مع المصطفى- الدكتورة بنت الشاطئ
مع المصطفى
الدكتورة بنت الشاطئ(1/)
مع المصطفى عليه الصلاة والسلام الدكتورة عائشة عبدالرحمن (بنت الشاطئ) استاذة الدراسات القرآنية بكلية الشريعة ودار الحديث جامعة القرويين: المغرب الناشر دار الكتاب العربي بيروت - لبنان(1/3)
جميع الحقوق محفوظة لدار الكتاب العربي بيروت الطبعة الاولى 1392 ه 1972 م(1/4)
بسم الله الرحمن الرحيم هو الذي بعث في الاميين رسولا منهم يتلوا عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وان كانوا من قبل لفي ضلال مبين * وآخرين منهم لما يلحقوا بهم وهو العزيز الحكيم * ذلك فضل
الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم * مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار يحمل أسفارا بئس مثل القوم الذين كذبوا بآيات الله والله لا يهدي القوم الظالمين * صدق الله العظيم(1/5)
دليل - هذا الكتاب..9 1 - اليتيم الهاشمي..13 - أم القرى والبيت العتيق..15 - المولد...25 - من مهد مولده إلى غار حراء..40 2 - مع المصطفى.
في دار مبعثه..49 - مع المصطفى، في ليلة القدر..51 - السابقون الاولون..58 - والليل إذا يغشى..66 - أم يقولون: افتراه ؟..85 - هجرة إلى الحبشة..104 - الحصار.
وعام الحزن..120 - الاسراء..130(1/7)
3 - بوادر التحول..139
- نجران.
ويثرب..141 - أبواب موصدة..157 - بيعة العقبة ومتجه الاحداث..162 4 - مع المصطفى.
في دار هجرته..183 - هجرة وتاريخ..185 - يوم بدر، وموازين القوى..230 - درس من أحد.
ورسالة من شهيد..253 - الاسلام في الجبهات الثلاث: 1 - في الجبهة اليهودية: من قلب المدينة، إلى خيبر..262 2 - في الجبهة القرشية: من هدنة الحديبية إلى الفتح..278 3 - مع المنافقين..305 - ودخل الناس في دين الله افواجا..323(1/8)
هذا الكتاب مع المصطفى عشت من يوم مولدي، آيات معجزته كانت أول ما يصل إلى سمعي مع نور الفجر، يتلوها والدي التقي العابد، في تهجده وصلاته.
وأحاديثه الشريفة كانت مع آيات القرآن، الزاد الروحي الذي تعيش به بيئتي المتدينة، من قبل أن أعرف الدنيا.
وسيرته الزكية العطرة، كانت أنس دنيانا، من قبل أن تحل عني تمائم الصبا.
والمدائح النبوية والاناشيد الصوفية، كانت أول ما لمس وجدانى
وأرهف إحساسي، من يوم بدأت خطوتي الاولى على درب الحياة..ومع المصطفى عشت وأنا أستقرئ ما وعى التاريخ من تراجم سيدات بيت النبوة، فأجتلي ملامح شخصيته صبيا في (أم النبي)(1/9)
وزوجا في (نساء النبي) وأبا في (بنات النبي).
وأتمثل حياته صلى الله عليه وسلم في بيته، حيث تلاقت البشرية بالنبوة، واتصلت الارض بالسماء.
ثم، مع المصطفى نبيا رسولا، أمضيت حياتي العلمية منذ استشرف بى أستاذي (أمين الخولي) إلى الافق الرحب الذي طمحت إليه في دراساتي القرآنية، وقاد خطاي على الطريق الصعب لاجتلي أسرار البيان المعجز..وإذ بسر الله وأعان، فقدمت إلى المكتبة الاسلامية محاولتي المنهجية في (التفسير البياني للقرآن الكريم) ودراستي القرآنية (مقال في الانسان) وأتممت دراستي لما شغلني أعواما من (الاعجاز البياني للقرآن).
استروحت إلى صحبة المصطفى عليه الصلاة والسلام، فإذا بي في فيض من سناه، قد طويت أبعاد المكان وآماد الزمان، إلى مسرح الاحداث الكبار التي بدأ بها عصر جديد للانسان، وعشت بوجداني وفكري مع المصطفى من مهد مولده إلى غار حراء، ثم إلى مثواه في المدينة المنورة.
ثم لم أشأ، بل لم أستطع، أن أنصرف عن هذه الصحبة مع المصطفى، فكأني إذ أعكف على كتابتها أطيل مدى أنسي بها، وألتمس من مشاركة أصدقائي القراء، ما يضاعف لي عطاءها السخي.(1/10)
وما أقدمه إلى قومي من حديث هذه الرحلة (مع المصطفى) عليه الصلاة والسلام، ليس التاريخ وليس السيرة، وانما هي مشاهد مما اجتليت سيطرت على وجداني، ومواقف شدت إليها تأملي بجاذبية آسرة، وارتبط فيها الماضي الحي بالحاضر المشهود، فما تتجلى لنا رؤيا الامس إلا في غمرة من ظلال اليوم، ولا نستروح عطر التاريخ مع المصطفى، إلا مشوبا بأنفاس الواقع الكابي الذى تعيشه أمة الاسلام، في صراعها مع أعداء النور وأولياء الشيطان: (الذين آمنوا يقاتلون في سبيل الله، والذين كفروا يقاتلون في سبيل الطاغوت فقاتلوا أولياء الشيطان إن كيد الشيطان كان ضعيفا).
صدق الله العظيم(1/11)
(1) اليتيم الهاشمي - أم القرى والبيت العتيق - المولد - من مهد مولده إلى غار حراء(1/13)
أم القرى، والبيت العتيق (وإذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمنا واتخذوا من مقام ابراهيم مصلى، وعهدنا إلى إبرهيم واسمعيل أن طهرا بيتي للطائفين
والعاكفين والركع السجود.
(صدق الله العظيم) تاريخ الاديان يعي تماما، ما سبق الاسلام من بوادر آذنت بوشك فجر جديد لا بد أن ينسخ ما تراكم على أفق الدنيا من ظلمات ليل طال...ولكنه قد يضع هذا السؤال: لماذا كانت مكة أرضا لمبعث خاتم الانبياء، وقد كانت مركز(1/15)
الوثنية العربية، وليست في ظاهر الحال أولى من بلاد أخرى كانت مهدا للانبياء، ومبعثا لرسالات دينية سبقت الاسلام ؟ المؤمنون لا يترددون في أن يتلوا كلمته تعالى: (الله أعلم حيث يجعل رسالته) ثم لا يجدون حرجا في أن يتدبروا، كما أمرهم دينهم، حكمته تعالى في سننه، وأن ينظروا في واقع الحياة قبل المبعث، وموضع منزل الوحي في عالم كان، حينذاك، يريد أن ينقض ! وتاريخنا الديني يمكن أن يعطينا ما ندرك منه الحكمة في اصطفاء مكة لمبعث خاتم المرسلين.
وقد كانت من قديم العصور والآباد حرما مقدسا، وعلى أرضها قام أول بيت عبد فيه الله سبحانه على الارض.
ولا ندري تماما، الظروف التي تداعى فيها بنيان ذلك البيت العتيق، ونفذت إليه ظلال وثنية دنست حرمه، حتى تلقى (ابرهيم الخليل) أمر ربه بأن يرفع، هو وولده اسماعيل، القواعد من البيت ويطهراه للطائفين والعاكفين والركع السجود.
وبأمر الله تعالى، أذن ابرهيم في الناس بالحج إلى البيت العتيق، فأتوه رجالا وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق.
ومن ذلك الزمن الموغل في الماضي السحيق، رسخت مكانة مكة في تاريخنا الدينى.
ولكن الوثنية عادت فتسللت إلى حرمها، مع أوثان وأصنام كانت في أول الامر رموزا للخالق المعبود، ثم فقدت رمزيتها وصارت معبودات.(1/16)
وظل لمكة مع ذلك، مركزها الديني لا تنازعها فيه بلدة أخرى.
وبقيت مثابة حج العرب في الجاهلية الوثنية، على مر الحقب والادهار.
وكأنما كان البيت العتيق فيها، ذكرى شاخصة من عهد إيمانها القديم، يحمي بقية من الوعي كامنة في العمق الغائر من ضمير الجاهليين، عبدة الاوثان والكواكب: (ولئن سألتهم من خلق السموات والارض وسخر الشمس والقمر ليقولن الله).
ومع رسوخ الوثنية العربية في مكة إبان الجاهلية، لم تستطع قط أن تطوي تماما ذكريات ماضيها الديني وتلقي به في متاهة النسيان.
وكان الزمن كلما تقدم بها هزتها رجفة الوعي فخامرها ريب في تلك الاوثان التى تكدست في حرم بيتها العتيق، لم تنس بها خالقها، وإن أشركتها معه، سبحانه، في التعبد.
وكانت القبائل العربية تحج إلى الكعبة في الموسم، وتطيف كل قبيلة بوثنها ضارعة ملبية، فتذكر الله من حيث تدري أو لا تدري، وترفع إليه الضراعة والنجوى، إما بمنطق الشرك كتلبية
أهل فدك، وفيها أصنام: لبيك إن الحمد لك * والملك لا شريك لك إلا شريك هو لك * تملكه وما ملك أبو بنات بفدك أو على وجه الملاذ إليه وحده في الحج، وترك أصنامهم، في(1/17)
منازل القبيلة، ابتغاء رضوانه، كتلبية (همدان) في الجاهلية لبيك رب همدان * من شاحط ومن دان جئناك نبغي الاحسان * بكل حرف مذعان نطوي إليك الغيطان * نأمل فضل الغفران لبيك مع كل قبيل لبوك * همدان أبناء الملوك تدعوك قد تركوا أصنامهم وانتابوك * فاسمع دعاء في جميع الاملوك (1) ومؤرخو الاسلام يذكرون ما راج في المنطقة قبل المبعث، من إرهاصات عن نبي آن مبعثه، ولا نجادل من يستريب من أبناء عصرنا في هذه المرويات ويحملها على منحولات الرواة وإضافات السمار، غير أن الواقع التاريخي يؤكد أنها، على أي وجه رضيناه لها وحملناه عليها، تكشف عن تطلع الحياة قبيل الاسلام، إلى تحول جديد وحاسم.
وتاريخ الاديان العام، يمكن أن يضيف إضاءة أخرى إلى ما قدمه مؤرخونا عن أرض المبعث: الجزيرة العربية عرفت بصورة أو بأخرى، كل الاديان والعقائد التى كانت البشرية تعتنقها قبل الاسلام.
عرفت المسيحية في نجران والحيرة وغسان وتخوم الحبشة،
__________
(1) تجد في (رسالة الغفران) نصوصا مع هذه، من تلبيات العرب في الجاهلية: ص 534 وما بعدها.
ط خامسة، ذخائر العرب.
[ * ](1/18)
واليهودية في يثرب وما حولها من مستعمرات يهود شمال الحجاز.
وعرفت الصابئة عبدة النجوم والكواكب، وسمعت عن المجوسية بحكم اتصال إمارة المناذرة العربية بالفرس...وتلاقت هذه الاديان الوافدة، مع الوثنية العربية، ومع البقية من دين ابرهيم قاومت الضياع قرونا وأدهارا، فتمثلت في قلة من الحنفاء رفضوا عبادة الاوثان في أخريات الجاهلية، وتجد أخبارهم بتفصيل، في الجزء الاول من (السيرة النبوية لابن هشام).
والتقاء هذه الاديان والعبادات في المنطقة الواحدة، يمنحها فرصة التنبه إلى ما بينها من مظاهر التفاوت والخلاف، ومثار الخصومة والتنازع.
كما أن توزع أهل الجزيرة العربية بين هاتيك الاديان، في فترة من حياتهم كانت تقتضي التجمع والترابط لمواجهة التهديد الخارجي من فرس وروم وحبشة، أرهف حسهم لما داخل تدين كل طائفة من شوائب الانحراف والتعصب.
فإن لم يصل بهم إلى مستوى التمييز، فأدنى أثره أن يجعل المنطقة في حيرة وتردد، لا تدري أي تلك الطوائف على حق وأيها على باطل.
ولم تكن الفطرة العربية، قد أفسدها ما تسلط على الفرس والروم من ترف باذخ وانحلال منهك، ولا قهرها ما تسلط على شعوب المناطق
حولها - في الشام ومصر وما وراءها من أقطار الشمال الافريقي - من باهظ الاحتلال الذي جثم عليها قرابة ألف عام، لم تنج منه سوى(1/19)
الجزيرة العربية التى اعتصمت بمنعتها الطبيعية، وحمتها بواديها الجرداء من مطامع الغزاة.
وإنما ألقت الوثنية غشاوة على بصيرة العربي، فتابع آباءه على دينهم تعصبا وتوقيرا، لا يريد أن يتصور أن أسلافه الكرام كانوا جميعا على سفه وضلال.
وتراث الشعر الجاهلي لقرنين قبل الاسلام، يؤكد مع ذلك، ما كان يجتاح الوجدان العربي من قلق وحيرة، وتطلع إلى نور جديد يمزق الغشاوة ويسقط أقنعة الزيف عن عقم الوثنية ومهانة الشرك وخلل الاوضاع.
لا في ديوان المتحنفين فحسب، ولكن في ديوان تلك الفترة بوجه عام.
وفيها كان (قس بن ساعدة) يقف في سوق عكاظ بالموسم، فيهز الضمير العربي بحكمته ومواعظه.
وفيها كانت آفاق الجزيرة ترجع ما يأتيها من أسواق أم القرى في مواسم الحج، مثل قول (زهير بن أبي سلمى): فلا تكتمن الله ما في نفوسكم * ليخفى، ومهما يكتم الله يعلم يؤخر فيوضع في كتاب فيدخر * ليوم الحساب أو يعجل فينقم وأعلم علم اليوم والامس قبله *
ولكننى عن علم ما في غد عم(1/20)
ومن هاب أسباب المنايا ينلنه * ولو رام أسباب السماء بسلم ومن يوف لا يذمم ومن يهد قلبه * إلى مطمئن البر لا يتجمجم ومهما تكن عند امرئ من خليقة * وإن خالها تخفى على الناس تعلم ألا ليت شعري هل يرى الناس ما أرى * من الامر أو يبدو لهم ما بدا ليا بدا لي أن الله حق فزادني * إلى الحق تقوى الله ما كان باديا وأني متى أهبط من الارض تلعة * أجد أثرا قبلي، جديدا وباليا أرانى إذا ما بت بت على هوى * وأني إذا أصبحت أصبحت غاديا إلى حفرة أهدى إليها مقيمة * يحث إليها سائق من ورائيا كأني وقد خلفت تسعين حجة * خلعت بها عن منكبي ردائيا أراني إذا ما شئت لاقيت آية * تذكرني بعد الذي كنت ناسيا(1/21)
ألم تر أن الله أهلك تبعا * وأهلك لقمان بن عاد وعاديا وأهلك ذا القرنين من قبل ما ترى * وفرعون جبارا طغى والنجاشيا الا لا أرى ذا إمة أصبحت به * فتتركه الايام وهى كما هيا ألم تر للنعمان كان بنجوة * من الشر لو ان امرءا كان ناجيا فغير منه ملك عشرين حجة * من الدهر يوم واحد كان غاويا فلم أر مسلوبا له مثل ملكه * أقل صديقا باذلا أو مواسيا وقول (النابغة الذبياني) في اعتذاره للنعمان بن المنذر: حلفت فلم أترك لنفسك ريبة * وليس وراء الله للمرء مذهب لئن كنت قد بلغت عني وشاية * لمبلغك الواشي أغش وأكذب وقول (لبيد بن ربيعة): بلينا وما تبلى النجوم الطوالع * وتبقى الديار بعدنا والمصانع(1/22)
وما المرء إلا كالشهاب وضوئه * يحور رمادا بعد إذ هو ساطع وما المال والاهلون إلا ودائع * ولا بد يوما أن ترد الودائع وكانت حرمة البيت العتيق تفرض على العرب جميعا حرمة حماه في أم القرى، ورسخ في اعتقادهم (أن مكة لا تقر فيها ظلما ولا بغيا، ولا يبغي فيها أحد على أحد إلا أخرجته، ولا يريدها ملك يستحل حرمتها إلا هلك مكانه.
فيقال إنها ما سميت ببكة، إلا لانها كانت تبك - تكسر - أعناق الجبابرة إذا أحدثوا فيها شيئا) (1).
وبلغ من حرمة مكة عند القوم، أن تناقلت الاجيال إلى عصر المبعث ما تذكره السيدة عائشة أم المؤمنين فتقول: (ما زلنا نسمع أن أسافا ونائلة - من أصنام العرب في الجاهلية - كانا رجلا وامرأة من جرهم، أحدثا في الكعبة فمسخهما الله تعالى حجرين) (2).
وكانت لمكة أشهر حرم لا يحل فيها قتال، وشهدت قبيل المبعث (حلف الفضول) في دار ابن جدعان، حيث تحالفت عشائر قريش
__________
(1)، (2) السيرة لابن هشام: الجزء الاول.
وانظر معه (الروض الانف) للسهيلي: 1 / 27 ط الجمالية بالقاهرة.
[ * ](1/23)
- وفيها الوظائف الدينية بالحرم - ألا يوجد بمكة مظلوم من أهلها أو غيرهم، إلا كانت معه على ظالمه حتى ترد مظلمته.
في هذه البلدة المرهفة الحس الدينى، المضناة بالقلق والحيرة، المتطلعة إلى حياة جديدة، كان مولد محمد بن عبدالله ومبعث نبى الاسلام عليه الصلاة والسلام.(1/24)
المولد (إنما أنا ابن امرأة من قريش تأكل القديد).
محمد بن عبدالله في مكة كان مولده، وضعته أمه بشرا سويا في دار أبيه (عبدالله بن عبدالمطلب الهاشمي) بجوار البيت العتيق.
ونور الفجر يبشر بصبح جديد، والدنيا تتفتح لموكب الشروق، وتستقبل مع أنفاس الصبح أنفاس ألوف وألوف من بني البشر، ولدتهم أمهاتهم من مختلف الاجناس وشتى البقاع، في تلك الليلة القمراء من ربيع الاول.(1/25)
منهم من ولدوا في قصور مصر والشام وفارس والروم.
ومنهم من ولدوا في مجاهل القفر ونجوع البوادي وأدغال الغابات وكهوف الجبال..تباعدت بهم الاصول والانساب.
وتفاوتت الالوان والاجناس، وتناءت الطبقات وجمعتهم بنوتهم للبشر،
وتماثلت فيهم آية الخلق، وتشابهت مخاطر الحمل وآلام المخاض ولم تر فيهم الفطرة الانسانية إلا انتصارا لارادة البقاء وامتدادا للحياة، على ما بينهم من تفاوت بعيد.
وما كان أحد ليلتفت إلى وليد منهم، وضعته أمه يتيما في حي بني هاشم بجوار الحرم المكي، في تلك الليلة التى بوركت به، لولا أن حفت بمولده ظروف غير مألوفة، جعلت أم القرى تتلقى البشرى بكثير من التأمل والتفكير، ثم تحرص على أن تستوعب كل ما حف بها أو لابسها من ظروف، وأن تتابع سير الحياة بهذا الوليد إلى أن بلغ أشده واصطفي خاتما للانبياء.
وحين آن للتاريخ العام أن ينصرف عن أحداث الدنيا في فجر المبعث ليرقب هذا المصطفى للنبوة، وجد في ذاكرة أم القرى ما(1/26)
يملا صفحات المرحلة ما بين مولده ومبعثه.
الليلة من بدئها كانت مقمرة واعدة.
ينيرها قمر أوشك أن يكتمل بدرا وتؤنسها أطياف ورؤى، ظلت تتجلى لآمنة بنت وهب، طوال شهور حملها، فتعينها على احتمال تجربة المخاض.
فمنذ حملت بهذا الجنين، وهى لا تكف عن التفكير فيما كان من أمرها وأمره، بعد أن مات أبوه (عبدالله بن عبد المطلب بن هاشم) في طريق أوبته إليها من رحلة صيف إلى بلاد الشام.
ولم يكن حين ودعها، قبل بضعة أشهر، يتوجس خيفة من عائق يطيل أمد غيابه في رحلته، عن ميعادها الموقوت.
