وأكثر ما يحمل على التماس هذه الصناعة وانتحالها هو كما قلناه العجز عن الطرق الطبيعية للمعاش، وابتغاؤه من غير وجوهه الطبيعية، كالفلاحة والتجارة والصناعة، فيستصحب العاجز ابتغاءه من هذه، ويروم الحصول على الكثير من المال دفعة بوجوه غير طبيعية من الكيمياء وغيرها. وأكثر من يعنى بذلك الفقراء من أهل العمران. وللناس أقوال كثيرة - حتى في الحكماء المتكلمين في إنكارها واستحالتها. فإن ابن سينا القائل باستحالتها كان علية الوزراء، فكان من أهل الغنى والثروة، والفارابي القائل بإمكانها كان من أهل الفقر الذين يعوزهم أدنى بلغة من المعاش وأسبابه. وهذه تهمة ظاهرة في أنظار النفرس المولعة بطرقها وانتحالها. والله الرزاق، ذو القوة المتين، لا رب سواه.
الفصل الرابع والثلاثون
في أن كثرة التآليف في العلوم..
عائقة عن التحصيل اعلم أنه مما أضر بالناس في تحصيل العلم والوقوف على غاياته كثرة التآليف واختلاف الاصطلاحات في التعليم، وتعدد طرقها، ثم مطالبة المتعلم والتلميذ باستحضار ذلك. وحينئذ يسلم له منصب التحصيل، فيحتاج المتعلم إلى حفظها كلها أو أكثرها ومراعاة طرقها. ولا يفي عمره بما كتب في صناعة واحدة إذا تجرد لها، فيقع القصور ولا بد دون رتبة التحصيل. ويمثل ذلك من شأن الفقه في المذهب المالكي بالكتب المدونة مثلاً وما كتب عليها من الشروحات الفقهية، مثل كتاب ابن يونس واللخمي وابن بشير والتنبيهات والمقدمات والبيان والتحصيل على العتبية، وكذلك كتاب ابن الحاجب وما كتب عليه. ثم إنه يحتاج إلى تمييز الطريقة القيروانية من القرطبية والبغدادية والمصرية وطرق المتأخرين عنهم، والإحاطة بذلك كله، وحينئذ يسلم له منصب الفتيا وهي كلها متكررة والمعنى واحد. والمتعلم مطالب باستحضار جميعها وتمييز ما بينها، والعمر ينقضي في واحد منها.
ولو اقتصر المعلمون بالمتعلمين على المسائل المذهبية فقط، لكان الأمر دون ذلك بكثير، وكان التعليم سهلاً ومأخذه قريباً، ولكنه داء لا يرتفع لاستقرار العوائد عليه، فصارت كالطبيعة التي لا يمكن نقلها ولا تحويلها. ويمثل أيضاً علم العربية من كتاب سيبويه، وجميع ما كتب عليه، وطرق البصريين والكوفيين والبغداديين والأندلسيين من بعدهم، وطرق المتقدمين والمتأخرين مثل ابن الحاجب وابن مالك وجميع ما كتب في ذلك. وكيف يطالب به المتعلم، وينقضي عمره دونه، ولا يطمع أحد في الغاية منه إلا في القليل النادر؟، مثل ما وصل إلينا بالمغرب لهذا العهد، من تآليف رجل من أهل صناعة العربية من أهل مصر يعرف بابن هشام، ظهر من كلامه فيها أنه استولى على غاية من ملكة تلك الصناعة، لم تحصل إلا لسيبويه وابن جني وأهل طبقتهما، لعظم ملكته وما أحاط به من أصول ذلك الفن وتفاريعه وحسن تصرفه فيه. ودل ذلك على أن الفضل ليس منحصراً في المتقدمين، سيما مع ما قدمناه من كثرة الشواغب بتعدد المذاهب والطرق والتآليف، ولكن فضل الله يؤتيه من يشاء. وهذا نادر من نوادر الوجود، وإلا فالظاهر أن المتعلم ولو قطع عمره في هذا كله، فلا يفي له بتحصيل علم العربية مثلاً الذي هو آلة من الآلات ووسيلة، فكيف يكون في المقصود الذي هو الثمرة؟ ولكن الله يهدي من يشاء.
الفصل الخامس والثلاثون
في المقاصد التي ينبغي اعتمادها
بالتأليف وإلغاء ما سواها(1/339)
اعلم أن العلوم البشرية خزانتها النفس الإنسانية بما جعل الله فيها من الإدراك الذي يفيدها ذلك الفكر المحصل لها ذلك بالتصور للحقائق أولاً، ثم بإثبات العوارض الذاتية لها أو نفيها عنها ثانياً، إما بغير وسط أو بوسط، حتى يستنتج الفكر بذلك مطالبه التي يعني بإثباتها أو نفيها. فإذا استقرت من ذلك صورة علمية في الضمير فلا بد من بيانها لآخر: إما على وجه التعليم، أو على وجه المفاوضة، تصقل الأفكار في تصحيحها. وذلك البيان إنما يكون بالعبارة، وهي الكلام المركب من الألفاظ النطقية التي خلقها الله في عضو اللسان مركبة من الحروف، وهي كيفيات الأصوات المقطعة بعضلة اللهاة واللسان ليتبين بها ضمائر المتكلمين بعضهم لبعض في مخاطباتهم وهذه رتبة أولى في البيان عما في الضمائر، وإن كان معظمها وأشرفها العلوم، فهي شاملة لكل ما يندرج في الضمير من خبر أو إنشاء على العموم. وبعد هذه الرتبة الأولى من البيان رتبة ثانية يؤدي بها ما في الضمير، لمن توارى أو غاب شخصه وبعد، أو لمن يأتي بعد ولم يعاصره ولا لقيه. وهذا البيان منحصر في الكتابة، وهي رقوم باليد تدل أشكالها وصورها بالتواضع على الألفاظ النطقية حروفاً بحروف وكلمات بكلمات، فصار البيان فيها على ما في الضمير بواسطة الكلام المنطقي، فلهذا، كانت في الرتبة الثانية واحداة فسمي هذا البيان. يدل على ما في الضمائر من العلوم والمعارف، فهو أشرفها. وأهل الفنون معتنون بإيداع ما يحصل في ضمائرهم من ذلك في بطون الأوراق بهذه الكتابة، لتعلم الفائدة في حصوله للغائب والمتأخر، وهؤلاء هم المؤلفون. والتآليف بين العوالم البشرية والأمم الإنسانية كثير، ومنتقلة في الأجيال والأعصار وتختلف باختلاف الشرائع والملل والأجيال عن الأمم والدول. وأما العلوم الفلسفية، فلا اختلاف فيها، لأنها إنما تأتي على نهج واحد، فيما تقتضيه الطبيعة الفكرية، في تصور الموجودات على ما هي عليه، جسمانيها وروحانيها وفلكيها وعنصريها ومجردها ومادتها. فإن هذه العلوم لا تختلف، وإنما يقع الاختلاف في العلوم الشرعية لاختلاف الملل، أو التاريخية لاختلاف خارج الخبر. ثم الكتابة مختلفة باصطلاحات البشر في رسومها وأشكالها، ويسمى ذلك قلماً وخطاً. فمنها الخط الحميري، ويسمى المسند، وهو كتابة حمير وأهل اليمن الأقدمين، وهو يخالف كتابة العرب المتأخرين من مضر كما يخالف لغتهم. وإن الكل عربياً. إلا أن ملكة هؤلاء في اللسان والعبارة غير ملكة أولئك. ولكل منهما قوانين كلية مستقراة من عبارتهم غير قوانين الآخرين. وربما يغلط في ذلك من لا يعرف ملكات العبارة. ومنها الخط السرياني، وهو كتابة النبط والكلدانيين. وربما يزعم بعض أهل الجهل أنه الخط الطبيعي لقدمه فإنهم كانوا أقدم الأمم، وهذا وهم، ومذهب عامي. لأن الأفعال الاختيارية كلها ليس شيء منها بالطبع، وإنما هو يستمر بالقدم والمران حتى يصير ملكة راسخة، فيظنها المشاهد طبيعية كما هو رأي كثيرمن البلداء في اللغة العربية، فيقولون: العرب كانت تعرب بالطبع وتنطق بالطبع، وهذا وهم. ومنها الخط العبراني الذي هو كتابة بني عابر بن شالح من بني إسرائيل وغيرهم. ومنها الخط اللطيني، خط اللطينيين من الروم، ولهم أيضاً لسان مختص بهم. ولكل أمة من الأمم اصطلاح في الكتاب يعزى إليها ويختص بها. مثل الترك والفرنج والهنود وغيرهم. وإنما وقعت العناية بالأقلام الثلاثة الأولى. أما السرياني فلقدمه كما ذكرنا، وأما العربي والعبري فلتنزل القرآن والتوراة بهما بلسانهما. وكان هذان الخطان بياناً لمتلوهما، فوقعت العناية بمنظومهما أولاً وانبسطت قوانين لاطراد العبارة في تلك اللغة على أسلوبها لتفهم الشرائع التكليفية من ذلك الكلام الرباني. وأما اللطيني فكان الروم، وهم أهل ذلك اللسان، لما أخذوا بدين النصرانية، وهو كله من التوراة، كما سبق في أول الكتاب، ترجموا التوراة وكتب الأنبياء الإسرائيليين إلى لغتهم، ليقتنصوا منها الأحكام على أسهل الطرق. وصارت عنايتهم بلغتهم وكتابتهم آكد من سواها. وأما الخطوط الأخرى فلم تقع بها عناية، وإنما هي لكل أمة بحسب اصطلاحها. ثم إن الناس حصروا مقاصد التأليف التي ينبغي اعتمادها وإلغاء ما سواها، فعدوها سبعة:(1/340)
أولها استنباط العلم بموضرعه وتقسيم أبوابه وفصوله وتتبع مسائله، أو استنباط مسائل ومباحث تعرض للعالم المحقق ويحرص على إيصاله بغيره، لتعم المنفعة به فيودع ذلك بالكتاب في المصحف، لعل المتأخر يظهر على تلك الفائدة، كما وقع في الأصول في الفقه. تكلم الشافعي أولاً في الأدلة الشرعية اللفظية ولخصها، ثم جاء الحنفية فاستنبطوا مسائل القياس واستوعبوها، وانتفع بذلك من بعدهم إلى الآن.
وثانيها: أن يقف على كلام الأولين وتآليفهم فيجدها مستغلقة على الأفهام ويفتح الله له في فهمها فيحرص على إبانة ذلك لغيره ممن عساه يستغلق عليه، لتصل الفائدة لمستحقها. وهذه طريقة البيان لكتب المعقول والمنقول، وهو فصل شريف.
وثالثها: أن يعثر المتأخر على غلط اوخطإ في كلام المتقدمين ممن اشتهر فضله وبعد في الإفادة صيته، ويستوثق في ذلك بالبرهان الواضح الذي لا مدخل للشك فيه، فيحرص على إيصال ذلك لمن بعده، إذ قد تعذر محوه ونزعه بانتشار التأليف في الآفاق والأعصار، وشهرة المؤلف ووثوق الناس بمعارفه، فيودع ذلك الكتاب ليقف على بيان ذلك.
ورابعها: أن يكون الفن الواحد قد نقصت منه مسائل أو فصول بحسب انقسام موضوعه فيقصد المطلع على ذلك أن يتمم ما نقص من تلك المسائل ليكمل الفن بكمال مسائله وفصوله، ولا يبقى للنقص فيه مجال.
وخامسها: أن يكون مسائل العلم قد وقعت غير مرتبة في أبوابها ولا منتظمة، فيقصد المطلع على ذلك أن يرتبها ويهذبها، ويجعل كل مسألة في بابها، كما وقع في المدونة من رواية سحنون عن ابن القاسم، وفي العتبية من رواية العتبي عن أصحاب مالك ، فإن مسائل كثيرة من أبواب الفقه منها قد وقعت في غير بابها فهذب ابن أبي زيد المدونة وبقيت العتبية غير مهذبة. فنجد في كل باب مسائل من غيره. واستغنوا بالمدونة وما فعله ابن أبي زيد فيها والبرادعي من بعده.
وسادسها: أن تكون مسائل العلم مفرقة في أبوابها من علوم أخرى فيتنبه بعض ا لفضلاء إلى موضوع ذلك الفن وجميع مسائله، فيفعل ذلك، ويظهر به فن ينظمه في جملة العلوم التي ينتحلها البشر بأفكارهم، كما وقع في علم البيان. فإن عبد القاهر الجرجاني وأبا يوسف السكاكي وجدا مسائله مستقرية في كتب النحو وقد جمع منها الجاحظ في كتاب البيان والتبيين مسائل كثيرة، تننه الناس فيها لموضوع ذلك العلم وانفراده عن سائر العلوم، فكتبت في ذلك تآليفهم المشهورة، وصارت أصولاً لفن البيان، ولقنها المتأخرون فأربوا فيها على كل متقدم.
وسابعها: أن يكون الشيء من التآليف التي هي أمهات للفنون مطولاً مسهباً فيقصد بالتأليف تلخيص ذلك، بالاختصار والإيجاز وحذف المتكرر، إن وقع، مع الحذر من حذف الضروري لئلا يخل بمقصد المؤلف الأول.
فهذه جماع المقاصد التي ينبغي اعتمادها بالتأليف ومراعاتها. وما سوى ذلك ففعل غير محتاج إليه وخطأ عن الجادة التي يتعيين سلوكها في نظر العقلاء، مثل انتحال ما تقدم لغيره من التآليف أن ينسبه إلى نفسه ببعض تلبيس، من تبديل الألفاظ وتقديم المتأخر وعكسه، أو يحذف ما يحتاج إليه في الفن أو يأتي بما لا يحتاج إليه، أو يبدل الصواب بالخطأ، أو يأتي بما لا فائدة فيه. فهذا شأن الجهل والقحة. ولذا قال أرسطو، لما عدد هذه المقاصد، وانتهى إلى آخرها فقال: وما سوى ذلك ففصل أو شره، يعني بذلك الجهل والقحة. نعوذ بالله من العمل في ما لا ينبغي للعاقل سلوكه. والله يهدي للتي هي أقوم.
الفصل السادس والثلاثون
في أن كثرة الاختصارات..
الموضوعة في العلوم مخلة بالتعليم(1/341)
ذهب كثير من المتأخرين إلى اختصار الطرق والانحاء في العلوم، يولعون بها ويدونون منها برنامجاً مختصراً في كل علم يشتمل على حصرمسأئله وأدلتها، باختصار في الألفاظ وحشو القليل منها بالمعاني الكثيرة من ذلك الفن. فصار ذلك مخلاً بالبلاغة وعسيراً على الفهم. وربما عمدوا إلى الكتب الأمهات المطولة في الفنون للتفسير والبيان، فاختصروها تقريباً للحفظ، كما فعله ابن الحاجب في الفقه وأصول الفقه وابن مالك في العربية والخونجي في المنطق وأمثالهم. وهو فساد في التعليم وفيه إخلال بالتحصيل، وذلك لأن فيه تخليطاً على المبتدىء بإلقاء الغايات من العلم عليه، وهو لم يستعد لقبولها بعد، وهو من سوء التعليم كما سيأتي. ثم فيه مع ذلك شغل كبير على المتعل بتتمع ألفاظ الاختصار العويصة للفهم بتزاحم المعاني عليها وصعوبة استخراج المسائل من بينها. لأن ألفاظ المختصرات نجدها لأجل ذلك صعبة عويصة، فينقطع في فهمها حظ صالح من الوقت ثم بعد ذلك كله فالملكة الحاصلة من التعليم في تلك المختصرات، إذا تم على سداده، ولم تعقبه آفة، فهي ملكة قاصرة عن الملكات التي تحصل من الموضوعات البسيطة المطولة لكثرة مايقع في تلك من التكرار والإحالة المفيدين لحصول الملكة التامة. وإذا اقتصر على التكرار قصرت الملكة لقلته كشأن هذه الموضوعات المختصرة فقصدوا إلى تسهيل الحفظ على المتعلمين، فأركبوهم صعباً يقطعهم عن تحصيل الملكات النافعة وتمكنها. " ومن يهدي الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له " . والله سبحانه وتعالى أعلم.
الفصل السابع والثلاثون
في وجه الصواب في تعليم العلوم
وطريق إفادته(1/342)
اعلم أن تلقين العلوم للمتعلمين إنما يكون مفيداً، إذا كان على التدريج، شيئاً فشيئاً وقليلاً قليلاً، يلقى عليه أولاً مسائل من كل باب من الفن هي أصول ذلك الباب. ويقرب له في شرحها على سبيل الإجمال ويراعى في ذلك قوة عقله واستعداده لقبول ما يورد عليه، حتى ينتهي إلي آخر الفن، وعند ذلك يحصل له ملكة في ذلك العلم، إلا أنها جزئية وضعيفة. وغايتها أنها هيأته لفهم الفن وتحصيل مسائله. ثم يرجع به إلى الفن ثانية، فيرفعه في التلقين عن تلك الرتبة إلى أعلى منها، ويستوفى الشرح والبيان، ويخرج عن الإجمال، ويذكر له ما هنالك من الخلاف ووجهه، إلى أن ينتهي إلى آخر الفن فتجود ملكته. ثم يرجع به وقد شدا فلا يترك عويصاً ولا مبهماً ولا منغلقاً إلا وضحه وفتح له مقفله، فيخلص من الفن وقد استولى على ملكته. هذا وجه التعليم المفيد وهو كما رأيت إنما يحصل في ثلاث تكرارات. وقد يحصل للبعض في أقل من ذلك بحسب ما يخلق له ويتيسر عليه. وقد شاهدنا كثيراً من المعلمين لهذا العهد الذي أدركنا يجهلون طرق التعليم وإفاداته، ويحضرون للمتعلم في أول تعليمه المسائل المقفلة من العلم، ويطالبونه بإحضار ذهنه في حلها، ويحسبون ذلك مراناً على التعليم وصواباً فيه، ويكلفونه رعي ذلك وتحصيله، فيخلطون عليه بما يلقون له من غايات الفنون في مبادئها، وقبل أن يستعد لفهمها، فإن قبول العلم والاستعدادات لفهمه تنشأ تدريجاً. ويكون المتعلم أول الأمر عاجزاً عن الفهم بالجملة، إلا في الأقل وعلى سبيل التقريب والإجمال وبالأمثال الحسية. ثم لا يزال الاستعداد فيه يتدرج قليلاً قليلاً، بمخالطة مسائل ذلك الفن وتكرارها عليه، والانتقال فيها من التقريب إلى الاستيعاب الذي فوقه، حتى تتم الملكة في الاستعداد، ثم في التحصيل ويحيط هو بمسائل الفن. وإذا ألقيت عليه الغايات في البدايات وهوحينئذ عاجز عن الفهم والوعي وبعيد عن الاستعداد له كل ذهنه عنها، وحسب ذلك من صعوبة العلم في نفسه، فتكاسل عنه وانحرف عن قبوله وتمادى في هجرانه. وإنما أتى ذلك من سوء التعليم. ولا ينبغي للمعلم أن يزيد متعلمه على فهم كتابه الذي أكب على التعليم منه بحسب طاقته، وعلى نسبة قبوله للتعليم مبتدئاً كان أو منتهياً، ولا يخلط مسائل الكتاب بغيرها حتى يعيه من أوله إلى آخره ويحصل أغراضه ويستولي منه على ملكة بها ينفذ في غيره. لأن المتعلم إذا حصل ملكة ما في علم من العلوم استعد بها لقبول ما بقي، وحصل له نشاط في طلب المزيد والنهوض إلى ما فوق، حتى يستولي على غايات العلم، وإذا خلط عليه الأمر عجزعن الفهم وأدركه الكلال وانطمس فكره ويئس من التحصيل، وهجر العلم والتعليم. والله يهدي من يشاء.
وكذلك ينبغي لك أن لا تطول على المتعلم في الفن الواحد والكتاب الواحد بتقطيع المجالس وتفريق ما بينها، لأنه ذريعة إلى النسيان وانقطاع مسائل الفن بعضها من بعض، فيعسر حصول الملكة بتفريقها. وإذا كانت أوائل العلم وأواخره حاضرة عند الفكرة مجانبة للنسيان، كانت الملكة أيسر حصولاً وأحكم ارتباطا وأقرب صبغة، لأن الملكات إنما تحصل بتتابع الفعل وتكراره، وإذا تنوسي الفعل توسيت الملكة الناشئة عنه. والله علمكم ما لم تكونوا تعلمون.
ومن المذاهب الجميلة والطرق الواجبة في التعليم أن لا يخلط على المتعلم علمان معاً، فإنه حينئذ قل أن يظفر بواحد منهما، لما فيه من تقسيم البال وانصرافه عن كل واحد منهما إلى تفهم الآخر، فيستغلقان معاً ويستصعبان، ويعود منهما بالخيبة. وإذا تفرغ الفكر لتعليم ما هو بسبيله مقتصراً عليه، فربما كان ذلك أجدر بتحصيله. والله سبحانه وتعالى الموفق للصواب.
الفكر الإنساني(1/343)
واعلم أيها المتعلم أني أتحفك بفائدة في تعلمك، فإن تلفيتها بالقبول وأمسكتها بيد الصناعة، ظفرت بكنز عظيم وذخيرة شريفة. وأقدم لك مقدمة تعينك في فهمها، وذلك أن الفكر الإنساني طبيعة مخصوصة، فطرها الله كما فطر سائر مبتدعاته، وهو وجدان حركة للنفس، في البطن الأوسط من الماغ. تارة يكون مبدءاً للأفعال الإنسانية على نظام وترتيب، وتارة يكون مبدءاً لعلم ما لم يكن حاصلاً بأن يتوجه إلى المطلوب. وقد يصور طرفيه ويروم نفيه أو إثباته، فيلوح له الوسط الذي يجمع بينهما، أسرع من لمح البصر إن كان واحداً. وينتقل إلى تحصيل وسط آخر إن كان متعدداً، ويصير إلى الظفر بمطلوبه. هذا شأن هذه الطبيعة الفكرية التي تميز بها البشرمن بين سائر الحيوانات.
ثم الصناعة المنطقية هي كيفية فعل هذه الطيعة الفكرية النظرية، تصفه ليعلم سداده من خطئه. لأنها وإن كان الصواب لها ذاتياً، إلا أنه قد يعرض لها الخطأ في الأقل من تصور الطرفين على غير صورتهما ومن اشتباه الهيئات في نظم القضايا وترتيبها للنتائج، فتعين المنطق على التخلص من ورطة هذا الفساد إذا عرض. فالمنطق، إذا، مر صناعي مساوق للطبيعة الفكرية ومنطبق على صورة فعلها، ولكونه أمراً صناعياً استغني عنه في الأكثر. ولذلك تجد كثيراً من فحول النظار في الخليقة يحصلون على المطالب في العلوم دون صناعة علم المنطق، ولا سيما مع صدق النية والتعرض لرحمة الله تعالى، فإن ذلك أعظم معنى. ويسلكون بالطبيعة الفكرية على سدادها، فتفضي بهم لطبع إلى حصول الوسط والعلم بالمطلوب كما فطرها الله عليه.
ثم من دون هذا الأمر الصناعي، الذي هو المنطق، مقدمة أخرى من التعليم وهي معرفة الألفاظ، ودلالتها على المعاني الذهنية تردها من مشافهة الرسوم بالكتاب ومشافهة اللسان بالخطاب. فلا بد أيها المتعلم من مجاوزتك هذه الحجب كلها إلى الفكر في مطلوبك.
فأولاً: دلالة الكتابة المرسومة على الألفاظ المقولة وهي أخفها، ثم دلالة الألفاظ المقولة على المعاني المطلوبة، ثم القوانين في ترتيب المعاني للاستدلال في قوالبها المعروفة في صناضة المنطق، ثم تلك المعاني مجردة في الفكر اشتراكاً يقتنص بها المطلوب بالطبيعة الفكرية بالتعرض لرحمة الله ومواهبه. وليس كل أحد يتجاوز هذه للمراتب بسرعة، ولا يقطع هذه الحجب في التعليم بسهولة ، بل ربما وقف الذهن في حجب الألفاظ بالمناقشات أو عثر في اشتراك الأدلة بشغب الجدال والشبهات، فقعد عن تحصيل المطلوب. ولم يكد يتخلص من تلك الغمرة إلا قليلاً ممن هداه الله.
فإذا ابتليت بمثل ذلك وعرض لك ارتباك في فهمك أوتشغيب بالشبهات في ذهنك، فاطرح ذلك وانتبذ حجب الألفاظ وعوائق الشبهات، واترك الأمر الصناعي جملة واخلص إلى فضاء الفكر الطبيعي الذي فطرت عليه. وسرح نظرك فيه وفرغ ذهنك فيه للغوص على مرامك منه، واضعاً قدمك حيث وضعها أكابر النظار قبلك، متعرضاً للفتح من الله، كما فتح عليهم من رحمته وعلمهم ما لم يكونوا يعلمون. فإذا فعلت ذلك أشرقت عليك أنوار الفتح من الله بالظفر بمطلوبك، وحصل الإمام الوسط الذي جعله الله من مقتضيات هذا الفكر وفطرك عليه كما قلناه. وحينئذ فارجع به إلى قوالب الأدلة وصورها، فأفرغه فيها ووفه حقه من القانون الصناعي، ثم اكسه صور الألفاظ وأبرزه إلى عالم الخطاب والمشافهة وثيق العرى صحيح البنيان.(1/344)
وأما إن وقفت عند المناقشة في الألفاظ والشبهة في الأدلة الصناعية وتمحيص صوابها من خطئها، وهذه أمور صناعية وضعية تستوي جهاتها المتعددة وتتشابه لأجل الوضع والاصطلاح، فلا تتميز جهة الحق منها، إذ جهة الحق إنما تستبين إذا كانت بالطبع، فيستمر ما حصل من الشك والارتياب، وتسدل الحجب على المطلوب وتقعد بالناظر عن تحصيله. وهذا شأن الأكثر من النظار والمتأخرين، سيما من سبقت له عجمة في لسانه، فربطت على ذهنه، أو من حصل له شغف بالقانون المنطقي وتعصب له، فاعتقد أنه الذريعة إلى إدراك الحق بالطبع، فيقع في الحيرة بين شبه الأدلة وشكوكها، ولا يكاد يخلص منها. والذريعة إلى إدرك الحق بالطبع إنما هو الفكر الطبيعي كما قلناه، إذا جرد عن جميع الأوهام وتعرض الناظر فيه إلى رحمة الله تعالى. وأما المنطق فإنما هو واصف لفعل هذا الفكر، فيساوقه لذلك في الأكثر. فاعتبر ذلك واستمطر رحمة الله تعالى، متى أعوزك فهم المسائل، تشرق عليك أنواره بالإلهام إلى الصواب. واللة الهادي إلى رحمته، وما العلم إلا من عند الله.
؟الفصل الثامن والثلاثون ؟في أن العلوم الآلية لا توسع فيها الأنظار ولا تفرع المسائل اعلم أن العلوم المتعارفة بين أهل العمران على صنفين: علوم مقصودة بالذات، كالشرعيات من التفسير والحديث والفقه وعلم الكلام، وكالطبيعيات والإلهيات من الفلسفة، وعلوم هي آلة ووسيلة لهذه العلوم، كالعربية والحساب وغيرهما للشرعيات، وكالمنطق للفلسفة. وربما كان آلة لعلم الكلام وأصول الفقه على طريقة المتأخرين. فأما العلوم التي هي مقاصد، فلا حرج في توسعة الكلام فيها، وتفريع المسائل واستكشاف الأدلة والأنظار، فإن ذلك يزيد طالبها تمكناً في ملكته وإيضاحاً لمعانيها المقصودة. وأما العلوم التي هي آلة لغيرها مثل العربية والمنطق وأمثالهما، فلا ينبغي أن ينظر فيها إلا من حيث هي آلة لذلك الغير فقط. ولا يوسع فيها الكلام ولا تفرع المسائل، لأن ذلك يخرج بها عن المقصود، إذ المقصود منها ما هي آلة له لا غير. فكلما خرجت عن ذلك خرجت عن المقصود وصار الاشتغال بها لغواً، مع ما فيه من صعوبة الحصول على ملكتها بطولها وكثرة فروعها. وربما يكون ذلك عائقاً عن تحصيل العلوم المقصودة بالذات لطول وسائلها، مع أن شأنها أهم، والعمر يقصر عن تحصيل الجميع على هذه الصورة، فيكون الاشتغال بهذه العلوم الآلية تضييعاً للعمر وشغلاً بما لا يغني.
وهذا كما فعله المتأخرون في صناعة النحو وصناعة المنطق، لا بل وأصول الفقه، لأنهم أوسعوا دائرة الكلام فيها نقلاً واستدلالاً وأكثروا من التفاريع والمسائل بما أخرجها عن كونها آلة وصيرها مقصودة بذاتها. وربما يقع فيها لذلك أنظار ومسائل لا حاجة بها في العلوم المقصودة بالذات فتكون لأجل ذلك من نوع اللغو، وهي أيضاً مضرة بالمتعلمين على الإطلاق، لأن المتعلمين اهتمامهم بالعلوم المقصودة أكثر من اهتمامهم بهذه الآلات والوسائل. فإذا قطعوا العمر في تحصيل الوسائل، فمتى يظفرون بالمقاصد، فلهذا يجب على المعلمين لهذه العلوم الآلية أن لا يستبحروا في شأنها ولا يستكثروا من مسائلها وينبهوا المتعلم على الغرض منها ويقفوا به عنده. فمن نزعت به همته بعد ذلك إلى شيء من التوغل، ورأى من نفسه قياماً بذلك وكفاية به فليختر لنفسه ما شاء من المراقي صعباً أو سهلاً. وكل ميسر لما خلق له.
الفصل التاسع والثلاثون
في تعليم الولدان
واختلاف مذاهب الأمصار الإسلامية في طرقه.(1/345)
اعلم أن تعليم الولدان للقرآن شعار من شعائر الدين، أخذ به أهل الملة ودرجوا عليه في جميع أمصارهم، لما يسبق فيه إلى القلوب من رسوخ الإيمان وعقائده من آيات القرآن وبعض متون الأحاديث. وصار القرآن أصل التعليم الذي ينبني عليه ما يحصل بعده من الملكات. وسبب ذلك أن تعليم الصغر أشد رسوخاً وهو أصل لما بعده، لأن السابق الأول للقلوب كالأساس للملكات. وعلى حسب الأساس وأساليبه يكون حال ما ينبني عليه. واختلفت طرقهم في تعليم القرآن للولدان، باختلافهم باعتبار ما ينشأ عن ذلك التعليم من الملكات. فأما أهل المغرب فمذهبهم في الولدان الاقتصار على تعليم القرآن فقط، وأخذهم أثناء المدارسة بالرسم ومسائله واختلاف حملة القرآن فيه، لا يخلطون ذلك بسواه في شيء من مجالس تعليمهم، لا من حديث ولا من فقه ولا من شعر ولا من كلام العرب، إلى أن يحذق فيه أو ينقطع دونه، فيكون انقطاعه في الغالب انقطاعاً عن العلم بالجملة.
