الفاحص الناقد، فلم ينظر إلى علوم الصوفية وتراثهم بعين النقد التي نظر بها إلى علوم الفلسفة والمتكلمين والباطنية بل بعين الرضا والحب:
وعين الرضا عن كل عيب كليلة ... كما أن عين السخط تبدي المساويا
وقال الشاعر: ... وإذا الحبيب أتي بذنب واحد ... جاءت محاسنه بألف شفيع
لقد تعامل مع التصوف بقلبه قبل عقله، وبذوقه قبل فقهه، وهذا ما جعله يقبل أشياء مما أخذ على القوم في الفكر، وفي السلوك دون أن يعرضها على قانون الفقه أو منطق العقل, ومن أجل هذا أنكر عليه العلامة ابن الجوزي وغيره من الناقدين قوله لكثير من أفكار الصوفية وأعمالهم وأحوالهم، وهي مخالفة لقانون الشرع، منحرفة عن الكتاب والسنة الصحيحة. وربما اعتذر أبو حامد في بعض الأحيان عن تجاوزات بعض القوم باعتذارات لا يقبلها منه الفقهاء، كقوله بعد حكاية الصوفي الذي عرفه الناس بالإصلاح في محله، فخاف على نفسه الفتنة، فدخل الحمام، وسرق بعض الثياب الفاخرة، ولبسها وخرج .. فلحقه الناس وأخذوا منه الثياب وصفعوه ... وصار يعرف بعد ذلك (لص الحمام)؟ فسر بذلك وسكنت نفسه (1). قال أبو حامد: فهكذا كانوا يروضون أنفسهم، حتى يخلصهم الله من النظر إلى الخلق، ثم من النظر إلى الخلق، ثم من النظر إلى النفس، وأرباب الأحوال ربما عالجوا أنفسهم بما لا يفتي به الفقيه، مهما رأوا صلاح قلوبهم، ثم يتداركون ما فرط منهم من صورة التقصير (2)، وابن الجوزي شدد النكير على أبي حامد في حكاية هذا وأمثاله واستحسانه وتبريره (3).
_________
(1) الغزالي بين مادحيه وناقديه، ص 120.
(2) تلبيس إبليس، ص 354، 355، الإحياء (3/ 288).
(3) الغزالي بين مادحيه وناقديه، ص 121.(1/382)
3 - تصوف بغير شيخ: بدأ الغزالي تصوفه في شهر رجب عام 488هـ - كما ذكر في
المنقذ - حيث التجاذب في نفسه بين شهوات الدنيا ودواعي الآخرة، فلم يزل يقدم رجلاً ويؤخر أخرى, وتصدق رغبته بكرة وتضعف عشية حتى صمم أخيراً على سلوك طريق الآخرة, واستمر هذا التردد قرابة ستة أشهر - كما قال - وما طول هذه المدة إلا لأن الأمر الذي يقدم عليه هي الخطوة الأولى في هذه النقلة البعيدة المدى مادياً ونفسياً, ولم يكن هناك من يستشيره في هذا الأمر، فيكون في مشورته مساعدة على البت فيه، إنما كان تصرفاً شخصياً، كان الباعث عليه وقوفه على علم التصوف الذي أيقظ فيه حساب نفسه وتدبر أمره. وأما ما تذكره بعض المصادر من أنه تتلمذ على الفارمدي وأخذ منه استفتاح الطريقة، وامتثل ما كان يشير به عليه من القيام بوظائف العبادات والإمعان في النوافل (1)، فذلك أمر فيه نظر ذلك أن «الفارمدي» توفي عام 477هـ والغزالي لم يبدأ مشوار التصوف إلا في أواخر عام 488هـ أي بعد أكثر من عشر سنوات من وفاة الرجل, ولعله كان مرشداً في علم التصوف لا في التطبيق، ذلك أن عام 477هـ وما قبله كانت الفترة التي سيطر فيها على الغزالي التطلع على الجاه والمنزلة .. الأمر الذي يتعارض مع مفهوم التصوف. نستطيع القول إذن بأن الغزالي قطع طريق التصوف بمجاهدته الشخصية دون الاعتماد على شيخ تتوافر فيه المواصفات اللازمة المهمة وليس هذا بمستغرب على الغزالي، فقد كان له من الهمة والعزم ما تصغر معه عظائم الأمور (2).
4 - نقد الغزالي للصوفية: على الرغم من أن الغزالي يزكي طريقة الصوفية؛ لأنها تتضمن العلم والعمل معاً، وأنه انحاز إلى طريقتهم الذوقية في نهاية الأمر، بعد التجربة والممارسة وإتقان العلم، فإنه لم يتوان عن نقد معظم فرق الصوفية التي سادت في عصره وما قبله، نقداً شديداً (3)، وسلط الأضواء على أخطاء وانحرافات بعض المتصوفة.
أ- قلة المتصوفين: يرى الغزالي أن التصوف غير موجود، وذلك لعدم وجود من يسلك الطريق، وإذا وجد السالكون، فهم غير منضبطين مع ما يتطلبه الطريق من سلوك. يقول: والأمور الدينية كلها قد فسدت وضعفت، إلا التصوف، فإنه قد انمحق بالكلية وبطل لأن العلوم لم تندرس بعد والعالم - وإن كان عالم سوء - فإنما فساده في سيرته لا في علمه، فيبقى عالماً غير عامل بعلمه والعمل غير العلم. وأما التصوف فهو عبارة عن تجرد القلب لله تعالى، واستحقار ما سوى الله، وحاصله يرجع إلى عمل القلب والجوارح، ومهما فسد
_________
(1) طبقات الشافعية للسبكي (4/ 109).
(2) الإمام الغزالي، ص 108.
(3) مسألة المعرفة ومنهج البحث عند الغزالي, د. أنور الزعبي، ص 187.(1/383)
العمل فات الأصل (1). ويوضح أن المشايخ الذين يقتدى بهم لا وجود لهم فيقول: وقد خلت البلاد الآن عن شيخ يقتدى به في علمه وسيرته (2). ويبين لنا سبب هذا الفقدان للمتصوفة فيقول: .. إن القلوب كلها مريضة إلا ما شاء الله. ومرض القلب مما لا يعرفه صاحبه فلذلك يغفل عنه، وإن عرفه صعب عليه الصبر على مرارة دوائه، فإن دواءه مخالفة الشهوات، وهو نزع الروح، فإن وجد من نفسه قوة الصبر عليه، لم يجد طبيباً حاذقاً يعالجه، فإن الأطباء هم العلماء، وقد استولى عليهم المرض، فالطبيب المريض، قلما يلتفت إلى علاجه، فلهذا صار الداء عضالاً، والمرض مزمناً، واندرس هذا العلم، وأنكر طب القلوب، وأنكر مرضها (3). وإذا كان الشيخ المربي مفقوداً والسالك غير موجود، حلَّ مكانهما المنتفعون واللصقاء، وهنا كان على الغزالي أن يبين الأخطاء ويظهر الانحرافات حتى لا يساء فهم الدين (4).
ب- فساد المتصوفة: ويعطينا الغزالي صورة عما آل إليه أمر المتصوفة من فساد فيقول: ... إن أكثر متصوفة هذه الأعصار - لما خلت بواطنهم عن لطائف الأفكار، ودقائق الأعمال، ولم يحصل لهم أنس بالله تعالى وبذكره في الخلوة، وكانوا بطالين غير محترفين ولا مشغولين - قد ألفوا البطالة، واستثقلوا العمل، واستوعروا طريق الكسب، واستلانوا جانب السؤال والكدية، واستطابوا الرباطات المبنية لهم في البلاد، واستسخروا الخدم المنتصبين للقيام بخدمة القوم، واستخفوا عقولهم وأديانهم، من حيث لم يكن قصدهم من الخدمة إلا الرياء والسمعة، وانتشار العبث، واقتناص الأموال بطريق السؤال، تعللاً بكثرة الأتباع, لم يكن لهم في الخانقاهات حكم فاقد .. فلبسوا المرقعات، واتخذوا في الخانقاهات منتزهات .. ويحسبون أنهم يحسنون صنعاً ويعتقدون أن كل سواد تمرة .. فهؤلاء بغضاء الله (5).
جـ- الغرور والجهل: ويرى الغزالي أن الغرور قد هيمن على كثير من المتصوفة، وقد عد نماذج كثيرة من غرورهم ثم قال: وأنواع الغرور في طريق السلوك إلى الله تعالى لا تحصى في مجلدات، ولا تستقصى, ثم بين أن مصدر ذلك كله الجهل وعدم سلوك الطريق بشكل صحيح بحيث يكون بعد العلم، فالكثير منهم جهلة، ومع ذلك ادعوا المعرفة، بترديد كلمات هي طامات، ويظن أنه أوتي علم الأولين والآخرين، فهو ينظر إلى الفقهاء والمفسرين والمحدثين وأصناف العلماء بعين الازدراء فضلاً عن العوام (6). وكل ذلك بناءً على أغاليط
_________
(1) إحياء علوم الدين (2/ 250).
(2) المصدر نفسه (2/ 250).
(3) المصدر نفسه (3/ 63).
(4) الإمام الغزالي للشامي، ص 118.
(5) إحياء علوم الدين (2/ 250).
(6) الإمام الغزالي، ص 120.(1/384)
ووساوس، يخدعهم الشيطان بها، لاشتغالهم بالمجاهدة قبل إحكام العلم، ومن غير اقتداء بشيخ متقن في الدين والعلم، صالح للاقتداء به (1).
د- سقوط التكاليف: ويحدثنا الغزالي عن انحراف آخر لبعض الصوفية، لعله من أسوأ انحرافاتهم, ذلك أن بعضهم وقع في الإباحة، وطووا بساط الشرع ورفضوا الأحكام، وسووا بين الحلال والحرام .. وهم فئات (2). ومن هؤلاء طائفة ظنت أن المقصود من العبادات المجاهدة حتى يصل العبد بها إلى معرفة الله تعالى، فإذا حصلت المعرفة فقد وصل وبعد الوصول يستغنى عن الوسيلة والحيلة، فتركوا السعي والعبادة، وزعموا أنه ارتفع عن محلهم في معرفة الله سبحانه عن أن يمتهنوا بالتكاليف, وإنما التكاليف على عوام الخلق (3). وحكم الغزالي على هذه الفئات بأنها مذاهب باطلة وضلالات هائلة (4).
إن الغزالي لم يقبل التصوف بعجره وبجره، بل رفض في حزم تصوف أهل الحلول والاتحاد كالحلاج وأشباهه ولم يقبل إلا التصوف السني القائم على الكتاب والسنة, واجتهد أن يرد كل فكرة أو خلق أو سلوك أو حال، مما يقول به المتصوفة إلى أصول إسلامية وأن يستدل عليها بالقرآن والحديث والأثر (5)، وقد حاول أن يخفف من غلواء القوم في فهمهم للتوكل والزهد ونحوهما وإن أصابه شيء من رذاذهم (6)، ونقول ما قاله الذهبي: فرحم الله أبا حامد، فأين مثله في علومه, ولكن لا ندّعي عصمته من الغلط والخطأ (7).
5 - أثر الغزالي في التصوف: أثر الغزالي أثرٌ كبيرٌ في التصوف ولا زال هذا الأثر إلى يومنا الحاضر، فقد استطاع أن يصنع معالم لطريق التصوف ومقاييس له، تكشف الزيف وتظهر الخطأ, الأمر الذي يساعد على الإصلاح ويسهل طريقه. ومما يذكر له في
هذا الميدان:
أ- ضرورة العلم الشرعي: نبّه الغزالي على ضرورة العلم الشرعي لسالك طريق الآخرة، خلافاً لما كان شائعاً بين كثير من الصوفية أن العلم حجاب, وقد جعل أول كتاب من كتب «الإحياء» الأربعين كتاب العلم، وأول عقبة يجب أن يجتازها «العابد» هي العلم كما في منهاج العابدين. وأكد في مواضع لا تحصر: أن السعادة لا تنال إلا بالعلم والعمل
_________
(1) إحياء علوم الدين (3/ 404 - 407).
(2) المصدر نفسه (3/ 405).
(3) المصدر نفسه (3/ 405).
(4) الإمام الغزالي للشامي، ص 154.
(5) الغزالي بين مادحيه وناقديه، ص 121.
(6) المصدر نفسه، ص 121.
(7) الغزالي بين مادحيه وناقديه، ص 121، 122.(1/385)
وقال في رسالة «أيها الولد»: إن العلم بدون عمل جنون، والعمل بدون علم لا يكون، والإحياء هو الكتاب الذي وضعه لسالكي الطريق. إذن فهو ينكر كل الإنكار أن تكون المجاهدة ورياضات النفس قبل العلم. ويرى الغزالي أن نظرة العالم أدق وأصوب من نظرة الصوفي (1). ولذلك قال: .. ونور العلم إذا أشرق أحاط بالكل وكشف الغطاء ورفع الاختلاف (2).
ب- رفض الغزالي للتأويلات الباطنية التي تخرج بالنصوص الشرعية عن مقتضى ظواهرها بغير اعتصام فيه بنقل عن صاحب الشرع، ومن غير ضرورة تدعو إليه من دليل العقل، فإن هذا يقتضي بطلان الثقة بالألفاظ , وتسقط من منفعة كلام الرسول - صلى الله عليه وسلم -، فإن ما يسبق إلى الفهم لا يوثق به، والباطن لا ضابط له, ومثل لذلك بقول بعضهم في قوله تعالى: {اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى}: أي إشارة إلى قلبه. وقوله {وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ} أي ما يتوكأ عليه ويعتمده مما سوى الله فينبغي أن يلقيه, ومثله حديث: «تسحروا فإن في السحور بركة» وتأويله بأنه الاستغفار في الأسحار، وبهذا الطريق توصل الباطنية إلى هدم جميع الشريعة بتأويل ظواهرها (3).
جـ - جعل من التصوف علمًا أخلاقيًا عمليًا: فقد نقله من مجرد الذوق والتحليق والشطح والتهويل إلى علم أخلاقي عملي يعالج أمراض القلوب وآفات النفوس ويزكيها بمكارم الأخلاق. ومن نظر إلى (الإحياء) عرف أن لبابه وغايته في نصفه الأخير وهو يتكون من ربعين: ربع (المهلكات) وربع (المنجيات) وكل من هذه وتلك عشرة كاملة وكلها تدور حول «الأخلاق»، فهو - كما ذكر في مقدمة الكتاب - يذكر في (المهلكات) كل خلق مذموم ورد القرآن بإماطته وتزكية النفس عنه وتطهير القلب منه. ويذكر في (المنجيات) كل خلق محمود، وخصلة مرغوب فيها، من خصال المقربين والصديقين التي بها يتقرب العبد من رب العالمين (4). كما أخذ عليهم من الناحية العلمية عدم دقتهم في تعريفاتهم لأعمال القلوب، لغلبة أحوالهم الذاتية والآنية عليهم. ومن تتبع الإحياء وغيره من كتب الغزالي، بإنصاف، وجد أنه حاول كبح جماح القوم، والوقوف بهم عند الحدود والحواجز الشرعية، وضبط أقوالهم وأعمالهم، بتقييد مطلقها، وتحديد مبهمها، وإعطائها معنى مقبولاً، ونجح في ذلك إلى حد بعيد (5).
_________
(1) الإمام الغزالي للشامي، ص 134.
(2) إحياء علوم الدين (2/ 242، 243).
(3) إحياء علوم الدين (1/ 27).
(4) الإحياء (1/ 3) , الغزالي بين مادحيه وناقديه، ص 123.
(5) الغزالي بين مادحيه وناقديه، ص 124.(1/386)
د- تصحيح مفهوم الزهد: الزهد أصل كبير من أصول التصوف، نتج عنه الإعراض عن الدنيا، وهو المسلك الذي يجاهد الصوفية نفوسهم من أجله كمرحلة أولى من طريقهم، ولكن بعضهم بالغ في هذا، بل وعلى حد تعبير الغزالي: أضلهم الشيطان في الإعراض عنها (1). وقد ساق لنا نموذجًا من هذا الإعراض، وبين خطأهم، ثم بين لنا السلوك الصحيح في هذا الموضوع بقوله: .. وإنما الناجي منها فرقة واحدة وهي السالكة ما كان عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه وهو: أن لا يترك الدنيا بالكلية، ولا يقمع الشهوات بالكلية. أما الدنيا: فيأخذ منها قدر الزاد. وأما الشهوات فيقمع منها ما يخرج عن طاعة الشرع والعقل، ولا يتبع كل شهوة، ولا يترك كل شهوة، بل يتبع العدل، ولا يترك كل شيء من الدنيا، ولا يطلب كل شيء من الدنيا بل يعلم مقصود كل ما خلق من الدنيا ويحفظه على حد مقصوده:
فيأخذ من القوت ما يقوى به البدن على العبادة, ومن المسكن ما يحفظ عن اللصوص، والحر والبرد.
ومن الكسوة كذلك حتى إذا فرغ القلب من شغل البدن، أقبل على الله تعالى بكنه همته، واشتغل بالذكر والفكر طوال العمر. وبقي ملازماً لسياسة الشهوات، ومراقباً لها، حتى لا يجاوز حدود الورع والتقوى، ولا يعلم ذلك إلا بالاقتداء بالفرقة الناجية، وهم الصحابة وقد كانوا على النهج القاصد، وعلى السبيل الواضح، .. فإنهم ما كانوا يأخذون الدنيا للدنيا، بل للدين, وما كانوا يترهبون ويهجرون الدنيا بالكلية، وما كان لهم في الأمور تفريط ولا إفراط بل كان أمرهم بين ذلك قواماً وذلك هو العدل والوسط بين الطرفين، وهو أحب الأمور إلى الله تعالى ... والله أعلم (2).
والخلاصة: أنه مما لا شك فيه أن أثر الغزالي كان كبيراً على التصوف، إذ أراده تصوفاً سنياً، على طريقة الجنيد, وقد أفلح إلى حد كبير في الإصلاح في هذا الميدان ولا يمكن تقدير ذلك إلا بالمقارنة بين ما كان عليه التصوف قبل الغزالي وما آل إليه بعده (3). ومن عرف كيف كان التصوف قبل الغزالي، ثم كيف صار بعده عرف فضل الغزالي على
التصوف وأهله، وما ترك فيه من أمر واضح، يشهد به المتخصصون في علم هذا الجانب
من جوانب الثقافة والحياة الإسلامية, وهذا ما اعترف به وقرره الذين عنوا بدراسة
التصوف ورجاله وتاريخه (4)، ومهما يكن من أمر في هذا الباب الخطير، فالغزالي إمام كبير،
_________
(1) إحياء علوم الدين (3/ 230).
(2) إحياء علوم الدين (3/ 230).
(3) الغزالي للشامي، ص 140.
(4) الغزالي بين مادحيه وناقديه، ص 124.(1/387)
وما من شرط العالم أنه لا يخطئ (1).
سادساً: دور أبي حامد الغزالي في الإصلاح:
1 - منهج الغزالي في الإصلاح: ذكر الدكتور ماجد عرسان الكيلاني أن القواعد التي قام عليها منهج الغزالي في الإصلاح والتجديد ثلاث قواعد:
القاعدة الأولى: إن الأساس في وجود الأمة المسلمة هو إخراجها لحمل رسالة الإسلام إلى العالم كله، وحين قعد المسلمون عن تبليغ الرسالة امتلأت الأرض بالفتنة والفساد الكبير, وأصبح المسلمون وغيرهم ضحايا هذا القعود.
القاعدة الثانية: وترتبط القاعدة الثانية بالأولى ارتباطاً متلاحماً, فما دام المسلمون مسئولين عن حمل رسالة الإصلاح إلى العالم، وما داموا قاعدين عن حمل هذه الرسالة، فإنه من الواجب أن يجري البحث في أسباب هذا القعود من داخل المسلمين أنفسهم.
القاعدة الثالثة: فقد جاءت مكملة للقاعدة الثانية، فما دامت الحاجة ماسة إلى تلمس أسباب القعود، فإن الغاية من هذا التلمس يجب أن تستهدف التشخيص وتقديم العلاج لا مجرد تواترات «سلبية» تقوم على التلاوم وتبادل الاتهام (2).
2 - صفات منهج الغزالي في الإصلاح: تميز منهج الغزالي في الإصلاح بصفات
عدة منها:
الصفة الأولى: خلو كتاباته من تحريض المسلمين على جهاد الصليبيين، وخلوها من التنديد بوحشيتهم، وجرائمهم التي كانوا يقترفونها في أطراف العالم الإسلامي.
الصفة الثانية: هي اعتماد النقد الذاتي، ولذلك لم يلجأ إلى تلمس التبريرات وإلقاء المسئولية على القوى المهاجمة التي جذبتها عوامل الضعف وقابلية الهزيمة من الخارج, وهذا منهج في البحث يتفق مع المبدأ الإسلامي القائل: {وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} [الشورى: 30] فكان الغزالي يحاول أن يعالج قابلية الهزيمة، فالمشكلة حسب تصور الغزالي في فساد المحتويات الفكرية والنفسية عند المسلمين في أمور العقيدة والاجتماع وما سوى ذلك هي مضاعفات تزول بزوال المرض الأساسي (3).
الصفة الثالثة: التي اتصف بها منهج الغزالي في الإصلاح هي انطلاقه من منطلق
_________
(1) سير أعلام النبلاء (19/ 339).
(2) هكذا ظهر جيل صلاح الدين وهكذا عادت القدس، ص 106.
(3) المصدر نفسه، ص 107.(1/388)
إسلامي أصيل، فاهتم بجانب الإصلاح الفكري والنفسي. وهذا مبدأ قرآني واضح {إِنَّ اللهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الرعد: 11] وبدأ الغزالي بخاصة نفسه أولاً، ثم أخذ بتغيير ما بأنفس الآخرين، واستمر أصحابه وتلامذته في تطبيق هذا المنهاج (1)، فأسهمت هذا الجهود مع جهود أخرى في ظهور جيل نور الدين زنكي وصلاح الدين الأيوبي كما سنرى في مكانه.
الصفة الرابعة: إن الغزالي لم يعالج قضايا المسلمين باعتبارهم قومية منفصلة تصارع قوميات أخرى، وإنما باعتبار هذه القضايا بعض مضاعفات قعود المسلمين وعجزهم عن حمل واجبهم في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر (2).
3 - تشخيص الغزالي لأمراض المجتمع الإسلامي:
أ- فساد رسالة العلماء: ركز الغزالي في مواقع جمة على نقد العلماء المنتسبين إلى الدين وهم في الحقيقة علماء الدنيا, وهو يحملهم مسئولية كبيرة في فساد الملوك والحكام وفساد العوام، ويرى أن الداء العضال فقد الطبيب، والأطباء هم العلماء، وهم أنفسهم مرضوا مرضاً شديداً (3)، فتحدث عما وقع فيه أهل العلم ورجال الدين من طلب الجاه والرياسة، ونيل الحظوة عند أهل الحكم والسياسة، والجدل الفارغ والنقاش الحاد، والاكتفاء بمسائل الفروع والأحكام والانصراف عن علم الآخرة، وتهذيب النفس، وحقيقة ما فيه المنتدبون للإصلاح والدعوة من الكلام المزخرف، واللفظ المسجع، والقصص المُلهية، ورأى عموم الفساد، وغفلة الناس, وسكوت العلماء، وفقدان النذير (4) فالغزالي يرى أن أدلة الطريق هم العلماء الذين هم ورثة الأنبياء، وقد شغر منهم الزمان ولم يبق إلا المتمرسون، وقد استحوذ على أكثرهم الشيطان، واستهواهم الطغيان، وأصبح كل واحد بعاجل حظه مشغوفاً؛ فصار يرى المعروف منكراً والمنكر معروفاً حتى ظل علم الدين مندرساً، ومنار الهدى في منطقة الأرض منطمساً، ولقد خيَّلوا إلى الخلق أن لا علم إلا فتوى حكومة تستعين به القضاة على فصل الخصام عند تهاوش الطغام، أو الجدل يتذرع به طالب المباهاة إلى الغلبة والإفحام، أو سجع مزخرف يتوسَّل به الواعظ إلى استدراج العوام إذا لم يروا ما سوى هذه الثلاثة مصيدة للحرام، وشبكة للحطام.
فأمَّا علم طريق الآخرة، ما درج عليه السلف الصالح مما سماه الله سبحانه في كتابه فقهاً وحكمة، وعلماً وضياء ونوراً, وهداية ورشداً, فقد أصبح بين الخلق
_________
(1) هكذا ظهر جيل صلاح الدين وهكذا عادت القدس، ص 107.
(2) المصدر نفسه، ص 107.
(3) الغزالي بين مادحيه وناقديه، ص 79.
(4) رجال الفكر والدعوة (1/ 214).(1/389)
مطوياً، وصار نسياً منسياً، ولما كان هذا ثلماً في الدين مُلمًا، وخطباً مُدلهمًا، رأيت الاشتغال بتحرير هذا الكتاب مُهمًّا لإحياء الدين، وكشفاً عن مناهج الأئمة المتقدمين، وإيضاحاً لمناحي العلوم النافعة عند النبيين والسلف الصالحين (1). ويعتقد الغزالي أن التبعة الكبرى في هذا الفساد الشامل، والضَّعف في الدين والانحلال في الأخلاق، تقع على العلماء، ورجال الدين، وهم السبب الأول في فساد الأوضاع؛ لأنهم ملح الأمة، وإذا فسد الملح فما الذي يُصلحه؟ ويتمثل الغزالي ببيت خوطب فيه العلماء:
يا معشر القُّراء يا ملح البلد ... ما يصلح الملح إذا الملح فسد
ويذكر كيف مرضت قلوب الناس، واشتدت الغفلة عن المعاد ويذكر أسباب ذلك، فيذكر منها مرض العلماء واعتلالهم، وهم أطباء القلوب فيقول: والثالثة: وهو الداء العضال .. فقد الطبيب، فإن الأطباء هم العلماء، وقد مرضوا في هذه الأعصار مرضاً شديداً، وعجزوا عن علاجه. ويقول في موضع آخر: فإن الأطباء هم العلماء وقد استولى عليهم المرض، فالطبيب المريض قلما يلتفت إلى علاجه، فلهذا صار الدّاء عُضالاً، والمرض مزمناً، واندرس هذا العلم، وأنكر بالكلية طبُّ القلوب، وأنكر مرضها، وأقبل الخلق على حب الدنيا، وعلى أعمال ظاهرها عبادات وباطنها مُراءاة (2). ويردُّ الغزالي فساد الملوك والأمراء إلى ضعف العلماء وإهمالهم لواجبهم يقول: بالجملة إنما فسدت الرعية بفساد الملوك، وفساد الملوك لفساد العلماء، فلولا القضاة السوء والعلماء السوء لقل فساد الملوك، خوفاً من إنكارهم (3). ويلوم الغزالي العلماء على تقاعدهم عن فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وكلمة الحق عند سلطان جائر ويعلل ذلك بوقوع العلماء في شباك الأمراء، وحبهم للدنيا وطلبهم للجاه (4). ولاحظ الغزالي - وقد مضى مدة طويلة في التدريس والإفتاء، وعاش بين العلماء وخبر سيرتهم - أنه قد شغل الناس بالجُزئيات الفقهية، والمسائل الخلافية، ووقع الاكتفاء بعلم الفقه والفتيا, وانصرف بذلك العلماء وطلبة العلم عن العلوم النافعة، والأشغال المفيدة الأخرى, وشُغلوا عن العلم الذي يُصلحون به نفوسهم، وينالون به سعادة الدنيا والآخرة (5). وقد ترتب عن فساد رسالة العلماء وانتشار الشكلية الدينية في المجتمع الإسلامي آثار من أهمها:
_________
(1) إحياء علوم الدين (1/ 3).
(2) إحياء علوم الدين (3/ 54).
(3) المصدر نفسه (2/ 132).
(4) رجال الفكر والدعوة (1/ 217) نقلاً عن إحياء علوم الدين.
(5) المصدر نفسه (1/ 218).(1/390)
- البعد عن قضايا المجتمع والاشتغال بقضايا هامشية لا طائل تحتها.
- التعصب المذهبي واختفاء الفضائل العلمية.
- تفتيت وحدة الأمة وظهور الجماعات والمذاهب.
- انتشار التدين السطحي والفئات التي مثلته، كفئة العلماء وفئة أصحاب العبادة والعمل والمغرورين، وفئة المتصوفة، وفئة أرباب المال، وقد فصل الإمام الغزالي في الحديث عن هذه الفئات في كتابه إحياء علوم الدين (1).
ب- انحراف الألفاظ عن مدلولاتها: وقد فطن الغزالي - لذكائه الباهر وتجربته العلمية - أن من أسباب الالتباس وانخداع الناس بالمظاهر، وبُعدهم عن الحقائق، هو أنه قد فشا في هذا العصر استعمال كلمات القرآن والحديث في غير محلها، وفي غير معناها الأصيل القديم، وصار يُفهم منها مالم يكن يفهم في العصر الأول، يعقد في كتاب «الإحياء» فصلاً خاصاً في بيان ما بُدِّلَ من ألفاظ العلوم ويقول في مُفتتحِه: اعلم أن منشأ التباس العلوم المذمومة بالعلوم الشرعية تحريف الأسامي المحمودة، وتبديلها ونقلها، بالأعراض الفاسدة إلى معان غير ما أراده السَّلف الصالح والقرن الأول وهي خمسة ألفاظ: الفقه، والعلم, والتوحيد، والتذكير, والحكمة، فهذه أسامٍ محمودة، والمتصفون بها أرباب المناصب في الدين ولكنها نُقلت الآن إلى معان مذمومة، فصارت القلوب تنصر عن مذمّة بمعانيها لشُيوع إطلاق هذه الأسامي عليهم (2)، ثم شرح الألفاظ المذكورة:
- فالفقه: كان يطلق في العصر الأول على علم طريق الآخرة ومعرفة دقائق آفات النفوس، ومفسدات الأعمال وقوة الإحاطة بحقارة الدنيا، وشدة التطلع إلى نعيم الآخرة، واستيلاء الخوف على القلب، فخُصِّص في هذا العصر بمعرفة الفروع الغريبة في الفتاوى، والوقوف على دقائق عِللها، واستكثار الكلام فيها، وحفظ المقالات المتعلقة بها.
- العلم: وكان لفظ العلم يُطلق على العلم بالله تعالى، وبآياته وبأفعاله في عباده وخلقه، وتصرف فيه أهل الزمان بالتخصيص، حتى شهروه في الأكثر بمن يشتغل بالمناظرة مع الخصوم في المسائل الفقهية وغيرها.
- التوحيد: وكان التوحيد عند الأولين، وهو أن يرى الإنسان الأمور كُلها من الله عز وجل رؤية تقطع التفاته عن الأسباب والوسائط، فلا يَرى الخير والشرَّ كله إلا منه جلّ جلاله, وقد جعل الآن عبارة عن صناعة الكلام، ومعرفة طريق المجادلة والإحاطة بطرق
_________
(1) هكذا ظهر جيل صلاح الدين، ص 113 - 132 وقد أخذ الكثير من الأفكار من إحياء علوم الدين.
(2) الإحياء (1/ 28).(1/391)
مناقضات الخصوم، والقدرة على التشدق فيها، بتكثير الأسئلة وإثارة الشبهات، وتأليف الإلزامات، حتى لقَّب طوائف منهم أنفسهم بأهل العدل والتوحيد، وتسمَّى المتكلمون العلماء بالتوحيد.
- التذكير: والتذكير هو الذي عناه الله سبحانه وتعالى, فنقل ذلك إلى ما ترى أكثر الوعاظ في هذا الإيمان يواظبون عليه، وهو القصص والأشعار، والشَّطح والطامات.
- والحكمة: والحكمة هي التي أثنى الله عز وجل عليها فقال: {يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاءُ وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا} [البقرة: 269]. فصار اسم الحكيم يُطلق على الطبيب والشاعر والمنجم؛ حتى على الذي يُدحرج القرْعة على أكُفَّ السَّوادية في شوارع الطرق (1).
وبعد هذه المقارنة بين معاني هذه الألفاظ القديمة ومحلَّ استعمالها وبين معانيها المحُدثة ومحل استعمالها وبيان التحريف الذي وقع في إطلاق هذه الكلمات وتفسيرها يقول: فقد عرفت كيف صرف الشيطان دواعي الخلق عن العلوم المحمودة إلى المذمومة، فكل ذلك من تلبيس عُلماء السوء بتبدُّل الأسامي، فإن اتبعت هؤلاء اعتماداً على الاسم المشهور من غير التفات إلى ما عُرف في العصر الأول، كنت كمن طلب الشرف بالحكمة باتباع ما يُسمى حكماً؛ فإن اسم الحكيم صار يُطلق على الطبيب والشاعر والمنجم في هذا العصر، وذلك بالغفلة عن تبديل الألفاظ (2). وهكذا يهيب الغزالي بالعلماء، في قوة وصراحة وشجاعة وإخلاص وعمق وتحليل علمي، ويثير فيهم الغيرة والشعور، ويستحثهم على الرجوع إلى مركزهم في الأمة، وهو خلافة الأنبياء والوصاية الدينية والخلقية على المجتمع الإسلامي والحسبة على الحكومة والحكام، والخواصّ والعوام، معتقداً بأنهم حجر الزاوية في إصلاح المجتمع، وبصلاحهم صلاح العالم، وبفسادهم فساد العالم، ثم يلتفت إلى السلاطين والأمراء، لأنهم الركن الثاني في إصلاح النوع الإنساني (3).
جـ- نقد السلاطين الظلمة: لم يكن نقد الغزالي ولا نصحه موجها للجمهور فحسب ولا للعلماء والمتصوفة ونحوهم من الطبقات فحسب، بل شمل نصحه وتوجيهه السلاطين والوزراء، الذين بأيديهم أمر المسلمين وطالما ذكر أن صلاح الأمة لا يتم إلا بصلاح هاتين الفئتين: أهل العلم والفكر، وأهل السياسة والسلطة، فهما الصنفان اللذان إذا صلحا صلح
_________
(1) الإحياء (1/ 28 - 34) , رجال الفكر والدعوة (1/ 221). مفهوم التوكل: الأخذ بالأسباب والتعلق بالله سبحانه وتعالى دون الاعتماد عليها.
(2) رجال الفكر والدعوة في الإسلام (1/ 222).
(3) المصدر نفسه (1/ 222).(1/392)
الناس، وإذا فسدا فسد الناس، وطالما حكى قول بعض السلف: لو كان لي دعوة مستجابة لدعوتها للسلطان، فإن الله يصلح بصلاحه خلقاً كثيراً والناس يمنعهم من إسداء النصح وقول الحق المر أمران: الخوف والطمع. وهو في حياته الجديدة ليس عنده ما يخاف عليه، وليس عندهم ما يطمع فيه، وقد خبت في قلبه جمرة الحرص، وحب المال والجاه، بعد أن جعل الدنيا طريقاً لسفره لا محلا لإقامته واتخذ منها قنطرة يعبرها ولا يعمرها؛ زاره وزير الخليفة أنوشروان في بيته تكريماً له، وإقراراً بمنزلته وفضله, وما كان ليحدث من هؤلاء الكبراء إلا لمثل الغزالي، ولكن أبا حامد قال له: زمانك محسوب عليك وأنت كالمستأجر للأمة، فتوفرك على ذلك أولى من زيارتي (1). وقد أدرك الغزالي ببصيرته وثقافته الواسعة أن أول ما نقص من عُرى الإسلام ما يتعلق بالحكم والسياسة، وأن أبرز ما انحرف فيه الحكم عن صراط الإسلام كان في سياسة المال, ولهذا شدد النكير على السياسة المالية للسلاطين، وشدد على العلماء في الدخول عليهم أو مخالطتهم، أو قبول الهدايا منهم لأنها رشوة على الدين، ولأن أموالهم جلها سحت (2)، وإليك آراء الغزالي في هذا المجال:
- تحريم التعامل مع السلاطين الظلمة.
- تحريم التجارة في الأسواق التي بناها السلاطين الظلمة.
- تحريم التعامل مع قضاة السلاطين الظلمة وخدمهم وشرطتهم.
- تحريم الانتفاع بالمرافق والمؤسسات التي بناها السلاطين الظلمة. وقد فصل هذه الأمور في كتابه أحياء علم الدين (3). وقد تحدث الغزالي عن سلاطين عصره فقال: .. فلا تسمح نفوس السلاطين بعطية إلا لمن طمحوا في استخدامهم والتكثر بهم، والاستعانة بهم على أغراضهم، والتجمُّل بغشيان مجالسهم، وتكليفهم المواظبة على الدعاء والثناء والتزكية والإطراء في حضورهم ومغيبهم, فلو لم يُذل الآخذ نفسه بالسؤال أولاً وبالتردد في الخدمة ثانية، وبالثناء والدعاء ثالثاً، وبالمساعدة له على أغراضه عند الاستعانة رابعاً، وبتكبير جمعه في مجلسه وموكبه خامساً، وبإظهار الحُب والموالاة والمناصرة له على أعدائه سادساً، وبالستر على ظلمه ومقابحه ومساوئ أعماله سابعاً، لم ينُعم عليه بدرهم واحد ولو كان في فضل الشافعي رحمه الله مثلاً؛ فإذًا لا يجوز أن يؤخذ منهم في هذا الزمان ما يُعلم أنه حلال لإفضائه إلى هذه المعاني فكيف ما يُعلم أنه حرام أو يشك فيه، فمن استجرأ على أموالهم، وشبَّه نفسه بالصحابة والتابعين، فقد قاس الملائكة بالحدادين (4). وقيمة هذه الكلمة الجريئة
_________
(1) المنتظم لابن الجوزي (9/ 170).
(2) الغزالي بين مادحيه وناقديه، ص 89.
(3) المصدر نفسه، ص 89.
(4) إحياء علوم الدين (1/ 122، 123).(1/393)
لا تُعرف إلا في جوَّ الحكومات الشخصية الرهيبة التي كانت كلمة واحدة تصدر من عالم أو مؤلف في نقد ملك أو حاكم تطيح بحياته (1).
ولم يقتصر الغزالي على إبداء آرائه في السلاطين الجائرين في مؤلفاته، بل أبدى رأيه وجهر بالحق والنصيحة أمام الملوك كُلمَّا سنحت له فرصة, وقد قال للسلطان «سنجر بن ملك شاه السَّلجوقي» الذي كان يحكم خراسان من أقصاها إلى أقصاها: إن رقاب المسلمين كادت تنقض بالمصائب والضرائب, ورقاب خيلك كادت تنقضُّ بالأطواق الذهبية (2)، وقد كتب إلى أخيه الأكبر محمد بن ملك شاه - وكان أكبر ملوك عصره - رسالة ذكَّره فيها بمسئوليته، وحذره من عقاب الله وغضبه, ولفت نظره إلى إصلاح المملكة (3). وكتب إلى وزراء المملكة رسائل مستفيضة، ولفت نظرهم بكل جرأة وصراحة إلى فساد الأوضاع، وجور الحكام وابتزازهم للأموال، وما كان يعانيه الشعب من حيف الأمراء، وغفلة المسئولين، وطمع الموظفين، وحذرهم عقاب الله وبطشه، وذكرهم بمصير الوزراء السابقين، والحكام الظالمين، وحثَّهم على إصلاح الجهاز الإداري، وتنظيم الحكومة والضرب على يد الظلمة, ورسائله الفارسية التي وجهها في هذا المعنى إلى الوزراء مثال الشجاعة والصَّدع بالحق، ومثال لقوة الإنشاء وبلاغة التعبير، كالتي أرسلها إلى فخر الملك، ومجير الدين (4).
ولم يقتصر الغزالي على بذل النصيحة لملوك عصره ووزرائهم وتوجيههم الديني، وتحذيرهم من سخط الله، بل كان يبحث -لعلو همته وحرصه على إقامة الدين وإسعاد المسلمين- عن دولة فتية تقوم على أساس ديني متين، وفكر سليم، وقد قامت في عصره دولة نشيطة بريئة من كثير من علل الحكومات الإسلامية التي عاصرها، وهي دولة المرابطين بالمغرب، كان على رأسها رجل هو أقوى ملوك المسلمين في عصره وأنشطهم، هو يوسف بن تاشفين، صاحب مراكش، ويحدثنا ابن خلكان، أن الغزالي قصده لعله يتعاون معه على توجيه الحكومة (5)، يقول ابن خلكان: وبلغني أن الإمام حجة الإسلام، أبا حامد الغزالي -تغمده الله تعالى برحمته - لما سمع ما هو عليه من الأوصاف الحميدة، وميله إلى أهل العلم، عزم على التوجه إليه، فوصل إلى الإسكندرية، وشرع في تجهيز ما يحتاج إليه، فوصله خبر وفاته، فرجع عن ذلك العزم (6).
د- نقده للبدع والمنكرات التي حدثت في المجتمع: لم يكن نقد الغزالي مقتصرًا على
_________
(1) رجال الفكر والدعوة (1/ 224).
