من أسماء النبي الأمين
محمد - أحمد
في الكتاب العربي المبين
****** تفسير الآيات التي ورد فيها أحد هذين الإسمين الشريفين ******
تأليف
أبو يوسف محمد زايد
الحمد لله الذي أكرم صفيَّه من خلقه، خليلَه المرتضى ، ونبيَّه المجتبى، ورسولَه المصطفى ( ، باسميْن اشتقهما له من اسمه ( الحميد ) ، وهما : محمد و أحمد ...
فشقّ له من اسمه ليجله فذو العرش محمود وهذا محمد .
وذكره بالأول في أربع آيات من القرآن العظيم ، وبالثاني في آية واحدة.... وهذه جولة مباركة- بإذن الله - رفقة نخبة من أعلام المفسرين في رياض هذه الآيات المزهرات العطرات وما حولها من كلام رب العالمين المنزل بلسان عربي مبين على خاتم الأنبياء والمرسلين ( ....
******************************************************
بسم الله الرحمن الرحيم(1/1)
1- ? وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ * وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الْآَخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ * وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ * وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ * فَآَتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآَخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ *? (آل عمران : 144 -148)
(قال الطبري رحمه الله:(1/2)
يعني تعالى ذكره بذلك: وما محمد إلا رسول كبعض رسل الله الذين أرسلهم إلى خلقه داعيا إلى الله وإلى طاعته, الذين حين انقضت آجالهم ماتوا وقبضهم الله إليه يقول. جلّ ثناؤه: فمحمد ( إنما هو فيما الله به صانع من قبضه إليه عند انقضاء مدة أجله كسائر مدة رسله إلى خلقه الذين مضوا قبله وماتوا عند انقضاء مدة آجالهم. ثم قال لأصحاب محمد معاتبهم على ما كان منهم من الهلع والجزع حين قيل لهم بأُحد: إن محمدا قتل, ومقبحا إليهم انصراف من انصرف منهم عن عدوّهم وانهزامه عنهم: {أفِئنْ مَاتَ} محمد أيها القوم لانقضاء مدة أجله, أو قتله عدوّكم, {انْقَلَبْتُمْ على أعْقَابِكُمْ} يعني ارتددتم عن دينكم الذي بعث الله محمدا بالدعاء إليه, ورجعتم عنه كفارا بالله بعد الإيمان به, وبعد ما قد وضحت لكم صحة ما دعاكم محمد إليه, وحقيقة ما جاءكم به من عند ربه.؟ {وَمَنْ يَنقَلِبْ على عَقِبَيْهِ} يعني بذلك: ومن يرتدد منكم عن دينه ويرجع كافرا بعد إيمانه, {فَلَنْ يَضُرّ الله شَيْئا} يقول: فلن يوهن ذلك عزّة الله ولا سلطانه, ولا يدخل بذلك نقص في ملكه, بل نفسَه يضرّ بردته, وحظّ نفسه ينقص بكفره. {وَسَيَجزِي اللّهُ الشّاكِرِين} يقول: وسيثيب الله من شكره على توفيقه وهدايته إياه لدينه بنبوّته على ما جاء به محمد ( إن هو مات أو قتل واستقامته على منهاجه, وتمسكه بدينه وملته بعده. كما:
ـ حدثنا المثنى, قال: حدثنا إسحاق, قال: حدثنا عبد الله بن هاشم, قال: أخبرنا سيف بن عمر, عن أبي روق, عن أبي أيوب, عن عليّ في قوله: {وَسَيَجزِي اللّهُ الشّاكِرِين}: الثابتين على دينهم أبا بكر وأصحابه. فكان عليّ رضي الله عنه يقول: كان أبو بكر أمين الشاكرين وأمين أحباء الله, وكان أشكرهم وأحبهم إلى الله.
ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا جرير, عن مغيرة, عن العلاء بن بدر, قال: إن أبا بكر أمين الشاكرين. وتلا هذه الاَية: {وَسَيَجزِي اللّهُ الشّاكِرِين}.(1/3)
ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلمة, عن ابن إسحاق: {وَسَيَجزِي اللّهُ الشّاكِرِين}: أي من أطاعه وعمل بأمره.
وذكر أن هذه الاَية أنزلت على رسول الله ( فيمن انهزم عنه بأُحد من أصحابه. ذكر الأخبار الواردة بذلك:
ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: {وَما مُحَمّدٌ إلاّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرّسُلُ} إلى قوله: {وَسَيَجزِي اللّهُ الشّاكِرِين} ذاكم يوم أُحد حين أصابهم القرح والقتل, ثم تنازعوا نبيّ الله ( بقية ذلك, فقال أناس: لو كان نبيا ما قتل. وقال أناس من علية أصحاب نبيّ الله (: قاتلوا على ما قاتل عليه محمد نبيكم, حتى يفتح الله لكم, أو تلحقوا به. فقال الله عزّ وجلّ: {وَما مُحَمّدٌ إلاّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرّسُلُ أفِئنْ ماتَ أوْ قُتِل انْقَلَبْتُمْ على أعْقابِكُمْ} يقول: إن مات نبيكم, أو قتل, ارتددتم كفارا بعد إيمانكم.
ـ حدثني المثنى, قال: حدثنا إسحاق, قال: حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع بنحوه, وزاد فيه: قال الربيع: وذكر لنا والله أعلم أن رجلاً من المهاجرين مر على رجل من الأنصار وهو يتشحط في دمه, فقال: يا فلان أشعرت أن محمدا قد قتل؟ فقال الأنصاري: إن كان محمد قد قتل, فقد بلّغ, فقاتلوا عن دينكم! فأنزل الله عز وجل: {وَما مُحَمّدٌ إلاّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرّسُلُ أفِئنْ ماتَ أوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ على أعْقابِكُمْ؟} يقول: ارتددتم كفارا بعد إيمانكم.(1/4)
ـ حدثنا محمد بن الحسين, قال: حدثنا أحمد بن المفضل, قال: حدثنا أسباط, عن السدي, قال: لما برز رسول الله ( يوم أحد إليهم ـ يعني إلى المشركين ـ أمر الرماة فقاموا بأصل الجبل في وجه خيل المشركين, وقال: "لا تَبْرَحُوا مَكانَكُمْ إنْ رأيْتُمُونا قَدْ هَزَمْناهُمْ, فإنّا لَنْ نَزَالَ غالِبِينَ ما ثَبَتّمْ مَكانَكُمْ" وأمّر عليهم عبد الله بن جبير أخا خوات بن جبير. ثم شد الزبير بن العوام والمقداد بن الأسود على المشركين, فهزماهم, وحمل النبي ( وأصحابه, فهزموا أبا سفيان ... فلما رأى ذلك خالد بن الوليد وهو على خيل المشركين قدم, فرمته الرماة فانقمع. فلما نظر الرماة إلى رسول الله ( وأصحابه في جوف عسكر المشركين ينتهونه, بادروا الغنيمة, فقال بعضهم: لا نترك أمر رسول الله ( ! فانطلق عامتهم فلحقوا بالعسكر ... فلما رأى خالد قلة الرماح, صاح في خيله, ثم حمل فقتل الرماة, وحمل على أصحاب النبيّ ( , فلما رأى المشركون أن خيلهم تقاتل, تبادروا فشدّوا على المسلمين فهزموهم وقتلوهم, فأتى ابن قميئة الحارثي أحد بني الحارث بن عبد مناف بن كنانة, فرمى رسول الله ( بحجر فكسر أنفه ورباعيته, وشجّه في وجهه فأثقله, وتفرّق عنه أصحابه, ودخل بعضهم المدينة, وانطلق بعضهم فوق الجبل إلى الصخرة, فقاموا عليها, وجعل رسول الله ( يدعو الناس: "إليّ عبادَ اللّهِ! إليّ عِبادَ اللّهِ!" فاجتمع إليه ثلاثون رجلاً, فجعلوا يسيرون بين يديه, فلم يقف أحد إلا طلحة وسهل بن حنيف, فحماه طلحة, فُرمي بسهم في يده فيبست يده, وأقبل أبيّ بن خلف الجمحيّ ـ وقد حلف ليقتلنّ النبيّ (, فقال النبيّ ( : "بَلْ أنا أقْتُلُكَ" ـ فقال: يا كَذّاب أين تفرّ؟ فحمل عليه فطعنه النبيّ ( في جنب الدرع, فجرح جرحا خفيفا, فوقع يخور خوران الثور, فاحتملوه وقالوا: ليس بك جراحة, قال: أليس قال: لأقتلنك ؟ لو كانت لجميع ربيعة ومضر لقتلتهم. ولم يلبث إلا يوما أو بعض يوم حتى مات من(1/5)
ذلك الجرح. وفشا في الناس أن رسول الله ( قد قتل, فقال بعض أصحاب الصخرة: ليت لنا رسولاً إلى عبد الله بن أبيّ, فنأخذ لنا أمنة من أبي سفيان! يا قوم إن محمدا قد قتل, فارجعوا إلى قومكم قبل أن يأتوكم فيقتلوكم! قال أنس بن النضر: يا قوم إن كان محمد قد قتل, فإنّ ربّ محمد لم يقتل, فقاتلوا على ما قاتل عليه محمد ( ! اللهمّ إني أعتذر إليك مما يقول هؤلاء, وأبرأ إليك مما جاء به هؤلاء. ثم شدّ بسيفه فقاتل حتى قتل. وانطلق رسول الله ( يدعو الناس حتى انتهى إلى أصحاب الصخرة .. فلما رأوه وضع رجل سهما في قوسه فأراد أن يرميه, فقال: "أنا رَسُولُ الله", ففرحوا حين وجدوا رسول الله ( حيا, وفرح رسول الله ( حين رأى أن في أصحابه من يمتنع. فلما اجتمعوا وفيهم رسول الله ( , ذهب عنهم الحزن, فأقبلوا يذكرون الفتح وما فاتهم منه ويذكرون أصحابه الذين قتلوا, فقال الله عزّ وجلّ للذين قالوا: إن محمدا قد قتل فارجعوا إلى قومكم: {وَما مُحَمّدٌ إلاّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرّسُلُ أَفِئنْ ماتَ أوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ على أعْقابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ على عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرّ اللّهَ شَيْئا وَسَيَجزِي اللّهُ الشّاكِرِين}.
ـ حدثني محمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, عن عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: {وَمَنْ يَنْقَلِبْ على عَقِبَيْهِ} قال: يرتد.
ـ حدثني محمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, عن عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن أبيه وحدثني المثنى, قال: حدثنا أبو حذيفة, قال: حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن أبيه: أن رجلاً من المهاجرين مرّ على رجل من الأنصار وهو يتشحط في دمه, فقال: يا فلان أشعرت أن محمدا قد قتل؟ فقال الأنصاريّ: إن كان محمد قد قتل فقد بلغ, فقاتلوا عن دينكم.(1/6)
ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلمة, قال: ثني ابن إسحاق, قال: ثني القاسم بن عبد الرحمن بن رافع أخو بني عبد النجار, قال: انتهى أنس بن النضر عمّ أنس بن مالك إلى عمر وطلحة بن عبيد الله في رجال من المهاجرين والأنصار, وقد ألقوا بأيديهم, فقال: ما يجلسكم؟ قالوا: قد قتل محمد رسول الله. قال: فما تصنعون بالحياة بعده؟ قوموا فموتوا على ما مات عليه رسول الله! واستقبل القوم فقاتل حتى قتل. وبه سمي أنس بن مالك.
ـ حدثني المثنى, قال: حدثنا إسحاق, قال: حدثنا أبوزهير, عن جويبر, عن الضحاك, قال: نادى مناد يوم أحد حين هزم أصحاب محمد (: ألا إن محمدا قد قتل, فارجعوا إلى دينكم الأوّل! فأنزل الله عزّ وجلّ: {وَما مُحَمّدٌ إلاّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرّسُلُ}... الاَية.
ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الحسين, قال: ثني حجاج, عن ابن جريج, عن مجاهد, قال: ألقي في أفواه المسلمين يوم أُحد أن النبيّ ( قد قُتِل, فنزلت هذه الاَية: {وَما مُحَمّدٌ إلاّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرّسُلُ}... الاَية.
ـ حدثني محمد بن سعد, قال: ثني أبي, قال: ثني عمي, قال: ثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس: أن رسول الله ( اعتزل هو وعصابة معه يومئذ على أكمة, والناس يفرّون, ورجل قائم على الطريق يسألهم: ما فعل رسول الله ( ؟ وجعل كلما مرّوا عليه يسألهم, فيقولون: والله ما ندري ما فعل! فقال: والذي نفسي بيده لئن كان النبيّ ( قتل لنعطينهم بأيدينا, إنهم لعشائرنا وإخواننا! وقالوا: إن محمدا إن كان حيا لم يهزم, ولكنه قد قتل, فترخصوا في الفرار حينئذ, فأنزل الله عزّ وجلّ على نبيه (: {وَما مُحَمّدٌ إلاّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرّسُلُ}... الاَية.(1/7)
حدثت عن الحسين بن الفرج, قال: سمعت أبا معاذ, قال: حدثنا عبيد بن سليمان, قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: {وَما مُحَمّدٌ إلاّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرّسُلُ}... الاَية: ناس من أهل الارتياب والمرض والنفاق, قالوا يوم فرّ الناس عن نبيّ الله ( , وشجّ فوق حاجبه, وكسرت رباعيته: قتل محمد, فالحقوا بدينكم الأوّل! فذلك قوله: {أفَئِنْ ماتَ أوْ قُتِل انْقَلَبْتُمْ على أعْقابِكُمْ}.
ـ حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد في قوله: {أفَئِنْ مات أوْ قُتِل انْقَلَبْتُمْ على أعْقابِكُمْ}؟ قال: ما بينكم وبين أن تدعو الإسلام وتنقلبوا على أعقابكم, إلا أن يموت محمد أو يقتل, فسوق يكون أحد هذين, فسوف يموت أو يقتل.
ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلمة, عن ابن إسحاق: {وَما مُحَمّدٌ إلاّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرّسُلُ} إلى قوله: {وَسَيَجزِي اللّهُ الشّاكِرِين}: أي لقول الناس قتل محمد, وانهزامهم عند ذلك وانصرافهم عن عدوّهم, أي أفَئِنْ مات نبيكم أو قتل رجعتم عن دينكم كفارا كما كنتم, وتركتم جهاد عدوكم وكتاب الله, وما قد خلف نبيه من دينه معكم وعندكم¹ وقد بين لكم فيما جاءكم عني أنه ميت ومفارقكم؟ {ومَنْ يَنْقَلِبْ على عَقِبَيْهِ}: أي يرجع عن دينه, {فَلَنْ يَضُرّ الله شَيْئا}: أي لن ينقص ذلك من عزّ الله ولا ملكه ولا سلطانه.
ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الحسين, قال: ثني حجاج, قال: قال ابن جريج: قال: أهل المرض والارتياب والنفاق, حين فرّ الناس عن النبيّ (: قد قتل محمد, فألحقوا بدينكم الأول! فنزلت هذه الاَية.(1/8)
ومعنى الكلام: وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل, أفتنقلبون على أعقابكم إن مات محمد أو قتل؟ ومن ينقلب على عقبيه فلن يضرّ الله شيئا! فجعل الاستفهام في حرف الجزاء, ومعناه أن يكون في جوابه (خبر) وكذلك كل استفهام دخل على جزاء, فمعناه أن يكون في جوابه (خبر) لأن الجواب خبر يقوم بنفسه والجزاء شرط لذلك الخبر ثم يجزم جوابه وهو كذلك, ومعناه الرفع لمجيئه بعد الجزاء, كما قال الشاعر:
حَلَفْتُ لَهُ إنْ تُدلِجِ اللّيلَ لا يَزلْ أمامَك بَيْتٌ مِنْ بَيُوِتيَ سائِرُ
فمعنى "لا يزل" رفع, ولكنه جزم لمجيئه بعد الجزاء فصار كالجواب. ومثله: {أفَئِنْ مُتّ فَهُمُ الخالدونَ} و{فَكيفَ تتقونَ إنْ كفرتم} ولو كان مكان فهم الخالدون يخلدون وقيل: أفَئِنْ متّ يخلدوا جاز الرفع فيه والجزم, وكذلك لو كان مكان "انقلبتم" "تنقلبوا" جاز الرفع والجزم لما وصفت قبل. وتركت إعادة الاستفهام ثانية مع قوله: "انقلبتم" اكتفاء بالاستفهام في أول الكلام, وأن الاستفهام في أوله دالّ على موضعه ومكانه. وقد كان بعض القراء يختار في قوله: {أئِذا مِتْنَا وكُنّا تُرابا وعظاما أئِنّا لَمْبعُوثُون} ترك إعادة الاستفهام مع "أئنا", اكتفاء بالاستفهام في قوله: {أئِذَا مِتْنَا وكُنّا تُرابا}, ويستشهد على صحة وجه ذلك باجتماع القراء على تركهم إعادة الاستفهام مع قوله: "انقلبتم", اكتفاء بالاستفهام في قوله: {أفَئِنْ مات} إذا كان دالاّ على معنى الكلام وموضع الاستفهام منه, وكان يفعل مثل ذلك في جميع القرآن, وسنأتي على الصواب من القول في ذلك إن شاء الله إذا انتهينا إليه.
الآية : 145
القول في تأويل قوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاّ بِإِذْنِ الله كِتَاباً مّؤَجّلاً وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الدّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الاَخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشّاكِرِينَ }(1/9)
يعني تعالى ذكره بذلك: وما يموت محمد ولا غيره من خلق الله إلا بعد بلوغ أجله الذي جعله الله غاية لحياته وبقائه, فإذا بلغ ذلك من الأجل الذي كتبه الله له وأذن له بالموت فحينئذ يموت, فأما قبل ذلك فلن تموت بكيد كائد ولا بحيلة محتال. كما:
ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلمة, عن ابن إسحاق: {وَما كان لِنَفْسٍ أنْ تَمُوتَ إلاّ بإذْنِ اللّهِ كِتابا مُؤَجّلاً}: أي أن لمحمد أجلاً هو بالغه إذا أذن الله له في ذلك كان.
وقد قيل: إن معنى ذلك: وما كانت نفس لتموت إلا بإذن الله.
وقد اختلف أهل العربية في معنى الناصب قوله: {كِتابا مُؤجّلاً} فقال بعض نحويي البصرة: هو توكيد, ونصبه على: كتب الله كتابا مؤجلاً, قال: وكذلك كل شيء في القرآن من قوله "حقّا", إنما هو: أحقّ ذلك حقّا, وكذلك: {وَعْدَ اللّهِ} و{رحْمَةً مِنْ رَبّكَ} وَ{صُنْعَ اللّهِ الّذِي أتْقَنَ كلّ شيءٍ} و{كِتَابَ اللّهِ عَلَيكُمْ} إنما هو: صنع الله هكذا صنعا, فهكذا تفسير كل شيء في القرآن من نحو هذا, فإنه كثير.
وقال بعض نحويي الكوفة في قوله: {وَما كان لِنَفْسٍ أنْ تَمُوتَ إلاّ بإذْنِ اللّهِ} معناه: كتب الله آجال النفوس, ثم قيل: كتابا مؤجلاً, فأخرج قوله: كتابا مؤجلاً, نصبا من المعنى الذي في الكلام, إذ كان قوله: {وَما كان لِنَفْسٍ أنْ تَمُوتَ إلاّ باذْنِ اللّهِ} قد أدّى عن معنى "كتب", قال: وكذلك سائر ما في القرآن من نظائر ذلك, فهو على هذا النحو.
وقال آخرون منهم: قول القائل: زيد قائم حقا, بمعنى: أقول زيد قائم حقا, لأن كل كلام قول, فأدّى المقول عن القول, ثم خرج ما بعده منه, كما تقول: أقول قولاً حقّا, وكذلك ظنّا ويقينا, وكذلك وَعْدَ الله, وما أشبهه.(1/10)
والصواب من القول في ذلك عندي, أن كل ذلك منصوب على المصدر من معنى الكلام الذي قبله, لأن في كل ما قبل المصادر التي هي مخالفة ألفاظها ألفاظ ما قبلها من الكلام معاني ألفاظ المصادر وإن خالفها في اللفظ فنصبها من معاني ما قبلها دون ألفاظه.
يعني بذلك جلّ ثناؤه: من يرد منكم أيها المؤمنون بعمله جزاء منه بعض أعراض الدنيا دون ما عند الله من الكرامة, لمن ابتغى بعمله ما عنده {نُؤْتِهِ مِنْها} يقول: نعطه منها, يعني: من الدنيا, يعني: أنه يعطيه منها ما قسم له فيها من رزق أيام حياته, ثم لا نصيب له في كرامة الله التي أعدّها لمن أطاعه, وطلب ما عنده في الاَخرة. {وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الاَخِرَةِ} يقول: ومن يرد منكم بعمله جزاء منه ثواب الاَخرة, يعني ما عند الله من كرامته التي أعدّها للعاملين له في الاَخرة, {نُؤْتِهِ مِنْهَا} يقول: نعطه منها, يعني من الاَخرة¹ والمعنى: من كرامة الله التي خصّ بها أهل طاعته في الاَخرة. فخرج الكلام على الدنيا والاَخرة, والمعنى ما فيهما. كما:
ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلمة, عن ابن إسحاق: {ومَنْ يُرِدْ ثَواب الدّنيْا نُؤْتِهِ مِنْها وَمْن يُرِدْ ثَوابَ الاَخِرِةِ نُؤْتِهِ مِنْها}: أي فمن كان منكم يريد الدنيا ليست له رغبة في الاَخرة, نؤته ما قسم له منها من رزق, ولا حظّ له في الاَخرة, ومن يرد ثواب الاَخرة نؤته منها ما وعده مع ما يُجْرَى عليه من رزقه في دنياه.
وأما قوله: {وَسَنَجْزِي اللّهُ الشّاكِرِين} يقول: وسأثيب من شكر لي ما أوليته من إحساني إليه بطاعته إياي وانتهائه إلى أمري وتجنبه محارمي في الاَخرة, مثل الذي وعدت أوليائي من الكرامة على شكرهم إياي. وقال ابن إسحاق في ذلك بما:
ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلمة, عن ابن إسحاق: {وَسَنَجْزِي اللّهُ الشّاكِرِين} أي ذلك جزاء الشاكرين, يعنى بذلك: إعطاء الله إياه ما وعده في الاَخرة مع ما يجرى عليه من الرزق في الدنيا.(1/11)
الآية : 146
القول في تأويل قوله تعالى: {وَكَأَيّن مّن نّبِيّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبّيّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُواْ لِمَآ أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَمَا ضَعُفُواْ وَمَا اسْتَكَانُواْ وَاللّهُ يُحِبّ الصّابِرِينَ }
اختلفت القراء في قراءة ذلك, فقرأه بعضهم: {وكَأَيّنْ} بهمز الألف وتشديد الياء وقرأه آخرون: بمدّ الألف وتخفيف الياء. وهما قراءتان مشهورتان في قراءة المسلمين, ولغتان معروفتان لا اختلاف في معناهما, فبأيّ القراءتين قرأ ذلك قارىء فمصيب, لاتفاق معنى ذلك وشهرتهما في كلام العرب. ومعناه: وكم من نبيّ.
القول في تأويل قوله تعالى: {قُتِل مَعَهُ رِبّيُون كَثِيرٌ}.
اختلفت القراء في قراءة قوله: {قُتِل مَعَهُ رِبّيُون كَثِيرٌ} فقرأ ذلك جماعة من قراء الحجاز والبصرة: "قُتِل" بضم القاف, وقرأه جماعة أخرى بفتح القاف وبالألف, وهي قراءة جماعة من قراء الحجاز والكوفة. فأما من قرأ {قَاتَلَ} فإنه اختار ذلك لأنه قال: لو قتلوا لم يكن لقوله: {فمَا وهَنُوا} وجه معروف, لأنه يستحيل أن يوصفوا بأنهم لم يهنوا ولم يضعفوا بعد ما قتلوا. وأما الذين قرءوا ذلك: "قتل", فإنهم قالوا: إنما عنى بالقتل النبيّ وبعض من معه من الربيين دون جميعهم, وإنما نفى الوهن والضعف عمن بقي من الربيين ممن لم يقتل.(1/12)
وأولى القراءتين في ذلك عندنا بالصواب, قراءة من قرأ بضمّ القاف: "قُتِل مَعَهُ رِبّيُون كَثِيرٌ" لأن الله عزّ وجلّ إنما عاتبَ بهذه الاَية, والاَيات التي قبلها من قوله: {أمْ حَسِبْتُمْ أنْ تَدْخُلُوا الجَنّة ولمّا يَعْلَمِ اللّهُ الّذِين جاهَدُوا مِنْكُمْ} الذين انهزموا يوم أُحد, وتركوا القتال, أو سمعوا الصائح يصيح: إن محمدا قد قتل, فعذلهم الله عزّ وجلّ على فرارهم وتركهم القتال, فقال: أفَئِنْ مات محمد أو قتل أيها المؤمنون ارتددتم عن دينكم, وانقلبتم على أعقابكم؟ ثم أخبرهم عما كان من فعل كثير من أتباع الأنبياء قبلهم وقال لهم: هلا فعلتم كما كان أهل الفضل والعلم من أتباع الأنبياء قبلكم يفعلونه إذا قتل نبيهم من المضيّ على منهاج نبيهم والقتال على دينه أعداء دين الله على نحو ما كانوا يقاتلون مع نبيهم, ولم تهنوا ولم تضعفوا كما لم يضعف الذين كانوا قبلكم من أهل العلم والبصائر من أتباع الأنبياء إذا قتل نبيهم, ولكنهم صبروا لأعدائهم حتى حكم الله بينهم وبينهم! وبذلك من التأويل جاء تأويل المتأوّل.
وأما "الرّبّيّون", فإنهم مرفوعون بقوله: "معه", لا بقوله: "قتل".
وإنما تأويل الكلام: وكائن من نبيّ قتل ومعه ربيون كثير, فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله. وفي الكلام إضمار واو, لأنها واو تدلّ على معنى حال قتل النبيّ (, غير أنه اجتزأ بدلالة ما ذكر من الكلام عليها من ذكرها, وذلك كقول القائل في الكلام: قتل الأمير معه جيش عظيم, بمعنى: قتل ومعه جيش عظيم.
وأما الرّبّيّون, فإن أهل العربية اختلفوا في معناه, فقال بعض نحويي البصرة: هم الذين يعبدون الربّ واحدهم رِبّيّ. وقال بعض نحويي الكوفة: لو كانوا منسوبين إلى عبادة الربّ لكانوا "رَبّيون" بفتح الراء, ولكنه العلماء والألوف, والرّبّيّونَ عندنا: الجماعة الكثيرة, واحدهم رِبّي, وهم جماعة.
واختلف أهل التأويل في معناه, فقال بعضهم مثل ما قلنا. ذكر من قال ذلك:(1/13)
ـ حدثنا ابن بشار, قال: حدثنا عبد الرحمن, قال: حدثنا سفيان, عن عاصم, عن زرّ, عن عبد الله: الربيون: الألوف.
ـ حدثني يعقوب بن إبراهيم, قال: حدثنا هشيم, قال: أخبرنا عوف عمن حدثه, عن ابن عباس في قوله: {رِبّيُون كَثِيرٌ} قال: جموع كثيرة.
حدثني المثنى, قال: حدثنا عبد الله بن صالح, قال: ثني معاوية, عن عليّ, عن ابن عباس, قوله: {قاتَلَ مَعَهُ رِبّيُون كَثِيرٌ} قال: جموع.
حدثني حميد بن مسعدة, قال: حدثنا بشر بن المفضل, قال: حدثنا شعبة, عن عاصم, عن زر, عن عبد الله: "وكأيّنْ مِنْ نَبِيّ قُتِل مَعَهُ رِبّيُون كَثِيرٌ" قال: الألوف.
وقال آخرون بما:
ـ حدثني به سليمان بن عبد الجبار, قال: حدثنا محمد بن الصلت, قال: حدثنا أبو كدينة, عن عطاء, عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس: "وكأيّنْ مِنْ نَبِيّ قُتِل مَعَهُ رِبّيُون كَثِيرٌ" قال: علماء كثير.
ـ حدثني يعقوب بن إبراهيم, قال: حدثنا هشيم, قال: أخبرنا عوف, عن الحسن في قوله: "وكأيّنْ مِنْ نَبِيّ قُتِل مَعَهُ رِبّيُون كَثِيرٌ" قال: فقهاء علماء.
ـ حدثني يعقوب بن إبراهيم, قال: حدثنا ابن علية. عن أبي رجاء, عن الحسن, في قوله: "وكأيّنْ مِنْ نَبيّ قُتِل مَعَهُ رِبّيُون كَثِيرٌ" قال: الجموع الكثيرة. قال يعقوب: وكذلك قرأها إسماعيل: "قُتِل مَعَهُ رِبّيُون كَثِيرٌ".
ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة: "وكأيّنْ مِنْ نَبِيّ قُتِل مَعَهُ رِبّيُون كَثِيرٌ" يقول: جموع كثيرة.
حدثنا الحسن بن يحيى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, عن الحسن في قوله: "قُتِل مَعَهُ رِبّيُون كَثِيرٌ" قال: علماء كثيرة. وقال قتادة: جموع كثيرة.
ـ حدثنا الحسن بن يحيى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا ابن عيينة, عن عمرو, عن عكرمة في قوله: {رِبّيُون كَثِيرٌ} قال: جموع كثيرة.(1/14)
ـ حدثني محمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, عن عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد في قول الله عزّ وجلّ: "قُتِل مَعَهُ رِبّيّون كَثِيرٌ" قال: جموع كثيرة.
ـ حدثت عن عمار, قال: حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع: "قُتِل مَعَهُ رِبّيّون كَثِيرٌ" يقول: جموع كثيرة.
ـ حدثني المثنى, قال: حدثنا إسحاق, قال: حدثنا أبو زهير, عن جويبر, عن الضحاك في قوله: "وكأيّنْ مِنْ نَبَيّ قُتِل مَعَهُ رِبّيّون كَثِيرٌ" يقول: جموع كثيرة قتل نبيهم.
ـ حدثني المثنى, قال: حدثنا سويد بن نصر, قال: أخبرنا ابن المبارك, عن جعفر بن حبان, والمبارك عن الحسن في قوله: "وكأيّنْ مِنْ نَبِيّ قاتَل مَعَهُ رِبّيّون كَثِيرٌ" قال جعفر: علماء صبروا. وقال ابن المبارك: أتقياء صبروا.
حدثت عن الحسين بن الفرج, قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد بن سليمان, قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: "قُتِل مَعَهُ رِبّيّون كَثِيرٌ" يعني الجموع الكثيرة قتل نبيهم.
ـ حدثنا محمد بن الحسين, قال: حدثنا أحمد, قال: حدثنا أسباط, عن السدي: {قاتَلَ مَعَهُ رِبّيُون كَثِيرٌ} يقول: جموع كثيرة.
ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلمة, عن ابن إسحاق, قوله: "وكأيّنْ مِنْ نَبِيّ قُتِل مَعَهُ رِبّيُون كَثِيرٌ" قال: وكأين من بنيّ أصابه القتل, ومعه جماعات.
حدثني محمد بن سعد, قال: ثني أبي, قال: ثني عمي, قال: ثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس: "وكأيّنْ مِنْ نَبِيّ قُتِل مَعَهُ رِبّيّون كَثِيرٌ" الربيون: الجموع الكثيرة.
وقال آخرون: الربيون: الإتباع. ذكر من قال ذلك:(1/15)
ـ حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد في قوله: "وكأيّنْ مِنْ نَبِيّ قُتِلَ مَعَهُ رِبّيّونَ كَثِيرٌ" قال: الربيون: الأتباع, والربانيون: الولاة, والربّيون: الرعية. وبهذا عاتبهم الله حين انهزموا عنه, حين صاح الشيطان إن محمدا قد قتل, قال: كانت الهزيمة عند صياحه في سنينة صاح: أيها الناس إن محمدا رسول الله قد قتل, فارجعوا إلى عشائركم يؤمنوكم.
القول في تأويل قوله: {فَمَا وَهَنُوا لِمَا أصَابَهُمْ في سَبِيلِ اللّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَما اسْتَكانُوا وَاللّهُ يُحِبّ الصّابِرِينَ}.
يعني بقوله تعالى ذكره: {فَمَا وَهَنُوا لِمَا أصَابَهُمْ في سَبِيلِ اللّهِ}: فما عجزوا لما نالهم من ألم الجراح الذي نالهم في سبيل الله, ولا لقتل من قتل منهم عن حرب أعداء الله, ولا نكلوا عن جهادهم. {وَما ضَعُفُوا} يقول: وما ضعفت قواهم لقتل نبيهم. {وَما اسْتَكانُوا} يعني: وما ذلوا فيتخشعوا لعدوّهم بالدخول في دينهم, ومداهنتهم فيه, خيفة منهم, ولكن مضوا قدما على بصائرهم ومنهاج نبيهم, صبرا على أمر الله وأمر نبيهم وطاعة الله, واتباعا لتنزيله ووحيه. {وَاللّهُ يُحِبّ الصّابِرِينَ} يقول: والله يحبّ هؤلاء وأمثالهم من الصابرين لأمره وطاعته, وطاعة رسوله, في جهاد عدوّه, لا من فشل ففرّ عن عدوّه, ولا من انقلب على عقبيه فذلّ لعدوّه لأن قتل نبيه أو مات, ولا من دخله وهن عن عدوّه وضعف لفقد نبيه.
وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة: {فَمَا وَهَنُوا لِمَا أصَابَهُمْ في سَبِيلِ اللّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَما اسْتَكانُوا} يقول: ما عجزوا, وما تضعضعوا لقتل نبيهم, {وما اسْتَكَانُوا} يقول: ما ارتدّوا عن نصرتهم ولا عن دينهم, بل قاتلوا على ما قاتل عليه نبيّ الله حتى لحقوا بالله.(1/16)
ـ حدثني المثنى, قال: حدثنا إسحاق, قال: حدثنا عبد الله بن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع في قوله: {فَمَا وَهَنُوا لِمَا أصَابَهُمْ في سَبِيلِ اللّهِ وَمَا ضَعُفُوا} يقول: ما عجزوا, وما ضعفوا لقتل نبيهم, {وَما اسْتَكانُوا} يقول: وما ارتدّوا عن نصرتهم, قاتلوا على ما قاتل عليه نبيّ الله صلى الله عليه وسلم حتى لحقوا بالله.