ولا كانت (آمنة) في هواجس وحشتها لفراقه، تتوقع أمرا يحبسه عنها بعد انتهاء الرحلة.
في عنفوان قوته وفتوة شبابه ونضرة حيويته، مضى مع قافلة قريش إلى الشام.
ومكة ما تزال تتجاوب بأصداء الاحتفال المشهود بعرسه، وتجتر مشاهد القصة المثيرة لافتدائه من الذبح قربانا لرب الكعبة، وفاء بنذر أبيه عبدالمطلب.
كان عبدالمطلب منذ ولي شرف السقاية لوفود الحجيج إلى البيت العتيق، يشغله هم التفكير فيما يتجشم ويتجشمون في الموسم،(1/27)
من شح الماء في الوادي الاجرد غير ذى الزرع.
وذكر بئر زمزم التى أنقذت جده (اسماعيل بن ابرهيم الخليل) من الهلاك ظمأ، وجذبت إلى مكة القوافل من العرب، فعمرت بهم بعد خراب.
وقد طمرت زمزم رمال الزمن، فلو أن عبدالمطلب عثر على موضعها، لكانت لسقاية الحجيج موردا مباركا.
وقوي تعلقه بالامل في الاهتداء إلى موضعها، حتى صار مشغلة تفكيره ليل نهار.
وخايلته الرؤى في منامه، تبشره بتحقيق أمله، وتوجه خطاه نحو موضع بعينه، بين وثني (أساف ونائلة).
وغدا ذات صباح بمعوله إلى الموضع الذى وجهته إليه رؤياه،
ومعه ابنه (الحارث) ليس له يومئذ ولد غيره.
فلما هم بالحفر تصدت له قريش تأبى أن يحفر بين وثنيها، وتعجب لجرأته عليها وليس له غير ولد واحد.
يومها، نذر عبدالمطلب: لئن ولد له عشرة أبناء ثم بلغوا معه بحيث يمنعونه، لينحرن أحدهم عند الكعبة قربانا.
وتوافى بنوه عشرة، وكان أصغرهم (عبدالله) فتلبث أبوهم زمانا حتى بلغوا، ودعاهم إلى الوفاء بنذره، وخرج بهم إلى الكعبة وقد حمل كل منهم قدحا عليه اسمه.
وقدموها إلى صاحب القداح هناك، وأبوهم ينقل بصره بينهم، فتستقر نظراته لحظة على أصغرهم (عبدالله) فيفيض قلبه رقة ورحمة، ويتمنى أن يخطئه السهم.(1/28)
حتى ضرب صاحب القداح على بني عبدالمطلب، فخرج القدح على (عبدالله) وأبوه قائم يدعو في ضراعة وخشوع.
ولم يملك الشيخ ان يتراجع، بل أمسك بيد صغيره الغالى وتقدم يريد الوفاء بنذره.
ثم لم يكد يدنى الشفرة من منحره حتى تكاثرت عليه قريش، وقد هالها أن يضع عبدالمطلب بتضحية ولده، تقليدا يؤثر ويتبع، (فما بقاء الناس على هذا ؟.
وما زالت به حتى قبل أن يستشيروا في أمره عرافة لهم بخيبر.
سألتهم العرافة بعد أن سمعت القصة: - كم الدية فيكم ؟ قالوا: - عشرة من الابل.
فكانت مشورتها أن يرجعوا إلى الكعبة فيضربوا القداح على عبد
الله وعلى عشر من الابل، فان خرج القدح عليه زادوا عشرا ثم عشرا حتى يرضى ربهم، وإن خرجت على الابل نحروها عنه.
وعادوا ففعلوا، فما زالوا يزيدون الابل عشرا بعد عشر، والقدح يخرج على عبدالله.
إلى أن بلغت الابل مائة، وخرج القدح لاول مرة عليها.
هتف الجمع من قريش: - قد انتهى رضى ربك يا عبدالمطلب.
لكنه، لصدق إيمانه، أبى إلا أن يكرر التجربة ثلاث مرات، والقدح يخرج على الابل.
وعندئذ اطمأن قلبه، ونحرت الابل(1/29)
المائة ثم تركت في حمى الحرم، لا يصد عنها انسان ولا سبع (1).
وانصرف عبد المطلب بولده عبدالله، فمضى إلى سيد بنى زهرة نسبا وشرفا (وهب بن عبد مناف بن زهرة) (2) فخطب إليه ابنته (آمنة) عروسا لعبد الله المفتدى.
وكانت قصة الفداء قد هزت قلوب المكيين تعلقا بالشاب الهاشمي الذى مست الشفرة منحره وهو صابر مستسلم، حتى إذا لم يبق بينه وبين الذبح إلا أن تتحرك الشفرة، أنقذه رب الكعبة بأغلى فدية عرفها العرب.
وأضيئت المشاعل في أم القرى، وسهرت مسامر البلدة المباركة تسترجع ذكرى قصة الذبيح الاول (اسماعيل بن ابراهيم) حين مضى به أبوه إلى قمة الجبل لكى يذبحه طاعة وتعبدا، ففداه ربه (بذبح عظيم) بعد ذلك البلاء المبين (3).
إنها القصة التى تناقلتها العرب العدنانية، بنو اسماعيل، طبقة بعد طبقة وجيلا من بعد جيل، تعود فتتكرر على ساحة البيت العتيق الذى رفع القواعد منه ابرهيم واسماعيل، وطهراه للطائفين والعاكفين والركع والسجود.
__________
(1) القصة بتفصيل في: السيرة لابن هشام 1 / 162 وتاريخ الطبري 2 / 173.
(2) السيرة النبوية لابن هشام: 1 / 165 - ونسب قريش للزبيري 14 وجمهرة أنساب العرب لابن حزم: 12، 119 ط الذخائر.
(3) سورة الصافات، الآيات 101: 111.
[ * ](1/30)
والمفتدى هذه المرة الاخرى: حفيد أصيل من ذرية اسماعيل، جيرة الحرم المكي.
وغير مستبعد أن يكون من السمار من ربطوا في ليلة العرس بين الذبيحين (اسماعيل بن ابرهيم، وعبد الله بن عبدالمطلب) وأن يتوقع ذوو الحس المرهف منهم والرؤية الوجدانية الصافية، أمرا جليلا لعبد الله، كذلك الذي كان لجده الاعلى اسماعيل، بعد الفداء.
وغير مستغرب كذلك، في مثل هذا المناخ الديني للبلد العتيق، أن تهفو قلوب نساء من قريش إلى (عبدالله) وأن يلمحن على وجهه مخايل غده الموعود، فيعرضن له في طريقه من الكعبة إلى بيت سيد بني زهرة، وكل منهن تحاول أن تهبه نفسها أو أن تظفر به زوجا.
عرضت له بنت نوفل الاسدية القرشية، أخت نوفل، فقالت له: - لك مثل الابل التي نحرت عنك اليوم إن قبلت أن أهب نفسي لك.
ودعته (فاطمة بنت مر) إلى نكاحها، وكانت من أجمل النساء
وأعفهن، وفى بعض الروايات أنها كانت كاهنة من خثعم (1).
وكذلك عرضت (ليلى العدوية) نفسها عليه، وهي تتحدث عن النور الذي في وجهه.
وفي الخبر أنه مر بهن بعد أن تزوج (آمنة بنت وهب) فانصرفن عنه زاهدات فيه، فعجب لامرهن وبدا له أن يسألهن فيه، فكان جواب بنت نوفل:
__________
(1) تاريخ الطبري: 2 / 174.
[ * ](1/31)
(فارقك النور الذي كان معك بالامس فليس لي بك اليوم حاجة).
وقالت فاطمة بنت مر: (قد كان ذلك مرة فاليوم لا.
والله ما أنا بصاحبة ريبة، ولكني رأيت في وجهك نورا فأردت أن يكون لي، فأبى الله إلا أن يجعله حيث أراد).
وردت ليلى العدوية: (مررت بي وبين عينيك غرة بيضاء فدعوتك فأبيت علي، ودخلت على آمنة فذهبت بها) (1).
وقد وصلت أخبارهن وأقوالهن إلى مسمع عروسه (آمنة بنت وهب) وبلغ من تأثرها بها، بعد الذي كان من قصة الفداء، أن رأت في منامها ليلة عرسها، كأن شعاعا من النور يشع من كيانها اللطيف فيضئ الدنيا حولها، وسمعت هاتفا يبشرها بأنها حملت بسيد البشر.
وحين ودعها عبدالله بعد أشهر في رحلته إلى الشام، كان لها من رؤياها ما يؤنس وحشة فراق لم يدر العروسان أنه فراق لا لقاء بعده،
ولا خطر لهما على بال أنها رحلة بغير مآب.
في طريق الاياب ألمت بعبد الله وعكة طارئة، فتخلف عن قافلة قريش في دار أخواله بني النجار بيثرب، ريثما يسترد صحته وعافيته.
فلم يلبث إلا قليلا حتى غاله الموت، ودفن هناك في ثرى يثرب.
__________
(1) السيرة لابن هشام: 1 / 165 وتاريخ الطبري: 2 / 174.
[ * ](1/32)
ولم يقبل فيه هذه المرة أي فداء.
ولبست مكة ثوب الحداد على الفتى الهاشمي، وضحلت من النواح عليه حلوق بحت من الهتاف له حين احتفلت أم القرى بفدائه وعرسه، قبل شهرين أو ثلاثة.
وترملت زهرة قريش: آمنة بنت وهب، ولما يزل في كفيها خضاب العرس.
وانفض المأتم، لكن القوم لم يفرغوا من صاحبه الثاوي في لحده بعيدا في ثرى يثرب.
من كان يظن، حين نحرت عنه الابل المائة، أن المنايا واقفة بالمرصاد لهذا المفتدى ؟ وخيف على آمنة من وطأة الحزن، وقد رفضت أن تقبل في فقيدها العزاء.
ولبثت مكة شهرا وبعض شهر، ترقب في قلق إلى أين ينتهي الحزن الساحق بالارملة العروس..حتى كانت ليلة من ليالي شوال، أحاط فيها العواد من آل هاشم وبني زهرة بفراش آمنة، وهي لا تفتأ تسأل كل عائد منهم وعائدة:
- فيم كان فداؤه والموت منه وشيك ؟ وفيم كان العرس المشهود ويد القدر تخط له لحده بيثرب، والمنايا تحث خطاها نحوه ؟ وأغفت مجهدة من إعياء، وعيون الساهرين عليها.
ولم تطل غفوتها، أيقظتها منها انتفاضة مرهفة، وقد أحست(1/33)
خفقة حياة جديدة في أعماقها، فأشرق وجهها بنور الالهام، وكأنها عرفت سر الذي كان: إن عبدالله لم يفتد من الذبح عبثا.
كانت مهلة، ما بين فدائه وموته، أودع فيها عروسه آمنة هذا الجنين الذى تحس نبض حياته في رحمها، والذي من أجله يجب أن تتجلد وتعيش.
ومن تلك اللحظة، أنزل الله سكينته عليها فطوت حزنها وشجنها، وبدأت تفكر في هذا الجنين الذى يعطي حادث الفداء تفسيره ومنطقه، ويجعل لوجودها بعد عبدالله، قيمة ومعنى.
مضت فترة الحمل والجزيرة العربية تموج بإرهاصات عن نبي منتظر حان زمانه، وما أرتاب في أن آمنة ألقت إليها كل سمعها وفكرها، فما نسيت قط أن زوجها هو الذي استأثر من دون بني عبدالمطلب، صفوة العرب العدنانية، بمجد الفداء الذي لم يتكرر منذ افتدي جدهم الاعلى اسماعيل بن ابرهيم الخليل.
وفى سمعها كذلك، صدى لم يغب من حكاية النساء اللائى عرضن أنفسهن على عبدالله يوم فدائه - وفيهن الكاهنة من خثعم، وأخت ورقة الذى قرأ الكتب وبشر بنبي منتظر - وكلامهن عن النور
الذي انتقل من عبدالله إثر زواجه، والغرة التى ذهبت بها بنت وهب فلم تدع لغيرها من النساء في عبدالله مأربا.(1/34)
ثم هي قبل هذا كله، سيدة من صميم البيت القرشى الذى يحظى بالسيادة في أم القرى، وينفرد بشرف الوظائف الدينية الكبرى في مثابة حج العرب ومهوى أفئدتهم.
ومن شأن النساء في هذه البيئة أن يرجون للاجنة في بطونهن، مجدا لم يكن لاحد من قبل.
وعلى مدى شهور الحمل، لم تغب عن آمنة رؤاها فيما سيكون لابن عبدالله من شأن عظيم، ولم تتخل عنها هواتف البشرى بأمومتها لهذا اليتيم الهاشمي الذى لم يزل ينتقل من الاصلاب الطيبة إلى الارحام الطاهرة مصفى مهذبا، وتلقى ميراث آبائه الهاشميين وأخواله الزهريين، واجتمع له عز المنافين (عبد مناف بن قصي) جده الثالث لابيه، و (عبد مناف بن زهرة بن كلاب) جد أمه.
(1) وكتاب السيرة النبوية ومؤرخو الاسلام الاولون، ينقلون أخبار تلك الهواتف والرؤى عمن لا يتهمون من الاخباريين والرواة.
وقد يشكك فيها بعض المحدثين، وقد يرفضها آخرون منهم رفضا باتا، فلا نجاول هؤلاء ولا هؤلاء، إلا أن يتكلموا باسم العصرية والعلم فيعدوها من (الخرافات التى لا يقبلها عقل) كما قال (بودلي) في كتابه (الرسول) (2).
__________
(1) نسب قريش: 14، وجمهرة أنساب العرب: 12 ذخائر.
(2) ص 25 من الترجمة العربية للسحار.
وقد ناقشت هذه القضية بمزيد تفصيل في الفصل الخامس
من كتابي (أم النبي) ط دار الهلال بالقاهرة.
[ * ](1/35)
ومن عجب أن ينكروا على آمنة، أم محمد، ما يجوز على سائر الامهات من البشر، وكأن ليس من حقها أن تستشرف رؤاها لجنينها، حفيد المنافين وابن الذبيح المفتدى، إلى أقصى ما تسعف عليه بيئة يعرف تاريخ العرب عزها وشرفها وعراقتها، وظروف فريدة حفت بهذا الجنين لم تعرف دنياه لها مثيلا.
وإنما الذي يرفضه العقل حقا، هو أن نجرد (آمنة) من بشريتها وأماني أمومتها، وكل الحوامل قبلها وبعدها عرفن ويعرفن الهواتف والرؤى في فترات الحمل، وإنما يتفاوت مدى الطموح فيها، بقدر ما تسعف عليه ظروف كل حامل، وتحتمله بيئتها وتستشرف إليه آمالها.
من نبض حياته في كيانها، كانت تستمد طاقة الحياة.
ومن هواتف البشرى في تأملاتها ورؤاها، كانت تجد ما يؤنس وحشتها ويهون عليها تجربة الحمل الاولى.
حتى إذا أوشك حملها أن يتم أجله، روعت كما روعت الجزيرة كلها، بغزو (أبرهة الحبشي) لام القرى، يريد أن يصرف عنها حج العرب، إلى كنيسة بناها في (صنعاء) وجلب إليها (الرخام المجزع والحجارة المنقوشة بالذهب، من بقايا قصر بلقيس، وكان على فراسخ من موضع الكنيسة، وفيه البقايا من آثار مملكة سبأ.
ونصب أبرهة الاشرم في كنيسته صلبانا من الذهب والفضة،(1/36)
ومنابر من العاج والآبنس.
وكتب إلى مولاه نجاشي الحبشة: إني قد بنيت لك أيها الملك كنيسة لم يبن مثلها لمليك كان قبلك.
ولست نمنته حتى أصرف إليها حج العرب) (1).
وإذ رأى أمير مكة (عبدالمطلب بن هاشم) ألا قبل لاهلها بالجيش الزاحف، رأى أن يتحرز بهم في شعف الجبال والشعاب تخوفا من معرة الجيش الذي جاء به (أبرهة) من اليمن.
وشق على (آمنة) أن تضع وليدها بعيدا عن الحرم المكي، وفي غير دار أبيه عبدالله بن عبدالمطلب.
ولاذت بإيمانها بأن الله مانع بيته، فليس لطاغية الاحباش إليه من سبيل.
فقر عزمها على ألا تبرح مكانها في جوار الحرم، إلى أن يقضي الله أمره.
وفيما كانت تحسب حسابا لما يتوقع من مجرى الاحداث، جاءتها البشرى أن الله سلط على الغزاة أصحاب الفيل نقمته، فانتشر فيهم وباء غريب حاصد، رمتهم بجراثيمه المهلكة طير أبابيل (فتركهم كعصف مأكول).
ولم تكن أرض العرب قد شهدت وباء الحصبة والجدري قبل ذلك العام المشهود، فيما روى (ابن هشام) في السيرة النبوية عن (ابن اسحاق).
(وقد ولى الاحباش مذعورين يتساقطون بكل طريق ويهلكون بكل مهلك.
وأبرهة معهم ينتثر جسمه وتسقط أنامله أنملة أنملة) (2).
__________
(1) السهيلي: الروض الانف، 1 / 30.
(2) ابن هشام: السيرة النبوية 1 / 51.
[ * ](1/37)
وأقبلت قريش على كعبتها المقدسة تطيف بها ملبية عابدة،
وتجاوبت آفاق البلد الامين بدعوات المصلين وتلبيات المحتفلين وأناشيد الشعراء.
وآمنة في بيت عبدالله، تصغي إلى ما يبلغ سمعها من دعاء وهتاف، فتحس سكينة وغبطة: أن استجاب الله لها فلن تضع وليدها بعيدا عن الحرم الآمن.
بعد فترة قصيرة من هلاك أبرهة عام الفيل، ذاعت في أم القرى بشرى المولد.
حدد قوم هذه الفترة بخمسين يوما (وهو الاكثر والاشهر) على ما نقل (السهيلي) في (الروض الانف) (1).
واكتفى آخرون بأن المولد كان في عام الفيل.
جاءها المخاض في وقت السحر من تلك الليلة المقمرة، فأرهف شعورها بالترقب والتطلع، مع إحساس برهبة من تجربة الوضع التي طالما سمعت الامهات يتحدثن عن آلامها ومخاطرها.
لكنها ما لبثت أن صرفت بالها كله إلى ما يغمر الدنيا حولها من نور بازغ، وصرفت سمعها كله إلى هواتف البشرى، فتجلدت للحظة الحاسمة.
وما كاد نور الفجر يهل على الافق، حتى كانت قد وضعت وليدها كما تضع كل والدة من البشر.
__________
(1) وانظر الزرقاني في المولد: 1 / 130، والنويري في نهاية الارب 6 / 68 دار الكتب المصرية.
[ * ](1/38)
وتألقت دنياها نورا وأنسا، وهي ترنو إلى وليدها المبارك، وتذكر به أباه الحبيب الذي أودعها إياه ثم ودعها ورحل.
وكانت مكة حين ذاعت فيها بشرى مولد ابن عبدالله، ما تزال
تحتفل بما أتاح الله لها من النجاة من أصحاب الفيل، من حيث لا تحتسب.
فرأى القوم في مولد محمد آنذاك، آية تذكر بأخرى، يوم اختير أبوه عبدالله قربانا لرب الكعبة، ثم افتدي بالابل المائة.
وإن لم يتوقع أحد في مكة، أو في الدنيا كلها يومئذ، أن تلك الليلة المقمرة الغراء من ربيع الاول عام الفيل، التي ولد فيها ألوف وألوف من شتى الاجناس والالوان ومختلف الملل والمذاهب ومتفاوت الطبقات والدرجات، قد خلدت وبوركت بمولد يتيم هاشمي في أم القرى، ابن امرأة من قريش تأكل القديد، يصطفى للنبوة فتكون رسالته ختام الاديان، وتغدو أقواله وأفعاله سنة وشريعة لملايين الناس على امتداد الزمان والمكان.(1/39)
من مهد مولده إلى غار حراء (والضحى * والليل إذا سجى * ما ودعك ربك وما قلى * وللآخرة خير لك من الاولى * ولسوف يعطيك ربك فترضى * ألم يجدك يتيما فآوى * ووجدك ضالا فهدى * ووجدك عائلا فأغنى * فأما اليتيم فلا تقهر * وأما السائل فلا تنهر * وأما بنعمة ربك فحدث).