وهذا مذهب أهل الأمصار بالمغرب ومن تبعهم من قرى البربر، أمم المغرب، في ولدانهم إلى أن يجاوزوا حد البلوغ إلى الشبيبة. وكذا في الكبير إذا راجع مدارسة القرآن بعد طائفة من عمره. فهم لذلك أقوم على رسم القرآن وحفظه من سواهم. وأما أهل الأندلس فمذهبهم تعليم القرآن والكتاب من حيث هو، وهذا هو الذي يراعونه في التعليم. إلا أنه لما كان القرآن أصل ذلك وأسه ومنبع الدين والعلوم جعلوه أصلاً في التعليم. فلا يقتصرون لذلك عليه فقط، بل يخلطون في تعليمهم للولدان رواية الشعر في الغالب والترسل، وأخذهم بقوانين العربية وحفظها وتجويد الخط والكتاب.
ولا تختص عنايتهم في التعليم بالقرآن دون هذه، بل عنايتهم فيه بالخط أكثر من جميعها، إلى أن يخرج الولد من عمر البلوغ إلى الشبيبة، وقد شدا بعض الشيء في العربية والشعر والبصر بهما، وبرز في الخط والكتاب وتعلق بأذيال العلم على الجملة، لو كان فيها سند لتعليم العلوم. لكنهم ينقطعون عند ذلك لانقطاع سند التعليم في آفاقهم، ولا يحصل بأيديهم إلا ما حصل من ذلك التعليم الأول. وفيه كفاية لمن أرشده الله تعالى واستعداد إذا وجد المعلم.
وأما أهل إفريقية فيخلطون في تعليمهم للولدان القرآن بالحديث في الغالب، ومدارسة قوانين العلوم وتلقين بعض مسائلها، إلا أن عنايتهم بالقرآن، واستظهار الولدان إياه، ووقوفهم على اختلاف رواياته وقراءاته أكثر مما سواه، وعنايتهم بالخط تبع لذلك. وبالجملة فطريقتهم في تعليم القرآن أقرب إلى طريقة أهل الأندلس، لأن سند طريقتهم في ذلك متصل بمشيخة الأندلس الذين أجازوا عند تغلب النصارى على شرق الأندلس، واستقروا بتونس، وعنهم أخذ ولدانهم بعد ذلك.
وأما أهل المشرق فيخلطون في التعليم كذلك على ما يبلغنا، ولا أدري بم عنايتهم منها. والذي ينقل لنا أن عنايتهم بدراسة القرآن وصحف العلم وقوانينه في زمن الشبيبة، ولا يخلطونه بتعليم الخط، بل لتعليم الخط عندهم قانون ومعلمون له على انفراده، كما تعلم سائر الصنائع، ولا يتداولونها في مكاتب الصبيان. وإذا كتبوا لهم الألواح فبخط قاصر عن الإجادة، ومن أراد تعلم الخط فعلى قدر ما يسنح له بعد ذلك من الهمة في طلبه، ويبتغيه من أهل صنعته.
فأما أهل إفريقية والمغرب، فأفادهم الاقتصار على القرآن القصور عن ملكة اللسان جملة، وذلك أن القرآن لا ينشأ عنه في الغالب ملكة لما أن البشر مصروفون عن الإتيان بمثله، فهم مصروفون لذلك عن الاستعمال على أساليبه والاحتذاء بها. وليس لهم ملكة في غير أساليبه، فلا يحصل لصاحبه ملكة فى اللسان العربي، وحظه الجمود في العبارات وقلة التصرف في الكلام وربما كان أهل إفريقية في ذلك أخف من أهل المغرب، لما يخلطون في تعليمهم القرآن بعبارات العلوم في قوانينها كما قلناه، فيقتدرون على شيء من التصرف ومحاذاة المثل بالمثل، إلا أن ملكتهم في ذلك قاصرة عن البلاغة، لما أن أكثر محفوظهم عبارات العلوم النازلة عن البلاغة كما سيأتي في فصله.(1/346)
وأما أهل الأندلس فأفادهم التفنن في التعليم وكثرة رواية الشعر والترسل وممارسة العربية من أول العمر، حصول ملكة صاروا بها أعرف في اللسان العربي. وقصروا في سائر العلوم، لبعدهم عن مدارسة القرآن والحديث الذي هو أصل العلوم وأساسها. فكانوا لذلك أهل خط وأدب بارع أو مقصر، على حسب ما يكون التعليم الثاني من بعد تعليم الصبا.
ولقد ذهب القاضي أبو بكر بن العربي في كتاب رحلته إلى طريقة غريبة في وجه التعليم، وأعاد في ذلك وأبدأ، وقدم تعليم العربية والشعر على سائر العلوم كما هو مذهب أهل الأندلس. قال: " لأن الشعر ديوان العرب ويدعو إلى تقديمه وتقديم العربية في التعليم ضرورة، فساداً للغة، ثم ينتقل منه إلى الحساب فيتمرن فيه حتى يرى القوانين، ثم ينتقل إلى درس القرآن، فإنه يتيسر عليه بهذه المقدمة " ثم قال: " ويا غفلة أهل بلادنا في أن يؤخذ الصبي بكتاب الله في أول عمره، يقرأ ما لا يفهم وينصب في أمر، غيره أهم عليه منه " . قال: " ثم ينظر في أصول الدين ثم أصول الفقه ثم الجدل ثم الحديث وعلومه " . ونهى مع ذلك أن يخلط في التعليم علمان، إلا أن يكون المتعلم قابلاً لذلك بجودة الفهم والنشاط. هذا ما أشار إليه القاضي، أبو بكر رحمه الله، وهو لعمري مذهب حسن، إلا أن العوائد لا تساعد عليه وهي أملك بالأحوال ووجه ما اختصت به العوائد، من تقديم دراسة القرآن، إيثاراً للتبرك أو الثواب، وخشية ما يعرض للولد في جنون الصبا من الآفات والقواطع عن العلم ، فيفوته القرآن، لأنه ما دام في الحجر منقاد للحكم. فإذا تجاوز البلوغ وانحل من ربقة القهر، فربما عصفت به رياح الشبيبة، فألقته بساحل البطالة، فيغتنمون في زمان الحجر وربقة الحكم تحصيل القرآن له لئلا يذهب خلواً منه. ولو حصل اليقين باستمراره في طلب العلم، وقبوله التعليم، لكان هذا المذهب الذي ذكره القاضي أولى ما أخذ به أهل المغزب والمشرق. ولكن الله يحكم ما يشاء، لا معقب لحكمه سبحانه.
الفصل الأربعون
في أن الشدة على المتعلمين مضرة بهم
وذلك أن إرهاف الحد في التعليم مضمر بالمتعلم، سيما في أصاغر الولد، لأنه من سوء الملكة. ومن كان مرباه بالعسف والقهر من المتعلميبن أو المماليك أو الخدم، سطا به القهر وضيق على النفس في انبساطها، وذهب بنشاطها ودعاه إلى الكسل وحمل على الكذب والخبث، وهو التظاهر بغير ما في ضميره، خوفاً من انبساط الأيدي بالقهر عليه، وعلمه المكر والخديعة لذلك، وصارت له هذه عادة وخلقاً، وفسدت معاني الإنسانية التي له من حيث الاجتماع والتمدن، وهي الحمية والمدافعة عن نفسه أو منزله.
وصار عيالاً على غيره في ذلك، بل وكسلت النفس عن اكتساب الفضائل والخلق الجميل، فانقبضت عن غايتها ومدى انسانيتها، فارتكس وعاد في أسفل السافلين. وهكذا وقع لكل أمة حصلت في قبضة القهر ونال منها العسف، واعتبره في كل من يملك أمرة عليه. ولا تكون الملكة الكافلة له رفيقة به. وتجد ذلك فيهم استقراء. وانظره في اليهود وما حصل بذلك فيهم من خلق السوء حتى إنهم يوصفون في كل أفق وعصر بالخرج، ومعناه في الاصطلاح المشهور التخابث والكيد، وسببه ما قلناه. فينبغي للمعلم في متعلمه والوالد في ولده أن لا يستبدوا عليهم في التأديب. وقد قال محمد بن أبي زيد في كتابه، الذي ألفه في حكم المعلمين والمتعلمين: " لا ينبغي لمؤدب الصبيان أن يزيد في ضربهم إذا احتاجوا إليه على ثلاثة أسواط شيئاً " . ومن كلام عمر رضي الله عنه: " من لم يؤدبه الشرع لا أدبه الله " . حرصاً على صون النفوس عن مذلة التأديب، وعلماً بأن المقدار الذي عينه الشرع لذلك أملك له، فإنه أعلم بمصلحته.(1/347)
ومن أحسن مذاهب التعليم، ما تقدم به الرشيد لمعلم ولده. قال خلف الأحمر: بعث إلي الرشيد في تأديب ولده محمد الأمين فقال: " يا أحمر إن أمير المؤمنين قد دفع إليك مهجة نفسه وثمرة قلبه، فصير يدك عليه مبسوطة وطاعته لك واجبة، فكن له بحيث وضعك أمير المؤمنين. أقرئه القرآن وعلمه الأخبار وروه الأشعار وعلمه السنن، وبصره بمواقع الكلام وبدئه وامنعه من الضحك إلا في أوقاته، وخذه بتعظيم مشايخ بني هاشم، إذا دخلوا عليه، ورفع مجالس القواد، إذا حضروا مجلسه. ولا تمرن بك ساعة إلا وأنت مغتنم فائدة تفيده إياها من غير أن تحزنه، فتميت ذهنه. ولا تمعن في مسامحته، فيستحلي الفراغ ويألفه. وقومه ما استطعت بالقرب والملاينة، فإن أباهما فعليك بالشدة والغلظة. انتهى " .
الفصل الحادي والأربعون
في أن الرحلة في طلب العلوم..
ولقاء المشيخة مزيد كمال في التعليم والسبب في ذلك أن البشر يأخذون معارفهم وأخلاقهم وما ينتحلونه به من المذاهب والفضائل: تارة علماً وتعليماً وإلقاءً، وتارة محاكاة وتلقيناً بالمباشرة. إلا أن حصول الملكات عن المباشرة والتلقين أشد استحكاماً وأقوى رسوخاً. فعلى قدر كثرة الشيوخ يكون حصول الملكات ورسوخها. والاصطلاحات أيضاً في تعليم العلوم مخلطة على المتعلم، حتى لقد يظن كثير منهم أنها جزء من العلم. ولا يدفع عنه ذلك إلا مباشرته لاختلاف الطرق فيها من المعلمين. فلقاء أهل العلوم، وتعدد المشايخ، يفيده تمييز الاصطلاحات، بما يراه من اختلاف طرقهم فيها، فيجرد العلم عنها ويعلم أنها أنحاء تعليم وطرق توصيل. وتنهض قواه إلى الرسوخ والاستحكام في الملكات. ويصحح معارفه ويميزها عن سواها مع تقوية ملكته بالمباشرة والتلقين وكثرتهما من المشيخة عند تعددهم وتنوعهم. وهذا لمن يسر الله عليه طرق العلم والهداية. فالرحلة لا بد منها في طلب العلم، لاكتساب الفوائد والكمال بلقاء المشايخ ومباشرة الرجال. والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.
الفصل الثاني والأربعون
في أن العلماء من بين البشر..
أبعد عن السياسة ومذاهبها والسبب في ذلك أنهم معتادون النظم الفكري والغوص على المعاني، وانتزاعها من المحسوسات وتجريدها في الذهن، أموراً كلية عامة، ليحكم عليها بأمر على العموم، لا بخصوص مادة ولا شخص ولا جيل ولا آفة ولا صنف من الناس. ويطبقون من بعد ذلك الكلي على الخارجيات. وأيضاً يقيسون الأمور على أشباهها وأمثالها، بما اعتادوه من القياس الفقهي. فلا تزال أحكامهم وأنظارهم كلها في الذهن، ولا تصير إلى المطابقة إلا بعد الفراغ من البحث والنظر. أو لا تصير بالجملة إلى مطابقة، وإنما يتفرع ما في الخارج عما في الذهن من ذلك، كالأحكام الشرعية، فإنها فروع عما في المحفوظ من أدلة الكتاب والسنة، فتطلب مطابقة ما في الخارج لها، عكس الأنظار في العلوم العقلية، التي يطلب في صحتها مطابقتها لما في الخارج. فهم متعودون في سائر أنظارهم الأمور الذهنية والأنظار الفكرية لا يعرفون سواها. والسياسة يحتاج صاحبها إلى مراعاة ما في الخارج وما يلحقها من الأحوال ويتبعها، فإنها خفية. ولعل أن يكون فيها ما يمنع من إلحاقها بشبه أو مثال، وينافي الكلي الذي يحاول تطبيقه عليها.
ولا يقاس شيء من أحوال العمران على الآخر، إذ كما اشتبها في أمر واحد، فلعلهما اختلفا في أمور، فتكون العلماء، لأجل ما تعودوه من تعميم الأحكام وقياس الأمور بعضها على بعض، إذا نظروا في السياسة، أفرغوا ذلك في قالب أنظارهم ونوع استدلالاتهم فيقعون في الغلط كثيراً ولا يؤمن عليهم. ويلحق بهم أهل الذكاء والكيس من أهل العمران، لأنهم ينزعون بثقوب أذهانهم، إلى مثل شأن الفقهاء، من الغوص على المعاني والقياس والمحاكاة فيقعون في الغلط. والعامي السليم الطبع المتوسط الكيس، لقصور فكره عن ذلك وعدم اعتياده إياه يقتصر لكل مادة على حكمها، وفي كل صنف من الأحوال والأشخاص على ما اختص به، ولا يعدي الحكم بقياس ولا تعميم، ولا يفارق في أكثر نظره المواد المحسوسة ولا يجاوزها في ذهنه، كالسابح لا يفارق البر عند الموج .قال الشاعر:
فلا توغلن إذا ماسبحت ... فإن السلامة في الساحل(1/348)
فيكون مأموناً من النظر في سياسته، مستقيم النظر في معاملة أبناء جنسه، فيحسن معاشه وتندفع آفاقه ومضاره، باستقامة نظره. وفوق كل ذي علم عليم. ومن هنا يتبين أن صناعة المنطق غير مألوفة الغلط، لكثرة ما فيها من الانتزاع، وبعدها عن المحسوس، فإنها نظر في المعقولات الثواني. ولعل المواد فيها ما يمانع تلك الأحكام وينافيها عند مراعاة التطبيق اليقيني. وأما النظر في المعقولات الأول، وهي التي تجريدها قريب، فليس كذلك، لإنها خيالية، وصور المحسوسات. حافظة مؤذنة بتصديق انطباقه. والله سبحانه وتعالى أعلم وبه التوفيق.
الفصل الثالث والأربعون
في أن حملة العلم في الإسلام أكثرهم العجم
من الغريب الواقع أن حملة العلم في الملة الإسلامية أكثرهم العجم، وليس في العرب حملة علم، لا في العلوم الشرعية ولا في العلوم العقلية، إلا في القليل النادر. وإن كان منهم العربي في نسبه، فهو أعجمي في لغته ومرباه ومشيخته، مع أن الملة عربية، وصاحب شريعتها عربي. والسبب في ذلك أن الملة في أولها لم يكن فيها علم ولا صناعة، لمقتضى أحوال السذاجة والبداوة، وإنما أحكام الشريعة التي هي أوامر الله ونواهيه، كان الرجال ينقلونها في صدورهم، وقد عرفوا مأخذها من الكتاب والسنة، بما تلقوة من صاحب الشرع وأصحابه. والقوم يرمئذ عرب لم يعرفوا أمر التعليم والتآليف والتدوين، ولا دفعوا إليه ولا دعتهم إليه الحاجة.
وجرى الأمر على ذلك زمن الصحاية والتابعين وكانوا يسموق المختصين بحمل ذلك. ونقله القراء أي الذين يقرأون الكتاب وليسوا أميين، لأن الأمية يومئذ صفة عامة في الصحابة بما كانوا عرباً، فقيل لحملة القرآن يومئذ قراء، إشارة إلى هذا. فهم قراء لكتاب الله والسنة المأثورة عن الله، لأنهم لم يعرفوا الأحكام الشرعية إلا منه. ومن الحديث، الذي هو في غالب موارده تفسير له وشرح قال صلى الله عليه وسلم: " تركت فيكم أمرين لن تضلوا ما تمسكتم بهما: كتاب الله وسنتي " . فلما، بعد النقل من لدن دولة الرشيد فما بعد احتيج إلى وضع التفاسير القرآنية، وتقييد الحديث مخافه ضياعه، ثم احتيج إلى معرفة الأسانيد وتعديل الناقلين للتمييز بين الصحيح من الأسانيد وما دونه، ثم كثر استخراج أحكام الوقائع من الكتاب والسنة وفسد مع ذلك اللسان، فاحتيج إلى وضع القوانين النحوية، وصارت العلوم الشرعية كلها ملكات في الاستنباط والاستخراج والتنظير والقياس، واحتاجت إلى علوم أخرى هي وسائل لها: من معرفة قوانين العربيه وقوانين ذلك الاستنباط والقياس والذب عن العقائد الإيمانية بالأدلة لكثرة البدع والإلحاد، فصارت هذه العلوم كلها علوماً ذات ملكات محتاجة إلى التعليم، فاندرجت في جملة الصنائع.
وقد كنا قدمنا أن الصنائع من منتحل الحضر، وأن العرب أبعد الناس عنها، فصارت العلوم لذلك حضرية وبعد العرب عنها وعن سوقها. والحضر لذلك العهد هم العجم أو من في معناهم من الموالي وأهل الحواضر، الذين هم يومئذ تبع للعجم في الحضارة وأحوالها من الصنائع والحرف، لإنهم أقوم على ذلك للحضارة الراسخة فيهم منذ دولة الفرس، فكان صاحب صناعة النحو سيبويه والفارسي من بعده والزجاج من بعدهما، وكلهم عجم في أنسابهم. وإنما ربوا في اللسان العربي، فاكتسبوه بالمربى ومخالطة العرب، وصيروه قوانين وفناً لمن بعدهم.
وكذا حملة الحديث الذين حفظوه على أهل الإسلام أكثرهم عجم أو مستعجمون باللغة والمربى لاتساع الفن بالعراق.
وكان علماء أصول الفقه كلهم عجماً كما يعرف، وكذا حملة علم الكلام وكذا أكثر المفسرين. ولم يقم بحفظ العلم وتدوييه إلا الأعاجم. وظهر مصداق قوله صلى الله عليه وسلم: " لو تعلق العلم بأكناف السماء، لناله قوم من أهل فارس " .(1/349)
وأما العرب الذين أدركوا هذه الحضارة وسوقها وخرجوا إليها عن البداوة فشغلتهم الرياسة في الدولة العباسية وما دفعوا إليه من القيام بالملك عن القيام بالعلم، والنظر فيه، فإنهم كانوا أهل الدولة وحاميتها وأولي سياستها، مع ما يلحقهم من الأنفة عن انتحال العلم حينئذ بما صار من جملة الصنائع. والرؤساء ابداً يستنكفون عن الصنائع والمهن، وما يجر إليها، ودفعوا ذلك إلى من قام به من العجم والمولدين. وما زالوا يرون لهم حق القيام به، فإنه دينهم وعلومهم، ولا يحتقرون حملتها كل الاحتقار. حتى إذا خرج الأمر من العرب جملة وصار للعجم، صارت العلوم الشرعية غريبة النسبة عند أهل الملك، بما هم عليه من البعد عن نسبتها، وامتهن حملتها بما يرون أنهم بعداء عنهم مشتغلين بما لا يغني ولا يجدي عليهم، في الملك والسياسة كما ذكرناه في فصل المراتب الدينية. فهذا الذي قررناه هو السبب في أن حملة الشريعة أو عامتهم من العجم.
وأما العلوم العقلية أيضاً فلم تظهر في الملة إلا بعد أن تميز حملة العلم ومؤلفوه.
واستقر العلم كله صناعة، فاختصت بالعجم وتركها العرب، وانصرفوا عن انتحالها، فلم يحملها إلا المعربون من العجم، شأن الصنائع كما قلناه أولاً. فلم يزل ذلك في الأمصار الإسلامية ما دامت الحضارة في العجم وببلادهم من العراق وخراسان وما وراء النهر. فلما خربت تلك الأمصار وذهبت منها الحضارة، التي هي سر الله في حصول العلم والصنائع، ذهب العلم من العجم جملة لما شملهم من البداوة. واختص العلم ألامصار الموفورة الحضارة. ولا أوفر اليوم في الحضارة من مصر فهي أم العالم وإيوان الإسلام وينبوع العلم والصنائع. وبقي بعض الحضارة فيما وراء النهر، لما هناك من حضارة بالدولة التي فيها، فلهم بذلك حصة من العلوم والصنائع لا تنكر. وقد دلنا إلى ذلك كلام بعض علمائهم في تآليف، وصلت إلينا إلى هذه البلاد، وهو سعد الدين التفتازاني. وأما غيره من العجم، فلم نر لهم، من بعد الإمام ابن الخطيب ونصير الدين طوسي كلاماً يعول على نهايته في الإصابة. فاعتبر ذلك وتأمله تر عجباً في أحوال الخليقة. والله يخلق ما يشاء لا إله إلا هو وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، وحسبنا الله ونعم الوكيل والحمد لله.
الفصل الرابع والأربعون
في أن العجمة إذا سبقت إلى اللسان
قصرت بصاحبها في تحصيل العلوم عن أهل اللسان العربي(1/350)
والسر في ذلك أن مباحث العلوم كلها إنما هي في المعاني الذهنية والخيالية، من بين العلوم الشرعية، التى هي أكثر مباحثها في الألفاظ وموادها من الأحكام المتلقاة من الكتاب والسنة ولغاتها المؤدية لها، وهي كلها في الخيال، وبين العلوم العقلية، وهي في الذهن. واللغات إنما هي ترجمان عما في الضمائر من تلك المعاني، يؤديها بعض إلى بعض بالمشافهة في المناظرة والتعليم، وممارسة البحث بالعلوم لتحصيل ملكتها بطول المران على ذلك. والألفاظ واللغات وسائط وحجب بين الضمائر، وروابط وختام عن المعاني. ولا بد في اقتناص تلك المعاني من ألفاظها لمعرفة دلالاتها اللغوية عليها، وجودة الملكة لناظر فيها، وإلا فيعتاص عليه اقتناصها زيادة على ما يكون في مباحثها الذهنية من الاعتياص. وإذا كانت ملكته في تلك الدلالات راسخة، بحيث يتبادر المعاني إلى ذهنه من تلك الألفاظ عند استعمالها، شأن البديهي والجبلي، زال، ذاك الحجاب بالجملة بين المعاني والفهم، أو خف، ولم يبق إلا معاناة ما في المعاني من المباحث فقط. هذا كله إذا كان التعليم تلقيناً وبالخطاب والعبارة. وأما إن احتاج المتعلم إلى الدراسة والتقييد بالكتاب ومشافهة الرسوم الخطية من الدواوين بمسائل العلوم، كان هنالك حجاب آخر بين الخط ورسومه في الكتاب، وبين الألفاظ المقولة في الخيال. لأن رسوم الكتابة لها دلالة خاصة على الألفاظ المقولة. وما لم تعرف تلك الدلالة تعذرت معرفة العبارة، وإن عرف بملكة قاصرة كانت معرفتها أيضاً قاصرة، ويزداد على الناظر والمتعلم بذلك حجاب آخر بينه وبين مطلوبه، من تحصيل ملكات العلوم أعوص من الحجاب الأول. وإذا كانت ملكته في الدلالة اللفظية والخطية مستحكمه ارتفعت الحجب بينه وبين المعاني. وصار إنما يعاني فهم مباحثها فقط. هذا شأن المعاني مع الألفاظ والخط بالنسبة إلى كل لغة. والمتعلمون لذلك في الصغر أشد استحكاماً لملكاتهم. ثم إن الملة الإسلامية لما اتسع ملكها واندرجت الأمم في طيها ودرست علوم الأولين بنبوتها وكتابها، وكانت أمية النزعة والشعار، فأخذ الملك والعزة وسخرية الأمم لهم بالحضارة والتهذيب وصيروا علومهم الشرعية صناعة، بعد أن كانت نقلاً فحدثت فيهم الملكات، وكثرت الدواوين والتآليف، وتشوفوا إلى علوم الأمم .فنقلوها بالترجمة إلى علومهم وأفرغوها في قالب أنظارهم، وجردوها من تلك اللغات الأعجمية إلى لسانهم وأربوا فيها على مداركهم، وبقيت تلك الدفاتر التي بلغتهم الأعجمية نسياً منسياً وطللاً مهجوراً وهباء منثوراً. وأصبحت العلوم كلها بلغة العرب، ودواوينها المسطرة بخطهم، واحتاج القائمون بالعلوم إلى معرفة الدلالات اللفظية والخطية في لسانهم دون ما سواه من الألسن، لدروسها وذهاب العناية بها. وقد تقدم لنا أن اللغة ملكة في اللسان، وكذا الخط صناعة ملكتها في اليد، قإذا تقدمت في اللسان ملكة العجمة، صار مقصراً في اللغة العربية، لما قدمناه من أن الملكة إذا تقدمت في صناعة بمحل، فقل أن يجيد صاحبها ملكة في صناعه أخرى، وهو ظاهر. وإذا كان مقصراً في اللغة العربية ودلالاتها اللفظية والخطية اعتاص عليه فهم المعاني منها كما مر. إلا أن تكون ملكة العجمة السابقة لم تستحكم حين انتقل منها إلى العربية، كأصاغر أبناء العجم الذين يربون مع العرب قبل أن تستحكم عجمتهم، فتكون اللغة العربية كأنها السابقة لهم، ولا ايكون عندهم تقصير في فهم المعاني من العربية. وكذا أيضاً شأن من سبق له تعلم الخط الأعجمي قبل العربي. ولهذا نجد الكثير من علماء الأعاجم في دروسهم ومجالس تعليمهم يعدلون عن نقل التقاسير من الكتب إلى قراءتها ظاهراً يخففون بذلك عن أنفسهم مؤونة بعض الحجب ليقرب عليهم تناول المعاني. وصاحب الملكة في العبارة والخط مستغن عن ذلك، بتمام ملكته، وإنه صار له فهم الأقوال من الخط، والمعاني من الأقوال، كالجبلة الراسخة، وارتفعت الححب بينه وبين المعاني. وربما يكون الدؤوب على التعليم والمران على اللغة، وممارسة الخط يفضيان بصاحبهما إلى تمكن الملكة، كما نجده في الكثير من علماء الأعاجم، إلا أنه في النادر. وإذا قرن بنظيره من علماء العرب وأهل طبقته منهم، كان باع العربي أطول وملكته أقوى، لما عند المستعجم من الفتور بالعجمه السابقة التي يؤثر القصور بالضرورة ولا يعترض ذلك بما تقدم بأن(1/351)
علماء الإسلام أكثرهم العجم، لأن المراد بالعجم هنالك عجم النسب لتداول الحضارة فيهم التي قررنا أنها سبب لانتحال الصنائع والملكات ومن جملتها العلوم. وأما عجمة اللغة فليست من ذلك، وهي المرادة هنا. ولا يعترض ذلك أيضاً مما كان لليونانيين في علومهم من رسوخ القدم فإنهم إنما تعلموها من لغتهم السابقة لهم وخطهم المتعارف بينهم. والأعجمي المتعلم للعلم في الملة الإسلامية يأخذ العلم بغير لسانه الذي سبق إليه، ومن غير خطه الذي يعرف ملكته. فلهذا يكون له ذلك حجاباً كما قلناه. وهذا عام في جميح أصناف أهل اللسان الأعجمي من الفرس والروم والترك والبربر والفرنج، وسائر من ليس من أهل اللسان العربي. وفي ذلك آيات للمتوسمين.لماء الإسلام أكثرهم العجم، لأن المراد بالعجم هنالك عجم النسب لتداول الحضارة فيهم التي قررنا أنها سبب لانتحال الصنائع والملكات ومن جملتها العلوم. وأما عجمة اللغة فليست من ذلك، وهي المرادة هنا. ولا يعترض ذلك أيضاً مما كان لليونانيين في علومهم من رسوخ القدم فإنهم إنما تعلموها من لغتهم السابقة لهم وخطهم المتعارف بينهم. والأعجمي المتعلم للعلم في الملة الإسلامية يأخذ العلم بغير لسانه الذي سبق إليه، ومن غير خطه الذي يعرف ملكته. فلهذا يكون له ذلك حجاباً كما قلناه. وهذا عام في جميح أصناف أهل اللسان الأعجمي من الفرس والروم والترك والبربر والفرنج، وسائر من ليس من أهل اللسان العربي. وفي ذلك آيات للمتوسمين.
الفصل الخامس والأربعون
في علوم اللسان العربي
أركانه أربعة: وهي اللغة والنحو والبيان والأدب. ومعرفتها ضرورية على أهل الشريعة، إذ مأخذ الأحكام الشرعية كلها من الكتاب والسنة، وهي بلغة العرب ونقلتها من الصحابة والتابعين عرب، وشرح مشكلاتها من لغتهم، فلا بد من معرفة العلوم المتعلقة بهذا اللسان لمن أراد علم الشريعة. وتتفاوت قي التأكيد بتفاوت مراتبها في التوفية بمقصود الكلام، حسبما يتبين في الكلام عليها فناً فناً. والذي يتحصل أن الأهم المقدم منها هو النحو، إذ به يتبين أصول المقاصد بالدلالة فيعرف الفاعل من المفعول والمبتدأ من الخبر، ولولاه لجهل أصل الإفادة. وكان من حق علم اللغة التقدم، لولا ان أكثر الأوضاع باقية في موضوعاتها، لم تتغير بخلاف الإعراب الدال على الإسناد والمسند والمسند إليه، فإنه تغير بالجملة ولم يبق له أثر. فلذلك كان علم النحو أهم من اللغة، إذ في جهله الإخلال بالتفاهم جملة، وليست كذلك اللغة. واللة سبحانه وتعالى أعلم وبه التوفيق.