ـ حدثنا محمد بن الحسين, قال: حدثنا أحمد بن المفضل, قال: حدثنا أسباط, عن السديّ: {فَمَا وَهَنُوا}: فما وهن الربيون لما أصابهم في سبيل الله, من قتل النبيّ ( {وَما ضَعُفُوا} يقول: ما ضعفوا في سبيل الله لقتل النبيّ {وَما اسْتَكانُوا} يقول: ما ذلوا حين قال رسول الله ( : "اللّهُمّ لَيْسَ لَهُمْ أنْ يَعْلُونا", {وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وأنْتُمُ الأعْلَوْنَ إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}.
ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلمة, عن ابن إسحاق: {فَمَا وَهَنُوا} لفقد نبيهم, {وَما ضَعُفُوا} عن عدوهم, {وَما اسْتَكانُوا} لما أصابهم في الجهاد عن الله, وعن دينهم, وذلك الصبر {وَاللّهُ يُحِبّ الصّابِرين}.
ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الحسين, قال: ثني حجاج, عن ابن جريج, قال: قال ابن عباس: {وَما اسْتَكانُوا} قال: تخشعوا.
ـ حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد: {وَما اسْتَكانُوا} قال: ما استكانوا لعدوّهم¹ {وَاللّهُ يُحِبّ الصّابِرِينَ}.
الآية : 147
القول في تأويل قوله تعالى: {وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلاّ أَن قَالُواْ ربّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِيَ أَمْرِنَا وَثَبّتْ أَقْدَامَنَا وانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ }(1/17)
يعني تعالى ذكره بقوله: {وَما كانَ قَوْلَهُمْ}: وما كان قول الربيين. والهاء والميم من ذكر أسماء الربيين. {إلاّ أنْ قالُوا} يعني ما كان لهم قول سوى هذا القول إذ قتل نبيهم. وقوله: {رَبّنا اغْفِرْ لنا ذُنُوبَنا} يقول: لم يعتصموا إذ قتل نبيهم إلا بالصبر على ما أصابهم, ومجاهدة عدوّهم, وبمسألة ربهم المغفرة والنصر على عدوّهم. ومعنى الكلام: {وَما كانَ قَوْلَهُمْ إلاّ أنْ قالُوا رَبّنا اغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا}. وأما الإسراف: فإنه الإفراط في الشيء, يقال منه: أسرف فلان في هذا الأمر إذا تجاوز مقداره فأفرط, ومعناه ههنا: اغفر لنا ذنوبنا الصغار منها وما أسرفنا فيه منها فتخطينا إلى العظام. وكان معنى الكلام: اغفر لنا ذنوبنا, الصغائر منها والكبائر. كما:
ـ حدثني محمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, عن عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, عن ابن عباس في قول الله: {وَإسْرَافَنا في أمْرِنا} قال: خطايانا.
ـ حدثني المثنى, قال: حدثنا أيو حذيفة, قال: حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: {وَإسْرَافَنا في أمْرِنا}: خطايانا وظلمنا أنفسنا.
ـ حدثت عن الحسين, قال: سمعت أبا معاذ, قال: أخبرنا عبيد الله بن سليمان, قال: سمعت الضحاك في قوله: {وَإسْرَافَنا في أمْرِنا} يعني: الخطايا الكبار.
حدثنا القاسم, قال: حدثنا الحسين, قال: حدثنا أبو تميلة, عن عبيد بن سليمان, عن الضحاك بن مزاحم, قال: الكبائر.
حدثنا القاسم, قال: حدثنا الحسين, قال: ثني حجاج, عن ابن جريج, قال: قال ابن عباس: {وَإسْرَافَنا في أمْرِنا} قال: خطايانا.
حدثني محمد بن سعد, قال: ثني أبي, قال: ثني عمي, قال: ثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس قوله: {وَإسْرَافَنا في أمْرِنا} يقول: خطايانا.(1/18)
وأما قوله: {وَثَبّتْ أقْدَامَنا} فإنه يقول: اجعلنا ممن يثبت لحرب عدوّك وقتالهم, ولا تجعلنا ممن ينهزم فيفرّ منهم, ولا يثبت قدمه في مكان واحد لحربهم. {وَانْصُرْنا على القَوْمِ الكافِرِينَ} يقول: وانصرنا على الذين جحدوا وحدانيتك ونبوّة نبيك. وإنما هذا تأنيب من الله عزّ وجلّ عباده الذين فرّوا عن العدوّ يوم أحد وتركوا قتالهم, وتأديب لهم, يقول الله عزّ وجلّ: هلا فعلتم إذ قيل لكم: قتل نبيكم, كما فعل هؤلاء الربيون, الذين كانوا قبلكم من أتباع الأنبياء, إذ قتلت أنبياؤهم, فصبرتم لعدوكم صبرهم, ولم تضعفوا وتستكينوا لعدوكم, فتحاولوا الارتداد على أعقابكم, كما لم يضعف هؤلاء الربيون ولم يستكينوا لعدوّهم, وسألتم ربكم النصر والظفر كما سألوا, فينصركم الله عليهم كما نصروا, فإن الله يحبّ من صبر لأمره وعلى جهاد عدوّه, فيعطيه النصر والظفر على عدوّه. كما:
ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلمة, عن ابن إسحاق: {وَما كانَ قَوْلَهُمْ إلاّ أنْ قالُوا رَبّنا اغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَإسْرَافَنا في أمْرِنا وَثَبّتْ أقْدَامَنا وَانْصُرْنا على القَوْمِ الكافِرِينَ}: أي فقولوا كما قالوا, واعلموا أنما ذلك بذنوب منكم, واستغفروا كما استغفروا, وامضوا على دينكم كما مضوا على دينهم, ولا ترتدّوا على أعقابكم راجعين, واسألوه كما سألوه أن يثبت أقدامكم, واستنصروه كما استنصروه على القوم الكافرين. فكل هذا من قولهم قد كان وقد قتل نبيهم, فلم يفعلوا كما فعلتم.(1/19)
والقراءة التي هي القراءة في قوله: {وَما كانَ قَوْلَهُمْ} النصب لإجماع قراء الأمصار على ذلك نقلاً مستفيضا وراثة عن الحجة. وإنما اختير النصب في القول, لأن "إلا أن" لا تكون إلا معرفة, فكانت أولى بأن تكون هي الاسم دون الأسماء التي قد تكون معرفة أحيانا ونكرة أحيانا, ولذلك اختير النصب في كل اسم ولي "كان" إذا كان بعده "أن" الخفيفة, كقوله: {فَما كانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إلاّ أنْ قالُوا اقْتُلُوهُ أوْ حَرّقُوهُ} وقوله: {ثُمّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتَهُمْ إلاّ أنْ قالُوا}. فأما إذا كان الذي يلي كان اسما معرفة, والذي بعده مثله, فسواء الرفع والنصب في الذي ولي "كان", فإن جعلت الذي ولي "كان" هو الاسم رفعته ونصبت الذي بعده, وإن جعلت الذي ولي "كان" هو الخبر نصبته ورفعت الذي بعده, وذلك كقوله جلّ ثناؤه: {ثُمّ كانَ عاقِبَةَ الّذِينَ أساءُوا السّوأى} إن جعلت "العاقبة" الاسم رفعتها, وجعلت "السوأى" هي الخبر منصوبة, وإن جعلت "العاقبة" الخبر نصبت, فقلت: وكان عاقبة الذين أساءوا السوأى, وجعلت السوأى هي الاسم, فكانت مرفوعة, وكما قال الشاعر:
لقدْ عَلِمَ الأقوَامُ ما كانَ دَاءَها بَثهْلانَ إلا الخِزْيُ مِمّنْ يَقُودُها
رُوى أيضا: "ما كان داؤها بثهلان إلا الخزيَ", نصبا ورفعا, على ما قد بينت, ولو فعل مثل ذلك مع "أن" كان جائزا, غير أن أفصح الكلام ما وصفت عند العرب.
الآية : 148
القول في تأويل قوله تعالى:{فَآتَاهُمُ اللّهُ ثَوَابَ الدّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الاَخِرَةِ وَاللّهُ يُحِبّ الْمُحْسِنِينَ }(1/20)
يعني بذلك تعالى ذكره: فأعطى الله الذين وصفهم بما وصفهم من الصبر على طاعة الله بعد مقتل أنبيائهم, وعلى جهاد عدوّهم, والاستعانة بالله في أمورهم, واقتفائهم مناهج إمامهم, على ما أبلوا في الله {ثَوَابَ الدّنْيَا} يعني: جزاء في الدنيا, وذلك النصر على عدوّهم وعدوّ الله, والظفر والفتح عليهم, والتمكين لهم في البلاد {وَحُسْنَ ثَوَابِ الاَخِرَةِ} يعني: وخير جزاء الاَخرة, على ما أسلفوا في الدنيا من أعمالهم الصالحة, وذلك الجنة ونعيمها. كما:
ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: {وَما كانَ قَوْلَهُمْ إلاّ أنْ قالُوا رَبّنا اغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا} فقرأ حتى بلغ: {وَاللّهُ يُحِبّ المُحْسِنِينَ}: أي والله لاَتاهم الله الفتح والظهور والتمكين والنصر على عدوّهم في الدنيا, {وَحُسْنَ ثَوَابِ الاَخِرَةِ} يقول: حسن الثواب في الاَخرة: هي الجنة.
ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الحسين, قال: ثني حجاج, عن ابن جريج, في قوله: {فَآتاهُمُ اللّهُ ثَوَابَ الدّنْيا} قال: النصر والغنيمة, {وَحُسْنَ ثَوَابِ الاَخِرَةِ} قال: رضوان الله ورحمته.
ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلمة, عن ابن إسحاق: {فآتاهُمُ اللّهُ ثَوَابَ الدّنْيا}: حسن الظهور على عدوّهم, {وَحُسْنَ ثَوَابِ الاَخِرَةِ}: الجنة, وما أعدّ فيها. وقوله: {وَاللّهُ يُحِبّ المُحْسِنِينَ} يقول تعالى ذكره: فعل الله ذلك بإحسانهم, فإنه يحب المحسنين, وهم الذين يفعلون مثل الذي وصف عنهم تعالى ذكره أنهم فعلوه حين قتل نبيهم.
( وقال ابن كثير رحمه الله(1/21)
لما انهزم من انهزم من المسلمين يوم أحد وقتل من قتل منهم, نادى الشيطان: ألا إن محمداً قد قتل, ورجع ابن قميئة إلى المشركين, فقال لهم: قتلت محمداً, وإنما كان قد ضرب رسول الله ( فشجه في رأسه, فوقع ذلك في قلوب كثير من الناس واعتقدوا أن رسول الله ( قد قتل, وجَوّزوا عليه ذلك, كما قد قص الله عن كثير من الأنبياء عليهم السلام, فحصل ضعف ووهن وتأخر عن القتال, ففي ذلك أنزل الله تعالى على رسوله ( : {وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل} أي له أسوة بهم في الرسالة وفي جواز القتل عليه, قال ابن أبي نجيح عن أبيه: أن رجلاً من المهاجرين مر على رجل من الأنصار وهو يتشحط في دمه فقال له: يا فلان أشعرت أن محمداً ( قد قتل, فقال الأنصاري: إن كان محمد قد قتل فقد بلغ, فقاتلوا عن دينكم, فنزل {وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل} رواه الحافظ أبو بكر البيهقي في دلائل النبوة.(1/22)
ثم قال تعالى منكراً على من حصل له ضعف {أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم} أي رجعتم القهقرى {ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئاً وسيجزي الله الشاكرين} أي الذين قاموا بطاعته وقاتلوا عن دينه, واتبعوا رسوله حياً وميتاً. وكذلك ثبت في الصحاح والمساند والسنن وغيرها من كتب الإسلام من طرق متعددة تفيد القطع, وقد ذكرت ذلك في مسندي الشيخين أبي بكر وعمر رضي الله عنهما أن الصديق رضي الله عنه, تلا هذه الاَية لما مات رسول الله ( . وقال البخاري: حدثنا يحيى بن بكير, حدثنا الليث عن عقيل, عن ابن شهاب, أخبرني أبو سلمة أن عائشة رضي الله عنها, أخبرته أن أبا بكر رضي الله عنه, أقبل على فرس من مسكنه بالسنح حتى نزل فدخل المسجد, فلم يكلم الناس حتى دخل على عائشة, فتيمم رسول الله ( وهو مغشى بثوب حبرة, فكشف عن وجهه ثم أكب عليه وقبله وبكى, ثم قال: بأبي أنت وأمي... والله لا يجمع الله عليك موتتين, أما الموتة التي كتبت عليك فقد مِتّها, وقال الزهري: حدثني أبو سلمة عن ابن عباس أن أبا بكر خرج وعمر يحدّث الناس فقال: اجلس يا عمر... فأبى عمر أن يجلس .. فأقبل الناس إليه وتركوا عمر, فقال أبو بكر: أما بعد ، من كان يعبد محمداً, فإن محمداً قد مات, ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت. قال الله تعالى: { وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ } قال: فوالله لكأن الناس لم يعلموا أن الله أنزل هذه الاَية حتى تلاها عليهم أبو بكر, فتلقاها منه الناس كلهم فما سمعها بشر من الناس إلا تلاها, وأخبرني سعيد بن المسيب أن عمر قال: والله ما هو إلا أن سمعت أبا بكر تلاها فَعَقِرتُ حتى ما تقلني رجلاي, وحتى هويت إلى الأرض. وقال أبو القاسم الطبراني:(1/23)
حدثنا علي بن عبد العزيز, حدثنا عمرو بن حماد بن طلحة القناد, حدثنا أسباط بن نصر عن سماك بن حرب, عن عكرمة, عن ابن عباس, أن علياً كان يقول في حياة رسول الله ( {أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم} والله لا ننقلب على أعقابنا بعد إذ هدانا الله, والله لئن مات أو قتل لأقاتلن على ما قاتل عليه حتى أموت, والله إني لأخوه ووليه وابن عمه ووارثه, فمن أحق به مني ؟
وقوله تعالى: {وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله كتاباً مؤجلاً} أي لا يموت أحد إلا بقدر الله وحتى يستوفي المدة التي ضربها الله له, ولهذا قال {كتاباً مؤجلاً} كقوله {وما يعمر من معمر ولا ينقص من عمره إلا في كتاب} وكقوله {هو الذي خلقكم من طين ثم قضى أجلاً وأجل مسمى عنده} وهذه الاَية فيها تشجيع للجبناء وترغيب لهم في القتال, فإن الإقدام والإحجام لا ينقص من العمر ولا يزيد فيه, كما قال ابن أبي حاتم: حدثنا العباس بن يزيد العبدي قال: سمعت أبا معاوية عن الأعمش عن حبيب بن صُهبان, قال: قال رجل من المسلمين وهو حُجْر بن عدي: ما يمنعكم أن تعبروا إلى هؤلاء العدو هذه النطفة ـ يعني دجلة ـ {وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله كتاباً مؤجلاً} ؟ ثم أقحم فرسه دجلة, فلما أقحم, أقحم الناس, فلما رآهم العدو قالوا: ديوان فهربوا...(1/24)
وقوله {ومن يرد ثواب الدنيا نؤته منها, ومن يرد ثواب الاَخرة نؤته منها} أي من كان عمله للدنيا فقط نال منها ما قدره الله له, ولم يكن له في الاَخرة نصيب, ومن قصد بعمله الدار الاَخرة أعطاه الله منها مع ما قسم له في الدنيا, كما قال تعالى: {من كان يريد حرث الاَخرة نزد له في حرثه, ومن كان يريد حرث الدنيا نؤته منها وما له في الاَخرة من نصيب} وقال تعالى: {من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد ثم جعلنا له جهنم يصلاها مذموماً مدحوراً * ومن أراد الاَخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن فأولئك كان سعيهم مشكوراً} ولهذا قال ههنا {وسنجزي الشاكرين} أي سنعطيهم من فضلنا ورحمتنا في الدنيا والاَخرة بحسب شكرهم وعملهم...(1/25)
ثم قال تعالى مسلياً للمؤمنين عما كان وقع في نفوسهم يوم أحد {وكأين من نبيّ قاتل معه ربيون كثير} قيل: معناه كم من نبي قتل وقتل معه ربيون من أصحابه كثير. وهذا القول هو اختيار ابن جرير فإنه قال: وأما الذين قرأوا {قتل معه ربيون كثير} فإنهم قالوا: إنما عنى بالقتل النبي وبعض من معه من الربيين دون جميعهم, وإنما نفى الوهن والضعف عمن بقي من الربيين ممن لم يقتل, قال: ومن قرأ قاتل فإنه اختار ذلك, لأنه قال: لو قتلوا لم يكن لقول الله {فما وهنوا} وجه معروف لأنه يستحيل أن يوصفوا بأنهم لم يهنوا ولم يضعفوا بعد ما قتلوا, ثم اختار قراءة من قرأ {قتل معه ربيون كثير} لأن الله عاتب بهذه الاَيات والتي قبلها من انهزم يوم أحد وتركوا القتال لما سمعوا الصائح يصيح بأن محمداً قد قتل, فعذلهم الله على فرارهم وتركهم القتال, فقال لهم {أفإن مات أو قتل} أيها المؤمنون ارتددتم عن دينكم و{انقلبتم على أعقابكم} وقيل: وكم من نبي قتل بين يديه من أصحابه ربيون كثير, وكلام ابن إسحاق في السيرة يقتضي قولاً آخر, فإنه قال: وكأين من نبي أصابه القتل ومعه ربيون أي جماعات فما وهنوا بعد نبيهم, وما ضعفوا عن عدوهم, وما استكانوا لما أصابهم في الجهاد عن الله وعن دينهم, وذلك الصبر {والله يحب الصابرين} فجعل قوله {معه ربيون كثير} حالاً, وقد نصر هذا القول السهيلي وبالغ فيه, وله اتجاه لقوله {فما وهنوا لما أصابهم} الاَية, وكذا حكاه الأموي في مغازيه عن كتاب محمد بن إبراهيم ولم يحك غيره, وقرأ بعضهم {قاتل معه ربيون كثير} قال سفيان الثوري, عن عاصم, عن زرّ عن ابن مسعود {ربيون كثير} أي ألوف, وقال ابن عباس ومجاهد وسعيد بن جبير وعكرمة والحسن وقتادة والسدي والربيع وعطاء الخراساني: الربيون الجموع الكثيرة وقال عبد الرزاق عن معمر عن الحسن {ربيون كثير} أي علماء كثير, وعنه أيضاً: علماء صبر أبرار وأتقياء. وحكى ابن جرير عن بعض نحاة البصرة أن الربيين هم(1/26)
الذين يعبدون الرب عز وجل, قال: ورد بعضهم عليه فقال: لو كان كذلك لقيل: الربيون بفتح الراء, وقال ابن زيد: الربيون الأتباع والرعية, والربانيون الولاة. {فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا وما استكانوا}قال قتادة والربيع بن أنس {وما ضعفوا} بقتل نبيهم {وما استكانوا} يقول: فما ارتدوا عن بصيرتهم ولا عن دينهم أن قاتلوا على ما قاتل عليه نبي الله حتى لحقوا بالله, وقال ابن عباس {وما استكانوا} تخشعوا, وقال السدي وابن زيد: وما ذلوا لعدوهم, وقال محمد بن إسحاق والسدي وقتادة: أي ما أصابهم ذلك حين قتل نبيهم {والله يحب الصابرين * وما كان قولهم إلا أن قالوا ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين} أي لم يكن لهم هجير إلا ذلك {فآتاهم الله ثواب الدنيا} أي النصر والظفر والعاقبة {وحسن ثواب الاَخرة} أي جمع لهم ذلك مع هذا {والله يحب المحسنين}.
( وقال القرطبي رحمه الله
الآية: 144 {وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا وسيجزي الله الشاكرين}(1/27)
روى أنها نزلت بسبب انهزام المسلمين يوم أحد حين صاح الشيطان: قد قتل محمد. قال عطية العوفي: فقال بعض الناس: قد أصيب محمد فأعطوهم بأيديكم فإنما هم إخوانكم. وقال بعضهم: إن كان محمد قد أصيب ألا تمضون على ما مضى عليه نبيكم حتى تلحقوا به؛ فأنزل الله تعالى في ذلك "وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل" إلى قوله: "فآتاهم الله ثواب الدنيا" [آل عمران: 148]. وما نافية، وما بعدها ابتداء وخبر، وبطل عمل "ما". وقرأ ابن عباس "قد خلت من قبله رسل" بغير ألف ولام. فأعلم الله تعالى في هذه الآية أن الرسل ليست بباقية في قومها أبدا، وأنه يجب التمسك بما أتت به الرسل وإن فقد الرسول بموت أو قتل. وأكرم نبيه ( وصفيه باسمين مشتقين من اسمه: محمد وأحمد، تقول العرب: رجل محمود ومحمد إذا كثرت خصاله المحمودة، قال الشاعر: إلى الماجد القَرْمِ الجواد المحمد
وقد مضى هذا في الفاتحة. وقال عباس بن مرداس:
يا خاتم النُّبآء إنك مرسل بالخير كل هدى السبيل هداكا
إن الإله بنى عليك محبة في خلقه ومحمدا سماكا
فهذه الآية من تتمة العتاب مع المنهزمين، أي لم يكن لهم الانهزام وإن قتل محمد، والنبوة لا تدرأ الموت، والأديان لا تزول بموت الأنبياء. والله أعلم.(1/28)
هذه الآية أدل دليل على شجاعة الصديق وجرأته، فإن الشجاعة والجرأة حدهما ثبوت القلب عند حلول المصائب، ولا مصيبة أعظم من موت النبي (... فظهرت عنده شجاعته وعلمه. قال الناس: لم يمت رسول الله ( ، منهم عمر، وخرس عثمان، واستخفى علي، واضطرب الأمر فكشفه الصديق بهذه الآية حين قدومه من مسكنه بالسُّنْه، الحديث؛ كذا في البخاري، وفي سنن ابن ماجه عن عائشة قالت: لما قبض رسول الله ( وأبو بكر عند امرأته ابنة خارجة بالعوالي، فجعلوا يقولون: لم يمت النبي ( إنما هو بعض ما كان يأخذه عند الوحي. فجاء أبو بكر فكشف عن وجهه وقبل بين عينيه وقال: أنت أكرم على الله من أن يميتك مرتين. قد والله مات رسول الله ( وعمر في ناحية المسجد يقول: والله ما مات رسول الله (، ولا يموت حتى يقطع أيدي أناس من المنافقين كثير وأرجلهم. فقام أبو بكر فصعد المنبر فقال: من كان يعبد الله فإن الله حي لم يمت، ومن كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات ..."وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا وسيجزي الله الشاكرين". قال عمر: فلكأني لم أقرأها إلا يومئذ. ورجع عن مقالته التي قالها فيما ذكر الوائلي أبو نصر عبيد الله في كتابه الإبانة: عن أنس بن مالك أنه سمع عمر بن الخطاب حين بويع أبو بكر في مسجد رسول الله ( واستوى على منبر رسول الله ( تشهد قبل أبي بكر فقال: أما بعد فإني قلت لكم أمس مقالة وإنها لم تكن كما قلت، وإني والله ما وجدت المقالة التي قلت لكم في كتاب أنزله الله ولا في عهد عهده إلي رسول الله (، ولكني كنت أرجو أن يعيش رسول الله ( حتى يدبرنا - يريد أن يقول حتى يكون آخرنا موتا - فاختار الله عز وجل لرسوله الذي عنده على الذي عندكم، وهذا الكتاب الذي هدى الله به رسوله فخذوا به تهتدوا لما هدى له رسول الله ( . قال الوائلي أبو نصر: المقالة التي قالها ثم رجع عنها هي "أن النبي ((1/29)
لم يمت ولن يموت حتى يقطع أيدي رجال وأرجلهم" وكان قال ذلك لعظيم ما ورد عليه، وخشي الفتنة وظهور المنافقين، فلما شاهد قوة يقين الصديق الأكبر أبي بكر، وتفوهه بقول الله عز وجل: "كل نفس ذائقة الموت" [آل عمران: 185] وقوله: "إنك ميت وإنهم ميتون" [الزمر: 30] وما قاله ذلك اليوم - تنبه وتثبت وقال: كأني لم أسمع بالآية إلا من أبي بكر. وخرج الناس يتلونها في سكك المدينة، كأنها لم تنزل قط إلا ذلك اليوم. ومات ( يوم الاثنين بلا اختلاف، في وقت دخوله المدينة في هجرته حين اشتد الضحاء، ودفن يوم الثلاثاء، وقيل ليلة الأربعاء. وقالت صفية بنت عبدالمطلب ترثي رسول الله ( :
ألا يا رسول الله كنت رجاءنا وكنت بنا برا ولم تك جافيا
وكنت رحيما هاديا ومعلما ليَبْك عليك اليوم من كان باكيا
لعمرك ما أبكي النبي لفقده ولكن لما أخشى من الهرْج آتيا
كأن على قلبي لذكر محمد وما خفت من بعد النبي المكاويا
أفاطم صلى الله رب محمد على جدث أمسى بيثرب ثاويا
فدى لرسول الله أمي وخالتي وعمي وآبائي ونفسي وماليا
صدقت وبلغت الرسالة صادقا ومت صليب العود أبلج صافيا
فلو أن رب الناس أبقى نبينا سعدنا، ولكن أمره كان ماضيا
عليك من الله السلام تحية وأدخلت جنات من العدن راضيا
أرى حسنا أيتمته وتركته يبكِّي ويدعو جده اليوم ناعيا(1/30)
فلِم أُخِّر دفن رسول الله ( وقد قال لأهل بيت أخروا دفن ميتهم: (عجلوا دفن جيفتكم ولا تؤخروها). فالجواب من ثلاثة أوجه: الأول: ما ذكرناه من عدم اتفاقهم على موته. الثاني: لأنهم لا يعلمون حيث يدفنونه. قال قوم في البقيع، وقال آخرون في المسجد، وقال قوم: يحبس حتى يحمل إلى أبيه إبراهيم. حتى قال العالم الأكبر: سمعته يقول: (ما دفن نبي إلا حيث يموت) ذكره ابن ماجه والموطأ وغيرهما. الثالث: إنهم اشتغلوا بالخلاف الذي وقع بين المهاجرين والأنصار في البيعة، فنظروا فيها حتى استتب الأمر وانتظم الشمل واستوثقت الحال، واستقرت الخلافة في نصابها فبايعوا أبا بكر، ثم بايعوه من الغد بيعة أخرى عن ملأ منهم ورضا؛ فكشف الله به الكربة من أهل الردة، وقام به الدّين، والحمد لله رب العالمين. ثم رجعوا بعد ذلك إلى النبي ( فنظروا في دفنه وغسلوه وكفنوه. والله أعلم.
واختلف هل صلي عليه أم لا، فمنهم من قال: لم يصل عليه أحد، وإنما وقف كل واحد يدعو، لأنه كان أشرف من أن يصلى عليه. وقال ابن العربي: وهذا كلام ضعيف؛ لأن السنة تقام بالصلاة عليه في الجنازة، كما تقام بالصلاة عليه في الدعاء، فيقول: اللهم صل على محمد إلى يوم القيامة، وذلك منفعة لنا. وقيل: لم يصل عليه؛ لأنه لم يكن هناك إمام. وهذا ضعيف لأن الذي كان يقيم بهم الصلاة الفريضة هو الذي كان يؤم بهم في الصلاة. وقيل: صلى عليه الناس أفذاذا؛ لأنه كان آخر العهد به، فأرادوا أن يأخذ كل أحد بركته مخصوصا دون أن يكون فيها تابعا لغيره. والله أعلم بصحة ذلك.(1/31)
قلت: قد خرج ابن ماجه بإسناد حسن بل صحيح من حديث ابن عباس وفيه: فلما. فرغوا من جهازه يوم الثلاثاء وضع على سريره في بيته، ثم دخل الناس على رسول الله ( أرسالا يصلون عليه، حتى إذا فرغوا أدخلوا النساء، حتى إذا فرغن أدخلوا الصبيان، ولم يؤم الناس على رسول الله ( أحد. خرجه عن نصر بن علي الجهضمي أنبأنا وهب بن جرير حدثنا أبي عن محمد بن إسحاق. قال حدثني حسين بن عبدالله عن عكرمة عن ابن عباس، الحديث بطوله.
في تغيير الحال بعد موت النبي ( ، عن أنس قال: لما كان اليوم الذي دخل فيه رسول الله ( المدينة أضاء منها كل شيء، فلما كان اليوم الذي مات فيه أظلم منها كل شيء، وما نفضنا عن النبي ( الأيدي حتى أنكرنا قلوبنا. أخرجه ابن ماجه، وقال: حدثنا محمد بن بشار أخبرنا عبدالرحمن بن مهدي حدثنا سفيان عن عبدالله بن دينار عن ابن عمر قال: كنا نتقي الكلام والانبساط إلى نسائنا على عهد رسول الله ( مخافة أن ينزل فينا القرآن، فلما مات رسول الله ( تكلمنا. وأسند عن أم سلمة بنت أبي أمية زوج النبي ( أنها قالت: كان الناس في عهد رسول الله ( إذا قام المصلي يصلي لم يعد بصر أحدهم موضع قدميه، فلما توفي رسول الله ( وكان أبو بكر، فكان الناس إذا قام أحدهم يصلي لم يعد بصر أحدهم موضع جبينه، فتوفى أبو بكر وكان عمر، فكان الناس إذا قام أحدهم يصلي لم يعد بصر أحدهم موضع القبلة، فكان عثمان بن عفان فكانت الفتنة فتلفت الناس في الصلاة يمينا وشمالا.(1/32)
قوله تعالى: "أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم" "أفإن مات" شرط "أو قتل" عطف عليه، والجواب "انقلبتم". ودخل حرف الاستفهام على حرف الجزاء لأن الشرط قد انعقد به وصار جملة واحدة وخبرا واحدا. والمعنى: أفتنقلبون على أعقابكم إن مات أو قتل؟ وكذلك كل استفهام دخل على حرف الجزاء؛ فإنه في غير موضعه، وموضعه أن يكون قبل جواب الشرط. وقوله "انقلبتم على أعقابكم" تمثيل، ومعناه ارتددتم كفارا بعد إيمانكم، قاله قتادة وغيره. ويقال لمن عاد إلى ما كان عليه: انقلب على عقبيه. ومنه "نكص على عقبيه". وقيل: المراد بالانقلاب هنا الانهزام، فهو حقيقة لا مجاز. وقيل: المعنى فعلتم فعل المرتدين وإن لم تكن ردة.
قوله تعالى: "ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا" بل يضر نفسه ويعرضها للعقاب بسبب المخالفة، والله تعالى لا تنفعه الطاعة ولا تضره المعصية لغناه. "وسيجزي الله الشاكرين"، أي الذين صبروا وجاهدوا واستشهدوا. وجاء "وسيجزي الله الشاكرين" بعد قوله: "فلن يضر الله شيئا" فهو اتصال وعد بوعيد.
الآية: 145 {وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله كتابا مؤجلا ومن يرد ثواب الدنيا نؤته منها ومن يرد ثواب الآخرة نؤته منها وسنجزي الشاكرين}(1/33)
قوله تعالى: "وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله كتابا مؤجلا" هذا حض على الجهاد، وإعلام أن الموت لا بد منه وأن كل إنسان مقتول أو غير مقتول ميت إذا بلغ أجله المكتوب له؛ لأن معنى "مؤجلا" إلى أجل. ومعنى "بإذن الله" بقضاء الله وقدره. و"كتابا" نصب على المصدر، أي كتب الله كتابا مؤجلا. وأجل الموت هو الوقت الذي في معلومه سبحانه، أن روح الحي تفارق جسده، ومتى قتل العبد علمنا أن ذلك أجله. ولا يصح أن يقال: لو لم يقتل لعاش. والدليل على قوله: "كتابا مؤجلا" قوله : "إذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون" [الأعراف: 34] وقوله:"إن أجل الله لآت" [العنكبوت: 5] وقوله: "لكل أجل كتاب" [الرعد: 38]. والمعتزلي يقول: يتقدم الأجل ويتأخر، وإن من قتل فإنما يهلك قبل أجله، وكذلك كل ما ذبح من الحيوان كان هلاكه قبل أجله؛ لأنه يجب على القاتل الضمان والدية. وقد بين الله تعالى في هذه الآية أنه لا تهلك نفس قبل أجلها ... وفيه دليل على كتب العلم وتدوينه.
