الإهداء
إلى العلماء العاملين والدعاة المخلصين،
وطلاب العلم المجتهدين، وأبناء الأمة الغيورين
أهدي هذا الكتاب، سائلا المولى -عز وجل- بأسمائه
الحسنى وصفاته العُلى أن يكون خالصًا
لوجهه الكريم
قال تعالى: {فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحًا وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف: 110].(1/3)
بسم الله الرحمن الرحيم(1/4)
مقدمة
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُم مُّسْلِمُونَ} [آل عمران: 102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأرْحَامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء: 1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا - يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب: 70، 71].
أما بعد:
فهذا الكتاب يتحدث عن شخصية عثمان بن عفان - رضي الله عنه - وعصره، وهو امتداد لما سبقه من كتب تحدثت عن الصدِّيق والفاروق تبحث في دراسة عهد الخلفاء الراشدين؛ لكي نستخرج الدروس والعِبَر ونستوعب السنن والقوانين الإلهية في حركة المجتمعات وبناء الدول ونهضة الشعوب، وتربية القادة والأفراد لنشر دين الله بين الناس.
إن عودة الأمة لما كانت عليه في قيادتها للبشرية منوطة بسيرها على هدى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وخلفائه الراشدين؛ فقد أخبر الحبيب المصطفى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن المراحل التاريخية التي تمر بها الأمة في مسيرتها في الحياة، فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «تكون النبوة فيكم ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها الله إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة، فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء الله أن يرفعها، ثم تكون ملكا عاضًّا فيكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء الله أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة» (1).
إن معرفة عهد الخلافة الراشدة ومنهاج النبوة خطوة لا بد منها في تحقيق الأهداف التي
_________
(1) المسند (4/ 273)، البزار رقم (1588) رجاله ثقات.(1/5)
تسعى الأمة لتحقيقها في هذه الحياة، فقد قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي» (1).
إن تاريخ عصر الخلفاء الراشدين مليء بالدروس والعبر وهي متناثرة في بطون الكتب والمصادر والمراجع، سواء كانت تاريخية أو حديثية أو فقهية أو أدبية أو تفسيرية، فنحن في أشد الحاجة لجمعها وترتيبها وتوثيقها وتحليلها، فتاريخ الخلافة الراشدة -إذا أحسن عرضه- يغذي الأرواح ويهذب النفوس, وينور القلوب ويبني العقول، ويشحذ الهمم، ويقدم الدروس، ويسهل العِبَر، وينضج الأفكار، ويوضح معالمها، وصفات قادتها, ونظام حكمها، وأخلاق جيلها، وعوامل ازدهارها، وأسباب زوالها، فنستفيد من ذلك في إعداد الجيل المسلم الذي يتربى على منهاج النبوة وفقه الخلافة الراشدة، ونتعرف على حياة عصر من قال الله تعالى فيهم: {وَالسَّابِقُونَ الأوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة: 100].
وقال تعالى {مُحَمَّدٌ رَّسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا} [الفتح: 29].
وقال فيهم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «خير أمتي القرن الذي بعثت فيهم ... » (2).
وقال فيهم عبد الله بن مسعود: «من كان مستنًّا فليستن بمن قد مات، فإن الحي لا تؤمن عليه الفتنة, أولئك أصحاب محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، كانوا والله أفضل هذه الأمة، وأبرها قلوبا، وأعمقها علما، وأقلها تكلفا، قوم اختارهم الله لصحبة نبيه وإقامة دينه، فاعرفوا لهم فضلهم، واتبعوهم في آثارهم، وتمسكوا بما استطعتم من أخلاقهم ودينهم، فإنهم كانوا على الهدى المستقيم» (3).
فالصحابة قاموا بتطبيق أحكام الإسلام ونشروه في مشارق الأرض ومغاربها فعصرهم خير العصور، فهم الذين علموا الأمة القرآن الكريم، ورووا السنن والآثار عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فتاريخهم هو الكنز الذي حفظ مدخرات الأمة في: الفكر والثقافة والعلم والجهاد، وحركة الفتوحات، والتعامل مع الشعوب والأمم، فتجد الأجيال
_________
(1) سنن أبي داود (4/ 201)، الترمذي (5/ 44) حسن صحيح.
(2) مسلم (4/ 1963، 1964).
(3) شرح السنة للبغوي (1/ 214، 215).(1/6)
في هذا التاريخ المجيد ما يعينها على مواصلة رحلتها في الحياة على منهج صحيح، وهدى رشيد، وتعرف من خلاله حقيقة رسالتها ودورها في دنيا الناس.
إن التاريخ الإسلامي أصبح غرضا ومرمى لسهام أعداء الإسلام على مختلف مذاهبهم وعقائدهم، ويحاولون أن يوجدوا فجوة في الإسلام وتاريخه الزاهر حتى يتسنى لهم عزل الأجيال عن الإسلام وعقيدته وشريعته وقيمه وتراثه العلمي، ولذلك يبذلون قصارى جهدهم لنفث السموم في المجتمع الإسلامي.
لقد حاول المستشرقون -ومن قبلهم الروافض- أن ينشروا كل رواية باطلة تنقص من شأن الصحابة الكرام، وتطعن في تاريخ الأمة المجيد، وتصور تاريخهم بأنه صراع على السلطة والسيادة والنفوذ، ولذلك يجب الحذر من كل رافضي كاذب، ومستشرق حاقد، وعلماني جاهل, وكل من سار على نهجهم. ولا بد من الدفاع المستميت عن تاريخنا الخالد والهجوم الشجاع على مناهج الكذابين والمنحرفين، ويكون هذا الهجوم المبارك بقذائف الحق العلمية المملوءة بالحقائق الساطعة والأدلة القاطعة والبراهين الدامغة.
إن صياغة التاريخ الإسلامي بمنهج أهل السنة والجماعة ضرورة ملحة لأبناء الأمة، وقد بدأت أقلام الباحثين والكتاب تصوغ التاريخ من هذا المنظور وهم لم يبدأوا من فراغ؛ لأن الله حمى دينه وحمى أمة الإسلام فقيض لتاريخ الصحابة من يحقق وقائعه ويصحح أخباره، ويكشف الستر عن الوضاعين والكذابين من ملفقي الأخبار، ويرجع الفضل في ذلك التصحيح إلى الله ثم أهل السنة والجماعة من أئمة الفقهاء والمحدثين الذين حفلت مصادرهم بالكثير من الإشارات والروايات الصحيحة التي تنقض وترد كل ما وضعه الملفِّقون (1).
هذا وقد سرت على أصول منهج أهل السنة، فعكفت على المصادر والمراجع القديمة والحديثة, ولم أعتمد في دراسة عصر الخلفاء الراشدين على الطبري وابن الأثير والذهبي وكتب التاريخ المشهورة فقط، بل رجعت إلى كتب التفسير والحديث وشروحها، وكتب العقائد والفرق، وكتب التراجم والجرح والتعديل، وكتب الفقه، فوجدت فيها مادة تاريخية غزيرة يصعب الوقوف على حقيقتها في الكتب التاريخية المعروفة والمتداولة، وقد شرعت في هذا الكتاب بالحديث عن الخليفة الراشد عثمان بن عفان
_________
(1) المنهج الإسلامي لكتابة التاريخ، د. محمد محزون، ص 4.(1/7)
- رضي الله عنه - الذي قال فيه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «وأصدقها حياء عثمان» (1)، وقال فيه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في غزوة تبوك بعد تقديمه النفقة العظيمة: «ما ضر عثمان بعد اليوم، ما ضر عثمان بعد اليوم» (2). وقد بشره رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالجنة على بلوى تصيبه (3) , وحث الناس عند وقوع الفتنة أن يكونوا مع عثمان وأصحابه؛ فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: إني سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «إنكم تلقون بعدي فتنة واختلافا أو اختلافا وفتنة»، فقال له قائل من الناس: فمن لنا يا رسول الله؟ قال: «عليكم بالأمين وأصحابه» وهو يشير إلى عثمان (4).
وقد كان الصحابة -رضي الله عنهم- في زمن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لا يعدلون بأبي بكر أحدا، ثم عمر، ثم عثمان؛ فعن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: كنا في زمن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لا نعدل بأبي بكر أحدا، ثم عمر، ثم عثمان، ثم نترك أصحاب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لا نفاضل بينهم (5).
وقد قال فيه الشاعر النميري:
عشية يدخلون بغير إذن ... على متوكل أوفى وطابا
خليل محمد ووزير صدق ... ورابع خير من وطئ الترابا (6)
وقال فيه أبو محمد القحطاني:
لما قضى صديق أحمد نَحْبَه ... دفع الخلافة للإمام الثاني
أعنى به الفاروق عنوة ... بالسيف بين الكفر والإيمان
_________
(1) فضائل الصحابة لأبي عبد الله أحمد بن حنبل (1/ 604)، إسناده صحيح.
(2) سنن الترمذي، رقم: (3785).
(3) البخاري رقم: (3695).
(4) فضائل الصحابة (1/ 550)، إسناده صحيح.
(5) البخاري، كتاب فضائل أصحاب النبي، رقم (3698).
(6) البداية والنهاية (7/ 206).(1/8)
هو أظهر الإسلام بعد خفائه ... ومحا الظلام وباح بالكتمان
ومضى وخلى الأمر شورى بينهم ... في الأمر فاجتمعوا على عثمان
من كان يسهر ليلة في ركعة ... وترًا فيكمل ختمة القرآن
إلى أن قال:
والويل للركب الذين سعوا إلى ... عثمان فاجتمعوا على العصيان (1)
إن حياة ذي النورين عثمان بن عفان - رضي الله عنه - صفحة مشرقة في تاريخ الأمة، وقد قمت بتتبع أخباره وحياته وعصره وقمت بترتيبها وتنسيقها وتوثيقها وتحليلها؛ لكي تصبح في متناول أبناء أمتي على مختلف طبقاتهم؛ من علماء ودعاة وخطباء وساسة ومفكرين، وقادة جيوش، وحكام، وطلاب علم، وعامة الناس، لعلهم يستفيدون منها في حياتهم، ويقتدون بها في أعمالهم فيكرمهم الله بالفوز في الدارين.
لقد تحدثت في هذا الكتاب عن اسم ذي النورين ونسبه وكنيته وألقابه وأسرته, ومكانته في الجاهلية، وإسلامه وزواجه من رقية بنت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وابتلائه وهجرته للحبشة، وعن حياته مع القرآن الكريم وملازمته للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وعن مواقفه في غزوات رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وعن حياته الاجتماعية بالمدينة، ومساهمته الاقتصادية في بناء الدولة، وتتبعت أحاديث رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في ذي النورين فيما ورد في فضائله مع غيره، وما ورد عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في أخباره عن الفتنة التي يقتل فيها عثمان، وتكلمت عن مكانته في عهد الصديق والفاروق وبينت قصة استخلافه، وما قام به عبد الرحمن بن عوف من عمل عظيم في إشرافه على إدارة الشورى، ورددت على الأباطيل الرافضية التي دست في قصة الشورى، فأثبت بطلانها وزيفها بالحجج العلمية والبراهين القوية والأدلة المنطقية، وذكرت أقوال أهل العلم في أحقية عثمان بالخلافة وانعقاد الإجماع على خلافته،
_________
(1) نونية القحطاني، ص (21 - 25).(1/9)
وشرحت منهج عثمان - رضي الله عنه - في نظام الحكم من خلال رسائله للولاة وأمراء الجند وعامة الناس, ومواقفه في الحياة، فقد وضح - رضي الله عنه - المرجعية العليا للدولة، وحق الأمة في محاكمة الخليفة، وقواعد الشورى والعدل والمساواة والحريات، وأهمية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في حياة المجتمعات. وقد أشرت إلى أهم صفات عثمان - رضي الله عنه - القيادية وذكرت تسع عشرة صفة من صفاته مع المواقف الدالة على تلك الصفات الرفيعة والأخلاق الحميدة.
وتحدثت عن المؤسسة المالية فبينت معالم السياسة المالية التي أعلنها عثمان عندما تولى الحكم، وأنواع النفقات العامة في عهده؛ كصرف مرتبات الولاة والجنود، والإنفاق على الحج، وتمويل إعادة المسجد النبوي، وتوسعة المسجد الحرام، وإنشاء أول أسطول بحري، وتحويل الساحل من الشعيبة إلى جدة، وتمويل حفر الآبار، ورواتب المؤذنين، وأشرت إلى أثر تدفق الأموال على الحياة الاجتماعية والاقتصادية, وإلى حقيقة العلاقة بين عثمان وأقاربه والعطاء من بيت المال، وتكلمت عن مؤسسة القضاء وبعض الاجتهادات الفقهية لعثمان والتي أثرت في المدارس الفقهية فيما بعد، وجمعت فتوحات عثمان المتناثرة في كتب التاريخ، وقمت بترتيبها وتنظيمها وفق حركة الجيوش في المشرق، وبلاد الشام، وفي الجبهة المصرية، والشمال الأفريقي، واستخرجت من حركة الفتوح دروسا وعبرا وفوائد؛ كتحقق وعد الله للمؤمنين، وتطور فنون الحرب والسياسة، والاهتمام بحدود الدولة، والحرص على وحدة الكلمة في مواجهة العدو، وجمع المعلومات على الأعداء. وترجمت لبعض قادة الفتوح؛ كالأحنف بن قيس، وعبد الرحمن بن ربيعة الباهلي، وسلمان بن ربيعة، وحبيب بن مسلمة الفهري رضي الله عنهم.
وأشدت بأعظم مفاخر عثمان في توحيده للأمة على قراءة المصحف العثماني، ووضحت المراحل التي مرت بها كتابة القرآن الكريم، وتحدثت عن الباعث على جمع القرآن في عهده، واستشارته لجمهور الصحابة، وعن عدد المصاحف التي أرسلها إلى الأمصار، وفهم الصحابة لآيات النهي عن الاختلاف، وعن مؤسسة الولاة وأقاليم الدولة في عهده، وسياسته مع الولاة وحقوقهم وواجباتهم، وأساليبه في متابعة ولاته ومراقبتهم والاطلاع على أخبارهم، وبينت حقيقة ولاة عثمان -رضي الله عنهم- وماذا لهم وماذا عليهم، وحقيقة علاقة عثمان بأبي ذر وابن مسعود وعمار بن ياسر رضي الله عنهم جميعا. وفصلت في أسباب فتنة مقتل عثمان وأهمية دراسة وقائع هذه الفتنة، وتحدثت(1/10)
عن كل سبب من الأسباب في فقرة مستقلة؛ كالرخاء وأثره في المجتمع، وطبيعة التحول الاجتماعي، ومجيء عثمان بعد عمر رضي الله عنهما، وخروج كبار الصحابة من المدينة، والعصبية الجاهلية، وتوقف الفتوحات، والورع الجاهل، وطموح الطامحين، وتآمر الحاقدين، والتدبير المحكم لإثارة المآخذ ضد الخليفة الراشد المظلوم، واستخدام الأساليب والوسائل المهيجة للناس، وعن أثر السبئية في إحداث الفتنة، والخطوات التي اتخذها عثمان - رضي الله عنه - لمعالجتها؛ كإرسال لجان تحقيق وتفتيش، وإرساله لكل الأمصار كتابا شاملا بمثابة إعلان عام لكل المسلمين، ومشورته لولاة الأمصار وإقامة الحجة على المتمردين والاستجابة لبعض مطالبهم. وبينت ضوابط التعامل مع الفتن من خلال فقه عثمان - رضي الله عنه -؛ كالتثبت ولزوم العدل والإنصاف، والحلم والأناة، والحرص على ما يجمع ونبذ ما يفرق، ولزوم الصمت والحذر من كثرة الكلام، واستشارة العلماء الربانيين، والاسترشاد بأحاديث رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الفتن. ووصفت احتلال أهل الفتنة للمدينة، وحصارهم لعثمان ودفاع الصحابة عنه ورفضه لذلك، وذكرت مواقف الصحابة من مقتل عثمان - رضي الله عنه - وما ورد من أقوالهم في الفتنة.
وبالجملة فإن هذا الكتاب يبرهن على عظمة ذي النورين، ويثبت للقارئ الكريم بأنه كان عظيما بإيمانه وبعلمه وبخلقه وبآثاره، وكانت عظمته مستمدة من فهمه وتطبيقه للإسلام, وصلته العظيمة بالله واتباعه لهدي الرسول الكريم - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
إن عثمان - رضي الله عنه - من الأئمة الذين يتأسى الناس بهديهم وبأقوالهم وأفعالهم في هذه الحياة؛ فسيرته من أقوى مصادر الإيمان، والعاطفة الإسلامية الصحيحة والفهم السليم لهذا الدين، فلذلك اجتهدت في دراسة شخصيته وعصره حسب وسعي وطاقتي، غير مدعٍ عصمة ولا متبرئ من زلة، ووجه الله الكريم لا غيره قصدت، وثوابه أردت، وهو المسئول في المعونة عليه, (والانتفاع به)، إنه طيب الأسماء وسميع الدعاء.
هذا وقد انتهيت من هذا الكتاب الساعة الثانية من فجر يوم الأربعاء بتاريخ 8 من شهر ربيع الثاني لعام 1423هـ الموافق 18/ 6/2002م، والفضل لله من قبل ومن بعد، وأسأله سبحانه وتعالى بأسمائه الحسنى وصفاته العُلى أن يجعل عملي لوجهه خالصا،(1/11)
ولعباده نافعا، وأن يثيبني على كل حرف كتبته ويجعله في ميزان حسناتي، وأن يثيب إخواني الذين أعانوني بكل ما يملكون من أجل إتمام هذا الجهد المتواضع، ونرجو من كل مسلم يطلع على هذا الكتاب أن لا ينسى العبد الفقير إلى عفو ربه ومغفرته ورحمته ورضوانه من دعائه: {رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ} [النمل: 19].
وقال تعالى: {مَا يَفْتَحِ اللهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلاَ مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلاَ مُرْسِلَ لَهُ مِن بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [فاطر: 2]. وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
سبحانك اللهم وبحمدك
أشهد أن لا إله إلا أنت
أستغفرك وأتوب إليك
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين
الفقير إلى عفو ربه ومغفرته ورحمته ورضوانه
على محمد محمد الصلابي(1/12)
الفصل الأول
ذو النورين عثمان بن عفان - رضي الله عنه - بين مكة والمدينة
المبحث الأول
اسمه ونسبه وكنيته وألقابه وصفته
وأسرته ومكانته في الجاهلية
أولاً: اسمه ونسبه وكنيته وألقابه:
1 - هو عثمان بن عفان بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف بن قصي بن كلاب (1) , ويلتقي نسبه بنسب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في عبد مناف. وأمه أروى بنت كريز بن ربيعة بن حبيب بن عبد شمس بن عبد مناف بن قصي (2). وأمها أم حكيم البيضاء بنت عبد المطلب، وهي شقيقة عبد الله والد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ويقال: إنهما ولدا توأما (حكاه الزبير بن بكار)، فكان ابن بنت عمة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وكان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ابن خال والدته. وقد أسلمت أم عثمان وماتت في خلافة ابنها عثمان, وكان ممن حملها إلى قبرها (3)، وأما أبوه فهلك في الجاهلية.
2 - كنيته: كان يكنى في الجاهلية أبا عمرو، فلما ولد له من رقية بنت رسول الله غلام سماه عبد الله، واكتنى به، فكناه المسلمون أبا عبد الله (4).
3 - لقبه: كان عثمان - رضي الله عنه - يلقب بذي النورين، وقد ذكر بدر الدين العيني (5) في شرحه على صحيح البخاري، أنه قيل للمهلب بن أبي صفرة (6): لم قيل
_________
(1) الطبقات لابن سعد (3/ 53)، الإصابة (4/ 377) رقم (5463).
(2) التمهيد والبيان في مقتل الشهيد عثمان، محمد يحيى الأندلسي، ص19.
(3) الخلافة الراشدة والدولة الأموية، د. يحيى اليحيى، ص388.
(4) التمهيد والبيان في مقتل الشهيد عثمان، ص19.
(5) هو محمود بن أحمد بن موسى العيني، أبو محمد: من علماء التاريخ والحديث والفقه، له تآليف كثيرة، توفي 855هـ، انظر: شذرات الذهب (7/ 286)، والضوء اللامع (10/ 131).
(6) هو المهلب بن أبي صفرة الأزدي العقلي: من الأمراء الأبطال، غزا المهلب الهند في خلافة معاوية، وولي الجزيرة لابن الزبير، وحارب الخوارج في عهد عبد الملك بن مروان، ثم ولي خراسان من قبله سنة 79هـ، وترجع شهرته إلى حرب الخوارج، توفي 83هـ، انظر: وفيات الأعيان (5/ 350)، سير أعلام النبلاء (4/ 383).(1/13)
لعثمان ذو النورين؟ فقال: لأنا لا نعلم أحدا أرسل سترا على بنتي نبي غيره (1). وقال عبد الله بن عمر بن أبان الجعفي: قال لي خالي حسين الجعفي: يا بني، أتدري لِمَ سمي عثمان ذا النورين؟ قلت: لا أدري، قال: لم يجمع بين ابنتي نبي منذ خلق الله آدم إلى أن تقوم الساعة غير عثمان، فلذلك سمي ذا النورين (2). وقيل: سمي بذي النورين لأنه كان يكثر من تلاوة القرآن في كل ليلة في صلاته، فالقرآن نور وقيام الليل نور (3).
4 - ولادته: ولد في مكة بعد عام الفيل بست سنين على الصحيح (4)، وقيل: ولد في الطائف، فهو أصغر من رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بنحو خمس سنين (5).
5 - صفته الْخَلْقيَّة: كان رجلا ليس بالقصير ولا بالطويل، رقيق البشرة، كث اللحية عظيمها، عظيم الكراديس (6)، عظيم ما بين المنكبين، كثير شعر الرأس، يصفِّر لحيته. وقال الزهري: كان عثمان رجلا مربوعا، حسن الشعر، حسن الوجه، أصلع، أروح الرجلين (7) , وأقنى (8) , خدل الساقين (9) , طويل الذراعين، قد كسا ذراعيه جعد الشعر، أحسن الناس ثغرا، جُمَّته (10) أسفل من أذنيه، حسن الوجه، والراجح أنه أبيض اللون، وقد قيل:
أسمر اللون (11).
ثانيًا: أسرته:
تزوج عثمان - رضي الله عنه - ثماني زوجات كلهن بعد الإسلام وهن: رقية بنت رسول الله وقد أنجبت له عبد الله بن عثمان، ثم تزوج أم كلثوم بنت رسول الله بعد وفاة
_________
(1) عمدة القاري، شرح صحيح البخاري (16/ 201).
(2) سنن البيهقي (7/ 73)، قال الدكتور عاطف لماضة: خبر حسن.
(3) عثمان بن عفان ذو النورين، عباس العقاد، ص79.
(4) الإصابة (4/ 377)، رقم (5465).
(5) عثمان بن عفان، صادق عرجون، ص45.
(6) الكراديس: جمع كردوس، وهو كل عظمين التقيا في مفصل.
(7) تاريخ الطبري (5/ 440) أروح الرجلين: منفرج ما بينهما.
(8) أقنى: طويل الأنف مع دقة أرنبته، وحدب في وسطه.
(9) خدل الساقين: أي ضخم الساقين.
(10) جمته: مجتمع شعر الرأس.
(11) صفة الصفوة (1/ 295)، صحيح التوثيق في سيرة وحياة ذي النورين، ص15.(1/14)
رقية، وتزوج فاختة بنت غزوان، وهي أخت الأمير عتبة بن غزوان، وأنجبت لعثمان عبد الله الأصغر، وأم عمرو بنت جندب الأزدية، وقد أنجبت لعثمان عمرا وخالدا وأبان وعمر ومريم، وتزوج فاطمة بنت الوليد بن عبد شمس بن المغيرة المخزومية، وأنجبت لعثمان: الوليد وسعيدا وأم سعد، وتزوج أم البنين بنت عيينة بن حصن الفزارية، وأنجبت لعثمان: عبد الله، وتزوج رملة بنت شيبة بن ربيعة الأموية، وأنجبت لعثمان: عائشة وأم أبان وأم عمرو، وقد أسلمت رملة، وبايعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وتزوج نائلة بنت الفرافصة الكلبية، وكانت على النصرانية وقد أسلمت قبل أن يدخل بها وحسن إسلامها (1).
وأما أبناؤه فقد كانوا تسعة أبناء من الذكور من خمس زوجات وهم: عبد الله وأمه رقية بنت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ولد قبل الهجرة بعامين، وأخذته أمه معها عندما هاجرت مع زوجها عثمان إلى المدينة. وفي أوائل أيام الحياة في المدينة نقره الديك في وجهه قرب عينه، وأخذ مكان نقر الديك يتسع حتى طمر وجهه حتى مات في السنة الرابعة للهجرة، وكان عمره ست سنوات (2). وعبد الله الأصغر, وأمه فاختة بنت غزوان، وعمرو, وأمه أم عمرو بنت جندب وقد روى عن أبيه، وعن أسامة بن زيد, وروى عنه علي بن الحسين، وسعيد بن المسيب، وأبو الزنَّاد، وهو قليل الحديث، وتزوج رملة بنت معاوية بن أبي سفيان، توفي سنة ثمانين للهجرة. وخالد, وأمه أم عمرو بنت جندب. وأبان، وأمه أم عمرو بنت جندب، كان إمامًا في الفقه، يكنى أبا سعيد، تولى إمرة المدينة سبع سنين في عهد عبد الملك بن مروان، سمع أباه وزيد بن ثابت، له أحاديث قليلة، منها ما رواه عن عثمان: «من قال في أول يومه وليلته: بسم الله الذي لا يضر مع اسمه شيء في الأرض ولا في السماء وهو السميع العليم لم يضره ذلك اليوم شيء أو تلك الليلة». فلما أصاب أبان الفالج قال: إني والله نسيت هذا الدعاء ليمضي في أمر الله (3). ويعتبر من فقهاء المدينة في زمنه، وقد توفى سنة خمس ومائة (4).
وعمر، وأمه أم عمرو بنت جندب. والوليد، وأمه فاطمة بنت الوليد بن عبد شمس بن المغيرة المخزومية. وسعيد، وأمه فاطمة بنت الوليد المخزومية، تولى أمر خراسان عام ستة
_________
(1) تاريخ الطبري (5/ 441) التمهيد والبيان في مقتل الشهيد عثمان، ص19، الأمين ذو النورين، محمود شاكر، ص364.
(2) الأمين ذو النورين، محمود شاكر، ص365، التمهيد والبيان في مقتل الشهيد عثمان، ص19.
(3) سنن الترمذي، كتاب الدعوات رقم (3385)، حديث صحيح.
(4) سير أعلام النبلاء (4/ 253) , تاريخ القضاعي، ص308.(1/15)
وخمسين أيام معاوية بن أبي سفيان. وعبد الملك، وأمه أم البنين بنت عيينة بن حصن، ومات صغيرا، ويقال: ولدت نائلة بنت الفرافصة ولدا لعثمان سمى عنبسة (1).
وأما بناته، فهن سبع من خمس نساء، منهن: مريم وأمها أم عمرو بنت جندب. وأم سعيد، وأمها فاطمة بنت الوليد بن عبد شمس المخزومية. وعائشة، وأمها رملة بنت شيبة بن ربيعة. ومريم بنت عثمان، وأمها نائلة بنت الفرافصة. وأم البنين، وأمها أم (2) ولد.
وأما شقيقة عثمان، فهي آمنة بنت عفان، فقد عملت ماشطة في الجاهلية، ثم تزوجت الحكم بن كيسان مولى هشام بن المغيرة المخزومي، وأسرت سرية عبد الله بن جحش الحكم بن كيسان، وفي المدينة أسلم وحسن إسلامه، وأقام عند رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، حتى قتل يوم بئر معونة شهيدا في بداية السنة الرابعة للهجرة، وبقيت آمنة بنت عفان في مكة على شركها حتى يوم الفتح؛ حيث أسلمت مع أمها وبقية أخواتها، وبايعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مع هند بنت عتبة امرأة أبي سفيان على أن لا يشركن بالله شيئا، ولا يسرقن ولا يزنين (3).
وأما إخوة عثمان من أمه فله ثلاثة إخوة وهم: الوليد بن عقبة بن أبي معيط، قتل أبوه يوم بدر صبرا وهو كافر، وخرج الوليد مع أخيه عمارة بعد الحديبية لرد أختهما أم كلثوم التي أسلمت وهاجرت، فأبى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ردها، أسلم يوم الفتح. ومن إخوة عثمان لأمه عمارة بن عقبة، تأخر إسلامه، وخالد بن عقبة. وأما أخواته من أمه فهن: أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط، أسلمت بمكة، وهاجرت وبايعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهي أول من هاجر من النساء بعد أن عاد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى المدينة بعد صلح الحديبية. ومن أخوات عثمان لأمه: أم حكيم بنت عقبة، وهند بنت عقبة (4).
ثالثًا: مكانته في الجاهلية:
كان - رضي الله عنه - في أيام الجاهلية من أفضل الناس في قومه؛ فهو عريض الجاه ثري، شديد الحياء، عذب الكلمات، فكان قومه يحبونه أشد الحب ويوقرونه. لم يسجد في الجاهلية لصنم قط ولم يقترف فاحشة قط، فلم يشرب خمرا قبل الإسلام وكان يقول: إنها تُذْهب العقل والعقل أسمى ما منحه الله للإنسان، وعلى الإنسان أن يسمو به، لا أن يصارعه. وفي الجاهلية كذلك لم تجذبه أغاني الشباب ولا حلقات اللهو، ثم إن
_________
(1) الأمين ذو النورين، محمود شاكر، ص369.
(2) التمهيد والبيان في مقتل الشهيد عثمان، ص20.
(3) الأمين ذو النورين، محمود شاكر، ص346.
(4) المصدر السابق، ص354.(1/16)
عثمان كان يتعفف عن أن يرى عورة (1). ويرحم الله عثمان - رضي الله عنه - فقد يسر لنا سبيل التعرف عليه؛ حيث قال: ما تغنيت، ولا تمنيت، و لا مسست ذكري بيمني منذ بايعت بها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ولا شربت خمرًا في جاهلية ولا إسلام، ولا زنيت في جاهلية ولا في إسلام (2). وكان - رضي الله عنه - على علم بمعارف العرب في الجاهلية ومنها الأنساب والأمثال وأخبار الأيام، وساح في الأرض فرحل إلى الشام والحبشة، وعاشر أقواما غير العرب فعرف من أحوالهم وأطوارهم ما ليس يعرفه غيره (3). واهتم بتجارته التي ورثها عن والده، ونمت ثرواته, وأصبح يعد من رجالات بني أمية الذين لهم مكانة في قريش كلها، فقد كان المجتمع المكي الجاهلي الذي عاش فيه عثمان يقدر الرجال حسب أموالهم، ويهاب فيه الرجال حسب أولادهم وإخوتهم ثم عشيرتهم وقومهم، فنال عثمان مكانة مرموقة في قومه، ومحبة كبيرة.
ومن أطرف ما يروى عن حب الناس لعثمان لما تَجَمَّع فيه من صفات الخير أن المرأة العربية في عصره كانت تغني لطفلها أغنية تحمل تقدير الناس له وثناءهم عليه، فقد كانت تقول:
أحبك والرحمن ... حبَّ قريش لعثمان (4)
رابعًا: إسلامه:
كان عثمان قد ناهز الرابعة والثلاثين من عمره حين دعاه أبو بكر الصديق إلى الإسلام، ولم يعرف عنه تكلؤ أو تلعثم بل كان سباقا أجاب على الفور دعوة الصديق، فكان بذلك من السابقين الأولين حتى قال أبو إسحاق: كان أول الناس إسلاما بعد أبى بكر وعلي وزيد بن حارثة عثمان (5). فكان بذلك رابع من أسلم من الرجال، ولعل سبقه هذا إلى الإسلام كان نتيجة لما حدث له عند عودته من الشام، وقد قصه - رضي الله عنه - على رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حين دخل عليه هو وطلحة بن عبيد الله، فعرض عليهما الإسلام وقرأ عليهما القرآن، وأنبأهما بحقوق الإسلام ووعدهما الكرامة من الله فآمنا وصدقا، فقال عثمان: يا رسول الله، قدمت حديثا من الشام، فلما كنا بين معان والزرقاء فنحن كالنيام
_________
(1) موسوعة التاريخ الإسلامي، أحمد شلبي، (1/ 618).
(2) حلية الأولياء (1/ 60، 61) الخبر صحيح.
(3) عبقرية عثمان للعقاد، ص72.
(4) موسوعة التاريخ الإسلامي، (1/ 618).
(5) السيرة النبوية لابن هشام، (1/ 287 - 289).(1/17)
فإذا منادٍ ينادينا: أيها النيام هبوا، فإن أحمد قد خرج بمكة، فقدمنا فسمعنا بك (1).
لا شك أن هذه الحادثة تترك في نفس صاحبها أثرًا إيجابيًا لا يستطيع أن يتخلى عنه، عندما يرى الحقيقة ماثلة بين عينيه، فمن ذا الذي يسمع بخروج النبي قبل أن يصل إلى البلد الذي يعيش فيه، حتى إذا نزله ووجد الأحداث والحقائق تنطق كلها بصدق ما سمع به ثم يتردد في إجابة الدعوة؟ لا يستطيع الإنسان مهما كان مكابرا إلا أن يذعن للحق، ومهما أظهر الجفاء فإن ضميره لا يزال يتلجلج في صدره حتى يؤمن به أو يموت، فيتخلص من وخز الضمير وتأنيبه, ولم تكن سرعة تلبيته عن طيش أو حمق، ولكنها كانت عن يقين راسخ وتصديق لا يتطرق إليه شك (2). فقد تأمل في هذه الدعوة الجديدة بهدوء كعادته في معالجة الأمور، فوجد أنها دعوة إلى الفضيلة، ونبذ الرذيلة، دعوة إلى التوحيد وتحذير من الشرك، دعوة إلى العبادة وترهيب من الغفلة، ودعوة إلى الأخلاق الفاضلة، وترهيب من الأخلاق السيئة، ثم نظر إلى قومه، فإذا هم يعبدون الأوثان، ويأكلون الميتة، ويسيئون الجوار، ويستحلون المحارم من سفك الدماء وغيرها (3). وإذا بالنبي محمد بن عبد الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صادق أمين يعرف عنه كل خير, ولا يعرف عنه شر قط، فلم تعهد عليه كذبة ولم تحسب عليه خيانة، فإذا هو يدعو إلى عبادة الله وحده لا شريك له وإلى صلة الرحم، وحسن الجوار، والصلاة والصوم, وألا يعبد غير الله (4) , فأسلموا على يد أبي بكر الصديق، ومضى في إيمانه قُدُمًا قويا هاديا، وديعا صابرا, عظيما راضيا، عفوا كريما، محسنا رحيما، سخيًّا باذلا، يواسي المؤمنين، ويعين المستضعفين، حتى اشتدت قناة الإسلام (5).
وفي إسلام عثمان قالت خالته سعدى بنت كريز:
هدى الله عثمانا بقولي إلى الهدى ... وأرشده والله يهدي إلى الحق
فتابع بالرأي السديد محمدا ... وكان برأي لا يصد عن الصدق
_________
(1) الطبقات لابن سعد، (3/ 55).
(2) جولة تاريخية في عصر الخلفاء الراشدين، ص302.
(3) انظر: مرويات العهد المكي، عادل عبد الغفور، (2/ 805).
(4) فتنة مقتل عثمان، د. محمد عبد الله الغبان (1/ 37).
(5) عثمان بن عفان، صادق عرجون، ص53.(1/18)
وأنكحه المبعوث بالحق بنته ... فكان كبَدْر مَازَجَ الشمس في الأفق
فداؤك يا ابن الهاشميين مهجتي ... وأنت أمين الله أرسلت للخلق (1)
خامسًا: زواجه من رقية بنت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:
فرح المسلمون بإسلام عثمان فرحًا شديدًا، وتوثقت بينه وبينهم عرى المحبة وأخوة الإيمان، وأكرمه الله تعالى بالزواج من بنت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رقية، وقصة ذلك أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان قد زوجها من عتبة بن أبي لهب، وزوج أختها أم كلثوم عتيبة بن أبي لهب، فلما نزلت سورة المسد {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ - مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ - سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ - وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ - فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِّن مَّسَدٍ} [المسد: 1 - 5]. قال لهما أبو لهب وأمهما أم جميل بنت حرب بن أمية {حَمَّالَةَ الْحَطَبِ} فارقا ابنتي محمد، ففارقاهما قبل أن يدخلا بهما كرامة من الله تعالى لهما، وهوانًا لابني أبي لهب (2) , وما كاد عثمان بن عفان - رضي الله عنه - يسمع بخبر طلاق رقية حتى استطار (3) فرحا، وبادر فخطبها من رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فزوجها الرسول الكريم - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - منه، وزفتها (4) أم المؤمنين خديجة بنت خويلد، وقد كان عثمان من أبهى قريش طلعة، وكانت هي تضاهيه قسامة وصباحة، فكان يقال لها حين زفت إليه:
أحسن زوجين رآهما إنسان ... رقية، وزوجها عثمان (5)
وعن عبد الرحمن بن عثمان القرشي: أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دخل على ابنته وهي تغسل رأس عثمان، فقال: «يا بنية أحسني إلى أبي عبد الله، فإنه أشبه أصحابي بي خُلُقًا» (6).
_________
(1) البداية والنهاية (7/ 210).
(2) ذو النورين عثمان بن عفان، محمد رشيد رضا، ص12.
(3) كاد يطير من شدة الفرح.
(4) زفتها: قدمتها إلى زوجها.
(5) أنساب الأشراف، ص89.
(6) رواه الطبراني ورجاله ثقات، قاله الهيثمي، المجمع رقم: (14500).(1/19)
ظنت أم جميل بنت حرب وزوجها أبو لهب أنهما بتسريح رقية وأم كلثوم -رضي الله عنهما- سيصيبان من البيت المحمدي مقتلا أو سيوهنانه، ولكن الله -عز وجل- اختار لرقية وأم كلثوم الخير، وباءت أم جميل وأبو لهب بغيظهما لم ينالا خيرا, وكفى الله البيت النبوي شرهما، وكان أمر الله قدرا مقدورا (1).
سادسًا: ابتلاؤه وهجرته إلى الحبشة:
إن سنة الابتلاء ماضية في الأفراد والجماعات والشعوب والأمم والدول، وقد مضت هذه السنة في الصحابة الكرام، وتحملوا من البلاء ما تنوء به الرواسي الشامخات، وبذلوا أموالهم ودماءهم في سبيل الله، وبلغ بهم الجهد ما شاء الله أن يبلغ، ولم يسلم أشراف المسلمين من هذا الابتلاء، فقد أوذي عثمان وعُذب في سبيل الله تعالى على يد عمه الحكم ابن أبي العاص بن أمية الذي أخذه فأوثقه رباطا وقال: أترغب عن ملة آبائك إلى دين محدث؟ والله لا أحلُّك أبدا حتى تدع ما أنت عليه من هذا الدين، فقال عثمان - رضي الله عنه -: والله لا أدعه أبدا ولا أفارقه، فلما رأى الحكم صلابته في دينه تركه (2).
واشتد الإيذاء بالمسلمين جميعا، و تجاوز الحد حيث قتل ياسر وزوجته سمية، والنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يتألم أشد الألم، إلى أين يذهب المسلمون؟ ثم اهتدى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى الحبشة حيث قال للمسلمين: «لو خرجتم إلى الحبشة، فإن بها ملكا صالحا لا يُظْلم عنده أحد» (3). وبدأت الهجرة والنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يتألم، وهو يرى الفئة المؤمنة تتسلل سرًّا (4) خارجة من مكة، ويركبون البحر، وخرج يمتطي بعضهم الدواب، والبعض الآخر يسير على الأقدام، وتابعوا السير حتى وصلوا ساحل البحر الأحمر، ثم أمَّروا عليهم عثمان بن مظعون، وشاءت عناية الله أن يجدوا سفينتين، فركبوا مقابل نصف دينار لكل منهم، وعلمت قريش فأسرعت في تعقبهم إلى الساحل ولكنهم كانوا قد أبحرت بهم السفينتان (5). وكان ممن هاجر إلى أرض الحبشة الهجرة الأولى والهجرة الثانية عثمان بن عفان ومعه فيهما امرأته رقية بنت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وكان وصولهم للحبشة في شهر رجب من السنة الخامسة من البعثة، فوجدوا الأمن والأمان وحرية العبادة، وقد تحدث
_________
(1) دماء على قميص عثمان، د. إبراهيم المنتاوي، ص84.
(2) التمهيد والبيان في مقتل الشهيد عثمان، ص22.
(3) الهجرة في القرآن الكريم، ص290، السيرة النبوية لابن هشام، (1/ 413).
(4) دماء على قميص عثمان، ص15، الطبقات (1/ 204).
(5) الطبقات (1/ 204)، تاريخ الطبري (2/ 69).(1/20)
القرآن الكريم عن هجرة المسلمين الأوائل إلى أرض الحبشة، قال تعالى: {وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلأَجْرُ الآَخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [النحل:41]. وقد نقل القرطبي -رحمه الله- قول قتادة رحمه الله: المراد أصحاب محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ظلمهم المشركون بمكة وأخرجوهم حتى لحق طائفة منهم بالحبشة، ثم بوأهم الله تعالى دار الهجرة، وجعل لهم أنصارا من المؤمنين (1).
وقال تعالى: {قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر: 10]. قال ابن عباس -رضي الله عنهما-: يريد جعفر بن أبي طالب والذين خرجوا معه إلى الحبشة (2). وقد استفاد عثمان - رضي الله عنه - من هذه الهجرة وأضاف خبرة ودروسا لنفسه استفاد منها في مسيرته الميمونة، ومن أهم هذه الدروس والعبر:
1 - أن ثبات المؤمنين على عقيدتهم بعد أن ينزل بهم الأشرار والضالون أنواع العذاب والاضطهاد، دليل على صدق إيمانهم وإخلاصهم في معتقداتهم، وسمو نفوسهم وأرواحهم، بحيث يرون ما هم عليه من راحة الضمير واطمئنان النفس والعقل، وما يأملونه من رضا الله -جل شأنه- أعظم بكثير مما ينال أجسادهم من تعذيب وحرمان واضطهاد؛ لأن السيطرة في المؤمنين الصادقين والدعاة المخلصين تكون دائما وأبدا لأرواحهم لا لأجسادهم، وهم يسرعون إلى تلبية مطلب أرواحهم من حيث لا يبالون بما تتطلبه أجسامهم من راحة وشبع ولذة، وبهذا تنتصر الدعوات وبهذا تتحرر الجماهير من الظلمات والجهالات (3).
2 - وقد تعلم عثمان - رضي الله عنه - من هدي النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الشفقة على الأمة، وظهرت هذه الشفقة لما تولى الخلافة وقبلها لَمَّا كان في المجتمع المدني في عهد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأبي بكر وعمر رضي الله عنهم، فقد رأى بعينه وبصيرة قلبه شفقة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على أصحابه، ورحمته بهم، وحرصه الشديد للبحث عن أمنهم وراحتهم، ولذلك أشار عليهم بالذهاب إلى الملك العادل الذي لا يظلم عنده أحد، فكان الأمر كما قال
_________
(1) الجامع لأحكام القرآن للقرطبي (10/ 107).
(2) المصدر نفسه (15/ 240).
(3) السيرة النبوية للدكتور مصطفى السباعي، ص57.(1/21)
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأمنوا في دينهم ونزلوا عنده في خير منزل (1). فالرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هو الذي وجه الأنظار إلى الحبشة، وهو الذي اختار المكان الآمن لجماعته ودعوته كي يحميها من الإبادة، وهذه تربية نبوية لقيادات المسلمين في كل عصر أن تخطط بحكمة وبعد نظر لحماية الدعوة والدعاة، وتبحث عن الأرض الآمنة التي تكون عاصمة احتياطية للدعوة، ومركزا من مراكز انطلاقها فيما لو تعرض المركز الرئيسي للخطر، أو وقع احتمال اجتياحه، فجنود الدعوة هم الثروة الحقيقية، وهم الذين تنصب الجهود كلها لحفظهم وحمايتهم، دون أن يتم أي تفريط بأرواحهم وأمنهم، ومسلم واحد يعادل ما على الأرض من بشر خارجين عن دين الله وتوحيده (2).
3 - وتعلم عثمان - رضي الله عنه - من هدي النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في هجرة الحبشة أن الأخطار لا بد أن يتجشمها المقربون إلى القائد وأهله ورَحِمه، أما أن يكون خواص القائد في منأى عن الخطر، ويدفع إليه الأبعدون غير ذوي المكانة، فهو منهج بعيد عن نهج النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (3). ولهذا لما تولى ذو النورين الخلافة كان أقرباؤه في مقدمة الجيوش، فهذا عبد الله بن أبي سرح في فتوحات أفريقية، وذاك عبد الله بن عامر في فتوحات المشرق، وألزم معاوية أن يركب البحر ومعه زوجته وأن يكون في مقدمة الجيوش الغازية، وسيأتي تفصيل ذلك -بإذن الله- عند حديثنا عن الفتوحات.
4 - كان عثمان - رضي الله عنه - أول من هاجر إلى الحبشة بأهله من هذه الأمة (4) , قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «صحبهما الله، إن عثمان لأول من هاجر إلى الله بأهله بعد لوط» (5).
ولما أشيع أن أهل مكة قد أسلموا، وبلغ ذلك مهاجري الحبشة أقبلوا، حتى إذا دنوا من مكة بلغهم أن ما كانوا تحدثوا به من إسلام أهل مكة كان باطلا، فدخلوا في جوار بعض أهل مكة، وكان فيمن رجع عثمان بن عفان وزوجه رقية رضي الله عنهما (6). واستقر المقام به حتى أذن الله بالهجرة إلى المدينة، ومنذ اليوم الذي أسلم فيه عثمان لزم
_________
(1) الهجرة في القرآن الكريم، ص312.
(2) التربية القيادية، منير الغضبان (1/ 333).
(3) المصدر نفسه، السيرة النبوية للصلابي، (1/ 348).
(4) الصواعق المرسلة (1/ 314).
(5) المعرفة والتاريخ (3/ 268) ضعيف الإسناد.
(6) السيرة النبوية لابن هشام (1/ 402).(1/22)
النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حيث كان، ولم يفارقه إلا للهجرة بإذنه، أو في مهمة من المهام التي يندب لها ولا يغني أحد فيها غناءه، شأنه في هذه الملازمة شأن الخلفاء الراشدين جميعا، كأنما هي خاصة من خواصهم رشحهم لها من رشحهم بعد ذلك للخلافة متعاقبين (1). لقد كان ذو النورين على صلة وثيقة بالدعوة الكبرى منذ سنتها الأولى، فلم يفته شيء من أخبار النبوة الخاصة والعامة في حياة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ولم يفته شيء بعدها من أخبار الخلافة في حياة الشيخين، ولم يفته بعبارة أخرى شيء مما نسميه اليوم بأعمال التأسيس في الدولة الإسلامية (2).
* * *
_________
(1) عثمان بن عفان، ص 80.
(2) المصدر نفسه، ص 78.(1/23)
المبحث الثاني
حياة عثمان - رضي الله عنه - مع القرآن الكريم
كان المنهج التربوي الذي تربى عليه عثمان بن عفان وكل الصحابة الكرام هو القرآن الكريم، المنزل من عند رب العالمين، فهو المصدر الوحيد للتلقي، فقد حرص الحبيب المصطفى على توحيد مصدر التلقي وتفرده، وأن يكون القرآن الكريم وحده هو المنهج الذي يتربى عليه الفرد المسلم والأسرة المسلمة والجماعة المسلمة، فكانت الآيات الكريمة التي سمعها عثمان - رضي الله عنه - من رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مباشرة لها أثرها في صياغة شخصية ذي النورين الإسلامية؛ فقد طهرت قلبه، وزكت نفسه، وتفاعلت معها روحه؛ فتحول إلى إنسان جديد بقيمه ومشاعره وأهدافه وسلوكه وتطلعاته (1).
وقد تعلق عثمان - رضي الله عنه - بالقرآن الكريم، وحدثنا أبو عبد الرحمن السلمي كيف تعلمه من رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وله أقوال تدل على حبه الشديد للعيش مع كتاب الله تعالى؛ فعن أبي عبد الرحمن السلمي قال: حدثنا الذين كانوا يقرئوننا القرآن -كعثمان بن عفان، وعبد الله بن مسعود وغيرهما- أنهم كانوا إذا تعلموا من النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عشر آيات لم يتجاوزوها حتى يتعلموا ما فيها من العلم والعمل، قالوا: فتعلمنا القرآن والعلم والعمل جميعا، ولهذا كانوا يبقون مدة في حفظ السورة (2) , وذلك أن الله تعالى قال: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الألْبَابِ} [ص: 29] وقد روى عثمان - رضي الله عنه - عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قوله: «خيركم من تعلم القرآن وعلمه» (3). وقد عرض القرآن الكريم كاملا على رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قبل وفاته. ومن أشهر تلاميذ عثمان في تعلم القرآن الكريم أبو عبد الرحمن السلمي، والمغيرة بن أبي شهاب وأبو الأسود، وزر بن حبيش (4). وقد حفظ لنا التاريخ بعض أقوال عثمان - رضي الله عنه - في القرآن الكريم
_________
(1) السيرة النبوية للصلابي (1/ 145).
(2) الفتاوى (13/ 177).
(3) البخاري، فضائل القرآن، رقم: (5027)
(4) تاريخ الإسلام، عهد الخلفاء الراشدين للذهبي، ص 467.(1/24)
حيث قال: لو طهرت قلوبنا لما شبعت من كلام الله عز وجل (1). وقال: إني لأكره أن يأتي عليَّ يوم لا أنظر فيه إلى عهد الله (2) (يعني المصحف). وقال: حُبب إليَّ من الدنيا ثلاث: إشباع الجيعان، وكسوة العريان، وتلاوة القرآن (3).
وقال: أربعة ظاهرهن فضيلة وباطنهن فريضة: مخالطة الصالحين فضيلة والاقتداء بهم فريضة، وتلاوة القرآن فضيلة والعمل به فريضة، وزيارة القبور فضيلة والاستعداد للموت فريضة، وعيادة المريض فضيلة واتخاذ الوصية منه فريضة (4). وقال - رضي الله عنه -: أضيع الأشياء عشرة: عالم لا يُسْأل عنه، وعلم لا يعمل به، ورأي صواب لا يقبل، وسلاح لا يستعمل، ومسجد لا يصلى فيه، ومصحف لا يقرأ فيه، ومال لا ينفق منه، وخيل لا تُرْكب، وعلم الزهد في بطن من يريد الدنيا، وعمر طويل لا يتزود صاحبه فيه لسفره (5). وكان - رضي الله عنه - حافظا لكتاب الله، وكان حجره لا يكاد يفارق المصحف، فقيل له في ذلك فقال: إنه مبارك جاء به مبارك (6). وما مات عثمان حتى خرق مصحفه من كثرة ما يديم (7) النظر فيه. وقالت امرأة عثمان يوم الدار: اقتلوه أو دعوه، فوالله لقد كان يحيي الليل بالقرآن في ركعة (8) , وقد ذكر عنه أنه قرأ القرآن ليلة في ركعة لم يصل غيرها (9) , وقد تحقق فيه قول الله تعالى: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا
يَحْذَرُ الآَخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الألْبَابِ} [الزمر: 9].
لقد تشرب عثمان - رضي الله عنه - بالمنهج القرآني وتتلمذ على يدي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وعرف من خلال القرآن الكريم من هو الإله الذي يجب أن يعبده، وكان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يغرس في نفسه معاني تلك الآيات العظيمة، فقد حرص - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يربي أصحابه على التصور الصحيح عن ربهم وعن حقه عليهم، مدركا أن هذا التصور سيورث التصديق واليقين عندما تصفى النفوس وتستقيم الفطرة، فأصبحت نظرة ذي النورين إلى الله عز وجل،
_________
(1) الفتاوى (11/ 122)، البداية والنهاية (7/ 225).
(2) البداية والنهاية (7/ 225)، فرائد الكلام، ص 275.
(3) إرشاد العباد للاستعداد ليوم المعاد، ص 88.
(4) المصدر نفسه، ص90، فرائد الكلام، ص278.
(5) إرشاد العباد، ص91، فرائد الكلام، ص278.
(6) البيان والتبيان في مقتل الشهيد عثمان، (3/ 177)، فرائد الكلام، ص273.
(7) يديم: يطيل، البداية والنهاية (7/ 225).
(8) البداية والنهاية (7/ 225).
(9) الخلافة الراشدة والدولة الأموية، ص397.(1/25)
والكون والحياة والجنة والنار، والقضاء والقدر، وحقيقة الإنسان، وصراعه مع الشيطان مستمدة من القرآن الكريم وهدي النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
فالله -سبحانه وتعالى- منزه عن النقائص، موصوف بالكمالات التي لا تتناهى، فهو سبحانه (واحد لا شريك له، ولم يتخذ صاحبة ولا ولدا). وأنه سبحانه حدد مضمون هذه العبودية وهذا التوحيد في القرآن الكريم، (1) وأما نظرته للكون فقد استمدها من قول الله تعالى: {قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ - وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِن فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِّلسَّائِلِينَ - ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ - فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} [فصلت: 9 - 12]. وأما هذه الحياة مهما طالت فهي إلى زوال وأن متاعها مهما عظم فإنه قليل حقير، قال تعالى: {إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالأنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِالأمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [يونس: 24].
وأما نظرته إلى الجنة، فقد استمدها من خلال الآيات الكريمة، فأصبح هذا التصور رادعًا في حياته عن أي انحراف عن شريعة الله، فيرى المتتبع لسيرة ذي النورين عمق استيعابه لفقه القدوم على الله عز وجل، وشدة خوفه من عذاب الله وعقابه، وسنرى ذلك في صفحات هذا البحث بإذن الله تعالى.
وأما مفهوم القضاء والقدر فقد استمده من كتاب الله وتعليم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - له، فقد رسخ مفهوم القضاء والقدر في قلبه، واستوعب مراتبه في كتاب الله تعالى، فكان على يقين بأن علم الله محيط بكل شيء: {وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِن قُرْآنٍ وَلاَ تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبِّكَ مِن مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاءِ وَلاَ أَصْغَرَ مِن ذَلِكَ وَلاَ أَكْبَرَ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ} [يونس: 61].
وأن الله تعالى قد
_________
(1) منهج الرسول في غرس الروح الجهادية، ص 10 - 16.(1/26)
كتب كل شيء كائن: {إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُّبِينٍ} [يس: 12]. وأن مشيئة الله نافذة وقدرته تامة: {أَوَ لَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَكَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَمَا كَانَ اللهُ لِيُعْجِزَهُ مِن شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلاَ فِي الأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا} [فاطر: 44]. وأن الله خالق لكل شيء {ذَلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ} [الأنعام: 102].
وقد ترتب على الفهم الصحيح والاعتقاد الراسخ في قلبه لحقيقة القضاء والقدر ثمار نافعة ومفيدة، ظهرت في حياته، وسنراها -بإذن الله تعالى- في هذا الكتاب. وعرف من خلال القرآن الكريم حقيقة نفسه وبني الإنسان, وأن حقيقة خلقه ترجع إلى أصلين: الأصل البعيد وهو الخلقة الأولى من طين، حين سواه ونفخ فيه الروح، والأصل القريب وهو خلقه من نطفة، قال تعالى: {الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الإِنْسَانِ مِن طِينٍ - ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِن سُلاَلَةٍ مِّن مَّاءٍ مَّهِينٍ - ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِن رُّوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ} [السجدة: 7 - 9].
وعرف أن هذا الإنسان خلقه الله بيده وأكرمه بالصورة الحسنة والقامة المعتدلة، ومنحه العقل والنطق والتمييز، وسخر له ما في السموات والأرض وفضله على كثير من خلقه، وكرمه بإرسال الرسل له. وإن من أروع مظاهر تكريم المولى -عز وجل- للإنسان أن جعله أهلا لحبه ورضاه، ويكون ذلك باتباع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الذي دعا الناس إلى الإسلام لكي يحيوا حياة طيبة في الدنيا ويظفروا بالنعيم المقيم في الآخرة، قال تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النحل: 97].
وعرف عثمان - رضي الله عنه - من خلال القرآن الكريم حقيقة الصراع بين الإنسان والشيطان، وأن هذا العدو يأتي للإنسان من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله يوسوس له بالمعصية ويستثير فيه كوامن الشهوات، فكان مستعينا بالله على عدوه إبليس وانتصر عليه في حياته، وتعلم من قصة آدم مع الشيطان في القرآن الكريم أن آدم هو أصل البشر، وجوهر الإسلام الطاعة المطلقة لله، وأن الإنسان له قابلية للوقوع في الخطيئة, وتعلم من خطيئة آدم ضرورة توكل المسلم على ربه وأهمية التوبة والاستغفار في حياة المؤمن، وضرورة الاحتراز من الحسد والكبر، وأهمية التخاطب بأحسن الكلام مع(1/27)
الصحابة؛ لقول الله تعالى: {وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلإِنْسَانِ عَدُوًّا مُّبِينًا} [الإسراء: 53].
لقد أكرم المولى -عز وجل- عثمان بن عفان - رضي الله عنه - بالإسلام، فعاش به وجاهد به من أجل نشره، واستمد أصوله وفروعه من كتاب الله وهدي النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وأصبح من أئمة الهدى الذين يرسمون للناس خط سيرهم ويتأسى الناس بأقوالهم وأفعالهم في هذه الحياة، ولا ننسى أن عثمان بن عفان كان من كُتَّاب الوحي لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (1).
* * *
_________
(1) السياسة المالية لعثمان، ص22، التبيين في أنساب القرشيين، ص94.(1/28)
المبحث الثالث
ملازمته للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في المدينة
إن الرافد القوي الذي أثر في شخصية عثمان - رضي الله عنه - وصقل مواهبه وفجر طاقته، وهذب نفسه هو مصاحبته لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وتتلمذه على يديه في مدرسة النبوة، ذلك أن عثمان - رضي الله عنه - لازم الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في مكة بعد إسلامه كما لازمه في المدينة بعد هجرته؛ فقد نظم عثمان نفسه, وحرص على التلمذة في حلقات مدرسة النبوة في فروع شتى من المعارف والعلوم على يدي معلم البشرية وهاديها الذي أدبه ربه فأحسن تأديبه، فحرص على تعلم القرآن الكريم والسنة المطهرة من سيد الخلق أجمعين.
وهذا عثمان يحدثنا عن ملازمته لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيقول: إن الله -عز وجل- بعث محمدا بالحق وأنزل عليه الكتاب، فكنت ممن استجاب لله ولرسوله وآمن، فهاجرت الهجرتين الأوليين، ونلت صهر رسول الله، ورأيت هديه (1). لقد تربى عثمان - رضي الله عنه - على المنهج القرآني، وكان المربي له رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وكانت نقطة البدء في تربية عثمان هي لقاءه برسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فحدث له تحول غريب واهتداء مفاجئ بمجرد اتصاله بالنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فخرج من دائرة الظلام إلى دائرة النور، واكتسب الإيمان وطرح الكفر، وقوى على تحمل الشدائد والمصائب في سبيل الإسلام وعقيدته السمحة. كانت شخصية رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تملك قوى الجذب والتأثير على الآخرين، فقد صنعه الله على عينه، وجعله أكمل صورة لبشر في تاريخ الأرض، والعظمة دائما تحب وتحاط من الناس بالإعجاب، ويلتف حولها المعجبون ويلتصقون بها التصاقا بدافع الإعجاب والحب، ولكن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يضيف إلى عظمته تلك أنه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - متلقي الوحي من الله، ومبلغه إلى الناس، وذلك بُعْد آخر له أثره في تكييف مشاعر ذلك المؤمن تجاهه، فهو لا يحبه لذاته فقط كما يحب العظماء من الناس، ولكن أيضا لتلك النفخة الربانية التي تشمله من عند الله، فهو معه في حضرة الوحي الإلهي المكرم، ومن ثم يلتقي في شخص الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - البشر العظيم والرسول العظيم، ثم يصبحان شيئا واحدا في النهاية، غير متميز البداية ولا النهاية، حب عميق شامل للرسول البشر أو للبشر
_________
(1) فضائل الصحابة لأبي عبد الله أحمد بن حنبل (1/ 597)، إسناده صحيح.(1/29)
الرسول، ويرتبط حب الله بحب رسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - , ويمتزجان في نفسه فيصبحان في مشاعره هما نقطة ارتكاز المشاعر كلها، ومحور الحركة الشعورية والسلوكية كلها كذلك.
كان هذا الحب الذي حرك الرعيل الأول من الصحابة هو مفتاح التربية الإسلامية ونقطة ارتكازها ومنطقها الذي تنطلق منه (1). لقد حصل لعثمان - رضي الله عنه - وللصحابة ببركة صحبتهم لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وتربيتهم على يديه أحوال إيمانية عالية، ولقد تتلمذ عثمان - رضي الله عنه - على يدي رسول الله، فتعلم منه القرآن الكريم والسنة النبوية، وأحكام التلاوة وتزكية النفوس، قال تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللهِ فَإِن تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 64].
وحرص على التبحر في الهدي النبوي الكريم خلال ملازمته رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في غزواته وسِلْمه، وقد أمدته تلك المعايشة بخبرة ودربة ودراية بشئون الحرب ومعرفة بطبائع النفوس وغرائزها، وفي الصفحات القادمة سنبين -بإذن الله تعالى- مواقفه في الميادين الجهادية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في العهد المدني.
أولاً: عثمان - رضي الله عنه - في ميادين الجهاد مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:
شرع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعد استقراره بالمدينة في تثبيت دعائم الدولة الإسلامية، فآخى بين المهاجرين والأنصار، فكل مهاجري يتخذ أخًا له من الأنصار، فكان نصيب عثمان بن عفان في المؤاخاة أوس بن ثابت، (2) ثم أقام النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - المسجد، وأبرم المعاهدة مع اليهود، وبدأت حركة السرايا، واهتم بالبناء الاقتصادي والتعليمي والتربوي في المجتمع الجديد. وكان عثمان - رضي الله عنه - من أعمدة الدولة الإسلامية، فلم يبخل بمشورة أو مال أو رأي، وشهد المشاهد كلها إلا غزوة بدر (3).
1 - عثمان وغزوة بدر:
لما خرج المسلمون لغزوة بدر كانت زوجة عثمان السيدة رقية بنت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مريضة بمرض الحصبة ولزمت الفراش، في الوقت الذي دعا فيه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - للخروج
_________
(1) منهج التربية الإسلامية، لمحمد قطب، ص34، 35.
(2) الأمين ذو النورين، محمود شاكر، ص 40.
(3) الخلفاء الراشدون، عبد الوهاب النجار، ص269.(1/30)
لملاقاة القافلة، وسارع عثمان - رضي الله عنه - للخروج مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، إلا انه تلقى أمرًا بالبقاء إلى جانب رقية -رضي الله عنها- لتمريضها، وامتثل لهذا الأمر بنفس راضية وبقي إلى جوار زوجته الصابرة الطاهرة رقية ابنة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذ اشتد بها المرض، وطاف بها شبح الموت، كانت رقية -رضي الله عنها- تجود بأنفاسها وهي تتلهف لرؤية أبيها الذي خرج إلى بدر، ورؤية أختها زينب في مكة، وجعل عثمان - رضي الله عنه - يرنو إليها من خلال دموعه، والحزن يعتصر قلبه (1) , ودعت نبض الحياة وهي تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، ولحقت بالرفيق الأعلى، ولم ترَ أباها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ حيث كان ببدر مع أصحابه الكرام، يعلون كلمة الله، فلم يشهد دفنها - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - , وجهزت رقية ثم حمل جثمانها الطاهر على الأعناق، وقد سار خلفه زوجها وهو حزين، حتى إذا بلغت الجنازة البقيع، دفنت رقية هناك، وقد انهمرت دموع المشيعين، وسوى التراب على قبر رقية بنت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وفيما هم عائدون إذ بزيد ابن حارثة قد أقبل على ناقة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يبشر بسلامة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقتل المشركين وأسر أبطالهم، وتلقى المسلمون في المدينة هذه الأنباء بوجوه مستبشرة بنصر الله لعباده المؤمنين، وكان من بين المستبشرين وجه عثمان الذي لم يستطع أن يخفي آلامه لفقده رقية رضي الله عنها. وبعد عودة الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - علم بوفاة رقية -رضي الله عنها- فخرج إلى البقيع ووقف على قبر ابنته يدعو لها بالغفران (2).
لم يكن عثمان بن عفان - رضي الله عنه - ممن تخلفوا عن بدر لتقاعس منه أو هروب ينشده كما يزعم أصحاب الأهواء ممن طعن عليه بتغيبه عن بدر، فهو لم يقصد مخالفة الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ لأن الفضل الذي حازه أهل بدر في شهود بدر طاعة الرسول ومتابعته، وعثمان - رضي الله عنه - خرج فيمن خرج مع رسول الله فردَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - للقيام على ابنته، فكان في أجَلِّ فرض لطاعته لرسول الله وتخليفه، وقد ضرب له بسهمه وأجره فشاركهم في الغنيمة والفضل والأجر لطاعته الله ورسوله وانقياده لهما (3). فعن عثمان بن عبد الله بن موهب قال: جاء رجل من مصر حج البيت فقال: يا ابن عمر إني سائلك عن شيء فحدثني أنشدك الله بحرمة هذا البيت، هل تعلم أن عثمان تغيب عن بدر فلم يشهدها؟
_________
(1) نساء أهل البيت، أحمد خليل جمعة، ص 491 - 504.
(2) دماء على قميص عثمان بن عفان، ص 20.
(3) كتاب الإمامة والرد على الرافضة، للأصبهاني، ص 302.(1/31)
فقال: نعم، ولكن أما تغيبه عن بدر فإنه كانت تحته بنت رسول الله فمرضت، فقال له رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لك أجر رجل شهد بدرا وسهمه» (1). وعن أبي وائل، عن عثمان بن عفان - رضي الله عنه - أنه قال: أما يوم بدر فقد تخلفت على بنت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وقد ضرب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لي فيها بسهم. وقال زائدة في حديثه: ومن ضرب له رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيها بسهم فقد شهد (2). وقد عُد عثمان - رضي الله عنه - من البدريين بالاتفاق (3).
2 - عثمان وغزوة أحد:
في غزوة أحد منح الله -عز وجل- النصر للمسلمين في أول المعركة، وأخذت سيوف المسلمين تعمل عملها في رقاب المشركين، وكانت الهزيمة لا شك فيها، وقتل أصحاب لواء المشركين واحدا واحدا، ولم يقدر أحد أن يدنو من اللواء، وانهزم المشركون، وولولت النسوة بعد أن كن يغنين بحماس ويضربن بالدفوف، فألقين بالدفوف وانصرفن مذعورات إلى الجبل كاشفات سيقانهن، ولكن مال ميزان المعركة فجأة، وكان سبب ذلك أن الرماة الذين أوكل إليهم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مكانا على سفح الجبل لا يغادرونه مهما كانت نتيجة المعركة قد تخلوا إلا قليلا عن أماكنهم، ونزلوا إلى الساحة يطلبون الغنائم لما نظروا المسلمين يجمعونها، وانتهز خالد بن الوليد قائد سلاح الفرسان القرشي فرصة خلو الجبل من الرماة، وقلة من به منهم فكرَّ بالخيل ومعه عكرمة بن أبي جهل، فقتلوا بقية الرماة ومعهم أميرهم عبد الله بن جبير - رضي الله عنه - الذي ثبت هو وطائفة قليلة معه, وفي غفلة المسلمين، وأثناء انشغالهم بالغنائم أطبق خالد ومن معه عليهم، فأعملوا فيهم القتل، فاضطرب أمر المسلمين اضطرابا شديدا، وانهزمت طائفة من المسلمين إلى قرب المدينة منهم عثمان بن عفان ولم يرجعوا حتى انفض القتال، وفرقة صاروا حيارى لما سمعوا أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قد قتل، وفرقة ثبتت مع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أما الفرقة التي انهزمت وفرت فلقد أنزل الله فيها قرآنا يتلى إلى يوم القيامة، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ} [آل عمران: 155] غير أن أصحاب الأهواء لا يرون إلا ما تهوى
_________
(1) البخاري، رقم: (3698).
(2) الإمامة والرد على الرافضة، ص304.
(3) عثمان بن عفان، صادق عرجون، ص47.(1/32)
أنفسهم، فلم يروا من المتراجعين إلا عثمان - رضي الله عنه -، فكانوا يتهمونه دون سائر المتراجعين من الصحابة، وهل يبقى وحده؟ ولو فعل لخاطر بنفسه (1) , وبعد أن عفا الله عن المتراجعين فالحكم واضح جليّ، لا لبس فيه ولا غموض، فلا مؤاخذة بعد ذلك على عثمان بن عفان (2) - رضي الله عنه - , فيكفي أن الله عفا عنه بنص القرآن الكريم، وحياته الجهادية بمجموعها تشهد له على شجاعته.
3 - في غزوة غطفان (ذي إمر):
ندب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - المسلمين وخرج في أربعمائة رجل ومعهم بعض الجياد، واستخلف على المدينة عثمان بن عفان - رضي الله عنه - فأصابوا رجلا منهم (بذي القُصَّة) يقال له جبار من بني ثعلبة، فأدخل على رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأخبره من خبرهم، وقال: لن يلاقوك، لما سمعوا بمسيرك هربوا في رؤوس الجبال وأنا سائر معك، فدعاه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى الإسلام فأسلم، وضمه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى بلال ولم يلاقِ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أحدا، ثم أقبل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى المدينة ولم يلق كيدا، وكانت غيبته إحدى عشر ليلة (3).
4 - في غزوة ذات الرقاع:
بلغ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن جمعًا من غطفان من ثعلبة وأنمار يريدون غزو المدينة، فخرج في أربعمائة من أصحابه حتى قدم صرارًا، وكان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قد استخلف على المدينة قبل خروجه عثمان بن عفان، لقي المسلمون جمعا غفيرا من غطفان، وتقارب الناس، ولم يكن بينهم حرب، وقد خاف الناس بعضهم بعضا، حتى صلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالناس صلاة الخوف ثم انصرف بالناس، وقد غاب عن المدينة خمسة عشر يوما (4).
5 - في بيعة الرضوان:
عندما نزل رسول الله الحديبية رأى من الضرورة إرسال مبعوث خاص من جانبه إلى قريش يبلغهم فيها نواياه السلمية بعدم الرغبة في القتال، وحرصه على احترام المقدسات، ومن ثم أداء مناسك العمرة، والعودة إلى المدينة، فوقع الاختيار على أن يكون مبعوث الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى قريش (خراش بن أمية الخزاعي) وحمله على جمل يقال
_________
(1) الأمين ذو النورين، محمود شاكر، ص 49.
(2) ذو النورين مع النبي، د. عاطف لماضة، ص 32.
(3) الروض الأنف (3/ 137) , الطبقات لابن سعد (2/ 34، 35).
(4) الأمين ذو النورين، محمود شاكر، ص52، 53.(1/33)
له (الثعلب) , فلما دخل مكة عقرت به قريش، وأرادوا قتل خراش فمنعهم الأحابيش، فعاد خراش بن أمية إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأخبره بما صنعت قريش، فأراد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يرسل سفيرا آخر بتبليغ قريش رسالة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ووقع الاختيار في بداية الأمر على عمر بن الخطاب (1) , فاعتذر لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن الذهاب إليهم، وأشار على رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يبعث عثمان مكانه، (2) وعرض عمر - رضي الله عنه - رأيه هذا معززًا بالحجة الواضحة، وهي ضرورة توافر الحماية لمن يخالط هؤلاء الأعداء, وحيث إن هذا الأمر لم يكن متحققا بالنسبة لعمر - رضي الله عنه -، فقد أشار على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعثمان - رضي الله عنه - لأن له قبيلة تحميه من أذى المشركين حتى يبلغ رسالة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (3) , وقال لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إني أخاف قريشا على نفسي، قد عرفت عداوتي لها، وليس بها من بني عدي من يمنعني، وإن أحببت يا رسول الله دخلت عليهم (4) , فلم يقل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شيئا، قال عمر: ولكن أدلك يا رسول الله على رجل أعز بمكة مني، وأكثر عشيرة وأمنع، عثمان بن عفان، فدعا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عثمان - رضي الله عنه - فقال: «اذهب إلى قريش فخبرهم أنَّا لم نأتِ لقتال أحد، وإنما جئنا زوارًا لهذا البيت، معظمين لحرمته، معنا الهدي، ننحره وننصرف»، فخرج عثمان بن عفان - رضي الله عنه - حتى أتى بلدح (5)
فوجد قريشا هناك، فقالوا: أين تريد؟ قال: بعثني رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إليكم، يدعوكم إلى الله وإلى الإسلام، تدخلون في دين الله كافة، فإن الله مظهر دينه ومعز نبيه، وأخرى تكفون ويَلِي هذا منه غيركم، فإن ظفروا بمحمد فذلك ما أردتم، وإن ظفر محمد كنتم بالخيار أن تدخلوا فيما دخل فيه الناس أو تقاتلوا وأنتم وافرون جامون، إن الحرب قد نهكتكم، وأذهبت بالأماثل منكم، فجعل عثمان يكلمهم فيأتيهم بما لا يريدون، ويقولون: قد سمعنا ما تقول ولا كان هذا أبدا، ولا دخلها علينا عنوة، فارجع إلى صاحبك فأخبره أنه لا يصل إلينا، فقام إليه أبان بن سعيد بن العاص فرحب به وأجاره وقال: لا تقصر عن حاجتك، ثم نزل عن فرس كان عليه، فحمل عثمان على السرج وردفه وراءه، فدخل عثمان مكة فأتى أشرافهم رجلا رجلا؛ أبا سفيان بن حرب، وصفوان بن أمية، وغيرهما من لقي ببلدح، ومنهم من لقي بمكة، فجعلوا يردون عليه: إن محمدا لا يدخلها علينا
_________
(1) غزوة الحديبية لأبي فارس، ص83.
(2) المغازي، محمد عمر الواقدي (2/ 600).
(3) المغازي، محمد عمر الواقدي (2/ 600).
(4) المغازي، محمد عمر الواقدي (2/ 600).
(5) مكان قريب من مكة.(1/34)
أبدا (1). وعرض المشركون على عثمان - رضي الله عنه - أن يطوف بالبيت فأبى (2)، وقام عثمان بتبليغ رسالة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى المستضعفين بمكة وبشرهم بقرب الفرج والمخرج، (3) وأخذ منهم رسالة شفهية إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جاء فيها: اقرأ على رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - منا السلام، إن الذي أنزله بالحديبية لقادر على أن يدخله بطن مكة (4). وتسربت شائعة إلى المسلمين مفادها أن عثمان قتل، فدعا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أصحابه إلى مبايعته على قتال المشركين ومناجزتهم، فاستجاب الصحابة وبايعوه على الموت (5) سوى الجد بن قيس وذلك لنفاقه (6). وفي رواية أن البيعة كانت على الصبر (7) , وفي رواية على عدم الفرار (8)،ولا تعارض في ذلك؛ لأن المبايعة على الموت تعني الصبر وعدم الفرار (9). وكان أول من بايعه على ذلك أبا سنان عبد الله بن وهب الأسدي (10)، فخرج الناس بعده يبايعون على بيعته (11) , وبايعه سلمة بن الأكوع ثلاث مرات؛ في أول الناس، وأوسطهم، وآخرهم (12). وقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بيده اليمنى: «هذه يد عثمان» فضرب بها على يده (13). وكان عدد الصحابة الذين أخذ منهم الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - المبايعة تحت الشجرة ألف وأربعمائة صحابي (14). وقد تحدث القرآن الكريم عن أهل بيعة الرضوان، وورد فضلهم في نصوص كثيرة من الآيات القرآنية، والأحاديث النبوية، منها:
1 - قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللهَ يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَن نَّكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} [الفتح: 10].
_________
(1) زاد المعاد (3/ 290)، السيرة النبوية لابن هشام (3/ 344).
(2) زاد المعاد (3/ 290).
(3) زاد المعاد (3/ 290).
(4) غزوة الحديبية لأبي فارس، ص85.
(5) البخاري، رقم الحديث: (4169).
(6) السيرة النبوية في ضوء المصادر الأصلية، ص486.
(7) البخاري، رقم: 4169.
(8) مسلم، رقم: 1856.
(9) السيرة النبوية في ضوء المصادر الأصلية، ص486.
(10) السيرة النبوية في ضوء المصادر الأصلية، ص486.
(11) السيرة النبوية في ضوء المصادر الأصلية، ص486.
(12) زاد المعاد، (3/ 291).
(13) صحيح السيرة النبوية، ص404.
(14) السيرة النبوية في ضوء المصادر الأصلية، ص482.(1/35)
2 - قال تعالى: {لَيْسَ عَلَى الأعْمَى حَرَجٌ وَلاَ عَلَى الأعْرَجِ حَرَجٌ وَلاَ عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَمَن يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنْهَارُ وَمَن يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذَابًا أَلِيمًا - لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا} [الفتح: 17، 18].
3 - قال جابر بن عبد الله - رضي الله عنه -: قال لنا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوم الحديبية: «أنتم خير أهل الأرض»، وكنا ألفا وأربعمائة، ولو كنت أبصر لأريتكم موضع الشجرة (1). هذا الحديث صريح في فضل أصحاب الشجرة؛ فقد كان من المسلمين إذ ذاك جماعة بمكة وبالمدينة وبغيرهما .. وتمسك به بعض الشيعة في تفضيل عليٍّ على عثمان؛ لأن عليا كان من جملة من خوطب بذلك، وممن بايع تحت الشجرة، وكان عثمان حينئذ غائبا، وهذا التمسك باطل؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بايع عنه فاستوى معهم عثمان في الخيرية المذكورة، ولم يقصد في الحديث إلى تفضيل بعضهم على بعض (2).
وفي الحديبية ذكر المحب الطبري اختصاص عثمان بعدة أمور، منها: اختصاصه بإقامة يد النبي الكريمة مقام يد عثمان لما بايع الصحابة وعثمان غائب، واختصاصه بتبليغ رسالة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى مَنْ بمكة أسيرا من المسلمين، وذكر شهادة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لعثمان بموافقته في ترك الطواف لما أرسله في تلك الرسالة (3)، فعن إياس بن سلمة عن أبيه أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بايع لعثمان إحدى يديه على الأخرى، فقال الناس: هنيئا لأبي عبد الله الطواف بالبيت آمنا، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لو مكث كذا ما طاف حتى أطوف» (4).
وقد اتهم عثمان ظلما بأنه لم يبايع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بيعة الرضوان وكان متغيبا عنها، فهذه من الاتهامات التي ألصقت بعثمان في أحضان فتنة أريد بها تقويض أركان الخلافة خاصة (5)، وسيأتي تفصيل ذلك بإذن الله تعالى. وعن أنس قال: لما أمر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ببيعة الرضوان كان عثمان بن عفان بعثه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى أهل مكة فبايعه
_________
(1) مسلم، (1485).
(2) فتح الباري (7/ 443).
(3) الرياض النضرة في مناقب العشرة، ص (490، 491).
(4) المصدر نفسه، ص 491، في سنده ضعف.
(5) ذو النورين مع النبي، ص 32.(1/36)
الناس، فقال: إن عثمان في حاجة الله وحاجة رسوله، فضرب بإحدى يديه على الأرض، فكانت يد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لعثمان خيرا من أيديهم لأنفسهم (1).
6 - شفاعة عثمان بن عفان في عبد الله بن أبي السرح في فتح مكة:
لما كان يوم فتح مكة اختبأ عبد الله بن سعد بن أبي السرح عند عثمان بن عفان، فجاء به حتى أوقفه على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال: يا رسول الله بايع عبد الله، فرفع رأسه، فنظر إليه ثلاثا، كل ذلك يأبى, فبايعه بعد ثلاث ثم أقبل على الصحابة فقال: «أما كان فيكم رجل رشيد يقوم إلى هذا حيث رآني كففت يدي عن بيعته فيقتله»، فقالوا: ما ندري يا رسول الله ما في نفسك، ألا أومأت إلينا بعينك؟ قال: «إنه لا ينبغي لنبي أن يكون له خائنة الأعين» (2).
وجاء في رواية: لما كان يوم فتح مكة أمن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الناس إلا أربعة نفر، وقال: «اقتلوهم وإن وجدتموهم متعلقين بأستار الكعبة: عكرمة بن أبي جهل، وعبد الله بن خطل، ومقيس بن حبابة (3) وعبد الله بن سعد بن أبي السرح» (4). فأما عبد الله بن خطل فأدرك وهو متعلق بأستار الكعبة فاستبق إليه سعد بن حارث وعمار بن ياسر فسبق سعيد عمارا، وكان أشب الرجلين فقتله، وأما عكرمة فركب في البحر فأصابتهم ريح عاصف، فقال أصحاب السفينة: أخلصوا فإن آلهتكم لا تغني عنكم شيئا ههنا، فقال عكرمة: والله لئن لم ينجني في البحر إلا الإخلاص لم ينجني في البر غيره، اللهم لك عليَّ عهد إن أنت عافيتني مما أنا فيه أن آتي محمدا حتى أضع يدي في يده ولأجدنه عفوا كريما، فجاء وأسلم. وأما عبد الله بن سعد بن أبي السرح فإنه اختبأ عند عثمان بن عفان، فلما دعا رسول الله الناس إلى البيعة جاء به حتى أوقفه على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ثم ذكر الباقي كما مر معنا (5).
وعن عبد الله بن عباس قال: كان عبد الله بن سعد بن أبي السرح يكتب لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فأزله الشيطان فلحق بالكفار، فأمر به رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يقتل يوم الفتح، فاستجار له عثمان، فأجاره رسول الله (6). وذكر ابن إسحاق سبب أمر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بقتل سعد وشفاعة عثمان فيه فقال: وإنما أمر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
_________
(1) سير السلف الصالحين (1/ 181)، إسناده ضعيف، والحديث صحيح، سنن الترمذي، رقم: (3702).
(2) الصارم المسلول على شاتم الرسول، ص109.
(3) أضواء البيان في تاريخ القرآن, صابر أبو سليمان، ص79.
(4) المصدر نفسه, ص 79.
(5) المصدر نفسه، ص80.
(6) المصدر نفسه، ص80.(1/37)
بقتله لأنه كان قد أسلم، وكان يكتب لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الوحي، فارتد مشركا راجعا إلى قريش، ففر إلى عثمان بن عفان وكان أخاه للرضاعة، فغيبه حتى أتى به رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعد أن اطمأن الناس وأهل مكة فاستأمن له، قال ابن هشام: ثم أسلم بعد، فولاه عمر بن الخطاب بعض أعماله، ثم ولاه عثمان بن عفان بعد عمر (1).
7 - غزوة تبوك:
في العام التاسع الهجري ولي هرقل وجهه المتآمر صوب الجزيرة العربية متلمظًا برغبة شريرة في العدوان عليها والتهامها، وأمر قواته بالاستعداد وانتظار أمره بالزحف، وترامت الأنباء إلى الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فنادى في أصحابه بالتهيؤ للجهاد وكان الصيف حارا يصهر الجبال، وكانت البلاد تعاني الجدب والعسرة، فإن قاوم المسلمون بإيمانهم وطأة الحر القاتل وخرجوا إلى الجهاد فوق الصحراء الملتهبة المتأججة فمن أين لهم العتاد، والنفقات التي يتطلبها الجهاد؟ لقد حض الرسول على التبرع فأعطى كلٌّ قدرَ وسعه، وسارعت النساء بالحلي يقدمنه إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يستعين به في إعداد الجيش، بيد أن التبرعات جميعها لم تكن لتغني كثيرا أمام المتطلبات للجيش الكبير، ونظر الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى الصفوف الطويلة العريضة من الذين تهيأوا للقتال وقال: «من يجهز هؤلاء ويغفر الله له؟» وما كاد عثمان يسمع نداء الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هذا حتى سارع إلى مغفرة من الله ورضوان، وهكذا وجدت العسرة الضاغطة (عثمانها
المعطاء) (2)، وقام - رضي الله عنه - بتجهيز الجيش حتى لم يتركه بحاجة إلى خطام أو عقال.
يقول ابن شهاب الزهري: قدم عثمان لجيش العسرة في غزوة تبوك تسعمائة وأربعين بعيرا، وستين فرسا أتم بها الألف، وجاء عثمان إلى رسول الله في جيش العسرة بعشرة آلاف دينار صبها بين يديه، فجعل الرسول يقلبها بيده ويقول: «ما ضر عثمان ما عمل بعد اليوم» مرتين (3). لقد كان عثمان - رضي الله عنه - صاحب القدح المعلى في الإنفاق في هذه الغزوة (4) , وهذا عبد الرحمن بن حباب يحدثنا عن نفقة عثمان حيث قال: شهدت
_________
(1) السيرة النبوية لابن هشام (4/ 57، 58).
(2) فتح الباري (7/ 67)، خلفاء الرسول، ص250، العشرة المبشرون بالجنة، محمد صالح عوض، ص53.
(3) سنن الترمذي، رقم: (3785). صحيح التوثيق، ص26.
(4) السيرة النبوية في ضوء المصادر الأصلية، ص615.(1/38)
النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو يحث على جيش العسرة، فقام عثمان بن عفان فقال: يا رسول الله، عليَّ مائتا بعير بأحلاسها وأقتابها في سبيل الله، ثم حض على الجيش فقام عثمان بن عفان فقال: يا رسول الله، عليَّ ثلثمائة بعير بأحلاسها وأقتابها في سبيل الله، فأنا رأيت رسول الله ينزل على المنبر وهو يقول: «ما على عثمان ما عمل بعد هذه، ما على عثمان ما عمل بعد هذه» (1).
وعن عبد الرحمن بن سمرة -رضي الله عنهما- قال: جاء عثمان بن عفان إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بألف دينار في ثوبه حين جهز النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جيش العسرة، قال: فجعل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقلبها بيده ويقول: «ما ضر ابن عفان ما عمل بعد اليوم» يرددها مرارا (2).
إنه يبدو وكأنه الممول الوحيد للأمة الجديدة، ومضى الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على رأس جيشه حتى وصلوا موطنا يدعى تبوك في منتصف الطريق بين المدينة ودمشق، وهناك جاءته الأنباء مبشرة بأن هرقل الذي كان يعد العدة للزحف من دمشق قد ثلم الله عزمه، وغادر دمشق نافضا يديه من محاولته اليائسة بعد أن علم بخروج النبي وأصحابه إليه، ورجع الجيش بكل عتاده الذي أمده به عثمان، فهل استرجع من ذلك شيئا؟ كلا .. وحاشاه أن يفعل، وقد ظل كما كان دوما سريع التلبية لكل إيماءة من النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تعني جديدا من البذل، ومزيدا من العطاء (3).
ثانيًا: من حياته الاجتماعية في المدينة:
1 - زواجه من أم كلثوم سنة 3 هـ:
عرفت أم كلثوم -رضي الله عنها- بكنيتها ولا يعرف لها اسم إلا ما ذكره الحاكم عن مصعب الزبيري أن اسمها أمية، وهي أكبر سنا من فاطمة رضي الله عنها (4).
قال سعيد بن المسيب: تأيم عثمان من رقية بنت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وتأيمت حفصة بنت عمر من زوجها، فمر عمر بعثمان، فقال: هل لك في حفصة، وكان عثمان قد سمع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يذكرها فلم يجبه، وذكر ذلك عمر للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: هل لك في خير من ذلك؟ أتزوج حفصة، وأزوج عثمان خيرا منها: أم كلثوم (5). وفي رواية
_________
(1) سنن الترمذي، رقم: (3700).
(2) سنن الترمذي، رقم: (3702).
(3) خلفاء الرسول، ص138، العشرة المبشرون بالجنة، ص31.
(4) الدوحة النبوية الشريفة، فاروق حمادة، ص45، 46.
(5) مستدرك الحاكم (4/ 49)، الآثار لأبي يوسف رقم: (1957).(1/39)
البخاري: قال عمر: تأيمت حفصة بنت عمر من خنيس بن حذافة السهمي، وكان من أصحاب رسول الله فتوفي في المدينة، فقال عمر: أتيت عثمان بن عفان فعرضت عليه حفصة بنت عمر. قال: فقلت: إن شئت أنكحتك حفصة، فقال: سأنظر في أمري، فلبثت ليالي، ثم لقيني فقال: قد بدا لي أن لا أتزوج يومي هذا، قال عمر: فلقيت أبا بكر الصديق، فقلت: إن شئت زوجتك حفصة بنت عمر، فصمت أبو بكر الصديق فلم يرجع إليَّ شيئا، فكنت عليه أَوْجَدَ مني على عثمان، فلبثت ليالي ثم خطبها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأنكحتها إياه، فلقيني أبو بكر فقال: لعلك وجدت عليَّ حين عرضت عليَّ حفصة فلم أرجع إليك شيئا؟ قال عمر: نعم، قال: فإنه لم يمنعني أن أرجع إليك فيما عرضت عليَّ، إلا أني كنت علمت أن رسول الله قد ذكرها، فلم أكن لأفشي سر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ولو تركها رسول الله قبلتها (1).
وتروي أم المؤمنين الصديقة بنت الصديق -رضي الله عنها- خبر زواج أم كلثوم من عثمان - رضي الله عنه - فتقول: لما زوج النبي ابنته أم كلثوم قال لأم أيمن: «هيئ ابنتي أم كلثوم وزفيها إلى عثمان، وخفقي (2) بين يديها بالدف»، ففعلت ذلك، فجاءها النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعد الثالثة فدخل عليها فقال: «يا بنية، كيف وجدت بعلك»؟ قالت: خير بعل (3).
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقف عند باب المسجد فقال: «يا عثمان، هذا جبريل أخبرني أن الله قد زوجك أم كلثوم بمثل صداق رقية، وعلى مثل صحبتها»، وكان ذلك سنة ثلاث من الهجرة النبوية، في ربيع الأول، وبنى بها في جمادى الآخرة (4).
2 - وفاة عبد الله بن عثمان:
وفي جمادى الأولى سنة أربع من الهجرة مات عبد الله بن عثمان - رضي الله عنه - من رقية بنت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو ابن ست سنين، فصلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عليه، ونزل حفرته والده عثمان (5). وهذه محنة عظيمة تعرض لها عثمان، وما أكثر المحن في حياة الدعاة إلى الله تعالى.
_________
(1) البخاري، كتاب النكاح، رقم: (5122).
(2) خفق: اضطرب وتحرك.
(3) السيرة النبوية لأبي شهبة (2/ 231)، دماء على قميص عثمان، ص 22.
(4) سنن ابن ماجه، رقم: (110)، وفيه عثمان بن خالد وهو ضعيف.
(5) الكامل لابن الأثير (2/ 130)، دماء على قميص عثمان، ص22.(1/40)
3 - وفاة أم كلثوم رضي الله عنها:
ولم تزل أم كلثوم عند عثمان -رضي الله عنهما- إلى أن توفيت في شعبان سنة تسع من الهجرة بسبب مرض نزل بها، وصلى عليها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وجلس على قبرها. وعن أنس ابن مالك أنه رأى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جالسا على قبر أم كلثوم، قال: فرأيت عينيه تدمعان، فقال: «هل منكم رجل لم يقارف الليلة؟» فقال أبو طلحة: أنا، قال: «فانزل في قبرها» (1).
وعن ليلى بنت قانف الثقفية قالت: كنت فيمن غسل أم كلثوم بنت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عند وفاتها، فكان أول ما أعطانا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الحقو، ثم الدرع، ثم الخمار، ثم الملحفة، ثم أدرجت بعده في الثوب الآخر، قالت: ورسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عند الباب ومعه كفنها يناولنا إياه ثوبا ثوبا (2). وجاء عند ابن سعد أن عليَّ بن أبي طالب, والفضل بن العباس، وأسامة بن زيد، قد نزلوا في حفرتها مع أبي طلحة وأن التي غسلتها هي أسماء بنت عميس، وصفية بنت عبد المطلب (3).
وقد تأثر عثمان - رضي الله عنه - وحزن حزنا عظيما على فراقه لأم كلثوم، ورأى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عثمان - رضي الله عنه - وهو يسير منكسرا وفي وجهه حزن لما أصابه، فدنا منه وقال: «لو كانت عندنا ثالثة لزوجناكها يا عثمان» (4). وهذا دليل حب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لعثمان، ودليل وفاء عثمان لنبيه وتوقيره، وفيه دليل على نفي ما اعتاده الناس من التشاؤم في مثل هذا الموطن، فإن قدر الله ماض وأمره نافذ ولا راد لأمره (5).
ثالثًا: من مساهماته الاقتصادية في بناء الدولة:
كان عثمان - رضي الله عنه - من الأغنياء الذين أغناهم الله عز وجل، وكان صاحب تجارة وأموال طائلة، ولكنه استخدم هذه الأموال في طاعة الله -عز وجل- وابتغاء مرضاته وما عنده، وصار سبَّاقا لكل خير ينفق ولا يخشى الفقر، ومما أنفقه - رضي الله عنه - من نفقاته الكثيرة على سبيل المثال ما يأتي:
_________
(1) البخاري، كتاب الجنائز، رقم: (1342).
(2) سنن أبي داود، رقم: (3157).
(3) الطبقات لابن سعد، (8/ 39) , الدوحة النبوية، ص48.
(4) مجمع الزوائد للهيثمي (9/ 83)، إسناده حسن لما له من شواهد.
(5) الخلفاء الراشدون .. أعمال وأحداث، د. أمين القضاة، ص73.(1/41)
1 - بئر رومة:
عندما قدم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - المدينة المنورة وجد أن الماء العذب قليل، وليس بالمدينة ما يستعذب غير بئر رومة، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من يشتري بئر رومة فيجعل دلوه مع دلاء المسلمين بخير له في الجنة» (1). وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من حفر بئر رومة فله الجنة» (2).
وقد كانت رومة قبل قدوم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لا يشرب منه أحد إلا بثمن، فلما قدم المهاجرون المدينة استنكروا الماء، وكانت لرجل من بني غفار عين يقال لها رومة، وكان يبيع منها القربة بِمُدّ، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «تبيعها بعين في الجنة؟» فقال: يا رسول الله, ليس لي ولا لعيالي غيرها، فبلغ ذلك عثمان - رضي الله عنه - فاشتراها بخمسة وثلاثين ألف درهم، ثم أتى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: أتجعل لي فيها ما جعلت له؟ قال: «نعم» قال: قد جعلتها للمسلمين (3). وقيل: كانت رومة ركية ليهودي يبيع المسلمين ماءها، فاشتراها عثمان بن عفان من اليهودي بعشرين ألف درهم، فجعلها للغني والفقير وابن السبيل (4).
2 - توسعة المسجد النبوي:
بعد أن بنى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مسجده في المدينة، فصار المسلمون يجتمعون فيه ليصلوا الصلوات الخمس، ويحضروا خطب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - التي يصدر إليهم فيها أوامره ونواهيه، ويتعلموا في المسجد أمور دينهم، وينطلقوا منه إلى الغزوات ثم يعودون بعدها، ولذلك ضاق المسجد بالناس، فرغب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من بعض الصحابة أن يشتري بقعة بجانب المسجد لكي تزاد في المسجد حتى يتسع لأهله، فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من يشتري بقعة آل فلان فيزيدها في المسجد بخير له منها في الجنة؟» فاشتراها عثمان بن عفان - رضي الله عنه - من صلب ماله (5) بخمسة وعشرين ألف درهم، أو بعشرين ألفا، ثم أضيفت للمسجد (6) , ووسع على المسلمين رضي الله عنه وأرضاه (7).
_________
(1) صحيح النسائي للألباني (2/ 766).
(2) أخرجه البخاري رقم: (2778) معلقا، وهو صحيح لشواهده.
(3) تحفة الأحوذي بشرح سنن الترمذي (10/ 196).
(4) فتح الباري (5/ 408) , الحكمة في الدعوة إلى الله، ص231.
(5) صحيح سنن الترمذي للألباني (3/ 209)، رقم: (2921).
(6) صحيح سنن النسائي (2/ 766).
(7) أعلام المسلمين لخالد البيطار (3/ 41).(1/42)
3 - العسرة وعثمانها المعطاء:
عندما أراد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الرحيل إلى غزوة تبوك حث الصحابة الأغنياء على البذل لتجهيز جيش العسرة الذي أعده رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لغزو الروم، فأنفق الأموال من صحابة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كلٌّ على حسب طاقته وجهده، أما عثمان فقد أنفق نفقة عظيمة لم ينفق أحد مثلها (1) , وقد تم بيانها عند حديثنا عن موقفه في غزوة تبوك.
* * *
_________
(1) الحكمة في الدعوة إلى الله، ص231.(1/43)
المبحث الرابع
من أحاديث الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في عثمان بن عفان
أولاً: فيما ورد في فضائله مع غيره:
1 - افتح له وبشِّره بالجنة على بلوى تصيبه:
عن أبي موسى - رضي الله عنه - قال: كنت مع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في حائط من حيطان المدينة، فجاء رجل فاستفتح، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «افتح له، وبشره بالجنة» ففتحت له فإذا هو أبو بكر فبشرته بما قال رسول الله، فحمد الله، ثم جاء رجل فاستفتح فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «افتح له وبشره بالجنة» ففتحت له فإذا هو عمر، فأخبرته بما قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فحمد الله، ثم استفتح رجل فقال لي: «افتح له وبشره بالجنة على بلوى تصيبه» فإذا هو عثمان، فأخبرته بما قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فحمد الله، ثم قال: الله المستعان (1).
هذا الحديث تضمن فضيلة هؤلاء الثلاثة المذكورين؛ وهم أبو بكر وعمر وعثمان، وأنهم من أهل الجنة كما تضمن فضيلة لأبي موسى، وفيه دلالة على جواز الثناء على الإنسان في وجهه إذا أمنت عليه الإعجاب ونحوه، وفيه معجزة ظاهرة للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لإخباره بقصة عثمان والبلوى، وأن الثلاثة يستمرون على الإيمان والهدى (2).
2 - اسكن أحد فليس عليك إلا نبي وصديق وشهيدان:
عن أنس - رضي الله عنه - قال: صعد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أحدا ومعه أبو بكر وعمر وعثمان، فرجف، فقال: «اسكن أحد -أظنه ضربه برجله- فليس عليك إلا نبي وصديق وشهيدان» (3).
3 - اهدأ فما عليك إلا نبي أو صديق أو شهيد:
عن أبي هريرة: أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان على حراء، وأبو بكر وعمر وعثمان وعلي
_________
(1) البخاري، رقم (3695).
(2) شرح النووي على صحيح مسلم، (15/ 170، 171).
(3) البخاري، رقم (3697).(1/44)
وطلحة والزبير، فتحركت الصخرة، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «اهدأ، فما عليك إلا نبي أو صديق أو شهيد» (1).
4 - حياء عثمان - رضي الله عنه -:
عن يحيى بن سعيد بن العاص أن سعيد بن العاص أخبره أن عائشة زوج النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وآله وعثمان حدثاه أن أبا بكر استأذن على رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو مضطجع على فراشه لابسٌ مِرْط عائشة فأذن لأبي بكر وهو كذلك، فقضى إليه حاجته ثم انصرف، ثم استأذن عمر فأذن له وهو على تلك الحال، فقضى إليه حاجته ثم انصرف، قال عثمان: ثم استأذنت عليه فجلس، وقال لعائشة: «اجمعي عليك ثيابك»، فقضيت إليه حاجتي ثم انصرفت، فقالت عائشة: يا رسول الله، ما لي لم أرك فزعت لأبي بكر وعمر -رضي الله عنهما- كما فزعت لعثمان؟ قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إن عثمان رجل حيي، وإني خشيت إن أذنت له على تلك الحال أن لا يبلغ إليَّ في حاجته» (2).
5 - استحياء الملائكة من عثمان:
عن أبي سلمة بن عبد الرحمن أن عائشة قالت: كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مضطجعا في بيتي كاشفا عن فخذيه أو ساقيه، فاستأذن أبو بكر فأذن له وهو على تلك الحال فتحدث، ثم استأذن عمر فأذن له وهو كذلك فتحدث، ثم استأذن عثمان فجلس رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وسوى ثيابه. قال محمد -أحد رواة الحديث، ولا أقول ذلك في يوم واحد- فدخل فتحدث، فلما خرج قالت عائشة: دخل أبو بكر فلم تهتشَّ له ولم تُبَالِه، ثم دخل عمر فلم تهتش له ولم تباله، ثم دخل عثمان فجلست وسويت ثيابك، فقال: «ألا استحي من رجل تستحي منه الملائكة؟!» (3). قال المناوي: مقام عثمان مقام الحياء، والحياء فرع يتولد من إجلال من يشاهده ويعظم قدره، مع نقص يجده في النفس، فكأنه غلب عليه إجلال الحق تعالى، ورأى نفسه بعين النقص والتقصير، وهما من جليل خصال العباد المقربين، فعلت رتبة عثمان كذلك، فاستحيت منه خلاصة الله من خلقه، كما أن من أحب الله أحب أولياءه، ومن خاف الله خاف منه كل شيء (4).
_________
(1) مسلم، رقم (2417).
(2) مسلم، رقم (2402).
(3) مسلم، رقم (2401).
(4) فيض القدير للمناوي، (4/ 302).(1/45)
6 - أصدقها حياء عثمان:
عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أرحم أمتي أبو بكر، وأشدها في دين الله عمر، وأصدقها حياء عثمان، وأعلمها بالحلال والحرام معاذ بن جبل، وأقرأها لكتاب الله أُبي، وأعلمها بالفرائض زيد بن ثابت، ولكل أمة أمين، وأمين هذه الأمة أبو عبيدة بن الجراح» (1).
ثانيًا: إخبار رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن الفتنة التي يقتل فيها عثمان:
1 - من نجا من ثلاث فقد نجا:
عن عبد الله بن حوالة أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من نجا من ثلاث فقد
نجا -ثلاث مرات-: موتى، والدجال، وقتل خليفة مصطبر بالحق معطيه» (2).
ومعلوم أن الخليفة الذي قتل مصطبرا بالحق هو عثمان، فالقرائن تدل على أن الخليفة المقصود بهذا الحديث هو عثمان بن عفان - رضي الله عنه -. وفي الحديث -والله أعلم- لفتة عظيمة إلى أهمية السلامة من الخوض في هذه الفتنة حسيًّا ومعنويًا، أما حسيًا فذلك يكون في الفتنة من تحريض وتأليب وقتل وغير ذلك، وأما معنويًا فبعد الفتنة من خوض فيها بالباطل، وكلام فيها بغير حق، وبهذا يكون الحديث عاما للأمة، وليس خاصا بمن أدرك الفتنة (3).
2 - يقتل فيها هذا المقنع يومئذ:
عن ابن عمر قال: ذكر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فتنة، فمر رجل فقال: «يقتل فيها هذا المقنع يومئذ مظلوما» قال: فنظرت فإذا هو عثمان بن عفان (4).
3 - هذا يومئذ على الهدى:
عن كعب بن عجرة قال: ذكر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فتنة فقربها، فمر رجل مقنع رأسه، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «هذا يومئذ على الهدى. فوثبت فأخذت بضبعي عثمان، ثم استقبلت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقلت: هذا؟ قال: هذا» (5).
_________
(1) مسند الإمام أحمد، باقي كتاب مسند المكثرين، باب مسند أنس بن مالك (12493).
(2) المسند (4/ 419) (5/ 346)، تحقيق أحمد شاكر.
(3) فتنة مقتل عثمان، د. محمد عبد الله الغبان (1/ 44).
(4) فضائل الصحابة (1/ 551) إسناده حسن.
(5) صحيح سنن ابن ماجه (1/ 24).(1/46)
4 - تهيج فتنة كالصياصي، فهذا ومن معه على الحق:
عن مرة البهزي قال: كنت عند رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وقال بهز -من رواة الحديث-: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «تهيج فتنة كالصياصى، فهذا ومن معه على الحق». قال: فذهبت فأخذت بمجامع ثوبه، فإذا هو عثمان بن عفان - رضي الله عنه - (1).
5 - هذا يومئذ وأصحابه على الحق والهدى:
عن أبي الأشعث قال: قامت خطباء بإيلياء في إمارة معاوية - رضي الله عنه -، فتكلموا وكان آخر من تكلم مرة بن كعب فقال: لولا حديث سمعته من رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ما قمت، سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يذكر فتنة فقربها، فمر رجل مقنع فقال: «هذا يومئذ وأصحابه على الحق والهدى»، فقلت: هذا يا رسول الله؟ وأقبلت بوجهه إليه فقال: «هذا»، فإذا هو عثمان - رضي الله عنه - (2).
6 - عليكم بالأمين وأصحابه:
عن أبي حبيبة أنه دخل الدار وعثمان محصور فيها، وأنه سمع أبا هريرة يستأذن عثمان في الكلام، فأذن له، فقام فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: إني سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «إنكم تلقون بعدي فتنة واختلافا» أو قال «اختلافا وفتنة»، فقال له قائل من الناس: فمن لنا يا رسول الله؟ قال: «عليكم بالأمين وأصحابه»، وهو يشير إلى عثمان بذلك (3).
7 - فإن أرادك المنافقون على خلعه فلا تخلعه:
عن عبد الله بن عامر، عن النعمان بن بشير عن عائشة قالت: أرسل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى عثمان بن عفان، فأقبل عليه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فلما رأينا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أقبلت إحدانا على الأخرى, فكان آخر كلام كلَّمه أن ضرب منكبه وقال: «يا عثمان، إن الله -عز وجل- عسى أن يلبسك قميصا، فإن أرادك المنافقون على خلعه فلا تخلعه حتى تلقاني. يا عثمان، إن الله عسى أن يلبسك قميصا، فإن أرادك المنافقون على خلعه فلا تخلعه حتى تلقاني» ثلاثا. فقلت لها: يا أم المؤمنين، فأين كان هذا عنك؟ قالت: نسيته والله فما ذكرته. قال: فأخبرته معاوية بن أبي سفيان فلم يرضَ بالذي أخبرته حتى كتب إلى أم المؤمنين أن اكتبي إليَّ به، فكتبت إليه به كتابا (4).
_________
(1) المسند (5/ 33) له طرق تقويه.
(2) مسند أحمد، مسند الشاميين، باب حديث كعب بن مرة السلمي أو مرة بن كعب، حديث رقم (17602).
(3) فضائل الصحابة (1/ 500) إسناده صحيح.
(4) مسند أحمد، باقي مسند الأنصار، (24045).(1/47)
8 - إن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عهد إليَّ عهدا وإني صابر نفسي عليه:
عن أبي سهلة، عن عائشة قالت: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ادعوا لي بعض أصحابي» قلت: أبو بكر؟ قال: «لا»، قلت: عثمان؟ قال: «نعم»، فلما جاء قال: «تنحَّ»، فجعل يساره (1) , ولون عثمان يتغير، فلما كان يوم الدار وحصر قلنا: يا أمير المؤمنين، ألا تقاتل؟ قال: لا، إن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عهد إليَّ عهدا وإني صابر نفسي عليه (2). وهذا الحديث يبين شدة محبة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لعثمان - رضي الله عنه - وحرصه على مصالح الأمة بعده، فقد أخبره بأشياء تتعلق بهذه الفتنة التي ستنتهي بقتله، وحرص عليه الصلاة والسلام على سريتها، حتى إنه لم يصل إلينا منها إلا ما صرح به عثمان - رضي الله عنه - أثناء الفتنة لما قيل له: ألا تقاتل؟ فقد قال: لا، إن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عهد إليَّ عهدا، وإني صابر عليه (3). ويظهر من قوله هذا، أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قد أرشده إلى الموقف الصحيح عند اشتعال الفتنة، وذلك أخذا منه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بحجز الفتنة أن تنطلق، وفي بعض الروايات زيادة تكشف عن بعض مكنون هذه المسارَّة، فقد جاء فيها أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال له: «وإن سألوك أن تنخلع من قميص قمَّصك الله -عز وجل- فلا تفعل» (4). ومضمون هذا العهد الذي ذكره عثمان - رضي الله عنه - يتعلق بالفتنة والوصية بالصبر فيها وعدم الخلع، وإن كان يفهم من هذه الأحاديث بأنه سيكون خليفة يومًا ما.
ويبدو أن هناك وصايا وإرشادات تتعلق بهذه الفتنة، انفرد بمعرفتها عثمان - رضي الله عنه - محافظة من النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على السرية فيها، ومما يبين ذلك أنه أمر عائشة -رضي الله عنها- بالانصراف (5) عندما أراد الإسرار بها لعثمان - رضي الله عنه -، كما أسر إليه إسرارا رغم خلو المكان من غيرهما حتى تغير لونه، مما يدل على عظم المسرِّ به. وربط عائشة -رضي الله عنها- الإسرار بالفتنة دليل واضح على أن هذه المسارة كانت حول الفتنة التي قتل فيها، كما أن الإسرار تضمن توجيهات منه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى عثمان ليقف الموقف الصحيح عند عرض الخلع، وأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يقتصر على الإخبار بوقوع الفتنة، فقد أخبر بذلك في أحاديث كثيرة كما تقدم، فإسراره يدل على أن الأسرار
_________
(1) من المسارة مفاعلة، من السر أي المناجاة.
(2) فضائل الصحابة (1/ 506)، إسناده صحيح.
(3) فضائل الصحابة (1/ 506) إسناده صحيح.
(4) فضائل الصحابة (1/ 613) إسناد صحيح، الطبقات (3/ 67،66).
(5) فقد قال لها النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (تنحَّ)، ومعنى التنحي الانصراف، الفيروز آبادي، القاموس المحيط (4/ 396)، لسان العرب (15/ 311).(1/48)
تضمن أشياء أخرى زيادة على الإخبار عن وقوعها، ورغب عليه الصلاة والسلام بالمحافظة على سريتها لحكمة اقتضت ذلك, الله أعلم بها.
وهذا الحديث يفسر لنا جليا سبب إصرار عثمان على رفض القتال أثناء الحصار، كما يفسر أيضا سبب رفضه للتنازل عن الخلافة وخلعها عندما عرض القوم عليه ذلك، وهما موقفان طالما تساءل الباحثون والمؤرخون عن السبب الذي أدى عثمان إليهما واستشكلوهما (1). وحدث فتنة مقتل عثمان - رضي الله عنه - من ضمن حوادث كثيرة أخبر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في حياته بأنها ستقع بالغيب، فإن علم الغيب صفة من صفات الله عز وجل، ليست لأحد من خلقه وإنما ذلك علم أطلعه الله عليه وأمره أن يبينه للناس (2) , قال تعالى: {قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلاَ ضَرًّا إِلاَّ مَا شَاءَ اللهُ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِّقَوْمٍ يُّؤْمِنُونَ} [ألأعراف: 188].
* * *
_________
(1) فتنة مقتل عثمان، محمد عبد الله الغبان، (1/ 48).
(2) فتنة مقتل عثمان، محمد عبد الله الغبان، (1/ 48).(1/49)
المبحث الخامس
ذو النورين في عهد الصديق والفاروق
أولاً: في عهد الصديق:
1 - من أهل الشورى في مسائل الدولة العليا:
كان عثمان - رضي الله عنه - من الصحابة وأهل الشورى الذين يؤخذ رأيهم في أمهات المسائل في خلافة أبي بكر، فهو ثاني اثنين في الحظوة عند الصديق؛ عمر بن الخطاب للحزامة والشدائد، وعثمان بن عفان للرفق والأناة. وكان عمر وزير الخلافة الصديقية، وكان عثمان أمينها العام، وناموسها الأعظم وكاتبها الأكبر (1). وكان رأيه مقدما عند الصديق؛ فبعد أن قضى أبو بكر على حركة الردة، أراد أن يغزو الروم، وينطلق الجيش المجاهد إلى أطراف الأرض، فقام في الناس يستشيرهم، فقال الألباء ما عندهم، ثم استزادهم أبو بكر فقال: ما ترون؟ فقال عثمان: إني أرى أنك ناصح لأهل هذا الدين، شفيق عليهم، فإذا رأيت رأيا لعامتهم صلاحا، فاعزم على إمضائه فإنك غير ظنين (2). فقال طلحة والزبير وسعد وأبو عبيدة وسعيد بن زيد ومن حضر ذلك المجلس من المهاجرين والأنصار رضي الله عنهم: صدق عثمان، ما رأيت من رأي فأمْضِه (3).
ولما أراد الصديق أن يبعث واليا إلى البحرين استشار أصحابه، فقال عثمان: ابعث رجلا قد بعثه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إليهم فقدم عليه (4) بإسلامهم وطاعتهم، وقد عرفوه وعرفهم وعرف بلاده (يعني العلاء بن الحضرمي - رضي الله عنه -)، فبعث الصديق العلاء إلى البحرين (5).
ولما اشتد المرض بأبي بكر استشار الناس فيمن يحبون أن يقوم بالأمر من بعده، فأشاروا بعمر، وكان رأي عثمان في عمر: اللهم علمي به أن سريرته خير من علانيته، وأنه ليس فينا مثله (6).
_________
(1) عثمان بن عفان، صادق عرجون، ص58.
(2) تاريخ دمشق لابن عساكر (2/ 63 - 65)، أبو بكر الصديق للصلابي، ص364.
(3) أبو بكر الصديق للصلابي، ص364.
(4) أي على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
(5) كنز العمال (5/ 620)، رقم: (14093) , القيود الواردة على سلطة الدولة، عبد الله الكيلاني، ص169، تاريخ الطبري (4/ 122).
(6) الكامل لابن الأثير (2/ 79)، الخلفاء الراشدون لمحمود شاكر، ص101.(1/50)
فقال أبو بكر: يرحمك الله، والله لو تركته ما عدتك (1).
2 - أزمة اقتصادية في عهد الصديق:
عن ابن عباس قال: قحط المطر على عهد أبي بكر الصديق، فاجتمع الناس إلى أبي بكر فقالوا: السماء لم تمطر، والأرض لم تنبت, والناس في شدة شديدة، فقال أبو بكر: انصرفوا واصبروا، فإنكم لا تمسون حتى يفرج الله الكريم عنكم، قال: فما لبثنا أن جاء أجراء عثمان من الشام، فجاءته مائة راحلة بُرًّا -أو قال طعاما- فاجتمع الناس إلى باب عثمان، فقرعوا عليه الباب، فخرج إليهم عثمان في ملأ من الناس، فقال: ما تشاءون؟ قالوا: الزمان قد قحط؛ السماء لا تمطر، والأرض لا تنبت، والناس في شدة شديدة، وقد بلغنا أن عندك طعاما، فبعنا حتى نوسع على فقراء المسلمين، فقال عثمان: حبًّا وكرامة ادخلوا فاشتروا، فدخل التجار، فإذا الطعام موضوع في دار عثمان، فقال: يا معشر التجار كم تربحونني على شرائي من الشام؟ قالوا: للعشرة اثنا عشر، قال عثمان: قد زادني، قالوا: للعشرة خمسة عشر، قال عثمان: قد زادني، قال التجار: يا أبا عمرو، ما بقي بالمدينة تجار غيرنا، فمن زادك؟ قال: زادني الله -تبارك وتعالى- بكل درهم عشرة، أعندكم زيادة؟ قالوا: اللهم لا، قال: فإني أشهد الله أني قد جعلت هذا الطعام صدقة على فقراء المسلمين (2).
قال ابن عباس: فرأيت من ليلتي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في المنام وهو على برذون أبلق (3) عليه حُلَّة من نور، في رجليه نعلان من نور، وبيده قصبة من نور، وهو مستعجل، فقلت: يا رسول الله، قد اشتد شوقي إليك وإلى كلامك فأين تبادر؟ قال: «يا ابن عباس، إن عثمان قد تصدق بصدقة، وإن الله قد قبلها منه وزوجه عروسا في الجنة، وقد دعينا إلى عرسه» (4).
فهل يفتح الله تعالى آذان عُبَّاد المال، ومحتكري قوت العباد شحًّا وجشعًا إلى صوت هذه العظمة العثمانية حتى تدلف إلى قلوبهم فتهزها هزة الأريحية والعطف، وتوقظ فيها بواعث الرحمة والإحسان بالفقراء والمساكين، والأرامل واليتامى وذوي الحاجات من أهل
_________
(1) الكامل لابن الأثير (2/ 79).
(2) الرقة والبكاء لابن قدامة، ص190, الخلفاء الراشدون لحسن أبوب، ص191. شهيد الدار لأحمد الخروف، ص21.
(3) الذي فيه سواد وبياض.
(4) الرقة والبكاء، ص190.(1/51)
الفاقة والبؤس، الذين طحنتهم أزمة الحياة واعتصرت دماءهم شرابا لذوي القلوب المتحجرة من الأثرياء؟! فما أحوج المسلمين في هذه المرحلة من حياتهم إلى نفحة عثمانية في إنفاق الأموال على الفقراء والمساكين والمحتاجين تسري بينهم تعاطفًا ومؤاساة وبرًّا وإحسانا (1).
هذا موقف من مواقف الكرم والبر لعثمان - رضي الله عنه -، فقد كان - رضي الله عنه - من أرحم الناس بالناس، فهو يقرأ قول رب الناس: {كَلاَّ إِنَّ الإِنْسَانَ لَيَطْغَى} [العلق: 6] فيصده ذلك عن الطغيان، ويقرأ قوله تعالى: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} [البقرة: 44] فيجعله ذلك من أبعد الناس عن النفاق والمنافقين، ويقرأ قوله تعالى: {لَيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآَخِرِ وَالْمَلاَئِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاَةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ} [البقرة: 177] فيحمله ذلك على أن يكون من (2) {أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ
الْمُتَّقُونَ} [البقرة: 177].
ثانيًا: في عهد الفاروق:
كان عثمان ذا مكانة عند عمر، فكانوا إذا أرادوا أن يسألوا عمر عن شيء رموه بعثمان، وبعبد الرحمن بن عوف. وكان عثمان يسمى الرديف، والرديف بلسان العرب هو الذي يكون بعد الرجل، والعرب تقول ذلك للرجل الذي يرجونه بعد رئيس، وكانوا إذا لم يقدر هذان على عمل شيء ثلثوا بالعباس (3).
وقد حدث ذات مرة أن خرج عمر بالناس وعسكر بهم بما يُدْعى (صرارا)، فجاء عثمان فسأله: ما بلغك؟ ما الذي تريد؟ فنادى عمر (الصلاة جامعة)، ثم أخبر الناس عن عزمه في غزو العراق (4). ولما ولي عمر الخلافة استشار وجوه الصحابة في عطائه من بيت مال المسلمين، فقال له عثمان: كل واطعم (5). وعندما أرسل أبو عبيدة إلى عمر
_________
(1) عثمان بن عفان، صادق عرجون، ص52.
(2) شهيد الدار، ص22، 23.
(3) تاريخ الطبري (4/ 83) , المرتضى للندوي، ص131.
(4) عثمان بن عفان، الخليفة الشاكر الصابر، ص63.
(5) عثمان بن عفان، الخليفة الشاكر الصابر، ص63.(1/52)
أن يقدم إلى بيت المقدس ليفتحه، فاستشار عمر الناس، فأشار عثمان بأن لا يركب إليهم ليكون أحقر لهم، وأرغم لأنوفهم، وقال لعمر: فأنت إن أقمت ولم تسر إليهم رأوا أنك بأمرهم مستخف ولقتالهم مستعد، فلم يلبثوا إلى السير حتى ينزلوا على الصغار ويعطوا الجزية (1). وأشار عليٌّ بالمسير، فهوى عمر ما قال علي ليكون أخف وطأة على المسلمين في حصارهم (2).
لقد كانت مكانة عثمان في خلافة عمر بن الخطاب -رضي الله عنهما- كمكانة الوزير من الخليفة، وإن شئت فقل: هي مكانة عمر من أبي بكر في خلافته. وقد صنع الله لأبي بكر بوزارة عمر لخلافته ما يصنعه لخير أهله، وصنع لعمر بوزارة عثمان لخلافته ما يصنعه لخير أهله، فقد كان أبو بكر أرحم الناس بالناس، وكان عمر أشدهم في الحق، فمزج الله رحمة الصديق بشدة عمر، فكانت منها خلافة الصدق وسياسة العدل، وقوم الحزم. وكان عثمان - رضي الله عنه - أشبه بالصديق في رحمته، وكان عمر على سننه في شدته، فلما تولى بعد أبي بكر جعل الله له في وزارة عثمان لخلافته عوضًا من رحمة الصديق ورفقه، فكان منهما تلك الأمثال المضروبة في أنظمة الحكم وسياسة الأمة أحكم سياسة وأعدلها. وقد عرف الناس هذه المكانة لعثمان في خلافة عمر، فهو الذي أشار على عمر بفكرة الديوان وكتابة التاريخ، كما جاء في
بعض الروايات.
1 - الديوان:
لما اتسعت الفتوحات وكثرت الأموال جمع عمر ناسا من أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ليستشيرهم في هذا المال، فقال عثمان: أرى مالا كثيرا يسع الناس، وإن لم يحصوا حتى يعرف من أخذ منهم ممن لم يأخذ خشيت أن ينتشر الأمر، فأقر عمر رأي عثمان، وانتهى بهم ذلك إلى تدوين الدواوين (3).
2 - التاريخ:
جاء في بعض الروايات أن الذي أشار على عمر بجعل السنة الهجرية تبدأ بالمحرم هو عثمان، وذلك أنهم لما اتفقوا بعد مشاورات على جعل مبدأ التاريخ الإسلامي من هجرة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لأنها فرقت بين الحق والباطل، تعددت الآراء في أي الأشهر يجعل بداية
_________
(1) عثمان بن عفان، لمحمد حسين هيكل، ص47، 48, نقلا عن السياسة المالية لعثمان بن عفان، ص24.
(2) عثمان بن عفان الخليفة الشاكر، ص63.
(3) تاريخ الطبري (5/ 203)، عثمان بن عفان، صادق عرجون، ص60.(1/53)
للسنة، فقال عثمان: أرخوا من المحرم أول السنة، وهو شهر حرام، وأول الشهور في العدة، وهو منصرف الناس من الحج، فرضي عمر ومن شهده من أصحابه رأي عثمان واستقر عليه الأمر، وأصبح مبدأ تاريخ الإسلام (1).
3 - أرض الخراج:
كان عثمان ممن أيدوا رأي عمر بن الخطاب في عدم تقسيم أرض الفتوح على الفاتحين وإبقائها فيئًا للمسلمين وللذرية من بعدهم (2).
4 - حجه مع أمهات المؤمنين:
لما استخلف عمر بن الخطاب سنة ثلاث عشرة بعث تلك السنة على الحج عبد الرحمن بن عوف، فحج بالناس، وحج مع عمر أيضا آخر حجة حجها عمر سنة ثلاث وعشرين، وأذن عمر تلك السنة لأزواج النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الحج، فحُملن في الهوادج، وبعث معهن عثمان بن عفان وعبد الرحمن بن عوف، فكان عثمان يسير على راحلته أمامهن فلا يدع أحدا يدنو منهن، وينزلن مع عمر كل منزل، فكان عثمان وعبد الرحمن ينزلان بهن في الشعاب فيقبلانهن الشعاب، وينزلان هما في أذل الشعب، فلا يتركان أحدا يمر عليهن (3).
* * *
_________
(1) عثمان بن عفان، صادق عرجون، ص60.
(2) السياسة المالية لعثمان، ص25.
(3) طبقات ابن سعد (3/ 134)، أنساب الأشراف للبلاذري، (1/ 465، 466)، مجلة البحوث الإسلامية، العدد العاشر، ص 263.(1/54)
الفصل الثاني
استخلاف ذى النورين ومنهجه في الحكم وأهم صفاته الشخصية
المبحث الأول
استخلاف ذى النورين
أولاً: الفقه العمرى فى الاستخلاف:
استمر اهتمام الفاروق - رضي الله عنه - بوحدة الأمة ومستقبلها حتى اللحظات الأخيرة من حياته، رغم ما كان يعانيه من آلام جراحاته البالغة، وهي بلا شك لحظات خالدة، تجلى فيها إيمان الفاروق العميق وإخلاصه وإيثاره (1). وقد استطاع الفاروق في تلك اللحظات الحرجة أن يبتكر طريقة جديدة لم يسبق إليها في اختيار الخليفة الجديد، وكانت دليلا ملموسًا, ومعلما واضحا على فقهه في سياسة الدولة الإسلامية. لقد مضى قبله الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ولم يستخلف بعده أحدا بنص صريح، ولقد مضى أبو بكر الصديق واستخلف الفاروق بعد مشاورة كبار الصحابة، ولما طلب من الفاروق أن يستخلف وهو على فراش الموت، فكر في الأمر مليًّا وقرر أن يسلك مسلكا آخر يتناسب مع المقام؛ فرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ترك الناس وكلهم مُقِرٌّ بأفضلية أبي بكر وأسبقيته عليهم، فاحتمال الخلاف كان نادرا وخصوصا أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وجه الأمة قولا وفعلا إلى أن أبا بكر أولى بالأمر من بعده. والصديق لما استخلف عمر كان يعلم أن عند الصحابة أجمعين قناعة بأن عمر أقوى وأفضل من يحمل المسئولية بعده، فاستخلفه بعد مشاورة كبار الصحابة ولم يخالف رأيه أحد منهم، وحصل الإجماع على بيعة عمر (2)، وأما طريقة انتخاب الخليفة الجديد فتعتمد على جعل الشورى في عدد محصور، وقد حصر ستة من صحابة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كلهم يصلحون لتولي الأمر ولو أنهم يتفاوتون، وحدد لهم طريقة الانتخاب ومدته، وعدد الأصوات الكافية لانتخاب الخليفة وحدد الحكم في المجلس، والمرجح إن تعادلت الأصوات، وأمر مجموعة من جنود الله لمراقبة سير الانتخابات في المجلس، وعقاب من يخالف أمر الجماعة، ومنع الفوضى بحيث لا يسمحون لأحد يدخل
_________
(1) الخليفة الفاروق عمر بن الخطاب للعاني، ص161.
(2) أوليات الفاروق، د. غالب عبد الكافي القرشي، ص122.(1/55)
أو يسمع ما يدور في مجلس أهل الحل والعقد (1).
وهذا بيان ما أُجْمِل في الفقرات السابقة:
1 - العدد الذي حدده للشورى وأسماؤهم:
أما العدد فهو ستة، وهم: علي بن أبي طالب، وعثمان بن عفان، وعبد الرحمن بن عوف، وسعد بن أبي وقاص، والزبير بن العوام، وطلحة بن عبيد الله رضي الله عنهم جميعا. وترك سعيد بن زيد وهو من العشرة المبشرين بالجنة، ولعله تركه لأنه من قبيلته بني عدي (2). وكان عمر - رضي الله عنه - حريصا على إبعاد الإمارة عن أقاربه، مع أن فيهم من هو أهل لها، فهو يبعد قريبه سعيد بن زيد عن قائمة المرشحين للخلافة (3).
2 - طريقة اختيار الخليفة:
أمرهم أن يجتمعوا في بيت أحدهم ويتشاوروا وفيهم عبد الله بن عمر يحضر معهم مشيرا فقط وليس له من الأمر شيء، ويصلي بالناس أثناء التشاور صهيب الرومي، وقال له: أنت أمير الصلاة في هذه الأيام الثلاثة حتى لا يولي إمامةَ الصلاة أحدا من الستة فيصبح هذا ترشيحا من عمر له بالخلافة (4). وأمر المقداد بن الأسود وأبا طلحة الأنصاري أن يرقبا سير الانتخابات (5).
3 - مدة الانتخابات أو المشاورة:
حددها الفاروق - رضي الله عنه - بثلاثة أيام وهي فترة كافية وإن زادوا عليها، فمعنى ذلك أن شقة الخلاف ستتسع، ولذلك قال لهم: لا يأتي اليوم الرابع إلا وعليكم أمير (6).
4 - عدد الأصوات الكافية لاختيار الخليفة:
أخرج ابن سعد بإسناد رجاله ثقات أن عمر - رضي الله عنه - قال لصهيب: صلِّ بالناس ثلاثا وليخلُ هؤلاء الرهط في بيت، فإذا اجتمعوا على رجل فمن خالفهم فاضربوا
_________
(1) أوليات الفاروق، د. غالب عبد الكافي القرشي، ص124.
(2) البداية والنهاية (4/ 142).
(3) الخلفاء الراشدون للخالدي، ص98.
(4) الخلافة والخلفاء الراشدون للبهنساوي، ص213.
(5) أشهر مشاهير الإسلام في الحرب والسياسة، ص648.
(6) الطبقات لابن سعد (3/ 364).(1/56)
رأسه (1). فعمر - رضي الله عنه - أمر بقتل من يريد أن يخالف هؤلاء الرهط وشق عصا المسلمين ويفرق بينهم عملا بقوله: «من أتاكم وأمركم جمع على رجل منكم يريد أن يشق عصاكم أو يفرق جماعتكم فاقتلوه» (2). وما جاء في كتب التاريخ من أن عمر - رضي الله عنه - أمرهم بالاجتماع والتشاور، وحدد لهم أنه إذا اجتمع خمسة منهم على رجل وأبى أحدهم فيضرب رأسه بالسيف، وإن اجتمع أربعة وفرضوا رجلا منهم وأبى اثنان فاضرب رؤوسهما (3). وهذه من الروايات التي لا تصح سندا، فهي من الغرائب التي ساقها أبو مخنف -الرافضي الشيعي- مخالفا فيها النصوص الصحيحة وما عرف من سير الصحابة رضي الله عنهم، فما ذكر أبو مخنف من قول عمر لصهيب: وقم على رؤوسهم -أي أهل الشورى- فإن اجتمع خمسة ورضوا رجلا وأبى واحد فاشدخ رأسه بالسيف، وإن اتفق أربعة فرضوا رجلا منهم وأبى اثنان فاضرب رؤوسهما (4) , فهذا قول منكر، وكيف يقول عمر - رضي الله عنه - هذا وهو يعلم أنهم هم الصفوة من أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وهو الذي اختارهم لهذا الأمر لعلمه بفضلهم وقدرهم؟!! (5).
وقد ورد عن ابن سعد أن عمر قال للأنصار: أدخلوهم بيتا ثلاثة أيام، فإن استقاموا وإلا فادخلوا عليهم فاضربوا أعناقهم (6). وهذه الرواية منقطعة وفي إسنادها (سماك بن حرب) وهو ضعيف، وقد تغير بآخره (7).
5 - الحكم في حال الاختلاف:
لقد أوصى بأن يحضر عبد الله بن عمر معهم في المجلس وأن ليس له من الأمر شيء، ولكن قال لهم: فإن رضي ثلاثة رجلا منهم وثلاثة رجلا منهم فحكموا عبد الله بن عمر، فأي الفريقين حكم له فليختاروا رجلا منهم، فإن لم يرضوا بحكم عبد الله بن عمر فكونوا مع الذين فيهم عبد الرحمن بن عوف، ووصف عبد الرحمن بن عوف بأنه مسدد رشيد، فقال عنه: ونعم ذو الرأي عبد الرحمن بن عوف، مسدد رشيد، له من الله حافظ، فاسمعوا منه (8).
_________
(1) الطبقات لابن سعد (3/ 342).
(2) مسلم (3/ 1480).
(3) تاريخ الطبري (5/ 226).
(4) تاريخ الطبري (5/ 226).
(5) مرويات أبي مخنف في تاريخ الطبري، د. يحيى اليحيى، ص175.
(6) الطبقات لابن سعد، (2/ 342).
(7) مرويات أبي مخنف في تاريخ الطبري، ص176.
(8) تاريخ الطبري (5/ 325).(1/57)
6 - جماعة من جنود الله تراقب الاختيار وتمنع الفوضى:
طلب عمر أبا طلحة الأنصاري وقال له: يا أبا طلحة، إن الله -عز وجل- أعز الإسلام بكم، فاختر خمسين رجلا من الأنصار فاستحث هؤلاء الرهط حتى يختاروا رجلا منهم (1). وقال للمقداد بن الأسود: إذا وضعتموني في حفرتي، فاجمع هؤلاء الرهط في بيت حتى يختاروا رجلا منهم (2).
7 - جواز تولية المفضول مع وجود الأفضل:
ومن فوائد قصة الشورى، جواز تولية المفضول مع وجود الأفضل؛ لأن عمر جعل الشورى في ستة أنفس مع علمه أن بعضهم كان أفضل من بعض، ويؤخذ هذا من سيرة عمر في أمرائه الذين كان يؤمرهم في البلاد؛ حيث كان لا يراعي الفضل في الدين فقط، بل يضم إليه مزيد المعرفة بالسياسة مع اجتناب ما يخالف الشرع منها، فاستخلف معاوية والمغيرة بن شعبة وعمرو بن العاص مع وجود من هو أفضل من كل منهم في أمر الدين والعلم؛ كأبي الدرداء في الشام، وابن مسعود في الكوفة (3).
8 - جمع عمر بين التعيين وعدمه:
جمع عمر بين التعيين، كما فعل أبو بكر أي تعيين المرشح، وبين عدم التعيين كما فعل الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فعين ستة وطلب منهم التشاور في الأمر (4).
9 - الشورى ليست بين الستة فقط:
عرف عمر أن الشورى لن تكون بين الستة فقط، وإنما ستكون في أخذ رأي الناس في المدينة فيمن يتولى الخلافة؛ حيث جعل لهم أمد ثلاثة أيام فيمكنهم من المشاورة والمناظرة لتقع ولاية من يتولى بعده عن اتفاق من معظم الموجودين حينئذ ببلده التي هي دار الهجرة، وبها معظم الصحابة وكل من كان ساكنا في بلد غيرها كان تبعا لهم فيما يتفقون عليه، فما زالت المدينة حتى سنة 23 هـ مجمع الصحابة؛ بل لأن كبار الصحابة فيها، حيث استبقاهم عمر بجانبه، ولم يأذن لهم بالهجرة إلى الأقاليم المفتوحة (5).
_________
(1) تاريخ الطبري (5/ 225).
(2) تاريخ الطبري (5/ 225).
(3) المدينة النبوية .. فجر الإسلام والعصر الراشدي (2/ 97).
(4) المدينة النبوية .. فجر الإسلام والعصر الراشدي (2/ 97).
(5) المدينة النبوية .. فجر الإسلام والعصر الراشدي (2/ 97).(1/58)
10 - أهل الشورى أعلى هيئة سياسية:
إن عمر - رضي الله عنه - أناط بأهل الشورى وحدهم اختيار الخليفة من بينهم، ومن المهم أن نشير إلى أن أحدا من أهل الشورى لم يعارض هذا القرار الذي اتخذه عمر، كما أن أحدا من الصحابة الآخرين لم يُثِر أي اعتراض عليه، ذلك ما تدل عليه النصوص التي بين أيدينا، فنحن لا نعلم أن اقتراحا آخر قد صدر عن أحد من الناس في ذلك العصر، أو أن معارضة ثارت حول أمر عمر خلال الساعات الأخيرة من حياته أو بعد وفاته، وإنما رضي الناس كافة هذا التدبير، ورأوا فيه مصلحة لجماعة المسلمين. وفي وسعنا أن نقول: إن عمر قد أحدث هيئة سياسية عليا، مهمتها انتخاب رئيس الدولة أو الخليفة، وهذا التنظيم الدستوري الجديد الذي أبدعته عبقرية عمر لا يتعارض مع المبادئ الأساسية التي أقرها الإسلام، ولا سيما فيما يتعلق بالشورى؛ لأن العبرة من حيث النتيجة للبيعة العامة التي تجرى في المسجد الجامع. وعلى هذا لا يتوجه السؤال الذي قد يرد على بعض الأذهان وهو: من أعطى عمر هذا الحق؟ ما مستند عمر في هذا التدبير؟ ويكفي أن نعلم أن جماعة من المسلمين قد أقرت هذا التدبير ورضيت به، ولم يسمع صوت اعتراض عليه، حتى نتأكد أن الإجماع -وهو من مصادر التشريع- قد انعقد على صحته ونفاذه (1). .
ولا ننسى أن عمر خليفة راشد، كما ينبغي أن نؤكد على أن هذا المبدأ -أهل الشورى أعلى هيئة سياسية- قد أقره نظام الحكم في الإسلام في العهد الراشدي، كما أن الهيئة التي سماها عمر تمتعت بمزايا لم يتمتع بها غيرها من جماعة المسلمين، وهذه المزايا منحت لها من الله وبلغها الرسول، فلا يمكن عند المؤمنين أن يبلغ أحد من المسلمين مبلغ هؤلاء العشرة من التقوى والأمانة (2).
هكذا ختم عمر - رضي الله عنه - حياته ولم يشغله ما نزل به من البلاء ولا سكرات الموت عن تدبير أمر المسلمين، وأرسى نظاما للشورى لم يسبقه إليه أحد، ولا يشك أن أصل الشورى مقرر في القرآن الكريم والسنة القولية والفعلية، وقد عمل بها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأبو بكر ولم يكن عمر مبتدعا بالنسبة للأصل، ولكن الذي عمله عمر هو تعيين الطريقة التي يختار بها الخليفة وحصر عدد معين جعلها فيهم، وهذا لم يفعله الرسول
_________
(1) نظام الحكم في الشريعة والتاريخ الإسلامي، ظافر القاسمي (1/ 227، 228)
(2) المصدر نفسه (1/ 229).(1/59)
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ولا الصديق - رضي الله عنه - بل أول من فعل ذلك عمر، ونعم ما فعل؛ فقد كانت أفضل الطرق المناسبة لحال الصحابة في ذلك الوقت (1).
ثانيًا: وصية عمر - رضي الله عنه - للخليفة الذي بعده:
أوصى الفاروق عمر - رضي الله عنه - الخليفة الذي سيخلفه في قيادة الأمة بوصية مهمة قال فيها: أوصيك بتقوى الله وحده لا شريك له، وأوصيك بالمهاجرين الأولين خيرا؛ أن تعرف لهم سابقتهم، وأوصيك بالأنصار خيرا، فاقبل من محسنهم وتجاوز عن مسيئهم. وأوصيك بأهل الأمصار خيرا، فإنهم ردء العدو، وجباة الفيء، لا تحمل منهم إلا عن فضل منهم، وأوصيك بأهل البادية خيرا، فإنهم أصل العرب، ومادة الإسلام, أن تأخذ من حواشي أموالهم فترد على فقرائهم. وأوصيك بأهل الذمة خيرا؛ أن تقاتل من وراءهم، ولا تكلفهم فوق طاقتهم، إذا أدوا ما عليهم للمؤمنين طوعا، أو عن يد وهم صاغرون. وأوصيك بتقوى الله والحذر منه، ومخافة مقته أن يطلع منك على ريبة، وأوصيك أن تخشى الله في الناس ولا تخشى الناس في الله، وأوصيك بالعدل في الرعية، والتفرغ لحوائجهم وثغورك، ولا تؤثر غنيهم على فقيرهم؛ فإن في ذلك -بإذن الله- سلامة لقلبك وحطًّا لوزرك، وخيرا في عاقبة أمرك حتى تفضي في ذلك إلى من يعرف سريرتك ويحول بينك وبين قلبك، وآمرك أن تشتد في أمر الله وفي حدوده ومعاصيه على قريب الناس وبعيدهم، ثم لا تأخذك في أحد الرأفة حتى تنتهك منه مثل جرمه، واجعل الناس عندك سواء، لا تبالِ على مَنْ وجب الحق، ولا تأخذك في الله لومة لائم، وإياك والمحاباة فيما ولاك الله مما أفاء على المؤمنين فتجور وتظلم وتحرم نفسك من ذلك ما قد وسعه الله عليك، وقد أصبحت بمنزلة من منازل الدنيا والآخرة، فإن اقترفت لدنياك عدلا وعفة عما بسط لك اقترفت به إيمانا ورضوانا، وإن غلبك الهوى اقترفت به غضب الله.
وأوصيك ألا ترخص لنفسك ولا لغيرك في ظلم أهل الذمة، وقد أوصيتك وخصصتك ونصحتك، فابتغ بذلك وجه الله والدار الآخرة، واخترت من دلالتك ما كنت دالا عليه نفسي وولدي، فإن عملت بالذي وعظتك، وانتهيت إلى الذي أمرتك أخذت منه نصيبا وافرا وحظا وافيا، وإن لم تقبل ذلك ولم يهمك، ولم تترك معاظم الأمور عند الذي يرضى به الله عنك، يكن ذلك بك انتقاصا، ورأيك فيه مدخولا؛ لأن الأهواء مشتركة، ورأس الخطيئة إبليس داع إلى كل مهلكة، وقد أضل القرون السالفة قبلك
_________
(1) أوليات الفاروق، د. غالب عبد الكافي القرشي، ص127.(1/60)
فأوردهم النار وبئس المورود، وبئس الثمن أن يكون حظ امرئ موالاة لعدو الله الداعي إلى معاصيه. ثم اركب الحق، وخض إليه الغمرات، وكن واعظا لنفسك. وأناشدك الله إلا ترحمت على جماعة المسلمين، وأجللت كبيرهم، ورحمت صغيرهم، ووقرت عالمهم، ولا تضر بهم فيذلوا، ولا تستأثر عليهم بالفيء فتغضبهم، ولا تحرمهم عطاياهم عند محلها فتفقرهم، ولا تجمِّرهم في البعوث فينقطع نسلهم، ولا تجعل المال دولة بين الأغنياء منهم، ولا تغلق بابك دونهم فيأكل قويهم ضعيفهم، هذه وصيتي إليك، وأشهد الله عليك وأقرأ عليك السلام (1).
هذه الوصية تدل على بُعْد نظر عمر في مسائل الحكم والإدارة، وتفصح عن نهج ونظام حكم وإدارة متكامل؛ فقد تضمنت الوصية أمورا غاية في الأهمية، فحق أن تكون وثيقة نفيسة لما احتوته من قواعد ومبادئ أساسية للحكم، متكاملة الجوانب الدينية والسياسية والعسكرية والاقتصادية والاجتماعية يأتي في مقدمتها:
1 - الحرص على تقوى الله وخشيته:
أ- الوصية بالحرص الشديد على تقوى الله والخشية منه في السر والعلن، في القول والعمل؛ لأن من اتقى الله وقاه, ومن خشيه صانه وحماه (أوصيك بتقوى الله وحده لا شريك له)، (وأوصيك بتقوى الله والحذر منه، وأوصيك أن تخشى الله).
ب- إقامة حدود الله على القريب والبعيد (لا تبالِ على مَنْ وجب الحق)، (ولا تأخذك في الله لومة لائم)؛ لأن حدود الله نصت عليها الشريعة فهي من الدين؛ ولأن الشريعة حجة على الناس وأعمالهم وأفعالهم تقاس بمقتضاها، وأن التغافل عنها إفساد للدين والمجتمع.
ج- الاستقامة (استقم كما أمرت)، وهي من الضرورات الدينية والدنيوية التي يجب على الحاكم التحلي بها قولا وعملا أولا ثم الرعية، (كن واعظا لنفسك) (وابتغ بذلك وجه الله والدار الآخرة).
2 - الناحية السياسية، وتضمنت:
أ- الالتزام بالعدل؛ لأنه أساس الحكم، وإن إقامته بين الرعية تحقق للحكم قوة وهيبة
_________
(1) الطبقات لابن سعد (3/ 339) , البيان والتبيين للجاحظ (2/ 46) , الكامل في التاريخ (2/ 210) , الخليفة الفاروق عمر بن الخطاب للعاني، ص171، 172.(1/61)
ومتانة سياسية واجتماعية، وتزيد من هيبة واحترام الحاكم في نفوس الناس (وأوصيك بالعدل)، (واجعل الناس عندك سواء).
ب- العناية بالمسلمين الأوائل من المهاجرين والأنصار لسابقتهم في الإسلام، ولأن العقيدة وما أفرزته من نظام سياسي قام على أكتافهم، فهم أهله وحملته وحُمَاته (أوصيك بالمهاجرين الأولين خيرا، أن تعرف لهم سابقتهم، وأوصيك بالأنصار خيرا، فاقبل من محسنهم وتجاوز عن مسيئهم).
3 - الناحية العسكرية، وتضمنت:
أ- الاهتمام بالجيش وإعداده إعدادًا يتناسب وعِظَم المسئولية الملقاة على عاتقه لضمان أمن الدولة وسلامتها، والعناية بسد حاجات المقاتلين (التفرغ لحوائجهم وثغورهم).
ب- تجنب إبقاء المقاتلين لمدة طويلة في الثغور بعيدا عن عوائلهم، وتلافيا لما قد يسببه ذلك من ملل وقلق وهبوط في المعنويات، فمن الضروري منحهم إجازات معلومة في أوقات معلومة يستريحون فيها ويجددون نشاطهم خلالها من جهة، ويعودون إلى عوائلهم لكي لا ينقطع نسلهم من جهة ثانية (ولا تجمرهم في الثغور فينقطع نسلهم)، (وأوصيك بأهل الأمصار خيرا، فإنهم ردء العدو).
ج- إعطاء كل مقاتل ما يستحقه من فيء وعطاء؛ وذلك لضمان مورد ثابت له ولعائلته يدفعه إلى الجهاد، ويصرف عنه التفكير في شئونه المالية (ولا تستأثر عليهم بالفيء فتغضبهم، ولا تحرمهم عطاياهم عند محلها فتفقرهم).
4 - الناحية الاقتصادية والمالية، وتضمنت:
أ- العناية بتوزيع الأموال بين الناس بالعدل والقسطاس المستقيم، وتلافي كل ما من شأنه تجميع الأموال عند طبقة منهم دون أخرى (ولا تجعل الأموال دولة بين الأغنياء منهم).