(2) المصدر نفسه (1/ 225).
(3) المصدر نفسه (1/ 225).
(4) المصدر نفسه (1/ 225، 226).
(5) المصدر نفسه (1/ 227).
(6) وفيات الأعيان نقلاً عن رجال الفكر والدعوة (1/ 227).(1/394)
العلماء والسلاطين والأمراء، بل إنه استعرض المجتمع الإسلامي المعاصر كُلَّه، فذكر ما انتشر فيه من بدع ومنكرات وأوهام ومغالطات، ويدل كتاب الإحياء على أنه - وإن كان نشأ نشأة علمية وعاش بين الكتب والتلاميذ - كان متصلاً بالمجتمع اتصالاً وثيقاً، وقد درسه دراسة عميقة، وكان واسع الإطلاع على المدنيَّة في عصره، وأساليب الحياة، وأجواء الطبقات. وأن ما ذكره من أخلاق مختلف الطبقات وِعللها ليدل دلالة واضحة على قوة ملاحظته، ودقَّة نظره. وقد عقد في كتابه بابًا مستقلاً في المنكرات المألوفة في العادات والتقاليد التي ألِفها الناس، فلا يشعر كل واحد بأنها منكرات دخيلة على الحياة الدينية، وقد دقَّق فيها واستوعبها استيعاباً لا يقدر عليه إلا من عاشر الناس معاشرة طويلة، وخبر الحياة ودرسها دراسة واسعة عميقة ذكر فيها منكرات المساجد ومنكرات الأسواق ومنكرات الشوارع ومنكرات الحمامات، ومنكرات الضيافة والمنكرات العامة (1). وخصَّص الغزالي جزءاً من الكتاب بذم الغُرور، ذكر فيه أصناف المغترين وفرق كل صنف، ذكر منهم المغترين من أهل العلم وفِرَقهم, والمغترين من المتصوفة، والمغترين من أرباب الأموال وفرقهم، وقد ذكر منافذ الشيطان ومداخل النفس في هذه الطبقات وأصنافها، وذكر في أفكارهم ومزالقهم وعقدهم النفسية مالا يطَّلع عليها إلا عالم كبير من علماء النفس، ومصلح اجتماعي ذكي له تجارب طويلة ونظر نافذ (2). وقد انتقد العلماء والمشتغلين بالعلم في غُلوهم في الإكثار من الجزئيات الفقهية، والخلافيات، والكلام والجدل، والتعمق في العلوم الآلية: كالنحو، واللغة، والشَّعر، والغريب، والانهماك به، وانتقد الصوفية بالاكتفاء بحفظ أقوال المشائخ وأخبارهم ...
وذكر من التباسات الصوفية ومبالغاتهم شيئاً كثيراً يدل على إنصافه وتدقيقه (3). وقد ذكر عن المغترين من أرباب الأموال طرائف وحقائق تدل على النظر العميق، والفهم الديني الصحيح يقول: ربما يحرصون على إنفاق المال في الحج، فيححُّون مرة بعد أخرى، وربما تركوا جيرانهم جياعاً (4). ويقول: وفرقة أخرى من أرباب الأموال اشتغلوا بها، يحفظون الأموال ويمسكونها بحكم البُخل، ثم يشتغلون بالعبادات البدنية التي لا تحتاج فيها إلى نفقها، كصيام النهار وقيام الليل، وختم القرآن وهم مغرورون لأن البخل المهلك قد استولى على بواطنهم، فهو يحتاج إلى قمعه بإخراج المال, وقد اشتغل بطلب فضائل هو مستغن عنها، ومثاله مثال من دخل في ثوبه حية وقد أشرف على الهلاك وهو مشغول بطبخ السَّكنجين يسكن به الصَّفراء، ومن قتلته الحية متى يحتاج إلى السكنجين؟ ولذلك قيل لبشر الحافي: إن فلاناً الغني كثير الصوم والصلاة؟ فقال: المسكين؛ ترك حاله، ودخل في حال غيره، وإنما حال هذا إطعام
_________
(1) إحياء علوم الدين (2/ 294 - 300).
(2) رجال الفكر والدعوة (1/ 229).
(3) إحياء علوم الدين (3/ 345 - 350).
(4) المصدر نفسه (3/ 351).(1/395)
الطعام للجياع، والإنفاق على المساكين، فهذا أفضل له من تجويعه نفسه، ومن صلاته لنفسه مع جمعه للدينار ومنعه للفقراء (1)، وقد تحدث الغزالي عن صور كثيرة من الأخطاء والبدع التي وقعت في المجتمع واستطاع تصويرها بريشته البارعة، فصور مخايل، وقسمات وجه ذلك المجتمع، وجسم دقائقه وتجاعيده، ويظهر في ذلك كله ذكاؤه، وسعة إطلاعه، ودقة ملاحظته وبراعة تصويره، وسلامة تفكيره (2).
4 - ميادين الإصلاح عند الغزالي: لم يكتف الغزالي بتشخيص الأدواء التي ضربت المجتمع في زمانه وإنما جعل هذا التشخيص مقدمة لاستخلاص ميادين العلاج, وكذلك يمكن القول إن ميادين الإصلاح عند الغزالي اشتملت على الميادين التالية (3):
أ- العمل على إيجاد جيل جديد من العلماء والمربين: يرى الغزالي أهمية العلماء الربانيين في الإصلاح, ولذلك خلص إلى وجوب هذا النوع من العلماء وتحديد وظيفتهم وعلاقاتهم بالسلاطين (4): فالعلماء هم أطباء الدين عليهم أن يطلبوا مرضى العقول والنفوس لعلاجهم لأنهم ورثة الأنبياء، والأنبياء ما تركوا الناس على جهلهم بل كانوا ينادونهم في مجامعهم, ويدورون على أبواب دورهم في الابتداء ويطلبونهم واحداً واحداً فيرشدونهم. فإن مرضى القلوب لا يعرفون مرضهم ... وهذا فرض عين على العلماء، وعلى السلاطين كافة أن يرتبوا في كل قرية ومن كل محلة فقيهاً متديناً يعلم الناس دينهم، فإن الخلف لا يولدون إلا جهالاً فلا بد من تبليغ الدعوة إليهم في الأصل والفرع, والدنيا دار المرضى إذ ليس في بطن الأرض إلا ميت ولا على ظهرها إلا سقيم، ومرضى القلوب أكثر من مرضى الأبدان، والعلماء أطباء، والسلاطين قوّام دار المرضى، فكل مريض لم يقبل العلاج بمداواة العالم يسلم إلى السلطان ليكف شره كما يسلم الطبيب المريض الذي لا يحتمي أو الذي غلب عليه الجنون إلى القيم ليقيده بالسلاسل والأغلال ويكف شره عن نفسه وعن سائر الناس (5). وللعلماء الذين يقومون بوظيفة تطبيب الناس من مرض الدنيا شروط وصفات حددها الغزالي فيما يلي:
- أن لا يطلب العالم الدنيا بعلمه.
- أن تكون عناية العالم بتحصيل العلم النافع في الآخرة المرغب في الطاعات مجتنبا
_________
(1) إحياء علوم الدين (3/ 352) , رجال الفكر والدعوة (1/ 230).
(2) رجال الفكر والدعوة (1/ 231).
(3) هكذا ظهر جيل صلاح الدين، ص 133.
(4) المصدر نفسه، ص 134.
(5) إحياء علوم الدين (4/ 50).(1/396)
العلوم التي يقل نفعها ويكثر فيها الجدل والقيل والقال.
- أن يكون العالم غير مائل للترف في المطعم والمشرب والملبس والأثاث بل يؤثر الاقتصاد في جميع ذلك.
- أن يكون العالم مستقصياً عن السلاطين محترزاً عن مخالطتهم.
- أن لا يكون مسارعاً إلى الفُتيا بل يحترز في ذلك ما وجد إلى الخلاص سبيلاً.
- أن يكون شديد العناية بتوبة اليقين.
- أن يكون أكثر بحثه في علم الأعمال وعما يفسدها ويشوش الشكوك ويثير الشر (1). ولقد أسهب الغزالي في تحديد صفات العلماء المطلوبين لحمل رسالة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وميز بين علماء الآخرة وبين علماء الدنيا أو علماء السوء. وأطنب في التمييز بين أخلاق الطرفين العلمية والاجتماعية ونوع علاقاتهم مع السلاطين والعوام والأغنياء والفقراء، وميز بين أساليب الطرفين في الإرشاد والوعظ والمناقشة, كل ذلك في ضوء الوظيفة الأساسية التي حددها الإسلام للعلماء (2).
ب- وضع منهاج جديد للتربية والتعليم: امتاز المنهاج الذي وضعه الغزالي عن المناهج المعاصرة بأنه تخطى الجزئية التي أفرزتها المذهبية، فلم يقتصر ذلك المنهاج على علوم الفقه التي حددها المذهب، وإنما تكاملت فيه العلوم الدينية كلها كالتوحيد، والتصوف والفقه، كذلك تكاملت فيه العلوم الدينية والمهن الدنيوية, لأن العلوم - حسب مفهوم الغزالي - كلها إسلامية ولكنها تنقسم إلى قسمين: شرعية وغير شرعية، فالشرعية ما استفيد من الأنبياء, وغير الشرعية ما أرشد إليها العقل كالطب والحساب، والعلوم الشرعية فرض كفاية فلو خلا بلد منها سارع إلى الهلاك (3). ومن يقتصر على العلوم الدنيوية دون الشرعية يضيع عمره فيما لا ينفعه في الآخرة (4). وتدل مؤلفات الغزالي التي درّسها لطلابه أنه قد صنفها لتغطي الميادين الآتية:
- بناء العقيدة الإسلامية: والهدف منه تكوين عقيدة واضحة حية تكون بمثابة الأيديولوجية التي تحدد مسار السياسات المختلفة وتوجهها, وأوضح الكتب التي مثلت ميدان بناء العقيدة هو كتاب «الحكمة من مخلوقات الله عز وجل» , ومن يطالع الكتاب يخال
_________
(1) إحياء علوم الدين (4/ 58 - 76).
(2) المصدر نفسه (4/ 75 - 76) , هكذا ظهر جيل صلاح الدين، ص 135.
(3) إحياء علوم الدين (1/ 17).
(4) أيها الولد للغزالي، ص 22, هكذا ظهر جيل صلاح الدين، ص 138.(1/397)
نفسه أمام طبيب مختص بالتشريح، أو فلكي عالم بالفضاء. فقد اشتمل على أبواب معنوية بـ «التفكير في خلق السماء وفي هذا العالم» و «في حكمة الشمس» و «حكمة القمر والكواكب» «وحكمة خلق الأرض» والبحر والماء والهواء والنار والإنسان وتشكيل أجسام كل من الإنسان والبهائم والطيور والنحل والنبات وغير ذلك من المخلوقات. ولقد عرض الغزالي هذه الموضوعات بأسلوب قائم على تشريح الأجسام وتحليل عمل الأجرام وبيان تناسق وظائف كل عضو وإبراز دقة الخليقة وحكمتها (1).
- ميدان تهذيب النفس والإرادة: وهدفه الارتقاء بالإنسان عن مستوى الخضوع للشهوات والأهواء إلى مقام العبودية لله حيث يتحرر الفرد من الخضوع للشهوات أو الخوف، ويتصرف طبقاً لمراد الله سبحانه وتعالى عن قناعة ورضا، ولتحديد متطلبات هذا الميدان ووسائله وضع الغزالي أبحاثاً مطولة في التحليل النفسي ومراتب تطور النفس وأحوالها والمؤثرات التي تؤثر في السلوك والفكر، والممارسات التي يجب أن يمر بها المتعلم. ولقد استقى الغزالي مكونات هذا المنهج من القرآن والسنة ومصادر تراث السلف وأوائل الصوفية التي تتسق مع الكتاب والسنة. ولقد طبق الغزالي هذا المنهج - في تهذيب النفس - على نفسه عندما هجر التدريس في النظامية وهجر الأهل والموطن والجاه أحد عشر عاماً حتى صفت نفسه، ثم طبقه على تلاميذه عندما عاد لبلده ليشتغل بتعليم الآخرين وتهذيبهم (2).
- ميدان دراسة العلوم الفقهية وما اشتملت عليه من أنظمة ومبادئ تتطلبها المعاملات الجارية والقضايا الحياتية القائمة والمتجددة, ولقد كانت دراسات هذا الميدان متحررة من التقليد المذهبي متصلة اتصالاً مباشراً بالقرآن (3).
- ميدان الحكمة والإعداد الوظيفي. ولقد أدرج الغزالي تحت هذا الميدان جميع السياسات والإدارات والمهن التي يحتاجها المجتمع وكيفية توزيع الأفراد حسب استعداداتهم وقدراتهم, وأشار إشارة صريحة إلى أن علوم هذا الميدان لا تقتصر على ما عرفه الإنسان وإنما سيبرز الكثير منها في المستقبل بسبب تطور هذه الحياة وتجدد الحاجات (4)، ومن جهود الغزالي في هذا المجال كتاب «التبر المسبوك في نصيحة الملوك» الذي أورد فيه أخباراً تظهر أهمية العدل، وسياسة السلطان، وسياسة الوزراء مستشهداً بتاريخ الحكومات في فارس
_________
(1) هكذا ظهر جيل صلاح الدين، ص 139 نقلاً عن الحكمة من مخلوقات الله عز وجل في مجموعة: رسائل الفوائد.
(2) هكذا ظهر جيل صلاح الدين، ص 139.
(3) هكذا ظهر جيل صلاح الدين، ص 139.
(4) هكذا ظهر جيل صلاح الدين، ص 139.(1/398)
والروم وبتاريخ الخلفاء. وهكذا الكتاب يشكل منطلقات معينة لتحديد مفهوم الإدارة الحكومية كما يتصورها الغزالي (1). وتكشف أبحاث الغزالي في هذا الميدان عن اطلاع واسع وخبرات عميقة في ميدان الإدارة والسياسة والآثار التي تترتب على حسن الإدارة أو سوئها، كذلك بحث الغزالي في تقدم العلوم وتجددها، وفي نظريات التعلم وفي التطور الثقافي والتطور الذي يصيب المجتمعات عبر الزمان والمكان وغير ذلك من أصول التربية سواء منها الاجتماعية أو العقائدية أو التربوية (2). ولقد طبق الغزالي هذه الآراء التربوية في مدرسته التي أنشأها واستقل بالتدريس بها هو وبعض أصحابه، وكان لها أكبر الأثر في تخريج أنماط جديدة من الرجال أسهموا فيما بعد في الحركة الإصلاحية إسهاماً فعالاً (3)، وأصبح منهاج مدرسة الغزالي نموذجاً احتذته المدارس الخاصة التي نشأت متأثرة بدعوته وأهمها المدرسة القادرية في بغداد التي لعبت دوراً رئيسياً (4) في نهوض الأمة ودعم حركة الجهاد في عهد نور الدين زنكي، وصلاح الدين الأيوبي.
جـ- إحياء رسالة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: والأمر بالمعروف والنهي عن
المنكر - عند الغزالي - دوائر بعضها أوسع من بعض أولها: أن يبدأ الفرد بنفسه ليضع منها نموذج المؤمن المطلوب: فكن أحد رجلين إما مشغولاً بنفسك، وإما متفرغاً لغيرك بعد الفراغ من نفسك, وإياك أن تشتغل بما بصلح غيرك قبل إصلاح نفسك (5). وثانيها: أن يعلم أهل بيته. وثالثها: أن يدعو جيرانه. ورابعها: أهل محلته. وخامسها: أهل بلده. وسادسها: أهل المناطق الحضرية في البلاد عامة. وسابعها: أهل البوادي: وثامنها: الإنسانية كلها. وفي ذلك يقول الغزالي: فحق على كل مسلم أن يبدأ بنفسه فيصلحها بالمواظبة على الفرائض وترك المحرمات, ثم يعلم أهل بيته، ثم يتعدى بعد الفراغ منهم إلى جيرانه, ثم إلى أهل محلته، ثم إلى أهل بلده، ثم إلى أهل السواد المكتنف ببلده، ثم إلى أهل البوادي من الأكراد والعرب وغيرهم. وهكذا إلى أقصى العالم. فإن قام به الأدنى سقط عن الأبعد، ولا حرج به على كل قادر عليه قريباً كان أو بعيداً، ولا يسقط الحرج ما دام يبقى على وجه الأرض جاهل بفرض من فروض دينه (6). على أن الغزالي في هذه الدوائر خص السلاطين ببحث أسماه «باب أمر الأمراء بالمعروف ونهيهم عن المنكر» وكان الغزالي عنيفاً في تحريض العلماء على
_________
(1) هكذا ظهر جيل صلاح الدين، ص 140.
(2) تطور مفهوم النظرية التربوية الإسلامية، ماجد عرسان، ص 152 - 174.
(3) هكذا ظهر جيل صلاح الدين، ص 140.
(4) المصدر نفسه، ص 136.
(5) إحياء علوم الدين (1/ 39).
(6) المصدر السابق (2/ 336).(1/399)
الوقوف من الأمراء موقف الآمر الناهي مستهدفاً بذلك إرساء القاعدة التي يؤمن بها وهي أن «السياسة تدور في فلك العقيدة» وليس العكس. ولقد حشد في سبيل ذلك الأدلة الكثيرة من القرآن والسنة، وأطنب في سرد قصص علماء السلف مع الخلفاء الراشدين والأمويين وأوائل العهد العباسي (1). وهكذا في عشرات الأمثلة إلى أن خلص من ذلك كله إلى القول: إن واجب العالم أن يُقَرّع السلطان الظالم كقوله: يا ظالم, يا من لا يخاف الله وما يجري مجراه.
فذلك أن لا يحرك فتنة يتعدى شرها إلى غيره لم يجز، وإن كان لا يخاف إلا على نفسه فهو جائز بل مندوب (2). ويكرر الغزالي هذا المعنى في أكثر من موضع: للمحتسب، بل يستحب له، أن يعرض نفسه للضرب والقتل إن كان لحسبته تأثير في رفع المنكر أو في كسر جاه الفاسق وفي تقوية قلوب أهل الدين (3). ولقد اعتبر الغزالي أن المسلمين مسئولون عن النهوض لمواجهة المنكر والأمر بالمعروف، وأن التقاعس ذنب ومعصية, ومما قاله في هذا المجال: اعلم أن كل قاعد في بيته أينما كان فليس خالياً من هذا الزمان من منكر من حيث التقاعد عن إرشاد الناس وتعليمهم وحملهم على المعروف. فأكثر الناس جاهلون الشرع في شروط الصلاة في البلاد, فكيف في القرى والبوادي ومنهم الأعراب والأكراد والتركمانية، وسائر أصناف الخلق. وواجب أن يكون في كل مسجد ومحلة من البلد فقيه يعلم الناس دينهم وكذا في كل قرية, وواجب كل فقيه فرغ من فرض عينه وتفرغ لفرض الكفاية أن يخرج إلى من يجاور بلده من أهل السواد ومن العرب والأكراد وغيرهم. ويعلمهم دينهم وفرائض شرعهم, ويستصحب مع نفسه زاداً يأكله ولا يأكل من أطعمتهم فإن أكثرها مغصوب (4). وللأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مراحل: أولها: التعريف بالتعليم، وثانيها: الوعظ، وثالثها: الزجر، ورابعها: المنع بالقهر (5).
د- نقد السلاطين الظلمة: اعتبر الغزالي السلاطين والأمراء في عصره ظلمة متعدين لحدود الله، يحرم على العلماء المخلصين الاختلاط بهم أو التعامل معهم حتى يفيئوا إلى شرع الله (6). وقد تحدثنا عن ذلك فيما مضى.
هـ- محاربة المادية الجارفة والسلبية الدينية، وتصحيح التصور السائد عن الدنيا والآخرة: عالج الغزالي المادية والسلبية الدينية اللتين جرفتا العالم الإسلامي في زمانه بروح
_________
(1) هكذا ظهر جيل صلاح الدين، ص 142.
(2) إحياء علوم الدين (2/ 337).
(3) المصدر نفسه (2/ 316) هكذا ظهر جيل صلاح الدين، ص 143.
(4) إحياء علوم الدين (2/ 316).
(5) هكذا ظهر جيل صلاح الدين، ص 143.
(6) المصدر نفسه، ص 147.(1/400)
الفقيه بأمر الدنيا والآخرة، لذلك لجأ إلى الأسلوب الهادئ التحليلي الذي يخاطب العقل ويستهدف الإقناع وتجنب لهجة الخطيب الواعظ الذي تشغله ظواهر الأمور وأعراض المرض الثانوية فيجنح إلى إثارة العواطف ودغدغة المشاعر .. وقد عمل الغزالي على تبصير الناس بحقيقة الدنيا والصورة التي يجب أن يكون عليها الإنسان بها (1)، وحث الناس على الاقتداء بعهد النبوة وجيل الصحابة في حل هذه الإشكاليات من مادية جارفة، وتصور مغلوط عن الدنيا والآخرة (2).
و- الدعوة للعدالة الاجتماعية: ركز الغزالي على الدعوة للعدالة الاجتماعية بالقدر الذي ركز على أمور العقيدة والدعوة للإصلاح. وأساس آرائه في هذا المجال أن المال آلة صبها الله في أيدي عباده لتكون آلة لدفع حاجاتهم ووسيلة ليتفرغوا لطاعته. فمنهم من أكثر ماله فتنة وبلية فأقحمه في الخطر، ومنهم من حماه وأحبه وفرغه لعبادته وساق إليه حاجته على أيدي الأغنياء, ولذلك عليه أن يأخذ بقدر الحاجة (3). وقد فصل الغزالي في أنماط الحياة الاجتماعية التي تحقق العدالة الاجتماعية المطلوبة، فقد صنف كتاباً في «آداب الكسب والمعاش» ضمنه آراءه في الحث على العمل وتبيان فضيلته، والبيع وأركانه وشروطه وسائر مظاهر المعاملات التجارية والحياة الاقتصادية (4)، كذلك وضع كتاب «الحلال والحرام» في الإحياء وأراد منه تحديد أنماط الحياة الاجتماعية وكيف ينقي المجتمع من العادات المخالفة للإسلام في أساليب المعيشة والتكامل (5)، ومحاربة الاحتكار والكنز لأن: الاحتكار ظلم في المعاملة، وبائع الطعام الذي يحتكر الطعام ينتظر غلاء الأسعار، هو ظلم عام وصاحبه مذموم في الشرع يبرأ منه الله تعالى (6). وأفرد الغزالي كتاباً خاصاً في «حقوق الأخوة والصحبة» (7) فذكر أن هناك حقاً في المال وحقاً في الإعانة بالنفس. ولقد فسّر قوله تعالى: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} [الشورى: 38] أي خلطاء من الأموال لا يميز بعضهم رحله عن بعض (8). وكان الغزالي يرى: أن في المال حقًا سوى الزكاة, لذلك يجب على الأغنياء مهما وجدوا الفقراء في حاجة أن يزيلوا حاجتهم.
ومهما أرهقت الفقير حاجته كانت إزالتها فرض كفاية إذ لا يجوز تضييع المسلم (9).
ز- محاربة التيارات الفكرية المنحرفة: لم يغفل الغزالي التيارات الفكرية المضادة التي
_________
(1) هكذا ظهر جيل صلاح الدين، ص 155.
(2) المصدر نفسه، ص 154، 155، 156.
(3) إحياء علوم الدين (1/ 223 - 224).
(4) إحياء علوم الدين (2/ 62 - 89).
(5) إحياء علوم الدين (2/ 89 - 133).
(6) المصدر نفسه (2/ 74).
(7) المصدر نفسه (2/ 170 - 190).
(8) المصدر نفسه (2/ 171).
(9) المصدر نفسه (1/ 215).(1/401)
استهدفت العقيدة الإسلامية من أصولها، والتي تمثلت بتيارين هما: الباطنية والفلاسفة, وقد بينا موقف الغزالي من كليهما. وفي مجابهته لهذين التيارين لم يلجأ الغزالي إلى الشتائم والقذف وإنما اعتمد الأسلوب العلمي القائم على الدراسة والاطلاع اطلاعاً يتفوق على أصحاب الفكر نفسه (1)، ولقد ركز الغزالي في تفنيده لهذين التيارين على الأصول الأساسية لكل منهما، وبذلك اقتلعهما من جذورهما حتى آل أمرهما إلى البوار والانحسار، ولنا أن نقدر للغزالي هذه الجرأة الفكرية خصوصاً إذا تذكرنا الإرهاب الفكري الذي أشاعته الباطنية وهي تغتال كل معارض أو منتقد حتى سقط نتيجة لهذا الإرهاب مئات العلماء والأعيان (2). ولقد ترتب على جهود الغزالي انحسار للتيارات الفكرية المنحرفة التي
مثلها الباطنية والفلاسفة، وركدت سوقهما بين الجماهير وآل أمرهما فيما بعد إلى
البوار والسقوط (3).
ح- الإصلاح في ميدان الفكر: اجتهد الغزالي في إيقاظ الوعي في المجتمع الإسلامي وذلك بتحرير العقل من رق التقليد، وبالعودة إلى منابع الإسلام الأصيلة من كتاب وسنة، والتأكيد على النظرة الكلية الشاملة للمنهج الإسلامي (4) .. وإليك شيء من التفصيل:
- دور العقل: قرر الغزالي بأنه لا تعارض بين العقل والشرع وفي ذلك يقول: فلا غنى بالعقل عن السماع، ولا غنى بالسماع عن العقل، فالداعي إلى محض التقليد مع عزل العقل بالكلية جاهل، والمكتفي بمجرد العقل عن أنوار القرآن والسنة مغرور، فإياك أن تكون من أحد الفريقين، كن جامعاً بين الأصلين، فإن العلوم العقلية كالأغذية والعلوم الشرعية كالأدوية (5). ثم يقرر بناء على هذا عدم تعارض العلوم العقلية مع العلوم الشرعية فيقول: وظنُّ من يظن أن العلوم العقلية مناقضة للعلوم الشرعية، وأن الجمع بينهما غير ممكن هو ظن صادر عن عمى في عين البصيرة نعوذ بالله منه، بل هذا القائل ربما يناقض عنده بعض العلوم لبعض فيعجز عن الجمع بينهما فيظن أنه تناقض في الدين، فيتحير به، فينسل من الدين انسلال الشعرة من العجين، وإنما ذلك لأن عجزه في نفسه خيل إليه نقصاً في الدين وهيهات (6).
- رفض التقليد: يرى الغزالي - بعد أن حدد مصدر التلقي - أن العالِم ينبغي أن لا
_________
(1) المنقذ من الضلال، ص 6 - 9.
(2) هكذا ظهر جيل صلاح الدين ص163، 164.
(3) المصدر نفسه، ص 173، 174.
(4) الإمام الغزالي، صالح الشامي، ص 197.
(5) إحياء علوم الدين (3/ 17).
(6) المصدر نفسه (3/ 17).(1/402)
يكون مقلداً. ويشرح لنا ذلك عندما تحدث عن صفات علماء الآخرة فيقول: ومنها: يكون اعتماده في علومه على بصيرته وإدراكه بصفاء المقلَّد (1)، صاحب الشرع صلوات الله عليه وسلامه فيما أمر به وقاله. وإنما يقلَّد الصحابة - رضي الله عنهم - من حيث إن فعلهم يدل على سماعه من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. ثم إن العالم عليه أن يعمل عقله في تفهم أسرار أقواله - صلى الله عليه وسلم - وأفعاله، لأنها لا تخلو من أسرار، واكتشاف ذلك هو مهمة العالم .. قال: ثم إذا قلد صاحب الشرع - صلى الله عليه وسلم - في تلقي أقواله وأفعاله بالقبول، فينبغي أن يكون حريصاً على فهم أسراره، فإن المقلد إنما يفعل الفعل لأن صاحب الشرع - صلى الله عليه وسلم - فعله، وفعله لا بد أن يكون لسر فيه، فينبغي أن يكون شديد البحث عن أسرار الأعمال والأقوال، فإنه إن اكتفى بحفظ ما يقال كان وعاءً للعلم ولا يكون عالماً. ولذلك كان يقال: فلان من أوعية العلم, فلا يسمى عالماً إذا كان شأنه الحفظ من غير اطلاع على الحكم والأسرار .. ولذلك قال ابن عباس رضي الله عنهما: ما من أحد إلا يؤخذ من علمه ويترك إلا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (2). وينبغي للعالم أن يعرف الحق، وبه يُعرف الرجال، وإلى هذا يوجهه الغزالي: فاعلم إن عُرف الحق بالرجال، حَار في متاهات الضلال، فاعرف الحق تعرف أهله إن كنت سالكاً طريق الحق (3)، ويتحدث الغزالي عن الحجب التي تحول دون الفهم فيذكر منها التقليد، فيقول: ومنها: أن يكون مقلداً لمذهب سمعه بالتقليد، وجمد عليه، وثبت في نفسه التعصب له، بمجرد الاتباع للمسموع، من غير وصول إليه ببصيرة ومشاهدة.
فهذا شخص قيده معتقده عن أن يجاوزه فلا يمكن أن يخطر بباله غير معتقده، فصار نظره موقوفاً على مسموعه، فإن لمع برق على بُعد، وبدله معنى من المعاني التي تباين مسموعه، حمل عليه شيطان التقليد حملة وقال: كيف يخطر هذا ببالك، وهو خلاف معتقد آبائك، فيرى أن ذلك غرور من الشيطان فيتباعد منه ويحترز عن مثله (4). وتحدث الغزالي عن التقليد وبين أن النظر ليس حفظ الدليل، وإنما هو البحث وأعمال الفكر للوصول إلى الدليل الذي به تكون قناعة العقل. وبهذا المنطق يدعو الغزالي إلى تحرر العقل من رقَّ التقليد، وذلك بإعمال عقولهم وعندها يمكنهم أن يؤدوا دورهم في أداء واجبهم. ولعل الدافع للغزالي إلى هذا الموقف من التقليد، إنما كان بفعل ما رآه من جمود علماء عصره على مذاهب أئمتهم - سواء أكان ذلك في الفقه أو الاعتقاد - وتعطيل عقولهم، بحيث لا يخالفونهم حتى ولو كان الدليل مؤيداً لغير ما ذهبوا إليه (5).
- الدعوة إلى الكتاب والسنة: قال الغزالي في رسالته «أيها الولد»: اعلم أن الطاعة
_________
(1) المقصود بالتقليد هنا: الاتباع.
(2) إحياء علوم الدين (1/ 78).
(3) إحياء علوم الدين (1/ 23).
(4) المصدر نفسه (1/ 284).
(5) الإمام الغزالي للشامي، ص 205.(1/403)
والعبادة، متابعة الشرع في الأوامر والنواهي، بالقول والفعل. يعني: كل ما تقول وتفعل، وتترك قوله وفعله، يكون باقتداء الشرع وقال: أيها الولد, ينبغي لك أن يكون قولك وفعلك موافقاً للشرع، إذ العلم والعمل بلا اقتداء بالشرع ضلالة (1)، ويقول في «ميزان العمل»: اعلم أن سالك سبيل الله تعالى قليل، والمدعي فيه كثير، ونحن نعرفك علامتين له، العلامة الأولى: أن تكون جميع أفعاله الاختيارية موزونة بميزان الشرع، موقوفة على حد توقيفاته، وإيراداً وإصداراً، وإقداماً وإحجاماً، إذ لا يمكن سلوك هذا السبيل إلا بعد التلبس بمكارم الشريعة كلها (2).
أ- الالتزام بمنهج السلف: ويؤكد الغزالي على الحرص على معرفة سيرة الصحابة والتزام نهجهم: فتقليد الصحابة رضي الله عنهم إنما كان من حيث إن فعلهم يدل على سماعهم من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (3). فالمقلد لهم إنما هو - في الحقيقة - متبع للرسول - صلى الله عليه وسلم -. وبهذا كان للصحابة ميزة على غيرهم من الناس، فالغزالي ينصح من أراد التقليد أن يلتزم بهم فيقول: وإن قنعت بالتقليد والنظر إلى ما اشتهر من درجات الفضل بين الناس، فلا تغفل عن الصحابة وعلو منصبهم، فقد أجمع على تقدمهم، وأنهم لا يدرك في الدين شأوهم ولايشق غبارهم (4)، ولذا ينبغي أن يكون الصحابة هم المقياس الذي يقاس بهم العلماء، فمن كان أشبه بهم فهو الأقرب إلى منهج الحق وطريق السلف, واعلم تحقيقاً أن أعلم أهل الزمان وأقربهم للحق، أشبههم بالصحابة، وأعرفهم بطريق السلف، فمنهم أخذ الدين (5) .. وبعد أن عرَّف بالعلم المحمود والعلم المذموم يقول: وإليك الخيرة في أن تنظر لنفسك فتقتدي بالسلف، أو تتدلى بحبل الغرور وتتشبه بالخلف، فكل ما ارتضاه السلف من العلوم قد اندرس وما أكب الناس عليه فأكثره مبتدع ومحدث (6). وإذا كان الأمر كذلك فينبغي عدم الاغترار بما أحدث ولو أجمع عليه الناس، وينبغي البحث عما كان عليه الصحابة. وتلك صفة من صفات علماء الآخرة, ومنها أن يكون شديد التوقي من محدثات الأمور، وإن اتفق عليها الجمهور، فلا يغرَّنه إطباق الخلق على ما أحدث بعد الصحابة رضي الله عنهم. وليكن حريصاً على التفتيش على أحوال الصحابة وسيرتهم وأعمالهم (7). ويؤكد الغزالي على هذا الأمر، لما يترتب عليه من انحراف في الأمة، وتطابق أكثر الناس على أمر لا يعني صوابه،
_________
(1) الإمام الغزالي للشامي، ص 206.
(2) الغزالي للشرباصي، ص 164.
(3) إحياء علوم الدين (1/ 78).
(4) المصدر نفسه (1/ 23).
(5) المصدر نفسه (1/ 23).
(6) المصدر نفسه (1/ 38).
(7) المصدر نفسه (1/ 79).(1/404)
ويبرهن على ذلك ببرهان واقعي، وهو أن صنعة الكلام التي تواضع الناس عليها ..
لم تكن في السلف (1)، فيقول: .. ودع عنك ما تطابق أكثر الناس عليه، وعلى تضخيمه وتعظيمه، لأسباب ودواع يطول تفصيلها، فلقد قبض رسول الله عن آلاف من الصحابة رضي الله عنهم، كلهم علماء بالله، أثنى عليهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولم يكن فيهم أحد يحسن صنعة الكلام (2). فهذه صيحة الغزالي التي دعا فيها إلى إعمال العقل، ونبذ التقليد والتزام منهج السلف، هي حلقة من سلسلة صيحات دوى بها المجتمع الإسلامي من قبل رجال الإصلاح في كل عصر (3)، وقد كانت دعوة الغزالي في أواخر القرن الخامس الهجري قد أثرت تأثير كبيراً في عصره والذي بعده.
سابعاً: الغزالي وعلم الحديث:
من أهم ما أُخذ على الغزالي تقصيره في علم الحديث، وإن شئنا الدقة قلنا في علوم الحديث، وقد رأينا ابن الجوزي يصفه بأنه في الحديث «حاطب ليل» أي يأخذ كل ما وجده دون تمحيص ولا انتقاء، ويرجع هذا إلى أن المدرسة التي نشأ فيها الغزالي، وتكونت في حلقاتها شخصيته العلمية - مدرسة إمام الحرمين خاصة - كان يغلب عليها الطابع العقلي الجدلي، وكان أهم ما يدرس فيها علوم الكلام والأصول والفقه والمنطق والجدل، ولم تكن لها عناية كافية بالحديث وعلومه، وقلما يسلم المرء من تأثير بيئته، وقد عيب على شيخه إمام الحرمين بعض ما عيب عليه في ذلك، ولكن الغزالي زاد على أستاذه في هذا كثيراً، لأن الموضوعات التي عالجها- في التصوف والسلوك - تتسع للضعيف من الحديث أكثر مما يتسع الفقه الذي يتعلق بالأحكام وبيان الحلال والحرام، ومثل ذلك علم «الأصوليين»: أصول الدين، وأصول الفقه، وهي التي اشتهر بها شيخه (4).
ومن الإنصاف أن نبين أن الغزالي لم يكن هو وحده الذي سقط في أحابيل الأحاديث الواهية والموضوعة، فقد سقط في ذلك المتصوفة من قبله، وهو أخذ ما في كتبهم وأبقاه في كتبه، والمتصوفة معروفون بالتساهل في ذلك؛ لأن مجالهم «الرقائق» (5)، بل إن الفقهاء لم ينجوا من الوقوع فيما وقع فيه الصوفية، فكثيراً ما ذكروا في كتبهم أحاديث معلقة غير مسندة ولا ثابتة، وكتب التفسير حشيت بما لا يصح ولا يثبت من الحديث والإسرائيليات (6). والذي
_________
(1) الإمام الغزالي للشامي، ص 208.
(2) إحياء علوم الدين (1/ 23).
(3) الإمام الغزالي للشامي، ص 209.
(4) الإمام الغزالي بين مادحيه وناقديه للقرضاوي، ص 136.
(5) المصدر نفسه، ص 137.
(6) المصدر نفسه، ص 137.(1/405)
يعرف الصحيح من السقيم والمقبول من المردود، الخبراء الذين آتاهم الله المعرفة بالحديث رواية ودراية، ولم يكن الغزالي منهم بحكم بيئته العلمية وما غلب عليها من ثقافته, وهذه نقطة ضعف عند الغزالي وكذلك عند كثير من الصوفية: أنه لم يتعمق في العلوم المنقولة من التفسير الأثري والحديث وآثار السلف التي هي أساس العلوم الشرعية، وقد اعترف في كتابه «قانون التأويل» بأن بضاعته في علم الحديث مزجاة، فهذا جعله يستدل بأحاديث ضعيفة أو لا أصل لها، أو موضوعة مختلفة، كما يغفل عن أحاديث صحيحة، أو متفق عليها، في موضوعه، كان يجب أن يذكرها، وربما لو عرفها لغيرت من مسار تفكيره (1). وقد ذكر ابن تيمية أن الغزالي في أواخر عمره قطع بأن كلام الفلاسفة لا يفيد علماً ولا يقيناً، بل وكذلك قطع في كلام المتكلمين (2)، قال: وآخر ما اشتغل به النظر في صحيحي البخاري ومسلم، ومات وهو مشتغل بذلك (3).
وقد اعتذر مجموعة من العلماء عن الغزالي عن استناده للأحاديث الضعيفة وخاصة في الأحياء بأن الكتاب في الرقائق والترغيب وفضائل الأعمال، والعلماء أجازوا رواية الضعيف في هذا المجال, وممن اعتذر بذلك للغزالي ابن كثير حيث قال عن الإحياء: وهو كتاب عجيب، يشتمل على علوم كثيرة من الشرعيات، وممزوج بأشياء لطيفة من التصوف وأعمال القلوب، لكن فيه أحاديث كثيرة غرائب ومنكرات وموضوعات كما يوجد في غيره من كتب الفروع التي يستدل بها على الحلال والحرام، فالكتاب الموضوع للرقائق والترغيب والترهيب أسهل أمراً من غيره (4). ومما ينبغي ذكره هنا أن الحافظ زين الدين العراقي، قد خدم الكتاب خدمة جليلة بتخريجه الموجز لأحاديثه المطبوع معه في حاشيته، والمسمى «المغني عن حمل الأسفار، بتخريج ما في الإحياء من الأحاديث والأخبار» فعلى كل قارئ للإحياء يجب مراجعة تخريج العراقي ليعرف منه درجة الحديث، وإن كان فيه ما يتعقب، ولكنه مهم ونافع على كل حال (5).
ثامناً: كتاب إحياء علوم الدين:
كتاب إحياء علوم الدين لأبي حامد الغزالي من الكتب التي تباينت فيها الأنظار، فمن مادح له مطلقاً ساكت عن طوامه، ومن قادح فيه مطلقاً، ساكت عن محاسنه, والأئمة الراسخون في العلم توسطوا فيه فأعطوه حقه من المدح والقدح، وأنزلوه منزلته التي
_________
(1) الإمام الغزالي بين مادحيه وناقديه للقرضاوي، ص 138.
(2) المصدر نفسه، ص 139.
(3) مجموع الفتاوى (16/ 214).
(4) البداية والنهاية (16/ 214).
