من أخلاق الرسول الكريم - صلى الله عليه وسلم -
بقلم
عبد المحسن بن حمد العباد البدر
المدرس بالجامعة الإسلامية
بالمدينة المنورة
بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة
الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضى، نحمده سبحانه ولا نحصي ثناء عليه، أرسل نبيه محمداً - صلى الله عليه وسلم - بالهدى ودين الحق؛ ليظهره على الدين كله، فارتضى له الإسلام ديناً، وجعل القرآن له خلقاً، امتن عليه بالصفات الفاضلة ثم أثنى عليه قائلاً: { وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ } ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الخلق والأمر وبيده الخير وهو على كل شيء قدير، يعطي من يشاء بفضله، ويمنع من يشاء بعدله، قسم بين الناس أخلاقهم كما قسم بينهم أرزاقهم، فجعل نصيب المصطفى - صلى الله عليه وسلم - من الرزق كفافاً، ومن الأخلاق أكملها وأحسنها وأوفاها، { ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ } .
وأشهد أن محمداً عبده ورسوله وخليله وخيرته من خلقه، بعثه الله إلى أهل المعمورة؛ ليجدد به صلة السماء بالأرض، فأنزل عليه الكتاب مصدقاً لما بين يديه من الكتاب ومهيمناً عليه، ختم به الرسل، وختم بكتابه الكتب، وجعله معجزته الخالدة، فهدى الناس به إلى الصراط المستقيم، وحذرهم السبل التي تنتهي بهم إلى الجحيم، وأخرجهم به من الظلمات إلى النور، ومن وحشة القلوب وتقلباتها في أنواع المعبودات إلى أنسها وثباتها على عبادة فاطر السماوات والأرض، قد أعظم الله عليه المنة وأتم به وعليه النعمة، إذ بعثه ليتم مكارم الأخلاق.(1/1)
اللهم صل وبارك على عبدك ورسولك نبينا محمد وعلى آله وأصحابه الذين اختارهم الله لصحبته ونشر سنته، فجعلهم طليعة الأخيار وصفوة الأبرار، وعلى من سلك سبيلهم وسار على منوالهم مترسماً خطاهم، مقتفياً آثارهم، عامر القلب بحبهم، رطب اللسان بذكرهم بالجميل اللائق بهم، والثناء عليهم بما هم أهله، والدعاء لهم بما علمنا الله في قوله: { رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آَمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ } .
أما بعد: فموضوع هذه المحاضرة موضوع حبيب إلى النفوس المؤمنة هو: (من أخلاق الرسول الكريم - صلى الله عليه وسلم -) وكيف لا يكون حبيباً إلى النفوس الحديثُ عن أخلاق نبي بعثه الله رحمة للعالمين، نبي لا نكون مؤمنين حتى يكون أحبَّ إلينا من أنفسنا ووالدينا والناس أجمعين، نبي لا يؤمن أحدنا حتى يكون هواه تبعاً لما جاء به - صلى الله عليه وسلم -، نبي رغم أنفُ ثم رغم أنف ثم رغم أنف من ذكر عنده فلم يصل عليه، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين.
وهذا الموضوع العظيم الذي اخترته وآثرت الحديث فيه أعتذر مقدما عن تقصيري في توفيته حقه، وأعتقد أن توفيته حقه على الحقيقة نادر إن لم يكن متعذراً لكنه جهد مقل وكما يقولون: ما لا يدرك كثيره لا يترك قليله.
وأسأل الله العظيم رب كل شيء ومليكه أن يوفقنا جميعاً للتأدب بآداب هذا النبي الكريم صلوات الله ـ وسلامه عليه ـ وأن يحيينا على دين الإسلام الذي ارتضاه لنا دينا حتى يتوفانا عليه إنه ولي ذلك والقادر عليه ولا حول ولا قوة إلا به.(1/2)
وقبل الشروع في الموضوع أرى أن أتحدث بين يديه إجمالاً عن شدة الحاجة إلى بعثته - صلى الله عليه وسلم -، واختيار الله له، واعتراض المشركين على ذلك، والامتنان على الناس ببعثته، وضرب أمثلة للأمور والخصال التي حصلت بين يدي بعثته توطئة وتمهيداً لها.
شدة الحاجة إلى بعثته - صلى الله عليه وسلم -
ما أكثر نعم الله على عباده، وما أحوجهم دائماً وأبداً إلى شكره سبحانه على هذه النعم التي امتن عليهم بها في قوله: { وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا } ، وقوله: { وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ } .
وأعظم نعمة أنعم الله بها على هذه الأمة أن بعث فيها رسوله الكريم محمداً - صلى الله عليه وسلم - ليرشد إلى كل نافع في الحاضر والمستقبل ويحذر من كل ضار في العاجل والآجل، أرسله على حين فترة من الرسل واندراس من الكتب، في وقت انتشرت فيه الضلالة وعمّت فيه الجهالة وبلغت البشرية منتهى الانحطاط في العقائد والعادات والأخلاق، فأخرجهم به من هوة الضلالة ورفعهم إلى صرح العلم والهداية، فأزاح به عن النفوس تعلقها بغير خالقها وفاطرها سبحانه وتعالى، ووجهها إليه بقلبها وقالبها حتى لا يكون فيها محل لغيره سبحانه.
بل تكون معمورة بحبه، وخوفه، ورجائه، والتوكل عليه، والإنابة إليه، تستسلم لأوامره، وترعوي عن زواجره ونواهيه.
شيء من أمراض القلوب التي انتشرت قبيل
بعثته - صلى الله عليه وسلم - وكيف عالجها
صلوات الله وسلامه عليه
خلق الله الإنسان مركباً من شيئين: بدنٍ وروح، وجعل لكل منهما ما يغذيه وينميه، وأرشد إلى طرق العلاج التي يعالج بها كل منهما عندما يطرأ عليه مرض أو سقم، فقد أغدق نعمه على عباده وقال: { هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا } .(1/3)
أما الروح فقد استحكمت أمراضها قبل بعثته - صلى الله عليه وسلم - حتى كانت من قبيل الأموات، فأحياها الله بما بعث به نبيه - صلى الله عليه وسلم - من الهدى والنور { أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا } ، وأرشد سبحانه إلى أن شفاء أمراضها وجلاء أسقامها إنما هو بما أنزل الله على محمد - صلى الله عليه وسلم - فقال سبحانه وتعالى: { وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآَنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ } ، وقال: { قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آَمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ } .
نعم لقد بعث الله نبيه - صلى الله عليه وسلم - في مجتمع انتشرت فيه الأمراض القلبية على اختلافها وتنوعها، وأعظم هذه الأمراض على الإطلاق تعلق القلوب بغير الله، وصرف خالص حقه سبحانه إلى غيره من مخلوقاته، فعالج - صلى الله عليه وسلم - هذا المرض الخطير والداء العضال باستئصاله وتطهير القلوب من أدرانه أولاً، ثم شغلها وعمارتها بحب الله وخوفه ورجائه وإفراده بالعبادة وحده لا شريك له؛ لكونه سبحانه المتفرد بالخلق والإيجاد، فهو بحق المستحق لأن يعبد وحده لا يعبد معه غيره كائنا ما كان.
وقد لقى - صلى الله عليه وسلم - من المشركين في هذا السبيل ألواناً مختلفة من الإيذاء، فصبر حتى ظفر بنصر الله وتأييده، وكانت العاقبة له - صلى الله عليه وسلم - وأنصاره { وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ } ، { وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى } .(1/4)
ولقى أيضاً منهم ألواناً من المعارضة والتعنت أوضحها الله في كتابه العزيز في سورة الحجر والإسراء وغيرهما من سور القرآن، ومن ذلك ما ذكره الله عنهم في سورة (ص) حيث قال - عز وجل -: { أَجَعَلَ الْآَلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ (5) وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آَلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ (6) مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآَخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ (7) أَؤُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا } .
وقد حملهم على هذه المقالة الكبر والحسد، ومثل هذه المقالة التي حكاها الله عن كفار قريش ما ذكره الله سبحانه في سورة القمر عن قوم صالح بقوله: { كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ (23) فَقَالُوا أَبَشَرًا مِنَّا وَاحِدًا نَتَّبِعُهُ إِنَّا إِذًا لَفِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ (24) أَؤُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ } .(1/5)
وأبرز الطرق التي عالج بها - صلى الله عليه وسلم - ذلك الداء الذي هو أعظم الأدواء على الإطلاق إلزام الكفار بأن يفردوا الله بالعبادة لما كانوا معترفين بانفراده سبحانه بالربوبية، وأكتفي بالتمثيل بآيات أوضحت تلك الطريقة غاية الإيضاح، وذلك قوله سبحانه: { آَللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ (59) أَمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ t,ح!#y‰tn ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ (60) أَمْ مَنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (61) أَمْ مَنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (62) أَمْ مَنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (63) أَمْ مَنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } .(1/6)
وبما ذكره الله سبحانه في سورة الحج من التصوير العجيب والتمثيل البليغ لعجز المعبودات التي أشركوها مع الله حيث قال سبحانه: { يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِن الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ (73) مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ } .
ومن الأمراض التي عالجها - صلى الله عليه وسلم - بحكمته الظلم، والجور، وازدراء المساكين، والتفاخر بالأحساب، والأنساب، فنشر فيهم العدل، وعمّهم الاطمئنان والاستقرار، وصار مقياس الفضل بينهم تقوى الله بدلاً من اعتبار ذلك بالحسب والنسب، وقد أعلنها - صلى الله عليه وسلم - صريحة في حجة الوداع في أعظم جمع شهده - صلى الله عليه وسلم - حيث قال: (( ألا لا فضل لعربي على عجمي ولا لأسود على أحمر إلاّ بالتقوى، خيركم عند الله أتقاكم )).
ولما بلغه - صلى الله عليه وسلم - شأن المخزومية التي سرقت أمر بقطع يدها، فراجعه أسامة بن زيد فأنكر - صلى الله عليه وسلم - عليه ذلك وقال - صلى الله عليه وسلم - المقالة التي برهن بها عن مدى تحقيق العدالة: (( وأيم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها )).
وقد أشار - صلى الله عليه وسلم - في جوابه لأسامة بن زيد إلى أن العدول عن العدل سبب هلاك الأمم المتقدمة حيث قال: (( إنما هلك الذين من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد )).(1/7)
ولما قسم - صلى الله عليه وسلم - غنائم حنين وأكثر العطاء للمؤلفة قلوبهم وجد الأنصار - رضي الله عنهم - في أنفسهم شيئاُ؛ إذ لم يصبهم ما أصاب الناس فأتى إليهم - صلى الله عليه وسلم - وقال: (( ألم آتكم ضلالاً فهداكم الله بي؟ وكنتم متفرقين فألفكم بي؛ وعالة فأغناكم الله بي؟ )).
وقد ذكّرهم الله سبحانه في كتابه العزيز بهذه النعمة وأنها من أعظم النعم عليهم فقال: { وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا } ، وقال سبحانه: { وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِن حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ (62) وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } .
