(الغلاف)
معارك العرب
وما أشبه الليلة بالبارحة(1/1)
معارك العرب
وما أشبه الليلة بالبارحة
الطبعة الإلكترونية الأولى
1426 هـ
2005 م(1/3)
? معارك العرب
? أحمد الشقيري
? الطبعة الإلكترونية الأولى 2005 م
المحرر
عبد العزيز السيد أحمد
تدقيق التنضيد والإخراج :-
المؤسسة العربية الدولية للنشر والتوزيع
هاتف: 5650630-6-962+ فاكس: 5668860-6-962+
ب.إ: arab_book@hotmail.com
جميع الحقوق محفوظة All rights reserved(1/4)
إهداء الكتاب
لمن ؟ ولماذا؟
لا أهدي هذا الكتاب إلى المعاصرين من ملوك العرب والإسلام، وأمرائهم ورؤسائهم، وما أكثرهم عددا وأضخمهم لقبا.
لا أهديهم هذا الكتاب، لأن الذين سقط بيت المقدس في أيامهم، لا يستحقون أن يهدى إليهم كتاب تدور بعض فصوله حول بيت المقدس ... ..
ولقد تبادر إلى ذهني ، لأول وهلة، أن أهديه إلى روح البطل المجاهد الفاتح صلاح الدين الأيوبي. فإن احتلال الأرض العربية على أيدي الإفرنج في الماضي، وعلى يد إسرائيل في الحاضر، يفرض حتما أن يكون الإهداء إليه، لا إلى سواه.
ولكني عدلت عن ذلك، فإن صلاح الدين الأيوبي قد ملأ صفحات التاريخ الإفرنجي أكثر من العربي ... ولم يعد إهداء أي كتاب يرقى إلى سيرته المجيدة وتاريخه الباهر ... .
وثمة سبب آخر حملني على هذا العدول. ذلك أني وقفت، وأنا أقلب صفحات التاريخ، على ملحمة بطولية كانت مضمورة في جوف الكهوف، وشاء القدر أن تنشر وتذكر.
وأنا أحاول اليوم، أن أزيدها ذكرا ونشرا ... .. وأن أجعل أبطالها موضوع الإهداء. ولا بد أن نبدأ الحكاية من أولها بإيجاز.
في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، عثر أربعة من المستشرقين وهم مكاليستر، دالمن، شيك، فإن برشم، على موقع أثري عظيم، في أسفل جبل الزيتون في القدس، وعلى بعد ستمئة متر من برج اللقلق. وهذا الموقع هو مغارة مبطنة بالجص ذات قاعتين مربعتين، إحداهما(1/5)
داخلية والأخرى خارجية. وتحتوي القاعة الداخلية على بضع عشرات من الكتابات العربية منقوشة في الجدران.
وعلم الأستاذ عادل جبر، رحمه الله، وهو من الباحثين الفلسطينيين المعروفين، بهذا االكشف الأثري القيم، فقام بنفسه بزيارة الموقع في أوائل عام 1923، فوجد أسماء كتبت باللغة العربية بالخط الكوفي، منها:- بكر بن عمر – حمزة بن حميد – بشير بن عبد الله – محمد بن سنان – المنشئ الياس بن أحمد بن عبد الواحد بن السائب، أيوب بن عبد الله (1) .
وفي كهف قريب من المغارة عثر المستشرق الألماني الأستاذ دالمن على حجر نقشت عليه عبارة: عبد الله عثمان بن سعيد القصري، وهذا الاسم مكتوب أيضاً بالخط الكوفي.
وبعد دراسات عميقة مستفيضة توصل المستشرقون إلى أن هذه الكتابات ترجع إلى زمن الملك العادل نور الدين بن زنكي الملقب بالشهيد
( 546-1154م) وأن هؤلاء الرجال هم من كتائب الفدائيين الذين كان يرسلهم نور الدين إلى بيت المقدس، ليغيروا على الإفرنج تمهيدا لإجلائهم عن بيت المقدس، وتوفي نور الدين قبل أن تتحقق أمنيته الكبرى، وأنجزها من بعده، البطل صلاح الدين.
ولقد هممت غير مرة، وأنا في بيت المقدس، أن أذهب إلى كهف الأبطال، لأستذكر أيامهم الباسلة، وهم يؤدون واجبهم المقدس في تلك الأيام السوداء من تاريخ العروبة والإسلام، حينما كان بيت المقدس، كما هو الآن، يرزح تحت وطأة الاحتلال.
ولكن الظروف لم تسعفني للقيام بهذا الواجب المقدس، وبقيت هذه الأمنية في صدري، أؤجلها من حين إلى حين، إلى أن سقط بيت المقدس في
__________
(1) مجلة صوت الشعب ، بيت لحم، العدد 14، عام 1923.(1/6)
يد إسرائيل، وسقط معه كهف الأبطال ، وكل معالمنا التاريخية الرفيعة في سائر أرجاء فلسطين.
واليوم، تلوح لي هذه الفرصة المتواضعة، لأعوض عن تقصيري، وربما عن تقصير جيلي بأكمله.
فإلى أولئك الأبطال الغر الميامين: عبد الله عثمان بن سعيد القصري ورفاقه البواسل ... . أهدي هذا الكتاب،
تمجيدا للأبطال المغمورين المجهولين، ووفاء لكهف الأبطال عند سفح جيل الزيتون، وعهدا بأن نظل مرابطين لتحرير بيت المقدس..
ذلك أن قدرنا أن نكون مرابطين مجاهدين إلى يوم القيامة، وهذا آخر الأنبياء والمرسلين، وأول العرب والمسلين، يقول: "يا معاذ إن الله عز وجل سيفتح عليكم الشام من بعدي من العريش إلى الفرات، رجالهم ونساؤهم مرابطون إلى يوم القيامة ، فمن اختار منكم ساحلاً من سواحل الشام أو بيت المقدس فهو في جهاد إلى يوم القيامة".
وقد اختار أجدادنا، واختار جيلنا، وسيختار أولادنا وأحفادنا من بعدنا، أن نكون في رباط دائم، وجهاد قائم، حول بيت المقدس، نفتديه بالمهج والأرواح، كلما نزلت به النوازل وعدت عليه العوادي.
والنصر آت لا ريب فيه، وكل آت قريب.
أحمد الشقيري(1/7)
المحتويات
- إهداء الكتاب ....لمن؟ولماذا؟................................. ... 5
- الثالث من حزيران،في حزيران انكسرنا وفي حزيران انتصرنا ... 11
- من معرة النعمان إلى الرملة البيضاء......................... ... 27
- وسقط بيت المقدس........................................... ... 37
- هزائم الماضي والحاضر، والأسباب واحدة................... ... 53
- من طرابلس إلى صور....................................... ... 67
- احتلال العقبة وغزو سيناء................................... ... 79
- دمشق ومعركة الأيام الخمسة................................. ... 89
- مصر وحرب الأعوام الستة................................... ... 103
- تحرير العقبة والبحر الأحمر.................................. ... 123
- الأيام الستة المجيدة.......................................... ... 143
- لي حكاية مع حطين.......................................... ... 161
- التحرير مع الإسراء، والنصر مع المعراج................... ... 167
- المعركة الكبرى في حزيران.................................. ... 183
- عكا دمرها الله................................................ ... 205
- القدس لنا والصخرة لكم...................................... ... 229
- العبور الأكبر................................................. ... 251
- ملوك وأمراء خانوا بيت المقدس............................. ... 267
- يوم في بيت المقدس.......................................... ... 279
- وعلى أي حائط يبكون........................................ ... 299
- المراجع ..................................................... ... 322(1/9)
الثالث من حزيران..
في حزيران انكسرنا..في حزيران انتصرنا..
إيه يا أنطاكية، يا صانعة التاريخ، ويا رفيقة الزمان ... .. إنها مدينة عريقة عتيقة، وهبها موقعها الطبيعي كل أسباب المتعة، وحباها بكل حوافز العزة والحضارة ... ..
وعلى مشارف سوريا الشمالية، وقفت أنطاكية شامخة، كأنها الباب الكبير بين الشرق والغرب ... تحيط بها الجبال المنيعة من الجنوب والشرق، ويلفها نهر العاصي من الغرب، وتحميها من الشمال مستنقعات وأحراج، وقلعة حصينة هنا وموقع منيع هناك ... حتى لم تكن تضاهيها الا القسطنطينية الساجية على البسفور بكل إباء وخيلاء..
وفي هذه الرقعة الفاتنة الجميلة من ديار الشام، ربضت هذه المدينة الساحرة على مقربة من البحر الأبيض المتوسط، أو البحر الشامي كما يسميه المؤرخون ... .وتهافت الأباطرة والقياصرة يخطبون ودَّها، ويزيدون من عمارتها ويقيمون فيها الساحات والميادين، وينشئون من حولها البساتين، ويشيدون المعابد والملاعب، ويبنون الحمامات والمستشفيات، حتى أصبحت تعج بما يزيد على ربع مليون من السكان، وذلك عدد كبير في حسابات ذلك(1/11)
الزمان ، ولسبب ما، لا يعرفه إلا جوفها، كانت أنطاكية الجميلة، مصابة بداء الزلازل، تنتابها جيلاً بعد جيل، أيام الحروب والسلام على السواء، كأن بطن الأرض يحن إلى ظهرها، فما تكاد العمائر تبنى وتتسامى حتى يحتاجها زلزال رهيب، فيخرب ويدمر، ولا يبقي ولا يذر.
ومع هذا ، فإن موقعها الإستراتيجي قد أغرى الدولة البيزنطية القديمة، فجعلتها عاصمتها، تدبر منها شؤون الإمبراطورية العتيدة.
وغداة انبثاق النصرانية، وهي لا تزال وليدة في المهد، تبوأت أنطاكية مقاما مرموقا في تاريخ الإنسانية، فلم تعد كما كانت عاصمة دولة، ولكنها أصبحت "مدينة الله" كما شاع لقبها يومذاك، ذلك أن الحواريين، من تلاميذ عيسى عليه السلام، قد وفدوا على أنطاكية من فلسطين، ومن جملتهم بولس وبرنابا وبطرس، وهم المبشرون الأوائل للدعوة المسيحية.
وأعلن التاريخ ... أن المسيحية قد ولدت في بيت لحم وبيت المقدس والناصرة، ولكنها انتشرت من أنطاكية، فمنها انطلقت وامتدت ... ..
ولهؤلاء المبشرين الأوائل من أبناء فلسطين، قصة بطولية عن رحلة بحرية فدائية قاموا بها إلى أنطاكية، وسجلها الإنجيل في عبارات مثيرة تكشف عن المصاعب الرهيبة، والرياح العاتية، والأمواج الصاخبة التي حملتهم بين اليأس والرجاء، بل بين الحياة الموت، من شواطئ فلسطين إلى شواطئ أنطاكية. ومن أجل ذلك أطلق الإنجيل كلمته الشهيرة، "ودعي التلاميذ مسيحيين في أنطاكية أولا" (1) .
__________
(1) سفر أعمال الرسل، ص ص 11- 26.(1/12)
وبعد الإنجيل بعشرة قرون جاء المؤرخ الحلبي، وهو جار إنطاكية، ليعلن في عبارة وقورة "إن أنطاكية هي أم المدن لأنها أول بلد ظهر فيها دين النصرانية (1) واستمرت إنطاكية، في موكب التاريخ، بسرد أخبارها وأحداثها، العسكرية والسياسية والتجارية والدينية، إلى أن بدأت الفتوح الإسلامية في ديار الشام، وسقطت أنطاكية في أيدي الجحافل العربية التي كان يقودها خالد بن الوليد وأبو عبيدة الجراح ( 638)، وكاد العرب أن يتخذوا من أنطاكية عاصمة لهم، لولا أن دمشق كانت أشد إغراء وأكثر فتنة.
وهكذا صارت أنطاكية، وكان ذلك في خلافة عمر بن الخطاب، تحت حكم أمير الشام معاوية بن أبي سفيان، مؤسس الدولة الأموية في ما بعد.
وقد غمرت الدنيا العربية والإسلامية موجة عارمة من الفرح والبهجة. فقد كان سقوط أنطاكية إيذانا بجلاء الروم عن ديار الشام إلى الأبد.
ويذكر التاريخ العربي مهللا مستبشرا أن "هرقل ملك الروم رحل من أنطاكية إلى القسطنطينية وهو يقول باليونانية "سوزو سورية" وهي كلمة وداع لأرض الشام وبلادها (2) ..وفي رواية أخري "عليك السلام يا سوريا، سلام لا اجتماع بعده" (3) وتعاقبت الأحداث قرابة خمسمئة عام، حتى أطل القرن الحادي عشر للميلاد، وإنطاكية مدينة التاريخ، تعود مرة ثانية. لتصنع التاريخ من جديد.
__________
(1) ابن العديم ، زبدة الحلب، ج1، ص21.
(2) ابن العبري، 174.
(3) ابن العديم، ص ص 35-36.(1/13)
وكانت أنطاكية في ذلك العهد، لا تزال القلعة الحصينة الشامخة، فقد كانت، كما قال الجغرافي الإسلامي المعروف عنها ياقوت"لم تزل أنطاكية قصبة العواصم بين الثغور الشامية، وهي من أعيان البلاد وأمهاتها ... ..بلد عظيم ذو سور ... ولسوره ثلاثماية وستون برجا، يطوف عليها بالنوبة أربعة آلاف حارس، وشكل البلد كنصف دائرة، قطرهما يتصل بجبل، والسور يصعد مع الجبل (1) .
وكأنما كانت أنطاكية بأسوارها وأبراجها تنتظر معركة حاسمة تقرر مصير المشرق العربي، ومعه مصير الديار المصرية، على مدى قرنين متعاقبين ليصبحا في ما بعد فصلا كبيرا، في تاريخ العالم بأسره....وذلك هو الفصل الشهير المعروف بتاريخ الحملات الصليبية. أو بتاريخ حملات الإفرنج، كما يسميها المؤرخون المسلمون.
ولست أؤرخ لهذه الحملات، فإن المراجع التاريخية بشأنها تؤلف مكتبة كبيرة، ولا تزال هذه المكتبة تزداد ضخامة مع الزمان، وهي تستكمل فصول تلك المأساة الإنسانية الفريدة.
ولكن الظاهرة الأساسية التي ينبغي التركيز عليها، أن الحملة الصليبية في العصور الوسطى تكاد تكون متشابهة بل متطابقة مع الحملة الصهيونية في العصر الحديث ... ..وأوجه الشبه كثيرة.
ومن أهم أوجه الشبه، أن الدين قد اتخذ ستارا وشعارا في الحملتين، ففي الأولى كان الصليب هو الشعار، وفي الثانية كان الشعار هو نجمة داود ... .وكان الهدف الظاهر في الأولى "إنقاذ القبر المقدس"، وفي الثانية كان الهدف "إعادة بناء هيكل سليمان".
__________
(1) ياقوت الحموي، معجم البلدان، ص 267.(1/14)
ولكن الواقع الذي لا مراء فيه أن الحملة الصليبية كانت مجرد عزوة استعمارية استيطانية، كالغزوة الصهيونية المعاصرة سواء بسواء ... والدلائل على ذلك سهلة المنال.
فهذا المستشرق المعروف لامونت يقول عن الصليبيين أنهم "لم يحاولوا الاستيلاء على البلاد الإسلامية لكونها بلادا إسلامية ... .بل خرجوا ليستولوا على البلاد وليؤسسوا فيها إمارات لهم ... ."وأن أمراء الإفرنج "كانوا يستهدفون غايات دنيوية محضة " ... وأن الواحد منهم "لم يجد أي بأس في أخذ البلاد من أيدي المسلين واليونان والأرمن أو من أيدي أبناء جنسه من الإفرنج" (1) .
وهذا مؤرخ غربي آخر هو "غروسيه" يقول في عبارة جازمة عن "الحاج" الذي ذهب لزيارة الأماكن المقدسة في بيت المقدس بأنه "أصبح رجل فتح يذهب لإنشاء ممالك تحت شمس الشرق، كما اتجه بارونات الأرض المقدسة إلى تطبيق سياسية استعمارية".
بل إن مؤرخا غربيا منصفا قد أدان الحملة الصليبية بأنها "أول تجربة في الاستعمار الغربي قامت بها الأمم الأوروبية خارج حدود بلادها لتحقيق مكاسب اقتصادية واسعة النطاق" (2) .
والواقع أن أهل الصليب أنفسهم لم ينجوا من الحملات الصليبية. فقد ارتكب الصليبيون مع أخوانهم في الدين في بلغاريا والمجر فظائع رهيبة، وهم في طريقهم إلى بيت المقدس. وحين وصولهم إلى القسطنطينية خربوا الكنائس ونهبوا نفائسها، واقتحموا كنيسة القديس أيا صوفيا وهم
__________
(1) Thomson , Economic and Social History , page 397
(2) د. نقولا زيادة ( إشراف)، دراسات إسلامية، ص102.(1/15)
سكارى، وعبثوا بما فيها من ستائر وأدوات وكتب مقدسة فحرقوها وداسوها بأقدامهم، ونهبوا ذخائرها، وما حوته من آلات ورخام، وحملوه معهم إلى الديار المصرية والشام، وبيع في الأسواق، ووصل منه إلى دمشق رخام كثير (1) .
ومثل هذا قد فعلته الحملة الصهيونية في فلسطين، فقد هدمت المساجد والكنائس والمقابر، وأحرقت جانبا من المسجد الأقصى، ونهبت النفائس الدينية من كنيسة القيامة.
وأوجه الشبه أكثر من أن تحصى بين الحملة الصليبية والحملة الصهيونية، والدين الحق براء من الحملتين.
ومن أجل ذلك فإن المؤرخين المسلمين الأوائل الذين عاصروا الحملات الصليبية، كانوا أدق وأصدق من المؤرخين الغربيين ... .ذلك أن المؤرخين المسلمين قد سموها حروب الإفرنج. ولم ترد كلمة الصليبيين في سطر واحد من مجلداتهم الضخمة، على حين أن المؤرخين الغربيين هم الذين سموها الحملات الصليبية، بعد أن ركب ملوك الغرب شارة الصليب على أكتافهم!
وكل ما أريد أن احكيه للمواطن العربي المعاصر في كلمات قليلات، أن الإفرنج في الحملة الصليبية التي تمت تعبئتها في أوروبا، قد اجتازوا القسطنطينية، وتوغلوا في آسيا الصغرى، واخترقوا جبال طوروس، وها نحن نجدهم في تشرين الأول سنة 1098 معسكرين حول أسوار أنطاكية، وسيوفهم مشرعة نحو ديار الشام، وبيت المقدس هوا لغاية والنهاية.
__________
(1) الدكتور حبشي, وأبو شامة (تعريب)، كتاب الجستا، ذيل الروضتين, ص52.(1/16)
ودارت المعركة رهيبة من أجل أنطاكية. الإفرنج يستميتون للاستيلاء عليها، فهي باب المشرق العربي ... .والعرب يستبسلون في الدفاع عنها، دفاعا عن الوطن العربي بأسره.
ولكن العرب الذين نعنيهم هنا، هم القوات العربية في أنطاكية وما حولها. أما حكام العرب في بغداد ودمشق والقاهرة، فلم يكن الأمر يعنيهم من بعيد أو قريب ... .ولم يكونوا يقُدرون أن الإفرنج إذا اقتحموا أنطاكية سيقتحمون عليهم عواصمهم، وهم في قصورهم، وعلى الأرائك متكئين!!
وامتدت المعركة شهورا مضنية، كان يجري فيها القتال، في داخل المدينة وفي خارجها، وعلى أبراجها وأسوارها، وبين شوارعها وساحاتها، والحامية العربية تستصرخ وتستنجد، ولا مجيب ولا مجير.
وكانت حلب ودمشق أقرب الحواضر العربية إلى أنطاكية، وهما أولى بالنجدة من غيرهما.... ولكن الذين جرى أن الصراع كان على أشده بين الأخويين – العدوَّين الألدَّين: رضوان ملك حلب، ودقاق ملك دمشق، وكانت الحرب ناشبة بينهما حين وصلت قوات الإفرنج إلى أسوار إنطاكية...
والسبب في الحرب بين الأخوين، الملكين، أن رضوان ملك حلب، كان طامعا في دمشق ويريد انتزاعها من أخيه دقاق، أو كما يقول مؤرخ عربي عن الصراع، لأن "فخر الملوك رضوان صاحب حلب – كان – مائلا إلى دمشق محبا لها، ولا يختار عليها سواها" (1) .
وبسبب هذا الصراع على دمشق ... .وقف الملكان، دقاق ورضوان، يتفرجان على أنطاكية وهي تقاتل الإفرنج وحدها ... .دون أن يدريا أن القدر والإفرنج يخبئان لهما معا أوخم العواقب والنوائب ...
__________
(1) ابن القلانسي، ذيل تاريخ دمشق ، ص ص 131-132.(1/17)
ولعل الإفرنج قد علموا بهذا الصراع بين الملكين الأخويين، فاتصلوا بدمشق، وكتبوا إلى ملكها يطمئنونه على ملكه، وأنهم لا يريدون به شرا. واستكان إلى هذه الموادعة الذليلة ... .وما له ولإنطاكية ومن بعدها الطوفان ... .وذلك ما سجله مؤرخنا العربي حين قال "وكان الإفرنج قد كاتبوا صاحب دمشق بأننا لا نأخذ ولا نقصد غير البلاد التي كانت بيد الروم، ولا نطلب سواها، مكرا منهم وخديعة حتى لا يساعدوا صاحب إنطاكية" (1) .
وكما فعل العرب في حروبهم مع إسرائيل، فقد تخلف صاحب دمشق عن نجدة صاحب إنطاكية ... ولكن الحقيقة المفجعة أن صاحب أنطاكية نفسه- واسمه سيَّان- لم يكن قد هيأ شعبه للنضال والقتال، فقد كان ظالما مستبدا، شديد الوطأة على الرعية، حتى أن أهل "ارتاح" وهي من المدن الواقعة تحت سيادته، قد استجاروا منه بالإفرنج. ويقول مؤرخ عربي آخر في هذا الحادث "واستدعى أهل أرتاح المدد من الإفرنج، وهذا كله لقبح سيرة سيان وظلم في بلاده " (2) ومن أين للشعب المظلوم المقهور أن يقاتل، من أين للشعب الذي سلبت حريته وصودرت إرادته أن ينتصر؟
وإذا كان صاحب أنطاكية ظالما جائرا، كما رأينا، فإن أعوانه لم يكونوا يتورعون عن الخيانة، فاوالظلم والخيانة توأمان متلازمان ... .وقد لعبت الخيانة دورها في معركة أنطاكية، فحين كانت الحرب مستعمره الأوار، تطوع "الزراد" وهو قائد أحد الأبراج فأرسل إلى أمير الإفرنج يقول له وبعبارة المؤرخ العربي، "أنا في البرج الفلاني، وأنا أسلم إليك أنطاكية،
__________
(1) ابن الأثير, حوادث سنة 491هـ.
(2) ابن العديم، ج2، ص 132.(1/18)
أن أمنتني وأعطيتني كذا (1) وكذا" وتمت الصفقة، فأعطاه الإفرنج كذا وكذا، وأسلمهم البرج الفلاني ... .وسقطت إنطاكية ... .
وكان سقوط أنطاكية في اليوم الثالث من حزيران عام 1098. وكانت هزيمة مروعة، لا تقل ضراوة عن هزيمتنا المعاصرة في حزيران المشؤوم ...
وفي عبارة حزينة موجزة يقول التاريخ عن ضحايا إنطاكية: "فقتل وأسر وسُبي من الرجال والنسوان والأطفال ما لا يدركه حصر" (2) .
ويشهد مؤرخ أجنبي أن الإفرنج قد ذبحوا في أنطاكية ما لا يقل عن عشرة آلاف من أهلها، واضطر الجند إلى المسارعة في دفن الجثث قبل أن ينتشر الوباء في المدينة (3) .
وانطلقت جيوش الإفرنج بعد سقوط إنطاكية، تنهب وتدمر، وتحرق القرى والمدن في حوض نهر العاصي، وواصلوا غاراتهم شرقا حتى معرة مصرين، وقتلوا أهلها ونهبوا ما فيها، ثم استولوا على حارم، وبهذا حققوا نصرا كبيرا نظرا لموقعها الاستراتيجي بين حلب وإنطاكية.
ومضى الإفرنج بعد ذلك بحملة على البارة وهي مدينة تابعة لحلب، تقع شرق نهر العاصي واستولوا عليها، وقام قائد حملة الإفرنج "فعاقب الرجال والنساء واستصفى أموالهم, وقتل بعضا وسبى بعضا "كما قال المؤرخ العربي في كلمات باكية (4) .
__________
(1) ابن العديم، فريدة الحلب, ج2، ص 157.
(2) ابن القلانسي , ذيل تاريخ دمشق ,ص 135.
(3) رانسيمان,ج1، ص 134.
(4) ابن العديم , فريدة الحلب, ج2, ص 141.(1/19)
وفي أوائل الشتاء (11 ديسمبر 1098) حين كانت الرياح الباردة تتناوح السهول السورية، اهتزت رفات أبي العلاء المعري فيلسوف الشعراء وشاعر الفلاسفة وهي تضج في قبره ... ذلك أن الإفرنج قد اقتحموا بلدته التاريخية "فقتلوا أكثر من عشرين ألف رجل وامرأة وصبي" في رواية اين العديم، "وما يزيد على مئة ألف" في رواية ابن الأثير. أما أحد المؤرخين الغربيين فقد ذكر أن الإفرنج قد أحرقوا المعرة أولا عن آخر.
وهكذا سقط شمال الشام من مدينة الله إلى مدينة المعري..
ولم يكن قد مضى على وفاة المعري، ضرير الزمان، إلا أربعون عاما. وحسنا فعل القضاء والقدر، فقد سكن هذا الشاعر المارد الجبار في ضريحه قبل أن يرى تلك المآسي الرهيبة، في بلدته الحبيبة.
وحقا كانت المعرة هي بلدته الحبية ... إنه لم يبصرها ولكنه كان شغوفا بها ... . ما يكاد يرتحل عنها حتى يعود به الشوق إليها ... ارتحل إلى الكوخ في بغداد مرة، وهاجه الحنين إليها فقال مخاطبا البرق:
فيا برق ليس الكرخ داري وإنما
رماني إليها الدهر منذ ليالي
فهل فيك من ماء المعرة قطرة
تُغيث بها ظمآن ليس بسالي
ولكم وددت، وأنا أقف على قبر المعري في صيف 1972، لو أن القدر قد أمهله إلى ما بعد غزوة الإفرنج، ليكتب للأجيال العربية "رسالة الغضب والأحزان" بديلا عن "رسالة الغفران" ..حتى تعيش معنا قصائده لنرددها اليوم، ونحن نواجه الغزوة الصهيونية، وهي تتوغل في الوطن العربي.(1/20)
ولم تكن رسالة غضب وأحزان، فقد كانت ديار الشام في تلك الحقبة، تعيش التجزئة والانقسام بكل بأسائه وضرائه، وقد جاء الإفرنج في حملتهم الأولى ليجدوا الأمة العربية مهيأة للهزيمة والانكسار والذل والعار.
والمذبحة في معرة النعمان، وإحراقها " أولا عن آخر" ما هي إلا مثال واحد على حالة التفكك التي كانت تعيشها الأمة العربية في تلك الحقبة..والتاريخ العربي يقول"أن أهل المعرة استغاثوا بالملك رضوان ..فلم ينجدهم أحد" (1) .
ولم يكن ذلك من طبيعة الأمة العربية، الشجاعة الباسلة التي تعطي بلا ثمن، وتفدي بلا حساب، أَوَلَمْ يتساقط الشهداء بالألوف في شمال الشام وحدها، أضعاف ما تساقط الشهداء في زماننا، في حروبنا الأربعة ابتداء من عام 1948 إلى يومنا هذا؟
ولكن ديار الشام كانت مهيأة للهزيمة أمام الإفرنج، فقد كانت البلاد مجموعة ممالك وأمارات.
فهذه إمارة في أنطاكية يحكمها أحد الأمراء، واسمه سيَّان.
وهذه مملكة في حلب على رأسها الملك رضوان.
وهذه مملكة في دمشق على رأسها المملك دقاق.
وهذه إمارة في حمص يحكمها شمس الدولة جناح بن ملاعب.
وهذه إمارة في الموصل يحكمها أحد أمراء التركمان واسمه كربوغا.
وهذه إمارة في حماة يحكمها سلمان، أمير آخر من أمراء التركمان.
وهذه إمارة في حصن عزاز، شمالي حلب، وعلى رأسها الوالي عمر.
__________
(1) ابن العديم، ج2، ص142.(1/21)
كانت هذه هي الحال في ديار الشام، أما الحال في مصر والعراق فكانت أشد تمزقا ... .خلافة فاطمية شيعية في القاهرة، وخلافة عباسية سنية في بغداد، وأوصال مفككة، تسودها الشحناء والبغضاء ... والشعوب هي الضحية، والوطن هو الثمن.
كان هؤلاء هم الملوك والأمراء الذين واجهوا الحملة الصليبية الأولى، وهي على عتبات الوطن العربي ... وقد ترك لنا التاريخ صفحات تكشف الأسباب عن انتصار الإفرنج ، وانكسار العرب.
ومن هذه الصفحات، أنه لما ضاق الأمر بأهل حلب، يقول مؤرخ عربي، "مضى بعضهم إلى بغداد واستغاثوا بأيام الجمع ومنعوا الخطباء من الخطبة، مستصرخين بالعساكر الإسلامية على الإفرنج" (1) كما يروي مؤرخ آخر في الموضوع نفسه فيقول"فسار جماعة من أهل حلب إلى بغداد مستنفرين على الإفرنج، فما وردوا بغداد اجتمع معهم خلق كثير من العلماء وغيرهم فقصدوا جامع السلطان واستغاثوا ومنعوا من الصلاة وكسروا المنبر" (2) .
ولكن ذروة المآسي وقمة المخازي قد رست على رأس الخلافة الفاطمية في القاهرة، فلم يكتف الفاطميون بالقعود عن الجهاد والتخاذل في معركة العروبة والإسلام، بل راحوا يعملون على إقامة تحالف مع الإفرنج نكاية بالسلاجقة المسلين في سورية، وبالخلافة العباسية في بغداد، ويا لخزي الزمان وعار الأبد!
__________
(1) ابن العديم، فريدة الحلب, ج2، ص 157.
(2) ابن الأثير، الكامل، ج8، ص163.(1/22)
وكان صاحب الأمر والنهي في القاهرة في تلك الأيام الحالكة السوداء، الخليفة الفاطمي المستعلي، والوزير الأفضل بن بدر الجمال، أثبتت الأيام أن نكبة الإسلام كانت على يد هذا "المستعلي" وذاك "الأفضل".
وموجز النكبة التي تستعصي على الإيجاز أنه حين كانت المعارك الطاحنة دائرة بين العرب والإفرنج حول أسوار أنطاكية، بعث الوزير الأفضل بسفرائه إلى معسكر الإفرنج لإقامة تحالف بين الفريقين، بحيث تكون أنطاكية للإفرنج، وبيت المقدس للفاطميين!!
وقد اهتز التاريخ العربي غداة أن سقطت أنطاكية، وراح يصيح مستنكرا ومنددا بموقف الوزير الأفضل، وقال "ولم ينهض الأفضل بإخراج عساكر مصر، وما أدري ما كان السبب في عدم إخراجه، مع قدرته على المال والرجال"، ثم أردف يقول في عجب واستغراب "كل ذلك وعساكر مصر لم تتهيأ للخروج" (1) .
بل إن التاريخ قد ذهب إلى أبعد من ذلك, واتهم الخلافة الفاطمية بمصر بأنها هي التي دعت الإفرنج لاحتلال ديار الشام نكاية بالسلاجقة المسلمين الذين كانوا ينافسونهم في المشرق العربي. وقال التاريخ بأفصح كلام "أن أصحاب مصر (الفاطميين ) ,وقد رأوا قوة الدولة السلجوقية واستيلاءها على بلاد الشام ... .خافوا، فأرسلوا إلى الإفرنج يدعونهم إلى الخروج إلى الشام ليملكوها ويكونوا بينهم وبين المسلمين (2) ولو أن الفاطميين، قد ذهبوا إلى أنطاكية محاربين مجاهدين، لا مفاوضين لا خائنين ... .لو أنهم شدوا أزر القوات العربية التي كانت تتصدى للإفرنج، لأرتدت الحملة الصليبية الأولى
__________
(1) أبو المحاسن, النجوم الزاهرة, ج5 ,ص ص 147-148.
(2) ابن الأثير,الكامل, حوادث سنة 490 هـ.(1/23)
على أعقابها، وما استطاعت أن تجتاح في ما بعد ديار الشام، وفلسطين، وسيناء، والقاهرة نفسها مقر الدولة الفاطمية ويغرق العالم العربي في النهاية في خضم المصائب والويلات عبر مئتي عام ويزيد..
ولم يكن الإفرنج بالقوة الخارقة التي لا تقهر، فإن حرب أنطاكية قد أرهقتهم إلى حد بعيد، وتخلى كثيرمنهم عن المعركة وعادوا إلى بلادهم (1) وقد بلغ من الضائقة التي حلت بهم أنهم على حد تعبيرا بن الأثير، "ليس لهم ما يأكلون، وتقوَّت الأقوياء بدوابهم، والضعفاء بالميتة وورق الشجر" (2) .
وهكذا تم للإفرنج أن يحتلوا شمال ديار الشام، وأن يقيموا فيها أمارة لاتينية عاصمتها أنطاكية امتدت من عام 1098-1268، وتعاقب على حكمها اثنا عشر من أمراء الإفرنج النورمان، كان أولهم بوهيمدند الأول، وآخرهم بوهيموند السادس.
وكانت هزيمة الثالثة من حزيران في عهد الملوك والرؤساء، في عهد الخلفاء والأمراء، عهد التجزئة والانفصال، الشحناء والبغضاء، والتآمر مع الأعداء.
ودار الفلك دورته..وجاء حزيران آخر ... .ليشهد انتصارنا، بعد أن شهد انكسارنا.
ففي 20 حزيران من عام 1268 تبدل الحال في الوطن العربي. فلم يكن على مسرح الأحداث ملك دمشق، وملك حلب، وأمير الموصل، وأمير حماة، وأمير أنطاكية، ولا الخليفة في بغداد ، ولا الخليفة في
__________
(1) ابن الأثير ، الكامل, حوادث سنة 491هـ.
(2) د. فيليب حتي، تاريخ العرب, ص 777.(1/24)
القاهرة ... ..لم يبق هؤلاء، وإنما جاء رجل واحد، هو الظاهر بيبرس، وقاد الأمة العربية من جديد.
وسجل التاريخ في ذلك اليوم أن أنطاكية قد سقطت على يد العرب فقتل من أهلها وحاميتها ستة عشر ألفا، وسبي ما يبلغ ماية ألف، بيع بعضهم في أسواق مصر، "وغنم العرب أموالا طائلة، فكالوا المال كيلا، وقد بلغ ثمن الطفل اثني عشر درهما، وثمن الطفلة خمسة دراهم، أحرقت أنطاكية وقلعتها، ولم تنهض المدينة بعد ذلك".
ومن العبارات الحلوة التي تركها لنا التاريخ عن سقوط أنطاكية بيد الظاهر بيبرس أنه بلغ من كثرة الغنائم والأسرى "أن قسمت النقود بالطاسات، وأنه لم يبق غلام إلا وله غلام" (1) .
وانطلقت البشائر تنقل النبأ عن النصر العظيم، فأقيمت أقواس النصر، وعمت الأفراح والمباهج، في القاهرة، وبغداد، ودمشق، وفي جميع أرجاء العروبة والإسلام.
وفي الثلاثين من شهر تموز، عاد البطل بيبرس إلى القاهرة، بعد هذا النصر المؤزر، عودة وادعة متواضعة من غير أن تعج بأقواس النصر أو تضج بالمواكب والهتافات، ليقول التاريخ إن الظاهر بيبرس "قد حمل عن الناس كلفة الزينة".
ويتساءل المواطن العربي كيف تم النصر في حزيران، بعد الهزيمة في حزيران ... وهذا الشهر المشؤوم لا تزال جراحاته غائرة في قلوبنا، وعاره على جباهنا.
__________
(1) المقريزي , السلوك ,ج1 , ص568.(1/25)
وليس لنا أن نلتمس الجواب إلا في محراب التاريخ، فإن عنده الخير اليقين، وعنده الجواب عن كل سؤال.
لقد كانت الهزيمة في عهد التجزئة والانفصال، في عهد الملوك والممالك، في عهد الأمراء والإمارات، وفي عهد الخلفاء والخلافات.
وكان النصر في عهد الوحدة ... دولة الوحدة الواحدة، لها حاكم واحد، وحدود واحدة.
وكان الشعر العربي أمينا وصادقا، حين تحدث عن الحاكم وعن الحدود وقال:-
وتُدبرَ الملك من مصر إلى يمن إلى العراق , لأرض الروم والنوبي
فيوما بمصر ويوما بالحجازوبالشام يوما ويوما في قرى حلب وكذلك كانت عبرة التاريخ، نصر مع الوحدة، وهزيمة مع الانفصال ...
وما أشبه الليلة بالبارحة..!(1/26)
من معرة النعمان..
إلى الرملة البيضاء
كان العام الأخير من القرن الحادي عشر للميلاد عام الفاجعة الكبرى في تاريخ العروبة والإسلام، ولا أحسب أن تاريخنا المديد قد شهد عاما آخر يدانيه تجزئة وانحلال، وخرابا ودمارا، وذلا وهواناً وانكساراً.
إنه عام 1099 بالرقم الحزين المشين ... كان الوطن العربي، وعلى وجه التحديد في مصر والعراق والشام، يعيش فترة رهيبة من التمزق والفوضى، والشحناء والبغضاء، وكان الخلفاء والملوك والأمراء، يصارع بعضهم بعضا، بالدسائس والمكائد تارة، والحروب تارة أخرى، والشعوب هي الضحية في النهاية.
وقد أطل ذلك العام الأغبر، ليشهد خلافة عباسية في بغداد، وخلافة فاطمية في القاهرة، وإمارات عربية شتي في ديار الشام، ومعهم السلاجقة الأتراك المسلمون، وهؤلاء بدورهم انقسموا على أنفسهم، وأصبحوا يعرفون بسلاجقة الروم وسلاجقة فارس !! وكان وراء هذه الصراعات السياسية، صراعات مذهبية بين الشيعة التي تتزعمها القاهرة، والسنة التي تتزعمها بغداد، وأصبح الشاغل الأكبر في المساجد الإسلامية في دنيا(1/27)
الإسلام، لمن خطبة الجمعة، أهي للخليفة الفاطمي، أم للخليفة الشيعي ... والدعاء، أهو لهذا الخليفة أم لذاك ... ؟
ومثل واحد من عشرات الأمثلة على هذه الصراعات، أن ملك حلب، رضوان، كان في ذلك الزمان يزحف على دمشق لينتزعها من ملكها دقاق، ينتزعها من أخيه لأمه وأبيه !!
وفي تلك الحقبة التعيسة، كان الإفرنج، قد احتلوا أنطاكية. وما أن فرغوا من قتل أهلها، وتدمير قلاعها، ونهب ذخائرها وأموالها، حتى شب الخلاف بين أمراء الإفرنج، لمن تكون أنطاكية من يحكمها، ومن يكون أميرها ... .هل يكون بوهيموند، أم ريموند.؟
وبقي الإفرنج في شمال الشام خمسة عشر شهراً من تشرين الأول 1097 إلى كانون الأول 1908، وهم يتصايحون ... متى يزحفون على بيت المقدس، وما أنطاكية إلا أول الطريق.
واشتد الخلاف بين أمراء الإفرنج الطامعين ... ووصلت أصواتهم إلى الخليفتين في بغداد والقاهرة، والى الملوك والأمراء في حلب ودمشق والموصل وغيرها من ديار الشام والعراق، ولكنهم "تقاعدوا عن الجهاد"، كما قال مؤرخو العرب، كما سيقولون بعد جيل أو جيلين، عن حكام العرب في القرن العشرين..
وفي الأسبوع الأول من شهر كانون الثاني من ذلك العام التعيس، (1099)، التقى أمراء الإفرنج في معرة النعمان، ليتشاورا في ما بينهم بشأن الموقف.
وكان السؤال الكبيرالشهير: وماذا بعد أنطاكية؟(1/28)
وفي تلك المدينة التاريخية، الشهيرة بمؤسسها النعمان، ونابغتها المعري، قرر أمراء الإفرنج، وهم في مجلس حرب، الزحف على بيت المقدس، لإنقاذ القبر المقدس، واقامة دولة إفرنجية، بعد أن سُوي الخلاف بأن يكون بوهيموند أميرا على إنطاكية، وريموند أميرا على بيت المقدس.
وفي اليوم الثالث عشر من شهر كانون الثاني خرجت جحافل الإفرنج من معرة النعمان متجهة صوب بيت المقدس، وعلى رأسها الأمير ريموند، وهو حافي القدمين، كما يفعل الحجاج الذين يؤمون بيت المقدس، وراح الزاحفون الغزاة يهتفون بشعارهم الذين كانوا يرددونه منذ خرجوا من أوروبا الوسطى ( Deus lo volt) "هذه مشيئة الله"، والله بريء مما يشركون، وعيسى نفثة روحه ثائر على ما يهتفون ... .
وبدأ زحف الإفرنج، في تلك الأيام الماطرة العاصفة، يستهدف بيت المقدس، وكان عليه أن يجتاز بقية أرض الشام أولا، قبل أن يصل إلى فلسطين، خاتمة الزحف والمطاف.
والمواطن العربي يعرف هذه الأجزاء من الوطن العربي، مدينة مدينة، وقرية قرية، سواء كان مقيما فيها أو زائرا إليها، أو دارسا عنها، ولا بد أن يثيره العجب والغضب كيف سار زحف الإفرنج خلال البلاد(لبنان وفلسطين) في يسر وسهولة، كأن الأمر نزهة سياحية أكثر منها غزوة استعمارية!!
أجل! نزهة سياحية، بفضل الملوك والخلفاء والأمراء ... بل تكاد أن تكون "بترخيص " منهم..وكل الذي أرجوه من المواطن العربي المعاصر أن يمهلني دقائق معدودات، لنسير مع الإفرنج في هذه النزهة، نستعرض برنامجها، مع تواريخها، يوما فيوما، وبلدا بلدا!!(1/29)
في 17 كانون الثاني اخترق الإفرنج إقليم شيزر في حوض نهر العاصي، وعبروا النهر بعد أن تجهزوا بما يلزمهم من الغذاء والميرة.
وفي 22 كانون الثاني اجتازوا مصياف ثم اتجهوا إلى بعرين ,ومنها إلى سهل البقاع لينعموا بخيراته الوفيرة، وبساتينه الوافرة (1) .
وفي 29 كانون الثاني استولوا على حصن الأكراد بعد حصار لم يدم إلا بضعة أيام ...
وأقبل شهر شباط، واتجهت زحوف الإفرنج نحو طرابلس، المدينة التاريخية العريقة، فاستسلمت وسارعت مع المناطق التابعة لها إلى رفع أعلام الإفرنج، إعلانا للولاء، وغَنمِ الإفرنج منها أموالا طائلة وفرضوا عليها جزية كبيرة (2) .
وفي 17 شباط استولى الإفرنج على اللاذقية وطرطوس ليزداد تموينهم بالأساطيل البيزنطية والإيطالية، عن طريق هذين الثغرين العربيين , وفي شهر آذار، عاد الإفرنج واتجهوا شمالا ليستكملوا الاستيلاء على الثغور العربية، فاستولوا على جبلة بعد حصار دام أسبوعا (2-11 آذار)، لتظل خطوط تموينهم عن طريق قبرص وأوروبا الغربية متواصلة مستمرة.
وفي 16 أيار، غادر الإفرنج طرابلس بعد أن فرضوا عليها جزية حربية باخظة، وراحوا ينهبون ما حولها من المدن والقرى.
وفي مساء 19 أيار كان الإفرنج أمام مدينة بيروت فاستولوا عليها، وصادروا كثيرا من أقواتها وأموالها (3) .
__________
(1) Stevenson, I, p 31
(2) Raymond d’aigles, p 275
(3) Setton, P 31(1/30)
وفي 23أيار تجاوز الإفرنج صرفند وصور، وهما آخر المدن اللبنانية جنوبا، إلى أن وصلوا إلى عكا، القلعة التاريخية الشهيرة، فاستسلمت لهم من غير قتال.
وفي 26 أيار واصل الإفرنج زحفهم واحتلوا حيفا وارسوف ثم قيسارية.
وفي أول حزيران، احتل الإفرنج الرملة واللد- وهنا اجتمع أمراء الإفرنج في مجلس حربي ليتشاوروا في أمر الزحف على بيت المقدس ... الهدف الذي تطلعت إليه أوروبا منذ خطب البابا أربانوس، في كلرمنت من أعمال فرنسا، داعيا إلى غزو الديار المقدسة.
والى هنا فقد انتهت النزهة السياحية التي بدأت من اللاذقية في سوريا، إلى الرملة في أواسط فلسطين، رحلة استغرقت خمسة أشهر, ولم تتجاوز أصابع اليد، كما يقول عامة الناس الذين لا يجمعون ولا يطرحون!
وقد يعجب المواطن العربي كيف استطاع الإفرنج أن يحققوا تلك الانتصارات في مدة وجيزة، ومن غير مقاومة تذكر، وكأنما خلت البلاد من أهلها وحُماتها، أو كأنما الأمة العربية التي وصلت إلى إسبانيا وفرنسا، قبل قرنين، قد اندثرت أو حجبت، وأصبحت أثراً بعد عين!
ولكن التاريخ، أبو العظات والعبر، يؤكد ولا يمل أن يؤكد، أن عوامل التجزئة والانقسام والخيانة كانت السبب الأول والأخير في سقوط الوطن العربي بهذه السرعة، مدينة بعد مدينة، وقلعة بعد قلعة.
ونحن لو شئنا التحديد، لقلنا والتاريخ معنا يقول، أن الخلفاء والملوك والأمراء هم الذين ألحقوا بالأمة العربية تلك الهزيمة النكراء، وما جلبت على الوطن العربي من خراب ودمار، وذل وعار.(1/31)
ولنبدأ بهم منذ البداية..وأولهم الأمير عز الدين أبو العساكر سلطان بن منقذ، وهذا هو أسمه الكامل، كان أمير شيزر، تولى الإمارة في العام الأول من حملة الإفرنج ( 1098 – 1145) وكأنهما على ميعاد ... أرسل وفدا إلى أمير الإفرنج، وكان يومئذ في كفر طاب، يعرض عليه معاونته وعدم التعرض له حين يمر في إقليم شيزر، وأن يقدم إلى جيشه ما يحتاج إليه من ميرة ومؤن... وأن يرسل إليه الأدلاء ليرشدوهم في عبورهم منطقة العاصي.... وقد تم هذا فعلا، ولم يجد ابن الأثير كلاما غاضبا موجزا، وهو يشير إلى هذا الحدث، إلا أن يقول:-
"وراسلهم صاحب شيزر وصالحهم عليها" (1) .
وكذلك أمير مصياف، فقد عقد اتفاقا مع الإفرنج، بأن لا يتعرض لهم وأن يمدهم بما يطلبون من معونات.
وأرسل أمير حمص وفدا إلى الإفرنج وهم في حصن الأكراد، يحمل إليهم الهدايا النفيسة ويعرض عليهم عونه وصداقته.
وجاء دور أمير طرابلس أبو علي فخر الملك ابن عمار، فرفع أعلام الإفرنج على سور المدينة، إظهاراَ لولائه، ودفع للإفرنج أموالا طائلة، وبعث معهم الأدلاء ليرشدهم إلى الطريق حول نهر الكلب، في ضاحية بيروت.
وكذلك فعل الأمراء في بيروت وصور وعكا، وغيرها من المقاطعات في أواسط فلسطين.
غير أنه من واجب الإنصاف للأمة العربية الماجدة، على صعيد جماهيرها وشعوبها، أن نستذكر بكل إباء وشمم، أن المقاومة العربية
__________
(1) ابن الأثير، الكامل، حوادث 491هـ.(1/32)
للإفرنج كانت ضارية وباسلة حيث كانت تتيسر لها أسباب المقاومة ... . ذلك أن الإنسان العربي مقاتل من الطراز الأول حينما يجد السلاح بين يديه، وحين تتهيأ له الفرصة المواتية ... .
والتاريخ يشهد، وهو خير شاهد، أن وقعات كثيرة شجاعة نشبت بين الشعب العربي والإفرنج، من أنطاكية في شمال الشام إلى الرملة في قلب فلسطين، وتكبد الإفرنج خلالها خسائر فادحة في الرجال والعتاد والأموال. وكان من نتيجة ذلك أن عاد كثير من الإفرنج إلى ديارهم، وفقد كثيرون آخرون عزمهم وحماسهم.
ومن هذه الوقعات الشهيرة أن أهل عرقة، وهي مدينة صغيرة تقع شمال طرابلس قد صمدت أمام هجمات الإفرنج صمودا رائعا، فقد استبسل أهلها في الدفاع عنها وصمدوا أمام جموع الإفرنج، على غير تكافؤ في العَدد والعِدد، رغم ما حصل عليه الإفرنج من الخيرات الوفيرة في إقليم طرابلس ، وما وصل إليهم من التموين عن طريق البحر. ولم يسع الإفرنج إلا أن يفكوا الحصار عنها، وأن يستأنفوا زحفهم إلى أواسط فلسطين، وبقيت عرقة ثابتة صامدة (1) .
ومن هذه الوقعات التاريخية التي زخرت أحداثها في المراجع العربية والإفرنجية على السواء، تلك الوقفة الرائعة التي وقفتها معرة النعمان حين أحاط الإفرنج بها من كل جانب، وهب أهلها للدفاع عنها بكل ما ملكت أيديهم، ولم يستطيع الإفرنج اقتحامها إلا على جثث الآلاف من المقاتلين البواسل، فقد زحف الفرنج، كما يقول المؤرخ الحلبي المعاصر، "الى البلد وقاتلوه من جميع نواحيه ... وثبت الناس في الحرب من الفجر إلى صلاة
__________
(1) Stevenson, p, 31(1/33)
المغرب , وقتل على السور وتحته خلق كثير ودخل عسكر الإفرنج إلى البلد بعد المغرب، حتى أصبح الصبح، فاخترطوا سيوفهم ومالوا على الناس وقتلوا منهم خلقا وسبوا النساء والصبيان" (1) .
ولم يفت المؤرخ العربي وهو يسرد أنباء المعركة أن يرسل صيحة داوية غاضبة لا تتجاوز عبارة واحدة، فقال " واستغاث أهلها بالملك رضوان وجناح الدولة فلم ينجدهم أحد" ... .وامصيبتاه من الملوك والرؤساء. ... ومن المواقف الرائعة، أن أهل حلب قد استماتوا في الدفاع عن مدينتهم العريقة. وصدوا غارات الإفرنج المتلاحقة مرة بعد مرة، "وضاق الأمر بأهل حلب "كما يقول ابن العديم وهو ابن حلب نفسها "ومضى بعضهم إلى بغداد واستغاثوا أيام الجمع ومنعوا الخطباء من الخطبة مستصرخين العساكر الإسلامية على الفرنج ... ." (2) ويضيف ابن الأثير في روايته للحادثة "أنهم قصدوا جامع السلطان في بغداد واستغاثوا ومنعوا من الصلاة وكسروا المنبر" (3) وتقاعس الملوك النجدة، وتقاعدوا عن الجهاد!!
وليس لنا أن ننسى وقعة جريئة أخرى قام بها أهل صيدا، فقد تعرضوا لقوات الإفرنج وهي في طريقها إلى فلسطين، وأنزلوا بها خسائر فادحة، كما تحمل أهل صيدا أضراراًَ كبيرة في مزارعهم وبساتينهم.
ذلك كان حال الشعب الباسل في مقاومته الباسلة ضد الغزاة المحتلين، أما الحاكم العربي على صعيد الوطن العربي فقد كان مشغولا في بناء
__________
(1) ابن العديم، ج2، ص142.
(2) ابن العديم ,ج2، ص157.
(3) ابن الأثير، ج8 ، ص361.(1/34)
القصور، واقتناء الجواري والغلمان واكتناز الأموال، والتغني بالألقاب الضخمة. فهذا "شمس الملوك" دقاق حاكم دمشق، وذاك "فخر الملوك" رضوان حاكم حلب، وذلك "جناح الدولة" حسين أمير حمص، ثم أبو سعيد "قوام الدولة" ... وأخيراً، الخليفة الفاطمي المستعلي بالله في القاهرة، والخليفة العباس المستظهر بالله في بغداد!. ...
وكان البيت الفاطمي ذروه الخيانه العربيه الاسلامية في تلك الحقبة من الزمان ... ..فالخليفة الفاطمي الذي ينتسب إلى الرسول العظيم، وهو صاحب الدعوة الرفيعة إلى الجهاد، كان "متقاعدا عن الجهاد" حسب تعبير جميع المؤرخين المسلمين الذين تركوا لنا هذا التعبير الشاجب الغاضب.
هذا مع أن قوات الإفرنج التي كانت تتصدى للمدن العربية في بعض الغزوات، لم تكن تتجاوز في تقدير المؤرخين الغربيين، ألف فارس وخمسة آلاف من المشاة (1) ..ويا لخزي الخلفاء والأمراء والملوك والرؤساء.
وفي نهاية تلك المرحلة من غزوة الإفرنج، سقطت مدينة الرملة في اليوم الأول من حزيران ... ..وهي الهزيمة الثانية بعد سقوط أنطاكية.
ولم تكن الرملة مدينة عادية..فقد كانت عاصمة لفلسطين في عهد الأمويين، وكانت قد تهدمت استحكاماتها. بسبب غارات الأمراء العرب بعضهم على بعض..وحين زحف الإفرنج وجدوها خالية من أهلها، فقد نزحوا عنها إلى البراري والقفار (2) . كما نزح عنها أحفادهم من بعدهم، يوم سقطت مدينتهم الغالية في عام 1948.
__________
(1) Chalandon, Premiere Croisade, P 253
(2) ابن القلانسي، ص136.(1/35)
وكأنما كان مقدرا " للرملة البيضاء" كما كانت تعرف في عهد الأمويين، أن تصبح الرملة السوداء، لكثرة ما نزل فيها من خراب ودماء وبلاء..ولم يكن ميسورا لأحد أن يرثي حالها إلا شاعراً واحداً من أبنائها، هو أبو الحسن التهامي الذي قال في رثائها ورثاء ولده الفضل:
أيا الفضل طال الليل أم خانني صبري
فخُيِّل لي أن الكواكب لا تسري
أرى الرملة البيضاء بعدك أظلمت
فدهري ليل ليس يفضي إلى فجر
وهكذا تم للإفرنج أن يهزموا ملوك العرب ورؤساءهم في حزيران ... ولو شاء المواطن العربي أن يقارن بين هزائمنا في الماضي وهزائمنا في الحاضر لوجد الصورة متقاربة..
لقد انتصر الإفرنج في نزهة سياحية من اللاذقية إلى الرملة، في بضعة أشهر، في عهد ملوك متخاذلين، وأمراء متقاعدين، وخلفاء متقاعسين. وانتصرت إسرائيل، في ما يشبه النزهة السياحية، وفي أيام معدودات، في أعوام 1948، 1956، 1967 ,وفي عهد ملوك متقاعدين ورؤساء متقاعسين، وبهذا يبدو جليا أن الأسباب هي الأسباب، مع اختلاف في الأسماء والألقاب ...
وما أشبه الليلة بالبارحة..(1/36)
وسقط بيت المقدس..
يابيت المقدس..
يامدينة العرب الغابرين .. من اليبوسيين والكنعانيين ، وما يبوس وكنعان إلا من أجدادنا الميامين ، اتخذوك داراً ووطناً ، قبل غزوات العبران واليونان ، والفرس والرومان ، قبلهم جميعاً بأزمان وأزمان .
يا بيت المقدس .. يا دار عيسى ابن مريم ، كنت موطن دعوته ورسالته ، ومنبر حواره مع الطغاة ، وساحة عذابه مع البغاة من اتباع موسى ، فارقوا الدين الحق ، وعادوا ضالين مغضوبين إلى يوم الدين ..
يابيت المقدس .. ياموئل الرسول في معراجه ومسراه ، ويا أخت مكة موطن نشأته ونجواه ، ويا حبيبة المدينة المنورة ، دار هجرتة ومثواه .
يابيت المقدس .. يا أولى القبلتين .. اليك كانت الركعة الأولى حين وقف الرسول العربي ، يؤدي صلاته الأولى في الإسلام .
يابيت المقدس .. إليك كان يتجه الرسول بالحب والشوق والوجد ، وإليك كان يحن حنينه إلى الجنة ، وهو القائل "إن الجنة لتحن شوقاً إلى بيت المقدس" (1) .
تلك هي بيت المقدس التي عاش الرسول وَلوعاً بها ، عاشقاً لها ، ومات متطلعاً إليها ، وما محمد إلا بشر ، لعشقه إمارات ودلالات وما
أكثرها ..
__________
(1) * الحديث عن أنس بن مالك رضي الله عنه .(1/37)
فهذه رسالة الرسول إلى هرقل ملك الروم ، انها لفتة الحبيب إلى بيت المقدس ، وهذا كتاب الرسول إلى أهل إيلة – العقبة ، إِنه النظرة المتلهفة إلى بيت المقدس .
ثم تتجسد إمارات هذا العشق في غزواته وسراياه ..
فهذه غزوة مؤتة (629م) بعثها الرسول إلى معان لتتصدى للروم في ديار الشام ، انها تتطلع إلى بيت المقدس, وهذه غزوة تبوك (630م) قادها الرسول بنفسه عبر الصحراء ,واشواقه تواقة إلى بيت المقدس.
وانتقل الرسول إلى الرفيق الأعلى ، بعد ذلك بعامين (632م) ليحمل العرب من بعده أشواقه إلى بيت المقدس ، ويعملوا على تحريرها من سلطة الرومان .
وجاءت موقعة اليرموك (636م) فكان النصر المبين ، ونهدت زحوف العرب إلى بيت المقدس ، وحاصرتها ورضي أهلها التسليم ، ولكن إلى الخليفة عمر .
وجاء عمر بن الخطاب في تلك المسيرة الانسانية الرائعة المثيرة إلى بيت المقدس ، يمشي على قدمية بملابسه المرقعة الزاهدة ، يقود مولاه وهو راكب جمله ، وجبل المكبر يكبر عليه المجاهدون ، ويدخل عمر المدينة المقدسة ، ويكتب لأهلها عهداّ بالإحسان والأمان ، فكانت اعظم عهد كتبه غالب على مغلوب من بني الانسان ..
ومضى بيت المقدس في عيشة راضية في ظلال الفتح العربي ، ينعم الناس بالعبادة والزهادة ، والدرس والتأليف ، والمآذن والأجراس متآخية متناغمة .(1/38)
ودخل بيت المقدس في حكم الأمويين ، بعد الراشدين ، وبنى الوليد بن عبد الملك المسجد الأقصى ، فكان من روائع العمارة الاسلامية ، وانفق فيه خراج مصر لسبع سنين .
وبعد الأمويين ، دخل بيت المقدس في حوزة العباسيين ، ومن بعدهم آل أمره إلى الفاطميين .
وكان أن دار الزمان دورته ، وانتكس نكسته ، فخرج الإفرنج من أوطانهم القاصية يقصدون بيت المقدس ، فاجتازوا ديار الشام في غفلة من الخلفاء والأمراء ,حتى وصلوا إلى فلسطين ، فاحتلوا عكا ، وحيفا ، وقيسارية، واللد ثم الرملة ، حيث أقاموا فيها بضعة أيام . ويقول المؤرخ الإسلامي المعروف ,أبو المحاسن ,إن الإفرنج "جاؤوا إلى الرملة وأخذوها وقت إدراك الغلة " (1) وما أبدع فلسطين وأروعها في أيام الحصاد والغلال ، ذلك أن فلسطين كلها في أيام الربيع باقة أزهار وسلة ثمار ، وجنة أطيار ..
ولكن فلسطين ، ويا ويح فلسطين ، لم تشهد ربيعاً عام 1099 ، كما لم تشهد ربيعاً منذ عام 1948 ، وما تلاه من أعوام عجاف ، فإن فلسطين اليوم ذبلت فيها الأزهار ، وتهاوت الثمار ، وتشردت الأطيار .
ومدينة الرملة بالذات ، مدينة النسمات الرقراقة ، والقسمات الحلوة المشرقة، الزاهية بالسهول اليانعة ، والمروج الخضراء ، وما أن نزل فيها الإفرنج حتى استحالت إلى قفر يباب وبلد خراب ، فنزح أهلوها وأصبحوا مهاجرين لاجئين ، ونزحت معهم أمجادهم وذكرياتهم ,الطارف ، والتليد .
__________
(1) النجوم الزاهرة، ج 5، ص 150.(1/39)
ولقد أُعجب المتنبي بالرملة ، وكان قد عرّج عليها قبل أن "عرج عليها الإفرنج بخمسين عاماً ، فامتدح أميرها أبا محمد الحسن بقصيدة رائعه كان يحفظها أهل الرملة ، ومنها قوله وكأن المتنبي تنبأ بما سيحل بالرملة :
ومن عرف الأيام معرفتي بها وبالناس رَوّى رمحه غير راحم
في مدينة الرملة هذه ، وكل رملة فيها جنة ، عقد أمراء الإفرنج مجلسهم الحربي ، والعمارات من حولهم تعج بذكريات الأمويين الذين كانوا يخلدون إليها أيام الراحة والدعة ، وبدأ الحوار الساخن بينهم ، وماذا بعد الرملة؟ هل نمضي إلى مصر ونقضي على دولة الفاطميين في عقر دارهم ، أم نزحف على بيت المقدس ، ونرى بعد ذلك ما يكون ؟
وانقسم الأمراء في ما بينهم ، فرأى فريق أنه "لا بد من الزحف على مصر والاستيلاء على الدلتا ، فإن مصر هي مفتاح بيت المقدس ، ولا قرار ولا استقرار في بيت المقدس إلا بالاستيلاء على مصر" .. ورأى فريق آخر" أن الزحف الطويل من اواسط أوروبا قد استنفد الكثير من قواتهم ، وليكن الإستيلاء على بيت المقدس أولاً ، ثم يتّم الاستعداء للزحف على مصر".
وبعد قيل وقال ، وحوار وجدال ، اتفقت الكلمة على أن يبدأ الزحف على بيت المقدس ، فقد بدأت الحملة من أواسط أوروبا وهي تستهدف "انقاذ القبر المقدَّس" في بيت المقدس ، وستكون لمصر حملات وحملات على مدى قرنين كاملين ...
وهكذا خرج الإفرنج من الرملة يجتازون سهولنا الغاضبة ، ومروجنا العابسة ، صوب بيت المقدس ، وجبالنا من حولها تكاد ان تميد حزناً وشجنا، وكان هذا الغضب العابس صدى لأحاسيس أهل فلسطين يومذاك(1/40)
في المدائن والقرى ، وهم يرون الإفرنج يزحفون على بيت المقدس بأسلحتهم وأعلامهم ، وهم يهتفون ويصيحون .. "جئناك يابيت المقدس .. جئناك "..
وتساءل أهل فلسطين يومذاك .. كما تساءلوا في غزوات إسرائيل .. أين الخلفاء والامراء ، أين الملوك والرؤساء ، أين الخليفة الفاطمي الناعم في قصوره في القاهرة ، أين الخليفة العباس الساجي في طيلسانه في بغداد ، وأين أمراء الشام ,شمس الدولة ، وفخر الدولة ، وقوام الدولة .. وسائر الألقاب ، وهي لا تتصل "بالدولة " من قريب أو بعيد .
ومضى الإفرنج في طريقهم من الرملة إلى بيت المقدس ، ومضى أهلنا يستصرخون الخلفاء والأمراء ، كما استصرخنا من بعدهم بثمانية قرون، ولكن صرختهم ، كصرختنا ، ذهبت أدراج الرياح ، بأسرع من ندى الصباح.
ومرة أخرى أطلّ حزيران على صفحات التاريخ ... وكان اليوم السابع من حزيران ، وحزيران ما أشقاه بنا ، وما أشقانا فيه ..
في ذلك اليوم وصلت جموع الإفرنج إلى بيت المقدس ، وعسكروا حول أسوارها ، ومن سخرية القدر أنه هو اليوم نفسه الذي سقط فيه بيت المقدس على يد القوات الاسرائيلية .. في السابع من حزيران من عام 1967.
ووصلت أنباء الزحف إلى بيت المقدس ، وكانت يومئذ تابعة للدولة الفاطمية في القاهرة ، واسم واليها افتخار الدولة ، حاكم آخر من الذين تشرفوا باسم "الدولة " ولم تتشرف بهم ..
ولكن الشعب ، افتخار الشعب ، هب عن بكرة أبيه للدفاع عن مدينته المقدسة الغالية ، التي بناها جدنا الأعلى يبوس العربي ، وإليه ينسب(1/41)
اليبوسيون العرب، الذين استوطنوا بيت المقدس قبل اليهودية والمسيحية والإسلام بأجيال وأجيأل .
وراح الشعب يحمل المعاول بيديه ، والحجارة على كتفيه ليقوي الأسوار والأبراج ، ويسد المنافذ والمعابر ، وانطلق المتطوعون بالعشرات يسممون الآبار خارج المدينة ، ويجمعون المواشي من الحقول ، حتى لا تقع في يد العدو .
ولم يكن في بيت المقدس إلاّ حامية من العرب والسودان لا يتجاوز عددها ألف مقاتل ، يقابلهم من الفرنجة عشرون ألف محارب (1) ولكن أهل بيت المقدس ، تعاهدوا في ما بينهم ، على ان يدافعوا عن مدينتهم المقدسة ، إلى أن يفنى الرجال والنساء والأطفال .. أليست مدينتهم مسرى الرسول ومعراجه .. ألم يقل القصصي الشعبي " وتُزف الجنة يوم القيامة زفا مثل العروس إلى بيت المقدس .." وإليها يُزف الحجر الاسود ، وتزف مكة بحاجها (2) .
ودارت رحى الحرب ، وبدأ الحصار ، فقد طوق الإفرنج المدينة من جميع أطرافها ، وشرعوا بالحرب النفسية أولاً, فقد راحوا يطوفون حول المدينة بالتظاهرات الدينية وهم يحملون أعلامهم ، وينشدون ويرتلون ، ليدخلوا الرعب إلى قلب المدينة المقدسة ، حتى يستسلم أهلها ، كما استسلم أمراء الشام من أواسط ديار الشام إلى أواسط فلسطين .
ولكن أهل بيت المقدس ابوا ان يسلموا مدينتهم الغالية ، وآثروا القتال إلى النهاية مهما عظم العطاء وغلا الثمن
__________
(1) د. حتي، تاريخ العرب، ص 756.
(2) العقد الفريد، ج 6، ص 256.(1/42)
وشدد الإفرنج الحصار ، وراحوا يهاجمون الأسوار ، يحاولون اقتحام أبواب المدينة الغالية ، ولا تزال أبوابها قائمة بأسمائها التي يعرفها أطفالنا إلى يومنا هذا ، باب العمود ، باب الساهرة ، باب الخليل ، إلى آخر الأسماء التي ازدادت بها صفحات التاريخ ..
وازدادت لهفة الإفرنج إلى اقتحام المدينة المقدسة ، بعد أن أيقنوا أن القوات العربية والاسلامية في الوطن العربي متقاعدة ومتقاعسة ، وبدأوا يضربون الأسوار بالمجانيق ، ويصعدون إلى الأسوار على السلالم ، التي صنعوها من الغابات والأحراش التي اقتطعوها من المناطق المجاورة (1) وامتد الحصار نيفا وأربعين يوماً ، والقتال دائر بين الفريقين ، إلى أن قام الإفرنج بهجومهم الكبير في اليوم الرابع عشر من شهر تموز عام 1099 ، وكان يوماً من أيام التاريخ الحزين ..
وانسحب افتخار الدولة وجنوده إلى محراب داود ، في القسم الجنوبي من المدينة ، واعتصموا به وقاتلوا ثلاثة أيام ،" ثم لم يلبثوا أن ألقوا السلاح بعد أن بذل لهم الإفرنج الأمان (2) ، وسمح الإفرنج لافتخار الدولة وجنوده أن ينسحبوا من القدس وذهبوا إلى عسقلان .. في ذل وامان ".
وبدأت المذبحة الرهيبة ، وأصبح بيت المقدس كله مسرحاً كاملاً للدماء والدمار ، في البيوت والشوارع والمعابد ، وعلى الأسطحة ، وفي المسجد الأقصى .. من بابه إلى محرابه !!
__________
(1) رانسيمان،ج 1، ص 233.
(2) ابن الاثير ، الكامل ، حوادث سنة 492هـ.(1/43)
ولقد سجل المؤرخون ، المسلمون والمسيحيون على السواء ، وأناملهم راجفة واجفة ، الوقائع الهمجية لتلك المذبحة الرهيبة التي حلّت بالمدينة المقدسة ..
يقول ابن الأثير أن الإفرنج قد ذبحوا ما يقرب من سبعين الفاً ، بينهم جماعة من أئمة المسلمين وعلمائهم (1) .
ويقول ابن القلانسي أن الإفرنج قد "جمعوا اليهود في الكنيسة وأحرقوها عليهم " (2) ويقول أبو المحاسن "وهرب الناس إلى الصخرة والأقصى واجتمعوا بهما فهجموا عليهم ، وقتلوا في الحرم ماية ألف ، وسبوا مثلهم ، وقتلوا الشيوخ والعجائر ، وسبوا النساء ، وأخذوا من الصخرة والأقصى سبعين قنديلا ، منها عشرون ذهباً ، وخمسون من فضة ... وتنّورا من فضة زنته أربعون رطلاً بالشامي ، وأخذوا من الأموال ما لا يحصى ".
أما المؤرخون المسيحيون ، وبعضهم كان يقاتل في صفوف الإفرنج، فقد تركوا لنا وقائع رهيبة أشد هولاً مما أشار اليه المؤرخون المسلمون . فهذا المؤرخ المسيحي ابن العبري الملطي يقول "ولبث الإفرنج في البلد أسبوعاً يقتلون فيه المسلمين ، وقُتل بالمسجد الأقصى ما يزيد على سبعين ألفاً (3) .
أما المؤرخ المسيحي الآخر متى الرهاوي فقد أنقص العدد بمقدار خمسة آلاف ، وقال "إن عدد من قتلهم الإفرنج من المسلمين زاد على خمسة وستين ألفاً ".
__________
(1) المصدر السابق نفسه
(2) ابن القلانسي ،ذيل تاريخ دمشق، ص 137.
(3) تاريخ مختصر الدول ، ص 197.(1/44)
وأبلغ من ذلك ، أن مؤرخي الإفرنج قد رسموا صورة أبشع وأشنع لما جرى في بيت المقدس يوم أن سقطت بيد الإفرنج ، فقد قال وليم الصوري أن المدينة المقدسة قد أصبحت "مخاضة واسعة من دماء
المسلمين (1) " .
وكان مؤرخ آخر من الذين قاتلوا في صفوف الإفرنج ، ذهب لزيارة الحرم الشريف بعد المذبحة الرهيبة, ولم يجد بدأً من الاعتراف بانه لم يستطع أن يشق طريقة "وسط أشلاء المسلمين إلا بصعوبة بالغة ، وأن دماء القتلى بلغت ركبته" (2) .