(5) الإمام الغزالي بين مادحيه وناقديه، ص 143.(1/406)
يستحقها بدون غلو أو جفاء (1)، قال ابن تيمية في معرض تقويمه لكتابي: إحياء علوم الدين وقوت القلوب لأبي طالب المكي: أمّا كتاب قوت القلوب وكتاب الإحياء تبع له فيما يذكره من أعمال القلوب: مثل الصبر، والشكر، والحب، والتوكل، والتوحيد ونحو ذلك, وأبو طالب أعلم بالحديث والأثر وكلام أهل علوم القلوب من الصوفية من أبي حامد الغزالي، وكلامه أسُّد وأجود تحقيقاً، وأبعد عن البدعة، مع أنَّ في قوت القلوب: أحاديث ضعيفة وموضوعة وأشياء كثيرة مردودة. وأمّا ما في الإحياء من الكلام في المهلكات مثل: الكلام على الكبر، والعُجب والرياء والحسد ونحو ذلك، فغالبه منقول من كلام الحارث المحاسبي في الرعاية، ومنه ما هو مردود، ومنه ما هو متنازع فيه والإحياء فيه فوائد كثيرة لكن فيه مواد مذمومة، فإن فيه مواد فاسدة من كلام الفلاسفة تتعلق بالتوحيد والنبوة والمعاد، فإذا ذكر معارف الصوفية كان بمنزلة من أخذ عدوًّا للمسلمين ألبسه ثياب المسلمين. وقد أنكر أئمة الدين على أبي حامد هذا في كتبه وقالوا: مرّضه الشفاء يعني: شفاء ابن سينا في الفلسفة وفيه أحاديث وآثار ضعيفة، بل موضوعة كثيرة، وفيه أشياء من أغاليط الصوفية وتُرّهاتهم, وفيه -مع ذلك - من كلام مشايخ الصوفية العارفين المستقيمين في أعمال القلوب الموافق للكتاب والسنًّة ومن غير ذلك من العبادات والأدب ما هو موافق للكتاب والسنَّة، ما هو أكثر ممَّا يرد منه, فلهذا اختلف فيه اجتهاد الناس وتنازعوا فيه (2).
وقال أيضاً: والغزالي في كلامه مادة فلسفية كبيرة بسبب كلام ابن سينا في الشفا وغيره، ورسائل إخوان الصفا، وكلام أبي حيان التوحيدي, وأما المادة المعتزلية في كلامه فقليلة أو معدومة، كما أن المادة الفلسفية في كلام ابن عقيل قليلة أو معروفة، وكلامه في الإحياء غالبه جيد، لكن فيه مواد فاسدة: مادة فلسفية، ومادة كلامية ومادة من ترهات الصوفية، ومادة من الأحاديث الموضوعة (3). وقال الذهبي: وأما الإحياء ففيه من الأحاديث الباطلة جملة وفيه خير كثير، لولا ما فيه من آداب ورسوم وزهد من طرائق الحكماء ومُنحرفي الصوفية, نسأل الله علماً نافعاً، تدري ما العلم النافع؟ هو ما نزل به القرآن، وفسّره الرسول - صلى الله عليه وسلم - قولاً وفعلاً، ولم يأت نهي عنه، قال عليه السلام: «من رغب عن سنتي، فليس مني» (4)، فعليك يا أخي بتدبر كتاب الله، وبإدمان النظر في «الصحيحين»، وسنن النسائي، ورياض النووي وأذكاره، تُفلح وتُنجِح (5). وقال الذهبي: الغزالي إمام كبير وما
_________
(1) منهج أهل السنة في تقويم الرجال ومؤلفاتهم للصويات، ص 143.
(2) مجموع الفتاوى (10/ 55) , الفتاوى الكبرى (2/ 194).
(3) مجموع الفتاوى (6/ 54 - 55).
(4) البخاري رقم 5063، مسلم رقم 1401.
(5) سير أعلام النبلاء (19/ 340).(1/407)
من شرط العالم أنه لا يخطئ (1). وقال أيضاً: فرحم الله أبا حامد فأين مثله في علومه وفضائله ولكن لا ندعي عصمته من الغلط والخطأ ولا تقليد في الأصول (2). وقال الشيخ محمد الخضر حسين شيخ الأزهر: وإذا وجد العلماء في كتاب الإحياء مآخذ معدودة، فإنه من صنع بشر غير معصوم من الزلل, وكفى كتاب الإحياء فضلاً وسمو منزلة: أن تكون درر فوائده فوق ما يتناول العد، وأن يظفر منه طلاب العلم وعشاق الفضيلة بما لا يظفرون به في كتاب غيره (3).
وقال الدكتور القرضاوي: وكم أتمنى أن يختصر من الكتاب -أعني: الأحياء - «منتقى» يبقى على روحه وحرارته كما يبقى على فوائده العلمية والتربوية - وهي كثيرة وفيرة - ويحذف التجاوزات والمبالغات، والأحاديث الضعيفة أو الشديدة الضعف على الأقل، وبهذا تقدم للثقافة الإسلامية خدمة جليلة (4). وقال العلاّمة أبو الحسن الندوي: ويدلُّ كتاب الإحياء على مكانته العالية بين علماء الأخلاق، وقد بحث عن الأخلاق ودوافعها ومنشئها وأصنافها بحثاً دقيقاً عميقاً، وتكلم في أمراض القلب وأسبابها وعلاجها كلاماً يجمع بين الحكمة والعلم والتجربة والتربية، وإنَّ من يقرأ بحثه المستفيض في بيان سبب كون الجاه محبوباً بالطبع، حتى لا يخلو عنه قلب إلا بشديد المجاهدة، ليخضع ويقر بذكائه ودراسته للطبيعة البشرية، وتحليله العلمي وعقله الكبير (5)، وقد استحقَّ الغزالي ببحوثه العميقة في الأخلاق، وبتأليفه العظيم «إحياء علوم الدين» أن يوضع في الصف الأول من علماء الأخلاق، وأن يكون موضع دراسة وعناية من الباحثين في علم الأخلاق، وعلم النفس، والمؤرخين لهذا الموضوع.
ويرى الندوي أن كتاب الإحياء كتاب ترغيب وتهذيب وأن من أشّد أجزاء الكتاب تأثيراً في النفس، ما يشمل على الترغيب والترهيب، ويُصّور الغزالي غرور الدنيا وخلود الآخرة، والحاجة إلى الإيمان والعمل الصالح وتهذيب النفس، ويدافع عنها، ويعتذر كأحسن ما يعتذر صديق محب، ومحام بارع، ثم يجيب عن ذلك ويُقيم عليها الحجة كأحسن ما يفعل ذلك قاض نابغة، وُمشَّرع بصير، ثم يُرقق القول ويَصف العلاج، كأحسن ما يفعل طبيب حاذق، ومُرب عطوف، ويجيء بالعجب العُجاب، ويَسحر الألباب، ويُدمع العيون، ويُرقق القلوب، وقد أثَّرت هذه المواعظ الحكيمة الرقيقة في قلوب الألوف، وأحدثت في حياتهم انقلاباً وتحولاً عظيماً، ومن شاء فليقرأ المرابطة السادسة في توبيخ النفس ومعاتبتها (6). وقد أصبح كتاب الإحياء بذلك كُلَّه كتاب إصلاح وتربية، وكأنَّ
_________
(1) سير أعلام النبلاء (19/ 339).
(2) المصدر نفسه (19/ 346).
(3) الإمام الغزالي للشامي، ص 160.
(4) الغزالي بين مادحيه وناقديه، ص 158.
(5) رجال الفكر والدعوة (3/ 241 - 244).
(6) إحياء علوم الدين (4/ 356 - 358).(1/408)
المصنف حاول أن يكون هذا الكتاب - كمرشد ومرب - مغنياً عن غيره، قائماً مقام المكتبة الإسلامية؛ لذلك جعله يحتوى على العقائد، والفقه وتزكية النفس، وتهذيب الأخلاق، والحصول على مرتبة الإحسان (1).
ولكن مما يُلاحظ أن كثيراً ممن يقتصر على مطالعة هذا الكتاب، أو يكثر من قراءته ويشغف به، ينشأ عنده غُلوٌّ في الزهد والتقشف، ومخالفة النفس في المباحات، والكراهة للحياة، والإكثار من الرياضات والمجاهدات؛ حتى تتأثر بذلك صِحَّته وعقله، خصوصاً في هذا العصر الذي ضَعُفت فيه القِوى والأجسام، لذلك يَمنعُ بعض المربين الحكماء عن مطالعة هذا الكتاب في بداية الحال، خصوصاً الذين عندهم تأثُّر قويٌّ وانفعال سريع، لعل السبب في ذلك أن الغزالي صنَّفه في حالة قد غلب عليه فيها الخوف والهيبة، وكان متأثراً شديد التأثر، فجاء كلامه صورة نفسيَّته وتأثره، وقد جمع فيه أقوالاً كثيرة في الزهد وقهر النفس وعصيانها، لا تخلو من المبالغة والإسراف، والحق أن السيرة النبوية - ويدخل فيها الحديث الصحيح - على صاحبها الصلاة والتحية - هي المدرسة الوحيدة التي تربي تلاميذها على الاعتدال الكامل والتوازن الصحيح. و «كل يؤخذ من قوله ويرد إلا صاحب هذا القبر» (2)، ويُمثل ذلك بعض التمثيل قدوة دينية تجمع بين العلم الراسخ، والسيرة المستقيمة، والقلب الحي النابض قد تشَّرب السيرة وتذوق السنة، وذاق حلاوة الإيمان، وحاز اليقين، ولم يزل ولا يزال الدين يؤخذ من الأحياء ويقوم بالأحياء، ولم يكن الإنسان في دور من الأدوار غنياً عن القدوة والصحبة (3)، ورغم ما تُعقب على الغزالي في الإحياء من إيراد أحاديث ضعيفة بل موضوعة في كثير من الأحيان، وأشياء من كلام الصوفية الممعِنة في الغلو، وهضم النفس وترك المباحات وقد لا يتفق مع أصول الدين، ومع ما ورد فيه من مواد كلام الفلاسفة .. إلى غير ذلك من مآخذ تعقبها العلامة الحافظ ابن الجوزي (4)
وشيخ الإسلام ابن تيمية، مع اعترافهما بفضل الكتاب فإن كتاب الإحياء في مقدمة الكتب الإسلامية، التي انتفع بها خلائق لا تحصى في كل عصر وجيل، وأثَّرت في النفوس تأثيراً لا يُعرف إلا عن كتب معدودة، ولا يزال الكتاب الذي يكثر قراؤه والمعجبون به والمتأثرون به في أكثر البلاد، ولا يزال ثروة زاخرة في الدين، ومصدراً قوياً من مصادر الإصلاح والتربية. (5) وخلاصة القول في كتاب الإحياء أنه من صنع البشر، ولا يعيبه وجود
_________
(1) رجال الفكر والدعوة (1/ 232).
(2) من كلام الإمام مالك .. رجال الفكر والدعوة (1/ 233).
(3) رجال الفكر والدعوة (1/ 233).
(4) المنتظم (9/ 169 - 170).
(5) رجال الفكر والدعوة (1/ 234).(1/409)
مآخذ معدودة عليه. ونضيف إلى ذلك: أن كتاب الإحياء موسوعة علمية ضخمة وليس هو الكتاب الصغير ووجود الأخطاء لا يلغي مكانة الكتاب وأهم ما انتقد على الكتاب في نقاط:
* استشهاده بالأحاديث الضعيفة والموضوعة.
* وجود بعض الأحكام التي بنيت على هذه الأحاديث.
* ذكر كثير من القصص التي تحمل المبالغات في السلوك الصوفي.
* الحديث عن الكشف والمكاشفة التي يتحدث عنها في الإحياء (1)
* بعض المواضع التي ذكر فيها مواد فلسفية.
قال الدكتور القرضاوي: على أن من أخطر ما يؤخذ على الغزالي - بالنسبة إلى التصوف - هو قضية «الكشف» أو «المكاشفة» التي يحصل الصوفي على علومها وأنوارها بعد الرياضة والتصفية الروحية، وبعد الترقي في مدارج السالكين ومنازل السائرين، وقد صرح الغزالي أن «علم المكاشفة» مما لا يجوز أن يودع الكتب (2)، ومهما يكن من أمر فإن الغزالي كما قال الذهبي: إمام كبير، وما من شرط العالم أنه لا يخطئ (3).
تاسعاً: موقف الغزالي من الاحتلال الصليبي:
مع مجيء السلاجقة بدأ الوعي بالجهاد يدبّ من جديد في نفوس المسلمين, ولقد استطاع السلاجقة في الفترة الممتدة من دخولهم بغداد إلى سنة 490هـ تاريخ بداية الهجمة الصليبية على الشام، استرجاع شمال الشام كله، من أيدي البيزنطيين، بل دخلوا آسيا الصغرى وتمكنوا من أسر الإمبراطور البيزنطي في معركة ملاذكرد الشهيرة, وهو أمر يحدث لأول مرة في تاريخ الحروب الإسلامية البيزنطية. إلا أنه ابتداء من 490هـ ستتخذ هذه الحروب منعرجاً جديداً إذ ستتحول إلى حرب صليبية (4)، وقد احتل الصليبيون عدداً من بلاد الإسلام لاسيما بيت المقدس، الذي دخلوه غازين، وأسالوا فيه الدماء أنهاراً، وقتلوا من أهله نحو ستين ألفاً، وتفككت الأمة أمام هذه الغارات الوحشية (5)،
إلا أننا لم نسمع صوتاً للغزالي، وهو صاحب الكلمة المسموعة، والصيت المدوي، والبيان المؤثر، والحجة
_________
(1) الإمام الغزالي للشامي، ص 181.
(2) الإمام الغزالي بين مادحيه وناقديه للقرضاوي، ص 139.
(3) سير أعلام النبلاء (19/ 339).
(4) الجهاد من الهجرة إلى الدعوة إلى الدولة، ص 76.
(5) الإمام الغزالي بين مادحيه وناقديه، ص 154 ..(1/410)
البالغة، ما له لا يتحدث عن الجهاد؟ وما له لا يحرك الجماهير، كما فعل شيخ الإسلام من بعده ابن تيمية؟ ما سر هذه السلبية، والحق أن هذا موقف محير من أبي حامد - رحمه الله - ومثله لا يجهل ما يجب أن يقال، وما يجب أن يعمل في زمن الإغارة على أهل الإسلام، وقد سجل حكم الجهاد في مثل هذه الحالة، وأنه فرض عين في كتبه الفقهية، وربما يقال إن هذه الأحداث الكبيرة إنما برزت وتفاقمت في العالم الإسلامي في نفس الوقت الذي اتجه فيه الغزالي إلى حياة العزلة والتصوف سنة 488هـ وهجر الدنيا بما فيها من صراع البقاء أو صراع الفناء، فكان محور تفكيره حينذاك إنقاذ نفسه من النار ونقلها من المهلكات إلى المنجيات، فقد غزا الصليبون أنطاكية سنة 491هـ ثم معرة النعمان في الشهر الأخير من تلك السنة حتى قالوا: إنهم قتلوا فيها مائة ألف، ثم اجتاحوا البلاد كلها يقتلون ويدمرون، واقتحموا القدس سنة 492هـ وذبحوا من ذبحوا مما يذكره التاريخ ولا ينساه, وكان الغزالي لا يزال في عزلته، إذ لم يفارقها إلا في سنة 499هـ ولكنه بعد ترك العزلة والعودة إلى حياة الإفادة والتدريس والدعوة لم يَبْدُ منه ما يدل على عنايته بهذا الأمر، الذي يتعلق بمصير الأمة، وسيادتها (1).
آراء بعض المعاصرين في سكوت الغزالي عن الحروب الصليبية:
1 - الدكتور زكي مبارك: يعتبر الدكتور زكي مبارك أحد أبرز النقاد المعاصرين الذين كتبوا عن الغزالي وله كتاب «الأخلاق عند الغزالي» تعرض فيه لمسائل كثيرة عنه, وقد وقف وقفة وجيزة عند الغزالي والحروب الصليبية قال فيها: أتدري لماذا ذكرت لك هذه الكلمة عن الحروب الصليبية؟ لتعرف أنه بينما كان بطرس الناسك يقضي ليله ونهاره في إعداد الخطب وتحبير الرسائل لحث أهل أوربا على امتلاك أقطار المسلمين، كان الغزالي (حجة الإسلام) غارقاً في خلوته، منكباً على أوراده، لا يعرف ما يجب عليه من الدعوة والجهاد (2).
2 - الدكتور عمر فروخ: أما الدكتور عمر فروخ فقد التمس العذر في سكوته عما جرى في القدس قائلاً: كان الصوفية يعتقدون بأن الحروب الصليبية كانت عقاباً للمسلمين على ما سلف لهم من الذنوب والمعاصي، ولعل الغزالي قد شارك سائر الصوفية في هذا الاعتقاد (3). وغير صحيح تعميم القول بأن الصوفية لا يشاركون في الجهاد، بل مشاركة كثير من الصوفية
_________
(1) الغزالي بين مادحيه وناقديه، ص 156.
(2) الأخلاق عند الغزالي، ص 25.
(3) أبو حامد الغزالي والتصوف، دمشقية، ص 352.(1/411)
في حركة الجهاد ضد الصليبيين أثبتته الحقائق التاريخية في عهد السلاجقة والزنكيين والأيوبيين والمماليك والعثمانيين, وفي العصر الحديث فعبد القادر الجزائري الذي قاد حركة الجهاد الأولى ضد الاستعمار الفرنسي في الجزائر من كبار المتصوفة, والسنوسيون في ليبيا وعلى رأسهم محمد المهدي السنوسي مات مرابطاً في أحد الثغور أثناء قتاله لفرنسا في تشاد وأحمد الشريف السنوسي وعمر المختار من زعماء حركة الجهاد في ليبيا من الصوفية، كما شارك بعض الصوفية في الجهاد حالياً ضد الغزو الأمريكي للعراق، فإطلاق القول بأن الصوفية لا تشترك في الجهاد على العموم غير صحيح. وتحقيق المسألة أن من يقوم بالجهاد من الصوفية هم أتباع التصوف السني والذي يقوم على أصول أهل السنة عقيدة ومنهجاً مع الإكثار من العبادة والذكر والزهد, وقد لا يخلو الأمر من بعض الأخطاء. أما التصوف المنحرف القائم على الاستغاثة بألموتى والغلو في الأشخاص وترويج البدع والتواكل وبث روح الانهزامية فهم عادة هم مطية للاستعمار والغزاة. ونجد للدكتور فروخ رأياً آخر في كتابه التصوف في الإسلام (1)
يقول فيه: ألا يعجب القارئ إذا علم أن حجة الإسلام - أبا حامد - الذي وقف بنفسه وعلمه في خدمة الدين لحفظ الإيمان على العامة، شهد القدس تسقط في أيدي الإفرنج الصليبيين وعاش اثنتي عشرة سنة بعد ذلك ولم يُشر إلى هذا الحادث العظيم (2).
3 - الدكتور يوسف القرضاوي: حيث قال: والحق أن هذا الموقف محير من أبي حامد - رضي الله عنه - ومثله لا يجهل ما يجب أن يقال إلى أن قال: .. ولعل عذر الإمام الجليل أن شغله الشاغل كان الإصلاح من الداخل أولاً، وأن الفساد الداخلي هو الذي يمهد للغزو الخارجي، كما تدل على ذلك أوائل سورة الإسراء، فإن بني إسرائيل كلما أفسدوا في الأرض، سلط عليهم عدوهم، وكلما أحسنوا وأصلحوا ردت لهم الكرة عليهم، لقد وجه أكبر همه إلى إصلاح الفرد، الذي هو نواة المجتمع وإصلاح الفرد إنما يكون بإصلاح قلبه وفكره، وبذلك يصلح عمله وسلوكه وتصلح حياته كلها، وهذا هو أساس التغيير الاجتماعي وهو ما أرشد إليه القرآن الكريم: {إِنَّ اللهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الرعد: 11]. ويدخل في ذلك إصلاح الحكام بحسن توجيههم والنصيحة لهم والله أعلم بحقيقة عذره (3).
4 - الدكتور ماجد عرسان الكيلاني: حيث قال: .. بالنسبة لموضوع الجهاد يلاحظ أن الغزالي تناول محتواه واسمه ضمن موضوع «الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر» حيث اعتبره في أكثر من موضع أحد أشكال الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .. والأمثلة على ذلك كثيرة
_________
(1) أبو حامد الغزالي والتصوف، دمشقية، ص 352.
(2) التصوف في الإسلام، ص 9.
(3) الغزالي بين مادحيه وناقديه، ص 156.(1/412)
قوله: أفلا ينبغي أن يبالي بلوازم الأمر بالمعروف ومنتهاه تجنيد الجنود في رضا الله ودفع معاصيه. ونحن نجوز للآحاد من الغزاة أن يجتمعوا ويقاتلوا من أرادوا من فرق الكفار قمعاً لأهل الكفر، فكذلك قمع أهل الفساد جائز لأن الكافر لا بأس بقتله، والمسلم إن قتل فهو شهيد، فكذلك الفاسق المناضل عن فسقه لا بأس بقتله، والمحتسب المحق إن قتل مظلوماً فهو شهيد وكذلك قوله: الشرط الخامس «من شروط المحتسب»: كونه قادراً ولا يخفى أن العاجز ليس عليه حسبه إلا بقلبه إذ كل من أحب الله يكره معاصيه وينكرها. وقال ابن مسعود - رضي الله عنه -: جاهدوا الكفار بأيديكم فإن لم تستطيعوا إلا أن تكفهروا في وجوههم فافعلوا (1). وكذلك قوله: فنقول: وهل لشارب الخمر أن يغزو الكفار ويحتسب عليهم بالمنع من الكفر؟ فإن قالوا: لا، خرقوا الإجماع إذ جنود المسلمين لم تزل مشتملة على البر والفاجر وشارب الخمر وظالم الأيتام ولم يمنعوا من الغزو ولا في عصر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا بعده (2) ... والذي يبدو من معالجة الغزالي للقضايا الاجتماعية المختلفة أن موقفه من الجهاد اتصف بأمرين اثنين:
الأول: إن مفهوم الجهاد عند الغزالي ليس دفاعاً عن أقوام وأوطان وممتلكات، بل هو وسيلة لحمل رسالة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر التي هي السبب الحقيقي لإخراج الأمة المسلمة إلى الوجود, ومادام المجتمع الذي عاصره الغزالي قد توقف عن حمل هذه الرسالة وفسح للمنكر أن يشيع فيه واستساغت أذواقه هذا المنكر ... وانتهت جماهيره عند الملبس والمأكل والمنكح كما وصفهم المؤرخ أبو شامة، فإن أية دعوة للجهاد العسكري لن تكون ذات فائدة إلا إذا سبقه جهاد نفسي يبدل ما بأنفس القوم ويجعلهم يتذوقون معنى التضحية بالأنفس والأموال في سبيل الله.
الأمر الثاني: إن الغزالي كان واعياً بمفهوم الجهاد الشامل والمراحل التي تطبق فيها مظاهرة. فالجهاد له مظاهر ثلاثة هي: الجهاد التربوي, والجهاد التنظيمي، والجهاد العسكري. والفهم الصائب لهذه المظاهر الثلاثة وحسن ترتيبها وتوقيتها هو أحد مظاهر الحكمة التي جعلها الله أولى طرق الدعوة إليه حين قال: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل: 125]. فالدعوة إلى الجهاد العسكري وندب العامة له في أمة متوفاة يدور فيها «الأفكار والأشخاص» في فلك «الأشياء» ستكون بمثابة استنفار الأموات الذين في القبور (3). إلى أن قال: ... لعل هذا الاستعراض يتضمن الجواب عن الاعتراض
_________
(1) الغزالي بين مادحيه وناقديه (2/ 144) , هكذا ظهر جيل صلاح الدين، ص 144.
(2) هكذا ظهر جيل صلاح الدين، ص 144, إحياء علوم الدين (2/ 309).
(3) هكذا ظهر جيل صلاح الدين، ص 146.(1/413)
الذي يتهم الغزالي بالعزلة عن قضايا العالم الإسلامي .. ولعل الميادين الأربعة التالية التي تضمنتها ميادين الإصلاح عند الغزالي دليل واضح على أن الرجل اختار البدء بالجهاد التربوي في أمة ضربها الخور والتثاقل، وشاع فيها التنكر للقيم الإسلامية تمهيداً لإخراج «الحكماء السياسيين والعسكريين» الذين يقودون الجهاد التنظيمي والعسكري الذي يرفع لواء الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والإيمان بالله، وهذه الميادين هي: نقد السلاطين الظلمة, ومحاربة المادية الجارفة، والدعوة للعدالة الاجتماعية، ومحاربة التيارات
الفكرية المنحرفة (1).
* كتاب إلجام العوام في آخر عمره: يعتبر كتاب «إلجام العوام عن علم الكلام» من آخر مصنفات الإمام الغزالي على الإطلاق وفي هذا الكتاب تظهر أمور مهمة فيما وصل إليه الغزالي في مسيرته للبحث عن الحقيقة, ومن هذه الأمور:
- أنه انتصر في هذا الكتاب لعقيدة السلف منبهًا على أن الحق هو مذهب السلف، وأن من خالفهم في ذلك هو مبتدع (2).
- أنه نهى عن التأويل أشد النهي، داعياً إلى إثبات صفات الله، وعدم تأويلها بما يؤدي بها إلى التعطيل قائلاً بأن: علاج وهم التشبيه أسهل من علاج التعطيل. إذ يكفي أن يقال مع هذه الظواهر «ليس كمثله شيء»، (3) وقال: الدليل على أن مذهب السلف هو الحق: أن تصنيفه بدعة، والبدعة مذمومة وضلالة، والخوض من جهة العوام في التأويل والخوض بهم من جهة العلماء بدعة مذمومة. وكان نقيضه - وهو الكف عن ذلك - سنة محمودة (4). وذكر بأن: الصحابة والتابعين في طول عصرهم إلى آخر أعمارهم ما دعوا الخلق إلى البحث والتفتيش والتفسير والتأويل والتعرض لمثل هذه الأمور، بل بالغوا في زجر من خاض فيه وسأل عنه وتكلم به. فلو كان ذلك من الدين - أو من مدارك الدين- لأقبلوا عليه ليلاً ونهاراً, ودعوا إليه أولادهم وأهليهم وتشمروا عن ساق الجد في تأسيس أصوله، وشرح قوانينه تشمراً أبلغ من تشمرهم في تمهيد قواعد الفرائض والمواريث وأضاف قائلاً: فنعلم بالقطع من هذه الأصول أن الحق ما قالوه. والصواب ما رأوه لاسيما وقد أثنى عليهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقال: «خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم» (5). فمن النتائج التي
_________
(1) هكذا ظهر جيل صلاح الدين،، ص 146، 147.
(2) إلجام العوام، ص 62.
(3) المصدر نفسه، ص 108، أبو حامد الغزالي والتصوف، ص 360.
(4) إلجام العوام، ص 96، أبو حامد الغزالي والتصوف، ص 360.
(5) مسلم رقم 1967، البخاري، كتاب الشهادات (3/ 151).(1/414)
وصل إليها الغزالي في حياته العلمية هي اعتماد مرجعية الصحابة في علمهم وسيرتهم وسلوكهم ويعتبرهم حجة على من بعدهم, وأنهم معيار لصحة الاعتقاد والسلوك, وهذا صحيح ويعني ضرورة اهتمامنا بمعرفة سيرهم وسلوكهم وعبادتهم وجهادهم وخصوصاً الخلفاء الراشدين الذين حثنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على التمسك بسنتهم.
* شد النكير على المتكلمين: حيث قال: والدليل على تضرر الخلق به: المشاهدة والعيان والتجربة، وما ثار من الشر منذ نبغ المتكلمون وفشت صناعة الكلام مع نهي العصر الأول من الصحابة عن مثل ذلك, ويدل عليه أيضاً أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والصحابة بأجمعهم ما سلكوا في المحاجّة مسلك المتكلمين في تقسيماتهم وتدقيقاتهم. لا لعجز منهم عن ذلك، فلو علموا أن ذلك نافع لأطنبوا فيه، ولخاضوا في تحرير الأدلة خوضاً يزيد على خوضهم في مسائل الفرائض (1). وأشار إلى مسألة مهمة وهي: أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا محتاجين إلى محاجة اليهود والنصارى في إثبات نبوة محمد - صلى الله عليه وسلم -، فما زادوا على أدلة القرآن شيئاً, وما ركبوا ظهر اللجاج في وضع المقاييس العقلية وترتيب المقدمات, كل ذلك لعلمهم بأن ذلك مثار الفتن ومنبع التشويش، ومن لا يقنعه أدلة القرآن لا يقمعه إلا السيف والسنان, فما بعد بيان الله بيان (2).
* توسع في النهي عن البدعة والابتداع في مواضع كثيرة من هذا الكتاب حيث يقول: وكذلك العوام إذا طلبوا بالسؤال عن هذه المعاني يجب زجرهم ومنعهم، وضربهم بالدرة كما كان يفعل عمر - رضي الله عنه - بكل من سأل عن الآيات المتشابهات، وكما فعله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الإنكار على قوم رآهم خاضوا في مسألة القدر وسألوا عنه فقال عليه السلام: فبهذا أمرتهم؟ وقال: إنما هلك من كان قبلكم بكثرة السؤال (3). ويضيف قائلاً: ولذلك أقول: يحرم على الوعاظ على رؤوس المنابر الجواب عن هذه الأسئلة بالخوض في التأويل والتفصيل بل الواجب عليهم الاقتصار على ما ذكرناه وذكره السلف (4).
* إقبال الغزالي على القرآن الكريم وصحاح الأحاديث: فقد عرف عنه -رحمه الله- أنه أقبل في أواخر عمره على الأحاديث الصحاح، فاتخذ لنفسه معلمين يحفظ عليهم الصحيحين، وكان يسمع في آخر حياته صحيح البخاري من أبي سهيل محمد بن عبد الله
_________
(1) إلجام العوام، ص 88، 89.
(2) المصدر نفسه، ص 89، 90.
(3) مسلم رقم 2666 بلفظ آخر.
(4) إلجام العوام، ص 70, هذا إذا سألوا عن الكيفية كقول القائل لمالك: كيف استوي؟(1/415)
الحفصي، وسنن أبي داود من القاضي أبي الفتح الحاكمي الطوسي (1). وهذا الأمر يلفت النظر إلى ميزة كبيرة في شخصية الغزالي حيث تواضعه في طلب العلم وعدم استكباره في الأخذ على أيدي العلماء وهو في هذه السن والمكانة والعلم. ويحكي تلميذه - عبد الغافر الفارسي - آخر مراحل حياته قائلاً: وكانت خاتمة أمره إقباله على حديث المصطفى ومجالسة أهله، ومطالعة الصحيحين - البخاري ومسلم - اللذين هما حجة الإسلام. ولو عاش لسبق الكل في ذلك الفن بيسير من الأيام يستفرغه في تحصيله، ولا شك أنه سمع الأحاديث في الأيام الماضية، واشتغل آخر عمره بسماعها (2). وقد كان ابن تيمية -رحمه الله- ممن يذكّرون بهذه المرحلة الأخيرة التي تعرض لها الغزالي، ومكرراً ذلك في غالب كتبه مؤكداً على أن الغزالي مال أخيراً إلى أهل الحديث, ومات وصحيح البخاري على صدره (3)، وذكر ابن كثير ترجمة وجيزة عن الغزالي قال في آخرها: ثم عاد إلى بلده طوس فأقام بها وابتنى رباطاً، واتخذ داراً حسنًا, وغرس فيها بستانا أنيقاً، وأقبل على تلاوة القرآن، وحفظ الأحاديث الصحاح (4).
* وفاته: توفي الإمام الغزالي يوم الاثنين الرابع عشر من جمادي الآخرة من هذه السنة، ودفن بطوس -رحمه الله تعالى- وقد سأله بعض أصحابه وهو في السياق فقال: أوصني! فقال له: عليك بالإخلاص، فلم يزل يُكرِّرُها حتى مات، رحمه الله (5). قال أخوه أحمد: لما كان يوم الاثنين وقت الصبح توضأ أخي أبو حامد، وصلى، وقال: عليّ بالكفن، فأخذه وقبّله، وتركه على عينيه، وقال: سمعاً وطاعة للدخول على الملك، ثم مد رجليه، واستقبل القبلة ومات قبل الإسفار (6)، ورثاه الأبيوري الشاعر المشهور، بأبيات فائية من جملتها:
مضى وأعظم مفقود فُجعتُ به ... من لا نظير له في الناس يخلفه (7)
فرحمة الله على الغزالي فقد قام بجهد كبير في سبيل التنظير لأهل السنة في العهد السلجوقي, والذي ساهم بجهاده الفكري والعلمي في تقوية الخلافة العباسية، ومقاومة الخطر الباطني الصاعد آنذاك، وهو الخطر الرئيسي الذي كان يتهدد الخلافة، وقد ظل الغزالي طوال
_________
(1) طبقات السبكي (4/ 110).
(2) طبقات السبكي (4/ 109 - 111)، سير أعلام النبلاء (19/ 323 - 324).
(3) أبو حامد الغزالي والتصوف، ص 367.
(4) البداية والنهاية (16/ 215).
(5) المصدر نفسه (16/ 215).
(6) سكب العبرات للموت والقبر والسكرات (1/ 282).
(7) وفيات الأعيان (4/ 219).(1/416)
حياته ومن خلال مؤلفاته يدعو إلى محاربة الباطنية بكل الوسائل الممكنة, وقد اقترح على الخليفة فيما اقترحه تعيين قائم بالحق في كل قطر وصقع لمقاومة دعاة المبتدعة (1). لقد كانت الباطنية تشكل خطراً عظيماً على الإسلام فهم حسب رأيه: عنصر مقلق للعقيدة من داخلها (2)، شأنهم شأن الفلاسفة شنّ عليهم الغزالي حملة عنيفة (3)، ولقد قام رحمه الله بجهود إصلاحية ضخمة في إحياء فقه القدوم على الله وتقوية الجانب الروحي، وتهذيب النفوس، وتنوير العقول، وإصلاح النوايا ومحاربة الأمراض القلبية وإحياء المعاني الإيمانية، وأخلاقيات التضحية والورع، والصبر، والإنابة والاستعانة بالله تعالى. ولقد ساهمت جهوده في توعية الأمة، وتلقف بعض المصلحين الكبار، كعبد القادر الجيلاني شيئًا من منهجه التربوي وأقام مدرسة شعبية كبيرة ساهمت في توعية عوام المسلمين، ودعم حركة الجهاد التي قادها نور الدين وصلاح الدين فيما بعد، فالمدارس النظامية، والتي من كبار مدرسيها الإمام الغزالي ساهمت في حركة الإصلاح التي تتابعت حلقاتها حتى انتهت بدحر الغزاة الصليبيين واسترجاع الأرض والمقدسات عبر قرنين من الزمن في صراع رهيب، يبين دور علماء أهل السنة في توعية الأمة ورص الصفوف, وكشف الانحراف، وتبيين الحقائق وبذل الغالي والرخيص حتى تكون كلمة الله هي العليا.
عاشراً: الإمام البغوي وجهوده في خدمة الكتاب والسنة في العهد السلجوقي:
يعتبر الإمام البغوي من العلماء الذين ساهموا في إحياء المشروع السني ومحاربة المبتدعة من خلال التدريس والتعليم والتأليف, وكانت لجهوده الأثر الكبير في تعلق الناس بكتاب الله وفهمه وتفسيره، وهدي سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - , ولذلك رأيت الترجمة له لكونه من علماء العهد السلجوقي.
هو الإمام العلامة القدوة الحافظ، شيخ الإسلام، محيى السنة، أبو محمد الحسين بن مسعود بن محمد الفراء البغوي المفسر، صاحب التصانيف، كشرح السنة، ومعالم التنزيل، والمصابيح (4) وغيرها من التصانيف، توفي عام 516هـ, وقد عاصر الإمام البغوي من ملوك الدولة السلجوقية، طغرل بك، وألب أرسلان، وملكشاه، والسلطان محمود، وبركياروق، وملكشاه الثاني، وغياث الدين أبو شجاع محمد (5)، وحظي الإمام البغوي بثناء وتقدير
_________
(1) الجهاد من الهجرة إلى الدعوة إلى الدولة، ص 81، 82.
(2) المصدر نفسه, ص 82.
(3) الاقتصاد في الاعتقاد، ص 8.
(4) سير أعلام النبلاء (19/ 439).
(5) البغوي ومنهجه في التفسير، عفاف عبد الغفور، ص 14، 15.(1/417)
العلماء، بما اتصف به من ورع، وزهد، وكثرة مصنفات أتحف بها المكتبة الإسلامية، وأضحى بسببها علماً من أعلام الأمة الإسلامية (1)، وقد وضع الله لكتبه القبول، وبارك الله له في تصانيفه، ورزق فيها القبول التام، لحسن قصده، وصدق نيته، وتنافس العلماء في تحصيلها؛ قال فيه الذهبي: وكان البغوي يلقب بمحيى السنة وبركن الدين، وكان سيداً إماماً، عالماً، زاهد قانعاً باليسير، كان يأكل الخبز وحده، فعذل في ذلك، فصار يأتدم بزيت، وكان أبوه يعمل الفراءَ ويبيعها، بورك له في تصانيفه، ورُزِق فيها القبول التام، لحسن قصده، وصدق نيته، وتنافس العلماء في تحصيلها، وكان لا يلقي الدرس إلا على طهارة وكان مقتصداً في لباسه، له ثوب خام، وعمامة صغيرة على منهاج السَّلف حالاً وعقداً، وله القدم الراسخة في التفسير، والباع المديد في الفقه -رحمه الله (2)
-، ومن أشهر كتبه التي وضع الله لها القبول والانتشار وتنافس العلماء في تحصيلها وأثرت في عصره والأجيال التي بعدها:
(1) معالم التنزيل في التفسير: قال عنه ابن تيمية: صان تفسيره من الأحاديث الموضوعة والآراء البدعية (3)، وقد سار البغوي في منهجه للتفسير على اعتماده على الكتاب والسنة، فيفسر القرآن بالقرآن، والقرآن بالسنة، وبعده عن البدع، وقلة الإسرائيليات والموضوعات, وعنايته باللغة والنحو والقراءات، والجوانب النحوية والصرفية وذكره قضايا العقيدة والأحكام الفقهية (4)، واهتم بمباحث علوم القرآن في تفسيره، كالمكي والمدني، وأسباب النزول، والناسخ والمنسوخ (5)، وقد أثنى العلماء عليه وذكروا بالتقدير والاستحسان تفسيره معالم التنزيل (6) , قال الذهبي: وله القدم الراسخة في التفسير (7)، وقال السبكي: وقدره عال في الدين والتفسير (8) ويقول السيوطي: وكان إماماً في التفسير وقد تلقى العلماء تفسيره بالقبول والإعجاب وكان نصيبه الرواج والانتشار، فاعتمدوا عليه واعتنوا به، وألفوا عليه التفاسير المفصلة والمختصرة (9)، وقال الإمام الخازن في مقدمة تفسيره عن تفسير البغوي: من أجلِّ المصنفات في علم التفسير، وأعلاها وأنبلها وأسناها, جامعاً للصحيح من الأقاويل، عارياً عن الشبه والتصحيف والتبديل, محلى بالأحاديث النبوية مطرزاً بالأحكام الشرعية، موشى بالقصص الغريبة وأخبار الماضين العجيبة، مرصعاً
_________
(1) جهود علماء السلف في القرن السادس الهجري في الرد على الصوفية، ص 568.
(2) سير أعلام النبلاء (19/ 441).
(3) الفتاوى (13/ 354).
(4) البغوي ومنهجه في التفسير، ص 74 إلى 122.
(5) المصدر نفسه، ص 129 إلى 134.
(6) المصدر نفسه، ص 144.
(7) سير أعلام النبلاء (19/ 441).
(8) طبقات الشافعية (7/ 76).
(9) البغوي ومنهجه في التفسير، ص 145.(1/418)
بأحسن الإشارات, مخرجاً بأوضح العبارات، مفرغاً في قالب الجمال بأفصح مقال (1)،
وقد انتفع الإمام برهان الدين الزركشي في «البرهان» ببعض آراء الإمام البغوي خاصة فيما له صلة بمباحث علوم القرآن, كما أثنى عليه ابن تيمية، وامتدح تفسيره وفضله على غيره من التفاسير وجعله أقرب التفاسير إلى الكتاب والسنة وأبعدها وأسلمها من البدعة والأحاديث الضعيفة (2)، ويعتبر معالم التنزيل من التفاسير المتوسطة المعتمدة على الكتاب والسنة في المقام الأول، والمأثور من أقوال الصحابة والتابعين بالدرجة الثانية (3)، ولتفسير البغوي مزايا وقيمة علمية مهمة منها:
1 - جاء تفسير البغوي جامعاً شاملاً لجوانب متعددة واتجاهات مختلفة، مما جعله مفيداً لأعداد كبيرة من القراء والمهتمين بفهم كتاب الله وتدبره على الوجه الأمثل.
2 - اختصر الإمام البغوي في تفسيره حذف الأسانيد التي تروى بها أقوال الصحابة، وآراء التابعين وتفاسير من تبعهم من المفسرين أمثال قتادة، وعكرمة، ومقاتل وغيرهم وذلك لذكره طرقه وأسانيده في مقدمة التفاسير.