ب- عدم تكليف أهل الذمة فوق طاقتهم إن هم أدوا ما عليهم من التزامات مالية للدولة (ولا تكلفهم فوق طاقتهم إذا أدوا ما عليهم للمؤمنين).(1/62)
ج- ضمان الحقوق المالية للناس وعدم التفريط بها، وتجنب فرض ما لا طاقة لهم به (ولا تحمل منهم إلا عن فضل منهم)، (أن تأخذ حواشي أموالهم فترد على فقرائهم) (1).
5 - الناحية الاجتماعية، وتضمنت:
أ- الاهتمام بالرعية، والعمل على تفقد أمورهم وسد احتياجاتهم وإعطاء حقوقهم من فيء وعطاء .. (ولا تحرمهم عطاياهم عند محلها).
ب- اجتناب الأثَرَة والمحاباة واتباع الهوى؛ لما فيها من مخاطر تقود إلى انحراف الراعي، وتؤدي إلى فساد المجتمع واضطراب علاقاته الإنسانية (وإياك والأثرة والمحاباة فيما ولاك الله)، (ولا تؤثر غنيهم على فقيرهم).
ج- احترام الرعية وتوقيرها والتواضع لها، صغيرها وكبيرها، لما في ذلك من سمو في العلاقات الاجتماعية، تؤدي إلى زيادة تلاحم الرعية بقائدها وحبها له (وأناشدك الله إلا ترحمت على جماعة المسلمين، وأجللت كبيرهم ورحمت صغيرهم، ووقرت عالمهم).
د- الانفتاح على الرعية، وذلك بسماع شكاواهم وإنصاف بعضهم من بعض، وبعكسه تضطرب العلاقات بينهم ويعم الارتباك في المجتمع (ولا تغلق بابك دونهم، فيأكل قويهم ضعيفهم).
هـ- اتباع الحق والحرص على تحقيقه في المجتمع وفي كل الظروف والأحوال؛ لكونه ضرورة اجتماعية لا بد من تحقيقها بين الناس (ثم اركب الحق، وخض إليه الغمرات)، (واجعل الناس عندك سواء، لا تبالِ على مَنْ وجب الحق).
و- اجتناب الظلم بكل صوره وأشكاله، خاصة مع أهل الذمة؛ لأن العدل مطلوب إقامته بين جميع رعايا الدولة مسلمين وذميين؛ لينعم الجميع بعدل الإسلام (وأوصيك ألا ترخص لنفسك ولا لغيرك في ظلم أهل الذمة).
_________
(1) الخليفة الفاروق عمر بن الخطاب للعاني، ص174، 175.(1/63)
ز- الاهتمام بأهل البادية ورعايتهم والعناية بهم (وأوصيك بأهل البادية خيرا، فإنهم أصل العرب، ومادة الإسلام) (1).
ح- وكان من ضمن وصية عمر لمن بعده: ألا يقر لي عامل أكثر من سنة، وأقروا الأشعري أربع سنين (2).
ثالثًا: منهج عبد الرحمن بن عوف في إدارة الشورى:
1 - اجتماع الرهط للمشاورة:
لم يكد يفرغ الناس من دفن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - حتى أسرع رهط الشورى وأعضاء مجلس الدولة الأعلى إلى الاجتماع في بيت عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها، وقيل إنهم اجتمعوا في بيت فاطمة بنت قيس الفهرية أخت الضحاك بن قيس، ليقضوا في أعظم قضية عرضت في حياة المسلمين، بعد وفاة عمر، وقد تكلم القوم وبسطوا آراءهم واهتدوا بتوفيق الله إلى كلمة سواء رضيها الخاصة والكافة من المسلمين (3).
2 - عبد الرحمن يدعو إلى التنازل:
عندما اجتمع أهل الشورى قال لهم عبد الرحمن بن عوف: اجعلوا أمركم إلى ثلاثة منكم، فقال الزبير: جعلت أمري إلى علي (4) , وقال طلحة: جعلت أمري إلى عثمان، وقال سعد: جعلت أمري إلى عبد الرحمن بن عوف، وأصبح المرشحون الثلاثة علي بن أبي طالب، وعثمان بن عفان، وعبد الرحمن بن عوف، فقال عبد الرحمن: أيكما تبرأ من هذا الأمر فنجعله إليه والله عليه والإسلام لينظرن أفضلهم في نفسه فأسكت الشيخان، فقال عبد الرحمن بن عوف: أفتجعلونه إليَّ والله على أن لا آلو عن أفضلكما، قالا: نعم (5).
3 - تفويض ابن عوف بإدارة عملية الشورى:
بدأ عبد الرحمن بن عوف - رضي الله عنه - اتصالاته ومشاوراته فور انتهاء اجتماع المرشحين الستة صباح يوم الأحد، واستمرت مشاوراته واتصالاته ثلاثة أيام كاملة، حتى
_________
(1) الخليفة الفاروق للعاني، ص173 - 175.
(2) عصر الخلافة الراشدة، ص102.
(3) عثمان بن عفان، صادق عرجون، ص62، 63.
(4) البخاري، كتاب فضائل أصحاب النبي، رقم: (3700)
(5) البخاري، كتاب فضائل أصحاب النبي، رقم: (3700).(1/64)
فجر يوم الأربعاء الرابع من محرم وهو موعد انتهاء المهلة التي حددها لهم عمر، وبدأ عبد الرحمن بعلي بن أبي طالب فقال له: إن لم أبايعك فأشر عليَّ، فمن ترشح للخلافة؟ قال علي: عثمان بن عفان، وذهب عبد الرحمن إلى عثمان وقال له: إن لم أبايعك، فمن ترشيح للخلافة؟ فقال عثمان: علي بن أبي طالب ... وذهب ابن عوف بعد ذلك إلى الصحابة الآخرين واستشارهم، وكان يشاور كل من يلقاه في المدينة من كبار الصحابة وأشرافهم، ومن أمراء الأجناد، ومن يأتي للمدينة، وشملت مشاورته النساء في خدورهن، وقد أبدين رأيهن، كما شملت الصبيان والعبيد في المدينة، وكانت نتيجة مشاورات عبد الرحمن بن عوف أن معظم المسلمين كانوا يشيرون بعثمان بن عفان، ومنهم من كان يشير بعلي بن أبي طالب رضي الله عنهما. وفي منتصف ليلة الأربعاء، ذهب عبد الرحمن بن عوف إلى بيت ابن أخته: المسور بن مخرمة، فطرق البيت، فوجد المسور نائما (1) , فضرب الباب حتى استيقظ فقال: أراك نائما فوالله ما اكتحلت هذه الليلة بكبير نوم، انطلق فادع الزبير وسعدا، فدعوتهما له، فشاورهما ثم دعاني فقال: ادع لي عليا فدعوته فناجاه حتى ابهارَّ (2) الليل ثم قام علي من عنده ... ثم قال: ادع لي عثمان فدعوته فناجاه حتى فرق بينهما المؤذن بالصبح (3).
4 - الاتفاق على بيعة عثمان:
وبعد صلاة صبح يوم البيعة (اليوم الأخير من شهر ذي الحجة 23هـ/ 6 نوفمبر 644م) وكان صهيب الرومي الإمام إذ أقبل عبد الرحمن بن عوف، وقد اعتم بالعمامة التي عممه بها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - , وكان قد اجتمع رجال الشورى عند المنبر، أرسل إلى من كان حاضرا من المهاجرين والأنصار وأمراء الأجناد منهم: معاوية أمير الشام، وعمير بن سعد أمير حمص، وعمرو بن العاص أمير مصر، وكانوا وافوا تلك الحجة مع عمر وصاحبوه
إلى المدينة (4).
وجاء في رواية البخاري: فلما صلى للناس الصبح واجتمع أولئك الرهط عند المنبر فأرسل إلى كل حاضر من المهاجرين والأنصار، وأرسل إلى أمراء الأجناد وكانوا وافوا تلك الحجة مع عمر، فلما اجتمعوا تشهد عبد الرحمن ثم قال: أما بعد، يا
_________
(1) الخلفاء الراشدون للخالدي، ص106، 107.
(2) ابهار: أي انتصف.
(3) البخاري، كتاب الأحكام، رقم: (7207).
(4) شهيد الدار عثمان بن عفان، أحمد الخروف، ص37.(1/65)
علي إني قد نظرت في أمر الناس فلم أراهم يعدلون بعثمان، فلا تجعلن على نفسك سبيلا، فقال: (1) أبايعك على سنة الله ورسوله والخليفتين من بعده، فبايعه عبد الرحمن وبايعه الناس المهاجرون والأنصار وأمراء الأجناد والمسلمون (2). وجاء في رواية صاحب (التمهيد والبيان) أن علي بن أبي طالب أول من بايع بعد عبد الرحمن بن عوف (3).
5 - حكمة عبد الرحمن بن عوف في تنفيذ خطة الشورى:
نفذ عبد الرحمن بن عوف خطة الشورى بما دل على شرف عقله، ونبل نفسه، وإيثاره مصلحة المسلمين العامة على مصلحته الخاصة ونفعه الفردي، وترك عن طواعية ورضا أعظم منصب يطمع إليه إنسان في الدنيا، ليجمع كلمة المسلمين، وحقق أول مظهر من مظاهر الشورى المنظمة في اختيار من يجلس على عرش الخلافة ويسوس أمور المسلمين، فهو قد اصطنع من الأناة والصبر والحزم وحسن التدبير ما كفل له النجاح في أداء مهمته العظمى، وقد كانت الخطوات التي اتخذها كالآتي:
أ- بسط برنامجه في أول جلسة عقدها مجلس الشورى في دائرة الزمن الذي حده لهم عمر، وبذلك أمكنه أن يحمل جميع أعضاء مجلس الشورى على أن يدلوا برأيهم، فعرف مذهب كل واحد منهم ومرماه، فسار في طريقه على بينة من أمره.
ب- وخلع نفسه وتنازل عن حقه في الخلافة ليدفع الظنون ويستمسك بعروة الثقة الوثقى.
ج- أخذ في تعرف نهاية ما يصبو إليه كل واحد من أصحابه وشركائه في الشورى، فلم يزل يقلب وجوه الرأي معهم حتى انتهى إلى شبه انتخاب جزئي فاز فيه عثمان برأي سعد ابن أبي وقاص، ورأي الزبير بن العوام، فلاحت له أغلبية آراء الأعضاء الحاضرين معه.
د- عمد إلى معرفة كل واحد من الإمامين: عثمان وعلي في صاحبه بالنسبة لوزنه من سائر الرهط الذي رشحهم عمر، فعرف من كل واحد منهم أنه لا يعدل صاحبه أحدا إلا فاته الأمر.
_________
(1) قوله: "فقال" أي عبد الرحمن مخاطبا عثمان.
(2) البخاري، كتاب الأحكام، رقم: (7207).
(3) التمهيد والبيان، ص26.(1/66)
هـ- أخذ في تعرف رأي مَنْ وراء مجلس الشورى من خاصة الأمة وذوي رأيها، ثم من عامتها وضعفائها، فرأى أن معظم الناس لا يعدلون أحدا بعثمان، فبايع له، وبايعه عامة الناس (1).
لقد تمكن عبد الرحمن بن عوف بكياسته وأمانته واستقامته ونسيانه نفسه بالتخلي عن الطمع في الخلافة والزهد بأعلى منصب في الدولة، أن يجتاز هذه المحنة وقاد ركب الشورى بمهارة وتجرد، مما يستحق أعظم التقدير (2).
قال الذهبي: ومن أفضل أعمال عبد الرحمن عزله نفسه من الأمر وقت الشورى، واختياره للأمة من أشار به أهل الحل والعقد، فنهض في ذلك أتم نهوض على جمع الأمة على عثمان, ولو كان محابيا فيها لأخذها لنفسه، أو لولاها ابن عمه وأقرب الجماعة إليه سعد بن أبي وقاص (3).
وبهذا تحققت صورة أخرى من صور الشورى في عهد الخلفاء الراشدين، وهي الاستخلاف عن طريق مجلس الشورى ليعينوا أحدهم بعد أخذ المشورة العامة، ثم البيعة العامة (4).
رابعًا: أباطيل رافضية دست في قصة الشورى:
هناك أباطيل شيعية وأكاذيب رافضية دست في التاريخ الإسلامي، منها في قصة الشورى، وتولية عثمان الخلافة، وقد تلقفها المستشرقون وقاموا بتوسيع نشرها، وتأثر بها الكثير من المؤرخين والمفكرين المحدثين، ولم يمحصوا الروايات ويحققوا في سندها ومتنها فانتشرت بين المسلمين.
لقد اهتم مؤرخو الشيعة الرافضة بقصة الشورى وتولية عثمان بن عفان الخلافة ودسوا فيها الأباطيل والأكاذيب، وألف جماعة منهم كتبا خاصة، فقد ألف أبو مخنف كتاب الشورى، وكذلك ابن عقدة وابن بابويه (5). ونقل ابن سعد تسع روايات من
_________
(1) عثمان بن عفان، صادق عرجون، ص70، 71.
(2) مجلة البحوث الإسلامية، العدد (10)، ص225.
(3) سير أعلام النبلاء، شمس الدين الذهبي، (1/ 86).
(4) دراسات في عهد النبوة والخلافة الراشدة، ص278.
(5) الذريعة إلى تصانيف الشيعة (14/ 246).(1/67)
طريق الواقدي في خبر الشورى وبيعة عثمان وتاريخ توليه للخلافة (1)، ورواية من طريق عبيد الله بن موسى تضمنت مقتل عمر وحصره للشورى في الستة، ووصيته لكل من علي وعثمان إذا تولى أحدهما أمر الخلافة، ووصيته لصهيب في هذا الأمر (2).
وقد نقل البلاذري خبر الشورى وبيعة عثمان عن أبي مخنف (3) , وعن هشام الكلبي منها ما نقله عن أبي مخنف ومنها تفرد به (4)، وعن الواقدي (5) , وعن عبيد الله بن موسى (6)، واعتمد الطبري في هذه القصة على عدة روايات منها رواية أبي مخنف (7)، ونقل ابن أبي الحديد بعض أحداث قصة الشورى من طريق أحمد بن عبد العزيز الجوهري (8) , وأشار إلى نقله عن كتاب (الشورى) للواقدي (9) , وقد تضمنت الروايات الشيعية عدة أمور مدسوسة ليس لها دليل من الصحة، وهي:
1 - اتهام الصحابة بالمحاباة في أمر المسلمين:
اتهمت الروايات الشيعية الصحابة بالمحاباة في أمر المسلمين، وعدم رضا علي بأن يقوم عبد الرحمن باختيار الخليفة، فقد ورد عند أبي مخنف وهشام الكلبي عن أبيه وأحمد الجوهري أن عمر جعل ترجيح الكفتين إذا تساوتا بعبد الرحمن بن عوف، وأن عليا أحس بأن الخلافة ذهبت منه لأن عبد الرحمن سيقدم عثمان للمصاهرة التي بينهما (10). وقد نفى ابن تيمية أي ارتباط في النسب القريب بين عثمان وعبد الرحمن، فقال: فإن عبد الرحمن ليس أخا لعثمان ولا ابن عمه ولا من قبيلته أصلا، بل هذا من بني زهرة وهذا من بني أمية وبنو زهرة إلى بني هاشم أكثر ميلا منهم إلى بني أمية، فإن بني زهرة أخوال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ومنهم عبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص الذي قال له النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «هذا خالي فليرني امرؤ خاله» (11). فإن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم
_________
(1) الطبقات الكبرى لابن سعد (3/ 63) (3/ 67)،.
(2) المصدر السابق، (3/ 340).
(3) أنساب الأشراف، البلاذري (5/ 18، 19).
(4) أنساب الأشراف، البلاذري (5/ 18، 19).
(5) أنساب الأشراف، البلاذري (5/ 18، 19).
(6) المصدر السابق، (5/ 6).
(7) أثر التشيع على الروايات التاريخية، د. عبد العزيز نور، ص321، وهو العمدة في هذه الفقرة.
(8) شرح نهج البلاغة، (9/ 49، 50 - 58).
(9) المصدر السابق (9/ 15)
(10) أثر التشيع على الروايات التاريخية، ص322.
(11) صحيح سنن الترمذي (3/ 220)، رقم (4018).(1/68)
يؤاخِ بين مهاجريٍّ ومهاجري، ولا بين أنصاري وأنصاري، وإنما آخى بين المهاجرين والأنصار؛ فآخى بين عبد الرحمن بن عوف وسعد بن الربيع الأنصاري (1)، وحديثه مشهور ثابت في الصحاح وغيرها، يعرفه أهل العلم بذلك (2). وقد بنت الروايات الشيعية محاباة عبد الرحمن لعثمان للمصاهرة التي كانت بينهما متناسية أن قوة النسب أقوى من المصاهرة من جهة، ومن جهة أخرى تناسوا طبيعة العلاقة بين المؤمنين في الجيل الأول، وأنها لا تقوم على نسب ولا مصاهرة، وأما كيفية المصاهرة التي كانت بين عبد الرحمن وعثمان فهي أن عبد الرحمن تزوج أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط أخت الوليد (3).
2 - حزب أموي وحزب هاشمي:
أشارت رواية أبي مخنف إلى وقوع مشادة بين بني هاشم وبني أمية أثناء المبايعة، وهذا غير صحيح، ولم يرد ذلك برواية صحيحة ولا ضعيفة (4). وقد انساق بعض المؤرخين خلف الروايات الشيعية الرافضية وبنوا تحليلاتهم الخاطئة على تلك الروايات، فصوروا تشاور أصحاب الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في تحديد الخليفة الجديد بصورة الخلاف العشائري، وأن الناس قد انقسموا إلى حزبين حزب أموي وحزب هاشمي، وهو تصور موهوم واستنتاج مردود لا دليل عليه؛ إذ ليس نابعًا من ذلك الجو الذي كان يعيشه أصحاب رسول الله حينما كان يقف المهاجري مع الأنصاري ضد أبيه وأخيه وابن عمه وبني عشيرته، وليس نابعًا من تصور هؤلاء الصحب وهم يضحون بكل شيء من حطام الدنيا في سبيل أن يسلم لهم دينهم، ولا من المعرفة الصحيحة لهؤلاء النخبة من المبشرين بالجنة، فالأحداث الكثيرة التي رويت عن هؤلاء تثبت أن هؤلاء كانوا أكبر بكثير من أن ينطلقوا من هذه الزاوية الضيقة في
معالجة أمورهم، فليست القضية قضية تمثيل عائلي أو عشائري، فهم أهل شورى لمكانتهم في الإسلام.
_________
(1) البخاري، كتاب مناقب الأنصار، رقم (3780).
(2) منهاج السنة النبوية لابن تيمية، (6/ 271، 272).
(3) الطبقات الكبرى، (3/ 127).
(4) الخلفاء الراشدون, أمين القضاة، ص78، 79.(1/69)
3 - أقوال نسبت زورًا وبهتانًا لعلي - رضي الله عنه -:
قال ابن كثير: وما يذكره كثير من المؤرخين كابن جرير وغيره عن رجال لا يعرفون أن عليا قال لعبد الرحمن: خدعتني، وإنك إنما وليته لأنه صهرك وليشاورك كل يوم في شأنه، وأنه تلكأ حتى قال عبد الرحمن بن عوف: {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللهَ يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَن نَّكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} [الفتح: 10].
4 - اتهام عمرو بن العاص والمغيرة بن شعبة:
وقد ذكر أبو مخنف في روايته في قضية الشورى عن عمرو بن العاص والمغيرة بن شعبة أنهما جلسا عند الباب، ورد سعد عليهما، فهذا يستغرب من رعاع الناس فضلا عن الصحابة الكرام، وكيف يقول سعد لهما: تريدان أن تقولا: حضرنا وكنا من أهل الشورى وقد علم الناس أهل الشورى بأعيانهم واستفاض ذلك عندهم. وفي الحقيقة أن رواية أبي مخنف يناقض بعضها بعضا، وهي واضحة لمن تدبرها وقارنها بالأصول الصحيحة، وغرائبها أشهر من ذكرها. وقد أشار الدكتور يحيى اليحيى إلى نماذج وأمثلة تكفي لإسقاط هذه الرواية وعدم الاعتبار بها (1). هذه بعض الإشارات العابرة ذكرتها للتنبيه والتحذير من تلك السموم المبثوثة في تراثنا التاريخي، والموروث الثقافي للأمة، فقد أثرت في رجال الفكر
والقلم والتاريخ.
خامسًا: أحقية خلافة عثمان بن عفان - رضي الله عنه -:
لا يشك مؤمن في أحقية خلافة عثمان - رضي الله عنه - وصحتها، وأنه لا مطعن فيها لأحد إلا ممن أصيب قلبه بزيغ فنقم على أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بسبب ما حل في قلبه من الغيظ منهم، وهذا لم يحصل إلا من الشيعة الرافضة الذين جعلوا رأس مالهم في هذه الحياة الدنيا هو سب الصحابة -رضي الله عنهم- وبغضهم، ولا قيمة لما يوجهونه من المطاعن على خلافة الثلاثة -رضي الله عنهم- لظهور بطلانه، وأنها افتراءات لا تصح. وقد جاء في جملة من النصوص القطعية الصحيحة والآثار الشهيرة التنبيه والإيماء إلى أحقية خلافة عثمان بن عفان - رضي الله عنه -، ومن ذلك (2):
_________
(1) مرويات أبي مخنف، ص179.
(2) عقيدة أهل السنة في الصحابة، (2/ 656).(1/70)
1 - قوله تعالى: {وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لاَ يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور: 55]. وجه الاستدلال بهذه الآية على أحقية خلافة عثمان - رضي الله عنه - أنه من الذين استخلفهم الله في الأرض، ومكن لهم فيها، وسار في الناس أيام خلافته سيرة حسنة؛ حيث حكم فيهم بالعدل وأقام الصلاة وآتى الزكاة وأمر بالمعروف ونهى عن المنكر، فهذه الآية تضمنت الإشارة إلى
أحقيته - رضي الله عنه - (1).
2 - قوله تعالى: {قُل لِّلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الأعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِن تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللهُ أَجْرًا حَسَنًا وَإِن تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُم مِّن قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} [الفتح: 16]. وجه الاستدلال بهذه الآية على أحقية خلافة عثمان - رضي الله عنه - هو أن الداعي لهؤلاء الأعراب داع يدعوهم بعد نبيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو أبو بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم؛ فأبو بكر دعاهم إلى قتال الروم والفرس والترك فوجبت طاعة هؤلاء الثلاثة -رضي الله عنهم- بنص القرآن، وإذا وجبت طاعتهم صحت خلافتهم (2) رضي الله عنهم وأرضاهم.
3 - عن أبي موسى - رضي الله عنه - قال: إن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دخل حائطا وأمرني بحفظ باب الحائط، فجاء رجل يستأذن فقال: ائذن له وبشره بالجنة، فإذا هو أبو بكر، ثم جاء آخر يستأذن فقال: ائذن له وبشره بالجنة، فإذا هو عمر، ثم جاء آخر يستأذن فقال: ائذن له وبشره بالجنة على بلوى تصيبه, فإذا هو عثمان بن عفان (3). هذا الحديث فيه إشارة إلى ترتيب الثلاثة في الخلافة، وإخبار عن بلوى تصيب عثمان، هذه البلوى حصلت له - رضي الله عنه - وهي حصاره يوم الدار حتى قتل آنذاك مظلوما، فالحديث علم من أعلام النبوة، وفيه الإشارة إلى كونه شهيدا رضي الله عنه وأرضاه (4).
_________
(1) عقيدة أهل السنة في الصحابة، (2/ 656).
(2) الفصل في الملل والأهواء والنحل، (4/ 109، 110).
(3) البخاري، رقم (3695).
(4) عقيدة أهل السنة والجماعة في الصحابة، (2/ 657).(1/71)
4 - روى أبو داود -رحمه الله- بإسناده إلى جابر بن عبد الله أنه كان يحدِّث أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «أُرِيَ الليلة رجلٌ صالح: أن أبا بكر نيط برسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ونيط عمر بأبي بكر، ونيط عثمان بعمر»، قال جابر: فلما قمنا من عند رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قلنا: أما الرجل
الصالح فرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وأما تَنَوُّط بعضهم ببعض، فهم ولاة هذا الأمر الذي بعث الله
به نبيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (1).
5 - وروى أبو عبد الله الحاكم بإسناده إلى أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «إنها ستكون فتنة واختلاف -أو اختلاف وفتنة- قال: قلنا: يا رسول الله، فما تأمرنا؟ قال: «عليكم بالأمين وأصحابه» وأشار إلى عثمان (2). وهذا الحديث فيه معجزة ظاهرة للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الدالة على صدق نبوته؛ حيث أخبر بالفتنة التي حصلت أيام خلافة عثمان وكانت كما أخبر، وتضمن الحديث التنبيه على أحقية خلافة عثمان؛ إذ أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أرشد الناس إلى أن يلزموه، وأخبر بأنه حين وقوع الفتنة والاختلاف مع أمير المؤمنين ومقدمهم أمرهم بالالتفاف حوله وملازمته لكونه على الحق، والخارجون عليه على الباطل أهل زيغ وهوى، وقد شهد له الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بأنه سيكون مستمرا على الهدى لا ينفك عنه (3).
6 - روى أبو عيسى الترمذي بإسناده إلى عائشة -رضي الله عنها- أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
قال: «يا عثمان، إنه لعل الله يقمِّصك قميصًا فإن أرادوك على خلعه فلا تخلعه لهم» (4). ففي هذا الحديث الإشارة إلى الخلافة واستعارة القميص لها وذكر الخلع ترشيح؛ أي:
سيجعلك الله خليفة، فإن قصد الناس عزلك فلا تعزل نفسك عنها لأجلهم؛ لكونك
على الحق وكونهم على الباطل (5).
7 - وروى الترمذي بإسناده إلى أبي سهلة قال: قال لي عثمان يوم الدار: إن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قد عهد إليَّ عهدا فأنا صابر عليه (6). فقوله: قد عهد إليَّ عهدا، أي: أوصاني أن لا أخلع بقوله: «وإن أرادوك على خلعه فلا تخلعه لهم» فأنا صابر عليه، أي: على ذلك العهد (7).
_________
(1) سنن أبي داود (2/ 513).
(2) المستدرك (3/ 99) ثم قال: حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي.
(3) عقيدة أهل السنة والجماعة في الصحابة، (2/ 660).
(4) فضائل الصحابة (1/ 613) إسناده صحيح.
(5) الدين الخالص، محمد صديق حسن القنوجي, البخاري (3/ 446).
(6) فضائل الصحابة (1/ 605) إسناد صحيح، الترمذي (5/ 295).
(7) تحفة الأحوذي، محمد عبد الرحمن المباركفوري (10/ 209).(1/72)
8 - وروى أبو عبد الله الحاكم بإسناده إلى أبي سهلة مولى عثمان عن عائشة -رضي الله عنها- أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «ادعوا لي أو ليت عندي رجلا من أصحابي»، قالت: قلت: أبو بكر، قال: «لا»، قلت: عمر، قال: «لا» , قلت: ابن عمك علي، قال: «لا» , قلت: فعثمان، قال: «نعم» قالت: فجاء عثمان، فقال: «قومي» , قال: فجعل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يسر إلى عثمان ولون عثمان يتغير، قال: فلما كان يوم الدار قلنا: ألا تقاتل؟ قال: لا إن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عهد إليَّ أمرا فأنا صابر نفسي عليه (1).
فهذا الحديث والذي قبله فيهما دلالة على صحة خلافته، فمن أنكر خلافته ولم يره من أهل الجنة والشهداء وأساء الأدب فيه باللسان أو الجنان فهو خارج عن دائرة الإيمان وحيز الإسلام (2).
9 - ومما دل على صحة خلافته وإمامته ما رواه البخاري بإسناده عن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: كنا في زمن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لا نعدل بأبي بكر أحدا، ثم عمر، ثم عثمان، ثم نترك أصحاب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لا نفاضل بينهم (3). وفي هذا إشارة إلى أن الله تعالى ألهمهم وألقى في روعهم ما كان صانعه بعد نبيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من أمر ترتيب الخلافة (4).
قال ابن تيمية: فهذا إخبار عما كان عليه الصحابة على عهد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من تفضيل أبي بكر، ثم عمر، ثم عثمان، وقد روى أن ذلك كان يبلغ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فلا ينكره، وحينئذ فيكون هذا التفضيل ثابتا بالنص وإلا فيكون ثابتا بما ظهر بين المهاجرين والأنصار على عهد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من غير نكير، وبما ظهر لما توفي عمر فإنهم كلهم بايعوا عثمان بن عفان من غير رغبة ولا رهبة ولم ينكر هذه الولاية منكر منهم (5).
وكل ما تقدم ذكره من النصوص في هذه الفقرة أدلة قوية كلها فيها الإشارة والتنبيه إلى أحقية خلافة عثمان - رضي الله عنه - وأنه لا مرية في ذلك, ولا نزاع عند المتمسكين
_________
(1) فضائل الصحابة (1/ 605) إسناده صحيح، المستدرك (3/ 99) حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي.
(2) الدين الخالص (3/ 446).
(3) البخاري، كتاب فضائل أصحاب النبي، رقم (3698).
(4) عقيدة أهل السنة (2/ 664).
(5) منهاج السنة النبوية لابن تيمية (3/ 165).(1/73)
بالكتاب والسنة والذين هم أسعد الناس بالعمل بهما وهم أهل السنة والجماعة، فيجب على كل مسلم أن يعتقد أحقية عثمان - رضي الله عنه -، وأن يسلم تسليما كاملا للنصوص الدالة على ذلك (1).
سادسًا: انعقاد الإجماع على خلافة عثمان:
أجمع أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وكذا من جاء بعدهم ممن سلك سبيلهم من أهل السنة والجماعة على أن عثمان بن عفان - رضي الله عنه - أحق الناس بخلافة النبوة بعد عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -، ولم يخالف أو يعارض في هذا أحد؛ بل الجميع سلم له بذلك لكونه أفضل خلق الله على الإطلاق بعد الشيخين أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، وقد نقل الإجماع على أحقية عثمان - رضي الله عنه - بالخلافة بعد عمر - رضي الله عنه - طائفة من أهل العلم بالحديث وغيرهم، ومن تلك النقول (2):
1 - ما رواه ابن أبي شيبة بإسناده إلى حارثة بن مضرب قال: حججت في إمارة عمر فلم يكونوا يشكون أن الخلافة من بعده لعثمان (3)
2 - وروى أبو نعيم الأصبهاني بإسناده إلى حذيفة - رضي الله عنه - قال: إني لواقف مع عمر تمس ركبتي ركبته فقال: من ترى قومك يؤمرون؟ قال: إن الناس قد أسندوا أمرهم إلى
ابن عفان (4).
3 - ونقل الحافظ الذهبي عن شريك بن عبد الله القاضي أنه قال: قُبِضَ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فاستخلف المسلمون أبا بكر، فلو علموا أن فيهم أحدا أفضل منه كانوا قد غشوا، ثم استخلف أبو بكر عمرَ فقام بما قام به من الحق والعدل، فلما احتضر جعل الأمر شورى بين ستة، فاجتمعوا على عثمان، فلو علموا أن فيهم أفضل منه كانوا قد غشونا (5).
فهذه النقول فيها بيان واضح في أن أصحاب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قد اشتهر بينهم أولوية عثمان بالخلافة، وما زال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - حيًّا لما سبق من علمهم ببعض
_________
(1) عقيدة أهل السنة والجماعة في الصحابة الكرام، د. ناصر بن علي عايض حسن الشيخ (2/ 664).
(2) المصدر نفسه (2/ 665).
(3) المصنف (14/ 588).
(4) كتاب الإمامة والرد على الرافضة، ص306.
(5) ميزان الاعتدال في نقد الرجال، محمد بن عثمان الذهبي (2/ 273).(1/74)
النصوص المشيرة إلى أن ترتيبه سيكون في خلافة النبوة بعد الفاروق - رضي الله عنه -، ولعلمهم أنه أفضل الناس على الإطلاق بعد أبي بكر وعمر رضي الله عنهم (1).
4 - روى ابن سعد بإسناده إلى النزال بن سبرة - رضي الله عنه - قال: قال عبد الله بن مسعود حين استخلف عثمان: استخلفنا خير من بقي ولم نأله (أي لم نقصر في اختيار الأفضل). وفي رواية أخرى قال: أمَّرنا خير من بقي ولم نألُ (2).
5 - وقال الحسن بن محمد الزعفراني: سمعت الشافعي يقول: أجمع الناس على خلافة أبي بكر، واستخلف أبو بكر عمر، ثم جعل الشورى إلى ستة على أن يولوها واحدا فولوها عثمان رضي الله عنهم أجمعين (3). وقد نقل أبو حامد محمد المقدسي كلاما عزاه للإمام الشافعي أنه قال: واعلموا أن الإمام الحق بعد عمر - رضي الله عنه - عثمان - رضي الله عنه - بجعل أهل الشورى اختيار الإمامة إلى عبد الرحمن بن عوف واختياره لعثمان - رضي الله عنه -، وإجماع الصحابة رضي الله تعالى عنهم، وصوبوا رأيه فيما فعله، وأقام الناس على محجة الحق، وبسط العدل إلى أن
استشهد - رضي الله عنه - (4).
6 - وذكر ابن تيمية عن الإمام أحمد أنه قال: لم يجتمعوا على بيعة أحد ما اجتمعوا على بيعة عثمان (5).
7 - وقال أبو الحسن الأشعري: وثبتت إمامة عثمان - رضي الله عنه - بعد عمر - رضي الله عنه - بعقد من عقد له الإمامة من أصحاب الشورى الذين نص عليهم عمر، فاختاروه ورضوا بإمامته وأجمعوا على فضله وعدله (6).
8 - وقال عثمان الصابوني مبينا عقيدة السلف وأصحاب الحديث في ترتيب الخلافة بعد أن ذكر أنهم يقولون أولاً بخلافة الصديق ثم عمر، قال: ثم خلافة عثمان - رضي الله
_________
(1) عقيدة أهل السنة والجماعة في الصحابة الكرام، د. ناصر بن على عايض (2/ 666).
(2) الطبقات الكبرى (3/ 63).
(3) مناقب الشافعي للبيهقي (1/ 434، 435).
(4) الرد على الرافضة، ص319، 320.
(5) منهاج السنة (3/ 166) , السنة للخلال، ص320.
(6) الإبانة عن أصول الديانة، ص68.(1/75)
عنه - بإجماع أهل الشورى وإجماع الأصحاب كافة ورضاهم به، حتى جعل الأمر إليه (1).
9 - وقال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمة الله تعالى عليه وعلى جميع العلماء المصلحين-:
وجميع المسلمين بايعوا عثمان بن عفان لم يتخلف عن بيعته أحد ... فلما بايعه ذوو الشوكة والقدرة صار إماما، وإلا فلو قدر أن عبد الرحمن بايعه ولم يبايعه علي ولا غيره من الصحابة أهل الشوكة لم يصر إماما، ولكن عمر لما جعلها شورى في ستة: عثمان وعلي وطلحة والزبير وسعد وعبد الرحمن بن عوف، ثم إنه خرج طلحة والزبير وسعد باختيارهم، وبقي عثمان وعلي وعبد الرحمن لا يتولى ويولي أحد الرجلين، وأقام عبد الرحمن ثلاثا حلف أنه لم يغمض فيها بكبير نوم يشاور السابقين الأولين والتابعين لهم بإحسان يشاور أمراء الأجناد، وكانوا قد حجوا مع عمر ذلك العام، فأشار عليه المسلمون بولاية عثمان، وذكر أنهم كلهم قدموا عثمان فبايعوه لا عن رغبة أعطاهم إياها ولا عن رهبة أخافهم بها، ولهذا قال غير واحد من السلف والأئمة كأيوب السختياني وأحمد بن حنبل والدارقطني وغيرهم: من قدم عليا على عثمان فقد ازدرى بالمهاجرين والأنصار، وهذا من الأدلة على أن عثمان أفضل؛ لأنهم قدموه باختيارهم واشتوارهم (2).
10 - وقال الحافظ ابن كثير -رحمه الله تعالى- حاكيا إجماع الصحابة على خلافة عثمان - رضي الله عنه -: ويروى أن أهل الشورى جعلوا الأمر إلى عبد الرحمن ليجتهد للمسلمين في أفضلهم ليوليه، فيذكر أنه سأل من يمكنه سؤاله من أهل الشورى، وغيرهم فلا يشير إلا بعثمان بن عفان حتى إنه قال لعلي: أرأيت إن لم أولِّك بمن تشير به عليَّ؟ قال: بعثمان، وقال لعثمان: أرأيت إن لم أولِّك بمن تشير به؟ قال: بعلي بن أبي طالب.
والظاهر أن هذا كان قبل أن ينحصر الأمر في ثلاثة، وينخلع عبد الرحمن منها لينظر الأفضل، والله عليه والإسلام ليجتهد في أفضل الرجلين فيوليه، ثم نهض عبد الرحمن بن عوف - رضي الله عنه - يستشير الناس فيهما ويجمع رأي المسلمين برأي رؤوس الناس وأقيادهم جميعا وأشتاتا، مثنى وفرادى، ومجتمعين سرًّا وجهرًا, حتى خلص إلى النساء المخدرات في حجابهن، وحتى سأل
_________
(1) عقيدة السلف وأصحاب الحديث ضمن الرسالة المنبرية (1/ 139).
(2) منهاج السنة (1/ 134).(1/76)
الولدان في المكاتب، وحتى سأل من يَرِد من الركبان والأعراب إلى المدينة في مدة ثلاثة أيام بلياليها، لا يغتمض بكثير نوم إلا في صلاة ودعاء واستخارة وسؤال من ذوي الرأي عنهم، فلم يجد أحدا يعدل بعثمان بن عفان - رضي الله عنه -، فلما كانت الليلة التي يسفر صاحبها عن اليوم الرابع من موت عمر بن الخطاب جاء إلى منزل ابن أخته المسور بن مخرمة وأمره أن ينادي له عليا وعثمان -رضي الله عنهما- فناداهما فحضرا إلى عبد الرحمن فأخبرهما أنه سأل الناس فلم يجد أحدا يعدل بهما أحدا، ثم أخذ العهد على كل منهما أيضا لئن ولاه ليعدلن ولئن وُلي عليه ليسمعن وليطيعن، ثم خرج إلى المسجد وقد لبس عبد الرحمن العمامة التي عممه بها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وتقلد سيفا، وبعث إلى وجوه الناس من المهاجرين والأنصار، ونودي في الناس عامة الصلاة جامعة، فامتلأ المسجد بالناس حتى غصَّ بالناس، وتراصَّ الناس وتراصوا حتى لم يبق لعثمان موضع يجلس فيه إلا في أخريات الناس، وكان رجلا حييًّا - رضي الله عنه -، ثم صعد عبد الرحمن بن عوف منبر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فوقف وقوفا طويلا ودعا دعاء طويلا لم يسمعه الناس، ثم تكلم فقال: أيها الناس، إني سألتكم سرًّا وجهرًا عن إمامكم فلم أجدكم تعدلون بأحد هذين الرجلين إما علي وإما عثمان، فقم إليَّ يا علي، فقام إليه فوقف تحت المنبر فأخذ عبد الرحمن بيده فقال: هل أنت مبايعي على كتاب الله وسنة نبيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وفعل أبي بكر وعمر؟ قال: اللهم لا، ولكن على جهدي من ذلك وطاقتي، قال: فأرسل يده، وقال: قم إليَّ يا
عثمان، فأخذ بيده وقال: هل أنت مبايعي على كتاب الله وسنة رسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وفعل أبي بكر وعمر؟ قال: اللهم نعم، قال: فرفع رأسه إلى سقف المسجد ويده في يد عثمان، وقال: اللهم اسمع واشهد، اللهم اسمع واشهد، اللهم اسمع واشهد، اللهم إني قد جعلت ما في رقبتي من ذلك في رقبة عثمان، وقال: وازدحم الناس يبايعون عثمان حتى غشوه تحت المنبر، قال: فقعد عبد الرحمن مقعد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأجلس عثمان تحته على الدرجة الثانية، وجاء إليه الناس يبايعونه، وبايعه علي بن أبي طالب أولاً، ويقال ثانيًا (1).
فهذه النقول المتقدم ذكرها للإجماع عن هؤلاء الأئمة كلها تفيد إفادة قطعية أن البيعة بالخلافة تمت لعثمان - رضي الله عنه - بإجماع الصحابة -رضوان الله عليهم
_________
(1) البداية والنهاية (7/ 159 - 161).(1/77)
أجمعين- ولم يخالف أو يعارض في ذلك أحد (1).
سابعًا: حكم تقديم عليّ على عثمان رضي الله عنهما:
الذي عليه أهل السنة أن مَنْ قدَّم عليا على أبي بكر وعمر فإنه ضال مبتدع، ومن قدم عليا على عثمان فإنه مخطئ ولا يضللونه ولا يبدعونه (2). وإن كان بعض أهل العلم قد تكلم بشدة على من قدم عليا على عثمان بأنه قال: من قدم عليا على عثمان فقد زعم أن أصحاب الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خانوا الأمانة؛ حيث اختاروا عثمان على عليّ رضي الله تبارك وتعالى عنهما (3).
وقال ابن تيمية: استقر أمر أهل السنة على تقديم عثمان، وإن كانت هذه المسألة مسألة عثمان وعلي ليست من الأصول التي يضلل المخالف فيها عند جمهور أهل السنة، لكن المسألة التي يضل المخالف فيها هي مسألة الخلافة، وذلك أنهم يؤمنون بأن الخليفة بعد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أبو بكر، ثم عمر، ثم عثمان، ثم علي، ومن طعن في خلافة أحد من هؤلاء الأئمة فهو أضل من حمار أهله (4).
وذكر أقوال أهل العلم في مسألة تفضيل عليّ على عثمان، فقال: فيها روايتان:
إحداهما: لا يسوغ ذلك، فمن فضل عليا على عثمان خرج من السنة إلى البدعة، لمخالفته لإجماع الصحابة، ولهذا قيل: من قدَّم عليا على عثمان فقد أزرى بالمهاجرين والأنصار، يروى ذلك عن غير واحد، منهم أيوب السختياني وأحمد بن حنبل والدارقطني.
والثانية: لا يُبَدَّع من قدَّم عليا؛ لتقارب حال عثمان وعلي (5).
* * *
_________
(1) عقيدة أهل السنة والجماعة في الصحابة الكرام، د. ناصر بن علي عايض (2/ 671).
(2) مجموع الفتاوى (3/ 101، 102).
(3) حقبة من التاريخ، عثمان الخميس، ص66.
(4) مجموعة الفتاوى (3/ 101، 102).
(5) المصدر نفسه (4/ 267).(1/78)
المبحث الثاني
منهج عثمان بن عفان في الحكم
عندما بويع عثمان - رضي الله عنه - بالخلافة قام في الناس خطيبا فأعلن عن منهجه السياسي، مبينا أنه سيتقيد بالكتاب والسنة وسيرة الشيخين، كما أشار في خطبته إلى أنه سيسوس الناس بالحلم والحكمة إلا فيما استوجبوه من الحدود، ثم حذرهم من الركون إلى الدنيا والافتتان بحطامها؛ خوفا من التنافس والتباغض والتحاسد بينهم، مما يفضي بالأمة إلى الفرقة والخلاف. وكان عثمان - رضي الله عنه - ينظر وراء الحجب ببصيرته النفاذة إلى ما سيحدث في هذه الأمة من الفتن بسبب الأهواء وتهالك الناس بعدما بويع (1) فقال:
(أما بعد، فإني كلفت وقد قبلت، ألا وإني متبع ولست بمبتدع، ألا وإن لكم عليَّ بعد كتاب الله وسنة نبيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثلاثا: اتباع من كان قبلي فيما اجتمعتم عليه وسننتم، وسن أهل الخير فيما تسنوا عن ملأ، والكف عنكم إلا فيما استوجبتم العقوبة. وإن الدنيا خضرة وقد شهيت إلى الناس ومال إليها كثير منهم، فلا تركنوا إلى الدنيا ولا تثقوا بها فإنها ليست بثقة، واعلموا أنها غير تاركة إلا من تركها) (2).
وأما قول بعض الناس بأن عثمان لما خطب أول خطبة ارتج عليه فلم يدر ما يقول حتى قال: أيها الناس، إن أول مركب صعب وإن أعش فستأتيكم الخطبة على وجهها، فهو شيء يذكره صاحب العقد (3) , وغيره من يذكر طرف الفوائد، وأن إسناده غير صحيح (4).
أولاً: كُتُب عثمان إلى عماله وولاته وأمراء الجند وعامة الناس:
أقر عثمان - رضي الله عنه - عمال عمر، فلم يعزل منهم أحدا عاما كاملا أخذا بوصية
_________
(1) تحقيق مواقف الصحابة في الفتنة (1/ 392).
(2) تاريخ الطبري (5/ 443).
(3) المراد ابن عبد ربه الأندلسي، صاحب كتاب (العقد الفريد)، وهو كتاب في طرق الأخبار والحكايات والنوادر، ولا يهتم بسند الخبر أو صحته.
(4) خلافة عثمان بن عفان، د. السلمي، ص34، 35، والخبر من طريق الواقدي وهو متروك.(1/79)
عمر - رضي الله عنه -، والناظر في الكتب التي بعث بها إلى الولاة وعمال المال وأمراء الأجناد يقف على النهج الذي أراد السير عليه وأخذ الأمة به (1).
1 - أول كتاب كتبه عثمان إلى جميع ولاته:
أما بعد، فإن الله أمر الأئمة أن يكونوا رعاة، ولم يتقدم إليهم أن يكونوا جباة، وإن صدر هذه الأمة خلقوا رعاة، لم يخلقوا جباة، وليوشكن أئمتكم أن يصيروا جباة ولا يكونوا رعاة، فإذا عادوا كذلك انقطع الحياء والأمانة والوفاء، ألا وإن أعدل السيرة أن تنظروا في أمور المسلمين فيما عليهم فتعطوهم ما لهم، وتأخذوهم بما عليهم، ثم تثنوا بالذمة فتعطوهم الذي لهم وتأخذوهم بالذي عليهم، ثم العدو الذي تنتابون، فاستفتحوا عليهم بالوفاء (2).
والملاحظ أن عثمان - رضي الله عنه - أكد في هذا الكتاب الموجه إلى ولاته في الأمصار واجبهم نحو الرعية، وعرفهم أن مهمتهم ليست هي جمع المال، وإنما تتمثل في رعاية مصالح الناس، ولأجل ذلك بيَّن السياسة التي يسوسون بها الأمة، وهي أخذ الناس بما عليهم من الواجبات وإعطاؤهم حقوقهم، فإذا كانوا كذلك صلحت الأمة، وإذا انقلبوا جباة ليس همهم إلا جمع المال انقطع الحياء وفقدت الأمانة والوفاء (3). لقد كان في كتاب عثمان للولاة التركيز على قيم العدل السياسي والاجتماعي والاقتصادي، بإعطاء ذوي الحقوق حقوقهم وأخذ ما عليهم، وإعلاء شأن مبدأ الرعاية السياسية لا الجباية وتكثير الأموال (4).
ونبه على ما سيكون عند تغير الولاة من رعاة إلى جباة؛ بأن ذلك سبب في تقلص مكارم الأخلاق التي مثل لها بالحياء والأمانة والوفاء، وذلك أن بين الراعي والرعية خيطا ساميا من العلاقات المتينة، ويؤكده ويثبته اتفاق الجميع على هدف واحد، وهو ابتغاء وجه الله تعالى، فالوالي يسعى لهذا الهدف بما يقدمه لإمامه من طاعة وولاء وأمانة ووفاء، ويبقى خلق الحياء الذي أشار إليه عثمان يُظلُّ الجميع فيمنعهم من ارتكاب ما يستقبح أو التعرض لجرح المشاعر والإيقاع في الحرج، ثم يوصي عثمان ولاته بالعدل في
_________
(1) تحقيق مواقف الصحابة، د. محمد أمحزون (1/ 393).
(2) تاريخ الطبري (5/ 244).
(3) تحقيق مواقف الصحابة (1/ 393).
(4) الدولة الإسلامية في عصر الخلفاء الراشدين، د. حمدي شاهين، ص246.(1/80)
الرعية؛ وذلك بأخذ ما عليهم من الحقوق وبذل ما لهم من ذلك، ويشير إلى نقطة مهمة وهي أن الوفاء بالعهود من أهم أسباب الفتح والنصر على الأعداء، وقد بين التاريخ أثر هذا الخلق الرفيع في تفوق المسلمين الإداري والحربي (1).
2 - كتابه إلى قادة الجنود:
وكان أول كتاب كتبه إلى قادة الأجناد في الفروج (2): أما بعد، فإنكم حماة المسلمين وذادتهم، وقد وضع لكم عمر ما لم يغب عنا، بل كان على ملأ منا، ولا يبلغني عن أحد منكم تغيير ولا تبديل فيغير الله بكم، ويستبدل بكم غيركم، فانظروا كيف تكونون؛ فإني أنظر فيما ألزمني الله النظر فيه والقيام عليه (3).
وفي هذا الكتاب لفت النظر إلى أن الأمور لن تتغير بتغير الخليفة؛ لأن الخلفاء ومن دونهم من الولاة يسيرون على خط واحد، وهو القيام بمهمة تطبيق الإسلام في واقع الحياة، وقوله: (وقد وضع لكم عمر ما لم يغب عنا بل كان على ملأ منا)، إشارة إلى أن حكم أولئك الخلفاء يقوم على الشورى، وذلك يترتب عليه أن جميع القضايا المهمة تكون معلومة بتفاصيلها عند أهل الحل والعقد، فإذا ذهب الحاكم وخلفه حاكم آخر سار على نفس المنهج؛ لوضوح الهدف لدى الجميع. وقوله: (ولا تغيروا فيغير الله بكم) وعي لسنن الله تعالى في هذا الكون، فمعية الله -جل وعلا- لأوليائه بالتوفيق والحماية والنصر مشروطة بلزومهم شريعته واستسلامهم لأمره، فإذا تغيروا في ذلك غيَّر الله ما بهم واستبدل بهم غيرهم في الهيمنة والتمكين (4)، وفي ذلك يقول الله تعالى: {لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللهِ إِنَّ اللهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلاَ مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَالٍ} [الرعد: 11] وذكرهم بأنه على علم بواجبه يؤديه ويقوم عليه ليتلاقى عمل الرعية وعمل الراعي في الشعور بالواجب والقيام به، ويشعر كل فرد أنه يعمل لأمته كما يعمل لنفسه (5).
3 - كتابه إلى عمال الخراج:
وكان أول كتاب كتبه إلى عمال الخراج:
_________
(1) التاريخ الإسلامي مواقف وعبر، د. عبد العزيز الحميدي (12/ 369).
(2) الفروج: يعني الأقاليم.
(3) تاريخ الطبري (5/ 244).
(4) التاريخ الإسلامي (12/ 370).
(5) عثمان بن عفان، صادق عرجون، ص199.(1/81)
أما بعد، فإن الله خلق بالحق فلا يقبل إلا الحق، خذوا الحق وأعطوا الحق به، والأمانة الأمانة، قوموا عليها، ولا تكونوا أول من يسلبها فتكونوا شركاء من بعدكم إلى ما اكتسبتم، والوفاء الوفاء، لا تظلموا اليتيم ولا المعاهد؛ فإن الله خصم لمن ظلمهم (1).
خص في هذا الكتاب وزراء المال الذين يجبونه من أفراد الأمة لينفق في مصالحها العامة، فبيَّن لهم أن الله لا يقبل إلا الحق، والحق قائم على الأمانة والوفاء، ثم ميز صنفين من الرعية هما ضعيفاها؛ اليتيم والمعاهد، فحض على التجافي عن ظلمهما؛ لأن الله هو المتولي حمايتهما (2). ويذكرهم بأنهم إذا ظلموهم فإنهم معرضون لنقمة الله تعالى؛ لأنه خصم لمن ظلم هؤلاء المستضعفين. وفي هذا لفتة إلى جانب من جوانب عظمة الإسلام؛ حيث يدعو إلى نصر المظلومين وإن كانوا من الكفار المعاهدين (3).
4 - كتابه إلى العامة:
أما بعد، فإنكم إنما بلغتم بالاقتداء والاتباع فلا تلفتنكم الدنيا عن أمركم، فإن أمر هذه الأمة صائر إلى الابتداع بعد اجتماع ثلاث فيكم: تكامل النعم، وبلوغ أولادكم من السبايا، وقراءة الأعراب والأعاجم القرآن، فإن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «الكفر في العجمة، فإذا استعجم عليهم أمر تكلفوا وابتدعوا» (4).
وفي هذا الخطاب نلاحظ أن عثمان - رضي الله عنه - رغب عامة الأمة في الاتباع وترك التكلف والابتداع، وأنه حذرهم تغير الحال إذا اجتمعت لهم ثلاث خلال: تكامل النعم الذي يبطر النفوس ويدفعها إلى الترف، ويصدها عن الاجتهاد والعمل، ويصرفها إلى الفراغ والكسل، حتى تفتر حيويتها وتخور عزائمها. وبلوغ أولادها من السبابا، وقد لمست الأمة في تاريخها أثر هؤلاء في المجتمع الإسلامي من الوجهة السياسية والاجتماعية والدينية. وقراءة الأعراب والأعاجم القرآن، وإنما يريد عثمان بذلك ما في طبائع الأعراب من جفوة وغلظ الأكباد، فلا تبلغ هداية القرآن مكان الخير من أفئدتهم، وكذلك يريد ما في الأعاجم من أخلاق موروثة وعقائد متأصلة، وعادات قديمة تباعد بينهم وبين سنن القرآن في الهداية، وقد ظهر أثر الأعراب في فرقة
_________
(1) تاريخ الطبري (5/ 244).
(2) عثمان بن عفان، صادق عرجون، ص198.
(3) التاريخ الإسلامي (20/ 371).
(4) تاريخ الطبري (5/ 245).(1/82)
الخوارج الذين كانت كثرتهم من أولئك الجفاة؛ فهم كانوا أقرأ الناس للقرآن وأبعدهم عن هدايته، ثم ظهر فيمن عداهم أثر الأعاجم فيما ابتدعوه من مذاهب وتكلفوه من آراء كانت شرًّا على المسلمين في عقائدهم، ومنهم أكثر الفرق الضالة التي لعبت في تاريخ الإسلام أخطر دور (1).
ثانيًا: المرجعية العليا للدولة:
أعلن ذو النورين أن مرجعيته لدولته كتاب الله وسنة رسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والاقتداء بالشيخين في هديهم، فقد قال: « ... ألا وإني متبع ولست بمبتدع، ألا وإن لكم عليَّ بعد كتاب الله وسنة نبيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثلاثا: اتباع من كان قبلي فيما اجتمعتم عليه وسننتم .... » (2).
1 - فالمصدر الأول هو كتاب الله، قال تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللهُ وَلاَ تَكُنْ لِّلْخَائِنِينَ خَصِيمًا} [النساء: 105]. فكتاب الله تعالى يشتمل على جميع الأحكام الشرعية التي تتعلق بشئون الحياة، كما يتضمن مبادئ أساسية وأحكاما قاطعة لإصلاح كل شعبة من شعب الحياة، كما بين القرآن الكريم للمسلمين كل ما يحتاجون إليه من أسس تقوم عليها دولتهم.
2 - المصدر الثاني: السنة المطهرة التي يستمد منها الدستور الإسلامي أصوله، ومن خلالها يمكن معرفة الصيغ التنفيذية والتطبيقية لأحكام القرآن (3).
3 - الاقتداء بالشيخين: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «اقتدوا بالذين من بعدي: أبي بكر وعمر» (4).
إن دولة ذي النورين خضعت للشريعة وأصبحت سيادة الشريعة الإسلامية فيها فوق كل تشريع وفوق كل قانون، وأعطت لنا صورة مضيئة مشرقة على أن الدولة الإسلامية دولة شريعة، خاضعة بكل أجهزتها لأحكام هذه الشريعة، والحاكم فيها مقيد بأحكامها لا يتقدم ولا يتأخر عنها (5). ففي دولة ذي النورين وفي مجتمع الصحابة الشريعة فوق
_________
(1) عثمان بن عفان، صادق عرجون، ص199.
(2) تاريخ الطبري (5/ 443).
(3) فقه التمكين في القرآن الكريم للصلابي، ص432.
(4) صحيح سنن الترمذي، (3/ 200).
(5) نظام الحكم في الإسلام، ص227.(1/83)
الجميع، يخضع لها الحاكم والمحكوم، وطاعة الخليفة مقيدة بطاعته لله، قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا طاعة في المعصية، إنما الطاعة في المعروف» (1). وهيمنة الشريعة على الدولة من خصائص الخلافة الراشدة، فحكومة الخلافة الراشدة تتميز عن الحكومات الأخرى بعدة خصائص، منها:
* أن اختصاص الحكومة (الخليفة) عامة؛ أي تقوم على التكامل بين الشئون الدنيوية والدينية.
* أن حكومة الخلافة ملزمة بتنفيذ أحكام الشريعة.
* أن الخلافة تقوم على وحدة العالم الإسلامي (2).
ثالثًا: حق الأمة في محاكمة الخليفة:
الأمر الذي لا شك فيه أن سلطة الخليفة ليست مطلقة، وإنما هي مقيدة بقيدين:
1 - ألا يخالف نصًّا صريحًا ورد في القرآن الكريم والسنة، وأن يكون الإجراء الذي يتخذه متفقا -فضلا عن ذلك- مع روح الشريعة ومقاصدها.
2 - ألا يخالف ما اتفقت عليه الأمة الإسلامية أو يخرج على إرادتها.
وأساس ذلك أن الخليفة نائب عن الأمة، منها يستمد سلطانه، ويرجع إليها في تحديد هذا السلطان ومداه، فالأمة تستطيع في كل وقت أن توسع من هذا السلطان، وأن تضيق منه أو تقيده بقيود كلما رأت في ذلك مصلحة أو ضمانا لحسن القيام على أمر الله ومصلحة الأمة (3). ويكون ذلك من خلال مجلس شورى الأمة. وقد أكد عثمان - رضي الله عنه - حق الأمة في محاسبة الخليفة في قوله: إن وجدتم في كتاب الله أن تضعوا رجلي في القيد فضعوا رجلي في القيد (4). وحينما أخذت طائفة عليه بعض أخطاء -في زعمها- في تصريفه لشئون الحكم وإسناد وظائفه، وتظاهرت عليه جموع منهم لمحاسبته على أعماله، فأذعن -رضوان الله عليه- لرغبتهم، ولم ينكر عليهم هذا الحق، وأبدى استعدادا كريما لإصلاح ما عسى أن يكون أخطأه التوفيق في إبرامه (5).
_________
(1) البخاري، رقم (7145).
(2) فقه الخلافة، للسنهوري، ص80.
(3) الدولة والسيادة، د. فتحي عبد الكريم، ص268.
(4) مسند الإمام أحمد، الموسوعة الحديثية، رقم 524.
(5) الدولة والسيادة، ص379.(1/84)
رابعًا: الشورى:
إن من قواعد الدولة الإسلامية حتمية تشاور قادة الدولة وحكامها مع المسلمين والنزول على رضاهم ورأيهم، وإمضاء نظام الحكم بالشورى، قال تعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} [آل عمران: 159].
وقال تعالى: {وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} [الشورى: 38]. وقد اتخذ عثمان - رضي الله عنه - في دولته مجلسا للشورى يتألف من كبار أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من المهاجرين والأنصار (1). وقد طلب عثمان - رضي الله عنه - من العمال والقادة قائلا: أما بعد، فقوموا على ما فارقتم عليه عمر ولا تبدلوا، ومهما أشكل عليكم فردوه إلينا نجمع عليه الأمة ثم نرده عليكم (2). فأخذ قادته بذلك، فكانوا إذا هموا بالغزو والتقدم في الفتوحات الإسلامية استأذنوه واستشاروه، فيقوم هو بدوره بجمع الصحابة واستشارتهم للإعداد والإقرار والتنفيذ ووضع الخطط المناسبة لذلك، ومن ثم يأذن (3) لهم؛ فقد قام عبد الله بن أبي السرح بالكتابة إلى الخليفة عثمان - رضي الله عنه - طالبا منه أن يأذن له بأن يغزو أطراف إفريقية، وذلك لقرب جزر الروم من المسلمين، فأجابه الخليفة عثمان إلى ذلك بعد المشورة وندب إليه الناس (4). كما أن معاوية بن أبي سفيان حين أراد فتح جزيرة قبرص ورودس فعل الشيء نفسه في استشارة القيادة العليا المركزية، وطلب الإذن بالسماح له، ولم يأته الجواب إلا بعد انعقاد مجلس الشورى وبحثه في الموضوع، ومن ثم السماح له (5). وكان قادة الخليفة عثمان - رضي الله عنه - في إدارتهم للمعارك الحربية يتشاورون فيما بينهم؛ (6) كما شاور عثمان كبار الصحابة في جمع القرآن، وفي قتل عبيد الله بن عمر للهرمزان، وحول التدابير الكفيلة بقطع دابر الفتنة، وفي مقام القضاء، وغير ذلك من المواقف والأحداث التي سيأتي بيانها في محلها بإذن الله.
_________
(1) الإدارة العسكرية في الدولة الإسلامية (1/ 277).
(2) المصدر نفسه (1/ 277)، نقلا عن تاريخ الطبري.
(3) فتوح مصر، ص83.
(4) المصدر نفسه، ص183.
(5) الإدارة العسكرية (1/ 278).
(6) الإدارة العسكرية (1/ 278).(1/85)
خامسًا: العدل والمساواة:
إن من أهداف الحكم الإسلامي الحرص على إقامة قواعد النظام الإسلامي التي تساهم في إقامة المجتمع المسلم، ومن أهم هذه القواعد العدل والمساواة؛ فقد كتب ذو النورين إلى الناس في الأمصار: أن ائتمروا بالمعروف وتناهوا عن المنكر، ولا يذل المؤمن نفسه، فإني مع الضعيف على القوي ما دام مظلوما إن شاء الله (1). فقد كانت سياسته تقوم على العدل بأسمى صوره؛ فقد أقام الحد على والي الكوفة الوليد بن عقبة (أخوه لأمه) عندما شهد عليه الشهود بأنه شرب الخمر، وعزله عن الولاية بسبب ذلك، وسيأتي تفصيل هذه القضية بإذن الله. وقبوله بتولية أبي موسى الأشعري مكانه؛ لأن أهل الكوفة لم يوافقوا على تولية سعيد بن العاص خلفا للوليد. وقد روي عنه أيضا أنه غضب على خادم له يوما فعرك أذنه حتى أوجعه، ولم يستطع أن ينام ليلته آنذاك إلا بعد أن دعا خادمه إلى مضجعه وأمره أن يقتص منه فيعرك أذنه، وقد أبى الخادم في بادئ الأمر، ولكن عثمان أمره ثانية في
حزم فأطاعه (2).
سادسًا: الحريات:
مبدأ الحرية من المبادئ الأساسية التي قام عليها الحكم في عهد الخلفاء الراشدين، ويقضي هذا المبدأ بتأمين وكفالة الحرية العامة للناس كافة ضمن حدود الشريعة الإسلامية وبما لا يتناقض معها، فقد كانت دعوة الإسلام لحرية الناس -جميع الناس- دعوة واسعة وعريضة قلما تشتمل على مثلها دعوة في التاريخ، وفي عهد الخلفاء الراشدين كانت الحريات العامة المعروفة في أيامنا معلومة ومصونة (3)؛ كحرية العقيدة الدينية، وحرية التنقل، وحق الأمن، وحرمة المسكن، وحرية الملكية، وحرية الرأي.
سابعًا: الاحتساب:
اهتم أمير المؤمنين عثمان - رضي الله عنه - بالاحتساب بنفسه كما أسنده إلى غيره، فقد ثبت قيامه - رضي الله عنه - بالاحتساب في مجالات عدة، منها:
_________
(1) تاريخ الطبري (4/ 414).
(2) نظام الحكم في عهد الخلفاء الراشدين، حمد محمد الصمد، ص149.
(3) المصدر نفسه، ص157، 158.(1/86)
1 - إنكاره على لبس الثوب المعصفر:
ومن احتسابه - رضي الله عنه - أنه أنكر على محمد بن جعفر بن أبي طالب - رضي الله عنه - لبسه الثوب المعصفر، فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: راح عثمان - رضي الله عنه - إلى مكة حاجا، ودخلت على محمد بن جعفر بن أبي طالب امرأته، فبات معها حتى أصبح, غدا عليه ردع (1) الطيب وملحفة معصفرة مفدمة (2)، فأدرك الناس بملل (3)، قبل أن يروحوا، فلما رآه عثمان - رضي الله عنه - انتهر وأفف وقال: «أتلبس المعصفر وقد نهى عنه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟!» (4).
2 - إنكاره على قاصدات العمرة والحج وهن في العدة:
ومن احتسابه - رضي الله عنه - أنه كان يرد النساء اللواتي كن يخرجن للعمرة أو الحج وهن في العدة؛ فقد روى الإمام عبد الرزاق عن مجاهد قال: كان عمر وعثمان -رضي الله عنهما- يرجعان حواج ومعتمرات من الجحفة وذي الحليفة (5).
3 - أمره بذبح الحمام:
ومن احتسابه أنه منع الناس من الانشغال في طيران الحمام (6) , لما بدأوا فيه مع سعة العيش، وأمرهم بذبحه؛ فقد روى الإمام البخاري عن الحسن قال: سمعت عثمان - رضي الله عنه - يأمر في خطبته بقتل الكلاب وذبح الحمام (7).
4 - احتسابه على اللعب بالنرد:
كان عثمان - رضي الله عنه - ينهى عن اللعب بالنرد وأمرهم بتحريقه أو كسره ممن كان في بيته؛ فقد روى الإمام البيهقي عن زبيد بن الصلت أنه سمع عثمان بن عفان - رضي الله عنه - وهو على المنبر يقول: يا أيها الناس، إياكم والميسر -يريد النرد- فإنها قد
_________
(1) ردع: لطخ وأثر.
(2) مفدمة: مشبعة حمرة.
(3) ملل: موضع بين مكة والمدينة.
(4) المسند، رقم 517، قال أحمد شاكر: إسناده صحيح، انظر: تعليقات الشيخ على المسند (1/ 384).
(5) المصنف، رقم (12071).
(6) تاريخ الطبري (5/ 415).
(7) الأدب المفرد، باب ذبح الحمام، رقم (1307).(1/87)
ذكرت لي أنها في بيوت الناس منكم، فمن كان في بيته فليحرقها أو فليكسرها. وقال عثمان - رضي الله عنه - مرة أخرى وهو على المنبر: يا أيها الناس، إني قد كلمتكم في هذا النرد، ولم أركم أخرجتموها، فلقد هممت أن آمر بحزم الحطب، ثم أرسل إلى بيوت الذين هم في بيوتهم فأحرقها عليهم (1).
5 - إخراجه من يراه على شر أو يشهر سلاحا في المدينة:
ومن احتسابه أيضا أنه كان ينكر على من يراه على شر أو كان يحمل معه سلاحا ويخرجه من المدينة؛ فعن سالم بن عبد الله - رضي الله عنه - قال: وجعل عثمان لا يأخذ أحدا منهم على شر أو شهر سلاح، عصا فما فوقها إلا سيَّره (2).
6 - ضربه لمن استخف بعم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:
ففي أيام خلافته ضرب رجلا في منازعة استخف فيها بالعباس بن عبد المطلب عم الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقيل له عن مبررات ضربه، فقال: نعم، أيُفَخِّم رسولُ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عمه وأرخص في الاستخفاف به، لقد خالف رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من فعل ذلك ومن رضي به منه (3).
7 - نهيه عن الخمر لأنها أم الخبائث:
روى النسائي في سننه والبيهقي في سننه عن عثمان بن عفان أنه قال: اجتنبوا الخمر، فإنها أم الخبائث، إنه كان رجل ممن خلا قبلكم يتعبد، فعلقته امرأة أغوته، فأرسلت إليه جاريتها، فقالت له: إنها تدعوك للشهادة، فانطلق مع جاريتها فطفق كلما دخل بابا أغلقته دونه، حتى أفضى إلى امرأة وضيئة، عندها غلام وباطية خمر، فقالت: والله ما دعوتك للشهادة، ولكن دعوتك لتقع عليَّ، أو تشرب من هذه الخمر كأسا، أو تقتل هذا الغلام، قال: فاسقني من هذا الخمر كأسا، فسقته كأسا فقال: زيدوني فلم يرم حتى وقع عليها وقتل الغلام، فاجتنبوا الخمر، فإنها والله لا يجتمع الإيمان وإدمان الخمر إلا ويوشك أن يخرج أحدهما صاحبه (4).
_________
(1) السنن الكبرى، كتاب الشهادات، (10/ 215).
(2) تاريخ الطبري (5/ 416) معظم هذه الفقرة أخذتها من كتاب الحسبة في العصر النبوي والعهد الراشدي، للدكتور فضل إلهي.
(3) تاريخ الطبري (5/ 417).
(4) سنن النسائي، كتاب الأشربة، موسوعة فقه عثمان، ص52.(1/88)
8 - من خطب عثمان في المجتمع ومن حِكَمه:
أ- خطبة في الاستعداد ليوم المعاد:
يقول الحسن البصري -رحمه الله-: خطب عثمان بن عفان، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أيها الناس، اتقوا الله فإن تقوى الله غُنْم، وإن أكيس الناس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، واكتسب من نور الله نورا لظلمة القبر، وليخش عبد أن يحشره الله أعمى, وقد كان بصيرا، وقد يكفي الحكيم جوامع الكلام، والأصم ينادي من مكان بعيد، واعلموا أن من كان الله معه لم يخف شيئا، ومن كان الله عليه فمن يرجو بعده (1).
وعن عثمان - رضي الله عنه - أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إن الجمَّاء لتُقَصُّ من القرناء يوم القيامة» (2).
ب- التذكير بمكارم الأخلاق:
قال عثمان - رضي الله عنه -: إنا والله صحبنا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في السفر والحضر فكان يعود مرضانا، ويشيع جنائزنا، ويغزو معنا، ويواسينا بالقليل والكثير، وإن ناسا يعلمونني به عسى ألا يكون أحدهم رآه قط (3).
ج- من حكمه التي سارت بين الناس:
* قال - رضي الله عنه -: لو طهرت قلوبنا ما شبعتم من كلام ربكم (4).
* وقال - رضي الله عنه -: ما أسرَّ أحد سريرة إلا أبداها الله تعالى على صفحات وجهه، وفلتات لسانه (5).
* إن الله ليزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن (6).
_________
(1) صحيح التوثيق في سيرة وحياة ذي النورين، ص107.
(2) الموسوعة الحديثية، مسند أحمد، رقم (520).
(3) صحيح التوثيق في سيرة وحياة ذي النورين، ص107.
(4) جامع العلوم والحكم، ص363.
(5) فرائد الكلام للخلفاء الكرام، ص269.
(6) الكامل في اللغة والأدب (1/ 157).(1/89)
* وكان - رضي الله عنه - لا يقيم للدنيا وزنا، فقال فيها: (همُّ الدنيا ظلمة في القلب، وهمُّ الآخرة نور في القلب) (1)
* ومن حكمه البالغة: يكفيك من الحاسد أنه يغتم وقت سرورك (2).
* وقال - رضي الله عنه - في أيام الفتنة: أستغفر الله إن كنت ظَلمت، وقد عفوت إن كنت ظُلمت (3).
* ومن حكمه ومواعظه - رضي الله عنه -: إن لكل شيء آفة، ولكل نعمة عاهة، وإن آفة هذا الدين وعاهة هذه النعمة عيَّابون صغانون، يرونكم ما تحبون ويسرون ما تكرهون، طغام
مثال النعام (4).
* ولما قدم عبد الله بن الزبير بفتح إفريقية، أمره عثمان بن عفان -رضي الله عنهما- فقام خطيبا، فلما فرغ من كلامه قال عثمان: انكحوا النساء على آبائهن وإخوتهن، فإني لم أر في ولد أبي بكر الصديق أشبه به من هذا (5)، وعبد الله بن الزبير أمه أسماء بنت أبي بكر. ويريد أن ابن الزبير كان شبيها بجده في الشجاعة والإقدام والفصاحة (6).
* وقال - رضي الله عنه -: ما من عامل يعمل عملا إلا كساه الله رداء عمله (7).
* وقال - رضي الله عنه -: إن المؤمن في خمسة أنواع من الخوف؛ أحدها من قبل الله تعالى أن يأخذ منه الإيمان، والثاني من قبل الحفظة أن يكتبوا عليه ما يفتضح به يوم القيامة، والثالث من قبل الشيطان أن يبطل عمله، والرابع من قبل ملك الموت أن يأخذه في غفلة بغتة، والخامس من قبل الدنيا أن يغتر بها وتشغله عن الآخرة (8).
وقال - رضي الله عنه -: وجدت حلاوة العبادة في أربعة أشياء: أولها في أداء فرائض الله، والثاني في اجتناب محارم الله، والثالث في الأمر بالمعروف ابتغاء ثواب الله، والرابع في النهي عن المنكر اتقاء غضب الله (9).
_________
(1) الاستعداد ليوم المعاد، ص9.
(2) مجمع الأمثال للميداني (2/ 453).
(3) تاريخ خليفة بن خياط، ص171.
(4) مجمع الأمثال للميداني (20/ 453).
(5) البيان والتبيين (2/ 95).
(6) فرائد الكلام، ص271.
(7) الزهد للإمام أحمد، ص185.
(8) فرائد الكلام للخلفاء الكرام، ص278.
(9) فرائد الكلام للخلفاء الكرام، ص278.(1/90)
9 - عثمان - رضي الله عنه - والشعر والشعراء:
لم تذكر لنا المصادر والمراجع سوى النزر القليل عن علاقة عثمان - رضي الله عنه - مع الشعر والشعراء، مع أن فترة خلافته كانت طويلة نسبيا، ومن هذا القليل تبين لنا أنه كان ملتزما المنهج العام للعقيدة الإسلامية التي وضح معالمها الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، والتي سلك طريقها سلفه أبو بكر الصديق وعمر بن الخطاب رضي الله عنهما، ولاشك أن لكل منهم شخصيته الأدبية المميزة، فقد اشتهر أبو بكر بمعرفة الأنساب، وبعلمه الوافر وحسن مجالسته وبروايته للشعر، واشتهر عمر بالحث على تعلم الشعر، وأنه لم تكن تعرض له قضية إلا تمثل ببيت شعر، أضف إلى ذلك أنه كان شاعرا، أما عثمان بن عفان -رضوان الله عليه- فلم يؤثر عنه ذلك الانغماس الكبير في الشعر، أو تلك العلاقة الحميمة مع الشعراء. وإذا كنا نعرف أن الشعراء كانوا يتهافتون على أبواب الأمراء طمعا برضاهم وبأعطيتهم، فإننا نرى أن الشعراء أيام عثمان يتركون الحواضر ودار الخلافة ويؤثرون العودة إلى البادية (1). وقد ذكرت كتب الأدب والتاريخ بعض الأبيات نسبتها إلى عثمان أو كان يتمثل بها, ومن هذه الأبيات يروي أنه قال:
واعلم أن الله ليس كصنعه ... صنيع ولا يخفى على ملحد
وكان كثيرا ما ينشد أبياتا قالها ويطيل ذكرها لا تعرف لغيره:
تفنى اللذائذ ممن نال صفوتها ... من الحرام ويبقى الإثم والعار
يلقى عواقبَ سوءٍ من مغبتها ... لا خير في لذة من بعدها نار (2)
قال يوم دخل عليه الثائرون في بيته ليقتلوه:
أرى الموت لا يبقي عزيزا ولم يدع ... لعاد ملاذًا في البلاد ومرتعا (3)
_________
(1) أدب صدر الإسلام، واضح الصمد، ص99.
(2) شعراء الخلفاء، نبال تيسير الخماش، ص27.
(3) البداية والنهاية (7/ 192).(1/91)
وقال لَمَّا حوصر في داره:
يُبيَّت أهل الحصن والحصن مغلق ... ويأتي الجبال الموت شمراخها العُلا (1)
ويروى له أيضا:
غنيٌّ النفس يغني النفس حتى يكُفَّها ... وإن عَضَّها حتى يضرَّ بها الفقر
وما عسرة فاصبر لها إن لقيتها ... بكائنة إلا سيتبعها يُسْرُ
ونلاحظ في البيت الأخير أنه يتضمن معنى قرآنيا؛ إن مع العسر يسرا، وهذا ليس غريبا على الخليفة المسلم، الذي نشأ وترعرع في أحضان محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فهو يعاقب على شعر الهجاء والذي يتعارض وأحكام الشريعة الإسلامية، ويثني على الشعر الحسن ويحب الاستماع إليه، وكل ذلك ضمن المفاهيم الإسلامية (2).
وإذا كان الخليفة الراشد الثالث لم يهتم بالشعر، ولم يقرب إليه الشعراء، فإن مقتله من قبل الغوغاء فتح الباب على مصراعيه لازدهار الشعر العباسي الذي أصبح الأداة الصحافية الفاعلة في العصور الإسلامية المتلاحقة، فعند مقتله بكاه كثير من شعراء الصحابة، وسيأتي بيان ذلك بإذن الله.
* * *
_________
(1) البداية والنهاية (7/ 192).
(2) أدب صدر الإسلام، واضح الصمد، ص102.
(3) الأدب الإسلامي، د. نايف معروف، ص190.(1/92)
المبحث الثالث
أهم صفاته
إن شخصية ذي النورين تعتبر شخصية قيادية، وقد اتصف - رضي الله عنه - بصفات القائد الرباني، ونجملها في أمور ونركز على بعضها بالتفصيل، فمن أهم هذه الصفات: إيمانه العظيم بالله واليوم الآخر، والعلم الشرعي، والثقة بالله، والقدوة والصدق، والكفاءة والشجاعة، والمروءة، والزهد، وحب التضحية، والتواضع، وقبول النصيحة، والحلم، والصبر، وعلو الهمة، والحزم، والإرادة القوية، والعدل، والقدرة على حل المشكلات، والقدرة على التعليم وإعداد القادة، وغير ذلك من الصفات. وبسبب ما أودع الله فيه من صفات القيادة الربانية استطاع أن يحافظ على الدولة ويقمع الثورات التي حدثت في الأراضي المفتوحة، وينتقل -بفضل الله وتوفيقه- بالأمة نحو أهدافها المرسومة بخطوات ثابتة، ومن أهم تلك الصفات التي نحاول تسليط الأضواء عليها في هذا المبحث هي:
أولاً: العلم والقدرة على التوجيه والتعليم:
يعتبر عثمان - رضي الله عنه - من كبار علماء الصحابة في القرآن الكريم والسنة النبوية، وسيأتي الحديث عن اجتهاداته الفقهية في المجال القضائي والمالي والجهادي بإذن الله تعالى، وكان - رضي الله عنه - حريصا على اتباع هدي النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأبي بكر وعمر رضي الله عنهما؛ فعن عروة بن الزبير، أن عبيد الله بن عدي بن الخيار أخبره أن المسور بن مخرمة وعبد الرحمن بن الأسود عبد يغوث قالا له: ما يمنعك أن تكلم خالك يكلم أمير المؤمنين عثمان في الوليد بن عقبة، وقد أكثر الناس فيما فعل؟ قال عبيد الله: فاعترضت لأمير المؤمنين عثمان حين خرج إلى الصلاة فقلت له: إن لي إليك حاجة هي نصيحة، قال: يا أيها المرء، إني أعوذ بالله منك.
قال: فانصرفت، فلما قضت الصلاة جلست إلى المسور وابن عبد يغوث فحدثهما بالذي قلت لأمير المؤمنين وقال لي، فقالا: قد قضيت الذي عليك، فبينما أنا جالس معهما جاءني رسول أمير المؤمنين عثمان فقالا لي: قد ابتلاك الله، فانطلقت حتى دخلت على عثمان، فقال: ما نصيحتك التي ذكرت لي آنفا؟ قال: فتشهدت ثم قلت له: إن الله -عز وجل- بعث محمدا بالحق وأنزل عليه الكتاب، فكنت ممن استجاب لله ولرسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ورأيت هديه وقد أكثر الناس في شأن(1/93)
الوليد، فحق عليك أن تقيم عليه الحد، قال: فقال لي: ابن أختي، أدركت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ قال: فقلت: لا، ولكن خلص إليَّ من علمه واليقين ما يخلص إلى العذراء في سترها، قال: فتشهد ثم قال: أما بعد، فإن الله بعث محمدا بالحق، فكنت ممن استجاب لله ولرسوله وآمن بما بعث محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ثم هاجرت الهجرتين كما قلت، ونلت صهر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وبايعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فوالله ما عصيته ولا غششته حتى توفاه الله، ثم استخلف بعده أبو بكر فبايعناه فوالله ما عصيته ولا غششته حتى توفاه الله، ثم استخلف عمر فوالله ما عصيته ولا غششته حتى توفاه الله، ثم استخلفني الله أفليس لي عليكم مثل الذي كان لهم عليَّ؟ قال: فقلت: بلى، قال: فما هذه الأحاديث التي تبلغني عنكم؟ فأما ما ذكرت من شأن الوليد فسنأخذ فيه -إن شاء الله- بالحق، قال: فجلد الوليد أربعين سوطا، وأمر عليا بجلده فكان هو يجلده (1).
لقد لازم ذو النورين النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فاستفاد من علمه وهديه، مما جعله من كبار علماء الصحابة رضي الله عنهم جميعا، وكان - رضي الله عنه - قادرا على توجيه رعيته توجيها مفيدا، وتعليمهم واجباتهم ونقل آرائه النابعة من علمه وخبرته وتجاربه وممارسته إليهم؛ حتى يرتقوا في مجال الدعوة والتربية والتعليم والجهاد والاستعداد للقاء الله عز وجل.
ومن توجيهات عثمان - رضي الله عنه - ما تضمنته خطبة خلافته التي قال فيها بعد أن حمد الله وأثنى عليه وصلى على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إنكم في دار قلعة، وفي بقية أعمار فبادروا آجالكم بخير ما تقدرون عليه، فلقد أتيتم صبحتم أو مسيتم، ألا وإن الدنيا طويت على الغرور، فلا تغرنكم الحياة الدنيا ولا يغرنكم بالله الغرور، واعتبروا بمن مضى ثم جدوا ولا تغفلوا، أين أبناء الدنيا وإخوانها الذين أثاروها وعمروها ومتعوا بها طويلا؟ ألم تلفظهم؟ ارموا الدنيا بالذي هو خير (2) , قال تعالى: {وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّياحُ وَكَانَ اللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُّقْتَدِرًا - الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلاً} [الكهف: 45، 46].
ولقد كان المعنى الذي يدور حوله توجيه الخليفة الثالث - رضي الله عنه - في هذه الخطبة هو الحض على الإقبال على الله والزهد في الدنيا، وهذا هو المناسب لخطبته في
_________
(1) فضائل الصحابة (1/ 597) رقم (791)، إسناده صحيح.
(2) البداية والنهاية (7/ 153).(1/94)
ذلك الوقت الذي ألقى فيه الإسلام بجرانه (1) في أقطار المعمورة وفتحت البلدان وأقبلت الدنيا بنعيمها، وبدأ الناس في التنافس فيها وبخاصة غير أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فكان المقال مناسبا للمقام (2).
وقد روى عثمان - رضي الله عنه - أحاديث عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - انتفعت بها الأمة؛ فهذا أبو عبد الرحمن السلمي يحدثنا عن حديث سمعه من عثمان فعمل به، فعن سعد بن عبيدة عن أبي عبد الرحمن السلمي، عن عثمان - رضي الله عنه -، عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «خيركم من تعلم القرآن وعلمه» (3). قال: وأقرأ أبو عبد الرحمن في إمرة عثمان حتى كان الحجاج، قال: وذاك الذي أقعدني مقعدي هذا. وفي رواية عن شعبة قال أبو عبد الرحمن: فذاك الذي أقعدني مقعدي هذا، وكان يعلم القرآن (4). وكان عثمان - رضي الله عنه - يروي أحاديث رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - للمسلمين كل في محله ومناسبته، ومن هذه الأحاديث:
1 - أهمية الوضوء:
توضأ عثمان على البلاط، ثم قال: لأحدثنكم حديثا سمعته من رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - , لولا آية في كتاب الله ما حدثتكموه، سمعت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «من توضأ فأحسن الوضوء، ثم دخل فصلى، غفر له ما بينه وبين الصلاة الأخرى حتى يصليها» (5).
2 - تقليده لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الوضوء:
عن حمران بن أبان، عن عثمان بن عفان: أنه دعا بماء فتوضأ ومضمض واستنشق، ثم غسل وجهه ثلاثا، وذراعيه ثلاثا ثلاثا، ومسح برأسه وظهر قدميه، ثم ضحك، فقال لأصحابه: ألا تسألوني عما أضحكني؟ فقالوا: مم ضحكت يا أمير المؤمنين؟ فقال: رأيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دعا بماء قريبا من هذه البقعة، فتوضأ كما توضأت ثم ضحك، فقال: «ألا تسألوني ما أضحكني؟» فقالوا: ما أضحكك يا رسول الله؟ فقال: «إن العبد إذا دعا بوضوء فغسل وجهه، حط الله عنه كل خطيئة أصابها بوجهه، فإذا غسل ذراعيه كان كذلك، وإن مسح برأسه كان كذلك، وإن طهر قدميه كان كذلك» (6).
_________
(1) جرانه: أي ثبت واستقر.
(2) الكفاءة الإدارية في السياسة الشرعية، للقادري، ص93.
(3) البخاري رقم (5028).
(4) الخلافة الراشدة، د. يحيى اليحيى، ص420، 421.
(5) الموسوعة الحديثية، مسند أحمد، رقم (400)، إسناده صحيح.
(6) الموسوعة الحديثية، مسند أحمد رقم (415) صحيح لغيره.(1/95)
3 - كفارات الوضوء:
عن عثمان قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من أتم الوضوء كما أمره الله -عز وجل- فالصلوات المكتوبات كفارات لما بينهن» (1).
4 - الوضوء وصلاة ركعتين ومغفرة الذنوب:
دعا عثمان بماء وهو على المقاعد, فسكب على يمينه فغسلها، ثم أدخل يمينه في الإناء فغسل كفيه ثلاثا، ثم غسل وجهه ثلاث مرار، ومضمض واستنثر، وغسل ذراعيه إلى المرفقين ثلاث مرار، ثم مسح برأسه، ثم غسل رجليه إلى الكعبين ثلاث مرار، ثم قال: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «من توضأ نحو وضوئي هذا، ثم صلى ركعتين لا يحدث نفسه فيهما، غفر الله ما تقدم من ذنبه» (2).
5 - كلمة الإخلاص وكلمة التقوى:
قال عثمان - رضي الله عنه -: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «إني لأعلم كلمة لا يقولها عبد حقًا من قلبه إلا حُرم على النار»، فقال له عمر بن الخطاب: أنا أحدثك ما هي؟ هي كلمة الإخلاص التي ألزمها الله -تبارك وتعالى- محمدا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأصحابه، وهي كلمة التقوى التي أَلاَصَ (3) عليها نبي الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عمه أبا طالب عند الموت: شهادة أن لا إله إلا الله (4).
6 - العلم بالله يدخل العبد الجنة:
عن عثمان بن عفان، عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من مات وهو يعلم أن لا إله إلا الله
دخل الجنة» (5).
7 - الحسنات والباقيات:
عن الحارث مولى عثمان قال: جلس عثمان يوما وجلسنا معه فجاءه المؤذن، فدعا بماء في إناء أظنه سيكون فيه مُدّ، فتوضأ ثم قال: رأيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يتوضأ وضوئي هذا ثم قال: «ومن توضأ وضوئي هذا، ثم قال فصلى صلاة الظهر، غفر له ما كان بينها وبين الصبح، ثم صلى العصر غفر له ما بينها وبين صلاة الظهر، ثم صلى المغرب غفر له ما بينها وبين صلاة العصر، ثم صلى العشاء غفر له ما بينها وبين صلاة المغرب، ثم لعله أن
_________
(1) الموسوعة الحديثية، مسند الإمام أحمد رقم (406)، إسناده صحيح.
(2) المصدر نفسه رقم (418) إسناده صحيح.
(3) ألاص: أي راوده فيها.
(4) مسند أحمد رقم (447)، إسناده قوي.
(5) مسند أحمد رقم (464)، إسناده صحيح.(1/96)
يبيت يتمرغ ليلته، ثم إن قام فتوضأ وصلى الصبح غفر له ما بينها وبين صلاة العشاء، وهن الحسنات يذهبن السيئات». قالوا: هذه الحسنات، فما الباقيات يا عثمان؟ قال: هن لا إله إلا الله، وسبحان الله، والحمد لله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله (1).
8 - خطورة الكذب على رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:
عن عثمان - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من تعمد عليَّ كذبا، فليتبوأ بيتًا في النار» (2).
هذه بعض الأحاديث التي رواها عثمان عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وتدل على علم عثمان وحرصه على الاستزادة من الهدي النبوي، وفقه الشريعة الغراء.
ثانيًا: الحلم:
إن الحلم ركن من أركان الحكمة، وقد وصف الله نفسه بصفة الحلم في عدة مواضع من القرآن الكريم؛ كقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ} [آل عمران: 155] وقد بلغ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في حلمه وعفوه الغاية المثالية، وكان الخليفة الراشد عثمان بن عفان شديد الاقتداء في أقواله وأفعاله وأحواله برسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وكانت له مواقف كثيرة تدل على حلمه وضبطه لنفسه، ومن أوضح المواقف التي تدل على حلمه قصته في حصار الثائرين عليه؛ حيث أمر من عنده من المهاجرين والأنصار أن ينصرفوا إلى منازلهم ويدعوه وكانوا قادرين على منعه، وكان حلمه مبنيا على شوقه إلى لقاء ربه، وإرادته حقن دماء المسلمين ولو بقتله (3).
ثالثًا: السماحة:
عن عطاء بن فروخ مولى القرشيين: أن عثمان - رضي الله عنه - اشترى من رجل أرضا فأبطأ عليه، فلقيه فقال: ما منعك من قبض مالك؟ قال: إنك غبنتني فما ألقى من الناس أحدًا إلا وهو يلومني، فقال: أو ذلك يمنعك؟ قال: نعم، قال: فاختر بين أرضك ومالك، ثم قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أدخل الله الجنة رجلا كان سهلا مشتريا وبائعا، وقاضيا
_________
(1) مسند أحمد رقم (513) إسناده حسن.
(2) مسند أحمد رقم (507) إسناده صحيح.
(3) الكفاءة الإدارية في السياسة الشرعية، د. عبد الله قادري، ص65.(1/97)
ومقتضيا» (1). فهذا مثل رفيع في السماحة في البيع والشراء، وهو يدل على ما جبل عليه عثمان - رضي الله عنه - من الكرم وعدم التعلق بالدنيا، فهو يستعبد الدنيا لخدمة مكارم الأخلاق التي من أهمها الإيثار، ولا تستعبده الدنيا، فتجعل منه أنانيا يؤثر مصالحه الخاصة وإن أضر بالناس (2).
رابعًا: اللين:
امتن الله تعالى على رسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بأن رزقه صفة اللين رحمة منه به وبعباده، قال تعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران: 159].
أفادت الآية الكريمة أن صفة اللين رحمة من الله يرزق بها من شاء من عباده، وأن الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قد رزق هذه الصفة رحمة من الله به وبعباده الذين بعثه إليهم، ويفهم من الآية أن المتصف باللين يحبه الناس ويلتفون حوله ويقبلون منه ما يأمرهم به أو ينهاهم عنه (3)؛ فاللين من الصفات الطيبة التي اتصف بها عثمان - رضي الله عنه -، فكان - رضي الله عنه - لينًا على رعيته عطوفًا على أمته، يخاف أن يصاب أحد دون علمه فلا يتمكن من تلبية حاجته، وكان يتتبع أخبار الناس، فينصر الضعيف، ويأخذ الحق من القوي - رضي الله عنه -.
خامسًا: العفو:
عن عمران بن عبد الله بن طلحة: أن عثمان بن عفان - رضي الله عنه - خرج لصلاة الغداة فدخل من الباب الذي كان يدخل منه، فزحمه الباب فقال: انظروا، فنظروا فإذا رجل معه خنجر أو سيف، فقال له عثمان - رضي الله عنه -: ما هذا؟ قال: أردت أن أقتلك، قال: سبحان الله!! ويحك، علام تقتلني؟ قال: ظلمني عاملك باليمن، قال: أفلا رفعت ظلامتك إليَّ فإن لم أنصفك أو أعديك على عاملي أردت ذلك مني؟ فقال لمن حوله: ما تقولون؟ فقالوا: يا أمير المؤمنين، عدو أمكنك الله منه، فقال: عبد همَّ بذنب فكفه الله عني، ائتني بمن يكفل بك، لا تدخل المدينة ما وليت أمر المسلمين، فأتاه
_________
(1) مسند أحمد رقم (410)، حسن لغيره.
(2) التاريخ الإسلامي (17، 18/ 126).
(3) الكفاءة الإدارية، ص69.(1/98)
برجل من قومه فكفل به فخلى عنه (1).
فهذا تسامح كبير من أمير المؤمنين عثمان بن عفان - رضي الله عنه -؛ حيث عفا عمن أراد قتله، والعفو عند المقدرة صفة من صفات الكمال في الرجال، وهو دليل على التجرد من حظ النفس وتقلص الأنانية، وضعف الارتباط بالدنيا، وقوة الارتباط بالآخرة، وهذا الخلق إضافة إلى أنه عمل صالح يرفع من درجات صاحبه في الآخرة فإنه سياسة حكيمة في الدنيا؛ إذ أن هذا الرجل الذي أراد الاعتداء لو أنه قتل أو عوقب عقوبة بليغة لربما أحدث فتنة بإيغار صدور أفراد قبيلته واستعدادهم للانتقام إذا سنحت لهم الفرصة، لكن العفو عنه يجعل أفراد قبيلته وأبناء بلده يعذلونه ويعنفونه على ما حاول الإقدام عليه، وبذلك تنطفئ الفتنة قبل تصاعدها، ويكسب صاحب العفو قلوب الناس وولاءهم (2).
سادسًا: التواضع:
قال تعالى: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاَمًا} [الفرقان: 63].
جعل المولى -عز وجل- صفة التواضع أولى صفات عباده المؤمنين، ولقد كان الخليفة الراشد عثمان متصفا بهذه الصفة، وكانت هذه الصفة تنبع من إخلاصه لله سبحانه وتعالى؛ فعن عبد الله الرومي قال: كان عثمان بن عفان يأخذ وضوءه لنفسه إذا قام من الليل، فقيل له: لو أمرت الخادم كفاك، قال: لا، الليل لهم يستريحون فيه (3). فهذا مثل من اتصاف أمير المؤمنين عثمان - رضي الله عنه - بالرحمة، فهو مع كبر سنه وعلو منزلته الاجتماعية يخدم نفسه في الليل ولا يوقظ الخدم، وإن وجود الخدم من تسخير الله تعالى للمخدومين، وإن مما ينبغي للمسلم الذي سخر الله تعالى من يخدمه أن يتذكر أن الخادم إنسان مثله له طاقة محدودة في العمل، وله مشاعر وأحاسيس فينبغي له أن يراعي مشاعره، وأن ييسر له الراحة كاملة في النوم، وأن لا يشق عليه بعمل (4). وكان - رضي الله عنه - من تواضعه واحترامه لعم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا مر به وهو راكب نزل حتى يزول العباس احتراما وتقديرا له (5).
_________
(1) التاريخ الإسلامي (18،17/ 22) نقلا عن تاريخ المدينة المنورة، ص (1027، 1028).
(2) التاريخ الإسلامي (17، 18/ 22).
(3) فضائل الصحابة رقم (742)، إسناده صحيح وهو رواية أخرى.
(4) التاريخ الإسلامي (17، 18/ 62).
(5) التبيين في أنساب القرشيين (152).(1/99)
سابعًا: الحياء والعفة:
الحياء من أشهر أخلاق عثمان - رضي الله عنه - وأحلاها، تلك الصفة النبيلة التي زينه الله بها، فكانت فيه منبع الخير والبركة، ومصدر العطف والرحمة، فقد كان - رضي الله عنه - من أشد الناس حياء (1). فقد ذكر الحسن البصري -رحمه الله- عثمان بن عفان يوما وشدة حيائه فقال: إنه ليكون في البيت، والباب عليه مغلق، فما يضع عنه ثوبه ليفيض عليه الماء، يمنعه الحياء أن يقيم صلبه (2).
ومن حيائه - رضي الله عنه - ما روته بنانة -وهي جارية لامرأته- تقول: كان عثمان إذا اغتسل جئته بثيابه فيقول لي: لا تنظري إلي، فإنه لا يحل لك (3). وقد وردت الأحاديث النبوية التي تحدثت عن حيائه وقد ذكرتها في موضعها.
وأما عن عفته وبعده عن مساوئ الأخلاق فحدث في ذلك بما شئت ولا حرج، فإنه - رضي الله عنه - لم يعرف طريق الفحشاء في الجاهلية ولا في الإسلام، يقول عثمان - رضي الله عنه -: ما تغنيت ولا تمنيت (4)، ولا مسست ذكري بيميني منذ بايعت بها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ولا شربت خمرا في جاهلية ولا في الإسلام، ولا زنيت في جاهلية ولا في الإسلام (5).
ثامنًا: الكرم:
كان عثمان - رضي الله عنه - من أكرم الأمة وأسخاها، وله في ذلك مواقف ومآثر لا تزال غرة في جبين التاريخ الإسلامي؛ فقد مر معنا ما قام به في غزوة تبوك، وشراؤه لبئر رومة وتصدقه به على المسلمين، وتوسيعه للمسجد النبوي في عهد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - , وتصدقه بالقافلة المحملة بالخيرات في عصر الصديق - رضي الله عنه -، وكان - رضي الله عنه - يعتق كل جمعة رقبة في سبيل الله منذ أسلم، فجميع ما أعتقه ألفان وأربعمائة رقبة تقريبا (6). وقد روى أنه كان له على طلحة بن عبيد الله -وكان من أجود الناس- خمسون ألفا، فقال له طلحة يوما: قد تهيأ مالك فاقبضه، فقال له عثمان: هو لك معونة على
_________
(1) عثمان بن عفان، صادق عرجون، ص48، 49.
(2) صحيح التوثيق في سيرة وحياة ذي النورين، ص43.
(3) طبقات ابن سعد (3/ 59)، خبر لا بأس به.
(4) تغنيت: من الغناء، تمنيت: من التمني، وهو الكذب واختلاق الباطل.
(5) صحيح التوثيق، ص44.
(6) الصواعق المحرقة لابن حجر الهيثمي (1/ 237).(1/100)
مروءتك (1). لقد كان سخاء عثمان وجوده صفة أصلية في شخصيته الفذة - رضي الله عنه -، فقد وظف أمواله في خدمة دين الله فلم يبخل في تأسيس الدولة الإسلامية والجهاد في سبيل الله تعالى، وخدمة المجتمع ابتغاء رضوان الله تعالى.
تاسعًا: شجاعته:
يعد عثمان - رضي الله عنه - من الشجعان، والدليل على ذلك:
1 - خروجه للجهاد في سبيل الله، وحضوره المشاهد كلها مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وإذا اتهم بتخلفه عن بدر فقد سبق أن قلنا إن ذلك كان بأمر من رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ثم عده رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من الذين شهدوها وأعطاه سهمه منها، ونال أجره إن شاء الله، وليس بعد كلام رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كلام.
2 - سفارة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - له إلى قريش في الحديبية:
امتثل عثمان - رضي الله عنه - كما مر معنا- لطلب الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وذهب إلى قريش وهو يعرف ما أقدم عليه، غير أن رجولته وبطولته قد أبتا عليه إلا الامتثال والطاعة.
إن من يقبل السفارة في مثل تلك الظروف لشجاع عظيم، وبطل من الأبطال النوادر، صحيح أنها أمر من رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ولكنها في الوقت نفسه شجاعة لا يمكن أن يقبل بها جبان أو رجل عادي (2).
3 - الفداء بالنفس:
عندما حوصر - رضي الله عنه - في داره طلب منه المارقون التنازل عن الخلافة لا خيار غيره أو القتل، أو عزل ولاته وتسليم بعضهم، فأصر على موقفه مضحيا بنفسه من أن تصبح الخلافة بيد ثلة تزيح من ترغب، وتعين من تحب، أو تنزع الخلافة من صاحبها الذي اختارته الأمة، ويصبح ذلك قاعدة (3). فأصر على موقفه وهو يرى الموت في سيوف المحاصرين، وإن الذي يقف هذا الموقف لهو الشجاع وإنه لصاحب حق، ولن يقف هذا الموقف رجل جبان أو محب للدنيا أبدا، فالحياة عند هؤلاء الجبناء أفضل من المكانة
_________
(1) البداية والنهاية (7/ 227).
(2) الأمين ذو النورين، ص194 - 196.
(3) الأمين ذو النورين، ص197.(1/101)
ومن الدنيا كلها (1)، ولكن هذا الإصرار العجيب والعزيمة النافذة، والشجاعة الفائقة من عثمان - رضي الله عنه - ثمرة إيمان قوي بالله
-عز وجل- واليوم الآخر وقر في قلبه، وجعله يستهين بكل شيء في هذه الحياة حتى
بالحياة نفسها (2).
4 - الجهاد بالمال:
إن الجهاد بالنفس اقترن مع الجهاد بالمال، وربما قدم عليه، قال تعالى: {لاَ يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلاًّ وَعَدَ اللهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء: 95].
وهناك آيات كثيرة تقرن المال بالنفس، وإن الذي ينفق المال في سبيل الله بسخاء إنما هو مجاهد وشجاع، وقد أنفق عثمان - رضي الله عنه - الكثير حتى قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ما ضر عثمان ما عمل بعد اليوم» مرتين (3).
لقد كان عثمان - رضي الله عنه - شجاعا لا يهاب الموت، جريئا يواجه الباطل في تحدٍّ سافر، حليما لا يجهله حمق الحمقى (4).
عاشرًا: الحزم:
إن صفة الحزم في شخصية ذي النورين أصيلة، ونجد الصديق - رضي الله عنه - عندما عرض عليه الإسلام قال له: ويحك يا عثمان إنك رجل حازم، ما يخفى عليك الحق من الباطل، ما هذه الأوثان التي يعبدها قومنا (5). وفي سنة 26 هـ زاد عثمان في المسجد الحرام ووسعه، وابتاع من قوم وأبى آخرون، فهدم عليهم، ووضع الأثمان في بيت المال، فصيحوا بعثمان، فأمر بهم بالحبس، وقال: أتدرون ما جرأكم عليَّ؟ ما جرأكم علي إلا حلمي، قد فعل هذا بكم عمر فلم تصيحوا به، ثم كلمه فيهم عبد الله بن خالد بن أسيد، فأخرجوا (6).
ومن المواقف التي تدل على حزمه: حمايته لنظام
_________
(1) الأمين ذو النورين، ص197.
(2) جولة تاريخية في عصر الخلفاء الراشدين، محمد الوكيل، ص304.
(3) سنن الترمذي، رقم (3785).
(4) جولة تاريخية في عصر الخلفاء الراشدين، ص304.
(5) عثمان بن عفان، صادق عرجون، ص47.
(6) تاريخ الطبري (5/ 250).(1/102)
الخلافة من الضياع، فلم يجب الخارجين إلى خلع نفسه من الخلافة، فكان بذلك يمثل الثبات واستمرار النظام؛ لأنه لو أجاب الخارجين إلى خلع نفسه لأصبح منصب الإمامة العظمى ألعوبة في أيدي المفتونين الساعين في الأرض بالفساد، ولسادت الفوضى واختل نظام البلاد، ولكان ذلك تسليطا للرعاع والغوغاء على الولاة والحكام. لقد كانت نظرة عثمان - رضي الله عنه - بعيدة الغور، فلو أجابهم إلى ما يريدون لسن بذلك سنة، وهي كلما كره قوم أميرهم خلعوه، ولألقى بأس الأمة بينها، وشغلها بنفسها عن أعدائها, وذلك أقرب لضعفها وانهيارها، على أنه لم يجد سوى نفسه يفدي بها الأمة، ويحفظ كيانها وبنيانها من التصدع، ويدعم بهذا الفداء نظامها الاجتماعي ويحمي سلطانها الذي تساس به من أن تمتد إليه يد العبث والفوضى. ومما لا شك فيه أن هذا الصنع من عثمان كان أعظم وأقوى ما يستطيع أن يفعله رجل ألقت إليه الأمة مقاليدها؛ إذ لجأ إلى أهون الشرين وأخف الضررين ليدعم بهذا الفداء نظام الخلافة وسلطانها (1). وسيأتي بيان ذلك في محله بإذن الله.
حادي عشر: الصبر:
اتصف عثمان - رضي الله عنه - بصفة الصبر، ومن المواقف الدالة على هذه الصفة ثباته في الفتنة؛ إذ كان موقفه إزاء تلك الأحداث التي ألمت به وبالمسلمين المثل الأعلى لما يمكن أن يقدمه الفرد من تضحية وفداء في سبيل حفظ كيان الجماعة، وصون كرامة الأمة، وحقن دماء المسلمين؛ فقد كان بإمكانه أن يقي نفسه ويخلصها لو أنه أراد نفسه ولم يرد حياة الأمة، ولو كان ذاتيا ولم يكن من أهل الإيثار لدفع بمن هب للذود عنه من الصحابة وأبناء المهاجرين والأنصار إلى نحور الخارجين المنحرفين عن طاعته، ولكنه أراد جمع شمل الأمة، ففداها بنفسه صابرا محتسبا، وقد أعلن عثمان - رضي الله عنه - أنه سيواجه الفتنة العارمة بالصبر الجميل (2) ممتثلا قوله سبحانه: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} [آل عمران: 173].
إن عثمان - رضي الله عنه - كان قوي الإيمان بالله، كبير النفس، نفاذ البصيرة، نبيل الصبر، حيث فدى الأمة بنفسه، فكان ذلك من أعظم فضائله عند المسلمين (3). قال
_________
(1) تحقيق مواقف الصحابة من الفتنة (1/ 474).
(2) سير الشهداء للسخستياني، ص57، 58.
(3) تحقيق مواقف الصحابة من الفتنة (1/ 472).(1/103)
ابن تيمية -رحمه الله-: ومن المعلوم بالتواتر أن عثمان كان من أكف الناس عن الدماء، وأصبر الناس على مَنْ نال مِنْ عرضه, وعلى من سعى في دمه، فحاصروه وسعوا في قتله وقد عرف إرادتهم لقتله، وقد جاءه المسلمون ينصرونه ويشيرون عليه بقتالهم، وهو يأمر الناس بالكف عن القتال، ويأمر من يطيعه أن لا يقاتلهم. وقيل له: تذهب إلى مكة, فقال: لا أكون من ألحد في الحرم، فقيل له: تذهب إلى الشام، فقال: لا أفارق دار هجرتي، فقيل له: فقاتلهم، فقال: لا أكون أول
من خلف محمدا في أمته بالسيف. فكان صبر عثمان حتى قتل من أعظم فضائله
عند المسلمين (1).
ثاني عشر: العدل:
واتصف عثمان - رضي الله عنه - بصفة العدل؛ فعن عبيد الله بن عدي بن الخيار أنه دخل على عثمان - رضي الله عنه - وهو محصور فقال له: إنك إمام العامة وقد نزل بك ما ترى، وهو ذا يصلي بنا إمام فتنة -عبد الرحمن بن عديس البلوى- وأنا أخرج من الصلاة معه، فقال له عثمان: إن الصلاة أحسن ما يعمل الناس، فإذا أحسن الناس فأحسن معهم، وإذا أساءوا فاجتنب إساءتهم (2).
وروى ابن شبة بإسناده، قال: دخل عثمان بن عفان على غلام له يعلف ناقة، فرأى في علفها ما كره، فأخذ بأذن غلامه فعركها، ثم ندم، فقال لغلامه: اقتص فأبى الغلام، فلم يدعه حتى أخذ بأذنه فجعل يعركها، فقال له عثمان: شد حتى ظن أنه قد بلغ منه مثل ما بلغ منه، ثم قال عثمان - رضي الله عنه -: واهًا لقصاص قبل قصاص الآخرة (3).
ثالث عشر: عبادته:
كان عثمان - رضي الله عنه - من المجتهدين في العبادة، وقد روى من غير وجه أنه صلى بالقرآن العظيم في ركعة واحدة عند الحجر الأسود أيام الحج، وقد كان هذا من دأبه - رضي الله عنه - (4). ولهذا روينا عن ابن عمر أنه قال في قوله تعالى: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الآَخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ} [الزمر: 9] قال: هو عثمان بن عفان (5). وقال ابن عباس في قوله تعالى: {هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَن يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى
_________
(1) منهاج السنة (3/ 202، 203).
(2) البخاري رقم (695).
(3) أخبار المدينة، لابن شبة (3/ 236).
(4) الطبقات الكبرى (3/ 76)، تاريخ الإسلام، عهد الخلفاء، الذهبي، ص476.
(5) تفسير ابن كثير (4/ 47).(1/104)
صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} [النحل: 76] قال: هو عثمان (1). وكان - رضي الله عنه - يفتتح القرآن ليلة الجمعة، ويختمه ليلة الخميس (2)، وكان - رضي الله عنه - يصوم الدهر ويقوم الليل إلا هجعة من أوله (3).
رابع عشر: خوفه من الله وبكاؤه ومحاسبته لنفسه:
فقد جاء في إحدى خطبه: أيها الناس، اتقوا الله؛ فإن تقوى الله غنم، وإن أكيس الناس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، واكتسب من نور الله نورا لقبره، ويخشى أن يحشره الله أعمى وقد كان بصيرا (4). وقد روى عنه قوله: لو أني بين الجنة والنار لا أدري إلى أيتها يؤمر بي لتمنيت أن أصير رمادا قبل أن أعلم إلى أيتهما أصير.
وكانت روحه ترتجف وعَبَراته تفيض عندما يذكر الآخرة، وعندما يتخيل نفسه وقد انشق قبره ونسل من جدثه إلى العرض والحساب (5)؛ فعن هاني مولى عثمان، قال: كان عثمان إذا وقف على قبر بكى حتى تبتل لحيته، فقيل له: تذكر الجنة والنار وتبكي من هذا؟ قال: إن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إن القبر أول منازل الآخرة، فإن نجا منه فما بعده أيسر منه، وإن لم ينج منه فما بعده أشد منه». قال: وقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «والله ما رأيت منظرا إلا والقبر أفظع منه». قال: وكان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا فرغ من دفن الميت وقف عليه، ثم قال: «استغفروا لأخيكم وسلوا له بالتثبيت؛ فإنه الآن يسأل» (6). وهذا من فقه القدوم على الله الذي استوعبه عثمان - رضي الله عنه - وعاش به في حياته، وما أحوجنا إلى هذا الفقه العظيم الذي به تحيا النفوس وتنفجر الطاقات.
خامس عشر: زهده:
اشتهر أمير المؤمنين عثمان - رضي الله عنه - بأنه من أهل الغنى والثروة، ولكن مع هذه الشهرة فإنه قد رويت عنه أخبار تدل على أنه كان من الزاهدين في الدنيا، فعن حميد ابن نعيم، أن عمر وعثمان -رضي الله عنهما- دعيا إلى طعام، فلما خرجا قال عثمان لعمر:
_________
(1) تفسير ابن كثير (2/ 579).
(2) علو الهمة (3/ 93).
(3) صفة الصفوة للإمام ابن الجوزي (1/ 302).
(4) صحيح التوثيق في سيرة وحياة ذي النورين، مجدي فتحي السيد، ص107.
(5) نظام الحكم في عهد الخلفاء الراشدين، حمد محمد الصمد، ص205.
(6) فضائل الصحابة رقم (773)، إسناده حسن.(1/105)
قد شهدنا طعاما لوددنا أنا لم نشهده، قال: لِمَ؟ قال: إني أخاف أن يكون صنع مباهاة (1). فهذا فقه من عثمان - رضي الله عنه - بمجالات السخاء الإسلامي؛ فالسخاء في الإسلام لا يكون بالتفاخر بالكرم والتباهي بنوع الطعام أو كثرته، وإنما يكون ببذل المال من غير إسراف ولا خيلاء، مع شكر المنعم -جل وعلا- والتواضع للناس. وهذه النظرة من عثمان تعتبر من التزهيد بالجاه الدنيوي، وهذا يدل على أنه كان من الزاهدين في ذلك (2). ومن زهد عثمان - رضي الله عنه - وتواضعه ما أخرجه الإمام أحمد من حديث ميمون بن مهران قال: أخبرني الهمداني أنه رأى عثمان بن عفان عليه بغلة وخلفه غلامه نائل وهو خليفة (3). وكذلك ما أخرجه من حديث الهمداني قال: رأيت عثمان نائما في المسجد في ملحفة ليس حوله أحد وهو أمير المؤمنين (4). كما أخرج من حديث شرحبيل بن مسلم أن عثمان بن عفان - رضي الله عنه - كان يطعم الناس طعام الإمارة، ويدخل إلى بيته فيأكل الخل والزيت (5).
فهذه أمثلة جليلة من زهد أمير المؤمنين عثمان - رضي الله عنه -، وحينما يكون الزاهد متوسطا في المعيشة فإن زهده لا يلفت النظر كثيرا ولا يثير العجب، ولكن حينما يكون غنيا فإن زهده يكون مدهشا للمتأملين وعبرة للمعتبرين؛ ذلك لأن كثرة المال تغري بالانصراف نحو الملذات والتوسع في النفقات، فلا بد ليكون الغني زاهدا من استيعابه لفقه القدوم على الله حتى يكون مهيمنا على نفسه مذكرا لقلبه، فتكبر الآخرة في عينه وتصغر الدنيا في نفسه، وهكذا كان عثمان - رضي الله عنه - الذي كان من أعظم الأثرياء في الإسلام، قد غلبت قوة إيمانه شهوته وهواه فكان من أعظم الزاهدين، وضرب من نفسه مثلا لجميع الأغنياء بإمكان الجمع بين الغنى والزهد في الدنيا (6).
سادس عشر: الشكر:
كان عثمان - رضي الله عنه - كثير الشكر لله تعالى باللسان والجنان والأركان، دعى ذات
_________
(1) الزهد للإمام أحمد، ص126.
(2) التاريخ الإسلامي (17، 18/ 48).
(3) الزهد، ص127.
(4) الزهد، ص127.
(5) المصدر نفسه، ص129.
(6) التاريخ الإسلامي (17، 18/ 49). .(1/106)
يوم إلى قوم على ريبة، فانطلق ليأخذهم فتفرقوا قبل أن يبلغهم، فأعتق رقبة شكرا لله أن لا يكون جرى على يديه خزي مسلم (1).
سابع عشر: تفقد أحوال الناس:
كان - رضي الله عنه - ودودا رؤوفا يسأل عن أحوال المسلمين، ويتعرف على مشكلاتهم ويطمئن على غائبهم، ويواسي قادمهم، ويسأل عن مرضاهم؛ فقد روى الإمام أحمد، عن موسى بن طلحة قال: رأيت عثمان بن عفان وهو على المنبر، وهو يستخبر الناس يسألهم عن أخبارهم وأسعارهم (2). وروى ابن سعد في الطبقات عنه أيضا قال: رأيت عثمان بن عفان يخرج يوم الجمعة عليه ثوبان أصفران، فيجلس على المنبر، فيؤذن المؤذن، وهو يتحدث يسأل الناس عن أسفارهم وعن قادمهم وعن مرضاهم (3). وكان - رضي الله عنه - يهتم بشئون الرعية، ويصل ذوي الحاجة، ويفرض العطاء للمواليد من بيت المال (4)؛ فقد روى عن عروة بن الزبير أنه قال: أدركت زمن عثمان، وما من نفس مسلمة إلا ولها في مال الله حق. يعني بيت المال (5).
ثامن عشر: تحديد الاختصاصات:
المراد بتحديد الاختصاص تقسيم وظائف العمل على العاملين، بحيث يكون كل موظف عالِمًا بالعمل الذي كلفه ليقوم به دون تقصير فيه، ولا يتجاوز إلى عمل آخر مسند إلى سواه. وتقسيم الوظائف سنة كونية ربانية عمل بها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والخلفاء الراشدون من بعده؛ ففي عهد عثمان - رضي الله عنه - وزعت الوظائف والأعمال على المسلمين كل في ميدانه كما سيأتي بيانه بإذن الله؛ ففي مؤسسة القضاة والمال، والجيش وولاية الأمصار ظهرت الصفة القيادية في تحديد الاختصاصات عند الخليفة الراشد عثمان - رضي الله عنه -، فقد تم تقسيم الأعمال وحددت قواعد بين العاملين كانت من أهم عوامل النجاح في دولة الخلفاء الراشدين، وبذلك تعامل الخليفة الراشد عثمان مع السُنَّتين الكونية والشرعية في تحديد الاختصاصات (6).
_________
(1) علو الهمة (5/ 481).
(2) فضائل الصحابة رقم (812)، إسناده صحيح.
(3) الطبقات (3/ 59).
(4) تحقيق مواقف الصحابة (1/ 396).
(5) المصنف في الحديث لابن شيبة (3/ 1023).
(6) الكفاءة الإدارية، ص117.(1/107)
تاسع عشر: الاستفادة من أهل الكفاءات:
إن الإشادة بالأكفاء وإرشاد الأمة إلى احترامهم، وتكريمهم ووضعهم في مواضعهم وعدم هضمهم، والاستفادة من طاقاتهم واختصاصاتهم، إن ذلك مما جعل أهل القرون المفضلة من سلف هذه الأمة ينالون العز والمجد والتمكين في هذه المعمورة (1). وقد ظهرت هذه الصفة في شخصية عثمان - رضي الله عنه - عندما استفاد من كفاءات زيد بن ثابت واللجنة التي عينت معه في جمع القرآن على حرف واحد.
هذه بعض الصفات التي تلاحظ في شخصية عثمان - رضي الله عنه - وهي محل قدوة وأسوة لقادة المسلمين وعوامهم، لمن يريد أن يتبع هدي النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والخلفاء الراشدين في هذه الحياة.
إن معرفة صفات الخلفاء الراشدين ومحاولة الاقتداء بهم، خطوة صحيحة لمعرفة صفات القادة الربانيين الذين يستطيعون أن يقودوا الأمة نحو أهدافها المرسومة بخطوات ثابتة، فمن أسباب التمكين لهذا الدين العمل على إيجاد قادة ربانيين، جرى الإيمان في قلوبهم وعروقهم، وانعكست ثماره على جوارحهم، وتفجرت صفات التقوى في أعمالهم وسكناتهم وأحوالهم؛ فالقيادة الربانية الحكيمة هي التي تسعى لتحكيم شرع الله وتفجير طاقات الأمة وتوجيهها، وهي التي تحتضن الإسلام وتنهجه قلبا وقالبا، جوهرا ومنظرا، وعقيدة وشريعة، ودينا ودولة، وهي التي تصبح وتمسي وهمها عقيدتها وأمتها، وهي التي تسعى بكل ما تملك لحل المشاكل التي تواجهها، وتعمل بكل جهد وإخلاص للقضاء على عوائق التمكين الداخلية والخارجية.
* * *
_________
(1) الكفاءة الإدارية، ص157.(1/108)
الفصل الثالث
المؤسسة المالية والقضائية في عهد عثمان
المبحث الأول
المؤسسة المالية
لما تولى عثمان - رضي الله عنه - الخلافة لم يغير من سياسة عمر المالية، وإن كان قد سمح للمسلمين باقتناء الثروات وتشييد القصور وامتلاك المساحات الشاسعة من الأراضي، فقد زالت عن المسلمين شدة عمر التي كانت ترهبهم وتخيفهم، والتي كانت تحول دون الكثير مما يشتهون، وكان عهده عهد رخاء على المسلمين (1).
أولاً: السياسة المالية التي أعلنها عثمان عندما تولى الحكم:
وجه عثمان - رضي الله عنه - كتابا إلى الولاة وكتابا آخر إلى عمال الخراج، وأذاع كتابا على العامة، وقد ذكرتُ نصوصها عند حديثي عن منهجه في الحكم، وفي ضوء تلك النصوص تكون عناصر السياسة المالية العامة التي أعلنها ثالث الخلفاء الراشدين قد قامت على الأسس العامة التالية:
* تطبيق سياسة مالية عامة إسلامية.
* عدم إخلال الجباية بالرعاية.
* أخذ ما على المسلمين بالحق لبيت مال المسلمين.
* إعطاء المسلمين ما لهم من بيت مال المسلمين.
* أخذ ما على أهل الذمة لبيت مال المسلمين بالحق، وإعطاؤهم ما لهم، وعدم ظلمهم.
* تخلق عمال الخراج بالأمانة والوفاء.
* تفادي أية انحرافات مالية يسفر عنها تكامل النعم لدى العامة (2).
_________
(1) مبادئ الاقتصاد الإسلامي، سعاد إبراهيم صالح، ص217.
(2) السياسية المالية لعثمان - رضي الله عنه -، قطب إبراهيم، ص61.(1/109)
ونفصل فيما يلي هذه الأسس:
1 - نية عثمان بن عفان تطبيق سياسة مالية عامة:
مما لا شك فيه أن الخليفة الثالث عثمان بن عفان عزم على تطبيق سياسة مالية عامة إسلامية؛ فقد بويع - رضي الله عنه - على أساس تطبيق حكم الله وسنة رسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وسياسة الخليفتين قبله، وقد طبق أبو بكر - رضي الله عنه - ما نزل به القرآن وما سنَّه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيما يتعلق بالسياسة المالية وغيرها من الأحكام، وقام عمر بتطوير المؤسسة المالية ونظم قواعدها وأرسى مبادئها وزاد مواردها ورشد إنفاقها، ونهج عثمان طريقهم, واجتهد في بعض الأمور القابلة للاجتهاد، فنفذ حكم الله في الأرض في قضايا الأموال وغيرها؛ فأشرف على دفع الزكاة لبيت المال، وتوزيعها على مستحقيها، وأهل الكتاب في دفعهم الجزية لبيت مال الدولة الإسلامية، وبذلك يدخلون في ذمتها تحميهم وتوفر لهم الأمان وتضفي عليهم سائر خدماتها العامة، والمجاهدون يغنمون الأموال ويرسلون خمسها لبيت مال المسلمين، ويقوم بيت المال بتوزيعها على اليتامى والمساكين وأبناء السبيل وغيرها من وجوه الإنفاق طبقا لقوله تعالى:
{وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ للهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِن كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللهِ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الأنفال: 41] وغير ذلك من مصادر الدولة المعروفة. وقد تميزت المالية العامة في عهد ذي النورين والخلفاء الراشدين بأنها مرتبطة بالإسلام وتطبيق تعاليمه وحماية إيراداته، ويساند الإنفاق العام فيها نشر راية الإسلام وخير المسلمين، وهي مرشدة للإنفاق؛ لأن تعاليم الإسلام تمنع الإسراف وتحاربه، والله لا يحب المسرفين، وتمنع السفهاء من التحكم في الأموال وهي مالية عامة خيرة؛ لأن بعض مواردها العامة توجه للبنية الضعيفة من الرعية، وهي نقية من الدنس، ولا تتضمن مواردها كسبًا من حرام؛ لأن الله لا يبارك
الكسب الحرام.
2 - عدم إخلال الجباية بالرعاية:
ينبه عثمان بن عفان - رضي الله عنه - في كتابه للولاة أن جباية أموال بيت المال كادت تطغى على الواجب الأول للولاة وهي رعاية الرعية، وذلك أن الجباية أحد واجبات الرعية المكلف بها رئيس الدولة الإسلامية، فلا يصح أن تطغى على سائر الواجبات (1). وقد استنبط الفقهاء من الهدي النبوي والعهد الراشدي تكاليف الرعاية؛ أي واجبات الخليفة لتحقيق رعاية الأمة كما يلي:
_________
(1) السياسة المالية لعثمان - رضي الله عنه -، ص62.(1/110)
قال الماوردي: والذي يلزمه من الأمور العامة عشرة أشياء:
أحدها: حفظ الدين على أصوله المستقرة وما أجمع عليه سلف الأمة.
والثاني: تنفيذ الأحكام بين المتشاجرين وقطع الخصام بين المتنازعين؛ حتى تعم النصفة فلا يتعدى ظالم ولا يضعف مظلوم.
والثالث: حماية البيضة والذب عن الحريم؛ ليتصرف الناس في المعاش وينتشروا في الأسفار، آمنين من تغرير بنفس أو حال.
والرابع: إقامة الحدود لتصان محارم الله تعالى عن الانتهاك، وتحفظ حقوق عباده من إتلاف واستهلاك.
والخامس: تحصين الثغور بالعدة المانعة والقوة الدافعة؛ حتى لا تظفر الأعداء بغرة ينتهكون فيها محرما، أو يسفكون فيها لمسلم أو معاهد دمًا.
والسادس: جهاد من عاند الإسلام بعد الدعوة إليه حتى يسلم أو يدخل الذمة، ليقام بحق الله تعالى في إظهاره (الإسلام) على الدين كله.
والسابع: جباية الفيء والصدقات على ما أوجبه نصًّا واجتهادا من غير خوف ولا عسف.
والثامن: تقدير العطايا وما يستحق من بيت المال من غير سرف ولا تقتير، ودفعه في وقت لا تقديم فيه ولا تأخير.
والتاسع: استكفاء الأمناء وتقليد النصحاء فيما يفوض إليهم من الأعمال، ويكله إليهم من الأموال؛ لتكون الأعمال بالكفاءة مضبوطة والأموال بالأمناء محفوظة.
والعاشر: أن يباشر بنفسه مشارفة الأمور وتصفح الأحوال؛ لينهض بسياسة الأمة وحراسة الملة، ولا يعول على التفويض تشاغلا بلذة أو عبادة (1).
وبإيجاز، فإن واجبات الخليفة تتفرع عن شرطي عقد البيعة، وهما حراسة الدين وسياسة الدنيا (2) اللذين هما مهمة الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الذي هو خليفته، وإن كان الماوردي والفراء المتعاصران قد تطابقت تحديداتهما لواجبات الإمام، فإنما ذلك اجتهاد منهما
_________
(1) الأحكام السلطانية والولايات الدينية، أبو الحسن الماوردي، ص 17،16.
(2) مقدمة ابن خلدون، ص191.(1/111)
حسب حاجة الأمة في عصرها، ولا ينبغي أن تقتصر حقوق الأمة على ما عدده عالم من علمائها أو أكثر مهما بلغ من فضل وسعة علم، ومهما كانت نظرته للموضوع شاملة، هذا إن كان العالم معاصرًا، فكيف إن كانت آراؤه واجتهاداته قد سبقنا بها بقرون (1). ولذا فينبغي أن تحدد واجبات الإمام بناء على الشرطين العامين لصحة عقده وهما حراسة الدين وسياسة الدنيا، وينبغي أن تقوم لجان من علماء الأمة بتحديد ذلك لأهل زمانهم (2).
هذه بعض تكاليف الرعاية كما أوردها الفقهاء، وهي قابلة للتطوير بما يلائم
تطور الأزمان والعصور بحيث لا يخالف التطوير نصًّا من نصوص القرآن أو حكمًا من أحكام الدين (3).
3 - أخذ ما على المسلمين بالحق لبيت مال المسلمين:
عمال الخراج نواب عن الدولة في استئداء حقوق بيت المال، فإذا أخذوا ما على المسلمين بالحق أدوا واجبهم المنوط بهم، وإذا غالوا في جباية حقوق بيت المال ظلموا الممولين وألحقوا بهم الضرر وحمَّلوهم فوق ما يطيقون، والرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يحذر من المغالاة في استئداء حقوق بيت المال؛ فقد نهى عن جباية كرائم الأموال في الزكاة، وأمر بالتخفيف في استئداء زكاة الثمر (4).
4 - إعطاء المسلمين ما لهم من بيت المال بالحق:
عطاء بيت المال للمسلمين إما أن يكون مباشرا كصرف الزكاة للمستحقين لها، وما يقضي به نظام الأعطيات من توزيع فائض الأموال على المسلمين، أو يكون العطاء العام غير مباشر يتمثل في الخدمات العامة التي تؤديها الدولة للرعية، وهذه ينفق عليها من بيت مال المسلمين. وفي كلا العطاءين ينبغي أن يتسم العطاء بالحق، فلا يجوز في العطاء المباشر أن يخالف الأسس التي تحددت لوضعه محاباة لبعض الأفراد أو حرمانا أو نقصانا للبعض الآخر دون مبرر، ولا يجوز أن يتأخر العطاء عن موعده بسبب تعقد الإجراءات أو كثرة الحجب التي تحجب أرباب الظلامات عن الوصول لمن بيدهم أمر
_________
(1) الخلافة بين التنظير والتطبيق، محمد المرداوي، ص66.
(2) المصدر نفسه، ص67.
(3) السياسة المالية لعثمان، ص62.
(4) المصدر نفسه، ص64.(1/112)
العطاء لبحث ظلامتهم من تأخير العطاء أو قلته، أو عدم وصوله إليهم، ولا يجوز في العطاء غير المباشر المتمثل في الخدمات العامة التي تؤديها الدولة للشعب أن تكون المنفعة لفرد معين؛ بل يجب أن يعود نفعها على الأمة جمعاء (1).
5 - عدم ظلم أهل الذمة وأخذ ما عليهم لبيت المال بالحق وإعطاؤهم حقوقهم بالحق كذلك:
لا يجوز ظلم أهل الكتاب عند أخذ الجزية منهم؛ لأن أهل الكتاب من الذميين الذين يقيمون في الدولة الإسلامية وهم في ذمتها ورعايتها ما داموا يؤدون الجزية، وقد أوصى بهم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ فقد ولى عبد الله بن أرقم على جزية أهل الذمة، فلما ولى عنده ناداه فقال: ألا من ظلم معاهدًا أو كلفه فوق طاقته أو انتقصه أو أخذ منه شيئًا بغير طيب نفسه فأنا حجيجه يوم القيامة (2). واستنادا لذلك فقد أوصى بهم عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - حين موته: أوصى الخليفة من بعدي بأهل الذمة خيرا، أن يوفي لهم بعهدهم، وأن يقاتل من ورائهم، وأن لا يُكلفوا فوق طاقتهم (3).
فإذا آذى عمال الجزية الذميين أو كلفوهم فوق طاقاتهم أو عذبوهم، أو أخذوا الجزية من الشيخ الكبير الذي لا شيء له ولا يستطيع العمل، أو أخذوها من الذمي الذي أسلم، كان هذا لونا من ألوان الظلم الذي نبه عليه الخليفة الثالث في كتابه إلى عمال الخراج بعد ارتكابه مستندا في ذلك لتعاليم الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (4).
هذا وعلاوة على الجزية يؤدي أهل الذمة الذين يزرعون أرض الخراج -وهي التي آلت للدولة الإسلامية كغنيمة نتيجة للفتح الإسلامي- ما يستحق عليها من خراج لبيت مال المسلمين، ويجب أن يراعى عمال الخراج الحق في تحديد قيمته المستحقة على الأراضي التي يزرعها أهل الذمة، وذلك بمراعاة العوامل التي تحكم تحديده؛ لأن إغفالها كلها أو بعضها يوقع الظلم بأهل الذمة الذين يزرعونها، وهذه العوامل أربعة:
* ما يختص بالأرض من جودة يزكو بها زرعها أو رداءة يقل بها ريعها.
* ما يختص بالزرع من اختلاف أنواعه من الحبوب والثمار، فمنها ما يكثر ثمنه ومنها ما يقل ثمنه فيكون الخراج بحسبه.
_________
(1) السياسة المالية لعثمان، ص66.
(2) المنتخب من السنة، ص261.
(3) السياسة المالية لعثمان، ص67.
(4) السياسة المالية لعثمان، ص67.(1/113)
* ما يختص بالسقي والشرب؛ لأن ما التزم المئونة في سقية النواضح والدوالي لا يحتمل من الخراج ما يحتمله سقي السيوح والأمطار.
* أن لا يستقضي في وضع الخراج غاية ما تحمله ليجعل فيها لأرباب الأرض بقية يجبرون بها في النوائب والجوائع (1).
هذا وإذا كانت الدولة الإسلامية قد أبرمت عهدا أو عقدت صلحا مع أهل الكتاب، فواجب الدولة الإسلامية وعمال خراجها أن يلتزموا بما ورد بها من شروط, ومنها الشروط التي تحدد قيمة ما يدفعونه من جزية أو خراج؛ لأن المسلمين إذا أبرموا عقدا أو عهدوا عهدا التزموا بالوفاء بالعقود والعهود (2).
6 - عدم ظلم اليتيم:
لليتيم حقوق في المال العام بنصوص القرآن الكريم، فهو من المستحقين لأموال الزكاة إن كان فقيرا، قال تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِّنَ اللهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [التوبة: 60].
ولليتيم نصيب في خمس الغنائم تطبيقا لقوله جل وعلا: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ للهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِن كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللهِ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الأنفال: 41] ولليتيم نصيب في عطاء بيت المال، فقد كان يفرض للأطفال عموما ومنهم يتامى الأطفال، وإذا كان اليتيم غنيا فيؤدي الزكاة المفروضة على أمواله إذا توافرت, وواجب المصدق أن يأخذ الزكاة بالحق والعدل حتى لا يذهب ظلمه بمال اليتيم أو جزء منه بغير وجه حق (3).
7 - تخلق عمال الخراج بالأمانة والوفاء:
قال تعالى: {إِنَّ اللهَ يَأمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الأمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا} [النساء: 58].
_________
(1) السياسة المالية لعثمان، ص67.
(2) السياسة المالية لعثمان، ص67.
(3) المصدر نفسه، ص68.(1/114)
وقال تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ لأمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ} [المؤمنون: 8].
طالب الخليفة الراشد عثمان بن عفان - رضي الله عنه - عمال الخراج أن يتحلوا بالأمانة وهي صفة لازمة لجميع من يشتغلون بالأموال العامة، وإذا لم تتوافر فيهم هذه الصفة جاروا على حقوق بيت المال وجاروا على الممولين، وانتكست العلاقة بين بيت المال والممولين. والقرآن الكريم والأحاديث النبوية الشريفة تنبه وتحض على التزام الأمانة، وطالب الخليفة عثمان كذلك عمال الخراج بأن يتحلوا بالوفاء. وقد ورد الوفاء مطلقا في كتاب الخليفة؛ فيشمل الوفاء لبيت المال بمراعاة أخذ حقوقه كاملة من الرعية، والوفاء للممولين بعدم ظلمهم بالمغالاة في تحديد الفرائض المالية المطلوبة منهم، والوفاء لأهل الذمة بالرفق وحسن المعاملة وتطبيق ما تضمنته شروط الصلح معهم من جزية وخراج دون زيادة (1).
8 - أثر تكامل النعم على مسار الأمة:
لم يرد عثمان بن عفان - رضي الله عنه - أن يترك العامة دون تبصيرهم، فحذرهم من أن تجذبهم الدنيا إلى ملاذها ومتاعها، وخشي أن أمر الأمة صائر إلى الابتداع بعد أن توفرت لهم ثلاث: وهي تكامل النعم، وبلوغ أولاد السبايا، وقراءة الأعاجم (2). فعثمان - رضي الله عنه - أدرك أن تكامل النعم لدى البعض سيميل بأولي النعم عن المسار السليم؛ لأن تكامل النعمة بزيادة الأموال لدى أفراد الرعية قد يفسدهم بسبب ما ينفقونه على الترف والفساد (3) , قال تعالى: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا} [الإسراء: 16].
9 - المقارنة بين السياسة العمرية والعثمانية:
هذه السياسة المالية التي أعلنها ذو النورين تكاد تتفق مع السياسة العامة المالية التي نفذها الفاروق حين ولي أمر المسلمين، فقد أعلن ونفذ: أن المال العام لا يصلحه إلا خِلالٌ ثلاث؛ أن يؤخذ بالحق ويعطى في الحق ويمنع في الباطل (4). فالسياسة العمرية
_________
(1) السياسة المالية لعثمان، ص69.
(2) تاريخ الطبري (5/ 245).
(3) السياسة المالية لعثمان، ص70.
(4) السياسة المالية لعمر بن الخطاب، قطب إبراهيم محمد، ص23، وما بعدها.(1/115)
والعثمانية في المال تنبعان من مشكاة واحدة، وهي مشكاة الإسلام ومبادئه وأصوله وقواعده (1).
ثانيًا: توجيهات عثمانية توضح للناس قواعد زكاتهم:
قال عثمان - رضي الله عنه -: هذا شهر زكاتكم، فمن كان عليه دين فليؤده حتى تخرجوا زكاة أموالكم، ومن لم تكن عنده لم تطلب منه حتى يأتي بها تطوعا، ومن أخذ منه حتى يأتي هذا الشهر من قابل، قال إبراهيم بن سعد: آراه يعني شهر رمضان (2). وقال أبو عبيد: وقد جاءنا في بعض الأثر أن هذا الشهر الذي أراده عثمان هو المحرم، (3) وبهذا القول أكد عثمان - رضي الله عنه - المبادئ التالية:
أ- مبدأ سنوية الزكاة؛ إذ يشترط لأداء الزكاة -ما عدا زكاة الزروع- حوَلانَ الحول، ويظهر ذلك من قول عثمان أن من أخذ منه لا يؤدي زكاة عن أمواله حتى يأتي نفس الشهر في السنة التالية، فلا تتكرر عليه الزكاة في عام واحد.
ب- إذا أخذنا بقول أبي عبيد أن الشهر الذي قصده عثمان بن عفان هو شهر محرم، فكأنه أراد أن تكون السنة المالية الإسلامية مطابقة للسنة الهجرية؛ فعلى المسلمين بعد مرور سنة هجرية كاملة على ما لديهم من أموال أن يسددوا ما عليها من زكاة في أول السنة الهجرة التالية، وهو شهر المحرم إذا توافرت شروطها.
ج- ويدعو عثمان بن عفان - رضي الله عنه - الناس إلى حساب وعاء الزكاة، فيطلب منهم أداء ما عليهم من ديون حتى تؤخذ الزكاة على الباقي (4). ولعل عثمان أراد أن يستحث الناس على أداء ما عليهم من ديون؛ وفاء منهم للدائنين، وتسهيلا لحساب المال الخاضع للزكاة، وحتى يقطع بجدية الدين وعدم تطرق الصورية إليه (5).
د- يقول عثمان - رضي الله عنه -: ومن لم تكن عنده لم تطلب منه حتى يأتي بها تطوعا. وبذلك يفتح عثمان بن عفان الدعوة إلى التطوع، فقد يرى بعض المسلمين أنهم لا يستحق عليهم زكاة، ومع ذلك يرون التطوع بأداء صدقات من أموالهم يؤدونها
_________
(1) السياسة المالية لعثمان، ص76.
(2) الأموال لأبي عبيد، ص534.
(3) المصدر نفسه، ص535.
(4) السياسة المالية لعثمان - رضي الله عنه -، ص76.
(5) السياسة المالية لعثمان - رضي الله عنه -، ص76.(1/116)
لبيت المال، فيقبلها منهم ويضمها إلى موارد الزكاة، وتصرف الدولة منها على نفس مصارف الزكاة (1). وقد يكون قول عثمان - رضي الله عنه -: ومن أخذنا منه لم نأخذ منه حتى يأتينا بها تطوعا، أنه يقصد أن لا يجبى بيت المال صدقة الذهب والفضة إلا إذا أتى بها صاحبها لبيت المال، وأما الصدقة التي يكره الناس عليها ويجاهدون على منعها فهي صدقة الماشية والحرث والنخل، وبذلك يكون عثمان قد ترك لأصحاب الأموال أداء الزكاة على ما يعرف بالأموال الباطنة، وهي أموال الذهب والفضة والتجارة، ولا يقبلها منهم إلا إذا أتى بها صاحبها تطوعا (2). يقول في ذلك أبو عبيد: ألا ترى أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قد كان يبعث مصدقيه إلى الماشية فيأخذونها من أربابها بالكره منهم وبالرضا، وكذلك كانت الأئمة بعده، وعلى منع صدقة الماشية قاتلهم أبو بكر، ولم يأت عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ولا عن أحد بعده أنهم استكرهوا الناس على صدقات الصامت، إلا أن يأتوا بها غير مكرهين وإنما هي أماناتهم يؤدونها، فعليهم فيها أداء العين والدين؛ لأنها ملك أيمانهم وهم مؤتمنون عليها، وأما الماشية فإنها حكم يحكم بها عليهم، وإنما تقع الأحكام فيما بين الناس على الأموال الظاهرة وهي فيما بينهم وبين الله على الظاهرة والباطنة جميعا (3).
1 - رأيه في زكاة دين الدائن:
عن السائب بن يزيد أن عثمان كان يقول: إن الصدقة في الدين الذي لو شئت تقاضيته من صاحبه، والذي هو ملئ تدعه حياء أو مصانعة ففيه الصدقة (4).
وعن عثمان - رضي الله عنه - قال: زكِّه -يعني الدين- إذا كان عند الملئ (5).
فمن هذين القولين لعثمان بن عفان يبين أن الصدقة واجبة على الدين للدائن على المدين الملئ، ويستطيع أن يحصل من المدين على دينه ولكن يستحي أن يذكر المدين به, أو أن الدائن يدع دينه للمدين مصانعة له، والمصانعة تعني سكوت الدائن عن المطالبة بدينه نظير منفعة يحصل عليها من المدين (6).
_________
(1) السياسة المالية لعثمان، ص77.
(2) الأموال لأبي عبيد، ص537.
(3) الأموال لأبي عبيد، ص537.
(4) الأموال لأبي عبيد، ص537.
(5) المنتخب من السنة (6/ 301).
(6) السياسة المالية لعثمان بن عفان، ص79.(1/117)
2 - اقتراضه من مصرف الزكاة وإنفاقه للمصالح العامة:
أخذ عثمان - رضي الله عنه - من أموال الزكاة فأنفق منها في الحرب وفي غير الحرب على المرافق العامة، فأنفق على الجهاد على أن يرد ذلك إذا اتسع المال لرده، ومن حق الإمام أن يقترض من مصرف لمصرف، لا يخالف بذلك الدين، ولا يغير سنة موروثة ما دام مصمما على أن يرد على أموال الصدقة ما أخذ منها (1).
وتذهب بعض الآراء إلى أن أحد مصارف الزكاة وهو مصرف «في سبيل الله» يعطي للغازي في سبيل الله من أموال الزكاة؛ لأن انقطاعه للجهاد أقعده عن العمل والكسب، وليس هذا من باب التشجيع على البطالة، فهذا الصنف قد آثر مصلحة الإسلام على مصلحة نفسه, وترك العمل لشخصه ليعمل في مجال أرحب وأوسع وهو العمل لإعلاء كلمة الله ونشر دينه في المعمورة. ويرى بعض العلماء جواز صرف الزكاة في المنافع العامة وما تقتضيه حاجات الأمة (2).
3 - الإنفاق من الزكاة على الطعام للفقراء وأبناء السبيل:
سَنَّ عثمان - رضي الله عنه - سُنَّة جديدة، فكان يضع الطعام في المسجد في رمضان وقال: للمتعبد الذي يتخلف في المسجد، وابن السبيل، والمعترين (3). والخليفة عثمان - رضي الله عنه - بذلك يكرم المسلمين من بيت المال، وفي ذلك اقتداء بالرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الذي كان أجود الناس وأجود ما يكون في رمضان. وهذه السنة التي استنها عثمان ترغب المسلمين في الاعتكاف في المساجد ما دام أكلهم معدًّا، وفي ذلك تشجيع على إحياء سنة الرسول الكريم - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الاعتكاف (4).
4 - إنشاء منازل للضيافة من أموال الزكاة:
بلغ عثمان أن أبا سمال الأسدي ومعه نفر من أهل الكوفة ينادي مناد لهم إذا قدم الميار (5): أن من كان من القبائل ليس لقومهم بالكوفة منزل فمنزله على أبي سمال، فاتخذ عثمان بعض الدور كمنازل للضيافة ينزل بها الغرباء ممن ليس لهم منزل، ومن
_________
(1) السياسة المالية لعثمان، ص80.
(2) المصدر نفسه، ص81.
(3) تاريخ الطبري (5/ 245)، المعتر: الفقير، المتعرض للمعروف بدون سؤال.
(4) السياسة المالية لعثمان بن عفان، ص82، 83.
(5) الميار: جمع مائر وهو جالب الميرة، والميرة: الطعام.(1/118)
هذه الدور منزل عبد الله بن مسعود في هذيل، وكان الأضياف ينزلون داره في هذيل إذا ضاق عليهم ما حول المسجد (1).
5 - العطاء من بيت المال لكل مملوك:
مما زاد عثمان - رضي الله عنه - على يده أن رد على كل مملوك بالكوفة من فضول الأموال ثلاثة من كل شهر يتسعون بها من غير أن ينقص مواليهم من أرزاقهم (2). والغالب على أن مصدر هذه الأموال التي وزعها عثمان على كل مملوك هو أموال الزكاة باعتبار أن لهم فيها نصيبا؛ لأنهم أحد المصارف الثمانية التي حددتها آية الزكاة، وهي مصرف {وَفِي الرِّقَابِ} [التوبة: 6] (3).