ويشاء القدر أن يحفظ لنا مذكرات وافية كتبها أحد الذين قاتلوا في تلك المعركة ، وترجمت أخيراً إلى اللغة العربية . وقد ورد في مذكرات ذلك المؤرخ المقاتل وقائع تقشعر لها الأبدان ، منها قوله " إن الإفرنج جدّوا في قتل الأهلين ومطاردتهم حتى قبة عسر ، حيث تجمعوا واستسلموا لرجالنا الذين أعملوا فيهم أفظع القتل طيلة اليوم باكمله ، حتى فاض المعبد كله بدمائهم .. وانطلق رجالنا في جميع أنحاء المدينة يستولون على الذهب والفضة والجياد والبغال ، كما أخذوا في نهب البيوت الممتلئة بالثروات .. وفي صباح اليوم التالي تسلق رجالنا على أسطح "المعبد " وهجموا على الأهلين رجالاً ونساء ، واستلموا سيوفهم وراحوا يعملون فيهم القتل ، ورمى بعضهم بنفسه من أعلى المعبد ، وصدر الأمر بطرح الموتى كافة خارج البلدة لشدة النتن المتصاعد من جثثهم ، ولأن المدينة كادت أن تكون
__________
(1) وليم الصوري ،345.
(2) Raymond d'aigles p.300(1/45)
باجمعها مملوءة بجثثهم ... وتعالت أكوامهم حتى جاوزت البيوت ارتفاعاً " (1) ويمضي التاريخ بعد ذلك يروي كيف استتب الأمر للإفرنج ، وحكموا بيت المقدس ، وأقاموا فيها مملكة دامت ثمانية وثمانين عاماً ..
ولكن سقوط القدس في عام 1099 قد قفز من خزائن التاريخ ، ووقف وجهاً لوجه أمام الأمه العربية ، في عام 1948 حينما سقطت القدس خارج الأسوار ، وفي عام 1967 حينما سقطت القدس داخل الأسوار .
وتجسدت الأسباب والظروف كأنما بعُثت من مرقدها إلى الحياة من
جديد .. وها نحن نعود إلى التاريخ فنجد عنده الخبر اليقين .
يقول التاريخ إن استيلاء الإفرنج على بيت المقدس في عام 1099 قد تم بعد مقاومة ضارية .. وأن الحصار قد اضني المهاجمين أكثر مما فعل بالمدافعين ."وان الإفرنج كانوا يحاربون في بلاد لم تسبق لهم معرفة بها ، وكان يعوزهم السلاح ، ولم يتوافر عندهم من الأقوات ما يكفي لحصار المدينة ، يضاف إلى ذلك اشتداد الحرارة وتعذر الوصول إلى أماكن ظليلة ، وثقل الأسلحة التي يحملها الفرسان ، وتعرض العساكر للهجمات المفاجئة ، إذا توجهوا لالتماس الماء من جهات تبعد عن مواضعهم ، فضلاً عن أن الأقوات أخذت في النفاد (2) .
وهكذا لم يسقط بيت المقدس سهلاً ومهلاً في عام 1099 ، كما سقط على يد اسرائيل !!.
وحين نعود إلى المقاتل الإفرنجي صاحب المذكرات نجد وصفاً دقيقاً للضائقة الخانقة التي كان يعيشها الإفرنج في معركة القدس ، إذ يقول –
__________
(1) الدكتور حسن حبشي (تعريب) ،الجستا، ص ص119,120.
(2) رانسيمان،ج1، ص 281.(1/46)
"وفي اثناء هذا الحصار بقينا عشرة أيام لا نجد خلالها خبزاً نشتريه .. ووقعنا فريسة الظمأ المحرق ، واحتملنا أشد المخاوف حتى لقد كنا نمشي ستة أميال لإرواء جيادنا وحيواناتنا ، غير أننا وجدنا الماء عند نبع سيلو (سلوان) الواقع عند سفح جبل صهيون ، إلا أنه كان يباع بيننا بثمن جد غال ... وكابدنا وطأة الظمأ ، حتى لقد كنا نخيط جلود الثيران والجاموس لنحمل فيها الماء مسافة أميال ، وكان الماء الذي حملناه معنا في الأواني قد أسِن ونتن ، واقتصر طعامنا اليومي على خبز الشعير ، مما صار مثار حزننا ومبعث أسانا ، حتى لقد أصبح الرجل منا يعجز عن أن يجد جرعة كافية من الماء تروي غلته لقاء دينار .. (1) أما بصدد معركة الاقتحام ، فيقول المحارب الإفرنجي صاحب المذكرات .. " وفي يوم الاثنين ، 12 يونيو(حزيران)،هاجمنا البلدة هجوماً عنيفاً ، وحطمنا السور الصغير ، ورفعنا السلم على السور الرئيسي ، وصعد فرساننا وضربوا المدافعين عن المدينه بالسيوف ، وناوشوهم بالرماح ، وكان قتلاهم أكثر من قتلانا ، والأهالي حصنوا المدينه تحصيناً عجيباً ، وقوموا الدفاع عن الأبراج أثناء الليل وفي يوم الجمعة قمنا بهجوم على البلد دون أن نستطيع أخذها . فاصبحنا في ذهول وخوف شديدين، وقد حمي وطيس القتال بين المدافعين عن المدينة ورجالنا " (2) وهنا .. هنا يذكر التاريخ .. أن الإفرنج قد ساءت حالتهم لقلة الماء, وندرة الأقوات ، وشدة الحرارة ، وتعرضهم باستمرار لهجمات المدافعين ، ونشوب النزاع بين أمراء الإفرنج أنفسهم .. كل ذلك
__________
(1) الدكتور حسن حبشي(تعريب)، الجستا، ص 114-117.
(2) المصدر السابق، ص ص 115- 118.(1/47)
حمل كثيراً من الإفرنج على أن يتسللوا وأن يتوجهوا إلى يافا ، لعلهم يجدون سفناً تحملهم إلى بلادهم (1) .
وكذلك ، يذكر التاريخ ، كيف انفكت الضائقة الخانقة عن الإفرنج ، ذلك أنه في حوالي منتصف حزيران وصلت ميناء يافا بعض السفن الجنوبية التي استطاعت ان تستولي على المدينة في سهولة ، بعد أن هجرها أهلها .. وكانت تلك السفن محملة بمواد تموينية وفيرة مع كميات كبيرة من السلاح والذخيرة وأدوات الحصار ، وبهذا استتبت للإفرنج مواصلات تموينية متصلة بين يافا والقدس .. على حين كانت القوات العربية في بيت المقدس محاصرة ومقطوعة عن العالم بأسره (2) . ثم راحت صفحات التاريخ ، شاحبة باهتة ، تروي كيف سقطت المدينة المقدسة بعد الحصار المضني والقتال الضاري .
غير أن المواطن العربي يتساءل اليوم ، بعد هذا الذي ردده المؤرخون الإفرنج عن الضائقة التي حلت بالإفرنج ، مما حمل بعضهم على الانسحاب من ميدان القتال .. يتساءل المواطن ، وكيف انتصر الفرنج وكيف انهزم العرب ؟
والجواب الكسير الجريح ، يقف منتصباً من بطون التاريخ ليعلن الأسباب من غير لبس ولا إبهام يقول المؤرخ أبو المحاسن ، بعد أن وصف ما حل في بيت المقدس من دمار وتقتيل وخراب... " هذا كله وعسكر مصر
__________
(1) رانسيمان،ج1، ص 283 .
(2) chalandon, premiere croisade, p.269(1/48)
لم يحضر (1) ... كلمات قليلات تغني عن صفحات .. ومعنى ذلك أن الشعب في بيت المقدس قاتل وحده !!
ويقول المؤرخ ابن الجوزي " ان قاضي دمشق ذهب على رأس وفد العلماء والفقهاء إلى بغداد يستنصر الخليفة العباس ، واجتمع المستنفرون وحضروا في الديوان ( الخليفي )وقطعوا شعورهم واستغاثوا وبكوا ، وقام القاضي وأورد كلاماً أبكى الحاضرين " (2) . ومعنى ذلك أن الخليفة لم يحرك ساكناً بين أنامل يديه ، أو أصابع قدمية !!
ويقول المؤرخ ابن الأثير ، وهو يصف استصراخ العالم الإسلامي لملوكه وأمرائه ، بعد سقوط بيت المقدس ، أن "جماعة من المسلمين قد قدموا من الشام إلى بغداد ، فأوردوا من الكلام ما أبكى العيون ، وأوجع القلوب ، وأقاموا بالجامع ، فاستغاثوا وبكوا وأبكوا ، وذكروا ما دهم المسلمين بذلك البلد الشريف المعظم ، من قتل الرجال وسبي الحريم والأولاد، ونهب الأموال ، فلشدة ما أصابهم أفطروا ..وكانوا في
رمضان " (3) .ولم يدرِ الخليفة أن الجهاد هو أرفع من كل عبادة ، وأروع من كل زهادة ، والرسول يقول : رباط شهر خير من صيام دهر .وفي مثل حالنا اليوم ، ضجت الدنيا العربية والإسلامية بالبكاء والنحيب ، وهي تندد بالخلفاء والأمراء وراحت القصائد تبكي وتنوح وهذا أبو المظفر الوردي ، كأنه ينشدنا في يومنا هذا ، حين يقول :-
مزجنا دماء بالدموع السواجم
__________
(1) أبو المحاسن ، النجوم الزاهرة، ج 5، ص 148.
(2) ابن الجوزي ، مرآة الزمان، سنة 492 هـ.
(3) النجوم الزاهرة ،ج 5، ص 152.(1/49)
فلم يبق منا عرضة للمراجم
وشر سلاح المرء دمع يفيضه
إذا الحرب شبت نارها بالصوارم
وكيف تنام العين ملء جفونها
على غفوات أيقظت كل نائم
وإخوانكم بالشام أضحى مقيلهم
ظهور المذاكي أو بطون القشاعم
وقال مخاطباً الملوك:
تسومهم الروم الهوان وأنتم
تجرّون ذيل الخفض فعل المسالم
أرى أمتي لا يشرعون إلى العدى
رماحهم والدين واهي الدعائم
ويجنبون النار خوفاً من الردى
ولا يحسبون العار ضربة لازم
وقال شاعر آخر يبكي أحوال النازحين من بيت المقدس ، في مثل حالهم اليوم:
فحق ضائع وحمى مباح
وسيف قاطع ودم صبيب
وكم من مسلم أمسى سليباً
ومسلمة لها حرم سليب
أمور لو تأملهنّ طفل(1/50)
لطفّل في عوارضه المشيب
أتسبى المسلمات بكل ثغر
وعيش المسلمين إذاً يطيب
أما لله والإسلام حق
يدافع عنه شبان وشيب
وهذه القصائد الباكية ، والوقائع التاريخية الحزينة ، إنما تثير في نفس المواطن العربي ذكريات ومقارنات ..
ومن بعض هذه الذكريات والمقارنات ...
لقد سقطت يافا في عام 1948, كما سقطت عام 1099 .
وكما تلقى الإفرنج المؤن والسلاح والرجال من يافا في الماضي ، فقد تلقى اليهود في زماننا ، السلاح والرجال بعد أن استولوا على ميناء يافا ...
ولقد سقطت القدس في عام 1099 ، والإفرنج يعانون الجوع والعطش ، وسقطت القدس الجديدة في عام 1948 وكاد مئة ألف من اليهود أن يستسلموا بعد أن حاصرهم العرب ومنعوا عنهم الماء ، لولا الوساطة العربية ولولا وقف إطلاق النار ... ثم سقطت القدس القديمة في عام 1967 من غير حصار ولا قتال .
وقد سقطت القدس في 1099 ، ونهب الغزاة أهلها ، وقتلوا شيوخها وأطفالها ، وعبثوا بمقدساتها .. كذلك فعلت إسرائيل بالمدينة المقدسة في عام 1967 ، نهباً وتقتيلاً ، وبمسجد الصخرة إِحراقاً وبكنيسة القيامة نهباً وسلبا، وبالتكايا والزوايا تخريباً وتدميراً .(1/51)
ولو شئنا أن نقارن بين الماضي والحاضر ، لوضح أمامنا أن الأسباب هي الأسباب ، والقصائد هي القصائد ، والملوك هم الملوك ، وأن الاختلاف هو في الأسماء والألقاب .
وما أشبه الليله بالبارحة ..!!(1/52)
هزائم الماضي والحاضر
والأسباب واحدة
كان بيت القدس في صيف 1099 تتصايح فيه قهقهات مخمورات، وتتناوح منه حسرات وزفرات ... .
وكان الإفرنج هم الذين يقهقهون ثملين بخمرة النصر، وسيوفهم مغموسة بالدماء والأشلاء ... على حين كانت الأسوار والأبراج، والساحات والمعابد، تبكي أهلها الذين ذبحوا أو نزحوا.
وهبت نسائم الصيف على غير عادتها، كسيرة ذليلة..وكانت بالأمس القريب تحمل عبير الكروم من الروابي المطلة على بيت المقدس، أو من الوهاد المتعرجة تحت سفوحها الفاتنة...
واستتب الأمر للإفرنج في بيت المقدس، وراحوا يهيئون أنفسهم لإقامة المملكة التي شدوا الرحال من أجلها، وكان أول ما استقر قرارهم عليه أن يوطدوا دعائم حكمهم في أرجاء البلاد، فهذا الزحف السريع قد خلف وراءهم المدن والقلاع، والقرى والضياع، مفتوحة ولكن غير محكومة... وكيف تدين لهم بيت المقدس في مثل هذا الحال....
ومن هنا فقد بدأت الغزوة من جديد... وخرج الإفرنج من بيت المقدس.(1/53)
وكان أول ما فعلوا أن زحفوا صوب مدينة نابلس في أواخر تموز 1099، ولم تكن المدينة قادرة على الدفاع عن نفسها، فلم يبقَ أمامها إلا أن تستسلم، وأنباء المذبحة الرهيبة التي ألمَّت ببيت المقدس لماّ يمض عليها إلا شهر واحد ... . وهكذا استسلمت مدينة نابلس أو "دمشق الصغرى" كما حلا للمؤرخين أن يصفوها.
ثم توجه الإفرنج بعد ذلك شمالا، في اتجاه منطقة الجليل في فلسطين، فاحتلوا بيسان وطبريا والناصرة، وأنشأوا فيها تحصينات قوية وأقاموا حاميات عسكرية.
وبعد أن تم للإفرنج توطيد أقدامهم في تلك المناطق، توجهوا نحو الساحل، لتحقيق هدفين استراتيجيين، الأول تمكين اتصالهم البحري بأوروبا، وثانيها قطع الصلة بين العالم العربي وفلسطين.
ووضع الإفرنج خطتهم للاستيلاء على أرسوف-شمال يافا-(كانون الأول 1099) ولكن هذا الثغر العربي لم يكن هدفا سهل المنال، فقد أخفقت الحملة، وارتدت على أعقابها خائبة، فقد دافع الأهلون عن مدينتهم دفاعا باسلا ... جعل لأرسوف مقاما مرموقا في التاريخ.
وترصد الإفرنج لأهالي أرسوف قرابة شهرين، وهم يشنون عليهم غارات متوالية حينا بعد حين، إلى أن خرج المزارعون من هذه المدينة الباسلة للعمل في أراضيهم، ولم تكن معهم إلا معاولهم، فانقض عليهم الإفرنج وأسروهم وانتقموا منهم انتقاما وحشيا بالغا، فقطعوا أنوفهم وأقدامهم وأيديهم ... ..وهذا ما أثبتته المصادر الغربية قبل العربية (1) .
__________
(1) Grossest, Hist. des crosader, P.310.(1/54)
وعاد الإفرنج إلى مناطق الجليل مرة ثانية، فسيطروا على إقليم السواد شرقي بحيرة طبريا، وكان هذا الإقليم تابعا لدمشق، و وقعت بين الإفرنج والأهلين مناوشات متعاقبة، وأنزل الإفرنج بالقرى والمزارع المجاورة خسائر فادحة، حتى توغلوا في الجولان، واقتربوا من دمشق نفسها (1) . وجولان الماضي تذكرنا بجولان الحاضر!!
وبعد أن فرغ الإفرنج من الاستيلاء على هذه المناطق، عادوا إلى بيت المقدس عن طريق الساحل في ما يشبه المظاهرة العسكرية، متباهين بانتصاراتهم، فلم يسع القرى المجاورة إلا أن تستسلم وتعلن خضوعها وطاعتها.
وكان أن قام الإفرنج بتحصين يافا وتقوية استحكاماتها، و بهذا أصبحت قاعدة تجارية وعسكرية لدولة بيت المقدس، وكان ذلك سببا في هبوط الروح المعنوية لدى الأهلين في فلسطين، ولم تمض مدة حتى أعلن حكام عكا وعسقلان وقيسارية تبعتهم لدولة الإفرنج، ودفعوا جزية مشتركة قدرها خمسة آلاف دينار، فضلا عما تعهدوا بتقديمه من المواشي والغلال والزيوت (2) .
وكانت أخبار هذه المعارك التي خاضها الإفرنج لاحتلال فلسطين بأسرها، بعد أن فتحوا بيت المقدس، تتجاوب في أرجاء العالم العربي فتهزه هزاً عميقا، وتبعث في نفسه كل مشاعر الحزن والغضب وراح الشعراء في الوطن العربي يندبون سقوط بيت المقدس، وينعون على حكامهم تقاعدهم عن الجهاد.
__________
(1) رانسيمان ج1، ص310.
(2) Albert d'aix. P315(1/55)
وكانت النقمة، أشد النقمة، على الخلافة الفاطمية في القاهرة، فقد كانت البلاد من غزة حتى نهر الكلب شمالا تحت حكم الفاطميين.
وأخيرا تحرك الفاطميون، إزاء النقمة العارمة، وخرج الوزير الفاطمي، الأفضل، على رأس جيش لمقاتلة الإفرنج، ووصل إلى عسقلان في شهر آب 1099، وكان ذلك بعد أن استولى الإفرنج على بيت المقدس بثلاثة أسابيع، أي "بعد أن فات الأمر" كما عبر المؤرخ العربي (1) . وهو مماثل للتعبير الشعري:
"وجادت بوصل حين لا ينفع الوصل" ... ذلك أن الحب والحرب سواء بسواء، ..كلاهما له أوانه وزمانه"!!
ولعل الوزير الأفضل قد عاد بذاكرته، عامين إلى الوراء، حين كان يفاوض الإفرنج للمرة الأولى، وهم يحاصرون إنطاكية، فأرسل يعاتبهم على احتلال بيت المقدس، ولم يكن من التاريخ العربي إلا أن يسخر منه، كما يسخر من حكام هذا الزمان، فقال "إن الأفضل قد أرسل رسولا إلى الإفرنج يوبخهم على ما فعلوه" ... .كأن التوبيخ والاستنكار والاحتجاج يرد المعتدي عن عدوانه.
ولكن الإفرنج، لم يتركوا جيش الأفضل يعود أدراجه إلى مصر، فجمعوا قواتهم وهاجموه عنيفا، ودارت معركة حامية بين الطرفين كانت الغلبة فيها للإفرنج ... وتشتت شمل الفاطميين، حتى "أن بعضهم لم يجد نجاة إلا في البحر، فألقوا بأنفسهم فيه وغرقوا، واحتمى البعض الآخر بشجر الجميز، وكان هناك كثيراً فأحرق الإفرنج بعض الشجر حتى هلك من كان فيه". أما الوزير الأفضل فقد هرب إلى عسقلان ومعه بعض رجاله , وركبوا
__________
(1) ابن ميسر، تاريخ مصر، ص463.(1/56)
سفينة وهربوا الى مصر بحرا، وهكذا وصف التاريخ العربي تلك الهزيمة العربية (1) .
وكان طبيعيا أن تحل الهزيمة بالفاطميين، فقد كانوا كحكام هذا الزمان، يحسنون الظن أمام العدو، ولم يجد المؤرخ العربي في وصف تلك المأساة إلا أن يقول " ... ... .تمكنت سيوف الإفرنج من المسلمين، فأتى القتل على الراجل والمطوعة وأهل البلد، وكانوا زهاء عشرة آلاف نفس، ونهب العسكر" (2) . وهكذا تكون عاقبة الذين يحسنون الظن بالأعداء، يفاوضونهم متهافتين، وإذا حاربوا، يحاربونهم متخاذلين!!
وسقطت هيبة الفاطميين، ولم يستشعر أهل البلاد أن لهم أملا في الخلافة الفاطمية في القاهرة أن تحميهم، ولم يبق أمام الإفرنج إلا أن يتوجوا انتصاراتهم في سائر أنحاء البلاد، بأن يعلنوا في بيت المقدس، قيام المملكة وتسمية الملك.
وفي عيد الميلاد، في كانون الأول من عام 1099، كانت كنيسة العذراء في بيت لحم تدق أجراسها، فرحا وابتهاجا، بتتويج أمير الإفرنج بلدوين، أول ملك على بيت المقدس، يتبعه بعد ذلك ثمانية عشر ملكا، آخرهم هنري الثالث.... والشعوب العربية غامضة مذهولة، والملوك والخلفاء يتوارثون العروش في قصورهم الباذخة ... واحداً بعد واحد...
وأدرك بلدوين أن "مملكته" لا تزال تحت رحمة "جيوب" عربية قائمة على ساحل فلسطين، أهمها قيسارية، وأرسوف، وكان الأهلون يقومون
__________
(1) ابن القلانسي، ذيل تاريخ دمشق، ص173.
(2) ابن القلانسي، ذيل تاريخ دمشق، ص137.(1/57)
بغارات باسلة على مواقع الإفرنج القريبة منهم، ويكبدونها خسائر فادحة (1) . ذلك أن الشعب يظل دوما يقاوم الاحتلال حتى ولو كان حكامه سادرين في الضلالات والجهالات.
ولهذا فقد عزم بلدوين على أن يضرب مقاومة الشعب في عقر دارها، فوجَّه حملة إلى قيسارية وأرسوف، وكان قد وصل إلى حيفا أسطول بحري من جنوة (آذار سنة 1101) محمل بالمؤن والعتاد ... واستطاع الإفرنج، ما لم يقدروا عليه في الماضي، فاستولوا على قيسارية وأرسوف، وأعملوا السيف في رقاب الأهلين، حتى أن المراجع التاريخية الأوروبية ذكرت أن الإفرنج قد ارتكبوا مذبحة بالغة الوحشية في قيسارية، فقتلوا كثيراً من أهلها الأبرياء، ولم يتركوا شيئا إلا نهبوه ... وعندما احتمى الأهالي بجامع المدينة لحق بهم الإفرنج وذبحوهم داخل الجامع عن آخرهم، دون أن يفرقوا بين الرجال والنساء والأطفال، وتحول الجامع إلى بركة من دماء قتلى المسلمين (2) .
ووصلت أنباء هذه الفواجع والمذابح، إلى أرجاء العالم العربي، وضج الناس ينددون بالحكام أجمعين، وأحس الفاطميون في القاهرة بأن الأبصار الغاضبة تتجه إليهم، وأن أصابع الاتهام تكاد تفقأ عيونهم.
فشرعوا يعدون العدة للقيام بحملات عسكرية ضد مواقع الإفرنج في فلسطين.
وحدثت أربع معارك انتهت إلى أربع هزائم ... .
__________
(1) Stevenson P4
(2) Foucher de chartues P389(1/58)
وكانت المعارك في ربيع 1101، وكان قائد الفاطميين صاحب لقب آخر ينتسب إلى الدولة، "سعد الدولة القواسي"، وقد تجمعت الحملة المصرية، بعد اجتيازها سيناء، عند عسقلان ... .وقضى الجيش الفاطمي عدة أشهر من غير قتال ولا يزال ينتظر المدد من الفاطميين ... ثم اتجه إلى الرملة حيث يستطيع منها أن يضرب مواصلات الإفرنج في يافا، ويزحف على بيت المقدس.
وسارع الإفرنج بقيادة مليكهم، ولم تكن قوتهم تتجاوز مائتين وستين فارسا، وتسعماية من المشاة، تقابلها قوات كبيرة من الجيش الفاطمي.
وفي صباح السابع من شهر أيلول التقى الجيشان، وشهدت سهول الرملة معركة قاسية بين الفريقين، انتصر فيها الإفرنج، وانهزم الفاطميون وقتل منهم عدد كبير، وفر الباقون في اتجاه عسقلان، وقُتل القائد سعد الدولة القواسي، ولحق الإفرنج بالمسلمين وظلوا يطاردونهم حتى أسوار عسقلان، وغنم الإفرنج أموالا كثيرة وعِددا وفيرة.
وقد تملك الحزن ابن الأثير، كما تملكنا اليوم، فلم يجد في وصف تلك المعركة، إلا أن يقول أربع كلمات وحرفا واحدا "فملك الفرنج جميع ما للمسلمين" (1) . ويا خيبة الفاطميين.
ووقعت المعركة الثانية، في السنة الثانية-أيار 1102-ذلك أن الهزيمة التي حلت بالفاطميين قد انتشرت أخبارها، وأصبح الناس يتندرون بها، ويسخرون من حكامهم، فجدد الوزير الأفضل الحملة مرة ثانية، في محاولة لإزالة آثار العدوان حسب تعبير هذا الزمان.
__________
(1) ابن الأثير، الكامل،حوادث 496.(1/59)
ووصلت الحملة إلى الرملة، فهي ساحة المعارك التي يفصل فيها بين النصر والهزيمة، وكانت هذه المعركة بعد عام من المعركة الأولى، ففي ربيع 1102، وصلت قوات الفاطميين إلى عسقلان ومنها اتجهت إلى الرملة واللد ويازور، وكما في الحملة السابقة، فقد كان الهدف الاستيلاء على يافا لقطع الشريان بين أوروبا ومملكة الإفرنج في بيت المقدس.
ودارت رحى الحرب بين الفريقين، وانهزم الإفرنج في المرحلة الأولى من الحرب، وكاد الملك بلدوين أن يسقط في المعركة، فقد "اختفى في أجمة قصب، فأحرقها المسلمون ولحقت النار ببعض جسده وفر إلى الرملة" (1) وسقطت الرملة في يد المسلمين ولكن لبضعة أيام ... ..
غير أن الإفرنج كانوا أكثر تنظيما وأحسن تنسيقا، فدرات الدائرة على الفاطميين، وألحق بهم الإفرنج هزيمة ساحقة، وظلوا يطاردونهم حتى وصلوا إلى عسقلان ... و كانت الهزيمة الثانية.
ووقعت المعركة الثالثة حول أسوار عكا، وهي المدينة التاريخية الشهيرة، وكانت عكا بحكم مركزها الجغرافي مفتاح ديار الشام، مَنْ ملكها فقد ملك ديار الشام، حسب تعبير المؤرخين الإفرنج والعرب ... .ودارت هذه المعركة، متقطعة عبر عامين متعاقبين.
وكان أن بدأت المعركة في ربيع عام 1103، بأن قام الملك بلدوين بمحاصرة المدينة، ولكنه لم يستطع الاستيلاء عليها لمناعة حصونها واستبسال أهلها في الدفاع، مع أن بلدوين حسب قول ابن الاثير، "ضيق
__________
(1) ابن الأثير،الكامل،حوادث 495.(1/60)
عليها وكاد يأخذها" ... ولكنه اضطر إلى أن يرفع الحصار عنها ونكص على أعقابه (1) .
وأطل حزيران مرة أخرى، وأطلت معه الهزيمة ... .ففي الأول من حزيران من عام 1104 عاد الملك بلدوين إلى عكا وضرب عليها الحصار مرة ثانية، وكان حاكم عكا في تلك الفترة زهر الدولة الجيوشي، فلم يستطيع الصمود أمام الحصار، "وقاتل حتى عجز" وهو أبلغ تعبير خلفه لنا التاريخ العربي عن أنباء تلك المعركة الطاحنة.
وسقطت عكا، وأصبح مفتاح ديار الشام في يد الإفرنج!!
وكانت المعركة الرابعة وهي آخر معركة كبرى في تلك الحقبة، في صيف 1105، وقد وقعت هذه المعركة في سهول الرملة، حيث التقت قوات الفاطميين بالإفرنج وكانت نتيجتها، أن حلت الهزيمة بالفاطميين وتمزقت قواتهم شر ممزق.
وهكذا فقد انتصر الإفرنج على العرب في أربع معارك خلال أربع سنوات (1101-1105) وكانت الهزيمة الكبرى على أسوار عكا، وفي شهر حزيران ... شهر الهزائم و الأحزان.
واليوم يحار المواطن العربي، حين يسير في قافلة التاريخ، وهويطرح السؤال الكبير، ولماذا انهزمنا في المعركة تلو المعركة ... والأمة العربية قبل ثلاث قرون من تلك الهزائم قد حققت انتصارات باهرة، في أواسط آسيا، وشمال إفريقيا، وقلب أوروبا من إسبانيا إلى فرنسا، إلى سويسرا، إلى إيطاليا، وهل تبدلت الأمة غير الأمة، حتى تصاب بهذه الهزائم المتلاحقة؟
__________
(1) ابن الأثير،الكامل ،حوادث سنة 495.(1/61)
والتاريخ لم يبخل علينا بالجواب ... لقد سرد لنا أسباب الهزائم في كل معركة ... وها هو يسردها لنا لا لنعلم، ولكن لنتعلم، لا لنفهم ولكن لنتفَّهم.
الأسباب أولا: إن إقليم الجليل كان موضع نزاع بين دقاق ملك دمشق، والخلافة الفاطمية في القاهرة، أهو تابع للقاهرة أم لدمشق.
وبسبب هذا الخلاف، خرج هذا الإقليم من سلطة حكام القاهرة، ودمشق معا، واستولى عليه الإفرنج بسرعة فائقة، ونزح عن أهله كما نزحوا عنه اليوم، على رغم قلة المقاتلين الإفرنج ... .كما أكد هذه الحقيقة أكثر المصادر التاريخية الغربية (1) .
والأسباب ثانيا: إن قادة الفاطميين في معارك الرملة، لم يكونوا متحدين على خطة واحدة، فقد كان الانقسام والانفصال ديدنهم، ومن ذلك ما رواه لنا ابن الأثير من أن قائد القوة البحرية وأميرها "تاج العجم" رفض أن يسند قائد القوة البرية، وأميرها القاضي ابن قادوس، أثناء المعركة ... .وقد ترك لنا ابن الأثير وصفا مروعا لما دار بين القائد البحري والقائد البري، ووصف لنا كيف رفض تاج العجم معاونة ابن قادوس قائلا له "ما يمكنني أنزل إليك إلا بأمر الأفضل-الوزير بالقاهرة-ولم يحضر عنده ولا أعانه، فأرسل القادوسي إلى قاضي عسقلان وشهودها وأعيانها وأخذ خطوطهم، بأنه أقام على يافا عشرين يوماً، واستدعى تاج العجم فلم يأته ولا أرسل رجلاً (2) .
وليت لنا من يرسم اليوم، كاريكاتوراً لهذه الكوميديا التراجيدية: القوات البحرية تخذل القوات البرية.
__________
(1) رانسيمان، ج1، ص304.
(2) ابن الأثير، الكامل،حوادث 496.(1/62)
ويقول مؤرخ عربي، إكمالا للمأساة، إن الوزير الأفضل قد طلب من شمس الملوك دقاق، ملك دمشق، أن ينجد المسلمين على الإفرنج في تلك المعركة، ولكن شمس الملوك "اعتذر عن ذلك ولم يحضر" وهذا كلام المؤرخ ابن ميسر" (1) .
والأسباب ثالثا: إنه في معركة الرملة، كذلك، كان شقيق دقاق ملك دمشق، قد لجأ إلى الملك بلدوين بسبب خلافات عائلية على السلطة، ولما نشبت معركة الرملة قاتل شقيق دقاق، ومعه ماية من رجاله إلى جانب الإفرنج، وظل معهم إلى النهاية، حتى النصر ... نصر الإفرنج على المسلمين (2) .
والأسباب رابعا: إن الفاطميين قد تركوا عكا محاصرة، تقاتل وحدها من غير نجدة حقيقية، ويقول مؤرخنا وهو يكظم غضبه ويكتم حزنه عن المعركة مع الإفرنج "وقاتلهم أهل عكة حتى عجزوا، لقصور المادة بهم، وكان أهل مصر لا يمدونهم بشيء، فسلموا (عكا) إليهم (الإفرنج) وقتلوا منهم خلقا كثيرا (3) !
هذه الأسباب وغيرها، كان من نتيجتها أن الأمراء المحليين في فلسطين والشام، لم يجدوا أمامهم إلا أن يجعلوا "هدنة" بينهم وبين الإفرنج، كاتفاقية الهدنة العربية الإسرائيلية، ووقف إطلاق النار، المعروفة في هذا الزمان.
وقد سجل التاريخ كثيرا من تلك "المهادنات".
__________
(1) ابن ميسر، تاريخ مصر،حوادث 496.
(2) ابن القلانسي، ذيل تاريخ دمشق، ص148 وغيره من المراجع.
(3) ياقوت الحموي، ص144.(1/63)
منها، أن أهل أرسوف، بعد أن أيقنوا تخلف الخلافة الفاطمية في القاهرة، أرسلوا سفارة إلى الإفرنج في شهر آذار سنة 1100، تحمل إليهم مفاتيح أبواب المدينة وقلاعها وتعرض عليهم الدخول في تبعيتهم ... .وأن تدفع جزية مالية (1) .
ومنها، أن أمير السواد-طبرية والجولان- قاتل الإفرنج قتالا باسلا، ولكنه أعلن تبعيته للإفرنج، ودفع جزية لهم، بعد أن تقاعد ملك دمشق، دقاق، عن نصرته وهو على مقربة منه (2) ، أو على مرمى الحجر، كما يقول الأعراب في البادية.
ومنها، أن أبا علي بن عمار، أمير طرابلس العربي، أمد بلدوين بالميرة والغذاء والرجال، وتعهد بأن يعلمه بتحركات "عدوهما المشترك" دقاق، ملك دمشق ... .كل ذلك بسبب العداء بين طرابلس ودمشق (3) .
ومنها، أنه بعد أن افتضح أمر الخلافتين العباسية والفاطمية، وتقاعسهما عن نصرة المسلمين في الشام وفلسطين، لم يجد الحكام المحليون مناصا من الخضوع للإفرنج، فلم تلبث الموانئ الساحلية في فلسطين، عسقلان وقيسارية وعكا وصور إلا أن أرسلت وفودا (في آذار 1101) إلى الملك بلدوين تحمل إليه الهدايا والجزية، وتطلب المهادنة مع الإفرنج (4) .
ومنها، أن ملك دمشق نفسه، بعد أن استحكم خلافه مع الفاطميين من جانب، ومع الأمراء المحليين من جانب أخر، أرسل وفدا إلى الملك
__________
(1) albert d’aix P.513.
(2) المصدر نفسه ص310.
(3) Estorire d'Evacle P.407..
(4) ابن القلانسي، ص136.(1/64)
بلدوين، وعقد معه هدنة لبضع سنوات، من أهم شروطها أن يكون دخل السواد- طبريا- مثالثة، ثلث للإفرنج، وثلث لملك دمشق، وثلث للفلاحين العرب (1) .
ومنها، أن أمير عسقلان بعد أن يئس من الخلافة الفاطمية في القاهرة أرسل إلى الملك بلدوين "مالا وعروضا" طالبا منه عقد اتفاقية دفاعية بين الطرفين، معلنا استعداده لدفع جزية للإفرنج (2) وكان أمير عسقلان هذا يحمل اسما عظيما فخما ، "شمس الخلافة" تماما كألقابنا في هذا العصر، صاحب الجلالة والفخامة والسمو والسيادة ... ..
وأمثال هذه الأحداث كثيرة، يجدها المواطن العربي في صفحات التاريخ، تنزف عاراً وذلا، واستخذاء وهوان ... .
ويعود المواطن العربي ليسأل في نبرة ونفرة ... .كيف وقعت الأمة العربية الشجاعة الباسلة فريسة هذه الهزائم؟
والجواب الصادق الأمين، يقدمه لنا الصادقون الأمناء، الثوار الأبرار، وهم المؤرخون المسلمون.
ويقول أبو المحاسن، في سياق كلامه عن سقوط البلاد الإسلامية على يد الإفرنج، في عهد الخليفة الفاطمي، "كان الخليفة متناهيا في العظمة ويتقاعد عن الجهاد حتى استولت الفرنج على غالب السواحل وحصونها في أيامه ... .ولم ينهض لقتال الفرنج البتة، وإن كان أرسل مع الأسطول عساكر، فهو كل شيء" (3) .
__________
(1) أبو المحاسن، النجوم الزاهرة، ج5، ص180.
(2) ابن الأثير،الكامل،حوادث سنة 504هـ.
(3) أبو المحاسن، النجوم الزاهرة،ج5 ،ص178.(1/65)
ثم يذهب أبوا لمحاسن، في غضبه وثورته، يصف ملك حلب، فيقول "كان بخيلا شحيحا، قبيح السيرة، ليس في قلبه رأفة ولا شفقة على المسلمين، وكانت الفرنج تناور وتسبي ... ولا يخرج إليهم (1) ..
ولعل المواطن العربي المعاصر، وهو يقرأ ذلك كله يحسب أن المؤرخين المسلمين السابقين، قد بُعثوا من قبورهم، ليجدوا أنفسهم أن الصورة هي الصورة ، فالملوك هم الملوك، والأمراء هم الأمراء ... ولم تتبدل إلا الألقاب والأسماء.
وكذلك، فإن المواطن العربي، وهو يقرأ وقائع التاريخ، يرى كثيرا من أَوجه الشبة بين الماضي والحاضر ...بين الهزائم بالأمس، والهزائم اليوم. والأسباب واحدة.
وأسماء المدن ...نابلس-عكا- اللد- الرملة- طبريا – وغيرها.
وغيرها، لقد سقطت كلها قبل ثمانية قرون ... .. وهي تسقط اليوم تحت الأسباب والعوامل والظروف نفسها:
التجزئة والانفصال، والخيانات والنكايات ... .
وما أشبه الليلة بالبارحة.
__________
(1) المصدر نفسه ،ج5 ، ص205.(1/66)
من طرابلس..
إلى صور
حين كان الإفرنج يصفون الجيوب الكثيرة في فلسطين، ويحتلون الثغور على الساحل، والمدن في الداخل، كانت قوات أخرى من الإفرنج تقوم بالمهمة نفسها، فيستولون على القلاع والحصون التي خلفوها وراءهم في لبنان.
وحين زحف الإفرنج من أواسط أوروبا في الحملة الأولى، استطاعوا أن يخترقوا ديار الشام كالسهم الخاطف من أنطاكية شمالاً إلى صور جنوباً وقد تمكنوا من أن يتغلبوا على أمراء البلاد في مناوشة مع هذا، وموادعة مع ذاك، ومهادنة مع ذلك.
كان هَمّ الغزاة، أولا، وبعد ذلك كل شيء، أن يفتحوا بيت المقدس، ثم يتسع الوقت للعودة إلى الخلف، ولتصفية الحساب مع الموادعين والمهادنين.
وكان ذلك ... .فبعد أن أستتب الأمر للإفرنج وهم في بيت المقدس، عاد الغزاة إلى حكام الثغور الشامية لتصفية الحساب.
وكان أولئك الحكام قد هادنوا الإفرنج في طريقهم إلى بيت المقدس، طمعا في الإبقاء على مناصبهم ورواتبهم، فصالحوهم، ووادعوهم، فهذا(1/67)
الحاكم تعهد بدفع الجزية، وذاك التزم بتقديم الميرة والمؤن، وذلك بعث معهم أدلاء الطرق ... .. ولم يدروا جيمعا أن الدائرة ستدور على رؤوسهم بعد بيت المقدس، وأن الإفرنج، كما فعلت إسرائيل مع الدول العربية، سيهاجمونهم فرادى، ليسقطوا واحدا بعد الآخر.
وبدأت الغزوة من الشمال ... وبدأ الإفرنج بحصار طرطوس ... . وكان أميرها قد استردها حين كان الإفرنج مشغولين في الاستيلاء على بيت المقدس، وسقطت المدينة في شباط 1103، وجعلها الإفرنج قاعدة بحرية ومركزا مهما لنشاطاتها العسكرية، وأصبح الإفرنج قادرين على الدفاع عنها، والهجوم منها إلى المناطق المجاورة.
ومن طرطوس اتجه الإفرنج إلى طرابلس في شتاء العام نفسه، فهاجموها برا وبحرا، ولم يستطيعوا الاستيلاء عليها، فقد كانت المدنية محصنة تحصينا قويا.
ثم زحف الإفرنج جنوبا نحو جبيل، وكانت تابعة لحكام طرابلس، فلم تستطع الصمود أمام الهجوم من البر والبحر، فاضطرت إلى الاستسلام في أواخر سنة 1104، وغدر الإفرنج بأهلها، فلم يفوا بالأمان الذي أعطوه لهم، "فأخذوا أموالهم واستنفدوها بالعقوبات وأنواع العذاب" (1) .
وبعد أن استولى الإفرنج على طرطوس شمالا، وجبيل جنوبا، تفرغوا لمهاجمة طرابلس.
وكانت طرابلس ذات مزايا كثيرة وإغراءات كبيرة، فهي مدينة حصينة، وثغر كبير على شاطئ البحر الأبيض المتوسط، ولها تجارة وافرة، وأموال متكاثرة.
__________
(1) ابن الأثير،الكامل،حوادث سنة 487.(1/68)
والواقع أن طرابلس كانت بذاتها إمارة مستقلة، يحكمها بنو عمار، وليس أمام الإفرنج إلا أن يستولوا عليها ويجعلوا منها عاصمة لدولة إفرنجية ثالثة، بعد مملكة بيت المقدس، وإمارة أنطاكية.
ولعل المواطن العربي يمهلني بعض وقته وصبره، لنستعرض معا كيف سقطت طرابلس بيد الإفرنج في ظروف مفجعة، لا يزال المواطن العربي يعيش مثلها إلى زمانه هذا.
كانت طرابلس، وكما هي اليوم، تقارب أن تكون شبه جزيرة في البحر الأبيض المتوسط، وهذا ما مكن حكامها من بني عمار أن يظلوا على اتصال دائم بالبحر، للحصول على ما يلزمهم من المؤن، إذا ضُرب الحصار على المدينة برا ... ...
وكان أول ما فعله الإفرنج أن بنوا قلعة في مواجهة طرابلس مباشرة، على الجبال المقابلة، وذلك لإحكام الحصار عليها، وقطع صلتها بالعالم الخارجي.
وقد حاول بنو عمار هدم هذه القلعة وإشعال النار فيها (أيلول 1104) ولكنهم لم يستطيعوا إلى ذلك سبيلا ... .ذلك أن حاكم طرابلس ليس بمقدوره بمفرده، أن يتصدى لقوات الإفرنج الهائلة الزاحفة من أواسط أوروبا.
وتوالت الإمدادات على الإفرنج عن طريق قبرص، ليزيدوا الحصار على طرابلس إحكاما، ولكن أهل طرابلس الشجعان كانوا في معظم الأحوال يصادرون سفن الإفرنج وهي في البحر، ويسوقونها إلى ميناء طرابلس في بسالة نادرة وشجاعة خارقة (1) .
__________
(1) ابن الأثير، الكامل، حوادث سنة 499.(1/69)
غير أن الحصار قد أخذ يضيِّق الخناق على أهل طرابلس، "فساءت الأحوال وارتفعت أسعار المؤن ارتفاعا فاحشا، وهجرها الفقراء، وافتقر الأغنياء"، كما عبر عن ذلك جارهم القريب، مؤرخ دمشق ورئيس ديوانها" (1) .
وكان أمير طرابلس في تلك الحقبة فخر الملك بن عمار، قد حاول أن يستنجد بملك دمشق، وخليفة الفاطميين في القاهرة، ولكنهما كانا يطمعان في إلحاق طرابلس بأملاكهما، وراحا ينتظران الفرصة الأولى للانقضاض عليها، ولعل حصار الإفرنج يكون فاتحة الطريق ... .. وكانت تلك أحلى أحلامهم وأعز آمالهم!!
وضاق طوق الحصار على طرابلس، وأهلها مستميتون في الدفاع عنها، ولم يبالوا أن يبيعوا ما يملكون "من الحلى والأواني الغريبة" (2) لشراء ما يلزمهم من المؤن.
غير أن الشعب في طرابلس تصدى لحصار الإفرنج ثلاث سنوات أخرى، (1105-1108) واستعان الأغنياء بكنوزهم من الذهب والفضة فاستوردوا المواد الغذائية لأسواق طرابلس من كل مكان ...
حتى من جزيرة قبرص البيزنطية، ومن إمارة أنطاكية الواقعة بيد الإفرنج، ومن جزائر البنادقة (3) .
ولما اشتد أمر الحصار على طرابلس وحكام المسلمين في دمشق والقاهرة وبغداد، يراقبون ويتفرجون، قرر فخر الملك بن عمار أن يسافر
__________
(1) ابن القلانسي، ذيل تاريخ دمشق، ص 163.
(2) ابن الأثير،الكامل، حوادث سنة 499.
(3) ابن الأثير،الكامل، حوادث سنة 501.(1/70)
في ربيع 1108 إلى دمشق وبغداد لطلب النجدة، تماما مثل رسائل النجدة التي أرسلها إلى العواصم العربية المستنجدون المستصرخون من أبناء فلسطين في الثلاثين عاما الأخيرة!!
وشاء القدر أن تكون رحلة فخر الملك بن عمار مأساة إنسانية مثيرة، لا بد أن يقف المواطن العربي أمامها متعظا ومعتبرا، وأوجه الشبه والمقارنة تتزاحم في ذهنه بين الأمس البعيد، واليوم القريب.
وتفصيل الأمر، في غاية الإيجاز، أن فخر الملك قد أناب عنه ابن عمه في حكم طرابلس، ودفع مرتبات الجند لستة أشهر سلفا، وخرج في رحلة الاستنجاد والاستصراخ، حاملا الهدايا الفاخرة النادرة. وما كان أكثرها في قصور طرابلس.
ووصل فخر الملك إلى دمشق. وتصف كتب المؤرخين كيف خرج للقائه ملك دمشق وأمراؤها بالحفاوة والتقدير، واستضافوه بكل إعزاز وإكرام، وكيف أقام عندهم وهو يحدثهم عن حصار الإفرنج لأهل طرابلس، والضائقة التي يعانونها، وكيف أن حكام دمشق قد كالوا المديح والثناء على ابن عمار، والسؤال "عن حالة وما يعانيه في مجاهدة الكفار ويقاسيه من ركوب الخطر في قتالهم" (1) تماما مثل البيانات المشتركة التي يصدرها الملوك والرؤساء في ما بينهم ... .هذه الأيام.
وانتهت رحلة دمشق، على غير طائل، أو نائل، واستأنف فخر الملك مسيرته إلى بغداد، وخرج ملك دمشق وأمراؤها، يودعونه بمثل ما استقبل به من حفاوة وإكرام، حسب تعابير الإذاعات العربية، اليوم، في وداع الملوك واستقبالهم.
__________
(1) سبط ابن الجوزي، ص535.(1/71)
واجتاز فخر الملك بادية الشام إلى بادية العراق، وهو يأمل أن يجد في بغداد النجدة والأريحية، أليست بغداد مقر الخلافة العباسية وعلى رأسها المستظهر بالله ... . أليس فيها السلطان محمد السلجوقي ... ., هما زعيما العالم الإسلامي يومئذ، بلا منازع؟
ولم يكد فخر الملك أن يصل إلى ضواحي بغداد، حتى وجد حفاوة أشد كرما وإقبالا. فقد أرسل السلطان محمود سفينته الخاصة، لتقله هو وحاشيته في عبوره الفرات إلى بغداد.
ودخل فخر الملك إلى عاصمة العباسين في موكب فخيم، ونزل في قصر عظيم، أقام فيه أربعة أشهر، كانت المباحثات خلالها جارية على ساق وقدم، وفخر الملك يحدث الخليفة والسلطان عما يكابده أهل طرابلس من عناء الحصار، ويحضهم على مجاهدة الإفرنج، وإنقاذ الإمارة العربية من أن تسقط بيد الإفرنج.
وكان كل ما فعله السلطان والخليفة أن أشادا بجهاد فخر الملك وبسالة أهل طرابلس ... ، وانتهى الأمر بسخاء، ولكن بالحمد والثناء، من غير نجدة ولا مساندة.
وعاد فخر الملك في الطريق إياه، ولا تتسع الصحراء لآلامه، وهو حائر في أمره، والقدر يخبئ لأمير طرابلس، أن يصيح من غير طرابلس، ثم بعد ذلك لتسقط عاصمته العريقة الباسلة بيد الإفرنج ...
وتمضي فصول المأساة، لتروي أن فخر الملك قد عاد بخفي حنين، خف من بغداد وحَف من دمشق، ذلك أنه لم يكد يصل إلى طرابلس حتى علم أن الفاطميين قد انتهزوا فرصة غيابه، فأرسلوا في صيف 1108، شرف الدولة واليا عليها، فاحتلها، وحمل إليها كميات وافرة من القمح،(1/72)
وقبض على رجال فخر الملك ونقلهم بحرا إلى مصر، وآلت طرابلس إلى الفاطميين (1) . وهتف الناس للفاتحين.
وبقيت الفصول الأخيرة في المأساة ...
أحد فصولها، أن ملك دمشق وجد فرصته الذهبية في ذهبها الزائف، ليستولي على أملاك فخر الملك ، فزحف على عرقة وضمها إليه ... . ولكن لبضعة أيام، فقد تصدى لها الإفرنج، وضربوا حولها الحصار لمده ثلاثة أسابيع، وحينما يئست الحامية من المقاومة فرت ليلا وتركت القلعة خالية، واحتلها الإفرنج في اليوم التالي، وظل الإفرنج يطاردون الحامية وعلى رأسها ملك دمشق حتى مشارف حمص (2) .
وفصل آخر ... إن طرابلس نفسها، لقيت المصير الذي لقيته عرقة، فلم تستطع أن تصمد أمام حصار الإفرنج أكثر مما صمدت، وساءت أحوال الأهلين "وزادهم ضعفا تأخر الأسطول المصري عليهم بالنجدة والميرة، وأنه لم تكد تصل النجدة البحرية من مصرٍ إلى طرابلس
حتى وجدوا البلد قد أخذ فعادوا كما هم" (3) .
والذي حدث، أنه قد أطل العاشر من حزيران سنة 1108، وتجمع في ذلك اليوم كله أمراء الإفرنج خارج أسوار طرابلس، وتمت تصفية الخلافات في ما بينهم، وتعاهدوا أن يحملوا على طرابلس حملة رجل واحد، واستسلمت المدينة بعد حصار رهيب دام ستة أعوام، أبلى فيها الشعب أعظم بلاء ... . والخلفاء والملوك هم البلاء!!
__________
(1) رانسيمان، ج1، ص105؛ وابن الجوزي، مرآة الزمان، ص536.
(2) أسامة بن منقذ، كتاب الاعتبار، ص50.
(3) ابن الأثير،الكامل،حوادث سنة 503.(1/73)
وأخيرا وصل الأسطول المصري للنجدة، وكانت طرابلس قد استسلمت، ذلك أن إقلاع الأسطول المصري كان قد تأجل بضعة أشهر لفض المنازعات بين قادته (1) .
ودخل الإفرنج إلى مدينة طرابلس، وسيوفهم عطشى إلى الدماء، فقتلوا الشيوخ والنساء والأطفال، وأحرقوا الدور بعد أن نهبوا ما فيها، وكان أعز ما تناولته النيران مكتبة بني عمار التي كانت تعتبر أروع مكتبات العالم، كما شهدت بذلك المراجع الغربية (2) .
ويصيح المؤرخ أبو المحاسن، وهو يستعرض أخبار سقوط طرابلس، ثم يسرد اسباب الهزيمة ... وكلها وقعت للأمة العربية في صراعها مع إسرائيل ... .
يقول المؤرخ ما نصه بالكلمات والحروف:- "ومن هذا يظهر عدم اكتراث أهل مصر بالفرنج من كل وجه، الأول في تقاعدهم عن المسير في هذه المدة الطويلة. والثاني: لضعف العسكر الذي أرسلوه مع أسطول مصر، ولو كان لعسكر الأسطول قوة لدفع الإفرنج من البحر عن البلد ... و الثالث : لم لا يخرج الوزير الأفضل بالعساكر المصرية ... . هذا مع قوتهم من العساكر والأموال والأسلحة، فلله الأمر من قبل ومن بعد" (3) .
وكانت عبارة "فلله الأمر من قبل ومن بعد"، وهي التي يرددها ملايين العرب والمسلمين، ولا يزالون، كلما رأوا تخاذل ملوكهم وأمرائهم في الأيام السوداء.
__________
(1) ابن القلانسي، ذيل تاريخ دمشق، ص89.
(2) Foucher de charters. P. 531
(3) أبو المحاسن،النجوم الزاهرة، ج5، ص179.(1/74)
وهكذا سقطت طرابلس ضحية التنافر بين أربعة: ابن عمار، وملك دمشق، وخليفة الفاطميين في القاهرة، وخليفة العباسيين في بغداد، تنافسوا عليها جيمعا، وخسروها جميعا.... وآلت طرابلس إلى الإفرنج بكل ثرواتها وكنوزها، وأقاموا فيها إمارة لهم امتدت حدودها من حصن المرقب شمالا حتى نهر الكلب جنوبا، ودام الحكم فيها للإفرنج مئة وثمانين عاما (1109-1289) وتعاقب عليها عشرة أمراء: من ريموند الأول إلى بوهيموند السابع.
وكان سقوط طرابلس مؤذنا بسقوط بقية المدن الساحلية الواقعة جنوبا. ففي شتاء العام التالي (1110) قام الإفرنج بحصار مدينة بيروت واستنجد حاكم بيروت بالفاطميين في القاهرة، ولما مرت بضعة أشهر من غير نجدة، يئس "صاحب بيروت، وفر في سفينة إلى قبرص واضطر الأهلون إلى التسليم، وأحدث الإفرنج مذبحة رهيبة في السكان" (1) .
وبعد بيروت جاء دور صيدا، فهاجمها الإفرنج في نهاية العام (1110) وكانوا قد فشلوا في الاستيلاء عليها في محاولتين سابقتين(1106-1108) بسبب مقاومة أهلها البواسل، وسقطت صيدا بيد الإفرنج بعد تخاذل خليفة الفاطميين في القاهرة عن نجدتهم، أو خليفة العباسيين في بغداد، أو حتى ملك دمشق وهو على مسيرة يوم واحد من صيدا.
وفي العام التالي (1111) تجمعت قوات الإفرنج على مدينة صور، وكانت استعصت عليهم زمنا طويلا، فقد حاولوا الاستيلاء عليها المرة بعد المرة، ولكن صمود أهلها، وحصانة مينائها وموقعها الطبيعي ... كل ذلك حفظ هذه المدينة الباسلة عربية، على حين تساقطت الثغور الشامية من أنطاكية شمالا إلى غزة جنوبا.
__________
(1) ابن القلانسي، ذيل تاريخ دمشق،162.(1/75)
وتنفرد صور في التاريخ العربي مثلا حيا على الصمود والبسالة، ذلك أن الإفرنج لم يتركوا وسيلة ولا حيلة إلا ومارسوها للاستيلاء على صور، ولكن من غير جدوى.
ففي شهر تشرين الثاني من ذلك العام، قام الإفرنج بحملة كبرى على صور، وبنوا ثلاثة أبراج من الخشب، ووضعوا في كل برج ألف مقاتل، لعلهم يستطيعون بذلك أن يخترقوا المدينة الصامدة.
لكن شيخا من أهل طرابلس، ذا خبرة وشجاعة، قد أحرق تلك الأبراج بمن فيها، وذلك بأن رمى عليها "حطبا سقاه بالنفط والزيت والكبريت" (1) .
وارتد الإفرنج عن صور، ولكن في ذلك العام ... . عاودوا الهجوم عليها ومحاصرتها مرات ومرات، إلى أن جاء صيف 1124 فتكاثرت قوات الإفرنج عليها، وبلغ من قوة المعركة أن "اشتد ضرب المدينة بالحجارة" وقاوم السكان مقاومة عنيفة، ولكن أحوال الأهلين قد وصلت من السوء مبلغا عظيما بسبب نفاد المؤن والماء، واستبد اليأس بأهل المدينة وهم يقاتلون وحدهم من غير مدد ولا نجدة، فلم يجدوا أمامهم إلا الاستسلام، وفتحت المدينة أبوابها للإفرنج بعد ربع قرن من النضال، واقتسمها الإفرنج في ما بينهم، الثلثان لملك بيت المقدس والثلث لإفرنج البندقية (2) وكأنما قال التاريخ للملوك والرؤساء "وتقاسموها وأنت عنها نائم.." ... ورحم الله الشعراء ..
وهكذا، فقد سقطت على التوالي، طرابلس وبيروت وصيدا وصور، بيد الإفرنج، بعد أن ناضل أهلها عنها نضالا عنيفا، وبعد أن رفعوا عقيرتهم
__________
(1) ابن الأثير،الكامل، حوادث 502.
(2) رانسيمان، ج2، ص170.(1/76)
إلى عنان السماء، وهم يستنجدون الملوك الخلفاء والأمراء، ويا ويح الشعوب، حين يصبرون على الملوك!!
ولقد كانت هذه البلاد تابعة للخلافة الفاطمية في القاهرة، ثم أصبحت خاضعة لعواصم الإفرنج: أنطاكية وطرابلس وبيت المقدس ... . وبقي من المأساة فصلها الأخير، كما تمثل في خاتمة فخر الملك، أمير طرابلس، فلم يترك القدر أمره من غير نهاية حزينة.
ذلك أن فخر الملك، بعد أن سقطت عاصمته، طرابلس، وأحرقت قصوره، ومعها مكتبة آبائه وأجداده، التجأ إلى دمشق وحن عليه ملكها فأنزله في الزبداني وعاش فيها لاجئا ... . شأن اللاجئين السياسيين في أيامنا هذه.
وهكذا فقد لقي فخر الملك جزاء سنمار ,فقد هادن الإفرنج ، بادئ الأمر ، وهم في طريقهم إلى بيت المقدس ، وهو يظن أن في ذلك
نجاته ... وكان أن بذل لهم 15 ألف دينار وخمس عشرة من خيرة
الأفراس ، وعدداً من الأدلاء ليرشدوا الإفرنج في الطرق المؤدية إلى البترون وجبيل ونهر الكلب (1) .
تلك كانت هزائم متعددة ، ولكن كان السبب واحداً : الخليفة الفاطمي كان غارقاً في مباذله بين الإماء والغلمان .. " فلم يبادر إلى النجدة " ، "والأسطول تأخر " ، وقادة البر والبحر اختلفوا في مما بينهم " ... أو غير ذلك من الأسباب الواهية الواهنة .
__________
(1) رانسيمان، ص 251.(1/77)
وهذا "المستعلي بالله " الذي كان الخليفة الفاطمي في تلك الحقبة ، لم يتورع أن يبعث بسفرائه إلى الإفرنج ليفاوضوهم على التحالف ضد حكام الشام والعراق ، وليتفقوا معهم على اقتسام البلاد : هذه لكم وهذه لنا !!
والمؤرخون المسلمون ، يتحدثون بمرارة وحسرة ، كيف أن السفراء الفاطميين جاؤوا إلى معسكر الإفرنج خارج أسوار طرابلس وهم يحملون الهدايا النفيسة إلى أمراء الإفرنج واحداً واحداً ... وكيف أن وفداً من الإفرنج قد رد الزيادة ، فجاء إلى القاهرة ودخل قصر الفاطميين ليستأنف المفاوضات من جديد !!
ومن أجل ذلك كان طبيعياً أن تسقط ديار الشام غنيمة باردة ولقمة سائغة ، والفاطميون يفاوضون الأعداء بدلاً من أن يجاهدوهم ، ويبلوا فيهم أحسن البلاء .
يقرأ المواطن العربي جميع هذه الوقائع ، وتقفز في ذهنه الأشباه والنظائر كما يراها في أيامه التي يعيشها ، وفي الأحداث التي يقرؤها أو يسمع بها.
يقرأ المواطن العربي كل هذا ، فيرى أن المفاوضات مع الأعداء هي المفاوضات ، وأن الهزائم هي الهزائم ... وأن الأسباب هي الأسباب ... لقد تبدلت الأسماء والألقاب ... ولكن الملوك والرؤساء هم الملوك والرؤساء ... والكوارث هي الكوارث ... والضحية هم الشعوب ...
وما أشبه الليلة بالبارحة .(1/78)
احتلال العقبة
وغزو سيناء
استتب الأمر للملك بلدوين في بيت المقدس، ولكنه ظل خائفا يستبد به قلق حائر بعيد.. تجاوز أسوار المدينة المقدسة.
لقد أصبحت حدود المملكة شاملة فلسطين كلها، ومعها كثير من أقاليم ديار الشام، وأصبحت "حدوداً آمنة معترفا بها"، حسب تعبير الأمم المتحدة في هذه الأيام التي نعيشها في حوار مع إسرائيل!!
ومثل الإسرائيليون اليوم، كان بلدوين يتطلع إلى حدود أكثر أمنا ... وكانت مصر هي مصدر مخاوفه، وكان اتصال مصر والشام هو مبعث أرقه في ليله، وقلقه في نهاره.
وراح بلدوين، يفكر ويخطط ...ثم راح ينفذ ...
وكان أول تفكيره أنه لا بد من السيطرة على الصحراء الممتدة من البحر الميت حتى خليج العقبة، وهي المنطقة المعروفة بوادي عربة ... وهذه المنطقة تؤلف بمواقعها الإستراتيجية خطاً دفاعياً عن بيت المقدس، واحتلالها من شأنه أن يعزل مصر عن بقية الوطن العربي، ويقطع الطريق البري بينها وبين ديار الشام والعراق والحجاز.(1/79)
ومما حفّز بلدوين على القيام بهذه الخطة الهجومية أن قبائل البدو في إقليم الأردن كانوا يواصلون غاراتهم على الإفرنج في بيت المقدس، فأغار بلدوين على القبائل في مضاربهم، ودمر كهوفهم ومغاراتهم، ونهب قطعانهم ومواشيهم، وعاد بها إلى بيت المقدس غنائم باردة.. وقد أغرته هذه الغنائم إلى المزيد من الغنائم فلجأ بلدوين إلى تهديد القوافل التجارية بين دمشق والقاهرة، فكان يهاجمها في وادي موسى جنوب البحر الميت وينهب ما تحمله من ثروات وبضائع (1) .
وقام بلدوين في عام 1115 بحملة عسكرية ابتدأها من الخليل، فدار حول الطرف الجنوبي للبحر الميت، وواصل زحفه حتى وادي عربة الممتد من البحر الميت إلى خليج العقبة، إلى أن وصل إلى الشوبك فاحتلها وأقام فيها زمنا، وشيد قلعة فخمة أنزل فيها حامية عسكرية، وشحنها بالذخائر وأطلق عليها اسم "جبل الملك".
وعاد بلدوين إلى بيت المقدس بعد أن أقام هذه القلعة الحصينة، وأبراجها تتطلع إلى خليج العقبة والبحر الأحمر. والخلفاء والأمراء، في دمشق وبغداد والقاهرة، في غيهم سادرون ...
وفي العام التالي (1116) قاد بلدوين جيشه مرة أخرى إلى مناطق مختلفة من إقليم الأردن، ثم اتجه جنوباً حتى وصل إلى قلعة الشوبك، وتفقد حاميتها واطمأن إلى أحوالها.
ومن هذا الحصن، الذي أصبح مركزا أماميا عسكريا متقدما، انطلق بجيشه متوغلا صوب الجنوب حتى بلغ خليج العقبة على ساحل البحر الأحمر، واحتل بلدة أبلة- العقبة- وأنشأ فيها قلعة، ثم أبحر إلى جزيرة
__________
(1) ابن القلانسي، ذيل تاريخ دمشق، ص ص158-218.(1/80)
صغيرة، اسمها جزيرة فرعون، فأقام فيها قلعة أخرى، وبهذا أصبح للإفرنج، مضافا إلى حصن الشوبك، قلاع حصينة على البحر الأحمر مشحونة بالحاميات العسكرية والميرة والذخيرة.
وكما جرى في الزحف الإسرائيلي، في عام 1948 باحتلال أم رشرش التي أصبحت إيلات –فقد تم للإفرنج احتلال العقبة في سهولة ويسر، من غير مقاومة تذكر.
وكما يسبح الإسرائيليون اليوم في خليج العقبة ويصطادون الأسماك، فإن المؤرخين يقولون إن الإفرنج حين وصلوا إلى خليج العقبة "هرعوا بخيولهم ليستحموا معها، وانصرفوا إلى صيد الأسماك".
ويضيف المؤرخون، أن أهل البلاد قد ارتاعوا، كما فعل أحفادهم في أيام زحف إسرائيل، "فهربوا من وجه الإفرنج،و لجأوا إلى سفنهم ولاذوا بالفرار" (1) .
غير أن احتلال وادي عربة والعقبة، أثار شهوة بلدوين لاحتلال المزيد من الأرض العربية، فإن النصر يغري بالنصر ... وهذه هي خطة إسرائيل، حذوك النعل بالنعل، والعدوان وراء العدوان.
ولذلك، فقد خرج بلدوين في غزوته الثالثة، وكانت هذه المرة مركزة على سيناء في اتجاه مصر، فإن مصر هي القوة العربية الكبرى،
ولا بد من التحرش بها، وتطويقها، بادئ ذي بدء، حتى يتيسر غزوها والاستيلاء عليها.
وكان الإفرنج على علم بحياة الفاطميين في القاهرة، وتخاذلهم وتقاعدهم عن الجهاد، فخرج بلدوين يتصدى لهم في عقر دارهم، وكانت
__________
(1) رانسيمان، ج2، ص160.(1/81)
القوة التي يقودها لا تتجاوز مائتين من الفرسان وأربعمائة من المشاة ... . وكان ذلك منتهى الاستهانة بالخلافة الفاطمية .
وبدأ زحف الإفرنج على سيناء، واستطاع بلدوين أن يخترق الصحراء من غزة حتى العريش ... ثم واصل الإفرنج زحفهم حتى وصلوا إلى الفرما في ربيع 1118 واستولوا عليها ... . ونهبوها ووضعوا يدهم على غنائم وفيرة.
وفي هذه المسيرة الطويلة من بيت المقدس إلى الفرما، لم يجد بلدوين مقاومة تذكر، وكان احتلال الفرما نفسها سهلا يسيرا، فقد هرب سكانها المصريون، تاركين متاعهم وأموالهم نهبا للغزاة ... وماذا يستطيع الشعب الأعزل، ومليكه ناعم في قصوره، غارق في فجوره ...
هذا، ولا يفوتنا أن نلاحظ أن الفرما كانت مدينة من حصون مصر القديمة واقعة في الجهة الشرقية، وعلى بعد 25 كيلو مترا من مدينة بور سعيد ... وكانت فيها على الدوام منذ عهد الفراعنة قوة عسكرية للمحافظة على حدود مصر الشرقية.
ولم تقف حملة الإفرنج عند حدود الفرما فحسب، بل تجاوزتها إلى داخل الأراضي المصرية، ذلك أن بلودين قد تمادى في عدوانه حتى وصل إلى مدينة تنيس جنوبي بحيرة المنزلة، والى مصب نهر النيل (1) .
ولو أن المواطن العربي أراد أن يعود إلى المراجع التاريخية، العربية والأجنبية، فإنه لن يستطيع أن يجد مؤرخا واحدا يقول-ولو بإشارة عابرة- أن الخليفة الفاطمي قد تصدى للإفرنج في هجمة باسلة.
__________
(1) أبو المحاسن، النجوم الزاهرة ،ج5 ،ص 171.(1/82)
والواقع أن القدر-والقدر وحده- هو الذي تدخل لإيقاف هذه الحملة عند المكان الذي وصلت إليه ... فقد مرض بلدوين وتوفي قرب العريش. وعاد إلى بيت المقدس ميتا ليدفن في كنيسة القيامة.
ولكن الشعب، بطريقته الخاصة وبالوسائل التي يملكها، هو الذي أعرب عن مقاومته، وسخريته ... والمصريون خاصة، من الأمة العربية، يمكلون مهارات خارقة بالنكته الساخرة، قولا وعملا ... ولذلك حكاية طريفة، لا بد أن نقف عندها، ولو في غاية الإيجاز.
يقول ابن الأثير أن سبب وفاة بلودين "أنه سبح في النيل عند تنيس وانتقض جرح كان به" كما يقول غيره من المؤرخين أن وفاته كانت بسبب أكلة سمك من بحيرة المنزلة (1) .
وكأننا ما كان السبب، فقد ذكر أبو المحاسن بصدد وفاة بلدوين "فشق أصحابه بطنه وصبروه ورموا حشوته (أمعاءه) هناك، وهي ترجم إلى اليوم بالسبخة" (2) .
وهكذا فقد مضت أجيال من الشعب المصري ترجم ذلك المكان. وسمته سبخة البردويل (بلدوين) ولا يزال هذا الاسم جزءا من جغرافية سيناء، ابتدعه الشعب منذ ذلك العدوان الغاشم!!
وإذا كان الشعب المصري قد رجم سبخة البردويل لعنا لملك الإفرنج، فإن مؤرخ النجوم الزاهرة، قد ندد الملك الفاطمي بقوله :"هذا كله- قد جرى- بتخلف هذا المشؤوم الطلعة" عن الجهاد ... والمشؤوم الطلعة هو الخليفة الفاطمي الذي يعنيه أبو المحاسن، ولا يعني سواها!!
__________
(1) ابن الأثير، الكامل، حوادث سنة 512.
(2) أبو المحاسن، ج5، ص171.(1/83)
وكان الخليفة في تلك الحقبة، هو الآمر بالله بن المستعلي بالله بن المنتصر بالله بن الظاهر بالله بن الحاكم بأمر الله بن العزيز بالله بن المعز بالله بن المنصور بالله بن القائم بأمر الله بن المهدي بالله ... . وهكذا تكون الألقاب "والله" بريء مما ينسبون..
وقد أوجز التاريخ سيرة الآمر بالله بكلمات قليلة فقال :" ... ..وفي أيام الآمر بالله أخذ الإفرنج عكا سنة 497هـ ، وأخذوا طرابلس في سنة 502هـ، وأخذوا عرقة وبانياس وتبنين سنة 511هـ، وأخذوا صور سنة 518ه، وأخذوا بيروت سنة 503هـ، وأخذوا صيدا سنة 504هـ" (1) . وذلك على غرار ما جرى في عهد الملوك والرؤساء، حينما سقطت المدن والقرى العربية واحدة بعد أخرى ... وسيوجز التاريخ سيرتهم كما أوجز للخليفة الفاطمي، الآمر بالله!!
وحينما كان بلدوين يقوم بغزو النقب وخليج العقبة وسيناء، ويتوغل في أراضي مصر، كان يقوم بحملات أخرى في الشام ... وراح الإفرنج يتصدون لأية محاولة تقوم بها القوات العربية في الشام بغية استرداد الأرض العربية، ووجد الإفرنج هذه المرة كذلك، عونا من حكام المسلمين ...
وموجز ذلك، أن أمير الموصل مودود، قد جمع حملة كبرى لمقاومة الإفرنج (1111) وطلب العون من ملكي دمشق وحلب ... . وباءت هذه الحملة بالهزيمة ... وكانت الغلبة للإفرنج بالنهاية لسببين.:
أولا: إن ملك حلب قد رفض أن يعاون أمير الموصل في التصدي للإفرنج "فأغلق أبواب مدينته، ورفض أن يتعاون معه ضد الإفرنج لأنه كان يخشى انتصار مودود"!!
__________
(1) النجوم الزاهرة، ج5، ص170.(1/84)
ثانيا: ملك دمشق، رفض بدوره أن يتعاون مع أمير الموصل، لأنه "اطلع على نيات في حقه (ملك دمشق) فخاف أن تؤخذ منه دمشق فشرع في مهادنة الإفرنج سرا"!!
وهكذا خاف ملك دمشق على دمشق، وملك حلب على حلب، وحلت الهزيمة بالعرب.