قوله تعالى: "ومن يرد ثواب الدنيا نؤته منها" يعني الغنيمة. نزلت في الذين تركوا المركز طلبا للغنيمة. وقيل: هي عامة في كل من أراد الدنيا دون الآخرة؛ والمعنى نؤته منها ما قسم له. وفي التنزيل: "من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد" [الإسراء: 18]. "ومن يرد ثواب الآخرة نؤته منها" أي نؤته جزاء عمله، على ما وصف الله تعالى من تضعيف الحسنات لمن يشاء. وقيل: لمراد منها عبدالله بن جبير ومن لزم المركز معه حتى قتلوا. "وسنجزي الشاكرين" أي نؤتيهم الثواب الأبدي جزاء لهم على ترك الانهزام، فهو تأكيد لما تقدم من إيتاء مزيد الآخرة. وقيل: "وسنجزي الشاكرين" من الرزق في الدنيا لئلا يتوهم أن الشاكر يحرم ما قسم له مما يناله الكافر.(1/34)
الآيتان: 146 - 147 {وكأين من نبي قاتل معه ربيون كثير فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا وما استكانوا والله يحب الصابرين، وما كان قولهم إلا أن قالوا ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين}
قوله تعالى: "وكأين من نبي قُتِل معه ربيون كثير" قال الزهري: صاح الشيطان يوم أحد: قتل محمد؛ فانهزم جماعة من المسلمين. قال كعب بن مالك: فكنت أول من عرف رسول الله ( ، رأيت عينيه من تحت المغفر تزهران، فناديت بأعلى صوتي: هذا رسول الله ( ، فأومأ إلي أن أسكت، فأنزل الله عز وجل: "وكأين من نبي قتل معه ربيون كثير فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا" الآية. و"كأين" بمعنى كم. قال الخليل وسيبويه: هي أي دخلت عليها كاف التشبيه وبنيت معها فصار في الكلام معنى وكم وصورت في المصحف نونا؛ لأنها كلمة نقلت عن أصلها فغير لفظها لتغير معناها، ثم كثر استعمالها فتلعبت بها العرب وتصرفت فيها بالقلب والحذف، فحصل فيها لغات أربع قرئ بها. وقرأ ابن كثير "وكائن" مثل وكاعن، على وزن فاعل، وأصله كيء فقلبت الياء ألفا، كما قلبت في ييأس فقيل ياءَسُ؛ قال الشاعر:
وكائن بالأباطح من صديق يراني لو أصبت هو المصابا
وقال آخر:
وكائن رددنا عنكم من مدجج يجيء أمام الركب يردي مقنعا
وقال آخر:
وكائن في المعاشر من أناس أخوهم فوقهم وهم كرام
وقرأ ابن محيصن "وكَئِنْ" مهموزا مقصورا مثل وكَعِن، وهو من كائن حذفت ألفه. وعنه أيضا "وكأْيِن" مثل وكَعْيِن وهو مقلوب كيء المخفف. وقرأ الباقون "كأَيِّنْ" بالتشديد مثل كعين وهو الأصل، قال الشاعر:
كأين من أناس لم يزالوا أخوهم فوقهم وهم كرام
وقال آخر:
كأين من عدو بعزنا وكائِنْ أجَرْنا من ضعيف وخائف(1/35)
فجمع بين لغتين: كأَيِّنْ وكائِنْ، ولغة خامسة كَيْئِن مثل كيعن، وكأنه مخفف من كيِّىء مقلوب كأيِّن. ولم يذكر الجوهري غير لغتين: كائن مثل كاعن، وكأَيِّن مثل كعين؛ تقول كأين رجلا لقيت؛ بنصب ما بعد كأين على التمييز. وتقول أيضا: كأين من رجل لقيت؛ وإدخال من بعد كأين أكثر من النصب بها وأجود. وبكأين تبيع هذا الثوب ؟ أي بكم تبيع؛ قال ذو الرمة:
وكائن ذعرنا من مهاة ورامح بلاد العدا ليست له ببلاد
قال النحاس: ووقف أبو عمرو "وكأي" بغير نون؛ لأنه تنوين. وروى ذلك سَوْرَة بن المبارك عن الكسائي. ووقف الباقون بالنون اتباعا لخط المصحف. ومعنى الآية تشجيع المؤمنين، والأمر بالاقتداء بمن تقدم من خيار أتباع الأنبياء؛ أي كثير من الأنبياء قتل معه ربيون كثير، أو كثير من الأنبياء قتلوا فما ارتد أممهم؛ قولان: الأول للحسن وسعيد بن جبير. قال الحسن: ما قتل نبي في حرب قط. وقال ابن جبير: ما سمعنا أن نبيا قتل في القتال. والثاني عن قتادة وعكرمة. والوقف - على هذا القول - على "قتل" جائز، وهي قراءة نافع وابن جبير وأبي عمرو ويعقوب. وهي قراءة ابن عباس واختارها أبو حاتم. وفيه وجهان: أحدهما أن يكون "قتل" واقعا على النبي وحده، وحينئذ يكون تمام الكلام عند قوله "قتل" ويكون في الكلام إضمار، أي ومعه ربيون كثير؛ كما يقال: قتل الأمير معه جيش عظيم، أي ومعه جيش. وخرجت معي تجارة؛ أي ومعي. الوجه الثاني أن يكون القتل نال النبي ومن معه من الربيين، ويكون وجه الكلام قتل بعض من كان معه؛ تقول العرب: قتلنا بني تميم وبني سليم، وإنما قتلنا بعضهم. ويكون قوله "فما وهنوا" راجعا إلى من بقي منهم.(1/36)
قلت: وهذا القول أشبه بنزول الآية وأنسب، فإن النبي ( لم يقتل، وقتل معه جماعة من أصحابه. وقرأ الكوفيون وابن عامر "قاتل" وهي قراءة ابن مسعود؛ واختارها أبو عبيد وقال. إن الله إذا حمد من قاتل كان من قُتِل داخلا فيه، وإذا حمد من قُتِل لم يدخل فيه غيرهم؛ فقاتل أعم وأمدح. و"الربيون" بكسر الراء قراءة الجمهور. وقراءة علي رضي الله عنه بضمها. وابن عباس بفتحها؛ ثلاث لغات. والربيون الجماعات الكثيرة؛ عن مجاهد وقتادة والضحاك وعكرمة، واحدهم رُبِّيَ بضم الراء وكسرها؛ منسوب إلى الربة بكسر الراء أيضا وضمها، وهي الجماعة. وقال عبدالله بن مسعود: الربيون الألوف الكثيرة. وقال ابن زيد: الربيون الأتباع. والأول أعرف في اللغة؛ ومنه يقال للخرقة التي تجمع فيها القداح: رِبّة ورُبّة. والرِّباب قبائل تجمعت. وقال أبان بن ثعلب: الرِّبي عشرة آلاف. وقال الحسن: هم العلماء الصُّبُر. ابن عباس ومجاهد وقتادة والربيع والسدي: الجمع الكثير؛ قال حسان:
وإذا معشر تجافوا عن الحق حملنا عليهم ربيا
وقال الزجاج: ها هنا قراءتان "رُبِّيُّون" بضم الراء "ورِبِّيُّون" بكسر الراء؛ أما الربيون (بالضم): الجماعات الكثيرة. ويقال: عشرة آلاف.
قلت: وقد روي عن ابن عباس "رَبِّيُّون" بفتح الراء منسوب إلى الرب. قال الخليل: الرِّبِّي الواحد من العباد الذين صبروا مع الأنبياء. وهم الربانيون نسبوا إلى التأله والعبادة ومعرفة الربوبية لله تعالى. والله أعلم.(1/37)
قوله تعالى: "فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله" "وهنوا" أي ضعفوا، وقد تقدم. والوهن: انكسار الجد بالخوف. وقرأ الحسن وأبو السمال "وهنوا" بكسر الهاء وضمها، لغتان عن أبي زيد. وهن الشيء يهن وهنا. وأوهنته أنا ووهنته ضعفته. والواهنة: أسفل الأضلاع وقصارها. والوَهَن من الإبل: الكثيف. والوَهْن: ساعة تمضي من الليل، وكذلك الموهن. وأوهنا صرنا في تلك الساعة؛ أي ما وهنوا لقتل نبيهم، أو لقتل من قُتِل منهم، أي ما وهن باقيهم؛ فحذف المضاف. "وما ضعفوا" أي عن عدوهم. "وما استكانوا" أي لما أصابهم في الجهاد. والاستكانة: الذلة والخضوع؛ وأصلها "اسْتَكَنوا" على افتعلوا؛ فأشبعت فتحة الكاف فتولدت منها ألف. ومن جعلها من الكون فهي استفعلوا؛ والأول أشبه بمعنى الآية. وقرئ "فما وهنوا وما ضَعْفوا" بإسكان الهاء والعين. وحكى الكسائي "ضعفوا" بفتح العين. ثم أخبر تعالى عنهم بعد أن قُتل منهم أو قتل نبيهم بأنهم صبروا ولم يفروا ووطنوا أنفسهم على الموت، واستغفروا ليكون موتهم على التوبة من الذنوب إن رزقوا الشهادة، ودعوا في الثبات حتى لا ينهزموا، وبالنصر على أعدائهم. وخصوا الأقدام بالثبات دون غيرها من الجوارح لأن الاعتماد عليها. يقول: فهلا فعلتم وقلتم مثل ذلك يا أصحاب محمد ؟ فأجاب دعاءهم وأعطاهم النصر والظفر والغنيمة في الدنيا والمغفرة في الآخرة إذا صاروا إليها. وهكذا يفعل الله مع عباده المخلصين التائبين الصادقين الناصرين لدينه، الثابتين عند لقاء عدوه بوعده الحق، وقوله الصدق. "والله يحب الصابرين" يعني الصابرين على الجهاد. وقرأ بعضهم "وما كان قولهم" بالرفع؛ جعل القول اسما لكان؛ فيكون معناه وما كان قولُهم إلا قولَهم: "ربنا اغفر لنا ذنوبنا" ومن قرأ بالنصب جعل القول خبر كان. واسمها "إلا أن قالوا". "ربنا اغفر لنا ذنوبنا" يعني الصغائر "وإسرافنا" يعني الكبائر. والإسراف: الإفراط في الشيء ومجاوزة الحد. وفي صحيح مسلم عن أبي(1/38)
موسى الأشعري عن النبي ( أنه كان يدعو بهذا الدعاء (اللهم اغفر لي خطيئتي وجهلي وإسرافي في أمري وما أنت أعلم به مني) وذكر الحديث. فعلى الإنسان أن يستعمل ما في كتاب الله وصحيح السنة من الدعاء ويدع ما سواه، ولا يقول أختار كذا؛ فإن الله تعالى قد اختار لنبيه وأوليائه وعلمهم كيف يدعون.
الآية: 148 {فآتاهم الله ثواب الدنيا وحسن ثواب الآخرة والله يحب المحسنين}
قوله تعالى: "فآتاهم الله" أي أعطاهم "ثواب الدنيا"، يعني النصر والظفر على عدوهم. "وحسن ثواب الآخرة" يعني الجنة. وقرأ الجحدري "فأثابهم الله" من الثواب. "والله يحب المحسنين" ....
وقال الخطيب الشربيني رحمه الله
قوله تعالى :{وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل}= فسيخلو كما خلوا بالموت أو القتل ومحمد هو المستغرق لجميع المحامد؛ لأنّ الحمد لا يستوجبه إلا الكافل والتحيمد فوق الحمد فلا يستحقه إلا المستولي على الأمر في الكمال وأكرم الله تعالى نبيه وصفيه ( باسمين مشتقين من اسمه جل وعلا محمد وأحمد وفيه يقول حسان بن ثابت:
وشق له من اسمه ليجله فذو العرش محمود وهذا محمد .
وقوله تعالى: {أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم} إنكار لارتدادهم وانقلابهم على أعقابهم عن الدين لخلوه ( بموت أو قتل بعد علمهم بخلو الرسل قبله وبقاء دينهم متمسكاً به.(1/39)
فإن قيل: قوله تعالى: {أفإن مات أو قتل} شك وهو على الله محال؟ أجيب: بأن المراد أنه سواء وقع هذا أو ذاك فلا تأثير له في ضعف الدين ووجود الإرتداد، قال ابن عباس وأصحاب المغازي: لما رأى خالد بن الوليد الرماة يوم أحد اشتغلوا بالغنيمة ورأى ظهورهم خالية صاح في خيله من المشركين ثم حمل على أصحاب النبيّ ( من خلفهم، فهزموهم وقتلوهم ورمى عبد الله ابن قمئة رسول الله ( بحجر فكسر أنفه ورباعيته وشجه في وجهه فأثقله وتفرّق عنه أصحابه، ونهض رسول الله ( إلى صخرة ليعلوها وكان قد ظاهر بين درعين فلم يستطع فجلس تحته طلحة فنهض حتى استوى عليها، فقال رسول الله ( "أوجب طلحة" ووقعت هند والنسوة معها يمثلن بالقتلى من أصحاب رسول الله ( يجدعن الآذان والأنوف حتى اتخذت هند من ذلك قلائد وأعطتها وحشياً وبقرت عن كبد حمزة فلاكتها فلم تستطع أن تسيغها فلفظتها وأقبل عبد الله بن قمئة يريد قتل النبيّ ( فذب مصعب بن عمير وهو صاحب راية النبيّ ( فقتله ابن قمئة وهو يرى أنه قتل النبيّ (فرجع وقال: إني قتلت محمداً وصاح صارخاً، ألا إن محمداً قد قتل فقيل: إن ذلك الصارخ كان إبليس فانكفأ الناس وجعل رسول الله ( يدعو الناس: "إليّ عباد الله... إليّ عباد الله" فاجتمع إليه ثلاثون رجلاً فحموه حتى كشفوا عنه المشركين، ورمى سعد بن أبي وقاص حتى اندقت سية قوسه ونثل له رسول الله (كنانته فقال: "ارم فداك أبي وأمي".(1/40)
وكان أبو طلحة رجلاً رامياً شديد النزع كسر يومئذٍ قوسين أو ثلاثاً، فكان الرجل يمرّ ومعه جعبته من النبل فيقول: انثرها لأبي طلحة وكان إذا رمى يشرف النبيّ ( فينظر إلى موضع نبله وأصيبت يد طلحة بن عبيد الله فيبست وقى بها رسول الله ( وأصيبت عين قتادة بن النعمان يومئذٍ حتى وقعت على وجنته فردّها رسول الله ( مكانها، فعادت كأحسن ما كانت، فلما انصرف رسول الله ( أدركه أبيّ بن خلف الجمحي وهو يقول: لا نجوت، لا نجوت، فقال القوم: يا رسول الله ألا يعطف عليه رجل منا، فقال رسول الله صلى( "دعوه... " حتى إذا دنا منه وكان أبيّ قبل ذلك يلقى رسول الله ( فيقول: عندي رمكة أعلفها يوم فرق ذرة أقتلك عليها، فقال رسول الله ("بل أنا أقتلك إن شاء الله" فلما دنا منه تناول رسول الله ( الحربة من الحارث بن الصمة ثم استقبله فطعنه في عنقه وخدشه خدشة فتدهده عن فرسه وهو يخور كما يخور الثور وهو يقول: قتلني محمد واحتمله أصحابه وقالوا: ليس عليك بأس قال: بلى لو كانت هذه الطعنة بربيعة ومضر لقتلتهم أليس قال لي: أقتلك فلو بزق عليّ بعد تلك المقالة لقتلني فلم يلبث إلا يوماً حتى مات بموضع يقال له سرف.(1/41)
قال ابن عباس: اشتدّ غضب الله على من قتله نبيّ، واشتدّ غضب الله على من رمى رسول الله ( قال: وفشا في الناس أن محمداً قد قتل، فقال بعض المسلمين: ليت لنا رسولاً إلى عبد الله بن أبي فيأخذ لنا أماناً من أبي سفيان وبعض الصحابة جلسوا وألقوا بأيديهم وقال أناس من أهل النفاق: إن كان محمد قد قتل فالحقوا بدينكم الأوّل، فقال أنس بن مالك بن النضر: يا قوم إن كان محمد قد قتل، فإن رب محمد لم يقتل وما تصنعون في الحياة بعد رسول الله ( فقاتلوا على ما قاتل عليه رسول الله ( وموتوا على ما مات عليه ثم قال: اللهمّ إني أعتذر إليك مما يقول هؤلاء ـ يعني المسلمين ـ وأبرأ إليك مما جاء به هؤلاء ـ يعني المنافقين ـ ثم شدّ بسيفه فقاتل حتى قتل ثم إن رسول الله ( انطلق إلى الصخرة وهو يدعو الناس، فأوّل من عرف رسول الله ( كعب بن مالك وقال: عرفت عينيه تحت المغفر تزهران فناديت بأعلى صوتي: يا معشر المسلمين أبشروا هذا رسول الله ("فأشار إليّ أن أمسك" فانحازت إليه طائفة من أصحابه فلامهم رسول الله (على الفرار، فقالوا: يا نبيّ الله فديناك بآبائنا وأمّهاتنا أتانا الخبر بأنك قد قتلت فرعبت قلوبنا فولينا مدبرين، فأنزل الله تعالى هذه الآية.
فإن قيل: إنه تعالى بيّن في آيات كثيرة أنه عليه الصلاة والسلام لا يقتل فقال: {إنك ميت وإنهم ميتون} (الزمر، 30) وقال: {والله يعصمك من الناس} (المائدة، 67) وقال: {ليظهره على الدين كله} (التوبة، 33)
وإذا علم أنه لا يقتل فلم قال أو قتل؟ أجيب: بأن هذا ورد على سبيل الإلزام، فإن موسى عليه الصلاة والسلام مات ولم ترجع أمّته عن دينه، والنصارى زعموا أن عيسى عليه الصلاة والسلام قتل ولم يرجعوا عن دينه فكذا ههنا {ومن ينقلب على عقبيه فلن يضرّ الله شيئاً} بارتداده وإنما يضرّ نفسه {وسيجزي الله الشاكرين} على نعمة الإسلام بالثبات عليه كأنس وأضرابه.(1/42)
{وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله} أي: بقضائه ومشيئته أو بإذنه لملك الموت في قبضه روحه وقوله تعالى: {كتاباً} مصدر أي: كتب الله ذلك {مؤجلاً} أي: مؤقتاً لا يتقدّم ولا يتأخر فلم انهزمتم والهزيمة لا تدفع الموت والثبات لا يقطع الحياة.
ونزل في الذين تركوا المركز يوم أحد طلباً للغنيمة {ومن يرد} أي: بعمله {ثواب الدنيا نؤته منها} ما نشاء مما قدّرناه له كما قال تعالى: {من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد} وفي الذين ثبتوا مع أميرهم عبد الله بن جبير حتى قتلوا {ومن يرد} أي: بعمله {ثواب الآخرة نؤته منها} أي: من ثوابها {وسنجزي الشاكرين} أي: الذين شكروا نعمة الله فلم يشغلهم شيء عن الجهاد.
روي أنه ( قال: "من كانت نيته طلب الآخرة جعل الله غناه في قلبه وجمع له شمله وأتته الدنيا وهي راغمة، ومن كانت نيته طلب الدنيا جعل الله الفقر بين عينيه وشتت عليه أمره ولا يأتيه منها إلا ما كتب له" وقال ( "إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرىء ما نوى فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة يتزوّجها فهجرته إلى ما هاجر إليه"(1/43)
وقوله تعالى: {وكأين} أصله أي: دخلت الكاف عليها فصارت مركبة من كاف التشبيه ومن أي: وحدث فيهما بعد التركيب معنى التكثير المفهوم من كم الخبرية ومثلها في التركيب وإفهام التكثير كذا في قولهم: عندي كذا كذا درهماً وأصله كاف التشبيه، وذا الذي هو إسم إشارة فلما ركبا حدث فيهما معنى التكثير فكم الخبرية وكأين وكذا كلها بمعنى واحد، والنون تنوين في المعنى أثبت في الخط على غير قياس. قال البغوي: لم يقع للتنوين صورة في الخط إلا في هذا الحرف خاصة وقرأ ابن كثير بألف بعد الكاف بعدها همزة مكسورة، والباقون بهمزة بعد الكاف مفتوحة بعدها ياء مشدّدة، ووقف أبو عمرو على الياء والباقون على النون وسهل حمزة الهمزة وحققها الباقون وقوله تعالى: {من نبيّ} تمييز لكأين لأنها مثل كم الخبرية وقوله تعالى: {قتل} قرأه نافع وابن كثير وأبو عمرو بضم القاف وكسر التاء ولا ألف بين القاف والتاء والباقون بفتح القاف والتاء وألف بين القاف والتاء وقوله تعالى: {معه} خبر مبتدؤه {ربيون} وهم جمع ربي وهو العالم المتقي منسوب إلى الرب، وإنما كسرت راؤه تغييراً في النسب وقيل: لا تغيير فيه وهو منسوب إلى الربة وهي الجماعة للمبالغة وقوله تعالى: {كثير} صفة لربيون وإن كان بلفظ الإفراد لأنّ معناه جمع {فما وهنوا} أي: ضعفوا {لما أصابهم في سبيل الله} من الجراح وقتل أنبيائهم وأصحابهم {وما ضعفوا} عن الجهاد {وما استكانوا} أي: خضعوا لعدوّهم كما فعلتم حين قيل: قتل نبيكم {والله يحب الصابرين} على الشدائد فيثيبهم ويعظم أجرهم.{وما كان قولهم} عند قتل نبيهم مع ثباتهم وصبرهم وكونهم ربانيين {إلا أن قالوا ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا} أي: تجاوزنا الحدّ وقولهم: {في أمرنا} إيذان بأنّ ما أصابهم لسوء فعلهم وهضماً لأنفسهم {وثبت أقدامنا} أي: بالقوّة على الجهاد {وانصرنا على القوم الكافرين} أي: فهلا قلتم وفعلتم مثل ذلك يا أصحاب محمد ( ... {فآتاهم الله ثواب(1/44)
الدنيا} أي: بالنصر والغنيمة والعز وحسن الذكر {وحسن ثواب الآخرة} أي: بالجنة والنعيم المقيم وخص ثوابها بالحسن إشعاراً بفضله وأنه المعتدّ به عند الله {والله يحب المحسنين} أي: فيكثر لهم الثواب.
*******************************************************************************
بسم الله الرحمن الرحيم
2- (الّذِينَ يُبَلّغُونَ رِسَالاَتِ اللّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلاَ يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلاّ اللّهَ وَكَفَىَ بِاللّهِ حَسِيباً * مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً) (الأحزاب : 40 )
( قال ابن كثير رحمه الله
يمدح تبارك وتعالى {الذين يبلغون رسالات الله} أي إلى خلقه ويؤدونها بأماناتها {ويخشونه} أي يخافونه ولا يخافون أحداً سواه, فلا تمنعهم سطوة أحد عن إِبلاغ رسالات الله تعالى {وكفى بالله حسيباً} أي وكفى بالله ناصراً ومعيناً ... وسيد الناس في هذا المقام بل وفي كل مقام محمد رسول الله ( فإِنه قام بأداء الرسالة وإِبلاغها إِلى أهل المشارق والمغارب إِلى جميع أنواع بني آدم, وأظهر الله تعالى كلمته ودينه وشرعه على جميع الأديان والشرائع, فإِنه قد كان النبي قبله إِنما يبعث إِلى قومه خاصة, وأما هو ( فإِنه بعث إِلى جميع الخلق عربهم وعجمهم {قل ياأيها الناس إِني رسول الله إِليكم جميعاً} ثم ورث مقام البلاغ عنه أمته من بعده, فكان أعلى من قام بها بعده أصحابه رضي الله عنهم, بلغوا عنه كما أمرهم به في جميع أقواله وأفعاله وأحواله, في ليله ونهاره, وحضره وسفره, وسره وعلانيته, فرضي الله عنهم وأرضاهم ثم ورثه كل خلف عن سلفهم إِلى زماننا هذا, فبنورهم يقتدي المهتدون, وعلى منهجهم يسلك الموفقون, فنسأل الله الكريم المنان أن يجعلنا من خلفهم.(1/45)
قال الإمام أحمد: حدثنا ابن نمير, أخبرنا الأعمش عن عمرو بن مرة عن أبي البختري عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله ( : "لا يحقرن أحدكم نفسه أن يرى أمر الله فيه مقال ثم لا يقوله, فيقول الله ما يمنعك أن تقول فيه ؟ فيقول رب خشيت الناس, فيقول: فأنا أحق أن يخشى" ورواه أيضاً عن عبد الرزاق عن الثوري عن زبيد عن عمرو بن مرة. ورواه ابن ماجه عن أبي كريب عن عبد الله بن نمير وأبي معاوية كلاهما عن الأعمش به.
وقوله تعالى: {ما كان محمد أبا أحد من رجالكم} نهى أن يقال بعد هذا زيد بن محمد, أي لم يكن أباه وإِن كان قد تبناه, فإنه ( لم يعش له ولد ذكر حتى بلغ الحلم فإِنه ( ولد له القاسم والطيب والطاهر من خديجة رضي الله عنها, فماتوا صغاراً وولد له ( إبراهيم من مارية القبطية, فمات أيضاً رضيعاً, وكان له ( من خديجة أربع بنات: زينب ورقية وأم كلثوم وفاطمة رضي الله عنهم أجمعين, فمات في حياته ( ثلاث, وتأخرت فاطمة رضي الله عنها حتى أصيبت به ( , ثم ماتت بعده لستة أشهر.
وقوله تعالى: {ولكن رسول الله وخاتم النبيين وكان الله بكل شيء عليماً} كقوله عز وجل: {الله أعلم حيث يجعل رسالته} فهذه الاَية نص في أنه لانبي بعده, وإِذا كان لانبي بعده فلا رسول بعده بالطريق الأولى والأحرى, لأن مقام الرسالة أخص من مقام النبوة, فإِن كل رسول نبي ولا ينعكس, وبذلك وردت الأحاديث المتواترة عن رسول الله ( من حديث جماعة من الصحابة رضي الله عنهم:(1/46)
- قال الإمام أحمد: حدثنا أبو عامر الأزدي, حدثنا زهير بن محمد عن عبد الله بن محمد بن عقيل, عن الطفيل بن أبي بن كعب عن أبيه رضي الله عنه, عن النبي ( قال: "مثلي في النبيين كمثل رجل بنى داراً فأحسنها وأكملها, وترك فيها موضع لبنة لم يضعها, فجعل الناس يطوفون بالبنيان ويعجبون منه ويقولون: لو تم موضع هذه اللبنه, فأنا في النبيين موضع تلك اللبنة" ورواه الترمذي عن بندار عن أبي عامر العقدي به, وقال حسن صحيح.
(حديث آخر) قال الإمام أحمد: حدثنا عفان, حدثنا عبد الواحد بن زياد, حدثنا المختار بن فلفل, حدثنا أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله ( : "إِن الرسالة والنبوة قد انقطعت فلا رسول بعدي ولا نبي" قال: فشق ذلك على الناس, فقال: "ولكن المبشرات" قالوا: يارسول الله وما المبشرات ؟ قال: "رؤيا الرجل المسلم, وهي جزء من أجزاء النبوة" وهكذا رواه الترمذي عن الحسن بن محمد الزعفراني عن عفان بن مسلم به, وقال: صحيح غريب من حديث المختار بن فلفل.
(حديث آخر) قال أبو داود الطيالسي: حدثنا سليم بن حيان عن سعيد بن ميناء عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: قال رسول الله ( : "مثلي ومثل الأنبياء كمثل رجل بنى داراً فأكملها وأحسنها إِلا موضع لبنة, فكان من دخلها فنظر إِليها قال: ما أحسنها إِلا موضع هذه اللبنة, فأنا موضع اللبنة ختم بي الأنبياء عليهم الصلاة والسلام" ورواه البخاري ومسلم والترمذي من طرق عن سليم بن حيان به, وقال الترمذي: صحيح غريب من هذا الوجه.
(حديث آخر) قال الإمام أحمد: حدثنا أبو معاوية حدثنا الأعمش عن أبي صالح عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله ( : "مثلي ومثل النبيين كمثل رجل بنى داراً فأتمها إِلا لبنة واحدة, فجئت أنا فأتممت تلك اللبنة" انفرد به مسلم من رواية الأعمش به.(1/47)
(حديث آخر) قال الإمام أحمد: حدثنا يونس بن محمد, حدثنا حماد بن زيد, حدثنا عثمان بن عبيد الراسبي قال: سمعت أبا الطفيل رضي الله عنه يقول: قال رسول الله ( : "لانبوة بعدي إِلا المبشرات" قيل: وما المبشرات يارسول الله ؟ قال "الرؤيا الحسنة" ـ أو قال ـ "الرؤيا الصالحة".
(حديث آخر) قال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرزاق, أخبرنا معمر عن همام بن منبه قال: هذا ما حدثنا أبو هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله ( : "إِن مثلي ومثل الأنبياء من قبلي كمثل رجل ابتنى بيوتاً فأكملها وأحسنها وأجملها إِلا موضع لبنة من زاوية من زواياها, فجعل الناس يطوفون ويعجبهم البنيان ويقولون: ألا وضعت ههنا لبنة فيتم بنيانك ـ قال رسول الله (ـ فكنت أنا اللبنة" أخرجاه من حديث عبد الرزاق.
(حديث آخر) عن أبي هريرة رضي الله عنه أيضاً قال الإمام مسلم: حدثنا يحيى بن أيوب وقتيبة وعلي بن حجر قالوا حدثنا إِسماعيل بن جعفر عن العلاء عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله ( قال: "فضلت على الأنبياء بست : أعطيت جوامع الكلم, ونصرت بالرعب وأحلت لي الغنائم, وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً, وأرسلت إِلى الخلق كافة, وختم بي النبيون" ورواه الترمذي وابن ماجه من حديث إِسماعيل بن جعفر, وقال الترمذي: حسن صحيح.
(حديث آخر) قال الإمام أحمد: حدثنا أبو معاوية حدثنا الأعمش عن أبي صالح عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله ( : "مثلي ومثل الأنبياء من قبلي كمثل رجل بنى داراً فأتمها إِلا موضع لبنة واحدة, فجئت أنا فأتممت تلك اللبنة" ورواه مسلم عن أبي بكر بن أبي شيبة وأبي كريب كلاهما عن أبي معاوية به.(1/48)
(حديث آخر) قال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي, حدثنا معاوية بن صالح, حدثنا سعيد بن سويد الكلبي عن عبد الأعلى بن هلال السلمي, عن العرباض بن سارية رضي الله عنه قال: قال لي النبي ( : "إِني عند الله لخاتم النبيين, وإِن آدم لمنجدل في طينته".
(حديث آخر) قال الزهري: أخبرني محمد بن جبير بن مطعم عن أبيه رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله ( يقول: "إِن لي أسماء أنا محمد, وأنا أحمد, وأنا الماحي الذي يمحو الله تعالى بي الكفر, وأنا الحاشر الذي يحشر الناس على قدمي, وأنا العاقب الذي ليس بعده نبي" أخرجاه في الصحيحين.
وقال الإمام أحمد: حدثنا يحيى ابن إِسحاق, حدثنا ابن لهيعة عن عبد الله ابن هبيرة عن عبد الرحمن بن جبير قال: سمعت عبد الله بن عمرو يقول: خرج علينا رسول الله ( يوماً كالمودع فقال: "أنا محمد النبي الأمي ـ ثلاثاً ـ ولانبي بعدي, أوتيت فواتح الكلم وجوامعه وخواتمه, وعلمت كم خزنة النار وحملة العرش, وتجوز بي , وعوفيت وعوفيت أمتي, فاسمعوا وأطيعوا ما دمت فيكم, فإِذا ذهب بي فعليكم بكتاب الله تعالى أحلوا حلاله, وحرموا حرامه" تفرد به الإمام أحمد.(1/49)
ورواه الإمام أحمد أيضاً عن يحيى بن إِسحاق عن ابن لهيعة عن عبد الله بن هبيرة لهيعة عن عبد الله بن سريج الخولاني عن أبي قيس مولى عمرو بن العاص, عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما, فذكر مثله سواء, والأحاديث في هذا كثيرة, فمن رحمة الله تعالى بالعباد إِرسال محمد ( إِليهم, ثم من تشريفه لهم ختم الأنبياء والمرسلين به وإِكمال الدين الحنيف له, وقد أخبر الله تبارك وتعالى في كتابه ورسوله ( في السنة المتواترة عنه أنه لا نبي بعده, ليعلموا أن كل من ادعى هذا المقام بعده فهو كذاب وأفاك دجال ضال مضل, لو تحرق وشعبذ وأتى بأنواع السحر والطلاسم والنيرنجيات فكلها محال وضلال عند أولي الألباب كما أجرى الله سبحانه وتعالى على يد الأسود العنسي باليمن ومسيلمة الكذاب باليمامة من الأحوال الفاسدة والأقوال الباردة ما علم كل ذي لب وفهم وحجى أنهما كاذبان ضالان لعنهما الله, وكذلك كل مدع لذلك إِلى يوم القيامة حتى يختموا بالمسيح الدجال, فكل واحد من هؤلاء الكذابين يخلق الله تعالى معه من الأمور ما يشهد العلماء والمؤمنون بكذب من جاء بها, وهذا من تمام لطف الله تعالى بخلقه, فإِنهم بضرورة الواقع لا يأمرون بمعروف ولاينهون عن منكر إِلا على سبيل الاتفاق أو لما لهم فيه من المقاصد إِلى غيره ويكون في غاية الإفك والفجور في أقوالهم وأفعالهم, كما قال تعالى: {هل أنبئكم على من تنزل الشياطين تنزل على كل أفاك أثيم * يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ } ( الشعراء 222-223) , وهذا بخلاف حال الأنبياء عليهم الصلاة والسلام, فإِنهم في غاية البر والصدق والرشد والاستقامة والعدل فيما يقولونه ويفعلونه ويأمرون به وينهون عنه, مع ما يؤيدون به من الخوارق للعادات والأدلة الواضحات والبراهين الباهرات, فصلوات الله وسلامه عليهم دائماً مستمراً ما دامت الأرض والسموات.....
( وقال القرطبي رحمه الله :(1/50)
الآية: 40 {ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيين وكان الله بكل شيء عليما}
لما تزوج زينب قال الناس: تزوج امرأة ابنه، فنزلت الآية، أي ليس هو بابنه حتى تحرم عليه حليلته، ولكنه أبو أمته في التبجيل والتعظيم، وأن نساءه عليهم حرام فأذهب الله بهذه الآية ما وقع في نفوس المنافقين وغيرهم، وأعلم أن محمدا لم يكن أبا أحد من الرجال المعاصرين له في الحقيقة. ولم يقصد بهذه الآية أن النبي ( لم يكن له ولد، فقد ولد له ذكور. إبراهيم، والقاسم، والطيب، والمطهر، ولكن لم يعش له ابن حتى يصير رجلا. وأما الحسن والحسين فكانا طفلين، ولم يكونا رجلين معاصرين له.
قوله تعالى: "ولكن رسول الله" قال الأخفش والفراء: أي ولكن كان رسول الله. وأجازا "ولكن رسول الله وخاتم" بالرفع وكذلك قرأ ابن أبي عبلة وبعض الناس "ولكن رسول الله" بالرفع، على معنى هو رسول الله وخاتم النبيين. وقرأت فرقة "ولكن" بتشديد النون، ونصب "رسول الله" على أنه اسم "لكن" والخبر محذوف "وخاتم" قرأ عاصم وحده بفتح التاء، بمعنى أنهم به ختموا، فهو كالخاتم والطابع لهم. وقرأ الجمهور بكسر التاء بمعنى أنه ختمهم، أي جاء آخرهم. وقيل: الخاتم والخاتم لغتان، مثل طابع وطابع، ودانق ودانق، وطابق من اللحم وطابق قال ابن عطية:روى هذه الألفاظ عنه جماعة علماء الأمة خلفا وسلفا متلقاة على العموم التام مقتضية نصا أنه لا نبي بعده ( وما ذكره القاضي أبو الطيب في كتابه المسمى بالهداية: من تجويز الاحتمال في ألفاظ هذه الآية ضعيف ما ذكره الغزالي في هذه الآية، وهذا المعنى في كتابه الذي سماه بالاقتصاد، إلحاد عندي، وتطرق خبيث إلى تشويش عقيدة المسلمين في ختم محمد ( النبوة، فالحذر الحذر منه! والله الهادي. برحمته.(1/51)
قلت: وقد روي عن النبي ( أنه قال: (لا نبوة بعدي إلا ما شاء الله). قال أبو عمر: يعني الرؤيا والله أعلم التي هي جزء منها، كما قال عليه السلام: (ليس يبقى بعدي من النبوة إلا الرؤيا الصالحة). وقرأ ابن مسعود "من رجالكم ولكن نبيا ختم النبيين". قال الرماني: ختم به عليه الصلاة والسلام الاستصلاح، فمن لم يصلح به فميؤوس من صلاحه.
قلت: ومن هذا المعنى قوله عليه السلام: (بعثت لأتمم مكارم الأخلاق). وفي صحيح مسلم عن جابر قال قال رسول الله صلى: (مثلي ومثل الأنبياء كمثل رجل بنى دارا فأتمها وأكملها إلا موضع لبنة فجعل الناس يدخلونها ويتعجبون. منها ويقولون لولا موضع اللبنة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنا موضع اللبنة جئت فختمت الأنبياء). نحوه عن أبي هريرة، غير أنه قال: فأنا اللبنة وأنا خاتم النبيين)........