(صدق الله العظيم) ومضى التاريخ لم يطل الوقوف بمكة مهد مولده.
شغلته عنها وعن يتيمها الهاشمي، أحداث جسام كانت تجري(1/40)
على مسرح الدنيا في الثلث الاخير من القرن السادس لميلاد المسيح عليه السلام.
وراح يرصد نذر الانهيار في عالم يريد أن ينقص.
ويتابع الجولات الاخيرة للصراع بين قطبي ذلك العالم القديم، حيث كانت دولتا الفرس والرومان تخوضان حربا طاحنة، على مراكز السلطة والنفوذ.
وإحدى الدولتين قد أعشت نار المجوسية بصرها وبصيرتها، فما عاد يعنيها سوى أن تجعل من ساحة الشرق كله معبدا لتلك النار، تصلاها شعوب المنطقة بالعسف والاكراه.
والاخرى قد أثخنتها جراح الحرب وهدتها أمراض الشيخوخة، واستنزفت بقايا قوتها فتنة الصراع الطائفي بين القائلين بناسوتية السيد المسيح والقائلين بلاهوتيته، فتهاوى النسر الروماني على الارض يجثم على أنفاس خلق الله، ويتسلط على مستعمراته في الشرق الاوسط - والشمال الافريقي بالارهاب والطغيان، في محاولة يائسة تستبقي له من الهيبة ما يستر وهنه، ويعوضه عن قواه المستنزفة.
حتى بلغ ذلك اليتيم الهاشمي المكي الاربعين من عمره، وتلقى رسالة الوحي في شهر رمضان بعد ستة قرون ونحو عشر سنين من ميلاد المسيح عليه السلام، فالتفت التاريخ إلى مكة، وتوقف برهة يجمع كل ما وعت ذاكرتها عن ذلك المصطفى وآبائه وعشيرته، وعاد يصحبه من مهد مولده في دار أبيه عبدالله بجوار البيت العتيق.(1/41)
ولم تكن ذاكرة مكة قد أفلتت شيئا ذا بال، من أخبار يتيمها الهاشمي من مولده إلى مبعثه، وقد تعلقت به تتابع خطاه على درب الحياة.
وهي التي أعطت التاريخ ما احتاج إليه بعد المبعث، من أخبار سيرته في المراحل الاولى من حياته، إذ تفد المراضع من بني سعد بن بكر ليحملن رضعاء قريش بعيدا عن جو مكة القاسي، ويعرض عليهن (محمد بن عبدالله) فيزهدهن فيه يتمه، وأن لم يكن ذا ثراء يكافئ نسبه الشريف في البيت الهاشمي القرشي، وقد مات أبوه في مقتبل العمر قبل أن يتأثل لنفسه مالا، لم يترك لولده اليتيم وأمه، سوى جاريته الحبشية (بركة، أم أيمن) وقطعة يسيرة من الابل والغنم.
وأحزن (آمنة) أن ترى المراضع يوشكن أن يعدن إلى البادية زاهدات في وليدها الشريف اليتيم، مؤثرات عليه أطفال الاحياء ممن يرجى منهم الخير الوافر.
غير أن واحدة منهن: (حليمة بنت أبي ذؤيب السعدي، وزوج الحارث بن عبدالعزى، من سعد بن بكر بن هوازن)، رجعت إلى أم محمد تطلبه رضيعا لها، بعد أن انصرفت عنه أول ذاك النهار.
وحفظت مكة من قصة الرضاعة، ما نقله التاريخ بعد المبعث، من رواية عبدالله بن جعفر بن أبي طالب: (كانت حليمة بنت أبي ذؤيب السعدية أم رسول الله صلى الله عليه وسلم التي أرضعته، تحدث أنها خرجت من بلدها، بادية بني(1/42)
سعد، مع زوجها وابن لها صغير ترضعه، في نسوة من بني سعد بن بكر تلتمس الرضعاء.
قالت: وذلك في سنة شهباء لم تبق لنا شيئا.
فخرجت على أتان لي - عجفاء - معنا شارف لنا - ناقة مسنة - والله ما تبض بقطرة، وما ننام ليلتنا أجمع من صبينا الذي معنا، من بكائه من الجوع، وما في ثديي ما يغنيه، وما في شارفنا ما يغذيه.
ولكنا كنا نرجو الغيث والفرج.
فخرجت على أتاني تلك، حتى قدمنا مكة نلتمس الرضعاء، فما منا امرأة إلا وقد عرض عليها محمد - رسول الله صلى الله عليه وسلم - فتأباه إذا قيل لها إنه يتيم.
وذلك أنا إنما كنا نرجو المعروف من أبي الصبي فكنا نقول: يتيم ؟ وما عسى أن تصنع أمه وجده ؟ (فما بقيت امرأة قدمت معي إلا أخذت رضيعا، غيري.
فلما أجمعنا على الانطلاق قلت لصاحبي: والله إني لاكره أن أرجع من بين صواحبي ولم آخذ رضيعا.
والله لاذهبن إلى ذلك اليتيم فلآخذنه.
(قال: لا عليك أن تفعلي، عسى الله أن يجعل لنا فيه بركة.
(فذهبت إليه فأخذته، وما حملني على أخذه إلا أني لم أجد غيره.
فلما أخذته رجعت به إلى رحلي، فلما وضعته في حجري أقبل عليه ثدياي بما شاء من لبن، فشرب حتى روي، وشرب معه أخوه حتى روي.
ثم ناما وما كنا ننام معه قبل ذلك.
وقام زوجي إلى شارفنا تلك فإذا هي حائل، فحلب منها ما شرب، وشربت معه حتى انتهينا ريا وشبعا، فبتنا بخير ليلة.(1/43)
(يقول صاحبي حين أصبحنا: تعلمي والله يا حليمة، لقد أخذت
نسمة مباركة.
فقلت: والله إني لارجو ذلك.
ثم خرجنا وركبت أتاني وحملت محمدا عليها معي، فوالله لقطعت بالركب ما يقدر عليها شئ من حمرهم، حتى إن صواحبي ليقلن لي: - يا ابنة أبي ذؤيب، ويحك، اربعي علينا، أليست هذه أتانك التي كنت خرجت عليها ؟ فأقول لهن: بلى والله، إنها لهي هي.
فيقلن: والله إن لها لشأنا.
(ثم قدمنا منازلنا، من بلاد بني سعد، وما أعلم أرضا من أرض الله أجدب منها.
فكانت غنمي تروح علي، حين قدمنا بمحمد معنا، شباعا لبنا فنحلب ونشرب، وما يحلب إنسان غيرنا قطرة لبن، ولا يجدها في ضرع.
حتى كان الحاضرون من قومنا يقولون لرعيانهم: ويلكم، اسرحوا حيث يسرح راعي بنت أبي ذؤيب ! فتروح أغنامهم جياعا ما تبض بقطرة لبن، وتروح غنمي شباعا لبنا.
فلم نزل نتعرف من الله الزيادة والخير، حتى مضت سنتاه وفصلته).
وتحفظ مكة للتاريخ من أخبار صباه، رحلته مع أمه إلى يثرب في السادسة من عمره: كانت مشوقة إلى زيارة قبر والده الثاوي هناك، وقد طال عليها الانتظار ريثما جاوز صغيرها مرحلة الطفولة الغضة،(1/44)
ليحتمل مشقة الرحلة، وفي يثرب تعرف إلى أخواله بني النجار وانطلق مع لداته من صبيتهم في دروب المدينة التي ستكون دار هجرته.
وأمضت
أمه أيامها على قبر الحبيب، تبث طيفه أشجانها ومواجدها ونجواها، وتتزود من ثراه لفراق قد يطول.
وفى طريق العودة إلى مكة، ألمت بها وعكة طارئة لم تطل: انطفأت فيها الحياة بين يدي صغيرها اليتيم، وعلى مرأى منه أضجعوها في قبر حفروه لها بقرية (الابواء) وهالوا عليها الرمال.
واستأنف سيره، مع بركة، إلى مكة محزونا مضاعف اليتم، ليروع بعد قليل بموت جده عبدالمطلب الذى كان له أبا.
وينتقل إلى دار عمه (أبي طالب) فيجد فيه العوض عن جده وأبيه، ولا عوض عن الام ! وتمضي الاعوام وقلبه ينزع نحو مرقدها الاخير بالابواء، ولم يستطع ضجيج الحياة في أم القرى أن ينسيه مشهد موتها الفاجع، أو يبعد عن مسمعه حشرجة احتضارها في جوف الفلاة.
ويبلغ مع عمه مبلغ السعي، فيصحبه معه في رحلة قريش إلى الشام، ثم يقترح عليه بعدها أن يخرج إلى الشام في مال (السيدة خديجة بنت خويلد) فتبدأ مرحلة جديدة من حياة الشاب الهاشمي، تملا أعوامه ما بين الخامسة والعشرين، والاربعين، بنعمة الزوجية السعيدة الهانئة، وتقر عيناه بثمرتها المباركة: زينب ورقية وأم كلثوم، وفاطمة، والقاسم وعبد الله.(1/45)
وأرخى الزمن للزوجين السعيدين خمسة عشر عاما، ارتوى فيها محمد من نبع الحنان معوضا حرمان ماض جاف ظامئ، ومتزودا لغد مقبل، حافل بالجهاد والشواغل الجسام.
ووعت مكة من أخبار تلك المرحلة، مشهد محمد بن عبدالله إذ يدخل البيت العتيق ذات يوم، وهو في نحو الخامسة والثلاثين من عمره، فإذا الاحياء من قريش هناك في ساحة الحرم، قد احتدمت بينهم خصومة أنذرت بشر: كانت الكعبة، قبل ذلك اليوم، قد مستها شرارة تطايرت من مجمرة إحدى النساء، فأحرقت ستائرها وأوهت بنيانها.
ووقفت قريش تجاه حرمها الاقدس مكتوفة الايدى لا تدري ماذا تصنع، حتى شاع خبر عن سفينة رومية جنحت إلى جدة، فسعى إليها رجال من قريش، وعادوا بأخشاب السفينة، ومعهم رجل قبطي كان فيها، نجار بناء.
وتم الاستعداد لتجديد الكعبة، ولكن قريشا عادت فتهيبت أن تهدم بقايا البناء القديم.
حتى قام (الوليد بن المغيرة المخزومي) فأخذ المعول وقال: (اللهم لم نزغ، اللهم إنا لا نريد إلا الخير).
ثم أهوى بالمعول والقوم ينظرون إليه مرتاعين، خائفين عليه وعلى أنفسهم جميعا.
فلما لم يصبه سوء، أبوا إلا أن يتربصوا ليلتهم تلك ليروا عاقبة ما كان.
وأصبح (الوليد) بخير لم يمسسه سوء، فهدم وهدم الناس معه.(1/46)
وتنافست القبائل في العمل، وشارك (محمد) فيه فكان ينقل الحجارة مع الناقلين، حتى إذا تم البناء، اختلفت أحياء قريش، فيمن يكون له شرف رفع الحجر الاسود إلى موضعه، ومكثت على الخصومة أربع ليال أو خمسا، ونذر الخطر تشتد منذرة بحرب،
لولا أن اقترح عليهم (أبو أمية بن المغيرة المخزومي) - وهو يومئذ أسن قريش، أن يحكموا بينهم أول من يدخل من باب المسجد الحرام.
فقبلوا، وتعلقت عيونهم بالباب، فكان محمد بن عبدالله أول من دخل.
هتفوا جميعا حين رأوه: (هذا الامين، هذا محمد بن عبدالله الهاشمي، رضينا بحكمه).
وحدثوه عما اشتجر بينهم من خلاف، فطلب ثوبا ثم تناول الحجر الاسود فوضعه بيده في الثوب وقال: (لتأخذ كل قبيلة بناحية من الثوب، ثم ارفعوه جميعا).
ولما بلغوا موضع الحجر، وضعه محمد بيده، نقلا من الثوب.
ثم آب إلى بيته، فكان أول ما استقبله هناك، بشرى مولد ابنته فاطمة، فاقترن مولدها بنجاة قريش، على يد الامين، مما كان يخشى عليها من صدام وحرب (1).
بعد ذلك المشهد في البيت العتيق، يرهف التاريخ سمعه مستوعبا
__________
(1) ابن هشام: السيرة النبوية 1 / 209).
(*)(1/47)
أخبار مكة عن (محمد) قبيل بلوغه الاربعين من عمره، ويحدق في آثار خطاه ما بين بيته في جوار الحرم، وغار حراء بظاهر أم القرى، حيث اعتاد الامين أن يعتزل الناس ليخلو إلى تأملاته، بعيدا عن ضجيج المجتمع وصخب الزحام.
وآن للتاريخ أن يمضي مع المصطفى في عصر المبعث، على معبر التحول الخطير ما بين ليل الجاهلية وفجر الاسلام..(1/48)
(2) مع المصطفى.
في دار مبعثه - مع المصطفى في ليلة القدر.
- السابقون الاولون.
- والليل إذا يغشى ! - أم يقولون: افتراه ؟ - هجرة إلى الحبشة.
- الحصار.
وعام الحزن.
- الاسراء.
مع المصطفى - 4(1/49)
مع المصطفى في ليلة القدر (سلام هي حتى مطلع الفجر) غشى الكون ليل ثقيل، ولف أم القرى صمت مكدود لا يكاد يسمع فيه غير أنفاس الليل مختلطة بهمهمة صلوات وثنية، كانت لا تزال تتردد في البيت العتيق.
وقمر رمضان قد توارى واحتجب، فليس على الافق المعتم سوى ضوء شاحب تكاد تحجبه عن مكة جبالها الصخرية التي تبدو كأنها كتل ماردة من ظلمات متكاتفة متراكمة..ونامت الدنيا، لا تلقي بالا إلى رجل من بني هاشم، ابن امرأة من قريش تأكل القديد، قد أوى إلى غار هناك مستغرقا في تأمله،
يلتمس في العتمة الداجية شعاعا من نور الحق، وينشد في خلوته أنس الهدى وراحة اليقين، وخواطره تحوم حول البيت العتيق الذي(1/51)
رفع ابرهيم القواعد منه واسماعيل وطهراه للطائفين والعاكفين والركع السجود، فلم يلبث أن صار مع الزمن مثوى لاوثان ممسوخة شتى، لكل قبيلة من العرب وثنها تحج إليه وتطيف به، وترفع إليه الدعاء وتقدم القرابين..وغير بعيد من غار حراء، هجعت مكة تجتر ذكريات مجدها الديني الغابر طوته وثنية عمياء، وتساورها من حين إلى حين رجفة من قلق الوعي، لا تلبث أن تهمد تحت وطأة الكابوس الجاثم، لا تحسب حسابا لهذا المختلي في غار حراء، وقد ألفت أن تراه ينسحب من زحام المجتمع المكي، عازفا عن تلك الاوثان التي يعبدها قومه، لانهم وجدوا آباءهم لها عابدين.
وماذا على القوم أن عزف محمد بن عبدالله عن أوثانهم وأبى أن يعبدها ؟ كذلك فعل نفر غيره من الحنفاء، ليس عددهم بالذي يدخل في الحساب بزيادة أو نقصان، في الحشود من الحجيج الذين ينثالون إلى مكة من كل فج عميق، ليطيفوا بأوثانهم في البيت العتيق ويؤدوا طقوس عبادتهم جيلا بعد جيل..وأوغل الليل قبل أن يطلع فجر هذه الليلة من رمضان، وينشر نوره البهي على القمم والسفوح والاودية والقيعان، فيضئ الظلمة الداجية.
ومع نور الفجر الوليد من الليلة الغراء، تجلى الوحي على المختلي
في الغار، وألقى إليه الكلمة: (اقرأ).(1/52)
وما كان محمد بقارئ، وما كان يتلو من قبله من كتاب ولا يخطه بيمينه.
(اقرأ باسم ربك الذي خلق.
خلق الانسان من علق.
اقرأ وربك الاكرم، الذي علم بالقلم، علم الانسان ما لم يعلم).
وبدأ تاريخ جديد: الرجل الذي سرى في الليل إلى غار حراء، على مألوف عادته منذ أنكر موضع الاصنام في البيت العتيق، وأيقن أن حياة الناس لا يمكن أن تمضي هكذا على سفه وضلال، خرج مع الفجر من الغار، نبيا مبعوثا بختام الرسالات.
والكلمات الاولى التي تلقاها في تلك الليلة من وحي ربه، كانت بداية كتاب معجز، وآية نبي بشر، ولواء عقيدة وجهت التاريخ وحررت الانسان، وصنعت أمة وقادت حضارة.
خرج المصطفى من الغار، واتجهت به خطاه نحو بيته، والكون من حوله ساج خاشع، وعلى الافق الاعلى نور الفجر الجديد ينسخ ظلمات ليل طال، ويوشح البيت العتيق بسنى وضاء.
يكشف عما تكدس في رحابه من أصنام وأوثان، فتبدو على حقيقتها العارية، ممسوخة بلهاء.
وكان لها من ظلام الليل ستر كثيف أصم، يخدع البصر ويزيف الرؤية..(1/53)
النور ملء قلبه وبصيرته، والكلمات ملء فكره ومسمعه.
ولكنه في حيرة من أمره، يعييه أن يستوعب السر الاعظم الذي تجلى له، ويأخذه من جلاله ما يشبه الدوار، فيكاد لفرط دهشته وعجبه وانبهاره، لا يدري ما إذا كان في وعي يقظته أم تلك رؤيا بصيرة أرهفها طول التأمل في آيات القدرة، وطول التطلع إلى اجتلاء سر هذا الكون وخالقه ؟ وأحس وطأة العبء الثقيل تجهده وترهقه، فما بلغ بيته حتى بدا مكدودا مرتعدا شاحبا، كأنه عائد من سفر شاق طويل.
ولمحها هناك في انتظاره: (خديجة) التي كانت له على مدى خمس عشرة سنة زوجا وأما، وكانت له منذ تزوجها ملاذا وسكنا.
ودون تفكير أو تردد ألفى نفسه يفضي إليها بما رأى وما سمع، وهو يحدق في ملامحها إذ تصغي إليه بسمعها وقلبها، محاولا أن يستبين وقع هذا الامر على أقرب أهله إليه، وأعزهم عليه، وأصفاهم له ودا وأرشدهم نصحا ورأيا.
وقالتها على الفور، بكل اليقين والثقة: (الله يرعانا يا أبا القاسم.
أبشر يا ابن عم واثبت، فوالذي نفس خديجة بيده إني لارجو أن تكون نبي هذه الامة.
والله لا يخزيك الله أبدا، إنك لتصل الرحم وتصدق الحديث وتحمل الكل وتقري الضيف وتعين على نوائب الحق).
فنفذ صوتها الحار الواثق إلى قلبه، وأحس راحة الامن والطمأنينة،(1/54)
وزوجه تقوده في رفق وحنو إلى مضجعه فتدثره وتبقى إلى جانبه رانية إليه حانية عليه حتى ينام.
(نبي هذه الامة) ؟ ! ما الذي ألقى إلى بال (خديجة بنت خويلد) الاسدية القرشية.
بتلك الكلمة الكبرى، حين كانت الوثنية غاشية، والعرب قبائل شتى والناس طوائف وأمما متناحرة متناكرة ؟ أهي من تعبير التاريخ الاسلامي عن إدراك أم المؤمنين الاولى لجلال الامر وبعد نظرها لما بعده، بمجرد أن سمعت زوجها المصطفى يحدثها عن أول الوحى ؟ أم كانت الكلمة تعبيرا عن واقع لم يكن قد انجلى بعد تماما في تلك الليلة من رمضان، تمثل بها الاخباريون المسلمون موقف زوج المصطفى الاولى، في ضوء الواقع التاريخي بعد ليلة القدر ؟ لا أرى كلمة غريبة على الموقف، فما كانت السيدة خديجة وهي من صمم قريش وجيرة الحرم، بحيث يفوتها شئ مما ماجت به بيئتها قبيل المبعث من تطلعات إلى تحول خطير رنا إليه حكماء العرب وحنفاؤهم وشعراؤهم ومن إرهاصات عن نبي جديد حان مبعثه، تناقلها الرواة والسمار عن رهبان النصارى في الشام ونجران، وأحبار يهود في يثرب وشمال الحجاز.