ومضى عام على هذه الهزيمة ... وأطل شهر حزيران في يومه الثامن والعشرين (1113)، ووقعت فيه معركة انتصر فيها المسلمون ... ولكن تبدد النصر بمؤامرة قذرة غادرة.
وموجز ذلك أن بلدوين قد أخذ يتحرش بملك دمشق لينتقص منه أملاكه، وأرسل ملك دمشق يستنجد أمير الموصل، ويعرفه بالحال ويحثه على سرعة الوصول إليه، فلم يكن من أمير الموصل وسائر الأمراء من جيرانه إلا أن يهبوا للنجدة.
ووقعت المعركة على أرض فلسطين حول إقليم طبرية،في الأقحوانة، حيث يلتقي نهر اليرموك مع نهر الأردن. ولم يكد الملك بلدوين أن يصل إلى جسر الصنبرة إلى الجنوب الغربي من بحيرة طبرية، حتى وقع في كمين لم ينج منه إلا بمشقة بالغة، وكان أن غرق عدد كبير من الإفرنج في نهر الأردن وفي بحيرة طبرية، هم وخيولهم ومتاعهم.
ثم امتدت المعارك بعد ذلك والقوات العربية تدمر مواقع الإفرنج في كل مكان، ووصلت القوات العربية إلى بيسان ونابلس، وحتى أسوار القدس "ولم يبق بين عكا والقدس ضيعة عامرة" (1) .
تلك قصة النصر ... لتتبعها قصة المؤامرة ... .
__________
(1) ابن القلانسي، ذيل تاريخ دمشق ،ص186.(1/85)
وهي مؤامرة دنيئة رهيبة، كلفت الوطن العربي مئة عام أُخر من احتلال الإفرنج ... ذلك أن أمير الموصل مودود، بعد أن أذن لجيشه بالعودة والاستراحة، ثم الاجتماع في الربيع القادم لمعاودة الجهاد، قد بقي في دمشق، في ضيافة مليكها ليلقى مصرعه على يديه ...
ففي يوم الجمعة، وفي المسجد الأموي، قتل البطل المجاهد، مودود، أمير حمص، بيد أحد الباطنية ... وقطعت رقبة القاتل فورا، وأحرقت جثته، وكان ذلك كله بتدبير من ملك دمشق (1) .
وعلى ذلك فقد كان تاريخ العشرين سنة الأولى من القرن الثاني عشر للميلاد، وحكام العرب والمسلمين يتخاذلون ويتآمرون ... ويغتال بعضهم بعضا، ويؤثرون الهدنة مع الإفرنج لتبقى عواصمهم بأيديهم، ثم يرون عواصمهم تسقط أمام أعينهم وتحت أقدامهم.
وكان على رأس هؤلاء جميعا خليفة الفاطميين الآمر بالله ...
وهذا الحاكم بأمر الله، مثل الكثير من حكام المسلمين في هذا العصر، لم يكن معنيا بأمر الله إلا بالقشور، فقد سقطت الثغور الإسلامية في عهده، واحتل الإفرنج وادي عربة وخليج العقبة بالإضافة إلى سيناء ... .والولائم في الأفراح والأتراح، قائمة قاعدة ...
وكان على رأس ولائم المآتم، مأتم عاشوراء الذي كان يقيمه عبر تسعة وعشرين عاما من حكمه ... . ولن يجد المواطن العربي أفجع وأمتع من أن يقرأ ما كتبه التاريخ العربي في وصف مأتم عاشوراء في عهد الفاطميين، حين كانت الثغور الإسلامية تسقط واحدة بعد الأخرى.
__________
(1) ابن الأثير،الكامل، حوادث 507.(1/86)
يقول مؤرخ النجوم الزاهرة، بعبارات ذلك العصر وألفاظه ما يلي :" أما الذي كان يفعله من النوح في يوم عاشوراء والحزن وترتيبه، في اليوم العاشر من المحرم، أن يحتجب الخليفة عن الناس، فإذا علا النهار، ركب قاضي القضاة والشهود وقد غيروا بزيهم , ولبسوا قماش الحزن , ثم صاروا إلى المشهد الحسيني بالقاهرة ، فإذا جلسوا فيه بمن معهم من الأمراء والأعيان، وقراء الحضرة، والمتصدرين في الجوامع، جاء الوزير فجلس صدرا، والقاضي وداعي الدعاء من جانبيه، والقراء يقرأون نوبة بنوبة، ثم ينشد قوم من الشعراء غير شعراء الخليفة أشعارا يرثون بها الحسن والحسين وأهل البيت، وتصيح الناس بالضجيج بالبكاء والعويل ... . ولا يزالون كذلك حتى تمضي ثلاث ساعات، فيستدعون إلى القصر عند الخليفة، فيركب الوزير إلى داره، ويدخل قاضي القضاة إلى باب الذهب (أحد أبواب القصر) فيجدون الدهاليز قد فرشت مساطبها بالحصر والبسط ... ويجلس القاضي والناس على اختلاف طبقاتهم، ثم يفرش وسط القاعة بالحصر المقلوبة (!) ثم يفرش عليها سماط الحزن، مقدار ألف زيديه من العدس والملوحات والمخللات والأجبان والألبان وأعسال النحل والفطير، والخبز المغيَّر لونه بالقصد لأجل الحزن(!) فإذا قرب الظهر أدُخل الناس للأكل من السماط... ومن الناس من لا يدخل من شدة الحزن (!) فلا يُلزم أحد بالدخول ... .فإذا فرغ القوم انفصلوا إلى مكانهم بذلك الزي الذي ظهروا فيه من قماش الحزن ... وطاف النواح بالقاهرة في ذلك اليوم، وأغلق البياعون حوانيتهم إلى بعد العصر، والنوح قائم بجميع شوارع القاهرة وأزقتها، فإذا فات العصر، يفتح الناس دكاكينهم ويتصرفون في بيعهم وشرائهم ... . فكان(1/87)
ذلك دأب الخلفاء الفاطميين من أولهم المعز لدين الله إلى آخرهم العاضد عبد الله" (1) .
كان ذلك شأن خلفاء المسلمين، يجعلون الناس ينوحون، ولا يجعلونهم يجاهدون ويقاتلون ...
ولو أن المواطن العربي الذي يعيش اليوم في الوطن العربي من المحيط إلى الخليج، قد أنعم النظر في الوقائع والأحداث التي جرت في مطلع القرن الثاني عشر للميلاد، لاتضحت له الأشباه والنظائر، في جميع الأحداث التي نعيشها، ما صار منها وما هو صائر ...
أجل.. لقد تبدلت الأسماء ... .فإفرنج الأمس هم إسرائيل اليوم، ومن هم وراء إسرائيل.
ولكن الملوك هم الملوك ... والولائم هي الولائم ... لا فرق بين الأفراح والأتراح ...
أما سقوط بيت المقدس، وثغور العرب، ومدائن الإسلام ... أما احتلال سيناء، وخليج العقبة .
فذلك كله هو هو، بالأحداث والمواقع والأسماء ... .إياها إياها ... ..
وكذلك فإن التجزئة والانفصال، والنكاية والاغتيال، كلها صور قديمة تبعث من جديد..
وما أشبه الليلة بالبارحة .
__________
(1) أبو المحاسن ، النجوم الزاهرة، ج5 ، ص154.(1/88)
دمشق..
ومعركة الأيام الخمسة
دمشق ... .يا خليلة الزمان، وفاتنة العصور، ونديمة الأجيال.
دمشق ... ..يا جنة الأزهار والثمار والأطيار، يا فردوس العلماء والفقهاء والزهاد.
يا ندوة الفرزدق وجرير، والأخطل الكبير، وملهمة شوقي ومطران والأخطل الصغير.
دمشق ... .يا عاصمة الأمويين، ويا مرقد صلاح الدين.
وكل ذلك قليل ... ..فإن دمشق أكثر من ذلك وأجل ... .وقد حار فيها المؤرخون متى بنيت، ومن بناها، فهي أقدم من التاريخ. وجاء التاريخ بعد قيامها.
ودمشق، كما قال عنها الجغرافي العربي، أول حائط بني بعد الطوفان" (1) .
وكل ما نعرفه عنها قديمة قدم العرب، وأنها الغوطة الخضراء، المطلة على الجزيرة العربية الجدباء.
__________
(1) ياقوت الحموي، معجم البلدان، مادة دمشق.(1/89)
والفتوح الإنسانية، كانت تتم دواما على يد قائد واحد...إلا دمشق فقد فتحها الأربعة...القادة الأربعة الأوائل في الإسلام:
خالد بن الوليد...وعبيدة بن أبي الجراح ...وعمرو بن العاص...وشرحبيل بن حسنة، فتحوها جميعا معا...ودخلوها معا.
وما أن انتهى عهد الخلفاء الراشدين حتى غدت دمشق عاصمة الدولة الأموية، وعلى رأسها المليك الداهية معاوية بن أبي سفيان.
وامتدت الفتوح بعد ذلك في المشرق والمغرب، وأصبحت دمشق عاصمة الإمبراطورية الإسلامية تمتد من أواسط أوروبا، إلى شمال إفريقيا، إلى أواسط آسيا...وبذلك كانت أعظم إمبراطورية عرفها التاريخ، من قبل ومن بعد...
وتألقت الغوطة ببساتينها الفواحة حول دمشق ... . وقام المسجد الأموي في صناعة بديعة رفيعة إلى جوار القصر الأخضر، القصر الذي شهد ما لم يشهده ما لم يشهده قصر آخر في الدنيا بأسرها، وقديمها وحديثها.
وكان ذلك في القرن الثامن للميلاد، وعلى وجه التحديد في شتاء عام 715. في عهد الخليفة سليمان بن عبد الملك ... .. وكان مقدرا لهذا الخليفة أن يشهد ما لم يشهده غيره من الأباطرة القياصرة إلى يومنا هذا.
في ذلك اليوم وصل إلى دمشق موكب رائع فخيم، وأفاق الناس على مشهد لا يلحق بوصفه الخيال ... .ولكنه كان الحق كل الحق ... . كما شهد به مؤرخو العرب والإفرنج على السواء.
كان هذا الموكب، قطعة من أوروبا المغلوبة تسير على قدمين ... .. وعلى رأس الموكب موسى بن نصير وطارق بن زياد، اللذان فتحا(1/90)
الأندلس ... وها هما الآن يخترقان شوارع دمشق، بعد أن عبرا فلسطين، واجتازا نهر الأردن، ومعهما جموع الأسارى، وأثقال الغنائم والأسلاب.
ولم يكن الأسرى من عامة الجنود، فقد كان على رأس الموكب أربعمائة من الأمراء والنبلاء من العائلة القوطية المالكة، وسائر الأسر الأرستقراطية، في أسبانيا.
وقد احتشدت جموع الشام في شوارع دمشق لتشهد الأمراء والنبلاء يسيرون في شوارع مدينتهم الظافرة، وعلى رؤوسهم التيجان المذهبة، وقد شدوا على أكتافهم وأوساطهم الأحزمة الذهبية، ومن ورائهم آلاف الأسرى، ومن وراء هؤلاء وأولئك الصناديق المحملة بالنفائس والكنوز التي زخرت بها قصور الأندلس.... وأي قصور (1) .....
دمشق هذه....ظلت شامخة أبية عزيزة الجانب، ثلاثة قرون أخرى، في عهد الأمويين ثم في عهد العباسيين.
وبعد ذلك، أخذ الحكم العربي يتهاوى في القرن العاشر للميلاد، فكانت الخلافة الفاطمية الكسيحة في القاهرة، والخلافة العباسية الهزيلة في بغداد، والسلاجقة هنا وهناك، وإمارات عربية مبعثرة في العراق ومصر والشام.
وجاءت حملة الإفرنج الأولى فاحتلت سواحل ديار الشام واقتحمت
بيت القدس في بركة من الدماء.
وجاءت الحملة الثانية لتحتل دمشق، وتكون بعدها حملات أخرى لتحتل القاهرة... وكان ذلك تاريخا غابرا، يذكرنا بالتاريخ المعاصر.
وللحكاية بداية، موجزها، أنه في أواسط القرن الثاني عشر للميلاد، كان عماد الدين زنكي يعمل جاهدا على إخراج الإفرنج من ديار الشام،
__________
(1) نفح الطيب، نشر دوزي "ليدن 1855"،ج1، ص144.(1/91)
ودأب منذ أن تولى الإمارة على تحقيق الوحدة الكاملة الشاملة ودانت له الموصل وحمص وحماه وبعلبك ولم يبق أمامه إلا دمشق...إذا استولى عليها أصبح قادرا على منازلة الإفرنج وإجلائهم عن بيت المقدس والسواحل الشامية من يافا حتى أنطاكية.... ولكن ....
ولكن دمشق كان يحكمها الأمير معين الدين الذي كان حليفا للإفرنج في بيت المقدس...وهنا يكمن الخطر في أن تدخل دمشق في حوزة الإفرنج ، أو على الأقل، تصبح محمية لهم تحت رحمتهم، بعد أن أصبح بيت المقدس عاصمة دولتهم.
ولجأ معين الدين حاكم دمشق، إلى الإفرنج، فبعث بثلاث سفارات إلى بيت المقدس يحذرهم من عماد الدين أنه "إذا ملك الملك لا يبقى لهم (الإفرنج) معه في الشام مقام" كما قال سفير ملك دمشق، أسامة بن منقذ الشاعر الفارسي، في مذكراته التي وضعها وهو في أخريات عمره (1) .
وكان السفير أسامة بن منقذ، قد ذهب إلى بيت المقدس "ليفاوض" ملك الإفرنج ثلاث مرات خلال ثلاثة أعوام 1137-1140م وتكللت المفاوضات في عقد تحالف بين الأمير معين الدين والملك فولك ملك بيت المقدس.
ويشاء القدر، أن يترك لنا ابن القلانسي، وهو رئيس الديوان في دمشق، صورة عن تلك الاتفاقية، يقول عنها، في سياق التحالف ضد عماد الدين زنكي "وقد تقرر الأمر مع الإفرنج على الاتفاق والاعتضاد، والمؤازرة والأسعاد، والامتزاج في دفعه (يعني دفع عماد الدين) والاختلاط في صده عن مراده ومنعه، ووقعت المعاهدة على ذلك بالإيمان المؤكدة، والضمان للوفاء بما بذلوه، والتمسوا على ذلك مالا معينا يحمل إليهم (إلى
__________
(1) أسامة بن منقذ، كتاب الاعتبار، ص ص 139 -169.(1/92)
الإفرنج) ليكون عونا لهم على ما يحاولونه (من صد عماد الدين) ...واجيبوا إلى ذلك (بدفع المال)، وحمل الرهائن من أقارب المقدمين (من حكام دمشق).
ويقول ابن الإثير في صدد هذه الاتفاقية بين ملك دمشق والإفرنج: "فراسلهم واستدعاهم إلى نصرته والى أن يتفقوا على دفع زنكي (عماد الدين) عن دمشق، وبذل لهم بذولا، ووعدهم بأن يسلم لهم بانياس وخوفهم من زنكي إن ملك دمشق والتزم ملك دمشق بموجب هذه المعاهدة أن يدفع للإفرنج 20 ألف قطعة من الذهب كل شهر، لتجهيز جيوش الإفرنج، وإن يجعل عندهم رهائن، ضمانا لتنفيذ أحكام الاتفاقية (1) .
ولم يقف الأمر عند هذا الحد، بل أن ملك دمشق، معين الدين قام بصحبة سفيره أسامة بن منقذ بزيارة (فولك) ملك الإفرنج، في بلاطه في بيت المقدس، وتم بين الفريقين تبادل الهدايا وعبارات الود والإخلاص، واتفقا، كما نقول في لغة العصر، على خطة استراتيجية دفاعية هجومية، للتصدي للأمير عماد الدين وإحباط مشروعاته الوحدوية.
ولم يخجل الملك معين الدين وسفيره من زيارة كثير من أرجاء فلسطين التي كانت بيد الإفرنج ... .بيت المقدس، نابلس، حيفا، عكا، وطبرية، وسبسطية ... ... وجميع هذه المدن قد ذكرها ابن منقذ في كتابه، بأسمائها التي نعرفها حتى اليوم.
وأطل حزيران المشؤوم من عام 1140 وحان الأوان أن ينفذ ملك دمشق تعهده بتسليم بانياس إلى الإفرنج.
__________
(1) ابن الأثير، الكامل، ج11، ص ص 47- 48.(1/93)
وكانت بانياس تحت سيادة عماد الدين زنكي، وواليها اسمه إبراهيم طرغت، والتقى الجيشان، جيش الإفرنج وجيش ملك دمشق حول بانياس ... ووثب التاريخ بعينيه وأذنيه ليبصر ويسمع ... .
وقاوم الشعب في بانياس، وصمد أمام الحصار طويلا، ولكن المدينة لم تلبث أن استسلمت أمام القوى المحاصرة التي تفوقها عددا وعدداً ... .. وأحدث الإفرنج مذبحة شنيعة بين الأهلين (1) .
وراح ملك الإفرنج، بعد الاستيلاء على بانياس، يعزز مواقعه العسكرية، فبنى قلعة كبيرة في مدينة صفد، ليسيطر منها على منطقة الجليل، ويحمي الطريق بين دمشق وبيت المقدس. وشرع بعد ذلك في بناء قلاع أخرى في الجنوب ليحمي ظهر الإفرنج من ناحية مصر.
فأقام قلعة "ينبي" بين عسقلان والرملة، وقلعة تل الصافية بين بيت لحم وعسقلان، وقلعة بيت جبرين بين غزة وعسقلان، وحصن الكرك بين البحر الميت وخليج العقبة ... وجميع هذه القلاع معروفة في فلسطين، بين قائم، أو رميم!!
وتوفي عماد الدين، وخلفه نور الدين، وكان قد ورث عن أبيه النزوع إلى جهاد الإفرنج تحت راية الوحدة الشاملة، ولم يكد يتسلم زمام الأمور حتى أنزل بالإفرنج ضربات قاصمة في شمال البلاد، وأتم تحرير بعض المناطق التي كانت في حوزتهم.
وثارت ثائرة الإفرنج في أوروبا، وقد هالهم أمر نور الدين، فبدأوا حملتهم الثانية ... . وجاء على رأسها عاهلان عظيمان، هما لويس السابع ملك فرنسا، وكونراد الثالث إمبراطور ألمانيا.
__________
(1) ابن القلانسي، ذيل تاريخ دمشق، ص272.(1/94)
... وفي منتصف شهر نيسان من عام 1148 حين كانت غوطة دمشق في أبهى حلتها زهراً وتمراً وطيراً , كان الجيشان الكبيران الإفرنسي والألماني ينتهيآن للزحف على دمشق وعلى حاكمها الأمير معين , حليف الإفرنج وصاحب الاتفاقية إياها وكانت معركة رهيبة تجسد فيها إيمان الشعب وتخاذل الحكام !!
وعقد الإفرنج مجلسهم الحربي في بيت المقدس لوضع الخطط اللازمة للهجوم على دمشق، وصلى الملكان وأمرائهم صلاة الموت، وتعاهدوا على الحرب حتى النهاية ... ..وساروا في الطريق إلى دمشق.
وكما فعل الإسرائيليون بعد ثمانية قرون في حرب الأيام الستة، فقد قام الإفرنج بدور المخادعة والغدر، "ولم يشعر أهل دمشق إلا والألمان قد ضربوا خيمهم على باب مدينتهم في الميدان الأخضر" (1) . وذلك ما أكده المؤرخون.
ويروي التاريخ في هذا الصدد، أن الإفرنج قد تجمعوا في أوائل تموز سنة 1148 عند طبرية، ومنها بدأ الزحف عن طريق بانياس إلى الغوطة ... وأحتل الإفرنج في حملة مباغتة ، عددا من المراكز والقرى الأمامية خارج أسوار دمشق، منها المزة والربوة ... . والمواطن العربي يعرف الأولى بسجنها ومطارها، ويعرف الثاني بملاهيها ومقاهيها ... .
وبدأت المعركة طاحنة بين المهاجمين والمدافعين ... وأدرك أهل دمشق أن لا أمل لهم في نجدة من بغداد والقاهرة، فاستنجدوا بمن حولهم من المناطق الشامية " واجتمع لهم من الأعمال والأجناد والأتراك وأحداث البلد
__________
(1) محمد كردعلي ، خطط الشام، ج3، ص19.(1/95)
والمطوعة والغزاة الحجم الغفير، واستظهر الكفار على المسلمين بكثرة الأعداد" (1) .
واسمرت المعركة خمسة أيام، واتخذ الإفرنج في اليومين الأول والثاني خطة الدفاع، فقطعوا أشجار الغوطة وتحصنوا فيها، وانتشروا في البساتين وخيموا فيها واقتربوا من دمشق. واستطاع الإفرنج أن يشقوا طريقهم إلى الربوة على نهر بردى تحت أسوار المدينة.
وهب الشعب بكل طبقاته وفئاته للدفاع عن مدينته العريقة، وشرعوا في إقامة المتاريس بالشوارع، وانتقلوا من الدفاع إلى الهجوم، بينما إلى الحدائق والبساتين التي رابط فيها الإفرنج "نفر كثير من رجالة الأحداث والضباع ... . فيقتلون من ظفروا به، ويحضرون رؤوسهم لطلب الجوائز عليها" كما يقول أبو شامة وهو يسرد أسماء المواقع، وأنباء الوقائع.
ولما رأى الإفرنج خطورة الموقف العسكري، قرروا الجلاء عن البساتين الواقعة جنوب المدينة والانتقال إلى جهة الشرق لعلهم يقتحمون المدينة.
ولكن هذه الخطة العسكرية كانت فاشلة من بدايتها، فإن ذلك الموقع لا تتوافر فيه المياه، وهو يضم أشد أسوار المدينة مناعة وحصانة.
وتعاظمت عزيمة الشعب وحماسته، واندفع في مهاجمة الإفرنج، وخرج العلماء والفقهاء والزهاد، من المساجد والزوايا للتصدي للإفرنج، وقد ذكر التاريخ منهم الأمامين الحلحولي والقندلاوي، سقطا شهيدين في ميدان المعركة عند الربوة ... .. ولما رأى الإفرنج أن أهل دمشق مستميتون في الذود عن عاصمتهم الباسلة، لم يجدوا مناصا من الارتداد عن أسوارهما
__________
(1) أبو شامة ، كتاب الروضتين، ص52.(1/96)
فقفلوا راجعين، وعاد العاهلان الألماني الإفرنسي يجران أذيال الخيبة والهزيمة..."بعد أن أيقنوا بالهلاك والبوار وحلول الدمار." كما عبر عن ذلك مؤرخ دمشق (1) .
وكان النصر العربي رائعا ولكنه لم يكن كاملا...ذلك أن الهزيمة التي لحقت بالإفرنج حول أسوار دمشق، كان من الميسور أن يحل بهم مثلها حول أسوار بيت المقدس، لو أن القوات العربية قد لحقت بالإفرنج المنهزمين، وتجمعت عليهم في معركة فاصلة في ساحات فلسطين..
ولكن الخلفاء والأمراء قد فاتتهم تلك الفرصة الذهبية، وهم متكئون على سررهم الحريرية!
وبعد عام آخر، وفي حزيران آخر-29 حزيران 1149-وقعت معركة أخرى مع الإفرنج، كان النصر فيها للمسلمين ولم يكن نصراً كاملا كذلك ...للأسباب إياها....
وموجز ذلك، أن نور الدين زنكي، أمير البلاد الشامية في الشمال، راح يوجه نشاطه في التصدي للإفرنج في إمارة أنطاكية، فأغار في صيف 1149 على الإقليم المحيط بقلعة حارم على الضفة الشرقية لنهر العاصي، وقام بتدمير ما حولها من ضياع، وأخذ يحاصر قلعة أنب على الضفة الشرقية لنهر العاصي، وعلى مقربة من معرة النعمان.
وخرج أمير أنطاكية لملاقاة نور الدين وصده عن قلعة أنب ... .. "وأحاط نور الدين بالإفرنج ، وأبادهم أولا عن آخر، وكان من جملة القتلى أمير أنطاكية نفسه الذي كان عاتيا من عتاة الإفرنج وعظيما من عظمائهم" (2) .
__________
(1) ابن القلانسي، ذيل تاريخ دمشق ، ص298.
(2) ابن واصل، مفرج الكروب ،ج1 ، ص120.(1/97)
ويذكر وليم الصوري الإفرنجي، المقاتل والمؤرخ، أن نور الدين أرسل رأس أمير أنطاكية وذراعه اليمنى إلى الخليفة العباسي في بغداد في صندوق من الفضة (1) اسبتشارا بهذا النصر.
وعمت الفرحة أرجاء الوطن العربي ونظم الشعراء قصائد المديح لنور لدين، من ذلك القصيدة الشهيرة التي نظمها القيسراني وقال فيها:
هذي العزائم لا ما تدعي القصب
وذي المكارم لا ما قالت الكتب
وهذه الهمم اللاتي متى خطبت
تعثرت خلفها الأشعار والخطب
أغرت سيوفك بالإفرنج راجفة
فؤاد رومية الكبرى لها تجب
غير أن هذه الانتصارات قد انتكست أمام الخيانة التي انطوى عليها حكام دمشق ...
ذلك أنه بعد فشل حملة الإفرنج على دمشق، راح ملكها يدخل في مفاوضات مع حكام الإفرنج في بيت المقدس، وانتهت هذه الاتصالات في شهر أيار 1149 بعقد هدنة تهدف إلى "تجديد عقد المهادنة والمسامحة، ببعض المقاطعة "ضريبة"، وترددت المراسلات في تقرير هذا الأمر , وإحكام شروطه وأخذ الإيمان على ذلك وتقررت حالة الموادعة مدة سنتين، وزال الخلف واطمأنت النفوس من أهل العملين (البلدين) بذلك، وسكنت إلى تمامه وسرت بأحكامه". إلى آخر العبارات التي أوردها المؤرخ ابن
__________
(1) وليم الصوري، ص774.(1/98)
القلانسي (1) . في ما يكاد أن يكون استباقا لعبارات الهدنة العربية الإسرائيلية لعام 1949، بعد ثمانية قرون، لا تنقص عاما ولا تزيد .
وحدث في تلك الحقبة أن هاجم الإفرنج حوران، فقتلوا ونهبوا وسبوا، واستجار الأهلون بنور الدين، مع أنهم تابعون لدمشق، ولكن ملك دمشق كان في حلف مع الإفرنج، والمستجير به كالمستجير من الرمضاء بالنار!!
وعزم نور الدين على ملاقاة الإفرنج، استجابة لاستنجاد أهل حوران، وكتب إلى ملك دمشق يعلمه بعزمه على الجهاد، طالبا أن يمده بألف فارس، ولكن طلب نور الدين لقي رفضا قاطعاً ... ذلك أن أولي الأمر في دمشق "عاهدوا الإفرنج على أن يكونوا يداً واحدة على من يقصدهم من عساكر المسلمين" (2) .
ولم يعد أمام نور الدين إلا أن يزحف إلى دمشق، ويخلع حكامها، ويعيدها إلى حظيرة العروبة، تناضل الإفرنج وتؤدي دورها في تحرير الديار المقدسة.
وهكذا توجه نور الدين إلى دمشق مخترقا البقاع، وأقام معسكره في مرج يبوس، شمال غربي دمشق، المدينة العريقة التي كان يرى فيها دوما عاصمة للوحدة العربية.
وانتقل نور الدين بعد ذلك إلى منازل العساكر، بالقرب من جسر الخشب، على مسافة أربعة عشر كيلومتراً من دمشق، ووجه إلى حكام دمشق إنذارا يقول فيه "إني ما قصدت بنزول هذا المنزل طلبا ولا منازلتكم، وإنما دعاني إلى هذا الأمر، كثرة شكاية المسلمين، من أهل حوران
__________
(1) ابن القلانسي، ذيل تاريخ دمشق ، ص304.
(2) أبو شامة، كتاب الروضتين، ج1، ص69.(1/99)
والعربان، بأن الفلاحين أخُذت أموالهم وسبيت نساؤهم، وأطفالهم بيد الإفرنج، وعدم الناصر لهم، ولا يسعني مع ما أعطاني الله من الاقتدار على نصرة المسلمين وجهاد المشركين وكثرة المال والرجال، أن أقعد عنهم ولا انتصر لهم، مع معرفتي بعجزكم عن حفظ أعمالكم (بلادكم)، والتقصير الذي دعاكم إلى الاستصراخ بالإفرنج على محاربتي، وبذل الأموال لهم، وهذا لا يرضي الله، ولا أحد من المسلمين (1) .
ورغما عن أن هذه الرسالة كانت تضج في كل كلماتها بالحق والمروءة، إلا أن ملك دمشق قد ركب رأسه، وبعث جوابا بالغ العنف قال فيه "ليس بيننا وبينك إلا السيف، وسيوافينا من الإفرنج ما يعيننا على دفعك إن قصدتنا ونزلت إلينا"!!
وانسحب نور الدين إشفاقا على دماء المسلمين، وانتظارا لفرصة أخرى، لعلها تكون حين تنتهي المعاهدة بين حكام دمشق والإفرنج.
وهذا ما جرى فعلا، فقد عاد نور الدين يهاجم دمشق من جديد، وأرسل نور الدين إلى حكام دمشق إنذارا ثانيا يقول فيه "أنا ما أوثر إلا صلاح المسلمين، وجهاد المشركين، وخلاص ما في أيديهم من الأسارى فإن معي في عسكر دمشق وتعاضدنا على الجهاد، وجرى الأمر على الوفاق والسداد، فذلك غاية الإيثار والمراد (2) .
وأطل حزيران من عام 1151، وكان رد حكام دمشق هذه المرة الرفض القاطع مشفوعا بقدوم الإفرنج، وعلى رأسهم الملك بلدوين الثالث والبارونات وعسكروا أمام أسوار دمشق، وخرج حكام دمشق للقائهم
__________
(1) أبو شامة، كتاب الروضتين، ج1، ص70.
(2) ابن القلانسي، ذيل تاريخ دمشق، ص313.(1/100)
والترحيب بهم، كما أخذ الإفرنج يدخلون إلى شوارع دمشق وحوانيتها لقضاء حوائجهم (1) ، تماما كما يفعل الحلفاء مع الحلفاء، في أيام العز والصفاء!!
ولم يجد نور الدين مفرا من الانسحاب، ولكنه عاد إلى مهاجمه دمشق مرة ثانية بعد شهر واحد، وانتهى الأمر بالصلح مع حكام دمشق "وتوقيع معاهدة التعاضد على الجهاد" ووقعت الأيمان من الجهتين
على ذلك والرضى به" (2) .
ولكن معاهدة "التعاضد والجهاد" سقطت عند الامتحان، كما سقطت من بعدها معاهدة "الضمان الجماعي" المعقودة بين حكام هذه الأيام.
وجاء وقت الامتحان ... امتحان اتفاق "التعاضد على الجهاد" فقد تعاهد نور الدين مع ملك دمشق على تحرير بانياس واستخلاصها من يد الإفرنج، والتقى الجيشان، جيش دمشق وجيش نور الدين حول بانياس، وشدوا الحصار عليها، ولكن لم يلبث أن وقع النزاع بينهما فأحجما عن مهاجمة بانياس، وافترق ملك دمشق ونور الدين، كل في طريقه، وبقيت بانياس في يد الإفرنج.
ويقول ابن القلانسي في عرضه لهذه الأحداث، أن ملك دمشق ونور الدين قد افترقا بعدها "من غير سبب ولا موجب"، وابن القلانسي كان من أولي الأمر في دمشق، وطبيعي أن لا يذكر "السبب والموجب" ... .
ولكن المؤرخ ابن الأثير وهو ابن الموصل، يبادر وينجدنا بمعرفة السبب، فقد أشار غير مرة إلى خيانة ملك دمشق وتحالفه مع الإفرنج حتى
__________
(1) ابن القلانسي، ذيل تاريخ دمشق، ص314.
(2) أبو شامة، كتاب الروضتين، ص90.(1/101)
أصبحت دمشق تحت حماية الإفرنج، وأصبح أهلها يدفعون ضريبة الحماية كل سنة، وقال في هذا الصدد "وجعل الإفرنج على أهل المدينة قطيعة "ضريبة" كل سنة ، وكان رسولهم يجيء إلى دمشق ويجيبها من أهل البلد" (1) .
وهكذا شهد منتصف القرن الثاني عشر للميلاد، حرب الأيام الخمسة، وشهد معها دمشق تحت حماية الإفرنج، يدفع أهلها ثمن هذه الحماية، عاما بعد عام.
والمواطن العربي حين يقرأ تلك الأحداث، ويستعرض الوقائع مقرونة بأسماء الملوك والأمراء، يجد نفسه أمام مقارنة عجيبة بين أمس الغابر، واليوم الحاضر.
يجد المواطن العربي احتلال إسرائيل للأرض العربية، أقرب ما يكون إلى احتلال الإفرنج ويجد إلى جانب ذلك أن الملوك هم الملوك وأن اختلفت الألقاب، وأن الهزائم هي الهزائم، وأن المعاهدات هي المعاهدات.
في الماضي كانت اتفاقية "التعاضد على الجهاد" وهي تسمية رائعة وبديعة، ولكنها عند الامتحان سقطت في الميدان فلم تكن تعاضداً ولا جهاداً.
وفي زماننا كانت اتفاقية "الضمان الجماعي" وهي عنوان مشرق جميل، ولكن نصوصها تبعثرت في الهواء، في حروبنا مع إسرائيل، وكانت انتهاكا سافرا، لا ضمانا جماعيا!!
وما أشبه الليلة بالبارحة.
__________
(1) ابن الأثير، التاريخ الباهر، ص106.(1/102)
مصر..
وحرب الأعوام الستة
في الستينات من القرن الثاني عشر للميلاد نشبت حرب الأعوام الستة بين الإفرنج والأمة العربية ... وكما كانت حرب الأيام الستة مع إسرائيل قائمة على ساحات الوطن العربي في سيناء، والجولان، وفلسطين، فإن حرب الأعوام الستة، كذلك كانت تستهدف مصر وديار الشام سواء بسواء.
والأشباه والنظائر بين حروب الماضي وحروب الحاضر كثيرة جدا، حتى لكأن إفرنج الأمس هم إسرائيل اليوم، حذوك الرأس بالرأس، والقدم بالقدم!!
ففي حرب الأعوام الستة (1163-1169) قام الإفرنج بخمس حملات على مصر، فاخترقوا سيناء، وأحرقوا بلبيس، واحتلوا القاهرة، وحاصروا الإسكندرية، ودمروا دمياط ... .. كل ذلك طمعا في مصر لذاتها بخيراتها الوفيرة، وثرواتها الكثيرة ... .. ولكن مع ذلك وقبل ذلك تثبيتا لأقدام الإفرنج في ديار الشام، وفي بيت المقدس على وجه التحديد.
وكأن الإفرنج، وفي النصف الأول من القرن الثاني عشر، قد استكملوا احتلالهم لما نعرفه اليوم باسم فلسطين وشرق الأردن وسوريا ولبنان(1/103)
وشمال العراق، وأنشأوا فيها أربع دول- إمارة الرها، إمارة أنطاكية، إمارة طرابلس ومملكة بيت المقدس.
وأقام الإفرنج في "ممالكهم" هذه حصونهم ومزارعهم ، ومصانعهم ومتاجرهم ومعابدهم، كأنهم في أوطانهم التي خرجوا منها، تماما كما فعلت إسرائيل في فلسطين سواء بسواء.
ولكن كيف يستقر الأمر للإفرنج، والأمة العربية من حولهم متحفزة متوثبة، تتربص بهم الدوائر، ولم يكن ينقصها إلا الوحدة الأصيلة الشاملة حتى تقتلعهم من جذورهم وتدمر حصونهم، وتهلك حامياتهم، وتقذف بهم إلى البحر من حيث جاؤوا.
وكان المشرق العربي، قد قضى نصف قرن من الزمان، وهو يئن تحت وطأة غزوة الإفرنج، وصيحات الأمة تنادي للجهاد، والعلماء والشعراء يستصرخون الحمية العربية والنخوة الإسلامية.
وما استكانت الأمة للإفرنج، فقد كانت غارات الشعب على مواقع الإفرنج تتكاثر يوما بعد يوم، ولم يبق إلا أن تنبثق الوحدة، وأن ينطلق بطل الوحده والشدائد والأزمات تلدن البطولات كان ذلك دوما هو حكم التاريخ.
وانطلق بطل الوحدة، وقامت دولة الوحدة ... .. كان البطل هو, وظل يجاهد للوحدة، والوحدة جهاد، حتى شمل سلطانه الشام وشمال العراق، ولم يبق أمامه إلا أن يدخل مصر في إطار الوحدة.
وإن وحدة فيها مصر، شاملة للشام والعراق، لا بد قادرة على قهر الإفرنج وتحرير الأرض العربية.
كان ذلك ما عاش نور الدين من أجله، في كلمات قليلات... ويكفي للتدليل على ذلك أن نور الدين نفسه قد حدد أهدافه بكلماته، وهذه إحدى(1/104)
رسائله يقول فيها إلى حكام دمشق "أنا ما أوثر إلا جهاد الإفرنج، فإن ظهرتم معي في معسكر دمشق وتعاضدنا على الجهاد، فذلك غاية المراد ... (1) ومع هذه الوحدة العربية، وكانت ما تزال في بواكيرها، استيقظت مخاوف الإفرنج، واستشعروا أن التجزئة العربية التي مكنت لهم في الأرض العربية، ستأخذ بالزوال، وستزول معها دول الإفرنج الأربع، من بيت المقدس إلى أنطاكية.
وكان على عرش بيت المقدس في تلك الحقبة الملك عموري الأول (1161-1174) ولم يكد يرث المُلكْ عن أخيه حتى رأى أن الملك نور الدين قد استطاع أن يقيم نواة الوحدة الأولى بين دمشق وحلب وحماه وحمص ودمشق وبعلبك، وشمال العراق.
وثارت مطامح الملك عموري مع مخاوفه ... . وكانت مصر هي مقر المطامح و المخاوف , فإن مصر هي مركز الثقل في الوطن العربي، فيها الخيرات الوفيرة، والقدرات البشرية الكثيرة، وكانت مصر هي التي انتزعت من يدها سواحل الشام، فلا بد من السيطرة على مصر، واحتلالها، أو إخضاعها، على الأقل.
ولم يكن عموري"غريبا" عن حال البلاد العربية وشؤونها، فقد كان حاكما على يافا وعسقلان (2) بل لعله كان من مواليد فلسطين، فقد كان عمره حين اعتلى العرش (1162) سبعة وعشرين عاما، بعد غزوة الإفرنج بما يزيد على ستين عاما... وهو بهذا مثله مثل الجيل الثاني من الغزاة الإسرائيليون.
__________
(1) ابن العسقلاني، ذيل تاريخ دمشق، ص309.
(2) Baldwin, P.548.(1/105)
وفوق هذا، فقد كان الملك عموري لا يكاد يفارق وليم الصوري المؤرخ الإفرنجي المعروف، فيقرأ له التاريخ ويبصره بأمور الدول وشؤونها في الحرب والسلم (1) .
ومن هنا كان الملك عموري تؤرقه مخاوفه من دول الوحدة التي قامت ورآها تبنى حجراً بعد حجر، وتكبر يوما بعد يوما ... .
كان ذلك كله يدور في رأس الملك عموري، وهو لا يزال في السابعة والعشرين من عمره، وفي صدره حماس الإفرنج، وعنادهم وإصرارهم، وجميع الحوافز التي حملتهم من أواسط أوروبا إلى أسوار بيت المقدس.
والى جانب ذلك، فقد كان عموري يخشى أن تتعاظم دائرة الوحدة العربية فتمتد إلى مصر، ويقع الإفرنج عند ذلك بين فكي الكماشة، بين مصر والشام "ولا يبقى للإفرنج مقام".
وعبارة " لا يبقى للإفرنج مقام" ليست كلامي، ولكنها كلام عمره ثمانية قرون، سطره مؤرخو العرب، وهم يستعرضون حركة الوحدة العربية وخطرها على الإفرنج، عاجلا أو آجلا.
وفي ظل هذه المخاوف- مخاوف الإفرنج، من الوحدة، تجلى الصراع بين نور الدين ممثلا للوحدة والنضال, وعموري ممثلا للغزو والاحتلال واندفع الإفرنج على مصر في ست حملات متواليات , وكانت الحملة الأولى في شهر أيلول 1163 فقد قام الملك عموري بالهجوم على مصر، واجتاز سيناء والعريش وبرزخ السويس، واقتحم الدلتا، حتى وصل إلى مدينة بلبيس وضرب عليها الحصار.. ولكن فشلت الحملة الأولى وارتد عموري خائباً مهزوما، لسببين، رئيسيين: الأول أن الأهلين في
__________
(1) وليم الصوري، ص296.(1/106)
مصر، وما أعظم الشعب دائما، قد أغرقوا الأراضي بمياه فيضان في النيل، وبذلك حالوا دون تقدم الإفرنج ... والثاني وهو الأهم، أن نور الدين قد فتح على الإفرنج "جبهة ثانية" في ديار الشام، حسب التعبير الحديث فهاجم مواقع الإفرنج في حارم وإماره طرابلس وحصن الأكراد، مما اضطر الملك عموري إلى العودة إلى فلسطين قبل أن تسقط مملكته في بيت المقدس ... ولم يكن قد مضى على تتويجه ملكا على بيت المقدس إلا بضعة أشهر.
وكانت الحملة الثانية في تشرين الأول 1164، فقد قام الملك عموري بالزحف على مصر، عندما استنجده الوزير المصري، ضرغام، وتعهد له أن تكون مصر تابعة للإفرنج، إذا أعانوه على خصمه ومنافسة الوزير شاور.
ولم يكتف نور الدين إزاء هذه الحملة بفتح جبهة ثانية في ديار الشام كما فعل بالحملة الأولى، ولكنه أرسل جيشا بقيادة أسد الدين الأيوبي ومعه ابن أخيه صلاح الدين، وكانت هذه النجدة كما عبر عنها الملك نور الدين "قضاء لحق المستصرخ، وحبسا للبلاد" (1) ، ومعنى ذلك منعها من السقوط في حوزة الإفرنج.
وكانت هذه النجدة من السرعة والعزيمة بحيث وصل الجيش الشامي إلى دلتا نهر النيل قبل وصول الملك عموري على رأس جيش الإفرنج.. واحتل أسد الدين الأيوبي بلبيس والشرقية واظم إليه عرب كنانة ودامت المعارك بضعة أشهر أضطر بعدها الملك عموري إلى الانسحاب، وخاصة بعد أن أرسل نور الدين أعلام الإفرنج التي غنمها من قلاعهم في ديار الشام، ورفعها أسد الدين على أسوار بلبيس، فأدرك الملك عموري أن
__________
(1) أبو شامة، كتاب الروضتين، ج1، ص130.(1/107)
حصون الإفرنج سقطت الواحدة بعد الأخرى في يد نور الدين، وان الإفرنج كما يقول ابن الأثير" ... ..أتاهم الخبر بهزيمة الإفرنج بحارم، ملك نور الدين الحصن، وسيروا إلى بانياس، فحينئذ سقط في أيديهم ولآت حين مناص، فأراد الإفرنج العودة إلى بلادهم ليحفظوها، ولعلهم يدركون بانياس قبل أخذها (1) ...".
وهكذا ارتد الإفرنج عن مصر بعد أن كانت المعركة الفاصلة تحت أسوار القاهرة، ولقي الوزير المصري الخائن، ضرغام، مصرعه عند مشهد السيدة نفيسة في شوارع القاهرة، وعاد عموري إلى مملكته ليجد أن خمسة من أمراء الإفرنج قد وقعوا أسرى بيد نور الدين، وبينهم أمير أنطاكية وطرابلس .
وكانت الحملة الثالثة في كانون الثاني 1167، فقد قام الملك عموري بالهجوم على مصر، بناء على استنجاد آخر، من وزير مصري آخر، هو شاور، فسار الملك عموري في الطريق الذي أصبح يعرفه جيدا، من غزة إلى العريش إلى سيناء والى بلبيس، وهناك لقيهم حليفهم الخائن الوزير شاور، واجتازوا النيل وعسكروا على الضفة الشرقية. وهالهم أن يجدوا أن جيش أسد الدين الأيوبي ومعه صلاح الدين، كان قد سبقهم أيضا، فقد خرج من دمشق واجتاز الصحراء وعبر النيل عند أطفيح، ومنها إلى الجيزة، حيث عسكر في مواجهة الفسطاط على الضفة الغربية للنيل.
وقبل أن يبدأ القتال، شهدت القاهرة أتعس أيامها عارا وذلا، ففي ذلك اليوم وصل سفراء الملك عموري إلى قصر الخليفة الفاطمي، وعقدوا معه اتفاقية يلتزم بموجبها أن يدفع إلى الإفرنج مبلغ أربعمائة ألف دينار، في
__________
(1) ابن الأثير،التاريخ الباهر، ص132.(1/108)
مقابل إخراج أسد الدين الأيوبي وقواته من مصر، وتم إبرام الاتفاق وعاد السفراء إلى الملك عموري، وقد انبهرت أبصارهم بالعجائب والغرائب التي شهدوها في القصر الفاطمي ... من الستائر الذهبية، إلى الوسائد المرصعة باللآلى، إلى الجدران المكسوة بالياقوت والمرجان!!
وبعد الاتفاق بين الصليبيين وخليفة المسلمين، دارت المعركة بين الإفرنج وجيش نور الدين، وراج الإفرنج يعبرون إلى جزيرة الروضة ... وأصبح موقف أسد الدين الأيوبي حرجا فاتجه إلى الصعيد، ولحق به عموري وشاور، وعند الأشمونيين في المينا دارت معركة البابين الشهيرة، وانهزم الإفرنج، مع أن عسكر أسد الدين لم يتجاوزوا ألفي فارس، وانبهر ابن الأثير لهذا النصر فقال "وكان هذا من أعجب ما يؤرخ أن ألفي فارس "جيش أسد الدين" يهزم عسكر مصر (الفاطميين) وإفرنج الساحل" (1) .
وتعاقبت المعارك بين الجانبيين بعد ذلك, وشدّد الإفرنج الحصار على الإسكندرية، وصبر أهلها وهم على ضيق شديد، وصلاح الدين معهم يقاوم الحصار، غير أن قوات الإفرنج ومعهم حلفائهم الفاطميون كانت أكثر عددا وعددا، مما اضطر أسد الدين الأيوبي إلى الانسحاب، والعودة إلى دمشق ... وكانت النتيجة : لا غالب ولا مغلوب!!
وفي ختام هذه الحملة ... .وبالتحديد في خريف عام 1167، وقعت واحدة من المآسي الرهيبة التي عرفها تاريخ الأمة العربية، ذلك أن الملك عموري بقي بضعة أسابيع في القاهرة ليضع قواعد الحماية على مصر، تنفيذا للاتفاقية مع الخليفة الفاطمي، وسجل ابن الأثير تلك المأساة الرهيبة في عبارة دامعة دامية، يقول فيها....."أما الإفرنج فقد استقر بينهم وبين
__________
(1) ابن الأثير،التاريخ الباهر، ص133.(1/109)
المصريين أن يكون لهم بالقاهرة شحنة ( نائب ملك)، وتكون أبوابها بيد فرسانهم، ليمتنع نور الدين من إنفاذ العسكر إليهم،و يكون لهم من دخل مصر كل سنة مائة ألف دينار" (1) .
ولكن أنى للشعب المصري، الشعب الشجاع الأبي، أن يصبرعلى هذا الضيم ... فإذا كان حكامه قد ارتضوا حماية الإفرنج ، فليس للشعب أن يخضع ويخنع ... فقد هاجمت خواطر الناس في مصر وفي العالم الإسلامي وهم يرون في القاهرة، حامية من فرسان الإفرنج، ومندوبا (شحنة) يشارك في الحكم ... حتى أصبحت مصر كما وصفها أبن الأثير : "تمكن الفرنج من البلاد المصرية، وجعلوا لهم في القاهرة شحنة (مندوبا) وتسلموا أبوابها، وجعلوا لهم فيها جماعة من شجعانهم وأعيان فرسانهم، وحكموا على المسلمين حكما جائرا وركبوهم بالأذى العظيم" (2) .
ورأى الفاطميون، بالتجربة والممارسة، لا بالعقل والضمير، أن الشعب المصري لم يعد يطيق بقاء الإفرنج في القاهرة، فلم يجدوا مناصا من الاستنجاد بالملك نور الدين، لإنقاذهم من الحماية والاحتلال، وبلغ من سوء الحال أن الخليفة الفاطمي حين بعث إلى نور الدين يستنجده أرسل في كتبه شعور النساء، وقال " هذه شعور نسائي من قصري يستغثن بك لتنقذهن من الفرنج" (3) . وكذلك يفعل الخونة، يحتمون في الشدة بالنساء ويستغيثون، بدموعهن وشعورهن!!
__________
(1) ابن الأثير، الكامل،حوادث سنة 562هـ، و"الشحنة" هو نائب السلطان في البلد.
(2) ابن الأثير، الكامل، ج11، ص320
(3) أبو شامة، كتاب الروضتين، ص154.(1/110)
وتهيأ مسرح التاريخ على أرض مصر بالحملة الرابعة ... ففي أواخر تشرين الأول 1168 خرج الملك عموري من عسقلان لغزو مصر فوصل إلى بلبيس ومنعه الشعب من دخولها وأن يعسكر فيها، كما كان يفعل في المرات السابقة، وقالوا له "لا تدخلها إلا على أسنة الرماح ... أتحسب أن بلبيس جِبنة تأكلها ولكن عموري ركبة الغرور فرد قائلاً "نعم , هي جبنة والقاهرة زبدة" (1) . ولم يدرِ أنه هو وجيشه سيكون الجبنة والزبدة تأكلها مصر هنيئا مريئا.
وبادر نور الدين إلى النجدة، وزحف أسد الدين ومعه صلاح الدين إلى مصر، ودارت معارك طاحنة بين الفريقين، تجلت فيها بطولة الشعب المصري، "فاحترقت مدينة بلبيس وقتل من أهلها خلق عظيم وخرب أكثرها وأحرق جل دورها" وقاوم أهل القاهرة مقاومة ضارية ... واحترقت الفسطاط، ولجأ أهلها إلى مدينة القاهرة ... .ووضع المصريون العقبات الكثيرة في مجرى النيل ليحولوا دون تقدم أسطول الإفرنج.. وقد رضي المصريون بكل هذه التضحيات الجسام، " وأن تدمر بيوتهم وتحرق مدنهم حتى لا تقع بيد الإفرنج" (2) .
ولم يكن النضال قاصرا على الرجال فحسب، فقد قامت النساء بدورهن خير قيام، فإن كثيرا من نساء القاهرة جززن شعورهن لتباع في الأسواق ليساهمن بثمنها في مجهود الحرب (3) . والشعب دائما، صاحب المروءات والاريجيات، الرجال والنساء، سواء بسواء ... .
__________
(1) المصدر نفسه ص170.
(2) أبو شامة ، كتاب الروضتين، ص154.
(3) ذيل النوادر، ص257.(1/111)
واضطر الملك عموري في النهاية أمام قوات أسد الدين، ومقاومة الشعب المصري، إلى أن يعود مرة أخرى، مقهوراً مدحوراً إلى مملكته في بيت المقدس.
وابتهجت مصر لهذا النصر العظيم، واستقبل أسد الدين الأيوبي استقبال الفاتحين، وعسكرت قواته عند أبواب القاهرة على أرض اللوق، وازدادت حماسة الشعب، إلا الوزير شاور فإنه لم يرق له أن يتم هذا النصر على غير يديه، فدفعته نفسه الحاقدة إلى مراسلة الإفرنج مرة أخرى، وطلب نجدتهم، مشيرا عليهم بأن :"يكون مجيئكم في دمياط في البحر والبر" (1) .
وعلم أهل مصر بالخبر، فاجتمع الأعيان عند أسد الدين الأيوبي وقالوا له "شاور فساد العباد والبلاد، وقد كاتب الإفرنج وهو يكون سبب هلاك الإسلام، وطالبوا بقتل شاور الخائن وتحدث أسد الدين إلى أصحابه حديث المجاهدين شارحاً مكانة مصر , وقدرها في الوطن العربي الإسلامي كأنه يتحدث اليوم إلى المواطنين المعاصرين فقال :" قد علمتم رغبتي في هذه البلاد ومحبتي لها وحرصي عليها، ولا سيما وقد تحقق عند الإفرنج منها ما عندي، وعلمت أنهم كشفوا عورتها، وعلموا مسالك رقعتها، وتيقنت أني متى خرجت منها عادوا إليها، واعتدوا عليها، وهي معظم دار الإسلام، وحلوبة بيت ما لهم، وقد قوي عندي أن أثب عليها قبل وثوبهم، وأملكها قبل مملكتهم، وأتخلص من شاور الذي يلعب فينا وبهم ... وقد ضيع أموال هذه البلاد في غير وجهها وقوي بها الفرنج علينا ... "
__________
(1) أبو المحاسن، النجوم الزاهرة، ج5، ص351.(1/112)
ولم يكن أسد الدين مسرفا في هذا الاتهام، وهذا مؤرخ مصر الشهير، أبو المحاسن، يقول عن شاور أنه "أعطى الإفرنج الأموال وأقطعهم الإقطاعات وأنزلهم دور القاهرة، وبنى لهم أسواقا تخصهم" (1) .
ولقي شاور مصرعه، واستبيحت أمواله وقصوره، ليكون عبرة باقية للذين يهادنون الأعداء، ولا يرعون واجب الوطن وحق الشعب.
ولكن نصيحة شاور التي بعث بها إلى الإفرنج "بأن يكون مجيئكم في دمياط في البحر والبر" قد تحققت بعد وفاته ... وبهذا جاءت الحملة الخامسة، وعن طريق دمياط برا وبحرا، كما نصح شاور في حياته.
والواقع أن الإفرنج لم يكونوا بحاجة إلى من ينصحهم بالقيام بحملة جديدة على مصر، فإن الوحدة بين مصر والشام وانتصارها الأخيرعلى الإفرنج في معركة القاهرة، قد جعلهم يخشون على وجودهم في "مملكة بيت المقدس"، وأصبح لا مناص من أن يجمعوا جموعهم وأن يقوموا بالحملة الخامسة على مصر.
ولم يكن خوف الإفرنج على بيت المقدس، وهماً أو خيالاً، بل كان حقيقة راسخة، فهذا ابن الأثير يصف خوف الإفرنج بقوله "كان الفرنج لما ملك أسد الدين مصر ,قد خافوا و أيقنوابالهلاك وانهم خائفون على بيت المقدس وطالبوا الفرنج الذين بالأندلس وصقلية وغيرهما يستمدونهم "، (أي يطلبون منهم المدد..وهذا ما تم فعلا ... فقد كان الإفرنج "خائفين على بيت المقدس" واستقر في عزمهم أن الدفاع عن بيت المقدس يقتضي الهجوم على مصر. أوليست إسرائيل، اليوم خائفة على بيت المقدس، ومن أجل ذلك فإنها تتصدى لمصر حينا بعد حين!!
__________
(1) أبو المحاسن، النجوم الزاهرة، ج5، ص348.(1/113)
وبدأت الحملة الخامسة في شهر تموز 1169، فقد غادر الأسطول البيزنطي مياه الدردينل قاصدا قبرص، وكانت أحد مراكز التعبئة العسكرية عند الإفرنج، وانضمت إلى الأسطول قوات إضافية، لتسير كلها إلى عكا، وكانت من أكبر ثغور الإفرنج على ساحل البحر الأبيض لمتوسط ... وتم هناك وضع الخطة الهجومية على مصر، ولضرب الوحدة العربية، ودفع الخطر نهائيا والى الأبد، عن بيت المقدس.
وعقد المجلس الحربي في عكا، برئاسة الملك عموري، ونوقشت الخطة بكل تفاصيلها، وسلفا، وزعت الأسلاب واقتسمت الغنائم، وتخصص للفرسان "الإستبارية" نصيب كبير من موارد مصر، مع أهم المدن المصرية بالذات مثل، الفيوم وأسوان وأطفيح وقوص والإسكندرية ودمياط والمحلة وتانيس، وغيرها وغيرها ... .تماما مثل حكاية العدوان الثلاثي على مصر الذي تم الاتفاق بشأنه في باريس في صيف 1956 بين بريطانيا وفرنسا وإسرائيل، وتقاسموا الغنائم والأسلاب، قبل أن ينطلقوا إلى الميدان!!
وأقلع الأسطول من عكا متجها إلى دمياط، وفي نفس الوقت، زحف الإفرنج برا في الطريق إياه، من عسقلان إلى الفرما، ومنها إلى دمياط حيث نصبوا معسكرهم، "ومعهم المنجنيقات والدبابات وآلات الحصار" (1) ...
وأطبق العدوان الثنائي على دمياط من البحر والبر، وكان أسطول الإفرنج مؤلفا من ألف مركب تحمل على ظهرها مائتي ألف فارس وراجل، مزودين بكل آلات الحرب والدمار والحصار، مما حمل مؤرخي الإفرنج على أن يسموا هذا الأسطول "بالأرمادا" المعروفة بالتاريخ.
__________
(1) ابن واصل، مفرج الكروب، ج1، ص180.(1/114)
ونهض صلاح الدين الأيوبي ... وكان في ذلك الوقت وزيرا لنور الدين، بواجب الدفاع عن دمياط خير قيام، ذلك أنها معركة فاصلة، فإن سقطت دمياط بيد الإفرنج سقطت معها القاهرة ومصر كلها، واستتب الأمر للإفرنج لأجيال وأجيال ... وإن انهزم الإفرنج وبقيت دمياط عربية، فالمعركة الأولى المقبلة بين العرب والإفرنج ستكون على أسوار بيت المقدس.
ومن هنا فقد كانت خطة نور الدين وهو في دمشق، وصلاح الدين وهو في القاهرة، أن يلحقا الهزيمة بالإفرنج مهما كانت التضحيات، وهما يعلمان يقينا أن معركة دمياط ستكون المعركة أمام دولة الوحدة المصرية الشامية، وهي لا تزال على أول الطريق.
وشرع صلاح الدين في الإعداد للدفاع المستميت، فقام بتحصين دمياط وشحنها بالرجال والسلاح، وملأها بالذخيرة والميرة، وأرسل قسما من جيشه مع ابن أخيه تقي الدين عمر، وقسما آخر مع خالد شهاب الدين ... وقام نور الدين من جانبه باستنفار الجيش والشعب في ديار الشام، وأمدهم بالسلاح والمال والمؤن، وراح يرسل القوات الشامية إلى , أرض المعركة في دمياط ,لتؤدي دورها في القتال جنبا إلى جنب مع القوات المصرية.
ولم يكتف نور الدين بذلك، بل إنه فتح جبهة ثانية على الإفرنج في ديار الشام، فقام بهجمات متلاحقة على مواقع الإفرنج وحصونهم وقلاعهم، فأنزل فيها الدمار، وكبد الإفرنج خسائر فادحة.
وكان نور الدين يخوض هذه المعارك في ديار الشام، دفاعا عن الأمة العربية، ووفاء لعهد أخذه على نفسه بأن لا "يظله سقف حتى يثأر من(1/115)
الإفرنج" ملتزما الجد الصادق في نضاله، بعيدا عن الراحة والسكينة ... .وحتى عن البسمة الهادئة ... فقد قال لأصحابة وهم يسألونه عن سبب عبوسه ... "أني لأستحي من الله أن يراني مبتسما في حين أن المسلمين يحاصرهم الفرنجة في دمياط" (1) . وأين ذلك من قهقهات الملوك والرؤساء في هذا الزمان، وأرضنا محتلة من شرم الشيخ إلى جبل الشيخ!!
وبدأت معركة دمياط ضارية استبسل فيها الجيش والشعب معا.. فلم يستطيع أسطول الإفرنج دخول الميناء في وجه "المآصر"، وهي السلاسل الحديدية التي أعدها صلاح الدين عند مدخل الميناء. وقام أهل دمياط بإعمال فدائية باهرة، فعبئوا أواني فخارية بمواد مشتعلة، وانتهزوا فرصة جريان النيل من الجنوب إلى الشمال، فأرسلوها مع التيار، فأنزلت بأسطول الإفرنج حرائق كثيرة وخسائر فادحة.
وقام الإفرنج بدورهم بهجمات متلاحقة على دمياط، وضيقوا عليها الحصار، وقذفوها بالنار ليلا ونهارا، وامتد الحصار ما يزيد على خمسين يوما، "فشحت المؤن والأقوات، وارتفعت الأسعار"، ولكن أهل دمياط صبروا وصابروا ... شأن المجاهدين.
وجاء اليوم التاسع عشر من كانون الأول 1169، فكان من أيام العرب الخالدة ... لقد انحسمت المعركة بالنصر المبين لقوات صلاح الدين، فجلا الإفرنج عن دمياط، بعد أن غرقت المئات من مراكبهم وهلك الكثير من أمرائهم وجندهم، ودمرت منجانيقاتهم وأسلحتهم ... وظلت الأمواج تتقاذف جثث بحارة الإفرنج لعدة أيام وأيام (2) .
__________
(1) قلعجي، كتاب صلاح الدين الأيوبي، ص308.
(2) وليم الصور، ص971.(1/116)
وسخر التاريخ من هزيمة الإفرنج، وقد شبههم ابن الأثير بالنعامة "خرجت تطلب قرنين فرجعت بلا أذنين".... (1) وكذلك خرج الإفرنج، يطلبون القاهرة ودمياط، فعادوا من غير أسطول ولا خيول!
وانتهت المعركة بالنصر المبين على يد نور الدين وصلاح الدين..وبهذا انتهت حرب الأعوام الستة على مصر، وانتهت حياة الخيانة ممثلة في مصرع الوزيرين الخائنين ضرغام، وشاور، ولم يبق أمام نور الدين إلا أن يصفي الخلافة الفاطمية في القاهرة، ليصبح للدولة العربية الواحدة في العراق والشام ومصر، خليفة واحدة لا خليفتان!!
وأصدر نور الدين أمره إلى وزيره صلاح الدين في القاهرة بأن يخلع الخليفة الفاطمي المعتضد بالله، فأمر صلاح الدين بقطع الخطبة في صلاة الجمعة عن الخليفة الفاطمية، بعد حكم دام قرنين طويلين، قامت خلالهما حضارة رائعة، وهزائم مروعة، وما تغني الأولى عن الثانية!!
وبانتهاء الخلافة الفاطمية استبشر الناس بقيام الوحدة العربية، وازدانت العواصم الثلاث، القاهرة ودمشق وبغداد بمعالم البهجة، وانطلق الشعر العربي يخلد تلك الأحداث الرائعة، وكان مما قاله العماد الأصفهاني، الناثر الشاعر المؤرخ، مخاطبا نور الدين، ومشيدا بالوحدة:
يا سالبا التيجان من أربابها
حزت الفخار على ذوي التيجان
ثم يقول في قصيدة أخرى:
__________
(1) ابن الأثير ، التاريخ الباهر، ص 144(1/117)
فملك مصر والشام قد نظما
في عقد عز من الإسلام منتظم
أما هتاف الجماهير الذي كان جاريا على كل لسان، فقد كان كما أثبته مؤرخ الشام المعاصر:" نور الدين يا منصور" (1) ولم يكن هذه الهتاف مفتعلاً أو مستأجرا، كما يفعل الملوك والرؤساء في هذا الزمان!!
يقرأ المواطن العربي تلك الأحداث التاريخية السالفة ... . وكيف غزا الإفرنج مصر المرة بعد المرة، وكيف اخترقوا سيناء، وأحرقوا بلبيس، وحاصروا الإسكندرية واحتلوا القاهرة ... ثم كيف انتصر العرب أخيرا على الإفرنج في دمياط.
وتبرز أمامنا في الذاكرة، صورة تنتصب إلى عنان السماء، عن العدوان الإسرائيلي الذي جرى على سيناء، ومدن القنال، وقرى الصعيد، ابتداء من عام 1956 إلى يومنا هذا، وتتجسد الأشياء والأضداد بين ما كان في الزمن الغابر، وما هو كائن في الزمن الحاضر ... ونخلص في النهاية إلى دروس مليئة بالعظات والعبر، حاسمة حاتمة كالقضاء والقدر.
وأول هذه العظات: وحدة الوطن، أن الوطن العربي وحدة متكاملة، وأن العدوان على بعض أجزائه لا بد أن يستتبع العدوان على أجزاء أخرى ... .وهذا ما جرى عليه الإفرنج في الماضي، وكما تجري عليه إسرائيل في الحاضر.
وثاني هذا العظات: وحدة الأمة. وذلك إن الهزيمة تنزل بالأمة العربية في عهد تفككها وفرقتها، كما كان في عهد الخلافة الفاطمية، وإن النصر لا يمكن أن يتم إلا في عهد تضامنها ووحدتها، كما كان في أيام نور الدين.
__________
(1) محمد كرد علي، خطط الشام، ج2، ص31.(1/118)
وثالث هذه العظات، وحدة المصير ... ذلك أن ما يصيب العضو الواحد في الأسرة العربية لا بد أن يصيب الأسرة بكاملها..وهذه معركة دمياط كانت معركة الأمة العربية كلها ... وكان النصر فيها نصرا للأمة العربية بأسرها ...
وهذه العظات كلها ليست نصائح أدبية مجردة، نجدها مسرودة في كتب الأخلاق والسياسة، ولكنها حقائق خالدة، ماثلة أمامنا، في ساحات الحرب وويلات الحصار، وحرائق المدن، وأكوام الجثث والضحايا، وهلاك الزرع والضرع ... وكلها حلقات آخذ بعضها برقاب بعض ... وما علينا إلا أن نسير مع التاريخ بعض خطوات، نرى الحقائق ناصعة ساطعة.
لقد سقطت أولا أنطاكية، وهي باب الوطن العربي، تخاذل عنها الملوك والرؤساء، فسقطت من بعدها ديار الشام، ثغرا بعد ثغر، وقلعة بعد قلعة.
ثم سقطت بيت المقدس، وتقاعس الخلفاء والأمراء، وتهاوت المناطق الأخرى في فلسطين من الناقورة شمالا حتى رفح جنوبا.
ثم زحف الإفرنج على مصر، من سيناء حتى الصعيد، في خمس حملات تهدد أمن مصر وسلامتها، بل تهدد وجودها.
وهنا أخذ الفلك يدور دورته، وأخذت الصورة تتبدل، وبدأت الهزيمة تنحسر شيئا فشيئا، أمام النصر يتقدم رويدا رويدا ... وجاءت المعركة الفاصلة في دمياط لتوقع بالإفرنج هزيمة ساحقة ماحقة.(1/119)
ويتساءَل المواطن العربي كيف استطاع العرب أن ينتصروا في دمياط، وقد انهزموا في أنطاكية وطرابلس وبيروت وصيدا والرملة وبيت المقدس. ما هي الأسباب؟
الجواب، أن السبب واحد، وليس مجموعة أسباب ... الوحدة هي السبب الواحد الأحد....
في معركة دمياط كان هنالك ملك واحد، هو نور الدين، مقره في دمشق ... وكان له و زير دفاع واحد، هو صلاح الدين، ومقره القاهرة.
لم يكن في معركة دمياط عشرون ملكا أو رئيسا، وعشرون وزير دفاع، ولو كان لسقطت دمياط، وسقطت مصر كلها، وتغير وجه الوطن العربي أجمع.
وكذلك، فلقد كانت معركة دمياط هي المعركة الوحيدة التي تضافرت فيها قوى العراق والشام ومصر لأول مرة ... . وفي جميع المعارك السابقة وعلى مدى سبعين سنة سلفت (1098 – 1169) كان الإفرنج يخوضون معاركهم مع الملوك فرادى، ومع الخلفاء آحادا.
وثمة ظاهرة بارزة، هي شمول المعركة، فلم يكن القتال دائرا حول أسوار دمياط وحدها، بل كان نور الدين يتصدى للإفرنج في ديار الشام، في كل مدينة وأمام كل حصن وقلعة.
والمواطن العربي يذكر معاركنا مع إسرائيل. كيف قاتلنا في حرب 1948 متخاذلين، وكيف حاربنا في 1956 متراخين، وكيف واجهنا حرب الأيام الستة في 1967 متشائمين متباطئين ... وكانت إسرائيل تنفرد بنا واحدا بعد واحد، إلى آخر الآخر.(1/120)
وكما كانت معركة دمياط بداية النصر بعد الهزائم، فإن المواطن العربي يحقق النصر إلا بمعركة أخرى ... معركة دمياط جديدة ... .في مثل الظروف نفسها، وتحت راية الوحدة ذاتها.
دولة الوحدة الواحدة، لا عشرون ... .جيش واحد لا عشرون ... .
إن معركتنا مع إسرائيل اليوم، هي معركتنا مع الإفرنج بالأمس ... والفارق هو الزمن ... ..
وما أشبه الليلة بالبارحة.(1/121)
تحرير العقبة والبحر الأحمر
وماذا بعد دمياط....
كان هذا هو السؤال الذي بدأ يملأ صدر صلاح الدين الأيوبي، وهو عائد من دمياط إلى القاهرة بعد تلك المعركة الفاصلة التي ألحقت بالإفرنج أول هزيمة كبرى أصابتهم منذ أن وطئوا الوطن العربي قبل ستين عاما.
بل إن هذا السؤال كان له "صهيل" في صدر صلاح الدين، لا يقل عن صهيل جواده الذي كان يحمله في كل غزواته، ويحمل معه كل آماله وعزماته.
تحرير بيت المقدس كان هو الهدف بعد معركة دمياط بين دمياط وبيت المقدس رباط المصير الواحد، في الحرب والسلم، مع أن المواصلات في ذلك العهد كانت على ظهور الدواب و سفن الشراع ... فلم تكن زحوف الإفرنج على دمياط إلا حفاظا على بيت المقدس في أيديهم، فقد كانت مصر، وهي الآن أكثر، العمق الإستراتيجي في تعبير اليوم، للمشرق العربي بأسره، كما أن المشرق العربي هو العمق الاستراتيجي لمصر وذلك واحد من معاني الوحدة العربية معنى واحد فقط، لو كان الملوك والرؤساء يعقلون، أو يخلصون!(1/123)
ودخل صلاح الدين الأيوبي إلى القاهرة دخول الفاتحين، في استقبال شعبي رائع، وتجاوبت نداءات التهليل والتكبير من على المآذن، مع زغاريد النساء وصيحات الرجال والأطفال في الشوارع، فكانت حفاوة بالغة صادقة، هو جدير بها، وهي جدير به ... .. وحاشا الله أن يكون لها شبيه في احتفالات هذه الأيام التي يقيمها ملوكنا ورؤساؤنا لأنفسهم "احتفاء" بهزائمهم المتعاقبة، الواحدة بعد الأخرى!!
وصلاح الدين كان يعيش مع هذه الاحتفالات بجسده وخياله، فقد كانت روحه محلقة في سماء بيت المقدس، وكانت جوارحه في رحاب المسجد الأقصى تتطلع إلى يوم التحرير.
وعلى الطرف الآخر من مصر، عبر سيناء، كان الإفرنج يساورهم الخوف على مصير بيت المقدس بعد معركة دمياط.
وكان الإفرنج على حق في مخاوفهم ... فقد كان تقدير الموقف العسكري، في تعبير هذه الأيام، يزيدهم خوفا، فقد أصبح صلاح الدين الأيوبي، هذا الكردي المسلم، القادم من قلعة تكريت في العراق، سيد مصر والشام واصبح الإفرنج بين فكي الكماشة , كما هي إسرائيل اليوم، ولكن مع أقزام صلاح الدين، هذا إذا أفلحوا أن يكونوا أقزامه أو خدامه!!
ولا يحسبن المواطن العربي أني أتكلم اليوم عن مخاوف الإفرنج استنتاجا أو خيالا، وقد مضى على تلك الأحداث ثمانية قرون، فذلك هو التاريخ الذي لا يكذب ولا يخون.