(وقال السعدي رحمه الله :(1/52)
" الذين يبلغون رسالات الله " فيتلون على العباد آيات الله ، وحججه وبراهينه ، ويدعونهم إلى الله " ويخشونه " وحده لا شريك له " ولا يخشون أحدا " إلا الله . فإذا كان هذا سنة في الأنبياء المعصومين ، الذين وظيفتهم قد أدوها وقاموا بها ، أتم القيام ، وهو : دعوة الخلق إلى الله ، والخشية منه وحده التي تقتضي فعل كل مأمور ، وترك كل محظور . " وكفى بالله حسيبا " محاسبا عباده ، مراقبا أعمالهم . وعلم من هذا ، أن النكاح ، من سنن المرسلين ." ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيين وكان الله بكل شيء عليما " أي : " ما كان " الرسول " محمد " ( " أبا أحد من رجالكم " أيها الأمة . فقطع انتساب زيد بن حارثة منه ، من هذا الباب . ولما كان هذا النفي عاما في جميع الأحوال ، إن ظاهر اللفظ على ظاهره ، أي؛ لا أبوة نسب ، ولا أبوة ادعاء ، وكان قد تقرر فيما تقدم أن الرسول (، أب للمؤمنين كلهم ، وأزواجه أمهاتهم احترز أن يدخل في هذا النوع ، بعموم النهي المذكور فقال : " ولكن رسول الله وخاتم النبيين " أي : هذه مرتبته مرتبة المطاع المتبوع ، المهتدى به ، المؤمن له الذي يجب تقديم محبته ، على محبة كل أحد ، الناصح الذي لهم ، أي : للمؤمنين ، من بره ونصحه ، كأنه أب لهم . " وكان الله بكل شيء عليما " أي : قد أحاط علمه بجميع الأشياء ، ويعلم حيث يجعل رسالاته . ومن يصلح لفضله ، ومن لا يصلح .
( وقال الشربيني رحمه الله :
{الذين} نعت للذين قبله {يبلغون} أي: إلى أممهم {رسالات الله} أي: الملك الأعظم، سواء كانت في نكاح أم غيره {ويخشونه} أي: فيخبرون بكل ما أخبرهم به {ولا يخشون أحداً} قل أو جلَّ {إلا الله} فلا يخشون قالة الناس فيما أحل الله لهم {وكفى بالله} أي: المحيط بجميع صفات الكمال {حسيباً} أي: حافظاً لأعمال خلقه ومحاسبهم.(1/53)
ولما أفاد هذا كله أن الدعي ليس ابناً وكانوا قد قالوا: لما تزوج زينب كما رواه الترمذي عن عائشة تزوج حليلة ابنه ... قال تعالى: {ما كان} أي: بوجه من الوجوه {محمد} أي: على كثرة نسائه وأولاده {أبا أحد من رجالكم} لا مجازاً بالتبني ولا حقيقة بالولادة، فثبت بذلك أنه يحرم عليه زوجة الابن، ولم يقل تعالى من بنيكم؛ لأنه لم يكن له في ذلك الوقت سنة خمس، وما داناها ابن ذكر لعلمه تعالى أنه سيولد له ابنه إبراهيم عليه السلام مع ما كان له قبله من البنين الطاهر والطيب والقاسم، وأنه لم يبلغ أحد منهم الحلم عليهم السلام. قال البيضاوي: ولو بلغوا لكانوا رجاله لا رجالهم. انتهى. وهذا إنما يأتي على أن المراد التبني. وقال البغوي: والصحيح أنه أراد بأحد من رجالكم: الذين لم يلدهم. انتهى. ومع هذا الأول أوجه كما جرى عليه البقاعي.
ثم لما نفى تعالى أبوته عنهم قال: {ولكن} كان في علم الله غيباً وشهادة {رسول الله} أي: الملك الأعظم الذي كل من سواه عبده {وخاتم النبيين} أي: آخرهم الذي ختمهم لأن رسالته عامة ومعها إعجاز القرآن فلا حاجة مع ذلك إلى استنباء ولا إرسال، وذلك مفض لئلا يبلغ له ولد إذ لو بلغ له ولد، لاق بمنصبه أن يكون نبياً إكراماً له؛ لأنه أعلى النبيين رتبة وأعظمهم شرفاً، وليس لأحد من الأنبياء كرامة إلا وله مثلها وأعظم منها، ولو صار أحد من ولده رجلاً لكان نبياً بعد ظهور نبوته، وقد قضى الله تعالى أن لا يكون بعده نبي إكراماً له.
- روى أحمد وابن ماجة عن أنس وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي ( قال في ابنه إبراهيم عليه السلام : لو عاش لكان صديقاً نبياً ... وللبخاري نحوه عن البراء بن عازب. وللبخاري من حديث ابن أبي أوفى: "لو قضي أن يكون بعد محمد ( نبي لعاش ابنه ولكن لا نبي بعده" وقال ابن عباس رضي الله عنه: يريد لو لم أختم به النبيين لجعلت له ابناً يكون من بعده نبياً.(1/54)
- وروى عطاء عن ابن عباس رضي الله عنه: لما حكم أنه لا نبي بعده لم يعطه ولداً ذكراً يصير رجلاً. وقيل: من لا نبي بعده يكون أشفق على أمته وأهدى لهم، إذ هو كالوالد لولد ليس له غيره، والحاصل أنه لا يأتي بعده نبي مطلقاً بشرع جديد ولا يتجدد بعده مطلقاً استنباء، وهذه الآية مثبتة لكونه خاتماً على أبلغ وجه وأعظمه، وذلك أنها في سياق الإنكار بأن يكون بينه وبين أحد من رجالهم بنوة حقيقية أو مجازية، ولو كانت بعده لأحد لم يكن ذلك إلا لولده، ولأن فائدة إثبات النبي تتميم شيء لم يأت به من قبله. وقد حصل به ( التمام، فلم يبق بعد ذلك مرام:قال ( "بعثت لأتمم مكارم الأخلاق"... وأما تجديد ما وهي مما أحدث بعض الفسقة فالعلماء كافون فيه لوجود ما خص به ( من هذا القرآن المعجز الذي من سمعه فكأنما سمعه من الله عز وجل؛ لوقوع التحقق والقطع بأنه لا يقدر غيره أن يقول شيئاً منه، فمهما حصل ذهول عن ذلك قرره من يريد الله تعالى من العلماء فيعود الاستبصار، كما روي في بعض الآثار: "علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل" وأما إتيان عيسى عليه السلام بعد تجديد الهدى لجميع ما وهي من أركان المكارم فلأجل فتنة الدجال ثم طامة يأجوج ومأجوج ونحو ذلك مما لا يستقل بأعبائه غير نبي، وما أحسن قول حسان بن ثابت في مرثية لإبراهيم بن النبي (
مضى ابنك محمود العواقب لم يشب بعيب ولم يذمم بقول ولا فعل
رأى أنه إن عاش ساواك في العلا فآثر أن تبقى وحيداً بلا مثل
وقال الغزالي في آخر كتابه الاقتصاد: إن الأمة فهمت من هذا اللفظ ومن قرائن أحواله ( أنه أفهم عدم نبي بعده أبداً، وعدم رسول بعده أبداً، وأنه ليس فيه تأويل ولا تخصيص. وقال: إن من أوله بتخصيص النبيين بأولي العزم من الرسل ونحو هذا فكلامه من أنواع الهذيان لا يمنع الحكم بتكفيره؛ لأنه مكذب لهذا النص الذي أجمعت الأمة على أنه غير مؤول ولا مخصوص.... انتهى.(1/55)
وقد بان بهذا أن إتيان عيسى عليه السلام غير قادح في هذا النص، فإنه من أمته ( المقررين لشريعته، وهو قد كان نبياً قبله لم يستجد له شيء لم يكن، فلم يكن ذلك قادحاً في الختم. وهو مثبت لشرف نبينا ( إذ لولاه لما وجد، وذلك أنه لم يكن لنبي من الأنبياء شرف إلا وله ( مثله أو أعلى منه، وقد كانت الأنبياء تأتي مقررة لشريعة موسى عليه السلام مجددة لها، فكان المقرر لشريعة نبينا ( المتبع لملته من كان ناسخاً لشريعة موسى ( وقرأ عاصم بفتح التاء والباقون بكسرها، فالفتح: اسم للآلة التي يختم بها كالطابع والقالب لما يطبع به ويقلب فيه، والكسر على أنه اسم فاعل. وقال بعضهم: هو بمعنى المفتوح يعني بمعنى آخرهم لأنه ختم النبيين فهو خاتمهم {وكان الله} أي: الذي له كل صفة كمال أزلاً وأبداً {بكل شيء} من ذلك وغيره {عليماً} فيعلم من يليق بالختم ومن يليق بالبدء.
قال الأستاذ ولي الدين الملوي في كتابه حصن النفوس: في سؤال القبر واختصاصه (بالأحمدية والمحمدية علماً وصفه برهان على ختمه، إذ الحمد مقرون بانقضاء الأمور مشروع عنده {وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين} وروى أبو هريرة رضي الله عنه أن رسول الله ( قال: "مثلي ومثل الأنبياء كمثل قصر أحكم بنيانه، ترك منه موضع لبنة فطاف به النظار يتعجبون من حسن بنائه إلا موضع تلك اللبنة لا يعيبون بسواها، فكنت أنا موضع تلك اللبنة ختم بي البنيان وختم بي الرسل" وقال (: "إن لي أسماء أنا محمد، وأنا أحمد، وأنا الماحي يمحو الله تعالى بي الكفر، وأنا الحاشر الذي يحشر الله تعالى الناس على قدمي، وأنا العاقب" والعاقب الذي ليس بعده نبي.
*******************************************************************************
بسم الله الرحمن الرحيم(1/56)
3-? الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ * وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ * ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِن رَّبِّهِمْ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ * فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنّاً بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاء حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِن لِّيَبْلُوَ بَعْضَكُم بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَن يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ*سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ * وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ * وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْساً لَّهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ * أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا * ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ * إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَّهُمْ * وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِّن قَرْيَتِكَ(1/57)
الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ فَلَا نَاصِرَ لَهُمْ * أَفَمَن كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ كَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءهُمْ*مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِّن مَّاء غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِن لَّبَنٍ لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِّنْ خَمْرٍ لَّذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِّنْ عَسَلٍ مُّصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا مَاء حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعَاءهُمْ * وَمِنْهُم مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِندِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفاً أُوْلَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءهُمْ * وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ * فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَن تَأْتِيَهُم بَغْتَةً فَقَدْ جَاء أَشْرَاطُهَا فَأَنَّى لَهُمْ إِذَا جَاءتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ * فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ *وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلَا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ مُّحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلَى لَهُمْ * طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَّعْرُوفٌ فَإِذَا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ * فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ(1/58)
وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ * أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا * إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ * فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمْ الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ *أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ أَن لَّن يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ * وَلَوْ نَشَاء لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُم بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ * وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ * إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الهُدَى لَن يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً وَسَيُحْبِطُ أَعْمَالَهُمْ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ * إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ مَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ*فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَن يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ*إِنَّمَا الحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَإِن تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلَا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ * إِن يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ *(1/59)
هَاأَنتُمْ هَؤُلَاء تُدْعَوْنَ لِتُنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنكُم مَّن يَبْخَلُ وَمَن يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَن نَّفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنتُمُ الْفُقَرَاء وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ * ? سورة محمد - (
( وقال الشربيني رحمه الله :
سورة محمد (. مكية ؛ وتسمى القتال ، والذين كفروا... وهي: ثمان وثلاثون آية، وخمسمائةوتسع وثلاثون كلمة، وألفان وثلثمائة وتسعة وأربعون حرفاً
{بسم الله} الملك الأعظم الذي أقام جنده للذب عن حماه {الرحمن} الذي عمت رحمته تارة بالبرهان، وتارة بالسيف واللسان {الرحيم} الذي خص حزبه بالحفظ في طريق الجنان.
واختلف في قوله تعالى: {الذين كفروا} من هم؟ فقيل: هم الذين كانوا يطعمون الجيش يوم بدر منهم أبو جهل والحارث ابنا هشام، وعقبة، وشيبة ابنا ربيعة، وغيرهم، وقيل: كفار قريش وقيل: أهل الكتاب وقيل: كل كافر لأنهم ستروا أنوار الأدلة وضلوا على علم {وصدّوا} أي: امتنعوا بأنفسهم، ومنعوا غيرهم لعراقتهم في الكفر، {عن سبيل الله} أي: الطريق الرحب المستقيم الذي شرعه الملك الأعظم، {أضلّ} أي: أبطل إبطالاً عظيماً يزيل العين والأثر، {أعمالهم} كإطعام الطعام، وصلة الأرحام، وفك الأسارى، وحفظ الجوار، وغير ذلك. فلا يرون لها في الآخرة ثواباً ويجزي عليها في الدنيا من فضله تعالى.
تنبيه : أوّل هذه السورة مناسب لآخر السورة المتقدمة.(1/60)
ولما ذكر تعالى أهل الكفر معبراً عنهم بأدنى طبقاتهم ليشمل من فوقهم، ذكر أضدادهم كذلك؛ ليعمّ من كان منهم من جميع الفرق. بقوله تعالى: {والذي آمنوا} أي: أقرّوا بالإيمان باللسان {وعملوا} تصديقاً لدعواهم {الصالحات} أي: الأعمال الكاملة في الصلاح، بتأسيسها على الإيمان. ولما كان هذا الوصف لا يخص أتباع محمد ( خصهم بقوله تعالى: {وآمنوا} أي: مع ذلك {بما نزل} أي: ممن لا منزل إلا هو، منجماً مفرقاً ليجدّدوا بعد الإيمان به إجمالاً الإيمان بكل نجم منه {على محمد} النبيّ الأميّ العربيّ القرشيّ المكيّ المدنيّ الذي يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل... وقوله تعالى: {وهو} أي: هذا الذي نزل عليه ( موصوف بأنه {الحق} أي: الكامل في الحقيقة ينسخ ولا ينسخ كائناً {من ربهم} أي: المحسن إليهم بإرساله أما إحسانه إلى أمّته فواضح وأمّا سائر الأمم فبكونه هو الشافع فيهم الشفاعة العظمى يوم القيامة، وأمّته هي الشاهدة لهم... جملة معترضة وقرأ قالون وأبو عمرو والكسائيّ {وهْو} بسكون الهاء والباقون بضمّها {كفَّر عنهم سيئاتهم} أي: ستر أعمالهم السيئة بالإيمان، وعملهم الصالح {وأصلح بالهم} أي: حالهم في الدين والدنيا بالتوفيق والتأييد.{ذلك} أي: الأمر العظيم الذي ذكر هنا من جزاء الطائفتين. {بأن} أي: بسبب أن {الذين كفروا} أي: ستروا مرائي عقولهم {اتبعوا} أي: بغاية جهدهم ومعالجتهم {الباطل} من العمل الذي لا حقيقة له في الخارج تطابقه وذلك هو الابتداع والميل مع الهوى فضلوا {وأن الذين آمنوا} أي: ولو كانوا في أقل درجات الإيمان {اتبعوا} أي بغاية جهدهم {الحق} أي الذي له واقع يطابقه وذلك هو الحكمة وهو العلم بموافقة العمل وهو معرفة المعلوم على ما هو عليه {من ربهم} أي: الذي أحسن إليهم بإيجادهم وما سببه من حسن اعتقادهم فاهتدوا... {كذلك} أي: مثل هذا الضرب العظيم الشأن {يضرب الله} أي: الذي له الإحاطة بجميع صفات الكمال {للناس} أي: كل(1/61)
من فيه قوّة الاضطراب والحركة {أمثالهم} أي: أمثال أنفسهم، أو أمثال الفريقين المتقدّمين، أو أمثال جميع الأشياء التي يحتاجون إلى بيان أمثالها، مبيناً لها مثل هذا البيان، ليأخذ كل أحد من ذلك جزاء حاله، فقد علم من هذا المثل أنّ من اتبع الباطل أضلّ الله تعالى عمله، ووفر سيئاته، وأفسد باله ومن اتبع الحق عمل به ضد ذلك كائناً من كان. وهو غاية الحث على طلب العلم في كتاب الله وسنة رسوله ( والعمل بها.
ولما بين تعالى أنّ الذين كفروا أضلّ أعمالهم، وأن اعتبار الإنسان بالعمل، ومن لا عمل له فهو همج إعدامه خير من وجوده سبب عنه.
قوله تعالى: {فإذا لقيتم الذين كفروا} أيها المؤمنون في المحاربة، وقوله تعالى: {فضرب الرقاب} أصله: فاضربوا الرقاب ضرباً فحذف الفعل وقدم المصدر فأنيب منابه مضافاً إلى المفعول، ضماً إلى التأكيد الاختصار والحكمة في اختيار ضرب الرقبة دون غيرها من الأعضاء، لأنّ المؤمن هنا ليس بدافع إنما هو رافع، وذلك لأن من يدفع الصائل لا ينبغي أولاً أن يقصد مقتله بل يتدرج ويضرب غير المقتل، فإن اندفع فذاك، ولا يرقى إلى درجة الإهلاك فأخبر تعالى أنه ليس المقصود دفعهم عنكم بل المقصود رفعهم من وجه الأرض؛ فإذاً ينبغي أن يكون قصدكم أولاً إلى قتلهم، بخلاف دفع الصائل. فالرقبة أظهر المقاتل وقطع الحلقوم والأوداج مستلزم للموت لكن في الحرب لا يتهيأ ذلك والرقبة ظاهرة في الحرب، ففي ضربها حز العنق، وهو مستلزم للموت، بخلاف سائر المواضع، ولا سيما في الحرب وفي قوله تعالى: {لقيتم} ما ينبىء عن مخالفتهم الصائل؛ لأن قوله تعالى {لقيتم} يدل على أنّ القصد من جانبهم، بخلاف قولنا: لقيكم ولذلك؛ قال تعالى في غير هذا الموضع {واقتلوهم حيث ثقفتموهم} (البقرة: 191)
{حتى إذا أثخنتموهم} أي: أكثرتم فيهم القتل، وهذه غاية الأمر بضرب الرقاب، لا لبيان غاية القتل.(1/62)
{فشدّوا} أي: فأمسكوا عن القتل وأسروهم {الوثاق} أي: ما يوثق به الأسرى وقوله تعالى: {فإما مناً بعد} أي: في جميع أزمان ما بعد الأسر {وإما فداء} فيه وجهان أشهرهما: أنهما منصوبان على المصدر بفعل لا يجوز إظهاره، لأنّ المصدر متى سيق تفصيلاً لعاقبة جملة، وجب نصبه بإضمار فعل لا يجوز إظهاره، والتقدير: فإما أن تمنوا مناً أي: بإطلاقهم من غير شيء، وإما أن تفدوا فداء أي: تفادوهم بمال أو أسرى مسلمين ومثل هذا قول القائل:
لأحمدنّ فإما درء واقعة تخشى وإما بلوغ السؤل والأمل
والثاني: قاله أبو البقاء أنهما مفعولان بهما لعامل مقدّر تقديره: أولوهم مَنَّاً، واقبلوا منهم فداء قال أبو حيان: وليس بإعراب نحوي... وقوله تعالى: {حتى تضع الحرب أوزارها} أي: أثقالها من السلاح وغيره بأن يسلم الكافر، أو يدخل في العهد، مجاز وقيل: هو من مجاز الحذف أي: أهل الحرب وهو غاية للقتل والأسر. والمعنى أثخنوا المشركين بالقتل والأسر حتى تدخل الملل كلها في الإسلام، ويكون الدين كله لله، فلا يكون بعده جهاد ولا قتال وذلك عند نزول عيسى عليه السلام وجاء في الحديث: "الجهاد حاضر منذ بعثني الله إلى أن يقاتل آخر أمتي الدجال" وقال الفراء حتى لا يبقى إلا مسلم أو مسالم.(1/63)
تنبيه: اختلف العلماء في حكم هذه الآية فقال قوم هي منسوخة بقوله تعالى {فإمّا تثقفنهم في الحرب فشرد بهم من خلفهم} (الأنفال: 57) وبقوله تعالى: {فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم} (التوبة: 5) …وإليه ذهب قتادة والضحاك والسدّي وابن جريج وهو قول الأوزاعي، وأصحاب الرأي.. وقالوا: لا يجوز المّن على من وقع في الأسر من الكفار ولا الفداء وذهب آخرون إلى أنّ الآية محكمة والإمام بالخيار في الرجال العاقلين من الكفار إذا وقعوا في الأسر بين أن يقتلهم، أو يسترقهم أو يمنّ عليهم فيطلقهم بغير عوض. أو يفاديهم بالمال أو بأسارى المسلمين وإليه ذهب ابن عمر، وبه قال الحسن وعطاء وأكثر الصحابة والعلماء وهو قول الثوري والشافعي وأحمد وإسحاق... قال ابن عباس رضى الله عنهما لما كثر المسلمون واشتد سلطانهم أنزل الله تعالى في الأسارى : {فإما مناً بعدوا ما فداء} وهذا هو الأصح والاختيار لأنه عمل به ( والخلفاء بعده، روى البخاريّ عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: بعث النبيّ (خيلاً قبل نجد، فجاءت برجل من بني حنيفة يقال له ثمامة بن أثال، فربطوه في سارية من سواري المسجد، فخرج إليه رسول الله ( فقال: ما عندك يا ثمامة ؟ فقال :عندي خير يا محمد ، إن تقتلني تقتل ذا ذم وإن تنعم تنعم على شاكر، وإن كنت تريد المال فسل ما شئت،... حتى كان الغد ، فقال له ( :ما عندك يا ثمامة؟ قال: عندي ما قلت لك إن تنعم تنعم على شاكر... فتركه حتى إذا كان بعد الغد، قال( : ما عندك يا ثمامة؟ قال: عندي ما قلت لك... قال: أطلقوا ثمامة... فانطلق إلى نخل قريب من المسجد فاغتسل، ثم دخل المسجد فقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأنّ محمداً رسول الله ...والله ما كان على وجه الأرض وجه أبغض إليّ من وجهك، فقد أصبح وجهك أحب الوجوه إلي ؛ والله ما كان من دين أبغض إلي من دينك، فأصبح دينك أحبّ الدين إليّ ؛ والله ما كان من بلد أبغض إلي من بلدك، فقد أصبح بلدك أحبّ البلاد إليّ...(1/64)
وإن خيلك أخذتني وأنا أريد العمرة فماذا ترى؟ فبشره رسول الله (، وأمره أن يعتمر. فلمّا قدم مكة، قال له قائل: صبوت قال: لا، ولكن أسلمت مع محمد (
وعن عمران بن حصين قال: أسر أصحاب رسول الله ( رجلاً من عقيل فأوثقوه وكانت ثقيف قد أسرت رجلين من أصحاب النبيّ ( ففداه رسول الله ( بالرجلين اللذين أسرتهما ثقيف.
قوله تعالى: {ذلك} يجوز أن يكون خبر مبتدإ مضمر، أي: الأمر ذلك وأن ينتصب بإضمار افعلوا قال الرازي: ويحتمل أن يقال: ذلك واجب. أو مقدّم كما يقول القائل إن فعلت فذاك. أي: فذاك مقصود ومطلوب، قال المفسرون: ومعناه ذلك الذي ذكرت وبينت من حكم الكفار. {ولو يشاء الله} أي: الملك الأعظم الذي له جميع الكمال {لاتنصر منهم} أي: بنفسه من غير أحد انتصاراً عظيماً، فيهلكهم بأن لا يبقي منهم أحداً وكفاكم أمرهم بغير قتال.
{ولكن} أمركم بذلك {ليبلو} أي يختبر {بعضكم ببعض} أي يفعل في ذلك فعل المختبر، ليرتب عليه الجزاء فيصير من قتل من المؤمنين إلى الجنة ومن قتل من الكافرين إلى النار.
فإن قيل: فما فائدة الابتلاء مع حصول العلم عند المبتلي، فإذا كان الله تعالى عالماً بجميع الأشياء فأي فائدة فيه؟ أجيب: بأن هذا السؤال كقول القائل: لم عاقب الكافر وهو مستغن؟ ولم خلق النار محرقة وهو قادر على أن يخلقها بحيث تنفع ولا تضرّ؟ وجوابه: {لا يسئل عما يفعل} (الأنبياء: 23)(1/65)
ونزل يوم أحد لما فشا في المسلمين القتل والجراحات {والذين قتلوا في سبيل الله} أي: لأجل تسهيل طريق الملك الأعظم المتصف بجميع صفات الكمال {فلن يضلّ} أي: لا يضيع ولا يبطل {أعمالهم}... وقرأ أبو عمرو وحفص: بضم القاف وكسر التاء مبنياً للمفعول على معنى أنه أصاب القتل بعضهم كقوله تعالى (وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُواْ لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَمَا ضَعُفُواْ وَمَا اسْتَكَانُواْ وَاللّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ) (آل عمران: 146) ... وقرأ الباقون بفتح القاف والتاء وألف بينهما أي جاهدوا.
{سيهديهم} أي أيام حياتهم في الدنيا إلى أرشد الأمور، وفي الآخرة إلى الدرجات بوعد لا خلف فيه {ويصلح بالهم} أي يرضي خصماءهم، ويقبل أعمالهم {ويدخلهم الجنة} أي: الكاملة في النعيم {عرفها} أي: أعلمها، وبينها {لهم} أي: بما يعلم به كل أحد منزلته ودرجته من الجنة قال مجاهد: يهتدي أهل الجنة إلى مساكنهم منها لا يخطئون كأنهم كانوا سكانها منذ خلقوا، يستدلون عليها... وعن مقاتل: أنّ الملك الذي وكل بحفظ عمله في الدنيا يمشي بين يديه فيعرفه كل شيء أعطاه الله تعالى... وعن ابن عباس رضي الله عنهما: عرفها لهم: طيبها ، مشتق من العرف وهو الريح الطيبة يقال طعام معرف أي: مطيب. {يأيها الذين آمنوا} أي: أقرّوا بذلك {إن تنصروا الله} أي: دينه ورسوله ( {ينصركم} أي: على عدوّكم فإنه الناصر لا غيره، من عَدد أو عُدد. ويثبت أقدامكم أي في القيام بحقوق الإسلام والمجاهدة مع الكفار... ولما بين تعالى ما لأهل الإيمان بين ما لأهل الكفران بقوله تعالى:(1/66)
{والذين كفروا} وهو مبتدأ أي: ستروا ما دل عليه العقل، وقادت إليه الفطرة الأولى، وخبره تعسوا يدل عليه قوله تعالى: {فتعساً لهم} أي: هلاكاً لهم وخيبة من الله تعالى، وقال ابن عباس: أي بعداً لهم .. وقيل التعس الجرّ على الوجه، والنكس: الجرّ على الرأس... وقوله تعالى: {وأضل أعمالهم} عطف على تعسوا أي: أبطلها وإن كانت ظاهرة الإتقان؛ لأجل تضييع الأساس وهو الإيمان. وقوله تعالى: {ذلك} يجوز أن يكون مبتدأ والخبر الجار بعده، أو خبر مبتدأ مضمر. أي: الأمر ذلك {بأنهم} أي: بسبب أنهم {كرهوا ما أنزل الله} أي: الملك الأعظم الذي لا نعمة إلا منه من القرآن وما أنزل الله تعالى فيه من التكاليف والأحكام لأنهم قد ألفوا الإهمال وإطلاق العنان في الشهوات والملاذّ فشق عليهم ذلك، وتعاظمهم والذي أنزله من القرآن وغيره هو روح الوجود الذي لا بقاء بدونه فلما كرهوا الروح الأعظم بطلت أرواحهم فتبعتها أشباحهم وهو معنى قوله تعالى مسبباً بياناً لمعنى إضلال أعمالهم {فأحبط} أي: أبطل إبطالاً لاصلاح معه {أعمالهم} بسبب: أنهم أفسدوها بنياتهم فصارت وإن كانت صورها صالحة ليس لها أرواح لكونها واقعة على غير ما أمر به الله الذي لا أمر إلا له، ولا يقبل من العمل إلا ما حدّه ورسمه.. ثم خوّف الكفار بقوله تعالى: {أفلم يسيروا في الأرض} أي: التي فيها آثار الوقائع {فينظروا كيف كان عاقبة} أي: آخر أمر {الذين من قبلهم دمّر الله} أي: أوقع الملك الأعظم الهلاك {عليهم} بما عم أهاليهم وأموالهم، وكل من رضي أفعالهم أو مقالهم. وعدل عن أن يقول {ولهؤلاء} إلى قوله تعالى {وللكافرين} تعميماً وتعليقاً للحكم بالوصف وهو العراقة في الكفر {أمثالها} أي: أمثال عاقبة من قبلهم.(1/67)
{ذلك} أي: الأمر العظيم وهو نصر المؤمنين وقهر الكافرين، {بأن الله} أي: بسبب أنّ الملك الأعظم المحيط بصفات الكمال {مولى} أي: ولي وناصر {الذين آمنوا} فهو يفعل معهم بما له من الجلال والجمال ما يفعل القريب بقريبه الحبيب له قال القشيري: ويصح أن يقال: أرجى آية في القرآن هذه الآية؛ لأن الله تعالى لم يقل إنه هادي العباد وأصحاب الأوراد والاجتهاد بل علق ذلك بالإيمان...{وأنّ الكافرين} أي: العريقين في هذا الوصف ، {لا مولى لهم} فيدفع العذاب عنهم وهذا لا يخالف قوله تعالى {وردّوا إلى الله مولاهم الحق} (سورة يونس، آية: 30).. فإنّ المولى فيه بمعنى المالك... ثم ذكر سبحانه وتعالى ما للفريقين بقوله تعالى: {إنّ الله} أي الذي له جميع الصفّات {يدخل الذين آمنوا} أي: أوقعوا التصديق {وعملوا} تصديقاً لما ادعوا أنهم أوقعوه {الصالحات} أي: الطاعات {جنات} أي: بساتين عظيمة الشأن موصوفة بأنها {تجري من تحتها} أي: من تحت قصورها {الأنهار} فهي دائمة النموّ والبهجة والنضارة والثمرة.... {والذين كفروا يتمتعون} أي: في الدنيا بالملاذ، كما تتمتع الأنعام ناسين ما أمر الله تعالى به معرضين عن كتابه. {ويأكلون} على سبيل الاستمرار {كما تأكل الأنعام} أي: أكل التذاذ ومرح من أيّ موضع كان وكيف الأكل من غير تمييز الحرام من غيره، إذ ليس لهم همة إلا بطونهم وفروجهم، لا يلتفتون إلى الآخرة؛ لأنّ الله تعالى أعطاهم الدنيا، ووسع عليهم فيها، وفرغهم لها حتى شغلتهم عنه هواناً بهم وبغضاً لهم فيدخلهم ناراً وقودها الناس والحجارة ، كما قال تعالى: {والنار مثوى لهم} أي: منزل ومقام ومصير.. ولما ضرب الله تعالى لهم مثلاً بقوله تعالى: {أفلم يسيروا في الأرض} ولم ينفعهم مع ما تقدم من الدلائل ضرب للنبيّ ( مثلاً تسلية له. فقال تعالى: { وكأين} أي: وكم {من قرية} أريد أهلها أي: كذبت رسولها {هي أشد قوة} وأكثر عدداً {من قريتك} مكة أي: أهلها وقوله تعالى:(1/68)
{التي أخرجتك} روعي فيه لفظ قرية وقوله تعالى: {أهلكناهم} أي: بأنواع العذاب روعي فيه معنى قرية الأول {فلا ناصر لهم} يدفع عنهم الهلاك. كذلك نفعل بهم فاصبر كما صبر رسلهم قال ابن عباس: لما خرج رسول الله ( من مكة إلى الغار التفت إلى مكة وقال: أنت أحب أرض الله إلى الله وأحب بلاد الله إليّ ولو أنّ المشركين لم يخرجوني لم أخرج منك" فأنزل الله تعالى هذه الآية.
{أفمن كان} أي: في جميع أحواله {على بينة} أي: حجة ظاهرة البيان في أنها حق {من ربه} أي: المربي والمدبر له المحسن إليه وهم النبيّ ( والمؤمنون {كمن زين له} بتزيين الشيطان بتسليطنا له عليه {سوء عمله} فرآه حسناً وهم: أبو جهل والكفار {واتبعوا أهواءهم} في ذلك ولا شبهة لهم في شيء من أعمالهم السيئة فضلاً عن دليل ولما تكرّر ذكر الجنة في هذه السورة بين صفتها. بقوله تعالى:
{مثل} أي: صفة {الجنة} أي: البساتين العظيمة التي تستر داخلها من كثرة أشجارها {التي وعد المتقون} أي: الذين حملتهم تقواهم بعد الوقوف عن فعل لم يدلّ عليه دليل على أن استمعوا منك فانتفعوا بما دللتهم عليه من أمور الدين.(1/69)
تنبيه: اختلف في إعراب هذه الآية على أوجه:أحدها: أن {مثل} مبتدأ وخبره مقدّر. قدره النضر بن شميل: مثل الجنة ما تسمعون. فما تسمعون خبره و{فيها أنهار} مفسر له. وقدّره سيبويه: فيما يتلى عليكم مثل الجنة. والجملة بعدها أيضاً مفسرة للمثل.ثانيها: أن {مثل} زائدة تقديره: الجنة التي وعد المتقون {فيها أنهار} ونظير زيادة {مثل} هنا زيادة اسم في قول القائل:*إلى الحول ثم اسم السلام عليكما ...ثالثها: أنّ مثل الجنة مبتدأ، والخبر: قوله تعالى {كمن هو خالد في النار} فقدّره ابن عطية: أمثل أهل الجنة كمن هو خالد في النار ؟ فقدر حرف الإنكار ومضافاً ليصح... وقدّره الزمخشريّ: أمثّل الجنة كمثل جزاء من هو خالد في النار ؟... والجملة من قوله تعالى {فيها أنهار} حال من الجنة أي: مستقرّة فيها أنهار {من ماء} ولما كان ماء الدنيا مختلف الطعوم، مع اتحاد الأرض ببساطها، وشدّة اتصالها، للدلالة على أنّ فاعل ذلك قادر مختار وقد يكون آسناً أي: متغيراً عن الماء الذي يشرب بريح منتنة من أصل خلقته، أو من عارض عرض له من منبعه، أو مجراه ، قال تعالى: {غير آسن} أي: ثابت له في وقت ما شيء من الطعم، أو اللون، أو الريح بوجه من الوجوه وإن طالت إقامته وإن أضيف إليه غيره فإنه لا يقبل التغير بوجه بخلاف ماء الدنيا فيتغير لعارض... وقرأ ابن كثير: بقصر الهمزة والباقون: بمدّها وهما لغتان .. {وأنهار من لبن} ولما كان التغير غير محمود قال تعالى: {لم يتغير طعمه} أي: بنفسه عن أصل خلقته وإن أقام مدى الدهر بخلاف لبن الدنيا، لخروجه من الضرع وهذا يفهم: أنهم لو أرادوا تغييره لشهوة اشتهوها تغير. وأنه مع طيبه على أنواع كثيرة، كما كان في الدنيا متنوعاً {وأنهار من خمر} ولما كان الخمر يكره طعمها وإنما يشربها شاربوها لأثرها. وإنه متى تغير طعمها زال اسمها عرّف أنّ كل ما في خمر الجنة في غاية الحسن، غير متعرّض لطعم فقال تعالى: {لذة} أي: لذيذة { للشاربين} في(1/70)
طيب الطعم، وحسن العاقبة بخلاف خمر الدنيا فإنها كريهة عند الشرب {وأنهار من عسل} ولما كان عسل الدنيا لا يوجد إلا مخلوطاً، لخروجه من بطون النحل بالشمع، وغيره من القذى قال تعالى: {مصفى} أي: هو صاف صفاء ما اجتهد في تصفيته من ذلك وهذا الوصف ثابت له دائماً لا انفكاك له في وقت ما.