3 - تجنب البغوي في تفسيره ذكر التفصيلات الدقيقة في المسائل التي تتعلق باللغة والنحو، كما تجرد تفسيره من الاصطلاحات العلمية الخاصة بعلوم العربية والفقه والعقيدة مما جعله سهل الفهم واضحاً لدى سائر الدارسين والقراء.
4 - لم يكن البغوي خلال تفسيره ناقلاً ذاكراً للآراء المأثورة عن الصحابة والتابعين وتفاسير القرن الثاني فحسب، بل كان يوجه التفسير ويسوقه بالطريقة المناسبة، كما يختار في بعض الأحيان الرأي الأدنى للصواب بين الأقوال التي يسوقها خاصة إن كان فيها خلاف.
5 - استخدامه لأسلوب السؤال في حل الإشكالات، وهو أسلوب حسن لتحقيق الفهم وإيضاح المسائل، ففي مستهل سورة الفاتحة وبعد أن يذكر معنى البسملة يقول: فإن قيل ما معنى التسمية من الله؟ قيل: هو تعليم العباد كيف يستفتحون القراءة.
6 - اهتم الإمام البغوي في تفسيره بالقراءات «القرآنية» , فكان ينبه إليها ويوضحها ويبين ما يترتب عليها من المعاني والفوائد.
7 - لم يغفل البغوي خلال التفسير الإشارة إلى المسائل البلاغية بصورة سريعة تعين على فهم معنى الآيات دون تعمق وتوسع وذكر للاصطلاحات, بل يكتفي في ذلك بمقدار
_________
(1) لباب التأويل (1/ 3).
(2) مقدمة أصول التفسير، ص 76.
(3) البغوي ومنهجه في التفسير، ص 147.(1/419)
ما يكشف عن معنى الآية في السياق القرآني للكشف عن دقة التعبير وبيان الأسلوب الرائع المعجز خاصة وهو يقرر أن أسلوب كتاب الله في الطبقة الأولى من البلاغة وحسن النظم والتأليف (1)، يقول البغوي: والقرآن معجز في النظم والتأليف والإخبار عن الغيوب وهو كلام في أعلى طبقات البلاغة لا يشبهه كلام الخلق لأنه غير مخلوق، ولو كان مخلوقاً لأتوا بمثله (2). وأما الأمور البلاغية التي يشير إليها البغوي خلال التفسير، فأنواع الاستفهام في القرآن الكريم، من الإنكاري، والتقريري أو التضخيم، وذلك في مواضع مختلفة من تفسيره (3). هذه بعض مزايا تفسير البغوي، ويعتبر هذا التفسير من أشهر التفاسير في العهد السلجوقي وقد تنافس العلماء في تحصيله.
(2) شرح السنة للحافظ البغوي:
- موضوع الكتاب: أفصح عن ذلك مؤلفه في مقدمته فقال: أما بعد فهذا كتاب في شرح السنة يتضمن -إن شاء الله سبحانه وتعالى - كثيراً من علوم الحديث، وفوائد الأخبار المروية عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من حل مشكلها, وتفسير غريبها، وبيان أحكامها, وما يترتب عليه من الفقه واختلاف العلماء جمل لا يستغنى عن معرفتها المرجوع إليه في الأحكام، والمعول عليه في دين الإسلام، ولم أودع هذا الكتاب من الأحاديث إلا ما اعتمده أئمة السلف الذين هم أهل الصنعة المسلم لهم بالأمر من أهل عصرهم، وما أودعوه كتبهم، فأما ما أعرضوا عنه من المقلوب والموضوع والمجهول واتفقوا على تركه فقد صنت الكتاب عنها، وما لم أذكر أسانيدها من الأحاديث فأكثرها مسموعة، وعامتها في كتب الأئمة غير أني تركت أسانيدها حذراً من الأطالة، واعتماداً على نقل الأئمة (4).
- سبب تأليفه لهذا الكتاب: أوضح ذلك - رحمه الله - في المقدمة فقال: والمقصود بهذا الجمع - مع وقوع الكفاية فيما عملوه وحصول الغنية فيما فعلوه - الاقتداء بأفعالهم والانتظام في سلك أحد طرفيه متصل بصدر النبوة، والدخول في غمار قوم جدوا في إقامة الدين واجتهدوا في إحياء السنة، شغفاً بهم، وحباً لطريقتهم, وإن قصرت في العمل عن مبلغ سعيهم - طمعاً في موعود الله سبحانه وتعالى على لسان رسوله - صلى الله عليه وسلم - أن: «المرء مع من أحب» (5) ولأني رأيت أعلام الدين عادت إلى الدروس، وغلب على أهل الزمان هوى النفوس فلم يبق من الدين إلا الرسم، ولا من العلم إلا الاسم حتى تصور الباطل عند أكثر أهل الزمان بصورة الحق، والجهل بصورة
_________
(1) البغوي ومنهجه في التفسير، ص 168 إلى 174.
(2) المصدر نفسه، ص 175.
(3) المصدر نفسه، ص 175.
(4) شرح السنة عن مقدمة المؤلف (1/ 2 - 4).
(5) البخاري رقم 6168 - 6171.(1/420)
العلم, وظهر فيهم تحقيق قول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: «إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من العباد، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء حتى إذا لم يبق عالماً، اتخذوا رؤساء جهالاً، فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا» (1). ولما كان الأمر على ما وصفته لك، أردت أن أجدد لأمر العلم ذكراً لعله نشط فيه راغب متنبه، أو ينبعث له واقف متشبط (2).
(3) مصابيح السنة:
- موضوعه وسبب تأليفه: قال - رحمه الله -: أما بعد، فهذه ألفاظ صدرت عن صدر النبوة، وسنن سارت عن معدن الرسالة، وأحاديث جاءت عن سيد المرسلين وخاتم النبيين، هن مصابيح الدجى، خرجت عن مشكاة التقوى، مما أوردها الأئمة في كتبهم جمعتها للمنقطعين إلى العبادة لتكون لهم بعد كتاب الله تعالى حظاً من السنن، وعونًا على ما فيه من الطاعة (3).
- عناية العلماء بمصابيح السنة: تقبل الناس هذا الكتاب بالقبول الحسن، فعكفوا عليه رواية ونسخاً وقراءة وحفظاً، ثم ألفوا حوله الشروح والمختصرات والتخريجات، وقد ذكر حاجي خليفة وبروكلمان أكثر من اثنين وأربعين شرحاً ومختصراً وتخريجاً لهذا الكتاب (4)، إلا أن مشكاة المصابيح لأبي عبد الله محمد بن عبد الله الخطيب التبريزي ت 740هـ (5) فاق جميع الشروح والتخريجات الأخرى، ولذلك عكف الناس عليه، وشرحوه واختصروه وخدموه، إذ ألف عليه تسعة شروح ومختصرات (6).
- وفاته: اختلفت المصادر التي ترجمت للإمام البغوي في سنة وفاته على ثلاثة أقوال وهي سنة 510هـ، وسنة 515هـ, وسنة 516هـ ولكن هذه المصادر تكاد تجمع على أن وفاته كانت في شهر شوال سنة ست عشرة وخمسمائة وهو القول الراجح لاختياره عند أكثر المصادر (7)، وكانت وفاته في مرو الروذن ودفن عند شيخه القاضي حسين بمقبرة الطالقان، وقبره مشهور هنالك (8)، وقالوا إنه عاش ثلاثاً وثمانين سنة, ويرى البعض أنه قد عاش بضعاً وسبعين سنة (9)، كما يرى آخرون أنه أشرف على التسعين وذلك لعدم تحديدهم سنة
_________
(1) البخاري رقم 100.
(2) شرح السنة (1/ 2 - 4) مقدمة المؤلف.
(3) مصابيح السنة (1/ 109 - 110).
(4) كشف الظنون، ص 1698, تاريخ الأدب العربي (6/ 245).
(5) طبع كتابه مشكاة المصابيح بتحقيق ناصر الدين الألباني.
(6) تدوين السنة النبوية د. محمد مطر الزهراني، ص 219.
(7) البغوي ومنهجه في التفسير 26.
(8) المصدر نفسه، ص 27, البداية والنهاية (16/ 262).
(9) سير أعلام النبلاء (19/ 442).(1/421)
ميلاده وإن كان الأرجح أنه جاوز الثمانين (1). قال ابن كثير: صاحب التفسير وشرح السنة والتهذيب في الفقه والجمع بين الصحيحين و المصابيح في الصحاح والحسان وغير ذلك، اشتغل على القاضي حسين، وبرع في هذه العلوم وكان علاّمة زمنه فيها، وكان ديناً ورعاً زاهداً عابداً صالحاً (2).
فالبغوي رحمه الله كان ممن أكرمهم الله تعالى بنشر مذهب أهل السنة وتربية الناس على تعاليمه في العهد السلجوقي, ووضع الله لكتبه القبول والانتشار وساهمت في بلورة المشروع السني الكبير الذي توج بانتصار الإسلام وتقليص النفوذ الباطني ودحره، وتحرير البلاد الإسلامية من أيدي الصليبيين فيما بعد.
الحادي عشر: شيخ الإسلام أبو إسماعيل الأنصاري الهروي:
الإمام القدوة، الحافظ الكبير، أبو إسماعيل، عبد الله بن محمد بن علي الأنصاري مصنَّفُ كتاب «ذم الكلام»، وشيخ خراسان من ذرية صاحب النبي - صلى الله عليه وسلم - أبي أيوب الأنصاري، مولده في سنة ست وتسعين وثلاثمائة (3). كان رحمه الله: آية في لسان التذكير والتصوف من سلاطين العلماء, سمع ببغداد من أبي محمد الخلاَّل وغيره يروي في مجالس وعظه الأحاديث بالإسناد، وينهي عن تعليقها وكان بارعاً في اللغة، حافظاً للحديث قرأ عليه السلفي كتاب ذم الكلام, وكان يدخل على الأمراء والجبابرة فما يبالي، ويرى الغريب من المحُدَّثين، فيبالغ في إكرامه (4)، وكان شيخ الإسلام أثريا قُحّاً، ينال من المتكلمة (5).
- اعتزازه بالمذهب الحنبلي: قال محمد بن طاهر: سمعت أبا إسماعيل الأنصاري يقول: إذا ذكرت التفسير، فإنما أذكره من مائة وسبعة تفاسير وسمعته ينشد على منبره:
أنا حنبلي ما حييت وإن أمُت ... فوصيتي للناس أن يتحنبلوا
وقال في قصيدته النونية: ... أنا حنبلي ما حييتُ وإن أمُت ... فوصيتي ذاكم إلى الإخوان
إذ دينه ديني وديني دينه ... ما كنت إمعةً له دينان (6)
- كتابه منازل السائرين والمحن التي تعرض لها: قال الذهبي: ولقد بالغ أبو
_________
(1) تذكرة الحفاظ (4/ 1258) , البغوي ومنهجه في التفسير، ص 27.
(2) البداية والنهاية (16/ 262).
(3) سير أعلام النبلاء (18/ 503).
(4) المصدر نفسه (18/ 506).
(5) المصدر نفسه (18/ 507).
(6) المصدر نفسه (18/ 507).(1/422)
إسماعيل في ذمّ الكلام على الاتباع فأجاد، ولكنه له نفس عجيب لا يشبه نفس أئمة السلف في كتابه «منازل السائرين»، ففيه أشياء مطربة وفيه أشياء مشكلة، ومن تأمله لاح ما أشرت إليه، والسُّنة المحمدية صَلفَة، ولا ينهض الذوق والوجد إلا على تأسيس الكتاب والسنة. وقد كان هذا الرجل سيفاً مسلولاً على المتكلمين، له صولة وهيبة واستيلاء على النفوس ببلده يُعظمونه، ويتغالون فيه، ويبذلون أرواحهم فيما يأمر به. كان عندهم أطوع وأرفع من السلطان بكثير، وكان طوداً راسياً في السنة لا يتزلزل ولا يَلين، لولا ما كدر كتابه «الفاروق في الصفات» يذكر أحاديث باطلة يجب بيانها وهتكها، والله يغفر له بحسن قصده، وصنف «الأربعين» في التوحيد، و «الأربعين» في السنة. وقد امتحن مرات وأوذي، ونفي من بلده, قال ابن طاهر: سمعته يقول: عُرضت على السيف خمس مرات، لا يقال لي: ارجع عن مذهبك. لكن يقال لي: اسكت عمن خالفك، فأقول: لا أسكت وسمعته يقول: أحفظ اثنى عشر ألف حديث أسردها سرداً (1). وكان شيخ الإسلام أبو إسماعيل بكر الزمان وواسطة عقد المعاني وصورة الإقبال في فنون الفضائل وأنواع المحاسن منها نصرة الدين والسنة، من غير مداهنة ولا مراقبة لسلطان ولا وزير. وقد قاسى بذلك قصد الحساد في كل وقت، وسعوا في رُوحه مراراً وعمدوا إلى إهلاكه أطواراً، فوقاه الله شرهم، وجعل قصدهم أقوى سبب لارتفاع شأنه (2). قال الذهبي: قد انتفع به خلق، وجهل آخرون، فإن طائفة من صوفية الفلسفة والاتحاد يخضعون لكلامه في «منازل السائرين» وينتحلونه، ويزعمون أنه موافقهم.
كلا، بل هو رجل أثري لهج بإثبات نصوص الصفات منافر للكلام وفي منازله إشارات إلى المحو والفناء، وإنما مراده بذلك الفناء هو الغيبة عن شُهود السَّوى، ولم يُرد محو السوى في الخارج ويا ليته لا صنَّف ذلك، فما أحلى تصوف الصحابة والتابعين ما خاضوا في هذه الخطرات والوساوس، بل عبدوا الله، وذلُّوا له وتوكَّلوا عليه وهم من خشيته مشفقون، ولأعدائه مجاهدون، وفي الطاعة مسارعون، وعن اللغو معرضون، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم (3).
- من مكائد خصومه: لما قدم السلطان ألب أرسلان هَراةَ في بعض زياراته، اجتمع مشايخ البلد ورؤساؤه، ودخلوا على أبي إسماعيل، وسلموا عليه، وقالوا: ورد السُّلطان ونحن على عزم أن نخرج ونُسلمَ عليه، فأحببنا أن نبدأ بالسلام عليك وكانوا قد تواطأوا على أن حملوا معهم صنماً من نُحاس صغيراً وجعلوه في المحراب تحت سجادة الشيخ، وخرجوا،
_________
(1) سير أعلام النبلاء (18/ 509).
(2) المصدر نفسه (18/ 510).
(3) المصدر نفسه (18/ 510).(1/423)
وقام الشيخ إلى خلوته، ودخلوا على السلطان، واستغاثوا من الأنصاري وأنه مُجَسِّمُ، وأنه يترك في محرابه صنماً يزعم أن الله تعالى على صُورته، وإن بعث السلطان الآن يجده، فعظم ذلك على السلطان، وبعث غلاماً وجماعة، فدخلوا وقصدوا المحراب فأخذوا الصنم، فألفى الغلام الصنم، فبعث السلطان من أحضر الأنصاري، فأتى فرأى الصنم والعلماء وقد اشتد غضب السلطان، فقال له السلطان: ما هذا؟ قال: صنم يعمل من الصُّفر شبه اللعبة. قال: لست عن ذا أسألك قال: فعمَّ يسألني السلطان؟ قال: إن هؤلاء يزعمون أنك تعبد هذا، وأنك تقول: إن الله على صورته. فقال شيخ الإسلام بصولة وصوت جهوري: سبحانك هذا بهتان عظيم، فوقع في قلب السلطان أنهم كذبوا عليه، فأمر به فأخرج إلى داره مُكرَّماً وقال لهم: اصدقوني وهَدَّدهُم، فقالوا: نحن في يد هذا في بَليَّة من استيلائه علينا بالعامَّة، فأردنا نقطع شره عنا، فأمر بهم، ووكَّل بهم وصادرهم، وأخذ منهم وأهانهم (1).
- دعاء الإمام الجويني له: قال أبو الوقت السجزي: دخلت نيسابور، وحضرت عند الأستاذ أبي المعالي الجويني، فقال: من أنت؟ قلت: خادم الشيخ أبي إسماعيل الأنصاري, فقال: - رضي الله عنه -. قال الذهبي: اسمع إلى عقل هذا الإمام، ودع سَبَّ الطغام، إن هم إلا كالأنعام (2).
- تقديمه لكتاب أبي عيسي الترمذي على البخاري ومسلم: قال أبو إسماعيل الأنصاري: كتاب أبي عيسى الترمذي عندي أفيد من كتاب البخاري ومسلم. قال ابن طاهر قلت: ولم؟ قال: لأنهما لا يصل إلى الفائدة منهما إلا من يكون من أهل المعرفة التامة، وهذا كتاب قد شرح أحاديثه وبيَّنها فيصل إلى فائدته كل فقيه وكل مُحدث (3).
- في مجلس نظام الملك: قال ابن طاهر: حكى لي أصحابنا أن السلطان ألب أرسلان قدم هراة ومعه وزيره نظام الملك فاجتمع إليه أئمة الحنفية وأئمة الشافعية للشكوى من الأنصاري ومطالبته بالمناظرة، فاستدعاه الوزير، فلما حضر، قال: إن هؤلاء قد اجتمعوا لمناظرتك، فإن يكن الحق معك؛ رجعوا على مذهبك، وإن يكن الحق معهم، رجعت أو تسكت عنهم، فوثب الأنصاري، وقال: أُناظر على ما في كُمِّي. قال: وما في كُمِّكَ؟ قال: كتاب الله - وأشار إلى كُمه اليمين - وسنة رسول الله - وأشار إلى كمه اليسَار - وكان فيه «الصحيحان» فنظر الوزير إليهم مستفهماً، فلم يكن فيهم من ناظره من هذا الطريق (4).
- مصدر رزقه: كان أبو إسماعيل الأنصاري على حظ تام من معرفة العربية والحديث والتواريخ والأنساب, إماماً كاملاً في التفسير، وحسن السيرة في التصوف، غير مشتغل
_________
(1) سير أعلام النبلاء (18/ 512).
(2) المصدر نفسه (18/ 513).
(3) المصدر نفسه (18/ 513).
(4) المصدر نفسه (18/ 511).(1/424)
بكسب، مكتفياً بما يُباسطُ به المريدين والأتباع من أهل مجلسه في العام مّرة أو مرتين على رأس الملأ فيحصل على ألوف من الدنانير وأعداد من الثياب والحُِليَّ، فيأخذها، ويُفرِّقُها على اللَّحَّام والخباز، وينفق منها، ولا يأخذ من السلطان ولا من أركان الدولة شيئاً، وقلَّ ما يُراعيهم ولا يدخل عليهم، ولا يُبالي بهم، فبقي عزيزاً مقبولاً قبولاً أتم من المَلِك، مطاع الأمر نحواً من ستين سنة من غير مزاحمة, وكان إذا حضر المجلس لبس الثياب الفاخرة، وركب الدَّواب الثمينة ويقول: إنما أفعل هذا إعزازاً للدين، ورغماً لأعدائه، حتى ينظروا إلى عِزّي وتَجَُمّلى، فيرغبوا في الإسلام ثم إذا انصرف إلى بيته، عاد إلى المُرقَّعة والقعود مع الصوفية في الخانقاه يأكل معهم، ولا يتميز بحال، وعنه أخذ أهلُ هراة التبكير بالفجر، وتسمية الأولاد غالباً بعبد المضاف إلى أسماء الله تعالى (1).
- سنة وفاته: توفي شيخ الإسلام في ذي الحجة سنة إحدى وثمانين وأربعة مائة، عن أربع وثمانين سنة وأشهر (2). وكان كثير السهر بالليل وروى الحديث وصنف وكانت وفاته بهراة (3). ونلاحظ في فصل المدارس النظامية الدور الكبير الذي قام به نظام الملك في تأسيسها وتحديد أهدافها وبرامجها، وتعيين النوابغ المبدعين من العلماء بها كالجويني وأبي إسحاق الشيرازي والغزالي الذين تفرغوا لتعليم طلاب العلم والكتابة لمناصرة منهج أهل السنة والتصدي للفكر الشيعي الباطني الإسماعيلي، فكانت لجهودهم آثار ملموسة في نصرة الإسلام وإن كانت الدولة السلجوقية قامت بدعم مؤسسات المدارس النظامية لمناصرة الكتاب والسنة، إلا أن مجموعة من علماء أهل السنة لم يكونوا من ضمن مشايخ المدارس النظامية قاموا بتنشيط الدعوة الإسلامية بالوعظ والإرشاد والتعليم والتربية والتصنيف، كالبغوي، وأبي إسماعيل الأنصاري وهم على سبيل المثال لا الحصر، ومن الدروس الكبيرة في هذا الفصل أن البعد العقدي والفكري لا بد منه لأي مشروع سياسي أو عسكري أو حضاري، يراد له النجاح في أوساط المسلمين, وأن من عوامل نهوض الحضارة، أن تكون القيادة السياسية مبدعة في التفكير، وفي تحديد الأهداف، صادقة في الانتماء لعقيدة الأمة وتراثها ودينها وتاريخها وقادرة على توظيف الطاقات العلمية وتحويلها من أعمال فردية إلى أعمال جماعية، عاملة على وحدة الصف ومحاربة الانشقاق، كما أن قدرة العلماء على النزول بأفكارهم وعلمهم للجمهور الإسلامي العريض من عوامل نهوض الحضارة.
* * *
_________
(1) سير أعلام النبلاء (18/ 514).
(2) المصدر نفسه (18/ 515).
(3) البداية والنهاية (16/ 112).(1/425)
الفصل الخامس
الحروب الصليبية في العهد السلجوقي
المبحث الأول
الجذور التاريخية للحروب الصليبية واستمرارها إلى يومنا هذا
إن مما يجدر ذكره أن الحرب الصليبية والصراع بين أهل الإيمان وأهل الكفر من النصارى الغربيين وغيرهم، الذين عبدوا عيسى عليه السلام، واتخذوه إلهاً من دون الله، وقالوا: هو الله وابن الله وثالث ثلاثة، لم تبدأ في نهاية القرن الخامس الهجري ولم تنته في القرن السابع الهجري، بل هذه الحملات هي سلسلة في هذا الصراع الطويل، الذي بدأ بظهور الإسلام (1)، واستمر بصيغ دورية متعاقبة كادت تغطي المدى الزمني بين ظهور الإسلام والعصر الحديث، ويمكن تقسيمه على ستة من المحاور التي استمر عليها هذا الصراع، ولم يكن أوار الصراع على كل واحد من هذه المحاور يفتر قليلاً حتى يشب ثانية في محور جديد لا يقل عنه ضراوة وعنفاً واستزافًا للطاقات الإسلامية في مساحات واسعة من الأرض وهذه المحاور (2) هي:
أولاً: البيزنطيون:
ترجع بدايات التحرك البيزنطي المضاد للإسلام إلى عصر الرسالة نفسه، فمنذ العام الخامس للهجرة وعبر معارك دومة الجندل، وذات السلاسل، ومؤتة، وتبوك، وانتهاء بحملة أسامة بن زيد رضي الله عن الصحابة أجمعين، كان المعسكر البيزنطي يتحسّس الخطر الإسلامي الجديد القادم من الجنوب، لاسيما بعد ما تمكنت الدولة الناشئة من فك ارتباط العديد من القبائل العربية شمالي الجزيرة من سادتهم القدماء الروم، وسواء كان البيزنطيون يتحركون ضد القوات الإسلامية بفعلهم ابتداء، أو كرد فعل لتحرك إسلامي، فإن المحصلة الأخيرة هي أن هذا المعسكر بدأ يدرك أكثر فأكثر حجم التحدي الجديد، ويعد العدة لوقفه, صحيح أن هذه العدة لم تكن - أحياناً - بالحجم المطلوب، ربما بسبب عدم دقة المعلومات التي كانت القيادة البيزنطية تبني عليها مواقفها، إلا أن النتيجة هي أن النار اشتعلت عبر هذا
_________
(1) دروس وتأملات في الحروب الصليبية لأبي فارس، ص 30.
(2) هجمات مضادة في التاريخ الإسلامي, د. عماد الدين، ص 26.(1/426)
المحور، وازدادت اشتعالاً بُعيد وفاة الرسول - صلى الله عليه وسلم - وتدفق القوات الإسلامية في البلاد التي يسيطر عليها البيزنطيون (1) , وبعد إخراج البيزنطيين من ممتلكاتهم في آسيا وأجزاء من إفريقيا على يدي القيادة الراشدة، التي شهدت المراحل التالية من العصر الراشدي، محاولات النفاق، ردود أفعال عديدة وهجمات مضادة نفذها هذا المعسكر في البّر والبحر، ولكنها آلت في معظمها إلى الخسران، ثم مالبث البيزنطيون أن انحسروا عبر العقود التالية، وبفضل الملاحقة الدؤوبة التي قام بها الأمويون (2)
- ابتداء من معاوية - رضي الله عنه - مؤسس الدولة الأموية وعهد عبد الملك وبنيه خصوصاً الوليد وسليمان - وقد تم شرح ذلك وتفصيله في كتابي الدولة الأموية عوامل الازدهار وتداعيات الانهيار- واستمرت الملاحقة النشطة للبيزنطيين بعد الأمويين في الشام ومصر وشمالي إفريقيا, وانحسروا بالكلية عن الشمال الإفريقي، ومساحات واسعة من البحر المتوسط، وانزووا هناك في شبه جزيرة الأناضول، فضلاً عن ممتلكاتهم في أوربا نفسها، وهكذا، وبمرور الوقت، أصبح خطر هجماتهم المضادة محدوداً لأنها تركزت عند خط الثغور في الأناضول والجزيرة الفراتية دون أن تتعداه إلى العمق إلا نادراً بسبب من يقظة القيادات الإسلامية وتحصينها خط الحدود من جهة، وقيامها بهجمات مستمرة ضد الدولة البيزنطية، وتوغلها في العمق باتجاه القسطنطينية نفسها من جهة أخرى، الأمر الذي لم يدع للإمبراطور البيزنطي - في معظم الأحيان - أن يأخذ زمام المبادرة وأن يوسع نطاق هجومه المضاد اللهم إلا عند مطلع القرن الرابع الهجري حيث كانت الدولة العباسية قد ضعفت إلا أنه حل محلها هناك، ذلك الكيان الإقليمي «الحمداني» الذي تشكل في حلب قريباً من خط الثغور، ووقف بالمرصاد لهذه المحاولة، واستطاع أن يكسر حدتها وأن يمتصّ الكثير من اندافاعها، رغم انها وصلت في أحد اندفاعاتها إلى حلب نفسها وتوغلت في الجزيرة الفراتية وشمالي الشام، ثم كانت وقعة ملاذكرد التي حقق فيها السلاجقة عام 463هـ في قلب الأناضول نجاحاً ساحقاً ضد العمود الفقري للقوات البيزنطية بمثابة نهاية لتحديات الدولة البيزنطية وهجومها المضاد، واستمر على تلك الحال حتى سقوطها بعد عدة قرون على يد العثمانيين (3). وقد فصلت ذلك في كتابي الدولة العثمانية عوامل النهوض وأسباب السقوط (4).
ثانياً: الإسبان:
شهدت الساحة الأندلسية، منذ بدايات مبكرة هجمات مضادة متواصلة قادمة من
_________
(1) هجمات مضادة في التاريخ الإسلامي د. عماد الدين، ص 26.
(2) المصدر نفسه، ص 26، 27.
(3) المصدر نفسه، ص 37 ..
(4) الدولة العثمانية عوامل النهوض وأسباب السقوط،، ص 125 - 140.(1/427)
الشمال حيث يتحصن الإسبان في المناطق الأشد وعورة، ولقد تمخضت هذه الهجمات عن صراع مرير قدرت القيادة الأموية عبره أن تجابه الهجوم المضاد لمدى ما يقرب من القرون الثلاثة, وأن تحتويه وترغمه على الانحسار في الجيوب الشمالية لشبه الجزيرة الإيبرية, ثم جاءت دفقة الحيوية الإسلامية الجديدة مرتين إحداهما على يد المرابطين القادمين من المغرب (1)، الذين سجلوا لنا في صفحات المجد انتصارهم العظيم في معركة الزلاقة على النصارى الإسبان في عام 479هـ (2)، والأخرى على أيدي الموحدين الذين جاءوا من بعدهم الذين حققوا انتصاراً ساحقاً على النصارى في معركة الأرَك عام 591هـ التي سجلت على صفحات الزمان بماء الذهب الصافي (3) وبذلك تمّكن الإسلام في الأندلس من الصمود بمواجهة التحدي ومقارعة الهجوم الإسباني المضاد بسلاح شبه متكافيء لمدى يقرب من القرون الأربعة (4). لكن المسلمين هناك مالبثوا أخيراً أن استنزفوا، وزادهم ضعفاً انقسامهم على أنفسهم وصراعهم الدموي الطاحن فيما بينهم، الأمر الذي حول الميزان لصالح القيادة النصرانية التي تمكَّنت في نهاية المطاف من إسقاط آخر كيان إسلامي هناك؛ مملكة غرناطة عام 897هـ لكي ما تلبث -تحت زعامة فرديناند وايزابيلا- أن تنفذ أبشع مجزرة رهيبة في التاريخ البشري، اشتركت فيها السلطة والكنيسة ومحاكم التحقيق، وقدرت -بأساليبها التي تتجاوز البداهات والقيم الإنسانية، فضلاً عن الدينية- على تدمير الوجود الإسلامي في الأندلس وإزالته من الخارطة الإسبانية، ودمج الجماعات الإسلامية قسراً بالمجتمع النصراني ديناً وثقافة وسلوكاً (5).
ومما يستحق أن يفهم أن الصراع المذهبي والحضاري ذا الطابع المصيري الذي حكم علاقات آسيا بأوربا عبر التاريخ، هو الذي جعل أوربا تتشنج إزاء امتداد الإسلام إلى أراضيها، غرباً في الأندلس وجنوبي فرنسا، وشرقاً في جهاتها الجنوبية الشرقية، وتبذل جهوداً مريرة ومحاولات متواصلة من أجل إزاحة الوجود الإسلامي من هناك بأي أسلوب, وبأية صيغة حتى لو تنافت مع أبسط قواعد التعامل الشريف مع الجماعات والأديان، من أجل التفرد بحكم القارة، ومجابهة التحدي الإسلامي فيما وراء الحدود (6).
ثالثاً: الحركة الصليبية:
إن الحركة الصليبية هي رد الفعل المسيحي تجاه الإسلام، تمتد جذورها إلى بداية ظهوره،
_________
(1) هجمات مضادة في التاريخ الإسلامي، ص 28.
(2) تاريخ دولتي المرابطين والموحدين للصَّلاَّبي، ص 101.
(3) المصدر نفسه ص 383، 384.
(4) هجمات مضادة، ص 28.
(5) المصدر نفسه، ص 28 من أراد التفصيل .. نهاية الأندلس محمد عنان.
(6) هجمات مضادة في التاريخ الإسلامي، ص 29.(1/428)
وخروج المسلمين من جزيرتهم العربية واصطدامهم بالدولة البيزنطية, وأن هذه الحركة تطورت كالكائن الحي على مدى القرون ما تكاد تخرج من طور إلا لتدخل في طور جديد، وما كانت الفترة الزمنية الممتدة بين سنتي (488هـ - 690هـ/ 1095 - 1291م) إلا أحد أطوارها فقط, وأن بروز هذا الطور بهذا الشكل الذي كاد يطغى على باقي أطوارها يعود إلى عوامل عديدة معقدة ومتشابكة يستطيع الباحث أن يتلمسها في الدوافع والأسباب التي أدت إلى إطلاق الموجة الصليبية العاتية من عقالها في هذه الفترة (1)، وسيأتي بيان هذه العوامل والأسباب بإذن الله تعالى.
وقد تصالح المؤرخون على إطلاق الحروب الصليبية على الحركة الاستعمارية الصليبية التي ولدت في غرب أوربا واتخذت شكل هجوم مسلح على بلاد المسلمين في الشام والعراق والأناضول، ومصر وتونس لاستئصال شأفة الإسلام والمسلمين والقضاء عليهم, واسترجاع بيت المقدس وقبر المسيح، وجذور هذه الحركة نابع من الأوضاع الدينية والاجتماعية والفكرية والاقتصادية والسياسية التي سرت في غرب أوربا في القرن الحادي عشر, واتخذت من الدين وقوداً لتحقيق أهدافها (2). لقد كانت تكاليف حقبة الحروب الصليبية باهظة بمعنى الكلمة، واستنزفت من الطرفين الكثير من الإمكانات والقدرات, ولعبت دوراً خطيراً في عرقلة مسيرة الحضارة الإسلامية ومع ذلك فإن التحديات التي صنعتها الهجمات الصليبية والقيم التي صاغها المسلمون وهم يتصدون للغزاة تمثل لا ريب رصيداً كبيراً يضاف إلى ما يتضمنه تاريخنا الطويل من تجارب وخبرات (3)، لقد كانت الحروب الصليبية حلقة من سلسلة طويلة في صراع الإسلام والباطل سبقتها حلقات على الطريق الطويل، وأعقبتها حلقات (4) ... فالغزو الصليبي ليس أمراً جديداً، ولا ظاهرة غريبة أو استثنائية وإنما هو القاعدة وغيره الاستثناء (5)، ولذلك نقول: إن التحديد الزمني للحركة الصليبية بين سنتي 488هـ - 690هـ هو تحديد خاطئ كما يقول الأستاذ الدكتور سعيد عاشور: لا يقوم على أساس سليم ولا يعتمد على دراسة الحركة الصليبية دراسة شاملة، وإنما يكتفي بعلاج مبتور يشمل جزءاً من تلك الحركة ولا يعبر عن جذورها وأصولها من ناحية، ولا عن ذيولها وبقاياها من ناحية أخرى (6).
لقد كانت المقاومة الإسلامية لهذا الغزو تعبيراً فذًا عن استمرار تيار العقيدة في نفوس
_________
(1) الحروب الصليبية في شمال إفريقية وأثرها الحضاري، ص 10.
(2) تاريخ الحروب الصليبية، محمود سعيد عمران، ص 15، من أجل فلسطين، حسني أدهم جرار، ص 29.
(3) هجمات مضادة، ص 31.
(4) هجمات مضادة، ص 31.
(5) المصدر نفسه، ص 32.
(6) الحركة الصليبية, سعيد عاشور (1/ 26).(1/429)
المسلمين، على مستوى القمة حيناً, وعلى مستوى القواعد معظم الأحيان، لقد صنعت الحقبة مجاهدين على درجة كبيرة من الفاعلية والقدرة, وقد انتشر هؤلاء المجاهدون في كل الجبهات وقاموا بمقاومة الغزاة في كل الفترات، وعلى مدى قرنين من الزمن لم يضعفوا ولم يستكينوا أو يضعوا السلاح, كانوا على استعداد في كل لحظة لركوب خيولهم والانطلاق سراعاً إلى الأهداف، والجهاد لا تصنعه النظريات والأماني، والمجاهد لا يتحرك في الفراغ، ولكنها التحديات التاريخية الكبيرة هي التي تصنع الجهاد وتبعث المجاهدين وتنفخ في المقاتل المسلم روح البطولة والتضحية والاستشهاد. لقد كانت الحروب الصليبية تحدياً كبيراً، لكن المسلمين عرفوا كيف يستجيبون له ويكونون «مجاهدين» كما أراد لهم الله ورسوله أن يكونوا وليس الجهاد عملاً سريعاً وانتظاراً لقطاف سريع، إنه صبر طويل وممارسة دائمة وتضحية بالغالي والرخيص، وزهد في المغانم القريبة والمنافع العاجلة، وقدرة على تعليق الرغبة المتعجلة بحلول النتائج وربطها بقدر الله ومشيئته (1).
إن أجيالاً من المجاهدين قد تنطوي قبل أن تنكشف النتائج، وقبل أن يطالب أحد منهم بقبض الثمن أو رؤية النتيجة الحاسمة، فمصائر الصراع تبقى دائماً بيد الله، قد يكشفها على المدى القريب وقد يطول السرى ويلتوي الطريق. لقد استغرقت الحروب الصليبية مائتين من السنين، لكن هذا المدى الطويل للعدوان لم يدفع رجال المقاومة المجاهدين إلى اليأس والتشاؤم وإلقاء السلاح، ظلوا يقارعونه بالنفس القوي ذاته، وتسلم الأجيال منهم الراية للأجيال حتى أذن الله بزوال العدوان وجلاء آخر غازٍ صليبي عن أرض الإسلام. هل كان أحد يتصور - في بدايات الحقبة المريرة - أنها ستدوم قرنين؟ ومن كان يتصور - أيضاً - أن إمارات ثلاثاً ومملكة كبيرة ستطوي الواحدة تلو الأخرى من صفحة الوجود, والحق أن طول أمد العدوان وامتداده على مسافة قرنين من الزمن، لم يكن بسبب من نقص القدرات البشرية والاقتصادية لعالم الإسلام أو ضعف في التزام الجماهير العقائدي وروحه الجهادية، وإنما في غياب القيادة الموحدة المؤمنة الملتزمة الواعية عبر مساحات من الصراع الطويل، ويوم كانت تبرز قيادات كهذه كانت تتحقق الإنجازات الكبيرة، وكانت النتائج الحاسمة تختزل حيثيات الزمن والمكان, وتحقق من المعطيات ما شهد به الغربيون أنفسهم (2). إن زمن قيادة رجل كمودود ونور الدين محمود والناصر صلاح الدين لهو الزمن الذي تلقي فيه الصليبيون أقسى الضربات, وتمكن المجاهدون خلاله من تحقيق أكبر الإنجازات، ولكن كم من هؤلاء القادة برزوا عبر الحقبة الطويلة؟ إن قيادة المقاومة لو أتيح لها أن تتواصل كما
_________
(1) هجمات مضادة في التاريخ الإسلامي، ص 3.
(2) المصدر نفسه، ص 34.(1/430)
تواصلت - مثلاً - بين نور الدين وصلاح الدين، لما طال العدوان، ولاختزلت أيام المحنة والاستنزاف .. يقيناً.
ومع غياب القيادة المؤمنة في مراحل شتى من الصراع، كانت القيادات السياسية والعسكرية تتطاحن فيما بينها فتستنزف الكثير من قدراتها من جهة، وتدير ظهرها للغزاة من جهة أخرى, وإلى جانب هذا فعدد غير قليل من الأمراء المحسوبين على عالم الإسلام مارسوا أنماطاً من الخيانة وصنوفاً من الغدر من أجل منافعهم ومصالحهم العاجلة لعبت دورها في عرقلة حركة المقاومة ووضع العراقيل والحواجز في طريقها, وكثيراً ما كان هؤلاء يوجهون طعناتهم القاضية في أشد المراحل حساسية وخطورة, فجلبوا بذلك على حركة المقاومة الكوارث والويلات، ورغم أن قيادات المجاهدين ما كانت تأبه للغدر فإنها كانت تحتاج دوماً لزمن إضافي كي تجدد القدرة على مواصلة الطريق, وفضلاً عن هذا وذاك، فإن الخليفة العباسي الذي كان يعاني الضعف وهبوط الفاعلية كان حاجزاً مكانياً وعقدياً وسياسياً أمام قيام الأمراء المجاهدين بدور «الرجل الأول» الذي يدين له العالم الإسلامي من أقصاه إلى أقصاه, والذي يستطيع من خلال مركزه القيادي الشامل أن يوظف جل الطاقات والقدرات الإسلامية من أجل المعركة ضد الغزاة. لقد كان الخليفة مجرد ظل سياسي وعسكري، ولكن تربعه قمة الهرم، وتردّده في العمل في كثير من الأحيان، أعاق مهمة احتواء التحدي من قبل رجل قيادي كبير يقف القمة شكلاً ومضموناً.