علم النحو
اعلم أن اللغة في المتعارف هي عبارة المتكلم عن مقصوده. وتلك العبارة فعل لساني ناشئ، عن القصد بإفادة الكلام، فلابد أن تصير ملكة متقررة في العضو الفاعل لها، وهو اللسان. وهو في كل أمة بحسب اصطلاحاتهم. وكانت الملكة الحاصلة للعرب من ذلك أحسن الملكات وأوضحها إبانة عن المقاصد، لدلالة غير الكلمات فيها على كثير من المعاني. مثل الحركات التي تعين الفاعل من المفعول من المجرور أعني المضاف، ومثل الحروف التي تفضي بالأفعال أي الحركات إلى الذوات من غير تكلف ألفاظ أخرى. وليس يوجد ذلك إلا في لغة العرب. وأما غيرها من اللغات فكل معنى أو حال لا بد له من ألفاظ تخصه بالدلالة، ولذلك نجد كلام العجم في مخاطباتهم أطول مما نقدره بكلام العرب. وهذا هو معنى قوله صلى الله عليه وسلم: " أوتيت جوامع الكلم واختصر لي الكلام اختصاراً " . فصار للحروف في لغتهم والحركات والهيآت، أي الأوضاع، اعتبار في الدلالة على المقصود غير متكلفين فيه لصناعة يستفيدون ذلك منها. إنما هي ملكة في ألسنتهم يأخذها الآخر عن الأول كما تأخذ صبياننا لهذا العهد لغاتنا.(1/352)
فلما جاء الإسلام وفارقوا الحجاز لطلب الملك، الذي كان في أيدي الأمم والدول، وخالطوا العجم، تغيرت تلك الملكة بما ألقى إليها السمع من المخالفات التي للمتعربين من العجم. والسمع أبو الملكات اللسانية، ففسدت بما ألقي إليها مما يغايرها، لجنوحها إليه باعتياد السمع. وخشي أهل العلوم منهم أن تفسد تلك الملكة رأساً ويطول العهد بها، فينغلق القرآن والحديث على المفهوم ، فاستنبطوا من مجاري كلامهم قوانين لتلك الملكة مطردة، شبه الكليات والقواعد، يقيسون عليها سائر أنواع الكلام ويلحقون الأشباه بالأشباه. مثل أن الفاعل مرفوع والمفعول منصوب، والمبتدأ مرفوع. ثم رأوا تغير الدلالة بتغير حركات هذه الكلمات، فاصطلحوا على تسميته إعراباً، وتسمية الموجب لذلك التغير عاملاً وأمثال ذلك. وصارت كلها اصطلاحات خاصة بهم، فقيدوها بالكتاب وجعلوها صناعة لهم مخصوصة، واصطلحوا على تسميتها بعلم النحو. وأول من كتب فيها أبو الأسود الدؤلي من بني كنانة، ويقال بإشارة علي رضي الله عنه، لأنه رأى تغير الملكة، فأشار عليه بحفظها، ففزع إلى ضبطها بالقوانين الحاضرة المستقرأة، ثم كتب فيها الناس من بعده إلى أن انتهت إلى الخليل بن أحمد الفراهيدي أيام الرشيد، أحوج ما كان الناس إليها، لذهاب تلك الملكة من العرب. فهذب الصناعة وكمل أبوابها. وأخذها عنه سيبويه، فكمل تفاريعها واستكثر من أدلتها وشواهدها، ووضع فيها كتابه المشهور، الذي صار إماماً لكل ما كتب فيها من بعده. ثم وضع أبو علي الفارسي وأبو القاسم الزجاج كتباً مختصرة للمتعلمين، يحذون فيها حذو الإمام في كتابه.
ثم طال الكلام في هذه الصناعة وحدث الخلاف بين أهلها، في الكوفة والبصرة: المصرين القديمين للعرب. وكثرت الأدلة والحجاج بينهم، وتباينت الطرق في التعليم، وكثر الاختلاف في إعراب كثير من آي القرآن، باختلافهم في تلك القواعد، وطال ذلك على المتعلمين. وجاء المتأخرون بمذاهبهم في الاختصار، فاختصروا كثيراً من ذلك الطول مع استيعابهم لجميع ما نقل، كما فعله ابن مالك في كتاب التسهيل وأمثاله، أو اقتصارهم على المبادىء للمتعلمين، كما فعله الزمخشري في المفصل وابن الحاجب في المقدمة له. وربما نظموا ذلك نظماً مثل ابن مالك في الأرجوزتين الكبرى والصغرى، وابن معطي في الأرجوزة الألفية. وبالجملة فالتآليف في هذا الفن أكثر من أن تحصى أو يحاط بها، وطرق التعليم فيها مختلفة، فطريقة المتقدمين مغايرة لطريقة المتأخرين. والكوفيون والبصريون والبغداديون والأندلسيون مختلفة طرقهم كذلك.
وقد كادت هذه الصناعة أن تؤذن بالذهاب لما رأينا من النقص في سائر العلوم والصنائع بتناقص العمران، ووصل إلينا بالمغرب لهذه العصور ديوان من مصر، منسوب إلى جمال الدين ابن هشام من علمائها، استوفى فيه أحكام الإعراب مجملة ومفصلة. وتكلم على الحروف والمفردات والجمل، وحذف ما في الصناعة من المتكرر في أكثر أبوابها وسماه بالمغني في الإعراب. وأشار إلى نكت إعراب القرآن كلها وضبطها بأبواب وفصول وقواعد انتظمت سائرها، فوقفنا منه على علم جم يشهد بعلو قدره في هذه الصناعة ووفور بضاعته منها، وكأنه ينحو في طريقته منحى نحاة أهل الموصل، الذين أقتفوا آثر ابن جني واتبعوا مصطلح تعليمه، فأتى من ذلك بشيء عجيب دال على قوة ملكته واطلاعه. والله يزيد في الخلق ما يشاء
علم اللغة
هذا العلم هو بيان الموضوعات اللغوية. وذلك أنه لما فسدت ملكة اللسان العربي، في الحركات المسماة عند أهل النحو بالإعراب، واستنبطت القوانين لحفظها كما قلناه. ثم استمر ذلك الفساد بملابسة العجم ومخالطتهم، حتى تأذى الفساد إلى موضوعات الألفاظ، فاستعمل كثير من كلام العرب في غير موضوعه عندهم، ميلاً مع هجنة المتعربين في اصطلاحاتهم المخالفة لصريح العربية، فاحتيج إلى حفظ الموضوعات اللغوية بالكتاب والتدوين، خشية الدروس وما ينشأ عنه من الجهل بالقرآن والحديث، فشمر كثير من أئمة اللسان لذلك وأملوا فيه الدواوين. وكان سابق الحلبة في ذلك الخليل بن أحمد الفراهيدي. ألف فيها كتاب العين، فحصر فيه مركبات حروف المعجم كلها، من الثنائي والثلاثي والرباعي والخماسي، وهو غاية ما ينتهي إليه التركيب في اللسان العربي.(1/353)
وتأتى له حصر ذلك بوجوه عديدة حاصرة، وذلك أن جملة الكلمات الثنائية تخرج من جميع الأعداد على التوالي من واحد إلى سبعة وعشرين، وهو دون نهاية حروف المعجم بواحد. لأن الحرف الواحد منها يؤخذ مع كل واحد من السبعة والعشرين، فتكون سبعة وعشرين كلمة ثنائية. ثم يؤخذ الثاني مع الستة والعشرين كذلك. ثم الثالث والرابع. ثم يؤخذ السابع والعشرون مع الثامن والعشرين، فيكون واحداً، فتكون كلها أعداداً على توالي الأعداد من واحد إلى سبعة وعشرين، فتجمع كما هي بالعمل المعروف عند أهل الحساب وهو أن تجمع الأول مع الاخير وتضرب المجموع في نصف العدة. ثم تضاعف، لأجل قلب الثنائي، لأن التقديم والتأخير بين الحروف معتبر في التركيب، فيكون الخارج جملة الثنائيات.
وتخرج الثلاثيات من ضرب عدد الثنائيات فيما يجتمع من واحد إلى ستة وعشرين على توالي العدد، لأن كل ثنائية تزيد عليها حرفاً، فتكون ثلاثية. فتكون الثنائية بمنزلة الحرف الواحد مع كل واحد من الحروف الباقية، وهي ستة وعشرون حرفاً، بعد الثنائية، فتجمع من واحد إلى ستة وعشرين على توالي العدد، ويضرب فيه جملة الثنائيات ثم تضرب الخارج في ستة، جملة مقلوبات الكلمة الثلاثية، فيخرج مجموع تركيبها من حروف المعجم. وكذلك في الرباعي والخماسي. فانحصرت له التراكيب بهذا الوجه، ورتب أبوابه على حروف المعجم بالترتيب المتعارف. واعتمد فيه ترتيب المخارج، فبدأ بحروف الحلق، ثم ما بعده من حروف الحنك ثم الأضراس، ثم الشفة، وجعل حروف العلة آخراً، وهي الحروف الهوائية. وبدأ من حروف الحلق بالعين، لأنه الأقصى منها. فلذلك سمي كتابه بالعين، لأن المتقدمين كانوا يذهبون في تسمية دواوينهم إلى مثل هذا، وهو تسميته بأول ما يقع فيه من الكلمات والألفاظ. ثم بين المهمل منها من المستعمل، وكان المهمل في الرباعي والخماسي أكثر لقلة استعمال العرب له لثقله، ولحق به الثنائي لقلة دورانه، وكان الاستعمال في الثلاثي أغلب، فكانت أوضاعه أكثر لدورانه. وضمن الخليل ذلك كله في كتاب العين واستوعبه أحسن استيعاب وأوفاه.
وجاء أبو بكر الزبيدي وكتب لهشام المؤيد بالأندلس، في المائه الرابعة، فاختصره مع المحافظة على الاستيعاب وحفف منه المهمل كله، وكثيراً من شواهد المستعمل، ولخصه للحفظ أحسن تلحيص.
وألف الجوهري من المشارقة، كتاب الصحاح على الترتيب المتعارف لحروف المعجم، فجعل البداءة منها بالهمزة وجعل الترجمة بالحروف على الحرف اآاخير من الكلمة، لاضطرار الناس في الأكثر إلى أواخر الكلم، فيجعل ذلك باباً. ثم يأتي بالحروف أول الكلمة، على ترتيب حروف المعجم أيضاً، ويترجم عليها بالفصول إلى آخرها. وحصر اللغة اقتداءً بحصر الخليل.
ثم ألف فيها من الأندلسيين ابن سيده من أهل دانية، في دوله علي بن مجاهد، كتاب المحكم على ذلك المنحى من الاستيعاب، وعلى نحو ترتيب كتاب العين. وزاد فيه التعرض لاشتقاقات الكلم وتصاريفها، فجاء من أحسن الدواوين. ولخصه محمد بن أبي الحسين صاحب المستنصر من ملوك الدولة الحفصية بتونس. وقلب ترتيبه إلى ترتيب كتاب الصحاح في اعتبار أواخر الكلم وبناء التراجم عليها، فكانا توأمي رحم وسليلي أبوة.
ولكراع من أئمة اللغة كتاب المنجد، ولابن دريد كتاب الجمهرة ولابن الأنباري كتاب الزاهر.
هذه أصول كتب اللغة فيما علمناه. وهناك مختصرات أخرى مختصة بصنف من الكلم ومستوعبة لبعض الأبواب أو لكلها، إلا أن وجه الحصر فيها خفي، ووجه الحصر في تلك جلي من قبل التراكيب كما رأيت. ومن الكتب الموضوعة أيضاً في اللغة كتاب الزمخشري في المجاز، وسماه أساس البلاغة، بين فيه كل ما تجوزت به العرب من الألفاظ، فيما تجوزت به من المدلولات، وهو كتاب شريف الإفادة.(1/354)
ثم لما كانت العرب تضع الشيء لمعنى على العموم، ثم تستعمل في الأمور الخاصة ألفاظاً أخرى خاصة. بها، فرق ذلك عندنا، بين الوضع والاستعمال، واحتاج الناس إلى فقه في اللغة عزيز المأخذ، كما وضع الأبيض بالوضع العام لكل ما فيه بياض، ثم اختص ما فيه بياض من الخيل بالأشهب، ومن الإنسان بالأزهر، ومن الغنم بالأملح، حتى صار استعمال الأبيض في هذه كلها لحناً وخروجاً عن لسان العرب. واختص بالتأليف في هذا المنحى الثعالبي، وأفرده في كتاب له سماه فقه اللغة، وهو من آكد ما يأخذ به اللغوي نفسه، أن يحرف استعمال العرب عن مواضعه. فليس معرفة الوضع الأول بكاف في التركيب، حتى يشهد له استعمال العرب لذلك. وأكثر ما يحتاج إلى ذلك الأديب في فني نظمه ونثره، حذراً من أن يكثر لحنه في الموضوعات اللغوية في مفرداتها وتراكيبها، وهو أشر من اللحن في الإعراب وافحش. وكذلك آلف بعض المتأخرين في الألفاظ المشتركة وتكفل بحصرها، وإن لم يبلغ إلى النهاية في ذلك، فهو مستوعب للأكثر. وأما المختصرات الموجودة في هذا الفن، المخصوصة بالمتداول من اللغة الكثير الاستعمال، تسهيلاً لحفظها على الطالب، فكثيرة مثل الألفاظ لابن السكيت والفصيح لثعلب وغيرهما. وبعضها أقل لغة من بعض لاختلاف نظرهم في الأهم على الطالب للحفظ. والله الخلاق العليم، لا رب سواه.
فصل: واعلم أن النقل الذي تثبت به اللغة، إنما هو النقل عن العرب أنهم استعملوا هذه الألفاظ لهذه المعاني، لا تقل إنهم وضعوها لأنه متعذر وبعيد، ولم يعرف أحد منهم. وكذلك لا تثبت اللغات بقياس ما لم نعلم استعماله، على ما عرف استعماله في ماء العنب، باعتبار الإسكار الجامع. لأن شهادة الاعتبار في باب القياس إنما يدركها الشرع الدال على صحة القياس من أصله. وليس لنا مثله في اللغة إلا العقل، وهو محكم، وعلى هذا جمهور الأئمة. وإن مال إلى القياس فيها القاضي وابن سريج وغيرهم. لكن القول بنفيه أرجح. ولا تتوهمن أن إثبات اللغة في باب الحدود اللفظية، لأن الحد راجع إلى المعاني ببيان أن مدلول اللفظ المجهول الخفي هو مدلول الواضح المشهور، واللغة إثبات أن اللفظ كذا، لمعنى كذا، والفرق في غاية ظهور.
علم البيان
هذا العلم حادث في الملة بعد علم العربية واللغة، وهو من العلوم اللسانية، أنه متعلق بالألفاظ وما تفيده. ويقصد بها الدلالة عليه من المعاني. وذلك أن الأمور التي يقصد المتكلم بها إفادة السامع من كلامه هي: إما تصور مفردات تسند ويسند إليها ويفضي بعضها إلى بعض، والدلالة على هذه هي المفرادت من الأسماء والأفعال والحروف، وأما تمييز المسندات من المسند إليها والأزمنة، وبدل عليها بتغير إدركات وهو الإعراب وأبنية الكلمات. وهذه كلها هي صناعة النحو. ويبقى من الأمور المكتنفة بالواقعات، المحتاجة للدلالة، أحوال المتخاطبين أو الفاعلين، وما يقتضيه حال الفعل، وهو محتاج إلى الدلالة عليه، لأنه من تمام الإفادة، وإذا حصلت للمتكلم فقد بلغ غاية الإفادة من كلامه. وإذا لم يشتمل على شيء منها، فليس من جنس كلام العرب، فإن كلامهم واسع، ولكل مقام عندهم مقال يختص به بعد كمال الإعراب والإبانة.(1/355)
ألا ترى أن قولهم: " زيد جاءني " مغاير لقولهم " جاءني زيد " من قبل أن المتقدم منهما هو الأهم عند المتكلم. فمن قال: جاءني زيد، أفاد أن اهتمامه بالمجيء، قبل الشخص المسند إليه، ومن قال: زيد جاءني، أفاد أن اهتمامه بالشخص، قبل المجيء المسند. وكذا التعبير عن أجزاء الجملة، بما يناسب المقام، من موصول أو مبهم أو معرفة. وكذا تأكيد الإسناد على الجملة، كقولهم: زيد قائم، وإن زيداً قائم، وإن زيداً لقائم، متغايرة كلها في الدلالة، وإن استوت من طريق الإعراب، فإن الأول العاري عن التأكيد إنما يفيد الخالي الذهن، والثاني المؤكد ب إن يفيد المتردد، والثالث يفيد المنكر، فهي مختلفة. وكذلك تقول: جاءني الرجل، ثم تقول مكانه بعينه جاءني رجل إذا قصدت بذلك التنكير تعظيمه، وأنه رجل لا يعادله أحد من الرجال. ثم الجملة الإسنادية تكون خبرية، وهي التي لها خارج تطابقة أولاً، وإنشائية وهي التي لا خارج لها كالطلب وأنواعه. تم قد يتعين ترك العاطف بين الجملتين إذ كان للثانية محل من الإعراب: فينزل بذلك منزلة التابع المفرد نعتاً أو توكيداً أو بدلاً بلا عطف، أو يتعين العطف إذا لم يكن للثانية محل من الإعراب. ثم يقتضي المحل الإطناب أو الإيجاز فيورد الكلام عليهما. ثم قد يدل باللفط ولا يراد منطوقه ويراد لازمه إن كان مفرداً، كما تقول: زيد أسد، فلا تريد حقيقة الأسد لمنطوقه، وإنما تريد شجاعته اللازمة وتسندها إلى زيد، وتسمى هذه استعارة.
وقد تريد باللفظ المركب الدلالة على ملزومه، كما تقول: زيد كثير رماد القدور، وتريد به ما لزم ذلك عنه من الجود وقرى الضيف، لأن كثره الرماد ناشئة عنهما، فهي دالة عليهما. وهذه كلها دلالة زائدة على دلالة الألفاظ من المفرد والمركب، وإنما هي هيئات وأحوال للواقعات جعلت للدلالة عليها أحوال وهيآت في الألفاظ كل بحسب ما يقتضيه مقامه، فاشتمل هذا العلم المسمى بالبيان على البحث عن هذه الدلالات التي للهيآت والأحوال والمقامات، وجعل على ثلاثة أصنات: الصنف الأول يبحث فيه عن هذه الهيأت والأحوال، التي تطابق باللفظ جميع مقتضيات الحال، ويسمى علم البلاغة، والصنف الثاني يبحث فيه عن الدلالة على اللازم اللفظي وملزومه وهي الاستعارة والكناية كما قلناه ويسمى علم البيان. وألحقوا بهما صنفاً آخر، وهو النظر في تزيين الكلام وتحسينه بنوع من التنميق: إما بسجع يفصله، أو تجنيس يشابه بين ألفاظه، أو ترصيع يقطع أوزانه، أو تورية عن المعنى المقصود لإيهام معنى أخفى منه، لاشتراك اللفظ بينهما أو طباق بالتقابل بين الأضداد، وأمثال ذلك، ويسمى عندهم علم البديع.(1/356)
وأطلق على الأصناف الثلاثة عند المحدثين اسم البيان، وهو اسم الصنف الثاني، لأن الأقدمين أول ما تكلموا فيه. ثم تلاحقت مسائل الفن واحدة بعد أخرى، وكتب فيها جعفر بن يحيى والجاحظ وقدامة وأمثالهم إملاءات غير وافية فيها. ثم لم تزل مسائل الفن تكمل شيئاً فشيئاً إلى أن مخض السكاكي زبدته وهذب مسائله ورتب أبوابه، على نحو ما ذكرناه آنفاً من الترتيب، وألف كتابه المسمى بالمفتاح في النحو والتصريف والبيان، فجعل هذا الفن من بعض أجزائه. وأخذه المتأخرون من كتابه، ولخصوا منه أمهات هي المتداولة لهذا العهد، كما فعله السكاكي في كتاب التبيان، وابن مالك في كتاب المصباح، وجلال الدين القزويني في كتاب الإيضاح والتلخيص، وهو أصغر حجماً من الإيضاح، والعناية به لهذا العهد، عند أهل المشرق، في الشرح والتعليم منه أكثر من غيره. وبالجملة فالمشارقة على هذا الفن أقوم من المغاربة، وسببه والله أعلم أنه كمالي في العلوم اللسانية، والصنائع الكمالية توجد في وفور العمران. والمشرق أوفر عمراناً من المغرب كما ذكرناه. أو نقول لعناية العجم وهم معظم أهل المشرق، كتفسير الزمخشري، وهو كله مبني على هذا الفن وهو أصله. وإنما اختص بأهل المغرب من أصنافه علم البديع خاصة، وجعلوه من جملة علوم الأدب الشعرية، وفرعوا له ألقاباً وعددوا أبواباً ونوعوا أنواعاً. وزعموا أنهم أحصوها من لسان العرب، وإنما حملهم على ذلك الولوع بتزيين الألفاظ، وأن علم البديع سهل المأخذ. وصعبت عليهم مآخذ البلاغة والبيان لدقة أنظارهما وغموض معانيهما فتجافوا عنهما. وممن ألف في البديع من أهل إفريقية ابن رشيق، وكتاب العمدة له مشهور. وجرى كثير من أهل إفريقية والأندلس على منحاه. واعلم أن ثمرة هذا الفن إنما هي في فهم الإعجاز من القرآن، لأن إعجازه في وفاء الدلالة منه بجميع مقتضيات الأحوال منطوقة ومفهومة، وهي أعلى مراتب الكمال، مع الكلام فيما يختص بالألفاظ، في انتقائها وجودة رصفها وتركيبها، وهذا هو الإعجاز الذي تقصر الأفهام عن إدراكه. وإنما يدرك بعض الشيء منه من كان له ذوق بمخالطة اللسان العربي وحصول ملكته، فيدرك من إعجازه على قدر ذوقه.
فلهذا كانت مدارك العرب الذين سمعوه من مبلغه أعلى مقاماً في ذلك، لأنهم فرسان الكلام وجهابذته، والذوق عندهم، موجود بأوفر ما يكون وأصحه. وأحوج ما يكون إلى هذا الفن المفسرون، وأكثر تفاسير المتقدمين غفل منه، حتى ظهر جار الله الزمخشري ووضع كتابه في التفسير، وتتبع آي القرآن بأحكام هذا الفن، بما يبدي البعض من إعجازه، فانفرد بهذا الفضل على جميع التفاسير، لولا أنه يؤيد عقائد أهل البدع عند اقتباسها من القرآن بوجوه البلاغة. ولأجل هذا يتحاماه كثير من أهل السنة، مع وفور بضاعته من البلاغة. فمن أحكم عقائد السنة وشارك في هذا الفن بعض المشاركة، حتى يقتدر على الرد عليه من جنس كلامه، أو يعلم أنها بدعة فيعرض عنها ولا تضره في معتقده، فإنه يتعين عليه النظر في هذا الكتاب، للظفر بشيء من الإعجاز، مع السلامة من البدع والأهواء. والله الهادي من يشاء إلى سواء السبيل.
علم الأدب
هذا العلم لا موضوع له، ينظر في إثبات عوارضه أو نفيها. وإنما المقصود منه عند أهل اللسان ثمرته، وهي الإجادة في فني المنظوم والمنثور، على أساليب العرب ومناحيهم، فيجمعون لذلك من كلام العرب ما عساه تحصل به الكلمة، من شعر عالي الطبقة وسجع متساو في الإجادة ومسائل من اللغة والنحو، مبثوثة أثناء ذلك، متفرقة، يستقري منها الناظر في الغالب معظم قوانين العربية، مع ذكر بعض من أيام العرب، يفهم به ما يقع في أشعارهم منها. وكذلك ذكر المهم من الأنساب الشهيرة والأخبار العامة. والمقصود بذلك كله أن لا يخفى على الناظر فيه شيء من كلام العرب وأساليبهم ومناحي بلاغتهم إذا تصفحه، لأنه لا تحصل الملكة من حفظه إلا بعد فهمه، فيحتاج إلى تقديم جميع مايتوقف عليه فهمه.(1/357)
ثم إنهم إذا أرادوا حد هذا الفن قالوا: الأدب هو حفظ أشعار العرب وأخبارها والأخذ من كل علم بطرف يريدون من علوم اللسان أو العلوم الشرعية من حيث متونها فقط، وهي القرآن والحديث. إذ لا مدخل لغير ذلك من العلوم في كلام العرب إلا ما ذهب إليه المتأخرون عند كلفهم بصناعة البديع من التورية في أشعارهم وترسلهم بالاصطلاحات العلمية، فاحتاج صاحب هذا الفن حينئذ إلى معرفة اصطلاحات العلوم، ليكون قائماً على فهمها. وسمعنا من شيوخنا في مجالس التعليم أن أصول هذا الفن وأركانه أربعة دواوين وهي: أدب الكاتب لابن قتيبة وكتاب الكامل للمبرد، وكتاب البيان والتبيين للجاحظ، وكتاب النوادر لأبي علي القالي البغدادي. وما سوى هذه الأربعة فتبع لها وفروع عنها. وكتب المحدثين في ذلك كثيرة.
وكان الغناء في الصدر الأول من أجزاء هذا الفن، لما هو تابع للشعر، إذ الغناء إنما هو تلحينه. وكان الكتاب والفضلاء من الخواص في الدولة العباسية يأخذون أنفسهم به، حرصاً على تحصيل أساليب الشعر وفنونه، فلم يكن انتحاله قادحاً في العدالة والمروءة. وقد ألف القاضي أبو الفرج الأصبهاني وهو ما هو، كتابه في الأغاني، جمع فيه أخبار العرب وأشعارهم وأنسابهم وأيامهم ودولهم. وجعل مبناه على الغناء في المائة صوت التي اختارها المغنون للرشيد، فاستوعب فيه ذلك أتم استيعاب وأوفاه. ولعمري إنه ديوان العرب وجامع أشتات المحاسن التي سلفت لهم، في كل فن من فنون الشعر والتاريخ والغناء وسائر الأحوال، ولا يعدل به كتاب في ذلك فيما نعلمه، وهو الغاية التي يسمو إليها الأديب ويقف عندها، وأنى له بها. ونحن الآن نرجع بالتحقيق على الإجمال فيما تكلمنا عليه من علوم اللسان. والله الهادي للصواب.
الفصل السادس والأربعون
في أن اللغة ملكة صناعية
اعلم أن اللغات كلها ملكات شبيهة بالصناعة، إذ هي ملكمات في اللسان، للعبارة عن المعاني وجودتها وقصورها بحسب تمام الملكة أو نقصانها. وليس ذلك بالنظر إلى المفردات، وإنما هو بالنظر إلى التراكيب. فإذا حصلت الملكة التامة في تركيب الألفاظ المفردة، للتعبير بها عن المعاني المقصودة، ومراعاة التأليف الذي يطبق الكلام على مقتضى الحال، بلغ المتكلم حينئذ الغاية من إفادة مقصوده للسامع، وهذا هو معنى البلاغة. والملكات لا تحصل إلا بتكرار الأفعال لأن الفعل يقع أولاً وتعود منه للذات صفة، ثم تتكرر فتكون حالاً. ومعنى الحال أنها صفة غير راسخة، ثم يزيد التكرار فتكون ملكة أي صفة راسخة.
فالمتكلم من العرب حين كانت ملكته اللغة العربية موجودة فيهم، يسمع كلام أهل جيله، وأساليبهم في مخاطباتهم وكيفية تعبيرهم عن مقاصدهم، كما يسمع الصبي استعمال المفردات في معانيها، فيلقنها أولاً، ثم يسمع التراكيب بعدها فيلقنها كذلك. ثم لا يزال سماعهم لذلك يتجدد في كل لحظة ومن كل متكلم، واستعماله يتكرر إلى أن يصير ذلك ملكة وصفة راسخة ويكون كأحدهم.
هكذا تصيرت الألسن واللغات من جيل إلى جيل وتعلمها العجم والأطفال.
وهذا هو معنى ما تقوله العامة من أن اللغة للعرب بالطبع أي بالملكة الأولى التي أخذت عنهم، ولم يأخذوها عن غيرهم. ثم فسدت هذه الملكة لمضر بمخالطتهم الأعاجم. وسبب فسادها أن الناشىء من الجيل، صار يسمع في العبارة عن المقاصد كيفيات أخرى غير الكيفيات التي كانت للعرب، فيعبر بها عن مقصوده لكثرة المخالطين للعرب من غيرهم، ويسمع كيفيات العرب أيضاً، فاختلط عليه الأمر وأخذ من هذه وهذه، فاستحدث ملكة وكانت ناقصة عن الأولى. وهذا معنى فساد اللسان العربي.
ولهذا كانت لغة قريش أفصح اللغات العربية وأصرحها لبعدهم عن بلاد العجم من جميع جهاتهم. ثم من اكتنفهم من ثقيف وهذيل وخزاعة وبني كنانة وغطفان وبني أسد وبني تميم. وأما من بعد عنهم من ربيعة ولخم وجذام وغسان وإياد وقضاعة وعرب اليمن المجاورين لأمم الفرس والروم والحبشة، فلم تكن لغتهم تامة الملكة بمخالطة الأعاجم. وعلى نسبة بعدهم من قريش كان الأعاجم بلغاتهم في الصحة والفساد عند أهل الصناعة العربية. والله سبحانه وتعالى أعلم وبه التوفيق.
الفصل السابع والأربعون
في أن لغة العرب لهذا العهد لغة مستقلة
مغايرة للغة مضر ولغة حمير(1/358)
وذلك أنا نجدها في بيان المقاصد والوفاء بالدلالة على سنن اللسان المضري، ولم يفقد منها إلا دلالة الحركات على تعين الفاعل من المفعول، فاعتاضوا منها بالتقديم والتأخير وبقرائن تدل على خصوصيات المقاصد. إلا أن البيان والبلاغة في اللسان المضري أكثر وأعرق، لأن الألفاظ بأعيانها دالة على المعاني بأعيانها. ويبقى ما تقتضيه الأحوال ويسمى بساط الحال محتاجاً إلى ما يدل عليه. وكل معنى لا بد وأن تكتنفه أحوال تخصه، فيجب أن تعتبر تلك الأحوال في تأدية المقصود لأنها صفاته، وتلك الأحوال في جميع الألسن أكثر ما يدل عليها بألفاظ تخصها بالوضع. وأما في اللسان العربي فإنما يدل عليها بأحوال وكيفيات، في تراكيب الألفاظ وتأليفها، من تقديم أو تأخير أو حذف أو حركة إعراب. وقد يدل عليها بالحروف غير المستقلة. ولذلك تفاوتت طبقات الكلام في اللسان العربي بحسب تفاوت الدلالة على تلك الكيفيات كما قدمناه، فكان الكلام العربي لذلك أوجز وأقل ألفاظاً وعبارة من جميع الألسن.
وهذا معنى قوله صلى الله عليه وسلم: " أوتيت جوامع الكلم واختصر لي الكلام اختصاراً " . واعتبر ذلك بما يحكى عن عيسى بن عمر وقد قال له بعض النحاة: " إني أجد في كلام العرب تكراراً في قولهم: زيد قائم، وإن زيداً قائم، وإن زيداً لقائم والمعنى واحد. فقال له: إن معانيها مختلفة، فالأول: لإفادة الخالي الذهن من قيام زيد، والثاني: لمن سمعه فتردد فيه، والثالث: لمن عرف بالإصرار على إنكاره فاختلفت الدلالة باختلاف الأحوال.