هذه بعض الأمراض التي انتشرت قبل بعثته - صلى الله عليه وسلم -، فمنّ الله سبحانه وتعالى على البشرية بإرسال رسوله الكريم محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - لينقلها من ذل عبادة المخلوق إلى عز طاعة الخالق جلّ وعلا، ومن الظلم والجور وسفك الدماء إلى ساحة العدل والأمن والاطمئنان، ومن الفرقة والاختلاف إلى الاجتماع والائتلاف، ومن التعاون على الإثم والعدوان إلى التعاون على البر والتقوى، ومن الأمر بالمنكر والنهي عن المعروف إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومن الغش والخيانة إلى النصح والأمانة، ومن الجزع والهلع والاعتراض على قضاء الله إلى الصبر والثبات والرضى بما قدره الله وقضاه، وفي الجملة: من كل ضار عاجلاً وآجلاً إلى كل نافع في الحال والمآل.(1/8)
وقد أرشد الله سبحانه إلى شكره على ذلك بعبادته وحده لا شريك له في قوله سبحانه: { لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ (1) إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ (2) فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ (3) الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآَمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ (4) } .
اختيار الله لنبيه - صلى الله عليه وسلم -
يقول الله سبحانه: { وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ } هذه الآية الكريمة تدل على أن الله سبحانه وتعالى منفرد بالخلق يقول للشيء الذي أراده: كن فيكون، وتدل ـ أيضاً ـ على أن تلك المخلوقات التي أوجدها من العدم لم يُسَوِّ بينها، بل اختار منها ما شاء، وله الحكمة البالغة، فخصّه بالتفضيل، فقد اختار من أرضه مكة حرسها الله فجعلها مقر بيته الحرام من دخله كان آمناً، وصرف قلوب الناس إليه، وأوجب على المستطيع منهم حجه، وحرم صيده وقطع شجره، وضاعف الأعمال الصالحة فيه، وحذّر من الخروج عن طاعته سبحانه وأشار إلى عقوبة إرادة السوء في الحرم بقوله سبحانه { وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ } .
ويلي ذلك مهاجر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هذه المدينة المباركة، حرّم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قطع شجرها واصطياد صيدها، وأخبر بمضاعفة الصلاة في مسجده بقوله: (( صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام )).(1/9)
واختار سبحانه من الشهور رمضان، ففضله على سائر الشهور، واختار منه ليلة القدر، ففضلها على سائر الليالي، واختار من الأيام يوم عرفة فجعله أفضل الأيام، واختار من أيام الأسبوع يوم الجمعة فجعله أفضلها، واختار من الملائكة جبريل وإسرافيل وميكائيل فوكلهم بأسباب الحياة، واختار من البشر أنبياءه ورسله ـ صلوات الله عليهم أجمعين ـ ففضلهم على غيره، وجعل أفضلهم أولي العزم منهم، واختار الخليلين إبراهيم ومحمداً ـ صلوات الله وسلامه عليهما ـ فجعلهما أفضلهم، وجعل محمداً - صلى الله عليه وسلم - أفضل الخليلين، وأمته خير الأمم، فهو - صلى الله عليه وسلم - إمام المتقين، وسيد المرسلين، وخليل رب العالمين، وخاتم النبيين، أقام الله به الحجة على الثقلين الجن والإنس، وأول قبر ينشق عند النفخ في الصور قبره، ولا يدخل الجنة أحد قبله، واختصه سبحانه بالمقام المحمود الذي يحمده فيه الأولون والآخرون، وهو الشفاعة العظمى في فصل القضاء التي يتخلى عنها أولو العزم من الرسل، كل واحد يقول: نفسي نفسي اذهبوا إلى غيري، حتى تنتهي إليه - صلى الله عليه وسلم - فيقول: أنا لها، ثم يشفع فيشفعه الله، وصدق الله العظيم حيث يقول: { ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ } .
وقد أشار سبحانه في كتابه العزيز إلى اختياره من يشاء بقوله سبحانه: { اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ إِن اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ } .
وقد ثبت في صحيح مسلم وغيره أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (( إن الله اصطفى قريشاً من كنانة واصطفى من قريش بني هاشم واصطفاني من بني هاشم )).
فهو - صلى الله عليه وسلم - بنص هذا الحديث الشريف خلاصة خلاصة خلاصة باعتبار شرف النسب، كما كان خلاصة خلاصة باعتبار الفضل وعلو المنزلة عند الله.
اعتراض المشركين على اختيار الله له - صلى الله عليه وسلم -(1/10)
ولما بعث الله رسوله - صلى الله عليه وسلم - إلى الناس كافة؛ ليهديهم به إلى الصراط المستقيم قابله المشركون بما يستطيعونه من الأذى، والمناوأة، وتأليب الناس عليه، وتحذيرهم منه، فوصفوه بأشنع الأوصاف فقالوا: إنه كاهن، وقالوا: مجنون.
هذا وهم أعلم الناس بماضيه المشرق اوضاء، ولكن الذي حملهم على ذلك الكبر والحسد؛ فقد أخبر الله عنهم في كتابه العزيز أنهم { وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ مَا زَادَهُمْ إِلَّا نُفُورًا (42) اسْتِكْبَارًا فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ } .
وقال سبحانه وتعالى مخبراً عنهم: { وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ } ، إلى أن قال مشيراً إلى حسدهم له - صلى الله عليه وسلم - { أَؤُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا } ، وقال سبحانه وتعالى: { وَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كَافِرُونَ } .
ثم قال مخبراً عن اعتراضهم على الله في اختياره لهذا النبي الكريم - صلى الله عليه وسلم -: { وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآَنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ } ، فأنكر عليهم ذلك وبيّن أن الأمر أمره، والخلق خلقه، والفضل فضله يؤتيه من يشاء، فهو أعلم حيث يجعل رسالته فقال سبحانه: { أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا } .(1/11)
ونظير هذا قوله سبحانه: { وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلَاءِ مَن اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ } ، وقال سبحانه: { وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ (7) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ } ، إلى أن قال: { قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ } ، وقال: { أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آَمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ قَالَ الْكَافِرُونَ إِن هَذَا لَسَاحِرٌ مُبِينٌ } .
وقد روى الحاكم بسند على شرط الشيخين أن أبا جهل قال للنبي - صلى الله عليه وسلم -: إنا لا نكذبك ولكن نكذب ما جئت به. فأنزل الله { قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآَيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ } .
وروي أن الأخنس بن شريق دخل على أبي جهل فقال: (( يا أبا الحكم أخبرني عن محمد أصادق هو أم كاذب فإنه ليس ههنا من قريش غيري وغيرك يسمع كلامنا؟ فقال أبو جهل: ويحك والله إن محمداً لصادق، وما كذب محمد قط، ولكن إذا ذهبت بنو قصي بالسقاية، والحجابة، والنبوة، فماذا يكون لسائر قريش؟.
وقال: تنازعنا نحن وبنو مناف الشرف أطعموا فأطعمنا، وحملوا فحملنا، وأعطوا فأعطينا، حتى إذا تجاثينا على الركب، وكنا كفرسي رهانٍ قالوا: منا نبي ينزل عليه الوحي من السماء، فمتى ندرك هذه، والله لا نؤمن به ولا نصدقه )).(1/12)
وهكذا يبلغ الكبر والحسد بهؤلاء القوم الذين دعاهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى ما فيه سعادتهم في الدنيا والآخرة، حملهم ذلك على تجاهل الحقيقة، وإبداء خلاف المستقر في القلوب، يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم، متبعين في ذلك إمامهم في الضلال والحسد إبليس اللعين حيث فسق عن أمر ربه له بالسجود لآدم؛ كبراً، وحسداً، استناداً منه إلى أنه أفضل منه على زعمه؛ لكونه خُلق من نار وآدم ـ عليه الصلاة والسلام ـ خلق من طين.
امتنان الله سبحانه على الثقلين برسالته - صلى الله عليه وسلم -
من رحمة الله سبحانه بعباده أن أرسل فيهم رسله يبشرون وينذرون كلما ذهب نبي خلفه نبي، حتى ختمهم بنبي الرحمة محمد - صلى الله عليه وسلم -. وفي ذلك يقول سبحانه: { وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ } .
ولقد اختار منهم سيدهم وإمامهم فجعله خاتم النبيين، واختصه بخصائص ومزايا لم يشركه فيها أحد منهم، كما اختص أمته بخصائص ليست لغيرها من الأمم السالفة.
ومن تلك المزايا التي امتاز بها على غيره من المرسلين صلوات الله وسلامه عليه وعليهم أجمعين أن بعثه إلى الأسود والأحمر بل إلى الجن والإنس جميعاً، كما قال سبحانه عن الجن الذين استمعوا لقراءته - صلى الله عليه وسلم - ثم ولوا إلى قومهم منذرن: { يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآَمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (31) وَمَنْ لَا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءُ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ } .(1/13)
وقال - صلى الله عليه وسلم - في الحديث المتفق على صحته: (( أعطيت خمساً لم يعطهن أحد من الأنبياء قبلي )) فذكر من بينها: (( وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة )) ))، وفي ذلك يقول سبحانه: { وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا } ، ويقول: { قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا } .
وقد أوضح ذلك - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الذي رواه مسلم في صحيحه حيث قال: (( والذي نفسي بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أصحاب النار )). قال سعيد بن جبير رحمه الله: (( مصداق ذلك في كتاب الله - عز وجل - قال الله سبحانه: { وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ } .
ولا شك أن أعظم نعمة أنعم الله بها على أهل الأرض هي إرسال هذا النبي الكريم الذي أكمل به الدين، وجعله حجة على الناس أجمعين.
وقد أخبر الله في كتابه العزيز عن إبراهيم وابنه إسماعيل أنهما دعوا الله لأهل الحرم وهما يبنيان البيت بأدعية من بينها { رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } .(1/14)
وقد أجاب الله دعاءهما فبعث في الأميين وفي غيرهم محمداً - صلى الله عليه وسلم - أرسله بالهدى ودين الحق؛ ليظهره على الدين كله، وتلك النعمة العظمى والمنة الجسيمة نوه الله بها في معرض الثناء على نفسه سبحانه في آيات كثيرة منها قوله تعالى: { هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (2) وَآَخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (3) ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ } .
ومنها قوله تعالى: { لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ } .
ومنها قوله: { كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آَيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (151) فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ } .
ومنها قوله سبحانه: { لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ } .(1/15)
وإنما كان إرساله - صلى الله عليه وسلم - إلى الناس أعظم منّة امتنّ بها على عباده لأن في ذلك تخليص مَن وفقه الله وهداه منهم من العذاب السرمدي بسبب الإيمان بالله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - والابتعاد عن الشرك الذي لا يغفره الله كما قال تعالى: { إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ } ، وقال: { إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ } .
التمهيد لبعثته - صلى الله عليه وسلم -
ومن حكمة الله وفضله أن هيأ لنبيه - صلى الله عليه وسلم - قبل أن يبعثه جميع أسباب الشرف والرفعة وعلو المنزلة، ووفر فيه جميع الخصال التي تؤهله للقيام بأعباء الرسالة العظمى، التي اصطفاه واختاره لها - صلى الله عليه وسلم - وفيما يلي أذكر على سبيل المثال بعض تلك الأسباب والخصال، وأبين كيف كانت توطئة وتقدمة لبعثته - صلى الله عليه وسلم -.
أولاً: أن الله سبحانه جعله عريق النسب، كريم المنبت، اصطفاه من أشرف قبائل العرب، قبيلة قريش التي شهد لها غيرها بالسيادة والقيادة.
وهذه سنة الله في رسله كما جاء في سؤال هرقل ملك الروم لأبي سفيان عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: كيف نسبه فيكم؟، قال أبو سفيان: هو فينا ذو نسب. ثم قال هرقل عند ذلك: وكذلك الرسل تبعث في نسب قومها.
وإنما كانت هذه سنة الله في رسله؛ ليسد على أعدائهم باب القدح فيهم والتنقيص لهم، فلا يجد أعداؤهم سبيلاً إلى إلصاق العيوب بهم.
ثانياً: أنه - صلى الله عليه وسلم - نشأ فقيراً يتيماً في كفالة جدّه عبد المطلب ثم عمه أبي طالب.
وذلك من أسباب التواضع والتحلي بالصفات الحميدة والبعد عن الصفات الذميمة كالكبر والظلم وغير ذلك.(1/16)
وقد ذكر الله ذلك منوهاً بتفضله على نبيه - صلى الله عليه وسلم - بإيوائه وإغنائه وهدايته حيث قال سبحانه: { أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآَوَى (6) وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى (7) وَوَجَدَكَ Wxح!%tو فَأَغْنَى } .
ثم أرشده إلى شكر هذه النعمة بأن يعطف على اليتامى والمساكين ويتحدث بنعمة الله عليه، قال: { فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ (9) وَأَمَّا ں@ح!$،،9$# فَلَا تَنْهَرْ (10) وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ } .
وهذه تربية إلهية لنبي الرحمة - صلى الله عليه وسلم - ذكرها الله في كتابه العزيز، تنبيهاً لعباده المؤمنين بأن يحملوا أنفسهم على تلك الصفات الحميدة وغيرها، شكراً لله سبحانه على توفيقه لهم بالهداية بعد الضلالة، والغنى بعد الفقر، وغير ذلك من نعمه عليهم.
والمعنى لا تقهر اليتيم؛ فقد كنت يتيماً تكره أن تقهر، ولا تنهر الفقير؛ فقد كنت فقيراً تكره أن تنهر.
ولا شك أن تذكير الإنسان بنعمة الله عليه من أقوى الأسباب في الإقدام على الخير، والإحجام عن الشر لمن وفقه الله.
ثالثاً: أن الله سبحانه وتعالى أنشأه نشأة صالحة، وأنبته نباتاً حسناً، متحلياً بكل خلق كريم، بعيداً عن كل وصف ذميم، شهد له بذلك موالوه ومعادوه، ولكن من لم يشأ الله هدايته تعامى عن هذا كله، وأظهر خلاف ما يبطنه؛ كبراً وحسداً.
وفي توفيق الله لنبيه - صلى الله عليه وسلم - للاتصاف بالصفات النبيلة، والسلامة من الأخلاق الرذيلة قطع لألسنة أعدائه، وإسكات لهم عن أن يعيروه بأدنى عيب، أو يصفوه بشيء من النقص.
ولهذا لما سأل هرقل ملك الروم أبا سفيان عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: هل يغدر؟ قال: لا. ولم يستطع مع شدة عداوته لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ذلك الوقت أن يقول أكثر من قوله بعد نفي الغدر عنه: (( ونحن منه في مدّة لا ندري ما هو فاعل فيها )).
قال: (( ولم تمكني كلمة أدخل فيها شيئاً غير هذه الكلمة )).(1/17)
وقد تحرز من الكذب؛ خوفاً من ملك الروم، فأعداؤه - صلى الله عليه وسلم - لا يستطيعون وصفه حقيقة بوصف معيب، أما الكذب والافتراء عليه - صلى الله عليه وسلم - فقد قالوا عنه: إنه ساحر، وقالوا عنه: شاعر، وقالوا عنه: كاهن وغير ذلك.
وقد صانه الله سبحانه من ذلك الذي ألصقوه به ومن كل عيب، وأنكر على المشركين افتراءهم وكذبهم عليه، وأخبر بأنه من ذلك براء فقال سبحانه: { فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ (38) وَمَا لَا تُبْصِرُونَ (39) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (40) وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ (41) وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (42) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ } .
وقال: { وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآَنٌ مُبِينٌ (69) لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ } ، وقال تعالى: { وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آَخَرُونَ فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا وَزُورًا } .
رابعاً: أنه - صلى الله عليه وسلم - نشأ أمياً بين أميين لا يقرأ ولا يكتب، ثم جاء من الله بهذا القرآن الذي قال الله فيه: { قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآَنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا } .(1/18)
وفي نشأته - صلى الله عليه وسلم - على هذه الصفة قطع للطريق التي ينفذ منها الكفار إلى تكذيب الرسول - صلى الله عليه وسلم - فيما جاء به عن الله، وأنه من أساطير الأولين قرأها أو كتبها لو كان كذلك، وقد أوضح الله ذلك بقوله: { وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ } . ثم أشار إلى حصول الريبة من أعدائه لو كان قرئاً كاتباً بقوله: { إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ } .
وتلك الطريق التي قطعت عليهم بجعله - صلى الله عليه وسلم - أُمِّياً لا يقرأ ولا يكتب سلكوها كذباً وافتراءً على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مع علمهم التام ببعده - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك، فقد أخبر الله عنهم أنهم قالوا: { إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ } .
ويأبى الله إلاّ أن يتم نوره، ويظهر دينه، فيجيبهم بأن لسان الذي يلحدون إليه أعجمي، وهذا الذي جاءهم به لسان عربي مبين. ولهذا نجد الله سبحانه وتعالى عند إنكاره على قومه - صلى الله عليه وسلم - ما يقومون به من المعارضة والمناوأة له - صلى الله عليه وسلم - يلفت أنظارهم إلى ماضيه المشرق الوضاء، ويُذكِّرهم بعلمهم ومعرفتهم التامة لحركاته، وسكناته ومدخله ومخرجه فيقول سبحانه: { أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ } ، ويقول: { وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآَنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَى إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ } .(1/19)
ثم إنه أمر نبيه - صلى الله عليه وسلم - أن يخبرهم بأنه ليس له إلاّ التبليغ عن الله، وأنه لو شاء الله ما حصلت منه - صلى الله عليه وسلم - تلاوة، ولا حصل لهم علم بذلك، فقال: { قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلَا أَدْرَاكُمْ بِهِ } ، ثم ذكرهم بماضيه قبل إنزال القرآن عليه وما اتصف به من جميل الصفات، وأنه قد بقي فيهم قبل أن يبعثه الله أربعين سنة ملازماً لأسباب الرفعة، بعيداً عن أسباب الضعة والهوان فقال: { فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ } ، ثم أنكر عليهم وصفهم له بالكذب والافتراء مع أنهم أعلم الناس به، وأن ذلك مخالف للفطر والعقول السليمة، فقال: { أَفَلَا تَعْقِلُونَ } .
ثم أخبر بأنه لا أحد أشد ظلماً وأكبر جريمة من اثنين: المفتري على الله، والمكذب بما جاء عن الله، فقال تعالى: { فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآَيَاتِهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ } .
خامساً: ومن الأمور التي حصلت بين يدي بعثته - صلى الله عليه وسلم - توطئة وتمهيداً لها الرؤيا الصالحة في النوم، فكان - صلى الله عليه وسلم - لا يرى رؤيا إلاّ جاءت مثل فلق الصبح كما ثبت في صحيح البخاري وغيره.
سادساً: أنه - صلى الله عليه وسلم - رعى الغنم بمكة، وفي ذلك تمهيد وتهيئة لإرساله إلى الناس كافة ليرشدهم إلى ما ينفعهم في دنياهم وأخراهم، ويحذرهم مما يعود عليهم بالأضرار العاجلة والآجلة.(1/20)
وإنما كان رعيه الغنم بمكة توطئة وتقدمة لبعثته - صلى الله عليه وسلم - لأن هذا العمل مدعاة إلى التحلي بجميل الصفات كالتواضع والسكينة والوقار، مع ما فيه من اشتغال الراعي بالرعية، وبذله الأساب التي تؤدي إلى سلامتها وقوتها فيعتني بها، ويرتاد لها المراعي الخصبة، ويبتعد بها عن الأراضي المجدبة ويحميها من الذئاب، ويسلك بها الطرق السهلة ويحيد بها عن السبل ذات الشدة والوعورة. وهذه سنة الله في رسله كما أخبر بذلك الصادق المصدوق - صلى الله عليه وسلم -.
ولله الحكمة البالغة في ذلك؛ فمزاولة مثل هذا العمل فيه ترويض للنفس، وتهيئة لها للقيام بأعباء الرسالة، فهو بلا شك درس عملي لرسل الله ـ صلوات الله وسلامه عليهم ـ يكسبهم مرونة وخبرة؛ لينتقلوا من تربية الحيوان إلى تربية بني الإنسان.
أخلاقه - صلى الله عليه وسلم -
تعريف الخلق:
الخلق بضم اللام وسكونها الدين، والطبع، والسجية. قاله ابن الأثير في (غريب الحديث).
وفي الاصطلاح يطلق إطلاين: أحدهما أعم من الثاني، فيطلق على الصفة التي تقوم بالنفس على سبيل الرسوخ، ويستحق الموصوف بها المدح أو الذم، ويطلق على التمسك بأحكام الشرع وآدابه فعلاً وتركاً.
ومن الأول قوله - صلى الله عليه وسلم - لأشجِّ عبد القيس: (( إن فيك لخلقين يحبهما الله: الحلم والأناة ))، قال: يا رسول الله أخلقين تخلقت بهما أم جبلت عليهما؟ قال: (( بل جبلت عليهما ))، قال: الحمد لله الذي جبلني على خلقين يحبهما الله.
ومن الثاني قوله - صلى الله عليه وسلم -: (( البر حسن الخلق ))، وقول عائشة ـ رضي الله عنها ـ في تفسير قوله تعالى: { وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ } : (( كان خلقه القرآن )). هذا تعريف الخلق في اللغة والاصطلاح.(1/21)
ننتقل بعده إلى الحديث عن أخلاقه الفاضلة، وسجاياه الحميدة في جميع مراحل حياته - صلى الله عليه وسلم -، فقد كان - صلى الله عليه وسلم - أحسن الناس خلقاً، اجتمع فيه من أوصاف المدح والثناء ما تفرق في غيره، قد صانه الله سبحانه وحفظه من أدنى وصف يعاب صاحبه، كل ذلك حصل له من ربه فضلاً ومنّة قطعاً لألسنة أعدائه الذين يتربصون به، ويقفون في طريق دعوته، مؤذين له، محذرين منه، أحب شيء إليهم تحصيل شيء يعيبون به وأنى لهم ذلك.