ثالثًا: خمس الغنائم:
بدأ الجهاد في عهد الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - , واستمر في عهد أبي بكر وعمر, وكذلك في عهد الخليفة عثمان بن عفان، وكانت نتيجة ذلك انتشار الإسلام واتساع رقعة الدولة الإسلامية، وكانت فتوحات عهد عثمان كبيرة حققت غنائم كثيرة إلى بيت المال، منها الخمس، كما أنه آل إلى بيت المال جزية من آثر البقاء على دينه من أهل الكتاب ولم يحارب، فهناك ارتباط إذن بين بيت المال والفتوحات الإسلامية، فقد قام بيت المال في عهد عثمان في تمويل هذه الفتوحات، سواء بما كان يدفعه للجنود من مرتبات أو لشراء الأسلحة والعتاد بجانب التطوع بالأموال والأنفس، وإذا تحقق النصر فرضت الجزية على من لم يسلم من أهل الكتاب والخراج على الأرض التي أخذت عنوة، وإذا أسلم أهل البلاد سددوا الزكاة إذا بلغت أموالهم نصابا وتوافرت شروطها باعتبارها من أركان الإسلام، ولا يكمل إسلام المسلم إلا بأدائها، وهذه كلها تساهم في زيادة الإيرادات العامة للدولة الإسلامية، وأحل الله للمسلمين غنائم الحرب، ويوزع أربعة أخماسها بين الفاتحين، والخمس الباقي يؤول لبيت مال المسلمين (4).
وفيما يلي بعض المسائل التي أسفر عنها تطبيق السياسة المالية العامة في عهد عثمان بن عفان بشأن خمس غنائم الفتوحات:
_________
(1) تاريخ الطبري، (5/ 273).
(2) المصدر نفسه، (5/ 275).
(3) السياسة المالية لعثمان، ص84.
(4) المصدر نفسه، ص86، 87.(1/119)
1 - لم يسهم للصبي في الغنائم في عهد عثمان بن عفان:
عن تميم بن المهري قال: شهدت فتح الإسكندرية في المرة الثانية، فلم يسهم لي حتى كاد أن يقع بين قومي وبين قريش منازعة، فقال بعض القوم: أرسلوا إلى بصرة الغفاري وعقبة بن عامر الجهني، فإنهما من أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فاسألوهما عن هذا، فأرسلوا إليهما فسألوهما فقالا: انظروا فإن كان أنبت (1) فأسهموا له، فنظر إليَّ بعض القوم فوجدوني قد أنبت فأسهموا لي (2).
ومعنى ذلك أنه لا يسهم للصبي ولا للمرأة، إنما يرضخ لهم؛ أي يعطون شيئا قليلا لمساعدتهم في غزوات المسلمين، وهذا ما كان يطبق في عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (3).
2 - السلب للقاتل في عهد عثمان كما كان في عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:
السلب هو ما كان على القتيل في الحرب وما كان من سلاح، وما كان تحته من فرس، وقد قضى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالسلب للقاتل؛ فعن أبي قتادة أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال يوم حنين: «من قتل قتيلا له بينة فله سلبه» (4). ومفاد هذا الحديث أنه لا يستحق للقاتل السلب إلا بعد أن يقيم البينة على أنه هو الذي قتله، حتى إذا تنازع اثنان كل منهما يدعى أنه قتله فالسلب لمن يقيم البينة منهما (5).
وقد حدث بعد انتقاض الإسكندرية وجاءت الروم وعليهم منويل الحصى وأرسوا بالإسكندرية، وتركهم عمرو حتى يسيروا إليه فيصيبوا من مروا به في البلاد فخزي الله بعضهم ببعض، فخرجوا من الإسكندرية ومعهم من نقض من أهل القرى، فجعلوا ينزلون القرية فيشربون خمورهم، ويأكلون أطعمتها وينتهبون ما مروا به، فلم يعرض عمرو حتى بلغوا نفيوس فلقوهم في البر والبحر، فحاربوا بالنشاب ثم خرجوا من البحر، فاجتمعوا هم والذين في البر واستمروا في حرب النشاب، وبرز بطريق ممن جاء من أرض الروم على فرس له عليه سلاح مذهب، فدعا إلى البراز فبرز له رجل من زبيد يقال له (حومل) يكنى أبا مذجح، فاقتتلا طويلا برمحين يتطاردان، ثم ألقى البطريق الرمح
_________
(1) أنبت: أي ظهر شعر في وجهه.
(2) فتوح مصر وأخبارها، ص121.
(3) السياسة المالية لعثمان، ص93.
(4) البخاري، كتاب المغازي، رقم (4322).
(5) السياسة المالية لعثمان، ص93.(1/120)
وأخذ السيف، وألقى حومل رمحه وأخذ بسيفه، وجعل عمرو يصيح: أبا مذجح فيجيبه: لبيك، والناس على شاطئ النيل في البر على تعبئتهم وصفوفهم، فتجاولا ساعة بالسيفين ثم حمل عليه البطريق فاحتمله، ثم أخذ حومل خنجرا كان في منطقته أو في ذراعه فضرب به نحر عدوه فأوتر قوته فأثبته ووقع عليه فأخذ سلبه، ثم مات حومل بعد ذلك بأيام رحمة الله عليه، ثم شد المسلمون حتى ألحقوهم بالإسكندرية، ففتح الله عليهم وقتل منويل الحصى (1).
3 - قيمة الغنائم ونصيب بيت المال في أحد فتوحات عثمان:
من حديث عبد الملك بن مسلمة عن غيره قال: غزونا مع عبد الله بن سعد إفريقية فقسم بيننا الغنائم بعد إخراج الخمس، فبلغ سهم الفارس ثلاثة آلاف دينار، للفرس ألفا دينار ولفارسه ألف دينار، وللراجل ألف دينار، فقسم لرجل من الجيش توفى بذات الحمام فدفع لأهله بعد موته ألف دينار (2). ومن حديث لعثمان بن صالح وغيره قال: فكان جيش عبد الله بن سعد ذلك عشرين ألفا، ومن المعروف أن يؤول الخمس لبيت المال، استنادا إلى قول الله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ للهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِن كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللهِ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الأنفال: 41] وقد رفع نصيب الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وذي القربى في عهد أبي بكر - رضي الله عنه - بعد وفاة الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ووجِّه إلى السلاح والكراع، وسايره عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - من بعده في التطبيق، وكذا عثمان بن عفان - رضي الله عنه -، والأربعة أخماس الباقية من الغنائم توزع على الفاتحين بنسبة 3 للفارس وفرسه، 1 للراجل. فمن الحديثين السابقين يمكن حساب قيمة الخمس الذي آل لبيت المال وكذلك قيمة الغنائم كلها، فبافتراض أن الفوارس عشر الجيش الذي بلغ عشرين ألفا، وأن الباقين من الراجلين يكون الحساب كالآتي:
2000 فارس × 3000 دينار = 6000.000 دينار.
18000 راجل × 1000 دينار = 18000.000 دينار.
مجموع ما خص المحاربين = 24 مليون دينار، وهو ما يمثل أربعة أخماس قيمة الغنائم،
_________
(1) فتوح مصر وأخبارها، ص119، 120.
(2) المصدر نفسه، ص125.(1/121)
ويكون نصيب بيت المال خمس الغنائم؛ أي = 6 ملايين دينار، ويكون مجموع ما غنمه المسلمون = 30 مليون دينار (1).
4 - الإنفاق العام من خمس الغنائم:
ينفق خمس الغنائم طبقا لنص الآية للرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل بحق الخمس لكل منهم، وأنه بعد موت الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - آل نصيبه ونصيب ذي القربى إلى بيت المال لينفق منها على الكراع والسلاح، وقد استنفد الخليفة الراشد عثمان - رضي الله عنه - نصيب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وذي القربى الذي آل إلى بيت المال على الإنفاق على الكراع والسلاح لكثرة الفتوحات التي تمت في عهده وما استلزمته من أسلحة وخيول (2).
5 - نجاح السياسة المالية في تمويل فتوحات الإسلام في عهد عثمان:
من ضمن التحديات التي واجهها عثمان - رضي الله عنه - انتكاس بعض البلاد المفتوحة، واستطاع عثمان - رضي الله عنه - إجبار البلاد التي نقضت العهد على الالتزام بعهودهم مع الدولة الإسلامية والانصياع لحكمها.
وفي ضوء ما تم من فتوحات جديدة فإنه يمكن القول: إن تنفيذ السياسة المالية فيما يتعلق بهذه الفتوح قد أسفر عن قيام المالية العامة في عهد عثمان بن عفان بالمطلوب منها، سواء من ناحية تمويلها لهذه الفتوح أو بما حققته الانتصارات من غنائم كثيرة حصل بيت المال على نصيبه منها أو من موارد أخرى، وهي زكاة من أسلم من أهل الأمصار، وجزية من أبى الإسلامَ من أهل الكتاب وخراج أراضيهم (3).
رابعًا: الإيرادات العامة من الجزية في عهد عثمان - رضي الله عنه -:
1 - استقرار المسائل الفنية للجزية في عهد عثمان - رضي الله عنه -:
استقرت أحكام الجزية وقواعدها ونظام تطبيقها وتحصيلها في عهد عمر بن الخطاب، ولذلك كان دور بيت المال في عهد عثمان أن يتلقى ما يتم تحصيله من جزية بعد الاتفاق على قيمتها، وأن تقر الدولة ما تم عقده من صلح في عهود سابقة أو إقرار صلح
_________
(1) السياسة المالية لعثمان بن عفان، ص95.
(2) المصدر نفسه، ص97.
(3) المصدر نفسه، ص99.(1/122)
جديد، وأن تتكفل الدولة لمن أدوا الجزية بالحقوق التي تترتب على هذا الأداء (1).
2 - نماذج مما آل لبيت المال من إيرادات الجزية:
أ- غزا الوليد بن عقبة في إمارته على الكوفة في عهد عثمان أذربيجان، وصالح أهلها على ثمانمائة ألف درهم حبسوها عند وفاة عمر، فوطئهم بالجيش وانقادوا له وقبض
منهم المال (2).
ب- لما وجه عثمانُ عبدَ الله بن سعد إلى إفريقية كان الذي صالحهم عليه بطريق إفريقية جرجير ألفي ألف دينار وخمسمائة ألف دينار وعشرين ألف دينار، وكان الذي صالحهم عليه عبد الله ثلثمائة قنطار ذهب (ولعل ذلك يعادل المبلغ الأول) (3).
ج- صلح قبرص وقع على جزية سبعة آلاف دينار يؤدونها إلى المسلمين (4).
ح- صالح سعيد بن صالح أهل جرجان وكان يجبون أحيانا مائة ألف، ويقولون: هذا صلحنا، وأحيانا مائتي ألف وأحيانا ثلاثمائة ألف (5).
د- غلب عبد الله بن عامر على نيسابور وخرج إلى سرخس، فأرسل إليه أهل مرو يطلبون الصلح، فبعث إليهم ابن حاتم فصالح مرزبان مرو على ألفي ألف، وقال آخر: صالحهم على ستين ألف درهم (6).
و- سار الأحنف بن قيس إلى بلخ فحاصرهم، فصالحه أهلها على أربعمائة ألف، فرضي منهم بذلك، واستعلم ابن عمه وهو أسيد بن المتشمس ليأخذ منهم ما صالحوه عليه (7).
3 - عثمان بن عفان ينفذ كتاب الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لأهل نجران:
كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قد أقر أهل نجران على شروط اشترطها عليهم واشترطوها هم، وكتب لهم بذلك كتابا يوضح هذه الشروط ومنها دفعهم الجزية ومقدارها، ثم جاءوا بعد الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فكتب لهم أبو بكر - رضي الله عنه - كتابا بهذه الشروط، ثم جاءوا من بعد أن استخلف عمر - رضي الله عنه - إليه، وكان عمر قد أجلاهم عن نجران اليمن وأسكنهم
_________
(1) السياسة المالية لعثمان بن عفان، ص103.
(2) تاريخ الطبري، (5/ 246).
(3) المصدر نفسه، (5/ 255).
(4) المصدر نفسه، (5/ 261).
(5) المصدر نفسه، (5/ 261).
(6) المصدر نفسه، (5/ 318)
(7) المصدر نفسه، (5/ 307).(1/123)
بنجران العراق؛ لأنه خافهم على المسلمين وكتب لهم كتابا، (1) فلما قُبض عمر - رضي الله عنه - واستخلف عثمان بن عفان - رضي الله عنه - أتوه إلى المدينة، فكتب لهم إلى الوليد بن عقبة وهو عامله الكتاب التالي: (بسم الله الرحمن الرحيم. من عبد الله عثمانَ أميرِ المؤمنين إلى الوليد بن عقبة سلام الله عليك، فإني أحمد الله الذي لا إله إلا هو، أما بعد: فإن الأسقف والعاقب وسراة أهل نجران الذين بالعراق أتوني، فشكوا إليَّ وأروني شرط عمر لهم، وقد علمت ما أصابهم من المسلمين، وإني قد خففت عنهم ثلاثين حلة من جزيتهم وتركتها لوجه الله تعالى جل ثناؤه، وإني وفيت لهم بكل أرضهم التي تصدق عليهم عمر عقبى مكان أرضهم باليمن، فاستوصِ بهم خيرا فإنهم أقوام لهم ذمة. وكانت بيني وبينهم معرفة، وانظر صحيفة كان عمر كتبها لهم فأوفهم ما فيها، وإذا قرأت صحيفتهم فارددها عليهم، والسلام (2). وكان ذلك في النصف من شعبان سنة سبع وعشرين (3).
ومما سبق يتضح منه أمور:
أ- أن عثمان - رضي الله عنه - أوفى بعهد الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وعهد صاحبه -رضي الله عنهما- من بعده، وأن ذلك ينبع من مبدأ عام في الإسلام، وهو أن من عقد عقدا أو عهد عهدا أو وعد وعدا أوفى به.
ب- خفف عثمان عنهم الجزية ووفى لهم بكل أرضهم، وطلب من عامله الوليد بن عقبة أن يوفي لهم بما ورد في كتاب عمر - رضي الله عنه -، وأن يستوصي بهم خيرا لأنهم أقوام لهم ذمة (4).
4 - أهل الكتاب في ذمة المسلمين ما داموا يؤدون الجزية:
بعد انتصار عمرو بن العاص في الإسكندرية، وكان قد جمع من القرى أثناء الحرب ما أصاب أهل القرى، فجاءه أهل تلك القرى ممن لم يكن نقض، فقالوا: قد كنا على صلحنا، وقد مر علينا هؤلاء اللصوص (أي الروم) وأخذوا متاعنا ودوابنا، وهو قائم بين يديك، فرد عليهم عمرو ما كان لهم من متاع عرفوه، وأقاموا عليه البينة. وقال بعضهم لعمرو بن العاص: ما حل لك ما صنعت بنا، كان لنا أن تقاتل عنا لأنا في ذمتك ولم
_________
(1) الخراج لأبي يوسف، ص74.
(2) الخراج لأبي يوسف، ص74.
(3) السياسة المالية لعثمان، ص105.
(4) السياسة المالية لعثمان، ص105.(1/124)
ننقض، فأما من نقض فأبعده الله (1). فانظر كيف نظام الجزية يرتب حقوقا تمسكوا بها، وهي حمايتهم نظير ما يدفعون بالرغم من أنهم لا يشتركون في الدفاع عن البلاد مع المسلمين، وإنما يدفعونها نظير حقوق يحصلون عليها من الدولة الإسلامية، ومن هذه الحقوق حق الحماية وحق الرعاية، وقد أقرهم عمرو بن العاص على هذه الحقوق ورد إليهم أموالهم (2).
5 - مشاركة أهل الذمة في الأعباء العامة في عهد عثمان:
ومما يذكر بشأن فتح الإسكندرية الثاني في خلافة عثمان بن عفان مما يتصل بالجزية أن صاحب اخنا -وكان اسمه طلما-، قدم على عمرو بن العاص فقال: أخبرنا ما على أحدنا من الجزية فيصبر لها؟ فقال عمرو -وهو يشير إلى ركن كنيسة-: إنما أنتم خزانة لنا إن كثر علينا كثرنا عليكم، وإن خفف عنا خففنا عنكم، فغضب صاحب اخنا فخرج إلى الروم فقدم بهم، فهزمهم الله وأسر، فأتي به إلى عمرو، فقال له الناس: اقتله، فقال: لا، وقيل: إن عمرا لما أتى به سوَّره وتوَّجه وكساه برنس أرجوان، وقال له: ائتنا بمثل هؤلاء، فرضى بأداء الجزية، فقيل لطلما: لو أتيت ملك الروم، فقال: لو أتيته لقتلني، وقال: قتلت أصحابي (3).
وعندما نحلل قول عمرو بن العاص: إنما أنتم خزانة لنا، إن كثر علينا كثرنا عليكم، وإن خفف عنا خففنا عنكم، نستنتج بعض المبادئ للسياسة المالية في عهد عثمان بالنسبة لغير المسلمين، منها:
أ- أهل الذمة يساهمون في بيت مال المسلمين بما يؤدونه من جزية، فهم خزانة لبيت المال، يحصل منها بيت المال على نصيبه في أموالهم على هيئة جزية.
ب- أن هذا النصيب في أموال أهل الذمة يتحدد في ظل الأعباء الملقاة على الدولة، فإن كبر هذا العبء ارتفعت قيمة الجزية، وإن خف هذا العبء خفت قيمة الجزية.
ج- هذا التحول في قيمة الجزية -ارتفاعا وانخفاضا- مع أعباء الحكم ينبثق من مبدأ المشاركة المالية من مواطني الدولة في الأعباء، بحيث يساهم كلٌّ على قدر طاقته وبما يحقق العدالة في توزيع الأعباء، وفي ظل الوصايا التي أوصى بها الرسول الكريم
_________
(1) السياسية المالية لعثمان، ص106.
(2) السياسية المالية لعثمان، ص106.
(3) فتوح مصر وأخبارها، ص102.(1/125)
بحسن معاملة أهل الذمة عامة (1).
خامسًا: الإيرادات العامة من الخراج والعشور في عهد عثمان:
1 - الخراج:
امتدت فتوحات الإسلام في عهد عثمان بن عفان - رضي الله عنه -، ونتج عن هذه الفتوحات أن دخلت الأرض الزراعية للبلاد المفتوحة في حوزة الدولة الإسلامية، وكان عمر - رضي الله عنه - قد اعتبرها فيئا للمسلمين، وأبقى عليها أهلها من أهل الكتاب الذين آثروا الإبقاء على دينهم يزرعونها، ويؤدون عنها خراج الأرض لبيت مال المسلمين، وقد ساهم خراج هذه الأراضي في زيادة إيرادات بيت المال في عهد عثمان - رضي الله عنه - بسبب امتداد الفتوحات الإسلامية في عصره (2).
2 - عشور التجارة:
استقر نظام العشور في عهد الفاروق على الأسس والقواعد التي وضعها عمر - رضي الله عنه -، وفي عهد عثمان بن عفان يبدو بصفة عامة أن إيرادات بيت المال زادت من عشور التجارة نتيجة لزيادة رقعة الدولة الإسلامية، بسبب الفتوحات التي تمت في عهده ونتيجة لزيادة الثروات لدى البعض، مما زاد القوة الشرائية بصفة عامة خصوصا في السنوات الأولى في عهد عثمان بن عفان التي اتسمت بالاستقرار، وزيادة القوة الشرائية تزيد الطلب على السلع، وزيادة الطلب على السلع تدعو إلى تنشيط استيرادها وخضوعها لعشور التجارة متى توافرت شروط الإخضاع، ومن العوامل التي أدت إلى زيادة حصيلة عشور التجارة في عهد عثمان بن عفان ارتفاع الأسعار، وارتفاع أسعار السلع يؤدي بالتالي إلى زيادة حصيلة عشور التجارة منها, لأنها ضريبة قيمية تؤخذ نسبة معينة على قيمة السلعة، وليس نوعية تؤخذ من نوع السلعة (3).
سادسًا: سياسة عثمان بن عفان في إقطاع الأرض:
مضى أبو بكر - رضي الله عنه - في تطبيق السياسة النبوية في إقطاع الأراضي للناس طلبا
_________
(1) السياسة المالية لعثمان، ص107.
(2) السياسة المالية لعثمان، ص113.
(3) المصدر نفسه، ص123.(1/126)
لاستصلاحها؛ فقد أقطع الزبير بن العوام أرضا مواتا ما بين الجرف وقناة (1)، وأقطع مجاعة ابن مرارة الحنفي الخضرمة (قرية كانت باليمامة) (2). وأراد إقطاع الزبرقان بن بدر، ثم عدل عن ذلك لاعتراض عمر - رضي الله عنه -، كما أراد إقطاع عيينة بن حصن الفزاري والأقرع بن حابس التميمي أرضا سبخة (ليس فيها كلأ ولا منفعة) أرادا استصلاحها، ثم عدل عن ذلك أخذًا برأي عمر - رضي الله عنه - في عدم الحاجة لتأليفهما على الإسلام، وقال: إن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يتألفكما والإسلام يومئذ ذليل، وإن الله -عز وجل- قد أعز الإسلام فاذهبا فاجهدا جهدكما.
ومن الواضح أن اعتراض عمر ليس على مبدأ الإقطاع لاستصلاح الأراضي بل على أشخاص بعينهم لا يرى تأليفهم على الإسلام، وقد توسع عمر - رضي الله عنه - في إقطاع الأرض لغرض استصلاحها جريا على السياسة النبوية، فقد أعلن: يا أيها الناس، من أحيا أرضًا ميتًا فهي له (3). وهناك آثار ضعيفة تؤكد انتزاع عمر - رضي الله عنه - ملكية الأرض المقطعة إذا لم يتم استصلاحها (4). وتحدد رواية ضعيفة لذلك ثلاث سنوات من تاريخ الإقطاع، وقد ثبت إقطاع عمر - رضي الله عنه - لخوان بن جبير أرضا مواتا, وللزبير بن العوام أرض العقيق جميعها، ولعلي بن أبي طالب أرض ينبع، فتدفق فيها الماء الغزير فأوقفها علي - رضي الله عنه - صدقة على الفقراء (5).
ولما تولى عثمان - رضي الله عنه - الخلافة توسع في الإقطاع وخاصة في المناطق المفتوحة؛ حيث ترك عدد من الملاكين أراضيهم فارين، فصارت صوافي تقوم الدولة باستثمارها، فأقطع عثمان - رضي الله عنه - منها خوفا من بوارها (6)، ولكن الإمام أحمد يرى أنه أقطع من السواد أيضا، ومما لا شك فيه أن الصوافي قد يقع كثير منها في أرض السواد، وعلى أية حال فإن الإقطاع من الصوافي رفع غلتها من تسعة ملايين درهم (9000000 درهم) سنويا في خلافة عمر - رضي الله عنه - إلى خمسين مليون درهم (50.000.000 درهم) في خلافة عثمان - رضي الله عنه -، مما يدل على نجاح سياسته في إدارة الصوافي. وتذكر المصادر قائمة بأسماء الذين أقطعهم عثمان - رضي الله عنه - ومعظمهم ليسوا من قريش، ومعظم الروايات في إقطاع عثمان - رضي الله عنه - ضعيفة، وهي بالجملة تثبت
_________
(1) الطبقات الكبرى لابن سعد، (3/ 104).
(2) عصر الخلافة الراشدة للعمري، ص220.
(3) المصدر نفسه، ص221.
(4) المصدر نفسه، ص221.
(5) المصدر نفسه، ص222.
(6) المصدر نفسه، ص223.(1/127)
توسعه في الإقطاع، ومن المفيد ذكر أسماء المقطعين وهم:
* عبد الله بن مسعود الهذلي (أرض بين نهري بيل وبين السواد).
* عمار بن ياسر (أستينيا).
* خباب بن الأرت التميمي (صعنبي - قرية بالسواد).
* عدي بن حاتم الطائي (الروحاء - قرية من قرى بغداد على نهر عبس)
* سعد بن أبي وقاص الزهري القرشي (قرية هرمز ببَرِّ فارس).
* الزبير بن العوام.
* أسامة بن زيد الكلبي.
* سعيد بن زيد العدوي القرشي.
* جرير بن عبد الله البجلي (أرض على شاطئ الفرات).
* ابن هبار.
* طلحة بن عبيد الله التميمي القرشي (النشاستبح - ضيعة بالكوفة).
* وائل بن حجر الحضرمي (أرض توالي قرية زرارة بالكوفة).
* خالد بن عرفطة القضاعي (أرض عند حمام أعين بالكوفة).
* الأشعث بن قيس الكندي (طيزنباذ - موضع بين الكوفة والقادسية).
* أبو مريد الحنفي (أرض بالأهواز على نهر تيري).
* نافع بن الحارث بن كلدة الثقفي (قطيعة بشط عثمان بالبصرة)
* أبو موسى الأشعري (قطيعة بحمام عمرة).
* عثمان بن أبي العاص الثقفي (شط عثمان بالبصرة).
ويبدو أن جلاء أهل هذه الأراضي عنها صيَّرها مواتا، وأقطعها عثمان - رضي الله عنه - لإحيائها، ويبدو أن معاوية بن أبي سفيان أقطع قطائع في سواحل الشام لتعميرها وإعدادها لمواجهة هجمات الروم، وكذلك أقطع قطائع بأنطاكية بأمر عثمان، وآخر(1/128)
بقاليقلا (1)، وأما إقطاعه فدك لمروان بن الحكم فلم يعرف من طريق صحيحة، وقيل: إن الذي أقطع فدك لمروان هو معاوية بن أبي سفيان (2).
إن سياسة عثمان في إقطاع الأراضي ساهم في زيادة موارد بيت مال المسلمين بما يؤديه الجميع من زكاة على أموالهم إذا توافرت شروطها، وقد نجح مشروع عثمان في إقطاع الأرض بدليل زيادة إيراد الدولة من أملاكها الخاصة في العراق؛ إذ بلغت خمسين ألف ألف درهم بعد أن كانت 900.000 درهم في عهد الفاروق (3).
سابعًا: سياسة عثمان في حمى الأرض:
وهي أراض خصصت لرعي الإبل والخيل التي تملكها الدولة، وقد استمرت حماية وادي النقيع في خلافة أبي بكر وعمر رضي الله عنهما؛ حيث كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قد حماه للخيل (4) , وطوله ثمانون كيلومترا، ويبدأ جنوب المدينة بـ 40 كيلومترا (5). وقد كثرت المناطق المحمية في خلافة عمر - رضي الله عنه - لكثرة ما تملكه الدولة من الإبل والخيل المعدة للجهاد، ومن ذلك حمى الربذة لنعم الزكاة، وعين عليه مولاه هنِّي وأوصاه بالسماح لأصحاب الإبل القليلة بالرعي فيه دون الأغنياء، وحمى أرضا في ديار بني ثعلبة رغم احتجاجهم على ذلك فقد أجابهم: البلاد بلاد الله، تحمى لنعم مال الله (6). ونهج عثمان نهج من سبقه في الحمى بسبب اتساع الدولة وازدياد الفتوحات في عهده، وقد اقتصر في الحمى على صدقات المسلمين لحمايتها، وعلى هذا فإن عثمان - رضي الله عنه - زاد في الحمى لما زادت الرعية، وإذا جاز أصله للحاجة إليه جازت الزيادة لزيادة الحاجة (7).
ولما كان أبو بكر وعمر قد حميا دون أن ينكر عليهم أحد ذلك، فإن عثمان وسع الحمى لكثرة إبل الصدقة وماشيتها، وكثرة الخصومات بين رعاة ماشية الصدقة، فلا
_________
(1) عصر الخلافة الراشدة، ص224.
(2) المصدر نفسه، ص225.
(3) السياسة المالية لعثمان، ص118.
(4) صحيح سنن أبي داود، الألباني (2/ 595).
(5) عصر الخلافة الراشدة، ص225، 226.
(6) الطبقات (3/ 326)، والأثر صحيح.
(7) نظام الخلافة في الفكر الإسلامي، د. مصطفى حلمي، ص78.(1/129)
اعتراض على فعله (1) , بل ما فعله أبو بكر وعمر وعثمان في الحمى قد اشتهر ذلك بين الصحابة فلم ينكر عليهم منكر، ويعتبر ذلك إجماعا (2). وقد حكى الإجماع ابن قدامة (3).
ثامنًا: أنواع النفقات العامة في عهد عثمان:
1 - نفقات الخليفة:
كان عثمان - رضي الله عنه - لا يأخذ من بيت مال المسلمين شيئا؛ فقد كان أكثر قريش مالا وأجدهم في التجارة، فكان ينفق على أهله ومن حوله من ماله الخاص.
2 - صرف مرتبات الولاة من بيت المال:
في عهد عثمان - رضي الله عنه - كانت الدولة الإسلامية مقسمة إلى ولايات، وكان على كل ولاية وال يعينه الخليفة يأخذ مرتبه من بيت المال، ويدير شئون الولاية طبقا لأحكام الشريعة الإسلامية، وإذا لم يعين الخليفة ممثلا له على بيت مال الولاية، فإنه يدخل في اختصاص الوالي الإشرافُ على جباية موارد الولاية، وهي الجزية والخراج وعشور التجارة ينفق منها على شئون الولاية، والفائض يرسله إلى بيت مال المسلمين في المدينة، أما الزكاة التي تحصل من أغنياء الولاية فكانت تصرف على فقرائهم (4).
3 - الإنفاق من بيت المال على مرتبات الجند:
كان بيت المال يدفع مرتبات للجند علاوة على ما يحصلون عليه من نصيب في الغنائم، وكان جند كل ولاية يحصلون على مرتباتهم من بيت مال الولاية، فمثلا بالنسبة لجند مصر كتب عثمان ابن عفان إلى عبد الله بن سعد والي مصر الكتاب التالي لصرف مرتبات الجند المرابطين في الإسكندرية: (قد علمت كيف كان هم أمير المؤمنين بالإسكندرية وقد نقضت الروم مرتين، فالزم الإسكندرية رابطتها ثم أجرِ عليهم أرزاقهم وأعقب بينهم في كل ستة أشهر) (5).
_________
(1) المصدر نفسه، ص78.
(2) نظام الأراضي في صدر الدولة الإسلامية، ص169.
(3) المغني لابن قدامة، (5/ 581).
(4) السياسة المالية لعثمان، ص130.
(5) المصدر نفسه، ص140.(1/130)
4 - الإنفاق العام على الحج من بيت المال:
كان الإنفاق العام على الحج في عهد عثمان - رضي الله عنه - من بيت المال، وكانت كسوة الكعبة من القباطي، وهو ثياب من كتان من نسيج مصر (1).
5 - تمويل إعادة بناء المسجد النبوي من بيت المال:
كلم الناس عثمان بن عفان أول ما تولى الخلافة أن يزيد في مسجد الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ إذ كان يضيق بالناس في صلاة الجمعة بسبب امتداد الفتح وزيادة سكان المدينة زيادة عظيمة، فاستشار عثمان أهل الرأي فأجمعوا على هدم المسجد وبنائه وتوسيعه، فصلى عثمان الظهر بالناس ثم صعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أيها الناس، إني قد أردت أن أهدم مسجد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأزيد فيه وأشهد أني سمعت رسول الله يقول: «من بنى مسجدا بنى الله له بيتا في الجنة» (2) , وكان لي فيه سلف وإمام سبقني وتقدمني عمر بن الخطاب كان قد زاد فيه وبناه، وقد شاورت أهل الرأي من أصحاب رسول الله، فأجمعوا على هدمه وبنائه وتوسيعه، فحسن الناس يومئذ ذلك ودعوا له، فأصبح فدعا العمال وباشر ذلك بنفسه (3).
6 - تمويل توسعة المسجد الحرام من بيت المال:
كانت الكعبة أيام الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قائمة وليس حولها إلا فناء ضيق يصلي الناس فيه، وظل المسجد كذلك في خلافة أبي بكر، وفي عهد عمر وسع المسجد فاشترى دورا حول الكعبة وهدمها وأدخلها في بيت الله الحرام وأحاطها بجدار قصير، وأدخل إنارة المسجد ليلا؛ وذلك لأن المسجد كان قد ضاق بالحجاج الذين يأتون لأداء فريضة الحج بعد أن امتدت فتوحات الإسلام ودخل الناس في دين الله أفواجا، فلما ضاق المسجد ثانية في عهد عثمان احتذى بمثل عمر وأضاف إلى الكعبة دورا اشتراها وأحاطها بجدار قصير لا يرتفع إلى قامة الرجل كما فعل عمر من قبل (4). كما كان الولاة يبنون المساجد في ولاياتهم وينفقون عليها من بيت مال الولاية، كما حدث عند بناء مسجد الرحمة
_________
(1) المصدر نفسه، ص140، 141.
(2) المسند رقم (434) إسناده صحيح.
(3) البداية والنهاية (7/ 60)، تاريخ الطبري (5/ 267).
(4) تاريخ الطبري (5/ 250) , ذو النورين، محمد رشيد، ص25.(1/131)
بالإسكندرية، ومسجد في اصطخر في فتوحات المشرق (1).
7 - الإنفاق على إنشاء أول أسطول بحري:
ساهم بيت مال المسلمين في إنشاء أول أسطول بحري في الإسلام في عهد عثمان، وسيأتي دور هذا الأسطول في الفتوحات الإسلامية بإذن الله تعالى عند حديثنا عن الفتوحات (2).
8 - الإنفاق على تحويل الساحل من الشعيبة إلى جدة:
في سنة ست وعشرين هجرية كلم أهل مكة عثمان - رضي الله عنه - أن يحول الساحل من الشعيبة وهي ساحل مكة قديما في الجاهلية إلى ساحلها اليوم وهي جدة لقربها من مكة، فخرج عثمان إلى جدة ورأى موضعها وأمر بتحويل الساحل إليها، ودخل البحر واغتسل فيه وقال إنه مبارك، وقال لمن معه: ادخلوا البحر للاغتسال إلا بمئزر، ثم خرج من جدة من طريق عسفان إلى المدينة وترك الناس ساحل الشعيبة في ذلك الزمان واستمرت جدة بندرا إلى الآن لمكة المشرفة (3).
9 - تمويل حفر الآبار من بيت مال المسلمين:
ومن الأعمال التي مولها بيت مال المسلمين في عهد عثمان حفر بئر للشرب بالمدينة، وتسمى بئر أريس وهي على ميلين من المدينة وكان ذلك في سنة ثلاثين هجريا، وحدث أن قعد عثمان على رأس البئر وكان بإصبعه خاتم رسول الله، فانسل الخاتم من إصبعه فوقع في البئر، فطلبوه من البئر ونزحوا ما فيها من الماء فلم يقدروا عليه، فجعل فيه مالا عظيما لمن جاء به، واغتم لذلك غما شديدا فلما يئس من العثور على الخاتم صنع خاتما آخر مثله من فضة على مثاله وشبهه ونقش عليه (محمد رسول الله) فجعله في أصبعه حتى قتل، فلما قتل ذهب الخاتم من يده فلم يدر من أخذه (4).
10 - الإنفاق على المؤذنين من بيت المال:
كان عثمان - رضي الله عنه - أول من رزق المؤذنين من بيت المال، قال الإمام الشافعي:
_________
(1) السياسة المالية لعثمان بن عفان، ص147، 148.
(2) المصدر نفسه، ص148.
(3) ذو النورين عثمان بن عفان، محمد رشيد، ص26.
(4) البداية والنهاية (7/ 161)، تاريخ الطبري (5/ 284).(1/132)
(قد أرزق المؤذنين إمام هدى عثمان بن عفان (1)، وقد جعل عثمان - رضي الله عنه - على الأذان جعالة، ولا يستأجر استئجارا) (2).
11 - تمويل أهداف الإسلام العليا:
يتضح من دراسة النفقات العامة السابقة من بيت المال أنها ساهمت في تمويل الأهداف العليا للدولة الإسلامية، فضلا عن الإنفاق العام على إدارة الدولة ومصالح الرعية، ثم الإنفاق على نشر الإسلام كي تكون كلمة الله هي العليا. وتم تمويل إنشاء أول أسطول بحري للدولة الإسلامية، كما تم تعمير بيوت الله بالإنفاق على إقامة المساجد وتجديدها ورزق المؤذنين، والولاة، والقضاة والجند، وعمال الدولة، كما تم الصرف على رحلات الحج إلى بيت الله الحرام، وكسوة الكعبة وهي قبلة الإسلام والمسلمين، كما أن بيت مال المسلمين قدم أمواله لحفر الآبار ليشرب منها الغادي والرائح من مواطني الدولة الإسلامية، ومن مصادر الدولة، كالزكاة وخمس الغنائم، ثم تمويل شرائح المجتمع الضعيفة في الدولة الإسلامية وهم الفقراء والمساكين واليتامى، وفي مساندة الغرباء وأبناء السبيل وفك الرقاب (3).
تاسعًا: استمرار نظام الأعطيات في عهد عثمان بن عفان:
استمر نظام الأعطيات في عهد عثمان كما كان في عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنهما، فقد اعتمد السابقة في الدين أساسا للعطاء، وكتب بذلك لواليه على الكوفة بقوله: أما بعد، ففضل أهل السابقة والقدمة ممن فتح الله عليه تلك البلاد، وليكن من نزلها بسببهم تبعا لهم، إلا أن يكونوا تثاقلوا عن الحق وتركوا القيام به، وقام به هؤلاء، واحفظ لكل منزلته، وأعطهم جميعا بقسطهم من الحق، فإن المعرفة بالناس بها يصاب العدل (4). وحين اتسعت الفتوحات الإسلامية في عهده كثرت موارد الدولة المالية، مما أدى ذلك بالخليفة عثمان - رضي الله عنه - أن يتخذ له الخزائن (5)، فانعكس ذلك بدوره على العطاء، فزاد في أرزاق الجند بمقدار مئة درهم لكل منهم، فهو أول خليفة زاد الناس
_________
(1) موسوعة فقه عثمان بن عفان، ص14.
(2) موسوعة فقه عثمان بن عفان، ص14.
(3) السياسة المالية لعثمان بن عفان، ص150.
(4) تاريخ الطبري، (5/ 280).
(5) الإدارة العسكرية في الدولة الإسلامية (2/ 6836)، النجوم الزاهرة (1/ 87).(1/133)
في العطاء واستن به الخلفاء من بعده في الزيادة (1).
قال الحسن: وشهدت منادي عثمان ينادي: يا أيها الناس، اغدوا على كسوتكم فيأخذون الْحُلَل، واغدوا على السمن والعسل. قال الحسن: أرزاق دارَّة، وخير كثير، وذات بين حسن، ما على الأرض مؤمن يخاف مؤمنا إلا يوده وينصره ويألفه (2). واهتم الخليفة عثمان بأمر الثغور والمرابطة فيها، فكان يأمر قادته بإجراء الأرزاق والعطاء ومضاعفته للجند المرابطين (3).
عاشرًا: أثر تدفق الأموال على الحياة الاجتماعية والاقتصادية:
في عهد عثمان كثر الخراج وأتاه المال من كل وجه، فاتخذ له الخزائن، وأثر ذلك بدوره في الأثر الاقتصادي والاجتماعي؛ فعن أبي إسحاق أن جده مر على عثمان فقال له: كم معك من عيالك يا شيخ؟ قال: معي كذا، قال: قد فرضنا لك في خمس عشرة، يعني ألفا وخمسمائة، وفرضنا لعيالك مئة مئة (4). وعن محمد بن هلال المديني قال: حدثني أبي عن جدتي أنها كانت تدخل على عثمان فافتقدها يوما فقال لأهله: ما لي لا أرى فلانة؟ فقالت امرأته: يا أمير المؤمنين، ولدت الليلة غلاما، فقالت: فأرسل إليَّ بخمسين درهما وشقيقة سنبلانية، ثم قال: هذا عطاء ابنك وهذه كسوته، فإذا مرت به سنة رفعناه إلى مائة (5). كما وسع - رضي الله عنه - على عيال أهل العوالي بالمدينة المنورة في القوت والكسوة (6). وحين قام القائد قطن بن عمرو الهلالي بإعطاء الجيش الذي برفقته -وعدده أربعة آلاف جندي- أربعة آلاف درهم كتشجيع لهم استكثر ذلك والي البصرة عبد الله بن عامر وكتب بالخبر إلى الخليفة عثمان - رضي الله عنه - فأجازها وقال: ما كان معونة في سبيل الله فجائز، فصارت الجائزة
اسما للعطية (7).
وقام عثمان بتوريث عطاء الجندي الإسلامي لورثته من بناته وزوجاته، فقد قال الزبير
_________
(1) تاريخ الطبري (5/ 245).
(2) مجمع الزوائد (9/ 93، 94)، فصل الخطاب في مواقف الأصحاب، ص52.
(3) فتوح مصر، ص192، فتح البلدان للبلاذري (1/ 152 - 157).
(4) الإدارة العسكرية (2/ 768).
(5) المصدر نفسه (2/ 769).
(6) الطبقات (3/ 298).
(7) الأوائل للعسكري (2/ 26، 27).(1/134)
ابن العوام للخليفة عثمان بعدما مات عبد الله بن مسعود -رضي الله عنهم-: أعطني عطاء عبد الله؛ فعيال عبد الله أحق به من بيت المال، فأعطاه خمسة عشر ألفا (1).
هذا وقد نشطت الحركة الزراعية والصناعية والتجارية في عهد الخليفة الراشد عثمان بن عفان، وبسبب ما من الله به على المسلمين من فتوح، أصبح أهل المدينة خاصة والمسلمون عامة في نعمة ويسار، وكان يقترن بهذا الثراء ضروب واسعة من الحضارة لم تعرفها الجزيرة العربية قبل الفتوحات الكبيرة. لقد اطلع المسلمون على ما عند الأمم الأجنبية واقتبسوا منهم، وبدأ هذا الاقتباس يتسع في خلافة عثمان، فبنى بعض الصحابة الدور والمنازل الكبيرة، وساهم الأجانب الذين سُبُوا في الفتوح في تطوير الحياة الاجتماعية والاقتصادية (2).
حادي عشر: عثمان وأقاربه والعطاء من بيت المال:
اتهم عثمان - رضي الله عنه - من قبل الغوغاء والخوارج بإسرافه في بيت المال وإعطائه أكثره لأقاربه، وقد ساند هذا الاتهام حملة دعائية باطلة قادها السبئيون والشيعة الروافض ضده، وتسربت في كتب التاريخ وتعامل معها بعض المفكرين والمؤرخين على كونها حقائق وهي باطلة لم تثبت؛ لأنها مختلفة, والذي ثبت من إعطائه أقاربه أمور تعد من مناقبه لا من المثالب فيه:
1 - إن عثمان - رضي الله عنه - كان ذا ثروة عظيمة وكان وَصُولا للرحم (3) يصلهم بصلات وفيرة، فنقم عليه أولئك الأشرار وقالوا بأنه إنما كان يصلهم من بيت المال، وعثمان قد أجاب عن موقفه هذا بقوله: وقالوا إني أحب أهل بيتي وأعطيهم، فأما حبي لهم فإنه لم يمل معهم إلى جور، بل أحمل الحقوق عليهم، وأما إعطاؤهم فإني إنما أعطيهم من مالي، ولا أستحل أموال المسلمين لنفسي ولا لأحد من الناس، وقد كنت أعطي العطية الكبيرة الرعية من صلب مالي أزمان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأبي بكر وعمر، وأنا يومئذ شحيح حريص، أفحين أتيت على أسنان أهل بيتي (4) وفني عمري وودعت الذي لي في أهلي قال الملحدون ما قالوا؟! (5)
وكان
_________
(1) الإدارة العسكرية (2/ 770).
(2) الحضارة العربية الإسلامية، د. وضاح الصمد، ص114.
(3) فصل الخطاب في مواقف الأصحاب، ص82.
(4) جاوزت أعمارهم.
(5) تاريخ الطبري (5/ 356).(1/135)
عثمان قد قسم ماله وأرضه في بني أمية، وجعل ولده كبعض من يعطي، فبدأ ببني أبي العاص فأعطى آل الحكم رجالهم عشرة آلاف، فأخذوا مائة ألف، وأعطى بني عثمان مثل ذلك، وقسم في بني العاص وفي بني العيص وفي بني حرب (1). فهذه النصوص وغيرها مما اشتهر عنه وما صح من الأحاديث في فضائله الجمة، تدل على أن كل ما قيل فيه من إسرافه في بيت المال وإنفاق أكثره على نفسه وأقاربه وقصوره في حكايات بدون زمام ولا خطام يطول ذكرها مفترى عليه، مع براءة عثمان مما نسب إليه، قال تقي الدين بن تيمية: إن سهم ذوي القربى ذهب بعض الفقهاء إلى أنه لقرابة الإمام كما قال الحسن وأبو ثور، وأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يعطي أقاربه بحكم الولاية فذوو القربى في حياة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذوو قرباه، وبعد موته هم ذوو قربى من يتولى الأمر بعده؛ وذلك لأن نصر ولي الأمر والذب عنه متعين، وأقاربه ينصرونه ويذبون عنه ما لا يفعله غيرهم. وقال: وبالجملة، فعامة من تولى الأمر بعد عمر كان يخص بعض أقاربه إما بالولاية أو بمال (2). وقال: إن ما فعله عثمان في المال له ثلاثة مآخذ: أحدها: أنه عامل عليه والعامل يستحق مع الغنى، والثاني: أن ذوي القربى هم ذوو قربى الإمام، والثالث: أن قرابة عثمان كانوا قبيلة كبيرة كثيرة ليسوا مثل قبيلة أبي بكر وعمر، فكان يحتاج إلى إعطائهم وولايتهم أكثر من حاجة أبي بكر وعمر إلى تولية أقاربهما وإعطائهم .. وهذا مما نقل عن عثمان بن عفان - رضي الله عنه - الاحتجاج به (3).
2 - جاء في تاريخ الطبري أن عثمان لما أمر عبد الله بن سعد بن أبي سرح بالزحف من مصر على تونس لفتحها قال له: إن فتح الله عليك بإفريقية فلك مما أفاء الله على المسلمين خمس الخمس من الغنيمة نفلا، فخرج بجيشه، حتى قطعوا أرض مصر وأوغلوا في أرض إفريقية وفتحوها وسهلها وجبالها، وقسم عبد الله على الجند ما أفاء الله عليهم وأخذ خمس الخمس، وبعث بأربعة أخماسه إلى عثمان مع ابن وثيمة النضري، فشكى وفد ممن كان معه إلى عثمان ما أخذه عبد الله، فقال لهم عثمان:
_________
(1) تاريخ الطبري (5/ 356).
(2) منهاج السنة (3/ 187، 188).
(3) منهاج السنة (3/ 237) , الدولة الأموية، حمدي شاهين، ص163.(1/136)
إنما أمرت له بذلك، فإن سخطتم فهو رد. قالوا: إنا نسخطه، فأمر عثمان عبد الله أن يرده فرده (1). وقد ثبت في السنة تنفيل أهل الغناء والبأس في الجهاد (2).
3 - وكان قد بقى من الأخماس والحيوان -في فتح أفريقية- ما يشق حمله إلى المدينة، فاشتراه مروان بمائة ألف درهم، ونقد أكثرها وبقيت منه بقية، وسبق إلى عثمان مبشرا بالفتح، وكانت قلوب المسلمين في غاية القلق خائفة من أن يصيب المسلمين نكبة من أمر أفريقية، فوهب له عثمان ما بقي جزاء بشارته. وللإمام أن يعطي البشير ما يراه لائقا بتعبه وخطر بشارته، هذا هو الثابت في عطية عثمان لمروان، وما ذكروه من إعطائه خمس أفريقية فكذب (3). لقد كان عثمان - رضي الله عنه - شديد الحب لأقاربه، ولكن ذلك لم يمل به إلى غشيان محرم أو إساءة السيرة والسياسة في أمور المال أو غيرها، وإنما دست في كتب التاريخ أكاذيب باطلة كان خلفها الدعاية السبئية والشعبية الرافضية ضد عثمان - رضي الله عنه -.
إن سيرة عثمان - رضي الله عنه - في أقاربه تمثل جانبا من جوانب الإسلام الكريمة الرحيمة لقوله تعالى: {ذَلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللهُ عِبَادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى وَمَن يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَّزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا إِنَّ اللهَ غَفُورٌ شَكُورٌ} [الشورى: 23]، وقوله جل ثناؤه: {وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلاَ تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا} [الإسراء: 26] كما أنها تمثل جانبا عمليا من سيرة المصطفى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ فقد رأى من رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وعلم من حاله ما لم ير أو يعلم غيره من منتقديه، وعقل من الفقه ما لم يعقله مثله من جمهرة الناس، وكان مما رأى شدة حب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على أقاربه وبره لهم وإحسانه إليهم، وقد أعطى عمه العباس ما لم يعط أحدا عندما ورد عليه مال البحرين (4). وولى عليا وهو ابن عمه وصهره، ولعثمان وسائر المؤمنين في رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أعظم القدوة (5).
يقول ابن كثير -رحمه الله-: وقد كان عثمان - رضي الله عنه - كريم الأخلاق ذا حياء
_________
(1) تاريخ الطبري (5/ 253).
(2) فصل الخطاب في مواقف الأصحاب، ص84.
(3) فصل الخطاب في مواقف الأصحاب، ص84.
(4) البخاري، كتاب الجزية.
(5) البداية والنهاية (7/ 201).(1/137)
كثير، وكرم غزير، يؤثر أهله وأقاربه في الله تأليفا لقلوبهم من متاع الدنيا الفاني، لعله يرغبهم في إيثار ما يبقى على ما يفنى، كما كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يعطي أقواما ويدع آخرين إلى ما جعل في قلوبهم من الهدى والإيمان، وقد تعنت عليه بسبب هذه الخصلة أقوام، كما تعنت بعض الخوارج على رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الإيثار (1)؛ فعن جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما- قال: بينما رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقسم غنيمة بالجعرانة (2)، إذ قال له رجل: اعدل، فقال: «شقيت إن لم أعدل» (3). ويحتج عثمان - رضي الله عنه - لبره أهل بيته وقرابته مخاطبا مجلس الشورى بقوله: أنا أخبركم عني وعما وليت، إن صاحبيّ اللذين كانا قبلي ظلما أنفسهما ومن كان منهما سبيل احتسابا، وإن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يعطي قرابته وأنا في رهط أهل عيلة وقلة معاش، فبسطت يدي في شيء من ذلك لما أقوم به فيه، فإن رأيتم ذلك خطأ فردوه (4).
وقد رد ابن تيمية -رحمه الله- على من اتهم عثمان بتفضيله أهله بالأموال الكثيرة من بيت المال فقال: «وكان يؤثر أهله بالأموال الكثيرة من بيت المال حتى أنه دفع إلى أربعة نفر من قريش زوجهم بناته أربعمائة ألف دينار، ودفع إلى مروان ألف ألف دينار (مليون دينار)، فالجواب يقال: أين النقل الثابت بهذا؟!! نعم كان يعطي أقاربه ويعطي غير أقاربه أيضا، وكان يحسن إلى جميع المسلمين، وأما هذا القدر الكثير فيحتاج إلى نقل ثابت، ثم يقال ثانيًا: هذا من الكذب البين، فإنه لا عثمان ولا غيره من الخلفاء الراشدين أعطوا أحدا ما يقارب هذا المبلغ) (5).
* * *
_________
(1) البداية والنهاية (7/ 201).
(2) ماء بين الطائف ومكة، وهي إلى مكة أقرب.
(3) البخاري، كتاب فرض الخمس.
(4) الطبقات الكبرى (3/ 64).
(5) منهاج السنة (3/ 190).(1/138)
المبحث الثاني
المؤسسة القضائية وبعض الاجتهادات الفقهية
يعتبر عهد ذي النورين امتدادا للعهد الراشدي الذي تتجلى أهميته بصلته بالعهد النبوي وقربه منه، فكان العهد الراشدي عامة والجانب القضائي فيه خاصة امتدادا للقضاء في العهد النبوي، مع المحافظة الكاملة والتامة على جميع ما ثبت في العهد النبوي، وتطبيقه بحذافيره وتنفيذه بنصه ومعناه، وتظهر أهمية العهد الراشدي في القضاء بأمرين أساسيين:
* المحافظة على نصوص العهد النبوي في القضاء، والتقيد بما جاء فيه، والسير في ركابه، والاستمرار في الالتزام به.
* وضع التنظيمات القضائية الجديدة لترسيخ دعائم الدولة الإسلامية الواسعة، ومواجهة المستجدات المتنوعة (1).
استطاع الفاروق بتوفيق الله ثم عبقريته الفذة أن يطور مؤسسة القضاء للدولة الإسلامية، وأصبحت لها قواعد ونظم، استفاد منها الخليفة الراشد عثمان - رضي الله عنه - في تعيين القضاة وأرزاقهم، واختصاصهم القضائي ومعرفة صفات القاضي، وما يجب عليه، ومصادر الأحكام القضائية، والأدلة التي يعتمد عليها القضاة، كما أنه أصبحت هناك سوابق قضائية من الصديق والفاروق استفاد منها القضاة في عهد عثمان - رضي الله عنه -.
عندما تولى عثمان - رضي الله عنه - الخلافة كان على قضاء المدينة يومئذ علي بن أبي طالب، وزيد بن ثابت، والسائب بن يزيد رضي الله عنهم. ويذكر بعض الباحثين أن عثمان لم يترك لأحد من هؤلاء القضاة الاستقلال بالفصل في قضية من القضايا, كما كان الحال في عهد عمر - رضي الله عنه - , بل كان ينظر في الخصومات بنفسه، ويستشير هؤلاء وغيرهم من الصحابة فيما يحكم به، فإن وافق رأيهم رأيَه أمضاه، وإن لم يوافق رأيهم رأيه نظر في الأمر بعد ذلك. وهذا يعني أن عثمان - رضي الله عنه - قد أعفى القضاة
_________
(1) تاريخ القضاء في الإسلام للزحيلي، ص83، 84.(1/139)
الثلاثة في المدينة من ولاية القضاء وأبقاهم مستشارين له في كل شجار يرفع إليه مع استشارة آخرين، ويرى بعضهم أنه لم يثبت نص صريح يفيد الإعفاء، وغاية ما ورد في ذلك يدل على أن عثمان - رضي الله عنه - قد أقر قضاة عمر بالمدينة، ولكنه تحمل عنهم النظر في كثير من القضايا الكبيرة مع استشارتهم فيها، ومنشأ هذا الخلاف تَعَارضُ الروايات الواردة في ذلك:
* روى البيهقي في سننه، ووكيع في أخبار القضاة واللفظ له، عن عبد الرحمن بن سعيد قال: أخبرني جدي، قال: رأيت عثمان بن عفان في المسجد، إذ جاءه الخصمان، قال لهذا: اذهب فادع عليا، وللآخر: اذهب فادع طلحة بن عبيد الله والزبير وعبد الرحمن، فجاءوا فجلسوا، فقال لهما: تكلما، ثم يقبل عليهم فيقول: أشيروا عليَّ، فإن قالوا ما يوافق رأيه أمضاه عليهما، وإلا نظر فيقومون مسلِّمين، ولا يعلم أن عثمان بن عفان استعمل قاضيا بالمدينة إلى أن قُتل - رضي الله عنه -.
* جاء في تاريخ الطبري عند الحديث على أعمال عثمان: وكان على قضاء عثمان يومئذ زيد بن ثابت، وهذا يشعر بأن عثمان أبقى زيدا على ولاية القضاء، ويستلزم الإذن له بالفصل في الخصومات، وما دام الجمع بين النصين ممكنا، فإن الأخذ به أولى من الأخذ بأحد النصين في غير المرجح، ويجمع بين النصين بأن عثمان أبقى قضاة المدينة للفصل في بعض الخصومات، ولكن بعضها الآخر من معضلات القضايا جعله خاصا به مع استشارة أصحابه فيها، ومنهم قضاته (1).
وكان عثمان - رضي الله عنه - يعين القضاة على الأقاليم حينا؛ مثل تعيينه كعب بن سور على قضاة البصرة، ويترك القضاء للوالي حينا آخر؛ مثل طلبه من واليه على البصرة أن يقوم بالقضاء بين الناس إضافة إلى عمل الولاية، وذلك بعد عزل كعب بن سور، وكذلك كان يعلي بن أمية واليا وقاضيا على صنعاء (2). ويلاحظ أن بعض الولاة كانوا يختارون قضاة بلدانهم بأنفسهم، ويكونون مسئولين أمامهم، مما يشير إلى ازدياد نفوذ الولاة في خلافته من القضاة (3). والمأثور عن عثمان كتبه ورسائله إلى أمراء الأمصار، وإلى أمراء
_________
(1) النظم الإسلامية، (1/ 378)، وقائع ندوة أبي ظبي، 1405هـ.
(2) عصر الخلافة الراشدة، ص143.
(3) النظم الإسلامية (1/ 378).(1/140)
الأجناد بالثغور وإلى عامة المسلمين، وهذا يدعو إلى غلبة الظن بأنه جعل القضاء من اختصاص الولاة، يتولونه بأنفسهم، أو يعينون له من يستطيع القيام به (1). ففي الوقت الذي نجد فيه مراسلات كثيرة بين عمر وقضاة الأمصار نجد ندرة في المراسلات في عهد عثمان بينه وبين أولئك القضاة (2).
* ابن عمر يعتذر عن القضاء:
قال عثمان لابن عمر: اقض بين الناس، فقال: لا أقضي بين اثنين ولا أؤم رجلين، أما سمعت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «من عاذ بالله فقد عاذ بمعاذ» - قال عثمان: بلى، قال: فإني أعوذ بالله أن تستعملني، فأعفاه، وقال: لا تخبر بهذا أحدا (3).
* دار القضاء:
تذكر بعض كتب التاريخ أن من مآثر ذي النورين اتخاذه دارا للقضاء، كما يظهر ذلك من رواية رواها ابن عساكر عن أبي صالح مولى العباس قال: أرسلني العباس إلى عثمان أدعوه فأتيته في دار القضاء إلى آخر الحديث، فإذا صح فيكون عثمان هو أول من اتخذ في الإسلام دارا للقضاء، وقد كان الخليفتان قبله يجلسان للقضاء في المسجد كما هو مشهور (4).
* أشهر القضاة في خلافة عثمان:
1 - زيد بن ثابت (المدينة).
2 - أبو الدرداء (دمشق).
3 - كعب بن سور (البصرة).
4 - أبو موسى الأشعري (البصرة بالإضافة إلى ولايته).
5 - شريح (الكوفة).
6 - يعلى بن أمية (اليمن).
_________
(1) النظم الإسلامية، (1/ 378).
(2) الولاية على البلدان (2/ 92).
(3) مسند الإمام أحمد، رقم (475)، حسن لغيره.
(4) أشهر مشاهير الإسلام (4/ 740).(1/141)
7 - ثمامة (صنعاء).
8 - عثمان بن قيس بن أبي العاص (مصر) (1).
هذا وقد ترك الخليفة الراشد أحكاما فقهية في مجال القصاص والجنايات والحدود والتعزير والعبادات والمعاملات، كان لها الأثر الواضح في المدارس الفقهية الإسلامية، وهذه بعض الأحكام التي أصدرها عثمان أو أفتى بها:
أولاً: فيما يتعلق بالقصاص والحدود والتعزير:
1 - أول قضية واجهت عثمان - رضي الله عنه - قضية قتل:
أول قضية حكم فيها عثمان - رضي الله عنه - قضية عبيد الله بن عمر، وذلك أنه غدا على ابنة أبي لؤلؤة قاتل عمر فقتلها، وضرب رجلا نصرانيا يقال له جفينة بالسيف فقتله، وضرب الهرمزان الذي كان صاحب تستر فقتله، وكان قد قيل إنهما مالآ أبا لؤلؤة على قتل عمر فالله أعلم (2). وكان عمر قد أمر بسجنه ليحكم فيه الخليفة من بعده، فلما ولي عثمان وجلس للناس كان أول ما تحوكم إليه في شأن عبيد الله، فقال علي: ما من العدل تركه، وأمر بقتله. وقال بعض المهاجرين: أيقتل أبوه بالأمس ويقتل هو اليوم؟ فقال عمرو بن العاص: يا أمير المؤمنين، قد برأك الله من ذلك، قضية لم تكن في أيامك فدعها عنك، فودى (3) عثمان - رضي الله عنه - أولئك القتلى من ماله؛ لأن أمرهم إليه؛ إذ لا وارث لهم إلا بيت المال، والإمام يرى الأصلح في ذلك، وخلى سبيل عبيد الله (4). وقد جاءت رواية في الطبري تفيد بأن القماذبان بن الهرمزان قد عفا عن عبيد الله، عن أبي منصور قال: سمعت القماذبان يحدث عن قتل أبيه، قال: كانت العجم بالمدينة يستروح بعضها إلى بعض، فمر فيروز بأبي ومعه خنجر له رأسان، فتناوله منه، وقال: ما تصنع بهذا في هذه البلاد؟ فقال: آنس به، فرآه رجل، فلما أصيب عمر قال: رأيت هذا مع الهرمزان، دفعه إلى فيروز، فأقبل عبيد الله فقتله، فلما ولي عثمان دعاني فأمكنني منه، ثم قال: يا بني، هذا قاتل أبيك، وأنت أولى به منا، فاذهب فاقتله، فخرجت به وما في الأرض أحد إلا معي، إلا أنهم يطلبون إلي فيه، فقلت لهم: ألي
_________
(1) عصر الخلافة الراشدة، ص159، 160.
(2) البداية والنهاية (7/ 154).
(3) ودى: وقع دية القتلى.
(4) البداية والنهاية (7/ 154).(1/142)
قتله؟ قالوا: نعم (وسبوا عبيد الله)، فقلت: أفلكم أن تمنعوه؟ قالوا: لا، وسبوه، فتركته لله ولهم، فاحتملوني، فوالله ما بلغت المنزل إلا على رؤوس الرجال وأكفهم (1).
ولا يوجد تعارض بين هذه الرواية والرواية الأخرى التي تذكر أن الخليفة عثمان عفا عن عبيد الله بن عمر وتحمل هو الدية الشرعية لورثة الهرمزان؛ لأنه يوجد في فهم جميع الصحابة حق لابن الهرمزان في القصاص، وقد استجاب لرجائهم له في العفو على النحو السالف ذكره، كما أن عفو الخليفة يرجع إلى سلطة التحقيق في الجريمة, والحكم فيها هو للخليفة وليس لابن المقتول، فيكون عبيد الله قد اعتدى على حق الخليفة، ومن ثم فرواية العفو منه تنصرف إلى العفو بسبب هذا الحق، وهذه المخالفة من عبيد الله حيث أضاع على الدولة أمرا هاما هو معرفة الخلايا التي تتصل بالجريمة من الجناة والأشخاص والجهات التي كانت خلف هذه المؤامرة، كما ينصرف العفو من الخليفة إلى من ليس لهم ولي وهم جفينة وابنة المجوسي القاتل، ولا يوجد خلاف في الروايات والمصادر التاريخية على أن الخنجر الذي قتل به عمر ابن الخطاب كان بيد الهرمزان وجفينة قبل الحادث، وقد شاهد ذلك اثنان من الصحابة وهما عبد الرحمن بن عوف وعبد الرحمن بن أبي بكر، ورواية عبد الرحمن بن أبي بكر تفيد أن القاتل أبا لؤلؤة كان مع هذين الشريكين يتناجون ثلاثتهم، فلما باغتهم سقط الخنجر من بينهم، وبعد قتل عمر وجدوا أنه نفس الخنجر الذي وصفه الشاهدان (2). وبالتالي فالهرمزان وجفينة يستحقان القتل، أما ابنة أبي لؤلؤة الذي قتل نفسه ليخفي المشتركين معه، فهذه قتلت خطأ ولا يقتل فيها أحد، وقد رأى عبيد الله أنها من المشاركين في القتل؛ حيث كانت تخفى السلاح لأبيها (3).
2 - قتل اللصوص:
إن شبابا من شباب أهل الكوفة في ولاية الوليد بن عقبة نقبوا على ابن الحيسمان الخزاعي وكاثروه، فنذر بهم، فخرج عليهم بالسيف، فلما رأى كثرتهم استصرخ فقالوا له: اسكت، فإنما هي ضربة حتى نريحك من روعة هذه الليلة، وأبو شريح الخزاعي مشرف عليهم، فصاح بهم وضربوه فقتلوه، وأحاط الناس بهم فأخذوهم، وفيهم زهير بن جندب الأزدي ومورع بن أبي مورع الأسدي، وشبيل بن أبي الأزدي في عدة، فشهد عليهم أبو شريح وابنه أنهم دخلوا عليه, فمنع بعضهم بعضا من الناس،
_________
(1) تاريخ الطبري (5/ 243)، إسناده لا يصح ..
(2) الطبقات الكبرى (3/ 350 - 355).
(3) الخلافة والخلفاء الراشدون، ص218، 1219.(1/143)
فقتله بعضهم، فكتب فيه إلى عثمان فكتب إليه في قتلهم، فقتلهم على باب القصر في الرحبة، وقال في ذلك عمر بن عاصم التميمي:
لا تأكلوا أبدا جيرانكم سَرَفا ... أهل الزعارة في ملك ابن عفان
وقال أيضا:
إن ابن عفان الذي جربتم ... فطم اللصوص بمحكم الفرقان
ما زال يعمل بالكتاب مهيمنا ... في كل عنق منهم وبنان (1)
3 - رجل قتل تاجرا لماله:
كان ذلك في خلافة عثمان، وكانت العقوبة القتل قصاصا (2).
4 - عقوبة الساحر:
حدث في عهد عثمان بن عفان - رضي الله عنه - أن جارية لحفصة سحرتها، فاعترفت الجارية بذلك، فأمرت حفصة بها عبد الرحمن بن زيد فقتلها، فأنكر ذلك عليها عثمان، فقال ابن عمر: ما تنكر على أم المؤمنين امرأة سحرتها واعترفت، فسكت عثمان، وعثمان لم ينكر على حفصة القتل ولكنه أنكر عليها الافتئات على حق الإمام في إقامة الحدود، فإن أمر الحدود إلى الإمام، وهذا ما يدل عليه قول ابن عمر: ما تنكر على أم المؤمنين من امرأة سحرتها واعترفت؛ يعني أن القضاء فيها واضح، وأن استحقاقها القتل لا تدفعه شبهة (3).
5 - جناية الأعمى:
الأعمى مع قائده كالآلة، يتحرك بأمره، وهو مع مُجَالسه غفل، يتحرك وهو قد يتردى في حركته أو يتضرر، فلا يتوقع أنه يتحاشا إضرار غيره بحركته وهو لا يراه، ولذلك فإنه
_________
(1) تاريخ الطبري (5/ 272).
(2) عصر الخلافة الراشدة، ص153.
(3) موسوعة فقه عثمان بن عفان، ص169، 170.(1/144)
إذا ما جنى على قائده أو من جالسه دون قصد فجنايته هدر، قال عثمان بن عفان: أيما رجل جالس أعمى فأصابه الأعمى بشيء فهو هدر (1).
6 - جناية المقتتلين على بعضهما:
قد يقع شجار بين الأشخاص فيجني كل واحد من المتشاجرين على صاحبه، فإن حصل شيء من هذا فالواجب القصاص، أن هذه الجناية عمد؛ إذ الظاهر أن كل واحد منهما حريص على أن ينال من صاحبه، قال عثمان بن عفان - رضي الله عنه -: إذا اقتتل المقتتلان فما كان بينهما من جراح فهو قصاص (2).
7 - الجناية على الحيوان:
إذا وقعت الجناية على الحيوان فالواجب فيها الضمان بالقيمة، فعن عقبة بن عامر قال: قتل رجل في خلافة عثمان بن عفان كلبا لصيد لا يعرف مثله في الكلاب، فقُوِّم بثمانمائة درهم، فألزمه عثمان تلك القيمة، وأغرم رجلا ثمن كلب قتله عشرين بعيرا (3).
8 - الجناية على الصائل:
إذا صال شخص على مال شخص آخر أو على نفسه أو على عرضه فقتله المصول عليه أثناء اعتدائه فدمه هدر، فقد روى ابن حزم في المحلي أن رجلا رأى مع امرأته رجلا فقتله، فارتفعوا إلى عثمان فأبطل دمه (4).
9 - استتابة المرتد وحدّه:
لا يقام الحد على المرتد حتى يستتاب ثلاثا، فإن أصر على ردته قُتل، وحدث أن أخذ عبد الله بن مسعود بالكوفة رجالا ارتدوا عن الإسلام، وأخذوا ينعشون حديث مسيلمة الكذاب، فكتب فيهم إلى أمير المؤمنين عثمان بن عفان، فكتب عثمان إليه: أن أعرض عليهم دين الحق وشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، فمن قبلها وبرئ من مسيلمة فلا تقتله، ومن لزم دين مسيلمة فاقتله، فقبلها رجال منهم فتركوا، ولزم دين مسيلمة رجال فقتلوا (5).
_________
(1) موسوعة فقه عثمان بن عفان، د. محمد رواس قلعجي ص99.
(2) المصدر نفسه، ص100.
(3) المصدر نفسه، ص102.
(4) المصدر نفسه، ص103.
(5) المصدر نفسه، ص150.(1/145)
10 - إني قتلت فهل لي من توبة:
قال رجل لعثمان: يا أمير المؤمنين، إني قتلت فهل لي من توبة؟ فقرأ عليه عثمان من أول سورة غافر: {حم - تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ - غَافِرِ الذَّنبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ} [غافر: 1 - 3] ثم قال له: اعمل ولا تيأس (1). والجدير بالذكر أن التوبة من الآثام إذا ارتكبت في حق العباد لا بد فيها من أداء الحقوق لأصحابها أو تنازلهم عنها (2).
11 - حد الخمر:
المعروف أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قد عاقب الحر إذا شرب الخمر بأربعين جلدة، ضربه القوم بالنع0ال وأطراف الثياب امتهانا له، وكذلك أبو بكر، وكذلك عمر في أول خلافته، ثم لم يلبث أن زاد العقوبة بمشورة من الصحابة إلى ثمانين جلدة، لما رأى الناس يتحاقرون هذه العقوبة ولا يرتدعون بها. أما عثمان بن عفان فقد ثبت عنه أنه جلد الحر أربعين جلدة، وثبت عنه أنه جلده ثمانين جلدة، ولم يكن ذلك منه عن تشهٍّ أو هوى، ولكنه فرق بين الشاربين, فلم يعاقب من كان شربه زلة منه عقوبة من أدمن شربها، فجعل عقوبة من كان شربه لها أول مرة، وكانت من زلة أربعين جلدة، وجعل عقوبة من اعتاد شربها ومن أدمن عليها ثمانين جلدة، وكأنه كان يجعل الأربعين الأولى حدا، والأربعين الثانية تعزيرا (3).
12 - إقامة الحد على أخيه من أمه الوليد بن عقبة:
عن حصين بن المنذر قال: شهدت عثمان بن عفان وأتى بالوليد فشهد عليه رجلان -أحدهما حمران- أنه شرب الخمر، وشهد آخر أنه رآه يتقيأ، فقال عثمان: إنه لم يتقيأ حتى شربها، فقال: يا علي قم فاجلده، فقال علي: قم يا حسن فاجلده، فقال الحسن: ولّ حارّها من تولى قارّها (4) , فكأنه وجد عليه، فقال: يا عبد الله بن جعفر قم فاجلده، فجلده وعليٌّ يعد، حتى بلغ أربعين، فقال: أمسك، ثم قال: جلد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أربعين، وأبو بكر أربعين، وعمر ثمانين، وكل سُنَّة، وهذا أحب إليَّ (5). ويؤخذ من هذا
_________
(1) سنن البيهقي (8/ 17).
(2) موسوعة فقه عثمان بن عفان، ص93.
(3) موسوعة فقه عثمان بن عفان، ص93.
(4) أي: ول شدتها وأوساخها من تولى هنيئها ولذاتها.
(5) شرح النووي على صحيح مسلم، كتاب الحدود (11/ 216).(1/146)
الحديث بأن سلف عثمان -رضي الله عنهم- نفذوا هذا الحد, وبأن للمنفذ أو المأمور أن ينيب عنه غيره. ويؤخذ منه أيضا: قوة عثمان في الحق، وأنه لا تأخذه في الله لومة لائم؛ فالوليد بن عقبة بن أبي معيط أخوه لأمه (1)، وتنفيذ الأحكام الشرعية هو أحب أعمال الشرطة (2).
13 - سرقة الغلام:
لا يقام حد السرقة إلا إذا كان السارق بالغا عاقلا مختارا عالما بالتحريم، وقد أتى إلى عثمان بغلام سرق، فقال: انظروا إلى مؤتزره فنظروا فلم يجدوه أنبت، فلم يقطعه (3).
14 - الحبس تعزيرًا:
استعار ضابي بن الحارث البرجمي في زمان الوليد بن عقبة من قوم من الأنصار كلبا يدعى قرحان يصيد الظباء، فحبسه عنهم, فنافره الأنصاريون واستغاثوا عليه بقومه فكاثروه، فانتزعوه منه وردوه على الأنصار، فهاجمهم وقال في ذلك:
تجشَّم دوني وفد قرحان خطة ... تضلُّ لها الوجناء وهي حسير
فباتوا شباعا ناعمين كأنما ... حباهم ببيت المرزبان أمير
فكلبكم لا تتركوا فهو أمكم ... فإن عقوق الأمهات كبير
فاسْتَعدوا عليه عثمان، فأرسل إليه فعزره وحبسه كما كان يصنع بالمسلمين، فاستثقل ذلك، فما زال في الحبس حتى مات فيه (4).
15 - حد القذف بالتعريض:
كان عثمان - رضي الله عنه - يقيم حد القذف بالتعريض به، فقد قال رجل لآخر: (يا ابن شامة الوذر) -يعرض له بزنا أمه- فاستعدى عليه عثمان بن عفان، فقال الرجل: إنما
_________
(1) ولاية الشرطة في الإسلام، د. نمر الحميداني، ص105.
(2) المصدر نفسه، ص104.
(3) صحيح التوثيق، ص77, موسوعة فقه عثمان، ص171.
(4) تاريخ الطبري (5/ 420).(1/147)
عنيت كذا وكذا، فأمر به عثمان فجلد الحد؛ أي حد القذف، ولم يلتفت إلى تفسير مراده مما قال (1).
16 - عقوبة الزنا:
إذا ثبت الزنا على رجل أو امرأة وكان حُرًّا محصنًا فإنه يعاقب بالرجم بالحجارة حتى الموت، وقد زنت امرأة محصنة في عهد عثمان بن عفان فقضى عثمان برجمها ولم يحضر رجمها (2).
17 - التعزير بالنفي والطرد:
بلغ عثمان أن ابن الحبكة النهدي يعالج نيرنجًا -قال محمد بن سلمة: إنما نيرج أخذ كالسحر وليس به- فأرسل إلى الوليد بن عقبة ليسأله عن ذلك، فإن أقر به فأوجعه، فدعا به فسأله، فقال: إنما هو رفق وأمر يعجب منه، فأمر به فعزر، وأخبر الناس خبره وقرأ عليهم كتاب عثمان: إنه قد جد بكم، فعليكم بالجد، وإياكم والْهُزَّال، فكن الناس عليه، وتعجبوا من وقوف عثمان على مثل خبره، فغضب فنفر في الذين نفروا، فضرب معهم، فكتب إلى عثمان فيه، فلما سيَّر إلى الشام من سيَّر، سير كعب بن ذي الحبكة ومالك بن عبد الله -وكان دينه على دينه- إلى دنياوند، فقال في ذلك كعب بن ذي الحبكة للوليد:
لعمري لئن طردتني ما إلى التي ... طمعت بها من سقطتي لسبيل
رجوتُ رجوعي يا ابن أروى ورجعتي ... إلى الحق دهرًا غال ذلك غُول
وإن اغترابي في البلاد وجفوتي ... وشتمي في ذات الإله قليل
وإن دعائي كل يوم وليلة ... عليك بدُنيا وندِكُم لطويل (3)
_________
(1) موسوعة فقه عثمان بن عفان، ص247.
(2) المصدر نفسه، ص164.
(3) تاريخ الطبري (5/ 419).(1/148)
18 - دفع الناس عن جنازة العباس:
عن عبد الرحمن بن يزيد أنه قال: لما أتى بجنازة العباس بن عبد المطلب إلى موضع الجنائز تضايق الناس فتقدموا به إلى البقيع، ولقد رأيتنا يوم صلينا عليه بالبقيع، وما رأيت مثل ذلك الخروج على أحد من الناس قط، وما يستطيع أحد أن يدنو من سريره، وغلب عليه بنو هاشم، فلما انتهوا إلى اللحد ازدحموا عليه، فأرى عثمان اعتزل وبعث الشرطة يضربون الناس عن بني هاشم، حتى خلص بنو هاشم فكانوا هم الذين نزلوا في حفرته ودلوه في اللحد (1). وهذا يدل على كثرة رجال الشرطة آنذاك، ويعتبر عثمان - رضي الله عنه - لدى بعض المؤرخين (2) أول من اتخذ صاحب شرطة من الخلفاء، وقد أسند هذه المهمة في المدينة إلى الصحابي الجليل المهاجر ابن قنفذ بن عمير القرشي (3). وهذا يدل على عنايته بها، وأن صيتها قد ذاع في عهده. وفي الكوفة كان عبد الرحمن الأسدي على شرطة سعيد بن العاص (واليها لعثمان) كما كان نصير بن عبد الرحمن على شرطة معاوية بن أبي سفيان (والي عثمان على الشام) (4).
وفي الحقيقة لا يعلم خليفة في الإسلام بعد أبي بكر وعمر -رضي الله عنهما- يقيم الحدود على القريب والبعيد، والشريف والوضيع، والغني والفقير ولا يبالي، ويعطي كل ما يطلب منه من إصلاح أو حقوق كعثمان - رضي الله عنه -، وكفاه فخرا أن ينتمي لحكم الخلافة الراشدة (5).
ثانيًا: في العبادات والمعاملات:
1 - إتمام عثمان الصلاة بمنى وعرفات:
في حج عام 29هـ صلى عثمان - رضي الله عنه - بالناس بمنى أربعا، فأتى آتٍ عبدَ الرحمن بن عوف، فقال: هل لك في أخيك قد صلى بالناس أربعا؟ فصلى عبد الرحمن بأصحابه ركعتين، ثم خرج حتى دخل على عثمان، فقال له: ألم تصلِّ في هذا المكان مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ركعتين؟ قال: بلى، قال: أفلم تصل مع أبي بكر ركعتين؟ قال:
_________
(1) الطبقات (4/ 32).
(2) تاريخ خليفة بن خياط، ص179.
(3) ولاية الشرطة في الإسلام، ص105.
(4) المصدر نفسه، ص106.
(5) تحقيق مواقف الصحابة في الفتنة (1/ 409).(1/149)
بلى، قال: أفلم تصل مع عمر ركعتين؟ قال: بلى، قال: ألم تصل صدرا من خلافتك ركعتين؟ قال: بلى، قال: فاسمع مني يا أبا محمد (1)، إني أخبرت أن بعض من حج من أهل اليمن وجفاة الناس قد قالوا في عامنا الماضي: إن الصلاة للمقيم ركعتان، هذا إمامكم عثمان يصلي ركعتين، وقد اتخذت بمكة أهلا، فرأيت أن أصلي لخوف ما أخاف على الناس، وأخرى قد اتخذت بها زوجة، ولي بالطائف مال، فربما أطلعته فأقمت فيه بعد الصدر، فقال عبد الرحمن بن عوف: ما من هذا شيء لك فيه عذر، أما قولك: اتخذت أهلا، فزوجتك بالمدينة تخرج بها إذا شئت وتقدم بها إذا شئت، إنما تسكن بسكناك، وأما قولك: ولي مال بالطائف فإنك بينك وبين الطائف مسيرة ثلاثة ليال وأنت لست من أهل الطائف، وأما قولك: يرجع من حج من أهل اليمن وغيرهم فيقولون: هذا إمامكم عثمان يصلي ركعتين وهو مقيم، فقد كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ينزل عليه الوحي والناس يومئذ الإسلام فيهم قليل، ثم أبو بكر مثل ذلك، ثم عمر، فضرب الإسلام بجرانه، فصلى لهم عمر حتى مات ركعتين، فقال عثمان: هذا رأي رأيته، فخرج عبد الرحمن فلقي ابن مسعود فقال: أبا محمد، غير ما يعلم؟ قال: لا، قال: فما أصنع؟ قال: اعمل بما تعلم، فقال ابن مسعود: الخلاف شر، قد بلغني أنه صلى أربعا فصليت بأصحابي أربعا، فقال عبد الرحمن بن عوف: قد بلغني أنه صلى أربعا فصليت بأصحابي ركعتين، وأما الآن فسوف يكون الذي تقول (يعني تصلي معه أربعا) (2).
إن عثمان صنع ما صنع من إتمام الصلاة في منى وعرفات شفقة على ضعفاء المسلمين أن يفتنوا في دينهم، فقد أبدى لفعله سببا معقولا حينما سأله عبد الرحمن بن عوف عنه وعما دعاه إليه، فلما أطلعه عثمان على وجهة نظره، أخذ عبد الرحمن بقوله وأتم الصلاة بأصحابه، وكذلك صنع عبد الله بن مسعود وغيره من جمهور الصحابة، فتابعوه ولم يخالفوه؛ لأنه إمام راشد تجب متابعته فيما لم يخرج عن حدود الشريعة المطهرة، ولو كان فيما جاء به عثمان أدنى شبهة لمخالفة نص شرعي ما أمكن مطلقا جمهور الصحابة أن يتابعوه (3). والذي أبداه عثمان في تحاوره مع عبد الرحمن بن عوف واحتج به لرأيه معقول المعنى، ولو تأمل فيه ناظر في أسرار الدين وحكم
_________
(1) أبو محمد كنية عبد الرحمن بن عوف.
(2) تاريخ الطبري (5/ 268).
(3) عثمان بن عفان، صادق عرجون، ص192.(1/150)
الشريعة لرأى أن إتمام الصلاة الذي انتهى إليه رأي عثمان أرجح حينئذ من قصرها، وقد حدث من الأمور ما لم يكن على عهد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأبي بكر وعمر، فخاف عثمان أن يفتن الناس في صلاتهم، ولا سيما جفاة الأعراب في مضاربهم، ومن بعدت بلادهم في أطراف الأرض، وقد لا يتصل بهم من أهل العلم من يعلمهم ويرشدهم، فأراد عثمان بما صنع حسم هذا الشر المخوف على كثير من ضعفاء المسلمين، وقد بالغ عثمان - رضي الله عنه - في إبعاد الشبهة عن نفسه، فقال: إنه اتخذ بمكة أهلا، وله بالطائف مال ربما نظر إليه وأقام فيه بعد انتهاء الموسم، فيكون حينئذ مقيما ففرضه الإتمام، وذلك منه - رضي الله عنه - من دقيق النظر في الدين، وفهم أسراره وحكمه (1).
وقد رأى جماعة من الصحابة إتمام الصلاة في السفر، منهم: عائشة، وعثمان وسلمان، وأربعة عشر من أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (2). فعثمان - رضي الله عنه - لم يوجب القصر في السفر، وإنما كان يتجه كما رآه فقهاء المدينة ومالك والشافعي وغيرهما، ثم إنها مسألة اجتهادية، ولذلك اختلف فيها العلماء؛ فقوله فيها لا يوجب تكفيرا ولا تفسيقا (3). وأما قول ابن مسعود - رضي الله عنه -: الخلاف شر (4) , وفي رواية: إني أكره الخلاف (5)، ففيه ترشيد لنا وتذكير على استحباب الخروج من الخلاف في مسائل الاجتهاد، ويحسن بالمسلم أن يستحضرها ويحاول أن يقلل الخوض والجدال في الفروع المختلف فيها (6)؛ إذ الظروف المحيطة بنا لا تساعدنا على إضاعة مزيد من الوقت الثمين في الجدل والخلاف عما يجب أن نفعله لمواجهة التحديات الخطيرة (7) , كما أن في فعل ابن مسعود وابن عوف -رضي الله عنهما- من الصلاة خلف عثمان بيانا لحرص الصحابة على الاجتماع والوحدة، وهذا خلق عظيم من أخلاق جيل النصر.
2 - زاد الأذان الثاني يوم الجمعة:
قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي» (8)، وهذه
_________
(1) عثمان بن عفان، صادق عرجون، ص194.
(2) كتاب الإمامة والرد على الرافضة للأصبهاني، ص312.
(3) الرياض النضرة، ص566.
(4) تاريخ الطبري (5/ 268).
(5) القواعد الفقهية للندوي، ص336.
(6) فقه الأولويات، محمد الوكيلي، ص169.
(7) الفكر الإسلامي بين المثالية والتطبيق، كامل الشريف، ص29.
(8) سنن أبي داود، كتاب السنة رقم (4607). سنن الترمذي، كتاب العلم، رقم (2676).(1/151)
الزيادة من سنة الخلفاء الراشدين، ولا شك أن عثمان من الخلفاء الراشدين ورأى مصلحة أن يزاد هذا الأذان لتنبيه الناس عن قرب وقت صلاة الجمعة بعد أن اتسعت رقعة المدينة، فاجتهد في هذا ووافقه جميع الصحابة، واستمر العمل به لم يخالفه أحد حتى في زمن علي وزمن معاوية وزمني بني أمية وبني العباس إلى يومنا هذا، فهي سنة بإجماع المسلمين (1). ثم هو له أصل في الشرع، وهو الأذان الأول في الفجر، فقاس عثمان هذا الأذان عليه (2). لقد سن عثمان ذلك أخذا من سنة الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأذانه الذي شرعه في الفجر قبل دخول الوقت لينبه النائم ويستعد اليقظان ومريد الصيام، فهو مستن بسنة الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وآخذ من طريقته، وقد اختلف أهل العلم: هل أوقعه قبيل دخول الوقت كما هو الحال في الأذان الأول من الفجر أم أوقعه في الوقت؟ ويميل الحافظ إلى أن وقوعه كان إعلاما بالوقت، قال في فتح الباري: وتبين أن عثمان أحدثه لإعلام الناس بدخول وقت الصلاة قياسا على بقية الصلوات فألحق الجمعة بها، وأبقى خصوصيتها بالأذان بين يدي الخطيب، وفيه استنباط معنى من الأصل لا يبطله، وأما ما أحدث الناس قبل وقت الجمعة من الدعاء إليها والذكر والصلاة على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فهو في بعض البلاد دون بعض واتباع السلف الصالح أولى (3).
وأما الذين قالوا: إنه أحدث قبيل دخول الوقت، قالوا: لأن الغرض منه الإعلام بالجمعة والسعي إليها على غرار الأذان الأول في الفجر، فلو كان بعد دخول الوقت لما أدى المعنى المطلوب إلا بتأخير الجمعة بعض الشيء وهو خلاف السنة، وبه يُستغنى عما أحدثه في التذكير والذكر وغيرهما مما أشار إليه الحافظ ولم ينكره إلا بقوله: (واتباع السلف الصالح أولى) (4).
3 - اغتساله كل يوم منذ أسلم:
كان عثمان بن عفان يغتسل كل يوم منذ أسلم (5)، وقد صلى ذات يوم الصبح بالناس وهو جنب دون أن يدري، فلما أصبح رأى في ثوبه احتلاما، فقال: كبرت والله إني لأراني أجنب ولا أعلم، ثم أعاد الصلاة (6) ولم يعد من صلى خلفه (7).
_________
(1) حقبة من التاريخ، عثمان الخميس، ص88.
(2) المصدر نفسه، ص89.
(3) فتح الباري (4/ 345).
(4) السنة والبدعة، عبد الله باعلوي الحضرمي، ص132، 133.
(5) فضائل الصحابة رقم (756)، إسناد حسن.
(6) موسوعة فقه عثمان بن عفان، ص190.
(7) المصدر نفسه، ص192.(1/152)
4 - سجود التلاوة:
كان عثمان بن عفان - رضي الله عنه - يرى أن سجود التلاوة يجب على المكلف التالي للقرآن, وعلى الجالس لسماع القرآن، أما من سمعه من غير قصد فليس عليه سجود التلاوة، فقد مر - رضي الله عنه - بقاص فقرأ القاص سجدة ليسجد معه عثمان، فقال عثمان: إنما السجود على من استمع ثم مضى ولم يسجد (1). وقوله: على من استمع: يعني على من قصد السماع. وقال - رضي الله عنه -: إنما السجدة على من جلس لها (2)، وروى عن عثمان أن الحائض إذا استمعت السجدة تومئ بها إيماء ولا تتركها، ولا تسجد لها سجود الصلاة (3).
5 - صلاة الجمعة في السواحل:
قال الليث بن سعد: كل مدينة أو قرية فيها جماعة أمروا بالجمعة، فإن أهل مصر وسواحلها كانوا يجمعون الجمعة على عهد عمر وعثمان بأمرهما وفيهما رجال من الصحابة (4).
6 - استراحة عثمان في الخطبة:
عن قتادة أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأبا بكر وعمر وعثمان كانوا يخطبون يوم الجمعة حتى شق القيام على عثمان فكان يخطب قائما ثم يجلس، فلما كان معاوية خطب الأولى جالسا والأخرى قائما (5).
7 - جعل القنوت قبل الركوع:
قال أنس: إن أول من جعل القنوت قبل الركوع -أي دائما- عثمان؛ لكي يدرك الناس الركعة (6).
8 - أعلم الناس بأحكام الحج:
يقول محمد بن سيرين: كانوا يرون أن أعلم الناس بالمناسك عثمان بن عفان، ثم
_________
(1) الخلافة الراشدة والدولة الأموية، د. يحيى اليحيى، ص444.
(2) موسوعة فقه عثمان بن عفان، ص168.
(3) موسوعة فقه عثمان بن عفان، ص168.
(4) فتح الباري (2/ 441).
(5) الخلافة الراشدة، يحيى اليحيى، ص (444).
(6) المصدر نفسه، ص444، فتح الباري (2/ 569).(1/153)
عبد الله بن عمر رضي الله عنهما (1).
9 - النهي عن الإحرام قبل الميقات:
لما فتح عبد الله بن عامر خراسان قال: إن هذا نصر من الله لا بد لي من أن أشكره عليه، ولأجعلن شكري لله أن أخرج من موضعي هذا - خراسان- محرما، فأحرم من نيسابور وخلف على خراسان الأحنف بن قيس، فلما قضى عمرته أتى عثمان، وذلك في السنة التي قتل فيها، فقال له عثمان: لقد غررت بعمرتك حين أحرمت من نيسابور (2).
10 - سفر المعتدة للحج والعمرة:
المعروف أن المعتدة لا تبيت إلا في بيتها، ولا تسافر إلا بعد انتهاء عدتها؛ لأن سفرها يقتضي مبيتها في غير بيتها، والحج لا يخلو من سفر، ولذلك فإن عثمان كان يرى أن المعتدة لا يلزمها الحج ما دامت في العدة، و كان - رضي الله عنه - يرجع المعتدة حاجة أو معتمرة من الجحفة وذي الحليفة (3).
11 - النهي عن متعة الحج:
نهى عثمان - رضي الله عنه - المتعة أو الجمع بينهما ليعمل بالأفضل لا ليبطل المتعة، ولا يخفى على عثمان ومن دونه أن من أراد الإحرام فهو مخير بين الإفراد والقران والتمتع، ولكنه - رضي الله عنه - رأى الإفراد أفضل من الاثنين، فعن مروان بن الحكم قال: شهدت عثمان وعليا -رضي الله عنهما- وعثمان ينهى عن المتعة وأن يجمع بينهما، فلما رأى عليٌّ ذلك أهلَّ بهما وقال: لبيك بعمرة وحجة، وقال: ما كنت لأدع سنة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لقول أحد (4). ولم ينكر عثمان على علي ذلك منه؛ لأن عليا - رضي الله عنه - يخشى أن يحمل غيره النهي على الإبطال والتحريم، وإنما قال: ما كنت لأدع سنة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لقول أحد، ليظهر جواز ذلك وأنها سنة ماضية، وكلاهما مجتهد مأجور (5).
وفي الحديث من الفوائد الظاهرة: مناظرة العلماء ولاة الأمر بقصد إشاعة العلم ومناصحة المسلمين،
_________
(1) موسوعة فقه عثمان بن عفان، ص112.
(2) سنن البيهقي (5/ 31)، موسوعة فقه عثمان بن عفان، ص17.
(3) موسوعة فقه عثمان بن عفان، ص112.
(4) البخاري، كتاب الحج، رقم (1563).
(5) شهيد الدار عثمان بن عفان، ص86.(1/154)
وسعة صدر الولاة لاجتهاد العلماء في المسائل التي يتسع معها الاجتهاد، وأن المجتهد لا يجبر مجتهدا آخر باتباعه لسكوت عثمان عن علي، وفيه أن العلم يسبق القول والعمل (1).
12 - أكل لحم الصيد:
لا يجوز للمحرم أن يأكل من الصيد الذي صاده هو، أو صاده غيره من الحلال (2) , فعن عبد الرحمن بن حاطب أنه اعتمر مع عثمان بن عفان في ركب، فلما كان بالروحاء قدم لهم لحم طير (يعاقيب)، فقال عثمان: كلوا، وكره أن يأكل منه، فقال عمرو بن العاص: أنأكل مما لست منه آكلا؟ قال عثمان: لست في ذلكم مثلكم، إنما صيدت لي، وأميتت باسمي، أو قال: من أجلي (3). وقد تكرر ذلك من عثمان مرة أخرى، كما روى عبد الله بن عامر بن ربيعة قال: رأيت عثمان بن عفان بالعرج وهو محرم في يوم صائف قد غطى وجهه بقطيفة أرجوان، ثم أُتى بلحم صيد فقال لأصحابه: كلوا، فقالوا: ألا تأكل أنت؟ قال: إني لست كهيئتكم، إنما صيد من أجلي (4).
13 - كراهية الجمع بين القرابة في الزواج:
أخرج الخلال من طريق إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة عن أبيه، عن أبي بكر وعمر وعثمان أنهم كانوا يكرهون الجمع بين القرابة مخافة الضغائن (5).
14 - في الرضاعة:
روى عبد الرزاق عن ابن جريج عن ابن شهاب قال: فرق عثمان بين ناس تناكحوا بقول امرأة سوداء أرضعتهم (6).
15 - في الخلع:
عن الرُبيع بنت معوذ قالت: كان بيني وبين ابن عمي كلام -وكان زوجها- قالت: فقلت له: لك كل شيء وفارقني، قال: قد فعلت، فأخذ والله كل شيء حتى فراشي،
_________
(1) شهيد الدار عثمان بن عفان، ص86.
(2) موسوعة فقه عثمان بن عفان، ص20.
(3) موسوعة فقه عثمان بن عفان، ص20.
(4) سنن البيهقي (5/ 191)، موسوعة فقه عثمان بن عفان، ص20.
(5) الخلافة الراشدة، د. يحيى اليحيى، ص449.
(6) الفتح (5/ 18).(1/155)
فجئت عثمان وهو محصور فقال: الشرط أملك، خذ كل شيء حتى عقاص رأسها (1). وفي رواية: اختلعت من زوجي بما دون عقاص رأسي، فأجاز ذلك عثمان (2).
16 - يجب الإحداد على المعتدة لوفاة زوجها:
ومن الإحداد ترك الزينة، وترك المبيت في غير البيت الذي توفى فيه زوجها إلا لضرورة، ويجوز لها أن تخرج نهارا لقضاء حاجتها، ولكنها لا تبيت في المساء إلا في بيتها (3)؛ فعن فريعة بنت مالك بن سنان أخت أبي سعيد الخدري أنها جاءت إلى رسول الله، فأخبرته أن زوجها خرج في طلب أعيد له، فقتلوه بطرف القدوم، فسألت رسول الله أن أرجع إلى أهلي فإن زوجي لم يتركني في مسكن يملكه ولا نفقة، قالت: فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: نعم، قالت: فانصرفت حتى إذا كنت في الحجرة ناداني رسول الله أو أمر بي فنوديت، فقال: (كيف قلت؟) فرددت عليه القصة التي ذكرت له من شأن زوجي، فقال: امكثي في بيتك حتى يبلغ الكتاب أجله، قالت: فاعتددت فيه أربعة أشهر وعشرا، قالت: فلما كان عثمان ابن عفان أرسل إليَّ فسألني عن ذلك؟ فأخبرته، فاتبعه وقضى به (4). ولذلك كان عثمان يتشدد في أمر مبيت المرأة المعتدة خارج بيتها، فقد حدث أن امرأة توفي عنها زوجها زارت أهلها في عدتها، فضربها الطلق فأتوا عثمان فسألوه فقال: احملوها إلى بيتها وهي تطلق (5).
17 - لا تنكحها إلا نكاح رغبة:
جاء رجل إلى عثمان في خلافته وقد ركب، فسأله فقال: إن لي إليك حاجة يا أمير المؤمنين، فقال له عثمان: إني الآن مستعجل، فإن أردت أن تركب خلفي حتى تقضي حاجتك، فركب خلفه، فقال: إن لي جارا طلق امرأته في غضبه، ولقي شدة، فأردت أن أحتسب بنفسي ومالي فأتزوجها ثم ابتني بها ثم أطلقها فترجع إلى زوجها الأول، فقال له عثمان: لا تنكحها إلا نكاح رغبة (6).
_________
(1) الطبقات (8/ 448).
(2) الخلافة الراشدة، د. يحيى اليحيى، ص449.
(3) موسوعة فقه عثمان بن عفان، ص244.
(4) المصدر نفسه، ص224، الموطأ (2/ 591).
(5) المصدر نفسه، ص225.
(6) المصدر نفسه، ص81.(1/156)
18 - طلاق السكران:
كان عثمان بن عفان - رضي الله عنه - يرى أن كل ما يتكلم به السكران فهو هدر، فلا تصح عقوده، ولا فسوخه، ولا إقراره، ولا يقع طلاقه؛ لأنه لا يعي ما يقول ولا يريد ما يقول، ولا إلزام لغير إرادة (1). قال عثمان - رضي الله عنه -: ليس لسكران ولا مجنون طلاق (2).
19 - هبة الوالد لولده:
إذا نحل الأب ولده نحلة، كان عليه أن يشهد على هذه الهبة، فإذا أشهد عليها اعتبر هذا الإشهاد قبضا لها، وصح أن تبقى بعد ذلك في يد الأب، فقد ورد عن عثمان بن عفان - رضي الله عنه - قوله: من نحل ولدا له صغيرا لم يبلغ أن يجوز نحلة، فأعلن ذلك وأشهد عليه فهي جائزة وإن وليها أبوه (3)، وأما إذا لم يشهد ولم يسلمها للولد فهي هبة غير لازمة. قال عثمان - رضي الله عنه -: ما بال أقوام يعطي أحدهم ولده العطية، فإن مات ولده قال: مالي وفي يدي، وإن مات هو قال: وهبته، لا يثبت من الهبة إلا ما حازه الولد من مال أبيه (4).
20 - الحجر على السفيه:
كان عثمان بن عفان - رضي الله عنه - يرى الحجر على السفيه؛ فقد حدث أن اشترى عبد الله بن جعفر أرضا بمبلغ ستين ألف دينار، فبلغ ذلك علي بن أبي طالب، فقرر على أن الأرض لا تساوي هذا المبلغ من المال، وأن عبد الله بن جعفر قد غُبِن فيها غبنًا فاحشا، بل إنه قد تصرف تصرفا أخرق، وأعرب أنه سيتوجه نحو أمير المؤمنين عثمان بن عفان ليطلب منه الحجر على عبد الله بن جعفر لسفهه وإساءته التصرف في ماله، فأسرع عبد الله بن جعفر إلى الزبير -وكان تاجرا حاذقا- وقال له: إني ابتعت بيعا بكذا وكذا، وإن عليا يريد أن يأتي عثمان فيسأله أن يحجر عليَّ، فقال له الزبير: فأنا شريكك في البيع، وأتى عليَّ عثمان بن عفان فقال له: إن ابن أخي اشترى سبخة بستين ألفا ما يسرني أنها لي بنعلي، فاحجر عليه، وقال الزبير لعثمان: أنا شريكه في هذا البيع، فقال
_________
(1) موسوعة فقه عثمان بن عفان، ص53, الفتاوى (14/ 72).
(2) الفتاوى (33/ 61)، موسوعة فقه عثمان بن عفان، ص53.
(3) سنن البيهقي (6/ 170) , موسوعة فقه عثمان بن عفان، ص288.
(4) الفتاوى (31/ 154).(1/157)
عثمان بن عفان لعلي بن أبي طالب: كيف أحجر على رجل في بيع شريكه فيه الزبير؟ (1) يعني: إننا لا نستطيع أن نحكم على جعفر
بالسفه لتصرف تصرَّفه شريكه فيه الزبير؛ لأن الزبير لا يمكن أن يشارك في تصرف تجاري أخرق لحذقه بالتجارة (2).
21 - الحجر على المفلس:
كان عثمان بن عفان - رضي الله عنه - يرى الحجر على المفلس، وإذا حجر على مفلس اقتسم الدائنون ماله بنسبة ديونهم، لكن إن وجد بعض دائنيه سلعته التي باعه إياها بعينها عنده، جاز له أن يفسخ البيع ويأخذ سلعته (3) , فهو أحق بها من غيره (4).
22 - تحريم الاحتكار:
كان عثمان بن عفان - رضي الله عنه - يمنع الاحتكار وينهى عنه (5)، ويظهر أن عثمان بن عفان كان كسلفه عمر بن الخطاب لا يفرق في تحريم الاحتكار بين الطعام وغيره؛ لأن نهيه عن الاحتكار كان عاما، خاصة أن ما ورد عن رسول الله في تحريم الاحتكار منه ما هو مطلق في كل شيء، ومنه ما هو مقيد عند الجمهور لعدم التعارض بينهما، بل يبقى المطلق على إطلاقه (6).
23 - ضوال الإبل:
روى مالك أنه سمع ابن شهاب يقول: كانت ضوال الإبل في زمن عمر بن الخطاب إبلا مرسلة تناتج لا يمسها أحد، حتى إذا كان زمن عثمان بن عفان أمر بتعريفها ثم تباع، فإذا جاء صاحبها أعطي ثمنها (7). وقد كان فعل عمر تبعا لحديث الصحيحين عن زيد بن خالد الجهني - رضي الله عنه - قال: جاء أعرابي النبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فسأله عما يلتقطه، فقال: أعرف عفاصها ووكاءها (8) , ثم عرفها سنة، فإن جاء صاحبها وإلا فشأنك بها، قال: فضالة الغنم يا رسول الله؟ قال: هي لك، أو لأخيك أو للذئب، قال: فضالة الإبل؟ قال:
_________
(1) سنن البيهقي (6/ 661) , موسوعة فقه عثمان بن عفان، ص119.
(2) موسوعة فقه عثمان بن عفان، ص119.
(3) سنن البيهقي (6/ 46).
(4) موسوعة فقه عثمان بن عفان، ص119.
(5) موطأ مالك (2/ 651).
(6) موسوعة فقه عثمان بن عفان، ص15.
(7) موطأ مالك، ص648، 649، طبعة دار الآفاق الجديدة.
(8) العفاص: الوعاء الذي تحفظ فيه النفقة، والوكاء: الخيط الذي يربط به.(1/158)
ما لك ولها، معها سقاؤها وحذاؤها ترد الماء وتأكل الشجر حتى يلقاها ربها (1).
وقد رأى الأستاذ الحجوي أن هذا الاجتهاد من عثمان بن عفان - رضي الله عنه - مبني على المصلحة المرسلة؛ أنه رأى الناس مدوا أيديهم إلى ضوال الإبل، فجعل راعيا يجمعها، ثم تباع قياما بالمصلحة العامة (2). غير أن الأستاذ عبد السلام السليماني، رد على هذا القول بقوله: غير أنه من الصعب التسليم بمقالة الأستاذ الحجوي على إطلاقها؛ لأن المصلحة المرسلة هي التي لم ينص الشارع لا على اعتبارها ولا على إلغائها، في حين أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قد نص على حكم ضوال الإبل في الحديث المذكور أعلاه، فهي إذن مصلحة معتبرة نص عليها النبي بنفسه، فلا يصح أن يقال إن ما فعله عثمان من بيع ضوال الإبل يعد مصلحة مرسلة، فالمصلحة المرسلة لا تكون في مقابلة النص.
والذي يظهر لنا أن اجتهاد عثمان في هذه القضية بني على المصلحة العامة فعلا لكنها ليست مصلحة مرسلة، وأن هذه القضية من القضايا القابلة للاجتهاد، والتي يمكن أن يتغير حكمها بتغير الأزمنة والأحوال, وبالنظر إلى ما يحقق مصلحة أصحاب ضوال الإبل؛ لأن علة الحكم فيها على ما يظهر، هي المحافظة على هذه الإبل إما بأعيانها أو في شكل ثمنها وكلا الأمرين مصلحة، ولا شك أن سيدنا عثمان بصنيعه هذا كان هدفه تحقق المصلحة العامة؛ لأنه رأى أن ترك الإبل على حالها -كما كان الأمر في عهد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وإلى زمن عمر- يعرضها للضياع، بعد أن تغيرت أخلاق الناس، وأصبحوا يمدون أيديهم لضوال الإبل، فرأى أن يقطع الطريق عليهم بما فعل، وهو اجتهاد سليم وحكم سديد بلا ريب (3).
24 - توريث المرأة المطلقة في مرض الموت:
طلق عبد الرحمن بن عوف زوجته وهو مريض فورَّثها عثمان منه بعد انقضاء مدة عدتها، وقد روى أن شريحا كتب إلى عمر بن الخطاب في رجل طلق امرأته ثلاثا وهو مريض, فأجاب عمر: أن ورِّثها ما دامت في عدتها، فإن انقضت عدتها فلا ميراث لها. فبعد أن اتفقا على أن طلاق المريض مرض الموت لا يزيل الزوجية كسبب موجب
_________
(1) البخاري، كتاب اللقطة رقم (2427، 2428، 2429).
(2) الفكر السامي (1/ 245).
(3) الاجتهاد في الفقه الإسلامي، ص143، 144.(1/159)
للإرث، جعل عمر حدا لذلك وهو العدة، بينما لم يجعل عثمان حدا لذلك، وقال: ترث مطلقها سواء مات في العدة أو بعدها، وليس في المسألة نص يرجع إليه، والباعث على الحكم هو معاملة الزوج بنقيض قصده؛ لأن الزوج بطلاقه في مرض الموت يعتبر فارا من توريث زوجته (1).
25 - توريث المطلقة ما لم تنقضِ عدتها:
قال عثمان بن عفان: إذا مات أحد الزوجين قبل الحيضة الثالثة للمطلقة ورث الحي منهما الميت (2) , ولا يمنع التوارث بينهما طوال فترة العدة، كما إذا حاضت المعتدة حيضة أو حيضتين ثم ارتفعت حيضتها؛ فقد طلق حبان بن منقذ امرأته وهو صحيح، وهي ترضع ابنته، فمكثت سبعة عشر شهرا لا تحيض، يمنعها الرضاع أن تحيض، ثم مرض حبان بعد أن طلقها سبعة أشهر أو ثمانية، فقيل له: إن امرأتك ترث، فقال: احملوني إلى عثمان، فحملوه إليه، فذكر له شأن امرأته، وعنده علي بن أبي طالب وزيد بن ثابت، فقال لهما عثمان: ما تريان؟ فقالا: نرى أنها ترثه إن مات، ويرثها إن ماتت، فإنها ليست من القواعد من النساء اللائي يئسن من المحيض، وليست من الأبكار اللائي لم يحضن، ثم هي على عدة حيضها ما كان من قليل أو كثير، فرجع حبان إلى أهله فأخذ ابنته، فلما فقدت الرضاع حاضت حيضة، ثم حاضت أخرى، ثم توفي حبان قبل أن تحيض الثالثة، فاعتدت عدة الوفاة وورثت زوجها حبان بن منقذ (3).
26 - توريث الحميل:
إذا سبيت امرأة من الكفار ومعها طفل تحمله مدعية أنه ولدها، وهو ما يسمى بـ (الحميل)، فإنها لا تصدق بدعواها، ولا يجري التوارث بينها وبينه إلا إذا أقامت البينة على أنه ابنها. وقد استشار عثمان في ذلك أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأبدى كل منهما رأيه, وقال عثمان آنئذ: ما نرى أن نورث مال الله إلا بالبينات، وقال: لا يورث الحميل إلا ببينة (4).
_________
(1) تاريخ التشريع الإسلامي للخضري، ص118. نشأة الفقه الاجتهادي، محمد السايس، ص27. الاجتهاد في الفقه الإسلامي، ص142.
(2) موسوعة فقه عثمان بن عفان، ص28.
(3) سنن البيهقي (7/ 419). موسوعة فقه عثمان بن عفان، ص29.
(4) موسوعة فقه عثمان بن عفان، ص28.(1/160)
هذه بعض اجتهادات ذي النورين أثرت في المؤسسة القضائية في مجال القصاص والحدود والجنايات والتعزير، كما أنه ساهم في تطوير المدارس الفقهية الإسلامية باجتهاداته الدالة على سعة اطلاعه، وغزارة علمه وعمق فهمه واستيعابه لمقاصد الشريعة الغراء، فهو خليفة راشد، أعماله تسترشد بها الأمة في مسيرتها الطويلة لنصرة دين الله تعالى وإعزازه.
* * *(1/161)
الفصل الرابع
الفتوحات في عهد عثمان بن عفان - رضي الله عنه -
تمهيد:
شجع خبر مقتل عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أعداء الإسلام وخصوصا في بلاد الفرس والروم إلى الطمع في استرداد ملكهم، فبدأ يزدجر ملك الفرس يخطط في العاصمة التي يقيم فيها وهي مدينة (فرغنة) عاصمة سمرقند، وأما زعماء الروم فقد تركوا بلاد الشام وانتقلوا إلى القسطنطينية العاصمة البيزنطية، وبدأوا في عهد عثمان في البحث عن الوسائل التي تمكنهم من استرداد ملكهم. وكانت بقايا جيوش الروم في مصر وقد تحصنوا بالإسكندرية في عهد عمر بن الخطاب، فطلب عمرو بن العاص منه أن يأذن بفتحها، وكانت معززة بتحصينات كثيرة وكانت المجانيق فوق أسوارها، وكان هرقل قد عزم أن يباشر القتال بنفسه ولا يتخلف أحد من الروم؛ لأن الإسكندرية هي معقلهم الأخير (1). وفي عصر عثمان تجمع الروم في الإسكندرية وبدأوا يبحثون عن وسيلة لاسترداد ملكهم فيها، حتى وصل بهم الأمر إلى نقض الصلح واستعانوا بقوة الروم البحرية (2)، فأمدوهم بثلاثمائة سفينة بحرية تحمل الرجال والسلاح. ولقد واجه عثمان ذلك كله بسياسة تتسم بالحسم والعزم وتمثلت في الخطة الآتية:
1 - إخضاع المتمردين من الفرس والروم وإعادة سلطان الإسلام إلى هذه البلاد.
2 - استمرار الجهاد والفتوحات فيما وراء هذه البلاد؛ لقطع المدد عنهم.
3 - إقامة قواعد ثابتة يرابط فيها المسلمون لحماية البلاد الإسلامية.
4 - إنشاء قوة بحرية عسكرية لافتقار الجيش الإسلامي إلى ذلك (3).
كانت معسكرات الإسلام ومسالحه في عهد عثمان هي عواصم أقطاره الكبرى،
_________
(1) الخلافة والخلفاء الراشدون، ص221.
(2) جولة تاريخية في عصر الخلفاء الراشدين، ص324.
(3) الخلافة والخلفاء الراشدون، ص222.(1/163)
فمعسكر العراق الكوفة والبصرة، ومعسكر الشام في دمشق بعد أن خلص الشام كله لمعاوية بن أبي سفيان ومعسكر مصر، وكان مركزه الفسطاط، وكانت هذه المعسكرات تقوم بحماية دولة الإسلام ومواصلة الفتوحات، ونشر الإسلام (1).
_________
(1) عثمان بن عفان صادق عرجون، ص 199، 200.(1/164)
المبحث الأول
فتوحات عثمان في المشرق
أولاً: فتوحات أهل الكوفة: أذربيجان 24 هـ:
كانت مغازي أهل الكوفة الري وأذربيحان، وكان يرابط بها عشرة آلاف مقاتل؛ ستة آلاف بأذربيجان، وأربعة آلاف بالري، وكان جيش الكوفة العامل أربعين ألف مقاتل، يغزو كل عام منهم عشرة آلاف، فيصيب الرجل غزوة كل أربعة أعوام. ولما أخلص عثمان - رضي الله عنه - الكوفة للوليد ابن عقبة انتفض أهل أذربيجان، فمنعوا ما كانوا قد صالحوا عليه حذيفة بن اليمان أيام عمر، وثاروا على واليهم عقبة بن فرقد، فأمر عثمان الوليد أن يغزوهم، فجهز لهم قائده سليمان بن ربيعة الباهلي، وبعثه مقدمة أمامه في طائفة من الجند، ثم سار الوليد بعده في جماعة من الناس، فأسرع إليه أهل أذربيجان طالبين الصلح على ما كانوا صالحوا عليه حذيفة، فأجابهم الوليد وأخذ طاعتهم، وبث فيمن حولهم السرايا وشن عليهم الغارات، فبعث عبد الله بن شبيل الأحمسي في أربعة آلاف إلى أهل موقان والببر الطيلسان، فأصاب من أموالهم وغنم وسبي، ولكنهم تحرزوا منه فلم يفلّ حدَّهم، ثم جهز سليمان الباهلي في اثني عشر ألفا إلى أرمينية فأخضعها وعاد منها مليء اليدين بالغنائم، وانصرف الوليد بعد ذلك عائدا إلى الكوفة (1).
ولكن أهل أذربيجان تمردوا أكثر من مرة، فكتب الأشعث بن قيس والي أذربيجان إلى الوليد بن عقبة فأمده بجيش من أهل الكوفة، وتتبع الأشعث الثائرين وهزمهم هزيمة منكرة، فطلبوا الصلح فصالحهم على صلحهم الأول، وخاف الأشعث أن يعيدوا الكَرَّة فوضع حامية من العرب وجعل لهم عطايا وسجلهم في الديوان، وأمرهم بدعوة الناس إلى الإسلام. ولما تولى أمرهم سعيد بن العاص عاد أهل أذربيجان وتمردوا على الوالي الجديد، فبعث إليه جرير بن عبد الله البجلي فهزمهم وقتل رئيسهم، ثم استقرت الأمور بعد أن أسلم أكثر شعبها وتعلموا القرآن الكريم. وأما الري فقد صدر أمر الخليفة عثمان إلى أبي موسى الأشعري وفي وقت ولايته على الكوفة، وأمره بتوجيه جيش إليها لتمردها، فأرسل إليها قريظة بن كعب الأنصاري فأعاد فتحها (2).
_________
(1) تاريخ الطبري (5/ 246).
(2) الخلافة والخلفاء الراشدون، ص224.(1/165)
ثانيًا: مشاركة أهل الكوفة في إحباط تحركات الروم:
عندما انتهى الوليد بن عقبة من مهمته في أذربيجان وعاد إلى الموصل جاءه أمر من الخليفة عثمان نصه: (أما بعد، فإن معاوية بن أبي سفيان كتب إليَّ يخبرني أن الروم قد أجلبت (1) على المسلمين بجموع عظيمة، وقد رأيت أن يمدهم إخوانهم من أهل الكوفة، فإذا أتاك كتابي هذا فابعث رجلا ممن ترضى نجدته وبأسه وشجاعته وإسلامه في ثمانية آلاف أو تسعة آلاف أو عشرة آلاف إليهم من المكان الذي يأتيك فيه رسولي (2)، والسلام). فقام الوليد في الناس، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أما بعد أيها الناس، فإن الله قد أبلى المسلمين في هذا الوجه بلاء حسنا، ورد عليهم بلادهم التي كفرت، وفتح بلادا لم تكن افتتحت، وردهم سالمين غانمين مأجورين، فالحمد لله رب العالمين. وقد كتب إليَّ أمير المؤمنين يأمرني أن أندب منكم ما بين العشرة آلاف إلى الثمانية آلاف، تمدون إخوانكم من أهل الشام، فإنهم قد جاشت عليهم الروم، وفي ذلك الأجر العظيم والفضل المبين. فانتدبوا رحمكم الله مع سلمان بن ربيعة الباهلي، فانتدب الناس، فلم يمضِ ثالثة حتى خرج ثمانية آلاف رجل من أهل الكوفة، فمضوا حتى دخلوا وأهل الشام إلى أرض الروم، وعلى جند أهل الشام حبيب بن مسلمة بن خالد الفهري، وعلى جند أهل الكوفة سلمان بن ربيعة الباهلي، فشنوا الغارات على أرض الروم، فأصاب الناس ما شاءوا من سبي، وملأوا أيديهم من المغنم، وافتتحوا بها حصونا كثيرة (3). وفي جهاد الوليد وغزوه يقول بعض الرواة: رأيت الشعبي جلس إلى محمد بن عمرو بن الوليد بن عقبة، فذكر محمد غزوة مسلمة بن عبد الملك، فقال الشعبي: كيف لو أدركتم الوليد وغزوه وإمارته؟ إن كان ليغزو فينتهي إلى كذا وكذا ما قصر ولا انتقض عليه أحد حتى عزل من عمله (4).
ثالثًا: غزوة سعيد بن العاص طبرستان 30 هـ:
غزا سعيد بن العاص من الكوفة سنة ثلاثين يريد خراسان ومعه حذيفة بن اليمان وناس من أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ومعه الحسن والحسين, وعبد الله بن عباس, وعبد الله بن عمر وعبد الله بن عمرو بن العاص، وعبد الله بن الزبير، وخرج عبد الله بن عامر من البصرة
_________
(1) أجلبت: تجمعت للحرب.
(2) تاريخ الطبري (5/ 247).
(3) تاريخ الطبري (5/ 247).
(4) عثمان بن عفان، صادق عرجون، ص201.(1/166)
يريد خراسان، فسبق سعيدا ونزل أبرشهر، وبلغ نزوله أبرشهر سعيدا، فنزل سعيد قوميس، وهي صلح، صالحهم حذيفة بعد نهاوند، فأتى جرجان فصالحوه على مائتي ألف، ثم أتى طميسة، وهي كلها من طبرستان جرجان، وهي مدينة على ساحل البحر، وهي في تخوم جرجان، فقاتله أهلها حتى صلى صلاة الخوف، فقال لحذيفة: كيف صلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ فأخبره فصلى بها سعيد صلاة الخوف وهم يقتتلون، وضرب يومئذ سعيد رجلا من المشركين على حبل عاتقه، فخرج السيف من تحت مرفقه، وحاصرهم, فسألوا الأمان فأعطاهم على ألا يقتل منهم رجلا واحدا، ففتحوا الحصن، فقتلهم جميعا إلا رجلا واحدا، وحوى ما كان في الحصن، فأصاب رجل من بني نهد سفطا عليه قفل، فظن فيه جواهر، وبلغ سعيدا، فبعث إلى النهدي فأتاه بالسفط فكسروا قفله، فوجدوا فيه سفطا ففتحوه فإذا فيه خرقة صفراء وفيها أيران: كميت وورد (1). وعندما قفل سعيد إلى الكوفة، مدحه كعب بن جعبل فقال:
فنعم الفتى إذا جال جيلان دونه ... وإذا هبطوا من دستبي ثم أبهرا
تعلم سعيد الخير أن مطيتي ... إذا هبطت أشفقت مِنْ أن تُعْقرا
كأنك يوم الشعب لَيْث خفَّية ... تحرَّدَ من ليث العرين وأصْحَرَا
تسوس الذي ما ساس قبلك واحد ... ثمانين ألفا دارعين وحُسَّرا (2)
رابعًا: هروب ملك الفرس (يزدجرد) إلى خراسان:
قدم ابن عامر البصرة ثم خرج إلى فارس فافتتحها، وهرب يزدجرد من وجوز -وهي أردشير خرة- في سنة ثلاثين، فوجه ابن عامر في أثره مجاشع بن مسعود السلمي، فاتبعه إلى كرمان، فنزل مجاشع السيرجان بالعسكر, وهرب يزدجرد إلى خراسان (3).
_________
(1) تاريخ الطبري (5/ 270).
(2) المصدر نفسه (5/ 271).
(3) المصدر نفسه (5/ 288).(1/167)
خامسًا: مقتل يزدجرد ملك الفرس 31 هـ:
اختلف في سبب ذكر قتله كيف كان، قال ابن إسحاق: هرب يزدجرد من كرمان في جماعة يسيرة إلى مرو، فسأل من بعض أهلها مالا فمنعوه وخافوه على أنفسهم، فبعثوا إلى الترك يستفزونهم عليه، فأتوه فقتلوا أصحابه، وهرب هو حتى أتى منزل رجل ينقر الأرحاء (1) على شط المرغاب (2) فأوى إليه ليلا، فلما نام قتله (3). وجاء في رواية عند الطبري: بل سار يزدجرد من كرمان قبل ورود العرب إياها، فأخذ على طريق الطبسين وقهمستان، حتى شارف مرو في زهاء أربعة آلاف رجل، ليجمع من أهل خراسان جموعا، ويكر إلى العرب ويقاتلهم، فتلقاه قائدان متباغضان متحاسدان كانا بمرو، يقال لأحدهما براز والآخر سنجان، ومنحاه الطاعة، وأقام بمرو، وخص براز فحسده ذلك سنجان، وجعل براز يبغي سنجان الغوائل، ويوغل صدر يزدجرد عليه، وسعى سنجان حتى عزم على قتله، وأفشى ما كان عزم عليه من ذلك إلى امرأة من نسائه كان براز واطأها، فأرسلت إلى براز بنسوة زعمت بإجماع يزدجرد على قتل سنجان، وفشا ما كان عزم عليه يزدجرد من ذلك، فنذر (4) سنجان وأخذ حذره، وجمع جمعا كنحو أصحاب براز، ومن كان مع يزدجرد من الجند، وتوجه نحو القصر الذي كان يزدجرد نازله، وبلغ ذلك براز، فنكص عن سنجان لكثرة جموعه، ورعب جمع سنجان يزدجرد وأخافه، فخرج من قصره متنكرا، ومضى على وجهه راجلا لينجو بنفسه، فمشى نحو من فرسخين حتى وقع إلى رحا فدخل بيت الرحا فجلس فيه كالا (5) لغبا (6)، فرآه صاحب الرحا ذات هيئة وطرة وبرزة كريمة، ففرش له، فجلس وأتاه بطعام فطعم، ومكث عنده يوما وليلة، فسأله صاحب الرحا أن يأمل له بشيء فبذل له منطقه مكللة بجوهر كانت عليه، فأبى صاحب الرحا أن يقبلها، وقال: إنما كان يرضيني من هذه المنطقة أربعة دراهم كنت أطعم بها وأشرب، فأخبره أنه لا ورق معه، فتملقه صاحب الرحا حتى إذا غفا قام إليه بفأس له فضرب بها هامته فقتله، واحتز رأسه وأخذ ما كان عليه
_________
(1) الأرحاء: جمع رحا: الطاحون.
(2) المرغاب: نهر بمرو.
(3) تاريخ الطبري (5/ 295).
(4) نذر: علم.
(5) كالا: متعبا.
(6) لغبا: متعبا أشد التعب.(1/168)
من ثياب ومنطقه, وألقى جيفته في النهر الذي كان تدور بمائه رحاه وبقر بطنه، وأدخل فيه أصولا من أصول طرفاء (1) كانت نابتة في ذلك النهر لتجس جثته في الموضع الذي ألقاه فيه، فلا يسفل فيعرف ويطلب قاتله، وما أخذ من سلبه, وهرب على وجهه (2). وجاء في رواية: وجاءت الترك في طلبه فوجدوه قد قتله وأخذ حاصله، فقتلوا ذلك الرجل وأهل بيته، وأخذوا ما كان مع كسرى، ووضعوا كسرى في تابوت وحملوه إلى اصطخر (3).
وقد ذكر الطبري حديثين مطولين، وأحدهما أطول من الآخر يتضمن ضروبا من الاضطرابات تقلب فيها، وأنواعا من الدوائر دارت عليه حتى كانت منيته آخرها (4). وقد قال يزدجرد لمن أراد قتله في بعض الروايات ألا يقتلوه وقال لهم: ويحكم، إنا نجد في كتبنا أن من اجترأ على قتل الملوك عاقبه الله بالحريق في الدنيا، مع ما هو قادم عليه، فلا تقتلوني وائتوا بي إلى الدهقان، أو سرحوني إلى العرب فإنهم يستحيون مثلي من الملوك (5). وكان مُلْك يزدجرد عشرين سنة منها أربعة سنين في دعة، وباقي ذلك هاربا من بلد إلى آخر، خوفا من الإسلام وأهله، وهو آخر ملوك الفرس في الدنيا على الإطلاق (6). فسبحان ذي العظمة والملكوت، الملك الحق الحي الدائم الذي لا يموت، لا إله إلا هو، كل شيء هالك إلا وجهه، له الحكم وإليه ترجعون (7). وقد قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في ملوك الفرس والروم: «إذا هلك قيصر فلا قيصر بعده، وإذا هلك كسرى فلا كسرى بعده، والذي نفسي بيده لتنفقن كنوزهما في سبيل الله» (8).
سادسًا: تعاطف النصارى مع يزدجرد بعد مقتله:
بلغ قتل يزدجرد رجلا من أهل الأهواز كان مطرانا على مرو يقال له إيلياء، فجمع من كان قبله من النصارى، وقال لهم: إن ملك الفرس قد قتل، وهو ابن شهريار بن
_________
(1) طرفاء: شجر.
(2) خلافة عثمان، للسلمي، ص57.
(3) تاريخ الطبري (5/ 297).
(4) الاكتفاء، للكلاعي (4/ 417).
(5) المصدر نفسه (4/ 418) , تاريخ الطبري (5/ 302).
(6) خلافة عثمان، د. السلمي، ص57.
(7) الاكتفاء للكلاعي (4/ 419).
(8) مسلم في الفتن، رقم (2918، 2919).(1/169)
كسرى، وإنما شهريار ولد شيرين المؤمنة التي قد عرفتم حقها وإحسانها إلى أهل ملتها من غير وجه، ولهذا الملك عنصر في النصرانية مع ما نال النصارى في ملك جده كسرى من الشرف. وقبل ذلك في مملكة ملوك من أسلافه من الخير، حتى بنى لهم بعض البِيَع، وسدد لهم بعض ملتهم، فينبغي لنا أن نحزن لقتل هذا الملك من كرامته بقدر إحسان إسلافه وجدته شيرين إلى النصارى، وقد رأيت أن أبني له ناووسا (1) , وأحمل جثته في كرامة حتى أواريها فيه، فقال النصارى: أمرنا لأمرك أيها المطران تبع، ونحن لك على رأيك هذا مواطئون، فأمر المطران فبنى في جوف بستان المطارنة بمرو ناووسا، ومضى بنفسه ومعه نصارى مرو حتى استخرج جثة يزدجرد من النهر وكفنها، وجعلها في تابوت، وحمله من كان معه من النصارى على عواتقهم حتى أتوا به الناووس الذي أمر ببنائه له وواروه فيه، وردموا بابه (2).
سابعًا: فتوحات عبد الله بن عامر 31 هـ:
في هذه السنة 31 هـ شخص عبد الله بن عامر إلى خراسان ففتح أبرشهر وطوس وبيورد ونسا حتى بلغ سرخس، وصالح فيها أهل مرو. وقد جاء في رواية عن السكن بن قتادة العُريني قال: فتح ابن عامر فارس ورجع إلى البصرة، واستعمل على إصطخر شريك بن الأعور الحارثي، فبنى شريك مسجد إصطخر، فدخل على ابن عامر رجل من بني تميم كنا نقول: إنه الأحنف -ويقال: أوس بن جابر الجشمي جُشَم تميم- فقال له: إن عدوك منك هارب، وهو لك هائب، والبلاد واسعة، فسِرْ فإن الله ناصرك ومعز دينه، فتجهز ابن عامر، وأمر الناس بالجهاز للمسير، واستخلف على البصرة زيادا، وسار إلى كرمان، ثم أخذ إلى خراسان؛ فقوم يقولون: أخذ طريق أصبهان، ثم سار إلى خراسان، واستعمل على كرمان مجاشع بن مسعود السلمي، وأخذ ابن عامر على مفازة وابَر، وهي ثمانون فرسخا، ثم سار إلى الطَّبَسين يريد أبرشهر، وهي مدينة نيسابور، وعلى مقدمته الأحنف بن قيس، فأخذ إلى قُهستان، وخرج إلى أبرشهر فلقيه الهباطلة، وهم أهل هراة، فقاتلهم الأحنف فهزمهم، ثم أتى ابن عامر نيسابور (3).
وجاء في رواية: نزل ابن عامر على أبرشهر فغلب على نصفها عنوة، وكان النصف الآخر في يد كناري، ونصف
_________
(1) الناووس: حجر منقور تجعل فيه جثة الميت.
(2) تاريخ الطبري (5/ 304).
(3) المصدر نفسه (5/ 305).(1/170)
نساوطوس، فلم يقدر ابن عامر أن يجوز إلى مرو، فصالح كنارى، فأعطاه ابنه أبا الصلت ابن كنارى وابن أخيه سليمًا رهنًا. ووجه عبد الله بن خازم إلى هراة، وحاتم بن النعمان إلى مرو، وأخذ ابن عامر ابني كنارى، فصار إلى النعمان بن الأفقم النصري فأعتقهما (1)، وفتح ابن عامر ما حول مدينة أبرشهر، كطوس وبيورد، ونسا وحمران، حتى انتهى إلى سرخس، وسرح ابن عامر الأسود بن كلثوم العدوي -عدى الرباب- إلى ببهق وهو من أبرشهر، بينهما وبين أبرشهر ستة عشر فرسخا، ففتحها وقتل الأسود بن كلثوم، وكان فاضلا في دينه، وكان من أصحاب عامر بن عبد الله العنبري. وكان عامر يقول بعدما أخرج من البصرة: ما آسى من العراق على شيء إلا على ظماء الهواجر، وتجاوب المؤذنين، وإخوان مثل الأسود بن كلثوم (2). واستطاع ابن عامر أن يتغلب على نيسابور، وخرج إلى سرخس، فأرسل إلى أهل مرو يطلب الصلح، فبعث إليهم ابن عامر حاتم بن النعمان الباهلي، فصالح براز مرزبان مرو على ألفي ألف ومائتي ألف (3).
ثامنًا: غزوة الباب وبلنجر سنة 32هـ:
كتب عثمان بن عفان - رضي الله عنه - إلى سعيد بن العاص: أن اغزُ سلمان الباب، وكتب إلى عبد الرحمن بن ربيعة وهو على الباب: أن الرعية قد أبطر كثيرا منهم البطنة، فقصر، ولا تقتحم بالمسلمين، فإني خاشٍ أن يبتلوا، فلم يزجر ذلك عبد الرحمن عن غايته، وكان لا يقصر عن بلنجر، فغزا سنة تسع من إمارة عثمان حتى إذا بلغ بلنجر حصروها ونصبوا عليها المجانيق والعرادات (4)، فجعل لا يدنو منها أحد إلا أعنتوه أو قتلوه، فأسرعوا في الناس (5)، ثم إن الترك اتعدوا يوما فخرج أهل بلنجر، وتوافت إليهم الترك فاقتتلوا، فأصيب عبد الرحمن بن ربيعة (وكان يقال له ذو النورين)، وانهزم المسلمون فتفرقوا، فأما من أخذ طريق سلمان بن ربيعة فحماه حتى خرج من الباب، وأما من أخذ طريق الخزر وبلادها فإنه خرج على جيلان وجرجان وفيهم سلمان الفارسي وأبو هريرة، وأخذ القوم جسد عبد الرحمن فجعلوه في سفط فبقى في
_________
(1) تاريخ الطبري (5/ 306).
(2) المصدر نفسه (5/ 307).
(3) المصدر نفسه (5/ 307).
(4) العرادة: آلة حربية كالمنجنيق، ترمي بالحجارة المرمى البعيد لدك الحصون.
(5) تاريخ الطبري (5/ 308).(1/171)
أيديهم، فهم يستسقون به إلى اليوم ويستنصرون به (1).
1 - مقتل يزيد بن معاوية: غزا أهل الكوفة بلنجر سنين من إمارة عثمان لم تَئِم (2) فيهن امرأة، ولم ييتم فيهن صبي من قتل، حتى كان سنة تسع من خلافة عثمان قبل المزاحفة بيومين رأى يزيد بن معاوية أن غزالا جيء به إلى خبائه لم يرَ غزالا أحسن منه حتى لف في ملحفته، ثم أتى به قبر عليه أربعة نفر لم يرقبوا أشد استواء منه ولا أحسن منه حتى دفن فيه، فلما تفادى الناس على الترك رمى يزيد بحجر، فهشم رأسه، فكأنما زين ثوبه بالدماء زينة، وليس بتلطخ، فكان ذلك الغزال الذي رأى (3). وكان يزيد رقيقا جميلا رحمه الله، وبلغ ذلك عثمان فقال: إنا لله وإنا إليه راجعون، انتكث أهل الكوفة، اللهم تب عليهم وأقبل بهم (4).
2 - ما أحسن حمرة الدماء في بياضك: كان عمرو بن عتبة يقول لقباء عليه أبيض: ما أحسن حمرة الدماء في بياضك، فأصيب عند الالتحام مع العدو بجراحة، فرأى قباءه كما اشتهى وقتل (5).
3 - ما أحسن لمع الدماء على الثياب: كان القرشع يقول: ما أحسن لمع الدماء على الثياب، فلما كان يوم المزاحفة قاتل القرشع حتى خُرِّق بالحراب، فكأنما كان قباؤه ثوبا أرضه بيضاء ووشيه أحمر، وما زال الناس ثبوتا حتى أصيب، وكانت هزيمة الناس مع مقتله (6).
4 - إن هؤلاء يموتون كما تموتون: كان الترك في تلك المعركة قد اختفوا في الغياض (7)، وكانوا قد خافوا المسلمين واعتقدوا أن السلاح لا يعمل فيهم، واتفق أن تركيًا اختفى في غيضة ورشق مسلمًا
_________
(1) المصدر نفسه (5/ 309).
(2) لم تئم امرأة: لم تفقد زوجها.
(3) تاريخ الطبري (5/ 310). الذي رأى: أي في نومه.
(4) المصدر نفسه (5/ 311).
(5) المصدر نفسه (5/ 310).
(6) المصدر نفسه (5/ 310).
(7) الغياض: جمع غيضة، وهي المواضع التي يكثر فيه الشجر ويلتف.(1/172)
بسهم فقتله، فنادى في قومه إن هؤلاء يموتون، فلم تخافوهم؟ فاجترأ الترك على المسلمين وخرجوا عليهم من مكانهم وأوقعوا بهم، واشتد القتال فثبت عبد الرحمن حتى استشهد (1).
5 - صبرًا آل سلمان: جاء في رواية أخرى: حين استشهد عبد الرحمن، أخذ الراية أخوه سلمان بن ربيعة الباهلي وقاتل بها، ونادى مناد: (صبرا آل سلمان)، فقال سلمان: أو ترى جزعا، وخرج سلمان ومعه أبو هريرة الدوسي على جيلان (2) فقطعوها إلى جرجان (3) منسحبا من معركة خاسرة (4) , بعد أن دفن أخاه عبد الرحمن بنواحي بلنجر (5)، وبهذا الانسحاب أنقذ سلمان بقية باقية من جيش أخيه (6).
وقد رجح هذه الرواية محمود شيت خطاب وقال: إن الانسحاب أشبه بقتال المسلمين يومئذ، وذلك في حالة اشتداد الضغط عليهم من العدو وتكبدهم خسائر فادحة بالأرواح، والانسحاب هو من أجل الانحياز إلى فئة من المسلمين، ليعيدوا الكرة ثانية على عدوهم. وقد جاء سلمان بن ربيعة مددًا لعبد الرحمن بأمر عثمان بن عفان، فليس من المعقول أن يبقى ومدده في (الباب)، وليس من المعقول أن يتركه أخوه عبد الرحمن هناك وهو يخوض معركة قاسية شرسة، يكون فيها القائد بأمسِّ الحاجة إلى الجندي الواحد، فكيف يترك عبد الرحمن جيشا كاملا على رأسه أخوه دون أن يستفيد منه في المعركة؟
إن المؤرخين القدامى كانوا يستعملون تعبير (الهزيمة) وهم يريدون بها تعبير الانسحاب؛ ذلك لأن أكثرهم مدنيون لا يفرقون بين هذين التعبيرين, (الهزيمة) وهي ترك ساحة القتال بدون نظام ولا قيادة فهي كارثة، و (الانسحاب) وهو ترك ساحة القتال وفق خطة مرسومة بقيادة واحدة، فهو -أي الانسحاب- صفحة من صفحات القتال، الهدف منه
_________
(1) قادة الفتح الإسلامي في أرمينية، محمود خطاب، ص151.
(2) جيلان: اسم لبلاد كثيرة من وراء بلاد طبرستان.
(3) جرجان: مدينة مشهورة عظيمة بين طبرستان وخراسان.
(4) تاريخ الطبري (5/ 309) , قادة الفتح الإسلامي في أرمينية، ص151.
(5) معجم البلدان (2/ 278).
(6) قادة الفتح الإسلامي في أرمينية، ص151.(1/173)
إعادة الكرة على العدو بعد إكمال متطلبات المعركة عَدَدًا وعُدَدًا، وعسى ألا يقع المؤرخون المحدثون في مثل هذا الخطأ في التعبير، فلا يفرقون بين (الهزيمة) و (الانسحاب)؛ لأن الفرق بين التعبيرين شاسع بعيد (1).
تاسعًا: أول اختلاف وقع بين أهل الكوفة وأهل الشام 32 هـ:
لما قتل عبد الرحمن بن ربيعة استعمل سعيدُ بن العاص على ذلك الفرع سلمانَ بن ربيعة، وأمدهم عثمان بأهل الشام عليهم حبيب بن مسلمة، فتنازع حبيب وسلمان على الإمرة، وقال أهل الشام: لقد هممنا بضرب سلمان، فقال في ذلك الناس: إذن والله نضرب حبيبًا ونحبسه، وإن أبيتم كثرت القتلى فيكم وفينا، حتى قال في ذلك رجل من أهل الكوفة وهو أوس بن مغراء:
إن تضربوا سلمان نضرب حبيبكم ... وإن ترحلوا نحو ابن عفان نَرْحَل
وإن تقسطوا فالثغر ثغر أميرنا ... وهذا أمير في الكتائب مُقْبل
ونحن ولاةُ الثغر كنا حُمَاته ... ليالي نرمي كل ثغر وننكل (2)
وتغلب المسلمون على الفتنة بتوفيق الله ثم بوجود أمثال حذيفة بن اليمان، الذي كان على الغزو بأهل الكوفة، فقد غزا ذلك الثغر ثلاث غزوات، فقتل عثمان - رضي الله عنه - في الثالثة (3).
عاشرًا: فتوحات ابن عامر سنة 32 هـ:
وفيها فتح ابن عامر مرو الروذ، والطالقان والفارياب، والجوزجان، وطخارستان؛ فقد بعث ابن عامر الأحنف بن قيس إلى مرو روذ فحصر أهلها، فخرجوا إليهم فقاتلوهم، فهزمهم المسلمون حتى اضطروهم إلى حصنهم فأشرفوا عليه، قال: يا معشر العرب، ما
_________
(1) المصدر نفسه، ص152، 153.
(2) تاريخ الطبري (5/ 311)، البداية والنهاية (7/ 166).
(3) تاريخ الطبري (5/ 311).(1/174)
كنتم عندنا كما نرى، ولو علمنا أنكم كما نرى لكانت لنا ولكم حال غير هذه، فأمهلونا ننظر يومنا، وارجعوا إلى عسكركم، فرجع الأحنف، فلما أصبح غاداهم وقد أعدوا له الحرب، فخرج رجل من العجم معه كتاب من المدينة، فقال: إني رسول فأمنوني، فأمنوه، فإذا رسول من مرزبان مرو ابن أخيه وترجمانه، وإذا كتاب المرزبان إلى الأحنف، فقرأ الكتاب، قال: فإذا هو إلى أمير الجيش، إنا نحمد الله الذي بيده الدول، يغير ما شاء من الملك، ويرفع من شاء بعد الذلة، ويضع من شاء بعد الرفعة، إنه دعاني إلى مصالحتك وموادعتك ما كان من إسلام جدي، وما كان رأي من صاحبكم من الكرامة والمنزلة، فمرحبا بكم وأبشروا، وأنا أدعوكم إلى الصلح فيما بينكم وبيننا، على أن أؤدي إليكم خراجا ستين ألف درهم، وأن تقروا بيدي ما كان ملك الملوك كسرى أقطع جد أبي حيث قتل الحية التي أكلت الناس، وقطعت السبيل من الأرضين والقرى بما فيها من الرجال، ولا تأخذوا من أحد من أهل بيتي شيئا من الخراج، ولا تخرج المرزبة (1) من أهل بيتي إلى غيركم، فإن جعلت ذلك لي خرجت إليك، وقد بعثت إليك ابن أخي ماهك ليستوثق منك.
فكتب إليه الأحنف: بسم الله الرحمن الرحيم، من صخر بن قيس أمير الجيش إلى باذان مرزبان مرو روذ ومن معه من الأساورة والأعاجم، سلام على من اتبع الهدى، وآمن واتقى، أما بعد: فإن ابن أخيك ماهك قدم عليَّ، فنصح لك جهده، وأبلغ عنك، وقد عرضت ذلك على من معي من المسلمين, وأنا وهم فيما عليك سواء، وقد أجبناك إلى ما سألت وعرضت على أن تؤدي على أكرَتِك (2) وفلاحيك والأرضين التي ذكرت أن كسرى الظالم لنفسه أقطع جد أبيك لما كان من قتله الحية التي أفسدت الأرض وقطعت السبيل، والأرض لله ولرسوله يورثها من يشاء من عباده، وإن عليك نصرة المسلمين وقتال عدوهم بمن معك من الأساورة، إن أحب المسلمون ذلك وأرادوه، وإن لك على ذلك نصرة المسلمين على من يقاتل من وراءك من أهل ملتك, جار لك بذلك مني كتاب يكون لك بعدي، ولا خراج عليك ولا على أحد من أهل بيتك من ذوي الأرحام، وإن أنت أسلمت واتبعت الرسول كان لك من المسلمين العطاء والمنزلة والرزق وأنت أخوهم، ولك بذلك ذمتي وذمة أبي وذمم المسلمين وذمم آبائهم، شهد على ما في هذا الكتاب جزء بن معاوية، أو معاوية بن جزء السعدي، وحمزة بن الهرماس, وحميد بن الخيار المازنيان، وعياض بن ورقاء الأسيدي، وكتب
_________
(1) المرزبة: الرئاسة عند العجم، والمرزبان: الرئيس المقدم فيهم.
(2) الأكرة: جمع أكار: الحراث.(1/175)
كيسان مولى بني ثعلبة يوم الأحد من شهر المحرم، وختم أمير الجيش الأحنف بن قيس، ونقش خاتم الأحنف نعبد الله (1).
حادي عشر: القتال بين جيش الأحنف وأهل طخارستان والجوزجان والطالقان والفارياب:
صالح ابن عامر أهل مرو، وبعث الأحنف في أربعة آلاف إلى طخارستان فأقبل حتى نزل موضع قصر الأحنف من مرو روذ، وجمع له أهل طخارستان، وأهل الجوزجان والطالقان والفارياب، فكانوا ثلاثة زحوف، ثلاثين ألفا، وأتى الأحنف خبرهم وما جمعوا له، فاستشار الناس فاختلفوا فبين قائل: نرجع إلى مرو، وقائل: نرجع إلى أبرشهر، وقائل: نقيم نستمد، وقائل: نلقاهم فنناجزهم، فلما أمسى الأحنف خرج يمشي في العسكر، ويستمع حديث الناس، فمر بأهل خباء ورجل يوقد تحت خزيرة (2) , أو يعجن، وهم يتحدثون ويذكرون العدو، فقال بعضهم: الرأي للأمير أن يسير إذا أصبح، حتى يلقى القوم حيث لقيهم، فإنه أرعب لهم فيناجزهم، فقال صاحب الخزيرة أو العجين: إن فعل ذلك فقد أخطأ وأخطأتم، أتأمرونه أن يلقى حد العدو مصحرا في بلادهم، فيلقى جمعا كثيرا بعدد قليل، فإن جالوا جولة اصطلمونا (3)، ولكن الرأي له أن ينزل بين المرغاب والجبل، فيجعل المرغاب عن يمينه والجبل عن يساره، فلا يلقاه من عدوه وإن كثروا إلا عدد أصحابه، فرجع الأحنف وقد اعتقد ما قال فضرب عسكره، وأقام فأرسل إليه أهل مرو يعرضون عليه أن يقاتلوا معه، فقال: إني أكره أن أستنصر بالمشركين، فأقيموا على ما أعطيناكم وجعلنا بيننا وبينكم، فإن ظفرنا فنحن على ما جعلنا لكم وإن ظفروا بنا وقاتلوكم فقاتلوا عن أنفسكم، فوافق المسلمين صلاة العصر، فعاجلهم المشركون فناهضوهم، فقاتلوهم وصبر الفريقان حتى أمسوا والأحنف يتمثل بشعر ابن جُؤيَّة الأعرجي:
أحقُّ من لم يكره المنية ... حزوَّرٌ (4) ليس له ذرية (5)
_________
(1) تاريخ الطبري (5/ 316).
(2) الخزيرة: الحساء من الدسم والدقيق.
(3) اصطلم: اقتلعه من أصله.
(4) الحزوَّر: الغلام القوي.