وما زالت هذه البلاغة والبيان ديدن العرب ومذهبهم لهذا العهد. ولا تلتفتن في ذلك إلى خرفشة النحاة أهل صناعة الإعراب القاصرة مداركهم عن التحقيق، حيث يزعمون أن البلاغة لهذا العهد ذهبت، وأن اللسان العربي فسد، اعتباراً بما وقع أواخر الكلم من فساد الإعراب الذي يتدارسون قوانينه. وهي مقالة دسها التشيع في طباعهم، وألقاها القصور في أفئدتهم ، وإلا فنحن نجد اليوم الكثير من ألفاظ العرب لم تزل في موضوعاتها الأولى، والتعبير عن المقاصد والتعاون فيه بتفاوت الإبانة موجود في كلامهم لهذا العهد، وأساليب اللسان وفنونه من النظم والنثر موجودة في مخاطباتهم، وفيهم الخطيب المصقع في محافلهم ومجامعهم، والشاعر المفلق على أساليب لغتهم. والذوق الصحيح والطبع السليم شاهدان بذلك. ولم يفقد من أحوال اللسان المدون إلا حركات الإعراب في أواخر الكلم فقط، الذي لزم في لسان مضر طريقة واحدة ومهيعاً معروفاً وهو الإعراب، وهو بعض من أحكام اللسان، وإنما وقعت العناية بلسان مضر، لما فسد بمخالطتهم الأعاجم، حين استولوا على ممالك العراق والشام ومصر والمغرب، وصارت ملكته على غير الصورة التي كانت أولاً، فانقلب لغة أخرى.
وكان القرآن منزلاً به والحديث النبوي منقولاً بغته وهما أصلا الدين والملة، فخشي تناسيهما وانغلاق الأفهام عنهما بفقدان اللسان الذي تنزلا به، فاحتيج إلى تدوين أحكامه ووضع مقاييسه واستنباط قوانييه. وصار علماً ذا فصول وأبواب ومقدمات ومسائل، سماه أهله بعلم النحو، وصناعة العربية، فأصبح فناً محفوظاً وعلماً مكتوياً وسلماً إلى فهم كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم راقياً. ولعلنا لو اعتنينا بهذا اللسان العربي لهذا العهد واستقرينا أحكامه، نعتاض عن الحركات الإعرابية التي فسدت في دلالتها بأمور أخرى وكيفيات موجودة فيه، فتكون لها قوانين تخصها. ولعلها تكون في أواخره على غير المنهاج الأول في لغة مضر، فليست اللغات وملكاتها مجاناً.
ولقد كان اللسان المضري مع اللسان الحميري بهذه المثابة وتغيرت عند مضر كثير من موضوعات اللسان الحميري وتصاريف كلماته. تشهد بذلك الأنقال الموجودة لدينا خلافاً لمن يحمله القصور على أنهما لغة واحدة، ويلتمس إجراء اللغة الحميرية على مقاييس اللغة المضرية وقوانينها، كما يزعم بعضهم في اشتقاق " القيل " في اللسان الحميري أنه من القول وكثير من أشباه هذا، وليس ذلك بصحيح. ولغة حمير لغة أخرى مغايرة للغة مضر في الكثير من أوضاعها وتصاريفها وحركات إعرابها، كما هي لغة العرب لعهدنا مع لغة مضر، إلا أن العناية بلسان مضر، من أجل الشريعة كما قلناه، حمل ذلك على الاستنباط والاستقراء، وليس عندنا لهذا العهد ما يحملنا على مثل ذلك ويدعونا إليه.(1/359)
ومما وقع في لغة هذا الجيل العربي لهذا العهد، حيث كانوا من الأقطار شأنهم في النطق بالقاف، فإنهم لا ينطقون بها من مخرج القاف عند أهل الأمصار، كما هو مذكور في كتب العربية، أنه من أقصى اللسان وما فوقة من الحنك الأعلى. وما ينطقون بها أيضاً من مخرج الكاف، وإن كان أسفل من موضع القاف وما يليه من الحنك الأعلى كما هي، بل يجيئون بها متوسطة بين الكاف والقاف، وهو موجود للجيل أجمع حيث كانوا من غرب أو شرق، حتى صار ذلك علامة عليهم من بين الأمم والأجيال ومختصاً بهم لا يشاركهم فيها غيرهم. حتى إن من يريد التعرب والانتساب إلى الجيل والدخول فيها يحاكيهم في النطق بها. وعندهم أنه إنما يتميز العربي الصريح من الدخيل في العروبية والحضري بالنطق بهذه القاف. ويظهر بذلك أنها لغة مضر بعينها، فإن هذا الجيل الباقين معظمهم ورؤساؤهم شرقاً وغرباً في ولد منصور بن عكرمة بن حصفة بن قيس بن عيلان من سليم بن منصور، ومن بني عامر بن صعصعة بن معاوية بن بكر بن هوازن بن منصور. وهم لهذا العهد أكثر الأمم في المعمور وأغلبهم، وهم من أعقاب مضر، وسائر الجيل معهم من بني كهلان، فى النطق بهذه القاف، أسوة. وهذه اللغة لم يبتدعها هذا الجيل بل هي متوارثة فيهم متعاقبة، ويظهر من ذلك أنها لغة مضر الأولين، ولعلها لغة النبي صلى الله عليه وسلم بعينها. وقد ادعى ذلك فقهاء أهل البيت وزعموا أن من قرأ في أم القرآن " اهدنا الصراط المستقيم " بغير القاف التي لهذا الجيل فقد لحن وأفسد صلاتة، ولم أدر من أين جاء هذا، فإن أهل الأمصار أيضاً لم يستحدثوها، وإنما تناقلوها من لحن سلفهم وكان أكثرهم من مضر لما نزلوا الأمصار من لدن الفتح. وأهل الجيل أيضاً لم يستحدثوها، إلا أنهم أبعد من مخالطة الأعاجم من أهل الأمصار. فهذا يرجح، فيما يوجد من اللغة لديهم، أنه من لغة سلفهم. هذا مع اتفاق أهل الجيل كلهم شرقاً وغرباً في النطق بها، وأنها الخاصية التي يتميز بها العربي من الهجين والحضري. والظاهر أن هذه القاف التي ينطق بها أهل الجيل العربي البدوي هو من مخرج القاف عند أولهم من أهل اللغة، وأن مخرج القاف متسع، فأوله من أعلى الحنك وآخره مما يلي الكاف. فالنطق بها من أعلى الحنك هو لغة الأمصار، والنطق بها مما يلي الكاف هي لغة هذا الجيل البدوي. وبهذا يندفغ ما قاله أهل البيت من فساد الصلاة بتركها في أم القرآن، فإن فقهاء الأمصار كلهم على خلاف ذلك. وبعيد أن يكونوا أهملوا ذلك، فوجهه ما قلناه. نعم نقول إن الأرجح والأولى ما ينطق به أهل الجيل البدوي لأن تواترها فيهم كما قدمناه، شاهد بأنها لغة الجيل الأول من سلفهم، وأنها لغة النبي صلى الله عليه وسلم. ويرجح ذلك أيضاً إدغامهم لها في الكاف لتقارب المخرجين. ولو كانت كما ينطق بها أهل الأمصار من أصل الحنك، لما كانت قريبة المخرج من الكاف، ولم تدغم. ثم إن أهل العربية قد ذكروا هذه القاف القريبة من الكاف، وجهي التي ينطق بها أهل الجيل البدوي من العرب لهذا العهد، وجعلوها متوسطة بين مخرجي القاف والكاف. على أنها حرف مستقل، وهو بعيد. والظاهر أنها من آخر مخرج القاف لاتساعه كما قلناه. ثم إنهم يصرحون باستهجانه واستقباحه كأنهم لم يصح عندهم أنها لغة الجيل الأول. وفيما ذكرناه من اتصال نطقهم بها، لأنهم إنما ورثوها من سلفهم جيلاً بعد جيل، وأنها شعارهم الخاص بهم، دليل على أنها لغة ذلك الجيل الأول، ولغة النبي صلى الله عليه وسلم كما تقدم ذلك كله. وقد يزعم زاعم أن هذه القاف التي ينطق بها أهل الأمصار ليست من هذا الحرف، وأنها إنما جاءت من مخالطتهم للعجم، وإنهم ينطقون بها كذلك ، فليست من لغة العرب. ولكن الأقيس كما قدمناه من أنهما حرف واحد متسع المخرج. فتفهم ذلك. والله الهادي المبين.
الفصل الثامن والأربعون
في أن لغة أهل الحضر والأمصار..
لغة قائمة بنفسها مخالفة للغة مضر اعلم أن عرف التخاطب في الأمصار وبين الحضر ليس بلغة مضر القديمة، ولا بلغة أهل الجيل، بل هي لغة أخرى قائمة بنفسها بعيدة عن لغة مضر وعن لغة هذا الجيل العربي الذي لعهدنا، وهي عن لغة مضر أبعد.(1/360)
فأما أنها لغة قائمة بنفسها فهو ظاهر، يشهد له ما فيها من التغاير الذي بعد عن صناعة أهل النحو لحناً. وهي مع ذلك تختلف باختلاف الأمصار في اصطلاحاتهم، فلغة أهل المشرق مباينة بعض الشيء للغة أهل المغرب، وكذا أهل الأندلس معهما، وكل منهم متوصل بلغته إلى تأدية مقصوده والإبانة عما في نفسه. وهذا معنى اللسان واللغة. وفقدان الإعراب ليس بضائر لهم كما قلناه في لغة العرب لهذا العهد.
وأما أنها أبعد عن اللسان الأول من لغة هذا الجيل، فلأن البعد عن اللسان إنما هو بمخالطة العجمة. فمن خالط العجم أكثر كانت لغته عن ذلك اللسان الأصلي أبعد، لأن الملكة إنما تحصل بالتعليم كما قلناه. وهذه ملكة ممتزجة من الملكة الأولى التي كانت للعرب ومن الملكة الثانية التي للعجم. فعلى مقدار ما يسمعونه من العجمة ويربون عليه يبعدون عن الملكة الأولى. واعتبر ذلك في أمصار إفريقية والمغرب والاندلس والمشرق. أما إفريقية والمغرب، فخالطت العرب فيها البرابرة من العجبم لوفور عمرانها بهم، ولم يكد يخلو عنهم مصر ولا جيل، فغلبت العجمة فيها على اللسان العربي الذي كان لهم، وصارت لغة أخرى ممتزجة. والعجمة فيها أغلب لما ذكرناه، فهي عن اللسان الأول أبعد. وكذا المشرق لما غلب العرب على أممه من فارس والترك فخالطوهم، وتداولت بينهم لغاتهم في الأكرة والفلاحين والسبي الذين اتخذوهم خولاً ودايات وأظآراً ومراضع، ففسدت لغتهم بفساد الملكة حتى انقلبت لغة أخرى. وكذا أهل الأندلس مع عجم الجلالقة والإفرنجة. وصار أهل الأمصار كلهم من هذه الأقاليم أهل لغة أخرى مخصوصة بهم، تخالف لغة مضر ويخالف أيضاً بعضها بعضاً كما نذكره، وكأنها لغة أخرى لاستحكام ملكتها في أجيالهم. والله يخلق ما يشاء ويقدر.
الفصل التاسع والأربعون
في تعلم اللسان المضري
اعلم أن ملكة اللسان المضري، لهذا العهد، قد ذهبت وفسدت. ولغة أهل الجيل كلهم مغايرة للغة مضر التي نزل بها القرآن، وإنما هي لغة أخرى من امتزاج العجمة بها كما قدمناه. إلا أن اللغات لما كانت ملكات كما مر كان تعلمها ممكناً، شأن سائر الملكات. ووجه التعليم لمن يبتغي هذه الملكة ويروم تحصيلها أن يأخذ نفسه بحفظ كلامهم القديم الجاري على أساليبهم من القرآن والحديث، وكلام السلف، ومخاطبات فحول العرب في أسجاعهم وأشعارهم، وكلمات المولدين أيضاً في سائر فنونهم، حتى يتنزل لكثرة حفظه لكلامهم من المنظوم والمنثور منزلة من نشأ بينهم ولقن العبارة عن المقاصد منهم، ثم يتصرف بعد ذلك في التعبير عما في ضميره على حسب عباراتهم، وتآليف كلماتهم، وما وعاه وحفظه من آساليبهم وترتيب ألفاظهم، فتحصل له هذه الملكة بهذا الحفظ والاستعمال، ويزداد بكثرتهما رسوخاً وقوة. ويحتاج مع ذلك إلى سلامة الطبع والتفهم الحسن لمنازع العرب وأساليبهم في التراكيب ومراعاة التطبيق بينها وبين مقتضيات الأحوال. والذوق يشهد بذلك، وهو ينشأ ما بين هذه الملكة والطبع السليم فيهما كما يذكر بعد. وعلى قدر المحفوظ وكثرة الاستعمال تكون جودة المقول المصنوع نظماً ونثراً. ومن حصل على هذه الملكات، فقد حصل على لغة مضر، وهو الناقد البصير بالبلاغة فيها، وهكذا ينبغي أن يكون تعلمها. والله يهدي من يشاء بفضله وكرمه.
الفصل الخمسون
في أن ملكة هذا اللسان غير صناعة العربية
ومستغنية عنها في التعليم والسبب في ذلك أن صناعة العربية إنما هي معرفة قوانين هذه الملكة ومقاييسها خاصة. فهوعلم بكيفية، لا نفس كيفية. فليست نفس الملكة، إنما هي بمثابة من يعرف صناعة من الصنائع علماً، ولا يحكمها عملاً. مثل أن يقول بصير بالخياطة، غير محكم لملكتها، في التعبير عن بعض أنواعها: الخياطة هي أن تدخل الخيط، في خرت الإبرة، ثم تغرزها في لفقي الثوب مجتمعين، وتخرجها من الجانب الأخر بمقدار كذا، ثم تردها إلى حيث ابتدأت، وتخرجها قدام منفذها الأول بمطرح ما بين الثقبين الأولين، ثم يتمادى على وصفه إلى آخر العمل، ويعطي صورة الحبك والتنبيت والتفتيح وسائر أنواع الخياطة وأعمالها. وهو إذا طولب أن يعمل ذلك بيده لا يحكم منه شيئاً.(1/361)
وكذا لو سئل عالم بالنجارة عن تفصيل الخشب فيقول: هو أن تضع المنشار على رأس الخشبة وتمسك بطرفه، وآخر قبالتك ممسك بطرفه الآخر وتتعاقبانه بينكما، وأطرافه المضرسة المحددة تقطع ما مرت عليه ذاهبة وجائية، إلى أن ينتهي إلى آخر الخشبة. وهو لو طولب بهذا العمل أوشيء منه لم يحكمه.
وهكذا العلم بقوانين الإعراب مع هذه الملكة في نفسها، فإن العلم بقوانين الإعراب إنما هو علم بكيفية العمل وليس هو نفس العمل. وكذلك تجد كثيراً من جهابذة النحاة، والمهرة في صناعة العربية المحيطين علماً بتلك القوانين، إذا سئل في كتابة سطرين إلى أخيه أو في مودته أو شكوى ظلامة أو قصد من قصوده، أخطأ فيها الصواب وأكثر من اللحن، ولم يجد تأليف الكلام لذلك، والعبارة عن المقصود فيه على أساليب اللسان العربي. وكذا نجد كثيراً ممن يحسن هذه الملكة ويجيد الفنين من المنظوم والمنثور، وهو لا يحسن إعراب الفاعل من المفعول، ولا المرفوع من المجرور، ولا شيئاً من قوانين صناعة العربية.
فمن هنا يعلم أن تلك الملكة هي غير صناعة العربية، وأنها مستغنية عنها بالجملة. وقد نجد بعض المهرة في صناعة الإعراب بصيراً بحال هذه الملكة، وهو قليل واتفاقي، وأكثر ما يقع للمخالطين لكتاب سيبويه. فإنه لم يقتصر على قوانين الإعراب فقط، بل ملأ كتابه من أمثال العرب وشواهد أشعارهم وعباراتهم، فكان فيه جزء صالح من تعليم هذه الملكة، فتجد العاكف عليه والمحصل له، تد حصل على خط من كلام العرب واندرج في محفوظه في أماكنه ومفاصل حاجاته. وتنبه به لشأن الملكة، فاستوفى تعليمها، فكان أبلغ في الإفادة.
ومن هؤلاء المخالطين لكتاب سيبويه من يغفل عن التفطن لهذا، فيحصل على علم اللسان صناعة ولا يحصل عليه ملكة. وأما المخالطون لكتب المتأخرين العارية من ذلك، إلا من القوانين النحوية، مجردة عن أشعار العرب وكلامهم، فقلما يشعرون لذلك بأمر هذه الملكة أو يتنبهون لشأنها، فتجدهم يحسبون أنهم قد حصلوا على رتبة في لسان العرب، وهم أبعد الناس عنه. وأهل صناعة العربية بالأندلس ومعلموها أقرب إلى تحصيل هذه الملكة وتعليمها ممن سواهم، لقيامهم فيها على شواهد العرب وأمثالهم، والتفقه في الكثير من التراكيب في مجالس تعليمهم، فيسبق إلى المبتدىء كثير من الملكة أثناء التعليم، فتنطبع النفس بها وتستعد إلى تحصيلها وقبولها.
وأما من سواهم من أهل المغرب وإفريقية وغيرهم، فأجروا صناعة العربية مجرى العلوم بحثاً، وقطعوا النظر عن التفقه في تراكيب كلام العرب، إلا إن أعربوا شاهداً أو رجحوا مذهباً، من جهة الاقتضاء الذهني، لا من جهة محامل اللسان وتراكيبه. فأصبحت صناعة العربية كأنها من جملة قوانين المنطق العقلية أو الجدل، وبعدت عن مناحي اللسان وملكته وأفاد ذلك حملتها في هذه الأمصار وآفاقها البعد عن الملكة بالكلية، وكأنهم لا ينظرون في كلام العرب. وما ذلك إلا لعدولهم عن البحث في شواهد اللسان وتراكيبه وتمييز أساليبه، وغفلتهم عن المران في ذلك للمتعلم، فهو أحسن ما تفيده الملكة في اللسان. وتلك القوانين إنما هي وسائل للتعليم، لكنهم أجروها على غير ما قصد بها، وأصاروها علماً بحتاً وبعدوا عن ثمرتها. وتعلم ما قررناه في هذا الباب، أن حصول ملكة اللسان العربي إنما هو بكثرة الحفظ من كلام العرب، حتى يرتسم في خياله المنوال الذي نسجوا عليه تراكيبهم فينسج هوعليه. ويتنزل بذلك منزلة من نشأ معهم وخالط عباراتهم في كلامهم، حتى حصلت له الملكة المستقرة في العبارة عن المقاصد على نحو كلامهم. والله مقدر الأمور كلها، والله أعلم بالغيب.
الفصل الحادي والخمسون
في تفسير لفظة الذوق
في مصطلح أهل البيان وتحقيق معناه وبيان أنها لا تحصل غالباً للمستعربين من العجم(1/362)
اعلم أن لفظة الذوق يتداولها المعتنون بفنون البيان، ومعناها حصول ملكة البلاغة للسان. وقد مر تفسير البلاغة، وأنها مطابقة الكلام للمعنى من جميع وجوهه، بخواص تقع للتراكيب في إفادة ذلك. فالمتكلم بلسان العرب والبليغ فيه يتحرى الهيئة المفيدة لذلك، على أساليب العرب وأنحاء مخاطباتهم، وينظم الكلام على ذلك الوجه جهده، فإذا اتصلت معاناته لذلك بمخالطة كلام العرب، حصلت له الملكة في نظم الكلام على ذلك الوجه، وسهل عليه أمر التركيب، حتى لا يكاد ينحو فيه غير منحى البلاغة التي للعرب، وإن سمع تركيباً غير جارى على ذلك المنحى، مجه ونبا عنه سمعه بأدنى فكر، بل وبغير فكر، إلا بما استفاده من حصول هذه الملكة. فإن الملكات إذا استقرت ورسخت في محالها ظهر كأنها طبيعة وجبلة لذلك المحل. ولذلك يظن كثير من المغفلين ممن لم يعرف شأن الملكات، أن الصواب للعرب في لغتهم إعراباً وبلاغة أمر طبيعي. ويقول: كانت العرب تنطق بالطبع وليس كذلك، وإنما هي ملكة لسانية في نظم الكلام تمكنت ورسخت فظهرت في بادىء الرأي أنها جبلة وطبع.
وهنه الملكة كما تقدم إنما تحصل بممارسة كلام العرب وتكرره على السمع والتفطن لخواص تراكيبه، وليست تحصل بمعرفة القوانين العلمية في ذلك التي استنبطها أهل صناعة البيان فإن هذه القوانين إنما تفيد علماً بذلك اللسان، ولا تفيد حصول الملكة بالفعل في محلها، وقد مر ذلك. وإذا تقرر ذلك فملكة البلاغة في اللسان تهدي البليغ إلى وجود النظم وحسن التركيب الموافق لتراكيب العرب في لغتهم ونظم كلامهم. ولو رام صاحب هذه الملكة حيداً عن هذه السبيل المعينة والتراكيب المخصوصة، لما قدر عليه ولا وافقه عليه لسانه، لأنه لا يعتاده ولا تهديه إليه ملكته الراسخة عنده. وإذا عرض عليه الكلام، حائداً عن أسلوب العرب وبلاغتهم في نظم كلامهم أعرض عنه ومجه، وعلم أنه ليس من كلام العرب الذين مارس كلامهم. وإنما يعجز عن الاحتجاج بذلك، كما تصنع أهل القوانين النحوية والبيانية، فإن ذلك استدلال بما حصل من القوانين المفادة بالاستقراء. وهذا أمر وجداني حاصل بممارسة كلام العرب، حتى يصير كواحد منهم.(1/363)
ومثاله: لو فرضنا صبياً من صبيانهم، نشأ وربي في جيلهم، فإنه يتعلم لغتهم ويحكم شأن الإعراب والبلاغة فيها، حتى يستولي على غايتها. وليس من العلم القانوني في شيء، وإنما هو بحصول هذه الملكة في لسانه ونطقه. وكذلك تحصل هذه الملكة لمن بعد ذلك الجيل، بحفظ كلامهم وأشعارهم وخطبهم والمداومة على ذلك، بحيث يحصل الملكة ويصير كواحد ممن نشأ في جيلهم وربي بين أحيائهم. والقوانين بمعزل عن هذا. واستعير لهذه الملكة، عندما ترسخ وتستقر، اسم الذوق الذي اصطلح عليه أهل صناعة البيان والذوق إنما هو موضوع لإدراك الطعوم. لكن لما كان محل هذه الملكة في اللسان، من حيث النطق بالكلام، كما هو محل لإدراك الطعوم، استعير لها اسمه. وأيضاً فهو وجداني اللسان، كما أن الطعوم محسوسة له، فقيل له ذوق. وإذا تبين لك ذلك، علمت منه أن الأعاجم الداخلين في اللسان العربي الطارئين عليه المضطرين إلى النطق به لمخالطة أهله، كالفرس والروم والترك بالمشرق وكالبربر بالمغرب، فإنه لا يحصل لهم هذا الذوق لقصور حظهم في هذه الملكة التي قررنا أمرها، لأن قصاراهم بعد طائفة من العمر وسبق ملكة أخرى إلى اللسان، وهي لغاتهم، أن يعتنوا بما يتداوله أهل المصر بينهم في المحاورة من مفرد ومركب، لما يضطرون إليه من ذلك. وهذه الملكة قد ذهبت لأهل الأمصار، وبعدوا عنها كما تقدم. وإنما لهم في ذلك ملكة أخرى وليست هذ ملكة اللسان المطلوبة. ومن عرف أحكام تلك الملكة من القوانين المسطرة في الكتب، فليس من تحصيل الملكة في شيء، إنما حصل أحكامها كما عرفت. وإنما تحصل هذه الملكة بالممارسة والاعتياد والتكرر لكلام العرب. فإن عرض لك ما تسمعه، من أن سيبويه والفارسي والزمخشري وأمثالهم من فرسان الكلام كانوا أعجاماً مع حصول هذه الملكة لهم، فاعلم أن أإولئك القوم الذين نسمع عنهم إنما كانوا عجماً في نسبهم فقط. أما المربى والنشأة فكانت بين أهل هذه الملكة من العرب ومن تعلمها منهم، فاستولوا بذلك من الكلام على غاية لا وراءها، وكأنهم في أول نشأتهم بمنزلة الأصاغر من العرب الذين نشأوا في أجيالهم، حتى أدركوا كنه اللغة وصاروا من أهلها. فهم وإن كانوا عجماً في النسب فليسوا بأعاجم في اللغة والكلام، لأنهم أدركوا الملة في عنفوانها واللغة في شبابها، ولم تذهب آثار الملكة منها ولا من أهل الأمصار. ثم عكفوا على الممارسة والمدارسة لكلام العرب حتى استولوا على غايته.
واليوم الواحد من العجم، إذا خالط أهل اللسان العربي بالأمصار، فأول ما يجد تلك الملكة المقصودة من اللسان العربي ممتحية الآثار. ويجد ملكتهم الخاصة بهم ملكة أخرى مخالفة لملكة اللسان العربي. ثم إذا فرضنا أنه أقبل على الممارسة لكلام العرب وأشعارهم بالمدارسة والحفظ ليستفيد تحصيلها، فقل أن يحصل له ما قدمناه من أن الملكة إذا سبقتها ملكة أخرى في المحل، فلا تحصل إلا ناقصة مخدوشة. وإن فرضنا عجمياً في النسب سلم من مخالطة اللسان العجمي بالكلية، وذهب إلى تعلم هذه الملكة بالحفظ والمدارسة، فربما يحصل له ذلك، لكنه من الندور بحيث لا يخفى عليك بما تقرر. وربما يدعي كثير ممن ينظر في هذه القوانين البيانية حصول هذا الذوق له بها، وهو غلط أو مغالطة، وإنما حصلت له الملكة إن حصلت في تلك القوانين البيانية، وليست من ملكة العبارة في شيء. والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.
الفصل الثاني والخمسون
في أن أهل الأمصار على الإطلاق قاصرون
في تحصيل هذه الملكة اللسانية التي تستفاد بالتعليم ومن كان منهم أبعد عن اللسان العربي كان حصولها له أصعب وأعسر والسبب في ذلك ما يسبق إلى المتعلم، من حصول ملكة منافية للملكة المطلوبة، بما سبق إليه من اللسان الحضري الذي أفادتة العجمة، حتى نزل بها اللسان عن ملكته الأولى إلى ملكة أخرى هي لغة الحضر لهذا العهد ولهذا نجد المعلمين يذهبون إلى المسابقة بتعليم اللسان للولدان. وتعتقد النحاة أن هذه المسابقة بصناعتهم، وليس كذلك، وإنما هي بتعليم هذه الملكة بمخالطة اللسان وكلام العرب. نعم صناعة النحو أقرب إلى مخالطة ذلك. وما كان من لغات أهل الأمصار أعرق في العجمة وأبعد عن لسان مضر قصر بصاحبه عن تعلم اللغة المصرية وحصول ملكتها لتمكن المنافاة حينئذ. واعتبر ذلك في أهل الأمصار.(1/364)
فأهل إفريقية والمغرب لما كانوا أعرق في العجمة وأبعد عن اللسان الأول، كان لهم قصور تام في تحصيل ملكته بالتعليم. ولقد نقل ابن الرقيق أن بعض كتاب القيروان كتب إلى صاحب له: يا أخي ومن لا عدمت فقده، أعلمني أبو سعيد كلاماً أنك كنت ذكرت أنك تكون مع الذين تأتي، وعاقنا اليوم فلم يتهيأ لنا الخروج. وأما أهل المنزل الكلاب من أمير الشين فقد كذبوا هذا باطلاً، ليس من هذا حرفاً واحداً. وكتابي إليك وأنا مشتاق إليك إن شاء الله. وهكذا كانت ملكتهم في اللسان المضري، وسببه ما ذكرنا.
وكذلك أشعارهم كانت بعيدة عن الملكة نازلة عن الطبقة، ولم تزل كذلك، لهذا العهد. ولهذا ما كان لإفريقية من مشاهير الشعراء، إلا ابن رشيق وابن شرف. وأكثر ما يكون فيها الشعراء طارئين عليها، ولم تزل طبقتهم في البلاغة حتى الآن مائلة إلى القصور. وأهل الأندلس أقرب منهم إلى تحصيل هذه الملكة، بكثرة معاناتها وامتلائهم من المحفوظات اللغوية نظماً ونثراً. وكان فيهم ابن حيان المؤرخ إمام أهل الصناعة في هذه الملكة ورافع الراية لهم فيها، وابن عبد ربه والقسطلي وأمثالهم من شعراء ملوك الطوائف، لما زخرت فيها بحار اللسان والأدب وتداول ذلك فيهم مئين من السنين، حتى كان الانفضاض والجلاء أيام تغلب النصرانية. وشغلوا عن تعلم ذلك، وتناقص العمران فتناقص لذلك شأن الصنائع كلها، فقصرت الملكة فيهم عن شأنها حتى بلغت الحضيض.
وكان من آخرهم صالح بن شريف، ومالك بن المرحل من تلاميذ الطبقة الإشبيليين بسبتة وكانت دولة بني الأحمر في أولها، وألقت الأندلس أفلاذ كبدها، من أهل تلك الملكة بالجلاء إلى العدوة، من عدوة إشبيلية إلى سبتة، ومن شرق الأندلس إلى إفريقية. ولم يلبثوا إلى أن انقرضوا وانقطع سند تعليمهم في هذه الصناعة، لعسر قبول العدوة لها وصعوبتها عليهم، بعوج ألسنتهم ورسوخهم في العجمة البربرية، وهي منافية لما قلناه.
ثم عادت الملكة من بعد ذلك إلى الأندلس كما كانت، ونجم بها ابن سيرين وابن جابر وابن الجياب وطبقتهم، ثم إبراهيم الساحلي الطويجن وطبقتة، وقفاهم ابن الخطيب من بعدهم الهالك لهذا العهد شهيداً بسعاية أعدائه. وكان له في اللسان ملكة لا تدرك واتبع أثره تلميذه من بعده. وبالجملة فشأن هذه الملكة بالأندلس أكثر، وتعليلها أيسر وأسهل، بما هم عليه لهذا العهد كما قدمناة من معاناة علوم اللسان ومحافظتهم عليها وعلى علوم الأدب وسند تعليمها. ولأن أهل اللسان العجمي الذين تفسد ملكتهم إنما هم طارئون عليهم. وليست عجمتهم أصلاً للغة أهل الأندلس والبربر في هذه العدوة، وهم أهلها ولسانهم لسانها إلا في الأمصار فقط. وهم فيها منغمسون في بحر عجمتهم ورطانتهم البربرية، فيصعب عليهم تحصيل الملكة اللسانية بالتعليم بخلاف أهل الاندلس. واعتبر ذلك بحال أهل المشرق لعهد الدولة الأموية والعباسية، فكان شأنهم شأن أهل الأنذلس في تمام هذه الملكة وإجادتها، لبعدهم لذلك العهد عن الأعاجم ومخالطتهم إلا في القليل. فكان أمر هذه الملكة في ذلك العهد أقوم، وكان فحول الشعراء والكئاب لعهدهم أوفر لتوفر العرب وأبنائهم بالمشرق.