إن الخليفة إما أن يكون قادرًا على الفعل التاريخي، والتحرك الشمولي أو ألا يكون على الإطلاق. لأنه في حالة ضعفه وتهافته وعدم أخذه زمام المبادرة وحضوره الكامل في قلب الحدث، لن ينسحب بشكل نهائي لكي يتيح المجال لظهور القيادة القمة التي تمارس الحضور التاريخي، وسيبقى ظله يحجب -بشكل أو آخر- تحقق هذا الهدف الكبير، صحيح أن رجلاً كنور الدين محمود أو الناصر صلاح الدين أدّيا دورهما كاملاً ومارسا حضوراً تاريخياً فذاً, كما سيأتي تفصيل ذلك - بإذن الله - ولكن ماذا لو أن نور الدين نفسه أو صلاح الدين نفسه كان خليفة المسلمين؟
لقد انتهت الحروب الصليبية، وطهرت الأرض الإسلامية من آخر جيب للغزاة بعد قرنين من الزمن, واستطاعت حركة المقاومة أن تحقق هدفها وتطرد المعتدين عن آخرهم في نهاية المطاف, ومعنى هذا أن «الاستعمار» - أيًا كانت الصيغ التي يعتمدها والأردية التي يتزي بها والأهداف التي يسعى لتحقيقها، لن يكون - مهما طال به الأمد - بأكثر من ظاهرة عرضية موقوتة لن تقدر على مد جذورها في الأرض والتحقق بالاستمرارية والدوام، إنه أشبه بالجسم الغريب الذي يزرع في كيان غير متجانس مع مكوناته وعناصره، إن هذا الكيان(1/431)
سيلفظه إذ ليس ثمة ما يحقق التوافق المطلوب الذي يربط بين الطرفين ويوحّد تجربتهما ويختم على مصيرهما. إن الأجسام الغريبة محكوم عليها بالطرد، ولن تكون الأرض التي تسطو عليها وطناً لها في يوم من الأيام. تلك هي حتمية التاريخ والقرآن الكريم يقولها بوضوح: {وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} [آل عمران: 140] فليس ثمة أمة أو جماعة أو دولة أو قوة في الأرض بقادرة على تجاوز حتمية التاريخ .. إنما لكلمات ثلاث ولكنها تلخص التاريخ البشري كله وتمنحه قيمته وحيويته وقدرته على الحركة في الوقت نفسه (1). وسنمضي بإذن الله تعالى قدماً لدراسة الحروب الصليبية من عهد السلاجقة إلى الزنكيين ثم الأيوبيين ثم المماليك لنرى العبرة ونستلهم الدروس، ونستخرج سنن وقوانين الصراع لكي نوظفها لنصرة كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -.
رابعاً: حركة التفاف الصليبيين:
ما لبثت أوربا بعد سحق الوجود الإسلامي في إسبانيا، أن بدأت بقيادة إسبانيا والبرتغال، ومن بعدهما بريطانيا وهولندا وفرنسا، عملية الالتفاف التاريخية المعروفة على عالم الإسلام عبر خطوطه الخلفية في إفريقيا وآسيا، والتي كانت بمثابة حركة الاستعمار القديم التي ابتلي بها العالم الإسلامي فيما بعد، والتي استمرت حتى العقود التي أعقبت سقوط الخلافة العثمانية، كان المماليك في مصر والشام قد بلغوا مرحلة الإعياء، وكان اكتشاف الطريق البحري الجديد حول رأس الرجاء الصالح قد وجّه لتجارتهم -التي هي بمثابة العمود الفقري لمقدراتهم المادية- ضربة قاصمة، أما العثمانيون فكان جهدهم منصبًا على اختراق أوربا من الشرق، ولم تكن لديهم الجسور الجغرافية التي تمكنهم من وقف محاولة الالتفاف تلك في بداياتها الأولى, ولكنهم ما لبثوا بعد عدة عقود أن تحركوا لمجابهة الموقف ومع ذلك فقد دافعت الشعوب والقيادات الإسلامية المحلية في المناطق التي ابتليت بالغزو دفاعاً مستميتاً، وضربت مثلاً صلباً في مقاومتها المتطاولة للعدوان, وألحقت بالغزاة خسائر فادحة على طول الجهات والمواقع الساحلية التي سعى هؤلاء إلى أن يجدوا فيها موطئ قدم لهم (2).
يقول جورج كيرك: لقد كان هدف هنري الملاح هو استمرار الصليبيين بواسطة التغلب على دار الإسلام حربياً وتجارياً، وانتزاع تجارة الذهب وغيره من أيدي المسلمين والاتصال في جنوبي الصحراء بجون (حنا) نجاشي الحبشة للتعاون معه على مهاجمة المسلمين من الجنوب، ومن هنا بدأت في أوائل القرن التاسع الهجري «الخامس عشر الميلادي» وخلال القرن العاشر حركة يقودها البرتغاليون والإسبانيون في الاستيلاء على موانئ شاطئ إفريقيا
_________
(1) هجمات مضادة في التاريخ الإسلامي، ص 36.
(2) المصدر نفسه، ص 37.(1/432)
(مراكش والجزائر) سبتة وطنجة ومليلة والمرسى الكبير، ثم اتصلت هذه المحاولات باحتلال البرتغاليين للبحرين ومسقط بقصد محاصرة الأساطيل العربية في البحر الأحمر والخليج (1). وكان البرتغاليون قد وصلوا إلى رأس الرجاء الصالح عام 1487هـ واستطاع ألفونسو البوكرك إقامة دولة في الشرق واستولى على مدينة هرمز. ثم سيطر البرتغاليون على الخليج العربي خلال القرن السادس عشر، أو أبحر فاسكودي جاما إلى موزمبيق, وفي عام 1502م سيطر على زنجيبار, وعام 1505م خرج من البرتغال أسطول تعداده عشرون سفينة فاحتلوا سفالة وكلوة وممباسا وبلغوا مسقط وهرمز عام 1509م, وفي عام 1519م احتلوا السواحل الإفريقية وانتزعوها من أيدي المسلمين (2).
غير أن هذه الحركة لم تصل إلى ما كانت تطمع فيه فقد أوقفتها القوة الإسلامية العثمانية النامية التي استطاعت أن تقضي عليها، فقد ظهر العثمانيون في مياه الخليج 1585م وقابلهم أهل الساحل بحماس شديد, كما دخلت دولة المماليك مع البرتغال في حروب بحرية، ثم خلف الفرنسيون والهولنديون والإنجليز والبرتغال وإسبانيا وخطوا خطوات واسعة كان أبرزها استيلاء هولندا على أرخبيل الملايو، وفرنسا وانجلترا على إفريقيا واستأثرت إنجلترا بالهند, كما ناهض الإنجليز البرتغاليين وأرسلوا سفنهم إلى بلاد فارس عام 1616م، وقد استطاع العثمانيون إنقاذ العالم الإسلامي من الغزو البرتغالي الإسباني الذي استهدف خنق التجارة الإسلامية، وحين حاولوا السيطرة على ساحل المغرب الإسلامي للإغارة عليه وضربه، سارع العثمانيون بالسيطرة على المغرب كله ما عدا مراكش واستطاعوا مواجهة الإسبان في حوض المتوسط وجزائره وسواحله، وأدالوا منهم، وبذلك استطاعت القوة البحرية العثمانية أن تحفظ شاطئ البحر المتوسط للإسلام والمسلمين, واستطاع العثمانيون أن يسيطروا على ساحل شرق إفريقيا وشمال المحيط الهندي في مطلع القرن الثامن عشر فأرهب ذلك الأوربيين. واستطاع أحمد بن سعيد 1740هـ أن يقف في وجههم في عمان حيث فقد البرتغاليون الأمل في استرداد هذه المنطقة، وقد كانت عمان بعد سقوط الأندلس أكبر قوة عربية ودامت نهضتها من عام 1000هـ إلى 1250هـ وقد استولت على ثغور البحر الأحمر والمحيط الهندي والخليج، فإفريقيا الشرقية إلى رأس الرجاء الصالح، وفي بضعة أجيال صار أهل عمان سادة هذه البحار العظمى الثلاثة، وصار لهم أسطول ضخم هاجم الأسطول البرتغالي وأجلاه عن جميع الثغور الهندية والفارسية والإفريقية ..
ولم يصبر الإنجليز على هذه الدولة البحرية التي كانت تهددهم في أملاكهم في آسيا وإفريقيا؛ فعملوا على مدى ثمانين عاماً على إضعافها والقضاء عليها وضرب
_________
(1) هجمات مضادة في التاريخ الإسلامي، ص 38.
(2) المصدر نفسه، ص 38.(1/433)
الأسطول البريطاني مدنها بالقنابل (1).
خامساً: الاستعمار:
وجاءت الموجة الأوربية المضادة التالية على يد القوات الاستعمارية التي دفعتها الثورة الصناعية إلى البحث عن مجالاتها الحيوية في القارات القديمة لتصريف بضائعها والحصول على الخامات الضرورية، وتسخير الطاقات البشرية (الرخيصة) المستعبدة في إفريقيا عن طريق نقلها بالقوة فيما يعرف بحركة تهجير العبيد التي كانت بمثابة إحدى العلامات السوداء في تاريخ الصراع بين أوربا والشرق, والتي ذهب ضحيتها عدد كبير من أبناء الشعوب الإسلامية في إفريقيا, واستمرت هذه الموجة التي قادتها بريطانيا وفرنسا وهولندا وبلجيكا وإيطاليا وألمانيا إلى حدٍ ما، حتى العقود الأولى من القرن العشرين وكان العالم الإسلامي فريستها الأولى بل إنه كان فريستها الوحيدة، إذا استثنينا مساحات محدودة قطنتها أكثريات غير إسلامية، وكانت رغم أهدافها الاقتصادية تتحرك على خلفية صليبية عبّرت عن نفسها في أكثر من واقعة، وقدمت عبر التاريخ أكثر من دليل، إن «غلادستون» رئيس الوزراء البريطاني يقولها بصراحة أمام مجلس العموم البريطاني وهو يمسك بالمصحف الشريف: ما دام هذا في عقول المصريين وقلوبهم فلن نقدر عليهم أبداً (2) وعندما دخل القائد البريطاني الصليبي القدس بعد الحرب العالمية منتشياً وحلفاء بريطانيا يستقبلونه بحفاوة وتكريم إلا أنه لم يخف حقده الصليبي على الإسلام والمسلمين, وأظهر سروره وحبوره كقائد صليبي منتصر فتح القدس وفلسطين تحت الانتداب البريطاني الصليبي فقال: الآن انتهت الحروب الصليبية. (3)
يزعم بهذه العبارة أن هدف الحروب الصليبية باحتلال القدس وفرض السيادة الصليبية عليها وعلى فلسطين قد تحقق, وهو بهذا يشير إلى أن الحروب الصليبية التي استمرت قرنين من الزمان واحتلت القدس وفلسطين سنة 492هـ وحررها المسلمون في عام 583هـ لم تحقق هدفها, أما الحرب العالمية الأولى فقد حققت فيها الصليبية هدفها واستولت على فلسطين والقدس وكانت السيادة لها. وأما القائد الصليبي الفرنسي فقد ذهب إلى قبر صلاح الدين في دمشق وقال عند القبر: ها نحن عدنا يا صلاح الدين (4). واستمرت الحرب الصليبية فلم تتوقف فقامت بريطانيا بإعطاء وطن لليهود على أرض فلسطين وإقامة دولة يهودية, واتخذت من القرارات والإجراءات الإدارية والعسكرية ما تقيم هذه الدولة،
_________
(1) الإسلام وحركة التاريخ، أنور الجندي، ص 392 - 393.
(2) هجمات مضادة في التاريخ الإسلامي، ص 40.
(3) دروس وتأملات في الحروب الصليبية، ص 35.
(4) دروس وتأملات في الحروب الصليبية، ص 35.(1/434)
بتدريب اليهود على السلاح وفنون القتال وتوفير السلاح لهم، بل إعطاء بعض أسلحة الجيش البريطاني لهم، وبخاصة عندما أعلنت بريطانيا انتهاء الانتداب البريطاني على فلسطين في 15/ 5/1948م بل سلمت كثيرًا من المدن والقرى الفلسطينية إلى اليهود ليعلنوا إقامة دولة يهودية عليها، وفي الوقت ذاته قد حرمت على الفلسطينيين المسلمين التدريب على السلاح واقتناء السلاح, وشنت عقوبات ظالمة على كل فلسطيني يقتني السلاح أو العتاد، فكانت عقوبة الإعدام هي الشائعة، ولقد علق من المجاهدين المسلمين على أعواد
مشانق الصليبيين الإنجليز في تلك الفترة آلاف الشهداء, وزج في غياهب السجون عشرات الألوف (1). هذا وقد تزامنت الحركة الاستعمارية وارتبطت عضوياً بحركة التبشير النصرانية، بجانبيها الكاثوليكي والبروتستانتي، والتي انتشرت مراكزها في طول بلاد الإسلام وعرضها تمهد للاستعمار بأنشطتها المختلفة, وتفتح أمامه الطريق وتحظى تحت سلطانه بالكثير من المساعدات والميزات (2) , إلا أن هذا الهجوم الاستعماري الصليبي المضاد لم يمض بسلام ولم تركع الشعوب الإسلامية أمام إرادة القوة التي اعتمدها الغزاة، بل شمروا عن ساعد الجد واستجاشوا قدرات الإيمان الدافقة ووازنوا بتضحياتهم، وعشقهم ألموت، وركضهم إلى الشهادة، نقص إمكانياتهم العسكرية والمادية ووضعوا بذلك الأعاجيب التي أذهلت الغربيين وعرقلة استمرارية حركتهم، ألحقت بهم الهزائم والويلات ووضعت في طريقهم الأسلاك الشائكة والألغام، ليس هذا فحسب، بل إن الاستجابة للتحدي الاستعماري النصراني بعث حركات إسلامية أصيلة تخلّقت في مناخ جهادي قاس، واستهدفت مقارعة العدوان وتحرير الأرض والعقيدة والإنسان, وقدمت نماذج من أعمال المقاومة تحدث بها الغربيون قبل الشرقيين وملأت صفحات ناصعة بيضاء في معطيات التاريخ (3)، ونحن نذكر على سبيل المثال لا الحصر (4) مقاومة كل من: محمد عبد الكريم الخطابي بالمغرب وعبد القادر الجزائري وجمعية علماء المسلمين بالجزائر التي قادها عبد الحميد بن باديس ومحمد البشير الإبراهيمي، وعمر المختار بليبيا، وغير ذلك من حركات التحرر التي تحتاج إلى أقلام صادقة لبحثها وكتابتها والأمة في أشد الحاجة إلى مثل هذه الدراسات الجادة.
إن الحرب الصليبية لم تنته ولن تنتهي, وما يحدث في أفغانستان والعراق من احتلال دليل على ما نقول، ومن أهم دوافع هذه الحروب أبعاد دينية وسياسية وعسكرية واقتصادية يطول شرحها.
_________
(1) هجمات مضادة في التاريخ، ص 41
(2) المصدر نفسه، ص 41.
(3) المصدر نفسه، ص 42.
(4) المصدر نفسه، ص 43.(1/435)
المبحث الثاني
أهم أسباب ودوافع الصليبيين
كان المجتمع الأوربي الغربي في هذه الفترة تسوده المنازعات والحروب المحلية بين الأمراء الإقطاعيين مما يساعد على ازدياد سوء الأحوال الاقتصادية والاجتماعية في الغرب الأوربي (1)، كما كان للصراعات القائمة بين رأسي العالم المسيحي الغربي حينذاك، وهما البابا والأمبراطور أثر كبير في مجريات الأحداث الأوربية، فلقد بلغت البابوية درجة عظيمة من القوة واتساع النفوذ في هذه الفترة، مما فتح أمامها المجال لكي تصبح القوة العالمية بمعنى أن يكون البابا هو الزعيم الروحي لجميع المسيحيين في الشرق والغرب على حد سواء (2)، بجانب الخلافات المستمرة الموجودة بين الكنيستين الأرثوذكسية الشرقية والكاثوليكية الغربية، إذ أصرت كل منهما على أن تسود وجهة نظرها, وأن تكون لها الأولوية على الأخرى, ولهذا السبب عندما عرضت فكرة الحرب المقدسة على البابا أوربان الثاني (471 - 491هـ) (1078 - 1097م) وجد في تنفيذها فرصة كبيرة لإنهاء الخلاف بين الكنيستين والسيطرة على الكنسية الأرثوذكسية الشرقية وإدماجها في الكنسية الغربية تحت زعامته، على أن يتم ذلك كله تحت ستار محاربة المسلمين وحماية البيزنطيين واسترداد الأراضي المقدسة في فلسطين (3)
, هذا بالإضافة إلى أغراض أخرى عديدة كانت البابوية ترغب في تحقيقها من وراء تمسكها بفكرة الحرب المقدسة، منها التخلص من نفوذ كبار رجال الإقطاع في الغرب، وإنهاء الحروب المستمرة عن طريق توجيه هذه الطاقات واستغلالها في الحرب المقدسة، علها تفتح لهم بذلك منفذا لحياة أفضل في الشرق بدون منازعات (4). وقد اختلفت الآراء في تفسير طبيعة الحركة الصليبية والدوافع الكامنة وراءها؛ فمنها ما هو مادي والبعض يرى أنها وليدة الحماس أو التعصب الديني الذي عرفت به أوربا في العصور الوسطى، وأن الباعث الحقيقي لتلك الحروب كان في الواقع هو الهوس الديني الممزوج بأغراض أخرى كالميل إلى تأسيس ممالك جديدة والحصول على الثروات الطائلة، وقد اعتبر غالبية المؤرخين القدامى والمحدثين تلك الحروب أنها حروب دينية، وأن العامل الديني كان الدافع الأساسي وراءها من أجل استعادة قبر المسيح والأراضي المقدسة من أيدي المسلمين. والآخرون يعتبرونها أحد مظاهر
_________
(1) الحروب الصليبية، أرنست باكر ص 21، 24.
(2) الحروب الصليبية, سعيد عاشور (1/ 32).
(3) دور الفقهاء والعلماء في الجهاد ضد الصليبيين في آسيا، ص 32.
(4) مملكة بيت المقدس الصليبية، عمر كمال توفيق، ص 18، 19، 32 ,33.(1/436)
التوسع الاقتصادي الاستعماري في العصور الوسطى. وحقيقة الأمر، أن الحروب الصليبية كانت نتيجة لتفاعل هذه العوامل مجتمعة، لأنها قامت لأسباب سياسية واقتصادية واجتماعية، واتخذت الدين وقوداً أو وسيلة لإخفاء أغراضها المذكورة (1)، ولا يمكن التقليل من الدافع الديني في تلك الحروب بأي وجه من الوجوه وإليك تفصيل تلك الدوافع والأسباب:
أولاً: الدافع الديني:
كان الدافع الديني من الأسباب الرئيسية التي دفعت بالجموع الصليبية إلى قلب المعركة، ومما يظهر أهمية الجانب الديني أنهم قد وضعوا إشارة الصليب على أسلحتهم والأمتعة الخاصة بهم وقصدوا فلسطين بالذات (2)، وقد كانت حركة الإحياء الديني قد ظهرت في غرب أوربا في القرن العاشر الميلادي، وبلغت أشدها في القرن الحادي عشر، وقد أدت إلى تقوية مركز البابوية، وإثارة الحماسة الدينية في نفوس الناس، هذه الحماسة استغلتها الكنيسة في متنفس خارجي, وعندما ظهرت فكرة الحرب الصليبية اتخذت الكنائس الغرب الأوروبي ميداناً واسعاً لاستغلال نشاطه المكبوت وحماسته المنطلقة (3)،
وكان ذلك باسم تخليص القدس من أيدي المسلمين (4)، ومن أشهر من تبنى الدعوة إلى الحروب الصليبية هو «أوربان الثاني» والذي يعتبر المسئول الأول عن الترويج لحرب المسلمين والتحريض على إرسال الحملة الأولى إلى بلاد الشام, وكانت الظروف مهيأة، فسارع إلى عقد اجتماع في مدينة «كليرمنت» في فرنسا, واستمر المؤتمر عشرة أيام حضره أكثر من ثلاثمائة من رجال الكنيسة (5) , كما حضره أمراء من مختلف أنحاء أوربا، ومندوبون عن الإمبراطور البيزنطي، وممثلون عن المدن الإيطالية .. واستطاع البابا أن يثير حماس السامعين في «خطابه» فتجاوب في أرجاء المجتمع هتاف بترديد عبارة «هكذا أراد الله» , وبادر الحاضرون إلى اتخاذ الصليب شارة لهم (6)، كما أن البابا أشار إلى ما أسماه بالخطر الإسلامي المحدق بأوربا من جهة القسطنطينية، وأعلن أن الناس في المشرق يعانون من ظلم المسلمين، وأن الكنائس والأديرة قد أصابها
_________
(1) العدوان الصليبي على العالم الإسلامي صلاح الدين نوار، ص 22.
(2) الحروب الصليبية والأسرة الزنكية، شاكر أحمد أبو زيد، ص 17.
(3) الحركة الصليبية, سعيد عاشور (1/ 20)، الجهاد والتجديد في القرن السادس الهجري، محمد حامد الناصر، ص 80.
(4) الجهاد والتجديد، محمد حامد، ص 80.
(5) أثر الشرق الإسلامي في الفكر الأوربي خلال الحروب الصليبية، ص 81.
(6) الشرق الأدني, السيد الباز العريني، ص 13،14.(1/437)
الدمار، وحث الحاضرين على الانتقام من المسلمين (1)، والحقيقة إن ما أثاره البابا من تعرض نصارى المشرق إلى اضطهاد هو ادعاء باطل، لا يتفق وروح الإسلام وطبيعة الدعوة إليه، وما أحاط النصارى به، من رعاية وعناية (2).
وكان من الشعارات التي رفعت في هذه الحرب أن الحجاج من النصارى كانوا يتعرضون للاضطهاد والعدوان وهم في طريقهم إلى بيت المقدس - قبيل الحروب الصليبية- وهذا ادعاء باطل كذلك (3)، يقول أحد كبار المؤرخين الأوربيين: إن حالات الاضطهاد الفردية التي تعرض لها المسيحيون في البلدان الإسلامية في الشرق الأدنى في القرن العاشر الميلادي بالذات لا يصح أن تتخذ بأي حال سبباً حقيقياً للحركة الصليبية، لأن المسيحيين بوجه عام تمتعوا بقسط وافر من الحرية الدينية وغير الدينية في ظل الحكم الإسلامي، فلم يسمح لهم فقط بالاحتفاظ بكنائسهم القديمة، وإنما سمح لهم أيضاً بتشييد كنائس وأديرة جديدة جمعوا في مكتباتها كتبًا دينية متنوعة في اللاهوت (4). كما أن الادعاء بتخريب الكنائس وهدم الأديرة أو مصادرتها لم يقم عليه دليل, وإنما هي شائعات ربما أدى إليه تصرف بعينه في قرية بعينها، لا يمكن بحال من الأحوال أن يعتبر هو الأصل في معاملة المسلمين للمسيحيين وكنائسهم في البلاد الإسلامية (5). ويقرر أكثر من مؤرخ منصف أن النصارى الذين خضعوا لحكم السلاجقة، كانوا أسعد حالاً من إخوانهم الذين عاشوا في قلب الإمبراطورية البيزنطية ذاتها، وما وجد أي دليل على اضطهاد السلاجقة للنصارى في المشرق (6). إلا أن صيحات البابا كانت محمومة حاقدة لا تعقل ولا تفكر في العواقب الوخيمة (7). وقد وعد البابا الجموع المشاركين بالحرب، برفع العقوبات عن المذنبين منهم، وبإعفائهم من الضرائب، كما وعدهم برعاية الكنسية لأسرهم مدة غيابهم (8)،
ولعل ما يدخل ضمن الدافع الديني أيضاً أنه ذاعت في الغرب أخبار الكرامات والمعجزات التي بثتها الكنيسة، وساد الاعتقاد بأن نزول المسيح ثانية إلى الأرض أصبح وشيكاً, ولا بد من المضي في الاستغفار وعمل الخير، قبل هبوطه، كما ساد تصور مفاده أنه ينبغي استرداد الأرض قبل عودة المسيح (9). وقد أدرك البابا أن فورة الحماس الديني لن تستمر طويلاً، فدعا إلى القسم وبأن تؤدي الصلاة في كنيسة القيامة، وأشاع أن اللعنة والنقمة، ستحل على كل
_________
(1) قصة الحضارة (4/ 16).
(2) الجهاد والتجديد، ص 81.
(3) الغزو الصليبي والعالم الإسلامي د. علي عبد الحليم محمود، ص 108.
(4) الحركة الصليبية, سعيد عاشور (1/ 30).
(5) الغزو الصليبي والعالم الإسلامي، ص 109.
(6) الحركة الصليبية (1/ 26 - 28).
(7) التاريخ الإسلامي والحضارة الإسلامية, د. أحمد شلبي (5/ 438).
(8) أثر الشرق الإسلامي في الفكر الأوربي، ص 26 ..
(9) الوسيط في تاريخ فلسطين في العصر الإسلامي الوسيط، ص 152.(1/438)
من يستولي عليه الجبن والضعف أو نكص على عقبيه، وهدد بأن يتعرض كل من لا يلبي نداء الكنيسة بالتوجه صوب الديار الإسلامية بالحرمان من الكنيسة (1). لقد أثرت الكنيسة -لما لها من سلطان على قلوب الناس في غرب أوربا في تلك العصور- على الدعوة بهذه الغزوة، وترتب على دعوة الكنيسة خروج الناس أفواجاً في حملات صليبية ضخمة متلاحقة إلى المشرق الإسلامي (2). ولا ننسى الحقد الصليبي على الإسلام وأهله، فقد انتزع من أيديهم أرضاً كانت تحت سلطتهم, وحرر منهم عبيداً كان يرزحون تحت وطأتهم, واستلب منهم ملكاً كان في قبضتهم، فغلت مراجل الحقد في صدورهم، وتأججت نار العداوة في قلوبهم، وأخذوا يتحينون الفرص يستردون ما فقدوا وانتقموا لأنفسهم ممن نكبوهم، ومزقوا مملكتهم (3)،
وهذا المستشرق المشهور الأمير ليون كايتاني (1869م - 1926م) الذي بذل معظم أمواله ليؤرخ لحركة الفتح الإسلامي في كتابه المعروف: «حوليات الإسلام» يوضح لنا سر الحقد على الإسلام والمسلمين في مقدمة كتابه حيث يقول: إنه يريد أن يفهم من عمله ذاك سر المصيبة الإسلامية (كانا ستروفيكا إسلاميكا) التي انتزعت من الدين المسيحي ملايين من الأتباع في شتى أنحاء الأرض ما يزالون يدينون برسالة محمد - صلى الله عليه وسلم - ويؤمنون به نبياً ورسولاً (4)، قال تعالى: {وَلَنْ تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ} [البقرة:120] , وقال تعالى: {وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِن اسْتَطَاعُوا وَمَن يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآَخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة: 217].
ثانياً: الدافع السياسي:
كان الملوك والأمراء الذين أسهموا في الحركة الصليبية يسعون وراء أطماع سياسية لم يستطيعوا إخفاءها, سواء قبل وصولهم الشام وفلسطين أو بعد استقرارهم فيهما. والمعروف أن النظام الإقطاعي ارتبط دائماً بالأرض وبقدر ما يكون الإقطاع كبيراً والأرض واسعة بقدر ما تكون مكانة الأمير سامية في المجتمع, وفي ظل هذا النظام كانت المشكلة الكبرى التي يمكن أن تواجه الأمير والفارس هي عدم وجود إقطاع أو أرض له، مما يجعله عديم الأهمية مسلوب النفوذ, وأدى هذا إلى بقاء عدد كبير من الفرسان والأمراء بدون أرض، لأن من القواعد الأساسية في هذا النظام أن الابن الأكبر وحده هو الذي يرث الإقطاع فإذا مات
_________
(1) الوسيط في تاريخ فلسطين في العصر الإسلامي الوسيط، ص 152.
(2) تاريخ الوطن العربي والغزو الصليبي، ص 22.
(3) أسباب الضعف في الأمة الإسلامية للوكيل، ص 157.
(4) الغزو الصليبي والعالم الإسلامي، ص 110.(1/439)
صاحب الإقطاع انتقل الإقطاع بأكمله إلى أكبر أبنائه (1)، وهذا يعني بقاء بقية الأبناء دون أرض، وهو وضع ممقوت في المجتمع الإقطاعي، الأمر الذي جعل الفرسان والأمراء المحرومين من الأرض يتحايلون للتغلب على هذه العقبة عن طريق الزواج من وريثة إقطاع، أو الالتجاء إلى العدوان والحرب للحصول على إقطاع. وكان أن ظهرت الحركة الصليبية لتفتح باباً جديداً أمام ذلك النفر من الأمراء والفرسان، فلبوا نداء البابوية، وأسرعوا إلى الإسهام في تلك الحركة لعلهم ينجحون في تأسيس إمارات لأنفسهم في الشرق، تعوضهم ما فاتهم في الغرب. أما الأمراء والفرسان الذين كانوا يمتلكون إقطاعات فقد وجدوا في المشاركة في الحركة الصليبية فرصة طيبة لتحقيق مجد أكبر والحصول على جاه أعظم.
وبدارستنا لمراجع الحروب الصليبية نرى أن أطماع أمراء الحملة الأولى تجلت في عدة مظاهر سياسية، فقد أخذوا يقسمون الغنيمة وهم في الطريق أي قبل أن يستولوا على الغنيمة فعلاً، وسوف نرى -بإذن الله تعالى- كيف استحكم النزاع فيما بينهم أمام أنطاكية لرغبة كل واحد منهم في الفوز بها وكيف من استطاع منهم أن يحقق لنفسه كسباً في الطريق قنع به وتخلى عن مشاركة بقية الصليبيين في الزحف على البيت المقدس، وهو الهدف الأساسي للحملة, وكثيراً مادب الخلاف بينهم - بعد استقرارهم - حول إمارة أو الفوز بمدينة، وعبثاً حاولت البابوية أن تتدخل لفض المنازعات بين الأمراء وتحذرهم بأن المسلمين يحيطون بهم، وأن الواجب الصليبي يستدعي تضامنهم لدفع الخطر عن أنفسهم, ولكن تلك الصيحات ذهبت أدراج الرياح، لأن هدف الأمراء كان ذاتياً سياسياً، ولم يكن يهمهم كثيراً رضا البابا أو سخطه، بل إن بعض الأمراء لم يحجموا عن مخالطة القوى الإسلامية المجاورة ضد إخوانهم الصليبيين مما يدل على أن الوازع الديني كثيراً ما ضعف عند أولئك الأمراء أمام مصالحهم السياسية (2)، أما بالنسبة للإمبراطور البيزنطي (الكسيوس) فإنه لم يعترض على أهداف أمراء الحملة، لأنه إذا تسنى للدولة البيزنطية استرداد ما كان لها من أملاك قبل غارات الأتراك عليها، جاز أن تقوم في تخومها إمارات مسيحية حاجزة، لها حق السيادة عليها، ولضمان الحصول على ذلك حرص الإمبراطور على الحصول على يمين الولاء من أمراء الغرب، وبذلك توافقت مصالح كلا الجانبين المسيحيين في القيام بالحرب والعدوان على الأرض الإسلامية.
والواقع أنه من العسير الفصل بين العوامل المادية والعوامل المعنوية التي دفعت المسيحيين إلى الحروب الصليبية، فالفقر والرغبة في الكسب، وروح المغامرة كانت عوامل هيأت الجو المناسب للحروب، غير أن هذه العوامل لم تظهر إلا بما نجم عن فكرة للحرب «المقدسة» وتخليص
_________
(1) أوربا في العصور الوسطى (2/ 49) , الوسيط في تاريخ فلسطين، ص 154.
(2) الوسيط في تاريخ فلسطين، ص 155.(1/440)
الأرض، من حماس ديني، والواضح أن فكرة الحرب نبعت من السياسة البابوية، وسياسة الدولة البيزنطية والحروب الإسبانية الإسلامية، فمما سهل أمر إعلان الحرب على المشرق الإسلامي، ما درج عليه الإسبان والفرنسيون في قتال المسلمين في بلاد الأندلس، حيث اتخذ هذا القتال صفة الحرب المقدسة، سواء من جهة المسلمين، حيث أثار «المرابطون» في المغرب الإسلامي الجهاد الديني، أو من جهة المسيحيين في الحالة النفسية التي اقترنت بتوجيه الحرب الصليبية إلى الشرق، حتى إن المؤرخ الكبير (ابن الأثير) نظر إلى الخطر الخارجي نظرة شمولية، واعتبر أي عدوان على طرف من أطراف العالم الإسلامي - سواء في الشرق والغرب - رافدًا يصب في النهر الأكبر، وهو الغزو الأجنبي المنظم على أكبر قوة حضارية في العصور الوسطى، وهي الدولة الإسلامية (1)؛ الأندلس، صقلية، الشام - فلسطين «والتي تكمن في الفرقة، والأطماع الذاتية، وفقدان الروح الوثابة التي تميز بها الحكام والمسلمون الأوائل بناة الدولة الإسلامية (2).
هذا وقد كان واضحًا للعيان أن الكنيسة الغربية كانت محمومة لتوسيع رقعتها الإقطاعية، والسيطرة على الكنائس الشرقية، إضافة إلى رغبتها في حرب المسلمين، ومن حقائق التعصب الديني، وجود الجماعات الدينية التي كانت ترتبط بالكنيسة مباشرة وكانت ذات أثر فعال في تلك الحروب، منها فرسان الاسبتارية الذين كانوا ملتزمين بالدفاع عن ممتلكات الصليبيين في المشرق، وحماية الأماكن المقدسة, وكانوا يرتبطون بالبابا مباشرة، وكانت كنائس بيت المقدس قد خصصت عشر دخلها لمساعدتهم في أداء رسالتهم الدينية المزعومة، وهناك هيئة الفرسان الداوية التي اتخذت مقرها في جزء من هيكل سليمان عليه السلام في المسجد الأقصى، وسميت باسم: فرسان المعبد، ثم حرفت إلى اسم الداوية (3). هذا وقد كانت للبابوية ورجال الكنيسة القدرة على التأثير والضغط والتهديد بالنسبة لمن لا ينفذ رغبة الكنيسة بإصدار قرارات الحرمان التي تقضي بالحرمان من النعيم في الآخرة ونبذ طاعته في الدنيا (4) على حد زعمهم.
ثالثاً: الدافع الاجتماعي:
ساد المجتمع الأوربي -في العصور الوسطى- تمايز طبقي كبير، فقد سادت فيه طبقة رجال الدين وطبقة المحاربين من النبلاء والفرسان (5)، وكانت طبقة الفلاحين تمثل الطبقة الأكبر المغلوبة على أمرها، والتي كان أفرادها يكدحون، ليسدوا حاجة الطبقتين الأوليين.
_________
(1) الكامل في التاريخ نقلاً عن الوسيط في تاريخ فلسطين, ص 156.
(2) الوسيط في تاريخ فلسطين، ص 156.
(3) الوسيط في تاريخ فلسطين، ص 156.
(4) جهاد المسلمين في الحروب الصليبية، فايد حماد عاشور، ص 86.
(5) تاريخ الوطن العربي والغزو الصليبي، ص 24.(1/441)
كان الفلاح الأوربي مغلوباً على أمره، وكان مطالباً بالتزامات عديدة لأصحاب الإقطاع، وكان البابا على دراية بأحوال الفلاحين الكادحين، فوعدهم بإلغاء التزاماتهم نحو أسيادهم, وأغراهم بخيرات الشرق الإسلامي، كان آلاف الفلاحين يعيشون عيشة منحطة في نظام الإقطاع، حيث شيدوا لأنفسهم أكواخاً من جذوع الأشجار وفروعها وغطيت سقوفها بالطين والقش، دون أن يكون لها نوافذ، ولا يوجد داخلها أثاث بل كان ما يجمعه الفلاح يعتبر ملكاً خاصاً للسيد الإقطاعي، كما يعتبر محرومًا من الملكية الشخصية (1) , وكانوا مثقلين بالالتزامات من منتجاتهم. وبذلك يظهر مدى التعاسة والبؤس الذي كان يعيشه غالبية شعوب أوربا في القرن الحادي عشر الميلادي وهكذا لما ظهرت الدعوة الصليبية، وجدت هذه الغالبية العظمى فرصتها للخلاص من حياتها الشاقة المليئة بالذل والهوان، ونظروا إلى أخطار الاشتراك في هذا الغزو نظرة هينة أمام ما كانوا يعيشون فيه, فإن ماتوا في هذه الحرب كان لهم الخلاص, وإن نجوا كانت لهم حياة جديدة أفضل مما كانوا عليه (2)، ولقد عرفت الكنيسة كيف تلعب بعقول هؤلاء، وتوغر صدورهم ضد الإسلام وأهله، وخدعتهم بأنهم سيحررون بيت المقدس والقبر المقدس، يباركهم الرب، والبابا، لذلك لم يردعهم رادع عن الذبح والقتل، بل كان قتل المسلم مرضاة ينال عليها الصليبي ثواباً يوم الدينونة (3).
رابعاً: الدافع الاقتصادي:
يعتبر التطلع إلى خيرات المشرق الإسلامي، من أقوى دوافع الحروب الصليبية بعد الدوافع الدينية, وقد عبر البابا (أوربان) نفسه في خطابه عن أهمية العامل الاقتصادي بالنسبة لواقع أوربا آنذاك فقال: لا تدعوا شيئاً يقعد بكم .. ذلك أن الأرض التي تسكنونها الآن -والتي تحيط بها البحار وتلل الجبال- ضيقة على سكانها الكثيرين، وتكاد تعجز عن كفايتهم من الطعام، ومن أجل هذا يذبح بعضكم بعضاً، ويلتهم بعضكم بعضاً .. إن أورشليم أرض لا نظير لها في ثمارها بل هي فردوس المباهج (4). وإن جميع الوثائق تشير إلى سوء الأحوال الاقتصادية في غرب أوربا في أواخر القرن الحادي عشر، وكانت فرنسا بالذات تعاني من مجاعة شاملة قبيل الحملة الصليبية الأولى، ولذلك كانت نسبة المشاركين منها تفوق نسبة الآخرين، فقد كانت الأزمة طاحنة حيث ألجأت الناس إلى أكل الحشائش والأعشاب، وبذلك جاءت هذه الحرب لتفتح أمام أولئك الجائعين بابا جديدًا للخلاص من أوضاعهم الصعبة وهذا ما يفسر أعمال السلب والنهب للحملة الأولى ضد الشعوب النصرانية التي
_________
(1) الجهاد والتجديد، ص 84.
(2) تاريخ الوطن العربي والغزو الصليبي، ص 24.
(3) أثر الشرق الإسلامي د. عبد الله الربيعي، ص 138.
(4) المصدر نفسه، ص 34.(1/442)
مروا في أراضيها (1)،
كذلك اشترك عدد كبير من تجار المدن الإيطالية والفرنسية والإسبانية في الحروب الصليبية بغرض استغلالي بحت من أجل السيطرة على الطرق التجارية للسلع الشرقية التي أصبحت مصدر ثراء للمشتغلين بها، لذلك قامت أساطيلهم بدور فعال في الاستيلاء على المراكز الرئيسية في الشام، فساعد الجنوية الفرنج في الاستيلاء على أنطاكية سنة 490هـ - 1097م، وأسهم البنادقة بعد ذلك بعامين في استيلاء اللاتين على بيت المقدس، وكان هدف هذه الجاليات الأول والأخير هو الربح الكسب المادي, ولم يكن يعنيها الباعث الديني إلا بالقدر الذي يحقق مصالحها، ويكفي أن نعرف أن شعار البنادقة الذين عرفوا به وقتذاك كان: لنكن أولاً بنادقة ثم لنكن بعد ذلك مسيحيين (2)، ولذلك قامت جمهوريات إيطاليا (جنوة - بيزا - البندقية) بعقد معاهدات مع أمراء الصليبيين بالمشرق حصلت بمقتضاها على امتيازات اقتصادية مهمة (3).
خامساً: تبدل ميزان القوى في حوض البحر المتوسط:
أصبح ميزان القوى منذ أواسط القرن الخامس الهجري (الحادي عشر للميلاد) لصالح الغرب الأوربي مركز الحركة الصليبية، فضعف الدولة البيزنطية وترنحها تحت ضربات السلاجقة القوية جعلها تسارع إلى الاستنجاد بأوربا الغربية من ناحية، ثم اختلال أوضاع المسلمين في الجناح الغربي من العالم الإسلامي خاصة في الأندلس وصقلية، وما قابل ذلك من تيسير أسباب القوة والظهور لدى أعدائهم، مما جعل الغرب الأوربي يرفد النصارى الإسبان بشتى صنوف الدعم والمساندة في صراعهم مع مسلمي الأندلس، وتسليط النورمان على صقلية، الأمر الذي أجبر مسلمي الأندلس على الاستنجاد بالمرابطين، ومسلمي صقلية على الاستنجاد بإفريقية من ناحية ثانية. كل ذلك أدى إلى دخول الحركة الصليبية في طورها الجديد الذي اتخذ صفة العالمية (4). وكانت البابوية تدعم هذه الحرب بالموافقة والتوجيه والدعاية والدعم المعنوي، فهذه حروب صليبية متقدمة على إعلان البابا أوربان الثاني بدء الزحف الصليبي إلى المشرق سنة 488هـ - 1095م (5).
وتعتبر إفريقية بمدلولها التاريخي أحد هذه الميادين في الصراع الصليبي، فقد كانت الجبهة الإفريقية ميدانا نشطت فيه قوى العدوان الصليبي لعدة قرون، يتمثل ذلك في حملات عديدة وجهت إليها الواحدة تلو الأخرى، ولم تفتر
_________
(1) الحركة الصليبية, د. سعيد عاشور (1/ 30 - 32).
