السيرة
للصف الثالث الإعدادي بالمعهد الديني
د. علي محمد جماز……محمد عبد الله الأنصاري………محمد رياض المراكبي
مراجعة
عبد المعز عبد الستار(1/1)
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة(1/1)
بسم الله الرحمن الرحيم
أبو بكر الصديق رضي الله عنه
نسبه:
هو الخليفة الأول عبد الله بن أبي قحافة (عثمان) بن عامر بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة بن كعب التيمي، يلتقي نسبه ونسب النبي صلى الله عليه وسلم عند مرة بن كعب بعد ستة آباء.
أمه (أم الخير) سلمى بنت صخر بن عامر بن عمرو بن كعب بن سعد.
شهرته:
عرف الصديق في التاريخ بأسماء كثيرة، أشهرها: أبو بكر، والصديق، وعتيق، وعبد الله، كان اسمه في الجاهلية، عبد الكعبة، فسماه النبي صلى الله عليه وسلم: عبد الله.
عرف في الجاهلية بصدقه؛ لأنه كان يتولى أمر الديات وينوب فيها عن قريش، فما تولاه من هذه الديات صدقته قريش فيه وقبلته، ولقب في الإسلام بالصديق، لأنه صدق النبي صلى الله عليه وسلم في حديث الإسراء خاصة، وفي جميع ما جاء به عامة. وسمي في الجاهلية بالعتيق لجمال وجهه، من العتاقة، وهي الجودة في كل شيء. وأطلق عليه في الإسلام (العتيق) لكرمه؛ ولأن النبي صلى الله عليه وسلم بشره بالعتق من النار.
مولده ونشأته:
ولد بمكة بعد مولد النبي صلى الله عليه وسلم بسنتين وأشهر، وكان منشؤه بمكة لا يخرج منها إلا لتجارة، وكان ذا مال جزيل في قومه، ومروءة وشهامة وتفضل وإحسان، وقد شهد له بذلك ابن الدغنة حينما شاهده خارجا من مكة يريد الهجرة إلى الحبشة (إنك لتصل الرحم، وتصدق الحديث، وتكسب المعدوم، وتحمل الكل، وتعين على نوائب الدهر، وتقري الضيف)..(1/3)
وكان رضي الله عنه من رؤساء قريش في الجاهلية، وأهل مشاورتهم، محببا فيهم، وأعلم بمعالمهم، وكان أحد عشرة من قريش اتصل بهم شرف الجاهلية والإسلام، وقد وكل إليه في الجاهلية أمر الديات والمغارم.
ولقد ثبت عنه رضي الله عنه بأنه كان في الجاهلية عزوفا عن كل رذيلة، بعيدا عن كل إثم، نقي الفطرة، طاهر النفس، محتقرا للأصنام، لا يتعاطى الخمر، ولم يلعب القمار، وقد كان رضي الله عنه صديقا حميما للنبي صلى الله عليه وسلم قبل البعثة، لما ألف بينهما من أخلاق كريمة وصفات سامية.
إسلامه:
كان رضي الله عنه أول من أسلم من الرجال، وقد قال عنه النبي صلى الله عليه وسلم {ما دعوت أحدا إلى الإسلام إلا كانت عنده كبوة وتردد، إلا ما كان من أبي بكر}.
وقد حدث عن إسلامه قال: كنت جالسا بفناء الكعبة، وكان زيد بن عمرو ابن نفيل قاعدا، فمر به أمية بن أبي الصلت، فقال: كيف أصبحت يا باغي الخير؟
قال: بخير، قال: وهل وجدت؟ قال: لا، فقال:
كل دين يوم القيامة إلا………ما قضى الله في الخليقة بور
أما إن هذا النبي الذي ينتظر منا أو منكم؟ قال -أي أبو بكر-: ولم أكن سمعت قبل ذلك بنبي ينتظر ويبعث. فخرجت إلى ورقة بن نوفل، فقصصت عليه الحديث، فقال: نعم يا ابن أخي، إنا أهل الكتب والعلوم نعلم ذلك، إلا أن هذا النبي الذي ينتظر من أوسط العرب نسباً -ولي علم بالنسب- وقومك أوسط العرب نسباً.
فقلت: يا عم, وما يقوله النبي؟ قال: ما قيل له إلا أنه لا ظلم ولا تظالم.
فلما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم آمنت به وصدقته.
دعوته للإسلام:
وقد عني أبو بكر بالدعوة إلى الإسلام وتبليغ رسالته، وكان ممن أسلم على يديه: عثمان بن عفان، والزبير بن العوام، وعبد الرحمن بن عوف، وسعد بن أبي وقاص، وطلحة بن عبيد الله.(1/4)
بذله ماله في سبيل الله:
قال تعالى: {وسيجنبها الأتقى (17) الذي يؤتي ماله يتزكى (18) وما لأحد عنده من نعمة تجزى (19) إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى (20) ولسوف يرضى (21)}(1)
قال ابن الجوزي: أجمعوا على أنها نزلت في أبي بكر، وقال صلى الله عليه وسلم: {ما نفعني مال قط ما نفعني مال أبي بكر} وكان رضي الله عنه يكد ويكدح ليل نهار، لنصرة هذا الدين القويم، وإعلاء كلمة الله ومؤازرة النبي صلى الله عليه وسلم، وقد بذل جميع أمواله لإعزاز الإسلام، فأنفق على الضعفاء, وساعد البائسين و المحتاجين من المسلمين، وأعتق كثيرا من الأرقاء، الذين أذاقهم أعداء الإسلام ألوان العذاب، منهم: بلال، وعامر بن فهيرة. وثبت أنه أسلم ولديه أربعون ألفاً من الدنانير أنفقها في سبيل الله. وأخرج أبو داود والترمذي عن عمر بن الخطاب قال: (أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نتصدق فوافق ذلك مالاً عندي، قلت: اليوم أسبق أبا بكر إن سبقته يوما، فجئت بنصف مالي فقال صلى الله عليه وسلم: ما أبقيت لأهلك؟ قلت: مثله، وأتى أبو بكر بكل ما عنده. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: يا أبا بكر ما أبقيت لأهلك؟ فقال: أبقيت لهم الله ورسوله. فقلت: لا أسبقه في شيء أبدا).
هجرته مع النبي صلى الله عليه وسلم:
كان له رضي الله عنه شرف الهجرة مع النبي صلى الله عليه وسلم وصحبته في الغار، وفي الغار تمثلت في أبي بكر روح الفداء والتضحية، ومحبة النبي صلى الله عليه وسلم، حينما دخل الغار قبل النبي صلى الله عليه وسلم ليقيه بنفسه مما قد يكون به من هوام أو دواب أو غيره، ومزق ثوبه قطعاً وضعها في الشقوق التي في الغار، خوفاً على النبي صلى الله عليه وسلم.
وهمس في أذن رسول الله صلى الله عليه وسلم، لما سمع فتيان قريش ورأى أقدامهم بباب الغار، وخشي على النبي صلى الله عليه وسلم (لو أبصر أحدهم موضع قدميه لأبصرنا) ولم يكن يفكر الصديق فيما قد يصيبه، وإنما كان يفكر في النبي صلى الله عليه وسلم، وفي مصير الدين الذي يدعو
__________
(1) سورة الليل الآية 17-(1/5)
إليه. وفي الطريق أثناء سيرهما إلى دار الهجرة كان يسير رضي الله عنه على هيئة مضطربة، فتارة أمام النبي صلى الله عليه وسلم، وتارة خلفه، وأخرى عن يمينه أو شماله، خوفاً عليه من الطلب أو الرصد. وقد حاز الصديق على شرف تسجيل موقفه في الغار والهجرة مع النبي صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى :(ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا)(1)
الصديق في المدينة:
وهكذا كانت سيرة الصديق في المدينة المنورة، بذلا في وجوه الخير، وإحسانا للفقراء والمحتاجين، وفداء للتضحية لإعلاء كلمة الله، جهادا في سبيل الله، وقد حضر جميع الغزوات لم يتخلف عن غزوة غزاها النبي صلى الله عليه وسلم وهو من الذين ثبتوا معه في أحد وحنين.
موقفه يوم قبض النبي صلى الله عليه وسلم:
قدم الصديق من منزله بالسنح، وسمع بوفاة النبي صلى الله عليه وسلم، فدخل عليه وقَبَّلَه، وقال له: بأبي أنت وأمي، طبت حيا وميتا، ثم دخل المسجد فإذا المسلمون في أمر مريج، واضطراب شديد، فمنهم المصدق بموته، ومنهم المكذب، وقد كثر اللغط في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم، وقام عمر يصيح: (إن رجالاً من المنافقين يزعمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توفي، وإنه والله ما مات، ولكنه ذهب إلى ربه، كما ذهب موسى بن عمران وسيعود إلخ) فقال له: على رسلك يا عمر. ولكن الفاروق لم يسكت. وعندئذ وقف الصديق وخطب المسلمين بقلب مطمئن بالإيمان، راض بما قدر الرحمن، قال: أيها الناس، من كان يعبد محمدا فإن محمداً قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت، ثم تلا الآية: (وما محمد إلا رسول فد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا وسيجزي الله الشاكرين)(2)
أصغى المسلمون إلى أبي بكر، ووقرت في قلوبهم مقالته، وآمنوا بوفاة النبي صلى الله عليه وسلم.
__________
(1) سورة التوبة الآية 4.
(2) سورة آل عمران الآية 144(1/6)
خلافته رضي الله عنه:
لقد كانت خلافة الصديق باجتهاد ومشورة في المسلمين، ولكنها في الحقيقة بإشارة من النبي صلى الله عليه وسلم في مواقف كثيرة منها:
قوله صلى الله عليه وسلم: (لا يبقين في المسجد خوخة إلا سدت إلا خوخة أبي بكر). قال العلماء: هذه إشارة إلى الخلافة لأنه يخرج منها للصلاة بالمسلمين.
وما أخرجه الشيخان عن المرأة التي أتت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأمرها أن ترجع إليه. قالت: أرأيت إن جئت ولم أجدك؟ فقال صلى الله عليه وسلم: (إن لم تجديني فأتي أبا بكر(1).
عن أبي موسى الأشعري قال: مرض النبي صلى الله عليه وسلم فاشتد مرضه، فقال: (مروا أبا بكر فليصل بالناس) قالت عائشة: يا رسول الله إنه رجل رقيق القلب إذا قام مقامك لم يستطع أن يصلي بالناس. فقال: (مروا أبا بكر فليصل بالناس) فعادت. فقال: (مروا أبا بكر فليصل بالناس فإنكن صواحب يوسف).
ولاشك أن هذا يدل دلالة واضحة على أن الصديق أفضل الصحابة على الإطلاق، وأحقهم بالخلافة، وأولاهم بالإمامة.
ولقد بويع الصديق في سقيفة بني ساعدة بعد أن اجتمع فيها الأنصار بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم يريدون أن يؤمروا سعد بن عبادة سيد الخزرج، فذهب إليهم أبو بكر ومعه عمر بن الخطاب وأمين الأمة أبو عبيدة. وبعد أن كثر اللغط وارتفعت الأصوات، وأحب الأنصار أن يتولوا هذا الأمر، ويكون منهم الخليفة، فلما واجههم المهاجرون برأيهم، قال قائلهم: منا أمير ومنكم أمير. عندئذ وقف الصديق رضي الله عنه وحمد الله وأثنى عليه، ومدح الأنصار وذكر محاسنهم، وانتصارهم للنبي صلى الله عليه وسلم وإيواءهم وإكرامهم للمهاجرين، وما ترك فيهم من خير إلا ذكره، ثم قال: ولن تعرف العرب هذا الأمر (الخلافة والرئاسة) إلا لهذا الحي من قريش، وقد رضيت لكم أحد هذين الرجلين فبايعوا أيهما شئتم، فأخذ بيد عمر ويد أبي عبيدة بن الجراح، فارتفعت الأصوات، وكثر اللغط وخشي الاختلاف فابتدر الفاروق وقال للصديق: ابسط يدك نبايعك،
__________
(1) أخرجه الشيخان.(1/7)
فسبقه إليه بشير ابن سعد الأنصاري، فبايعه وبايعه المهاجرون، ثم بايعه الأنصار، وأقبل الناس من كل جانب يبايعونه.
سياسته:
بعد أن تمت البيعة المجيدة، خطب الصديق خطبة رسم فيها سياسته الرشيدة، بما أرشده معلمه الأول صلى الله عليه وسلم من حكمة بالغة، ورئاسة فاضلة، وأخلاق كريمة، فقال بعد أن حمد الله وأثنى عليه: (؟ أما بعد أيها الناس، فإني قد ولِّيتُ عليكم ولست بخيركم، فإن أحسنت فأعينوني، وإن أسأت فقوموني، الصدق أمانة، والكذب خيانة، والضعيف فيكم قوي عندي حتى آخذ له الحق، والقوي فيكم ضعيف عندي حتى آخذ الحق منه، لا يدع قوم الجهاد في سبيل الله إلا ضربهم الله بالذل، ولا تشيع الفاحشة في قوم إلا عمهم الله بالبلاء, أطيعوني ما أطعت الله ورسوله، فإن عصيت الله ورسوله فلا طاعة لي عليكم).
عمله في خلافته:
1- إنفاذ جيش أسامة:
أمر النبي صلى الله عليه وسلم بتجهيز جيش بقيادة أسامة بن زيد، لقتال الروم. وبعد تجهيزه، وقبل أن يتحرك الجيش توفي النبي صلى الله عليه وسلم. فلما تولى الصديق الخلافة بعد النبي صلى الله عليه وسلم أمر بإنفاذه، فأشار عليه بعض الصحابة أن يبقي جيش أسامة ليساعد على قتال المرتدين ومانعي الزكاة، فقال رضي الله عنه: (والله لو علمت أن السباع تجر برجلي -إن لم أرده- ما رددته، ولا حللت لواء عقده رسول الله صلى الله عليه وسلم).
كما طلب بعضهم منه أن يولي على الجيش من هو أسن من أسامة، فوئب أبو بكر وقال: (استعمله رسول الله صلى الله عليه وسلم وتريدونني أن أنزعه؟)
2- قتال أهل الردة ومانعي الزكاة:
لما قبض النبي صلى الله عليه وسلم ارتد بعض العرب، وقالوا: نصلي ولا نزكي. فعزم أبو بكر على قتالهم. فأشار عليه الفاروق أن يرفق بهم، ويتألف قلوبهم. فقال رضي الله عنه:(1/8)
(رجوت نصرتك وجئتني بخذلانك، أجبار في الجاهلية خوار في الإسلام يا عمر؟!.. والله لأجاهدنهم ما استمسك السيف في يدي، ولو منعوني عقالا كانوا يؤدونها للنبي صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم عليه).
3- الفتوحات في عهده:
أ- فارس:
جهز أبو بكر رضي الله عنه الجيوش، وعقد الألوية لتحطيم قوى الفتنة التي تصد عن سبيل الله، فأرسل جيشاً إلى فارس بقيادة سيف الله المسلول "خالد بن الوليد".
وذلك بعد أن انتهى من قتال المرتدين، واستولى على الحيرة وجعلها مركزاً لقيادته.
ب- في الشام:
أرسل الصديق جيشاً بقيادة أمين الأمة "أبي عبيدة بن الجراح", وجيشاً بقيادة عمرو بن العاص، وجيشاً ثالثاً بقيادة يزيد بن أبي سفيان، وجيشاً رابعاً بقيادة شرحبيل بن حسنة. وقد أدت هذه الجيوش دورها الفعَّال في مقاتلة الروم وانتصروا في مواقع كثيرة، وكان الروم في جميعها أكثر عدداً وعدة، ومن أهمها:
معركة اليرموك:
بعد أن اجتمع القواد الأربعة:أمين الأمة، ويزيد بن أبي سفيان، وعمرو بن العاص، وشرحبيل بن حسنة، بأمر من القائد الأعلى، وقد أمدهم بالقائد الظافر خالد بن الوليد ومعه الذخيرة الكافية من الإرشادات الحكيمة، وسجل المسلمون في تلك الموقعة انتصاراً حاسماً مدوا به ضياء الإسلام وعدله، وأخرجوا به أهل الشام من طغيان الروم.
4- جمع القرآن:
بعد معركة اليمامة أشار الفاروق على الصديق بجمع القرآن خوفاً من ذهاب حملته، لاسيما وقد قتل الكثير منهم في معركة اليمامة، فعهد الصديق في جمع القرآن في(1/9)
مصحف واحد إلى زيد بن ثابت الأنصاري، فجمعه من الصحاف ومن صدور الرجال. فكانت الصحف التي جمع فيها القرآن عند أبي بكر حتى توفاه الله، ثم عند عمر حتى توفاه الله، ثم عند حفصة بنت عمر (رضي الله عنهما).
مما جاء في فضله:
أخرج أبو داود والحاكم -وصححه- عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أما إنك يا أبا بكر أول من يدخل الجنة من أمتي)، وأخرج الشيخان عن أبي سعيد رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
(إن من أمن الناس علي في صحبته وماله أبا بكر، ولو كنت متخذاً خليلاً غير ربي لاتخذت أبا بكر خليلاً، ولكن أخوة الإسلام ومودته).
مرضه واستخلافه ووفاته:
مرض الصديق رضي الله عنه قبل وفاته بأيام يسيرة، ولما أحس بدنو أجله أراد أن يستخلف من بعده من يتولى شؤون المسلمين، فأخذ يستشير كبار الصحابة وأهل الحل والعقد، فيمن يستخلف. وبعد استشارة كثيرة وبحث دقيق، وجد أن الجميع أو الأكثرين يرضون الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه، يرونه أولى من يقوم بأمر الخلافة، فكتب بذلك عهده للمسلمين: أستخلف عليكم عمر بن الخطاب فاسمعوا له وأطيعوا، وإني لم آل الله ورسوله ودينه ونفسي وإياكم خيراً، فإن عدل، فذلك ظني به وعلمي فيه، وإن بدل فلكل امرئ ما اكتسب، والخير أردت ولا أعلم الغيب (وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون)(1) والسلام عليكم ورحمة الله. توفي ليلة الثلاثاء لثمان بقين من جمادى الآخرة عام 13 هـ عن ثلاث وستين سنة بعد أن مكث في خلافته سنتين وثلاثة أشهر، ودفن بجوار رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد أدى رضي الله عنه حقوق ربه ونصح لخالقه وأمته، ورسم لمن بعده سياسة رشيدة، وقيادة حكيمة، كتبت بمداد من نور في قلوب المؤمنين. وذكرها التاريخ بالفخر والتمجيد.
__________
(1) سورة الشعراء الآية (227).(1/10)
المناقشة
1- ما اسم أبي بكر الصديق رضي الله عنه؟ وبمن يلتقي نسبه مع نسب النبي صلى الله عليه وسلم؟
2- ما الأسماء التي اشتهر بها الخليفة الأول؟ وما اسمه في الجاهلية؟ ولماذا سمي بالصديق في الإسلام؟
3-متى ولد الصديق رضي الله عنه؟ وأين نشأ؟ اذكر مقالة ابن الدغنة فيه، وما العمل الذي وكل إليه في الجاهلية؟
4- اذكر نبذة يسيرة عن إسلام أبي بكر رضي الله عنه، ومن أسلم على يديه؟
5- تكلم عن بذله وكرمه، مستشهداً لما تقول.
6- كان لأبي بكر رضي الله عنه في أمر الهجرة مواقف سامية، اذكر ما تعرفه عن ذلك بإيجاز.
7- اذكر ما تعرفه عن موقف الصديق رضي الله عنه يوم قبض النبي صلى الله عليه وسلم.
8- استدل بعض السلف على أولوية الصديق بالخلافة بعدة أدلة، اذكر دليلين منها.
9- كيف تمت بيعة الصديق رضي الله عنه في سقيفة بني ساعدة؟
10- ما الذي قاله الصديق رضي الله عنه في خطبته يوم بويع؟
اكتب بإيجاز عما يلي:
أ- موقف الصديق رضي الله عنه في إنفاذ جيش أسامة.
ب- موقفه في قتال أهل الردة ومانعي الزكاة.
ج- فتوح فارس والشام.
د- جمع القرآن.
12- ما سبب مرض الصديق رضي الله عنه؟ ومن استخلف من بعده؟ ومتى توفي؟ وكم كانت مدة خلافته؟(1/11)
عمر بن الخطاب رضي الله عنه
نسبه:
هو الخليفة الثاني عمر بن الخطاب رضي الله عنه، بن نفيل، بن عبدالعزى، بن رباح، ابن عبدالله، بن قرط، بن وزاح، بن عدي، بن كعب، القرشي العدوي.
أمه حنتمة بنت هشام، بن المغيرة، بن عبدالله، بن عمر، بن مخزوم، أخت أبي جهل(عمرو بن هشام).
مولده ونشأته رضي الله عنه:
ولد بمكة المكرمة بعد عام الفيل بثلاث عشرة سنة، ونشأ فيها، وكان من أشراف قريش، وإليه كانت السفارة في الجاهلية، وكان معروفاً بالصرامة والقوة، والشجاعة والفتوة، والبيان المشرق، والرأي السديد.
إسلامه رضي الله عنه:
أخرج الترمذي عن ابن عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اللهم أعز الإسلام بأحب الرجلين إليك: بعمر بن الخطاب، أو عمرو بن هشام). لقد استجاب الله لدعة نبيه صلى الله عليه وسلم، وكان الفاروق أحب الرجلين إلى الله، فأسلم، وكان إسلامه في السنة السادسة من النبوة، وله سبع وعشرون سنة. ولإسلامه قصة ظريفة ذكرها المؤرخون، ومرت في مقرر الصف الأول.
لقد عرف الفاروق رضي الله عنه في جاهليته بالشدة والقسوة على الإسلام والمسامين، وما إن كتب الله له الهداية، وشرح للإيمان صدره، وجاء إلى دار الأرقم مسلماً يشهد أن لا إله إلا الله، إلا انعكس الحال، وتغير المقال، وانقلبت تلك الشدة والقسوة غلظة أشد وأقسى على أعداء الله المشركين.
كان إسلامه رضي الله عنه فتحاً للمؤمنين، ونصراً لدعوة النبي صلى الله علي وسلم. فقد اضطربت(1/12)
قريش لإسلامه واهتز كيانها، بقدر ما فرح المسلمون واستبشروا وكبروا تكبيرة في دار الأرقم سمعها من في المسجد، قال عمر للنبي صلى الله عليه وسلم في أول يوم من إسلامه- : "ألسنا يا رسول الله على حق؟. قال: بلى قال: ففيم الإخفاء"؟. ومن ذلك اليوم أعلن المسلمون إسلامهم، وجاهروا بدعوتهم، ل يخافون في الله لومة لائم.
وقد أخذ عمر على نفسه ألا يدع موطناً كان يعلن فيه شركه وعداوته للإسلام والمسلمين، إلا ذهب فأعلن فيه إسلامه، ثم فكر: من أشد الناس عداوة للنبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين، يسوؤه إن أسلم؟ هو خاله أبو جهل. فغدا إليه وطرق بابه، فرحب به، وسأله عن حاجته، فقال: جئت لأخبرك أنني أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله.
وأخرج البزار والحاكم عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "لما أسلم عمر رضي الله عنه، قال المشركون: قد انتصف القوم منا"، وأنزل الله تعالى: (يا أيها النبي حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين) (الأنفال: 64).
وقال ابن مسعود: "ما زلنا أعزة منذ أسلم عمر"، وقال رضي الله عنه: "كان إسلام عمر فتحاً، وكانت هجرته نصراً، وكانت إمامته رحمة، ولقد رأيتنا ومانستطيع أن نصلي إلى البيت، حتى أسلم عمر رضي الله عنه قتلهم حتى تركونا، فصلينا".
هجرته:
لقد ضرب في هجرته إلى المدينة أروع الأمثال، وأسمى البطولات وأروع التحديات، فقد هاجر رضي الله عنه بعد أن أذاع نبأ هجرته على الملأ في قريش، في حين كان غيره من المسلمين إذا أراد الهجرة كتم أمره، وخرج على حين غفلة من المشركين. أخرج ابن عساكر عن علي قال: "ما علمت أحداً هاجر إلا متخفياً. إلا عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فإنه لما هم بالهجرة تقلد سيفه، وتنكب قوسه،(1/13)
و انتضى في يده أسهماً، وأتى الكعبة وأشراف قريش بفنائها، فطاف سبعاً، ثم صلى ركعتين عند المقام، ثم أتى حلقهم واحدة واحدة، فقال: شاهت الوجوه. من أراد أن تثكله أمه، أو ييتم ولده، أو ترمل زوجته، فليلقني وراء هذا الوادي، فما تبعه أحد منهم".
إلهامه:
لقد نزل القرآن الكريم في بعض آياته وأحكامه تصديقاً لما رآه عمر رضي الله عنه أو طلبه من قبل أن ينزل القرآن، وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: إن يكن بعدي محدثون فعمر.
ومن المواضع التي وافق الوحي فيها آراء عمر:
1- تحريم الخمر:
بعد أن نزل قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لاتقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون) (النساء: 43).
قال عمر: اللهم بين لنا في الخمر بياناً شافياً، فأنزل الله قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون* إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة فهل أنتم منتهون) (المائدة).
فقال عمر: انتهينا يا رب انتهينا يا رب.
2- لما رأى الفاروق الوضع الذي تمجه الفطرة السليمة، من دخول الرجال على النساء وعلى أمهات المؤمنين بالذات، واختلافهم عليهن، قال للنبي صلى الله عليه وسلم: "يا رسول الله إن نسائك يدخل عليهن البر والفاجر، فلو أمرتهن أن يتحجبن،"، فأنزل الله تعالى: (وإذا سألتموهن متاعاً فاسألوهن من وراء حجاب) (الأحزاب: 53).(1/14)
3- أسارى بدر:
بعد أن أسرهم المسلمون استشار النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه فيهم، فقال أبوبكر رضي الله عنه: يا رسول الله، قومك وأهلك استبقهم، واستأن بهم، لعل الله أن يتوب عليهم، وخذ منهم فدية تكون لنا قوة على الكفار، وقال عمر رضي الله عنه: يا رسول الله، كذبوك وأخرجوك، قدمهم نضرب أعناقهم، فإن هؤلاء أئمة الكفر، فنزلت: (ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض تريدون عرض الدنيا والله يريد الآخرة والله عزيز حكيم* لو لا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم) (الأنفال).
خلافته:
ولي الخلافة بعهد من أبي بكر في جمادى الآخرة سنة ثلاث عشرة من الهجرة، فكان أول عمل عمله رضي الله عنه أن ندب الناس مع المثنى بن حارثة الشيباني إلى أهل فارس، وأخذ يرسل الجيوش إلى ميادين القتال، يبلغ دعوة الله، ويحطم قوى البغي التي تستعبد الخلق، وتصد عن سبيل الله تعالى: ولا زال كذلك حتى خضعت للمسلمين معظم بلاد الفرس، وبلاد الشام وفلسطين ومصر.
الفتوحات في عهده:
لقد فتح عمر العراق وإيران، وأكثر مناطق أرمينية، وبلاد الشام ومصر وليبيا والنوبة . وخاضت جيوش المسلمين في أيامه ثلاث معارك فاصلة:
1- معركة القادسية: التي فتحت للمسلمين أبواب العراق والأهواز.
2- معركة بابليون: التي فتحت لهم أبواب مصر وليبيا والنوبة.
3- معركة نهاوند: التي فتحت لهم أبواب إيران كلها.
وجميع هذه الفتوحات العظيمة أنجزت خلال عشر سنوات.(1/15)
أخلاقه:
كان رضي الله عنه عادلا زاهدا منصفا للمسلمين في نفسه وولده, ولا تأخذه في الله لومة لائم, قاد المسلمين بعقل سليم, ورأي سديد, وعزيمة قوية, وتصرفات مرضية, حتى وصل بهم إلى قمة السعادة والنصر, فلم يبق منهم مظلوما إلا نصر, ولا ظالما إلا أوقفه عند حده, ولا محتاجا إلا ساعده, وكان حريصا على أموال المسلمين, يقول أنا فيها كالوصي في مال اليتيم, إن استغنى عف , وإن افتقر أكل بالمعروف. رآه علي بن أبي طالب رضي الله عنه يعدوا إلى ظاهر المدينة فقال: إلى أين يا أمير المؤمنين؟ فقال: قد ند بعير من إبل الصدقة فأنا أطلبه. فقال: قد أتعبت الخلفاء من بعدك
وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: كان عمر إذا أراد أن ينهى الناس عن شيء تقدم إلى أهله فقال: لا أعلم أحدا وقع في شيء مما نهيت عنه إلا أضعفت عليه العقوبة. خرج يوما حتى أتى المنبر, وكان قد اشتكى شكوة, فنعت له العسل, وفي بيت المال بمكة المكرمة عسل, وفي بيت المال بمكة المكرمة عسل،فقال: إن أذنتم لي فيها أخذتها،وإلا فهي علي حرام، فأذنوا له.
ودخل ابن لعمر بن الخطاب وقد ترجل، ولبس ثيابا حسانا، فضربه عمر رضي الله عنه بالدرة حتى أبكاه. فقالت حفصة: لم ضربته؟ قال: رأيته قد أعجبته نفسه فأحببت أن أحقرها إليه.
الدستور القديم:
كتب إلى أبي موسى الأشعري رضي الله عنهما كتابه المشهور في القضاء، الذي لا يزال مرجعا إلى الإنسانية، في أدبه ومبادئه وعدله وإجراءاته. وقد جاء فيه:
(بسم الله الرحمن الرحيم، من عبد الله عمر أمير المؤمنين، إلى عبد الله بن قيس، سلام عليك،أما بعد؛ فإن القضاء فريضة محكمة، وسنة متبعة، فافهم إذا أدلي إليك، فإنه لا ينفع تكلم بحق لا نفاذ له.
آس بين الناس في وجهك ومجلسك وعدلك، حتى لا يطمع شريف في حيفك،(1/16)
ولا ييأس ضعيف من عدلك. البينة على من ادعى, واليمين على من أنكر، والصلح جائز بين المسلمين إلا صلحاً أحل حراماً أو حرم حلالاً. والمسلمون عدول بعضهم على بعض، إلا مجلوداً في حد أو مجرباً في شهادة زور.. الخ.)
أولياته:
هو أول من سمي أمير المؤمنين، وأول من أمر باتخاذ التاريخ الهجري، وأول من اتخذ بيت المال، وأول من جمع الناس على إمام واحد في التراويح في شهر رمضان، وأول من عس بالليل يتفقد شؤون المسلمين، وأول من عاقب على الهجاء، وأول من ضرب على الخمر ثمانين جلدة.
ما جاء في فضله رضي الله عنه:
عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (بينما أنا نائم رأيت الناس يعرضون علي، وعليهم قمص منها ما يبلغ الثدي، ومنها ما يبلغ دون ذلك، ومر عمر بن الخطاب وعليه قميص يجره). قالوا: ماذا أولت ذلك يا رسول الله؟ قال: ( الدين).
وعن ابن عمر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (بينما أنا نائم إذ رأيت قدحاً أتيت به فيه لبن، فشربت منه حتى إني لأرى الريَّ يجري في أظفاري، ثم أعطيت فضلي عمر بن الخطاب). قالوا: فما أولت ذلك يا رسول الله؟ قال: (العلم).
وعنه رضي الله عنه قال: قال عمر رضي الله عنه: وافقت ربي عز وجل في ثلاث: في مقام إبراهيم، وفي الحجاب، وفي أسارى بدر.
قتله واستخلافه رضي الله عنه:
قتل رضي الله عنه سنة 22 من الهجرة، نتيجة مؤامرة دنيئة دبرها أعداء الإسلام، ونفذها أبو لؤلؤة المجوسي غلام المغيرة بن شعبة، طعنه بخنجر مسموم وهو يؤم الناس لصلاة الفجر، وطعن معه اثني عشر رجلاً، ولما أحس رضي الله عنه بأنه سيموت قريباً، فكر في استخلاف خليفة للمسلمين، كي لا يتفرق أمرهم(1/17)
وجيوشهم بالثغور، وقال رضي الله عنه: (لو كان أبو عبيدة بن الجراح لاستخلفته، فإن سألني ربي قلت: سمعت نبيك يقول:{إنه أمين هذه الأمة}). ثم جعلها رضي الله عنه شورى في ستة نفر من المهاجرين، قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم وهو راض عنهم، وهم: عثمان وطلحة وعلي وعبد الرحمن بن عوف وسعد رضي الله عنهم.
وأشرك ابنه عبد الله معهم في الرأي لا في الخلافة، وأمر صهيباً أن يصلي بالناس، وقال رضي الله عنه: الحمد لله الذي لم يجل منيتي بيد رجل يدعي الإسلام.
ثم أرسل ابنه عبد الله ليستأذن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها لدفنه مع صاحبيه، فقبلت. ثم توفي رضي الله عنه ودفن بجوار أبي بكر في بيت عائشة رضي الله عنها، وبعد أخذ ورد مال رأي الأكثرية إلى جانب عثمان بن عفان، فبايعه عبد الرحمن بن عوف، ثم بايعه علي، ثم بايعه المسلمون، ودفن الفاروق في يوم الأحد مستهل المحرم سنة 24 هـ وله ثلاث وستون سنة. وكان عهده رضي الله عنه عهد رخاء وعز ونصر للمسلمين.
ضرب في خلافته أروع الأمثال للعهد والزهد والأمانة والشجاعة والبطولة النادرة، وفارق المسلمين وهم أعزة أغنياء وأقوياء، وفارقهم بعد أن قام بواجبه خير قيام، وكون دولة كاملة، وأمة قوية عظيمة، تعتز بدينها وبنفسها، وتفتخر بوحدتها واستقامتها ودستورها.
من كلامه رضي الله عنه:
1- حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوا أعمالكم قبل أن توزن عليكم.
2- من كثر ضحكه قلت هيبته، ومن مزح به استخف به، ومن أكثر من شيء عرف به.
3- من كثر كلامه كثر سقطه، ومن كثر سقطه قل حياؤه، ومن قل حياؤه قل ورعه، ومن قل ورعه مات قلبه.
ومن وصاياه لعماله وولاته:
اجعلوا الناس عندكم سواء: قريبهم كبعيدهم، وبعيدهم كقريبهم. إياكم(1/18)
والرشا، والحكم بالهوى، وأن تأخذوا الناس عند الغضب.
وكتب إلى أبي موسى الأشعري، وكان عامله على البصرة:
أما بعد: فإن أسعد الرعاة من سعدت به رعيته, إياك أن ترتع فترتع عمالك، فيكون مثلك عند ذلك مثل البهيمة نظرت إلى خضرة من الأرض فرتعت فيها، تبتغي السمن، وإنما حتفها في سمنها.
من وصاياه في الحرب رضي الله عنه:
ما وصَّى به سعد بن أبي وقاص: أما بعد.. فإني آمرك وممن معك من الأجناد بتقوى الله على كل حال؛ فإن تقوى الله أفضل العدة على العدو، وأقوى المكيدة في الحرب، وآمرك ومن معك أن تكونوا أشد احتراساً من المعاصي منكم من عدوكم؛ فإن ذنوب الجيش أخوف عليهم من عدوهم، وإنما ينصر المسلمون بمعصية عدوهم لله، ولولا ذلك لم تكن بهم قوة؛ لأن عددنا ليس كعددهم، ولا عدتنا كعدتهم، فإن استوينا في المعصية كان لهم الفضل علينا في القوة. وإلا ننصر عليهم بفضلنا لن نغلبهم بقوتنا.
المناقشة
1- اذكر قصة إسلام الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
2- اشرح كيف هاجر سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
3- أيد القرآن سيدنا عمر في عدة مواقف:
اشرح هذه العبارة مع ذكر المواقف التي أيد القرآن فيه رأي عمر.
4- اذكر أهم الفتوحات التي تمت في عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه, مع ذكر أهم المعارك.
5- كانت لأمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه أوليات تميز بها عن سائر الخلفاء.
اشرح هذه العبارة.
6- اذكر قصة مقتل سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه، واشرح موضوع استخلافه.(1/19)
عثمان بن عفان رضي الله عنه
نسبه:
هو الخليفة الثالث عثمان بن عفان بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف القرشي الأموي، ويجتمع مع النبي صلى الله عليه وسلم في عبد مناف.
أمه أروى بنت كريز بن ربيعة بن حبيب بن عبد شمس.
مولده ونشأته رضي الله عنه:
ولد في السنة السادسة من عام الفيل بالطائف، ونشأ بمكة، واشتغل بالتجارة فأدر الله عليه بالخير العميم. وقد شب رضي الله عنه على كرم الشيم وحسن السيرة، حيياً عفيفاً في قومه، مأموناً عندهم يوصون إليه ويحترمونه.
إسلامه رضي الله عنه:
كان رضي الله عنه من السابقين الأولين في الإسلام، وقد دخل في هذا الدين الحنيف بدعوة من أبي بكر الصديق رضي الله عنه.
لقبه:
كان يلقب رضي الله عنه بذي النورين، وذلك أنه لما أسلم رضي الله عنه أحبه النبي صلى الله عليه وسلم وقربه منه وزوجه ابنته رقية، وماتت عنده في ليالي غزوة بدر، ثم زوجه النبي صلى الله عليه وسلم أختها أم كلثوم، وتوفيت عنده سنة تسعة من الهجرة. وقال له صلى الله عليه وسلم: (لو كانت لنا ثالثة لزوجناك)، ولا يعرف أحد تزوج بنتي نبي غيره، ولذلك سمي: ذا النورين.
بلاؤه في الإسلام:
لقد كان لثروته الطائلة وممتلكاته الواسعة الأثر الكبير في عزة الإسلام وانتصاره، فقد أعد نفسه وماله لنصرة الدين وإعزاز الحق، ولم يحتج المسلمون إلى مدد مالي(1/20)
إلا وكان أول المجيبين، وأكثر الباذلين؛ فقد تبرع لتجهيز جيش العسرة الذي أمر النبي صلى الله عليه وسلم لغزوة تبوك، بثلاثمائة بعير، وخمسين فرساً، وحمل ألف دينار في كمه ووضعها في حجر النبي صلى الله عليه وسلم.
وحينما شكا المهاجرون تغير الماء في المدينة، اشترى رضي الله عنه بئر رومة العذب من صاحبه اليهودي، الذي كان يبيع ماءه بثمن غال، وجعلها للمسلمين.