وانظر ما اشتمل عليه كتاب الأغاني من نظمهم ونثرهم، فإن ذلك الكتاب هو كتاب العرب وديوانهم، وفيه لغتهم وأخبارهم وأيامهم، وملتهم العربية وسير نبيهم صلى الله عليه وسلم وآثار خلفائهم وملوكهم، وأشعارهم وغناؤهم وسائر مغانيهم له، فلا كتاب أوعب منه لأحوال العرب. وبقي أمر هذه الملكة مستحكماً في المشرق في الدولتين، وربما كانت فيهم أبلغ ممن سواهم ممن كان في الجاهلية كما نذكره بعد. حتى تلاشى أمر العرب ودرلست لغتهم وفسد كلامهم وانقضى أمرهم ودولتهم، وصار الأمر للأعاجم والملك في أيديهم والتغلب لهم. وذلك في دولة الديلم والسلجوقية. وخالطوا أهل الأمصار وكثروهم فامتلأت الأرض بلغاتهم، واستولت العجمة على أهل الأمصار والحواضر حتى بعدوا عن اللسان العربي وملكته، وصار متعلمها منهم مقصراً عن تحصيلها. وعلى ذلك نجد لسانهم لهذا العهد في فني المنظوم والمنثور، وإن كانوا مكثرين منه. والله يخلق ما يشاء ويختار، والله سبحانه وتعالى أعلم، وبه التوفيق لا رب سواه.
الفصل الثالث والخمسون
في انقسام الكلام إلى فني النظم والنثر(1/365)
اعلم أن لسان العرب وكلامهم على فنين في الشعر المنظوم، وهو الكلام الموزون المقفى ومعناه الذي تكون أوزانه كلها على روي واحد وهو القافية. وفي النثر وهو الكلام غير الموزون، وكل واحد من الفنين يشتمل على فنون ومذاهب في الكلام. فأما الشعر، فمنه المدح والهجاء والرثاء. وأما النثر فمنه السجع الذي يؤتى به قطعاً، ويلتزم في كل كلمتين منه قافية واحدة يسمى سجعاً، ومنه المرسل، وهو الذي يطلق فيه الكلام إطلاقاً ولا يقطع أجزاء، بل يرسل إرسالاً من غير تقييد بقافية ولا غيرها. ويستعمل في الخطب والدعاء وترغيب الجمهور وترهيبهم.
وأما القرآن وإن كان من المنثور إلا أنه خارخ عن الوصفين وليس يسمى مرسلاً مطلقًا ولا مسجعاً. بل تفصيل آيات ينتهي إلى مقاطع يشهد الذوق بانتهاء الكلام عندها. ثم يعاد الكلام في الآية الأخرى بعدها، ويثنى من غير التزام حرف يكون سجعاً ولا قافية، وهو معنى قوله تعالى: " الله نزل أحسن الحديث كتاباً متشابهاً مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم " وقال: " قد فصلنا الآيات " . وتسمى آخر الآيات فيه فواصل، إذ ليست أسجاعاً، ولا التزم فيها ما يلتزم في السجع، ولا هي أيضاً قواف. واطلق اسم المثاني على آيات القرآن كلها على العموم لما ذكرناه، واختصت بأم القرآن للغلبة فيها كالنجم للثريا، ولهذا سميت السبع المثاني.
وانظر هذا ما قاله المفسرون في تعليل تسميتها بالمثاني، يشهد لك الحق برحجان ما قلناه.
واعلم أن لكل واحد من هذه الفنون أساليب تختص به عند أهله لا تصلح للفن الآخر، ولا تستعمل فيه، مثل النسيب المختص بالشعر، والحمد والدعاء المختص بالخطب، والدعاء المختص بالمخاطبات وأمثال ذلك. وقد استعمل المتأخرون أساليب الشعر وموازينة في المنثور من كثرة الأسجاع، والتزام التقفية وتقديم النسيب بين يدي الأغراض. وصار هذا المنثور إذا تأملته من باب الشعر وفنه، ولم يفترقا إلا في الوزن. واستمر المتأخرون من الكتاب على هذه الطريقة واستعملوها في المخاطبات السلطانية، وقصروا الاستعمال في هذا المنثور كله على هذا الفن الذي ارتضوه، وخلطوا الأساليب فيه، وهجروا المرسل وتناسوه وخصوصاً أهل المشرق. وصارت المخاطبات السلطانية لهذا العهد عند الكتاب الغفل جارية على هذا الأسلوب الذي أشرنا إليه، وهو غير صواب من جهة البلاغة، لما يلاحظ في تطبيق الكلام على مقتضى الحال، من أحوال المخاطب والمخاطب.
وهذا الفن المنثور المقفى أدخل المتأخرون فيه أساليب الشعر، فوجب أن تنزه المخاطبات السلطانية عنه، إذ أساليب الشعر تباح فيها اللوذعية وخلط الجد بالهزل، والإطناب في الأوصاف وضرب الأمثال وكثرة التشبيهات والاستعارات، حيث لا تدعو لذلك كله ضرورة في الخطاب. والتزام التقفية أيضاً من اللوذعة والتزيين وجلال الملك والسلطان، وخطاب الجمهور عن الملوك بالترغيب والترهيب ينافي ذلك ويباينه. والمحمود في المخاطبات السلطانية الترسل، وهو إطلاق الكلام وإرساله من غير تسجيع إلا في الأقل النادر. وحيث ترسله الملكة إرسالاً من غير تكلف له، ثم إعطاء الكلام حقه في مطابقته لمقتضى الحال، فإن المقامات مختلفة، ولكل مقام أسلوب يخصه من إطناب أو إيجاز أو حذف أو إثبات أو تصريح أو إشارة وكناية واستعارة.
وأما إجراء المخاطبات السلطانية على هذا النحو الذي هو على أساليب الشعر فمذموم، وما حمل عليه أهل العصر إلا استيلاء العجمة على ألسنتهم، وقصورهم لذلك عن إعطاء الكلام حقه في مطابقته لمقتضى الحال، فعجزوا عن الكلام المرسل لبعد أمده في البلاغة وانفساح خطوته. وولعوا بهذا المسجع، يلفقون به ما نقصهم من تطبيق الكلام على المقصود، ومقتضى الحال فيه. ويجبرونه بذلك القدر من التزيين بالإسجاع والألقاب البديعية، ويغفلون عما سوى ذلك. وأكثر من أخذ بهذا الفن وبالغ فيه في سائر أنحاء كلامهم كتاب المشرق وشعراؤه لهذا العهد، حتى إنهم ليخلون بالإعراب في الكلمات والتصريف، إذا دخلت لهم في تجنيس أو مطابقة، لا يجتمعان معها، فيرجحون ذلك الصنف من التجنيس. ويدعون الإعراب ويفسدون بنية الكلمة عساها تصادف التجنيس. فتأمل ذلك وانتقد بما قدمناه لك، تقف على صحة ما ذكرناه. والله الموفق للصواب، بمنه وكرمه، والله تعالى أعلم.
الفصل الرابع والخمسون
في أنه لا تتفق الإجادة..(1/366)
في فني المنظوم والمنثور معاً إلا للأقل والسبب في ذلك أنه كما بيناه ملكة في اللسان، فإذا سبقت إلى محله ملكة أخرى، قصرت بالمحل عن تمام الملكة اللاحقة. لأن قبول الملكات وحصولها للطبائع التي على الفطرة الأولى أسهل وأيسر. وإذا تقدمتها ملكة أخرى كانت منازعة لها في المدة القابلة وعائقة عن سرعة القبول، فوقعت المنافاة وتعذر التمام في الملكة. وهذا موجود في الملكات الصناعية كلها على الإطلاق. وقد برهنا عليه في موضعه بنحو من هذا البرهان. فاعتبر مثله في اللغات، فإنها ملكات اللسان، وهي بمنزلة الصناعة. وانظر من تقدم له شيء، من العجمة، كيف يكون قاصراً في اللسان العربي أبداً. فالأعجمي الذي سبقت له اللغة الفارسية لا يستولي على ملكة اللسان العربي، ولا يزال قاصراً فيه ولو تعلمة وعلمه. وكذا البربري والرومي الإفرنجي قل أن تجد أحداً منهم محكماً لملكة اللسان العربي. وما ذلك إلا لما سبق إلى ألسنتهم من ملكة اللسان الآخر، حتى إن طالب العلم من أهل هذه الألسن إذا طلبه بين أهل اللسان العربي ومن كتبهم جاء مقصراً في معارفه عن الغاية والتحصيل، وما أتى إلا من قبل اللسان. وقد تقدم لك من قبل أن الألسن واللغات شبيهة بالصنائع. وقد تقدم لك أن الصنائع وملكاتها لا تزدحم. وإن من سبقت له إجادة في صناعة فقل أن يجيد أخرى أو يستولي فيها على الغاية. والله خلقكم وما تعلمون.
الفصل الخامس والخمسون
في صناعة الشعر ووجه تعلمه
هذا الفن من فنون كلام العرب وهو المسمى بالشعر عندهم، ويوجد في سائر اللغات، إلا أنا الآن إنما نتكلم في الشعر الذي للعرب. فإن أمكن أن يجد فيه أهل الألسن الأخرى مقصودهم من كلامهم، وإلا فلكل لسان أحكام في البلاغة تخصه. وهو في لسان العرب غريب النزعة عزيز المنحى، إذ هو كلام مفصل قطعاً قطعاً، متساوية في الوزن، متحدة في الحرف الأخير من كل قطعة. وتسمى كل قطعة من هذه القطعات عندهم بيتاً، ويسمى الحرف الأخير الذي تتفق فيه رؤياً وقافية، ويسمى جملة الكلام إلى آخره قصيدة وكلمة. وينفرد كل بيت منه بإفادته في تراكيبه، حتى كأنه كلام وحده، مستقل عما قبله وما بعده. وإذا أفرد كان تاماً في بابه في مدح أو نسيب أو رثاء، فيحرص الشاعر على إعطاء ذلك البيت ما يستقل في إفادته. ثم يستأنف في البيت الآخر كلاماً آخر كذلك، ويسترد للخروج من فن إلى فن ومن مقصود إلى مقصود، بأن يوطىء المقصود الأول ومعانيه، إلى أن يناسب المقصود الثاني، ويبعد الكلام عن التنافر. كما يستطرد من النسيب إلى المدح، ومن وصف البيداء والطلول، إلى وصف الركاب أو الخيل أو الطيف، ومن وصف الممدوح إلى وصف قومه وعساكره، ومن التفجع والعزاء في الرثاء إلى التأبين وأمثال ذلك.
ويراعى فيه اتفاق القصيدة كلها في الوزن الواحد، حذراً من أن يتساهل الطبع في الخروج من وزن إلى وزن يقاربه. فقد يخفى ذلك من أجل المقاربة على كثير من الناس. ولهذه الموازين شروط وأحكام تضمنها علم العروض. وليس كل وزن يتفق في الطبع استعملتة العرب في هذا الفن، وإنما هي أوزان مخصوصة يسميها أهل تلك الصناعة البحور. وقد حصروها في خمسة عشر بحراً، بمعنى أنهم لم يجدوا للعرب في غيرها من الموازين الطبيعية نظماً.
واعلم أن فن الشعر من بين الكلام كان شريفاً عند العرب، ولذلك جعلوه ديوان علومهم وأخبارهم وشاهد صوابهم وخطئهم، وأصلاً يرجعون إليه في الكثير من علومهم وحكمهم. وكانت ملكته مستحكمة فيهم شأن ملكاتهم كلها. والملكات اللسانية كلها إنما تكتسب بالصناعة والارتياض في كلامهم، حتى يحصل شبه في تلك الملكة.(1/367)
والشعر من بين فنون الكلام صعب المأخذ على من يريد اكتساب ملكته بالصناعة من المتأخرين، لاستقلال كل بيت منه بأنه كلام تام في مقصوده، ويصلح أن ينفرد دون ما سواه، فيحتاج من أجل ذلك إلى نوع تلطف في تلك الملكة، حتى يفرغ الكلام الشعري في قوالبه التي عرفت له في ذلك المنحى من شعر العرب، ويبرزه مستقلاً بنفسه. ثم يأتي ببيت آخر كذلك، ثم ببيت أخر، ويستكمل الفنون الوافية بمقصوده. ثم يناسب بين البيوت في موالاة بعضها مع بعض بحسب اختلاف الفنون التي في القصيدة. ولصعوبة منحاه وغرابة فنه كان محكاً للقرائح في استجاده أساليبه، وشحذ الأفكار في تنزيل الكلام في قوالبه. ولا تكفي فيه ملكة الكلام العربي على الإطلاق، بل يحتاج بخصوصه إلى تلطف ومحاولة في رعاية الأساليب التي اختصتة العرب بها وباستعمالها فيه.
ولنذكر هنا مدلول لفظة الأسلوب عند أهل هذه الصناعة وما يريدون بها في إطلاقهم. فاعلم أنها عبارة عندهم عن المنوال الذي تنسج فيه التراكيب، أو القالب الذي يفرغ فيه. ولا يرجع إلى الكلام باعتبار إفادته كمال المعنى الذي هو وظيفة الإعراب، ولا باعتبار إفادته أصل المعنى من خواص التراكيب، الذي هو وظيفة البلاغة والبيان، ولا باعتبار الوزن كما استعمله العرب فيه الذي هو وظيفة العروض. فهذه العلوم الثلاثة خارجة عن هذه الصناعة الشعرية، وإنما ترجع إلى صورة ذهنية للتراكيب المنتظمة كلية باعتبار انطباقها على تركيب خاص. وتلك الصورة ينتزعها الذهن من أعيان التراكيب وأشخاصها ويصيرها في الخيال كالقالب أو المنوال، ثم ينتقي التراكيب الصحيحة عند العرب باعتبار الإعراب والبيان، فيرضها فيه رضاً، كما يفعله البناء في القالب أو النساج في المنوال، حتى يتسع القالب بحصول التراكيب الوافية بمقصود الكلام، ويقع على الصورة الصحيحة باعتبار ملكة اللسان العربي فيه، كان لكل فن من الكلام أساليب تختص به وتوجد فيه على أنحاء مختلفة، فسؤال الطلول في الشعر يكون بخطاب الطلول كقوله:
يا دار مية بالعلياء فالسند.
وبكون باستدعاء الصحب للوقوف والسؤال كقوله:
قفا نسأل الدار التي خف أهلها.
أو باستبكاء الصحب على الطلل كقوله:
قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل.
أو بالاستفهام عن الجواب لمخاطب غير معين كقوله:
ألم تسأل فتخبرك الرسوم.
ومثل تحية الطلول بالأمير لمخاطب غير معين بتحيتها كقوله:
حي الديار بجانب الغزل.
أو بالدعاء لها بالسقيا كقوله:
أسفي طلولهم أجش هذيم ... وغدت عليهم نضرة ونعيم
أو بسؤال السقيا لها من البرق كقوله:
يا برق طالع منزلاً بالأبرق ... واحد السحاب لها حداء الأينق
أو مثل التفجع في الرثاء باستدعاء البكاء كقوله:
كذا فليجل الخطب وليفدح الأمر ... فليس لعين لم يفض ماؤها عذر
أو باستعظام الحادث كقوله:
أرأيت من حملوا على الأعواد ... أرأيت كيف خبا ضياء النادي
أو بالتسجيل على الأكوان بالمصيبة لفقده كقوله:
منابت العشب لاحام ولا راع ... مضى الردى بطويل الرمح والباع
أو بالإنكار على من لم يتفجع له من الجمادات كقول الخارجية:
أياشجر الخابور مالك مورقاً ... كأنك لم تجزع على ابن طريف
أو بتهنئة قريعه بالراحة من ثقل وطأته كقوله:
ألق الرماح ربيعة بن نزار ... أوس الردى بقريعك المغوار(1/368)
وأمثال ذلك كثير في سائر فنون الكلام ومذاهبه. وتنتظم التراكيب فيه بالجمل وغير الجمل، إنشائية وخبرية، أسمية أو فعلية، متفقة وغير متفقة، مفصولة وموصولة، على ما هو شأن التراكيب في الكلام العربي، في مكان كل كلمة من الأخرى. يعرفك فيه ما تستفيده بالارتياض في أشعار العرب، من القالب الكلي المجرد في الذهن، من التراكيب المعينة التي ينطبق ذلك القالب على جميعها. فإن مؤلف الكلام هو كالبناء أو النساج، والصورة الذهنية المنطبقة، كالقالب الذي يبني فيه أو المنوال الذي ينسج عليه. فإن خرج عن القالب في بنائه أو على المنوال في نسجه كان فاسداً. ولا تقولن إن حرفة قوانين البلاغة كافية في ذلك، لأنا نقول: قوانين البلاغة إنما هي قواعد علمية قياسية، تفيد جواز استعمال التراكيب على هيأتها الخاصة بالقياس. وهو قياس علمي صحيح مطرد، كما هو قياس القوانين الإعرابية. وهذه الأساليب التي نحن نقررها ليست من القياس في شيء، إنما هي هيئة ترسخ في النفس من تتبع التراكيب في شعر العرب جريانها على اللسان، حتى تستحكم صورتها، فيستفيد بها العمل على مثالها والاحتذاء، في كل تركيب من الشعر كما قدمنا ذلك في الكلام بإطلاق. وإن القوانين العلمية من العربية والبيان لايفيد تعليمه بوجه. وليس كل ما يصح في قياس كلام العرب وقوانينه االعلمية استعملوه. وإنما المستعمل عندهم من ذلك أنحاء معروفة يطلع عليها الحافظون كلامهم، تندرج صورتها تحت تلك القوانين القياسية. فإذا نظر في شعر العرب على هذا النحو، وبهذه الأساليب الذهنية، التي تصير كالقوالب، كان نظراً في المستعمل من تراكيبهم، لا فيما يقتضيه القياس. ولهذا قلنا إن المحصل لهذه القوالب في الذهن، إنما هو حفظ أشعار العرب وكلامهم. وهذه القوالب كما تكون في المنظوم تكون في منثور، فإن العرب استعملوا كلامهم في كلا الفنين، وجاءوا به مفصلاً في النوعين. ففي الشعر بالقطع الموزونة والقوافي المقيدة، واستقلال الكلام في كل قطعة، وفي منثور، يعتبرون الموازنة والتشابه بين القطع غالباً، وقد يقيدونه بالأسجاع. وقد يرسلونه، وكل واحد من هذه معروفة في لسان العرب. والمستعمل منها عندهم هو الذي يبني مؤلق الكلام عليه تأليفه، ولا يعرفه إلا من حفظ كلامهم، حتى يتجرد في ذهنه من القوالب المعينة الشخصية، قالب كلي مطلق يحذو حذوه في التأليف، كما يحذو البناء على القالب، والنساج على المنوال. فلهذا كان من تأليف الكلام منفرداً عن نظر النحوي والبياني والعروضي. نعم إن مراعاة قوانين هذه العلوم شرط فيه لا يتم بدونها، فإذا تحصلت هذه الصفات كلها في الكلام اختص بنوع من النظر، لطيف في هذه القوالب، التي يسمونها أساليب. ولا يفيده إلا حفظ كلام العرب نظماً ونثراً. وإذا تقرر معنى الأسلوب ما هو، فلنذكر بعده حداً أورسماً للشعر يفهمنا حقيقته على صعوبة هذا الغرض. فإنا لم نقف عليه لأحد من المتقدمين فيما رأيناه.(1/369)
وقول العروضيين في حده إنه الكلام الموزون المقفى، ليس بحد لهذا الشعر الذي نحن بصدده، ولا رسم له. وصناعتهم إنما تنظر في الشعر من حيث اتفاق أبياته في عدد المتحركات والسواكن على التوالي، ومماثلة عروض أبيات الشعر لضربها. وذلك نظر في وزن مجرد عن الألفاظ ودلالتها فناسب أن يكون حداً عندهم ونحن هنا ننظر في الشعر باعتبار ما فيه من الإعراب والبلاغة والوزن والقوالب الخاصة. فلا جرم إن حدهم ذلك لا يصلح له عندنا، فلا بد من تعريف يعطينا حقيقته من هذه الحيثية فنقول: الشعر هو الكلام البليغ المبني على الاستعارة والأوصاف، المفصل بأجزاء متفقة في الوزن والروي، مستقل كل جزء منها في غرضه ومقصده عما قبله وبعده، الجاري على أساليب العرب المخصوصة به. فقولنا الكلام البليغ جنس، وقولنا المبني على الاستعارة والأوصاف فصل له عما يخلو من هذه فإنه في الغالب ليس بشعر، وقولنا المفصل بأجزاء متفقة الوزن والروي فصل له عن الكلام المنثور الذي ليس بشعر عند الكل، وقولنا مستقل كل جزء منها في غرضه ومقصده عما قبله وبعده بيان للحقيقة، لأن الشعر لا تكون أبياته إلا كذلك، ولم يفصل به شيء. وقولنا الجاري على الأساليب المخصوصة به، فصل له عما لم يجرمنه على أساليب الشعر المعروفة، فإنه حينئذ لا يكون شعراً، إنما هو كلام منظوم، لأن الشعر له أساليب تخصه، لا تكون للمنثور. وكذ أساليب المنثور لا تكون للشعر، فما كان من الكلام منظوماً وليس على تلك الأساليب، فلا يسمى شعراً. وبهذا الاعتبار كان الكثير ممن لقيناه من شيوخنا في هذه الصناعة الأدبية يرون أن نظم المتنبي والمعري ليس هو من الشعر في شيء، لأنهما لم يجربا على أساليب العرب فيه، وقولنا في الحد الجاري على أساليب العرب فصل له عن شعر غير العرب من الأمم، عند من يرى أن الشعر يوجد للعرب ولغيرهم. ومن يرى أنه لا يوجد لغيرهم، فلا يحتاج إلى ذلك، ويقول مكانه الجاري على الأساليب المخصوصة. إذ قد فرغنا من الكلام على حقيقة الشعر، فلنرجع إلى الكلام في كيفية عمله فنقول: اعلم أن لعمل الشعر وإحكام صناعته شروطاً، أولها: الحفظ من جنسه أي من جنس شعر العرب، حتى تنشأ في التفس ملكة ينسج على منوالها، ويتخير المحفوظ من الحر النقي الكثير الأساليب. وهذا المحفوظ المختار أقل ما يكفي فيه شعر شاعر من الفحول الإسلاميين، مثل ابن أيي ربيعة وكثير وذي الرمة وجرير وأبي نواس وحبيب والبحتري والرضي وأبي فراس. وأكثره شعر كتاب الأغاني، لأنه جمع شعر أهل الطبقة لإسلامية كله، والمختار من شعر الجاهلية. ومن كان خالياً من المحفوظ فنظمه قاصر رديء، ولا يعطيه الرونق والحلاوة إلا كثرة المحفوظ. فمن قل حفظة أو عدم لم يكن له شعر، وإنما هو نظم ساقط. واجتناب الشعر أولى بمن لم يكن له محفوظ. ثم بعد لامتلاء من الحفظ وشحذ القريحة للنسج على المنوال يقبل على النظم، وبالإكثار منه تستحكم ملكته وترسخ. وربما يقال إن من شرطه نسيان ذلك المحفوظ، لتمحى رسومه حرفية الظاهرة، إذ هي صادة عن استعمالها بعينها. فإذا نسيها، وقد تكيفت النفس بها، انتقش الأسلوب فيها، كأنه منوال يأخذ بالنسج عليه بأمثالها من كلمات أخرى ضرورة. ثم لا بد له من الخلوة واستجادة المكان المنظور فيه من المياه والأزهار، وكذا من مسموع لاستنارة القريحة باستجماعها وتنشيطها بملاذ السرور. ثم مع هذا كله فشرطه، أن يكون على جمام ونشاط، فذلك أجمع له وأنشط للقريحة أن تأتي بمثل ذلك منوال الذي في حفظه.(1/370)
قالوا: وخير الأوقات لذلك أوقات البكر عند الهبوب من النوم وفراغ المعدة ونشاط الفكر، وفي هواء الجمام. وربما قالوا إن من بواعثه العشق والانتشاء، ذكر ذلك ابن رشيق في كتاب العمدة، وهو الكتاب الذي انفرد بهذه الصناعة وإعطاء حقها، ولم يكتب فيها أحد قبله ولا بعده مثله. قلوا: فإن استصعب عليه بعد هذا كله فليتركه إلى وقت آخر، ولايكره نفسه عليه. وليكن بناء البيت على القافية من أول صوغه ونسجه يضعها، ويبني الكلام عليها إلى آخره، لأنه إن غفل عن بناء البيت على القافية صعب عليه وضعها في محلها. فربما تجيء نافرة قلقة، وإذا سمح الخاطر بالبيت، ولم يناسب الذي عنده فليتركه إلى موضعه الأليق به، فإن كل بيت مستقل بنفسه، ولم تبق إلا المناسبة قليتخير فيها ما يشاء، وليراجع شعره بعد الخلاص منه بالتنقيح والنقد، ولا يضن به على الترك إذا لم يبلغ الإجادة. فإن الإنسان مفتون بشعره، إذ هو نبات فكره واختراع قريحته، ولا يستعمل فيه من الكلام إلا الأفصح من التراكيب. والخالص من الضرورات اللسانية فليهجرها، فإنها تنزل بالكلام عن طبقة البلاغة.
وقد حظر أئمة اللسان على المولد ارتكاب الضرورة، إذ هو في سعة منها بالعدول عنها إلى الطريقة المثلى من الملكة. ويجتنب أيضاً المعقد من التراكيب جهده. وإنما يقصد منها ما كانت معانيه تسابق ألفاظه إلى الفهم وكذلك كثرة المعاني في البيت الواحد فإن فيه نوع تعقيد على الفهم. وإنما المختار منه ما كانت ألفاظة طبقاً على معانيه أو أوفى منها. فإن كانت المعاني كثيرة كان حشواً، واشتغل الذهن بالغوص عليها، فمنع الذوق عن استيفاء مدركه من البلاغة. ولا يكون الشعر سهلاً إلا إذا كانت معانيه تسابق ألفاظه إلى الذهن. ولهذا كان شيوخنا رحمهم اللة يعيبون شعر أبي بكر بن خفاجة، شاعر شرق الأندلس، لكثرة معانيه وازدحامها في البيت الواحد، كما كانوا يعيبون شعر المتنبي والمعري بعده النسج على الأساليب العربية كما مر، فكان شعرهما كلاماً منظوماً نازلاً عن طبقة الشعر، والحاكم بذلك هو الذوق. وليجتنب الشاعر أيضاً الحوشي من الألفاظ والمقعر، وكذلك السوقي المبتذل بالتداول بالاستعمال، فإنه ينزل بالكلام عن طبقة البلاغة. وكذلك المعاني المبتذلة بالشهرة فإن الكلام ينزل بها عن البلاغة أيضاً، فيصير مبتذلاً ويقرب من عدم الإفادة كقولهم: النار حارة والسماء فوقنا. وبمقدار ما يقرب من طبقة عدم الإفادة يبعد عن رتبة البلاغة، إذ هما طرفان. ولهذا كان الشعر في الربانيات والنبويات قليل الإجادة في الغالب، ولا يحذق فيه إلا الفحول. وفي القليل، على العسر، لأن معانيها متداولة بين الجمهور، فتصير مبتذلة لذلك. وإذا تعذر الشعر بعد هذا كله فليراوضه ويعاوده، فإن القريحة مثل الضرع يدر بالامتراء ويجف ويغرر بالترك والإهمال. وبالجملة فهذه الصناعة وتعلمها مستوفى فى كتاب العمدة لابن رشيق، وقد ذكرنا منها ما حضرنا بحسب الجهد. ومن أراد استيفاء ذلك فعليه بذلك الكتاب ففيه لبغية من ذلك. وهذه نبذة كافية والله المعين. وقد نظم الناس في أمر هذه الصناعة الشعرية ما يجب فيها. ومن أحسن ما قيل في ذلك وأظنه لابن رشيق:
لعن اللة صنعة الشعر ماذا ... من صنوف الجهال فيها لقينا
يؤثرون الغريب منه على ما ... كان سهلاً للسامعين مبينا
ويرون المحال معنى صحيحاً ... وخسيس الكلام شيئاً ثميناً
يجهلون الصواب منه ولايد ... رون للجهل أنهم يجهلونا
فهم عند من سوانا يلامو ... ن وفي الحق عندنا يعذرونا
إنما الشعر ما يناسب في النظ ... م وإن كان في الصفات فنونا
فأتى بعضه يشاكل بعضاً ... وأقامت له الصدور المتونا
كل معنى أتاك منه على ما ... تتمنى لو لم يكن أو يكونا
فتناهى من البيان إلى أن ... كاد حسناً يبين للناظرينا
فكأن الألفاظ منه وجوه ... والمعاني ركبن فيه عيونا
قائماً في المرام حسب الأماني ... يتحلى بحسنه المنشدونا
فإذا ما مدحت بالشعر حراً ... رمت فيه مذاهب المشتهينا(1/371)
فجعلت النسيب سهلاً قريباً ... وجعلت المديح صدقاً مبينا
وتنكبت ماتهجن في السمع ... وإن كان لفظه موزونا
وإذا ما قرضته بهجاء ... عبت فيه مذاهب المرقبينا
فجعلت التصريح منه دواء ... وجعلت التعريض داء دفينا
وإذا ما بكيت فيه على الغا ... دين يوماً للبين والظاعنينا
حلت دون الأسى وذللت ما كا ... ن من الدمع في العيون مصونا
ثم إن كنت عاتباً جئت بالوعد ... وعيداً وبالصعوبة لينا
فتركت الذي عتبت عليه ... حذراً، آمناً، عزيزاً، مهينا
وأصح القريض ما فات في النظم ... وإن كان واضحاً مستبينا
فإذا قيل أطمع الناس طراً ... وإذا ريم أعجز المعجزينا
ومن ذلك أيضاً قول بعضهم وهو الناشي:
الشعرما قومت زيغ صدوره ... وشددت بالتهذيب أس متونه
ورأيت بالإطناب شعب صدوعه ... وفتحت بالإيجاز عور عيونه
وجمعت بين قريبه وبعيده ... ووصلت بين مجمه ومعينه
وعمدت منه سحد أمر يقتضى ... شبهاً به فقرينه بقرينه
وإذا مدحت به جواداً ماجداً ... وقضيته بالشكر حق ديونه
أصفيته بنفيسه ورصينه ... وخصصته بخطيره وثمينه
فيكون جزلاً في مساق صنوفه ... ويكون سهلاً في اتفاق فنونه
وإذا بكيت به الديار وأهلها ... أجريت للمحزون ماء شئونه
وإذا أردت كناية عن ريبة ... باينت بين ظهوره وبطونه
فجعلت سامعة يشوب شكوكه ... بثنائه وظنونه بيقينه
وإذا عتبت على أخ في زلة ... أدمجت شدته له في لينه
فتركته مستأنساً بدماثة ... مستأمناً لوعوثه وحزوبه
وإذا نبذت إلى الذي علقتها ... إذ صارمتك بفاتنات شؤونه
تيمتها بلطيفه ورقيقه ... وشغفتها بخبيه وكمينه
وإذا اعتذرت لسقطة أسقطتها ... وأشكت بين مخيله ومبينه
فيحول ذنبك عندمن يعتده ... عتباًعليه مطالباً بيمينه
الفصل السادس والخمسون
في أن صناعة النظم والنثر إنما هي في الألفاظ لا في المعاني اعلم أن صناعة الكلام نظماً ونثراً إنما هي في الألفاظ لا في المعاني، وإنما المعاني تبع لها وهي أصل. فالصانع الذي يحاول ملكة الكلام في النظم والنثر، إنما يحاولها في الألفاظ بحفظ أمثالها من كلام العرب، ليكثر استعماله وجرية على لسانه، حتى تستقر له الملكة في لسان مضر، ويتخلص من العجمة التي ربي عليها في جيله، ويفرض نفسه، مثل وليد ينشأ في جيل العرب ويلقن لغتهم كما يلقنها الصبي، حتى يصير كأنه واحد منهم في لسانهم. وذلك أنا قدمنا أن للسان ملكة من الملكات في النطق يحاول تحصيلها بتكرارها على اللسان حتى تصل شأن الملكات، والذي في اللسان والنطق إنما هو الألفاظ، وأما المعاني فهي في الضمائر. وأيضاً فالمعاني موجودة عند كل واحد وفي طوع كل فكر منها مايشاء ويرضى، فلا تحتاج إلى تكلف صناعة في تأليفها. وتأليف الكلام للعبارة عنها هو المحتاج للصناعة كما قلناه وهو بمثابة القوالب للمعاني. فكما أن الأواني التي يغترف بها الماء من البحر منها آنية الذهب والفضة والصدف والزجاج والخزف، والماء واحد في نفسه. وتختلف الجودة في الأواني المملوءة بالماء باختلاف جنسها لا باختلاف الماء. كذلك جودة اللغة وبلاغتها في الاستعمال تختلف باختلاف طبقات الكلام في تأليفه، باعتبار تطبيقه على المقاصد. والمعاني واحدة في نفسها وإنما الجاهل بتأليف الكلام وأساليبه، على مقتضى ملكة اللسان، إذا حاول العبارة عن مقصوده، ولم يحسن، بمثابة المقعد، الذي يروم النهوض ولا يستطيعه، لفقدان القدرة عليه. والله يعلمكم ما لم تكونوا تعلمون.