(2) الحروب الصليبية, المقدمات السياسية, د. علية الجنزوري، ص 249.
(3) الجهاد والتجديد، محمد حامد الناصر، ص 83.
(4) الحروب الصّليبية في شمال إفريقية، ص 11 - 13.
(5) المصدر نفسه، ص 12.(1/443)
للصليبيين في ذلك همة, ولم يوهن الفشل لهم عزيمة، فكما أن بلدان المغرب الإسلامي كانت أول من اكتوى من البلاد الإسلامية بنار الاستعمار الأوربي الحديث، كانت بلدان الجناح الغربي من العالم الإسلامي ومن ضمنها إفريقية هي التي تلقت الضربات الأولى للصليبيين، والسبب في ذلك يعود إلى عدة اعتبارات جغرافية وتاريخية من أهمها قربها الشديد من غرب أوربا مركز الحركة الصليبية, ومعرفة الأوربيين الواسعة نسبياً لأوضاع المسلمين في هذه المنطقة سياسياً واقتصادياً واجتماعياً لسهولة الاتصال بين الطرفين، ثم الحقد الشديد الذي كان يكنه الأوربيون للمسلمين المغاربة (1)،
وبالذات لكونهم هم الذين تولوا عبء الجهاد في أوربا أكثر من غيرهم من المسلمين، وما كان يشعر به الأوربيون من خطر هؤلاء إذ تهيأت لهم الوحدة والقيادة المخلصة، لكل ذلك كانت أوربا تتربص بمسلمي هذه المنطقة الدوائر, وتتحفز للوثوب عليهم منتظرة الفرصة المناسبة، وأخذت هذه الفرصة التي طالما انتظرها محركو قوى العدوان الصليبي تتهيأ منذ أواسط القرن الخامس الهجري (الحادي عشر للميلاد)، إذ أصاب الجناح الغربي من العالم الإسلامي من التمزق ما جعله يسير بخطى حثيثة نحو التردي إلى الهاوية، ولم يكن وضع إخوانهم في المشرق بأحسن حالاً منهم، فكان هذا التمزق وافتراق الكلمة هو السبب الأهم في البلاء الذي نزل بالمسلمين في المشرق والمغرب على حد سواء, وما أشبه اليوم بالأمس، لقد كان ولا يزال تفرق العرب والمسلمين هو الباب الواسع الذي يدخل إليهم أعداؤهم منه لضربهم في عقر ديارهم، فكان أن انطلقت القوى الصليبية في موجة عاتية تضرب المسلمين في ثلاث جبهات في آن واحد في الأندلس وصقلية وإفريقية (2).
أ- الأندلس: فقد شهدت الجبهة الأندلسية منذ أواسط ذلك القرن نشاطاً ملحوظاً تمثل في شن هجوم قوي مستمر من قبِل النصارى الإسبان بزعامة مملكة قشتالة على مسلمي الأندلس، حيث أخذت المدن والمعاقل الإسلامية تسقط في أيديهم تباعاً، وأحرزوا النصر على المسلمين في معارك عديدة, وتوجت تلك الانتصارات بسقوط مدينة طليطلة سنة 478هـ في يد ألفونسو السادس ملك قشتالة, تلك الكارثة التي روعت العالم الإسلامي بأسره. وحيال هذا الضغط المتواصل من النصارى الإسبان اضطر مسلمو الأندلس إلى الاستنجاد بالمرابطين من العدوة المغربية، فكانوا يرسلون الاستغاثة تلو الأخرى لهذه القوة الفتية، حتى إذا ما قضى أميرها يوسف ابن تاشفين على جيوب المقاومة لدولته في المغرب عبر البحر إلى الأندلس بجموع غفيرة حيث
_________
(1) كلمة المغاربة كانت تطلق على سكان المغرب الإسلامي بأسره, والذي كان يضم الأندلس والجزر الإسلامية غرب المتوسط إلى جانب أقطار المغرب العربي، وليس كما درج في العصر الحديث بقصرها على أهل المغرب الأقصى.
(2) الحروب الصليبية في شمال إفريقيا، ص 13.(1/444)
التقى بألفونسو السادس في معركة الزلاقة سنة 479هـ التي سطر المرابطون ومن ساعدهم من الأندلسيين بانتصارهم الرائع فيها صفحة مشرقة في تاريخ الجهاد الإسلامي، وانتصار المسلمين في تلك المعركة أوقف المد المسيحي الإسباني حتى تهيأت له ظروف أخرى فيما بعد.
ب- صقلية: وأما الجبهة الصقلية فقد أدى ظهور النورمان كقوة جديدة في ميدان السياسة الدولية إلى تغير ميزان القوى في غرب المتوسط لصالح القوى النصرانية، إذ ما كاد هؤلاء القادمون الجدد يجدون موطئ قدم لهم في جنوب إيطاليا ويحصل جيسكارد أكبر زعمائهم على اعتراف البابا نقولا الثاني به في مؤتمر ملفي سنة 1059م, وأعلن عن مشروعه في توجيه قواه ضد مسلمي صقلية إرضاء للبابوية التي كانت ترى في ذلك تحقيقاً لأهدافها الصليبية من ناحية وإبعاداً للخطر النورماني عن ممتلكاتها من ناحية أخرى، فشجعت هذا المشروع، وكدليل على موافقتها وتشجيعها أرسل البابا إلى جيسكارد راية مقدسة لينال هو وجنده ببركتها النصر على المسلمين, وأصر على أن الفتوحات المرتقبة من أجل المسيح عليه السلام هي أكثر أهمية من إرسال الهدايا إلى روما (1)، وتم الاستيلاء على الجزيرة في سنة 484هـ في عهد رجار الأول ثم وثبت قواته على مالطة في العام التالي واحتلتها وأخذ يتحين الفرصة للانقضاض على إفريقية (2).
جـ- إفريقية: وأما الجبهة الإفريقية، فقد نالت حظها هي الأخرى من العدوان الصليبي في تلك الآونة بفعل قوة ناشئة هي المدن البحرية الإيطالية، فقد استغلت هذه المدن غياب القوى البحرية القديمة المتمثلة في الأسطولين الإسلامي والبيزنطي عن مياه البحر الأبيض المتوسط منذ أوائل ذلك القرن لانشغال كلا الطرفين بمشاكله الداخلية، وأخذت أساطيلها تمخر مياه ذلك البحر القريبة من الشواطئ الأوربية أولاً خوفاً من أسطول مجاهد العامري صاحب دانية الذي استطاع تجميد نشاطها لفترة من الوقت حتى إذا ما تمكنت من إزالة ذلك الخطر بدأت منذ أواسط القرن المذكور تجوب مياه البحر الأبيض المتوسط شرقاً وغرباً، وقد وضعت هذه المدن قوتها البحرية في خدمة الأهداف الصليبية منذ البداية لتحقيق مكاسب خاصة بها, فبتشجيع البابا لاون التاسع استولى تحالف من جنوة وبيزا على جزيرة سردينيا الإسلامية سنة 442هـ- 1063م حيث خرب أرباضها وميناءها وغنم غنائم كبيرة، وكما اشتركت هذه الأساطيل في حروب الجبهة الصقلية اشتركت في حروب الجبهة الأندلسية، فأسهمت في مطاردات المسلمين الأندلسيين عن طريق البحر وأخذت نصيبها من الغنيمة، وفرضت حصاراً بحرياً على المرية حتى دفعت لها تلك المدينة فدية ضخمة تقدر بمبلغ 113 ألف دينار ذهبي،
_________
(1) الحروب الصليبية في شمال إفريقية، ص 14.
(2) المصدر نفسه، ص 15.(1/445)
كما أجبرت بلنسية على دفع إتاوة مماثلة تقدر بمبلغ 20 ألف دينار ذهبي لتفتدي نفسها بذلك من النهب والسلب (1)، وهاجمت الجزائر الشرقية (جزر البليار) عدة مرات.
ونتيجة لذلك، أصبحت القوة البحرية الإيطالية هي المتحكمة في مياه البحر الأبيض المتوسط مما دفعها إلى مزيد من المغامرة، فوجهت نشاطها إلى إفريقية التي كانت لا تزال تحتفظ بقوة بحرية بمد يد المساعدة لإخوانهم في صقلية أو غيرها من ناحية ثانية، ثم لتحقيق أهداف الحركة الصليبية في إفريقية من ناحية ثالثة، فقامت قوة بحرية ضخمة مكونة من أسطولي جنوة وبيزا مدعومة بفرق من مدينة أمالفي وقوة عسكرية أخرى أمدهما بها البابا بمهاجمة مدينة المهدية 480هـ/1087م أي بعد الاستيلاء على طليطلة بعامين وقبيل الاستيلاء الكامل على صقلية واستولت عليها باستثناء قلعتها، وظلت في يدها إلى أن دفع صاحبها تميم بن المعز للقوى المتحالفة فدية مالية ضخمة وعقد مع الغزاة معاهدة نصّ أحد بنودها على تعهد تميم بعدم التعرض للسفن الإيطالية في المياه الإفريقية، ومنحهم امتيازات تجارية في بلاده, كما سيذكر في موضعه.
ومما تقدم يتضح أن هذا الهجوم الصليبي على القسم الغربي من العالم الإسلامي منذ أواسط القرن الخامس الهجري (الحادي عشر للميلاد) والذي كانت تدير دفته البابوية قد احتدم في ثلاث جبهات كانت إفريقية إحداها, ولا شك أن هذا الهجوم كان وجهاً من أوجه الحركة الصليبية، وهذا يؤكد أن الحروب الصليبية بدأت في إفريقية قبل الزحف الصليبي إلى المشرق، ويؤكد هذه الحقيقة ما ذكره ابن الأثير في حوادث سنة 491هـ إذ يفهم من النص الذي أورده أن تلك الحوادث كانت مترابطة يحركها محرك واحد وأنها كانت بداية لموجة الحروب الصليبية في ذلك الطور من أطوار الحركة الصليبية إذ يقول: كان ابتداء ظهور دولة الفرنج واشتداد أمرهم وخروجهم إلى بلاد الإسلام واستيلائهم على بعضها سنة ثمان وسبعين وأربعمائة فملكوا طليطلة وغيرها من بلاد الأندلس .. ثم قصدوا سنة أربعة وثمانين وأربعمائة جزيرة صقلية وملكوها .. وتطرقوا إلى إفريقيا فملكوا منها شيئاً وأخذ منهم - ثم ملكوا غيره على ما تراه - فلما كان سنة تسعين وأربعمائة خرجوا إلى بلاد الشام (2)، وعلى الرغم من اتجاه معظم قوى الحركة الصليبية إلى المشرق، إلا أن ذلك لم يمنع من بقاء فكرة احتلال إفريقية ماثلة في أذهان ذوي الأفكار الصليبية, وبقي تطلع النورمان للاستيلاء عليها قائماً حتى تم لهم ذلك في عهد رجار الثاني حيث استولى على معظم سواحلها من طرابلس
_________
(1) القوى البحرية والتجارية في البحر المتوسط, أريبالد لويس، ص 372.
(2) الكامل في التاريخ نقلاً عن الحروب الصليبية في شمال إفريقيا، ص 17.(1/446)
شرقاً إلى مدينة تونس غرباً في سنة 543هـ/1148م، فكانت الحرب الصليبية مشتعلة في الجبهة الإفريقية أثناء احتدامها في جبهة المشرق، وبقي الوجود النورماني ماثلاً فيها حتى قام عبد المؤمن بن علي زعيم دولة الموحدين بطردهم من المهدية آخر معاقلهم فيها سنة 555هـ/1160م (1)،
وعندما حدث نوع من تبدل ميزان القوى في المغرب الإسلامي نجد ذلك ساهم في جبهة المقاومة الإسلامية في المشرق في عهد نور الدين محمود زنكي وصلاح الدين الأيوبي، كما سيأتي بيانه بإذن الله في دراستنا عن الزنكيين والأيوبيين.
سادساً: استنجاد إمبراطور بيزنطة بالبابا أوربان الثاني:
استنجاد الإمبراطور الكسيوس كومنين (1081 - 1118م) ضد السلاجقة، لم يكن في الحقيقة الأول من نوعه بل سبقه استنجاد الإمبراطور (ميخائيل السابع) بالبابا (جريجوري السابع) عقب موقعه ملاذكرد 463هـ السالفة الذكر، فالمعروف أن الحرب على الترك كانت من الأغراض التي تنطوي عليها الدعوة البيزنطية، فالأناضول يعتبر أكثر أهمية من بيت المقدس عند الدولة البيزنطية (2)، ولذلك لما أصبحت عاصمة البيزنطيين مهددة من قبل السلاجقة كان لزاماً على الإمبراطور أن يستنجد بالغرب في مقابل اتحاد الكنيستين الشرقية والغربية، وقد أرسل البابا جريجوري السابع إلى الإمبراطور ميخائيل السابع رداً مرضياً بدافع العاطفة المسيحية من جهة، وبدافع سياسي من جهة أخرى، فما يحشده من جيش سوف يقضي على الانشقاق بين الكنيستين, ويزيد من نفوذ البابوية في الشرق مثلما زاد في الغرب.
غير أن الحرب التي نشبت بين (جريجوري السابع) والامبراطور (هنرى الرابع) منعته في المضي في مشروعه ولما خلف الإمبراطور (الكسيوس كومنين) الإمبراطور ميخائيل السابع, بعث برسالة إلى البابا أوربان الثاني وإلى كبار رجال الإقطاع سنة 487هـ يدعوهم لإرسال المساعدات لنجدة إخوانهم في الشرق وحماية القسطنطينية ضد الخطر السلجوقي (3)، ولقد كان (الكسيوس) يرغب في أن يبعث له الغرب ببعض الجند المرتزقة ولكن البابا أوربان لم يشأ أن يجعل نفسه في خدمة الدولة البيزنطية، بل أراد أن تتولى البابوية تقديم المساعدة للمسيحيين في الشرق، وهذا التغيير في الفكرة يؤدي إلى أن يحشد العالم المسيحي اللاتيني جيشاً ضخماً، لا أن يبعث بجنود مرتزقة تخضع لأهواء الأمراء، وأشار هذا الاختلاف في التفكير إلى المتاعب منذ البداية مما أساء العلاقات بين البيزنطيين والصليبيين. والثابت تاريخياً أن المسئول الأول عن قيام الحركة الصليبية هو البابا أوربان الثاني، فهو الذي أنذر بقيام تلك
_________
(1) الحروب الصليبية في شمال إفريقية، ص 18.
(2) الحروب الصليبية, د. علية الجنزوري، ص 253.
(3) العرب والروم اللاتين (1/ 150).(1/447)
الحروب (1) يؤيده في دعواه الجهاز الكنسي في الغرب، وينسب إليه جميع المؤرخين اللاتين المعاصرين له، الدور الرئيسي في تحقيق هذه الفكرة (2).
سابعاً: شخصية البابا أوربان الثاني ومشروعه الشامل للغزو الصليبي:
ولد أوربان الثاني عام 427هـ/1035م في شاتيون سير مارن واسمه أودو، وقد درس على يدي القديس برنو الذي أسس نظام الكارسوسيين, وفي عام 461هـ/1068م أصبح راهباً في دير علوني بالقرب من ماكون، وقد التحق بخدمة البابا المتسلط المؤمن إيماناً راسخاً بتفوق البابوية على الإمبراطورية ونعني به جريحوري السابع وتم تعيينه كاردينالا أسقفاً لاوستياً في عام 473هـ/1080م، وخدم الكنيسة في ألمانيا خلال المرحلة من 477هـ/1084م، وقد ساند على نحو شرعي البابا جريجوري السابع في خلال صراعه مع الإمبراطور هنري الرابع، وقد ارتبط أوربان الثاني بسينودس (مجمع كنس) في ساكسوني الذي عقد عام (478هـ/1085م) , وعند وفاة البابا فيكتور الثالث في 16 سبتمبر 1087م في مونت كاسينو تمت السيطرة على روما عن طريق كايمنت الثالث، وتم انتخاب أوربان الثاني بعد تأخير طويل في تراكينا إلى الجنوب من روما بالقرب من جايثا وحمل اسم أوربان الثاني (481 - 493هـ/1088 - 1099م) (3). ونلاحظ من خلال سيرة هذا الرجل أنه اتسم بالنشاط الوافر، وإحكام سيطرته على كل مناطق نفوذ الكنسية الأم، ولعل موقفه من إسبانيا يمثل لنا بعدًا مهمًا، فقد أيد ذلك البابا الحرب ضد المسلمين وعندما أمكن للإسبان إخضاع بعض المناطق التي كانت من قبل تحت سيادة أعدائهم سارع البابا بجعلها ضمن نفوذ كنيسة روما.
ولا شك أن أوربان الثاني في دعمه الحرب ضد المسلمين هناك كان يسير على خطى وهدى البابا ألكسندر الثاني، وهذا يؤكد لنا على حقيقة محورية وهي وجود استراتيجية عليا للبابوية في روما تتجه نحوها وتنفذها بحرص في القرن الحادي عشر الميلادي/ الخامس الهجري على نحو خاص بغض النظر عن تغير وتقلب البابوات، وأهم ملامح هذه الاستراتيجية هي توسيع نفوذ كنيسة روما، وتوحيد الكنائس، ومحاربة الإسلام أينما وجد باعتباره العدو اللدود الذي لا مناص من مواجهته ومحاولة الانتصار عليه بأي ثمن (4)، ومن الملاحظ أن من خلال الاستغاثات البيزنطية المتعددة، وانشغال من سبق أوربان الثاني بأمور متعددة، جاءت الفرصة السانحة لهذا البابا، وفي مجمع بياكنزا بإيطاليا في
_________
(1) الحروب الصليبية، علية الجنزوري، ص 254.
(2) المصدر نفسه، ص 254، العرب والروم اللاتين (1/ 56).
(3) الحرب الصليبية .. العلاقات بين الشرق والغرب، محمد مؤنس، ص 63.
(4) المصدر نفسه ص 65.(1/448)
مارس 1095م- 488هـ اتجه إلى الاستجابة لدعوة الإمبراطور الكسيوس الأول كومنيونوس (474 - 512هـ) (1081 - 1118م) غير أن مجمع بياكنزا أخفق فيه البابا في الدعوة لشن حرب صليبية ضد المسلمين في الشرق (1).
أ- أوربان الثاني يعقد مجمعاً كنسياً في جنوب فرنسا: إن إخفاق مجمع بياكنزا لم يثن ذلك البابا العنيد الطموح عن تحقيق هدفه بكل الوسائل الممكنة، وقد اتجه إلى بلاده الأصلية فرنسا من أجل معاونته على نجاح مشروعه المرتقب، وقد دل ذلك الاختيار على ذكائه خاصة أن جنوب فرنسا التقليدي المحافظ كان بمثابة منطقة تماس مع الحرب التي شنها الإسبان ضد المسلمين في إسبانيا، بالإضافة إلى أن مجرد طرح الفكرة على الأرض الفرنسية كان من الممكن أن يحقق نجاحاً فورياً من خلال أنها الموطن الأصلي للبابا، وهو أدرى بشعابها، خاصة أنها - في نفس الحين - ذات تاريخ خاص مع الإسلام خلال معركة بواتيه المعروفة لدى المسلمين بمعركة بلاط الشهداء عام (114هـ - 732م) والتي هزم فيها المسلمون وتم وقف المد الإسلامي وإعاقته عن الامتداد فيما وراء جبال البرانس، وسوف ندرك من خلال تحليل خطاب البابا في مجمع كليرمونت أن كل تلك الزوايا، لم تغب عن ذهن ذلك الرجل الحاد الذكاء، القوي الإرادة منذ أن تربى في أحضان حركة الكارسوسيان الرهبانية الصارمة، مهما يكن من أمر، فإن البابا اتجه إلى كليرمونت فران بجنوب فرنسا
وعقد مجمعاً كنسياً هناك, وفي اليوم العاشر عقد المجمع الذي تناول فيه العديد من القضايا
التي تهم الكنيسة: ألقى البابا على مستمعيه خطاباً بالغ الأهمية والخطورة وذلك في يوم 27 نوفمبر 1095م (2).
ب- الخطبة التي ألقاها أوربان الثاني: كان للخطبة التي ألقاها البابا أوربان الثاني في المجمع الديني الذي انعقد في كليرمونت عام 488هـ / 1095م أثرها البالغ في نفوس المسيحيين المجتمعين في هذا المجتمع فقد ألهبت حماسهم وأصابتهم بحالة عبر عنها المؤرخ جوستان لوبون في كتابه (حضارة العرب): بأنها نوبة حادة من الجنون (3)، إذ قال البابا: يا شعب الفرنجة، يا شعب الله المحبوب المختار، لقد جاءت من تخوم فلسطين، ومن مدينة القسطنطينية أنباء محزنة تعلن أن جنساً لعيناً أبعد ما يكون عن الله قد طغى وبغى في تلك البلاد، وبلاد المسيحيين في الشرق، وقلب موائد القرابين المقدسة، ونهب الكنائس وخربها
_________
(1) الحروب الصليبية, العلاقات بين الشرق والغرب د. محمد مؤنس، ص 65.
(2) المصدر نفسه، ص 66.
(3) حضارة العرب نقلاً عن دور الفقهاء والعلماء المسلمين في الشرق الأدني.(1/449)
وأحرقها، وساقوا بعض الأسرى إلى بلادهم، وقتلوا بعضهم الآخر بعد أن عذبوهم أشنع تعذيب، ودنسوا الأماكن المقدسة برجسهم، وقطعوا أوصال الإمبراطورية البيزنطية، وانتزعوا منها أقاليم بلغ من سعتها أن المسافر فيها لا يستطيع اجتيازها في شهرين كاملين.
على من أذن تقع تبعة الانتقام لهذه المظالم، واستعادة تلك الأصقاع إذا لم تقع عليكم أنتم؟ أنتم يا من حباكم الله أكثر من أي قوم آخرين بالمجد في القتال، وبالبسالة العظيمة وبالقدرة على إذلال رؤوس من يقفون في وجوهكم؟ ألا فليكن من أعمال أسلافكم ما يقوي قلوبكم - أمجاد شارلمان وعظمته، وأمجاد غيره من ملوككم وعظمتهم، فليثر همتكم ضريح المسيح المقدس ربنا ومنقذنا - الضريح الذي تمتلكه الآن أمم نجسة، وغيره من الأماكن المقدسة التي لوثت ودنست - لا تدعوا شيئا يقعد بكم من أملاككم أو من شئون أسركم، ذلك بأن هذه الأرض التي تسكنونها الآن والتي تحيط بها من جميع جوانبها البحار، وتلل الجبال، ضيقة لا تتسع لسكانها الكثيرين، تكاد تعجز عن أن تجود بما يكفيكم من الطعام، ومن أجل هذا يذبح بعضكم بعضاً، وتتحاربون, ويهلك الكثيرون منكم في الحروب الداخلية. طهروا قلوبكم إذن من الحقد، واقضوا على ما بينكم من نزاع, واتخذوا طريقكم إلى الضريح المقدس، وانتزعوا هذه الأرض من ذلك الجنس الخبيث وتملكوها أنتم، إن أورشليم أرض لا نظير لها في ثمارها, هي فردوس المباهج. إن المدينة العظمى القائمة في وسط العالم تستغيث بكم أن هبوا لإنقاذها. فقوموا بهذه الرحلة راغبين متحمسين تتخلصوا من ذنوبكم، وثقوا بأنكم ستنالون من أجل ذلك مجداً لا يفنى في ملكوت السموات (1). وهكذا كان لهذه الكلمات الحماسية التي ألقاها البابا أوربان الثاني أثرها البالغ في نفوس المسيحيين المجتمعين فبعد أن أنهى البابا خطبته مباشرة صاح المجتمعون صيحة رجل واحد قائلين: هكذا أراد الله (2).
ولم يكد البابا أوربان الثاني ينتهي من خطابه هذا، حتى نهض إليه الأسقف أدهمير دي مونتيل، وركع أمام قدمي البابا، والتمس منه الإذن بأن يلحقه بالحملة المقدسة، وأمام هذا الموقف المؤثر تحركت مشاعر المجتمعين وتدافعوا بالمئات يركعون أمام البابا مثل أدهمير في حماس منقطع النظير وحملوا الصلبان وحلفوا جميعاً على تخليص المدينة المقدسة، ويعقب المؤرخ المعاصر للأحداث وهو - روبرت الراهب - فيقول: ياله من عدد كبير من الناس، من كل الأعمار ومن مختلف المستويات الذين تقلدوا الصلبان خلال مجمع كليرمونت، وقد حلفوا على
_________
(1) قصة الحضارة (15/ 15، 16) , وثائق الحروب الصليبية، ص 99 - 100.
(2) دور الفقهاء والعلماء المسلمين في الشرق الأدنى، ص 237.(1/450)
تخليص المدينة المقدسة. وقد وصل عددهم إلى 300 ألف (1). وإزاء هذا الموقف من المتحمسين لأدهمير عينه البابا أوربان الثاني ممثلاً شخصياً ونائباً عنه ليوضح للجميع أن الحملة تحت إشراف الكنيسة، بل تحت إشرافه هو مباشرة (2).
جـ - ما يستنتج من خطاب البابا أوربان الثاني؟ قام الدكتور محمد مؤنس عوض بدراسة واعية للحروب الصليبية واستفاد من مراجعهم وقام بتحليل لخطاب البابا من خلال أربعة نصوص لأربعة من المؤرخين المعاصرين، هم فوشيه الشارترى، وروبير الراهب, وجوبرت النوجتي, ويودريك الدولى، وهناك تصور بأن فوشيه الشارترى كان من بين الذين حضروا مجمع كليرمنت، وبصفة عامة، من الممكن عقد مقارنة بين النصوص الواردة في مؤلفات المؤرخين الأربعة من أجل التوصل إلى حقيقة ما أعلنه البابا في خطبته الشهيرة، وعند مقارنة تلك النصوص يمكن استنتاج الآتي:
- وجه البابا حديثه إلى جنس الفرنجة من أجل التركيز على البعد الإثني أو العرقي، وأوضح أن الله قد ميزهم بموقع بلادهم، وبعقيدتهم الكاثوليكية، وعمل على تذكيرهم بالبعد التاريخي من خلال أمجاد شارل مارتل وشارلمان وما قدماه للمسيحية من خدمات جليلة، على نحو عكس أهمية حافز «الذاكرة التاريخية» في تشكيل تلك الظاهرة التاريخية الكبرى (3).
- أشار البابا إلى أن هناك أخباراً مؤسفة ومزعجة قدمت من الشرق مفادها أن جنساً ملعوناً وهم عرق ملعون غريب تماماً عن الله وهم حقاً جيل لم يتوجه بقلبه أو يعهد بروحه إلى الله (4)، ويقصد بذلك الأتراك السلاجقة، ذبحوا المسيحيين الشرقيين، وحولوا الكنائس إلى أسطبلات لخيولهم وأن دماء أولئك المسيحيين تنادي مسيحيي الغرب من أجل إنقاذهم من براثن أعدائهم الكفار.
- عمل البابا على إثارة مطامع سامعيه في ثروات الشرق فأوضح أن الأرض في الغرب الأوربي ولاسيما في فرنسا ضاقت بسكانها، وطلب من الناس الذهاب إلى الشرق حيث أرض كنعان التي تفيض لبناً وعسلاً وفي ذلك الدليل الجلي الذي لا يقبل ارتياب مرتاب على أن البعد الاقتصادي للحركة الصليبية، قد تم الإعلان عنه بصراحة كاملة منذ اللحظات الأولى لميلادها.
_________
(1) دور الفقهاء والعلماء المسلمين في الشرق الأدنى، ص 237.
(2) الحرب الصليبية، حسن حبشي, ص 51 دور الفقهاء، ص 238.
(3) الحروب الصليبية .. العلاقات بين الشرق والغرب، ص 67.
(4) الحروب المقدسة. الحملات الصليبية وأثرها على العالم اليوم, كارين أرمسترونغ، ص 35.(1/451)
- وعد البابا كل من يحمل السلاح ويتجه إلى الشرق بأن تغفر ذنوبه وآثامه وبمعنى آخر قدم لهم الغفران الكنسي، أما إذا استشهد المرء في سبيل تحقيق هدفه فإنه يعد شهيداً من شهداء المسيحية الأبرار, وجميعها مغريات مهمة في عصر سادته ظاهرة الهوس الديني العاطفي في العالم المسيحي الأوربي.
- اتجه البابا إلى الإشارة إلى بيت المقدس، وهي الجنة الأرضية قلب العالم، التي شهدت ميلاد السيد المسيح وطهرها بموته, وذكر لمستمعيه أنها تناديكم من أجل تخليصها من براثن محتليها من الكفار، وأود أن أقرر هنا أن تلك المدينة مثلت محوراً على قدر عظيم من الأهمية من أجل إثارة الشعور الديني لدى مستمعي البابا, وفي أغلب النصوص التي وردت إلينا بشأن الخطاب المذكور نجد أن بيت المقدس تحتل مكاناً بارزاً ومحورياً، وهو أمر منطقي تماماً من خلال مكانتها وقداستها الدينية، كذلك أنها مثلت الحلم الجماعي الخاص بالحج المسيحي في ذلك العصر.
- حرص البابا على تدعيم خطابه بعدد من النصوص الواردة في الكتاب المقدس من أجل إثارة الشعور الديني لمستمعيه، أو ربما من أجل أن يعطي لخطابه قداسة خاصة مثل عبارات ذلك الكتاب في العقل الجمعي الأوربي في ذلك العصر، ومن أمثلة ذلك العبارة الواردة في إنجيل متى وهي: من أحب أباً وأمًّا أكثر منى فلا يستحقني، ومن أحب ابناً أو ابنة أكثر مني فلا يستحقني (1). كذلك العبارة القائلة: من لا يأخذ صليبه ويتبعني فلا يستحقني (2). والتي وردت في نفس الأنجيل المذكور.
- ترتيب الأولويات عند البابا أوربان الثاني: كان البابا أوربان الثاني بارعاً في عرض أفكاره وكذلك في إخفاء بعضها، وقد ركز على أمر بيت المقدس حتى يقدم طريقاً واحداً على الغرب الأوربي السير فيه دون تردد ويخلق لمعاصريه (وحدة الهدف) من خلال وحدة المؤسسة الدينية الداعية له في صورة البابوية، وعلى هذا الأساس، لم يرد في الخطاب المذكور أية عبارات عن رغبته العارمة في توحيد الكنائس وإخضاع كنيسة القسطنطينية لسيطرة الكنيسة الأم في روما, كذلك لم يرد فيه ما يدل على الهدف التنصيري وهو هدف محوري للبابوية من خلال المشروع المرتقب، وتعليل ذلك الإخفاء يكمن في أن البابوية أدركت أن هناك أولويات في طرح المشروع ينبغي عدم تخطيها، وأن وحدة العالم المسيحي تتطلب عدم تشعيب الأهداف وطرحها حتى لا يغيب الأمر منذ اللحظات الأولى، ويلاحظ هنا أن لغة
_________
(1) الحروب الصليبية .. العلاقات بين الشرق والغرب، ص 68.
(2) الكتاب المقدس العهد الجديد، متى، الإصحاح م 10، 27، 28.(1/452)
البابوية في الخطاب ذات طابع متكتم في عرض الأهداف الأخرى لها، أما فيما بعد نجاح المشروع والاستيلاء على الرمز الديني المسيحي في صورة بيت المقدس، وجدنا - والأمثلة هنا أكثر من أن تحصى - الإفصاح عن الأهداف الأخرى بوضوح وصراحة كاملتين, وفي هذا دليل واضح على أن تلك المؤسسة الدينية ذات التأثير الفعال رأت تحقيق أهدافها جزءاً جزءاً وليس دفعة واحدة، وهو أخطر ما في المشروع برمته، وفي تقديري (1)
أن البابا أوربان الثاني لم يغب عن تفكيره ذلك الجانب بحكم أنه المهندس الأول للمشروع والداعي الأصلي لفكرته، وفي واقع الأمر: أن الخطاب الذي القاه البابا في مجمع كليرمونت يعد على جانب كبير من الأهمية التاريخية، فلم نسمع من قبل في تاريخ أوربا القرون الوسطى أن خطاباً كان معبراً عن عصره بمثل هذه الصورة كما لم نسمع عن خطاب حرك الجماهير الأوربية الغفيرة عن مواطنها الأصلية إلى الشرق بمثل تلك الدرجة التي تحدثنا بها المصادر التاريخية المعاصرة، ولذلك لا ننظر إليه على أنه مجرد خطاب عادي، بل أنه إعلان ما يشبه «الحرب العالمية» في العصور الوسطى من جانب الغرب الأوربي ضد الشرق الإسلامي، وذلك دونما مبالغة قولية أو اعتساف في الأحكام، بل من خلال شواهد التاريخ التي وقعت في أعقابه. ويلاحظ أنه في أعقاب إلقاء البابا لخطابه صاح الحاضرون صيحة واحدة وهي: الله يريد ذلك، وكانت صيحة المسيحية لمحاربة الإسلام وأهله، وأتخذوا الصليب شعاراً, ومن هنا كانت تسميتهم بالصليبيين (2).
- قدرة البابا أوربان الثاني على تقديم مشروع عام: استطاع أوربان الثاني أن يوحد شعوب الغرب في مشروع عام على الرغم من أن لغات هذه الشعوب وعاداتها المحلية، واهتمامات أبنائها كانت تختلف اختلافاً بيناً. ولكن الفكرة الصليبية التي جمعت جماهير الغرب الأوربي لم تكن لتنجح لو لم تكن متوافقة مع حركة المجتمع، هذا التوافق بين الفكر والواقع، بين التبرير الأخلاقي للحرب، وحركة المجتمع هو الذي خلق الإيديولوجية التي تحركت الجماهير الأوربية في إطارها، فعلى المستوى الشعبي كان تفكير الناس في أوربا الغربية في القرن الحادي عشر يتوازى مع السياسة البابوية وفكرة الحرب المقدسة إلى حد ما، إذ أن أوربا كانت قد بدأت حركة إحياء دينية مع مشرق شمس القرن الحادي عشر. ومع اقتراب الألف الأولى بعد المسيح من اكتمالها سرت موجة بالإحساس بالذنب والرغبة في التوبة في غرب أوربا، فقد تعمق لدى الإنسان الغربي الشعور بالخطيئة والإحساس بالذنب، والحقيقة أن من يقرأ مصادر تاريخ القرن الحادي عشر في غرب أوربا لا يمكن أن يغفل إصرار الناس في ذلك
_________
(1) الحروب الصليبية .. العلاقات بين الشرق والغرب، ص 68.
(2) المصدر نفسه، ص 69.(1/453)
الزمان على أن يضمنوا لأنفسهم غفران خطاياهم, وكان هذا نتاجاً للمشاعر الألفية والأخروية التي ملكت على الناس وجدانهم وعقولهم مع توقعاتهم لمجئ الدينونة، وانتشر الوعاظ الجوالون في كل أنحاء الغرب الأوربي يحثون الناس على الزهد والتوبة والتشبه بحياة الفقر التي عاشها الحواريون. وفي غمرة هذا التدين العاطفي الذي حكم تصرفات المجتمعات الغربية سادت مشاعر الكراهية والتعصب ضد أتباع الديانات الأخرى، بل وضد من يعتنقون مذهباً غير المذهب الكاثوليكي.
وثمة دليل قوى على هذا في طيات الملحمة الصليبية المعروفة باسم «أنشودة أنطاكية» التي تعكس، بشكل أمين، روح الانتقام التي سرت في المجتمع الكاثوليكي ضد «الوثنيين المخذولين» - على حد زعمهم - كما أن القصيدة لا تعتبر أن الأمة المعادية للمسيح هم المسلمون فقط، وإنما يصدق هذا الوصف أيضاً على كل من لا يعترفون بعقيدة الكنيسة الكاثوليكية، وهي بهذا تجسد التفكير الشعبي في أوربا القرن الحادي عشر، هذا التفكير الشعبي كان هو الآخر واحداً من ملامح الإيديولوجية العامة التي أفرزت الحركة الصليبية. لقد تمثل نجاح أوربان الثاني في أن خطبته التي دعا فيها إلى الحملة الصليبية كانت بمثابة بؤرة تجمعت فيها كل الأفكار التي مثلت الإطار الإيديولوجي لحركة المجتمع الغربي آنذاك على الرغم من الاختلافات اللغوية والعادات والتقاليد, وهكذا لم تكن استجابة جماهير المستمعين إلى البابا في كليرمونت مجرد رد فعل لبلاغة كلماته، وإنما كانت هذه الاستجابة تعبيراً عن فرحة أولئك المستمعين بالمشروع الذي مس أوتار الآمال التي كانت تداعب كلاً منهم تقريباً، وجاءت الحرب المقدسة ستاراً مدهشاً يمكن للجميع أن يتحركوا من خلاله لضمان تحقيق أحلامهم الدنيوية وخلاصهم الأخروي, وبوسعنا أن نورد عشرات التعبيرات الواردة في المصادر التاريخية والحوليات المعاصرة تصف الصليبيين بأنهم «فرسان المسيح» و «رجال المسيح» أولئك الذين يكونون «جيش المسيح» و «الشعب المقدس» و «شعب الرب» وهي كلها تعبيرات تشير بأن فكرة الحرب الصليبية كانت قد رسخت في الأذهان بحيث كان الناس على اقتناع كامل بأنهم حين يشاركون في هذه الحملة لا يفعلون ذلك استجابة لأوامر أي مخلوق، ولا حتى البابا نفسه، وإنما هم يطيعون الرب (1).
- الاجتماع الاستشاري للبابا بعد خطابه: كان البابا أوربان الثاني يجتمع مع رجال الدين النصراني ويستشيرهم في حشد الطاقات الرسمية والشعبية لغزو المسلمين، فقد اجتمع مع أساقفته وبعد هذا الاجتماع الاستشاري خرجوا بالقرارات الآتية:
1 - كل من ارتكب جرماً يعاقب عليه، يصبح في حل من العقوبة إذا اشترك
_________
(1) الخلفية الإيديولوجية للحروب الصليبية، د. قاسم عبد الله، ص 24، 25.(1/454)
في هذه الحرب المقدسة.
2 - كل مال من عقار أو متاع يتركه المحارب الذاهب إلى الأرض المقدسة يكون تحت حماية الكنيسة أثناء غيابه .. وترده كاملاً حين يعود المحارب إلى وطنه.
3 - ينبغي لكل مشترك في الحملة أن يحمل علامة الصليب.
4 - على كل من اتخذ الصليب أن يفي بالوعد بالمسير إلى بيت المقدس, فإذا رجع عن عزمه طرد من الكنيسة.
5 - كل بلد يخلص من أيدي الكفار «المسلمين» يجب أن يرد للكنيسة.
6 - ينبغي أن يكون كل فرد جاهزاً لمغادرة وطنه في عيد العذراء.
7 - ينبغي أن تلتقي الجيوش في القسطنطينية. ولقد قام البابا هذا فأرسل أساقفته بهذه القرارات لتبليغها لملوك العالم المسيحي وأمرائه في الغرب (1).
- حملة الدعاية الصليبية: افتتح خطاب البابا أوربان الثاني مرحلة على جانب كبير من الأهمية في صورة الدعاية الصليبية وهي دعاية قامت على أساس الانتقال الشخصي للعديد من المواقع، ومخاطبة قطاعات مختلفة من البشر، وقد كان لها دورها الفعال من أجل إنجاح ذلك المشروع، ومن الممكن ملاحظة أن الحملة الصليبية الأولى - على نحو خاص - تم الإعداد الدعائي لها بمنتهى البراعة والاتقان منذ الخطاب المذكور وفي هذا الصدد تم حشد جيش من الدعاة من أجل مخاطبة كل قطاعات المجتمع الأوربي كل على قدر تصوره، وقد قام البابا أوربان الثاني بعد عقد مجمع كليرمونت بالانتقال إلى مدن تور، وبوردو، ونمييز ومكث تسعة أشهر داعياً لمشروعه الجديد (2)، كذلك فإنه قام بإرسال العديد من الخطابات، من أجل الدعوة لمشروعه الصليبي، ومن ذلك الرسائل التي أرسلها لجميع المؤمنين بالمسيحية في القلاندروز، وكذلك إلى بولونا وقالوا مبروز وكذلك إلى كونتات سردانيا وروسيللون، وبيسالون وامبورياس، ويلاحظ أن الخطابات المذكورة لا يمكن فصلها عن دور البابا في مجمع كليرمنت فهي تكملة ومواصلة حقيقية لدوره الدعائي للحروب الصليبية (3).
- العقلية التنظيمية لأوربان الثاني: ويلاحظ أن الخطابات التي أرسلها البابا من أجل مشروعه الصليبي، تقدم لنا عدداً من التفصيلات التي لم ترد في خطاب كليرمونت ومن بينها تقريره بدور المندوب البابوي أدهيمار أسقف لي بوى، ويذكر ضرورة طاعة أوامره
_________
(1) دروس وتأملات في الحروب الصليبية، ص 18.