خلافته رضي الله عنه:
بويع بالخلافة بعد دفن عمر رضي الله عنه بثلاث ليال بعد أن أجمعت الأمة على خلافته، وذلك في سنة ثلاث وعشرين من الهجرة. وكان أول عمل قام به رضي الله عنه حث الولاة على مواصلة العمل، والتزود بتقوى الله، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
كما واصل رضي الله عنه الفتوحات العظيمة التي حققت في عهد الصديق والفاروق، فأرسل جيوشه الجرارة حاملة لواء الإسلام، ففي السنة الأولى من خلافته فتحت الري، وفي سنة سبع وعشرين هجرية غزا عامله معاوية قبرص، وفيها فتحت أرَّجان، وفي هذه السنة غزا عبد الله بن سعد بن أبي السرح إفريقية وافتتحها سهلاً وجبلاً. وفي سنة ثلاثين فتح كثير من بلدان خراسان، وفتحت نيسابور صلحاً. وتوالت الفتوحات في عهده حتى أصبحت راية الإسلام ترفرف بكلمة التوحيد ورسالة العدل والإحسان على شمالي إفريقية، وبلاد كثيرة في آسيا. والأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين.
جمعه المسلمين على مصحف واحد:
من أعظم مآثر عثمان رضي الله عنه أنه جمع المسلمين على مصحف واحد "إمام"، وسبب ذلك أن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه رجع من ساحة القتال في الشام، وعرض على الخليفة ما شاهده وسمعه من اختلاف في قراءة القرآن بين كثير من أهل الشام والعراق، يوشك أن يؤدي إلى فتنة؛ وأشار عليه بتدوين مصحف يقرؤه جميع(1/21)
المسلمين، وبعد استشارة من عثمان لكبار الصحابة أرسل إلى أم المؤمنين حفصة يطلب منها الصحف التي جمعت في خلافة الصديق، وكانت عنده بعد موت عمر، فأرسلت حفصة الصحف، وعرضها على حفظة القرآن من الصحابة، وبعد التأكد من صحتها أمر بنسخها في المصاحف، وأمر بإحراق ما عدا ها المصحف.
ولاشك أن هذا العمل الكريم من أجل الأعمال حيث حفظ كلام الله من التحريف والاختلاف, ووحد قراءته، وحفظ الأمة من الشك والاضطراب.
فتنة محدقة ونهاية مؤلمة:
بعد أن اتسعت الفتوحات الإسلامية وارتفعت الحياة الاقتصادية لكثير من المسلمين، وجدت طائفة فقيرة معدمة دفعها الفقر إلى الحقد والضغينة على أغنياء المسلمين، لاسيما بعد أن سمعت هذه الطائفة الصحابي الجليل أبا ذر الغفاري رضي الله عنه وهو يفتي بعدم جواز حبس فضول الأموال، ووجوب دفعها إلى الفقراء.
ولاشك أن هذا من أسباب الفتنة.
كما أن عبد الله بن سبأ اليهودي الخبيث، الذي أظهر الإسلام وأبطن الكفر، دخل بين المسلمين لتفريق شملهم، وبث الآراء الفاسدة فيهم، فكان له الأثر الفعال في إثارة الفتنة، فهو الذي ألقى إلى أبي ذر فكرة أن المال مال المسلمين، وحرض الفقراء على الأغنياء والحكام، وهو الذي ابتدع فكرة الوصي، وأن الخلافة لعلي فخلق التشيع الذي مزق جماعة المسلمين. وهو الذي اجتهد أن يوقع بين المسلمين وولاتهم ويشيع السوء عن خليفتهم، حتى ثاروا عليه، وكذلك لين عثمان في حكمه والإفراط في الحلم والحياء سبباً لاجتراء الغوغاء عليه والاضطراب في المسلمين، من الذين ضعف إيمانهم، ووهنت عقائدهم. كل ذلك أدى إلى تنمية الفتنة وإيقادها.
ويمكننا أن نعد السبب الأخير المباشر حضور الولاة والأمراء في موسم الحج بأمر من الخليفة، مما أدى إلى أن دعاة السوء والضلال انتهزوا فرصة غياب الولاة عن أمصارهم، وغياب أهل المدينة في الحج والثغور، فأجمعوا أمرهم على أن يخرجوا إلى(1/22)
المدينة، ويقابلوا الخليفة، ويعرضوا عليه شكواهم. وقد أجابهم الخليفة إجابة اقتنع بها الجميع، لكن المؤامرة كانت مدبرة، فقد افتعلوا كتاباً زوروه على الخليفة، نسبوا إليه فيه أنه أمر بقتلهم؛ وعبثاً حاول الخليفة رضوان الله عليه أن يقنعهم بأن الكتاب مزور، وأن يبرأ إلى الله منه، فأصروا، وحاصروه في بيته، وتسوروا عليه الجدار، وقتلوه في داره، في الثامن عشر من شهر ذي الحجة سنة خمس وثلاثين من الهجرة، وهو يتلو كتاب الله.. وهكذا كانت نهايته رضي الله عنه، بعد أن سجل عهده في التاريخ الإسلامي صحائف من نور.
ولقد كان رضي الله عنه كريماً في خلقه، جواداً في ماله، وفياً في وعده وعهده، تقياً في دينه، عطوفاً على الرعية، متواضعاً بكل التواضع، وكان رضي لله عنه من كتاب الوحي، وأحد العشرة المبشَّرين بالجنة، فجزاه الله عن المسلمين خير الجزاء، ورضي الله عنه وأجزل له المثوبة والعطاء.
ما جاء في فضله رضي الله عنه:
عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مضطجعاً في بيتي كاشفاً عن فخذيه أو ساقيه، فاستأذن أبو بكر رضي الله عنه فأذن له، وهو على تلك الحال، فتحدث. ثم استأذن عمر رضي الله عنه، فأذن له وهو كذلك، فتحدث. ثم استأذن عثمان رضي الله عنه، فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم وسوى ثيابه، فدخل وتحدث، فلما خرج، قلت: يا رسول الله، دخل أبو بكر فلم تنهض له ولم تباله، ثم دخل عمر فلم تهتم له ولم تباله، ثم دخل عثمان فجلست وسويت ثيابك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ألا أستحيي من رجل تستحيي منه الملائكة).(1/23)
المناقشة
1- لقب سيدنا عثمان بن عفان بذي النورين.
اشرح السبب في هذا اللقب.
2- لعثمان بن عفان بلاء عظيم في الإسلام.
اشرح هذه العبارة.
3- اذكر كيف جمع عثمان المسلمين على مصحف واحد (إمام)؟
4- ما أهم الفتوحات التي تمت في عهد سيدنا عثمان رضي الله عنه؟
اشرح النهاية المؤلمة التي انتهت بها حياة سيدنا عثمان.
5- ذاكراً أهم أسباب الفتنة.(1/24)
علي بن أبي طالب رضي الله عنه
نسبه:
هو الخليفة الرابع علي بن أبي طالب بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف ابن قصي القرشي الهاشمي.
وأمه فاطمة بنت أسد بن هاشم بن عبد مناف.
مولده ونشأته رضي الله عنه:
ولد رضي الله عنه بمكة المكرمة قبل البعثة بعشر سنين، ونشأ في أحضان النبي صلى الله عليه وسلم، وظفر بعطفه وحنانه، وسعد بخلقه وصفاته، وقد كرمه الله وأجله، فلم يسجد لصنم قط، ولذلك يقال له بعد ذكر اسمه "كرم الله وجهه".
إسلامه رضي الله عنه:
أخرج أبو يعلي عن علي رضي الله عنه قال: (بعث النبي صلى الله عليه وسلم يوم الاثنين وأسلمت يوم الثلاثاء)، فكان رضي الله عنه أول من آمن بالنبي صلى الله عليه وسلم بعد خديجة رضي الله عنها؛ لأنه تأثر بالنبي صلى الله عليه وسلم في أخلاقه وتفكيره وطباعه، وبعده عن أكدار الكفر وشوائب الشرك، لذلك اطمأن قلبه إلى دين الفطرة السليمة، وارتاحت نفسه إلى العقيدة القويمة.
تضحيته وإيثاره:
في اليوم الذي هاجر فيه النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة المنورة أمر عليا رضي الله عنه أن يبقى في مكة، ليعيد الودائع التي كانت عند النبي صلى الله عليه وسلم إلى أصحابها، وأمره كذلك أن ينام على فراشه ويتدثر ببرده في تلك الليلة الحاسمة التي اجتمع فيها فتيان قريش بباب النبي صلى الله عليه وسلم ينتظرون خروجه ليقتلوه.وبات علي رضي الله عنه مكانه حتى الصباح. ولا شك أن هذا العمل مثل رائع في التضحية والفداء والإيثار.(1/25)
شجاعته النادرة رضي الله عنه:
لقد عرف رضي الله عنه بالشجاعة النادرة، والبطولة الفائقة، والبسالة العظيمة، كما حدثتنا مواقفه البطولية، ومن أهم هذه المواقف:
مبارزته لعمرو بن ود فارس جيش المشركين يوم الخندق: كان علي في ذلك الحين صغير السن، لا يقارن بعمر وبن ود، ولا بمن هو أقل منه، ولكن بقوة إيمانه وتضحيته النادرة استطاع أن يصرع فارس قريش ويرديه قتيلا.
موقفه يوم خيبر: بعد أن أعطاه النبي صلى الله عليه وسلم الراية، ودعا له بالفتح. فقد ثبت في ذلك اليوم أن عليا رضي الله عنه بارز مرحبا قائد اليهود فصرعه، ولما راح ترسه تناول بابا عند الحصن وتترس به عن نفسه، ولم يزل في يده وهو يقاتل حتى فتح الله على المسلمين. (ولقد حاول ثمانية من أبطال المسلمين أن يقلبوا هذا الباب فلم يستطيعوا). ويكفبه ذلك الموقف شجاعة وبسالة وقوة.
خلافته رضي الله عنه:
بويع رضي الله عنه بالخلافة في اليوم الثاني من مقتل عثمان رضي الله عنه، وذلك أن كثيراً من الصحابة خشي مضاعفات الفتنة. والظروف القاسية توجب وجود إمام للدولة، يرعى مصالحها، وينهض بأعباء الخلافة وسط الاضطرابات والفتن التي هبطت عليها، فاتجهت أنظارهم إلى علي بن أبي طالب لمكانته من المسلمين، ولما عرفوا فيه من الحزم والقوة والحكمة. فاضطر رضي الله عنه إلى قبول الخلافة، ولم تدع له ظروف المحنة التي بويع فيها أن يبلي بلاءه في الإصلاحات والفتوحات.
فقد تولى الخلافة وأمور المسلمين تضطرب وتمور، كأنما تغلي بها القدور، ولكنه مع ذلك ترك مثلاً عليا للأمة في العدل والقضاء، وشرف التعامل والزهد في الدنيا، والنصح للأمة.
فبادر رضي الله عنه في مطلع سياسته بعزل ولاة عثمان رضي الله عنه الذين كانوا سبباً من أسباب الشكوى، وداعياً من دواعي الفتنة، وأشار على المطالبين بدم عثمان بالتريث حتى تستقر الأمور، وتهدأ الأحوال، ولكن المطالبين بدم عثمان -وفي(1/26)
مقدمتهم معاوية- لم يستجيبوا لرأي الخليفة، وأعلنوا العصيان والثورة، وأخذوا يطالبون علياً بالقصاص من الذين أوقدوا الفتنة، وقتلوا عثمان، وأنى له ذلك في وسط هذا الاضطراب وهذه الفوضى؟.
استعد علي للخروج إلى الشام لمجابهة الواقع، وإطفاء الفتنة، ولكن خرج عليه طلحة والزبير، وذهبا إلى مكة وانضما هناك لأم المؤمنين عائشة، وكانت غاضبة لهذه المأساة تطالب بدم عثمان، ثم انتقلوا جميعاً إلى البصرة وطالبوا علياً بدم عثمان فأصبح علي رضي الله عنه بين نارين: نار في البصرة، وأخرى في الشام، فعزم على أن يطفئ نار البصرة أولا.
موقعة الجمل:
اتجه رضي الله عنه بجنده إلى العراق' وفي البصرة التقى بطلحة والزبير وعائشة ومن معهم، وراسلهم وفاوضهم ودعاهم للصلح، حتى أوشك الصلح أن يتم بينهم، ولكن عناصر الفتنة بادروا بإذكاء النار وبدء القتال حتى لا يتم الصلح، أو تستقر الأمور، ويُؤْخَذُ مدبروا الفتنة و قتلة عثمان.
وفعلاً تم لهم ما أرادوا، وحصلت موقعة الجمل في السنة السادسة والثلاثين في جمادى الآخرة بين علي وصحبه، وبين طلحة والزبير وعائشة ومن معهم، وأزهقت في تلك الموقعة أرواح كثيرة، انتصر فيها علي، وقتل فيها طلحة والزبير، وأكرم علي عائشة وأرجعها إلى المدينة.
معركة صفين والتحكيم:
في شهر صفر سنة سبع وثلاثين التقى علي وصحبه بمعاوية ومؤازريه في صفين، ودام القتال بينهم أياماً، وعندما لاح النصر لأصحاب علي رفع أهل الشام المصاحف على رؤوس الرماح رمزاً لقبول القرآن حكماً بينهم، ولم يعلم أصحاب علي أنها مكيدة دبرها عمرو بن العاص، فوقف القتال بينهم، وتداعوا إلى الصلح، واختار كل من ينوب عنه لعقد الصلح، فاختار أصحاب علي أبا موسى الأشعري،(1/27)
واختار معاوية عمرو بن العاص.
واجتمع الحكمان في دومة الجندل في رمضان من عام 37 هـ. ولم يتفقا على شيء ورجعا من غير تفاهم.
هلال يغيب:
لقد اغتنم الخوارج هذه الظروف الحرجة، التي كثرت فيها الاضطرابات، وحصلت فيها الفتن والخلافات بين علي ومعاوية، فدبروا مؤامرتهم الخبيثة، وبيتوا عملهم الإجرامي، واتفقوا بينهم على أن يتخلصوا من علي ومعاوية وابن العاص في ليلة واحدة، وفي وقت واحد، وعينوا ثلاثة منهم ليقوموا بهذا العمل الإجرامي، وهم: عبد الرحمن بن ملجم، والبرك بن عبد الله التميمي، وعمرو بن بكر التميمي، على أن يقوم ابن ملجم بقتل علي، والبرك بقتل معاوية، وعمرو بقتل عمرو بن العاص، ثم توجه كل منهم إلى البلدة التي فيها صاحبه لتنفيذ المؤامرة، فأما معاوية وعمرو بن العاص فقد أخطأهما التدبير، وأما علي بن أبي طالب فاستطاع ابن ملجم أن يقتله بسيفه وهو ينادي لصلاة الفجر. ومات رضي الله عنه في السابع عشر من شهر رمضان سنة أربعين.
مات رضي الله عنه وترك لرعيته مثلاً عليا وقيماً جليلة، يسيرون على منوالها، ويسلكون طريقها من الزهد في الدنيا، والرغبة في الآخرة، ونماذج رائعة من الشجاعة والبسالة والمروءة والوفاء واحترام العهود، فرحمه الله و رضي الله عنه، وجزاه عن المسلمين خير الجزاء.
ما جاء في فضله رضي الله عنه:
عن سهل بن سعد رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوم خيبر: (لأعطين هذه الراية رجلا يفتح الله على يديه، يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله). قال: وبات الناس يدوكون ليلتهم أيهم يعطاها، قال: فلما أصبح الناس غدوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، كلهم يرجو أن يعطاها، فقال صلى الله عليه وسلم: (أين علي بن أبي طالب؟) فقالوا: هو يا رسول(1/28)
الله يشتكي عينه، قال: فأرسلوا إليه، فأتي به فبصق رسول الله صلى الله عليه وسلم في عينه ودعا له فبرأ حتى كأن لم يكن به وجع. فأعطاه الراية. فقال علي رضي الله عنه: يا رسول الله، أقاتلهم حتى يكونوا مثلنا؟ قال: (انفذ على رسلك حتى تنزل بساحتهم، ثم ادعهم إلى الإسلام، وأخبرهم بما يجب عليهم من حق الله فيه، لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم). وعن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب في غزوة تبوك فقال: يا رسول الله، تخلفني في النساء والصبيان؟ فقال: (أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى؟ غير أنه لا نبي بعدي)
من كلامه رضي الله عنه:
1- ليس الخير أن يكثر مالك وولدك، ولكن الخير أن يكثر عملك ويعظم حلمك.
2- لا يرجون عبد إلا ربه، ولا يخافن إلا ذنبه، ولا يستحي إذا لم يعلم أن يتعلم، ولا يستحي إذا سئل عما لا يعلم أن يقول: لا أعلم، واعلموا أن الصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد، ولا خير في جسد لا رأس له.
المناقشة
1- لنشأة سيدنا علي كرم الله وجهه ورضي عنه أثر في إسلامه، اكتب في ذلك.
2- لسيدنا علي رضي الله عنه موقف فدائي رائع ليلة الهجرة, اشرح ذلك.
3- كانت للإمام علي رضي الله عنه مواقف نادرة في الشجاعة، وضح ذلك.
4- كيف تولى سيدنا علي رضي الله عنه الخلافة؟ وما الأعمال التي قام بها؟
5- اذكر أهم المواقع التي قام بها الإمام علي بعد توليته الخلافة, وما نتائج هذه المعارك؟
6- اذكر النهاية المؤلمة التي انتهت إليها حياة الإمام علي كرم الله وجهه.
7- اذكر بعض ما جاء في فضل الإمام علي كرم الله وجهه.(1/29)
أبو عبيدة بن الجراح رضي الله عنه
نسبه رضي الله عنه:
هو: عامر بن عبد الله بن الجراح القرشي، يجتمع مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في جده فهر. وكنيته أبو عبيدة، وقد غلبت عليه حتى أصبح لا يعف إلا بها. وأمه أُمَيْمَة بنت غَنْم. ولد بمكة قبل البعثة بست وعشرين سنة.
نشأته رضي الله عنه:
نشأ أبو عبيدة في مكة المكرمة بين شباب قريش، يدين بدينهم، ويدافع عن معتقداتهم، وعرف منذ حداثته في الجاهلية بسداد الرأي، ورجاحة العقل، والدهاء' حتى قيل: داهيتا قريش: أبو بكر الصديق، وأبو عبيدة بن الجراح.
إسلامه رضي الله عنه:
كان أبو عبيدة من الذين شرح الله صدورهم للإسلام، فقد أسلم على يد أبي بكر الصديق عندما وجه إليه الدعوة، وكان ذلك قبل دخول الرسول صلى الله عليه وسلم دار الأرقم بن أبي الأرقم، فهو من السابقين إلى الإسلام، ومن العشرة المبشرين بالجنة، ولقبه الرسول صلى الله عليه وسلم بأمين هذه الأمة.
بلاؤه في الإسلام رضي الله عنه:
كان أبو عبيدة ممن أوذي بسبب اعتناقه للإسلام، فهاجر مع المهاجرين إلى الحبشة، ثم إلى المدينة حيث آخى النبي صلى الله عليه وسلم بينه وبين سعد بن معاذ، سيد الأوس، ومن الذين شهدوا بدراً وأحداً، والمشاهد كلها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبلى يوم أحد أعظم البلاء.
أ. أبو عبيدة في بدر:
امتحن الصحابي الجليل في عقيدته وإيمانه يوم بدر، وكان اختباره فيها شديداً(1/30)
قاسياً، فقد التقى أبو عبيدة بوالده عبد الله في جيش المشركين، فكان أبو عبيدة يحيد عنه امتناعاً عن قتله، ولا يطاوعه قلبه أن يمسه بسوء، امتثالاً لأمر الله فيه، ولكن والده المشرك لذي لم تعرف الرحمة إلى قلبه سبيلاً، كان حريصاً على قتله، وأخذ يتحدى ابنه ويتقصده في عناد وإصرار للقضاء عليه. ولما ضاق أبو عبيدة ذرعاً بإصرار والده على قتله، وبما يضمره له ولدينه في قلبه من حقد وسوء اضطر إلى قتله، وبذلك ضرب المثل الرائع للأجيال المتعاقبة، وهو أن عقيدة المسلم أعز على صاحبها من الوالد المشرك، وفي ذلك يقول الله تعالى:
(لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آَبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ)(1).
ب. أبو عبيدة في معركة أحد:
أبلى أبو عبيدة يوم أحد بلاء حسنا، فقد ثبت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حين انهزم المسلمون وتفرقوا عنه في الوادي، فأخذ يدافع عنه دفاع المستميت، ولما دخلت حلقة المغفر في وجهه صلى الله عليه وسلم. كان أول من بادر بنزعها أبو عبيدة، فسقطت له ثنيتان، فحسن ثغره بذهابهما حتى قيل: ما رئي هتم قط أحسن مم هتم أبي عبيدة. ولقد كان أبو عبيدة موضع ثقة الرسول صلى الله عليه وسلم وحبه، فلما قدم أهل اليمن على الرسول يطلبون منه أن يبعث معهم رجلاً، أخذ بيد أبي عبيدة وقال لهم:(هذا أمين هذه الأمة).
ج. أبو عبيدة في الشام:
كان أبو عبيدة قائداً على جيش من جيوش المسلمين الذين توجهوا لفتح الشام، فأمر أبو بكر رضي الله عنه جميع القادة قائلا: إذا اجتمعتم على قتال، فأميركم أبو عبيدة. وما كادت جيوش المسلمين تصل أرض الشام، حتى أرسل هرقل جيوشه وقواده باتجاه المسلمين، حتى لا يتمكنوا من توحيد صفوفهم، ويجتمعوا على قتال الأعداء، ففطن أبو عبيدة لهذه المؤامرة، ولم يمكن هرقل من مقصده، فاتحد قادة
__________
(1) سورة المجادلة(1/31)
المسلمين بقيادة أبي عبيدة، وتم لهم النصر العظيم في أول لقاء بين الروم والمسلمين.
د. أبو عبيدة في اليرموك:
اجتمع جيش المسلمين في اليرموك بقيادة خالد بن الوليد رضي الله عنه، وجعل أبا عبيدة قائداً على قلب الجيش، ولم أكمل استعداده وتنظيمه جاءت الأنباء تحمل نبأ وفاة أبي بكر رضي الله عنه، وتولية عمر بن الخطاب أمر الخلافة، وعزل خالد عن القيادة، وتأمير أبي عبيدة قائداً عاماً للجيش، فاستطاع بحسن قيادته أن يدخل بقلب جيشه إلى صفوف العدو، حتى أصبح بين خيلهم ومشاتهم، وأفسح المجال لخيل الأعداء، فأسرعت تهيم بمن عليها في الصحراء تاركة ساحة المعركة إلى المشاة الذين ظلوا يقاومون هجوم المسلمين، ولكن هيهات. فقد حمل المسلمون عليهم حملة صادقة، فتفرق جمعهم، وتشتت شملهم، وانتهت المعركة بنصر الله للمسلمين على الروم في هذه المعركة الحاسمة، التي كانت سبباً في فتح أبواب أرض الشام أمام المسلمين.
هـ. أبو عبيدة في التاريخ:
يذكر التاريخ لأبي عبيدة جهده الطويل بسيفه ولسانه لإعلاء كلمة الله، ففي عهد الرسول صلى الله عليه وسلم كان موضع ثقته ورضاه، ولقد وقف أبو عبيدة في يوم السقيفة موقفاً رائعاً حينما رشح أبو بكر عمر بن الخطاب، وأبا عبيدة للخلافة، وقال: رضيت لكم أحد هذين الرجلين، عمر وأبا عبيدة أمين هذه الأمة، فقال كل منهما: لا ينبغي لأحد غيرك يا أبا بكر، ثم بايعه على الخلافة.
وكان أبو عبيدة أول من تولى أمر المال في خلافة أبي بكر، وإليه يرجع الفضل في فتح بلاد الشام التي أمدت المسلمين بالكثير من المجاهدين، وهو من الذين فرضوا على أنفسهم الجهاد، فلم يعش لنفسه بقدر ما عاش للمسلمين. حقاً لقد جاهد أبو عبيدة في سبيل الله أعظم الجهاد وأبلى أحسن البلاء، وبقي يجاهد ولم يسقط السيف من يده إلى آخر لحظة من حياته..(1/32)
زهده:
كان أبو عبيدة يعتبر المنصب تكليفا، ولا تشريفا، فلما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى بعض الناس أبا عبيدة ليبايعوه بالخلافة فقال لهم:
أتأتوني وفيكم ثالث ثلاثة؟ يريد أبا بكر الصديق، وكان لا يهتم بمتاع الدنيا وزخارفها، فلما أرسل إليه عمر بن الخطاب رضي الله عنه أربعة آلاف درهم وأربعمائة دينار، مع رسوله وقال له: انظر ما يصنع بها. فلما أخذها أبو عبيدة قسمها على الجنود، فلما أخبر عمر رضي الله عنه ما صنع أبو عبيدة بالمال قال: الحمد لله الذي جعل في الإسلام من يصنع هذا.
ولما قدم عمر إلى الشام تلقاه الأمراء والعظماء، فقال عمر: أين أخي؟ فقالوا: من؟ قال: أبو عبيدة. قالوا له: يأتيك الآن. ثم حضر إليهم على ناقة مخطومة بحبل,فسلم عليه، فقال له عمر: اذهب بنا إلى منزلك يا أبا عبيدة، فسار معه حتى أتى منزله، فدخل عليه فلم يجد إلا سيفاً وترساً، وقربة ماء بالية، فطلب عمر طعاماً، فلم يجد غير لقيمات من الخبز، فبكى عمر، فقال له أبو عبيدة: قلت لك إنك ستعصر عينيك علي يا أمير المؤمنين؛ يكفيك من الزاد ما بلغك المحل. فقال عمر: غيرتنا الدنيا كلنا غيرك يا أبا عبيدة.
علمه:
كان أبو عبيدة فقيهاً عالماً، مثالاً للخلق الكريم والإيمان العميق، فلا عجب أن يقول له الرسول صلى الله عليه وسلم: (نعم الرجل أبو عبيدة). ولما طلب أهل اليمن من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبعث معهم رجلاً من أصحابه ليعلمهم السنة والإسلام، أخذ النبي صلى الله عليه وسلم أبا عبيدة من يده وقال: (هذا أمين هذه الأمة)، وكان من أصحاب الفتيا من الصحابة، ومن الذين نالوا شرف المشاركة في جمع القرآن الكريم.
وفاته:
لما ظهر الطاعون بالشام، كان أبو عبيدة والياً عليها، فلما علم أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه باستفحال المرض أرسل إلى أبي عبيدة ليخرج بعيداً عن هذا(1/33)
الوباء، فكتب إلى عمر يقول له: قد عرفت حاجتك إلي، وإني في جند المسلمين، ولست أريد فراقهم، حتى يقضي الله فيَّ وفيهم أمره وقضاءه. وقد أصيب رضي الله عنه بالطاعون لينال شرف الشهادة، فتوفي في عمواس سنة ثماني عشرة للهجرة، وله من العمر ثمان وخمسون سنة، رحم الله أبا عبيدة رضي الله عنه، عاش مجاهداً، ومات مجاهداً في سبيل إعلاء كلمة الله.
المناقشة
1- أين نشأ أبو عبيدة رضي الله عنه؟ وبماذا كان يعرف في الجاهلية؟ وماذا قيل فيه؟
2- كان أبو عبيدة رضي الله عنه من السابقين الأولين إلى الإسلام، اذكر كيف اعتنق أبو عبيدة الإسلام، وماذا لحقه بسبب ذلك؟
3- امتحن أبو عبيدة يوم بدر امتحاناً قاسياً، فما هو؟ وعلى أي شيء يدل موقفه يوم ذاك؟
4- لقد أبلى أبو عبيدة رضي الله عنه يوم أحد بلاء حسناً، وضح ذلك.
5- ماذا قال الرسول صلى الله عليه وسلم في حق أبي عبيدة؟
6- ما الأدلة التي يمكنك أن تذكرها لتستدل بها على زهد أبي عبيدة رضي الله عنه؟(1/34)
عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه
نسبه:
هو عبد الله بن عمرو بن العاص بن وائل بن هاشم بن سعيد بن سهم القرشي، ويكنى: أبا محمد. وأمه: ريطة بنت منبه بن الحجاج السهمي. وقيل: ولد رضي الله عنه بعد أبيه باثنتي عشرة سنة "الاستيعاب".
نشأته:
نشأ عبد الله بن عمرو بمكة المكرمة في بيت عرف بالغنى والثروة، فقد كان والده يعمل بالتجارة، ويتنقل بين بلاد اليمن والشام ومصر، حتى استطاع أن يكون ثروة طائلة نعم بها أبناؤه في حياته وبعد وفاته، وقد اشتهر عبد الله منذ حداثته بالذكاء، وقوة الذاكرة، وسرعة الخاطر، وسداد الرأي، كما عرف بالشجاعة والحزم.
إسلامه وبلاؤه:
كان عبد الله من السابقين إلى الإسلام، فقد أسلم قبل أبيه، وصحب النبي صلى الله عليه وسلم، وهاجر إلى المدينة قبل الفتح، واشترك في حروب الشام ومصر.
كتابته:
كان عبد الله فقيها، وعالما فاضلا، حفظ القرآن الكريم، وقرأ الكتب القديمة -التوراة وغيرها- وتعلم السريانية، وهو أحد المكثرين في الرواية عن النبي صلى الله عليه وسلم، فقد استأذن الرسول صلى الله عليه وسلم في أن يكتب حديثه، فأذن له. ثم قال له عبد الله: اكتب كل ما أسمع منك في الرضا والغضب؟ فقال صلى الله عليه وسلم: (نعم، إني لا أقول إلا حقا) "الاستيعاب" فكتب عند الله كل ما سمعه، فكان يسمي صحيفته "الصادقة"، فقد روي عن مجاهد قال: رأيت عند عبد الله بن عمرو صحيفة، فسألته عنها، قال: (هذه الصادقة فيها ما سمعت من رسول(1/35)
الله صلى الله عليه وسلم، ليس بيني وبينه فيها أحد).
وقال أبو هريرة رضي الله عنه: (ما كان أحد أحفظ لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم مني، إلا عبد الله بن عمرو، فإنه كان يعي بقلبه، وأعي بقلبي، وكان هو يكتب، وأنا لا أكتب، استأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك فأذن له). وقال عبد الله بن عمرو: لقد حفظت عن النبي صلى الله عليه وسلم ألف مثل "الاستيعاب".
راجع رسول الله صلى الله عليه وسلم في ختم القرآن الكريم، فقال عليه الصلاة والسلام: (اختمه في شهر). فقال عبد الله بن عمرو: إني أطيق أفضل من ذلك، فلم يزل يراجعه حتى قال: (لا تقرأ في أقل من سبع). فوقف عند ذلك.
وروي له سبعمائة حديث، وهي قليلة بالنسبة لكثرة ما عنده من الأحاديث لأن إقامته في مصر حينا، وفي الطائف حينا آخر، كانت سببا في قلة الواردين عليه.
روى عبد الله بن عمرو رضي الله عنه عن الرسول صلى الله عليه وسلم، وعن عمر بن الخطاب، وأبي الدرداء، ومعاذ بن جبل، وعبد الرحمن بن عوف وغيرهم رضي الله عنهم ومن الذين رووا عنه رضي الله عنه: عبد الله بن عمر، والسائب بن يزيد، وابن المسيب، وطاووس، وعكرمة بن أبي جهل وغيرهم رضي الله عنهم.
مواقفه:
1- لما تولى علي بن أبي طالب رضي الله عنه الخلافة، وعين عماله على الأمصار، لم يكن عمرو بن العاص من بينهم، فعلم أنه لم يكن له نصيب من الإمارة في خلافة علي. وفي ذلك الوقت، جاءه كتاب من معاوية يدعوه فيه إلى الانضمام إليه ضد علي كرم الله وجهه ورضي الله عنه، ولما علم فحوى كتاب معاوية دعا ولديه: عبد الله ومحمدا، واستشارهما في الأمر، فقال له عبد الله: أيها الشيخ، إن رسول الله صلى عليه وسلم قبض وهو راض عنك، وكذلك أبو بكر وعمر، فارق كل منهما الحياة وهو راض عنك، فإنك إن تفسد دينك بدنيا يسيرة تصيبها مع معاوية، فتضجعان غدا في النار.
ثم قال عمرو لابنه محمد: ما ترى، فقال محمد لأبيه: بادر إلى هذا الأمر، فكن(1/36)
فيه رأسا قبل أن تكون ذنبا. فقال عمرو يخاطب ابنيه: أما أنت يا عبد الله فقد أمرتني بالذي هو أسلم لي في ديني، وأما أنت يا محمد فأمرتني بالذي هو أنبه لي في دنياي، وأشر لي في آخرتي.
2- وقد اعتذر عبد الله رضي الله عنه من شهوده معركة صفين، وأقسم أنه لم يرم فيها برمح ولا سهم، وإنما شهدها بأمر من أبيه، وإصراره على ذلك، واستجابة لقول الرسول صلى الله عليه وسلم له :(أطع أباك). ومما روي عنه أنه قال: (مالي ولصفين، مالي ولقتال المسلمين، والله لوددت أني مت قبل هذا بعشر سنين)، ثم يقول: (أما والله ما ضربت فيها بسيف، ولا طعنت برمح، ولا رميت بسهم، ولوددت أني لم أحضر شيئا منها، وأستغفر الله عزوجل من ذلك وأتوب إليه).
زهده وتقواه:
كان عبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنهما- من أكثر الناس اجتهادا في العبادة فكان يصوم النهار ويقوم الليل، كثير التلاوة لكتاب الله تعالى، خيرا مقبلا على طاعة ربه، حتى شكاه أبوه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال صلى الله عليه وسلم: (إن لعينك عليك حقا، وإن لأهلك عليك حقا، قم ونم، وصم وأفطر، صم ثلاثة أيام من كل شهر، فذلك صيام الدهر). فقال: إني أطيق أكثر من ذلك، فلم يزل يراجعه في الصيام حتى قال له: (لا صوم أفضل من صوم داود، كان يصوم يوما، ويفطر يوما). فوقف عبد الله عند ذلك، وداوم عليه.
وفاته:
استقر عبد الله بن عمرو رضي الله عنه في آخر حياته بمصر، وابتنى بها دارا له، ولم يزل بها حتى لحقت روحه الطاهرة بخالقها، وكان ذلك في ذي الحجة سنة ثلاث وستين، وله من العمر اثنتان وسبعون سنة.(1/37)
المناقشة
1- بم تميز البيت الذي نشأ فيه عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما؟ وبماذا اشتهر؟
2- ماذا تعرف عن عبد الله رضي الله عنه في الإسلام؟
3- ماذا قال عبد الله رضي الله عنه عن الصحيفة الصادقة؟ وماذا قال أبو هريرة رضي الله عنه في رواية عبد الله رضي الله عنه للحديث؟
4- من أشهر من روى عن عبد الله رضي الله عنه؟ ومن أشهر من روى هو عنهم؟
5- حفظ عبد الله رضي الله عنه القرآن الكريم. فماذا دار بينه وبين النبي صلى الله عليه وسلم في مسألة الختم؟
6- اذكر موقف عبد الله من أبيه عمرو رضي الله عنهما يوم استشاره في الانضمام إلى معاوية. ثم اذكر رد أبيه عليه.
7- لعبد الله رضي الله عنه موقف مشهود م صفين. ما هذا الموقف؟ وماذا قال فيه؟
8- لم شكا عمرو ابنه رضي الله عنهما إلى النبي صلى الله عليه وسلم؟ وماذا قال النبي صلى الله عليه وسلم؟
9-أين توفي عبد الله رضي الله عنه؟ ومتى؟ وكم كان عمره؟(1/38)
سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه
نسبه رضي الله عنه:
هو الصحابي الجليل سعد بن مالك بن وهيب بن عبد مناف بن زهرة بن كلاب القرشي أبو إسحاق بن أبي وقاص يجتمع مع النبي صلى الله عليه وسلم في جده كلاب. وهو أحد السابقين إلى الإسلام، وأحد العشرة المبشرين بالجنة، وأحد الستة أصحاب الشورى، ومن الذين شهدوا بدراً وأحداً، والمشاهد كلها وهو الذي بنى الكوفة ووليها لعمر بن الخطاب. وأمه جهنة بنت سفيان بن أمية.(1)
نشأته رضي الله عنه:
نشأ سعد بن أبي وقاص منذ حداثته، فتى قوياً، وشجاعاً مقداماً، وعاملاً صبوراً في مصاف العاملين. ميالاً إلى حياة الجد والكفاح، فانصرف إلى صناعة القسي، وبري السهام، وأجاد الرمي بها، حتى صار فيها بعد بطلاً رامياً، سجل اسمه في صفحات التاريخ.
إسلامه رضي الله عنه:
كان سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه في مستهل حياته مشركاً يعتنق دين آبائه، يعبد الأصنام والأوثان، غير أنه لم يطل به العهد بتقديس المعتقدات الباطلة، فقد تفتح قلبه لدعوة محمد صلى الله عليه وسلم الإسلام، وشرح الله صدره للإسلام، وهو ابن سبعة عشرة سنة، ولم يكن قد سبقه إلى الإسلام سوى أبي بكر رضي الله عنه، وعلي بن أبي طالب رضي الله عنه، وزيد بن الحارثة رضي الله عنه. فلما دعاه أبو بكر للإسلام، أسلم وحسن إسلامه.
ويتحدث سعد رضي الله عنه عن إسلامه، فيقول: رأيت في منامي قبل أن أسلم بثلاث، كأني في ظلمة لا أبصر شيئاً، إذ أضاء لي قمر فاتبعته، فكأني أنظر إلى من
__________
(1) أمية بن عبد شمس بن عبد مناف(1/39)
سبقني إلى ذلك القمر، فأنظر إلى زيد بن الحارثة، وإلى علي بن أبي طالب، وإلى أبي بكر، وكأني أسألهم: متى انتهيتم إلى ها هنا؟ قالوا: الساعة. وبلغني من أبي بكر رضي الله عنه أن الرسول صلى الله عليه وسلم يدعوا إلى الإسلام مستخفياً، فلقيته في شعب أجياد، وقد صلى العصر، فأسلمت، فما تقدمني أحد غيرهم.