(5) تاريخ الطبري (5/ 317).(1/176)
وجاء في رواية: فقاتلهم حتى ذهب عامة الليل ثم هزمهم الله، فقتلهم المسلمون حتى انتهوا إلى رَسْكن -وهي على اثنى عشر فرسخا من قصر الأحنف-. وكان مرزبان مرو روذ قد تربص بحمل ما كانوا صالحوه عليه، لينظر ما يكون من أمرهم، فلما ظفر الأحنف سرح رجلين إلى المرزبان، وأمرهما ألا يكلماه حتى يقبضاه, ففعلا، فعلم أنهم لم يصنعوا ذلك به إلا وقد ظفروا، فحمل ما كان عليه (1) , وبعث الأحنف الأقرع بن حابس في جريدة خيل (2) إلى الجوزجان حيث بقية كانت بقيت من الزحوف الذين هزمهم الأحنف، فقاتلهم فجال المسلمون جولة فقتل فرسان من فرسانهم، ثم أظفر الله المسلمين بهم فهزموهم وقتلوهم، فقال كُثير النهشلي:
سقى مزنُ السحاب إذا استهلت (3) ... مصارع فتية بالجوزجان
إلى القصرين من رُسْتاق خُوط ... أقادهم هناك الأقرعان (4)
ثاني عشر: صلح الأحنف مع أهل بلخ 32 هـ:
سار الأحنف من مرو الروذ إلى بلخ فحاصرهم، فصالحه أهلها على أربعمائة ألف، فرضي منهم بذلك، واستعمل ابن عمه، وهو أسيد بن المتشمس ليأخذ منهم ما صالحوه عليه، ومضى إلى خارزم فأقام حتى هجم عليه الشتاء، فقال لأصحابه: ما تشاءون؟ فقالوا: قد قال عمر بن معد يكرب:
إذا لم تستطع أمرًا فدعه ... وجاوزه إلى ما تستطيع
فأمر الأحنف بالرحيل، ثم انصرف إلى بلخ، وقد قبض ابن عمه ما صالحهم عليه، وكان وافق -وهو يجيبهم- المهرجان، فأهدوا إليه هدايا من آنية الذهب والفضة ودنانير ودراهم ومتاع وثياب، فقال ابن عم الأحنف: هذا ما صالحناكم عليه؟ قالوا: لا، ولكن
_________
(1) تاريخ الطبري (5/ 317).
(2) جريدة الخيل: كتيبة الخيل التي لا رجالة فيها.
(3) استهلت السحابة: أمطرت واشتد مطرها.
(4) تاريخ الطبري (5/ 318).(1/177)
هذا شيء نصنعه في هذا اليوم بمن ولينا نستعطفه به، قال: وما هذا اليوم؟ قالوا: المهرجان، قال: ما أدري ما هذا؟ وإني لأكره أن أرده ولعله من حقي، ولكن أقبضه وأعزله حتى أنظر فيه، فقبضه، وقدم الأحنف فأخبره، فسألهم عنه، فقالوا له مثل ما قالوا لابن عمه، فقال: آتى به الأمير، فحمله إلى ابن عامر، فأخبره عنه، فقال: اقبضه يا أبا بحر، فهو لك؟ قال: لا حاجة لي فيه، فقال ابن عامر: ضمه إليك يا مسمار، فضمه القرشي وكان مضَمًّا (1).
ثالث عشر: لأجعلن شكري لله على ذلك أن أخرج محرما معتمرا من موقفي هذا:
ولما رجع الأحنف إلى ابن عامر قال الناس لابن عامر: ما فتح على أحد ما قد فتح عليك فارس وكرمان وسجستان وعامة خراسان، قال: لا جرم، لأجعلن شكري لله على ذلك أن أخرج محرما معتمرا من موقفي هذا، فأحرم بعمرة من نيسابور، فلما قدم على عثمان لامه على إحرامه من خراسان، وقال: ليتك تضبط ذلك من الوقت الذي يحرم منه الناس (2).
رابع عشر: هزيمة قارِن في خراسان:
لما رجع ابن عامر من الغزو استخلف قيس بن الهيثم على خراسان، فأقبل قارن في جمع من الترك، أربعين ألفا، فالتقاه عبد الله بن خازم السلمي في أربعة آلاف، وجعل لهم مقدمة ستمائة رجل، وأمر كلا منهم أن يجعل على رأس رمحه نارا، وأقبلوا إليهم في وسط الليل فبيتوهم فثاروا إليهم, فناوشتهم المقدمة، فاشتغلوا بهم وأقبل عبد الله بن خازم بمن معه من المسلمين فأحاطوا بهم، فولى المشركون مدبرين، واتبعهم المسلمون يقتلون من شاءوا وقتل قارن فيمن قتل، وغنموا سبيًا كثيرا، وأموالا جزيلة، ثم بعث عبد الله بن خازم بالفتح إلى ابن عامر، فرضي عنه وأقره على خراسان، وذلك أنه كان قد احتال على الوالي السابق قيس بن الهيثم السلمي حتى أخرجه من خراسان، ثم تولى حرب قارن، فلما هزمه وغنم عسكره، رضي عليه ابن عامر، وأقره على ولاية خراسان (3).
_________
(1) تاريخ الطبري (5/ 319).
(2) البداية والنهاية (7/ 167)، تاريخ الطبري (5/ 319).
(3) البداية والنهاية (7/ 167).(1/178)
وهكذا تصدى الخليفة الراشد عثمان لحركات التمرد في المشرق، وواصل فتوحاته، ولم تفتّ تلك الثورات في عضد المسلمين، ولم تنل من عزم الخليفة الذي كان كُفئًا لها؛ حيث واجهها بالعزم والرأي والسرعة في تصريف الأمور، وتسيير النجدات، وإسناد كل عمل إلى من يحسنه كما يظهر من تتبع الأحداث في تاريخ الطبري وابن كثير والكلاعي، بما لا يدع شكًا في أن اختيار عثمان للقادة الذين قاموا بهذه الانتصارات وتطويق هذه القلاقل كان اختيارا موفقا، مع العلم أن أعباء الجهاد كانت أشق وأكبر وأحوج إلى التوجيه؛ لامتداد خطوط القتال، وتعدد الفتن، وتباعد المسافات بين البلدان.
إن علاج تلك المعضلات التي فاجأت عثمان - رضي الله عنه - بعد ولايته، وتصدى لها بالعزم والسداد والسرعة والحيطة والأناة لدليل على قوة شخصيته ونفاذ بصيرته، وكان له بعد ذلك أكبر الفضل -بعد الله- في تثبيت مهابة الدولة بعدما أصابها من الوهن والتخلخل عند مقتل عمر - رضي الله عنه -، وكانت ثمرات تلك الوقفات الرائعة:
أ- إخضاع المتمردين وإعادة سلطة المسلمين عليهم.
ب- ازدياد الفتوحات الإسلامية إلى ما وراء البلاد المتمردة؛ منعا لارتداد الهاربين إليها، وانبعاث الفتن والدسائس من قِبَلها.
ج- اتخاذ المسلمين قواعد ثابتة يرابط فيها المسلمون لحماية البلاد التي خضعت للمسلمين.
فهل كانت تلك الفتوحات العظيمة والسياسة الحكيمة والضبط للأقاليم يمكن أن تتحقق لو كان عثمان - رضي الله عنه - ضعيفا غير قادر على اتخاذ القرار (1) , كما يزعم من وقع وتورط في روايات الرفض والتشيع والاستشراق، ومن سار على نهجهم السقيم؟!!.
خامس عشر: من قادة فتح بلاد المشرق في عهد عثمان: الأحنف بن قيس:
كانت الفتوحات في عهد عثمان - رضي الله عنه - عظيمة، فرأيت من المناسب أن نسلط الأضواء على بعض قادة الفتوح في عهد عثمان، وبما أنني تحدثت عن فتوح المشرق، فلا بد إذن من إعطاء صورة مشرقة عن أحد قادة تلك الفتوح، فاخترت الأحنف بن قيس.
_________
(1) تحقيق مواقف الصحابة (1/ 408، 409).(1/179)
1 - نسبه وأهله:
هو أبو بحر، الأحنف بن قيس بن معاوية بن حصين بن حفص بن عبادة التميمي (1)، واسمه الضحاك وقيل: صخر (2). وأمه حبَّة بنت عمرو بن قُرْط الباهلية (3) , كان أخوها الأخطل بن قرط من الشجعان، وقد قال الأحنف مفاخرا بخاله هذا: ومن له خال مثل خالي؟ (4)
2 - حياته:
كان من سادات التابعين وأكابرهم، وسيدا مطاعا في قومه (5)، وسيد أهل البصرة (6)، وكان موضع ثقة الناس جميعا بمختلف طبقاتهم وأهوائهم وميولهم، وكان أحد الحكماء الدهاة العقلاء (7)، ذا دين وذكاء وفصاحة (8)، وكان سيد قومه موصوفا بالعقل والدهاء والعلم والحلم، يضرب بحلمه المثل، وقد قال فيه الشاعر:
إذا الأبصار أبصرت ابن قيس ... ظللن مهابة منه خشوعا (9)
وقال عنه خالد بن صفوان: كان الأحنف يفر من الشرف والشرف يتبعه (10). وإليك بعض صفاته التي أثرت فيمن حوله:
أ- حلمه:
كان الأحنف حليما يضرب بحلمه المثل، سئل عن الحلم: ما هو؟ فقال: الذل مع الصبر. وكان يقول إذا عجب الناس من حلمه: إني لأجد ما تجدون، ولكني صبور، ما
_________
(1) جمهرة أنساب العرب، ص217, طبقات ابن سعد (7/ 95).
(2) قادة فتح السند وأفغانستان، محمود خطاب، ص285.
(3) قادة فتح السند وأفغانستان، محمود خطاب، ص285.
(4) جمهرة أنساب العرب، ص212.
(5) قادة فتح السند وأفغانستان، ص285.
(6) الإصابة (1/ 103)، أسد الغابة (1/ 55).
(7) قادة فتح السند وأفغانستان، ص304.
(8) قادة فتح السند وأفغانستان، ص304.
(9) قادة فتح السند وأفغانستان، ص304.
(10) تهذيب ابن عساكر (7/ 13).(1/180)
تعلمت الحلم إلا من قيس بن عاصم المنقري (1)؛ لأنه قتل ابن أخ له بعض بنيه، فأتى القاتل مكتوفا يقاد إليه، فقال: ذعرتم الفتى، ثم أقبل على الفتى فقال: بئس ما فعلت، نقصت عددك وأوهنت عضدك، وأشمت عدوك، وأسأت لقومك، خلوا سبيله واحملوا إلى أم المقتول ديته فإنها غريبة، ثم انصرف القاتل وما حل قيس حبوته ولا تغير وجهه (2). وقال رجل للأحنف: علمني الحلم يا أبا بحر، فقال: هو الذل يا ابن أخي، أفتصبر عليه؟ وقال: لست حليما ولكنني أتحالم (3). ومن أخبار حلمه، أن رجلا شتمه فسكت عنه، وأعاد الرجل فسكت عنه، وأعاد فسكت عنه، فقال الرجل: والهفاه، ما يمنعه من أن يرد علي إلا هواني عنده (4). وكان يقول: من لم يصبر على كلمة سمع كلمات، ورب غيظ قد تجرعته مخافة ما هو أشد منه (5). ولكن حلمه كان حلم القوي القدير لا حلم العاجز الضعيف، فقد قاتل في بعض المواطن قتالا شديدا، فقال له رجل: يا أبا بحر أين الحلم؟ فقال: عند الحي (6).
ب- عقله:
كان الأحنف عاقلا راجح العقل، قال مرة: من كان فيه أربع خصال ساد قومه غير مدافع: من كان له دين يحجزه، وحسب يصونه، وعقل يرشده، وحياء يمنعه (7).
وقال: العقل خير قرين، والأدب خير ميراث، والتوفيق خير رفيق (8). وقال: ما ذكرت أحدا بسوء بعد أن يقوم من عندي. وكان يقول إذا ذكر عنده رجل: دعوه يأكل رزقه ويأتي عليه أجله (9). وشكا ابن أخيه وجع الضرس فقال: ذهبت عيني منذ ثلاثين سنة ما ذكرتها لأحد (10). وقال: ما نازعني أحد فوقي إلا عرفت له قدره، ولا كان دوني
_________
(1) الاستيعاب (3/ 1294).
(2) وفيات الأعيان (2/ 188).
(3) قادة فتح السند وأفغانستان، ص306.
(4) قادة فتح السند وأفغانستان، ص306.
(5) قادة فتح السند وأفغانستان، ص306.
(6) المصدر نفسه، ص306، يعني بها: تركته في الدار.
(7) المصدر نفسه، ص306.
(8) تهذيب ابن عساكر (7/ 19).
(9) المصدر نفسه (7/ 21).
(10) المصدر نفسه (7/ 16).(1/181)
إلا رفعت قدري عنه، ولا كان مثلي إلا تفضلت عليه (1).
ج- علمه:
كان عالما ثقة مأمونا، قليل الحديث، وقد روى عن عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب وأبي ذر الغفاري (2). وروى عنه الحسن البصري وعروة بن الزبير وغيرهما (3). وقد كان من الفقهاء البارزين أيام معاوية.
د- حكمته:
كان حكيما ينطق بالحكمة والموعظة الحسنة، سئل عن المروءة، فقال: التقى والاحتمال، ثم أطرق ساعة وقال:
وإذا جميل الوجه لم ... يأتِ الجميل فما حماله؟
ما خير أخلاق الفتى ... إلا تقاه واحتماله
وسئل عن المروءة فقال: العفة في الدين، والصبر على النوائب، وبر الوالدين، والحلم عند الغضب، والعفو عند المقدرة (4).
وقال: رأس الأدب آلة المنطق، ولا خير في قول إلا بفعل، ولا منظر إلا بمخبر، ولا في مال إلا بجود، ولا في صديق إلا بوفاء، ولا في فقه إلا بورع، ولا في صدقة إلا بنية (5).
وقال: أحي المعروف بإماتة ذكره (6). وقال: كثرة الضحك تذهب الهيبة، وكثرة المزاح تذهب المروءة، ومن لزم شيئا عرف به (7). وقال: جنبوا مجلسنا الطعام والنساء؛
_________
(1) قادة فتح السند وأفغانستان، ص307.
(2) طبقات ابن سعد (7/ 93).
(3) قادة فتح السند وأفغانستان، ص308.
(4) قادة فتح السند وأفغانستان، ص308.
(5) تهذيب ابن عساكر (7/ 19، 20).
(6) البداية والنهاية (7/ 331).
(7) وفيات الأعيان، لابن خلكان (2/ 187).(1/182)
فإني لأبغض الرجل يكون وصافا لفرجه وبطنه، وإن المروءة أن يترك الرجل الطعام وهو يشتهيه (1).
وقال: السؤدد مع السواد. يريد: من لم يطر له اسم على ألسنة العامة بالسؤدد لم ينفعه ما طار له في الخاصة (2).
هـ- بلاغته:
كان فصيحا مفوَّها (3)، خطب مرة فقال: بعد حمد الله والثناء عليه: يا معشر الأزد وربيعة: أنتم إخواننا في الدين، وشركاؤنا في الصهر، وأشقاؤنا في النسب، وجيراننا في الدار، ويدنا على العدو، والله لأزد البصرة أحب إلينا من تميم الكوفة، ولأزد الكوفة أحب إلينا من تميم الشام، فإن استشرف شنان حسد صدوركم، ففي أحلامنا وأموالنا سعة لنا ولكم (4).
لقد كان حاضر البديهة قوي الحجة منطقيا، جاء الأحنف إلى قوم يتكلمون في دم فقال: احكموا، فقالوا: نحكم بديتين، فقال: ذلك لكم، فلما سكتوا قال: أنا أعطيكم ما سألتم, غير أني قائل لكم شيئا: إن الله -عز وجل- قضى بدية واحدة، وإن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قضى بدية واحدة، وأنتم اليوم طالبون، وأخشى أن تكونوا غدا مطلوبين، فلا يرضى الناس منكم إلا بمثل ما سننتم لأنفسكم، فقالوا: نردها دية واحدة (5).
وسمع الأحنف رجلا يقول: ما أبالي أمدحت أم ذممت، فقال له: لقد استرحت من حيث تعب الكرام (6).
و- إيثاره:
كان الأحنف يحب لغيره ما يحبه لنفسه، بل كان يؤثر غيره على نفسه بالخير والمعروف, ويرضى نفسه الرضية المطمئنة إلى ما أصاب غيره بجهده من خير، فعندما جاء الأحنف إلى عمر في المدينة، عرض أمير المؤمنين عليه جائزة، فقال: يا أمير المؤمنين، والله
_________
(1) وفيات الأعيان (2/ 188).
(2) قادة فتح السند وأفغانستان، ص309.
(3) قادة فتح السند وأفغانستان، ص309.
(4) قادة فتح السند وأفغانستان، ص309.
(5) وفيات الأعيان (2/ 188).
(6) وفيات الأعيان (2/ 188).(1/183)
ما قطعنا الفلوات ودأبنا الروحات والعشيات للجوائز، وما حاجتي إلا حاجة من خلفي، فزاده ذلك عند عمر خيرا (1).
ز- أمانته:
كان الأحنف أمينا غاية الأمانة، وقد مر بنا عندما استعمل ابن عمه على أهل بلخ، وقد قبض ابن عمه ما صالحوه عليه من آنية الذهب والفضة ودنانير ودراهم ومتاع وثياب، فقال ابن عمه لهم: هذا ما صالحناكم عليه؟ فقالوا: لا، ولكن هذا شيء نضعه في هذا اليوم بمن ولينا نستعطف به، قال: وما هذا اليوم؟ فقالوا: المهرجان (2). فقال: ما أدري ما هذا، وإني لأكره أن أرده ولعله من حقي، ولكن أقبضه وأعزله حتى أنظر، فقبضه, وقدم الأحنف فأخبره، فسألهم عنه، فقالوا مثل ما قالوا لابن عمه، فقال: آتي به الأمير، فحمله إلى عبد الله ابن عامر فأخبره عنه، فقال: اقبضه يا أبا بحر فهو لك، فقال الأحنف: لا حاجة لي فيه (3). لقد كان يتحرج حتى من الهدايا، وكان يكتفي بسهمه من الغنائم (4).
ح- أَنَاته:
كان الأحنف شديد الأناة، لا يقدم على عمل إلا بعد أن يحسب له ألف حساب. قيل له: يا أبا بحر, إن فيك أناة شديدة، فقال: قد عرفت من نفسي عجلة في أمور ثلاثة: في صلاتي إذا حضرت حتى أصليها، وجنازتي إذا حضرت حتى أغيبها في حفرتها، وابنتي إذا خطبها كفيئها حتى أزوجه (5).
ط- ورعه:
كان الأحنف مؤمنا ورعا قوي الإيمان، فقد سارع إلى اعتناق الإسلام أول ما بلغته الدعوة الإسلامية، وأسلم قومه بإشارته (6) , وبسط حمايته القوية الأمينة على الدعاة
_________
(1) تهذيب ابن عساكر (7/ 12).
(2) المهرجان: أحد أعياد الفرس.
(3) تاريخ الطبري (5/ 319).
(4) قادة فتح السند وأفغانستان، محمود خطاب، ص313.
(5) طبقات ابن سعد (7/ 96).
(6) شذرات الذهب في أخبار من ذهب، أبو الفلاح عبد الحي (1/ 78).(1/184)
الأولين (1)، وثبت على عقيدته عندما ارتد أكثر قومه وأكثر العرب بعد وفاة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وجاهد للدفاع عنها ونشرها حق الجهاد، وأبلى في ذلك أعظم البلاء. قال الحسن البصري عنه: ما رأيت شريف قوم أفضل منه (2). قال الأحنف: حبسني عمر بن الخطاب عنده بالمدينة سنة، يأتيني كل يوم وليلة فلا يأتيه عني إلا ما يحب (3). فكتب عمر بعد نجاح الأحنف في الاختبار العمري -وما أصعبه وأدقه من اختبار- معه كتبًا إلى الأمير على البصرة يقول: الأحنف سيد أهل البصرة (4). وكتب إلى موسى الأشعري أن يشاور الأحنف ويسمع منه، (5) وقال له عمر بعد أن حبسه حولا عنده: يا أحنف، قد بلوتك وخبرتك، فلم أر إلا خيرا، ورأيت علانيتك حسنة، وأنا أرجو أن تكون سريرتك مثل علانيتك (6).
لقد كان الأحنف رجلا صالحا كثير الصلاة بالليل، وكان يسرج المصباح ويصلي ويبكي حتى الصباح، وكان يضع أصبعه في المصباح ويقول لنفسه: إذا لم تصبر على المصباح، فكيف تصبر على النار الكبرى (7). وقيل له: إنك تكثر الصوم وإن ذلك يرق المعدة، فقال: إني أعده لسفر طويل (8). واستعمل الأحنف على (خراسان) فلما أتى فارس أصابته جنابة في ليلة باردة، فلم يوقظ أحدا من غلمانه ولا جنده، وانطلق يطلب الماء، فأتى على شوط وشجر حتى سالت قدماه دمًا، فوجد الثلج فكسره واغتسل (9). وكان قلما خلا إلا دعا بالمصحف، وكان النظر في المصاحف خلقا في الأولين (10). وكان في دعائه: اللهم إن تغفر لي فأنت أهل ذاك، وإن تعذبني فأنا أهل ذاك (11). ومن
_________
(1) قادة فتح السند وأفغانستان، ص314.
(2) البداية والنهاية (7/ 331).
(3) قادة فتح السند وأفغانستان، ص314.
(4) قادة فتح السند وأفغانستان، ص314.
(5) تهذيب ابن عساكر (7/ 12).
(6) طبقات ابن سعد (7/ 94).
(7) البداية والنهاية (7/ 331).
(8) طبقات ابن سعد (7/ 94)، قادة فتح السند وأفغانستان، ص315.
(9) طبقات ابن سعد (7/ 94).
(10) طبقات ابن سعد، (7/ 95).
(11) قادة فتح السند وأفغانستان، ص315، ترجمة الأحنف لخصتها من هذا الكتاب القيم مع الرجوع لبعض المصادر.(1/185)
دعائه: اللهم هب لي يقينا تهون به علىَّ مصيبات الدنيا (1). ومرت به جنازة فقال: رحم الله من أجهد نفسه لمثل هذا اليوم (2). وكان يقول: عجبت لمن يجري في مجرى البول مرتين كيف يتكبر (3).
هذه بعض صفات شخصية الأحنف، استحوذ بها على ثقة الناس به وحبهم وتقديرهم له، وهذه الصفات تجعل من يتحلى بها شخصية قوية نافذة يندر وجودها بين الناس في كل زمان ومكان، وقلما يجود بها الدهر إلا نادرا (4).
لقد كان الأحنف من قادة الفتوحات في عهد عثمان - رضي الله عنه -، وقد تميز في قيادته لجيوش الفتح لبلاد المشرق بقدرته على إعداد الخطط الصحيحة الناجحة، وإعطاء القرارات السريعة الصائبة، كما كان لشجاعته الشخصية وإقدامه أثر كبير في وضع تلك الخطط والقرارات في حيز التنفيذ، لقد كان يبذل قصارى جهده في إعداد خططه العسكرية وإعطاء ذوي الرأي، بل يتجول سرًّا في الليل بين عامة رجاله يتسمع أحاديثهم، فإذا وجد رأيا سديدا يبدونه فيما بينهم سارع إلى العمل به، لا يهمه أن يأخذ الحكمة من أي وعاء، وقد كان هذا القائد الميداني في عهد عثمان يقاتل عدوه بسيفه وعقله معًا؛ فقد كان على جانب عظيم من الشجاعة والإقدام، حتى إنه كان يستأثر بالخطر دون رجاله، ويؤثرهم بالراحة والأمن، كما كان على جانب عظيم من الدهاء، فيوفر بدهائه على قواته كثيرًا من الجهود والمشقات (5).
لقد كان الأحنف رجلا في أمة, وأمة في رجل، إنه سيد أهل المشرق المسمى بغير اسمه، كما كان يقول عنه عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - (6).
لقد أطنبت في الحديث عن الأحنف لأنه من ضمن قادة الفتوح في عهد عثمان، وممن أسهم في صناعة الحياة في عصر الخليفة الراشد الثالث الذي وجهت إليه سهامهم الكاذبة في ولاته وقادة حربه.
_________
(1) تهذيب ابن عساكر (7/ 16).
(2) تهذيب ابن عساكر (7/ 16).
(3) البداية والنهاية (7/ 331).
(4) قادة فتح السند وأفغانستان، ص316.
(5) المصدر نفسه، ص320.
(6) المصدر نفسه، ص322.(1/186)
المبحث الثاني
الفتوحات في الشام
أولاً: فتوحات حبيب بن مسلمة الفهري:
مر بنا أن الروم أجلبت على المسلمين بالشام بجموع عظيمة أول خلافة عثمان، فكتب عثمان إلى الوليد بن عقبة بالكوفة أن يمد إخوانه بالشام, فأمدهم بثمانية آلاف عليهم سلمان ابن ربيعة الباهلي، فظفر المسلمون بعدوهم بعد أن غزوهم في أرض الروم فأسروا منهم وغنموا. وكان تحالف الروم والترك قد تجمع لملاقاة المسلمين الذين غزوا أرمينية من الشام، وكان على المسلمين حبيب بن مسلمة وكان صاحب كيد لعدوه، فأجمع أن يبيِّت قائدهم الموريان، أي يباغته ليلا، فسمعته امرأته أم عبد الله بنت يزيد الكلبية يذكر ذلك، فقالت: فأين موعدك؟ قال: سرادق الموريان أو الجنة .. ثم بيتهم فغلبهم, وأتى سرادق الموريان فوجد امرأته قد سبقته إليه (1). وواصل حبيب جهاده وانتصاراته المتوالية في أراضي أرمينية وأذربيجان، ففتحها إما صلحا أو عنوة (2).
لقد كان حبيب بن مسلمة الفهري من أبرز القادة الذين حاربوا في أرمينية البيزنطية؛ فقد أباد جيوشا بأكملها للعدو, وفتح حصونا ومدنا كثيرة (3). كما غزا ما يلى ثغور الجزيرة العراقية من أرض الروم فافتتح عدة حصون هناك، مثل شمشاط وملطية وغيرهما، وفي سنة 25 هـ غزا معاوية الروم فبلغ عمورية فوجد الحصون التي بين أنطاكية وطرسوس خالية، فجعل عندها جماعة كثيرة من أهل الشام والجزيرة، وواصل قائده قيس بن الحر العبسي الغزو في الصيف التالي، ولما فرغ هدم بعض الحصون القريبة من أنطاكية كي لا يفيد منها الروم (4).
ثانيًا: أول من أجاز الغزو البحري عثمان بن عفان:
كان معاوية بن أبي سفيان وهو أمير الشام يلح على عمر بن الخطاب في غزو البحر،
_________
(1) تاريخ الطبري (5/ 248)
(2) الدولة الإسلامية في عصر الخلفاء الراشدين، حمدي شاهين، ص252.
(3) حروب الإسلام في الشام في عهود الخلفاء الراشدين، محمد أحمد باشميل، ص577.
(4) الدولة الإسلامية في عصر الخلفاء الراشدين، ص253.(1/187)
ويصف له قرب الروم من حمص ويقول: إن قرية من قرى حمص يسمع أهلها نباح كلابهم وصياح دجاجهم، حتى كان ذلك يأخذ بقلب عمر، فكتب عمر إلى عمرو بن العاص: صف لي البحر وراكبه، فإن نفسي تنازعني إليه، فكتب إليه عمرو: إني رأيت خلقا كبيرا يركبه خلق صغير، إن ركن خرق القلب، وإن تحرك أزاغ العقول، يزداد فيه اليقين قلة، والشك كثرة، هم كدود على عود، إن مال غرق، وإن نجا برق، فلما قرأ عمر بن الخطاب كتاب عمرو بن العاص كتب إلى معاوية: لا والذي بعث محمدا بالحق، لا أحمل فيه مسلما أبدا، وتالله لمسلم أحب إليَّ مما حوت الروم، فإياك أن تعرض لي، وقد تقدمت إليك، وقد علمت ما لقى العلاء مني، ولم أتقدم إليه في ذلك (1). ولكن الفكرة لم تبرح نفس معاوية، وقد رأى في الروم ما رأى، فطمع في بلادهم وفي فتحها، فلما تولى الخلافة عثمان عاود معاوية الحديث وألح به على عثمان، فرد عليه عثمان - رضي الله عنه - قائلا: (إني قد شهدت ما رد عليك عمر -رحمه الله- حين استأذنته في غزو البحر)، ثم كتب إليه معاوية مرة أخرى يهون عليه ركوب البحر إلى قبرص فكتب إليه: (فإن ركبت معك امرأتك فاركبه مأذونا وإلا فلا) (2). كما اشترط عليه الخليفة عثمان - رضي الله عنه - أيضا بقوله: (لا تنتخب الناس ولا تقرع بينهم، خيرهم فمن اختار الغزو طائعا فاحمله وأعنه) (3). فلما قرأ معاوية كتاب عثمان نشط لركوب البحر إلى قبرص، فكتب لأهل السواحل يأمرهم بإصلاح المراكب وتقريبها إلى ساحل حصن عكا، فقد رمه ليكون ركوب المسلمين منه إلى قبرص (4).
ثالثًا: غزوة قبرص:
أعد معاوية المراكب اللازمة لحمل الجيش الغازي، واتخذ ميناء عكا مكانا للإقلاع، وكانت المراكب كثيرة وحمل معه زوجه فاختة بنت قرظة، كذلك حمل عبادة بن الصامت امرأته أم حرام بنت ملحان معه في تلك الغزوة (5).
وأم حرام هذه هي صاحبة القصة المشهورة، عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يدخل على أم حرام بنت ملحان فتطعمه، وكانت أم حرام تحت عبادة
_________
(1) تاريخ الطبري (5/ 258).
(2) الإدارة العسكرية في الدولة الإسلامية، د. سليمان بن صالح (2/ 538).
(3) تاريخ الطبري (5/ 260).
(4) الإدارة العسكرية في الدولة الإسلامية (2/ 538).
(5) البداية والنهاية (7/ 159).(1/188)
بن الصامت، فدخل عليها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوما فأطعمته، ثم جلست تفلي من رأسه, فنام رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثم استيقظ وهو يضحك فقلت: ما يضحكك يا رسول الله؟ قال: «ناس من أمتي عرضوا عليَّ غزاة في سبيل الله، يركبون ثبج هذا البحر ملوكا على الأسرة أو مثل الملوك على الأسرة» قالت: فقلت: يا رسول الله، ادع الله أن يجعلني منهم، فدعا لها، ثم وضع رأسه فنام، ثم استيقظ وهو يضحك، قالت: فقلت: ما يضحكك يا رسول الله؟ قال: «ناس من أمتي عرضوا علي في سبيل الله» كما قال في الأولى، قالت: قلت: يا رسول الله ادع الله أن يجعلني منهم فقال: «أنت من الأولين» فركبت أم حرام بنت ملحان البحر في زمن معاوية، فصرعت عن دابتها حين خرجت من البحر فهلكت (1).
ورغم أن معاوية - رضي الله عنه - لم يجبر الناس على الخروج، فقد خرج معه جيش عظيم من المسلمين (2)، مما يدل على أن المسلمين قد هانت في أعينهم الدنيا بما فيها، فأصبحوا لا يعبأون بها بالرغم من أنها قد فتحت عليهم أبوابها، فصاروا يرفلون في نعيمها.
إن المسلمين قد تربوا على أن ما عند الله خير وأبقى، وأن الله اصطفاهم لنصرة دينه وإقامة العدل ونشر الفضيلة، والعمل على إظهار دين الله على كل ما عداه، وهم يعتقدون أن هذه المهمة هي رسالتهم الحقيقية، وأن الجهاد في سبيل الله هو سبيل الحصول على مرضاة الله، فإن هم قصروا في مهمتهم وقعدوا عن أداء واجبهم فيمسك الله عنهم نصره في الدنيا، ويحرمهم مرضاته في الآخرة، وذلك هو الخسران المبين. من أجل هذا هرعوا مع معاوية وتسابقوا إلى السفن يركبونها، ولعل حديث أم حرام قد ألم بخواطرهم فدفعهم إلى الخروج للغزو في سبيل الله تصديقا لحديث رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وكان ذلك بعد انتهاء فصل الشتاء في سنة ثمان وعشرين من الهجرة (649م) (3).
وسار المسلمون من الشام وركبوا من ميناء عكا متوجهين إلى قبرص، ونزل المسلمون إلى الساحل، تقدمت أم حرام لتركب دابتها، فنفرت الدابة وألقت أم حرام على الأرض
_________
(1) البخاري، رقم: 2877.
(2) جولة تاريخية في عصر الخلفاء الراشدين، د. محمد السيد الوكيل، ص356.
(3) جولة تاريخية في عصر الخلفاء الراشدين، د. محمد السيد الوكيل، ص356.(1/189)
فاندقت عنقها فماتت (1). وترك المسلمون أم حرام بعد دفنها في أرض الجزيرة عنوانا على مدى التضحيات التي قدمها المسلمون في سبيل نشر دينهم، وعرف قبرها هناك بقبر المرأة الصالحة (2).
واجتمع معاوية بأصحابه وكان فيهم: أبو أيوب خالد بن زيد الأنصاري، وأبو الدرداء، وأبو ذر الغفاري، وعبادة بن الصامت، وواثلة بن الأسقع، وعبد الله بن بشر المازني، وشداد ابن أوس بن ثابت، والمقداد بن الأسود، وكعب الحبر بن ماتع، وجبير بن نفير الحضرمي (3)، وتشاوروا فيما بينهم وأرسلوا إلى أهل قبرص يخبرونهم أنهم لم يغزوهم للاستيلاء على جزيرتهم (4)، ولكن أرادوا دعوتهم لدين الله ثم تأمين حدود الدولة الإسلامية بالشام؛ وذلك لأن البيزنطيين كانوا يتخذون من قبرص محطة يستريحون فيها إذا غزوا ويتموَّنون منها إذا قل زادهم، وهي بهذه المثابة تهدد بلاد الشام الواقعة تحت رحمتها، فإذا لم يطمئن المسلمون على مسالمة هذه الجزيرة لهم وخضوعها لإرادتهم فإن وجودها كذلك سيظل شوكة في ظهورهم وسهما مسددا في حدودهم، ولكن سكان الجزيرة لم يستسلموا للغزاة ولم يفتحوا لهم بلادهم، بل تحصنوا في العاصمة ولم يخرجوا لمواجهة المسلمين، وكان أهل الجزيرة ينتظرون تقدم الروم للدفاع عنهم، وصد هجوم المسلمين عليها (5).
رابعًا: الاستسلام وطلب الصلح:
تقدم المسلمون إلى عاصمة قبرص (قسطنطينا) وحاصروها، وما هي إلا ساعات حتى طلب الناس الصلح، وأجابهم المسلمون إلى الصلح، وقدموا للمسلمين شروطًا واشترط عليهم المسلمون شروطا، وأما شرط أهل قبرص فكان في طلبهم ألا يشترط عليهم المسلمون شروطا تورطهم مع الروم؛ لأنهم لا قبل لهم بهم، ولا قدرة لهم على قتالهم، وأما
شروط المسلمين:
1 - ألا يدافع المسلمون عن الجزيرة إذا هاجم سكانها محاربون.
2 - أن يدل سكان الجزيرة المسلمين على تحركات عدوهم من الروم.
_________
(1) البداية والنهاية (7/ 159).
(2) جولة تاريخية في عصر الخلفاء الراشدين، ص357.
(3) المصدر نفسه، ص357.
(4) المصدر نفسه، ص357.
(5) المصدر نفسه، ص357.(1/190)
3 - أن يدفع سكان الجزيرة للمسلمين سبعة آلاف ومائتي دينار في كل عام.
4 - ألا يساعدوا الروم إذا حاولوا غزو بلاد المسلمين، ولا يطلعوهم على أسرارهم (1).
وعاد المسلمون إلى بلاد الشام، وأثبتت هذه الحملة قدرة المسلمين على خوض غمار المعارك البحرية بجدارة، وأعطت المسلمون فرصة المران على الدخول في معارك من هذا النوع مع العدو المتربص بهم سواء بالهجوم على بلاد الشام أم على الإسكندرية (2).
خامسًا: عبد الله بن قيس قائد الأسطول الإسلامي في الشام:
استعمل معاوية بن أبي سفيان على البحر عبد الله بن قيس الجاسي حليف بني فزارة، فغزا خمسين غزاة من بين شاتية وصائفة في البحر، ولم يغرق فيه أحد ولم ينكب، وكان يدعو الله أن يرزقه العافية في جنده، وألا يبتليه بمصاب أحد منهم، ففعل، حتى إذا أراد أن يصيبه وحده خرج في قاربه طليعة، فانتهى إلى المرفأ من أرض الروم، وعليه سؤَّال يعترُّون (3) بذلك المكان، فتصدق عليهم، فرجعت امرأة من السؤَّال إلى قريتها، فقالت للرجال: هل لكم في عبد الله بن قيس؟ قالوا: وأين هو؟ قالت: في المرفأ، قالوا: أي عدوة الله، ومن أين تعرفين عبد الله بن قيس؟ فوبختهم وقالت: أنتم أعجز من أن يخفى عبد الله على أحد، فثاروا إليه، فهجموا عليه، فقاتلوه وقاتلهم، فأصيب وحده، وأفلت الملاح حتى أتى أصحابه فجاءوا حتى أرقوا، والخليفة منهم سفيان بن عوف الأزدي، فخرج فقاتلهم، فضجر وجعل يعبث بأصحابه ويشتمهم، فقالت جارية عبد الله: واعبد الله، ما هكذا كان يقول حين يقاتل، فقال سفيان: وكيف كان يقول؟ قالت: الغمرات ثم ينجلينا، فترك ما كان يقول ولزم: الغمرات ثم ينجلينا، وأصيب في المسلمين يومئذ وذلك آخر زمان عبد الله بن قيس الجاسي (4)، وقيل لتلك المرأة التي
_________
(1) تاريخ الطبري (5/ 261).
(2) جولة تاريخية في عصر الخلفاء الراشدين، ص 358، 359.
(3) يعترون: يعترضون للناس دون أن يسألوهم.
(4) تاريخ الطبري (5/ 260).(1/191)
استثارت الروم على عبد الله بن قيس: كيف عرفته؟ قالت: كان كالتاجر، فلما سألته أعطاني كالملك، فعرفت أنه عبد الله بن قيس (1).
وهكذا حينما أراد الله تعالى أن يمن بالشهادة على هذا القائد العظيم أتيحت له وهو في وضع لا يضر بسمعة المسلمين البحرية؛ حيث كان وحده يتطلع ويراقب الأعداء، فكانت تلك الكائنة الغريبة التي أبصرت غورها تلك المرأة الذكية من نساء تلك البلاد؛ حيث رأت ذلك الرجل يظهر في مظاهره الخارجية بمظهر التجار العاديين، ولكنه يعطي عطاء الملوك، فلقد رأت فيه أمارات السيادة مع بساطة مظهره، فعرفت أنه قائد المسلمين الذي دوخ المحاربين في تلك البلاد، وهكذا كانت سماحة ذلك القائد وسخاؤه البارز حتى مع غير المسلمين سببا في كشف أمره، ومعرفة مركزه، ليقضي الله أمرا كان مفعولا، فيتم بذلك الهجوم عليه وظفره بالشهادة.
وهكذا يضرب قادة المسلمين المثل العليا بأنفسهم لتتم الإنجازات الكبرى على أيديهم، وليكونوا قدوة صالحة لمن يخلفهم؛ فقد قام هذا القائد الملهم بمهمة الاستطلاع بنفسه ولم يكل الأمر إلى جنوده، وفي انفراده بهذه المهمة مظنة للتورط مع الأعداء والهلاك على أيديهم، ولكنه مع ذلك يغامر بنفسه فيتولى هذه المهمة، ثم نجده يتخلق بأخلاق الإسلام العليا حتى مع نساء الأعداء وضعفتهم، فيمد إليهم يد الحنان والعطف، ويسخو لهم بالمال الذي هو من أعز ما يملك الناس، ونجده قبل ذلك مع جنده رفيقا صبورا، لا معنفا ولا مستكبرا، وإذا ادلهمت الخطوب تفاءل بانكشاف الغمة ولم يلجأ إلى لوم أصحابه وتعنيفهم، ولم يهيمن عليه الارتباك الذي يفسد العمل، ويعجل بالخلل والفوضى، وأما خليفته سفيان الأزدي فلعله وقع فيما وقع فيه من الارتباك والاشتغال بطرح اللائمة على جنده لكونه حديث العهد بأمور القيادة، ولكن مما يحفظ له أنه لما نبهته جارية عبد الله بن قيس إلى ذلك الأسلوب الحكيم الذي كان أميره ينتهجه في القيادة سارع في التأسي به في ذلك، ولم يحمله التكبر على عدم سماع كلمة الحق وإن صدرت من جارية مغمورة. وهذا مثل من أمثلة التجرد من هوى النفس، هذا الخلق العظيم الذي كان غالبا في الجيل الأول، وبه تم إنجاز الفتوحات العظيمة ونجاح الولاة والقادة في إدارة الأمة، فلله در أبناء ذلك الجيل: ما أبلغ ذكرهم، وما أبعد غورهم، وما أعظم وطأتهم في الأرض على الجبارين، وما أعذب لمساتهم في الأرض على المستضعفين والمساكين (2).
_________
(1) تاريخ الطبري (5/ 260).
(2) التاريخ الإسلامي (12/ 402).(1/192)
سادسًا: القبارصة ينقضون الصلح:
في سنة اثنتين وثلاثين هجرية، وقع سكان قبرص تحت ضغط رومي عنيف أجبرهم على إمداد جيش الروم بالسفن ليغزوا بها بلاد المسلمين، وبذلك يكون القبرصيون قد أخلوا بشروط الصلح، وعلم معاوية بخيانة أهل قبرص فعزم على الاستيلاء على الجزيرة ووضعها تحت سلطان المسلمين، فقد هاجم المسلمون الجزيرة هجوما عنيفا فقتلوا وأسروا وسلبوا؛ هجم عليها جيش معاوية من جهة وعبد الله بن سعد من الجانب الآخر، فقتلوا خلقا كثيرا، وسبوا سبيا كثيرا وغنموا مالا جزيلا (1). وتحت ضغط القوات الإسلامية اضطر حاكم قبرص أن يستسلم للفاتحين ويلتمس منهم الصلح، فأقرهم معاوية على صلحهم الأول (2). وخشى معاوية أن يتركهم هذه المرة بغير جيش يرابط في الجزيرة فيحميها من غارات الأعداء ويضبط الأمن فيها حتى لا تتمرد على المسلمين، فبعث إليهم اثني عشر ألفا من الجنود، ونقل إليهم جماعة من بعلبك, وبنى هناك مدينة، وأقام فيها مسجدا، وأجرى معاوية على الجنود أرزاقهم. وظل الحال على ذلك، الجزيرة هادئة والمسلمون آمنون من هجمات الروم المفاجئة، ولاحظ المسلمون أن أهل قبرص ليس فيهم قدرات عسكرية، وهم مستضعفون أمام من يغزوهم، وأحس المسلمون أن الروم يغلبونهم على أمرهم ويسخرونهم لمصالحهم فرأوا أن من حقهم عليهم أن يحموهم من ظلم الروم، وأن يمنعوهم من تسلط البيزنطيين، وقال إسماعيل بن عياش: أهل قبرص أذلاء مقهورون يغلبهم الروم على أنفسهم ونسائهم، فقد يحق علينا أن نمنعهم ونحميهم (3).
سابعًا: ما أهون الخلق على الله إذا هم عصوه:
وقد جاء في سياق هذه الغزوة المذكورة خبر أبي الدرداء - رضي الله عنه - حينما نظر إلى سبي الأعداء فبكى، ثم قال: ما أهون الخلق على الله إذا هم عصوه. فانظر إلى هؤلاء القوم بينما هم ظاهرون قاهرون لمن ناوأهم، فلما تركوا أمر الله -عز وجل- وعصوه صاروا إلى ما ترى (4). وجاء في رواية: فقال له جبير بن نفير: أتبكي وهذا يوم أعز الله فيه
_________
(1) جولة تاريخية، ص359، 360.
(2) البلاذري، ص158.
(3) جولة تاريخية، ص361.
(4) التاريخ الإسلامي (12/ 396).(1/193)
الإسلام وأهله؟ فقال: ويحك إن هذه كانت أمة قاهرة لهم ملك، فلما ضيعوا أمر الله صيرهم إلى ما ترى، سلط الله عليهم السبي، وإذا سلط على قوم السبي فليس لله فيهم حاجة، وقال: ما أهون العباد على الله تعالى إذا تركوا أمره!! (1).
إن ما تفوه به أبو الدرداء يعتبر مثلا للبصيرة النافذة والفقه في أمر الله تعالى، فهذا الصحابي الجليل يبكي حسرة على هؤلاء الذين أعمى الله بصائرهم، فلم ينقادوا لدعوة الحق فباءوا بهذا المصير المؤلم؛ حيث تحولوا من الملك والعزة إلى الاستسلام والذلة لإصرارهم على لزوم الباطل والتكبر على الخضوع لدعوة الحق، ولو أنهم عقلوا وتدبروا لكان في دخولهم في الإسلام بقاء ملكهم وعمران ديارهم والظفر بحماية دولة الإسلام، وإن هذا التفكير العميق من أبي الدرداء مظهر من مظاهر الرحمة والعطف تفتحت عنه نفسه الزكية، فتشكل ذلك في الظاهر على هيئة دموع تنحدر من عيني هذا الرجل العظيم، ليعبر عما يجول في نفسه من نظرات الحنان والرحمة والأسى على مصير تلك الأمة التي اجتمع لها البقاء على الضلال والمآل السيئ بزوال الملك والوقوع في الذل والهوان، وإنه بقدر ما يفرح المسلم بدخول الناس في الإسلام فإنه يحزن من رؤية الكافرين وهم يعيشون في ضلال مع إدراكه ما ينتظرهم من العذاب الأليم المؤبد في الآخرة، فكيف إذا أضيف إلى ذلك وقوعهم في الأسر والتشرد وتعرضهم للقتل في الحياة الدنيا؟ (2)
ثامنًا: عبادة بن الصامت يقسم غنائم قبرص:
قال عبادة بن الصامت لمعاوية -رضي الله عنهما-: شهدت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في غزوة حنين والناس يكلمونه في الغنائم، فأخذ وبرة من بعير وقال: «ما لي مما أفاء الله عليكم من هذه الغنائم إلا الخمس، والخمس مردود عليكم»، فاتق الله يا معاوية واقسم الغنائم على وجهها، ولا تعطِ منها أحدا أكثر من حقه، فقال له معاوية: قد وليتك قسمة الغنائم، وليس أحد بالشام أفضل منك ولا أعلم، فاقسمها بين أهلها واتق الله فيها. فقسمها عبادة بين أهلها وأعانه أبو الدرداء وأبو أمامة (3).
* * *
_________
(1) البداية والنهاية (7/ 159)
(2) التاريخ الإسلامي (12/ 397).
(3) الرياض النضرة في مناقب العشرة، لأبي جعفر أحمد، الشهير بالمحب الطبري، ص561.(1/194)
المبحث الثالث
فتوحات الجبهة المصرية
أولاً: ردع المتمردين في الإسكندرية:
كبر على الروم خروج الإسكندرية من أيديهم، وظلوا يتحينون الفرص لإعادتها إلى حوزتهم، فراحوا يحرضون مَنْ بالإسكندرية مِنَ الروم على التمرد والخروج على سلطان المسلمين؛ ذلك لأن الروم كانوا يعتقدون أنهم لا يستطيعون الاستقرار في بلادهم بعد خروج الإسكندرية من ملكهم (1). وصادف تحريض الروم لأهل الإسكندرية هوى في نفوس سكانها فاستجابوا للدعوة، وكتبوا إلى قسطنطين بن هرقل يخبرونه بقلة عدد المسلمين ويصفون له ما يعيش فيه الروم بالإسكندرية من الذل والهوان (2). وكان عثمان - رضي الله عنه - قد عزل عمرو بن العاص عن مصر، وولى مكانه عبد الله بن سعد بن أبي السرح، وفي أثناء ذلك وصل منويل الخصى قائد قوات الروم إلى الإسكندرية لإعادتها وتخليصها من يد المسلمين، ومعه قوات هائلة يحملهم في ثلاثمائة مركب مشحونة بكل ما يلزم هذه القوات من
السلاح والعتاد (3).
علم أهل مصر بأن قوات الروم قد وصلت إلى الإسكندرية، فكتبوا إلى عثمان يلتمسون إعادة عمرو بن العاص ليواجه القوات الغازية فإنه أعرف بحربهم، وله هيبة في نفوسهم، فاستجاب الخليفة لطلب المصريين، وأبقى ابن العاص أميرا على مصر (4)، ونهب منويل وجيشه الإسكندرية وغادروها بعد أن تركوها قاعا صفصفا, ليعيثوا فيما حولها من القرى ظلما وفسادا، وأمهلهم عمرو بن العاص ليمعنوا في الإفساد وليشعر المصريون بالفرق الهائل بين حكامهم من المسلمين وحكامهم من الروم، ولتمتلئ قلوب المصريين على الروم حقدا وغضبا فلا يكون لهم من حبهم والعطف عليهم أدنى حظ، وخرج منويل بجيشه من الإسكندرية يقصد مصر السفلى دون أن يخرج إليهم عمرو أو يقاومهم أحد، وتخوف بعض أصحابه, وعمرو كان له رأي آخر، فقد كان يرى أن
_________
(1) الكامل لابن الأثير.
(2) جولة تاريخية، ص335.
(3) جولة تاريخية، ص335.
(4) جولة تاريخية، ص335.(1/195)
يتركهم يقصدونه، ولا شك أنهم سينهبون أموال المصريين، وسيرتكبون من الحماقات في حقهم ما يملأ قلوبهم حقدا عليهم وغضبا منهم، فإذا نهض المسلمون لمواجهتهم عاونهم المصريون على التخلص منهم، وحدد عمرو سياسته هذه بقوله: «دعهم يسيروا إليَّ، فإنهم يصيبون من مروا به، فيخزي بعضهم ببعض» (1). وقد صدق حدس عمرو، وأمعن الروم في إفسادهم ونهبهم وسلبهم، وضج المصريون من فعالهم، وأخذوا يتطلعون إلى من يخلصهم من شر هؤلاء الغزاة المفسدين (2).
وصل منويل إلى نقيوس، واستعد عمرو للقائه وعبأ جنده، وسار بهم نحو عدوه الشرس، وتقابل الجيشان عند حصن نقيوس على شاطئ نهر النيل، واستبسل الفريقان أيما استبسال، وصبر كل فريق صبرا أمام خصمه مما زاد الحرب ضراوة واشتعالا، ودفع بالقائد عمرو إلى أن يمعن في صفوف العدو، ويقدم فرسه بين فرسانهم، ويشهر سيفه بين سيوفهم، ويقطع به هامات الرجال وأعناق الأبطال، وأصاب فرسه سهم فقتله، فترجل عمرو وانضم إلى صفوف المشاة، ورآه المسلمون فأقبلوا على الحرب بقلوب كقلوب الأسود لا يهابون ولا يخافون قعقعة السيوف (3). وأمام ضربات المسلمين وهنت عزائم الروم وخارت قواهم، فانهزموا أمام الأبطال الذين يريدون إحدى الحسنيين، وقصد الروم في فرارهم الإسكندرية لعلهم يجدون في حصونهم المنيعة وأسوارها الشاهقة ما يواري عنهم شبح الموت الذي يلاحقهم (4).
وخرج المصريون بعد أن رأوا هزيمة الروم يصلحون للمسلمين ما أفسده العدو الهارب من الطرق، ويقيمون لهم ما دمره من الجسور، وأظهر المصريون فرحتهم بانتصار المسلمين على العدو الذي انتهك حرماتهم واعتدى على أموالهم وممتلكاتهم، وقدموا للمسلمين ما ينقصهم من السلاح والمؤونة (5).
ولما وصل عمرو الإسكندرية ضرب عليهم الحصار ونصب عليها المجانيق وظل يضرب
_________
(1) جولة تاريخية ص336، عثمان بن عفان، لهيكل، ص67.
(2) المصدر نفسه، ص336.
(3) المصدر نفسه، ص338.
(4) البلاذري، ص69.
(5) جولة تاريخية، ص338.(1/196)
أسوار الإسكندرية حتى أوهنها، وألح عليها بالضرب حتى ضعف أهلها وتصدعت أسوارها وفتحت المدينة الحصينة أبوابها، ودخل المسلمون الإسكندرية وأعملوا سيوفهم في الروم يقتلون المقاتلين، ويأسرون النساء والذرية، وهرب من نجا من الموت لاجئين إلى السفن ليفروا بها عائدين من حيث أتوا، وكان منويل في عداد القتلى، ولم يكف المسلمون عن القتل والسبي حتى أمر عمرو بذلك لما توسط المسلمون المدينة، ولما لم يكن هناك من يقاوم أو يتصدى لهم (1). ولما فرغ المسلمون أمر عمرو ببناء مسجد في المكان الذي أوقف فيه القتال وسماه مسجد الرحمة (2).
وعادت إلى العاصمة العتيدة طمأنينتها، وعادت السكينة إلى قلوب المصريين فيها، فرجع إليها من كان قد فر منها أمام الزحف الرومي الرهيب، وعاد بنيامين بطريرك القبط إلى الإسكندرية بعد أن فر مع الفارين، وأخذ يرجو عمرو ألا يسيء معاملة القبط لأنهم لم ينقضوا عهدهم ولم يتخلوا عن واجبهم، ورجاه كذلك ألا يعقد صلحا مع الروم، وأن يدفنه إذا مات في كنيسة يحنس (3).
وجاء المصريون من كل حدب وصوب إلى عمرو يشكرونه على تخليصهم من ظلم الروم، ويطلبون منه إعادة ما نهبوا من أموالهم ودوابهم معلنين ولاءهم وطاعتهم، فقالوا: إن الروم قد أخذوا دوابنا وأموالنا ولم نخالف نحن عليكم وكنا على الطاعة، فطلب منهم عمرو أن يقيموا البينة على ما ادعوا، ومن أقام بينة وعرف من له بعينه رده (4) عليه، وهدم عمرو سور الإسكندرية، وكان ذلك في سنة 25 هـ. وأصبحت الإسكندرية آمنة من جهاتها كلها رغم هدم سورها، فقد كان شرقيها في قبضة المسلمين وكذلك جنوبها، وأما غربيها فقد أمنه عمرو بن العاص بفتح برقة وزويلة وطرابلس الغرب، وصالح أهل هذه البلاد على الجزية فكانوا يدفعونها طائعين، وأما شمالها فكان في قبضة الروم، وقد تلقوا درسا على يد المسلمين لم يترك لهم فرصة للتفكير في العودة، وحتى لو فكروا في العودة فهيهات أن يدخلوها وليس لهم فيها نصير ولا معين، وقوات المسلمين تراقب البحر بكل يقظة واهتمام (5).
_________
(1) جولة تاريخية، ص338.
(2) جولة تاريخية، ص338.
(3) المصدر نفسه، ص340.
(4) المصدر نفسه، ص340.
(5) المصدر نفسه، ص341.(1/197)
ثانيًا: فتح بلاد النوبة:
كان عمرو بن العاص قد شرع في فتح بلاد النوبة بإذن من الخليفة عمر، فوجد حربا لم يتدرب عليها المسلمون وهي الرمي بالنبال في أعين المحاربين حتى فقدوا مائة وخمسين عينا في أول معركة، ولهذا قبل الجيش الصلح, ولكن عمرو بن العاص رفض للوصول إلى شروط أفضل (1)، وعندما تولى ابن سعد ولاية مصر غزا النوبة في عام إحدى وثلاثين هجرية فقاتله الأساود من أهل النوبة قتالا شديدا، فأصيبت يومئذ عيون كثيرة من المسلمين، فقال شاعرهم:
لم تر عين مثل يوم دُمقلة ... والخيل تعدو بالدروع مثقلة (2)
فسأل أهل النوبة عبد الله بن سعد المهادنة، فهادنهم هدنة بقيت إلى ستة قرون (3)، وعقد لهم عقدا يضمن لهم استقلال بلادهم ويحقق للمسلمين الاطمئنان إلى حدودهم الجنوبية، ويفتح النوبة للتجارة والحصول على عدد من الرقيق في خدمة الدولة الإسلامية، وقد اختلط المسلمون بالنوبة والبجة، واعتنق كثير منهم الإسلام (4).
ثالثًا: فتح إفريقية:
كان من مقاصد حملة عمرو بن العاص - رضي الله عنه - لبرقة وطرابلس وبقية مناطق ليبيا، فتح البلاد وإزالة الطاغوت الروماني عن قلوب العباد حتى تتضح لهم السبل وتفترق لهم الطرق، وتصبح حرية الاختيار في متناول تلك الشعوب، بعد تلك الحملة المباركة التي كانت سببا في دخول ذلك النور إلى تلك المناطق المظلمة بعبادة الأصنام والتقرب إليها بالقرابين، واتخاذ الأنداد والأرباب من البشر من دونه سبحانه وتعالى، وإخراجهم من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد. وعن حملة عبد الله بن سعد على إفريقية (5) يقول الدكتور صالح مصطفى: وفي سنة 26 هـ/646م عُزِل عمرو بن العاص - رضي الله عنه - عن ولاية مصر، واستعمل عليها عبد الله بن سعد - رضي الله عنه -،
_________
(1) الخلافة والخلفاء الراشدون، ص229.
(2) قادة الفتح لبلاد المغرب، (1/ 61 - 63).
(3) الخلافة والخلفاء الراشدون، ص229.
(4) قادة الفتح لبلاد المغرب، (1/ 61 - 63).
(5) الشرف والتسامي بحركة الفتح الإسلامي، للصلابي، ص189.(1/198)
وكان عبد الله بن سعد يبعث جرائد الخيل كما كانوا يفعلون أيام عمرو بن العاص فيصيبون من أطراف إفريقية ويغنمون (1)، وكانت جرائد الخيل تقصد إفريقية (تونس) تمهيدا لفتحها ومعرفة وضعها، فكان حال هذه الجرائد أشبه ما يكون بكتائب الاستطلاع التي تعتبر مقدمة الجيش وعيونه، فلما اجتمعت عند عبد الله بن سعد معلومات كافية عن إفريقية من ناحية مداخلها ومخارجها، وقوتها وعدادها، وموقعها الجغرافي الاستراتيجي كتب حينئذ إلى الخليفة الراشد عثمان بن عفان يخبره بهذه المعلومات الهامة عن إفريقية، يستأذن بناء على تلك المعلومات بفتحها، فكان له ما طلب.
يقول الدكتور صالح مصطفى: ولما استأذن عبد الله بن سعد الخليفة عثمان بن عفان في غزو إفريقية، جمع الصحابة واستشارهم في ذلك، فأشاروا عليه بفتحها، إلا أبو الأعور سعيد بن زيد، الذي خالفه متمسكا برأي عمر بن الخطاب في ألا يغزو أفريقية أحد من المسلمين، ولما أجمع الصحابة على ذلك دعا عثمان للجهاد، واستعدت المدينة -عاصمة الخلافة الإسلامية- لجميع المتطوعين وتجهيزهم، وترحيلهم إلى مصر لغزو إفريفية تحت قيادة عبد الله بن سعد. وقد ظهر الاهتمام بأمر تلك الغزوة جليا، وهذا يتضح من الذين خرجوا إليها من كبار الصحابة، ومن خيار شباب آل البيت، وأبناء المهاجرين الأوائل وكذلك الأنصار؛ فقد خرج في تلك الغزوة الحسن والحسين، وابن عباس وابن جعفر وغيرهم.
هذا وقد خرج من قبيلة مهرة وحدها في غزوة عبد الله بن سعد ستمائة رجل، ومن غنث سبعمائة رجل، ومن ميدعان سبعمائة رجل، وعندما بات الاستعداد تامًا خطب عثمان فيهم، ورغبهم في الجهاد، وقال لهم: لقد استعملت عليكم الحارث بن الحكم إلى أن تقدموا على عبد الله بن سعد فيكون الأمر إليه، وأستودعكم الله. ويقال: إن عثمان - رضي الله عنه - قد أعان في هذه الغزوة بألف بعير يحمل عليها ضعفاء الناس، وعندما وصل هذا الجيش إلى مصر انضم إلى جيش عبد الله بن سعد، وتقدم من الفسطاط تحت قيادة عبد الله ذلك الجيش الذي يقدر بعشرين ألفا يخترق الحدود المصرية الليبية، وعندما وصلوا إلى برقة انضم إليهم عقبة بن نافع الفهري ومن معه من المسلمين، ولم يواجه الجيش الإسلامي أية صعوبات أثناء سيرهم في برقة؛ وذلك لأنها ظلت وفية لما عاهدت المسلمين عليه من الشروط زمن عمرو بن العاص، حتى إنه لم
_________
(1) ليبيا من الفتح العربي حتى انتقال الخلافة الفاطمية إلى مصر، صالح مصطفى مفتاح المزيني، ص49.(1/199)
يكن يدخلها جابي الخراج، وإنما كانت تبعث بخراجها إلى مصر في الوقت المناسب. ومما يؤكد بقاء برقة على عهدها لعمرو بن العاص، ما ذكر أنه سمع يقول: قعدت مقعدي هذا، وما لأحد من قبط مصر علي عهد إلا أهل أنطابلس (1)، فإن لهم عهدًا يوفي لهم به، كما أن عبد الله بن عمرو بن العاص كان يقول: ولولا مالي بالحجاز لنزلت برقة، فما أعلم منزلا أسلم ولا أعزل منها (2).
وهكذا انطلقت هذه الحملة المباركة نحو إفريقية, وكان ذلك بعد انضمام قوات عقبة بن نافع إليها، إلا أن عبد الله بن سعد قائد الحملة ما فتئ يرسل الطلائع والعيون في جميع الاتجاهات لاستكشاف الطرق وتأمينها ورصد تحركات العدو وضبطها؛ تحسبا لأي كمين أو مباغتة تطرأ على حين غفلة، فكان من نتائج تلك الطلائع الاستطلاعية أن تم رصد مجموعات من السفن الحربية تابعة للإمبراطورية الرومانية، حيث كانت هذه السفن الحربية قد رست في ساحل ليبيا البحري بالقرب من مدينة طرابلس، فما هي إلا برهة من الزمن حتى كان ما تحمله هذه السفن غنيمة للمسلمين، وقد أسروا أكثر من مائة من أصحابها، وتعتبر هذه أول غنيمة ذات قيمة أصابها المسلمون في طريقهم لفتح إفريقية (3).
وواصل عبد الله بن سعد السير إلى إفريقيا، وبث طلائعه وعيونه في كل ناحية، حتى وصل جيشه إلى مدينة سبيطلة بأمان، وهناك التقى الجمعان؛ جيش المسلمين بقيادة عبد الله ابن سعد وجيش جرجير حاكم إفريقية، وكان تعداد جيشه يبلغ حوالي مائة وعشرين ألفا، وكان بين القائدين اتصالات مستمرة ورسائل متبادلة، فَحْوَاها عرض الدعوة الإسلامية على جرجير ودعوته للدخول في الإسلام، ويستسلم لأمر الله سبحانه، أو أن يدفع الجزية، ويبقى على دينه خاضعا لسيادة الإسلام، ولكن كل تلك العروض رفضها وأصر واستكبر هو وجنوده، وضاق الأمر بالمسلمين، ونشبت المعركة بين الجمعين وحمى الوطيس بينهما لعدة أيام، حتى وصل مدد بقيادة عبد الله بن الزبير، وكانت نهاية هذا المستكبر الطاغي جرجير على يديه (4).
ولما رأى الروم الذين بالساحل ما حل بجرجير وأهل سبيطلة، غارت أنفسهم وتجمعوا وكاتب بعضهم بعضا في حرب عبد الله بن سعد إياهم، فخافوه وراسلوه
_________
(1) أنطابلس: معناها برقة.
(2) ليبيا من الفتح العربي حتى انتقال الخلافة الفاطمية إلى مصر، ص39.
(3) الشرف والتسامي بحركة الفتح الإسلامي، ص191.
(4) المصدر نفسه ص193، البداية والنهاية (7/ 158).(1/200)
وجعلوا له جعلا على أن يرتحل بجيشه، وألا يعترضوه بشيء ووجهوا إليه ثلاثمائة قنطار من الذهب في بعض الروايات، وفي البعض الآخر مائة قنطار، جزية في كل سنة على أن يكف عنهم ويخرج من بلادهم، فقبل ذلك منهم وقبض المال، وكان في شرط صلحهم أن ما أصاب المسلمون قبل الصلح فهو لهم، وما أصابوه بعد الصلح رده عمر إن عبد الله بن الزبير قال لعبد الله بن سعد: إن أمرنا يطول مع هؤلاء وهم في أمداد متصلة وبلاد هي لهم ونحن منقطعون عن المسلمين وبلادهم، وقد رأيت أن نترك غدا جماعة صالحة من أبطال المسلمين في خيامهم متأهبين ونقاتل نحن الروم في باطن العسكر إلى أن يضجروا ويملوا, فإذا رجعوا إلى خيامهم ورجع المسلمون ركب من كان في الخيام من المسلمين ولم يشهدوا القتال وهم مستريحون ونقصدهم على غرة، فلعل الله ينصرنا عليهم، فأحضر جماعة من أعيان الصحابة واستشارهم فوافقوه على ذلك، فلما كان الغد فعل عبد الله ما اتفقوا عليه، وأقام جميع شجعان المسلمين في خيامهم وخيولهم عندهم مسرجة، ومضى الباقون فقاتلوا الروم إلى الظهر قتالا شديدا، فلما أذن بالظهر همَّ الروم بالانصراف على العادة فلم يمكنهم ابن الزبير وألح عليهم بالقتال حتى أتعبهم، ثم عاد عنهم والمسلمون؛ فكل الطائفتين ألقى سلاحه ووقع تعبا، فعند ذلك أخذ عبد الله بن الزبير من كان مستريحا من شجعان المسلمين وقصد الروم فلم يشعروا بهم حتى خالطوهم وحملوا حملة رجل واحد وكبروا فلم يتمكن الروم من لبس سلاحهم حتى غشيهم المسلمون، وقتل جرجير، قتله ابن الزبير، وانهزم الروم وقتل منهم مقتلة عظيمة، وأخذت ابنة الملك جرجير سبية، ونازل عبد الله بن سعد المدينة وحاصرهم حتى فتحها، ورأى فيها من الأموال ما لم يكن في غيرها، فكان سهم الفارس ثلاثة آلاف دينار وسهم
الراجل ألف دينار.
ولما فتح عبد الله مدينة سبيطلة بث جيوشه في البلاد فبلغت قفصة فسبوا وغنموا، وسيِّر عسكرا إلى حصن الأجم، وقد احتمى به أهل تلك البلاد فحصرهم وفتحه بالأمان فصالحه أهل إفريقية كما مر معنا، ونفل عبد الله بن الزبير ابنة الملك وأرسله ابن سعد إلى عثمان بالبشارة بفتح إفريقية (1).
رابعًا: بطولة عبد الله بن الزبير في فتح إفريقية:
هذا ولقد كان لعبد الله بن الزبير -رضي الله عنهما- موقف عظيم في البطولة والشجاعة، وقد ذكره الحافظ ابن كثير حيث قال: لما قصد المسلمون -وهم عشرون ألفا- إفريقية، وعليهم عبد الله بن سعد بن أبي السرح، وفي جيشه عبد الله بن عمر وعبد الله بن الزبير،
_________
(1) الكامل لابن الأثير (3/ 45، 46).(1/201)
صمد إليهم ملك البربر جرجير في عشرين ومائة ألف، وقيل في مائتي ألف، فلما تراءى الجمعان أمر جيشه فأحاطوا بالمسلمين هالة، فوقف المسلمون في موقف لم ير أشنع منه ولا أخوف عليهم منه.
قال عبد الله بن الزبير: نظرت إلى الملك جرجير من وراء الصفوف وهو راكب على برذون، وجاريتان تظلانه بريش الطواويس، فذهبت إلى عبد الله بن سعد بن أبي السرح فسألته أن يبعث معي من يحمي ظهري، وأقصد الملك، فجهز معي جماعة من الشجعان، فأمر بهم فحموا ظهري وذهبت حتى خرقت الصفوف إليه، وهم يظنون أني في رسالة إلى الملك، فلما اقتربت منه أحس مني الشر، ففر على برذونه فلحقته فصفعته برمحي وذففت -يعني أجهزت- عليه بسيفي، وأخذت رأسه فنصبته على رأس الرمح وكبرت، فلما رأى ذلك البربر فَرِقُوا وفروا كفرار القطا، واتبعهم المسلمون يقتلون ويأسرون, فغنموا غنائم جمة وأموالا عظيمة وسبيًا عظيمًا، وذلك ببلد يقال له: (سبيطلة) على يومين من القيروان.
قال ابن كثير: فكان هذا أول موقف اشتهر فيه أمر عبد الله بن الزبير - رضي الله عنه - وعن أبيه، وعن سائر الصحابة الكرام أجمعين (1).
إن ما قام به ابن الزبير نوع من الطموح نحو المعالي المحفوفة بالأهوال بدون تدرج سابق، لقد كان عمره آنذاك سبعا وعشرين سنة، ولم يذكر له قبل ذلك مواقف بطولية من نوع المغامرات، فكيف أقدم على هذه المغامرة الهائلة التي يغلب على الظن أو يكاد يقرب من اليقين في عرف الناس العاديين أن فيها الهلاك؟!! وإن الاحتمالات التي يمكن أن ترد في مثل هذه المغامرة أن يدور في خلد المغامر أمران:
1 - أن ينجح في هجومه فيقضي على ملك البربر، ويتفرق جنده كما هي عادة الكفار، وفي ذلك نصر مؤزر للمسلمين، وكفاية لهم عن خوض معركة شرسة قد تخوف منها المسلمون.
2 - أن يتقبله الله شهيدا، وفي ذلك الوصول إلى أسمى الأماني، وأبلغ الدرجات التي يطمح إليها الصالحون ويتنافسون على بلوغها، كما أن في ذلك من إرهاب الكفار
_________
(1) البداية والنهاية (7/ 158).(1/202)
وإثارة الرعب فيهم الشيء الكثير؛ حيث سيتوقع الكفار أن المسلمين الذين سيقاتلونهم كلهم من هذا النوع الجريء الفتاك؛ إذ أنه يكفي المغامر شجاعة أن يقذف بنفسه في وسط المعركة الملتهبة، إنه لا يقدم على هذه الوثبة العالية إلا العظماء الذين يتصورون الجنة من وراء تلك الوثبة ويشتاقون للعيش فيها. ولقد كان ابن الزبير وثب تلك الوثبة متجردا من علائق الدنيا وأثقالها المثبطة، طامحا إلى ما أعده الله تعالى للمجاهدين في سبيله على قدر طاقتهم، سواء انتصروا على أعدائهم أو نالوا الشهادة (1).
وقد جاء في هذا الخبر أن البربر بعدما قتل ملكهم فروا من جيش المسلمين كفرار القَطَا، وأن المسلمين تبعوهم يقتلون ويأسرون منهم من غير مقاومة، وإن هذا الخبر دليل على أن الله تعالى مع أوليائه المؤمنين، وأنه يقيض لهم إذا صدقوا ما يخلصهم من الشدائد وينقذهم من المآزق، فإن المسلمين قد وقعوا في معضلة كبرى؛ حيث أحاط بهم أعداؤهم الذين يفوقونهم ست مرات في العدد أو أكثر، وكان على المسلمين أن يقاتلوهم من كل جانب، وهو أمر عسير على جيش صغير بالنسبة لكثرة عدوه، كما جاء في قول الراوي: فوقف المسلمون في موقف لم ير أشنع منه ولا أخوف عليهم منه، فقيض الله لهم هذا البطل المغوار الذي أقدم على مغامرة نادرة المثال، فأنقذ الله به ذلك الجيش الإسلامي من عسرة كان يعاني منها (2).
ولا ننسى موقف الأبطال الذين كانوا مع عبد الله بن الزبير يحمون ظهره، فإنهم قد شاركوه في تلك المخاطرة، ولئن لم يذكر التاريخ أسماءهم فإن عملهم الفدائي قد بقي مخلدا في الدنيا برفع ذكر هذه الأمة حينما تفاخر بأبطالها، وفي الآخرة بما ينتظرون من وعد الله للمجاهدين الصادقين (3).
هذا وقد قدَّم المسلمون الغالي والرخيص في فتوحات إفريقية، واستشهد منهم الكثير، وممن توفى منم غازيا بإفريقية في خلافة عثمان أبو ذؤيب الهذلي وكان شاعرا مشهورا، وهو الذي قال:
وإذا المنية أنشبت أظفارها ... ألفيت كل تميمة لا تنفع
_________
(1) التاريخ الإسلامي (12/ 390).
(2) التاريخ الإسلامي، (12/ 392).
(3) التاريخ الإسلامي، (12/ 392).(1/203)
وتجلدي للشامتين أريهم ... أني لريب الدهر لا أتضعضع (1)
خامسًا: معركة ذات الصواري:
أصيب الروم بضربة حاسمة في إفريقية، وتعرضت سواحلهم للخطر بعد سيطرة الأسطول الإسلامي على سواحل المتوسط من ردوس حتى برقة، فجمع قسطنطين بن هرقل أسطولا بناه الروم من قبل، فخرج بألف سفينة لضرب المسلمين ضربة يثأر لها لخسارته المتوالية في البر، فأذن عثمان - رضي الله عنه - لصد العدوان، فأرسل معاوية مراكب الشام بقيادة بسر بن أرطأة، واجتمع مع عبد الله بن سعد بن أبي السرح في مراكب مصر، وكانت كلها تحت أمرته، ومجموعها مائتا سفينة فقط، وسار هذا الجيش الإسلامي وفيه أشجع المجاهدين المسلمين ممن أبلوا في المعارك السابقة؛ فقد انتصر هؤلاء على الروم من قبل في معارك عديدة، فشوكة عدوهم في أنفسهم محطمة، لا يخشونه ولا يهابونه، على الرغم من قلة عدد سفنهم إذا قيست بعدد سفن عدوهم. خرج المسلمون إلى البحر وفي أذهانهم وقلوبهم إعزاز دين الله وكسر شوكة الروم، ولقد كان لهذه المعركة التاريخية أسباب، منها:
1 - الضربات القوية التي وجهها المسلمون إلى الروم في إفريقية.
2 - أصيب الروم في سواحلهم الشرقية والجنوبية بعد أن سيطر المسلمون بأسطولهم عليها.
3 - خشية الروم من أن يقوى أسطول المسلمين فيفكروا في غزو القسطنطينية.
4 - أراد قسطنطين بن هرقل استرداد هيبة ملكه بعد الخسائر المتتالية برًّا، وعلى شواطئه في بلاد الشام ومصر وساحل برقة.
5 - كما أراد الروم خوض معركة ظنوا أنها مضمونة النتائج، كي تبقى لهم السيطرة في المتوسط، فيحافظوا على جزره، فينطلقوا منها للإغارة على شواطئ بلاد العرب.
6 - محاولة استرجاع الإسكندرية بسبب مكانتها عند الروم، وقد ثبت تاريخيا مكاتبة سكانها لقسطنطين بن هرقل ملك الروم.
_________
(1) تاريخ الإسلام للذهبي، عهد الخلفاء الراشدين، ص359.(1/204)
هذه بعض أسباب معركة ذات الصواري (1).
أين وقعت هذه المعركة؟
وهذا السؤال لم يجد المؤرخون له جوابا موحدا؛ فالمراجع العربية لم تحدد مكانها، باستثناء مرجع واحد على ما نعلم صرح بالمكان بدقة، وآخر قال اتجه الروم إليه.
* في (فتح مصر وأخبارها) (2) ذكر الكتاب خطبة عبد الله بن سعد بن أبي السرح وقال: قد بلغني أن هرقل قد أقبل إليكم في ألف مركب. ولم يحدد مكان المعركة.
* (الطبري) (3) في أخبار سنة 31هـ، ربط حدوث ذات الصواري بما أصاب المسلمون من الروم في إفريقية، وقال: فخرجوا في جمع لم يجتمع للروم مثله قط.
* ولم يذكر (الكامل في التاريخ) (4) مكان الموقعة أيضا، ولكنه ربط سبب وقوعها بما أحرزه المسلمون من نصر في إفريقية بالذات.
* وفي (البداية والنهاية) (5): فلما أصاب عبد الله بن سعد بن أبي السرح من أصاب من الفرنج والبربر بلاد إفريقية، حميت الروم واجتمعت على قسطنطين بن هرقل، وساروا إلى المسلمين في جمع لهم لم ير مثله منذ كان الإسلام؛ خرجوا في خمسمائة مركب وقصدوا عبد الله بن سعد بن أبي السرح في أصحابه من المسلمين ببلاد المغرب.
* (تاريخ الأمم الإسلامية): (6) لم يذكر مكان الموقعة أيضا (7)، ورجح الدكتور شوقي أبو خليل أن المعركة كانت على شواطئ الإسكندرية، وذلك للأسباب التالية:
* كتاب (النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة) يذكر صراحة: غزوة ذات الصواري في البحر من ناحية الإسكندرية (8).
_________
(1) ذات الصواري، شوقي أبو خليل، ص60، 61.
(2) المصدر نفسه، ص61.
(3) تاريخ الطبري (5/ 290).
(4) الكامل في التاريخ (3/ 58) طبعة البابي الحلبي - القاهرة.
(5) البداية والنهاية (7/ 163).
(6) الشيخ الخضري (2/ 29).
(7) ذات الصواري، ص62.
(8) النجوم الزاهرة (1/ 80).(1/205)
* تاريخ ابن خلدون يذكر (1): ثم بعث ابن أبي السرح السرايا ودوخ البلاد فأطاعوا وعاد إلى مصر، ولما أصاب ابن أبي السرح إفريقية ما أصاب، ورجع إلى مصر خرج قسطنطين بن هرقل غازيا إلى الإسكندرية في ستمائة مركب.
* ربطت المراجع العربية التي لم تحدد موقع المعركة بين حدوث المعركة وبين ما خسره الروم في شمال إفريقية بالذات.
* الأسطول الرومي صاحب ماض عريق، فهو سيد المتوسط قبل ذات الصواري، فهو أجرأ على مهاجمة السواحل الإسلامية، ولذلك رجح الدكتور شوقي أبو خليل مجيء الأسطول الرومي إلى شواطئ الإسكندرية لاستعادتها بسبب مكانتها عند الروم، ومكاتبة أهلها لملكهم السابق، وهو بذلك يقضي أيضا على الأسطول الفتي في مهده، الذي شرع العرب في بنائه بمصر، فتبقى للروم السيطرة والسطوة في مياه المتوسط وجزره.
* المراجع الأجنبية تعرف ذات الصواري بموقعة (فونيكة)، وفونيكة هو ثغر يقع غرب مدينة الإسكندرية، بالقرب من مدينة مرسى مطروح، فهي تحدد الموقع تماما (2).
* أحداث المعركة:
قال مالك بن أوس بن الحدثان: كنت معهم في ذات الصواري، فالتقينا في البحر، فنظرنا إلى مراكب ما رأينا مثلها قط، وكانت الريح علينا -أي لصالح مراكب الروم- فأرسينا ساعة، وأرسوا قريبا منا، وسكتت الريح عنا، قلنا للروم: الأمن بيننا وبينكم، قالوا: ذلك لكم، ولنا منكم (3). كما طلب المسلمون من الروم: إن أحببتم ننزل إلى الساحل فنقتتل حتى يكتب لأحدنا النصر، وإن شئتم فالبحر. قال مالك بن أوس: فنخروا نخرة واحدة، وقالوا: بل الماء الماء، وهذا يظهر لنا ثقة الروم بخبرتهم البحرية، وأملهم في النصر لممارستهم أحواله وفنونه، مرنوا عليه فأحكموا الدراية بثقافته وأنوائه فطمعوا بالنصر فيه، خصوصا أنهم يعلمون حداثة عهد المسلمين به (4).
بات الفريقان تلك الليلة في عرض البحر، وموقف المسلمين حرج، فقال القائد
_________
(1) تاريخ ابن خلدون (2/ 468).
(2) ذات الصواري، شوقي أبو خليل، ص64.
(3) تاريخ الطبري (5/ 292).
(4) ذات الصواري، ص66.(1/206)
المسلم لصحبه: أشيروا عليَّ؟ فقالوا: انتظر الليلة بنا لنرتب أمرنا ونختبر عدونا، فبات المسلمون يصلون ويدعون الله -عز وجل- ويذكرونه ويتهجدون، فكان لهم دوي كدوي النحل على نغمات تلاطم الأمواج بالمراكب، أما الروم فباتوا يضربون النواقيس في سفنهم، وأصبح القوم، وأراد قسطنطين أن يسرع في القتال، ولكن عبد الله بن سعد بن أبي السرح لما فرغ من صلاته إماما بالمسلمين للصبح، استشار رجال الرأي والمشورة عنده، فاتفق معهم على خطة رائعة: فقد اتفقوا على أن يجعلوا المعركة برية على الرغم من أنهم في عرض البحر، فكيف تم للمسلمين ذلك؟ أمر عبد الله جنده أن يقتربوا من سفن أعدائهم فاقتربوا حتى لامست سفنهم سفن العدو، فنزل الفدائيون أو رجال الضفادع البشرية في عرفنا الحالي إلى الماء، وربطوا السفن الإسلامية بسفن الروم، ربطوها بحبال متينة، فصار 1200 سفينة في عرض البحر، كل عشرة أو عشرين منها متصلة مع بعضها، فكأنها قطعة أرض ستجري عليها المعركة، وصفَّ عبد الله بن سعد المسلمين على نواحي السفن يعظهم ويأمرهم بتلاوة القرآن الكريم، خصوصا سورة الأنفال؛ لما فيها من معاني الوحدة والثبات والصبر (1).
وبدأ الروم القتال، فهم في رأيهم قد ضمنوا النصر عندما قالوا: بل الماء الماء، وانقضوا على سفن المسلمين بدافع الأمل بالنصر، مستهدفين توجيه ضربة أولى حاسمة يحطمون بها شوكة الأسطول الإسلامي، فنقض الروم صفوف المسلمين المحاذية لسفنهم، وصار القتال كيفما اتفق, وكان قاسيا على الطرفين، وسالت الدماء غزيرة اصطبغت بها صفحة الماء، فصار أحمر، وترامت الجثث في الماء، وتساقطت فيه, وضربت الأمواج السفن حتى ألجأتها إلى الساحل، وقتل من المسلمين الكثير، وقتل من الروم ما لا يحصى، حتى وصف المؤرخ البيزنطي (ثيوفانس) هذه المعركة بأنها كانت يرموكا ثانيا على الروم (2). ووصفها الطبري بقوله: إن الدم كان غالبا في الماء في هذه المعركة (3)، حاول الروم أن يغرقوا سفينة القائد المسلم عبد الله بن أبي السرح، كي يبقى جند المسلمين دون قائد، فتقدمت من سفينته سفينة رومية، ألقت إلى عبد الله السلاسل لتسحبها وتنفرد بها، ولكن علقمة بن يزيد الغطيفي أنقذ السفينة والقائد بأن ألقى بنفسه على السلاسل وقطعها بسيفه (4).
_________
(1) ذات الصواري، ص67.
(2) ذات الصواري، ص67.
(3) تاريخ الطبري (5/ 293).
(4) ذات الصواري، ص68.(1/207)
وصمد المسلمون رغم كل شيء، وصبروا كعادتهم في معاركهم، فكتب الله -عز وجل- لهم النصر بما صبروا، واندحر ما تبقى من الأسطول الرومي، وكاد الأمير قسطنطين أن يقع أسيرا في أيدي المسلمين -كما ذكر ابن عبد الحكم- لكنه تمكن من الفرار لما رأى قواه تنهار وجثث جنده على سطح الماء تلقى بها الأمواج إلى الساحل. لقد رأى أسطوله الذي تأمل فيه خيرا ونصرا وإعادة كرامة يغرق قطعة بعد قطعة، ففر مدبرا والجراحات في جسمه، والحسرة تأكل فؤاده، يجر خيبة وفشلا، فوصل جزيرة صقلية (1)، وألقت به الريح هناك، فسأله أهله عن أمره فأخبرهم، فقالوا: شمت النصرانية، وأفنيت رجالها، لو دخل المسلمون لم نجد من يردهم (2) فقتلوه، وخلوا من كان معه من المراكب (3).
* نتائج ذات الصواري:
1 - كانت ذات الصواري أول معركة حاسمة في البحر خاضها المسلمون، أظهر فيها الأسطول الفتيُّ الصبر والإيمان، والجَلَد والفكر السليم بما تفتَّق عنه الذهن الإسلامي من خطة جعلت المعركة صعبة على أعدائهم، فاستحال عليهم اختراق صفوف المسلمين بسهولة، كما استخدم المسلمون خطاطيف طويلة يجرون بها صواري وشرع سفن الأعداء، الأمر الذي انتهى بكارثة بالنسبة للروم.
2 - كانت ذات الصواري حدا فاصلا في سياسة الروم إزاء المسلمين، فأدركوا فشل خططهم في استرداد هيبتهم، أو استرجاع مصر أو الشام، وانطلق المسلمون في عرض هذا البحر الذي كان بحيرة رومية، وانتهى اسم (بحر الروم) إلى الأبد، واستطاع المسلمون فتح قبرص وكريت وكورسيكا وسردينيا وصقلية وجزر البليار، ووصلوا إلى جنوة ومرسيليا.
3 - قتل قسطنطين فتولى ابن قسطنطين الرابع من بعده، وكان حَدَثًا صغير السن، مما جعل الظروف مواتية لقيام حملة بحرية وبرية إسلامية تستهدف عاصمة روما (القسطنطينية) فيما بعد.
4 - الإعداد الروحي قبل المعركة -أو ما يسمى بالتوجيه المعنوي في أيامنا هذه- له قيمته في تحقيق النصر؛ حيث تتجه القلوب إلى الله بصدق، فهذا المؤمن الذي بات ليله
_________
(1) تاريخ ابن خلدون (2/ 468).
(2) تاريخ ابن خلدون (2/ 468).
(3) ذات الصواري، ص68.(1/208)
في تهجد وذكر، يستمد العون من الله، من عظمته وعزته، بعد أن هيأ الأسباب، يلقى الأعداء بروح عالية لا يهاب الموت، فالله أكبر من كل شيء، وهذه المعارك التي نصف أحداثها التاريخية هي وصفة طبية نعرضها للتطبيق والنهج، لنستفيد منها في حياتنا؛ فحياة الصحابة ما هي إلا للقدوة وسيرة للاتباع (1).
5 - أصبح البحر المتوسط بحيرة إسلامية، وصار الأسطول الإسلامي سيد مياه البحر المتوسط، وهذا الأسطول ليس للتسلط والقرصنة بل للدعوة إلى الله وكسر شوكة المشركين، ونشر الحضارة المنبثقة عن كتاب الله وسنة رسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
6 - عكف المسلمون على دراسة علوم البحرية، وصناعة السفن، وكيفية تسليحها، وأسلوب القتال من فوقها، وعلوم الفلك المتصلة بتسييرها في البحار، ومعرفة مواقعهم على المصورات البحرية المختلفة، فيما بعد، فعرفوا الاصطرلاب (البوصلة الفلكية) , وطوروها إلى المدى الذي استفاد منه بعد ذلك البحارة الغربيون أمثال: كرستوف كولومبس، وأمريكوفيسبوشي في اكتشافاتهم (2).
7 - لقد كانت هذه المعركة مظهرا من مظاهر تفوق العقيدة الصحيحة الصلبة على الخبرة العسكرية والتفوق في العدد والعُدَد، فلقد كان الروم هم أهل البحر منذ القدم، وقد مروا بتجارب طويلة في الحروب البحرية، بينما كان المسلمون حديثي عهد بركوب البحر والقتال البحري، ولكن الله تعالى أدلى المسلمين عليهم برغم التفوق المذكور؛ لأنه سبحانه قد سخر أولئك المؤمنين لنشر دينه وإعلاء كلمته في الأرض. وإن مما يشاد به في هذه المعركة قوة قائدها عبد الله بن سعد بن أبي السرح ورباطة جأشه، ومقدرته الجيدة على إدارة الحروب، وهي بعد ذلك لون من ألوان بسالة المسلمين واستقالتهم في الحروب بأنفسهم في سبيل إعزاز دينهم ورفع شأن دولتهم (3).
سادسًا: أهم الدروس والعبر والفوائد في فتوحات عثمان - رضي الله عنه -:
1 - تحقيق وعد الله للمؤمنين:
قال ابن كثير في حديثه عن عثمان بن عفان - رضي الله عنه -: ... ففتح الله على يديه
_________
(1) ذات الصواري، ص71، 72.
(2) المصدر نفسه، ص76.
(3) التاريخ الإسلامي (12/ 407).(1/209)
كثيرا من الأقاليم والأمصار، وتوسعت المملكة الإسلامية، وامتدت الدولة المحمدية، وبلغت الرسالة المصطفوية في مشارق الأرض ومغاربها، وظهر للناس مصداق قوله تعالى: {وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لاَ يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور: 55]، وقوله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [التوبة: 33]، وقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا هلك قيصر فلا قيصر بعده، وإذا هلك كسرى فلا كسرى بعده، والذي نفسي بيده لتنفقن كنوزهما في سبيل الله» (1). وهذا كله تحقق وقوعه وتأكد وتوطد في زمان عثمان - رضي الله عنه - (2).
2 - التطور في فنون الحرب والسياسة:
كانت الحروب تنشأ بين الشعوب من أجل قطعة من الأرض يراد تملكها، أو بسبب اعتداء يقع على بلد أو قبيلة، ولكنها في عهد النبوة والعهد الراشدي أصبحت بسبب المبادئ؛ فالمسلمون يريدون أن تكون عقيدتهم هي السائدة والمهيمنة في الأرض، فاصطدمت بعقائد فاسدة ومنحرفة كعقائد المشركين والمجوس، على أن هذا لم يكن كل شيء في التطور الحربي، بل نجد لونا جديدا آخر وهو ما كان يعرضه المجاهدون المسلمون على أعدائهم من: الإسلام أو الجزية أو المناجزة، ونتج عن تلك الفتوح سياسة فذة أرضت جميع الشعوب إلا من كان في قلبه حقد على العدل والمساواة ممن كانت تحدثهم نفوسهم بالفتن والعصيان، وهؤلاء اضطروا المسلمين أحيانا إلى الشدة معهم والتنكيل بهم (3).
3 - بدء التجنيد الإلزامي في عهد عمر واستمراره في عهد عثمان:
كانت معركة القادسية من أسباب اتخاذ الفاروق لقرار التجنيد الإلزامي، فقد أمر عماله على الأقاليم بإحضار كل فارس ذي نجدة أو رأى أو فرس أو سلاح، فإن جاء طائعا وإلا حشروه حشرا وقادوه مقادا، واستعجلهم في ذلك بحزمه المشهور قائلا: لا تدعوا
_________
(1) مسلم، كتاب الفتن، رقم (2918، 2919)
(2) البداية والنهاية (7/ 216).
(3) عصر الخلفاء الراشدين، د. عبد الحميد بخيت، ص216.(1/210)
أحدا إلا وجهتموه إليَّ، والعَجَلَ العجل (1). وكان عمر يفكر في التجنيد الإلزامي الموقوف للجهاد، فلما دوَّن الديوان ورتب للمسلمين أرزاقهم السنوية، خرجت فكرته إلى حيز الوجود، واقترنت نشأة الديوان بنشأة التجنيد النظامي الرسمي، وحددت للجنود النظاميين عطاياهم ورواتبهم من بيت مال المسلمين، وعندما أذن عثمان لمعاوية بالغزو بحرا أمره أن يخير الناس ولا يكرههم؛ حتى لا يذهب أحد إلى هذا الضرب من الغزو إلا طائعا مختارا، أما التجنيد برا لإتمام حركة الفتوح، فقد ظل في عهده إلزاميا على أصحاب الرواتب والأرزاق من
الجنود النظاميين (2).
4 - اهتمام عثمان بحدود الدولة الإسلامية:
ترتب على توسع الدولة الإسلامية في عهد عثمان - رضي الله عنه - الاستمرار في سياسة تحصين الثغور للحفاظ على حدود الدولة الإسلامية من مهاجمة الأعداء، سواء كان ذلك بشحنها بالجند المرابطين أو بناء الحاميات الدفاعية المختلفة بها، فكان أول كتاب كتبه عثمان بن عفان - رضي الله عنه - في خلافته لأمر الأجناد في الثغور لحماية حدود الدولة الإسلامية قوله: أما بعد، فإنكم حماة المسلمين وذادتهم، وقد وضع لكم عمر ما لم يغب عنا بل كان على ملإ منا، ولا يبلغني عن أحد منكم تغيير ولا تبديل، فيغير الله ما بكم ويستبدل بكم غيركم، فانظروا كيف تكونون فإني أنظر فيما أكرمني الله النظر فيه والقيام عليه (3).
وتسهيلا وتيسيرا للعملية الإدارية جمع الخليفة عثمان - رضي الله عنه - لمعاوية بن أبي سفيان الشام والجزيرة وولاية ثغورهما في إدارة موحدة، وكلفه بغزو ثغر شمشاط بنفسه، أو أن يولي ذلك من يرتضيه من كبار قواده من أصحاب الخبرة والشجاعة الراغبين في الجهاد والحرب مع الروم (4). كما كتب أيضا لمعاوية بن أبي سفيان أن يلزم ثغر أنطاكية قوما، وأن يقطعهم القطائع به ففعل ذلك (5). وكان - رضي الله عنه - يهتم بأمر الثغور ويبعث من يستعلم له عن بعضها (6)، وعندما غزا معاوية بن أبي سفيان عمورية وجد الحصون التي فيها بين ثغر أنطاكية وثغر طرسوس خالية من مقاتلة
_________
(1) إتمام الوفاء، ص70.
(2) النظم الإسلامية، صبحي الصالح، ص489.
(3) تاريخ الطبري (5/ 244).
(4) الإدارة العسكرية في الدولة الإسلامية (2/ 466).
(5) فتوح البلدان، البلاذري (1/ 175).
(6) الخراج وصناعة الكتابة، لابن قدامة، ص413.(1/211)
الروم، فجعل به جماعة من جند الشام والجزيرة وقنسرين وأمرهم بالوقوف عندها لتحمي ظهره أثناء انسحابه وانصرافه من غزواته، ثم أغزى بعد ذلك بسنة أو سنتين يزيد بن الحر العبسي (1) الصائفة وأمره بفعل الشيء نفسه، وكانت ولاة الصوائف والشواتي إذا دخلوا بلاد الروم فعلوا ذلك؛ حيث يخلفون بها جندا كثيفا إلى خروجهم من أرض العدو (2)، وقد أبلى معاوية بن أبي سفيان في أثناء إدارته للسواحل الشامية وفي تحصينها بلاء حسنا (3).
وكتب عثمان - رضي الله عنه - لعبد الله بن سعد بن أبي السرح يأمره بالحفاظ على ثغر الإسكندرية بإلزام الجند المرابطة به وأن يجري عليهم أرزاقهم، وأن يعقب بين المرابطين من أجل أنه لا يضر بهم التجمير، فقال له: قد علمت كيف كان هم أمير المؤمنين عمر بن الخطاب بالإسكندرية، وقد نقضت الروم مرتين، فألزم الإسكندرية مرابطيها، ثم أجرِ عليهم أرزاقهم وأعقب بينهم في كل ستة أشهر (4). وكان من عادة قادة الخليفة عثمان بن عفان - رضي الله عنه - إذا تقدموا في الفتوح واستولوا على حصون العدو قاموا بترميمها كمن سبقهم من القادة، ثم إسكانها جند المسلمين من المرابطين، بالإضافة إلى استحداثهم لتحصينات دفاعية جديدة، فمن تلك الحصون التي قام بترميمها معاوية بن أبي سفيان: حصون الفرات وهي سميساط (5)، وملطية (6) , وسمشاط وكمخ (7) , وقاليقلا (8)، وهي حصون استولى عليها المسلمون عند فتحهم لأرمينية في عهد عثمان - رضي الله عنه -، وقاموا بترميمها وإسكانها الجند (9).
ففي قاليقلا قام القائد حبيب بن مسلمة الفهري بإسكان ألفي رجل وأقطعهم بها القطائع، وجعلهم مرابطين بها (10). وقد كلف الخليفة عثمان - رضي الله عنه - القائد
_________
(1) الإدارة العسكرية في الدولة الإسلامية (2/ 467).
(2) المصدر نفسه (2/ 467).
(3) المصدر نفسه (2/ 467).
(4) فتوح مصر، ص192.
(5) سميساط: مدينة على شاطئ الفرات في طرف بلاد الروم على غربي الفرات.
(6) ملطية: من بلاد الروم مشهورة مذكورة، تتاخم الشام، وهي للمسلمين.
(7) كمخ: مدينة بالروم بينها وبين أرزنجان يوم واحد، معجم البلدان (4/ 479).
(8) قالقيلا: بأرمينية العظمى من نواحي خلاط، ثم من نواحي منازجرد.
(9) من تاريخ التحصينات، محمد عبد الهادي، ص434.
(10) فتوح البلدان (1/ 234).(1/212)
حبيب بن مسلمة بأن يقيم بثغور الشام والجزيرة لإدارتها وحمايتها (1). وعندما فتح البراء بن عازب - رضي الله عنه - ثغر قزوين رتب فيهم خمسمائة رجل من جند المسلمين وعين عليهم قائدا وأقطعهم أرضا وضياعا لا حق فيها لأحد، فعمروا وأجروا أنهارها وحفروا آبارها (2). وحين فتح سعيد بن العاص طميسة (3) جعل بها مرابطة من ألفي رجل وعين عليهم قائدا (4). إلى غير ذلك من التحصينات التي أنشئت بالثغور في إدارة الخليفة عثمان بن عفان - رضي الله عنه -، والتي كانت تشحن بالجند لحماية حدود الدولة الإسلامية (5).
وعني الخليفة عثمان - رضي الله عنه - في إدارته بأمر الصوائف والشواتي؛ حيث عمل على تسييرها وتسهيل أمرها في كل عام، وكان يتولاها كبار قادته وولاته أمثال معاوية بن أبي سفيان - رضي الله عنه - الذي بنى جسرا بمنبج (6) لمرور الصوائف عليه فلم يكن قبل إذ، وقد فوض الخليفة عثمان - رضي الله عنه - إلى واليه معاوية في غزو الروم وتولى قيادة الصائفة من يختاره، فولي معاوية سفيان بن عوف الذي لم يزل على الصوائف في عهد عثمان - رضي الله عنه -، ولم تقتصر حملات الصوائف والشواتي على الحدود البرية بل شملت كذلك البحر في عهد عثمان - رضي الله عنه - (7).
5 - قسمة الغنائم بين أهل الشام والعراق:
استطاع حبيب بن مسلمة أن يهزم الروم في أرمينية قبل وصول مدد الوليد بن عقبة من الكوفة، وغنم أهل الشام غنائم كثيرة، وبعد وصول مدد أهل الكوفة اختلفوا في أمر الغنائم، مما جعل حبيبا يكتب بذلك إلى معاوية فكتب معاوية, إلى الخليفة عثمان - رضي الله عنه - يخبره بذلك، فحكم عثمان بن عفان - رضي الله عنه - على أهل الشام أن يقاسموا أهل العراق ما غنموا من تلك الغنائم، فلما ورد كتاب الخليفة عثمان بن عفان - رضي الله عنه - حبيب بن مسلمة قرأه على جند أهل الشام، فقالوا: السمع والطاعة لأمير المؤمنين، ثم قاسموا أهل العراق وغنموا (8).
_________
(1) فتوح البلدان (1/ 241).
(2) الإدارة العسكرية (2/ 469).
(3) طميسة: بلدة من سهول طبرستان.
(4) الإدارة العسكرية (2/ 469).
(5) المصدر نفسه، (2/ 470)
(6) منبج: بلد قديم.
(7) الإدارة العسكرية (2/ 470).
(8) الفتوح، ابن أعثم (1/ 341، 342).(1/213)
6 - الحرص على وحدة الكلمة في مواجهة العدو:
في عهد عثمان - رضي الله عنه - استخلف عبد الله بن عامر على خراسان قيس بن الهيثم السلمي، حيث خرج منها فجمع قارن جمعا كثيرا من ناحية الطبسين وأهل بادغيس وهراة وقستهان، فأقبل في أربعين ألفا، فاستشار قيس بن الهيثم عبد الله بن خازم قائلا له: ما ترى؟ قال: أرى أن تخلي البلاد فإني أميرها ومعي عهد من ابن عامر، إذا كانت حرب بخراسان فأنا أميرها، وأخرج كتابا قد افتعله عمدا، فكره قيس مشاغبته وخلاه والبلاد (1). أحب قيس بن الهيثم بفعله هذا أن يجمع الكلمة بدلا من تفريقها حتى لا يحدث الفشل والوهن للجنود، فتكون الهزيمة، وقد تم النصر للمسلمين على الأعداء بحمد الله (2).
7 - شرط ما يحتاج إليه الجنود في بنود الصلح:
في عهد عثمان - رضي الله عنه - زادت الفتوحات الإسلامية اتساعا مما جعل قادته يشترطون في بعض عهودهم للصلح بأن تكون من المواشي والطعام والشراب لإعداد ما يحتاج إليه الجيش؛ من زاد وتموين وميرة حتى تساعدهم في فتوحاتهم، فلا يتكلفون عناء حمل الميرة من القيادة المركزية ويستغنون عن طلبها؛ ليكونوا على الحرب أوفر وعلى منازلة العدو أقدر (3).
8 - جمع المعلومات عن الأعداء:
استمرت الفتوحات الإسلامية في عهد الخليفة عثمان بن عفان - رضي الله عنه - , وكان - رضي الله عنه - يهتم بالأخبار ويتقصاها بنفسه (4)، وسار قادته على منوال من سبقهم من القادة بالاعتناء بأمر العيون وتقصي أخبار العدو (5). كما أنهم جعلوها شرطا من شروط المعاهدات بينهم وبين المعاهدين حيث طلبوا منهم بأن ينصحوا وينذروا المسلمين
_________
(1) الإدارة العسكرية (1/ 189)، نقلا عن تاريخ الطبري.
(2) المصدر نفسه (1/ 189).
(3) تاريخ اليعقوبي (2/ 166، 167).
(4) الطبقات (3/ 59).
(5) الإدارة العسكرية (1/ 403).(1/214)
بسير عدوهم إليهم, ومعاونتهم بأن يكونوا عليهم جواسيس وإبلاغ المسلمين بتحركاتهم (1).
9 - عبد الرحمن بن ربيعة الباهلي من قادة الفتوح في عهد عثمان:
كان عبد الرحمن قائدا عَقَديًّا من الطراز الرفيع، وكان لتمسكه الشديد بعقيدته موضع ثقة رؤسائه ومرؤوسيه على حد سواء، بالإضافة إلى شجاعته وإقدامه وعلمه بأمور الدين، لذلك بقي قائدا لمنطقة (باب الأبواب) وواليا عليها منذ وفاة سراقة بن عمرو حتى استشهد، لم يعزل من منصبه على الرغم من تبدل الخلفاء وتغير الولاة والقادة في الكوفة مرجع عبد الرحمن المباشر، وكان عبد الرحمن يؤمن بوسائل حرب الفروسية الشريفة، فلا يخون ولا يغدر ولا يضرب من الخلف (2). وكان لسيرته الحسنة في منطقة (باب الأبواب) وجنوب بحر الخزر وغربه أثر أي أثر في استقرار الأمور واستتباب الأمن والنظام في تلك الربوع، فأصبحت تلك المناطق قاعدة أمامية لنشر الإسلام والفتح شمالا، فثبت الإسلام في تلك الأصقاع النائية في وجه مختلف المحن والتيارات منذ أربعة عشر قرنا حتى اليوم (3).
ومن مواقفه الخالدة التي سطرها على صفحات التاريخ عندما خرج بالناس حتى قطع (الباب) فقال له الملك شهريار: ماذا تريد أن تصنع؟ قال: أريد (بَلَنْجَر) والترك، قال: إنا لنرضى منهم أن يدعونا من دون (الباب). قال عبد الرحمن: لكنا لا نرضى منهم ذلك حتى نأتيهم في ديارهم، وتالله إن معنا لأقواما لو يأذن أميرنا في الإمعان لبلغت فيهم (الرَدْم) (4). قال الملك: وما هو؟ فأجابه عبد الرحمن: أقوام صحبوا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ودخلوا في هذا الأمر بنية، كانوا أصحاب حياء وتكرم في الجاهلية، فازداد حياؤهم وتكرمهم, فلا يزال هذا الأمر دائما لهم، ولا يزال النصر معهم حتى يغيرهم من يغلبهم، وحتى يلفتوا عن حالهم (5). وقد غزا عبد الرحمن (بلنجر) غزاة في زمن عمر بن الخطاب، فقال الترك: ما اجترأ علينا إلا ومعه
_________
(1) الإدارة العسكرية (1/ 403).
(2) قادة الفتح الإسلامي في أرمينية، ص155.
(3) المصدر نفسه، ص156.
(4) الردم: قيل سد الصين.
(5) الكامل لابن الأثير (3/ 29، 30)، تاريخ الطبري (5/ 146).(1/215)
الملائكة تمنعهم من الموت، فهرب منه الترك وتحصنوا فرجع بالغنيمة والظفر بعد أن بلغه خيله (البيضاء) على رأس مائتي فرسخ من (بلنجر)، وعادوا ولم يقتل منهم أحد (1). ومن الواضح أن معنويات المسلمين كانت عالية جدا لتتابع انتصاراتهم، ولتمسكهم بدينهم، كما أن معنويات الأمم التي حاربوها كانت منهارة؛ لأن المسلمين غلبوا الأمم التي قاتلوها، لذلك هرب الأتراك من المسلمين وتحصنوا، فلم يحدث قتال فعلي في هذه الغزوة، فلم يسقط من المسلمين شهيد (2).
لقد كان عبد الرحمن بن ربيعة الباهلي على جانب عظيم من التقوى والخلق الكريم، وكان تصرفه مع المغلوبين له الأثر في استتباب الأمن واستقرار النظام وانتشار الإسلام، فقد كان وفيًّا غاية الوفاء، أمينا غاية الأمانة؛ فقد أرسل ملك الباب رسولا إلى ملك (الصين) مع هدايا -وذلك قبل أن يفتح المسلمون بلاده- فعاد رسوله من رحلته بعد فتح المسلمين لتلك البلاد، وكان مع الرسول العائد هدايا من ملك الصين بينها ياقوتة حمراء ثمينة، وكان ملك (الباب) حين عودة رسوله في مجلس عبد الرحمن، فتناول الملك من رسوله تلك الياقوتة ثم ناولها عبد الرحمن، ولكن عبد الرحمن ردها فورا إلى الملك بعد أن نظر إليها، فهتف الملك متأثرا وقال: لهذه -يعني الياقوتة- خير من هذا البلد (أي باب الأبواب)، وأيم الله لأنتم أحب إليَّ حكاما من آل كسرى، فلو كنت في سلطانهم ثم بلغهم خبرها لانتزعوها مني، وأيم الله لا يقوم لكم شيء ما وفيتم ووفى ملككم الأكبر (3).
كان من حق ملك المدينة (الباب) وما حولها أن يعجب أشد العجب ويدهش أشد الدهشة بأمانة القائد المسلم ووفائه، فقد عاش هذا الملك عمره كله في دوامة عنيفة من الخيانة وفي جو مشحون بالغدر، فلما رأى أمانة المسلمين المثالية ووفائهم المطلق لم يتمالك نفسه أن نسى ملكه المضاع وملوكه الغابرين, فعبر عن شعوره بكلمات خارجة من أعماق قلبه إعجابا بما يرى ويسمع من أمانة ووفاء (4).
كان عبد الرحمن يعلم أن الاستيلاء على الياقوتة التي لا تقدر بثمن ليس من حقه شخصيا, ولا من حق بيت مال المسلمين، فكانت تلك الياقوتة والتراب عنده سيان، فقد كان عبد الرحمن كريما مضيافا شهما غيورا، ورعا تقيا، متفقها في الدين تقيا، لا يملك
_________
(1) تاريخ الطبري (54/ 146).
(2) قادة الفتح الإسلامي في أرمينية، ص150.
(3) تاريخ الطبري (5/ 148).
(4) قادة الفتح الإسلامي في أرمينية، ص154.(1/216)
شيئا من حطام الدنيا على الرغم من أنه قضى أكثر عمره غازيا وواليا، وقد استشهد في عام اثنتين وثلاثين للهجرة في منطقة (بلنجر) (1). ويعتبر عبد الرحمن بن ربيعة الباهلي من قادة الفتح في عهد عثمان - رضي الله عنه -، وقد كانت له صحبة وقد أسلم متأخرا.
10 - سلمان بن ربيعة الباهلي من قادة الفتوح في عهد عثمان:
كان هذا الصحابي أول من قضى بالكوفة، فقد بعثه عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قاضيا بالكوفة قبل شريح، فلما ولي سعد بن أبي وقاص الولاية الثانية في أيام عثمان بن عفان استقضى سلمان أيضا، وقد شهد القادسية فقضى بها، ثم قضى بـ (المدائن)، وليس كل إنسان يصلح للقضاء، خاصة في أيام عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - , أو يصلح لأهل الكوفة التي كانت حينذاك تعج برجالات العرب وكبار الصحابة من جهة، وبأخلاط شتى من أمم وأقوام وقبائل مختلفة من جهة أخرى، وهذا دليل على غزارة علم سلمان بالدين الحنيف واستقامته وعدله وتدينه، وتمتعه بعقلية راجحة متزنة، وشخصية قوية نافذة، مما جعله موضع ثقة الناس جميعا، كما أنه تولى المقاسم في فتح (المدائن) وفي غزوة (الباب) أيضا، مما يدل على تمتعه بالنزاهة المطلقة. كان رجلا صالحا يحج كل سنة، روى عنه بعض كبار التابعين، وكان مثالا نادرا للخلق القويم، كريما مضيافا شهما غيورا وفيا صادقا محبا للخير، يحب للناس ما يحبه لنفسه، ولم يترك حين استشهاده دينارا ولا دارا، بعد أن عاش كل حياته مجاهدا
وقاضيا وأميرا.
وقد كان متفوقا على زملائه في الصفات القيادية، فعندما بعث عثمان بن عفان - رضي الله عنه - كتابا إلى الوليد بن عقبة -عامله على الكوفة- يأمره به أن يرسل نجدة من أهل الكوفة إلى أهل الشام بقيادة رجل ممن ترضى نجدته وبأسه وشجاعته وإسلامه، لم يتردد الوليد لحظة في اختيار سلمان لهذا الواجب البالغ الخطورة، فاختاره من بين عدد كبير من القادة أصحاب الفتوح والأيام الذين كانوا معه أو كانوا في الكوفة؛ ذلك لأن سلمان كان حقا مثالا رائعا من أمثلة النجدة والبأس والشجاعة بالإضافة إلى ورعه وتقواه، لقد كان شجاعا مقداما سريعا إلى النجدة، خبيرا بفنون الحرب لممارسته الطويلة لها, وله تجارب طويلة في قيادة الرجال، وكان أبصر بالمضارب من الجازر بمفاصل الجزور (2)، مما يدل على أنه كان من الرماة الماهرين، وكان ماهرا في الفروسية خبيرا
_________
(1) المصدر نفسه، ص154.
(2) تهذيب ابن عساكر (6/ 210)، تاريخ الطبري (5/ 309).(1/217)
بالخيل، وكان يلي الخيل لعمر بن الخطاب - رضي الله عنه -، قد أعد في كل مصر من أمصار المسلمين خيلا كثيرة معدة للجهاد، وكان في الكوفة أربعة آلاف فرس، فإذا داهم العدو الثغور الإسلامية ركبها المسلمون المجاهدون وساروا مجدين لقتاله (1)، وكان سلمان يتولى الخيل بالكوفة (2).
وكان شجاعا في الفروسية، قال سلمان: (قتلت بسيفي هذا مائة مستلئم (3) كلهم يعبد غير الله، ما قتلت منهم رجلا منهم صبرا). إنه لا يقتل حتى عدوه الكافر بالله الذي يعبد غير الله، لا يقتله في ساحة القتال صبرا بل ينذره ثم يصاوله مصاولة الأنداد، ويقتله عندما يجد فرصة لقتله، فلا يكون هذا القتل غدرا، ولا يكون صبرا (4).
لقد كان مثالا للمجاهد الصادق المحتسب، الذي يجاهد لتكون كلمة الله هي العليا لا يبالي على أي جنب كان في الله مصرعه، وأخيرا سقط مضرجا بدمائه ولم يسقط السيف من يده، إنه قدوة حسنة لكل جندي ولكل قائد في ماضيه المشرف المجيد، وفي أعماله الفذة الخالدة (5). هذا وقد استشهد سنة اثنتين وثلاثين هجرية أو سنة ثلاث وثلاثين هجرية (6) , رضي الله عنه, الفقيه المحدث، القاضي العادل، الأمين النزيه، الإداري الحازم، الفارس المغوار، البطل الشهيد، القائد الفاتح سلمان بن ربيعة الباهلي (7).
11 - حبيب بن مسلمة الفهري من قادة الفتوح في عهد عثمان:
كان حبيب على صغر سنه يتنقل من ساحة عمليات إلى ساحة عمليات أخرى، فاتحا مرة، ومددا مرة أخرى، وكان النصر حليفه في كل معركة خاضها، قدم على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو بالمدينة غازيا، وكان يومئذ صغيرا، وشهد غزوة تبوك تحت لواء الرسول عليه أفضل الصلاة والسلام، وبهذه الغزوة بدأ جهاده وهو يناهز العشرين من عمره القصير (8)،
_________
(1) قادة الفتح الإسلامي في أرمينية، ص169.
(2) أسد الغابة في معرفة الصحابة، (2/ 327).
(3) المستلئم: الجندي الذي لبس عدته وأصبح جاهزا للقتال.
(4) الاستيعاب في معرفة الأصحاب (2/ 633).
(5) قادة الفتح الإسلامي في أرمينية، ص170.
(6) المصدر نفسه، ص171.
(7) المصدر نفسه، ص172.
(8) كان عمره يوم تولى منصب قيادة منطقة الجزيرة وإدارتها 28 سنة.(1/218)
وحين رآه عمر بن الخطاب صلب العود وقوي البدن، جربه تجربة عملية ليرى أي نوع من الرجال هو، فعرض عليه خزائن المال وخزائن السلاح، فاختار السلاح وعف عن المال، وتفضيل السلاح على المال من مزايا القائد الذي يتغلغل حب الجندية في أعماق نفسه. وقد تولى قيادة كردوس في معركة (اليرموك) الحاسمة وهو ابن أربع وعشرين سنة، مما يدل على ظهور سماته القيادية مبكرا وهو في ريعان الشباب، وولاه عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - عجم (الجزيرة) إداريا وقائدا، وليس من السهل أن يولي عمر كل إنسان مثل هذا المنصب الرفيع؛ لأن عمر كان يلتزم بصفات معينة في القائد قل أن تتوافر في الرجال، أخيرا ولاه عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - (أرمينية) و (أذربيجان) وهي مناطق شاسعة وقيادة مهمة للغاية، نظرا لشدة شكيمة أهلها ولبعدها عن قواعد المسلمين الرئيسية والمتقدمة (1).
ومارس القيادة والإدارة في عهد عثمان - رضي الله عنه -، ولقد كان شجاعا غاية الشجاعة، مقداما غاية الإقدام؛ لما توجه لقتال (الموريان) كان في ستة آلاف، وكان (الموريان) في سبعين ألفا، فقال حبيب لمن معه: إن يصبروا وتصبروا فأنتم أولى بالله منهم، وإن يصبروا وتجزعوا فإن الله مع الصابرين، ولقيهم ليلا، فقال: اللهم أجل لنا قمرها، واحبس عنا مطرها، واحقن دماء أصحابي، واكتبهم شهداء، ففتح الله له (2). فكان من أسباب انتصاره على عدوه -بالإضافة إلى عامل الإيمان- هو الهجوم الليلي الذي باغت به العدو، وجعل معنوياته تنهار ثم يولي الأدبار (3). وكان مثالا شخصيا حيا لرجاله من الشجاعة والإقدام، فقد كان يقود رجاله من الأمام، يقول لهم: اتبعوني، ولا يبقى في الخطوط الخليفة مؤثرا السلامة والعافية، وحين عزم أن يبيِّت (الموريان) سمعته امرأته يذكر ذلك، فقالت له: وأين الموعد؟ فقال: سرادق موريان أو الجنة. وبيَّت حبيب عدوه وقتل من صادفه في طريقه، فلما أتى السرادق وجد امرأته قد سبقته إليه (4). فلم يكن وحده بطلا يضرب لرجاله بأعماله البطولية أروع الأمثال، بل كانت امرأته بطلة يقتفى الأبطال آثارها في التضحية والفداء (5).
وكان يستشير رجاله ويتقبل مشورتهم، وكان لا يستأثر بالرأي دونهم، بل كان يتصنت ليتلقف آراء رجاله، ويطبق ما رآه حسنا، وينفذ ما يجده صوابا، بالإضافة إلى عقد مؤتمرات الشورى قبل المعارك وفي أثنائها وبعدها؛ فقد سمع يوما أحد رجاله يقول: لو كنت ممن يسمع
_________
(1) تولى (أرمينية) و (أذربيجان) وعمره ثلاث وثلاثون سنة.
(2) تهذيب ابن عساكر (4/ 37).
(3) قادة الفتح الإسلامي في أرمينية، ص189.
(4) قادة الفتح الإسلامي في أرمينية، ص189.
(5) قادة الفتح الإسلامي في أرمينية، ص189.(1/219)
حبيب مشورته، لأشرت عليه بأمر يجعل الله فيه لنا نصرا وفرجا إن شاء الله، واستمع حبيب لقوله، فقال أصحابه: وما مشورتك؟ فقال: أشير عليه أن ينادي بالخيول فيقدمها، ثم يرتحل بعسكره فيتبع خيله، وتوافيه الخيل في جوف الليل، وينشب القتال، ويأتيهم حبيب بسواد عسكره مع الفجر، فيظنون أن المدد قد جاءهم فيرعبهم الله، فيهزمهم بالرعب (1). ونادى حبيب بالخيول، فوجهها بليلة مقمرة مطيرة، ثم ارتحل وراء خيوله، ولكنه عاد إلى عدوه في السحر، فحمل وحمل أصحابه فانهزم العدو وأصابوا غنائم كثيرة (2).
كان حبيب صاحب كيد، يفكر ويقدر، ثم يستشير رجاله ويستطلع ساحة القتال، ويحصل على المعلومات المستفيضة عن العدو، ثم يبني بعد ذلك خطته العسكرية على هدى وبصيرة.
إن أعمال حبيب الجهادية خطط مدبرة ولم تكن خططا ارتجالية، لذلك رافق النصر أعلامه في أخطر ساحات القتال في الفتح، وبالإضافة إلى تلك المزايا أو قبلها كان حبيب مؤمنا حقا صادق الإيمان، وكان إذا لقى عدوا أو ناهض حصنا يحب أن يقول: لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم (3).
لقد كان حبيب قائدا فذًّا، جمع مزايا القائد الفذ: الطبع الموهوب، والعلم المكتسب، والتجربة العلمية (4)، والثقة بالله القوي العزيز.
إن حبيب بن مسلمة أسدى للفتح الإسلامي خدمات لا تنسى، فهو بدون شك من ألمع قادة الفتوح في عهد عثمان - رضي الله عنه -، وقد توفى هذا القائد الفذ سنة اثنتين وأربعين هجرية, فكان عمره يوم توفى أربعًا وخمسين سنة قمرية، وكانت حياته قليلة في تعداد السنوات، كثيرة في تعداد جلائل الأعمال، قصيرة في عمر الزمن، باقية آثارها على مر الدهور وتوالي السنين والقرون. رضي الله عن الصحابي الجليل، الإداري الحازم، السياسي المحنك، القائد الفاتح، حبيب بن مسلمة الفهري (5).
* * *
_________
(1) تهذيب ابن عساكر (4/ 37)
(2) قادة الفتح الإسلامي في أرمينية، ص190.
(3) تهذيب ابن عساكر (4/ 3).
(4) قادة الفتح الإسلامي في أرمينية، ص192.
(5) المصدر نفسه، ص187.(1/220)
المبحث الرابع
أعظم مفاخر عثمان جمع الأمة على مصحف واحد
أولاً: المراحل التي مرت بها كتابة القرآن الكريم:
1 - المرحلة الأولى في العهد النبوي:
حيث ثبت بالدليل القاطع، أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يأمر بكتابة القرآن الذي ينزل عليه، وثبت أنه كان له كاتب أو كتاب يكتبون الوحي، حتى شُهر زيد بن ثابت بلقب (كاتب
النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لاختصاصه بكتابة الوحي)، وبوَّب البخاري في كتاب (فضائل القرآن) (باب كتَّاب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -)، وذكر فيه حديثين:
الأول: أنا أبا بكر - رضي الله عنه - قال لزيد: (إنك كنت تكتب الوحي لرسول الله ... ) (1)
والثاني: عن البراء قال: لما نزلت {لاَ يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ... } قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ادع لي زيدا وليجئ باللوح والدواة والكتف، أو الكتف والدواة» (2). وكان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يكتب القرآن في مكة أيضا قبل الهجرة، وممن كتب له عبد الله بن سعد بن أبي السرح ثم ارتد، ثم أسلم عام الفتح، وله في ذلك قصة مشهورة قد ذكرتها. والمعروف أن الخلفاء الراشدين الأربعة كانوا كتبة، فلعلهم كانوا يكتبون القرآن في مكة، ومما يدل على أن القرآن كان مكتوبا في مكة قصة إسلام عمر بن الخطاب ودخوله على أخته، وبيدها صحيفة فيها سورة طه، وقد أعلم الله تعالى في القرآن بأنه -أي القرآن- مجموع في الصحف في قوله تعالى: {رَسُولٌ مِّنَ اللهِ يَتْلُو صُحُفًا مُّطَهَّرَةً} [البينة: 2]. وقد توفى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والقرآن كله مكتوب لكنه غير مجموع في موضع واحد، وكان مكتوبا على العسب واللخاف, ومحفوظا في صدور الرجال، ومع حفظه في الصحف وفي الصدور كان جبريل يعرض القرآن على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كل عام مرة، وعرض عليه مرتين في العام الذي قبض (3). ويحتمل أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يجمع القرآن في
_________
(1) البخاري، كتاب فضائل القرآن، رقم (4986).
(2) البخاري، كتاب تفسير القرآن، رقم (4593).
(3) البخاري، كتاب فضائل القرآن، رقم (4998).(1/221)
مصحف لما كان يترقبه من ورود ناسخ لبعض أحكامه أو تلاوته، فلما انقضى نزوله بوفاته - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ألهم الله الخلفاء الراشدين ذلك، وفاء لوعده الصادق بضمان حفظه على هذه الأمة المحمدية (1).
2 - المرحلة الثانية في عهد أبي بكر - رضي الله عنه -:
كان من ضمن شهداء المسلمين في حرب اليمامة كثير من حفظة القرآن، وقد نتج عن ذلك أن قام أبو بكر - رضي الله عنه - بمشورة عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - بجمع القرآن؛ حيث جمع من الرقاع والعظام والعسب ومن صدور الرجال (2)، وأسند الصديق هذا العمل العظيم إلى الصحابي الجليل زيد بن ثابت الأنصاري - رضي الله عنه -، يروى زيد بن ثابت - رضي الله عنه - فيقول: بعث إليَّ أبو بكر - رضي الله عنه - لمقتل أهل اليمامة (3)، فإذا عمر بن الخطاب عنده، قال أبو بكر - رضي الله عنه -: إن عمر أتاني فقال: إن القتل قد استحر (4) يوم اليمامة بقراء القرآن، وإني أخشى أن يستحر القتل بالقراء في المواطن (5) كلها فيذهب كثير من القرآن، وإني أرى أن تأمر بجمع القرآن، قلت لعمر: كيف أفعل شيئا لم يفعله رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (6)؟ فقال عمر: هذا والله خير، فلم يزل عمر يراجعني حتى شرح الله صدري للذي شرح له صدر عمر، ورأيت في ذلك الذي رأى عمر، قال زيد: قال أبو بكر: وإنك رجل شاب عاقل، ولا نتهمك (7)، وقد كنت تكتب الوحي لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فتتبع القرآن فاجمعه (8). قال زيد: فوالله لو كلفوني نقل جبل من الجبال ما كان بأثقل علي مما كلفني به من جمع القرآن، فتتبعت القرآن من العسب (9) واللخاف (10)
وصدور الرجال والرقاع والأكتاف (11). قال: حتى
_________
(1) المدينة النبوية فجر الإسلام والعصر الراشدي، ص240، نقلا عن فتح الباري (9/ 12).
(2) حروب الردة وبناء الدولة الإسلامية، أحمد سعيد، ص145.
(3) يعني وقعة يوم اليمامة ضد مسيلمة الكذاب وأعوانه.
(4) استحر: كثر واشتد.
(5) أي في الأماكن التي يقع فيها القتال مع الكفار.
(6) يحتمل أن يكون إنما لم يجمع القرآن في المصحف.
(7) هذه الصفات التي جعلت زيدا يتقدم على غيره في هذا العمل.
(8) أي: من الأشياء التي عندي وعند غيرك.
(9) العسب: هو جريد النخيل.
(10) اللخاف: جمع لخفة: وهي صفائح الحجارة.
(11) الرقاع: جمع رقعة وهي قطع الجلود. الأكتاف: جمع كتف، وهو العظم الذي للبعير أو الشاة.(1/222)
وجدت آخر سورة التوبة مع أبي خزيمة الأنصاري لم أجدها مع أحد غيره {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنَفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتِّمْ
حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ} [التوبة: 128] حتى خاتمة براءة، وكانت الصحف عند أبي بكر في حياته حتى توفاه الله، ثم عمر في حياته حتى توفاه الله، ثم عند حفصة بنت عمر رضي الله عنهم (1).
* ونستخلص من المرحلة الثانية في جمع القرآن بعض النتائج:
أ- أن جمع القرآن الكريم جاء نتيجة الخوف على ضياعه نظرا لموت العديد من القراء في حروب الردة، وهذا يدل على أن القراء والعلماء كانوا وقتئذ أسرع الناس إلى العمل والجهاد لرفع شأن الإسلام والمسلمين بأفكارهم وسلوكهم وسيوفهم، فكانوا خير أمة أخرجت للناس ينبغي الاقتداء بهم لكل من جاء بعدهم.
ب- أن جمع القرآن تم بناء على المصلحة المرسلة، ولا أدل على ذلك من قول عمر لأبي بكر حين سأله كيف نفعل شيئا لم يفعله رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إنه خير. وفي بعض الروايات أنه قال له: إنه والله خير ومصلحة للمسلمين. وهو نفس ما أجاب به أبو بكر زيد بن ثابت حين سأل نفس السؤال، وسواء صحت الرواية التي جاء فيها لفظ المصلحة أو لم تصح فإن التعبير بكلمة خير يفيد نفس المعنى، وهو مصلحة المسلمين في جمع القرآن مبني على المصلحة المرسلة أول الأمر، ثم انعقد الإجماع على ذلك بعد أن وافق الجميع بالإقرار الصريح أو الضمني، وهذا يدل على أن المصلحة المرسلة يصح أن تكون سندا للإجماع بالنسبة لمن يقول بحجيتها كما هو مقرر في كتب أصول الفقه.
ج- وقد اتضح لنا من هذه الواقعة كذلك كيف كان الصحابة يجتهدون في جو من الهدوء يسوده الود والاحترام، هدفهم الوصول إلى ما يحقق الصالح العام لجماعة المسلمين، وأنهم كانوا ينقادون إلى الرأي الصحيح وتنشرح قلوبهم له بعد الإقناع والاقتناع، فإذا اقتنعوا بالرأي دافعوا عنه كما لو كان رأيهم منذ البداية، وبهذه الروح أمكن انعقاد إجماعهم حول العديد من الأحكام الاجتهادية (2).
* ما المقومات الأساسية لزيد بن ثابت للقيام بهذه المهمة؟
اختار أبو بكر - رضي الله عنه - زيد بن ثابت لهذه المهمة العظيمة، وذلك لأنه رأى فيه
_________
(1) البخاري، رقم (4986).
(2) الاجتهاد في الفقه الإسلامي، عبد السلام السليماني، ص127.(1/223)
المقومات الأساسية للقيام بها، وهي:
أ- كونه شابا؛ حيث كان عمره 21 سنة، فيكون أنشط لما يطلب منه.
ب- كونه أكثر تأهيلا، فيكون أوعى له؛ إذ من وهبه الله عقلا راجحا فقد يسر له سبيل الخير.
ج- كونه ثقة، فليس هو موضعا للتهمة، فيكون عمله مقبولا، وتركن إليه النفس ويطمئن إليه القلب.
د- كونه كاتبا للوحي، فهو بذلك ذو خبرة سابقة في هذا الأمر، وممارسته عملية له، فليس غريبا عن هذا العمل ولا دخيلا عليه (1).
هـ- ويضاف لذلك أنه أحد الأربعة الذين جمعوا القرآن على عهد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فعن قتادة قال: سألت أنس بن مالك - رضي الله عنه -: من جمع القرآن على عهد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ قال: أربعة كلهم من الأنصار: أبي بن كعب، ومعاذ بن جبل، وزيد بن ثابت، وأبو زيد (2). وأما الطريقة التي اتبعها زيد في جمع القرآن فكان لا يثبت شيئا من القرآن إلا إذا كان مكتوبا بين يدي النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ومحفوظا من الصحابة، فكان لا يكتفي بالحفظ دون الكتابة، خشية أن يكون في الحفظ خطأ أو وَهْم، وأيضا لم يقبل من أحد شيئا جاء به إلا إذا أتى معه شاهدان يشهدان أن ذلك المكتوب كتب بين يدي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأنه من الوجوه التي نزل بها القرآن (3). وعلى هذا المنهج استمر زيد - رضي الله عنه - في جمع القرآن حذرا متثبتا مبالغا في الدقة والتحري (4).
* الفرق بين المكتوب في العهد النبوي وعهد الصديق:
الفرق بين المكتوب في العهد النبوي وما كتب في عهد أبي بكر: أن القرآن كان مكتوبا في العهد النبوي، مفرقا في الصحف والألواح والعُسب والكرانيف والقصب وأدوات أخرى، ولم تكن مجموعة سوره في خيط واحد، وأما الذي تم في أيام أبي بكر فهو كتابة القرآن في صحف كل سورة أو سور في صحيفة مرتبة آياته على ما حفظوه عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فكانت مهمة زيد بن ثابت أن يكتب ما كان مكتوبا في
_________
(1) التفوق والنجابة على نهج الصحابة، حمد العجمي، ص73.
(2) سير أعلام النبلاء، الإمام الذهبي، (2/ 431)
(3) التفوق والنجابة على نهج الصحابة، ص74.
(4) الانشراح ورفع الضيق بسيرة أبي بكر الصديق، للصلابي، ص206.(1/224)
العهد النبوي في صحف، كل سورة في صحيفة مرتبة فيها الآيات ترتيبا توقيفيا (1).
3 - المرحلة الثالثة في جمع القرآن في عهد عثمان بن عفان - رضي الله عنه -:
* الباعث على جمع القرآن في عهد عثمان:
عن أنس بن مالك: أن حذيفة بن اليمان قدم على عثمان وكان يغازي أهل الشام في فتح أرمينية وأذربيجان مع أهل العراق، فأفزع حذيفة اختلافهم في القراءة، فقال حذيفة لعثمان: يا أمير المؤمنين، أدرك هذه الأمة قبل أن يختلفوا في الكتاب اختلاف اليهود والنصارى، فأرسل عثمان إلى حفصة أن أرسلي إلينا بالصحف ننسخها في المصاحف ثم نردها إليك، فأرسلت بها حفصة إلى عثمان، فأمر زيد بن ثابت، وعبد الله بن الزبير, وسعيد بن العاص، وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام فنسخوها في المصاحف، وقال عثمان للرهط القرشيين الثلاثة: إذا اختلفتم أنتم وزيد بن ثابت في شيء من القرآن فاكتبوه بلسان قريش، فإنما نزل بلسانهم، ففعلوا حتى إذا نسخوا الصحف في المصاحف، رد عثمان الصحف إلى حفصة، فأرسل إلى كل أفق بمصحف مما نسخوا، وأمر بما سواه من القرآن في كل صحيفة أو مصحف أن يحرق (2).
ويؤخذ من هذا الحديث الصحيح أمور، منها:
أ- أن السبب الحامل لعثمان - رضي الله عنه - على جمع القرآن مع أنه كان مجموعا مرتبا في صحف أبي بكر الصديق إنما هو اختلاف قراء المسلمين في القراءة اختلافا أوشك أن يؤدي بهم إلى أخطر فتنة في كتاب الله تعالى، وهو أصل الشريعة ودعامة الدين، وأساس بناء الأمة الاجتماعي والسياسي والخلقي، حتى إن بعضهم كان يقول لبعض: إن قراءتي خير من قراءتك، فأفزع ذلك حذيفة، ففزع فيه إلى خليفة المسلمين وإمامهم, وطلب إليه أن يدرك الأمة قبل أن تختلف فيستشري بينهم الاختلاف ويتفاقم أمره ويعظم خطبه، فيمس نص القرآن وتحرف عن مواضعها كلماته وآياته، كالذي وقع بين اليهود والنصارى من اختلاف كل أمة على نفسها في كتابها.
ب- أن هذا الحديث الصحيح قاطع بأن القرآن الكريم كان مجموعا في صحف
_________
(1) المدينة النبوية فجر الإسلام والعصر الراشدي (2/ 241).
(2) البخاري، كتاب فضائل القرآن، رقم (4987).(1/225)
ومضموما في خيط، وقد اتفقت كلمة الأمة اتفاقا تاما على أن ما في تلك الصحف هو القرآن كما تلقته عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في آخر عرضة على أمين الوحي جبريل عليه السلام، وأن تلك الصحف ظلت في رعاية الخليفة الأول أبي بكر الصديق، ثم انتقلت بعده إلى رعاية الخليفة الثاني عمر بن الخطاب، ثم لما عرف عمر حضور أجله ولم يولِّ عهده أحدًا معينا في خلافة المسلمين، وإنما جعل الأمر شورى في الرهط المصطفين بالرضا من رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أوصى بحفظ الصحف عند ابنته حفصة أم المؤمنين رضي الله عنها، وأن عثمان اعتمد في جمعه على تلك الصحف، وعنها نقل مصحفه (الرسمي)، وأنه أمر أربعة من أشهر قراء الصحابة إتقانا لحفظ القرآن ووعيا لحروفه وأداء لقراءته وفهما لإعرابه ولغته: ثلاثة قرشيين وواحدا أنصاريا، وهو زيد بن ثابت صاحب الجمع الأول في عهد الصديق بإشارة الفاروق، وفي بعض الروايات أن الذين أمرهم عثمان أن يكتبوا من الصحف اثنا عشر رجلا، فيهم أبي بن كعب، وآخرون من قريش والأنصار (1).
ج- ونأخذ من هذا أن الفتوحات في عهد عثمان كانت بإذن وأمر من الخليفة، وأن القرار العسكري يصدر من المدينة، وأن الولايات الإسلامية كلها كانت خاضعة لأمر الخليفة عثمان في عهده؛ بل يدل على أن هناك إجماعا من الصحابة والتابعين في جميع الأقاليم على خلافة عثمان. وقدوم حذيفة بن اليمان إلى المدينة، لرفع اختلاف الناس في قراءة القرآن، يدل على أن القضايا الشرعية الكبرى كان يستشار فيها الخليفة في المدينة، وأن المدينة ما زالت دار السنة ومجمع فقهاء الصحابة (2).
ثانيًا: استشارة جمهور الصحابة في جمع عثمان:
جمع عثمان - رضي الله عنه - المهاجرين والأنصار وشاورهم في الأمر، وفيهم أعيان الأمة وأعلام الأئمة وعلماء الصحابة، وفي طليعتهم علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -، وعرض عثمان - رضي الله عنه - هذه المعضلة على صفوة الأمة وقادتها الهادين المهديين، ودارسهم أمرها ودارسوه، وناقشهم فيها وناقشوه، حتى عرف رأيهم وعرفوا رأيه، فأجابوه إلى رأيه في صراحة لا تجعل للريب إلى قلوب المؤمنين سبيلا، وظهر للناس في
_________
(1) عثمان بن عفان، صادق عرجون، ص171.
(2) المدينة النبوية فجر الإسلام والعصر الراشدي (2/ 244).(1/226)
أرجاء الأرض ما انعقد عليه إجماعهم، فلم يعرف قط يومئذ لهم مخالف ولا عرف عند أحد نكير، وليس شأن القرآن الذي يخفى على آحاد الأمة فضلا عن علمائها وأئمتها البارزين (1).
إن عثمان - رضي الله عنه - لم يبتدع في جمعه المصحف، بل سبقه إلى ذلك أبو بكر الصديق - رضي الله عنه -، كما أنه لم يصنع ذلك من قِبَل نفسه، إنما فعله عن مشورة للصحابة -رضي الله عنهم- وأعجبهم هذا الفعل وقالوا: نعم ما رأيت، وقالوا أيضا: قد أحسن (أي في فعله في المصاحف) (2).
وقد أدرك مصعب بن سعد صحابة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حين مشق (3) عثمان - رضي الله عنه - المصاحف فرآهم قد أعجبوا بهذا الفعل منه (4)، وكان علي - رضي الله عنه - ينهى من يعيب على عثمان - رضي الله عنه - بذلك ويقول: يا أيها الناس، لا تغلوا في عثمان، ولا تقولوا له إلا خيرا أو قولوا خيرا, فوالله ما فعل الذي فعل -أي في المصاحف- إلا عن ملإٍ منا جميعا -أي الصحابة-, والله لو وليت لفعلت مثل الذي فعل (5).
وبعد اتفاق هذا الجمع الفاضل من خيرة الخلق على هذا الأمر المبارك، يتبين لكل متجرد عن الهوى أن الواجب على المسلم الرضا بهذا الصنيع الذي صنعه عثمان - رضي الله عنه - وحفظ به القرآن الكريم (6).
قال القرطبي في التفسير: وكان هذا من عثمان - رضي الله عنه - بعد أن جمع المهاجرين والأنصار وجلة أهل الإسلام وشاورهم في ذلك، فاتفقوا على جمعه بما صح وثبت من القراءة المشهورة عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - واطراح ما سواها، واستصوبوا رأيه، وكان رأيا سديدا موفقا (7)
_________
(1) عثمان بن عفان، صادق عرجون، ص175.
(2) فتنة مقتل عثمان بن عفان (1/ 78).
(3) مشق هو: الحرق، (لسان العرب 10/ 344).
(4) التاريخ الصغير للبخاري (1/ 94)، إسناده حسن لغيره.
(5) فتح الباري (9/ 18)، إسناده صحيح.
(6) فتنة مقتل عثمان بن عفان (1/ 78).
(7) الجامع لأحكام القرآن (1/ 88).(1/227)
ثالثًا: الفرق بين جمع الصديق وجمع عثمان رضي الله عنهما:
قال ابن التين: الفرق بين جمع أبي بكر وجمع عثمان أن جمع أبي بكر كان لخشيته أن يذهب شيء من القرآن بذهاب حملته؛ لأنه لم يكن مجموعا في موضع واحد، فجمعه في صحائف مرتبًا لآيات سوره على ما وقفهم عليه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وجمع عثمان كان لما كثر الاختلاف في وجوه القراءة حتى قرأوه بلغاتهم على اتساع اللغات، فأدى ذلك إلى تخطئة بعضهم البعض، فخشى من تفاقم الأمر في ذلك فنسخ تلك الصحف في مصحف واحد مرتبًا لسوره، واقتصر في سائر اللغات على لغة قريش محتجا بأنه نزل بلغتهم، وإن كان قد وسع في قراءاته بلغة غيرهم، دفعًا للحرج والمشقة في ابتداء الأمر، فرأى أن الحاجة قد انتهت، فاقتصر على لغة واحدة.
وقال القاضي أبو بكر الباقلاني: لم يقصد أبو بكر في جمع نفس القرآن بين لوحين، إنما قصد جمعهم على القراءات الثابتة المعروفة عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وإلغاء ما ليس كذلك، وأخذهم بمصحف لا تقديم فيه ولا تأخير، ولا تأويل أثبت مع تنزيل، ولا منسوخ تلاوته كتب مع مثبت رسمه ومفروض قراءته وحفظه، خشية دخول الفساد والشبهة على من يأتي بعد.
وقال الحارث المحاسبي: المشهور عند الناس أن جامع القرآن عثمان، وليس كذلك؛ إنما حمل عثمان الناس على القراءة بوجه واحد على اختيار وقع بينه وبين من شهده من المهاجرين والأنصار لما خشي الفتنة عند اختلاف أهل العراق والشام في حروف القراءات، فأما قبل ذلك فقد كانت المصاحف بوجوه القراءات المطلقات على الحروف السبعة التي أنزل بها القرآن، فأما السابق إلى جمع الجملة فهو الصديق، وقد قال علي - رضي الله عنه -: لو وليت لعملت بالمصاحف التي عمل بها عثمان (1).
وقال القرطبي: فإن قيل: فما وجه جمع عثمان الناس على مصحفه وقد سبقه أبو بكر إلى ذلك وفرغ منه؟ قيل له: إن عثمان - رضي الله عنه - لم يقصد بما صنع جمع الناس على تأليف المصحف، ألا ترى كيف أرسل إلى حفصة: أن أرسلي إلينا بالصحف ننسخها في المصاحف ثم نردها إليك؟ وإنما فعل ذلك عثمان لأن الناس اختلفوا في القراءة لتفرق الصحابة في البلدان، واشتد الأمر في ذلك وعظم اختلافهم وتشبثهم، ووقع بين أهل الشام والعراق ما ذكره حذيفة - رضي الله عنه - (2).
_________
(1) عثمان بن عفان، صادق عرجون، ص178.
(2) الجامع لأحكام القرآن (1/ 87).(1/228)
رابعًا: هل المصاحف العثمانية مشتملة على جميع الأحرف السبعة:
ذهب الشيخ المحقق صادق عرجون -رحمه الله- إلى أن صحف الصديق التي كانت أصلا للمصحف الإمام بإجماع المسلمين لم تكن جامعة للأحرف السبعة التي وردت صحاح الحديث بإنزال القرآن عليها، بل كانت على حرف منها، هو الذي وقعت به العرضة الأخيرة واستقر عليها الأمر في آخر حياة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وإنما كانت الأحرف السبعة أولا من باب التيسير على الأمة، ثم ارتفع حكمها لما استفاض القرآن وتمازج الناس وتوحدت لغاتهم. قال الإمام الطحاوي: إنما كانت السعة للناس في الحروف لعجزهم عن أخذ القرآن على غير لغاتهم؛ لأنهم كانوا أميين لا يكتب إلا القليل منهم، فلما كان يشق على كل ذي لغة أن يتحول إلى غيرها من اللغات، ولو رام ذلك لم يتهيأ له إلا بمشقة عظيمة، وسع لهم في اختلاف الألفاظ إذا كان المعنى متفقا، فكانوا كذلك حتى كثرت منهم من يكتب, وعادت لغاتهم إلى لسان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقدروا بذلك على تحفظ ألفاظه, فلم يسعهم حينئذ أن يقرءوا بخلافها. قال ابن عبد البر: فبان بهذا أن تلك السبعة الأحرف إنما كانت في وقت خاص لضرورة دعت إلى ذلك، ثم ارتفعت تلك الضرورة، فارتفع حكم هذه السبعة الأحرف وعاد ما يقرأ به القرآن على حرف واحد (1).
وقال الطبري: إن القراءة على الأحرف السبعة لم تكن واجبة على الأمة، وإنما كان جائزا لهم ومرخصا لهم فيه، فلما رأى الصحابة أن الأمة تفترق وتختلف إذا لم يجتمعوا على حرف واحد أجمعوا على ذلك إجماعا شائعا، وهم معصومون من الضلالة (2). وهذا الحرف الذي كتبت به صحف الإجماع القاطع ونقل عنها المصحف الإمام جامع لقراءات القراء السبعة وغيرها، مما يقرأ به الناس ونقل متواترا عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ لأن الأحرف الواردة في الحديث غير هذه القراءات (3). قال القرطبي: قال كثير من علمائنا كالداودي وابن أبي صفرة وغيرهما: هذه القراءات السبع التي تنسب لهؤلاء القراء السبعة ليست هي الأحرف السبعة التي اتسعت الصحابة في القراءة بها، وإنما هي راجعة إلى حرف واحد من تلك السبعة، وهو الذي جمع عليه المصحف (4)، وأقرب الآراء إلى الفهم عند ظننا في معنى الأحرف إنما هو الرأي القائل بأنها هي أفصح
_________
(1) عثمان بن عفان، صادق عرجون، ص180.
(2) عثمان بن عفان، صادق عرجون، ص180.
(3) عثمان بن عفان، صادق عرجون، ص180.
(4) الجامع لأحكام القرآن (1/ 79).(1/229)
لغات العرب وأشهرها، وهي مبثوثة في القرآن كله، وإليه ذهب القاسم بن سلام وابن عطية في جماعة من الأجلاء، وإليه يرجع نحو سبعة أقوال مما ذكره السيوطي في الإتقان في معنى الأحرف (1).