فقد نشأ - صلى الله عليه وسلم - من أول أمره إلى آخر لحظة من لحظاته متحلياً بكل خلق كريم، مبتعداً عن كل وصف ذميم، فهو أعلم الناس، وأنصحهم، وأفصحهم لساناً، وأقواهم بياناً، وأكثرهم حياءً، يضرب به المثل في الأمانة والصدق والعفاف، أدبه الله فأحسن تأديبه، فكان أرجح الناس عقلاً، وأكثرهم أدباً، وأوفرهم حلماً، وأكملهم قوة وشجاعة، وأصدقهم حديثاً، وأوسعهم رحمة وشفقة، وأكرمهم نفساً، وأعلاهم منزلة.
وبالجملة فكل خلق محمود يليق بالإنسان فله - صلى الله عليه وسلم - منه القسط الأكبر، والحظ الأوفر. وكل وصف مذموم فهو أسلم الناس منه، وأبعدهم عنه، شهد له بذلك العدو والصديق.
وفيما يلي أورد بعض الشهادات التي شهد له بها الموالون والمعادون، الدالة دلالة بينة على تمسكه بالأخلاق الحسنة قبل أن يبعثه الله تعالى وذلك معلوم من الدين بالضرورة:
1- شهادة خديجة رضي الله عنها: لما اوحى الله إلى نبيه - صلى الله عليه وسلم - في غار حراء لأول مرّة ورجع إلى خديجة ـ رضي الله عنها ـ أخبرها الخبر وقال: (( لقد خشيت على نفسي )).
فقالت له ـ رضي الله عنها ـ: (( كلاّ والله ما يخزيك الله أبداً؛ إنك لتصل الرحم، وتحمل الكلَّ، وتكسب المعدوم وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق )). رواه البخاري.(1/22)
2- شهادة كفار قريش عند بنائهم الكعبة: ولما قامت قريش ببناء الكعبة قبل بعثة محمد - صلى الله عليه وسلم - تنازعوا في رفع الحجر الأسود إلى مكانه، واتفقوا على تحكيم أول من يدخل عليهم الباب، فكان أول داخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ففرحوا جميعاً، وقالوا: جاء الأمين، جاء محمد. وقد كانوا يلقبونه بلقب الأمين؛ لما يعلمونه من أمانته - صلى الله عليه وسلم -.
3- شهادة كفار قريش بصدقه - صلى الله عليه وسلم -: ثبت في صحيح البخاري أنه - صلى الله عليه وسلم - لما نزل عليه { وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ } صعد إلى الصفا، فجعل ينادي يا بني فهر، يا بني عدي ـ لبطون قريش ـ حتى اجتمعوا، فجعل الرجل إذا لم يستطع أن يخرج أرسل رسولاً لينظر ما هو، فجاء أبو لهب وقريش فقال: (( أرأيتم لو أخبرتكم أن خيلاً بالوادي تريد أن تغير عليكم أكنتم مصدقيَّ؟ )). قالوا: نعم، ما جربنا عليك إلا صدقاً. قال: (( فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد )). فقال أبو لهب: تبّاً لك ألهذا جمعتنا؟.
4- شهادة أبي جهل بصدقه - صلى الله عليه وسلم -: تقدم الحديث الذي رواه الحاكم بسند على شرط الشيخين أن أبا جهل قال للنبي - صلى الله عليه وسلم -: إنا لا نكذبك لكن نكذب ما جئت به، فأنزل الله: { قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآَيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ } .
ولما قال له الأخنس بن شريق: يا أبا الحكم أخبرني عن محمد أصادق هو أم كاذب؟ فقال: ويحك والله إن محمداً صادق وما كذب محمد قط إلخ.(1/23)
5- شهادة أبي سفيان بين يدي هرقل ملك الروم بصدق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ووفائه: فقد روى البخاري في صحيحه عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ أن أبا سفيان ابن حرب أخبره أن هرقل أرسل إليه في ركب من قريش، وكانوا ذهبوا إلى الشام، لأجل التجارة في المدّة التي كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مادّ فيها أبا سفيان وكفار قريش، فأتوه بإيليا فدعاهم في مجلسه وحوله عظماء الروم، ثم دعاهم ودعا بترجمانه فقال: أيكم أقرب نسباً بهذا الذي يزعم أنه نبي؟ فقال أبو سفيان: فقلت: أنا أقربهم نسباً. فقال: أدنوه مني وقربوا أصحابه فاجعلوهم عند ظهره، ثم قال لترجمانه: قل لهم إني سائل عن هذا الرجل فإن كذبني فكذبوه، فوالله لولا الحياء من أن يأثروا عليَّ كذباً لكذبت عليه، ثم كان أول ما سألني عنه أنه قال: كيف نسبه فيكم؟ قلت: هو فينا ذو نسب، قال: فهل قال هذا القول أحد منكم قط قبله؟ قلت: لا، قال: فهل كان من آبائه من ملك؟ قلت: لا، قال: فأشراف الناس يتبعونه أم ضعفاؤهم؟ قلت: بل ضعفاؤهم، قال: أيزيدون أم ينقصون؟ قلت: بل يزيدون، قال: فهل يرتد أحد منهم؛ سخطة لدينه بعد أن يدخل فيه؟ قلت: لا، قال: فهل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ قلت: لا، قال: فهل يغدر؟ قلت: لا، ونحن منه في مدّة لا ندري ما هو فاعل فيها، قال: ولم تمكني كلمة أدخل فيها شيئاً غير هذه الكلمة، قال: فهل قاتلتموه؟ قلت: نعم، قال: فكيف كان قتالكم إياه؟ قلت الحرب بيننا وبينه سجال، ينال منّا وننال منه، قال: بماذا يأمركم؟ قلت: يقول اعبدوا الله وحده ولا تشركوا به شيئاً، واتركوا ما يقول آباؤكم، ويأمرنا بالصلاة، والصدق، والعفاف، والصلة. فقال للترجمان: قل له: سألتك عن نسبه فذكرت أنه فيكم ذو نسب؟ فكذلك الرسل تبعث في نسب قومها، وسألتك هل قال أحد منكم هذا القول قبله قط؟ فذكرت أنْ لا، قلت: فلو كان أحد قال هذا القول قبله لقلت رجل يأتسي بقول قيل قبله، وسألتك(1/24)
هل كان في آبائه من ملك؟ فذكرت أنْ لا، قلت: فلو كان من آبائه من ملك لقلت رجل يطلب ملك أبيه، وسألتك هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ فذكرت أنْ لا، قلت: لم يكن ليذر الكذب على الناس ويكذب على الله، وسألتك أشراف الناس اتبعوه أم ضعفاؤهم؟ فذكرت أن ضعفاءهم اتبعوه وهم أتباع الرسل، وسألتك أيزيدون أم ينقصون؟ فذكرت أنهم يزيدون، وكذلك أمر الإيمان حتى يتم، وسألتك أيرتدّ أحد سخطة لدينه بعد أن يدخل فيه؟ فذكرت أن لا، وكذلك الإيمان حين تخالط بشاشته القلوب، وسألتك هل يغدر؟ فذكرت أن لا، وكذلك الرسل لا تغدر، وسألتك بماذا يأمركم؟ فذكرت أنه يأمركم أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً، وينهاكم عن عبادة الأوثان، ويأمركم بالصلاة والصدق والعفاف، فإن كان ما تقول حقاً فسيملك موضع قدمي هاتين، وقد كنت أعلم أنّه خارج ولم أكن أظنّ أنّه منكم، فلو أني أعلم أني أخلص إليه لتجشمت لقاءه، ولو كنت عنده لغسلت عن قدميه. ثم دعا بكتاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذي بعث به إليه مع دحية بن خليفة الكلبي فقرأه، قال أبو سفيان: فلما قال ما قال، وفرغ من قراءة الكتاب كثر عنده الصخب، وارتفعت الأصوات فأخرجنا، فقلت لأصحابي حين أخرجنا: لقد أمر أمر ابن أبي كبشة؛ أنه ليخافه ملك بني الأصفر، فما زلت موقناً أنه سيظهر حتى أدخل الله عليَّ الإسلام )).
ففي هذه القصة آيات بينات، ودلالات واضحات على نبوته - صلى الله عليه وسلم -، وأنه - صلى الله عليه وسلم - صادق فيما جاء به، ومحل الشاهد من القصة شهادة أبي سفيان بن حرب وهو من أشد أعدائه في ذلك الوقت على اتصاف الرسول - صلى الله عليه وسلم - قبل أن يبعثه الله بالصدق وأنهم لا يتهمونه بالكذب، وبالوفاء وأنه لا يغدر.(1/25)
6- شهادة السائب المخزومي له - صلى الله عليه وسلم - بحسن المعاملة والرفق قبل النبوة: روى أبو داود وغيره أن السائب المخزومي كان شريك النبي - صلى الله عليه وسلم - قبل البعثة فجاء يوم الفتح فقال: (( مرحباً بأخي وشريكي لا تداري ولا تماري )).
وفي لفظ أنه قال للنبي - صلى الله عليه وسلم -: (( كنت شريكي في الجاهلية فكنت خير شريك لا تداري ولا تماري )).
وفي لفظ: (( كنت شريكي ونعم الشريك، كنت لا تداري ولا تماري )).
7- شهادة عبد الله بن سلام - رضي الله عنه - بصدقه - صلى الله عليه وسلم -: روى أحمد وأصحاب السنن عن عبد الله بن سلام - رضي الله عنه - قال: (( لما قدم النبي - صلى الله عليه وسلم - المدينة كنت ممن انجفل، فلما تبيَّنْتُ وجهه عرفت أن وجهه ليس بوجه كذّاب، فسمعته يقول: (( أفشوا السلام وأطعموا الطعام، وصلوا الأرحام، وصلوا بالليل والناس نيام، تدخلوا الجنّة بسلام )).(1/26)
8- شهادة مكرز بن حفص بن الأحنف له - صلى الله عليه وسلم - بالوفاء في جميع مراحل حياته: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عام الحديبية قد أبرم صلحاً بينه وبين قريش على أن يرجع ويعتمر من العام المقبل، ومن الشروط التي اشترطتها قريش على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يدخل مكة بسلاح الراكب فقط (السيوف المغمدة)، فلما قدم - صلى الله عليه وسلم - في عمرة القضاء استعدّ بالخيل والسلاح لا ليدخل بها الحرم، وإنما لتكون في متناول يده لو نكثت قريش، وعندما قرب - صلى الله عليه وسلم - من الحرم بعث بها إلى يأجج وكان خبر ذلك السلاح قد بلغ قريشاً، فبعثت مكرز بن حفص بن الأحنف في نفر من قريش إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالوا: يا محمد، ما عرفت صغيراً ولا كبيراً بالغدر تدخل بالسلاح في الحرم على قومك، وقد شرطت لهم أن لا تدخل إلاّ بسلاح المسافر، فقال - صلى الله عليه وسلم -: (( إني لا أدخل عليهم بالسلاح وقد بعثنا به إلى يأجج )). فقال مكرز: بهذا عرفناك بالبر والوفاء.