موقف أمه من إسلامه:
كان سعد باراً بأمه، عطوفاًعليها، فلما علمت بإسلامه، أغلظت له القول، وأنكرت عليه دينه الجديد، وغضبت عليه غضباً شديداً، وآلت على نفسها، ألا تذوق طعاماً أوشراباً، حتى يرجع إلى دين آبائه وأجداده، ويكفر بدين محمد، ولكن سعد كان صارماً، فإن الحق الذي آمن به كان أعز عليه منها وأحب إلى قلبه، فأجابها بما لم تكن تتوقه، وقال لها في عزم وإصرار: (تعلمين والله، لو كانت لك مئة نفس، تخرج نفساً نفساً على أن أترك دين الله الذي لا إله إلا هو الحي القيوم، ما رجعت عنه أبداً). فالتفتت إليه قائلة: سأبقى هكذا حتى أموت، فتركها في غيها وانصرف، فعادت إلى تناول طعامها وشرابها، بعدما أشرفت على الهلاك، ثم أخذت تتفنن في إيذائه بالسب تارة والضرب تارة أخرى، فكان يقابل أذاها بالتحمل والصبر، وأخيراً توجه إلى النبي صلى الله عليه وسلم يستشيره في أمرها، فنزل في شأنها قول الله تعالى:
(وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس به فلا تطعهما وصاحبهما في الدنيا معروفا) (لقمان: 15)
فطابت نفس سعد، وامتثل أمر ربه، وكان نزول هذه الآية الكريمة توضيحاً للمنهاج العملي في الصلة بين الابن المسلم وأبويه المشركين.
جهاده وبلاؤه في الإسلام رضي الله عنه:
اشتهر سعد رضي الله عنه بين أعلام المسلمين، بأنه أول من أراق دماً في(1/40)
الإسلام، وأول من رمى سهماً من المسلمين في سبيل الله تعالى، وأول من أوذي بسبب إسلامه، وهو الذي حطم عرش الأكاسرة في العراق، وبطل معركة القادسية التي مهدت الطريق لفتح بلاد الفرس أمام المسلمين.
أ- أول من أراق دماً في الإسلام:
كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في مكة إذ حان وقت الصلاة، ذهبوا إلى الشعاب بعيداً عن الأنظار، ليؤدوا صلاتهم في خفية من القوم، وبينما سعد في نفر من المسلمين يؤدون صلاتهم في شعب من شعاب مكة. إذ ظهر عليه أبو بكر وجماعة من المشركين، وأخذوا يعيبون عليه، ويسخرون من حركاتهم في الصلاة، فلم تتحمل نفس سعد هذا العدوان الآثم، والتحدي والاستفزاز من خصومهم، فثارت حميته، وتناول فك بعير، وضرب به عبد الله بن الخطل، فشج رأسه، وأسال دمه، وبذلك كان سعد أول من وقف من المسلمين موقفاً إيجابياً في الدفاع عن العقيدة وحرية العبادة.
ب- أول من رمى سهماً في سبيل الله تعالى:
كان سعد من المجاهدين الأوائل الذين حملوا السلاح، وخرجوا في أول سرية لاستطلاع أخبار المشركين، والدفاع عن حرمات المؤمنين الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله.
ففي شوال من السنة الأولى للهجرة عقد الرسول القائد صلى الله عليه وسلم، أول راية لعبيدة ابن الحارث بن عبد المطلب، وجعله أميراً على ستين من المهاجرين، من بينهم: سعد ابن أبي وقاص، وأمرهم بالمسير إلى بطن رابغ، لاستطلاع آراء المشركين الذين كانوا تحت إمرة أبي سفيان بن حرب، وعددهم مائتان من رجال قريش، إلا أنه لم يحدث قتال بين الفريقين، غير أن سعداً أبى إلا أن يرجع دون قتال، فأطلق على رجال قريش ما يقرب من عشرين سهماً أصاب بها بعض رجالهم ودوابهم، فكان أول(1/41)
من رمى بسهم في سبيل الله دفاعاً الإسلام والمسلمين.
مشاهد سعد ومواقفه:
شهد سعد رضي الله عن جميع الغزوات، وكان له فيها أثر محمود، فهو أول من تصدى للمشركين بالضرب في كيدهم إلى الإسلام، والصد عنه، ومن الذين شملهم الحصار في زمن مقاطعة قريش المشركين، وأبلى في ذلك أعظم البلاء، حتى روحه أن تزهق لكثرة ما أصابه من جهد وعناء بسبب الحرمان من الطعام، حتى إنه أكل ورق الشجر، والتقط قطعة من الجلد، فأخذها وغسلها وسخنها على النار ثم أكلها، وهو صابر محتسب، وهو أحد الشهود الذين وقعوا على معاهدة الحديبية بين الرسول صلى الله عليه وسلم وقريش، ولقد أبلى سعد بلاءً عظيماً في الغزوات كلها، وخاصة في غزوتي بدر وأحد.
سعد في بدر:
ففي معركة بدر جاهد رضي الله عنه جهاد الأبطال، وأكثر من رمي قريش بالسهام، وكان كلما رمى بسهم، قال: اللهم زلزل أقدامهم، وأرعب قلوبهم. فكان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو له، ويقول: (اللهم استجب لسعد، اللهم سدد رميته). وقال عبد الله بن مسعود: رأيت سعداً يقاتل يوم بدر قتال الفارس للراجل، وهو الذي استطاع أن يعود بأسيرين من المشركين.
سعد في أحد:
أما في معركة أحد، فكان جهاده أكبر وقتاله أروع، فقد روي أنه: رمى العدو بألف سهم، وهو أحد المجاهدين الذين استبسلوا في الدفاع، والذود عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان يمطر قريشاً بنباله حتى فرغت منه، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يناوله السهام، بعد أن تقصفت نصالها ليرمي بها الأعداء ويقول له: (ارم فداك أبي وأمي، ارم فداك أبي وأمي). وظل ثابتاً في مكانه يدافع عن النبي صلى الله عليه وسلم ويقول: اللهم سهمك فارم به عدوك(1/42)
ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (اللهم استجب لسعد، اللهم سدد رميته وأجب دعوته) وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: (ما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يفدي أحداً بأبويه ألا سعداً). وقد استجاب الله تعالى دعاء النبي صلى الله عليه وسلم لسعد، فظل مجاب الدعوة طوال حياته، وبلغ من شدة حب الرسول صلى الله عليه وسلم له أنه كان يفاخر به فيقول: (سعد خالي، فليرني امرؤ خاله).
سعد في العراق وبلاد الفرس:
لما علم أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه بخطورة الموقف في العراق بعد استعداد الفرس لمهاجمة المسلمين قال: (والله لأضربن ملوك العجم بملوك العرب). ثم جمع المسلمين وحثهم على الجهاد، مبيناً لهم خطورة الأمر الذي استدعاهم إليه، وكان في نيته أن يكون القائد العام لجيش المسلمين. إلا أن أصحاب الرأي من كبار الصحابة أشاروا عليه بالبقاء في المدينة، ليمدهم بالنجدات إذا لزم الأمر، وأن يرشح قائداً من القواد الأكفاء، وكان سعد يوم ذاك عاملاً على صدقات هوازن، فوصل كتاب منه حين كان عمر يستشير أهل الرأي من في أمر القائد، وما كاد عبد الرحمن بن عوف يرى كتاب سعد حتى هتف قائلاً: يا أمير المؤمنين، لقد وجدته. قال عمر: من هو؟ فقال: الأسد سعد بن مالك. وكان اختياراً موفقاً، فلما استقر رأي أمير المؤمنين على تعيينه قال: إنه رجل شجاع ضروب بالسيف، رام بالنبل. ثم أرسل عمر إلى سعد يستدعيه على الفور، فلما حضر، قال له: أردتك لأمر جلل. فقال له سعد البطل: أما جابياً فلا، وأما غازياً فنعم، فقال له: بل غازياً.. ثم تسلم قيادة الجيش وهو يعلم أن مهمته خطيرة سيصارع فيها الأكاسرة، وجبابرة الحروب، فقاد جيشاً قليل العدد والعدة ليواجه به جيشاً عظيماً كثير العدد، مجهزاً بجميع وسائل الحرب، ولكن المسلمين الذين آمنوا بربهم، أيقنوا أن النصر من عند الله لا في العدد والعدد، وكان مما أوصاهم به عمر رضي الله عنه: (اجعلوا الله نصب
أعينكم، واعدلوا، ولا تظلموا أحداً، وتذكروا الموت، فإن للموت عبرة، وعليكم بالصبر. ثم دعا لهم بالنصر، وأمر سعداً بالمسير).(1/43)
نظم سعد جيشه وسار به نحو القادسية، لأنها باب الدخول إلى بلاد الفرس، ولما وصل إليها، كون وفداً من المسلمين من ذوي الرأي والشجاعة يحملون كتابه إلى يزدجرد، يطلب منه الموافقة على إحدى ثلاث:
إما الإسلام، وإما الجزية، وإما السيف، وبذلك أقام الحجة على كسرى وقومه، قبل أن يفاجئهم بالقتال متبعاً في ذلك سنة النبي صلى الله عليه وسلم: أن لا يقاتل قوماً حتى يخيرهم بين هذه الثلاث. ثم تهيأ الفريقان للقتال، فأمر سعد بقراءة سورة الجهاد، فلما قرئت أجهش الناس بالبكاء، فكبر سعد وتبعه المسلمون في التكبير، والتحم الفريقان، ودارت رحى المعركة عنيفة ضاربة، ولحق الناس بعضهم بعضاً، وتبادل الفريقان الطعن والضرب، وجاهد المسلمون جهاداً عنيفاً، وقاتلوا قتالاً مريراً بالرغم من تفاوت العدد بين الجيشين، وكان صليل الحديد هو الصوت السائد في سكون الليل البهيم، وبات سعد ليلة لم يبت مثلها، ورأى العرب والعجم أمراً لم يروا مثله، وانقطعت الأخبار والأصوات إلا من صهيل الخيل وصليل السيوف.
أما سعد فكان يتضرع إلى ربه عز وجل بالدعاء أن يحقق النصر للمسلمين، ولما سطع نور الصباح ظهر الخلل في صفوف الأعداء فقد قتل رستم قائد الفرس، وتتابعت هزائمهم، فانهارت معنوياتهم، ولم تقم لهم قائمة بعدها. وبذلك كتب الله تعالى للمسلمين في القادسية النصر العظيم الذي لم يسمع بمثله في التاريخ، ثم عبر إلى المدائن عاصمة الفرس، وخل سعد إيوان كسرى، وصلى فيه ركعتين قرأ فيهما قول الله تعالى: (كم تركوا من جنات وعيون* وزروع ومقام كريم* ونعمة كانوا فيها فاكهين* كذلك وأورثناها قوماً آخرين) (الدخان).
ثم جعل قصر كسرى مسجداً تقام به الصلاة. ويذكر فيه اسم الله تعالى، وجمع من الغنائم الشيء الكثير، ومها ذخائر كسرى ونفائسه، وسيفه ومنطقته، ثم وزع الغنائم على المجاهدين، وأثبت الحق بين الجميع وقال لهم: احبسوا سيف كسرى وتاجه،(1/44)
لنرسلهما إلى أمير المؤمنين بالمدينة المنورة ليكون برهاناً على النصر العظيم فلما رآهما عمر رضي الله عنه قال: (إن قوماً أدوا هذه لأمناء). قال له علي بن أبي طالب رضي الله عنه: (يا أمير المؤمنين، عففت فعفوا، ولو رتعت لرتعوا). ثم اختط سعد مدينة الكوفة لتكون عاصمة جديدة للعراق والفرس، وأقام بها مسجداً، وبيتاً للمال، وداراً للإمارة.
اعتزاله الفتنة:
استقر سعد رضي الله عنه بالمدينة المنورة فكان محل تقدير عمر رضي الله عنه وثقته، ومشورته، فلما ولي عثمان رضي الله عنه الخلافة كان يستشيره في مهم أمور الدولة، ولما علم سعد بمقتل عثمان رضي الله عن حزن حزناً شديداً، ثم توجه إلى منزله، وبكى عليه بكاء حاراً، وقال: (ما بكيت من الدهر إلا ثلاثة أيام: يوم قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويوم قتل عثمان رضي الله عنه، واليوم أبكي على الحق).
كذلك وقف سعد موقف الحياد في الفتنة بين معاوية وعلي رضي الله عنهم، ووضح بنفسه سبب حيده، فقال: (أني لا أقاتل حتى تأتوني بسيف له عينان ولسان وشفتان، فيقول: هذا مؤمن، وهذا كافر) وقال له ابن أخيه هاشم بن عتبة: ها هنا مئة سيف، يرونك أحق بهذا الأمر، فقال سعد: (أريد منها سيفاً واحداً، إذا ضربت به المؤمن لم يصنع شيئاً، وإذا ضربت به الكافر تقطع).
وطلب من ابنه عمر أن يدعو لنفسه بعد قتل عثمان، فلم يفعل وطلب السلامة، واعتزل الفتنة، لذلك آثر العزلة ولزم بيته في منزله بالعقيق، وأمر ألا يحدثه أحد بشيء من أخبار الفتنة، وألا يسمع عنها شيئاً حتى يتفق الجميع على إمام واحد).
مآثره:
كان رضي الله عنه ورعاً فقيهاً، وكان لا يحدث، ولا يفتي إلا إذا وجد نفسه مضطراً للإفتاء، وكان راجح العقل، بعيد النظر، عف اليد واللسان، براً بأهله، وفياً لأصحابه، أحب قريش للناس، بل أحب الناس للناس، وأرفقهم بهم، وكان يتوقى(1/45)
بالقناعة، فمن لم تكن له قناعة، لم يغنه المال). وكان يقتفي آثار النبي صلى الله عليه وسلم فيعمل بعمله، وأوصى بثلث ماله في سبيل الله، وبذلك استحق أن يفاخر به عليه الصلاة والسلام فيقول: (سعد خالي). وهو الذي بنى الكوفة كما أنه شرف بأعماله الخالدة صفحات التاريخ، فلا عجب إذن ألا ينساه الناس، وألا ينساه التاريخ، بل كان ولا يزال وسيبقى مفخرة من أبرز مفاخر الإسلام والمسلمين.
وفاته:
توفي سعد رضي الله عنه بالعقيق عام خمسة وخمسين من الهجرة، وله من العمر بضع وثمانون سنة، وقد أوصى أن يكفن في جبة كان يرتديها حين قاتل المشركين يوم بدر وقال لأهله: كفنوني بها، فإني لقيت المشركين يوم بدر وهي علي، وإنما خبأتها لهذا اليوم، ثم حمل جثمانه الطاهر إلى المدينة المطهرة وصلي عليه في مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم، ودفن بالبقيع، وبذلك كان سعد آخر من توفي من المهاجرين.
فهنيئاً لك يا سعد بما أحرزت من نصر عظيم، فطبت نفساً، وقررت عيناً، فلله ما أسديت، وفي سبيله ماقدمت.
المناقشة
1- ما نسب سعد رضي الله عنه؟ وما الأمور التي كان له سبق فيها؟
2- اذكر ما تعرف عن نشأة سعد رضي الله عنه.
3- ما قصة إسلام سعد رضي الله عنه؟
4- لم يمنع بر سعد رضي الله عنه بأمه من الدخول في الإسلام. وضح ذلك. واذكر ما نزل من القرآن الكريم في هذا الأمر.
5- كان سعد رضي الله عنه الأول في أمور, ما هي؟
6- لم ضرب سعد رضي الله عنه عبد الله بن خطل وشج رأسه؟
7- سعد رضي الله عنه أول من رمى بسهم في الإسلام. متى وأين كان ذلك؟(1/46)
8- اذكر ملخصاً لتاريخ سعد رضي الله عنه في الجهاد وفيما تحمله من أجل الدعوة.
9- ما موقف سعد رضي الله عنه في كل من بدر وأحد؟ وبم كان يدعو له النبي صلى الله عليه وسلم؟
10- كيف تم اختيار سعد رضي الله عنه لحرب الفرس؟ وماذا فعل عندما دخل إيوان كسرى؟
11- ماذا قال عمر رضي الله عنه حين وضع سيف كسرى وتاجه بين يديه؟ وبم رد عليه علي رضي الله عنه؟
12- ما موقف سعد رضي الله عنه من مقتل عثمان رضي الله عنهما؟ وما موقفه من الفتنة بين علي ومعاوية رضي الله عنهما؟
13- اذكر ما تعرف من مآثر سعد، خاصة في إنفاق المال وفي وعظه لابنه.
14- متى توفي سعد رضي الله عنه؟ وأين دفن؟ وماذا كانت وصيته؟(1/47)
خالد بن الوليد رضي الله عنه
نسبه:
هو أبو سليمان خالد بن الوليد بن المغيرة، القرشي، المخزومي. يجتمع مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرة بن كعب. وأبوه الوليد بن المغيرة: سيد من سادات قريش، وأحد زعمائها الذين أرخت قريش بوفاتهم؛ لمنزلته العظيمة بينهم، وهو الذي قال لقريش لما أجمعوا أمرهم على هدم الكعبة وبنائها: يا معشر قريش، لا تدخلوا في بنائها من كسبكم إلا طيباً، ومن أجل ذلك لقب بريحانة قريش, ولقد كان من أكبر المعارضين للإسلام. وفي شأنه نزل قوله تعالى:
(ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا (11) وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا (12) وَبَنِينَ شُهُودًا (13)) (المدثر)
وأمه: لبابة الصغرى بنت الحارث الهلالية، وهي أخت ميمونة أم المؤمنين زوج الرسول عليه الصلاة والسلام. ولد خالد في مكة المكرمة قبل البعثة بسبع وعشرين سنة.
نشأته:
نشأ خالد بن الوليد في بيت عريق في المجد والشرف والزعامة والسيادة، فشب على الشجاعة والإقدام، وكان خطيباً فصيحاً، وشاعراً بليغاً، تولى أعنة -قيادة- الخيل، وهو لا يزال في عنفوان شبابه، متقدماً على فرسان بني مخزوم، وفيهم من هو أكبر منه سناً، مع أن للسن عند العرب أولوية في تولي المناصب الهامة، وقد شهد في الجاهلية بعض المعارك ضد المسلمين. وكان السبب في هزيمتهم يوم أحد.
نشأ خالد على دين قومه يعبد الأوثان والأصنام، فلما بعث محمد صلى الله عليه وسلم هادياً ومبشراً ونذيراً كفر به كأبيه، ثم قاتله مع قومه دفاعاً عن معتقداتهم الباطلة، ولكنه بعدما تبين له الحق واضحاً جلياً ترك قومه، وهاجر إلى المدينة، وأعلن إسلامه, فكان إسلامه ضرباً آخر من البطولة في حسن التبصر والرجوع إلى الحق. لأنه علم أن قتال المشركين للمسلمين ليس مصاولة بين جماعة وجماعة، بل مبارزة بين الحق والباطل،(1/48)
وبين البشر وإرادة الله.
إسلامه:
سبب إسلامه أن أخاه الوليد كان قد سبقه إلى الإسلام، وهاجر إلى المدينة مع المهاجرين، ولما كان الرسول صلى الله عليه وسلم في عمرة القضاء بمكة المكرمة، سأل الوليد عن أخيه قائلاً: أين خالد؟ فقال الوليد: يأتي الله به، فقال صلى الله عليه وسلم: (ما مثل خالد يجهل الإسلام، ولو كان جعل نكايته وحده مع المسلمين على المشركين لكان خيراً له، ولقدمناه على غيره). ثم أرسل الوليد رسالة إلى أخيه خالد يدعوه فيها إلى الإسلام، ويذكر له ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم، فازداد رغبة فيه، وشوقاً إليه، لاسيما وأنه كان قد فكر في الإسلام واقتنع بمبادئه قبل هذه الرسالة بوقت قصير.. فقرر الخروج من مكة المكرمة مهاجراً إلى المدينة في صحبة عثمان بن طلحة، وفي الطريق تقابلا مع عمرو بن العاص، وقصد الجميع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليعلنوا إسلامهم، فلما وصلوا إلى المدينة وعلم صلى الله عليه وسلم بمقدمهم سر سروراً عظيماً، وقال: (رمتكم مكة بأفلاذ كبدها)(1). وكان قدومهم في شهر صفر سنة ثمان من الهجرة، وكان أخوه الوليد في استقبالهم، ثم توجه معهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. فسلموا عليه بالنبوة، فرد صلى الله عليه وسلم السلام بوجه طلق، ثم شهد كل منهم قائلاً: أشهد أن لا إله إلا الله، وأنك رسول الله، فقال صلى الله عليه وسلم لخالد: (الحمد لله الذي هداك. قد كنت أرى لك عقلاً رجوت ألا يسلمك إلا إلى الخير). ثم أسلم مع خالد عمرو بن العاص, وعثمان بن طلحة، فقال خالد للرسول صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله، قد رأيتَ ما كنت أشهد من تلك المواطن عليك معانداً للحق، فدع الله أن يغفرلي. فقال صلى الله عليه وسلم: (إن الإسلام يجب ما قبله). ثم استقر خالد مهاجراً في جوار الرسول صلى الله عليه وسلم بالمدينة، فكان موضع ثقته، ومن كتابه، وقواده.
بلاؤه:
لما أسلم خالد رضي الله عنه، وخالطت بشاشة الإيمان قلبه، آمن بالقضاء والقدر إيماناً لا حدود له، وبأن النفس لن تموت حتى تستوفي رزقها وأجلها، وبأن الجهاد في
__________
(1) بأفلاذ كبدها، يعني أنهم وجوه أهل مكة.(1/49)
سبيل الله لن يقدم أجلاً، وبأن الصبر في ساحة المعركة واجب محتوم، وأن الإسلام يخوض حرباً عادلة؛ لتكون كلمة الله هي العليا فوهب نفسه لها، حقاً لقد كان خالد يدرك قيمة الروح المعنوية في الجنود، ويدرك ما للإيمان والقرآن من أثر في نفوسهم، فكان يعين من يقرأ على الجنود سورة الجهاد والآيات التي تحث على القتال قبل القتال، فيستمعون لمثل قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ (15)) الأنفال 15.
وقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (45)) الأنفال 45.
وكان يختار موضعه دائماً في المقدمة يبارز الأبطال من أعداء الإسلام, فيكفي المسلمين شرهم، ويشرد بهم من خلفهم.
لقد خاض خالد رضي الله عنه خلال اثنتي عشرة سنة فقط، إحدى وأربعين معركة، وقد أحرز في جميعها النصر العظيم، وأبلى في سبيل الله تعالى أحسن البلاء، مما كان له أطيب الأثر في رفع لواء الإسلام وعزة المسلمين.
خالد في معركة مؤتة:(1)
ابتدأ خالد جهده جندياً عادياً بين صفوف المسلمين، ولكن مقدرته القتالية فرضته وأمَّرته، فقد جهز النبي صلى الله عليه وسلم جيشاً بلغ عدده ثلاثة آلاف مجاهد، وكان خالد بن الوليد جندياً مع المجاهدين، وقد جعل الرسول صلى الله عليه وسلم إدارة الجيش لزيد بن حارثة، وقال: (إن أصيب، فالإدارة لجعفر بن أبي طالب، فإن أصيب، فلعبد الله بن رواحة، فإن أصيب فليرتض المسلمون بينهم رجلاً فليجعلوه عليهم), وأمرهم بالتوجه إلى مؤتة، فقابلتهم جموع الروم في جيش لا قبل لهم به، بلغ عدده نحو مائتي ألف أو يزيدون. والتقى الجمعان، فقاتل زيد حتى قتل، ثم تبعه جعفر، فقاتل ى قتل، ثم أخذ
__________
(1) سببها أن الرسول صلى الله عليه وسلم سير هذا الجيش إلى مؤتة للقصاص ممن قتلوا الحارث بن عمير رسوله إلى أمير بصرى.(1/50)
الراية عبد الله بن رواحة، فقاتل حتى قتل، فأخذ الراية ثابت بن أقرم، فقال: يا معشر المسلمين، اصطلحوا على رجل منكم، فاصطلح الناس على خالد بن الوليد، فكيف استطاع بمهارته أن ينقذ جيش المسلمين من فناء أكيد؟.
إن خالداً في مثل هذا أحوج إلى الفكر النافذ منه إلى السيف الصارم، "ورب حيلة أنفع من قبيلة"، فقد حباه الله من ثاقب الفكر وواسع الحيلة ما أغناه عن الإمداد والسلاح،فقام بتغيير نظام الجيش، فجعل المقدمة ساقة، والساقة مقدمة، والميمنة ميسرة' والميسرة ميمنة، وأمر الجنود أن يحدثوا أصواتاً مرتفعة، وأن يثيروا الغبار بالخيل. فأخذت تدور في دوائر ضيقة بسرعة مذهلة مما أرهب العدو، وجعله يعتقد بوصول الإمداد إلى المسلمين فقويت الروح المعنوية في نفوس المجاهدين. فقاتلوا العدو قتالاً شديداً مع قلتهم، وكثرة عدوهم. وبذلك استطاع خالد أن ينقذ جيش المسلمين بانسحابه دون أن يعرف العدو ذلك، وظن الروم أن خالداً إنما يخدعهم ويستدرجهم إلى الصحراء، فإذا دخلوا وراءه ربما قام المسلمون بحركة التفاف حولهم تقضي عليهم، وبذلك تقهقروا وتركوا القتال، وتم انسحاب المسلمين ورجعوا سالمين, وقد أبلى خالد في معركة مؤتة بلاء حسناً، فقد تكسرت في يمينه تسعة أسياف، فما ثبت في يده إلا صفيحة يمانية،ولقد عرف النبي صلى الله عليه وسلم له حسن تدبيره ويمن نقيبته فلقبه بـ "سيف الله المسلول".
موقفه في فتح مكة:
كان لخالد بن الوليد موقف مشهود يوم فتح مكة، فعندما فتحها النبي صلى الله عليه وسلم ومن معه من المسلمين، جعل خالداً على ميمنة الجيش، وهو شرف قلده الرسول صلى الله عليه وسلم إياه في يوم الفتح الأعظم، وإنه لجدير به، فقد كان بالأمس خيال قريش، يصد النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين عن البيت الحرام يوم الحديبية، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم حريصاً على ألا يراق دم في البلد الحرام، فأمر القادة بعدم القتال، إلا إذا قوتلوا، ومُنِعوا من دخولها، ولكن بعض أشراف قريش ورجالاتها أبوا إلا أن تراق الدماء، فاجتمع صفوان بن أمية، وعكرمة بن أبي جهل، وسهيل بن عمرو، ومن معهم، وتعرضوا لجيش خالد،(1/51)
فاشتبك معهم، وبطش بهم، ولاذ الباقون بالفرار، وسبحان الله مقلب القلوب والأبصار؛ فلقد كان بالأمس شديداً قاسياً على الإسلام والمسلمين، فإذا به اليوم يجعل شدته وبأسه على الشرك والمشركين.
خالد يهدم العزى:
وبعد أن تم فتح مكة أرسله النبي صلى الله عليه وسلم على رأس مجموعة من فرسان المسلمين لهدم العزى، وكان من أعظم الأصنام عند قريش، وهو أول صنم يقرر النبي صلى الله عليه وسلم هدمه لمنزلته في نفوسهم، فكان من الحكمة أن يختار الرسول صلى الله عليه وسلم لهدمه أشد قواده بأساً، وأقواهم شكيمة، فتوجه إليها خالد وهدمها، وقتل سادنها(1) لما اعترضه؛ متحدياً بذلك المشركين ومعبوداتهم الباطلة، ثم عاد إلى الرسول صلى الله عليه وسلم ببشرى هدم طاغوتهم الأكبر، وكان هدمه بعد فتح مكة بخمسة أيام.
خالد في حروب الردة:
كان الكثير من سكان الجزيرة العربية من أهل البادية والأعراب، لم يتعودوا الخضوع لقانون أو نظام، حديثي عهد بكفر، فما إن سمعوا بوفاة النبي صلى الله عليه وسلم حتى شقوا عصا الطاعة وأصبحوا بين مانع للزكاة، وتارك للدين، أو متبع لأحد المتنبئين، فاضطربت الأحوال، وأصبحت الجزيرة العربية كالبركان الثائر، واثقة بنصر الله وتأييده لأهل دينه، فجمع أبو بكر رأيه واستشار أصحابه واستقر رأيهم على قتال المرتدين جميعاً،ثم عقد أحد عشر لواء لأحد عشر قائداً وكتب للمرتدين كتاباً يكون لهم بين يدي جيوشه، وليكون قد أعذر إليهم قبل الإيقاع بهم، ثم أمر خالداً بالتوجه إلى طلحة الأسدي ومالك بن نويرة، ومسيلمة الكذاب، أعتى المرتدين، ومتنبئ بني حنيفة، فتعقبهم خالد ومن تبعهم من قبائل هوازن وسُليم يجالدهم في ديارهم، ويبطش البطشة الكبرى بهم، حتى قضى عليهم، وأعاد إليهم رشدهم، فقويت شوكة المسلمين، وقاتلوا قتالاً شديداً حتى خضعت جميع القبائل، وعادت جميعها إلى حظيرة الإسلام.
__________
(1) السادن هو خادم بيت العبادة. جمعه: سدنة.(1/52)
خالد في حروب الشام:
لما فرغ أبو بكر من حروب الردة، شرع في فتح بلاد الفرس والروم، وقال: (والله لأنسين الروم وساوس الشيطان بخالد بن الوليد).
يرحم الله أبا بكر رضي الله عنه، ما أعرفه بالرجال، يوجههم إلى حيث يملكون مجالهم من الحياة، فقد عقد ألوية الإمارة في غزو الشام لأبطال الإسلام، وأعلمهم بفنون المعارك، فتحرك جيش المسلمين إلى الشام، وقسم القواد إلى ثلاثة أقسام، كل قسم يقاتل في جبهة، وكان خالد في العراق، فطلب منه أبو بكر أن يتوجه إلى الشام للانضمام إليهم، فلما رأى جموع الروم كثيرة العدد والعدة، قال خالد لأصحابه: هل لكم يا معشر الرؤساء في أمر يعز الله به الدين؟ قالوا: نعم. فقال: إن هذا يوم من أيام الله لا ينبغي فيه الفخر ولا البأس، أخلصوا جهادكم، وأريدوا الله بعملكم، فإن هذا اليوم له ما بعده، وإن الأعداء قد تهيؤوا، فإن رددناهم إلى خندقهم اليوم لم نزل نردهم، وإن هزمونا لم نفلح بعدها، فهلموا فلنتبادل الإمارة لكل منا يوم، ودعوني عليكم اليوم.
تسلم خالد زمام القيادة، ثم وزع كتائب الجيش، وأقام على كل منها بطلاً من أبطال المسلمين، وأمر بقراءة سورة الجهاد، وكان أبو سفيان بن حرب يمر بينهم، ويقول: الله، الله، إنكم قادة العرب وأنصار الإسلام، وإنهم قادة الروم وأنصار الشرك، اللهم إن هذا يوم من أيامك، اللهم أنزل نصرك على عبادك.
وهكذا أعد خالد جيشه إعداداً روحياً وحربياً لم يسبق له مثيل، وسمع خالد رجلا من صفوف المسلمين يقول: ما أكثر الروم وأقل المسلمين، فزجره، ورد عليه رداً يجعل كل جندي من جنود المسلمين جيشاً في إهاب رجل، وقال له: (بل قل: ما أقل الروم وأكثر المسلمين، إنما تكثر الجنود بالنصر وتقل بالهزيمة، وإن النصر لنا إن شاء الله؛ لأن الله معنا)، ثم اشتبك الجيشان، وتطارد الفرسان، واقتتلوا قتالا مريراً، وتمكن بفضل الله؛ ثم بقوة إيمانه وحسن تدبيره من هزيمة الروم، وبذلك حقق للمسلمين نصراً سجل لهم في صفحات التاريخ..(1/53)
عزل خالد عن القيادة:
في الوقت الذي كان خالد يدير فيه رحى القتال بمهارة وبسالة يستحقان الإعجاب والتقدير، فوجئ بالعزل، وتسليم قيادة الجيش لأبي عبيدة بن الجراح، والمعركة حاملة لوطيس، ورحى الحرب دائرة بين الفريقين، فما غضب ولا تمرد، ولكنه تقبل أمر العزل بصدر رحب، فلم تضعف حميته، ولم تخمد جذوة إخلاصه لدينه. بل ظل جنديا في نفس قائد، وقائد في صورة جندي، يقود الجيش، ويمده بآرائه وبلائه، ويفعل الأعاجيب في قتال الأعداء،- وهو يعلم أنه معزول عن القيادة، وأن نتيجة الحرب قد ألقيت على عاتق سواه- حتى هزم عدوه وظفر به، ولو كان هذا العزل لقائد من قادة عصرنا الحديث، لخبثت نفسه، وفسد قلبه، وكفر بأمته التي لم تعرف له حقه، ولكن خالدا المؤمن آثر مصلحة الأمة على مصلحته الشخصية، فعمل جنديا مجردا من صفات الإمارة والرياسة، وبقي على طاعة إمامه، وقال: (الحمد لله الذي ألزمني حب أمير المؤمنين).
بطولة نفسية ينفرد بها خالد:
ليست البطولة فحسب في مصارعة الأقران في الميدان، ولكن هناك بطولة نفسية في ثبات النفس، واستعلائها عند الفتنة والمحنة، ولقد امتحن خالد في ذلك العزل امتحانا قاسيا، لكنه نجح كالعهد به نجاحا رائعا أصبح مضرب الأمثال في عالم المثال.
فقد عزله عمر رضي الله عنه عن القيادة، وهو في أوج مجده، وزهو انتصاره، مخافة أن يفتن الناس به، وليعلم، أن الله هو الصانع، فقد كاد الناس أن يفتنوا به فعلا، وظن بعضهم أنه أعطى سيفا من الله فلا يهزم أبدا، وعلم خالد حسن نية عمرن فلم تتأثر نفسه بأمر العزل، ولكنه رضي وبقي على ولائه مجاهدا طيب النفس، صادق العزم ، عظيم البلاء، كذلك عرف عمر حقه وفضله، فأعلن للناس: أني لم أعزل خالدا عن عجز أو خيانة، ولكن خفت أن يفتن الناس به، فأحببت أن يعلموا أن الله هو الصانع، وألا يكونوا بعرض فتنة وعندما أدرك خالدا الموت سئل: من وصيك(1/54)
على أبنائك؟ فقال: أمير الؤمنين عمر بن الخطاب).
ولما أحس عمر بالموت قال: لو أدركت خالد بن الوليد لوليته، فإذا قدمت على ربي فسألني: من وليت على أمة محمد؟ قلت: إي ربي، سمعت عبدك ونبيك يقول: (خالد سيف من سيوف الله- سله الله على المشركين).
وفاته:
قضى خالد رضي الله عنه شهيدا، وإن لم يقتل، فقد كان حريصا على الشهادة.
والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (من سأل الله الشهادة بصدق بلغه الله منازل الشهداء، وإن مات على فراشه). ولقد طلب الموت في ميادين الجهاد فلم يقدر له، ولما أحس بدنو أجله قال متحسرا على عدم استشهاده قتلا في سبيل إعلاء دين الله: (لقد شهدت مئة زحف أو زهاءها، ومافي جسدي موضع شبر إلا وفيه ضربة بسيف أو طعنة برمح أو رمية بسهم، وهاأنذا أموت على فراشي كما يموت البعير، فلا نامت أعين الجبناء). ولقد بذل نفسه وماله في سبيل الله، فمات فقيراً، وحبس خيله وأدراعه وأعتده في سبيل الله، ولكنه بقي حياً في النفوس، وبقيت آثاره خالدة في الناس، وانتصاراته كانت ولا تزال معجزة من معجزات تاريخ الإسلام والمسلمين..
توفي رضي الله عنه بمدينة حمص سنة إحدى وعشرين من الهجرة، وله من العمر بضع وستون سنة..(1/55)
المناقشة
1- ماذا تعرف عن نسب خالد رضي الله عنه؟ وما مكانة أبيه؟ وبم لقب؟ ولماذا؟
2- ما صفات خالد رضي الله عنه التي اشتهر بها؟ وكيف كان موقفه من الإسلام؟
3- لخص قصة إسلام خالد رضي الله عنه.
4- كان خالد رضي الله عنه ممن يأخذ بأسباب النصر, فما هي تلك الأسباب التي أخذ بها؟
5- ما الحيلة التي أنقذ بها خالد رضي الله عنه جيش المسلمين في مؤتة؟
6- اختار النبي صلى الله عليه وسلم خالداً رضي الله عنه لموقفين عظيمين يوم الفتح وبعده, فما هذان الموقفان؟
7- لم ارتد بعض أهل الجزيرة عن الإسلام؟ ولم توجه خالد رضي الله عنه إلى أعتاهم؟
8- أعد خالد رضي الله عنه جيشاً لقتال الروم إعداداً روحياً وحربياً لم يسبق له مثيل. كيف كان ذلك؟
9- ما أثر عزل خالد رضي الله عنه عن القيادة في قتال الروم؟
10- لم عزل عمر خالداً رضي الله عنهما؟ وماذا قال عمر رضي الله عنه حين أحس بالموت؟
11- خالد رضي الله عنه شهيد مع أنه لم يمت في ساحة المعركة. ما الدليل على ذلك؟ وماذا قال خالد رضي الله عنه بهذا الشأن؟
12- متى توفي خالد رضي الله عنه؟ وأين؟ وكم كان عمره؟(1/56)
عمرو بن العاص رضي الله عنه
نسبه:
هو عمرو بن العاص بن وائل بن هاشم بن سعد بن سهم القرشي، يجتمع مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في كعب في لؤي، ويكنى أبا عبد الله، ووالده العاص بن وائل، أحد أشراف قريش في الجاهلية، وزعيم بني أسد، وقائدهم في حرب الفجار، وقد أدرك العاص الإسلام، ولكن لم يؤمن بالدعوة، بل على العكس كان من المعارضين لها والحاقدين عليها.
وأمه سلمى بنت حرملة، من بني عنترة، أصابتها رماح العرب، فبيعت بسوق عكاظ، فاشتراها الفاكه بن المغيرة، ثم اشتراها عبد الرحمن بن جدعان، ثم وهبها للعاص بن وائل، فأنجبت عمروا.
نشأته:
ولد عمرو بن العاص رضي الله عنه بمكة سنة575 ميلادية أي بعد ميلاد الرسول صلى الله عليه وسلم بأربع سنوات، ونشأ في بيت أبيه الذي عرف بالعز والشرف، والكرم واليسار، والأدب والشعر، والفصل في الخصومات. لذلك اشتهر عمرو في مستهل حياته بالفصاحة، والبلاغة والفروسية، وكان فوق ذلك معروفا بالدهاء وحسن التصرف بين رجالات قريش، كما كان ميالا في الزعامة، محبا للرئاسة، وقد عمل بالتجارة بين مصر والشام واليمن والحبشة، ولمكانته ودهائه في الجامبية اختارته قريش سفيراً بينها وبين النجاشي لإقناعه بتسليم المهاجرين الأولين إلى قريش، ولكن النجاشي العادل رفض تسليمهم إلى المشركين.