خامسًا: عدد المصاحف التي أرسلها عثمان - رضي الله عنه - إلى الأمصار:
لما فرغ عثمان - رضي الله عنه - من جمع المصاحف أرسل إلى كل أفق بمصحف، وأمرهم أن يحرقوا كل مصحف يخالف المصحف الذي أرسله إلى الآفاق، وقد اختلفوا في عدد المصاحف التي فرقها في الأمصار، فقيل: إنها أربعة وهو الذي اتفق عليه أكثر العلماء، وقيل: إنها خمسة، وقيل: إنها ستة، وقيل: إنها سبعة، وقيل: إنها ثمانية. أما كونها أربعة فقيل: إنه أبقى مصحفا بالمدينة، وأرسل مصحفا إلى الشام، ومصحفا إلى الكوفة، ومصحفا إلى البصرة. وأما كونها خمسة؛ فالأربعة المتقدم ذكرها، والخامس أرسله إلى مكة. وأما كونها ستة فالخمسة والمتقدم ذكرها، والسادس اختلف فيه، فقيل جعله خاصا لنفسه، وقيل: أرسله إلى البحرين. وأما كونها سبعة، فالستة المتقدم ذكرها، والسابع أرسله إلى اليمن. وأما كونها ثمانية، فالسبعة المتقدم ذكرها، والثامن كان لعثمان يقرأ فيه، وهو الذي قتل وهو بين يديه (2). وبعث - رضي الله عنه - مع كل مصحف من يرشد الناس إلى قراءته بما يحتمله رسمه من القراءات مما صح وتواتر، فكان عبد الله بن السائب مع المصحف المكي، والمغيرة بن شهاب مع المصحف الشامي، وأبو عبد الرحمن السلمي مع المصحف الكوفي، وعامر بن قيس مع المصحف البصري، وأمر زيد بن ثابت أن يقرئ الناس بالمدني (3).
سادسًا: موقف عبد الله بن مسعود من مصحف عثمان:
لم يثبت أن ابن مسعود - رضي الله عنه - خالف عثمان في ذلك، وكل ما روي في ذلك ضعيف الإسناد، كما أن هذه الروايات الضعيفة التي تتضمن ذلك تثبت أن ابن مسعود رجع إلى ما اتفق عليه الصحابة في جمع القرآن، وأنه قام في الناس وأعلن ذلك، وأمرهم بالرجوع إلى جماعة المسلمين في ذلك (4). وقال: إن الله لا ينتزع العلم انتزاعا،
_________
(1) الإتقان للسيوطي (1/ 144 - 148).
(2) أضواء البيان في تاريخ القرآن، ص77.
(3) المصدر نفسه، ص78.
(4) فتنة مقتل عثمان بن عفان (1/ 78).(1/230)
ولكن ينتزعه بذهاب العلماء، وإن الله لا يجمع أمة محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على ضلالة، فجامعوهم على ما اجتمعوا عليه، فإن الحق فيما اجتمعوا عليه، وكتب بذلك إلى عثمان (1). وقد ورد عن ابن كثير رجوع ابن مسعود إلى الوفاق (2)، وأكد الذهبي ذلك فقال: وقد ورد أن ابن مسعود رضي وتابع عثمان ولله الحمد (3). ولا يلتفت إلى ما كتبه طه حسين في قضية المصحف وعلاقة عثمان مع ابن مسعود وما ساقه بأسلوب مسموم، فيه أفكار أخذها من أساتذته المستشرقين (4). الذين اعتمدوا على روايات ضعيفة ورافضية في تشويه علاقة الصحابة ببعضهم رضي الله عنهم جميعا.
إن ابن مسعود - رضي الله عنه - الذي ترك صلاة القصر في منى خشية من الخلاف والفتنة ومتابعة للخليفة، هل يتوقع منه أن يصعد المنبر ويحرض الناس على الخلاف، وهو القائل: إن الخلاف شر (6).
إن مؤرخي الروافض زوَّروا روايات ونسبوها لابن مسعود وموقفه من عثمان رضي الله عنهم، وأظهروا في تلك الأكاذيب الصحابة قوما متنازعين متباغضين، متعنتين متفاحشين في القول، وهي روايات ساقطة لا تثبت أمام النقد الهادئ الموضوعي، ويرفضها الذوق المؤمن والعقل الفطن، وقد زعمت الرافضة كذبا وزورا بأن ابن مسعود كان يطعن على عثمان ويكفره، ولما حكم عثمان ضربه حتى مات، وهذا كذب بيِّن على ابن مسعود، فإن علماء النقل يعلمون أن ابن مسعود ما كان يكفر عثمان بل لما بويع عثمان بالخلافة سار عبد الله بن مسعود من المدينة إلى الكوفة، ولما وصل إليها حمد الله وأثنى عليه ثم قال: أما بعد، فإن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب مات فلم نر يوما أكثر نشيجا من يومئذ، وإنا اجتمعنا أصحاب محمد فلم نأل عن خيرنا ذي فُوق، فبايعنا أمير المؤمنين عثمان فبايعوه (7). وهذه الكلمات الواضحة أكبر دليل على تلك المكانة الرفيعة لعثمان بن عفان في قلب ابن مسعود وعند جميع الصحابة، أولئك الذين
_________
(1) المصدر نفسه (1/ 79).
(2) البداية والنهاية (7/ 228).
(3) سير أعلام النبلاء (1/ 349).
(4) الفتنة الكبرى (1/ 159).
(5) فتنة مقتل عثمان بن عفان (1/ 80).
(6) عبد الله بن مسعود، عبد الستار الشيخ، ص335.
(7) طبقات ابن سعد (3/ 63).(1/231)
مدحهم الله تعالى ورضي عنهم، وهم خير من فقه قوله سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا} [الأحزاب: 70]. فقول عبد الله بن مسعود صدق لا يعدو الحقيقة، كما أنه نابع عن قناعته وصادر عن محض إرادته، ما قاله خوفا ولا خشية، ولم يقذف به هكذا رخيصا للاستهلاك والتغرير، أو ليحوز مكانة ومنصبا في الخلافة الجديدة. إذن فمن بدهيات الأمور وأولياتها أن ليس ثمة حقد أو بغضاء في قلب أحدهما على الآخر، وإن حدث شيء فإنما هو من أجل الحق وصالح المسلمين (1)، ويندرج تحت فقه النصيحة وآدابها وتأديب الخليفة لرعيته، وأما ما زعم الروافض ومن سار على نهجهم من أن عثمان ضرب ابن مسعود حتى مات فهذا كذب باتفاق أهل العلم، قال أبو بكر بن العربي: وأما ضربه لابن مسعود ومنعه عطاءه فزور (2). فلا وجهة للرافضة بالطعن على عثمان بقصة ابن مسعود هذه, فإنه لم يضربه ولم يمنعه عطاءه، وإنما كان يعرف له قدره ومكانته، كما كان ابن مسعود شديد الالتزام بطاعة إمامه الذي بايع له وهو يعتقد أنه خير المسلمين وقت البيعة (3).
سابعًا: فهم الصحابة لآيات النهي عن الاختلاف:
قال تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [الأنعام: 153] , فالصراط المستقيم هو القرآن والإسلام والفطرة التي فطر الله الناس عليها، والسبل هي الأهواء والفرق والبدع والمحدثات، قال مجاهد: {وَلاَ تَتَّبِعُوا السُّبُلَ} يعني البدع والشبهات والضلالات (4).
ونهى الله -سبحانه وتعالى- هذه الأمة عما وقعت فيه الأمم السابقة من الاختلاف والتفرق من بعد ما جاءتهم البينات، وأنزل الله إليهم الكتاب فقال سبحانه: {وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [آل عمران: 105].
ونهى الأمة أن يكون أفرادها من المشركين، الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا، فقال عز من قائل: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ
_________
(1) عبد الله بن مسعود، ص324.
(2) العواصم من القواصم، ص63.
(3) عقيدة أهل السنة والجماعة في الصحابة الكرام، (3/ 1066).
(4) تفسير مجاهد، ص227.(1/232)
وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ - مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَلاَ تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ - مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} [الروم: 30 - 32].
وأخبر سبحانه وتعالى أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - برئ من الذين يفرقون دينهم ويكونون شيعا وأحزابا (1) , قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [الأنعام: 159].
ويظهر من قصة جمع القرآن في عهد عثمان - رضي الله عنه - مدى فهم الصحابة -رضي الله عنهم- لآيات النهي عن الاختلاف؛ حيث إن الله نهى عن الاختلاف وحذر منه، فلعمق فهمهم لهذه الآيات ارتعد حذيفة - رضي الله عنه - عندما سمع بوادر الاختلاف في قراءة القرآن، فرحل فورا إلى المدينة النبوية، وأخبر عثمان - رضي الله عنه - بما رأى وبما سمع، فسرعان ما قام عثمان يخطب الناس، يحذرهم من مغبة هذا الخلاف، ويشاور الصحابة -رضوان الله عليهم- في الحل لهذه المحنة التي بدأت بالظهور، وفي مدة قصيرة يحسم الأمر ويغلق باب الخلاف الذي كاد أن ينفتح بجمع الصحف ونسخها في مصحف واحد من المصادر الموثوقة جدا، وبإغلاق باب الفتنة هذا فرح المسلمون، بينما اغتاظ المنافقون الذين كانوا قد استبشروا ببوادر الخلاف التي كانوا ينتظرونها بفارغ الصبر ويسعون إلى تحقيقها، ولما حسم الخلاف، ولم يجد أولئك طريقا إلى استنهاضه، ازداد حقدهم على عثمان - رضي الله عنه - وسعوا إلى التشنيع عليه وتصوير حسنته هذه سيئة، وتلمسوا في سبيل إثبات ذلك خيوط العنكبوت الواهية، ليطعنوا فيه ويسوغوا خروجهم عليه بها، مظهرين للناس أن هذه الحسنة سيئة تستوجب الخروج عليه (2).
إن الصحابة -رضوان الله عليهم- لم يتركوا كل قارئ على قراءته الصحيحة، بل جمعوهم على قراءة واحدة، فاجتمع شملهم وتوحد صفهم، وهذا درس عظيم نستلهمه من دراستنا لتاريخ عهد الخلفاء الراشدين، الحافل بالعبر والدروس ومواطن القدوة (3).
قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إن الله يرضى لكم ثلاثًا: أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا، وأن
_________
(1) دراسات في الأهواء والفرق والبدع، ناصر العقل، ص49.
(2) فتنة مقتل عثمان بن عفان (1/ 82).
(3) المصدر نفسه (1/ 83).(1/233)
تعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا، وأن تناصحوا مَنْ ولاه الله أمركم» (1).
إن طريق الاعتصام بحبل الله أن نلتزم بكتاب الله وسنة رسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وهذا الأصل من آكد الأصول في هذا الدين العظيم، يقول ابن تيمية -رحمه الله-: وهذا الأصل العظيم -وهو الإسلام- مما عظمت وصية الله تعالى به في كتابه، ومما عظم ذمه لمن تركه من أهل الكتاب وغيرهم، مما عظمت به وصية النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في مواطن عامة وخاصة (2). ولذلك أمر الله تعالى ورسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بكل ما يحفظ على المسلمين جماعتهم وألفتهم، ونهى عن كل ما يعكر صفو هذا الأمر العظيم.
إن ما حصل من فرقة بين المسلمين وتدابر وتقاطع وتناحر، بسبب عدم مراعاة هذا الأصل وضوابطه مما ترتب عليه تفرق في الصفوف، وضعف في الاتحاد، وأصبحوا شيعا وأحزابًا كل حزب بما لديهم فرحون (3).
إن وحدة المسلمين واجتماعهم مطلب شرعي، ومقصد عظيم من مقاصد الشريعة؛ بل من أهم أسباب التمكين لدين الله تعالى، ونحن مأمورون بالتواصي بالحق والتواصي بالصبر، فلا بد من تضافر الجهود بين الدعاة وقادة الحركات الإسلامية، وبين علماء المسلمين وطلبة العلم لإصلاح ذات البين إصلاحًا حقيقًا لا تلفيقيًّا؛ لأن أنصاف الحلول تفسد أكثر مما تصلح، قال الشيخ عبد الرحمن السعدي -رحمه الله-: الجهاد نوعان؛ جهاد يقصد به صلاح المسلمين وإصلاحهم في عقائدهم وأخلاقهم وآدابهم وجميع شئونهم الدينية والدنيوية، وفي تربيتهم العلمية وهذا النوع هو الجهاد وقوامه، وعليه يتأسس النوع الثاني، وهو جهاد يقصد به دفع المعتدين على الإسلام والمسلمين من الكفار والمنافقين والملحدين وجميع أعداء الدين ومقاومتهم، وهذان نوعان: جهاد بالحجة والبرهان واللسان، وجهاد بالسلاح المناسب في كل وقت وزمان (4). ثم أفرد فصلا بعنوان: الجهاد المتعلق بالمسلمين بقيام الألفة واتفاق الكلمة (5). وبعد أن ذكر الآيات والأحاديث الدالة على وجوب تعاون المسلمين ووحدتهم قال: فإن من أعظم الجهاد
_________
(1) مسند أحمد (1/ 2، 26).
(2) مجموع الفتاوى (22/ 359).
(3) تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين، للصلابي، ص307.
(4) وجوب التعاون بين المسلمين للسعدي، ص5.
(5) وجوب التعاون بين المسلمين للسعدي، ص5.(1/234)
السعي في تحقيق هذا الأصل في تأليف قلوب المسلمين واجتماعهم على دينهم ومصالحهم الدينية والدنيوية (1).
ولذلك نرى أن الأخذ بالأسباب نحو تأليف قلوب المسلمين وتوحيد صفهم من أعظم الجهاد؛ لأن هذه الخطوة مهمة جدا في إعزاز المسلمين وإقامة دولتهم، وتحكيم شرع ربهم، وهذا من فقه الخلفاء الراشدين، ويتجلى في أبهى صورة في جمع عثمان - رضي الله عنه - للأمة على مصحف واحد.
* * *
_________
(1) وجوب التعاون بين المسلمين للسعدي، ص5.(1/235)
الفصل الخامس
مؤسسة الولاة في عهد عثمان - رضي الله عنه -
المبحث الأول
أقاليم الدولة في عهد عثمان وسياسته مع الولاة
أولاً: مكة المكرمة:
توفى عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - وواليه على مكة خالد بن العاص بن هشام بن المغيرة المخزومي (1) , وقد أبقاه عثمان - رضي الله عنه - فترة من الوقت يصعب تحديدها ثم قام بعزله، ولم ترد أخبار عن سبب ذلك، إضافة إلى صعوبة تحديد أهم أعماله. وقد قام عثمان - رضي الله عنه - بعد عزله بتولية علي بن ربيعة بن عبد العزى، ثم قام عثمان - رضي الله عنه - بعد ذلك بتولية مجموعة من الأمراء على مكة يصعب تحديد فترات ولايتهم منهم عبد الله بن عمرو الحضرمي، الذي كان أحد عمال عثمان على مكة، كما أن النصوص تثبت أن عثمان - رضي الله عنه - قد أعاد خالد بن العاص بن هشام على مكة مرة أخرى، وتؤكد بعض المصادر أن عثمان توفي وخالد على مكة فقام عليٌّ - رضي الله عنه - بعزله وتولية غيره (2). وهذه الرواية على ما يبدو أثبت من الروايات التي تذكر أن عبد الله بن الحضرمي هو الوالي على مكة حين قتل عثمان (3). وقد تميزت مكة في عهد عثمان بالهدوء المستمر رغم ما وقع في بعض الأمصار من فتنة في أواخر عهد عثمان (4).
ثانيًا: المدينة النبوية:
تعد المدينة المنورة من أهم المدن الإسلامية في عهد عثمان, بها مركز الخلافة وإليها تفد الوفود من مختلف الأمصار، والأجناد الإسلامية، ويقيم بها كثير من شيوخ
_________
(1) تجريد أسماء الصحابة، الإمام الذهبي، ص151.
(2) الولاية على البلدان في عصر الخلفاء الراشدين، د. عبد العزى العمري (1/ 166).
(3) نهاية الأرب في فنون الأدب للنويري (2/ 27).
(4) الولاية على البلدان (1/ 167).(1/237)
الصحابة من المهاجرين والأنصار، وبذلك تكتسب أهمية خاصة. وقد كان عثمان بحكم خلافته مقيما بها ويتفقد أحوالها، حتى إنه كان يسأل عن أسعار المواد الغذائية وعن أخبار الناس (1). وكان عثمان - رضي الله عنه - إذا سافر إلى الحج يستخلف أحد الصحابة على المدينة حتى يرجع، وكثيرا ما كان يستخلف زيد بن ثابت - رضي الله عنه - (2). وكان في المدينة بيت مال وديوان للأعطيات كغيرها من الأمصار، وتعتبر المدينة من أكثر الأمصار الإسلامية هدوءًا خلال عصر عثمان سوى ما حدث في أيامه الأخيرة من اضطراب الأحوال فيها بعد وصول جيوش الفتنة وحصار عثمان وخروج بعض كبار الصحابة منها (3).
ثالثًا: البحرين واليمامة (4):
توفي عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - وعلى البحرين عثمان بن أبي العاص الثقفي فأقره عثمان عليها فترة من الوقت، وتدل الروايات على أن عثمان بن أبي العاص كان على ولاية البحرين بعد مبايعة عثمان بثلاث سنين؛ أي سنة 27هـ، بدليل مشاركته بجيشه مع جيش البصرة في بعض الفتوح (5). ويبدو أن التعاون الذي بدأ بين ولاية البحرين وولاية البصرة في عهد عمر أخذ يشتد ويقوى في عهد عثمان خصوصا بعد تولية (عبد الله بن عامر بن كريز) (6) على البصرة؛ حيث أصبح عامل البحرين أحد القواد التابعين لعبد الله بن عامر والي البصرة، كما أن النصوص التاريخية تفيد تبعية ولاية البحرين للبصرة -إلى حد ما- واندماجها معها، بحيث أصبح ابن عامر يعين العمال عليها من قبله (7). ويؤكد أحد الباحثين هذا التعاون في قوله: وفي زمن الخليفة عثمان بن عفان ألحقت البحرين بالبصرة عندما أصبحت الأخيرة قاعدة لفتوح فارس وجنوب إيران، فصار ولاتها تابعين لأمير البصرة, وقد عزز هذا صلة البصرة بالبحرين ووثقها (8).
_________
(1) تاريخ المدينة (3/ 961، 962).
(2) الولاية على البلدان (1/ 168، 169).
(3) المصدر نفسه (1/ 169).
(4) البحرين: كانت تطلق على المناطق التي تشمل إمارات الخليج العربي والجزء الشرقي من المملكة العربية السعودية عدا الكويت, وأما اليمامة: فكانت في بلاد نجد.
(5) تاريخ خليفة بن خياط ص159، الولاية على البلدان (1/ 169).
(6) الطبقات لابن سعد (5/ 44).
(7) الولاية على البلدان (1/ 169).
(8) البحرين في صدر الإسلام، عبد الرحمن بن النجم، ص141.(1/238)
وقد ذكر من ولاة عثمان على البحرين مروان بن الحكم، وعبد الله بن سوار العبدي، وقد توفي عثمان وعبد الله على البحرين (1). وقد كان للبحرين في أيام عثمان دور كبير في تلك الفتوح (2).
وقد كانت الأوضاع داخل البحرين مستقرة حتى وفاة عثمان، وأما اليمامة فقد كانت في عهد عمر - رضي الله عنه - تابعة لولاية البحرين وعمان إلى حد كبير، بل إن والي البحرين هو الذي كان يبعث عليها الأمراء أحيانا، أما في عهد عثمان - رضي الله عنه - فالذي يبدو أن اليمامة كان عليها وال من قبل عثمان مباشرة, وقد ورد ذكره في أحداث الفتنة بعد مقتل عثمان مباشرة؛ إذ وصلته بعض الكتب في تلك الفترة ممن غضبوا لمقتل عثمان (3).
رابعًا: اليمن وحضرموت:
توفي عمر - رضي الله عنه - وعامله على اليمن (يعلى بن مُنيَّة)، وكان في طريقه إلى المدينة بناء على طلب عمر إذ جاءه كتاب من عثمان يخبره بوفاة عمر وبيعة الناس لعثمان، واستعماله من قبل عثمان له على صنعاء، فاستمر على صنعاء إلى وفاة عثمان - رضي الله عنه - (4). وكان على مدينة الجند عبد الله بن ربيعة الذي استمر واليا عليها طيلة عهد عثمان - رضي الله عنه - (5). ويبدو أن هناك ولاة آخرين كانوا على بقية من اليمن، ولكن المصادر الرئيسية ركزت على هذين الواليين في الغالب، كما أن المصادر لم تفصل القول في أحداث اليمن خلال عصر عثمان، كما يقل إيرادها للمراسلات بين عثمان وولاته في اليمن سوى ما ذكره من أوامر عامة مرسلة لجميع الولاة (6). وقد اشتهر عن أهل اليمن خلال عصر عثمان طاعتهم وانقيادهم لولاتهم، يدل على ذلك ما روي من أن عثمان - رضي الله عنه - بعث رجلا ثقفيا إلى اليمن، فلما عاد سأله عثمان عن أهلها فقال: رأيت قوما ما سئلوا أعطوا حقا كان أو باطلا (7).
ومن المعروف أن العديد من القبائل اليمنية هاجرت خلال الفتوح في أيام عمر بن الخطاب إلى الأمصار الإسلامية
_________
(1) الولاية على البلدان (1/ 170).
(2) الولاية على البلدان (1/ 170).
(3) الولاية على البلدان (1/ 170).
(4) تاريخ الطبري (5/ 442).
(5) تاريخ خليفة بن خياط، ص179.
(6) الولاة على البلدان (1/ 171).
(7) تاريخ اليمن السياسي في العصر الإسلامي، حسن سليمان، ص79.(1/239)
الجديدة سواء في العراق أو مصر أو الشام، وبالتالي فإن صلات اليمن وأهلها بهذه الأمصار لم تتوقف طيلة عهد عثمان؛ حيث نجد لأناس من يهود اليمن دورا خطيرا في أحداث الفتنة التي قامت أواخر عهد عثمان، واستشهد فيها
عثمان - رضي الله عنه - , وعلى رأس هؤلاء الوالغين في الفتنة (عبد الله بن سبأ)، وبعد مقتل عثمان - رضي الله عنه - ترك اليمن عدد من ولاتها وقدموا إلى الحجاز للمشاركة فيما يجري من أحداث، ومنهم يعلى بن منية وعبد الله بن ربيعة (1).
خامسًا: ولاية الشام:
حينما جاء عثمان إلى الخلافة كان معاوية - رضي الله عنه - واليا على معظم الشام فأقره عثمان عليها (2)، كما أقر بعض الولاة الآخرين على ولاياتهم كاليمن والبحرين ومصر وغيرها من الولايات. وقد تطورت الأحداث وضمت إلى معاوية بعض المناطق الأخرى حتى أصبح معاوية هو الوالي المطلق لبلاد الشام، بل أصبح أقوى ولاة عثمان وأشدهم نفوذا، وقد كان في بداية خلافة عثمان ولاة آخرون منهم: عمير بن سعد الأنصاري وكان على حمص، وينافس معاوية بن أبي سفيان في المكانة لدى عثمان - رضي الله عنه - إلا أن عميرا مرض مرضا أعياه عن القيام بأعباء الولاية، فطلب من الخليفة عثمان أن يعفيه، فأعفاه وضم ولايته إلى معاوية بن أبي سفيان، وبذلك زاد نفوذ معاوية فامتد إلى حمص التي ولى عليها من قبله عبد الرحمن بن خالد بن الوليد (3). كما توفى علقمة بن محرز -وكان على فلسطين- فضم عثمان ولايته إلى ولاية معاوية بن أبي سفيان - رضي الله عنه - فاجتمعت الشام لمعاوية بعد سنتين من خلافة عثمان - رضي الله عنه -، وأصبح الوالي المطلق فيها طيلة السنوات الباقية من خلافة عثمان حتى توفي عثمان وهو عليها كما هو معروف (4).
وقد كانت فترة ولاية معاوية على الشام مليئة بالأحداث، كانت الشام من أهم مناطق الجهاد، ومع أن الشام في داخلها قد استقرت أوضاعها وسادها الإسلام وقلَّتْ محاولات الروم إثارة القلاقل فيها، إلا أن الشام كانت متاخمة لأرض الروم، وبالتالي كان المجال مفتوحا أمام معاوية للجهاد في تلك النواحي، وقد تحدثنا عنها فيما مضى، وقد كان لمعاوية ثقله السياسي في الدولة الإسلامية أواخر
_________
(1) تاريخ الطبري (5/ 442).
(2) تاريخ خليفة بن خياط، ص155.
(3) تاريخ الطبري (5/ 442).
(4) المصدر نفسه (5/ 443).(1/240)
خلافة عثمان - رضي الله عنه -؛ إذ كان ضمن الولاة الذين جمعهم عثمان ليستشيرهم حين بدأت ملامح الفتنة تلوح في الأفق، كما ظهرت له آراء خاصة في هذا الاجتماع وجهها إلى عثمان (1)، وسيأتي الحديث عنها بإذن الله تعالى.
سادسًا: أرمينية:
بدأت الجيوش الإسلامية بالتوجه إلى أرمينية لأول مرة في عهد عثمان - رضي الله عنه -؛ حيث توجه أول جيش إسلامي إلى تلك المنطقة من بلاد الشام، وهي من أقرب الولايات إليها، يقوده حبيب بن مسلمة الفهري وقوامه حوالي ثمانية آلاف مقاتل، واستطاع هذا الجيش أن يفتح العديد من المواقع في أرمينية، إلا أنه أحس بالخطر نتيجة تجمع حشود من الروم لمساعدة الأرمن في حروبهم ضد المسلمين، فطلب المساعدة من الخليفة الذي أمر بتسيير جيش من الكوفة قوامه ستة آلاف رجل تقريبا ويقوده سلمان بن ربيعة الباهلي (2). وقد حدث نزاع بعد ذلك بين حبيب بن مسلمة وسلمان بن ربيعة، وقف الخليفة عثمان عليه، فقام بالكتابة إلى القوم وحل المشكلة التي بينهما (3). ويبدو أن سلمان بن ربيعة تولى قيادة الجيوش الإسلامية؛ حيث كتب إليه عثمان بإمرته على أرمينية (4)، ثم توغل سلمان بن ربيعة في أرمينية ثم بلاد (الخزر) (5) فاتحا ومنتصرا، حتى وقعت معركة حامية بين جيشه وقوامه عشرة آلاف رجل وجيش ملك الخزر وقوامه ثلاثمائة ألف -كما تقول الروايات- فقتل سلمان وجميع جنوده، وقد كتب عثمان - رضي الله عنه - إلى حبيب بن مسلمة أن يسير مرة أخرى إلى بلاد أرمينية, فاتجه بجيشه وقام بفتح المواقع مرة بعد أخرى، وثبت أقدام المسلمين فيها، وعقد بعض المعاهدات مع أهل البلاد (6)، ثم رأى عثمان - رضي الله عنه - أن يوجهه إلى ثغور الجزيرة لخبرته بها وقدرته عليها، وعين مكانه على أرمينية حذيفة بن اليمان بالإضافة لولايته على أذربيجان؛ حيث قام بعدة غزوات نحو بلاد الخزر من أرمينية (7)،وبعد ما يقرب من سنة عزله عثمان وولى على أرمينية المغيرة بن شعبة - رضي الله عنه - حتى توفى عثمان وهو
_________
(1) الولاية على البلدان (1/ 176).
(2) الطبقات (6/ 131).
(3) الخراج وصناعة الكتابة، قدامة بن جعفر، ص326.
(4) القنوح لابن أعثم (2/ 112).
(5) الخزر: بلاد الترك في آسيا الوسطى، وهي الآن في جنوب روسيا.
(6) الولاية على البلدان (1/ 177).
(7) الولاية على البلدان (1/ 177).(1/241)
عليها وعلى أذربيجان في الوقت نفسه (1). وتعد هذه الولاية إضافة جديدة أضافها عثمان إلى الدولة الإسلامية ولم تكن فتحت قبله، وقد لقي المسلمون عناء شديدا في فتحها وتنظيمها وضبط أمورها (2).
سابعًا: ولاية مصر:
كان والي مصر في خلافة عمر بن الخطاب هو عمرو بن العاص الذي حكمها ما يقرب من أربع سنوات (3). وتوفي عمر وهو وال عليها، وقد أقره عثمان بن عفان في بداية خلافته فترة من الوقت, وكان يساعده في عمله في بعض نواحي مصر عبد الله بن أبي السرح (4) الذي كان مصاحبا لعمرو بن العاص منذ أيام فتوحه في فلسطين؛ حيث كان من ضمن قواده واشترك معه في فتوح مصر (5). وقد عينه عمر على بعض صعيد مصر بعد فتحها (6) , ويبدو أن عمرو بن العاص وعبد الله بن سعد بن أبي السرح حدث بينهما خلاف في وجهات النظر، فوفد عمرو بن العاص على عثمان بعد مبايعته بالخلافة، وطلب منه عزل عبد الله بن سعد عن ولاية الصعيد، فرفض عثمان ذلك, وذكر له أن عمر هو الذي ولى ابن أبي السرح، وأنه لم يأت بما يوجب العزل، فأصر عمرو على عزله، وأصر عثمان على عدم موافقته، ونتيجة لإصرار كل من الطرفين على رأيه، رأى عثمان أن من الأصلح عزل عمرو عن مصر وتولية عبد الله بن أبي السرح مكانه، وهذا ما حدث بالفعل (7). وفي هذه الظروف قام الروم بالإغارة على الإسكندرية والاستيلاء عليها وقتلوا جميع من فيها من المسلمين، فرأى أمير المؤمنين تعيين عمرو على جيوش مصر لفتح الإسكندرية من جديد والقضاء على جيش الروم، وتم ذلك فعلا (8)،
وقد فصَّلت أحداثه في حديثي عن الفتوحات، ثم إن عثمان أراد أن يعيد عمرو على ولاية أجناد مصر وحربها, وأن يجعل عبد الله بن سعد على الخراج، إلا أن عمرو رفض ذلك، وتكاد الأخبار تندر عن ولاية عمرو في مصر خلال عهد عثمان - رضي الله عنه - سوى ما
_________
(1) تاريخ اليعقوبي (2/ 168)، الولاية على البلدان (1/ 177).
(2) الولاية على البلدان (1/ 177).
(3) النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة، د. جمال الدين بردي (1/ 77).
(4) سير أعلام النبلاء (1/ 33).
(5) المصدر نفسه (1/ 33).
(6) ولاة مصر للكندي، ص33, فتوح مصر وأخبارها، ص173.
(7) الولاية على البلدان (1/ 178).
(8) المصدر نفسه (1/ 178، 179).(1/242)
ورد من دوره في الجهاد؛ سواء في رد الروم وطردهم عن الإسكندرية وتثبيت الأمن في أنحاء مصر، أم في قضايا الخراج التي دارت فيها بين عثمان وبين عمرو خلافات في الرأي (1). وبعد عزل عمرو بن العاص عن مصر مرة أخرى أو عن ولاية الإسكندرية على أرجح الآراء، وبعد رفضه ما اقترحه عثمان - رضي الله عنه - من ولايته على الأجناد وولاية ابن أبي السرح على الخراج، أقر عثمان عبد الله بن أبي السرح مرة أخرى على مصر، وأصبح هو الوالي الرسمي لمصر، والمدير الفعلي لولاية مصر بأجنادها وخراجها ومختلف شئونها (2). وقد كانت ولاية مصر في أول أمرها هادئة مستقرة إلى أن تمكن مثيرو الفتنة من أمثال عبد الله بن سبأ من الوصول إليها وإثارة الناس فيها، فكان لهم وللمتأثرين بهم دور كبير في مقتل عثمان - رضي الله عنه - (3)، وسيأتي بإذن الله تعالى تفصيل ذلك.
ثامنًا: ولاية البصرة:
استشهد عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - وواليه على البصرة أبو موسى الأشعري، وكان المجتمع البصري في تلك الفترة قد بدأ يشهد تغيرات أساسية في بنيته السكانية والاجتماعية حيث أصبحت البصرة من أكبر المعسكرات الإسلامية؛ إذ هاجر إليها العديد من القبائل وقام جندها بفتح الكثير من المواقع، وبالتالي اكتسبت أهمية خاصة في بداية عهد عثمان (4). وقد انشغل الناس بأمورهم الخاصة إضافة إلى الأمور العامة من جهاد وغيره، وبالتالي فإن الولاية على مثل هذه المنطقة وكذلك ما يتبعها من أقاليم أخرى تعتبر مهمة ليست باليسيرة وتتطلب دراية خاصة بإدارة أحوال تلك الولاية، ولعل عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - كان يحس بمقدرة أبي موسى الخاصة على إدارة تلك الولاية؛ حيث أوصى الخليفة من بعده أن يترك أبا موسى في الولاية من بعده أربع سنوات بعد وفاته (5). وقد كانت فترة ولاية أبي موسى للبصرة فترة جهاد وكفاح برز فيها دور أهل البصرة، كما برز فيها أبو موسى - رضي الله عنه - بفتح العديد من المواقع في
_________
(1) الولاية على البلدان (1/ 179) , فتوح البلدان، ص217.
(2) الولاية على البلدان (1/ 79).
(3) المصدر نفسه (1/ 186).
(4) التنظيمات الاجتماعية والاقتصادية في البصرة، صالح العلي، ص141.
(5) سير أعلام النبلاء (2/ 391)، الولاية على البلدان (1/ 186).(1/243)
بلاد فارس، إضافة إلى تثبيته لأقدام المسلمين في المواقع المفتوحة سابقا، والتي حاول أهلها الانتقاض بعد وفاة عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -، فقام أبو موسى بغزوهم وتثبيت الإسلام في تلك الربوع (1). وبالإضافة إلى دور أبي موسى في الفتوح فإنه قام بدور مهم في تنظيم الري وحفر القنوات والأنهار في البصرة أثناء ولايته زمن الخليفة عثمان، وقد قام بحفر قناة لجلب مياه الشرب إلى البصرة اعتمد عليها الناس بعد ذلك في شربهم، كما بدأ في مشاريع لحفر قنوات أخرى، إلا أن عزله عن الولاية حال دون إتمامها (2)، فقام خليفته عبد الله بن عامر بإتمامها (3). ولم تستمر ولاية أبي موسى على البصرة طويلا؛ إذ قام عثمان بعزله سنة 29 هـ -كما ترجح معظم الروايات- وعين مكانه عبد الله بن عامر بن كريز (4). ويورد المؤرخون عدة روايات حول عزل أبي موسى، نستخلص منها أن هناك مشكلة قامت بين أبي موسى وبين جند البصرة اختلف في سببها، وقد قدمت مجموعة من أهل البصرة إلى عثمان تحرضه على عزل أبي موسى قائلين له: ما كل ما نعلم نحب أن تسألنا عنه فأبدلنا سواه، قال عثمان: من تحبون؟ فقالوا: في كل أحد عوض عنه، وطلب قوم من عثمان أن يولي عليهم قرشيا (5)، فعزل عثمان أبا موسى وولى مكانه عبد الله بن عامر. وهنا تتجلى لنا حكمة أبي موسى وسعة صدره وطاعته لأمر الخليفة، وأنه لم يكن يحرص على الولاية كما يظن البعض، فحينما بلغه عزله وتولية عبد الله بن عامر مكانه، صعد المنبر وأثنى على عبد الله بن عامر - وكان شابا صغيرا عمره 25 سنة - وكان ما مدحه به أبو موسى قوله: قد جاءكم غلام كريم العمَّات والخالات والجدات في قريش، يفيض عليكم المال فيضا (6).
لقد استطاع عثمان - رضي الله عنه - في تلك الظروف الصعبة التي تمر بها ولاية البصرة أن يعين قائدا جديدا يستجيب له الأجناد، وبالتالي توحدت صفوفهم أمام الأعداء، فضلا عن أن هذا العزل تكريم لأبي موسى من أن يهان من قبل بعض العوام، ممن تأثروا بالغوغاء وأفكار المتمردين المنحرفة ممن حملوا في نفوسهم كراهيته والتشهير به والتفوا عليه (7). وقد كانت ولاية البصرة تمر بظروف صعبة حينما تولى ابن عامر، مما دفع عثمان
_________
(1) الولاية على البلدان (1/ 187).
(2) الولاية على البلدان (1/ 187).
(3) الولاية على البلدان (1/ 187).
(4) تاريخ الطبري (5/ 264).
(5) تاريخ الطبري (5/ 264).
(6) المصدر نفسه (5/ 266)، سير أعلام النبلاء (3/ 19).
(7) الولاية على البلدان، (1/ 189).(1/244)
- رضي الله عنه - إلى إجراء تغيير أساسي في إدارة الولاية؛ إذ أنه ضم أجناد البحرين وعمان إلى ابن عامر في البصرة؛ حتى يعطيه سلطة أقوى للوقوف أمام التحديات التي تواجهه في تلك الفترة، وقد كان لهذا الدمج أثره الكبير على قوة ابن عامر ونفوذه، كما أنه أثر من ناحية أخرى على البصرة نفسها؛ حيث أصبحت إحدى العواصم الإسلامية المستقرة، وزادت هجرة القبائل إليها أكثر من ذي قبل (1)، وبالتالي زادت أعباء الولاية سواء في الديوان أم في تنظيم مختلف شئون الولاية الإدارية والمالية والأمنية وغيرها.
وقد كانت لولاية البصرة وأجنادها ولابن عامر نفسه فتوح عظيمة بدأت بعد ولايته مباشرة، وانتهت قبل مقتل أمير المؤمنين عثمان - رضي الله عنه - (2)، وقد تم بيانها عند حديثنا عن فتوحات عثمان - رضي الله عنه -. وقد اكتسبت البصرة أيام ابن عامر مكانة خاصة بين الولايات الإسلامية لفتت نظر الخليفة عثمان - رضي الله عنه - نتيجة فتوحها وتوسعها في مختلف المجالات، فأصبحت مركزا إداريا مرموقا (3)، وتدار منها العديد من المناطق الإسلامية. وكان ابن عامر مسئولا عن توزيع الأمراء في مختلف المناطق التابعة لولايته باتفاق مسبق مع الخليفة عثمان - رضي الله عنه -، وبالتالي كانت مسئولياته عظيمة. وقد قام ابن عامر بتوزيع الأمراء على المناطق التابعة له بمجرد أن تولى الإمارة؛ حيث اختار بعض القواد والأمراء وعينهم على تلك المناطق, ومن أهمها عمان والبحرين وسجستان وخراسان وفارس والأهواز, بما في هذه المناطق من مدن مختلفة ومناطق شاسعة (4)، وكان يجري تنقلات بين هؤلاء الأمراء والعمال من وقت لآخر تبعا للمصلحة في ذلك. كما اشتهرت البصرة في أيامه ببيت مالها الذي زاد دخله في أيامه وكثرت مصروفاته، وكان المسئول عن بيت المال في أيام عمر زياد بن أبي سفيان، وقد كان يلي بعض المشاريع من حفر للأنهار وغيرها نيابة عن ابن عامر (5)، وفي ولاية ابن عامر ضربت الدراهم في أنحاء فارس التابعة لولايته، وعليها ألفاظ عربية في الفترة من سنة 30هـ حتى 35هـ (6). وقد كان ابن عامر محبوبا لأهل البصرة عموما منذ قدومه
_________
(1) التنظيمات الاجتماعية والاقتصادية في البصرة في القرن الأول الهجري، صالح العلي، ص141.
(2) الولاية على البلدان (1/ 189).
(3) المصدر نفسه (1/ 193).
(4) نهاية الأرب (19/ 433).
(5) الولاية على البلدان (1/ 194).
(6) الدراهم الإسلامية، وداد على القزاز، ص14.(1/245)
إليها، ورغم ما أثير حوله من أن عثمان ولاه لأنه قريب له، إلا أن أهل البصرة تمسكوا به (1).
ومن خلال هذا العرض تبين أن ولاية البصرة في عهد عثمان انحصرت في رجلين هما أبو موسى الأشعري وعبد الله بن عامر، ولقد كان لكل الواليين دوره الرئيسي في ضبط أمور البصرة وما يتبعها (2).
تاسعًا: ولاية الكوفة:
كان على ولاية الكوفة حين بويع عثمان بالخلافة المغيرة بن شعبة - رضي الله عنه -، وكان قد تولى في أواخر عهد عمر - رضي الله عنه - (3)، وقد قام عثمان - رضي الله عنه - بعزل المغيرة عن الكوفة وتعيين سعد بن أبي وقاص مكانه، وقد ذكر في سبب العزل أنه كان بوصية من عمر - رضي الله عنه -؛ حيث أوصى الخليفة من بعده أن يستعمل سعدا نظرا لأن عمر عزله عن الكوفة في أواخر خلافته، وقال: إني لم أعزله عن سوء ولا خيانة، وأوصي الخليفة بعدي أن يستعمله (4). تولى سعد بن أبي وقاص على الكوفة وكان قرار التعيين مشتركا بين سعد بن أبي وقاص وعبد الله بن مسعود؛ سعد على الصلاة والجند، وابن مسعود على بيت المال (5). وقد كان سعد بن أبي وقاص صاحب خبرة في ولاية الكوفة وله معرفة تامة بأمورها وسكانها وثغورها وأجنادها؛ نظرا لأنه
كان مؤسسها في عهد عمر، كما أنه وليها عدة سنوات، فكان أخبر الناس بها
وأعلمهم بأحوالها (6).
ومن الأعمال التي قام بها سعد أثناء ولايته في عهد عثمان على الكوفة قيامه بزيارة بعض الثغور التابعة للكوفة ومنها (الري) وترتيب أمورها وضبطها سنة 25هـ (7)، وكذلك قيامه بتعيين بعض الأمراء والعمال الجدد في (همذان) وما حولها، ولم تطل فترة ولاية سعد ابن أبي وقاص على الكوفة إذ حدث بينه وبين عبد الله بن مسعود خلاف، وكان ابن مسعود على بيت المال، فاقترض منه سعدا شيئا من الأموال إلى أجل، فجاء الأجل ولم يكن عند سعد ما يسد به ذلك القرض، فجاءه ابن مسعود يطالبه بتسديد ذلك
_________
(1) الولاية على البلدان (1/ 194).
(2) المصدر نفسه (1/ 195).
(3) تاريخ الطبري (5/ 239).
(4) المصدر نفسه (5/ 225).
(5) تاريخ الطبري (5/ 250)، الولاية على البلدان (1/ 196).
(6) عثمان بن عفان، صادق عرجون، ص105, الولاية على البلدان (1/ 196).
(7) الولاية على البلدان (1/ 197).(1/246)
القرض فاشتدا في الكلام واجتمع حولهما الناس، فقرر عثمان عزل سعد وإبقاء ابن مسعود، فكانت عقوبة سعد العزل وعقوبة ابن مسعود الإقرار في العمل كما يقول الطبري (1). وهذه القصة تدلنا على تورع كلا الصحابيين، وتدل على حاجة سعد إلى المال، وعدم وجود ما يكفيه وأنه لذلك اضطر إلى الاقتراض من بيت المال، كما تدل على اجتهاد عبد الله بن مسعود في حفظ أموال المسلمين وإصراره على استرداد القرض من سعد والي الكوفة وحاكمها، وكانت ولاية سعد على الكوفة سنة وأشهرا (2).
وبعد عزل سعد ولي عثمان على الكوفة الوليد بن عقبة بن أبي معيط الذي كان قبل تعيينه على الكوفة قد عمل قائدا لجيش من جيوش أبي بكر في الأردن، ثم عمل لعمر على عرب الجزيرة (3)، وفي أواخر خلافة عمر وأوائل خلافة عثمان كان الوليد أحد قواد أجناد الكوفة، وقام بالجهاد في العديد من المواقع قائدا لتلك الأجناد (4)، فكان قبل تعيينه على ولاية الكوفة صاحب خبرة بالكوفة وأجنادها وثغورها ومختلف شئونها. وكعادة الخلفاء الراشدين في تفضيل أصحاب الخبرة في المنطقة على غيره عند الحاجة إلى تعيين ولاة جدد، فقد وقع اختيار عثمان - رضي الله عنه - على الوليد بن عقبة لولاية الكوفة، وكثير ممن كتبوا عن تعيين عثمان - رضي الله عنه - للوليد سواء من المتقدمين أو من المتأخرين حاولوا اتهام عثمان في هذا التعيين، فهم يقولون: إن عثمان استعمل على الكوفة أخاه لأمه الوليد بن عقبة (5)، وهذا فيه غمز مباشر لعثمان - رضي الله عنه - (6). وفي بداية ولاية الوليد كان يشترك معه عبد الله بن مسعود حيث كان واليا على بيت المال، إلا أن خلافا حدث بين الوليد وعبد الله بن مسعود على أمر يتعلق بأموال الدولة ورفع النزاع إلى عثمان ليفصل فيما يراه، فرأى عثمان - رضي الله عنه - أن من المصلحة توحيد الولاية وبيت المال في يد الوليد وعزل عبد الله بن مسعود، وقد اعتقد أن المصلحة العامة تقتضي ذلك الضم (7). وقد بقي الوليد بن عقبة في الكوفة محبوبا من أهلها، ليس على داره باب (8)،
يستقبل الناس في مختلف الأوقات ليحل مشكلاتهم،
_________
(1) تاريخ الطبري (5/ 251).
(2) تاريخ الطبري (5/ 250).
(3) المصدر نفسه (1/ 251).
(4) الولاية على البلدان (1/ 198).
(5) المصدر نفسه (1/ 198).
(6) انظر الاتهامات التي ألقاها طه حسين في كتابه الفتنة الكبرى (1/ 94).
(7) عثمان بن عفان، صادق عرجون، ص108.
(8) تاريخ الطبري (5/ 251).(1/247)
ويقوم بالواجبات الملقاة عليه، إلى أن وقعت بعض الحوادث في الكوفة أوجدت بعض الحاقدين عليه بسبب موقفه الحازم في قضية ابن الحيسمان الخزاعي الذي قتله مجموعة من شباب الكوفة، فأقام الوليد بن عقبة بأمر من عثمان - رضي الله عنه - حد القصاص على هؤلاء الشباب المعتدين، ومنذ تلك الحادثة أخذ أولياء هؤلاء المجرمين وأقاربهم يروجون الشائعات على الوليد بن عقبة، ويحاولون جاهدين أن يتصيدوا أخطاء الوليد ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا، واستطاع أولئك الموتورون تلفيق قضية ضد الوليد، وهي دعوى شربه الخمر، التي سببت إقامة الحد عليه وعزله عن ولاية الكوفة، وهذا ما أراده المتآمرون (1)، وسيأتي تفصيل قضية شرب الوليد بن عقبة للخمر عند حديثنا عن ولاة عثمان - رضي الله عنه - بإذن الله تعالى.
وبعد عزل الوليد أرسل عثمان إلى أهل الكوفة كتابا جاء فيه: من عبد الله عثمان أمير المؤمنين إلى أهل الكوفة، سلام أما بعد، فإني استعملت عليكم الوليد بن عقبة حتى تولت منعته واستقامت طريقته، وكان من صالحي أهله وأوصيته بكم ولم أوصكم به، فلما بذل لكم خيره وكف عنكم شره، وغلبتكم علانيته طعنتم به في سريرته والله أعلم بكم وبه، وقد بعثت عليكم سعيد بن العاص أميرا (2). وكانت شكاية أهل الكوفة للوليد وعزله حلقة في سلسلة طويلة من الشكايات والعزل من قبل بعض أهل الكوفة لأمرائهم (3)، وقد غضب الكثير من أهل الكوفة لعزل الوليد، وبعد عزل عثمان - رضي الله عنه - للوليد عن ولاية الكوفة عين بعده سعيد بن العاص سنة 30هـ الذي كان مقيما في المدينة، فاتجه إلى الكوفة ورافقه وفد من أهل الكوفة الذين قدموا على عثمان في شكاية الوليد، وكان فيهم الأشتر النخعي وغيره (4)، فلما وصل سعيد الكوفة صعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: والله لقد بعثت إليكم، وإني لكاره ولكني لم أجد بدًّا إذ أمرت أن أئتمر، إلا إن الفتنة قد أطلعت خطمها وعينيها، والله لأضربن وجهها حتى أقمعها أو تُعييني، وإني الرائد نفسي اليوم، ثم نزل عن المنبر (5).
ومن خلال هذه الخطبة يتبين لنا معرفة سعيد ببدايات الفتنة وإرهاصاتها التي بدأت
_________
(1) الولاية على البلدان (1/ 201).
(2) تاريخ الطبري (5/ 280).
(3) الولاية على البلدان (1/ 206).
(4) تاريخ الطبري (5/ 280).
(5) تاريخ الطبري (5/ 280).(1/248)
تظهر في الكوفة قبل ولايته، وتهديده لأصحاب الفتنة وعزمه على القضاء على الفتنة التي استشعر بدايتها في الكوفة (1). واستطاع سعيد بن العاص أن ينظم أمور ولايته ويعين الأمراء والولاة في مختلف الثغور التابعة للكوفة ويضبط أمورها (2)، وقام بغزوات ناجحة تم ذكرها عند حديثنا عن الفتوحات في عهد عثمان, ثم بدأت الفتنة تطل برأسها في الكوفة سنة 33هـ، وسيأتي الحديث عنها -بإذن الله تعالى- بالتفصيل، ودبر الأشتر النخعي مؤامرة ضد سعيد بن العاص وانخدع بها بعض عوام الكوفة فقاموا مع الأشتر في رفض ولاية سعيد والطلب من عثمان إبداله بغيره، ولم يكن سعيد سوى وال من الولاة الذين سبق لأهل الكوفة أن اعترضوا عليهم وطلبوا عزلهم قبل ذلك، كسعد بن أبي وقاص والوليد بن عقبة وغيرهما، وكان طلب خلعه مقرونا بثورة حمل الغوغاء فيها السلاح وهي سابقة خطيرة في تاريخ الكوفة، بل وفي تاريخ الدولة الإسلامية كلها، وليس فيها سبب حقيقي, وإنما السبب الحقيقي هو تطور الأوضاع والتغير الذي طرأ على نفوس الناس بتأثير دعاة الفتنة والخروج على عثمان، وقد أصدر الخليفة عثمان - رضي الله عنه - أمرا بتولية أبي موسى الأشعري على الكوفة وعزل سعيد بن العاص بناء على طلب بعض أهل الكوفة. وقد استهل أبو موسى ولايته بخطبة أمام أهل الكوفة قال فيها: أيها الناس، لا تنفروا في مثل هذا ولا تعودوا لمثله، الزموا جماعتكم والطاعة، وإياكم والعجلة، اصبروا فكأنكم (3) بأمير، قالوا: فَصَلِّ بنا، قال: لا إلا على السمع والطاعة لعثمان بن عفان، قالوا: على السمع والطاعة لعثمان (4).
وقد كتب عثمان إلى أهل الكوفة: بسم الله الرحمن الرحيم: أما بعد، فقد أمرت عليكم من اخترتم وأعفيتكم من سعيد، ووالله لأفرشنكم عرضي ولأبذلن لكم صبري، ولأستصلحنكم بجهدي، فلا تدعوا شيئا أجبتموه لا يعصى الله فيه إلا سألتموه، ولا شيئا كرهتموه لا يعصى الله فيه إلا استعفيتم منه أنزل فيه عندما أجبتم حتى لا يكون لكم عليَّ حجة (5).
وقد استمر أبو موسى - رضي الله عنه - واليا على الكوفة حتى قتل عثمان - رضي الله عنه - (6)، وهكذا نجد أن ولاية الكوفة في خلافة عثمان - رضي الله عنه - قد تولى عليها
_________
(1) الولاية على البلدان (1/ 207).
(2) المصدر نفسه (1/ 208).
(3) المراد: اصبروا فإن معكم أميرا الآن إن سمعتم وأطعتم.
(4) تاريخ الطبري (5/ 339).
(5) المصدر نفسه (5/ 343).
(6) المصدر نفسه (5/ 343).(1/249)
خمسة ولاة، ابتداء بالمغيرة بن شعبة وانتهاء بأبي موسى الأشعري، وقد حفلت فترة الولاية لكل من هؤلاء الخمسة بالعديد من الحوادث التي برزت على ساحة الأحداث، وكان لها تأثير مباشر على مسيرة الدولة الإسلامية، وقد نمت الفتنة في الكوفة واشتهر عن أهلها تسلطهم على ولاتهم، ورفضهم لهم في كثير من الأحيان مهما استرضوهم؛ فقد شكوا سعد بن أبي وقاص، وشكوا الوليد بن عقبة، وطردوا سعيد بن العاص، ولعلنا نتذكر هنا أنهم أتعبوا عمر قبل عثمان حتى قال فيهم: من عذيري من أهل الكوفة، وقد كان لبعض أهل الكوفة دور مباشر ورئيسي في مقتل الخليفة
عثمان - رضي الله عنه -.
وجدير بالذكر أنه كانت هناك بعض الولايات المتفرعة من ولاية الكوفة كطبرستان، وأذربيجان، وبعض المناطق الأخرى شمالي بلاد فارس (1). ومما يؤيد ارتباطها بالكوفة أن ولاة الكوفة -ومنهم سعيد بن العاص- هم الذين كانوا يتولون الفتوح في نواحيها، كما كانوا يؤدبون أهلها في حال عصيانهم، وقد لعبت هذه الولايات الفرعية دورا مرتبطا بدور الكوفة أيضا إلى حد كبير (2).
ومن خلال العرض السابق للولايات الإسلامية في عهد عثمان يتبين لنا أن هناك ولايات تمتعت بالاستقرار طيلة عهد عثمان - رضي الله عنه -، ومنها الولايات الواقعة في بلاد العرب كالبحرين واليمن ومكة والطائف وغيرها، كما تمتعت الشام بالاستقرار أيضا طيلة خلافة عثمان - رضي الله عنه -، وأما البصرة فقد شغل أهلها بالفتوح مع واليهم عبد الله بن عامر، وأما مصر والكوفة فقد حدث فيهما الاضطراب في أواخر خلافة عثمان، وبالتالي ولدت فيهما الفتنة وأقدم أناس من أهلها على غزو المدينة وعلى قتل الخليفة عثمان - رضي الله عنه - بدلا من غزو أعداء الإسلام!! (3).
* * *
_________
(1) الولاية على البلدان (1/ 213).
(2) الولاية على البلدان (1/ 213).
(3) المصدر نفسه (1/ 214).(1/250)
المبحث الثاني
سياسة عثمان مع الولاة وحقوقهم وواجباتهم
أولاً: سياسة عثمان مع الولاة:
تولى عثمان - رضي الله عنه - الخلافة في بداية سنة 24هـ، وكان ولاة عمر - رضي الله عنه - ينتشرون في الأمصار الإسلامية, وقد أقرهم عثمان في ولاياتهم عاما كاملا، ثم باشر بعد ذلك العزل والتعيين في هذه الأمصار بمقتضى سلطته وحسب ما يراه في مصلحة المسلمين، ولعل عثمان في ذلك قد اتبع وصية عمر - رضي الله عنه - التي أوصى فيها: أن لا يقر لي عامل أكثر من سنة، وأقروا الأشعري أربع سنين (1). وكان عثمان - رضي الله عنه - في سياسته مع الولاة يعتمد على مشورة الصحابة في كثير من تصرفاته، كما أنه قام بضم بعض الولايات إلى بعضها لما يراه في مصلحة المسلمين، ولذلك قد حدد الولاة إلى حد ما في بعض المناطق؛ فقد ضم البحرين إلى البصرة، كما ضم بعض ولايات الشام إلى بعضها الآخر نتيجة لوفاة بعض الولاة أو طلبهم الإعفاء من العمل.
وقد كان عثمان - رضي الله عنه - دائم النصح لولاته بالعدل والرحمة بين الناس، فكان أول كتبه إلى ولاته بعد مبايعته خليفة للمسلمين: أما بعد، فإن الله أمر الأئمة أن يكونوا رعاة ولم يتقدم إليهم أن يكونوا جباة، وإن صدر هذه الأمة خلقوا رعاة ولم يخلقوا جباة، وليوشكن أئمتكم أن يصيروا جباة ولا يكونوا رعاة، فإذا عادوا كذلك انقطع الحياء والأمانة والوفاء. ألا وإن أعدل السيرة أن تنظروا في أمور المسلمين وفيما عليهم فتعطوهم ما لهم، وتأخذوهم بما عليهم، ثم تثنوا بالذمة فتعطوهم الذي لهم وتأخذوا الذي عليهم، ثم العدو الذي تنتابون فاستفتحوا بالوفاء (2).
ونحن نرى من هذا أن عثمان حدد لولاته معالم السياسة التي يجب أن يسيروا عليها، من إعطاء الحقوق للمسلمين ومطالبتهم بما عليهم من واجبات وإعطاء أهل الذمة حقوقهم ومطالبتهم بما عليهم من واجبات، وبالوفاء حتى مع الأعداء وبالعدل في ذلك كله، وأن لا يكون همهم جباية المال (3). كما كان عثمان - رضي الله عنه - يكتب
_________
(1) سير أعلام النبلاء (2/ 391).
(2) تاريخ الطبري (5/ 244).
(3) الولاية على البلدان (1/ 215).(1/251)
إلى عماله ببعض التعليمات الخاصة في الأمور المستجدة التي تتعلق بإدارتهم للولايات، إضافة إلى كتبه العامة والتي كان يصدر فيها تعليمات محددة يلتزم بها الجميع، ومن ذلك: إلزامه الناس في الولايات بالمصاحف التي كتبت في المدينة على ملأ من الصحابة؛ حيث أرسل مصاحف إلى كل من الكوفة والبصرة ومكة ومصر والشام والبحرين واليمن والجزيرة بالإضافة إلى مصحف المدينة (1) , وقد أمر عثمان بجمع المصاحف الأخرى وإحراقها وذلك بموافقة الصحابة في المدينة، كما ورد ذلك عن علي - رضي الله عنه - (2)، كما كان عثمان - رضي الله عنه - حريصا على أن يتنافس الأمراء فيما بينهم في الجهاد وفتح بلدان جديدة، فقد كتب إلى عبد الله بن عامر في البصرة وإلى سعيد بن العاص في الكوفة يقول: أيكما سبق إلى خراسان فهو أمير عليها، مما دفع ابن عامر إلى فتح خراسان وسعيد بن العاص إلى فتح طبرستان (3). وقد كان عثمان يشترط بعض الشروط على الولاة أحيانا ليضمن أن يكون تصرفهم في صالح المسلمين، ومثال ذلك أن معاوية بن أبي سفيان كتب إلى عثمان يهوِّن عليه ركوب البحر إلى قبرص، فكتب إليه عثمان: فإن ركبت البحر ومعك امرأتك فاركبه مأذونا لك وإلا فلا، فركب البحر وحمل امرأته (4).
ثانيًا: أساليب عثمان - رضي الله عنه - لمراقبة عماله والاطلاع على أخبارهم:
اتبع عثمان - رضي الله عنه - عدة أساليب لمراقبة عماله والاطلاع على أخبارهم، من ذلك:
1 - حضوره لموسم الحج:
كان عثمان يحرص على الحج بنفسه ويلتقي بالحجاج، ويسمع شكاياتهم وتظلمهم من ولاتهم، كما أنه طلب من العمال أن يوافوه في كل موسم، وكتب إلى الأمصار أن يوافيه العمال في كل موسم ومن يشكوهم (5)، وكان ذلك استمرارا لما كان عليه الحال أيام عمر من لقاء سنوي بين الخليفة والولاة والرعية (6).
_________
(1) تاريخ المدينة، أبو زيد البصري (3/ 997).
(2) المصدر نفسه (3/ 995، 996).
(3) تاريخ اليعقوبي (2/ 166).
(4) الولاية على البلدان (1/ 216) , الخراج وصناعة الكتابة، ص306.
(5) الولاية على البلدان (1/ 216) نقلا عن تاريخ الطبري.
(6) المصدر نفسه (1/ 216).(1/252)
2 - سؤال القادمين من الأمصار والولايات:
وتعتبر هذه الطريقة من أيسر الطرق؛ حيث إنها لا تكلف الخلفاء كثيرا، كما أنها تأتي في كثير من الأحيان دون ترتيب مسبق، وقد اشتهر عن الخلفاء الراشدين الأربعة عملهم بهذه الطريقة، وكان وجود الخليفة في المدينة المنورة خلال عصور الخلفاء الثلاثة الأول مما يساعد الخليفة، نظرا لكثرة الوافدين إلى المدينة للزيارة، وخصوصا أثناء موسم الحج (1).
3 - وجود أناس من أهل البلاد يكتبون إلى الخليفة:
فقد استقبل عثمان - رضي الله عنه - الكتب التي أرسلها بعض الرعية من الأمصار إلى المدينة بما فيها شكاوي؛ فقد استقبل كتابا أرسله أهل الكوفة إليه، وكذلك كتابا أرسله أهل مصر إليه، كما استقبل كتبا أخرى أرسلها أناس من الشام، وقد اطلع عثمان على ما في هذه الكتب وعالج ما فيها (2).
4 - إرسال المفتشين إلى الولايات:
بعث عثمان - رضي الله عنه - العديد من المفتشين إلى بعض الولايات للاطلاع على أحوالها ومعرفة ما يشاع عن ولاته من ظلم للرعية، وقد جاء أولئك المفتشون بتقارير وافية عن أحوال أولئك الولاة (3)؛ فقد أرسل عمار بن ياسر إلى مصر، ومحمد بن مسلمة إلى الكوفة، وأسامة ابن زيد إلى البصرة، وعبد الله بن عمر إلى الشام، بالإضافة إلى إرساله رجالا آخرين إلى أماكن أخرى (4).
5 - السفر إلى الولايات والاطلاع على أحوالها مباشرة:
كان عثمان - رضي الله عنه - يزور مكة في موسم الحج، ويطلع على أحوالها، ويقابل الولاة بها وحجاج الأمصار، ويسأل عن أخبارهم وأحوالهم.
6 - طلب الموفدين من الولايات لسؤالهم عن أمرائهم وولاتهم:
كان الخلفاء الراشدون في كثير من الأحيان يطلبون من الولاة أن يبعثوا إليهم بأناس من أهل البلاد ليسألوهم، وقد تكرر ذلك من عمر وعثمان وعلي رضي الله
_________
(1) الولاية على البلدان (2/ 122).
(2) المصدر نفسه (1/ 217).
(3) المصدر نفسه (1/ 217).
(4) المصدر نفسه (1/ 217).(1/253)
عنهم، أما أبو بكر - رضي الله عنه - فكان مشغولا بأمور جهادية منعته من ذلك، كما كان لقصر مدة خلافته دور في قلة
هذه الحوادث (1).
7 - استقدام الولاة وسؤالهم عن أحوال بلادهم:
وقد اشتهرت هذه الطريقة خلال عصر الخلفاء الراشدين الأربعة، و قد كانت الاتصالات المستمرة قائمة بين الخليفة عثمان وبين ولاته لبحث مختلف شئون الدولة، ومن أهم هذه الاتصالات: الاجتماع الذي عقده عثمان مع ولاته في المدينة؛ حيث دعا ولاة البصرة والكوفة والشام ومصر وغيرهم، ودعا كبار الصحابة وعقد معهم اجتماعا بحث فيه بوادر الفتنة التي بدأت تظهر، وتعرف على آراء أولئك الولاة في الفتنة وكيفية علاجها، فقد أدلى كل وال من هؤلاء برأيه في علاج تلك الظاهرة (2).
8 - المراسلة مع الولاة:
وطلب التقارير منهم عن أحوال رعيتهم وأحوال بلادهم، وقد اشتهرت هذه الطريقة خلال عصور الخلفاء الراشدين الأربعة، وكانت بالأحرى أهم الطرق خلال عصر أبي بكر الصديق وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهما (3).
هذه أهم الأساليب التي اتبعها عثمان في متابعة ومراقبة ولاته، وقد كان - رضي الله عنه - حريصا على قيام الولاة بواجباتهم، وفي حالة وقوع أي مخالفة منهم، فإنهم يؤدبهم على ذلك الخطأ إذا وصل إلى علمه، وإذا ثبت عليه ارتكابه شرع في عقوبته دون النظر إلى حسن ظنه في العامل، ومن ذلك جلده للوليد بن عقبة حد الخمر بعد اكتمال شروطه وبغض النظر عن صدق الشهود من عدمه (4)، وقام بعد جلده بعزله عن ولاية الكوفة (5). وقد درج عثمان - رضي الله عنه - أن يكتب إلى أهل الأمصار عن تعيين وال جديد عليهم ليوصيهم به كما أوصاه بهم، وكذلك كان يكتب في كثير من الأحيان إلى العامة في الأمصار ناصحا، حتى يساعد الولاة في تسيير أمور الرعية، ومن ذلك الكتاب الذي أرسله عثمان إلى الأمصار، يقول فيه: أما بعد، فإني آخذ العمال بموافاتي
_________
(1) الولاية على البلدان (2/ 122).
(2) المصدر نفسه (2/ 123).
(3) المصدر نفسه (2/ 122).
(4) المصدر نفسه (2/ 126).
(5) المصدر نفسه (2/ 217).(1/254)
في كل موسم، وقد سلطت الأمة منذ وليت على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فلا يرفع على شيء ولا على أحد من عمالي إلا أعطيته، وليس لي ولا لعيالي حق قبل الرعية إلا متروك لهم, فيا من ضرب سرا وشتم سرا .. من ادعى شيئا من ذلك فليواف الموسم فيأخذ بحقه؛ حيث كان مني أو من عمالي ... أو تصدقوا فإن الله يجزي المتصدقين، فلما قرئ في الأمصار، أبكى الناس ودعوا لعثمان (1).
ثالثًا: حقوق الولاة:
استقر في عهد الخلفاء الراشدين بأن للولاة حقوقا مختلفة يتصل بعضها بالرعية وبعضها بالخليفة، بالإضافة إلى حقوق أخرى متعلقة ببيت المال، وكل هذه الحقوق الأدبية أو المادية تهدف بالدرجة الأولى إلى إعانة الولاة على القيام بواجباتهم وخدمة المصلحة العامة، ومن أهم هذه الحقوق:
1 - الطاعة في غير معصية الله:
قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأمْرِ مِنْكُمْ فَإِن
تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآَخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} [النساء: 59].
قال القرطبي: لما تقدم إلى الولاة في الآية المتقدمة وبدأ بهم فأمرهم بأداء الأمانات، وأن يحكموا بين الناس بالعدل، تقدم في هذه الآية فأمر الرعية بطاعته جل وعلا أولاً وهي امتثال أوامره واجتناب نواهيه، ثم بطاعة رسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثانيا فيما أمر به ونهى عنه، ثم بطاعة الأمراء ثالثا، على قول الجمهور وأبي هريرة وابن عباس وغيرهم (2). وفي العهد الراشدي خصوصا والمجتمع الإسلامي عموما، الشريعة فوق الجميع، يخضع لها الحاكم والمحكوم، ولهذا فإن طاعة الحكام مقيدة دائما بطاعة الله ورسوله، كما قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا طاعة في المعصية، إنما الطاعة في المعروف» (3).
2 - بذل النصيحة للولاة:
من منطلق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وهو الأساس الذي تقره الأمة بأكملها،
_________
(1) تاريخ الطبري (5/ 349).
(2) تفسير القرطبي (5/ 259).
(3) البخاري، كتاب الأحكام، رقم (7145).(1/255)
والذي وردت الأوامر به من خلال الآيات القرآنية والأحاديث النبوية التي تحدثت عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على وجه العموم، ومنها ما خص الولاة به؛ حيث أمرت الأحاديث النبوية ببذل النصيحة لهم، وقد دأب الخلفاء الراشدون الأربعة على الكتابة لولاتهم باستمرار يبذلون لهم النصيحة، والنصوص الواردة في هذه كثيرة يصعب حصرها (1).
3 - يجب على الرعية للوالي إيصال الأخبار الصحيحة إليه:
والصدق في ذلك سواء ما يخص أحوال العامة، أو ما يخص أخبار الأعداء, أو ما كان متعلقا بعمال الوالي وموظفيه، والعجلة في ذلك قدر المستطاع، خصوصا ما كان متعلقا بالأمور الحربية وأخبار الأعداء وما يتعلق بخيانات العمال وغير ذلك، من منطلق الاشتراك في المسئولية مع الوالي في مراعاة المصلحة العامة للأمة (2).
4 - مؤازرة الوالي في موقفه:
وعندما اندلعت الفتنة وطلب أصحابها من عثمان عزل بعض ولاته رفض عثمان ذلك، وكان هذا التعضيد يخدم الهدف العام للدولة الإسلامية ويمنع الاضطراب، ولا يعني ذلك عدم الالتفات إلى الشكاوي ومؤازرة الولاة بدون تحقق؛ بل إن هذا التعضيد من الخلفاء إنما يأتي بعد تحقق وتثبت من تلك الشكايات، وبعد محاسبة دقيقة قد تتطلب إرسال لجان خاصة من بعض الصحابة للتحقيق في تلك القضايا، كما أن المؤازرة للوالي واجبة من قبل الخليفة، فهي كذلك واجبة من قبل الرعية، وأن على الناس احترامهم وتقديرهم (3)، وإن كان عثمان - رضي الله عنه - قد عزل بعض الولاة وذلك لما رآه من مصلحة الرعية.
5 - احترامهم بعد عزلهم:
ومن ذلك ما فعله عثمان مع أبي موسى الأشعري وعمرو بن العاص رضي الله عنهما، بل نلاحظ أن عثمان استشار عمرو بن العاص في مسائل الدولة الكبرى بعد عزله، وهذا احترام فائق من عثمان - رضي الله عنه - لمن عزلهم من الولاة.
6 - مرتبات الولاة:
ومن حقوق الولاة مرتباتهم التي يعيشون عليها، ومبدأ الأرزاق والرواتب للعمال
_________
(1) الولاية على البلدان (2/ 56).
(2) المصدر نفسه (2/ 57).
(3) المصدر نفسه (2/ 58).(1/256)
متفق عليه بين الخلفاء الراشدين اقتداء بما فعله الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ولئن كانت الروايات قد اقتصرت على ذكر مرتبات بعض العمال فقط، فإن المفهوم أن جميع العمال كانت لهم مرتبات خلال عصور الراشدين، ومعظم الروايات التي وردت في هذا الموضوع كانت تركز بالدرجة الأولى على عصر عمر بن الخطاب؛ حيث ورد ذكر مقدار أرزاق بعض الولاة في عصره، وقد مضى عثمان وعلي -رضي الله عنهما- على سيرة من سبقهما من الخلفاء في فرض الأرزاق للعمال والولاة، إلا أن عصر عثمان - رضي الله عنه - كان على ما يبدو أكثر توسعا في بذل الأعطيات للناس عموما ومن ضمنهم الولاة؛ نظرا لزيادة الدخل في بيت المال نتيجة الفتوح الواسعة التي قام بها ولاة عثمان في المشرق وفي أرمينية وأفريقية وغيرها، بل إن عثمان - رضي الله عنه - كان يعطي مكافآت مقطوعة للعمال خاصة وبارزة؛ فقد أعطى لعبد الله بن سعد بن أبي السرح خمس الخمس من الغنيمة جزاء فتوحه في شمال أفريقية؛ حيث قال له: إن فتح الله عليك غدًا أفريقية فلك ما أفاء الله على المسلمين خمس الخمس من الغنيمة نفلا (1). وعلى كل حال فإن إعطاء الأرزاق للعمال وإغناءهم عن الناس كان مبدأ إسلاميا فرضه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وسار عليه الخلفاء الراشدون من بعده، حتى أغنوا العمال عن أموال الناس، وفرغوهم للعمل ولمصلحة الدولة (2).
رابعًا: واجبات الولاة:
1 - إقامة الدين، ومن أبرز تلك الواجبات:
أ- نشر الدين الإسلامي بين الناس:
حيث اختص ذلك العصر بفتوحات عظيمة اقتضت من الولاة العمل على نشر الدين في البلاد المفتوحة مستعينين بمن معهم من الصحابة، وقد كان الولاة يقومون بهذه المهمة مع وجود من يساعدهم في بداية الفتوح في عهد أبي بكر - رضي الله عنه -، ثم بدأت الأمصار تعتمد على معلمين وفقهاء قدموا لهذه المهمة بعد التوسع وبناء الأمصار في عهد عمر، وقد تأكد وجود المعلمين بعد ذلك خلال الفترة الأخيرة من خلافة عمر، وخلال فترة خلافة عثمان وعلي، وذلك لكثرة السكان في الأمصار وكثرة طلاب العلم، وانشغال الولاة بأمور مختلفة، وتوسع الولايات؛ حيث كانت تتبع الولاية الواحدة العديد من الأمصار التي كان الناس فيها بحاجة إلى فقهاء ومعلمين (3).
_________
(1) تاريخ الطبري (5/ 252).
(2) الولاية على البلدان (2/ 64).
(3) المصدر نفسه (2/ 66).(1/257)
ب- إقامة الصلاة:
كان الخليفة نفسه طيلة عصر الخلفاء الراشدين الأربعة هو الذي يقيم صلاة الجمعة والجماعة والأعياد في البلد الذي يقيم فيه، ويخطب في الناس الجمعة والأعياد والمناسبات الأخرى، وكذلك نوابه يقومون بهذه المهمة في أمصارهم، وطيلة عهد الخلفاء الراشدين كان الولاة يخطبون في الناس بأنفسهم ويؤمونهم في الصلاة (1).
ج- حفظ الدين وأصوله:
كان الخلفاء الراشدون بعد وفاة الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يشعرون بعظم الواجب الملقى عليهم في حفظ الدين على أصوله الصحيحة التي نزلت على رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وكانوا يعملون جاهدين في إحياء سنة الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والقضاء على البدع، والعمل على احترام دين الله واحترام رسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ورد كيد من يحاولون الدس على هذا الدين. وقد عمل عثمان - رضي الله عنه - على كتابة المصحف الشريف وإرسال نسخ منه إلى الأمصار، وأمر ولاته بإحراق ما لدى الناس من مصاحف أخرى من قبيل المحافظة على أهم أصول الدين، وهو القرآن الكريم (2). وقد بذل ولاة عثمان جهودا كبيرة في محاربة السبئية الذين جاءوا بآراء غريبة على الإسلام وضيقوا عليهم وطاردوهم (3). وعلى العموم فإن المحافظة على الدين واحترامه كان من أهم الواجبات الموكلة إلى الولاة (4).
د- تخطيط وبناء المساجد:
حينما وصل الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى قباء قام ببناء أول المساجد في الإسلام، وبعد وصوله إلى المدينة بدأ ببناء مسجده فيها، وحينما كان الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يبعث بالولاة إلى البلدان كان هؤلاء الولاة يقومون ببناء المساجد فيها، واستمر الخلفاء الراشدون بعد ذلك في بناء المساجد في البلدان والأمصار التي فتحها المسلمون، وإن كان الولاة لم يقوموا بتأسيس جميع هذه المساجد فإن لهم دورا في إنشاء المساجد الرئيسية في معظم البلدان التابعة لولاتهم وخصوصا الجوامع منها (5).
_________
(1) الولاية على البلدان (2/ 67).
(2) تاريخ المدينة (3/ 996 - 999).
(3) عبد الله بن سبأ وأثره في أحداث الفتنة، سليمان العودة، ص214.
(4) الولاية على البلدان (2/ 69).
(5) الولاية على البلدان (2/ 69).(1/258)
هـ- تيسير أمور الحج:
كان الولاة على البلدان في صدر الإسلام مسئولين عن تيسير أمور الحج في ولاياتهم وتأمين سلامة الحجاج منها، فقد كان الولاة يعينون الأمراء على قوافل الحج، ويحددون لهم أوقات السفر؛ حيث لا يغادر الحجاج بلدانهم إلا بإذن الوالي، ولم يكتفِ بعض الأمراء بأمور الترتيب؛ بل نجد منهم من عمل على تأمين المياه في الأماكن التي يسلكها الحجاج من ولايته، فهذا عبد الله بن عامر بن كريز أجرى المياه في طريق حجاج البصرة حينما كان عاملا عليها لعثمان بن عفان؛ حيث أوجد المياه في الطريق من البصرة إلى مكة (1). وقد أكد الفقهاء بعد ذلك على أن تسيير الحجاج عمل من مهام الوالي على بلده، يقول الماوردي: أما تسيير الحجيج فداخلة في أحكام إمارته؛ لأنه من جملة المعونات التي تنسب إليه (2).
و- إقامة الحدود الشرعية:
إن إقامة الحدود على المخالفين لأوامر الله وسنة رسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - واجب ديني ملقى على الولاة، وهو من أهم الأمور الموكلة إليهم سواء منها الحدود المتعلقة بمن يتعرض لمنافع المسلمين العامة أو من يتعرض بالضرر لأقوام معينين (3)، وقد قام عثمان وولاته بإقامة الحدود الشرعية في عهده - رضي الله عنه -.
2 - تأمين الناس في بلادهم:
المحافظة على الأمن في الولاية من أعظم الأمور الموكلة إلى الوالي، وفي سبيل تحقيق ذلك فإنه يقوم بالعديد من الأمور أهمها إقامة الحدود على العصاة والفساق (4)، مما يحد من الجرائم التي تهدد حياة الناس وممتلكاتهم، وبالتالي تقل الحوادث الأمنية من القتل أو السرقة أو قطع الطريق وما إلى ذلك؛ بل الأمر أيضا يشمل ما يلقيه الناس من أقوال ضد بعضهم البعض من قذف وغيره، فإن إقامة الحد فيها يمنع من الاعتداء الأدبي على الناس في أعراضهم ومحارمهم, ولم يقتصر الأمر على تأمين الناس بعضهم من بعض؛ بل إن العمال -وبأمر من الخلفاء- يعملون على تأمين رعاياهم من الحشرات والهوام
_________
(1) الولاية على البلدان (1/ 192).
(2) الأحكام السلطانية، أبو الحسن الماوردي، ص33.
(3) السياسة الشرعية لابن تيمية، ص66.
(4) الولاية على البلدان (2/ 71).(1/259)
كالعقارب وغيرها، يقول البلاذري: كتب عامل نصيبين إلى معاوية وهو عامل عثمان على الشام والجزيرة يشكو إليه أن جماعة من المسلمين ممن معه أصيبوا بالعقارب فكتب إليه يأمره أن يوظف على أهل كل حيز من المدينة عدة من العقارب مسماة في كل ليلة ففعل، وكانوا يأتونه بها فيأمر بقتلها (1).
3 - الجهاد في سبيل الله:
إن السمة العامة لعهد الخلفاء الراشدين أن الولاة هم قادة الجهاد في تلك البلدان، كما أن الولاة في عهد عثمان - رضي الله عنه - كان لهم دور كبير في الفتوح ومنهم عبد الله بن عامر بن كريز والمغيرة بن شعبة، وأبو موسى الأشعري الذين واصلوا الفتوح في المشرق، ومثل عبد الله بن سعد بن أبي السرح الذي واصل الفتوح في شمال أفريقية، ومعاوية بن أبي سفيان الذي واصل الفتوح في نواحي أرمينية وبلاد الروم، وهكذا فإننا نرى أن الأمراء في عهد الخلفاء الراشدين كانوا مع إدارتهم لبلادهم مجاهدين لنواحي العدو، ولم يمنعهم ذلك من القيام بأعمالهم الموكلة إليهم، ولا شك أن الجهاد كان مصحوبا بعمليات معينة تخدم الشئون العامة له، وقد تحدثت المصادر التاريخية عن أهم هذه الأعمال التي جرت من قبل الأمراء، منها:
أ- إرسال المتطوعين من قبل الأمراء إلى الجهاد: فقد كان ولاة اليمن والبحرين ومكة وعمان يبعثون بالمجاهدين خلال عهد أبي بكر وعمر وعثمان (2).
ب- الدفاع عن الولاية ضد الأعداء: كان ولاة الشام يدافعون الروم طيلة عهد الخلفاء الراشدين، وكذلك الحال عند ولاة العراق الذين دافعوا الفرس حتى تمكنوا من قتل آخر ملوكهم في عصر الخليفة عثمان بن عفان - رضي الله عنه -.
ج- تحصين البلاد: كان عثمان - رضي الله عنه - يأمر بتحصين السواحل وشحنها، وإقطاع القطائع لمن ينزلها من المسلمين للمساعدة في شحنها بالرجال (3).
_________
(1) فتوح البلدان، البلاذري، ص183.
(2) الولاية على البلدان (2/ 72).
(3) المصدر نفسه (2/ 73).(1/260)
د- تتبع أخبار الأعداء: فقد قام الولاة بتتبع أخبار الأعداء وتوجيه الضربات الموجعة إليهم، واستطاعوا أن يخترقوا صفوفهم ويزرعوا عيونا تابعة لهم.
هـ- إمداد الأمصار بالخيل: كانت الخيل ذات أهمية خاصة في الجهاد، وقد اهتم المسلمون بتربيتها منذ أيام الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - واعتنوا بها عناية خاصة، وقد وضع عمر سياسة عامة في الدولة لتوفير الخيل اللازمة للجهاد في الأمصار الإسلامية حسب حاجتها (1). وسار عثمان - رضي الله عنه - على نفس السياسة العمرية في اهتمامه بالخيل، فقد كانت هذه الخيول مجهزة للدفاع الفوري عن الدولة الإسلامية.
و- تعليم الغلمان وإعدادهم للجهاد: اهتم الخلفاء الراشدون بتربية الأولاد وتعليمهم ما يفيدهم في حياتهم الجهادية مستقبلا.
ز- متابعة دواوين الجند: سار عثمان - رضي الله عنه - على نهج السياسة العمرية في اهتمامه بدواوين الجند، وقد اهتم - رضي الله عنه - اهتماما بدواوين الأمصار لاعتقاده بأن أهل الأمصار أحوج الناس للضبط خصوصا القريبة من الأعداء وهي الأمصار التي تحتاج إلى الجنود باستمرار، وقد كان الولاة على البلدان مسئولين مباشرة عن دواوين الجند رغم وجود بعض الموظفين الآخرين الذين يتولون مهمتها، ولكن باعتبار أن هؤلاء الولاة هم أمراء الحرب؛ فقد كانت مسئوليتهم عن الدواوين في بلدانهم كمسئولية الخليفة باعتبارهم نوَّابًا (2).
ح- تنفيذ المعاهدات: إن الفتوح الإسلامية في عهد الخلفاء الراشدين صاحبتها مراسلات مع الأعداء، ومعاهدات ومصالحات كثيرة بين المسلمين وأهل البلاد المفتوحة، وقد كان الأمراء على البلدان بصفتهم قادة الجند مسئولين مباشرة عن عقد مثل هذه المصالحات وعن تنفيذها (3).
_________
(1) الولاية على البلدان (2/ 74).
(2) الولاية على البلدان (2/ 75).
(3) المصدر نفسه (2/ 77).(1/261)
4 - بذل الجهد في تأمين الأرزاق للناس:
اتبع الخلفاء الراشدون منذ عصر أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - طريقة جديدة لتوزيع الأعطيات على المسلمين من موارد بيت المال المختلفة، وقد كانت في البداية غير محددة بأوقات معينة، ولكن في عهد عمر - رضي الله عنه - تغيرت بعد وضعه للدواوين في الأمصار المختلفة؛ حيث بدأ توزيع الأعطيات يأخذ شكلا دوريا منتظما سار عليه عثمان - رضي الله عنه -، ولم يكتف الخلفاء وولاتهم في العهد الراشدي بتأمين الطعام ومراقبة الأسواق فقط؛ بل إن السكن وتوزيعه كان من المهام الموكلة لأمراء البلدان، كما كان الأمراء يشرفون على تقسيم البيوت في المدن المفتوحة (1).
5 - تعيين العمال والموظفين:
كان تعيين العمال والموظفين في الوظائف التابعة للولاية في كثير من الأحايين من مهام الوالي، حيث إن الولاية في الغالب تتكون من بلد رئيسي إضافة إلى بلدان وأقاليم أخرى تابعة للولاية، وهي بحاجة إلى تنظيم أمورها، فكان الولاة يعينون من قبلهم عمالا وموظفين في تلك المناطق، وفي عصر عثمان - رضي الله عنه - أصبح هؤلاء العمال التابعون للولاة يحكمون مناطق كبيرة نظرا لتوسع الولايات نتيجة الفتوح وانضمام أقاليم كبيرة بأكملها إلى ولايات كانت محددة في السابق كالبصرة والكوفة والشام وغيرها، وبالتالي فإن توزيع العمال وإدارتهم وتنظيمهم كانت مهمة كبيرة من المهام التي يقوم بها ولاة البلدان.
6 - رعاية أهل الذمة:
كانت رعاية أهل الذمة واحترام عهودهم والقيام بحقوقهم الشرعية، ومطالبتهم بما عليهم للمسلمين من واجبات، وتتبع أحوالهم، وأخذ حقوقهم ممن يظلمهم انطلاقا من الأوامر الشرعية في هذا الجانب من واجبات الوالي (2).
7 - مشاورة أهل الرأي في ولايته:
سار الخلفاء على نهج الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في مشاورة أهل الرأي من الصحابة؛ حيث كانوا يعقدون مجالس لكبار الصحابة، يستشيرونهم في مختلف الأمور (3)، كما كانوا
_________
(1) الولاية على البلدان (2/ 79).
(2) المصدر نفسه (2/ 80).
(3) المصدر نفسه (2/ 80).(1/262)
يأمرون ولاتهم باستشارة أهل الرأي في بلادهم، وكان الولاة يطبقون ذلك ويعقدون مجالس للناس
لأخذ آرائهم (1).
8 - النظر في حاجة الولاية العمرانية:
اشتهر عن الخلفاء الراشدين وولاتهم عنايتهم بحاجة السكان في النواحي العمرانية والزراعية، وفي عهد عثمان - رضي الله عنه - قام عبد الله بن عامر واليه على البصرة بحفر الآبار والعيون ليس في ولاية البصرة فحسب بل في أماكن أخرى عديدة (2).
9 - مراعاة الأحوال الاجتماعية لسكان الولاية:
كان الولاة من منطلق تعاليم الإسلام الشاملة يراعون هذا الجانب بكل ما فيه من تعليمات، إلا أن ولاة ذلك العصر -وبتوجيه من الخلفاء الراشدين- قاموا ببعض الأعمال الاجتماعية التي يصعب أن يقوم بها من هم في مثل منصبهم، كما حرص الخلفاء على أن ينزلوا الناس على منازلهم، وأن يحترم الولاة أهل الشرف والسابقة في الإسلام، ومن ذلك أن عامل عثمان على الكوفة كتب إليه يشكو من غلبة الأعراب والروادف على أهل الشرف والبلاء والسابقة في الإسلام، (3) فكتب إليه عثمان: أما بعد، ففضِّل أهل السابقة والقدمة ممن فتح الله عليه تلك البلاد وليكن من نزلها بسببهم تبعا لهم، إلا أن يكونوا تثاقلوا عن الحق وتركوا القيام به وقام به هؤلاء، واحفظ لكلٍّ منزلته، وأعطهم جميعا بقسطهم من الحق، فإن المعرفة بالناس بها يصاب العدل (4).
10 - أوقات عمل الوالي:
اشتهر عن الوليد بن عقبة والي عثمان على الكوفة أنه لم يكن لداره باب، وأنه كان يستقبل الناس في جميع الأوقات، وهذا يدل على تمتع الناس بحرية مراجعة الأمير من غير حرج متى أرادوا ذلك لحاجة (5)؛ فقد كان للوالي قسم تابع لبيته مفتوح للناس متى أرادوا المجيء إليه مفصول عن أهله وأولاده.
* * *
_________
(1) الولاية على البلدان (2/ 80).
(2) المصدر نفسه (2/ 81).
(3) الولاية على البلدان (2/ 82)، تاريخ الطبري (5/ 280).
(4) الولاية على البلدان (2/ 82).
(5) الولاية على البلدان (2/ 82).(1/263)
المبحث الثالث
حقيقة ولاة عثمان - رضي الله عنه -
يكثر المؤرخون من الحديث عن محاباة عثمان أقاربه وسيطرتهم على أزِمَّة الحكم في عهده، حتى أثاروا عليه نقمة كثير من الناس، فثاروا ناقمين عليه إطلاقه يد ذوي قرباه في شئون الدولة (1). وأقارب عثمان الذين ولاهم - رضي الله عنه -: أولهم معاوية، والثاني عبد الله بن أبي السرح، الثالث الوليد بن عقبة، الرابع سعيد بن العاص، الخامس عبد الله بن عامر، هؤلاء خمسة ولاهم عثمان وهم من أقاربه، وهذا في زعمهم مطعن عليه فلننظر أولا من هم ولاة عثمان - رضي الله عنه -، هم: أبو موسى الأشعري، القعقاع بن عمرو، جابر المزني، حبيب بن مسلمة، عبد الرحمن بن خالد بن الوليد، أبو الأعور السلمي، حكيم بن سلامة، الأشعث بن قيس، جرير بن عبد الله البجلي، عيينة بن النهاس، مالك بن حبيب، النسير العجلي، السائب بن الأقرع، سعيد بن قيس، سلمان بن ربيعة، خنيس بن حبيش، الأحنف بن قيس، وعبد الرحمن بن ربيعة، ويعلى بن مُنَية (2)، وعبد الله بن عمرو الحضرمي، وعلي بن ربيعة بن عبد العزى.
هؤلاء هم ولاة عثمان - رضي الله عنه -، يعني لو أخذنا إحصائية لوجدنا أن عدد الولاة ثمانية عشر واليا، ألا يصح أن يكون خمسة من بني أمية يستحقون الولاية، وبخاصة إذا علمنا أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يولي بني أمية أكثر من غيرهم، ثم يقال بعد ذلك: إن هؤلاء الولاة لم يكونوا كلهم في وقت واحد، بل كان عثمان - رضي الله عنه - قد ولى الوليد بن عقبة ثم عزله فولى مكانه سعيد بن العاص، فلم يكونوا خمسة في وقت واحد، وأيضا لم يتوف عثمان إلا وقد عزل أيضا سعيد بن العاص، فعندما توفي عثمان لم يكن من بني أمية من الولاة إلا ثلاثة وهم: معاوبة وعبد الله بن سعد بن أبي السرح، وعبد الله بن عامر بن كريز فقط، عزل عثمان الوليد بن عقبة وسعيد بن العاص، ولكنه عزلهما من أين؟ من
_________
(1) الدولة الأموية المفترى عليها، ص159.
(2) وهو يعلي بن أمية بن أبي عبيدة التميمي، سير أعلام النبلاء، (3/ 100).(1/264)
الكوفة التي عزل منها عمر سعد بن أبي وقاص، الكوفة التي لم ترضَ بوال أبدا؛ إذ عزل عثمان - رضي الله عنه - لأولئك الولاة لا يعتبر مطعنا فيهم بل مطعن في المدينة التي ولوا عليها (1).
إن بني أمية كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يستعملهم في حياته واستعملهم بعده من لا يتهم بقرابة فيهم أبو بكر وعمر رضي الله عنهما، ولا نعرف قبيلة من قبائل قريش فيها عمال لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أكثر من بني عبد شمس؛ لأنهم كانوا كثيرين، وكان فيهم شرف وسؤدد، فاستعمل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عتاب بن أسيد بن أبي العاص على مكة، وأبا سفيان بن حرب على نجران، وخالد ابن سعيد على صدقات بني مذجح، وأبان بن سعيد على بعض السرايا ثم على البحرين، فعثمان لم يستعمل إلا من استعمله النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ومن جنسهم وقبيلتهم، وكذلك أبو بكر وعمر بعده؛ فقد ولى أبو بكر يزيد بن أبي سفيان في فتوح الشام، وأقره عمر، ثم ولى عمر بعده أخاه معاوية (2).
والسؤال الذي يطرح نفسه أأثبت هؤلاء كفاءتهم أم لا؟ وستأتي شهادات أهل العلم في أولئك الولاة الذين ولاهم عثمان - رضي الله عنه - بإذن الله تعالى.
إن عثمان خليفة راشد يقتدى به، وأفعاله تشكل سوابق دستورية في هذه الأمة، فكما أن عمر سن لمن بعده التحرج عن تقريب الأقربين فإن عثمان سن لمن بعده تقريب الأقربين إذا كانوا أهل كفاءة، ومن تتبع سيرة عثمان لا يشك في كفاءتهم الإدارية، وكل ما أنكر على عثمان لا يخرج عن دائرة المباح (3).
إن الولاة الذين ولاهم عثمان - رضي الله عنه - من أقاربه قد أثبتوا الكفاية والمقدرة في إدارة شئون ولاياتهم، وفتح الله على أيديهم الكثير من البلدان، وساروا في الرعية سيرة العدل والإحسان, ومنهم من تقلد مهام الولاية قبل ذلك في عهد الصديق والفاروق رضي الله عنهما (4). ولننظر إلى أقوال أهل العلم في أولئك الولاة:
_________
(1) حقبة من التاريخ، ص75.
(2) منهاج السنة (3/ 175، 176).
(3) الأساس في السنة وفقهها، سعيد حوى (4/ 1675).
(4) تحقيق مواقف الصحابة في الفتنة (1/ 417).(1/265)
أولاً: معاوية بن أبي سفيان بن حرب الأموي:
ذكر المترجمون لهذا الصحابي الكريم فضائل جمة، وإليك شيئا منها:
1 - من القرآن الكريم:
اشترك معاوية - رضي الله عنه - في غزوة حنين، قال تعالى: {ثُمَّ أَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا وَعذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ} [التوبة: 26].
فمعاوية - رضي الله عنه - من الذين شهدوا غزوة حنين، وكان من المؤمنين الذين أنزل الله سكينته عليهم مع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (1).
2 - من السنة:
دعاء الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لمعاوية - رضي الله عنه -، ومن ذلك قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «اللهم اجعله هادياً (2) مهدياً (3) واهد به» (4). وقوله عليه الصلاة والسلام: «اللهم علِّم معاوية الكتاب والحساب، وقِهِ العذاب» (5). وقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أول جيش من أمتي يغزون البحر قد أوجبوا» (6). قالت أم حرام: قلت: يا رسول الله، أنا فيهم؟ قال: «أنت فيهم»، ثم قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أول جيش من أمتي يغزون مدينة قيصر (7) مغفور لهم»، فقلت -أي أم حرام-: أنا فيهم يا رسول الله؟ قال: لا (8). قال المهلب (9): في هذا الحديث منقبة لمعاوية؛ لأنه أول من غزا البحر (10).
_________
(1) مرويات خلافة معاوية في تاريخ الطبري، خالد الغيث، ص23.
(2) هادياً: للناس، أو دالا على الخير.
(3) مهدياً: أي مهتديا في نفسه.
(4) صحيح سنن الترمذي للألباني (3/ 236).
(5) موارد الظمآن (7/ 249) إسناده حسن.
(6) أوجبوا: أي فعلوا فعلا وجبت لهم به الجنة، فتح الباري (6/ 121).
(7) مدينة قيصر: يعني القسطنطينية.
(8) البخاري رقم (2924).
(9) المهلب بن أحمد الأندلسي، مصنف شرح صحيح البخاري، توفي 435هـ.
(10) فتح الباري (6/ 120).(1/266)
3 - ثناء أهل العلم على معاوية - رضي الله عنه -:
أ- ثناء عبد الله بن عباس -رضي الله عنهما- عليه:
قيل لابن عباس: هل لك في أمير المؤمنين معاوية، فإنه ما أوتر إلا بواحدة، قال: إنه فقيه (1). ومما يناسب المقام ذكر بعض المسائل الفقهية التي أثرت عن معاوية - رضي الله عنه - ومن تلك المسائل ما يلي:
* أثر عنه - رضي الله عنه - أنه أوتر بركعة.
* أثر عنه - رضي الله عنه - الاستسقاء بمن ظهر صلاحه (2).
* أنه يجزئ إخراج نصف صاع من البُرِّ في زكاة الفطر (3).
* استحباب تطييب البدن لمن أراد الإحرام (4).
* جواز بيع وشراء دور مكة (5).
* التفريق بين الزوجين بسبب (6) العُنَّة (7).
* وقوع طلاق السكران.
* عدم قتل المسلم بالكافر قصاصا.
* حبس القاتل حتى يبلغ ابن القتيل (8).
ب- ثناء عبد الله بن المبارك على معاوية - رضي الله عنه -:
قال عبد الله بن المبارك: معاوية عندنا محنة، فمن رأيناه ينظر إليه شذرا اتهمناه على القوم؛ يعني الصحابة (9).
_________
(1) فتح الباري (7/ 130).
(2) المغني لابن قدامة (3/ 346).
(3) زاد المعاد (2/ 19).
(4) المغني (5/ 77).
(5) المصدر نفسه (6/ 366).
(6) العنة: هي عجز الرجل عن إتيان زوجته، القاموس المحيط، (1570).
(7) مرويات خلافة معاوية في تاريخ الطبري، خالد الغيث، ص28.
(8) المصدر نفسه، ص29.
(9) مرويات خلافة معاوية، ص29.(1/267)
ج- ثناء أحمد بن حنبل:
سئل الإمام أحمد: ما تقول - رحمك الله- فيمن قال: لا أقول إن معاوية كاتب الوحي، ولا أقول إنه خال المؤمنين فإنه أخذها بالسيف غصبا (1)؟ قال أبو عبد الله: هذا قول سوء رديء، يجانبون هؤلاء القوم ولا يجالسون، ونبين أمرهم للناس (2).
د- ثناء القاضي ابن العربي على معاوية - رضي الله عنه -:
تحدث ابن العربي عن الخصال التي اجتمعت في معاوية - رضي الله عنه - فذكر منها: قيامه بحماية البيضة، وسد الثغور، وإصلاح الجند، والظهور على العدو، وسياسة الخلق (3). وقد علق محب الدين الخطيب على هذا النص بقوله: وقد بلغ من همته -يعني معاوية- وعظيم عنايته بذلك أن أرسل يهدد ملك الروم وهو في معمعة القتال مع علي في صفين، وقد بلغه أن ملك الروم اقترب من الحدود في جنود عظيمة (4). وفي ذلك يقول ابن كثير: وطمع في معاوية ملك الروم بعد أن كان قد أخشاه وأذله، وقهر جنده ودحاهم، فلما رأى ملك الروم اشتغال معاوية بحرب عليٍّ تدانى إلى بعض البلاد في جنود عظيمة وطمع فيه، فكتب معاوية إليه: والله لئن لم تنته وترجع إلى بلادك يا لعين، لاصطلحن أنا وابن عمي عليك، ولأخرجنك من جميع بلادك، ولأضيقن عليك الأرض بما رحبت، فعند ذلك خاف ملك الروم، وبعث يطلب الهدنة (5).
هـ- ثناء ابن تيمية على معاوية - رضي الله عنه -:
قال عنه ابن تيمية: « ... فإن معاوية ثبت عنه بالتواتر أنه أمَّرَه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كما أمر غيره، وجاهد معه، وكان أمينا عنده يكتب له الوحي، وما اتهمه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في كتابة
_________
(1) مرويات خلافة معاوية، ص29.
(2) السنة للخلال، تحقيق عطية الزهراني (2/ 434).
(3) العواصم من القواصم، ص210، 211.
(4) مرويات خلافة معاوية، ص31.
(5) البداية والنهاية (8/ 119).(1/268)
الوحي، وولاه عمر بن الخطاب الذي كان من أخبر الناس بالرجال، وقد ضرب الله الحق على لسانه وقلبه، ولم يتهمه في ولايته» (1).
و- ثناء ابن كثير عليه:
قال عنه ابن كثير: وأجمعت الرعايا على بيعته في سنة إحدى وأربعين، فلم يزل مستقلا بالأمر في هذه المدة إلى هذه السنة التي كانت فيها وفاته، والجهاد في بلاد العدو قائم، وكلمة الله عالية، والغنائم ترد إليه من أطراف الأرض، والمسلمون معه في راحة وعدل، وصفح وعفو. وقال أيضا: كان حليما (2) , وقورا، رئيسا، سيدا في الناس، كريما، عادلا, شهما (3). وقال عنه أيضا: كان جيد السيرة، حسن التجاوز، جميل العفو، كثير الستر، رحمه الله تعالى (4).
4 - روايته للحديث:
يعد معاوية - رضي الله عنه - من الذين نالوا شرف الرواية عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ومرد ذلك إلى ملازمته لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعد فتح مكة، لكونه صهره وكاتبه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. هذا وقد روى معاوية - رضي الله عنه - مائة وثلاثة وستين حديثا عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، اتفق له البخاري ومسلم على أربعة أحاديث، وانفرد البخاري بأربعة ومسلم بخمسة (5). وكانت سيرة معاوية - رضي الله عنه - مع الرعية في ولايته من خير سير الولاة، مما جعل الناس يحبونه، وقد ثبت في الصحيح عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «خيار أئمتكم - حكامكم - الذين تحبونهم ويحبونكم، وتصلون عليهم - تدعون لهم - ويصلون عليكم، وشرار أئمتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم وتلعنونهم ويلعنونكم» (6).
وأختم حديثي عن معاوية - رضي الله عنه - بما قاله القاضي أبو بكر بن العربي: فعمر ولاه وجمع له الشامات كلها وأقره عثمان، بل إنما ولاه أبو بكر الصديق لأنه ولى أخاه يزيد واستخلفه، فأقره عمر، لتعلقه بولاية أبي بكر لأجل استخلاف واليه له،
_________
(1) الفتاوى (4/ 472) , البداية والنهاية (8/ 122)، سير أعلام النبلاء (3/ 129).
(2) أفرد ابن أبي الدنيا، وأبو بكر بن أبي عاصم تصنيفا في حلم معاوية.
(3) البداية والنهاية (8/ 118).
(4) المصدر نفسه (8/ 126).
(5) مرويات خلافة معاوية في تاريخ الطبري، ص33.
(6) مسلم، كتاب الإمارة، رقم 65.(1/269)
فتعلق عثمان بعمر وأقره، فانظر إلى هذه السلسلة ما أوثق عراها (1). وثبت أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - استكتبه، فيكون سند ولايته الأعمال في الدولة الإسلامية، لم يكن لأحد قبله ولم يكن لأحد بعده؛ حيث اجتمع على توليته رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ومن بعده خلفاؤه الثلاثة، ثم صالحه وأقر له بالخلافة الحسن بن علي سبط رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (2).
ثانيًا: عبد الله بن عامر بن كريز:
هو عبد الله بن عامر بن كريز بن ربيعة بن عبد شمس بن عبد مناف بن قصي القرشي العبشمي (3).
ولد في عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وذلك في السنة الرابعة للهجرة (4). وعندما اعتمر الرسول الكريم - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في السنة السابعة للهجرة عمرة القضاء، ودخل مكة حمل إليه عبد الله بن عامر، قال ابن حجر: « ... فتلمظ وتثاءب، فتفل رسول الله في فيه، وقال: «هذا ابن السلمية؟» قالوا: نعم، فقال: «هذا أشبهنا» وجعل يتفل في فيه ويعوذه، فجعل يبتلع ريق النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: إنه لمسقى، فكان لا يعالج أرضا إلا ظهر له الماء (5).
لم يتول عبد الله بن عامر منصبا إداريا أو عسكريا إلى أن أصبح واليا على البصرة سنة 29هـ/649م، وهو ابن خال الخليفة عثمان بن عفان - رضي الله عنه -؛ لأن أم عثمان هي أروى بنت كريز بن ربيعة، وكانت أم عبد الله بن عامر من بني سُليم (6).
ولما عُين لولاية البصرة كان عمره أربعا أو خمسا وعشرين (7)، وظل واليا على البصرة حتى مقتل الخليفة عثمان - رضي الله عنه - عندما تجهز بجيش كبير، وحمل ما عنده من الأموال فسار إلى مكة حيث وافى الزبير، ورجع منها إلى البصرة فشهد موقعة الجمل، ولم يحضر موقعة صفين، على الرغم من أن القلقشندي ذكر أنه كان في التحكيم مع معاوية بصفين (8). وفي خلافة معاوية تولى إمارة البصرة لمدة ثلاث سنوات
_________
(1) العواصم من القواصم، ص83.
(2) المدينة المنورة .. فجر الإسلام والعصر الراشدي (2/ 216).
(3) البداية والنهاية (8/ 91).
(4) تهذيب التهذيب (5/ 272).
(5) سير أعلام النبلاء (3/ 19)، تهذيب التهذيب (5/ 273)، أسد الغابة (3/ 293)، رقم (3031).
(6) الطبقات (5/ 31)، تهذيب التهذيب (5/ 272).
(7) البداية والنهاية (8/ 91).
(8) مجلة المؤرخ العربي، رقم 21، ص128.(1/270)
ثم عزله عنها، فأقام بالمدينة، ومات بها سنة سبع وخمسين للهجرة (1). وفي رواية ابن قتيبة: أنه توفى بمكة ودفن بعرفات عام تسع وخمسين (2). وأشاد ابن سعد به قائلا: كان عبد الله شريفا، سخيا كريما كثير المال، والولد، محبا للعمران (3). وقال عنه ابن حجر: كان جوادا كريما ميمونا .. جريئا شجاعا (4) , وكان يعتبر من أجود أهل البصرة (5) , ومن أجود أهل الإسلام (6). وكان لعبد الله بن عامر أثر حميد في الفتوحات؛ فقد تمكن من القضاء على آمال الفرس بشكل تام، عندما قضى على آخر رمق من الأمل الفارسي القديم، وذلك بقضائه على آخر ملوكهم يزدجر بن شهريار بن كسرى، وخرزاد مهر أخي رستم اللذين تزعما المعارضة الفارسية ضد المسلمين.
وإضافة إلى براعة عبد الله بن عامر في الشئون الإدارية العسكرية، فإنه كان مهتما بالمعارف الإسلامية، ويروى أنه روى حديثا عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وقال ابن قتيبة: لم يروِ عن رسول الله إلا حديثا واحدا (7)، غير أنه لم يكن له رواية في الكتب الستة (8). أما الحديث النبوي الذي رواه فقد أورده ابن قانع، وابن منده عن طريق مصعب الزبيري: حدثني أبي عن جدي مصعب بن ثابت، عن حنظلة بن قيس، عن عبد الله بن الزبير وعبد الله بن عامر أن
رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من قتل دون ماله فهو شهيد» (9).
إصلاحاته الاقتصادية في البصرة:
يقترن باسم عبد الله بن عامر عدد من الإصلاحات في البصرة، لا تقل أهمية عن إنجازاته العسكرية الفذة المتمثلة في انتصاراته العديدة على المجوس، وتتبعه لفلولهم المنهزمة وقضائه على آمال يزدجر، فقد كانت إصلاحاته الاقتصادية ممثلة في عنايته بسوق البصرة، فقد اشترى هذا السوق من ماله ووهبه لأهلها (10)، وكان السوق
_________
(1) سير أعلام النبلاء (3/ 21).
(2) المعارف لابن قتيبة، ص321.
(3) مجلة المؤرخ العربي، رقم 21، ص129.
(4) تهذيب التهذيب (5/ 272).
(5) العقد الفريد (1/ 293، 294).
(6) صبح الأعشي في صناعة الإنشا، أبو العباس القلقشندي (1/ 450، 451).
(7) المعارف، ص321.
(8) المعارف، ص321.
(9) الحاكم في المستدرك (3/ 639)، إسناده ضعيف وله ما يقويه في الباب.
(10) الطبقات الكبرى (5/ 73)، مجلة المؤرخ العربي هي العمدة في ترجمتي لعبد الله بن عامر، حيث استفدت من الأستاذ محمد حمادي جزاه الله خيرا.(1/271)
يتوسط البصرة، بدليل ما ذكره خليفة بن خياط من أن السوق قائم على ضفاف النهر الذي يتوسط البصرة، وهذا اختيار جيد؛ لأنه يجعل السوق مركزا مهما في وسط المدينة. ولعل أبرز أعماله الإصلاحية في البصرة في ميدان الري، وقد اهتم ابن عامر بهذه المسألة اهتماما كبيرا، وذكر ابن قتيبة أن ابن عامر احتفر بالبصرة نهرين أحدهما في الشرق والآخر يعرف بأم عبد الله وهو منسوب إلى أم عبد الله بن عامر (1)، وأمر عبد الله بن عامر، زياد بن أبي سفيان بحفر الأبلة، وكان زياد واليا على الديوان وبيت المال من قبل عبد الله بن عامر، وكان يستخلفه في مكانه عند توجهه للفتوح (2). وذكر خليفة بن خياط أن زياد احتفر نهر الأبلة حتى انتهى إلى موضع الجبل، والذي تولى حفره لزياد عبد الرحمن بن أبي بكرة (3) , فلما فتح عبد الرحمن الماء جعل يركض فرسه والماء يكاد يسبقه (4). وحفر عبد الله بن عامر حوضا نسب إلى أمه، وهو حوض أم عبد الله بن عامر بالبصرة منسوب إليها (5). وذكر البلاذري أن عبد الله بن عامر حفر نهرا، تولى أمر حفره له نافذ مولاه فغلب عليه، فقيل: نهر نافذ (6). وهناك نهر مُرَّة لابن عامر، تولى حفره له مرة مولى أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - فغلب على ذكره (7)، وهناك نهر الأساورة الذي حفره لهم عبد الله بن عامر. ويذكر البلاذري قنطرة قرة بالبصرة فيقول: قنطرة قرة نسبة إلى قرة بن حيان الباهلي، وكان عندها نهر قديم ثم اشترته أم عبد الله بن عامر (8) فتصدقت به مغيثا لأهل البصرة (9).
مما تقدم، يتبين لنا أن عبد الله بن عامر كان مهتما بحفر الأنهار من أجل ازدهار الزراعة التي هي عماد الحياة الاقتصادية، إضافة إلى موقع البصرة الإستراتيجي بالنسبة إلى طرق التجارة، وأهميتها العسكرية كقاعدة للفتوحات الإسلامية في المشرق. ويمكن أن نلاحظ مدى رغبة عبد الله بن عامر في الإصلاح، من خلال قوله: لو تُركت لخرجت
_________
(1) مجلة المؤرخ العربي، رقم 21، محمد حمادي، ص134.
(2) فتوح البلدان للبلاذري، ص351.
(3) تاريخ خليفة بن خياط (1/ 142).
(4) فتوح البلدان، ص351.
(5) مجلة المؤرخ العربي رقم 21، عبد الله بن عامر، ص134.
(6) مجلة المؤرخ العربي رقم 21، ص135، فتوح البلدان، ص354.
(7) مجلة المؤرخ العربي رقم 21، ص136، فتوح البلدان، ص354.
(8) مجلة المؤرخ العربي رقم 21، ص136.
(9) فتوح البلدان، ص353، 354.(1/272)
المرأة في حاجتها على دابتها، ترد كل يوم على ماء وسوق حتى توافي مكة (1).
وفي الحقيقة أن إصلاحاته هذه لا تقل أهمية عن الفتوحات في المشرق التي قام بها، فقد كانت البصرة هي القاعدة العسكرية للخلافة في فتوحاتها ببلاد المشرق. وأشار الدكتور صالح العلي إلى أن الفتوح الواسعة أدت إلى ازدياد دخل البصرة وانتشار الرخاء الاقتصادي فيها، مما شجع التجار ورجال الأعمال على التقاطر إليها، وبذلك بدأت الحياة المدنية تنمو سريعا في البصرة (2).
لقد كانت الحالة المالية لإمارة البصرة جيدة جدا، نتيجة للفتوح الواسعة في المشرق، والنشاط الاقتصادي التجاري للبصرة واستقرار الأمن فيها، وكان عبد الله بن عامر رجلا متواضعا فاتحا بابه لجميع الناس، حتى إنه عاقب الحاجب وأمره ألا يغلق بابه ليلا ولا نهارا (3). وفي الحقيقة أصبح ابن عامر ذا شهرة واسعة بالبصرة, قال ابن سعد: كان الناس يقولون: قال ابن عامر وفعل ابن عامر (4). ونتيجة لأعماله الإصلاحية وسيرته الحميدة فقد ازداد حب الأمة له (5). وظل ابن عامر عليها إلى أن قتل الخليفة عثمان - رضي الله عنه - (6).
فهذا عبد الله بن عامر أحد ولاة عثمان، فهو الذي شق نهر البصرة، وأول من اتخذ الحياض بعرفات وأجرى إليها العين (7)، وهو الرجل الذي له من الحسنات والمحبة في قلوب الناس ما لا ينكر كما يقول ابن تيمية (8). وقال فيه الذهبي: وكان من كبار أمراء العرب وشجعانهم وأجوادهم، وكان فيه رفق وحلم (9).
ثالثًا: الوليد بن عقبة:
هو الوليد بن عقبة بن أبي معيط بن أبي عمرو بن أمية بن عبد شمس بن عبد
_________
(1) المعارف لابن قتيبة، ص321.
(2) التنظيمات الاجتماعية والاقتصادية، ص30، 31.
(3) مجلة المؤرخ العربي، العدد 21، عبد الله بن عامر، محمد حمادي، ص138.
(4) الطبقات (5/ 33).
(5) مجلة المؤرخ العربي، عبد الله بن عامر، محمد حمادي، ص138.
(6) البداية والنهاية، (8/ 91).
(7) البداية والنهاية (8/ 91).
(8) منهاج السنة (3/ 189، 190)
(9) سير أعلام النبلاء (3/ 21).(1/273)
مناف، الأمير أبو وهب الأموي، له صحبة قليلة (1) , وهو أخو عثمان لأمه.
كان الوليد بن عقبة من رجال الدولة الإسلامية على عهد أبي بكر وعمر اللذين كانا يتخيران للأعمال ذوي الكفاءة والأمانة من الرجال، وكان ذلك من أعظم أسباب ذلك الانتشار السريع على أوسع نطاق للإسلام في عهدهما، وأنه كان محل ثقة واعتماد الخليفتين، وممن وسد إليه الأمور المهمة لما كان يريان فيه من الكفاءة وصدق الإيمان (2). وأول عمل له في خلافة الصديق أنه كان موضع السر في الرسائل الحربية التي دارت بين الخليفة وقائده خالد بن الوليد في وقعة المذار مع الفرس (3) 12هـ، ثم وجهه مددا إلى قائده عياض بن غنم الفهري (4). وفي سنة 13هـ كان الوليد يلي لأبي بكر صدقات قضاعة، ثم لما عزم الصديق على فتح الشام كان الوليد عنده بمنزلة عمرو بن العاص في الحرمة والثقة والكرامة، فكتب إلى عمرو بن العاص وإلى الوليد بن عقبة يدعوهما لقيادة فيالق الجهاد، فسار ابن العاص بلواء الإسلام نحو فلسطين، وسار الوليد بن عقبة قائدا إلى شرق الأردن (5). ثم رأينا الوليد في سنة 15هـ على عهد عمر أميرا على بلاد بني تغلب وعرب الجزيرة (6)، وكان في ولايته هذه يحمي ظهور المجاهدين في بلاد الشام لئلا يؤتوا من خلفهم, وانتهز الوليد فرصة ولايته على هذه الجهة التي كانت لا تزال مليئة بالنصارى، فكانت من جهاده الحربي وعمله الإداري داعيا إلى الله يستعمل أساليب الحكمة والموعظة الحسنة لحمل نصارى إياد وتغلب على الدخول في الإسلام (7).
وبهذا الماضي المجيد جاء الوليد في خلافة عثمان، فتولى الكوفة له وكان من خير ولاتها عدلا ورفقا وإحسانا، وكانت جيوشه مدة ولايته على الكوفة تسير في آفاق الشرق فاتحة ظاهرة موفقة، كما شهد له بذلك بظهر الغيب قاضي من أعظم قضاة الإسلام في التاريخ علما وفضلا وإنصافا، وهو التابعي الجليل الإمام الشعبي (8)؛ فقد أثنى على غزوه وإمارته بقوله
_________
(1) سير أعلام النبلاء (3/ 412، 413).
(2) فصل الخطاب في مواقف الأصحاب، محمد صالح الغرسي، ص78.
(3) تاريخ الطبري (4/ 168).
(4) المصدر نفسه (4/ 194).
(5) فصل الخطاب في مواقف الأصحاب، ص78.
(6) تاريخ الطبري (5/ 28، 29).
(7) فصل الخطاب في مواقف الأصحاب، ص78.
(8) فصل الخطاب في مواقف الأصحاب، ص78.(1/274)
حين ذكر له غزو مسلمة بن عبد الملك (1): كيف لو أدركتم الوليد وغزوه وإمارته، إنه كان ليغزو فينتهي إلى كذا وكذا، ما نقص ولا انتقص عليه أحد حتى عزل عن عمله (2). وقد كان الوليد - رضي الله عنه - أحب الناس في الناس وأرفقهم بهم، وقد أمضى خمس سنين وليس في داره باب (3). وقد قال عثمان: ما وليت الوليد لأنه أخي وإنما وليته لأنه ابن أم حكيم البيضاء عمة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وتوأمة أبيه، والولاية اجتهاد، وقد عزل عمر سعد بن أبي وقاص وقدم أقل منه درجة (4).
والمستعرض لسيرة هذا الصحابي الجليل والبطل الإسلامي العظيم الذي كان محل ثقة الخلفاء الراشدين الثلاثة لا يرتاب؛ فإنه أهل للولاية، وإنما تساوره الشكوك في ثبوت ما قيل فيه من نزول الآية فيه وتسميته فاسقا وشربه للخمر، والأمر يحتاج إلى تحقيق، وإليك بحث هذين الأمرين (5):
هل ثبت بأن الوليد نزلت فيه الآية {إِن جَاءَكُمْ فَاسِقُ}؟
قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءَكُمْ فَاسِقُ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} [الحجرات: 6].
يتناقل الرواة في ذلك قصة تقول: (إن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعث الوليد بن عقبة إلى بني المصطلق مصدقا، فأخبر عنهم أنهم ارتدوا، وأبوا في أداء الصدقة، وذلك أنهم خرجوا إليه فهابهم ولم يعرف ما عندهم، فانصرف عنهم، وأخبر بارتدادهم، فبعث إليهم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خالد بن الوليد وأمره أن يتثبت فيهم، فأخبروه أنهم متمسكون بالإسلام، ونزلت الآية (6). وقد جاءت روايات عديدة وليس للقصة سند موصول صحيح (7)، وأقل ما يوصف به سند القصة أنه ضعيف، وإذا قبلوا الأسانيد الضعيفة في فضائل الأعمال التي لا تحل حراما ولا تحرم حلالا، فإننا لا نقبل السند الضعيف في قصة الوليد؛ لأنه يحل حراما، وهو وصف رجل صحب الرسول عليه السلام -ولو يوما-
_________
(1) مسلمة بن عبد الملك بن مروان أحد القادة الفاتحين توفي 120 هـ.
(2) التمهيد والبيان، ص40.
(3) تاريخ الطبري (5/ 251).
(4) العواصم من القواصم، ص86.
(5) فصل الخطاب في مواقف الأصحاب، ص79.
(6) المدينة النبوية فجر الإسلام (2/ 176).
(7) المدينة النبوية فجر الإسلام، (2/ 176).(1/275)
بأنه فاسق .. وكيف نقبل السند الضعيف والآية نفسها تحث على التثبت في قبول الأخبار، فهذه الآية وضعت أصل علم الرواية (1).
إن قصة الوليد بن عقبة فيما نسبوه إليه لا تقبل فيها إلا الأخبار الصحيحة السند والمتن؛ لأنها تصفه بالفسق، وهذا مطعن لا يتساهل في قبوله إذا وُصف به رجل من عرض الناس في العصر الحديث بعد خمسة عشر قرنا من عصر الدعوة، فكيف نتساهل في نسبتها إلى رجل عاش في العهد النبوي، وفي عهد الخلفاء الراشدين، وأوكلوا إليه أعمالا ذات خطر؟!.
والقصة تمثل جزءا من تاريخ صدر الإسلام، وتتصل أجزاء القصة وحوادثها بالعقيدة الإسلامية، وأخبار هذا الجانب من التاريخ الإسلامي لا يتساهل في قبولها، كما يتساهل في قبول الأخبار التي تتصل بالعمران المدني، ثم إن الوليد بن عقبة من مسلمة الفتح، وكثيرا ما توجه المطاعن إلى إسلام هذه الفئة من الناس، ويزعم بعض المؤرخين أنهم أسلموا مكرهين، ولم يدخل الإيمان إلى قلوبهم، وهو زعم باطل بلا ريب (2). وأخبار الوليد بن عقبة تزيَّد الرواة فيها، ولعبت بها الأهواء المذهبية والسياسية، ودخلها الوضع، وكانت ميدانا لتسابق أهل القصة في اختبار القدرة على الوضع وإثبات عبقريتهم الأدبية المجنحة (3).
ومما يعكر على رواية إرسال الوليد بن عقبة لجمع صدقات بني المصطلق ويعارضها حديث موصول السند إلى رجال ثقات، أن الوليد بن عقبة كان يوم الفتح صغيرا ومن كان في سنه لا يرسله النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عاملا، فعن فياض بن محمد الرقي، عن جعفر بن برقان، عن ثابت بن الحجاج الكلابي، عن عبد الله الهمداني (أبي موسى) عن الوليد بن عقبة قال: لما فتح رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مكة، جعل أهل مكة يأتونه بصبيانهم فيمسح على رؤوسهم ويدعو لهم فجيء بي إليه، وإني مطيب بالخلوق، ولم يمسح على رأسي، ولم يمنعه من ذلك إلا أن أمي خلقتني بالخلوق، فلم يمسني من أجل الخلوق (4).
إن القصة لعبت بها الأهواء المذهبية؛ فالوليد أموي عثماني، والذي أقحم اسم الوليد في قصة سبب نزول الآية شيعي رافضي (محمد بن السائب الكلبي)، قال عنه
_________
(1) المدينة النبوية فجر الإسلام (2/ 182).
(2) المصدر نفسه (2/ 173).
(3) المصدر نفسه (2/ 173).
(4) مسند أحمد (4/ 32).(1/276)
ابن حجر: كان يعد من شيعة أهل الكوفة، وقال ابن حجر: كان بالكوفة كذابان، أحدهما الكلبي، والآخر السدي (1). واختاره لهذه القصة؛ لأنها تتصل بجمع الصدقات، والوليد عمل على صدقات قضاعة في عهد أبي بكر، وعمل على صدقات تغلب في الجزيرة في زمن عمر، وكتب الشيعة تعيب عثمان بن عفان بسبب قصة الوليد (2). ونحن لا ننكر أن تكون الآية نزلت في سياق قصة بني المصطلق، ولكن الذي ننكره أن يكون الوليد هو الموصوف بالفاسق في الآية، ذلك أن منطوق {إِن جَاءَكُمْ فَاسِقُ} بصيغة التنكير يدل على الشمول؛ لأن النكرة إذا وقعت في سياق الشرط عمت كما تعم إذا وقعت في سياق النفي (3)
حد الوليد بن عقبة في الخمر:
وأما حد الوليد في الخمر فقد ثبت في الصحيحين أن عثمان حده بعدما شهدت عليه الشهود، فهو ليس مأخذا على عثمان، بل كان من مناقب عثمان - رضي الله عنه - أن أقام عليه الحد وعزله عن الكوفة؛ حيث ذكر البخاري هذه الحادثة في باب (مناقب عثمان) (4) , وكان علي - رضي الله عنه - يقول: إنكم وما تعيرون به عثمان كالطاعن نفسه ليقتل رِدْءَه (5). ما ذنب عثمان في رجل قد ضربه بفعله وعزله عن عمله، وما ذنب عثمان فيما صنع عن أمرنا (6). ثم إن تلك الحادثة لم تطرأ في عهد عثمان فحسب، بل لها سابقة في عهد عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -؛ حيث ذكر أن قدامة بن مظعون له صحبة شرب الخمر، وهو أمير على البحرين من قبل عمر
فحده وعزله (7).
وقد ذكر بعض المؤرخين أنه لم يثبت على الوليد شربه الخمر، قال الحافظ في الإصابة: ويقال إن بعض أهل الكوفة تعصبوا عليه فشهدوا عليه بغير الحق (8). وقد أشار إلى هذا ابن خلدون فقال: وما زالت الشائعات -أي على عمال عثمان- من قبل
_________
(1) المدينة المنورة فجر الإسلام (2/ 179).
(2) المصدر نفسه (2/ 180).
(3) المصدر نفسه (2/ 180).
(4) البخاري، كتاب مناقب عثمان.
(5) الردء: هو العون، تاريخ الطبري (5/ 278).
(6) تحقيق مواقف الصحابة في الفتنة (1/ 421).
(7) العواصم من القواصم، ص93.
(8) الإصابة (3/ 638).(1/277)
المشاغبين تنمو، ورمى الوليد بن عقبة - وهو على الكوفة - بشرب الخمر وشهد عليه جماعة منهم وحده عثمان وعزله (1). وما حكاه الطبري ببعض تفاصيل: إن أبناءً لأبي زينب وأبي مورع وجندب بن زهير نقبوا على ابن الحيسمان داره وقتلوه، فشهد عليهم بذلك أبو شريح الخزاعي الصحابي وابنه، -وكان جارا لابن الحيسمان- فاقتص منهم الوليد، فأخذ الآباء على أنفسهم أن يكيدوا للوليد، وأخذوا يترقبون حركاته فنزل به أبو زبيد الشاعر، وكان نصرانيا من أخواله بني تغلب، وأسلم على يد الوليد, وكان الضيف متهما بشرب الخمر، فأخذ بعض السفهاء يتحدثون بذلك في الوليد لملازمته أبا زبيد، ووجد أبو زينب وأبو مورع خير فرصة يغتنمانها، فسافرا إلى المدينة وتقدما إلى عثمان شاهدين على الوليد بشرب الخمر، وأنهما وجداه يقئ الخمر، فقال عثمان: ما يقئ الخمر إلا شاربها، فجيء بالوليد من الكوفة فحلف لعثمان وأخبره خبرهم، فقال عثمان: نقيم حدود الله ويبوء شاهد الزور بالنار، فاصبر يا أخي (2).
قال محب الدين الخطيب: وأما الزيادة التي وردت في رواية مسلم من أنه أتى بالوليد وقد صلى الصبح ركعتين ثم قال: أزيدكم، وفي بعض طرق أحمد أن صلى أربعا، فلم تثبت في شيء من شهادة الشهود، فهي من كلام حضين الراوي للقصة، ولم يكن حضين من الشهود ولم يروها عن شاهد ولا عن إنسان معروف، ولا كان في الكوفة في وقت الحادث المزعوم، فلا اعتداد بهذا الجزء من كلامه (3).
هذا هو والي عثمان على الكوفة الوليد بن عقبة، المجاهد الفاتح، العادل المظلوم الذي كان منه لأمته كل ما استطاعه من عمل طيب، ثم رأى بعينه كيف يبغي المبطلون على الصالحين, وينفذ باطلهم فيهم, فاعتزل الناس بعد مقتل عثمان في ضيعة له منقطعة عن صخب المجتمع، وهي تبعد خمسة عشر ميلا عن بلدة الرقة من أرض الجزيرة التي كان يجاهد فيها ويدعو الناس للإسلام في خلافة عمر (4)، واعتزل جميع الحروب التي كانت أيام علي ومعاوية -رضي الله عنهما- إلى أن توفي بضيعته ودفن بها في عام 61هـ، وقيل إنه توفي في أيام معاوية (5).
_________
(1) تاريخ ابن خلدون (2/ 473)، فصل الخطاب في مواقف الأصحاب، ص81.
(2) تاريخ الطبري (5/ 277).
(3) العواصم من القواصم، ص96، 97
(4) المصدر نفسه، ص94.
(5) البداية والنهاية (8/ 216).(1/278)
رابعًا: سعيد بن العاص:
هو سعيد بن العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف، القرشي الأموي (1). وقال أبو حاتم: له صحبة، ولي الكوفة بعد الوليد بن عقبة، كان من فصحاء قريش, ولهذا ندبه عثمان فيمن ندب لكتابة القرآن؛ فعن أنس بن مالك قال: « ... فأمر عثمان زيد بن ثابت وعبد الله بن الزبير، وسعيد بن العاص، وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام فنسخوها (أي الصحف) في المصاحف. وقال عثمان للرهط القرشيين الثلاثة: إذا اختلفتم أنتم وزيد بن ثابت في شيء من القرآن، فاكتبوه بلسان قريش» (2). وقد أقيمت عربية القرآن على لسان سعيد بن العاص؛ لأنه كان أشبههم لهجة برسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. أدرك من الحياة النبوية تسع سنين، وقتل أبوه يوم بدر مشركا، قتله علي بن أبي طالب (3).
واقرأ معي هذا الخبر الذي يدل على قوة إيمانه: حيث روي أن عمر بن الخطاب قال لسعيد بن العاص: لم أقتل أباك، وإنما قتلت خالي العاص بن هشام، فقال سعيد: لو قتلته لكنت على الحق، وكان على الباطل، فأعجب عمر بجوابه. وفي أيام ولايته الكوفة غزا طبرستان ففتحها وغزا جرجان، وكان في عسكره حذيفة وغيره من الصحابة (4). وكان مشهورا بالكرم والبر، حتى سأله السائل -وليس عنده ما يعطيه- فكتب له بما يريد أن يعطيه، مسطورا (5). وكان رحمه الله يحب جمع شمل المسلمين ويكره الفتنة ويفر منها، ولاه عثمان الكوفة بعد الوليد بن عقبة ووفد إلى المدينة مرة، وعندما عاد إلى الكوفة جند أهل الشغب جنودهم ومنعوه من دخولها، فعاد ولزم المدينة. وهؤلاء الذين منعوه من العودة إلى الإمارة كان منهم قتلة عثمان، ومع ذلك اعتزل الجمل وصفين وحث أهل الجمل على القعود عن الخروج (6). هذه هي سيرته؛ كرم وشجاعة، وبر، وجهاد، وفصاحة أشبه ما تكون بفصاحة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وكان قد أملى على زيد بن ثابت هذا المصحف الذي نقرؤه اليوم، فتأمل هذه المناقب الثابتة له بالرواية الصحيحة، وقارنها بما يذكرون من مثالبه التي لا سند لها، وتأمل فيمن أشاعها، فتظن
_________
(1) البداية والنهاية (8/ 87).
(2) البخاري، كتاب فضائل القرآن، رقم (4987).
(3) المدينة المنورة فجر الإسلام (2/ 211).
(4) المدينة المنورة فجر الإسلام (2/ 211).
(5) الإصابة، ترجمة (3268).
(6) الطبقات (5/ 34).(1/279)
أنها ملفقة لأنها تجمع في الرجل النقيضين؛ الكرم والبخل، والبر والتوحش، والفهم والجهل، والجهاد والنكوص، وهذا لا يعقل اجتماعه في رجل سوى (1). يزعم الرواة بلا إسناد أنه عندما ولي سعيد الكوفة بعد الوليد كان بعض الموالي يقول رجزا:
يا ويلنا قد عُزِل الوليد
وجاءنا مجوِّعًا سعيد
ينقص في الصاع ولا يزيد (2).
وهذا رجز مصنوع، وقصة موضوعة بلا شك (3)؛ لأن الموالي في سنة 30 هـ - أي العبيد من أسرى الحروب- لم يكونوا يحسنون العربية بله قول الشعر، ولأن سعيد بن العاص المشهور بالكرم والبر لا يمكن أن يوصف بأنه (مجوِّع)، وإذا مدح الناس والشعراء الوليد لكرمه فإن سعيدا ضرب المثل بكرمه (4)، فكان يقال له: عكة العسل، وقال فيه الفرزدق
يذكر كرمه:
ترى الغُرَّ الجحاجح من قريش ... إذا ما الأمر في الحدثان عالا
قياما ينظرون إلى سعيد ... كأنهم يرون به هلالا (5)
وإذا قال الموالي هذا الرجز في أول مجيء سعيد إلى الكوفة, فكيف عرف الموالي سياسة سعيد، وهل جاء مجوعا أم جاء مشبعا، والغريب أن الرواة يسوقون هذا الخبر في سياق ينقض بعضه بعضا؛ حيث يقولون: فولى عثمان سعيد بن العاص الكوفة فسار فيهم سيرة عادلة، فكان بعض الموالي يقول ... الرجز (6)! فكيف تكون السيرة عادلة، ويوصف بأنه جوع الموالي؟! فقد كان الخير كثيرا يسع الجميع، ويفيض, والسيرة العادلة تجعل
_________
(1) المدينة المنورة فجر الإسلام (2/ 212).
(2) تاريخ الطبري (5/ 279).
(3) المدينة المنورة فجر الإسلام (2/ 212).
(4) المدينة المنورة فجر الإسلام (2/ 212).
(5) البداية والنهاية (8/ 88).
(6) تاريخ الطبري (5/ 279).(1/280)
الخير يعم (1). ورحم الله المؤرخين القدماء، فقد كانوا حسني الظن بالقراء، فجمعوا في كتبهم الروايات المتناقضة، وحسبوا أن القراء في جميع العصور يستطيعون تمييز الغث من السمين، وعذرهم بأنهم كانوا يؤلفون لأهل عصرهم، وما عرفوا أن القرون التالية ستحفل بمن يحتطب بليل (2). فقد روى ابن سعد في ترجمة سعيد بلا إسناد يقول: قالوا: فلما قدم سعيد الكوفة واليا قدمها شابا مترفا ليست له سابقة، فقال: لا أصعد المنبر حتى يطهر، فأمر به فغسل، وقال على المنبر: إنما هذا السواد بستان لأغُيْلمة من قريش، فشكوه إلى عثمان (3). وهذا كلام لا يصح لأنه غير مسند؛ ولأن سعيد بن العاص الذي قاد جيوش الجهاد وفتح الفتوح لا يكون كما وصف القائلون. ثم إن ابن سعد يروي قولة سعيد هذه على لسان الأشتر مالك بن الحارث عندما منع سعيد بن العاص من دخول الكوفة بعد سنوات من ولايته؛ حيث قال الأشتر: هذا سعيد بن العاص قد أتاكم يزعم أن هذا السواد بستان لأغيلمة من قريش، والسواد مساقط رؤوسكم, ومراكز رماحكم، وفيئكم وفئ آبائكم (4).
ومالك بن الحارث الملقب بـ (الأشتر) صاحبة فتنة؛ كان من رؤساء الخوارج الذين حاصروا عثمان وقتلوه، ولا يستغرب من هؤلاء أن يختلقوا الأقوال لإثارة كره الناس، وإذا كانت هذه الجملة قد قيلت، فإن الذين قالوها هم الخارجون على الخلافة؛ لأنهم فهموا هذا الفهم السقيم بسبب تتابع الأمراء على العراق -وبخاصة الكوفة- من قريش، ولأن العصبية القبلية واضحة في هذه المقولة (5). وقد قال الإمام الذهبي فيه: وكان أميرا شريفا جوادا، ممدَّحا، حليما، وقورا، ذا حزم وعقل، يصلح للخلافة (الولاية) (6). وأما قول المخالفين والذين طعنوا في عثمان - رضي الله عنه - بأنه استعمل سعيد بن العاص على الكوفة وظهر منه ما أدى إلى أن أخرجه أهل الكوفة (7) , فمجرد إخراج أهل الكوفة له لا يدل على ذنب يوجب ذلك، فمن عرف الكوفة وسبر أحوالها عرف كثرة تشكي أهلها من ولاتهم بلا مبرر شرعي ولأتفه الأسباب، حتى قال فيهم عمر بن الخطاب - رضي
_________
(1) المدينة المنورة فجر الإسلام (2/ 213).
(2) المدينة المنورة فجر الإسلام (2/ 213).
(3) المصدر نفسه (2/ 213)، الطبقات (5/ 32).
(4) المصدر نفسه (2/ 214).
(5) المصدر نفسه (2/ 214).
(6) سير أعلام النبلاء (3/ 447).
(7) تاريخ الطبري (5/ 279).(1/281)
الله عنه -: أعياني وأعضل بي أهل الكوفة، ما يرضون أحدا ولا يرضى بهم، ولا يصلحون ولا يصلح عليهم (1). وفي رواية: أعياني أهل الكوفة؛ فإن استعملت عليهم ليِّنا استضعفوه، وإن استعملت عليهم شديدا شكوه (2). بل إنه دعا عليهم فقال: اللهم إنهم قد لبسوا عليَّ فلبِّس عليهم (3).
وقد كان سعيد بن العاص رجلا حكيما، فقد قال: لجليسي علىَّ ثلاث؛ إذا دنا رحبت به، وإذا جلس أوسعت له، وإذا حدث أقبلت عليه. وقال لابنه: يا بني، أجرِ لله المعروف إذا لم يكن ابتداء من غير مسألة، فأما إذا أتاك الرجل تكاد ترى دمه في وجهه، أو جاءك مخاطرا لا يدري أتعطيه أم تمنعه، فوالله لو خرجت له من جميع مالك ما كافأته. وقال أيضا: يا بني، لا تمازح الشريف فيحقد عليك، ولا الدنيء فتهون عليه. ودخلت عليه ذات يوم امرأة من العابدات وهو أمير الكوفة فأكرمها وأحسن إليها، فقالت: لا جعل الله لك إلى لئيم حاجة، ولا زالت المنة في أعناق الكرام، وإذا أزال عن كريم نعمة جعلك سببا لردها عليه.
ولما حضرت سعيدًا الوفاة جمع بنيه وقال لهم: لا يفقدن أصحابي غير وجهي، وصلوهم بما كنت أصلهم به، وأجروا عليهم ما كنت أجري عليهم، واكفوهم مؤنة الطلب، فإن الرجل إذا طلب الحاجة اضطربت أركانه، وارتعدت فرائصه مخافة أن يرد، فوالله لرجل يتململ على فراشه يراكم موضعا لحاجته أعظم منة عليكم مما تعطونه. ثم أوصاهم بوصايا كثيرة، وكانت وفاته 58هـ، وقيل 57هـ، وقيل 59هـ (4).
خامسًا: عبد الله بن سعد بن أبي السرح:
درج المؤرخون في الغالب إذا ذكروا اسم عبد الله بن أبي السرح وتولية عثمان له على ولاية مصر على أن يقولوا: لقد ولى عثمان على مصر عبد الله بن أبي السرح أخاه من الرضاعة (5). وإيراد عبارة (أخاه من الرضاعة) مقرونة بالتولية تعتبر إيحاء من بعض المؤرخين باتهام عثمان - رضي الله عنه - , وأنه لهذه الأخوة من الرضاعة ولاه على مصر، وهذا الذي يراه المؤرخ غير صحيح، ولكي نرد على هؤلاء وعلى ما يغمزون به أمير
_________
(1) المعرفة والتاريخ للفسوي (2/ 754).
(2) تحقيق مواقف الصحابة في الفتنة (1/ 423).
(3) المنهاج لابن تيمية (3/ 188).
(4) البداية والنهاية (8/ 90).
(5) الكامل لابن الأثير (3/ 88).(1/282)
المؤمنين عثمان بن عفان - رضي الله عنه - نستعرض جهود فارس بني عامر بن لؤى (1) -عبد الله بن سعد-؛ فقد كان على خبرة ودراية تامة بأحوال مصر ونواحيها نتيجة اشتراكه مع جيش عمرو في فتحها، ونتيجة ولايته على بعض النواحي أثناء خلافة عمر، فقد كان على صعيد مصر (2) , وكذلك أول خلافة عثمان، مما أهله لأن يصبح واليا عاما على مصر، فكان أقوى المرشحين لتلك الولاية بعد عمرو بن العاص نتيجة لتلك الخبرات، ويبدو أن عبد الله بن سعد تمكن من ضبط خراج مصر حتى زاد ما كان يجمعه من الخراج على ما كان يجمعه عمرو بن العاص قبله، ولعل مرد ذلك إلى اتباع عبد الله بن سعد لسياسة جديدة في المصروفات اختلفت عن سياسة عمرو، وبالتالي زادت أموال الخراج المتوافرة في مصر (3).
وقد قام عبد الله بن سعد أثناء ولايته بالجهاد في عدة مواقع، فكانت له فتوح مختلفة لها شأن عظيم، فكان من غزواته غزوة أفريقية سنة 27هـ وفتوحه فيها, وقتله ملكها جرجير، وكان يصاحبه في تلك الغزوات مجموعة من الصحابة، منهم: عبد الله بن الزبير، وعبد الله ابن عمر، وعبد الله بن عمرو بن العاص، وغيرهم، وانتهت الغزوة بصلح مع بطريرك أفريقيا على تأدية الجزية للمسلمين (4). وقد عاد ابن أبي السرح إلى أفريقية مرة أخرى ووطد فيها الإسلام وذلك في سنة 33هـ (5)، كما كان من أهم أعمال عبد الله بن سعد بن أبي السرح غزوه لبلاد النوبة وتسمى غزوة الأساودة أو غزوة الحبشة عند بعض المؤرخين، وقد وقعت هذه الغزوة سنة إحدى وثلاثين للهجرة، وقد دار قتال شديد بين أجناد المسلمين وجنود النوبة، وأصيب مجموعة من المسلمين نظرا لإجادة أهالي النوبة للرمي، وقد انتهت تلك الغزوة بصلح وقعه عبد الله بن سعد مع أهالي النوبة بوضع جزية محددة عليهم (6). ويعتبر عبد الله بن سعد بحق أول قائد مسلم تمكن من اقتحام النوبة، وقاتل أهلها وفرض عليهم الجزية، واستقرت الحال على ذلك في أيامه بين أهل النوبة والمسلمين.
كذلك من أهم أعمال عبد الله بن سعد العسكرية غزوة ذات الصواري، وقد انتصر فيها المسلمون على الروم، وقد كانت ولاية عبد الله بن سعد على مصر محمودة على العموم لدى المصريين ولم يروا منه ما يكرهون،
_________
(1) فصل الخطاب في مواقف الأصحاب، ص77.
(2) تحقيق مواقف الصحابة في الفتنة، ص418.
(3) الولاية على البلدان، (1/ 180).
(4) فتوح مصر وأخبارها، ص183، الولاية على البلدان (1/ 180).
(5) النجوم الزاهرة (1/ 80).
(6) الولاية على البلدان (1/ 181) , فتوح مصر وأخبارها، ص188.(1/283)
يقول عنه المقريزي: ومكث أميرا مدة ولاية عثمان - رضي الله عنه - كلها محمودا في ولايته (1). وقال فيه الذهبي: ولم يتعد ولا فعل ما ينقم عليه، وكان أحد عقلاء الرجال وأجوادهم (2). وقد كانت ولاية مصر في أول أمرها هادئة مستقرة إلى أن تمكن مثيرو الفتنة من أمثال عبد الله بن سبأ من الوصول إليها وإثارة الناس فيها، فكان لهم وللمتأثرين بهم دور كبير في مقتل عثمان - رضي الله عنه -، كما أن الأحوال في مصر نفسها اضطربت نتيجة طرد الوالي الشرعي لها واستيلاء أقوام آخرين على الأمور بطريقة غير شرعية، وقد تمكنوا خلال تلك الفترة من بث الكراهية في قلوب الناس لخليفتهم عثمان نتيجة مكائد قاموا بها وأكاذيب لفقوها ونشروها (3) -سيأتي الحديث عنها بإذن الله تعالى-. ولما وقعت الفتنة بمقتل عثمان - رضي الله عنه - اعتزلها عبد الله بن سعد وسكن عسقلان، أو الرملة في فلسطين. وروى البغوي بإسناد صحيح عن يزيد بن أبي حبيب قال: خرج ابن أبي السرح إلى الرملة بفلسطين، فلما كان عند الصبح قال: اللهم اجعل آخر عملي الصبح، فتوضأ ثم صلى، فسلم عن يمينه ثم ذهب يسلم عن يساره فقبض الله روحه (4).
سادسًا: مروان بن الحكم ووالده:
كان مروان بن الحكم من أخص أقرباء عثمان به، وأوثقهم صلة بمركز الخلافة وألصقهم بالأحداث التي عصفت بالوحدة الإسلامية في عهد عثمان - رضي الله عنه -، فكان منه بمنزلة كاتم سر الدولة، أو حامل ختم الملك (5). ولم يكن مروان بالتأكيد المستشار الأوحد للخليفة الذي كان يستشير كبار الصحابة وصغارهم، ولم يكن بمعزل عن قادة الرأي في مجتمع الإسلام، وكذلك لم يكن مروان الوزير الذي تجمعت تحت يده سلطات الدولة، إنما كان كاتبا للخليفة، وهي وظيفة تستمد أهميتها من قرب صاحبها من إذن الخليفة وخاتمه، أما ادعاء توريطه عثمان وإثارة الناس عليه لتنقل الخلافة بعد ذلك إلى بني أمية، فافتراض لا دليل عليه، ولم تنتقل الخلافة إلى بني أمية إلا بعد أهوال جسام لم يكن لمروان فيها دور خطير، ثم إن عثمان لم يكن ضعيف
_________
(1) الخطط (1/ 299).
(2) سير أعلام النبلاء (3/ 34).
(3) الولاية على البلدان (1/ 186).
(4) الإصابة ترجمة (4711)، سير أعلام النبلاء (3/ 35).
(5) عثمان بن عفان، صادق عرجون، ص117.(1/284)
الشخصية حتى يتمكن منه كاتبه إلى الحد الذي يتصوره الرواة (1). ولا ذنب لمروان بن الحكم إن كان في حياة الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يبلغ الحلم باتفاق أهل العلم، بل غايته أن يكون له عشر سنين أو قريب منها، وكان مسلما يقرأ القرآن ويتفقه في الدين، ولم يكن قبل الفتنة معروفا بشيء يعاب فيه، فلا ذنب لعثمان في استكتابه، وأما الفتنة فأصابت من هو أفضل من مروان (2). بل إن خبر طرد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لأبيه ضعيف سندا ومتنا، وتعقبه شيخ الإسلام ابن تيمية فأوضح تهافته وضعفه (3). وعُرف عن مروان بن الحكم العلم والفقه والعدل، فقد كان سيدا من سادات شباب قريش لما علا نجمه أيام عثمان بن عفان، وقد شهد له الإمام مالك بالفقه، واحتج بقضائه وفتاواه في مواطن عديدة من كتاب الموطأ, كما وردت في غيره من كتب السنة المتداولة في أيدي الأئمة المسلمين يعملون بها (4).
وكان الإمام أحمد يقول: يقال: كان عند مروان قضاء، وكان يتتبع قضايا عمر بن الخطاب (5). وكان مروان من أقرأ الناس للقرآن كما كان له رواية للحديث الشريف؛ حيث روى عن بعض مشاهير الصحابة، وروى عنه بعضهم، وكما روى عنه بعض التابعين (6). وكان حريصا على تحري السنة والعمل بها؛ روى الليث بن سعد -فقيه مصر- بسنده قال: شهد مروان جنازة، فلما صلى عليها انصرف، فقال أبو هريرة: أصاب قيراطا وحرم قيراطا (أي الأجر والثواب، كما ورد في حديث شريف) (7). فأخبر بذلك مروان فأقبل يجري حتى بدت ركبتاه، فقعد حتى أذن له (8).