أخلاقه - صلى الله عليه وسلم - في القرآن
تفضل الله تعالى على خليله محمد - صلى الله عليه وسلم - بتوفيقه للاتصاف بمكارم الأخلاق، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم، ثم أثنى عليه ونوّه بذكر ما يتحلى به من جميل الصفات في آيات كثيرة من كتاب الله العزيز، أقتصر على إيراد بعضها فمن ذلك قوله تعالى: { وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ } .
فقد أخبر سبحانه في هذه الآية الكريمة عما كان عليه المصطفى من أخلاق فاضلة، ووصف خلقه - صلى الله عليه وسلم - بأنه عظيم، وأكد ذلك بثلاثة أشياء: بالإقسام عليه بالقلم وما يسطرون، وتصديره بإن وإدخال اللام على الخبر، وكلها من أدوات تأكيد الكلام.(1/27)
وذلك الخلق العظيم الذي كان عليه - صلى الله عليه وسلم - ورد تفسيره عن السلف الصالح بعبارات متقاربة، ففسره ابن عباس - رضي الله عنه - بأنه الدين العظيم وهو دين الإسلام، وبهذا التفسير فسره ـ أيضا ـ مجاهد، والسدي، والربيع بن أنس، والضحاك، وغيرهم.
وفسره الحسن بأنه آداب القرآن.
وفي الصحيحين وغيرهما عن عائشة رضي الله عنها أنها سئلت عن خلقه - صلى الله عليه وسلم - فقالت: (( كان خلقه القرآن )).
ومعنى ذلك أن امتثال ما أمره الله به واجتناب ما نهاه عنه في القرآن صار له خلقا وسجية.
وقد أشارت عائشة رضي الله عنها إلى ما يوضح هذا المعنى في حديث آخر متفق على صحته وهو أنها قالت: (( كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول في ركوعه: سبحانك اللهم وبحمدك اللهم اغفر لي )) يتأول القرآن.
أي كان يدعو بهذا الدعاء امتثالا لما أمره الله به في سورة النصر في قوله: { فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ } .
وقد نوّه سبحانه بما جبل نبيه - صلى الله عليه وسلم - عليه من الرحمة والرأفة بالمؤمنين، والحرص على ما ينفعهم في دنياهم وأخراهم، والتألم من كل ما يشق عليهم بقوله سبحانه ممتنا على المؤمنين بإرساله: { لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ } .
وقال: { الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ } .
وقال: { وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ } .(1/28)
وأشار سبحانه إلى ما اتصف به - صلى الله عليه وسلم - من اللطف والرفق بأمته بقوله تعالى: { فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ } .
أما ما اتصف به - صلى الله عليه وسلم - من النصح والأمانة والقيام بأداء الرسالة على الوجه الذي أراده الله فقد ذكره سبحانه بقوله: { وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى (1) مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى (2) وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى } .
ويقول تعالى ـ يعني محمدا - صلى الله عليه وسلم - ـ: { وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ } .
وفيها قراءتان بالظاء والمراد به المتهم، وبالضاد والمراد به البخيل، وكلا هذين منفي عنه - صلى الله عليه وسلم - فليس هو بمتهم بكتمان ما أرسله الله به، وليس ببخيل بما أنزل الله عليه بل يبذله لكل أحد.
أخلاقه - صلى الله عليه وسلم - في سنته وأقوال صحابته - رضي الله عنهم -
كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قبل أن يبعثه الله بالرسالة العظمى في الذروة العليا من الأخلاق الحسنة صدقا، وأمانة، وكرما، وحلما، وشجاعة، وعفة، وقناعة، وغير ذلك من الصفات التي يحظى بالإجلال والإكبار مَنْ حصل على واحدة منها فضلا عمن جمعت له، وتوفرت فيه.
ولما بعثه الله سبحانه بالنور والهدى إلى الثقلين الجن والإنس زاده الله قوة في هذه الخصال الحميدة إلى قوته حتى بلغ الحد الأعلى الذي لا يمكن أن يصل إليه إنسان.
وصدق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حيث قال: (( إنما بعثت لأتم صالح الأخلاق )).(1/29)
وقد نوه الله سبحانه بتفضله وامتنانه على نبيه وخليله محمد - صلى الله عليه وسلم - في آيات كثيرة كقوله: { وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ ×pxےح!$©غ مِنْهُمْ أَن يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا } .
وقوله: { وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (52) صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ } .
وقوله: { إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا (1) لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (2) وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا } .
وقد اختار سبحانه لنبيه - صلى الله عليه وسلم - أصحابا هم خير هذه الأمة المحمدية التي هي خير الأمم، وقفوا حياتهم في سبيل تبليغ دعوته، وحفظ سنته تحقيقا لقوله تعالى: { إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ } .(1/30)
ورثوا عن نبيهم - صلى الله عليه وسلم - ما جاء به من الحق وَوَرَّثوه لمن جاء بعدهم ، حتى هيأ الله له رجالا قاموا بتدوينه، منهم بل على رأسهم الإمامان الجليلان البخاري ومسلم وغيرهما من المحدثين، فقد أفنوا أعمارهم ـ جزاهم الله خير الجزاء ـ في تقييد تلك الدرر الثمينة التي ورثوها عن نبيهم محمد - صلى الله عليه وسلم - بواسطة السلاسل الذهبية المتصلة بأمثال مالك، ونافع، وشعبة، وأحمد، وعلي بن المديني، وغيرهم من خيار هذه الأمة.
وهذه الدرر الثمينة التي توارثوها ـ ونعم الإرث هي ـ تشمل أقواله - صلى الله عليه وسلم - وأفعاله وتقريراته، وبيان خلقه، وأخلاقه.
ولهذا يعرِّف المحدثون الحديث: بأنه ما أضيف إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - من قول، أو فعل، أو تقرير، أو وصف خَلْقي أو خُلُقي.
ولقد اعتنى هؤلاء الورثة الكرام بتدوين ما جاءهم عن نبيهم - صلى الله عليه وسلم - على سبيل العموم، وبما يتعلق بأخلاقه ومزاياه على سبيل الخصوص، فمنهم من أفرد ذلك بالتأليف، ومنهم من عقد له أبوابا خاصة ضمن المؤلفات العامة أورد فيها ما يتصل بخوفه - صلى الله عليه وسلم - ورجائه، وخشيته لربه، وجوده وإيثاره، وحيائه، ووفائه وصدقه، وأمانته، وإخلاصه، وشكره، وصبره، وحلمه، وكثرة احتماله، ورفقه بأمته، وحرصه على التيسير عليها، وعفوه، وشجاعته، وتواضعه، وعدله، وزهده، وقناعته، وصلته لرحمه، وكثرة تبسمه، وعفته، وغيرته، إلى غير ذلك من آحاد حسن خلقه - صلى الله عليه وسلم -.
تفصيل القول في أخلاقه - صلى الله عليه وسلم -
وهذه الأخلاق التي أشرت إلى بعض آحادها يحتاج تفصيلها وبسط القول فيها إلى عدة محاضرات.
أما المحاضرة الواحدة فلا تكفي إلا للإشارة إلى بعض تلك الأخلاق والمزايا الحميدة التي أوتيها - صلى الله عليه وسلم -.
1- جوده وكرمه - صلى الله عليه وسلم - :(1/31)
وقد بلغ - صلى الله عليه وسلم - في خلق الجود والكرم مبلغا لم يبلغه غيره، وصل فيه إلى الغاية التي ينتهي عندها الكمال الإنساني.
ومن توفيق الله له - صلى الله عليه وسلم - أن جعل جوده يتضاعف في الأزمنة الفاضلة، يقول ابن عباس - رضي الله عنه - في الحديث الصحيح: (( كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أجود الناس، وكان أجود ما يكون في شهر رمضان حين يلقاه جبريل وكان يلقاه في كلّ ليلة من رمضان فيدارسه القرآن فلرسول الله - صلى الله عليه وسلم - أجود بالخير من الريح المرسلة )) .
جاد بنفسه في سبيل الله، فكسرت رباعيته، وشجّ وجهه، وسال الدم منه - صلى الله عليه وسلم - والجود بالنفس أقصى غاية الجود، وجاد بجاهه، ومن أمثلة ذلك شفاعته - صلى الله عليه وسلم - لمغيث زوج بريرة رضي الله عنهما، لما عتقت واختارت فراقه أشار عليها أن تبقى في عصمته؛ رحمة منه - صلى الله عليه وسلم - بزوجها مغيث.
وأخص الأمثلة في ذلك ما أخبر - صلى الله عليه وسلم - من شفاعته في أهل الموقف التي يتخلى عنها أولو العزم من الرسل، فتنتهي إليه فيقول أنا لها - صلى الله عليه وسلم -.
وقد صح عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (( لكل نبي دعوة مستجابة قد دعا بها فاستجيب له فجعلت دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة )).
وجاد - صلى الله عليه وسلم - بما أعطاه الله من المال، فما سئل - صلى الله عليه وسلم - شيئا من الدنيا قط فقال لا.
ولقد جاءت إليه - صلى الله عليه وسلم - امرأة ببردة منسوجة فقالت: نسجتها بيدي؛ لأكسوكها فأخذها - صلى الله عليه وسلم - محتاجا إليها ولبسها.
فقال له رجل من الصحابة أكسنيها يا رسول الله، فقال - صلى الله عليه وسلم -: نعم، فدخل منزله فطواها، وبعث بها إليه، فقال له بعض الصحابة: ما أحسنت؛ لبسها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - محتاجا إليها ثم سألته وعلمت أنه لا يرد سائلا.
فقال: إني والله ما سألته لألبسها إنما سألته لتكون كفني.(1/32)
قال سهل بن سعد - رضي الله عنه - : فكانت كفنه.
هذا مثل من أمثال اتصافه - صلى الله عليه وسلم - بهذا الخلق الكريم، فهل بعد هذا كرم يصدر من مخلوق؟ وهل وراء هذا الإيثار إيثار؟.
ولقد وصف الله الأنصار في كتابه العزيز بصفة الإيثار في قوله: { وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ } .
وهذه الصفة الكريمة التي اتصفوا بها؛ أسوتهم فيها وفي غيرها من مكارم الأخلاق سيد ولد آدم - صلى الله عليه وسلم -، يقول سبحانه: { لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ } .
ولما رجع من حنين التف الأعراب يسألونه حتى اضطروه إلى سمرة فخطفت رداءه فوقف النبي - صلى الله عليه وسلم - وقال: (( أعطوني ردائي فلو كان لي عدد هذه العضاه نعما لقسمتها بينكم ثم لا تجدوني بخيلا ولا كذابا ولا جبانا )) .