ومكة على الخصوص، كانت المركز الذي تتلاقى فيه تلك(1/55)
التطلعات والارهاصات، وتتجمع روافدها من هنا ومن هناك وهنالك، لتصب حول البيت العتيق، وتحوم حول حي بعينه من أحياء قريش هو حي بني هاشم بن عبد مناف بن قصي، وترنو إلى شخص بذاته من الهاشميين، هو محمد بن عبدالله بن عبدالمطلب بن هاشم.
وقد كان لمكة من واقعها ورؤاها وذكرياتها، ما تضيفه إلى تلك الارهاصات الوافدة من شمال وجنوب وشرق.
فمن عهد ابرهيم واسماعيل، وبيتها العتيق مثابة الحج والعبادة، يرتفع منه الدعاء (لبيك اللهم لبيك) فتتجاوب به أوديتها والبطاح، وتخشع له جبالها الصخرية، وتعنو هامات البدو الصلاب أبناء الصحراء ومع الزمن تأصلت حرمة ذلك البيت العتيق، ورسخت تقاليد إعظامه وطقوس إجلاله، ومنه أخذت قريش مكانة السيادة لجوارها الحرم المكى، واستأثرت بوظائف الشرف الدينية، وراثة عن جدها قصي بن كلاب المضري العدناني.
وإذا كانت مكة قد استرجعت بفداء عبدالله بن عبدالمطلب، ذكرى الفداء الاولى لاسماعيل جد العرب العدنانية، فليست بحيث يفوتها غداة ليلة القدر، أن تربط ما بين محمد بن عبدالله، واسماعيل ابن ابرهيم، برباط نسجته يد الزمن على مدى قرون وأدهار.
وتربطها كذلك، في وعي السيدة خديجة، بما آنست من شمائل زوجها وما رأت من ميل زوجها إلى التأمل والخلوة في غار حراء، وما عرفت من رفضه الاصنام التي تكدست في الحرم، ومن حيرته في أمر(1/56)
قومه كيف ضلت عنهم أحلامهم فنسوا أنهم الذين صنعوا الاوثان بأيديهم، وجعلوا منها آلهة وأربابا مع الله ! وفي هذا كله كانت (خديجة) تفكر، وهي تخرج من البيت إثر سماعها بشرى الوحي، ساعية إلى ابن عمها (ورقة بن نوفل) تلتمس لديه الرأي، وترجو أن تجد من علمه بالكتب والاديان ما
تطمئن به إلى حقيقة الفكرة الملهمة التي سيطرت على وعيها المرهف وبصيرتها الثاقبة: أن يكون زوجها المصطفى نبي هذه الامة.
وقال ورقة بن نوفل، وهو يوشك أن يتهم سمعه: (قدوس قدوس) والذي نفس ورقة بيده، لئن كنت صدقتني يا خديجة، لقد جاءه الناموس الاكبر الذي كان يأتي موسى وعيسى، وإنه لنبي هذه الامة، فقولي له فليثبت).(1/57)
السابقون الاولون (والسابقون السابقون * أولئك المقربون * في جنات النعيم * ثلة من الاولين * وقليل من الآخرين) (صدق الله العظيم) أصبحت مكة غداة ليلة القدر، وليس على وجه الارض كلها من يدين بالاسلام، غير النبي المصطفى، وزوجه السيدة خديجة بنت خويلد، أم المؤمنين الاولى.
ثم آمن ثلاثة: اثنان منهم فتيان في مستهل الصبا، كان محمد عليه الصلاة والسلام ينزلهما من بيته وقلبه منزلة الابناء:(1/58)
(علي بن أبي طالب) وكان محمد، بعد زواجه من خديجة واستقرار حياته المادية، قد ضمه إليه ليخفف العبء عن كاهل أبيه العم أبي طالب، برا بعمه ووفاء ببعض حقه عليه، وهو الذي
كفله بعد وفاة جده عبدالمطلب، وأسبغ عليه من رعايته وحنانه ما لم يحظ بمثله بنوه.
و (زيد بن حارثة) ولده بالتبني.
وكانت أم زيد قد خرجت به صبيا تزور أهلها، فضل منها في الطريق فالتقطه من باعه رقيقا في إحدى أسواق العرب، واشتراه (حكيم بن حزام بن خويلد الاسدي) لعمته السيدة خديجة.
فطابت لزيد الحياة في البيت الكريم.
حتى جاء أبو زيد (حارثة بن شرحبيل الكلبي) ينشد ولده بعد أن طال بحثه عنه.
فترك (محمد بن عبدالله) الامر كله لزيد: إذا شاء بقي حيث هو في بيت محمد على الرحب والسعة، وإن أراد ذهب مع أبيه حارثة.
واختار زيد محمدا، فما لبث أن انطلق به إلى الملا من قريش، وأشهدهم على أن زيدا ولده بالتبني (1).
وأسلم كذلك (أبو بكر بن قحافة) وكان له وضع آخر: إذ ليس هو من عشيرة المصطفى وذوي قرباه، ولا كان في فتوة الصبا كعلي وزيد، وإنما هو من رجال بني تيم بن مرة بن كعب، وقد بلغ سن الكهولة وأخذ مكانته في المجتمع المكى القرشي، سيدا مهيبا وقورا، مشهودا له بالفضل والمروءة ودماثة الطبع ورجحان العقل.
وكان
__________
(1) ابن هشام: السيرة النبوية 1 / 262.
[ * ](1/59)
أنسب قريش لقريش وأعلمها بأخبارها، فلما سبق إلى الاسلام بمجرد أن دعاه المصطفى إليه، توقعت قريش أن يكون لهذا الامر ما بعده.
وصح ما توقعت: استطاع أبو بكر بجاذبية شخصيته ووقار سنه وسداد رأيه، أن يكسب للدين الجديد خمسة من رجال قريش
الاعلام: عثمان بن عفان بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس، والزبير ابن العوام الاسدي المخزومي، وعبد الرحمن بن عوف، وسعد بن أبي وقاص الزهربان، وطلحة بن عبيد الله التيمي.
فهؤلاء النفر الثمانية، هم طليعة السابقين الاولين الذين اختاروا لواء المصطفى وبدأ بهم الاسلام خطوته الاولى على الطريق الطويل.
ومنهم تأسست الكتيبة الاولى لحزب الله في مستهل الدعوة، ليلقى العصبة الباغية من المشركين وحزب الشيطان، في صراع مرير بين حق وباطل.
ولقد تهيب المصطفى عليه الصلاة والسلام في أول الامر أن يلقى قريشا بدعوته جهرا، فأسر بها إلى من آنس فيهم الاستعداد لقبولها والايمان بها.
وما أسرع ما استجاب له الموالي الارقاء الذين وجدوا في الاسلام ملاذا لهم من الوضع المهين الذى مسخ آدميتهم وأهدر إنسانيتهم.
وكذلك أسلم عدد من أحرار المكيين، الرجال والنساء.
وكانوا إذا أرادوا الصلاة تحاشوا الكعبة، وتحاشوا كذلك أن(1/60)
يصلوا في بيوتهم، وذهبوا في الشعاب فاستخفوا بصلاتهم عن قومهم، إذ كانوا قلة، وفي بيوتهم من لا يدينون بغير ما وجدوا عليه آباءهم.
لكن أمر الاسلام لم يكن بحيث يخفى طويلا بعد أن فشا.
وتلقى الرسول المصطفى أمر الله سبحانه (1) فجهر بالدعوة وبادى قومه بها.
ولعلهم استخفوا به أول الامر، وكبر عليهم أن يظهروا غيظهم منه.
حتى ذكر المصطفى آلهتهم وعابها، فناكروه وأجمعوا خلافه وعداوته، الا القلة التي ترددت فيه.
ماذا تستطيع قريش، لمن آمنوا بمحمد، من صميم بيوتها وسادة عشائرها ؟ لئن أعياها أن تثب عليهم أو تنالهم بأكثر من السخرية والمقاطعة والوعيد، فقد بقي الموالي المستضعفون تنفس فيهم عن قهرها وغيظها، وتتسلط عليهم بأبشع ضروب التعذيب والفتنة.
ولم يفتها وهي ترى مواليها يسارعون إلى الاستجابة للاسلام، أن تلمح ما وراء هذه البادرة من خطر يهدد الوضع الطبقي الذي قامت عليه حياة قريش جيلا بعد جيل.
كما لم يفتها أن تدرك ما يتطلع إليه الارقاء من خلاص بهذا الدين الجديد الذي يقرر أن الناس جميعا إخوة، ويبطل عبودية البشر لغير خالقهم.
__________
(1) في سورة المدثر، رابعة السور في ترتيب النزول، على المشهور.
وانظر السيرة: 1 / 280 مع تاريخ الطبري: 2 / 230.
[ * ](1/61)
وقامت قائمة قريش، وائتمروا فيما بينهم فوثب كل حي من أحيائها على من فيه من الموالي الذين أسلموا، فكانوا إذا حميت الظهيرة يخرجونهم إلى بطحاء مكة فيطرحونهم على ظهورهم، ثم يأمرون بالصخرة الضخمة فتلقى على صدر الرجل منهم، ويقول له سيده: - لا تزال هكذا حتى تموت أو تكفر بمحمد وتعبد اللات والعزى.
فيرد العبد المؤمن وهو في هذا البلاء:
(أحد أحد).
في الخبر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر بآل ياسر وقد أخرجهم سادتهم من بني مخزوم إلى بطحاء مكة وتفننوا في تعذيبهم.
فلم يستطع عليه الصلاة والسلام أن يدفع البلاء عن هذه الاسرة المؤمنة، وقال مواسيا: (صبرا آل ياسر) وصبروا حتى استشهدت (سمية) وهي تأبى إلا الاسلام.
ورووا أن أبا بكر مر بجارية لبني عدي بن كعب، وعمر بن الخطاب - قبل إسلامه - يعذبها على جمر الصخور الملتهبة بالقيظ ليفتنها عن دينها.
فما زال يضربها حتى مل، فكف عنها وهو يقول لها: - إني أعتذر إليك، فلم أتركك إلا عن ملالة ! وألح أبو بكر على عمر، حتى باعه إياها.
فأعتقها لوجه الله كما أعتق عددا غيرها من المستضعفين بعد أن اشتراهم.
قال له أبوه (قحافة) يحاوره:(1/62)
- إني أراك يا بني تعتق رقابا ضعافا، فلو أنك فعلت ما فعلت، أعتقت رجالا أشداء يمنعونك ويقومون دونك ؟ رد الصديق أبو بكر: - يا أبت، إني إنما أريد ما أريد لوجه الله (1).
فيروى أن هذه الآيات من سورة الليل نزلت فيه (2): (إن علينا للهدى.
وان لنا للاخرة والاولى.
فانذرتكم نارا تلظى.
لا يصلها الا الاشقى.
الذى كذب وتولى.
وسيجنبها
الاتقى.
الذي يؤتى ماله يتزكى.
وما لاحد عنده من نعمة تجزى.
الا ابتغاء وجه ربه الاعلى.
ولسوف يرضى.
) (صدق الله العظيم) أسلم (خباب بن الارت) وأعيا قريشا أن تفتنه عن دينه (3).
وكان من أمهر الموالي الصناع، يعمل السيوف بمكة للسادة القرشيين، وقل أن يجدوا من يدانيه حذقا للصنعة وتواضعا في الاجر.
واحتاج في محنة الفتنة والاضطهاد، إلى مال يفتدي به نفسه، فذهب إلى السيد (العاص بن وائل السهمي) يتقاضاه أجر سيوف كان
__________
(1) السيرة لابن هشام: 1 / 341.
(2) تفسير الطبري: سورة الليل.
(3) المشهور أن خباب بن الارت لحقه سباء في الجاهلية، فاشترته امرأة من خزاعة وأعتقته.
وانظر السيرة لابن هشام: 1 / 383.
[ * ](1/63)
قد عملها له.
فنظر إليه السيد الشريف مليا ثم قال يسأله ساخرا: - أليس يزعم محمد صاحبكم، هذا الذي أنت على دينه، أن في الجنة ما ابتغى أهلها من ذهب وفضة ؟ رد (خباب) وهو لا يدري وجه السؤال: بلى.
قال العاص بن وائل: - فأمهلني إلى يوم القيامة يا خباب، حتى أرجع إلى تلك الدار الآخرة فأقضيك هنالك حقك، فوالله لا تكون أنت وصاحبك محمد يا خباب، آثر عند الله مني ولا أعظم حظا من ذلك.
وانصرف خباب، وعوضه على الله سبحانه.
وراح العاص بن وائل يباهي في مجامع قريش بحيلته الذكية الماكرة التي أصاب فيها عصفورين بحجر واحد: أكل مال خباب عقابا له على إسلامه، واستهزأ بدينه وصاحبه ! ولم يمض وقت طويل حتى كان المصطفى يتلو في مكة من وحي ربه: (وإذا تتلى عليهم اياتنا بينات قال الذين كفروا للذين امنوا اي الفريقين خير مقاما وأحسن نديا * وكم اهلكنا قبلهم من قرن هم احسن أثاثا ورئيا * قل من كان في الضلالة فليمدد له الرحمن مدا * حتى إذا رأوا ما يوعدون إما العذاب وإما الساعة فسيعلمون من هو شر مكانا وأضعف جندا * ويزيد الله الذين اهتدوا هدى، والباقيات الصالحات خير عند ربك ثوابا وخير مردا * أفرأيت الذي كفر بآياتنا وقال(1/64)
لاوتين مالا وولدا - اطلع الغيب ام اتخذ عند الرحمن عهدا * كلا سنكتب ما يقول ونمد له من العذاب مدا * ونرثه ما يقول ويأتينا فردا * واتخذوا من دون الله آلهة ليكونوا لهم عزا * كلا سيكفرون بعبادتهم ويكونون عليهم ضدا *) (صدق الله العظيم)(1/65)
والليل إذا يغشى (وإذا جاءتهم آية قالوا لن نؤمن حتى نؤتى مثل ما أوتي رسل الله، الله أعلم حيث يجعل رسالته، سيصيب الذين أجرموا صغار
عند الله وعذاب شديد بما كانوا يمكرون *) (صدق الله العظيم) عجب أي عجب ! الجزيرة كلها كانت من سنين، تتحدث عن إرهاصات بنبي حان زمانه.
ومكة على وجه الخصوص، كانت تترقب أن يكون هناك مبعثه.
والعيون كلها كانت ترمقه في مهده وصباه وشبابه، رانية إلى(1/66)
ما تفرد به من مخايل وشمائل، متفائلة بيمنه وبركته.
ولكن الامر حين جاء، كان أعظم من أن يصدق وأخطر من أن يتلقى بالتسليم والاقرار.
ولقد قالها (ورقة بن نوفل) للمصطفى، غداة المبعث: والذي نفسي بيده، إنك لنبي هذه الامة، ولتكذبن ولتؤذين ولتخرجن.
سأله عليه الصلاة والسلام: (أو مخرجي هم ؟).
فقال ورقة: - نعم، لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلا عودي (1).
وكان (ورقة) ينطق بما قرأ من تاريخ الاديان، وعرف من طبيعة الشعوب والجماعات: لم يأت رجل قط بمثل ما جاء به محمد رسول الله، الا عودي.
وليست العرب أقل عنادا وتمسكا بدين الآباء، من أمم قبلها كذبت
بالحق لما جاءها.
وهذه قريش، لم تصدق سمعها حين جهر فيها المصطفى بدعوته.
وكان في حسابها أن تلقاه مجتمعة على الرفض والتكذيب.
أما وقد آمن به من آمن، فقد وجدت الكثرة الضالة ما تقوله تخديرا لضميرها بمنطق عنادها ومقاييس مجتمعها:
__________
(1) ابن هشام: السيرة 1 / 254.
[ * ](1/67)
أيؤثر (محمد بن عبدالله) بالنبوة، وما عرفت له قريش مالا ممدودا ولا بنين شهودا، وإن عرفت له شرف المنبت وكرم الخلق ونقاء السيرة ؟ أينزل عليه هذا القرآن، ولا ينزل على رجل عظيم من أصحاب الثراء والعدد والجاه والنفوذ، في مكة أو في الطائف ؟ لقد أمضى شبابه كله لم يجمع مالا، ولا تهالك على ما كان قومه يتهالكون عليه من وظائف السيادة ومراكز الجاه في المجتمع القرشي بأم القرى.
ثم هو أب لبنات أربع، لم يولد له من البنين غير عبدالله والقاسم، وقد ماتا صغيرين في سن الرضاعة.
وزوجه خديجة شارفت سن اليأس بعد أن بلغت الخامسة والخمسين من عمرها، ولا يبدو عليه أنه يفكر في أن يستبدل زوجا أخرى مكانها أو يتزوج عليها، وهي أنس دنياه وموضع حبه وإعزازه، وحياتهما الزوجية مضرب الامثال في حسن العشرة وصدق المودة وعمق التفاهم والاخلاص.
ولا تذكر قريش أنه شارك فيما يشغلها من صراع على مراكز القوى
والجاه، إلا يوم جددت بناء الكعبة، قبل المبعث بخمس سنوات، وارتضت حكمه فيما شجر بين قبائلها من خلاف على الحجر الاسود، حسمه الامين بحكمته.
ثم لم يعد المجتمع المكي يرى محمدا في الزحام، حتى مضت خمس سنين وخرج من غار حراء يتلو كلمات الوحي.
قال الوليد بن المغيرة المخزومي، أبو خالد:(1/68)
أينزل القرآن على محمد، وأترك وأنا كبير قريش، ويترك أبو مسعود عمرو بن عمير سيد ثقيف، ونحن عظيما القريتين ؟ وذاعت كلمته في أهل القريتين: مكة والطائف، فتركتهم في حيرة قد تشابه عليهم الامر في مقاييس العظمة التي يفضل بها المصطفى، عظيمي القريتين.
وتلقى عليه الصلاة والسلام من كلمات ربه: (بل متعت هؤلاء وآبائهم حتى جاءهم الحق ورسول مبين * ولما جاءهم الحق قالوا هذا سحر وإنا به كافرون * وقالوا لولا نزل هذا القران على رجل من القريتين عظيم * أهم يقسمون رحمة ربك، نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا، ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضا سخريا، ورحمة ربك خير مما يجمعون *) (صدق الله العظيم) وكذلك أنكر (أمية بن أبي الصلت) أن يصطفى محمد بن عبدالله نبيا، وكان أمية يرى نفسه أهلا لهذا الاصطفاء ! في أخريات الجاهلية، كان ابن أبي الصلت من الفئة القليلة
التي أنكرت عبادة الاوثان، وهم الحنفاء الذين لمحت فيهم أم القرى بقية ميراث من ذكرى دين ابرهيم الحنيف.(1/69)
قالوا: ما حجر نطوف به لا يبصر ولا يسمع ولا يضر ولا ينفع ؟ يا قوم، التمسوا لكم دينا فإن قومكم على سفه وضلال.
ثم تفرقت بهم السبل: بعضهم مال إلى النصرانية وأقام في الحبشة أو في بلاد الروم.
وبعضهم قرأ الكتب فلم يدخل في نصرانية ولا يهودية، واكتفى باعتزال الاوثان والذبائح التي تذبح قربانا لها، ونهى عن قتل الموؤودة وقال: أعبد رب ابرهيم.
من هؤلاء، كان أمية بن أبي الصلت: شاعر ثقيف وحكيمها.
وأمه من صميم البيت القرشي: رقية بنت عبد شمس بن عبد مناف.
وعبد مناف هو الجد الثالث للمصطفى: محمد بن عبدالله ابن عبدالمطلب ابن هاشم بن عبد مناف.
لم يذهب أمية إلى روم أو حبشة، بل قرأ كتب الدين ورغب عن عبادة الاوثان، وأقام في قومه يتنبأ لهم بدين جديد آن وقته، ويتحدث فيهم عن نبي مرسل حان مبعثه، ويشدو في ليل الجاهلية بدعاء الفجر المرتقب: إن آيات ربنا ظاهرات * ما يماري فيهن إلا الكفور حبس الفيل بالمغمس حتى * ظل يحبو كأنه معقور كل دين يوم القيامة عند الله إلا دين الحنيفة زور وبزغ النور الذى بشر به أمية.