(2) الحروب الصليبية .. العلاقات بين الشرق والغرب، ص 69.
(3) المصدر نفسه، ص 70.(1/455)
كأنها صادرة من البابا شخصياً، كذلك قرر أنه لا يسمح للرهبان أو القساوسة بالاتجاه إلى الشرق إلا بعد الحصول على إذن من أساقفتهم، وكذلك مقدمو الأديرة تجنباً للتمرد والفوضى, وينبغي أن ندرك أن تلك المصادر الوثائقية التي بأيدينا تكشف لنا عن العقلية التنظيمية الدقيقة لأوربان الثاني، ولذلك نراه امتلك رؤية شاملة للمشروع الصليبي - في تلك المرحلة المبكرة على الأقل - وقد حرص الحرص أجمعه على نصيحة من سيشاركون في الرحلة إلى الشرق بضرورة الطاعة العمياء لأوامره، وكذلك أوامر رؤسائهم المباشرين، كما نستشعر أن البابا ألح على فكرة وحدة العالم المسيحي، وكأن ما حدث في الشرق للمسيحيين - في زعم الدعاية الأوربية المغرضة - هو أمر يدخل في صلب اهتمامات قاطن الغرب الأوربي، وأن مساعدة الفرنجة وغيرهم للمسيحيين الشرقيين هو جزء رئيسي من واجباتهم كمسيحيين (1)، على أية حال، فإن الثمرة الطبيعية للدور التنظيمي والتخطيطي والدعائي الذي قام به البابا وكبار رجال الكنيسة الذين معه هي قيام الحرب الصليبية ومما ساعدهم على ذلك اختيار التوقيت المناسب للحرب.
- بطرس الناسك: تأثر بطرس الناسك بخطاب البابا أوربان الثاني وكان له تأثير شديد على كل من يستمع إليه, كان يركب حماراً ينتقل به من بلد إلى آخر، وكان يسير حافي القدمين ويرتدي ملابس رثة، ويتحدث المؤرخ روبرت الراهب عنه فيقول: إن بطرس هذا هو رائد الحرب الصليبية، وإنه كان يفوق في ورعه القسيسين والأساقفة، وكان ممتنعاً عن تناول الخبز واللحم بل جعل غذاءه السمك، وكان لا يسمح لنفسه إلا بقليل من النبيذ وبعض الطعام الغليظ (2). وعلى الرغم من مظهر بطرس الناسك وحالته الرثة إلا أنه كانت له قوة غريبة تثير حماس الرجال والنساء وتجذب الجماهير إليه، فاستطاع أن يجذب وراءه حوالي خمسة عشر ألف شخص من الفقراء الذين كانوا يتبعونه من بلد إلى آخر بحماس شديد على الرغم من أن غالبيتهم كانوا لا يدرون شيئاً عن استعمال السلاح أو الفروسية، بل لم يشتركوا في أي حرب من قبل إلا أن تأثرهم بكلمات بطرس الناسك الحماسية ومظهره جعلهم يندفعون في حماس جارف وراءه دون التفكير في أي احتمالات أخرى، فلقد كانت خطبه نارية ممزوجة بالبكاء والعويل وصب اللعنات على الكافرين، وبوعد الرب للذين يزحفون لإنقاذ قبر المسيح بالمغفرة، وتؤثر فصاحته التمثيلية الخيالية في قلوب الجموع (3). ومما نحب الإشارة إليه أن الوعاظ الذين قاموا بدور مماثل لبطرس الناسك في
_________
(1) الحروب الصليبية .. العلاقات بين الشرق والغرب، ص 70.
(2) دور الفقهاء والعلماء المسلمين في الشرق الأدنى في الجهاد ضد الصليبيين خلال الحركة الصليبية، ص 239.
(3) حضارة العرب نقلاً عن دور الفقهاء والعلماء، ص 239.(1/456)
التبشير بالحروب الصليبية والدعاية لها إنما كانوا يعدون بالمئات والآلاف (1) , وقد تأثر الناس بهؤلاء الوعاظ.
ويصف المؤرخ بودري بوصفه معاصراً لأحداث هذه الفترة الزمنية أن بعض العامة من المسيحيين كانوا يرسمون على صدورهم علامة الصليب بواسطة الحديد المحمي على النار ليتباهوا بإظهار حماسهم وليوهموا الآخرين بأن هذه العلامات إنما جاءتهم عن طريق معجزة (2). وهكذا انطلق الجميع يتجهزون للذهاب للأراضي المقدسة بالشام بعد تلك الكلمات التي سمعوها، وكان معظمهم يبيعون ما يملكون ليجهزوا أنفسهم للرحيل طمعاً في محو ذنوبهم ورضاء الله عنهم, وكان الآباء سعداء برؤية أولادهم يرحلون، كما كانت الزوجات في غاية الفرح لدى رؤيتهن لأزواجهن وهم يتأهبون للرحيل، فحماس الجميع كان منقطع النظير، واقتناعهم بهذا العمل كان شديداً (3)، وعلى قدر الفرحة الكبيرة التي شعر بها أولئك الذين غادروا بلادهم للالتحاق بالحملة الصليبية الأولى كان الأسى والحزن يخيم على أولئك الذين لم يخرجوا في تلك الحملة (4).
- غفلة المسلمين عما يدبر لهم: كانت الدولة الإسلامية في العهد الأموي مثلاً لها جهاز استخبارات اخترق البلاط البيزنطي, وقد بينت ذلك في كتابي عن الدولة الأموية, وأما بالنسبة لعهد الدولة العباسية فإننا لم نعثر في المصادر الإسلامية على أية خطبة حماسية لأي من الخليفتين العباسي أو الفاطمي كرد فعل على خطبة البابا أوربان الثاني أو على الأقل نشعر من أن المسلمين علموا بما جرى في مؤتمر كليرمونت. ولعل السبب في ذلك يرجع إلى انشغال كل من الدولتين العباسية والفاطمية بالتنازع فيما بينهما ومحاولة كل منهما التغلب على الأخرى لتكون لها السيادة، فظلوا في سبات عميق حتى وصلت الحملة الصليبية الأولى بالفعل إلى بلاد الشام (5)، ولعل ما يؤكد هذا ما جاء في كتابات ابن القلانسي من أن أخبار الصليبيين لم تصل للمسلمين في بلاد الشام إلا في سنة 490هـ/1097م، فيقول في ذلك: وتواصلت الأخبار بهذه النوبة المستبشعة في حق الإسلام فعظم القلق وزاد الخوف والفرق (6)، ومع ذلك فإن رد الفعل الإسلامي الوحيد الذي ظهر قبيل وصول الحملة الصليبية الأولى في بلاد الشام، كان من جهة السلاجقة في آسيا الصغرى عندما استطاعوا القضاء بكل سهولة على القسم الأول من القوات الصليبية المعروفة باسم «حملة العامة» فضلاً عما قاموا به من عمليات دفاعية عن ممتلكاتهم في آسيا الصغرى (7)، كما سيأتي بيانه بإذن الله تعالى.
_________
(1) دراسات في تاريخ العلاقات بين الشرق والغرب، ص 21.
(2) دور الفقهاء والعلماء، ص 240.
(3) دور الفقهاء والعلماء، ص 240.
(4) دور الفقهاء والعلماء، ص 240.
(5) المصدر نفسه، ص 241.
(6) المصدر نفسه، ص 241.
(7) المصدر نفسه، ص 241.(1/457)
المبحث الثالث
بدء الحرب الصليبية الأولى
بعد خطبة البابا أوربان الثاني في كليرمونت بفرنسا التي دعا فيها إلى الحرب الصليبية، طلب من رجال الكنيسة أن يعودوا إلى بلادهم، كيما يبشروا بالحرب, واجتهد رجال الكنيسة في ذلك وكانت الثمرة الطبيعية للدور الدعائي الكبير الذي قام به البابا ومن وثق فيهم، قيام الحرب الصليبية الأولى والتي انقسمت إلى قسمين، حملة العامة، والثانية حملة الأمراء، واحتلت الحملة الصليبية الأولى بشقيها اهتماماً كبيراً لا نظير له من جانب المؤرخين المعاصرين سواء اللاتين أو البيزنطيون أو المسلمون وكذلك من جانب المؤرخين المحدثين الذين تخصصوا في دراسة الحروب الصليبية, ولعل مرجع ذلك يكمن في النتائج الخطيرة التي نتجت عن تلك الحملة على نحو خاص، حيث أدت إلى تأسيس إمارات صليبية في الشرق طال عمر بعضها إلى قرنين من الزمان (1).
أولاً: حملة العامة الغوغاء:
على إثر دعوة البابا، قامت حركة شعبية ضخمة ارتبطت باسم «بطرس الناسك» الذي بدأ يتجول غرب أوربا، بثيابه الرثة وقدميه العاريتين وحماره الأعرج، يدعو العامة والدهماء، وقد استجابوا له في سرعة غريبة، استجاب له الفلاحون والمعدمون بسبب الظروف القاسية التي كانوا يعيشون فيها، فلا داعي للخوف لديهم من ألموت، وهم في حال أقرب إلى ألموت البطئ فعلاً، ومن ثم ظهر زعيم آخر من زعماء العامة هو «والتر المفلس» وسرعان ما قاد أتباعه عبر «هنغاريا» ثم أراضي الدولة البيزنطية. وفي الطريق إلى بلاد المشرق الإسلامي، اخترقت تلك الجموع الصليبية بلاداً نصرانية فأخذوا ينهبون ويسلبون ويعتدون على الأهالي الآمنين. ورغم كل ذلك فقد رحب الحكام البيزنطيون في أول الأمر في البلقان بتلك الجموع الهائمة، رغم مظهرها الرث، وتنظيمها السيئ وجهل أفرادها بأبسط مبادئ القتال، وشق حملة الصليب طريقهم إلى صوفيا وأدنة حتى بلغوا القسطنطينية في يوليه سنة 1096م وهناك سمح لهم إمبراطور بيزنطة بالانتظار خارج أسوار العاصمة حتى وصول بطرس الناسك، أما بطرس الناسك فقد غادر كولونيا في أبريل عام 1096م على رأس جمع غفير مخترقاً ألمانيا وهنغاريا، وقد أحدثوا مذبحة بين أهالي هنغاريا في بلدة «سملين» أسفرت عن
_________
(1) دور الفقهاء والعلماء، ص 241.(1/458)
مقتل أربعة آلاف من أهلها الأبرياء وذلك بسبب الحصول على الميرة اللازمة لهم ..
واستمر الغوغاء من أتباع بطرس الناسك، في طريقهم إلى البوسفور ينهبون ويسلبون كل ما يصل إلى أيديهم، حتى وصلوا إلى أسوار القسطنطينية، حيث وجدوا والتر المفلس وجموعه في الانتظار, وهكذا أحس الإمبراطور البيزنطي وشعبه بخيبة أمل واضحة بوصول آلاف الدهماء هؤلاء إلى بلاده، ليحصلوا على الغذاء والكساء، إن لم يكن بالطرق السلمية، فليكن عن طريق السلب والاعتداء على الرعايا الآمنين, ولذلك بدأ الإمبراطور بنقل تلك الجموع إلى الشاطئ الآسيوي للبوسفور، وأشار عليهم بالانتظار قرب البوسفور حتى تصل الجيوش النظامية من الغرب (1)، ونظراً إلى ما اتصفت به الحملة منذ البداية من عدم وجود قيادة موحدة، يُفسَّر ما حدث عقب الانتقال مباشرة إلى آسيا الصغرى، إذ أن جموع الألمان والايطاليين والفرنسيين راحت تتسابق وتتنافس في شن الغارات على المناطق الزراعية، فسلبوا سكان القرى دون تفرقة بين المسلمين والنصارى, واقتربوا من مدينة نيقية عاصمة قلج أرسلان، كما أنهم لم يستجيبوا لنصيحة الأمبراطور البيزنطي بوجوب البقاء في قلعة كيفتوت حيث المعسكر الصليبي وعدم القيام بأي تحرك قبل وصول الحملة النظامية (2)، وقد ابتدأت الاصطدامات الأولى بين الجموع الصليبية والسلاجقة عندما قَرر الصليبيون الزحف باتجاه نيقية، وتجاوز رينالد النورماني هذه المدينة ووصل إلى قلعة أكسيريجون واستولى عليها، واتخذ منها قاعدة انطلاق للإغارة على الأراضي الزراعية المجاورة للقرى القريبة (3). وقد أثارت هذه التعديات حفيظة قلج أرسلان، فأرسل القائد إيلخانوس على رأس جيش كبير لاسترداد القلعة، فضرب الحصار عليها، فاستبد اليأس بالمحاصرين (4)،
وقرَّر رينالد أن يستسلم ففتح أبواب القلعة للجيش السلجوقي بعد أن حصل على وعد من قائده بالإبقاء على حياته إذا اعتنق الإسلام، وسيق رينالد وأتباعه ممن اعتنقوا الإسلام إلى أنطاكية وحلب وخراسان، وقُتل من بقي على نصرانيته (5). بلغت أنباء استيلاء النورمان على القلعة مسامع الصليبيين في كيفيتوت، ولجأ السلاجقة إلى خطة ذكية كي يستدرجوهم إلى كمين سبق إعداده، فأشاعوا نبأ استيلاء القوات النورمانية على نيقية، وأنهم بصدد اقتسام الغنائم (6)، فاشتد الاضطراب في المعسكر، وطلب الجنود السماح لهم بالزحف إلى نيقية ليشاركوا النورمان حصصهم من الغنيمة، وهكذا راحت جموع الصليبيين تتوغل عبر آسيا الصغرى في
_________
(1) الجهاد والتجديد في القرن السادس الهجري، ص 90.
(2) تاريخ سلاجقة الروم في آسيا الصغرى، ص 80.
(3) المصدر نفسه، ص 81.
(4) المصدر نفسه، ص 81.
(5) المصدر نفسه، ص 81.
(6) تاريخ سلاجقة الروم في آسيا، ص 81.(1/459)
الطريق إلى نيقية وهم على غير تعبئة ودون تقدير لمقدرتهم القتالية، إلى أن جرى اكتشاف صدق ما حاق برينالد، فتحولت الإثارة إلى ذعر (1) , وما إن اقتربت هذه الجموع البالغ عددها نحو عشرين ألفاً، من رافد نهر داركون، حتى تلقَّفتهم القوات السلجوقية وأبادتهم ولم ينج منهم سوى ثلاثة آلاف (2) , وعندما سمع الإمبراطور البيزنطي بنبأ الكارثة بادر إلى إرسال بعض السفن نقلت الناجين إلى القسطنطينية (3).
وبهذا تأكد الإخفاق الكامل لحملة العامة التي هي بمثابة التجربة الأولى للصليبيين في قتال السلاجقة ولا مراء في أن النتائج التي تمخضت عن حملة العامة كانت على درجة كبيرة من الأهمية في تاريخ الحروب الصليبية منها:
أ- تأكد للغرب الأوربي أن الاندفاع العاطفي والنوعيات غير المدربة عسكرياً لا تجدي مع الفروسية السلجوقية.
ب- لا بد من بديل عسكري فروسي منظم من أجل تحقيق أية مكاسب عسكرية مستقبلية.
جـ- أدى الفتك بالآلاف من الصليبيين إلى اعتقاد عناصر عديدة في الغرب الأوربي بمسئولية الإمبراطورية البيزنطية عن تلك الكارثة على الرغم من أن الإمبراطور الكسيوس كوميتي أوصى جحافل العامة بضرورة التريث دون جدوى.
د- نلاحظ أن الإمبراطوية البيزنطية ستكون بمثابة الجهة التي سيحملها الغرب الأوربي كل فشل يحل بأية حملة صليبية تصل إلى المنطقة والعجز عن تحقيق أهدافها لأسباب عديدة وفق الظروف التاريخية المختلفة والتي قد لا يكون لبيزنطة مسئولية عنها بالضرورة.
هـ- ومن الملاحظ أن فشل حملة العامة كانت رصيداً إضافياً لميراث الكراهية والحقد الذي نشأ بين الغرب الأوربي وبيزنطة, وسيتصاعد الأمر عند حدوث كارثة 1204م/602هـ والتي ستسقط من خلالها العاصمة البيزنطية تحت أقدام الصليبيين.
و- زد على ذلك، أن من نتائج حملة العامة أن ظهر الإصرار من جانب الغرب الأوربي على قيام حملة جديدة هي حملة الأمراء التي ستتمكن من تحقيق نجاحات
كبيرة في الشرق ستقلب موازين القوى العسكرية وبالتالي السياسية لصالح الصليبيين إلى حد كبير (4).
_________
(1) تاريخ سلاجقة الروم في آسيا، ص 81.
(2) تاريخ سلاجقة الروم في آسيا، ص 81.
(3) تاريخ سلاجقة الروم في آسيا، ص 81.
(4) الحروب الصليبية .. العلاقات بين الشرق والغرب، ص 72.(1/460)
ثانياً: حملة الأمراء:
كانت هذه الحملة أكثر تنظيماً من حملة العامة؛ إذ بدت فيها الروح الإقطاعية واضحة، وتولى زعامتها عدد من الأمراء، لكل منهم اتجاهاته وجنده وسياسته الخاصة، مما جعل تلك الحملة في حقيقتها عبارة عن عدة حملات، ربما عملت أحياناً في اتجاهات متعارضة (1)، ويمكن تقسيم حملة الأمراء إلى أربع مجموعات، اعتمد تنظيمها على التقسيمات الجغرافية، وكذلك الوضع الجنسي، واللغوي للعناصر المشاركة فيها، أما المجموعة الأولى فكان على رأسها جود فرد البويوني وأخوه بلدوين وقد قادا جيش القلاندرز، واللورين، وشمال غرب فرنسا, وبالنسبة للمجموعة الثانية: كان على رأسها بوهيمند النورماني وهو ابن روبرت جويسكارد الزعيم النورماني البارز وقد قام بقيادة النورمان الإيطاليين، وكذلك ابن اخته تانكرد، ثم نجد المجموعة الثالثة على رأسها ريموند كونت تولوز ومعه المندوب البابوي أدهيمار، وقد قادا جيوش جنوب فرنسا والبروفنسال، أما المجموعة الرابعة المذكورة فعكست الثقل العسكري لصليبية الأمراء، وفي نفس الحين حملت عناصر القوة والضعف في آن واحد، نظراً للتنافس والتناحر الذي توافر لدى القيادات العسكرية وهو الأمر الذي سينعكس بدوره على أحداث تلك الحملة الصليبية.
1 - موقف اليهود من الحروب الصليبية: ومن الزوايا المهمة التي ينبغي التعرض لها:
أمر اليهود في الغرب الأوروبي عشية قيام الحروب الصليبية، حيث نلاحظ أنهم مثلوا قوة اقتصادية ذات شأن كبير, واستقروا في المدن الكبرى لاسيما تلك الواقعة على خطوط التجارة العالمية ومن أمثلتها حوض الراين بألمانيا، ونجد أن التجار اليهود قد حرصوا على إقراض من اتجه للاشتراك في الحملة الصليبية الأولى بفوائد باهظة من خلال انتشار ظاهرة الربا حينذاك، ولا نغفل أن اليهود منذ بداية المشروع الصليبي توجسوا منه خيفة على مصالحهم التجارية مع تجارة الشرق، ويذكر البعض أن اليهود الألمان في مناطق مثل مينز، وكولونيا جمعوا الأموال، وحاولوا تقديمها لجودفرى البويوني من أجل إثنائه عن عزمه عن المشاركة في أحداث تلك الحملة خوفاً من تهديد مصالح اليهود التجارية في الشرق (2). زد على ذلك أن اليهود في الغرب الأوربي نظرت إليهم الدوائر الكنسية - صاحبة النفوذ الكبير في تشكيل عقلية ذلك العصر - نظرة عداء وارتياب دائمين من خلال مواقفهم العدائية من المسيحية في تاريخها الباكر، ثم أن اليهود عاشوا في المدن التي أقاموا فيها في أحياء خاصة بهم
_________
(1) الحروب الصليبية الأولى, د. حسن حبشي، ص 65.
(2) العلاقات بين الشرق والغرب, أحمد رمضان، ص 107.(1/461)
أو ما عرف بالجيتو اليهودي، ومثلوا كيانات منعزلة ومتقوقعة ترفض الاندماج في المجتمعات الأوربية المحلية الأكبر على نحو أدى إلى توافر نظرة عدائية عميقة تجاههم تزايدت مع تعاقب السنين، مع ملاحظة أن اليهود أنفسهم لم يعملوا من جانبهم على تغيير تلك النظرة العدائية لدى خصومهم, والواقع أننا لا نورد كل تلك الاعتبارات كتبرير للمذابح التي اقترفها الصليبيون ضد اليهود في حوض الراين كما حدث في مدن سياير وكولونيا ويراين وغيرها (1).
وكان الصليبيون يخيرون اليهود بين الارتداد عن دينهم واعتناق المسيحية أو ألموت، وقد ظهر عدد من القادة الذين قادوا هذه المذابح ضد اليهود من أمثال فولكمار، وجوتشوك واميخو، وقد سقط المئات قتلى، على نحو عكس روح التعصب العارمة التي سادت صفوف الصليبيين وعدم قدرة المسيحية على أيدي أبنائها المتعصبين على التجاور مع أهل الأديان الأخرى سواءً على أرض القارة الأوروبية ذاتها أو في بلاد الشام ومصر عندما تصل إليها أقدام الصليبيين، ولا نغفل أن مثل تلك الحوادث دعمت لدى العقل الجمعي اليهودي فكرة الاضطهاد، بل ومعاداة السامية، واستغلوا - فيما بعد - مثل تلك الأحداث من أجل استمرار المكاسب السياسية تكفيراً عن الذنوب التي اقترفت في الماضي (2).
2 - موقف الإمبراطور البيزنطي من حملة الأمراء: تقدمت الجماعات الأربع المذكورة نحو الشرق، وكانت أولى الجماعات التي وصلت إلى الأراضي البيزنطية تلك التي كانت بقيادة جودفري البويوني وشقيقه بلدوين، ويلاحظ أن الإمبراطور البيزنطي الكسيوس كومنين أرسل رسله إلى جودفري البويوني للاتفاق على ألا تتعرض بلاده للسلب والنهب مثلما كان الأمر مع حملة العامة, وفي المقابل قدم للصليبيين المؤن والإمدادات إلى أن يصلوا إلى مناطق السلاجقة، غير أن قوات جودفرى لم تلتزم بذلك واستباحت أحد المواقع البيزنطية في صورة مدينة سليمبريا, وقد طلب الإمبراطور البيزنطي من جودفرى أن يقسم له يمين الولاء والطاعة واستخدام سلاح قطع المؤن والإمدادات عن قواته إلى أن أرغمه على أن يقسم له ذلك القسم وذلك في أبريل من عام 1097م/491هـ وتعهد بأن يرد للامبراطورية البيزنطية ما فقد منها من مناطق، وتم نقل قوات جودفرى بويون بالسفن البيزنطية إلى آسيا الصغرى. وأما فيما يتعلق بالمجموعة التي بقيادة بوهيمند بن روبرت جويسكارد، فقد كانت الإمبراطورية البيزنطية على جانب كبير من الخوف منها، خاصة أن النورمان مثلوا لها أقوى أعدائها وأخطرهم، ولا نغفل أن أطماع النورمان في أملاك الإمبراطورية في جنوب إيطاليا
_________
(1) الحروب الصليبية .. العلاقات بين الشرق والغرب، ص 74.
(2) المصدر نفسه، ص 74.(1/462)
وسقوط بارى آخر أملاك بيزنطة هناك عام 1071م/464هـ ..
كل ذلك لم يغب عن أذهان المسئولين البيزنطيين البتة وهم يتعاملون مع المجموعة المذكورة، وبصفة عامة وافق بوهيمند على أن يقسم قسم الولاء للإمبراطور الكسيوس مع ملاحظة أن البعض الآخر مثل تنكرد ابن أخت بوهيمند لم يقسموا ذلك القسم وبالنسبة للمجموعة التي على رأسها ريموند الرابع كونت تولوز: فنعرف أن تلك القيادة الصليبية لم تقسم يمين الولاء للإمبراطور، غير أنها وافقت على القسم باحترام حياته وعدم الإساءة إليه, وفيما يتعلق بالمجموعة التي على قيادتها روبرت النورمندي، فقد وافق الأخير على القسم للإمبراطور، وعبرت تلك المجموعة مضيق البسفور إلى آسيا الصغرى, شأنها في ذلك شأن المجموعات الأخرى وعلى أية حال فإن المكسب الأكبر - الظاهري - الذي حققه الكسيوس من تعامله مع تلك المجموعات الصليبية: أنه عقد معهم اتفاقية القسطنطينية عام 1097م/491هـ (1) , والتي تعهد فيها الطرف الصليبي بأن يعيد لبيزنطة كل المواقع التي كانت لها من قبل اجتياح السلاجقة لأراضيها، ومن المنطقي تصور أن أنطاكية حاضرة نهر العاصي الكبرى دخلت ضمن ذلك الاتفاق في مقابل تقديم بيزنطة للمؤن والإمدادات للصليبيين. ويلاحظ أن الصليبيين لم يلتزموا بتلك الاتفاقية التي تصورت الإمبراطورية البيزنطية أنه من الممكن إلزامهم بها دون جدوى (2).
3 - سقوط نيقية: اندفعت الجيوش الصليبية بعد العبور، باتجاه نيقية للاستيلاء عليها نظراً لموقعها الجغرافي، إذ لو بقيت بأيدي السلاجقة لشكل ذلك خطراً على خطوط مواصلاتهم مع بلاد الشام، وتوحَّدت أهدافهم وأهداف بيزنطية في هذه القضية (3) وعندما وصلت القوات الصليبية عاصمة دولة سلاجقة الروم، كان قلج أرسلان السلجوقي متغيباً عنها، وفرض الصليبيون الحصار عليها، وتمكنوا من إلحاق الهزيمة بالسلاجقة، وهو الانتصار الأول لهم، وقد اتجهت الحامية السلجوقية للمدينة، إلى الاستسلام، واتصلت بصورة سرية بالبيزنطيين وتم الاتفاق على الاستسلام في مقابل ألا يتعرض أحد للسلب والنهب، وبالفعل فوجئ الجميع بارتفاع الأعلام البيزنطية ترتفع فوق أسوار نيقية وذلك في يونيو 1097/ 491هـ (4)، وبذلك سقطت نيقية في أيدي البيزنطيين بعد ستة عشر عاماً من فتح السلاجقة لها، وأضحى بوسع الإمبراطورية التنفس بحرية بعد إجلاء السلاجقة
_________
(1) الحروب الصليبية .. العلاقات بين الشرق والغرب، ص 76.
(2) الحروب الصليبية .. العلاقات بين الشرق والغرب، ص 76.
(3) الحروب الصليبية .. العلاقات بين الشرق والغرب، ص 76.
(4) الحروب الصليبية .. العلاقات بين الشرق والغرب، ص 76.(1/463)
عن هذا المعقل الأمامي الحصين (1).
توجه قلج أرسلان بعد سقوط عاصمته، نحو قونية، واتخذها عاصمة جديدة لسلطنته، وقاعدة عسكرية للانطلاق منها والدفاع عن أراضيه، ثم أجرى مفاوضات مع الأمير الدانشمندي من أجل تجميد خلافاتهما، والتعاون لمواجهة الغزو الصليبي الذي يهدَّدهما معًا. لقد زاد سقوط نيقية من خوفه على المستقبل، كما أن ضياع أمواله وكنوزه كان أمراً سيئاً (2)، وأسفرت المفاوضات بين البيتين التركيين، السلجوقي والداشمندي، عن عقد هدنة بينهما، كما اتحدا للتصدي للزحف الصليبي الذي وصل إلى كبادوكية، وتناسيا -مؤقتاً- تنافسهما بشأن ملطية، وهكذا اتحد جميع الأتراك في آسيا الصغرى للتصدي للصليبيين في سهول دور يليوم (3)، ومما يحسب للإمبراطور البيزنطي تنفيذه للاتفاق المُبرم بين الإمبراطور وأهل نيقية، فقد خرج الأتراك من المدينة مع عائلاتهم وأمتعتهم تحت حراسة مشددة إلى القسطنطينية أو إلى المعسكر البيزنطي في بيلكانوم ومن بينهم أخت السلطان وزوجته وأولاده، ولم يلبث الإمبراطور أن أعادهم إلى الزعيم السلجوقي دون فدية (4).
4 - معركة دور يليوم: استأنف الصليبيون سيرهم بعد استراحة أسبوع على سقوط نيقية، عبر فريجيا متخذين الطريق الروماني الذي يمر في دور يليوم وفيلوميليوم وقونية وصولاً إلى طرسوس وصحبتهم سرية من القوات البيزنطية بقيادة تاتيكيوس المشهور بخبرته وتجربته (5)، ثم توقفوا في قرية لويكي حيث عقدوا مجلساً عسكرياً حدَّدوا خلاله خطة الزحف، وتقرر تقسيم الجيش إلى قسمين لتسهيل عملية التموين أثناء الزحف، والقضاء على المقاومة السلجوقية في أكبر مساحة ممكنة (6)، وتقدم الجيش الصليبي بقسميه إلى منطقة السهول التي يسقيها أحد روافد نهر سنغاريوس حيث الأتراك يتربَّصون بهم، ويُعد هذا المكان مناسباً لممارسة فرسانهم تكتيكهم العسكري، فانطلقوا عبر السهل بخيولهم الخفيفة وراحوا يلتفون حول القسم الأول المتقدم دون أن يصطدموا به، وحرص الصليبيون من جانبهم على ألا يفرقهم الأتراك أو يفاجئوهم بخوض معركة لم يستعدوا لها، لذلك عسكروا في 27 رجب / 30 حزيران قرب خرائب مدينة دور يليوم (7)، وظهر الأتراك في صبيحة اليوم التالي وباشروا فوراً تطويق الصليبيين والضغط عليهم. وجرى اشتباك بين الطرفين
_________
(1) تاريخ سلاجقة الروم في آسيا الصغرى، ص 86.
(2) تاريخ سلاجقة الروم في آسيا الصغرى، ص 86.
(3) تاريخ سلاجقة الروم في آسيا الصغرى، ص 86.
(4) تاريخ سلاجقة الروم، ص 85.
(5) تاريخ سلاجقة الروم، ص 86.
(6) المصدر نفسه، ص 87.
(7) المصدر نفسه، ص 87.(1/464)
أسفر عن انتصار الصليبيين، ورجحت كفة الأتراك في بداية المعركة التي استمرت عدة ساعات قبل أن يصل القسم الثاني ويشترك في القتال, وانسحب قلج أرسلان إلى داخل هضبة الأناضول، وبلغت الخسائر في الأرواح أقل مما توقع أي من الطرفين، وعانى الأتراك في آخر عشر دقائق من المعركة عندما حاصر الصليبيون جناحهم الأيسر، وأصيب بوهيموند بجراح، واستولى الصليبيون على المدينة (1).
5 - نتائج معركة دوريليوم: كان لمعركة دوريليوم تأثير بالغ السوء على أوضاع السلاجقة. إذ بهزيمتهم خسروا بعض ما كسبوه خلال أكثر من عشرين عاماً، إلا أنهم كسبوا احترام الصليبيين وإعجابهم بما تحلوا به من شجاعة, وبما اتبعوه من أساليب علمية في فنون الحرب. وأدرك قلج أرسلان أن لا جدوى من المحاولة لوقف الزحف الصليبي فلجأ مع أتباعه إلى التلال بعد أن خربوا القرى لحرمان الصليبيين من الاستفادة من خيراتها، ولم يعد قلج أرسلان يجرؤ بعد ذلك على مواجهة الصليبيين منفرداً وجهاً لوجه.
* ظهور قوة جديدة على مسرح الأحداث في الشرق الأدنى هي قوة الصليبيين الغربيين الذين أثبتوا تفوقهم العسكري على القوة التي طالما عجزت أمامها الجيوش البيزنطية، ألا وهي قوة السلاجقة في بلاد الروم.
* شكّل سقوط نيقية وخسارة دوريليوم طعنة قاتلة لهيبة تلك الأسرة السلجوقية ومكانتها في الأناضول، وكانتا نقطة تحول في الشئون السلجوقية بسبب أن الخسارة التي تكبدوها في الأرواح أو فى الممتلكات، كانت فادحة.
* فتحت هذه المعركة الطريق للصليبيين إلى بلاد الشام، وكفلت لهم سلامة المرور عبر آسيا الصغرى.
* نجحت بيزنطة في استرداد الجزء الغربي من الأناضول التي خسرته بعد سقوط نيقية بأيدي السلاجقة في عام (474هـ/1081م).
* أدّت عملية الاسترداد إلى تغيير مهم في خريطة الأراضي، إذ بينما كانت الحدود السلجوقية البيزنطية تمر في عام 478هـ/ 1085م في مدينتي نيقية ونيقوميدية على مسافة قصيرة من بحر مرمرة ومضيق البوسفور، نرى أن هذه الحدود قد تغيَّرت بعد أن تم طرد الأتراك من بيثينيا وأيونيا وفيريجيا، ومن ثم عادت هذه المقاطعات بيزنطية، وبذلك تكون الإمبراطورية قد ثأرت لنفسها مما حلَّ بها على أيدي السلاجقة منذ معركة ملاذكرد.
_________
(1) تاريخ سلاجقة الروم، ص 87.(1/465)
* حرمت الخسارة السلاجقة من امتلاك هرقلة وقيصرية بالإضافة إلى أن مملكة بلدوين التي أسسها الصليبيون في الرها، ومملكة غودفري في فلسطين، وضعتا حداً لتوسعهم شرقاً، كما أن وجود قوة نورمانية على شاطئ البحر المتوسط، حرمهم من الاستفادة من الشواطئ الجنوبية الغربية, وإذا كان عليهم أن يستمروا فإنهم لا بد أن يعيدوا سيطرتهم على الأناضول ويصبحوا أسياده مجدداً (1).
* بالإضافة إلى تراجع قوة السلاجقة، فقد ساءت علاقتهم بسلاجقة الشرق، لأن قلج أرسلان لم يعترف لهم بالسيادة إلاَّ أنه كان أمامه بصيص أمل، فعرف كيف يستغل استمرار تدفق المهاجرين من الأتراك إلى آسيا الصغرى، بأعداد متزايدة، فجنَّدهم في صفوف جيشه، وخلق منهم جيلاً محارباً قوياً مدرَّباً ومنظَّما (2). ولا مراء في أن معركة دوريليوم احتلت مكاناً بارزاً في تاريخ الحملة الصليبية الأولى فهي أول صدام عسكري كبير بين الصليبيين والسلاجقة, وتحقق الانتصار للأولين على نحو كان فاتحة توسعات صليبية غير مسبوقة، وقد أفاد الصليبيين في ذلك كثرتهم العددية وحسن تنظيمهم ناهيك عن استبسالهم في القتال (3).
6 - سقوط قونية وهرقلة: على أية حال: اتجه الصليبيون بعد دوريليوم إلى قونية في أغسطس عام 1097م /491هـ وساروا من بعدها إلى هرقلة وتمكنوا من السيطرة عليها هي الأخرى بعد إلحاق الهزيمة بالأتراك السلاجقة، وعندما بلغت القوات الصليبية أرمينية الصغرى رحب بهم الأرمن وقدموا لهم كل مساعدة، ومن بعد ذلك صار هدف الغزاة يتجه نحو مدينة أنطاكية (4).
7 - إمارة الرها: استمر الزحف الصليبي نحو بلاد الشام، إذ كانت جيوشهم كالجراد المنتشر، وقد بلغوا قرابة مليون مقاتل، فاحتلوا الرها وأنطاكية، وتوجهوا نحو بيت المقدس، ولم يجدوا مقاومة تذكر نظراً للتمزق السياسي والخراب الاقتصادي في تلك المرحلة، كان معظم سكان الجزيرة الفراتية من نصارى الأرمن الخاضعين لحكم السلاجقة، وخاصة في تل باشر، ومرعش والراوندان (5) , فقد رحب الأرمن بالغزاة، واعتبروهم منقذين لهم، وحماة للنصرانية في تلك الجهات (6)، وسار الأعوان والمرشدون من رجال الأرمن، حتى يسهلوا مهمة الزحف أمام قادة الغزو الصليبي «بلدوين وتنكرد» وقد تمكن الغزاة من احتلال
_________
(1) تاريخ سلاجقة الروم في آسيا الصغرى، ص 89.
(2) المصدر نفسه، ص 89.
(3) الحروب الصليبية بين الشرق والغرب، ص 77.
(4) المصدر نفسه، ص 78.
(5) الجهاد والتجديد, محمد الناصر، ص 94.
(6) النجوم الزاهرة (5/ 146).(1/466)
طرسوس والمصيحة، وتل باشر والرواندان وهي قلاع حصينة في شمالي الجزيرة، وذلك بفضل مساعدة أهلها من الأرمن وثورتهم ضد الحاميات التركية، ثم أرسل حاكم مدينة الرها ثوروس الأرمني إلى القائد الصليبي - بلدوين - يدعوه للحضور إلى الرها لمساعدته في تسليم المدينة إليه عام 1098م لأنه خشى أن يحتلها أمير الموصل من قبل السلاجقة، فأسرع بلدوين على رأس قوة صغيرة استقبلت من قبل أهالي المدينة وحاكمها استقبالاً حافلاً، ومن ثم ثار أهالى الرها ضد حاكمهم، مما أدى إلى قتله، وانتقال مقاليد الأمور إلى بلدوين البولوني، الذي اتهم بأنه كان وراء هذه الثورة ولم يقم بواجبه في حمايته (1)،
وقد تمكن بلدوين من السيطرة على الرها في أعالي الفرات، وأسس هناك إمارة صليبية من أجل أن تكون بمثابة دولة حاجزة، بين سلاجقة آسيا الصغرى وسلاجقة العراق وكذلك بلاد فارس، وكي تكون بمثابة محطة إنذار مبكر للصليبيين في مواجهة أية أخطار عسكرية قادمة لهم من الشرق, وفي هذا دليل واضح أن الغزاة الجدد كانوا يدركون أهمية زرع كياناتهم في مواقع جغرافية ذات أهمية استراتيجية خاصة، ويلاحظ هنا أن إمارة الرها - على نحو خاص - ستتعرض للعديد من الضربات من جانب المسلمين (2)، وقد توسع بلدوين، فاستولى على تل باشر والراوندان وسميساط وسروج (3)، بالإضافة إلى كثير من المواقع والمدن في شمالي الجزيرة الفراتية، فامتدت رقعة هذه الإمارة الصليبية فوق مساحة من الأرض تقع شرق نهر الفرات وغربه، وجاورت إمارة الموصل، وهددت مدن ديار بكر، مثل نصيبين وماردين (4)، وحران، بل شمالي العراق كله، كما سيطرت على الطريق المؤدية إلى حلب والموصل, وقد كانت هذه الإمارة من أوسع الإمارات الصليبية وأشدها أذى للمسلمين بسبب أطماع حكّامها النورمان واجتهادهم في الحروب والغارات, ولكنها كانت مع ذلك أضعف هذه الإمارات بسبب توسطها بلاد المسلمين، وتعرُّضها بالضرورة لردود أفعالهم بالإضافة إلى عدم تلقيها دعم الحجاج المسيحيين، ولا إمدادات التجار الإيطاليين (5).
8 - إمارة أنطاكية: بعد أن انتصر الصليبيون على السلاجقة في آسيا الصغرى، واستولوا على عاصمتهم نيقية واصلوا تقدمهم ونجحوا في تأسيس أول أمارة لهم بالشرق في الرها، دون أن تقابلهم أية صعوبات تذكر، ثم واصلوا تقدمهم بعد ذلك إلى أنطاكية (6). كانت أنطاكية من أقوى مدن ذلك العصر تحصيناً، وكان لها أهميتها الكبرى لدى النصارى،
_________
(1) الحركة الصليبية (2/ 143 - 147).
(2) الحروب الصليبية .. العلاقات بين الشرق والغرب، ص 86.
(3) تاريخ سلاجقة الروم في آسيا، ص 92.
(4) تاريخ سلاجقة الروم في آسيا، ص 92.
(5) تاريخ سلاجقة الروم في آسيا، ص 92.
(6) دور الفقهاء والعلماء المسلمين في الشرق الأدني، ص 241.(1/467)
ويكفي أنها كانت ثالث مدن العالم في عصر الإمبراطورية الرومانية، وقد أسس القديس بطرس فيها أول أسقفية للنصارى وقد أحدث وصول الجيش الصليبي إلى مشارف أنطاكية هلعاً كبيراً في نفوس الأهالي بسبب كثرة أعدادهم وطبيعة زحفهم (1)، وعبر عن ذلك ابن القلانسي بقوله: وصلوا في عالم لا يحصى عدده كثرة، وتتابعت الأنباء بذلك، فقلق الناس لسماعها، وانزعجوا لاشتهارها (2).