تنبيه: قال أبو حيان في حكمة ترتيب هذه الأنهار: إنه بدأ بالماء الذي لا تستغني عنه المشروبات، ثم باللبن إذ كان يجري مجرى المطعومات في كثير من أوقات العرب، ثم بالخمر لأنه إذا حصل الريّ والمطعم، تشوّقت النفس إلى ما تلتذ به، ثم بالعسل لأنّ فيه الشفاء في الدنيا مما يعرض من المطعوم والمشروب، اهـ. فإن قيل ما الحكمة في قوله تعالى في الخمر: {لذة للشاربين} ولم يقل في اللبن لم يتغير طعمه للطاعمين، ولا قال في العسل مصفى للناظرين. أجاب الرازي: بأنّ اللذة تختلف باختلاف الأشخاص فرب طعام يلتذ به شخص، ويعافه الآخر. فقال: لذة للشاربين بأسرهم، ولأنّ الخمر كريهة الطعم في الدنيا فقال: لذة أي: لا يكون في خمر الآخرة كراهة الطعم. وأمّا الطعم واللون فلا يختلف باختلاف الناس، فإنّ الحلو والحامض وغيرهما يدركه كل أحد لكن قد يعافه بعض الناس، ويلتذ به البعض مع اتفاقهم على أنّ له طعماً واحداً. وكذلك اللبن فلم يكن للتصريح بالتعميم حاجة.(1/71)
فائدة: روي عن كعب الأحبار أنه قال: نهر دجلة نهر ماء أهل الجنة، ونهر الفرات نهر لبنهم ، ونهر مصر نهر خمرهم،ونهر سيحان وجيجان نهر عسلهم..وهذه الأنهار الأربعة، تخرج من نهر الكوثر.. وقال ابن عبد الحكم في فتوح مصر: إن كعب الأحبار سئل هل تجد لهذا النيل في كتاب الله عز وجلّ خبراً ؟ فقال أي، والذي فلق البحر لموسى إني أجده في كتاب الله تعالى أنّ الله عز وجلّ يوحي إليه في كل عام مرتين يوحى إليه عند جريه أنّ الله يأمرك أن تجري فيجري ما كتب الله تعالى له ثم يوحى إليه بعد ذلك يا نيل غر حميداً ... وعن كعب أيضاً أنه قال: أربعة أنهر من الجنة، وضعها الله تعالى في الدنيا فالنيل: نهر العسل في الجنة، والفرات: نهر الخمر في الجنة، وسيحان: نهر الماء في الجنة، وجيجان: نهر اللبن في الجنة... وعنه أيضاً أنه قال: النيل في الآخرة لبن، أغزر ما يكون من الأنهار التي سمى الله عز وجل، والفرات خمر أغزر ما يكون من الأنهار التي سمى الله عز وجلّ، وجيجان ماء أغزر ما يكون من الأنهار التي سمى الله عز وجل وأصل هذا كله ما في الصحيح في وصف الجنة عن أبي هريرة ، أن النبيّ ( قال : سيحان وجيجان والنيل والفرات من أنهار الجنة... ولما كانت الثمار ألذ مستطاب بعد منافع الشراب قال تعالى: {ولهم فيها} وقوله تعالى: {من كل الثمرات} فيه وجهان أحدهما: أنّ هذا الجار صفه لمقدر، ذلك المقدر مبتدأ، وخبره الجار قبله، وهو لهم وفيها متعلق بما تعلق به؛ والتقدير: ولهم فيها زوجان من كل الثمرات، كأنه انتزعه من قوله تعالى: {فيهما من كل فاكهة زوجان} وقدّره بعضهم صنف والأوّل كما قال ابن عادل أليق ثانيهما أن {من} مزيدة في المبتدأ.(1/72)
{ومغفرة من ربهم} فهو راض عنهم مع إحسانه إليهم بما ذكر، بخلاف سيد العبيد في الدنيا فإنه قد يكون مع إحسانه إليهم ساخطاً عليهم وقوله تعالى: {كمن هو خالد في النار} خبر مبتدأ مقدّر أي: أمن هو في هذا النعيم، كمن هو مقيم إقامة لا انقطاع معها في النار التي لا ينطفئ لهيبها، ولا ينفك أسيرها، ووحده لأنّ الخلود يعم من فيها على حدّ سواء، {وسقوا} أي: عوض ما ذكر من شراب أهل الجنة {ماء حميماً} هو في غاية الحرارة {فقطع أمعاءهم} أي: مصارينهم، فخرجت من أدبارهم وهو جمع مع بالقصر وألفه عن ياء لقولهم معيان.{ومنهم من يستمع إليك} أي: في خطب الجمعة، وهم المنافقون والضمير في قوله تعالى {ومنهم} يحتمل أن يعود إلى الناس كما قال تعالى في سورة البقرة {(وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ)} (البقرة: 81)(1/73)
بعد ذكر الكفار ويحتمل أن يعود إلى أهل مكة؛ لأنّ ذكرهم سبق في قوله تعالى {هي أشدّ قوة من قريتك التي أخرجتك} ويحتمل أن يرجع إلى معنى قوله تعالى {هو خالد في النار وسقوا ماء حميما} أي: ومن الخالدين في النار قوم يستمعون إليك {حتى إذا} أي: واستمر جهلهم لأنفسهم في الإصغاء حتى إذا {خرجوا} أي: المستمعون والسامعون {من عندك قالوا} أي: الفريقان تعامياً واستهزاءً. {للذين أوتوا العلم} بسبب تهيئة الله تعالى لهم من صفاء الأفهام بتجردهم عن النفوس والحظوظ، وانقيادهم لما تدعو إليه الفطرة الأولى. منهم ابن مسعود وابن عباس ... {ماذا قال} أي: النبيّ ( {آنفا} أي: قبل افتراقنا وخروجنا عنه روى مقاتل: أنّ النبيّ (كان يخطب ويعيب المنافقين فإذا خرجوا من المسجد سألوا عبد الله بن مسعود استهزاء ماذا قال محمد آنفاً ؟ أي الساعة، أي: لا ترجع إليه... وقرأ البزي بقصر الهمزة بخلاف عنه والباقون بالمدّ وهما لغتان بمعنى واحد وهما اسما فاعل كحاذر وحذر، {أولئك} أي: البعداء من كل خير {الذين طبع الله} أي: الملك الأعظم {على قلوبهم} أي: بالكفر فلم يفهموا فهم انتفاع؛ لأنّ مثل هذا الجمود لا يكون إلا بذلك {واتبعوا} أي: بغاية جهدهم {أهواءهم} أي: في الكفر والنفاق، فلذلك هم يتهاونون بأعظم الكلام، ويقبلون على جمع الحطام، فهم أهل النار المشار إليهم قبل آية {مثل الجنة} بأنهم {زين لهم سوء عملهم}...(1/74)
ثم ذكر تعالى أضداد هؤلاء. بقوله سبحانه:{والذين اهتدوا} أي: اجتهدوا باستماعهم منك في الإيمان، والتسليم والإذعان بأنواع المجاهدات وهم المؤمنون {زادهم} أي: الله الذي طبع على قلوب الكفرة، {هدى} بأن شرح صدورهم، ونورها بأنوار المشاهدات، فصارت أوعية للحكمة {وآتاهم تقواهم} أي: ألهمهم ما يتقون به النار، قال ابن برحان: التقوى عمل الإيمان كما أن أعمال الجوارح عمل الإسلام.{فهل} أي: ما {ينظرون} أي: ينتظرون وجودها إشارة إلى شدة قربها.{إلا الساعة} وقوله تعالى: {أن تأتيهم} أي: الكافرين بدل اشتمال من الساعة أي: ليس الأمر إلا أن تأتيهم {بغتة} أي: فجأة من غير شعور بها، ولا استعداد لها. وقوله تعالى: {فقد جاء أشراطها} جمع شرط بسكون الراء وفتحها قال أبو الأسود:
فإن كنت قد أزمعت بالصرم بيننا فقد جعلت أشراطاً وله تبدو
والأشراط: العلامات ومنه أشراط الساعة وأشرط الرجل نفسه أي ألزمها أموراً قال أو
فأشرط فيها نفسه وهو يقسم فألقى بأسباب له وتوكلا
والشرط: القطع أيضاً، مصدر شرط الجلد يشرطه شرطاً قال السهيلي عن ابن سعد عن أنس قال رأيت النبيّ ( قال بأصبعيه هكذا بالوسطى والتي تلي الإبهام: " بعثت والساعة كهاتين" وعن أنس قال: لأحدّثنكم بحديث سمعته من رسول الله ( يقول: " إنّ من أشراط الساعة أن يرفع العلم، ويكثر الجهل، ويكثر الربا، ويشرب الخمر، وتقل الرجال، وتكثر النساء، حتى يكون لخمسين امرأة القيم الواحد" وعن أبي هريرة قال: بينما النبيّ ( في مجلس يحدث القوم إذ جاءه أعرابي، فقال: متى الساعة؟ فمضى رسول الله ( يحدث، فقال بعض القوم: سمع ما قال فكره ما قال، وقال بعضهم: لم يسمع... حتى إذا قضى حديثه، قال: أين السائل عن الساعة ؟ قال: ها أنا يا رسول الله ...قال: " إذا ضيعت الأمانة، فانتظر الساعة" ... فقيل: كيف إضاعتها ؟ قال: " إذا وسد الأمر لغير أهله فانتظروا الساعة".(1/75)
ومن أشراطها انشقاق القمر المؤذن بآية الشمس في طلوعها من مغربها، وغير ذلك وما بعد مقدّمات الشيء إلا حضوره.
{فأنى} أي: فكيف وأين {لهم} أي التذكر والاتعاظ والتوبة {إذا جاءتهم ذكراهم} أي: الساعة لا تنفعهم.
نظيره قوله تعالى : {يومئذ يتذكر الإنسان وأنى له الذكرى} ... ولما علم بذلك أنّ الذكرى غير نافعة إذا انقضت هذه الدار التي جعلت للعمل، أو جاءت الأشراط المحققة الكاشفة لها، سبب عنه أمر أعظم الخلق تكويناً ليكون لغيره تكليفاً فقال: {فاعلم أنه} أي: الشأن العظيم {لا إله} أي: لا معبود بحق {إلا الله} أي: إذا علمت سعادة المؤمنين وشقاوة الكافرين، فاثبت على ما أنت عليه من العلم بالوحدانية، فإنه النافع يوم القيامة وقيل: الخطاب مع النبيّ ( والمراد غيره.. وقال الحسن بن الفضل: فازدد علماً إلى علمك .. وقال أبو العالية وابن عيينة: معناه إذا جاءتهم الساعة، فاعلم أنه لا ملجأ ولا مفزع عند قيامها إلا إلى الله، {واستغفر لذنبك} أي: لأجله، أمر بذلك مع عصمته لتستن به أمته وقد فعله ، قال ( "إني لأستغفر الله في اليوم مائة مرة" وقيل: معنى قوله {لذنبك} أي: لذنب أهل بيتك وللمؤمنين والمؤمنات الذين ليسوا من أمتك بأهل بيت وقيل: المراد النبيّ، والذنب هو ترك الأفضل الذي هو بالنسبة إليه ذنب وحسناتنا دون ذلك... قال ( "إنه ليغان على قلبي، وإني لأستغفر الله في كل يوم مائة مرة" وقيل: هو كل مقام عال ارتفع منه إلى أعلى منه. وقوله تعالى: {وللمؤمنين والمؤمنات} فيه إكرام من الله تعالى لهذه الأمّة؛ حيث أمر نبيه (أن يستغفر لذنوبهم... {والله} المحيط بجميع صفات الكمال {يعلم متقلبكم} أي: تصرّفكم لأشغالكم بالنهار، ومكانه وزمانه {ومثواكم} أي: مأواكم إلى مضاجعكم بالليل أي: هو عالم بجميع أحوالكم، لا يخفى عليه شيء منها فاحذروه، والخطاب للمؤمنين وغيرهم، وقيل: يعلم متقلبكم في أعمالكم، ومثواكم في الجنة والنار، ومثله حقيق بأن يخشى(1/76)
ويتقى وأن يستغفر ويسترحم،... وعن سفيان ابن عيينة أنه سئل عن فضل العلم فقال: ألم تسمع قوله تعالى حين بدأ به: {فاعلم أنه لا إله إلا الله واستغفر لذنبك} فأمر بالعمل بعد العلم ، وقال: (اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً ثُمَّ يَكُونُ حُطَاماً وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ) (الحديد: 20)(1/77)
{ويقول الذين آمنوا} طلباً للجهاد. {لولا} أي: هلا، ولا التفات إلى قول بعضهم أن لا زائدة والأصل لو{نزلت سورة} أي سورة كانت، نسرّ بسماعها، ونتعبد بتلاوتها، ونعمل بما فيها {فإذا أنزلت سورة} أي: قطعة من القرآن، تكامل نزولها كلها تدريجاً، أو جملة وزادت على مطلوبهم في الحسن بأنها {محكمة} أي: مبينة، لا يلتبس شيء منها بنوع إجمال، ولا ينسخ لكونه جامعاً للمحاسن في كل زمان ومكان وقال قتادة: كل سورة ذكر فيها الجهاد فهي محكمة. وهي أشدّ القرآن على المنافقين {وذكر فيها القتال} أي: الأمر به ، {رأيت الذين في قلوبهم مرض} أي: شك وهم المنافقون. {ينظرون إليك} شرراً بتحديق شديد، كراهية منهم للجهاد، وجبنا منهم عن لقاء العدوّ {نظر المغشيّ} والأصل نظراً مثل نظر المغشي {عليه من الموت} الذي هو: نهاية الغشي فهو لا يطرف بعينه، بل شاخص لا يطرف كراهية القتال؛ من الجبن والخوف. والمعنى: أنّ المؤمن كان ينتظر نزول الأحكام والتكاليف ويطلب تنزيلها، وإذا تأخر عنه التكليف كان يقول هلا أمرت بشيء من العبادة خوفاً من أن لا يؤهل لها وأمّا المنافق، فإذا أنزلت السورة أو الآية وفيها تكليف شق عليه ذلك فحصل التباين بين الفريقين في العلم والعمل وقوله تعالى {فأولى لهم} وعيد بمعنى فويل لهم وهو أفعل من الولي وهو القرب ومعناه الدعاء عليه بأن يليهم المكروه.(1/78)
وقوله تعالى: {طاعة وقول معروف} مستأنف، أي: طاعة ومعروف خير لهم وأمثل، أي: لو أطاعوا وقالوا قولاً معروفاً لكان أمثل وأحسن، وساغ الابتداء بالنكرة لأنها وصفت بدليل قوله تعالى: {وقول معروف} فإنه موصوف فكأنه تعالى قال: طاعة مخلصة وقول معروف خير، وقيل: يقول المنافقون قبل نزول السورة المحكمة طاعة رفع على الحكاية، أي: أمرنا طاعة أو منا طاعة وقول معروف حسن، وقيل: متصل بما قبله واللام في قوله تعالى {لهم} بمعنى الباء أي فأولى بهم طاعة الله ورسوله، وقوله: معروف بالإجابة أولى بهم، وهذا قول ابن عباس في رواية عطاء. ثم سبب عنهما قوله تعالى مسنداً إلى الأمر ما هو لأهله تأكيداً لمضمون الكلام: {فإذا عزم الأمر}، أي: فإذا أمر بالقتال الذي ذكر في أوّل السورة وغيره من الأوامر أمراً مجزوماً به مقروحاً عليه ن {فلو صدقوا الله} أي: الملك الأعظم في قولهم الذي قالوه في طلب التنزيل {لكان} أي: صدقهم له {خيراً لهم} أي: من تعللهم، وجملة لو جواب إذا، نحو: إذا جاءني طعام فلو جئتني لأطعمتك، وقيل: محذوف، وتقديره: فاصدق كذا قدّره أبو البقاء وعزم الأمر على سبيل المجاز، كقوله: قد جدّت الحرب فجدوا، أو يكون على حذف مضاف أي عزم أهل الأمر. وقوله تعالى: {فهل عسيتم} فيه التفات عن الغيبة، أي: لعلكم {إن توليتم} أي: أعرضتم عن الإيمان والجهاد {أن تفسدوا} أي: توقعوا الإفساد العظيم الذي يستمر تجدّده {في الأرض} بالمعصية والبغي وسفك الدماء الذي يسخط الله تعالى، ويغضبه أشدّ غضب على فاعله، وتكونوا في غاية الجراءة عليه وترجعوا إلى الفرقة بعدما جمعكم الله بالإسلام. وقرأ نافع بكسر السين والباقون بفتحها ... {وتقطعوا} أي: تقطيعاً كثيراً {أرحامكم} أي: تعودوا إلى أمر الجاهلية في الإغارة من بعض على بعض وغير ذلك، قال قتادة: كيف رأيتم القوم حين تولوا عن كتاب الله تعالى ألم يسفكوا الدم الحرام وقطعوا الأرحام وعصوا الرحمن، وقال بعضهم: هو من(1/79)
الولاية. قال الفراء: يقول فهل عسيتم إن توليتم أمر الناس أن تفسدوا في الأرض بالظلم نزلت في بني أمية وبني هاشم... {أولئك} أي: المفسدون {الذين لعنهم الله} أي: طردهم أشدّ الطرد الملك الأعظم لما ذكر من إفسادهم وتقطيعهم، ثم سبب عن لعنهم قوله تعالى {فأصمهم} أي: عن الانتفاع بما سمعوه {وأعمى أبصارهم} أي عن الانتفاع بما يبصرون فليس سماعهم سماع إدراك، ولا إبصارهم إبصار اعتبار، فلا سماع ولا إبصار.{أفلا يتدبرون} بقلوب منفتحة منشرحة ليهتدوا إلى كل خير {القرآن} أي: يجهدوا أنفسهم في أن يتفكروا في الكتاب الجامع لكل خير، الفارق بين الحق والباطل، حتى لا يجسروا على المعاصي .. فإن قيل، قال تعالى: {فأصمهم وأعمى أبصارهم} فكيف يمكنهم التدبر في القرآن؟ وهو كقول القائل للأعمى: أبصر وللأصم اسمع، أجيب بثلاثة أوجه مترتبة بعضها أحسن من بعض؛ الأول: تكليف ما لا يطاق جائز. والله تعالى أمر من علم منه بأنه لا يؤمن أن يؤمن فلذلك جاز أن يصمهم، ويعميهم، ويذمهم على ترك التدبر. الثاني: أن قوله {أفلا يتدبرون القرآن} المراد منه الناس.
الثالث: أن يقال أنّ هذه الآية وردت محققة لمعنى الآية المتقدّمة، كأنه تعالى قال {أولئك الذين لعنهم الله} أي: أبعدهم عنه، أوعن الصدق، أو الخير، أو غير ذلك من الأمور الحسنة فأصمهم لا يسمعون حقيقة الكلام، وأعماهم لا يبصرون طريقة الإسلام فإذا هم بين أمرين: إمّا لا يتدبرون القرآن، فيبعدون عنه لأنّ الله تعالى لعنهم وأبعدهم عن الخير والصدق، والقرآن منها هو الصنف الأعلى بل النوع الأشرف.(1/80)
وإمّا يتدبرون لكن لا تدخل معانيه في قلوبهم لكونها مقفلة تقديره أفلا يتدبرون القرآن لكونهم ملعونين مبعدين {أم} أي: بل {على قلوب} أي: من قلوب الفاعلين لذلك {أقفالها} فلا تعي شيئاً ولا تفهم أمراً، ولا تزداد إلا غباوة وعناداً لأنها لا تقدر على التدبير قال القشيري: فلا يدخلها زواجر التنبيه، ولا ينبسط عليها شعاع العلم، فلا يحصل لهم فهم الخطاب. والباب إذا كان مغلقاً فكما لا يدخل فيه شيء لا يخرج ما فيه فلا كفرهم يخرج، ولا الإيمان الذي يدعون إليه يدخل. اهـ .. فإن قيل ما الفائدة في تنكير القلوب.
أجاب الزمخشري بقوله: يحتمل وجهين: أحدهما: أن يكون للتنبيه على كونه موصوفاً، لأنّ النكرة بالوصف أولى من المعرفة كأنه قال أم على قلوب قاسية أو مظلمة ..الثاني: أن تكون للتبعيض كأنه قال أم على بعض القلوب لأنّ النكرة لا تعم تقول: جاءني رجال فيفهم البعض، وجاءني الرجال فيفهم الكل. والتنكير في القلوب للتنبيه على الإنكار الذي في القلوب، وذلك لأنّ القلب إذا كان عارفاً كان معروفاً، لأنّ القلب خلق للمعرفة فإذا لم تكن فيه المعرفة، فكأنه لا يعرف قلباً فلا يكون قلباً يعرف، كما يقال للإنسان المؤذي: هذا ليس بإنسان فكذلك يقال: هذا ليس بقلب، هذا حجر، وإذا علم هذا، فالتعريف إمّا بالألف واللام، وإما بالإضافة بأن يقال على قلوبهم أقفالها، وهي لعدم عود فائدة إليهم كأنها ليست لهم.
فإن قيل قد قال تعالى {ختم الله على قلوبهم} (البقرة: 7) وقال تعالى: {فويل للقاسية قلوبهم} (الزمر: 22)
أجيب بأنّ الأقفال أبلغ من الختم، فترك الإضافة لعدم انتفاعهم رأساً.(1/81)
فإن قيل: ما الحكمة في قوله تعالى: {أقفالها} بالإضافة ؟ ولم يقل أقفال كما قال: {قلوب}. أجيب بأنّ الأقفال كأنها ليست إلا لها ولم يضف القلوب إليهم لعدم نفعها إياهم، وأضاف الأقفال إليها لكونها مناسبة لها، أو يقال: أراد به أقفالاً مخصوصة هي أقفال الكفر والعناد.. ولما أخبر تعالى بأقفال قلوبهم بين منشأ ذلك.فقال تعالى:{إنّ الذين ارتدوا} أي: من أهل الكتاب وغيرهم {على أدبارهم} أي: رجعوا كفارا {من بعدما تبين} أي: غاية البيان {لهم الهدى} أي: بالدلائل التي هي من شدة ظهورها غنية عن بيان مبين {الشيطان سوّل لهم} أي: زين وسهل لهم اقتراف الكبائر {وأملى} أي: ومدّ الشيطان {لهم} في الآمال والأماني بإرادته تعالى فهو المضل لهم وقرأ أبو عمرو: بضم الهمزة وكسر اللام وفتح الياء والباقون: بفتح الهمزة واللام وسكون الألف المنقلبة وأمالها حمزة والكسائي محضة، وقرأ ورش بالفتح وبين اللفظين، والباقون بالفتح قال في الكشاف: فإن قلت: من هؤلاء؟ قلت: اليهود كفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم من بعدما تبين لهم الهدى وهو نعته في التوراة وقيل: هم المنافقون.(1/82)
{ذلك} أي: إضلالهم {بأنهم} أي: بسبب أنهم {قالوا} أي: المنافقون {للذين كرهوا} أي: وهم المشركون {ما} أي: جميع ما {نزل الله} أي: الملك الأعظم على التدريج بحسب الوقائع، تنزيلاً في إعجاز الخلق في بلاغة التركيب مع فصاحة المفردات وجزالتها، مع السهولة في النطق، والعذوبة في السمع، والملاءمة للطبع {سنطيعكم في بعض الأمر} أي: أمر المعاونة على عداوة النبي ( وتثبيط الناس عن الجهاد معه قالوا ذلك سراً، فأظهره الله تعالى، {والله} أي: قالوا ذلك والحال أن الملك الأعظم المحيط بكل شيء علما وقدرة {يعلم} أي: على ممر الأوقات {أسرارهم} أي: كلها؛ هذا الذي أفشاه عليهم، وغيره مما في ضمائرهم مما لم يبرز على ألسنتهم ولعلهم لم يعلموه فضلاً عن أقوالهم التي تحدثت بها أنفسهم فبان بذلك أنه لا أديان لهم ولا عقول ولا مروءات. وقرأ حمزة والكسائي وحفص بكسر الهمزة مصدراً والباقون بفتحها جمع سر.
{فكيف} أي: حالهم {إذا توفتهم الملائكة} أي: قبضت رسلنا، وهم ملك الموت وأعوانه أرواحهم كاملة وقوله تعالى: {يضربون وجوههم وأدبارهم} تصوير لتوفيهم بما يخافون منه ويجبنون عن القتال له وعن ابن عباس: لا يتوفى أحد على معصية إلا يضرب من الملائكة في وجهه ودبره. وقوله تعالى:
{ذلك} إشارة إلى التوفي الموصوف {بأنهم} أي: بسبب أنهم {اتبعوا} أي: عالجوا فطرتهم الأولى في أن اتبعوا {ما أسخط الله} أي: الملك الأعظم، وهو الكفر وكتمان نعت الرسول صلى الله عليه وسلم وعصيان الأمر {وكرهوا} بالإشراك {رضوانه} بكراهتهم أعظم أسباب رضاه وهو الإيمان، فهم لما دونه بالقعود عن الطاعات أكره؛ لأنّ ذلك ظاهر غاية الظهور في أنّ فاعله غير معذور في ترك النظر فيه.
{فأحبط} أي: فلذلك تسبب عنه أنه أفسد {أعمالهم} أي: الصالحة فأسقطها بحيث لم يبق لها وزن أصلاً لتضييع الأساس من مكارم الأخلاق؛ من القرى والأخذ بيد الضعيف والتصدّق والإعتاق وغير ذلك من وجوه الإرفاق.(1/83)
{أم حسب الذين} وكان الأصل أم حسبوا لضعف عقولهم كما أفهمه التعبير بالحسبان ولكنه عبر تعالى بما دلّ على الآفة التي أدّتهم إلى ذلك بقوله تعالى: {في قلوبهم} أي: التي إذا أفسدت فسد جميع أجسادهم {مرض} أي: آفة لا طب لها حسباناً هو في غاية الثبات كما دل عليه التأكيد في قوله تعالى: {أن لن يخرج الله} أي يبرز من هو محيط بصفات الكمال للرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين على سبيل التجديد والاستمرار وقوله تعالى: {أضغانهم} جمع ضغن، وهي الأحقاد أي أحقادهم على المؤمنين فيبديها حتى تعرفوا نفاقهم وكانت صدورهم تغلي حنقاً عليهم... {ولو نشاء لأريناكهم} من رؤية البصر.. وجاء على الأفصح من اتصال الضميرين ولو جاء على أريناك إياهم جاز... وقال الرازي الإراءة هنا بمعنى التعريف وقوله تعالى {فلعرفتهم} عطف على جواب لو {بسيماهم} أي: بسبب علاماتهم التي نجعلها غالبة عليهم عالية لهم في إظهار ضمائرهم غلبة لا يقدرون على مدافعتها بوجه ولم يذكرهم سبحانه بأسمائهم إبقاء على قراباتهم المخلصين من الفتن وقوله تعالى {ولتعرفنهم} جواب قسم محذوف {في لحن القول} أي: الصادر منهم، ولحنه فحواه أي معناه وما يدل عليه ويلوح عليه من ميله عن حقائقه إلى عواقبه، وما يؤول إليه أمره مما يخفى على غيرك قال أنس: ما خفي على رسول الله ( بعد نزول هذه الآية شيء من المنافقين كان يعرفهم بسيماهم. وعن ابن عباس: لحن القول هو قولهم ما لنا إن أطعنا من الثواب ؟ ولا يقولون ما علينا إن عصينا ؟ ..وقيل اللحن أن تلحن بكلامك أي تميله إلى نحو من الانحاء ليفطن له صاحبك كالتعريض والتورية قال:
ولقد لحنت لكم لكيما تفهموا واللحن يعرفه ذوو الألباب(1/84)
وقيل للمخطىء: لاحن، لأنه يعدل بالكلام عن الصواب. وقال أبو حيان: كانوا اصطلحوا على ألفاظ يخاطبون بها الرسول ( مما ظاهره حسن ويعنون به القبيح {والله} أي: بما له من الكمال {يعلم أعمالكم} كلها الفعلية والقولية جليها وخفيها علماً ثابتاً غيبياً وعلماً راسخاً شهودياً يتجدّد بحسب تجدّدها مستمرّاً باستمرار ذلك.
{ولنبلونكم} أي: نعاملكم معاملة المبتلى، بأن نخالطكم بما لنا من العظمة بالأوامر الشديدة على النفوس والنواهي الكريهة إليها. {حتى نعلم} أي: بالابتلاء علماً شهودياً يشهده غيرنا مطابقاً لما كنا نعلمه علماً غيبياً، فنستخرج من سرائركم ما جبلناكم عليه مما لا يعلمه أحد منكم بل ولا تعلمونه حق علمه {المجاهدين منكم} في القتال وفي سائر الأعمال والشدائد والأهوال امتثالاً للأمر بذلك {والصابرين} أي: على شدائد الجهاد وغيره من الأنكاد قال القشيري: فبالابتلاء والامتحان تتبين جواهر الرجال فيظهر المخلص ويفتضح المماذق وينكشف المنافق اهـ
وعن الفضيل: أنه كان إذا قرأ هذه الآية بكى وقال: اللهم لا تبلنا فإنك إن بلوتنا فضحتنا وهتكت أستارنا وعذبتنا ...{ونبلو أخباركم} أي: نخالطها بأن: نسلط عليها من يحرفها فيجعل حسنها قبيحاً وقبيحها حسنا ليظهر للناس العامل لله والعامل للشيطان، فإنّ العامل لله إذا سمى قبيحه باسم الحسن علم أنّ ذلك إحسان من الله تعالى إليه فيستحي منه ويرجع، وإذا سمى حسنه باسم القبيح وأشهر به علم أنّ ذلك لطف من الله تعالى به لكي لا يدركه العجب أو يهاجمه الرياء فيزيد في إحسانه، والعامل للشيطان يزداد في القبائح، لأنّ شهرته عند الناس محط نظره ويرجع عن الحسن لأنه لم يوصله إلى ما أراد به من ثناء الناس عليه بالخير.(1/85)
{إنّ الذين كفروا} أي: غطوا ما دلتهم عليه عقولهم من ظاهر آيات الله لا سيما بعد إرسال الرسول ( المؤيد بواضح المعجزات {وصدّوا} أي امتنعوا ومنعوا غيرهم زيادة في كفرهم {عن سبيل الله} أي الطريق الواضح الذي نهجه الملك الأعظم {وشاقوا الرسول} أي: الكامل في الرسالة المعروف غاية المعرفة. {من بعد ما تبين} أي: غاية البيان بالمعجز {لهم الهدى} بحيث صار ظاهراً بنفسه غير محتاج ما أظهره الرسول من الآيات الظاهرة وهم قريظة والنضير والمطعمون يوم بدر {لن يضروا الله} أي ملك الملوك {شيئاً} بما هم عليه من الكفر والصدّ أو لن يضرّوا رسوله ( بمشاقته وحذف المضاف لتعظيمه وتفظيع مشاقته {وسيحبط} أي: يفسد فيبطل بوعد لا خلف فيه {أعمالهم} من المحاسن لبنائها على غير أساس.(1/86)
{يا أيها الذين آمنوا} أي: أقرّوا بألسنتهم {أطيعوا الله} أي: الملك الأعظم تصديقاً لدعواكم طاعة لشدّة الاجتهاد فيها أنها خالصة، وعظم الرسول ( بإفراده فقال تعالى: {وأطيعوا الرسول} لأنّ طاعته من طاعة الذي أرسله، فإذا فعلتم ذلك حصنتم أنفسكم وأعمالكم، فتكون صحيحة ببنائها على الطاعة بتصحيح النيات وتصفيتها مع الإحسان للصورة في الظاهر، ليستكمل العمل صورة وروحاً {ولا تبطلوا أعمالكم}... قال عطاء بالشك والنفاق. وقال الكلبي: بالرياء والسمعة. وقال الحسن: بالمعاصي والكبائر. وقال أبو العالية: كان أصحاب رسول الله ( يرون أنه لا يضرّ مع الإيمان ذنب كما لا ينفع مع الشرك عمل، فنزلت هذه الآية" فخافوا الكبائر أن تحبط الأعمال. وقال مقاتل: لا تمنوا على رسول الله ( فتبطلوا أعمالكم نزلت في بني أسد. قال تعالى {لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى} (البقرة: 264) .. وعن حذيفة فخافوا أن تحبط الكبائرأعمالهم.وعن ابن عمر: كنا نرى أنه ليس شيء من حسناتنا إلا مقبولاً حتى نزل : { ولا تبطلوا أعمالكم}.. فقلنا ما هذا الذي يبطل أعمالنا ؟ فقلنا الكبائر الموجبات والفواحش، حتى نزل : { إنّ الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} (النساء: 48)
فكففنا عن القول في ذلك، فكنا نخاف على من أصاب الكبائر ونرجو لمن لم يصبها. وعن قتادة: رحم الله عبداً لم يحبط عمله الصالح بعمله السيء. وعن ابن عباس: لا تبطلوا بالرياء والسمعة أعمالكم. وعنه أيضاً: بالشك والنفاق. وقيل بالعجب، فإنّ العجب يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب.(1/87)
{إن الذين كفروا} أي: أوقعوا الكفر بفعلهم فعل الساتر لما دل عليه العقل من آيات الله المرئية والمسموعة {وصدّوا عن سبيل الله} أي: الملك الأعلى عن الواضح المستقيم الموصل إلى كل ما ينبغي أن يقصد كل من أراد بتماديهم على باطلهم وأذاهم لمن خالفهم {ثم ماتوا} بعد المدّ لهم في مضمارهم بالتطويل في أعمارهم {وهم} أي: والحال أنهم {كفار فلن يغفر الله} أي: المحيط بجميع صفات الكمال الذي يمنع من تسوية المسيء بالمحسن {لهم} فلا يمحو ذنوبهم ولا يستر عيوبهم، بل يفضح سرائرهم ويردّهم على أعقابهم في كل ما يتقلبون فيه، لأنهم قد أبطلوا أعمالهم بالخروج عن دائرة الطاعة فلم يبق لهم ما يغفر لهم تسببه، وقد دلت هذه الآية على ما دلت عليه آية البقرة من أنّ إحباط العمل في المرتدّ مشروط بالموت على الكفر قيل: نزلت في أصحاب القليب... قال الزمخشريّ: والظاهر العموم...