إسلامه وبلاؤه:
كان عمرو بن العاص في أول أمره عدوا للإسلام والمسلمين، وكان عنيفا في(1/57)
مواجهته للإسلام، وللرسول صلى الله عليه وسلم، ومن الذين أجمعوا على قتله، واشتركوا في حربة في معركة أحد والأحزاب، ولكن أراد الله له الهداية، فبعد أن أشهر أمامه الحق واضحا جليلا، وقع الإسلام في قلبه بعد صلح الحديبية وعمرة القضاء، فترك مكة المكرمة، وهاجر إلى النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة، والتقى أثناء الطريق بخالد بن الوليد، وعثمان بن طلحة مسلمين مهاجرين إلى النبي صلى الله عليه وسلم مثله، ثم ساروا حتى وصلوا المدينة، فدخلوا على الرسول الله صلى الله عليه وسلم، وتقدم كل منهم إلى الرسول الله صلى الله عليه وسلم ليبايعه على الإسلام، لكن عمروا قبض يده ثم سأل النبي صلى الله عليه وسلم قائلا له: هل يغفر الله لي ما سبق مني ضد الإسلام؟ فقال له صلى الله عليه وسلم: (إن الإسلام يجب ما قبله). فسر عمرو وبايع, نعم. لقد قال عمرو قبيل إسلامه: ( أسلم الناس، وآمن عمرو بن العاص) (أحمد) وكان إسلامه في صفر من السنة حتى أذن الله له، وكم أنا نادم على هذا التأخير، ولا أدري كيف أقابل الرسول بعد).
ولقد أسلم عمرو بعد تفكير عميق، واقتناع كامل، لذلك قال الرسول صلى الله عليه وسلم في شأن إسلامه: (أسلم الناس، وآمن عمرو بن العاص). وكان إسلامه في صفر في السنة الثامنة للهجرة, ولقد كان النبي- صلى الله عليه وسلم- يعلم عن عزيمته, ورجاحة عقله, ودهائه وذكائه أكثر من مما عرفه الناس جميعاً, ولهذا ولاه قيادة سريَّة ذات السلاسل.
سرية ذات السلاسل:
…أمَّر النبي- صلى الله عليه وسلم- عمرو بن العاص على سرية مؤلفة من ثلاثمائة رجل من أشراف المهاجرين والأنصار, في جمادي الآخرة سنة ثمان من الهجرة, لصد جموع قضاعة الذين أرادوا مهاجمة أطراف المدينة, فتوجه إليهم عمرو, ومن معه من المجاهدين, ولما وصلوا إليهم, وجدوهم قد جمعوا أعداداً هائلة من المقاتلين, فطلب عمرو من الرسول- صلى الله عليه وسلم- أن يمد المسلمين بنجدة, فبعث إليهم أبا عبيدة بن الجراح, في مائتي مقاتل, فيهم: أبو بكر وعمر رضي الله عنهما, بعد ما أوصاه-صلى الله عليه وسلم- بعدم الخلاف بينهما, فتنازل أبو عبيدة لعمرو بن العاص, فقويت شوكة المسلمين وتوحدت صفوفهم,(1/58)
واجتمعت كلمتهم, وحملوا على القبائل حملة صادقة, وقاتلوهم قتالاً عنيفاً, حتى تركوا مواقعهم, وتفرقوا في البلاد بعد هزيمة ساحقة, قضت على آمالهم في مهاجمة المدينة, وبذلك كتب الله النصر للمسلمين.
عمرو في حروب الردة:
…كانت حرب المرتدين ثورة على الإسلام, وثورة من البادية على الحاضرة, وثورة من القبائل على قريش, وثورة على الزكاة من أركان الإسلام خاصة, وإن أحق الناس أن يبغض تلك الردة, لهو عمرو المؤمن الصادق الإيمان, فلقد ظن كثير من قبائل العرب- ممن اعتنقوا الإسلام خوفاً وطمعاً - أن الفرصة قد حانت ليعودوا أدراجهم إلى ما كانوا عليه من ضلالة وانحراف, ورَفَعَ النفاق رأسه, فأعلن أهله تمردهم وعصيانهم, ولم يكن العصيان في مكان محدد, وإنما انتشر كالنار في أماكن متفرقة, فارتد عن الإسلام كثيرون, وقرروا منع الزكاة بحجة أنهم كانوا يؤدونها للرسول- صلى الله عليه وسلم-, والآن, بعد وفاته, لا يطيعون أحداً بعده.
…فقرر أبو بكر رضي الله عنه قتالهم, ولعلها أول مرة في تاريخ الإنسانية تسير فيها الجيوش لاستيفاء حق الفقراء الذي أوجبه الله في مال الأغنياء, وجعله ركناً في دينه؛ واستعان في هذا الأمر برجالات قريش من أبطال الحروب, فأسند رئاسة بعض الألوية إلى عمرو بن العاص لما عُرِفَ عنه من القدرة على خوض المعارك الحربية,والاستبسال في ميدان القتال, فأَرسله إلى قضاعة لأنهم أخوال أبيه العاص بن وائل, وكانت قضاعة قد ذاقت من قبل في سرية ذات السلاسل مرارة سيفه, ولهيب قتاله, وكانت حديثة عهد بالإسلام, ولم يكن بعد قد تمكن من قلوبهم, فأعلنوا تمردهم كغيرهم من القبائل المجاورة..
…سار عمرو إلى قضاعة, فوجدهم متأهبين للقتال, فاشتبك الفريقان في قتال عنيف, ودارت رحى الحرب بينهما, وأبلى في ذلك بلاءً حسناً, ولم يتركها إلا بعد أن سلّمت بحق الله الذي جعله للفقراء, وعادت إلى شريعة الإسلام, ونصر الله الحق على الباطل, وعاد بجيشه ظافراً منتصراً.(1/59)
عمرو في حروب الشام:
…الإيمان بالله يمنح المجاهد الشجاعة والعزيمة, والصبر على تحمل أعباء القتال, ويجعله يستهين بالموت في سبيل تحقيق أهدافه, فلقد خرج عمرو بن العاص رضي الله عنه قاصداً بلاد الروم في تسعة آلاف مجاهد, وكان امبراطور الروم قد أعد للقاء المسلمين مئة ألف مقاتل, فلما علم المسلمون بذلك داخلت الرهبة قلوبهم, ولكن عمرواً الداهية لم يجد إلى قلبه سبيلاً, فقد أعد نفسه لأول لقاء مع أعدائه.
…فعقد الراية لعبد الله بن عمر بن الخطاب وضم إليه ألف فارس, وهاجم بهذه القوة عشرة آلاف من الروم, وحمل هو بنفسه على قائدهم فقتله, وبذلك انتقلت موجة الخوف والرعب إلى قلوب جيش الروم, ودارت معركة عنيفة بين الفريقين انتهت بانتصار المسلمين.
وكان لهذا أثره العميق في رفع الروح المعنوية في نفوس المسلمين. ولم ينس عمرو دور القرآن الكريم في تحريك نفوس المجاهدين وإثارتها خلال العمليات الحربية، فالقرآن يثير في النفوس الإيمان، والإيمان يدفع بهم إلى القتال بعزم وإصرار، ولو بذلوا في سبيل النصر حياتهم وأرواحهم ودماءهم.
وعمرو بن العاص واحد من القادة القلائل الذين اعتمد عليهم خالد بن الوليد اعتمادا عظيما في حرب الروم بعد الله عز وجل، وكانت المعارك عنيفة وقاسية، الأمر الذي جعل عمروا يأخذ الراية ويقاتل حتى ثاب المسلمون إلى رشدهم، ووحدوا صفوفهم، وهو صاحب الفضل في يوم التعوير الذي أصاب فيه الرماة أعين ما يقرب من سبعمائة من المسلمين، فقد ظل يقاتل العدو ومعه أصحاب الرايات والأمراء في بسالة وصمود، وصبر وإيمان، حتى كشفوهم عن مواقعهم وقتل قائد الحملة وآلاف من جنود الأعداء. وانتهت المعركة بهزيمة الروم ونصر المسلمين.
عمرو في مصر:
كان الاضطهاد الديني الذي عاش فيه أهل مصر في عهد الرومان المسيحي من أهم الأسباب التي مهدت الطريق أمام المسلمين لفتح مصر، فلما سمع هؤلاء المعذبون في مصر أنباء الدين الجديد الذي ظهر في جزيرة العرب، ومبادئه العظيمة في حرية(1/60)
التدين التي يدعو إليها، وفي العدل الشامل والمساواة بين الناس. تحولت عواطفهم نحوه، ورأوا أن حكم المسلمين قد يكون رحمة عليهم وخيرا لهم، وأن مجيء المسلمين إلى مصر نجدة أرسلها الله لينتقم لهم من الظالمين.
ولقد كان لحضور عمرو إلى مصر في جاهليته أثر كبير في معرفة طرقها، وطبيعة أرضها، ومدى الاضطهاد الديني والسياسي الذي يعانيه أهل مصر من الروم، فلا عجب أن يتطلع إلى فتح مصر بعد أن فتح الله على المسلمين الشام وفلسطين. وليحقق فيها للإسلام نصرا، وامتدادا لدعوة الحق، فتحدث مع أمير المؤمنين عمر بن الخطاب في فتحها، وسهل عمرو على أمير المؤمنين الأمر، فاستجاب الخليفة لدعوته، وأذن له بالمسير إليها، فسار في ثلاثة آلاف وخمسمائة مجاهد، وكان عمرو يعلم أن المسلمين قلة في العدد، والروم كثرة، إلا أن الإسلام يثير في المجاهدين روح التضحية والثقة بإحدى الحسنيين، فيغني ذلك عن الكثرة، وكان عمرو القائد البطل يثير فيهم القوة والثقة، والشجاعة والصبر، ومع ذلك فقد أرسل إلى أمير المؤمنين يستمده بمدد من الجنود، ثم تقدم مع جيشه نحو العريش، وتم له فتحها، وواصل المسلمون السير حتى وصلوا الفرما، ذات الحصون المنيعة، وهناك ظهر لعمرو أن المقوقس قد أعد جيشا كثير العدد والعدة لملاقاة جيش المسلمين بها، وفي تلك الأثناء وصل أول مدد من أمير المؤمنين يتكون من أربعة آلاف مقاتل فيها أمثال: الزبير بن العوام، والمقداد، وعبادة بن الصامت، وخارجة بن حذافة الذين قال فيهم عمر رضي الله عنه: إن القائد منهم بألف رجل. فارتفعت الروح المعنوية في نفوسهم، وقويت شوكة المجاهدين، ولقد صور أحد القبط في مصر هذه الروح العالية التي كان يتمتع بها المجاهدون فقال: إن هؤلاء قوم لا يتوجهون إلى أحد إلا ظهروا عليه، أو يقتلوا عن آخرهم. ثم أرسل المقوقس بعض أساقفته رسلا إلى عمرو، فحرص عمرو على أن يطلعهم على أحوال المسلمين، وما ميزهم به الإسلام من حب ومساواة فيما بينهم، ومن تقوى الله وطاعته، فأوصى المسلمين أن يمكنوهم من مشاهدتهم أثناء صلاتهم، وطعامهم ومعاملتهم، ثم كان جوابه لهم في حزم وصرامة أكد لهم فيه ثقته بنصر الله لهم. كما كان محطما لأعصابهم ومعنوياتهم فقال: نحن ندعوكم إلى(1/61)
الإسلام، فمن أجابنا إليه فمثلنا، ومن لم يجبنا فرضنا عليه الجزية، وبذلنا له المنعة، وقد أخبرنا الرسول صلى الله عليه وسلم أنا سنفتح دياركم، وأوصانا بكم خيرا لرحمنا فيكم، وأن لكم الذمة إن أجبتمونا إلى ذلك.. فقالوا له: آمنا حتى نرجع، فقال عمرو: إن مثلي لا يخدع، ولكني أمهلكم ثلاثة أيام.. فلما وصلوا إلى المقوقس سأل أحدهم عن أحوال المسلمين، فأجاب بقوله: رأينا قوما الموت أجب إليهم من الحياة، والتواضع أحب إليهم من الرفعة، ليس لأحدهم في الدنيا رغبة، جلوسهم على التراب، وأكلهم على ركبهم، وأميرهم كواحد منهم، ما يعرف رفيعهم من وضيعهم، ولا السيد فيهم من العبد، وإذا حضرت الصلاة لم يتخلف عنها منهم أحد، يغسلون أطرافهم بالماء، ويخشعون في صلاتهم..
ثم بعث عمرو جماعة من المسلمين فيهم عبادة بن الصامت، ليعرفوا ما عزم عليه المقوقس، فوجدوه قد قرر القتال، وكان عمرو قد أعد للأمر عدته، فقام بتنظيم الجيش، ووزعه على ثلاث جبهات، ثم أمر بعض المسلمين كعادته بقراءة سورة الجهاد، ورسم الخطة لأبعاد المعركة، وتنفيذها بما يضمن للمسلمين الفوز والنصر، ثم التقى الجيشان، ونشب القتال بينهما حول حصن بابليون، وحمي وطيس المعركة، وعلا غبارها، فاستولى الرعب على قوات الروم، وظنوا أن جيوشا عربية ثلاثة تقاتلهم، وتمكن الزبير بن العوام من الصعود فوق الحصن بمهارة فائقة، وتبعه المخلصون من المسلمين فألقوا بأنفسهم منقضين على جنود الروم، وفتحوا باب الحصن للمسلمين، واقتحموه مكبرين واحتلوه، ولما وجد الروم أن لا أمل لهم في المقاومة اختلت صفوفهم، وتفرق جمعهم، ولاذ أكثرهم بالفرار، ومكن الله المسلمين من السيطرة على باقي الحصون، واستطاعوا أن يستولوا على سفنهم لنقل الجنود إلى شاطئ النهر، ونادى عمرو في جنده قائلاً تقدموا فبكم ينصر الله، فحملوا على الروم حملة صادقة حتى فتح الله عليهم، مما جعل بعض الروم يقول: ما لنا من حيلة في قوم غلبوا كسرى، ثم توالت الانتصارات من معركة إلى أخرى، حتى تم لعمرو فتح البلاد المصرية جميعها، وتحريرها من ظلم الرومان، ورفع راية التوحيد، ولواء العدل والإحسان.(1/62)
أعمال عمرو في مصر:
لما استتب الأمر للمسلمين، نفذ عمرو تعاليم الإسلام، وطبق أحكامه، فنشر العدل والتسامح بين الناس، ونفذ الكثير من الإصلاحات في البلاد، فبنى الفسطاط، وحفر الخليج الموصل بين النيل والبحر الأحمر، ونظم الري، وأقام مقاييس للمياه على نهر النيل لا يجي الخراج إلا بمقتضاها، وأنشأ الأحواض والقناطر والجسور، وبنى مسجدا كبيرا ما زال يحمل اسمه إلى اليوم، ورد للناس حقوقهم المغتصبة، وحرص على رفاهية الناس، وعدم إرهاقهم بالضرائب، وبذلك اكتسب محبة الناس، وتعلقت قلوبهم به، وأقبلوا على الإسلام بنفس راضية، وإيمان عميق بعد أن تبين لهم الخلاف والاضطراب بين المذاهب المسيحية، واضطهاد أصحابها بعضهم لبعض، ونفذ وصية الرسول صلى الله عليه وسلم الذي قال فيها: (إذا فتحتم مصر فاستوصوا بالقبط خيرا، فإن لهم ذمة ورحما).
عمرو في التاريخ:
لم يتحدث عمرو عن نفسه حديث الإعجاب والتقدير, ولكن الناس هم الذين تحدثوا عن تاريخه المجيد, فقد استطاع أن يحقق للإسلام انتصارات رائعة في الجزيرة العربية والشام وفلسطين ومصر وليبيا. كما استطاع أن يكسب خصومه بأخلاقه, وحسن سياسته, ودهائه وتواضعه قبل أن يكسبهم بالسيف والرمح والطعن والقتال, وبذلك أثبت عمرو كفاءة إدارية ممتازة, فكان بعيد النظر, يحسب لكل أمر حسابه, وكان يحارب بسيفه وعقله, ثم يساوم في حرص, ولما أسلم قربه الرسول- صلى الله عليه وسلم- منه لرجاحة عقله وسداد رأيه وشجاعته, وقال النبي- صلى الله عليه وسلم- عنه: (عمرو بن العاص من صالحي قريش). وكان عمر بن الخطاب إذا استضعف رجلاً في رأيه وعقله قال: (أشهد أن خالقك وخالق عمرو بن العاص واحد).(1/63)
من أقواله المأثورة:
…ليس العاقل من يعرف الخبر من الشر, ولكن الذي يعرف خير الشرين. قال يوماً لمعاوية: إن الكريم يصول إذا جاع, واللئيم يصول إذا شبع, فسد خصاصة الكريم, واقمع اللئيم. فقال له معاوية: من أبلغ الناس؟ قال: من كان رأيه رادّاً لهواه. فقال: من أسخى الناس؟ فقال له: من رد جهله بحلمه. وقال: إذا أنا أفشيت سري إلى صديقي فأذاعه فهو في حل. فقيل له:وكيف ذلك؟ فقال: أنا كنت أحق بصيانته,. وقال: والله إني كنت لأشد الناس حياء من رسول الله- صلى الله عليه وسلم-, فما ملأت عيني منه, ولا راجعته بما أريد, حتى لحق بالله عز وجل حياءً منه.
وفاته:
روي أن عمروا لما حضرته الوفاة قال ابنه له: يا أبتاه إنك كنت تقول لنا ليتني كنت ألقى رجلا لبيبا عاقلا عند نزول الموت، حتى يصف لي ما يجد، وأنت ذلك الرجل، فصف لي الموت، فقال عمرو: يا بني، والله كأن السماء أطبقت على الأرض، وكأني أتنفس من ثقب إبرة، وكأن غصن شوك يجذب من قدمي إلى هامتي. ثم استقبل القبلة وتضرع إلى ربع بالدعاء قائلا: (اللهم إنك أمرتنا فعصينا، ونهيتنا فارتكبنا، وهذا المقام العائذ بك، فإن تعفو فإنك أهل للعفو: وإن تعاقب فيما قدمت يداي، اللهم لا قوي فأنتصر، ولا بريء فأعتذر، ولا مستكبر بل مستغفر، أستغفرك، وأتوب إليك، لا إله إلا أنت. وما زال يرددها حتى صعدت روحها لإلى السماء...
وكانت وفاته ليلة عيد الفطر سنة ثلاث وأربعين من الهجرة، عن عمر يناهز التسعين سنة. وصلى عليه ابنه عبد الله، ثم دفن بجوار جبل المقطم بالقاهرة بالقرب من ضريح الإمام الشافعي رضي الله عنهما، بعد أن سجل صفحات المجد في تاريخ الإسلام والمسلمين.(1/64)
المناقشة
1_ اذكر ما تعرفه عن نسب عمرو بن العاص رضي الله عنه.
2- اذكر ما تعرف عن صفات عمرو رضي الله عنه.
3- أسلم عمرو رضي الله عنه بعد عداء شديد لدين، فيم تمثل هذا العداء؟ ولم قبض يده عند بيعة النبي صلى الله عليه وسلم؟. ولم قال صلى الله عليه وسلم: (أسلم الناس، وآمن عمرو بن العاص)؟.
4- ما أول تجربة جهادية لعمرو رضي الله عنه في الإسلام؟ وعلى ما يدل اختياره لها؟ وماذا كانت نتيجتها؟.
5- كانت الردة ثورة من كل الجوانب. وضح هذا العبارة؟
6- لمن وجه عمرو رضي الله عنه في حروب الردة؟ ولماذا؟ وماذا كانت النتيجة؟
7- لعمرو رضي الله عنه مواقف مشهورة، منها يوم توجه للقاء الروم يتبعه ألف مجاهد، ومنها يوم التعوير. وضح هذه المواقف.
8- كان واقع أهل مصر واحدا من عوامل فتحها أمام المسلمين. كيف ذلك؟
9- ما الفكرة التي أعطاها أساقفة المقوقس له عندما عادوا من عند المسلمين؟
10- صف موجزا فتح حصن بابليون.
11- ما أعمال عمرو رضي الله عنه في مصر؟ وما آثر ذلك على أهلها؟
12- كان عمرو رضي الله عنه رجل سيف وعدل، اشرح هذه العبارة.
13- ما قول عمرو رضي الله عنه في الخير والشر؟ ومن أبلغ الناس؟ ومن أسخاهم في نظره؟
14- بم وصف عمرو رضي الله عنه الموت؟ وماذا كان قوله عند وفاته؟(1/65)
عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه
نسبه:
هو عبد الرحمن بن عوف بن عبد الحارث بن زهرة بن كلاب القرشي الزهري.كنيته أبو محمد، ولد في مكة المكرمة بعد عام الفيل بعشر سنين. كان اسمه في الجاهلية عبد عمرو أو عبد الكعبة، فسماه النبي صلى الله عليه وسلم عبد الرحمن.
إسلامه:
كان عبد الرحمن بن عوف من السابقين للإسلام، أسلم قبل أن يدخل الرسول صلى الله عليه وسلم دار الأرقم بن أبي الأرقم، وأسلم على يد أبي بكر الصديق رضي الله عنه مع عثمان بن عفان، وسعد بن أبي وقاص، وطلحة بن عبيد الله، وغيرهم.
منزلته:
كان رضي الله عنه يتمتع بمنزلة كبيرة بين صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ذا رأي سديد، ونظر بعيد، وآثر عظيم في نصرة الإسلام، وقد هاجر الهجرتين، وشهد بدرا وأحدا والخندق، والمشاهد كلها مع الرسول صلى الله عليه وسلم، ولم يتخلف عن داعي الجهاد، رغم ما كان يشغله من تجارته الواسعة، وقد ثبت في أحد، وجرح فيها إحدى وعشرين جراحة، وصلى النبي صلى الله عليه وسلم خلفه صلاة الصبح في غزوة تبوك، فقد ذهب صلى الله عليه وسلم للطهارة ورجع وقد أقيمت الصلاة، وأم الناس عبد الرحمن، فصلى النبي وراءه ركعة ثم أتم ما فاته، وكان أحد العشرة المبشرين بالجنة، وأحد التسعة الذين توفي رسول الله وهو راض عنهم.
وكان رضي الله عنه محل ثقة الخلفاء وتقديرهم، استشاره أبو بكر رضي الله عنه حين أراد أن يرشح عمر بن الخطاب للخلافة من بعده، فكان أمينا في مشورته إذ قال له: (هو والله أفضل من رأيت من رجل، ولكن فيه غلظة).
وكان أحد الستة الذين رشحهم عمر ليختار من بينهم خليفة للمسلمين، ورجع(1/66)
عمر إلى رأيه في عدم دخول الشام حين انتشر فيها الطاعون، لما أخبره عبد الرحمن أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( إذا سمعتم بهذا الوباء ببلد فلا تقدموا عليه، وإذا وقع وأنتم به فلا تخرجوا فراراً منه). وهو ما يعرف في العصر الحديث "بالحجر الصحي". وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (عبد الرحمن أمين في الأرض، أمين في السماء).
وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن الذي يحافظ على نسائي من بعدي هو الصادق البار), فكان عبد الرحمن يسافر معهن ويحج بهن لينال هذا الشرف العظيم.
إنفاقه في سبيل الله:
كان عبد الرحمن موفور الثراء، واسع الغنى، ذا شغف عظيم بالتجارة، تدر عليه أرباحاً هائلة، إلى حد أثار دهشته هو، فكان يقول: لقد رأيتني لو رفعت حجراً لوجدت تحته فضة وذهباً.
والسر في ذلك أن عبد الرحمن كان يتحرى الحلال، وينأى عن الحرام، بل وعن الشبهات، ويجعل لله في ماله النصيب الأوفى والحظ الأوفر، فبارك الله له في تجارته.
روى الزهري أن عبد الرحمن بن عوف تصدق على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم بشطر ماله، ثم تصدق بأربعين ألف دينار، ثم حمل على خمسمائة فرس في سبيل الله تعالى، ثم حمل على ألف وخمسمائة راحلة في سبيل الله، ومما يذكر في ذلك أنه كان لعبد الرحمن قافلة عظيمة قادمة من الشام، سبعمائة راحلة موقورة الأحمال من كل شيء، فلما دخلت المدينة سمع لها الناس رجة عظيمة، فلما سألت عائشة رضي الله عنها عن سر هذه الرجة، قالوا لها: إنها قافلة لعبد الرحمن بن عوف. فقالت عائشة: أما إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (رأيت عبد الرحمن بن عوف يدخل الجنة حبواً). وطارت الكلمات إلى عبد الرحمن، فجاء مهرولاً إلى أم المؤمنين يسألها، فلما أخبرته، قال لها: أما إني أشهدك أن هذه القافلة بأحمالها وأقتابها وأحلاسها في سبيل الله عز وجل. وطابت نفس عبد الرحمن بهذا البذل السخي، ووزعت القافلة على فقراء المسلمين في(1/67)
المدينة. لقد كان عبد الرحمن سيد ماله، ولم يكن عبداً له، وكان يرى لكل ذي حاجة من المسلمين حقاً في هذا المال، فلم يكن يضن به على أحد.
باع في يوم أرضاً بأربعين ألف دينار، ثم فرقها كلها في أهله من بني زهرة وعلى أمهات المؤمنين وفقراء المسلمين.
وعند موته أوصى بخمسين ألف دينار في سبيل الله تعالى، وأوصى لكل من بقي ممن شهد بدرا بأربعمائة دينار.
لم ينسه هذا الثراء العريض أمر الآخرة، بل إنه كان يخشى على نفسه من هذا المال ويضع الآخرة نصب عينيه.
جيء يوما بطعام، فلما وقعت عليه عينه شهيته، وبكى، وقال: (استشهد مصعب بن عمير رضي الله عنه وهو خير مني، واستشهد حمزة رضي الله عنه وهو خير مني فلم يوجد ما يكفن فيه إلا بردة، ثم بسط لنا من الدنيا ما بسط، وأعطينا ما أعطينا، وإني أخشى أن أكون ممن عجلت له طيباته في حياته الدنيا، وأن أحتبس عن أصحابي بكثرة مالي) واجتمع يوما بعض أصحابه على طعام، وما كاد الطعام يوضع حتى بكى، فقالوا له: ما يبكيك يا أبى محمد؟ فقال: (لقد مات رسول الله صلى الله عليه وسلم وما شبع هو وأهل بيته من خبز الشعير).
إيثاره وعفته رضي الله عنه:
آخى النبي صلى الله عليه وسلم بين عبد الرحمن بن عوف وسعيد بن الربيع، فكانت أخوتهما مثلا فريدا في التضحية والإيثار والعفة والإباء.
قال سعد لعبد الرحمن:(يا أخي، إني أكثر الأنصار مالا، فاقسم مالي بينك وبيني نصفين، وإن لي امرأتين فانظر أعجبهما إليك أطلقها، فإذا انتهت عدتها تزوجتها). فقال عبد الرحمن: (يا أخي بارك الله فيك لك في أهلك وفي مالك, ولكن دلني على السوق فإني امرؤ تاجر). فدلوه على سوق بني قينقاع, فذهب وتاجر وربح, وكان من أغنياء المسلمين.(1/68)
موقفه في انتخاب عثمان:
حينما اختار عمر بن الخطاب أهل الشورى وكان عبد الرحمن أحدهم, اجتمعوا ليختاروا للمسلمين من بينهم, وحسم عبد الرحمن بحكمته الموقف, وخلع نفسه وقال لهم: (أعطوني مواثيقكم على أن تكونوا معي على من بدل, وأن ترضوا من اخترت لكم) ففوضوه في ذلك, وقام هو بأداء واجبه خير أداء, فاستطلع رأي المسلمين فُرادى ومجتمعين سرّاً وعلانية, ثم دعا الناس إلى المسجد بعد أن نضج الرأي, وقال لهم: 0إني قد نظرت وشاورت, وأمسك بيد عثمان ورفع رأسه إلى السماء وهو يقول- ثلاثاً- اللهم اسمع واشهد), ثم بايع عثمان فازدحم الناس لبيعته.
وفاته:
…توفي رضي الله عنه في السنة الثانية والثلاثين للهجرة في خلافة عثمان, بعد أن عاش أربعً وثمانين عاماً, ودفن بالبقيع, وصلى عليه عثمان رضي الله عنه..
المناقشة:
1. تحدث عن منزلة عبد الرحمن بن عوف بين الصحابة؟
2. كان عبد الرحمن من أغنياء المسلمين, فكيف كان ينفق ماله؟
3. كان عبد الرحمن يرعى أزواج النبي بعد وفاته- صلى الله عليه وسلم-, فما الذي دفعه لذلك؟
4. لماذا تبرع بقافلة كاملة كانت قادمة له من بلاد الشام؟
5. لعبد الرحمن بن عوف دور عظيم في انتخاب الخليفة عثمان, ما هو؟
6. تحدث عن جهاد ابن عوف في سبيل الله بنفسه وماله؟
7. هل صرفه الثراء عن أمر الآخرة وانغمس في نعيم الدنيا؟اشرح ذلك؟
8.آخى النبي- صلى الله عليه وسلم- بينه وبين سعد الربيع, فكانت أخوتهما مثلاً
للتضحية والإيثار والعفة والإباء- اشرح ذلك.(1/69)
سعد بن معاذ رضي الله عنه
نسبه:
هو سعد بن معاذ بن النعمان بن امرئ القيس بن زيد بن عبد الأشهل، سيد الأوس، كنيته: أبو عمرو، كان رجلاً وسيماً جسيماً، فارع الطول، مشرق الوجه، وهو في الأنصار كأبي بكر في المهاجرين.
إسلامه:
أسلم على يد مصعب بن عمير الذي بعثه النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة بعد بيعة العقبة الأولى ليدعو الناس إلى الإسلام، وليفقه الناس هناك في دينهم، ويقرئهم القرآن.
ذهب مصعب يوماً إلى ديار بني عبد الأشهل يدعوهم إلى الإسلام، ومعه أسعد بن زرارة، فلما علم بهما سعد بن معاذ أنكر عليهما صنيعهما، وذهب غاضباً ليمنعهما من ديار بني عبد الأشهل، فقال لأسعد بن زرارة -وكان ابن خالته-: يا أبا أمامة، لولا ما بيني وبينك من القرابة، ما رمت هذا مني, أتغشانا في دارنا بما نكره؟.
فقال له مصعب: أو تقعد فتسمع, فإن رضيت أمراً قبلته، وإن كرهته عزلنا عنك ما تكره؟ فقال سعد: أنصفت.
وجلس سعد، وعرض عليه مصعب الإسلام، وقرأ عليه القرآن، فسرعان ما زال الغضب عن سعد، وأشرق وجهه، فقال لهما: كيف تصنعون إذا دخلتم في هذا الدين؟
فقالا له: تغتسل وتطهر ثيابك، ثم تشهد شهادة الحق، ثم تصلي ركعتين، ففعل ذلك وأسلم.
إسلام قومه:
ثم انقلب سعد بن معاذ إلى قومه بني عبد الأشهل، فدعاهم إلى الإسلام، فلم(1/70)
يبق فيهم رجل ولا امرأة إلا أسلم بإسلامه.
وكأنما كان الإيمان الذي مس قلب سعد شعلة أضاءت جوانب المدينة، فأصبح الدين الجديد حديث الناس في كل بيت وناد.
وفتح سعد بن معاذ داره لمصعب بن عمير وطلب منه أن ينتقل إليها، وأن بتخذها مركزاً للدعوة إلى الإسلام، ثم قام سعد بنفسه يكسر أصنام بني عبد الأشهل، ويودع عهد الأوثان إلى غير رجعة، بعد أن أشرق قلبه بنور التوحيد.
لقد كان إسلام سعد بن معاذ خيراً وبركة عليه وعلى قومه.
ولما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم في العام التالي، استقبله الأنصار، وعلى رأسهم سعد بن معاذ، ووضعوا أنفسهم رهن إشارته صلى الله عليه وسلم.
جهاده في سبيل الله:
كان سعد شجاعاً مقداماً لا يهاب الموت, شهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بدراً وأحداً والخندق، ومات بعد أن حكم في بني قريظة متأثراً بجرح أصيب به في غزوة الخندق، وكان له في كل من هذه الميادين مواقف رائعة تشهد ببسالته وشجاعته وتفانيه في سبيل الله.
موقفه في غزوة بدر:
خرج صلى الله عليه وسلم والمسلمون يتعرضون لعير قريش، وحمل سعد لواء الأنصار، ورغم أن القافلة التي خرجت قريش لحمايتها قد نجت إلا أن قريشاً أصرت على قتال المسلمين وتحديهم، فجمع النبي صلى الله عليه وسلم المهاجرين والأنصار وقال: (أشيروا علي أيها الناس). فقال سعد بن معاذ: والله لكأنك تريدنا يا رسول الله؟ قال صلى الله عليه وسلم: (نعم)، فقال سعد: يا رسول الله لقد آمنا بك وصدقناك، وشهدنا أن ما جئت به هو الحق، وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا على السمع والطاعة، فوالذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا البحر فخضته لخضناه معك؛ ما تخلف منا رجل واحد، فامض يا رسول الله لما أردت فنحن معك، إنا لصبرٌ في الحرب، صدق عند اللقاء، لعل الله(1/71)
يريك منا ما تقر بع عينك، فسر رسول الله صلى الله عليه وسلم واستنار وجهه وقال: (سيروا وأبشروا فإن الله وعدني إحدى الطائفتين، والله لكأني أنظر إلى مصارع القوم).
وكان سعد رجلاً بعيد النظر، يهمه مستقبل الإسلام الذي يتمثل في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم حتى يبلغ هذا الدين ويرسي قواعده، فاقترح على النبي أن يبني المسلمون مقراً لقيادته استعداداً للطوارئ، وتقديراً للعواقب.
قال سعد: (يا رسول الله، ألا نبني لك عريشاً تكون فيه، ونعد عندك ركائبك ثم نلقى عدونا؟ فإن أعزنا الله، وأظهرنا على عدونا، كان ذلك ما أحببنا، وإن كانت الأخرى جلستُ إلى ركائبك فلحقت بمن وراءنا من إخواننا، فقد تخلف عنك قوم يل نبي الله ما نحن بأشد لك حباً منهم، ولو ظنوا أنك تلقى حرباً ما تخلفوا عنك، يمنعك الله بهم يناصحونك ويجاهدون معك).
فأثنى النبي صلى الله عليه وسلم على سعد ودعا له بخير، وبني العريش، ووقف سعد بن معاذ على باب العريش متوشحاً بالسيف في نفر من الأنصار يحرسون النبي صلى الله عليه وسلم من كرة العدو.
في أحد:
وفي أحد ثبت سعد بن معاذ مع النبي صلى الله عليه وسلم ودافع عنه دفاعاً مجيداً، وكذلك أبناؤه، حتى قتل ابنه عمرو وهو يدافع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
في الخندق:
وفي عام الخندق أقبلت قريش وغطفان ومن انضم إليهم لحرب رسول الله صلى الله عليه وسلم والقضاء على الإسلام في المدينة، ونقضت قريظة عهدها، وحاصروا المدينة حتى اشتد البلاء على المسلمين وزلزلوا زلزالاً شديدا.
ورأى النبي صلى الله عليه وسلم أن يخفف من شدة الحصار على المسلمين، فأرسل إلى عيينة بن حصن، والحارث بن عوف، سيدي غطفان يفاوضهما على ثلث ثمار المدينة، ويعودا بقومهما، فوافقا.(1/72)
وقبل إنفاذ الاتفاق أرسل النبي صلى الله عليه وسلم إلى سعد بن معاذ وسعد بن عبادة رضي الله عنهما زعيمي الأنصار يستشيرهما، فقالا: يا رسول الله هذا أمر تحبه فنصنعه لك؟ أو شيء أمرك الله فنسمع ونطيع؟ أو أمر تصنعه لنا؟ فقال: (بل أمر أصنعه لكم، والله ما أصنعه إلا لأني رأيت العرب قد رمتكم عن قوس واحدة). فقال له سعد بن معاذ: يا رسول الله قد كنا نحن وهؤلاء القوم على الشرك بالله وعبادة الأوثان، لا نعبد الله ولا نعرفه، وما طمعوا قط أن ينالوا منا ثمرة إلا قرى أو بيعا، أفحين أكرمنا الله بالإسلام، وهدانا إليه وأعزنا بك وبه، نعطيهم أموالنا، والله لا نعطيهم إلا السيف حتى يحكم الله بيننا وبينهم. فسر رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: (أنتم وذاك). وقال لعيينة والحارث: (انصرفا فليس لكم عندي إلا السيف)، وتناول سعد الصحيفة ومحا ما فيها، ثم قال: ليجهدوا علينا.
وكانت بنو قريظة قد نقضت عهدها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وانضمت إلى الأحزاب، مما زاد في شدة البلاء على المسلمين، وملأ قلب سعد بن معاذ بالغيط لأنهم كانوا حلفاءه، وكان يتمنى أن يشفي الله قلبه من بني قريظة الذين غدروا بالمسلمين في أحرج الساعات، وأدق المواقف، وأصبحوا بلغة العصر "مجرمي حرب". ولما اشتدت المناوشات بين المسلمين والمشركين، رمي سعد بسهم في أكحله "والأكحل عرق في ذراعه"، فأخذ الدم يسيل منه بغزارة، فقال سعد: اللهم لا تمتني حتى تشفيني من بني قريظة. فرقأ جرحه وانقطع دمه، وأمر النبي صلى الله عليه وسلم بنقله إلى خيمة قريبا منه يمرض فيها، وما لبث المشركون أن انهزموا بما ألقى الله تعالى في قلوبهم من الرعب، وبما أرسل عليهم من الريح والملائكة، وكفى الله المؤمنين القتال.
حكم سعد رضي الله عنه في بني قريظة:
وانطلق المسلمون إلى بني قريظة ليؤدبوهم جزاء ما اقترفوا من الغدر ونقض العهد، وحاصرهم النبي صلى الله عليه وسلم خمسة وعشرين يوما حتى خضعوا، وطلبوا أن يحكم فيهم سعد بن معاذ، وأعلنوا الرضا بحكمه، فرضي النبي صلى الله عليه وسلم، وأرسل إلى سعد، فلما رآه الأوس قالوا له: يا أبا عمرو، هؤلاء مواليك ارفق بهم وأحسن إليهم كما(1/73)
أحسن أبي في مواليه، فلما أكثروا عليه قال لهم: لقد آن لسعد ألا تأخذه في الله لومة لائم. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لسعد: (يا سعد احكم في بني قريظة). فقال سعد: إني أحكم فيهم أن تقتل المقاتلة، وتقسم الأموال، وتسبى الذراري والنساء. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبع سماوات). وكان ذلك أعدل حكم جزاء خيانتهم وغدرهم.