- موقف المندوب البابوي: عندما اقترب الجيش الصليبي من أنطاكية اندفع المندوب أدهيمر بحماس شديد محاولاً حث الصليبيين على ضرورة التمسك بوحدتهم والوقوف صفاً واحداً كي يتحقق لهم النصر والاستيلاء على أنطاكية، فألقى فيهم الكلمات التالية: إخوتي وأبنائي الأعزاء، نحن نقترب من أنطاكية وهي مدينة محصنة بأسوار عالية يعجز الحديد والحجر عن تدميرها .. فلنحترس ولنحرص على الوحدة، ولنوجه جهودنا نحو الهدف المشترك (3)، وكان لهذه الكلمات أثر كبير في حماس الجند عندما فرضوا حصارهم حول المدينة في أواخر ذي القعدة عام 490هـ أواخر أكتوبر 1097م ولكن ما أن طال الحصار بسبب مناعة المدينة انتاب الصليبيين اليأس وتدهورت حالتهم المعنوية، وفكر الكثير منهم في العودة إلى بلادهم أو على الأقل الابتعاد عن هذه المنطقة واللجوء إلى مكان آخر يكون أكثر أمنا ويجدون فيه ما يقتاتون به (4).
- الحربة المقدسة: انتاب اكثر الصليبيين حالة من اليأس وعندئذ حاول بعض رجال الدين المسيحي انتزاع اليأس والخوف من قلوب الصليبيين المحاصرين لأنطاكية ورفع روحهم المعنوية لمواصلة القتال والمصابرة فيه, وذلك عندما صدقوا الرؤيا التي اختلقها أحد صغار الصليبيين ويدعى بطرس بارثليميو الذي أخبرهم بأنه رأى في رؤياه أحد القديسيين يخبره بأن الحربة التي طعن بها المسيح في جنبه، مدفونة في كنيسة القديس بطرس بأنطاكية، وأنهم إذا أخرجوا هذه الحربة وحملوها أمام جيش الصليبيين فسيحصل لهم النصر (5)، فكان لتصديق هذه الرؤيا وظهور الحربة المقدسة تأثيره البالغ في ازدياد حماس الصليبيين واندفاعهم لقتال المسلمين, يتقدمهم حامل الحربة المقدسة، فأحدقوا بالمسلمين، وقام الأسقف أدهيمر يخطب في الصليبيين ويحثهم على القتال بكل شجاعة محاولاً نزع الخوف من قلوبهم، قائلاً لهم: أنتم الآن متطهرون
_________
(1) الجهاد والتجديد، محمد حامد الناصر، ص 97.
(2) ذيل تاريخ دمشق، ص 134.
(3) دور الفقهاء والعلماء المسلمين في الشرق الأدنى، ص 242.
(4) المصدر نفسه، ص 242.
(5) المصدر نفسه، ص 242.(1/468)
وتائبون لله، فمن أي شيء تخافون؟ إن من يموت منكم سيكون أسعد ممن عاش، لأنه سيغادر هذه الحياة الفانية إلى ملكوت الخلود، أما من سيعيش فسوف ينتصر على أعدائه، وسيغتني من غنائمهم، فلتتشجعوا فإن القادر المقتدر سيرسل لكم كتائب من السماء لتنتقم من أعدائكم, وسوف ترون هذه الكتائب بأعينكم، فلا تخشوا الأصوات الرهيبة التي سوف تحدثها حولكم، إنها جاءت لنجدتنا بعدما أحدق بنا الخطر، انظروا إلى أعدائكم وهم يتطلعون إليكم في رعب من يسوع المسيح، وليكن القادر على كل شيء معنا (1)، ويضيف صاحب كتاب أعمال الفرنجة أن الأساقفة والقسس والكهنة والرهبان قد ارتدوا حللهم المقدسة وخرجوا حاملين الصلبان ممجدين الرب، ومبتهلين إليه أن ينقذهم من كل شر، بينما اعتلى آخرون الباب رافعين الصليب في أيديهم، ورسموا عليهم علامة الصليب وباركوهم, ولما تجهزوا وتدرعوا بالصليب خرجوا للقتال (2).
ونتيجة لهذا الدور الحماسي الذي قام به رجال الدين المسيحي في تشجيع الصليبين بأنطاكية ازداد الصليبيون ثقة في أنفسهم (3).
- جهود ياغي سيان والي أنطاكية للدفاع عن المدينة: كان والي أنطاكية «ياغي سيان» من التركمان، ويتمتع بدرجة عالية من الكفاية، إلا أن الخلافات والحروب التي كانت بين الأخوين دقاق ورضوان ابني تتش بالشام, وانحياز ياغي سيان إلى هذا مرة وذاك مرة أخرى حرمه من مساعدة أمير حلب، عندما داهمه الغزاة, وقد حاول ياغي سيان آنذاك الحصول على مساعدة جيرانه المسلمين: دقاق ملك دمشق، وجناح الدولة أمير حمص، وكربوقا أتابك الموصل، إلا أن التمزق السياسي، والمطامع الشخصية حالت دون تقديم المساعدات المرجوة، كما أنه طلب النجدة من الخليفة العباسي والسلطان السلجوقي في فارس ولكن دون جدوى إلا أن ياغي سيان كان قد أعد عدته لحصار فشحن القلاع بالجند والمقاتلين، واختزن المؤن الكافية، وقد استمر الحصار مدة تسعة أشهر، حتى كاد شبح المجاعة يهدد الفرنجة، ولم تكفهم المعونة المتقطعة التي كانت تأتيهم من قبرص والغرب، حتى صار بعض الجند يفرون من المعركة (4) , وتجمعت قرب «شيزر» نجدة إسلامية لإنقاذ أنطاكية كان على رأسها: دقاق ملك دمشق، وأمير حمص جناح بن ملاعب, ودارت معركة بينهم وبين الفرنجة، وتفوق فيها المسلمون، وقتلوا من الصليبيين جماعة كبيرة عند ضفاف نهر العاصي (5). وكان ممن ساهم بالدفاع عن المدينة جماعة من المسلمين يعرفون باسم المطوعة،
_________
(1) دور الفقهاء والعلماء المسلمين في الشرق الأدنى، ص 243.
(2) المصدر نفسه، ص 243.
(3) المصدر نفسه، ص 243.
(4) الحركة الصليبية (1/ 150 - 153) , الجهاد والتجديد، ص 98.
(5) الجهاد والتجديد، ص 98.(1/469)
ظلت تدافع عن أنطاكية رغم قلة عددهم حتى بعد اشتداد هجمات الصليبيين عليها - بعد عثورهم على الحربة المقدسة - وبعد أن تفرق شمل العسكر التركماني عن حاكم المدينة مما أدى في النهاية إلى استشهادهم جميعاً (1).
- الروح البرجماتية لدى قادة الحركة الصليبية: وينبغي ألا نغفل زاوية مهمة، وهي أن بوهيمند -الذي تاقت نفسه للسيطرة على المدينة هدَّد - في إحدى المراحل الحرجة من الحصار - بالانسحاب، مالم يوافق الصليبيون على أن يجعلوا المدينة له من بعد سقوطها, وعندما رضوا بذلك قرر بوهيمند البقاء ومواصلة العمليات الحربية ولا شك أن ذلك يثبت لنا أنه أمام أسوار أنطاكية وخلال تلك المرحلة المبكرة من بدايات الغزو الصليبي لبلاد الشام ظهرت الروح البرجماتية لدى قادة الحركة الصليبية على نحو عكس أن من زعم أنه كان من جند المسيح كانوا شرهين للسلطة والنفوذ والمال (2).
- سقوط المدينة بيد الصليبيين (491هـ): رغم حصانة المدينة وكفاءة واليها ودفاع الجند عنها، إلا أن الإمدادات كانت تتوالى على الصليبيين عن طريق ميناء
«السويدية» لمحاصرة أنطاكية، وقد طال الحصار وظهر من شجاعة ياغي سيان وجودة رأيه وحزمه واحتياطه مالم يشاهد عند غيره، فقد هلك أكثر الفرنج موتاً وجوعاً، ولما طال مقام الفرنج على أنطاكية، ظهرت الخيانة، إذ راسلوا أحد المشرفين على الأبراج وهو رجل نصراني أرمني تمسلم، وبذلوا له مالاً وإقطاعاً, وعند الفجر بعد أن تعب الناس من طول السهر والحراسة، فتح لهم شباك البرج الذي يحرسه، واستيقظ سيان على دخول الفرنجة المدينة فداخله الرعب وفتح باب البلد وخرج هارباً في ثلاثين غلاماً على وجهه وخرج نائبه من باب آخر (3)، ثم دخل الصليبيون المدينة وأباحوها أياماً للسلب والنهب والقتل والاغتصاب، وكشرت الصليبية عن أنيابها، وتحول جند المسيح إلى قتلة وسفاكي دماء ومغتصبين (4)، فقد تصرف الصليبيون إزاء سكان إنطاكية المغلوبين على أمرهم بهمجية معهودة لهم، لا حدود لها, وبذلك عكسوا وبوضوح الروح العدائية وسالت الدماء أنهاراً وقتل من الناس ما لا يدركه حصر (5)، وقال أحد كبار القساوسة: ما من جريمة فظيعة وما من نهب مريع وما من فعلة مخجلة إلا
_________
(1) دور الفقهاء والعلماء المسلمين في الشرق الأدنى، ص 244.
(2) الحروب الصليبية .. العلاقات بين الشرق والغرب، ص 80.
(3) الجهاد والتجديد، ص 98.
(4) الحروب الصليبية .. العلاقات بين الشرق والغرب، ص 80.
(5) إمارة أنطاكية دراسة في علاقتها السياسية بالقوى الإسلامية، ص 124.(1/470)
ارتكبوها (1)، يقول لوبون: يدل سلوك الصليبيون في جميع المعارك على أنهم من أشد الوحوش حماقة (2)، وقد هرع السريان والأرمن من أهل أنطاكية يساعدون الغزاة في التعرف على خفاياها وقتل من فيها من المسلمين (3).
نهاية ياغي سيان والي أنطاكية: أما ياغي سيان، فإنه لما طلع عليه النهار، رجع إليه عقله، فرأى نفسه وقد بَعُدَ عدة فراسخ فقال لمن معه: أين أنا؟ فقيل له: على بعد أربعة فراسخ من أنطاكية، فندم كيف خلص سالماً، ولم يقاتل حتى يزيل العدو عن البلد، أو يقتل. وجعل يتلهف ويسترجع على ترك أهله وأولاده والمسلمين ولشدة ما لحقه، سقط عن فرسه مغشياً عليه، وعندما أراد أصحابه أن يُركبوه على الفرس، لم يكن به مسكة وقد قارب ألموت، فتركوه وساروا عنه، واجتاز به حطاب أرمني، وهو بآخر رمق فقتله، وأخذ رأسه وحمله إلى الفرنج بأنطاكية (4).
- من نتائج سقوط أنطاكية: تأكدت قدرة الصليبيين على تغيير الخريطة السياسية لشمال الشام، على الأقل لصالحهم, فها هي أنطاكية تسقط على نحو يجعل حلب مهددة إلى الشرق منها، ويجعل الصليبيين يخضعون موقعاً استراتيجياً مهما خاصة قرب أنطاكية من ميناء السويدية (حوالي 20ك م) على نحو يجعل إمكانية الاتصال بأوربا أمراً ميسوراً ومدعماً للصليبيين إلى حد كبير، وبصفة عامة أدى استيلاؤهم على تلك المدينة إلى فتح الطريق إلى بيت المقدس.
- أثبت سقوط أنطاكية بجلاء أن الصليبيين ما نجحوا إلا من خلال فرقة المسلمين،
فقد تعاملوا مع كل كيان صغير على حدة, وغابت عن المسلمين فكرة المشروع
الوحدوي والمصير الواحد، ولم يتناسوا خلافاتهم فكان مصيرهم المحتوم تحت سنابك خيل الصليبيين وسيوفهم البتارة, بالإضافة إلى استبسالهم في قتال المسلمين وهي حقيقة لابد من الاعتراف بها (5).
- تحدد مصير إنطاكية بإحكام السيادة الصليبية عليها خاصة بعد اخفاق كربوغا أتابك الموصل في أمر الدفاع عنها، ومن قبل عندما قتل ياغي سيان حاكمها (6).
_________
(1) إمارة أنطاكية دراسة في علاقتها السياسية بالقوى الإسلامية، ص 124.
(2) حضارة العرب نقلاً عن إمارة أنطاكية، ص 124.
(3) الجهاد والتجديد، ص 98.
(4) الكامل في التاريخ نقلاً عن الجهاد والتجديد، ص 99.
(5) الحروب الصليبية العلاقات بين الشرق والغرب، ص 81.
(6) المصدر نفسه، ص 82.(1/471)
- شجع سقوط أنطاكية الصليبيين على استئناف نشاطهم العسكري ضد المناطق المحيطة بحلب على شكل غارات صغيرة (1).
9 - مذبحة معرة النعمان: اشتدت المنازعات الداخلية بين الصليبيين حول إمارة أنطاكية، على أن كثرة القتلى والجيف في ساحة المدينة نتج عنه انتشار وباء في معسكر الفرنجة، ذهب ضحيته بضعة آلاف منهم، من بينهم المندوب البابوي (أدهيمر) وقد دفع ذلك الوضع الغزاة هؤلاء إلى القيام بغزوات وجولات خارج أنطاكية، حتى يبتعدوا عن منطقة الوباء، فكان غزوهم لمعرة النعمان، فاستغاث أهلها بصاحب حلب (رضوان) وصاحب حمص (جناح الدولة) فلم ينجدهم أحد (2)، ولم يكن لدى أهلها من الإمكانات، ما يمكنهم من المقاومة طويلاً فاضطروا إلى الاستسلام، إلا أن الصليبيين كعادتهم لم يحترموا الأمان الذي أعطوه لأهل المعرة (3) , وإنما غدروا بهم، ورفعوا الصلبان فوق البلد .. ونهبوا ما وجدوه، وطالبوا الناس بما لا طاقة لهم به (4). وقد قدر عدد القتلى من المسلمين في معركة معرة النعمان، أكثر من عشرين ألف رجل وامرأة وصبي في حين قدرهم ابن الأثير بما يزيد عن مائة ألف، ويصف تلك المذبحة بقوله: سار الفرنج إلى معرة النعمان، فنازلوها وحاصروها، وقاتلهم أهلها قتالاً شديداً، ورأى الفرنج منهم شدة ونكاية في قتالهم .. ثم دخلوا المدينة ووضعوا في أهلها السيف ثلاثة أيام قتلوا فيها ما يزيد على مائة ألف, وسبوا السبي الكثير وملكوه، وأقاموا أربعين يوماً (5). وقد ذكر (رنسيمان) في تاريخه أن الصليبيين عندما دخلوا المدينة. أمعنوا في قتل كل من يصادفهم، واقتحموا الدور ونهبوها وأحرقوها (6)،
وقد رثاها الشاعر وجيه بن عبد الله التنوخي بأبيات حزينة باكية، تأسف على موت أهلها، وضياع دورها فقال:
هذه بلدة قضى الله يا صاح ... عليها كما ترى بالخراب
فقف العيسَى وقفة وابك من ... كان بها من شيوخها والشباب
واعتبر إن دخلت يوماً إليها ... فهي كانت منازل الأحباب
_________
(1) تاريخ السلاجقة في بلاد الشام، ص 207.
(2) المصدر نفسه، ص 207.
(3) زبدة الحلب في تاريخ حلب لابن العديم (2/ 141 - 142).
(4) ذيل تاريخ دمشق لابن القلانسي، ص 136.
(5) الكامل في التاريخ نقلاً عن الجهاد والتجديد، ص 102.
(6) تاريخ الحروب الصليبية (1/ 369).(1/472)
وأخيراً خرج الصليبيون من معرة النعمان على رأس جيش يقوده «ريموند» نحو بيت المقدس، أما «بوهيموند» فاختار البقاء في أنطاكية، وأسس فيها إمارة له. فتحولت الحملة الصليبية الأولى نحو بيت المقدس بعد أن ظلت قرابة خمسة عشر شهراً في شمالي بلاد الشام (1)، تصول وتجول، ولا نجد من يردها إلى ديارها خائبة صاغرة.
ثالثاً: تأسيس مملكة بيت المقدس:
استغل الفاطميون فرصة ضعف الأتراك السلاجقة وتخاذل أمرائهم إثر اندحارهم إمام الصليبيين عند أنطاكية، ومقتل عدد كبير منهم فسار أمير الجيوش المصرية الأفضل بن بدر الجمالي في شعبان سنة 491هـ /1098م على رأس قواته إلى القدس، وأعتقد الأراتقة حكام بيت المقدس التابعون للسلاجقة بأن تحصينات القدس العظيمة، والمقدرة الحربية لقبائلهم التركمانية ستمكنهم من الصمود حتى تأتيهم النجدة من دقاق حاكم دمشق، وكان في القدس آنذاك معظم بني أرتق وهم سقمان وإيلغازي وابن عمهما سونج وابن أخيهما ياقوتي (2)، وجماعة من أقاربهما ورجالهما وخلق كبير من الأتراك، وحاول الأفضل في البداية أن يتبع الأساليب السليمة لتحقيق أغراضه فراسل كل من سقمان وايلغازي يلتمس منهما تسليم القدس من غير حرب ولا سفك دماء، فلم يجيباه إلى ذلك (3) , وعند ذاك بدأ بقتال البلد، ونصب عليه نيفا وأربعين منجنيقاً فهدمت مواضع من سوره, وقاتلهم أهل البلد واستمر القتال والحصار نيفاً وأربعين يوماً (4)، ويظهر أن الأخوين إيلغازي وسقمان كانا واثقين بجيشهما ومساندة عشيرتهما من التركمان إلا أن الفاطميين العبيديين استطاعوا تضييق الحصار وفتحت المدينة بالأمان عام 491هـ, وسار سقمان وإيلغازي ومن معهما إلى دمشق سنة 491هـ / 1098م، ثم غادروا دمشق (5).
إن الدولة العبيدية الفاطمية ساهمت في احتلال الصليبيين للمنطقة، فبدلاً أن تقف مع السلاجقة ضد الصليبيين راسلتهم وطلبت منهم الصلح، فقد كان الأفضل بن بدر الجمالي صاحب السلطة الفعلية في مصر، عندما سمع بأن الصليبيين، الذين وصلوا إلى بلاد الشام، اشتبكوا مع الأتراك السلاجقة، أعداء الدولة الفاطمية العبيدية، فكّر في عقد تحالف معهم ضد هؤلاء، فأرسل سفارة اجتمعت بزعمائهم أمام أنطاكية في شهر صفر 491هـ/ كانون الثاني 1098م وعرضت عليهم مشروع التحالف الذي تضمن البنود التالية:
_________
(1) الجهاد والتجديد للناصر، ص 103.
(2) القدس عشية الغزو الصليبي ص109.
(3) المصدر نفسه، ص 109.
(4) المصدر نفسه، ص 109.
(5) المصدر نفسه, ص 110.(1/473)
- ينفرد الصليبيون بحكم أنطاكية وشمال بلاد الشام.
- تحتفظ مصر ببيت المقدس وجنوب بلاد الشام.
- يسمح للصليبيين بزيارة الأماكن المقدسة في فلسطين، وتكون لهم الحرية الكاملة في أداء شعائرهم الدينية، على ألا تزيد مدة إقامتهم فيها على شهر واحد، وألا يدخلوها بسيوفهم.
- يتعاون الطرفان في القضاء على السلاجقة (1).
على أن سفارة الأفضل إلى الصليبيين، على الرغم من الحفاوة التي استقبلت بها، لم تؤدِ إلا إلى نتيجة واحدة، وهي وقوف الصليبيين على مدى الخلاف السائد بين الفاطميين والسلاجقة في بلاد الشام، ومن ثمَّ استقَّر رأيهم بعد استيلائهم على أنطاكية على إرسال حملة للاستيلاء على بيت المقدس (2).
إن المتتبع لدراسة التاريخ في مرحلة اغتصاب أوربا لبلاد الشام وبيت المقدس في بداية القرن الخامس الهجري ونهاية العاشر الميلادي والانفراد بالمسلمين، ومحاولة القضاء عليهم سبقتها عدة أمور منها:
- زرع دولة شيعية مؤسسها يهودي أو مجوسي، سمّى نفسه المهدي، ترفع شعار الإسلام، بادعاء انتسابها إلى فاطمة بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -ورضي الله عن فاطمة- تهدف إلى عزل دول الشمال الإفريقي، وخاصة مصر عن بقية بلاد الشام أثناء تعرضه للغزو الصليبي. هذه الدولة كانت لها مراسلات وسفارات مع الأوروبيين الصليبيين الذين عادوا لاغتصاب بيت المقدس، وأرض الشام ومصر، وعرضوا التعاون معهم ضد السلاجقة, وسنرى بإذن الله في دراستنا المستقبلية طلبهم من الصليبيين المعاونة ضد نور الدين زنكي وأسد الدين شيركوه وصلاح الدين.
- أن حكام هذه الدولة حرصوا على هدم الخلافة العباسية، التي كانت تحتاج إلى من يدعمها ويساندها ويأخذ بيدها بدلاً من الحرص على هدمها، لأن الخلافة هي السياج الحامي بعد الله لبلاد المسلمين من كيد أعدائها.
- ظهور الباطنية القرامطة ومؤسسها أبو سعيد الجنابي رأس القرامطة سنة خمس وثمانين ومائة هجرية الذين يدعون انتسابهم إلى علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - والذين عملوا على
_________
(1) تاريخ الفاطميين في شمال إفريقية، محمد طقوش، ص 428.
(2) المصدر نفسه، ص 428.(1/474)
هدم الخلافة العباسية، وإفساد عقيدة الأمة. العجيب أنهم قصدوا دمشق في جحفل عظيم، فقاتلهم نائبها فهزموه عدة مرات، وكان ذلك بقيادة يحيى بن زكرويه الذي ادعى عند القرامطة أنه محمد بن عبد الله بن إسماعيل بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي ابن أبي طالب، وقد كذب في ذلك.
- حرص حكام الدولة التي تسمى زوراً وبهتاناً بالدولة الفاطمية على إفساد عقيدة السلف، بفرض عقيدة الرافضة بالقوة على الأمة، وقتل أهل السنة والجماعة، وعلمائهم وفقهائهم، وسب الخلفاء الراشدين وصحابة رسول الله - رضوان الله عليهم - على المنابر، كما أن بعض حكامهم قد ادعوا الألوهية.
- عزل مسلمي مصر عن إخوانهم في بلاد الشام والشمال الإفريقي وأثناء العزل جرى القضاء على المقاومة الإسلامية ببيت المقدس وبلاد الشام والاستيلاء عليها (1).
لم يكن نجاح النصارى في انتراع بيت المقدس من أيدي الفاطميين مصادفة بلا خلفيات، لا .. بل الذي يدرس تاريخ الروافض، بل إن الذي يدرس تاريخ الشيعة الروافض الباطنيين ويتعرف على هويتهم المشبوهة يسهل عليه استيعاب حقيقة الأمر الذي سارت عليه الأحداث، فالدولة الفاطمية الرافضة كانت إحدى الحركات الباطنية التي أعملت معاول الهدم في صرح الأمة الإسلامية، وكانت أيضاً سبباً في ضعف دولة الخلافة العباسية والتضحية بالأرض المقدسة، وتعامي الطرفان عن الخطر الصليبي منشغلين بالصراع بينهما. وما أشبه الليلة بالبارحة عندما انشغل العرب والترك بالنزاع بينهما حتى استلب النصارى الإنجليز أرض فلسطين ثم أسلموها إلى اليهود ولا تزال الليالي تشبه البارحات، لقد بلغ من عمالة الفاطميين أو بالأحرى الباطنيين العبيديين الروافض - أن استعانوا بالصليبيين للقضاء على السلاجقة الأتراك، وفي الوقت الذي كان الصليبيون في طريقهم إلى القدس، وكانت مدن الشام تتساقط تحت أقدامهم، كان الفاطميون والسلاجقة يتناوبون التنازع على المدينة المقدسة متجاهلين خطر الجيش النصراني, ولم يحرك قائد الفاطميين ساكناً إلا عندما جاء الخبر بحصار الصليبيين للقدس (2)،
ولاحت الفرصة الذهبية لأهل الصليب لكي ينفثوا أحقاد قرون خلت في جسد الأمة الإسلامية، ولكي يحققوا حلماً دينياً, وهدفاً سياسياً, ومغنماً اقتصادياً لا تعوض فرصته خاصة أن الوقت كان في بداية الألفية الثانية التي اعتقدت طوائف كثيرة من النصارى أن المسيح عيسى ابن مريم سيعود فيها إلى الأرض ليحكمها كلها من
_________
(1) أخطاء يجب أن تصحح في التاريخ. الطريق إلى بيت المقدس، ص 69.
(2) قبل الكارثة نذير ونفير، ص 129.(1/475)
القدس، انطلاقاً مما يسمي بالعقيدة الألفية التي كانت سبباً في عصرنا هذا أيضاً لتعاون النصارى مع اليهود في السيطرة على بيت المقدس كله استعداداً لمقدم الألفية الثالثة، ألفية المسيح (1).
1 - مقدمات الاحتلال: ما أن استولى الصليبيون على نيقية في حزيران عام 1097م بعد حصار دام شهراً، حتى زحفوا إلى أسكي شهر التي سقطت بأيديهم في أول تموز/ يوليو من العام نفسه، ثم إلى مدينة الرها، ثم وصلوا إلى أنطاكية، فاحتلوها بعد حصار طويل كما مر معنا, واتجه الصليبيون بعد ذلك جنوباً فاحتلوا معرة النعمان ثم أخلوها بعد أن أحرقوها وقتلوا من أهلها «ما يزيد على مائة ألف» (2)، ثم احتلوا «حصن الأكراد» ثم انطرطوس وهي طرطوس الحالية «بعدد من الأدلاء والجنود» (3). وفي 16 آيار/مايو 1099م غادر الصليبيون طرابلس وتابعوا تقدمهم جنوباً فاجتازوا البترون وجبيل ووصلوا في 19 آيار/مايو إلى الحدود الفاطمية على نهر الكلب, ولم يكن للفاطميين عساكر في ممتلكاتهم الشمالية، باستثناء بعض الحاميات في بعض المدن الساحلية (4)، مما أتاح للصليبيين التقدم بسهولة وبلا مقاومة، فدخلوا بيروت بلا قتال، ثم تقدموا نحو صيدا فبلغوها في 20آيار 1099م، ولكنهم لقوا مقاومة عنيفة من حاميتها، إلا أنهم استطاعوا التغلب عليها وتابعوا تقدمهم نحو صور حيث بقيت حامية صور خلف الأسوار لم تناجزهم العداء (5). وتابع الصليبيون تقدمهم بعد أن غادروا صور بتاريخ 23 آيار 1099م، فبلغوا ضواحي عكا في 24 آيار دون أن يلقوا مقاومة تذكر، ثم وصلوا إلى حيفا، فقيسارية حيث أقاموا أربعة أيام استأنفوا بعدها، تقدمهم نحو الرملة فبلغوها في 3 حزيران 1099م, وفي 6 حزيران تابع الصليبيون تقدمهم نحو بيت المقدس فبلغوا أسوارها مساء 7 حزيران حيث عسكروا (6).
2 - القوى المتواجهة:
- القوات الصليبية: بلغ عدد القوات الصليبية التي وصلت إلى أسوار القدس وتمركزت حولها وبدأت بمحاصرتها نحو أربعين ألفاً من مختلف الأعمار ذكوراً وإناثاً، وكان عدد الرجال المقاتلين منهم نحو عشرين ألفاً، وقد انتشر الصليبيون حول القدس، على امتداد
_________
(1) قبل الكارثة نذير ونفير، ص 130.
(2) حروب القدس في التاريخ الإسلامي والعربي، ص 54.
(3) المصدر نفسه، ص54.
(4) المصدر نفسه، ص54.
(5) الحروب الصليبية (1/ 411).
(6) المصدر نفسه (1/ 411 - 414).(1/476)
بعض أسوارها، وليس كلها، وذلك بسبب نقص عدد قواتهم (1)، ورغم أن القوات الصليبية كانت مزودة بأحدث الأسلحة وآلات الحصار والتدمير، فإنها وجدت نفسها عاجزة عن تنفيذ حصار كامل ومطبق حول المدينة بسبب نقص كبير في عدد المقاتلين من جهة وبسبب نقص في آلات الحصار من جهة أخرى، كما أن إطالة أمد الحصار حول القدس سوف يؤثر سلباً على معنويات الجند الذين هم آتون من بلاد باردة إلى أرض قاحلة لا ظل فيها ولا أشجار، وفي صيف حار لاهب لن يستطيع أولئك الجند تحمل حرارته، لذا قرر القادة أن يُعدوا لهجوم عاجل على المدينة (2).
أ- قوات المسلمين: كان المسلمون في داخل أسوار مدينة القدس، في وضع دفاعي متين, فالمدينة -بحد ذاتها- تعتبر من أضخم المعاقل والحصون في ذلك الزمان، فأسوارها التي يقف الصليبيون قبالتها، تكاد تكون عصية على الاختراق أو الاجتياز، إضافة إلى ذلك تظل القدس عصية على أي هجوم من جهاتها الثلاث: من الشرق والجنوب الشرقي حيث يلفها وادي قدرون أو وادي جهنم، ومن الجنوب حيث يلفها وادي هنوم أو وادي الربابة، ومن الغرب حيث يلفها وادي الروث أو وادي تيروبيون، فهي إذن محصنة، من هذه الجهات بتحصينات طبيعية، إضافة إلى ما تمنحها أسوارها وحصن داود الواقع في منتصف السور الغربي، والذي يسيطر على جزء كبير من محيط المدينة، من مناعة وقوة (3). يضاف إلى ذلك الخنادق التي حفرها المدافعون خارج الأسوار، في الزاويتين الشمالية الشرقية والشمالية الغربية، وفي الجهة الشمالية من السور، لكي تعيق تقدم المهاجمين، وهكذا، لم يكن ممكناً مهاجمة المدينة إلا من الجهتين: الشمالية، والشمالية الغربية فقط، وهي الجهات التي ركز الصليبيون، في حصارهم عليها (4). وكان في المدينة حامية مؤلفة من مصريين وسودانيين تقدر بألف مقاتل بينما تداعت أعداد كبيرة من الحصون القائمة في المناطق المجاورة ومن الريف للدفاع عن المدينة، فبلغ عدد المدافعين عنها نحو أربعين ألف محارب شجاع مجهزين تجهيزاً رائعاً بحسب قول الصوري (5). والصوري لا يؤكد ذلك بل يقول: وذكرت إحدى الروايات ونعتقد أن هذا العدد مبالغ فيه كثيراً (6).
- قائد الحامية: كان قائد تلك الحامية هو الحاكم الفاطمي نفسه (افتخار الدولة) الذي
_________
(1) حروب القدس في التاريخ الإسلامي والعربي، ص 55.
(2) المصدر نفسه، ص 57.
(3) المصدر نفسه، ص 57.
(4) المصدر نفسه، ص 57.
(5) حروب القدس في التاريخ الإسلامي والعربي، ص 59.
(6) المصدر نفسه، ص 59.(1/477)
ما إن علم باقتراب الصليبيين من أسوار المدينة، حتى باشر باتخاذ التدابير اللازمة لحمايتها، فطمر كل الينابيع والآبار الواقعة خارج المدينة كي يحرم المهاجمين من التزود بمياهها، وأخرج منها المسيحيين أهلها، خيشة أن يتعاطف هؤلاء مع أبناء دينهم المهاجمين، فيوقعوا الاضطراب والفوضى في المدينة، ورغبة منه في توفير ما يمكن أن ينفقوه من زاد وغذاء للمسلمين المحاصرين (1).
- أسلحة المدافعين عن المدينة: وأما أسلحة المسلمين المدافعين عن المدينة، فإنها كانت بحسب زعم رنسيمان والصوري تضاهي أسلحة الصليبيين نوعية وتفوقها عدداً، خصوصاً وأنهم -أي المسلمين- كانوا قد احتاطوا لهذا الأمر, فجمعوا الأخشاب اللازمة لصنع الآلات الحربية الملائمة للدفاع عن المدينة المحاصرة كالمجانيق وسواها، وأنشأوا داخل الأسوار آلات حربية معادلة في ارتفاعها لارتفاع آلات الصليبين، وبينما كان الصليبيون يجهدون بدورهم، لإعداد آلات الحصار التي تنقصهم من سلالم ومجانيق، كان المسلمون لا يفتأون يراقبون تصرفاتهم بواسطة حراس يقظين كانوا قائمين على الأسوار باستمرار، ثم يضاهونهم في صنع آلات مماثلة (2)، ويقول الصوري في ذلك: كانت الآلات الحربية التي يصنعونها تُصنع من مواد أفضل من المواد التي صنعت آلاتنا منها، وقد قاموا بهذه الحماسة المثلى، حتى لاتكون آلات حربهم أدنى من آلاتنا في الإنشاء أو في المادة. وكان الحراس يراقبون -من على الأسوار والبروج- كل ما أنجز في جيشنا، وبشكل خاص ما تعلق بالوسائل التي ارتبطت بآلات الحرب، حيث نقلوا على الفور، جميع تفاصيل ما راقبوه إلى الرجال الرئيسيين للقدس، الذين تنافسوا بمهارة، وكافحوا في سبيل محاكاة أعمال المسيحيين (3).
3 - الحصار: ركَّز الصلييون كل قواتهم على الأماكن التي تقربهم من الأسوار، وذلك لعدم توافر العدد الكافي من المقاتلين لفرض حصار على المدينة بكاملها، فاتخذ روبرت النورماندي موضعه على امتداد السور الشمالي, في حين حاصر كل من جودفري وتانكِرد المدينة من الناحية الغربية، وتمركز ريموند الضجلى إلى الجنوب من موضعهما حيث أقام على جبل صهيون، أما القطاعان الشرقي والجنوبي الشرقي فكانا مكشوفين لم يحرسهما أحد. واجهت المحاصِرين، في بادئ الأمر، عدة مشكلات حالت بينهم وبين الاستيلاء على المدينة فوراً لعل أهمها:
_________
(1) الحروب الصليبية (1/ 421).
(2) حروب القدس في التاريخ الإسلامي والعربي، ص 60.
(3) المصدر نفسه، ص 61.(1/478)
* مقاومة الحامية الفاطمية، إذ توافر لافتخار الدولة المؤن والماء والأسلحة التي تفوَّقت على أسلحة الصليبيين، وأمل أن يصمد في وجه الحصار المدة الكافية لوصول النجدة التي طلبها من القاهرة.
* تأمين الماء نتيجة ما اتخذه افتخار الدولة من تدابير كانت ناجعة وقوية الأثر, وللحصول على الماء كان لابد للصليبيين أن يسيروا ستة أميال أو أكثر، مما يعرضهم لهجمات المسلمين كما أخذت مؤنهم في النفاد.
* الحرارة المرتفعة وقسوتها عليهم.
* تجدد النزاع بينهم حول مصير بيت المقدس، وملكية بعض المراكز المهمة الأخرى مثل بيت لحم.
* انتشار إشاعة بينهم أن جيشاً فاطمياً كبيراً قد خرج من القاهرة، وهو في طريقه لإنقاذ المدينة (1). وتبين لهم أنهم لن يستطيعوا الصمود لحصار طويل، وينبغي عليهم أن يبادروا بالهجوم على المدينة والاستيلاء عليها (2).
4 - الهجوم الأول للقوات الصليبية: قرر القادة الصليبيون شن هجومهم على المدينة في فجر اليوم السادس للحصار (أي في فجر 13 حزيران/يونيو)، وأعطيت الأوامر للقوات بالاستعداد للهجوم بالعتاد الكامل، وبحماية دروعهم، وأذيعت تلك الأوامر «بصوت المنادي» وعلى الجميع من أدناهم على أعلاهم في اليوم السابق للهجوم، أي اليوم الخامس للحصار (3). وفي الساعة المحددة، انطلق الصليبيون باتجاه السور بكل ما يدخرون من حماسة. وهاجموا السور الخارجي للمدينة من الجهة الشمالية واستمر القتال ضاريًا بين الفريقين من الفجر الباكر وحتى حوالي الساعة السابعة من النهار، حين استطاع المهاجمون أن يدمروا القسم الخارجي من السور الشمالي وأن يتغلبوا على حامية السور التي انكفأت إلى الداخل لتدافع عن الأسوار الداخلية، وأصبح السور الخارجي تحت سيطرة المهاجمين، لولا أن هؤلاء افتقدوا الوسائل اللازمة لتسلق السور الذي احتلوه، من سلالم وأوهاق, وحاولوا تسلقه جاهدين، ولكن دون جدوى فعادوا أدراجهم إلى مراكزهم الأساسية، بعد خسارة لا يستهان بها في الرجال (4).
5 - العودة إلى الاستعداد للقتال: تدارس القادة الصليبيون الوضع، بعد فشل
_________
(1) تاريخ الفاطميين، ص 435.
(2) المصدر نفسه، ص 435.
(3) حروب القدس في التاريخ الإسلامي والعربي، ص 61.
(4) المصدر نفسه، ص 62.(1/479)
هجومهم على المدينة في اجتماع عقد لهذه الغاية بتاريخ 15 حزيران، فقرروا التوقف عن تنفيذ أي هجوم ريثما يتم الإعداد العسكري للمعركة الحاسمة، وكان هذا الإعداد يقتضي الإسراع في إنشاء ما يحتاجه الجيش من آلات التدمير والاقتحام، وأهمها المجانيق وسلالم التسلق، وكانوا يفتقرون إلى المواد اللازمة لصنع هذه الآلات، وأهمها الأخشاب والحبال والمسامير والأقفال، ولكنهم دبروا أمر الأخشاب من المناطق البعيدة عن القدس حيث تكثر الأشجار, واستطاع تنكرد والكونت روبرت كونت النور ماندي، وكونت الفلاندر الحصول على كميات من هذه الأخشاب التي نقلت إلى المعسكرات على ظهور الإبل والعربات والأسرى المسلمين، بينما تدبروا أمر الحبال والمسامير والأقفال من سفينتين مبحرتين من جنوى رستا في ميناء يافا, وكان المسلمون قد أخلوا المدينة وهي تحمل لهم مؤناً وأسلحة ومعدات للحصار. ونشط العمال الحرفيون من حدادين ونجارين، بإشراف غودفروا وريموند دي سان جيل في إعداد آلات الحرب اللازمة من مجانيق وعرّادات وأوهاق وكباش دك وآلات أخرى، كما صنعوا أبراجاً خشبية تطل على السور وتشرف عليه وهي برج غودفروا وريموند، وبرج تانكرد (1). في هذه الأثناء، وبينما كان الاستعداد للهجوم الحاسم يجري بطيئاً في معسكرات الصليبيين، كانت معاناة هؤلاء من افتقارهم إلى الماء والزاد تزداد، فقد وصلوا، في بحثهم عن الماء حتى نهر الأردن، وكانت الأغنام والأبقار المعدة لإطعام الجند تنفق، بدورها، جوعاً وعطشاً، ومن شدة الحر، وذلك رغم مساعدة المسيحيين من أهل البلاد أولئك الذين أظهروا الولاء للصليبيين، فأضحوا أدلاء يرشدونهم إلى الينابيع والغابات الواقعة من الجهات المجاورة (2)،
ومع ذلك، فقد كان عليهم أن يدفعوا عن مواقعهم غارات المسلمين وكمائنهم، وسهام حامية المدينة وقذائفها. وفوق ذلك كله، فقد دب الخلاف بين قادة الحملة، وخصوصاً بين تانكرد الذي كان قد استولى على بيت لحم ورفع لواءه فوق كنيسة المهد، مما أغضب باقي القادة، كما دبّ الخلاف بينهم حول مسألة مستقبل القدس بعد احتلالها, هذا بالإضافة إلى المعاناة اليومية للجند، حيث كان يموت العديد منهم، يومياً، ظمأً وحراً وجوعاً، مما دفع بالكثيرين إلى التخلي عن الحملة ومحاولة العودة إلى بلادهم (3).
ويتحدث كل من «غروسيه» و «الصوري» و «رنسيمان» عن الوسائل التي استخدمها القادة الصليبيون لرفع معنويات جندهم التي انهارت إلى حد كبير، وخصوصاً عندما سرت في صفوفهم إشاعة عن تحرك جيش من مصر باتجاه القدس لتخليصها من حصار الفرنجة لها,
_________
(1) حروب القدس في التاريخ الإسلامي والعربي، ص 63.
(2) المصدر نفسه، ص 63.
(3) المصدر نفسه، ص 63.(1/480)