ولو كان عند المواطن العربي بعض الصبر ليقلب صفحات التاريخ العربي والإفرنجي عن تلك الحقبة لوضحت أمامه الحقائق جلية ناصعة.(1/124)
فهذا ابن الأثير يقول عن إفرنج فلسطين "كان إفرنج الساحل لما ملك صلاح الدين مصر قد خافوا وأيقنوا بالهلاك ... وأنهم خائفون على بيت المقدس " وواضح من هذا الكلام من الإفرنج كانوا يرتعدون خوفا من الوحدة بين مصر والشام.
وهذا ابن واصل، يقول في عبارة مماثلة حاسمة "ولما ملك صلاح الدين الديار المصرية ... أيقن الإفرنج الهلاك" ... هلاك الإفرنج المحتوم، من الوحدة بين مصر والشام.
وكما تفعل إسرائيل عند كل الأزمات حين تستنصر بالقوى الصهيونية والاستعمارية العالمية، فإن الإفرنج في بلاد الشام راحوا يستصرخون ملوك ألمانيا وفرنسا وصقلية والأندلس ... وهذه أيضا حقائق تاريخية ...
يقول أبن الأثير أن إفرنج الشام" كاتبوا الفرنج الذين بالأندلس وصقلية وغيرهما يستمدونهم ويعرفونهم ما تجدد من ملك مصر (صلاح الدين) وأنهم خائفون على البيت المقدس" (1) .
ويقول ابن واصل في نفس الموضوع "أنهم كاتبوا فرنج صقلية واستمدوهم واستنصروهم".
وقد عَّبر عن هذه المخاوف نفسها، وليم الصوري، الذي كان مؤرخ حملات الإفرنج، والمقاتل في صفوفها، وتولى رئاسة أسقفية مدينة صور بعد ذلك في سنة 1175 (2) ....
ولم يكد صلاح الدين يستجم من معركة دمياط ويستحم من غبارها، حتى أخذ يستعد لمنازلة الإفرنج في فلسطين. ولم يكن التصدي للإفرنج
__________
(1) ابن الأثير، التاريخ الباهر، ص143.
(2) وليم الصوري، ص959.(1/125)
سهلا، فقد استقرت أحوالهم في البلاد، وبنوا القلاع والحصون، وقامت علاقات تجارية بينهم وبين مواطنيهم الأول في أوروبا، فضلا عن الأساطيل البحرية تمدهم باالحجاج والمقاتلين في كل عام، ناهيك أن الجيل الثاني والثالث من أبناء الغزاة الأوائل قد نشأوا في البلاد. وصاروا أكثر معرفة بمواقعها، وأكثر قدرة للدفاع عنها ... وفي جميع هذه الظواهر تتشابه إسرائيل والفرنج.
فالمستعمرات اليهودية قائمة، والهجرة اليهودية مستمرة، والجيل اليهودي "صابرا" يتوالد بطنا بعد بطن، وكذلك كان حال الإفرنج في عهد صلاح الدين الأيوبي.
من أجل ذلك كله، رأى صلاح الدين أن يقوم بما نسميه اليوم بحرب الاستنزاف على الفرنج، وأن يضربهم في حصونهم في أطراف البلاد إلى أن يحين الوقت للمعركة الفاصلة.
وهكذا كان، فقد خرج صلاح الدين من القاهرة، على رأس جيشه إلى شواطئ فلسطين، في أوائل كانون الأول عام 1170، واجتاز سيناء، وكانت إلى ذلك الوقت هي معبر الإفرنج إلى مصر، وأصبحت الآن معبر مصر إلى الإفرنج ... وبذلك انتقلت المبادرة إلى أيدي العرب، بعد أن كانت في أيدي الإفرنج.
وبدأ صلاح الدين بحصار الداروم –دير البلح – وكان الإفرنج قد بنوا فيها قلعة حصينة، ثم اتجه إلى مهاجمة غزة في الشمال، واستمرت المعارك زمنا استطاع صلاح الدين خلاله أن يسبر غور قوة العدو، وينزل فيه(1/126)
خسائر فادحه ... حتى أن ملك الإفرنج نفسه كاد أن يقع في الأسر. وأنسحب صلاح الدين وعاد إلى القاهرة ليتهيأ لمعركة أخرى (1) .
وكانت المعركة هذه المرة في العقبة ... ,وكان الإفرنج قد احتلوا ميناء إيلة (العقبة) وأقاموا حولها الحصون والقلاع في عام 1116، وها قد انقضى على احتلالها ما يزيد على نصف قرن. ولم ير صلاح الدين مندوحة من تحرير العقبة وتطهير البحر الأحمر من الإفرنج، فإن تأمين المواصلات بين مصر والحجاز من جهة، ومصر والشام من جهة أخرى، هو الخطوة الأولى لتحرير البلاد من الإفرنج.
وقام صلاح الدين بجهد رائع فريد- لعله الأول في تاريخ الحروب ... فقد بنى عددا كبيرا من السفن في مصر، وحملها أجزاء على ظهور الجمال، وخرجت سفينة الصحراء تحمل سفينة البحار لتقطع سيناء، ثم تصل إلى شواطئ البحر ... . وهناك تركب الألواح والأجزاء، وتصبح سفنا جاهزة للقتال.
ويقود صلاح الدين المعركة برا وبحرا للاستيلاء على أيلة، واستمات الإفرنج في الدفاع عن حصونهم وقلاعهم، ولكن قوات صلاح الدين كانت أشد عزما وبأسا، فسقطت في أيديهم، وانهزم الفرنج هزيمة منكرة تاركين وراءهم غرقاهم وقتلاهم، وسلاحهم وأقواتهم ... واقتيد من بقي على الحياة منهم أسرى إلى القاهرة ، يعرضون في شوارعها، والجماهير يسيرون من حولهم بالطبول والصنوج ...
ولكن انتصارات صلاح الدين على الفرنج في البحر الأحمر قد واجهته معوقات ومشكلات في الوطن العربي، فقد قامت في اليمن فتنة"انفصالية"
__________
(1) ابن الأثير،الكامل، حوادث سنة 566هـ.(1/127)
تدعو إلى الدولة الفاطمية البائدة التي تمت تصفيتها قبل عامين لتحل محلها خلافة واحدة في العالم الإسلامي في بغداد. وهي الخلافة العباسية.
وبدلا من أن يتابع صلاح الدين انتصاراته على الإفرنج في فلسطين، لم يكن أمامه إلا أن يقوم بحملة "وحدوية" ليخضع اليمن ويستأصل الفتنة ... فدفع صلاح الدين بقواته بقيادة أخيه توران، واجتازت الصحراء والبحر الأحمر "ودخلت اليمن، وحاصرت زعيم الفتنة –عبد النبي بن مهدي- في قصره في زبيد، ثم فتح صنعاء وسائر الحصون والمدن في اليمن، وبلغت ثمانين حصنا ومدينة، واستولى على أموالها وذخائرها" (1) .
وهكذا، دخلت اليمن في إطار الوحدة الكاملة مع مصر تحت قيادة صلاح الدين ... وأين منها تلك الوحدة الزائفة التي دخل فيها الإمام أحمد ملك اليمن في عام 1962، وما لبثت أن تداعت وتهاوت!!
ولم يكد صلاح الدين أن يعيد الوحدة مع اليمن، حتى قامت حركة "انفصالية" أخرى في بلاد النوبة، وكان أن تمرد بقايا الفاطميين فيها، فقاموا بالاستيلاء على السلطة في أسوان، "وكاتبوا الإفرنج لمعاونتهم، ثم زحفوا شمالا على مصر حتى وصلوا إلى قوص" (2) .
وكما جرى مع اليمن، فقد أرسل صلاح الدين قوة عسكرية بقيادة أخيه-العادل- ودارت معركة قصيرة ين الفريقين انتهت بانتصار الوحدة على الانفصال، وحلت الهزيمة بالمتمردين ، وقتل قادتهم، واستأصلت الفتنة في مهدها.
__________
(1) النجوم الزاهرة، ج2، ص69.
(2) النجوم الزاهرة، ج2، ص70.(1/128)
وبانتهاء هذه القلاقل أصبحت الوحدة قائمة بين مصر وبرقة والسودان واليمن، وديار الشام والعراق ... ولم يكن الحجاز خارجا عن هذه الوحدة، فقد أنبأنا الرحالة الأندلسي ابن جبير وهو يسرد أخبار حجه في مكة المكرمة، أنه حين يذكر اسم صلاح الدين في خطبة الجمعة" تخفق الألسنة بالتأمين عليه من كل مكان" (1) .
ولكن هذه الصورة المشرقة، للوحدة العربية، وهي التي كان يرى فيها صلاح الدين طريقه إلى تحرير بيت المقدس انتكست أمام قضاء وقدر، لا سبيل إلى رده ... وذلك أن البطل المجاهد نور الدين قد توفي في دمشق- أيار 1174-حين اكتملت هذه الانتصارات الوحدوية.
وفجع العالم الإسلامي لهذا النبأ الصادع، وهو الذي كان ينتظر معركة التحرير على يدي البطل نور الدين، وعلى يدي وزيره ونائبه في القاهرة صلاح الدين .
وحقا، كان نور الدين يحمل أمل الجماهير في كل مكان، وقد نعاه أحد المؤرخين إلى التاريخ العربي في عبارة تفيض بالحب والإجلال، فقال "فقد فتح في أيام سلطنته نيفا وخمسين حصنا ... ومصر أيضا من جملة فتوحاته، وأيضا ما فتحه صلاح الدين والحصون هو شريكه في الأجر والثواب، ولولاه أيش كان صلاح الدين" (2) .وليت هذا المؤرخ الوفي
قال :"وأيش كان نور الدين لولا جاء من بعده صلاح الدين .
__________
(1) رحلة ابن جبير، ص72.
(2) النجوم الزاهرة، ص71.(1/129)
والفاجعة في نور الدين أضافت أعباء جديدة على صلاح الدين. ذلك أن النعرات الإقليمية والعائلية قد استيقظت في ديار الشام حين كانت دمشق تودع نور الدين الوداع الأخير، وتواري جثمانه الطاهر بترابها الزكي.
وتواترت الأنباء على القاهرة أن ورثة نور الدين وولاته، قد استقل كل منهم في إقليمه، وعاد الانفصال من جديد ... . إمارة في كل مكان ... . وأمراء متحاسدون ، وراء القلاع والحصون !!
ووقع على صلاح الدين العبء الأكبر أن يناضل في جبهتين ... أن يكافح الانفصال، وأن يقاتل الإفرنج.
وعزم صلاح الدين على أن "يزحف" على ديار الشام ليخوض غمرات هاتين المعركتين الضارتين ... وكان مشهدا رهيبا مهيبا ذلك اليوم خرج فيه أعيان البلاد من القاهرة ليودعوه، ويودعه الشعراء بقصائدهم ... وكان مما أنشده بيت من الشعر العربي القديم ...
تمتع من شمم عرار نجد
فما بعد العشية من عرار
وكان هذا البيت وداعا حقا، فلم يعد صلاح الدين إلى القاهرة، فإنه، كما يقول المؤرخ العربي "اشتغل بفتح الساحل وقتال الإفرنج" (1) .
ولكن كان على صلاح الدين بادئ ذي بدء أن "يفتح" قلاع التجزئة والانفصال، قبل أن يفتح حصون الإفرنج.
والواقع الذي لا ريب فيه أن صلاح الدين لم يكن ليتصدى لأمراء الشام طمعا في توسيع سلطانه، كما كانت عادة الملوك في القرون الوسطى، ولكن الوحدة عنده كانت طريقا لتحرير البلاد من الإفرنج ... .وصلاح الدين
__________
(1) ابن داحل، مفرج الكروب، ج2، ص18.(1/130)
قد أفصح عن هدفه بنفسه، فقال عن أمراء الشام "لو استمرت ولاية هؤلاء القوم تفرقت الكلمة وطمع الكفار في البلاد ... إنّا لا نؤثر للإسلام وأهله إلا ما جمع شملهم وألف كلمتهم".
ولعمري، إن كلام صلاح الدين" لو استمرت ولاية هؤلاء القوم" ... هو الموجه إلى العشرين ملكا ورئيسا، كأنما يخاطبهم مجتمعين ومنفردين ... في ساعتنا هذه ومن يومنا هذا!!
ووصل صلاح الدين إلى دمشق، واستقبلته الجماهير استقبالا حافلا رائعا، فإن أهدافه هي أهدافها، وما بيت المقدس الرازح تحت أقدام الإفرنج ومعه سائر مدن الساحل،إلا قطعة غالية من ديار الشام، وعليها تقع التبعة الأولى في تحريرها. وعمرت دمشق بالمباهج والأفراح لمقدم صلاح الدين، وقام هو بدوره "وأمر بإطابة النفوس وإزالة المكوس وإبطال القبائح والمنكرات والضرائب ... ؟ " وفتحت له أبواب القلعة واستلم مفاتيحها. وكان ذلك إيذانا بعودة دمشق إلى حظيرة الوحدة العربية مع مصر.
وبعد أن فرغ من وضع الأمور في نصابها، خرج صلاح الدين من
دمشق لاستكمال مهمة الوحدة. وما هي إلا بضعة أيام حتى استسلمت له مدينتا حمص وحماه. ولم يبق إلا حلب الشهباء، فضرب حولها حصاراً ليرغمها على الاستسلام من غير قتال.
ولكن أمير حلب أبى واستكبر. فأرسل إلى الإفرنج يطلب معاونتهم على صلاح الدين. ولقي هذا الطلب هوى في نفوس الإفرنج، فإن بقاء حلب "مستقلة" هو صمام الأمان في وجه أية وحدة عربية من النيل إلى الفرات.
ولجأ بادئ الأمر إلى الحيلة والمكيدة، فأرسلوا إلى صلاح الدين يفاوضون حول قضية حلب، كما يتفاوض الاستعمار في يومنا هذا مع(1/131)
الحاكم العربي أو ذاك ... وشفع الإفرنج الترغيب بالترهيب، يلوحون له بأن " الفرنج قد تعاضدوا وصاروا يدا واحدة" ... . ورد صلاح الدين بذلك الجواب التاريخي قائلا "لست ممن يرهب بتأليب الفرنج" (1) .
وتطور الموقف، فأغار صلاح الدين بقواته على إمارة أنطاكية، وأوقع بالإفرنج خسائر فادحة.
وخرج أمير الموصل على رأس قوة كبيرة للتصدي لقوات صلاح الدين – نيسان 1176 وانضمت إليه قوات أخرى من حلب، حتى بلغت كلها ما يربو على عشرين ألف مقاتل، ودارت المعركة في موقع يعرف بتل السلطان على مسافة عشرين ميلا إلى الجنوب من حلب.
ورغما عن أن قوات صلاح الدين لم تزد على ستة آلاف، فإن النصر كان حليف صلاح الدين، ووقع في يده عدد من الأسرى، فأطلق سراحهم واستولى على سرادق أمير الموصل نفسه، وكان فيه كثير من الحمام والبلابل والببغاوات والخمور، فجمع ذلك كله وأرسله إلى أمير الموصل ومعه رسالة تفيض بالسخرية اللاذعة. ويقول فيها "البلابل والببغاوات شيء والحرب شيء آخر" (2) ....
وذلك كله يفسر للمواطن العربي، كيف انتصر صلاح الدين بستة آلاف، على أمير الموصل وتحت إمرته عشرون ألفا ... أنه انتصار الوحدة على الانفصال!!
وانتقلت المعركة بعد ذلك إلى ميادين متعددة، أراد منها صلاح الدين أن يقوم بحروب "الاستنزاف" حسب التعبير العسكري الحديث، فانقض على
__________
(1) أبو شامة، كتاب الروضتين، ج1، ص239.
(2) ابن واصل، مفرج الكروب، ج2، ص38.(1/132)
مراكز الإفرنج الواقعة في جنوب فلسطين، فهاجم الداروم –دير البلح-وغزة، وعسقلان ... واتجه صلاح الدين بعد ذلك إلى الرملة واللد وانزل فيها الخراب والدمار وتابع غاراته إلى أن أصبح على مقربة من قلقيلية وأرسوف، ونابلس، ولم يبق أمامه إلا أن يهاجم بيت المقدس.
ولكن صلاح الدين لم يكن مهيأ بعد للقيام بمعركة حاسمة فاصلة، فمضى في حرب الاستنزاف حيثما وجد إلى ذلك سبيلا.
وأيقن الإفرنج أن صلاح الدين يستهدف الاستيلاء على بيت المقدس في النهاية، فاستقر رأيهم، كما تفعل إسرائيل، على إقامة حصون أمامية تكون خطا دفاعيا ضد أي هجوم من دمشق. فأنشأوا قلعة عند جسر بنات يعقوب، لتقطع الطريق، من دمشق إلى طبرية وصفد.
وكذلك بنى الإفرنج في العام نفسه- 1179- حصنا آخر إلى الشمال الغربي من بحيرة الحولة،على جبل هونين، ليتحكم في منابع الأردن والسهول المجاورة، وليكون مع حصن جسر بنات يعقوب "الحدود الآمنة" للدفاع عن بيت المقدس، حسب تعابير إسرائيل الراهنة.
وكان لبناء هذين الحصنين من جانب الإفرنج نتيجة واحدة: الحرب مرة أخرى. وقد وقعت فعلا. فقد تعرض الإفرنج لجماعات الفلاحين وهم يرعون مواشيهم قرب بانياس، كما فعل الإسرائيليون مرارا مع المزارعين العرب، وبدأت الاشتباكات بين الفريقين، وخرج صلاح الدين بنفسه من دمشق، ونشبت معركة حامية انتصر فيها صلاح الدين وألحق بالإفرنج خسائر فادحة ... .. وأصيب خلالها ملك الإفرنج إصابات خطيرة، عاد بعدها إلى بيت المقدس محمولا على الأكتاف ... .بينما توفي أحد أمرائه، همفري، ودفن في حصنه، ونعاه التاريخ العربي في زهو وخيلاء حين قال :"..وقتل(1/133)
همفري، ما أدراك ما همفري ... . كان يضرب به المثل في الشجاعة والرأي في الحرب" (1) .
ولم يعد صلاح الدين إلى دمشق بعد هذا النصر المؤزر، بل أقام معسكره عند تل القاضي، غربي بانياس ... . ومن هناك أصبحت قواته تقوم بغارات يومية على الإفرنج في بيروت وصيدا، ويتلفون مزارعهم ويحصدون غلاتهم.
وأطل حزيران، ولم يكن مشؤوما هذه المرة، ففي العاشر من هذا الشهر وقعت معركة كبرى بين صلاح الدين والإفرنج قرب تل القاضي في "مرج العيون"، وكان النصر فيها حليف صلاح الدين، ونزلت بالإفرنج هزيمة ساحقة فقتل منهم كثيرون، وأسر عدد من قادتهم وأمرائهم.
ومضى شهران على هذه المعركة لتتلوها معركة أخرى. ففي شهر آب، وقد بلغ الحر ذروته في تلك المناطق، قام صلاح الدين بمهاجمة حصن بنات يعقوب، وكله عزم أن يفتحه مهما كان الثمن.
وكان هذا الحصن، على ما رواه المؤرخ، بالغ المنعة، فقد كان عرض حائطه ما يزيد على عشرة أذرع، وتزيد حجارته على عشرين ألف حجر، كل واحد سبع أذرع طولا وعرضا ... وبذلك فإن هذا الحصن "حكم على الثغر الإسلامي بالوهن" (2) .
وكانت مناعة هذا الحصن، بهذا الوصف، أشد إغراء لصلاح الدين بتدميره، حتى يخلي الطريق بين دمشق وبيت المقدس، بل حتى تصبح
__________
(1) ابن الأثير، الكامل، حوادث سنة 754هـ.
(2) أبو شامة ، كتاب الروضتين، ج2، ص ص11-13.(1/134)
دمشق نفسها في أمان من المعتدين. وشدد صلاح الدين الحصار على الحصن، واستطاع أن يفتحه في أواخر آب من عام 1179، وغنم من الإفرنج "مائة ألف قطعة حديد من أنواع الأسلحة، و شيئا كثيرا من الأقوات وغيرها، وأسر نحو السبعمائة، وضرب الحصن حتى سوى به الأرض" (1) .
وشهد الزمان يوما من أروع أيامه حين أشعل صلاح الدين النار في حصن الإفرنج، وأصبح الإفرنج وهم في طبرية يشهدون "ألسنة اللهب والدخان تتصاعد من جسر بنات يعقوب" (2) .
وأنا وجيلي مثلي، ممن سار على هذا الدرب مرات ومرات، بين جسر بنات يعقوب وطبرية، نختال اعتزازا بهذا الوصف الرائع، وندرك عظمة هذا النصر المبين، ونتطلع إلى مثله في هذا اليوم، لنرى ألسنة اللهب تتصاعد من الحصون الإسرائيلية من جسر بنات يعقوب إلى طبرية ... . والى ما بعدها حتى بيت المقدس.
ولم يقعد صلاح الدين على عتبات هذا النصر المؤزر، بل راح يتابع غاراته ومناوشاته ليستنزف طاقات الإفرنج انتظارا لليوم الأكبر، الكامن في طيات القدر.
ومن جسر بنات يعقوب، أتجه صلاح الدين صوب مناطق صور وصيدا وبيروت، فأنزل بالإفرنج خسائر فادحة. ثم قام أسطول صلاح الدين بمهاجمة عكا بحرا، وكانت من مواقع الإفرنج الحصينة، حتى عرفت بأنها "قسطنطينية الإفرنج".
__________
(1) المقريزي، السلوك، ج1، ص67.
(2) أبو شامة، كتاب الروضتين، ج2، ص13.(1/135)
وفي حزيران من العام التالي، 1180 هاجم أسطول صلاح الدين طرطوس، وأنزل بالإفرنج كثيرا من الخسائر، غير أن صلاح الدين لم يستطع أن يواصل غاراته فقد استيقظت عوامل التجزئة على أثر نكايات ومؤامرات انتهت بأن استولى أمير الموصل-عز الدين-على حلب ونودي به ملكا عليها في أواخر 1181، وأصبح على رأس جبهة تمتد من الموصل إلى حلب لمواجهة صلاح الدين، وبالاتفاق مع الإفرنج!!
ولكن صلاح الدين لم ينثن عن مناوشة الإفرنج، تاركا معالجة محور حلب- الموصل إلى فرصة أخرى ... فضرب الإفرنج في إقليم الشوبك، وأتلف مزارع القمح العائدة للإفرنج ، ثم أغارت قواته على طبرية وعكا واستولى على شقيف أرنون، ووقع بيده ما يزيد على ألف من الإفرنج وعشرين ألف رأس غنم" (1) .
ثم انتقلت قوات صلاح الدين إلى الضفة الشرقية لنهر الأردن-شرقي بحيرة طبرية، فأغارت على مواقع الفرنج، ومنها حصن حبيس جلدك-فاستولى عليها. ثم اتجهوا نحو بيسان فاقتحموها وغنموا ما فيها من أقوات وذخائر. وأغاروا بعد ذلك على جنين واللجون وسهول يافا "حتى قاربوا مرج عكا" (2) .
ووقعت معركة كبرى عند حصن كوكب الهواء، وهو يشرف على مرج بني عامر وإقليم الغور، وعلى الطريق المؤدي إلى الناصرة، "واستشهد جماعة من المسلمين وكان النصر لأهل الإسلام" (3) .
__________
(1) المقريزي، السلوك، ج1، ص77.
(2) ابن الأثير، الكامل، حوادث سنة 587.
(3) ابن واصل، مفرج الكروب، ج2، ص115.(1/136)
وأصبحت قبور أولئك الشهداء العظام مزارا معروفا للأهلين في تلك المناطق، إلى يومنا هذا.
ولكن ... وصل إلى علم صلاح الدين أن أمراء الموصل، وحلب "كاتبوا الإفرنج ورغبوهم في قصد الثغور الإسلامية ليشغلوا السلطان صلاح الدين عن قصدهم" (1) .
والأنكى من ذلك أن أمير الموصل أرسل سفارة إلى ملك بيت المقدس يعرض عليه دفع جزية سنوية مقدارها عشرون ألف دينار، مع تسليم بانياس للإفرنج، مقابل أن يتولى الإفرنج إخراج صلاح الدين من دمشق (2) !!
ولم يعد أمام صلاح الدين إلا أن يصفي محور حلب-الموصل، كخطوة لا بد منها لتصفية الإفرنج ... فسارع بقواته إلى حلب وحاصرها حصارا محكما، ولم تلبث المدينة أن استسلمت (11 حزيران 1183) ومعها قلعة حارم التابعة لها ... . وأصبح صلاح الدين بهذا النصر العظيم، في تعبير أحد مؤرخي الغرب، أقوى حاكم معاصر في الشرق الأدنى، ويقود الجبهة الإسلامية المتحدة من جبال طوروس شمالا حتى بلاد النوبة جنوبا" (3) .
والواقع أن صلاح الدين لم يكن متلهفا للاستيلاء على حلب طمعا في مزيد من السلطان، ولكن دخول حلب في الوحدة، وهي ما هي عليه من الموقع الاستراتيجي والأهمية التجارية، يضاف إلى ذلك التخلص من تعدد الحكام والأمراء، كل ذلك جعل النصر في حلب عظيم الأثر، في ذلك الصراع التاريخي الرهيب بين العرب والإفرنج.
__________
(1) ابن واصل، مفرج الكروب، ج2 ،ص115.
(2) أبو شامة، كتاب الروضتين، ج2 ، ص31.
(3) Stevenson, P.230.(1/137)
وقد تمثلت هذه المعاني كلها،في زيارتي لحلب عام 1973، واستحضر في فكري يوم صعد صلاح الدين إلى قلعة حلب، والسرور يملأ قلبه، وهو يقول "والله ما سررت بفتح مدينة، كسروري بفتح هذه المدنية".
وتذكرت كذلك، رسالة صلاح الدين إلى الخليفة العباسي بعد أن استلم حلب، يقول فيها:" لا نختار إلا أن تفد جيوش المسلمين متحاشدة على عدوها، لا متحاسدة بعتوها، ولو أن أمر الحرب تصلحها الشركة، لما عز عليه أن يكون كثير المشاركين، وإنما أمور الحرب لا تحتمل في التدبير إلا الوحدة (1) .."
ولم يكن إيمان صلاح الدين بالوحدة مسألة نظرية عاطفية، ولكنه كان نابعا من تجاوب الحرب التي خاضها في كل الميادين ... .ويكفي أن نختار معركة في أشرف ميدان ... . وهل أكرم من مكة المكرمة، هي أشرف من المدينة المنورة ... ولنستمع ما يقوله التاريخ : ففي صيف 1181 قام أحد أمراء الإفرنج –أرناط-وكان متوليا على حصن الشوبك والكرك في شرق الأردن، بغارة على واحة تيماء الواقعة على الطريق إلى المدينة المنورة، ونهب قافلة إسلامية كبيرة كانت متجهة من دمشق إلى مكة.
وأغارت قوات صلاح الدين على مواقع الإفرنج في الأردن، فاضطر أرناط أن يعود أدراجه بعد أن أوشك على "الاستيلاء على تلك النواحي الشريفة" (2) .
غير أن أرناط، كان معروفا بالحقد والتعصب، فقام في العام التالي (1182) بمحاولة أشد خطراً، تستهدف الاستيلاء على البحر الأحمر،
__________
(1) أبو شامة، كتاب الروضتين.
(2) ابن الأثير، الكامل،حوادث 577هـ.(1/138)
وغزو المدينتين المقدستين مكة والمدينة، وهي أهداف تتطلع إليها إسرائيل، وعلى ذلك ألف ودليل، بالنسبة إلى المدينة المنورة، على الأقل.
وفي مثل الطريقة الإسرائيلية المعروفة، قام أرناط بغارة مفاجئة على أيلة "العقبة" واستولى عليها، وكان قد بنى عدة سفن حملت أجزاؤها مفككة على ظهور الجمال، حتى بلغت خليج العقبة، حيث ركبت وأصبحت سفنا متكاملة جاهزة للقتال (1) .
وقام الإفرنج بالاستيلاء على جزيرة فرعون، ومن ثم بدأوا الإغارة على موانئ البحر الأحمر واحدة بعد الأخرى، وكما سرد المؤرخ المصري الشهير، فقد "قتلوا وأسروا وأحرقوا في البحر القلزم (الأحمر) نحو ستة عشر مركبا، وأخذوا بعيذاب (ميناء على البحر الأحمر) مركبا يأتي بالحجاج من جدة، وأخذوا في الأسر قافلة كبيرة من الحجاج في ما بين قوس (مدينة مصرية) وعيذاب، وقتلوا الجميع، وأخذوا مركبين فيهما بضائع جاءت من اليمن، وأخذوا أحطمة كثيرة من الساحل كانت معدة لميرة الحرمين، وأحدثوا حوادث لم يسمع الإسلام بمثلها ... (2) ".
ولم يكتف الإفرنج فما فعلوا في البحر الأحمر، بل إنهم أنزلوا قواتهم على شاطئ الحجاز على مقربة من ينيع، وأغاروا على القوافل في داخل الحجاز حتى أصبحوا على مسيرة يوم واحد من المدينة المنورة، "ولم يسبق أن وصل قبلهم رومي إلى ذلك الموضع" (3) .
__________
(1) أبو شامة،كتاب الروضتين، ج2، ص35.
(2) المقريزي،السلوك، ج1، ص35.
(3) المصدر نفسه.(1/139)
والواقع أن مطامع الإفرنج في البحر الأحمر، كمطامع إسرائيل اليوم، كانت تستهدف السيطرة الكاملة على هذا البحر العربي بالاستيلاء على العقبة شمالا وعدن جنوبا، ومن هنا كانت محاولتهم "قطع طريق الحاج عن حجه" ... . " وأخذ تجار اليمن وأكارم عدن" و"احتكار التجارة مع الشرق الأقصى عن طريق المحيط الهندي". وتلك كانت مخاوف المؤرخين السابقين يرددونها لأحفادهم اللاحقين (1) .
وإزاء هذا الخطر الأكبر، الذي كان يهدد الحرمين الشريفين، بعد سقوط بيت المقدس، خرجت أساطيل صلاح الدين من مصر، بقيادة أمير البحر حسام الدين، فبدأ بحصار أيلة، واستولى على مراكب الإفرنج فأحرقها وأسر من فيها، ثم تعقب بقية سفن الإفرنج في موانئ البحر الأحمر وباغت أكثرها في ساحل الحوراء، فدمرها وأطلق من فيها من التجار الأسرى.وهرب الإفرنج إلى الجبال، فلحق بهم رجال حسام الدين وقبضوا عليهم وأسروهم.
وكانت قوات صلاح الدين مؤلفة من العساكر الشامية والمصرية، أما البحارة فكانوا من المغاربة ... .وهذه هي الوحدة، مجسدة في جيش واحد تحت قيادة واحدة.
وعادت قوات صلاح الدين إلى القاهرة فخورة بهذا النصر المؤزر، ومعها أسرى الإفرنج، ونترك لشاهد عيان أن يصف للمواطن العربي ماذا كان من أمر أولئك الأسرى، بعد أن أورد كثيرا من تفاصيل تلك المعركة.
كان شاهد العيان، هو الرحالة الأندلسي ابن جبير، وصادف وجوده في الإسكندرية حين وصل الأسرى إلى مصر. ويتحدث على سجيته ويقول
__________
(1) ابن واصل، مفرج الكروب، ج2، ص130.(1/140)
"ولما حللنا الإسكندرية، عاينا مجتمعا من الناس عظيما، برزوا لمعاينة أسرى من الروم (الإفرنج) أدخلوا البلد راكبين على الجمال، ووجوههم إلى أذنابها، وحولهم الطبول والأبواق، فسألنا عن قصتهم. فأخبرنا بأنهم كانوا عازمين على دخول مدينة الرسول(ص) وإخراجه من الضريح المقدس" (1) .
يقرأ المواطن العربي هذه الأحداث، ولا يتمالك إلا أن يستشعر في أعماق نفسه أن الثمانية قرون الماضية قد ألغيت من حساب الزمان، وأن تلك الوقائع لا تزال تجري أمام أبصارنا، حادثة بعد حادثة ، ومعركة بعد معركة. وأن الإفرنج وإسرائيل هما وجهان متطابقان للصورة الواحدة.
واليوم، كما بالأمس، نشهد الاحتلال الإسرائيلي جاثما على سهول فلسطين من دير البلح إلى غزة إلى عسقلان، إلى يافا، إلى حيفا والى عكا.
ذلك على الساحل، أما في الداخل فإن الاحتلال الإسرائيلي يبسط ذراعيه من بئر السبع، إلى الخليل، إلى بيت المقدس إلى نابلس، إلى جنين إلى طولكرم إلى بيسان إلى الناصرة إلى طبرية، إلى صفد في أقصى الشمال.
هذه بالإضافة إلى الأرض المصرية في سيناء، والسورية في الجولان.
أما تحرير خليج العقبة على يد صلاح الدين، وما يقابله اليوم من
__________
(1) رحلة ابن جبير، ص ص29-30.(1/141)
الاعتراف لإسرائيل باحتلالها "لايلات" فذلك يثير السؤال الكبير: وكيف يكون التحرير؟
إنه سؤال كبير وخطير، وأحسب أن صلاح الدين وهو يتململ في قبره غضباً على هذه الأحداث الرهيبة، يعيد إلى حكام العرب أجمعين ما قاله "وأمور الحرب لا يحتمل في التدبير إلا الوحدة".
ومن أجل ذلك فقد انهزم العرب في جميع معاركهم منذ 1948، لأنهم قاتلوا تحت شعار "التضامن" مرة و"التنسيق"مرة أخرى، "والعمل العربي المشترك تارة" و "العمل العربي الموحد" تارة أخرى.
ولكن أمور الحرب. كما قال صلاح الدين، لا تصلحها الشركة. ولا تحتمل إلا الوحدة.
وما أشبه الليلة بالبارحة.(1/142)
الأيام الستة المجيدة
في عام 1187، كان كل شيء في دمشق، ينبئ عن شيء كبير وخطير.
لقد أقبل الربيع يزهو بعطره، ويشدو بطيره ويجود بثمره، وخرجت دمشق تستقبل الغوطة، "مشتاقة تسعى إلى مشتاق".
وكان الربيع، في ذلك العام على أكثر ما يكون سناء وبهاء، كما لم تشهد مثله منذ الفتح العربي قبل ستة قرون. وخيل للناس كأن الزمان على موعد مع حدث فريد مجيد.
وتمايست الأشجار تمد أغصانها بعيدا بعيدا صوب الغرب والشمال والجنوب، وهي ترنو إلى الثغور العربية المغلوبة على أمرها من اللاذقية شمالا، إلى بيروت غربا، إلى يافا وغزة جنوبا، ناهيك عن بيت المقدس حيث صفو الهوى، وسر النجوى، وجوى النوى.
والأطيار، وكثير منها مهاجر من أوكارها المحتلة، هزها الشوق إلى أعشاشها، في أغوار الأردن، ومروج فلسطين، بعد أن طال اغترابها، وأحست، أو كادت، أن يوم العودة قريب.(1/143)
حتى النسائم تهامست في ما بينها، والحمائم تساجعت في هديلها، بأن صفحة من القدر والمصير ستهبط من السماء إلى الأرضِ، وستغير مجرى الحياة لا في دمشق وما حولها، ولكن في الدنيا بأسرها.
وكان صاحب هذا القدر والمصير هو صلاح الدين الأيوبي، العراقي مولدا، المسلم دينا، الكردي أصلا، المصري نشأة، الشامي موئلا ومرقدا، العربي وحدة وجهادا. والإنسان العالمي عفوا وتسامحا وإحسانا.
وفي فصل الربيع ذاك، من العام إياه، جلس صلاح الدين في دار والده الأمير نجم الدين أيوب، المعروفة "بدار العتيقي"، وراح يفكر ويدبر.
وكان صلاح الدين مثل الكثيرين من حكام هذا الزمان، في غنى عن أن يفكر ويدبر، فقد دانت له البلاد من العراق إلى الشام، إلى مصر، إلى الحجاز، إلى اليمن، إلى برقة. وأصبحت بين يديه من الكنوز والأموال ما يجتمع لغيره ... وكفى ثراء الفاطميين أغنى ملوك المسلمين على الإطلاق.
ولكن صلاح الدين لم يكن مفتونا بدولة مترامية الأطراف، ولا كلفا باكتناز الأموال. فقد كان الإفرنج يطلون عليه من الثغور والحصون والقلاع، والبحر يمدهم كل يوم بالمقاتلين والمهاجرين، والغارات تلو الغارات ...
ورأى صلاح الدين أنه لا خير في سلطانه وأمواله ما دام الإفرنج على أبوابه، وهم على مسيرة يوم واحد من عاصمته، فقد كان الإفرنج في طبرية، وطبرية كانت في ذلك الوقت حاضرة لإقليم واسع، وكانت "تحصل على نصف خراج السلط والبلقاء وجبل عوف والسواد والجولان وما حولها إلى بلد حوران (1) .
__________
(1) أبو شامة، كتاب الروضتين، ج2، ص79.(1/144)
ومعنى ذلك أن هذه المناطق كلها كانت بيد الإفرنج، وأن الإفرنج يهيمنون على مداخل دمشق، ومفاتيحها بأيديهم، ودمشق تعيش مثل هذا الحال مع إسرائيل اليوم.
ودعا صلاح الدين أمراء الحرب، كعادته، إلى اجتماع كبير ليتشاور معهم في ما وصلت إليه الأمور إزاء الإفرنج. وشهدت ديار الشام أكبر مؤتمر عسكري، وشاءت الأقدار أن يكون يوما مصيريا، يمسك بوجه التاريخ، ليشده من الشرق إلى الغرب.
وطرح صلاح الدين رأيه بالمبادرة إلى منازلة الإفرنج في حرب فاصلة تقضي على وجودهم في المشرق العربي، وارتأى بعض أمراء الجيش الاستمرار في حرب الاستنزاف، من غير مواجهة فاصلة وترك لنا التاريخ ما يشبه أن يكون محضرا لتلك الجلسة التاريخية، يحسن بالمواطن العربي أن يقرأه ويتدبره.
قال ابن الأثير في تاريخه " ... ..جمع صلاح الدين أمراءه واستشارهم فأشار عليه أكثرهم بترك اللقاء(الحرب) وأن يضعف الإفرنج بشن الغارات وإخراب الولايات مرة بعد مرة ... فقال له بعض أمراء الرأي عندي أن نجوس بلادهم وننهب ونخرب ونخرق ، ونسبي، فإن وقف أحد من عسكر الفرنج بين أيدينا، فإن الناس بالمشرق يلعنوننا ويقولون ترك قتال الكفار، وأقبل يريد قتال المسلمين، والرأي أن نفعل فعلاً نعذر فيه ويكف الألسن عنا ... ."
وواضح من هذا الحوار، أن الرأي العام، يومئذ كما هو اليوم بشأن إسرائيل يريد قتال الإفرنج، وأن الناس كانوا يلعنون الأمراء. كما يفعل الناس اليوم مع الملوك والرؤساء طعنا ولعنا.(1/145)
وقد حسم صلاح الدين ذلك الحوار، فقال كلمته الشهيرة، كما أوردها ابن الأثير" ... . الرأي عندي أن نلقي بجميع المسلمين جمع الكفار، فإن الأمور لا تجري بحكم الإنسان، ولا نعلم قدر الباقي من أعمارنا ولا ينبغي أن نغرق هذا الجمع إلا بعد الجد في الاجتهاد." (1) .
وهكذا يبدو صلاح الدين مع أمرائه وكأنه يستعجل أيام الجهاد، قبل أن يعاجله الموت، والأرض العربية يحتلها الغاصب الدخيل. ثم يؤكد هذا المعنى مرة ثانية ويقول "العمر قصير والأجل غير مأمون " (2) .
وعزم صلاح الدين على الجهاد فكتب إلى "جميع البلاد يستنفر الناس للجهاد، وأرسل إلى الموصل والجزيرة وأربل وغيرها من بلاد الشرق، وديار بكر، والى مصر، وسائر بلاد الشام، يدعوهم إلى الجهاد، ويحثهم عليه والتجهيز له" (3) .
وكان حول صلاح الدين في تلك الحقبة ثلاثة من صفوة العلماء المؤرخين، يديرون أمور دولته ويشيرون عليه في كل أموره، وهم القاضي الفاضل عبد الرحمن البيساني من أبناء عسقلان في فلسطين ، والقاضي بهاء الدين بن شداد، والعماد الأصفهاني الشاعر الثائر، وقد خلف لنا هؤلاء الثلاثة أروع ما كتبوا عن تلك الأحداث الجليلة.
ونرى، ونحن نقلب صفحاتهم، أن صلاح الدين قد "برز من دمشق، وخيَّم على قصر السلامة، وانتظر وصول العسكر المصري ووصل العسكر المصري وتلقاه بالقريتين. هذا والعساكر في كل بلد يفدون. وسار سلطاننا،
__________
(1) ابن الأثير، الكامل،ج9، ص ص175-179.
(2) كرد علي، خطبة الشام، ج2، ص65.
(3) كتاب الروضتين، أبو شامة، ج2، ص75.(1/146)
الملك الناصر صلاح الدين. وخيم بعشترا فغصَت بسيول الخيول الوهاد، وما رأيت عسكرا أبرك منه ولا أكثر. ثم أصبح السلطان بالمخيم عارضا، ووقف السلطان يرتب العساكر ترتيبا، ويعبيه بعيدا وقريبا، وقرر لكل أمير أمرا، ولكل كمين مكانا، وعين لكل أمير موقفا في الميمنة والميسرة ... .وقال : إذا دخلنا بلد العدو فهذه هيأة عساكرنا. وبذل الأموال، ونثر الخزائن وانفق الذخائر ... ورحل إلى خسفين ثم نزل على الأردن بثغر الأقحوانة ... . وأحاط ببحيرة طبرية، والسلطان صلاح الدين في كل صباح يسير إلى الإفرنج.ورأى السلطان أن يطيب ريَّه من طبرية ويحوز مملكتها".
ذلك ما رواه الأصفهاني، رفيق صلاح الدين ورئيس ديوانه، عن حركاته، و مواقع جيشه. وقد اندرست تلك المواقع أو تحرفت أسماؤها، إلا خسفين فإنها باقية إلى الآن، وهي قرية في الجولان.
وأضاف القاضي بهاء الدين بن شداد في روايته للأحداث، أن صلاح الدين قد نزل في طريقه إلى بحيرة طبرية عند قرية "تسمى الصنبرة ورحل من هناك، ونزل غربي طبرية..على تعبئة الحرب" (1) .
ثم يروي ابن شداد أن صلاح الدين "نازل طبرية وزحف عليها، فهاجمها وأخذها في ساعة من نهار، واستولى على ما فيها من ميرة وذخيرة".
ولما علم الإفرنج أن صلاح الدين قد استولى على طبرية عقدوا مجلسا حربيا في عكا حضره جميع الأمراء، وهالهم أن يسقط هذا الموقع
__________
(1) ابن شداد ، النوادر السلطانية، ص ص74-79.(1/147)
الاستراتيجي الهام بيد صلاح الدين، فتنادى أمراؤهم للقتال، وقال ملكهم "لا قعود لنا بعد اليوم، وإذا أخذت طبرية ذهبت البلاد بأسرها، فوافقوه، ورحلوا بجيوشهم نحوا السلطان" (1) .
والواقع أن صلاح الدين باستيلائه على طبرية كان يقصد انتزاع هذه المنطقة الاستراتيجية التي كانت تقف حائلا بينه وبين الساحل، كما كان يرمي إلى استدراج الإفرنج إلى محاربته في الزمان والمكان اللذين يختارهما، وقد أحسن في ما اختار.
لقد اختار الزمان، شهر تموز، وهو شهر الحرارة في هذه المنطقة، يطيقه الجنود العرب، ولا يطيقه جنود الإفرنج.
واختار المكان، هضاب حطين، على بضعة أميال إلى الغرب من مدينة طبرية، أرض مجدبة، فلا زرع ولا ضرع ولا مياه ولا ظلال.
وكانت جموع الإفرنج محتشدة في قرية صفورية، إلى الغرب، حيث المياه الوفيرة، والظلال الوارفة.
وهكذا أفلح صلاح الدين، باستيلائه على طبرية، فأخرج الإفرنج من الظل الظليل إلى هضاب حطين حيث البقاع الملتهبة الجرداء.
وما أن علم صلاح الدين أن الإفرنج قد خرجوا من صفورية، حتى بادر إلى استدراجهم إلى الفخ الجهنمي الذي ينتظرهم في حطين، وهو يقول، كما روى رفيقه العماد الأصفهاني :"قد حصل المطلوب. وجاءنا ما نريد" (2) .
__________
(1) ابن واصل، مفرج الكروب، ج2، ص189.
(2) العماد الأصفهاني، الفتح، ص77.(1/148)
وتلاقى الجمعان عند هضاب حطين في عشية الثالث من شهر تموز من عام 1187، الموافق، الرابع والعشرين من شهر ربيع الثاني-ولم أذكر التاريخ العربي عبثا.
لقد اختار صلاح الدين ليلة الرابع والعشرين من الشهر العربي، حين كان القمر في أيام المحاق، وأنا وجيلي من الذين نعرف تلك البقاع نستطيع أن ندرك حسن الاختيار، ففي مثل تلك الليلة يحسب للرأئي أن التلال فرسان، والفرسان تلال، ولا يميز هذا وذاك!!
وفي تلك الليلة، كان صلاح الدين، يروح ويجيء بين التلال يدبر أمور المعركة ويوزع الأسلحة. وفي كلام يشبه التقرير العسكري، مضى العماد الأصفهاني يقول :" وسهر السلطان تلك الليلة حتى عين (للجنود) من كل طلب، وملأ جعابها بالنبال، وكان ما فرقه من النشاب أربعماية حمل ... وما أبهجنا بتلك الليلة الفاخرة" (1) .
وحين كان صلاح الدين يرقب أمور "الواقعة المباركة" كان الإفرنج يجوسون بين الهضاب بحثا عن الماء، ولكن أنى لهم ذلك، والمنطقة جدباء على حين كان الماء من خلف صلاح الدين أقرب إليه من حبل الوريد.
وأسفر الصباح في الرابع من شهر تموز عن شمس لافحة ورياح لاهبة والإفرنج يدهقهم العطش، وصلاح الدين وجنده، آكلون شاربون مسلحون وجها لوجه أمام الإفرنج، وقد عزموا أن يكيلوا لهم الكيل كيلين، ففي هذا المكان بالذات وقف السيد المسيح عليه السلام ينطق بكلماته في "عظة الجبل الشهيرة" ويقول :"وبالكيل الذي تكيلون يُكال لكم" (2) .
__________
(1) المصدر نفسه.
(2) إنجيل متى، من الإصحاح الخامس إلى السابع(1/149)
وكان قد مضى على الإفرنج ما يزيد على ثمان وثمانين عاما، هم يكيلون للعرب القتل والدمار والنار جزافا، وها قد جاء الوقت لتصفية الحساب. وكأنما وقف السيد المسيح في هذا المكان، ينثر عظاته الرفيعة لمثل هذا اليوم الرفيع!!
وكان ذلك اليوم حارا لاهبا، وأدرك الإفرنج أن صلاح الدين "قد أحاط بهم إحاطة الدائرة بقطرها" (1) . وأشعل المسلمون النار في الأعشاب حول الإفرنج، فأصبحوا بين طوقين السهام والنيران، وبدأوا بالهجوم على جيش صلاح الدين ليكسروا الطوق من حولهم، وكانت هجمتهم ضارية شرسة، فقد كانوا يقاتلون طلبا للنجاة، بل خلاصا من الإبادة وصمد المسلمون لهجمات الإفرنج فقد كانوا بدورهم أمام إحدى الحسنين: النصر أو الشهادة، ذلك أن المسلمين، في تعبير ابن شداد "كانوا من ورائهم الأردن ومن بين أيديهم بلاد العدو، وإنهم لا ينجيهم إلا القتال والجهاد ... " (2) .
وذلك شبيه بالموقف العسكري الذي كان يواجه قوات طارق بن زياد قبل ذلك بسبعماية عام، حينما خطب فيهم قائلا "العدو من أمامكم والبحر من ورائكم ... .""
ويصف ابن شداد هذا الجانب من المعركة فيقول :"ثم علموا أنهم (الإفرنج) لا ينجيهم من الموت إلا الإقدام عليه- فحملوا حملات متداركة، كادوا يزيلون المسلمين على كثرتهم عن مواقعهم. إلا أن الإفرنج لا يحملون حملة فيرجعون إلا وقد قتل منهم، فوهنوا لذلك وهنا عظيما، فارتفع من بقي من الإفرنج إلى تل بناحية حطين وأرادوا أن ينصبوا خيامهم ويحموا أنفسهم
__________
(1) ابن الأثير، الكامل ،حوادث سنة 583.
(2) ابن شداد، النوادر السلطانية،ص121.(1/150)
به، فاشتد القتال عليهم من سائر الجهات وصدوهم عما أرادوا. ولم يتمكنوا من نصب خيمة غير خيمة ملكهم ... و بقي الملك على التل في مقدار ماية وخمسين فارسا ... ".
وهنا يأتي أروع فصل من فصول القصة البطولية، يرويه، الأفضل، ابن صلاح الدين، وكان صبيا يقف إلى جانب والده في المعركة، وها هو يروي للمواطن العربي الفصل الأخير من المعركة.
قال الأفضل :" ... كنت إلى جانب والدي في ذلك المصاف-الحرب-وهو أول مصاف شاهدته، فلما صار ملك الإفرنج على التل في تلك الجماعة، حملوا حملة منكرة على المسلمين حتى ألحقوهم بوالدي، فنظرت إليه وقد علته الكآبة، واربدَّ لونه، وأمسك
بلحيته وتقدم وهو يصيح "كذب الشيطان" فعاد المسلمون على الفرنج فرجعوا وصعدوا على التل ... فلما رأيت الإفرنج قد عادوا، والمسلمون يتبعونهم صحت من فرحي :" هزمناهم"، فعاد الفرنج فحملوا ثانية مثل الأولى، وألحقوا المسلمين بوالدي، وفعل والدي مثل ما فعل أولا، وعطف المسلمون على الإفرنج فألحقوا بالتل، فصحت أنا أيضا "هزمناهم"، فالتفت إليَّ والدي وقال اسكت ... . ما نهزمهم حتى تسقط تلك الخيمة. ووالدي يقول لي هذا، إذا الخيمة قد سقطت. فنزل السلطان وسجد شاكرا الله تعالى، وبكى من فرحه" (1) .
ويتحدث العماد الأصفهاني عن المعركة، بصفته المتكلم الحاضر، فيقول :"فرمى بعض مطوعة المجاهدين النار في الحشيش، فبلوا الإفرنج، من نار الدنيا بثلاث، نار الضرام (الأعشاب) ونار الأوام (العطش) ونار
__________
(1) ابن الأثير، الكامل، ج9 ، ص ص175-179.(1/151)
السهام، فاووا إلى جبل حطين. فأحاطت بحطين بوارق البوار، وحطوا خيامهم على غارب حطين، فأعجلناهم بضرب السهام ... . فترجلوا عن الجبل، وتم أسر الملك، وأبرنس (أمير) الكرك، وهمفري أخي الملك، وأمير جبيل، وابن همفري، وأبن أمير إسكندرونة، وأمير مرقية. وأسر من الداوية معظمها، ومن اليارونية".
وختم العماد وصفه للمعركة كأنما يرسم لنا لوحة زيتية رائعة فيقول:" ... .ومن شاهد القتلى قال ما هناك أسير، ومن شاهد الأسرى قال ما هنالك قتيل. ولقد رأيت في الحبل الواحد ثلاثين وأربعين فارسا يقودهم فارس، وفي بقعة واحدة مائة ومئتين يحميهم حارس ... " (1) .
ولكن العماد الأصفهاني قد ترك لنا في وصفه الساجع، مجموعة أخرى من اللوحات، كل سجعة منها لوحة بالغة الدقة، وها نحن نستمع إلى سجعاته ونتأمل لوحاته وهو يتحدث عن مخلفات المعركة حديث شاهد عيان ويقول " ... .ورأيت الرؤوس طائرة، والنفوس بائرة، والعيون غائرة ... .والجثث مفصلة المفاصل مفرقة المرافق ... .. محذوفة الرقاب، مقصوفة الأصلاب مقطعة السهام، موزعة الأقدام مفقوءه العيون مبعوجه البطون منصفة الأجساد مقصفه الأعضاء، مقلصة الشفاه، سائلة الأحداق، مائلة الأعناق، مفتوتة الأفخاد، مسلوخة الليات، مفكوكة الأذرع، منشورة الشعور، مهتومة الأسنان" (2) .
وينتهي العماد الأصفهاني من هذه اللوحات الرائعة، وكأنه يقف على تل حطين ويصيح "وما أحلى نفحات الظفر".
__________
(1) العماد الأصفهاني، الفتح، ص76، وما بعدها.
(2) المصدر نفسه.(1/152)
والواقع أن ذروة هذه النفحات قد تجلت عند ختام المعركة ليسجل التاريخ مشهدا أصبح في ما بعد قصصا شعبيا، في المشرق العربي والمغرب، ويبقى حديث السامرين والساهرين إلى يومنا هذا.
فقد نصبت خيمة صلاح الدين "وجلس السلطان لعرض أكابر الأسارى، وهم يتهادون في القيود تهادي السكارى. ثم استحضر ملك الإفرنج وأخاه، والبرنس أرناط وناول السلطان ملك الإفرنج شربة من جلاب مثلج فشرب منها، وناول ملك الإفرنج بعضها إلى البرنس أرناط ... فقال السلطان للترجمان قل للملك: أنت الذي تسقيه، أنا ما سقيته".
وكان السلطان صلاح الدين قبل سنوات، قد نذر أنه إذا ظفر بالبرنس أرناط قتله بسبب حملته على الديار المقدسة. فجاء ذلك اليوم، فأمر صلاح الدين، ولقي أرناط مصرعه، ورمي خارج الخيمة.
أما ملك الإفرنج فقد ارتعدت فرائصه. وظن أن الدور آت عليه، ولكن صلاح الدين هدأ روعة وطيب قلبه وقال له :"لم تجر عادة الملوك أن يقتلوا الملوك، وإنما هذا (أرناط) فقد تجاوز حده ... ."
وليس للمواطن العربي المعاصر، وهو يقرأ المؤرخين العرب الأوائل أن يشك في الوقائع الرئيسية لمعركة حطين، كما دوّنوها في يومها، وخاصة في قصة صلاح الدين مع أرناط، فقد قام أحد المؤرخين الغربيين أخيراً بالرجوع إلى مؤرخي الإفرنج، وخلص في نهاية مقارناته وتحقيقاته إلى القول بأنه "لا حاجة للتشكيك في قصة الشراب الذي قدمه صلاح الدين أو في قصة مصرع أرناط بيد صلاح الدين نفسه" (1) .
__________
(1) رانسيمان، الحروب الصليبية، ج2، ص897.(1/153)
ومن الطريف، أن هذه المعركة قد استبدت باهتمام مؤرخها ومعاصرها ابن الأثير، فقد مر على حطين بعد عام من المعركة وقال: "وقد اجتزت موضع الوقعة بعدها بنحو سنة، فرأيت الأرض ملأى بعظام الإفرنج، ومنها المجتمع بعضه على بعض، ومنها المفترق، هذا خلاف ما جمحته السيول، وأخذته السباع" (1) .
ولم يخلد صلاح الدين إلى الراحة، بعد معركة حطين، فإن هذه الهزيمة الساحقة التي نزلت بالإفرنج لا بد من متابعتها، ولا بد من مطاردة الإفرنج واللحاق بهم في كل معاقلهم.
وكانت عكا هي المعقل الأكبر، فهي أكثر ثغور الشام حصانة بالإضافة إلى موقعها الإستراتيجي. فسار صلاح الدين، بقواته إليها، ويروي العماد الأصفهاني " إن الأمير عز الدين الحسني- أمير المدينة المنورة، كان في صحبة صلاح الدين مشاركا في الواقعة. ورأيته ذلك اليوم للسلطان مسايرا وأنا أسير معهما ولاحت أعلام عكا وقد توافدت عساكر الإسلام إليها من وعرها وسهلها فلما قرب منها خيم وراء تلها".
وقد حاول أمير الإفرنج في عكا، الدفاع عن المدنية، ولكن لم تكد مقدمة جيش صلاح الدين تقترب من عكا حتى انهارت المقاومة وعرض تسليم المدنية.
ووصل صلاح الدين، 8 تموز 1187، إلى المدنية فأرسل إليها أميرها مفاتيح القلعة، ومنح الأمان لأهلها، وأطلق أربعة آلاف من أسرى المسلمين كانوا محتجزين فيها.
__________
(1) ابن الأثير، الكامل، ج9،ص175 وما بعدها.(1/154)
وبالاستيلاء على عكا بعد طبرية، تحطم أكبر إقليم استراتيجي للإفرنج، فلو أن المواطن العربي رجع إلى خريطة ديار الشام، حيث كانت سيطرة الإفرنج، من الساحل السوري فالساحل اللبناني فالساحل الفلسطيني، يبزر أمامه أن "محور طبرية-عكا" بمثابة القلب من هذه السواحل كلها.
ورأى صلاح الدين الفرصة الذهبية أمامه لتصفية مواقع الإفرنج في حرب خاطفة، لا تعطيهم فرصة للاستجمام والاستعداد.
ويمضي العماد الأصفهاني يروي أن قوات صلاح الدين، قد نازلت الإفرنج في معارك سريعة كالبرق الخاطف، تنتزع منهم المواقع التي بأيديهم، مدينة بعد مدينة وحصنا بعد حصن (1) .
وفي بضعة أيام، استولى صلاح الدين كما يروي العماد الأصفهاني على : الناصرة وصفورية في وقعة واحدة، وكلاهما من إقليم الجليل في شمال فلسطين.
وعلى قيسارية، ومن بعدها على حيفا وأرسوف، وكلها على الساحل الفلسطيني.
وعلى نابلس وسبسطية وكلاهما في المنطقة الوسطى من فلسطين.
وعلى الفولة، وكانت قلعة حصينة في وسط مرج بني عامر في فلسطين، وسقطت معها "دبورية وجنين وزرعين والطور واللجون وبيسان والقيمون وجميع ما بطبرية وعكا من الولايات، والزيب ومعليا والبصة واسكندرونه ومنوات" وجميع هذه المدن والقرى في فلسطين ... ..ماعدا اسكندرونه فانها قرية في لبنان في محافظة صيدا .
__________
(1) العماد الأصفهاني، الفتح، ص ص92- 115 .(1/155)
وعلى قلعة تبنين، وهي في جنوب لبنان ولا تزال بقايا قلعة قائمة إلى الآن.
وعلى صيدا، وبعدها على صرفند، وكلاهما في جنوب لبنان، وصيدا كما يقول الأصفهاني: "مدينة لطيفة على الساحل، ذات بساتين وأزهار ورياحين، وأشجار النارنج والأترنج ... . وكأن الأصفهاني قد غادرها في ربيع هذا العام.
وعلى بيروت، بعد أن دام القتال عليها أياماً "وهي أحسن مدن الساحل في بلاد الشام (1) وفي بيروت مرض العماد الأصفهاني، فقد كانت "جمرة الحر متوهجة وحملت إلى دمشق بمحفة، فتفضل الله بالشفاء."
وعلى جبيل، وهي قلعة شهيرة بين بيروت وطرابلس.
وعلى يافا والرملة واللد ويبنى، وبيت لحم، والخليل، وغزة والنطرون وبيت جبريل والداروم (دير البلح) وعسقلان ... وكلها مدن وقرى معروفة في فلسطين.
وقد استمات الإفرنج في الدفاع عن عسقلان لأهميتها الاستراتيجية بين مصر والشام، ولما يئس أهلها من المقاومة طلبوا الأمان فرضي صلاح الدين، و"أقتيد أهلها إلى الإسكندرية حيث قضوا فصل الشتاء في رعاية صلاح الدين إلى أن تم ترحيلهم في ربيع العام التالي" (2) . وهذه واحدة من مكارم صلاح الدين التي أشادت بها المراجع الغربية قبل العربية.
وهكذا انتهت معركة حطين الفاصلة في ستة أيام من طبرية وما حولها، إلى عكا وما حولها، وانتصر فيها صلاح الدين الأيوبي، على
__________
(1) ابن الأثير،الكامل، حوادث سنة 583هـ.
(2) المصدر نفسه.(1/156)
جيوش الإفرنج كلها ... فكانت من أعظم معارك التاريخ الحاسمة، وأدارت عنان التاريخ إلى وجهة أخرى، إلى تيار آخر يصنع للإنسانية تاريخاً آخر، بل عالما آخر بكل ما يحتويه من علم وحضارة وعرفان.
ونحن لو أنعمنا النظر في معركة حطين من بدايتها لنهايتها لوجدنا أنها هي حرب الأيام الستة المجيدة، لا الزائفة، فقد بدأت في اليوم الرابع من شهر تموز، ولم يأت العاشر إلا وكانت مدن الإفرنج وقلاعهم وحصونهم، قد سقطت بيد صلاح الدين واحد بعد الأخرى.
وأقول حرب الأيام الستة المجيدة، لا الزائفة، فإن المعركة بين صلاح الدين والإفرنج كانت معركة كبرى تطاحنت فيه القوى العربية والقوى الأوربية، وجها لوجه.
أما معركة الأيام الستة لعام 1967 فقد كانت المهزلة المأساة، انتصرت فيها إسرائيل، لأن الفريق العربي لم يحارب، بل لم يكن يريد الحرب أصلا. ولكنها كانت مظاهرة هوجاء، عرفت إسرائيل كيف تبددها وتذروها للرياح.
ومع ذلك، فإن المواطن العربي يتساءل اليوم: وكيف استطاع صلاح الدين في حرب الأيام الستة، وقبل ثمانية قرون: أن ينتصر على تلك القوى الأوروبية، في حين الأمة العربية قد انهزمت هزيمة منكرة أمام إسرائيل في ستة أيام، وجلست في اليوم السابع تمسح عن وجهها غبار الهزيمة.
والجواب، في غاية البساطة، إن الذي انهزم مع إسرائيل هم حكام العرب المعاصرون، وليست الأمة العربية، جيوشا وشعوبا ... إن الملوك والرؤساء العرب، يتحملون وحدهم عار الهزيمة، كل حسب قدراته وطاقاته، ودوره في المعركة.(1/157)
لقد انتصر العرب في حطين، لأنهم كانوا دولة واحدة، وملكا واحداً، وجيشا واحدا، وقد انهزم العرب في سيناء والجولان والأردن، لأنهم كانوا أربعة عشر ملكا، وأربعة عشر جيشا، وأربعة عشر وزير دفاع.
في معركة حطين كان الجيش العربي مؤلفا من قوات مصرية وشامية وحجازية وعراقية ويمنية، كلها جيش واحد في ميدان واحد، تحت قيادة واحدة.
وفي أيام حطين كانت دولة الوحدة تمتد من البصرة إلى برقة، ومن حلب إلى عدن، وكان أمراء البلاد يحاربون في الميدان، وفي طليعتهم أمير المدينة المنورة عز الدين الحسني.
ولكن في حربنا مع اسرائيل فقد كانت الميادين متعددة والجيوش متبددة واسرائيل تضرب في ميدان بعد ميدان وجيشاً بعد جيش, وفي أيام حطين كتب صلاح الدين إلى البلاد مستنفرا يدعو إلى الجهاد فلبى الناس بداعي الأيمان، على حين أن الدول العربية في حرب الأيام الستة لم يكن بأيديها إلا اتفاقيات الدفاع الهزيلة. فكان اتفاق الدفاع بين مصر وسوريا قبل المعركة بخمسة شهور، وكانت اتفاقية الدفاع بين مصر والأردن قبل خمسة أيام. وكانت اتفاقية الدفاع بين مصر والعراق بليلة واحدة. ووصل الجيش العراقي إلى الميدان في الأردن في صبيحة المعركة، واصطادت الطائرات الإسرائيلية الدبابات العراقية كما تُصاد العصافير (1) .
وكان مفهوم الوحدة عند صلاح الدين أصيلا عريقا فقد قال: " إنما نريد أن يسيرا الناس معنا على قتال الأعداء فقط، وليس قصدنا من الفتح
__________
(1) أحمد الشقيري، الهزيمة الكبرى مع الملوك والرؤساء.(1/158)
البلاد بل العباد " (1) ثم أكد هذا المعنى بقوله: "إني دخلت إلى الشام لجمع كلمة الإسلام، وسد الثغور، وكف عادية المعتدين، وما قصدي إلا جمع كلمة الإسلام على الإفرنج" (2) .
على حين أن الدول العربية قد دونت في دساتيرها هدف الوحدة وبقي اللفظ ميتا في دستور ميت.
بل إن مفهوم الدولة عند صلاح الدين كان يقوم على أساس العلم والفهم، فقد كان حوله ثلاثة من أهل العلم والفهم وهم: القاضي الفاضل عبد الرحمن البيساني، والقاضي بهاء الدين بن شداد والعماد الأصفهاني ... حتى أن صلاح الدين قال في جمع من أمراء العساكر" ... . لا تظنوا أني ملكت البلاد بسيوفكم بل بقلم القاضي الفاضل ... "
ومن أين ذلك كله في مفهوم الدولة عند حكام العرب في هذه الأيام، وهم يعزلون أهل الفهم والعلم، ويستوزرون المطيعين الهاتفين، المجيبين عن كل أمر بنعم، والعازفين على كل وتر ونغم!!
وكانت، وكانت، الأشباه والنظائر بين انتصارنا في حطين وانكسارنا في سيناء والأردن والجولان كثيرة وكثيرة.
ولكن رأس الأسباب كلها، أننا قاتلنا الإفرنج ونحن دولة واحدة ... وقاتلنا إسرائيل أربعة عشر.
ذلك هو السبب ولا سواه.
وما أشبه الليلة بالبارحة.
__________
(1) محمد كرد علي ، خطط الشام، ج2 ،ص57
(2) مرآة الزمان، ص207.(1/159)
لي حكاية مع حطين
ما أكثر القرى في هذه الدنيا! إنها تعد بالآلاف، والكثير منها رائع وجميل، بل ما أكثر الحواضر والعواصم ! إنها تعد بالعشرات والمئات، والكثير فاتن وبديع.
ولكن قرية عربية واحدة تفردت بين آلاف القرى، ومئات الحواضر والعواصم، ذلك أن التاريخ قد حط رحاله على سهولها، وبسط ذراعيه على جبالها. لقد عرفتها في صباي، أنا وجيلي، أيام رحلاتنا ونزهاتنا، فراعنا جمالها، وبهرتنا كرومها ومروجها.
ثم قرأت تاريخها في شبابي، فازددت تعلقا بها، وعاودت زيارتها مرات ومرات، باحثا دارسا بين مرابعها وتلالها، وأنا أسأل شيوخ القرية، ما اسم هذا الجبل؟ وما اسم ذلك الموقع ؟
وفي يوم مشرق من أيام الربيع، ولست أنسى ذلك اليوم ما حييت وما نسيت، كانت لي زيارة لتلك القرية العربية، وأبصرت جمعا من الرهبان يقفون صفا واحدا كأنهم في صلاة يتعبدون. وما أن دنوت منهم حتى سمعتهم يقرؤون من الإنجيل "موعظة الجبل" الشهيرة " ... .من لطمك على خدك الأيمن فحِّول له الآخر أيضا ... .ومن سخرك ميلا فاذهب معه اثنين. أحبوا أعدائكم ، باركوا لاعنيكم ... وبالكيل الذي به تكيلون يكال لكم ...(1/161)
احذروا من الأنبياء الكذبة الذين يأتونكم بثياب الحملان. كل شجرة لا تضع ثمرا جيدا تقطع وتلقى في النار. فإذا من ثمارهم تعرفونهم ... (1) .
وأخذت بدوري أقرأ معهم "موعظة الجبل" من ذاكرتي حتى غدوت كأني واحد من الرهبان، من غير جبة ولا طيلسان!!
وسألني أحدهم: وهل تحفظ "الموعظة" كلها، إنها جميلة، وهذا هو الجبل الذي وقف فيه المسيح وألقى كلماته المجيدة.
قلت: نعم. لقد حفظتها في جملة ما حفظت من الإنجيل، حينما كنت طالبا في بيت المقدس في مدرسة المطران في أوائل العشرينات (2) .
وتركت الوهبان وشأنهم في عبادتهم , وذهبت لشأني في عبادتي , ذلك أن القرية العربية أصبحت معبدي من غير قبة ولا منارة ولا محراب .
وكذلك، كانت عبادتي من غير ركوع ولا سجود، ولكنها كالصوفية، كانت إطالة التأمل وإدامة النظر. أتأمل في كل رابية، وأنظر في كل هضبة، أبحث عن آثار بطل، عن موضع أقدامه، عن كره وفره، عن خيمته، عن مربط حصانه، عن أصداء صيحاته وعن رجع تكبيراته.
إنها حكاية قرية، وسيرة بطل ... وكان من سجع الزمان، أن القرية اسمها حطين، والبطل اسمه صلاح الدين، وما ذكرت القرية، إلا ويذكر البطل، ومعهما يذكر التاريخ في أروع صفحاته وأمجد ذكرياته.
وغداة اشتغالي بالمحاماة، كنت كثير السفر في منطقة الجليل، من عكا إلى صفد، إلى طبريا، إلى غور الأردن، وكنت أعرج على حطين في ذهابي وإيابي، كلما وجدت إلى ذلك سبيلا.
__________
(1) إنجيل متى، من الإصحاح الخامس إلى السابع.
(2) أحمد الشقيري، أربعون عاماً في الحياة العربية والدولية.(1/162)
وكان يصاحبني في سفري هذه رفاق من صفوة العلماء، أتعلم بين يديهم حكاية تلك القرية وسيرة ذلك البطل. وكان أولئك الرفاق الأجلاء ثلاثة.
الأول: القاضي الفاضل، عبد الرحمن البيساني- العسقلاني المولد، المصري الدار، وزير صلاح الدين الأيوبي، وصفيه وخليله.
والثاني : العماد الأصفهاني صديق صلاح ورئيس ديوانه , شاعر غزواته وناثر انتصاراته .
والثالث : القاضي بهاء الدين بن شداد، قاضي عساكر صلاح الدين ومؤرخ حياته من مولده إلى وفاته.
وكان هؤلاء الثلاثة هم أعرف الناس بحطين وصلاح الدين، وعنهم تعلمت حكاية القرية وسيرة البطل، وقصة المعركة في حطين.
ثم حملتني أسفاري إلى عواصم كثيرة في العالم، فزرت متاحفها ومكتباتها، وساقني ولوعي بحطين وصلاح الدين أن أبحث عن المزيد. وإذا بي أمام تراث ضخم من كنوز المعرفة تعجز الإحاطة والإحصاء.
لقد رأيت لوحات ولوحات عن صلاح الدين وحطين. وكانت غاية في الإبداع والروعة، تحكي المعركة بين الشرق والغرب، ولا ينقصك وينقصها إلا أن تسمع من ظلالها وألوانها صهيل الخيل وصليل السيوف، إلى جانب صيحات المنتصرين وأنات الجرحى.
ورأيت قوائم المراجع العلمية القديمة، باللاتينية والإفرنسية والعربية والعبرية والسريانية والأرمنية والكرجية والصقلية، هذا باللغات القديمة. أما باللغات الحديثة من الإنجليزية إلى الروسية، فإنه عسير العد والحصر.(1/163)
ورأيت مجموعات من الملاحم الشعرية، والقصص الأدبية والأساطير الشعبية، والأناشيد القومية، كلها عن حطين وصلاح الدين، تحتاج قراءتها إلى عمر طويل، والى صبر جميل.