ولما شفى سعد صدره من بني قريظة دعا ربه: اللهم إن كان قد بقي من حرب قريش شيء، فأبقني لهم حتى أجاهدهم فيك، وإن كنت قد وضعت الحرب بيننا وبينهم فاقبضني إليك. فانفجر جرحه، ودخل عليه الرسول صلى الله عليه وسلم فاعتنقه، ودمه ينضح في وجه رسول الله وهو يقول: (اللهم إن سعدا قد جاهد في سبيلك، وصدق رسولك، فتقبل روحه بخير ما تقبلت به روحا).
وأمسى النبي صلى الله عليه وسلم، ولما استيقظ جاءه جبريل عليه السلام يقول: من رجل من أمتك مات الليلة، استبشر بموته أهل السماء. ثم أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن سعدا قد مات، فقام ودخل عليه وهو مسجى في سريره وقال: (هنيئا لك يا أبا عمرو، هنيئا لك يا أبا عمرو، جزاك الله خيرا من سيد قوم فقد أنجزت الله ما وعدته، ولينجزك الله ما وعدك).
مات سعد بن معاذ رضي الله عنه في السابعة والثلاثين من عمره، وكان قد أسلم في الواحدة والثلاثين بعد حياة حافلة بجلائل الأعمال، وقد نذر حياته وماله وجهده لربه عز وجل، ففاز برضوانه، وقد روي أن سبعين ألف ملك نزلوا في جنازة سعد بن معاذ لم ينزلوا إلى الأرض من قبل ذلك.
رحم الله سعد بن معاذ، لقد كان أمة وحده، ولقد حزن عليه المسلمون حزنا شديدا، قالت عائشة: ما كان أحد أشد فقدا على المسلمين بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبيه من سعد بن معاذ. وقد قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اهتز عرش الرحمن لموت سعد بن معاذ). وقال الشاعر:
وما اهتز عرش الله من أجل هالك……………سمعنا به إلا لسعد أبي عمرو(1/74)
المناقشة
1.كيف أسلم سعد بن معاذ؟ وما أثر إسلامه على قومه؟
2.لسعد بن معاذ مواقف كثيرة تدل على شجاعته وإخلاصه للإسلام. تحدث عن مواقفه في بدر وأحد والخندق.
3.لقد آن لسعد ألا تأخذه في الله لومة لائم. ما المناسبة التي قال فيها سعد رضي الله عنه هذه الكلمة؟
4.بم حكم سعد في بني قريظة؟ وماذا قال النبي تأييدا لحكمه؟
5.متى توفي سعد؟ وما منزلته في قلب النبي صلى الله عليه وسلم وقلوب المسلمين؟(1/75)
سعد بن عبادة رضي الله عنه
نسبه:
هو سعد بن عبادة بن دليم بن حارثة الخزرجي الأنصاري، من بني ساعدة بن كعب من الخزرج، كنيته أبو ثابت، كان سيد الخزرج. لا يذكر سعد بن معاذ إلا ويذكر معه سعد بن عبادة. كلاهما زعيم قومه: سعد بن معاذ سيد الأوس، وسعد بن عبادة سيد الخزرج، وفيهما قال القائل:
فإن يسلم السعدان يصبح محمد……بمكة لا يخشى خلاف المخالف
وكلاهما كان قويا في الحق، وكما قام سعد بن معاذ بتكسير أصنام بني عبد الأشهل، قام سعد بن عبادة بتكسير أصنام بني ساعدة، وقد أسلم سعد بن عبادة مبكرا، وشهد بيعة العقبة مع السبعين، وكان أحد النقباء الاثني عشر.
كانت أمه عمرة بنت مسعود -من المبايعات- توفيت بالمدينة والرسول غائب في غزوة "دومة الجندل" وسعد معه، فلما عاد صلى الله عليه وسلم إلى المدينة أتى قبرها، فصلى عليها.
إيذاء قريش له:
ولعل سعد بن عبادة هو الوحيد من الأنصار الذي تعرض لإيذاء قريش، فبعد أن تمت بيعة العقبة سرا بالليل، وتهيأ الأنصار للسفر في الصباح، علمت قريش بأمر البيعة، فجن جنونها وأخذت تطلب الأنصار، ولكنهم كانوا قد بعدوا عن مكة المكرمة ولم تدرك من الركب إلا سعد بن عبادة، فأخذه المشركون وربطوا يديه إلى عنقه بشراك رحله، وعادوا به إلى مكة، واجتمعوا عليه يضربونه ويعذبونه، وقد طار صوابهم وجن جنونهم، حين أحسوا أن أمر الإسلام يشيع وينتشر، وأن محمدا صلى الله عليه وسلم وجد له أنصارا لدينه خارج مكة المكرمة، ولو لحق بهم يوما لصار له بهم قوة، ولمال عليهم يوما وحطم جاههم وأصنامهم، ورأت قريش أن سلطانها يتهاوى تحت معاول الحق، فأخذوا يطفئون غيظهم وأحقادهم بإيذاء سعد بن عبادة.
يقول سعد: (فوالله إني لفي أيديهم إذ طلع علي نفر من قريش فيهم رجل وضيء(1/76)
شعشاع من الرجال، هو سهل بن عمرو، فقلت في نفسي: إن يكن عند أحد من القوم خير، فعند هذا).
فلما دنا مني رفع يده، فلكمني لكمة شديدة، فقلت في نفسي: لا والله ما عندهم بعد هذا من خير.
فوالله إني لفي أيديهم يسحبونني إذ أوى إلي رجل ممن كان معهم، فقال: ويحك أما بينك وبين أحد من قريش جوار ولا عهد؟
قلت: بلى، كنت أجير لجبير بن مطعم تجارة وأمنعهم ممن يريد ظلمهم ببلادي، وكذلك للحارث بن حرب بن أمية.
قال الرجل: فاهتف باسم الرجلين، واذكر ما بينك وبينهما من جوار، ففعلت، وخرج الرجل إليهما فأنبأهما أن رجلا من الخزرج يضرب بالأبطح، وهو يهتف باسميهما، ويذكر أن بينه وبينهما جوارا، فسألاه عن اسمي، فقال: سعد بن عبادة، فقال: صدق والله، وجاءا فخلصاني من أيديهم.
وعاد سعد إلى المدينة بعد هذا العدوان الذي وقع عليه، وقد امتلأ قلبه بالنقمة على قريش التي تترصد لأتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم وتصب عليهم العذاب.
كرمه رضي الله عنه:
كان سعد بن عبادة جوادا كريما سخيا بفطرته، فما إن هاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة حتى سخر ماله لخدمة المهاجرين، ولنصرة الدين الجديد، وقد روي أن جفنة سعد كانت تدور مع النبي صلى الله عليه وسلم كل يوم في بيوت أزواجه، وقال محمد بن سيرين: كان أهل الصفة إذا أمسوا انطلق الرجل بالرجل، والرجل بالرجلين، والرجل بالخمسة، فأما سعد بن عبادة فكان ينطلق بثمانين كل ليلة.
لذلك كان سعد يسأل ربه دائما المزيد من الرزق، ويقول: اللهم لا مجد إلا بفعال، ولا فعال إلا بمال، اللهم إنه لا يصلحني القليل، ولا أصلح معه.
وقد استحق دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم: (اللهم اجعل صلواتك ورحمتك على آل سعد بن عبادة).(1/77)
شجاعته في الحق:
كان سعد بن عبادة شديدا في الحق، لا يحب أن يطوي قلبه على بغضاء لأحد من المسلمين، وكان يرى في الصراحة وعدم المداراة خير كثيرا، فربما يكشف له من الأمر ما كان خافيا عليه فيثوب إلى رشده.
يدلنا على ذلك موقفه من توزيع الغنائم بعد غزوة حنين، فبعد أن انتصر المسلمون في هذه الغزوة وأفاء الله عليهم من الغنائم، خص رسول الله صلى الله عليه وسلم المؤلفة قلوبهم ومن هم حديثوا عهد بالإسلام العطايا الكبيرة يتألفهم بها، أما أولوا الإيمان القوي فقد وكلهم إلى إيمانهم، ولم يعطهم شيئا، فتساءل الأنصار فيما بينهم: لماذا لم يعطنا رسول الله صلى الله عليه وسلم كما أعطى غيرنا؟
وحمل سعد بن عبادة هذا التساؤل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بصراحته المعهودة، ونقل إليه صورة أمينة لما يعتلج في نفوس الأنصار.
قال: يا رسول الله، إن هذا الحي من الأنصار قد وجدوا عليك في أنفسهم لما صنعت في هذا الفيء الذي أصبت، قسمت في قومك وأعطيت عطايا عظاما في قبائل العرب، ولم تعط هذا الحي من الأنصار منها شيئا. فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم: (وأين أنت من ذلك يا سعد؟) فقال سعد: ما أنا إلا واحد من قومي. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إذن فاجمع لي قومك)، فجمعهم سعد، وحدثهم النبي صلى الله عليه وسلم قائلا:
(يا معشر الأنصار، مقالة بلغتني عنكم، وجدة وجدتموها علي في أنفسكم؟ ألم آتكم ضلالا فهداكم الله، وعالة فأغناكم الله، وأعداء فألف الله بين قلوبكم؟)
قالوا: بل الله ورسوله أمن وأفضل. ثم قال: (ألا تجيبونني يا معشر الأنصار؟) قالوا: بماذا نجيبك يا رسول الله، لله ورسوله المن والفضل.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أما والله لو شئتم لقلتم فلصدقتم ولصدقتم: أتيتنا مكذبا فصدقناك، ومخذولا فنصرناك، وعائلا فآسيناك، وطريدا فآويناك. أوجدتم يا معشر الأنصار في أنفسكم في لعاعة من الدنيا تألفت بها قوما ليسلموا ووكلتكم إلى إسلامكم؟ ألا ترضون يا معشر الأنصار أن يذهب الناس بالشاة والبعير، وترجعوا أنتم برسول الله إلى رحالكم؟.. فوالذي نفسي بيده لولا الهجرة لكنت امرأ من(1/78)
الأنصار، ولو سلك الناس شعبا، وسلك الأنصار شعبا، لسلكت شعب الأنصار، اللهم ارحم الأنصار، وأبناء الأنصار، وأبناء أبناء الأنصار).
وهنا بكى القوم حتى اخضلوا لحاهم، وقالوا جميعا ومعهم سعد بن عبادة: رضينا برسول الله قسما وحظا.
جهاده في سبيل الله:
شهد سعد بن عبادة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم المشاهد كلها، وأبلى فيها أعظم البلاء إلا بدرا، فقد كان يتهيأ للخروج فلدغته حية قبل أن يخرج فأقام، وقال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لئن كان سعد لم يشهدها، لقد كان عليها حريصا).
وكان صاحب لواء الأنصار في المواطن كلها، كما كان علي بن أبي طالب رضي الله عنه صاحب لواء المهاجرين.
وكان شريكا لسعد بن معاذ في الموقف الرائع الذي وقفاه في غزوة الخندق، حينما استشارهما النبي صلى الله عليه وسلم في إعطاء عيينة بن حصن وصاحبه ثلث ثمار المدينة، فأبيا، وقالا: والله لا نعطيهم إلا السيف حتى يحكم الله بيننا وبينهم. وسر رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك. وفي فتح مكة أخذته نشوة النصر وتذكر ما لقيه المسلمون على أيدي قريش من الأذى، وما لقيه هو يوما ما، فقال وهو يحمل راية الأنصار:
اليوم يوم الملحمة
اليوم تستحل الحرمة
اليوم أذل الله قريشا
فخاف المسلمون أن يكون لكلام سعد آثار ضارة، فقال عمر بن الخطاب: يا رسول الله، ما نأمن أن يكون لسعد بن عبادة في قريش صولة، فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم الراية منه فأعطاها لابنه قيس بن سعد، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (بل هذا يوم أعز الله فيه قريشا) أي: أعزها بدخول كثير منهم في الإسلام.(1/79)
وفاته:
رحل سعد بن عبادة إلى الشام في أول خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ومات بحوران في السنة الخامسة عشرة للهجرة.
المناقشة
1- لا يكاد يذكر سعد بن معاذ إلا ويذكر سعد بن عبادة، فما وجه الشبه بينهما؟
2- كيف تعرض سعد -وهو من الأنصار- لإيذاء قريش؟
3- كان سعد كريماً بطبعه. اذكر أمثلة على ذلك.
4- كان سعد حريصاً لا يهاب من قول الحق. اشرح موقفاً له في ذلك.(1/80)
عبد الله بن مسعود رضي الله عنه
نسبه:
…هو الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود بن غافل(1), من بني هُذَيْل, وقد كنَّاه- صلى الله عليه وسلم- بأبي عبد الرحمن, قبل أن يولد له. وأمه: أم عبد, بنت عبد ودُ بن سواء(2), أسلمت وحسن إسلامها.
نشأته:
…نشأ عبد الله بن مسعود بمكة, ولم يكن من ذوي اليسار, والجاه, وإنما كان فقيراً عاملاً يحب العمل, فقال- محدثاً عن نفسه: كنت أرعى غنماً لعقبة بن أبي مُعيْط.
إسلامه وبلاؤه:
أسلم عبد الله بن مسعود قبل أن يدخل الرسول- صلى الله عليه وسلم- دار الأرقم بن أبي الأرقم, فهو من السابقين إلى الإسلام, ويقال: إنه سادس من أسلم, وكان يتردد على الرسول- صلى الله عليه وسلم- ليتعلم منه القرآن, وهو أول من جهر بالقرآن بمكة, فلما سمعته قريش, وهو يرتل قول الله تعالى:( الرَّحْمَنُ, علم القرآن, خلق الإنسان, علمه البيان)(3).
انهالوا عليه ضرباً. ثم توجه إلى أصحابه, فلما شاهدوا أثر الضرب في وجهه قالوا له: هذا الذي كنا نخشاه عليك, فقال له- في ثبات وإصرار-: (والله ما كان أعداء الله قط, أهون علي منهم الآن, ولئن أردتم لفعلت مثل ذلك غدا), فقالوا له:(حَسْبُك لقد أسمعتهم ما يكرهون).
__________
(1) - ابن حبيب بن شمخ.
(2) - ابن فرين ابن صاهلة وأمها منى بني زهرة.
(3) - سورة الرحمن , الآية: 1_4.(1/81)
جهاده في سبيل الله عز وجل:
…كان عبد الله بن مسعود ممن هاجر الهجرتين, وشهد بدراً, والمشاهد كلها فكان المثل الأعلى للمسلم المجاهد, ولقد تحمل الكثير من الآلام والصعاب والاضطهاد في سبيل عقيدته, وحفاظاً على دينه. فتراه في معركة بدر في صفوف المجاهدين يقاتل المشركين حتى مكنه الله من قتل أبي جهل, فلما علم- صلى الله عليه وسلم- بقتله, قال:(الحمد لله, هذا فرعون هذه الأمة).
…وفي معركة أُحد تجده حينما صاح النبي- صلى الله عليه وسلم- بالمؤمنين المجاهدين:(إليَّ عباد الله, إليَّ عباد الله): كان عبد الله أحد الذين التفوا حوله- صلى الله عليه وسلم-, ودافعوا عنه دفاع المستميت الذي يرجو الشهادة في سبيل نصر الله. كما شهد معركة اليرموك, وفتوح الشام, وقد أبلى في تلك المعارك أعظم البلاء.
مكانة عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عند الرسول- صلى الله عليه وسلم-:
…كان عبد الله بن مسعود رضي الله عنه من المقربين عند الرسول- صلى الله عليه وسلم-, فكان صاحب سره ويتعهد فراشه وسواكه ونعليه, وطهوره في سفره, ويوقظه إذا نام, ولقد آخى النبي- صلى الله عليه وسلم- بينه وبين الزبير بن العوام بمكة, وبينه وبين معاذ بن جبل بالمدينة, ومدحه- صلى الله عليه وسلم- في أول دخوله في الإسلام, فقال له:(إنَّك لَغُلام مُعَلِّم), ولقد طلب منه النبي- صلى الله عليه وسلم- أن يصعد شجرة يأتيه منها بشيء, فنظر بعض الصحابة إلى دقة ساق عبد الله, فضحكوا من حموشة ساقيه, فقال- صلى الله عليه وسلم-:(لماذا تضحكون؟ والذي نفْسي بِيَدِهِ لهما أثقلُ في الميزان من جبل أُحُد).
…ومما يَدُلُّ على مكانته عند رسول الله- صلى الله عليه وسلم-, وحبه له ما روي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه, أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال:(لَو كنتُ مستخلفاً أحداً من غير مشورة, لا استَخلفتُ ابن أم عبد).
عبد الله في خلافة عمر رضي الله عنه:
في عهد أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه، أرسله إلى أهل الكوفة(1/82)
ليعلمهم أمور دينهم، فكتب إليهم أمير المؤمنين يقول: (إني بعثت إليكم بعبد الله بن مسعود معلما، ووزيرا فسمعوا له، واقتدوا به، وإني قد آثرتكم به على نفسي) ثم قدم الكوفة، وابتنى له بها دارا، إلى جانب المسجد، ومكث بها إلى نهاية خلافة عمر رضي الله عنه.
عبد الله في خلافة عثمان رضي الله عنهما:
كان سعد بن أبي وقاص واليا على الكوفة، وكان عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أمينا على بيت المال ومعلما بها، فطلب سعد قرضا من بيت المال، فأعطاه عبد الله ما أراد، ولما تقاضاه ابن مسعود لم ييسر عند سعد ما يسد به دينه من مال،، فارتفع بينهما الكلام، فلما وصل الأمر إلى عثمان رضي الله عنه، رأى أن يحسم الأمر فعزلهما، وولى على الكوفة الوليد بن عقبة، وطلب منهما العودة إلى المدينة، ولما علم أهل الكوفة بذلك، اجتمعوا عند عبد الله بن مسعود وقالوا له: ( إن للخليفة علي حق الطاعة، ولا أحب أن أكون أول من فتح باب الفتن ). وهكذا نجده أنكر ذاته، ولم يغضب لنفسه بل آثر مصلحة الأمة، ورعاية حق الخليفة على مصلحته الشخصية.
علمه:
كان رضي الله عنه فقيها بالدين، عالما بالسنة، أحفظ الناس لكتاب الله عز وجل فلقد قال: ( ما نزلت من كتاب الله إلا وأنا أعلم بها، أين نزلت، وفيم نزلت؟ ولو أعلم أن أحدا أعلم مني بكتاب الله تناله المطايا لأتيته). ولقد سمعه الرسول صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ القرآن فقال: (من سره أن يقرأ القرآن رطبا كما أنزل فليقرأه على قراءة ابن أم عبد) فأخذ عبد الله في الدعاء، وجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول(سل تعط). فقال عبد الله: ( اللهم إني أسألك إيمانا لا يرتد، ونعيما لا ينفد، ومرافقة نبيك في أعلى جنان الخلد). وكان جيد القراءة للقرآن، عالما بأسراره، وقد شهد له الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه بذلك. فعن عبد الله بن عمر يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (خذوا(1/83)
القرآن من أربعة: من ابن أم عبد، ومعاذ بن جبل، وأبي بن كعب، وسالم مولى أبي حذيفة ).
وقال فيه عمر رضي الله عنه: (وعاء ملئ علما ). وهو من الذين حفظوا الكثير من أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم لطول صحبتهم ومجالستهم له، وأخذ عنه أجلاء الصحابة رضوان الله عليهم.
زهده وتواضعه رضي الله عنه:
عن أبي طيبة قال: مرض عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، فعاده عثمان رضي الله عنه وقال له: (ما تشتكي؟ قال: ذنوبي. قال له عثمان: فما تشتهي؟ قال: رحمة ربي. قال: ألا آمر لك بطبيب؟ قال: الطبيب أمرضني. قال عثمان: ألا آمر لك بطبيب بعطاء؟ قال: لا حاجة لي فيه.) وكان من تواضعه أنه خرج مرة ومعه أناس يشيعونه فقال لهم: ألكم حاجة؟ قالوا، لا، فقال لهم: ارجعوا، فإنها ذلة للتابع، وفتنة للمتبوع.
وفاته رضي الله عنه:
قدم عبد الله من العراق حاجا، فمر بالربذة، فشهد وفاة أبي ذر رضي الله عنه وبقي معه حتى وارى جسده التراب، ثم قدم المدينة، ومرض بها، وتوفي سنة اثنين وثلاثين من الهجرة، وصلى عليه عثمان رضي الله عنه، ودفن بالبقيع، وله من العمر بضع وستون سنة. رحمه الله فقد عاش مجاهدا، وفقيها ومحدثا وكان من الزاهدين.(1/84)
المناقشة:
1.…اذكر ما تعرف عن نسب عبد الله بن مسعود رضي الله عنه ونشأته؟
2.… ما ترتيب عبد الله في الإسلام؟ وماذا تعرف عن جهره بالقرآن بمكة؟
3.…لعبد الله رضي الله عنه مواقف جهاد مشهورة في بدر وأحد, ماهذه المواقف؟
4.…تجلت مكانة عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عند النبي- صلى الله عليه وسلم- في موقف عدة. اذكرها؟
5.…ماذا قال عمر رضي الله عنه عندما بعث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه إلى الكوفة؟
6.…ما سبب عزل عبد الله رضي الله عنه عن الكوفة؟
7.…كان عبد الله رضي الله عنه من أهل القرآن. دلّل على ذلك بما تعرف؟
8.…اتصف عبد الله رضي الله عنه بالزهد والتواضع. ما دليل ذلك؟
9.…ما قصة وفاة عبد الله رضي الله عنه؟ ومتى توفي؟ وأين دفن؟(1/85)
عبد الله بن عباس رضي الله عنهما
نسبه:
هو عبد الله بن عباس بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف القرشي الهاشمي, وكان يُكنَّى أبا العباس, بالنسبة لأكبر أولاده, وهو ابن عم الرسول- صلى الله عليه وسلم-. وأمه: أم الفضل, لبابة الكبرى بنت الحارث الهلالية, أخت ميمونة زوج الرسول- صلى الله عليه وسلم-.
نشأته رضي الله عنه:
…ولد عبد الله بن العباس في شعاب بني هاشم قبل الهجرة, بثلاث سنين(1)فقد ثبت عن مجاهد عن ابن عباس قال: لما كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- في الشعب جاء أبي إليه, فقال له: أرى أم الفضل قد اشتملت على حمْل, فقال- صلى الله عليه وسلم-:(لعل الله أن يقرأ أعيننا بغلام) فكان ذلك الغلام, هو عبد الله بن عباس, فلما صدقت نبوءة الرسول- صلى الله عليه وسلم-, ورزقها الله غلاماً, أتت به إلى النبي- صلى الله عليه وسلم- فسر سروراً عظيماً, وأذن في أذنه اليمنى, وأقام في أذنه اليسرى, وسماه: عبد الله, ودعا-صلى الله عليه وسلم-, للعباس وولده, فقال:(اللّهُمَّ احْفَظْهُ في وَلَدِهِ)(2).
إسلامه رضي الله عنه:
كان عبد الله دائم الاتصال برسول الله- صلى الله عليه وسلم-, لقرابته له, فسمع من الرسول- صلى الله عليه وسلم- بعض ما نزل به الوحي من تعاليم الإسلام, وأحكام الدين, فشرح الله صدره لقبول الإسلام ودخل في دين الله, فمسح الرسول- صلى الله عليه وسلم- على رأسه وقال:(اللّهُمَّ فَقِّهْه في الدين وعلمه التأويل ) واشتهر عبد الله منذ حداثته بالذكاء والفصاحة، والشعر،
__________
(1) - الاستيعاب ص 933.
(2) - المختصر في علوم الأثر(1/86)
ومكارم الأخلاق، والتواضع، فقد روي أنه شاهد الرسول صلى الله عليه وسلم وهو يتوضأ، ففعل مثله, ثم وقف خلف النبي وهو يصلي, فأشار إليه-صلى الله عليه وسلم-, أن يقف موازياً له عن يمينه, فأبى, فلما انتهى الرسول- صلى الله عليه وسلم- من صلاته قال لعبد الله:(ما منعك ألا تكون وازيت بي)؟ فقال عبد الله: أنت يا رسول الله أجَل في عيني, وأعز من أوازى بك, فقال- صلى الله عليه وسلم-:(اللَّهم آته الحكمة ).
بلاؤه في الإسلام:
كان عبد الله بن عباس رضي أو عنهما شجاعا لا يهاب الموت، وكان يؤمن بأن الاستشهاد في سبيل نصرة دين الله أعز ما يتمناه المسلم في هذه الحياة، فلم تحدثه نفسه بحياة الترف والنعيم، وإنما كان من السابقين إلى ميدان الجهاد، فقد كان مع المجاهدين في فتح مكة, وغزوة حنين والطائف, وشهد فتح إفريقيا مع عبد الله بن أبي السرح, وشهد موقعة الجمل, ومعركة صفين, وفي بلاد الفرس, وفتح القسطنطينية, وجعله علي بن أبي طالب والياً على البصرة, وذلك لسداد رأيه, وحكمته في تصريف الأمور.
عبد الله في المدينة:
اجتهد عبد الله في تحصيل العلم, فقضى معظم وقته في حفظ القرآن الكريم ورواية الحديث, ودراسة اللغة والفقه, والفرائض, وكان عالماً بأنساب العرب, وأيامهم, وظل على تلك الحال من الدراسة والتحصيل حتى أصبح فيما بعد حجة يرجع إليه في أحكام الدين, ولما لحق الرسول- صلى الله عليه وسلم- بالرفيق الأعلى, كان عبد الله شاباً في الثالثة عشرة من عمره, وصار يجمع الحديث من الصحابة , وكان يتردد على بيوت الأنصار والمهاجرين طالباً جمع الحديث,حتى نال من ذلك القسط الوافر, فقد بلغ ما رواه من الأحاديث ما يقرب من ألف وستمئة وسبعين حديثاً, وبذلك كانت له منزلة رفيعة بين المحدثين.(1/87)
علمه ومكانته رضي الله عنه:
…استجاب الله دعاء النبي- صلى الله عليه وسلم- لعبد الله بن عباس حين قال: (اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل, اللهم بارك فيه, وانشر منه, واجعله من عبادك الصالحين). وببركة دعاء النبي- صلى الله عليه وسلم- له, شرح الله صدره وهداه إلى خير الدنيا والآخرة, فأوتي من العلم ما لم يتيسر لغيره من أجلاء الصحابة, فكان حبر الأمة, وترجمان القرآن, فقد روي أن ملك الروم طلب من معاوية أن يجيب على بعض أمور, فأجاب عبد الله عنها فلما سمع ملك الروم بأجوبته قال: هذا كلام من عند بيت النبوة.
…وكان رضي الله عنه يجلس يوماً للفقه, ويوماً للتأويل, ويوماً للمغازي, ويوماً للشعر, ويوماً لأيام العرب, ولم يصل إلى منزلته في التفسير أحد من الصحابة, ولهذا لقبه الرسول- صلى الله عليه وسلم- بترجمان القرآن. وقد بلغ من تفسيره للقرآن مبلغاً عظيماً, حتى قيل في تفسيره: (لو سمعه أهل الفرس والروم لأسلموا). ولما سئل عبد الله: بم نلت العلم؟ قال: (بلسان سؤول, وقلب عقول).
…وروي عن مسروق أنه قال: (كنت إذا رأيت عبد الله بن عباس قلت: أجمل الناس. فإذا تكلم, قلت: أفصح الناس. وإذا تحدث،قلت: أعلم الناس).
ولما تولى إمارة البصرة من قبل علي بن أبي طالب كرم الله وجهه ورضي عنه، وأصبح والياً عليها, لم يُشغل بالشؤون الإدارية, والنواحي السياسية, وما يقوم به من مسؤوليات نحو أهل البصرة, ولكنه واصل جهاده, وقام بأعباء رسالته الدينية خير قيام, فأخذ ينشر العلم في أرجاء البصرة, ويفقه المسلمين في أمر دينهم, وكان يدارسهم العلم في رمضان, فما ينقضي الشهر حتى يفقههم, وفي معجم البغوي عن عطاء قال: (ما رأيت قط أكرم من مجلس ابن عباس: أكثر فقها وأعظم خشية, إن أصحاب الفقه عنده, وأصحاب القرآن عنده, وأصحاب الشعر عنده, يصدرهم كلهم من واد واسع)
…وروي عن عبد الله بن دينا أن رجلاً سأل عمر عن قول الله تعالى: (كانتا رتقاً ففتقناهما) الأنبياء:30(1/88)
فقال: اذهب إلى الشيخ فسله, ثم تعال فأخبرني, فذهب إلى ابن عباس فسأله, فقال: كانت السماوات رتقاء لا تمطر, والأرض رتقاء لا تنبت, ففتق هذه بالمطر, وهذه بالنبات. فرجع الرجل إلى عبد الله بن عمر, فلما أخبره, قال: (لقد أوتي ابن العباس علماً صادقاً). ولقد رأى عبد الله رجلاً مع النبي فلم يعرفه, فسأل النبي عنه فقال -صلى الله عليه وسلم-: أرأيته؟ قال: نعم. قال- صلى الله عليه وسلم-: ( ذلك جبريل, أما إنك ستفقد بصرك) فعمي بعد ذلك في آخر حياته, وهو القائل في ذلك:
إن يأخذ الله من عيني نورهما…………ففي لساني وقلبي منهما نور
قلبي ذكي وعقلي غير ذي دخل………وفي فمي صارم كالسيف مأثور
تواضعه رضي الله عنه:
كان عبد الله بن عباس رضي الله عنه أنضر الفتيان وجهاً، وأحسنهم خلقاً، وأفقههم في كتاب الله. ومما يدل على كمال خلقه وتواضعه، واحترامه للعلماء، أنه أخذ مرة بركاب زيد بن ثابت، فقال زيد بن ثابت رضي الله عنه: لا تفعل يا ابن عباس، فقال عبد الله : هكذا أمرنا أن نفعل بعلمائنا، فقال له زيد: أين يداك؟ فأخرج عبد الله يديه، فقبلهما وقال: هكذا أمرنا أن نفعل بأهل بيت نبينا صلى الله عليه وسلم.
وكان رضي الله عنه يقوم من الليل، ويرتل القرآن، ويكثر من البكاء ويقول: (وجاءت سكرة الموت بالحق ذلك ما كنت منه تحيد).
وأصيب في آخر حياته في بصره، كما كان ذلك في أبيه وجده، فقال له معاوية مازحاً ومداعباً: ما لكم تصابون في أبصاركم يا بني هاشم. قال ابن عباس: كما تصابون في بصائركم يا بني أمية.
وشتم رجل عبد الله بن عباس، فقال له عبدالله: إنك لتشتمني وفي َّ ثلاث: إني لأسمع بالحاكم من حكام المسلمين يعدل في حكمه فأحبه، ولعلي لا أقاضي إليه أبداً. وإني لأسمع بالغيث يصيب بعض بلاد المسلمين فأفرح به، وما لي بها سائمة ولا راعية. وإني لآتي على آية من كتاب الله فوددت لو أن المسلمين كلهم يعلمون(1/89)
عنه مثل ما أعلم.
وفاته رضي الله عنه:
عاش عبد الله طيلة حياته مجاهداً في نشر دين الله، وإعلاء كلمته بسيفه وقلمه ولسانه وعقله؛ حتى توفاه الله فتوفي رضي الله عنه بالطائف سنة ثمان وستين من الهجرة في عهد ابن الزبير، وله من العمر ما يقرب من إحدى وسبعين سنة، وصلى عليه صلاة الجنازة محمد بن الحنفية، وقال في عبد الله: مات والله حبر هذه الأمة.
المناقشة
1- ما قصة ولادة عبد الله بن عباس رضي الله عنهما؟ وبما دعا لهما النبي صلى الله عليه وسلم؟
2- بم دعا النبي صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن عباس رضي الله عنهما عندما أسلم؟ وبم اشتهر منذ حداثته؟
3- دعا النبي صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن عباس رضي الله عنهما فقال: (اللهم آته الحكمة). ما قصة هذا الدعاء؟
4- كان عبد الله رضي الله عنه محباً للجهاد. وضح هذه العبارة.
5- عبد الله بن عباس رضي الله عنهما محدث وعالم. دلل على هذا.
6- عبد الله رضي الله عنه حبر الأمة وترجمان القرآن. بم وصل إلى هذه المكانة؟ وماذا قال ملك الروم عندما أجاب عبد الله رضي الله عنه على أسئلته؟
7- بلغ تفسير عبد الله رضي الله عنه مبلغاً عظيماً. فماذا قيل في ذلك؟
8- لم عمي عبد الله رضي الله عنه؟ وماذا قال في ذلك؟
9- دلل على تواضع عبد الله بن عباس رضي الله عنهما.
10- مالذي دار بينه وبين معاوية رضي الله عنهما؟ وعلام يدل ذلك؟
11- بم رد عبد الله رضي الله عنه على من شتمه؟
12- أين توفي عبد الله رضي الله عنه؟ ومتى؟ ومن صلى عليه؟ وماذا قال ذلك المصلي؟(1/90)
زيد بن ثابت رضي الله عنه
نسبه:
هو زيد بن ثابت بن الضحاك بن زيد بن لوذان بن مالك الأنصاري النجاري المخزومي.
وكنيته: أبو سعيد.
وأمه: النوار بنت مالك بن معاوية بن عدي بن النجار.
ولد زيد رضي الله عنه قبل هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم بإحدى عشرة سنة.
نشأته:
نشأ زيد رضي الله عنه بالمدينة المنورة فتى من فتيان الخزرج، ينعم بالحياة السعيدة في ظل والديه، ولكن القدر عاجل والده، فقد قتل يوم بعاث، وزيد في السادسة من عمره، فعاش يتيما يشعر بمرارة اليتم والحرمان.
إسلامه وبلاؤه:
لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة مهاجرا كان زيد رضي الله عنه في الحادية عشرة من عمره، فشرح الله صدره للإسلام، فأسلم وحسن إسلامه، فلما كانت السنة الثانية للهجرة، وحدثت معركة بدر، توجه إلى الرسول صلى الله عليه وسلم ليرشحه ضمن المجاهدين في قتال المشركين، فلما شاهده، رده لحداثة سنه، فلم يشهد بدرا، ثم شهد أحدا وما بعدها من المشاهد.
جهاده في سبيل الله تعالى:
اشترك زيد في غزوة الخندق وجاهد فيها جهاد الأبطال، وكان له نشاط ملحوظ في نقل التراب مع المسلمين، حتى نال إعجاب الرسول صلى الله عليه وسلم فمدحه، وأثنى عليه قائلا: (أما إنه نعم الغلام).(1/91)
وفي غزوة تبوك: عندما أراد الروم أن يهاجموا المدينة، وأذن الرسول صلى الله عليه وسلم في المسلمين بالجهاد لمهاجمة الروم قبل أن يتحركوا صوب المدينة، كان زيد رضي الله عنه أحد المجاهدين، وكانت راية بني مالك بن النجار مع عمارة بن حزم، فأخذها الرسول صلى الله عليه وسلم، وأعطاها إلى زيد بن ثابت، وذلك لشجاعته وكفاءته، فظن عمارة أن الرسول صلى الله عليه وسلم إنما أخذ منه الراية لضعفه أو لعدم قدرته على تحمل أمانتها، فقال عمارة: يا رسول الله أبلغك عني شيء، قال صلى الله عليه وسلم: (لا، ولكن القرآن مقدم، وزيد أكثر منك أخذا للقرآن).
منزلته وعلمه رضي الله عنه:
كان زيد رضي الله عنه من كتاب الوحي للرسول صلى الله عليه وسلم، وكانت ترد على الرسول كتب بالسريانية، فأمر زيدا فتعلمها في أقل من عشرين يوما، ثم كتب لأبي بكر وعمر رضي الله عنهما بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم، ولقد استخلفه عمر على المدينة حينما خرج إلى الشام، كما كان يستخلفه كلما أراد حج بيت الله الحرام، مما يدل على سياسته الحكيمة، وجسن تصرفه في شؤون المسلمين.
قال عنه مالك بن أنس: إن زيدا كان إمام الناس بالمدينة بعد عمر بن الخطاب رضي الله عنه ولثقة عثمان رضي الله عنه في زيد، وتقديره له، عينه أمينا على بيت مال المسلمين.
كان زيد رضي الله عنه فقيها عالما بالسنة، فقد روي أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال عنه: (أفرض أمتي زيد بن ثابت) وهو من الراسخين في العلم، ولقوة حفظه ومقدرته العلمية كان هو المرجع في القضاء، والفتيا، وأخذ عنه كثير من أصحاب الرسول، وكانوا يفتون بمذهبه، ومنهم عبد الله بن عمر رضي الله عنهما.
زيد وجمع القرآن الكريم:
لما حدثت معركة اليمامة، وكثر فيها القتال والجرح بين المسلمين، واستشهد الكثير من حملة القرآن الكريم، عهد أبو بكر إلى زيد بن ثابت بجمع القرآن، لعلمه أنه خير من يقوم بهذا العمل الجليل لأمانته، ودقة ضبطه، فقال زيد لأبي بكر وعمر رضي الله(1/92)
عنهما: كيف تفعلان شيئا لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال له أبو بكر: هو والله خير. فقال زيد: والله لو كلفتني نقل جبل من الجبال لكان أهون علي من جمع القرآن، فما زال زيد رضي الله عنه يراجع أبا بكر حتى شرح الله صدره، وأخذ يجمع الآيات من الرقاع وجريد النخل، وصدور الحفاظ من أجلاء الصحابة بكل أمانة وإخلاص، وتحل في سبيل جمعه لكتاب الله من المتاعب ما لم يتحمله غيره من المسلمين.
ولا غرو فقد علمه الرسول صلى الله عليه وسلم موقع الآية من الآية، والسورة من غيرها، ثم نسخت الصحف جميعها بخط زيد، وسلمها إلى أبي بكر الصديق رضي الله عنه فبقيت عنده إلى آخر حياته، ثم أخذها عمر رضي الله عنه حتى لقي ربه، ثم ظلت عند أم المؤمنين حفصة بنت عمر رضي الله عنهما، حتى كان الجمع الأخير في خلافة عثمان رضي الله عنه.