وجوده - صلى الله عليه وسلم - في العطاء لبعض الناس إنما هو لتأليفهم على الإسلام، فكثيرا ما كان يخص حديثيّ العهد بالإسلام بوافر العطاء دون من تَمكَّن الإيمانُ في نفوسهم، ففي غزوة حنين أعطى أكابر قريشٍ المئاتِ من الإِبل، ومنهم صفوان بن أمية، فقد روى مسلم في صحيحه أنه قال: لقد أعطاني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما أعطاني، وإنه لأبغض الناس إلىَّ، فما برح يعطيني حتى إنه مِنْ أحب الناس إليَّ.
وروى ـ أيضا ـ عن أنس - رضي الله عنه - قال: (( ما سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على الإِسلام شيئاً إلا أعطاه، ولقد جاءه رجل فأعطاه غنماً بين جبلين، فرجع إلى قومه فقال: يا قوم أسلموا فإن محمدًا يعطي عطاء من لا يخشى الفقر.
وإن كان الرجل ليسلم ما يريد إلا الدنيا فما يلبث إلا يسيراً حتى يكون الإسلام أحب إليه من الدنيا وما عليها )).
أعطى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذلك الرجل تلك الغنم الكثيرة التي لكثرتها ملأت ما بين جبلين، وماذا كانت نتيجة هذا الإعطاء من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟.(1/33)
لقد كانت حصول الغرض الذي من أجله أعطاه، وهي أنه أصبح داعية لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - لقد كان بدافع من نفسه رسولاً لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى قومه يدعوهم إلى الإسلام ويبين لهم كرم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنه يعطي عطاء من لا يخشى الفقر.
وهكذا كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يبذل المال في سبيل نصرة الإِسلام، والدعوة إليه، والترغيب فيه ينفق مال الله الذي آتاه في سبيل الله حتى توفاه الله، ودِرْعُه مرهونة في دين عليه - صلى الله عليه وسلم -.
2- تواضعه - صلى الله عليه وسلم - وقربه من الناس:
ولم يحصل لأحد من البشر ما حصل لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - من توفر صفات الكمال وبلوغ الحد الأعلى والغاية القصوى التي يمكن أن يبلغها إنسان، فكان - صلى الله عليه وسلم - مضربَ المثل في الكمال الإنساني، والسمو الخلقي قبل البعثة وبعدها.
وقد خصه الله بخصائص، وميّزه بميزات امتاز بها عن البشر في الدنيا والآخرة، فجعله أفضل المرسلين الذين هم خير البشر، وجعله خاتمهم، وسيدهم، وإمامهم، وأولهم خروجاً من القبر، وأولهم تقدماً للشفاعة، وأولهم مشفعا.
وقال - صلى الله عليه وسلم - متحدثا بنعمة الله عليه، ومبينا للأمة منزلته عند الله، ليعتقدوا ذلك، ولينزلوه المنزلة اللائقة به - صلى الله عليه وسلم - من الإجلال، والتعظيم، والمحبة، والمتابعة، قال: (( أنا سيد ولد آدم يوم القيامة، وأول من ينشق عنه القبر، وأول شافع، وأول مشفع )) رواه مسلم وأبو داود عن أبي هريرة - رضي الله عنه -.
ومع هذه الخصائص والميزات التي سَمَى بها إلى منزلة لا يساويه فيها غيره من أولو العزم من الرسل ـ فضلا عمن سواهم ـ كان - صلى الله عليه وسلم - أشدَّ الناس تواضعاً، وأقربهم إلى الضعيف والمسكين، وأبعدهم عن الكبر والترفع.(1/34)
ولما بيّن - صلى الله عليه وسلم - لأمته بعض ما خصه الله به بقوله: (( أنا سيد ولد آدم )) أضاف إلى ذلك ما يبرئ ساحته من الفخر ـ وحاشاه من كل نقص ـ فقال:
(( ولا فخر )) أخرجه الترمذي وابن ماجه والإمام أحمد من حديث أبي سعيد - رضي الله عنه -، وقال الترمذي: حديث حسن صحيح.
إنما أخبر - صلى الله عليه وسلم - بمنزلته عند الله، لأنه لا سبيل للأمة إلى معرفة ذلك إلا بواسطته، والتلقي عنه - صلى الله عليه وسلم - إذ لا نبي بعده يخبر عن عظم منزلته عند الله كما أخبر هو أمته بفضائل الأنبياء قبله، صلوات الله وسلامه وبركاته عليهم أجمعين.
ولما خُيِّرَ - صلى الله عليه وسلم - بين أن يكون عبداً رسولاً أو نبيا ملكاً اختار مقام العبودية والرسالة على مقام النبوة والملك، أخرجه الإمام أحمد في المسند.
وروى البيهقي عن أنس - رضي الله عنه - قال: (( دخل رسول الله ـ - صلى الله عليه وسلم - ـ مكة يوم الفتح وذقنه على راحلته متخشعاً )) .
وروى ابن إسحاق في السيرة: (( أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليضع رأسه؛ تواضعاً حين رأى ما أكرمه الله به من الفتح حتى أن عثنونه ليكاد يمس واسطة الرحل )) .
وقال ابن كثير: (( وهذا التواضع في هذا الموطن عند دخوله - صلى الله عليه وسلم - مكة في مثل الجيش العرمرم بخلاف ما اعتمده سفهاء بني إسرائيل حين أمروا أن يدخلوا باب بيت المقدس وهم سجود ـ أي رُكَّع ـ يقولون: حطة، فدخلوا يزحفون على أستاتهم وهم يقولون: حنطة في شعرة )) .
وروى البخاري في صحيحه عن أنس - رضي الله عنه - قال: (( كانت الأمَةُ من إماء أهل المدينة لتأخذ بيد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فتنطلق به حيث شاءت )) .
وروى مسلم في صحيحه عن أنس - رضي الله عنه - أن امرأة كان في عقلها شيء فقالت: يا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إن لي إليك حاجة.(1/35)
فقال: (( يا أم فلان انظري أي السكك شئت حتى أقضي لك حاجتك، فخلا معها في بعض الطرق حتى فرغت عن حاجتها )) .
وفي صحيح البخاري عن الأسود قال: (( سألت عائشة ما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يصنع في أهله؟ قالت: كان في مهنة أهله فإذا حضرت الصلاة قام إلى الصلاة )) .
وروى البخاري في صحيحه عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (( لو دعيت إلى ذراع أو كراع لأجبت، ولو أهدي إليَّ ذراع أو كراع لقبلت، وكان - صلى الله عليه وسلم - إذا مرَّ بالصبيان سلم عليهم )) .
وروى مسلم في صحيحه عن شعبة عن سيار قال: (( كنت أمشي مع ثابت البناني؛ فمر بصبيان فسلم عليهم.
وحدث ثابت أنه كان يمشي مع أنس فمر بصبيان فسلم عليهم.
وحدث أنس أنه كان يمشي مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فمر بصبيان فسلم عليهم )).
وكان - صلى الله عليه وسلم - يخالط أصحابه، ويداعب الصبي الصغير، يقول أنس - رضي الله عنه - فيما رواه عنه البخاري في الصحيح: إن كان النبي - صلى الله عليه وسلم - ليخالطنا حتى يقول لأخ لي صغير: (( يا أبا عمير ما فعل النغير؟ )).
وفي رواية أخرى عنه قال: (( كان النبي - صلى الله عليه وسلم - أحسن الناس خلقاً وكان لي أخ يقال له أبو عمير، قال أحسبه فطيماً، وكان إذا جاء قال: (( يا أبا عمير ما فعل النغير )) نغير كان يلعب به )) .
وفي الصحيحين عن أنس - رضي الله عنه - قال: (( خدمت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عشر سنين فما قال لي: أف، ولا لم صنعت؟ ولا أصنعت؟ )) .
وكان - صلى الله عليه وسلم - يركب الدواب، ويردف بعض أصحابه وراءه عليها، وكان - صلى الله عليه وسلم - يرشد أمته إلى التحلي بصفة التواضع، ويرغبهم في التخلق بها.
ومما قاله - صلى الله عليه وسلم - في ذلك: (( وما تواضع أحد لله إلا رفعه الله )) رواه مسلم.(1/36)
وهو - صلى الله عليه وسلم - سيد المتواضعين وأسوتهم، وقد رفعه الله إلى أعلى الدرجات، رفع قدره، وأعلى منزلته، وخلد ذكره .
ومع هذا التواضع والخلق العظيم الذي تفضل الله به على عبده ورسوله وخليله محمد - صلى الله عليه وسلم - كان أصحابه - رضي الله عنهم - لا يملؤون أعينهم بالنظر إليه - صلى الله عليه وسلم -؛ إجلالا واحتراما له - صلى الله عليه وسلم -.
يقول عمرو بن العاص - رضي الله عنه - في حديث له أخرجه مسلم في صحيحه : (( وما كان أحد أحب إليَّ من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا أجل في عيني منه ؛ وما كنت أطيق أن أملأ عيني منه، إجلالا له، ولو سئلت أن أصفه ما أطقت؛ لأني لم أكن أملأ عيني منه )) .
3- رحمته - صلى الله عليه وسلم - بأمته ورفقه بها وشفقته عليها:
وبفضل الله ورحمته عليه - صلى الله عليه وسلم - كان رحيما رفيقا كما قال الله تعالى مخاطبا إياه: { فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ } .
فلم يحصل لأحد من البشر ما حصل لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الاتصاف بالرحمة والرفق، لا يقاربه في ذلك أحد ولا يدانيه.
فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن أعرابيا بال في طائفة المسجد، فثار إليه الناس؛ ليقعوا فيه، فقال لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (( دعوه واهريقوا على بوله ذنوبا من ماء أو سجلا من ماء؛ فإنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين )) أخرجه البخاري وغيره.
وفي صحيح البخاري عن أبي مسعود - رضي الله عنه - قال: أتى رجل النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: إني لأتأخر عن صلاة الغداة من أجل فلان مما يطيل بنا، قال فما رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - قط أشد غضبا في موعظة منه يومئذ.
قال: فقال: (( يا أيها الناس إن فيكم منفرين، فأيكم ما صلى بالناس فَلْيَتَجَوَّزْ؛ فإن فيهم الكبير والمريض وذا الحاجة )) .(1/37)
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (( إذا صلى أحدكم فيخفف؛ فإن فيهم الضعيف، والسقيم، والكبير، وإذا صلى أحدكم لنفسه فَلْيُطَوِّل ما شاء )) .
وعن أبي قتادة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (( إني لأقوم في الصلاة أريد أن أطوِّل فيها، فأسمع بكاء الصبي، فأَتَجَوَّزْ في صلاتي؛ كراهية أن أشق على أمه )) .
وعن أنس - رضي الله عنه - قال: ما صليت وراء إمام قط أخف صلاة ولا أتم من النبي - صلى الله عليه وسلم - وإن كان ليسمع بكاء الصبي فيخفف؛ مخافة أن تفتن أمه.
وعن أبي قتادة - رضي الله عنه - قال: (( خرج علينا النبي - صلى الله عليه وسلم - وأمامة بنتُ العاص على عاتقه، فصلى فإذا ركع وضعها وإذا رفع رفعها )) .
وقال - صلى الله عليه وسلم -: (( لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة )) .