وعدت من أسفاري ببعض الكتب وبعض اللوحات عن صلاح الدين وحطين، وضممتها إلى مكتبي، وكلفت بترتيبها حتى أصبحت حطين ليلاي، وأصبحت مجنون حطين وصلاح الدين.
وكان أهل القرية قد بنوا على تلة حطين قبة تعرف "بقبة النصر" تخليدا لذكرى تلك المعركة المجيدة، (1) . ولكن يبدو أن ما تلا من الفتن والحروب قد أزال معالم قبة النصر فلم أجد لها أثراً في زياراتي للقرية , وبهذا خسر التراث الإسلامي علما عزيزا من تلك الذكريات العزيزة.
وقرأت في جملة ما قرأت أن صلاح الدين قد أنشأ مجموعة من المواسم في فلسطين ليعزز الروح القومية في صراعه مع الإفرنج، مثل موسم النبي موسى، موسم النبي روبين، موسم ... موسم ... وحزنت لأن صلاح الدين قد جعل مواسم بكل الأسماء، ولكن لم يجعل موسما باسم صلاح الدين.
وكنا نحن في فلسطين، في صراعنا مع الصهيونية والاستعمار البريطاني في حاجة إلى مواسم قومية وأيام وطينة، فاقترحت على نفر من المشتغلين بالحركة الوطنية أن ننظم يوما لصلاح الدين نحتفل به بذكرى موقعة حطين.
وكان ذلك، وجرى في شهر تموز من عام 1935 وفي مدينة حيفا، واحتشدت في ساحة مكشوفة جماهير غفيرة من الشعب، وتقاطرت وفود
__________
(1) مصطفى الدباغ، فلسطين بلادنا، ج1، ص103.(1/164)
كثيرة من سائر أرجاء البلاد، وكان عريف الحفل السيد رشيد الحاج إبراهيم، من زعماء فلسطين المعروفين.
وخطب في الحفل نفر من رجالات فلسطين، كان بينهم الأستاذ إسعاف النشاشيبي الذي كان يلقب يحلو له أن "أديب العربية"، فألقى خطابا وطينا رائعا، فألهب الجماهير بحركاته وإشاراته حتى راحت تردد سجعاته، كما تفعل مع المطربين والمنشدين.
وكنت واحداً من خطباء الحفل، وتحدثت طويلا عن أخطار الوطن القومي اليهودي وسيل الهجرة اليهودية على فلسطين، ودعوت الشعب في فلسطين والأمة العربية من حولها إلى أن تهب للذود عن عروبة الوطن، "وإلا فستسْقط فلسطين وتسقط معها حطين".
ومضت ثلاثة عشر عاما، بعد هذا الحفل، إلى أن جاء عام 1948، فسقطت فلسطين ومعها حطين في حوزة إسرائيل.
ولم تكن نبوءتي وحيا من السماء، بل وحيا من الأرض، فقد كانت الأرض تنجر من تحت أقدامنا، كانت الهجرة اليهودية بالألوف، والأسلحة اليهودية بالأكداس، والمنظمات العسكرية اليهودية في ازدياد. يقابلها تعذيب واضطهاد للشعب العربي على يد السلطة البريطانية. وكان طبيعيا أن تسقط فلسطين ومعها حطين. فقد تهيأ كل شيء ولم يبق إلا أن يحين الزمن.
ولكن الأمة العربية، التي تجمعت جيوشها حول حطين في عام 1187، سوف تتجمع، لا محالة، مرة ثانية، لتحرير فلسطين في معركة حطين الثانية.
وسيحتفل أبناؤنا وأحفادنا، بذكرى حطين الأولى والثانية. سيحتفلون بالذكرى إلى أجل لا يفنى.(1/165)
وسيقبلون الثرى إلى زمن لا يفنى.
ونحن، جيلنا الذي يدفن بعيدا عن مراقد الآباء والأجداد، سنكون معهم نمجد الذكرى، ونقبل الثرى، بأرواحنا وأفئدتنا. وتلك غاية المنى.
يا رب حقق هاتيك المنى بعد الوفاة، إذا لم نبلغها في الحياة.(1/166)
التحرير مع الإسراء..
والنصر مع المعراج
في اليوم الرابع من شهر أيلول من عام 1187 جلس التاريخ في مدينة التاريخ، وليس هذا من كلام الأحاجي والألغاز، فإن الذي جلس هو البطل صلاح الدين، والمدينة هي عسقلان.
وكان من حق صلاح الدين أن يجلس ولو بضعة أيام، فقد كان على ظهر جواده في الشهرين الماضيين، منذ معركة حطين، وهو ينازل الإفرنج أمام كل مدينة وكل قلعة، من أنطاكية شمالا إلى غزة جنوبا بل إنها كانت أيام حفاوة بهيجة ... عسقلان تحتفي بالفاتح ، والفاتح يحتفي بعسقلان، وكلاهما يحتفي بالنصر.
وقضت عسقلان إلى ذلك اليوم خمسة وثلاثين عاما تحت احتلال الإفرنج، فما وهنت عزيمة أهلها الشجعان، وهم من بني كنانة القبيلة العربية المعروفة بالبسالة والإباء.
والمدينة، بذاتها وبموقعها الاستراتيجية على البحر الأبيض المتوسط، تبوأت مكانتها في التاريخ عن جدارة، واستحقت لقبها "ذروة الشام" كما(1/167)
أسماها عبد الله بن عمر بن الخطاب في قوله "لكل شيء ذروة، وذروة الشام عسقلان" (1) .
وراح البطل المحارب يطوف أرجاء المدينة المحاربة، ويتفقد أسوارها الضخمة وقلاعها الحصينة، وهي تحيط بالمدينة على هيئة نصف دائرة تمتد أطرافها بعيدا إلى البحر، لتحصنه بين ذراعها، وهو بدوره يداعبها بأمواجه الهادئة والهادرة.
واستوقفه مشهد لم يره في القلاع التي مر عليها في حياته فقد كانت على رؤوس الأبراج وأطراف الأسوار مصابيح من أوان زجاجية، تضيء مداخل المدينة ومخارجها، حتى لا يباغت العدو أهلها بالغدر والمفاجأة.
وهنا أدرك صلاح الدين كيف صمدت عسقلان تلك الأعوام الطوال أمام حملات الإفرنج، وكانت آخر ما سقط في ثغور الشام.
ولقد فجع صلاح الدين، وهو يستعرض تاريخ عسقلان، أن تسقط بيد الإفرنج هذه المدينة القلعة الحصينة في عهد الخليفة الظافر العسقلاني، وهو ابن عسقلان، ولد فيها ونشأ في مرابعها ومغانيها، ولكن هذه شأنه فلم يكن "الظافر" ولا "العسقلاني" ولم يملك المؤرخ ابن القلانسي إلا أن يحزن على خبر سقوطها ويقول:" ... .لقد ساء سماعه، وضاقت الصدور وتضاعفت الأفكار" (2) .
ولكن صلاح الدين كان حفيا بعسقلان لسبب أخر، كذلك. فهذه هي المدينة التي ولد فيها وزيره ورفيق جهاده، القاضي الفاضل عبد الرحمن
__________
(1) معجم البلدان، ج4، ص112.
(2) ابن القلانسي، ص331.(1/168)
البيساني، وهو الذي "كانت تأتي الدولة بأسره لخدمته" كما جاء عنه كتب التراجم.
والقاضي الفاضل، ابن عسقلان، هو صاحب البيت الشهير الذي يقول فيه:
وإذا السعادة لاحظتك عيونها
نم فالمخاوف كلهن أمان
غير أن صلاح الدين لم يكن يرى في شعر وزيره ما يحمله أن نيام أو يسترخي بين أحضان الأمان، وبيت المقدس وقد قارب احتلال الإفرنج له تسعين عاما.
وصحيح أن عسقلان عروس الشام، كما أسماها المؤرخون، وصحيح كذلك أنها تتبوأ مكان الصدارة بين مصر والشام، ولكن بيت المقدس، عند صلاح الدين بل عند كل مؤمن، هي عروس السماء والأرض.
أولم يقل الله سبحانه وتعالى، في حديثه القدسي، وعن القدس بالذات، "أنت جنتي وقدسي وصفوتي من بلادي".
ثم إن صلاح الدين، خاض هذه الحروب في مصر والشام منذ فجر شبابه، ثم بعد ذلك أقام دولة الوحدة. كل ذلك من أجل تحرير بيت المقدس.
وقد أفصح صلاح الدين عن هدفه هذا في رسالة بعثها إلى الخليفة العباسي في بغداد وهو يستعرض أمور البلاد من بدايتها، ويقول: " ... . وتوالت إلينا الأخبار بما المملكة عليه من تشعب الآراء وتوزعها. وأن كل قلعة حصل فيها صاحب، والإفرنج بنوا قلاعا يتخوفون فيها الأطراف الإسلامية، ويضايقون فيها البلاد الشامية، وكل واحد يتخذ عند الإفرنج يدا،(1/169)
ويجعلهم لنصره سندا. أن بيت المقدس أن لم تتيسر الأسباب لفتحه، كانت همم القادرين بالقعود آثمة.."
وكلمة "آثمة" في ذلك العصر تقابل الخيانة العظمى في يومنا هذا ...
وفي رسالة أخرى يشير صلاح الدين إلى "القوة" التي تجمعت بين يديه ليرى فيها هدفه الكبير في تحرير الأرض المقدسة، والصخرة المشرفة بالذات، وها هو يعلن إلى الخليفة "وكان من شكر هذه النعمة أن نصرف القوة للفرنج الملاعين، فننازلهم وننازعهم، فنطِّهِر الأرض المقدسة من رجسهم بدمائهم، إلى أن ترق السيوف للصخرة المشرفة لما مر بها من قسوتهم واعتدائهم" (1) .
وبالإضافة إلى هذه النوازع السامية فقد كان همّ صلاح الدين في ليله ونهاره، أن "يكسر" الإفرنج، شيمة البطل المحارب الذي يتوق إلى النصر. فقد عاد مرة من إحدى غزواته ونهى أن تعزف له "نوبة" موسيقى فقد "حلف أن لا تضرب له نوبة حتى يكسر الإفرنج" (2) .
وكأنما أراد صلاح الدين أن يندد بالملوك والرؤساء في هذه الأيام الذين ما يصلون إلى مطار إلا وتضرب المدفعية إحدى وعشرين طلقة، احتفاء بمقدمهم، كأنهم حرروا بيت المقدس، أو حيا واحدا من أحيائه!!
ولقد رأى صلاح الدين وهو في عسقلان أنه قد آن الأوان ليفي بنذره "ويكسر" الإفرنج، وأن يكسرهم في بيت المقدس، ويحرر ترابها الطهور من رجسهم ودنسهم بدمائهم، كما قال.
__________
(1) أبو شامة، كتاب الروضتين، ج2، ص41.
(2) كتاب الروضتين، ج1،ص237.(1/170)
واستنفر صلاح الدين عساكره من جميع أرجاء البلاد، وكان بعضهم في إجازاته وسياحاته. وبدأ التجمع الكبير لليوم الكبير، وانفتحت أبواب التاريخ، ليسير البطل في موكب التاريخ.
وانبرى صلاح الدين أمام التاريخ، الإنسان العالمي، قبل الرجل العسكري، فأراد أن يجنب بيت المقدس ويلات الحرب، وأن لا تصبح بركة للدماء كما صنع بها الإفرنج قبل تسعين عاما، فطلب إلى الإفرنج في بيت المقدس أن يسلموا مقابل الأمان على أرواحهم وأموالهم. وجاءه وفد منهم فعرض عليهم عهد الأمان. ولكن الوفد رأى أن "الموت أيسر عليهم من أن يملك المسلمون البيت المقدس" (1) ولم يبق أمام صلاح الدين إلا القتال.
وخرج صلاح الدين من عسقلان إلى بيت المقدس، والسهول تفتح أكفها داعية بالنصر، والجبال تشرئب قممها إلى السماء مبتهلة بالفتح، وكل ما بينهما من شجر وثمر، وزهر وطير يهتف إلى السماء "اللهم نصرك الذي وعدت.
وبلغ صلاح الدين بيت المقدس في العشرين من شهر أيلول، ونزل
عند جانبها الغربي حيث أقام معسكره، وراح يضرب الأبراج والأسوار خمسة أيام بلياليها، وصمد الإفرنج واستبسلوا واستماتوا.
ثم أتجه صلاح الدين صوب الشمال فنصب مجانيقه وجميع أدوات الحرب، وأرسل إلى الإفرنج مرة ثانية يمنحهم الأمان ويطالبهم بالتسليم حقنا للدماء وصونا لبيت المقدس. ولم يأل صلاح الدين جهدا، كما ذكر
__________
(1) ابن واصل، مفرج الكروب ،ج2، ص211.(1/171)
أحد مؤرخي الفرنج، أن يجنب بيت المقدس ويلات الحرب وأن يمنع عن معابدها دمار القتال (1) .
ولكن الإفرنج أصروا على القتال، ودارت رحى الحرب داخل الأسوار وخارج الأسوار، وراحت قوات صلاح الدين توجه للإفرنج ضربات قاتلة، فهلكت طلائع الإفرنج أمام الأسوار، واقتحمت قوات صلاح الدين الخندق، ووصلوا إلى السور، فنقبوه وبدءوا يعدون لإحراقه، وهال الإفرنج ما رأوا، وطافوا في شوارع بيت المقدس يبكون ويبتهلون التماسا للنجاة، ثم أيقنوا أنهم هالكون لا محالة، وأن الهزيمة أصبحت أمرا واقعا، فكاتبوا صلاح الدين يطلبون الأمان، وبعد تبادل الرسل، استقر الرأي، فرضي صلاح الدين ومنحهم عهد الأمان.
وطلع الفجر، فكان يوم الجمعة، 27 رجب وهو يوم الإسراء والمعراج. ووقف التاريخ وقفة طويلة وهو يبصر بالملك الناصر صلاح الدين الأيوبي يدخل بيت المقدس ومن حوله أمراء الجيش والجند، من غير زهو ولا خيلاء يهللون ويكبرون، وكانت مصادفة تاريخية عجيبة، التقى فيها الإسراء مع النصر، والمعراج مع التحرير.
وكان موكبا حفَّه الزمان بكل مفاخره وأمجاده، ولم توضع السيوف في أغمادها إلا حين بلغ موكب النصر ساحة المسجد الأقصى، حيث وقف صلاح الدين في رحاب القبلة الأولى متجها بفؤاده إلى القبلة الثانية، يصلي صلاة النصر، ويدعو دعاء الشكر، فيرسله من المسجد الأقصى إلى المسجد الحرام.
__________
(1) Baldwin, vol. 1, p.156.(1/172)
ولقد توَّج صلاح الدين هذا النصر المجيد بروائع من الإحسان والرحمة، شملت جموع الإفرنج، أمرائهم ورهبانهم، ورجالهم ونسائهم وصبيانهم، حتى بلغت حد الأساطير، وما لحمتها إلا الصدق وما سداها إلا الحق، وكان أكثر رواتها هم فرسان الإفرنج الذين عادوا إلى أوطانهم، فقصوا أخبارها، وأصبحت قصائدهم في سمرهم، وأناشيدهم في أعيادهم!!
ومن تلك الأخبار أن صلاح الدين قد أطلق سراح الملكة مارية أرملة عموري الأول، كما أخلى سبيل ابنته، وأرملة أرناط الذي عرف بغدره وكيده للعروبة والإسلام.
وكان في جملة من أُخلي سبيلهم البطريق بما معه من الأموال والجواهر ومقدم عسكر الإفرنج وما حمل من زينة الكنائس والذهب والفضة، وسائر الأمراء وما نقلوا معهم من متاع.
ومن تلك الأخبار أن صلاح الدين قد كفل الأمن والسلامة والمؤن وأسباب السفر لجميع اللاجئين من الإفرنج الذين نزحوا عن القدس.
ومن تلك الأخبار كذلك ما رواه مؤرخو الإفرنج، من أن صلاح الدين لم يكتف بإطلاق سراح الشيوخ والأطفال واليتامى بغير فدية، بل إنه أغدق عليهم عونا ماليا ييسر لهم سبيل العودة إلى أوطانهم (1) .
لقد فعل صلاح الدين هذه المكارم، وأكثر وأكثر، وكأنما المذبحة الكبرى التي اقترفها الإفرنج يوم سقوط القدس قبل تسعين عاما ما جرت، وكأنما التقتيل والدمار والفظائع التي وقعت في شوارع القدس آنذاك ما وقعت، وكأنما الدماء التي كانت تخوض فيها خيول الإفرنج ما نزفت، وكأنما أولئك العلماء الذين سقطوا سبعين ألف شهيداً ما لقوا مصرعهم، بل
__________
(1) رانسيمان، ج2، ص446.(1/173)
لكأنما ما فعله الإفرنج كان إحسانا، فجزاهم صلاح الدين إحسانا بإحسان ... .وهذا هو صلاح الدين.
وقد رأى صلاح الدين أن المسجد الأقصى لم يعد مسجدا كما كان، إذ غير الإفرنج معالمه ومظاهره، فهدموا فيه وأضافوا إليه، وجعلوه معبدا لهم.
وقف صلاح الدين يشاهد ذلك كله، فأزال ما أضافوا، وأعاد المسجد إلى حاله، ولكنه كان شديد الحرص ألا تطيش أحلام العامة والجند فيثأروا للمسجد الأقصى من معابد الإفرنج ومقدساتهم، فأمر أن لا تمس كنيسة القيامة بأي ضرر أو أذى، وأن تحفظ للمقدسات قدسيتها فقد قال صلاح الدين :" عندما فتح أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه القدس في صدر الإسلام، أقرهم على هذا المكان ولم يأمر بهدم البنيان" (1) .
بل إن صلاح الدين كان أكثر من ذلك سماحة ورحابة، فقد ذكر أحد مؤرخي الإفرنج أن الإمبراطور البيزنطي أوفد بعثة إلى صلاح الدين يهنئه بفتح بيت المقدس، ويرجوه إعادة الأماكن المقدسة المسيحية إلى الكنيسة الأرثوذكسية، فرد صلاح الدين التحية بأحسن منها، واستجاب لطلب الإمبراطور (2) .
وفوق هذا وذاك فإن صلاح الدين، كما ذكر مؤرخ غربي حديث، "وثق في عالم مسيحي أرثوذكسي من بيت المقدس أسمه يوسف بابيط، فاتخذه مستشارا في كل معاملاته مع الأمراء المسيحيين (3) .
__________
(1) دول الإسلام ،ج1 ، ص71؛ و ابن الأثير، الكامل ، حوادث 583هـ.
(2) ابن الأثير، الكامل، حوادث سنة 583.
(3) رانسيمان،ج2، ص751.(1/174)
ولم ينسَ صلاح الدين وسط تلك الأيام الجليلة، الحافلة بمظاهر البهجة ومجالي السرور، أن في عنقه أمانة غالية يجب أن يؤديها حقها.
كان المسجد الأقصى ينتظر منبرا رفيعا زخرفته الأماني وزينته الآمال، وكلها أماني العروبة الإسلام، وكان المنبر قد صنع على أبدع ما صنع، بأمر من بطل عظيم، مات وأبصاره متطلعة صوب بيت المقدس، فمن البطل، وأين المنبر؟
ذلكم هو الملك المجاهد نورا لدين محمود بن زنكي، صنع المنبر قبل وفاته في حلب، وظل المنبر في حلب ينتظر بضع سنوات، حتى أذن الله بالنصر، وحمل صلاح الدين منبر نور الدين إلى أولى القبلتين وثالث الحرمين، وفاء للكفاح ورمزا للجهاد (1) .
ويروي التاريخ وهو شاهد عدل وصدق أن الأفراح والمباهج قد عمت دنيا العروبة وشملت عالم الإسلام، فالحواضر ابتهجت وزينت والبوادي اهتزت وربت، وزغردت البشائر في القصور والخيام، ووفد المهنئون على صلاح الدين من جميع الأقطار والأمصار. ويقول القاضي بهاء الدين ابن شداد، الرفيق والصديق "لم يتخلف رجل عن الحضور"!!
وقامت دولة الشعر، وطلع على الدنيا أدب "القدسيات" يمجد فتح بيت المقدس ويشيد ببطولات صلاح الدين. فما بقي وزن ولا بحر، ولا قافية ولا روي، إلا وأنشد لهذه الأمجاد وخلد ذكرها أبد الدهر.
ومن قصيدة رائعة، قال الشاعر المصري الشريف الجواني:
أترى مناما ما بعيني أبصر
القدس يفتح والفرنجة تكسرُ
__________
(1) ذيل النوادر، ص262.(1/175)
ومليكهم في القيد مصفود ولم
يُر قبل ذاك لهم مليك يكسر
وعن صلاح الدين:
نثر ونظم طعنه وضرابه فالرمح ينظم والمهند ينثر
حيث الرقاب خواضع حيث العيون خواشع حيث الجياه تعثر
وحين كانت تلك المباهج تعم أرجاء بيت المقدس كان العماد الأصفهاني، رفيق صلاح الدين في جهاده ورئيس ديوانه، يسهر الليالي الطوال، وهو يكتب إلى الدنيا الإسلامية يزف إليهم بشائر النصر، وكانت رسائل كلها حلاوة وطلاوة. وقد أصبحت اليوم عندنا هي العزاء والسلوان بعد أن فقدنا بيت المقدس.
ولا بأس أن يصبر المواطن العربي على بعض سجعاته فإن فيها صورة مشرقة رائعة عن تلك الأيام المجيدة.
يقول العماد الأصفهاني في رسائله التي كتبها إلى الحواضر الإسلامية عن ذلك الفتح المبين " ... . وكتبت إلى كل طرف بمعنى طريف، ولفظ فصيح حصيف ... وسهرت تلك الليالي حتى نظمت اللآلي ... .. وسارت شواردي إلى المشرق والمغرب، معربة عن هذا الفتح المعرب ... وبشرت المسجد الحرام بخلاص المسجد الأقصى، وهنأت الحجر الأسود بالصخرة البيضاء، ومنزل الوحي بمحل الإسراء، وتسامع الناس بهذا النصر الكريم والفتح العظيم ... فوفدوا للزيارة من كل فج عميق. وأحرموا من البيت المقدس إلى البيت العتيق" (1) .
__________
(1) العماد الأصفهاني، الفتح ، ص 48 ؛ ص ص 143-144.(1/176)
بل إن العماد قد رأى في فتح بيت المقدس "الهجرة الثانية"، هجرة الإسلام إلى بيت المقدس، وعلى عامها يحسن أن يبني التاريخ وينسق. وهذه الهجرة أبقى الهجرتين".
وإذا كان هذا الحب القدسي العذري قد حمل العماد أن يعتبر فتح بيت المقدس على يد صلاح الدين أعز من هجرة الرسول العظيم إلى المدينة المنورة، فقد ذهب أمراء صلاح الدين إلى أبعد من ذلك، هياما وغراما!!
وهذا الملك المظفر تقي الدين، ابن أخِ صلاح الدين، "وأحضر إلى قبة الصخرة أحمالا من ماء الورد، وتولى بيده كنس مساحاتها وعرصاتها، ثم غسلها بالماء مرارا حتى تطهرت، ثم أفاض عليها ماء الورد، ثم طهر حيطانها وغسل جدرانها ثم بخرها بمباخر الطيب (1) ".. هكذا يكون الحب والمحبوب. وكذلك تكون العبادة والعابدون. شأنهم في ذلك العاشق الولهان الذي راح "يقبل ذا الجدار وذا الجدارا" وقد فتنه "حب من سكن الديارا".
وهكذا احتفل بيت المقدس بالمعراج والإسراء كما لم يحتفل به في أي عصر من العصور من قبل ومن بعد، فلقد كان معراجا في موكب النصر، وكان إسراء في ركب التحرير.
وانطلق بيت المقدس في مباهجه ومسراته، وتجاوبت أصداؤها في كل أقطار العروبة وأمصارها وهي تردد ما قاله ابن سيناء الملك، مهنأ صلاح الدين بذلك الفتح المبين:
لست أدري بأي فتح تهنأ
لا تخص الشام منك التهاني
يا منيل الإسلام ما قد تمنى
__________
(1) ابن واصل، مفرج الكروب، ج2، ص220.(1/177)
كل صقع وكل قطر يهنا ويهنا
أجل، لقد تبادلت الأمة العربية التهاني أعز التهاني، في الشام وفي كل ديار العرب ولكن أروعها وأبدعها كان في بغداد، حيث بلغت الأفراح ذروتها.
فقد استقبلت بغداد، وكانت وما تزال مقر الخلافة العباسية في عصر الناصر لدين الله، موكب النصر فملأ ميادينها وشوارعها، بما لم تشهد مثيلا له في تاريخها الطويل الحافل بالأمجاد.
فقد استقبلت بغداد، وكانت ما تزال مقر الخلافة العباسية في عصر الناصر لدين الله، موكب النصر فملأ ميادينها وشوارعها، بما لم تشهد مثيلا له في تاريخها الطويل الحافل بالأمجاد.
وكان هذا الموكب مؤلفا من أمراء الإفرنج وأسراهم، يسيرون في روعهَ ورهبة، راكبين خيولهم، لابسين دروعهم، حاملين رماحهم، وقد نكَّسوا أعلامهم وبنودهم، يتقدمهم تاج الملك الأسير، يحمله نفر من الأسرى.
وقد أبدع ابن واصل وهو يصف دخول موكب النصر إلى بغداد،
فقال :" دخلت الأسارى من الإفرنج على هيئتها يوم قراعها، راكبة خيولها، في طوارقها وأدراعها وبيارقها، وقد نكست أعلامها وبنودها" (1) .
ولم يكن صلاح الدين، مثل الملوك والرؤساء في هذا العصر، شغوفا بالاحتفالات والهتافات، وتسخير الرجال للتصفيق، والنساء للزغاريد، فقد كان الجهاد الأصيل عند صلاح الدين هو هدف الأهداف وكان بيت المقدس عنده قدس الأقداس.
__________
(1) ابن واصل، مفرج الكروب، ج2، ص279.(1/178)
وتحرير بيت المقدس قد ألقى على صلاح الدين أعباء جديدة، فلا بد من اقتلاع الإفرنج من ديار الشام كلها حتى يظل بيت المقدس في أمان. وخرج صلاح الدين من بيت المقدس ليبدأ الجهاد من جديد.
ولم يبق للإفرنج يومذاك في الوطن العربي،إلا صور وطرابلس وأنطاكية على الساحل، وحصونا أخرى في الداخل.
فبدأ صلاح الدين حملة على قلعة هونين (لبنان) فاستولى عليها، في آخر كانون الأول 1197، على الرغم أنها "كانت من أحصن القلاع وأمنعها" ثم هاجم طرطوس "وأمر بوضع النار في البلد وأحرقه جميعه". وأتجه نحو بانياس في الشمال واستولى عليها. ومنها مضى إلى جبلة واستسلمت له بعد مقاومة عنيدة. وسار إلى اللاذقية، وكانت أكبر الموانئ في "إمارة أنطاكية، وسقطت بيده بعد أن هرب منها الإفرنج".
وراح صلاح الدين يستولي على القلاع والحصون حول أنطاكية وطرابلس، حتى أصبحت هاتان الإمارتان "مقصوصتي الأجنحة" (1) .
وبعد أن فرغ صلاح الدين من منازلة الإفرنج في الشمال، انطلق إلى الجنوب، إلى صفد وكوكب في شمال فلسطين، فاستولى عليهما بعد قتال ضار مرير، ثم توغل صلاح الدين إلى شرقي نهر الأردن، ونازل حصن الكرك، فألقى عليه الحصار، ودارت معركة رهيبة بين الفريقين انتهت باستسلام الإفرنج "بعد أن فنيت أزوادهم، ونفدت موادهم ... . حتى أكلو لحم آخر حصان". واستسلم حصن الشوبك بعد ذلك ببضعة أشهر، في نهاية 1188.
__________
(1) أبو شامة، كتاب الروضتين، ج2، ص132.(1/179)
وهكذا قضى صلاح الدين ثلاثة أعوام (1187-1190) وهو يقارع الإفرنج في طول البلاد وعرضها، ينتزع الحصون من أيديهم، ويدمر القلاع على رؤوسهم. حتى لم يبق لهم من مملكة بيت المقدس إلا مدينة صور، ومن إمارة طرابلس إلا مدينة طرابلس وبعض الضواحي، ومن إمارة أنطاكية بعض القرى.
واليوم يتساءل المواطن العربي، وهو يستعرض هذه المعارك التي خاضها صلاح الدين، من عسقلان إلى بيت المقدس إلى صفد إلى بانياس إلى اللاذقية، والى العديد من القلاع والحصون-يتساءل المواطن العربي، كيف سقطت فلسطين بأسرها في عصر الملوك والرؤساء، وكيف سقطت معها سيناء والجولان؟؟!!
وإنا لنجد الجواب حاضرا، على لسان أصدقاء صلاح الدين ورفاق جهاده. فلقد عرفوا صلاح الدين، كما نعرف الملوك والرؤساء، وما علنيا إلا أن نقرأ ما قالوا:
قالوا" ... . كان السلطان صلاح الدين شجاعا شهما مجاهدا في سبيل الله، وكان مغرما بالإنفاق في سبيل الله ... . وكانت مجالسه منزهة عن الهزء والهزل، ومحافله حافلة بأهل العلم والفضل، وكان من جالسه لا يعلم أنه جالس سلطانا لتواضعه". وأين هذا من أخلاق الملوك والرؤساء!!.
وقالوا، " أن صلاح الدين كان مناضلا أصيلا، وكان حبه للجهاد والشغف به قد استولى على قلبه وسائر جوانحه استيلاء عظيما، بحيث ما كان له حديث إلا فيه، ولا نظر إلا في آلاته، ولا كان له اهتمام إلا برجاله، ولا ميل إلا إلى من يذكره ويحث عليه، ولقد هجر في محبة الجهاد في سبيل(1/180)
الله أهله وأولاده ووطنه وسكنه وسائر بلاده، وقنع من الدنيا بالسكون في ظل خيمة تهب بها الرياح ميمنة وميسرة" (1) وأين هذا من سلوك الملوك والرؤساء!!
وقالوا، إن صلاح الدين كان إنسانا قبل أن يكون سلطانا، فقد أوصى ابنه ونائبه في حلب " ... ... أحذرك من الدماء والدخول فيها والتقلد بها، فإن الدم لا ينام ... . ولا تحقد على أحد فإن الموت لا يبقي على أحد" (2) وأين هذا من تصرف الملوك والرؤساء!!
وقالوا " إن صلاح الدين كان للوطن العربي كله، لا لمسقط رأسه فحسب، فقد كانت تكريت في العراق موطن صباه، وكانت بعلبك مسرح شبابه وفيها تعلم الفروسية، وفي دمشق أصبح مدير شرطتها، وفي القاهرة وزيرها، وللوطن العربي كله سلطانه". وأين هذا من ملوك الانفصال، ورؤساء التجزئة!!
وقالوا: إن صلاح الدين أنفق كل ما تجمع بين يديه من أموال في سبيل الجهاد، فقد "مات ولم يخلف في خزائنه إلا سبعة وأربعين درهما ناصرية، وديناراً واحداً ذهباً صورياً، ولم يخلف ملكا ولا دارا ولا عقارا ولا بستانا ولا مزرعة". وأين هذا من كنوز الملوك، وخزائن الرؤساء؟!
وقالوا: إن صلاح الدين قد التزم في حياته الجد والبساطة، فقد عزل نائب ديوانه "حين استجد دارا في دمشق لينزل فيها السلطان وأنفق عليها
__________
(1) ابن شداد، النوادر السلطانية، ص410.
(2) المصدر السابق، ص241.(1/181)
أموالا كثيرة، وقال له "هذا منزل لا يصلح لمثلي أبدا" (1) . وأين هذا من قصور الملوك والرؤساء!!
وأخيرا، قالوا، " أن جنازة صلاح الدين لم تختلف عن جنازة سائر الناس، وغطى نعشه ثوب مخطط.. ولم يسمح لأحد من الشعراء أن ينشد في رثائه. وجرى اقتراض ثمن التبن الذي بلت به الطين اللازمة لقبره. ودفن معه سيفه الذي لزمه في الجهاد". وأين هذا من مواكب الذين ماتوا من الملوك والرؤساء!!
ذلك كان صلاح الدين. أما الملوك والرؤساء فإن المواطن العربي يعرف أكثرهم، ويعرف لكل واحد منهم أكثر من حكاية، بالقصور، بالمظالم، بالدماء، بالكنوز، بالبغضاء، بالأحقاد، بالغدر، وبالخيانة.
فما أبعدهم عن صلاح الدين، وما أبعد هاماتهم عن مواطئ أقدامه ...
وما أبعد الليلة عن البارحة!!
__________
(1) ابن شداد، النوادر السلطانية، ص251.(1/182)
المعركة الكبرى..
في حزيران
"سقط بيت المقدس، سقط بيت المقدس"
تلك كانت الصيحة في أوروبا بأسرها حينما دخل صلاح الدين إلى بيت المقدس فاتحا ومحررا، بعد أن ظلت في يد الإفرنج قرابة تسعين عاما.
وأصبحت أوروبا بملوكها وأمرائها مناحة كبرى تندب سقوط بيت المقدس، وأصبح اسم صلاح الدين على كل شفة ولسان، والغضب الحزين يمتلك مشاعر الجميع، والجميع يطلبون الثأر والإنتقام.
وبلغ من شدة الأسى، أن وليم الثاني ملك صقلية قد ارتدى ثوبا من الخيش، والتمس مكانا اعتزل فيه عدة أيام، وتعاهدت الجماهير على الصوم في كل يوم جمعة، والامتناع عن تناول اللحم يومي الأربعاء والسبت (1) .
... وتحول الغضب إلى اجتماعات بين الملوك والأمراء والنبلاء، حتى أصبحت أوروبا على مدى عامين كاملين (1187-1190) خلية نحل كبرى تدوي بالحديث عن الحرب والاستعداد للحرب ... ..
__________
(1) رانسيمان،ج3، ص ص21-22.(1/183)
وكما تفعل إسرائيل في الجباية اليهودية العالمية في أيامنا هذه، فقد كان من أبرز القرارات التي صدرت عن الملوك في أوروبا فرض ضريبة عامة عرفت "بالعشور الصلاحية" لمقاتلة صلاح الدين، وانتزاع بيت المقدس من يديه، وإعادتها كما كانت مملكة للإفرنج..
ثم بدأت الاستعدادات العسكرية، وبدأت معها موجات من المقاتلين تتجمع في كل مكان في أوروبا، تسافر إلى المشرق العربي ولتتجمع ثانية في ساحل بلاد الشام تمهيدا لاسترداد بيت المقدس ... .وهذا ما عرف في التاريخ بالحملة الصليبية الثالثة.
وكان يتزعم هذه الحملة ثلاثة من أعظم ملوك أوروبا، إمبراطور ألمانيا، وملك فرنسا ,وملك بريطانيا، وتحتهم الأمراء والنبلاء ...
وخرجت الجيوش من أوروبا من ثلاث طرق: الأول: عن طريق البحر الأبيض المتوسط مرورا بقبرص، والثاني : عن طريق جبل طارق، والثالث: عن طريق البوسفور والدردنيل.
وكان في أوائل الذين وصلوا إلى سواحل الشام (أيلول 1189) أسطول ضخم مؤلف من سفن دانمركية وفلمنكية يبلغ عددها خمسمائة قطعة.
وفي نفس الوقت غادر أسطول إنجليزي نهر التيمس متجها إلى سواحل البرتغال، ومنه عبر مضيق جبل طارق إلى الساحل الشرقي للبحر الأبيض المتوسط (1) .
وكان جيش الألمان أكبر قوة برية، فقد بلغ عدده، حسب إحصاءات مؤرخي الفرنج، خمسين ألف فارس، وماية ألف من الرجالة.
__________
(1) المصدر السابق ، ص30.(1/184)
وكانت الخطة العسكرية كما وضعها الملوك الثلاثة، الاستيلاء على عكا أولا، باعتبارها أكبر ميناء عسكري في فلسطين، ومن ثم التوجه جنوباً لاحتلال بيت المقدس.
وكانت لهذه الجيوش الأوروبية طليعة قوية مقاتلة سبقتهم إلى ميدان المعركة. ذلك أن الفرنج في ديار الشام، في أنطاكية وطرابلس وصور قد خرجوا من "بلادهم" عن طريق الساحل قاصدين مدينة عكا ... . وكان على رأس هذه القوة الملك "جاي" وهو الذي كان قد أسره صلاح الدين في معركة حطين ثم أطلق سراحه، بعد أن اقسم قسما عليظا "أن لا يشهر في وجه صلاح الدين سيفا أبدا، وأن يكون غلامه ومملوكه وطليقه أبدا".
ولكن الإفرنج، كإسرائيل، لا يمين لهم ولا ذمة، ولا عهد ولا هدنة.
وفي 28 أغسطس، وصل ملك الإفرنج إلى ضواحي عكا فأقام معسكره على تل المصلبين المعروف بتل الفخار، قريبا من نهر بيلوس "النعامين" ليكونوا على مقربة من الماء" (1) .
وما هي إلا بضعة أيام حتى أحاط الإفرنج بقلعة عكا، وضربوا حولها الحصار من البحر إلى البحر، وفيها أهلها الأبطال وحاميتها الباسلة.
وبادر صلاح الدين إلى نجدة المدينة المحاصرة، فرتب جيشه ونظم صفوفه، وجعل مقر قيادته على تل كيسان، وميمنته على تل العياضية وميسرته على النهر، واتخذ من صفورية مركزا للإمداد والتموين (2) .
وهكذا ضرب صلاح الدين حصارا على الحصار، الإفرنج يحاصرون عكا، وصلاح الدين يحاصرهم، وأصبح ميدان المعركة فريدا حقا، ومجيدا
__________
(1) ابن واصل، مفرج الكروب ،ج2، ص291.
(2) ابن شداد، النوادر السلطانية ، ص88.(1/185)
حقا، طوقان من الحصار يتربص لهما الفناء والدمار، وأخذت أنامل الزمان تقلب صفحات التاريخ.
ثم توالت أساطيل الإفرنج الأوروبية تحمل البارونات والأمراء بكتائبهم وأسلحتهم من الفلمنكيين والإفرنسيين والدانمركيين والفريزيين والسكسون.
وفي تشرين الأول 1190 وصل الجيش الألماني الضخم ومعه أدوات الحصار والمؤن الوافرة وفي نيسان 1191 وصل الجيش الفرنسي وعلى رأسه الملك فيليب أغسطس، صاحب الشخصية المعروفة في القرون الوسطى.
وفي 7 حزيران وصل الملك ريتشارد قلب الأسد، وضرب معسكره حول المدينة الباسلة لتبدأ المعركة الفاصلة، وأصبح الغرب كله بملوكه وأمرائه وجحافله وأساطليه، يحاصرون القلعة الحصينة، الرابضة على مشارف البحر المتوسط، عيونهم على عكا ولكن قلوبهم في بيت المقدس.
ومضى عامان طويلان والقتال يتوالى والمعارك تتعاقب ضارية مستميته، فالإفرنج محدقون بالأسوار يضربونها بالمجانيق والنار، وصلاح الدين محدق بالإفرنج يشدد عليهم الضربات والهجمات.
ولم يتخل صلاح الدين عن المدينة المحاصرة وحاميتها الصامدة، بل كان يفرغ كل جهده وطاقته في سبيل فك الحصار عنها، وتشتيت الإفرنج من حولها.
وذات مرة حمل صلاح الدين على الإفرنج حملة مباغته، بنفسه، فشق طريقه إلى عكا ودخلها، ورقي إلى السور حتى أشرف على عسكر الإفرنج، واستطاع أن يمد الحامية بالمؤن والرجال والسلاح. وأنزل بالإفرنج خسائر(1/186)
فادحة (1) ولكن قوات صلاح الدين لم تكن كافية للدخول مع الإفرنج في معركة فاصلة.
غير أن عكا لم تترك وشأنها، محاصرة وحدها، من غير عون ولا غوث من الأمة العربية، فقد وصلت إلى عكا أساطيل بحرية ضخمة من مصر تحمل الجند والمؤن والسلاح، واستطاعت أن تصل إلى ميناء عكا رغم الحصار البحري الذي ضربه الإفرنج حولها.
ووصلت كذلك إمدادات عن طريق البر، وكان على رأسها الملك العادل، أخو صلاح الدين، كما توالت أجناد كثيرة وكميات وفيرة من المؤن والأموال والسلاح، من دمشق وحمص وحماه وحلب والموصل وسنجار (2) .
ووقعت بين الفريقين المتحاربين مناوشات ومصادمات عنيفة، وقام الإفرنج بهجمات متلاحقة على عكا، ولكن حاميتها بقيت ثابتة صامدة تقذف الإفرنج بكل أسلحة الدمار والخراب، وحاول الإفرنج اقتحام "برج الذبان" الذي يقع وسط البحر، فردتهم الحامية على أعقابهم، مما جعل الإفرنج ينطلقون عليه اسم "البرج الملعون" (3) .
وفي تشرين الثاني 1190 قامت جيوش الإفرنج بهجمة مستميته على جيش صلاح الدين تستهدف إبادته وإفناءه، ووقعت المعركة في ميدان فسيح ميمنته نهر "النعامين" بقرب البحر، وميسرته في تل الخروبة. فارتد صلاح الدين على الإفرنج وطوق جيشهم والتحم معهم في معركة عنيفة وأنزل بهم خسائر ضخمة، ولكن قوات الإفرنج استطاعت بعد تضحية بالغة أن تفلت
__________
(1) ابن شداد، النوادر السلطانية، ص89.
(2) أبو شامة، كتاب الروضتين، ج2، ص148؛ ابن الأثير، الكامل، ج2،ص27.
(3) رانسيمان،ج3، ص54.(1/187)
من الطوق، وعادت إلى معسكرها حول أسوار عكا ليشدوا عليها الحصار ويحملوها على التسليم.
وجاء دور الفدائيين الأبطال، وكان لا بد لهم من دور كبير في هذه المعركة، فقاموا بأعمال خارقة أفشت الرعب والفزع في صفوف الإفرنج وأوقعت بهم خسائر جسمية، كالعهد بالفدائيين الأبطال من شعب فلسطين، في معاركهم مع إسرائيل.
وخلافا لما يفعله الملوك والرؤساء اليوم، فقد كان صلاح الدين يسند الفدائيين ويمدهم بالمال والمؤن والسلاح في ميدان القتال، وإذا استشهدوا يرعى نساءهم وأولادهم، فلا يتعرضون لذل السؤال، والوقوف على الأعتاب، والتماس الفتات من بين النوافذ والأبواب!! وكان من هؤلاء الفدائيين شاب من دمشق، يشتغل في صناعة النحاس، ويدعى "علي" تطوع بأن يدمر أبراج الإفرنج، وكانوا قد صنعوها في خمس طبقات ونصبوها حول عكا ليهاجموا بها أسوارها وأبراجها، فابتكر البطل، علي طريقة بارعة في تدمير هذه الأبراج فرمى بالمنجنيق قدور النفط البارد، لتبلل الأبراج من كل ناحية، ثم رماها بالنار فاشتعلت فيها (1) .
وقد عرض صلاح الدين على هذا الفدائي البطل مكافأة مجزية فاعتذر بكل شمم وإباء، وقال "إن مافعلت لله ولا أريد مكافأة إلا منه"، وذلك شأن الفدائيين من أبطال فلسطين يغادرون خيامهم المهملة وما عند أهلهم وذويهم إلا زاد يوم أو يومين، وكل ما يرجونه من جزاء أو مكافأة هو تحرير الوطن السليب فذلك عندهم كنز الكنوز.
__________
(1) ابن شداد، النوادر السلطانية، ص120.(1/188)
ومن الفدائيين الأبطال شاب شجاع اسمه عيسى العوام، نزل البحر ذات ليلة، وقد شد على وسطه ثلاثة أكياس فيها ألف دينار ورسائل هامة من صلاح الدين إلى حامية القلعة، وكانت الأمواج عاتية فلم يستطع "العوام" أن يتغلب عليها فغرق ومات، وقذف به البحر بعد أيام إلى شواطئ عكا، فأخذ أهلها ما كان معه من رسائل ومال، وكان هذا الفدائي البطل شابا مسيحيا (1) ، شأن الفدائيين من أبناء فلسطين يتساقطون في ميدان المعركة مسلمين أو نصارى رمزاً لأخوة السلاح والتحرير.
وكان ابن شداد كريما في رثائه للفدائي العوام فقال فيه "فما رؤي من أدى الأمانة في حال حياته وقد ردها في مماته إلا هذا الرجل (2) . ذلك أمر الفدائيين الشجعان في البر، أما أمر الفدائيين الأبطال في البحر، فلا يقل ذكرا ولا فخرا.
ويروى أن مجموعة من البحارة الشجعان بلغ عددهم 650 بطلا، أبحروا من ميناء بيروت وهم يحملون معهم الأسلحة والمؤن لينجدوا حامية عكا وأهلها ويخففوا عنهم وطأة الحصار، وما أن وصلوا بسفينتهم الكبيرة شواطئ عكا حتى تصدى لهم أسطول الإنجليز وأحاطوا بهم من كل جانب، فلم يجد الفدائيون الأبطال سبيلا للوصول إلى عكا ولا سبيلا للنجاة، وأوشكوا أن يقعوا أسرى في يد الإفرنج ويغنموا سفنهم وما فيها، فآثروا ميتة العز والفداء، فأغرقوا سفينتهم وغرقوا فيها، وكان قائد الفدائين يصيح
__________
(1) صلاح الدين بطل حطين، ص128.
(2) النوادر السلطانية، ص120.(1/189)
في وجه الإفرنج "والله لا نقتل إلا عن عز، ولا نسلم ... من هذه السفينة شيئا" (1) فضربوا بذلك أروع مثل في التضحية والبطولة.
ثم بدأت المعركة الحاسمة الفاصلة في 8يونيو (حزيران) من عام 1191 حين تكاملت قوى الإفرنج بوصول ملوك ألمانيا وفرنسا وإنجلترا يتقدمهم قلب الأسد، فوزع الإفرنج قواتهم إلى شطرين، شطر ينازل المدينة المحاصرة ويشدد عليها الضربات والهجمات، والآخر يتولى إشغال قوات صلاح الدين حتى يبعدها عن ميدان المعركة.
وأخذت المعركة دوراً رهيبا، إذ اشتد القتال بين الفريقين ووضع كل فريق في الميدان جميع قواته وطاقاته، وراح التاريخ يسرد على الملوك والرؤساء وصفا مثيراً عن سير القتال.
وتحدث ابن شداد عن الإفرنج كيف كانوا يوالون الضرب بالمنجنيقات على الأسوار "حتى تخلخلت، وضعف بنيانها، وأنهك التعب والسهر أهل البلد. ولما أحس الإفرنج ، بما حدث بالسور من الخلل وتداعي بناؤه، شرعوا في الزحف من كل جانب، وانقسموا أقساما وتناوبوا فرقا، كلما تعب قسم استراح وحل مكانه قسم آخر، وصمد المدافعون عن المدينة، وبادر صلاح الدين بالهجوم بعساكره على خنادق الإفرنج، وهو يحث الناس على الجهاد، وينادي يا للإسلام، وعيناه تذرفان الدموع" (2) .
يتحدث أبو شامة عن هول المعركة، ويصف هجمات الإفرنج وكيف "قاتلوا مرة بالأبرجة، وأخرى بالمنجنيقات ، وتارة بالدبابات وتارة بالكباش، وآونة باللوالب، ويوما بالنقب، وليلا بالسرايات، وطورا بطم الخنادق،
__________
(1) ابن واصل، مفرج الكروب ،ج2، ص351.
(2) ابن شداد، سيرة صلاح الدين، ص155.(1/190)
وآنا بنصب السلالم، ودفعة بالزحوف في الليل والنهار، وأحيانا بالبحر بالمراكب" (1) .
وثم يتحدث ابن واصل، عن المعركة الرهيبة، ويصف كيف كان الإفرنج"يردمون الخندق المحيط بالمدينة، بجثث الإنسان والحيوان ليعبروا عليها إلى المدينة (2) .
واشتدت الضائقة بالمدينة المحاصرة وحاميتها الباسلة بعد عامين طويلين من القتال، فهلك الرجال ونضبت الأقوات، واستنفدت المقاومة كل الإمكانات، وقد تجلى أبطال عكا وحاميتها الباسلة بكل فضائل النضال، وتقاليد القتال، واحتملوا وطأة الحصار بصبر وبسالة، وصمدوا أمام هجمات الإفرنج المتلاحقة.
وأدرك صلاح الدين أن الموقف أصبح خطيرا، وأن عكا الباسلة توشك على السقوط، فرأى أن يوجه نداء إلى جميع الحواضر في الوطن العربي في مشرقه ومغربه للمبادرة إلى النجدة.
وكان أول ما وجهه صلاح الدين، مستصرخا مستنجدا، رسالة بعث بها جميع الأقطار يحض فيها على الجهاد، ويحذر من تضامن الإفرنج وقعود المسلمين، وها هو يقول عن الإفرنج "وما دام البحر يمدهم، والبر لا يصدهم، فبلاء البلاد بهم دائم. فأين حمية المسلمين ونخوة أهل الدين وغيرة أهل اليقين، وما يقتضي عجبا من تضافر الإفرنج وقعود المسلمين، فانظروا إلى الإفرنج، أي حشد حشدوا، وأي أموال غرموها، وأنفقوها، وما بقي ملك في بلادهم وجزائرهم، ولا عظيم ولا كبير إلا جارى جاره
__________
(1) أبو شامة، كتاب الروضتين، ج2، ص185.
(2) ابن واصل، مفرج الكروب، ص35.(1/191)
في مضمار الأنجاد" (1) . إلى أخر ما جاء في تلك الرسالة الصارخة، من استنهاض الهمم واستنفار العزائم.
وبعث صلاح الدين كتابا إلى الخليفة العباسي في بغداد، أفاض فيه عن قوات الإفرنج، شارحا الموقف العسكري شرحا دقيقا، وقال في كتابه "فليس هذا العدو بواحد فينجح فيه التدبير، ويأتي عليه التدمير ,وإنما هو كل من وراء البحر. فإنه لم يبق مدينة ولا بلدة ولا جزيرة إلا جهزت مراكبها وأنهضت كتائبها وحملت ذخائرها فجاءوا لابسين الحديد بعد أن كانوا لابسين الحداد (2) .
وفي رسالة أخرى استعرض صلاح الدين قوة الإفرنج ومواصلتهم القتال، بالنساء والرجال، تحقيقا لأهداف العدوان، مشيرا إلى أن الإفرنج" فارقوا أوطانهم ... .امتثالا لأمر مركسيهم، ... .. لا يجدون مع كثر ة المشاق ملالا، حتى خرجت النساء من بلادهن متبرزات، وسرن إلى الشام في البر والبحر متجهزات (3) .
ولما اشتد الحصار على عكا، غداة وصول الألمان إليها، أرسل صلاح الدين إلى الخليفة العباسي كتابا آخر كله استصراخ واستنجاد حتى لتكاد نفسه أن تذهب حسرات مع كتابه، فيعرض خضوعه للخليفة ويلتمس عونه وغوثه ، متمنيا أن يقف على عتباته بين يديه، ويقول في كتابه " ومن خبر الإفرنج أنهم الآن على عكا يمدهم البحر بمراكب أكثر عدة من أمواجه ... ,ما مثل الخادم نفسه إلا بحالة عبد، لو أمكنه لوقف بالعتبات
__________
(1) أبو شامة، كتاب الروضتين، ج2 ، ص148.
(2) ابن واصل، مفرج الكروب ،ج2، ص306.
(3) المصدر السابق، ج2، ص332.(1/192)
ضارعا، وقبل ترابها خاشعا ... رب أني لا أملك إلا نفسي وها هي في سبيلك مبذولة، وأخي وقد هاجر إليك هجرة يرجوها مقبولة (1) .
ويروي التاريخ أن الخليفة العباسي في بغداد، الجالس على الثروات والكنوز، الناعم بالقصور الباذخة، الهانئ بالنفائس الرائعة، قد أرسل إلى صلاح الدين "حملين من النفط، وتوقيعا بعشرين ألف دينار تؤخذ قرضا من بعض التجار باسم الخليفة" (2) . وتلك كلها كانت نجدة أمير المؤمنين الموكل بالجهاد والمجاهدين.
وقد ضجت الأحجار الصماء في أسوار عكا وأبراجها، مستنكرة هذه النجدة الخسيسة من الخليفة، فرفضها صلاح الدين ورد توقيع الخليفة إلى الخليفة ليكنزها مع كنوزه.
ومرة ثانية، أصبح صلاح الدين إنسانا صوفيا تجرد من مطالب الدنيا وشهواتها وأمجادها، فدعا الخليفة أن يحضر إلى ميدان المعركة بشخصه ليقودها بنفسه، ولم يكتف بهذا بل أعلن صلاح الدين أنه مستعد أن يتنازل للخليفة عن مملكته المترامية الأطراف بكل أقطارها وأمصارها" (3) .
ولكن هذا الحوار الرفيع بين الملك البطل والخليفة المخاتل لم يحد فتيلا، فإن المعركة الرهيبة في عكا، وصرخات صلاح الدين ومقترحاته لم تحرك قلب الخليفة في بغداد، بل مضى سادراً في غيه وضلاله يسخر من صلاح الدين في مجالس لهوه وسمره، حتى أنه لم يتردد في أن يهزأ بصلاح
__________
(1) كتاب ابن واصل، مفرج الكروب، ج2، ص324.
(2) المصدر السابق، ج2، ص314.
(3) كتاب الروضتين، ج2 ، ص167.(1/193)
الدين، وينتقص من جهاده في فتح بيت المقدس، ويبخسه حقه ويقول "يفتخر علينا بالقدس وهل فتحها إلا بعساكرنا وتحت رعايتنا" (1) .
وهكذا فإن خليفة العرب والمسلمين، وهو الذي أنيط به أمر الجهاد والذود عن حمى العروبة والإسلام، لا يكتفي بالتقاعد عن الجهاد غارقا إلى أذنيه في حياة الترف في قصور بغداد، ينهل من مباذخها ومباذلها، ولكنه جعل حياة المجاهد البطل تندرا وتفكهة في مجالسه الفارغة من كل معنى من معاني الجهاد، وهذه هي مصيبة المجاهدين المناضلين مع الخاملين المتخاذلين.
ولكن صلاح الدين بعد أن يئس من الخلفية العباسي في المشرق العربي، ولى وجهه شطر الخليفة في المغرب الأقصى، يلتمس نجدته ويرجو عونه، وللمغرب يومئذ أساطيل ضخمة تمخر عرض البحار، ولها شأنها وسطوتها، يخشاها الأعداء ويخطب ودها الأصدقاء.
وبعث صلاح الدين سفارة إلى الخليفة، وهو سلطان الموحدين في المغرب أبو يوسف يعقوب بن عبد المؤمن، ووصلت السفارة إلى سلطان الموحدين وكلها أمل ورجاء في أن يستجيب خليفة المغرب بعد أن تخاذل خليفة المشرق، وقد أوضح صلاح الدين في رسالته قوة الإفرنج وكثرتهم عَددا وعُددا، وما يستطيع أن ينزله الأسطول المغربي بالإفرنج من ضرب مواصلاتهم وقطع مؤنهم، وشرح صلاح الدين أحوال الإفرنج" وخروج نجداتهم وكثرتها، وقوتها وثروتها، ومسارعتها ... .لا يمضي يوم إلا عن قوة تتجدد وميرة تصل ... .."
__________
(1) الفتح القسي، ص84.(1/194)
ويذكر أبو شامة أن صلاح الدين قد حدد في رسالته دور المغرب في منازلة الإفرنج، وأنه "لو أرسل الله عليه أسطولا قويا يقطع بحره (بحر العدو) لأخذنا العدو إما بالجوع أو الحصر، أو برز فأخذناه بالنصر ... .. فالبدار البدار" (1) .
وبعد ذلك، وجه صلاح الدين إلى المغرب رسالة ثانية يستنجد ويستنهض ويلح في طلب العون والمدد ويقول "وكان المتوقع من الدولة العالية، والعزمة الفادية، والهمة المهدية الهادية، أن يمد غرب الإسلام المسلمين، بأكثر مما يمد غرب الإفرنج" (2) .
ولم يكتف صلاح الدين بهذه الإشارات والتلميحات ولكنه طلب على التحديد من الأسطول المغربي بأن "يقطع على الإفرنج مادتهم من جهة البحر (3) .
وكان الأسطول المغربي من غير شك قادرا على أن يضرب الإفرنج في البحر الأبيض المتوسط ويقطع عنه المدد والعون، ويجعل حملة الإفرنج حول عكا معزولة عن قواعدهم تحت رحمة صلاح الدين، فقد كان الأسطول المغربي مؤلفا من أربعمائة سفينة مجهزة أقوى تجهيز، وهذا ما حدى بصلاح الدين أن يؤكد في رسائله إلى سلطان الموحدين قيمة الأسطول المغربي في معركة عكا حين قال "فأحوج ما كنا الآن إلى النجدة البحرية
__________
(1) أبو شامة، كتاب الروضتين، ج2، ص170.
(2) المصدر السابق، ص171.
(3) المصدر السابق، ص174.(1/195)
والأساطيل المغربية، فإن للإسلام نظرات إلى الأفق المغربي يقلبها، وخطرات من اللطف الخفي يقربها" (1) .
وكانت هذه العبارات الرائعة الصافية كافية أن تحرك جبال الأطلس من قواعدها، وتحيلها إلى أساطيل بحرية تتدافع من ثغور المغرب إلى عكا، الثغر العربي الباسل الذي كان يقف شامخا أمام قارة بكاملها.
ولكن سلطان الموحدين قد تقاعد وتقاعس، لأنه كما ذكر أبو شامة "عزَّ عليه كونه لم يخاطبه بأمير المؤمنين عل جاري عادتهم" (2) فما أتفه السبب وما أحقر أولئك الملوك والخلفاء.
وهكذا تلكأ الخليفة العباسي في بغداد، وتقاعس سلطان الموحدين في المغرب، ولكن صلاح الدين ظل على إيمانه وصبره، لا يتقاعس ولا يتقاعد، وإذا كان قد خذله الخليفتان في المغرب والمشرق، فلقد أنجدته الأمة العربية من المحيط إلى الخليج، وواصل الشعب في كل مكان دوره في المعركة، فذلك دَيْدَن الشعب في كل زمان ... . مروءة وأريحية ونجدة وحمية.
وتوالت النجدات من كل مكان، ولم تكن خطبا ولا كلاما، وإنما كانت فيضا زاخرا من الرجال والأموال، والمؤن والسلاح.
ففي أواخر عام 1189 وصلت إلى عكا خمسون سفينة من مصر محملة بالمؤن والأجناد والأزواد (3) .
__________
(1) ابن واصل، مفرج الكروب، ج2، ص362.
(2) أبو شامة، كتاب الروضتين، ج2، ص174.
(3) ابن واصل، مفرج الكروب، ج2، ص305.(1/196)
وفي أغسطس 1190 وصلت إلى عكا من بيروت شحنة كبيرة من المؤن بلغت أربعمائة غرارة من القمح ومعها كميات من الجبن والبصل والغنم وغير ذلك من الأغذية والمؤن (1) ، وقد قام البحارة بمخادعة الإفرنج فقد تزيوا بزيهم ووضعوا شاراتهم، فاستطاعوا أن يدخلوا بسفنهم إلى ميناء عكا، كما لو كانوا قطعا من أسطول الإفرنج.
وفي أيلول من نفس السنة استطاعت ثلاث سفن مصرية ضخمة أن تشق طريقها ليلا إلى ميناء عكا وكانت مشحونة "بالأقوات والأدم والميرة وجميع ما يحتاج إليه في الحصار بحيث يكفيهم ذلك طول الشتاءً (2) .
ولكن هذا المدد من الرجال والمؤن والسلاح، كان يفوقه مصايل إلى الإفرنج من المدد في الرجال والمؤن والسلاح، من قارة بكاملها، بكل شعوبها وكل طاقاتها وإمكاناتها.
ولم يعد بين يدي الحامية في عكا وابنائها الأبطال ما يدافعون به عن مدينتهم المحاصرة، فبدأ قائد الحامية، سيف الدين المشطوب، يتصل بالإفرنج لتسليمهم المدينة على أن يعاملوا أهلها بمثل ما عومل به الإفرنج يوم سلموا مفاتيح المدنية إلى صلاح الدين قبل ذلك بسنتين، فكتب قائد الحامية إلى الإفرنج يقول "لما استولينا على هذه المدنية سمحنا لجميع السكان بكل ما يشاؤون، فوهبناهم حرية الذهاب إلى حيث يريدون، يحملون معهم أسلحتهم وأمتعتهم وبضاعتهم وأهلهم، ها نحن نعطيكم المدينة على أن تعاملونا بمثل ما عاملنا به قومكم من قبل" (3) .
__________
(1) ابن شداد، النوادر السلطانية، ص211.
(2) أبو شامة، كتاب الروضتين، ج2، ص161.
(3) الفتح القسي، ص227.(1/197)
ووافق الإفرنج على منح الأمان لأهل عكا ولكنهم اشترطوا أن يعاد إليهم بيت المقدس، ولما بلغ صلاح الدين ما يطلبه الإفرنج رفض مطالبهم، وراح يعيد تنظيم جيشه، ويستنفر قواته ليمضي في القتال إلى النهاية.
ولكن الإفرنج انتهزوا الضائقة الكبرى التي حلت بالحامية المحاصرة، فعقدوا معها اتفاقا منفردا وسلمت إليهم المدينة، وما هي إلا ساعات حتى دخل الإفرنج إلى عكا في تموز 1180، ورفعوا أعلامهم على أبراجها وأسوارها، ونقضوا الاتفاق، فذبحوا ودمروا ونهبوا.
وكان ذلك اليوم المروع، كارثة كبرى حلت بالأمة العربية، فقد سقطت عكا على يد الإفرنج بعد قتال عنيف مرير استمر عامين كاملين. فعم الحزن والأسى في الوطن العربي بأسره، وكما قال أبو شامة "غشي الناس بهتة عظيمة وحيرة شديدة، ووقع في العسكر النواح والعويل والبكاء والنحيب" (1) .
ووقف البطل صلاح الدين على مقربة من أسوار عكا وقد هاله سقوط المدينة الباسلة وتدمير أسوارها وأبراجها وذبح أهلها، وأخذ "يلطم رأسه وينتف لحيته ويبكي بكاء شديدا" (2) .
ولكن صلاح الدين لم يدم بكاؤه طويلا ولم يستسلم للأحزان، فقد كانت ساعة أو بعض ساعة شارك فيها الحامية والشعب آلامهم وأحزانهم، ثم نفض عن كتفيه أثقال الهزيمة وأحمالها، ومضى في طريقه يعد العدة، ويستأنف القتال من جديد.
__________
(1) كتاب الروضتين، ج2، ص188.
(2) مرآة الزمان، ص366.(1/198)
وأعلن صلاح الدين إلى جيشه، أمراءً وجنوداً، وهو في سهل عكا أن المعركة لم تنته، وأنه سيواصل القتال على أرض فلسطين قرية قرية، ومدينة مدينة دفاعا عن بيت المقدس، مهما كلف ذلك من تضحيات.
وهنا بدأ الفارق واضحا جليا بين معركة عكا التي خاضها صلاح الدين في عام 1191، والمعارك التي قادها الملوك والرؤساء من عام 1948 إلى يومنا هذا، وما أكثر هذه الفوارق وأخطرها.
ولي في عكا ذكريات مثيرة سأرويها في الفصل التالي.
وحين يستعرض المواطن العربي حروبنا الحاضرة التي خاضها جيلنا تحت قيادة ملوكنا ورؤسائنا، ويقارنها مع حرب صلاح الدين على أسوار عكا، تتجلى أمامه صورة مليئة بالعظات والعبر، فلسنا أمام دراسة مقارنة فحسب، ولكننا أمام محاولة جادة صادقة وأمينة تدفع عن الأمة العربية الكوارث التي تحيط بها في هذا العصر.
فما هي الصورة في هذه المقارنة؟
أولا: إن حرب 1948 خاضتها سبع دول عربية، كانت القيادة العسكرية الفعلية للمملكة الأردنية الهاشمية، وقائدها العسكري الفعلي هو الجنرال البريطاني جلب باشا. ولم يكن لتلك الحرب خطة مشتركة، لا سياسيا ولا عسكريا، تخللتها الهدنة الأولى والثانية، ولم تتجاوز ثلاثين يوما، ومنيت الدول العربية بخسارة فادحة، وأصبحت رقعة إسرائيل أوسع مما قررته الأمم المتحدة في عام 1947.
ثانيا: حرب 1956 المعروفة بالعدوان الثلاثي، كانت من غير خطة عربية، اعتمدت على حماسة الجماهير، ولم تستخدم فيها الطاقات العربية،(1/199)
وانتهت إلى تثبيت الاحتلال الإسرائيلي على الأرض الفلسطينية، وفتح خليج العقبة للملاحة الإسرائيلية "واحتلال" قوات الطوارئ الدولية لأرضنا العربية في سيناء.
ثالثا: حرب الأيام الستة 1967، كانت مظاهرة عسكرية في أصلها، دخلتها الدول العربية من غير استعداد، ومن غير خطة واحدة، وانفردت إسرائيل بالدول العربية واحدة بعد الأخرى، وكانت نتيجتها هزيمة مذلة للأمة العربية، مكنت إسرائيل من احتلال فلسطين بكاملها، ومعها الجولان وسيناء.
رابعا: حرب تشرين عام 1973 كانت مخططة تخطيطا جيدا، وبدأت بداية طيبة، ولكنها توقفت بعد ستة عشر يوما. ورغما عن أنها قد جاءت بإنجازات رائعة غير أنها تفتقر إلى الدوام والاستمرار، فقد بدأت بوادر عليها الضعف السياسي، نعرف منها حتى الآن، أن وقف إطلاق النار على الجبهتين السورية والمصرية لم يكن واحدا، والفصل بين القوات لم يكن واحدا، والاشتراك في مؤتمر جينف لم يكن الرأي فيه واحدا، ولا نستطيع الحديث عن المراحل المقبلة، وكل ما نرجوه أن تكون إنجازاتها السياسية على مستوى إنجازاتها العسكرية.
أما حرب صلاح الدين، فقد وقعت في جميع التواريخ التي شهدتها حروبنا الأربعة 14 أيار 1948، 29 تشرين الأول 1956، 5حزيران 1967، 6تشرين الأول 1973، وذلك لأن صلاح الدين قد حارب على مدى عامين كاملين، ومرت عليه هذه التواريخ كلها، متصلة متعاقبة.(1/200)
وإني أحذر المواطن العربي من أن يظن أنه لا مجال للمقارنة بين حروبنا الحاضرة وحرب صلاح الدين، بسبب تطور الأسلحة وأساليب الحرب.
إنه لصحيح أن الأسلحة قد تطورت، وإن الأساليب قد تغيرت ولكن قواعد الحرب الأساسية ما زالت باقية وستظل، وخاصة في الجوانب الروحية، وللنتظر:
أولا: إن صلاح الدين كان مؤمنا بالحرب الطويلة النفس، حرب فيتنام الأخيرة ما هي إلا نسخة حديثة عنها. وقد حارب صلاح الدين حول أسوار عكا عامين كاملين، سبقتها معارك عامين سالفين، بعد معركة حطين، وسبقتها أربعة عشر عاما من الحروب في القاهرة، والإسكندرية، ودمياط ودمشق وحلب وحمص وحماه.
ثانيا: لقد تكبد صلاح الدين حول أسوار عكا خسائر جسيمة في الأموال والأرواح، فحين استولى الإفرنج على عكا قتلوا الكثيرين، وأسروا من فيها وكانوا ألوفاً "وغشي الناس بهتة عظيمة، وحيرة شديدة ووقع في العسكر الصياح والعويل والبكاء والنحيب". وإن رتشارد قلب الأسد ملك الإنجليز "ساق ثلاثة آلاف من المسلمين إلى تل العياطية حيث قتلوهم، طعنا، وضربا بالسيف ... ." (1) .
ثالثا: كان جيش الإفرنج "بقضهم وقضيضهم وحدهم وحديدهم" كما يقول مؤرخو العرب، يزيدون على ربع مليون جندي، تسندهم أساطيل بحرية ضخمة، وأحدث آلات الحرب في ذلك العهد الوسيط (2) . وكان يقود هذا
__________
(1) أبو شامة، كتاب الروضتين، ج2، ص188.
(2) المصدر السابق، ج2، ص 189.(1/201)
الجيش الضخم "ثلاثة من أشهر ملوك أوروبا، إمبراطور ألمانيا، وملك فرنسا، وملك إنجلترا ، ريتشارد قلب الأسد الذي نسجت حوله الأساطير في الشرق والغرب.
رابعا: وكان وراء هذا الجيش الضخم "سبعة وعشرون شعبا" من أوروبا كما قال ملك الألمان في الإنذار الذي وجهه إلى صلاح الدين بالإضافة إلى "العشور الصلاحية "، التي فرضتها الدول الأوروبية على نفسها لتموين الحرب وتمويلها.
خامسا: كانت تلك الحرب جماعية شاملة، اشترك فيها كل الطبقات من أوروبا، الملوك والأمراء والنبلاء ، والنساء فقد اشتركت النساء في هذه الحرب وكانت بينهن كما يروي المؤرخون "امرأة كبيرة القدر، وفي جملتها خمسماية فارس بخيولهم وأتباعهم وغلمانهم.ومن الفرنج نساء فوارس لهن دروع، وكن في زي الرجال ويبرزن في حومة القتال" (1) . أليس هذا هو ما تفعله المجندات الإسرائيليات، اليوم وغدا.
وكما شاع عن إسرائيل أنها لا تقهر، فقد كان قدوم جيوش الإفرنج مصدراً للخوف والفزع عند عامة الناس، وخيِّل إليهم أن الوطن العربي سيسقط تحت أقدامهم، وأن بيت المقدس سيعود إلى الإفرنج مرة ثانية. وهذا ابن الأثير المؤرخ النابه يقول "لما وصلت الأخبار بوصول ملك الألمان، أيقنا أنه ليس لنا في الشام مقام" (2) .
__________
(1) الفتح الأصفهاني، ص184.
(2) ابن الأثير، الكامل، حوادث سنة 586.(1/202)
وارتعدت فرائص مؤرخ كبير آخر، هو أبو الفدا، فقال "بلغ المسلمين نبأ وصول ملك الألمان بماية ألف مقاتل، واهتم المسلمون لذلك وأيسو من الشام" (1) .
بل إن ابن الأثير نفسه وهو يستعرض مسيرة المعارك في تلك الحقبة، ويستذكر أنه لولا إرادة القتال التي تجلت في صلاح الدين وقادته وجنوده لوقع المشرق العربي كله تحت سيطرة الإفرنج "ولكان يقال أن الشام ومصر كانتا للمسلمين" (2) .
وإلى أن تزول الغزوة الإسرائيلية عن فلسطين والأرض العربية، فإن زملاء ابن الأثير من مؤرخينا المعاصرين سيقولون، كانت فلسطين للعرب المسلمين والمسيحيين.
تلك أهم الأشباه والنظائر البارزة بين حروبنا الماضية تحت قيادة صلاح الدين، وحروبنا الحاضرة تحت قيادة الملوك والرؤساء، الأحياء منهم والأموات.
لقد قاتل صلاح الدين خمسة عشر عاما متواصلة لا يرهب الأعداء، ولا يرتجف أمام التضحيات، ولا ينحني في وجه العواصف والهزائم، ولا يزهو أمام الانتصارات.
لقد انهزم صلاح الدين هزيمة منكرة عند أسوار عكا في ما أسماه الإفرنج "معركة حزيران الكبرى"، ولكنه استمر في القتال حتى النصر. وقد كشف التاريخ أنه حقق النصر، بالإصرار والاستمرار.