ثم رغب تعالى في لزوم الجهاد محذراً من تركه بقوله تعالى:{فلا تهنوا} أي: تضعفوا ضعفاً يؤدّي بكم إلى الهوان والذلّ {وتدعوا} أعداءكم {إلى السلم} أي: المسالمة وهي الصلح {وأنتم} أي: والحال أنكم {الأعلون} أي: الظاهرون الغالبون قال الكلبي: آخر الأمر لكم وإن غلبوكم في بعض الأوقات. وأصل الأعلون الأعليون فأعلّ.. وقرأ حمزة وشعبة بكسر السين والباقون بفتحها... ثم عطف على الحال قوله تعالى {والله} أي: الملك الأعظم الذي لا يعجزه شيء ولا كفء له {معكم} أي: بنصره ومعونته وجميع ما يفعله الكريم إذا كان مع عبده ومن علم أنه سيده وعلم أنه قادر على ما يريد لم يبال بشيء أصلاً {ولن يتركم} أي: ينقصكم {أعمالكم} أي: ثوابها كما يفعل مع أعدائكم في إحباط أعمالهم، لأنكم لم تبطلوا أعمالكم بجعل الدنيا محط أمركم.(1/88)
{إنما الحياة} وأشار إلى دناءتها تنفيراً عنها بقوله: {الدنيا} أي: الاشتغال بها {لعب} أي: أعمال ضائعة سافلة تزيد في السرور ما يسرع اضمحلاله فيبطل من غير ثمرة {ولهو} أي: مشغلة يطلب بها إثارة اللذة كالغناء {وإن تؤمنوا وتتقوا} أي: تخافوا فتجعلوا بينكم وبين غضبه سبحانه وتعالى وقاية من جهاد أعدائه، وذلك من أعمال الآخرة {يؤتكم} أي: الله سبحانه الذي فعلتم ذلك من أجله في الدار الآخرة {أجوركم} أي: ثواب كل أعمالكم ببنائها على الأساس، ولأنه غنيّ لا ينقصه الإعطاء {ولا يسألكم} أي: الله في الدنيا {أموالكم} أي: لنفسه ولا كلها لغيره، بل يقتصر على جزء يسير مما تفضل به عليكم كربع العشر وعشره. {إن يسألكموها} أي: كلها {فيحفكم} أي: يبالغ في سؤالكم ويبلغ فيه الغاية حتى يستأصلها فيجهدكم بذلك، فالإحفاء المبالغة وبلوغ الغاية في كل شيء يقال: أحفاه في المسألة إذا لم يترك شيئاً من الإلحاح، وأحفى شاربه استأصله {تبخلوا} فلا تعطوا شيئاً {ويخرج أضغانكم} أي: ما تضغنون على رسول الله ( والضمير في يخرج لله تعالى أو الرسول أو السؤال، أو البخل، واقتصر عليه الجلال المحلي، قال قتادة: علم الله تعالى أنّ في مسألة الأموال خروج الأضغان يعني ما طلبها ولو طلبها وألح عليكم في الطلب لبخلتم كيف وأنتم تبخلون باليسير فكيف لا تبخلون بالكثير.(1/89)
{هاأنتم} وحقر أمرهم بقوله تعالى: {هؤلاء} أي: أنتم يا مخاطبون هؤلاء الموصوفون، وقوله تعالى {تدعون لتنفقوا في سبيل الله} أي: الملك الأعظم الذي يرجى خيره ولا يخشى غيره استئناف مقرّر لذلك أو صلة لهؤلاء على أنه بمعنى الذين وهو يعم نفقة الغزو والزكاة وغيرها {فمنكم من يبخل} أي: ناس يبخلون، وحذف القسم الآخر وهو ومنكم من يجود، لأنّ المراد الاستدلال على ما قبله من البخل ولما كان بخله عمن أعطاه المال بجزء يسير منه إنما طلبه لينفع المطلوب منه فقط زاد العجب بقوله تعالى: {ومن} أي: والحال أنه من {يبحل} بذلك {فإنما يبخل} بماله بخلا ضارّاً {عن نفسه} فإن نفع الإنفاق وضر البخل عائدان إليه والبخل يعدى بعن وعلى لتضمنه معنى الإمساك والتعدّي فإنه إمساك عمن يستحق {والله} أي: الملك الأعظم الذي له الإحاطة بجميع صفات الكمال {الغني} وحده عن نفقتكم {وأنتم} أيها المكلفون خاصة {الفقراء} لاحتياجكم في جميع أحوالكم إليه {وإن تتولوا} عطف على {وإن تؤمنوا وتتقوا} {يستبدل قوماً غيركم} أي: يخلق قوماً سواكم على خلاف صفتكم راغبين في الإيمان والتقوى {ثم لا يكونوا أمثالكم} في التولي عنه والزهد في الإيمان كقوله تعالى {ويأت بخلق جديد} قيل: هم الملائكة. وقيل الأنصار وعن ابن عباس: كندة والنخع وعن الحسن: العجم وعن عكرمة: فارس والروم ... وسئل رسول الله ( عن القوم وكان سلمان إلى جنبه فضرب على فخذه وقال: " هذا وقومه والذي نفسي بيده لو كان الإيمان منوطاً بالثريا لتناوله رجال من فارس" رواه الترمذي والحاكم وصححاه...
************************************************************************************
بسم الله الرحمن الرحيم(1/90)
4-? مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً ? (الفتح : 29 )
( قال ابن كثير رحمه الله :
يخبر تعالى عن محمد ( أنه رسوله حقاً بلا شك ولا ريب فقال: {محمد رسول الله} وهذا مبتدأ وخبر, وهو مشتمل على كل وصف جميل, ثم ثنى بالثناء على أصحابه رضي الله عنهم فقال: {والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم} كما قال عز وجل: {فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين} وهذه صفة المؤمنين أن يكون أحدهم شديداً عنيفاً على الكفار, رحيماً براً بالأخيار, غضوباً عبوساً في وجه الكافر ضحوكاً بشوشاً في وجه أخيه المؤمن كما قال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا قاتلوا الذي يلونكم من الكفار وليجدوا فيكم غلظة} وقال النبي (: "مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد, إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر". وقال (: "المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً". وشبك ( بين أصابعه, كلا الحديثين في الصحيح.(1/91)
وقوله سبحانه وتعالى: {تراهم ركعاً سجداً يبتغون فضلاً من الله ورضواناً} وصفهم بكثرة العمل وكثرة الصلاة وهي خير الأعمال, ووصفهم بالإخلاص فيها لله عز وجل والاحتساب عند الله تعالى جزيل الثواب, وهو الجنة المشتملة على فضل الله عز وجل وهو سعة الرزق عليهم ورضاه تعالى عنهم, وهو أكبر من الأول كما قال جل وعلا: {ورضوان من الله أكبر}... وقوله جل جلاله: {سيماهم في وجوههم من أثر السجود} قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما: سيماهم في وجوههم يعني السمت الحسن. وقال مجاهد وغير واحد: يعني الخشوع والتواضع. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا علي بن محمد الطنافسي, حدثنا حسين الجعفي عن زائدة عن منصور عن مجاهد {سيماهم في وجوههم من أثر السجود} قال: الخشوع. قلت: ما كنت أراه إلا هذا الأثر في الوجه, فقال: ربما كان بين عيني من هو أقسى قلباً من فرعون. وقال السدي: الصلاة تحسن وجوههم, وقال بعض السلف: من كثرت صلاته بالليل حسن وجهه بالنهار, وقد أسنده ابن ماجه في سننه عن إسماعيل بن محمد الطلحي عن ثابت بن موسى عن شريك, عن الأعمش عن أبي سفيان عن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله (: "من كثرت صلاته بالليل حسن وجهه بالنهار" والصحيح أنه موقوف. وقال بعضهم: إن للحسنة نوراً في القلب ، وضياء في الوجه ، وسعة في الرزق ، ومحبة في قلوب الناس....(1/92)
وقال أمير المؤمنين عثمان رضي الله عنه: ما أسر أحد سريرة إلا أبداها الله تعالى على صفحات وجهه وفلتات لسانه,.. والغرض أن الشيء الكامن في النفس يظهر على صفحات الوجه, فالمؤمن إذا كانت سريرته صحيحة مع الله تعالى أصلح الله عز وجل ظاهره للناس, كما روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: من أصلح سريرته أصلح الله تعالى علانيته. وقال أبو القاسم الطبراني: حدثنا محمود بن محمد المروزي, حدثنا حامد بن آدم المروزي, حدثنا الفضل بن موسى عن محمد بن عبيد الله العرزمي عن سلمة بن كهيل, عن جندب بن سفيان البجلي رضي الله عنه قال: قال النبي ( : "ما أسر أحد سريرة إلا ألبسه الله تعالى رداءها, إن خيراً فخير وإن شراً فشر" العرزمي متروك. وقال الإمام أحمد: حدثنا حسن بن موسى, حدثنا ابن لهيعة, حدثنا دراج عن أبي الهيثم عن أبي سعيد رضي الله عنه عن رسول الله ( أنه قال: "لو أن أحدكم يعمل في صخرة صماء ليس لها باب ولا كوة لخرج عمله للناس كائناً ما كان".(1/93)
وقال الإمام أحمد: حدثنا حسن, حدثنا زهير, حدثنا قابوس بن أبي ظبيان أن أباه حدثه عن ابن عباس رضي الله عنهما, عن النبي ( قال: "إن الهدي الصالح والسمت الصالح والاقتصاد جزء من خمسة وعشرين جزءاً من النبوة" ورواه أبو داود عن عبد الله بن محمد النفيلي عن زهير به, فالصحابة رضي الله عنهم خلصت نياتهم وحسنت أعمالهم فكل من نظر إليهم أعجبوه في سمتهم وهديهم. وقال مالك رضي الله عنه: بلغني أن النصارى كانوا إذا رأوا الصحابة رضي الله عنهم الذين فتحوا الشام يقولون: والله لهؤلاء خير من الحواريين فيما بلغنا, وصدقوا في ذلك فإن هذه الأمة معظمة في الكتب المتقدمة, وأعظمها وأفضلها أصحاب رسول الله ( , وقد نوه الله تبارك وتعالى بذكرهم في الكتب المنزلة والأخبار المتداولة, ولهذا قال سبحانه وتعالى ههنا: {ذلك مثلهم في التوراة} ثم قال {و مثلهم في الإنجيل كزرع أخرج شطأه} أي فراخه {فآزره} أي شده {فاستغلظ} أي شب وطال {فاستوى على سوقه يعجب الزراع} أي فكذلك أصحاب رسول الله ( آزروه وأيدوه ونصروه فهم معه كالشطء مع الزرع {ليغيظ بهم الكفار}.(1/94)
ومن هذه الاَية انتزع الإمام مالك رحمة الله عليه, في رواية عنه, بتكفير الروافض الذين يبغضون الصحابة رضي الله عنهم قال: لأنهم يغيظونهم ومن غاظ الصحابة رضي الله عنهم فهو كافر لهذه الاَية, ووافقه طائفة من العلماء رضي الله عنهم على ذلك, والأحاديث في فضل الصحابة رضي الله عنهم والنهي عن التعرض لهم بمساءة كثيرة, ويكفيهم ثناء الله عليهم ورضاه عنهم: ثم قال تبارك وتعالى: {وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم} من هذه لبيان الجنس {مغفرة} أي لذنوبهم {وأجراً عظيماً} أي ثواباً جزيلاً ورزقاً كريماً. ووعد الله حق وصدق لا يخلف ولا يبدل, وكل من اقتفى أثر الصحابة رضي الله عنهم فهو في حكمهم, ولهم الفضل والسبق والكمال الذي لا يلحقهم فيه أحد من هذه الأمة, رضي الله عنهم وأرضاهم وجعل جنات الفردوس مأواهم, وقد فعل. قال مسلم في صحيحه: حدثنا يحيى بن يحيى, حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله ( "لا تسبوا أصحابي فوالذي نفسي بيده لو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهباً ما أدرك مد أحدهم ولا نصيفه".
(وقال القرطبي رحمه الله :(1/95)
قوله تعالى: "محمد رسول الله" "محمد" مبتدأ و"رسول" خبره. وقيل: "محمد" ابتداء و"رسول الله" نعته. "والذين معه" عطف على المبتدأ، والخبر فيما بعده؛ فلا يوقف على هذا التقدير على "رسول الله". وعلى الأول يوقف على "رسول الله"؛ لأن صفاته عليه السلام تزيد على ما وصف أصحابه؛ فيكون "محمد" ابتداء و"رسول الله" الخبر "والذين معه" ابتداء ثان. و"أشداء" خبره و"رحماء" خبر ثان. وكون الصفات في جملة أصحاب النبي ( هو الأشبه. وقيل: المراد بـ "الذين معه" جميع المؤمنين. "أشداء على الكفار" قال ابن عباس: أهل الحديبية أشداء على الكفار؛ أي غلاظ عليهم كالأسد على فريسته. "رحماء بينهم" أي يرحم بعضهم بعضا. وقيل: متعاطفون متوادون. وقرأ الحسن "أشداء على الكفار رحماء بينهم" بالنصب على الحال، كأنه قال: والذين معه في حال شدتهم على الكفار وتراحمهم بينهم. "تراهم ركعا سجدا" إخبار عن كثرة صلاتهم. "يبتغون فضلا من الله ورضوانا" أي يطلبون الجنة ورضا الله تعالى.(1/96)
قوله تعالى: "سيماهم في وجوههم من أثر السجود" السيما العلامة، وفيها لغتان: المد والقصر، أي لاحت علامات التهجد بالليل وأمارات السهر. وفي سنن ابن ماجة قال: حدثنا إسماعيل بن محمد الطلحي قال حدثنا ثابت بن موسى أبو يزيد عن شريك عن الأعمش عن أبي سفيان عن جابر قال: قال رسول الله (: [من كثرت صلاته بالليل حسن وجهه بالنهار]. وقال ابن العربي: ودسه قوم في حديث النبي ( على وجه الغلط، وليس عن النبي صلى الله عليه وسلم فيه ذكر بحرف. وقد روى ابن وهب عن مالك "سيماهم في وجوههم من أثر السجود" ذلك مما يتعلق بجباههم من الأرض عند السجود، وبه قال سعيد بن جبير. وفي الحديث الصحيح عن النبي ( : صلى صبيحة إحدى وعشرين من رمضان وقد وكف المسجد وكان على عريش، فانصرف النبي ( من صلاته وعلى جبهته وأرنبته أثر الماء والطين. وقال الحسن: هو بياض يكون في الوجه يوم القيامة. وقاله سعيد بن جبير أيضا، ورواه العوفي عن ابن عباس؛ قاله الزهري. وفي الصحيح عن رسول الله ( من حديث أبي هريرة، وفيه: [حتى إذا فرغ الله من القضاء بين العباد وأراد أن يخرج برحمته من أراد من أهل النار أمر الملائكة أن يخرجوا من النار من كان لا يشرك بالله شيئا ممن أراد الله أن يرحمه ممن يقول لا إله إلا الله فيعرفونهم في النار بأثر السجود تأكل النار ابن آدم إلا أثر السجود حرم الله على النار أن تأكل أثر السجود]. وقال شهر بن حوشب: يكون موضع السجود من وجوههم كالقمر ليلة البدر. وقال ابن عباس ومجاهد: السيما في الدنيا وهو السمت الحسن. وعن مجاهد أيضا: هو الخشوع والتواضع. قال منصور: سألت مجاهدا عن قوله تعالى: "سيماهم في وجوههم" أهو أثر يكون بين عيني الرجل؟ قال لا، ربما يكون بين عيني الرجل مثل ركبة العنز وهو أقسى قلبا من الحجارة ، ولكنه نور في وجوههم من الخشوع. وقال ابن جريج: هو الوقار والبهاء. وقال شمر بن عطية: هو صفرة الوجه من قيام الليل. قال الحسن: إذا رأيتهم(1/97)
حسبتهم مرضى وما هم بمرضى. وقال الضحاك: أما إنه ليس بالندب في وجوههم ولكنه الصفرة. وقال سفيان الثوري: يصلون بالليل فإذا أصبحوا رئي ذلك في وجوههم، بيانه قوله صلى الله عليه وسلم: [من كثرت صلاته بالليل حسن وجهه بالنهار]. وقد مضى القول فيه آنفا. وقال عطاء الخراساني: دخل في هذه الآية كل من حافظ على الصلوات الخمس.
قوله تعالى: "ذلك مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل" قال الفراء: فيه وجهان، إن شئت قلت المعنى ذلك مثلهم في التوراة وفي الإنجيل أيضا، كمثلهم في القرآن، فيكون الوقف على "الإنجيل" وإن شئت قلت: تمام الكلام ذلك مثلهم في التوراة، ثم ابتداء فقال: ومثلهم في الإنجيل. وكذا قال ابن عباس وغيره: هما مثلان، أحدهما في التوراة والآخر في الإنجيل، فيوقف على هذا على "التوراة". وقال مجاهد: هو مثل واحد، يعني أن هذه صفتهم في التوراة والإنجيل، فلا يوقف على "التوراة" على هذا، ويوقف على "الإنجيل"، ويبتدئ: "كزرع أخرج شطأه" على معنى وهم كزرع. و"شطأه" يعني فراخه وأولاده، قاله ابن زيد وغيره. وقال مقاتل: هو نبت واحد، فإذا خرج ما بعده فقد شطأه. قال الجوهري: شطء الزرع والنبات فراخه، والجمع أشطاء. وقد أشطأ الزرع خرج شطؤه. قال الأخفش في قوله: "أخرج شطأه" أي طرفه. وحكاه الثعلبي عن الكسائي. وقال الفراء: أشطأ الزرع فهو مشطئ إذا خرج. قال الشاعر:
أخرج الشطء على وجه الثرى ومن الأشجار أفنان الثمر
الزجاج: أخرج شطأه أي نباته. وقيل: إن الشطء شوك السنبل، والعرب أيضا تسميه: السفا، وهو شوك البهمى، قاله قطرب. وقيل: إنه السنبل، فيخرج من الحبة عشر سنبلات وتسع وثمان، قال الفراء، حكاه الماوردي. وقرأ ابن كثير وابن ذكوان "شطأه" بفتح الطاء، وأسكن الباقون. وقرأ أنس ونصر بن عاصم وابن وثاب "شطاه" مثل عصاه. وقرأ الجحدري وابن أبي إسحاق "شطه" بغير همز، وكلها لغات فيها.(1/98)
وهذا مثل ضربه الله تعالى لأصحاب النبي (، يعني أنهم يكونون قليلا ثم يزدادون ويكثرون، فكان النبي ( حين بدأ بالدعاء إلى دينه ضعيفا فأجابه الواحد بعد الواحد حتى قوي أمره، كالزرع يبدو بعد البذر ضعيفا فيقوى حالا بعد حال حتى يغلظ نباته وأفراخه. فكان هذا من أصح مثل وأقوى بيان. وقال قتادة: مثل أصحاب محمد ( في الإنجيل مكتوب أنه سيخرج من قوم ينبتون نبات الزرع، يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر. "فآزره" أي قواه وأعانه وشده، أي قوى الشطء الزرع. وقيل بالعكس، أي قوى الزرع الشطء. وقراءة العامة "آزره" بالمد. وقرأ ابن ذكوان وأبو حيوة وحميد بن قيس "فأزره" مقصورة، مثل فعله. والمعروف المد. قال امرؤ القيس:
بمحنية قد آزر الضال نبتها مجر جيوش غانمين وخيب
"فاستغلظ فاستوى على سوقه" على عوده الذي يقوم عليه فيكون ساقا له. والسوق: جمع الساق. "يعجب الزراع" أي يعجب هذا الزرع زراعه. وهو مثل كما بينا، فالزرع محمد (، والشطء أصحابه، كانوا قليلا فكثروا، وضعفاء فقووا، قال الضحاك وغيره. "ليغيظ بهم الكفار" اللام متعلقة بمحذوف، أي فعل الله هذا لمحمد ( وأصحابه ليغيظ بهم الكفار.(1/99)
قوله تعالى: "وعد الله الذين آمنوا" أي وعد الله هؤلاء الذين مع محمد، وهم المؤمنون الذين أعمالهم صالحة. و"من" في قوله: "منهم" مبعضة لقوم من الصحابة دون قوم، ولكنها عامة مجنسة، مثل قوله تعالى: "فاجتنبوا الرجس من الأوثان" [الحج: 30] لا يقصد للتبعيض لكنه يذهب إلى الجنس، أي فاجتنبوا الرجس من جنس الأوثان، إذ كان الرجس يقع من أجناس شتى، منها الزنى والربا وشرب الخمر والكذب، فأدخل "من" يفيد بها الجنس وكذا "منهم"، أي من هذا الجنس، يعني جنس الصحابة. ويقال: أنفق نفقتك من الدراهم، أي اجعل نفقتك هذا الجنس. وقد يخصص أصحاب محمد ( بوعد المغفرة تفضيلا لهم، وإن وعد الله جميع المؤمنين المغفرة. وفي الآية جواب آخر: وهو أن "من" مؤكدة للكلام، والمعنى وعدهم الله كلهم مغفرة وأجرا عظيما. فجرى مجرى قول العربي: قطعت من الثوب قميصا، يريد قطعت الثوب كله قميصا. و"من" لم يبعض شيئا. وشاهد هذا من القرآن "وننزل من القرآن ما هو شفاء" [الإسراء: 82] معناه وننزل القرآن شفاء، لأن كل حرف منه يشفي، وليس الشفاء مختصا به بعضه دون بعض. على أن من اللغويين من يقول: "من" مجنسة، تقديرها ننزل الشفاء من جنس القرآن، ومن جهة القرآن، ومن ناحية القرآن. قال زهير: أمن أم أوفى دمنة لم تكلم ...أراد من ناحية أم أوفى دمنة، أم من منازلها دمنة. وقال الآخر:
أخو رغائب يعطيها ويسألها يأبى الظلامة منه النوفل الزفر
فـ "من" لم تبعض شيئا، إذ كان المقصد يأبى الظلامة لأنه نوفل زفر. والنوفل: الكثير العطاء. والزفر: حامل الأثقال والمؤن عن الناس.
روى أبو عروة الزبيري من ولد الزبير: كنا عند مالك بن أنس، فذكروا رجلا ينتقص أصحاب رسول الله (، فقرأ مالك هذه الآية "محمد رسول الله والذين معه" حتى بلغ "يعجب الزراع ليغيظ بهم الكفار". فقال مالك: من أصبح من الناس في قلبه غيظ على أحد من أصحاب رسول الله (فقد أصابته هذه الآية، ذكره الخطيب أبو بكر.(1/100)
قلت: لقد أحسن مالك في مقالته وأصاب في تأويله. فمن نقص واحدا منهم أو طعن عليه في روايته فقد رد على الله رب العالمين، وأبطل شرائع المسلمين، قال الله تعالى: "محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار" الآية. وقال: "لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة" [الفتح: 18] إلى غير ذلك من الآي التي تضمنت الثناء عليهم، والشهادة لهم بالصدق والفلاح، قال الله تعالى: "رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه" [الأحزاب: 23]. وقال: "للْفُقَرَاء الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ " [الحشر: 8]، ثم قال عز من قائل: "وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ " [الحشر: 9]. وهذا كله مع علمه تبارك وتعالى بحالهم ومآل أمرهم، وقال رسول الله ( : (خير الناس قرني ثم الذين يلونهم) وقال: (لا تسبوا أصحابي فلو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهبا لم يدرك مد أحدهم ولا نصيفه) خرجهما البخاري. وفي حديث آخر: (فلو أن أحدكم أنفق ما في الأرض لم يدرك مد أحدهم ولا نصيفه). قال أبو عبيد: معناه لم يدرك مد أحدهم إذا تصدق به ولا نصف المد، فالنصيف هو النصف هنا. وكذلك يقال للعشر عشير، وللخمس خميس، وللتسع تسيع، وللثمن ثمين، وللسبع سبيع، وللسدس سديس، وللربع ربيع. ولم تقل العرب للثلث ثليث.(1/101)
وفي البزار عن جابر مرفوعا صحيحا: (إن الله اختار أصحابي على العالمين سوى النبيين والمرسلين واختار لي من أصحابي أربعة - يعني أبا بكر وعمر وعثمان وعليا - فجعلهم أصحابي). وقال: (في أصحابي كلهم خير). وروى عويم بن ساعدة قال: قال رسول الله ( (إن الله عز وجل اختارني واختار لي أصحابي فجعل لي منهم وزراء وأختانا وأصهارا فمن سبهم فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين ولا يقبل الله منه يوم القيامة صرفا ولا عدلا). والأحاديث بهذا المعنى كثيرة، فحذار من الوقوع في أحد منهم، كما فعل من طعن في الدين فقال: إن المعوذتين ليستا من القرآن، وما صح حديث عن رسول الله ( في تثبيتهما ودخولهما في جملة التنزيل إلا عن عقبة بن عامر، وعقبة بن عامر ضعيف لم يوافقه غيره عليها، فروايته مطروحة. وهذا رد لما ذكرناه من الكتاب والسنة، وإبطال لما نقلته لنا الصحابة من الملة. فإن عقبة بن عامر بن عيسى الجهني ممن روى لنا الشريعة في الصحيحين البخاري ومسلم وغيرهما، فهو ممن مدحهم الله ووصفهم وأثنى عليهم ووعدهم مغفرة وأجرا عظيما. فمن نسبه أو واحدا من الصحابة إلى كذب فهو خارج عن الشريعة، مبطل للقرآن طاعن على رسول الله (. ومتى ألحق واحد منهم تكذيبا فقد سب، لأنه لا عار ولا عيب بعد الكفر بالله أعظم من الكذب، وقد لعن رسول الله ( من سب أصحابه، فالمكذب لأصغرهم - ولا صغير فيهم - داخل في لعنة الله التي شهد بها رسول الله (، وألزمها كل من سب واحدا من أصحابه أو طعن عليه. وعن عمر بن حبيب قال: حضرت مجلس هارون الرشيد فجرت مسألة تنازعها الحضور وعلت أصواتهم، فاحتج بعضهم بحديث يرويه أبو هريرة عن رسول الله ( ، فرفع بعضهم الحديث وزادت المدافعة والخصام حتى قال قائلون منهم: لا يقبل هذا الحديث على رسول الله ( ، لأن أبا هريرة متهم فيما يرويه، وصرحوا بتكذيبه، ورأيت الرشيد قد نحا نحوهم ونصر قولهم فقلت أنا: الحديث صحيح عن رسول الله (، وأبو هريرة(1/102)
صحيح النقل صدوق فيما يرويه عن النبي ( وغيره، فنظر إلي الرشيد نظر مغضب، وقمت من المجلس فانصرفت إلى منزلي، فلم ألبث حتى قيل: صاحب البريد بالباب، فدخل فقال لي: أجب أمير المؤمنين إجابة مقتول، وتحنط وتكفن فقلت: اللهم إنك تعلم أني دافعت عن صاحب نبيك، وأجللت نبيك أن يطعن على أصحابه، فسلمني منه. فأدخلت على الرشيد وهو جالس على كرسي من ذهب، حاسر عن ذراعيه، بيده السيف وبين يديه النطع، فلما بصر بي قال لي: يا عمر بن حبيب ما تلقاني أحد من الرد والدفع لقولي بمثل ما تلقيتني به ...فقلت: يا أمير المؤمنين، إن الذي قلته وجادلت عنه فيه ازدراء على رسول الله ( وعلى ما جاء به، إذا كان أصحابه كذابين فالشريعة باطلة، والفرائض والأحكام في الصيام والصلاة والطلاق والنكاح والحدود كله مردود غير مقبول فرجع إلى نفسه ثم قال: أحييتني يا عمر بن حبيب أحياك الله، وأمر لي بعشرة آلاف درهم.
قلت: فالصحابة كلهم عدول، أولياء الله تعالى وأصفياؤه، وخيرته من خلقه بعد أنبيائه ورسله. هذا مذهب أهل السنة، والذي عليه الجماعة من أئمة هذه الأمة. وقد ذهبت شرذمة لا مبالاة بهم إلى أن حال الصحابة كحال غيرهم، فيلزم البحث عن عدالتهم. ومنهم من فرق بين حالهم في بداءة الأمر فقال: إنهم كانوا على العدالة إذ ذاك، ثم تغيرت بهم الأحوال فظهرت فيهم الحروب وسفك الدماء، فلا بد من البحث. وهذا مردود، فإن خيار الصحابة وفضلاءهم كعلي وطلحة والزبير وغيرهم رضي الله عنهم ممن أثنى الله عليهم وزكاهم ورضي عنهم وأرضاهم ووعدهم الجنة بقوله تعالى: "مغفرة وأجرا عظيما". وخاصة العشرة المقطوع لهم بالجنة بإخبار الرسول هم القدوة مع علمهم بكثير من الفتن والأمور الجارية عليهم بعد نبيهم بإخباره لهم بذلك. وذلك غير مُسقط من مرتبتهم وفضلهم، إذ كانت تلك الأمور مبنية على الاجتهاد، وكل مجتهد مصيب....