وفي عهد عثمان بن عفان اتسعت الفتوحات الإسلامية، واختلف الناس في طريقة قراءتهم للقرآن، وكل طائفة تفضل الطريقة التي تقرأ بها وتنكر على من يقرأ بغيرها، فبلغ هذا الأمر عثمان رضي الله عنه، وتأكد له ذلك حينما أخبره الصحابي حذيفة بن اليمان بهذا الاختلاف الذي قد شاهده من بعض المسلمين وهو في غزوة أرمينية، فشاور عثمان الصحابة واتفقوا على جمعه، فأرسل إلى أم المؤمنين حفصة بنت عمر رضي الله عنهما يقول: أرسلي إلينا بالصحف لنقوم بنسخها في عدة مصاحف، ثم نردها إليك ثانية، فأرسلتها، ثم كلف جماعة من الحفاظ، وفي مقدمتهم زيد بن ثابت، فنسخوه وكتبوه على ما هو بأيدي الناس، فكان هذا العمل ما أجل ما قام به زيد في خدمة الإسلام والمسلمين، ولقد قيل عن زيد: غلب زيد بن ثابت الناس باثنتين: القرآن والفرائض.
وفاته رضي الله عنه:
توفي زيد بن ثابت رضي الله عنه سنة خمس وأربعين من الهجرة، وله من العمر ست وخمسون سنة. وفي يوم وفاته قال أبو هريرة: (مات اليوم حبر هذه الأمة) رضي الله عنه.(1/93)
المناقشة
1.…اذكر ما تعرفه عن نسب زيد رضي الله عنه ونشأته.
2.…لماذا لم يشهد زيد رضي الله عنه بدرا؟ وما موقفه من بقية المشاهد؟
3.…ماذا قال النبي صلى الله عليه وسلم في موقف زيد في الخندق؟ وبم علل صلى الله عليه وسلم إعطاءه راية بني مالك في تبوك؟
4.…دلل على علم زيد رضي الله عنه بالكتاب والسنة.
5.…ماذا قال مالك بن أنس عن زيد رضي الله عنهما؟
6.…غلب زيد رضي الله عنه الناس بالقرآن والفرائض. فصل عن دوره رضي الله عنه في جمع ونسخ القرآن الكريم.
7.…متى توفي زيد رضي الله عنه؟ وكم كان عمره؟ وماذا قال أبو هريرة رضي الله عنه عند وفاته؟(1/94)
عبد الله بن الزبير رضي الله عنه:
نسبه:
هو عبد الله بن الزبير بن العوام بن خويلد القرشي الأسدي. كنيته أبو بكر. أمه: أسماء بنت أبي بكر الصديق، وأبوه الزبير بن العوام حواري رسول الله صلى الله عليه وسلم.
مولده:
ولد في السنة الأولى للهجرة، وكانت ولادته بقباء حينما نزلت أمه به في طريق هجرتها إلى المدينة، فكان أول مولود في الإسلام بعد الهجرة، أذن أبو بكر في أذنه، وحمله إلى النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن ترضعه أمه، فقبله وحنكه، فكان ريق رسول الله صلى الله عليه وسلم أول ما دخل جوف عبد الله بن الزبير.
وكان فرح المسلمين بولادته عظيما، ذلك أن اليهود حين دخول الرسول صلى الله عليه وسلم المدينة كبتوا والتهبت قلوبهم بالحقد، فأشاعوا أنهم سحروا المسلمين وأنه لن يولد لهم بعد اليوم، فكانت ولادة ابن الزبير تكذيبا لليهود، ودحضا لافترائهم.
بطولته وشجاعته رضي الله عنه:
كان ابن الزبير بطلا مقداما، وشجاعا لا يهاب الموت، ورجلا مؤمنا عاش حياته مجاهدا في سبيل الله، مدافعا عن الحق الذي آمن به، وكان أحد المدافعين عن عثمان بن عفان رضي الله عنه، شهد اليرموك مع أبيه الزبير، واشترك معه في فتح إفريقية وبلاد المغرب والقسطنطينية، فأثبت في كل ذلك بطولات خارقة، وشجاعة نادرة.
وأروع مثل لشجاعته وبطولته كان في حرب إفريقية حيث وقف المسلمون في عشرين ألفا أمام جيش العدو وقوامه مئة وعشرين ألفا، واشتد الأمر على المسلمين، ونظر عبد الله بن الزبير البطل المقدام، فرأى أن مصدر قوة العدو يكمن في ملك البربر، الذي يصيح في جنوده ويشجعهم بطريقة تجعلهم يقدمون على الموت دون خوف أو وجل، ورأى ابن الزبير أنه لابد لحسم المعركة من القضاء عليه.(1/95)
فنادى بعضا من جنود المسلمين، وقال لهم: احموا ظهري واهجموا معي، واندفع عبد الله كالسهم، يخترق صفوف الأعداء بجسارة لا نظير لها، حتى وصل إلى الملك، فهوى عليه بضربة قضت عليه، ودار على من حوله وأعمل فيهم سيفه البتار، فانخلعت قلوبهم من هول المفاجأة، ودبت الفوضى في صفوفهم.
ورأى المسلمون ابن الزبير وهو يصول ويجول وسط جيش العدو، فتحمسوا وانقضوا عليهم وهزموهم شر هزيمة. وعلم قائد جيش المسلمين بما فعل ابن الزبير فازداد إعجابا واختاره ليحمل البشرى بالفتح والنصر إلى خليفة المسلمين عثمان بن عفان رضي الله عنه.
عبادته رضي الله عنه:
لم تكن بطولة عبد الله بن الزبير مقصورة على ميادين القتال وحدها، بل كان بطلا في ميادين العبادة لله، كان صواما قواما، يصوم النهار، ويقوم الليل، ويخضع لله خشوع الطائعين المنيبين، وإن ما يروى عن عبادته لشيء يثير العجب والإعجاب.
قال عمر بن عبد العزيز يوما لابن أبي مليكة: صف لنا عبد الله بن الزبير. فقال: والله ما رأيت نفسا ركبت بين جنبين مثل نفسه، ولقد كان يدخل في الصلاة فيخرج من كل شيء إليها، وكان يركع أو يسجد فتقف العصافير فوق ظهره وكاهله، لا تحسبه من طول ركوعه وسجوده إلا جدارا أو ثوبا مطروحا، ولقد مرت قذيفة منجنيق بين لحيته وصدره وهو يصلي، فوالله ما أحس بها، ولا اهتز لها، ولا قطع من أجلها قراءته، ولا تعجل ركوعه.
وقال عمرو بن دينار: ما رأيت مصليا أحسن صلاة من ابن الزبير.
وسئل عنه ابن عباس فقال:
كان قارئا لكتاب الله، متبعا سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، قانتا له، صائما في الهواجر من مخافة الله، ابن حواري رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمه أسماء بنت الصديق، وخالته عائشة زوجة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا يجهل حقه إلا من أعماه الله.(1/96)
مبايعته بالخلافة رضي الله عنه:
لما آلت الخلافة ليزيد بن معاوية رفض ابن الزبير رضي الله عنه أن يبايع له، واعتصم بمكة المكرمة، ولما مات يزيد بايع كثير من الأنصار عبد الله بن الزبير بالخلافة، واتخذ مكة المكرمة عاصمة له.
بينه وبين الحجاج:
وفي عهد عبد الملك بن مروان جهز جيشا بقيادة الحجاج بن يوسف الثقفي لحرب ابن الزبير والقضاء عليه، وحاصر الحجاج مكة المكرمة حوالي ستة أشهر وضرب الكعبة بالمنجنيق، واستسلم كثير من أتباع ابن الزبير تحت وطأة الحر والجوع، كل ذلك وابن الزبير صامد كالطود الراسخ لا يلين ولا يتزعزع.
بين عبد الله وأمه رضي الله عنهما:
ولما أحس بتدهور الموقف ذهب إلى أمه العظيمة أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما يعرض عليها الأمر ويستشيرها:
فقالت له: (يا بني، أنت أعلم بنفسك، إن كنت تعلم أنك على حق وتدعو إلى حق، فاصبر عليه حتى تموت في سبيله، ولا تمكن رقبتك من غلمان بني أمة. وإن كنت تعلم أنك أردت الدنيا، فلبئس العبد أنت، أهلكت نفسك، وأهلكت من قتل معك).
قال عبد الله: والله يا أماه ما أردت الدنيا ولا ركبت لها، وما جرت في حكم الله أبدا، ولا ظلمت ولا غدرت.
قالت أمه: (إني لأرجو الله أن يكون عزائي فيك حسنا، إن سبقتني إلى الله أو سبقتك إليه. اللهم ارحم طول قيامه في الليل، وظمأه في الهواجر، وبره بأبيه وبي، اللهم إني أسلمته لأمرك فيه، ورضيت بما قضيت، فأثبني في عبد الله ثواب الصابرين الشاكرين) وعانقت ولدها وودعته الوداع الأخير.
وقاتل عبد الله قتالا مريرا في معركة غير متكافئة، ورفض في إباء وشمم أن يستسلم حتى سقط. وجاء الحجاج ليشفي نفسه من عبد الله، فصلبه.(1/97)
بين أسماء رضي الله عنها والحجاج:
وليس هناك أروع من هذا الحوار الذي دار بين هذه الأم العظيمة الصابرة وبين قاتل ولدها الحجاج.
فقد وقفت أمام ولدها المصلوب في شجاعة الأبطال، وعمرها يومئذ تسعة وسبعون عاما، لا تطرف لها عين، ولا تختلج لها عضلة تقول: (أما آن لهذا الفارس أن يترجل؟)
وتقدم منها الحجاج ليقول لها:
(يا أماه لقد أوصاني أمير المؤمنين بك خيرا فهل لك من حاجة؟)
فصاحت به قائلة:
(لست لك بأم، إنما أنا أم هذا المصلوب، وما بي إليكم من حاجة). وأبت إلا أن تعطي الحجاج درسا بليغا، فاستطردت قائلة: (ولكني أحدثك حديثا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: {يخرج من ثقيف كذاب ومبير، فأما الكذاب فقد رأيناه، وأما المبير فلا أراه إلا أنت}).
وتقدم منها عبد الله بن عمر رضي الله عنها معزيا يدعوها إلى الصبر، فقالت: وما يمنعني من الصبر وقد أهدي رأس يحيى بن زكريا إلى بغي من بغايا بني إسرائيل.
هذه هي الأم العظيمة الصابرة، وهذا هو ابنها الذي آثر أن يموت في سبيل الحق الذي آمن به.
وفاته:
قتل ابن الزبير في جمادى الأولى سنة ثلاث وسبعين من الهجرة، وعمره يومئذ اثنتان وسبعون سنة. رحمه الله رحمة واسعة، وجزاه عن الصدق وحسن البلاء والجهاد في سبيل الله والحق خير ما يجزي الصادقين بصدقهم.(1/98)
المناقشة
1.…متى ولد عبد الله بن الزبير؟ وما أثر ولادته بين المسلمين؟ وما كنيته؟
2.…ما الحروب التي اشترك فيها فيها ابن الزبير؟ اذكر موقفا يدل على بطولته وشجاعته.
3.…كان عبد الله بن الزبير بطلا في ميادين العبادة. تحدث عن ذلك.
4.…ماذا قال ابن أبي مليكة لعمر بن عبد العزيز عن عبد الله بن الزبير رضي الله عنهم؟
5.…بم وصفه ابن عباس رضي الله عنه؟
6.…في عهد من بويع لابن الزبير بالخلافة؟ وأين اتخذ عاصمة الخلافة؟ وفي عهد من حاصره الحجاج؟ وما أثر هذا الحصار على أتباعه؟
7.…ماذا دار بين عبد الله بن الزبير وأمه حينما ذهب يستشيرها؟
8.…ماذا فعل الحجاج حينما تغلب عليه؟ وماذا قال الحجاج لأم عبد الله؟ وبم ردت عليه؟
9.…متى قتل ابن الزبير؟ وكم كان عمره؟(1/99)
خديجة بنت خُوَيْلد رضي الله عنها
نسبها رضي الله عنها:
…هي أم المؤمنين خديجة بنت خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصي القرشية الأسدية, زوج النبي- صلى الله عليه وسلم-, وأمها فاطمة بنت زائد بن الأصم.
مولدها ونشأتها رضي الله عنها:
…ولدت رضي الله بمكة المكرمة سنة 68 قبل الهجرة, من أصل كريم, ونسب عظيم, في بيت عز ومجد وسؤدد ورياسة, ونشأت رضي الله عنها على الأخلاق الكريمة والصفات المجيدة, وعُرِفت بالعفة والحزم والعقل.
وكانت تُدعى في الجاهلية بالطاهرة, واشتغلت بالتجارة, وأصبحت ذات ثروة عظيمة تستأجر الرجال في مالها, وتدفع لهم المال مضاربة.
…وقد عرضت على محمد- صلى الله عليه وسلم- ليخرج في مالها إلى الشام للتجارة. وفعلاً خرج- صلى الله عليه وسلم- فتاجر بمالها, وعاد بربح عظيم, وحظ وافر.
زواجها بالنبي- صلى الله عليه وسلم-:
…لما رجعت القافلة إلى مكة وهي تحمل أنّفَس البضائع والأرباح الطائلة, استقبلت خديجة محمداً التاجر العظيم, وغلامها ميسرة بقلب فرح, وصدر منشرح ولما أخبرها ميسرة بخبر التاجر الأمين, وما لمس منه من أخلاق كريمة وصفات عالية, وحدثها عن الغمامة التي كانت تظله, أكبرت فيه هذه الشمائل, وتمنت أن يكون زوجاً لها, وبعثت إليه تخبره بذلك, فأخبر محمد- صلى الله عليه وسلم- أعمامه برغبة خديجة, وأخبرهم برغبته فيها, وفعلاً تمت الخطوبة, وتم الزواج الميمون بين أشرف زوجين, وكان عُمْرُ محمد- صلى الله عليه وسلم- في ذلك الحين خمساً وعشرين سنة, وعُمْرُ خديجة أربعين سنة, وقد أصدقها- صلى الله عليه وسلم- عشرين بكرة, وكانت أول زوجة له- صلى الله عليه وسلم- ولم يتزوج غيرها حتى ماتت, وأنجبت له أربع بنات هن: زينب ورقية وأم كلثوم وفاطمة, وابنين هما: القاسم(1/100)
وعبد الله.
موقف رائع من مواقفها:
لما كان النبي- صلى الله عليه وسلم- في غار حراء جاءه الملك, فقال له: اقرأ. فقال النبي- صلى الله عليه وسلم-: ما أنا بقارئ. وكررها ثلاثاً في كل مرة يغطه حتى يبلغ منه الجهد, ثم قال له: اقرأ باسم ربك......الخ..., عاد النبي- صلى الله عليه وسلم- إلى زوجته خديجة يرجف فؤاده, فدخل عليها, وهو يقول: زملوني, زملوني. فزملته حتى ذهب عنه الروع, وأخبرها- صلى الله عليه وسلم- بالخبر وقال: لقد خشيت على نفسي, فقالت له: كلا والله لا يخزيك الله أبداً, إنك لتصل الرحم, وتحمل الكل, وتكسب المعدوم, وتقري الضيف, وتعين على نوائب الدهر.
…ثم انطلقت إلى ورقة بن نوفل تسأله, وتلتمس عنده الخبر اليقين, والرأي فيما نزل على محمد- صلى الله عليه وسلم-.
…إنه موقف الزوجة الوفية الحصيفة الذكية التي تعرف فضل زوجها, وتستدل بمكارم أخلاقه وفضله على عظيم عناية الله به, وعلى المستقبل العظيم الذي ينتظره.
إسلامها:
…لاجرم أن كانت خديجة- رضي الله عنها- هي أول من آمن بالنبي- صلى الله عليه وسلم- من الناس قاطبة: الرجال والنساء, فقد آمنت به- صلى الله عليه وسلم- وصدّقت بما جاء به لأول ما عرض عليها.
جهاد ومؤازرة:
وقفت الزوجة الحنون, والرفيقة العطوف بجانب زوجها المختار- صلى الله عليه وسلم- تساعده وتشد عضده, وتعينه على احتمال الشدائد والمصائب, تدفع من مالها لنصرته, ومن حنانها وعطفها لمواساته وتسليته, ومن أبرز مواقفها رضي الله عنها: موقفها حينما أعلنت قريش حرباً مدنية على بني هاشم وبني عبد المطلب, وحاصروهم في شِعْب أبي طالب, وسجلت مقاطعتها في صحيفة علقت بداخل الكعبة.(1/101)
…لم تتردد خديجة ـ رضي الله عنهاـ في الخروج مع زوجها إلى الشعب المحاصر, وتحملت المشاق والمصاعب في سبيل إرضاء الله ثم إرضاء زوجها, ومساندة زوجها وبنيه, وفَضلت ضيق الحياة وخشونتها بجانب زوجها على رغد العيش, وطيب النعمة.
…فنعم الزوج كانت, ونعم النصير لدين الله عز وجل ولرسول الله- صلى الله عليه وسلم-, فجزاها الله عن المسلمين خير الجزاء.
وفاتها رضي الله عنها:
…بعد أن فشل الحصار ورجع بنو هاشم وبنو عبد المطلب إلى مساكنهم, بدأت- رضي الله عنها- تشتكي الإعياء والتعب, ونامت على فراش المرض ثلاثة أيام والنبي- صلى الله عليه وسلم- لا يفارقها, ثم أسلمت روحها إلى خالقها جل شأنه- رضي الله عنها وأرضاها- جزاء ما صدقت وآزرت وجاهدت.
حزن النبي- صلى الله عليه وسلم- عليها ووفاؤه لها:
…حزن النبي- صلى الله عليه وسلم- لوفاة خديجة رضي الله عنها حزناً شديداً, وسمى عامها الذي توفيت فيه: عام الحزن. وقد ظل وفيّاً لها طول حياته يذْكرها ويتلاحم عليها, ويبعث بالهدايا في صدائقها.
روى الشيخان عن عائشة قالت:
(ما غِرْت من أحد من نساء النبي- صلى الله عليه وسلم- كما غرت من خديجة, وما رأيتها, ولكن كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يكثر ذكرها وربما ذبح الشاة يقطعها أعضاء ثم يبعثها في صدائق خديجة, فربما قلت له: أن لم يكن في الدنيا امرأة إلا خديجة؟ فيقول: إنما كانت وكان لي منها ولد).
…وفي رواية قلت: (وهل كانت إلا عجوزاً أخلف الله لك خيراً منها؟ قالت: فغضب حتى اهتز مُقَدم شعره من الغضب, ثم قال: (لا والله ما أخلفني الله خيراً منها, لقد آمنت بي إذ كَفر الناس, وصدقتني إذ كذبني الناس, وواستني بمالها إذ حرمني الناس,(1/102)
ورزقني الله- عز وجل- أولادها, إذ حرمني أولاد النساء).
…قالت عائشة: فقلت بيني وبين نفسي لا أذكرها بسوء أبداً).
ما جاء في فضلها رضي الله عنها:
…عن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب- رضي الله عنها- قال: قال النبي- صلى الله عليه وسلم-: (أُمِرْتُ أن أُبَشِّرَ خديجة ببيت من قصب لا صخب فيه ولا نصب).
…قال ابن هشام: حدثني من أوثق به أن جبريل عليه السلام أتى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فقال: أقرئ خديجة السلام من ربها. فقال- صلى الله عليه وسلم- يا خديجة, هذا جبريل يُقرئك السلام من ربك. فقالت خديجة: الله السلام, ومنه السلام, وعلى جبريل السلام.
المناقشة:
1.…تكلم عن نشأة خديجة وزواجها بالنبي- صلى الله عليه وسلم-؟
2.…لخديجة- رضي الله عنها- موقف حاسم مع النبي- صلى الله عليه وسلم- بعد نزول الوحي. اشرح ذلك؟
3.…وقفت خديجة- رضي الله عنها- بجانب النبي- صلى الله عليه وسلم- تشد أزره, وتسانده طيلة حياتها الزوجية. اشرح ذلك؟
4.…حزن النبي- صلى الله عليه وسلم- لوفاة خديجة رضي الله عنها. اشرح ذلك, واذكر أهم ما جاء في فضلها.(1/103)
عائشة بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنهما
نسبها رضي الله عنها:
هي أم المؤمنين عائشة بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنهما, وأمها أم رومان بنت عامر بن عويمر بن عبد شمس بن عتاب, من بني غنم بن مالك بن كنانة.
مولدها رضي الله عنها:
ولدت رضي الله عنها بمكة المكرمة قبل الهجرة بثمان سنوات, ولما توفيت خديجة- رضي الله عنها- كان النبي- صلى الله عليه وسلم- يعاود بيت أبي بكر الصديق ويقول لأمها: يا أم رومان, استوصي بابنتك عائشة خيراً. وكانت عائشة في ذلك الوقت صغيرة السن.
زواج ميمون:
عقد عليها النبي- صلى الله عليه وسلم- بمكة قبل الهجرة بسنتين وهي بنت ست سنين وتزوجها بالمدينة المنورة وهي ابنة تسع, وكانت مسماة لجبير بن مطعم بن عدي بن نوفل, فلما خطبها النبي- صلى الله عليه وسلم- من أبيها قال له: حتى أسلها سلاًّ رفيقاً, وكان زواج النبي- صلى الله عليه وسلم- بعائشة بعد موت خديجة بثلاث سنوات, وأصدقها النبي- صلى الله عليه وسلم- أربعمائة درهم, ودخل بها النبي- صلى الله عيه وسلم- في بيتها بالمدينة, وهو البيت الذي توفي فيه النبي- صلى الله عليه وسلم-, فكانت رضي الله عنها أحظى نسائه لديه, وأحبهن إليه.
مكانتها عند النبي-صلى الله عليه وسلم-:
كان النبي- صلى الله عليه وسلم- يحب عائشة محبة شديدة, وإنها لجديرة بذلك, وقد شملها في صغرها بالعطف والحنان والاعتناء بها, وحث أمها على الاهتمام بها, والعناية بتربيتها, ولا شك أنَّ محبة أبيها ومكانته عند النبي- صلى الله عليه وسلم- هي المؤثر الأول في محبته لها.سأل عمرو العاص النبي- صلى الله عليه وسلم-: أي الناس أحب إليك يا رسول الله؟ قال: عائشة, قال: من الرجال؟ قال: أبوها. رووا أن أم سلمة كلمت النبي- صلى الله عليه وسلم- في عائشة,(1/104)
وحدثته حديث الضرة عن ضرتها, فقال- صلى الله عليه وسلم-: يا أم سلمة, لا تؤذيني في عائشة. وعندما جاءت ابنته فاطمة في شكاية من أمهات المؤمنين يسألنه فيها العدل في ابنة أبي قحافة,قال لها- صلى الله عليه وسلم-: أي بنية ألست تحبين ما أحب؟ قالت: بلى, قال- صلى الله عليه وسلم-: فأحبي هذه, وأشار إلى عائشة. مع أنه- صلى الله عليه وسلم- كان يعدل بينهن في القسط, ويقرع بينهن في السفر, لكنهن يُردن أن يحاسبنه على عواطف قلبه, وهو ما لا سلطان عليه, وقد كان يقول:(اللهم هذا قَسْمي فيما أملك, فلا تؤاخذني فيما تملك ولا أملك).
براءة من السَّماء:
…لقد نزلت لعائشة براءاتها من السَّماء بعد أن رماها بعض المنافقين بتهمة الخيانة وانتهاك الشرف مع صفوان بن المعطل, وذلك عندما تخلفت في غزوة بني المصطلق عن ركب النبي- صلى الله عليه وسلم- وأصحابه, إذ كانت تبحث عن عقد فقدته, فرآها صفوان بن المعطل, وكان ساقة للجيش, فأركبها على راحلته حتى ألحقها بالجيش بعدما نزلوا في حر الظهيرة, فتكلم عبد الله بن أبي رأس المنافقين بالإفك, فأنزل الله براءتها من السماء وكذب المنافقين, وتوعد الفاسقين الذين تحملوا شر التهمة وإشاعتها, ويكفيها شرفاً أن الله سبحانه وتعالى وبرأها من فوق سبع سماوات فأنزل الله فيها قوله تعالى:(إن الذين جاءوا بالإفك عصبة منكم)(1) إلى قوله:(أن الله هو الحق المبين)(2).
كرمها وزهدها:
…عن عطاء, قال: بعث معاوية إلى عائشة بطوق من ذهب فيه جوهر, قُوِّمَ بمائة ألف, فقسمته بين أزواج النبي- صلى الله عليه وسلم-.
…وعن أم ذر قالت: بعث عبد الله بن الزبير إلى عائشة بمال في غرارتين, أراه ثمانين أو مئة ألف درهم, فدعت بطبق وهي يومئذ صائمة, فجلست... تقسمه بين الناس, فأمست وما عندها من ذلك درهم واحد, ثم قالت: يا جارية, هلمي فطري, فجاءتها
__________
(1) سورة النورالآية 11
(2) سورة النور الآية 25(1/105)
بخبز وزيت, فقالت لها أم ذرة: ما استطعت مما قسمته اليوم أن تشتري لنا بدرهم لحماً نفطر عليه, قالت لها رضي الله عنها: لا تعنفيني, لو كنت ذكرتني لفعلت.
غزارة علمها رضي الله عنها:
عن أبي موسى قال: ما أشكل على أصحاب النبي- صلى الله عليه وسلم- حديث قط, فسألنا عائشة إلا وجدنا عندها منه علماً.
وعن مسروق: ما نحلف بالله, لقد رأينا الأكابر من أصحاب النبي- صلى الله عليه وسلم- يسألون عائشة عن الفرائض.
وعن عروة قال: مارأيت أحداً من الناس أعلم بالقرآن ولا بفرائض ولا بحلال ولا حرام, ولا بشعر, ولا بحديث العرب, ولا بنسب من عائشة- رضي الله عنها-.
وفاتها رضي الله عنها:
…عاشت رضي الله عنها مع النبي- صلى الله عليه وسلم- تسع سنوات وتوفي عنها وهي ابنة ثماني عشرة سنة, ثم عاشت من بعده سنين طويلة قضتها في أفعال الخير والبر وتعليم المسلمين أمور دينهم وعقائدهم, توفيت رضي الله عنها سنة ثمان وخمسين وهي ابنة ست وستين سنة, وأمرت أن تدفن من ليلتها, فدفنت رضي الله عنها بعد الوتر بالبقيع حيث كانت وفاتها في ليلة من ليالي رمضان المبارك, وصلى عليها أبو هريرة رضي الله عنه, ونزل قبرها خمسة: عبد الله وعروة ابنا الزبير والقاسم وعبد الله ابنا محمد بن أبي بكر, وعبد الله بن عبد الرحمن بن أبي بكر.
ما جاء في فضلها رضي الله عنها:
…عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: قال- صلى الله عليه وسلم-:(أريتك في المنام ثلاث ليال جاءني بك الملك في سرقة من حرير يقول: هذه امرأتك, فكشفت عن وجهك. فإذا أنت هي. فأقول: إن يك هذا من عند الله يمضه).(رواه مسلم).(1/106)
…وعنها رضي الله عنها أن الناس كانوا يتحرون بهداياهم يوم عائشة, يبتغون مرضاة رسول الله- صلى الله عليه وسلم-.
…وعن أبي موسى رضي الله عنه قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: كمل من الرجال كثير, ولم تكمل من النساء غير مريم ابنة عمران, وآسية امرأة فرعون, وإن فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام.
…وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: يا عائشة, هذا جبريل يقرأ عليك السلام, فقالت: وعليه السلام ورحمة الله.
المناقشة:
1.…متى وأين ولدت عائشة رضي الله عنها؟
2.…متى تزوجها النبي- صلى الله عليه وسلم-؟ وكم أصدقها؟
3.…اذكر ما تعرفه عن مكانة عائشة رضي الله عنها لدى النبي- صلى الله عليه وسلم-؟
4.…قال تعالى:(إن الذين جاؤوا بالإفك عصبة منكم) إلى قوله,(إن الله هو الحق المبين). اذكر ما تعرفه عن سبب نزول هذه الآيات؟
5.…لقد وصفت رضي الله عنها بالكرم والزهد, كما وصفت بغزارة العلم. برهن على كل واحد بدليل؟
6.…متى توفيت رضي الله عنها؟ وأين دفنت ومن الذي صلى عليها؟
7.…اذكر حديثين جاءا في فضلها رضي الله عنها؟(1/107)
أم سلمة رضي الله عنها
نسبها:
…هي أم المؤمنين هند بنت أبي أمية المعروف(بزاد الركب) بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم. فهي قرشية من بني مخزوم, وهم من رياحين العرب.
…أمها: عاتكة بنت عامر بن ربيعة بن مالك بن خزيمة.
لمحة سريعة:
…كانت أم سلمة من السابقات إلى الإسلام, وكانت حصيفة جليلة, ذات تدبير وفطنة وذكاء وجمال, هاجرت رضي الله عنها إلى الحبشة والمدينة. قيل إنها كانت أول ظعينة دخلت إلى المدينة مهاجرة, تزوجها أبو سلمة وهاجر إلى أرض الحبشة في الهجرتين جميعاً, وقد أنجبت له سلمة وعمر.
هجرتها إلى المدينة رضي الله عنها:
…بعد أن رجعت مع زوجها من الحبشة ومكثا في مكة المكرمة, أحسَّا بما أحس به المسلمون من مضايقات قريش, واضطهاد الكافرين, فأجمعا على أن يهاجر ثانية إلى يثرب, فكانت قصة هجرتها محنة كبيرة, ومأساة عظيمة.
…قالت رضي الله عنها: لما عزم أبو سلمة على الخروج إلى المدينة رَحَّلَ بعيراً له, وحملني وحمل معي ابنة سلمة, ثم خرج يقود بعيره, فلما رآه رجال من بني المغيرة قاموا إليه فقالوا: هذه نفسك غلبتنا عليها, أرأيت صاحبتنا هذه, علام نتركك تسير بها في البلاد؟ ونزعوا خطام البعير من يده وأخذوني, فغضب عند ذلك بنو عبد الأسد, أهووا إلى ولدنا سلمة, وقالوا: والله لا نترك ابننا عندها إذ نزعتموها من صاحبنا؛ فتجاذبوا ابني سلمة حتى خلعوا يده؛ وانطلق به رهط أبيه, وحبسني بنو المغيرة عندهم, ومضى زوجي أبو سلمة حتى لحق بالمدينة, وفرقوا بيني وبين زوجي وابني, فكنت أخرج كل غداة وأجلس بالأبطح, فما أزال أبكي حتى أمسي سنة أو قريباً منها, حتى مرَّ بي, من بني عمي أحد بني المغيرة, فرأى ما بي, فرحمني وقال لبني المغيرة: ألا تُخرجون هذه(1/108)
المسكينة؟ فرقتم بينها وبين زوجها وابنها.... وما زال بهم حتى قالوا: الحقي بزوجك إن شئت. ورد بنو عبد الأسد عليَّ ابني, فرحلت بعيري, ووضعت ابني في حجري, ثم خرجت أريد زوجي بالمدينة, وما معي أحد من خلْق الله حتى إذا كنت بالتنعيم على فرسخين من مكة, لقيت عثمان بن طلحة, فقال: إلى أين يا ابنة أبي أمية؟ قلت: أريد زوجي بالمدينة. فقال: هل معك أحد؟ فقلت: لا والله, إلا الله وابني هذا. فقال: والله مالك مترك, وأخذ بخطام البعير, فانطلق معي يقودني فو الله ما صحبت رجلاً من العرب أراه أكرم منه, كان إذا نزل أناخ بي ثم تنحى إلى شجرة فاضطجع تحتها, فإذا دنا الرواح قام إلى بعيري فقدَّمه ورحله, ثم استأخر عني, وقال: اركبي. فإذا ركبت, واستويت على بعيري, أتى فأخذ بخطامه, فقاده حتى ينزل بي, فلم يزل يصنع ذلك حتى قدم المدينة. فلما نظر إلى قرية بني عمر بن عوف بقباء وكان فيها منزل أبي سلمة في مهاجره فقال: إن زوجك في هده القرية فادخليها على بركة الله. ثم انصرف راجعاً إلى مكة.
زواج ميمون:
…اختار الله أبا سلمة وقضى مهاجراً شهيداً, فحزنت أم سلمة حزناً شديداً. وكان أبو سلمة قد حدثها حديثاً سمعه من رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يقول:(لا يصيب أحداً مصيبة ويسترجع عند ذلك ويقول: اللهم عندك أحتسب مصيبتي هذه, اللهم اخلفني فيها خيراً- إلا أعطاه الله عز وجل). فقالت أم سلمة: فلما أصبت بأبي سلمة, قلت:اللهم عندك أحتسب مصيبتي هذه, ولم تطب نفسي أن أقول:اللهم اخلفني فيها خيراً منها, ومن خير من أبي سلمة.... أليس...أليس؟ ثم قالت ذلك ودعت به, فلما انقضت عدتها تقدم إليها أبو بكر خاطباً, فرفضت, ثم تقدم عمر لخطبتها, فرفضت, ثم بعث إليها النبي- صلى الله عليه وسلم- يخطبها, فَسرتُ وارتاحت إلى النبي- صلى الله عليه وسلم-, إلا أنها استعظمت الأمر واستصغرت حالها, واعتذرت لرسوله قائلة: إنها غَيورة ومُسِنة وذات عيال, فأجبها النبي- صلى الله عليه وسلم- بقوله:(أمَّا أنَّك مُسِنَّةُ فأنا أكبرُ مِنْك, وأمَّا الغَيرةُ فَيُذْهِبُها الله عنك, وأمّا العيالُ فإلى الله(1/109)
ورسوله), وتم الزواج وكان وليها ابنها سلمة, وقيل: إن النبي- صلى الله عليه وسلم- أصدقها فراشاً حشْوهُ ليف, وقِدْراً وصحفة, ومَحِشَّة.
رأي صائب:
…كانت رضي الله عنها ذات رأي صائب, وعقل ثاقب, ومن ذلك أن النبي- صلى الله عليه وسلم- يوم الحديبية بعد أن صالح أهل مكة- قال لأصحابه: قوموا فانحروا, فلم يقم منهم رجل, حتى بعد أن قال ذلك ثلاث مرات, فدخل- صلى الله عليه وسلم- على أم سلمة في الخيمة, وذكر لها ما لقي من الصحابة, فقالت له رضي الله عنها: يا نبي الله, أتحب ذلك؟ اُخرج ثم لا تُكلم أحداً منهم كلمة حتى تنحر بدنك وتدعو حالقك فيحلقك, فقام- صلى الله عليه وسلم- ونفذ رأي أم سلمة, فنحر وحلق, فلما رآه الصحابة نحروا ثم حلقوا مثله.
وفاتها رضي الله عنها:
…توفيت رضي الله عنها في أول خلافة يزيد بن معاوية سنة ستين وصلى عليها أبو هريرة ودفنت رضي الله عنها بالبقيع.
المناقشة
1.…ما اسم أم سلمة؟ وبأي شئ كان يعرف أبوها؟
2.…اذكر بإيجاز ما تعرفه عن هجرتها رضي الله عنها إلى المدينة؟
3.…عرفت رضي الله عنها بالحكمة وسداد الرأي, فاذكر مثلاً مما تعرف عنها في ذلك؟(1/110)
أم سليم رضي الله عنها
نسبها:
هي الصحابية الأنصارية الجليلة أم سليم بنت ملحان بن خالد بن زيد بن حرام من بني النجار الأنصارية, والدة أنس بن مالك, اسمها سهلة. وكانت تُلقب بالرميْصاء.
أم مؤمنة:
كانت رضي الله عنها مجاهدة مؤمنة جليلة, ذات عقل راجح, وإيمان عميق, أسلمت مع السابقين من أهل المدينة إلى الإسلام, وبايعت النبي- صلى الله عليه وسلم-, فغضب زوجها مالك النضر (أبو أنس بن مالك) غضباً شديداً, وقال لها: أصبوت؟ قالت: ما صبوت, ولكن آمنت بهذا النبي الكريم, ثم أخذت تلقن أنساً, وتشير إليه أن يتلفظ بالشهادتين, وكان زوجها يقول لها: لا تُفْسدي عليَّ ابني, فتقول: لا أفسده, بل أدعوه لسعادته وصلاحه. وشهدت رضي الله عنها يوم أُحد فسقت العطشى, وداوت الجرحى, وشاركت في نقلهم إلى المدينة.
مهرها في الإسلام:
…بعد أن قُتل زوجها مالك مشركاً, خطبها أبو طلحة, وهو مشرك, فأبت عليه, وقالت له: يا أبا طلحة, ما مِثْلُك يُرد, ولكنك مشرك وأنا مسلمة, ألا تدري أن إلهك الذي تدعوه وتعبده وهو حجر لا يضر ولا ينفع, أو عَجوة صنعتها بيدك, أفلا تخجل من عبادتك هذه الآلهة إن جُعت أكلتها, وإن شبعت عبدتها ودعوتها, وإني إذ أدعوك إلى الإسلام فإني لا أريد منك صداقاً غيره. فأسلم أبو طلحة, وشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله, فتزوجته بعد ذلك, وكان الصداق بينهما الإسلام, فما عُرف مهر أكرم منه.(1/111)
موقفها يوم حنين رضي الله عنها:
…شهدت رضي الله عنها يوم حنين وأبلت فيه بلاءً حسناً, فحزمت خنجراً في وسطها وكانت حاملاً بعبد الله بن أبي طلحة, فقال أبو طلحة: يا رسول الله, هذه أم سليم معها خنجر. فقالت: يا رسول الله, أتخذ هذا الخنجر إن دنا مني أحد المشركين بَقَرتُ بطنه, وأقتل هؤلاء الذين يفرون عنك, كما تقتل هؤلاء الذين يقاتلونك, فإنهم لذلك أهل, فقال لها النبي- صلى الله عليه وسلم-: يا أم سليم, إن الله قد كفى وأحسن.
عقل وإيمان:
عن أنس بن مالك رضي الله عنه أنه قال: مات ابن لأبي طلحة من أم سليم, فقالت لأهلها:ً لا تحدثوا أبا طلحة بابنه حتى أكون أنا أحدِّثهُ, قال: فجاء فقربت له عشاء, فأكل وشرب, قال: ثم تصنعت له أحسن ما كانت تصنع له قبل ذلك, فوقع بها, فلما رأت أن قد شبع وأصاب منها, قالت يا أبا طلحة, أرأيت لو أن قوماً أعاروا عاريتهم أهل بيت فطلبوا عاريتهم, ألهم أن يمنعوها؟ قال: لا. قالت: فاحتسب ابنك, فانطلق حتى أتى رسول الله- صلى الله عليه وسلم-, فأخبره بما كان, فقال- صلى الله عليه وسلم-: برك الله لكما في ليلتكما.