وجاء دين التوحيد الذى أرهص به وشدا له.(1/70)
وإذا به يرفض ويأبى ويستكبر، ويجاهر المصطفى بأشد العداوة والبغضاء.
وانكشف موقفه: لقد كان يبشر بنبي جديد وهو يرجو أن يكونه.
فلما تخطاه الاصطفاء إلى محمد بن عبدالله الهاشمي، نكص على عقبيه كافرا بدين الحق.
وظاهر الوثنية القرشية في حربها للدين الحنيف، حتى مات على الكفر تدمغه كلمة المصطفى صلى الله عليه وسلم، فيه: (آمن لسانه وكفر قلبه.
) بعث المصطفى صلى الله عليه وسلم، وثلاث من بناته الاربع حديثات عهد بالزواج في أعز بيوت قريش: كبراهن (زينب) تزوجها ابن خالتها هالة بنت خويلد: (أبو العاص بن الربيع بن عبدالعزى) حفيد قصي، الجد الرابع للمصطفى.
وكان أبو العاص سريا نبيلا، مع عراقة نسبه وشرف موضعه.
و (رقية وأم كلثوم) عروسان لابني عم المصطفى: عتبة وعتيبة ابني عبدالعزى بن عبدالمطلب بن هاشم، من زوجه أم جميل بنت حرب بن أمية بن عبد شمس.
أما صغراهن (فاطمة) فلم تكن بلغت سن الزواج بعد، وقد ولدت قبل المبعث بخمس سنوات.(1/71)
وأسلمت بنات المصطفى، وأزواجهن الثلاثة على الشرك.
وكره المصطفى أن يخرج بناته المسلمات من بيوت أزواجهن الكفار.
ولم يكن الاسلام قد شرع بعد، تحريم زواج مؤمنة بكافر، ولا نزلت آيات القرآن في التفريق بين المؤمنات والكفار.
ووجدتها قريش فرصة سانحة، لتؤذي المصطفى في بناته.
قال بعضهم لبعض: - إنكم قد فرغتم محمدا من همه، فردوا عليه بناته فأشغلوه بهن.
ومشوا إلى أصهاره صلى الله عليه وسلم، واحدا بعد الآخر، فقالوا لكل منهم: - فارق صاحبتك ونحن نزوجك أي امرأة من قريش شئت.
فأما أبو العاص بن الربيع، فأبى أن يفارق زوجه (زينب بنت محمد) ورد على من كلموه في فراقها بقوله: (والله ما أحب أن لي بها امرأة أخرى من قريش).
وأما ابنا عبدالعزى بن عبدالمطلب، فطلقا رقية وأم كلثوم، بإلحاح من أمهما بنت حرب، أخت أبى سفيان.
وخاب ظن قريش وكيد بنت حرب.
لم يشغل المصطفى ببناته عن دعوته.
ولم يشق عليه رجوع بنتيه رقية وأم كلثوم إلى بيته، وقد أراد الله بهما خيرا فنجاهما من معاشرة ابني أبي لهب، ومحنة العيش مع امرأته حمالة الحطب.
ثم أبدلهما الله، بعد حين، خيرا منهما:(1/72)
تزوج رقية عثمان بن عفان أحد السابقين الاولين إلى الاسلام،
وهاجرت معه إلى الحبشة ثم إلى المدينة، فلما توفيت يوم بدر خلفتها أختها أم كلثوم، زوجا لعثمان ذي النورين).
بئست الكنية أبو لهب، لعبد العزى بن عبدالمطلب بن هاشم.
قبل أربعين عاما من المبعث، تلقى عبدالعزى بشرى مولد محمد، ابن أخيه الراحل عبدالله بن عبدالمطلب.
حملتها إليه مولاة له تدعى (ثويبة) فأعتقها ببشراها ! ثم لما بلغ الوليد أشده واصطفاه الله تعالى رسولا، لم يعد عبد العزى يعرف باسمه، وإنما غلبت عليه كنيته أبو لهب ! كما لصق بامرأته أم جميل بنت حرب، لقب حمالة الحطب منذ نزلت فيهما آيات المسد: (تبت يدا أبي لهب وتب * ما أغنى عنه ماله وما كسب * سيصلى نارا ذات لهب * وامرأته حمالة الحطب * في جيدها حبل من مسد).
لم يكتف الملعون بأن يرفض دعوة ابن أخيه ويرد إليه ابنتيه رقية وأم كلثوم طالقين.
بل تصدى له بالتكذيب والاستهزاء، من الفترة الاولى التي كان المصطفى يتهيب فيها الجهر بدعوته في الناس، ويكتفي بتبليغها إلى من يأنس لديه قبولا.(1/73)
وتلقى المصطفى من كلمات الوحي: (وأنذر عشيرتك الاقربين، واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين * وقل إني أنا النذير المبين.
)
وغدا صلى الله عليه وسلم فأتى الصفا فصعد عليه ونادى ينذر عشيرته الاقربين من بني هاشم وقريش: (واصباحاه) فلما اجتمع له القوم ابتدرهم قائلا: (أرأيتم لو أخبرتكم أن خيلا تخرج من سفح هذا الجبل، أكنتم مصدقي ؟).
أجابوا من غير تردد: (ما جربنا عليك كذبا قط).
قال: (فإني نذير لكم بين يدي عذاب أليم).
عندئذ انبرى له عمه عبدالعزى قائلا: (تبا لك ! ألهذا جمعتنا ؟).
ومضى على غلوائه، فكان من أشد الكفار عداوة للاسلام وإيذاء للنبي، ابن أخيه، عليه الصلاة والسلام.
ومن ورائه امرأته أم جميل بنت حرب، أخت أبي سفيان.
وقد غاظها أن تسمع ما نزل فيها وفى زوجها أبي لهب من القرآن، فخرجت تطلب المصطفى وفى يدها فهر، حجارة تملا الكف.
وسمعت أنه صلى الله عليه وسلم في الكعبة، فاندفعت نحوه في شراسة وهي تهدر صاخبة بالوعيد، لكن بصرها تخطى المصطفى(1/74)
فلم تره، ورأت صاحبه أبا بكر هناك، فسألته: - أين صاحبك ؟ فقد بلغني أنه يهجوني.
والله لو وجدته لضربته بهذا الفهر، إنه إن يكن شاعرا فإني لشاعرة.
وانصرفت وهي ترتجز:
مذمما * عصينا وأمره * قلينا ودينه * أبينا قال الصديق للمصطفى: - يا رسول الله، أما تراها رأتك ؟ فقال عليه الصلاة والسلام: - (ما رأتني، لقد أخذ الله ببصرها عني).
وحدث مرة أن أخذت أبا لهب حمية الدم الهاشمي، فغضب لما رأى من جور قريش على بني هاشم الذين أبوا أن يخذلوا ابن عبدالله ابن عبدالمطلب، وإن لم يتابعوه على دينه، كراهة أن يعقوا أوثانا وجدوا آباءهم لها عابدين.
في خبر أن أبا سلمة المخزومي، ابن برة بنت عبدالمطلب، استجار بخاله أبي طالب حين أراد قومه أن يفتنوه عن إسلامه.
فمشي رجال من بني مخزوم إلى أبي طالب فقالوا له في غلظة: - لقد منعت منا ابن أخيك محمدا، فما لك ولصاحبنا تمنعه منا ؟(1/75)
قال: إنه استجار بي، وهو ابن أختي.
فإن أنا لم أمنع ابن أختي لم أمنع ابن أخي.
وكان أبو لهب حاضرا فقال مغضبا، وقد أخزاه أن يضام أخوه - ولم يسلم - على مرأى منه ومسمع: - يا معشر قريش، والله لقد أكثرتم على هذا الشيخ.
ما تزالون تتوثبون
عليه في جواره من قومه.
والله لتنتهن عنه أو لنقومن معه في كل ما قام فيه.
فآثروا الابقاء على أبي لهب في حزبهم، وقالوا يسترضونه: - بل ننصرف عما تكره يا أبا عتبة (1).
لكن أبا عتبة الذى كره أن يضام أخوه أبو طالب، وليس على دين محمد لم يكره أن يعق محمدا ابن أخيه عبدالله، ويخذله ويؤذيه.
أعشى سحر أم جميل بصره وأمات مروءته ونخوته، فتسلط بالاذى على المصطفى، ابن أخيه ومن اتبعه.
فيقول الشاعر الاحوص في حمالة الحطب، امرأة أبي لهب: ما ذات حبل يراه الناس كلهم * وسط الجحيم ولا يخفى على أحد كل الحبال، حبال الناس، من شعر * وحبلها وسط أهل النار من مسد
__________
(1) السيرة النبوية لابن هشام: 2 / 10.
[ * ](1/76)
ضاقت بهم ساحة البيت العتيق وقد تجمعوا هناك يهدرون بالوعيد، فيكاد من يراهم يحسبهم محتشدين تأهبا لقتال.
وجاء العدو، فردا أعزل إلا من إيمانه..أقبل المصطفى على الحرم يمشي خاشعا حتى استلم الركن، ثم مر بهم طائفا بالكعبة لا يلقي إليهم بالا.
وقصرت عنه أيديهم ورماحهم، وطالت ألسنتهم يلمزونه ببعض القول.
ومضى في طوافه، فكلما مر بهم تطاولت ألسنتهم بالغمز واللمز،
حتى أتم الطواف فواجههم فردا، ليس معه سلاح غير كلمات ربه.
وتلا كلمة، وقعت عليهم كالصاعقة فما منهم رجل إلا كأن على رأسه طائرا وقع.
وانكمشوا متضائلين، حتى ليقول من كان أصخبهم هديرا وأنكرهم صوتا: (انصرف يا أبا القاسم، فوالله ما كنت جهولا).
وانصرف أبو القاسم عليه الصلاة والسلام، فما كاد يغيب عن أبصارهم حتى عادوا أسودا غضابا، يقول بعضهم لبعض متلاومين: - ذكرتم ما أصابكم من أمر محمد، حتى إذا باداكم بكلمة مما تكرهون تركتموه ؟ وأجمعوا أمرهم من جديد للقاء العدو ! فلما كان الغد وجاء المصطفى يصحبه أبو بكر، لم يمهلوه حتى(1/77)
يلقاهم بكلمة تصدعهم، بل وثبوا إليه وثبة رجل واحد، وأحاطوا به يقولون متوعدين: - أنت الذي تقول كذا وكذا ؟ وأعادوا عليه ما قال في إنكار أوثانهم وتسفيه عقولهم وضلال آبائهم، والمصطفى يجيب: (نعم، أنا الذي أقول ذلك).
وهموا به يتجاذبون رداءه، فقام أبو بكر دونه يدفعهم عنه ويقول: - أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله ؟ فتحول أسود القطيع إلى أبي بكر يجبذون لحيته، وتكاثروا عليه
فما تركوه يومئذ إلا وقد صدعوا فرق رأسه..(1) وبدا لقريش أن توفد رجالا منها إلى أبي طالب، عم المصطفى وشيخ بني هاشم، لعلهم يستطيعون إقناعه بأن يحمل ابن أخيه على أن يكف عن دعوته التي فرقت كلمتهم ومزقت شملهم.
ومشى وفدهم إلى أبي طالب فقالوا في تودد: - يا أبا طالب، إن ابن أخيك قد سب آلهتنا وعاب ديننا وسفه أحلامنا وضلل آباءنا.
فإما أن تكفه عنا وإما أن تخلي بيننا وبينه، فإنك على مثل ما نحن عليه من خلافه، فنكفيكه.
فقال لهم أبو طالب قولا رفيقا وردهم ردا جميلا، فانصرفوا عنه
__________
(1) السيرة لابن هشام: 1 / 310.
[ * ](1/78)
وهم يرجون أن ينتهى هذا الامر الذى أرق ليلهم وشغل نهارهم..لكن المصطفى مضى على ما هو عليه.
يظهر دين الله ويدعو إليه، حتى اشتد الموقف بين المسلمين والمشركين تباعدا وتضاغنا، ولم يعد لقريش حديث إلا عن محمد، يحض بعضهم عليه بعضا.
وعاودوا الكلام مع عمه فقالوا: - يا أبا طالب، إن لك سنا وشرفا ومنزلة فينا.
وإنا قد استنهيناك من ابن أخيك فلم تنهه عنا.
وإنا والله لا نصبر على هذا من شتم آبائنا وتسفيه أحلامنا وعيب آلهتنا، حتى تكفه عنا أو ننازله وإياك في ذلك حتى يهلك أحد الفريقين.
وعظم على أبي طالب فراق قومه وعداوتهم، ولم تطاوعه نفسه على خذلان ابن أخيه..- وجاء المصطفى فسمع حديث عمه عن شكوى قومه، ثم قال: (يا عم، إني أريدهم على كلمة واحدة).
قالوا بصوت واحد: - كلمة واحدة ؟ نعم وأبيك، وعشر كلمات ! فما هي ؟ قال: (لا إله إلا الله).
فانتفضوا مذعورين وخرجوا غضابا ينفضون ثيابهم ويهزون رؤوسهم في رفض وإنكار: (أجعل الآلهة إلها واحدا.
إن هذا الشئ عجاب).
قال له عمه بعد خروجهم:(1/79)
- يا ابن أخى، أبق علي وعلى نفسك، ولا تحملني من الامر ما لا أطيق.
رد المصطفى، وقد ظن أن عمه ضعف عن نصرته: (يا عم، والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الامر حتى يظهره الله أو أهلك فيه ما تركته).
واستعبر لم يملك دمعه، وهو يوشك أن يفارق عمه الذى كان له أبا وكافلا وراعيا وصديقا.
ناداه عمه وقد رآه يمضي حزينا أسفا: - أقبل يا ابن أخي.
فأقبل عليه الصلاة والسلام ليسمع كلمة عمه أبي طالب: - اذهب يا ابن أخي فقل ما أحببت، فوالله لا أسلمك لشئ أبدا.
عرفت قريش أن أبا طالب لن يتخلى عن نصرة أبن أخيه ولن
يخذله، فليس لها إليه من سبيل إلا أن تخوض حربا مع بني هاشم.
وفي سورة غيظها وقهرها، زين لها سفهها رأيا أحمق: ماذا لو ساومت أبا طالب على محمد، ابن أخيه، وتعطيه فتى من فتيانها بديلا عنه ؟ وليكن هذا البديل (عمارة بن الوليد بن المغيرة المخزومي) زين شباب بني مخزوم فتوة وعقلا.
وقبل عمارة، رجاء أن تنحسم به الفتنة التي مزقت قومه قريشا.(1/80)
وبقي أن يرضى أبو طالب ! ومشوا إليه بعمارة بن الوليد فقالوا: - يا أبا طالب، هذا عمارة بن الوليد، أنهد فتى في قريش وأجمله، فخذه فلك عقله ونصره، واتخذه ولدا فهو لك، وأسلم إلينا ابن اخيك هذا الذي قد خالف دينك ودين آبائك وفرق جماعة قومك وسفه أحلامهم، فنقتله فإنما هو رجل برجل.
ولم يصدق أبو طالب سمعه ! كيف بلغ بهم السفه أن يساوموه على ابن أخيه بمثل هذه الصفقة الحمقاء ؟ لقد أضاعت قريش رشدها ورب الكعبة ! قال في تؤدة: - والله لبئس ما تساومونني، أتعطونني ابنكم أغذوه لكم، وأعطيكم ابني تقتلونه ؟ هذا والله ما لا يكون أبدا.
قال له (المطعم بن عدي بن نوفل بن عبد مناف): - والله يا أبا طالب لقد أنصفك قومك وجهدوا على التخلص مما
تكرهه، فما أراك تريد أن تقبل منهم شيئا.
ورد أبو طالب على المطعم، حفيد عبد مناف بن قصي: والله ما أنصفوني، ولكنك قد أجمعت خذلاني ومظاهرة القوم علي، فاصنع ما بدا لك.
وانصرف القوم على يأس.
وكذلك نفض أبو طالب يده من بني عمومته، آل عبد شمس.(1/81)
ونوفل، ومن أصهاره وذوي قرباه في تيم ومخزوم وزهرة، وأدرك أن القوم قد تظاهروا على من يمنعون محمدا، من بني عبدالمطلب وبني هاشم.
ووثبت القبائل من قريش على من فيها من أصحاب المصطفى الذين أسلموا معه، يعذبونهم ويفتنونهم عن دينهم.
وبقي بنو هاشم على نصرة محمد بن عبدالله، إلا قليلا منهم مع أبي لهب تبت يداه.
أقبل الفارس عائدا من رحلة صيد.
قد توشح قوسه وأطلق عنان فرسه، حتى إذا دنا من البيت الحرام ترجل إجلالا للكعبة، ثم انطلق متمهلا في شموخ وزهو.
وفي طريقه إلى بيته، مر بأندية قريش يتلقى حيثما سار تحية الاعجاب بفتوته وفروسيته.
وازدهاه أن ترى قريش فيه: حمزة بن عبد المطلب الهاشمي، أعز فتى فيها وأشدها شكيمة.
قرب الصفا، استوقفته مولاة لعبد الله بن جدعان التيمي، فتمهل
ملقيا إليها بعض سمعه، وفي ظنه أن الفتاة مأخوذة ببهاء فتوته.
قالت وهي تسدد إليه نظرة ثاقبة: - يا أبا عمارة، لو رأيت ما لقي ابن أخيك محمد آنفا من أبي(1/82)
الحكم بن هشام ؟ وجده هاهنا جالسا فآذاه وسبه وبلغ منه ما يكره، ثم انصرف لم يكلمه محمد، صلى الله عليه وسلم.
ولم يرد عليها الفارس بكلمة.
لوى عنان فرسه وقد احتمله الغضب، فلم يتوقف حتى بلغ البيت العتيق، ولمح أبا جهل بن هشام جالسا هناك بين القوم يتشدق بما آذى به محمد بن عبدالله.
فشق حمزة طريقه إليه صامتا لا يتكلم، إلى أن قام على رأسه فرفع قوسه وشجه بها شجة منكرة وهو يقول متحديا: - أتشتم محمدا وأنا على دينه أقول ما يقول ؟ فرد ذلك علي إن استطعت ! وغشي القوم دوار ما كادوا يفيقون منه حتى أدركوا أن السهم قد نفذ ! أسلم حمزة، وكان حتى تلك اللحظة على دين آبائه.
وعرفت قريش أن محمدا ازداد به عزا ومنعة، فلن يلبث حمزة أن يدخل المعترك بينه وبين المشركين، فارسا لا يلحق به غبار، وأسدا لا يغلب.
وأوى حمزة إلى بيته فبات ليلته مؤرقا، يدعو الله أن يشرح صدره للدين الجديد الذي أعلن دخوله فيه، مدفوعا بمروءته وشهامته ونجدته.
حتى تنفس الصبح، فغدا حمزة إلى الكعبة فما استقبلها إلا وقد اطمأن قلبه وتفتح لنور الحق.(1/83)
وسعى من فوره إلى بيت ابن أخيه المصطفى فبايعه.
ثم خاض معه معركته الباسلة، أسد الله وأسد رسوله.
وبسيفه الصارم المنصور جندل رءوسا من طواغيت قريش يوم بدر، ومن بعده قاتل يوم أحد حتى اغتالته حربة غادرة سددها إليه (وحشي) بتحريض من (هند بنت عتبة، زوج أبي سفيان بن حرب).
ورقصت هند على مصرع الفارس البطل، وانتزعت كبده فلاكتها، وذهبت في تاريخ الاسلام بلقب آكلة الاكباد.
وذهب الفارس البطل، بلقب سيد الشهداء.(1/84)
أم يقولون: افتراه ؟ (فلا أقسم بما تبصرون * وما لا تبصرون.
إنه لقول رسول كريم * وما هو بقول شاعر، قليلا ما تؤمنون * ولا بقول كاهن، قليلا ما تذكرون * تنزيل من رب العالمين) (صدق الله العظيم) الدنيا ليل.
ومكة مؤرقة بسهدها، تشهد ائتمار قريش بالمصطفى ومن معه.