( وقال السعدي رحمه الله :(1/103)
قوله تعالى :" محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعا سجدا يبتغون فضلا من الله ورضوانا سيماهم في وجوههم من أثر السجود ذلك مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل كزرع أخرج شطأه فآزره فاستغلظ فاستوى على سوقه يعجب الزراع ليغيظ بهم الكفار وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرة وأجرا عظيما "
يخبر تعالى عن نبيه " محمد رسول الله " ( " والذين معه " من أصحابه من المهاجرين والأنصار ، أنهم بأكمل الصفات ، وأجل الأحوال . وأنهم " أشداء على الكفار " ، أي : جادون ومجتهدون في نصرته ، وساعون في ذلك بغاية جهدهم ، فلم يرى الكفار منهم إلا الغلظة والشدة . فلذلك ذل أعداؤهم لهم ، وانكسروا ، وقهرهم المسلمون.... " رحماء بينهم " ، أي : متحابون ، متراحمون ، متعاطفون ، كالجسد الواحد ، يحب أحدهم لأخيه ما يحب لنفسه ، هذه معاملتهم مع الخلق . وأما معاملتهم مع الخالق فإنك " تراهم ركعا سجدا " ، أي : وصفهم كثرة الصلاة ، التي أجل أركانها : الركوع والسجود . " يبتغون " بتلك العبادة " فضلا من الله ورضوانا " ، أي : هذا مقصودهم بلوغ رضا ربهم ، والوصول إلى ثوابه . " سيماهم في وجوههم من أثر السجود " ، أي : قد أثرت العبادة ـ من كثرتها وحسنها ـ في وجوههم ، حتى استنارت . لما استنارت بالصلاة بواطنهم ، استنارت بالجلال ، ظواهرهم . " ذلك " المذكور " مثلهم في التوراة " ، أي : هذا وصفهم ، الذي وصفهم الله به ، مذكور بالتوراة هكذا . " ومثلهم في الإنجيل " بوصف آخر ، وأنهم في كمالهم وتعاونهم " كزرع أخرج شطأه فآزره " ، أي : أخرج أفرخه فوازرته فراخه ، في الثبات والاستواء . " فاستغلظ " ذلك الزرع ، أي : قوي وغلظ " فاستوى " ، أي : قوي واستقام " على سوقه " ، جمع ساق ، أي : أصوله ، والمراد أنه قوي وقام على قضبانه ." يعجب الزراع " من كماله واستوائه ، وحسنه واعتداله . كذلك الصحابة رضي الله عنهم ، هم كالزرع(1/104)
، في نفعهم للخلق ، واحتياج الناس إليهم ، فقوة إيمانهم وأعمالهم بمنزلة قوة عروق الزرع ، وسوقه . وكون الصغير والمتأخر إسلامه ، قد لحق الكبير السابق ، ووازره ، وعاونه على ما هو عليه ، من إقامة دين الله والدعوة إليه ، كالزرع الذي أخرج شطأه ، فآزره فاستغلظ . ولهذا قال " ليغيظ بهم الكفار " حين يرون اجتماعهم ، وشدتهم على أعداء دينهم ، وحين يتصادمون معهم في معارك النزال ، ومعامع القتال . " وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرة وأجرا عظيما " ، فالصحابة رضي الله عنهم ، الذين جمعوا بين الإيمان والعمل الصالح ، قد جمع الله لهم بين المغفرة ، التي من لوازمها ، وقاية شرور الدنيا والآخرة ، والأجر العظيم في الدنيا والآخرة .(1/105)
ولنسق قصة الحديبية بطولها ، كما ساقها الإمام شمس الدين ابن القيم في " الهدي النبوي " فإن فيها إعانة على فهم هذه السورة ، وقد تكلم على معانيها وأسرارها . فصل في قصة الحديبية... قال رحمه الله : قال نافع : كانت سنة ست في ذي القعدة ، وهذا هو الصحيح ، وهو قول الزهري ، وقتادة ، وموسى بن عقبة ، ومحمد بن إسحاق وغيرهم .وقال هشام بن عروة ،عن أبيه ،خرج رسول الله ( إلى الحديبية في رمضان ، وكانت في شوال ،وهذا وهم ،وإنما كانت غزاة الفتح في رمضان .وفي الصحيحين ، عن أنس : أن النبي (، اعتمر أربع عمر ، كلهن في ذي القعدة ، فذكر منهن عمرة الحديبية ، وكان معه ألف وخمسمائة ، وهكذا في الصحيحين ، عن جابر ، وعنه فيهما : كانوا ألفا وأربعمائة . وفيهما ، عن عبد الله بن أبي أوفى : كنا ألفا وثلاثمائة . قال قتادة : قلت لسعيد بن المسيب : كم كان الجماعة الذي شهدوا بيعة الرضوان ؟ قال : خمس عشرة مائة ، قال : قلت :فإن جابر بن عبد الله قال :كانوا أربع عشرة مائة ، قال : يرحمه الله ، وهم ، وهو حدثني أنهم كانوا خمس عشرة مائة ، قلت : صح عن جابر القولان ، وصح عنه أنهم نحروا عام الحديبية ، سبعين بدنة ، البدنة عن سبعة ، فقيل له : كم كنتم ؟ قال : ألفا وأربعمائة ، بخيلنا ورجلنا ، يعني : فارسهم وراجلهم . والقلب إلى هذا أميل ، وهو قول البراء بن عازب ، ومعقل بن يسار ، وسلمة بن الأكوع ، في أصح الروايتين ، وقول المسيب بن حزن ، قال شعبة ، عن قتادة ، عن سعيد بن المسيب ، عن أبيه : كنا مع رسول الله ( تحت الشجرة ألفا وأربعمائة ، وغلط غلطا بينا من قال : كانوا سبعمائة . وعذرهم أنهم نحروا يومئذ ، سبعين بدنة ، والبدنة قد جاء إجزاؤها عن سبعة ، أو عشرة ، وهذا لا يدل على ما قاله هذا القائل ،فإنه قد صرح بأن البدنة ،كانت في هذه الغزوة عن سبعة ، فلو كانت السبعون عن جميعهم ، لكانوا أربعمائة وتسعين رجلا ، وقد قال بتمام الحديث بعينه ، أنهم(1/106)
كانوا ألفا وأربعمائة . فصل فلما كان بذي الحليفة ، قلد رسول الله ( الهدي وأشعره ، وأحرم بالعمرة ، وبعث عينا له بين يديه من خزاعة ، يخبره عن قريش ،حتى إذا كانوا قريبا عن عسفان ، أتاه عينه ، فقال : إني قد تركت كعب بن لؤي ، قد جمعوا لك الأحابيش ، وجمعوا لك جموعا ، وهم مقاتلوك ، وصادوك عن البيت . واستشار رسول الله ( أصحابه أن نميل إلى ذراري هؤلاء ، الذين أعانوهم فنصيبهم ، فإن قعدوا ، قعدوا موتورين مخزونين ، وإن نجوا ، يكن عنق قطعه الله ، أم ترون أن نؤم البيت ؟ فمن صدنا عنه قاتلناه ؟ قال أبو بكر : الله ورسوله أعلم ، إنما جئنا معتمرين ، لم نجىء لقتال أحد ، ولكن من حال بيننا وبين البيت ، قاتلناه ، فقال النبي (: " فروحوا إذا " . فراحوا ، حتى إذا كانوا ببعض الطريق ، قال النبي (: " إن خالد بن الوليد بالغميم خيل لقريش ، فخذوا ذات اليمين "،فوالله ما شعر بهم خالد ، حتى إذا هو بقترة الجيش ، فانطلق يركض نذيرا لقريش . وسار النبي (، حتى إذا كان بالثنية ، التي يهبط عليهم منها ، بركت راحلته ، فقال الناس : حل حل ، فألحت ، فقالوا : خلأت القصواء ، فقال النبي (: " ما خلأت القصواء ، وما ذاك لها بخلق ، ولكن حبسها حابس الفيل " ، ثم قال : " والذي نفسي بيده ، لا يسألوني خطة يعظمون فيها حرمات الله إلا أعطيتمهم إياها " ، ثم زجرها ، فوثبت به ، فعدل حتى نزل بأقصى الحديبية ، على ثمد قليل الماء ، إنما يتبرضه الناس تبرضا ، فلم يلبث الناس أن نزحوه ، فشكوا إلى رسول الله ( العطش . فانتزع سهما من كنانته ، ثم أمرهم أن يجعلوها فيه ، قال : فوالله ما زال يجيش لهم بالري ، حتى صدروا عنها . وفزعت قريش لنزوله عليهم ، فأحب رسول الله ( أن يبعث إليهم رجلا من أصحابه ، فدعا عمر بن الخطاب ليبعثه إليهم ، فقال : يا رسول الله ، ليس بمكة من بني كعب ، أحد يغضب لي ، إن أوذيت ، فأرسل عثمان بن عفان ، فإن عشيرته بها ، وإنه مبلغ ما(1/107)
أردت . فدعا رسول الله ( عثمان بن عفان ، فأرسله إلى قريش ، وقال : " أخبرهم أنا لم نأت لقتال ، إنما جئنا عمارا ، وادعهم إلى الإسلام " . وأمره أن يأتي رجالا بمكة مؤمنين ، ونساء مؤمنات ، فيدخل عليهم ويبشرهم بالفتح ، ويخبرهم أن الله عز وجل مظهر دينه بمكة ، حتى لا يستخفى فيها بالإيمان ، فانطلق عثمان ، فمر على قريش ببلدح ، فقالوا : أين تريد ؟ فقال : بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم أدعوكم إلى الله ، وإلى الإسلام ، ويخبركم أنا لم نأت لقتال ، وإنما جئنا عمارا ، قالوا : قد سمعنا ما تقول ، فانفذ لحاجتك . وقام إليه أبان بن سعيد ، فرحب به ،وأسرج فرسه ،فحمل عثمان على الفرس ، فأجاره ، وأردفه أبان ، حتى جاء مكة ، وقال المسلمون قبل أن يرجع عثمان : خلص عثمان قبلنا إلى البيت ، وطاف به . فقال رسول الله (: " ما أظنه طاف بالبيت ونحن محصورون " ، فقالوا : وما يمنعه يا رسول الله وقد خلص ؟ قال : " ذاك ظني به أن لا يطوف بالكعبة حتى نطوف معه " ، واختلط المسلمون بالمشركين في أمر الصلح . فرمى رجل من أحد الفريقين رجلا من الفريق الآخر ، وكانت معركة ، وتراموا بالنبل والحجارة ، وصاح الفريقان كلاهما ، وارتضى كل واحد من الفريقين بمن فيهم ، وبلغ رسول الله ( أن عثمان قد قتل ، فدعا إلى البيعة . فثار المسلمون إلى رسول الله (، وهو تحت الشجرة ، فبايعوه على أن لا يفروا ،فأخذ رسول الله ( بيده نفسه ،وقال : " هذه عن عثمان " ، ولما تمت البيعة ، رجع عثمان ، فقال له المسلمون : اشتفيت يا أبا عبد الله ، من الطواف بالبيت ، فقال : بئسما ظننتم بي ، والذي نفسي بيده ، ولو مكثت بها سنة ، ورسول الله ( مقيم بالحديبية ، ما طفت بها ، حتى يطوف بها رسول الله ( ، ولقد دعتني قريش إلى الطواف بالبيت فأبيت ، فقال المسلمون : رسول الله ( ، كان أعلمنا بالله ، وأحسننا ظنا . وكان عمر أخذ بيد رسول الله ( للبيعة تحت الشجرة ، فبايعه المسلمون(1/108)
كلهم إلا الجد بن قيس ، وكان معقل بن يسار ، أخذ بغصنها ، يرفعه عن رسول الله (، وكان أول من بايعه ، أبو سنان الأسدي ، وبايعه سلمة بن الأكوع ، ثلاث مرات ، في أول الناس ، وأوسطهم ، وآخرهم . فبينما هم كذلك ، إذ جاء بديل بن ورقاء الخزاعي ، في نفر من خزاعة ، وكانوا عيبة نصح لرسول الله ( ، من أهل تهامة ، فقال : إني تركت كعب بن لؤي ، وعامر بن لؤي ، نزلوا أعداد مياه الحديبية ، معهم العوذ المطافيل ، وهم مقاتلوك ، وصادوك عن البيت . قال رسول الله (: " إنا لم نجىء لقتال أحد ، ولكن جئنا معتمرين ، وإن قريشا قد نهكتهم الحرب ، وأضرت بهم ، فإن شاؤوا ماددتهم ويخلوا بيني وبين الناس ، وإن شاءوا أن يدخلوا فيما دخل فيه الناس ، فعلوا ، وإلا فقد جموا ، وإن أبوا إلا القتال ، فوالذي نفسي بيده ، لأقاتلنهم على أمري هذا ، حتى تنفرد سالفتي ، أو لينفذن الله أمره " ، قال بديل : سأبلغهم ما تقول . فانطلق حتى أتى قريشا ، فقال : إني قد جئتكم من عند هذا الرجل ، وسمعته يقول قولا ، فإن شئتم عرضته عليكم ، فقال سفهاؤهم : لا حاجة لنا أن تحدثنا عنه بشيء ، وقال ذوو الرأي منهم : هات ما سمعته ، قال : سمعته يقول كذا وكذا ، فقال عروة بن مسعود الثقفي : إن هذا قد عرض عليكم خطة رشد ، فاقبلوها ، ودعوني آته ، فقالوا : ائته . فأتاه ، فجعل يكلمه ، فقال النبي ( نحوا من قوله لبديل ، فقال له عروة عند ذلك : أي محمد ، أرأيت لو استأصلت قومك ، هل سمعت بأحد من العرب اجتاح أهله قبلك ؟ وإن تكن الأخرى ، فوالله إني لأرى وجوها وأرى أوباشا من الناس ، خليقا أن يفروا ، ويدعوك ،فقال له أبو بكر : امصص بظر اللات ، أنحن نفر عنه وندعه ؟ قال : من ذا ؟ قال : أبو بكر ، قال : أما والذي نفسي بيده ، لولا يد كانت لك عندي ، لم أجزك بها ، لأجبتك . وجعل يكلم النبي (، وكلما كلمه أخذ بلحيته ، والمغيرة بن شعبة على رأس النبي (، ومعه السيف ، وعليه المغفر . فكلما(1/109)
أهوى عروة إلى لحية النبي (، ضرب يده بنعل السيف ، وقال : أخر يدك عن لحية رسول الله (، فرفع عروة رأسه ، وقال : من ذا ؟ قال : المغيرة بن شعبة ، فقال : أي غدر ، أو لست أسعى في غدرتك ؟ وكان المغيرة صحب قوما ، فقتلهم ، وأخذ أموالهم ، ثم جاء فأسلم . فقال النبي (: " أما الإسلام فأقبل ، وأما المال ، فلست منه في شيء " . ثم إن عروة جعل يرمق أصحاب رسول الله (، فوالله ما تنخم النبي ( نخامة ، إلا وقعت في كف رجل منهم ، فدلك بها جلده ووجهه . وإذا أمرهم ابتدروا إلى أمره ، وإذا توضأ ، كادوا يقتتلون على وضوئه ، وإذا تكلم ، خفضوا أصواتهم عنده ، وما يحدون إليه النظر ، تعظيما له . فرجع عروة إلى أصحابه ، فقال : أي قوم ،والله ،لقد وفدت على الملوك : على كسرى ، وقيصر ،والنجاشي ، والله ما رأيت ملكا يعظمه أصحابه ، ما يعظم أصحاب محمد محمدا ، والله ما تنخم نخامة ، إلا وقعت في كف رجل منهم ، فدلك بها وجهه وجلده ، وإذا أمرهم ابتدروا أمره ، وإذا توضأ ، كادوا يقتتلون على وضوئه ، وإذا تكلم ، خفضوا أصواتهم عنده ، وما يحدون إليه النظر ، تعظيما له ، وقد عرض عليكم خطة رشد فاقبلوها . فقال رجل من بين كنانة : دعوني آته ، فقالوا : ائته فلما أشرف على النبي (، قال رسول الله (: " هذا فلان ، وهو من قوم يعظمون البدن فابعثوها له " ، فبعثوها فاستقبله القوم يلبون ،فلما رأى ذلك ،قال : سبحان الله ، لا ينبغي لهؤلاء أن يصدوا عن البيت . فرجع إلى أصحابه ، فقال : رأيت البدن قد قلدت ، وأشعرت ، وما أرى يصدون عن البيت . فقام مكرز بن حفص ، وقال : دعوني آته ، فقالوا : ائته . فلما أشرف عليهم ، قال النبي (: " هذا مكرز بن حفص ، وهو رجل فاجر " . فجعل يكلم النبي (، فبينما هو يكلمه ، إذ جاء سهيل بن عمرو ، فقال النبي (: " قد سهل لكم من أمركم " ، فقال : هات ، اكتب بيننا وبينك كتابا ، فدعا الكاتب ، فقال : " اكتب : بسم الله الرحمن الرحيم " ،(1/110)
فقال سهيل : أما الرحمن ، فوالله ما ندري ما هو ، ولكن اكتب : " باسمك اللهم " كما كنت تكتب . فقال المسلمون : والله ما نكتبها إلا بسم الله الرحمن الرحيم . فقال النبي (: " اكتب باسمك اللهم " . ثم قال : " اكتب : هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله " ، فقال سهيل : فوالله لو نعلم أنك رسول الله ، ما صددناك عن البيت ، ولا قاتلناك ، ولكن اكتب : محمد بن عبد الله ، فقال النبي (: " إني رسول الله ، وإن كذبتموني ، اكتب : محمد بن عبد الله " ، فقال النبي (: " على أن تخلوا بيننا وبين البيت فنطوف به " ، فقال سهيل : والله لا تتحدث العرب ، أنا أخذنا ضغطة ، ولكن مع العام المقبل ، فكتب . فقال سهيل : على أن لا يأتيك منا رجل ، وإن كان في دينك ، إلا رددته علينا . فقال المسلمون : سبحان الله ، كيف يرد إلى المشركين ، وقد جاء مسلما ؟ فبينما هم كذلك إذ جاء أبو جندل بن سهيل ، يرسف في قيوده ، قد خرج من أسفل مكة ، حتى رمى بنفسه بين أظهر المسلمين ، فقال سهيل : هذا يا محمد أول ما قاضيتك عليه ، أن ترده ، فقال النبي (: " إنا لم نقض الكتاب بعد " ، فقال : فوالله إذا ، لا أصالحك على شيء أبدا ، فقال النبي (: " فأجزه لي " ، فقال : ما أنا بمجيزه ، فقال : " بلى فافعل " ، قال : ما أنا بفاعل ، قال مكرز : قد أجزناه . فقال أبو جندل : يا معشر المسلمين ، أرد إلى المشركين ، وقد جئت مسلما ، ألا ترون ما لقيت ؟ وكان قد عذب في الله عذابا شديدا . قال عمر بن الخطاب : والله ما شككت منذ أسلمت إلا يومئذ ، فأتيت النبي ( ، فقلت : يا رسول الله ألست نبي الله ؟ قال : " بلى " ، قال : قلت : ألسنا على الحق ، وعدونا على الباطل ؟ قال : " بلى " ، فقلت : علام نعطي الدنية في ديننا ونرجع ولما يحكم الله بيننا وبين أعدائنا ؟ فقال : " إني رسول الله ، وهو ناصري ، ولست أعصيه " ، قلت : أولست كنت تحدثنا أنا سنأتي البيت ونطوف به ؟ قال : " بلى ، أفأخبرتك أنك(1/111)
تأتيه العام ؟ " قلت : لا ، قال : " فإنك آتيه ومطوف به " قال : فأتيت أبا بكر ، فقلت له كما قلت لرسول الله (، ورد عليه أبو بكر كما رد عليه رسول الله ( سواء ، وزاد : فاستمسك بغرزه حتى تموت ، فوالله إنه لعلى الحق ، قال عمر : فعملت لذلك أعمالا . فلما فرغ من قضية الكتاب ، قال رسول الله (: " قوموا وانحروا ، ثم احلقوا " ، فوالله ما قام منهم رجل حتى قال ثلاث مرات . فلما لم يقم منهم أحد ، قام فدخل على أم سلمة ، فذكر لها ما لقي من الناس ، فقالت : يا رسول الله أتحب ذلك ؟ اخرج ، ثم لا تكلم أحدا كلمة ، حتى تنحر بدنك ، وتدعو حالقك ، فيحلق لك ، فقام فخرج، فلم يكلم أحدا منهم حتى فعل ذلك ، نحر بدنه ، ودعا حالقه فحلقه. فلما رأى الناس ذلك ، قاموا فنحروا ، وجعل بعضهم يحلق بعضا ، حتى كاد بعضهم يقتل بعضا غما . ثم جاءت نسوة مؤمنات ، فأنزل الله عز وجل : " (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لَا هُنَّ حِلٌّ لَّهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُم مَّا أَنفَقُوا وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَن تَنكِحُوهُنَّ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ " ( الممتحنة 10)، فطلق عمر يومئذ امرأتين ، كانتا عنده في الشرك ، فتزوج إحداهما معاوية ، والأخرى صفوان بن أمية ، ثم رجع إلى المدينة . وفي مرجعه أنزل الله عليه : " إنا فتحنا لك فتحا مبينا " إلى آخرها ، فقال عمر : أفتح هو يا رسول الله ؟ فقال : " نعم " ، فقال الصحابة : هنيئا لك يا رسول الله ، فما لنا ؟ فأنزل الله عز وجل : " (هُوَ الَّذِي أَنزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَاناً مَّعَ إِيمَانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ(1/112)
وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً) (الفتح : 4 )انتهى .
************************************************************************************
بسم الله الرحمن الرحيم
***? وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُم مُّصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءهُم بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ * وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعَى إِلَى الْإِسْلَامِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ *يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ * هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِّنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ * ? (الصف : 6 -13)
( قال ابن كثير رحمه الله :(1/113)
قوله نعالى : ( وإذ قال عيسى ابن مريم يا بني إسرائيل إني رسول الله إليكم مصدقا لما بين يدي من التوراة ومبشرا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد ) يعني: التوراة قد بشرت بي، وأنا مصداق ما أخبرت عنه، وأنا مبشر بمن بعدي، وهو الرسول النبي الأمي العربي المكي أحمد. فعيسى، عليه السلام، وهو خاتم أنبياء بني إسرائيل، وقد أقام في ملأ بني إسرائيل مبشرا بمحمد، وهو أحمد خاتم الأنبياء والمرسلين، الذي لا رسالة بعده ولا نبوة. وما أحسن ما أورد البخاري الحديث الذي قال فيه:
حدثنا أبو اليمان، حدثنا شعيب، عن الزهري قال: أخبرني محمد بن جبير بن مطعم، عن أبيه قال: سمعت رسول الله ( يقول: "إن لي أسماء: أنا محمد، وأنا أحمد، وأنا الماحي الذي يمحو الله به الكفر، وأنا الحاشر الذي يحشر الناس على قدمي، وأنا العاقب". ورواه مسلم، من حديث الزهري، به نحوه
وقال أبو داود الطيالسي: حدثنا المسعودي، عن عمرو بن مرة، عن أبي عبيدة، عن أبي موسى قال: سمى لنا رسول الله ( نفسه أسماء، منها ما حفظنا فقال: "أنا محمد، وأنا أحمد، والحاشر، والمقفي، ونبي الرحمة، والتوبة، والملحمة". ورواه مسلم من حديث الأعمش، عن عمرو بن مرة، به
وقد قال الله تعالى :( الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل) [الأعراف : 157] وقال تعالى:( وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه قال أأقررتم وأخذتم على ذلكم إصري قالوا أقررنا قال فاشهدوا وأنا معكم من الشاهدين) [آل عمران : 81]
قال ابن عباس: ما بعث الله نبيا إلا أخذ عليه العهد: لئن بعث محمد وهو حي ليتبعنه، وأخذ عليه أن يأخذ على أمته لئن بعث محمد وهم أحياء ليتبعنه وينصرنه.(1/114)
وقال محمد بن إسحاق: حدثني ثور بن يزيد، عن خالد بن معدان، عن أصحاب رسول الله ( أنهم قالوا: يا رسول الله، أخبرنا عن نفسك. قال: "دعوة أبي إبراهيم، وبشرى عيسى، ورأت أمي حين حملت بي كأنه خرج منها نور أضاءت له قصور بصرى من أرض الشام" ....وهذا إسناد جيد. وروي له شواهد من وجوه أخر، فقال الإمام أحمد:
حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، حدثنا معاوية بن صالح، عن سعيد بن سويد الكلبي، عن عبد الأعلى بن هلال السلمي، عن العرباض بن سارية قال: قال رسول الله ( : "إني عند الله لخاتم النبيين، وإن آدم لمنجدل في طينته، وسأنبئكم بأول ذلك دعوة أبي إبراهيم، وبشارة عيسى بي، ورؤيا أمي التي رأت، وكذلك أمهات النبيين يرين" .
وقال أحمد أيضا: حدثنا أبو النضر، حدثنا الفرج بن فضالة، حدثنا لقمان بن عامر قال: سمعت أبا أمامة قال: قلت يا نبي الله، ما كان بدء أمرك؟ قال: "دعوة أبي إبراهيم، وبشرى عيسى، ورأت أمي أنه يخرج منها نور أضاءت له قصور الشام"
وقال أحمد أيضا: حدثنا حسن بن موسى: سمعت خديجا أخا زهير بن معاوية، عن أبي إسحاق عن عبد الله بن عتبة، عن عبد الله بن مسعود قال: بعثنا رسول الله ( إلى النجاشي ونحن نحو من ثمانين رجلا منهم: عبد الله بن مسعود، وجعفر، وعبد الله بن [عرفطة] وعثمان بن مظعون، وأبو موسى. فأتوا النجاشي، وبعثت قريش عمرو بن العاص، وعمارة بن الوليد بهدية، فلما دخلا على النجاشي سجدا له، ثم ابتدراه عن يمينه وعن شماله، ثم قالا له: إن نفرا من بني عمنا نزلوا أرضك، ورغبوا عنا وعن ملتنا. قال: فأين هم؟ قالا هم في أرضك، فابعث إليهم. فبعث إليهم. فقال جعفر: أنا خطيبكم اليوم. فاتبعوه فسلم ولم يسجد، فقالوا له: ما لك لا تسجد للملك؟ قال: إنا لا نسجد إلا لله عز وجل. قال وما ذاك؟ قال: إن الله بعث إلينا رسوله، فأمرنا ألا نسجد لأحد إلا لله عز وجل، وأمرنا بالصلاة والزكاة.(1/115)
قال عمرو بن العاص: فإنهم يخالفونك في عيسى ابن مريم. قال: ما تقولون في عيسى ابن مريم وأمه؟ قالوا: نقول كما قال الله عز وجل: هو كلمة الله وروحه ألقاها إلى العذراء البتول، التي لم يمسها بشر ولم يفرضها ولد. قال: فرفع عودا من الأرض ثم قال: يا معشر الحبشة والقسيسين والرهبان، والله ما يزيدون على الذي نقول فيه، ما يساوي هذا. مرحبا بكم وبمن جئتم من عنده، أشهد أنه رسول الله، وأنه الذي نجد في الإنجيل، وأنه الذي بشر به عيسى ابن مريم. انزلوا حيث شئتم، والله لولا ما أنا فيه من الملك لأتيته حتى أكون أنا أحمل نعليه وأوضئه. وأمر بهدية الآخرين فردت إليهما، ثم تعجل عبد الله بن مسعود حتى أدرك بدرا، وزعم أن النبي (استغفر له حين بلغه موته ...
وقد رويت هذه القصة عن جعفر وأم سلمة رضي الله عنهما، وموضع ذلك كتاب السيرة. والمقصد أن الأنبياء عليهم السلام لم تزل تنعته وتحكيه في كتبها على أممها، وتأمرهم باتباعه ونصره وموازرته إذا بعث. وكان ما اشتهر الأمر في أهل الأرض على لسان إبراهيم الخليل والد الأنبياء بعده، حين دعا لأهل مكة أن يبعث الله فيهم رسولا منهم، وكذا على لسان عيسى ابن مريم؛ ولهذا قالوا: "أخبرنا عن بدء أمرك" يعني: في الأرض، قال: "دعوة أبي إبراهيم، وبشارة عيسى ابن مريم، ورؤيا أمي التي رأت" أي: ظهر في أهل مكة أثر ذلك والإرهاص بذكره صلوات الله وسلامه عليه.
وقوله: ( فلما جاءهم بالبينات قالوا هذا سحر مبين ) قال ابن جريج وابن جرير: فلما جاءهم أحمد، أي: المبشر به في الأعصار المتقادمة، المنوه بذكره في القرون السالفة، لما ظهر أمره وجاء بالبينات قال الكفرة والمخالفون: هذا سحر مبين(1/116)
(ومن أظلم ممن افترى على الله الكذب وهو يدعى إلى الإسلام والله لا يهدي القوم الظالمين * يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم والله متم نوره ولو كره الكافرون * هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون * )
يقول تعالى: ( ومن أظلم ممن افترى على الله الكذب وهو يدعى إلى الإسلام ) أي: لا أحد أظلم ممن يفتري الكذب على الله ويجعل له أندادا وشركاء، وهو يدعى إلى التوحيد والإخلاص؛ ولهذا قال: والله لا يهدي القوم الظالمين ... ثم قال: ( يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم) أي: يحاولون أن يردوا الحق بالباطل، ومثلهم في ذلك كمثل من يريد أن يطفئ شعاع الشمس بفيه، وكما أن هذا مستحيل كذلك ذاك مستحيل ؛ ولهذا قال: ( والله متم نوره ولو كره الكافرون * هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون) ...وقد تقدم الكلام على هاتين الآيتين في سورة "براءة"، بما فيه كفاية، ولله الحمد والمنة..
قال رحمه الله عند تفسير الآيتين :( يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ *هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ * (التوبة 32-33 )(1/117)
يقول تعالى: يريد هؤلاء الكفار من المشركين وأهل الكتاب {أن يطفئوا نور الله} أي ما بعث به رسول الله ( من الهدى ودين الحق بمجرد جدالهم وافترائهم فمثلهم في ذلك كمثل من يريد أن يطفىء شعاع الشمس أو نور القمر بنفخه وهذا لا سبيل إليه فكذلك ما أرسل به رسول الله ( لابد أن يتم ويظهر ولهذا قال تعالى مقابلاً لهم فيما راموه وأرادوه: {ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون} والكافر هو الذي يستر الشيء ويغطيه ومنه سمي الليل كافراً لأنه يستر الأشياء والزارع كافراً لأنه يغطي الحب في الأرض كما قال {يعجب الكفار نباته} ...ثم قال تعالى {هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق} فالهدى هو ما جاء به من الإخبارات الصادقة والإيمان الصحيح والعلم النافع ودين الحق هي الأعمال الصالحة الصحيحة النافعة في الدنيا والاَخرة.
{ليظهره على الدين كله} أي على سائر الأديان كما ثبت في الصحيح عن رسول الله ( أنه قال: "إن الله زوى لي الأرض مشارقها ومغاربها وسيبلغ ملك أمتي ما زوى لي منها", وقال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن جعفر حدثنا شعبة عن محمد بن أبي يعقوب سمعت شقيق بن حيان يحدث عن مسعود بن قبيصة أو قبيصة بن مسعود يقول: صلى هذا الحي من محارب الصبح فلما صلوا قال شاب منهم: سمعت رسول الله (يقول: "إنه ستفتح لكم مشارق الأرض ومغاربها, وإن عمالها في النار إلا من اتقى الله وأدى الأمانة", وقال الإمام أحمد: حدثنا أبو المغيرة حدثنا صفوان حدثنا سليم بن عامر عن تميم الداري رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله ( يقول "ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار, ولا يترك الله بيت مدر ولا وبر إلا أدخله هذا الدين يعز عزيزاً ويذل ذليلاً, عزاً يعز الله به الإسلام وذلاً يذل الله به الكفر" فكان تميم الداري يقول: قد عرفت ذلك أهل بيتي لقد أصاب من أسلم منهم الخير والشرف والعز ولقد أصاب من كان كافراً منهم الذل والصغار والجزية.(1/118)
وقال الإمام أحمد: حدثنا يزيد بن عبد ربه حدثنا الوليد بن مسلم حدثني ابن جابر سمعت سليم بن عامر قال سمعت المقداد بن الأسود يقول سمعت رسول الله ( يقول "لا يبقى على وجه الأرض بيت مدر ولا وبر إلا دخلته كلمة الإسلام يعز عزيزاً, ويذل ذليلاً إما يعزهم الله فيجعلهم من أهلها, وإما يذلهم فيدينون لها" ... وفي المسند أيضاً حدثنا محمد بن أبي عدي عن ابن عون عن ابن سيرين عن أبي حذيفة عن عدي بن حاتم سمعه يقول دخلت على رسول الله ( فقال: "يا عدي أسلم تسلم" فقلت إني من أهل دين قال: "أنا أعلم بدينك منك" فقلت أنت أعلم بديني مني ؟ قال: "نعم ألست من الركوسية وأنت تأكل مرباع قومك ؟ قلت: بلى! قال: "فإن هذا لا يحل لك في دينك" قال: فلم يعد أن قالها فتواضعت لها, قال: "أما إني أعلم ما الذي يمنعك من الإسلام, تقول إنما اتبعه ضعفة الناس ومن لا قوة له وقد رمتهم العرب أتعرف الحيرة ؟" قلت لم أرها وقد سمعت بها, قال: "فو الذي نفسي بيده ليتمن الله هذا الأمر حتى تخرج الظعينة من الحيرة حتى تطوف بالبيت من غير جوار أحد ولتفتحن كنوز كسرى بن هرمز" قلت: كسرى بن هرمز ؟ قال: "نعم كسرى بن هرمز, وليبذلن المال حتى لا يقبله أحد"... قال عدي بن حاتم: فهذه الظعينة تخرج من الحيرة فتطوف بالبيت من غير جوار أحد, ولقد كنت فيمن فتح كنوز كسرى بن هرمز, والذي نفسي بيده لتكونن الثالثة لأن رسول الله ( قد قالها. وقال مسلم: حدثنا أبو معن زيد بن يزيد الرقاشي حدثنا خالد بن الحارث حدثنا عبد الحميد بن جعفر عن الأسود بن العلاء عن أبي سلمة عن عائشة رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله ( يقول: "لا يذهب الليل والنهار حتى تعبد اللات والعزى" فقلت: يا رسول الله إن كنت لأظن حين أنزل الله عز وجل {هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق} الاَية, أن ذلك تام, قال: "إنه سيكون من ذلك ما شاء الله عز وجل, ثم يبعث الله ريحاً طيبة فيتوفى كل من كان في قلبه مثقال حبة(1/119)
خردل من إيمان فيبقى من لا خير فيه فيرجعون إلى دين آبائهم".
( وقال القرطبي رحمه الله:
قوله تعالى: "وإذ قال عيسى ابن مريم يا بني إسرائيل" أي واذكر لهم هذه القصة أيضا. وقال: "يا بني إسرائيل" ولم يقل "يا قوم" كما قال موسى؛ لأنه لا نسب له فيهم فيكونون قومه. "إني رسول الله إليكم" أي بالإنجيل. "مصدقا لما بين يدي من التوراة" لأن في التوراة صفتي، وأني لم آتكم بشيء يخالف التوراة فتنفروا عني. "ومبشرا برسول" مصدقا. "ومبشرا" نصب على الحال؛ والعامل فيها معنى الإرسال. و"إليكم" صلة الرسول. "يأتي من بعدي اسمه أحمد" قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو "من بعدي" بفتح الياء. وهي قراءة السلمي وزر بن حبيش وأبي بكر عن عاصم. واختاره أبو حاتم لأنه اسم؛ مثل الكاف من بعدك، والتاء من قمت. الباقون بالإسكان. وقرئ "من بعدي اسمه أحمد" بحذف الياء من اللفظ. و"أحمد" اسم نبينا (. وهو اسم علم منقول من صفة لا من فعل؛ فتلك الصفة أفعل التي يراد بها التفضيل. فمعنى "أحمد" أي أحمد الحامدين لربه. والأنبياء صلوات الله عليهم كلهم حامدون الله، ونبينا أحمد أكثرهم حمدا. وأما محمد فمنقول من صفة أيضا، وهي في معنى محمود؛ ولكن فيه معنى المبالغة والتكرار. فالمحمد هو الذي حمد مرة بعد مرة. كما أن المكرم من الكرم مرة بعد مرة. وكذلك الممدح ونحو ذلك. فاسم محمد مطابق لمعناه، والله سبحانه سماه قبل أن يسمي به نفسه. فهذا علم من أعلام نبوته، إذ كان اسمه صادقا عليه؛ فهو محمود في الدنيا لما هدى إليه ونفع به من العلم والحكمة. وهو محمود في الآخرة بالشفاعة. فقد تكرر معنى الحمد كما يقتضي اللفظ. ثم إنه لم يكن محمدا حتى كان أحمد، حمد ربه فنبأه وشرفه؛ فلذلك تقدم اسم أحمد على الاسم الذي هو محمد فذكره عيسى عليه السلام فقال: "اسمه أحمد". وذكره موسى عليه السلام حين قال له ربه: تلك أمة أحمد، فقال: اللهم اجعلني من أمة أحمد. فبأحمد ذكره قبل أن يذكره بمحمد،(1/120)
لأن حمده لربه كان قبل حمد الناس له. فلما وجد وبعث كان محمدا بالفعل. وكذلك في الشفاعة يحمد ربه بالمحامد التي يفتحها عليه، فيكون أحمد الناس لربه ثم يشفع فيحمد على شفاعته. وروي أن النبي ( قال: (اسمي في التوراة أحيد لأني أحيد أمتي عن النار، واسمي في الزبور الماحي محا الله بي عبدة الأوثان ، واسمي في الإنجيل أحمد، واسمي في القرآن محمد لأني محمود في أهل السماء والأرض). وفي الصحيح ، قال ( (لي خمسة أسماء أنا محمد وأحمد وأنا الماحي الذي يمحو الله بي الكفر وأنا الحاشر الذي تحشر الناس على قدمي وأنا العاقب).
وقوله تعالى "فلما جاءهم بالبينات" قيل عيسى. وقيل: محمد (. "قالوا هذا سحر مبين" قرأ الكسائي وحمزة "ساحر" نعتا للرجل. وروي أنها قراءة ابن مسعود. الباقون "سحر" نعتا لما جاء به الرسول.
الآية: 7 {ومن أظلم ممن افترى على الله الكذب وهو يدعى إلى الإسلام والله لا يهدي القوم الظالمين}
قوله تعالى: "ومن أظلم" أي لا أحد أظلم "ممن افترى على الله الكذب" ... "وهو يدعى إلى الإسلام" .. هذا تعجب ممن كفر بعيسى ومحمد بعد المعجزات التي ظهرت لهما. وقرأ طلحة بن مصرف "وهو يدعي" بفتح الياء والدال وشدها وكسر العين، أي ينتسب. ويعي وينتسب سواء. "والله لا يهدي القوم الظالمين" أي من كان في حكمه أنه يختم له بالضلالة.