وهذه الأحاديث كلها في صحيح البخاري.
ولما قام - صلى الله عليه وسلم - بأصحابه ليلا يصلي بهم في رمضان خشي أن يفرض عليهم فترك الصلاة بهم.
ففي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى في المسجد، فصلى بصلاته ناس ثم صلى الثانية فكثر الناس، ثم اجتمعوا من الليلة الثالثة أو الرابعة فلم يخرج إليهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلما أصبح قال: (( رأيت الذي صنعتم فلم يمنعني من الخروج إليكم إلا أني خشيت أن تفترض عليكم وذلك في رمضان )) .
وفي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها قالت: (( إن كان النبي - صلى الله عليه وسلم - لَيَدَعُ العمل وهو يحب أن يعمل به؛ خشية أن يعمل به الناس، فيفرض عليهم، ولما واصل - صلى الله عليه وسلم - في صيامه وعلم الصحابة رضوان الله عليهم ذلك واصلوا معه، فنهاهم عن الوصال؛ إشفاقا عليهم، قالوا: فإنك تواصل، قال: (( إني لست كهيئتكم )) .(1/38)
في الصحيحين عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الوصال في الصوم فقال له رجل من المسلمين: إنك تواصل يا رسول الله قال: (( وأيكم مثلي، إني أبيت يطعمني ربي ويسقيني )) .
فلما أبوا أن ينتهوا عن الوصال واصل بهم يوما، ثم رأوا الهلال فقال: (( لو تأخر لزدتكم )) كالتنكيل لهم حين أبوا أن ينتهوا.
فإنه - صلى الله عليه وسلم - نهاهم عن الوصال؛ رحمة بهم وشفقة عليهم فلما راجعوه في ذلك؛ رغبة منهم في موافقته واصل بهم وكان آخر الشهر يوما، ثم يوما، ثم رأوا الهلال وقال: لو تأخر لزدتكم كالتنكيل لهم حين أبوا أن ينتهوا.
وهذا منه - صلى الله عليه وسلم - إرشاد عملي وتأديب نبوي للصحابة الكرام - رضي الله عنهم - ليوقفهم على ضعفهم، وأن الوصال يشق عليهم، فيبتعدوا عنه من تلقاء أنفسهم.
وهذا تأديب النبوي يشبهه ما لو رأى والد وَلَدَه يحاول العبث بالنار فيعمل على تجنيبه ضررها بأن يأخذ بيده، ويضع أصبعه برفق على طرف جمرة منها ليدرك مدى ضررها، فيكون حَذِرا منها؛ ويبتعد عن الوقوع فيها، لأن والده قد أوقفه على مدى ضررها.
وفي صحيح مسلم من حديث معاوية بن الحكم السلمي - رضي الله عنه - لما شمَّت وهو في الصلاة رجلا عطس ووجد من الصحابة إنكارا عليه قال: (( فلما صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأبي هو وأمي ما رأيت معلما قبله ولا بعده أحسن تعليما منه؛ فوالله ما كهرني، ولا ضربني، ولا شتمني.
قال: (( إن الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس، إنما هو التسبيح والتكبير وقراءة القرآن )) .
وكان - صلى الله عليه وسلم - إذا بلغه عن أحد من أصحابه ما يحتاج إلى تنيبه عليه قال في خطبته: (( ما بال قوم يفعلون كذا، وما بال رجال من أمتي يقولون : كذا )) .
وما أشبه ذلك، وذلك؛ ليعدل عنه من صدر منه، وليحذر الوقوع فيه من لم يباشره.
4- عفوه وحلمه - صلى الله عليه وسلم -:(1/39)
وكما كان - صلى الله عليه وسلم - غاية في الرحمة والشفقة فهو غاية في العفو، والحلم، والصفح، والصبر، والتحمل.
وسيرته العطرة حافلة بالوقائع الدالة على ذلك، ففي الصحيحين عن جابر - رضي الله عنه - قال: (( غزونا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غزوة قبل نجد، فأدركنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في واد كثير العضاه، فنزل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تحت شجرة فعلق سيفه بغصن من أغصانها.
قال: وتفرق الناس في الوادي يستظلون بالشجر، قال: فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (( إن رجلا أتاني وأنا نائم، فأخذ السيف، فاستيقظت وهو قائم على رأسي، فلم أشعر إلا والسيف صلتا في يده، فقال لي: من يمنعك مني؟ قال: قلت: الله، ثم قال في الثانية: من يمنعك مني؟ قال: قلت: الله، فشام السيف فها هو ذا جالس لم يعرض له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - )).
وهذا لفظ مسلم، وعند البخاري (( ولم يعاقبه وجلس )).
وفي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها قالت: (( دخل رهط من اليهود على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالوا: السام عليكم، قالت عائشة ففهمتها فقلت: وعليكم السام واللعنة. قالت: فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (( مهلا يا عائشة؛ إن الله يحب الرفق في الأمر كله )).
فقلت: يا رسول الله ألم تسمع ما قالوه؟ قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (( قد قلت: وعليكم )).
وفي الصحيحين عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ قالت: (( ما خيّر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين أمرين إلا أخذ أيسرهما، ما لم يكن إثما، فإن كان إثما كان أبعد الناس منه، وما انتقم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لنفسه إلا أن تنتهك حرمة الله فينتقم لله بها )) .(1/40)
وروى البخاري ومسلم في صحيحيهما عن أنس - رضي الله عنه - قال: (( كنت أمشي مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعليه برد نجراني غليظ الحاشية، فأدركه أعرابي فجبذه بردائه جبذة شديدة، قال أنس: فنظرت إلى صفحة عنق النبي - صلى الله عليه وسلم - وقد أثَّرت بها حاشية الرداء من شدة جبذته، ثم قال: يا محمد مر لي من مال الله الذي عندك، فالتفت إليه فضحك ثم أمر له بعطاء )) .
5- نصحه - صلى الله عليه وسلم - في الدعوة إلى دين الله:
لما بعث الله رسوله محمدا - صلى الله عليه وسلم - بالدين القويم قام بأعباء هذه المهمة على الوجه الأكمل، وصبر على ما اعترضه في هذا السبيل من أذى.
أخرج البخاري ومسلم في صحيحيهما عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (( يا رسول الله هل أتى عليك يوم كان أشد من يوم أحد، فقال: (( لقد لقيت من قومك وكان أشد ما لقيت منهم يوم العقبة إذ عرضت نفسي على ابن عبد ياليل بن عبد كلال فلم يجبني إلى ما أردت، فانطلقت وأنا مهموم على وجهي فلم أستفق إلا بقرن الثعالب، فرفعت رأسي فإذا بسحابة قد أظلتني، فنظرت فإذا فيها جبريل فناداني فقال: إن الله عز وجل قد سمع قول قومك لك وما ردوا عليك، وقد بعث إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم، قال: فناداني ملك الجبال وسلم عليَّ ثم قال: يا محمد إن الله قد سمع قول قومك لك وأنا ملك الجبال، وقد بعثني ربك إليك لتأمرني بأمرك فما شئت؟ إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين )) .
فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (( بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئا )) .(1/41)
إن هذا لهو الخلق العظيم يناله - صلى الله عليه وسلم - مثل هذا الأذى، وتحف به المصائب، فينطلق على وجهه مهموما، ثم تعرض عليه ملائكة الله القضاء على أعدائه بأن يطبقوا عليهم الأخشبين ـ وهما جبلا مكة ـ فلا يستجيب لهذا العرض، ويجيب بالإجابة التي تبرهن على تمام نصحه ومحبته لأن يُعْبَد الله وحده فيقول: (( بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله لا يشرك به شيئا )).
وقد ترك - صلى الله عليه وسلم - الناس على محجة بيضاء واضحة كفيلة لمن سلكها بعز الدنيا وسعادة الآخرة، جاء ذلك نتيجة لاتصاف الرسول - صلى الله عليه وسلم - بكمال النصح، وقوة البيان، ونهاية الأمانة، فما من شيء يقرب إلى الله إلا دل عليه أمته ورغبها فيه، كما حذرها مما يخالف ذلك، فلم يُقَصِّر - صلى الله عليه وسلم - في إبلاغه شرع الله، ولم يقصر في بيانه عند الإبلاغ.
أخرج مسلم في صحيحه عن سلمان الفارسي - رضي الله عنه - أنه قيل له: (( قد علمكم نبيكم كل شيء حتى الخراءة.
قال: فقال: أجل؛ لقد نهانا أن نستقبل القبلة لغائط، أو بول، أو أن نستنجي برجيع، أو بعظم )) .
وقد أعلن - صلى الله عليه وسلم - قيامه بواجب التبليغ في أعظم جمع لقيه، وذلك في حجة الوداع، واستشهد الناس على أنفسهم، فشهدوا الشهادة الحق بإبلاغه رسالة ربه، وتأديته ما أمر به على أكمل وجه، ونصحه في ذلك، وذلك في حديث جابر - رضي الله عنه - الطويل في صفة حج النبي - صلى الله عليه وسلم - الذي أخرجه مسلم في صحيحه، وفيه قوله - صلى الله عليه وسلم - وهو يخطب الناس يوم عرفة : (( وقد تركت فيكم ما لن تضلوا بعده إن اعتصمتم به؛ كتاب الله، وأنتم تسألون عني فماذا أنتم قائلون ؟ )).
قالوا نشهد أنك قد بلغت، وأديت، ونصحت.
فقال بأصبعه السبابة يرفعها إلى السماء وينكتها إلى الناس: (( اللهم اشهد اللهم اشهد ثلاث مرات )).(1/42)
ولم يَدَعْ - صلى الله عليه وسلم - وسيلة فيها إيضاح، وإفهام للناس، وحفز للهمم إلى القيام بطاعة الله، والبعد عن معصيته إلا سلكها في سبيل دعوته إلى الله وتحذير أمته من النكوب عن الشرع القويم الذي جاء به - صلى الله عليه وسلم - فكان يضرب الأمثلة التي تجعل الشيء المبين في صورة المحسوس المشاهد.
ففي صحيح مسلم عن أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (( إن مثلي ومثل ما بعثني الله به كمثل رجل أتى قومه فقال: يا قوم إني رأيت الجيش بعيني وأنا النذير العريان، فالنجاء، فأطاعه طائفة من قومه فأدلجوا، فانظلقوا على مهلتهم، وكذبت طائفة منهم، فأصبحوا مكانهم، وصبحهم الجيش، فأهلكهم، واجتاحهم، فذلك مثل من أطاعني واتبع ما جئت به، ومثل من عصاني وكذب ما جئت به من الحق )) .
وفي صحيحه ـ أيضا ـ عن جابر - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (( مثلي ومثلكم كمثل رجل أوقد نارا، فجعل الجنادب والفراش يقعن فيها وهو يذبهن عنها، وأنا آخذ بِحُجُزِكُم عن النار، وأنتم تفلتون من يدي )) .
واتفق البخاري ومسلم على إخراج هذا الحديث عن أبي هريرة - رضي الله عنه -.