ما جاء في فضلها رضي الله عنها:
…عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: كان النبي- صلى الله عليه وسلم- لا يدخل على أحد من النساء إلا على أزواجه, إلا أم سليم. فإنه كان يدخل عليها, فقيل له في ذلك؟ فقال: إني أرحمها قُتل أخوها معي. وعنه رضي الله عنه عن النبي- صلى الله عليه وسلم- قال: دخلت الجنة فسمعت خشفة(1)فقلت: من هذا؟ قالوا: هذه الرميصاء بنت ملحان أم أنس بن مالك.
وفاتها:
…توفيت رضي الله عنها في خلافة عثمان بعد أن سجلت بمداد من نور مواقف خالدة
__________
(1) صوت وحركة.(1/112)
للإيمان الصادق, والعقل الراجح والجهاد العظيم, والصبر الكريم.
المناقشة
1.…اذكر ما تعرف عن نسب أم سليم رضي الله عنها؟
2.…أسلمت أم سليم رضي الله عنها. فكيف كانت علاقتها بزوجها بعد إسلامها؟
3.…ما أول الغزوات التي شاركت أم سليم رضي الله عنها؟ وماذا كان دورها يومها؟
4.…ماذا قالت أم سليم لأبي طلحة رضي الله عنهما عندما خطبها؟ وماذا كان صداقها؟
5.…ما موقف أم سليم رضي الله عنها في يوم حنين؟
6.…لأم سليم رضي الله عنها موقف يدل على عقل وإيمان.ما هذا الموقف؟ وماذا قال النبي- صلى الله عليه وسلم-؟
7.…اذكر ما ورد عن النبي- صلى الله عليه وسلم- في فضل أم سليم رضي الله عنها؟(1/113)
عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه
نسبه رضي الله عنه:
هو أبو حفص عمر بن عبد العزيز بن مروان بن الحكم بن العاص بن أمية بن عبد شمس. كان يقال له: الأشج: أشج بني مروان، لأنه ركب دابة وهو صغير، فسقط عنها، فشج، فلقب بذلك: وأمه ليلى أم عاصم بنت عاصم بن عمر بن الخطاب.
مولده ونشأته:
ولد عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه سنة 61 ه في المدينة، ونشأ في أحضان الترف والنعيم حتى روي أنه كان أعظم أموي ترفا.
ولما ولي أبوه عبد العزيز بن مروان مصر طلب من زوجه أم عاصم أن تقدم إليه بولدها، ولما تهيأت للسفر طلب منها عمها عبد الله بن عمر بن الخطاب أن تبقي ولدها عمر بن عبد العزيز عنده، فقبلت ذلك. ولما علم أبوه بأن خاله استبقاه سر بذلك، وكتب إلى أخيه عبد الملك بن مروان فأجرى له في الشهر ألف دينار، وقد عني أبوه بتربيته عناية كبيرة، وعهد به إلى صالح بن كيسان، وهو من أهل العلم والإيمان بتولي شؤونه. وكان صالح يتعهده ويرعاه، فأبطأ عن الصلاة يوما فسأله: ما حبسك؟ قال: كانت مرجلتي تسكن لي شعري، فقال له: بلغ بك حبك لتسكين شعرك أن تؤثره على الصلاة؟ وكتب إلى أبيه في ذلك، فبعث إليه أبوه رسولا حلق شعره.
كان عمر بن عبد العزيز من سلالة الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه -كما قدمنا- وقد ورث كثيرا من صفاته، كحب العدل، والصراحة في الحق، والعفة، والورع، والتقوى، والزهد.(1/114)
حياته رضي الله عنه قبل الخلافة:
كان عمر بن عبد العزيز قبل الخلافة يهتم بمظهره اهتماما كبيرا، فكان من أحسن الناس لباسا، وأطيبهم ريحا، وأخيلهم مشية، ولا عجب في ذلك، فقد درج في بيت الخلافة منذ نشأته، وكان جده مروان بن الحكم خليفة، وعمه عبد الملك بن مروان خليفة، وأبوه كان واليا على مصر، وكان عمه عبد الملك يجري عليه في الشهر ألف دينار وهو طفل صغير، ولكنه ترك ذلك كله بعد الخلافة.
رووا أنه أمر رجلا أيام خلافته أن يشتري له كساء بثمانية دراهم، فلما جاء به وضع يده عليه، وقال: ما ألينه؟ فضحك الرجل، فسأله عمر: مم تضحك؟ فقال: ذكرت يا أمير المؤمنين، أنك أمرتني قبل ولايتك أن أشتري لك مطرف خز فاشتريته لك بثمانمائة درهم، فوضعت يدك عليه، وقلت: ما أخشنه، وأنت اليوم تستلين كساء بثمانية دراهم.
ثقافته رضي الله عنه:
قضى عمر سني حياته الأولى في المدينة، وكانت آنذاك أهم مراكز الثقافة الإسلامية، وموطنا لكبار الصحابة والتابعين.
وقد قرأ القرآن الكريم وتلقى العلم، وروى الحديث والفقه عن جماعة من كبار الصحابة رضي الله عنهم منهم: أنس بن مالك، وعبد الله بن عمر بن الخطاب، وهو عم أمه وفي منزلة خاله.
كما أخذ عن جماعة من التابعين، منهم: سعيد بن المسيب سيد التابعين وفقيههم، وعروة بن الزبير، وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود، وكان عمر يقول: (لأن يكون لي مجلس من عبيد الله أحب إلي من الدنيا وما فيها). ومحمد بن مسلم ابن شهاب الزهري، وقد كتب عمر فيما بعد إلى الآفاق: (عليكم بابن شهاب، فإنكم لا تجدون أحدا أعلم بالسنة الماضية منه).
وعلى هؤلاء الأئمة الأعلام تلقى عمر بن عبد العزيز علم النبوة حتى برع فيه، وصار إماما حتى ليقول فيه ميمون بن مهران: (ما كان العلماء عند عمر بن عبد العزيز إلا تلاميذا).(1/115)
ولايته بالمدينة المنورة رضي الله عنه:
ولاه الوليد بن عبد الملك أميرا على المدينة سنة 87 هـ، فأظهر براعة فائقة في إدارتها، وسار في الناس أحسن سيرة، ثم لم يلبث أن أضيفت إليه ولاية مكة المكرمة سنة 91 هـ. وقد عرف للعلماء فضلهم ومكانتهم، فقربهم وجعلهم حاشيته ومستشاريه، فحينما ولي المدينة ودعا عددا من فقهائها، منهم: عروة بن الزبير، وعبد الله بن عبد الله بن عمر، وسالم بن عبد الله بن عمر، وغيرهم، ثم قال لهم:
(إني إنما دعوتكم لأمر تؤجرون عليه، وتكونون فيه أعوانا على الحق، ما أريد أن أقطع أمرا إلا برأيكم أو برأي من حضر منكم، فإن رأيتم أحدا تعدى أو بلغكم عن عامل لي ظلامة، فأنشد الله من بلغه ذلك إلا بلغني).
فانظر كيف جعل هؤلاء الأئمة الهداة، والعلماء الأعلام، أعوانا له على الحق يرجع إلى رأيهم، ولا يبرم أمرا إلا بمشورتهم، وإنما يعرف الفضل أهل الفضل.
فقد روي أنه أرسل إبان ولايته المدينة رسولا إلى سعيد بن المسيب يسأله عن مسألة، وكان سعيد لا يأتي أميرا ولا خليفة، فأخطأ الرسول، فقال له: الأمير يدعوك. فقصد إليه، فلما رآه عمر، قال له: عزمت عليك يا أبا محمد إلا رجعت إلى مجلسك حتى يسألك رسولنا عن حاجتنا، فإنا لم نرسله ليدعوك، وإنما أرسلناه ليسألك، ولكنه أخطأ.
استخلافه سنة 99 هـ:
كان عمر زاهد في الخلافة، ولم يكن يحب أن تؤول إليه يوما ما، ولكن المقادير ساقت الخلافة إليه، وساقته إليها، دون رغبة منه ولا سعي، ولم يكن هناك من يصلح لها سواه: فحق فيه قول القائل:
أتته الخلافة منقادة………إليه تجرر أذيالها
فلم تك تصلح إلا له………ولم يك يصلح إلا لها
فقد أراد سليمان بن عبد الملك أن يستخلف أحد أولاده من بعده حينما أجس بدنو أجله، فلما عرضوا عليه، وجدهم صغارا لا يصلحون للخلافة، فاستشار رجاء(1/116)
بن حيوه -وكان مستشاره وموضع ثقته- فأشار عليه بعمر بن عبد العزيز وحسن رأيه فيه، فانشرح لذلك صدر سليمان، وقال: لأعقدن عقدا ليس للشيطان فيه نصيب. ثم عهد إلى عمر بن عبد العزيز بالخلافة. ولقد صدق سليمان. وبر وعقد باستخلافه عقدا خالصا لله، ليس للشيطان فيه نصيب، ولقد أسدى رجاء بن حيوه بهذه النصيحة أعظم مأثرة للإسلام والمسلمين حفظها له التاريخ، وشكرتها له الأمة، وله أجرها وذخرها عند الله تعالى الذي لا يضيع أجر المحسنين.
تقديره للمسؤولية رضي الله عنه:
تحمل عمر المسؤولية، وكان عظيم التقدير لها، يرى أن كل مسلم في أقصى الأرض له حق في عنقه. حتى ليقول له أحد مواليه -وقد رجع من جنازة سليمان -: مالي أراك مغتما؟ فقال له عمر: لمثل ما أنا فيه يغتم له، فليس من أمة محمد صلى الله عليه وسلم أحد في شرق الأرض وغربها إلا أنا أريف أن أؤدي إليه حقه غير كاتب إلي فيه ولا طالبه مني.
رده الأمر إلى المسلمين:
ضرب عمر أروع مثل للحاكم المتجرد الذي يؤمن بما قرره الإسلام من حق الأمة في الشورى في اختيار الإمام، ذلك بأنه رد الأمر إليها تختار من تشاء. فلما رجع من جنازة سليمان سار وسار الناس معه حتى دخل المسجد، فصعد المنبر واجتمع إليه الناس، فقال:
(أيها الناس، إني قد ابتليت بهذا الأمر عن غير رأي أو طلب مني، ولا مشورة من المسلمين. وإني قد حللت ما في أعناقكم من بيعتي، فاختاروا لأنفسكم). فصاح الناس جميعا: قد اخترناك يا أمير المؤمنين، ورضينا بك في أمرنا باليمن والبركة. فلما هدأت الأصوات، خطب الناس أول خطبة فقال:
(أيها الناس، أوصيكم بتقوى الله عز وجل، فإن تقوى الله خلف من كل شيء، وليس من تقوى الله خلف) وأخذ يعظ الناس، ويوصيهم، ثم ختم خطبته بقوله: (أطيعوني ما أطعت الله فيكم، فإذا عصيت الله فلا طاعة لي عليكم) ثم نزل فأمر(1/117)
بالستور فهتكت، والبسط والثياب التي كانت تفرش للخلفاء فأمر ببيعها وإدخال أثمانها في بيت مال المسلمين.
وقدمت له مراكب الخلافة من البراذين والخيل والبغال، ولكل دابة سائس، فقال: ما هذا؟ قالوا: مراكب الخلافة يا أمير المؤمنين. فقال: مالي ولها، نحوها عني، دابتي أوفق لي، وركب دابته.
وجاءه صاحب الشرطة يسير بين يديه بالحربة، فقال: تنح عني، إنما أنا رجل من المسلمين.
رده المظالم:
ومن مآثره التي تذكر له: أنه أمر برد المظالم إلى أصحابها فور توليه الخلافة وبدأ في ذلك بنفسه، فخرج مما كان تحت يده من القطائع، ورده إلى المسلمين وجمع الناس في المسجد، فصعد المنبر، ثم قال:
(أما بعد، فإن هؤلاء القوم كانوا أعطونا عطايا ما كان ينبغي لنا أن نأخذها، وما كان ينبغي لهم أن يعطونا، وإن ذلك قد صار إلي، ليس علي فيه من دون الله محاسب، ألا وإني قد رددتها، وبدأت بنفسي وأهل بيتي).
ثم دعا مزاحم -مولاه- ومعه سفط فيه تلك الكتب، وقال له: اقرأ، فأخذ مزاحم يقرؤها كتابا كتابا، وكلما قرأ كتابا أخذه عمر، وبيده مقص فشقه حتى لم يبق شيء إلا شقه.
ثم ثنى بزوجته فاطمة بنت عبد الملك بن مروان، وكان عندها جواهر أمر لها بها أبوها، فقال لها: إما أن تختاريني أو تختاري هذه الحلي. فقالت: بل أختارك يا أمير المؤمنين عليها وعلى أضعافها لو كان لي. فحمل حتى وضع في بيت مال المسلمين.
فلما مات عمر، وتولى يزيد بن عبد الملك، قال لأخته فاطمة: إن شئت رددته عليك. فقالت: لا والله أبدا، طبت به نفسا في حياة عمر وأرجع فيه بعده.
ولم يكتف عمر برد ما كان في يده، بل بلغ به الورع والتعفف عن مال المسلمين أنه كان لا يأخذ لنفسه شيئا، فقيل له: كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يجري على(1/118)
نفسه درهمين في اليوم، فلو أخذت ما كان يأخذ؟ فقال: إن عمر لم يكن له مال، أما أنا فمالي يغنيني.
وحمل بني مروان على النزول عما في أيديهم من المظالم، وردها إلى أصحابها، ومن كان يتلكأ في تنفيذ ذلك كان يلقى من عمر الشدة والردع.
ومما يروى في ذلك أن رجلا ذميا من أهل حمص جاءه قائلا: يا أمير المؤمنين أسألك كتاب الله. قال: وما ذاك؟ قال: العباس بن الوليد بن عبد الملك اغتصبني أرضي -والعباس جالس- فقال له: يا عباس، ما تقول؟ قال: أقطعنيها أمير المؤمنين الوليد بن عبد الملك، وكتب لي بها سجلا. فقال: ما تقول يا ذمي؟ قال: يا أمير المؤمنين أسألك كتاب الله. فقال عمر: نعم كتاب الله أحق أن يتبع من كتاب الوليد بن عبد الملك، ياعباس اردد عليه ضيعته، فردها عليه.
وكان للوليد بن عبد الملك ابن يقال له: روح -نشأ في البادية وفيه جفاء الأعراب وغلظتهم- شكاه ناس من المسلمين إلى عمر في حوانيت كانت لهم بحمص أقطعه إياها أبوه الوليد، فقال له عمر: اردد عليهم حوانيتهم. فقال لعمر: إنها لي بسجل الوليد. فقال له: ما يغني عنك سجل الوليد، الحوانيت حوانيتهم وقد قامت البينة لهم. فتوعد روح الحمصي، فرجع إلى عمر، وقال: يتوعدني يا أمير المؤمنين. فقال عمر لكعب بن حامد -قائد حرسه-: اخرج إليه، فإن سلم إليه حوانيته فذاك، وإلا فأتني برأسه. فبلغ روح ما قال عمر، وخرج كعب إليه وقد سل من السيف شبرا. فقال له: قم فخل حوانيته إليه. فقال: نعم نعم، وخلى له حوانيته.
وتتابع الناس في رفع المظالم إليه، فما رفعت إليه مظلمة إلا أنصف صاحبها ورد إليه حقه، حتى شمل الناس الأمن والطمأنينة، وسادهم العدل والإنصاف.
تدوين السنة:
ويتميز عهد عمر بن عبد العزيز بأنه كان عهد إحياء للسنة النبوية، فقد أمر بتدوينها، وكتب إلى قاضيه على المدينة أبي بكر بن حزم: (انظر ما كان من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فاكتبه، فإني خفت دروس العلم وذهاب العلماء).(1/119)
وكتب إلى عماله في الأقاليم: انظروا إلى حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فاجمعوه.
وأجرى الأرزاق على العلماء، وعين لهم رواتب ليتفرغوا لنشر العلم، ويكفيهم مؤونة الاكتساب.
عنايته بالدعوة إلى الإسلام رضي الله عنه:
ويتميز عهد عمر بأنه كان تجديدا لعهد الخلافة الراشدة حتى ليعد بحق الخليفة الخامس، فقد أحيا السنة، وأمات البدعة، وأقام الشريعة، وجدد شباب الإسلام.
وقد اعتنى بالدعوة إلى الإسلام عناية بالغة، ولم يشغله الجانب الإداري والسياسي عن نشر الدعوة، وإرشاد الناس، ولم تكن الحكومة في عهده حكومة جباية للأموال فقط، بل كان واجبها الأساسي هداية الناس، وترغيبهم في الإسلام، فإذا تعارضت المصلحة المالية مع المصلحة الشرعية، رجح جانب المصلحة الشرعية والحكم الشرعي. شكا أحد عماله من كثرة دخول أهل الذمة في الإسلام، وأن ذلك يسقط الجزية عنهم، ويؤدي إلى نقصان مورد هام من موارد بيت المال. فكتب إليه عمر يعنفه على ذلك، ويقول: إن الله عزوجل بعث محمدا صلى الله عليه وسلم هاديا ولم يبعثه جابيا.
على هذه النظرة الواعية قامت الدولة الإسلامية في عهد عمر بن عبد العزيز يجمع فيها بين الدعوة والسياسة، والهداية والإدارة، والدين والدولة. وكتب عمر بن عبد العزيز إلى ملوك الهند يدعوهم إلى الإسلام والطاعة، على أن يكون لهم ما للمسلمين، وعليهم ما عليهم، وقد كانت بلغتهم سيرته ومذهبه، فأسلموا وتسموا بأسماء العرب. ودعا البربر إلى الإسلام، وكتب لهم كتابا فقرأه واليه عليهم في النوادي، فغلب الإسلام على بلاد المغرب.
وكتب إلى ملوك ما وراء النهر يدعوهم إلى الإسلام، فأسلم بعضهم.
عنايته بأخلاق المسلمين:
كان لعمر رسائل كثيرة يصف فيها ما كان عليه المسلمون، وما صاروا إليه، ويحث(1/120)
على التمسك بأهداب الدين والمحافظة على الصلوات في أوقاتها، والعناية بالقرآن والسنة، ودعوة أهل الذمة إلى الإسلام.
وكان يرسل إلى عماله في الأمصار، وإلى أمرائه وجنوده يدعوهم لتقوى الله عز وجل، ويذكرهم بفريضة الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والتخلق بأخلاق الإسلام وآدابه.
عهده:
بالرغم من أن خلافة عمر بن عبد العزيز كانت أقصر الخلافات عمرا، إلا أنها كانت من أعظمها إنتاجا، وأزكاها ثمرا، وأبقاها أثرا، وأخلدها ذكر، فأعاد إلى الأذهان سيرة جده الفاروق رضي الله عنه فقد انتشر العدل، وشاع الأمن ، وعم الرخاء الدولة الإسلامية بفضل الله ثم بفضل سياسة عمر الرشيدة التي استهدفت هداية الناس، وإحياء معاني الإسلام في قلوبهم. ولقد روى يحيى بن سعيد، قال: (بعثني عمر بن عبد العزيز على صدقات إفريقية فاقتضيتها، وطلبت فقراء نعطيها لهم فلم نجد بها فقيرا، ولم نجد من يأخذها مني، قد أغنى عمر بن عبد العزيز الناس، فاشتريت بها رقابا فأعتقتهم).
وقال رجل من ولد زيد بن الخطاب: (إنما ولي عمر بن عبد العزيز سنتين ونصفا، فذلك ثلاثون شهرا، فما مات حتى جعل الرجل يأتينا بالمال العظيم فيقول: اجعلوا هذا حيث ترون في الفقراء، فما يبرح حتى يرجع بماله يتذكر من يضعه فيهم فما يجده، فيرجع بماله، قد أغنى عمر بن عبد العزيز الناس). هذا الرخاء الشامل، والغنى الواسع، بل هذا الانقلاب الهائل الذي حدث في نواحي المجتمع كله إنما كان بفضل الحكومة التي قامت على الحكم الإسلامي والشريعة الإسلامية واتباع نهج الإسلام.
حدث الطبري في تاريخه عن علي قال:
(كان الوليد صاحب بناء واتخاذ للمصانع والضياع، وكان الناس يلتقون في زمانه فيسأل بعضهم بعضا عن البناء والمصانع، فولي سليمان، فكان صاحب نكاح وطعام،(1/121)
فكان الناس يسأل بعضهم بعضا عن التزويج والجواري، فلما ولي عمر بن عبد العزيز كانوا يلتقون فيقول الرجل للرجل: ما وراءك الليلة؟ وكم تحفظ من القرآن؟ ومتى تختم؟ ومتى ختمت؟ وما تصوم في الشهر؟).
وفاته:
توفي عمر بن عبد العزيز رحمه الله بعد ثلاثين شهرا أو أقل من خلافته، وكان ذلك في رجب سنة 101 هـ. بعد أن أعاد للإسلام شبابه من جديد، وبعد أن جدد لهذه الأمة أمر دينها، وحول زمام المجتمع الإسلامي نحو الإسلام الصحيح، وأثبت بذلك صدق النظرية القائلة: (إذا صلح الراعي، صلحت الرعية).
المناقشة
1.…متى ولد عمر بن عبد العزيز؟ وأين؟ وما سر نجابته؟ وكيف اعتنى أبوه بتربيته؟
2.…كيف كان يعيش قبل الخلافة وبعدها؟
3.…ما منبع ثقافته؟ وما أقواله في أساتذته؟
4.…تحدث عن سيرته لما كان واليا على المدينة، واذكر مقالا من تقديره للعلماء.
5.…متى استخلف؟ وكيف جاءته الخلافة؟ وما مقدار الخدمة التي أداها سليمان ورجاء بن حيوة للإسلام؟
6.…ما مدى تقدير عمر للمسؤولية؟ وكيف رد الأمر إلى المسلمين؟ وماذا قال في أول خطبة له؟
7.…كيف رد المظالم؟ وبمن بدأ؟ وهل كان يتقاضى أجرا على خلافته؟ اذكر أمثلة من حزمه في رد المظالم.
8.…بم يتميز عهد عمر بالنسبة للسنة؟
9.…يتميز عهد عمر بالدعوة إلى الإسلام. اشرح ذلك، ثم اذكر مدى عنايته بأخلاق المسلمين.
10.…كان عهد عمر على قصره عهد رخاء وأمن، ما سر ذلك؟ وما أثر سلوك الحاكم في رعيته؟(1/122)
الحسن البصري رضي الله عنه
مولده ونشأته:
ولد الحسن البصري بالمدينة سنة 21 هـ. لسنتين بقيتا من خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وأبوه يسار مولى زيد بن ثابت صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وكاتب الوحي. وأمه خيرة مولاة أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم. وقد نشأ في بيتهما، وكانت أمه ربما غابت عنه لبعض شأنها فيبكي، فتعطيه أم سلمة ثديها فيدر عليه، فكانوا يقولون: إن فصاحته من بركة ذلك. وكان من سادات التابعين وأعلامهم، وقد لقي كثيرا من الصحابة، وسمع عنهم.
صفاته رضي الله عنه:
كان واسع العلم، غزير المادة في التفسير والحديث واللغة وغيرها، قال الربيع بن أنس: اختلفت إلى الحسن عشر سنين، وما يوم إلا وأسمع منه ما لم أسمع قبله، وكان فصيحا، لبيبا، حلو المنطق، حسن الحديث، يقول أبو عمر بن العلاء: ما رأيت أفصح من الحسن والحجاج بن يوسف، والحسن أفصح منه.
وصفه ثابت بن قرة فقال:
(كان من دراري النجوم علما وتقوى، وزهدا وورعا، وعفة ورقة، وفقها ومعرفة، يجمع مجلسه ضروبا من الناس، هذا يأخذ عنه الحديث، وهذا يلقف منه التأويل، وهذا يسمع الوعظ، وهو في جميع ذلك كالبحر العجاج تدفقا، وكالسراج الوهاج تألقا، وكان رحمه الله عظيم التأثير في قلوب سامعيه، وسر ذلك أنه كان صاحب صدق ويقين، وعاطفة قوية، وروح ملتهبة، وإخلاص عميق، ورغبة في هداية الناس إلى الله، يجمع بين بلاغة اللسان، وقوة الإيمان.
كان يؤمن بما يقول وينفعل به، فيخرج من قلبه ليحل في قلوب سامعيه، فكان إذا تكلم عن الصحابة أو القيامة، ووعظ وذكر، أثار الشجون، وأدمع العيون، وأثر في القلوب).(1/123)
قال الغزالي في الإحياء: كان الحسن البصري أشبه الناس كلاما بكلام الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وأقربهم هديا من الصحابة رضي الله عنهم.
كما كان صاحب شخصية قوية جذابة، محببة إلى النفوس، لما امتاز به من المواهب العالية، والفضائل العظيمة حتى ليقول ثابت بن قرة: (إن الحسن من أفراد الأمة المسلمة الذين تتباهى بهم على الأمم الأخرى).
خوفه من الله عزوجل ودوام حزنه:
كان الحسن شديد الخوف من الله تعالى، دائم المراقبة، يضع الآخرة أبدا نصب عينيه، قال يزيد بن حوشب: ما رأيت أخوف من الحسن وعمر بن عبد العزيز. كأن النار لم تخلق إلا لهما. وقال إبراهيم بن عيسى اليشكري: ما رأيت أطول حزنا من الحسن، وما رأيته إلا حسبته حديث عهد بمصيبة.
المجتمع في عهده:
لقد أدرك الحسن البصري في المجتمع الإسلامي في فترة من أهم فترات حياته، أدركه وهو متمسك بالإسلام في كل شيء، ثم رآه وهو يتفلت من كثير من أحكامه وآدابه، وينحرف عن كثير من سننه وهديه.
أدركه ونور النبوة ما زال ممتدا في حياته منذ أيام الراشدين، ثم رآه، وهو يبتعد رويدا رويدا عن النبوة ومعينها الصافي، فاستطاع الحسن بذكائه اللماح، وذهنه المتوقد، وإيمانه العميق، وإخلاصه العظيم أن يشخص الداء، ويصف الدواء.
لقد رأى المجتمع المسلم، وهو يسير نحو المادية الجارفة تفتك به الشهوات، وتحيا فيه الجاهلية التي أمات الإسلام أمرها، فوقف يحول بين الناس، وبين التردي في الغفلة والاستغراق في الدنيا، ويذكرهم بالله وبالآخرة، ويعظهم مواعظ تلين لها القلوب القاسية، وتدمع لها العيون الجامدة، يذكرهم برسول الله صلى الله عليه وسلم، وصحابته الأطهار الأبرار، الذين آمنوا معه وحملوا هذا الدين بإيمان وتجرد، لم تبطرهم النعمة، ولم يستهوهم الترف، ولم تفتنهم زينة الحياة الدنيا، ولم تغرهم الأماني، بل عزفوا عن(1/124)
الدنيا بزخارفها وشهواتها.
ذكرهم بما كان يخشاه النبي صلى الله عليه وسلم على أمته من التنافس على الدنيا في قوله صلى الله عليه وسلم: (ما الفقر أخشى عليكم، ولكن أخشى أن تبسط عليكم الدنيا فتنافسوها كما تنافسوها، فتهلككم كما أهلكتهم).
من كلامه يصف أخلاق المؤمن:
إن من أخلاق المؤمن قوة في دين، وإيمانا في يقين، وعلما في حلم، وحلما في علم، وكيسا وإنصافا في استقامة، لا يحيف على من يبغض، ولا يأثم في مساعدة من يحب، لا يهمز ولا يلمز، ولا يلغو ولا يلهو ولا يلعب، ولا يمشي بالنميمة، ولا يتبع ما ليس له، ولا يجحد الحق الذي عليه، ولا يتجاوز في العذر، ولا يشمت بالفجيعة إن حلت بغيره ولا يسر بالمعصية إذا نزلت بسواه.
ومن كلامه يصف الإمام العادل:
وقد طلب منه عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه حين ولي الخلافة أن يكتب له صفة الإمام العادل، فكتب له كتاب استقى فيه ما يجب أن يتحلى به الإمام العادل من صفات، جاء فيه:
(الإمام العادل -يا أمير المؤمنين- كالراعي الشفيق على إبله، يرتاد لها أطيب المرعى، ويذودها عن مراتع الهلكة، ويحميها من السباع، ويكنفها من أذى الحر والقر، والإمام العادل -يا أمير المؤمنين- كالأب الحاني على ولده يسعى لهم صغارا، ويعلمهم كبارا، يكتسب لهم في حياته، ويدخر لهم بعد مماته
والإمام العادل -يا أمير المؤمنين- وصي اليتامى، وخازن المساكين، يربي صغيرهم، ويمون كبيرهم
والإمام العادل -يا أمير المؤمنين- كالقلب بين الجوانح، تصلح الجوانح بصلاحه، وتفسد بفساده.
والإمام العادل -يا أمير المؤمنين- هو القائم بين الله وبين عباده، يسمع كلام الله(1/125)
ويسمعهم، وينظر إلى الله ويريهم، وينقاد إلى الله ويقودهم، فلا تكن يا أمير المؤمنين فيما ملكك الله كعبد ائتمنه سيده، واستحفظه ماله وعياله، فبدد المال وشرد العيال، فأفقر أهله، وفرق ماله).
كان رحمه الله تعالى جريئا في الحق، شجاعا لا يخشى في الله لومة لائم، بل يصدع بالحق من غير مواربة ولا مداراة، وتلك هي صفة العالم المؤمن من ورثة النبيين.
شجاعته:
وقد روي في كتب التاريخ من أخبار شجاعة الحسن صدعه بالحق في وجه الحكام ما رفع منزلته بين علماء عصره، منها ما رواه ابن خلكان. قال:
(لما ولي عمر بن هبيرة العراق، وأضيفت إليه خراسان -وكان ذلك أيام يزيد بن عبد الملك- استدعى الحسن البصري، ومحمد بن سيرين، والشعبي وذلك في سنة ثلاث ومائة، فقال لهم: إن يزيد خليفة الله استخلفه الله على عباده وأخذ عليهم الميثاق بطاعته، وأخذ عهدنا بالسمع والطاعة، وقد ولاني ما ترون فيكتب إلي بالأمر من أمره فأقلده ما تقلده من ذلك الأمر، فما ترون، قال ابن سيرين والشعبي قولا فيه تقية. قال ابن هبيرة: ما تقول ياحسن؟ فقال: يا ابن هبيرة خف الله في يزيد، ولا تخف يزيد في الله، فإن الله يمنعك من يزيد ولا يمنعك يزيد من الله، وإن الله يوشك أن يبعث إليك ملكا فيزيلك عن سريرك، ويخرجك من سعة قصرك إلى ضيق قبرك، ثم لا ينجيك إلا عملك. يا ابن هبيرة إن تعص الله فإنما جعل الله من هذا السلطان ناصرا لدين الله وعباده، فلا تركبن دين الله وعباده لسلطان الله، فإنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق).
وقد سأل رجل الحسن في حضور بعض أهل الشام: يا أبا سعيد ما تقول في الفتن مثل: يزيد بن الملهب وابن الأشعث؟ فقال: لا تكن مع هؤلاء ولا مع هؤلاء، فقال رجل من أهل الشام: ولا مع أمير المؤمنين يا أبا سعيد؟ فغضب ثم قال: ولا مع أمير المؤمنين يا أبا سعيد... نعم ولا مع أمير المؤمنين..
هذا هو الحسن البصري العالم الورع، والزاهد النقي، والتقي المجاهد، والداعية(1/126)
المخلص، والشجاع في الحق، والذي كان حربا على الأهواء والشهوات، ونذيرا للمترفين، وسيفا مسلطا على رؤوس الظالمين والمنحرفين عن دين الله، كان مثلا للعلماء العاملين من ورثة النبيين، لم يكن من رجال الحكم والسلطان، وإنما كان من رجال العلم والإيمان الذين اعتصمت بهم الحياة والسلطان وحفظوا على الأمة عقيدتها وإيمانها ومثلها، لذلك أحبه الناس وأجلوه، واعترفوا بفضله فكان يوم وفاته في مستهل رجب سنة 110 هـ. من الأيام الحزينة الباكية في تاريخ الإسلام، فقد اشتغل الناس به، وتبعوا جنازته -وكان دفنه بعد صلاة الجمعة- فلم تقم صلاة العصر بالمسجد الجامع لأنه لم يبق في الحي من يصلي العصر. وقال أحد الذين شهدوا جنازته: (لا أعلم أن صلاة العصر تركت في الإسلام -أي في جامع البصرة- إلا يومئذ).
رحمه الله رحمة واسعة، وجازاه خير ما يجزي الدعاة الهداة المصلحين.
المناقشة
1.…متى ولد الحسن البصري؟ وما علاقة نشأته ببيت النبوة؟
2.…ما الصفات التي كان يتحلى بها؟ وبم وصفه ثابت بن قرة؟
3.…ما مدى تأثير الحسن في قلوب السامعين؟ وما سر هذا التأثير؟
4.…صف المجتمع الذي نشأ فيه الحسن، وما الخطة التي اتخذها لإصلاحه؟
5.…اذكر ما تحفظه من كلامه في وصف المؤمن، وفي وصف الإمام العادل.
6.…كان الحسن جريئا في الحق، اذكر بعض مواقفه الدالة على ذلك.(1/127)
العز بن عبد السلام
نسبه:
557 - 660 هـ
هو أبو محمد عز الدين بن عبد العزيز بن عبد السلام، السلفي الدمشقي الشافعي الملقب بسلطان العلماء، والشهير بالعز بن عبد السلام.
مولده ونشأته:
ولد سنة 577 هـ. وتوفي سنة 660 هـ. فعاش ثلاثة وثمانين عاما. ولم تكن نشأته تنم على مستقبله، فقد نشأ فقيرا يعمل بيده ليحصل على قوته، وربما أوى في نهاية يومه إلى أحد المساجد ليبيت فيه.
وظل كذلك حتى صار شابا، ثم اتجه إلى طلب العلم، ولزم العلماء والفقهاء حتى نبغ وصار إماما فأكسبه ذلك صفاء في نفسه، ونورا في روحه، وطمأنينة في قلبه، وزهدا في الحياة الدنيا وزينتها، وحبا لله، وعالما جريئا لا يخشى في الله لومة لائم، فارتفعت إليه الأنظار، واجتمعت حوله القلوب، وأحبه الناس.
اشتغاله بالتدريس والخطابة والقضاء والإفتاء:
صارت إليه خطبة الجامع الأموي بدمشق، ولم يكن يرقى منبره إلا من كان في العلم والفضل إماما. وتولى التدريس بمدارس العلم الكبرى بدمشق، كالغزالية والشبلية.
ولما هاجر إلى مصر غضبا على السلطان الصالح إسماعيل، ولاه السلطان نجم الدين رئاسة القضاء بمصر، وعمارة المساجد، والخطابة في الجامع العتيق (جامع عمرو بن العاص) بالفسطاط.
من أخلاق العلماء:
لما ذهب العز إلى مصر، لقيه عالمها المشهور، ومحدثها الكبير الحافظ عبد العظيم(1/128)
المنذري، وأعجب بعلمه وفقهه وزهده، فأكرمه وقدمه، وامتنع عن الفتيا وقال: كنا نفتي قبل حضور الشيخ عز الدين، أما اليوم بعد حضوره فمنصب القضاء متعين فيه. ورأى العز من الحافظ المنذري بحرا في الحديث، فكان يحضر له دروسه في الحديث. وهكذا تكون أخلاق العلماء العاملين، عرف كل منهما فضل صاحبه، فأقر له به، وإنما يعرف الفضل من الناس ذووه.
عصره:
كان عصر الشيخ عز الدين اضطراب وفتن، فقد عاصر الدولة الأيوبية في شيخوختها، ورآها بعد أن مات صلاح الدين، وقد تمزقت وتوزعت دويلات وإمارات بين أبنائه في مصر، وفي دمشق، وفي حماه، وفي حمص، وفي حلب. وقد استحكمت بين الحكام الإخوة الخلافات، واشتدت العداوات والخصومات، والأعداء يحيطون بهم من كل جانب، فالصليبيون بالأبواب قد جددوا حملاتهم الصليبية بعد صلاح الدين، والتتار هجموا على بلاد الإسلام كالجراد المنتشر، والريح العقيم، فقضوا على الخلافة الإسلامية في بغداد، وارتكبوا من الفظائع الوحشية ما لا يوصف، وهم يتحفزون للوثوب على سائر بلاد الإسلام؛ وهؤلاء في غفلة ساهون، وفي غيهم سادرون، كل همهم الدنيا الفانية، والمناصب الزائلة حتى أصبح بعضهم يستعين على أخيه بأعداء الإسلام من الصليبيين، وظلت الخلافات تنخر في عظام هذه الدولة، حتى سقطت، وقامت بعدها دولة فتية للمماليك في القاهرة قيض الله على يديها هزيمة التتار.
كان جريئا في أحكامه، قويا في قضائه وتنفيذه مما عرضه لكثير من المخاطر، وأدى إلى استقالته مرتين من القضاء، وله في ذلك من المواقف ما زالت مضرب الأمثال في الجرأة والشجاعة والإخلاص.
ومن الطبيعي أن يصطدم الشيخ بأصحاب السلطان، وأهل الأهواء في عصره لأن سلوك الشيخ وجرأته في الحق لا تعجب هؤلاء الذين لا يعجبهم إلا من يسايرهم، ويوافق أهواءهم، ويمشي في ركابهم. ولم يكن الشيخ من هذا الصنف الذي يبيع دينه بعرض من الدنيا، بل كان رحمه الله جريئا شجاعا، يقول الحق ولا(1/129)
يبالي، أرضوا أم سخطوا، ويجهر بالنصح، ولا يخشى في الله لومة لائم.
لذلك كانت حياته سلسلة من الصراع مع الحكام والأمراء وأصحاب البدع، ولا عجب أن يقول الظاهر بيبرس البندقداري -لما توفي الشيخ- وقد رأى جنازته: (اليوم استقر أمري في الملك، لأن هذا الشيخ لو كان يقول للناس: اخرجوا عليه، لانتزعوا الملك مني).