الفصل السابع والخمسون
في أن حصول هذه الملكة بكثرة الحفظ وجودتها بجودة المحفوظ(1/372)
قد قدمنا أنه لا بد من كثرة الحفظ، لمن يروم تعلم اللسان العربي، وعلى قدر جودة المحفوظ وطبقته في جنسه وكثرته من قلته، تكون جودة الملكة الحاصلة عنه للحافظ. فمن كان محفوظه من أشعار العرب الإسلاميين شعر حبيب أو العتابي أو ابن المعتز أو ابن هانىء أو الشريف الرضي، أو رسائل ابن المقفع أو سهل ابن هارون أو ابن الزيات أو البديع أو الصابىء، تكون ملكته أجود وأعلى مقاماً ورتبة في البلاغة، ممن يحفظ أشعار المتأخرين مثل شعر ابن سهل أو ابن النبيه أو ترسل البيساني أو العماد لأصبهاني، لنزول طبقة هؤلا عن أولئك. يظهر ذلك للبصير الناقد صاحب الذوق. وعلى مقدار جودة المحفوظ أو المسموع، تكون جودة الاستعمال من بعده، ثم إجادة الملكة من بعدهما. فبارتقاء المحفوظ فى طبقته من الكلام، ترتقي الملكة الحاصلة لأن الطبع إنما ينسج على منوالها، وتنمو قوى الملكة بتغذيتها. وذلك أن النفس، وإن كانت في جبلتها واحدة بالنوع، فهي تختلف في البشر بالقوة والضعف في الإدراكات.
واختلافها إنما هو باختلاف ما يرد عليها من الإدراكات والملكات والآلوان التي تكيفها من خارج. فبهذه يتم وجودها، وتخرج من القوة إلى الفعل صورتها. والملكات التي تحصل لها إنما تحصل على التدريج كما قدمناه. فالملكة الشعرية تنشأ بحفظ الشعر، وملكة الكتابة بحفظ الأسجاع والترسيل، والعلمية بمخالطة العلوم والإدراكات والأبحاث والأنظار، والفقهية بمخالطة الفقه وتنظير المسائل وتفريعها وتخريج الفروع على الأصول، والتصوفية الربانية بالعبادات والأذكار وتعطيل الحواس الظاهرة بالخلوة والانفراد عن الخلق ما استطاع، حتى تحصل له ملكة الرجوع إلى حسه الباطن وروحه، وينقلب ربانياً وكذا سائرها. وللنفس في كل واحد منها لون تتكيف به، وعلى حسب ما نشأت الملكة عليه من جودة أو رداءة تكون تلك الملكة في نفسها، فملكة البلاغة العالية الطبقة في جنسها إنما تحصل بحفظ العالي في طبقته من الكلام، ولهذا كان الفقهاء وأهل العلوم كلهم قاصرين في البلاغة، وما ذلك إلا ما يسبق إلى محفوظهم، ويمتلىء به من القوانين العلمية والعبارات الفقهية الخارجة عن أسلوب البلاغة والنازلة عن الطبقة، لأن العبارات عن القوانين والعلوم لا حظ لها في البلاغة، فإذا سبق ذلك المحفوظ إلى الفكر وكثر وتلونت به النفس جاءت الملكة الناشئة عنه في غاية القصور وانحرفت عباراته عن أساليب العرب في كلامهم. وهكذا نجد شعر الفقهاء والنحاة والمتكلمين والنظار وغيرهم ممن لم يمتلىء من حفظ النقي الحر من كلام العرب.
أخبرني صاحبنا الفاضل أبو القاسم بن رضوان كاتب العلامة بالدولة المرينية قال: ذاكرت يوماً صاحبنا أبا العباس بن شعيب كاتب السلطان أبي الحسن، وكان المقدم في البصر باللسان لعهده فأنشدته مطلع قصيدة ابن النحوي ولم أنسبها له وهو هذا:
لم أدر حين وقفت بالأطلال ... ما الفرق بين جديدها والبالي
فقال لي على البديهة: هذا شعر فقيه، فقلت له ومن أين لك ذلك؟ قال من قوله: ما الفرق؟ إذ هي من عبارات الفقهاء، وليست من أساليب كلام العرب، فقلت له: لله أبوك، إنه ابن النحوي.
وأما الكتاب والشعراء فليسوا كذلك، لتخيرهم في محفوظهم ومخالطتهم كلام العرب وأساليبهم في الترسل، وانتقائهم له الجيد من الكلام.
ذاكرت يوماً صاحبنا أبا عبد الله بن الخطيب، وزير الملوك بالأندلس من بني الأحمر، وكان الصدر المقدم في الشعر والكتابة فقلت له: أجد استصعاباً علي في نظم الشعر متى رمته، مع بصري به وحفظي للجيد من الكلام، من القرآن والحديث وفنون من كلام العرب، وإن كان محفوظي قليلاً. وإنما أتيت، والله أعلم بحقيقة الحال، من قبل ما حصل في حفظي من الأشعار العلمية والقوانين التأليفية. فإني حفظت قصيدتي الشاطبي الكبرى والضغرى في القرا آت والرسم واستظهرتهما، وتدارست كتابي ابن الحاجب في الفقه والأصول وجمل الخونجي في المنطق وبعض كتاب التسهيل وكثيراً من قوانين التعليم في المجالس، فامتلأ محفوظي من ذلك، وخدش وجه الملكة التي استدعيت لها بالمحفوظ الجيد من القرآن والحديث وكلام العرب، فعاق القريحة عن بلوغها، فنظر إلي ساعة متعجباً ثم قال: لله أنت، وهل يقول هذا إلا مثلك؟.(1/373)
ويظهر لك من هذا الفصل، وما تقرر فيه سر آخر، وهو إعطاء السبب في أن كلام الإسلاميين من العرب أعلى طبقة في البلاغة وأذواقها من كلام الجاهلية، في منثورهم ومنظومهم. فإنا نجد شعر حسان بن ثابت وعمر بن أبي ربيعة والحطيئة وجرير والفرزدق ونصيب وغيلان في الرمة والأحوص وبشار، ثم كلام السلف من العرب في الدولة الأموية وصدراً من الدولة العباسية، في خطبهم وترسيلهم ومحاوراتهم للفلوك أرفع طبقة في البلاغة بكثير من شعر النابغة وعنترة وابن كلثوم وزهير وعلقمة بن عبدة وطرفة بن العبد، ومن كلام الجاهلية في منثورهم ومحاوراتهم. والطبع السليم والذوق الصحيح شاهدان بذلك للناقد البصير بالبلاغة.
والسبب في ذلك أن هؤلاء الذين أدركوا الإسلام سمعوا الطبقة العالية من الكلام في القرآن والحديث، اللذين عجز البشر عن الإتيان بمثليهما، لكونها ولجت في قلوبهم ونشأت على أساليبها نفوسهم، فنهضت طباعهم وارتقت ملكاتهم في البلاغة عن ملكات من قبلهم من أهل الجاهلية، ممن لم يسمع هذه الطبقة ولا نشأ عليها، فكان كلامهم في نظمهم ونثرهم أحسن ديباجة وأصفى رونقاً من أولئك، وأصفى مبنى وأعدل تثقيفاً بما استفادوه من الكلام العالي الطبقة. وتأمل ذلك يشهد لك به ذوقك إن كنت من أهل الذوق والتبصر بالبلاغة.
ولقد سألت يوماً شيخنا الشريف أبا القاسم قاضي غرناطة لعهدنا، وكان شيخ هذه الصناعة، أخذ بسبتة عن جماعة من مشيختها من تلاميذ الشلوبين، واستبحر في علم اللسان وجاء من وراء الغاية فيه، فسألته يوماً: ما بال العرب الإسلاميين أعلى طبقة في البلاغة من الجاهليين، ولم يكن ليستنكر ذلك بذوقه، فسكت طويلاً ثم قال لي: والله ما أدري! فقلت له: أعرض عليك شيئاً ظهر لي في ذلك، ولعله السبب فيه. وذكرت له هذا الذي كتبت فسكت معجباً، ثم قال لي: يا فقيه هذا كلام من حقه أن يكتب بالذهب. وكان من بعدها يؤثر محلي ويصيخ في مجالس التعليم إلى قولي ويشهد لي بالنباهة في العلوم. والله خلق الإنسان وعلمه البيان.
الفصل الثامن والخمسون
في بيان المطبوع من الكلام
والمصنوع وكيف جودة المصنوع أو قصوله إعلم أن الكلام الذي هو العبارة والخطاب، إنما سره وروحه في إفادة المعنى.
وأما إذا كان مهملاً فهو كالموات الذي لا عبرة به. وكمال الإفادة هو البلاغة على ما عرفت من حدها عند أهل البيان لأنهم يقولون هي مطابقة الكلام لمقتضى الحال، ومعرفة الشروط والأحكام التي بها تطابق التراكيب اللفظية مقتضى الحال، هو فن البلاغة. وتلك الشروط والأحكام للتراكيب في المطابقة استقريت من لغة العرب وصارت كالقوانين. فالتراكيب بوضعها تفيد الإسناد بين المسندين، بشروط وأحكام جل قوانين العربية. وأحوال هذه التراكيب من تقديم وتأخير، وتعريف وتنكير، وإضمار وإظهار، وتقييد وإطلاق وغيرها، يفيد الأحكام المكتنفة من خارج الإسناد، وبالمتخاطبين حال التخاطب بشروط وأحكام هي قوانين لفن، يسمونه علم المعاني من فنون البلاغة. فتندرج قوانين العربية لذلك في قوانين علم المعاني لأن إفادتها الإسناد جزء من إفادتها للأحوال المكتنفة بالإسناد. وما قصر من هذه التراكيب عن إفادة مقتضى الحال لخلل في قوانين الإعراب أو قوانين المعاني كان قاصراً عن المطابقة لمقتضى الحال، ولحق بالمهمل الذي هو في عداد الموات.(1/374)
ثم يتبع هذه الإفادة لمقتضى الحال التفنن في انتقال التركيب بين المعاني بأصناف الدلالات، لأن التركيب يدل بالوضع على معنى، ثم ينتقل الذهن إلى لازمه أو ملزومه أو شبهه، فيكون فيها مجازاً: إما باستعارة، أو كناية كما هو مقرر في موضعه، ويحصل للفكر بذلك الانتقال لذة كما تحصل في الإفادة وأشد. لأن في جميعها ظفر بالمدلول من دليله. والظفر من أسباب اللذة كما علمت. ثم لهذه الانتقالات أيضاً شروط وأحكام كالقوانين صيروها صناعة، وسموها بالبيان. وهي شقيقة علم المعاني المفيد لمقتضى الحال، لأنها راجعة إلى معاني التراكيب ومدلولاتها. وقوانين علم المعاني راجعة إلى أحوال التراكيب انفسها من حيث الدلالة. واللفظ والمعنى متلازمان متضايقان كما علمت. فإذا علم المعاني وعلم البيان هما جزء البلاغة، وبهما كمال الإفادة، فهو مقصر عن البلاغة ويلتحق عند البلغاء بأصوات الحيوانات العجم وأجدر به أن لا يكون عربياً، لأن العربي هو الذي يطابق بإفادته مقتضى الحال. فالبلاغة على هذا هي أصل الكلام العربي وسجيته وروحه وطبيعته.
ثم اعلم أنهم إذا قالوا: " الكلام المطبوع فإنهم يعنون به الكلام الذي كملت طبيعته وسجيته من إفادة مدلوله المقصود منه، لأنه عبارة وخطاب، ليس المقصود منه النطق فقط. بل المتكلم يقصد به أن يفيد سامعه ما في ضميره إفادة تامة، ويدل به عليه دلالة وثيقة. ثم يتبع تراكيب الكلام في هذه السجية التي له بالأصالة ضروب من التحسين والتزيين، بعد كمال الإفادة وكأنها تعطيها رونق الفصاحة من تنميق الأسجاع، والموازنة بين حمل الكلام وتقسيمه بالأقسام المختلفة الأحكام والتورية باللفظ المشترك عن الخفي من معانيه، والمطابقه بين المتضادات، ليقع التجانس بين الألفاظ والمعاني، يحصل للكلام رونق ولذة في الأسماع وحلاوة وجمال كلها زائدة على الإفادة.
وهذه الصنعة موجودة في الكلام المعجز في مواضع متعقلة مثل: " والليل إذا يغشى والنهار إذا تجلى " ، ومثل: " فأما من أعطى واتقى وصدق بالحسنى " ، إلى آخر التقسيم في الآية. وكذا: " فأما من طغى وآثر الحياة الدنيا " إلى آخر الآية. وكذا: " هم يحسبون أنهم يحسنون صنعا " . وأمثاله كثير. وذلك بعد كمال الإفادة في أصل هذه التراكيب قبل وقوع هذا البديع فيها. وكذا وقع في كلام الجاهلية منه، لكن عفواً من غير قصد ولاتعمد. ويقال إنه وقع في شعر زهير.
وأما الإسلاميون فوقع لهم عفواً وقصداً، وأتوا منه بالعجائب. وأول من أحكم طريقته حبيب بن أوس والبحتري ومسلم بن الوليد، فقد كانوا مولعين بالصنعة، ويأتون منها بالعجب. وقيل إن أول من ذهب إلى معاناتها بشار بن برد وابن هرمة، وكانا آخر من يسشهد بشعره، في اللسان العربي. ثم اتبعهما عمرو بن كلثوم والعتابي ومنصور النميري ومسلم بن الوليد وأبو نواس. وجاء على آثرهم حبيب والبحتري. ثم ظهر ابن المعتز فختم على البديع والصناعة أجمع. ولنذكر مثالاً من المطبوع الخالي من الصناعة، مثل قول قيس بن ذريح:
وأخرج من بين البيوت لعلني ... أحدث عنك النفس في السر خاليا
وقول كثئر:
وإني وتهيامي بعزة بعدما ... تخليت عما بيننا وتخلت
لكالمرتجي ظل الغمامة كلها ... تبوأ منها للمقيل اضمحلت
فتأمل هذا المطبوع، الفقيد الصنعة، في إحكام تأليفه وثقافة تركيبه. فلو جاءت فيه الصنعة من بعد هذا الأصل زادته حسناً.(1/375)
وأما المصنوع فكثير من لدجن بشار، ثم حبيب وطبقتهما، ثم ابن المعتز خاتم الصنعة الذي جرى المتأخرون بعدهم في ميدانهم، ونسجوا على منوالهم. وقد تعددت أصناف هذه الصنعة عند أهلها، واختلفت اصطلاحاتهم في ألقابها. وكثير منهم يجعلها مندرجة في البلاغة على أنها غير داخلة في الإفادة، وأنها هي تعطي التحسين والرونق. وأما المتقدمون من أهل البديع، فهي عندهم خارجة عن البلاغة. ولذلك يذكرونها في الفنون الأدبية التي لا موضوع لها. وهو رأي ابن رشيق في كتاب العمدة له، وأدباء الأندلس. وذكروا في استعمال هذه الصنعة شروطاً، منها أن تقع من غير تكلف ولا اكتراث في ما يقصد منها. وأما العفو فلا كلام فيه لأنها إذا برئت من التكلف سلم الكلائم من غيب الاستهجان، لأن تكلفها ومعاناتها يصير إلى الغفلة عن التراكيب الأصلية للكلام، فتخل بالإفادة من أصلها، وتذهب بالبلاغة رأساً. ولا يبقى في الكلام إلا تلك التحسينات، وهذا هو الغالب اليوم على أهل العصر وأصحاب الأذواق في البلاغه يسخرون من كلفهم بهذه الفنون، ويعدون ذلك من القصور عن سواه. وسمعت شيخنا الأستاذ أبا البركات البلفيقي، وكان من أهل البصر في اللسان والقريحة في ذوقه يقول: إن من أشهى ما تقترحه علي نفسي أن اشاهد في بعض الأيام من ينتحل فنون هذا البديع في نظمه أو نثره، وقد عوقب بأشد العقوبة، ونودي عليه، يحذر بذلك تلميذه أن يتعاطوا هذه الصنعة، فيكلفون بها، ويتناسون البلاغة. ثم من شروط استعمالها عندهم الإقلال منها وأن تكون في بيتين ثم ثلاثة من القصيد، فتكفي في زينة الشعر ورونقه. والإكثار منها عيب، قاله ابن رشيق وغيره. وكان شيخنا أبو القاسم الشريف السبتي متفق اللسان العربي بالأندلس لوقته يقول: هذه الفنون البديعية إذا وقعت للشاعر أو للكاتب فيقبح أن يستكثر منها، لأنها من محسنات الكلام ومزيناته، فهي بمثابة الخيلان في الوجه يحسن بالواحد والاثنين منها، ويقبح بتعدادها. وعلى نسبة الكلام المنظوم هو الكلام المنثور في الجاهلية والإسلام. وكان أولاً مرسلاً معتبر الموازنة بين جمله وتراكيبه، شاهدة موازنته بفواصله، من غير التزام سجع ولا اكتراث بصنعة. حتى نبغ إبراهيم بن هلال الصابي كاتب بني بويه، فتعاطى الصنعة والتقفية وأتى بذلك بالعجب. وعاب الناس عليه كلفه بذلك في المخاطبات السلطانية. وإنما حمله عليه ما كان في ملوكه من العجمة والبعد عن صولة الخلافة المنفقة لسوق البلاغة. ثم انتشرت الصناعة بعده في منثور المتأخرين ونسي عهد الترسيل وتشابهت السلطانيات والأخوانيات والعربيات بالسوقيات. واختلط المرعي بالهمل. وهذا كله يدلك على أن الكلام المصنوع بالمعاناة والتكليف، قاصر عن الكلام المطبوع، لقلة الاكتراث فيه بأصل البلاغة، والحاكم في ذلك الذوق. الله خلقكم وعلمكم ما لم تكونوا تعلمون.
الفصل التاسع والخمسون
في ترفع أهل المراتب عن انتحال الشعر(1/376)
اعلم أن الشعر كان ديواناً للعرب، فيه علومهم وأخبارهم وحكمهم. وكان رؤساء العرب متنافسين فيه، وكانوا يقفون بسوق عكاظ لإنشاده وعرض كل واحد منهم ديباجته على فحول الشأن وأهل البصر، لتمييز حوكه. حتى انتهوا إلى المناغاة في تعليق أشعارهم بأركان البيت الحرام، موضع حجهم، وبيت أبيهم إبراهيم، كما فعل امرؤ القيس بن حجر، والنابغة الذبياني، وزهير بن أبي سلمى، وعنترة بن شداد، وطرفة بن العبد وعلقمة بن عبدة، والأعشى وغيرهم من أصحاب المعلقات السبع. فإنه إنما كان يتوصل إلى تعليق الشعر بها، من كان له قدرة على ذلك بقومه وعصبيته ومكانه في مضر، على ما قيل في سبب تسميتها بالمعلقات. ثم انصرف العرب عن ذلك أول الإسلام ، بما شغلهم من أمر الدين والنبوة والوحي، وما أدهشهم من أسلوب القرآن ونظمه، فأخرسوا عن ذلك وسكتوا عن الخوض في النظم والنثر زماناً. ثم استقر ذلك وأونس الرشد من الملة. ولم ينزل الوحي في تحريم الشعر وحظره، وسمعه النبي صلى الله عليه وسلم وأثاب عليه، فرجعوا حينئذ إلى دينهم منه. وكان لعمر بن أبي ربيعة كبير قريش لذلك العهد مقامات فيه عالية وطبقة مرتفعة، وكان كثيراً ما يعرض شعره على ابن عباس فيقف لاستماعه معجباً به. ثم جاء من بعد ذلك الملك الفحل والدولة العزيزة، وتقرب إليهم العرب بأشعارهم يمتدحونهم بها. ويجيزهم الخلفاء بأعظم الجوائز على نسبة الجودة في أشعارهم ومكانهم من قومهم، ويحرصون على استهداء أشعارهم، يطلعون منها على الآثار والأخبار واللغة وشرف اللسان. والعرب يطالبون ولدهم بحفظها. ولم يزل الشاذ هذا أيام بني أمية وصدراً من دولة بني العباس. وانظر ما نقله صاحب العقد في مسامرة الرشيد للأصمعي، في باب الشعر والشعراء تجد ما كان عليه الرشيد من المعرفة بذلك، والرسوخ فيه والعناية بانتحاله، والتبصر بجيد الكلام ورديئه وكثرة محفوظه منه. ثم جاء خلق من بعدهم لم يكن اللسان لسانهم، من أجل العجمة ولقصيرها باللسان، وإنما تعلموه صناعة، ثم مدحوا بأشعارهم أمراء العجم الذين ليس اللسان لهم طالبين معروفهم فقط، لا سوى ذلك من الأغراض، كما فعله حبيب والبحتري والمتنيي وابن هانىء ومن بعدهم إلى هلم جرا. فصار غرض الشعر في الغالب إنما هو للكدية والاستجداء لذهاب المنافع التي كانت فيه للأولين، كما ذكرناه آنفاً. وأنف منه لذلك أهل الهمم والمراتب من المتفخرين، وتغير الحال فيه وأصبح تعاطيه هجنه في الرئاسة ومذمة، هل المناصب الكبيرة. والله مقلب الليل والنهار.
الفصل الستون
في أشعار العرب وأهل الأمصار لهذا العهد
اعلم أن الشعر لا يختص باللسان العربي فقط، بل هو موجود في كل لغة، سواء كانت عربية أو عجمية. وقد كان في الفرس شعراء وفي يونان كذلك، وذكر منهم أرسطو في كتاب المنطق: أوميروس الشاعر وأثنى عليه. وكان في حمير أيضاً شعراء متقدمون. ولما فسد لسان مضر ولغتهم التي دونت مقاييسها وقوانين إعرابها، وفسدت اللغات من بعد بحسب ما خالطها ومازجها من العجمة، فكان لجيل العرب بأنفسهم لغة خالفت لغة سلفهم من مضر في الإعراب جملة، وفي كثير من الموضوعات اللغوية وبناء الكلمات. وكذلك الحضر أهل الأمصار نشأت فيهم لغة أخرى خالفت لسان مضر في الإعراب وأكثر الأوضاع والتصاريف، وخالفت أيضاً لغة الجيل من العرب لهذا العهد. واختلفت هي في نفسها بحسب اصطلاحات أهل الآفاق، فلأهل المشرق وأمصاره لغة غير لغة أهل المغرب وأمصاره، وتخالفهما أيضاً لغة أهل الأندلس وأمصاره.(1/377)
ثم لما كان الشعر موجوداً بالطبع في أهل كل لسان، لأن الموازين على نسبة واحدة في إعداد المتحركات والسواكن وتقابلها، موجودة في طباع البشر، فلم يهجر الشعر بفقدان لغة واحدة وهي لغة مضر، الذين كانوا فحوله وفرسان ميدانه، حسبما اشتهر بين أهل الخليقة. بل كل جيل وأهل كل لغة من العرب المستعجمين والحضر أهل الأمصار، يتعاطون منه ما يطاوعهم في انتحاله ورصف بنائه على مهيع كلامهم. فأما العرب، أهل هذا الجيل، المستعجمون عن لغة سلفهم من مضر، فيقرضون الشعر لهذا العهد في سائر الأعاريض، على ما كان عليه سلفهم المستعربون، ويأتون منه بالمطولات مشتملة على مذاهب الشعر وأعراضه من النسيب والمدح والرثاء والهجاء، ويستطيردون في الخروج من فن إلى فن في الكلام. وربما هجموا على المقصود لأول كلامهم. وأكثر ابتدائهم في قصائدهم باسم الشاعر، ثم بعد ذلك ينسبون. فأهل أمصار المغرب من العرب يسمون هذه القصائد بالأصمعيات، نسبة إلى الأصمعي، راوية العرب. في أشعارهم. وأهل المشرق من العرب يسمون هذا النوع من الشعر بالبدوي والحوراني والقيسي، وربما يلحنون فيه ألحاناً بسيطة، لا على طريقة الصناعة الموسيقية. ثم يغنون به، ويسمون الغناء به باسم الحوراني، نسبة إلى حوران من أطراف العراق والشام، وهي من منازل العرب البادية ومساكنهم إلى هذا العهد.