الآية: 8 {يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم والله متم نوره ولو كره الكافرون}(1/121)
قوله تعالى: "يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم" الإطفاء هو الإخماد، يستعملان في النار، ويستعملان فيما يجري مجراها من الضياء والظهور. ويفترق الإطفاء والإخماد من وجه؛ وهو أن الإطفاء يستعمل في القليل والكثير، والإخماد إنما يستعمل في الكثير دون القليل؛ فيقال: أطفأت السراج؛ ولا يقال أخمدت السراج. وفي "نور الله" هنا خمسة أقاويل: أحدها: أنه القرآن ؛ يريدون إبطاله وتكذيبه بالقول؛ قاله ابن عباس وابن زيد. والثاني: إنه الإسلام؛ يريدون دفعه بالكلام؛ قاله السدي. الثالث: أنه محمد (؛ يريدون هلاكه بالأراجيف؛ قاله الضحاك. الرابع: حجج الله ودلائله؛ يريدون إبطالها بإنكارهم وتكذيبهم؛ قاله ابن بحر. الخامس: أنه مثل مضروب؛ أي من أراد إطفاء نور الشمس بفيه فوجده مستحيلا ممتنعا فكذلك من أراد إبطال الحق؛ حكاه ابن عيسى. وسبب نزول هذه الآية ما حكاه عطاء عن ابن عباس: أن النبي ( أبطأ عليه الوحي أربعين يوما؛ فقال كعب بن الأشرف: يا معشر اليهود، أبشروا... فقد أطفأ الله نور محمد فيما كان ينزل عليه، وما كان ليتم أمره؛ فحزن رسول الله ( ؛ فأنزل الله تعالى هذه الآية واتصل الوحي بعدها؛ حكى جميعه الماوردي رحمه الله. "والله متم نوره" أي بإظهاره في الآفاق. وقرأ ابن كثير وحمزة والكسائي وحفص عن عاصم "والله متم نوره" بالإضافة على نية الانفصال؛ كقوله تعالى: "كل نفس ذائقة الموت" [آل عمران: 185] وشبهه، حسب ما تقدم بيانه في "آل عمران". الباقون "متم نوره" لأنه فيما يستقبل؛ فعمل. "ولو كره الكافرون" من سائر الأصناف.
الآية: 9 {هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون}(1/122)
قوله تعالى: "هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق" أي محمدا بالحق والرشاد. "ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون" أي بالحجج. ومن الظهور الغلبة باليد في القتال؛ وليس المراد بالظهور ألا يبقى دين آخر من الأديان، بل المراد يكون أهل الإسلام عالين غالبين. ومن الإظهار ألا يبقى دين سوى الإسلام في آخر الزمان. قال مجاهد: وذلك إذا نزل عيسى لم يكن في الأرض دين إلا دين الإسلام. وقال أبو هريرة: "ليظهره على الدين كله" بخروج عيسى. وحينئذ لا يبقى كافر إلا أسلم. وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ( : (لينزلن ابن مريم حكما عادلا فليكسرن الصليب وليقتلن الخنزير وليضعن الجزية ولتتركن القلاص فلا يسعى عليها ولتذهبن الشحناء والتباغض والتحاسد وليدعون إلى المال فلا يقبله أحد). وقيل: "ليظهره" أي ليطلع محمدا ( على سائر الأديان؛ حتى يكون عالما بها عارفا بوجوه بطلانها، وبما حرفوا وغيروا منها. "على الدين" أي الأديان؛ لأن الدين مصدر يعبر به عن جمع.
( وقال الشربيني رحمه الله :
قوله تعالى :{وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يبَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُم مُّصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُم بِالْبَيِّنَاتِ قَالُواْ هَذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ}(1/123)
{وإذ} أي: واذكر يا أشرف المرسلين إذ {قال عيسى} ووصفه بقوله {ابن مريم} ليعلم أنه من غير أب وثبتت نبوته بالمعجزات {يا بني إسرائيل} فذكرهم بما كان عليه أبوهم من الدين وما أوصى به بنيه من التمسك بالإسلام، ولم يقل: يا قوم، كما قال موسى عليه السلام؛ لأنه لا أب له فيهم وإن كانت أمه منهم، فإن النسب إنما هو من جهة الأب، وأكد لإنكار بعضهم فقال {إني رسول الله} أي: الملك الأعظم {إليكم} أي: لا إلى غيركم {مصدقاً لما بين يدي} أي: قبلي {من التوراة} التي تعلمون أن الله تعالى أنزلها على موسى عليه السلام، وهي أول الكتب التي نزلت بعد الصحف وحكم بها النبيون، فتصديقي لها مع تأييدي بها مؤيد، لأن ما أقمت من الدلائل حق ومبين أنها دليلي فيما لم أنسخه منها، كما يستدل بما قدامه من الإعلام ويراعيه ببصره. وقرأ أبو عمرو وابن ذكوان والكسائي بالإمالة محضة، وقرأ حمزة ونافع بين بين بخلاف عنه عن قالون، والباقون بالفتح {ومبشراً} في حال تصديقي للتوراة {برسول} أي: إلى كل من شملته الربوبية {يأتي من بعدي} أي: يصدق بالتوراة. فكأنه قيل: ما اسمه؟ قال: {اسمه أحمد} والمعنى: أرسلت إليكم في حال تصديقي ما تقدمني من التوراة، وفي حال تبشيري برسول يأتي من بعدي يعني أن ديني التصديق بكتب الله تعالى وأنبيائه جميعاً ممن تقدم وتأخر.
فإن قيل: بم انتصب مصدقاً ومبشراً، أبما في الرسول من معنى الإرسال أم بإليكم؟. أجيب: بأنه بمعنى الإرسال لأن إليكم صلة للرسول فلا يجوز أن يعمل شيئاً لأن حروف الجر لا تعمل بأنفسها، ولكن بما فيها من معنى الفعل، فإذا وقعت صلات لم تتضمن معنى فعل فمن أين تعمل.(1/124)
وعن كعب: أن الحواريين قالوا لعيسى: يا رسول الله هل بعدنا من أمة؟ قال: نعم أمة أحمد حكماء علماء أبرار أتقياء، كأنهم من الفقه أنبياء، يرضون من الله باليسير من الرزق ويرضى الله منهم باليسير من العمل. وعن حبيش بن مطعم قال: "قال رسول الله ( لي خمسة أسماء: أنا محمد، وأنا أحمد، وأنا الماحي الذي يمحو الله بي الكفر، وأنا الحاشر الذي يحشر الناس على قدمي، وأنا العاقب الذي ليس بعدي نبي" وقد سماه الله تعالى رؤوفاً ورحيماً. وروي أنه ( قال: "اسمي في التوراة أحيد لأني أحيد أمتي عن النار، واسمي في الزبور الماحي محى الله بي عبدة الأوثان، واسمي في الإنجيل أحمد، وفي القرآن محمد لأني محمود في أهل السماء والأرض" بل ذكر بعض العلماء أنه له ألف اسم. قال البغوي: والألف في أحمد للمبالغة في الحمد، وله وجهان: أحدهما: أنه مبالغة من الفاعل، أي: ومعناه أن الأنبياء حمادون لله تعالى، وهو أكثر حمداً من غيره. والثاني: أنه مبالغة من المفعول، أي: ومعناه أن الأنبياء كلهم محمودون لما فيهم من الخصال الحميدة، وهو أكثر مبالغة وأجمع للفضائل والمحاسن والأخلاق التي يحمد بها.. اهـ. وعلى كلا الوجهين منعه من الصرف للعملية والوزن الغالب، إلا أنه على الاحتمال الأول يمتنع معرفة وينصرف نكرة، وعلى الثاني يمتنع تعريفاً وتنكيراً لأنه يخلف العلمية الصفة، وإذا نكر بعد كونه علماً جرى فيه خلاف سيبويه والأخفش، وهي مسألة مشهورة بين النحاة. وأنشد حسان يمدحه وصرفه:
صلى الإله ومن يحف بعرشه والطيبون على المبارك أحمد(1/125)
أحمد بدل أو بيان للمبارك، وأما محمد فمنقول من صفة أيضاً، وهو في معنى محمود ولكن في معنى المبالغة والتكرار، فأحمد هو الذي حمد مرة بعد مرة. قال القرطبي: كما أن المكرم من أكرم مرة بعد مرة، وكذلك الممدح ونحو ذلك: واسم محمد مطابق لمعناه، والله سبحانه وتعالى سماه قبل أن يسمي به نفسه، فهذا علم من أعلام نبوته، وكان اسمه صادقاً عليه فهو محمود في الدنيا لما هدي إليه ونفع به من العلم والحكمة، وهو محمود في الآخرة بالشفاعة. فقد تكرر معنى الحمد كما يقتضي اللفظ، ثم إنه لم يكن محمداً حتى كان أحمد حمد ربه فنبأه وشرفه، فلذلك تقدم اسم أحمد على الاسم الذي هو محمد فذكره عيسى فقال: اسمه أحمد، وذكره موسى عليه السلام حين قال له ربه: تلك أمة أحمد، فقال: اللهم اجعلني من أمة محمد. فبأحمد ذكره قبل أن يذكره بمحمد، لأن حمده لربه كان قبل حمد الناس له، فلما وجد وبعث كان محمداً بالفعل...وكذلك في الشفاعة يحمد ربه بالمحامد التي يفتحها عليه فيكون أحمد الناس لربه، ثم يشفع فيحمد على شفاعته، فدل ذلك على أنه ( أشرف الأنبياء فاتحاً لهم وخاتماً عليهم. وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو وشعبة بفتح الياء، والباقون بالسكون
وقوله تعالى: {فلما جاءهم} يحتمل أن يعود فيه الضمير لأحمد، أي: جاء الكفار، واقتصر على ذلك الجلال المحلي، ويحتمل عوده لعيسى، أي: جاء لبني إسرائيل {بالبينات} أي: من المعجزات العظيمة التي لا يسوغ لعاقل إلا التسليم لها، ومن الكتاب المبين {قالوا} أي: عند مجيئها من غير نظرة تأمل {هذا} أي: المأتي به من البينات، أو الآتي بها على المبالغة {سحر} فكانوا أول كافر به، لأن هذا وصف لهم لازم سواء بلغهم ذلك أم لا {مبين} أي: في غاية البيان في سحريته. وقرأ حمزة والكسائي بفتح السين وألف بعدها وكسر الحاء، وهذه القراءة مناسبة للتفسير الثاني، والباقون بكسر السين وسكون الحاء، وهذه مناسبة للتفسير الأول.(1/126)
{ومن} أي: لا أحد {أظلم} أي: أشد ظلماً {ممن افترى} أي: تعمد {على الله} أي: الملك الأعلى {الكذب} أي: بنسبة الشريك والولد إليه، ووصف آياته بالسحر، ووصف أنبيائه بالسحرة {وهو} أي: والحال أنه {يدعى} أي: من أي داع كان {إلى الإسلام} أي: الذي هو أحسن الأشياء فإن له فيه سعادة الدارين، فيجعل مكان إجابته افتراء الكذب على الله تعالى: {والله} أي: الذي له الأمر كله فلا أمر لأحد معه {لا يهدي القوم} أي: لا يخلق الهداية في قلوب من فيهم قوة المجادلة للأمور الصعاب {الظالمين} أي: الذين يخبطون في عقولهم خبط من هو في الظلام.
{يريدون} أي: يوقعون إرادة ردهم للرسالة بافترائهم {ليطفئوا} أي: لأجل أن يطفئوا {نور الله} أي: الملك الذي لا شئ يكافئه {بأفواههم} أي: بما يقولون من كذب لا منشأ له غير الأفواه، لأنه لا اعتقاد له في القلوب.
تنبيه: الإطفاء هو الإخماد يستعملان في النار وفيما يجري مجراها من الضياء والظهور، ويفرق بين الإطفاء والإخماد من حيث إن الإطفاء يستعمل في القليل، فيقال: أطفأت السراج، ولا يقال: أخمدت السراج، وفي هذه اللام أوجه: أحدها: أنها تعليلية كما مر، ثانيها: أنها مزيدة في مفعول الإرادة، وقال الزمخشري: أصله يريدون أن يطفئوا كما في سورة التوبة، وكأن هذه اللام زيدت مع فعل الإرادة توكيداً له، لما فيها من معنى الإرادة في قولك: جئتك لإكرامك، كما زيدت اللام في: لا أب لك تأكيداً لمعنى الإضافة في لا أباك.(1/127)
قال الماوردي: وسبب نزول هذه الآية ما حكاه عطاء عن ابن عباس: "أن النبي ( أبطأ عليه الوحي أربعين يوماً، فقال كعب بن الأشرف: يا معشر يهود أبشروا فقد أطفأ الله نور محمد فيما كان ينزل عليه وما كان ليتم أمره، فحزن رسول الله ( فأنزل الله تعالى هذه الآية"، واتصل الوحي بعدها واختلف في المراد بالنور، فقال ابن عباس: هو القرآن، أي: يريدون إبطاله وتكذيبه بالقول. وقال السدي: الإسلام، أي: يريدون رفعه بالكلام. وقال الضحاك: إنه محمد ( أي: يريدون هلاكه بالأراجيف وقال ابن جريج: حجج الله تعالى ودلائله، يريدون إبطالها بإنكارهم وتكذيبهم. وقيل: إنه مثل مضروب، أي: من أراد إطفاء نور الشمس بفيه فوجده مستحيلاً ممتنعاً، كذلك من أراد إطفاء الحق {والله} أي: الذي لا مدافع له لتمام عظمته {متم نوره} فلا يضره ستر أحد له بتكذيبه ولا إرادة إطفائه، وزاد ذلك بقوله تعالى: {ولو كره} أي: إتمامه له {الكافرون} أي: الراسخون في جهة الكفر المجتهدون في المحاماة عنه.
{هو} أي: الذي ثبت أنه جامع لصفات الكمال والجلال وحده من غير أن يكون له شريك أو وزير {الذي أرسل رسوله} أي: الحقيق بأن يعظمه كل من بلغه أمره لأن عظمته من عظمته، ولم يذكر حرف الغاية إشارة إلى عموم الإرسال إلى كل من شمله الملك كما مضى {بالهدى} أي: البيان الشافي بالقرآن والمعجزة {ودين الحق} أي: والملة الحنيفية {ليظهره} أي: يعليه مع الشهرة وإذلال المنازع {على الدين} أي: جنس الشريعة التي ستجعل ليجازى من يسلكها ومن يزغ عنها بما يشرع فيها من الأحكام {كله} فلا يبقى دين إلا كان دونه، وانمحق به وذل أهله ذلاً لا يقاس به ذل {ولو كره} أي: إظهاره {المشركون} أي: المعاندون في كفرهم الراسخون في سلك المعاندة.(1/128)
فإن قيل: قال أولاً: {ولو كره الكافرون}، وقال ثانياً: {ولو كره المشركون}، فما الحكمة في ذلك؟. أجيب: بأنه تعالى أرسل رسوله، وهو من نعم الله تعالى، والكافرون كلهم في كفران النعم سواء فلهذا قال {ولو كره الكافرون} لأن لفظ الكافر أعم من لفظ المشرك فالمراد من الكافرين هنا اليهود والنصارى والمشركون، فلفظ الكافر أليق به. وأما قوله تعالى: {ولو كره المشركون} فذلك عند إنكارهم التوحيد وإصرارهم عليه، لأنه ( في ابتداء الدعوة أمر بالتوحيد بلا إله إلا الله فلم يقولوها، فلهذا قال: {ولو كره المشركون}.
( وقال السعدي رحمه الله :
قوله تعالى : ( وإذ قال عيسى ابن مريم يا بني إسرائيل إني رسول الله إليكم مصدقا لما بين يدي من التوراة ومبشرا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد فلما جاءهم بالبينات قالوا هذا سحر مبين ومن أظلم ممن افترى على الله الكذب وهو يدعى إلى الإسلام والله لا يهدي القوم الظالمين يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم والله متم نوره ولو كره الكافرون هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون )(1/129)
يقول تعالى مخبرا عن عناد بني إسرائيل المتقدمين ، الذي دعاهم عيسى ابن مريم ، وقال لهم : " يا بني إسرائيل إني رسول الله إليكم " ، أي : أرسلني الله لأدعوكم إلى الخير ، وأنهاكم عن الشر ، وأيدني بالبراهين الظاهرة ، ومما يدل على صدقي ، كوني " مصدقا لما بين يدي من التوراة " ، أي : جئت بما جاء به موسى من التوراة ، والشرائع السماوية . ولو كانت مدعيا للنبوة ، غير صادق في دعواي ، لجئت بغير ما جاء به المرسلون ، ومصدقا لما بين يدي من التوراة أيضا ، أنها أخبرت بي وبشرت ، فجئت وبعثت مصدقا لها " ومبشرا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد " ، وهو : محمد بن عبد الله بن عبد المطلب الهاشمي . فعيسى عليه الصلاة والسلام كسائر الأنبياء ، يصدق بالنبي السابق ، ويبشر بالنبي اللاحق ، بخلاف الكذابين ، فإنهم يناقضون الأنبياء أشد مناقضة ، ويخالفونهم في الأوصاف والأخلاق ، والأمر والنهي . " فلما جاءهم " محمد ( الذي بشر به عيسى " بالبينات " ، أي : الأدلة الواضحة ، الدالة على أنه هو ، وأنه رسول الله حقا . " قالوا " معاندين للحق مكذبين له : " هذا سحر مبين " ، وهذا من أعجب العجائب . الرسول الذي قد وضحت رسالته ، وصارت أبين من شمس النهار ، يجعل ساحرا بينا سحره ، فهل في الخذلان أعظم من هذا ؟ وهل في الافتراء أبلغ من هذا الافتراء ، الذي نفى عنه ما كان معلوما من رسالته وأثبت له ما كان أبعد الناس عنه ؟ " ومن أظلم ممن افترى على الله الكذب " بهذا أو غيره ، والحال أنه لا عذر له ، وقد انقطعت حجته ، لأنه " يدعى إلى الإسلام " ، وتبين له براهينه وبيناته ." والله لا يهدي القوم الظالمين " الذين لا يزالون على ظلمهم مستقيمين ، لا تردهم عنه موعظة ، ولا يزجرهم بيان ولا برهان . خصوصا هؤلاء الظلمة القائمين بمقابلة الحق ليردوه ، ولينصروا الباطل ، ولهذا قال عنهم : " يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم " ، أي : بما يصدر منهم من المقالات(1/130)
الفاسدة ، التي يردون بها الحق ، وهي لا حقيقة لها ، بل تزيد البصير معرفة بما هم عليه من الباطل . " والله متم نوره ولو كره الكافرون " ، أي : قد تكفل الله بنصر دينه ، وإتمام الحق ، الذي أرسل به رسله ، وإظهار نوره في سائر الأقطار ، ولو كره الكافرون ، وبذلوا بسبب ـ كراهته ـ كل ما قدروا عليه ، مما يتوصلون به إلى إطفاء نور الله ، فإنهم مغلوبون . ومثلهم كمثل من ينفخ عين الشمس بفيه ليطفئها ، فلا على مرادهم حصلوا ، ولا سلمت عقولهم من النقص والقدح فيها . ثم ذكر سبب الظهور والانتصار للدين الإسلامي ، الحسي والمعنوي فقال ، " هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق " ، أي : بالعلم النافع ، والعمل الصالح . بالعلم : الذي يهدي إلى الله ، وإلى دار كرامته ، ويهدي لأحسن الأعمال والأخلاق ، ويهدي إلى صمصالح الدنيا والآخرة . " ودين الحق " ، أي : الدين الذي يدان به ، ويتعبد لرب العالمين الذي هو حق وصدق ، لا نقص فيه ، ولا خلل يعتريه ، بل أوامره غذاء القلوب والأرواح ، وراحة الأبدان . وترك نواهيه سلامة من الشر والفساد ، فما بعث به النبي صلى الله عليه وسلم من الهدى ودين الحق ، أكبر دليل وبرهان على صدقه ، وهو برهان باق ، ما بقي الدهر ، كلما ازداد العاقل تفكرا ، ازداد به فرحا وتبصرا . " ليظهره على الدين كله " ، أي : ليعليه على سائر الأديان ، بالحجة والبرهان ، ويظهر أهله القائمين به ، بالسيف والسنان . فأما نفس الدين ، فهذا الوصف ، ملازم له في كل وقت ، فلا يمكن أن يغالبه مغالب ، أو يخاصمه مخاصم إلا فلجه ، وصار له الظهور والقهر ، وأما المنتسبون إليه ، فإنهم إذا قاموا به ، واستناروا بنوره ، واهتدوا بهديه ، في مصالح دينهم ودنياهم ، فكذلك لا يقوم لهم أحد ، ولا بد أن يظهروا على أهل الأديان . وإذا ضيعوه واكتفوا منه بمجرد الانتساب إليه ، لم ينفعهم ذلك ، وصار إهمالهم له ، سبب تسليط الأعداء عليهم . ويعرف هذا ، من(1/131)
استقرأ الأحوال والنظر ، في أول المسلمين وآخرهم ....
*********************************************************************************
ونختم هذه الرحلة الطيبة بذكر أسماء النبي الأكرم ( وكنيته نقلا من كتاب " دلائل النبوة "
( قال البيهقي رحمه الله :
باب ذكر أسماء النبي (
-- قال الله عز وجل: (محمد رسول الله....) ؛ وقال : (ومبشراً برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد...)
** حدثنا أبو عبد الله الحافظ إملاء قال حدثنا أبو جعفر البغدادي لفظاً قال حدثنا علي بن عبد العزيز قال حدثنا عمرو بن عون الواسطي قال حدثنا خالد بن عبد الله عن داود بن أبي هند عن العباس ابن عبد لرحمن عن كندير بن سعيد عن أبيه قال حججت في الجاهلية فإذا أنا برجل يطوف بالبيت وهو يرتجز ويقول :
يا رب رد راكبي محمداً يا رب رده واصطنع عندي يدا
وقال غيره رده رب فقلت من هذا فقال عبد المطلب بن هاشم بعث بابن ابنه محمد في طلب إبل له ولم يبعثه في حاجة إلا أنجح فيها وقد أبطأ عليه قال فلم يلبث أن جاء محمد والإبل فاعتنقه وقال يا بني لقد جزعت عليك جزعاً لم أجزعه على شيءٍ قط والله لا أبعثك في حاجة أبداً ولا تفارقني بعد هذا أبداً ..
أخبرنا أبو الحسين محمد بن الحسين بن الفضل القطان ببغداد قال أخبرنا عبد الله بن جعفر بن درستويه قال حدثنا يعقوب بن سفيان قال حدثنا أبو بكر الحميدي قال حدثنا سفيان قال حدثنا أبو الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة قال ، قال رسول الله ( : ألا تعجبون كيف يصرف الله عز وجل عني شتم قريش ولعنهم يسبون مذمماً ويلعنون مذمما وأنا محمد
رواه البخاري في الصحيح عن علي بن عبد الله عن سفيان .(1/132)
** أخبرنا أبو الحسين بن الفضل قال حدثنا عبد الله بن جعفر قال حدثنا يعقوب بن سفيان قال حدثنا أبو اليمان قال أخبرني شعيب عن الزهري قال أخبرني محمد بن جبير بن مطعم عن أبيه قال سمعت رسول الله ( يقول : إن لي أسماء أنا محمد وأنا أحمد وأنا الماحي الذي يمحو الله بي الكفر وأنا الحاشر الذي يحشر الناس على قدمي وأنا العاقب الذي ليس بعده أحد ..
رواه البخاري في الصحيح عن أبي اليمان ورواه مسلم عن عبد بن حميد عن أبي اليمان
وأخرجه مسلم من حديث ابن عيينة وعقيل عن الزهري
والبخاري من حديث مالك بن أنس عن الزهري
** وأخبرنا أبو الحسين علي بن محمد بن عبد الله بن بشران العدل ببغداد قال حدثنا إسماعيل بن محمد الصفار قال حدثنا أحمد ابن منصور قال حدثنا عبد الرزاق قال أخبرنا معمر عن الزهري عن محمد بن جبير بن مطعم عن أبيه قال سمعت رسول الله( يقول : إن لي أسماء أنا أحمد وأنا محمد وأنا الماحي الذي يمحو الله بي الكفر وأنا الحاشر يحشر الناس على قدمي وأنا العاقب
قال قلت للزهري وما العاقب قال الذي ليس بعده نبي
رواه مسلم في الصحيح عن عبد بن حميد عن عبد الرزاق
** وأخرجه أيضاً من حديث يونس بن يزيد عن الزهري وقال في الحديث : وأنا العاقب الذي ليس بعده أحد ... وقد سماه الله تعالى رءوفاً رحيماً .
** أخبرنا أبو عبد الله الحافظ قال أخبرنا أبو عبد الله بن يعقوب قال حدثنا حسن بن سفيان قال حدثنا حرملة بن يحيى قال حدثنا ابن وهب قال أخبرني يونس عن ابن شهاب فذكره وقال إن رسول الله( قال
ويحتمل أن يكون تفسير العاقب من قول الزهري كما بينه معمر
وقوله وقد سماه الله تعالى رءوفاً رحيماً من قول الزهري والله أعلم(1/133)
** حدثنا أبو الحسن محمد بن الحسين بن داود العلوي رحمه الله قال أخبرنا أبو بكر محمد بن أحمد بن دلويه الدقاق قال حدثنا أحمد بن حفص بن عبد الله قال حدثني أبي قال حدثني إبراهيم بن طهمان عن محمد بن ميسرة عن الزهري عن محمد بن جبير بن مطعم عن أبيه عن رسول الله ( أنه قال : لي خمسة أسماء أنا محمد وأنا أحمد وأنا الماحي الذي يمحو الله تعالى بي الكفر وأنا الحاشر الذي يحشر الناس على قدمي وأنا العاقب ... يعني الخاتم
ورواه نافع بن جبير بن مطعم عن أبيه فعدهن مع الخاتم ستة .
** أخبرنا محمد بن الحسين القطان ببغداد قال أخبرنا عبد الله بن جعفر قال حدثنا يعقوب بن سفيان قال حدثنا حجاج قال حدثنا حماد عن جعفر بن أبي وحشية عن نافع بن جبير بن مطعم عن أبيه قال سمعت النبي( يقول : أنا محمد وأنا أحمد والحاشر والماحي والخاتم والعاقب ..
** أخبرنا أبو الحسن علي بن أحمد بن عبدان قال حدثنا أبو بكر محمد بن محويه العسكري قال حدثنا جعفر بن محمد القلانسي قال حدثنا آدم بن أبي إياس قال حدثنا الليث بن سعد - ح - وأخبرنا أبو الحسين بن الفضل قال أخبرنا عبد الله بن جعفر قال حدثنا يعقوب بن سفيان قال حدثنا أبو صالح قال حدثني الليث قال حدثني خالد بن يزيد عن سعيد بن أبي هلال عن عقبة بن مسلم عن نافع بن جبير بن مطعم أنه دخل على عبد الملك بن مروان فقال له عبد الملك أتحصى أسماء رسول الله( التي كان جبير بن مطعم يعدها قال نعم هي ستة : محمد وأحمد وخاتم وحاشر وعاقب وماحي... فأما الحاشر فبعث مع الساعة نذيراً لكم بين يدي عذاب شديد ، وأما عاقب فإنه عقب الأنبياء ، وأما ماحي فإن الله تعالى محا به سيئات من اتبعه..(1/134)
** أخبرنا أبو بكر بن فورك قال أخبرنا عبد الله بن جعفر الأصفهاني قال حدثنا يونس بن حبيب قال حدثنا أبو داود الطيالسي قال حدثنا المسعودي عن عمرو بن مرة - ح - وأخبرنا أبو عبد الله الحافظ قال أخبرني محمد بن إبراهيم الهاشمي قال حدثنا أحمد بن سلمة قال حدثنا إسحاق بن إبراهيم قال أخبرنا جرير عن الأعمش عن عمرو بن مرة عن أبي عبيدة عن أبي موسى قال كان رسول الله( سمى لنا نفسه فقال: أنا محمد وأحمد والحاشر والمقفى ونبي التوبة والملحمة ..
لفظ حديث الأعمش وفي رواية المسعودي قال سمى لنا رسول الله نفسه أسماء منها ما حفظنا ثم ذكرهن
رواه مسلم في الصحيح عن إسحاق بن إبراهيم .
** أخبرنا أبو القاسم زيد بن أبي هاشم العلوي بالكوفة قال أخبرنا أبو جعفر محمد بن علي بن دحيم قال حدثنا إبراهيم بن عبد الله قال حدثنا وكيع عن الأعمش عن أبي صالح قال قال رسول الله(: أيها الناس إنما أنا رحمة مهداة ..
هذا منقطع وروى موصولاً
** أخبرنا أبو عبد الله الحافظ قال حدثنا أبو الفضل محمد بن إبراهيم قال حدثنا الحسين بن محمد بن زياد وإبراهيم بن أبي طالب قالا حدثنا زياد بن يحيى الحساني - ح - وأخبرنا أبو بكر محمد بن أبي سعيد بن سختويه الإسفرايني المجاور بمكة وكتبه لي بخطه قال حدثنا أبو بكر محمد بن محمد بن أحمد الطرازي البغدادي بنيسابور وأبو علي محمد بن علي بن الحسن الحافظ وأبو النضر شافع بن محمد بن أبي عوانة قالوا حدثنا أبو روق أحمد بن بكر الهزاني بالبصرة قال حدثنا أبو الخطاب زياد بن يحيى الحساني قال حدثنا مالك بن محمد بن سعير بن الخمس عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة قال قال رسول الله ( : إنما أنا رحمة مهداة ..
لفظ حديث الإسفرايني
وفي رواية أبي عبد الله قال حدثنا الأعمش وقال يأيها الناس إنما أنا رحمة مهداة ..(1/135)
** أخبرنا أبو عبد الله الحافظ وأبو سعيد بن أبي عمرو قالا حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب قال حدثنا أحمد بن عبد الجبار حدثنا وكيع عن إسماعيل الأزرق عن ابن عمر عن محمد بن الحنفية قال ( يس ) قال محمد.
** أخبرنا أبو عبد الله الحافظ وأبو بكر القاضي قالا حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب قال حدثنا أحمد بن عبد الجبار قال حدثنا ابن فضيل عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس في قوله تعالى (طه ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى) يا رجل ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى وكان يقوم الليل على رجليه فهي لغة لعك إن قلت لعكي يا رجل لم يلتفت وإذا قلت له طه التفت إليك ...
** أخبرنا أبو عبد الله الحافظ قال سمعت أبا زكريا يحيى بن محمد العنبري يقول قال الخليل بن أحمد خمسة من الأنبياء ذوو اسمين محمد وأحمد نبينا ( ، وعيسى والمسيح صلى الله عليه، وإسرائيل ويعقوب صلى الله عليه ، ويونس وذو النون صلى الله عليه، والياس وذو الكفل صلى الله عليه ...
- قال أبو زكريا ولنبينا خمسة أسماء في القرآن : محمد وأحمد وعبد الله وطه ويسن ... قال الله عز وجل في ذكر محمد (محمد رسول الله) ..وقال: (ومبشراً برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد) ...وقال الله عز وجل في ذكر عبد الله ( وأنه لما قام عبد الله يدعوه ) يعني النبي ليلة الجن (كادوا يكونون عليه لبداً) وإنما كانوا يقعون بعضهم على بعض كما أن اللبد يتخذ من الصوف فيوضع بعضه على بعض فيصير لبداً ...وقال عز وجل (طه ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى) .. والقرآن إنما نزل على رسول الله دون غيره وقال عز وجل (يس) يعني يا إنسان والإنسان هاهنا العاقل وهو محمد (إنك لمن المرسلين)(1/136)
قلت وزاد غيره من أهل العلم فقال سماه الله تعالى في القرآن : رسولاً نبياً أميا وسماه شاهداً ومبشراً ونذيراً وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً وسماه رءوفاً رحيماً وسماه نذيراً مبيناً وسماه مذكراً وجعله رحمة ونعمة وهادياً وسماه عبداً صلى الله عليه وعلى آله وسلم كثيراً ...
** وأخبرنا أبو الحسين بن الفضل قال حدثنا عبد الله بن جعفر قال حدثنا يعقوب بن سفيان قال حدثنا أبو عثمان قال حدثنا عبد الله وهو ابن المبارك قال أخبرنا إبراهيم بن إسحاق قال حدثنا المسيب بن رافع قال
قال كعب قال الله تعالى لمحمد : عبدي ، سميتك المتوكل المختار...
** أخبرنا أبو عبد الله الحافظ قال حدثنا خلف بن محمد البخاري قال حدثنا صالح بن محمد بن حبيب الحافظ قال حدثنا محمد بن ميمون المكي قال حدثنا سفيان بن عيينة عن علي بن زيد قال سمعته يقول اجتمعوا فتذاكروا أي بيت أحسن فيما قالته العرب قالوا الذي قاله أبو طالب للنبي (
وشقه له من اسمه كي يجله فذوا العرش محمود وهذا محمد
ورواه المسيب بن واضح عن سفيان وقال ليجله
باب ذكر كنية رسول الله (
** أخبرنا أبو عبد الله الحافظ وأبو بكر أحمد بن الحسن القاضي قالا حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب قال حدثنا أبو يحيى زكريا بن يحيى بن أسد قال حدثنا سفيان بن عيينة عن أيوب عن محمد بن سيرين قال سمعت أبا هريرة يقول : قال أبو القاسم : تسموا باسمي ولا تكتنوا بكنيتي
رواه البخاري في الصحيح عن علي بن عبد الله
ورواه مسلم عن أبي بكر بن أبي شيبة وغيره عن سفيان .
** أخبرنا أبو الحسين بن الفضل القطان أخبرنا عبد الله بن جعفر ، حدثنا يعقوب بن سفيان قال حدثنا أبو عاصم عن ابن عجلان عن أبيه عن أبي هريرة قال ، قال رسول الله ( :لا تجمعوا اسمي وكنيتي.. أنا أبو القاسم.. الله يرزق ، وأنا أقسم .(1/137)
** وحدثنا أبو سعيد عبد الملك بن أبي عثمان الزاهد قال أخبرنا أبو عمرو إسماعيل بن نجيد السلمي قال حدثنا أبو مسلم إبراهيم بن عبد الله قال حدثنا أبو عاصم فذكره بنحوه إلا أنه قال: والله يعطي وأنا أقسم
** أخبرنا أبو الطاهر الفقيه قال حدثنا أبو الحسن أحمد بن محمد ابن عبدوس الطرائفي قال حدثنا عثمان بن سعيد الدارمي حدثنا عمرو بن خالد الحراني - ح - وحدثنا أبو محمد عبد الله بن يوسف الأصفهاني وأبو بكر أحمد بن الحسن القاضي قالا حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب قال حدثنا محمد بن إسحاق الصغاني قال حدثنا عثمان بن صالح قال حدثنا ابن لهيعة عن يزيد بن أبي حبيب وعقيل عن ابن شهاب عن أنس ابن مالك أنه لما ولد إبراهيم ابن النبي( من مارية جاريته كان يقع في نفس النبي منه حتى أتاه جبريل عليه السلام فقال: السلام عليك أبا إبراهيم... وفي رواية الفقيه: يا أبا إبراهيم ...
***************************************************************************
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم إنك حميد مجيد
اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد
******************************************************************************
كان الفراغ من جمعه وتأليفه
يوم 19 صفر الخير 1427
أبو يوسف محمد زايد(1/138)