__________
(1) أبوالفداء، المختصر،حوادث 586.
(2) ابن الأثير،الكامل،حوادث سنة 586.(1/203)
أما الملوك والرؤساء فإنهم كثيرا ما صرحوا أنهم سيخوضون حربا طويلة النفس، فخاضوها ولكن من غير نفس.
لقد حاربوا ثلاثين يوما في عام 1948.
وحاربوا اثني عشر يوما في عام 1956.
وحاربوا ستة أيام في عام 1967.
وحاربوا ستة عشر يوما في عام 1973.
فما أتعس جيلنا الذي شهد هذه الحروب الأربعة.
وما أبعد الليلة عن البارحة.(1/204)
عكا..
دمرها الله
نشأت في مدينة التاريخ، وحكايات التاريخ تدوي في أذني، ومعالم التاريخ تحملق في عيني من طفولتي، إلى صباي، إلى شبابي، إلى رجولتي، إلى يوم هجرتي منها، حين سقطت أسيرة في قبضة إسرائيل وما تزال .
إنها مدينة عكا، القلعة العتيقة العريقة، مفتاح ديار الشام، وثغرها الباسم للنصر، العابس على الهزيمة والعدوان.
ولقد عرفتها في طفولتي لأراها مثلا حيا للقلعة العربية الإسلامية، يحيط بها سور من كل أطرافها، وعلى السور أبراج ومراقب، ومن حول ذلك خندق يمتد من البحر إلى البحر، وهي فوق يابسة من الأرض على شبه جزيرة راسية صامدة.
والمدينة في الداخل، كانت كذلك، مثلا حيا للمدينة العربية الإسلامية، في القرون الوسطى، السوق المبلط يخترقها من وسطها، مسقوفا بالأخشاب والآجر، والأحياء تتراكم فيها المنازل بعضها فوق بعض، والخانات مبثوثة هنا وهناك، والمساجد تتوسط الأحياء، والمقاهي على جنبات الطرق، أو(1/205)
تحت "عقود" المباني، وحمامان كبيران أحدهما في الشمال والآخر في الجنوب، للرجال نصيب، وللنساء نصيب، والأطفال مع كل فريق ...
كانت هذه مدينتي، بل هي دنياي كلها، دنيا أهلها أجمعين. فلم تكن بحاجة إلى شيء، الماء العذب بأتينا من عين الكابري، وهي تبعد عن المدينة بضعة عشر كيلومترات، والفواكه والخضار والحبوب تتوارد من البساتين التي حولنا، واللحوم تمدنا بها مواشينا التي تسرح في مروجنا. الخير كثير ، وكل شيء يسير، والحياة هادئة ناعمة، والناس أسرة واحدة، مولودهم يفرح له الجميع، وميتهم يبكي له الجميع، وما يصيح واحد في أطراف المدينة إلا وقد استجاب له الجميع، بالحب والنجدة والخير.
وكانت مدينتنا، كذلك، مجتمع الأطفال البهيج. أطفال المدينة يعرف بعضهم بعضا، بأسماء آبائهم وأمهاتهم وأخواتهم. يلعبون حلقات حلقات في الأحياء، مسرورين لا ينتهي لعبهم إلا حين تؤذن الشمس بالمغيب، ليعودوا إلى بيوتهم.
وكانت المدينة كلها، لنا، نحن الأطفال، الشوارع والساحات لنا، ولم يكن يزعجنا أحد، فلا سيارات ولا دراجات. وتمر البهائم والجمال، ونمضي في اللعب فلا نزعجها ولا تزعجنا. وكم من حمار مر من جانبنا، فنداعبه ويداعبنا.
وكنا إذا مللنا من الساحات والشوارع، ركضنا إلى الأسوار والأبراج نقفز فوقها هنا وهناك، ونطل من نوافذها إلى البحر، ومدينة حيفا وجبل الكرمل على مرمى البصر أمامنا، واللعب يصرفنا عن ذلك الجمال الساحر الفتان.(1/206)
وفوق هذه الأبراج والأسوار، كنا نلعب لعبة "الحرب" فنوزع أنفسنا حلقات حلقات، بعضنا يختبئ وراء السور، والبعض يحتمي بالأبراج، وفريق يهاجم من النوافذ، وفريق يلف ويدور من حول الجدران. ونمضي في لعبة الحرب ساعات ساعات، ثم نعود إلى بيوتنا، ونتواعد على "الحرب" في يوم آخر.
ذلك كان نهارنا مرحاً وسرور, المدينة ململعبنا ، واسوارها ساحة حربنا آماليلنا فكانت متعة بالغة لا توصف .
يأوي الناس إلى منازلهم عند الغروب، فيجتمع الشمل. والشمل كلام حقيقي لا مجازي. والعائلة كلها "معبأة" في البيت. والجد والجدة والأب والأبناء والأزواج والزوجات، والصبيان والبنات، والأحفاد والرضع، كلهم في بيت واحد، مجموعة من الأسر الصغيرة في أسرة كبيرة، يلتقون على مائدة واحدة، ويأكلون ما تيسر، ويحمدون الله، ولا يحمد على الجوع سواه!!
ويتزاور الجيران، ويتسامرون طرفا من الليل، يقضونه في حديث عن شئون المدينة وأخبار أهلها، ويروي الأبناء عن الآباء، والآباء عن الأجداد، والبنات عن الأمهات. كل ذلك في سمر حلو لطيف، ما يكاد ينتهي حتى يدب النعاس دبيبه إلى الأجفان، وينصرف الجميع إلى منازلهم يأخذون في نوم هادئ عميق، يأتي بعده فجر يوم جديد.
وفي هذه السهرات الأنسية سمعت حكايات تاريخية طريفة، كانت تفشي في نفوسنا الحبور والسرور.
من هذه الحكايات، أن أبواب المدينة كانت تقفل عند المساء وتفتح عند الفجر، وأن قوافل المسافرين الذين يقصدون عكا، كانوا يقضون ليلتهم(1/207)
خارج أبواب المدينة، إذا لم يصلوا قبيل الغروب. وإن كثيرا من المسافرين ممن يأتون خارج المدينة قد أكلتهم الضباع. وأن من سلم منهم قد ظل "مضبوعا" لسنين عديدة من عمره المضبوع!!
وحكاية أخرى، أن الدولة العثمانية لما فتحت بعض "ثغرات" في الأسوار لتجعل منها أبوابا إلى خارج المدينة، وجدوا جثثا قائمة، مبينا عليها، وأنها لما لامسها الهواء سقطت ترابا وأن والي عكا الشهير بالجزار كان عاقب الذين يعصونه بأن "يبني عليهم" وهم أحياء.
وحكاية أخرى، أن نابليون، القائد الفرنسي الشهير، حينما حاصر عكا، وامتنعت عليه بسبب مناعة أسوارها، قام بمغامرة كبرى فاقتحم أبواب المدنية ووصل إلى جامع أحمد باشا الجزار، واقترب من "السبيل" واقتطع منه طاسة بسلسلتها، مما يستعمل في شرب الماء، وإنه عاد بهذه الطاسة إلى باريس ليثبت أنه دخل عكا، وأنه فتحها، وعاد "بعلامة" منها !!
ولكن أروع هذه الحكايات على الإطلاق ما كان يردده أهل عكا عن بطولات أسلافهم في زمن الحروب الصليبية، فقد سمعت القصة مرات ومرات عبر سنين طويلة من مقامي في عكا، وخلاصتها أنه حين شدد الإفرنج الحصار على عكا، ضاق أهلها ذرعا بالحرمان والجوع ونفاد السلاح والذخيرة، فقرروا أن يقوموا بمحاولة انتحارية، فأجمعوا أمرهم أن يتلاقوا في المسجد الجامع رجالا ونساء وأطفالا، ويخرجوا لملاقاة الإفرنج صفا واحدا، يقاتلونهم حتى يموتوا عن أخرهم، ولم يصدهم عن ذلك إلا العلماء والفقهاء الذين نهوهم عن هذا العمل باعتباره انتحارا، والانتحار مرفوض في الإسلام.(1/208)
ولقد شاقتني هذه القصة زمنا، فرحت أبحث عنها في المراجع التاريخية القديمة، فلم أر ذكرا لها في إلا في كتاب الرحالة ابن جبير الأندلسي، فقد زار بلاد الشام ومنها عكا في الفترة ما بين 1182-1185ـ وسمع القصة من أفواه الناس (1) يروونها ويتحدثون عنها بكل فخر واعتزاز، كما فعل أهلنا معنا في زمن الصبا.
ومثل هذه الحكايات كثير وكثير، وكان هو القصص الشعبي الذي تعيش المدينة في ظلاله الوارفة، في زمن كانت فيه الحياة بدائية، فلا سينما ولا راديو ولا تلفزيون ولا مسارح، ولا ملاعب ولا طرق مرصوفة، ولا كهرباء. والمساجد تضاء بقناديل زيت الزيتون. والشوارع تضاء بمصابيح الكاز، والماء يحمل إلى البيوت على أكتاف السقائين.ونحن أطفال البيت نحمل طبق العجين على رؤوسنا إلى المخابز، لنعود به إلى البيوت خبزا شهيا.
ولم يكن في المدينة إلا طبيب واحد، يوناني كهل، كان يمشي متوكئ على عصاه ونحسب أنه سيعيش طويلا، لأنه طبيب بارع، ولكنا سمعنا فجأة أنه مات بعد بضعة شهور، ولم ينفعه طبه ولا دواؤه.
ولكن حلاق المدينة الحاج عبد الله حجازي كان أهم من الطبيب اليوناني، فقد كان رجلا صالحا ذا لحية بيضاء، يداوي من كل الأمراض، يشطب بالموسى، ويفصد الدم بالعلق، ويقلع الأسنان بكلابة، وإن كانت أصابعه أشد من الكلابة، وأذكر أنه قلع لي أول ضرس في حياتي ... . وما زلت أذكره كلما قصدت طبيب أسنان في عيادته، وأحن إلى كلابة الحلاق، فقد كان أمهر وأرشق، وأكثر بركة.
__________
(1) رحلة ابن جبير، ص296.(1/209)
وكان في المدينة صيدلية واحدة، في دكان معتم مظلم بارد، فيها رفوف تحمل قوارير الدواء، وكان الصيدلي يمزج هذا السائل بذاك، ويدق هذا المسحوق على ذاك، ويصبح دواء. وكان هذا الصيدلي هو النحيف الأول في المدينة. ومن مصادفات القدر أنه مات في الأسبوع الذي مات فيه الطبيب اليوناني، فضاعت ثقة الناس في الطب والعلاج، وبقي الحلاق الحاج عبد الله هو أمل المدينة في الشفاء والدواء.
وكان "تطهير" ختان الأولاد من مظاهر المدينة البهيجة، فما يقبل الربيع حتى يفد على المدينة "الحاج الكردي" يطوف في شوارعها وساحاتها وهو ينادي: مطهر مطهر وكأنه على موعد مع الأطفال، فيدخل على البيوت ويجري عملية الختان في يسر وإتقان!!
ويمضي يومان أو ثلاثة وإذا بالأطفال يخرجون من بيوتهم مختونين، يلبسون الثوب الهفهاف الأزرق، وبيدهم عيدان صغيرة ملفوفة بخرق مغموسة بالقطران، يشمونها حينا بعد حين، ففيها وقاية من العدوى وحماية من العين ... عين الحسود.
أما الأطفال الموسرون فإن أهلهم يركبونهم الخيول، ويطوفون بهم في أحيائهم بين زغاريد النساء، والمختونون الفقراء يسيرون في الموكب تغمرهم الحسرة أنهم يمشون على أرجلهم، وأبصارهم تتطلع إلى رفاقهم الذي يتهادون بالدلال، ذات اليمين وذات الشمال.
تلك كانت حياتنا، في بلدتنا الحبيبة في منازلنا وفي شوارعنا، وعلى أسوارنا وأبراجنا، أما حياتنا في المدرسة فقد كانت مليئة بالقصة والرهبة.
وكنت من أوائل الناجحين في سني الدراسة. ولكني ما ذهبت إلى المدرسة مرة إلا وأحسست برهبة ونفرة. وما حانت أيام العطلات إلا(1/210)
وتفجرت نفسي بالحبور والسرور، وأحسب أن مشاعر الفاشلين من رفاقي كانت أعمق غورا.
كان السرور كل السرور عندنا خارج المدرسة، وكان الانقباض كل الانقباض داخل المدرسة.ومع هذا وذاك تمر الأعوام وتأتي مراحل الحياة المقبلة، فنعود بالحنين إلى أيام الدراسة، ونظل كلما كبرنا، وكلما بعدنا عن الطفولة، نردد القول الشهير، ما أحلى أيام المدرسة!!
ولكن كان لنا في المدرسة شيئان يخففان عنا "الحقد" على الدراسة والمدرسة. الأول أننا كنا نلف على ذراعنا الأيمن قطعة من القماش مطرزا عليها عبارة "المدرسة الخيرية"، وتحتها العدد 48 وهو رقمي في المدرسة. وكنا نسير في الشوارع في ذهابنا وايابنا ونحن نتطلع إلى المارة لنلفت أبصارهم إلينا، وإلى القماش الذي يلف ذراعنا.
وأنا اليوم، وبعد قرابة ستين عاما من تلك الذكريات، ما زلت أذكر رقمي في المدرسة 48، على حين أشكو من نسيان أحداث أجل وأعظم وقعت في العام الماضي، وتلك أيام الطفولة اليانعة، وأيام الكهولة الذابلة، وصدق القول "العلم في الصغر كالنقش في الحجر".
أما الأمر الثاني الذي كان يدخل السرور على قلوبنا في حياة المدرسة فهو أننا حين نخرج إلى الرحلات المدرسية في ضواحي بلدتنا، كنا ندخل إلى عنبر كبير مملوء بالبنادق الخشبية، ليختار كل منا بندقيته يحملها على كتفيه وننطلق بها "الى الطابور"، والدنيا لا تتسع لفرحتنا ووثبتنا، فالبندقية على أكتافنا!!(1/211)
وكنا نفخر بهذه البندقية الخشبية، فنحن أهل عكا أهل حرب منذ قديم الزمان، وورثنا تقاليد الحرب منذ عهد صلاح الدين. ولم نكن ندري يومذاك أن الحرب ستكتب على جيلنا بأسره دفاعا عن وطننا.
ولم تكن المدارس في عكا تتجاوز أصابع اليد. أربعة ابتدائية وفوقها المدرسة الإعدادية. وكنا نحن تلاميذ الابتدائية نرى المدرسة الإعدادية هدفا بعيد المنال دروسها عالية، أساتذتها جهابذة، والفرقة الموسيقية فيها نعمة لا تضاهى.
ولم نكن نحسب أن بعد المدرسة الإعدادية شيئا في هذه الدنيا، ن ففيها تنتهي العلوم. فهذه الكتب التي يحملها طلاب الإعدادية في أيديهم سميكة جدا وثقيلة جدا وليس بعدها كتاب، فإذا ختمها يكون كمن ختم القرآن ... وبأي آلاء ربكما تكذبان.
وكما نرى في معلم المدرسة الابتدائية إنسانا كبيرا، أما معلم الإعدادية فإنه أكبر وأكبر. وهذا وذاك فإنهما أعظم ما في المدينة، وأعظم ما في الدنيا، وكنا نتوق يوما ما أن يصبح الواحد منا معلما في هذه، أو معلما في تلك، فهذه غاية المنى.
وبقي هذا الإحساس عن "عظمة" المعلم في نفوسنا إلى أن جاء يوم، فرأينا المعلم صغيرا مسكينا، لا حول له ولا طول.
كان ذلك بمناسبة قدوم الوالي إلى عكا. فقد شاع في المدينة أن الوالي التركي عزمي بك قادم من بيروت، وأنه سيزور مدرستنا.
ومضت أيام، وإذ بالأساتذة يخلعون بدلاتهم، ومعهم معلم القرآن يخلع حبته وعمامته، ويصبح الجميع وكأنهم أنصاف عراة، يحملون(1/212)
المكانس، وجرادل الماء، يكنسون ويغسلون وينظفون، كأنهم من أمهر الخدم والخادمات.
يومها، سقطت هيبة الأساتذة من نفوسنا. رأينا أذرعهم مكشوفة وسيقانهم عارية ورؤوسهم حاسرة، ولأول مرة بدا المعلم أمامنا إنسانا كباقي الناس. ولم يعد أعظم إنسان في المدينة، ولم نعد نطمع في الحياة أن نصبح أساتذة المستقبل. وأصبحنا نتطلع إلى عمل أعظم وأكرم.
وجاء الوالي عزمي بك إلى المدرسة، وكان يوما شديد البرودة، فبدأ الأستاذ في "تحميتنا" حتى نبدو أصحاء، فأخذوا يقومون أمامنا بحركات جسدية، ونفعل مثلهم. ومضت ساعة الدرس. ونحن في رياضة بدنية معهم. وسقط الأساتذة في نظرنا، فها هم يلعبون، ونحن لاعبون، والمدرسة كلها أصبحت لعبا في لعب!!
وجاءت ساعة الزيارة، ودخل الوالي على الصفوف وصاح المعلم بصوت مرتجف "باق" ومعناها بالتركية "انظر"، وهي إشارة للتنبيه، فوقفنا جميعا وأيدينا على جباهنا في حركة شبه عسكرية. واحدق بنا الوالي، يتفقدنا ذهابا وإيابا. وفي نبرة صارمة صاح بنا الوالي "أوتور" ومعناها اجلسوا. وجلسنا، ولكن برؤوس مرفوعة وأعناق مشدودة، وأبصار مسمرة في مشهد كله رهبة وهيبة، والوالي بقامته المنتصبة أمامنا، ومن ورائه المدير والأساتذة كأنهم أشباح أفرغت من الأرواح وهياكل فارقتها الحياة، وسمات الفزع على وجوههم، وكأنهم ينتظرون حكم الموت أن ينفذ فيهم واحدا بعد الآخر.(1/213)
وانفرج الموقف بعض الشيء. فقد كانت حصة الدرس تلاوة القرآن الكريم. فطلب إلينا المعلم أن نقرأ سور (عم) فقرأنا جماعة فأطرق الوالي خاشعا. وأطرق المدير والأساتذة، واسترخت النفوس وسقط الكابوس!!
وانتهت زيارة الوالي عزمي بك أن هزت المدينة، أياما، وبقي الناس يذكرونها أعواما، ولكن زيارة الوالي كانت درسا نافعا لنا نحن التلاميذ. ازدنا معرفة بجغرافية بلادنا. ذلك أن زيارة والي بيروت إلى عكا وتفقده لمدرستنا قد أكدت بالفعل والواقع أننا تابعون لمدينة بيروت. ولقد كنا نرى في بيوتنا مظاريف البريد مكتوبا عليها –عكا-بيروت – وها قد جاء الوالي بنفسه من بيروت ليؤكد هذه الحقيقة، وإن حاكمنا الأكبر هو والي بيروت، وليس فوقه إلا خاقان البرين والبحرين، وخادم الحرمين الشريفين السلطان محمد رشاد، الجالس على سدة الخلافة في الأستانة.
ولكن حكاية عكا- بيروت- لم تبق عندنا أكثر من بضعة أشهر، فلم تأت العطلة المدرسية في الصيف (1918) إلا وقد سقطت مدينتنا الحبيبة بيد الاحتلال البريطاني، ورحل عنها الموظفون الأتراك هم وعائلاتهم ولم يبق في عكا إلا أهل عكا.
وقضيتا عطلة الصيف ذلك العالم في هم وغم، فلم ننعم بالمرح واللعب، ذلك أننا لم نكن نعرف لماذا جلا الأتراك، ولماذا جاء الإنجليز. وفي نفوسنا حسرة أن الذين ذهبوا نعرفهم ونعرف لغتهم، ونعرف أولادهم. أما هؤلاء الإنجليز فهم غرباء عنا في كل شيء. وأكثر ما كان يسوؤنا منهم أنهم كانوا يدخلون مساجدنا للفرجة دون أن يخلعوا نعالهم.ولم نكن ندري يومذاك أن القدر يخبئ لنا أن يضيع وطناً في عهدهم بما فيه من معابد ومساجد.(1/214)
ولم يكد ينقضي فصل الصيف حتى راح "دلال" المدينة ينادي في الأسواق أن المدرسة ستفتح أبوابها "ويا أولاد روحوا على المدارس يوم السبت".
وحل يوم السبت، ورحنا نحن الأولاد إلى المدارس، لنستأنف الدراسة، كما كنا نفعل بضعة أشهر في زمن الدولة العثمانية العلية.
وحسبنا بادئ ذي بدء، أن أمورا كثيرا ستتغير، بعد أن خرج الأتراك من بلدنا ودخلها الإنجليز، ولكن شيئا لم يتغير إلا اللغة الإنجليزية مكان التركية. وما عدا ذلك فالدروس هي هي، والأساتذة هم هم.
وكانت اللغة الإنجليزية مادة مذكورة في جدول الدروس، غير أن بضعة أسابيع قد انقضت قبل أن نعرف ما هي اللغة الإنجليزية، ذلك أن أساتذتنا، هم هم، لا يعرف أحد منهم اللغة الإنجليزية، وبقيت الحصة فراغا نلهو فيه ونلعب، وما كان أحلى ذلك الفراغ.
وانحلت أزمة اللغة الإنجليزية، مؤقتا، فقد عثرت إدارة المدرسة على سيدة مسيحية تعلمت الإنجليزية قبل نصف قرن. وقضينا معها بضعة أسابيع تكتب لنا الأبجدية الإنجليزية على اللوح.إلى أن جاء أستاذ مختص أقل منها سنا ومعرفة، ومضى العام ونحن ننقل الأبجدية الإنجليزية عن اللوح.
وانتظمت الدروس بعض الشيء، ولم تكن تتجاوز سبع مواد: اللغة العربية ، والحساب ، والجغرافيا ، والتاريخ وحسن الخط, قرآن كريم والرسم ولم نختلف الدراسة كثيراً عما كان عليه في العهد العثماني ولكن ساءنا أن العلم العثماني لم يعد يرفع أمامنا صباحا، كما كنا نفعل في الماضي، ولم نعد نقف لتحيته، ولم نعد نردد بالتركية "بادشاهم جوق باشا" ليعش سلطاننا طويلا. فقد كانت لهذه التقاليد حرمة في نفوسنا، وكان للعلم(1/215)
العثماني، بالهلال والنجمة، هالة وهيبة عندنا، وما أغلى القماش حين يصبح رمزا مقدسا عند الناس!!
ولكن الذي ساءنا، وساءنا كثيرا أننا لم نعد نسمع اسم بيروت في دروسنا، وكنا إلى ما قبل بضعة أشهر نردد اسم بيروت باعتبارها عاصمة لنا. وكانت عبارة "عكا-بيروت" تكتب على دفاتر المدرسة وكل مخطوطاتنا، وكنا نتساءل: لماذا لم تعد تذكر بيروت في مدرستنا ولا في بلدنا .
لقد كانت "ولاية بيروت" هي دنيانا الكبيرة. فلم نكن نعرف اسم فلسطين الذي شاع في ما بعد. وكان هذا الاسم مستحدثا عندنا وعند الجيل الذي سبقنا.
وبدأ اسم فلسطين يدخل في أحاديثنا، ويدور على ألسنتنا، ونقرؤه في علم الجغرافيا. وغابت ولاية بيروت ومدينة بيروت عن أسماعنا، ولكننا لم نعد نعرف اسم عاصمتنا بعد أن انسلخنا عن بيروت وانقطعت أخبارها.
ومع الاسم الجديد، فلسطين، انتقلت عكا مدينتنا الهادئة الوادعة إلى مدينة صاخبة يسودها القلق والاضطراب.
ودخل على أسماعنا تعبير جديد، "وعد بلفور"، سمعناه في البيت وفي المدرسة، وفي الشوارع، وفي المساجد، ولم نكن بادئ ندري ذي بدء ما معنى هذا التعبير الجديد. ومن هو بلفور هذا. ولم نكن ندري أن هذا هو اسم إنسان. فعهدنا بالأسماء أنها محمد ومحمود وأحمد، والأسماء العربية الإسلامية الأخرى.(1/216)
وبدأنا نفهم هذا التعبير شيئا فشيئا بالسماع. نسمع الأحاديث عنه في كل مكان. وراعنا أن نعلم أن اليهود، يزعمون أن فلسطين وطنهم، وأن الإنجليز قد وعدوهم أن يعطوهم فلسطين، وأن تصبح وطنا لهم ... .
ولم يكن في عكا من اليهود إلا ثلاثة، عطار له دكان صغير، ومشتري ملابس عتيق، وسباك يصلح مواسير المدينة، اعتنق الإسلام في العهد العثماني. ثم عاد يهوديا في زمن الإنجليز!!
وأخذت الصحف ترد على عكا حينا بعد حين. وكانت أكثر الصحف رواجا جريدة الكرمل التي يصدرها في حيفا السيد نجيب نصار. وكانت طافحة بالمقالات عن الحركة الصهيونية، وبالأخبار عن الهجرة اليهودية.
وكانت جريدة الكرمل تمتاز ببساطة عباراتها، فكنا نقرؤها ونفهمها بسهولة، وكان الناس في الأسواق والمقاهي يجلسون حلقات حلقات يستمعون إلى أحدهم وهو يقرأ تصريحات زعماء اليهود، وأخبار هجرتهم إلى فلسطين.
وبدأت الاجتماعات الوطنية تتوالى في عكا بين الوجهاء والشباب، يكتبون العرائض احتجاجا على وعد بلفور. وكنا نتطلع إلى اليوم الذي نصبح فيه من الشباب، ونشترك في هذه الاجتماعات الوطنية.
وجاء يوم أطلق عليه، 2نوفمبر، وهو يوم ذكرى وعد بلفور، فأضربت المدينة، وأقفلت المدارس والمتاجر. ومشينا في المظاهرات، ونحن نردد الأناشيد الوطنية، وننادي بسقوط وعد بلفور.
وازدادا فهمنا لوعد بلفور في المدرسة، فقد أخذ الأساتذة يشرحون لنا الحركة الصهيونية وخطر الهجرة اليهودية. وكانت تلك الحقبة هي بداية(1/217)
مرحلة الصراع العربي اليهودي. وامتد جيلنا كله، منهم من قضى نحبه، ومنهم من ينتظر، وما بدلوا تبديلا.
وكان أستاذ التاريخ، على وجه التحديد، يطوي كتاب التاريخ ويغادر طاولته، ويبدأ يمشي في الصف، ذاهبا وآيبا، وهو يروي لنا تاريخ فلسطين، وعكا بصورة خاصة. وكنا نقضي معه ساعة نغيب فيها عن الوجود، ونعيش معه بكل جوارحنا في رحاب التاريخ.
وكان البطل صلاح الدين، هو محور الحديث في درس أستاذنا. وتعلقنا بسيرة صلاح الدين، ومواقعه مع الإفرنج، حتى أصبح صلاح الدين عندنا أعظم عظيم أنجبته عكا، لا نلتفت إلى أنه ولد في العراق، وعاش في القاهرة، ومات في دمشق.
وبلغ من شغفنا، نحن وأستاذنا بسيرة صلاح الدين، أننا خرجنا ذات يوم إلى رحلة كشفية لبضعة أيام، لنخيم حيث كان يخيم صلاح الدين، وأحسب أنها كانت أحلى أيام عمري.
كان خروجنا أولا إلى تل الفخار، ويبعد نصف ساعة مشيا على الأقدام. وهو هضبة من تراب تشرف على مدينة عكا وأسوارها، ما جاء فاتح إلا عسكر فيها. ولم يكن في تل الفخار إلا زهور البرية بألوانها الزاهية. ومن يدري، فإن تحتها رفات المجاهدين من جند صلاح الدين.
ومن تل الفخار، كانت مسيرتنا إلى تل العياضية، ومنه إلى تل كيسانة، وهما هضبتان ترابيتان متوازيتان في مرج عكا، وتقابلان خليج عكا برماله البيضاء، تحتضن أمواجه الزرقاء.
وعلى هذه التلال الثلاثة نصبنا خيامنا لثلاثة أيام قضيناها في لعب ومرح ودرس، والاعتزاز يملأ قلوبنا إننا نعيش مع صلاح الدين ليلا نهارا.(1/218)
وكان أستاذنا يخرج سيرة صلاح الدين لابن شداد من حقيبته، ويقرأ لنا فصولا عن معاركه في مرج عكا. وقد عجبنا كل العجب أن هذه التلال الثلاث المذكورة بأسمائها ومواقعها، وهي باقية على حالها كأنما غادرها صلاح الدين في الليلة البارحة.
وكنا نسأل أستاذنا عن تفاصيل الوقائع التي خاضها صلاح الدين حول أسوار عكا، فكان يسهب في الحديث بصوت عال، كأنه ينشد قصيدة عصماء. ولم يكن يذكر اسم صلاح الدين إلا ويشفعه بقوله :" قدس الله سره"، وكانت له لثغة بحرف السين، تزيد تعبيره حلاوة وطلاوة.
وفي إحدى سهراتنا في تلك الليلة المقمرة، وأسوار عكا على مرمى البصر منا، تبدو أمامنا كأنها هيكل من التاريخ انتصبت بين السماء الأرض، سألت أستاذنا.
هناك قول شائع: "عكا وخمة" مع أن بلدنا نظيفة ولطيفة فما هو السبب؟
فكر أستاذنا طويلا وقال: هيا نعود إلى المدرسة. سأسأل لكم "سماحة المفتي" وشيوخ البلد، لعلهم يعرفون سب هذه التهمة الظالمة.
وجاء يوم العودة إلى عكا، وقلعنا خيامنا من التلال، وكأنما قلعناها من عيوننا، فقد كنا نتمنى أن نقضي زمنا أطول. ولكن تلك هي الحياة أمانٍ سائرة في حياة عابرة.
ومضت أسابيع وجاء أستاذنا ذات يوم ليقول لنا: إن سماحة المفتي الشيخ عبد الله الجزار ذكر له أنه قرأ في المراجع العربية التي أرخت لحصار عكا أثناء الحملات الصليبية، أن وطأة الحرب والحصار كانت شديدة على عكا، فامتلأت المدينة بالجثث واشتد فيها النتن والوخم. ومن هنا شاعت التهمة أن "عكا وخمة" . واطمأنت أفئدتنا نحن التلاميذ أن مدينتنا(1/219)
نظيفة وجميلة، وأن تهمة الوخم قد لحقتها في أيام النضال والقتال. والواقع أنه قد مضى عهد الانتداب البريطاني عبر ثلاثين عاما، ومدينتنا الجميلة يثبت كل يوم أنها معقل نضال، كما كان شأنها منذ فجر التاريخ. والوقائع على ذلك كثيرة.
وقد كبر جيلنا، وكبرت معه الأحداث، فقد تكاثرت النوادي الوطنية وكلها تؤدي دورها في الحياة السياسية في مقاومة الحركة الصهيونية ومعها الاستعمار البريطاني. ولم تكن تمر مناسبة وطنية إلا وتعقد الندوات وتتخذ القرارات في توكيد المطالب القومية، في رفض وعد بلفور وصك الانتداب، وتحقيق الاستقلال أسوة بما تطالب به الأقطار العربية الشقيقة.
وكانت الوحدة العربية مطلبا أساسيا من مطالبنا القومية، لا يكاد يخلو منه أي قرار يصدر عن اجتماعاتنا الشبيبية. وكانت ساحة الجامع الكبير هي ملتقى الشعب عند كل بادرة أو مناسبة عند كل بادرة أو مناسبة، ففي لحظة واحدة ينطلق بعض الشباب إلى الشوارع يدعون الأهلين إلى الاجتماع، فما هي إلا دقائق معدودات حتى ترى ساحة الجامع غاصة بالجماهير، والشباب يخطبون ثم تعلن القرارات باسم الجماهير.
واشتد ساعد الحركة الوطنية باشتداد الخطر اليهودي في فلسطين، فقد تكاثرت الهجرة اليهودية إلى فلسطين وتعاظم نفوذ الطائفة اليهودية في فلسطين وانصياع الحكومة البريطانية لرغباتها، وتطور النضال الوطني في البلاد من مقاومة سياسية إلى مقاومة ثورية مسلحة.
وقامت في عكا، كما في غيرها من أرجاء فلسطين، حركات مسلحة تتعرض للمستعمرات اليهودية، وتطورت إلى اصطدامات ضد القوات البريطانية. ثم تطورت الاصطدامات إلى ثورات قتالية، بلغت خمسة(1/220)
عشرة ثورة، سقط فيها آلاف من شهدائنا الأبرار. ناهيك عن الإضراب الكبير الذي امتد ستة أشهر توقفت فيه الحياة العامة، فكان أروع إضراب عام عرفه تاريخ النضال الإنساني.
ومع الدور النضالي، كسائر مدن فلسطين، وقع على مدينة عكا عبء وطني آخر. ففي عهد الانتداب وقع اختيار الحكم البريطاني على عكا، وعلى قلعتها بالذات، أن تصبح السجن المركزي في فلسطين.وبهذا أصبحت قلعة الأحرار والثوار.
ولم يكن يمضي يوم على وجه التأكيد إلا وتأتي السلطة البريطانية بأحرار فلسطين، تسوقهم فرادى أو جماعات إلى قلعة ليسجنوا فيها. ولقد أعدم الكثيرون من شبابنا الأبطال في سجن عكا. وكان لعكا الشرف الأغر أن تضم رفاتهم في ترابها الطهور.
وفي الأعوام الأربعة (1936-1940) حينما نشبت الثورة الوطنية الكبرى، وضاق السجن بالأحرار، أنشأت السلطة البريطانية معتقلا على شاطئ البحر، سمي معتقل المزرعة، حشرت فيه رجالات البلاد وشبابها الوطنيين بالمئات. وكنت واحدا من الذين شملهم الاعتقال.
وجاءت الحرب العالمية الثانية، وسكنت الثورة الفلسطينية، وأصبح همنا أن نراقب الإذاعات العالمية ونتابع سير الحرب. ونحن نتطلع إلى انتصار هتلر وحلفائه، حتى نخلص من الحكم البريطاني، وينجو وطننا من الأطماع الصهيونية، وتصبح بلادنا لنا، حرة مستقلة.
ولم يكن لنا من حديث، في المقاهي والنوادي والمساجد، إلا حديث الحرب، وأين وصلت جيوش هتلر. ومتى يخترق رومل الصحراء الغربية(1/221)
ويدخل مصر، ومنها إلى فلسطين، ليرحل الحكم البريطاني والسيطرة الصهيونية إلى غير رجعة.
ولست أنسى ذلك اليوم الذي وقف فيه أحد الشباب بعد صلاة الجمعة في جامع الجزار وصاح بالدعاء بأن ينصر الله هتلر وجيوشه، ويهزم تشرشل وجنوده، وردد جمهور المصلين من وراءه آمين .
وعمنا الحزن والأسى، حينما انتهت الحرب العالمية الثانية بفوز دول الحلفاء، وهزيمة ألمانيا. فقد تملك علينا الخوف أن التجمع اليهودي باق، وأن المستقبل مظلم.
وقد جاءت الأيام لتكشف عن المستقبل المظلم، حقا، فما أن انتهت الحرب العالمية الثانية حتى بدأت حركة الإرهاب اليهودي، مسلحة منظمة، تقوم بالتصدي، للسلطة البريطانية، وللشعب العربي الأعزل من السلاح.
وتدفقت الهجرة اليهودية على فلسطين، وقام الإرهابيون اليهود بأعمال البطش والقتل والتدمير، وشملت غاراتهم سجن عكا، فقد هاجموه بالقنابل والأسلحة الأتوماتيكية ، وأفرجوا عن بعض زملائهم الذين كانوا معتقلين فيه. وشهدنا نحن أهل عكا جانبا من قلعة عكا ركاما من الحجارة وأيقنا يومها أن مستقبلا عصيبا ينتظرنا.
وجاءت الأوقات العصيبة حقا. فقد أحالت بريطانيا بوصفها الدولة المنتدبة القضية الفلسطينية إلى الأمم المتحدة’. وفي اليوم التاسع والعشرين من شهر نوفمبر 1947 أصدرت الأمم المتحدة قرارها بتقسيم فلسطين، وإنشاء دولة يهودية على مزارعنا ومروجنا، ومدننا وقرانا، ومساجدنا وكنائسنا. وعلى مرابع أحيائنا وقبور موتانا.(1/222)
ووقعت عكا في حزن خاص وعام. العام أن يصبح لليهود دولة في وطننا، والخاص أن تكون عكا، الثغر العربي الإسلامي التاريخي العريق. مسلوخة عن حيفا الجارة والشقيقة.
وأضربت عكا، مع سائر فلسطين، ثلاثة أيام احتجاجا على قرار الأمم المتحدة.وأصبحت المدينة في مناحة كبرى، وبكى الناس رجالا ونساء وأطفالا. ويومها أقفلت علي مكتبي، وبكيت.وما زلت أذكر البكاء بالبكاء.
ومضت الأحداث تتلوها الأحداث، وعمت العالم العربي موجة من الغضب والاستنكار واجتمع الملوك والرؤساء والوزراء وانفرطوا، وأعلنوا وقرروا، ودخلت الجيوش العربية إلى فلسطين (ربيع 1948) في مسيرة عامرة، بالفوضى والصراع والخلاف، وانتصرت العصابات اليهودية وانهزمت الجيوش العربية، وقامت الدولة اليهودية على رقعة أكبر مما قررت لها الأمم المتحدة!!
وفي شهر أيار من عام 1948 سقطت عكا، بقلعتها وأسوارها وأبراجها، بيد القوات اليهودية، بعد قتال شجاع مع نفر من شبابها الأبطال، ظلوا يقاتلون في شوارعها إلى آخر طلقة في بنادقهم وآخر خفقة في قلوبهم.
وفي مثل هذه الخاتمة الرهيبة، وقعت المأساة في كثير من المدن والقرى التي سقطت بيد إسرائيل.
ومنذ أن سقط وطني، وسقطت معها جنتي الطهور، عكا، وأنا أعود بالذكرى إلى الوراء ... . إلى ستين عاما مضت ... أجد نفسي أمام صورة واضحة هي تكرار لصور سابقة كأنها نسخة طبق الأصل.
وفي نظرة خاطفة عبر التاريخ منذ القرون الوسطى إلى الآن ... . أرى أن عكا بلدي قد سقطت ثلاث مرات، وكان سبب السقوط واحداً.(1/223)
لقد سقطت بيد الإفرنج في أواخر شهر أيار من عام 1104 وكانت يومئذ تابعة للخلافة الفاطمية، وقد شرح مؤرخ مصر الكبير أسباب سقوطها فقال "ونزل بغدوين (بلدوين) على عكا في البر والبحر في نيف وتسعين مركبا فحصروها من جميع الجهات وكان والهيا زهر الدولة الجيوشي فقاتل حتى عجز فطلب الأمان له وللمسلمين، والإفرنج لم يعطوه لما علموا من أهل مصر انهم لن ينجدوه، ثم أخذوها بالسيف" (1) وبقيت عكا بيد الإفرنج ما يزيد على ثمانين عاما إلى أن أستردها صلاح الدين الأيوبي في عام 1187 في معركة باسلة وشجاعة.
وسقطت عكا للمرة الثانية بيد الإفرنج في عام 1191 بعد حصار رهيب دام عامين، وأعلن التاريخ الإسلامي أنه " عظمت المصيبة على المسلمين واشتد حزن الموحدين. ووقع في العسكر الصياح والعويل والبكاء والنحيب" وبقيت عكا بيد الإفرنج مئة عام (1291 ) إلى أن فتحها السلطان خليل بن قلاوون على رأس جيش من الوطن العربي بأسره بينهم المؤرخ أبو الفداء، وكان أميراً على فصيل تعداده عشرة من المجاهدين (2) .
وسقطت عكا للمرة الثالثة بيد إسرائيل في عام 1948، حين دخلت الجيوش العربية إلى فلسطين، وملوكهم من ورائهم متحاسدون متباغضون قلوبهم شتى ولسانهم واحد.
ولسقوط عكا حكاية مفجعة توضح كيف سقطت المدن الأخرى في فلسطين، في ظل الفوضى العربية التي سميت حرب 1948.
__________
(1) النجوم الزاهرة، ج5، ص188.
(2) أبو الفداء،حوادث 690هـ.(1/224)
وموجز الموجز في تلك الحكاية أن الجامعة العربية كانت قد أنشأت في عام 1947 قوات عسكرية من المتطوعين العرب للدفاع عن المدن والقرى العربية في فلسطين، وقد أطلق على هذه القوات "جيش الإنقاذ" وكان مقر قيادته في دمشق برياسة الفريق طه الهاشمي من العراق.
"والإنقاذ" اسم صحيح في حينه، فقد كانت العصابات الصهيونية تعتدي على المناطق العربية : لا رادع ولا وازع. وكانت بريطانيا تتهيأ للانسحاب ولم يكن لدى الشعب الفلسطيني منظمات عسكرية، ولا سلاح، ولا أموال، ولا قيادة قادرة على ممارسة النضال.
ودخل جيش الإنقاذ إلى فلسطين وتمركز في مواقع مختلفة من البلاد وكان العقيد أديب الشيشكلي (رئيس الجمهورية السورية في ما بعد) على رأس القوات التي تمركزت في منطقة عكا ولواء الجليل.
وبموجب قرار التقسيم، فقد كانت هذه المنطقة مخصصة للدول العربية. وفي منتصف أيار من عام 1948 دخلت الجيوش العربية إلى فلسطين للحيلولة دون تنفيذ التقسيم وإنشاء الدولة اليهودية، وانتهت الحرب بهزيمة عربية، بعد الهدنة الأولى والثانية، وقامت إسرائيل، وعلى أرض أكثر مما خصص لها بقرار التقسيم.
وكانت منطقة عكا ولواء الجليل هي الغنيمة الكبرى التي حصلت عليها إسرائيل ... وقد دافع أهل عكا عن مدينتهم التاريخية دفاعا باسلا. ولما أوشكت المدينة على السقوط، أرسلوا وفودا إلى القاهرة ودمشق وبيروت وعمان يستصرخون ويستنجدون، ولكن لا مجير ولا نصير.
وكانت قوات العقيد الشيشكلي تتحرك في قرى عكا، ولم تنجد المدينة المجاهدة في قليل أو كثير. واستمرت المعركة وأهل عكا يقاتلون وحدهم.(1/225)
ومن مصادفات التاريخ العجيبة أن شباب عكا كانوا يطاردون القوات اليهودية عند تل العياضية، وهو نفس الموقع الذي جرت فيه المعارك الرهيبة بين صلاح الدين الأيوبي والإفرنج قبل ثمانية قرون.
وفي السادس عشر من شهر أيار سنة 1948 أي بعد يومين أثنين من دخول الجيوش العربية إلى فلسطين، سقطت عكا، قلعة الجهاد والنضال، بيد القوات الإسرائيلية، وأصبحت هي ولواء الجليل جزءا من دولة إسرائيل. وتلك مأساة مدينة واحدة، ولكنها تمثل مأساة شعب بكامله ووطن بأسره.
تلك لمحة سريعة من الذكريات عن عكا، القلعة التاريخية، قاهرة الغزاة والفاتحين التي قال عنها نابليون أعظم جندي أنجبته أوروبا، "على أسوارك يا عكا أضعت مستقبل حياتي".
وحين يقف المواطن العربي وقفة متأملة دارسة أمام الأحداث التاريخية التي ألمت بهذا الثغر العربي الإسلامي الكبير، تتجلى أمامه الحقيقة الراسخة التي تتأكد المرة تلو المرة. أن عكا كانت تنتصر، على الدوام، في ظلال الوحدة. وأنها كانت تنهزم على الدوام، في ظلال التجزئة والانفصال.
وكان من سوء حظ جيلنا أن يشهد الهزيمة الأخيرة، وأن يعيش العمر كله شهيد الحنين صريع الأحزان.
ورحم الله الرحالة العربي الأندلسي ابن جبير. لقد زار ديار الشام في تلك الحقبة الرهيبة حين كانت عكا بيد الإفرنج. وعقد في كتابه فصلا حزينا عن عكا جعل عنوانه "ذكر مدينة عكا دمرها الله وأعادها" (1) فوصف حالها وحال أهلها تحت حكم الإفرنج وصفا كله أشجان وأحزان.
__________
(1) رحلة ابن جبير، ص293.(1/226)
ولقد جفلت حين قرأت ذلك العنوان ونحن في فلسطين، قبل أن تسقط عكا وغيرها من مدن وطنا الحبيب.
أما اليوم، فقد زالت دهشتي وجفلتي. فلقد فهمت العنوان، وما ينطوي عليه من غضب وأحزان، ومن دعاء ورجاء. وأصبحت مع ابن جبير أدعو دعاءه وأرجو رجاءه.
وهكذا جعلت عنوان هذا الفصل ، "عكا دمَّرها الله وأعادها".(1/227)
القدس لنا..
ولكم الصخرة
كان الصيف في عام 1191 ثقيلا على صدر صلاح الدين، لم ير له مثيلا منذ أن حمل السلاح في فجر شبابه.
لقد انهزم صلاح الدين في المعركة الكبرى حول أسوار عكا، أمام حشود هائلة تجمعت من قارة بكاملها، تحت قيادة ثلاثة من أعظم ملوكها، وعشرات من أمرائها، ومئات من نبلائها.
وتلفتت أوروبا بكل جوارحها من عكا إلى بيت المقدس، فقد كانت عكا عند الإفرنج، هي الطريق، وكانت بيت المقدس هي الهدف.
ووقف صلاح الدين في مرج عكا وهو يطلق نظرات كسيرة على المدينة الباسلة وأبراجها وأسوارها، وكادت نفسه أن تذهب حسرات لما أصابها من الدمار، وما حل بأهلها من الهلاك، وما نزل بحاميتها من التقتيل والتمثيل.
ولكنه لم يجزع، بل إنه لم يجزع وهو يرى ثلاثة آلاف من رجاله الشجعان، يجرون بالحبال إلى تل العياضية حيث قتلهم قلب الأسد "صبرا،(1/229)
طعنا، وضربا بالسيف" (1) وصلاح الدين يذكر آلاف الأسرى من الإفرنج الذين وقعوا بيده في حطين وبيت المقدس، فكان أن مَنْ عليهم، وأطلق سراحهم وأمدهم بزاد السفر، ونفقات العودة إلى أوطانهم.
غير أن المحنة الكبرى في عكا كانت حافزاً للوقعة الكبرى على أسوار بيت المقدس، لتشد الهمم والعزائم، فقد أخذ صلاح الدين "يتدارك ما حدث من الكسر والوهن بالجبر والأحكام، ويعيد ما وهي من عقد الفتوح إلى النظام ... وإنما أراد الله بذلك تنبيه الهمم الراقدة وإثارة العزائم
الراكدة (2) .
وإنها لكذلك، فقد كانت العبرة في هزيمة عكا تنبيها للهمم الراقدة وأثارة العزائم الراكدة، وخرج صلاح الدين من معسكره في شفر عم (شفاعمر) إلى القيمون على سفح جبل الكرمل ليراقب مسيرة جيش الإفرنج بقيادة قلب الأسد وهم يزحفون في طريقهم إلى بيت المقدس.
ولازم الإفرنج مسيرتهم بمحاذاة الساحل، يبتعدون عنه قليلا ثم يقتربون، وأسطولهم في البحر يسايرهم ويمدهم من حين إلى حين بالمؤن والرجال والسلاح.
وبدأ صلاح الدين في تنفيذ خطة عسكرية جديدة، فأخلى مدينة حيفا، ثم دمر قلعة قيسارية حتى لا ينتفع بها الإفرنج، وكان ذلك بداية الخطة في سياسة الأرض المحترقة.
__________
(1) عماد الدين، الفتح القسي، ص293.
(2) أبو شامة، كتاب الروضتين، ج2، ص190.(1/230)
ووقعت مناوشات بين الفريقين، وتعرض الإفرنج أثناءها لهجمات متعاقبة، قام بها جيش صلاح الدين حتى أن قلب الأسد أصيب في إحداها أصابه بالغة في جنبه الأيسر.
وفي أيلول 1191 سارع صلاح الدين إلى شمال أرسوف حيث يتربص بالإفرنج بغية الالتحام معهم في معركة فاصلة، قبل أن يتوغلوا في البلاد وتصبح القدس في متناول أيديهم، ولم تكد مقدمة الإفرنج تقترب من بساتين أرسوف حتى تصدى لهم صلاح الدين واشتبك معهم في معركة ضارية، وكانت الحرب سجالا يلوح النصر لصلاح الدين مرة، ثم يحتجب عنه مرة أخرى، ولكن المعركة تحولت لصالح الإفرنج في النهاية.
وأبصر التاريخ بعينيه فرأى صلاح الدين وقد استولت عليه سحابة من الحزن والكآبة، فقد حلت به الهزيمة في أرسوف بعد الهزيمة في عكا، وساد الهم والغم في صفوف الجيش جنودا وأمراء، وأطلقها ابن شداد حزينة كئيبة حين تحدث عن صلاح الدين في أعقاب هذه الهزيمة ، بأنه كان "في قلبه من الوقعة أمر لا يعلمه إلا الله تعالى، والناس بين جريح الجسد وجريح القلب" (1) .
لكن صلاح الدين سما بنفسه فوق الحزن والكآبة، ولم يستسلم لما أصابه من هزيمة، فمسح بإيمانه وعزيمته جراحات الناس والجيش، ومضى في تصميمه على القتال ونقل معسكرة إلى الرملة ، فمنها يستطيع أن يرصد تحرك الإفرنج، ويعد للأمر عدته.
__________
(1) ابن شداد، سيرة صلاح الدين ،ص177.(1/231)
وقد قويت شكيمة الإفرنج وارتفعت روحهم المعنوية بعد انتصارهم في أرسوف، وراحوا يزحفون جنوبا وهم يقتربون من بيت المقدس يوما بعد يوم، وأنامل الزمان تقلب التاريخ صفحة بعد صفحة.
ووقعت معركة عنيفة في يافا، ونشب القتال بين الفريقين في شوارع المدينة وعلى أسوارها، وكاد قلب الأسد أن يقع اسيراً في يد صلاح الدين، غير أن الإفرنج تغلبوا واحتلوا مدينة يافا، وبادروا إلى تعمير أبراجها وأسوارها، وجعلوا منها قاعدة عسكرية تمونهم بحراً، لينطلقوا منها براً إلى بيت المقدس.
وخشي صلاح الدين، بعد سقوط يافا، أن يبادر الإفرنج إلى احتلال عسقلان وينتفعوا بقلعتها الحصينة ذات الأسوار المنيعة والأبراج الضخمة وعسقلان مفرق الطريق بين مصر وبيت المقدس، فلم يجد صلاح الدين مناصا إلا أن يأمر بتدمير عسقلان.
وفي أيلول، وصل صلاح الدين إلى عسقلان فأمر بإخلاء أهلها، وأخذ يحث على الإسراع في تخريبها، وظل العسكر والعمال عشرة أيام متوالية يواصلون الإحراق والتخريب والتدمير حتى أصبحت عسقلان أطلالا وأكواما، تثير الأحزان والأشجان، "ولحق الناس حزن عظيم" كما قال ابن شداد.
ولكن الذي امتلأ قلبه بالحزن، كان صلاح الدين بنفسه حتى "التاث مزاجه وامتنع عن الركوب والأكل يومين كاملين" وهو يقول "والله لئن أفقد أولادي بأسرهم، أحب إليَّ من أن أهدم حجرا واحدا" (1) .
__________
(1) المصدر السابق، ص211.(1/232)
وصلاح الدين ارتضى هذا المصير لعسقلان لأن بيت المقدس كان أعز عليه من أولاده، بل من الدنيا بأسرها.
وفي هذه الغمرة من الحزن والأسى مضى صلاح الدين في خطة الأرض المحترقة دفاعاً عن بيت المقدس، فأمر بتخريب الرملة واللد وسائر القلاع القائمة على طرق بيت المقدس، كما افسد الآبار في سائر النواحي، ثم توجه فورا إلى بيت المقدس، فشحنها بالمؤن والرجال والسلاح، وحصن أسوارها وأبراجها، فقد صمم صلاح الدين أن تكون الوقفة الأخيرة في بيت المقدس لا يتراجع عنها ولا يسلمها بل يقاتل دونها إلى آخر شبر وحجر، والى آخر رجل تحت سماء بيت المقدس.
وفي نهاية تشرين الأول 1191 خرج قلب الأسد من يافا متجها إلى بيت المقدس، وبعد مناوشات بسيطة استولى على يازور واللد والرملة، ثم استولى على بيت نوبة، والنطرون وما حولها من القرى.
ولئن استطاع قلب الأسد أن يزحف على أرض محترقة وقلاع مدمرة حتى بلغ مشارف القدس، فإن صلاح الدين ظل يحتفظ بقوته وبأسه للمعركة الفاصلة المنتظرة، يختار الزمان والميدان، بل يفرضهما على العدو فرضا، دون أن يتطرق إليه الوهن، أو يجد الخور إلى قلبه سبيلا.
وعقد صلاح الدين مجلسا عسكريا في بيت المقدس، شهده أمراء الجيش وقادته، واجتمعوا عند الصخرة المشرفة، وتعاهدوا على نصرة صلاح الدين والدفاع عن بيت المقدس، حتى الموت. وكان ميثاقهم الذي تضامنوا عليه بين يدي الله، كما روى أبن شداد "أن لا يرجع أحد منهم عن نصرته إلى أن يموت..".(1/233)
ذلك كان عهد الجيش إلى صلاح الدين، وذلك كان عهد صلاح الدين إلى بيت المقدس: الدفاع عن المقدس حتى الموت، فكان عهدا صادقا، وكان ميثاقا مخلصا، لا كالمواثيق التي تعاقبت عليها التواقيع العربية الفخمة والأختام الضخمة، ثم يجيء موعد الإنجاز والتنفيذ لتترحم على عرقوب وآباء عرقوب !!
وفي انتظار المعركة الفاصلة، جاء دور الفدائيين الأبطال، فلقد أصبح ساحل فلسطين الخصيب الحبيب، في قبضة الإفرنج، كما هو الآن في قبضة إسرائيل.
فكان لا بد من ضرب العدو في مؤخرته، وخطوط مواصلاته، ... ولا بد من إنهاكه وإرباكه، وعرف كل فدائي بطل موقعه في المعركة، ومكانه في الميدان، وروى التاريخ العربي وقائع الفدائيين الأبطال في صفحات خالدة.
ففي تشرين الأول 1191 أطبق الفدائيون على الإفرنج في طول البلاد وعرضها، وهاجموهم في المزارع والمراعي فأسروا عددا كبيرا منهم وغنموا خيولهم وبغالهم (1) .
وفي ختام السنة، وقد بدأ الشتاء القارس وهطلت الأمطار وتكاثرت الوحول حول هضاب القدس ووديانها، قام الفدائيون الأبطال بهجمات خاطفة على قوات الإفرنج فأنزلوا بهم خسائر فادحة، وقد سماهم مؤرخ غربي "برجال العصابات" (2) تماما كما يسمي الصهاينة الفدائيين البواسل من شعب فلسطين"بالمخربين".
__________
(1) المصدر السابق، ص183.
(2) Norgate, P. 201.(1/234)
وفي تلك الأثناء أخذ الفدائيون ينقضون على الإفرنج ويطاردونهم، وقد "ألهبوهم بالنهب والسلب، وسلطوا عليهم، وكمنوا له تحت كل رابية" (1) وكان معسكر الإفرنج يومئذ في بيت نوبة حيث أقاموا بضعة أسابيع تمهيدا للهجوم على بيت المقدس.
ولقد تكاثرت غارات الفدائيين الأبطال على معسكرات الإفرنج ومراكز تجمعهم من خليج عكا شمالا حتى ضواحي القدس جنوبا، فأوقعت الرعب والفزع في صفوف الإفرنج وأنزلت بهم خسائر جسيمة، ويروي التاريخ أن صلاح الدين كان يرعى الفدائيين، فيؤثرهم بعنايته وتقديره. ويتولى أمرهم بنفسه، وكثيرا ما جردهم" على مزارع العدو فحصدوا غلاته، ولم يبرح هو مكانه حتى يعودوا بجمالهم وأحمالهم، وقد خف زرع الفرنج مما فعلوا ... "
وكان الفدائيون كما يروي التاريخ "إذا دخلوا خيمة العدو ووضعوا الخنجر على نحر النائم، وأيقظوه وأخذوه فلا يستطيع أن يتكلم، وقد تكلم منهم جماعة فذبحوا، فصار من أصابه ذلك لا يتكلم ويختار الأسر على القتل، وقد داموا على ذلك مدة طويلة" (2) .
وقد سمي الفدائيون "لصوص الخيام"، لأنهم كانوا "يسرقون الرجال أحياء " وكانت هذه التسمية تندرا وتفكهة، فلم يكن أولئك الفدائيون في نظر صلاح الدين خونة أشراراً، يطاردون ويجردون من أسلحتهم ثم يسجنون ويعذبون أو يقتلون.
__________
(1) ابن واصل، مفرج الكروب، ج2 ،ص382.
(2) ابن شداد، النوادر السلطانية، ص125.(1/235)
وفي كانون الثاني 1192، عقد قادة الإفرنج وأمراؤهم مجلسا حربيا في النطرون وقرروا أن يتجهوا إلى عسقلان، ليعملوا على إعادة بنائها وترميم أبراجها وتعميرأسوارها، حتى يقطعوا طريق مصر- بيت المقدس، ويمنعوا المدد والمؤن عن جيش صلاح الدين، وقام الإفرنج، جنودا وعمالا، بهذه المهمة، كما أن قلب الأسد بنفسه كان يشترك في أعمال البناء والتعمير.
وبقي الإفرنج على هذا الحال في عسقلان حتى شهر حزيران وكان ذلك بداية معركة بين المقدس وكان حزيران الانتصار لا الانكسار.!
وكان الموقف العسكري إذ ذاك واضح الصورة جلي المعالم، فقد كان ساحل فلسطين كله في حوزة الإفرنج، ولم يبق لصلاح الدين إلا بيت المقدس، وقد اختار أن يكون محاصرا فيه، بعيدا عن مصر وديار الشام.
وظن قلب الأسد أن الفرصة مؤاتية لأن يطالب البطل المحصور بتسليم بيت المقدس، فيأخذها غنيمة باردة، تماما كما وقعت كثير من مدن فلسطين وقراها غنيمة باردة لإسرائيل.
وكما تعرض اليوم على الملوك والرؤساء مقترحات ذليلة بشأن بيت المقدس، فقد بدأ قلب الأسد يقدم العروض تلو العروض على صلاح الدين.
عرض قلب الأسد أولا، أن يكون بيت المقدس للإفرنج وأن تكون قبة الصخرة للمسلمين، ولكن صلاح الدين رفض هذا العرض البغيض بكل إباء.
ثم قدم قلب الأسد عرضا ثانياً، "وإن تكون الصخرة والقلعة للمسلمين وأن يكون باقي بيت المقدس مناصفة بين الفريقين" (1) .
وللمرة الثانية رفض صلاح الدين هذا العرض البغيض بكل إباء. وقال قولته التاريخية المشهورة" ... . لا نقدر التلفظ بذلك بين المسلمين" (2) .
__________
(1) ابن شداد، صلاح الدين، ص199.
(2) المصدر السابق ، ص315.(1/236)
وما أن فشلت المفاوضات حتى اندلعت الحرب، وبدأت أيام حزيران تتعاقب الليل بعد النهار، ليروي التاريخ للملوك والرؤساء ماذا كان من أمر تلك الأيام.
ففي 6 يونيو (حزيران)، ولعل القدر ما أراد أن يكون ذلك اليوم 5 حزيران، حتى لا يكرر التاريخ نفسه بأيامه وساعاته، ففي ذلك اليوم خرج قلب الأسد من عسقلان، ماراً ببيت نوبة، فاجتاز تل الصافية والنطرون بعد أن اشتبك مع أهل البلاد في غارات ومناوشات متعددة.
وهنا يذكر مؤرخ غربي، أن قلب الأسد، توغل مرة بعيدة عن جيشه حتى وصل أحد التلال المحيطة، ببيت المقدس ورأى المدينة الحصينة تحيط بها أسوارها وأبراجها، فما كان منه إلا أن أخفى وجهه بترسه وراح يبكي وهو يتضرع إلى الله أن لا يجعله يرى المدينة المقدسة إلا بعد الاستيلاء عليها (1) .
وفي 12 حزيران، اشتبكت مقدمة جيش صلاح الدين بقوات الإفرنج عند قرية قالونية على بعد فرسخين بن بيت المقدس (2) ، فأنزلت بهم خسائر فادحة.
وفي 17 حزيران، تعرضت عساكر صلاح الدين لقوات الإفرنج وكانت خارجة من يافا في قافلة ضخمة، فهاجموها عند الرملة، وحلت بالإفرنج خسائر كبيرة (3) . وعاد عساكر صلاح الدين إلى بيت المقدس ومعهم
__________
(1) رانسيمان،ج2، ص68.
(2) أبو شامة، كتاب الروضتين، ج2 ، ص197.
(3) ابن واصل، مفرج الكروب، ج2، ص 382.(1/237)
عدد كبير من أسرى الإفرنج وأموالهم ومؤنهم، وكان يوما مشهودا في بيت المقدس تبادل فيه الأهلون التهنئة والبشائر إيذانا بالنصر المرتجى والظفر المرتقب.
وتوالت الهجمات العربية على مؤخرة الإفرنج، في طول الساحل، من عكا حتى عسقلان، وراح الفدائيون ينزلون بالإفرنج خسائر مهلكة، حتى باتوا هدفا سهل المنال، فلا يمضي يوم إلا ويتكبدون التضحيات الجسام.
وتوالت إلى جانب ذلك، كما يروي مؤرخ غربي، اجتماعات أمراء الإفرنج وقادتهم، وقلب الأسد على رأسهم، يقلبون النظر في الموقف العسكري، ويتساءلون عن الخطة التي يتعين اتباعها. هل يحاصرون بيت المقدس؟ أو يتوجهون إلى بيروت أو إلى دمشق؟ للاستيلاء عليهما حتى يستدرجوا صلاح الدين خارج بيت المقدس!!
أما اقتحام القدس، فقد رأى الإفرنج أن دونه خرط القتاد، والحصار خارج الأسوار لم يعد وراءه جدوى، وقد أخذ الإفرنج يعانون نقص الأغذية والمؤن وشدة العطش، ذلك أن صلاح الدين قد خرب صهاريج الماء وطمر الآبار وأفسد المياه حول القدس "حتى لم يبق ماء يشرب أصلا".
وكان يستحيل على الإفرنج أن يحفروا آبارا جديدة بين الصخور الصماء.
وكان قلب الأسد قد استوضح من الفرسان الذين سبق لهم القتال في الحملات الماضية فوصفوا له أحوال القدس ومناعة أسوارها وضخامة أبراجها، فما وسعه إلا أن صارح مجلسه العسكري قائلا "هذه مدينة لا يمكن حصرها طالما كان صلاح الدين حيا، وكلمة المسلمين مجتمعة".(1/238)
وجاء يوم 21 حزيران، ليقرر مصير المعركة، فلقد أيقن قلب الأسد أنه لا سبيل لاقتحام القدس، فإن صلاح الدين "على قيد الحياة وكلمة المسلمين مجتمعة"، ولا يستطيع قلب الأسد أن يبقى حول أسوار القدس ينتظر ... ينتظر أن يموت صلاح الدين بالقضاء والقدر، وأن تتفرق كلمة المسلمين شذر ندر!!
وأصبح الصباح، وهد قلب الأسد معسكره وارتحل مع جيشه عن تلك الروابي التي قدر لها أن تسمح لقلب الأسد بأن يرى بيت المقدس ببصره دون أن يستطيع إلى دخولها سبيلا.
وهكذا عاد قلب الأسد إلى الرملة والى الساحل، في نفس الطريق الذي سلكه قبل بضعة شهور وهو يزحف على بيت المقدس.
وأبصر التاريخ بعينيه البطل صلاح الدين، وقد اعتلى تلا من تلال القدس (1) وهو يرقب عسكر الإفرنج ينحدرون في مسارب الوديان وتعاريجها الملتوية، بعيدا بعيداً عن بيت المقدس إلى غير رجعة.
وأيقن ريتشارد قلب الأسد، أنه لا سبيل لاسترداد بيت المقدس، فارتأى أن يعود إلى المفاوضات السابقة مع صلاح الدين، وأن يصبح "قلب الثعلب" بعد أن كان "قلب الأسد".
فأرسل إلى صلاح الدين يقول له مستعطفا "أعد علي بلادي أكُن أحد أولادك" (2) وهو يعني بيت المقدس!! تماما كما تعلن إسرائيل اليوم أن القدس هي عاصمة إسرائيل.
__________
(1) ابن واصل، مفرج الكروب، ج2 ، ص390.
(2) ابن شداد، سيرة صلاح الدين، ص218.(1/239)
وطال الأخذ والرد، بين وفد الإفرنج، ووفد صلاح الدين، وقد بلغ من تهالك قلب الأسد على الاحتفاظ ببيت المقدس، ولو بصورة رمزية، فاقترح أن يكون أحد أمراء الإفرنج حاكما على بيت المقدس "على أن يكون هو وجيشه تحت إمرة صلاح الدين وفي طاعته" (1) .
ولكن صلاح الدين لم يكن يرضى لبيت المقدس أَنصاف الحلول، كما يفعل الملوك والرؤساء اليوم، فرفض الاقتراح جملة وتفصيلا، ولم يمنح الإفرنج إلا حق الزيارة والعبادة للأماكن المقدسة.
وفي 2 أيلول سنة 1192، تم الاتفاق بين الفريقين في مدنية الرملة، على أن تكون المدن الساحلية من يافا إلى صور بيد الإفرنج، وأن تكون المناطق الداخلية من عسقلان إلى بيت المقدس، ومنها إلى شمال البلاد، بيد صلاح الدين.
وهذا الاتفاق أسماه بعض المؤرخين "صلح الرملة" وقد شاء القدر أن تبعث هذه التسمية من بطون التاريخ ليتمسح بها حكام العرب الذين لا يرون حرجا في عقد الصلح مع إسرائيل، فراحوا يجادلون ويحاجون ويتساءلون:
أن صلاح الدين قد عقد مع الإفرنج "صلح الرملة" فلماذا لا نعقد صلحا مع إسرائيل.
وقد فات حكام العرب الذين يريدون أن يمسحوا جباههم على عتبات صلاح الدين أن الاتفاق مع الإفرنج لم يكن صلحا. إنه لم يكن تنازلا وتسليما للأرض العربية للإفرنج، كما تطلب إسرائيل اليوم أن يتنازل حكام العرب لها عن الأرض الفلسطينية، ويعترفون بها ملكا شرعيا لإسرائيل.
__________
(1) المصدر السابق، ص363.(1/240)
بل إن حكام العرب قد فاتهم، أنه خلال القرن الثاني عشر، حين عقد ما سمي "صلح الرملة" لم يكن القانون الدولي معروفا بصورة عالمية محددة كما هو اليوم. فلم يكن هناك شيء من التعابير الحاضرة مثل "وقف إطلاق النار" "خطوط وقف إطلاق النار" "اتفاقية الهدنة" "ميثاق عدم اعتداء" "معاهدة صلح" أو ما شابه ذلك.
إنما يشاء الله، أن يتعلم حكام العرب درسا لا يعرفونه، ذلك أنه "صلح الرملة" كان هدنة، ولم يكن شيئا سواها. ولنرجع إلى العماد الأصفهاني رئيس ديون صلاح الدين، وهو الذي كتب الاتفاق بين الإفرنج وصلاح الدين.
حين نعود إلى كتاب "الفتح" للعماد الأصفهاني، نجد أنه قد عقد فصلا بكامله عنوانه "الهدنة العامة" أشار فيه إلى أن ملك "الأنكتير" قد طلب الهدنة، وأن صلاح الدين عقد مجلس الشورى وأعلن لأمرائه معارضته للهدنة قائلا " ... .رأيي أن أخلف رأي الهدنة ورائي وأقدم بتقديم الجهاد اعتزازي. وما أنا بطالب البطالة" ... وأن الأمراء سردوا حججاً كثيرة في موافقتهم على الهدنه وأن الأمراء مازالوا يجادلون السلطان "حتى رضي".
ثم يقول العماد الأصفهاني في ختام الفصل " ... .فحضرت لإنشاء عقد الهدنة وكتبت نسختها، وعنيت مدتها، وبينت قضيتها لمدة ثلاثة سنين وثمانية أشهر. وعقدت هدنة عامة في البر والبحر، والسهل والوعر ، والبدو والحضر".
وفي ما يشبه التقرير إلى الخليفة العباسي في بغداد، أرسل العماد الأصفهاني كتابا عنوانه ... ."كتاب إلى الديوان العزيز في شرح نوبة(1/241)
(معركة) يافا تم إفضاء الأمر إلى عقد الهدنة". ويشير الكتاب إلى تفاصيل "الهدنة ومدتها وشروطها" (1) .
هذه هي حكاية "صلح الرملة" إنها هدنة باللفظ والمعنى، ومن شاء من حكام العرب أن يعقد صلحا مع إسرائيل، فليفعل، ولكن عليه أن لا يلقي جنايته على أعتاب صلاح الدين.
ومع ذلك فقد كانت الهدنة عند صلاح الدين مرحلة من مراحل الجهاد، فما أن أبحر قلب الأسد من عكا، وارتحل عن البلاد مهزوما مدحورا، حتى بدأ صلاح الدين مرحلة جديدة في جهاده وكفاحه، فلم يشغل صلاح الدين باستعراضات النصر ومباهج الظفر، ولكنه شغل في بيت المقدس، فانصرف إلى تشييد أسوارها وتحصين أبراجها وتعمير خنادقها. فالقائد الملهم الحصيف يعتبر النصر بداية لا نهاية.
بل إن صلاح الدين كان مشغولا بأكثر من هذا، لقد كان يفكر في أن يمضي إلى قتال سلاجقة الروم في آسيا الصغرى لأن بلادهم كما قال صلاح الدين هي "طريق الإفرنج إذا خرجوا على البر، فإذا ملكناها منعناهم من العبور فيها" (2) وهكذا كان صلاح الدين يريد أن يقفل طريق الإفرنج إلى بلاد الشام، وأن يقفله إلى الأبد.
ثم أنه كان أن أقترب موسم الحج، فعزم صلاح الدين أن يؤدي الفريضة ويزور الأماكن المقدسة.
__________
(1) المصدر السابق، ص363.
(2) ابن الأثير،الكامل ،ج12، ص62.(1/242)
ولكنه عدل عن ذلك خوفا على بيت المقدس، فقد قدر صلاح الدين أن الإفرنج لم يخرجوا بعد من الشام، ولا سلوا القدس" وخشي أن ينتهزوا غيابه في الديار الحجازية ويعودوا إلى مهاجمة بيت المقدس (1) .
وقد تقبل الله من صلاح الدين العدول عن الحج وزيارة المسجد الحرام دفاعا عن المسجد الأقصى، وارتضى له التخلف عن ثاني القبلتين، ذودا عن أولى القبلتين، والجهاد أولى من الحج. والمسلمون ليتهم يعلمون.
وهكذا انتصر صلاح الدين وانهزم الإفرنج و بقي بيت المقدس لأهله وأصحابه الشرعيين.
ومن عجب أن القدس قد صمدت في حزيران 1191 ولكنها سقطت في حزيران من عام 1967، بيد إسرائيل ومن الضربة الأولى.
ويتساءل المواطن العربي كيف صمدت القدس في الماضي وسقطت في الحاضر، والوحدة هي الجواب. فإن الوحدة ولا سواها كانت رأس الأسباب في إنقاذ بيت المقدس، في الماضي. كما كان الانفصال هو سبب سقوطها في الحاضر.