ولهم فن آخر كثير التداول في نظمهم يجيئون به مغصناً على أربعة أجزاء، يخالف آخرها الثلاثة في رويه ويلتزمون القافية الرابعة في كل بيت إلى آخر القصيدة، شبيهاً بالمربع والمخمس الذي أحدثه المتأخرون من المولدين. ولهؤلاء العرب في هذا الشعر بلاغة فائقة، وفيهم الفحول والمتأخرون عن ذلك، والكثير من المنتحلين للعلوم لهذا العهد، وخصوصاً علم اللسان، يستنكر هذه الفنون التي لهم إذا سمعها ويمج نظمهم إذا أنشد، ويعتقد أن ذوقه إنما نبا عنها لاستهجانها وفقدان الإعراب منها. وهذ إنما أتى من فقدان الملكة في لغتهم. فلو حصلت له ملكة من ملكاتهم لشهد له طبعه وذوقه ببلاغتها إن كان سليماً من الآفات في فطرته ونظره، وإلا فالإعراب لا مدخل له في البلاغة، إنما البلاغة مطابقة الكلام للمقصود ولمقتضى الحال من الوجود فيه، سواء كان الرفع دالاً على الفاعل والنصب دالاً على المفعول أو بالعكس. وإنما يدل على ذلك قرائن الكلام، كما هو في لغتهم هذه. فالدلالة بحسب ما يصطلح عليه أهل الملكة: فإذا عرف اصطلاح في ملكة واشتهر صحت الدلالة، وإذا طابقت تلك الدلالة المقصود ومقتضى الحال صحت البلاغة. ولا عبرة بقوانين النحاة في ذلك. وأساليب الشعر وفنونه موجودة في أشعارهم هذه ما عدا حركات الإعراب في أواخر الكلم، فإن غالب كلماتهم موقوفة الآخر. ويتميز عندهم الفاعل من المفعول والمبتدأ من الخبر بقرائن الكلام لا بحركات الإعراب. فمن أشعارهم على لسان الشريف بن هاشم يبكي الجازية بنت سرحان، ويذكر ظعنها مع قومها إلى المغرب:
قال الشريف ابن هاشم علي ... ترى كبدي حرى شكت من زفيرها
يفز للأعلام اين ما رأت خاطري ... يرد غلام البدو يلوي عصيرها
وماذا شكاة الروح مما طرا لها ... غداة وزائع تلف الله خبيرها
يحس إن قطاع عامر ضميرها ... طوى وهند جافي. ذكيرها
وعادت كما خوارة في يد غاسل ... على مثل شوك الطلح عقدوا يسيرها
تجابذوها اثنين والنزع بينهم ... على شوك لعه والبقايا جريرها
وباتت دموع العين ذارفات لشأنها ... شبيه دوار السواني يديرها
تدارك منها النجم حذراً وزادها ... مرون يجي متراكباً من صبيرها
يصب من القيعان من جانب الصفا ... عيون ولجاز البرق في غزيرها
هاذا الغنى حتى تسابيت غزوة ... ناضت من بغداد حتى فقيرها
ونادى المنادي بالرحيل وشددوا ... وعرج عاريها على مستعيرها
وشد لها الأدهم دياب بن غانم ... على أيدين ماضي وليد مقرب ميرها(1/378)
وقال لهم حسن بن سرحان غربوا ... وسوقوا النجوع إن كان أنا هوغفيرها
ويركض وبيده شهامه بالتسامح ... وباليمين لايجدوا في مغيرها
غدرني زيان السيح من عابس ... وماكان يرضى زين حمير وميرها
غدرني وهو زعماً صديقي وصاحبي ... وأناليه مامن درقتي مايديرها
ورجع يقول لهم بلال بن هاشم ... بحر البلادالعطشى ما بخيرها
حرام على باب بغداد وأرضها ... داخل ولاعائد ركيزه من نعيرها
تصدف روحي عن بلاد ابن هاشم ... على الشمس أو حول الغظا من هجيرها
وباتت نيران العذارى قوادح ... يلوذ وبجرجان يشدوا أسيرها
ومن قولهم في رثاء أمير رناتة أبي سعدى اليفرني مقارعهم بإفريقية وأرض الزاب ورثاؤهم له على جهة التهكم:
تقول فتاة الحي سعدى وهاضها ... لها في ظعون الباكرين عويل
أيا سائلي عن قبر الزناتي خليفة ... خذ النعت مني لاتكون هبيل
تراه يعالي وادي ران وفوقه ... من الربط عيساوي بناه طويل
أراه يميل النور من شارع النقا ... به الواد شرقاً واليراع دليل
أيا لهف كبدي على الزناتي خليفه ... قد كان لأعقاب الجياد سليل
قتيل فتى الهيجا دياب بن غانم ... جراحه كأفواه المزاد تسيل
أيا جائزاً مات الزناتي خليفه ... لاترحل إلا أن يريد رحيل
ألا واش رحلنا ثلاثين مرة ... وعشراً وستاً في النهار قليل
ومن قولهم على لسان الشريف بن هاشم يذكر عتاباً وقع بينه وبين ماضي بن مقرب:
تبدى ماضي الجبار وقال لي ... أشكر ما نحنا عليك رضاش
أشكر أعد ما بقي ود بيننا ... صرانا عريب عرباً لابسين نماش
نحن غدينا نصدفو ما قضى لنا ... كما صادفت طعم الزباد طشاش
أشكر أعد إلى يزيد ملامه ... ليحدو ومن عمر بلاده عاش
إن كان نبت الشول يلقح بأرضكم ... هنا العرب مازدنا لهن صياش
ومن قولهم في ذكر رحلتهم إلى الغرب وغلبهم زناتة عليه:
وأي جميل ضاع لي في الشريف بن هاشم ... وأي رجال ضاع قبلي جميلها
لقد كنت أنا وياه فى زهو بيتنا ... عناني بحجة وأغباني دليلها
وعدت كأني شارب من مدامة ... من الخمر فهو ماقدر من يميلها
أو مثل شمطامات مظنون كبدها ... غريباً وهي مدوخه عن قبيلها
أتاها زمان السوء حتى تدوحت ... وهي بين عرباً غافلاً عن نزيلها
كذلك أنا مما لحاني من الوجى ... شاكي بكبد باديتها زعيلها
وأمرت قومي بالرحيل وبكروا ... وقووا وشداد الحوايا حميلها
قعدنا سبعة أيام محبوس نجعنا ... والبدو ماترفع عمود يقيلها
نظل على حداب الثنايا نوازي ... يظل الجري فرق النضا ونصيلها
ومن شعر سلطان بن مطفر بن يحيى من الزواودة أحد بطون رياح وأهل الرياسة فيهم، يقولها وهو معتقل بالمهدية في سجن الأمير أبي زكريا بن أبي حفص أول ملوك إفريقية من الموحدين:
يقول وفي بوح الدجا بعد وهنة ... حرام على أجفان عيني منامها
يا من لقلب حالف الوجد والأسى ... وروح هيامي طال مافي سقامها
حجازية بدوية عربية ... عداوية ولها بعيد مرامها
مولعة بالبدو لاتألف القرى ... سوى عانك الوعسا يؤتي خيامها
غيات ومشتاها بها كل شتوة ... ممحونة بيها وبيها صحيح غرامها
ومرباها عشب الأراضي من الحيا ... يواتي من الخورالخلايا جسامها
تشوق شوق العين مما تداركت ... عليها من السحب السواري غمامها(1/379)
وماذا بكت بالما وماذا تناحطت ... عيون غزار المزن عذباً حمامها
كأن عروس البكر لاحت تيابها ... عليها ومن نور الأقاحي خزامها
فلاة ودهنا واتساع ومنة ... ومرعى سوى مافي مراعي نعامها
ومشروبها من مخض ألبان شولها ... غنيم ومن لحم الجوازي طعامها
تفانت عن الأبواب والموقف الذي ... يشيب الفتى مما يقاسي زحامها
سقى الله ذا الوادي المشجر بالحيا ... وبلا ويحيى مابلي من رمامها
فكافأتها بالود مني وليتني ... ظفرت بأيام مضت في ركامها
ليالي أقواس الصبا في سواعدي ... إذا قمت لم تحظ من أيدي سهامها
وفرسي عديد تحت سرجي مشاقة ... زمان الصبا سرجاً وبيدي لجامها
وكم من رداح أسهرتني ولم أرى ... من الخلق أبهى من نظام ابتسامها
وكم غيرها من كاعب مرجحنة ... مطرزة الأجفان باهي وشامها
وصفقت من وجدي عليها طريحة ... بكفي ولم ينسى جداها ذمامها
ونار بخطب الوجد توهج في الحشا ... وتوهج لايطفا من الماء ضرامها
أيا من وعدتي الوعد هذا إلى متى ... فني العمر في دار عماني ظلامها
ولكن رأيت الشمس تكسف ساعة ... ويغمى عليها ثم يبدأ غيامها
بنود ورايات من السعد أقبلت ... إلينا بعون الله يهفو علامها
أرى في الفلا بالعين أظعان عزوتي ... ورمحي على كتفي وسيري أمامها
بجرعا عتاق النوق من فوق شامس ... أحب بلاد الله عندي حشامها
إلى منزل بالجعفرية للوى ... مقيم بها مالذ عند مقامها
ونلقى سراة من هلال بن عامر ... يريد الصدا والغل عني سلامها
بهم تضرب الأمثال شرقاً ومغرباً ... إذا قاتلوا قوماً سريع انهزامها
عليهم ومن هو في حماهم تحية ... مدى الدهر ماغنى يفينا حمامها
فدع ذا ولاتأسف على سالف مضى ... ففي الدنيا ما دامت لأحد دوامها
ومن أشعار المتأخرين منهم قول خالد بن حمزة بن عمر، شيخ الكعوب، ومن أولاد أبي الليل، يعاتب أقتالهم أولاد مهلهل ويجيب شاعرهم شبل بن مسكيانة بن مهلهل، عن أبيات فخر عليهم فيها بقومه:
يقول وذا قول المصاب الذي نشا ... قوارع قيعان يعاني صعابها
يريح بها حادي المصاب إذا سعى ... فنوناً من إنشاد القوافي عذابها
محيرة مختارة من نشادها ... تحدى بها تام الوشا ملتها بها
مغربلة عن ناقد في غضونها ... محكمة القيعان دابي ودابها
وهيض بتذكاري لها يا ذوي الندى ... قوارع من شبل وهذي جوابها
أشبل جنيناً من حباك طرائفا ... فراح يريح الموجعين الغنا بها
فخرت ولم تقصر ولا أنت عادم ... سوى قلت في جمهورها ما أعابها
لقولك في أم المتين بن حمزة ... وحامي حماها عادياً في حرابها
أما تعلم أنه قد قامها بعدما لقي ... رصاص بني يحيى وغلاق دابها
شهاباً من أهل الأمر يا شبل خارق ... وهل ريت من جا للوغى واصطلى بها
سواها طفاها أضرمت بعد طفيه ... وأثنى طفاها جاسراً لا يهابها
وأضرمت بعد الطفيتين ألن صحت ... لفاس إلى بيت المنى يقتدى بها
وبان لوالي الأمر في ذا انشحابها ... فصار وهي عن كبر الأسنة تهابها
كما كان هو يطلب على ذا تجنبت ... رجال بني كعب الذي يتقي بها
ومنا في العتاب:
وليداً تعاتبتوا أنا أغنى لأنني ... غنيت بمعلاق الثنا واغتصابها
علي ونا ندفع بها كل مبضع ... بأسياف ننتاش العدا من رقابها
فإن كانت الأملاك بغت عرايس ... علينا بأطراف القنا اختضابها(1/380)
ولا بعدها الإرهاف وذبل ... ورزق كألسنة الحناش انسلابها
بني عمنا ما نرتضي الذل غلمه ... تسير السبايا والمطايا ركابها
وهي عالماً بأن المنايا تنيلها ... بلا شك والدنيا سريع انقلابها
ومنها في وصف الظعائن:
قطعنا قطوع البيد لا نختشي العدا ... فتوق بحوبات مخوف جنابها
ترى العين فيها قل لشبل عرائف ... وكل مهاة محتظيها ربابها
ترى أهلها غب الصباح أن يفلها ... بكل حلوب الجوف ماسد بابها
لها كل يوم في الأرامي قتائل ... ورا الفاجر الممزوج عفو رضابها
ومن قولهم في الأمثال الحكمية:
وطلبك في الممنوع منك سفاهة ... وصدك عمن صد عنك صواب
إذا رأيت أناساً يغلقوا عنك بابهم ... ظهور المطايا يفتح الله باب
ومن قول شبل يذكر انتساب الكعوب إلى برجم:
الشيب وشبان من أولاد برجم ... جميع البرايا تشتكي من ضهادها
ومن قول خالد يعاتب إخوانه في موالاة شيخ الموحدين أي محمد بن تافراكين المستبد بحجابة السلطان بتونس على سلطانها مكفولة أبي إسحق ابن السلطان أبي يحيى وذلك فيما قرب من عصرنا:
يقول بلا جهل فتى الجود خالد ... مقالة قوال وقال صواب
مقالة حبر ذات ذهن ولم يكن ... هريجاً ولا فيما يقول ذهاب
تهجست معنا نابها لا لحاجة ... ولا هرج ينقاد منه معاب
وكنت بها كبدي وهي نعم صابة ... حزينة فكر والحزين يصاب
تفوهت بادي شرحها عن مآرب ... جرت من رجال في القبيل قراب
بني كعب أدنى الأقربين لدمنا ... بني عم منهم شايب وشباب
جرى عند فتح الوطن منا لبعضهم ... مصافاة ود واتساع جناب
وبعضهم ملنا له عن خصيمه ... كما يعلموا قولي يقينه صواب
وبعضهمو مرهوب من بعض ملكنا ... جزاعاً وفي جو الضمير كتاب
وبعضهمو جانا جريحاً تسمحت ... خواطر منها للنزيل وهاب
وبعضهمو نظار فينا بسوة ... نقهناه حتى ما عنا به ساب
رجع ينتهي مما سفهنا قبيحه ... مراراً وفي بعض المرار يهاب
وبعضهمو شاكي من أوغاد قادر ... غلق عنه في أحكام السقائف باب
فصمناه عنه واقتضي منه مورد ... على كره مولى البالقي ودياب
ونحن على دافي المدى نطلب العلا ... لهم ما حططنا للفجور نقاب
وحزنا حمى وطن بترشيش بعدما ... نفقنا عليها سبقاً ورقاب
ومهد من الأملاك ما كان خارجاً ... على أحكام والي أمرها له ناب
بردع قروم من قروم قبيلنا ... بني كعب لاواها الغريم وطاب
جرينا بهم عن كل تأليف في العدا ... وقمنا لهم عن كل قيد مناب
إلى أن عاد من لا كان فيهم بهمة ... ربيها وخيراته عليه نصاب
وركبوا السبايا المثمنات من أهمها ... ولبسوا من أنواع الحرير ثياب
وساقوا المطايا بالشرا لا نسوا له ... جماهير ما يغلو بها بحلاب
وكسبوا من أصناف السعايا ذخائر ... ضخائم لحزات الزمان تصاب
وعادوا نظير البرمكيين قبل ذا ... وإلا هلالا في زمان دياب
وكانوا لنا درعاً لكل مهمة ... إلى أن بان من نار العدو شهاب
وخلوا الدار في جنح الظلام ولا اتقوا ... ملامه ولا دار الكرام عتاب
كسوا الحي جلباب البهيم لستره ... وهم لو دروا لبسوا قبيح جباب
كذلك منهم حابس ما دار النبأ ... ذهل حلمي أن كان عقله غاب(1/381)
يظن ظنوناً ليس نحن بأهلها ... تمنى يكن له في السماح شعاب
خطا هو ومن واتاه في سو ظنه ... بالإثبات من ظن القبائح عاب
فواعزوتي إن الفتى بو محمد ... وهوب لألاف بغير حساب
وبرحت الأوغاد منه ويحسبوا ... بروحه ما يحيى بروح سحاب
جروا يطلبوا تحت السحاب شرائع ... لقوا كل ما يستاملوه سراب
وهو لوعطى ما كان للرأي عارف ... ولا كان في قلة عطاه صواب
وإن نحن ما نستأملوا عنه راحة ... وأنه بإسهام التلاف مصاب
وإن ما وطا ترشيش يضياق وسعها ... عليه ويمشي بالفزوع لزاب
وأنه منها عن قريب مفاصل ... خنوج عناز هوالها وقباب
وعن فاتنات الطرف بيض غوانج ... ربوا خلف أستار وخلف حجاب
يتيه إذا تاهوا ويصبوا إذا صبوا ... بحسن قوانين وصوت رباب
يضلوه عن عدم اليمين وربما ... يطارح حتى ما كأنه شاب
بهم حازله زمه وطوع أوامر ... ولذة مأكول وطيب شراب
حرام على ابن تافر كين ما مضى ... من الود إلا ما بدل بحراب
وإن كان له عقل رجيح وفطنة ... يلجج في اليم الغريق غراب
وأما البدا لا بدها من فياعل ... كبار إلى أن تبقى الرجال كباب
ويحمى بها سوق علينا سلاعه ... ويحمار موصوف القنا وجعاب
ويمسي غلام طالب ريح ملكنا ... ندوما ولا يمسي صحيح بناب
أيا واكلين الخبز تبغوا ادامه ... غلطتوا أدمتوا في السموم لباب
ومن شعرعلي بن عمر بن إبراهيم من رؤساء بني عامر لهذا العهد أحد بطون زغبة يعاتب بني عمه المتطاولين إلى رياسته:
محبرة كالدر في يد صانع ... إذا كان في سلك الحريرنظام
أباحها منها فيه أسباب ما مضى ... وشاء تبارك والضعون تسام
غدا منه لأم الحي حيين وأنشطت ... عصاها ولاصبنا عليه حكام
ولكن ضميري يوم بأن بهم إلينا ... تبرم على شوك القتاد برام
وإلا كأبراص التهامي قوادح ... وبين عواج الكانفات ضرام
وإلا لكان القلب في يد قابض ... أتاهم بمنشار القطيع غشام
لما قلت سما من شقا البين زارني ... إذا كان ينادي بالفراق وخام
ألا يا ربوع كان بالأمس عامر ... بيحيى وحله والقطين لمام
وغيد تداني للخطا في ملاعب ... دجى الليل فيهم ساهر ونيام
ونعم يشوف الناظرين التحامها ... لنا مابدا من مهرق وكظام
وعرود باسمها ليدعو لسربها ... وإطلاق من شرب المها ونعام
واليوم ما فيها سوى البوم حولها ... ينوح على أطلال لها وخيام
وقفنا بها طوراً طويلاً نسألها ... بعين سخينا والدموع سجام
ولاصح لي منها سوى وحش خاطري ... وسقمي من أسباب أن عرفت أوهام
ومن بعد ذا تدى لمنصور بو علي ... سلام ومن بعد السلام سلام
وقولوا له يا بو الوفا كلح رأيكم ... دخلتم بحورغامقات دهام
زواخر ماتنقاس بالعود إنما ... لها سيلات على الفضا وأكام
ولاقستمو فيها قياساً يدلكم ... وليس البحورالطاميات تعام
وعانوا على هلكاتكم في ورودها ... من الناس عدمان العقول لئام
أياعزوة ركبوا الضلالة ولا لهم ... قرار ولا دنيا لهن دوام(1/382)
ألا عناهمو لو ترى كيف زايهم ... مثل سراب فلاه ما لهن تمام
خلو القنا يبغون في مرقب العلا ... مواضع ماهيا لهم بمقام
وحق النبي والبيت وأركانه العلى ... ومن زارها في كل دهر وعام
لبر الليالي فيه إن طالت الحيا ... يذوقون من خمط الكساع مدام
ولابرها تبقى البوادي عواكف ... بكل رديني مطرب وحسام
وكل مسافة كالسد إياه عابر ... عليها من أولاد الكرام غلام
وكل كميت يكتعص عض نابه ... يظل يصارع في العنان لجام
وتحمل بنا الأرض العقيمة مدة ... وتولدنا من كل ضيق كظام
بالأبطال والقود الهجان وبالقنا ... لها وقت وجنات البدور زحام
أتجحدني وأنا عقيد نقودها ... وفي سن رمحي للحروب علام
ونحن كأضراس الموافي بنجعكم ... حتى يقاضوا من ديون غرام
متى كان يوم القحط يامير أبو علي ... يلقى سعايا صايرين قدام
كذلك بوحمو إلى اليسر أبعته ... وخلى الجياد العاليات تسام
وخل رجالاً لا يرى الضيم جارهم ... ولايجمعوا بدهى العدو زفام
ألا يقيموها وعقد بؤسهم ... وهم عذرعنه دائماً ودوام
وكم ثار طعنها على البدو سابق ... مابين صحا صيح ومابين حسام
فتى ثار قطار الصوى يومنا على ... لنا أرض ترك الظاعنين زمام
وكما ذا يجيبوا أثرها من غنيمة ... حليف الثنا قشاع كل غيام
وإن جاء خافوه الملوك ووسعوا ... غدا طبعه يجدي عليه قيام
عليكم سلام الله من لسن فاهم ... ماغنت الورقا وناح حمام
ومن شعر عرب نمر بنواحي حوران لامرأة قتل زوجها فبعثت إلى أحلافه من قيس تغريهم بطلب ثأره تقول:
تقول فتاة الحي أم سلامة ... بعين أراع الله من لارثى لها
تبيت بطول الليل ما تألف الكرى ... موجعة كان الشقا في مجالها
على ما جرى في دارها وبو عيالها ... بلحظة عين البين غير حالها
فقدنا شهاب الدين يا قيس كلكم ... ونمتوا عن أخذ الثأر ماذا مقالها
أنا قلت إذا ورد الكتاب يسرني ... ويبرد من نيران قلبي ذبالها
أيا حين تسريح الذوائب واللحى ... وبيض العذارى ما حميتو جمالها
الموشحك والأزجال للأندلس
وأما أهل الأندلس فلما كثر الشعر في قطرهم وتهذبت مناحيه وفنونه، وبلغ التنميق فيه الغاية، استحدث المتفخرون منهم فناً منه سموه بالموشح، وينظمونه أسماطاً أسماطاً وأغصاناً أغصاناً، يكثرون منها، ومن أعاريضها المختلفة. ويسمون المتعدد منها بيتاً واحداً ويلتزمون عند قوافي تلك الأغصان وأوزانها متتالياً فيما بعد إلى آخر القطعة، وأكثر ما تنتهي عندهم إلى سبعة أبيات. ويشتمل كل بيت على أغصان عددها بحسب الأغراض والمذاهب وينسبون فيها ويمدحون كما يفعل في القصائد. وتجاروا في ذلك إلى الغاية واستظرفه الناس جملة، الخاصة والكافة، لسهولة تناوله، وقرب طريقه. وكان المخترع لها بجزيرة الأندلس مقدم ابن معافر القبريري من شعراء الأمير عبد الله بن محمد المرواني. وأخذ ذلك عنه أبو عبد الله أحمد بن عبد ربه، صاحب كتاب العقد، ولم يظهر لهما مع المتأخرين ذكر، وكسدت موشحاتهما. فكان أول من برع في هذا الشأن بعدهما عبادة القزاز شاعر المعتصم بن صمادح صاحب المرية. وقد ذكر الأعلم البطليوسي أنه سمع أبا بكر بن زهير يقول: كل الوشاحين عيال على عبادة القزاز فيما اتفق له من قوله:
بدرتم شمس ضحى ... غصن نقا مسك شم
ما أتم ما أوضحا ... ما أورقا ما أنم
لاجرم من لمحا ... قد عشقا قد حرم(1/383)
وزعموا أنه لم يسبق عبادة وشاح من معاصريه الذين كانوا في زمن. الطوائف. وجاء مصلياً خلفه منهم ابن رافع، رأس شعراء المأمون ابن ذي النون، صاحب طليطلة. قالوا وقد أحسن في ابتدائه في موشحته التي طارت له حيث يقول:
العدو قد ترنم بأبدع تلحين ... وسقت المذانب رياض البساتين
وفي انتهائه حيث يقول:
تخطر ولا تسلم عساك المأمون ... مروع الكتائب يحيى بن ذي النون
ثم جاءت الحلبة التي كانت في دولة الملثمين فظهرت لهم البدائع، وسابق فرسان حلبتهم الأعمى الطليطلي، ثم يحيى بن بقي، وللطليطلي من الموشحات المهذبة قوله:
كيف السبيل إلى ... صبري وفي المعالم أشجان
والراكب وسط الفلا ... بالخرد النواعم قد بان
وذكر غير واحد من المشايخ أن أهل هذا الشأن بالأندلس يذكرون أن جماعة من الوشاحين اجتمعوا في مجلس بإشبيلية، وكان كل واحد منهم اصطنع موشحة وتأنق فيها فتقدم الأعمى الطليطلي للإنشاد، فلما افتتح موشحته المشهورة بقوله:
ضاحك عن جمان سافرعن بدر ... ضاق عنه الزمان وحواه صدري
حرق ابن بقي موشحته وتبعه الباقون. وذكر الأعلم البطليوسي أنه سمع ابن زهر يقول: ما حسدت قط وشاحاً على قول إلا ابن بقي حين وقع له:
أما ترى أحمد في مجده العالي لا يلحق ... أطلعه الغرب فأرنا مثله يا مشرق
وكان في عصرهما من الموشحين المطبوعين أبو بكر الأبيض. وكان في عصرهما أيضاً الحكيم أبو بكر بن باجة صاحب التلاحين المعروفة. ومن الحكايات المشهورة أنه حضر مجلس مخدومه ابن تيفلويت صاحب سرقسطة، فألقى على بعض قيناته موشحته التي أولها:
جرر الذيل أيما جر،
وصل الشكر منك بالشكر
فطرب الممدوح لذلك، فلما ختمها بقوله:
عقد الله راية النصر،
لأمير العلا أبي بكر
وطرق ذلك التلحين سمع ابن تيفلويت، صاح: واطرباه وشق ثيابه وقال: ما أحسن ما بدأت وما ختمت، وحلف بالأيمان المغلظة لا يمشي ابن باجة إلى داره إلا على الذهب. فخاف الحكيم سوء العاقبة فاحتال بأن جعل ذهباً في نعله ومشى عليه. وذكر أبو الخطاب بن زهر أنه جرى في مجلس أبي بكير بن زهر. ذكر أبي بكر الأبيض الوشاح المتقدم الذكر، فغض منه أحد الحاضرين فقال كيف تغض مم يقول:
ما لذ لي شرب راح، ...
لعلى رياض الأقاح، ...
لا هضيم الوشاح، ...
إذا انثنى في الصباح،
أو في الأصيل، ...
أضحى يقول: ...
ماللشمول، ...
لطمت خدي؟
وللشمال
هبت فمال
غضن اعتدال
ضمه بردي
مما أباد القلوبا،
يمشي لنا مستريبا،
يا لحظه رد نوبا!
ويا لماه الشنيبا
برد غليل،
صب غليل،
لا يستحيل،
فيه عن العهد
ولا يزال،
في كل حال
يرجو الوصال،
وهو في الصد واشتهر بعد هؤلاء في صدر دولة الموحدين محمد بن أبي الفضل بن شرف. قال الحسن بن دويريدة: رأيت حاتم بن سعيد على هذا الافتتاح:
شمس قاربت بدراً ... راح ونديم
وابن هردوس الذي له:
ياليلة الوصل والسعود ... بالله عودي
وابن مؤهل الذي له:
ما العيد في حلة وطاق ... وشم طيب
وإنما العيد في التلاقي ... مع الحبيب
وأبو إسحق الرديني، قال ابن سعيد: سمعت أبا الحسن سهل بن مالك يقول إنه دخل على ابن زهر، وقد أسن، وعليه زي البادية، إذ كان يسكن بحصن أستبه، فلم يعرفه، فجلس حيث انتهى به المجلس. وجرت المحاضرة فأنشد لنفسه موشحة وقع فيها:
كحل الدجى يجريمن مقلة الفجرعلى الصباح
ومعصم النهر في حلل خضرمن البطاح
فتحرك ابن زهر وقال: أنت تقول هذا؟ قال: اختبر! قال: ومن تكون؟ فعرفه، فقال: ارتفع! فوالله ما عرفتك. قال ابن سعيد: وسابق الحلبة التى أدركت هؤلاء أبو بكر بن زهر، وقد شرقت موشحاته وغربت. قال: وسمعت أبا الحسن سهل بن مالك يقول: قيل لابن زهر، لو قيل لك ما أبدع وأرفع ما وقع لك في التوشيح ما كنت تقول؟ قال، كنت أقول:
ما للموله؟
من سكره لا يفيق(1/384)
يا له سكران
من غير خمر
ما للكئيب المشرق
يندب الأوطان؟
هل تستعاد
أيامنا بالخليج
وليالينا؟
أو يستفاد
من النسيم الأريج
مسك دارينا
أو هل يكاد
حسن المكان البهيج
أن يحيينا؟
روض أظله
دوح عليه أنيق
مورق الأفنان
والماء يجري،
وعائم وغريق
من جنى الريحان
واشتهر بعده ابن حيون الذي له من الزجل المشهور قوله:
يفوق سهمه كل حين ... بما شئت من يد وعين
وينشد في القصيد:
خلقت مليح علمت رامي ... فليس تخل ساع من قتال
وتعمل بذي العينين متاعي ... ماتعمل يدي بالنبال
واشتهر معهما يومئذ بغرناطة المهر بن الفرس، قال ابن سعيد، ولما سمع ابن زهر قوله:
لله ما كان من يوم بهيج ... بنهر حمص على تلك المروج
ثم انعطفنا وعلى فم الخليج ... نفض في حانه مسك الختام
عن عسجد زانه صافي المدام ... ورداء الأصيل ضمه كف الظلام
قال ابن زهر: أين كنا نحن عن هذا الرداء وكان معه في بلده مطرف. أخبر ابن سعيد عن والده مطرفاً هذا دخل على ابن الفرس فقام له وأكرمه، فقال لا تفعل! فقال ابن الفرس: كيف لا أقوم لمن يقول:
قلوب تصاب بألحاظ تصيب ... فقل كيف تبقى بلا وجد
وبعد هذا ابن حزمون بمرسية. ذكر ابن الرائس أن يحيى الخزرجي دخل عليه في مجلسه فأنشده موشحة لنفسه، فقال له ابن حزمون: لا يكون الموشح بموشح حتى يكون عارياً عن التكلف، قال على مثل ماذا؟ قال على مثل قولي:
ياهاجري هل إلى الوصال ... منك سبيل
أو هل ترى عن هواك سالي ... قلب العليل
وأبو الحسن سهل بن مالك بغرناطة. قال ابن سعيد كان والدي يعجب بقوله:
إن سيل الصباح في الشرق ... عاد بحراً في أجمع الأفق
فتد اعت نوادب الورق
أتراها خافت من الغرق ... فبكت سحرة على الورق
واشتهر بإشبيلية لذلك العهد أبو الحسن بن الفضل، قال ابن سعيد عن والده، سمعت سهل ابن مالك يقول له: يا ابن الفضل لك على الوشاحين الفضل بقولك:
واحسرتا لزمان مضى ... عشية بان الهوى وانقضى
وأفردت بالرغم لا بالرضى ... وبت على جمرات الغضى
أعانق بالفكر تلك الطلول ... وألثم بالوهم تلك الرسوم
قال وسمعت أبا بكر بن الصابوني ينشد الأستاذ أبا الحسن الدباج موشحاته غير ما مرة، فما سمعته يقول له لله درك، إلا في قوله:
قسماً بالهوى لذي حجر ... مالليل المشوق من فجر
جمد الصبح ليس يطردما لليلي فيما أظن غداصح ياليل إنك الأبد
أوقفصت قوادم النسر ... فنجوم السماء لا تسري
ومن محاسن موشحات ابن الصابوني قوله:
ماحال صب ذي ضنى واكتئاب ... أمرضه يا ويلتاه الطبيب
عامله محبوبه باجتناب ... ثم اقتدى فيه الكرى بالحبيب
جفا جفوني النوم لكنني ... لم أبكه إلا لفقد الخيال
وذا الوصال اليوم قد غرني ... منه كما شاء وشاء الوصال
فلست باللائم من صدني ... بصورة الحق ولا بالمحال
واشتهر ببر أهل العدوة ابن خلف الجزايري صاحب الموشحة المشهورة:
يد الأصباح قدحت زناد ... الأنوار في مجامر الزهر
وابن خرز البجائي وله من موشحة:
ثغر الزمان موافق ... حباك منه بابتسام
ومن محاسن الموشحات للمتأخرين موشحة ابن سهل، شاعر إشبيلية وسبتة من بعدها فمنها قوله:
هل درى ظبي الحمى أن قد حمى ... قلب صب حله عن مكنس
فهو في نار وخفق مثل ما ... لعبت ريح الصبا بالقبس
وقد نسج على منواله فيها صاحبنا الوزير أبو عبد الله بن الخطيب، شاعر الأندلس والمغرب لعصره، وقد مر ذكره فقال:
جادك الغيث إذا الغيث همى،
يا زمان الوصل بالأندلس!
لم يكن وصلك إلا حلما
في الكرى أو خلسة المختلس!
إذ يقود الدهر أشتات المنى(1/385)
تنقل الخطو على ما ترسم،
زمراً بين فرادى وثنا
مثل ما يدعو الحجيج الموسم
والحيا قد جلل الروض سنا،
فسنا الأزهار فيه تبسم
وروى النعمان عن ماء السما،
كيف يروي مالك عن أنس؟
فكساه الحسن ثوباً معلما،
يزدهي منه بأبهى ملبس
في ليال كتمت سر الهوى،
بالدجى لولا شموس القدر
مال نجم الكأس فيها وهوى،
مستقيم السير سعد الأثر
وطر مافيه من عيب سوى
أنه مر كلمح البصر
حين لذ النوم شيئاً أو كما
هجم الصبح هجوم الحرس
غارت الشهب بنا، أو ربما
أثرت فينا عيون النرجس
أي شيء لامرىء قد خلصا،
فيكون الروض قد كنن فيه
تنهب الأزهار فيه الفرصا،
أمنت من مكره ما تتقيه
فإذا الماء تناجى والحصى،
وخلا كل خليل بأخيه
تبصر الورد غيوراً برما
يكتسي من غيظه مايكتسي
وترى الآس لبيباً فهما
يسرق السمع بأذني فرس
يا أهيل الحي من وادي الغضا!