وكان - صلى الله عليه وسلم - إذا سئل عن شيء وكانت الأهمية لغير المسؤول عنه لفت نظر السائل برفقه وحكمته - صلى الله عليه وسلم - إلى ذلك الأهم، ففي الصحيحين عن أنس - رضي الله عنه - أن رجلا سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الساعة فقال: متى الساعة؟ قال: (( وماذا أعددت لها؟ )) ، قال: لا شيء إلا أني أحب الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم -، فقال - صلى الله عليه وسلم -: (( أنت مع من أحببت )) .
إلى غير ذلك من الوسائل التي اتبعها - صلى الله عليه وسلم - في هدايته وإرشاده.
6- قوته وشجاعته - صلى الله عليه وسلم -:(1/43)
المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف وفي كل خير كما قال - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الذي أخرجه مسلم في صحيحه.
وقد جمع الله أنواع القوة في عبده ورسوله محمد - صلى الله عليه وسلم - جمع له إلى القوة الإيمانية الكاملة القوة البدنية، فاستعمل هذه القوة في عبادة الله، وطاعته، والسعي الحثيث إلى كل ما يقربه إليه، وهو الأسوة والقدوة لأمته في كل خير.
روى البخاري ومسلم في صحيحيهما عن عائشة رضي الله عنها قالت: (( كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا صلى قام حتى تفطر رجلاه )).
قالت عائشة: يا رسول الله أتصنع هذا وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر فقال: (( يا عائشة أفلا أحب أن أكون عبدا شكورا؟ )).
وفي الصحيحين عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (( كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل، وكان يلقاه في كل ليلة من رمضان فيدارسه القرآن، فلرسول الله - صلى الله عليه وسلم - أجود بالخير من الريح المرسلة )) .
وفي الصحيحين أيضا عن أنس - رضي الله عنه - قال: (( كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحسَنَ الناس، وأجودَ الناس، وأشجع الناس، ولقد فزع أهل المدينة ذات ليلة فانطلق الناس قبل الصوت فاستقبلهم النبي - صلى الله عليه وسلم - قد سبق الناس إلى الصوت وهو يقول: لم تراعوا، لم تراعوا، وهو على فرس لأبي طلحة عري ما عليه سرج، وفي عنقه سيف فقال: لقد وجدته بحرا أو إنه لبحر )).
وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتقدم أصحابه في الجهاد في سبيل الله وقد شج وجهه وكُسِرَت رَبَاعِيَتُه - صلى الله عليه وسلم - يوم أحد.(1/44)
وفي غزوة حنين ثبت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين انهزم الكثير ممن معه، ففي الصحيحين عن البراء بن عازب - رضي الله عنه - أن رجلا قال له: (( يا أبا عمارة أفررتم عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم حنين؟ فقال: لكن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يفر، إن هوازن كانوا قوما رماة، فلما لقيناهم وحملنا عليهم انهزموا فأقبل الناس على الغنائم، فاستقبلونا بالسهام فانهزم الناس فلقد رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبو سفيان بن الحارث آخذ في لجام بغلته البيضاء وهو يقول: أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب )) .
قال ابن كثير رحمه الله في تفسيره بعد سياق هذا الحديث: (( قلت وهذا في غاية من يكون من الشجاعة التامة أنه في مثل هذا اليوم في حومة الوغى، وقد انكشف عنه جيشه، وهو مع هذا على بغلة، وليست سريعة الجري، ولا تصلح لفر ولا كر ولا هرب، وهو مع هذا يركضها على وجوههم وينوه باسمه؛ ليعرف من لم يعرفه - صلى الله عليه وسلم - دائما إلى يوم الدين ـ ، وما هذا كله إلا ثقة بالله، وتوكلا عليه، وعلما منه بأنه سينصره، ويتم ما أرسله له، ويظهر دينه على سائر الأديان )) .
حقه - صلى الله عليه وسلم - على أمته وحق أمته عليه
ولعل من المناسب أن أختم هذه المحاضرة المشتملة على نماذج من أخلاقه - صلى الله عليه وسلم - بالإشارة إلى مجمل حقه على أمته، وحق أمته عليه - صلى الله عليه وسلم - فأقول:
من حقه على أمته ـ وقيامهم بهذا الحق عنوان سعادتهم ـ أن يشهدوا بأنه رسول الله حقا إلى جميع الثقلين الجن والإنس، وأن شريعته باقية إلى قيام الساعة، وأنها عامة لكل أحد، فلا يسع أحدا الخروج عنها.
روى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (( والذي نفس محمدٍ بيده لا يسمع به أحدٌ من هذه الأمة يهودي ولا نصراني، ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أصحاب النار )).(1/45)
وأن شريعته صالحة لكل زمان ومكان، وأنه لا سعادة في الدنيا ولا نجاة في الآخرة إلا لمن سلك سبيله، وسار على نهجه، وأنه هو الأسوة والقدوة لأمته، وأنه الصادق المصدوق في أخباره غائبها وماضيها ومستقبلها، وأن تكون القلوب عامرة بحبه محبةً أعظم من محبة النفس والوالد والولد والناس أجمعين.
ومن محبته - صلى الله عليه وسلم - محبة شريعته، وتعظيمها، وتحكيمها، والتحاكم إليها كما قال الله تعالى: { قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ } .
وأن تكون العبادة لله خالصةً، وعلى وفق الخطة التي رسمها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلا يعبد الله إلا بما شرع، كما قال - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الصحيح: (( من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد )).
وما أحسن قول أبي عثمان النيسابوري إذ يقول: (( من أمّر السنة على نفسه قولا وفعلا نطق بالحكمة، ومن أمّر الهوى على نفسه نطق بالبدعة )) .
وقد جمع هذه الأمور في عبارة وجيزة شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله حيث قال في بيان المراد بشهادة أن محمداً رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (( طاعته فيما أمر، وتصديقه فيما أخبر، واجتناب ما نهى عنه وزجر، وألا يعبد الله إلا بما شرع )).(1/46)
ومن حقه على أمته - صلى الله عليه وسلم - أن تكون الألسنة رطبة بالثناء عليه بكل ما يليق به، مع الحذر من الغلو الذي لا يرضاه الله ولا رسوله، وبالثناء على سنته، وإيضاح محاسنها، وبيان ضرورة الناس إلى التمسك بها، وأن تكون الألسنة رطبة بالصلاة والسلام عليه - صلى الله عليه وسلم - وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه بإحسان، والبخيل حق البخل من ذكر عنده النبي - صلى الله عليه وسلم - فلم يصل عليه، وأرغم الله أنفه من ذكر عنده النبي - صلى الله عليه وسلم - فلم يصل عليه، وأبخل ممن بخل بالدرهم والدينار من بخل بالصلاة والسلام على النبي - صلى الله عليه وسلم - عند ذكره صلوات الله وسلامه الأتمان الأكملان عليه وعلى آله وأصحابه وتابعيهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما حق الأمة عليه فهو إبلاغهم رسالة ربهم وإرشادهم إلى ما فيه سعادتهم في الدنيا والآخرة.
قال الله تعالى: { وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ } ،وقال تعالى: { فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ } .
روى البخاري في صحيحه عن ابن شهاب الزهري رحمه الله أنه قال: (( من الله الرسالة، وعلى الرسول البلاغ، وعلينا التسليم )) انتهى.
وقد منّ الله على المؤمنين بإرسال رسوله الكريم ـ عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم ـ وقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بإبلاغ الرسالة على أكمل الأحوال وأتمها.
وأنزل الله تعالى عليه في أواخر حياته في حجة الوداع: { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا } .
وقال - صلى الله عليه وسلم - في خطبته في حجة الوداع: (( وقد تركت فيكم ما لن تضلوا بعده إن اعتصمتم به؛ كتاب الله، وأنتم تسألون عني فماذا أنتم قائلون؟ )).
قالوا نشهد أنك قد بلغت، وأديت، ونصحت.(1/47)
فقال بأصبعه السبابة يرفعها إلى السماء وينكتها إلى الناس: (( اللهم اشهد اللهم اشهد ثلاث مرات )) رواه مسلم.
فالذي من الله وهو الرسالة، والذي هو على الرسول وهو البلاغ، كل منهما قد حصل على التمام والكمال.
أما الذي على الأمة وهو التسليم، فالسعيد من يوفق للقيام بذلك قولا وفعلا واعتقادا، والشقي الطريد المخذول من كان بخلاف ذلك.
وأسأل الله الكريم ربّ العرش العظيم أن يوفقنا جميعا للتأدب بآداب هذا النبي الكريم عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم، وأن يمن علينا بالتوفيق لاقتفاء آثاره، والسير على نهجه، وأن يميتنا على سنته، ويحشرنا في زمرته، ويجعلنا من الفائزين بشفاعته، إنه ولي ذلك والقادر عليه، ولا حول ولا قوة إلا به.
ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم، اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد.
الفهرس
- المقدمة...
- شدة الحاجة إلى بعثته - صلى الله عليه وسلم -....
- شيء من أمراض القلوب التي انتشرت قبيل بعثته - صلى الله عليه وسلم - وكيف عالجها - صلى الله عليه وسلم -...
- اختيار الله لنبيه - صلى الله عليه وسلم - .....
- اعتراض المشركين على اختيار الله له - صلى الله عليه وسلم - ....
- امتنان الله سبحانه على الثقلين برسالته - صلى الله عليه وسلم - ....
- التمهيد لبعثته - صلى الله عليه وسلم - ....
- أخلاقه - صلى الله عليه وسلم - .....
1- شهادة خديجة رضي الله عنها.....
2- شهادة كفار قريش عند بنائهم الكعبة.....
3- شهادة كفار قريش بصدقه - صلى الله عليه وسلم -....
4- شهادة أبي جهل بصدقه - صلى الله عليه وسلم -....
5- شهادة أبي سفيان بين يدي هرقل ملك الروم بصدق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ووفائه.....(1/48)
6- شهادة السائب المخزومي له - صلى الله عليه وسلم - بحسن النعاملة والرفق قبل النبوة.....
7- شهادة عبد الله بن سلام - رضي الله عنه - بصدقه - صلى الله عليه وسلم -....
8- شهادة مكرز بن حفص بن الأحنف له - صلى الله عليه وسلم - بالوفاء في جميع مراحل حياته....
- أخلاقه - صلى الله عليه وسلم - في القرآن...
- أخلاقه - صلى الله عليه وسلم - في سنته وأقوال صحابته - رضي الله عنهم -....
- تفصيل القول في أخلاقه - صلى الله عليه وسلم -.....
1- جوده وكرمه - صلى الله عليه وسلم -....
2- تواضعه - صلى الله عليه وسلم - وقربه من الناس....
3- رحمته - صلى الله عليه وسلم - بأمته ورفقه بها وشفقته عليها....
4- عفوه وحلمه - صلى الله عليه وسلم -....
5- نصحه - صلى الله عليه وسلم - في الدعوة إلى دين الله...
6- قوّته وشجاعته - صلى الله عليه وسلم - .......
- حقّه - صلى الله عليه وسلم - على أمته وحق أمته عليه....(1/49)