وجاء في مقدمة فتح الباري: مروان بن الحكم بن أبي العاص بن أمية ابن عم عثمان بن عفان، يقال له رؤية، يعني رؤية الرسول عليه الصلاة والسلام، فإن ثبتت، فلا يعرج على من تكلم فيه (9). وكان يقول ابن كثير: وهو صحابي عند طائفة كثيرة؛ لأنه ولد في حياة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (10). وقد ولى مروان المدينة لمعاوية بن أبي سفيان، فكان
_________
(1) الدولة الأموية المفترى عليها، حمدي شاهين، ص160.
(2) منهاج السنة (3/ 197).
(3) منهاج السنة (3/ 195، 196).
(4) الدولة الأموية المفترى عليها، ص169.
(5) البداية والنهاية (8/ 260).
(6) البداية والنهاية (8/ 260).
(7) المصدر نفسه (8/ 260)، المسند رقم: (4453 - 4650).
(8) الدولة الأموية المفترى عليها، ص200, البداية والنهاية (8/ 260).
(9) فتح الباري (2/ 164)، أباطيل يجب أن تمحى من التاريخ، ص254.
(10) البداية والنهاية (8/ 259).(1/285)
شديدا على أهل الفسوق بها، حربا على مظاهر الترف والتخنث (1)، عادلا مع رعيته، حذرا من مجاملة ذوي قرباه، أو من يحاول منهم استغلال نفوذه؛ فقد لطم أخوه عبد الرحمن مولى لأهل المدينة يعمل حناطا أثناء فترة ولاية مروان على المدينة، فشكا الحناط إلى مروان، فأتى بأخيه عبد الرحمن، وأجلسه بين يدي الحناط وقال له: الطمه، فقال الحناط: والله ما أردت هذا، وإنما أردت أن أعلمه أن فوقه سلطانا ينصرني عليه، وقد وهبتها لك، فقال: لست أقبلها منك، فخذ حقك، فقال: والله لا ألطمه، ولكن أهبها لك، ولست والله لاطمه، فقال مروان: لست والله قابلها، فإن وهبتها فهبها لمن لطمك أو لله عز وعلا، قال: قد وهبتها لله تعالى، فقال عبد الرحمن شعرا يهجو أخاه مروان لذلك (2).
إن هذه الصورة المشرقة عن علم مروان وعدله وفقهه وتدينه تكاد تختلف تماما عن تلك الصورة الكريهة التي يقدمها عنه معظم المؤرخين والرواة الذين اجتهدوا لتشويه حياة الرجل، فلما حانت وفاته اجتهدوا أيضا لتشويهها, فزعموا أن امرأته أم خالد بن يزيد بن معاوية، خنقته بوسادتها، أو دست له السم لما سب ابنها -بزعمهم- أمام جماعة من الناس، وهذه القصة -ومع ما تحتويه من عناصر متناقضة- تبدو لأول وهلة وكأنها أسطورة اخترعتها مخيلات عجائز القوم، ثم رددتها الألسن، إما حبًّا في الثرثرة، أو لتنال من سمعة هذه الأسرة الرفيعة المكانة حسدا لما وصلت إليه من مجد (3). فهل كان موته طبيعيا، أم مات بإصابة الطاعون، أم خنقته زوجته؟ إن تناقض الروايات دليل على أن الحقيقة غير معروفة، والروايات التي تزعم أن زوجته هي التي اغتالته مباشرة أو بالواسطة (عن طريق بعض جواريها) غير مقبولة أو معقولة، فهذه الزوجة سيدة شريفة من بيت عبد شمس وزوجها قريبها، وهو خليفة، وهي كانت زوجة خليفة وأم خليفة (وهو معاوية بن يزيد بن معاوية)، وهو عمل لا تقدم النساء الشريفات عليه، ثم إننا لم نر أي أثر لهذا الاغتيال، فلم يحدث في الأسرة أي خلاف، ولا مطالبة بالثأر، وظل خالد على مكانته عند عبد الملك، كما أن الدافع لا يكفي بحال لارتكاب جريمة القتل (4). وذكر عن بعض أهل العلم أنه قال: كان آخر كلام تكلم به مروان: وجبت الجنة لمن خاف
_________
(1) الدولة الأموية المفترى عليها، ص200.
(2) الدولة الأموية المفترى عليها، ص200.
(3) عبد الملك بن مروان، د. الريس، ص12.
(4) الدولة الأموية المفترى عليها، ص201.(1/286)
النار، وكان نقش خاتمه العزة لله، وقيل: آمنت بالعزيز الرحيم (1). وقال ابن القيم: أحاديث ذم الوليد، وذم مروان بن الحكم كذب (2).
سابعًا: هل جامل عثمان أحدًا من أقاربه على حساب المسلمين؟
لو كان عثمان - رضي الله عنه - أراد أن يجامل أحدا من أقاربه على حساب المسلمين لكان ربيبه محمد ابن أبي حذيفة أولى الناس بهذه المجاملة، ولكن الخليفة أبي أن يوليه شيئا ليس كفئًا له بقوله: يا بني، لو كنت رضا ثم سألتني العمل لأستعملتك، ولكن لست هناك (3). ولم يكن ذلك كراهية له ولا نفورا منه، وإلا لما جهزه من عنده وحمله وأعطاه حين استأذن في الخروج إلى مصر (4).
وأما استعمال الأحداث فكان لعثمان - رضي الله عنه - في رسول الله أسوة حسنة، فقد جهز جيشا لغزو الروم في آخر حياته واستعمل عليه أسامة بن زيد رضي الله عنهما (5)، وعندما توفي الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تمسك الصديق - رضي الله عنه - بإنفاذ هذا الجيش، لكن بعض الصحابة رغبوا في تغيير أسامة بقائد أسن منه، فكلموا عمر في ذلك ليكلم أبا بكر، فغضب أبو بكر لما سمع هذه المقالة وقال لعمر: يا عمر، استعمله رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وتأمرني أن أعزله (6). ويجيب عثمان بنفسه على هذه المآخذ أمام الملأ من الصحابة بقوله: ولم أستعمل إلا مجتمعا محتلما مرضيا، وهؤلاء أهل عملهم فسلوهم عنهم، وهؤلاء أهل بلدهم، وقد ولى مَنْ قبلي أحدث منهم، وقيل لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مما قيل لي في استعماله لأسامة، أكذلك؟ قالوا: نعم يعيبون للناس ما لا يفسرون (7). ويقول علي - رضي الله عنه -: (ولم يولِّ -أي عثمان- إلا رجلا سويا عدلا، وقد ولى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عتاب بن أسيد على مكة وهو ابن عشرين سنة) (8).
لم يكن ولاة الأمصار في عهد عثمان جاهلين بأمور الشرع، ولم يكونوا من المفرطين
_________
(1) البداية والنهاية، (8/ 262).
(2) المنار المنيف، ص117، فصل الخطاب في مواقف الأصحاب، ص77.
(3) تحقيق مواقف الصحابة في الفتنة (1/ 247).
(4) المصدر نفسه (1/ 247)، تاريخ الطبري (5/ 416).
(5) تحقيق مواقف الصحابة في الفتنة (1/ 427)، تاريخ الطبري (5/ 416).
(6) تاريخ الطبري (5/ 46).
(7) المصدر نفسه (5/ 355).
(8) البداية والنهاية (8/ 178).(1/287)
في الدين، وإذا كانت لهم ذنوب فلهم حسنات كثيرة، ومع ذلك فإن سيئات وذنوب هؤلاء كانت تعود عليهم، ولم يكن لها تأثير في المجتمع المسلم، وقد تتبعنا آثار هؤلاء الولاة أيام ولايتهم، ووجدناها عظيمة الفائدة للإسلام والمسلمين، وقد اهتدى على يدي ولاة عثمان مئات الألوف إلى الإسلام، وبسبب فتوحاتهم انضم إلى ديار الإسلام أقاليم واسعة، ولو لم يكن عند هؤلاء من الشجاعة والدين ما يحثهم على الجهاد, ما قادوا الجيوش إلى الجهاد، وفيه مظنة الهلاك، وفيه ترك الراحة ومتاع الدنيا، وقد تتبعنا سيرة هؤلاء الولاة، فوجدنا لكل واحد منهم فتحا أو فتوحا في الجهات التي تجاور ولايته، مع مناقب وصفات حسنة تؤهله للقيادة (1).
إن الذي يرجع إلى الصحيح من وقائع التاريخ، ويتتبع سيرة الرجال الذين استعان بهم أمير المؤمنين ذو النورين رضوان الله عليهم، وما كان لجهادهم من جميل الأثر في تاريخ الدعوة الإسلامية، بل ما كان لحسن إدارتهم من عظيم النتائج في هناء الأمة وسعادتها فإنه لا يستطيع أن يمنع نفسه من الجهر بالإعجاب والفخر كلما أمعن في دراسة ذلك الدور من أدوار التاريخ الإسلامي (2).
إن عثمان وولاته انشغلوا بمدافعة الأعداء وجهادهم وردهم، ولم يمنعهم ذلك من توسيع رقعة الدولة الإسلامية ومد نفوذها في مناطق جديدة، وقد كان للولاة تأثير مباشر في أحداث الفتنة؛ حيث كانت التهمة موجهة إليهم، وأنهم اعتدوا على الناس، ولكننا لم نلمس حوادث معينة يتضح فيها هذا الاعتداء المزعوم والمشاع، كما اتهم عثمان بتولية أقاربه, وقد دحضنا تلك الفرية، وهكذا نرى أن عثمان لم يألُ جهدا في نصح الأمة وفي تولية من يراه أهلا للولاية، ومع هذا فلم يسلم عثمان وولاته من اتهامات وجهت إليهم من قبل أصحاب الفتنة في حينها، كما أن عثمان - رضي الله عنه - لم يسلم من كثير من الباحثين في كتاباتهم غير المنصفة وغير المحققة عن عهد عثمان، وخصوصا الباحثين المحدثين الذين يطلقون أحكاما لا تعتمد على التحقيق أو على وقائع محددة، يعتمدون فيها على مصادر موثوقة؛ فقد تورط الكثير منهم في الروايات الضعيفة والرافضية، وبنوا أحكاما باطلة وجائرة في حق الخليفة الراشد عثمان بن عفان؛ مثل: طه حسين في كتابه (الفتنة الكبرى)، وراضى عبد الرحيم في كتابه (النظام الإداري
_________
(1) المدينة المنورة فجر الإسلام (2/ 211).
(2) حاشية المتقى من منهاج الاعتدال، ص390.(1/288)
والحربي)، وصبحي الصالح في كتابه (النظم الإسلامية)، ومولوي حسين في كتابه (الإدارة العربية)، وصبحي محمصاني في كتابه (تراث الخلفاء الراشدين في الفقه والقضاء)، وتوفيق اليوزبكي في كتابه (دراسات في النظم العربية والإسلامية)، ومحمد الملحم في كتابه (تاريخ البحرين في القرن الأول الهجري)، وبدوي عبد اللطيف في كتابه (الأحزاب السياسية في فجر الإسلام)، وأنور الرفاعي في كتابه (النظم الإسلامية)، ومحمد الريس في كتابه (النظريات السياسية)، وعلي حسني الخربوطي في كتابه (الإسلام والخلافة)، وأبي الأعلى المودودي في كتابه (الملك والخلافة)، وسيد قطب في كتابه (العدالة الاجتماعية)، وغيرهم.
لقد كان عثمان - رضي الله عنه - بحق الخليفة المظلوم الذي افترى عليه خصومه الأولون، ولم ينصفه المتأخرون (1).
_________
(1) الولاية على البلدان (1/ 222 - 223).(1/289)
المبحث الرابع
حقيقة العلاقة بين أبي ذر الغفاري وعثمان بن عفان رضي الله عنهما
أولاً: مجمل القصة:
إن مبغضي عثمان بن عفان كانوا يشنعون عليه أنه نفى أبا ذر إلى الربذة، وزعم بعض المؤرخين أن ابن السوداء (عبد الله بن سبأ) لقي أبا ذر في الشام وأوحى إليه بمذهب القناعة والزهد، ومواساة الفقراء، ووجوب إنفاق المال الزائد عن الحاجة، وجعله يعيب معاوية، فأخذه عبادة بن الصامت إلى معاوية، وقال له: هذا والله الذي بعث إليك أبا ذر فأخرج معاوية أبا ذر من الشام (1). وقد حاول أحمد أمين أن يوجد شبها بين رأي أبي ذر ورأي مزدك الفارسي، وقال بأن وجه الشبه جاء من أن ابن سبأ كان في اليمن، وطَوَّف في العراق، وكان الفرس في اليمن والعراق قبل الإسلام، فمن المحتمل القريب أن يكون قد تلقى هذه الفكرة من مزدكية العراق، واعتنقها أبو ذر حسن النية في اعتقادها (2).
وكل ما قيل في قصة أبي ذر مما يشنع به على عثمان بن عفان باطل، لا يبنى على رواية صحيحة، وكل ما قيل حول اتصال أبي ذر - رضي الله عنه - بابن السوداء باطل لا محالة (3)، والصحيح: أن أبا ذر - رضي الله عنه - نزل في الربذة باختياره، وأن ذلك كان بسبب اجتهاد أبي ذر في فهم آية خالف فيها الصحابة، وأصر على رأيه، فلم يوافقه أحد عليه فطلب أن ينزل بالربذة (4) التي كان يغدو إليها زمن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ولم يكن نزوله بها نفيا قسريا، أو إقامة جبرية، ولم يأمره الخليفة بالرجوع عن رأيه؛ لأن له وجها مقبولا، لكنه لا يجب على المسلمين الأخذ به (5).
وأصح ما روي في قصة أبي ذر - رضي الله عنه - ما رواه البخاري في صحيحه عن زيد بن وهب قال: مررت بالربذة فإذا أنا بأبي ذر - رضي الله عنه -، فقلت له: ما أنزلك منزلك هذا؟ قال: كنت بالشام، فاختلفت أنا
_________
(1) المدينة المنورة فجر الإسلام (2/ 216، 217).
(2) فجر الإسلام، ص110.
(3) المدينة المنورة فجر الإسلام (2/ 217).
(4) كانت منزلا في الطريق بين العراق ومكة.
(5) المدينة المنورة فجر الإسلام (2/ 217).(1/290)
ومعاوية في {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِّنَ الأحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [التوبة: 34] قال معاوية: نزلت في أهل الكتاب، فقلت: نزلت فينا وفيهم، فكان بيني وبينه في ذاك, وكتب إلى عثمان يشكوني، فكتب إليَّ عثمان أن أقدم المدينة فقدمتها، فكثر علي الناس حتى كأنهم لم يروني قبل ذلك، فذكرت ذلك لعثمان، فقال لي: إن شئت فكنت قريبا، فذاك الذي أنزلني هذا المنزل، ولو أمروا عليَّ حبشيا لسمعت وأطعت (1). وقد أشار هذا الأثر إلى أمور مهمة، منها:
1 - سأله زيد بن وهب ليتحقق مما أشاعه مبغضو عثمان: هل نفاه عثمان أو اختار أبو ذر المكان؟ فجاء سياق الكلام أنه خرج بعد أن أكثر الناس عليه يسألونه عن سبب خروجه من الشام، وليس في نص الحديث أن عثمان أمره بالذهاب إلى الربذة بل اختارها بنفسه، ويؤيد هذا ما ذكره ابن حجر عن عبد الله بن الصامت قال: دخلت مع أبي ذر على عثمان فحسر رأسه، فقال: والله ما أنا منهم -يعني الخوارج-، فقال: إنما أرسلنا إليك لتجاورنا بالمدينة، فقال: لا حاجة لي في ذلك، ائذن لي بالربذة، قال: نعم (2).
2 - قوله: كنت بالشام: بيَّن السبب في سكناه الشام ما أخرجه أبو يعلى عن طريق زيد ابن وهب: حدثني أبو ذر، قال: قال لي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا بلغ البناء -أي المدينة- سلعا، فارتحل إلى الشام»، فلما بلغ البناء سلعا قدمت الشام فسكنت بها (3). وفي رواية قالت أم ذر: والله ما سير عثمان أبا ذر -تعني الربذة- ولكن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا بلغ البناء سلعا، فاخرج منها» (4).
3 - إن قصة أبي ذر في المال جاءت من اجتهاده في فهم الآية الكريمة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِّنَ الأحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ - يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا
_________
(1) البخاري، كتاب الزكاة، باب ما أدى زكاته، رقم 1406.
(2) فتح الباري (3/ 274).
(3) المدينة المنورة فجر الإسلام، (2/ 219).
(4) سير أعلام النبلاء (2/ 72) صحيح الإسناد.(1/291)
مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ} [التوبة: 34، 35] وروى البخاري عن أبي ذر ما يدل على أنه فسر الوعيد {يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا} الآية .. وكان يخوف الناس به، فعن الأحنف ابن قيس حدثهم قال: جلست إلى ملأ من قريش فجاء رجل خشن الشعر والثياب والهيئة حتى قام عليهم، فسلم ثم قال: بشر الكانزين برَضْف (1) يحمى عليه في نار جنهم، ثم يوضع على حلمة ثدي أحدهم حتى يخرج من نُغْض (2) كتفه، ويوضع على نُغْض كتفه حتى يخرج من حلمة ثديه، يتزلزل (3). ثم ولى فجلس إلى سارية وتبعته وجلست إليه وأنا لا أدري من هو، فقلت له: ما أرى القوم إلا قد كرهوا الذي قلت، قال: إنهم لا يعلقون شيئا.
واستدل أبو ذر - رضي الله عنه - بقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ما أحب أن لي مثل أحد ذهبا، أنفقه كله إلا ثلاثة دنانير» (4).
4 - وقد خالف جمهور الصحابة أبا ذر، وحملوا الوعيد على مانعي الزكاة، واستدلوا على ذلك بالحديث الذي رواه أبو سعيد الخدري قال: قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ليس فيما دون خمس أواق صدقة، وليس فيما دون خمس ذود صدقة، وليس فيما دون خمسة أوسق صدقة» (5). وقال الحافظ ابن حجر: ومفهوم الحديث أن ما زاد على الخمس ففيه صدقة، ومقتضاه أن كل مال أخرجت منه الصدقة فلا وعيد على صاحبه، فلا يسمى ما يفضل بعد إخراجه الصدقة كنزا (6). وقال ابن زيد: فإن ما دون الخمس لا تجب فيه الزكاة، وقد عفى عن الحق فيه فليس بكنز قطعا، والله قد أثنى على فاعل الزكاة، ومن أثنى عليه في واجب حق المال لم يلحقه ذم من جهة ما أثنى عليه فيه، وهو المال (7). قال الحافظ: ويتلخص أن يقال: ما لم تجب فيه الصدقة لا يسمى كنزا؛ لأنه معفو عنه، فليكن ما أخرجت منه الزكاة كذلك؛ لأنه عفى عنه بإخراج ما وجب منه فلا يسمى كنزا (8).
_________
(1) الرضف: الحجارة المحماة، واحدها رضفة.
(2) نغض: العظم الدقيق الذي على طرف الكتف أو على أعلى الكتف.
(3) يتزلزل: يضطرب ويتحرك.
(4) البخاري، كتاب الزكاة، رقم (1407).
(5) البخاري، كتاب الزكاة، رقم (1405).
(6) فتح الباري (3/ 272).
(7) فتنة مقتل عثمان (1/ 107).
(8) فتنة مقتل عثمان (1/ 107).(1/292)
وقال ابن عبد البر: والجمهور على أن الكنز المذموم ما لم تؤدَّ زكاته، ويشهد له حديث أبي هريرة مرفوعا: إذا أديت زكاة مالك فقد قضيت ما عليك، ولم يخالف في ذلك إلا طائفة من أهل الزهد كأبي ذر (1).
5 - ولعل مما يفسر مذهب أبي ذر في الإنفاق ما رواه الإمام أحمد عن شداد بن أوس، قال: كان أبو ذر يسمع الحديث من رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيه الشدة، ثم يخرج إلى قومه، يسلم لعله يشدد عليهم، ثم إن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يرخص فيه بعد، فلم يسمعه أبو ذر فيتعلق أبو ذر بالأمر الشديد (2).
6 - قوله: «إن شئت تنحيت فكنت قريبا». يدل على أن عثمان طلب من أبي ذر أن يتنحى عن المدينة برفق ولم يأمره، ولم يحدد له المكان الذي يخرج إليه، ولو رفض أبو ذر الخروج ما أجبره عثمان على ذلك، ولكن أبا ذر كان مطيعا للخليفة؛ لأنه قال في نهاية الحديث: لو أمَّروا عليَّ حبشيًّا لسمعت وأطعت (3). ومما يدل على أنه يمقت الفتنة والخروج على الإمام المبايع، ما رواه ابن سعد في أن ناسا من أهل الكوفة قالوا لأبي ذر وهو بالربذة: إن هذا الرجل فعل بك وفعل، هل أنت ناصب له راية؟ -يعني مقاتله- فقال: لا، لو أن عثمان سيرني من المشرق إلى المغرب لسمعت وأطعت (4).
7 - والسبب في تنحي أبي ذر عن المدينة، أو طلب عثمان منه ذلك، أن الفتنة بدأت تطل برأسها في الأقاليم، وأشاع المبغضون الأقاويل الملفقة، وأرادوا أن يستفيدوا من إنكار أبي ذر متعلقا برأيه ومذهبه، ولا يريد أن يفارقه، فرأى عثمان - رضي الله عنه - تقديم دفع المفسدة على جلب المصلحة؛ لأن في بقاء أبي ذر بالمدينة مصلحة كبيرة من بث علمه في طلاب العلم، ومع ذلك فرجح عند عثمان دفع ما يتوقع من المفسدة من الأخذ بمذهبه الشديد في هذه المسألة.
8 - قال أبو بكر بن العربي: كان أبو ذر زاهدا ويرى الناس يتسعون في المراكب والملابس حين وجدوا فينكر ذلك عليهم، ويريد تفريق جميع ذلك من بين أيديهم,
_________
(1) فتح الباري (3/ 273).
(2) المسند (5/ 125).
(3) البخاري (1406).
(4) الطبقات (4/ 227).(1/293)
وهو غير لازم، فوقع بين أبي ذر ومعاوية كلام بالشام، فخرج إلى المدينة فاجتمع إليه الناس، فجعل يسلك تلك الطرق، فقال له عثمان: لو اعتزلت؛ معناه: إنك على مذهب لا يصلح لمخالطة الناس، ومن كان على طريقة أبي ذر فحاله يقتضي أن ينفرد بنفسه ولا يخالط الناس، ويسلم لكل أحد حاله مما ليس بحرام في الشريعة، فخرج زاهدا فاضلا، وترك جلة فضلاء، وكل على خير وبركة وفضل، وحال أبي ذر أفضل، ولا تمكن لجميع الخلق، فلو كانوا عليها لهلكوا، فسبحان مرتب المنازل (1).
وقال ابن العربي: ووقع بين أبي الدرداء ومعاوية كلام، وكان أبو الدرداء زاهدا فاضلا قاضيا لهم (في الشام)، فلما اشتد في الحق وأخرج طريقة عمر بن الخطاب في قوم لم يحتملوها عزلوه، فخرج إلى المدينة, وهذه كلها مصالح لا تقدح في الدين، ولا تؤثر في منزلة أحد من المسلمين بحال، وأبو الدرداء وأبو ذر بريئان من كل عيب، وعثمان برئ أعظم براءة وأكثر نزاهة، فمن روى أنه نفي وروى سببًا فهو كل باطل (2).
9 - ولم يقل أحد من الصحابة لأبي ذر إنه أخطأ في رأيه، لأنه مذهب محمود لمن يقدر عليه, ولم يأمر عثمان أبا ذر بالرجوع عن مذهبه، وإنما طلب منه أن يكف عن الإنكار على الناس ما هم فيه من المتاع الحلال. ومن روى أنه عثمان نهى أبا ذر عن الفتيا مطلقا لم تصل روايته إلى درجة الخبر الصحيح (3). والذي صح عند البخاري أن أبا ذر قال: لو وضعتم الصمصامة على هذه -وأشار إلى قفاه- ثم ظننت أني أنفذ كلمة سمعتها من النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قبل أن تجيزوا عليَّ لأنفذتها (4). وفي البخاري لم يروا أن عثمان نهى أبا ذر عن الفتيا؛ لأن نهي الصحابي عن الفتيا دون تحديد الموضوع أمر ليس بالهين (5).
10 - ولو كان عثمان نهاه عن الفتيا مطلقا لاختار له مكانا لا يرى فيه الناس، أو حبسه في المدينة، أو منعه من دخول المدينة، ولكن أذن له بالنزول في منزل يكثر مرور الناس
_________
(1) العواصم من القواصم، ص77.
(2) المصدر نفسه، ص79.
(3) المدينة المنورة فجر الإسلام (2/ 223).
(4) البخاري، كتاب العلم، باب العلم قبل القول والعمل (1/ 29).
(5) المدينة المنورة فجر الإسلام (2/ 224).(1/294)
به؛ لأن الربذة كانت منزلا من منازل الحجاج العراقيين، وكان أبو ذر يتعاهد المدينة يصلي في مسجد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وقال له عثمان: لو تنحيت فكنت قريبا. والربذة ليست بعيدة عن المدينة، وكان يجاورها حمى الربذة الذي ترعى فيه إبل الصدقة، ولذلك يروى أن عثمان أقطعه صرمة من إبل الصدقة، وأعطاه مملوكين، وأجرى عليه رزقا، وكانت الربذة أحسن المنازل في طريق مكة (1). وبعد أن ذكر الإمام الطبري الأخبار التي تفيد اعتزال أبي ذر من تلقاء نفسه قال: وأما الآخرون فإنهم رووا في سبب ذلك أشياء كثيرة وأمورا شنيعة كرهت ذكرها (2).
إن الحقيقة التاريخية تقول إن عثمان - رضي الله عنه - لم ينفِ أبا ذر - رضي الله عنه - إنما استأذنه فأذن له، ولكن أعداء عثمان - رضي الله عنه - كانوا يشيعون عليه بأنه نفاه، ولذلك لما سأل غالب القطان الحسن البصري: عثمان أخرج أبا ذر؟ قال الحسن: لا، معاذ الله (3). وكل ما روي في أن عثمان نفاه إلى الربذة، فإنه ضعيف الإسناد لا يخلو من علة قادحة، مع ما في متنه من نكارة لمخالفته للمرويات الصحيحة والحسنة، التي تبين أن أبا ذر استأذن للخروج إلى الربذة وأن عثمان أذن له (4)؛ بل إن عثمان أرسل يطلبه من الشام ليجاوره بالمدينة، فقد قال له عندما قدم من الشام: إنا أرسلنا إليك لخير لتجاورنا بالمدينة (5). وقال له أيضا: كن عندي تغدو عليك وتروح اللقاح (6). أفمن يقول ذلك له ينفيه؟ (7) ولم تنص على نفيه إلا رواية رواها ابن سعد، وفيها بريدة بن سفيان الأسلمي الذي قال عنه الحافظ ابن حجر: ليس بالقوي وفيه رفض، فهل تقبل رواية رافضي تتعارض مع الروايات الصحيحة والحسنة؟ (8) واستغل الرافضة هذه الحادثة أبشع استغلال فأشاعوا أن عثمان - رضي الله عنه - نفى أبا ذر إلى الربذة، وأن ذلك مما عيب عليه من قِبَل الخارجين عليه أو أنهم سوغوا الخروج عليه (9). وعاب عثمان
_________
(1) تاريخ الطبري (5/ 286).
(2) المصدر نفسه (5/ 288).
(3) تاريخ المدينة، ابن شبة، ص (1037)، إسناده صحيح.
(4) فتنة مقتل عثمان (1/ 110).
(5) تاريخ المدينة، ص1036، 1037، إسناده حسن.
(6) الطبقات، لابن سعد (4/ 226، 227).
(7) فتنة مقتل عثمان (1/ 111).
(8) فتنة مقتل عثمان (1/ 111).
(9) فتنة مقتل عثمان (1/ 111).(1/295)
- رضي الله عنه - بذلك ابن المطهر الحلي الرافضي المتوفي سنة 726هـ، بل زاد أن عثمان - رضي الله عنه - ضرب أبا ذر ضربا وجيعا (1)، ورد عليه شيخ الإسلام ابن تيمية ردا جامعا قويا (2). وكان سلف هذه الأمة يعلمون هذه الحقيقة، فإنه لما قيل للحسن البصري: عثمان أخرج أبا ذر؟ قال: لا، معاذ الله (3). وكان ابن سيرين إذا ذكر له أن عثمان - رضي الله عنه - سير أبا ذر، أخذه أمر عظيم، ويقول: هو خرج من نفسه، ولم يسيره عثمان (4). وكما تقدم في الرواية الصحيحة الإسناد أن أبا ذر - رضي الله عنه - لما رأى كثرة الناس عليه خشي الفتنة، فذكر ذلك لعثمان كأنه يستأذنه في الخروج، فقال له عثمان - رضي الله عنه -: إن شئت تنحيت فكنت قريبا (5).
ثانيًا: بطلان تأثير ابن سبأ على أبي ذر - رضي الله عنه -:
كتب سعيد الأفغاني في كتابه (عائشة والسياسة)، فعظم دور ابن سبأ في الفتنة، ونسب إليه كل المؤامرات والفتن والملاحم الواقعة بين الصحابة، ويرى أن هذه المؤامرة المحكمة سهر عليها أبالسة خبيرون، وسددوا خطاها وتعاهدوها حتى أتت ثمارها في جميع الأقطار، ولهذا كتب هذا العنوان (ابن سبأ البطل الخفي المخيف) (6). ويبدو التهويل من شأن ابن سبأ عند الأفغاني حينما يصفه بأنه رجل على غاية من الذكاء وصدق الفراسة، والنظر البعيد، والحيلة الواسعة، والنفاذ إلى نفسية الجماهير (7)، ويقطع أنه أحد أبطال جمعية تلمودية سرية غايتها تقويض الدولة الإسلامية (8). ويكاد يقرر بأنه يعمل لصالح دولة الروم التي انتزع المسلمون منها لفترة قريبة قطرين هامين هما مصر والشام، عدا ما سواهما من بلاد
أخرى على البحر المتوسط، ويستغرب نشاط ابن سبأ إلى شتى المجالات الدينية
والسياسية والحربية (9).
وهو يرى أن ابن سبأ كان موفقا كل التوفيق في لقائه مع أبي ذر، وفي تفصيل هذه المقالة التي ركبها على مزاج أبي ذر، وأن الذي ساعده على ذلك فهمه الجيد لأمزجة
_________
(1) منهاج السنة لابن تيمية (6/ 183).
(2) المصدر نفسه (6/ 271 - 355).
(3) تاريخ المدينة (1037) إسناده صحيح.
(4) تاريخ المدينة (1037) إسناده صحيح.
(5) البخاري كتاب الزكاة رقم (1406).
(6) عائشة والسياسة، سعيد الأفغاني، ص60.
(7) عائشة والسياسة، سعيد الأفغاني، ص60.
(8) عائشة والسياسة، سعيد الأفغاني، ص60.
(9) عائشة والسياسة، سعيد الأفغاني، ص60.(1/296)
الناس واستخباراته الصادقة المنظمة (1). وهذا الزعم -أي تأثير ابن سبأ على أبي ذر - رضي الله عنه - لا أساس له من الصحة من عدة وجوه:
أ- حينما أرسل معاوية إلى عثمان - رضي الله عنه - يشكو إليه أمر أبي ذر لم تكن منه إشارة
إلى تأثير ابن سبأ عليه، واكتفى أن قال: إن أبا ذر قد أعضل بي، وقد كان من أمره
كيت وكيت (2).
ب- ذكر ابن كثير الخلاف الواقع بين أبي ذر ومعاوية بالشام في أكثر من موضع في كتابه، ولم يرد ابن سبأ في واحد منها (3).
ج- وفي صحيح البخاري، ورد الحديث الذي يشير إلى أصل الخلاف بين أبي ذر ومعاوية، وليس فيه الإشارة من قريب أو بعيد إلى ابن سبأ (4).
د- وفي أشهر الكتب التي ترجمت للصحابة ترد محاورة معاوية لأبي ذر، ثم نزوله الربذة، ولكن شيئا من تأثير ابن سبأ على أبي ذر لا يذكر (5).
هـ- بل ورد الخبر في الطبري هكذا .. فأما العاذرون معاوية في ذلك -يعني إشخاص معاوية أبا ذر إلى المدينة- فذكروا في ذلك قصة ورود ابن السوداء الشام ولقياه أبا ذر .. إلخ (6). وهذا الخبر الذي أورده الطبري ساقط وكاذب، تكذبه وقائع التاريخ الزمنية، وإليك البيان:
* يذكرون أن ابن سبأ أسلم في عهد عثمان، وكان يهوديا من اليمن، وبدأ نشاطه المخرب في الحجاز، ولكنهم لم يذكروا أنه التقى أحدا أو التقاه أحد في الحجاز.
* كان أول ظهوره في البصرة بعد أن تولى عبد الله بن عامر عليها بثلاث سنوات، وعبد الله بن عامر جاء بعد أبي موسى الأشعري سنة 29هـ، وبهذا يكون ظهوره في البصرة 32هـ، وقد طرده ابن عامر من البصرة يوم عرفة.
_________
(1) عائشة والسياسة، ص60.
(2) تاريخ الطبري (5/ 285).
(3) البداية والنهاية (7/ 170 - 180).
(4) البخاري، رقم (1406).
(5) عبد الله بن سبأ وأثره في أحداث الفتنة، سليمان العودة، ص51.
(6) تاريخ الطبري (5/ 285).(1/297)
* قالوا: إنه توجه إلى الكوفة، فباض وفرخ، وحرضه على معاوية, ولا بد أنه مكث زمنا في الشام ليتعرف على أحوال الرجال، ويضع خططه ليبث دعوته فيهم، ولنفرض جدلاً أنه عرف أمره في الشام في أواخر سنة 33هـ، فماذا تقول أيها القارئ إذا عرفت أن الروايات الصحيحة تقول: إن أبا ذر كانت مناظرته لمعاوية سنة 30هـ، وأنه رجع إلى المدينة وتوفي بالربذة سنة 31هـ، أو سنة 32هـ، ومعنى هذا أن ابن سبأ ظهر في البصرة في وقت كان فيه أبو ذر ميتا، فكيف وأين التقاه؟ (1).
إن أبا ذر - رضي الله عنه - لم يتأثر لا من قريب ولا من بعيد بآراء عبد الله بن سبأ اليهودي، وقد أقام بالربذة حتى توفى، ولم يحضر شيئا مما وقع في الفتن (2)، ثم هو قد روى حديثا من أحاديث النهي عن الدخول في الفتنة (3).
ثالثًا: وفاة أبي ذر - رضي الله عنه - وضم عثمان عياله إلى عياله:
في غزوة تبوك قيل لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: قد تخلف أبو ذر وأبطأ به بعيره، فقال:
«دعوه فإن يك فيه خير فسيلحقه الله بكم، وإن يك غير ذلك فقد أراحكم الله منه» (4). وتلوم أبو ذر على بعيره، فلما أبطأ عليه أخذ متاعه فحمله على ظهره، ثم خرج يتبع أثر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ماشيا، ونزل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في بعض منازله، فنظر ناظر من المسلمين فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «كن أبا ذر» (5) , فلما تأمله القوم قالوا: يا رسول الله، هو والله أبو ذر، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «رحم الله أبا ذر، يمشي وحده، ويموت وحده، ويُبعث وحده» (6). ومضى الزمان وجاء عهد عثمان وأقام أبو ذر في الربذة، فلما حضرته الوفاة أوصى امرأته وغلامه: إذا مت فاغسلاني وكفناني ثم احملاني فضعاني على قارعة الطريق، فأول ركب يمرون بكم فقولوا: هذا أبو ذر. فلما مات فعلوا به كذلك، فطلع ركب فما علموا به حتى كادت ركائبهم تطأ سريره، فإذا ابن مسعود في رهط من أهل الكوفة،
_________
(1) المدينة المنورة، فجر الإسلام (2/ 225).
(2) أحداث الفتنة الأولى بين الصحابة في ضوء قواعد الجرح والتعديل، د. عبد العزيز دخان، ص174.
(3) أحداث الفتنة الأولى بين الصحابة في ضوء قواعد الجرح والتعديل، د. عبد العزيز دخان، ص174.
(4) تلوم على بعيره: تمهل.
(5) كن أبا ذر: لفظه لفظ الأمر ومعناه الدعاء، أرجو الله أن تكون أبا ذر.
(6) السيرة النبوية، لابن هشام (4/ 178).(1/298)
فقال: ما هذا؟ فقيل: جنازة أبي ذر، فاستهل ابن مسعود يبكي، فقال: صدق رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «يرحم الله أبا ذر يمشي وحده ويموت وحده ويبعث وحده» (1). فغسلوه وكفنوه وصلوا عليه ودفنوه، فلما أرادوا أن يرتحلوا قالت لهم ابنته: إن أبا ذر يقرأ عليكم السلام وأقسم ألا تركبوا حتى تأكلوا، ففعلوا، وحملوهم حتى أقدموهم إلى مكة، ونعوه إلى عثمان - رضي الله عنه - فضم ابنته إلى عياله (2). وجاء في رواية: « ... فلما دفناه دعتنا إلى الطعام وأردنا احتمالها, فقال ابن مسعود: أمير المؤمنين قريب نستأمره، فقدما مكة فأخبرناه الخبر، فقال: يرحم الله أبا ذر، ويغفر له نزوله الربذة، ولما صدر خرج، فأخذ طريق الربذة، فضم عياله إلى عياله، وتوجه نحو المدينة وتوجهنا نحو العراق (3).
* * *
_________
(1) السيرة النبوية، لابن هشام (4/ 478).
(2) التمهيد والبيان في مقتل الشهيد عثمان، ص87، 88.
(3) تاريخ الطبري (5/ 314).(1/299)
الفصل السادس
أسباب فتنة مقتل عثمان - رضي الله عنه -
المبحث الأول
أهمية دراسة وقائع فتنة مقتل عثمان وما ترتب عليها من أحداث
والحكمة من إخباره - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بوقوعها
أولاً: أهمية دراسة وقائع فتنة مقتل عثمان - رضي الله عنه - وما ترتب عليها من أحداث في الجمل وصفين وغيرهما:
ورد عن كثير من السلف والعلماء الأمر بالتوقف عن الخوض في تفاصيل ما وقع بين الصحابة، وإيكال أمرهم إلى الله الحكم العدل، مع الترضِّي عنهم، واعتقاد أنهم مجتهدون، مأجورون إن شاء الله، والحذر من الطعن فيهم والوقوع في أعراضهم؛ لما يجر ذلك من الطعن في الشريعة؛ إذ هم حملتها وحاملوها إلينا، ومن ذلك ما روى عن عمر بن عبد العزيز أنه سئل عن أهل صفين فقال: تلك دماء طهر الله منها يدي، فلا أحب أن أخضب لساني فيها (1). وسئل أحدهم عن ذلك فقال متمثلا قوله تعالى: {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ وَلاَ تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [البقرة: 134].
وهذا النهي معلل، علته الخوف مما ذكرناه من الطعن فيهم والوقوع في أعراضهم، وما يستوجب ذلك من غضب الله ونقمته، فإذا انتفت هذه العلة فالظاهر أنه لا حرج في ذلك، إذا كان الكلام والبحث في تفاصيل ما وقع بينهم لا يؤدي إلى الطعن فيهم مطلقا، فلا بأس من دراسة ذلك والتعمق في أسبابه ودوافعه وتفصيلاته الدقيقة ونتائجه وتداعياته على مجتمع الصحابة، ثم على من بعدهم، وقد كتب من العلماء عن الفتنة، أمثال: ابن كثير والطبري وغيرهما حول أحداث تلك الفترة الحرجة من تاريخ الإسلام، وفصلوا في قضايا كثيرة تتعلق بتلك الفتنة، ومنهم من ذهب إلى حد تخطئة أحد الطرفين، أو كليهما اعتمادا على روايات ونصوص كثيرة اختلط فيها الصحيح
_________
(1) حلية الأولياء (9/ 114)، عون المعبود (12/ 274).(1/301)
بغيره (1). وهناك أسباب تدعو علماء أهل السنة وطلاب العلم منهم للغوص في أعماق فتنة الهرج التي وقعت في صدر الإسلام والبحث عن تفاصيلها، ومن هذه الأسباب:
1 - أن المؤلفات المعاصرة التي تناولت أحداث الفتنة بين الصحابة والتابعين انقسمت إلى ثلاثة أنواع:
أ- مصنفات تربى أصحابها على موائد الفكر الغربي الحاقد على التاريخ الإسلامي, أو الجاهل بالتاريخ الإسلامي، فلم يروا فيه شيئا جميلا، فراحوا يطعنون في الصحابة والتابعين بطريقة تخدم أهداف أعداء الإسلام وخصومه، الذين قاموا لدراسة أحداث تلك الفتنة وتفاصيلها، وإعطائها تفسيرات تطعن في جموع الصحابة، وتضرب الإسلام في أصوله، وتجعل من هذه الأحداث صراعا سياسيا على مناصب وكراسي، تخلي فيه الصحابة عن إيمانهم وتقواهم وصدقهم مع الله، وانقلبوا إلى طلاب دنيا، وعشاق زعامة، لا يهمهم أن تراق الدماء، وتزهق الأرواح وتسلب الأموال وتستباح الحرمات إذا كان في ذلك ما يحقق لهم ما يريدون من الرياسة والزعامة.
وممن تولى كبر هذه الفرية طه حسين (الفتنة الكبرى) (2)، الذي هو بحق فتنة كبرى على عقول الناشئة من أبناء المسلمين؛ فقد راح طه حسين يشنع على الصحابة ويشكك في نياتهم، ويتهمهم باتهامات مغرضة خدمة لأهداف أعداء الإسلام والمسلمين (3). وقد تأثر الكثير بمنهجه، ويبدو أن أمثال هؤلاء اعتمدوا على الروايات التاريخية التي أوردها المؤرخون كالطبري وابن عساكر وغيرهما، والتي اختلط فيها الغث بالسمين، والكذب بالصدق، أخذها دون مراعاة لمنهج هؤلاء في مصنفاتهم، وهذا خطأ كبير (4). وقد تأثرت هذه الكتابات بالفكر الرافضي والكتابات الشيعية الرافضية للتاريخ الإسلامي (5)؛ فقد تعمد الروافض الإساءة في كتاباتهم للتاريخ الإسلامي، كما في روايات وأخبار الكلبي (6) , وأبى
_________
(1) أحداث وأحاديث فتنة الهرج، د. عبد العزيز دخان، ص79.
(2) انظر الفتنة الكبرى (عثمان) (علي وبنوه).
(3) أحداث وأحاديث فتنة الهرج، ص80.
(4) أحداث وأحاديث فتنة الهرج، ص80.
(5) أحداث وأحاديث فتنة الهرج، ص80.
(6) محمد بن السائب الكلبي، قال ابن حبان: كان سبئيا من أولئك الذين يقولون: إن عليا لم يمت وإنه راجع إلى الدنيا. توفي سنة 146 هـ. ميزان الاعتدال (3/ 558) ابن أبي حاتم، الجرح والتعديل (7/ 270، 271).(1/302)
مخنف (1) , ونصر بن مزاحم المنقري (2) , والتي توجد حتى عند الطبري في تاريخه، لكن الطبري يذكرها مسندة لهؤلاء، فيعرف أهل العلم حالها (3). وكما في كتابات المسعودي في مروج الذهب واليعقوبي في تاريخه.
وقد أشار الأستاذ محب الدين الخطيب في حاشية (العواصم) إلى أن التدوين التاريخي إنما بدأ بعد الدولة الأموية, وكان للأصابع الباطنية والشعوبية المتلفعة برداء التشيع دور في طمس معالم الخير فيه، وتسويد صفحاته الناصعة (4).
ويظهر هذا الكيد لمن تدبر كتاب (العواصم من القواصم) لابن العربي مع الحاشية الممتازة التي وضعها العلامة محب الدين الخطيب، لقد سود شيوخ الروافض آلاف الصفحات بسبِّ أفضل قرن عرفته البشرية، وصرفوا أوقاتهم وجهودهم لتشويه تاريخ المسلمين (5). وكانت هذه المادة (الرافضية) الكبيرة والتي تجدها في كتب التاريخ التي وضعها الروافض أو شاركوا في بعض أخبارها، وتراها في كتب الحديث عندهم كالكافي، والبحار، وفيما كتبه شيوخهم في القديم؛ كإحقاق الحق، وفي الحديث ككتاب الغدير، هذه المادة السوداء المظلمة الكريهة الشائهة هي المرجع لما كتبه أعداء المسلمين من المستشرقين وغيرهم، وجاء ذلك الجيل المهزوم روحيا، والذي يرى في الغرب قدوته وأمثولته من المستغربين، فتلقف ما كتبته الأقلام الاستشراقية وجعلها مصدره ومنهله، وتبنى أفكارهم ونشر شبهاتهم في ديار المسلمين، وكان لذلك أثره الخطير في أفكار المسلمين وثقافتهم، وكان الرفض هو الأصل في هذا الشر كله. وإن دراسة آراء المستشرقين وصلتها بالتشيع لهي موضوع مهم يستحق الدراسة والتتبع، لقد بدأت استفادة العدو الكافر من شبهات
_________
(1) لوط بن يحيى بن سعيد بن مخنف الأزدي من أهل الكوفة، قال ابن عدي: شيعي محترق صاحب أخبارهم، توفي سنة 157هـ، له تصانيف كثيرة منها: الردة، الجمل، صفين، وغيرها.
(2) نصر بن مزاحم بن سيار المنقري الكوفي، قال الذهبي: رافضي جلد تركوه، توفي سنة 212هـ. ومن كتبه: وقعة صفين، وهو مطبوع، والجمل ومقتل الحسين, ميزان الاعتدال (4/ 253).
(3) أصول مذهب الشيعة الإمامية، ناصر الغفاري (3/ 1457).
(4) المصدر نفسه (3/ 1458).
(5) أصول مذهب الشيعة الإمامية، ناصر الغفاري (3/ 1459).(1/303)
الروافض وأكاذيبهم ومفترياتهم على الإسلام والمسلمين منذ عهد الإمام ابن حزم (ت 456هـ) (1).
ب- مصنفات لبعض علماء هذه الأمة من المعاصرين، وهي مفيدة إجمالا، ولكن طريقة عرضهم للأحداث وتفسيرهم لمواقف بعض الصحابة والتابعين فيها كثير -أو بعض- من عدم الإنصاف، مثل ما كتبه أبو الأعلى المودودي -رحمه الله- في كتابه (الخلافة والملك)، وما دونه الشيخ محمد أبو زهرة -رحمه الله- في كتابه (تاريخ الأمم الإسلامية) و (الإمام زيد بن علي)، فالكتابان مشحونان بكثير من التحامل على مقام بعض الصحابة والطعن على خلفاء بني أمية، وتنقصهم وتجريدهم من أية خصلة حميدة أو عمل صالح (2). ويبدو أن أمثال هؤلاء العلماء لم يحققوا في الروايات التاريخية، فتورطوا في الروايات الرافضية الشيعية وبنوا عليها تحليلاتهم واستنتاجاتهم، غفر الله لنا ولهم.
ج- مصنفات حاول أصحابها أن يسلكوا فيها منهج علماء الجرح والتعديل في نقد الروايات التاريخية وعرضها على أصول منهج المحدثين من حيث السند والمتن من أجل تمييز صحيحها من سقيمها, وسليمها من عليلها.
وفي هذه المؤلفات محاولة جيدة وجهد مشكور للوقوف في وجه هذا الزيف، وتفسير الأحداث التفسير الصحيح الذي لا يتعارض مع فضل الصحابة وإيمانهم وجهادهم (3) , ومن هذه المؤلفات الجيدة ما كتبه الدكتور يوسف العش في (تاريخ الدولة الأموية)، وما كتبه محب الدين الخطيب تعليقا على كتاب (العواصم من القواصم) لأبي بكر بن العربي، وما كتبه صادق عرجون في كتابه (عثمان بن عفان)، وما سطره الدكتور سليمان بن حمد العودة في كتابه (عبد الله بن سبأ وأثره في أحداث الفتنة في صدر الإسلام)، وما كتبه محمد أمحزون في كتابه (تحقيق مواقف الصحابة في الفتنة)، وما كتبه الدكتور أكرم العمري في كتابه (الخلافة الراشدة) (4) , وما كتبه عثمان الخميس في كتابه (حقبة من التاريخ)، وما كتبه الدكتور محمد حسن شراب في كتابه (المدينة النبوية .. فجر الإسلام والعصر الراشدي)،
_________
(1) أصول مذهب الشيعة الإمامية، ناصر الغفاري (3/ 1459).
(2) أحداث وأحاديث فتنة الهرج، ص81.
(3) أحداث وأحاديث فتنة الهرج، ص81.
(4) المصدر نفسه، ص82.(1/304)
وما قام به محب الدين من تحقيقات نافعة وتعليقات صائبة على كتاب (العواصم من القواصم) و (المنتقى)، وغيرها من الكتب والبحوث والرسائل التي سارت على نفس المنهج؛ فقد ظهر من هذا البيان شدة الحاجة إلى وجود مؤلفات ومصنفات ترد على هذه المزاعم والأخطاء، ولا يتم الرد على هؤلاء المزيفين للتاريخ الإسلامي ومقام الصحابة إلا بمحاولة دراسة تفاصيل تلك الأحداث، وغربلة الأخبار والروايات الواردة بميزان الجرح والتعديل، والتصحيح والتضعيف (1). وقد جاء عن ابن تيمية قوله: لكن إذا ظهر مبتدع، يقدح فيهم بالباطل,
فلا بد من الذب عنهم، وذكر ما يبطل حجته بعلم وعدل (2). وقد ذهب الإمام الذهبي -رحمه الله- في هذا مذهبا آخر، فهو يدعو إلى إحراق هذه الكتب التي فيها هذا الكذب والتشويه لمقام الصحابة، قال رحمه الله: كما تقرر الكف عن كثير مما وقع بين الصحابة وقتالهم رضي الله عنهم أجمعين، وما زال يمر بنا ذلك في الدواوين والكتب والأجزاء، ولكن أكثر ذلك منقطع وضعيف، وبعضه كذب، وهذا فيما بأيدينا وبين علمائنا فينبغي طيه وإخفاؤه بل إعدامه؛ لتصفو القلوب وتتوافر على حب الصحابة والترضي عنهم (3). وقد أفادنا الذهبي في كلامه فائدة كبيرة، وهو تصريحه بكون أكثر ما ينقل من ذلك في الكتب والدواوين كذبا وزورا وافتراء على مقام الصحابة رضي الله عنهم، إلا أن اقتراح الذهبي بحرق تلك المؤلفات لم يعد ممكنا؛ فقد انتشرت هذه الكتب، وتولت طباعتها كثير من دور النشر، وكثير من ذوي النيات السيئة فلم يبق إلا وضعها موضع الدراسة وبيان ما فيها من عوار وخطأ وكذب؛ حفظا لأجيال المسلمين من انحراف السلوك والعقيدة (4).
2 - تظهر أهمية دراسة فتنة مقتل عثمان - رضي الله عنه - وما ترتب عليها من أحداث لمعرفة أسباب الفتنة الحقيقية، سواء كانت هذه الأسباب داخلية أو خارجية، ومعرفة نصيب كل سبب من الأسباب فيما حدث، وهل هناك أسباب يمكن إدراجها في هذا السبيل؟
إن الذي يقرأ طرفا مما كتب عن هذه الفتنة يحس أن مؤامرة كبرى جرى التخطيط
_________
(1) المصدر نفسه، ص83.
(2) منهاج السنة (3/ 192).
(3) سير أعلام النبلاء (10/ 92).
(4) أحداث وأحاديث الفتنة الأولى، ص84.(1/305)
لها، وتعاون المجوس والنصارى واليهود والمنافقون على تنفيذها؛ فقضية تآمر الأعداء ترافق الأمة الإسلامية في كل مراحل تاريخها الطويل (1).
إلا أن هذه المؤامرة ما كانت لتنجح لولا وجود عوامل ضعف داخلية أسهمت في التمكين لنجاح هذه المؤامرة. ألا يصح دراسة عهد الصحابة -والحالة هذه- واجبا من الواجبات في سبيل معرفة أسباب ضعف الأمة الإسلامية، وتحديد مكامن الداء التي أوتيت منها، والاستفادة من ذلك في إصلاح حاضر هذه الأمة وتجنبها هذه المزالق في مستقبل حياتها؟ أم كتب عليها أن تظل ترزأ تحت ثقل أدوائها من الداخل وكيد أعدائها
من الخارج (2).
إن ما وقع من أحداث جسام في فتنة مقتل عثمان - رضي الله عنه - وما ترتب عليها من أحداث تحتاج لدراسة عميقة ومتأنية لكي نستخرج من تلك الحقبة التاريخية دروسا وعبرا نستضيء بها في حاضرنا؛ لكي نسترشد بها في سعينا الجاد لإعادة الخلافة الراشدة على منهاج النبوة، حتى تسعد البشرية بدين الله وشرعه، وتخرج من شقاوتها وتعاستها وضنكها بسبب بعدها عن شرع الله تعالى.
ثانيًا: الحكمة من إخباره - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بوقوعها:
لقد أخبر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في كثير من أحاديثه بأن هذه الأمة ستختلف وستتقاتل، وتعددت الأحاديث التي تشير إلى ذلك بإجمال أو بتفصيل، وتنوعت أساليب الإخبار عن ذلك من ذكر لأسباب الفتن أو لنتائجها، أو لبعض أحداثها ووقائعها، أو لمن يثيرونها، وغير ذلك، وكان كثير من هذا البيان والتوضيح منه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جوابا لأسئلة الصحابة الكرام الذين كانوا يطرحونها عليه، وهم يشاهدون ويتذوقون النعمة العظيمة التي أفاءها الله عليهم، وهي نعمة الأخوة ووحدة الصف واجتماع الكلمة، فراحوا يسألون عما إذا كانت هذه النعمة ستدوم أم تزول، ولما كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يعلم بالوحي أنها لن تدوم كما هي أحب أن يربيهم على الاستعداد لهذه المحن والفتن حتى يحسنوا التصرف يوم يقدر الله لهذه الفتنة أن تقع، فيسعوا إلى علاجها في وقتها، ومن خلال النظر في جملة الأحاديث الواردة في ذكر الفتن نلمح الحكم التالية (3):
_________
(1) أحداث وأحاديث الفتنة الأولى، ص83.
(2) المصدر نفسه، ص85.
(3) المصدر نفسه، ص 68.(1/306)
1 - أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو يذكر هذه الفتن والوقائع يريد أن يربي الأمة على الاستعداد لها حتى تحسن التصرف يوم تقع هذه الفتن، فتسعى إلى علاجها في وقتها.
2 - إن في هذه الأحاديث إشارات إلى من يثيرونها، وأنها أحيانا تكون من قوم ظاهري الإيمان والتشدد، ولكن عقولهم منحرفة، وقلوبهم ملتوية، وهم في جملة حالهم غير مدركين ولا فاقهين (1).
3 - إن هذه الفتنة تكشف المنافقين وتصقل قلوب المؤمنين فيزدادون إيمانا، ويتحفزون للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهو نوع من الابتلاء تصقل به النفوس وتتعود المجاهدة وتتعرف الخير فتأمر به والشر فتنهى عنه (2).
4 - إن الإخبار عن هذه الفتن يحمل في مضمونه تحذيرا شديدا من الوقوع فيها, أو ملابسة شيء منها؛ ذلك أن المؤمنين من هذه الأمة -من الصحابة وغيرهم- حين يسمعون خبر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بأن منهم من سيحدث منه القتل، ومنهم من سيتعلق بالدنيا، ومنهم من سيترك الجهاد، ومنهم، ومنهم .. تتحرك في نفوسهم مشاعر المواجهة لهذه الفتن، ويقول كل واحد منهم: لعلي أنجو، ويصبح الموقف منها الخوف على الدوام أن يقع في تلك المهالك على غفلة، والخوف في هذا الباب من أعظم سبل النجاة (3).
قال ابن تيمية -رحمه الله- بعد أن أورد عدة أحاديث مرفوعة في وقوع هذا الخلاف والاختلاف في هذه الأمة: وهذا المعنى محفوظ عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من غير وجه، يشير إلى أن التفرقة والاختلاف لا بد من وقوعها في الأمة، وكان يحذر أمته لينجو من شاء الله له السلامة (4).
5 - إن الإخبار عن هذه الفتن أدق في تحديد سبل النجاة منها؛ فإن الإنسان مهما بالغت في تحذيره من خطر يهدده -دون أن تحدد له هذا الخطر أو تبين له كيفية الوقوع فيه- قد لا يتصور الطريقة التي سيحدث بها، ولا يستبين طبيعة المشكلة التي سيواجهها، وقد يقع في المحذور دون أن يعرف أنه المقصود بالتحذير (5).
_________
(1) الوحدة الإسلامية، محمد أبو زهرة، ص137.
(2) المصدر نفسه، ص136، 137.
(3) أحداث وأحاديث الفتنة الأولى، ص69.
(4) المصدر نفسه، ص70. اقتضاء الصراط (1/ 127).
(5) المصدر نفسه، ص70.(1/307)
6 - إن الإخبار عن تلك الفتن اقترن في بعض الأحاديث بذكر أسبابها، أو بيان نتائجها، أو موقف المسلم منها، وهذا ينفع المسلم أو الأمة كلها في نبذ أسباب الفتن، أو الحكم على وقائع معينة من خلال النظر في نتائجها، أو اتخاذ الموقف السليم منها ابتداء.
7 - ثم إن فيها دليلا واضحا على صدق رسالة محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ونبوته، يزداد به إيمان الصحابة الذين سمعوا الحديث ثم رأوا تأويله في مواقفهم بعد مدة، ويزداد به إيمان المؤمن -كل مؤمن- في كل عصر ومصر، وهو يعيش وقائع الفتن والاختلافات التي أخبر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بوقوعها (1).
وقد جمع الدكتور عبد العزيز صغير دخان أحاديث الفتنة وقام بدراستها، وبيان صحيحها من ضعيفها في كتابه (أحداث وأحاديث الفتنة الأولى)، ثم استخرج من الأحاديث الصحيحة معاني دلت عليها تلك الأحاديث، منها:
1 - أن الفتنة سنة الله -عز وجل- في الأمم، وفي هذه الأمة إلى قيام الساعة، وهي فتن كقطع الليل المظلم، عمياء صماء بكماء، من سعى فيها هلك في الدنيا والآخرة، ومن كف يده أفلح، لا يكاد يبصر فيها أحد موقفه إلا من أحياه الله بالعلم وزوده بالتقوى، وهداه إلى ما اختلف فيه من الحق بإذنه (2).
2 - وفي هذه الأحاديث أن فتنة القتال بين المسلمين أمر واقع لا محالة، ولا سبيل لإنكاره واستغرابه بدءا بما وقع بين الصحابة والتابعين، ومرورا بالعصور الإسلامية إلى اليوم، ولكن الواجب هو معرفة أسباب هذا القتال لتلافيها، أو السعي في إطفاء نار الفتنة حينما تشب في ديار المسلمين، وألا ينبغي أن يقف المسلم منها موقف المتفرج.
3 - ومن رحمة الله بهذه الأمة أن يكفر عنها ذنوبها في الدنيا، وليس القتل والفتن التي تنزل ساحتها والزلازل التي تصيبها إلا كفارة لهذه الذنوب.
4 - وفي بعض هذه الأحاديث إشارة واضحة وصريحة إلى أن منبت معظم هذه الفتن من قبل المشرق، وكذلك كان الواقع؛ فإن الفتنة الأولى بدأ تحريكها في الكوفة والبصرة، وفتنة الجمل كانت هناك.
_________
(1) أحداث وأحاديث الفتنة الأولى، ص70.
(2) أحداث وأحاديث الفتنة الأولى، ص345.(1/308)
5 - وفي الفتنة يبيع قوم دينهم بعرض من الدنيا يسير، وتتحكم فيها الشهوات والشبهات، ويصير أهل الإسلام الصحيح غرباء في سلوكهم وتصرفاتهم، ويصبح المتمسك بدينه أشبه ما يكون بالذي يقبض على الجمر أو على الشوك، صابرا محتسبا ما يصيبه من الألم والأذى في سبيل دينه وما يعتقد أنه حق.
6 - وفي الفتنة يحفظ الله طائفة من الناس، فلا تلتبس بالفتنة، ولا تتلطخ أيديهم من دماء المسلمين، يسعون في إصلاح ذات البين، والدعوة إلى مبادئ الإسلام الصحيحة من رحمة وأخوة وسيكون موقفهم غريبا بدون شك وسط الجموع الهائجة والأهواء المستحكمة (1).
7 - وفي الفتنة يلعب اللسان دورا أخطر من السيف، بل إن اللسان يكون غالبا منشأ الفتن والبلايا، فرب كلمة شر مسمومة انطلقت فأشعلت النار في القلوب، وهيجت ما كان مستكنا في النفوس، وشحذت العواطف، وكانت سببا في فتن ضارية (2).
8 - وفي الفتنة ينقص العلم؛ إما بموت العلماء أو بسكوتهم واعتزالهم إيثارا للسلامة، أو لانصراف الناس عنهم لسبب من الأسباب، ويسود عندها الجهل، ويتخذ الناس رؤساء جهالا، فيفتوا بغير علم، فيُضِلوا ويَضِلوا، ويسود الرويبضة -وهو التافه من الناس- ويستعلي السفهاء منهم (3).
9 - وفي هذه الأحاديث أن الله -عز وجل- ضمن لرسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ألا يهلك هذه الأمة بالسنين والمجاعات، وألا يسلط عليهم عدوا فيتمكن منها دائما، مهما كانت قوة هذه العدو وإمكانياته وجبروته، ولكن الأمر الذي لم يضمنه الله لرسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هو ألا تختلف هذه الأمة، وسيكون هذا هو الباب الذي يدخل منه العدو الخارجي؛ إذ أن الأمة إذا اختلفت فيما بينها وقتل بعضها بعضا، ضعفت عوامل القوة فيها، وتمكن منها عدوها فعبث بخيراتها ومقدراتها، ولن يرفع عنها حتى تعود إلى تحقيق القوة في نفسها بالوحدة، وجمع الكلمة، والاحتكام إلى شرع الله (4).
_________
(1) أحداث وأحاديث الفتنة الأولى، ص 346 - 348.
(2) المصدر نفسه، ص348.
(3) المصدر نفسه، ص348.
(4) المصدر نفسه، ص348.(1/309)
10 - وفي الأحاديث أن وقوع الفتنة واستمرارها مظنة ظهور فرق المنحرفين عن هدى الإسلام، وتمكن أهل الباطل وظهورهم.
11 - وفي الفتنة تتغير أخلاق الناس وتتبدل، ويزهد الناس في العمل الصالح، ومشاريع الخير، ويلقى بين الناس العداوة والبغضاء والحقد، ويختلط الأمر على الناس.
12 - وفي الأحاديث أن هذه الفتن يسبقها أمن واستقرار وصلاح أحوال الناس المادية والأمنية، حتى يسير الراكب بين العراق ومكة لا يخاف إلا ضُلاَّل الطريق، ويظهر هذا في عهد عثمان - رضي الله عنه -؛ فقد كان عهد أمن واستقرار وتدفق الأموال والخيرات، ثم حدثت فتنة الهرج فقُوض ذلك كله، حتى تبدل الحال من الأمن إلى الخوف.
13 - وفي الفتنة يقتل خيار الناس وذوو العقول والرأي فيهم، ويبقى رجرجة من الناس لا تعرف معروفا ولا تنكر منكرا (1). هذه بعض المعاني من أحاديث الفتن.
* * *
_________
(1) أحداث وأحاديث الفتنة الأولى, ص349، 350.(1/310)
المبحث الثاني
أسباب فتنة مقتل عثمان - رضي الله عنه -
قال الإمام الزهري: ولي عثمان اثنتي عشرة سنة أميرا للمؤمنين، أول ست سنين منها لم ينقم الناس عليه شيئا، وإنه لأحب إلى قريش من عمر بن الخطاب؛ لأن عمر كان شديدا عليهم، أما عثمان فقد لان لهم ووصلهم. ثم حدثت الفتنة بعد ذلك، وقد سمى المؤرخون المسلمون الأحداث في النصف الثاني من ولاية عثمان 30 - 35هـ (الفتنة) التي أدت إلى استشهاد عثمان - رضي الله عنه - (1). كان المسلمون في خلافة أبي بكر وعمر وصدر من خلافة عثمان متفقين لا تنازع بينهم، ثم حدث في أواخر خلافة عثمان أمور أوجبت نوعا من التفرق، وقام قوم من أهل الفتنة والظلم فقتلوا عثمان فتفرق المسلمون بعد مقتل عثمان (2).
وقد كان المجتمع الإسلامي في خلافة الصديق والفاروق والنصف الأول من خلافة عثمان يتصف بالسمات الآتية:
1 - أنه - في عمومه- مجتمع مسلم بكامل معنى الإسلام، عميق الإيمان بالله واليوم الآخر، مطبق لتعاليم الإسلام بجدية واضحة، والتزام ظاهر، وبأقل قدر من المعاصي وقع في أي مجتمع في التاريخ؛ فالدين بالنسبة له هو الحياة، وليس شيئا هامشيا يفئ الناس إليه بين الحين والحين، إنما هو حياة الناس وروحهم، ليس فقط فيما يؤدونه من شعائر تعبدية يحرصون على أدائها على وجهها الصحيح، وإنما من أخلاقياتهم وتصوراتهم واهتماماتهم وقيمهم وروابطهم الاجتماعية، وعلاقات الأسرة وعلاقات الجوار، والبيع والشراء، والضرب في مناكب الأرض، والسعي وراء الأرزاق، وأمانة التعامل، وكفالة القادرين لغير القادرين، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والرقابة على أعمال الحكام والولاة، ولا يعني هذا بطبيعة الحال أن كل أفراد المجتمع هم على هذا الوصف، فهذا لا يتحقق في الحياة الدنيا، ولا في أي
_________
(1) طبقات ابن سعد (1/ 39 - 47)، البداية والنهاية (7/ 144 - 149) الخلفاء الراشدون للخالدي، ص112.
(2) مجموع الفتاوى (13/ 20).(1/311)
مجتمع من البشر. وقد كان في مجتمع الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - -كما ورد في كتاب الله- منافقون يتظاهرون بالإسلام وهم في دخيلة أنفسهم من الأعداء، وكان فيه ضعاف الإيمان، والمعوقون، والمتثاقلون، والمبطِّئون، والخائنون، ولكن هؤلاء جميعا لم يكن لهم وزن في ذلك المجتمع، ولا قدرة على تحويل مجراه؛ لأن التيار الدافق هو تيار أولئك المؤمنين صادقي الإيمان، المجاهدين في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم، الملتزمين بتعاليم هذا الدين (1).
2 - أنه المجتمع الذي تحقق فيه أعلى مستوى من المعنى الحقيقي (للأمة)، فليست الأمة مجرد مجموعة من البشر جمعتهم وحدة اللغة ووحدة الأرض، ووحدة المصالح، فتلك هي الروابط التي تربط البشر في الجاهلية، فإن تكونت منهم أمة فهي أمة جاهلية، أما الأمة بمعناها الرباني، فهي الأمة التي تربط بينها رابطة العقيدة، بصرف النظر عن اللغة والجنس واللون، ومصالح الأرض القريبة، وهذه لم تتحقق في التاريخ وحده كما تحققت في الأمة الإسلامية، فالأمة الإسلامية هي أمة لا تقوم على عصبية الأرض ولا الجنس ولا اللون ولا المصالح الأرضية، إنما هو رباط العقيدة، يربط بين العربي والحبشي والرومي والفارسي، يربط بين أهل البلاد المفتوحة والأمة الفاتحة على أساس الأخوة الكاملة في الدين، ولئن كان معنى الأمة قد حققته هذه الأمة أطول فترة عرفتها الأرض، فقد كانت فترة صدر الإسلام أزهى فترة تحققت فيها معاني الإسلام كلها، بما فيها معنى الأمة على نحو غير مسبوق (2).
3 - أنه مجتمع أخلاقي يقوم على قاعدة أخلاقية واضحة مستمدة من أوامر الدين وتوجيهاته، وهي قاعدة لا تشمل علاقات الجنسين وحدها، وإن كانت هذه من أبرز سمات هذا المجتمع؛ فهو خال من التبرج ومن فوضى الاختلاط، وخال من كل ما يخدش الحياء من فعل أو قول أو إشارة، وخال من الفاحشة إلا القليل الذي لا يخلو منه مجتمع على الإطلاق، ولكن القاعدة الأخلاقية أوسع بكثير من علاقات الجنسين؛ فهي تشمل السياسة والاقتصاد والاجتماع والفكر والتعبير، فالحكم قائم على أخلاقيات الإسلام، وعلاقات الناس في المجتمع قائمة على الصدق والأمانة
_________
(1) كيف نكتب التاريخ الإسلامي؟ محمد قطب، ص100.
(2) المصدر نفسه، ص101.(1/312)
والإخلاص والتعاون والحب، لا غمز ولا لمز ولا نميمة ولا قذف للأعراض (1).
4 - أنه مجتمع جاد، مشغول بمعالي الأمور لا بسفاسفها، وليس الجد بالضرورة عبوسا وصرامة، ولكنه روح تبعث الهمة في الناس وتحث على النشاط والعمل والحركة، كما أن اهتماماته أعلى وأبعد من واقع الحس القريب، وليست فيه سمات المجتمع الفارغة المترهلة التي تتسكع في البيوت وفي الطرقات، تبحث عن وسيلة لقتل الوقت من شدة الفراغ (2).
5 - أنه مجتمع مجند للعمل في كل اتجاه تلمس فيه روح الجندية واضحة، لا في القتال في سبيل الله فحسب -وإن كان القتال في سبيل الله قد شغل حيزا كبيرا في حياة هذا المجتمع- ولكن في جميع الاتجاهات؛ فالكل متأهب للعمل في اللحظة التي يطلب منه فيها العمل، ومن ثم لم يكن في حاجة إلى تعبئة عسكرية ولا مدنية، فهو معبأ من تلقاء نفسه بدافع العقيدة وبتأثير شحنها الدافعة لبذل النشاط في كل اتجاه (3).
6 - أنه مجتمع متعبد تلمس فيه روح العبادة واضحة في تصرفاته، ليس فقط في أداء الفرائض والتطوع بالنوافل ابتغاء مرضات الله، ولكن في أداء الأعمال جميعا؛ فالعمل في حسه عبادة، يؤديه بروح العبادة، الحاكم يسوس رعيته بروح العبادة، والمعلم الذي يعلم القرآن ويفقه الناس في الدين يُعَلِّم بروح العبادة، والتاجر الذي يراعى الله في بيعه وشرائه يفعل ذلك بروح العبادة، والزوج يرعى بيته بروح العبادة، والزوجة ترعى بيتها بروح العبادة، تحقيقا لتوجيه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «كلكم راع، وكلكم مسئول عن رعيته» (4).
هذه من أهم سمات عصر الصديق وعهد الخلفاء الراشدين، إلا أن تلك السمات كانت أقوى كلما اقتربنا من عهد النبوة، وتضعف كلما ابتعدنا عن عصر النبوة. وهذه السمات جعلته مجتمعا مسلما في أعلى آفاقه، وهي التي جعلت هذه الفترة المثالية في تاريخ الإسلام، كما أنها هي التي ساعدت في نشر هذا الدين بالسرعة العجيبة التي انتشرت بها؛ فحركة الفتح ذاتها من أسرع حركات الفتح في التاريخ كله، بحيث شملت في أقل من خمسين عاما أرضا تمتد من المحيط غربا إلى الهند شرقا، وهي ظاهرة
_________
(1) كيف نكتب التاريخ الإسلامي، ص102.
(2) المصدر نفسه، ص102.
(3) المصدر نفسه، ص102.
(4) المصدر نفسه، ص102.(1/313)
في ذاتها تستحق التسجيل والإبراز، وكذلك دخول الناس في الإسلام في البلاد المفتوحة بلا قهر ولا ضغط، وقد كانت تلك السمات التي اشتمل عليها المجتمع المسلم هي الرصيد الحقيقي لهذه الظاهرة؛ فقد
أحب الناس الإسلام لما رأوه مطبقا على هذه الصورة العجيبة الوضاءة، فأحبوا أن يكونوا من بين معتنقيه (1).
إن دراسة هذه الفترة من التاريخ ينبغي أن تترك انطباعا لا يمحى في نفس الدارس؛ انطباعا بأن الإسلام دين واقعي قابل للتطبيق في عالم الواقع بكل مثالياته، فهي ليست مثاليات معلقة في الفضاء لمجرد التأمل أو التمني، ولكنها مثاليات واقعية في متناول التطبيق إذا حاولها الناس بالجدية الواجبة وأعطوها حقها من الجهد، ثم انطباعًا بأن ما حدث مرة يمكن أن يحدث مرة أخرى؛ لأن البشر هم البشر، وقد استطاع البشر دائما أن يحاولوا الصعود مرة أخرى وسيصعدون حين يعزمون, وسينالون على ذلك النصر والتمكين، قال تعالى: {وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لاَ يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور: 55].
ومن الأمور التي تساعد المسلمين على العودة إلى الخلافة الراشدة معرفة العوامل والأسباب التي أدت إلى زوالها، لكي نعمل على اجتنابها والأخذ بالأسباب التي جعلها الله سببا في إكرام الأمة بها، ولذلك نريد أن نفصل في أسباب فتنة مقتل عثمان لأهميتها، وإليك أهم هذه الأسباب:
أولاً: الرخاء وأثره في المجتمع:
كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يرى ما يعانيه أصحابه من شظف العيش وفقر الحال، فكان يصبرهم، ثم يخبرهم أن هذا الحال الذي هم عليه لن يدوم طويلا، حتى تفتح عليهم خزائن الدنيا وخيراتها، وحذرهم من الاشتغال بذلك عن العمل الصالح والجهاد في سبيل الله، وما يمكن أن يجره ذلك عليهم من التقاتل على الدنيا ومتاعها الزائل. (3)
_________
(1) أحداث وأحاديث الفتنة الأولى، ص103.
(2) المصدر نفسه، ص103، 104.
(3) أحداث وأحاديث الفتنة الأولى، ص559.(1/314)
وقد فقه عمر بن الخطاب هذا التحذير فكان من سياسته حماية المسلمين من غوائل فتنة المال وزخارف الدنيا، فاجتهد في منع المسلمين من التوسع في بلاد العجم، ولولا ظهور مصلحة أخرى راجحة في توسعهم لبقى المنع قائما، إلا أن هذا التراجع من عمر لم يشمل كبار الصحابة والمهاجرين والأنصار، الذين كانوا بالمدينة إذ بقى المنع في حقهم (1). ولا شك أن الذي فعله عمر كان يدل على إحساسه وخوفه من انتشار المسلمين في أرض تزخر بألوان الخيرات والأرزاق فتستولي الدنيا على قلوبهم وتفسد عليهم آخرتهم (2). فلما جاء عهد عثمان وتوسعت الفتوحات شرقا وغربا، وبدأت الأموال تتقاطر على بيت المال من الغنائم والأسلاب, وامتلأت أيدي الناس بالخيرات والأرزاق (3)، وغني عن الإشارة أن النعم والخيرات وتلك الواردات من الفتوح سيكون لها أثرها على المجتمع؛ إذ تجلب الرخاء وما يترتب عليه من انشغال الناس بالدنيا والافتتان بها، كما أنها مادة للتنافس والبغضاء، خاصة بين أولئك الذين لم يصقل الإيمان نفوسهم، ولم تهذبهم التقوى من أعراب البادية وجفاتها، ومن مسلمة الفتوحات وأبناء الأمم المترفة الدخلاء في الإسلام الذين جروا شوطا بعيدا في زخارف الدنيا وبهجتها، واتخذوها غاية يتنافسون فيها.
وقد أدرك عثمان هذه الظاهرة وأنذر بما سيؤول إليه أمر الأمة من التبدل والتغير في كتابه الموجه إلى الرعية: «فإن أمر هذه الأمة صائر إلى الابتداع بعد اجتماع ثلاثة فيكم: تكامل النعم، وبلوغ أولادكم من السبايا، وقراءة الأعراب والأعاجم للقرآن» (4).
أما تكامل النعم فيتحدث الحسن البصري -وهو شاهد عيان- عن حالة المجتمع، ووفور الخيرات وإدرار الأموال، وما آل إليه أمر الناس من البطر وعدم الشكر، فيقول: أدركت عثمان على ما نقموا عليه، قلما يأتي على الناس يوم إلا وهم يقتسمون فيه خيرا, يقال لهم: يا معشر المسلمين، اغدوا على أعطياتكم فيأخذونها وافرة، ثم يقال لهم: اغدوا على السمن والعسل. الأعطيات جارية، والأرزاق دارَّة، والعدو متقى، وذات البين حسن، والخير كثير ... والأخرى كان السيف مغمدا على أهل الإسلام فسلوه على
_________
(1) أحداث وأحاديث الفتنة الأولى، ص565.
(2) أحداث وأحاديث الفتنة الأولى، ص565.
(3) أحداث وأحاديث الفتنة الأولى، ص566.
(4) تاريخ الطبري (5/ 245).(1/315)
أنفسهم، فوالله ما زال مسلولا إلى يوم الناس هذا، وأيم الله، إني لأراه سيفا مسلولا إلى يوم القيامة (1).
وأما بلوغ أولاد المسلمين من السبايا فيتمثل فيما آل إليه أمر هؤلاء من الدعة والترف، وكان أول منكر ظهر بالمدينة حين فاضت الدنيا وانتهى وسع الناس لطيران الحمام والرمي على الجلاهقات (2)، فاستعمل عليها عثمان رجلا من بني ليث سنة ثمان (3) فقضَّضها وكسر الجلاهقات (4). وحدث بين الناس النشو بتناولهم النبيذ، فأرسل عثمان رجلا يطوف عليهم بالعصا ليمنعهم من ذلك، وعندما اشتد ذلك شكاهم عثمان إلى الناس، فأجمعوا على أن يجلدوا في النبيذ، فأخذ نفر منهم فجلدوا، ثم جعل عثمان لا يأخذ أحدا على شر أو شهر سلاحا إلا نفاه من المدينة، فضج آباؤهم من ذلك (5). وقام عثمان في المدينة فقال: «إن الناس تبلغني عنهم هنات وهنات، وإني لا أكون أول من فتح بابها ولا أدار راحتها (أي الفتنة)، ألا وإني زام نفسي بزمام, وملجمها بلجام، فأقودها بزمامها وأكبعها (6) بلجامها، ومنا ولكم طرف الحبل، فمن اتبعني حملته على الأمر الذي يعرف، ومن لم يتبعني فمن خلف منه وعزاء منه، ألا وإن لكل نفس يوم القيامة سائقا وشهيدا؛ سائق يسوقها على أمر الله وشاهد يشهد عليها بعملها، فمن كان يريد الله بشيء فليبشر ومن كان يريد الدنيا فقد خسر» (7). وهكذا لما قام عثمان الرجل التقي والخليفة الراشد بواجبه، وكانت إجراءاته تعزيرية تجاه أبناء الأغنياء الذين بدأوا نوعا من حياة الترف وفساد الأخلاق، انضم أولئك المنحرفون إلى صف الناقمين من الرعاع.
وبالنسبة لقراءة الأعراب والأعاجم القرآن، فيظهر في شكل واضح في تكوين طبقة في المجتمع المسلم تتعلم القرآن لا رغبة في الثواب، وإنما
_________
(1) البداية والنهاية (7/ 224).
(2) قوس البندق الذي يرمى به.
(3) أي في السنة الثامنة من خلافته.
(4) تاريخ الطبري (5/ 415).
(5) تاريخ الطبري (5/ 416).
(6) أي من الكبع، وهو المنع.
(7) تحقيق مواقف الصحابة في الفتنة (1/ 361).(1/316)
رغبة في الجعل الذي جعله الخليفة تشجيعا وتأليفا (1). ويجب أن نلاحظ أن هذا التغير بدأ أثره يظهر أولا على أطراف الدولة الإسلامية، ثم أخذ يزحف إلى عاصمة الخلافة، مما دفع عثمان إلى تذكير المسلمين في خطبه بضرورة الحذر من التهالك على الدنيا وحطامها، فكان مما قاله في إحدى خطبه:
إن الله إنما أعطاكم الدنيا لتطلبوا بها الآخرة، ولم يعطكموها لتركنوا إليها، إن الدنيا تفنى وإن الآخرة تبقى، ولا تبطرنكم الفانية ولا تشغلنكم عن الباقية .. واحذروا من الله الغِيَر، والزموا جماعتكم، ولا تصيروا أحزابا (2) , ثم قرأ: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُمْ مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ - وَلْتَكُن مِّنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [آل عمران: 103، 104].
وفي مثل هذه الظروف، والخيرات وافرة، فاضت الدنيا على المسلمين وتفرغ الناس بعد أن فتحوا الأقاليم واطمأنوا فأخذوا ينقمون على خليفتهم (3).
ومن هنا يعلم أثر الرخاء في تحريك الفتنة، ومن هنا أيضا يمكن فهم مقالة عثمان - رضي الله عنه - لعبد الرحمن بن ربيعة -له صحبة- وهو على الباب (4): إن الرعية قد أبطر كثيرا منهم البطنة فقصر بهم، ولا تقتحم بالمسلمين فإني خاشٍ أن يبتلوا (5).
وفي آخر خطبة لعثمان - رضي الله عنه - وهو يعظ المسلمين بعد أن فتحت الدنيا عليهم قال:
ألا لا تبطرنكم الفانية ولا تشغلنكم عن الباقية .. واحذروا أحداث الدهر المغير، والزموا جماعتكم، ولا تتفرقوا شيعا وأحزابا (6).
ثانيًا: طبيعة التحول الاجتماعي في عهد عثمان - رضي الله عنه -:
حدثت تغيرات اجتماعية عميقة، ظلت تعمل في صمت وقوة لا يلحظها كثير من
_________
(1) الوثائق السياسية في العهد النبوي والخلافة الراشدة، ص392.
(2) أحداث وأحاديث الفتنة الأولى، ص567.
(3) تحقيق مواقف الصحابة في الفتنة (1/ 362).
(4) المقصود بالباب منطقة في جهات أذربيجان تسمى الدر البند، معجم البلدان (1/ 303).
(5) تحقيق مواقف الصحابة في الفتنة (1/ 361).
(6) المصدر نفسه (1/ 362).(1/317)
الناس، حتى ظهرت على ذلك الشكل العنيف المتفجر بدءا من النصف الثاني من خلافة عثمان، وبلغت قمة فورانها في التمرد الذي أدى إلى استشهاد عثمان - رضي الله عنه - (1).
لما توسعت الدولة الإسلامية عبر حركة الفتوح حصل تغير في تركيبة المجتمع واختلالات في نسيجه؛ لأن هذه الدولة بتوسعها المكاني والبشري ورثت ما على هذه الرقعة الواسعة من أجناس، وألوان، ولغات، وثقافات، وعادات، ونظم، وأفكار، ومعتقدات، وفنون أدبية وعمرانية، ومظاهر، وظهرت على سطح هذا النسيج ألوان مضطربة وخروقات غير منتظمة، ورقع غير منسجمة، مما صيرت المجتمع غير متجانس في نسيجه التركيبي وبالذات في الأمصار الكبرى، بمواقعها وأهميتها، تدفع بجيوش الفتوح وتستقبلها وهي عائدة، وقد نقص عددها بالموت والقتل، وتستقبل بدلا عنهم أو أكثر منهم أعدادا وفيرة من أبناء المناطق المفتوحة، فرس، وترك، وروم، وقبط، وكرد، وبربر، وكان أكثرهم من الفرس أو من النصارى العرب أو غيرهم أو من اليهود (2). وأكثر سكان هذه الأمصار الكبيرة هم ممن شاركوا في حركة الفتح الإسلامي ثم استقروا في هذه الأمصار، وكان أغلب هؤلاء من القبائل العربية من جنوبها وشمالها وشرقها، والذين لم يكونوا - عادة - من الصحابة، وبمعنى أدق ليسوا ممن تلقوا التربية الكافية على يد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - , أو على أيدي الجيل الأول من الصحابة؛ إما لانشغالهم بالفتوح أو لقلة الصحابة. وقد حصلت تغيرات في نسيج المجتمع البشري المكون من جيل السابقين وسكان البلاد المفتوحة، والأعراب ومن سبقت لهم ردة، واليهود والنصارى، وفي تكوين نسيج المجتمع الثقافي، وفي بسطة عيش المجتمع، وفي ظهور لون جديد من الانحرافات، وفي قبول الشائعات (3).
1 - المتغيرات في نسيج المجتمع البشري:
أ- لقد تكون هذا النسيج من قطاعات عدة:
قطاع الأسبقين ممن بقى من الصحابة ومن الذين نالوا قسطا من رعاية الصحابة، ولكن هذا القطاع وذاك ظل يتناقص إما عن
_________
(1) الدولة الأموية المفترى عليها، ص166.
(2) دراسات في عهد النبوة والخلافة الراشدة، ص379.
(3) المصدر نفسه، ص380.(1/318)
طريق الموت والقتل في ميادين الفتوح، وإما عن طريق تفرقهم في الأمصار، مما جعلهم أقل حضورا، وكانوا موزعين في البلدان المفتوحة والأمصار الكبيرة المستحدثة كالبصرة, والكوفة، والشام، ومصر، وبعضهم في الجزيرة العربية يخرجون منها ثم يعودون إليها مرة أخرى (1).
ب- سكان المناطق المفتوحة: وكانوا يشكلون الأكثرية بالنسبة للقادمين إليهم مع حركة الفتوح؛ فقد ظل القادمون قلة وإن كان لهم حضور فعلي في إدارة البلد أو التأثير السلوكي والأخلاقي والفكري واللغوي، إلا أنهم رغم ذلك يعتبرون قلة، وظل هذا القطاع -قطاع سكان المناطق المفتوحة- مقتصرا في استقراره غالبا على مناطقهم، ومع هذا فقد تنقل بعضهم في المناطق الأخرى من بلدان الدولة الإسلامية؛ بل استقر بعضهم في الأمصار الكبيرة وفي عاصمة الدولة أيضا، إما على شكل ما عرف بالسبي، أي يستقرون تابعين لمواليهم، وإما على شكل تنقل تجاري ومعارفي وإداري؛ حيث لا يوجد قانون يمنعهم من ذلك، إن لم يكونوا يلقون التشجيع والدعم (2). وقد كان الأعاجم الذين جاءوا من البلاد المفتوحة من أسرع الناس إلى الفتنة، ذلكم لأن أغلب الأعاجم من الأمم الموتورة، والشعوب المقهورة، فتكثر مسارعتهم للفتن لأسباب كثيرة، منها:
* جهلهم وحداثة عهد أكثرهم بالكفر، والملك والعز الذي كانوا عليه، ثم سُلبوه.
* قلة فقههم في الدين، بسبب العجمة وغيرها.
* العصبية وكراهية العرب.
* أن طوائف منهم دخلت الإسلام ظاهرا وخوفا من السيف أو الجزية، وأضمروا للإسلام والمسلمين الشر والكيد، فيسارعون إلى كل فتنة.
* طمع أهل الأهواء فيهم للأسباب المذكورة وتحريضهم لهم (3).
ج- أولئك الأعراب عُرفوا بأنهم من سكان البادية:
وهم مثل بقية الناس منهم المسلم التقي ومنهم الكافر والمنافق، إلا أنهم كما قال الله عنهم: {الأعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا
_________
(1) دراسات في عهد النبوة والخلافة الراشدة، ص380.
(2) دراسات في عهد النبوة والخلافة الراشدة، ص380.
(3) دراسات في الأهواء والفرق والبدع، ناصر العقل، ص161.(1/319)
وَأَجْدَرُ أَلاَّ يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللهُ عَلَى رَسُولِهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [التوبة: 97]؛ وذلك لأنهم أقسى قلوبا وأغلظ طبعا وأجفى قولا، ولصفاتهم هذه فهم جديرون وأخلق بهم أن لا يعلموا حدود ما أنزل الله من الشرائع والأحكام والجهاد (1)؛ فهم من أسرع الناس في الفتن ولمسارعتهم فيها أسباب، منها:
* قلة فقههم في الدين.
* سرعة اغترار الواحد منهم بما يتعلمه من القرآن، فيظن أنه صار عالما بقليل من العلم.
* جفاؤهم للعلماء، وترك التلقي عنهم والاقتداء بهم.
* تمكن العصبية القبلية من نفوسهم.
* تغرير أهل المطامع بهم، واستغلال سذاجتهم وجهلهم.
* حدة طباعهم ونفورهم من المدنية والخلطة، وإساءة الظن بالآخرين ممن لا يعرفونهم، وهذا من طباع الأعراب في كل زمان ومكان.
* تشددهم في الدين، وتنطعهم بلا علم، لذلك صار غالب الخوارج من هذا الصنف (2).
وخرج من هؤلاء الأعراب رجال عرفوا (بالقراء) وقد اختلف مفهوم (القراء) هذا عن منطوقه, فالمنطوق يقصد به جماعة ممن تخصصوا بقراءة القرآن، إلا أن المفهوم ومن خلال الواقع أنتج دلالات أخرى، فمنهم من كان على طريقة الخوارج، يفهمون القرآن بطريقتهم الخاصة، ومنهم من كان زاهدا لا يفقه حقيقة ما يقرأ ولم يستطع التأقلم مع واقع المجتمع (3). وهؤلاء القراء الجهلة يسارعون للفتن وذلك لأسباب، منها:
* الشدة في نزعة التدين عندهم مع قلة الفقه في الدين، مما يورث غيرة على الدين بغير علم ولا بصيرة، فتجرفهم الأهواء والعواطف باسم الغيرة على الدين, دون نظر في العواقب ولا فقه لقواعد الشرع كدرء المفاسد، وجلب المصالح.
* الاغترار بما يحصله الواحد منهم من الآيات والأحاديث دون فقه ولا بصيرة، فيتوهم أنه صار من أهل العلم الذين يُحلِّون ويعقدون في مصالح المسلمين.
_________
(1) دراسات في عهد النبوة والخلافة الراشدة، ص380، نقلا عن الشوكاني، فتح القدير (2/ 395 - 397).
(2) دراسات في الأهواء والفرق والبدع، ص161.
(3) دراسات في عهد النبوة والخلافة الراشدة، ص381.(1/320)
* تعاليهم على العلماء والأئمة، وظنهم أنهم وصلوا درجة الاستغناء عنهم وعن فقههم وعلمهم، تحت شعار (هم رجال ونحن رجال).
* اتخاذهم رؤساء جهالا من بينهم دون العلماء والأئمة. لأن أهل الأهواء ورؤوس البدع والفتن -وغالبهم من الدهاة- يفزعون إلى القراء فيغوونهم، ويستدرجونهم، ويستغلون نزعة التدين فيهم، ويستثيرون غيرتهم بلا بصيرة.
* جهلهم بقواعد الاستدلال وأحكام الفتن (1).
د- وفصيل أو قطاع آخر في نسيج المجتمع الإسلامي وهو ممن سبقت لهم ردة: وكانت حياتهم في الإسلام قصيرة وانتماؤهم إليه ضرورة، ولا ننفي أن منهم من زكى وصلح وكان من الفضلاء إلا أن منهم من لم يتذوق حلاوة الإسلام، فظل -رغم انتسابه للإسلام- يعيش بعقليته السابقة ونفسيته التي عاشها قبل الإسلام، العقلية القبلية، تناوشه العصبيات، وكأن الإسلام لم يدخل فيهم, أو أنهم ظنوا عدم التناقض بين ما يعرفونه من إسلام وما يتعاملون به في الواقع من دوافع قبلية (2).
لقد شكلت طوائف من المرتدين عنصرا أسهم في تهيئة أجواء الفتنة، والمرتدون كانوا على عهد أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، ولكن الشيء الجديد هو اختلاف سياسة عثمان - رضي الله عنه - عن الخليفتين قبله تجاههم؛ فأبو بكر - رضي الله عنه - يكتب إلى عماله: ألا يستعينوا بمرتد في جهاد العدو، ويؤكد على خالد بن الوليد، وعياض بن غنم ألا يغزو معهما أحد قد ارتد حتى يرى رأيه فيهم، فلم تشهد أيامه (3) مرتدا. ويقول الشعبي: كان أبو بكر لا يستعين في حروبه بأحد من أهل الردة حتى مات (4). ولذلك كان بعض من ارتد وحسن إسلامه بعد ذلك يستحيون من مواجهة أبي بكر، فطليحة بن خويلد مثلا يذهب إلى مكة معتمرا وما استطاع مقابلة أبي بكر
_________
(1) دراسات في الأهواء والفرق والبدع، ص163.
(2) دراسات في عهد النبوة والخلافة الراشدة، ص381.
(3) عبد الله بن سبأ وأثره في أحداث الفتنة، سليمان العودة، ص155.
(4) البداية والنهاية (6/ 347).(1/321)
حتى مات (1). وفي خلافة عمر - رضي الله عنه - تخف هذه السياسة تجاه المرتدين، فيندب أهل الردة ليرمي بهم الشام والعراق (2)، وقد كان في مسيرة جيش سعد بن أبي وقاص في القادسية قيس بن مكشوح المرادي، وعمرو بن معد يكرب كان يحمس الناس ويحرك مشاعرهم، وهذا كله كان بعد أن أذن عمر لأهل الردة في الغزو (3). ولكن هذا التجاوز عن سياسة أبي بكر عند عمر يصحبه نوع من الحذر والحيطة، ولا ينفك عن الضوابط والشروط المقيدة؛ فأهل الردة لا يولون على مائة، ولهذا اضطر سعد أن يبعث قيس بن المكشوح في سبعين رجلا فقط في أثر الأعاجم، ثاروا بهم في ليلة الهرير (4).
ويأتي عثمان - رضي الله عنه - فيتجاوز سياسة التقييد التي فرضها الخليفتان قبله تجاه المرتدين، ويرى أن عامل الزمن الذي مضى على عهد الردة كاف لأن يتخلص من كان قد ارتد من رواسبها، ويجتهد عثمان فيستعمل أهل الردة استصلاحا لهم، فلم يصلحهم ذلك، بل زادهم فسادا وجعل قائلهم يتمثل
قول القائل:
وكنت وعمرا كالْمُسَمِّن كلبه ... فخدشه أنيابه وأظافره (5)
وكانت من نتائج استعمال عثمان لأهل الردة في الكوفة أن تبدل أهلها وأصيب قائدهم عبد الرحمن بن ربيعة في غزوة للترك، وهو الذي كان يقاتلهم في عهد عمر فيَفْرَقُون منه، ويقولون: ما اجترأ علينا هذا الرجل إلا ومعه ملائكة تمنعه من الموت (6). وتظهر الآثار بشكل واضح في الفتنة التي انتهت بقتل عثمان، وذلك حينما نجد في أسماء المتهمين في دم عثمان رجالا ينتسبون إلى قبائل كانت في عداد المرتدين، أمثال: سودان بن حمران السكوني، وقتيرة بن فلان السكوني، وحكيم بن جبلة العبدي (7).
هـ- اليهود والنصارى:
وكان بعضهم -وهو كثير- قد خرج أو أخرج من جزيرة العرب فاستقروا في الأمصار الكبيرة، ومنها الكوفة والبصرة، وكان اليهود خاصة -
_________
(1) التاريخ الإسلامي (9/ 59).
(2) عبد الله بن سبأ وأثره في أحداث الفتنة، ص156.
(3) عبد الله بن سبأ وأثره في أحداث الفتنة، ص156.
(4) تاريخ الطبري (4/ 382).
(5) عبد الله بن سبأ وأثره في أحداث الفتنة، ص157.
(6) تاريخ الطبري (5/ 146).
(7) عبد الله بن سبأ وأثره في أحداث الفتنة، ص157.(1/322)
حسب طبعهم- ظلوا في تلك الأمصار المطلة على ميادين الفتوح يمارسون مهنتهم المشهورة المزدوجة, السيطرة المالية بوسائلهم المختلفة، والتآمر على قطع اليد التي تمد لهم المساعدة (1). وسيأتي الحديث عن دور اليهود بإذن الله تعالى.
2 - تكوينات نسيج المجتمع الثقافي:
فإلى جوار هذا الخليط البشري كان هناك خليط آخر لا يقل خطره - إن لم يفق الخليط البشري- ألا وهو الخليط الثقافي؛ حيث تدفقت الثقافات والأفكار والنظم والعقائد مع تلك الأعداد البشرية التي انضمت إلى محتويات المجتمع الإسلامي، فصارت تشكل حملا ضخما على عاتقه، ومما زاد الطين بلة أنه بالرغم من اندماج المسلمين في نسيج البلدان المفتوحة؛ حيث عاشوا في أوساطهم وتزوجوا منهم، وتعلموا لغاتهم، ولبسوا ملابسهم، ومارسوا عاداتهم، إلا أنه بالرغم من ذلك فقد كان تأثيرهم في أهل البلد المفتوح محدودا في هذه الفترة المبكرة (2). فلم ينل أهالي هذه البلاد المفتوحة حظا وافرا من التربية، ولم تتشبع بروح الإسلام كما هو حال الصحابة من المهاجرين والأنصار، وكذلك القبائل العربية التي اختلطت بأهالي البلاد المفتوحة. وإذا كان الإسلام قد تمكن من صهر هذه القبائل المختلفة في بوتقة لفترة معينة، إلا أنه مما يجب أن يوضع في الحسبان أن عملية التعليم والتربية التي كانت تقودها القاعدة الصلبة من المهاجرين والأنصار لم تكن قادرة على استيعاب هذه الأفواج الكبيرة واحتوائها؛ فالموالي لم يتخلصوا من كل الأفكار والعادات التي كانوا عليها في جاهليتهم، ويرجع ذلك إلى عدم التوازن بين حركة التوسع الأفقي في فتح البلدان وبين التوسع الرأسي في تعليم الناس وتفقيههم في كتاب الله وسنة رسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، على أن حركة الجهاد لا بد أن يصحبها ويتبعها الدعاة والمعلمون ليفقهوا الناس في دينهم؛ حتى لا يختل ميزان التربية، وتحدث الخلخلة في الصف الإسلامي، وتتوسع الفجوة بين الفاتحين وسكان الأراضي المفتوحة، مما يتسبب في حدوث ظواهر سلبية تؤثر في تماسك الصف الإسلامي ووحدته السياسية والفكرية (3).
ولم يكن يمكن تفادي هذا الجانب السلبي رغم وجود البذل والحماس في ميدان التعليم والتربية الإسلامية؛ حيث كان التوسع في
_________
(1) دراسات في عهد النبوة والخلافة الراشدة، ص381.
(2) المصدر نفسه، ص381.
(3) تحقيق مواقف الصحابة في الفتنة (1/ 358).(1/323)
الأرض سريعا وواسعا، فقد فتحت العراق وما وراءها وبلاد الشام في سنوات قليلة معدودة، فلم يكن في مقدرة الطاقة البشرية في ميدان التربية والتعليم استيعاب الأعداد الهائلة من سكان تلك المناطق وتعليمها (1). ومن أسباب ذلك: أن الصحابة الذين كان من المفروض أن يقوموا بهذه الأمانة قد قتل معظمهم في ميادين الجهاد، ولم يبق إلا أفراد قليلون متفرقون تجمع حولهم المسلمون الذين يحبون أن يتعلموا، فظهرت طبقة التابعين، ولأن معظمهم مخلصون فقد كانوا في مقدمة ميادين الجهاد، فقُتل أيضا منهم من قُتل (2) , كما لم يكن الزمن كافيا لترسيخ التعاليم الإسلامية في نفوس كثير منهم، مما ساعد مع غيره من العوامل على وجود خلخلة فكرية وظواهر سلبية دخيلة على النهج الإسلامي, مما كان له الأثر في عدم استقرار الدولة، وظهر ذلك جليا في السنوات الأخيرة من عهد عثمان - رضي الله عنه - (3).
3 - ظهور جيل جديد:
فقد حدث في المجتمع تغير أكبر؛ ذلك أن جيلا جديدا من الناس ظهر، وأخذ يحتل مكانة في المجتمع، وهو غير جيل الصحابة، جيل يعيش في عصر غير العصر الذي كانوا يعيشون فيه، ويتصف بما لا يتصفون به؛ فهو جيل (4) يعتبر في مجموعه أقل من الجيل الأول الذي حمل على كتفيه عبء بناء الدولة وإقامتها، فقد تميز الجيل الأول من المسلمين بقوة الإيمان والفهم السليم لجوهر العقيدة الإسلامية والاستعداد التام لإخضاع النفس لنظام الإسلام المتمثل في القرآن والسنة، وكانت هذه الميزات أقل ظهورا في الجيل الجديد الذي وُجِد نتيجة للفتوحات الواسعة، وظهرت فيه المطامع الفردية، وبعثت فيه العصبية للأجناس والأقوام, وبعضهم يحملون رواسب كثيرة من رواسب الجاهلية التي كانوا عليها، ولم ينالوا من التربية الإسلامية على العقيدة الصحيحة السليمة مثل ما نال الرعيل الأول من الصحابة -رضوان الله عليهم- على يد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ وذلك لكثرتهم وانشغال الفاتحين بالحروب والفتوحات الجديدة (5). فالصحابة كانوا أقل فتنا من سائر
_________
(1) تحقيق مواقف الصحابة في الفتنة (1/ 358).
(2) اليمن في صدر الإسلام للشجاع، ص334.
(3) تحقيق مواقف الصحابة في الفتنة (1/ 359).
(4) الدولة الأموية، يوسف العش، ص132.
(5) تحقيق مواقف الصحابة من الفتنة (1/ 356).(1/324)
من بعدهم، فإنه كلما تأخر العصر عن النبوة كثر التفرق والخلاف (1).
كان الجيل الجديد لا يرضى بالواقع الذي كان يتسم به جيل الذين سبقوه، فقد اعتاد على غير ما اعتادوا عليه، فتكونت عقلية جديدة ومفهوم جديد للحياة، وهو مفهوم قد ابتعد عن العقلية التي كانت سائدة في عصر الراشدين الأولين، فأصبح لا يفهم تلك العقلية ولا يستطيع تشربها، ولا يسعه أن يذعن لحكمها (2)، ولذلك انضم المنحرفون من الجيل الجديد لدعاة الفتنة.
4 - استعداد المجتمع لقبول الشائعات:
وهكذا ندرك من خلال هذا الخليط غير المتجانس في نسيج المجتمع أنه صار مهيأ للهزات، مستعدا للاضطراب، قابلا لتلقي الإذاعات والأقاويل والشائعات (3)، وهذا ما يعبر عنه بوضوح ابن تيمية قائلا: ولهذا لما كان الناس في زمن أبي بكر وعمر اللذين أُمِر المسلمون بالاقتداء بهما كما قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر .. »، أقرب عهدا بالرسالة وأعظم إيمانا وصلاحا، وأئمتهم أقوم بالواجب، وأثبت في الطمأنينة لم تقع فتنة؛ إذ كانوا في حكم القسط (أي النفوس المطمئنة)، ولما كان في آخر خلافة عثمان وخلافة عليٍّ كثر القسم الثالث (أهل النفس اللوامة التي تخلط عملا صالحا وآخر سيئا)، فصار فيهم شهوة وشبهة مع الإيمان والدين، وصار ذلك في بعض الولاة وبعض الرعايا، ثم كثر هذا القسم (الذي خلط عملا صالحا وآخر سيئا) بعد، فنشأت الفتنة التي سببها ما تقدم من عدم تمحيص التقوى والطاعة في الطرفين، واختلاطهما بنوع من الهوى والمعصية في الطرفين، وكل منهم متأول وأنه يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، وأنه مع الحق والعدل، ومع هذا التأويل نوع من الهوى، ففيه نوع من الظن، وما تهوى الأنفس، وإن كانت إحدى الطائفتين أولى بالحق من الأخرى (4). ويوضح هذا الواقع بدقة أكثر ذلك الحوار الذي دار بين أمير المؤمنين علي بن أبي طالب وأحد أتباعه، قال الرجل: ما بال المسلمين اختلفوا عليك ولم يختلفوا على أبي بكر وعمر؟ قال علي: لأن أبا بكر وعمر كانا واليين على مثلي، وأنا اليوم وال على
_________
(1) ذو النورين .. عثمان بن عفان، محمد مال الله، ص99.
(2) الدولة الأموية، يوسف العش، ص133.
(3) دراسات في عهد النبوة والخلافة الراشدة، ص382.
(4) مجموع فتاوى ابن تيمية (28/ 148، 149).(1/325)
مثلك (1).
وكان أمير المؤمنين عثمان بن عفان مدركا لما يدور في وسط المجتمع؛ حيث قال في رسالته إلى الأمراء: أما بعد، فإن الرعية قد طعنت في الانتشار، ونزعت إلى الشَّره، وأعداها على ذلك ثلاث: دنيا مؤثرة، وأهواء مُسْرعة، وضغائن محمولة، يوشك أن تنفر فتغير (2).
ثالثًا: مجيء عثمان بعد عمر رضي الله عنهما:
كان مجيء عثمان - رضي الله عنه - مباشرة بعد عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - واختلاف الطبع بينهما مؤديا إلى تغير أسلوبهما في معاملة الرعية، فبينما كان عمر قوي الشكيمة، شديد المحاسبة لنفسه, ولمن تحت يديه، كان عثمان ألين طبعا وأرق في المعاملة، ولم يكن يأخذ نفسه أو يأخذ الناس بما يأخذهم به عمر حتى يقول عثمان نفسه: يرحم الله عمر، ومن يطيق ما كان عمر يطيق (3). لكن الناس وإن رغبوا في الشوط الأول من خلافته لأنه لان معهم وكان عمر شديدا عليهم، حتى أصبحت محبته مضرب المثل، فقد أنكروا عليه بعد ذلك، ويرجع هذا إلى نشأة عثمان في لطفه ولين عريكته ورقة طبعه ودماثة خلقه، مما كان له بعض الأثر في مظاهر الفرق عند الأحداث بين عهده وعهد سلفه عمر بن الخطاب، وقد أدرك عثمان ذلك حين قال لأقوام سجنهم: أتدرون ما جرأكم عليَّ؟ ما جرأكم علي إلا حلمي (4). وحين بدت نوايا الخارجين وقد ألزمهم عثمان الحجة في رده على المآخذ التي أخذوها عليه أمام الملأ من الصحابة والناس، أبى المسلمون إلا قتلهم، وأبى عثمان إلا تركهم لحلمه ووداعته قائلا: بل نعفو ونقبل، ولنبصرهم بجهدها، ولا نحادّ أحدا حتى يركب حدا أو يبدي كفرا (5).
رابعًا: خروج كبار الصحابة من المدينة:
كان عمر - رضي الله عنه - قد حجر على أعلام قريش من المهاجرين الخروج في البلدان
_________
(1) مقدمة ابن خلدون، ص189.
(2) التمهيد والبيان، ص64.
(3) تاريخ الطبري (5/ 418).
(4) المصدر نفسه (5/ 250).
(5) تحقيق مواقف الصحابة في الفتنة (1/ 364).(1/326)
إلا بإذن وأجل، فشكوه فبلغه، فقام فقال: ألا إني قد سننت الإسلام سَنَّ البعير، يبدأ فيكون جذعا، ثم ثَنِيًّا، ثم رباعيا، ثم سداسيا، ثم بازلا (1)، إلا فهل ينتظر البازل إلا النقصان، ألا فإن الإسلام قد بزل، ألا وإن قريشا يريدون أن يتخذوا مال الله معونات دون عباده، ألا فأما وابن الخطاب حي فلا، إني قائم دون شعب الحرة، آخذ بحلاقيم (2) قريش وحجزها أن يتهافتوا في النار (3). لقد كان عمر يخاف على هؤلاء الصحابة من انتشارهم في البلاد المفتوحة وتوسعهم في القطاع والضياع، فكان يأتيه الرجل من المهاجرين وهو ممن حبس في المدينة فيستأذنه في الخروج فيجيبه عمر: لقد كان لك في غزوك مع رسول الله ما يبلغك، وخير لك من الغزو اليوم ألا ترى الدنيا ولا تراك (4). وأما عثمان فقد سمح لهم بالخروج ولان معهم. يقول الشعبي: فلما ولي عثمان خلى عنهم فاضطربوا في البلاد وانقطع إليهم الناس، فكان أحب إليهم من عمر (5)، فكان من نتائج هذا التوسع أن اتخذ رجال من قريش أموالا في الأمصار، وانقطع إليهم الناس (6). وفي رواية: فلما ولي عثمان لم يأخذهم بالذي كان يأخذهم عمر فانساحوا في البلاد، فلما رأوها ورأوا الدنيا ورآهم الناس انقطع إليهم من لم يكن له طول ولا مزية في الإسلام، فكان مغموما (مغمورا) في الناس، وصاروا أوزاعا إليهم وأملوهم، وتقدموا في ذلك فقالوا: يملكون فنكون قد عرفناهم، وتقدمنا في
التقريب والانقطاع إليهم، فكان ذلك أول وهن دخل في الإسلام، وأول فتنة كانت في العامة ليس إلا ذلك (7).
خامسًا: العصبية الجاهلية:
يقول ابن خلدون: لما استكمل الفتح واستكمل للملة الملك، ونزل العرب بالأمصار في حدود ما بينهم وبين الأمم من البصرة والكوفة والشام ومصر، وكان المختصون بصحبة الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والاقتداء بهديه وآدابه المهاجرين والأنصار وقريش وأهل الحجاز، ومن ظفر بمثل ذلك من غيرهم، وأما سائر العرب من بني بكر بن وائل وعبد القيس وسائر ربيعة
_________
(1) البازل: الذي انشق نابه بدخوله في التاسعة، ص413.
(2) الحلاقيم: جمع حلقوم.
(3) تاريخ الطبري (5/ 413).
(4) المصدر نفسه، (5/ 414).
(5) المصدر نفسه، (5/ 414).
(6) المصدر نفسه (5/ 413)
(7) المصدر نفسه (5/ 414).(1/327)
والأزد وكندة وقضاعة وغيرهم، فلم يكونوا في تلك الصحبة بمكان إلا قليل منهم، وكانت لهم في الفتوحات قدم، فكانوا يرون ذلك لأنفسهم مع ما يدين به فضلاؤهم من تفضيل أهل السابقة ومعرفة حقهم، وما كانوا فيه من الذهول والدهش لأمر النبوة وتردد الوحي وتنزل الملائكة، فلما انحصر ذلك العباب، وتنوسى الحال بعض الشيء، وذل العدو واستفحل الملك، كانت عروق الجاهلية تنبض، ووجدوا الرياسة عليهم من المهاجرين والأنصار وقريش وسواهم، فأنفت نفوسهم منه، ووافق ذلك أيام عثمان فكانوا يظهرون الطعن في ولاته بالأمصار، والمؤاخذة لهم باللحظات والخطوات، والاستبطاء عليهم الطاعات، والتجني بسؤال الاستبداد منهم والعزل، ويفيضون في النكير على عثمان، وفشت المقالة في ذلك في أتباعهم، وتناولوا بالظلم في جهاتهم، وانتهت الأخبار بذلك إلى الصحابة بالمدينة، فارتابوا وأفاضوا في عزل عثمان وحمله على عزل أمرائه، وبعث إلى الأمصار من يأتيه بالخبر .. فرجعوا إليه فقالوا: ما أنكرنا شيئا ولا أنكره أعيان المسلمين ولا عوامهم (1).
سادسًا: توقف الفتوحات:
حين توقفت الفتوح في أواخر عهد عثمان أمام حواجز طبيعية أو بشرية لم تتجاوزها سواء في جهات فارس وشمالي بلاد الشام أم في جهة أفريقية، توقفت الغنائم على أثرها، فتساءل الأعراب: أين ذهبت الغنائم القديمة؟ أين ذهبت الأراضي المفتوحة التي يعدونها حقا من حقوقهم؟ (2) وانتشرت الشائعات الباطلة التي اتهمت عثمان - رضي الله عنه - بأنه تصرف في الأراضي الموقوفة على المسلمين وفق هواه، وأنه أقطع منها لمن شاء من الناس، وقد كان لها أثر ووقع على الأعراب؛ خاصة أن معظمهم بقى بدون عمل يقضون شطرا من وقتهم في الطعام والنوم، والشطر الآخر بالخوض في سياسة الدولة والحديث عن تصرفات عثمان التي كانت تهوِّلها السبئية. وقد أدرك أحد عمال عثمان هذا الأمر -وهو عبد الله بن عامر- فأشار على الخليفة حيث طلب من عماله -وهم وزراؤه ونصحاؤه- أن يجتهدوا في آرائهم ويشيروا عليه، فأشار عليه أن يأمر الناس بالجهاد ويجمهرهم في المغازي حتى لا يتعدى همُّ أحدهم قمل فروة رأسه ودبرة دابته (3).
وفي
_________
(1) تاريخ ابن خلدون (2/ 477).
(2) تحقيق مواقف الصحابة في الفتنة (1/ 344).
(3) تاريخ الطبري (2/ 340).(1/328)
ذلك الجو من الحديث والفكر عند أفراد تعودوا الغزو ولم يفقهوا من الدين شيئا كثيرا يمكن أن يتوقع كل سوء، ويكفي أن يُحرك هؤلاء الأعراب وأن يُوجهوا توجيها، فإذا هم يثورون ويحدثون القلاقل والفتن، وهذا ما حدث بالفعل؛ فإن الأعراب بسبب توقف الفتوحات ساهموا في بوادر الفتنة الأولى، وكانوا سببا من أسباب اندلاعها (1).
سابعًا: المفهوم الخاطئ للورع:
الورع في الشريعة طيب؛ وهو أن يترك ما لا بأس به مخافة مما فيه بأس. وهو في الأصل: ترفع عن المباحات في الله ولله. والورع شيء شخصي يصح للإنسان أن يطالب به نفسه، ولكن لا يصح أن يطالب به الآخرين. ومن أخطر أنواع الورع: الورع الجاهل الذي يجعل المباح حراما أو مفروضًا، وهذا الذي وقع فيه أصحاب الفتنة (2)؛ فقد استغل أعداء الإسلام يومها مشاعرهم هذه ونفخوا فيها، فرأوا فيما فعله عثمان من المباحات أو المصالح خروجا على الإسلام وتغييرا لسنة من سبقه، وعظمت هذه المسائل في أعين الجهلة فاستباحوا أو أعانوا من استباح دم الخليفة الراشد عثمان بن عفان - رضي الله عنه -، وفتحوا على المسلمين باب الفتنة إلى اليوم. وهذا الورع الجاهل نلاحظه اليوم في تصرفات بعض المسلمين الذين يصرون على تكييف أحكام الإسلام وفق ما يشتهون أو يكرهون، أو وفق عاداتهم وتقاليدهم (3).
ثامنًا: طموح الطامحين:
وجد في الجيل الثاني من أبناء الصحابة -رضي الله عنهم- من يعتبر نفسه جديرا بالحكم والإدارة، ووجد أمثال هؤلاء أن الطريق أمامهم مغلق، وفي العادة أنه متى
وجد الطامحون الذين لا يجدون لطموحهم متنفسا فإنهم يدخلون في كل عملية تغيير، ومعالجة أمر هؤلاء في غاية الأهمية (4).
تاسعًا: تآمر الحاقدين:
لقد دخل في الإسلام منافقون موتورون اجتمع لهم من الحقد والذكاء والدهاء ما استطاعوا أن يدركوا نقاط الضعف التي يستطعيون من خلالها أن يوجدوا الفتنة,
_________
(1) تحقيق مواقف الصحابة في الفتنة، ص353.
(2) الأساس في السنة (4/ 1676).
(3) أحداث وأحاديث فتنة الهرج، ص517.
(4) الأساس في السنة (4/ 1676).(1/329)
ووجدوا من يستمع إليهم بآذان مصغية، فكان من آثار ذلك ما كان (1)؛ فقد عرفنا سابقا وجود يهود ونصارى وفرس، وهؤلاء جميعا معروف باعث غيظهم وحقدهم على الإسلام والدولة الإسلامية، ولكننا هنا نضيف من وقع عليه حد أو تعزير لأمر ارتكبه في وسط الدولة، عاقبه الخليفة أو ولاته في بعض الأمصار وبالذات البصرة والكوفة ومصر والمدينة، فاستغل أولئك الحاقدون من يهود ونصارى وفرس وأصحاب الجرائم مجموعات من الناس كان معظمهم من الأعراب، ممن لا يفقهون هذا الدين على حقيقته, فتكونت لهؤلاء جميعا طائفة وصفت من جميع من قابلهم بأنهم أصحاب شر، فقد وصفوا: بالغوغاء من أهل الأمصار، ونُزَّاع القبائل، وأهل المياه وعبيد المدينة (2)، وبأنهم ذؤبان العرب (3)، وأنهم حثالة الناس ومتفقون على الشر (4)، وسفهاء عديمو الفقه (5) , وأراذل من أوباش القبائل (6)، فهم أهل جفاء وهمج، ورعاع من غوغاء القبائل، وسفلة الأطراف الأراذل (7)، وأنهم آلة الشيطان (8). وقد تردد في المصادر اسم عبد الله بن سبأ الصنعاني اليهودي ضمن هؤلاء الموتورين الحاقدين، وأنه كان من اليهود ثم أسلم، ولم ينقب أحد عن نواياه فتنقل بين البلدان الإسلامية باعتباره أحد أفراد المسلمين (9)، وسيأتي الحديث عنه في مبحث مستقل بإذن الله.
عاشرًا: التدبير المحكم لإثارة المآخذ ضد عثمان - رضي الله عنه -:
كان المجتمع مهيأ لقبول الأقاويل والشائعات نتيجة عوامل وأسباب متداخلة، وكانت الأرض مهيأة، ونسيج المجتمع قابلا لتلقي الخروقات، وأصحاب الفتنة أجمعوا على الطعن في الأمراء بحجة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حتى استمالوا الناس إلى صفوفهم، ووصل الطعن إلى عثمان بن عفان - رضي الله عنه - نفسه باعتباره قائد الدولة.
_________
(1) الأساس في السنة (4/ 1676).
(2) دراسات في عهد النبوة والخلافة الراشدة، ص392.
(3) دراسات في عهد النبوة والخلافة الراشدة، ص392.
(4) الطبقات (3/ 71) هذا وصف ابن سعد.
(5) دراسات في عهد النبوة والخلافة الراشدة، ص392.
(6) شذرات الذهب (1/ 40)، هذا وصف ابن العماد.
(7) شرح صحيح مسلم (15/ 148، 149).
(8) تاريخ الطبري (5/ 327).
(9) دراسات في عهد النبوة والخلافة الراشدة، ص393.(1/330)
وإذا ما حصرنا الدعاوي التي روجت ضد الخليفة وطعنوه بها فيمكننا تصنيفها إلى مجموعات خمس:
1 - مواقف شخصية له قبل توليه الخلافة (تغيبه عن بعض الغزوات والمواقع).
2 - سياسته المالية: الأعطيات، الحمى.
3 - سياسته الإدارية النافذة: تولية أقربائه، طريقته في التولية.
4 - اجتهادات خاصة به أو بمصلحة الأمة (إتمام الصلاة بمنى، جمع القرآن، الزيادة في المسجد).
5 - معاملته لبعض الصحابة: عمار، أبي ذر، ابن مسعود (1).
وقد بينت موقف عثمان في كل ما وجه إليه في موضعه، ولم يبق إلا عمار - رضي الله عنه - , وسيأتي الحديث عنه بإذن الله. وقد حدثت زيادات في إبراز المطاعن على عثمان - رضي الله عنه - سواء في عهده وما واجهوه بها ورده عليها في حينها، أو ما تُقُوِّل عليه فيما بعد عند الرواة والكتاب فإنها لم تصح ولم تصل إلى حد أن تكون سببا في قتله (2).
إن المآخذ السابق ذكرها والمدونة في تاريخ الطبري وغيره من كتب التاريخ، والمروية عن طريق المجاهيل والإخباريين الضعفاء خاصة الرافضة، كانت ولا تزال بلية عظمى على الحقائق في سِيَر الخلفاء والأئمة، خاصة في مراحل الاضطرابات والفتن، وقد كان مع الأسف لسيرة عثمان أمير المؤمنين - رضي الله عنه - من ذلك الحظ الوافر؛ فرواية الحوادث ووضع الأباطيل على النهج الملتوي بعض ما نال تلك السيرة النيرة من تحريف المنحرفين وتشويه الغالين بغية التأليب عليه أو التشهير به، وقد أدرك عثمان - رضي الله عنه - بنفسه ذلك عندما كتب إلى أمرائه: أما بعد، فإن الرعية طعنت في الانتشار, ونزعت إلى الشر أعداها على ذلك ثلاث: دنيا مؤثرة، وأهواء متسرعة، وضغائن محمولة (3). وقال ابن العربي عن تلك المآخذ جملة: قالوا متعدين متعلقين برواية كذابين جاء عثمان في ولايته بمظالم ومناكير .. هذا كله باطل سندا ومتنا (4).
_________
(1) دراسات في عهد النبوة والخلافة الراشدة، ص394.
(2) المصدر نفسه، ص400.
(3) التمهيد والبيان، ص64.
(4) العواصم من القواصم، ص61 - 63.(1/331)
وقد بيَّن ابن تيمية بأن عثمان - رضي الله عنه - ليس معصوما، فقال: والقاعدة الكلية في هذا أن لا يعتقد أن أحدا معصوم بعد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ بل الخلفاء وغير الخلفاء يجوز عليهم الخطأ، والذنوب التي تقع منهم قد يتوبون منها، وقد تكفر عنهم بحسناتهم الكثيرة، وقد يبتلون أيضا بمصائب يكفر الله بها، وقد يكفر عنهم بغير ذلك، فكل ما ينقل عن عثمان غايته أن يكون ذنبا أو خطأ، وعثمان - رضي الله عنه - قد حصلت له أسباب المغفرة من وجوه كثيرة منها سابقته وإيمانه وجهاده وغير ذلك من طاعته. وقد ثبت أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شهد له؛ بل بشره بالجنة على بلوى تصيبه (1)، ومنها أنه تاب من عامة ما أنكروه عليه، وأنه ابتلى ببلاء عظيم فكفر الله به خطاياه, وصبر حتى قتل شهيدا مظلوما، وهذا من أعظم ما يكفر به الخطايا (2).
حادي عشر: استخدام الأساليب والوسائل المهيجة للناس:
وأهم هذه الأساليب: إشاعة الأراجيف حيث ترددت كلمة الإشاعة والإذاعة كثيرا، والتحريض والمناظرة والمجادلة للخليفة أمام الناس، والطعن على الولاة، واستخدام تزوير الكتب واختلافها على لسان الصحابة رضي الله عنهم؛ عائشة وعلي وطلحة والزبير، والإشاعة بأن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - الأحق بالخلافة، وأنه الوصي بعد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وتنظيم فرق في كل من البصرة والكوفة ومصر، أربع فرق من كل مصر، مما يدل على التدبير المسبق. وأوهموا أهل المدينة أنهم ما جاءوا إلا بدعوة الصحابة، وصعَّدوا الأحداث حتى وصلت إلى القتل (3). وإلى جوار هذه الوسائل استخدموا مجموعة من الشعارات منها: التكبير، ومنها أن جهادهم هذا ضد المظالم، ومنها أنهم لا يقومون إلا بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومنها المطالبة باستبدال الولاة وعزلهم، ثم تطورت المطالبة إلى خلع عثمان إلى أن تمادوا في جرأتهم وطالبوا بل سارعوا إلى قتل الخليفة، وخاصة حينما وصلهم الخبر بأن أهل الأمصار قادمون لنصرة الخليفة، فزادهم حماسهم المحموم لتضييق الخناق على الخليفة, والتشوق إلى قتله بأي وسيلة (4).
_________
(1) مسلم، كتاب فضائل الصحابة، (4/ 1867، 1869).
(2) ذو النورين .. عثمان بن عفان، محمد مال الله، ص63.
(3) دراسات في عهد النبوة والخلافة الراشدة، ص401.
(4) دراسات في عهد النبوة والخلافة الراشدة، ص402.(1/332)
ثاني عشر: أثر السبئية في أحداث الفتنة:
1 - السبئية حقيقة أم خيال:
أجمع القدماء على وجوده بلا استثناء، وخالف في ذلك قلة من المعاصرين أكثرهم من الشيعة، وحجة من أنكره أنه من إبداع مخيلة سيف بن عمر التميمي؛ وذلك لانتقاد بعض علماء الرجال له في مجال رواية الحديث، إلا أن العلماء يعدونه حجة في الأخبار، علما بأنه وردت روايات كثيرة عند ابن عساكر تذكر عبد الله بن سبأ ليس من بين الرواة سيف بن عمر، وقد حكم الألباني على بعضها بأنها صحيحة من الشيعة سواء في كتب الفرق أو الرجال، أو الحديث عندهم، وليس فيها عمر هذا لا من قريب ولا من بعيد. وقد فصل ذلك الدكتور سليمان العودة في كتابه (عبد الله بن سبأ وأثره في أحداث الفتنة في صدر الإسلام).
وشكك بعض الباحثين في عبد الله بن سبأ (1) وقالوا بأنه شخصية وهمية، وأنكروا وجوده بدون حجة أو برهان، والذين أنكروا شخصية ابن سبأ هم طائفة من المستشرقين وفئة من الباحثين العرب، وغالبية الشيعة المعاصرين، ومن العجيب أن هؤلاء المستشرقين وذيولهم من الرافضة والمستغربين في عصرنا أنكروا شخصية عبد الله بن سبأ، وأنه شخصية وهمية لم يكن لها وجود، فأين بلغ هؤلاء من قلة الحياء والجهل، وقد ملأت ترجمته كتب التاريخ والفرق، وتناقلت أفعاله الرواة وطبقت أخباره الآفاق.
لقد اتفق المؤرخون والمحدثون وأصحاب كتب الفرق والملل والنحل والطبقات والأدب والأنساب الذين تعرضوا للسبئية على وجود شخصية عبد الله بن سبأ الذي ظهر في كتب أهل السنة، كما ظهر في كتب الشيعة شخصية تاريخية حقيقية، ولهذا فإن أخبار الفتنة ودور ابن سبأ فيها لم تكن قصرا على تاريخ الإمام الطبري، واستنادا إلى روايات سيف بن عمر التميمي فيه، وإنما هي أخبار منتشرة في روايات المتقدمين، وفي ثنايا الكتب التي رصدت أحداث التاريخ الإسلامي، وآراء الفرق والنحل في تلك الفترة، إلا أن ميزة الإمام الطبري على غيره أنه أغزرها مادة وأكثرها تفصيلا لا أكثر، ولهذا فإن التشكيك في هذه الأحداث بلا سند وبلا دليل إنما يعني الهدم لكل
_________
(1) عبد الله بن سبأ الملقب بابن السوداء، يهودي من صنعاء، أظهر إسلامه في زمن عثمان بن عفان، ظهر له نشاط ملحوظ في الشام والعراق ومصر خاصة، يرسم خططا ويدلي بآراء هدامة ليلفت المسلمين عن دينهم وطاعة خليفتهم، ويوقع بينهم الفرقة والخلاف. تحقيق مواقف الصحابة في الفتنة (1/ 284).(1/333)
تلك الأخبار، والتسفيه بأولئك المخبرين والعلماء، وتزييف الحقائق التاريخية، فمتى كانت المنهجية ضربا من ضروب الاستنتاج العقلي المحض في مقابل النصوص والروايات المتضافرة؟! وهل تكون المنهجية في الضرب صفحا والإعراض عن المصادر الكثيرة المتقدمة والمتأخرة التي أثبتت لابن سبأ شخصية واقعية؟ (1) وقد جاء ذكر ابن سبأ في كتب أهل السنة كثيرا، منها:
* جاء ذكر السبئية على لسان أعشى همدان (2) المتوفي عام 83هـ، وقد هجا المختار ابن أبي عبيد الثقفي وأنصاره من أهل الكوفة بعدما فر مع أشراف قبائل الكوفة إلى
البصرة بقوله:
شهدت عليكم أنكم سبئية ... وأني بكم يا شرطة الكفر عارف (3)
وهناك رواية عن الشعبي المتوفي عام 103هـ (721م) تفيد أن (أول من كذب عبد الله ابن سبأ (4)، وتحدث ابن حبيب (5) المتوفي عام 245هـ (860م) عن ابن سبأ حينما اعتبره أحد أبناء الحبشيات (6). كما روى أبو عاصم خُشيش بن أصرم المتوفي سنة 253هـ خبر إحراق علي - رضي الله عنه - لجماعة من أصحاب ابن سبأ في كتابه الاستقامة (7). ويعتبر الجاحظ (8) المتوفي سنة 255هـ من أوائل من أشار إلى عبد الله
_________
(1) تحقيق مواقف الصحابة في الفتنة (1/ 70)، كتاب (دعاوي الإنقاذ للتاريخ الإسلامي .. رد على حسن فرحات المالكي)، للدكتور سليمان بن حمد العودة، وقد ذكر في رده الطرق التي عرضت على الألباني -رحمه الله- وحكم عليها.
(2) هو عبد الرحمن بن عبد الله بن الحارث الهمداني، المعروف بأعشي همدان. شاعر فارسي، أحد الفقهاء القرَّاء، لكنه قال الشعر وعرف به. قال الذهبي: شاعر مفوَّه شهير، كان متعبدا فاضلا، قتل عام 83هـ.
(3) ديوان أعشى همدان، ص148.
(4) تاريخ دمشق، ابن عساكر (9/ 331).
(5) محمد بن حبيب بن أمية الهاشمي، عالم بالأنساب والأخبار واللغة والشعر، توفي عام 245 هـ، تاريخ بغداد (2/ 277).
(6) المحبر، ابن حبيب، ص308, عبد الله بن سبأ، للعودة، ص53.
(7) هو خشيش بن أصرم بن الأسود النسائي، ترجم له الذهبي، تذكرة الحفاظ (2/ 551)، شذارت الذهب (2/ 129).
(8) هو عمرو بن بحر بن محبوب الكنابي، من أئمة الأدب والعلم، توفي عام 255هـ، وفيات الأعيان (3/ 470).(1/334)
بن سبأ (1)، ولكن روايته ليست أقدم رواية عن ابن سبأ، كما يرى الدكتور جواد علي (2).
وخبر إحراق علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - لطائفة من الزنادقة تكشف عنه الروايات الصحيحة في كتب الصحاح والسنن والمسانيد (3). ولفظ الزندقة ليس غريبا عن عبد الله بن سبأ وطائفته، يقول ابن تيمية: إن مبدأ الرفض إنما كان من الزنديق عبد الله بن سبأ (4) , ويقول الذهبي: عبد الله بن سبأ من غلاة الزنادقة، ضال مضل (5). ويقول ابن حجر: عبد الله بن سبأ من غلاة الزنادقة .. وله أتباع يقال لهم السبئية, معتقدون الإلهية في علي بن أبي طالب، وقد أحرقهم علي بالنار في خلافته (6). ويوجد لابن سبأ ذكر في كتب الجرح والتعديل؛ يقول ابن حبان المتوفى 354هـ: وكان الكلبي - محمد بن السائب الإخباري - سبئيا من أصحاب عبد الله بن سبأ، من أولئك الذين يقولون: إن عليا لم يمت، وإنه راجع إلى الدنيا قبل قيام الساعة .. وإن رأوا سحابة قالوا: أمير المؤمنين فيها (7). كما أن كتب الأنساب هي الأخرى تؤكد نسبة (السبئية) إلى عبد الله بن سبأ، ومنها على سبيل المثال كتاب (الأنساب) للسمعاني (8) المتوفي عام 562هـ (9). وعرَّف ابن عساكر المتوفي عام 571هـ ابن سبأ بقوله: عبد الله بن سبأ الذي تنسب إليه السبئية، وهم الغلاة من الرافضة، أصله من اليمن، كان يهوديا وأظهر الإسلام (10). ولم يكن سيف بن عمر هو المصدر الوحيد لأخبار عبد الله بن سبأ؛ إذ أورد ابن عساكر في تاريخه روايات لم يكن سيف فيها، وهي تثبت ابن سبأ وتؤكد أخباره (11).
ويذكر شيخ الإسلام ابن تيمية المتوفى سنة 728هـ، أن أصل الرفض من المنافقين الزنادقة، فإنه ابتداع ابن سبأ الزنديق، وأظهر الغلو
_________
(1) البيان والتبيين (3/ 81).
(2) تحقيق مواقف الصحابة (1/ 290) , عبد الله بن سبأ للعودة، ص53.
(3) تحقيق مواقف الصحابة (1/ 290) , عبد الله بن سبأ للعودة، ص53.
(4) مجموع الفتاوى، (28/ 483).
(5) ميزان الاعتدال للذهبي (2/ 426).
(6) لسان الميزان، أحمد بن حجر، حيدر آباد الدكن (3/ 360).
(7) المجروحين من المحدثين، أبو حاتم التميمي (2/ 253).
(8) عبد الكريم بن محمد السمعاني، توفي عام 562هـ، تذكرة الحفاظ (4/ 1316).
(9) الأنساب، أبو سعيد التميمي (7/ 24).
(10) تاريخ دمشق لابن عساكر (9/ 328، 329).
(11) تحقيق مواقف الصحابة (1/ 298) عبد الله بن سبأ للعودة، ص54.(1/335)
في علي يدعو الإمامة والنص عليه، وادعى العصمة له (1). ويشير الشاطبي (2) , المتوفى عام 790هـ, إلى أن بدعة السبئية من البدع الاعتقادية المتعلقة بوجود إله مع الله -تعالى الله- وهي بدعة تختلف عن غيرها من المقالات (3). وفي خطط المقريزي, المتوفى عام 845هـ، أن عبد الله بن سبأ قام في زمن علي محدثا القول بالوصية والرجعة والتناسخ (4).
وأما المصادر الشيعية التي ذكرت ابن سبأ فهي: فقد روى الكشي عن محمد بن قولوية قال: حدثني سعد بن عبد الله قال: حدثني يعقوب بن يزيد، ومحمد بن عيسى، عن علي بن مهزيار، عن فضالة بن أيوب الأزدي، عن أبان بن عثمان قال: سمعت أبا عبد الله يقول: لعن الله عبد الله بن سبأ، إنه ادعى الربوبية في أمير المؤمنين، وكان والله أمير المؤمنين عبدا طائعا، الويل لمن كذب علينا، وإن قوما يقولون فينا ما لا نقول في أنفسنا، نبرأ إلى الله منهم (5). والرواية من حيث السند صحيحة (6).
وفي كتاب الخصال أورد القمي الخبر نفسه، ولكن موصولا بسند آخر، وأما صاحب (روضات الجنات) فقد ذكر ابن سبأ عنده على لسان الصادق المصدوق الذي لعن ابن سبأ لاتهامه بالكذب والتزوير وإذاعة الأسرار والتأويل (7). وقد ذكر الدكتور سليمان العودة في كتابه مجموعة من النصوص التي تزخر بها كتب الشيعة ومروياتهم عن عبد الله بن سبأ، فهي أشبه ما تكون وثائق مسجلة تدين من حاول من متأخري الشيعة إنكار عبد الله بن سبأ أو التشكيك في أخباره، بحجة قلة أو ضعف المصادر التي حكت أخباره (8).
إن شخصية ابن سبأ حقيقة تاريخية لا لبس فيها في المصادر السنية والشيعية المتقدمة والمتأخرة على السواء، وهي كذلك أيضا عند غالبية المستشرقين أمثال: يوليوس
_________
(1) مجموعة الفتاوى لابن تيمية (4/ 435).
(2) إبراهيم بن موسى، محمد الغرناطي، توفي عام 790هـ.
(3) الاعتصام، أبو إسحاق اللخمي (2/ 197).
(4) المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار، المقريزي (2/ 256، 257).
(5) رجال الكشي (1/ 324).
(6) عبد الله بن سبأ .. الحقيقة المجهولة، لمحمد علي المعلم، ص30.
(7) عبد الله بن سبأ، سليمان العودة، ص62.
(8) عبد الله بن سبأ، سليمان العودة، ص62.(1/336)
فلهاوزن (1) وفان فولتن (2) , وليفي ديلافيدا (3) , وجولد تسيهر (4) , ورينولد نكلسن (5) , ودوايت رونلدسن (6). على حين يبقى ابن سبأ محل شك أو مجرد خرافة عند فئة قليلة من المستشرقين أمثال كيتاني, وبرنارد لويس (7) , وفريد لندر المتأرجح (8) .. علما بأننا لا نعتد بهم في أحداث تاريخنا.
ومن استقرأ المصادر، سواء القديمة والمتأخرة عند السنة والشيعة، يتأكد له أن وجود ابن سبأ كان وجودا تؤكده الروايات التاريخية، وتفيض فيه كتب العقائد, وذكرته كتب الحديث، والرجال، والأنساب، والأدب، واللغة، وسار على هذا النهج كثير من المحققين والباحثين المحدثين، ويبدو أن أول من شكك في وجود ابن سبأ بعض المستشرقين، ثم دعم هذا الطرح الغالبية من الشيعة المحدثين؛ بل وأنكر بعضهم وجوده البتة، وبرز من الباحثين العرب المعاصرين من أعجب بآراء المستشرقين ومن تأثر بكتابات الشيعة المحدثين، ولكن هؤلاء جميعا ليس لهم ما يدعمون به شكهم وإنكارهم إلا الشك ذاته والاستناد إلى مجرد الظنون والفرضيات (9)، ومن أراد التوسع في معرفة المراجع والمصادر السنية والاستشراقية والشيعية التي ذكرت ابن سبأ فليراجع (تحقيق مواقف الصحابة في الفتنة) للدكتور محمد أمحزون، و (عبد الله بن سبأ وأثره في أحداث الفتنة في صدر الإسلام) للدكتور سليمان بن حمد العودة.
2 - دور عبد الله بن سبأ في تحريك الفتنة:
في السنوات الأخيرة من خلافة عثمان - رضي الله عنه - بدت في الأفق سمات الاضطراب في المجتمع الإسلامي نتيجة عوامل التغير التي ذكرناها، وأخذ بعض اليهود يتحينون فرصة الظهور مستغلين عوامل الفتنة ومتظاهرين بالإسلام واستعمال التقية، ومن هؤلاء عبد الله بن سبأ الملقب بابن السوداء. وإذا كان ابن سبأ لا يجوز التهويل من
_________
(1) الخوارج والشيعة، يوليوس فلهاوزن، ص170.
(2) السيادة العربية والشيعة والإسرائيليات، ص80، فان فولتن.
(3) تحقيق مواقف الصحابة (1/ 312).
(4) العقيدة والشريعة الإسلامية، جولد تسيهر، ص229.
(5) تاريخ العرب الأدبي في الجاهلية وصدر الإسلام، ص235.
(6) عقائد الشيعة، ص58.
(7) أصول الإسماعيلية، ص86.
(8) تحقيق مواقف الصحابة (1/ 312).
(9) تحقيق مواقف الصحابة (1/ 312).(1/337)
شأنه كما فعل بعض المغالين في تضخيم دوره في الفتنة (1)، فإنه كذلك لا يجوز التشكيك فيه أو الاستهانة بالدور الذي لعبه في أحداث الفتنة كعامل من عواملها, على أنه أبرزها وأخطرها؛ إذ أن هناك أجواء للفتنة مهدت له، وعوامل أخرى ساعدته. وغاية ما جاء به ابن سبأ آراء ومعتقدات ادعاها واخترعها من قبل نفسه وافتعلها من يهوديته الحاقدة، وجعل يروجها لغاية ينشدها, وغرض يستهدفه؛ وهو الدس في المجتمع الإسلامي، بغية النيل من وحدته وإذكاء نار الفتنة، وغرس بذور الشقاق بين أفراده، فكان ذلك من جملة العوامل التي أدت إلى قتل أمير المؤمنين عثمان - رضي الله عنه - وتفرق الأمة شيعا وأحزابا (2).
وخلاصة ما جاء به أنه أتى بمقدمات صادقة، وبنى عليها مبادئ فاسدة راجت لدى السذَّج والغلاة وأصحاب الأهواء من الناس، وقد سلك في ذلك مسالك ملتوية لبَّس فيها على مَنْ حوله حتى اجتمعوا عليه؛ فطرق باب القرآن بتأوله على زعمه الفاسد، حيث قال: لَعَجَبٌ ممن يزعم أن عيسى يرجع، ويكذِّب بأن محمدا يرجع، وقد قال تعالى: {إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ} [القصص: 85] فمحمد أحق بالرجوع من عيسى (3). كما سلك طريق القياس الفاسد من ادعاء إثبات الوصية لعلي - رضي الله عنه - بقوله: إنه كان ألف نبي، ولكل نبي وصي، وكان علي وصي محمد، ثم قال: محمد خاتم الأنبياء، وعلي خاتم الأوصياء (4). وحينما استقر الأمر في نفوس أتباعه انتقل إلى هدفه المرسوم، وهو خروج الناس على الخليفة عثمان - رضي الله عنه -، فصادف ذلك هوى في نفوس بعض القوم حيث قال لهم: من أظلم ممن لم يجز وصية رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ووثب على وصيِّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وتناول أمر الأمة؟ ثم قال لهم بعد ذلك: إن عثمان أخذها بغير حق، وهذا وصي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فانهضوا في هذا الأمر فحركوه، وابدأوا بالطعن على أمرائكم، وأظهروا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تستميلوا الناس، وادعوهم إلى هذا الأمر (5).
وبث دعاته، وكاتب من كان استفسد من الأمصار وكاتبوه ودعوا في السر إلى ما عليه رأيهم، وأظهروا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وجعلوا يكتبون إلى الأمصار بكتب يضعونها في عيوب ولاتهم، ويكاتبهم إخوانهم بمثل ذلك، ويكتب أهل كل مصر منهم إلى مصر آخر بما يصنعون، فيقرأه أولئك في أمصارهم
_________
(1) مثال سعيد الأفغاني في كتابه (عائشة والسياسة).
(2) تحقيق مواقف الصحابة (1/ 327).
(3) تاريخ الطبري (5/ 347).
(4) تاريخ الطبري (5/ 347).
(5) المصدر نفسه (5/ 348).(1/338)
وهؤلاء في أمصارهم حتى تناولوا بذلك المدينة، وأوسعوا الأرض إذاعة وهم يريدون غير ما يظهرون, ويسرون غير ما يبدون، فيقول أهل مصر: إنا لفي عافية مما ابتلى به هؤلاء، إلا أهل المدينة فإنهم جاءهم ذلك عن جميع الأمصار فقالوا: إنا لفي عافية مما فيه الناس (1).
ويظهر من هذا النص الأسلوب الذي اتبعه ابن سبأ؛ فهو أراد أن يوقع في أعين الناس بين اثنين من الصحابة؛ حيث جعل أحدهما مهضوم الحق وهو علي، وجعل الثاني مغتصبا وهو عثمان، ثم حاول بعد ذلك أن يحرك الناس - خاصة في الكوفة - على أمرائهم باسم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فجعل هؤلاء يثورون لأصغر الحوادث على ولاتهم، علما بأنه ركز في حملته هذه على الأعراب الذين وجد فيهم مادة ملائمة لتنفيذ خطته؛ فالقراء منهم استهواهم عن طريق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأصحاب المطامع منهم هيج أنفسهم بالإشاعات المغرضة المفتراة على عثمان؛ مثل تحيزه لأقاربه وإغداق الأموال من بيت مال المسلمين عليهم، وأنه حمى الحمى لنفسه، إلى غير ذلك من التهم والمطاعن التي حرك بها نفوس الغوغاء ضد عثمان - رضي الله عنه -، ثم إنه أخذ يحض أتباعه على إرسال الكتب بأخبار سيئة مفجعة عن مصرهم إلى بقية الأمصار، وهكذا يتخيل الناس في جميع الأمصار أن الحال بلغ من السوء ما لا مزيد عليه، والمستفيد من هذه الحال هم السبئية؛ لأن تصديق ذلك من الناس يفيدهم في إشعال شرارة الفتنة داخل المجتمع الإسلامي (2). هذا وقد شعر عثمان - رضي الله عنه - بأن شيئا ما يحاك في الأمصار، وأن الأمة تمخض بِشَرٍّ فقال: والله إن رحى الفتنة لدائرة، فطوبى لعثمان إن مات ولم يحركها (3).
على أن المكان الذي رتع فيه ابن سبأ هو مصر، وهناك أخذ ينظم حملته ضد عثمان - رضي الله عنه - , ويحث الناس على التوجه إلى المدينة لإثارة الفتنة بدعوى أن عثمان أخذ الخلافة بغير حق، ووثب على وصيِّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (يقصد عليًا) (4). وقد غشهم بكتب ادعى أنها وردت من كبار الصحابة، حتى إذا أتى هؤلاء الأعراب المدينة المنورة واجتمعوا بالصحابة لم يجدوا منهم تشجيعا؛ حيث تبرأوا مما نسب إليهم من
_________
(1) تاريخ الطبري (5/ 348).
(2) الدولة الأموية، يوسف العش، ص168, تحقيق مواقف الصحابة، (1/ 331).
(3) تاريخ الطبري (5/ 350).