وبقلبي مسكن أنتم به!
ضاق عن وجدي بكم، رحب الفضا،
لا أبالي شرقه من غربه
فأعيموا عهد أنس قد مضى،
تعتقوا عبدكم من كربه
واتقوا الله وأحيوا مغرما
يتلاشى نفساً في نفس
حبس القلب عليكم كرما،
أفترضون خراب الحبس
وبقلبي منكم مقترب،
بأحاديث المنى وهو بعيد
قمر أطلع منه المغرب
شقوة المضنى به، وهو سعيد
قد تساوى محسن أو مذنب
في هواه، بين وعد ووعيد
ساحر المقلة معسول اللمى،
جال في النفس مجال النفس
سدد السهم وسمى ورمى
ففؤادي نهبة المفترس
إن يكن جار وخاب الأمل،
وفؤاد الصب بالشوق يذوب
فهو للنفس حبيب أول،
ليس في الحب لمحبوب ذنوب
أمره معتمل ممتثل
في ضلوع، قد براها، وقلوب
حكم اللحظ بها فاحتكما،
لم يراقب في ضعاف الأنفس
ننصف المظلوم ممن ظلما،
ويجازي البر منها والمسي
ما لقلبي كلما هبت صبا،
عاده عيد من الشرق جديد؟
جلب الهم له والوصبا
فهو للأشجان في جهد جهيد
كان في اللوح له مكتتبا
قوله: إن عذابي لشديد!
لاعج من أضلعي قد أضرما،
فهي نار في هشيم اليبس
لم تدع في مهجتي إلا ذما
كبقاء الصبح بعد الغلس
سلمي يانفس في حكم القضا
واعمري الوقت برجعي ومتاب
ودعي ذكر زمان قد مضى
بين عتبى قد تقضت وعتاب
واصرفي القول إلى المولى الرضى
ملهم التوفيق في أم الكتاب
الكريم المنتهى والمنتمى
أسد السرح وبمر المجلس
ينزل النصر عليه، مثل ما
ينزل الوحي بروح القدس
وأما المشارقة فالتكلف ظاهر على ما عانوه من الموثسحات. ومن أحسن ما وقع لهم في ذلك موشحة ابن سناء الملك التي اشتهرت شرقاً وغرباً وأولها:
حبيبي ارفع حجاب النور ... عن العذار
تنظر المسك على كافور ... في جلنار
كللي ياسحب تيجان الربى ... بالحلى واجعلي
سوارها منعطف الجدول
ولما شاع فن التوشيح في أهل الأندلس، وأخذ به الجمهور، لسلاسته وتنميق كلامه وترصيع أجزائه، نسجت العامة من أهل الأمصار على منواله، ونظموا في طريقته بلغتهم الحضرية من غير أن يلتزموا فيها إعراباً. واستحدثوا فناً سموه بالزجل، والتزموا النظم فيه على مناحيهم لهذا العهد، فجاءوا فيه بالغرائب واتسع فيه للبلاغة مجال بحسب لغتهم المستعجمة.(1/386)
وأول من أبدع في هذه الطريقة الزجلية أبو بكر بن قزمان، وإن كانت قيلت قبله بالأندلس، لكن لم يظهر حلاها، ولا انسبكت معانيها واشتهرت رشاقتها إلا في زمانه. وكان لعهد الملثمين، وهو إمام الزجالين على الإطلاق. قال ابن سعيد: ورأيت أزجاله مروية ببغداد أكثر مما رأيتها بحواضر المغرب. قال: وسمعت أبا الحسن بن جحدر الأشبيلي، إمام الزجالين في عصرنا يقول: ما وقع لأحد من أئمة هذا الشأن مثل ما وقع لابن قزمان شيخ الصناعة، وقد خرج إلى منتزه مع بعض أصحابه، فجلسوا تحت عريش وأمامهم تمثال أسد من رخام يصب الماء من فيه على صفائح من الحجر متدرجة فقال:
وعريش قد قام على دكان ... بحال رواق
وأسد قد ابتلع ثعبان ... من غلظ ساق
وفتح فمه بحال إنسان ... بيه الفراق
وانطلق من ثم على الصفاح ... وألقى الصياح
وكان ابن قزمان، مع أنه قرطبي الدار، كثيراً ما يتردد إلى إشبيلية ونيتاب نهرها فاتفق أن اجتمع ذات يوم جماعة من أعلام هذا الشأن. وقد ركبوا في النهر للنزهة ومعهم غلام جميل الصورة من سروات أهل البلد وبيوتهم. وكانوا مجتمعين في زورق للصيد، فنظموا في وصف الحال وبدأ منهم عيسى البليدي فقال:
يطمع بالخلاص قلبي وقد فاتو ... وقد ضمني عشقو لشهماتو
تراه قد حصل مسكين محلاتو ... يغلق وكذاك أمر عظيم صاباتو
توحش الجفون الكحل إن غابو ... وذيك الجفون الكحل أبلاتو
ثم قال أبو عمرو بن الزاهر الأشبيلي:
نشب والهوى من لج فيه ينشب ... ترى إيش دعاه يشقى ويتعذب
مع العشق قام في بالوان يلعب ... وخلق كثير من ذا اللعب ماتوا
ثم قال أبو الحسن المقري الداني:
نهارمليح يعجبن أوصافو ... شراب وملاح من حولي قد طافوا
والمقلين يقول من فوق صفصافو ... والبوري أخرى فقلاتو
ثم قال أبو بكر بن مرتين:
الحق تريد حديث بقالي عاد ... في الواد النزيه والبوري والصياد
لسنا حيتان ذيك الذي يصطاد ... قلوب الورى هي في شبيكاتو
ثم قال أبو بكر بن قزمان:
إذا شمر كمامو يرميها ... ترى البوري يرشق لذاك الجيها
وليس مرادو أن يقع فيها ... إلا أن يقبل بدياتو
وكان في عصرهم بشرق الأندلس محلف الأسود، وله محاسن من الزجل منها قوله:
قد كنت منشوب واختشيت النشب ... وردني ذا العشق لأمر صعب
حتى تنظر الخد الشريق البهي ... تنتهي في الخمر إلما تنتهي
ياطالب الكيميا في عيني هي ... تنظر بها الفضة وترجع ذهب
وجاءت بعدهم حلبة كان سابقها مدغليس، وقعت له العجائب في هذه الطريقة، من قوله في زجله المشهور:
ورزاذ دق ينزل ... وشعاع الشمس يضرب
فترى الواحد يفضض ... وترى الآخر يذهب
والنبات يشرب ويسكر ... والغصون ترقص وتطرب
وبريد تجي إلينا ... ثم تستحي وتهرب
ومن محاسن أزجاله قوله:
لاح الضيا والنجوم حيارى ... فقم بنا ننزع الكسل
شربت ممزوج من قراعا ... أحلى هي عندي من العسل
يامن يلمني كما تقلد ... قلدك الله بما تقول
يقول بأن الذنوب تولد ... وأنه يفسد العقول
لأرض الحجاز موريكن لك أرشد ... إيش ماساقك معي في ذا الفضول
مر أنت للحج والزيارا ... ودعني في الشرب منهمل
من ليس لو قدره ولا استطاع النية أبلغ من العمل
وظهر بعد هؤلاء بإشبيلية ابن جحدر الدي فضل على الزجالين في فتح ميورقة بالزجل الذي أوله هذا:
من عاند التوحيد بالسيف يمحق ... أنا بري ممن يعاند الحق
قال ابن سعيد لقيتة ولقيت تلميذه المعمع صاحب الزجل المشهور الذي أوله:
ياليتني إن رأيت حبيبي ... أفتل أذنو بالرسيلا(1/387)
ليش أخذ عنق الغزيل ... وسرق فم الحجيلا
ثم جاء من بعدهم أبو الحسن سهل ابن مالك إمام الأدب، ثم من بعدهم لهذه العصور صاحبنا الوزير أبو عبد الله بن الخطيب إمام النظم والنثر في الملة الإسلامية غير مدافع، فمن محاسنه في هذه الطريقة:
امزج الأكواس واملالي تجدد ... ماخلق المال إلا أن يبدد
ومن قوله على طريقة الصوفية وينحو منحى الششتري منهم:
بين طلوع وبين نزول ... اختلطت الغزول
ومضى من لم يكن ... وبقي من لم يزول
ومن محاسنه أيضاً قوله في ذلك المعنى:
البعد عنك يابني أعظم مصايبي ... وحين حصل لي قربك سببت قاربي
وكان لعصر الوزير ابن الخطيب بالأندلس محمد بن عبد العظيم من أهل وادي آش، وكان إماماً في هذه الطريقة وله من زجل يعارض به مدغليس في قوله:
لاح الضياء والنجوم حيارى
بقوله:
حل المجون يا أهل الشطارا ... مذ حلت الشمس في الحمل
تجددوا كل يوم خلاعا ... لا تجعلوا بينها ثمل
تجددوا كل يوم خلاعا ... لاتجعلوا بينها ثمل
إليها يتخلعوا في شنبل ... على خضورة ذاك النبات
وحل بغداد واجتاز النيل ... أحسن عندي من ذيك الجهات
وطاقتها أصلح من أربعين ميل ... إن مرت الريح عليه وجاءت
لم تلتق الغبار أمارا ... ولا بمقدار ما يكتحل
وكيف ولاش فيه موضع رقاعا ... إلا ونسرح فيه النحل
وهذه الطريقة الزجلية لهذا العهد هي فن العامه بالأندلس من الشعر، وفيها نظمهم حتى أنهم لينظمون بها في سائر البحور الخمسة عشر، لكن بلغتهم العامية ويسمونه الشعر الزجلي مثل قول شاعرهم:
دهر لي نعشق جفونك وسنين ... وأنت لا شفقة ولاقلب يلين
حتى ترى قلبي من أجلك كيف رجع ... صنعة السمكة بين الحدادين
الدموع ترشرش والنار تلتهب ... والمطارق من شمال ومن يمين
خلق الله النصارى للغزو ... وأنت تغزو قلوب العاشقين
وكان من المجيدين لهذه الطريقة لأول هذه المائة الأديب أبو عبد الله اللوشي وله فيها قصيدة يمدح فيها السلطان ابن الأحمر:
طل الصباح قم يانديمي نشربو ... ونضحكو من بعد ما نطربو
سبيكة الفجر أحكت شفق ... في ميلق الليل فقم قلبو
ترى عيارها خالص أبيض نقي ... فضة هو لكن الشفق ذهبو
فتنتفق سكتوا عند البشر ... نور الجفون من نورها يكسبو
فهو النهار يا صاحبي للمعاش ... عيش الغني فيه بالله ما أطيبو
والليل أيضاً للقبل والعناق ... على سرير الوصل يتقلبو
جاد الزمان من بعد ما كان بخيل ... ولش ليفلت من يديه عقربو
كما جرع مرو فما قد مضى ... يشرب بيننو ويأكل طيبو
قال الرقيب يا أدبا إيش ذا ... في الشرب والعشق ترى ننجبو
وتعجبوا عذالي من ذا الخبر ... فقلت ياقوم من ذا تتعجبوا
نعشق مليح إلا رقيق الطباع ... علاش تكفروا بالله أو تكتبوا
ليش يربح الحسن إلا شاعر أديب ... يفض بكرو ويدع ثيبو
أما الكأس فحرام نعم هو حرام ... على الذي ما يدري كيف يشربو
ويد الذي يحسن حسابه ولم ... يقدر يحسن ألفاظ أن يجلبوا
وأهل العقل والفكر والمجون ... يغفر ذنوبهم لهذا إن أذنبوا
ظبي بهي فيها يطفي الجمر ... وقلبي في جمر الغضى يلهبو
غزال بهي ينظر قلوب الأسود ... وبالوهم قبل النظر يذهبوا
ثم يحييهم إذا ابتسم يضحكوا ... ويفرحوا من بعد ما يندبوا
فميم كالخاتم وثغر نقي ... خطيب الأمة للقبل يخطبو(1/388)
جوهر ومرجان أي عقد يا فلان ... قد صففه الناظم ولم يثقبو
وشارب أخضر يريد لاش يريد ... من شبهه بالمسك قد عيبو
يسبل دلال مثل جناح الغراب ... ليالي هجري منه يستغربوا
على بدن أبيض بلون الحليب ... ما قط راعي للغنم يجلبوا
وزوج هندات ما علمت قبلها ... ديك الصلا يا ريت ما أصلبو
تحت العكاكن منها خصر رقيق ... من رقتو يخفي إذا تطلبوا
أرق هو من ديني فيما تقول ... جديد عتبك حق ما أكذبو
أي دين بقا لي معاك وأي عقل ... من يتبعك من ذا وذا تسلبوا
تحمل أرداف ثقال كالرقيب ... حين ينظر العاشق وحين يرقبو
إن لم ينفس غدر أو ينقشع ... في طرف ديسا والبشر تطلبو
يصير إليك المكان حين تجي ... وحين تغيب ترجع في عيني تبو
محاسنك مثل خصال الأمير ... أو الرمل من هو الذي يحسبو
عماد الأمصار وفصيح العرب ... من فصاحة لفظه يتقربو
بحمل العلم انفرد والعمل ... ومع بديع الشعر ما أكتبو
ففي الصدور بالرمح ما أطعنه ... وفي الرقاب بالسيف ما أضربو
من السماء يحسد في أربع صفات ... فمن يعد قلبي أو يحسبو
الشمس نورو والقمر همتو ... والغيث جودو والنجوم منصبو
يركب جواد الجود ويطلق عنان ... الأغنيا والجند حين يركبوا
من خلعتو يلبس كل يوم بطيب ... منه بنات المعالي تطيبوا
نعمتو تظهر على كل من يجيه ... قاصد ووارد قط ماخيبوا
قد أظهر الحق وكان في حجاب ... لاش يقدر الباطل بعدما يحجبو
وقدبنى بالسر ركن التقى ... من بعد ما كان الزمان خربو
تخاف حين تلقاه كما ترتجيه ... فمع سماحة وجهو ما أسيبو
يلقى الحروب ضاحكاً وهي عابسة ... غلاب هو لاشيء في الدنيا يغلبو
إذا حبد سيفه مابين الردود ... فليس شيء يغني من يضربو
وهو سمي الصصطفى والإله ... للسلطنة اختار واستنخبو
تراه خليفة أمير المؤمنين ... يقود جيوشو ويزين موكبو
لذي الإمارة تخضع الرؤوس ... نعم وفي تقبيل يديه يرغبوا
بيته بقي بدور الزمان ... يطلعوا في المجد ولايغربوا
وفي المعالي والشرف يبعدوا ... وفي التواضع والحيا يقربوا
والله يبقيهم مادار الفلك ... وأشرقت شمسه ولاح كوكبو
ومايغني ذا القصيد في عروض ... ياشمس خدر مالها مغربو
ثم استحدث أهل الأمصار بالمغرب فناً آخر من الشعر، في أعاريض مزدوجة كالموشح، نظموا فيه بلغتهم الحضرية أيضاً وسموه عروض البلد وكان أول من استحدثه فيهم رجل من أهل الأندلس نزل بفاس يعرف بابن عمير، فنظم قطعة على طريقة الموشح ولم يخرج فيها عن مذاهب الإعراب إلا قليلاً مطلعها:
أبكاني بشاطي النهر نوح الحمام ... على الغصن في البستان قريب الصباح
وكف السحر يمحو مداد الظلام ... وماء الندى يجري بثغر الأقاح
باكرت الرياض والطل فيها افتراق ... كثير الجواهر في نحور الجوار
ودمع النواعير ينهرق انهراق ... يحاكي ثعابين حلقت بالثمار
لووا بالغصون خلخال على كل ساق ... ودار الجميع بالروض دورالسوار
وأيدي الندى تخرق جيوب الكمام ... ويحمل نسيم المسك عنها رياح
وعاج الصبا يطلى بمسك الغمام ... وجر النسيم ذيلو عليها وفاح
رأيت الحمام بين الورق في القضيب ... قد ابتلت أرياشو بقطر الندى(1/389)
تنوح مثل ذاك المستهام الغريب ... قد التف من تربو الجديد في ردا
ولكن بما أحمر وساقو خضيب ... ينظم سلوك جوهر ويتقلدا
جلس بين الأغصان جلسة المستهام ... جناحا توسد والتوى في جناح
وصار يشتكي مافي الفؤاد من غرام ... منها ضم منقاره لصدره وصاح
قلت ياحمام أحرمت عيني الهجوع ... أراك ماتزال تبكي بدمع سفوح
قال لي بكيت حتى صفت لي الدموع ... بلا دمع نبقى طول حياتي ننوح
على فرخ طار لي لم يكن لو رجوع ... ألفت البكا والحزن من عهد نوح
كذا الوفا وكذا هو الزمام ... انظر جفون صارت بحال الجراح
وأنتم من بكى منكم إذا تم عام ... يقول عناني ذا البكا والنواح
قلت ياحمام لو خضت بحرالضنى ... كنت تبكي وترثي لي بدمع هتون
ولو كان بقلبك مابقلبي أنا ... ما كان يصير تحتك فروع الغصون
اليوم نقاسي الهجر كم من سنا ... حتى لا سبيل جملة تراني العيون
ومما كسا جسمي النحول والسقام ... أخفاني نحولي عن عيون اللواح
لوجتني المنايا كان يموت في المقام ... ومن مات بعد ياقوم لقد استراح
قال لي لو رقدت لأوراق الرياض ... من خوفي عليه وذا النفوس للفؤاد
وتخضبت من دمعي وذاك البياض ... طوق العهد في عنقي ليوم التناد
أما طرف منقاري حديثو استفاض ... بأطراف البلد والجسم صار في الرماد
فاستحسنه أهل فاس وولعوا به ونظموا على طريقته، وتركوا الإعراب الذي ليس من شأنهم، وكثر سماعة بينهم واستفحل فيه كثير منهم ونوعوه أصنافاً إلى المزدوج والكازي والملعبة والغزل. واختلفت أسماؤها باختلاف ازدواجها وملاحظاتهم فيها.
فمن المزدوج ما قاله ابن شجاع من فصولهم وهومن أهل تازا:
المال زينة الدنيا وعز النفوس ... يبهي وجوهاً ليس هي باهيا
فها كل من هو كثير الفلوس ... ولوه الكلام والرتبة العاليا
يكبر من كثر مالو ولو كان صغير ... ويصغر عزيز القوم إذ يفتقر
من ذا ينطبق صدري ومن ذا تغير ... وكان ينفقع لولا الرجوع للقدر
حتى يلتجي من هو في قومو كبير ... لمن لا أصل عندو ولا لو خطر
لذا ينبغي يحزن على ذي العكوس ... ويصبغ عليه ثوب فراش صافيا
اللي صارت الأذناب أمام الرؤوس ... وصار يستفيد الواد من الساقيا
ضعف الناس على ذا وفسد ذا الزمان ... ما يدروا على من يكثروا ذا العتاب
اللي صار فلان يصبح بو فلان ... ولو رأيت كيف يرد الجواب
عشنا والسلام حتى رأينا عيان ... أنفاس السلاطين في جلود الكلاب
كبار النفوس جداً ضعاف الأسوس ... هم ناحيا والمجد في ناحيا
يرو أنهم والناس يروهم تيوس ... وجوه البلد والعدمة الراسيا
ومن مذاهبهم قول ابن شجاع منهم في بعض مزدوجاته:
تعب من تبع قلبو ملاح ذا الزمان ... أهمل يا فلان لا يلعب الحسن فيك
ما منهم مليح عاهد إلا وخان ... قليل من عليه تحبس ويحبس عليك
يهبوا على العشاق ويتمنعوا ... ويستعدوا تقطيع قلوب الرجال
وإن واصلوا من حينهم يقطعوا ... وإن عاهدوا خانوا على كل حال
مليح كان هويتو وشت قلبي معو ... وصيرت من خدي لقدمو نعال
ومهدت لو من وسط قلبي مكان ... وقلت لقلبي أكرم لمن حل فيك
وهون عليك ما يعتريك من هوان ... فلا بد من هول الهوى يعتريك
حكمتوا علي وارتضيت بو أمير ... فلو كان يرى حالي إذا يبصرو(1/390)
يرجع مثل در حولي بوجه الغدير ... مرديه ويتعطس بحال انحرو
وتعلمت من ساعا بسبق الضمير ... ويفهم مرادو قبل أن يذكرو
ويحتل في مطلو لو أن كان ... عصر في الربيع أو في الليالي يريك
ويمشي بسوق كان ولو بأصبهان ... وإيش مايقل يحتاج لو يجيك
حتى أتى على آخرها.
وكان منهم علي بن المؤذن بتلمسان، وكان لهذه العصور القريبة من فحولهم بزرهون من ضواحي مكناسة رجل يعرف بالكفيف، أبدع في مذاهب هذا الفن. ومن أحسن ما علق له بمحفوظي قوله في رحلة السلطان أبي الحسن وبني مرين إلى إفريقية يصف هزيمتهم بالقيروان، ويعزيهم عنها ويؤنسهم بما وقع لغيرهم بعد أن عيبهم على غزاتهم إلى إفريقية في ملعبة من فنون هذه الطريقة يقول في مفتتحها، وهو من أبدع مذاهب البلاغة في الأشعار بالمقصد في مطلع الكلام وافتتاحه ويسمى براعة الاستهلال:
سبحان مالك خواطر الأمرا ... ونواصيها في كل حين وزمان
إن طعناه أعظم لنا نصراً ... وإن عصيناه عاقب بكل هوان
إلى أن يقول في السؤال عن جيوش المغرب بعد التخلص:
كن مرعى قل ولا تكن راعي ... فالراعي عن رعيته مسؤول
واستفتح بالصلاة على الداعي ... للإسلام والرضا السني المكمول
على الخلفاء الراشدين والأتباع ... واذكر بعدهم إذا تحب وقول
أحجاجاً تخللوا الصحرا ... ودوا سرح البلاد مع السكان
عسكر فاس المنيرة الغرا ... وين سارت بو عزايم السلطان
أحجاج بالنبي الذي زرتم ... وقطعتم لو كلاكل البيدا
عن جيش الغرب حين يسألكم ... المتلوف في إفريقيا السودا
ومن كان بالعطايا يزودكم ... ويدع برية الحجاز رغدا
قام قل للسد صادف الجزرا ... ويعجز شوط بعدما يخفان
ويزف كر دوم تهب في الغبرا ... أي ما زاد غزالهم سبحان
لو كان ما بين تونس الغربا ... وبلاد الغرب سد السكندر
مبنى من شرقها إلى غربا ... طبقاً بحديد أوثانياً بصفر
لا بد الطير أن تجيب نبأً ... أو يأتي الريح عنهم بفرد خبر
ما أعوصها من أمور وما شرا ... لو تقرأ كل يوم على الديوان
لجرت بالدم وانصدع حجرا ... وهوت الخراب وخافت الغزلان
أدر لي بعقلك الفحاص ... وتفكر لي بخاطرك جمعا
إن كان تعلم حمام ولا رقاص ... عن السلطان شهر وقبله سبعا
تظهر عند المهيمن القصاص ... وعلامات تنشرعلى الصمعا
ألا قوم عاريين فلا سترا ... مجهولين لا مكان ولا إمكان
ما يدروا كيف يصوروا كسرا ... وكيف دخلوا مدينة القيروان
أمولاي أبو الحسن خطينا الباب ... قضية سيرنا إلى تونس
فقنا كنا على الجريد والزاب ... واش لك في إعراب إفريقيا القوبس
ما بلغك من عمر فتى الخطاب ... الفاروق فاتح القرى المولس
ملك الشام والحجاز وتاج كسرى ... وفتح من إفريقيا وكان
رد ولدت لو كره ذكرى ... ونقل فيها تفرق الأخوان
هذا الفاروق مردي الأعوان ... صرح في إفريقيا بذا التصريح
وبقت حمى إلى زمن عثمان ... وفتحها ابن الزبيرعن تصحيح
لمن دخلت غنائمها الديوان ... مات عثمان وانقلب علينا الريح
وافترق الناس على ثلاثة أمرا ... وبقي ما هو للسكوت عنوان
إذا كان ذا في مدة البرارا ... إش نعمل في أواخر الأزمان
وأصحاب الحضر في مكناساتا ... وفي تاريخ كأنا وكيوانا(1/391)
تذكرفي صحتها أبياتاً ... شق وسطيح وابن مرانا
إن مرين إذا تكف براياتا ... لجدا وتونس قد سقط بنيانا
قد ذكرنا ما قال سيد الوزرا ... عيسى بن الحسن الرفيع الشأن
قال لي رأيت وأنا بذا أدري ... لكن إذا جاء القدرعميت الأعيان
ويقول لك ما دهى المرينيا ... من حضرة فاس إلى عرب دياب
أراد المولى بموت ابن يحيى ... سلطان تونس وصاحب الأبواب
ثم أخذ في ترحيل السلطان وجيوشه، إلى آخر رحلته ومنتهى أمره، مع أعراب إفريقية، وأتى فيها بكل غريبة من الإبداع. وأما أهل تونس فاستحدثوا فن الملعبة أيضاً على لغتهم الحضرية، إلا أن أكثره رديء، ولم يعلق بمحفوظي منه شيء لرداءته.
الموشحات والأزجال في المشرق
وكان لعامة بغداد أيضاً فن من الشعر يسمونه المواليا، وتحته فنون كثيرة يسمون منها القوما، وكان وكان، ومنه مفرد ومنه في بيتين، ويسمون دوبيت على الاختلافات المعتبرة عندهم في كل واحد منها، وغالبها مزدوجة من أربعة أغضان. وتبعهم في ذلك أهل مصر القاهرة وأتوا فيها بالغرائب، وتبحروا فيها في أساليب البلاغة بمقتضى لغتهم الحضرية، فجاؤوا بالعجائب، ورأيت في ديوان الصفي الحلي من كلامه أن المواليا من بحر البسيط، وهو ذو أربعة أغصان وأربع قواف، ويسمى صوتاً وبيتين. وأنه من مخترعات أهل واسط، وأن كان وكان فهو قافية واحدة وأوزان مختلفة في أشطاره: الشطر الأول من البيت أطول من الشطر الثاني ولا تكون قافيته إلا مردفة بحرف العلة وأنه من مخترعات البغداديين. وأنشد فيه لنا: بغمز الحواجب حديث تفسير ومنو أوبو، وأم الأخرس تعرف بلغة الخرسان.
انتهى كلام الصفي. ومن أعجب ما علق بحفظي منه قول شاعرهم:
هذي جراحي طريا ... والدما تنضح
وقاتلي يا أخيا ... في الفلا يمرح
قالوا ونأخذ بثأرك ... قلت ذا أقبح
إلى جرحتي يداويني ... يكون أصلح
ولغيره:
طرقت باب الخبا قالت من الطارق ... فقلت مفتون لا ناهب ولا سارق
تبسمت لاح لي من ثغرها بارق ... رجعت حيران في بحر أدمعي غارق
ولغيره:
عهدي بها وهي لاتأمن علي البين ... وإن شكوت الهوى قالت فدتك العين
لمن يعاين لها غيري غلام الزين ... ذكرتها العهد قالت لك علي دين
ولغيره في وصف الحشيش:
دي خمر صرف التي عهدي بها باقي ... تغني عن الخمر والخمار والساقي
قحباً ومن قحبها تعمل على إحراقي ... خبيتها في الحشى طلت من أحداقي
ولغيره:
يا من وصالو لأطفال المحبة بح ... كم توجع القلب بالهجران أوه أح
أودعت قلبي حوحو والتصبر بح ... كل الورى كخ في عيني وشخصك دح
ولغيره:
ناديتها ومشيبي قد طواني طي ... جودي علي بقبلة في الهوى يامي
قالت وقد كوت داخل فؤادي كي ... ماظن ذا القطن يغشى فم من هو حي
ولغيره:
راني ابتسم سبقت سحب أدمعي برقه ... ماط اللثام تبدي بدر في شرقه
أسبل دجى الشعرتاه القلب في طرقه ... رجع هدانا بخيط الصبح من فرقه
ولغيره:
يا حادي العيس ازجر بالمطايا زجر ... وقف على منزل أحبابي قبيل الفجر
وصي في حيهم يا من يريد الأجر ... ينهض يصلي على ميت قتيل الهجر
ولغيره:
عيني التي كنت أرعاكم بها باتت ... ترعى النجوم وبالتسهيد اخاتت
وأسهم البين صابتني ولافاتت ... وسلوتي عظم الله أجركم ماتت
ولغيره:
هويت في قنطرتكم ياملاح الحكر ... غزال يبلى الأسود الضاريا بالفكر
غصن إذا ما انثنى يسبي البنات البكر ... وإن تهلل كما للبدر عندو ذكر
ومن الذي يسمونه دوبيت:
قد أقسم من أحبه بالباري ... أن يبعث طيفه مع الأسحار
يا نار أشواقي به فاقتدي ... ليلاً فعساه يهتدي بالنار(1/392)
واعلم أن الأذواق كلها في معرفة البلاغة إنما تحصل لمن خالط تلك اللغة وكثر استعماله لها ومخاطبته بين أجيالها، حتى يحصل ملكتها كما قلناه في اللغة العربية. فلا يشعر الأندلسي بالبلاغة التي في شعر أهل المغرب، ولا المغربي بالبلاغة التي في شعر أهل الأندلس والمشرق، ولا المشرقي بالبلاغة التي في شعر أهل الأندلس والمغرب. لأن اللسان الحضري وتراكيبه مختلفة فيهم، وكل واحد منهمل ممرذ لبلاغة لغته وذائق محاسن الشعر من أهل جلدته. " وفي خلق السماوات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم آيات للعالمين " .
خاتمة: وقد كدنا أن نخرج عن الغرض، ولذلك عزمنا أن نقبض العنان عن القول في هذا الكتاب الأول، الذي هو طبيعة العمران، وما يعرض فيه، وقد استوفينا من مسائله ما حسبناه كفاء له. ولعل من يأتي بعدنا، ممن يؤيده الله بفكرصحيح وعلم مبين، يغوص من مسائله على أكثرمما كتبنا، فليس على مستنبط الفن إحصاء مسائله، وإنما عليه تحيين موضع العلم وتنويع فصوله، وما يتكلم فيه، والمتأخرون يلحقون المسائل من بعده شيئاً فشيئاً إلى أن يكمل. والله يعلم وأنتم لا تعلمون.
قال مؤلف الكتاب عفا الله عنه: أتممت هذا الجزء الأول، المثتمل على المقدمة بالوضع والتأليف، قبل التنقيح والتهذيب، في مدة خمسة أشهر آخرها منتصف عام تسعة وسبعين وسبعمائة. ثم نقحته بعد ذلك وهذبته، وألحقت به تواريخ الأمم كما ذكرت في أوله وشرطته. وما العلم إلا من عند الله العزيز الحكيم.(1/393)