لقد عمل صلاح الدين للوحدة بكل جوارحه، وجاهد الفرقة والانفصال بكل قوته، وكان أن حكم وطنا مترامي الأطراف، يمتد من جبال كردستان حتى صحراء ليبيا، ومن مشارق الشام شمالا حتى اليمن جنوبا.
ولم تكن الوحدة عند صلاح الدين شعارا يرُدد و كفى، أو خطابا يُلقى وانتهى، ولكنها كانت إيمانا راسخا، ثم إرادة أصيلة، ثم عزيمة نافذة.
وفي زمان صلاح الدين كانت الوحدة أصعب منالا وأعسر مجالا مما هي الآن، فقد كانت عساكره أشتاتا فجمعها، وأجناسا فوحدها، ولم تكن
__________
(1) أبو شامة، كتاب الروضتين، ج2 ،ص205.(1/243)
الجماهير العربية يومئذ تتخاطب بالهاتف وتتجمع حول الإذاعة والتلفزيون وسائر مقومات الوحدة، القائمة في البر والبحر والجو، الناشطة في العلم وفي الثقافة، وفي المؤتمرات والاجتماعات.
ولم تكن الوحدة كلاما بارعا، أو عبارة منمقة في الدستور، كدساتير الدول العربية، ولكنها كانت حقيقة من حقائق النضال، فالذين تصدوا لقتال الإفرنج في وقعة أرسوف كانوا من عسكر الموصل. وكانت من أشد المعارك ضراوة وقتالا، وفي معارك القدس وغيرها كان الذين قاتلوا أشتاتاً من العساكر تجمعوا من مصر والجزيرة ومن الشام بكل أطرافها، و من العراق من كل أنحائها، ومن فلسطين من سائر أرجائها، وكان فيهم البدو وفيهم الحضر، وبينهم الأكراد والتركمان والعرب، جميعهم قاتلوا في صف واحد، تحت قائد واحد، رايته النسر وعزيمته النصر.
وكان الجهاد شعار هذه الوحدة، ولا شعار سواه.
والجهاد عند صلاح الدين لم يكن له إلا معنى واحد، هو التصدي للإفرنج بكل طاقاته وقدراته، وفي ساعة من ساعات النجوى، حين كان صلاح الدين يفكر في أمر الإفرنج وعدوانهم المتصل، خطر له أن يغزو الإفرنج في "جزائرهم" في عقر دارهم حتى يستأصل شأفتهم، ولا يعودون إلى الوطن العربي مرة ثانية.
وكان ذلك من أعز أمانيه، كما قال عن نفسه "متى يسَّر الله تعالى فتح الساحل، أوصيت وودعت وركبت هذا البحر إلى جزائره، واتبعت الإفرنج حتى لا أبقي منهم على وجه الأرض".
ولقد تجلى الجهاد في أسمى صوره وأروع آياته بسلوك صلاح الدين وتصرفه مع أهله وذويه.(1/244)
تجلى تصرفه مع ابنه الظاهر حين ولاه على حلب، فغفل وتلهى، وخاف صلاح الدين "أن يسد عليه حبه للمنصب والجاه أبواب الذكاء والفطنة وحسن الخدمة، فعزله عن الولاية".
وتجلى تصرفه مع أخته، واسمها ست الشام بنت أيوب، فقد تكفل بتزويدها بالمال والرعاية لتصنع الأشربة والأدوية والعقاقير كل سنة بألوف الدنانير، وتفرقها على الجرحى والمرضى من المدنيين والعسكريين (1) .
وتجلى تصرفه مع أخيه ، الملك العادل، وهو من عرفه التاريخ شجاعة وحصافة، فقد طلب إلى صلاح الدين أن يكتب له في أَقطاع حلب كتابا بصيغة البيع والشراء، فغضب صلاح الدين وقال له :" أظننت أن البلاد تباع، أو ما علمت أن البلاد لأهلها المرابطين بها، ونحن خزنة المسلمين ورعاة الدين وحراس لأموالهم" (2) .
وانتصر صلاح الدين، وهذا ذروة الأسباب، لأن الحرب عنده لم تكن معركة يوم أو ستة أيام، ذلك بأنه كان عازما على قتال متواصل لا يتوقف حتى النصر ولأن الهزيمة على أسوار عكا لم تكن عنده هزيمه على أسوار بيت المقدس، ولم تكن عكا في تقدير صلاح الدين، كما تحدث هو بذاته، "إلا بلدة قد أستعادها أعداء الله فإن ذهبت مدينة فما ذهب الدين، ولا ضعف في نصر الله اليقين" (3) .
والواقع أن معركة القدس في الماضي كانت أشد وأقسى على صلاح ، من معركة القدس في حرب الأيام الستة، على الملوك والرؤساء.
__________
(1) قدري قلمجي، صلاح الدين الأيوبي ،ص448.
(2) كتاب الروضتين، ج2، ص53.
(3) المصدر السابق، ص188.(1/245)
ومهما قيل في تعظيم إسرائيل وتفخيم قواتها، ومهما قيل إلى جانب ذلك في العون العسكري والمادي الذي تلقته إسرائيل في حروبها، فإن القوى المتحالفة التي انطلقت من القارة الأوروبية إلى بيت المقدس في عام 1912 كانت أكبر وأكثر.
في تلك المعركة، كان تحت قيادة ريتشارد قلب الأسد وحده، ثلاثمائة ألف مقاتل، كما يشهد بذلك مؤرخ أجنبي (1) ، وكان مجموع الحملة يتراوح بين خمسمائة ألف وستمائة ألف مقاتل (2) على رأسهم إمبراطور ألمانيا وملكا إنجلترا وفرنسا، وعدد لا حصر له من الأمراء والنبلاء والفرسان. على حين أن القوة العربية كانت أقل عَددا عُددا.
وفي حملة الإفرنج كان الثمن غاليا فاحشا، فقد هلك من الإفرنج في ميدان المعركة ما لا يقل عن مائة وعشرين ألف قتيل (3) .
وكانت هذه التضحيات الجسام كلها من أجل بيت المقدس، ولم يفتر قلب الأسد سواء برسائل الوعيد والتهديد، أو التوسل والرجاء، عن المطالبة ببيت المقدس، ولكن هذه المدينة الخالدة الصغيرة كانت عند صلاح الدين دنياه الكبيرة، يرى الدفاع عنها عبادة أجلّ عبادة، وكان جوابه لقلب الأسد كأنه تنزيل من التنزيل، لا ينقصه إلا التنزيل.
فقال في جوابه لقلب الأسد: "كرهت لذات الدنيا وشبعت منها، والعسكر الذي يكون عندي في الشتاء، غير العسكر الذي يكون في الصيف، وأنا
__________
(1) Lane, Poole Saladin, P. 307..
(2) خطط الشام، ج2، ص72.
(3) le plus Pur heros, I'slam, P.284..(1/246)
أعتقد أني في أعظم العبادات، ولا أزال كذلك حتى يعطي الله النصر لمن يشاء (1) .
ولو أن هذه العزمات الروحية والنفحات القدسية هي التي سادت قلوب الملوك والرؤساء في حربهم مع إسرائيل، ما سقط بيت المقدس، وما دخلته إسرائيل بزهو وخيلاء، وهاجر أهله أذلاء تعساء.
ومع ذلك فإن معركة القدس لم تكن سهلة لينة على صلاح الدين بل كانت فوق طاقات الصبر وقدرات العزائم.
أجل، لقد كانت المعركة فوق طاقاته وقدراته، ولكنها كانت دون إيمانه بالله، وحبه لبيت المقدس. فقد روى التاريخ أنه بعد أن انتصر قلب الأسد، في عكا أراد أن يخاطب صلاح الدين من مركز القوة والغلبة، فعاد يطالبه بتسليم بيت المقدس، ولكن صلاح الدين الذي انكسر أمام أسوار عكا لم تنهزم نفسه أمام الهزيمة، ولم يغلب إيمانه أمام الغلبة، فرد على قلب الأسد ردا ما تزال تتجاوب نبراته في سمع الزمان، وقال له: "هذه البلاد كانت في الأصل لنا واستيلاؤكم كان طارئا، لضعف من كان فيها من المسلمين في ذلك الوقت" (2) .
ولقد كرر الإفرنج مطالبتهم ببيت المقدس، وضجت نفس صلاح الدين من هذا الإلحاح العنيد، حتى أنه أوشك، وهو معروف برحابته وسماحته، أن يبطش بالرسول الذي أوفده الإفرنج ليعرض هذه المطالب (3) .
__________
(1) ابن شداد، سيرة صلاح الدين، ص228.
(2) المصدر السابق، ص186.
(3) المصدر السابق، ص357.(1/247)
بل إن التاريخ ليروي أن صلاح الدين كان يصلي، ذات مرة، في المسجد الأقصى، فشرد فؤاده بين يدي ربه وهو يفكر في مصير بيت المقدس، وتعاظمت أمامه قوات الإفرنج، ودبت إلى فؤاده الرهبة وهو يتخيل أن يسقط بيت المقدس، فما كان إلا أن بكى صلاح الدين حتى تساقطت دموعه على مصلاه، ورفع يديه إلى السماء، وهو يدعو "إلهي، قد انقطعت أسبابي الأرضية في نصرة دينك، ولم يبق إلا الإخلاد إليك، والاعتصام بحبلك، والاعتماد على فضلك أنت حسبي ونعم الوكيل".
ومع هذا، ما ضعف صلاح الدين ولا استكان، بل بقي في بيت المقدس يعد ويستعد، ويناضل ويكافح، لأن بيت المقدس كان كل ذرة في كيانه وكل حبة في جنانه.
أجل كانت هذه المدينة الخالدة لصلاح الدين الحياة كل الحياة، والوجود كل الوجود، يسقط إذا سقطت، ويبقى إذا بقيت، وكانت عنده هي المملكة كلها، وهي العرش والصولجان، وهي الماضي والحاضر والمستقبل، وهي كل الزمان.
ومن أجل هذا، انتصر صلاح الدين، وانتصرت مدينة القدس لأن حمايتها كانت عنده من أعظم العبادات، ولم تكن عبادة فكرية في فؤاده ونجواه فحسب، ولكنها كانت عبادة عاملة مناضلة، فقد عاش صلاح الدين مع أسوار بيت المقدس وأبراجها،وعاش مع حاميتها وعاش مع شعبها، "فكان يحفر ويبني بيده هو وأولاده، وكان يركب فرسه كل يوم وينقل الصخر على(1/248)
سرجه" (1) وقد رآه الرحالة البغدادي يشارك أهل القدس"في بناء السور وحفر الخندق ويحمل الحجارة على عاتقه".
وفي هذه الأيام تتوارد المقترحات على الملوك والرؤساء بشأن مصير بيت المقدس وكلها تدور حول السماح للعرب بالعبادة والزيارة إلى بيت المقدس، ولكن تحت السيادة الإسرائيلية. ويتذكر المواطن العربي صلاح الدين وقلب الأسد، وما كان بينهما من مفاوضات.
أجل يتذكر المواطن العربي أن قلب الأسد قد كتب إلى صلاح الدين يقترح ما تقترحه إسرائيل اليوم، بأن "يكون القدس لنا ولكم فيه الصخرة" (2) .
ويتذكر المواطن العربي، كذلك، أن صلاح الدين قد أجاب، وكان جوابه فصل الخطاب "القدس لنا ولا نتصور أن ننزل عنه. ولا نقدر أن نتلفظ بذلك عند المسلمين".
كان ذلك موقف صلاح الدين.
أما موقف الملوك الرؤساء اليوم، فلا يخفى على إنس ولا جان، وبأي آلاء ربكما تكذبان.
وما أبعد الليلة عن البارحة.
__________
(1) ابن واصل، مفرج الكروب، ج2، ص275.
(2) ابن شداد، سيرة صلاح الدين، ص205.(1/249)
العبور الأكبر
في حياة جيلنا أيام وأعوام لا تنسى حفظناها عن ظهر قلب. ونذكرها من غير تذكير ولا تفكير.
من هذه الأيام والأعوام، الرابع عشر من أيار سنة 1948 يوم دخلت الجيوش العربية إلى فلسطين لتطرد منها الصهاينة الغزاة.
ومنها الخامس من حزيران من عام 1967 يوم اجتاحت إسرائيل الأرض العربية من سيناء إلى الجولان.
ومنها السادس من شهر تشرين الأول من عام 1973 يوم انطلقت القوات المصرية والسورية جاهدة لتحرر الأرض العربية وإزالة آثار العدوان.
ومنها أيام وأعوام كثيرة وكثيرة، تداخلت فيها الهزائم بالانتصارات، والأمجاد بالنكبات.
ويقينا، بل حقا وصدقا لقد كانت حرب تشرين ذروة في التخطيط، وآية في التنفيذ، ومعجزة في التستر والكتمان، ومفخرة في الخدعة. والحرب خدعة، كذلك كانت والى الأبد ستكون.
ولقد زاد روعة الانتصار في تشرين، أنه جاء بعد ذلة الانكسار في حزيران، فتعالت الرؤوس شامخة بعد أن كانت منكسة في وحل الهزيمة،(1/251)
واستعاد الجندي العربي ثقته برجولته وشجاعته، واسترد المواطن العربي إيمانه بذاته، وخصائصه ومقوماته، وأمسكت الأمة العربية بزمام أمرها.
وكان أن عمت الوطن العربي موجه من الأنفة والعزة، وارتفع قدر الإنسان العربي أمام نفسه وأمام الدنيا بأسرها ... ..وغابت صورة حزيران الذليلة حين كان المواطن العربي يطارد نفسه في الوطن، وتطارده عواصم الدنيا في الفنادق والمعاهد والشوارع!!
وفرحنا الفرحة الكبرى، وكان حقا علينا أن نفرح، بل كان واجباً علينا أن نفرح، ذلك أن الجيوش العربية وفي طليعتها القوات المصرية والسورية، قد وجدت نفسها أمام الفرصة الأولى لتقاتل قتالا حقيقيا، تتوافر له كل أسباب القتال الجاد.
ولقد حققت حرب تشرين إنجازات رائعة، العبور الكبير فوق القنال، تحطيم خط بارليف في سيناء، واقتحام المواقع الإسرائيلية وتدميرها في الجولان، وإنزال الخسائر الفادحة في العدو؛ في المعدات والرجال.
هذا من الناحية العسكرية المحضة، أما من الناحية الروحية، وهي الأروع والأرفع، فقد كان الإنجاز الأكبر الذي تم على أيدي المقاتلين العرب الأبطال، أن الجندي الإسرائيلي يمكن أن يكسر، وأن الجندي العربي يستطيع أن ينتصر.
وكان طبيعيا أن تمتلئ نفوسنا بالفخار والاعتزاز، وأن تمضي الصحافة العربية ومعها الإذاعة والتلفزيون في تمجيد هذه الأمجاد التي جاءت في أعقاب حرب تشرين المجيد.(1/252)
وقد كنتُ في القاهرة هذه الحقبة، أزهو وأختال في غمرة هذه المباهج التي غمرت جوانج الجماهير وملكت عليهم مشاعرهم ، في الشوارع والنوادي والمعابد, وحتى في أحلام النائمين ,ولا خجل ، أني كنت واحداً من الحالمين ، نائماً ويقظان !!
غير أن نغمة ناشزة قد بدأت تطفو على السطح ، ولم أكن أدري إذا كان سببها التفاخر المسرف، أم الجهل الفاضح جهل بتاريخ الأمة العربية، ومصر بالذات.
لقد بدأت أسمع في الإذاعة، وأقرأ في الصحافة تعابير غريبة عجيبة. تصدر عن المسؤولين وأنصافهم، وعن المثقفين وأشباههم.
من هذه التعابير مثلا أن مسؤولا كبيرا قال "في السادس من أكتوبر ولدت الأمة العربية من جديد".
ومن هذه التعابير أيضا، أن نقيبا بارزا قال "أنا في الخمسين من عمري، ولكني أعتبر أني ولدت في اليوم السادس من أكتوبر".
ومن هذه التعابير، كذلك، أن صحافيا كبيرا كتب يقول "يجب أن نعتبر يوم السادس من أكتوبر هو شهادة ميلاد الشعب المصري والأمة العربية".
ولقد ذعرت وأنا أقرأ وأسمع كل هذا.فإن هذه التعابير تحمل في طياتها كثيرا من التجني على شعب مصر والأمة العربية، ذلك أن التاريخ العالمي العام، فضلا عن التاريخ العربي، قد سجل للأمة العربية معارك عسكرية فاصلة، توازي، إن لم تتجاوز، المعارك العالمية البارزة في جميع عصور التاريخ.
ويكفي أن نسرد من غير تفصيل بعض هذه المعارك، مثل اليرموك وحطين، وعين جالوت، وبلاط الشهداء، وذات الصواري، والقادسية وفتح(1/253)
الأندلس، وغيرها وغيرها من المعارك التي حملت العرب من شبه الجزيرة العربية إلى أواسط آسيا شرقا، والى إسبانيا، والى جنوب فرنسا وسويسرا وإيطاليا وصقلية غربا.
وإن الذين يدرسون، ولو بصورة عامة، تاريخ الحروب في العالم يستطيعون أن يدركوا بداهة أن الأمة العربية تقف شامخة على رأس قائمة الأمم التي خاضت معارك رائعة، وبذلك تكون هذه التعابيرالتي اندلعت على ألسنتنا أخيرا، إهانة كبرى لشعب مصر، وللأمة العربية، بل إنها تعتبر إلغاء لوجود الأمة العربية، وكأن العرب المعاصرين لا صلة لهم بالعرب الغابرين، أو كأن الأواخر قد جاءوا بما عجز عنه الأوائل !!
ولقد كان العبور، عبور قناة السويس، هو الموضوع الذي فجر هذا الإغراق في التفاخر، والغلو في التباهي.
ولا شك أن هذا العبور كان عملا عسكريا عملاقا، والشرف الأول فيه يعود إلى الجندي العربي.ولكن ليس معنى ذلك إن الأمة العربية قد ولدت يوم العبور، أو أنها بعثت من القبور.
إن الأمة العربية بأمجادها، الطارف والتليد، أعتق من السادس من أكتوبر، وإن المقاتلين العرب المعاصرين الذين عبروا ودمروا هم أبناء المقاتلين القدامى الذين عبروا ودمروا . بل أن الأجداد قد فعلوا أروع وأرفع مما فعل الأحفاد. والأحفاد مطالبون بمزيد من الانتصارات حتى يستطيعوا اللحاق بقافلة الأجداد.
وفي موضوع العبور بالذات. وفي غمرة الفتوحات العربية الكبرى، ليس لنا أن نجهل أو نتجاهل أن الجيوش العربية قد عبرت كثيرا من الأنهار(1/254)
والجبال والبحار، والسدود، والحدود، واجتازت غابات ومفازات وصحراوات ومستنقعات، وعلى الذين لا يعرفون أن يقرأوا تاريخهم، ولو في لمحة عابرة.
ولست أريد أن أقف طويلا عند معركة القادسية (637) حين عبر سعد بن أبي وقاص نهر الفرات والمخاضات التي حوله، وكذلك فإني لا أريد أن أتحدث عن فتح الأندلس (711)م يوم عبر طارق بن زياد مضيق جبل طارق، ولا أن أسرد خطبته الشهيرة بعد أن أغرق السفن، فالمعركة أشهر من أن تذكر. ولكني أريد أن أقتصر على معركة لنهر النيل، وهو أصعب مراسا من قناة السويس، وأمام سدود أشد ضراوة من خط بارليف. إذا قورنت الظروف بالظروف، والسلاح بالسلاح.
ونحن لو رجعنا إلى صفحات التاريخ لوجدنا أن معركة دمياط الشهيرة التي وقعت أحداثها بين 1218-1221م كانت أكبر معركة عبور حدثت على أرض مصر، واشتركت فيها قوات مصرية وشامية، ومن سائر أرجاء العالم العربي.
ففي تلك الحقبة، أغارت قوات الإفرنج على مصر، وهي الحملة الصليبية الخامسة في الصراع الدامي بين الشرق والغرب ... .. ونزلت على شواطئ دمياط، ومن المصادفة الغريبة أن هذا الهجوم كان في شهر حزيران. وهو شهر الهجوم الإسرائيلي في معركة الأيام الستة.
وقد يظن المواطن العربي أني أتكلم مجازا حين أتحدث عن معركة العبور الكبرى التي وقعت في دمياط، وأنه لم يكن هناك عبور، ولا سدود، وأن الأمر لا يتعدى أن يكون معركة من حروب القرون الوسطى بالسيوف والرماح!!(1/255)
ولكني أريد المواطن العربي أن يمهلني قليلا ليرى أن معركة دمياط، كان فيها عبور، وكان فيها أسوار وستائر "كخط بارليف"، وكان فيها أبراج كأبراج خط بارليف، وكانت فيها أعمال فدائية كأعمال الصاعقة، وكان فيها حصار كحصار السويس. حتى أن العدو فيها قد أحدث "اختراقا وثغرة" في المعسكر العربي، كما فعلت إسرائيل على الضفة الغربية من قنال السويس، في حرب تشرين.
وليكون المواطن العربي على ثقة من صحة هذه المقارنة الدقيقة، وما فيها من التشابه العجيب، فسأضع أمامه الصورة، لا بكلماتي بل بكلمات المؤرخين الأوائل الذين سجلوا أحداثها يوما بعد يوم ... وأن اختار المقريزي مرجعا رئيسيا، وهو الذي اشتهر بأنه "شيخ المؤرخين المصريين".
وأرى أن أبدأ في سرد هذه المعركة بما بدأ به المقريزي، وها أنا أنقل عباراته.."واجتمع رأي الفرنج على الرحيل من عكا إلى مصر، والاجتهاد في تملكها، فأقلعوا في البحر وأرسوا على دمياط في الثامن من حزيران على بحر جيزة دمياط، فصار النيل بينهم وبين البلد، وكان إذ ذاك على النيل برج منيع في غاية القوة والامتناع، فيه سلاسل من حديد، عظام القدر والغلظ، وتمتد في النيل لتمنع المراكب من عبور أرض مصر، وتمتد هذه السلاسل في برج آخر يقابله، وكانا مشحونين بالمقاتلة".
وكما فعل الإسرائيليون يوم وصلوا إلى قناة السويس، وبنوا خط بارليف، نرى أنه حين وصل الإفرنج إلى النيل بنوا ما يشبه خط بارليف، ويقول المؤرخ المصري "وصار الإفرنج في غربي النيل، فأحاطوا على معسكرهم خندقا وبنوا بدائره سورا. وعملوا أبراجا متحركة يزحفون بها في المراكب إلى برج السلسلة ليملكوه".(1/256)
وكان صاحب الأمر في ذلك الوقت السلطان الكامل محمد نائبا عن والده السلطان العادل شقيق صلاح الدين الأيوبي "فخرج الكامل بمن عنده من العسكر. وسار في جمع كثير، وخرج الأسطول، وسيرَّ البعوث طلبا للنجدة، ليمنع الفرنج من العبور".
وأصبح أمر المعركة معروفا في الشام، فإن معركة دمياط هي معركتها، ولذلك فقد بدأ "السلطان العادل يجهز عساكر الشام شيئا بعد شيء إلى دمياط حتى صار عند الكامل من المقاتلة ما لا يكاد يُحصر عدده".
وتمضي المعركة رهيبة بين الفريقين، في استماتة ضارية، "وقد ألح الفرنج في مقاتلة أهل البرج، فلم يظفروا بشيء وكسرت آلاتهم، وتمادى الأمر على ذلك أربعة أشهر".
وكان الملك العادل في ديار الشام يراقب سير المعركة، ويحشد الحشود ويقذف بها إلى ميدان المعركة" ... .. وبينما هو في الاهتمام بأمر الفرنج، إذ ورد عليه الخبر بأخذ الفرنج برج السلسة بدمياط، فتأوه تأوهاً شديداً ، ودق بيده على صدره أسفاً وحزناً ، ومرض من ساعته وقد اشتد مرضه ,فمات, ودفن بالقلعة بدمشق ، وبكى الناس بكاء كثيراً ، واشتد حزنهم لفقده.
ولقد كان سقوط البرج عند السلطان العادل كارثة كبرى فلقد كان ذلك البرج عزيزاً على قلب العادل ، فقد بناه صلاح الدين وبالغ في حصانته ومناعته ، حتى أصبح يعرف "قفل الديار المصرية " إذا سقط سقطت معه مصر ، وأصبح الطريق إلى القاهرة سهل المنال ، والاحتلال .(1/257)
والواقع أن العادل لم يكن مشغولاً بالتعبئة في الشام فحسب ، ولكنه فتح على الفرنج جبهة ثانية فهاجمهم في معاقلهم وحصونهم ، فقد أمر ابنه الملك الأشرف " فسار في عسكره ودخل بلاد الفرنج ليشغلهم عن محاصرة دمياط".
وبعد وفاة العادل ، انتقل عبء النضال إلى ولديه ، المعظم عيسى في دمشق ، والكامل محمد في مصر .
وتابع المعظم عيسى خطة والده في مقاتلة الإفرنج في الشام " فهاجم قيسارية وهدم قلعتها ، ثم هاجم عتليت " وكلتا المدينتين على الساحل الفلسطيني قربياً من حيفا. وكانتا من أهم مراكز التعبئة والتموين للإفرنج .
أما الكامل محمد فقد فعل في النيل ، ما فعله المصريون في قناة السويس بعد معركة الأيام الستة ، فقد "نصب الكامل محمد جسراً يمنع الفرنج من عبور النيل وقاتل الفرنج عليه قتالاً كثيراً حتى قطعوه ، فأمر الكامل بتغريق عدة من المراكب في النيل منعت الفرنج .
من سلوكه" تماما كالبواخر التي اغرقت في قناة السويس، في حرب الأيام الستة!
وفي ما يشبه اختراق إسرائيل للقناة إلى الضفة الغربية في حرب تشرين، فقد "عدل الفرنج إلى خليج يعرف بالأزرق، وكان النيل يجري فيه قديما، فحفروه حفرا عميقا، وأجروا فيه الماء إلى البحر فجرت فيه سفنهم ونزلوا إلى بر دمياط".
واشتد القتال في البر والبحر، بين الإفرنج والمسلمين، وكان أسطول الفرنج يضم سفنا هي من "عجائب الدنيا مصفحة بالحديد، لا تعمل فيها(1/258)
النار، ومساحتها خمسماية ذراع، وفيها من المسامير ما زنة الواحد منها خمسة وعشرون رطلا".
وتوالت المعارك ليلا ونهارا، واشترك فيها الشعب مع الجيش في قتال ضار، وبدأت معارك الفدائيين أو الصاعقة، "والعربان تخطف الفرنج كل ليلة، بحيث منعهم ذلك من الرقاد، خوفا من غاراتهم، فتكالب العرب عليهم حتى صاروا يخطفونهم نهارا، ويأخذون الخيم بمن فيها، فأكمن لهم الفرنج عدة كمناء وقتلوا منهم خلقا كبيرا".
وتوافدت الإمدادات على الإفرنج بالرجال والأموال والسلاح، كان على الملك الكامل أن، يستنجد بالمسلمين في كل مكان، "فبعث إلى الآفاق سبعين رسولا، يستنجد أهل الإسلام لقتال الإفرنج، ويستحثهم على إنقاذ المسلمين وإغاثتهم، ويخوفهم من تغلب الفرنج على مصر، فإنه متى ملكوها لا يمتنع عليهم شيء من الممالك بعدها. فسارت الرسل وقدمت النجدات من حماة وحلب".
ومالت الدائرة على المسلمين، فقد كان الفرنج أكثر عددا وعُددا و"عبروا النيل إلى البر الشرقي حيث مدينة دمياط".
ونزلت بالمسلمين خسائر فادحة في الرجال والعتاد، وتسرب اليأس إلى النفوس "وتزلزل الكامل، وهَمّ بمغادرة أرض مصر، ثم تثبَّت" فالشعب بقي صامدا يقاتل في الميدان.
وهنا بدأت مرحلة جديدة في القتال، وأصبحت المعركة بين الفرنج، وأهل دمياط ... " والفرنج قد أحاطوا بدمياط من البحر والبر، وأحدقوا بها وحصروها، وضيقوا على أهلها، ومنعوا الأقوات أن تصل إليهم، وحفروا(1/259)
على معسكرهم المحيط بدمياط خندقا. وبنوا عليه سورا. وأهل دمياط يقاتلونهم أشد قتال. فثبتوا مع قلة الأقوات عندهم، وشدة غلاء الأسعار".
وقد أطبق الإفرنج على دمياط، ولم يستطع أحد الوصول إليها، وجاء دور الفدائيين مرة أخرى، وكان على رأسهم شمائل الحموي، " ... . قدم إلى القاهرة من بعض قرى حماة ويسمى شمايل. وكان يخاطر بنفسه ويسبح في النيل ومراكب الفرنج به محيطة، والنيل قد امتلأت به شواني الفرنج، فيدخل إلى مدينة دمياط، ويأتي السلطان بأخبار أهلها، فإذا دخل إليها قوّي قلوب أهلها ووعدهم بقرب وصول النجدات".
ومضى العام كله ودمياط محاصرة تكابد الحرب وويلاتها بصبر وإيمان، وكان "أن اشتد قتال الفرنج، وعظمت نكايتهم لأهل دمياط، وكان فيها نحو العشرين ألف مقاتل، فنهكتهم الأمراض، وغلت عندهم الأسعار حتى بيعت البيضة الواحدة من بيض الدجاج بعشرة دنانير، وامتلأت الطرقات بالأموات، وصار السكر في عزة الياقوت، ونفدت اللحوم.ولم يبق عند الناس غير شيء يسير من القمح والشعير، فتسور الفرنج السور وملكوا منه البلد.وكانت مدة الحصار ستة عشر شهرا واثنين وعشرين يوما، وعندما أخذوا دمياط وضعوا السيف في الناس فلم يعرف عدد من قتل لكثرتهم".
وهكذا فإن دمياط، لم تحارب معركة الأيام المعدودات، كما فعلنا في حروبنا مع إسرائيل، ولكنها حاربت ما يزيد على خمسمائة يوم فلم تتوقف الحرب ليلاً ولا نهاراً ، ورغماً عن الخسائر الفادحة التي نزلت بأهل دمياط فإن المعركة لم تتوقف ولم يصدر الأمر بوقف إطلاق النار ... ."فندب السلطان الناس وفرقهم في الأرض، فخرجوا إلى الآفاق يستنصرون الناس لاستنقاذ أرض مصر من أيدي الفرنج. وقدم الملك المظفر صاحب حماة في عسكر(1/260)
كثيف. واجتمع الناس من أهل القاهرة ومصر وسائر النواحي، ما بين أسوان إلى القاهرة، ونودي بالنفير العام، وقدمت النجدات من بلاد الشام وعلى رأسها شقيقا الكامل محمد، وصاحب حماة، وصاحب حمص وصاحب بعلبك. وتتابع قدوم النجدات حتى بلغ عدد فرسان المسلمين نحو الأربعين ألفا".
وكما توالت النجدات على المسلمين، فقد توالت النجدات على الإفرنج فقد "خرجت أمم الفرنج من داخل البحر تريد مدد الفرنج، فوافى دمياط منهم طوائف لا يحصى لهم عدد، فلما تكامل جمعهم بدمياط خرجوا منها في حدهم وحديدهم، وقد زين لهم سوء عملهم أن يملكوا أرض مصر".
وبعد أن تكاملت النجدات التحم الفريقان في معركة ضارية، وهزم الإفرنج هزيمة منكرة، ولحقت بهم خسائر فادحة، وأسر منهم الكثيرون وغنم المسلمون قطعا بحرية كثيرة.
وكان دور الشعب رائعا، وكان له الفضل الأول والأخير في الصمود والثبات، فقد "كانت العامة تكر على الإفرنج أكثر مما يكر عليهم العسكر"!!
وهنا جاءت معركة العبور العظيم، أوجزها التاريخ في كلمات قليلات تنم عن بطولات رائعة وبسالات خارقة. "فقد تقدم جماعة من العسكر إلى خليج من النيل في البر الغربي، يعرف ببحر المحلة وقاتلوا الفرنج منه، وتقدمت الشواني الإسلامية في برالنيل تقاتل شواني الفرنج، فأخذوا منها ثلاث قطع برجالها وأسلحتها. وعبر جماعة من المسلمين في بحر محلة إلى الأرض التي عليها معسكر الفرنج، وفتحوا مكانا عظيما في النيل. فلم يشعر الفرنج إلا والماء قد أغرق أكثر الأرض التي هم عليها، وصار حائلا بينهم(1/261)
وبين دمياط، وأصبحوا وليس لهم جهة يسلكونها. فأمر السلطان بالحال بنصب الجسور عند بحر أشموم طناح ... . وعبرت العساكر الإسلامية عليها، وملكت الطريق التي تسلكها الفرنج إلى دمياط، فانحصروا من سائر الجهات، ففت ذلك في أعضاد الفرنج، وألقى في قلوبهم الرعب والذلة، بعد ما كانوا في غاية الاستظهار والعنت، ولاذوا إلى طلب الصلح، وبعثوا يسألون الأمان لأنفسهم، وأنهم يسلمون دمياط من غير عوض" (1) .
وهكذا كان العبور العظيم، من قوات الشعب أولا، ومن العساكر ثانيا.
ووقع الإفرنج في حصار خانق، وفي مصيدة لا منفذ منها، وما وسعهم إلا الاستسلام من غير قيد ولا شرط.
وقد كان بوسعي، كما أسلفت، أن أكتب للمواطن العربي عن معركة العبور العظيم كما يكتب أي فصل من فصول التاريخ، سردا ووصفا، ولكني خشيت أن يظن أحد أن الكلام عن العبور العظيم في معركة عربية هو ضرب من الخيال، أو الأماني المشتهاة. ولهذا فقد آثرت أن، يكون هذا الفصل مجموعة من مقتبسات تاريخية كتبها صاحبها وهو واحد من الجيل الثاني بعد المعركة.
ولقد يخطر في بال المواطن العربي، أن هذا السرد التاريخي لمعركة العبور العظيم، قد أملته العصبية العربية، ولا يخلو من المبالغة، مع أن الواقع أن مؤرخي الإفرنج كانوا أكثر إسهابا، وكان مؤرخونا أكثر إيجازا واقتضابا.
غير أننا لو رجعنا إلى ما كتبه مؤرخ غربي، قضى سنين طويلة في دراسة الحملات الصليبية، لازددنا تعظيما وإعجابا، للعبور الكبير الذي
__________
(1) المقتبسات كلها من كتاب المقريزي ، السلوك، ج1.(1/262)
حققه المسلمون في معركة دمياط. فبعد أن وصف ذلك المؤرخ الغربي تفاصيل المعركة وتابع سيرها من بدايتها حتى العبور العظيم راح يقص كيف "اجتازت القوات الشامية بحيرة المنزلة واتخذت مواضعها بين الصليبيين ودمياط، وكيف "هبطت سفن الكامل محمد فقطعت على الأسطول الصليبي السبيل عند ارتداده"، وكيف "اكتمل تطويق الجيش الصليبي" ... وكيف "أن الارتداد لم يكن منظما، وأن عددا كبيرا من العساكر لم يرضوا أن يتخلوا عن مستودعات النبيذ فآثروا أن يشربوها على أن يتركوها خلفهم، وفقدوا الوعي." وكيف "وقع في أسر المسلمين عدد كبير من السفن الصليبية" وأخيرا كيف "أبحر جند الإفرنج عائدين إلى بلادهم، ولم يكسبوا إلا العار وبالغ المرارة (1) .
وكائنا ما كان الأمر. فإن معركة العبور العظيم التي وقعت على أرض دمياط قبل سبعماية وخمسين عاما، وانتهت بهزيمة الإفرنج، إنما تطالب المواطن العربي أن يعرف تاريخ أمتة معرفة عميقة ودقيقة، بل إنها تصيح، حي على التاريخ، حي على التاريخ.
وفوق هذا وذاك، فإن تلك المعركة تصيح في وجوه الأحفاد أن لا يزهوا على الأجداد، فإن الأوائل أعظم شأنا من الأواخر.
ونحن لا ينقصنا للحاق بمواكب النصر التي زخرت بها صفحات التاريخ العربي إلا أن، نعرف كيف تم النصر في معركة العبور العظيم على أرض دمياط ... .لقد كانت أسباب النصر واضحة لا تحتاج إلى اكتشاف.
__________
(1) رانسيمان، تاريخ الحملات الصليبية، ج3 ، ص297 وما بعدها.(1/263)
أول هذه الأسباب: أن دولة الوحدة كانت تضم مصر والشام والعراق، وكان الملك الكامل محمد علي على رأسها، وكانت القاهرة عاصمة الوحدة، وكان إخوانه نوابه في أنحاء المملكة، فكانت دولة واحدة لا عشرين.
وثاني هذه الأسباب: أن القوات العربية كانت جيشا واحدا يقاتل في ميدان واحد، فقد تلاقت الجيوش على أرض المعركة من حماة وحلب وبعلبك والشام، ومن مصر، من القاهرة إلى أسوان، والكل يقاتلون في جبهة واحدة، ولم تكن تميز الشامي عن المصري إلا حين يتكلم بلهجته.
وثالث هذه الأسباب: أن الشعب قد خاض المعركة مع الجيش من بدايتها إلى النهاية، من الاستنزاف إلى القتال إلى العبور والى الفداء حتى النصر.
ورابع هذه الأسباب: أن التصميم على القتال إلى النهاية في حرب طويلة كان شعارا حقيقا، لا خطبة حماسية، يقصد منها إلهاء الجماهير، فقد دامت معركة دمياط قرابة ثلاثة أعوام مضنية مليئة بالتضحيات الجسام.
وخامس هذه الأسباب: أن لا مجال للاستسلام والتسليم، فقد غلبت دمياط على أمرها وتحملت الجوع والعطش والنار والدمار، ولكنها رفضت أن تستسلم وأن تطلب الصلح مع العدو.
وسادس هذه الأسباب، أن خسارة معركة واحدة ليس معناه التوقف عن القتال، فقد كانت دمياط "قفل الديار المصرية"، وقد انكسر القفل وأصبح الطريق إلى القاهرة مفتوحا. ولكن الإصرار والاستمرار على النضال سد على الإفرنج، الطريق فارتدوا عن القاهرة وجلوا عن دمياط.
هذا، وإن الذي أرَّخ لهذه الحملة هو بنفسه تجسيد للوحدة العربية، فقد كان مواطنا عربيا في دولة الوحدة الواحدة.(1/264)
إنه المؤرخ الشهير تقي الدين أحمد بن علي المقريزي، ولد في القاهرة وتنتمي أسرته إلى مدينة بعلبك في لبنان، كانت تسكن حارة "المقارزة" فعرفت أسرته بها، وقام بمناصب علمية هامة في القاهرة، ودمشق لسنين عديدة. وارتحل إلى مكة، وأقام فيها خمس سنوات عمل خلالها بالتأليف والتدريس. ثم عاد إلى القاهرة ومات فيها، وهو يدرس ويؤلف.
وهكذا تنقل هذا المؤرخ في الوطن العربي، وتقلد مناصب رفيعة، في القاهرة ودمشق ومكة، من غير جواز سفر، ولا تصريح عمل، ولم تختم أوراقه بالعبارة المخزية، التي تختم بها جواز سفر المواطنين المعاصرين، "محظور العمل بأجر وبغير أجر ... ."!!!
أجل، لقد كان الوطن العربي واحداً، وكان المواطن العربي مواطنا طبيعيا حيث حل، والى حيث ارتحل، ومهما عمل، من المهد إلى اللحد.
أما اليوم، فإن الوطن يعيش التجزئة، والأمة تعيش الفرقة والأرض العربية مقسومة إلى عشرين حظيرة تفصلها الأسلاك الشائكة والويل للسالكين بين الأسلاك والأشواك!!
وما أبعد الليلة عن البارحة.(1/265)
ملوك وأمراء
خانوا بيت المقدس
"الإفرنج لم يخرجوا بعدُ من الشام، ولا سلوا بيت المقدس"
قالها صلاح الدين الأيوبي قبل أن يمضي إلى جوار ربه بعام واحد. فلقد كان خائفا على بيت المقدس من الإفرنج، وهو الذي خاض معهم المعارك الضارية ما يزيد على عشرين عاما.
واستقرت الأمور في بيت المقدس جيلا كاملا بعد وفاة صلاح الدين، فنعم أهلها من المسلمين والمسيحيين بالحياة الوادعة المطمئنة، ومعهم جموع الحجاج من الإفرنج، يفدون إليها للزيارة في الأعياد الدينية فيلقون الاطمئنان والأمان.
ولكن مخاوف صلاح الدين على بيت المقدس بدأت تلوح في الأفق بعد أربعين عاما من وفاته حين تحرك الاستعمار الأوروبي من جديد ليسترد ديار الشام، ويسترد معها بيت المقدس.
وفي عام 1218 أخذت حملة استعمارية جديدة تتجمع في أوروبا للزحف على المشرق العربي. فقد ذهب البطل صلاح الدين، وتقسمت(1/267)
دولة الوحدة من بعده بين أبنائه، والتجزئة هي فرصة الاستعمار، دوما، للوثوب على الوطن العربي.
وتوالت اجتماعات ملوك الإفرنج وأمرائهم ليضعوا الخطة، وكان السؤال الكبير: وكيف نسترد بيت المقدس؟؟
والواقع أن هذا السؤال قديم، ولم يكن يقل عمره عن مئة وعشرين عاما ...
ففي ربيع 1098 في حملة الإفرنج الأولى، انعقد مجلس حربي في مدينة الرملة، في فلسطين. واختلف أمراء الإفرنج في ما بينهم هل يزحفون على بيت المقدس أولا ثم يسيرون إلى مصر، وهي العمق الإستراتيجي لبيت المقدس. أم يزحفون على مصر أولا، حتى يسهل فتح بيت المقدس ويتوطد احتلالهم لها.
واختارت حملة الإفرنج يومئذ أن تزحف إلى بيت المقدس مباشرة، وتترك الاستيلاء على مصر لمرحلة ثانية.
وفي الحملة الجديدة، هذه المرة، عاد السؤال من جديد: أين الطريق إلى بيت المقدس، هل يكون من الشام، أم يكون من مصر؟
وطال الأخذ والرد، ولكن الحوار رسا في النهاية أن يكون الزحف أولا على مصر، وعلى دمياط بالذات، باعتبار أنها هي مفتاح وادي النيل، فقد استذكر المجتمعون "أن ملك إنجلترا قلب الأسد كان قد نصح بغزو مصر أولا حتى يسهل استرداد بيت المقدس، كما أشار مجمع "اللاتيران" بأن تكون مصر هي هدف الحملة الأساسي، فإذا تيسرطرد المسلمين من وادي النيل فسيفقدون أغنى إقليم لديهم، ولن يستطيعوا المحافظة على أسطولهم في(1/268)
شرقي البحر الأبيض المتوسط، ولن يقدروا على الصمود طويلا في بيت المقدس" (1) .
كان ذلك هو تقدير "الموقف" عند القادة العسكريين من الإفرنج كما أورده عدد من مؤرخي الإفرنج، وفيهم من رافق الحملة مقاتلا ومؤرخا، ذلك أن الإفرنج أدركوا بعد الحروب التي خاضوها في المشرق أن مفاتيح بيت المقدس هي في مصر، وأن عليهم أن يبدءوا بمصر أولا، باعتبار أنها الطريق الطبيعي للوصول إلى بيت المقدس، وأن مصر في تعبير قادة الإفرنج هي "رأس الأفعى". وأنها "المخزن الأكبر للإمدادات العسكرية". وأنها "تتبوأ مركز القلب من الجسد" إلى آخر هذه التعابير الإستراتيجية.
ولم يكن الإفرنج على خطأ في "تقدير الموقف" على هذا النحو، فقد شاركهم المؤرخون المسلمون في هذا التحليل. فإن مؤرخا نابها مثل ابن واصل، قد ذكر في سياق حديثه عن حملة الإفرنج الجديدة، واتجاهها نحو مصر أولا أن "الملك الناصر صلاح الدين إنما استولى على الممالك وأخرج القدس والساحل من أيدي الفرنج بملكه ديار مصر وتقويته برجالها، فالمصلحة كما قال الإفرنج أن نقصد أولا مصر ونملكها وحينئذ فلا يبقى أي مانع من أخذ القدس وغيره من البلاد" (2) .
وهكذا اتجهت جيوش الإفرنج صوب دمياط، ولكنها كانت في الواقع تستهدف بيت المقدس ومضت المعركة رهيبة ومضنية، كما أسلفنا في الفصل السابق، وكانت الحرب سجالا بل أن الإفرنج قد حققوا انتصارات
__________
(1) رانسيمان،ج3، ص267.
(2) ابن واصل، مفرج الكروب، ج3، ص358.(1/269)
بارزة في مراحلها الأولى. ومع أن الشعب بقي صامدا ومصمما على القتال حتى النهاية، فإن السلطان الكامل قد وهنت عزيمته، "وتزلزل ... وهم بمفارقة أرض مصر " (1) وذلك ما كان سببا في الشائعة التي تسربت إلى معسكر الإفرنج بأن "السلطان الكامل قد هرب من القاهرة" كما روى مؤرخو الإفرنج (2) .
وكما يفعل الملوك والرؤساء، في هذه الأيام، مع إسرائيل، بدأت المفاوضات وراء الكواليس بين السلطان الكامل والإفرنج، وكان بيت المقدس هو محور المفاوضات، فإن الإفرنج قد خاضوا هذه الحملة الجديدة من أجل بيت المقدس.
وراحت الرسل ذاهبة آيبة بين الفريقين، وتبلورت المحادثات الأولية على أن يوافق السلطان الكامل على تسليم سواحل فلسطين، ومعها بيت المقدس إلى الإفرنج مقابل جلائهم عن دمياط.
ولتكون الصفقة جاهزة للاستلام والتسليم، فقد بادر السلطان إلى إصدار أوامره بتخريب أسوار بيت المقدس وأبراجها، حتى لا يستلمها الإفرنج عامرة. والذنب قبيح ولكن العذر أقبح!!
وفي شهر آذار –1219 وبيت المقدس في ذروته شتائه وبرده، راح العساكر والعمال يدمرون الأبراج والأسوار، التي حمل صلاح الدين أحجارها على كتفيه هو وأولاده، وقال أبو شامة في لهجة حزينة غاضبة: "فوقع البلد في ضجة مثل يوم القيامة، وخرج النساء المخدرات والبنات والشيوخ والعجائز والشبان والصبيان إلى الصخرة والأقصى، وقطعوا
__________
(1) المقريزي، السلوك، ج1، ص197.
(2) رانسيمان، ج3، ص298.(1/270)
شعورهم و مزقوا ثيابهم، بحيث امتلأت الصخرة ومحراب الأقصى من الشعور، وخرجوا هاربين وتركوا أموالهم وأثقالهمِ، وامتلأت الطرق.. فبعضهم إلى مصر، وبعضهم إلى الكرك وبعضهم إلى دمشق" (1) .
ولكن الإفرنج رفضوا هذه الصفقة وأصروا أن يعود إليهم حصن الشوبك وقلعة الكرك بحجة أن الدفاع عن بيت المقدس لا يكون إلا من إقليم ما وراء الأردن.
وجدد الكامل عرضه على الإفرنج بأن يسلمهم "البيت المقدس وعسقلان وطبريا وصيدا وجبلة واللاذقية وجميع ما فتحه صلاح الدين من الفرنج بالساحل، ما عدا الكرك". غير أن الإفرنج عادوا "وطلبوا ثلاثمائة ألف دينار عوضا عن تخريب القدس ليعمروا بها، وإنه لا بد من الكرك" (2) .
ولكن الشعب لم يكن مباليا بهذه العروض الذليلة التي كان يتقدم بها مليكه "الكامل" إلى الإفرنج، فمضى في ساحة المعركة، شأن الشعب دائما مع ملوكه وأمرائه لا يستخذي باستخذائهم بل يزداد إيمانا وصلابة.
وكان موقف الشعب هو الأكرم والأعظم، وكانت فراسته هي الأصوب، والأسلم، فقد دارت الدائرة على الفرنج، وبعد "أن كانوا في غاية الاستظهار والعنت"، ويطالبون بيت المقدس وساحل فلسطين مقابل الجلاء عن مصر ودمياط، أعلنوا مواقفتهم على الاستسلام ويطلبون "الأمان من غير عوض".
__________
(1) أبو شامة، ذيل الروضتين، ص115.
(2) ابن الأثير، الكامل،حوادث سنة 614.(1/271)
وفي اليوم الثامن من شهر أيلول 1221 انسحب الإفرنج من مواقعهم بعد أن أشعلوا النار في خيامهم، واستقلوا السفن عبر البحر الأبيض المتوسط. يحملون جرحاهم وأسراهم، وأحمالاً ثقيلة من الهزيمة على أكتافهم.
ورضي الكامل بمنح الإفرنج الأمان، مع أن رأيا آخر كان يدعو إلى "مناهضتهم واجتثاث أصلهم البتة". وإنه لو صبر الكامل يومين لأباد الإفرنج وأخذوا برقابهم". ولكن الملوك والرؤساء، شأنهم اليوم، يوقفون إطلاق النار وزمام النصر بأيديهم، حتى تحل الهزيمة بشعوبهم.
وكان أن سجل التاريخ أن الله تعالى " أتى المسلمين ظفرا لم يكن في حسابهم، فإنهم كانت غاية أمانيهم أن يسلموا البلاد التي أخذت منهم بالشام ليعيدوا دمياط، فرزقهم الله إعادة دمياط وبقيت البلاد بأيديهم على حالها" (1) .
وهكذا سلمت دمياط وبيت المقدس معا. غير أن تراخي الكامل وتصرفه الهزيل مع الإفرنج قد جلب على بيت المقدس أياما سوداء حملت في طياتها عارا لا يمحى. فلم تكن تمضي ثمانية أعوام حتى بدأ الإفرنج يخططون لحملة جديدة على المشرق العربي تستهدف بيت المقدس.
وكان الكامل هو "بطل" هذه المأساة المروعة، ولم يعد جديرا بأن يكون اسمه الكامل، ولا أن يكون له بعد قرون شارع باسمه، غير بعيد عن منزلي في القاهرة، ما سرت فيه مرة إلا وعتبت على القاهرة, كيف يحمل هذا الشارع اسم ذلك المليك، الذي خان بيت المقدس.
__________
(1) ابن الأثير، الكامل، حوادث 644.(1/272)
ولقد أسهمت كتب التاريخ، بمراجعها العربية والأجنبية، عن تفاصيل ما حل ببيت المقدس في تلك الحقبة الرهيبة، وعلى يدي الملك الكامل.
وأنا، وكل الأمة العربية معي وقد نُكبنا ببيت المقدس، لما حل بها بعد الاحتلال الإسرائيلي، لا أجد قلمي قادرا أن يكتب قليلا أو كثيرا عما فعل الكامل ببيت المقدس. ولم يعد أمامي إلا أن يسعفني المؤرخون العرب الأوائل فيما كتبوا لنا عن تلك المحنة الغابرة التي نسيناها في ظلام المحنة الحاضرة...
وتبدأ مأساة بيت المقدس، بالخلاف الذي نشب بين الملك الكامل وأخيه المعظم فيقول المؤرخون: "وتأكدت الوحشة بين الكامل وأخيه المعظم، فبعث الكامل إلى ملك الإفرنج، يريد منه أن يقدم إلى عكا، ووعده أن يعطيه بعض ما بيد المسلمين من بلاد الشام، ليشغل سر أخيه المعظم، فتجهز الإمبراطور ملك الفرنج لقصد الساحل".
وفي رواية أوضح، وأكثر تحديدا بالنسبة إلى بيت المقدس، "فإن الملك العادل طلب من الإمبراطور فردريك أن يحضر إلى الشام والساحل ويعطيه البيت المقدَّس، وجميع فتوح صلاح الدين بالساحل" وكان يحمل هذه الرسالة إلى الإمبراطور الأمير فخر الدين. وهو لا فخر، ولا دين!!
وأرسل ملك الإفرنج مع رسوله "هدية سنية وتحفا غريبة إلى الملك الكامل، وكان فيها عدة خيول منها فرس الملك، بمركب ذهب مرصع بجواهر فاخرة فتلقاه بالإقامة من الإسكندرية إلى القاهرة، وتلقاه بالقرب من القاهرة بنفسه وأكرمه إكراما زائدا، وأنزله في دار الوزير، وأهتم الكامل بتجهيز هدية سنية إلى ملك الفرنج، فيها من تحف الهند واليمن والعراق(1/273)
والشام ومصر والعجم. وفيها سرج من ذهب، وفيها جوهر بعشرة آلاف دينار مصرية".
ومضت أيام، ومضى معها التاريخ يقول :" ... ..ومات الملك المعظم صاحب دمشق، وكان قد خافه الملك الكامل، فسرَّ بموته". أي سر الأخ بوفاة أخيه، وكذلك حال الملوك!! ثم يمضي التاريخ كأنه يحكي أسطورة مسلية وقال "وقدم الإمبراطور ملك الإفرنج إلى عكا باستدعاء الملك الكامل، كما تقدم، ليشغل سر أخيه المعظم، فاتفق موت المعظم، فتحير الملك الكامل، ولم يمكنه دفع الإمبراطورية ولا محاربته، فراسله ولاطفه"!!
وفي مثل قصص العجائز راح التاريخ يقترب من المأساة؛ وقال: "...وكان الكامل على تل العجول (جنوب غزة) وملك الفرنج بعكا، والرسل تتردد بين الملك الكامل وبين الإمبراطور فردريك ملك الفرنج، إلى أن وقع الاتفاق أن ملك الفرنج يأخذ القدس من المسلمين وأن الحرم بما حواه من الصخرة والمسجد الأقصى يكون بأيدي المسلمين، وأن تكون القرى التي في ما بين عكا ويافا، وبين لد والقدس بأيدي الفرنج".
وتبريرا لهذه المصيبة الدهماء في تسليم بيت المقدس إلى الإفرنج من غير قتال ولا نزال، قال التاريخ "إن الكامل تورط مع ملك الفرنج، وخاف من غائلته، عجزا عن مقاومته، فأرضاه بذلك، فلما اتفقا على ذلك عقدت الهدنة بينهما، مدة عشر سنين وخمسة أشهر وأربعين يوما، وحلف الملك الكامل وملك الفرنج على ما تقرر"!!
وجاء دور التنفيذ الرهيب، وبرزت المأساة الدامية، من بين سطور ذلك الاتفاق المروع، وقال التاريخ :" وبعث الملك الكامل فنودي بالقدس(1/274)
بخروج المسلمين منه، وتسليمه إلى الفرنج، فاشتد البكاء وعظم الصراخ والعويل، وحضر المؤذنون والأئمة من القدس إلى مخيم الكامل، وأذنوا على بابه في غير وقت الأذان (استنكارا واحتجاجا)، فعظم على أهل الإسلام هذه البلاء، واشتد الاستنكار على الملك الكامل وكثرت الشناعات عليه في سائر الأقطار. ودخل الإمبراطور القدس، وسار إلى المسجد الأقصى وفيه الصخرة، وصعد درج المنبر. ولم يؤذن المؤذنون تلك الليلة".
ثم جاء دور الشعب الغاضب، فقال التاريخ "واشتد التشنيع على الملك الكامل لتسليمه القدس للفرنج، فنفرت قلوب الرعية وحزن الناس على استيلاء الفرنج على بيت المقدس. واجتمع بجامع دمشق ما لا يحصى عدده من الناس، وعلت أصواتهم بالصراخ، واشتد بكاؤهم وأنشد الحافظ شمس الدين قصيدة في ثلاثمائة بيت منها:
على قبة المعراج والصخرة التي
تفاخر ما في الأرض من صخرات
مدارس آيات خلت من تلاوة
ومنزل وحي مقفر العرصات
"فلم يُرَ في دمشق أكثر بكاء من ذلك اليوم" (1) .
تلك هي المأساة الرهيبة التي عاشها بيت المقدس، يسلمها إلى الإفرنج ملك مصر نكاية بأخيه ملك دمشق، فضجت دنيا العروبة والإسلام، وناحت مآذن الصخرة والأقصى "وقامت القيامة في جميع بلاد الإسلام، واشتدت
__________
(1) المقريزي، السلوك، ج1، ص329 وما بعدها.(1/275)
العظايم بحيث أقيمت المآتم" (1) ثم جاءت أيام أشد سوادا و بلاء على بيت المقدس، (1234-1244) فكانت الخيانة العظمى هذه المرة على أيدي ثلاثة ملوك هم الصالح أيوب ملك مصر، والصالح إسماعيل ملك دمشق والناصر داود ملك الأردن، فقد تباروا في مصانعة الإفرنج ومحالفتهم، نكاية لبعضهم بعضا (2) .
وبلغ الأمر بهم أن عرضوا على الفرنج أن تكون لهم السيطرة الكاملة على بيت المقدس بما فيها المسجد الأقصى وقبة الصخرة "وتمكن الفرنج من الصخرة بالقدس وجلسوا فوقها بالخمر، وعلقوا الجرس على المسجد الأقصى".
وصادف في ذلك العام، أن ذهب إلى بيت المقدس، المؤرخ المعروف ابن واصل، فكان شاهد عيان فقال "فرأيت الرهبان على الصخرة، وعليها قناني الخمر، ورأيت الجرس في المسجد الأقصى، وأبطل الأذان
بالحرم" (3) .
ولم يطل هذا الهوان على بيت المقدس ففي صيف ذلك العام، اجتاحت جيوش إسلامية-الخوارزمية-ديار الشام، فهاجموا الإفرنج في مواقع متعددة، واقتحموا بيت المقدس. وطردوا الإفرنج منها وبذلك تحرر بيت المقدس من الافرنج، ومن الملوك والأمراء الذين خانوا بيت المقدس.
__________
(1) أبو السفط، المختصر،حوادث 626هـ.
(2) سعيد عبد الفتاح عاشور، الحروب الصليبية ،ج2 ، ص 1042.
(3) عقد الجمان، حوادث سنة 641هـ.(1/276)
وبقي بيت المقدس قرابة سبعماية عام في يد أصحابه من المسُلمين والمسيحيين، إلى أن جاء عام 1918 لتبدأ مأساة العرب الكبرى في القرن العشرين.
وفي غمرة حلف بين الشريف حسين- أمير مكة- والإفرنج الحلفاء أبان الحرب العالمية الأولى ، احتل الجنرال اللنبي مدينة القدس، وأعلن كلمته الشهيرة :"اليوم انتهت الحروب الصليبية". وأعقبه، بعد ذلك بعامين الجنرال الإفرنسي غورو وهو يقف على قبر صلاح الدين في دمشق وقال :"ها نحن عدنا ثانية يا صلاح الدين"!!
ثم جاء عام 1948 وقامت إسرائيل بأيدي دول الحلفاء، حلفاء الأمة العربية، وسقط بيت المقدس خارج السور بيد إسرائيل، وسُمي القدس الجديدة.
ثم جاءت حرب الأيام الستة في عام 1967 وسقط بيت المقدس داخل الأسوار، بيد إسرائيل، وسُمِّي الحي الشرقي لأورشليم.
وأصبح بيت المقدس، داخل الأسوار وخارجها، العاصمة الموحدة لإسرائيل، وفشت الخلاعة والدعارة في ساحات المسجد الأقصى وقبة الصخرة وراح الشباب اليهود يفجرون بالنساء، والنساء اليهوديات يعهرن مع الرجال. وفتيان اليهود وفتياتهم يجلسون على مقاعد الوضوء حول بركة المسجد الأقصى في فسق وفجور. تماما تماما، كما فعل الفرنج، قبل سبعة قرون، يوم استلموا بيت المقدس من الملوك الثلاثة:
الصالح أيوب ملك مصر.
والصالح إسماعيل ملك دمشق.
والناصر داود ملك الأردن.(1/277)
ويتساءل المواطن العربي المعاصر، وقد شهد المآسي الرهيبة التي حلت في بيت المقدس في العصر الحديث. يتساءل كيف تم ذلك.
كيف تم ذلك، والأمة العربية تتألف من ماية وعشرين مليوناً، والشعوب الإسلامية تتألف من سبعماية مليون .
والجواب بسيط، إن الأمة العربية ومعها الشعوب الإسلامية، يقودها العشرات من الملوك والرؤساء والأمراء على حين أن إسرائيل لم يكن يقودها إلا رجل واحد اسمه بن غوريون في عام 1948، وأمرأةواحدة بعده اسمها غولدا مائير.
وكذلك كان شأن بيت المقدس عبر التاريخ. عربية إسلامية في ظلال دولة الوحدة، وتحت الاحتلال والإذلال في عهود التجزئة والفرقة والانفصال.
وما أشبه الليلة بالبارحة.(1/278)
يوم في..
بيت المقدس
عرفت بيت المقدس في طفولتي وصباي، من بعيد، فلم يشرفني الله أن تكون مسقط رأسي، وحرمت أن أحبو على ترابها الطهور، وأن أرتع في حاراتها وساحاتها، وأن أتفيأ ظلال أسوارها وأبراجها. وما أسعد الذين ولدوا في أكنافها، فقد قدر لهم أن يترعرعوا في مهد التاريخ وأن يكونوا من سدنة معالمها الخالدة.
ولقد عرفت بيت المقدس، وأنا في عكا، وكانت يومئذ تبعد عني مسيرة ثلاثة أيام على ظهور الجياد، ولكنها مع ذلك كانت أقرب إلي ّمن حبل الوريد، أقرب من أذني إلى سمعي، فقد كان اسمها يتردد من حولي في البيت، وفي الجامع، وفي المدرسة، وفي كل مكان.
في البيت، كانت حلقة العلماء في بيتنا لا تفتر على ذكر بيت المقدس عند كل مناسبة دينية وكان الحديث عن "بركاتها، وفضل الصلاة في المسجد الأقصى" يطغي على كل حديث.
وفي المسجد، كانت خطب الجمعة، لمناسبة الإسراء والمعراج تشير إلى فضائل بيت المقدس، وينهي الخطيب كلامه وهو يرتل بصوت خاشع الأحاديث النبوية عن بيت المقدس ومنها :" من زار بيت المقدس محتسبا(1/279)
أعطاه الله أجر ألف شهيدً ... "ومن زار بيت المقدس محتسبا حرم الله لحمه وجسده على النار" ... . "ومن صلى في بيت المقدس غفرت ذنوبه كلها".
وفي المدرسة، كان أستاذنا يتحدث بإفاضة عن بيت المقدس، وعن أسوارها وأبراجها وأبوابها، وعن تاريخها ابتداء بالفتح العمري، إلى عهد الأمويين والعباسيين، وحروب الإفرنج مع صلاح الدين، إلى عهد العثمانيين فالاحتلال البريطاني؟
ولكننا في المدرسة لم نكن نعرف بيت المقدس بهذا الاسم، فلقد شاع هذا الاسم عندنا في ما بعد، فقد كان الاسم الرائع "القدس الشريف"؛ ولذلك حكاية جرت بيننا وبين معلم الجغرافيا.
في ذلك الوقت، وهو على التحديد في عام 1919، كان معلمنا يدرسنا الجغرافيا من غير كتاب ولا خريطة، فلم تكن الكتب المدرسية قد طبعت، ولم تكن الخرائط قد ظهرت، فالاحتلال البريطاني بعد العهد العثماني لم يكن قد أعد شيئا من برامج التعليم.
وكان معلمنا يدرسنا "من عقله"، ويتحدث عن جغرافيا فلسطين وسهولها وجبالها ومدنها، مستعينا من حين إلى حين برسم خريطة على اللوح، يبين فيها مناطق فلسطين الطبيعية، ويتعمد أن يرسم عكا وحيفا والخليج بينهما بإتقان وروية .
وقد كان معلمنا يذكر لنا كل شيء عن فلسطين إلا أمرا هاما كان يلفت انتباهنا ويثير حيرتنا. إنه لم يكن يذكر لنا عاصمة فلسطين. وهل من المعقول أن تكون بلادنا من غير عاصمة، وللبلاد الأخرى عواصم، أصبحنا نحفظها عن ظهر قلب.(1/280)
وغدونا نخن التلاميذ في حيرة من أمرنا وجمعنا شجاعتنا مرة، وقلنا لمعلم الجغرافيا:
-خوجة أفندي: وما هي عاصمة فلسطين؟
وكلمة "خوجة أفندي" تعبير تركي معناه "يا معلم"، وقد بقي هذا التعبير على ألسنتنا، ننادي به معلمنا بعد زوال العهد العثماني بعام أو عامين.
فأجاب المعلم: في السابق كنا تابعين لبيروت. أما اليوم فإن عاصمتنا هي " القدس الشريف"، سألناه أين هذه "القدس الشريف" فرسم لنا خريطة لفلسطين، ووضع نقطة كبيرة في وسط فلسطين كتب عليها "عاصمة فلسطين" وحدد على الشاطئ المدن الساحلية: عكا-حيفا-يافا-غزة.
وهكذا عرفنا أن عاصمتنا لم تعد شمالا في بيروت، وإنما أصبحت جنوبا في القدس الشريف.
والقدس الشريف مثل الشام الشريف، تعابير تركية أطلقها الرعيل الأول من العثمانيين المتدينين، فضموا إلى القدس والشام كلمة شريف تكريما وتشريفا.وذات يوم، في عطلة الجمعة، تأكد لنا أن ما يقوله معلم الجغرافيا صحيح، فقد ذهبنا إلى محطة السكة الحديد للنزهة، فلم يكن عندنا شيء من وسائل التسلية سوى الخروج إلى المحطة للتفرج على القطار وعرباته، والمسافرين وهم يركبون وينزلون، ونحن في عجب كبير، كيف يسير القطار بالبخار، فذلك علم لم نتعلمه إلا بعد ذلك بسنيين.
وكنا نطوف حول العربات ذهاباً واياباً من خلف وقدام لنتفرس بالعجلات والقضبان والأبواب والنوافد ثم نقرأ ما هو مكتوب على هذه العربية أو تلك .(1/281)
وكان بين هذه العربات، وهي من مخلفات الدولة العثمانية، عربات مكتوب عليها: سكة حديد الحجاز-"قدس شريف"- "شام شريف" إلى غير ذلك من العبارات. ويومها تأكد لنا أن معلمنا بارع في علم الجغرافيا، ومن أصدق من القطار علما؟؟!!
ومضينا مع معلمنا في علم الجغرافيا وهو يملي علينا دروسه ونحن نكتب ... . عن فلسطين ، وعن مساحتها وعدد سكانها، ومدنها، وجبالها، وكان يركز على "قدس شريف" فيشيد بقيمتها الدينية، وحصانة أسوارها ومناعة أبراجها، ويسرد أسماء أبوابها، ثم يصف لنا بالتفصيل المسجد الأقصى وقبة الصخرة الشريفة.
وكان معلمنا متدينا، يذكر "قدس شريف" بكل خشوع وإجلال، على حين كان يذكر أسماء المدن الأخرى في سرد عادي، لا تشوبه مسحة من التقدير.
ومن يومها،وعلى يد معلم الجغرافيا، انغرس حب "قدس شريف" في فؤادي، وأصبحت أتوق لرؤيتها وأن أقضي أياما في ربوعها؟ ولكن معلم القرآن الكريم قد ذهب بعيدا إلى أعمق من ذلك، فقد غرز حب المدينة في جوارحي، وانتقل الحب من الجغرافيا إلى التاريخ إلى الدين.
ومضى معنا معلم الدين، يسرد علينا من خزائن ذاكرته سيرة "قدس شريف" ومقامها في الإسلام، مستعرضا تاريخها القديم منذ ملكي صادق، اليبوسي الكنعاني العربي، أول من اختط مدينة القدس ليتعبد فيها هو وعشيرته، وأطلق عليها اسم قرية السلام.
وكان معلمنا شيخا مهيبا يروي لنا تلك الحكايات بالتجلَّة والاحترام ولا يفتر عن عبارات الحمد والتسبيح كلما جاء على ذكر المدينة، وأحداثها،(1/282)
ومقابرها، وأكابر الصحابه الذين دفنوا بها، والملوك والأمراء الذين بنوا فيها المدارس والرباطات والمستشفيات والأوقاف الخيرية.
وازددت حبا بالقدس الشريف، فلم تعد عندي عاصمة لفلسطين فحسب، ولكنها أصبحت دينا وحضارة، وتجسيدا حيا لتاريخ العروبة والإسلام.
ولكن حبي أصبح هياما وغراما في أيام الإسراء والمعراج، وفي المسجد الجامع المعروف بجامع الجزار، أحد ولادتها الطغاة.
وكان مفتي عكا وقاضيها، الشيخ عبد الله الجزار، ولا صلة له بالحاكم الجزار، عالما جليلا مهيباً، ربى جيلا من العلماء في عكا، واشتهر بالتقوى والورع، وكان الناس يتهافتون على يده يقبلونها مثنى وثلاثاً، وهو يسير من المسجد إلى داره، والناس من حوله في موكب فخيم.
وقبل صلاة الجمعة، كان الشيخ الجزار يجلس على مصطبة دكان كبير، يملكه أحد وجهاء النصارى اسمه "الخواجه" عيسى العيسى، فيقبل عليه الفلاحون القادمون من قراهم للصلاة والتجارة، ويتزاحمون عليه يلثمون يده، وينقضي الوقت وصاحب الدكان لا يبيع من بضاعته شيئا، وهو يتهلل بشرا أن بركة المفتي قد حلت على دكانه في ذلك اليوم السعيد. بركة فقط، من غير ربح ولا تجارة !!
وفي يوم الإسراء والمعراج كان الشيخ الجزار يتولى تلاوة "القصة" بصوته العذب الخشوع، ولم يكن يسمح لغيره من العلماء أن يتلوها نيابة عنه، فقد أصبح ذلك الواجب جزءا من حياته، يمنحه سرورا دافقا وسعادة عظمى، ويبدو كأنه في مطلع الشباب.(1/283)
وكنا في ذلك اليوم نسارع إلى المسجد ونزاحم في الصفوف، حتى نجد مكانا قريبا من الشيخ الجزار لننعم بصوته الشجي ووجهه البهي، وكان يحمل على كتفيه وجها ناصعا مشربا بالحمرة، يجلله شيب نقي، وفوق ذلك كله عمامة بيضاء كأنها هالة من نور. وهكذا كان يبدو لنا. وما ضر أن يكون الخيال أحسن من الحقيقة، ما دام يبعث في نفوسنا الرضا والسرور.
وتشرئب الأعناق، ويسود المسجد هدوء وخشوع، ويبدأ الشيخ الجزار تلاوة قصة المعراج، من كتاب أمامه. إنه يقينا يحفظها عن ظهر قلب، ولكنه يُصّر على أن يتلوها من الكتاب بين يديه فإن الكتاب طاهر، والصفحات مقدسة، ويجب أن يتلو من الكتاب، ويقلب الصفحات بين يديه، فذلك أكثر بركة. وتلك حلاوة الإيمان لأولئك الذين نشأوا على الإيمان .
ويمضي الشيخ الجزار في التلاوة، بعبارات عذبة، من سجع إلى سجع، فهذا البراق الشريف الذي يمتطيه الرسول (صلى الله عليه وسلم ) فينقله من مكة إلى بيت المقدس، حيث يربطه، ومن ثم يعرج إلى السموات العلا، إلى سدرة المنتهى، إذ يغشى السدرة ما يغشى، إلى الحضرة الإلهية ... إلى آخر القصة التي تعود بالرسول (صلى الله عليه وسلم) من السماء إلى الأرض في بيت المقدس ثم إلى مكة، وأهلها نيام، ويحكيها لهم ,ويقولون له أضغاث أحلام.
والقصة، بالصيغة التي كان يتلوها الشيخ الجزار في ذلك العهد، مليئة بالصور الرائعة عن الطيور العسجدية ذات المناقير الزبرجدية، السابحة في الأفلاك العلية. أو الحوار الرائع الذي دار بين الرسول (صلى الله عليه وسلم) والأنبياء الذين التقى بهم في كل سماء. أو غير ذلك من السرد الديني يأخذ بجامع القلوب، فيسمو بالناس، ولو إلى ساعة من الزمن(1/284)
إلى صفاء النفس، والراحة من متاعب الحياة، واشتعال الأمل والرجاء بالقدرة الخفية العليا، ويملأ القلب بالسكينة، كأنه يستقر من قلقه وحيرته وشكوكه ومتاعبه، في قرار مكين.