(4) تحقيق مواقف الصحابة (1/ 330)، تاريخ الطبري (5/ 348).(1/339)
رسائل تؤلب الناس على عثمان (1). ووجدوا عثمان مقدرا للحقوق بل وناظرهم فيما نسبوا إليه، ورد عليهم افتراءهم وفسر لهم صدق أعماله، حتى قال أحد هؤلاء الأعراب وهو مالك بن الأشتر النخعي: لعله مُكر به وبكم (2). ويعتبر الذهبي أن عبد الله بن سبأ المهيج للفتنة بمصر، وباذر بذور الشقاق والنقمة على الولاة، ثم على الإمام عثمان فيها (3). ولم يكن ابن سبأ وحده، وإنما كان عماله ضمن شبكة من المتآمرين، وأخطبوط من أساليب الخداع والاحتيال والمكر, وتجنيد الأعراب والقراء وغيرهم. ويروي ابن كثير أن من أسباب تألب الأحزاب على عثمان ظهور ابن سبأ وذهابه إلى مصر، وإذاعته بين الناس كلاما اخترعه من عند نفسه، فافتتن به بشر كثير من
أهل مصر (4).
إن المشاهير من المؤرخين والعلماء من سلف الأمة وخَلَفِهَا يتفقون على أن ابن سبأ ظهر بين المسلمين بعقائد وأفكار وخطط سبئية ليلفت المسلمين عن دينهم وطاعة إمامهم، ويوقع بينهم الفُرْقة والخلاف، فاجتمع إليه من غوغاء الناس ما تكونت به الطائفة السبئية المعروفة, التي كانت عاملا من عوامل الفتنة المنتهية بمقتل أمير المؤمنين عثمان بن عفان - رضي الله عنه -، والذي يظهر من خطط السبئية أنها كانت أكثر تنظيما؛ إذ كانت بارعة في توجيه دعايتها ونشر أفكارها لامتلاكها ناصية الدعاية والتأثير بين الغوغاء والرعاع من الناس، كما كانت نشيطة في تكوين فروع لها سواء في البصرة أم الكوفة أم مصر، مستغلة العصبية القبلية، ومتمكنة من إثارة مكامن التذمر عند الأعراب والعبيد والموالي، عارفة بالمواضع الحساسة في حياتهم وبما يريدون (5).
* * *
_________
(1) تحقيق مواقف الصحابة (1/ 330)، تاريخ الطبري (5/ 365).
(2) تحقيق مواقف الصحابة (1/ 331).
(3) تحقيق مواقف الصحابة (1/ 338).
(4) البداية والنهاية (7/ 167، 168).
(5) تحقيق مواقف الصحابة في الفتنة، ص339.(1/340)
الفصل السابع
مقتل عثمان بن عفان - رضي الله عنه -
المبحث الأول
اشتعال الفتنة
نجح الموتورون الحاقدون الكاذبون في إزاحة الوليد بن عقبة عن ولاية الكوفة، وعين عثمان - رضي الله عنه - سعيد بن العاص واليا جديدا على الكوفة، وعندما وصل سعيد إلى ولايته صعد المنبر، وبعدما حمد الله وأثنى عليه قال: والله لقد بعثت إليكم وإني لكاره، ولكني عندما أمرني عثمان، لم أجد بدًّا من التنفيذ، ألا وإن الفتنة قد أطلت رأسها فيكم، والله لأضربن وجهها حتى أقمعها أو تغلبني، وإني رائد نفسي اليوم (1) , واطلع سعيد على أحوال الكوفة، وعرف توجهات الناس فيها، وأدرك تعمق الفتن فيها، وضلوع مجموعة من الخوارج والموتورين والحاقدين وأعداء الإسلام في التآمر والكيد والفتنة وسيطرة الرعاع والغوغاء والأعراب على الرأي فيها (2).
وكتب سعيد رسالة إلى أمير المؤمنين عثمان يخبره فيها بالأوضاع المتردية في الكوفة، ومما قال فيها: إن أهل الكوفة قد اضطرب أمرهم, وقد غلب فيها أهل الشرف والسابقة والقِدمة، والغالب على تلك البلاد روادف ردفت, وأعراب لَحَتْ حتى ما ينظر فيها إلى ذي شرف وبلاء .. فرد عليه عثمان - رضي الله عنه - برسالة طلب منه فيها إعادة ترتيب أوضاع أهلها وتصنيفهم على أساس السبق والجهاد، وتقديم أهل العلم والصدق والجهاد على غيرهم، ومما قال له فيها: فضل أهل السابقة والقدمة ممن فتح الله على أيديهم تلك البلاد، واجعل الذين نزلوا البلاد بعد فتحها من الأعراب تبعا لأولئك السابقين المجاهدين إلا أن يكون السابقون تثاقلوا عن الجهاد والحق، وتركوا القيام به، وقام به من بعدهم. واحفظ لكل إنسان منهم منزلته وأعطهم جميعا قسطهم بالحق، فإن المعرفة بالناس يتحقق بها العدل بينهم (3). وقام سعيد بتنفيذ توجيهات عثمان - رضي الله عنه - وأخبر الخليفة بما
_________
(1) تاريخ الطبري (5/ 280).
(2) الخلفاء الراشدون، للخالدي، ص122.
(3) تاريخ الطبري (5/ 280).(1/341)
فعل، وجمع عثمان أهل الحل والعقد في المدينة، وأبلغهم بأوضاع الكوفة ورسوخ الفتنة فيها، وإجراءات سعيد بن العاص لمواجهتها، فقالوا: أصبت بما فعلت، ولا تسعف أهل الفتنة بشيء ولا تقدمهم على الناس، ولا تطعمهم فيما ليسوا له بأهل، فإنه إذا تولى الأمور من ليس أهلا لها، لم يقم بها بل يفسدها، فقال عثمان لهم: يا أهل المدينة، إن الناس قد تحركوا للفتنة، فاستعدوا لمواجهتها، واستمسكوا بالحق، وسوف أخبركم بأخبارها وأنقلها لكم أولا بأول (1).
أولاً: تأذى أصحاب الأهواء من الإصلاح:
تأذى الرعاع وأجلاف الأعراب من تقديم أصحاب السابقة والجهاد والبلاء والعلم والتقوى في المجالس والرئاسة والاستشارة، وصاروا يعيبون على الولاة تقديم هؤلاء عليهم واستشارتهم دونهم ويعتبرونهم تمييزا, وجفوة وإقصاء لهم، واستغل الحاقدون الموتورون هذا الأمر في نفوسهم، وغرسوا فيهم كره الخليفة والدولة ورفض أعمال الوالي سعيد بن العاص، ونشر الإشاعات ضده بين الناس، ورفض عامة الناس في الكوفة كلام الموتورين الخارجين، فسكت هؤلاء الحاقدون وصاروا يخفون شبهاتهم ولا يظهرونها؛ لرفض
معظم المسلمين لها، ولكنهم كانوا يسرون بها إلى من يؤيدهم من الأعراب أو الغوغاء أو المعاقبين المغررين (2).
وكان أعداء الإسلام الموتورون من اليهود والنصارى والمجوس يتآمرون على الإسلام والمسلمين، وينشرون الإشاعات الكاذبة ضد الخليفة والولاة، ويستثمرون الأخطاء التي تصدر عن بعضهم في تهييج العامة ضدهم، ويزيدون عليها الكثير من الافتراءات والتزويرات، وهم يهدفون من ذلك إلى نشر الفوضى وتعميق الفرقة بين المسلمين، وذلك لتغذية غيظهم وحقدهم على الإسلام, الذي قضى على أديانهم الباطلة وهدم نظام الحكم الإسلامي، الذي حطم دولهم وقضى على جيوشهم، وجند هؤلاء الأعداء لتحقيق أهدافهم الموتورين من الرعاع والسذج والبلهاء والتف حولهم الحاقدون ممن أدَّبهم أو حدَّهم أو عزَّرهم الخليفة أو أحد ولاته، ونظم هؤلاء الأعداء (جمعية سرية) خبيثة جعلوا أعضاءها هؤلاء الذين استجابوا لهم، وجعلوا لهم أتباعا في المدن الكبيرة والأقاليم العديدة، وكونوا شبكة اتصالات سرية بينهم.
_________
(1) تاريخ الطبري (5/ 281).
(2) الخلفاء الراشدون، للخالدي، ص14.(1/342)
وكانت أهم فروع جمعيتهم الخبيثة في: الكوفة، والبصرة، ومصر، ولهم بعض العناصر في المدينة المنورة والشام (1).
ثانيًا: عبد الله بن سبأ اليهودي على رأس العصابة:
أوصى ابن سبأ أتباعه المجرمين في جمعيته السرية الخبيثة، المنتشرين في بلاد المسلمين، فقال لهم: انهضوا في هذا الأمر، فحركوه وابدأوا بالطعن على أمرائكم وولاتكم الذين يعينهم الخليفة، وأظهروا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لتستميلوا الناس إليكم، وادعوهم إلى هذا الأمر (2). وبث عبد الله بن سبأ دعاته في الأمصار، وكاتب أتباعه الذين أفسدهم في الأمصار وضمهم إليه وكاتبوه، وتحرك أتباعه في البلدان بدعوتهم ودعوا مؤيديهم في السر إلى ما هم عليه من الخروج على الولاة والخليفة، والعمل على عزل عثمان عن الخلافة، وكانوا في الظاهر يظهرون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ ليؤثروا في الناس، ويستميلوهم ويخدعوهم، وصار أتباع ابن سبأ يؤلفون الأكاذيب والافتراءات عن عيوب أمرائهم وولاتهم، وينشرونها في كتب يرسلها بعضهم إلى بعض في الأمصار، وصار أهل كل مصر منهم يكتبون كتبا بهذه الأكاذيب إلى أهل مصر آخر، فيقرأ أهل كل مصر تلك الكتب المزورة على الناس عندهم فيسمع الناس عندهم عن عيوب وأخطاء الوالي في ذلك البلد فيقولون: إنا لفي عافية مما ابتلى به المسلمون في ذلك البلد، ويصدقون ما يسمعون. وبذلك أفسد السبئيون الأرض وأفسدوا المسلمين، ومزقوا كلمتهم، وزعزعوا أخوتهم ووحدتهم، وهيجوا الناس على الولاة والأمراء، ونشروا الافتراءات ضد الخليفة عثمان نفسه، وكانوا يقومون بهذه الجرائم المنظمة والمدروسة بمهارة يريدون غير ما يظهرون، ويسرون غير ما يعلنون، ويهدفون إلى عزل عثمان والقضاء على دولة الإسلام (3).
توجه ابن سبأ إلى الشام ليفسد بعض أهلها ويؤثر فيهم، ولكنه لم ينجح في هدفه الشيطاني، فقد كان له معاوية - رضي الله عنه - بالمرصاد (4). ودخل البصرة ليجند الأتباع له من المارقين أو الحاقدين أو الرعاع البلهاء، وكان والي البصرة عبد الله بن عامر بن كريز،
_________
(1) الخلفاء الراشدون للخالدي، ص124.
(2) تاريخ الطبري (5/ 348).
(3) الخلفاء الراشدون للخالدي، ص126.
(4) الخلفاء الراشدون للخالدي، ص126.(1/343)
وكان حازما عادلا صالحا، ولما وصل ابن سبأ البصرة، نزل عند رجل خبيث من أهلها كان لصا فاتكا، هو حكيم بن جبلة (1).
وبلغ عبد الله بن عامر أن رجلا غريبا نازل على حكيم بن جبلة، وكان حكيم بن جبلة لصا، وعندما كانت تعود جيوش الجهاد إلى البصرة، كان حكيم يتخلف عنها ليسعى في أرض فارس فسادا، ويغير على أرض أهل الذمة، ويعتدي على أرض المسلمين، ويأخذ منها ما يشاء، فشكاه أهل الذمة والمسلمون إلى عثمان، فكتب عثمان إلى عبد الله بن عامر، وقال له: احبس حكيم بن جبلة في البصرة، ولا تتركه يخرج منها حتى تأنس منه رشدا، فحبسه ابن عامر في بيته، وكان لا يستطيع أن يخرج من البصرة، وبينما كان اللص ابن جبلة تحت الإقامة الجبرية في بيته، نزل عليه اليهودي عبد الله بن سبأ، واستغل ابن سبأ زعارة ابن جبلة وانحرافه وحقده ولؤمه فجنده لصالحه، وصار ابن جبلة رجل ابن سبأ في البصرة، وصار ابن جبلة يقدم لابن سبأ أمثاله من المنحرفين والموتورين، فيغرس ابن سبأ في نفوسهم أفكاره، ويجندهم بجمعيته السرية. ولما علم ابن عامر بابن سبأ، استدعاه، وقال له: ما أنت؟ قال ابن سبأ: أنا رجل من أهل الكتاب رغب في الإسلام فأسلم، ورغب في جوارك فأقام عندك. قال ابن عامر: ما هذا الكلام الذي يبلغني عنك؟ اخرج عني. أخرجه ابن عامر من البصرة، فغادرها ابن سبأ بعد أن ترك فيها رجالا وأتباعا له، وجعل فيها فرعا لحزبه
السبئي اليهودي.
ذهب ابن سبأ إلى الكوفة فوجد فيها رجالا من المنحرفين جاهزين لاستقباله، فجندهم لجماعته وحزبه، ولما علم به سعيد بن العاص أخرجه من الكوفة، فتوجه إلى مصر، فأقام فيها وعشش فيها وباض، وفرخ فيها وأفسد، واستمال أناسا هناك من الرعاع والبلهاء، ومن الحاقدين والموتورين، ومن العصاة والمذنبين. وكان ابن سبأ يرتب الاتصالات السرية بين مقره في مصر، وبين أتباعه في المدينة والبصرة والكوفة، ويتحرك رجاله بين هذه البلدان (2). واستمرت جهود ابن سبأ وأعوانه حوالي ست سنوات، حيث بدأوا أعمالهم الشيطانية سنة ثلاثين، ونجحوا في آخر سنة خمس وثلاثين في قتل الخليفة عثمان، واستمر إفسادهم طيلة خلافة علي - رضي الله عنه -، وقرر (السبئيون) أن تكون بداية الفتنة في الكوفة (3).
_________
(1) الخلفاء الراشدون للخالدي، ص128.
(2) المصدر نفسه، ص129.
(3) المصدر نفسه، ص130.(1/344)
ثالثًا: أهل الفتنة يفسدون في مجلس سعيد بن العاص:
في يوم من أيام سنة ثلاث وثلاثين جلس سعيد بن العاص في مجلسه العام وحوله عامة الناس، وكانوا يتحدثون ويتناقشون فيما بينهم، فتسلل هؤلاء الخوارج من السبئيين إلى المجلس، وعملوا على إفساده، وعلى إشعال نار الفتنة.
جرى كلام وحوار في المجلس بين سعيد بن العاص وبين أحد الحضور، وهو (خنيس ابن حُبيش الأسدي) واختلفا على أمر، وكان سبعة من الخوارج، أصحاب الفتنة جالسين: منهم جندب الأزدي، الذي قتل ابنه السارق بسبب تورطه في قضية قتل، ومنهم الأشتر النخعي، وابن الكواء، وصعصعة ابن صوحان، فاستغل أصحاب الفتنة المناسبة، وقاموا بضرب خنيس الأسدي في المجلس، ولما قام أبوه يساعده وينقذه ضربوه، وحاول سعيد منعهم من الضرب فلم يمتنعوا، وأغمى على الرجل وابنه من شدة الضرب، وجاء بنو أسد للأخذ بثأر أبنائهم، وكادت الحرب تقع بين الفريقين، ولكنَّ سعيدا تمكن من إصلاح الأمر (1)، ولما علم عثمان بالحادثة طلب من سعيد بن العاص أن يعالج الموضوع بحكمة، وأن يضيق على الفتنة ما استطاع.
ذهب الخوارج المفتونون إلى بيوتهم وصاروا ينشرون الإشاعات ويذيعون الافتراءات والأكاذيب ضد سعيد وضد عثمان، وضد أهل الكوفة ووجوهها، فاستاء أهل الكوفة منهم وطلبوا من سعيد أن يعاقبهم، فقال لهم سعيد: إن عثمان قد نهاني عن ذلك، فإذا أردتم ذلك فأخبروه، وكتب أشراف أهل الكوفة وصلحاؤهم إلى عثمان بشأن هؤلاء النفر، وطلبوا منه إخراجهم من الكوفة ونفيهم عنها، فهم مفسدون مخربون فيها، فأمر عثمان واليه سعيد بن العاص بإخراجهم من الكوفة، وكانوا بضعة عشر رجلا، وأرسلهم سعيد إلى معاوية في الشام بأمر عثمان، وكتب عثمان إلى معاوية بشأن هؤلاء فقال له: إن أهل الكوفة قد أخرجوا إليك نفرا خلقوا للفتنة، فَرُعْهم وأخفهم وأدبهم وأقم عليهم، فإن آنست منهم رشدا فاقبل منهم (2). ومن الذين تم نفيهم إلى الشام: الأشتر النخعي، وجندب الأزدي، وصعصعة بن صوحان، وكميل بن زياد، وعمير بن ضابئ، وابن الكواء (3).
_________
(1) تاريخ الطبري (5/ 323).
(2) المصدر نفسه (5/ 324).
(3) الخلفاء الراشدون، ص131.(1/345)
رابعًا: أهل الفتنة منفيون عند معاوية:
لما قدموا على معاوية رحب بهم وأنزلهم كنيسة تسمى مريم، وأجرى عليهم بأمر عثمان ما كان يجري عليهم بالعراق، وجعل لا يزال يتغدى ويتعشى معهم، فقال لهم يوما: إنكم قوم من العرب لكم أسنان وألسنة, وقد أدركتم بالإسلام شرفا وغلبتم الأمم، وحويتم مراتبهم ومواريثهم، وقد بلغني أنكم نقمتم قريشا، وإن قريشا لو لم تكن لعدتم أذلة كما كنتم (1).
كان عثمان - رضي الله عنه - يدرك أن معاوية للمعضلة، فله من فصاحته وبلاغته, وله من حلمه وصبره، وله من ذكائه ودهائه ما يواجه به الفتن، ومن أجل ذلك ما إن تقع المعضلة حتى يرسلها لابن أبي سفيان كي يحلها، وفعلا بذل معاوية - رضي الله عنه - ما بوسعه من أجل إقناع هؤلاء النفر؛ أكرمهم أولا، وخالطهم وجالسهم, وعرف سرائرهم من خلال هذه المجالس قبل أن يحكم عليهم بما نقلوا عنهم، وبعد أن أزال الوحشة عنهم وأزال الكلفة بينه وبينهم، لاحظ أن النعرة القبلية هي التي تحركهم، وأن شهوة الحكم والسلطة هي التي تثيرهم، فكان لا بد من أن يلج عليهم من زاويتين اثنتين:
الأولى: أثر الإسلام في عزة العرب.
الثانية: دور قريش في نشر الإسلام وتحمل أعبائه.
فإن كان للإسلام أثر في تكوينهم فلا بد أن يرعووا لهذا الحديث، بعد هذا وضع أمامهم صورة لوضع العرب، وقد انقلبوا بالإسلام أمة واحدة تخضع لإمام واحد، وودعوا حياة الفوضى وسفك الدماء والقبلية المنتنة (2).
ويتابع معاوية حديثه معهم فيقول: إن أئمتكم لكم إلى اليوم جُنَّة (3) فلا تشذوا عن جنتكم، وإن أئمتكم اليوم يصبرون لكم على الجور، ويحتملون منكم المؤونة، والله لتنتهين أو ليبتلينكم الله بمن يسومكم، ثم لا يحمدكم على الصبر, ثم تكونون شركاءهم فيما جررتم على الرعية في حياتكم وبعد موتكم، فقال رجل من القوم: أما ما ذكرت من قريش فإنها لم تكن أكثر العرب، ولا أمنعها في الجاهلية فتخوفنا، وأما ما
_________
(1) تاريخ الطبري (5/ 324).
(2) معاوية بن أبي سفيان، منير الغضبان، ص101.
(3) جُنة: وقاية.(1/346)
ذكرت من الجُنة، فإن الجنة إذا اخترقت خلص إلينا، فقال معاوية: عرفتكم الآن، علمت أن الذي أغراكم على هذا قلة العقول، وأنت خطيب القوم ولا أرى لك عقلا، أعظم عليك أمر الإسلام، وأذكِّرك به، وتذكرني الجاهلية؟ وقد وعظتك وتزعم لما يُجِنك أنه يخترق، ولا ينسب ما يخترق إلى الجنة، أخزى الله أقواما أعظموا أمركم ورفعوا إلى خليفتكم (1).
وعرف معاوية أن الإشارة العابرة لن تقنعهم، لا بد من شرح مسهب لواقع قريش أولا فقال: افقهوا ولا أظنكم تفقهون؛ إن قريش لم تعز في جاهلية ولا في إسلام إلا بالله عز وجل، لم تكن أكثر العرب ولا أشدهم، ولكنهم كانوا أكرمهم أحسابا، وأمحضهم أنسابا، وأعظمهم أخطارا، وأكملهم مروءة، ولم يمتنعوا في الجاهلية والناس يأكل بعضهم بعضا إلا بالله الذي لا يُسْتذل من أعز، ولا يوضع من رفع، هل تعرفون عربا أو عجما أو سودا أو حمرا إلا قد أصابه الدهر في بلده وحرمته بدولة, إلا ما كان من قريش؛ فإنه لم يردهم أحد بكيد إلا جعل الله خده الأسفل، حتى أراد الله أن ينتقذ من أكرم واتبع دينه من هوان الدنيا وسوء مرد الآخرة فارتضى لذلك خير خلقه، ثم ارتضى له أصحابا فكان خيارهم قريشا, ثم بنى هذا الملك عليهم، وجعل هذه الخلافة فيهم، ولا يصلح ذلك إلا عليهم، فكان الله يحوطهم وهم على دينه، وقد حاطهم الله في الجاهلية من الملوك الذين كانوا يدينونكم؟ أفٍّ لك ولأصحابك، ولو أن متكلما غيرك تكلم، ولكنك ابتدأت، فأما أنت يا صعصعة فإن قريتك شر قرى عربية، أنتنها نبتًا، وأعمقها واديًا، واعرفها بالشر، وألأمها جيرانا، لم يسكنها شريف قط ولا وضيع إلا سُبَّ بها، وكانت عليه هجنة، ثم كانوا أقبح العرب ألقابا وألأمهم أصهارا، نزَّاع (2) الأمم، وأنتم جيران الخط وفعلة فارس، حتى أصابتكم دعوة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ونكبتكم دعوته, وأنت نزيع شطير (3)
في عمان لم تسكن البحرين فتشركهم في دعوة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - , فأنت شر قومك، حتى إذا أبرزك الإسلام وخلطك بالناس وحملك على الأمم التي كانت عليك، أقبلت تبغي دين الله عوجا، وتنزع إلى اللآمة والذلة ولا يضع ذلك قريشا، ولن يضرهم, ولن يمنعهم من تأدية ما عليهم، إن الشيطان عنكم غير غافل، قد عرفكم بالشر من بين أمتكم، فأغرى بكم الناس، وهو صارعكم، لقد علم أنه لا يستطيع أن يرد بكم قضاء
_________
(1) تاريخ الطبري (5/ 324).
(2) النزاع: جمع نزيع وهو الغريب.
(3) الشطير: الغريب.(1/347)
الله، ولا أمرا أراده الله، ولا تدركون بالشر أمرا إلا فتح الله عليكم شرا منه وأخزى، ثم قام وتركهم فتذامروا، فتقاصرت إليهم أنفسهم (1).
وبذلك بذل معاوية كل طاقاته الفكرية والثقافية والسياسية لإقناعهم:
* عرض لهم أولا أمر قريش في الجاهلية والإسلام.
* تناول قبائل هؤلاء النفر ووضعها في الجاهلية؛ حيث كانت تعاني سوء المناخ ونتن المنبت من الناحية الطبيعية، ثم الذلة والتبعية لفارس من الناحية السياسية، إلى أن أكرمهم الله بالإسلام فعزت بعد ذلٍّ، وارتفعت بعد هوان.
* تناول معاوية صعصعة بن صوحان خطيب القوم، وكيف تلكأ عن تلبية نداء الرسالة، وقد دخل قومه بها، ثم عاد وانضم إلى الإسلام، ورفعه الإسلام ثانية بعد انحدار.
* كشف معاوية - رضي الله عنه - عن مخططات صعصعة وأصحابه، وكيف يبغون الفتنة، ويبغون دين الله عوجا.
وإن الشيطان هو وكر هذه الفتنة, ومحرك هذا الشر، وبذلك ربط تاريخ الأمة بالله ثم بالإسلام والعقيدة، ثم كشف عن زيف هؤلاء النفر، وفضحهم عن آخرهم، وأبان عن مخططاتهم وصلتها بدعوى الجاهلية (2).
* جلسة أخرى:
ثم أتاهم القابلة فتحدث عندهم طويلا ثم قال: أيها القوم، ردوا عليَّ خيرا، أو اسكتوا وتفكروا، وانظروا فيما ينفعكم, وينفع أهليكم، وينفع عشائركم، وينفع جماعة المسلمين، فاطلبوه تعيشوا ونعش بكم.
قال صعصعة: لست بأهل ذلك، ولا كرامة لك أن تطاع في معصية الله. قال معاوية: أو ليس ما ابتدأتكم به أن أمرتكم بتقوى الله، وطاعته, وطاعة نبيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وأن تعتصموا بحبله جميعا ولا تفرقوا؟! قالوا: بل أمرت بالفرقة وخلاف ما جاء به النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: إني آمركم الآن إن كنت فعلت فأتوب إلى الله وآمركم بتقواه وطاعته وطاعة نبيه
_________
(1) تاريخ الطبري (5/ 326).
(2) معاوية بن أبي سفيان، ص111.(1/348)
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ولزوم الجماعة وكراهة الفرقة، وأن توقروا أئمتكم، وتدلوهم على كل حسن ما قدرتم، وتعظوهم في لين ولطف في شيء إن كان منهم. قال صعصعة: فإنا نأمرك أن تعتزل عملك، فإن من المسلمين من هو أحق به منك. قال معاوية: من هو؟ قالوا: من كان أبوه أحسن قدما من أبيك، وهو بنفسه أحسن قدما منك في الإسلام. قال معاوية: والله إن لي في الإسلام قدما، ولغيري كان أحسن قدما مني، ولكنه ليس في زماني أحد أقوى على ما أنا فيه مني، ولقد رأى ذلك عمر ابن الخطاب، فلو كان غيري أقوى مني لم يكن لي عند عمر هوادة ولا لغيري، ولم أحدث من الحدث ما ينبغي لي أن أعتزل عملي، ولو رأى ذلك أمير المؤمنين وجماعة المسلمين لكتب بخط يده فاعتزلت عمله، ولو قضى الله أن يفعل ذلك لرجوت أن لا يعزم له على ذلك إلا هو خير. فمهلا فإن في ذلك وأشباهه ما يتمنى الشيطان ويأمر، ولعمري لو كانت الأمور تقضى على رأيكم وأمانيكم ما استقامت الأمور لأهل الإسلام يوما ولا ليلة، ولكن الله يقضيها ويدبرها وهو بالغ أمره، فعاودوا الخير وقولوه.
قالوا: لست لذلك أهلا، قال معاوية: أما والله إن لله سطوات ونقمات، وإني لخائف عليكم أن تتابعوا في مطاوعة الشيطان حتى تُحلَّكم مطاوعة الشيطان ومعصية الرحمن دار الهوان من نقم الله في عاجل الأمر والخزي الدائم في الآجل، فوثبوا عليه فأخذوا بلحيته ورأسه فقال: مه، إن هذه ليست بأرض الكوفة، والله لو رأى أهل الشام ما صنعتم بي وأنا إمامهم ما ملكت أن أنهاهم عنكم حتى يقتلوكم، فلعمري إن صنيعكم ليشبه بعضه بعضا، ثم قام من عندهم فقال: والله لا أدخل عليكم مدخلا ما بقيت (1).
هذه المحاولة الأخيرة التي بذل فيها معاوية أمير الشام كل جهده، واستعمل حلمه وثقافته وأعصابه كي يثنيهم عن الفتنة، إنه يدعوهم إلى تقوى الله وطاعته، والاستمساك بالجماعة والابتعاد عن الفرقة، وإذا بهم يرفعون عقيرتهم قائلين: ليس لك أن تطاع في معصية الله (2). وبحلمه الكبير، وصدره الواسع عاد فذكرهم بأنه لا يأمرهم إلا بطاعة الله، وعلى حد زعمهم فهو يتوب من المعصية إن وقعت، ثم يعود لدعوتهم إلى الطاعة والجماعة والابتعاد عن تفريق كلمة الأمة، ولو كان الوعظ يجدي معهم لأمكن أن تتأثر قلوبهم لهذه المعاملة، وهذا اللطف وهذا الحلم، لكنهم اعتبروا ذلك ضعفا وتهاونا منه؛ خاصة وهو يوجههم إلى أن يستعملوا الأسلوب الهادئ في العظة واللين في النصح، فوجدوا المجال رحبا أن يكشفوا عن مكنون قلوبهم.
_________
(1) تاريخ الطبري (5/ 330، 331).
(2) المصدر نفسه (5/ 330).(1/349)
فقالوا: فإنا نأمرك أن تعتزل عملك؛ فإن بالمسلمين من هو أحق به منك، وانتبه معاوية انتباها مفاجئا إلى ما يكنُّون، فأحب أن يتعرف على جانب غامض عليه، لعل في هذا التعرف ما يوصله إلى من يحركهم، ويبث في ذهنهم الأراجيف المغرضة، ولكنهم أخفوا ما يكنون, واكتفوا بالإشارة إلى أنهم يحبون أن يدع العمل لمن هو أفضل منه، ولِمَنْ أَبُوه أفضل من أبيه، ثم تحلم عليهم أكثر فأكثر، رغم الأسلوب الفج الذي سلكوه معه، وهم يأمرونه بأن يعتزل العمل. وهنا نجد لمعاوية جوابا مستفيضا عن وجهة نظره في الحكم والإمارة والقيادة، وقد لخص معاوية إجابته في ست نقاط أساسية ومهمة:
1 - هي أن له قدما وسابقة في الإسلام، فهو حامي ثغر الشام منذ وفاة أخيه يزيد بن أبي سفيان رضي الله عنهما.
2 - إن هناك في المسلمين من هو أفضل منه وأكرم، وأحسن سابقة وأكثر بلاء، وهو يرى أنه أقوى من يحمي هذا الثغر الإسلامي العظيم (الشام)، فمنذ أن تولاه تمكن من ضبطه وسياسته، وفهم نفسيات أهله حتى أحبوه.
3 - إن الميزان الحساس والمعيار الدقيق الذي يقيم الولاة هو عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - الذي لا تأخذه في الله لومة لائم، فلو وجد في معاوية شططا أو انحرافا أو ضعفا لعزله، ولما أبقى عليه يوما واحدا، فقد عمل له طيلة خلافته، كما ولاه من قبل رسوله الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على بعض عمله، واستخدمه كاتبا بين يديه، وولاه أبو بكر الصديق من بعده ولم يطعن في كفاءته أحد.
4 - إن اعتزال العمل يجب أن يستند لأسباب موجبة للاعتزال، فما الحجة التي يقدمها دعاة الفتنة ليتم الاعتزال على أساسها؟
5 - إن الذي يقرر العزل عن العمل أو البقاء في الإمارة ليس هؤلاء الأدعياء، إن ذلك من حق أمير المؤمنين عثمان - رضي الله عنه -، وهو الذي له الحق في تعيين الولاة وعزلهم.
6 - إن أمير المؤمنين عثمان يوم يقرر عزل معاوية، فهو واثق أن أمره خير كله، ولا غضاضة في ذلك؛ فهو أمير مأمور وهو أمر خليفة المسلمين (1).
كان ختام الجلسة مؤسفا أشد الأسف, مؤلما أشد الألم، لقد حذرهم نقمة الله وغضبه، وحذرهم مهاوي الشيطان ومنزلقاته، وحذرهم فرقة الكلمة ومعصية الإمام،
_________
(1) معاوية بن أبي سفيان، صحابي كبير وملك مجاهد، ص114 - 117.(1/350)
وحذرهم الانقياد إلى أهوائهم وغرورهم، فماذا كان منهم مقابل ذلك؟ وثبوا عليه وأخذوا برأسه ولحيته، وعندئذ زجرهم وقمعهم، ووجه لهم كلاما قاسيا مبطنا بالتهديد، وعرف أن هؤلاء يستحيل أن ينصاعوا للحق، فلا بد من إبلاغ أمرهم لأمير المؤمنين عثمان - رضي الله عنه -، وكشف هوياتهم وخطرهم ليرى فيهم أمير المؤمنين رأيا آخر (1).
كتاب معاوية إلى عثمان -رضي الله عنهما- بشأن أهل الفتنة من الكوفة:
كتب معاوية إلى عثمان -رضي الله عنهما- قائلا: بسم الله الرحمن الرحيم، لعبد الله عثمان أمير المؤمنين من معاوية بن أبي سفيان، أما بعد: يا أمير المؤمنين، فإنك بعثت إليَّ أقواما يتكلمون بألسنة الشياطين، وما يملون عليهم، ويأتون الناس - زعموا- من قبل القرآن فيشبهون على الناس، وليس كل الناس يعلم ما يريدون، وإنما يريدون فرقة، ويقربون فتنة، قد أثقلهم الإسلام وأضجرهم، وتمكنت رقى الشيطان من قلوبهم، فقد أفسدوا كثيرا من الناس ممن كانوا بين ظهرانيهم من أهل الكوفة، ولست آمن إن أقاموا وسط أهل الشام
أن يغروهم بسحرهم وفجورهم, فارددهم إلى مصرهم، فلتكن دارهم في مصرهم الذي نجم فيه نفاقهم (2).
خامسًا: رجوع أهل الفتنة إلى الكوفة ثم نفيهم إلى الجزيرة:
كتب عثمان إلى سعيد بن العاص، فردهم إليه، فلم يكونوا إلا أطلق ألسنة منهم حين رجعوا، وكتب سعيد إلى عثمان يضج منهم، فكتب عثمان إلى سعيد أن سيِّرهم إلى عبد الرحمن بن خالد بن الوليد -وكان أميرا على حمص- فلما وصلوا إلى عبد الرحمن ابن خالد بن الوليد استدعاهم، وكلمهم كلاما شديدا، وكان مما قاله لهم: يا آلة الشيطان، لا مرحبا بكم ولا أهلا، لقد رجع الشيطان محسورا خائبا، وأنتم ما زلتم نشيطين في الباطل!! خسَّر الله عبد الرحمن إن لم يؤدبكم ويخزكم، يا معشر من لا أدري من أنتم: أعرب أم عجم، لن تقولوا لي كما كنتم تقولون لسعيد ومعاوية، أنا ابن خالد بن الوليد، أنا ابن من قد عجمته العاجمات، أنا ابن فاقئ الردة، والله لأذلنكم. وأقامهم عبد الرحمن بن خالد عنده شهرا كاملا، وعاملهم بمنتهى الحزم والشدة، ولم يلن معهم كما لان سعيد ومعاوية، وكان إذا مشى مشوا معه، وإذا ركب ركبوا معه,
_________
(1) معاوية بن أبي سفيان، الغضبان، ص117، 118.
(2) تاريخ الطبري (5/ 331).(1/351)
وإذا غزا غزوا معه، وكان لا يدع مناسبة إلا ويذلهم فيها، وكان إذا قابل زعيمهم (صعصة بن صوحان) يقول له: يا ابن الخطيئة، هل تعلم أن من لم يصلحه الخير أصلحه الشر، وأن من لم يصلحه اللين أصلحته الشدة، وكان يقول لهم: لماذا لا تردون عليَّ كما كنتم تردون على سعيد في الكوفة، وعلى معاوية بالشام؟ لماذا لا تخاطبوني كما كنتم تخاطبونهما؟
ونفع معهم أسلوب عبد الرحمن بن خالد، وأخرسهم حزمه وشدته وقسوته, وأظهروا له التوبة والندم، وقالوا له: نتوب إلى الله ونستغفره، أقلنا أقالك الله، وسامحنا سامحك الله. وبقى القوم في الجزيرة عند عبد الرحمن بن خالد, وأرسل عبد الرحمن أحد زعمائهم -وهو الأشتر النخعي- إلى عثمان ليخبره بتوبتهم وصلاحهم، وتراجعهم عما كانوا عليه من الفتنة، فقال عثمان للأشتر: احلل أنت ومن معك حيث شئتم فقد عفوت عنكم. قال الأشتر: نريد أن نبقى عند عبد الرحمن بن خالد بن الوليد، وذكر له من فضل عبد الرحمن وحزمه، فأقاما عند عبد الرحمن في الجزيرة مدة أظهروا فيها التوبة والاستقامة والصلاح (1)، وسكت أصحاب الفتنة في الكوفة إلى حين، وكان هذا في شهور سنة ثلاث وثلاثين، بعدما تم نفي رؤوس الفتنة إلى معاوية في الشام، ثم عبد الرحمن بن خالد، فرأى أصحاب الفتنة في الكوفة أن المصلحة تقتضي أن يسكنوا إلى حين (2).
1 - أهل الفتنة بالبصرة يفترون على أشج عبد القيس:
أما أهل الفتنة بالبصرة بزعامة حكيم بن جبلة فقد كانوا ضد أهل الفضل فيها, وتآمروا وكذبوا عليهم، وكان من أفضل وأتقى أهل البصرة (أشج عبد القيس) واسمه عامر بن عبد القيس، وكان زعيما لقومه، وقد وفد على رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وتعلم منه، ومدحه رسول الله بقوله: «إن فيك خصلتين يحبهما الله ورسوله: الحلم والأناة» (3). وكان عامر بن عبد القيس من قادة الجهاد في القادسية وغيرها، وكان مقيما في البصرة، وكان على قسط كبير من الصلاح والتقوى، فكذب الخارجون عليه، واتهموه بالباطل، فسيَّره عثمان إلى معاوية بالشام، ولما كلمه معاوية وعامله، وعرف براءته وصدقه، وكذب
_________
(1) تاريخ الطبري (5/ 327).
(2) الخلفاء الراشدون للخالدي، ص134.
(3) صحيح السيرة النبوية، ص635.(1/352)
الخوارج وافتراءهم عليه، وكان الذي تولى الكذب على عامر بن عبد القيس هو (حمران بن أبان) وهو
رجل عاص بدون دين؛ حيث تزوج امرأة في أثناء عدتها، ولما علم عثمان بذلك فرق بينهما، وضربه ونكل به لمعصيته، ونفاه إلى البصرة، وهناك التقى مع زعيم السبئيين فيها؛ اللص حكيم بن جبلة (1).
2 - ابن سبأ يحدد سنة أربع وثلاثين للتحرك:
وفي سنة أربع وثلاثين - السنة الحادية عشرة من خلافة عثمان - أحكم عبد الله بن سبأ اليهودي خطته، ورسم مؤامراته, ورتب مع جماعته السبئيين الخروج على الخليفة وولاته، فقد اتصل ابن سبأ اليهودي من وكر مؤامراته في مصر بالشياطين من حزبه في البصرة والكوفة والمدينة، واتفق معهم على تفاصيل الخروج، وكاتبهم وكاتبوه، وراسلهم وراسلوه، وكان ممن كاتبهم وراسلهم، السبئيون في الكوفة، وقد كان بضعة عشر رجلا منهم منفيين في الشام، ثم في الجزيرة عند عبد الرحمن بن خالد بن الوليد، وبعد نفي أولئك الخارجين كان زعيم السبئيين الحاقدين في الكوفة يزيد بن قيس (2)، وقد خلت الكوفة في سنة أربع وثلاثين من وجوهها وأشرافها، لأنهم توجهوا للجهاد في سبيل الله، ولم يبق إلا الرعاع والغوغاء، الذي أثر فيهم السبئيون والمنحرفون وشحنوهم بأفكارهم الخبيثة، وهيَّجوهم ضد والي عثمان على الكوفة سعيد بن العاص (3).
3 - أوضاع أهل الكوفة عند تحرك أهل الفتنة:
قال الطبري عن أوضاع الكوفة سنة أربع وثلاثين: وفد سعيد بن العاص إلى عثمان في سنة إحدى عشرة من إمارة عثمان، وقد بعث سعيد قبل خروج الأشعث بن قيس إلى أذربيجان، وسعيد بن قيس إلى الري، والنسير العجلي إلى همذان، والسائب بن الأقرع إلى أصبهان، ومالك بن حبيب إلى ماه، وحكيم بن سلامة إلى الموصل، وجرير بن عبد الله إلى قرقيسيا، وسلمان بن ربيعة إلى الباب، وعتيبة بن النهاس إلى حلوان، وجعل على الحرب القعقاع بن عمرو التميمي، وكان نائبه بعد خروجه عمرو بن حريث، وبذلك خلت الكوفة من الوجوه والرؤساء، ولم يبق فيها إلا منزوع أو مفتون (4). وفي
_________
(1) تاريخ الطبري (5/ 333، 334).
(2) الخلفاء الراشدون للخالدي، ص135.
(3) الخلفاء الراشدون للخالدي، ص135.
(4) تاريخ الطبري (5/ 337).(1/353)
هذا الجو خرج زعيم السبئيين في الكوفة (يزيد بن قيس) بعد اتفاق مع شيطانه ابن سبأ في مصر، وخرج معه أهل الفتنة الذين انضموا إلى جمعية ابن سبأ السرية، والغوغاء الذين تأثروا بها (1).
4 - القعقاع بن عمرو التميمي يقضي على التحرك الأول:
خرج يزيد بن قيس في الكوفة، وهو يريد خلع عثمان، فدخل المسجد وجلس فيه, وتجمع عليه في المسجد السبئيون, الذين كان ابن السوداء يكاتبهم من مصر، ولما تجمع الخارجون في المسجد، علم بأمرهم القعقاع بن عمرو أمير الحرب، فألقى القبض عليهم، وأخذ زعيمهم يزيد بن قيس معه، ولما رأى يزيد شدة القعقاع ويقظته وبصيرته لم يجاهره بهدفهم وخطتهم في الخروج على الخليفة عثمان وخلعه، وأظهر له أن كل ما يريده هو وجماعته عزل الوالي سعيد بن العاص، والمطالبة بوال آخر مكانه، فاستجيب لطلبهم, ولذلك أطلق القعقاع سراح الجماعة لما سمع كلام يزيد، ثم قال ليزيد: لا تجلس لهذا الهدف في المسجد ولا يجتمع عليك أحد واجلس في بيتك، واطلب ما تريد من الخليفة وسيحقق
لك ذلك (2).
5 - يزيد بن قيس يكاتب أهل الفتنة عند عبد الرحمن بن خالد:
جلس يزيد بن قيس في بيته، واضطر إلى تعديل خطته في الخروج والفتنة، واستأجر هذا السبئي (يزيد بن قيس) رجلا وأعطاه دراهم وبغلا، وأمره أن يذهب بسرعة وكتمان إلى السبئيين من أهل الكوفة الذين نفاهم عثمان بن عفان إلى الشام, ثم إلى الجزيرة، وهم مقيمون عند عبد الرحمن بن خالد بن الوليد هناك، وقد أظهروا له التوبة والندم، وقال يزيد لإخوانه الشياطين في كتابه: إذا وصلكم كتابي فلا تضعوه من أيديكم حتى تأتوا إليَّ، فقد راسلنا إخواننا في مصر -وهم السبئيون هناك- واتفقنا معهم على الخروج. ولما قرأ الأشتر كتاب يزيد خرج فورا للكوفة، ولحق به إخوانه الخارجون، وفقدهم عبد الرحمن بن خالد فلم يجدهم فأرسل جماعة في طلبهم فلم يدركوهم، واتصل يزيد بن قيس بجماعته مرة ثانية، واتصل جماعته بالرعاع والغوغاء في الكوفة، وتجمعوا في المسجد، ودخل عليهم الأشتر النخعي في المسجد وعمل على إثارتهم وتهييجهم ودفعهم للثورة والخروج، وكان مما قال لهم: لقد جئتكم من عند
_________
(1) الخلفاء الراشدون، للخالدي، ص136.
(2) تاريخ الطبري (5/ 337).(1/354)
الخليفة عثمان، وتركت واليكم سعيد بن العاص عنده، وقد اتفق عثمان وسعيد على إنقاص عطائكم، وخفض أموالكم من مئتي درهم إلى مئة درهم. وقد كذب الأشتر فيما قال، ولم يتحدث عثمان وسعيد بذلك، ولكنه كيد السبئيين في نشر الأكاذيب والافتراءات لتهييج العامة، واستخف الأشتر بكلامه الناس في المسجد، وأثر في الرعاع والغوغاء وهيجهم، وكانت ضجة كبيرة في المسجد، وصار يكلمه عقلاء المسلمين من وجوههم وأشرافهم وصالحيهم وأتقيائهم؛ كأبي موسى الأشعري، وعبد الله بن مسعود، والقعقاع بن عمرو، فلم يسمع لهم، ولم يستجب لهم (1).
وصاح يزيد بن قيس في الغوغاء والرعاع داخل المسجد وخارجه، وقال: إني خارج إلى طرق المدينة لأمنع سعيد بن العاص من دخول الكوفة، ومن شاء أن يخرج معي لمنع سعيد من الدخول والمطالبة بوال مكانه فليفعل، فاستجاب لندائه السبئيون والرعاع، وخرج معه حوالي ألف منهم (2).
6 - القعقاع بن عمرو يرى قتل قادة أهل الفتنة:
ولما خرج السبئيون والغوغاء طلبا للفتنة والتمرد وإحداث القلاقل، بقى في المسجد وجوه المسلمين وأشرافهم وحلماؤهم، فصعد المنبر نائب الوالي عمرو بن حُريث وطالب المسلمين بالأخوة والوحدة ونهاهم عن التفرق والاختلاف والفتنة والخروج، ودعاهم إلى عدم الاستجابة للخارجين والمتمردين (3)، فقال القعقاع بن عمرو: أترد السيل عن عبابه، فاردد الفرات عن أدراجه، هيهات، لا والله لا تُسَكِّن الغوغاء إلا المشرفية (4)، ويوشك أن تُنْتَضَى ثم يعجِّون عجيج العتدان (5)، ويتمنون ما هم فيه فلا يرده عليهم أبدا، فاصبر، فقال: أصبر, وتحول إلى منزله (6).
7 - أهل الفتنة يمنعون سعيد بن العاص من دخول الكوفة:
سار يزيد بن قيس ومعه الأشتر النخعي بالألف من الخارجين إلى مكان على طريق المدينة يسمى (الجَرَعة)، وبينما كانوا معسكرين في الجرعة، طلع عليهم سعيد بن
_________
(1) تاريخ الطبري (5/ 338)، الخلفاء الراشدون للخالدي، ص138.
(2) المصدر نفسه (5/ 338).
(3) الخلفاء الراشدون للخالدي، ص139.
(4) المشرفية: نوع من السيوف. تنتضى: تمضي وتزول النعم والخيرات.
(5) العتود: الجدي الذي استكرش، وقيل: الحولي من أولاد الماعز.
(6) تاريخ الطبري (5/ 338).(1/355)
العاص عائدا من عند عثمان، فقالوا له: عُد من حيث أتيت ولا حاجة لنا بك، ونحن نمنعك من دخول الكوفة، وأخبر عثمان أننا لا نريد واليا علينا، ونريد من عثمان أن يجعل أبا موسى الأشعري واليا مكانك، قال لهم سعيد: لماذا خرجتم ألفا لتقولوا لي هذا الكلام؟ كان يكفيكم أن تبعثوا رجلا إلى أمير المؤمنين بطلبكم، وأن توقفوا لي رجلا في الطريق ليخبرني بذلك، وهل يخرج ألف رجل لهم عقول لمواجهة رجل واحد (1)؟
رأى سعيد بن العاص أن من الحكمة عدم مواجهتهم، وعدم تأجيج نار الفتنة، بل محاولة إخمادها، أو تأجيل اشتعالها على الأقل، وهذا رأي أبي موسى الأشعري، وعمرو بن حريث, والقعقاع بن عمرو في الكوفة (2). وعاد سعيد بن العاص إلى عثمان وأخبره خبر القوم الخوارج، قال له عثمان: ماذا يريدون؟ هل خلعوا يدا من طاعة؟ وهل خرجوا على الخليفة وأعلنوا عدم طاعتهم له؟ قال له سعيد: لا لقد أظهروا أنهم لا يريدونني واليا عليهم، ويريدون واليا آخر مكاني، قال له عثمان: من يريدون واليا؟ قال سعيد بن العاص: يريدون أبا موسى الأشعري، قال عثمان: قد عينا وأثبتنا أبا موسى واليا عليهم، والله لن نجعل لأحد عذرا، ولن نترك لأحد حجة، ولنصبرن عليهم كما هو مطلوب منا، حتى نعرف حقيقة ما يريدون. وكتب عثمان إلى أبي موسى بتعيينه واليا على الكوفة (3).
وقبل وصول كتاب عثمان بتعيين أبي موسى واليا كان في مسجد الكوفة بعض أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وقد حاولوا ضبط الأمور وتهدئة العامة، ولكنهم لم يتمكنوا من ذلك؛ لأن السبئيين والحاقدين سيطروا على الرعاع والغوغاء وهيجوهم، فلم يعودوا يسمعون صوت عقل أو منطق. وكان في مسجد الكوفة وقت التمرد والفتنة اثنان من أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هما: حذيفة بن اليمان، وأبو مسعود عقبة بن عمرو الأنصاري البدري، وكان أبو مسعود غاضبا لتمرد وثورة الرعاع وخروجهم إلى الجرعة، وعزلهم الوالي سعيد، وعصيانهم له، وهي أول مرة تحصل، بينما كان حذيفة بعيد النظر، يتعامل مع الحدث بموضوعية وتفكير (4). قال أبو مسعود لحذيفة: لن يعودوا من الجرعة سالمين، وسيرسل الخليفة جيشا لتأديبهم، وستسفك فيها دماء كثيرة، فرد عليه حذيفة
_________
(1) تاريخ الطبري (5/ 338).
(2) الخلفاء الراشدون للخالدي، ص104.
(3) تاريخ الطبري (5/ 339).
(4) الخلفاء الراشدون، ص141.(1/356)
قائلا: والله سيعودون إلى الكوفة، ولن يكون هناك اشتباك أو حرب ولن تسفك هناك دماء، وما أعلم من هذه الفتن شيئا، إلا وقد علمته من رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو حي؛ حيث أخبرنا عن هذه الفتن التي نراها اليوم قبل وفاته، ولقد أخبرنا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن الرجل يصبح على الإسلام ثم يمسي وليس معه من الإسلام شيء، ثم يقاتل المسلمين، فيرتد وينكص قلبه ويقتله الله غدا، وسيكون هذا فيما بعد (1). لقد كان حذيفة بن اليمان - رضي الله عنه - متخصصا في علم الفتن، وتعامل مع فتن السبئيين في الكوفة وغيرها وفق ما سمعه وعلمه من رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، واستحضر ما حفظه من تلك الأحاديث, ففهم حقيقة ما يجري حوله، ولم يستبعده ولم يستغربه وحاول الإصلاح ما أمكنه (2).
8 - أبو موسى الأشعري يهدئ الأمور وينهى عن العصيان:
قام أبو موسى الأشعري - رضي الله عنه - بتهدئة الأمور، ونهى الناس عن العصيان، وقال لهم: أيها الناس، لا تخرجوا في مثل هذه المخالفة، ولا تعودوا لمثل هذا العصيان، الزموا جماعتكم والطاعة، وإياكم والعجلة، اصبروا فكأنكم بأمير (3). فقالوا: فصلِّ بنا، قال: لا، إلا على السمع والطاعة لعثمان بن عفان، قالوا: على السمع والطاعة لعثمان (4).
وما كانوا صادقين في ذلك، لكنهم كانوا يخفون أهدافهم الحقيقية عن الآخرين، وكان أبو موسى يصلي بالناس إلى أن جاءه كتاب عثمان بتعيينه واليا على الكوفة، ولما هدأت الأمور في الكوفة إلى حين - في سنة أربع وثلاثين - عاد حذيفة بن اليمان إلى أذربيجان والباب يقود جيوش الجهاد هناك، وعاد العمال والولاة إلى أعمالهم في مناطق فارس (5).
9 - كتاب عثمان إلى الخارجين في الكوفة:
كتب عثمان بن عفان إلى الخارجين من أهل الكوفة كتابا يبين فيه الحكمة من استجابته لطلبهم في عزل سعيد وتعيين أبي موسى بدله، وهي رسالة ذات دلالات
_________
(1) تاريخ الطبري (5/ 342).
(2) حذيفة بن اليمان، إبراهيم العلي، ص86, الخلفاء الراشدون للخالدي، ص141.
(3) أي: يأتيكم من قبل أمير المؤمنين عثمان.
(4) تاريخ الطبري (5/ 339).
(5) الخلفاء الراشدون للخالدي، ص142.(1/357)
هامة، وتبين طريقة عثمان في مواجهة هذه الفتن، ومحاولته تأجيل اشتعالها ما استطاع، مع علمه اليقيني أنها قادمة، وأنه عاجز عن مواجهتها، فهذا ما علمه من رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال لهم عثمان في رسالته: أما بعد، فقد أمَّرت عليكم من اخترتم، وأعفيتكم من سعيد، والله لأفرشن لكم عرضي، ولأبذلن لكم صبري، ولأستصلحنكم بجهدي، واسألوني كل ما أحببتم مما لا يعصى الله فيه، فسأعطيه لكم، ولا شيئا كرهتموه لا يعصى الله فيه إلا استعفيتم منه، أنزل فيه عند ما أحببتم حتى لا يكون لكم عليَّ حجة، وكتب بمثل ذلك في الأمصار (1). رضي الله عن أمير المؤمنين عثمان، ما أصلحه، وأوسع صدره، وكم ظلمه السبئيون والخارجون والحاقدون وكذبوا وافتروا عليه (2).
* * *
_________
(1) تاريخ الطبري (5/ 343).
(2) الخلفاء الراشدون للخالدي، ص143.(1/358)
المبحث الثاني
سياسة عثمان - رضي الله عنه - في التعامل مع الفتنة
من خلال النصوص التاريخية في العديد من المصادر يتضح أن عثمان - رضي الله عنه - قد واجه الفتنة بعدد من الأساليب وهي:
أولاً: رأي بعض الصحابة بأن يرسل عثمان لجان تفتيش وتحقيق:
اهتز محمد بن مسلمة وطلحة بن عبيد الله وغيرهما لما سمعوا من الإشاعات التي بثها عبد الله بن سبأ في الأمصار، فدخلوا على أمير المؤمنين عثمان على عجل وقالوا: يا أمير المؤمنين، أيأتيك عن الناس الذي يأتينا؟ قال: لا والله، ما جاءني إلا السلامة. قالوا: فإنا قد أتانا، وأخبروه بما تناهى لسمعهم عن الفتنة التي تموج بها الأمصار الإسلامية، وعن الهجوم الشرس على ولاته في كل صقع، وقال: أنتم شركائي وشهود المؤمنين، فأشيروا عليَّ؟ قالوا: نشير عليك أن تبعث رجالا ممن تثق بهم إلى الأمصار حتى يرجعوا إليك بخبرهم (1)، فقام عثمان بإجراء سديد عظيم، وتخير نفرا من الصحابة لا يختلف اثنان في صدقهم وتقواهم وورعهم، ونصحهم، اختار محمد بن مسلمة الذي كان عمر يأتمنه على محاسبة ولاته والتفتيش عليهم في الأقاليم، وأسامة بن زيد حِبّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وابن حِبِّه، وأمير الجيش الذي أوصى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بإنفاذه في آخر عهده بالدنيا، فقال: أنفذوا بعث أسامة. وعمار بن ياسر السبَّاق إلى الإسلام، والمجاهد العظيم، وعبد الله بن عمر، التقي الفقيه الورع. فأرسل محمد بن مسلمة إلى الكوفة، وأسامة إلى البصرة، وعمار إلى مصر، وابن عمر إلى الشام، وكانوا على رأس جماعة، فأرسلهم إلى تلك الأمصار الكبيرة، فمضوا جميعا إلى عملهم الشاق المضني الخطير العظيم، ثم عادوا جميعا عدا عمار بن ياسر الذي استبطأ في مصر ثم عاد، وقدموا بين يدي أمير المؤمنين ما شاهدوه وسمعوه وسألوا الناس عنه (2). وكان ما جاء به هؤلاء واحد في كل الأمصار، وقالوا: أيها الناس، ما أنكرنا شيئا، ولا أنكر المسلمون إلا أن أمراءهم يقسطون بينهم،
_________
(1) تاريخ الطبري (5/ 348).
(2) عثمان بن عفان .. الخليفة الشاكر الصابر، ص210.(1/359)
ويقومون عليهم (1).
وأما ما روي من اتهام عمار بن ياسر - رضي الله عنه - بالتأليب على عثمان - رضي الله عنه - فإن أسانيد الروايات التي تتضمن هذه التهمة ضعيفة، لا تخلو من علة، كما أن في متونها نكارة (2).
رجع مفتشو الأمصار، واتضح بأنه ليس هناك ما يوجب على الخليفة أن يعزل واحدا من ولاته، والناس في عافية وعدل وخير ورحمة واطمئنان، وأمير المؤمنين يعدل في القضية، ويقسم بالسوية، ويرعى حق الله وحق الرعية، وما يثار هو شكوك وأراجيف وأكاذيب يبثها الحاقدون في الظلمات لكي لا يعرف مصدرها، ولكن الخليفة البار الراشد العظيم لم يكتفِ بهذا، بل كتب إلى أهل الأمصار (3).
ثانيًا: كتب إلى أهل الأمصار كتابا شاملا بمثابة إعلان عام لكل المسلمين:
أما بعد: فإني آخذ العمال بموافاتي في كل موسم، وقد سلطت الأمة منذ وليت على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فلا يرفع على شيء ولا على أحد من عمالي إلا أعطيته، وليس لي ولعيالي حق قبل الرعية إلا متروك لهم، وقد رفع إلىَّ أهل المدينة أن أقواما يشتمون، وآخرون يضربون، فيا من ضُرب سرا، وشُتم سرا، من ادعى شيئا من ذلك فليواف الموسم فليأخذ بحقه حيث كان، مني أو من عمالي، أو تصدقوا فإن الله
يجزي المتصدقين، فلما قرئ في الأمصار أبكى الناس، ودعوا لعثمان، وقالوا: إن الأمة لتمخَّض بِشَرّ (4).
فهل تريد الدنيا أن تسمع بحزم وعزم أعلى وأشمخ من هذا الحزم والعزم من رجل زادت سنه على اثنتين وثمانين سنة، وهو في هذه الفورة والقوة من المتابعة والتنقيب عن المظالم؟ أم هل يريد الناس أن يروا عدلا أرفع وأسمى من هذا العدل والإنصاف، حتى إن حق أمير المؤمنين الشخصي متروك لرعيته، ما دام حق الله قائما وحدوده مرعية؟ نعم عند عثمان، الذي لم يقف عند ذلك، ولم يكتفِ بأن أرسل أمناءه للتفتيش عن أحوال الناس، وكتابته من ثم إلى أهل الأمصار بأن يأتوا موسم الحج ليرفعوا شكاتهم -إن كانت لهم- أمام جموع الحجيج، ولم يكتف عثمان بذلك كله؛ بل بعث إلى عمال
_________
(1) تاريخ الطبري (5/ 348).
(2) فتنة مقتل عثمان (1/ 117).
(3) تاريخ الطبري (1/ 349).
(4) تاريخ الطبري (1/ 349).(1/360)
الأمصار أنفسهم ليواجهوا الناس عندما يرفعون مظالمهم -إن وجدت- ثم ليسألهم أمير المؤمنين عما يتناقله الناس، وليشيروا عليه بالرأي الناصح السديد الرشيد (1).
ثالثًا: مشورة عثمان لولاة الأمصار:
بعث عثمان - رضي الله عنه - إلى ولاة الأمصار واستدعاهم على عجل؛ عبد الله بن عامر، ومعاوية ابن أبي سفيان، وعبد الله بن سعد، وأدخل معهم في المشورة سعيد بن العاص، وعمرو بن العاص -وهم من الولاة السابقين-، وكانت جلسة مغلقة وخطيرة جرت فيها الأبحاث التالية التي تقرر خطة العمل الجديدة على ضوء الأخبار المتناهية إلى المدينة عاصمة دولة الإسلام (2). قال عثمان: ويحكم ما هذه الشكاية؟ وما هذه الإذاعة؟ إني والله لخائف أن يكون مصدوقا عليكم وما يعصب (3) هذا إلا بي، فقالوا له: ألم تبعث؟ ألم يرجع إليك الخبر عن القوم؟ ألم يرجعوا ولم يشافههم أحد بشيء؟ لا والله ما صدقوا ولا بروا، ولا نعلم لهذا الأمر أصلا، وما كنت لتأخذ به أحد فيضمنك على شيء، وما هي إلا إذاعة لا يحل الأخذ بها، ولا الانتهاء إليها. قال: فأشيروا عليَّ، فقال سعيد بن العاص: هذا أمر مصنوع يصنع في السر، فيلقى به غير ذي معرفة، فيخبر به فيتحدث به في مجالسهم، قال: فما دواء ذلك؟ قال: طلب هؤلاء القوم، ثم قتل هؤلاء الذين يخرج هذا من عندهم.
وقال عبد الله بن سعد: خذ من الناس الذي عليهم إذا أعطيتهم الذي لهم، فإنه خير من أن تدعهم. قال معاوية: قد وليتني فوليت قوما لا يأتيك عنهم إلا الخير، والرجلان أعلم بناحيتهما، قال: فما الرأي؟ قال: حسن الأدب، قال: فما ترى يا عمرو؟ قال: أرى أنك قد لنت لهم، وتراضيت عنهم، وزدتهم عما كان يصنع عمر، فأرى أن تلزم طريقة صاحبك فتشد في موضع الشدة, وتلين في موضع اللين، إن الشدة تنبغي لمن لا يألو الناس شرا، واللين لمن يخلف الناس بالنصح، وقد فرشتهما جميعا اللين. وقام عثمان فحمد الله وأثنى عليه وقال: كل ما أشرتم به عليَّ قد سمعت، ولكل أمر باب يؤتى منه، إن هذا الأمر الذي يخاف على هذه الأمة كائن، وإن بابه الذي يغلق عليه فيكفكف به اللين والمؤاتاة والمتابعة، إلا في حدود الله تعالى ذكره، التي لا يستطيع أحد أن يبادي
_________
(1) عثمان بن عفان .. الخليفة الشاكر الصابر، ص212.
(2) معاوية بن أبي سفيان، ص126.
(3) يعصب بي: يناط بي.(1/361)
بعيب أحدها، فإن سده شيء فرفق، فذاك والله ليفتحن، وليست لأحد علىَّ حجة حق، وقد علم الله أني لم آل الناس خيرا، ولا نفسي، ووالله إن رحى الفتنة لدائرة فطوبى لعثمان إن مات ولم يحركها، كفكفوا الناس، وهبوا لهم حقوقهم، واغتفروا لهم، وإذا تعوطيت حقوق الله فلا تُدْهنوا فيها (1).
لقد خالف عثمان - رضي الله عنه - رأي أخيه عمرو باتباع الشدة، ولم يخالفه في اتباع سنة صاحبيه، فرحى الفتنة دائرة، ولا تعالج بالعنف؛ لأن العنف هو الذي يدير هذه الرحى، ولن يرضى أمير المؤمنين أن يكون صاحبها (فطوبى لعثمان إن مات ولم يحركها)، وكان واضحا صريحا - رضي الله عنه - فيما لا هوادة فيه وهي حدود الله، فلا مداهنة فيها وما غير ذلك؛ فالرفق أولى والمغفرة أفضل، ولا بد من تأدية الحقوق كلها (2).
وقد جاءت روايات بسند فيه ضعيف ومجهولون تشوه العلاقة بين عمرو بن العاص وعثمان رضي الله عنهما، وساهمت روايات ساقطة في مسخ صورة عمرو بن العاص - رضي الله عنه -، وتحويل علاقته بعثمان - رضي الله عنه - إلى علاقة فاتك خطط لقتل أميره، ثم عاد بانتهازية ليطالب بدمه (3). وهذه الرواية ضعيفة ومرفوضة عند أهل التاريخ وأهل الحديث (4). وقد جاء في رواية بسند فيها ضعفاء ومجهولون أيضا بأن عمرو بن العاص قال: يا عثمان: إنك قد ركبت الناس بمثل بني أمية فقلت وقالوا, وزغت وزاغوا، فاعتدل أو اعتزل، فإن أبيت فاعتزم عزما وامض قدما (5). وجاء في نفس الرواية أن عبد الله بن عامر قال: أرى لك أن تجمرهم
في هذه البعوث حتى يهم كل رجل منهم قمل فروة رأسه ودبر دابته، وتشغلهم عن الإرجاف بك (6).
إن عثمان - رضي الله عنه - منع الولاة من التنكيل بمثيري الشغب (حبسهم أو قتلهم)، وقرر أن يعاملهم بالحسنى واللين (7) , وطلب من عماله أن يعودوا إلى أعمالهم، وفق ما أعلنه لهم من أسلوب مواجهة الفتنة التي كان كل بصير يرى أنها قادمة (8).
_________
(1) تاريخ الطبري (5/ 351).
(2) عمرو بن العاص .. الأمير المجاهد، للغضبان، ص447.
(3) المصدر نفسه، ص448.
(4) المصدر نفسه، ص448.
(5) تاريخ الطبري (5/ 340).
(6) تاريخ الطبري (5/ 340).
(7) خلافة عثمان، د. السلمي، ص77.
(8) الخلفاء الراشدون، للخالدي، ص151.(1/362)
1 - اقتراحان لمعاوية يرفضهما عثمان رضي الله عنهما:
قبل أن يتوجه معاوية بن أبي سفيان إلى الشام، أتى إلى عثمان وقال له: يا أمير المؤمنين, انطلق معي إلى الشام، قبل أن يهجم عليك من الأمور والأحداث ما لا قبل لك بها.
قال عثمان: أنا لا أبيع جوار رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بشيء ولو كان فيه قطع خيط عنقي. قال له معاوية: إذن أبعث لك جيشا من أهل الشام، يقيم في المدينة، لمواجهة الأخطار المتوقعة ليدافع عنك وعن أهل المدينة، قال عثمان: لا، حتى لا أقتِّر على جيران رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الأرزاق بجند تساكنهم، ولا أضيق على أهل الهجرة والنصرة. قال له معاوية: يا أمير المؤمنين, والله لتغتالن أو لتغزين، قال عثمان: حسبي الله ونعم الوكيل (1).
لكأنما معاوية - رضي الله عنه - كان يعلم أن وراء تلك الفتن والشائعات يدا خبيثة تخطط لهدف مرهوب ليس دونه ضرب الخليفة والخلافة، لكن عثمان الخليفة الراشد كان له رأي آخر، فهو يريد أن يسير مع هؤلاء لآخر الطريق حتى لا يترك لهم حجة عند الله وعند الناس، فيفضحهم في الدنيا والآخرة، وتلك مصابرة عظيمة من هذا الإمام العادل العظيم (2).
2 - عثمان يخترق صفوف المتآمرين بعد مجيئهم للمدينة:
كان أمير المؤمنين عثمان من اليقظة والوعي ما يجعله يحقق بقلم استخباراته مع هؤلاء المتآمرين، حيث بث في صفوفهم رجلين من المسلمين كانا قد عوقبا من الخليفة ليطمئن المتآمرون إليهم، فقد أرسل عثمان رجلين، مخزوميا وزهريا فقال: انظرا ما يريدون واعلما علمهم، وكانا مما نالهما من عثمان أدب فاصطبرا للحق ولم يضطغنا، فلما رأوهما باثوهما وأخبروهما بما يريدون، فقالا: من معكم على هذا من أهل المدينة، قالوا: ثلاثة نفر، فقالا: هل إلا؟ قالوا: لا، قالا: فكيف تريدون أن تصنعوا؟ وشرح هؤلاء القوم للرجلين أبعاد المؤامرة كاملة والخطة المقترحة، وقالوا: نريد أن نذكر له أشياء قد زرعناها في قلوب الناس ثم نرجع إليهم فنزعم لهم أنا قررناه بها فلم يخرج ولم يتب، ثم نخرج كأنا حجاج حتى نقدم فنحيط به فنخلعه، فإن أبى قتلناه وكانت إياها، فرجعا إلى عثمان فضحك وقال: اللهم سلم هؤلاء فإنك إن لم تسلمهم شقوا. فأرسل إلى الكوفيين
_________
(1) تاريخ الطبري، (5/ 353).
(2) عثمان بن عفان .. الخليفة الشاكر الصابر، ص214.(1/363)
والبصريين ونادى: الصلاة جامعة، وهم عنده في أصل المنبر، فأقبل أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حتى أحاطوا بهم، فحمد الله وأثنى عليه، وأخبرهم خبر القوم، وحقيقة ما يريدون من تأكيد الشبهات عليه تمهيدا للخروج عليه وخلعه أو قتله، وقام الرجلان اللذان حادثا السبئيين، فشهدا بما أخبروهما به، فقال المسلمون جميعا في داخل المسجد: اقتلهم يا أمير المؤمنين، لأنهم يريدون الخروج على أمير المؤمنين، وتفريق كلمة المسلمين. ورفض عثمان - رضي الله عنه - دعوة الصحابة لقتلهم؛ لأنهم مسلمون في الظاهر، من رعيته، ولا يرضى أن يقال: عثمان يقتل مسلمين مخالفين له، ولذلك رد عثمان بن عفان على تلك الدعوة قائلا: لا نقتلهم، بل نعفو ونصفح، ونبصرهم بجهدنا، ولا نقتل أحدا من المسلمين، إلا إذا ارتكب حدًّا يوجب القتل، أو أظهر ردة وكفرا (1).
رابعًا: إقامة الحجة على المتمردين:
ثم دعا عثمان القوم السبئيين إلى عرض ما عندهم من شبهات وإظهار ما يرونه من أخطاء وتجاوزات ومخالفات وقع هو فيها، وكانت جلسة مصارحة ومكاشفة في المسجد على مرأى ومسمع من الصحابة والمسلمين، فتكلم السبئيون وعرضوا الأخطاء التي ارتكبها عثمان - على حد زعمهم-, وقام عثمان - رضي الله عنه - بالبيان والإيضاح وقدم حججه وأدلته فيما فعل، والمسلمون المنصفون يسمعون هذه المصارحة والمحاسبة والمكاشفة، وأورد عثمان ما أخذوه عليه، ثم بين حقيقة الأمر ودافع عن حسن فعله، وأشهد معه الصحابة الجالسين في المسجد (2).
1 - قال: قالوا: إني أتممت الصلاة في السفر، وما أتمها قبلي رسول الله ولا أبو بكر ولا عمر، لقد أتممت الصلاة لما سافرت من المدينة إلى مكة، ومكة بلد فيها أهلي فأنا مقيم بين أهلي ولست مسافرا، أكذلك؟ فقال الصحابة: اللهم نعم.
2 - وقالوا: إني حميت حمى، وضيَّقت على المسلمين، وجعلت أرضا واسعة خاصة لرعي إبلي، ولقد كان الحمى قبلي لإبل الصدقة والجهاد، حيث جعل الحمى كل من رسول الله وأبو بكر وعمر، وأنا زدت فيه لما كثرت إبل الصدقة والجهاد، ثم لم نمنع ماشية فقراء المسلمين من الرعي في ذلك الحمى، وما حميت لماشيتي، ولما
_________
(1) تاريخ الطبري (5/ 354، 355).
(2) الخلفاء الراشدون للخالدي، ص154، 155.(1/364)
وليت الخلافة كنت من أكثر المسلمين إبلا وغنما، وقد أنفقتها كلها، ومالي الآن ثاغية ولا راغية، ولم يبق لي إلا بعيران، خصصتهما لحجي، أكذلك؟ فقال الصحابة: اللهم نعم.
3 - وقالوا: إني أبقيت نسخة واحدة من المصاحف، وحرقت ما سواها، وجمعت الناس على مصحف واحد، ألا إن القرآن كلام الله، من عند الله، وهو واحد، ولم أفعل سوى أن جمعت المسلمين على القرآن، ونهيتهم عن الاختلاف فيه، وأنا في فعلي هذا تابع لما فعله أبو بكر، لما جمع القرآن، أكذلك؟ فقال الصحابة: اللهم نعم.
4 - وقالوا: إني رددت الحكم بن أبي العاص إلى المدينة، وقد كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نفاه إلى الطائف، إن الحكم بن العاص مكي، وليس مدنيا، وقد سيره رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من مكة إلى الطائف، وأعاده الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى مكة بعدما رضي عنه، فالرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سيره إلى الطائف، وهو الذي رده وأعاده، أكذلك؟ فقال الصحابة: اللهم نعم.
5 - وقالوا: إني استعملت الأحداث ووليت الشباب صغار السن، ولم أولِّ إلا رجلا فاضلا محتملا مرضيا، وهؤلاء الناس أهل عملهم فسلوهم عنهم. ولقد ولى الذين من قبلي من هم أحدث منهم وأصغر منهم سنا، ولقد ولى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أسامة بن زيد وهو أصغر ممن وليته، وقالوا لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أشد مما قالوا لي، أكذلك؟ قال الصحابة: اللهم نعم، إن هؤلاء الناس يعيبون للناس ما لا يفسرونه ولا يوضحونه.
6 - وقالوا: إني أعطيت عبد الله بن سعد بن أبي السرح ما أفاء الله به، وإنما أعطيته خمس الخمس -وكان مئة ألف- لما فتح أفريقية، جزاء جهده، وقد قلت له: إن فتح الله عليك أفريقية فلك خمس الخمس من الغنيمة نفلا، وقد فعلها قبلي أبو بكر وعمر -رضي الله عنهما- ومع ذلك قال لي الجنود المجاهدون: إنا نكره أن تعطيه خمس الخمس ولا يحق لهم الاعتراض والرفض، فأخذت خمس الخمس من ابن سعد ورددته على الجنود، وبذلك لم يأخذ ابن سعد شيئا، أكذلك؟ قال الصحابة: اللهم نعم.
7 - وقالوا: إني أحب أهل بيتي وأعطيهم، فأما حبي لأهل بيتي فإنه لم يحملني على أن أميل معهم إلى جور وظلم الآخرين، بل أحمل الحقوق عليهم وآخذ الحق منهم،(1/365)
وأما إعطاؤهم فإني أعطيهم من مالي الخاص، وليس من أموال المسلمين، لأني لا أستحل أموال المسلمين، ولا لأحد من الناس. ولقد كنت أعطي العطية الكبيرة الرغيبة من صلب مالي أزمان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأبي بكر وعمر رضي الله عنهما، وأنا يومئذ شحيح حريص، أفحين أتيت على أسنان أهل بيتي، وفني عمري، وجعلت مالي الذي لي لأهلي وأقاربي، قال الملحدون ما قالوا؟ وإني والله ما أخذت من مصر من أمصار المسلمين مالا ولا فضلا، ولقد رددت على تلك الأمصار الأموال، ولم يحضروا إلى المدينة إلا الأخماس من الغنائم، ولقد تولى المسلمون تقسيم تلك الأخماس، ووضعها في أهلها، ووالله ما أخذت من تلك الأخماس وغيرها فِلْسًا فما فوقه، وإنني لا آكل إلا من مالي، ولا أعطي أهلي إلا من مالي.
8 - وقالوا: إني أعطيت الأرض المفتوحة لرجال معينين، وإن هذه الأرضين المفتوحة قد اشترك في فتحها المهاجرون والأنصار وغيرهم من المجاهدين، ولما قسمت هذه الأراضي على المجاهدين الفاتحين، منهم من أقام بها واستقر فيها، ومنهم من رجع إلى أهله في المدينة
أو غيرها، وبقيت تلك الأرض ملكا له، وقد باع بعضهم تلك الأراضي، وكان ثمنها
في أيديهم.
وبذلك أورد عثمان - رضي الله عنه - أهم الاعتراضات التي أثيرت عليه، وتولي توضيحها، وبيان وجه الحق فيها (1). وترى من ذلك الدفاع المحكم الذي دافع به عثمان بن عفان - رضي الله عنه - , وساجل الصحابة فيه وذاكرهم إياه صورة لما كان يجري من النقد المر العنيف له - رضي الله عنه - وما كان يشيعه السبئيون من قالة السوء، وما يعملون على ترويجه من باطل مزيف، فقد أجمل - رضي الله عنه - ذكر الاعتراضات التي كانوا يعترضون بها عليه، وبيَّن وجه الحق فيما يفعل، وأنه كان على بينة من أمره وعلى حجة من دينه، ولكنهم مغرضون لا يريدون رشادا، ولا يبغون سدادا، فمجادلته لهم مجادلة رجل مخلص مع آخر يتربص به الدوائر ويتسقط هفواته لينفذ أغراضا, ويلقى في نفوس الناس عنه إعراضا، ومن كان شأنه كذلك لا تقنعه الحجة، ولا يهديه الدليل، ومن يضلل الله فلا هادي له (2).
_________
(1) العواصم من القواصم، ص61 - 111، تاريخ الطبري (5/ 355، 356)، الخلفاء الراشدون للخالدي، ص158, الفتنة، أحمد عرموش، ص10 - 14.
(2) تاريخ الجدل لمحمد أبو زهرة، ص98، 99.(1/366)
وقد سمع كلامه وتوضيحه زعماء أهل الفتنة الذين بجانب المنبر، كما سمعه الصحابة الكرام ومن معهم من المسلمين الصالحين، وتأثر المسلمون بكلام عثمان وبيانه وتوضيحه وصدقوه فيما قال، وازدادوا له حبًّا، وأما السبئيون دعاة الفتنة والفرقة، فلم يتأثروا بذلك ولم يتراجعوا؛ لأنهم لم يكونوا باحثين عن حق، ولا راغبين في خير، إنما كان هدفهم الفتنة، والكيد للإسلام والمسلمين. وقد أشار الصحابة والمسلمون على عثمان بقتل أولئك السبئيين (زعماء الفتنة) بسبب ما ظهر من كذبهم وتزويرهم، وحقدهم بل أصروا عليه في قتلهم، ليتخلص المسلمون من شرهم، وتستقر بلاد المسلمين ويقضي على الفتنة التي يثيرها هؤلاء وأتباعهم، ولكن عثمان كان له رأي آخر وتحليل مغاير، فآثر أن يتركهم، ورأي عدم قتلهم محاولة منه لتأخير وقوع الفتنة، ولم يتخذ عثمان ضد السبئيين القادمين من مصر والكوفة والبصرة أي إجراء مع علمه بما يخططون ويريدون، وتركهم يغادرون المدينة ويعودون إلى بلادهم (1).
خامسًا: الاستجابة لبعض مطالبهم:
استجاب لبعض مطالبهم في خلع بعض الولاة وتولية من طلبوا توليته، هذه الأساليب كافية في المعالجة وإقامة الحق والعدل لو كانت الأمور تسير في وضعها الطبيعي، لكن الواقع أن وراء هذه الشكاوى والإثارات أمورًا خفية، وأحقادا جاهلية تسعى لإثارة الفتنة بين المسلمين وتفريق وحدتهم، ووقوع ما أخبر به النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من استشهاد عثمان - رضي الله عنه - (2).
سادسًا: ضوابط التعامل مع الفتن عند عثمان - رضي الله عنه -:
إن المتأمل في هدي عثمان - رضي الله عنه - في تعامله مع الفتنة التي وقعت في عهده يمكنه أن يستنبط بعض الضوابط التي تعين المسلم في مواجهته للفتن، ومن هذه الضوابط:
1 - التثبت: فقد أرسل لجان تفتيش للأمصار واستمع لأهلها، واستطاع أن يخترق جماعة السبئيين ويقف على حقيقة أمرهم، ولم يستعجل في إصداره للأحكام عليهم.
_________
(1) الخلفاء الراشدون للخالدي، ص158، 159.
(2) خلافة عثمان للسلمي، ص78.(1/367)
2 - لزوم العدل والإنصاف: فقد اتضح هذا الضابط في كتابه للأمصار، وطلب
ممن ادعى أنه شتم أو ضرب من الولاة فليواف الموسم فليأخذ بحقه حيث كان منه
أو من عماله (1).
3 - الحلم والأناة: ويتضح هذا الضابط في كتابه لأهل الكوفة عندما طلبوا عزل سعيد بن العاص وتعيين أبا موسى الأشعري وقد جاء في هذا الكتاب: « .. والله لأفرشنكم عرضي، ولأبذلن لكم صبري، ولاستصلحنَّكم بجهدي، فلا تدعوا شيئا أحببتموه لا يعصى الله فيه إلا سألتموه، ولا شيئا كرهتموه لا يعصى الله فيه إلا استعفيتم منه» (2).
4 - الحرص على ما يجمِّع، ونبذ ما يفرق بين المسلمين: ولذلك جمع الناس على مصحف واحد كما مر معنا، وعندما عرض عليه الأشتر النخعي عروضا ثلاثة -يأتي تفصيلها بإذن الله- قال عثمان: « ... وإن قتلتموني فلم أرتكب ما يوجب قتلي، والله لئن قتلتموني فإنكم لا تتحابون بعدي أبدا، ولا تصلون جميعا بعدي أبدا، ولا تقاتلون العدو جميعا بعدي» (3).
5 - لزوم الصمت والحذر من كثرة الكلام: من خلال سيرة عثمان - رضي الله عنه - تتضح صفة قلة كلامه إلا فيما ينفع من علم أو نصح أو توجيه أو رد اتهامات باطلة، وقد كان - رضي الله عنه - كثير الصمت قليل الكلام.
6 - استشارة العلماء الربانيين: فقد كان - رضي الله عنه - يستشير علماء الصحابة كعلي، وطلحة، والزبير، ومحمد بن مسلمة، وابن عمر، وعبد الله بن سلام رضي الله عنهم جميعا، فالعلماء هم صمام الأمان، والملجأ في الخطوب المدلهمة والفتن المظلمة؛ لأنهم أبصر الناس بحالها، وأعرفهم بمآلها، فمن التجأ إليهم وجد الفهم السليم والنظر الصحيح، والموقف الشرعي الواضح (4).
_________
(1) تاريخ الطبري (5/ 349).
(2) المصدر نفسه (5/ 343).
(3) البداية والنهاية (7/ 184)
(4) أحداث وأحاديث فتنة الهرج، ص728.(1/368)
7 - الاسترشاد بأحاديث رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الفتن: إن منهج عثمان - رضي الله عنه - أثناء الفتنة ومسلكه مع المتمردين الذين خرجوا عليه لم تفرضه عليه مجريات الأحداث ولا ضغط الواقع؛ بل كان منهجا نابعا من مشكاة النبوة؛ حيث أمره رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالصبر والاحتساب وعدم القتال حتى يقضي الله أمرا كان مفعولا، وقد وفَّى ذو النورين - رضي الله عنه - بوعده وعهده لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - طوال أيام خلافته حتى خر شهيدا مضرجًا بدمائه الطاهرة الزكية (1).
وقد قال محب الدين الخطيب: الذي يدل عليه مجموع الأخبار عن موقف عثمان من أمر الدفاع عنه أو الاستسلام للأقدار، هو أنه كان يكره الفتنة، ويتقي الله في دماء المسلمين، إلا أنه صار في آخر الأمر يود لو كانت لديه قوة راجحة يهابها البغاة، فيرتدعون عن بغيهم، بلا حاجة إلى استعمال السلاح للوصول إلى هذه النتيجة، وقبل أن تبلغ الأمور مبلغها عرض عليه معاوية أن يرسل إليه قوة من جند الشام تكون رهن إشارته فأبى أن يضيق على أهل دار الهجرة بجند يساكنهم، وكان لا يظن أن الجرأة تبلغ بفريق من إخوانه المسلمين إلى أن يتكالبوا على دم أول مهاجر إلى الله في سبيل دينه، فلما تذاءب عليه البغاة واعتقد أن الدفاع عنه تسفك فيه الدماء جزافا، عزم على كل من له عليهم سمع وطاعة أن يكفوا أيديهم وأسلحتهم عن مزالق العنف. والأخبار بذلك مستفيضة في مصادر أوليائه وشانئيه، على أنه لو ظهرت في الميدان قوة منظمة ذات هيبة تقف في وجوه الثوار، وتضع حدا لغطرستهم وجاهليتهم، لارتاح عثمان لذلك وسر به، مع ما هو مطمئن إليه من أنه لن يموت إلا شهيدا (2).
* * *
_________
(1) استشهاد عثمان ووقعة الجمل، ص116.
(2) العواصم من القواصم، ص138.(1/369)
المبحث الثالث
احتلال أهل الفتنة للمدينة
أولاً: قدوم أهل الفتنة من الأمصار:
اتفق أهل الفتنة فيما بينهم على القيام بخطوتهم العملية النهائية في مهاجمة عثمان في المدينة، وحمله على التنازل عن الخلافة وإلا يقتل، وقرروا أن يأتوا من مراكزهم الثلاثة: مصر والكوفة والبصرة في موسم الحج، وأن يغادروا بلادهم مع الحجاج، وأن يكونوا في صورة الحجاج، وأن يعلنوا للآخرين أنهم خارجون للحج، فإذا وصلوا المدينة، تركوا الحجاج يذهبون إلى مكة لأداء مناسك الحج، واستغلوا فراغ المدينة من معظم أهلها -المشغولين بالحج- وقاموا بمحاصرة عثمان تمهيدا لخلعه أو قتله (1). وفي شوال سنة خمس وثلاثين كان أهل الفتنة على مشارف المدينة (2) , فقد خرج المتمردون من مصر في أربع فرق لكل فرقة أمير، ولهؤلاء الأمراء أمير ومعهم شيطانهم عبد الله بن سبأ وأمراء الفرق الأربعة، هم: عبد الرحمن بن عديس البلوي، وكنانة بن بشير التجيبي، وسودان بن حمران السكوني، وقتيرة بن فلان السكوني، وأمير هؤلاء الأمراء هو الغافقي بن حرب العكي، وكان عدد الفرق الأربعة ألف رجل. وخرج المتمردون من الكوفة ألف رجل، في أربع فرق، وأمراء فرقهم هم: زيد بن صوحان العبدي، والأشتر النخعي، وزياد بن النضر الحارثي، وعبد الله بن الأصم، وأمير متمردي الكوفة هو عمرو بن الأصم. وخرج متمردو البصرة ألف رجل، في أربع فرق، وأمراء فرقهم، هم: حكيم بن جبلة العبدي، وذريح بن عباد، وبشر بن شريح القيسي، وابن المحرش ابن عبد الحنقي، وأمير متمردي البصرة هو حرقوص بن زهير السعدي. وكان عبد الله بن سبأ يسير مع هؤلاء مزهوا مسرورا بنجاح خطته اليهودية الشيطانية، وكان أهل الفتنة من مصر يريدون علي بن أبي طالب خليفة، وكان أهل الفتنة من الكوفة يريدون الزبير بن العوام خليفة، وكان أهل الفتنة من البصرة يريدون طلحة بن عبيد الله (3).
وهذا العمل منهم كان بهدف الإيقاع بين الصحابة رضوان الله عليهم،
_________
(1) الخلفاء الراشدون للخالدي، ص159.
(2) الخلفاء الراشدون للخالدي، ص159.
(3) تاريخ الطبري (5/ 357).(1/370)
وهو ما ذهب إليه الآجري حيث قال: وقد برأ الله -عز وجل- علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - وطلحة والزبير رضي الله عنهم من هذه الفرق، وإنما أظهروا ليموهوا على الناس وليوقعوا بين الصحابة، وقد أعاذ الله الكريم الصحابة من ذلك (1).
وبلغ خبر قدومهم عثمان - رضي الله عنه - قبل وصولهم، وكان في قرية خارج المدينة فلما سمعوا بوجوده فيها، اتجهوا إليه فاستقبلهم فيها، ولم تصرح لنا الروايات باسم هذه القرية، ويحدد المدائني تاريخ قدومهم بليلة الأربعاء هلال ذي القعدة (2) , وكان أول من وصل المصريين، فقالوا لعثمان: ادع بالمصحف فدعا به، فقالوا: افتح السابعة، وكانوا يسمون سورة يونس بالسابعة، فقرأ حتى أتى هذه الآية: {قُلْ أَرَأَيْتُم مَّا أَنْزَلَ اللهُ لَكُم مِّن رِّزْقٍ فَجَعَلْتُم مِّنْهُ حَرَامًا وَحَلاَلاً قُلْ آللهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللهِ تَفْتَرُونَ} [يونس: 59].
فقالوا له: قف أرأيت ما حميت من الحمى؟ الله أذن لك أم على الله تفتري؟ فقال: امضه نزلت في كذا وكذا، فأما الحمى فإن عمر حماه قبلي لإبل الصدقة، فلما وليت زادت إبل الصدقة فزدت في الحمى لما زاد من إبل الصدقة. امضه، قال: فجعلوا يأخذونه بالآية، فيقول: امضه نزلت في كذا فما يزيدون، فأخذوا ميثاقه، وكتبوا عليه شرطا، وأخذ عليهم ألا يشقوا عصا، ولا يفارقوا جماعة ما أقام لهم شرطهم، ثم رجعوا راضين (3).
* علي بن أبي طالب يرسله عثمان للمفاوضة مع أهل الفتنة من الأمصار:
ونزل القوم في ذي المروة، قبل مقتله بما يقارب شهرا ونصفا، فأرسل عثمان إليهم عليا - رضي الله عنه - ورجلا آخر لم تسمه الروايات، والتقى بهم علي - رضي الله عنه - فقال لهم: تعطون كتاب الله وتعتبون من كل ما سخطتم، فوافقوا على ذلك (4). وفي رواية أنهم شادوه، وشادهم مرتين أو ثلاثا، ثم قالوا: ابن عم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ورسول أمير المؤمنين يعرض عليكم كتاب الله فقبلوا (5)، اصطلحوا على خمس: على أن المنفى يقلب، والمحروم يعطى، ويوفر الفيء، ويعدل في القسم، ويستعمل ذو الأمانة والقوة،
_________
(1) استشهاد عثمان ووقعة الجمل، خالد الغيث، ص148.
(2) فتنة مقتل عثمان، د. محمد الغبان (1/ 127).
(3) المصدر نفسه (1/ 128).
(4) تاريخ دمشق، ترجمة عثمان، ص328, تاريخ خليفة، ص169، 170.
(5) فتنة مقتل عثمان (1/ 129).(1/371)
وكتبوا ذلك في كتاب، وأن يرد ابن عامر على البصرة، وأن يبقى أبو موسى على الكوفة (1).
وهكذا اصطلح عثمان - رضي الله عنه - مع كل وفد على حدة ثم انصرفت الوفود إلى ديارها (2).
* الكتاب المزعوم بقتل وفد أهل مصر:
وبعد هذا الصلح وعودة أهل الأمصار جميعا راضين تبين لمشعلي الفتنة أن خطتهم قد فشلت، وأن أهدافهم الدنيئة لم تتحقق، لذا خططوا تخطيطا آخر يذكي الفتنة ويحييها يقتضي تدمير ما جرى من صلح بين أهل الأمصار وعثمان - رضي الله عنه -، وبرز ذلك فيما يأتي: في أثناء طريق عودة أهل مصر، رأوا راكبا على جمل يتعرض لهم، ويفارقهم -يُظهر أنه هارب منهم- فكأنه يقول: خذوني، فقبضوا عليه، وقالوا له: ما لك؟ فقال: أنا رسول أمير المؤمنين إلى عامله بمصر، ففتشوه فإذا هم بالكتاب على لسان عثمان - رضي الله عنه - وعليه خاتمه إلى عامله، ففتحوا الكتاب فإذا فيه أمر بصلبهم أو قتلهم، أو تقطيع أيديهم وأرجلهم، فرجعوا إلى المدينة حتى وصلوها (3). ونفى عثمان - رضي الله عنه - أن يكون كتب هذا الكتاب، وقال لهم: إنهما اثنتان: أن تقيموا رجلين من المسلمين أو يمين بالله الذي لا إله إلا هو ما كتبت ولا أمللت، ولا علمت، وقد يكتب الكتاب على لسان الرجل وينقش الخاتم، فلم يصدقوه (4).
وهذا الكتاب الذي زعم هؤلاء المتمردون البغاة المنحرفون أنه من عثمان، وعليه خاتمه يحمله غلامه على واحد من إبل الصدقة إلى عامله بمصر ابن أبي السرح، يأمر فيه بقتل هؤلاء الخارجين هو كتاب مزور مكذوب على لسان عثمان، وذلك لعدة أمور:
1 - إن حامل الكتاب المزور قد تعرض لهؤلاء المصريين ثم فارقهم، وكرر ذلك مرارا، وهو لم يفعل ذلك إلا ليلفت أنظارهم إليه، ويثير شكوكهم فيه، وكأنه يقول لهم: معي شيء هام بشأنكم. وإلا فلو كان من عثمان لخافهم حامل الكتاب المزعوم، ولأبعد عنهم, وأسرع إلى والي مصر ليضع بين يديه الأمر فينفذه.
_________
(1) فتنة مقتل عثمان، (1/ 129).
(2) فتنة مقتل عثمان (1/ 129).
(3) تاريخ الطبري (5/ 379).
(4) فتنة مقتل عثمان (5/ 132)، البداية والنهاية (7/ 191).(1/372)
2 - كيف علم العراقيون بالأمر وقد اتجهوا إلى بلادهم، وفصلتهم عن المصريين -الذين أمسكوا بالكتاب المزعوم- مسافة شاسعة؛ فالعراقيون في الشرق والمصريون في الغرب، ومع ذلك عادوا جميعا في آن واحد كأنما كانوا على ميعاد؟ لا يعقل هذا إلا إذا كان الذين زوروا الكتاب واستأجروا راكبا ليحمله ويمثل الدور في (البويب) أمام المصريين، قد استأجروا راكبا آخر انطلق إلى العراقيين ليخبرهم بأن المصريين قد اكتشفوا كتابا بعث به عثمان لقتل المنحرفين المصريين، وهذا ما احتج به علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - فقد قال: كيف علمتم يا أهل الكوفة ويا أهل البصرة بما لقي أهل مصر، وقد سرتم مراحل ثم طويتم نحونا (1). بل إن عليًّا يجزم: هذا والله أمر أبرم بالمدينة (2).
3 - كيف يكتب عثمان إلى ابن أبي السرح بقتل هؤلاء وابن أبي السرح كان عقب خروج المتمردين من مصر متجهين إلى المدينة كتب إلى الخليفة يستأذنه بالقدوم عليه، وقد تغلب على مصر محمد بن أبي حذيفة، وفعلا خرج ابن أبي السرح من مصر إلى العريش وفلسطين فالعقبة، فكيف يكتب له عثمان بقتلهم وعنده كتابه الذي يستأذنه به منه بالقدوم عليه؟
4 - إن عثمان - رضي الله عنه - قد نهى عن قتل المتمردين عندما حاصروه وأبى على الصحابة أن يدافعوا عنه، ولم يأمر بقتال الخارجين دفاعا عن نفسه، كما سيأتي تفصيله إن شاء الله، فكيف يكتب مثل هذا الكتاب المزور وقد خرجوا عنه من المدينة مظهرين التوبة والإنابة.
5 - تخلف حُكيم بن جبلة والأشتر النخعي -بعد خروج المتمردين- في المدينة يشير إشارة واضحة إلى أنهما هما اللذان افتعلا الكتاب، إذ لم يكن لهما أي عمل بالمدينة ليتخلفا فيها، وما مكثا إلا لمثل هذا الغرض، فهما صاحبا المصلحة في ذلك (3). وربما كان ذلك بتوجيه من عبد الله بن سبأ, ولم يكن لعثمان - رضي الله عنه - في ذلك أية مصلحة، وكذلك ليس لمروان بن الحكم أية مصلحة، والذين يتهمون مروان في هذا إنما ينسبون إلى الخليفة الغفلة عن مهامه، وأن في ديوان الخلافة من يجري الأمور ويقضي بها دون علمه، وبذلك يبرئون ساحة أولئك
_________
(1) تاريخ الطبري (5/ 359).
(2) المصدر نفسه (5/ 359).
(3) عثمان بن عفان .. الخليفة الشاكر الصابر، ص277.(1/373)
المجرمين الناقمين، الغادرين، ثم لو أن مروان زور الكتاب لكان أوصى حامل ذلك الكتاب أن يبتعد عن أولئك المنحرفين، ولا يتعرض لهم في الطريق حتى يأخذوه وإلا لكان متآمرا معهم على عثمان، وهذا محال.
6 - إن هذا الكتاب المشئوم ليس أول كتاب يزوره هؤلاء المجرمون، بل زوروا كتبا على لسان أمهات المؤمنين، وكذلك على لسان علي وطلحة والزبير، فهذه عائشة -رضي الله عنها- تُتهم بأنها كتبت إلى الناس تأمرهم بالخروج على عثمان فتنفي وتقول: لا والذي آمن به المؤمنون, وكفر به الكافرون، ما كتبت لهم سوداء في بيضاء حتى جلست مجلسي هذا (1).
ويعقب الأعمش فيقول: فكانوا يرون أنه كتب على لسانها (2). ويتهم الوافدون عليا بأنه كتب إليهم أن يقدموا عليه بالمدينة، فينكر ذلك عليهم، ويقسم: والله ما كتبت إليكم كتابا (3). كما ينسب إلى الصحابة بكتابة الكتب إلى أهل الأمصار يأمرونهم بالقدوم إليهم، فدين محمد قد فسد وترك، والجهاد في المدينة خير من الرباط في الثغور البعيدة (4). ويعلق ابن كثير على هذا الخبر قائلا: وهذا كذب على الصحابة، وإنما كتبت كتب مزورة عليهم، فقد كتب من جهة علي وطلحة والزبير إلى الخوارج -قتلة عثمان- كتبٌ مزورة عليهم أنكروها، وكذلك زور هذا الكتاب على عثمان أيضا، فإنه لم يأمر به، ولم يعلم به (5). ويؤكد كلام ابن كثير ما رواه الطبري وخليفة من استنكار كبار الصحابة -علي وعائشة والزبير- أنفسهم لهذه الكتب في أصح الروايات (6). إن الأيدي المجرمة التي زورت الرسائل الكاذبة على لسان أولئك الصحابة هي نفسها التي أوقدت نار الفتن من أولها إلى آخرها، ورتبت ذلك الفساد العريض، وهي التي زورت وروجت على عثمان تلك الأباطيل، وأنه فعل وفعل، ولقنتها للناس، حتى قبلها الرعاع، ثم زورت على لسان عثمان ذلك الكتاب ليذهب عثمان ضحية إلى ربه شهيدا سعيدا.
ولم يكن عثمان الشهيد هو المجني عليه وحده في هذه المؤامرة السبئية اليهودية، بل الإسلام نفسه كان مجنيا عليه قبل ذلك، ثم التاريخ المشوه
_________
(1) تحقيق مواقف الصحابة، (1/ 334).
(2) تاريخ خليفة بن خياط، ص169.
(3) تحقيق مواقف الصحابة، (1/ 335).
(4) تحقيق مواقف الصحابة، (1/ 335).
(5) البداية والنهاية (7/ 175)
(6) تحقيق مواقف الصحابة (1/ 335).(1/374)
المحرف والأجيال الإسلامية التي تلقت تاريخها مشوها هي كذلك ممن جنى عليهم الخبيث اليهودي، وأعوانه من أصحاب المطامع والشهوات والحقد الدفين، أما آن للأجيال الإسلامية أن تعرف تاريخها الحق، وسير رجالاتها العظام؟ بل ألم يأن لمن يكتب في هذا العصر من المسلمين أن يخاف الله ولا يتجرأ على تجريح الأبرياء، قبل أن يحقق ويدقق حتى لا يسقط كما سقط غيره؟! (1).
ثانيًا: بدء الحصار ورأي عثمان في الصلاة خلف أئمة الفتنة:
لم تفصِّل الروايات الصحيحة كيفية بدء الحصار ووقوعه، ولعل الأحداث التي سبقته تلقي شيئا من الضوء على كيفية بدئه، فبينما كان عثمان - رضي الله عنه - يخطب الناس ذات يوم إذا برجل -يقال له أعين (2) - يقاطعه ويقول له: يا نعثل (3) , إنك قد بدلت، فقال عثمان - رضي الله عنه -: من هذا؟ فقالوا: أعين، قال عثمان: بل أنت أيها العبد، فوثب الناس إلى أعين، وجعل رجل من بني ليث يزعهم عنه حتى أدخله الدار (4). وكان رجوع المتمردين الثاني، وقبل اشتداد الحصار كان عثمان - رضي الله عنه - يتمكن من الخروج للصلاة ودخول من شاء إليه، ثم مُنع من الخروج من الدار حتى إلى صلاة الفريضة (5)، فكان يصلي بالناس رجل من المحاصِرين من أئمة الفتنة، حتى إن عبيد الله بن عدي بن الخيار تحرج من الصلاة خلفه، فاستشار عثمان في ذلك، فأشار عليه بأن يصلي خلفه، وقال له: الصلاة أحسن ما يعمل الناس، فإذا أحسن الناس فأحسن معهم، وإذا أساءوا فاجتنب إساءتهم (6). وفي بعض الروايات الضعيفة أن الذي كان يصلي بالناس هو أميرهم الغافقي (7). ولا صحة لما روى الواقدي من أن عليًّا - رضي الله عنه - أمر أبا أيوب الأنصاري أن يصلي بالناس فصلى بهم أول الحصر، ثم صلى علي - رضي الله عنه - بهم العيد وما بعده (8).
وإضافة إلى شدة ضعف إسناد هذه الرواية، فلو كان الذي
_________
(1) عثمان بن عفان .. الخليفة الشاكر الصابر، ص228، 229.
(2) أعين بن ضبعية بن ناجية بن غفال التميمي الحنظلي الذرمي.
(3) هو لقب أطلقه الخارجون على عثمان - رضي الله عنه -، وهذا اللقب أطلق من باب التنقيص.
(4) فتنة مقتل عثمان (1/ 143)، تاريخ دمشق ترجمة عثمان، ص247، إسناده حسن.
(5) تاريخ دمشق، ترجمة عثمان، ص341، 342، إسناده حسن.
(6) البخاري، كتاب الصلاة، رقم (192).
(7) فتنة مقتل عثمان، (1/ 145)
(8) تاريخ الطبري (5/ 444).(1/375)
يصلي بالناس هو علي، أو أبو أيوب -رضي الله عنهما- لما تحرج عبيد الله بن عدي بن الخيار من الصلاة خلفهما (1).
ثالثًا: المفاوضات بين عثمان ومحاصريه:
وبعد أن تم الحصار، وأحاط الخارجون على عثمان - رضي الله عنه - بالدار طلبوا منه خلع نفسه أو يقتلوه (2) , فقد رفض عثمان - رضي الله عنه - خلع نفسه، وقال: لا أخلع سربالا سربلنيه الله (3). يشير إلى ما أوصاه به رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بينما كان قلة من الصحابة -رضوان الله عليهم- يرون خلاف ما ذهب إليه, وأشار عليه بعضهم بأن يخلع نفسه ليعصم دمه، ومن هؤلاء المغيرة بن الأخنس - رضي الله عنه -، لكنه رفض ذلك (4).
1 - ابن عمر يحث عثمان على عدم التنازل عن منصب الخلافة:
دخل ابن عمر على عثمان -رضي الله عنهما- أثناء حصاره، فقال له عثمان - رضي الله عنه -: انظر إلى ما يقول هؤلاء، يقولون: اخلعها ولا تقتل نفسك، فقال ابن عمر رضي الله عنهما: إذا خلعتها أمخلد أنت في الدنيا؟ فقال عثمان - رضي الله عنه -: لا، قال: فإن لم تخلعها هل يزيدون على أن يقتلوك؟ قال عثمان - رضي الله عنه -: لا، قال: فهل يملكون لك جنة أو نارًا؟ قال: لا، قال: فلا أرى لك أن تخلع قميصا قمَّصكه الله فتكون سنة كلما كره قوم خليفتهم أو إمامهم قتلوه (5).
رضي الله عن عبد الله بن عمر، ما كان أبعد نظره، إنه لا يريد أن يسن عثمان سنة سيئة للخلفاء، وحاشا لعثمان أن يفعل، فلو تنازل عثمان لهؤلاء الخوارج السبئيين وخلع نفسه، لصار الخلفاء ألعوبة وملهاة بأيدي الطامعين أو المغرضين، وبذلك تهتز صورة الخليفة، وتزول هيبته عند الناس، ولقد سن عثمان سنة حسنة لمن بعده بمشورة ابن عمر وغيره من الصحابة رضوان الله عليهم؛ حيث صبر واحتسب فلم يتنازل عن الخلافة ولم يسفك دماء المسلمين (6).
_________
(1) فتنة مقتل عثمان (1/ 145).
(2) الطبقات لابن سعد (3/ 66)، تاريخ خليفة، ص171.
(3) التمهيد، ص46، 47.
(4) فتنة مقتل عثمان (1/ 147).
(5) فضائل الصحابة (1/ 473)، إسناده صحيح.
(6) الخلفاء الراشدون للخالدي، ص179.(1/376)
إن الاستجابة لمطالب المتمردين، وهم فئة قليلة من الأمة ليسوا من أهل الحل والعقد، ولا من رجالات الإسلام وفقهاء الشريعة، ستكون لها آثار خطيرة على مسيرة الأمة، وهيبة الخلافة وعلاقة الراعي بالرعية، وكان ثمن دفع هذه الآثار السيئة أن دفع الخليفة حياته، وهو يعلم بمصيره ويستسلم له, وهو أمر ثقيل على النفس، ولكنه قدم مصالح الأمة على مصلحته الشخصية، مما يكشف عن قوة وعزيمة، وشجاعة ومضاء، ويرد به على تلك التهم التي وجهت إليه من ضعف في هذه الصفات، فإنه - رضي الله عنه - كان قادرا - بإذن الله - على كبح الفتنة، ولكنه قدر حدوث مفاسد تغلب على مصلحة كبحها، فأعرض عن ذلك درءا لها، وبذلك يعلم خطأ العقاد عندما قال بأن قتل عثمان لا يوصف بأكثر من أنه (مشاغبة دهماء) لم تجد من يكبحها (1). فإن في ذلك غمزا في شخصية وشجاعة عثمان - رضي الله عنه -، وهي حقا فتنة دهماء، ولكن عدم كبحها يعد منقبة لعثمان - رضي الله عنه -، لما فيه من تضحية في سبيل الله رجاء تحصيل مصلحة للأمة، وعملا بوصية رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (2).
2 - توعد المحاصرين له بالقتل:
وبينما كان عثمان - رضي الله عنه - في داره، والقوم أمام الدار محاصروها دخل ذات يوم مدخل الدار، فسمع توعد المحاصرين له بالقتل، فخرج من المدخل ودخل على من معه في الدار ولونه ممتقع، فقال: إنهم ليتوعدونني بالقتل آنفا، فقالوا له: يكفيكم الله يا أمير المؤمنين، فقال: ولِمَ يقتلونني وقد سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «لا يحل دم امرئ مسلم إلا في إحدى ثلاث: رجل كفر بعد إيمانه، أو زنى بعد إحصانه، أو قتل نفسا بغير نفس»؟ فوالله ما زنيت في جاهلية ولا في إسلام قط، ولا تمنيت أن لي بديني بدلا منذ هداني الله، ولا قتلت نفسا، ففيم يقتلونني؟! (3) ثم أشرف على المحاصرين وحاول تهدئة ثورتهم عن خروجهم على إمامهم، مضمنا كلامه الرد على ما عابوه به، وكشف الحقائق التي لبَّسها القوم، عسى أن يفيق المغرور بهم ويعودوا إلى رشدهم، فطلب من المحاصرين أن يخرجوا له رجلا يكلمه، فأخرجوا له شابا يقال له: صعصعة بن صوحان، فطلب عثمان - رضي الله عنه - أن يبين له ما نقموه عليه (4).
_________
(1) ذو النورين عثمان بن عفان، ص122.
(2) فتنة مقتل عثمان (1/ 149).
(3) المسند (1/ 63)، وقال أحمد شاكر (452): إسناده صحيح.
(4) فتنة مقتل عثمان (1/ 150).(1/377)
3 - إقامة عثمان الحجة على زيف استدلال صعصعة:
قال صعصعة: أخرجنا من ديارنا بغير حق إلا أن قلنا ربنا الله، فقال له عثمان - رضي الله عنه -:
اتل -أي استدل بالقرآن- فقرأ: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللهَ عَلَى نَصْرِهِمْ
لَقَدِيرٌ} [الحج: 39].
فقال عثمان: ليست لك، ولا لأصحابك، ولكنها لي ولأصحابي، فقرأ عثمان الآية التي استدل بها صعصعة وما بعدها، مما يفسرها ويبين زيف استدلال صعصعة بها فتلا: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ - الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِم بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللهُ وَلَوْلاَ دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسمُ اللهِ كَثِيرًا وَلَيَنصُرَنَّ اللهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ - الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاَةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَللهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ} [الحج: 39 - 41]. فأفهم عثمان - رضي الله عنه - الناس الآيات فهما صحيحا كما نزلت، مبينا سبب نزولها وفيمن نزلت، وعلى ما تدل؛ لئلا يلبس عليهم من قرأ القرآن، وهو لا يعرف معناه ويستدل به على ما يضاد مراده (1). كما أن نفي عثمان لمن نفاه إنما هو عمل بالآية التي تلي الآية التي استدل بها صعصعة، فإنها تأمر من مكنه الله في الأرض أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، وعثمان خليفة، ونفيهم أمر بالمعروف ونهي عن المنكر، لما قاموا به من تعدٍّ على بعض المسلمين، ومن محاولات لإثارة الفتنة (2).
4 - تذكير عثمان - رضي الله عنه - الناس بفضائله:
وبعد أن رد عثمان - رضي الله عنه - على هؤلاء ذكَّر الناس بمكانته وببعض فضائله، مناشدا من يعلمها أو سمعها من رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ليبينها للناس، فقد قال: أنشد الله من شهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوم حراء إذ اهتز الجبل فركله بقدمه ثم قال: اسكن حراء، ليس عليك إلا نبي أو صدِّيق أو شهيد وأنا معه. فانتشد له رجال، ثم قال: أنشد الله من شهد رسول الله يوم بيعة الرضوان إذ بعثني إلى المشركين إلى أهل مكة فقال: هذه يدي وهذه يد عثمان، فبايع لي، فانتشد له رجال، ثم قال: أنشد الله من شهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
_________
(1) فتنة مقتل عثمان (1/ 151).
(2) المصدر نفسه (1/ 152).(1/378)
قال: من يوسع لنا البيت في المسجد ببيت له في الجنة، فابتعته من مالي فوسعت به المسجد، فانتشد له رجال، ثم قال: أنشد الله من شهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوم جيش العسرة قال: من ينفق اليوم نفقة متقبلة؟ فجهزت نصف الجيش من مالي، فانتشد له رجال، ثم قال: أنشد الله من شهد رومة يباع ماؤها ابن السبيل فابتعتها من مالي فأبحتها ابن السبيل، قال: فانتشد له رجال (1).
وعن أبي ثور الفهمي يقول: قدمت على عثمان، فبينا أنا عنده فخرجت فإذا بوفد أهل مصر قد رجعوا، فدخلت على عثمان فأعلمته، قال: فكيف رأيتهم؟ فقلت: رأيت في وجوههم الشر، وعليهم ابن عديس البلوي، فصعد ابن عديس منبر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فصلى بهم الجمعة، وتنقص عثمان في خطبته، فدخلت على عثمان فأخبرته بما قال فيهم، فقال: كذب والله ابن عديس، ولولا ما ذكر ما ذكرت، إني رابع أربعة في الإسلام، ولقد أنكحني رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ابنته، ثم توفيت, فأنكحني ابنته الأخرى، ولا زنيت ولا سرقت في جاهلية ولا إسلام، ولا تغنيت ولا تمنيت منذ أسلمت، ولا مسست فرجي بيميني منذ بايعت بها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ولقد جمعت القرآن على عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - , ولا أتت عليَّ جمعة إلا وأنا أعتق فيها رقبة منذ أسلمت إلا أن لا أجدها في تلك الجمعة، فأجمعها في الجمعة الثانية (2).
ولما رأى عثمان - رضي الله عنه - إصرار المتمردين على قتله حذرهم من ذلك ومن مغبته فاطلع عليهم من كوة (3) وقال لهم: أيها الناس، لا تقتلوني واستعتبوني، فوالله لئن قتلتموني لا تقاتلوا جميعا أبدا، ولا تجاهدوا عدوا أبدا، لتختلفن حتى تصيروا هكذا، وشبك بين أصابعه (4). وفي رواية أنه قال: أيها الناس، لا تقتلوني، فإني والٍ وأخ مسلم، فوالله إن أردت إلا الإصلاح ما استطعت، أصبت أو أخطأت، وإنكم إن تقتلوني لا تصلوا جميعا أبدا، ولا تغزوا جميعا أبدا، ولا يقسم فيئكم بينكم (5). وقال أيضا: فوالله لئن قتلوني لا يحابون بعدي أبدا، ولا يقاتلون بعدي أبدا (6). وقد تحقق ما حذرهم منه؛ فبعد قتله وقع كل ما قاله - رضي الله عنه -، وفي ذلك يقول الحسن البصري:
_________
(1) المسند (1/ 59)، وقال أحمد شاكر (420): إسناده صحيح.
(2) المعرفة والتاريخ (2/ 488)، خلافة عثمان بن عفان للسلمي، ص91.
(3) الكوة: الخرق في الحائط.
(4) الطبقات (3/ 71)، تاريخ ابن خياط، ص171، إسناده صحيح.
(5) الطبقات (3/ 67، 68) فتنة مقتل عثمان (1/ 156).
(6) تاريخ ابن خياط، ص171، فتنة مقتل عثمان، (1/ 157) إسناده حسن.(1/379)
فوالله إن صلى القوم جميعا إن قلوبهم لمختلفة (1).
رابعًا: دفاع الصحابة عن عثمان - رضي الله عنه - ورفضه لذلك:
أرسل عثمان - رضي الله عنه - إلى الصحابة -رضي الله عنهم- يشاورهم في أمر المحاصرين وتوعدهم إياه بالقتل، فكانت مواقفهم كالآتي:
1 - علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -:
فقد أخرج ابن عساكر عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنه - أن عليا أرسل إلى عثمان فقال: إن معي خمسمائة دارع، فأذن لي فأمنعك من القوم، فإنك لم تحدث شيئا يستحل به دمك، فقال: جُزيت خيرا، ما أحب أن يهراق دم في سببي (2).
2 - الزبير بن العوام - رضي الله عنه -:
عن أبي حبيبة (3) قال: بعثني الزبير إلى عثمان وهو محاصر فدخلت عليه في يوم صائف وهو على كرسي، وعنده الحسن بن علي، وأبو هريرة، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن الزبير، فقلت: بعثني إليك الزبير بن العوام وهو يقرئك السلام ويقول لك: إني على طاعتي لم أبدل ولم أنكث، فإن شئت دخلت الدار معك، وكنت رجلا من القوم، وإن شئت أقمت، فإن بني عمرو بن عوف وعدوني أن يصبحوا على بابي، ثم يمضون على ما آمرهم به، فلما سمع -يعني عثمان- الرسالة قال: الله أكبر، الحمد لله الذي عصم أخي، أقرئه السلام، ثم قل له: أحبّ إليَّ، وعسى الله أن يدفع بك عني، فلما قرأ الرسالة أبو هريرة قام فقال: ألا أخبركم ما سمعت أذناي من رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ قالوا: بلى، قال: أشهد لسمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «تكون بعدي فتن وأمور»، فقلنا: فأين المنجى منها يا رسول الله؟ قال: «إلى الأمين وحزبه»، وأشار إلى عثمان بن عفان، فقام الناس فقالوا: قد أمكنتنا البصائر، فأذن لنا في الجهاد؟ فقال: (أعزم على من كانت لي عليه طاعة ألا يقاتل) (4).
_________
(1) فتنة مقتل عثمان (1/ 157).
(2) تاريخ دمشق، ص403.
(3) هو أبو حبيبة مولى الزبير بن العوام، روى عن الزبير، وسمع أبا هريرة وعثمان محصور.
(4) فضائل الصحابة (1/ 511، 512) إسناده صحيح.(1/380)
3 - المغيرة بن شعبة - رضي الله عنه -:
فقد ورد أن المغيرة بن شعبة - رضي الله عنه - دخل عليه وهو محاصر، فقال: إنك إمام العامة، وقد نزل بك ما ترى، وإني أعرض عليك خصالا ثلاثة اختر إحداهن: إما أن تخرج فتقاتلهم، فإن معك عددا وقوة، وأنت على الحق وهم على الباطل، وإما أن تخرق بابا سوى الباب الذي هم عليه، فتقعد على رواحلك فتلحق بمكة، فإنهم لن يستحلوك بها، وإما أن تلحق بالشام فإنهم أهل الشام وفيهم معاوية، فقال عثمان: أما أن أخرج فأقاتل فلن أكون
أول من خلف رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في أمته بسفك الدماء، وأما أن أخرج إلى مكة فإنهم لن يستحلوني, فإني سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «يلحد رجل من قريش بمكة يكون عليه نصف عذاب العالم»، ولن أكون أنا، وأما أن ألحق بالشام فإنهم أهل الشام وفيهم معاوية فلن أفارق دار هجرتي ومجاورة الرسول (1).
4 - عبد الله بن الزبير - رضي الله عنه -:
عزم الصحابة -رضي الله عنهم- على الدفاع عن عثمان، ودخل بعضهم الدار، ولكن عثمان - رضي الله عنه - عزم عليهم بشدة، وشدد عليهم في الكف عن القتال دفاعا عنه، مما حال بين رغبتهم الصادقة في الدفاع عنه وبين تحقيقها، وكان من ضمن أولئك عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما، فقد قال لعثمان - رضي الله عنه -: قاتلهم، فوالله لقد أحل الله لك قتالهم، فقال عثمان: لا والله، لا أقاتلهم أبدا (2).
وفي رواية: يا أمير المؤمنين، إنا معك في الدار عصابة مستبصرة ينصر الله بأقل منها فأذن لنا، فقال عثمان - رضي الله عنه -: أنشد الله رجلا أهراق فيَّ دمه (3)، ثم أمَّره على الدار، وقال: من كانت لي عليه طاعة فليطع عبد الله بن الزبير (4).
5 - كعب بن مالك، وزيد بن ثابت الأنصاريان رضي الله عنهما:
حث كعب بن مالك - رضي الله عنه - الأنصار على نصرة عثمان - رضي الله عنه - وقال لهم: يا معشر الأنصار، كونوا أنصار الله مرتين، فجاءت الأنصار عثمان ووقفوا بابه، ودخل زيد بن ثابت - رضي الله عنه - وقال له: هؤلاء الأنصار بالباب، إن شئت كنا
_________
(1) البداية والنهاية (7/ 211).
(2) طبقات ابن سعد (3/ 70) إسناده صحيح.
(3) المصدر نفسه (3/ 70)، تاريخ ابن خياط، ص173.
(4) طبقات ابن سعد (3/ 70)، إسناده صحيح إلى عبد الله بن الزبير.(1/381)
أنصار الله مرتين (1). فرفض القتال وقال: لا حاجة لي في ذلك، كفوا (2).
6 - الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهما:
وجاء الحسن بن علي رضي الله عنهما، وقال له: اخترط سيفي؟ قال له: لا أبرأ (3) الله إذًا مِنْ دمك، ولكن ثم (4) سيفك، وارجع إلى أبيك (5).
7 - عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما:
ولما رأى الصحابة أن الأمر استفحل، وأن السيل بلغ الزبى (6) عزم بعضهم على الدفاع عنه دون استشارته، فدخل بعضهم الدار مستعدا للقتال، فقد كان ابن عمر معه في الدار، متقلدا سيفه لابسا درعه ليقاتل دفاعا عن عثمان - رضي الله عنه -، ولكن عثمان عزم عليه أن يخرج من الدار خشية أن يتقاتل مع القوم عند دخولهم عليه فيقتل، كما لبسه مرة أخرى (7).
8 - أبو هريرة - رضي الله عنه -:
دخل الدار على عثمان يقول: يا أمير المؤمنين، طاب أمضرب (8)، فقال له: يا أبا هريرة أيسرك أن تقتل الناس جميعا وإياي؟ قال: لا، قال: فإنك والله إن قتلت رجلا واحدا فكأنما قُتِل الناس جميعا، فرجع ولم يقاتل. وفي رواية: أن أبا هريرة كان متقلدا سيفه حتى
نهاه عثمان (9).
_________
(1) طبقات ابن سعد (3/ 70)، فتنة مقتل عثمان (1/ 162).
(2) فتنة مقتل عثمان (1/ 162).
(3) هكذا في الأصل، ولعلها (أبرأ إلى الله).
(4) هكذا في الأصل، والثم هو: إصلاح الشيء وإحكامه، لسان العرب (12/ 79)، ويحتمل أن تكون مصحفة من شم، والشم هو: إعادة السيف إلى غمده.
(5) فتنة مقتل عثمان (1/ 162)، المصنف لابن أبي شيبة (152/ 224).
(6) بلغ الماء الزبى أو الربى، ويروى بلغ السيل الزبى أو الربى، والزبى: جمع زبية الأسد، وهي حفرة تحفر له في مكان مرتفع ليصطاد، فإذا بلغ الماء فهو المجحف. الربى: جمع ربوة، وهذا المثل يضرب في الشر الفظيع، (المستسقى في أمثال العرب) للزمخشري (2/ 14).
(7) فتنة مقتل عثمان (1/ 163).
(8) الميم بدل اللام، فأصلها (الضرب) وهي لغة لبعض أهل اليمن.
(9) تاريخ خليفة بن خياط، ص164.(1/382)
9 - سليط بن سليط:
قال: نهانا عثمان عن قتالهم، ولو أذن لنا لضربناهم حتى نخرجهم من أقطارها (1).
ويقول ابن سيرين: كان مع عثمان في الدار سبعمائة، لو يدعهم لضربوهم إن شاء الله حتى يخرجوهم من أقطارها، منهم: ابن عمر، والحسن بن علي، وعبد الله بن الزبير. ويقول أيضا: لقد قتل عثمان يوم قتل وإن الدار لغاصة، منهم ابن عمر وفيهم الحسن بن علي في عقنه السيف، ولكن عثمان عزم عليهم ألا يقاتلوا (2).
وبذلك يظهر زيف ما اتهم به الصحابة مهاجرين وأنصارا من تخاذل عن نصرة عثمان - رضي الله عنه -، وكل ما روي في ذلك فإنه لا يسلم من علة إن لم تكن عللا قادحة في الإسناد والمتن جميعا (3).
10 - عرض بعض الصحابة على عثمان مساعدته في الخروج إلى مكة:
ولما رأى بعض الصحابة إصرار عثمان - رضي الله عنه - على رفض قتال المحاصرين، وأن المحاصرين مصرون على قتله، لم يجدوا حيلة لحمايته سوى أن يعرضوا عليه مساعدته في الخروج إلى مكة هربا من المحاصرين، فقد روى أن عبد الله بن الزبير، والمغيرة بن شعبة، وأسامة بن زيد، عرضوا عليه ذلك، وكان عرضهم متفرقا، فقد عرض كل واحد منهم عليه ذلك على حدة، وعثمان - رضي الله عنه - يرفض كل هذه العروض (4).
* الأسباب التي دعت عثمان إلى منع الصحابة من القتال:
يظهر للباحثين من خلال روايات الفتنة أن هناك أسبابا خمسة هي:
1 - العمل بوصية رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - التي سارَّه بها، وبيَّنها عثمان - رضي الله عنه - يوم الدار، وأنها عهدٌ عهد به إليه، وأنه صابر نفسه عليه (5).
2 - ما جاء في قوله: لن أكون أول من خلف رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في أمته بسفك الدماء؛ أي كره أن يكون أول من خلف رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في أمته بسفك دماء المسلمين (6).
_________
(1) فتنة مقتل عثمان (1/ 165).
(2) تاريخ دمشق لابن عساكر، ترجمة عثمان، ص395.
(3) فتنة مقتل عثمان (1/ 166).
(4) فتنة مقتل عثمان (1/ 166).
(5) فضائل الصحابة (1/ 605)، إسناده صحيح.
(6) فتنة مقتل عثمان (1/ 167)، المسند (1/ 396) أحمد شاكر.(1/383)
3 - علمه بأن البغاة لا يريدون غيره، فكره أن يتوقى بالمؤمنين، وأحب أن
يقيهم بنفسه (1).
4 - علمه بأن هذه الفتنة فيها قتله، وذلك فيما أخبره بها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عند تبشيره إياه بالجنة على بلوى تصيبه، وأنه سيقتل مصطبرا بالحق, معطيه في فتنة، والدلالات تدل على أن أوانها قد حان، وأكد ذلك تلك الرؤيا التي رآها ليلة قتله، فقد رأى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقال له: «أفطر عندنا القابلة»، ففهم - رضي الله عنه - أن موعد الاستشهاد قد قرب.
5 - العمل بمشورة ابن سلام - رضي الله عنه - له؛ إذ قال له: الكف الكف، فإنه أبلغ لك
في الحجة (2).
وتحقق إخبار النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بأن عثمان - رضي الله عنه - سوف يقتل، وذلك فيما رواه عبد الله بن حوالة (3) - رضي الله عنه - عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من نجا من ثلاث فقد نجا -ثلاث مرات-: موتي، والدجال، وقتل خليفة مصطبرا بالحق معطيه» (4).
وفيما تقدم يتبين هدوؤه في التفكير - رضي الله عنه -، وأن شدة البلوى لم تحل بينه وبين ذلك التفكير الصحيح والرأي السليم، فقد تضافرت الأسباب لتحديد هذا الموقف المسالم في قتال الخارجين عليه، ولا شك أنه - رضي الله عنه - كان على الحق في مواقفه التي اتخذها لما صح عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه أشار إلى وقوع هذه الفتنة، وشهد لعثمان وأصحابه أنهم على الحق فيها (5).
قال ابن تيمية -رحمه الله-: ومن المعلوم بالتواتر أن عثمان كان من أكف الناس عن الدماء، وأصبر الناس عمن نال من عرضه، وعلى من سعى في دمه فحاصروه وسعوا في قتله، وقد عرف إرادتهم لقتله، وقد جاء المسلمون ينصرونه ويشيرون عليه بقتالهم، وهو يأمر الناس بالكف عن القتال ويأمر من يطيعه أن لا يقاتلهم ... وقيل له: تذهب
_________
(1) فتنة مقتل عثمان (1/ 167)، إسناد الرواية فيه ضعف.
(2) الطبقات (3/ 71) إسناده حسن.
(3) فتنة مقتل عثمان (1/ 168)، إسناده حسن، أو صحيح.
(4) مسند أحمد (4/ 106)، رقم (16973)، ط/ الرسالة.
(5) فتنة مقتل عثمان (1/ 168) انظر الأحاديث الصحيحة التي ذكرتها في فضائله وأخبار النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن قتله في هذا الكتاب.(1/384)
إلى مكة؟ فقال: لا أكون ممن ألحد في الحرم، فقيل له: تذهب إلى الشام؟ فقال: لا أفارق دار هجرتي، فقيل له: فقاتلهم، فقال: لا أكون أول من خلف محمدا في أمته بالسيف، فكان صبر عثمان حتى قتل من أعظم فضائله عند المسلمين (1).
خامسًا: موقف أمهات المؤمنين وبعض الصحابيات:
1 - أم حبيبة بنت أبي سفيان رضي الله عنهما:
كان موقف السيدة أم حبيبة أم المؤمنين من المواقف البالغة الخطر في هذه الأحداث، وهو موقف كان من الخطورة بحيث كادت -رضي الله عنها- أن تقتل فيه، ذلك أنه
لما حوصر عثمان - رضي الله عنه - ومنع عنه الماء، سرَّح عثمان ابنا لعمرو بن حزم الأنصاري - من جيران عثمان - إلى علي بأنهم قد منعونا الماء، فإن قدرتم أن ترسلوا إلينا شيئا من
الماء فافعلوا، وإلى طلحة وإلى الزبير وإلى عائشة وأزواج النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فكان أولهم إنجادا له علي وأم حبيبة (2). وكانت أم حبيبة معنية بعثمان، كما قال ابن عساكر، وكان هذا طبيعيا منها؛ حيث النسب الأموي الواحد، جاءت أم حبيبة، فضربوا وجه بغلتها، فقالت: إن وصايا بني أمية إلى هذا الرجل، فأحببت أن ألقاه فأسأله عن ذلك كيلا تهلك أموال أيتام وأرامل، قالوا: كاذبة، وأهووا لها وقطعوا حبل البغلة بالسيف فندت (3) بأم حبيبة فتلقاها الناس وقد مالت راحلتها، فتعلقوا بها، وأخذوها وقد كادت تقتل، فذهبوا بها إلى بيتها (4). ويبدو أنها -رضي الله عنها- أمرت ابن الجراح مولاها أن يلزم عثمان - رضي الله عنه -، فقد حدثت أحداث الدار، وكان ابن الجراح حاضرا (5).
2 - صفية زوجة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:
وما فعلته السيدة أم حبيبة فعلت مثله السيدة صفية رضي الله عنها؛ فلقد روي عن كنانة (6) قال: كنت أقود بصفية لتردَّ عن عثمان، فلقيها الأشتر (7)، فضرب وجه
_________
(1) منهاج السنة (3/ 202، 203).
(2) دور المرأة السياسي، أسماء محمد، ص340.
(3) ند البعير ونحوه ندا، وندودا: نفر وشرد.
(4) تاريخ الطبري (5/ 401)، نقلا عن دور المرأة السياسي، ص340.
(5) تاريخ المدينة (2/ 298).
(6) كناية بن عدي بن ربيعة بن عبد العزى بن عبد شمس بن عبد مناف العبشمي.
(7) دور المرأة السياسي، ص340.(1/385)
بغلتها حتى مالت، فقالت: ذروني لا يفضحني هذا، ثم وضعت خشبا من منزلها إلى منزل عثمان تنقل عليه الطعام والماء (1).
3 - عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها:
ولما حدث ما حدث للسيدة أم حبيبة أعظمه الناس جدا، فخرجت عائشة -رضي الله عنها- من المدينة وهي ممتلئة غيظا على المتمردين، وجاءها مروان بن الحكم، فقال: أم المؤمنين، لو أقمت كان أجدر أن يراقبوا هذا الرجل، فقالت: أتريد أن يصنع بي كما صنع بأم حبيبة، ثم لا أجد من يمنعني، لا والله لا أُعَيَّر (2) , ولا أدري إلام يسلم أمر هؤلاء (3). ورأت -رضي الله عنها- أن خروجها ربما كان معينا في فض هذه الجموع، كما سيتضح من الرواية الآتية بعد، وتجهزت أمهات المؤمنين إلى الحج هربا من الفتنة، على أن خروجهن لم يكن تنزها عن ملابسات الفتنة وحسب، ولم يكن هربا محضا، وإنما كان محاولة منهن لتخليص عثمان - رضي الله عنه - من أيدي هؤلاء المفتونين، الذين كان منهم محمد بن أبي بكر، أخو السيدة عائشة رضي الله عنها، الذي حاولت أن تستتبعه معها إلى الحج فأبى، ولقد دلل على هذه المحاولة منها أن استتباعها له ورفضه كانا لافتين للنظر حتى إن حنظلة الكاتب (4) قد هاله رفض محمد لأن يتبع أم المؤمنين، وقارن بين هذا الرفض وبين متابعته لأهل الأمصار، قائلا: يا محمد، تدعوك أم المؤمنين فلا تتبعها، وتدعوك ذؤبان (5) العرب إلى ما لا يحل فتتبعهم، فأبى، فقالت السيدة عائشة: أما والله لو استطعت أن يحرمهم الله ما يجولون لأفعلن (6). وهذا القول منها بعدما حاولته مع أخيها، دليل على أنها قد بدأت محاولتها لفض الثائرين عن عثمان، ولإثارة الرأي العام عليهم منذ بدأ تفكيرهم في الذهاب إلى مكة، وهذا هو ما أكد عليه الإمام ابن العربي، قال: إنه يروي أن تغيبهم - تغيب أمهات المؤمنين مع عدد من الصحابة - كان قطعا للشغب بين الناس رجاء أن يرجع الناس إلى أمهاتهم، وأمهات المؤمنين، فيرعوا حرمة نبيهم (7)،
_________
(1) سير أعلام النبلاء (2/ 237).
(2) أُعَيَّر: من العار، وقد يبدى هذا التعبير أن الحالة التي وضع فيها الغوغاء السيدة أم حبيبة كانت شديدة الإيلام.
(3) تاريخ الطبري (5/ 401).
(4) حنظلة بن ربيع التميمي، كان يكتب الوحي لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فسمي الكاتب.
(5) تاريخ الطبري، (5/ 401).
(6) تاريخ الطبري، (5/ 401).
(7) العواصم من القواصم، ص156.(1/386)
ويستمعوا إلى كلمتهن التي طالما كانوا يقصدونها في كل الآفاق (1).
أي أن خروجهم كان نوعا من التفريق لهذه الجموع؛ حيث كان معروفا عند الناس التماس رأيهن وفتاواهن، وكن -رضوان الله عليهن- لا يتصورن أن يصل الأمر بهؤلاء الناس إلى قتل الخليفة - رضي الله عنه - (2).
4 - مواقف للصحابيات:
أ- وقد حاولت أسماء بنت عميس نفس المحاولة التي حاولتها أم المؤمنين عائشة، فبعثت إلى ابنيها محمد بن أبي بكر، ومحمد بن جعفر (3) فقالت: إن المصباح يأكل نفسه ويضيء للناس، فلا تأثما في أمر تسوقانه إلى من لا يأثم فيكما، فإن هذا الأمر الذي تحاولون اليوم لغيركم غدا، فاتقوا أن يكون عملكم اليوم حسرة عليكم، فلجَّا وخرجا مغضبين يقولان: لا ننسى ما صنع بنا عثمان، وتقول: ما صنع بكما، ألا ألزمكما الله (4). وقيل الحديث كان بين ليلى بنت أسماء وأخويها (5).
وهي في ذلك تشير إلى أنه لما جاء أهل الأمصار، وكروا راجعين إلى المدينة بعدما كانوا ناظروا عثمان - رضي الله عنه - فناظرهم، وأقام عليهم الحجة، فأظهروا أنهم راجعون إلى بلادهم، ثم ما لبثوا أن عادوا بدعوى أن عثمان - رضي الله عنه - بعث رسلا في قتل أناس كان منهم -حسب دعواهم- محمد بن أبي بكر (6)، ولعل هذا هو ما يشير إليه محمد بن أبي بكر في قوله: لا ننسى ما صنع بنا عثمان، وقد نفى عثمان - رضي الله عنه - نسبة هذا الكتاب إليه وقال: إما أن تقيموا شاهدين عليَّ بذلك وإلا فيميني أني ما كتبت ولا أمرت، وقد يكتب على لسان الرجل ويضرب على خطه وينقش على خاتمه (7).
لقد كانت السيدة أسماء -رضي الله عنها- واعية بما يجري من تدبير خفي لزعزعة
_________
(1) دور المرأة السياسي، ص342.
(2) المصدر نفسه، ص343.
(3) محمد بن جعفر بن أبي طالب، أمه أسماء بنت عميس الخشعمية، ولد بأرض الحبشة، شهد صفين مع علي، وكان مع أخيه محمد بمصر لما قتل.
(4) تاريخ الطبري، (5/ 202).
(5) تاريخ الطبري، (5/ 202).
(6) دور المرأة السياسي، ص343.
(7) العواصم من القواصم، ص120.(1/387)
أحوال المسلمين، وتنحية عثمان - رضي الله عنه - عن الخلافة، وهكذا فإن موقفها -رضي الله عنها- من ابنيها, ووضوح الأمر عندها على هذا النحو الذي جعلها لا تتأثر في مقام الأمومة، ولا تبدو إلا محقة للحق في هذا الموقف الواضح، هذا الموقف لا يستهان به ولا شك، وهو يعد صورة جلية لعدالة هؤلاء الصحابة الكرام (1).
ب- الصعبة بنت الحضرمي:
ولما اشتد حصار عثمان - رضي الله عنه - طلبت الصعبة بنت الحضرمي من ابنها طلحة بن عبيد الله أن يكلم عثمان كي يردعه عن إصراره على إسلامه نفسه دون مدافعة من الصحابة، واستنصار بأهل الأمصار، فقد خرجت الصعبة بنت الحضرمي وقالت لابنها طلحة بن عبيد الله: إن عثمان اشتد حصره، فلو كلمته حتى تردعه (2). والرواية يبدو منها إشفاق الصعبة على عثمان - رضي الله عنه -، كما يبدو منها كذلك عناية أم عبد الله بن رافع بالأمر، ومتابعتها لما يجري من أحداث الفتنة (3)، وهي التي روت عن الصعبة بنت الحضرمي الحادثة (4).
هذا هو الموقف العام لنساء المسلمين، فقد كان موقفا معتدلا وقادرا على النظر السليم في المسألة، رغم الغيوم التي كانت ملتبسة بها، وهو على كل حال كان هذا موقف الصحابة جميعا رضي الله عنهم وأرضاهم (5).
سادسًا: من حج بالناس ذلك العام؟ وهل طلب عثمان من الولاة نصرته؟
1 - من حج بالناس ذلك العام (35 هـ)؟
استدعى عثمان عبد الله بن عباس رضي الله عنهم، وكلفه أن يحج بالناس هذا الموسم، فقال له ابن عباس: دعني أكن معك وبجانبك يا أمير المؤمنين في مواجهة هؤلاء، فوالله إن جهاد هؤلاء الخوارج أحبَّ إليَّ من الحج، قال له: عزمت عليك أن تحج بالمسلمين، فلم يجد ابن عباس أمامه إلا أن يطيع أمير المؤمنين، وكتب عثمان كتابا مع ابن عباس ليقرأ على المسلمين في الحج، بيَّن فيه قصته مع الخوارج عليه، وموقفه منهم، وطلباتهم منه (6).
وهذا نص خطاب عثمان - رضي الله عنه - للمسلمين في موسم الحج عام
_________
(1) دور المرأة السياسي، ص344.
(2) المصدر نفسه، ص345.
(3) المصدر نفسه، ص345.
(4) المصدر نفسه، ص345.
(5) المصدر نفسه، ص345، 346.
(6) الخلفاء الراشدون للخالدي، ص167، 168.(1/388)
35 هـ: بسم الله الرحمن الرحيم، من عبد الله عثمان أمير المؤمنين إلى المؤمنين والمسلمين، سلام عليكم، فإني أحمد الله إليكم الذي لا إله إلا هو، أما بعد، فإني أذكركم بالله -جل وعز- الذي أنعم عليكم وعلمكم الإسلام، وهداكم من الضلالة، وأنقذكم من الكفر، وأراكم البينات، وأوسع عليكم من الرزق ونصركم على العدو، وأسبغ عليكم نعمته، فإن الله -عز وجل- يقول وقوله الحق: {وَآتَاكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} [إبراهيم: 34]، وقال عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُم مُّسْلِمُونَ - وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُمْ مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ - وَلْتَكُن مِّنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ - وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [آل عمران: 102 - 105]، وقال وقوله الحق: {وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُم بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} [المائدة: 7]، وقال وقوله الحق: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءَكُمْ فَاسِقُ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن
تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ - وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِّنَ الأمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ - فَضْلاً مِّنَ اللهِ وَنِعْمَةً وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [الحجرات: 6 - 8]، وقوله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلاً أُولَئِكَ لاَ خَلاَقَ لَهُمْ فِي الآَخِرَةِ وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ اللهُ وَلاَ يَنظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلاَ يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [آل عمران: 77]، وقال وقوله الحق: {فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْرًا لأَنْفُسِكُمْ وَمَن يُّوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [التغابن: 16]، وقال وقوله الحق: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللهِ إِذَا عَاهَدتُّمْ وَلاَ تَنقُضُوا الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ - وَلاَ تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِن بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثًا تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ أَن تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ(1/389)
الْقِيَامَةِ مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ - وَلَوْ شَاءَ اللهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُضِلُّ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ - وَلاَ تَتَّخِذُوا أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِمَا
صَدَدتُّمْ عَن سَبِيلِ اللهِ وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ - وَلاَ تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللهِ ثَمَنًا قَلِيلاً إِنَّمَا عِنْدَ اللهِ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ - مَا عِنْدَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِنْدَ اللهِ بَاقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النحل: 91 - 96]. وقال وقوله الحق: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأمْرِ مِنْكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآَخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} [النساء: 59]. وقال وقوله الحق: {وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لاَ يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور: 55]. وقال وقوله الحق: {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللهَ يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَن نَّكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} [الفتح: 10].
أما بعد، فإن الله -عز وجل- رضي لكم السمع والطاعة والجماعة، وحذركم المعصية والفرقة والاختلاف، ونبأكم ما قد فعله الذين من قبلكم، وتقدم إليكم فيه ليكون له الحجة عليكم، إن عصيتموه فاقبلوا نصيحة الله -عز وجل- واحذروا عذابه، فإنكم لن تجدوا أمة هلكت إلا من بعد أن تختلف، إلا أن يكون لها رأس يجمعها، ومتى ما تفعلوا ذلك لا تقيموا الصلاة جميعا، وسلط عليكم عدوكم، ويستحل بعضكم حرمة بعض، ومتى يفعل ذلك لا يقم لله سبحانه دين، وتكونوا شيئا، وقد قال الله -جل وعز- لرسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [الأنعام: 159] وإني أوصيكم بما أوصاكم الله وأحذركم عذابه، فإن شعيبا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لقومه:
{وَيَا قَوْمِ لاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي أَن يُصِيبَكُم مِّثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِّنْكُم بِبَعِيدٍ - وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ} [هود: 89، 90].
أما بعد، فإن أقواما مما كان يقول في هذا الحديث، أظهروا للناس أنما يدعون إلى كتاب الله -عز وجل- والحق ولا يريدون الدنيا ولا منازعة فيها، فلما عرض عليهم الحق(1/390)
إذ الناس في ذلك شتى؛ منهم آخذ للحق ونازع عنه حين يعطاه، ومنهم تارك للحق ونازل عنه في الأمر يريد أن يبتزه بغير الحق، طال عليهم عمري، وراث (1) عليهم الإمرة, فاستعجلوا القدر، وقد كتبوا إليكم أنهم قد رجعوا بالذي أعطيتهم، ولا أعلم أني تركت من الذي عاهدتهم عليه شيئا، كانوا زعموا أنهم يطلبون الحدود، فقلت: أقيموها على من علمتم تعداها في أحد، أقيموها على من ظلمكم من قريب أو بعيد، قالوا: كتاب الله يتلى، فقلت: فليتله من تلاه غير غال فيه بغير ما أنزل الله في الكتاب، وقالوا: المحروم يرزق، والمال يوفى ليستن فيه السنة الحسنة، ولا يعتدى في الخمس ولا في الصدقة، ويؤمَّر ذو القوة والأمانة، وترد مظالم الناس إلى أهلها، فرضيت بذلك واصطبرت له، ... كتبت إليكم وأصحابي الذين زعموا في الأمر استعجلوا القدر ومنعوا مني الصلاة، وحالوا بيني وبين المسجد، وابتزوا ما قدروا عليه بالمدينة. كتبت إليكم كتابي هذا، وهم يخبرونني إحدى ثلاث: إما يقيدونني بكل رجل أصبته خطأ أو صوابا، غير متروك منه شيء، وإما أعتزل الأمر فيؤمِّرون آخر غيري، وإما يرسلون إلى من أطاعهم من الأجناد وأهل المدينة فيتبرؤون من الذي جعل الله سبحانه عليهم من السمع والطاعة، فقلت لهم: أما إقادتي من نفسي فقد كان من قبلي خلفاء تخطئ وتصيب فلم يُسْتقد (2) من أحد منهم، وقد علمت أنما يريدون نفسي، وأما أن أتبرأ من الإمارة فأن يكلبوني (3)
أحب إليَّ من أن أتبرأ من عمل الله -عز وجل- وخلافته، وأما قولكم: يرسلون إلى الأجناد وأهل المدينة فيتبرؤون من طاعتي فلست عليكم بوكيل, ولم أكن استكرهتهم من قبل على السمع والطاعة، ولكن أتوها طائعين، يبتغون مرضاة الله -عز وجل- وإصلاح ذات البين، ومن يكن منكم يبتغي الدنيا فليس بنائل منها إلا ما كتب الله عز وجل له، ومن يكن إنما يريد وجه الله والدار الآخرة وصلاح الأمة وابتغاء مرضاة الله -عز وجل- والسنة الحسنة التي استن بها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والخليفتان من بعده رضي الله عنهما، فإنما يجزي بذلكم الله وليس بيدي جزاؤكم، ولو أعطيتكم الدنيا كلها لم يكن في ذلك ثمن لدينكم، ولم يغن عنكم شيئا، فاتقوا الله واحتسبوا ما عنده، فمن يرض بالنّكث منكم فإني لا أرضاه له، ولا يرضى الله سبحانه أن تنكثوا عهده، وأما الذي يخيرونني فإنما كله النزع والتأمير، فملكت نفسي ومن معي، ونظرت حكم الله وتغيير
_________
(1) راث: أبطأ.
(2) استقاد الحاكم: سأله أن يقيد القاتل بالقتل.
(3) كلَّبه: ضربه بالكُلاَّب، والكلاب: الحديدة التي على خف الراكب.(1/391)
النعمة من الله سبحانه، وكرهت سنة السوء، وشقاق الأمة وسفك الدماء، فإني أنشدكم بالله وبالإسلام ألا تأخذوا إلا الحق وتعطوه مني, وترك البغي على أهله، وخذوا بيننا بالعدل كما أمركم الله عز وجل، فإني أنشدكم الله سبحانه الذي جعل عليكم العهد والمؤازرة في أمر الله، فإن الله سبحانه قال وقوله الحق: {وَلاَ تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً} [الإسراء: 34] فإن هذه معذرة إلى الله ولعلكم تذكرون.