لا عن ارتياب في صدقه وأمانته، ولكن خافت أن تفقد الوثنية سلطانها على العرب.
وعليها كانت قريش تعتمد في ترسيخ نفوذها
وتضخم ثرائها، منذ جعلت المواسم الدينية في أم القرى، مواسم للتجارة.(1/85)
وهذا الموسم على وشك اقتراب، ومحمد يجهر بدعوته لا يبالي أحدا.
وقد سمعت قريش ما تلاه من كلمات ربه، فأدركت من فورها أنها المعجزة التي لا يملك أي عربي يصغي إليها، أن يصرف عنها سمعه وقلبه وضميره.
فإن خلت قريش بين محمد والقبائل الوافدة على الموسم، يتلو فيها هذا القرآن، فإن العرب لن يترددوا في الايمان بالمعجزة.
وفي دار الندوة بمكة، حيث اعتادت قريش من عهد جدها (قصي بن كلاب) أن تعقد فيها مجالسها كلما أهمها أمر واحتاجت فيه إلى المدارسة وتبادل الرأى، اجتمع نفر من طواغيت قريش وقام فيهم (الوليد بن المغيرة المخزومي) فقال: - يا معشر قريش، إن وفود العرب ستقدم عليكم، وقد سمعوا بأمر صاحبكم هذا، فأجمعوا فيه رأيا ولا تختلفوا فيكذب بعضكم بعضا.
قالوا: فأنت يا أبا عبد شمس فقل وأقم لنا رأيا نقول به.
قال: بل أنتم فقولوا اسمع.
قالوا: نقول، كاهن.
ورد عليهم الوليد بن المغيرة: - لا والله ما هو بكاهن، لقد رأينا الكهان فما هو بزمزمة الكاهن ولا سجعه.
قالوا: فنقول، مجنون.(1/86)
ورد عليهم: ما هو بمجنون.
لقد رأينا الجنون وعرفناه، فما هو بخنقه ولا تخالجه ولا وسوسته.
قالوا: فنقول، شاعر.
ورد عليهم: ما هو بشاعر، لقد عرفنا الشعر كله رجزه وقصيده، وهزجه وقريضه، ومقبوضه ومبسوطه، فما هو بالشعر.
قالوا: فنقول، ساحر.
ورد عليهم: ما هو بساحر، لقد رأينا السحار وسحرهم، فما هو بنفثهم ولا عقدهم.
وغلبوا على أمرهم لا يدرون ما يقولون في المصطفى ومعجزته، فسألوا الوليد: - فما تقول أنت يا أبا عبد شمس ؟ أجاب: والله إن لقوله لحلاوة وإن أصله لعذق وإن فرعه لجناة.
وما أنتم بقائلين من هذا شيئا إلا عرف أنه باطل.
وإن أقرب القول فيه أن تقولوا: ساحر جاء بقول هو السحر، يفرق بين المرء وأبيه، وبين المرء وزوجته، وبين المرء وعشيرته.
(1) وانفض المجلس بعد أن أجمعوا على أن يترصدوا للوفود على مداخل مكة فيأخذوا سبل الناس لا يمر بهم أحد إلا حذروه أن يسمع ما يتلو محمد من كلمات هي السحر.
والمصطفى يتلو من آيات ربه:
__________
(1) ابن هشام: السيرة النبوية 1 / 288.
[ * ](1/87)
(ن، والقلم وما يسطرون * ما أنت بنعمة ربك بمجنون * وان لك لاجرا غير ممنون * وإنك لعلى خلق عظيم * فستبصر ويبصرون * بايكم المفتون * إن ربك هو اعلم بمن ضل عن سبيله وهو اعلم بالمهتدين.
) وأوجس أبو طالب في نفسه خيفة، أن يظاهر عامة العرب قومه على ابن أخيه فيجتمعوا ألبا عليه وعلى من ينصره من بني عبدالمطلب وهاشم، فأنشد في الموسم قصيدة مطولة، يتعوذ فيها بحرم مكة ومكان المصطفى منها، ويعتب على أشراف قومه ناشدا مروءتهم، ومعلنا في الوقت نفسه، أنه لن يخذل ابن أخيه ولن يتركه لشئ أبدا أو يهلك دونه.
قال: إذا اجتمعت يوما قريش لمفخر * فعبد مناف سرها وصميمها وإن حصلت أشراف عبد منافها * ففى هاشم أشرافها وقديمها وإن فخرت يوما فإن محمدا * هو المصطفى من سرها وكريمها تداعت قريش غثها وسمينها * علينا فلم تظفر وطاشت حلومها(1/88)
وكنا قديما لا نقر ظلامة * إذا ما ثنوا صعر الخدود نقيمها
ونحمى حماها كل يوم كريهة * ونضرب عن أحجارها من يرومها.
وصدرت القبائل من ذلك الموسم بأمر المصطفى، فانتشر ذكره في بلاد العرب.
الايام تمضي.
وحزب الله يزداد على الاذى والاضطهاد قوة وثباتا.
وقريش تكاد تموت بغيظها، وما تلمح على المصطفى وأصحابه بادرة ضعف أو تردد.
وفي نادى قريش، كان الزعماء يتدارسون الموقف الصعب، حين رأوا المصطفى يأخذ طريقه إلى المسجد الحرام، وحيدا ليس معه صاحب.
قال لهم (عتبة بن ربيعة بن عبد شمس): - ألا أقوم إلى محمد فأكلمه وأعرض عليه أمورا لعله يقبل بعضها فنعطيه أيها شاء، ويكف عنا ؟ قالوا وقد داخلهم الخوف من إسلام حمزة بن عبدالمطلب: - بلى يا أبا الوليد، فقم إليه فكلمه.
وقام عتبة حتى جلس إلى المصطفى صلى الله عليه وسلم فقال له متلطفا متوددا:(1/89)
- يا ابن أخي، إنك منا حيث قد علمت من الشرف في العشيرة والمكان في النسب.
وإنك قد أتيت قومك بأمر عظيم فرقت به جماعتهم وسفهت به أحلامهم وعبت به آلهتهم ودينهم وكفرت به من مضى من آبائهم.
فاسمع مني أعرض عليك أمورا تنظر فيها لعلك تقبل منها
بعضها.
قال عليه الصلاة والسلام: (قل يا أبا الوليد، أسمع).
وقال أبو الوليد: - يا ابن أخي، إن كنت إنما تريد بما جئت به من هذا الامر مالا جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالا.
وإن كنت تريد به شرفا سودناك علينا حتى لا نقطع أمرا دونك.
وإن كنت تريد به ملكا ملكناك علينا.
وإن كان هذا الذي يأتيك رئيا تراه لا تستطيع رده عن نفسك، طلبنا لك الطب وبذلنا فيه أموالنا حتى نبرئك منه، فإنه ربما غلب التابع على الرجل حتى يداوى منه.
سأله المصطفى: (أقد فرغت يا أبا الوليد ؟) قال: نعم.
قال المصطفى: (فاسمع مني)، وتلا عليه الصلاة والسلام من سورة فصلت: (بسم الله الرحمن الرحيم (حم، تنزيل من الرحمن الرحيم * كتاب فصلت آياته قرآنا(1/90)
عربيا لقوم يعلمون * بشيرا ونذيرا فأعرض أكثرهم فهم لا يسمعون * وقالوا قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه وفى آذاننا وقر ومن بيننا وبينك حجاب فاعمل إننا عاملون * قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى الي أنما إلهكم إله واحد فاستقيموا إليه واستغفروه، وويل للمشركين).
وكان عتبة ينصت لها وقد ألقى يديه خلف ظهره معتمدا عليهما
يسمع من المصطفى.
فلما انتهى صلى الله عليه وسلم إلى قوله تعالى: (ومن آياته الليل والنهار والشمس والقمر لا تسجدوا للشمس ولا للقمر واسجدوا لله الذى خلقهن إن كنتم إياه تعبدون).
سجد محمد عليه الصلاة والسلام، ثم قال لعتبة: (قد سمعت يا أبا الوليد ما سمعت، فأنت وذاك).
ومضى عتبة مأخوذا بما سمع، حتى إذا دنا من مجلس أصحابه عرفوا أنه جاء بغير الوجه الذى ذهب به.
فلما جلس إليهم سألوه: - ما وراءك يا أبا الوليد ؟ قال: ورائي أني قد سمعت قولا والله ما سمعت مثله قط.
والله ما هو بالشعر ولا بالسحر ولا بالكهانة.
يا معشر قريش، أطيعوني واجعلوها بي، وخلوا بين هذا الرجل وبين ما هو فيه فاعتزلوه، فوالله ليكونن لقوله الذي سمعت منه نبأ عظيم.
فإن تصبه العرب فقد كفيتموه بغيركم، وإن يظهر على العرب فملكه ملككم وعزه عزكم وكنتم أسعد الناس به.(1/91)
قالوا جميعا: سحرك والله يا أبا الوليد بلسانه.
ورد عليهم: هذا رأيي فيه فاصنعوا ما بدا لكم.
وبقي عتبة، مع ذلك، على دينهم ودين آبائهم..أسلم النهار أنفاسه مرهقا مكدودا كأنه يتعجل الليل ليسدل ستارا من ظلامه على المشهد الفاجع للمؤمنين المستضعفين من موالى قريش، وقد شدتهم بوثاق إلى جمر الصخور الملتهبة في لظى الرمضاء، لعلهم يرتدون عن دين محمد، عليه الصلاة والسلام.
وبدا لقريش، وقد غربت الشمس، أن تدعو محمدا إلى مجلس زعمائها مجتمعين، لعله يلين.
لقد فشلت المفاوضات مع عمه أبي طالب فلم يكفه عنهم ولم يسلمه إليهم.
وفشلت كذلك المساومة التي عرضها عليه أبو الوليد عتبة بن ربيعة.
وبقي أن يجربوا مواجهته لرؤسائهم مجتمعين، فيخاصموه حتى يعذروا فيه.
وحشدوا له فئة منهم، أعلاهم في قومهم كلمة وألدهم في الجدل والخصومة.
فيهم: عتبة وشيبة ابنا ربيعة، وأبو سفيان بن حرب، والوليد بن المغيرة، والنضر بن الحارث بن كلدة، وابو البختري بن هشام، وأبو الحكم، أبو جهل بن هشام، والعاص بن وائل، وأمية ابن خلف..(1/92)
وأجاب المصطفى دعوتهم، فجاء إلى حيث أخذوا مجالسهم بظهير الكعبة، وهو يرجو أن يكونوا قد تابوا إلى رشدهم، وكان حريصا على هداهم يعز عليه عنتهم وضلالهم.
قالوا: يا محمد، إنا قد بعثنا إليك لنكلمك، وإنا ولله ما نعلم رجلا من العرب أدخل على قومه ما أدخلت على قومك: لقد شتمت الآباء وعيبت الدين وشتمت الآلهة وسفهت الاحلام وفرقت الجماعة، فما بقي أمر قبيح إلا جئته فيما بيننا وبينك.
ومضوا في الحديث فعرضوا عليه ما سبق أن عرضه وافدهم إليه (عتبة بن ربيعة) من مال وسيادة وملك وطب.
ورد المصطفى: (ما بي ما تقولون، ما جئت بما جئتكم به أطلب أموالكم ولا الشرف فيكم ولا الملك عليكم.
ولكن الله بعثنى إليكم رسولا وأنزل علي كتابا وأمرني ان أكون لكم بشيرا ونذيرا، فبلغتكم رسالات ربي ونصحت لكم.
فإن تقبلوا مني ما جئتكم به فهو حظكم في الدنيا والآخرة، وإن تردوه علي أصبر لامر الله حتى يحكم الله بيني وبينكم.
) قالوا مقترحين، يريدون إعناته: - يا محمد فإن كنت غير قابل منا شيئا مما عرضناه عليك، فإنك قد علمت أن ليس من الناس أحد أضيق بلدا ولا أقل ماء ولا أشد عيشا منا، فسل لنا ربك الذي بعثك بما بعثك به، فليسير عنا هذه الجبال التي قد ضيقت علينا، وليبسط لنا بلادنا، وليفجر لنا فيها أنهارا(1/93)
كأنهار الشام والعراق، وليبعث لنا من مضى من آبائنا، وليكن فيمن يبعث لنا منهم قصي بن كلاب فإنه كان شيخ صدق، فنسألهم عما تقول، أحق هو أم باطل ؟ فإن صدقوك وصنعت لنا ما سألناك، صدقناك وعرفنا به منزلتك من الله، وأنه بعثك رسولا كما تقول.
قال عليه الصلاة والسلام، يرد على مقترحاتهم: (ما بهذا بعثت إليكم.
إنما جئتكم من الله بما بعثني به.
وقد بلغتكم ما أرسلت به إليكم.
فإن تقبلوه فهو حظكم في الدنيا والآخرة، وان تردوه علي أصبر لامر الله حتى يحكم بيني وبينكم).
قالوا: - فإذ لم تفعل هذا لنا فخذ لنفسك: سل ربك أن يبعث معك ملكا
يصدقك بما تقول ويراجعنا عنك.
وسله فليجعل لك جنانا وقصورا وكنوزا من ذهب وفضة يغنيك بها عما نراك تبتغي، فإنك تقوم بالاسواق كما نقوم، وتلتمس المعاش كما نلتمسه، حتى نعرف فضلك ومنزلتك من ربك إن كنت رسولا كما تزعم.
وقال المصطفى كلمته: (ما أنا بفاعل، وما أنا بالذي يسأل ربه هذا، وما بعثت بهذا.
ولكن الله بعثني بشيرا ونذيرا فإن تقبلوا ما جئتكم به فهو حظكم في الدنيا والآخرة، وإن تردوه علي أصبر لامر الله حتى يحكم الله بيني وبينكم).
ولجوا في العناد فقالوا:(1/94)
- فأسقط السماء علينا كسفا كما زعمت أن ربك إن شاء فعل، فإنا لا نؤمن لك إلا أن تفعل.
ورد المصطفى عليه الصلاة والسلام: (ذلك إلى الله، إن شاء أن يفعله بكم فعله).
قالوا: يا محمد، أفما علم ربك أنا سنجلس معك ونسألك عما سألناك عنه ونطلب منك ما نطلب، فيتقدم إليك فيعلمك ما تراجعنا به ويخبرك ما هو صانع في ذلك بنا إذ لم نقبل ما جئتنا به ؟ إنه قد بلغنا أنك إنما يعلمك هذا رجل باليمامة يقال له الرحمن، وإذا والله لا نؤمن بالرحمن أبدا.
فقد أعذرنا إليك يا محمد، وإنا والله لا نتركك وما بلغت منا حتى نهلكك أو تهلكنا، فلن نؤمن لك حتى تأتينا بالله والملائكة قبيلا.
وأيقن المصطفى ألا معنى للمضي في ذلك الجدل العقيم.
فقام عنهم وقام معه ابن عمته عاتكة: عبدالله بن أبي أمية بن المغيرة المخزومي، فقال له مخاصما: - يا محمد، عرض عليك قومك ما عرضوا فلم تقبله منهم.
ثم سألوك لانفسهم أمورا ليعرفوا بها منزلتك من الله كما تقول ويصدقوك ويتبعوك فلم تفعل.
ثم سألوك أن تأخذ لنفسك ما يعرفون به فضلك عليهم ومنزلتك من الله فلم تفعل.
ثم سألوك أن تعجل لهم بعض ما تخوفهم به من العذاب فلم تفعل، فوالله لا أو من بك أبدا حتى تتخذ إلى السماء سلما ثم ترقى فيه وأنا أنظر إليك حتى تأتيها، ثم تأتي(1/95)
معك أربعة من الملائكة يشهدون لك أنك كما تقول.
وايم الله لو فعلت ذلك ما ظننت أني أصدقك: (1) وانصرف المصطفى إلى أهله حزينا أسفا لما فاته مما كان يطمع به من قومه حين دعوه.
حتى آنسه الوحي بكلمات ربه: (قل لئن اجتمعت الانس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القران لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا (89) ولقد صرفنا للناس في هذا القران من كل مثل فأبى أكثر الناس إلا كفورا (90) وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الارض ينبوعا (91) أو تكون لك جنة من نخيل وعنب فتفجر الانهار خلالها تفجيرا (92) أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفا أو تأتي بالله والملئكة قبيلا (93) أو يكون لك بيت من زخرف أو ترقى في السماء ولن نؤمن لرقيك حتى
تنزل علينا كتابا نقرؤه قل سبحان ربي هل كنت إلا بشرا رسولا (94) وما منع الناس ان يؤمنوا إذ جاءهم الهدى الا ان قالوا أبعث الله بشرا رسولا (95) قل لو كان في الارض ملئكة يمشون مطمئنين لنزلنا عليهم من السماء ملكا رسولا * قل كفى بالله شهيدا بيني وبينكم، إنه كان بعباده خبيرا بصيرا.
) (صدق الله العظيم)
__________
(1) السيرة النبوية، عن ابن اسحاق: 1 / 315.
[ * ](1/96)
هل كان الكفار من قريش في تكذيبهم بالمصطفى وجحدهم المعجزة، بحيث يغيب عنهم أن هذا القرآن ليس من قول البشر ؟ فيم إذن كان عناؤهم بالاسلام وإعناتهم الرسول، وحرصهم على أن يأخذوا سبل الناس إلى مكة في الموسم، ليصدوا العرب عن سماع هذا القرآن ؟.
وفيم كانت حيرتهم فيه لا يدرون بم يصفونه، وإنهم لعلى يقين من أنه ليس بشعر ولا سحر ولا كهانة ؟ وزعموا أن محمد افتراه ؟ لقد عاجزهم القرآن، بآية الاسراء، ومعهم من يظاهرهم من جن قيل إنها تلهم فحول شعرائهم روائع القصيد: (قل لئن اجتمعت الانس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا).
ثم تحداهم بعدها، في سورة يونس، أن يأتوا بسورة مثله، واحدة فحسب، وليدعوا معهم من استطاعوا إن كانوا صادقين في زعم
الافتراء: (وما كان هذا القرآن ان يفترى من دون الله ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين * أم يقولون افتراه، قل فاتوا بسورة مثله وادعوا من استطعتم من دون الله ان كنتم صادقين) * بل لماذا، وقد زعموا أن محمدا افتراه، لا يأتون بعشر سور مثله(1/97)
مفتريات، وإنه لبشر مثلهم ؟ بهذا تحدتهم آية هود: (أم يقولون افتريه قل فأتوا بعشر سور مثله مفتريات وادعوا من استطعتم من دون الله ان كنتم صادقين * فان لم يستجيبوا لكم فاعلموا انما أنزل بعلم الله وأن لا إله إلا هو فهل أنتم مسلمون *) بل لماذا وقد زعموا أنه تقوله، لا يتقولون مثل هذا الكتاب العربي المبين، والعربية لغتهم والبيان طوع ألسنتهم ؟ وإنه ليتحداهم، بآية الطور، أن يفعلوا: (فذكر فما أنت بنعمت ربك بكاهن ولا مجنون * أم يقولون شاعر نتربص به ريب المنون * قل تربصوا فإني معكم من المتربصين * أم تأمرهم أحلامهم بهذا، أم هم قوم طاغون * أم يقولون تقوله، بل لا يؤمنون * فليأتوا بحديث مثله إن كانوا صادقين *.
) ولقد كان فيهم كهان يتسلطون عليهم بسحر السجع، وخطباء بلغاء وشعراء فحول، زعموا أن لهم توابع من الجن.
وأعياهم مع ذلك أن
يأتوا بسورة من مثل هذا القرآن، كانت تعفيهم، لو استطاعوا مجتمعين أن يأتوا بها، من مثل ذلك الجدل العقيم، والمفاوضات والمساومات، والمحاولات المضنية لصرف العرب عن سماع القرآن، والتسلط على المسلمين بالاذى والاضطهاد.
وتعفيهم مما كانوا يكرهون من تسفيه آبائهم وسب آلهتهم، ومما(1/98)
كانوا يوجسون في أنفسهم خيفة من صدام مسلح يتوقع بين لحظة وأخرى، وحرب تحصد الرؤوس وتأكل الاهل والعشيرة، وتهدر حرمة البيت العتيق والبلد الحرام.