سيرته:
عاصر الشيخ عز الدين هذه الاضطرابات والفتن، ورأى الفساد السياسي والاجتماعي يأخذ بخناق الناس، فرأى واجبا عليه أن ينزل إلى الميدان، يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، ويدعو إلى الوحدة، ونبذ الخلافات بين الحكام وعامة المسلمين، وينشر اليقظة والوعي في نفوس الناس، ويفتيهم في أمور حياتهم، وكان يدخل على الحكام والأمراء ينصح لهم ويعظهم، ويوجههم في جرأة وإخلاص.
من مواقفه:
1- مع الأشرف:
من ذلك أنه دخل على الملك الأشرف موسى بن العادل بدمشق وهو يتأهب لحرب أخيه السلطان الكامل في مصر، فقال له: هذا أخوك الكبير ورحمك، وأنت مشهور بالفتوحات والنصر على الأعداء، والتتار قد خاضوا في بلاد المسلمين، فخير لك ألا تقطع رحمك، وأن توجه همتك إلى نصر دين الله وإعلاء كلمته، وأن تحول وجهتك في مقاتلة أخيك إلى مقاتلة أعداء الله، وأعداء المسلمين، وأن تتقرب إلى الله بإصلاح مملكتك، فتبطل الميسر، وتمنع الخمور والفجور، وترفع المظالم.
فاستجاب السلطان إلى نصيحته، وعمل بها في الحال. وقال له: جزاك الله عن إرشادك ونصيحتك، وعن المسلمين خيرا، وقدم للشيخ ألف دينار يستعين بها على أمور الحياة، فردها الشيخ في أدب ولطف، وقال له: إن هذه النصيحة لله، لا أحب أن أكدرها بشيء من الدنيا، وذاعت نصيحة الشيخ وزهده في المال، فازداد رفعة ومكانة(1/130)
في نفوس الناس، وتعلقت به آمالهم، وأصبح سلطانه على قلوبهم أقوى من سلطان الملك.
زهده وورعه:
وكان رحمه الله ورعا تقيا، عفيفا زاهدا، عزوفا عن متع الدنيا ولذائذها وزخارفها، لم يكن يملك من حطام الدنيا ما يملكه أفقر الناس. ولما أراد أن يخرج من مصر غضبا من السلطان نجم الدين، لتوانيه في تنفيذ حكم من أحكام الشرع، وضع متاعه كله على ظهر حمار، وسار خلفه، ولو أراد أن يكون من أصحاب القصور والدور وأهل الدنيا، لما أعجزه ذلك، فقد كان الملوك والأمراء يخطبون وده، وينشدون رضاه.
وكان رحمه الله رجاعا إلى الحق، إذا تبين له. من ذلك أنه أفتى أحد الناس بشيء ثم ظهر له أنه أخطأ، فبعث مناديا في شوارع مصر من أفتى له ابن عبد السلام بكذا؟ فلا يعمل به، فإنه خطأ.
وقد كانت سيرته رحمه الله مثلا فريدا للعالم، والمؤمن الواعي الذي نذر حياته لله ولحراسة دينه، والقيام على حدوده، وتنفيذ شريعته، وإليك طرفا من مواقفه الخالدة:
صبره على ما أصابه:
وقع بين العز بن عبد السلام وجماعة من العلماء خلاف، وكانوا يحسدونه لجرأته وإقبال الناس عليه، فوشوا به إلى السلطان، وأوغروا صدره عليه. فأصدر الملك الأشرف أمره للشيخ بأن لا يفتي، وأن لا يجتمع بأحد، وأن يلزم بيته.
وحمل إليه هذا الحكم وزيره "غرز"، وكان من المعجبين بالشيخ، فتلطف في إبلاغ الأمر إليه، فسر الشيخ بذلك سرورا عظيما، وقال للوزير:
(إن هذه الشروط من نعم الله الجزيلة علي، الموجبة للشكر لله تعالى على الدوام، أما الفتيا، فإني كنت والله متبرما بها، وأعتقد أن المفتي على شفير جهنم، ولو لا اعتقادي أن الله أوجبها علي في هذا الزمان، لما كنت تلوثت بها، والآن فقد عذرني الحق،(1/131)
وسقط عني الوجوب فتخلصت ذمتي ولله الحمد والمنة.
وأما ترك اجتماعي بالناس، ولزومي البيت، فمن سعادتي لزوم بيتي، وتفرغي لعبادة ربي، والسعيد من لزم بيته، وبكى على خطيئته، واشتغل بطاعة الله تعالى، وهذه هدية من الله تعالى إلي، أجراها على يد السلطان وهو غضبان، وأنا بها فرحان، والله -يا غرز- لو كانت عندي خلعة لك على هذه الرسالة المتضمنة لهذه البشارة، لخلعتها عليك، خذ هذه السجادة وصل عليها)، فقبلها وقبلها.
وذكر الوزير للسلطان ما جرى بينه وبين الشيخ، فقال لمن حوله: ماذا أفعل به؟ هذا رجل يرى العقوبة نعمة.
وبقي على تلك الحال بضعة أيام، ثم أفرج عنه.
2- موقفه من الصالح لما حالف الصليبيين:
وقد حدثت حادثة أخرى طارت بذكرها الركبان:
ذلك أن الملك الصالح إسماعيل الذي تولى الحكم في دمشق بعد أخيه الأشرف ارتكب خيانة كبيرة، فقد تحالف مع الإفرنج "الصليبيين" ليساعدوه ضد ابن أخيه نجم الدين سلطان مصر الذي نشأت بينهما عداوة شديدة، وسلم للصليبيين لقاء ذلك قلعة صفد، وبلادها، وقلعة الشقيف وبلادها، وصيدا.
وزيادة على ذلك أباح الصالح إسماعيل للفرنج أن يدخلوا دمشق، ويشتروا السلاح وآلات الحرب ليضربوا بها المسلمين.
فأنكر الناس ذلك، وساروا إلى العز بن عبد السلام، فأفتى بتحريم بيع السلاح للإفرنج.
ولم يكتف بإصدار الفتوى، بل هاجم الصالح إسماعيل على منبر الجامع الأموي يوم الجمعة، وذمه على فعلته الشنيعة، وقطع من الخطبة الدعاء له وصار يدعو: (اللهم أبرم لهذه الأمة أمر رشد، يعز فيه أولياؤك، ويذل أعداؤك) والناس يضجون بالتأمين والدعاء.
فلما بلغه ذلك أمر بعزل ابن عبد السلام من الخطابة واعتقاله، ثم حدد إقامته في(1/132)
بيته، ومنعه من الفتوى والاجتماع بالناس.
ورأى الشيخ أن دمشق لم تصبح له دار عمل، فعزم على مغادرتها إلى مصر، فخرج من دمشق سنة 538 هـ. ومعه زميله ابن الحاجب المالكي.
وفي القدس أرسل إليه الصالح إسماعيل أحد خاصته يفاوضه ويلاينه ويعرض عليه البقاء، وقال له:
بينك وبين أن تعود إلى مناصبك وزيادة أن تنكسر للسلطان وتقبل يده لا غير. فانتفض الشيخ قائلا: (والله يا مسكين، ما أرضاه أن يقبل يدي فضلا عن أن أقبل يدن، يا قوم أنتم في واد، وأنا في واد، والحمد لله الذي عافاني مما ابتلاكم). فهدده بالاعتقال، فقال: افعلوا ما بدا لكم. فاعتقله في خيمة.
والفضل ما شهدت به الأعداء:
ويأبى الله إلا أن يصفع هذا السلطان الذليل -الذي خان أمته وأمانته، وسلم أوطان المسلمين للأعداء-، وأن يخزيه على ألسنتهم: فقد كان الشيخ يقرأ القرآن؟ والسلطان يسمعه، ومعه ملوك الفرنج، فقال لهم: أتسمعون هذا الشيخ الذي يقرأ القرآن؟ فقالوا: نعم. فقال: هذا أكبر قسوس المسلمين، قد حبسته لإنكاره علي تسليمي لكم حصون المسلمين، وعزلته عن الخطابة بدمشق وعن مناصبه، ثم أخرجته، فجاء إلى القدس، فجددت حبسه واعتقاله لأجلكم، فقالت ملوك الفرنج: لو كان هذا قسيسا لغسلنا رجليه وشربنا ماءها.
وأخيرا وصل الشيخ إلى مصر، وبدأ هناك مرحلة جديدة من حياته، وكانت سنه إذ ذاك فوق الستين.
3- موقفه من فخر الدين:
ومن مواقفه الجريئة أن فخر الدين ابن شيخ الشيوخ وأستاذ الدار، صاحب الكلمة المسموعة في مصر بنى بأمر السلطان (طبل خانه) فوق ظهر أحد المساجد تضرب فيها الطبول، وتنفخ فيها الأبواق والمزامير، وتدق فيها الصنج من النحاس لاستدعاء(1/133)
الجند، فالناس تحت في صلاة، وهؤلاء فوقهم يزمرون ويطبلون، فما كان من الشيخ إلا أن أخذ أبناءه وبعض مريديه، وبيدهم المعاول والفؤوس وذهبوا جميعا وكسروا (الطبلخانه). وفي الصباح أعلن الشيخ إسقاط اعتبار فخر الدين، فلا تقبل شهادته، ثم عزل الشيخ نفسه عن القضاء.
وتذيع الحادثة على كل لسان، ويتعجب الناس من جرأة الشيخ، وكان لهذه الحادثة أثر بعيد خارج مصر. فقد اتفق أن أرسل السلطان رسولا برسالة إلى الخليفة المستعصم ببغداد، فلما وصل الرسول إلى الديوان، ووقف بين يدي الخليفة، وأدى الرسالة خرج إليه من سأله:
(هل سمعت هذه الرسالة من السلطان؟) فقال: لا، ولكن حملنيها عن السلطان فخر الدين ابن شيخ الشيوخ، أستاذ الدار. فقال الخليفة: إن المذكور أسقطه ابن عبد السلام، فنحن لا نقبل روايته، فرجع الرسول إلى السلطان حتى شافهه بالرسالة، ثم عاد إلى بغداد ثانية، وأداها إلى السلطان.
4- موقفه من السلطان أيوب:
وكان لا يصبر على منكر إذا رآه، بل ينكره ولو كان صاحبه السلطان، فقد طلع إلى السلطان مرة في يوم عيد إلى القلعة، فشاهد العسكر مصطفين بين يديه ومجلس المملكة والسلطان في أبهة الملك، وقد خرج عليهم السلطان في زينته والأمراء يقبلون الأرض بين يديه، فالتفت الشيخ إلى السلطان وناداه: يا أيوب.. ما حجتك عند الله إذا قال لك ألم أبوئ لك ملك مصر ثم تبيح الخمور؟ فقال: هل جرى هذا؟ فقال: نعم الحانة الفلانية تباع فيها الخمور وغيرها من المنكرات، وأنت تتقلب في نعمة هذه المملكة.
وسكت الناس كأن على رؤوسهم الطير، فقال: يا سيدي هذا أنا ما عملته هذا من زمان أبي. فقال: أنت من الذين يقولون: (إنا وجدنا آباءنا على أمة). وفي الحال أمر السلطان بإغلاق تلك الحانة.
وشاعت هذه الحادثة وتحدث الناس بجرأة الشيخ كيف يجابه السلطان هذه(1/134)
المجابهة، وفي يوم عيد، حتى سأله أحد تلاميذه عن الأمر فقال له: (يا بني، رأيته في تلك العظمة فأردت أن أهينه لئلا تكبر عليه نفسه فتؤذيه). فقال: يا سيدي أما خفته؟ فقال: والله يا بني لقد استحضرت هيبة الله تعالى، فصار السلطان أمامي كالقط.
5- موقفه في معركة المنصورة:
أعد الصليبيون بقيادة ملكهم لويس التاسع ملك فرنسا جيشا قويا فيه سبعمائة سفينة حربية محملة بالجنود والعتاد، وجاؤوا لغزو مصر، ووقفوا بسفنهم تجاه دمياط. فلما سمع بذلك العز بن عبد السلام تحول من عالم مدرس في المسجد إلى منذر جيش، وقائد أمة، يعبئ القوى، ويلهب الحماس، ويحث على الجهاد، ويؤلب على الصليبيين، ويستحث الأمراء على السرعة في الإعداد، والشعب على الإمداد، وإذا بمصر كلها تتحول إلى جيش لجب. ويسافر الشيخ المسن مع الجيش إلى المنصورة وينضم إلى صفوفه، ويحرضه على الجهاد، ويستنهض العزائم، ويستثير الهمم، ويحارب المسلمون في البر وفي النيل، ويتم النصر للمسلمين على الصليبيين، ويأسرون ملكهم لويس التاسع ويسجنونه في دار ابن لقمان بالمنصورة.
6- موقفه من "قطز" في فرض الضرائب:
جاءت الأنباء بأن التتار في طريقهم إلى بلاد الشام بعد أن دمروا بغداد، وقضوا على الخلافة، وبعث ملوك حلب والشام إلى مصر يطلبون النجدة على قتال التتار، فجمع قطز الفقهاء والقضاة والأعيان يستشيرهم في اتخاذ الخطوات لمواجهة خطر التتار، وذكر أن بيت المال خال، واستفتاهم في أخذ أموال من الرعية لتجهيز الجيش وإعداده. وأحس الشيخ أن عبء الحملة يوشك أن يقع على الشعب المعدم لتبقى كنوز الذهب في قباب المماليك، فقال في صراحة ويقين:
(إذا طرق العدو بلاد الإسلام، وجب على العالم -الإسلامي- قتالهم، وجاز لكم أن تأخذوا من الرعية ما تستعينون به على جهادهم بشرط ألا يبقى في بيت المال شيء من السلاح والسروج الذهبية والفضية، واللبابيس المزركشة، وأسناط السبوت(1/135)
والفضة، وغير ذلك، وتبيعوا مالكم من الحوانص الذهبية، والآلات النفيسة، ويقتصر كل الجند على سلاحه ومركوبه، ويتساووا هم والعامة، وأما أخذ الأموال من العامة مع بقاء ما في أيدي الجند من الأموال والآلات الفاخرة فلا).
وطبق السلطان فتوى الشيخ، فامتلأ بيت المال وجهزت الحملة، وأمدها الشيخ بروحه المؤمنة وتشجيعه، فخاضوا المعركة واثقين من نصر الله، فانكسر التتار وانتصر المسلمون في "عين جالوت".
7- الشيخ يبيع الملوك المماليك:
ثم كانت الحادثة العجيبة التي لم يسمع بمثلها، لما أصبح الشيخ مسؤولا عن القضاء، وعن بيت المال، وعن تصحيح الأحكام الشرعية، نظر فرأى أن هؤلاء المماليك -وإن أصبحوا أمراء وبيدهم الحل والعقد، ومنهم من بلغ أن يكون نائب السلطنة- إلا أنهم من الوجهة الشرعية أرقاء وملك لبيت مال المسلمين، فأعلن الشيخ ذلك ورفض أن يصحح لهم بيعا ولا شراء ولا نكاحا، فتعطلت مصالحهم، واضطربت شؤونهم، وضاقت بهم الحياة، وأحسوا بالإهانة في أنفسهم، فغضبوا واجتمعوا وأرسلوا إلى الشيخ يستفسرون منه ماذا ينوي بهم، فكان الجواب الصريح الجريء: نعقد لكم مجلسا وينادى عليكم لبيت مال المسلمين، ويحصل عتقكم بطريق شرعي، فذهلوا، وطلبوا من السلطان التدخل، فطلب السلطان من الشيخ أن يتركهم وشأنهم، فما كان من الشيخ إلا أن حزم أمتعته ووضعها على حمار، وأركب أهله حميرا أخرى وسار خلفهم عازما على ترك مصر. وتسامع الناس بذلك، فلحق به أغلبهم، ولم يتخلف أحد من ذوي الشأن، وخصوصا العلماء والصلحاء والتجار وأمثالهم.
وبلغ السلطان ذلك، وقيل له: إن ذهب الشيخ، ذهب ملكك. فركب بنفسه ولحق الشيخ، واسترضاه، فاشترط الشيخ أن ينادي على الأمراء في المزاد. وجن جنون نائب السلطنة وقال: كيف ينادي علينا هذا الشيخ ونحن ملوك الأرض، والله لأضربنه بسيفي هذا. فركب بنفسه في جماعته، وجاء إلى بيت الشيخ، والسيف مسلول في يده، فطرق الباب فخرج ولد الشيخ، فرأى من نائب(1/136)
السلطنة ما رأى، فعاد إلى أبيه يخبره وهو فزع على أبيه، فما اكترث الشيخ لذلك ولا تغير، وقال: يا ولدي، أبوك أقل من يقتل في سبيل الله. ثم خرج فكأنه قضاء الله قد نزل على نائب السلطنة، فحين وقع بصره على النائب يبست يده، وسقط السيف منها، وأرعدت مفاصله، فبكى وسأل الشيخ أن يدعو له، وقال: يا سيدي أي شيء تعمل؟
قال: أنادي عليكم وأبيعكم.
قال: ففيم تصرف أثماننا؟
قال: في مصالح المسلمين.
قال: من يقبضه؟
قال: أنا.
فتم له ما أراد، ونادى على الأمراء واحدا واحدا، وغالى في ثمنهم وقبضه وصرفه في وجوه الخير.
هذا هو العالم المؤمن الجريء العز بن عبد السلام الذي عاش حياته منارا للإسلام، حاميا للحق، وحارسا للشرع.
أفرغ قلبه من الدنيا، فامتلأ بخشية الله وجبه.
فجزاه الله خير ما جازى به المؤمنين الصادقين المجاهدين.(1/137)
المناقشة
1.…متى ولد العز بن عبد السلام؟ وكيف نشأ؟
2.…ما الأعمال التي وليها؟
3.…تحدث عن عصر العز بن عبد السلام.
4.…تحدث عن مواقفه الحربية مع الأشرف، ومع فخر الدين، ومع السلطان أيوب.
5.…ما موقفه من الصالح إسماعيل لما حالف الصليبيين؟ وماذا قال ملوك الفرنج عن الشيخ؟
6.…كان الشيخ ورعا وزاهدا.. اذكر ما يدل على ذلك.
7.…تعرض الشيخ لمضايقات كثيرة.. اذكر ما تعرفه منها.
8.…كان للشيخ أثر كبير في نصرة المسلمين في موقعة المنصورة، تحدث عن ذلك.
9.…ما موقفه من المظفر قطز حينما أراد أن يفرض الضرائب.
10.…للحافظ المنذري موقف نبيل مع العز. اذكره.
11.…أفتى الشيخ ببيع الأمراء المماليك.. اذكر هذه الحادثة بالتفصيل.(1/138)
شيخ الإسلام ابن تيمية
مولده ونشأته:
هو تقي الدين أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن تيمية الحراني الدمشقي ولد "بحران" من بلاد الشام في العاشر من شهر ربيع الأول سنة 661 هـ. وقد انتقل به أبوه إلى دمشق -وهو ابن سبع سنين- عندما أغار التتار على البلاد.
كان أبوه الشيخ شهاب الدين من أئمة فقهاء المذهب الحنبلي في دمشق.
وكان له مجلس للوعظ والإرشاد والتدريس في جامع دمشق، وتولى مشيخة دار الحديث، وكان بها سكنه، وفيها نشأ ولده شيخ الإسلام ابن تيمية.
وكان جده عبد السلام كذلك من علماء الحنابلة المعدودين. درس وأفتى وانتفع الناس بعلمه. وفي هذه الأسرة نشأ ابن تيمية، فكان من الطبيعي أن يتجه للعلم.
طلبه للعلم:
حفظ القرآن في حداثته، ثم اتجه إلى حفظ الحديث واللغة، وقرأ الكتب الستة ومسند الإمام أحمد عدة مرات. ودرس الأصول والتفسير والفقه وعلوم القرآن والسنة، وقد وهبه الله حافظة واعية، وذاكرة قوية، فما كان يحفظ شيئا وينساه، ولا يكاد يقرأ الشيء حتى ينتقش في ذهنه.
شخصيته العلمية:
تفتحت مواهب ابن تيمية منذ صغره، حتى فاق أقرانه، بل كان يناظر الكبار، ويتفوق عليهم. وأفتى وهو ابن تسع عشرة سنة، وأخذ في الجمع والتأليف منذ ذلك الوقت، وتضلع في علوم الحديث حتى قالوا: كل حديث لا يعرفه ابن تيمية، ليس بحديث، ولما مات أبوه خلفه ابنه في وظائفه، وجلس مجلسه في دار الحديث، وله إحدى وعشرون سنة، وكان له باع طويل في معرفة مذاهب الصحابة والتابعين، وصار يقصد بالاستفتاء من كل مكان، وقل أن يفتي في مسألة إلا ويذكر فيها أقوال(1/139)
المذاهب الأربعة.
وكان يقوم بتفسير القرآن الكريم أيام الجمع من حفظه، ويتكلم الساعات دون تلعثم.
شهادة العلماء له:
وقد اعترف له أئمة عصره بالأمانة والسبق. قال المحدث الكبير ابن دقيق العيد: "رأيت رجلا جمع العلوم كلها بين عينيه، يأخذ منها ما يريد، ويدع ما يريد".
وقال أحد معاصريه:
"وقد ألان الله له العلوم، كما ألان له الحديد، كان إذا سئل عن فن من العلم ظن الرائي والسامع أنه لا يعرف غير ذلك الفن، وحكم أن أحدا لا يعرف مثله، وكان الفقهاء من سائر الطوائف إذا جلسوا معه استفادوا في مذاهبهم منه ما لم يكونوا عرفوه قبل ذلك، ولا يعرف أنه ناظر أحدا فانقطع منه، ولا تكلم في علم سواء أكان من علوم الشرع أم من غيرها، إلا فاق فيه أهله والمنسوبين إليه".
وقد ساعد على تكوين شخصيته العلمية عدة أمور، منها:
1- ملازمته لوالده، وأخذه عنه الفقه والحديث والأصول وغيرها.
2- شيوخه الكثيرون الذين سمع منهم وأخذ عنهم، حتى قالوا إنه سمع من أكثر من مائتي شيخ.
3- تتبعه لآراء الصحابة والتابعين، ودراسة اتجاهاتهم الفقهية.....
4- تيسير أسباب العلوم وتدوين السنة، وتوفر الكتب لديه في مختلف العلوم والفنون، مما ساعده على البحث والتنقيب.
5- كانت دمشق -كالقاهرة- ملتقى العلماء والفقهاء من بلاد المشرق والمغرب.
6- وأخيرا حافظته الواعية، وذكاؤه المتوقد، ونبوغه المبكر، واستعداده الطبيعي.
كل ذلك جعله ينهل من كل فنون العلم والمعرفة، حتى نبغ وأصبح حديث أقرانه، بل حديث الرجال الكبار.
ومما يروى في ذكائه ونبوغه المبكر أن بعض مشايخ العلماء بحلب قدم إلى دمشق،(1/140)
وكان قد سمع بابن تيمية وسرعة حفظه، فأراد أن يراه، فقيل له: إن هذا طريق كتابه، فاجلس حتى يمر. فجلس الرجل، وإذا بصبيان فيهم ابن تيمية ومعه لوح كبير، فناداه الشيخ، وتناول منه اللوح، وقال: يا ولدي، امح هذا حتى أملي عليك شيئا تكتبه، فأملى عليه من فنون الأحاديث ثلاثة عشر حديثا، فقرأها مرة ثم تلاها على الشيخ من حفظه، فأعجب به أيما إعجاب، وقال: إن عاش هذا الصبي ليكونن له شأن عظيم.
إنتاجه العلمي:
لا تكاد تحصى كتب ابن تيمية لكثرتها، فقد ألف في العقائد والتفسير والفقه، وأكثر كتبه كان يكتبها من ذاكرته دون الاستعانة بمرجع، وكتب كثيرا منها وهو في سجنه، وكتب رسائل شتى ردا على الملاحدة وأهل البدع، ورسائل أخرى إجابة على أسئلة كان يستفتى فيها من بلاد مختلفة، فتكون من ذلك ثروة علمية هائلة لا يستغني عنها عالم أو باحث، وقد قيل: إن تآليفه بلغت أكثر من خمسمائة مجلد.
اجتهاداته:
كان الإمام ابن تيمية حنبليا بنشأته وثقافته، إلا أن استقلاله الفكري، وعلمه الواسع بنفائس الكتاب والسنة، وأقضية الصحابة والتابعين ومذاهبهم جعله لا يحصر نفسه في نطاق المذاهب، بل كانت له ترجيحات واختيارات على خلاف المذهب، حلق بها في آفاق الكتاب والسنة، وفتاوى الصحابة والتابعين ووصل فيها إلى نتائج تخالف ما عليه أئمة المذاهب الأربعة أحيانا.
من ذلك:
فتواه المشهورة في "الحلف الطلاق" وأنه لا يقع به الطلاق، وتجب في الحنث كفارة يمين.
وفتواه بأن الطلاق بلفظ الثلاث في مجلس واحد يقع طلقة واحدة فقط، وقد أوذي(1/141)
بسبب هذه الفتاوى، واعتبرت مآخذ ضده، وشنع عليه بسببها، ثم شاء الله أن ينتهي إليها رأي الفقهاء اليوم، وأن يكون عليها العمل في المحاكم بعد قرون من تقريرها، وإيذاء صاحبها ابن تيمية رضوان الله عليه.
عصر ابن تيمية:
نشأ ابن تيمية في عصر خيمت على الناس فيه ظلمات التقليد، وأصبح الحق عند الناس هو ما جاء من فلان أو فلان، ومن خرج على هذه الآراء الموروثة اتهم بالكفر أو الضلال.
ونجمت فيه فرق ضالة تتزيا بزي الإسلام، والإسلام منها براء -كالباطنية والنصيرية والرافضة وغيرهم- كانوا حربا على الإسلام، وأعوانا لأعدائه من الصليبيين والتتار.
هذا إلى استبداد الحكام وظلمهم واسترسالهم في شهواتهم وغفلتهم عن أعدائهم الذين يغزونهم في عقر دارهم، حتى دب الوهن في النفوس، واستولى اليأس على القلوب.
جهاده:
في هذه البيئة المفككة، وفي هذا المجتمع الممزق، نشأ الإمام ابن تيمية فكان عليه أن يجاهد في أكثر من ميدان، كان عليه أن يجاهد التقليد والجمود، وأن يجاهد الإلحاد والزندقة، والنحل الضالة، وأن يجاهد الظلمة وأرباب الشهوات، وأن يجاهد الكفار والغزاة الذين يغيرون على بلاد الإسلام.
وبالجملة كان عليه أن يجاهد بالقلم واللسان والسيف والسنان، وذلك كان فقد:
1- جاهد التقليد والمقلدين، وأعلن في الناس ما أعلنه الإمام مالك من قبل: "كل يؤخذ من كلامه ويترك، إلا المعصوم صلى الله عليه وسلم".
وفتح أبواب الاجتهاد، ودعا إلى رد الأمة إلى منابع دينها : "كتاب الله وسنة(1/142)
رسوله". وكانت له اجتهادات حرة لا يتقيد فيها بمذهب معين، وله استنباطات لا تستند إلا إلى كتاب الله وسنة رسوله.
2- ونازل أهل البدع والنحل الضالة، وجادلهم حتى أفحمهم وانتصر لعقيدة السلف. وألف الكتب الضخمة والرسائل الصغيرة في الرد عليهم، كمنهاج السنة النبوية، والرسالة المحمدية، والرسالة الواسطية وغيرها.
وقصارى القول: فقد أعاد للروح الإسلامية شبابها من جديد، فتعلقت به قلوب الناس وأحبوه، وكثر أتباعه ومريده.
3- جهاد المنكرات: لم يمنع الإمام ابن تيمية العلم والعكوف عليه من أن ينزل إلى ميدان الحياة العامة يشارك فيها، ويباشر بنفسه تغيير المنكر وإزالته، وما كان يكتفي بالدروس والمواعظ يلقيها على الناس، فقد بلغه أن صخرة تزار، وتنذر لها النذور، وتقدم لها القرابين، فذهب مع أصحابه بالمعاول والفؤوس فكسروها وأراحوا المسلمين من وزرها. وكان رحمه الله يدور مع أصحابه على الحانات والخمارات فيغلقونها ويكسرون أواني الخمور، ويريقون ما فيها، ويعاقب أصحاب الخمارات.
وقد استطاع ابن تيمية أن يطبق هذه الأحكام في دمشق يوم أن فر الأمراء والعلماء والحكام من وجه التتار، وصار هو الحاكم الفعلي الذي بيده زمام الأمور.
وقد بقي لابن تيمية سلطانه الأدبي على الناس، فتوارى الفسقة عن العيون وامتنعوا عن المجاهرة بالمعصية.
إيذاؤه وصبره:
من الطبيعي أن يكون لابن تيمية حساد وأعداء، يكيدون له، ويحقدون عليه -شأن كل داعية مخلص، يجرد لسانه وقلمه وعلمه وعمله لله وحده-، فدسوا له عند الحكام، واتهموه بأنه يطمع في السلطان والملك، واتهموه بالتشبيه والتجسيم وهو(1/143)
الذي عاش حياته حربا على المشبهة والمجسمة، وتلمسوا له بعض الآراء التي لم يتقيد فيها بمذهب من المذاهب التقليدية.
وكان ابن تيمية يناظرهم ويفحمهم، ولكنه ظل ينتقل بسبب ذلك من محنة إلى محنة، ومن سجن إلى سجن، وهو لا يتوانى في نشر الدين، وتصحيح العقيدة داخل السجن وخارجه، حتى لقد أصبح له في داخل السجن أتباع يؤثرون البقاء معه على الخروج. وكان -رحمه الله- يرى السجن فرصة للخلوة والعبادة. وكان يقول: ما يصنع أعدائي بي؟ أنا جنتي وبستاني في صدري أينما رحلت، فهي معي لا تفارقني، وإن حبسي خلوة، وقتلي شهادة، وإخراجي من بلدي سياحة، وكان يقول: "المحبوس من حبس قلبه عن ربه، والمأسور من أسره هواه".
صلته بالأمة:
لم يكن ابن تيمية -كما قلنا- معزولا عن المجتمع، بعيدا عما يجري حوله من أحداث، ولكنه كان يهتم بأمور المسلمين، وينفعل بها، حتى أصبح معقد الآمال، تجزع إليه الأمة كلما ادلهمت الخطوب ووقع بها ظلم، أو أغار عليها عدو.
فعندما هاجم التتار بلاد الشام سنة 669 وعاثوا في الأرض فسادا، ونشروا الرعب والفزع في كل مكان، قصدوا إلى دمشق ففر كثير من العلماء إلى مصر، وترك الحكام البلد، فانتشر فيها السلب والنهب، وعمتها الفوضى، وخرج المحبوسون من السجون، وأخذوا ينهبون ما تقع عليه أيديهم. في هذه المحنة القاسية، لم يجد الناس إلا ابن تيمية الذي أبى أن ينجو بنفسه، بل آثر أن يبقى مع الناس، يواسيهم ويثبت قلوبهم، ويوجههم، ويشاركهم في ما يصيبهم.
موقفه من قازان:
جمع ابن تيمية من بقي من أعيان البلد، واتفق معهم على ضبط الأمور، ومحاربة الفوضى حتى تستقر الأوضاع.
وخرج بنفسه على رأس وفد لمقابلة قازان ملك التتار، ليطلبوا منه الامتناع عن(1/144)
دخول دمشق.
وكان ابن تيمية معه موقف رائع، فقد خاطبه عن طريق ترجمانه:
"قل للقازان: أنت تزعم أنك مسلم، ومعك قاض وإمام وشيخ ومؤذنون -على ما بلغنا- ومع ذلك غزوتنا، وأبوك وجدك كانا كافرين، وما عملا الذي عملت، عاهدا فوفيا، وأنت عاهدت فغدرت، وقلت فما وفيت وجرت".
وكان يرفع صوته بهذه الكلمات وهو يقرب من السلطان، والسلطان مقبل عليه، مصغ إليه، لما أوقع الله في قلبه من الهيبة حتى إنه سأل: من هذا الشيخ؟
فإني لم أر مثله، ولا أثبت قلبا منه، ولا أوقع من حديثه في قلبي، ولا رأيتني أعظم انقيادا لأحد منه. وخرج من عنده بعد هذا القول معززا مكرما.
وقد أنتجت مقابلته لقازان أن رجع عن دخول دمشق في عامه هذا.
جهاده بالسيف:
وفي سنة 700 تسامع الناس بعودة التتار مرة أخرى، فأصاب الناس من ذلك بلاء وفزع، ولكن ابن تيمية الذي واجه التتار في الماضي بالسلم، أصر هذه المرة على حربهم بالسيف، وأفتى بأنهم بغاة يجب قتالهم، ولا جدوى من سلمهم، وحمل السيف، ووقف يلقي على الناس دروسا في الجهاد والمرابطة والاستشهاد، ونهى عن الفرار، ورغب في إنفاق الأموال، وبين للناس أن ما ينفقونه في الهرب وما يضيع منهم بسببه إذا أنفق في سبيل الله كان خيرا.
وسافر إلى مصر يستحث سلطانها وحكامها على نجدة أهل الشام، وما زال بهم حتى خرج السلطان بجنده إلى الشام.
وعلم التتار بتجميع المسلمين، وعزمهم على حربهم هذه المرة، فعادوا من حيث أتوا، ولكنهم ما لبثوا أن عادوا بجموعهم في سنة 702 هـ. واتجهوا نحو دمشق، فانخلعت قلوب الناس مرة أخرى، ولكن ابن تيمية الشجاع ترك حلقة العلم إلى ميدان الجهاد، وحمل السلاح، وامتطى صهوة جواده، وأخذ يشجع الناس ويثبت(1/145)
قلوبهم، ويعدهم بالنصر، ويتلو قول الله تعالى: {ذلك ومن عاقب بمثل ما عوقب به ثم بغي عليه لينصرنه الله إن الله لعفو غفور} حتى إنه ليحلف بالله "إنكم لمنصورون".
ووقعت الواقعة، والتقى الجمعان في موقعة معروفة باسم "شقحب" وأبلى المسلمون فيها بلاء حسنا، واستبسل أهل الشام، وجند مصر وابن تيمية معهم، حتى انجلت المعركة عن هزيمة ساحقة للتتار لم يعودوا بعدها للإغارة، ولم تقم لهم قائمة.
شجاعته:
ومن مواقفه الرائعة الدالة على شجاعته وعزة نفسه، أن إنسانا شكا إليه من "قطلوبك " الكبير وظلمه له، فدخل عليه الشيخ وكلمه، فأراد أن يهزأ بالشيخ، فقال له: إنك عالم زاهد، وكنت أريد أن أجيء أنا إليك، فقال له: كان موسى خيرا مني، وكان فرعون شرا منك، وكان موسى يجيء إلى فرعون كل يوم ثلاث مرات يعرض عليه الإيمان.
ولما تغلب التتار على أهل الشام ذهب ابن تيمية لمفاوضة "قطلوشاه" في إطلاق الأسرى، فسمح بإطلاق أسرى المسلمين، وأبى أن يطلق الأسرى من النصارى واليهود فرفض الشيخ رحمه الله وأبى إلا أن يطلق النصارى واليهود من أهل الذمة، فلهم مالنا، وعليهم ما علينا، فأطلقهم له.
ومن شجاعته أنه لما وشي به إلى السلطان الناصر، وقالوا له يعمل للاستيلاء على الملك، أحضره الملك وقال له: إنني أخبرت أنك قد أطاعك الناس، وأن في نفسك أخذ الملك. فلم يكترث به، وقال بنفس مطمئنة، وجنان ثابت، وصوت عال: أنا أفعل ذلك؟ والله إن ملكك وملك المغول لا يساوي عندي فلسا.
فأخذ الملك من هذه اللهجة الصادقة، وقال له: والله إنك لصادق، وإن الذي وشى بك لكاذب، وأحبه بعد ذلك وأكرمه.(1/146)
صفحه عمن أساء إليه:
هذه النفس الكبيرة التي تعلو على الصغائر كالبحر لا تكدره الدلاء، فرغم أن حساده كادوا له وأوقعوا به، وافتروا عليه، ودخل السجن بذلك مرات عديدة، إلا أنه لما خرج من السجن، ومكنه السلطان ممن أساؤوا إليه ليطلب عقوبتهم بما يشاء، رفض ذلك وصفح عن جميع من أساء إليه، وحللهم من كل حق له.
هذا هو ابن تيمية، العالم الفذ الذي أحدث في عصره تحولا كبيرا، ووقف كالجبل الأشم يصارع أصحاب النحل الضالة، والعقائد الفاسدة، ويصارع التتار الجبابرة حتى حفظ للإسلام شبابه ونضارته، وحمل الراية بعد العز بن عبد السلام، وقام برسالته خير قيام، فصدع بالحق في وجه الحكام الظلمة، وتعرض في سبيل ذلك لمحن شتى، ولكنها لم توهن من عزمه، ولم تضعف من قوته، وعبأ مشاعر الأمة وقوتنا لمواجهة التتار حتى تم النصر. لقد كان ابن تيمية يعتبر بحق مجدد أمر الدين. ومحيي مجد الإسلام في القرن الثامن.
وفاته:
توفي رضي الله عنه وهو سجين بقلعة دمشق، ليلة الاثنين لعشرين من ذي القعدة سنة 728 هـ. وخرجت دمشق عن بكرة أبيها في جنازته، وسار فيها الأمراء والعلماء والفقهاء والجنود وباقي الناس، ولم يسمع بجنازة بمثل هذا الجمع سوى جنازة الإمام أحمد بن حنبل في بغداد.
رحمه الله وجزاه خير ما يجزي العلماء العاملين المجاهدين الصادقين عن دينهم وأمتهم.(1/147)
المناقشة
1.…متى ولد شيخ الإسلام ابن تيمية؟ وكيف نشأ؟ وما أثر أبيه وجده في اتجاهه العلمي؟
2.…كانت بوادر النبوغ تبدو على ابن تيمية من صغره. تحدث عن ذلك.
3.…اذكر ما تعرفه عن شهادة العلماء له.
4.…تحدث عن عصر ابن تيمية من حيث التقليد والجمود، ومن حيث الفرق المنحرفة، ومن حيث الحكام، وما الذي فعله ابن تيمية في هذه البيئة.
5.…لابن تيمية آراء خالف بها المذاهب الأربعة. اذكر ما تعرفه منها، وعلام كان يعتمد في ترجيحها؟
6.…لابن تيمية جهد كبير في محاربة المنكرات. تحدث ذلك.
7.…أوذي كثيرا وصبر، فكيف كان ذلك؟
8.…تحدث عن دور ابن تيمية عندما هاجم التتار بلاد الإسلام.
9.…تحدث عن موقفه مع قازان، وعن جهاده بالسيف واللسان. واذكر أمثلة من شجاعته.(1/148)