وهكذا كنا نخرج من المسجد، والسرور يفعم قلوبنا، ونحن نتزاحم بالمناكب والأقدام حتى نصل إلى الشيخ الجزار ونلثم يديه الطاهرتين، والمؤذنون من حوله يرشون ماء الورد على يديه من حين إلى حين. ونحن لا نخشى العدوى، فلا عدوى في الإسلام، وهكذا تعلمنا، وهكذا آمنا. وما عليك أن تخاف إذا آمنت.
ونعود إلى بيوتنا، كأننا رجعنا من مصح جميل وجدنا فيه الشفاء والعافية، لنبدأ لحياة من جديد، انتظارا ليوم الإسراء، أو يوم آخر من الأيام الدينية.
وكانت "القصة" بكل ما فيها من أساطير وحقائق ونفحات روحية تشحن المدينة كلها بالرضا والسرور، ولا تكلفهم إلا الإيمان فقط. وما أرخصه وأغلاه ثم ما أيسره وما أعسره!!
واليوم وقد مضى على هذه الصورة الحلوة ما يقرب من خمسين عاما، جاء فيه العلم بالعجائب، ومعه أحمال من الأرق والقلق والعذاب فلا تنفع فيه دور الشفاء ولا أحمال العقاقير. اليوم هذا، أسائل نفسي: وما ضرنا أن نؤمن بتلك الصورة المشرقة. أنها حلوة عذبة، فيها شفاء الروح وعافية النفس، وإشراقة الحياة، وما طعم الحياة إذا غاب الرضا، وحل محله القلق والعذاب.
ومضت الأيام تتلوها الأيام، ونحن في كل عام نذهب إلى الجامع الكبير نستمع إلى قصة الإسراء والمعراج يتلوها الشيخ الجزار، فننعم(1/285)
بصوته العذب، ونخشع لعباراته وعبراته. فبقدر ما كان كثير البكاء في المسجد، كان طلق المحيا، خارج المسجد، وهو يتصدر حلقة العلماء من حوله.
ومنذ صباي، كنت ولوعا بالتسلل إلى هذه الحلقات أجلس في طرفها، واستمع إلى أحاديثها.
وذات مرة، رأيت الشيخ الجزار يغضب لأول مرة. فقد كان الحديث يدور حول الإسراء والمعراج. وكان في الحلقة أحد العلماء، وهو الشيخ جمال السعدي. وكان هذا يقرأ كتب التاريخ ويعنى بالشؤون المدنية أكثر من عنايته بالقضايا الدينية.
فاستأذن الشيخ السعدي في الكلام عن الإسراء والمعراج، وبعد مقدمة طويلة حافلة بالاعتذار، بدأ الشيخ السعدي كلامه بأنه "مستفسر لا مستنكر عما إذا كان إسراء الرسول (صلى الله عليه وسلم) بالروح والجسد، أم أنه بالروح دون الجسد.
ولم يكد الشيخ السعدي يفرغ من سؤاله حتى انقض الشيخ الجزار غاضبا هائجا، وهو يصيح "الله أكبر، الله أكبر، أما تخاف الله، يا جمال ... . وهل تنكر الإسراء والمعراج ، وقد جاء بنص القرآن ، إنه بالروح والجسد معا. وهذا هو ما أجمع عليه السلف الصالح وجمهور العلماء".
وراح الشيخ الجزار يستشهد بآيات القرآن، التي تتحدث عن الإسراء والمعراج، ولا يكاد لسان الشيخ الجزار يطاوع نبراته وكلماته ... والشيخ جمال السعدي، يتضاءل في مقعده ، يضمر شيئا فشيئا ، دون ما هو عليه من ضمور ونخول. حتى أصبحت جبته وعمامته ما تحتهما شيء.(1/286)
والشيخ الجزار يمضي زاجراً وهو يكرر: يا جمال، اتق الله في دينك، وكان الشيخ الجزار ينادي العلماء من حوله بأسمائهم، من غير لفظة شيخ، فإن معظمهم تلاميذه، وأين هم من علمه وفضله.
ولم يهدأ الشيخ الجزار إلا بعد أن نهض "جمال" وقبل يديه ظهرا وبطنا، وهو يقول، والله يا مولانا أنا مستفسر لا مستنكر. والله سبحانه وتعالى يقول "وما أوتيتم من العلم إلا قليلا".
وانقض المجلس على خير.ولكن الأمر أصبح حديث المدينة كلها، وأصبح الشيخ جمال السعدي أشهر من نار على علم، كما يقولون، مع أنه كان قصيرا بحيث لا يراه أحد!!
ومضت الأيام، وأنا أتطلع إلى أن أزور بيت المقدس، وأقضي فيها بضعة أيام، وشاء القدر أن تتحقق رغبتي وأن أقضي فيها بضعة أعوام، تتلوها في ما بعد أعوام وأعوام.
كان هذا في عام 1924 حين تخرجت من المدرسة الثانوية في عكا، وأتجه الرأي في عائلتنا أن أتم دراستي في إحدى مدارس بيت المقدس ففيها العلوم العالية، وفيها اللغة الإنجليزية. وهذه أصبحت لغة الحياة والمستقبل بديلا عن اللغة التركية البادئة. ولكل زمان دولة ورجال، ولغة ولسان.
وسافرت إلى بيت المقدس بالقطار، والتحقت بمدرسة صهيون الإنجليزية، القائمة على جبل صهيون، وكانت لي مع القطار، والمدرسة والتلامذة والأساتذة طرائف فريدة، ذهبت حلاوتها مع زمانها، فلم تعد تتكرر أحداثها، وقد أسعفتني ظروفي، فدونتها ونشرتها، لتكون تراثا لأجيالنا اللاحقة وصفحة من تاريخ وطننا (1) .
__________
(1) راجع كتاب المؤلف: أربعون عاما في الحياة العربية والدولية.(1/287)
ولم تكن الدراسة قد انتظمت في الأسبوع الأول من وصولنا، فاغتنمتها فرصة لأزور مكان البراق حيث ربط النبي (صلى الله عليه وسلم) جواده، فقد كانت قصة الإسراء والمعراج التي سمعتها مرات ومرات تلح علي بأن أرى موضع البراق في بيت المقدس، قبل أن أتعرف على أي مكان آخر ... .
وذهبنا مجموعة من الطلاب، على غير هدى، نعبر باب الخليل، ثم نسير في تلك الشوارع المبلطة وهي تنزل بنا من سوق إلى سوق، ونحن نسأل المارة عن "البراق"، وهم يشيرون: إلى اليمين، إلى الأمام، إلى اليسار. وأخيرا وصلنا إلى البراق. وكان ذهول عجيب ومشهد عجاب.
كان المشهد عجبا عجابا حقا. لقد رأينا أنفسنا في زقاق ضيق لا يكاد عرضه يتجاوز ثلاثة أمتار، يمر منه الناس رائحين وغادين من حيّ إلى حي. وجماعة من اليهود ينوحون، ووجوههم إلى حائط قديم عال، مبني من الحجارة الضخمة.
وقفنا مشدوهين أمام المشهد، وقد انعقد لساننا، وتسمرت أبصارنا ولا ندري ما هذا الذي نراه. وأحسسنا بارتباك، ولم نعد ندري ما نفعل.
وانحلت عقدتنا، حينما تقدم إلينا رجل في مقتبل العمر، وسأل "وهل تريدون ترجمانا"؟
قلنا له: ترجمان من أجل ماذا، نحن عرب.
قال : أنا أشرح لكم عن المبكى.
قلنا له: إنه المبكى، نحن نريد البراق.
قال : أنتم هنا في البراق، وهذا هو حائط المبكى. وأنا أشرح لكم كل شيء، أحسن من الكتب، ومن المدارس.(1/288)
وكان "الترجمان" مغريا في حديثه، فأذعنا إليه، وأسلمنا عقولنا وآذاننا إلى حديثه.
قال: هل أنتم مسلمون؟
قلنا: فينا المسلم، وفينا المسيحي.
قال: يعني عرب. ومضى في حديثه يسرد لنا حكاية الإسراء والمعراج كما سمعتها في بلدي عكا وفي جامع الجزار. وإن "البراق الشريف" قد رُبط في هذا المكان ...
وإن الرسول (صلى اله عليه وسلم) قد ربطه عند هذا السور ومن هنا عرج إلى السماء، والى هنا عاد، وركب البراق الشريف ورجع إلى مكة.
قلنا له: إلى هنا فإن القصة معروفة، ولكن ما شأن هؤلاء اليهود.
قال اليهود، كما ترون، يأتون للصلاة والدعاء أمام هذا الحائط وهم يبكون على خراب الهيكل ويدعون الله أن يسهل لهم بناء الهيكل مرة ثانية.
قلنا له: وهل هذا المكان لهم.
قال: أبدا، أعوذ بالله. هذا الحائط هو الجدار الغربي للمسجد الأقصى، وهو جزء من الحرم الشريف. وهذا الزقاق نفسه مع الأحياء المجاورة كلها أوقاف إسلامية، فيها زوايا وتكايا ومساجد. إن كل شبر في هذه البقعة وما حولها هي أملاك إسلامية وليس لليهود ملك إطلاقا في هذا المكان ولا في هذا الحي.
قلنا: وما جاء باليهود إلى هذا المكان ولماذا نسمح لهم بذلك؟
قال: هذه عادة قديمة. اليهود يأتون إلى الحائط ويبكون ويمسحون أيديهم بأحجار الحائط،ويرطنون بعض الدعوات، ثم يذهبون.ولا يمكث الواحد منهم أكثر من بضع دقائق. نحن سمحنا لهم في الماضي. فليبكوا إلى يوم القيامة.(1/289)
قلنا: ولكن هؤلاء يريدون أن يعود إليهم الهيكل. إنهم يدعون ملكية المسجد الأقصى إذن!!
قال: هذه خرافات وخزعبلات. المسجد الأقصى لنا. وهيهات هيهات أن يملكوه. والله نحن في القدس سنموت عن آخرنا قبل أن يصيبوا منه حجرا واحدا.
ودنونا من الحائط قليلا واقتربنا من اليهود. كانوا رجالا ونساء في أخريات العمر، وكانت ملابسهم المهلهلة وسوالفهم المجدولة، وقلانسهم المقوسة، ورائحتهم الزنخة النتنة، كل ذلك كان يدل على أنهم من اليهود، كما كنا نعرفهم يومذاك ...
وكان بعض اليهود يبكون في نحيب، وآخرون في صمت، ورأيت أحدهم يضرب رأسه بالحائط، وأحسب أنه عصر عينيه فلم يبك، فراح يرطم الحجارة برأسه ليبكي!!
ولم يكن أحد من المارة يحفل بهؤلاء اليهود الباكين. فالناس العابرون والحمالون، والأولاد، والنساء، والدواب يغدون ويروحون أمام الحائط دون أن يكترث أحد لعويل اليهود وصراخهم. وكل شيء هادئ، حتى الحمير تعبر بلا نهيق، والخيل بلا صهيل!!
وكانت امرأة طاعنة تقف في طرف الحائط، وبيدها كتاب تقرأ منه الأدعية. فقلت للترجمان: وماذا تقول هذه المرأة في دعائها.
فأخرج الترجمان كتابا من جيبه وقال: دعاء اليهود أمام حائط المبكى يردد ما يأتي، بالترجمة العربية:
من أجل الهيكل العظيم نقف بذلة وحدنا وننوح.(1/290)
من أجل أسوار هذه المدينة نقف بذلة وحدنا وننوح.
من أجل مملكتنا التي بادت نقف بذلة وحدنا وننوح.
آه ... تحنن يا رب على صهيون واجمع شتات أبناء أورشليم.
وانتهت زيارتنا "للبراق الشريف" كما هو عندنا، ولحائط المبكى كما شاع اسمه في العالم، ولكن رفاقتنا للترجمان لم تنته ... فقد عرضنا عليه أن يرافقنا إلى المسجد الأقصى وكنيسة القيامة، ويعلمنا من علمه الغزير.
ومضينا معه في شوارع بيت المقدس وزقاقاتها الضيقة المتعرجة حتى وصلنا إلى ساحات الحرم الشريف، وقد انفتحت صدورنا لرحابتها ونسماتها الحلوة الصافية، وما حولها من أسوار وقباب ومآذن، تأخذ بالألباب.
وأقبلنا على مسجد الصخرة، فإذا بنا أمام تحفه رائعة من الحسن والجمال، يبهرك بتنسيقه الهندسي الرائع، وبجدرانه الثمانية الفاتنة، وقبته الساحرة، وكأنها تنقل دعوات المؤمنين إلى السماء من غير حجاب.
وخلعنا نعالنا، ودخلنا. وانبهرت أبصارنا بما رأينا، نحن ننتقل في موكب من الجمال والجلال من عمود إلى عمود، ومن نافذة إلى نافذة، كلها ذات ألوان عجيبة، وظلال غريبة، يزيد ذلك كله الخط الجمالي الذي كتبت به الآيات القرآنية، وكأنما أسبغ عليه القرآن جماله وجلاله.
وقادنا الترجمان إلى درج نزل بنا إلى "الصخرة المشرفة" التي تقول الروايات الإسلامية أنها تعلقت بقدم الرسول (صلى الله عليه وسلم) وهو يعرج إلى السماء، وكنت قد سمعت الكثير عنها في عكا، ونحن نستمع إلى قصة الإسراء والمعراج. وكانت الصورة الذهنية أروع من المشاهدة الحقيقة فلم أجدها معلقة كما سمعت. وآثرت ما سمعت على ما رأيت.(1/291)
وبجانب الصخرة، رأيت شيخا طاعنا في السن، يتعبد، كما كان يتعبد الأجيال والأجيال من قبله. لقد كان هيكلا ساكنا لا يتحرك، إنه يتمتم في دعة وسكون هنا حيث الصفاء والهدوء، خلع الدنيا مع نعليه خارج المسجد، وجاء هنا يقرفص بين يدي ربه، يلتمس العفو والسكينة والرضا. إنها ساعة وجد مع الله. وما أسعد أهل الوجد إذا كانوا قد بلغوا محرابه.
وروى لنا الترجمان، ونحن في جنبات المسجد، عن جده وكان أحد سدنة المسجد، أنهم كانوا كل يوم أثنين وخميس يطحنون الزعفران والمسك والعنبر، ويمزحونه بماء الورد، ويتركونه يتخمر طول الليل، وفي الصباح يذهب الخدم إلى الحمام فيغتسلون ويرتدون الثياب النظيفة، ثم يحملون أواني الزعفران فيغسلون الصخرة، ثم يبخرونها بمباخر من الذهب والفضة، وفيها عود الند مخلوطا بالمسك والعنبر. وبعد الفراغ من ذلك كله يخرج المنادون إلى الأسواق، فيدعون الناس إلى مسجد الصخرة. ويظل المسجد طيلة الأسبوع وهو يفوح بروائح البخور معطرا بالمسك والعنبر.
قلت للترجمان: ولماذا لا تفعلون ذلك في هذه الأيام؟
قال: الأوقاف فقيرة هذه الأيام، وهذا العمل يحتاج إلى نفقة كبيرة. بل ربما لأن أجدادنا كانوا يحبون مسجد الصخرة أكثر منا. الله يرحمهم ماتوا، ومات معهم الخير والبركة.
وخرجنا من مسجد الصخرة، وأفئدتنا مبهورة قبل أبصارنا، وفي طريقنا إلى المسجد الأقصى، أشار ألينا الترجمان إلى قبة تلاصق سور الحرم من جهة الشرق، وقال: هذه قبة الغزالي. هناك كان الغزالي يعطي الدروس لتلامذته حين زار القدس قبل حروب الإفرنج ببضع سنوات. وهناك وضع الغزالي كتابه الشهير إحياء علوم الدين.(1/292)
قلت للترجمان: أنت عالم أيضا، ولست ترجمانا فقط.
قال: والله يا أخي أنا من بيت علم. ولكن الزمان حط بنا. لقد تعلمت علوم الدين كلها. والدين لم يعد يعطي خبزاً، ولذلك تعلمت صنعة الترجمان وأنا أعرف كل اللغات الأجنبية. والسياح لما يأتون إلى المسجد أنا أترجم لهم. والعجيب أن الواحد منهم يقضي ساعات وساعات يتأمل في محاسن المسجد. وأنتم تخرجون بعد بضع دقائق.
قلت: نحن طلاب مدارس، ولا بد أن نعود بسرعة إلى مدرستنا.
قال : وفي أي مدرسة؟
قلت: في مدرسة صهيون.
قال: ولماذا في مدرسة صهيون؟ هذه مدرسة تبشيرية ، وليس فيها إلا اللغة الإنجليزية وكرة القدم. ولماذا لا تنتسبون إلى روضة المعارف إنها كلية وطنية راقية.
قلت: نحن نريد أن نتعلم اللغة الإنجليزية، ولا نهتم بالكرة. واتجهنا نحو المسجد الأقصى، وأين هو من مسجد الصخرة عمارة وفنا وجمالا، ومع هذا فقد بهرتنا رحابته وأعمدته وقناطره. ووقف بنا الترجمان عند المحراب، والتفت إلى المنبر وهو يقول: هذا هو منبر نور الدين الشهيد، قضى عمره وهو يجاهد الإفرنج ليخرجهم من بيت المقدس. وكان قد أعد هذا المنبر، وهو في حلب، وقضى العمال بضعة سنين في زخرفته حتى جاء آية في الجمال، وقد حرصوا في صنعه دون أن يدخلوا فية مادة من غير الخشب. وقد توفي نور الدين، والمنبر جاهز في حلب، قبل تحرير بيت المقدس، وجاء من بعده صلاح الدين فتم على يديه طرد الإفرنج من(1/293)
بيت المقدس، وأمر صلاح الدين فنقل منبر نور الدين من حلب وركب في مكانه في المسجد الأقصى. وهو كما ترونه الآن.
وكان المنبر حقا تحفة رائعة في جمال الفن، ودقة الصنعة، أضافت عليه سيرة نور الدين وصلاح الدين هالة قدسية رفيعة، تجللها أمجاد النصر وهل بعد النصر من أمجاد.
وخرج بنا الترجمان من ساحة المسجد الأقصى عبر بوابات يفضي بعضها إلى بعض، وزقاقات معتمة إلى أخرى مضيئة، والتعب قد أخذ منّا مأخذه ، وعرَّج بنا الترجمان إلى مطعم صغير، فكان أول عهدنا بالمآكل القدسية، فالتهمنا أطباق اللحم والأرز والباذنجان البتيري نسبة إلى بتير إحدى قرى القدس، واتبعناها بحلوى "زلاطيمو" نسبة إلى صاحبها الذي اشتهر بصنعها، ولم يكن الطعام فاخرا، ولا الحلوى ممتازة، ولكن مع التعب والجوع والصبا التهمنا الطعام بشهية لاهبة. وتركنا الصحون خاوية خالية.
ومن المطعم انصرفنا في الشوارع من حي إلى حي، إلى أن أبلغنا حارة النصارى وكانت تنبئ عن ذاتها شكلا، وموضوعا، فقد كانت معظم الدكاكين فيها تعج بالسياح يشترون التماثيل والصلبان. وكانت الشموع تتدلى من سقوفها، بأحجام مختلفة وألوان متباينة. وكان بخور الكنائس يفوح منها ليملأ الأزقة من حولها.
وسار بنا الترجمان إلى أن بلغنا كنيسة القيامة. ووقف بنا وقفة طويلة وهو يشرح لنا تاريخ الكنيسة، وبنائها على مر العصور، وشرح بالتفصيل وصول الخليفة عمر بن الخطاب إلى المكان، وأن البطريق صفرنيوس سلمه مفتاح الكنيسة ودعاه إلى الصلاة فيها، وأن الخليفة رفض ذلك،(1/294)
وصلى في الساحة المقابلة حيث المسجد القائم. وكيف أعطى الخليفة إلى نصارى بيت المقدس عهد الأمان على أرواحهم وكنائسهم إلى آخر القصة.
وكان معظم ما ذكره لنا معروفا عندنا، لكثرة ما قرأنا وسمعناه. ولكن الذي لم نكن نعرفه قد تعلمناه عند باب الكنسية. فقد أصابتنا الدهشة، ونحن نقترب من مدخل الكنيسة لنرى على يسارنا "مصطبة" عالية يجلس عليها شيخان جليلان مسلمان، يتبادلان التحية مع الداخلين إلى الكنيسة، سواء منهم القساوسة أم الناس العاديون.
وقد عجبنا لهذين العالمين المسلمين يجلسان عند باب الكنيسة، وتجلس معهما على رأسيهما عمامتان كبيرتان، وعلى كتفيهما جبتان فضفاضتان، كأنهما قدما من حلقة الدرس في المسجد الأقصى قبل هنيهة.
وسلم الترجمان على الشيخين الجليلين سلام العارف. ثم بادرنا بالقول: الأستاذان أحدهما من آل نسيبة والثاني من آل جودة، وهما من أقدم عائلات القدس الإسلامية. إن بيدهما مفاتيح كنيسة القيامة، يتوليان فتح أبوابها وإغلاقها.وهذا التقليد متوارث في هاتين العائلتين منذ الفتح الإسلامي إلى يومنا هذا.
وتكلم أحد الشيخين وقال: إن جدَّنا نحن آل نسيبة كان مع سيدنا عمر حينما فتح بيت المقدس، ومنذ ذلك العهد ومفاتيح كنيسة القيامة بأيدينا، نعطيها لآل جودة ويفتحون أبواب الكنيسة ثم يعيدوها إلينا.وقد توارثنا هذا التقليد عن أجدادنا. ولم ينقطع هذا التقليد إلا زمن الحرب الصليبية.
قلت: وبعد ذلك.(1/295)
قال: بعد أن استرد صلاح الدين الأيوبي بيت المقدس، عاد إلينا هذا التقليد. واستمر في عهد الدولة العثمانية، ومن بعده في عهد الاحتلال البريطاني.
قلت: وهل الطوائف المسيحية راضية بهذا التقليد قال :الطوائف المسيحية ليست راضية فحسب، ولكنها لا ترضى عنا بديلا. ولا توافق أية طائفة أن تكون المفاتيح بيد طائفة أخرى.
وكان أن ازدحم باب الكنيسة بالداخلين، وكان يوما من الأعياد الدينية، على ما يبدو، فمشى الترجمان أمامنا ونحن وراءه كأننا على موعد مع الجموع الوافدة إلى الصلاة.
وكانت ساعة رائعة حقا. فريدة حقا. فقد ساقتني أسفاري في مراحل عمري المتقدمة إلى كثير من الكنائس في العالم. ولكن كنيسة القيامة كانت شيئا آخر.
وكان أكثر ما يسترعي الاهتمام أن كنيسة القيامة هي مجموعة من الكنائس. لكل طائفة مسيحية كنيستها وقساوستها وأعلامها ومحاربها وتماثليها وقبورها ومباخرها ومقاعدها وأخيرا مكانسها. وأقول "مكانسها" فإن وراء الأمر، كما شرح لنا الترجمان، تقاليد طائفية أصبحت لها قوة القانون ولا يمكن تجاوزها. ذلك أن كل طائفة مستقلة بالعناية بكنيستها أو جناحها، وإن أحدا لا يتجاوز على أحد في شبر واحد، حتى في التنظيف والكناسة. وكم حدثت مشاحنات ومشاجرات بكل الأدوات الموجودة في الكنائس، إذا تجاوز راهب خطأ أو عمدا على نصيب راهب آخر، أثناء النظافة والكناسة.(1/296)
وكنيسة القيامة هي برج بابل، القائم الدائم. فالرهبان فيها من كل أقطار العالم، ويصلون بكل لغات العالم، وكثير منهم لا يعرف بعضهم بعضا، ولكن جمهور المصلين هم من عرب بيت المقدس، ومن أتباع الطائفة الأرثوذكسية.
وبقدر ما كانت كنيسة القيامة توحي الوقار والإجلال كانت صفوف الفتيان والفتيات في غاية الروعة والجمال، بملابسهم الزاهية ووجوههم الوادعة، يحملون الشموع بأيديهم، وبهجة العمر عندهم عيدهم في كنيسة القيامة.
واشتد الزحام فلم نعد نرى معالم الكنيسة، وخرجنا، والترجمان يفسح لنا الطريق برفق وروية، ولولاه لما عرفنا طريقنا إلى الخروج.
وقلت للترجمان: وهل الجمهور الذي شاهدناه اليوم من كل الطوائف
قال: إلا الطائفة البروتستانتية. ومعظم الناس من الأرثوذكس ثم يأتي بعدهم المسلمون!!
قلت: المسلمون!!
قال: نعم. الشباب المسيحيون يدعون أصدقاءَهم هم من الشباب المسلمين لهذه الأعياد، ويشتركون معا في الأعياد والمواسم. وخاصة في عيد الفصح.
قلت له: واليهود. وما حالكم معهم.
قال: والله أقول لك الحقيقة، نحن هنا في بيت المقدس كنا مع اليهود بألف خير، في زمن الأتراك، كنا نتزاور ونتعامل مع بعضنا البعض. وكثيرا من أولاد المسلمين كانوا يرضعون من السيدات اليهوديات، والعلاقات بيننا(1/297)
على ما يرام. ولكن منذ أن جاء الإنجليز اختلف الحال. واليهود أنفسهم بدأوا ينتمّرون، وخصوصا المهاجرين الجدد.
وانتهت زيارتنا مع الترجمان ذلك اليوم، فكانت درسا تاريخيا ودينيا وسياسيا، وودعناه، بعد أن مد كل واحد منا يده إلى جيبه وأعطاه ما تيسر، وهو بدوره مد يده إلى جيبه ليعطينا بطاقته ويقول: هذا اسمي وعنواني، أعطوه لاخواتكم ...
ومن كنيسة القيامة سلكنا طريقنا إلى باب الخليل، ومنه إلى طلعة صهيون، إلى مدرستنا حيث أقضي فيها ثلاث سنوات، أصبحت فيها بيت المقدس بعض حياتي.. ثم تشاء الأقدار بعد ذلك أن يصبح بيت المقدس كل حياتي، فقد عملت فيها صحافيا ومحاميا، وانتهى بي المطاف حين جندت نفسي في ميدان النضال الوطني، على الصعيدين العربي والدولي، إلى أن سقط بيت المقدس جريحا بيد إسرائيل، وسقط معه التاريخ.
وفي كلمات قليلات، تروي الصفحات التاليات، سيرة أربعين عاما أو يزيد، من حياة جيلنا المعاصر، نحن المهاجرين من بيت المقدس. بل نحن المتعاهدين مع بيت المقدس بعهد الحب الزكي والعشق الإلهي، إلى أن يتم تحريرها من يد الغاصب الدخيل.
ويومها ... ويومها سنفعل كما فعل أسلافنا يوم حرروا بيت المقدس. سنغسل المسجد الأقصى بماء الورد، والمسك والزعفران.
وليتنا نشهد ذلك اليوم.
فإن لم نشهده بأنفسنا، فسنشهده بأبنائنا أوأحفادنا.
"يومئذ يفرح المؤمنون".
صدق الله العظيم(1/298)
وعلى أيّ حائط يبكون
وفي اليوم الثامن من شهر كانون الأول من عام 1918، وبعد أربعمائة عام من الحكم العثماني، أرسل الحاكم التركي، عزت بك، آخر متصرف على بيت المقدس، كتابا باللغة التركية إلى "القيادة الإنجليزية" يقول فيه ما ترجمته باللغة العربية:
"ومنذ يومين والقنابل تتساقط على القدس الشريف، المقدسة لدى كل ملة، فالحكومات العثمانية رغبة منها في المحافظة على الأماكن الدينية من الخراب قد سحبت القوة العسكرية من المدينة، وأقامت موظفين للمحافظة على الأماكن الدينية كالقيامة والمسجد الأقصى، وعلى أمل أن تكون المعاملة من قبلكم على هذا الوجه، فإني أبعث بهذه الورقة مع وكيل رئيس البلدية القدس حسين بك الحسيني.
التوقيع: متصرف القدس المستقل: عزت
وكلمة "المستقل" في توقيع المتصرف، تبدو اليوم حزينة، فقد كان معناها حسب التقسيمات الإدارية في الدول العثمانية، أن بيت المقدس، تكريما لمقامها الرفيع، لم تكن تابعة لأية ولاية من الولايات التركية. ولكنها(1/299)
كانت "متصرفية مستقلة" تتبع مباشرة العاصمة استانبول، أو دار الخلافة حسب لقبها الإسلامي.
وفي ذلك اليوم المطير خرج وكيل رئيس البلدية حسين بك الحسيني ومعه عدد من وجهاء بيت المقدس، يحملون العلم الأبيض إلى ضاحية المدينة، حيث وصل الجيش البريطاني، ليسلموا بيت المقدس إلى القيادة البريطانية.
وفي 11/12/1918, دخل الجنرال اللنبي إلى بيت المقدس، وأقيم احتفال كبير في الساحة المجاورة لباب الخليل، قبالة درج القلعة، ونصبت أعلام الدول المتحالفة، بريطانيا وفرنسا وإيطاليا، وحضر الحفل وجهاء المدينة يتقدمهم مفتي القدس وبطاركة المسيحيين وحاخام اليهود. وألقى الجنرال اللنبي كلمة موجزة، لم يكن فيها أي ذكر للوعود التي بذلها الحلفاء للعرب بالحرية والاستقلال.
وقبل أن ينتهي الجنرال اللنبي من إلقاء خطابه، انسحب مفتي القدس الشيخ كامل الحسيني، وانسحب وراءه عدد كبير من الأهلين. فكان ذلك أول نذير بالصراع على بيت المقدس، ليمتد طويلا عبر السنين، وليصل في النهاية إلى الفاجعة الكبرى بسقوط بيت المقدس في يد إسرائيل في اليوم السابع من شهر حزيران من عام 1967.
ونحن، جيلي وأنا معه، عشنا هذا الصراع الرهيب من بدايته، مرحلة مرحلة. وأذكر في جملة ما أذكر يوم 2 نوفمبر من عام 1924، وكيف تسورت أنا وعدد من الطلبة من مدرسة صهيون، وهرولنا إلى كلية روضة المعارف حيث لقاؤنا بجماهير الطلبة، وخرجنا في مظاهرة كبرى نطوف شوارع المدينة، ويخطب فينا الأستاذة ينددون بوعد بلفور ويهتفون(1/300)
بالحرية والاستقلال، والمدينة في إضراب عام شامل، فلا بيع ولا شراء، والكل في هياج وقلق واضطراب.
ولكن أضخم مظاهرة شهدتها بيت المقدس خلال نضالها الوطني الطويل كان في ربيع عام 1925، ففي شهر نيسان قدم إلى البلاد اللورد بلفور صاحب الوعد المشهور لافتتاح مبنى الجامعة العبرية على جبل سكوبس، واشترك في الاحتفال هربرت صموئيل المندوب السامي على فلسطين، والدكتور وايزمن زعيم الحركة الصهيونية.
وكانت المناسبة خطيرة، في المكان، وفي المعهد، وفي الرجال.
ومن حيث المكان، إن جبل سكوبس، نسبة إلى اسم القائد الروماني فإنه واقع في شمالي المدينة ومتصل بجبل الزيتون، وهو معروف عند أهل بيت المقدس باسم المشارف أو المشهد، وهي تسمية حقيقية استراتيجية، فإنه مشرف على بيت المقدس، والدارس للتاريخ يعرف أن هذا الجبل كان تعسكر فيه جميع القوات التي جاءت لفتح المدينة.
من حيث المعهد، فإنه بالإضافة إلى أن الجامعة العبرية ستعنى بالعلوم والمعرفة، فالأهم أنه إشارة واضحة إلى أن اليهود يهيئون بيت المقدس لتكون عاصمة لهم. ويجعلون من الجامعة قلعة عسكرية، كما أثبتت حروبنا التالية مع إسرائيل.
أما من حيث الرجال، فالذين شهدوا الاحتفال هم الفرسان الثلاثة، بلفور ووايزمن وصموئيل، وعلى أكتفاهم قام الوطن القومي اليهودي، وعلى أكتاف الوطن القومي اليهودي قامت في ما بعد إسرائيل.
ومن أجل هذا فقد كانت غصبة الشعب في بيت المقدس في ذلك اليوم عارمة طاغية. فقد كان الإضراب عاما شاملا. وكانت المظاهرات صاخبة.(1/301)
وكانت تلك هي وسيلة شعبنا يومذاك، مع اصطدامات بالسلاح أو بالحجارة. إذا وجدنا إلى الحجارة سبيلا.
وكنا نحن الطلاب من حملة الحجارة. وأذكر أننا نزلنا من مدرستنا على جبل صهيون، وانضممنا إلى جماهير الطلاب التي كانت ترجم إحدى المستعمرات اليهودية المجاورة لبركة السلطان. وكان المكان كثير الحجارة فلم نترك حجرا إلا وقذفناه على بيوت المستعمرة، وكان عويل اليهود أشد من عويلهم في المبكى.
وقد رقَّ قلبي بعض الشيء، شيمة النفس العربية السمحاء، حين رأيت الحجارة تنهمر على أحد البيوت فتحطم النوافذ والأبواب. ولكني عدت إلى العزم والإصرار، حينما استذكرت أن هؤلاء اليهود جاءوا إلينا ليدمروا بيتنا الكبير، الوطن الحبيب، بمنازله ومزارعه ومصانعه، ومعاهده، ومغانيه.
وتخرجت من المدرسة، ومن ميدان المظاهرات والإضرابات، الى ميدان العمل الوطني السياسي، ففي عام 1928 أصبحت طالبا في معهد الحقوق ليلا، ورئيسا لتحرير جريدة مرآة الشرق نهارا (1) .
وكانت الصحف في بيت المقدس منبرا حرا للحركة الوطنية، وكان
للصحافة أثر كبير في قيادة النضال الجماهيري، ومنذ أن نشأ النضال في فلسطين، والصحف في بيت المقدس تقوم بتعبئة الجماهير وشحنها. ولم تكن الصحافة يومذاك، صناعة أو تجارة، ولكنها كانت عملا وطينا خالصا، أخطأ أصحابها أو أصابوا، وكان الصحفيون هم من أفقر أصحاب الأعمال الحرة، ويأتي بعدهم طبقة الفقراء!
__________
(1) راجع كتاب المؤلف: أربعون عاما في الحياة العربية والدولية(1/302)
ومن أوائل الصحف التي صدرت في بيت المقدس جريدة "سورية الجنوبية"، لصاحبيها السيدين عارف العارف، والمحامي حسن البديري. ويدل اسمها على إيمان الشعب بوحدة البلاد السورية، وكانت السلطة البريطانية تعطلها من حين إلى حين، كما تفعل مع بقية الصحف.
ولم تكن الوحدة السورية اسما لجريدة فحسب بل كانت شعارا قوميا، ففي المؤتمر الوطني الفلسطيني الذي انعقد في شهر آذار سنة 1919 قرر ممثلو الشعب الفلسطيني رفض الانتداب ووعد بلفور والهجرة اليودية وأعلنوا تمسكهم المطلق بالوحدة السورية العربية، واستمرت الوحدة السورية مطلبا وطينا قوميا في جميع المؤتمرات الوطنية اللاحقة.
وكانت الصحافة تملك قدرا كبيرا من الحرية. فقد كنا نهاجم الاستعمار والصهيونية، وندعو الشعب إلى مكافحتها، ويقينا كانت تلك الحرية التي نملكها ونمارسها في وجه الطغيان البريطاني، أكثر بكثير من الحرية الصحفية التي تمارس اليوم في معظم الدول العربية في عهد الاستقلال والحرية والسيادة.
وفي ذلك العام عرفت موسى كاظم باشا الحسيني الذي تولى قيادة الحركة الوطنية الفلسطينية من أوائل الاحتلال البريطاني إلى حين وفاته رحمه الله.
كان موسى كاظم باشا، محدود العلم، وافر الخبرة والإخلاص، وعلى جانب عظيم من الخلق الرضي، وقد زرته في بيته لحديث صحفي وأنشر اليوم ما لم أنشره يومذاك. لأنه كان معروفا وليست له قيمة صحفية. وما أروع قيمته القومية في هذا الأيام!(1/303)
سألت الزعيم الفلسطيني: لماذا استقلت من رياسة بلدية القدس في أوائل الاحتلال البريطاني، قال : بلهجة قدسية: يا ابني، القضايا الوطنية لا مساومة عليها. هذه البلاد بلادنا. واللغة العربية لغتنا وأنا لا أقبل أن تكون اللغة العبرية لغة رسمية في البلاد. تصور أن اللغة العبرية أصبحت تكتب على طوابع البريد. أنا لا يمكن أن أقبل هذا الوضع. أنا أعرف اليهود جيدا. لقد كنت قائممقاما في يافا في زمن الأتراك. وكنا نذهب إلى تل أبيب، قرية صغيرة، وأهلها جماعة بسطاء. أما اليوم فإن الإنجليز يريدون أن يركبوهم على أكتافنا. وأن يجعلوا لغتهم سارية في معاملاتهم البلدية. أنا لا يمكن أن اقبل هذا الوضع.طلبت من المندوب السامي أن يلغي هذا الأمر ولكنه رفض. ولهذا قدمت استقالتي من رياسة البلدية احتجاجا.
وقد اتخذ الشيخ الجليل كاظم الحسيني ذلك الموقف الشجاع حين كان الوطن العربي من أقصاه إلى أدناه محتلا. وحين كانت الأمة العربية تحت السيطرة الكاملة. واليوم، والأمة العربية، عشرون دولة، وجيشا، وعشرات من آبار البترول، لا يجد الملوك والرؤساء عاراً أن يعترفوا لا باللغة العبرية فحسب بل بالدولة اليهودية التي تقوم على وطن الآباء والأجداد!!
ولكن حكاية اللغة العبرية كانت هي الخطوة الرمزية الأولى نحو تهويد القدس وإخراجها من السيادة العربية. ذلك أن تعيين السير هربرت صموئيل، اليهودي الصهيوني أول حاكم على فلسطين، في تموز سنة 1920 وأن يكون مقره الرسمي في بيت المقدس، كان الخطوة العملية الأولى لبسطه السيطرة اليهودية على بيت المقدس.(1/304)
و صموئيل هذا، لم يكد يمضي على تعيينه شهر واحد، حتى حضر عيدا دينينا لليهود في الكنيس، وقام بنفسه بأداء بعض الطقوس الدينية، وقرأ فصلا من كتاب "النبي أشعيا" فيه ضراعة وابتهالات لخلاص بيت المقدس. يعني خلاصها من أيدي العرب أصحابها الشرعيين!!
بل إن الدكتور وايزمن نفسه قد كشف عن أهمية الدور الذي لعبه هربرت صموئيل، حين قال: "أنا المسؤول عن تعيين هربرت صموئيل في فلسطين. إن صموئيل هذا هو صموئيلنا" ولهذا يمكن القول أن صموئيل هو رئيس إسرائيل الأول في تموز سنة 1920، وأن وايزمن هو رئيسها الثاني في عام 1948.
وقد ركز هربت صموئيل جهده الأكبر على تهجير اليهود إلى بيت المقدس، وإقامة الأحياء اليهودية خارج المدينة، تمهيدا للسيطرة عليها عاجلا أو آجلا.
ولم يكن اليهود يخفون نواياهم بالنسبة إلى بيت المقدس، فقد كانت الصحافة العبرية تنشر تصريحات زعمائهم الدينيين والسياسيين في أن "أورشليم هي عاصمتهم المرتقبة" ومعروف أن تحيات اليهود في أعيادهم حيث كانوا في العالم "العام القادم في أورشليم" ... ومع كل يهودي يهاجر إلى بيت المقدس كان يقترب العام القادم من موعده القادم!
وكان أن انعقد المؤتمر الصهيوني في آب 1928 في مدينة زيوريخ بسويسرا وأصدرت قراراته المعروفة بالتوسع في الهجرة اليهودية، وشراء الأراضي، وإنشاء المؤسسات اليهودية، والمطالبة "بالحقوق" الدينية في الأماكن اليهودية المقدسة.(1/305)
وكان "حائط المبكى " هو الشعار والمطلب ... فقد انطلق زعماء اليهود يؤكدون "حقهم المطلق" في حائط المبكى باعتباره "الأثر الباقي من هيكل سليمان"، وحدث أن توافد جماعة من الشباب اليهود على المدينة القديمة واخترقوا شوارعها وهم ينشدون، ووصلوا إلى حائط المبكى ورفعوا عليه العلم اليهودي، وهم يهتفون "الحائط حائطنا".
وكان هذا الحادث أشبه بشرارة البلقان، فلم يكد يسمع أهل بيت المقدس بهذا العدوان، حتى هبوا للتصدي لليهود فطردوهم من الحي ومزقوا علمهم.
وما أن تسربت الأخبار من بيت المقدس حتى نشبت الثورة الدامية في كل أنحاء فلسطين، ونزلت باليهود خسائر فادحة في الأرواح والأموال، وتدخلت القوات البريطانية لحماية المستعمرات والأحياء اليهودية. واستدعى المندوب السامي البريطاني قوات عسكرية إضافية من مصر للسيطرة على الموقف.
ولست أنسى ذلك اليوم- اليوم الأخير في شهر آب 1929-حينما كنا نؤدي صلاة الجمعة في المسجد الأقصى، وأسراب الطائرات البريطانية تحلق في ساحة الحرم الشريف ... وخطيب المسجد يعيد ويكرر في خطابه "اللهم فرق جمعهم، اللهم دمر بأسهم، ... اللهم ... ." وجماهير المصلين من ورائه يجيبون "آمين آمين يا رب العالمين".
وكان أول ما فعلته الحكومة البريطانية، بناء على توصية عصبة الأمم في جنيف، أن ألفت لجنة دولية للتحقيق في النزاع القائم بشأن حائط المبكى، وقد تم تشكيلها في ربيع 1930، من ثلاثة من كبار رجال السياسة والقضاء، سويدي, وسويسري، وهولندي.(1/306)
وتطوع عدد كبير من الشخصيات الإسلامية والعربية للدفاع عن الحق العربي في حائط المبكى، وكان المحامي الأستاذ عوني عبد الهادي، ومعه عدد من المحامين الفلسطينيين، مسؤولا عن إعداد الدراسات القانونية والتاريخية في الموضوع.
وكنت يومئذ محاميا تحت التمرين في مكتب الأستاذ عبد الهادي، وقضيت بضعة أسابيع وأنا أعد المذكرات والدراسات عن تاريخ المسجد الأقصى وبنائه منذ عهد عمر الخطاب إلى الأمويين والعباسيين والى آخر عهد العثمانيين. وعن موضوع حائط المبكى وعلاقة اليهود فيه، مستندا إلى المراجع التاريخية وسجلات المحاكم الشرعية.
والواقع أن اللجنة الدولية كانت حيادية، متلهفة على معرفة الحقائق التاريخية، وقد انبرت شخصيات إسلامية للدفاع عن الحق العربي في حائط المبكى باعتبار أنه جزء لا يتجزأ من جدار المسجد الأقصى، وكانت للسيد أمين الحسيني رئيس المجلس الإسلامي الأعلى جهود نشطة مخلصة في هذا السبيل.
وقد دهشت لجنة التحقيق للوقائع الغريبة المثيرة التي كشفت عنها مذكراتنا، أننا ورفاقي الدارسين والباحثين ومنها:
أن التسامح الإسلامي مع اليهود باعتبارهم أهل ذمة، هو الذي سمح لليهود بزيارة حائط المبكى بقصد العبادة العادية الهادئة من غير صخب ولا ضجيج.
وإن الدولة العثمانية، حينما أراد اليهود التوسع في استعمال حق الزيارة، اشترطت عليهم "أن لا يرفعوا أصواتهم أو أن ينفخوا في البوق" أو(1/307)
أن يدخلوا أي تعديل أول تبديل على الحائط أو المساس به بأي شكل من الأشكال.
وإنه، في عام 1839، طلب القنصل البريطاني من ابراهيم باشا، بوصفه يومئذ حاكما على فلسطين، السماح لأحد أغنياء اليهود الإنجليز "بتبليط ساحة المبكى"، وكان جواب محمد علي باشا على الطلب أن "المحل المراد تبليطه هو ملاصق إلى حائط الحرم الشريف والى محل ربط البراق، ولا يجوز لليهود شرعا تبليطه، كما لا يجوز لهم رفع الأصوات وإظهار المقالات، وتعطى لهم الرخصة بزياراتهم على الوجه القديم".
وأنه، في عام 1911، حاول اليهود أن يخالفوا "الستاتيكو" المعروف في زيارة حائط المبكى" فوضعوا الكراسي ونصبوا المظلات ونفخوا الأبواق ووضعوا كتب الصلاة على طاولات" ولكن الدولة العثمانية منعتهم عن ذلك منعا باتا.
وإن اليهود بصورة عامة، ليست لهم حقوق دينية ثابتة في بيت المقدس، فإن هيكل سليمان قد دمر مرتين بصورة كاملة، ومضى على تدميره ما لا يقل عن ألفي عام. وإن سيرة السيد المسيح مع الهيكل تدل أنه كان محل صرافة لا محل عبادة.
وأنه، لم يكن لليهود، قبل القرن الثامن عشر، كنيس واحد في بيت المقدس، وأن أقدم كنيس لهم، وهو "قدس الأقداس" قد بني في عام 1701.
وأنه رغما من إدعاء اليهود بأنهم من نسل داود عليه السلام، فإن مقام النبي داود في بيت المقدس هو من الأماكن الإسلامية الشهيرة. وفيه ضريح النبي داود ويلاصقه مسجدان قديمان، وكل ذلك مرتبط بسدانة العائلة الداودية المعروفة، ولم ينازعهم اليهود في هذا الحق.(1/308)
وأنه، حتى الحي المعروف بحي اليهود في المدينة القديمة، هو من الأملاك الإسلامية، وهو من الأوقاف الذرية التي يعود ريعها إلى العائلات الإسلامية في القدس: آل النمري، والجاعوني، والخالدي، والحسيني والنشاشيبي ، والعلمي ، والداودي والبديري, والموقت، والقطب، وغيرهم كثيرون.
وأنه حتى المقبرة التي يدفن اليهود فيها موتاهم، الواقعة على طريق القدس أريحا، هي من أملاك الوقف الإسلامي، وأن ممثل الطائفة اليهودية قد دفع لأصحاب الوقف مئتي دينار ذهبا لقاء استعمال الطائفة اليهودية أرض الوقف لدفن موتاهم عن سنتي 968، 969 للهجرة (1560). كما هو ثابت في سجلات المحكمة الشرعية.
وأنه ..وأنه مما يثبت، استنادا إلى المراجع والوثائق التاريخية، من عربية وإفرنجية، أن كل ما يمارسه اليهود في بيت المقدس من العبادة والزيارة والسكنى ودفن الموتى هو بسماح من المسلمين. إنه مجرد رخصة.
وبعد أن فرغت لجنة التحقيق الدولية من عملها، رفعت تقريرها إلى بريطانيا وإلى عصبة الامم . مما حدا بالدولة المنتدبة أن تصدر قانوناً اسمه "مرسوم الحائط الغربي أو حائط المبكى في فلسطين لسنة 1931" أكد الحقوق العربية الاسلامية كاملة .
وقد جاء في هذا المرسوم قوله "للمسلمين وحدهم تعود ملكية الحائط الغربي ، ولهم وحدهم الحق العيني فيه ، لكونه يؤلف جزءاً لا يتجزأ من ساحة الحرم الشريف التي هي من أملاك الوقف ، وللمسلمين ايضاً تعود ملكية الرصيف الكائن امام الحائط وأمام المحلة المعروفة بحارة المغاربة المقابلة للحائط ، لكونه موقوفاً حسب أحكام الشرع الإسلامي لجهات البر(1/309)
والخير وأنه ليس لليهود أي حق عيني في الحائط أو في الرصيف المجاور له وأن لليهود حرية السلوك إلى الحائط الغربي لاقامة التضرعات . ولا يحق لهم جلب المقاعد والسجاجيد والحصر والكراسي والستائر والحواجز أو أية خيمة أو ستار ، ولا يسمح لهم بنفخ البوق ولا ان يسببو أي ازعاج للمسلمين . ويحظر على أي كان استعمال المكان الكائن أمام الحائط لأجل القاء الخطب أو اقامة المظاهرات السياسية مهما كان نوعها " وهذا هو نص المرسوم بالكلمة والحرف .
وعلى الجملة فقد كان المرسوم الملكي نصراً كاملاً للعرب والمسلمين وقد اقتبست النصوص الرئيسية التي أوصت بها اللجنة الدولية في حزيران 1930. لنرى ماذا فعلت إسرائيل بعد سبع وثلاثين عاماً ، في حزيران من عام 1967 .
وإلى جانب هذا النصر الديني لثورة 1929 ، فقد جاء النصر السياسي متمماً له ، ذلك ان الحكومة البريطانية ، جرياً على تقاليدها في مستعمراتها ألفت لجنة تحقيق سياسية تمثلت فيها الأحزاب البريطانية الثلاثة: المحافظون، والأحرار، والعمال، يرأسها قاضي القضاة البريطاني المستر ولتر شو, وذلك للتحقيق في أسباب الثورة، ولتقدم توصياتها اللازمة.
ومرة ثانية، ندب الأستاذ عوني عبد الهادي ومعه عدد من المحامين للدفاع عن قضية فلسطين أمام لجنة شو.
وأخذت أعد الدراسات عن القضية الفلسطينية من جميع جوانبها السياسية والقانونية والتاريخية، وكان لبيت المقدس مكان بارز في هذه الدراسات.(1/310)
وقضيت أياما طويلة في المكتبات وسجلات المحاكم الشرعية أبحث عن تاريخ بيت المقدس في مختلف العصور. وكانت خير مكتبة اغترفت منها كنوز المعرفة، هي الشيخ خليل الخالدي، العالم، النسابة الرحالة، فقد كان بنفسه مكتبة كاملة تنطق بشفتين، وتمشي على ساقين نحيلتين.
وقد جاءت تلك الدراسات لتثبت وقائع تاريخية في غاية الأصالة والطرافة، ومنها أن قبائل اليبوسيين والكنعانيين العرب هم أول من استوطنوا بيت المقدس. قبل مجيء العبرانيين بأزمان. وأن "ملكي صادق" العربي اليبوسي هو أول إنسان اتخذ من " كهف الصخرة" معبدا قبل مجيء إبراهيم عليه السلام إلى فلسطين.
وأن بطريق النصارى، صفرانيوس هو الذي طلب من الخليفة عمر بن الخطاب أن لا يسكن معهم يهودي في بيت المقدس.
وأن اليهود قد انقطعت صلتهم ببيت المقدس قرونا عديدة. وأن السائح اليهودي (بتاحيا) الذي زار القدس في القرن الثاني عشر للميلاد لم يجد فيها إلا يهوديا واحدا.
وأن السائح اليهودي موسى جيروندي الذي جاء إلى بيت المقدس في القرن الثالث عشر للميلاد قد وجد فيها عائلتين يهوديتين.
وأن وثائق المحكمة الشرعية في بيت المقدس (عام 1752) قد أوردت إحصاء عن اليهود في بيت المقدس فبلغ عددهم 115 نسمة، ذكرت أسماؤهم واحدا واحدا كما جاءت في السجل 55 وفي الصفحة 207 من سجلات المحكمة الشرعية.
وأن عدد اليهود في سنة 1688 لم يتجاوز مئة وخمسين شخصا.(1/311)
وأنه، حينما زار المليونير اليهودي منتفيوري بيت المقدس في عام 1837 قدر القنصل البريطاني في القدس عدد اليهود بثلاثة آلاف نسمة.
وأن وأن ... .مما كان يقرؤه أعضاء اللجنة، ويدهشون للوقائع المثيرة التي تضمنتها تلك الدراسات.
وكانت الوكالة اليهودية قد تقدمت بمذكرات مستفيضة عن التقدم العمراني الذي قامت به الحركة الصهيونية في ضواحي بيت المقدس، وهي الحجة الدائمة التي يبرزها زعماء اليهود في أنهم عمروا البلاد، وجعلوها تفيض لبناً وعسلا.
وهنا أسعفنا التاريخ الغابر والمعاصر بتكذيب دعاوى اليهود. وعدنا إليه فوجدنا حقائق مثيرة تدمغ الباطل اليهودي، فإن لنا خارج السور أحياء عربية زاهرة : باب الساهرة، وادي الجوز، ماملا، الطالبية، النمرية، القطمون، الشيخ بدر,البقعة ، الشيخ جراح، دير أبي ثور، والثلاثة الأخيرة بصورة خاصة لها مقام مرموق في التاريخ العربي، بالإضافة إلى الجانب العمراني.
فالبقعة، وقد قدمنا إلى لجنة شو مقتبسات من المراجع التاريخية، "كثيرة الرياض وكانت فيها قصور وبساتين تغنّى بها الشعر العربي".
وحي الشيخ جراح، ينتسب إلى الأمير حسام الدين الجراحي من قادة صلاح الدين، وفي الحي مسجد وزواية ومقبرة، ودفن فيها الأمير الجراحي، وعدد من المجاهدين الذين استشهدوا في عهد صلاح الدين.
وحي دير أبي ثور، أو الطوري بالعامية، فإنه ينسب إلى الإمام شهاب الدين القرشي، وهو الذي اشتهر بالثوري أو أبي ثور، لأنه كان يركب ثورا، بعد أن هلك جواده، وهو يقاتل الإفرنج مع صلاح الدين.(1/312)
ومن المكان انتقلنا إلى الحديث عن السكان، فإن بيت المقدس تمثل نموذجا للوجود العربي الأصيل في سائر أنحاء فلسطين، . ففي الوقت الذي كان فيه اليهود في بيت المقدس يُعدّون بالعشرات، كان العرب يُعدّون بالألوف. فضلا عن أن الأسر العربية فيها يمتد وجودها إلى قرون.
وتضمنت مذكراتنا إلى لجنة شو وقائع تبعث على الدهشة والعجب. ومن هذه الوقائع:
أن العرب في بيت المقدس كانوا في عام 1670 يزيدون على ستة و وأربعين ألفا، وأوردنا مقتبسات من كتاب السائح التركي شبلي الذي زار القدس في تلك الحقبة.
وأن آل الحسيني، ينتسبون إلى الحسين سبط الرسول(صلى الله عليه وسلم).
وأن آل الخالدي ينتسبون إلى خالد بن الوليد فاتح القدس.
وأن آل الدجاني ينتسبون إلى الصحابي الشيخ محمد المنسي واشترك في فتح بيت المقدس.
وأن آل نسبية وآل جودة هم من نسل الصحابة الذين استلموا مفاتيح كنيسة القيامة من البطريق صفرانيوس في عهد الخليفة عمر بن الخطاب.
وأن آل النشاشيبي ينتسبون إلى ناظر الحرمين الأمير ناصر النشاشيبي الذي عاش في بيت المقدس في منتصف القرن الخامس عشر ميلادي.
وأن آل البديري أقاموا في القدس منذ سبعة قرون.
وأن آل أبو السعود أقاموا في القدس منذ سبعة قرون.(1/313)
وأن صلاح الدين الأيوبي، بعد أن فتح بيت المقدس واستردها من الإفرنج، جاء بالعشائر العربية وأسكنها في بيت المقدس حماية لها. فسكن بنو حارثة حول القلعة، وبنو زيد حول خان الزيت، والسعدية في المحلة التي تحمل اسمهم وكانت بيدهم مفاتيح باب الخليل. كما سكنت عشائر أخرى خارج السور لتحمي حدود المدينة من الغرب.
وفي إطار هذه المذكرات، أعددت كذلك بحثا يتصل بالقانون الدولي، لفت انتباه رئيس اللجنة باعتباره قاضيا. وقد استندت في هذا البحث إلى أن بيت المقدس قد سقط في يد الإفرنج لمدة ثمانية وثمانين عاما، وقبل ذلك كان تابعا لسيادة الدولة الفاطمية، وأن استرداده تم بقيادة صلاح الدين الأيوبي وعلى يد قوات عربية وإسلامية ولم يكن لليهود دور من قريب أو من بعيد.
وحول الحكم الوطني أعددت دراسة وافية استعرضت فيها الحكم العثماني منذ بدايته، وخلصت منه إلى القول أنه لم يكن احتلالا ولا استعمارا، ولكنه كان في ظروف العصر وملابساته حكما ثنائيا، بين العرب والأتراك، وخاصة في الولايات العربية. وأنه بعد أن صدر الدستور العثماني، تمت انتخابات حرة من قبل الأهالي في بيت المقدس ففاز في الدورة الأولى لمجلس المبعوثان التركي ( البرلمان) يوسف ضيا باشا الخالدي(1877). وفي الدورة الثانية (1908) روحي بك الخالدي وسعيد بك الحسيني، وفي الدورة الثالثة (1912) راغب بك النشاشيبي وسعيد بك الحسيني. وختمت المذكرة أن النائبين الأخيرين لا يزالان على قيد الحياة، وتستطيع لجنة التحقيق أن تستدعيهما وتستمع إليهما.
ولكن أطرف مذكرة في هذه الدراسات كانت حول عظماء بيت المقدس الذي ليسوا على قيد الحياة. فقد تحدثت هذه المذكرة عن المقابر الشهيرة(1/314)
في بيت المقدس: مقبرة ماملا، المقبرة اليوسفية، مقبرة المجاهدين، مقبرة باب الرحمة، وعشر مقابر أخرى اتخذت منذ ثلاثة عشر قرنا لتكون مدفنا للصحابة والمجاهدين والملوك والوزراء والعلماء من كل أرجاء العالم العربي والإسلامي، وأنه باستثناء قبر الرسول (صلى الله عليه وسلم) يمكن اعتبار بيت المقدس أعظم مقبرة في تاريخ الإسلام وأنه يندر أن نجد في الدنيا بأسرها مدينة مثل بيت المقدس، في سكانها الأحياء والأموات. وأسرها المعروفة مستقرة فيها منذ أجيال وأجيال.
وفرغت لجنة التحقيق من مهمتها، ورفعت تقريرها إلى وزير المستعمرات البريطاني، أصدرت الحكومة البريطانية استنادا إلى توصياته الكتاب الأبيض لعام 1930 وهو يقترب كثيرا من مطالب الشعب الفلسطيني بالنسبة إلى الحكم الوطني، وموضوع الهجرة اليهودية ومشكلة بيوع الأراضي، ولكن بريطانيا تحت ضغط الصهيونية العالمية ما لبثت أن أصدرت كتابا أبيض آخربعد ثلاثة أسابيع ألغت فيه الكتاب الأول، واستمرت الهجرة اليهودية متدفقة كما في السابق. واستمر الشعب العربي في فلسطين محروما من ممارسة الحكم الوطني، ومضت سحب الخطر اليهودي تحلق في سماء بيت المقدس.
وتحولت الحركة الوطنية إلى عداء سافر مع بريطانيا بوصفها الدولة المنتدبة على فلسطين مع أنها، قبل ذلك، كانت قاصرة على مناهضة الحركة الصهيونية.
وأقبل شهر نيسان من عام 1936 فأعلن الشعب الفلسطيني الإضراب العام الشامل، وامتد ستة أشهر تعطلت خلالها مرافق الحياة. وكانت القدس(1/315)
القديمة بأزقتها المعتمة، وشوارعها الضيقة أشبه بمدينة مهجورة، لا تنبض الحياة فيها إلا في مقر المجلس الإسلامي الأعلى حيث قيادة الحركة الوطنية.
وتوقف الإضراب بناء على مناشدة الملوك والأمراء، ثقة منهم "بحسن نوايا صديقتنا الحكومة البريطانية". كما جاء في بيانهم الشهير!
وحسب العادة في العشرين سنة الماضية، فقد ألفت الحكومة البريطانية لجنة تحقيق عرفت باسم رئيسها اللورد بيل. جاء تقريرها مخيبا للآمال (تموز 1937) إذ أوصى بتقسيم فلسطين إلى دولة يهودية وضم القسم العربي إلى إمارة شرق الأردن، وإبقاء منطقة القدس تحت انتداب دولي.
ونشبت الثورة من جديد، ثم جاءت فترة الهدوء القلق خلال الحرب العالمية الثانية (1939 – 1945) وعادت القلاقل والاضطرابات مرة ثانية حتى أواخر الأربعينات.
وفي 29 نوفمبر 1947 أصدرت الأمم المتحدة قراراها المشؤوم بتقسيم فلسطين، وإنشاء دولة يهودية، واعتبارها مدينة القدس منطقة تحت إدارة الأمم المتحدة.
ونشبت الثورة من جديد، واندفع المتطوعون العرب للدفاع عن عروبة فلسطين، وأصبحت منطقة القدس ، وسائر مناطق فلسطين، ميدان قتال شجاع. وحاصر المجاهدون العرب الأحياء اليهودية في مدينة القدس. وأصبح مئة ألف يهودي معرضين للهلاك جوعا وعطشا وأوشكوا على الاستسلام ، لولا ضغط القيادات العربية من أصدقاء الإنجليز.
ونشبت معارك ضارية في مناطق القدس، استشهد خلالها الشهيد عبد القادر الحسيني في معركة القسطل، وهو ابن موسى كاظم باشا الحسيني.(1/316)
وفي شهر أيار 1948 دخلت الجيوش العربية فلسطين وانتهت إلى هزيمة نكراء وبسطت إسرائيل سيادتها على القدس الجديدة، وكادت القوات اليهودية أن تحتل القدس القديمة، لولا بسالة شبابها الأبطال والمتطوعون العرب الشجعان، وبعض العناصر الوطنية في الجيش الأردني.
ومنذ ذلك التاريخ راحت إسرائيل تعلن رفضها لقرار التدويل، وأن القدس هي عاصمة إسرائيل، وأن إسرائيل من غير القدس جسد بدون رأس، وجثة من غير روح. وانضمت الضفة الغربية من فلسطين ومعها القدس القديمة إلى المملكة الأردنية الهاشمية، وبدأت القدس القديمة تصغر وتضمر، على حين راحت القدس الجديدة تنمو وتكبر.
وقضيت سنين طويلة في الأمم المتحدة، في حوار مع إيبان وغولدا ماير، حول بيت المقدس. فلم تكن تمضي دورة من دورات الجمعية العامة إلا وأتحدث فيها عن بيت المقدس وأؤكد عروبتها، والوفود العربية تؤدي هذا الواجب مثلي وزيادة. وكنا نجد على الدوام تأييدا من الوفود الدولية، ولكن.
ولكن الأمر على الطبيعة، على الأرض ، كان يسير في اتجاه آخر. فقد كانت إسرائيل تبني في القدس الجديدة لتجعلها عاصمة لإسرائيل. وكان آخر ما أنشأته بناء جديدا فخما للكنيست (البرلمان)، بالإضافة إلى ما أقامته قبل ذلك من مؤسسات الدولة.
وفي عام 1966، أقامت إسرائيل احتفالا كبيرا في القدس الجديدة لمناسبة افتتاح مبنى الكنيست، ولبى الدعوة وفود لأربعين دولة في العالم، وكان ذلك يرمز إلى اعتراف دولي بالقدس عاصمة لإسرائيل.(1/317)
وصادف، وهي مصادفة فعلا، أن كان مجلس الجامعة مجتمعا على مستوى وزراء الخارجية، وكان افتتاح مبنى الكنيست مدرجا على جدول الأعمال، وتبارى وزراء خارجية الدول العربية في صياغة مشروع قرار يندد بهذا العدوان الصارخ على عروبة القدس!!
ونَددتُ بهذا التنديد، باسم منظمة التحرير الفلسطينية، فإن القدس في خطر ولا ينفع فيها ذلك الكلام الهزيل. واقترحت بديلا عن ذلك أن تقوم الحكومة الأردنية بإعلان القدس عاصمة للدولة، وأن تنقل إليها كل المؤسسات الوزارية، وأن تحشد الدول العربية الأخرى كتائب من جيوشها في بيت المقدس حماية لها، بالإضافة إلى جيش التحرير الفلسطيني.
ولكن الحكومات العربية وفي مقدمتها الحكومة الأردنية لم تلق بالا إلى هذا الاقتراح، وبقي اقتراحي في محاضر الجامعة العربية للتاريخ. فقد كان بيت المقدس ينتظر على عتبات التاريخ، ليسقط بيد إسرائيل بعد ذلك ببضعة أشهر (1) .
وفي آخر شهر أيار سنة 1967، جاء الملك حسين إلى القاهرة في سفرة مثيرة واجتمع مع الرئيس عبد الناصر، وعدت معه بطائرته إلى عمان، فقد كانت نذر الحرب تملأ الآفاق العربية.
وعادت إليَّ مخاوفي على بيت المقدس، وحاولت جاهدا أن أقنع الملك حسين باستدعاء جيش التحرير الفلسطيني من درعا وحشده داخل بيت المقدس للدفاع عنها. ولكن الملك حسين لم يكن يحتمل وجود جيش
__________
(1) راجع كتاب المؤلف: على طريق الهزيمة مع الملوك والرؤساء.(1/318)
التحرير الفلسطيني في بيت المقدس.وانتهى الأمر بأن تسقط المدينة بيد الجيش الإسرائيلي (1) .
وكانت نكسة كبرى، ندر مثيلها، في تاريخ العروبة والإسلام.
وانفجر الحقد اليهودي على بيت المقدس.وكان حائط المبكى في الطليعة. فلم يكد الجيش الإسرائيلي يدخل المدينة القديمة حتى اقتحمت الجماهير يتقدمهم رئيس وزراء إسرائيل أشكول، ووزير دفاعه موشي ديان، وبن غوريون، و كبار الحاخامين، ورجال الدولة، وهم يخطبون ويشيدون بهذا النصر، ويتعاهدون أمام حائط المبكى "بأن لا تخرج القدس من أيدينا بعد اليوم".
وفي بضعة أيام، قامت الجرارات الإسرائيلية بهدم الأحياء المجاورة لحائط المبكى، بما فيها من مساجد وزوايا وأوقاف، ومعالم أثرية، ومعاهد دينية يعود عمرها إلى مئات السنين.
وضاع بين الأنقاض المرسوم الملكي الذي ظفرنا به في عام 1931 بتوكيد الحق العربي الإسلامي بحائط المبكى، وأقرته في حينه عصبة الأمم في جينف. وتثاءبت الأمم المتحدة في مجلس الأمن بأكثر من قرار واحد يدعو إسرائيل أن لا تقوم بأي تغيير في معالم القدس ولكن إسرائيل رفضت قرارات الأمم المتحدة، وراحت تعبث بالمقدسات الدينية في بيت المقدس، غير مبالية بالعالم الإسلامي ومعه العالم المسيحي.
وفي صيف 1968، احرق اليهود منبر نور الدين القائم في المسجد الأقصى، وهو المنبر الذي تؤلف حكايته ملحمة إنسانية رفيعة، مضافا إلى
__________
(1) راجع كتاب المؤلف: الهزيمة الكبرى مع الملوك والرؤساء.(1/319)
كونه تحفة فنية نادرة (1) .
واجتمع ملوك العرب والمسلمين ورؤساؤهم وأمراؤهم في مؤتمرات متعددة كان آخرها المؤتمر الإسلامي في مدينة لاهور. وكان ذلك قبل حرب رمضان وبعدها.
وقد رست هذه المؤتمرات على قرارات تؤكد السيادة العربية على بيت المقدس، وأن أية تسوية سلمية يجب أن تستهدف انسحاب إسرائيل من الأراضي العربية بكاملها، وفي مقدمتها القدس العربية.
وأن الجيل الفلسطيني، ومعه الجيل العربي، الذي عاش أحداث بيت المقدس منذ أربعين عاما، وسبرغور الأهداف الصهيونية، وتمرس بعناد إسرائيل وشراستها وضرواتها. هذا الجيل يعيش الآن ممزقا، حائرا، خائفا، يثور في نفسه السؤال تلو السؤال. موجها إلى ملوك العرب والمسلمين وأمرائهم ورؤسائهم.
أعارفون أنتم أم جاهلون؟
أجادون أنتم أم هازلون؟
هل تجلو إسرائيل عن بيت المقدس بالطرق السياسية والدبلوماسية؟ وجنيف، واجتماعات جينف هل هي الطريق لتحرير بيت المقدس؟ إن تحرير بيت المقدس،لا يتم إلا في بيت المقدس؟ في شوارعها وعلى أسوارها وأبراجها، في حرب مقدسة، من مسجد إلى مسجد ومن كنيسة إلى كنيسة، ومن زقاق إلى زقاق.
وإذا كان الملوك والأمراء والرؤساء يظنون غير ذلك فأنهم واهمون ... وذلك أكثر الكلام ادبا وإشفاقا ورحمة.
__________
(1) * جرى ذكره في فصل سابق من هذا الكتاب: نصر مع الإسراء، وتحرر مع المعراج.(1/320)
وتظل بيت المقدس هي الامتحان الفاصل الحاسم لحكام العرب والمسلمين أجمعين، وسيكتب لهم التاريخ العزة والفخار، أو الذلة والعار. وأنا أدعو لهم بالأولى، من أجل بيت المقدس إن لم يكن أجلهم. ولكنهم تخلفوا، وكلهم مسؤول بقدر ما يملك فلن تتخلف العروبة عن داعي الجهاد وواجب التحرير. وسيرة بيت المقدس عبر التاريخ تنبئ وتتنبأ.
وينبئ التاريخ، أن بيت المقدس سيتحرر كما تحرر في الماضي، وعلى أيدي جيل من القادة، أكرم وأشرف وأصدق. ممن نرى وممن نسمع.
وإننا لنرى ذلك الجيل، وهو يجدّ في السير إلى مسرح التاريخ ليكتب التاريخ من جديد، ويحرر بيت المقدس من جديد.
ذلكم هو حكم التاريخ، بل إنه القدر المحتوم، "وسيعلم الذين ظلموا أيَّ منقلب ينقلبون ... "
وعلى أي حائط يبكون.(1/321)
المراجع:-
1- ابن الأثير - التاريخ الباهر في الدولة الأتابكية بالموصل.
- الكامل في التاريخ.
2- أسامة بن منقذ - كتاب الاعتبار.
3- الأصفهاني (عماد الدين محمد) - الفتح القسي في الفتح القدسي.
4- ابن جبير الأندلسي - رحلة ابن جبير الأندلسي.
5- أبو شامة (شهاب الدين أبو محمد عبد الرحمن المقدسي)
- كتاب الروضتين في أخبار الدولتين.
6- ابن شداد (القاضي بهاء الدين) - النوادر السلطانية والمحاسن اليوسفية.
7- عاشور(سعيد عبد الفتاح عاشور) - الحركة الصليبية-جزآن .
8- ابن العديم (كمال الدين عمر بن أحمد القصيلي) - زبدة الحلب في تاريخ حلب.
9- أبوالفدا (الملك المؤيد إسماعيل) - المختصر في أخبار البشر.
10- ابن القلانسي - ذيل تاريخ دمشق.
11- كرد علي (محمد) - خطط الشام.
12- أبو المحاسن (جمال الدين بن يوسف تعزي بردي)
- النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة.
13- المقريزي (تقي الدين أحمد بن علي) - السلوك لمعرفة دول الملوك.
14- ابن واصل(جمال الدين محمد بن سالم) - مفرج الكروب في أخبار بني أيوب.
15- ياقوت (شهاب الدين أبو عبد الله الحموي) - معجم البلدان.
16- كتب المؤلف - أربعون عاما في الحياة العربية والدولية.
- حوار وأسرار مع الملوك والرؤساء.
- من القمة إلى الهزيمة مع الملوك والرؤساء.
- على طريق الهزيمة مع الملوك والرؤساء.
- الهزيمة الكبرى مع الملوك والرؤساء (جزآن).(1/322)