وهؤلاء هم، بكل جبروتهم وعنفوان عنادهم، يحتشدون لمقاومة بشر رسول، معجزته كلمات من وحي ربه، يعلمون علم اليقين أنها ليست من قول البشر، ويدركون حق الادراك أنهم لو خلوا بين المصطفى والعرب يتلو فيهم هذا الكتاب العربي المبين، لما ترددوا في الايمان بالمعجزة.
وماذا عساهم، لو آمن العرب بدين التوحيد، صانعين بأوثانهم التي جعلت من أم القرى المركز الاكبر للعبادة والتجارة ؟ وبالاوضاع السائدة والتقاليد والاعراف الراسخة، التي ضمنت لقريش نفوذها وثراءها ؟ بينهم وبين هذا القرآن حجاب: (ومنهم من يستمعون إليك أفأنت تسمع الصم ولو كانوا لا يعقلون * ومنهم من ينظر إليك أفأنت تهدي العمي ولو كانوا لا يبصرون)
(حم * تنزيل من الرحمن الرحيم * كتاب فصلت آياته قرانا عربيا لقوم يعلمون * بشيرا ونذيرا فأعرض أكثرهم فهم لا يسمعون * وقالوا قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه وفي اذاننا وقر ومن بيننا وبينك حجاب فاعمل إنا عاملون * قل إنما أنا بشر مثلكم(1/99)
يوحى الي أنما إلهكم إله واحد فاستقيموا إليه واستغفروه وويل للمشركين *) (صدق الله العظيم) سجا الليل وهجعت أم القرى، والمصطفى في بيته قائم لربه يتهجد بالقرآن حتى انبلج الفجر فصلى، والنور البازغ يهل من شرق الافق.
وغير بعيد من بيته صلى الله عليه وسلم، التقى ثلاثة من مشركي قريش على غير موعد: أبو سفيان بن حرب الاموى، وأبو جهل بن هشام المخزومي، والاخنس بن شريق الثقفي.
وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون فيم الخروج في هذا الوقت ؟ وإذا كل واحد منهم قد تسلل في الليل مستترا بالظلام، فبات ليلته قريبا من بيت محمد، ليستمع إليه وهو يصلي ويتلو القرآن ! فتلاوموا، وتعاهدوا على ألا يعودوا إلى مثلها، لئلا يراهم بعض السفهاء فيوقعوا في نفسه شيئا، أو يقتفي خطاهم فتنفذ كلمات القرآن إلى سمعه وقلبه وتملك عليه أمره.
في الليلة التالية، عاد كل رجل منهم خفية إلى موضعه قرب بيت المصطفى، وفي حسابه أن صاحبيه على عهدهما ألا يخرجا إلى هذا الموقف
حتى طلع الفجر وتفرقوا فجمعهم الطريق، فتلاوموا وانصرفوا على مثل عهدهم أول ليلة.(1/100)
لكنهم عادوا خفية في الليلة الثالثة.
فأخذ كل منهم مجلسه هناك، فباتوا يستمعون إلى القرآن حتى مطلع الفجر، لا يدري أحد منهم بمكان صاحبيه.
فلما جمعهم الطريق تناكروا واشتدوا على أنفسهم في التلاوم، وصمموا على ألا يبرحوا مكانهم إلا على عهد وثيق ألا يعودوا لمثلها أبدا.
وأصبح الصبح فخرج (الاخنس بن شريق) من بيته مبكرا، يريد أن يحسم الامر.
أتى أبا سفيان في داره فابتدره قائلا: - أخبرني يا أبا حنظلة عن رأيك فيما سمعت من محمد.
قال أبو سفيان، في حيرة وتعثر، وقد بوغت بالسؤال: - يا أبا ثعلبة، والله لقد سمعت أشياء أعرفها وأعرف ما يراد بها، وسمعت أشياء ما عرفت معناها ولا ما يراد بها.
ثم أمسك لم يزد.
فتركه الاخنس لم يدر ما رأيه، ومضى إلى أبي الحكم بن هشام يسأله الرأي فيما سمع من محمد.
قال أبو جهل، في أخذة المباغتة: - ما سمعت ؟ تنازعنا نحن وبنو عبد مناف الشرف: أطعموا فأطعمنا، وحملوا فحملنا، وأعطوا فأعطينا.
حتى إذا كنا كفرسي رهان قالوا: (منا نبي يأتيه الوحي من السماء) فمتى ندرك هذه ؟ والله لا نؤمن به أبدا ولا نصدقه (1).
__________
(1) السيرة النبوية لابن هشام: 1 / 337.
(*)(1/101)
وانصرف الاخنس وقد انكشف له المستور من أمر أبي جهل.
تسامعت قريش بخروج سيد بني دوس: (الطفيل بن عمرو الدوسي) حاجا إلى مكة في الموسم، فأسرع رجال منهم يستقبلونه على مشارفهما قبل أن يدخلها، وهم يحسبون له ألف حساب.
كان شاعرا شريفا لبيبا مطاعا في قومه، فلو أن مشركي قريش تركوه يستمع إلى القرآن، لاسلم وأسلمت من ورائه قبيلة دوس كلها.
قالوا: يا طفيل، إنك قدمت بلادنا، وهذا الرجل الذي بين أظهرنا قد أعضل بنا، وقد فرق جماعتنا وشتت أمرنا، وإنما قوله كالسحر يفرق بين الرجل وبين أبيه وأخيه وزوجه وبنيه، وإنا نخشى عليك وعلى قومك ما قد دخل علينا، فلا تكلمنه ولا تسمعن له شيئا.
ثم ما زالوا به، ينصحون ويحذرون، حتى أقنعوه.
فاطمأنوا إلى وعده وقد أجمع ألا يكلم محمدا ولا يسمع منه.
واتجه طفيل إلى الكعبة وقد حشا أذنيه قطنا، يتقي به أن يبلغ سمعه صوت الداعي إلى الاسلام.
غير أنه ما كاد يلمح المصطفى قائما يصلي عند الكعبة حتى اقترب منه على غير قصد، فنفذت إلى سمعه كلمات من القرآن لم يصدها ما حشا به أذنيه.
قال يحدث نفسه مسترجعا: واثكل أمي ! والله إنى لرجل لبيب(1/102)
شاعر ما يخفى القول علي، فما يمنعني من أن أسمع من هذا الرجل ما
يقول، فإن كان حسنا قبلته وإن كان قبيحا تركته ؟ وانتظر حتى انصرف المصطفى إلى بيته، فاتبعه ودخل عليه فقال: - يا محمد، إن قومك قد قالوا لي كذا وكذا.
فوالله ما برحوا يخوفونني أمرك حتى سددت أذني لئلا أسمع قولك.
ثم أبى الله إلا أن يسمعني قولك فسمعته قولا حسنا، فاعرض علي أمرك.
وعرض المصطفى عليه الاسلام، وتلا عليه القرآن.
فيقول الطفيل: (فلا والله ما سمعت قولا قط أحسن منه ولا أمرا أعدل منه.
فأسلمت وشهدت شهادة الحق.
وقلت: يا نبي الله، إني امرؤ مطاع في قومي وأنا راجع إليهم وداعيهم إلى الاسلام، فادع الله أن يجعل لي آية تكون عونا عليهم فيما أدعوهم إليه) ودعا له المصطفى عليه الصلاة والسلام.
ورجع (الطفيل) إلى قومه ووجهه يتألق بنور الايمان، فأقام فيهم يدعوهم إلى الاسلام.
حتى كانت غزوة خيبر - في مستهل السنة السابعة للهجرة - فوفد (الطفيل بن عمرو الدوسي) على النبي صلى الله عليه وسلم في دار هجرته، ومعه سبعون أو ثمانون بيتا أسلموا من بني دوس.
وبقي الطفيل في صحبة المصطفى حتى لحق صلى الله عليه وسلم بالرفيق الاعلى، فقاتل صاحبه الطفيل مجاهدا في حرب الردة، حتى قتل شهيدا في (اليمامة) رضي الله عنه.(1/103)
هجرة إلى الحبشة (والذين هاجروا في الله من بعد ما ظلموا لنبوئنهم في الدنيا حسنة ولاجر
الآخرة أكبر لو كانوا يعلمون).
(صدق الله العظيم) ضري اضطهاد المشركين للمسلمين في مكة، وشق على المصطفى صلى الله عليه وسلم ما يصيب أصحابه من البلاء، وأنه لا يقدر على أن يمنعهم منه، ولم يؤمر بقتال.
فنصح لهم قائلا: (لو خرجتم إلى أرض الحبشة فإن بها ملكا لا يظلم عنده أحد، وهي أرض صدق، حتى يجعل الله لكم فرجا مما أنتم فيه.
) فخرج الفوج الاول من مهاجرة الحبشة، وفيهم (رقية بنت محمد)(1/104)
صلى الله عليه وسلم، مع زوجها (عثمان بن عفان) وابن خالها (الزبير ابن العوام بن خويلد الاسد).
ومعهم من بني هاشم: مصعب بن عمير بن هاشم بن عبد مناف.
ومن بني عبد شمس: أبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة - أخو هند وصهر أبي سفيان بن حرب - تصحبه زوجه: سهيلة بنت سهيل بن عمرو العامري.
ومن بني زهرة، أخوال المصطفى: عبدالرحمن بن عوف الزهري.
ومن بني مخزوم، أصهار المصطفى: أبو سلمة بن عبد الاسد بن هلال، ابن عمة المصطفى: برة بنت عبد المطلب.
معه زوجه (أم سلمة، هند بنت زاد الركب أبي أمية بن المغيرة المخزومي) التي تزوجها محمد عليه الصلاة والسلام، بعد وفاة أبي سلمة من أثر جرح أصابه في أحد.
وفصل الركب من أم القرى مودعا مغاني الصبا وديار الاهل والعشيرة.
وأخذوا طريق الجنوب وقد هون عليهم مشقة الاغتراب وشجن الفراق، أن هاجروا في سبيل عقيدة آمنوا بها.
والتمسوا العوض عمن فارقوا من أهل وأحباب، في هؤلاء الصحب الكرام، رفاق السفر والاخوة في الدين والهجرة.
رحبت الحبشة بالمهاجرين الاولين، ثم ما لبثت أن استقبلت أفواجا جديدة من الصحابة المؤمنين، فيهم: جعفر بن أبي طالب - ابن عم المصطفى - وزوجه أسماء بنت عميس، وعمرو بن سعيد بن العاص(1/105)
الاموي، وأخوه خالد.
وعبد الله بن جحش - ابن عمة المصطفى أميمة بنت عبدالمطلب - معه امرأته (رملة بنت أبي سفيان) أم، حبيبة ابنته، التى ولدتها له في الحبشة.
وعامر بن أبي وقاص الزهري.
والسكران بن عمرو العامري، معه امرأته (سودة بنت زمعة بن قيس) التي ترملت وتزوجها المصطفى بعد عام الحزن.
وبلغت عدة المهاجرين ثلاثة وثمانين رجلا، خرجوا من ديارهم وأموالهم مهاجرين بدينهم.
وجاءت الانباء من الحبشة، أنهم وجدوا فيها دارا ومأمنا، وتناشد المسلمون في مكة قصيدة المهاجر (عبدالله بن الحارث بن قيس) وفيها يقول: يا راكبا بلغن عني مغلغلة * من كان يرجو بلاغ الله والدين كل امرئ من عباد الله مضطهد * ببطن مكة مقهور ومفتون
إنا وجدنا بلاد الله واسعة * تنجي من الذل والمخزاة والهون فلا تقيموا على ذل الحياة وخز * ي في الممات وعيب غير مأمون(1/106)
جن غيظ قريش، فندبت اثنين من دهاتها: عبدالله بن أبي ربيعة وعمرو بن العاص، ليرحلا إلى الحبشة فيفسدا ما بين النجاشي والمهاجرين المغتربين، ويسعيا لديه حتى يخذلهم ويسلمهم إلى قومهم.
وبعثت معهما الهدايا مما يستطرف من أسواق مكة، رشوة إلى النجاشي وبطارقته، فانطلقا بها على مرأى ومسمع من المصطفى عليه الصلاة والسلام والذين معه في أم القرى.
وأشفق أبو طالب من مكيدة الرجلين، على من بأرض الحبشة من المهاجرين، وفيهم ابنه جعفر، وولدا بنتيه برة وأميمة، وحفيدة أخيه عبدالله رقية بنت محمد، وابن عمه مصعب بن عمير.
فأنشد شعرا رجا أن يبلغ سمع النجاشي: ألا ليت شعري كيف في النأي جعفر * وعمرو، وأعداء العدو الاقارب وهل نالت أفعال النجاشي جعفرا * وأصحابه، أو عاق ذلك شاغب تعلم أبيت اللعن أنك ماجد * كريم فلا يشقى لديك المجانب وأنك فيض ذو سجال غزيرة *
ينال الاعادي نفعها والاقارب فهزت قريش رؤوسها لما سمعت نداءه، وقال قائلها مستهزئا: ما يبلغ صوت الشيخ أبي طالب من مكيدة عمرو وصاحبه ؟ وما يجدي(1/107)
الشعر مع الهدايا التي حملاها من مكة رشوة إلى النجاشي وبطارقته ؟ بدأ وافدا قريش بالبطارقة، فقبل كل بطريق هديته ووعد خيرا.
ثم تقدما إلى النجاشي فوضعا الهدايا بين يديه وقالا له: (أيها الملك، إنه قد ضوى إلى بلدك غلمان منا سفهاء، فارقوا دين قومهم ولم يدخلوا في دينك، وجاءوا بدين ابتدعوه لا نعرفه نحن ولا أنت.
وقد بعثنا إليك فيهم أشراف قومهم من آبائهم وأعمامهم وعشائرهم لتردهم إليهم، فهم أبصر بهم وأعلم بما عابوا عليه وعاتبوهم فيه).
وأيد البطارقة المرتشون التماس الرجلين وقالوا للنجاشي: (صدقا أيها الملك.
قومهم أعلم بما عابوا عليهم، فأسلمهم إليهما فيرداهم إلى بلادهم وقومهم).
لكن النجاشي أبى أن يسلمهم قبل أن ينظر في أمرهم ويسمع ما يقولون.
وأمر باستدعاء رجال منهم فجاءوا وقد دعا النجاشي أساقفته ومعهم كتبهم الدينية.
سأل المهاجرين: - ما هذا الدين الذي فارقتم فيه قومكم ولم تدخلوا في دينى ولا في دين أحد من هذه الملل ؟ فأجاب عنهم جعفر بن أبي طالب: (أيها الملك، كنا قوما أهل جاهلية، نعبد الاصنام وناكل الميتة
ونأتي الفواحش ونقطع الارحام ونسئ الجوار ويأكل القوي منا الضعيف.(1/108)
فكنا على ذلك حتى بعث الله إلينا رسولا منا نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه.
فدعانا إلى الله لنوحده ونعبده ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من دونه من الحجارة والاوثان، وأمرنا بصدق الحديث وأداء الامانة وصلة الرحم وحسن الجوار والكف عن المحارم والدماء، ونهانا عن الفواحش وقول الزور وأكل مال اليتيم وقذف المحصنات، وأمرنا أن نعبد الله وحده لا نشرك به شيئا، وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام.
فصدقناه وآمنا به واتبعناه على ما جاء به من الله، فعبدنا الله وحده فلم نشرك به شيئا، وحرمنا ما حرم علينا وأحللنا ما أحل لنا.
فعدا علينا قومنا فعذبونا وفتنونا عن ديننا ليردونا إلى عبادة الاوثان وأن نستحل ما كنا نستحل من الخبائث.
فلما قهرونا وظلمونا وضيقوا علينا وحالوا بيننا وبين ديننا، خرجنا إلى بلادك واخترناك على من سواك ورغبنا في جوارك، ورجونا ان لا نظلم عندك أيها الملك).
سأله النجاشي: - هل معك مما جاء به عن الله من شئ فتقرأه علي ؟ فقرأ جعفر بن أبي طالب آيات من سورة مريم، لم تكد تترجم وتنفذ إلى سمع النجاشي حتى اغرورقت عيناه بالدمع خشوعا وتأثرا.
وكذلك بكى أساقفته حتى أخضلوا مصاحفهم.
وقال النجاشي، موجها خطابه إلى وافدي قريش: (إن هذا، الذى سمعت، والذى جاء به عيسى ليخرج من مشكاة واحدة.
انطلقا، فلا والله لا أسلمهم إليكما ولا يكادون).(1/109)
وانصرفا، أما عبدالله بن أبي ربيعة - وكان أتقى الرجلين - فساوره ما يشبه القلق، لما رأى من خشوع النجاشي وأساقفته عندما سمعوا القرآن.
وأخجله أن يكون هذ الملك لغريب أبر بالمهاجرين من قومهم وذوي أرحامهم.
وأما عمرو بن العاص فلم يجد في موقف النجاشي ما يدعو إلى يأس، وله من ذكاء الحيلة وبراعة الدهاء ما يغريه بمعاودة الكرة.
قال لصاحبه: (ولله لآتين النجاشي غدا عنهم بما أستأصل به خضراءهم).
ورد عبد لله: (لا تفعل، فإن لهم أرحاما وإن كانوا خالفونا).
فلم يبال عمرو تراجع صاحبه، بل قال كمن لم يسمع رده: (ولله لاخبرنه أنهم يزعمون أن عيسى بن مريم عبد).
وسعى في الغد إلى قصر النجاشي فاستأذن في الدخول وقال بعد أن حياه: - أيها الملك، إنهم يقولون في عيسى بن مريم قولا عظيما، فأرسل إليهم فسلهم عما يقولون فيه.
وأمر النجاشي فجئ بجعفر بن أبي طالب وصحبه من وفد المهاجرين، وقد سمعوا بمكيدة عمرو، وأجمعوا أمرهم على أنهم إذا سئلوا عما يقولون في عيسى بن مريم، لم يجيبوا بغير ما جاءهم به المصطفى من وحي ربه.
فلما اجتمع المجلس ابتدرهم النجاشي يسأل: - ماذا تقولون في عيسى بن مريم ؟(1/110)
أجاب جعفر: - نقول والله ما قال الله وما جاءنا به نبينا صلى الله عليه وسلم: هو عبدالله ورسوله وروحه وكلمته ألقاها إلى مريم العذراء البتول.
فمد النجاشي يده فالتقط عودا من الارض ثم قال لجعفر وصحبه: والله ما عدا عيسى بن مريم ما قلت هذا العود.
اذهبوا فأنتم آمنون بأرضي، من سبكم غرم، وما أحب أن لي جبلا من ذهب وأني آذيت رجلا منكم.
ثم التفت إلى بطارقته وقال وهو يشير إلى وافدي قريش: (ردوا عليهما هداياهما فلا حاجة لي بها.
فوالله ما أخذ الله مني الرشوة حين رد علي ملكي فآخذ الرشوة فيه.
وما أطاع الناس في فأطيعهم فيه) (1).
مع المهاجرين إلى الحبشة، كانت (رملة بنت أبي سفيان بن حرب) في صحبة زوجها (عبيد الله بن جحش الاسدي) ابن عمة المصطفى، أمية بنت عبدالمطلب.
خشيت أذى أبيها قائد المشركين في حربهم للاسلام، فرحلت مهاجرة، وتركته بمكة قد جن غيظه وقهره، أن أسلمت ابنته وليس له إليها سبيل.
وفي الحبشة، وضعت رملة بنتها (حبيبة بنت عبيد الله) فما
__________
(1) من حديث الهجرة.
رواه ابن اسحاق - (السيرة النبوية: 1 / 357) - بإسناد عن (أم سلمة) وكانت رضي الله عنها إحدى المهاجرات.
[ * ](1/111)
كادت تأنس بها عمن فارقت في مكة من أهل ووطن، حتى روعت بما لم تروع به مسلمة غيرها:
ارتد عبيد الله عن دينه الذي هاجر به إلى الحبشة، واعتنق النصرانية دين الاحباش.
وكادت (أم حبيبة) تهلك غما وحسرة: فيم كانت هجرة عبيد الله، ومحنة البلاء بأذى قومه ؟ لقد كان أكرم له أن يبقى على دين آبائه وأن يناضل عنه مع أهله وعشيرته، دفاعا عن مقدسات موروثة.