أما بعد، فإنني لا أبرئ نفسي {وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لأمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [يوسف: 53] وإن عاقبت أقواما فما أبتغي بذلك إلا الخير، وإني أتوب إلى الله -عز وجل- من كل عمل عملته، وأستغفره إنه لا يغفر الذنوب إلا هو، إن رحمة ربي وسعت كل شيء، إنه لا يقنط من رحمة الله إلا القوم الضالون، وإنه يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون، وأنا أسأل الله -عز وجل- أن يغفر لي ولكم، وأن يؤلف قلوب هذه الأمة على الخير، ويُكَرِّه إليها الفسق. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته أيها المؤمنون والمسلمون). قال ابن عباس: فقرأت هذا الكتاب عليهم قبل التروية (1) بمكة بيوم.
2 - هل طلب عثمان - رضي الله عنه - من الولاة نصرته:
يزعم سيف بن عمر في روايته عند الطبري أن عثمان لما حصر كتب إلى عماله على الأمصار يستمدهم، فبعث معاوية حبيب بن مسلمة الفهري على رأس جيش، وكذا فعل عبد الله بن سعد في مصر، فأرسل معاوية بن حديج، وخرج من أهل الكوفة القعقاع بن عمرو على رأس قواته (2). وهذا الزعم لا يتفق مع منهج عثمان في مواجهة الفتنة من إيثار العافية والكف، ولا يتفق مع تيقنه بالقتل، ولا يتفق مع ما لجأ إليه من صرف المدافعين عنه من كبار الصحابة وأبنائهم، بل عبيده ومواليه الذين نهاهم أشد النهي عن القتال، بل جعل العتق نصيب من يكف يده منهم ولا يقاتل كما سوف نرى. ولكن الذي يمكن تصوره هو أنه كما بادر جماعة من الصحابة إلى الدفاع عن عثمان دون أن يطلب منهم ذلك ورغم محاولاته العديدة لصرفهم، فإنه قد بادرت جماعات كثيفة من أجناد المسلمين في الأمصار للدفاع عن الخليفة المظلوم من تلقاء
_________
(1) تاريخ الطبري (5/ 425 - 431).
(2) تاريخ الطبري (5/ 379، 380).(1/392)
أنفسهم وتوجيه من أمرائهم، ولا يصح أن نظن أن رجلا مثل معاوية في قرابته من عثمان كان سيسعه - لو أراد- أن يتقاعس عن السير إليه أو تسيير الجنود إليه، ولا يمكن أن نفترض أن رجالا مثل أنصار عثمان بمصر - وعلى رأسهم معاوية بن حديج ومسلمة بن مخلد وغيرهما من أبطال المسلمين- كانوا سينتظرون قابعين حتى يقتل الخليفة ثم يتحركون للثأر له، ويعرضون نحورهم للقتل في سبيله، بل الذي يمكن تصوره وافتراضه أن جنودا من الأمصار قد تحركت بالفعل نحو المدينة لنجدة الخليفة دون أن يطلب منها نجدته (1).
3 - آخر خطبة خطبها عثمان - رضي الله عنه -:
كان آخر لقاء عام لعثمان مع المسلمين بعد أسابيع من الحصار؛ حيث دعا الناس، فاجتمعوا له جميعا، المحارب الطارئ من السبئيين، والمسالم المقيم من أهل المدينة، وكان في مقدمة القادمين: علي وطلحة والزبير، فلما جلسوا أمامه قال لهم: إن الله -عز وجل- إنما أعطاكم الدنيا لتطلبوا بها الآخرة، ولم يعطكم الدنيا لتركنوا إليها، وإن الدنيا تفنى والآخرة تبقى، فلا تبطرنكم الفانية ولا تشغلنكم عن الباقية، وآثروا ما يبقى على ما يفنى، فإن الدنيا منقطعة، وإن المصير إلى الله، واتقوا الله عز وجل، فإن تقواه جُنَّة ووقاية من بأسه وانتقامه، والزموا جماعتكم ولا تصيروا أحزابا، قال تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُمْ مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [آل عمران: 103]. ثم قال للمسلمين: يا أهل المدينة: إني أستودعكم الله، وأسأله أن يحسن عليكم الخلافة من بعدي، وإني والله لا أدخل على أحد بعد يومي هذا، حتى يقضى الله فيَّ قضاءه، ولأدعَنَّ هؤلاء الخوارج وراء بابي، ولا أعطيهم شيئا يتخذونه عليكم دَخَلا في دين أو دنيا، حتى يكون الله هو الصانع في ذلك ما أحب، وأمر أهل المدينة بالرجوع وأقسم عليهم، فرجعوا إلا الحسن ومحمد وابن الزبير وأشباهًا لهم، فجلسوا على باب عثمان عن أمر آبائهم، وثاب إليهم ناس كثير، ولزم عثمان الدار (2) حتى أتاه أجله.
_________
(1) الدولة الإسلامية في عصر الخلفاء الراشدين، ص278، 279.
(2) تاريخ الطبري (5/ 399، 400).(1/393)
سابعًا: استشهاد عثمان - رضي الله عنه -:
وفضلا عن تحرك جيوش الأمصار منها لنجدة الخليفة، فقد كانت أيام الحج تنقضي سريعا وتوشك جماعات من هؤلاء أن تزحف إلى المدينة لنجدة الخليفة، وبخاصة مع وجود عبد الله بن عباس وعائشة وغيرهما من المدافعين عن عثمان، وقدمت الأخبار إلى المتمردين بأن أهل الموسم يريدون نصرة عثمان، فلما أتاهم ذلك مع ما بلغهم من نفور أهل الأمصار إليهم أعلقهم (1) الشيطان وقالوا: لا يخرجنا مما وقعنا فيه إلا قتل هذا الرجل، فيشتغل بذلك الناس عنا (2).
1 - آخر أيام الحصار وفيه الرؤيا:
وفي آخر أيام الحصار - وهو اليوم الذي قتل فيه- نام - رضي الله عنه - فأصبح يحدِّث الناس: ليقتلني القوم (3)، ثم قال: رأيت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في المنام، ومعه أبو بكر وعمر، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: يا عثمان أفطر عندنا، فأصبح صائما وقتل من يومه (4).
2 - صفة قتله:
هاجم المتمردون الدار فتصدى لهم الحسن بن علي وعبد الله بن الزبير ومحمد بن طلحة ومروان بن الحكم وسعيد بن العاص، ومن كان من أبناء الصحابة أقام معهم، فنشب القتال فناداهم عثمان: الله الله، أنتم في حل من نصرتي، فأبوا، ودخل غلمان عثمان لينصروه، فأمرهم ألا يفعلوا؛ بل إنه أعلن أنه من كف يده منهم فهو حر (5). وقال عثمان في وضوح وإصرار وحسم، وهو الخليفة الذي تجب طاعته: أعزم على كل من رأى أن عليه سمعا وطاعة إلا كف يده وسلاحه (6). ولا تبرير لذلك إلا بأن عثمان كان واثقا من استشهاده بشهادة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - له بذلك، ولذلك أراد ألا تراق بسببه الدماء، وتقوم بسببه فتنة بين المسلمين (7). وكان المغيرة بن الأخنس بن شريق فيمن حج ثم تعجل في نفر حجوا معه، فأدرك عثمان قبل أن يقتل، ودخل الدار يحمي عنه وقال: ما عذرنا عند الله
_________
(1) أعلقهم: أي وسوس لهم وزين لهم أقوالهم وأفعالهم.
(2) تاريخ الطبري (5/ 402).
(3) الطبقات لابن سعد (3/ 75)، فتنة مقتل عثمان (1/ 172).
(4) الطبقات (3/ 75)، الخبر حسن لغيره. فتنة مقتل عثمان (1/ 175).
(5) الدولة الإسلامية في عصر الخلفاء الراشدين، ص282، البداية والنهاية (7/ 190).
(6) العواصم من القواصم، ص133.
(7) الدولة الإسلامية في عصر الخلفاء الراشدين، ص283.(1/394)
إن تركناك ونحن نستطيع ألا ندعهم حتى نموت؟ فأقدم المتمردون على حرق الباب والسقيفة، فثار أهل الدار -وعثمان يصلي- حتى منعوهم، وقاتل المغيرة بن الأخنس والحسن بن علي ومحمد بن طلحة وسعيد بن العاص، ومروان بن الحكم وأبو هريرة، فأبلوا أحسن البلاء وعثمان يرسل إليهم في الانصراف دون قتال، ثم ينتقل إلى صلاته، فاستفتح قوله تعالى: {طه - مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى - إِلاَّ تَذْكِرَةً لِّمَن يَّخْشَى} [طه: 1 - 3] وكان سريع القراءة، فما أزعجه ما سمع، ومضى في قراءته ما يخطئ وما يتعتع، حتى إذا أتى إلى نهايتها قبل أن يصلوا إليه ثم دعا فجلس وقرأ: {قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} [آل عمران: 137].
وأصيب يومئذ أربعة من شبان قريش وهم: الحسن بن علي، وعبد الله بن الزبير، ومحمد بن حاطب، ومروان بن الحكم (1) , وقتل المغيرة بن الأخنس، ونيار بن عبد الله الأسلمي (2)، وزياد الفهري، واستطاع عثمان أن يقنع المدافعين عنه، وألزمهم بالخروج من الدار، وخلى بينه وبين المحاصرين، فلم يبق في الدار إلا عثمان وآله، وليس بينه وبين المحاصرين مدافع ولا حام من الناس، وفتح - رضي الله عنه - باب الدار (3).
وبعد أن خرج من في الدار ممن كان يريد الدفاع عنه، نشر - رضي الله عنه - المصحف بين يديه، وأخذ يقرأ منه وكان إذ ذاك صائما، فإذا برجل من المحاصرين لم تسمه الروايات يدخل عليه، فلما رآه عثمان - رضي الله عنه - قال له: بيني وبينك كتاب الله (4) , فخرج الرجل وتركه، وما إن ولى حتى دخل آخر، وهو رجل من بني سدوس، يقال له: الموت الأسود، فخنقه وخنقه قبل أن يضرب بالسيف، فقال: والله ما رأيت شيئا ألين من خنقه، لقد خنقته حتى رأيت نفسه مثل الجان (5) تردد في جسده، ثم أهوى إليه بالسيف، فاتقاه عثمان - رضي الله عنه - بيده فقطعها، فقال عثمان: أما والله إنها لأول كف خطت المفصَّل (6)؛ وذلك أنه كان من كتبة الوحي، وهو أول من كتب المصحف من
_________
(1) فتنة مقتل عثمان (1/ 169)، تاريخ الطبري (5/ 404) رواية صحيحة.
(2) الخلفاء الراشدون للخالدي، ص184، 185، البداية والنهاية (7/ 196).
(3) فتنة مقتل عثمان (1/ 188).
(4) تاريخ الطبري (5/ 405، 406).
(5) تاريخ ابن خياط، ص174، 175، إسناده صحيح أو حسن.
(6) تاريخ الطبري (5/ 398).(1/395)
إملاء رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقتل - رضي الله عنه - والمصحف بين يديه، وعلى أثر قطع اليد انتضح الدم على المصحف الذي كان بين يديه يقرأ منه، وسقط على قوله تعالى:
{فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} (1) [البقرة: 137].
وفي رواية: إن أول من ضربه رجل يسمى رومان اليماني، ضربه بصولجان، ولما دخلوا عليه ليقتلوه أنشد قائلا:
أرى الموت لا يبقى عزيزا ولم يدع ... لعاد ملاذا في البلاد ومرتقى
وقال أيضا:
يبيت أهل الحصن والحصن مغلق ... ويأتي الجبال في شماريخها (2) العلي (3)
ولما أحاطوا به قالت امرأته نائلة بنت الفرافصة: إن تقتلوه أو تدعوه فقد كان يحيى الليل بركعة يجمع فيها القرآن (4). وقد دافعت نائلة عن زوجها عثمان وانكبت عليه واتقت السيف بيدها, فتعمدها سودان بن حمران ونضح أصابعها فقطع أصابع يدها، وولت،
فغمز أوراكها (5).
ولما رأى أحد غلمان عثمان الأمر، راعه قتل عثمان، وكان يسمى (نجيح) فهجم نجيح على سودان بن حمران فقتله، ولما رأى قتيرة بن فلان السكوني نجيحا قد قتل سودان، هجم على نجيح فقتله، وهجم غلام آخر لعثمان اسمه (صبيح) على قتيرة بن فلان فقتله، فصار في البيت أربعة قتلى شهيدان، ومجرمان، أما الشهيدان: فعثمان وغلامه نجيح، وأما المجرمان فسودان وقتيرة السكونيان، ولما تم قتل عثمان - رضي الله عنه - نادى منادٍ القوم السبئيين قائلا: إنه لم يحل لنا دم الرجل ويحرم علينا ماله، ألا إن ماله حلال لنا، فانهبوا ما في البيت، فعاث رعاع السبئيين في البيت فسادا، ونهبوا كل ما في
_________
(1) المصدر نفسه (5/ 398) الخبر له طرق عديدة بمجموعها يرتقي إلى درجة الحسن لغيره.
(2) شماريخها: رؤوسها (لسان العرب 3/ 31).
(3) فتنة مقتل عثمان (1/ 191)، البداية والنهاية (7/ 192).
(4) الطبقات (3/ 76)، فتنة مقتل عثمان (1/ 191).
(5) تاريخ الطبري (5/ 406، 407).(1/396)
البيت، حتى نهبوا ما على النساء، وهجم أحد السبئيين ويدعى كلثوم التجيبي على امرأة عثمان (نائلة) ونهب الملاءة التي عليها، ثم غمز وركها، وقال لها: ويح أمك من عجيزة ما أتمك، فرآه غلام عثمان (صبيح) وسمعه وهو يتكلم في حق نائلة هذا الكلام الفاحش، فعلاه بالسيف فقتله (1)، وهجم أحد السبئيين على الغلام فقتله، وبعدما أتم السبئيون نهب دار عثمان، تنادوا وقالوا: أدركوا بيت المال، وإياكم أن يسبقكم أحد إليه، وخذوا ما فيه، وسمع حراس بيت المال أصواتهم، ولم يكن فيه إلا غرارتان من طعام فقالوا: انجوا بأنفسكم، فإن القوم يريدون الدنيا، واقتحم السبئيون بيت المال وانتهبوا ما فيه (2).
حقق الخوارج السبئيون مرادهم، وقتلوا أمير المؤمنين، وتوقف كثير من أتباعهم من الرعاع والغوغاء بعد قتل عثمان ليفكروا, وما كانوا يظنون أن الأمر سينتهي بهم إلى قتله، لقد استغفلهم شياطينهم السبئيون، واستغلوهم في الشغب على عثمان، أما أن يقتلوه فهذا ما استفظعوه واستشنعوه، وسقط في أيدي هؤلاء الغوغاء، وحصل لهم كما حصل لبني إسرائيل لما عبدوا العجل، ندم بعضهم، كما قال الله تعالى: {وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِن بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَدًا لَّهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لاَ يُكَلِّمُهُمْ وَلاَ يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً اتَّخَذُوهُ وَكَانُوا ظَالِمِينَ - وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قَالُوا لَئِن لَّمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (3) [الأعراف: 148، 149] وحزن الصالحون في المدينة لمقتل خليفتهم، وصاروا يسترجعون ويبكون، لكن ماذا يفعلون وجيوش الخوارج السبئيين تحتل المدينة، وتعيث فيها فسادا، وتمنع أهلها من فعل أي شيء؟ وكان الحاكم الفعلي للمدينة هو أمير خوارج مصر (الغافقي بن حرب العكي)، وكان معهم شيطانهم المخطط (عبد الله بن سبأ) وهو فرح مسرور لما وصل إليه من أهداف ومآرب يهودية شيطانية.
وعلق كبار الصحابة على مقتل عثمان (4):
أ- الزبير بن العوم - رضي الله عنه -: لما علم بمقتل عثمان قال: رحم الله عثمان، إنا لله وإنا إليه راجعون، فقيل له: إن القوم نادمون، فقال: دبروا ودبروا، ولكن كما قال الله
_________
(1) تاريخ الطبري (5/ 407).
(2) تاريخ الطبري (5/ 407).
(3) البداية والنهاية (7/ 197، 198).
(4) الخلفاء الراشدون للخالدي، ص190. البداية والنهاية (7/ 197).(1/397)
تعالى: {وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِم مِّن قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا فِي شَكٍّ مُّرِيبٍ} [سبأ: 54].
ب- طلحة بن عبيد الله - رضي الله عنه -: لما علم بمقتل عثمان قال: رحم الله عثمان، إنا لله وإنا إليه راجعون، فقيل له: إن القوم نادمون قال: تبًّا لهم، وقرأ قوله تعالى: {مَا يَنظُرُونَ إِلاَّ صَيْحَةً وَاحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ - فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلاَ إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ} [يس: 49، 50].
ج- علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -: لما علم بمقتل عثمان قال: رحم الله عثمان، إنا لله وإنا إليه راجعون، قيل له: إن القوم نادمون، فقرأ قوله تعالى: {كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِّنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ - فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِي النَّارِ خَالِدَيْنِ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ} [الحشر: 16، 17].
د- سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه -: ولما علم سعد بذلك قال: رحم الله عثمان، ثم تلا قوله تعالى: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُم بِالأخْسَرِينَ أَعْمَالاً - الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا - أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلاَ نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا - ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَرُسُلِي هُزُوًا} [الكهف: 103 - 106] ثم قال سعد: اللهم اندمهم واخزهم واخذلهم، ثم خذهم (1). واستجاب الله دعوة سعد -وكان مستجاب الدعوة- فقد أخذ كل من شارك في قتل عثمان، مثل عبد الله بن سبأ، والغافقي والأشتر، وحكيم بن جبلة، وكنانة التجيبي، حيث قتلوا فيما بعد (2).
ثامنًا: تاريخ قتله، وسنه عند استشهاده, وجنازته والصلاة عليه ودفنه:
1 - تاريخ قتله:
إن في تحديد السنة التي قتل فيها عثمان - رضي الله عنه - شبه إجماع من المؤرخين، فلم يقع خلاف في أنه كان في السنة الخامسة بعد الثلاثين من الهجرة، إلا ما روي عن مصعب بن عبد الله من أنه كان من السنة السادسة والثلاثين (3)، وهو قول شاذ مخالف
_________
(1) تاريخ الطبري (5/ 407، 408)، البداية والنهاية (7/ 189).
(2) الخلفاء الراشدون للخالدي، ص192.
(3) تاريخ الطبري (5/ 435، 436).(1/398)
للإجماع، فمن قال بالقول الأول جمع غفير منهم: عبد الله بن عمرو بن عثمان، وعامر بن شرحبيل الشعبي، ونافع مولى ابن عمر، ومخرمة بن سليمان، وغيرهم كثير (1). ولم يختلف المؤرخون في الشهر الذي قتل فيه وأنه ذو الحجة، إلا أنه اختلف في تحديد ما بعد ذلك من اليوم والساعة، والذي ترجح لديَّ من أقوال العلماء الكثيرة أنه استشهد في (18/ 12/35هـ) (2). وأما عن تحديد اليوم الذي قتل فيه من أيام الأسبوع ففيه ثلاثة أقوال، والذي ترجح لدي من هذه الأقوال قول الجمهور، وهو يوم الجمعة؛ لأنه قول الجمهور ولا يخالفه قول أقوى منه (3). وكان وقت قتله صبيحة يوم الجمعة، وهو ما ذهب إليه الجمهور، ولم يخالف بأقوى منه (4).
2 - سنه عند استشهاده:
اضطربت الروايات في سنه عند استشهاده والخلاف في ذلك قديم، حتى إن الطبري -رحمه الله- يقول: اختلف السلف قبلنا في قدر مدة حياته (5)، والذي أميل إليه أنه توفي وسنه اثنتان وثمانون (82 سنة)، وهو قول الجمهور، ويترجح هذا القول لعدة أسباب، منها:
أ- أن نتيجة مقارنة سنة ولادته مع سنة استشهاده تؤيد هذا القول؛ فإنه ولد في السنة السادسة بعد عام الفيل، واستشهد في السنة الخامسة والثلاثين بعد الهجرة، فطرح تاريخ مولده من تاريخ استشهاده يتبين لنا سنه عند استشهاده.
ب- إنه قول الجمهور ولم يخالفه قول أقوى منه (6).
3 - جنازته والصلاة عليه ودفنه:
قام نفر من الصحابة في يوم قتله بغسله وكفنوه وحملوه على باب، ومنهم: حكيم بن حزام، وحويطب بن عبد العزى، وأبو الجهم بن حذيفة، ونيار بن مكرم الأسلمي، وجبير ابن مطعم، والزبير بن العوام، وعلي بن أبي طالب، وجماعة من أصحابه ونسائه، منهن
_________
(1) فتنة مقتل عثمان (1/ 193، 194).
(2) تاريخ الطبري (5/ 435).
(3) المصدر نفسه (5/ 436).
(4) المصدر نفسه (5/ 437).
(5) المصدر نفسه (5/ 438).
(6) فتنة مقتل عثمان (1/ 204).(1/399)
امرأتاه نائلة وأم البنين بنت عتبة بن حصين، وصبيان، وصلى عليه جبير بن مطعم، وقيل: الزبير بن العوام، وقيل: حكيم بن حزام، وقيل: مروان بن الحكم، وقيل: المسور بن مخرمة (1)، والذي ترجح عندي أن الذي صلى عليه الزبير بن العوام لرواية الإمام أحمد في مسنده؛ فقد بينت تلك الرواية أن الزبير بن العوام - رضي الله عنه - صلى على عثمان ودفنه, وكان أوصى إليه (2). وقد دفن - رضي الله عنه - ليلا، وقد أكد ذلك ما رواه ابن سعد والذهبي؛ حيث ذكرا أنه دفن بين المغرب والعشاء (3) , رضوان الله عليه، وأما ما رواه الطبراني من طريق عبد الملك بن الماجشون قال: سمعت مالكا يقول: قتل عثمان - رضي الله عنه - فأقام مطروحا على كناسة بني فلان ثلاثا (4)، فالرواية السابقة ضعيف سندها، وباطل متنها، فأما السند ففيه علتان:
أ- ضعف عبد الملك بن الماجشون الذي كان يروي المناكير عن الإمام مالك.
ب- أن هذه الرواية مرسلة؛ حيث إن الإمام مالكا لم يدرك مقتل عثمان - رضي الله عنه -، لأنه لم يولد إلا سنة 93هـ (5).
وأما متن هذه الرواية فباطل، وفيه يقول ابن حزم: من قال إنه - رضي الله عنه - أقام مطروحا على مزبلة ثلاثة أيام فكذب بحت، وإفك موضوع، وتوليد من لا حياء في وجهه، ولقد أمر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - برمي أجساد قتلى الكفار من قريش يوم بدر في القليب, وألقى التراب عليهم وهم شر خلق الله تعالى، وأمر عليه السلام أن يحفر أخاديد لقتلى يهود قريظة، وهم شر من وارته الأرض، فمواراة المؤمن والكافر فرض على المسلمين، فكيف يجوز لذي حياء في وجهه أن ينسب إلى علي وهو الإمام, ومن بالمدينة من الصحابة أنهم تركوا رجلا ميتا بين أظهرهم على مزبلة ثلاثة أيام لا يوارونه (6).
إنه لا يدخل في عقل أي إنسان سليم من داء الرفض أنهم يتركون إمامهم ملقى دون دفن ثلاثة أيام، مهما كانت قوة أولئك الفجرة الذين جاءوا لحصاره وقتله، فالصحابة
_________
(1) البداية والنهاية (7/ 199).
(2) الموسوعة الحديثية، مسند الإمام أحمد (1/ 555)، رجال الإسناد ثقات إلا إنه منقطع.
(3) الطبقات (3/ 78) , تاريخ الإسلام (عهد الخلفاء)، ص481.
(4) المعجم الكبير (1/ 78)، استشهاد عثمان، ص194.
(5) التهذيب، ابن حجر (6/ 408).
(6) الفصل (4/ 239، 240).(1/400)
كما وصفهم ربهم لا يخافون في الله لومة لائم، وإنما تلك الروايات التي شوهت كتب التاريخ من دس الروافض (1).
4 - براءة محمد بن أبي بكر الصديق من دم عثمان - رضي الله عنه -:
إن قاتل عثمان - رضي الله عنه - رجل مصري، لم تفصح الروايات عن اسمه، وبينت أنه سدوسي الأصل، أسود البشرة، لقب بـ (جبلة) لسواد بشرته، كما لقب أيضا بـ (الموت الأسود)، وذهب محب الدين الخطيب إلى أن القاتل: هو عبد الله بن سبأ حيث قال: ومن الثابت أن ابن سبأ كان مع ثوار مصر عند مجيئهم من الفسطاط إلى المدينة، وهو في كل الأدوار التي مثلها كان شديد الحرص على أن يعمل من وراء ستار، فلعل (الموت الأسود) اسم مستعار له أراد أن يرمز به إليه ليتمكن من مواصلة دسائسه لهدم الإسلام (2). وقد يشهد له: أن ابن سبأ أسود البشرة، فقد صح عن علي - رضي الله عنه - أنه وصفه بالخبث وسواد البشرة، وذلك في قوله: الخبيث الأسود (3).
وأما ما يتعلق بتهمة محمد بن أبي بكر بقتل عثمان بمشاقصه، فهذا باطل، وقد جاءت روايات ضعيفة في ذلك، كما أن متونها شاذة لمخالفتها للرواية الصحيحة التي تبين أن القاتل هو رجل مصري (4). وقد ذكر الدكتور يحيى اليحيى عدة أسباب ترجح براءة محمد بن أبي بكر من دم عثمان، منها:
أ- أن عائشة -رضي الله عنها- خرجت إلى البصرة للمطالبة بقتلة عثمان، ولو كان أخوها منهم ما حزنت عليه لما قتل فيما بعد، وسيأتي تفصيله عند حديثنا عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - بإذن الله تعالى.
ب- لعن علي - رضي الله عنه - لقتلة عثمان - رضي الله عنه - وتبرؤه منهم، يقتضي عدم تقريبهم وتوليتهم، وقد ولي محمد بن أبي بكر مصر، فلو كان منهم ما فعل ذلك.
ج- ما أخرجه ابن عساكر بسنده عن محمد بن طلحة بن مصرف قال: سمعت كنانة مولى صفية بنت حيي قال: شهدت مقتل عثمان وأنا ابن أربع عشرة سنة، قالت: هل أندى محمد بن أبي بكر بشيء من
_________
(1) عقيدة أهل السنة (3/ 1091).
(2) العواصم من القواصم، نقلا عن فتنة مقتل عثمان (1/ 207).
(3) لسان الميزان (3/ 290).
(4) فتنة مقتل عثمان (1/ 209).(1/401)
دمه؟ فقال: معاذ الله، دخل عليه، فقال عثمان: يا ابن أخي لست بصاحبي فخرج، ولم يند من دمه بشيء (1).
ويشهد لهذا ما أخرجه خليفة بن خياط والطبري بإسناد رجال ثقات عن الحسن البصري -وكان ممن حضر يوم الدار (2) - أن ابن أبي بكر أخذ بلحيته، فقال عثمان: لقد أخذت مني مأخذا أو قعدت مني مقعدا، ما كان أبوك ليقعده فخرج وتركه (3).
وبهذا يتبين لنا براءة محمد بن أبي بكر الصديق من دم عثمان، براءة الذئب
من دم يوسف، كما تبين أن سبب تهمته هو دخوله قبل القتل (4). وقد ذكر ابن كثير -رحمه الله- أنه لما كلمه عثمان - رضي الله عنه - استحى، ورجع، وتندم، وغطى وجهه، وحاجز دونه فلم
تفد محاجزته (5).
* * *
_________
(1) مرويات أبي مخنف في تاريخ الطبري، ص243.
(2) المصدر نفسه، ص244, تهذيب الكمال، (6/ 97).
(3) مرويات أبي مخنف، ص244
(4) فتنة مقتل عثمان (1/ 209).
(5) البداية والنهاية (7/ 193).(1/402)
المبحث الرابع
موقف الصحابة من مقتل عثمان رضي الله عنهم
شوهت بعض كتب التاريخ مواقف الصحابة من فتنة مقتل عثمان، وذلك بسبب الروايات الرافضية التي ذكرها كثير من المؤرخين، فالمتتبع لأحداث الفتنة في تاريخ الإمام الطبري، وكتب التاريخ الأخرى من خلال روايات أبي مخنف، والواقدي وابن أعثم، وغيرهم من الإخباريين يشعر أن الصحابة هم الذين كانوا يحركون المؤامرة ويثيرون الفتنة، فأبو مخنف ذو الميول الشيعية لا يتورع في اتهام عثمان بأنه الخليفة الذي كثرت سقطاته فاستحق ما استحقه، ويظهر طلحة في مروياته كواحد من الثائرين على عثمان والمؤلبين ضده. ولا تختلف روايات الواقدي عن روايات أبي مخنف؛ فعمرو بن العاص يقدم المدينة ويأخذ في الطعن على عثمان، وقد كثرت الروايات الرافضية التي تتهم الصحابة بالتآمر ضد عثمان - رضي الله عنه - , وأنهم هم الذين حركوا الفتنة وأثاروا الناس، وهذا كله كذب وزور (1). وخلافا للروايات الرافضية والموضوعة والضعيفة، فقد حفظت لنا كتب المحدثين -بحمد الله- الروايات الصحيحة التي يظهر فيها الصحابة من المؤازرين لعثمان والمنافحين عنه،
المتبرئين من قتله، والمطالبين بدمه بعد مقتله، وبذلك يستبعد أي اشتراك لهم في تحريك الفتنة أو إثارتها (2).
إن الصحابة جميعا -رضي الله عنهم- أبرياء من دم عثمان - رضي الله عنه -، ومن قال خلاف ذلك فكلامه باطل لا يستطيع أن يقيم عليه أي دليل ينهض إلى مرتبة الصحة، ولذلك أخرج خليفة في تاريخه عن عبد الأعلى بن الهيثم، عن أبيه قال: قلت للحسن: أكان فيمن قتل عثمان أحد من المهاجرين والأنصار؟ قال: لا، كانوا أعلاجا (3) من أهل مصر. وقال الإمام النووي: ولم يشارك في قتله أحد من الصحابة، وإنما قتله همج ورعاع من غوغاء القبائل سفلة الأطراف والأراذل، تحزبوا وقصدوه من مصر، فعجز الصحابة الحاضرون عن دفعهم فحصروه حتى قتلوه - رضي الله عنه - (4).
_________
(1) تحقيق مواقف الصحابة (2/ 14 - 18).
(2) المصدر نفسه (2/ 18).
(3) العلج: كل جاف شديد من الرجال.
(4) شهيد الدار .. عثمان بن عفان، أحمد الخروف، ص148.(1/403)
وقد وصفهم الزبير - رضي الله عنه - بأنهم غوغاء من الأمصار، ووصفتهم السيدة عائشة بأنهم نُزَّاع القبائل (1). ووصفهم ابن سعد بأنهم حثالة الناس متفقون على الشر (2). ووصفهم ابن تيمية بأنهم خوارج مفسدون وضالون باغون معتدون (3). ووصفهم الذهبي بأنهم رؤوس شر وجفاء (4). ووصفهم ابن العماد الحنبلي في الشذرات بأنهم أراذل من أوباش القبائل (5).
ويشهد على هذا الوصف تصرف هؤلاء الرعاع منذ الحصار إلى قتل الخليفة - رضي الله عنه - ظلما وعدوانا، فكيف يمنع الماء عنه والطعام وهو الذي طالما دفع من ماله الخاص ما يروي ظمأ المسلمين بالمجان (6)، وهو الذي ساهم بأموال كثيرة عندما يلم بالناس مجاعة أو مكروه، وهو الدائم العطاء عندما يصيب الناس ضائقة أو شدة من الشدائد؟ (7) حتى إن عليا - رضي الله عنه - يصف هذا الحال وهو يؤنب المحاصرين بقوله: يا أيها الناس، إن الذي تفعلونه لا يشبه أمر المؤمنين ولا أمر الكافرين، فلا تمنعوا عن هذا الرجل الماء ولا المادة (الطعام)؛ فإن الروم وفارس لتأسر وتطعم وتسقي (8). لقد صحت الأخبار وأكدت حوادث التاريخ على براءة الصحابة من التحريض على عثمان أو المشاركة في الفتنة ضده (9). وإليك أقوال الصحابة في البراءة من دم عثمان:
أولاً: ثناء أهل البيت على عثمان - رضي الله عنه - وبراءتهم من دمه:
1 - موقف السيدة عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها:
أ- عن فاطمة بنت عبد الرحمن اليشكرية عن أمها، أنها سألت عائشة: وأرسلها عمها فقال: إن أحد بنيك يقرئك السلام ويسألك عن عثمان بن عفان، فإن الناس قد أكثروا فيه، فقالت: لعن الله من لعنه، فوالله لقد كان قاعدا عند نبي الله، وإن
_________
(1) شرح النووي على صحيح مسلم (5/ 148)، كتاب فضائل الصحابة.
(2) تحقيق مواقف الصحابة (1/ 481)، طبقات ابن سعد (3/ 71).
(3) منهاج السنة (3/ 189 - 206).
(4) دول الإسلام للذهبي (1/ 12).
(5) تحقيق مواقف الصحابة (1/ 482)، شذرات الذهب (1/ 40).
(6) تحقيق مواقف الصحابة (1/ 482) , البخاري، كتاب مناقب عثمان (4/ 202).
(7) التمهيد والبيان، ص242.
(8) تاريخ الطبري (5/ 400).
(9) تحقيق مواقف الصحابة (2/ 18).(1/404)
رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مسند ظهره إليَّ، وإن جبريل -عليه السلام- ليوحي إليه القرآن وإنه ليقول: «اكتب عثمان»، فما كان الله لينزل تلك المنزلة إلا كريما على الله ورسوله (1).
ب- وعن مسروق، عن عائشة قالت حين قتل عثمان: تركتموه كالثوب النقي من الدنس، ثم قربتموه تذبحونه كما يذبح الكبش، فقال لها مسروق: هذا عملك، أنت كتبت إلى الناس تأمرينهم بالخروج إليه، قالت عائشة: لا والذي آمن به المؤمنون وكفر به الكافرون، ما كتبت إليهم بسوداء في بيضاء حتى جلست مجلسي هذا (2). وقد مر معنا كذب السبئيين، وأنهم كتبوا رسائل لأهل الأمصار ونسبوها كذبا وزورا للسيدة عائشة رضي الله عنها.
ج- ولما سمعت بموت عثمان في طريق عودتها من مكة إلى المدينة رجعت إلى مكة ودخلت المسجد الحرام، وقصدت الْحِجْر فتسترت فيه، واجتمع الناس إليها فقالت: أيها الناس، إن الغوغاء من أهل الأمصار، وأهل المياه وعبيد أهل المدينة اجتمعوا أن عاب الغوغاء على هذا المقتول بالأمس الإرب (3)، واستعمال من حدثت سنه، وقد استعمل أسنانهم قبله، ومواضع من الحمى حماها لهم، وهي أمور قد سبق بها لا يصلح غيرها، فتابعهم ونزع لهم عنها استصلاحا لهم، فلما لم يجدوا حجة ولا غدرا خلجوا (4) , وبادروا بالعدوان، ونبا فعلهم عن قولهم، فسفكوا الدم الحرام، واستحلوا البلد الحرام، وأخذوا المال الحرام، واستحلوا الشهر الحرام، والله لإصبع عثمان خير من طباق الأرض أمثالهم، فنجاة (5) من اجتماعكم عليه حتى يَنْكل (6) بهم غيرهم، ويشرد (7) من بعدهم، ووالله لو أن الذي اعتدوا به عليه كان ذنبا لخلص منه كما يخلص الذهب من خبثه، أو الثوب من دَرَنه إذ ماصوه كما يماص الثوب بالماء (8).
_________
(1) تحقيق مواقف الصحابة (1/ 378)، المسند (6/ 205 - 261)، البداية والنهاية (7/ 219).
(2) فتنة مقتل عثمان (1/ 391) , تاريخ خليفة، ص176، إسناده صحيح إلى عائشة.
(3) الأرب: الحاجة والدهاء والفطنة والعقل.
(4) خلجوا: تحركوا واضطربوا.
(5) نجاة: اطلبوا النجاة باجتماعكم عليهم.
(6) ينكل بهم غيرهم: حتى يردعهم ويروع بهم غيرهم.
(7) يشرد: يفرق، ويبدد جمعهم.
(8) تاريخ الطبري (5/ 473، 474).(1/405)
وعلى العكس من الصورة الطيبة التي نفهمها من الروايات السابقة الموثوقة للعلاقة بين أم المؤمنين عائشة وعثمان، فإنه تبقى عند الطبري وغيره روايات أخرى صورت العلاقة بين عائشة وعثمان على صورة متناقضة تماما لما انتهينا إليه، وشوهت الدور الرائع الناصع الواعي الذي قامت به رضي الله عنها، دفاعا عن حرمات الله عز وجل، ودفعا عن
عثمان - رضي الله عنه -، وفهما لألاعيب السبئية (1).
إن الروايات التي جاءت في العقد الفريد, وفي الأغاني, وتاريخ اليعقوبي, وتاريخ المسعودي، وأنساب الأشراف، وما انتهت إليه من استدلالات في شأن الدور السياسي للسيدة عائشة -رضي الله عنها- في حياة عثمان بن عفان - رضي الله عنه -، إن جميع ما تؤدي إليه استدلالات تدين الموقف السياسي للسيدة عائشة -رضي الله عنها- لا يعتد بها لمخالفتها للروايات الصحيحة، وقيامها على روايات واهية (2)؛ فأغلبها روايات غير مسندة، والمسند مجروح الإسناد لا يحتج بروايته، هذا إلى فساد متونها إذا ما قورنت بالروايات الأخرى الأكثر صحة وقربا بالحقيقة (3). وقد قامت السيدة أسماء محمد أحمد زيادة بدراسة الأسانيد والمتون للروايات التي تحدثت عن الدور السياسي للسيدة عائشة في أحداث الفتنة، ونقدت الروايات القائلة بالخلاف السياسي بين عائشة وعثمان عند الطبري وغيره وبينت زيفها وكذبها، ثم قالت: وكان الأحرى بنا أن نعرض عن ذكرها جميعا -كما ذكرت آنفا- لعدم وصولها إلينا عن طريق معتمد، بل الطرق التي وصلت منها رُمى أصحابها بالتشيع والكذب والرفض لكننا عرضنا لها لشيوعها في أغلب الدراسات الحديثة، وللتدليل على سقوطها، فهي روايات -كما اتضح لنا- حاولت خلق تاريخ لا وجود له أصلا من الخلاف، والتنكر بين عثمان وعائشة وبين عثمان والصحابة جميعا (4).
ولو صح أن عائشة اتفقت مع المتمردين على التحريض على عثمان - رضي الله عنه - لكان من المتوقع أن يكون عندها نوع من التماس العذر لهؤلاء المتمردين، لكن لم يصح عنها -رضي الله عنها- شيء من هذا، وإنه لو صح شيء من هذه الروايات في وصف موقف السيدة عائشة -رضي الله عنها- من مقتل عثمان فهي روايات كفيلة بإسقاط العدالة عن عائشة رضي الله عنها، وعن الصحابة الذين اشتركوا معها، وهو ما لا نقبل به للخبر الصادق عن الله ورسوله في تقرير عدالتهم التي كانت كافية
_________
(1) دور المرأة السياسي في عهد النبي والخلفاء الراشدين، ص352.
(2) انظر أيضا في هذه الاستدلالات الباطلة: العقاد، الصديقة بنت الصديق، ص116 - 124.
(3) دور المرأة السياسي، ص370.
(4) دور المرأة السياسي، ص370.(1/406)
لدحض هذه الروايات، لكننا توقفنا أمام الروايات تأكيدا منا على سقوط هذه الرواية ومن بعدها الاستدلالات القائمة عليها، حتى تجتمع الأدلة الدينية والعلمية والتاريخية في صعيد واحد يؤكد بعضها بعضا (1).
2 - علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -:
كان علي - رضي الله عنه - وآل البيت يجلونه ويعترفون بحقه فكان:
أ- أول من بايعه بعد عبد الرحمن بن عوف علي بن أبي طالب (2). وعن قيس بن عباد قال: سمعت عليا - رضي الله عنه - وذكر عثمان فقال: هو رجل قال له رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ألا أستحي ممن تستحي منه الملائكة» (3).
ب- وقد شهد - رضي الله عنه - له بالجنة، فعن النزال بن سبرة قال: سألت عليا عن عثمان فقال: ذاك امرؤ يدعى في الملأ الأعلى ذا النورين، كان ختن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على ابنتيه, ضُمن له بيت في الجنة (4).
ج- وكان - رضي الله عنه - طائعا معترفا بإمامته وخلافته، لا يعصي له أمرا؛ فقد روى ابن أبي شيبة بإسناده عن ابن الحنفية عن علي: قال لو سيرني عثمان إلى صرار لسمعت وأطعت (5). والصرار: هو الخيط الذي تشد به التوادي على أطراف الناقة لئلا يرضعها ولدها (6)، وفيه دليل على مدى اتباعه وطاعته لعثمان رضي الله عنهما (7).
د- ولما جمع عثمان - رضي الله عنه - الناس على قراءة واحدة بعد استشارة الصحابة رضوان الله عليهم وإجماعهم على ذلك، قال علي - رضي الله عنه -: لو وليت الذي ولى، لصنعت مثل الذي صنع (8).
_________
(1) دور المرأة السياسي، ص371.
(2) البخاري، كتاب فضائل الصحابة، رقم (3700).
(3) مسلم، كتاب فضائل الصحابة، رقم (2401).
(4) العقيدة في أهل البيت بين الإفراط والتفريط، ص227، المختصر من كتاب الموافقة بين أهل البيت والصحابة للزمخشري، مخطوط بمكتبة المخطوطات بالجامعة الإسلامية، وقد طبع هذا الكتاب عن طريق دار الحديث.
(5) السنة للخلال (1/ 325)، رقم (416) إسناده صحيح.
(6) لسان العرب (4/ 451).
(7) العقيدة في أهل البيت بين الإفراط والتفريط، ص227.
(8) السنن للبيهقي (2/ 42).(1/407)
هـ- ولقد أنكر علي - رضي الله عنه - قتل عثمان وتبرأ من دمه، وكان يقسم على ذلك في خطبه وغيرها أنه لم يقتله، ولا أمر بقتله، ولا مالأ ولا رضي، وقد ثبت ذلك عنه بطرق تفيد القطع (1) , خلافا لما تزعمه الرافضة من أنه كان راضيا بقتل عثمان رضي الله عنهما (2). وقال الحاكم بعد ذكر بعض الأخبار الواردة في مقتله - رضي الله عنه -: فأما الذي ادعته المبتدعة من معونة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب فإنه كذب وزور، فقد تواترت الأخبار بخلافه (3). وقال ابن تيمية: وهذا كله كذب على عليٍّ - رضي الله عنه - وافتراء عليه، فعلي - رضي الله عنه - لم يشارك في دم عثمان، ولا أمر ولا رضي، وقد روى عنه ذلك وهو الصادق البار (4). وقد قال علي - رضي الله عنه -: اللهم إني أبرأ إليك من دم عثمان (5). وروى الحاكم بإسناده عن قيس بن عباد قال: سمعت عليا - رضي الله عنه - يوم الجمل يقول: اللهم إني أبرأ إليك من دم عثمان، ولقد طاش عقلي يوم قتل عثمان، وأنكرت نفسي وجاءوني للبيعة، فقلت: والله إني لأستحي من الله أن أبايع قوما قتلوا رجلا قال فيه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ألا أستحي ممن تستحي منه الملائكة»، وإني لأستحي من الله أن أبايع وعثمان قتيل على الأرض لم يدفن بعد، فانصرفوا, فلما دفن رجع الناس، فسألوني البيعة، فقلت: اللهم إني مشفق مما أقدم عليه، ثم جاءت عزيمة فبايعت فلقد قالوا: يا أمير المؤمنين، فكأنما صدع قلبي، وقلت: اللهم خذ مني لعثمان حتى ترضى (6).
وروى الإمام أحمد بسنده عن محمد بن الحنفية قال: بلغ عليا أن عائشة تلعن قتلة عثمان في المربد (7) قال: فرفع يده حتى بلغ بهما وجهه، فقال: وأنا ألعن قتلة عثمان، لعنهم الله في السهل والجبل، قال مرتين أو ثلاثا (8). وروى ابن سعد بسنده عن ابن عباس أن عليا قال: والله ما قتلت عثمان ولا أمرت بقتله، ولكني نهيت، والله ما قتلت عثمان ولا أمرت ولكني
_________
(1) البداية والنهاية (7/ 202).
(2) العقيدة في أهل البيت بين الإفراط والتفريط، ص229، حق اليقين لعبد الله شبر، ص189.
(3) المستدرك (3/ 103).
(4) منهاج السنة (4/ 406).
(5) العقيدة في أهل البيت، ص230، إسناده حسن.
(6) المستدرك (3/ 95) حديث صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي ..
(7) موضع قرب البصرة بينهما نحو ثلاثة أميال.
(8) فضائل الصحابة (1/ 555)، رقم (733) إسناده صحيح.(1/408)
غلبت، قالها ثلاثا (1). وجاء عنه أيضا أنه قال - رضي الله عنه -: من تبرأ من دين عثمان فقد تبرأ من الإيمان، والله ما أعنت على قتله ولا أمرت ولا رضيت (2).
و- وقال علي - رضي الله عنه - عن عثمان - رضي الله عنه -: « ... كان أوصلنا للرحم، وأتقانا للرب تعالى» (3).
ز- وعن أبي عون قال: سمعت محمد بن حاطب قال: سألت عليا عن عثمان فقال: هو من الذين آمنوا ثم اتقوا ثم آمنوا ثم اتقوا. ولم يختم الآية (4).
ح- عن عميرة بن سعد قال: كنا مع عليٍّ على شاطئ الفرات، فمرت سفينة مرفوع شراعها فقال علي: يقول الله عز وجل: {وَلَهُ الْجَوَارِ الْمُنشَئَاتُ فِي الْبَحْرِ كَالأعْلاَمِ} [الرحمن: 24] والذي أنشأها في بحر من بحاره ما قتلت عثمان ولا مالأت على قتله (5).
ط- وروى الإمام أحمد في مسنده، عن محمد بن حاطب قال: سمعت عليا يقول: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُم مِّنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ} [الأنبياء: 101] منهم عثمان (6)، وقال علي - رضي الله عنه -: إنما وهنت يوم قتل عثمان (7). وقد اعتنى الحافظ ابن عساكر بجمع الطرق الواردة عن علي - رضي الله عنه - أنه تبرأ من دم عثمان، وكان يقسم على ذلك في خطبه وغيرها، أنه لم يقتله ولا رضي بذلك، ثبت ذلك عنه من طرق تفيد القطع عند كثير من أئمة الحديث (8).
3 - عبد الله بن عباس - رضي الله عنه -:
روى الإمام أحمد بإسناده عن ابن عباس أنه قال: لو اجتمع الناس على قتل عثمان
_________
(1) الطبقات (3/ 82)، البداية والنهاية (7/ 202).
(2) الرياض النضرة، ص543.
(3) صفة الصفوة (1/ 306).
(4) فضائل الصحابة (1/ 580)، إسناده صحيح.
(5) المصدر نفسه (1/ 559، 560) إسناده لغيره، رقم: (379).
(6) المصدر نفسه (1/ 580)، رقم 771 إسناده صحيح.
(7) المنتظم في تاريخ الملوك والأمم (5/ 61).
(8) البداية والنهاية (7/ 193).(1/409)
لرموا بالحجارة كما رمى قوم لوط (1). وقال - رضي الله عنه - في مدح عثمان وذم من ينتقصه: رحم الله أبا عمرو، كان والله أكرم الحفدة وأفضل البررة، هجَّادا بالأسحار، كثير الدموع عند ذكر النار، نهَّاضا عند كل مكرمة، سبَّاقا إلى كل محنة، حبيبًا أبيًّا وفيًّا، صاحب جيش العسرة، ختن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فأعقب الله على من يلعنه لعنة اللاعنين إلى يوم الدين (2).
4 - زيد بن علي رحمه الله:
روى ابن عساكر بإسناده إلى السدي قال: أتيته -أي زيد- وهو في بارق حي من أحياء الكوفة، فقلت له: أنتم سادتنا وأنتم ولاة أمورنا، فما تقول في أبي بكر وعمر؟ فقال: تولهما، وكان يقول البراءة من أبي بكر وعمر وعثمان البراءة من علي، والبراءة من علي البراءة من أبي بكر وعمر وعثمان (3).
5 - علي بن الحسين رحمه الله:
وقد ثبت عن علي بن الحسين البراءة من قول الرافضة في أبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم، فقد روى أبو نعيم بسنده عن محمد بن علي عن أبيه علي بن الحسين أنه قال: جلس قوم من أهل العراق فذكروا أبا بكر وعمر، فنالوا منهما، ثم ابتدأوا في عثمان فقال لهم: أخبروني أأنتم من المهاجرين الأولين {الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللهِ وَرِضْوَانًا وَيَنصُرُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ}؟ [الحشر: 8] قالوا: لا، قال: فأنتم من الذين {تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ}؟ [الحشر: 9] قالوا: لا، فقال لهم: أما أنتم فقد أقررتم وشهدتهم على أنفسكم أنكم لستم من هؤلاء ولا من هؤلاء، وأنا أشهد أنكم لستم من الفرقة الثالثة الذين قال الله -عز وجل- فيهم: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلاَ تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِّلَّذِينَ آمَنُوا} [الحشر: 10] , فقوموا عني، لا بارك الله فيكم، ولا قرب دوركم، أنتم مستهزئون بالإسلام، ولستم من أهله (4).
_________
(1) فضائل الصحابة (1/ 563)، رقم (746).
(2) العقيدة في أهل البيت، ص234, مروج الذهب للمسعودي (3/ 64).
(3) العقيدة في أهل البيت، ص335، تهذيب تاريخ دمشق (6/ 21).
(4) العقيدة في أهل البيت، ص236, البداية والنهاية (9/ 112)، الجامع لأحكام القرآن (18/ 31، 32).(1/410)
ثانيًا: موقف عمار بن ياسر - رضي الله عنه -:
جاء في الروايات التاريخية التي تحمل في طياتها غثا وسمينا أن هناك خلافا بين عمار وعثمان رضي الله عنهما، وقد خطم بعضها بأسانيد، وأخرى لا خطام لها ولا زمام، ولم أجد من أغنى فيه بحثا وتحليلا إلا لَمَاما، والتعرض لمثل هذا الموضوع الذي يمس كرامة أطهر خلق الله وأحبهم إليه وإلى نبيه، لا يمكن معه الاعتماد على روايات تسرح فيه أعراض الصحابة كما تشاء وتمرح من غير زمام أو خطام (1). ومن التهم الساقطة التي ساقتها الروايات الضعيفة:
1 - ضرب عمار بن ياسر:
تعتبر الروايات التي تحدثت عن ضرب عثمان لعمار من أشهر الروايات في هذا الموضوع وأكثرها، ولقد تفنن واضعوها في ذكر الأساليب التي استخدمها عثمان - رضي الله عنه - بالضرب، وفي ذكر ما نتج عنه، وهي مع فساد أسانيدها تحمل نكارة شديدة في متونها (2). يقول القاضي أبو بكر بن العربي في عواصمه ضمن تفنيده لما نسب إلى عثمان - رضي الله عنه - من افتراءات: وأما ضربه لابن مسعود ومنعه عطاءه فزور، وضربه لعمار إفك مثله، ولو فتق أمعاءه ما عاش أبدا، وقد اعتذر عن ذلك العلماء بوجوه لا ينبغي أن يشتغل بها؛ لأنها مبنية على باطل، ولا يبنى حق على باطل، ولا نذهب الزمان في مماشاة الجهال، فإن ذلك لا آخر له (3). إن أخلاق عثمان - رضي الله عنه - في سنه وإيمانه وحيائه ولين عريكته ورقة طبعه وسابقته وجليل مكانته في الإسلام أجَلّ من أن تنزل به إلى هذا الدرك من التصرف مع رجل من أجلاء أصحاب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - , يعرف له عثمان سابقته وفضله مهما كان بينهما من اختلاف في الرأي، أفيرضى عثمان لنفسه وهو الذي أبى على الناس أن يقاتلوا دونه، ورضي بالموت صابرا محتسبا حقنا لدماء المسلمين واتقاء للفتنة العامة، أفيرضى أن يصنع بعمار -وهو أعلم بسابقته وفضله في الإسلام- ما ذكرت الروايات المزعومة بأنه أمر غلمانه بأن يضربوه حتى أغمى عليه، ثم يقوم عثمان في هذه الحال فيطأه في بطنه؟ ثم هل ترضى أخلاق عثمان وحياؤه بأن يدعو بدعوة الجاهلية فيعير عمارا بأمه سمية وهي من أهل السابقة والفضل، وعثمان يعرف شرف انتساب عمار إلى أمه سمية رضي الله عنها، أول شهيدة في الإسلام؟
_________
(1) عمار بن ياسر، أسامة أحمد سلطان، ص122.
(2) عمار بن ياسر، أسامة أحمد سلطان، ص122.
(3) العواصم من القواصم، ص82 - 84.(1/411)
كلا إن الأخبار الصحيحة والموثوقة لا يوجد فيها ما يدني عثمان من هذا الأسلوب المنحط في الزجر والتأديب، علاوة على أن أخلاقه وطبيعته وسيرته تستبعد ذلك تماما، ومما لا شك فيه أن عرض أمثال تلك الروايات الموضوعة على ما عرف من مواقف وأخلاق أولئك الأئمة الأعلام، والأخذ بالاعتبار مقاييس ذلك العصر ومعاييره لهو أصدق ميزان في النقد لكشف دخائل الوضاعين والمفترين (1).
2 - اتهام عمار بالمساهمة في الفتنة وإثارة الشغب ضد عثمان:
اعتمد المؤرخون في نسبة هذه الافتراءات إلى عمار - رضي الله عنه - على روايات لم تسلم إحداها من الطعن في صحة أسانيدها أو في استقامة متونها، وتتنوع التهم المنسوبة إلى عمار - رضي الله عنه - في تحريكه لأمر الفتنة، وتحريضه على عثمان، وسعيه بين العامة للتمرد عليه، فمنها ما يذكر من إرسال عثمان - رضي الله عنه - له إلى مصر لاستجلاء ما يحدث فيها مما نقل إليه عن تمرد العامة هناك، وأن السبئيين استطاعوا استقطاب عمار والتأثير عليه. وهذا الخبر الذي يرويه الطبري (2) فيه شعيب بن إبراهيم التميمي الكوفي راوية كتب سيف، فيه جهالة، وقال عنه الراوي: ليس بالمعروف وله أحاديث وأخبار، فيها بعض النكارة، وفيها ما فيها من تحامل على السلف (3). ورواه عمر بن شبة في تاريخ المدينة وفيه شيخ عمر: علي بن عاصم، قال عنه ابن المديني: كان على بن عاصم كثير الغلط، وإذا رد عليه لم يرجع، وكان معروفا في الحديث، ويروي أحاديث منكرة (4)، وقال يحيى بن معين: ليس بشيء (5)، وقال مرة: كذاب ليس بشيء (6) , وقال النسائي: متروك الحديث (7)، وقال البخاري: ليس بالقوي عندهم، يتكلمون فيه (8). وهناك من تلطف بالكلام عليه وقال عنه ابن حجر: صدوق يخطئ ويصر، ورمي بالتشيع (9).
وخبرٌ هذا حال إسناده لا يمكن الاطمئنان
_________
(1) الخليفة المفترى عليه عثمان بن عفان، ص14 - 41، عمار بن ياسر، ص137.
(2) تاريخ الطبري (5/ 348).
(3) استشهاد عثمان ووقعة الجمل، ص30.
(4) سير أعلام النبلاء (9/ 253).
(5) المصدر نفسه (9/ 255).
(6) المصدر نفسه (9/ 257).
(7) المصدر نفسه (9/ 255).
(8) المصدر نفسه (9/ 255).
(9) تقريب التهذيب، ص403.(1/412)
إليه لاسيما ما عرف عن عمار - رضي الله عنه - من الورع الذي يربأ به عن الانغماس في مثل تلك الأوحال, التي ما عهدنا مرتادا لها إلا سبئيا يهوديا حاقدا، ومعاذ الله أن يصل الحال بصحابي من صحابة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى هذا المستوى، يقول خالد الغيث: وهذا الخبر يعارضه ما ثبت من عدالة الصحابة رضوان الله عليهم، هذا فضلا عن عدم وروده من طريق صحيح (1).
ومن الروايات الباطلة في هذا الباب ما نسب إلى سعيد بن المسيب، وفيها أن الصحابة بمجملهم نقموا على عثمان - رضي الله عنه - مع من نقم، وحنقوا عليه، وخاصة أبا ذر وابن مسعود وعمار بن ياسر (2) رضي الله عنهم. وآفة هذه الرواية أن فيها تدليسًا ليس من النوع الممكن إقراره والتجاوز عنه، فقد أسقط منها راوٍ متهم بالوضع والكذب وهو إسماعيل بن يحيى بن عبيد الله، ولذلك جاء تضعيف علماء الحديث لهذه الرواية، وبيان زيفها عند ترجمتهم لمحمد بن عيسى بن سميع راوي الخبر عن ابن أبي ذئب، يقول الإمام البخاري عن ابن سميع: يقال إنه لم يسمع من ابن أبي ذئب هذا الحديث، يعني حديثه عن الزهري في مقتل عثمان. ويقول ابن حبان: إن ابن سميع لم يسمع حديثه من ابن أبي ذئب، وإنما سمعه من إسماعيل ابن يحيى، فدلس عنه. وقال الحاكم: أبو محمد -يعني ابن سميع- روى عن ابن أبي ذئب حديثا منكرا وهو حديث مقتل عثمان، ويقال: كان في كتابه عن إسماعيل بن يحيى عن ابن أبي ذئب فأسقطه، وإسماعيل ذاهب الحديث (3). ويقول الدكتور يوسف العش: والرواية المنسوبة إلى سعيد بن المسيب يجب استبعادها، فهي بعد التحري تظهر موضوعة، فقد نص الحاكم النيسابوري أن أحد رجال سندها قد أسقط من السند رجلا واهيا، وأنها منكرة، والواقع أنها لا تنبئ عن الاحترام الذي يكنه سعيد بن المسيب للصحابة في أقواله الأخرى الصحيحة (4).
_________
(1) استشهاد عثمان ووقعة الجمل، ص86.
(2) تاريخ دمشق (39/ 415)، عمار بن ياسر، ص144.
(3) تحقيق مواقف الصحابة (2/ 16 - 18)، التاريخ الكبير للبخاري (1/ 203)، التهذيب (9/ 391)، تهذيب التهذيب (9/ 392).
(4) الدولة الأموية (39).(1/413)
3 - براءة عمار من دم عثمان رضي الله عنهما:
وما يروى في ذلك اتهام مسروق وأبي موسى - رضي الله عنه - لعمار بذلك عند قدومه مع الحسن لاستنفار أهل الكوفة، وهذه الرواية قد وهي إسنادها بشعيب المجهول، وسيف المعلول، كما أن الرواية التي في صحيح البخاري لا تذكر شيئا من ذلك، فزيادتها لا تحتمل القبول، لا سيما مع طعنها في صحابي مثل عمار بن ياسر المجار - على لسان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - - من الشيطان (1)، والملئ إلى المُشاش من الإيمان (2).
وقد بيَّن العلماء بطلان مثل هذا الاتهام الذي لم يختص بعمار فحسب، بل تعداه إلى مجموعة أخرى من أجِلَّة الصحابة، يقول ابن كثير: أما ما يذكره بعض الناس من أن بعض الصحابة أسْلَمَه ورضي بقتله، فهذا لا يصح عن أحد من الصحابة، بل كلهم كرهه ومقته وسب من فعله (3). ويقول القاضي أبو بكر بن العربي: فهذا أشبه ما روي في الباب، وبه يتبين -وأصل المسألة سلوك سبيل أهل الحق- أن أحدا من الصحابة لم يسعَ عليه، ولا قعد عنه، ولو استنصر ما غلب ألف أو أربعة آلاف غرباء عشرين ألفا بلديين أو أكثر من ذلك، ولكنه ألقى بيده إلى المصيبة (4). ويقول: وقد انتدبت المردة والجهلة إلى أن يقولوا: إن كان فاضل من الصحابة كان عليه مشاغبا مؤلبا، وبما جرى عليه راضيا واخترعوا كتابا فيه فصاحة, وأمثال كتب عثمان به مستصرخا إلى علي, وذلك كل مصنوع، ليوغروا قلوب المسلمين على السلف الماضيين والخلفاء الراشدين، فالذي يُنْخل من ذلك أن عثمان مظلوم محجوج بغير حجة، وأن الصحابة براء من دمه بأجمعهم، لأنهم أتوا إرادته، وسلموا له رأيه في إسلام نفسه (5).
ثالثًا: براءة عمرو من دم عثمان:
لما أحيط بعثمان - رضي الله عنه - خرج عمرو بن العاص من المدينة متوجها إلى الشام وقال: والله يا أهل المدينة ما يقيم بها أحد فيدركه قتل هذا الرجل إلا ضربه الله عز وجل بذل، ومن لم يستطع نصره فليهرب، فسار وسار معه ابناه عبد الله ومحمد، وخرج بعده
_________
(1) البخاري، رقم (3743).
(2) عمار بن ياسر، ص147.
(3) البداية والنهاية (7/ 207).
(4) العواصم من القواصم، ص129.
(5) المصدر نفسه، ص132.(1/414)
حسان بن ثابت، وتتابع على ذلك ما شاء الله (1). وعندما جاءه الخبر عن مقتل عثمان - رضي الله عنه - وبأن الناس بايعوا علي بن أبي طالب قال عمرو: أنا أبو عبد الله تكون حرب من حك فيه قرحة نكأها، رحم الله عثمان ورضي الله عنه وغفر له، فقال سلامة بن زنباغ الجذامي: يا معشر العرب، إنه قد كان بينكم وبين العرب باب فاتخذوا بابا إذا كسر الباب، فقال عمرو: وذاك الذي نريد ولا يصلح الباب إلا أشاف (2) تخرج الحق من حافرة البأس ويكون الناس في العدل سواء، ثم تمثل عمرو بن العاص بهذه الأبيات:
فيا لهف نفسي على مالك ... وهل يصرف مالك حفظ القدر؟
أنزع من الحرِّ (3) أودى بهم ... فأعذرهم أم بقومي سكر
ثم ارتحل راجلا يبكي ويقول: يا عثماناه، أنعي الحياء والدين حتى قدم دمشق (4).
هذه هي الصورة الصادقة عن عمرو - رضي الله عنه - والمتتالية مع شخصيته، وخط حياته وقربه من عثمان، أما الصورة التي تمسخه إلى رجل مصالح وصاحب مطامع وراغب دنيا، فهي الرواية المتروكة الضعيفة، رواية الواقدي عن موسى بن يعقوب (5). وقد تأثر بالروايات الضعيفة والسقيمة مجموعة من الكتاب والمؤرخين فأهووا بعمرو إلى الحضيض، كالذي كتبه محمود شيت خطاب (6)، وعبد الخالق سيد أبو رابية (7)، وعباس محمود العقاد الذي يتعالى عن النظر في الإسناد ويستخف بقارئه، ويظهر له صورة معاوية وعمرو -رضي الله عنهما- بأنهما: انتهازيان صاحبا مصالح، ولو أجمع الناقدون التاريخيون على بطلان الروايات التي استند إليها في تحليله، فهذا لا يعني للعقاد شيئا، فقد قال بعد أن ذكر روايات ضعيفة واهية لا تقوم بها حجة: « ... وليقل
_________
(1) تاريخ الطبري، نقلا عن عمرو بن العاص، للغضبان، ص464.
(2) أشاف: جمع أشفى وهو المثقب.
(3) الحر: جمع حرة وهي الظلمة الشديدة.
(4) تاريخ الطبري، نقلا عن عمرو بن العاص, للغضبان، ص481.
(5) عمرو بن العاص، للغضبان، ص481.
(6) سفراء النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، محمود شيت خطاب، ص508.
(7) عمرو بن العاص، عبد الخالق سيد أبو رابية، ص316.(1/415)
الناقدون التاريخيون ما بدا لهم أن يقولوا في صدق هذا الحوار، وصحة هذه الكلمات، وما ثبت نقله ولم يثبت منه سنده ولا نصه، فالذي لا ريب فيه ولو أجمعت التواريخ قاطبة على نقضه أن الاتفاق بين الرجلين كان اتفاق مساومة ومعاونة على الملك والولاية، وأن المساومة بينهما كانت على النصيب الذي آل على كل منهما، ولولاه لما كان بينهما اتفاق (1).
إن شخصية عمرو بن العاص - رضي الله عنه - الحقيقية، أنه رجل مبادئ غادر المدينة حين عجز عن نصرة عثمان، وبكى عليه بكاء مرًّا حين قُتل، فقد كان من أقرب أصحابه وخلانه ومستشاريه، وكان يدخل في الشورى - في عهد عثمان- من غير ولاية، ومضى إلى معاوية -رضي الله عنهما- ليتعاونا معا على حرب قتلة عثمان والثأر للخليفة الشهيد (2). لقد كان مقتل عثمان كافيا لأن يحرك كل غضبه على أولئك المجرمين السفاكين، وكان لا بد من اختيار مكان غير المدينة للثأر من هؤلاء الذين تجرأوا على حرم رسول الله وقتلوا خليفته على أعين الناس، وأي غرابة أن يغضب عمرو لعثمان؟ وإن كان هناك من يشك في هذا الموضوع فمداره على الروايات المكذوبة التي تصور عمرًا كل همه السلطة والحكم (3).
رابعًا: من أقوال الصحابة في الفتنة:
1 - أنس بن مالك - رضي الله عنه -:
قيل لأنس بن مالك: إن حبَّ علي وعثمان لا يجتمعان في قلب، فقال أنس: كذبوا، لقد اجتمع حبهما في قلوبنا (4).
2 - حذيفة بن اليمان - رضي الله عنه -:
عن خالد بن الربيع قال: سمعنا بوجع حذيفة، فركب إليه أبو مسعود الأنصاري - رضي الله عنه - في نفر فيهم إلى المدائن، قال: ثم ذكر قتل عثمان، فقال: اللهم إني لم أشهد، ولم أقتل, ولم أَرْضَ (5). وأخرج أحمد بن حنبل عن ابن سيرين عن حذيفة
_________
(1) عمرو بن العاص للعقاد، ص231، 232.
(2) عمرو بن العاص للغضبان، ص489، 490.
(3) المصدر نفسه، ص492.
(4) تحقيق مواقف الصحابة (2/ 25)، التهذيب لابن حجر (7/ 141).
(5) المصدر نفسه (2/ 27).(1/416)
قال: لما بلغه قتل عثمان قال: اللهم إنك تعلم براءتي من دم عثمان، فإن كان الذين قتلوه أصابوا، فإني برئ منهم، وإن كانوا أخطأوا فقد تعلم براءتي من دمه، وستعلم العرب لئن كانت أصابت بقتله لحلبنا بذلك لبَنًا، وإن كانت أخطأت بقتله لتحتلبن بذلك دمًا، فاحتلبوا بذلك دمًا، ما رفعت عنهم السيوف ولا القتل (1). وروى ابن عساكر عن جندب بن عبد الله -له صحبة- أنه لقى حذيفة فذكر له أمير المؤمنين عثمان فقال: أما إنهم سيقتلونه، قال: قلت: فأين هو؟ قال: في الجنة، قلت: فأين قاتلوه؟ قال: في النار (2).
3 - أم سليم الأنصارية رضي الله عنها:
قالت أم سليم الأنصارية - رضي الله عنها- لما سمعت بقتل عثمان: رحمه الله، أما إنه لم يحلبوا بعده إلا دما (3).
4 - أبو هريرة - رضي الله عنه -:
وعن أبي مريم قال: رأيت أبا هريرة يوم قتل عثمان وله ضفيرتان، وهو ممسك بهما وهو يقول: قتل والله عثمان على غير وجه الحق (4).
5 - أبو بكرة - رضي الله عنه -:
روى ابن كثير في البداية والنهاية عن أبي بكرة - رضي الله عنه - قال: لأن أخِرَّ من السماء إلى الأرض أحبّ إليَّ من أن أُشرك في قتل عثمان (5).
6 - أبو موسى الأشعري - رضي الله عنه -:
عن أبي عثمان النهدي قال أبو موسى الأشعري - رضي الله عنه -: إن قتل عثمان - رضي الله عنه - لو كان هدي احتلبت به الأمانة لبنًا، ولكنه كان ضلالا فاحتلبت به دما (6).
7 - سمرة بن جندب - رضي الله عنه -:
روى ابن عساكر بإسناده إلى سمرة بن جندب - رضي الله عنه - قال: إن الإسلام كان في
_________
(1) تحقيق مواقف الصحابة (2/ 28)، تاريخ دمشق، ص388.
(2) تحقيق مواقف الصحابة (2/ 28)، تاريخ دمشق، ص388.
(3) البداية والنهاية (7/ 195).
(4) تحقيق مواقف الصحابة (2/ 31)، تاريخ دمشق، ص493.
(5) تحقيق مواقف الصحابة (2/ 31)، تاريخ دمشق، ص493.
(6) تاريخ المدينة (4/ 1245).(1/417)
حصن حصين، وإنهم ثلموا في الإسلام ثلمة بقتلهم عثمان، وإنهم شرطوا أشرطة, وإنهم لم يسدوا ثلمتهم أو لا يسدونها إلى يوم القيامة، وإن أهل المدينة كانت فيهم الخلافة فأخرجوها ولم تعد فيهم (1).
8 - عبد الله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنه -:
وأخرج أبو نعيم في (معرفة الصحابة) بسنده إلى عبد الله بن عمرو بن العاص، قال: عثمان بن عفان ذو النورين قتل مظلوما، أوتي كفلين من الأجر (2).
9 - عبد الله بن سلام - رضي الله عنه -:
قال - رضي الله عنه -: لا تقتلوا عثمان، فإنكم إن فعلتم لم تصلُّوا جميعا (3) أبدا. وفي رواية: والله لا تهرقون محجما من دم -أي: من دم عثمان- إلا ازددتم به من الله بُعدا (4).
10 - الحسن بن علي - رضي الله عنه -:
عن طلق بن خشاف قال: انطلقنا إلى المدينة ومعنا قُرط بن خيثمة، فلقينا الحسن بن علي فقال له قرط: فيم قُتل أمير المؤمنين عثمان؟ فقال: قتل مظلوما (5).
11 - سلمة بن الأكوع - رضي الله عنه -:
وعن يزيد بن أبي عبيدة قال: لما قتل عثمان خرج سلمة بن الأكوع -وهو بدري- من المدينة قبل الربذة، فلم يزل بها حتى كان قبيل أن يموت (6).
12 - عبد الله بن عمر - رضي الله عنه -:
فعن أبي حازم قال: كنت عند عبد الله بن عمر بن الخطاب فذكر عثمان، فذكر فضله ومناقبه وقرابته حتى تركه أنقى من الزجاجة، ثم ذكر علي بن أبي طالب فذكر فضله وسابقته وقرابته حتى تركه أنقى من الزجاجة، ثم قال: من أراد أن يذكر هذين فليذكرهما هكذا أو فليدع (7). وقال ابن عمر -رضي الله عنهما- أيضا: لا تسبوا
_________
(1) تحقيق مواقف الصحابة (2/ 31)، تاريخ دمشق، ص493.
(2) معرفة الصحابة (1/ 245) , المعجم الكبير (1/ 46).
(3) تحقيق مواقف الصحابة (2/ 34) فضائل الصحابة، إسناده صحيح.
(4) الطبقات (3/ 81).
(5) تاريخ المدينة (4/ 145).
(6) المصدر نفسه (4/ 142).
(7) تحقيق مواقف الصحابة (1/ 379).(1/418)
عثمان؛ فإنا كنا نعده من خيارنا (1).
خامسًا: أثر مقتل عثمان في حدوث فتن أخرى:
لقد كانت فتنة قتل عثمان سببا في حدوث كثير من الفتن الأخرى، وألقت بظلالها على أحداث الفتن التي تلتها، فتغيرت قلوب الناس وظهر الكذب، وبدأ الخط البياني للانحراف عن الإسلام في عقيدته وشريعته (2). وكان مقتل عثمان من أعظم الأسباب التي أوجبت الفتن بين الناس، وبسببه تفرقت الأمة إلى اليوم (3)؛ فتفرقت القلوب، وعظمت الكروب، وظهرت الأشرار وذل الأخيار، وسعى في الفتنة من كان عاجزا عنها، وعجز عن الخير والصلاح من كان يحب إقامته، فبايعوا أمير المؤمنين علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - وهو أحق الناس بالخلافة حينئذ، وأفضل من بقي, لكن القلوب متفرقة ونار الفتنة متوقدة، فلم تتفق الكلمة ولم تنتظم الجماعة، ولم يتمكن الخليفة وخيار الأمة من كل ما يريدون من الخير، ودخل في الفرقة والفتنة أقوام (4).
وبدأ ضعف الفتوحات تدريجيا خلال السنين الأخيرة من خلافة عثمان، عندما بدأت الفتن تضرب بلاد الإسلام ومركز الخلافة، ثم توقفت عندما قتل عثمان، واستمرت متوقفة بل تراجعت في بعض الأماكن إلى بداية عهد معاوية؛ حيث استقرت أحوال المسلمين فانطلقت الفتوحات شرقا وغربا وشمالا (5).
سادسًا: الظلم والاعتداء على الآخرين من أسباب الهلاك في الدنيا والآخرة:
إن الظلم والاعتداء على الآخرين بغير حق من أسباب الهلاك في الدنيا والآخرة، كما قال الله -عز وجل-: {وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِم مَّوْعِدًا} وإن المتتبع لأحوال أولئك الخارجين على عثمان - رضي الله عنه - المعتدين عليه يجد أن الله تعالى لم يمهلهم, بل أذلهم وأخزاهم وانتقم منهم فلم ينجُ منهم أحدا (6).
روى خليفة بن خياط في تاريخه بإسناد صحيح إلى عمران بن الحدير قال: إن لم
_________
(1) تحقيق مواقف الصحابة (1/ 379) فضائل الصحابة، إسناده صحيح.
(2) المصدر نفسه، ص590.
(3) مجموع الفتاوي (25/ 162).
(4) المصدر نفسه (25/ 163).
(5) أحداث وأحاديث فتنة الهرج، ص591.
(6) تحقيق مواقف الصحابة في الفتنة (1/ 483).(1/419)
يكن عبد الله بن شقيق حدثني أن أول قطرة قطرت من دمه -يعني عثمان- على {فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللهُ} [البقرة: 137] فإن أبا حُريت ذكر أنه ذهب وسهيل النميري، فأخرجوا إليه المصحف, فإذا القطرة على {فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللهُ}، فإنها في المصحف ما حكت. وفي تاريخ ابن عساكر عن محمد بن سيرين قال: كنت أطوف بالكعبة، فإذا رجل يقول: اللهم اغفر لي، وما أظن أن تغفر لي، قلت: يا عبد الله، ما سمعت أحدا يقول ما تقول، قال: كنت أعطيت الله عهدا إن قدرت أن ألطم وجه عثمان إلا لطمته، فلما قُتل وضع على سريره في البيت، والناس يجيئون فيصلون عليه، فدخلت كأني أصلي عليه، فوجدت خلوة، فرفعت الثوب عن وجهه فلطمت وجهه، وسجيته, وقد يبست يميني، قال محمد بن سيرين: رأيتها يابسة كأنها عود (1). ولو لم يكن من آثار ظلم هؤلاء الحاقدين إلا سل المسلمين السيف عليهم إلى يوم القيامة لكفى بذلك رادعا لهم ولكل من سار في فلكهم، قال القاسم بن محمد: مر عليٌّ - رضي الله عنه - على رجلين بالمدينة بعدما قتل عثمان، وقبل بيعته وهما يقولان: قتل ابن بيضاء، ومكانه من الإسلام والعرب، ثم والله ما انتطح فيه عنزان، فقال علي: ما قلتما؟ فأعادا عليه فقال: بلى والله، ورجال بعد رجال، وكتائب بعد كتائب، أو يخرج ابن مريم (2).
سابعًا: تأثر المسلمين لمقتل عثمان - رضي الله عنه - وما قيل من أشعار:
كان وقع المصيبة على نفوس المؤمنين عظيما، فجللهم الحزن وفاضت مآقيهم بالدموع، ولهجت ألسنتهم بالثناء على عثمان، والترحم عليه، وقام حسان بن ثابت - رضي الله عنه - يرثي أمير المؤمنين ويكثر التفجع لمقتله، ويهجو قاتليه، ويقرعهم بما كسبت أيديهم (3) فيقول:
أتركتم غزو الدروب وراءكم ... وغزوتمونا عند قبر محمد
_________
(1) سير الشهداء .. دروس وعبر للسحيباني، ص67, تاريخ دمشق، ص458، تحقيق مواقف الصحابة (1/ 485).
(2) تحقيق مواقف الصحابة (1/ 485)، التمهيد والبيان، ص223.
(3) سير الشهداء للسحيباني، ص62.(1/420)
فلبئس هدى المسلمين هديتم ... ولبئس أمر الفاجر المتعمد
إن تُقْدموا نجعل قِرى سرواتكم ... حول المدينة كل لين مذود (1)
أو تدبروا فلبئس ما سافرتم ... ولَمِثلُ أمر أميركم لم يرشد
وكأن أصحاب النبي عشية ... بُدن تُذَبَّحُ عند باب المسجد
أبكي أبا عمرو لحسن بلائه ... أمسى مقيما في بقيع الغرقد (2)
وقال حسان أيضا:
ماذا أردتم من أخي الدين باركت ... يدُ الله في ذاك الأديم المقدَّدِ (3)
قتلتم ولي الله في جوف داره ... وجئتم بأمر جائر غير مهتد
فهلا رعيتم ذمة الله بينكم ... وأوفيتم بالعهد عهد محمد
ألم يك فيكم ذا بلاء ومصدق ... وأوفاكم عهدا لدى كل مشهد
_________
(1) مذود: آلة الذود.
(2) تاريخ الطبري (5/ 445).
(3) الأديم المقدد: الجلد اليابس.(1/421)
فلا ظفرت أيمان قوم تبايعوا ... على قتل عثمان الرشيد المسدد (1)
وقال حسان أيضا:
من سره الموت صرفا لا مزاج له ... فليأت مأسدة في دار عثمانا
مستشعري حلق الماذىِّ (2) قد شُفعت ... قبل المغاطم (3) بيض زان أبدانا
صبرا فِدًى لكم أمي وما ولدت ... قد ينفع الصبر في المكروه أحيانا
فقد رضينا بأهل الشام نافرة ... وبالأمير وبالإخوان إخوانا
إني لمنهم وإن غابوا وإن شهدوا ... ما دمت حيًّا وما سُمِّيت حسانا
لتسمعن وشيكا في ديارهم ... الله أكبر يا ثارات عثمانا
وقال أيضا:
إن تُمسِ دار ابن أروى منه خاوية ... باب صريع وباب محرق خرب
_________
(1) البداية والنهاية (7/ 205).
(2) الماذي: خالص الحديد.
(3) المغاطم: الأنوف.(1/422)
فقد يصادق باغي الخير حاجته ... فيها ويهوى إليها الذكر والحسب
يا أيها الناس أبدوا ذات أنفسكم ... لا يستوي الصدق عند الله والكذب
قوموا بحق مليك الناس تعترفوا ... بغرة عُصَب من خلفها عُصب
فيهم حبيب شها بالوت يَقْدُمُهم ... مستلئما قد بدا في وجهه الغضب (1)
وقال كعب بن مالك - رضي الله عنه -:
ويحٌ لأمر قد أتاني رائع ... هدَّ الجبال فأنغضت برجوف
قتل الإمام له النجوم خواضع ... والشمس بازغة له بكسوف
يا لهف نفسي إذا تولوا غدوة ... بالنعش فوق عواتق وكتوف
ولَّوا ودلَّوا في الضريح أخاهم ... ماذا أجنَّ ضريحه المسقوف (2)
من نائل أو سؤدد وحمالة ... سبقت له في الناس أو معروف
كم من يتيم كان يجبر عظمه ... أمسى بمنزلة الضياع يطوف
_________
(1) حبيب بن مسلمة الفهري، تاريخ الطبري (5/ 446).
(2) التمهيد والبيان، ص210.(1/423)
فرجتها عنه برحمك بعد ما ... كادت وأيقن بعدها بحتوف
ما زال يقبلهم ويرأب ظلمهم ... حتى سمعت برنة التلهيف
أمسي مقيما بالبقيع وأصبحوا ... متفرقين قد أجمعوا بحفوف (1)
النار موعدهم بقتل إمامهم ... عثمان صهر في البلاد عفيف
جمع الحمالة (2) بعد حلم راجح ... والخير فيه مبين معروف
يا كعب لا تنفك تبكي هالكا ... ما دمت حيا في البلاد تطوف
وقال كعب أيضا:
فكفَّ يديه ثم أغلق بابه ... وأيقن أن الله ليس بغافل
وقال لأهل الدار لا تقتلوهم ... عفا الله عن كل امرئ لم يقاتل
فكيف رأيت الله صبَّ عليهم ... العداوة والبغضاء بعد التواصل؟
_________
(1) التمهيد والبيان، ص211.
(2) التمهيد والبيان، ص211.(1/424)
وكيف رأيت الخير أدبر بعده ... عن الناس إدبار النعام الجوافل؟ (1)
وقال راعي الإبل النميري في ذلك:
عشية يدخلون بغير إذن ... على متوكل أوفى وطابا
خليل محمد وزير صدق ... ورابع خير من وطئ الترابا (2)
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين
* * *
_________
(1) البداية والنهاية (7/ 205).
(2) أي: خير من وطئ التراب في أمة محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثم أبي بكر ثم عمر ثم عثمان، البداية والنهاية (7/ 206).(1/425)
الخلاصة
1 - كان عثمان - رضي الله عنه - في أيام الجاهلية من أفضل الناس في قومه؛ فهو عريض الجاه، ثري، شديد الحياء، عذب الكلمات، فكان قومه يحبونه أشد الحب ويوقرونه. لم يسجد في الجاهلية لصنم قط، ولم يقترف فاحشة قط، فلم يشرب الخمر في الجاهلية.
2 - كان عثمان قد ناهز الرابعة والثلاثين من عمره حين دعاه أبو بكر الصديق إلى الإسلام، ولم يعرف عنه تلكؤ أو تلعثم، بل كان سباقا أجاب على الفور دعوة الصديق، فكان بذلك من السابقين الأولين.
3 - فرح المسلمون بإسلام عثمان فرحا شديدا، وتوثقت بينه وبينهم عرى المحبة وأخوة الإيمان، وأكرمه الله تعالى بالزواج من بنت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رقية.
4 - إن سنة الابتلاء ماضية في الأفراد والجماعات والشعوب والأمم والدول، وقد مضت هذه السنة في الصحابة الكرام, وتحملوا من البلاء ما تنوء به الرواسي الشامخات، وبذلوا أموالهم ودماءهم في سبيل الله، وبلغ بهم الجهد ما شاء الله أن يبلغ، ولم يسلم أشراف المسلمين من هذا الابتلاء؛ فقد أوذي عثمان وعذب في سبيل الله تعالى على يدي عمه الحكم بن أبي العاص.
5 - منذ اليوم الذي أسلم فيه عثمان لزم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حيث كان، ولم يفارقه إلا للهجرة بإذنه أو في مهمة من المهام التي يندب لها، ولا يغني فيها أحد غناءه، شأنه في هذه الملازمة شأن الخلفاء الراشدين جميعا، كأنما هي خاصة من خواصهم رشحهم لها ما رشحهم بعد ذلك للخلافة متعاقبين.
6 - كان ذو النورين على صلة وثيقة بالدعوة الكبرى من سنتها الأولى، فلم يفته من أخبار النبوة الخاصة والعامة في حياة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ولم يفته شيء بعدها من أخبار الخلافة في حياة الشيخين، ولم يفته بعبارة أخرى شيء مما نسميه اليوم بأعمال التأسيس في الدولة الإسلامية.
7 - كان المنهج التربوي الذي تربى عليه عثمان بن عفان، وكل الصحابة الكرام هو القرآن الكريم المنزل من عند رب العالمين.(1/426)
8 - إن الرافد القوي الذي أثر في شخصية عثمان بن عفان وصقل مواهبه، وفجر طاقته، وهذب نفسه هو مصاحبته لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وتتلمذه على يديه في مدرسة النبوة، ذلك أن عثمان - رضي الله عنه - لازم الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في مكة بعد إسلامه، كما لازمه في المدينة بعد هجرته؛ فقد نظم عثمان نفسه، وحرص على التلمذة في حلقات مدرسة النبوة في فروع شتى من المعارف والعلوم على يدي معلم البشرية وهاديها، والذي أدبه ربه فأحسن تأديبه.
9 - لم يكن عثمان بن عفان - رضي الله عنه - ممن تخلفوا عن بدر لتقاعس منه أو هروب ينشده، كما يزعم أصحاب الأهواء ممن طعن عليه تغيبه عن بدر، فهو لم يقصد مخالفة الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ لأن الفضل الذي حازه أهل بدر في شهود بدر طاعة الرسول ومتابعته، وعثمان - رضي الله عنه - خرج فيمن خرج مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - , فرده - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - للقيام على ابنته، فكان في أجل فرض لطاعته لرسول الله وتخليفه، وقد ضرب له بسهمه وأجره، فشاركهم في الغنيمة والفضل والأجر لطاعته الله ورسوله وانقياده لهما.
10 - في الحديبية ذكر المحب الطبري اختصاص عثمان بعدة أمور منها: اختصاصه بإقامة يد النبي الكريمة مقام يد عثمان لما بايع الصحابة وعثمان غائب، واختصاصه بتبليغ رسالة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى من بمكة أسيرًا من المسلمين، وذكر شهادة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لعثمان بموافقته في ترك الطواف لما أرسله في تلك الرسالة.
11 - قبل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شفاعة عثمان بن عفان في عبد الله بن أبي السرح في فتح مكة.
12 - من حياة عثمان الاجتماعية في المدينة: زواجه من أم كلثوم بنت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعد وفاة رقية بنت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ووفاة عبد الله بن عثمان، ثم وفاة أم كلثوم رضي الله عنهما.
13 - من مساهمته الاقتصادية في بناء الدولة: شراء بئر رومة بعشرين ألف درهم, وجعلها عثمان - رضي الله عنه - للغني والفقير وابن السبيل، وتوسعة المسجد النبوي، وإنفاقه الكثير على جيش العسرة.
14 - وردت أحاديث كثيرة في فضل عثمان - رضي الله عنه -، منها ما ورد في فضله مع(1/427)
غيره، ومنها ما ورد في فضله وحده، وقد أخبر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن الفتنة التي يقتل فيها عثمان.
15 - كان عثمان - رضي الله عنه - من الصحابة وأهل الشورى الذين يؤخذ برأيهم في أمهات المسائل في عهد الصديق، فهو ثاني اثنين في الحظوة عند الصديق؛ فعمر بن الخطاب للحزم والشدائد، وعثمان للرفق والأناة، وكان عثمان أمينها العام، وناموسها الأعظم, وكاتبها الأكبر.
16 - كان عثمان ذا مكانة عند عمر، فكانوا إذا أرادوا أن يسألوا عمر عن شيء رموه بعثمان وبعبد الرحمن بن عوف، وكان عثمان يسمى الرديف، والرديف بلسان العرب هو الذي يكون بعد الرجل، والعرب تقول ذلك للرجل الذي يرجونه بعد رئيس، وكانوا إذا لم يقدر هذان على عمل شيء ثلثوا بالعباس.
17 - من أفضل أعمال عبد الرحمن بن عوف عزله نفسه من الأمر وقت الشورى، واختياره للأمة من أشار به أهل الحل والعقد، فنهض في ذلك أتم نهوض على جميع الأمة على عثمان.
18 - هناك أباطيل شيعية وأكاذيب رافضية دست في التاريخ الإسلامي في قصة الشورى، وتولية عثمان الخلافة، وقد تلقفها المستشرقون وقاموا بتوسيع نشرها وتأثر بها الكثير من المؤرخين والمفكرين والمحدثين، ولم يمحوا الروايات ويحققوا في سندها ومتنها فانتشرت بين المسلمين.
19 - جاءت الأدلة الكثيرة التي تشير وتنبه إلى أحقية خلافة عثمان - رضي الله عنه - بالخلافة، ولا نزاع عند المتمسكين بالكتاب والسنة في ذلك, وقد أجمع أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وكذا من جاء بعدهم ممن سلك سبيلهم من أهل السنة والجماعة على أن عثمان بن عفان - رضي الله عنه - أحق الناس بخلافة النبوة بعد عمر بن الخطاب رضي الله عنهما.
20 - عندما بويع عثمان - رضي الله عنه - بالخلافة قام في الناس خطيبا وأعلن عن نهجه السياسي، مبينا أنه سيتقيد بالكتاب والسنة وسيرة الشيخين، كما أنه أشار في خطبته إلى أنه سيسوس الناس بالحلم والحكمة إلا فيما استوجبوه من الحدود،(1/428)
وحذرهم من الركون إلى الدنيا والافتتان بحطامها خوفا من التنافس والتباغض والتحاسد بينهم، مما يفضي بالأمة إلى الفرقة والخلاف.
21 - إن شخصية ذي النورين تعتبر شخصية قيادية، وقد اتصف - رضي الله عنه - بصفات القائد الرباني، من العلم والقدرة على التوجيه والتعليم، والحلم، والسماحة, واللين, والعفو، والتواضع، والحياء، والعفة، والكرم، والشجاعة، والحزم، والصبر، والعدل، والعبادة، والخوف، والبكاء، والمحاسبة، والزهد، والشكر، وتفقد أحوال الناس، وتحديد الاختصاصات والاستفادة من أهل الكفاءات.
22 - إن معرفة صفات الخلفاء الراشدين، ومحاولة الاقتداء بهم خطوة صحيحة لمعرفة صفات القادة الربانيين، الذين يستطيعون أن يقودوا الأمة نحو أهدافها المرسومة بخطوات ثابتة.
23 - قامت سياسة عثمان المالية على الأسس العامة التالية: تطبيق سياسة مالية عامة إسلامية، عدم إخلال الجباية بالرعاية، أخذ ما على المسلمين بالحق لبيت مال المسلمين، وأخذ ما على أهل الذمة لبيت مال المسلمين بالحق، وإعطائهم ما لهم وعدم ظلمهم، وتخلق عمال الخراج بالأمانة والوفاء، وتفادي أي انحرافات مالية يسفر عنها تكامل النعم لدى العامة.
24 - كانت النفقات في عهد عثمان تصرف على: صرف مرتبات الولاة، ومرتبات الجند، وعلى أسطول بحري، وتحويل الساحل من الشعيبة إلى جدة، وحفر الآبار, والإنفاق على المؤذنين، وغيرها من الأمور.
25 - اتهم عثمان - رضي الله عنه - من قبل الغوغاء والخوارج بإسرافه في بيت المال وإعطائه أكثره لأقاربه، وقد ساند هذا الاتهام حملة دعائية باطلة قادها السبئيون وتلقفها الشيعة الروافض إلى يومنا هذا، وتسربت في كتب التاريخ، وتعامل المفكرون والمؤرخون على كونها حقائق، وهي باطلة لم تثبت لأنها مختلقة.
26 - يعتبر عهد ذي النورين امتدادا للعهد الراشدي الذي تتجلى أهميته بصلته بالعهد النبوي وقربه منه، فكان العهد الراشدي عامة والجانب القضائي فيه خاصة امتدادا للقضاء في العهد النبوي، مع المحافظة الكاملة والتامة على جميع ما ثبت في العهد النبوي، وتطبيقه بحذافيره وتنفيذه بنصه ومعناه.(1/429)
27 - كانت خطة عثمان في الفتوحات تتسم بالحسم والعزم، وتمثلت في الآتي: إخضاع المتمردين من الفرس والروم، وإعادة سلطان الإسلام إلى هذه البلاد، واستمرار الجهاد والفتوحات فيما وراء هذه البلاد لقطع المدد عنهم، وإقامة قواعد ثابتة يرابط فيها المسلمون لحماية البلاد الإسلامية، وإنشاء قوة بحرية عسكرية لافتقار الجيش الإسلامي إلى ذلك.
28 - كانت معسكرات الإسلام ومسالحه (1) في عهد عثمان هي عواصم أقطاره الكبرى، فمعسكر العراق في الكوفة والبصرة، ومعسكر الشام في دمشق بعد أن خلص الشام كله لمعاوية بن أبي سفيان، ومعسكر مصر وكان مركزه الفسطاط, وكانت هذه المعسكرات تقوم بحماية دولة الإسلام ومواصلة الفتوحات ونشر الإسلام.
29 - من أشهر قادة الفتوحات في عهد عثمان - رضي الله عنه -: الأحنف بن قيس، وسليمان بن ربيعة، وعبد الرحمن بن ربيعة، وحبيب بن مسلمة.
30 - كانت معركة ذات الصواري من مظاهر تفوق العقيدة الصحيحة الصلبة على الخبرة العسكرية والتفوق في العَدَد والعُدَد، فلقد كان الروم هم أهل البحر منذ القدم، وقد مروا بتجارب طويلة في الحروب البحرية، بينما كان المسلمون حديثي عهد بركوب البحر والقتال البحري.
31 - من أهم الدروس والعبر والفوائد في فتوحات عثمان بن عفان - رضي الله عنه - تحقق وعد الله بالنصر والتمكين للمؤمنين، التطور في فنون الحرب والسياسة، ركوب المسلمين البحر، جمع المعلومات عن الأعداء، الحرص على وحدة الكلمة في مواجهة العدو.
32 - يظهر من قصة جمع القرآن في عهد عثمان - رضي الله عنه - مدى فهم الصحابة -رضي الله عنهم- لآيات النهي عن الاختلاف؛ حيث إن الله نهى عن الاختلاف وحذر منه، فلعمق فهمهم لهذه الآيات ارتعد حذيفة - رضي الله عنه - عندما سمع بوادر الاختلاف في قراءة القرآن، فرحل فورا إلى المدينة النبوية, وأخبر عثمان - رضي الله عنه - بما رأى وبما سمع، وفي مدة قصيرة حسم عثمان الأمر وأغلق باب الخلاف.
_________
(1) مسالحه: ثغوره.(1/430)
33 - إن الأخذ بالأسباب نحو تأليف المسلمين وتوحيد صفهم من أعظم الجهاد، وهذه الخطوة مهمة في إعزاز المسلمين وإقامة دولتهم وتحكيم شرع ربهم، وهذا من فقه الخلفاء الراشدين، ويتجلى في أبهى صورة في جمع عثمان - رضي الله عنه - للأمة على مصحف واحد.
34 - كانت أقاليم الدولة الإسلامية في عهد عثمان - رضي الله عنه - تضم كلاً من: مكة، والمدينة, والبحرين, واليمامة، واليمن، وحضرموت، والشام، وأرمينية، ومصر، والبصرة والكوفة.
35 - اتخذ عثمان - رضي الله عنه - أساليب متنوعة لمراقبة عماله والاطلاع على أخبارهم، منها: حضوره لموسم الحج، سؤال القادمين من الأمصار والولايات، إرسال المفتشين إلى الولايات، استقدام الولاة وسؤالهم، وغير ذلك من الأساليب.
36 - من حقوق الولاة في العهد الراشدي: الطاعة في غير معصية الله، بذل النصيحة للولاة، إيصال الأخبار الصحيحة إليهم، احترامهم بعد عزلهم، وإعطاؤهم مرتباتهم.
37 - من واجبات الولاة في العهد الراشدي: إقامة أمور الدين، تأمين الناس في بلادهم، الجهاد في سبيل الله، بذل الجهد في تأمين الأرزاق للناس، تعيين العمال والموظفين، رعاية أهل الذمة، مشاورة أهل الرأي في ولايتهم، النظر في حاجة الولاية العمرانية، مراعاة الأحوال الاجتماعية لسكان الولاية.
38 - إن عثمان خليفة راشد يقتدى به، وأفعاله تشكل سوابق دستورية في هذه الأمة، فكما أن عمر سن لمن بعده التحرج عن تقريب الأقربين, فكان عثمان سن لمن بعده تقريب الأقربين إذا كانوا في كفاءتهم الإدارية، وكل ما أنكر على عثمان لا يخرج من دائرة المباح.
39 - إن الولاة الذين ولاهم عثمان - رضي الله عنه - من أقاربه قد أثبتوا الكفاية والمقدرة في إدارة شئون ولاياتهم، وفتح الله على أيديهم الكثير من البلدان, وساروا في الرعية سيرة العدل والإحسان، ومنهم من تقلد مهام الولاية في عهد الصديق والفاروق رضي الله عنهما.(1/431)
40 - إن الذي يرجع إلى الصحيح المحض من وقائع التاريخ، ويتتبع سيرة الرجال الذين استعان بهم أمير المؤمنين عثمان، وما كان لجهادهم من جميل الأثر في تاريخ الدعوة الإسلامية، بل ما كان لحسن إدارتهم من عظيم النتائج في هناء الأمة وسعادتها، فإنه لا يستطيع أن يمنع نفسه من الجهر بالإعجاب والفخر كلما أمعن في دراسة ذلك الدور من أدوار التاريخ الإسلامي.
41 - إن عثمان - رضي الله عنه - لم يسلم من كثير من الباحثين في كتاباتهم غير المنصفة وغير المحققة عن عهد عثمان، فقد تورط الكثير منهم في الروايات الضعيفة والرافضية، وبنوا أحكاما باطلة وجائرة في حق عثمان، مثل طه حسين في كتابه (الفتنة الكبرى)، وراضي عبد الرحيم في كتابه (النظم الإسلامية)، ومحمد الريس في كتابه (النظريات السياسية)، وعلي حسين الخربوطلي في كتابه (الإسلام والخلافة)، وأبي الأعلى المودودي في كتابه (الملك والخلافة)، وسيد قطب في كتابه (العدالة الاجتماعية) وغيرهم، لقد كان عثمان - رضي الله عنه - بحق الخليفة المظلوم الذي افترى عليه خصومه الأولون ولم ينصفه المتأخرون.
42 - إن الحقيقة التاريخية تقول: إن عثمان - رضي الله عنه - لم ينفِ أبا ذر - رضي الله عنه -، إنما استأذن فأذن له، ولكن أعداء عثمان - رضي الله عنه - كانوا يشيعون عليه بأنه نفاه.
43 - إن أبا ذر - رضي الله عنه - لم يتأثر لا من قريب ولا من بعيد بآراء عبد الله بن سبأ اليهودي، وقد أقام بالربذة حتى توفي ولم يحضر شيئا مما وقع من الفتن.
44 - من أسباب فتنة مقتل عثمان - رضي الله عنه - أمور عدة، منها: الرخاء وأثره في المجتمع، طبيعة التحول الاجتماعي في عهد عثمان - رضي الله عنه -، مجيء عثمان بعد عمر رضي الله عنهما، وخروج كبار الصحابة من المدينة، العصبية الجاهلية، توقف الفتوحات، الورع الجاهل، طموح الطامحين، تآمر الحاقدين، التدبير المحكم لإثارة المآخذ ضد عثمان، استخدام الأساليب والوسائل المهيجة للناس، دور عبد الله بن سبأ في الفتنة.
45 - كانت بداية اشتعال الفتنة بالكوفة، وقد تم نفي رجالها إلى الشام, ثم استقر أمرهم عند عبد الرحمن بن خالد بن الوليد بالجزيرة، ثم رجعوا إلى الكوفة بعد مكاتبة يزيد بن قيس لهم بالمجيء للكوفة.(1/432)
46 - كانت سياسة عثمان - رضي الله عنه - في التعامل مع الفتنة قائمة على الحلم والتأني والعدل، وقد اتخذ عدة أساليب لمواجهتها, منها: إرسال لجان تفتيش وتحقيق، كتب إلى أهل الأمصار كتابا شاملا بمثابة إعلان عام لكل المسلمين، مشورة عثمان لولاة الأمصار، إقامة الحجة على المتمردين، الاستجابة لبعض مطالبهم.
47 - إن المتأمل في هدي عثمان - رضي الله عنه - في تعامله مع الفتنة التي وقعت في عهده يمكنه أن يستنبط بعض الضوابط التي تعين المسلم على مواجهة الفتن، ومن هذه الضوابط: التثبت, لزوم العدل والإنصاف، الحلم والأناة، الحرص على ما ينفع ونبذ ما يفرق بين المسلمين، لزوم الصمت والحذر من كثرة الكلام، استشارة العلماء الربانيين، الاسترشاد بأحاديث رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الفتن.
48 - يظهر للباحثين أن هناك أسبابا دعت عثمان إلى منع الصحابة من القتال، وهي: العمل بوصية الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - التي سارَّه بها - رضي الله عنه - يوم الدار، وأنها عَهْدٌ عَهِد به إليه، وأنه صابر نفسه عليه، كره أن يكون أول من خلف رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في أمته بسفك دماء المسلمين، علما بأن البغاة لا يريدون غيره فكَرِه أن يتوقى بالمؤمنين، وأحب أن يقيهم بنفسه، علمه بأن هذه الفتنة فيها قتله، وذلك فيما أخبره بها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عند تبشيره إياه بالجنة على بلوى تصيبه، وأنه سيقتل مصطبرا بالحق معطيه في فتنة، العمل بمشورة ابن سلام - رضي الله عنه - له إذ قال له: الكف الكف، فإنه أبلغ لك في الحجة.
49 - إن قاتل عثمان - رضي الله عنه - رجل مصري، لم تفصح الروايات عن اسمه، وأما ما يتعلق بتهمة محمد بن أبي بكر بقتل عثمان بمشاقصه فهذا باطل والروايات بذلك ضعيفة، كما أن متونها شاذة لمخالفتها للرواية الصحيحة التي تبين أن القاتل هو رجل مصري.
50 - إن الصحابة جميعا -رضي الله عنهم- أبرياء من دم عثمان - رضي الله عنه -، وقد صحت الأخبار وأكدت حوادث التاريخ براءة الصحابة من التحريض على عثمان أو المشاركة في الفتنة ضده، كما أوردنا ذلك بالروايات الصحيحة.
51 - إن عثمان كان متيقظا ولم تنطل عليه المؤامرة ولا أهدافها، بل استطاع أن يخترق(1/433)
صفوف المتمردين وكشف مخططهم كاملا، وواجه الأحداث بشجاعة فائقة، وكره أن يكون أول من يسل السيف في المسلمين، وآثر أن يفدي الأمة بنفسه, وهذه قمة التفدية والإيثار.
52 - كانت فتنة مقتل عثمان سببا في حدوث كثير من الفتن الأخرى، وألقت بظلالها على أحداث الفتن التي تليها، فتغيرت قلوب الناس، وظهر الكذب وبدأ الخط البياني للانحراف عن الإسلام في عقيدته وشريعته.
53 - إن الظلم والاعتداء على الآخرين بغير حق من أسباب الهلاك في الدنيا والآخرة كما قال تعالى: {وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِم مَّوْعِدًا} [الكهف: 59]. وإن المتتبع لأحوال أولئك الخارجين على عثمان - رضي الله عنه - المعتدين عليه يجد أن الله تعالى لم يمهلهم بل أذلهم وأخزاهم وانتقم منهم، فلم ينجُ منهم أحد.
54 - كان وقع المصيبة على نفوس المسلمين كبيرًا، فذهلت عقولهم وجللهم الحزن، وفاضت مآقيهم بالدموع، ولهجت ألسنتهم بالثناء على عثمان والترحم عليه، وقام حسان بن ثابت - رضي الله عنه - يرثي أمير المؤمنين ويكثر التفجع لمقتله، ويهجو قاتليه بقصائد مبكية حزينة، وحفظها لنا التاريخ ولم تهملها الليالي، ولم تفصلها عنا حواجز الزمن ولا أسوار القرون.
55 - وبعد .. فهذا ما يسره الله لي من جمع وترتيب وتحليل تضمنتها فصول هذا الكتاب (عثمان بن عفان - رضي الله عنه - شخصيته وعصره)، فما كان فيه من صواب فهو محض فضل الله عليَّ فله الحمد والمنة، وما كان فيه من خطأ فأستغفر الله تعالى وأتوب إليه، والله ورسوله بريء منه، وحسبي أني كنت حريصا على بيان الحقائق والبراهين والأدلة التي تبين حقيقة الخليفة الراشد عثمان بن عفان - رضي الله عنه -، وأدعو الله تعالى أن ينفع بهذا الكتاب إخواني المسلمين، وأن يذكرني من يقرأه في دعائه؛ فإن دعوة الأخ لأخيه في ظهر الغيب مستجابة إن شاء الله تعالى. وأختم هذا الكتاب بقوله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلاَ تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ} [الحشر: 10].(1/434)
وبقول الشاعر:
إن تجد عيبا فسد الْخَلَلا ... جَلَّ من لا عيب فيه وعلا
ويقول الشاعر:
اطلب العلم ولا تكسل فما ... أبعد الخير على أهل الكسل
احتفل للفقه في الدين ولا ... تشتغل عنه بمال وحَوَل
واهجر النوم وحصِّله فمن ... يعرف المطلوب يحقر ما بذل
لا تقل قد ذهبت أربابه ... كل من سار على الدرب وصل
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين
كتبه الفقير إلى عفو ربه ومغفرته ورحمته ورضوانه
علي محمد محمد الصلابي
8 ربيع الثاني 1423هـ
18/ 6/2002م(1/435)
تعريف بعض المناطق التي ذكرت في البحث (1)
1 - طبرستان: منطقة تقع جنوب بحر قزوين، عاصمتها مدينة همدان، جاء اسمها من جمع كلمة طبر التي تعني في اللغة الفارسية الفأس، مع زنان التي تعني النساء.
2 - أذربيجان: أصل الكلمة أتروباتن، التي تعني أرض النار، تقع هذه المنطقة غرب بحر قزوين، عاصمتها مدينة أردبيل.
3 - أرمينيا: صقع كبير يقع شرق آسيا الصغرى جنوب البحر الأسود، جاءت تسميتها من سكانها الأرمن، وهم قبائل هندوأوربية، اعتنقوا النصرانية في بداية القرن الرابع الميلادي، بعد ذلك تحولوا إلى المذهب المنوفيستي (أصحاب الطبيعة الواحدة للسيد المسيح عليه السلام)، كان سكانها قد قاوموا الفتح الإسلامي لبلادهم وبقوا محافظين على ديانتهم النصرانية.
4 - طخارستان: إقليم يقع جنوب غرب بلاد ما وراء النهر عاصمتها بلخ، تقع غالبية أراضيها حاليا ضمن أفغانستان، أهم مراكزها اليوم قندز وخوست.
5 - خراسان: معناها مشرق الشمس، تقع شرق الهضبة الإيرانية، عاصمتها مرو.
6 - سجستان: منطقة تقع جنوب إقليم خراسان عاصمتها بست، جاء اسمها من سكنة قوم فيها يدعون بالساكا (الأسكيثيين)، أما الترجمة الحرفية لها فتعني أرض الكلاب، على أساس أن سلك تعني الكلاب في اللغة الفارسية، واستان المنطقة، وحاليا تدعى سيستان.
7 - بلاد ما وراء النهر: وهي الأراضي الواقعة ما بين نهري جيحون (آموداريا) وسيحون (سرداريا)، ومن مدنها بخارى وسمرقند وطشقند، وحاليا تقع ضمن جمهوريات تركمنستان، وأوزبيكستان، وطاجيكستان.
8 - جرجان: إقليم يقع شرق بحر قزوين، وكان اسمها سابقا إقليم باكتريا؛ حيث بشر فيه زرادشت بدعوته.
_________
(1) التعريف بهذه المناطق قام بها الدكتور فرست مرعي الدهوكي جزاه الله خيرا.(1/437)
9 - خوزستان: إقليم يقع جنوب غرب الهضبة الإيرانية، يحادد العراق العربي، قصبتها الأهواز، أطلق عليها العرب اسم إقليم عربستان، سيطر عليه الشاه رضا بهلوي سنة 1925م، بعد أن اعتقل حاكمها العربي الشيخ خزعل الكعبي، وهي مشهورة بالنفط.
* * *(1/438)
المصادر والمراجع
1 - أباطيل يجب أن تمحى من التاريخ، إبراهيم شعوط، بيروت، المكتب الإسلامي.
2 - أثر التشيع على الروايات التاريخية، د. عبد العزيز نور ولي، دار الخضيري، المدينة.
3 - أحداث وأحاديث الفتن الأولى، عبد العزيز صغير دخان، تحت الطبع.
4 - الأحكام السلطانية، أبو الحسن على بن محمد بن حبيب الماوردي، دار الفكر، بيروت، بدون تاريخ.
5 - أدب صدر الإسلام، واضح الصمد.
6 - الأدب في الإسلام في عهد النبوة وخلافة الراشدين، د. نايف معروف، دار النفائس، الطبعة الأولى، 1410هـ- 1990م.
7 - الأساس في السنة وفقهها السيرة النبوية، سعيد حوى، دار السلام، 1409 - 1989م.
8 - أسد الغابة في معرفة الصحابة، عز الدين بن الأثير، أبي الحسن بن علي بن محمد الجزري، دار إحياء التراث العربي، بيروت، الطبعة الأولى، 1417هـ- 1996م.
9 - أشهر مشاهير الإسلام، رفيق العظم، دار الرائد العربي، بيروت، لبنان، 1403هـ- 1983م.
10 - أصول الإسماعيلية، لويس بارنارد، ترجمه إلى العربية خليل أحمد جلو، جاسم محمد الرجب، بغداد، مكتبة المثنى، 1367هـ - 1947م.
11 - أصول مذهب الشيعة الإمامية، ناصر بن عبد الله الغفاري، دار الرضا للنشر والتوزيع.(1/439)
12 - أضواء البيان في تاريخ القرآن، صابر حسن محمد أبو سليمان، دار عالم الكتب.
13 - أعلام المسلمين لخالد البيطار.
14 - الاكتفاء بما تضمنه من مغازي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والثلاثة الخلفاء، لأبي الربيع سليمان بن موسى الكلاعي الأندلسي، عالم الكتب، بيروت، لبنان، 1417هـ- 1997م.
15 - الأموال لأبي عبيد.
16 - أمير المؤمنين علي بن أبي طالب من الميلاد إلى الاستشهاد، د. أحمد السيد يعقوب يوسف الرفاعي، دار الفضيلة، القاهرة.
17 - الأمين ذو النورين، محمود شاكر، المكتب الإسلامي، الطبعة الأولى 1418هـ.
18 - الأنساب، أبو سعيد عبد الكريم بن محمد بن منصور التميمي، تحقيق عبد الرحمن بن يحيى المعلمي اليماني، بيروت، الناشر محمد أمين دمج.
19 - أوليات الفاروق، د. غالب عبد الكافي القرشي، المكتب الإسلامي، بيروت، مكتبة الحرمين، الرياض، الطبعة الأولى، 1403هـ - 1983م.
20 - الإبانة في أصول الديانة، لأبي الحسن الأشعري، طبعة الجامعة الإسلامية.
21 - الإتقان للسيوطي، دار ابن كثير، دمشق، بيروت، 1407هـ- 1987م.
22 - إتمام الوفاء في سيرة الخفاء، محمد الخضري، دار المعرفة، بيروت، 1996م.
23 - الإدارة العسكرية في الدولة الإسلامية، نشأتها وتطورها، الدكتور سليمان بن صالح بن سليمان آل كمال، جامعة أم القرى، معهد البحوث وإحياء التراث.(1/440)
24 - إرشاد العباد للاستعداد ليوم المعاد، عبد العزيز المحمد السلمان، مطابع الخالد، الرياض، الطبعة الأولى 1406هـ.
25 - الإصابة في تمييز الصحابة، أحمد بن علي بن حجر، دار الكتب العلمية، بيروت.
26 - الانشراح ورفع الضيق بسيرة أبي بكر الصديق، د. علي محمد الصلابي، مكتبة الصحابة، الشارقة، الطبعة الأولى، 1421هـ- 2000م.
27 - الاجتهاد في الفقه الإسلامي، عبد السلام السليماني، وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية بالمغرب، طبعة 1417هـ- 1996م.
28 - استشهاد عثمان ووقعة الجمل في مرويات سيف بن عمر في تاريخ الطبري .. دراسة نقدية، د. خالد بن محمد الغيث، دار الأندلس الخضراء، جدة، 1418هـ.
29 - الاستيعاب في معرفة الأصحاب، لأبي عمر يوسف بن عبد الله بن عبد البر، دار الجيل، بيروت، الطبعة الأولى، 1412هـ - 1992م.
30 - الاعتصام، أبو إسحاق إبراهيم بن موسى اللخمي.
31 - اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم، لتقي الدين ابن تيمية، تحقيق د. ناصر العقل، طبع مطابع العبيكان، الرياض، الطبعة الأولى، 1404هـ.
32 - البحرين في صدر الإسلام وأثرها في حركة الخوارج، عبد الرحمن عبد الكريم النجم، دار الحرية، بغداد، 1973م.
33 - البداية والنهاية، أبو الفداء الحافظ ابن كثير الدمشقي، دار الريان.
34 - البيان والتبيين، للجاحظ، أبو عثمان عمرو بن بحر، دار الخانجي بمصر.(1/441)
35 - تاريخ الدعوة الإسلامية في زمن الرسول والخلفاء الراشدين، د. جميل عبد الله المصري، الطبعة الأولى، 1407هـ - 1987م.
36 - تاريخ ابن خلدون، دار النفائس، الرياض، الطبعة الأولى، 1419هـ- 1999م.
37 - تاريخ الأمم والملوك لأبي جعفر الطبري، دار الفكر، بيروت، 1407هـ- 1987م.
38 - تاريخ الإسلام، عهد الخلفاء الراشدين، محمد بن أحمد بن عثمان الذهبي، دار الكتاب العربي، الطبعة الأولى، 1407هـ- 1987م.
39 - التاريخ الإسلامي مواقف وعبر، د. عبد العزيز عبد الله الحميدي، دار الدعوة، الإسكندرية، دار الأندلس الخضراء، جدة، الطبعة الأولى 1418هـ- 1998م.
40 - تاريخ التشريع الإسلامي، محمد الخضري، المكتبة التجارية الكبرى، مطبعة السعادة، الطبعة السادسة، 1373هـ- 1954م.
41 - تاريخ الجدل، محمد أبو زهرة، دار الفكر العربي، الطبعة الأولى، 1934م.
42 - تاريخ العرب الأدبي في الجاهلية وصدر الإسلام، نكلسن، رينولد، ترجمة صفاء خلوصي, بغداد، مطبعة المعارف 1388هـ- 1969م.
43 - تاريخ القضاء في الإسلام، د. محمد الزحيلي، دار الفكر، دمشق, دار الفكر المعاصر، لبنان، الطبعة الأولى، 1415هـ- 1995م.
44 - تاريخ القضاعي، كتاب عيون المعارف وفنون أخبار الخلائف للإمام القاضي محمد بن سلامة بن جعفر الشافعي، مطبوعات جامعة أم القرى.
45 - تاريخ المدينة، أبو زيد بن شبه النميري البصري، تحقيق محمود شلتوت، نشر السيد حبيب محمود أحمد، المدينة، 1393هـ.
46 - تاريخ اليعقوبي، دار بيروت للطباعة والنشر، طبعة 1400هـ- 1980م.
47 - تاريخ اليمن السياسي في العصر الإسلامي، حسن سليمان محمود, بغداد 1969م.(1/442)
48 - تاريخ خليفة بن خياط، أبو عمر خليفة بن خياط بن أبي هبيرة الليثي، تحقيق أكرم ضياء العمري، مؤسسة الرسالة، ودار القلم، بيروت، 1397م.
49 - تاريخ دمشق، ابن عساكر، ترجمة عثمان - رضي الله عنه -، تحقيق سكينة الشهابي، نشر المجلس العلمي بدمشق، 1984م.
50 - تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم، على الصلابي، دار الصحابة، الطبعة الأولى، 1421هـ.
51 - التبيين في أنساب القرشيين، موفق الدين أبي محمد عبد الله بن أحمد بن محمد بن قدامة المقدسي، حققه محمد نايف الدليمي، عالم الكتب.
52 - تجريد أسماء الصحابة، شمس الدين محمد بن أحمد بن عثمان الذهبي، تصحيح صالحة عبد الحكيم شرف الدين، طبعة شرف الدين الكتبي وأولاده، بومباي، الهند، 1389هـ.
53 - تحفة الأحوذي بشرح سنن الترمذي، محمد عبد الرحمن المباركفوري، تصحيح عبد الرحمن محمد عثمان، مطبعة الاعتماد، نشر محمد عبد المحسن الكتبي.
54 - تحقيق مواقف الصحابة في الفتنة من روايات الطبري والمحدثين، تأليف د. محمد أمحزون، دار طيبة، مكتبة الكوثر، الرياض 1415هـ- 1994م.
55 - تذكرة الحفاظ، شمس الدين محمد بن أحمد بن عثمان الذهبي، دار إحياء التراث، بيروت.
56 - التربية القيادية، منير الغضبان، دار الوفاء، المنصورة، مصر 1418هـ - 1998م.
57 - تفسير القرطبي، لأبي عبد الله محمد بن أحمد الأنصار، القرطبي، دار إحياء التراث العربي، بيروت، لبنان 1965م.
58 - التفوق والنجابة على نهج الصحابة، حمد بن بيله بن مرهان العجمي، مكتبة العبيكان، الرياض، الطبعة الأولى.(1/443)
59 - تقريب التهذيب، لابن حجر.
60 - التمهيد والبيان في مقتل الشهيد عثمان، محمد بن يحيى بن أبي بكر المالقي الأندلسي، حققه د. محمود يوسف زايد، دار الثقافة، الدوحة، الطبعة الأولى، 1405هـ- 1985م.
61 - التنظيمات الاجتماعية والاقتصادية في البصرة في القرن الأول الهجري، صالح العلي، الطبعة الثانية، دار الطليعة، بيروت 1969م.
62 - تهذيب ابن عساكر، دار إحياء التراث العربي، بيروت، 1407هـ- 1987م.
63 - تهذيب التهذيب، أحمد بن علي بن حجر، دار صادر، بيروت.
64 - جامع العلوم والحكم لابن رجب الحنبلي، مكتبة طيبة، المدينة المنورة، مؤسسة الكتب الثقافية، بيروت، الطبعة الثانية، 1410هـ- 1990م.
65 - الجرح والتعديل، أبو محمد عبد الرحمن بن أبي حاتم الرازي، مطبعة مجلس دائرة المعارف العثمانية بحيدر آباد، الدكن، الهند، 1372هـ.
66 - جمهرة أنساب العرب، علي بن أحمد بن حزم الأندلسي، تحقيق عبد السلام هارون، القاهرة، 1382هـ.
67 - جولة تاريخية في عصر الخلفاء الراشدين، د. محمد السيد الوكيل، دار المجتمع، الطبعة الخامسة، 1416هـ- 1995م.
68 - حذيفة بن اليمان، إبراهيم العلي، دار القلم، دمشق، 1417هـ- 1996م.
69 - حروب الإسلام في الشام في عهود الخلفاء الراشدين، محمد أحمد باشميل، الطبعة الأولى، 1400هـ- 1980م.
70 - حروب الردة وبناء الدولة الإسلامية، أحمد سعيد بن سالم، دار المنار.(1/444)
71 - الحضارة العربية في الإسلام، د. واضح الصمد، المؤسسة الحديثة للكتاب، طرابلس، لبنان.
72 - حقبة من التاريخ، عثمان الخميس، دار الإيمان، الإسكندرية.
73 - الحكمة في الدعوة إلى الله، سعيد القحطاني، مؤسسة الجريسي، الرياض.
74 - حلية الأولياء وطبقات الأصفياء، لأبي نعيم أحمد بن عبد الله الأصفهاني، دار الكتب العلمية، بيروت.
75 - الخراج لأبي يوسف، منشورات مكتبة الرياض الحديثة، بدون تاريخ الطبع.
76 - الخراج وصناعة الكتابة، أبو الفتوح قدامة بن جعفر بن قدامة بن زياد البغدادي، شرح وتحقيق د. محمد حسين الزبيدي، دار الرشيد، بغداد، 1981م.
77 - الخلافة الراشدة والدولة الأموية من فتح الباري، يحيى بن إبراهيم اليحيى، دار الهجرة.
78 - الخلافة بين التنظير والتطبيق، محمود المرداوي، 1403هـ- 1983م.
79 - خلافة عثمان بن عفان، د. محمد بن صامل السلمي، مكتبة سالم، العزيزية، جامعة أم القرى، الطبعة الأولى، 1419هـ.
80 - الخلافة والخلفاء الراشدون بين الشورى والديمقراطية، المستشار سالم البهنساوي، مكتبة المنار الإسلامية، الطبعة الثانية، 1418هـ- 1997م.
81 - الخلفاء الراشدون أعمال وأحداث، د. أمين القضاة، دار الفرقان، الأردن.
82 - الخلفاء الراشدون بين الاستخلاف والاستشهاد، صلاح عبد الفتاح الخالدي، دار القلم، دمشق، الدار الشامية، بيروت، الطبعة الأولى 1416هـ- 1995م.(1/445)
83 - الخلفاء الراشدون، حسن أيوب، دار التوزيع والنشر الإسلامية، 1418هـ- 1997م.
84 - الخلفاء الراشدون, عبد الوهاب النجار، دار القلم، بيروت، لبنان. 1406هـ- 1986م.
85 - الخليفة الفاروق عمر بن الخطاب، عبد الرحمن عبد الكريم العاني، د. حسن فاضل زغين، دار الشئون الثقافية العامة، بغداد، طبعة 1989م.
86 - الخوارج والشيعة، يوليوس فلهاوزن.
87 - دراسات في الأهواء والفرق والبدع، وموقف السلف منها، د. ناصر بن عبد الكريم، مركز دار إشبليا، الطبعة الأولى، 1418هـ- 1997م.
88 - دراسات في عهد النبوة والخلافة الراشدة، د. عبد الرحمن الشجاع، الطبعة الأولى، 1419هـ- 1999م، دار الفكر المعاصر، صنعاء.
89 - الدراهم المضروبة على الطراز الساساني للخلفاء الراشدين في المتحف العراقي، مجلة المسكوكات، مديرية الآثار العامة بغداد، 1969م، وداد على القزاز.
90 - دماء على قميص عثمان بن عفان، دار البشير، 1421هـ- 2001م.
91 - الدوحة النبوية، د. فاروق حمادة، دار القلم، دمشق، 1420هـ- 2000م.
92 - دور المرأة السياسي في عهد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والخلفاء الراشدين، تأليف أسماء محمد أحمد زيادة، دار السلام بمصر، الطبعة الأولى، 1421هـ- 2001م.
93 - الدولة الأموية المفترى عليها .. دراسة الشبهات ورد المفتريات، د. حمدي شاهين، دار القاهرة للكتاب، 2001م.
94 - الدولة الأموية، يوسف العش، دار الفكر، الطبعة الثانية 1406هـ- 1985م.(1/446)
95 - الدولة الإسلامية في عصر الخلفاء الراشدين، د. حمدي شاهين، دار القاهرة.
96 - الدولة والسيادة، د. فتحي عبد الكريم، مكتبة وهبة، مصر، 1404هـ- 1984م.
97 - الدين الخالص، محمد صديق حسن القنوجي البخاري، تحقيق محمد زهري البخار، مكتبة الفرقان.
98 - ديوان أعشى همدان، عبد الرحمن بن عبد الله بن الحارث، تحقيق د. حسن عيسى أبو ياسين، الرياض، دار العلوم، 1403هـ- 1983م.
99 - ذات الصواري، شوقي أبو خليل، دار الفكر، 1400هـ- 1980م.
100 - ذو النورين عثمان بن عفان، محمد رشيد رضا، دار الكتب العلمية، الطبعة الثانية، 1402هـ- 1982م، بيروت، لبنان.
101 - ذو النورين عثمان بن عفان، محمد مال الله، مكتبة ابن تيمية، 1410هـ- 1989م.
102 - الرد على الرافضة، لأبي حامد محمد المقدسي، تحقيق عبد الوهاب خليل الرحمن، الدار السلفية، بومباي الهند، طبعة أولى 1403هـ.
103 - الرقة والبكاء، موفق الدين عبد الله بن أحمد بن قدامة، دار القلم، دمشق، الدار الشامية، بيروت، الطبعة الثانية، 1422هـ- 2001م.
104 - الروض الأنف في شرح السيرة النبوية لابن هشام، أبو القاسم السهيلي، تحقيق عبد الرحمن الوكيل، دار الكتب الحديثة، طبعة 1387هـ.
105 - الرياض النضرة في مناقب العشرة، لأبي جعفر أحمد الشهير بالمحب الطبري، المكتبة القيمة، القاهرة.
106 - زاد المعاد في هدي خير العباد، أبو عبد الله محمد بن أبي بكر ابن القيم، تحقيق شعيب الأرناؤوط، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط13، 1406هـ.(1/447)
107 - الزهد، للإمام أحمد بن حنبل، تحقيق محمد السعيد بسيوني زغلول، دار الكتاب العربي، بيروت، 1409هـ- 1988م.
108 - سفراء النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، محمود شيت خطاب، مؤسسة الريان، ودار الأندلس الخضراء بجدة، الطبعة الأولى، 1407هـ- 1996م.
109 - سنن أبي داود، الإمام أبو داود، تحقيق وتعليق عزت الدعاس، سوريا.
110 - سنن ابن ماجة، الحافظ أبو عبد الله محمد بن زيد القزويني، دار الفكر.
111 - سنن الترمذي، أبو عيسى محمد بن عيسى الترمذي، دار الفكر، 1398هـ.
112 - السنن الكبرى، للحافظ أحمد بن الحسين البيهقي، طبع دار المعارف، بيروت، لبنان، توزيع مكتبة المعارف، الرياض.
113 - السنة والبدعة، عبد الله باعلوي الحضرمي، دار القلم، دمشق، الدار الشامية، بيروت، طبعة دار القلم، الأولى، 1413هـ- 1992م.
114 - السنة، أبو بكر أحمد بن محمد الخلال، تحقيق د. عطية الزهراني، دار الراية، الرياض، ط1، 1410هـ.
115 - السيادة العربية والشيعة والإسرائيليات، فان فولتن، ترجمة حسن إبراهيم حسن، ومحمد زكي إبراهيم، القاهرة، مكتبة النهضة المصرية، ط2، 1965م.
116 - السياسة الشرعية في إصلاح الراعي والرعية، تقي الدين أحمد بن تيمية، دار المعرفة، بيروت، الطبعة الرابعة، 1969م.
117 - السياسة المالية لعثمان بن عفان، قطب إبراهيم محمد، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1986م.
118 - سير أعلام النبلاء، شمس الدين محمد بن أحمد بن عثمان الذهبي، الطبعة الثانية، مؤسسة الرسالة، بيروت، 1402هـ.(1/448)
119 - سير الشهداء .. دروس وعبر، عبد الحميد بن عبد الرحمن السحيباني، دار الوطن.
120 - السيرة النبوية في ضوء القرآن والسنة، د. محمد أبو شهبة، دار القلم، دمشق.
121 - السيرة النبوية في ضوء المصادر الأصلية، د. مهدي رزق الله أحمد، مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية، الرياض، ط1، 1412هـ- 1999م.
122 - السيرة النبوية لابن هشام، دار إحياء التراث، 1417هـ- 1997م.
123 - السيرة النبوية دروس وعبر، مصطفى السباعي، المكتب الإسلامي، بيروت لبنان، الطبعة التاسعة، 1406هـ- 1986م.
124 - السيرة النبوية عرض وقائع وتحليل أحداث، د. علي محمد الصلابي، دار الصحابة، الشارقة، طبعة أولى، 2001م.
125 - شذرات الذهب في أخبار من ذهب، أبو الفلاح عبد الحي بن أحمد بن حمد الحنبلي، بيروت، المكتب التجاري للطباعة والنشر.
126 - شرح صحيح مسلم، للإمام النووي، بيروت، دار الفكر، طبعة 1981م.
127 - الشرف والتسامي بحركة الفتح الإسلامي، د. علي محمد الصلابي، مكتبة الصحابة، الشارقة، الطبعة الأولى، 1422هـ- 2001م.
128 - شعراء الخلفاء، نبال تيسير الخماش.
129 - شهيد الدار .. عثمان بن عفان، أحمد الخروف، دار البيارق، دار عمار.
130 - الصارم المسلول على شاتم الرسول، لتقي الدين ابن تيمية.
131 - صبح الأعشى في صناعة الإنشا، أبو العباس أحمد بن علي القلقشندي، وزارة الثقافة والإرشاد القومي، القاهرة، بدون تاريخ، نسخة مصورة عن الطبعة الأميرية.(1/449)
132 - صحيح البخاري، لأبي عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري، دار الفكر.
133 - صحيح التوثيق في سيرة وحياة ذي النورين، مجدي فتحي السيد، دار الصحابة بطنطا، مصر.
134 - صحيح السيرة النبوية، إبراهيم العلي، دار النفائس، ط3، 1408هـ- 1998م.
135 - صحيح النسائي للألباني، مكتب التربية العربي لدول الخليج، الرياض.
136 - صحيح سنن ابن ماجه، للألباني، مكتب التربية العربي لدول الخليج، الرياض.
137 - صحيح سنن الترمذي، محمد ناصر الدين الألباني، مكتبة التربية العربي لدول الخليج، الرياض، ط1، 1408هـ.
138 - صحيح مسلم، تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي، دار إحياء التراث العربي، بيروت، لبنان، الطبعة الثانية، 1972م.
139 - الصديقة بنت الصديق، للعقاد، مطبعة المعارف، مصر، 1943م.
140 - صفة الصفوة للإمام أبي الفرج ابن الجوزي، دار المعرفة، بيروت.
141 - صلاح الأمة في علو الهمة، د. سيد بن حسين العفاني، دار الرسالة.
142 - الصواعق المحرقة في الرد على أهل البدع والزندقة، شهاب الدين أبو العباس أحمد بن حجر الهيثمي، دار الكتب العلمية، بيروت.
143 - الطبقات الكبرى، محمد سعيد بن منيع الهاشمي، دار صادر، بيروت.
144 - عائشة والسياسة، سعيد الأفغاني، دار الفكر، بيروت، 1391هـ- 1971م.(1/450)
145 - عبد الله بن سبأ وأثره في أحداث الفتنة في صدر الإسلام، سليمان بن حمد العودة، دار طيبة، الرياض، الطبعة الثالثة، 1412هـ.
146 - عبد الله بن مسعود، عبد الستار الشيخ، دار القلم، دمشق، 1410هـ- 1990م.
147 - عبد الملك بن مروان والدولة الأموية، ضياء الدين الريس، مطابع سجل العرب، الطبعة الثالثة، سنة 1969م.
148 - عثمان بن عفان .. الخليفة الشاكر الصابر، عبد الستار الشيخ، 1412هـ- 1991م.
149 - عثمان بن عفان، صادق عرجون، الدار السعودية، 1410هـ- 1990م.
150 - عثمان بن عفان، محمد حسنين هيكل.
151 - العشرة المبشرون بالجنة، محمد صالح عوض، مؤسسة المختار، القاهرة.
152 - عصر الخلافة الراشدة، الدكتور أكرم ضياء العمري، مكتبة العلوم والحكم.
153 - عصر الخلفاء الراشدين، د. عبد الحميد بخيت، دار المعارف بمصر.
154 - عقائد الشيعة، رونلدسن دوايت، تعريب (ع. م) القاهرة، مكتبة الخانجي، 1365هـ- 1946م.
155 - العقد الفريد، أبو عمر أحمد بن محمد بن عبد ربه بن حبيب، دار الفكر، بيروت.
156 - عقيدة السلف وأصحاب الحديث ضمن الرسائل المنبرية، للشيخ إسماعيل الصابوني، نشر محمد أمين دمج، بيروت 1970م.(1/451)
157 - عقيدة أهل السنة والجماعة في الصحابة الكرام، الدكتور ناصر بن علي عايض حسن الشيخ، مكتبة الرشد، الرياض.
158 - العقيدة في أهل البيت بين الإفراط والتفريط، د. سليمان بن سالم بن رجاء السحيمي، مكتبة الإمام البخاري، الطبعة الأولى 1420هـ- 2000م.
159 - العقيدة والشريعة الإسلامية، جولد تسيهر، أجناس ترجمة، د. محمد يوسف موسى وآخرين، القاهرة، دار الكتب الحديثة.
160 - عمار بن ياسر .. رجل المحنة وميزان الفتنة، أسامة محمد سلطان، المكتبة المكية، مكة المكرمة، الطبعة الأولى، 1420هـ- 1999م.
161 - عمدة القاري شرح صحيح البخاري.
162 - عمرو بن العاص .. الأمير المجاهد، د. منير محمد الغضبان، جامعة أم القرى.
163 - عمرو بن العاص، عبد الخالق سيد أبو رابية، 1408هـ- 1988م.
164 - عمرو بن العاص، محمود العقاد، الناشر دار الكتاب العربي، بيروت، لبنان.
165 - العواصم من القواصم، أبو بكر بن العربي، تحقيق محب الدين الخطيب، إعداد محمد سعيد مبيض، دار الثقافة، قطر، الدوحة، الطبعة الثانية، 1989م.
166 - غزوة الحديبية لأبي فارس، دار الفرقان، عمان، الأردن.
167 - فتح الباري بشرح صحيح البخاري، تحقيق الأستاذ محب الدين الخطيب، دار الريان، القاهرة، ط1، 1407هـ.
168 - فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير، محمد علي الشوكاني، دار الفكر للطباعة والنشر، 1403هـ- 1983م.
169 - الفتنة الكبرى، عثمان، طه حسين، دار المعارف بمصر، 1947م.(1/452)
170 - الفتنة الكبرى، علس وبنوه، طه حسين، دار المعارف بمصر، 1966م.
171 - فتنة مقتل عثمان، د. محمد عبد الله الغبان، مكتبة العبيكان، 1419هـ- 1999م.
172 - الفتنة، أحمد عرموش.
173 - فتوح البلدان، لأبي العباس، أحمد بن يحيى البلاذري، مؤسسة المعارف بيروت، لبنان، 1407هـ- 1987م.
174 - فتوح مصر وأخبارها، لابن عبد الحكم، أبو القاسم عبد الرحمن بن عبد الله بن عبد الحكم، نسخة عن طبعة لندن، 1339هـ- 1920م، نشر مكتبة المثنى بغداد.
175 - فرائد الكلام للخلفاء الكرام، قاسم عاشور، الطبعة الأولى 1419هـ- 1998م.
176 - فصل الخطاب في مواقف الأصحاب، محمد صالح الغرسي، دار السلام، مصر.
177 - الفصل في الملل والأهواء والنحل، لأبي محمد بن حزم الظاهري، مكتبة الخانجي، مصر.
178 - فضائل الصحابة، لأبي عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل، دار ابن الجوزي، السعودية، الطبعة الثانية، 1420هـ- 1999م.
179 - فقه الأولويات، محمد الوكيلي، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، هيرندن، فيرجينيا، 1416هـ- 1997م، الطبعة الأولى.
180 - فقه الخلافة وتطورها لتصبح عصبة أمم شرقية، د. عبد الرزاق أحمد السنهوري، مؤسسة الرسالة، الطبعة الأولى، 1422هـ- 2001م.
181 - الفكر الإسلامي بين المثالية والتطبيق، كامل الشريف.
182 - فيض القدير للمناوي.
183 - قادة الفتح الإسلامي في أرمينية، محمود شيت خطاب، دار الأندلس الخضراء، دار ابن حزم، الطبعة الأولى 1419هـ- 1998م.(1/453)
184 - قادة فتح السند وأفغانستان، محمود شيت خطاب، دار الأندلس الخضراء، دار ابن حزم، الطبعة الأولى، 1419هـ- 1988م.
185 - قادة فتح بلاد المغرب، محمود شيت خطاب، دار الفكر، 1404هـ- 1984م.
186 - القاموس المحيط، للفيروز آبادي، مؤسسة الرسالة، بيروت، لبنان.
187 - القواعد الفقهية .. مفهومها تطورها، دراسة مؤلفاتها، أدلتها، تطبيقها، على محمد الندوي، بيروت، دار القلم، ط1، 1406هـ- 1986م.
188 - القيود الواردة على سلطة الدولة، عبد الله الكيلاني، دار البشير، عمان، مؤسسة الرسالة.
189 - الكامل في التاريخ، أبو الحسن علي بن أبي المكارم الشيباني المعروف بابن الأثير، تحقيق علي شيري، دار إحياء التراث العربي، بيروت 1408هـ- 1989م.
190 - الكامل في اللغة والآداب، لأبي العباس محمد بن يزيد، الناشر البابي الحلبي، مصر، طبعة 1356هـ- 1937م، مؤسسة الرسالة.
191 - كتاب الإمامة والرد على الرافضة لأبي نعيم الأصبهاني، مكتبة العلوم والحكم، المدينة المنورة، الطبعة الثالثة، 1422 هـ- 2001م.
192 - الكفاءة الإدارية في السياسة الشرعية، د. عبد الله قادري، دار المجتمع، جدة.
193 - كيف نكتب التاريخ الإسلامي؟ محمد قطب، دار الوطن السعودية.
194 - لسان العرب، محمد بن مكرم بن منظور، دار صادر، بيروت.
195 - لسان الميزان، أحمد بن علي بن حجر، حيدر آباد الدكن، مطبعة دائرة المعارف العثمانية، 1331هـ- 1912م.(1/454)
196 - ليبيا من الفتح العربي حتى انتقال الخلافة الفاطمية إلى مصر، د. صالح مصطفى مفتاح المزيني، منشورات جامعة قاريونس، ببغازي، الطبعة الثالثة، 1994م.
197 - مبادئ الاقتصاد الإسلامي، سعاد إبراهيم صالح، دار عالم الكتب، الرياض.
198 - المجروحون من المحدثين، أبو حاتم محمد بن حبان بن أحمد التميمي، تحقيق إبراهيم محمود زايد، حلب دار الوعي.
199 - مجلة البحوث الإسلامية، العدد العاشر.
200 - مجلة المؤرخ العربي، رقم 21.
201 - مجمع الأمثال للميداني، تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد، دار المعرفة، بيروت، 1374هـ- 1955م.
202 - مجمع الزوائد ومنبع الفوائد، نور الدين علي بن أبي بكر الهيثمي، بتحرير الحافظين العراقي وابن حجر، دار الكتاب العربي، بيروت، ط3, 1402هـ.
203 - مجموعة الفتاوى، تقي الدين أحمد بن تيمية الحراني، دار الوفاء، 1418هـ.
204 - مجموعة الوثائق السياسية في العهد النبوي والخلافة الراشدة، محمد حميد الله، دار النفائس، الطبعة الخامسة، 1405هـ- 1985م.
205 - المدينة المنورة .. فجر الإسلام والعصر الراشدي، محمد محمد حسن شراب، دار القلم، دمشق، الدار الشامية، بيروت، الطبعة الأولى، 1415هـ- 1994م.
206 - مرويات أبي مخنف في تاريخ الطبري، يحيى إبراهيم اليحيى، دار العاصمة، الرياض، الطبعة الأولى، 1410هـ.
207 - مرويات العهد المكي، عادل عبد الغفور.
208 - مرويات خلافة معاوية في تاريخ الطبري، خالد الغيث، دار الأندلس الخضراء، جدة.(1/455)
209 - المستدرك على الصحيحين، لأبي عبد الله محمد بن عبد الله النيسابوري، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، الطبعة الأولى، 1411هـ- 1990م.
210 - مسند الإمام أحمد، المكتب الإسلامي، بيروت، لبنان.
211 - المعارف لابن قتيبة.
212 - معاوية بن أبي سفيان صحابي كبير وملك مجاهد، منير محمد الغضبان، دار القلم، دمشق، الطبعة الثالثة، 1417هـ- 1996م.
213 - معجم البلدان، ياقوت الحموي، دار صادر، بيروت، 1397هـ- 1977م.
214 - معجم الطبراني الكبير، لأبي القاسم سليمان بن أحمد الطبراني، مكتبة العلوم والحكم، الطبعة الثانية، 1406هـ- 1985م.
215 - معرفة الصحابة لأبي نعيم المتوفى سنة 430هـ، تحقيق محمد راضي ابن حاج عثمان، مكتبة الدار في المدينة النبوية، ومكتبة الحرمين في الرياض، 1408هـ.
216 - المعرفة والتاريخ للفسوي، لأبي يوسف الفسوي، تحقيق أكرم ضياء العمري، مطبعة الإرشاد، بغداد، 1394هـ.
217 - المغازي، محمد عمر الواقدي، د. مارسدن جونس، عالم الكتب، بيروت، ط3، 1404هـ- 1984م.
218 - المغني، موفق الدين أبو محمد عبد الله بن أحمد بن قدامة، تحقيق د. عبد الله التركي، د. عبد الفتاح الحلو، دار هجر، القاهرة، ط1، 1412هـ.
219 - المنار المنيف في الصحيح والضعيف، القاهرة، مطبعة السنة المحمدية.
220 - مناقب الشافعي للبيهقي، تحقيق أحمد صقر، مكتبة دار التراث، 1391هـ.
221 - المنتظم في تاريخ الملوك والأمم، لأبي الفرج عبد الرحمن بن علي بن محمد بن الجوزي، دار الكتب العلمية، بيروت.(1/456)
222 - منهج السنة النبوية، ابن تيمية، تحقيق محمد رشاد سالم، مؤسسة قرطبة.
223 - منهج التربية الإسلامية، محمد قطب، دار الشروق، ط5، 1403هـ- 1983م.
224 - منهج الرسول في غرس الروح الجهادية في نفوس أصحابه، د. السيد محمد نوح، نشرته جامعة الإمارات العربية المتحدة، ط1، 1411هـ- 1990م.
225 - موارد الظمآن إلى زوائد ابن حبان، تحقيق حسين الداراني، عبده كوشك، دار الثقافة العربية، دمشق، ط1، 1411هـ.
226 - المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار، المعروف بالخطط للمقريزي، أحمد بن علي بن عبد القادر تقي الدين أبو العباس المقريزي.
227 - موسوعة التاريخ الإسلامي، أحمد شلبي، مكتبة النهضة المصرية، 1996م.
228 - الموسوعة الحديثية، مسند الإمام أحمد، وزارة الشئون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد بالسعودية، الطبعة الثانية، 1420هـ- 1999م.
229 - موسوعة فقه عثمان بن عفان، الدكتور محمد رواس قلعجي، دار النفائس، طبعة 1404هـ- 1983م.
230 - ميزان الاعتدال في نقد الرجال، محمد بن عثمان الذهبي، تحقيق: علي البجاوي، دار إحياء الكتب العربية، القاهرة، الطبعة الأولى، 1382هـ.
231 - النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة، جمال الدين أبي المحاسن يوسف بن تغري بردي، وزارة الثقافة والإرشاد القومي، القاهرة، بدون تاريخ.
232 - نساء أهل البيت، أحمد خليل جمعة، دار ابن كثير، دمشق، سوريا.
233 - نشأة الفقه الاجتهادي وأطواره، محمد السايس، مطبعة الأزهر، 1387هـ- 1967م، مجمع البحوث بالأزهر، المؤتمر الرابع.
234 - نظام الأراضي في صدر الدولة الإسلامية، محمد حسن أبو يحيى، دار عمار، عمان.(1/457)
235 - نظام الحكم في الإسلام، عارف أبو عبيد، دار النفائس، الأردن، 1416هـ- 1996م.
236 - نظام الحكم في الشريعة والتاريخ الإسلامي، ظافر القاسمي، دار النفائس، بيروت، الطبعة الثالثة، 1407هـ- 1987م.
237 - نظام الحكم في عهد الخلفاء الراشدين، حمد محمد الصمد، المؤسسة الجماعية للدراسات والنشر والتوزيع، بيروت، الطبعة الأولى، 1414هـ.
238 - نظام الخلافة في الفكر الإسلامي، الدكتور مصطفى حلمي، دار الدعوة، الإسكندرية.
239 - النظم الإسلامية، صبحي الصالح، دار العلم للملايين، بيروت، لبنان.
240 - النظم الإسلامية، وقائع ندوة أبو ظبي، مكتب التراث العربي لدول الخليج.
241 - نهاية الأرب في فنون الأدب، شهاب الدين أحمد بن عبد الوهاب النويري، الهيئة المصرية العامة للكتاب، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، القاهرة 1395هـ.
242 - الهجرة في القرآن الكريم، أحزمي سامعون جزولي، مكتبة الرشد، الرياض، ط1، 1417هـ- 1996م.
243 - وجوب التعاون بين المسلمين للسعدي، دار المعارف، الرياض، طبعة 1402هـ.
244 - الوحدة الإسلامية، محمد أبو زهرة.
245 - وفيات الأعيان وأنباء الزمان، لابن خلكان أبو العباس شمس الدين أحمد، تحقيق: إحسان عباس، دار صادر، بيروت.
246 - ولاة مصر، أبو يوسف محمد يوسف الكندي، تحقيق د. حسن نصار، دار صادر، بيروت، بدون تاريخ.(1/458)
247 - ولاية الشرطة في الإسلام، د. نمر الحميداني، دار عالم الكتب، الرياض.
248 - الولاية على البلدان، في عصر الخلفاء الراشدين، د. عبد العزيز إبراهيم العمري.
249 - اليمن في صدر الإسلام، د. عبد الرحمن الشجاع، دار الفكر، دمشق.
* * *(1/459)