أما أن يكفر بدين قومه ويرضى الاسلام دينا، ليصبأ في الحبشة ويستبدل بالاسلام دينا لقوم غرباء، كمن يبدل ثوبا بثوب، فأية مهانة وأي عار ؟ وهذه الوليدة الحبيبة، ما ذنبها لتبتلى بأب صابئ مرتد ؟ وما جريرتها لتبدأ الحياة في أرض غريبة وقد انبت ما بين أبويها وتمزق شمل أهلها وتوزعتهم ملل شتى: فأبوها نصراني، وأمها مسلمة، وجدها مشرك عدو للاسلام ؟ واعتزلت (أم حبيبة) الناس بابنتها، مضاعفة الغربة، قد تقوض بيتها في منازل المهاجرين، ولا سبيل لها إلى أرض الوطن، وأبوها هناك يضطهد الدين الذي آمنت به، ويؤذي النبي الذى صدقته واتبعته.
وأين تراها تقيم في أم القرى لو عادت ؟(1/112)
أفي بيت أبويها وقد حيل بينها وبينه منذ أسلمت ؟ أم في دار آل جحش رهط زوجها، وقد أوصدت أبوابها وصارت منهم مقفرة خلاء ؟
لقد بلغها من أنباء مكة أن (عتبة بن أبي ربيعة، والعباس بن عبدالمطلب، وأبا جهل بن هشام بن المغيرة) مروا بدار بني جحش وهم مصعدون إلى أعلى مكة، فنظر إليها (عتبة) تخفق أبوابها يبابا ليس فيها ساكن، ثم تنفس الصعداء وقال معتبرا: وكل دار وإن طالت سلامتها * يوما ستدركها النوباء والحوب أصبحت دار بني جحش خلاء من أهلها).
فقال أبو جهل: (وما تبكي عليه ؟) ثم استطرد: (هذا عمل ابن أخي، فرق جماعتنا وشتت أمرنا وقطع بيننا) (1).
كلا، لا سبيل لرملة إلى مكة والمعركة محتدمة بين أبيها والنبي الذي تصدقه، ودار بني جحش تخفق أبوابها يبابا ! في عزلتها الحزينة، جاءتها رسالة النجاشي مع مولاة له: (إن الملك يقول لك: وكلي من يزوجك من نبي العرب، فقد أرسل إليه ليخطبك له !).
__________
(1) السيرة لابن هشام: 2 / 115.
(*)(1/113)
لم تصدق أم حبيبة سمعها، فلما أعادت عليها مولاة النجاشي الرسالة التي جاءتها بها، استيقنت من البشرى فنزعت سوارين لها من فضة، قدمتهما إلى أبرهة حلاوة البشرى (1).
ثم أرسلت إلى (خالد ابن سعيد بن العاص بن أمية بن عبد شمس) - كبير المهاجرين من قومها بني أمية، فوكلته في زواجها.
وتم عقد الزواج، وأولم النجاشي وليمته لشهود العقد من المسلمين المهاجرين.
وباتت أم حبيبة ليلتها وهي أم المؤمنين.
وفي الصباح حملت إليها مولاة النجاشي هدايا نسائه من عود وعنبر وطيب.
فقالت أم المؤمنين وهي تقدم إليها خمسين دينارا، من صداقها: (كنت أعطيتك السوارين أمس وليس بيدي شئ من المال، وقد جاءني الله عزوجل بهذا).
فأبت الفتاة أن تمس الدنانير، وردت السوارين قائلة إن الملك أجزل لها العطاء وأمرها ألا تأخذ من السيدة زوج النبي العربي شيئا، كما أمر نساءه أن يبعثن إليها مما عندهن من طيب.
وتقبلت أم المؤمنين الهدية شاكرة، فاحتفظت بها حتى حملتها معها إلى بيت النبي حين تركت الحبشة إلى المدينة في السنة السادسة للهجرة، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يرى عندها طيب الحبشة وعودها فلا ينكره.
(1)
__________
(1) الاصابة: الجزء الثامن.
وتاريخ الطبري 3 / 89.
والسمط الثمين للمحب الطبري: 97، 98.
(*)(1/114)
في انتظار عودة عمرو بن العاص وعبد الله بن أبي ربيعة من الحبشة، التمست قريش غفوة تنسى فيها قهرها وهمها، وتستمرئ مذاق أحلامها برجوع وافديها إلى النجاشي، ومعهما المهاجرون مطرودين من جواره وأرضه، لتسومهم سوء العذاب فيكونوا عبرة لغيرهم من المسلمين، لا رجاء لاحد منهم بعدها في مهرب، وقريش من ورائهم تطاردهم فتدركهم حيثما ذهبوا، فكأنهم وإياها نابغة بني ذبيان إذ يقول للنعمان ابن المنذر:
فإنك كالليل الذى هو مدركي * وإن خلت أن المنتأى عنك واسع لكنها غفوة لم تطل: خبر تردد في أحياء مكة، هز مضاجع الغافين وأطار النوم من عيونهم ومزق أحلامهم بددا.
واسترابوا في يقظتهم تحت صدمة المباغتة، فخيل إليهم أن ما يسمعون عن (عمر بن الخطاب) لا يعدو أن يكون من أضغاث الهواجس وهذيان الوهم.
أيمكن أن يسلم عمر ؟ لا بد أن من نقل الخبر وهم فيه كما وهمت (أم عبدالله بن عامر) حين مر بها عمر بن الخطاب وهي وأهلها يترحلون إلى أرض الحبشة، وقد خرج زوجها عامر بن ربيعة في بعض حاجاتهم.
قال لهم عمر: إنه للانطلاق يا أم عبدالله ؟(1/115)
فردت عليه وقد ذكرت ما كانوا يلقون من البلاء والاذى: - نعم والله، لنخرجن في أرض الله.
آذيتمونا وقهرتمونا، حتى يجعل الله مخرجا.
فما زاد عمر على أن قال: صحبكم الله ! فأحست منه رقة لم تكن تراها من قبل، وتحدثت بذلك إلى زوجها عامر حين عاد، وقالت فيما قالت: - يا أبا عبدالله، لو رأيت عمر آنفا، ورقته وحزنه علينا ؟
سألها زوجها مستخفا بسذاجتها وطيب قلبها: - أطمعت في إسلامه ؟ أجابت: نعم.
قال عامر: فلا يسلم الذي رأيت حتى يسلم حمار ابن الخطاب ! وتناقل المشركون كلمته، وما منهم إلا وهو على رأي عامر بن ربيعة، يأسا من إسلام عمر بن الخطاب، لما كان يرى من غلظته وشدة قسوته على الاسلام.
وما كان الذي ظنته (أم عبدالله بن عامر) من رقته إلا وهما.
أو هذا هو ما تعلل به المشركون وهم يسمعون ما أنكرت آذانهم من القصة الغريبة عن إسلام عمر بن الخطاب.
خرج متوشحا سيفه، وأخذ مسراه إلى (الصفا) وفي عينيه بريق يتوهج.(1/116)
فهناك عند الصفا بيت يعرفه، سمع أن محمدا يجتمع فيه مع رهط من صحابته، نحو أربعين، ليعبدوا رب محمد.
وفي طريقه إلى هذا البيت عند الصفا، لقيه (نعيم بن عبدالله) فسأله: أين تريد يا عمر ؟ أجاب: أريد محمدا هذا الصابئ الذى فرق أمر قريش وسفه أحلامها وعاب دينها وسب آلهتها، فأقتله.
قال له نعيم: - غرتك نفسك يا عمر ! أترى بني عبد مناف تاركيك تمشي على الارض وقد قتلت محمدا ؟ أفلا ترجع إلى أهل بيتك فتقيم أمرهم ؟ سأله عمر مستريبا:
- وأي أهل بيتي ؟ قال نعيم: - صهرك وابن عمك، سعيد بن زيد بن عمر، وزوجه فاطمة بنت الخطاب.
أختك.
فقد والله أسلما وتابعا محمدا على دينه، فعليك بهما.
وصك الخبر مسمع عمر، فعدل عن طريق الصفا وانطلق إلى بيت صهره وابن عمه، يهدر بالغضب والوعيد.
فلما دنا من البيت، توقف يصغي إلى تلاوة خافتة، ثم اقتحم الباب فلمح أخته فاطمة تخفي صحيفة معها.
سأل وهو ينقل بصره بينها وبين زوجها سعيد:(1/117)
- ما هذه الهيمنة التي سمعت ؟ لقد أخبرت أنكما تابعتما محمدا على دينه.
وبطش بابن عمه سعيد بن زيد، فقامت فاطمة لتكفه عن زوجها فضربها فشجها، وعندئذ قالا معا، في تحد وإصرار: - نعم لقد أسلمنا وآمنا بالله ورسوله، فاصنع ما بدا لك.
وفجأة تراخت قبضة عمر عن سعيد، وكأنما أخذ بإيمانهما أو كأنه ندم حين رأى دم أخته يتدفق من أثر شجته.
قال لها مسترجعا: - أعطيني هذه الصحيفة التي سمعتكم تقرأون منها آنفا، أنظر ما هذا الذي جاء به محمد.
وأقسم لها بآلهته، ليردن الصحيفة إليها بعد أن ينظر ما فيها.
لكنها أبت عليه أن يمسها حتى تطهر، فأعطته إياها وفيها (سورة طه)
وقرأها عمر فبدا عليه الخشوع وقال: - ما أحسن هذا الكلام وأكرمه ! وعاد الساري فأخذ طريقه إلى الصفا.
طرق باب البيت على المصطفى وصحابته، فقام رجل منهم فنظر من خلل الباب، ثم أقبل على المصطفى فقال وما يخفي فزعه: - يا رسول الله، هذا عمر بن الخطاب متوشحا السيف.
قال عليه الصلاة والسلام: (ائذن له).
ونهض إليه فلقيه في الحجرة وسأله: - ما جاء بك يا ابن الخطاب ؟(1/118)
أجاب عمر: جئتك لاومن بالله، وبرسوله، وبما جاء من عند الله.
عندئذ كبر المصطفى عليه الصلاة والسلام تكبيرة عرف منها أهل البيت من الصحابة (أن عمر قد أسلم).
وسرى صداها في أرجاء مكة بخبر إسلام عمر، فبات المشركون بين مصدق ومكذب.
حتى غدا (عمر) عليهم في أنديتهم حول الكعبة، وقد تقدمه ابن معمر الجمحي، فصاح بأعلى صوته: - يا معشر قريش، ألا إن عمر بن الخطاب قد صبأ.
قال (عمر) من خلفه: - كذب، ولكني أسلمت وشهدت أن لا إله إلا الله، وأن محمدا عبده ورسوله.
وثاروا إليه، فواجههم فردا لا يباليهم، ثم أخذ مجلسه قرب الكعبة
وهو يقول: - افعلوا ما بدا لكم، فأحلف بالله أن لو كنا ثلاثمائة رجل لقد تركناها لكم أو تركتموها لنا !.(1/119)
الحصار.
وعام الحزن (ما عندكم ينفذ وما عند الله باق، وليجزين الذين صبروا أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون).
(صدق الله العظيم) لم يكن المشركون من قريش قد أفاقوا من صدمة إسلام عمر بن الخطاب، حين عاد وافداهم إلى النجاشي، يحملان إلى مكة صدمة الخيبة وفشل المسعى.
فهل لم يبق إلا الحرب ؟ لقد رفض المصطفى كل ما عرضوه عليه من مقترحات ليكف عن دعوته، وأبى أن يساوموه على دينه.(1/120)
وكذلك فشلت كل المفاوضات مع أبي طالب، ليكف عنهم ابن أخيه أو يخلي بينهم وبينه.
والاسلام يفشو في القبائل، وزعامة قريش تهتز وتترنح، وتوشك أن تفقد سيطرتها على الموقف، وقد اعتز الاسلام بحمزة بن عبدالمطلب وعمر بن الخطاب، ومثلهما في الرجال قليل.
وهذا النجاشي يفتح بلاده لمن يهاجر من المسلمين، ويؤمن كل من يلجأ إليه منهم، ويأبى أن يمسهم أذى في جواره.
وبدأت قريش تتأهب لجولة حاسمة، ولمح أبو طالب نذر الشر فدعا عشيرته الاقربين إلى منع محمد - صلى الله عليه وسلم - والقيام دونه، فأجابوه، إلا أبا لهب، عبد العزى ابن عبدالمطلب بن هاشم.
لكن قريشا، وقد عيل صبرها من صبر المسلمين، كرهت أن تخوض حربا مسلحة مع آل عبدالمطلب وبني هاشم، وهم من صميمها.
واستقر الرأي بعد طول مداولات، على أن تفرض عليهم حصارا اقتصاديا واجتماعيا لا يرحم.
واجتمع زعماء قريش فائتمروا فيما بينهم على مقاطعة بني هاشم: لا يصهرون إليهم ولا يبيعونهم شيئا ولا يبتاعون منهم.
وسجلوا حلف التعاقد في صحيفة علقوها في جوف الكعبة، توثيقا لحرمتها وتوكيدا على أنفسهم في التزامها (1).
__________
(1) السيرة النبوية لابن هشام: 1 / 379 وتاريخ الطبري: 2 / 225.
[ * ](1/121)
وأقاموا على ذلك الحلف المشئوم زمنا، سنتين أو ثلاثا، لقي فيها المسلمون والهاشميون من جهد الحصار ما لا يحتمل، وحيل بينهم، وقد انحازوا إلى شعب أبي طالب، وبين الطعام والشراب يشترونه من التجار الوافدين على أسواق مكة، وقد يأتي أحد المنحازين إلى الشعب سوق مكة يلتمس قوتا يشتريه لعياله، فيقوم أبو لهب ويصيح بالتجار: (غالوا على أصحاب محمد حتى لا يدركوا معكم شيئا، وقد علمتم مالي ووفاء ذمتي).
فيزيد التجار ثمن السلعة أضعافا مضاعفة، ويرجع أصحاب محمد إلى صبيتهم بالشعب وليس في أيديهم طعام، ويرجع التجار إلى أبي لهب فيفيهم ثمن ما غالوا فيه على المحاصرين فلم يدركوه.
وبلغ منهم الجوع وجهد الحصار مبلغا يصوره قول (سعد بن أبي وقاص) بعد محنة الحصار بسنين: (لقد جعت حتى إني وطئت ذات ليلة على شئ رطب فوضعته في فمي وبلعته، وما أدري ما هو حتى الآن).
وكانت التمرة الواحدة ربما وقعت لاثنين منهم يقتسمانها فيكون أحسنهما حظا من وقعت نواة التمرة في قسمه، يلوكها بقية يومه ! وإنما كان طعامهم الخبط وورق السمر، وما قد يأتيهم به سرا بعض ذوي رحمهم، بدافع من المروءة والنجدة، مستخفيا به من طواغيت قريش الساهرين على إحكام الحصار وإنفاذ وثيقة المقاطعة.
نقل ابن هشام في (السيرة النبوية) والطبري في (تاريخه) أن أبا(1/122)
جهل بن هشام لقي (حكيم بن حزام بن خويلد الاسدي) معه غلام يحمل قمحا، يريد به عمته (خديجة بنت خويلد) مع زوجها المصطفى في شعب أبي طالب.
فتعلق أبو جهل بحكيم وقال له: - أتذهب بالطعام إلى بني هاشم ؟ والله لا تبرح أنت وطعامك حتى أفضحك بمكة.
ولمحهما (أبوالبختري بن هاشم الاسدي) فجاء يسأل أبا جهل: مالك وله ؟ قال: يحمل الطعام إلى بني هاشم.
فما راعه إلا أن قال أبوالبختري: (وما في هذا ؟ طعام كان لعمته عنده، بعثت إليه فيه.
أفتمنعه أن يأتيها بطعامها ؟ خل سبيل الرجل).
فرفض أبو جهل أن يستجيب له، وتشادا فأخذ أبوالبختري لحي بعير فضربه به فشجه، ووطئه وطئا شديدا.
وحمزة بن عبدالمطلب يرى ذلك من قرب، ويتأهب للبطش بأبي جهل.
وهم يكرهون مع هذا ان يبلغ خبر ذلك ومثله، رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه بالشعب.
ثم كان لليل الحصار آخر: اهتزت ضمائر نفر من قريش فأنكروا الحلف المشئوم الذي تورطوا(1/123)
في التعاقد عليه منفعلين بعاطفة الجماعة وغريزة القطيع.
وقد صبروا عليه طويلا مكرهين، حتى بلغ ذروته القاسية في مثل ما كان من أبي جهل بن هشام مع حكيم بن حزام.
وكان أول من تكلم في الحلف وسعى في نقضه (هشام بن عمرو ابن ربيعة العامري) وكانت تربطه بالهاشميين صلة رحم، فهو ابن أخي نضلة بن هاشم، لامه.
وقد دأب طول مدة الحصار، على أن يصلهم.
فكان يأتي ليلا بالبعير قد أوقره طعاما أو ثيابا، حتى إذا بلغ به مدخل الشعب خلع خطامه من رأسه وضربه على جنبه، فيدخل البعير الشعب على من فيه، بما يحمل.
فلما طال عليهم جهد الحصار، مشى هشام بن عمرو بن ربيعة العامري، إلى (زهير بن أبي أمية بن المغيرة المخزومي زاد الركب)
وأمه عاتكة بنت عبدالمطلب، عمة المصطفى.
قال له هشام: (يا زهير، أقد رضيت أن تأكل الطعام وتلبس الثياب وتنكح النساء، وأخوالك حيث علمت، لا يباعون ولا يبتاع منهم، ولا ينكحون ولا ينكح إليهم ؟ أما إني أحلف بالله أن لو كانوا أخوال أبي الحكم بن هشام ثم دعوته إلى مثل ما دعاك إليه منهم، ما أجابك إليه أبدا).
ففكر زهير مليا ثم سأل: (ويحك يا هشام، فماذا أصنع ؟ إنما أنا رجل واحد.
والله لو كان(1/124)
معي رجل آخر لقمت في نقض الصحيفة حتى أنقضها).
قال هشام: قد وجدت رجلا.
فسأله: من هو ؟ أجاب: أنا ! قال زهير: ابغنا رجلا ثالثا.
فذهب هشام إلى (المطعم بن عدي بن نوفل بن عبد مناف) فقال له: (يا مطعم، أقد رضيت أن يهلك بطنان من بني عبد مناف، وأنت شاهد على ذلك موافق لقريش فيه ؟ أما والله لئن أمكنتموهم من هذه، لتجدنهم إليها منكم سراعا).
فكان جواب مطعم كجواب زهير.
وخرج هشام يبغي رجلا رابعا، فاختار (أبا البختري بن هشام الاسدي) لما عرف من مروءته ونخوته، وما ذاع من خبره مع أبي جهل
حين أراد أن يحول بين حكيم بن حزام الاسدي، والذهاب بالطعام إلى عمته.
حدثه هشام العامري بمثل ما حدث به صاحبيه زهيرا ومطعما، وسأله أبوالبختري: هل أجد من يعين على هذا ؟ أجاب هشام: نعم، زهير بن أبي أمية المخزومي زاد الركب، ومطعم بن عدي بن نوفل، وأنا، معك).
فنظر أبوالبختري بعيدا إلى ما يتوقع من حمق قريش في غضبها للحلف المعقود الموثق، وطلب إلى هشام أن يبغي مؤيدا خامسا، فذهب(1/125)
إلى (زمعة بن الاسود بن عبدالمطلب الاسدي) فكلمه في بني هاشم، وذكر له قرابتهم منه وحقهم عليه.
فأجاب زمعة.
وتواعد الرجال الخمسة على اللقاء ليلا بخطم الحجون، أعلى مكة.
وهنالك أجمعوا أمرهم وتعاهدوا على القيام في أمر الصحيفة الظالمة حتى ينقضوها.
واختاروا من بينهم (زهير بن أبي أمية المخزومي.
ليكون أول من يجاهر برفض الصحيفة ونقض الحلف، في مجتمع قريش بأم القرى.
فلما أصبحوا وغدت قريش إلى أنديتها، غدا (زهير) عليه حلة، فطاف بالبيت العتيق سبعا ثم أقبل على الناس فقال: (يا أهل مكة، أنأكل الطعام ونلبس الثياب وبنو هاشم هلكى لا يباع لهم ولا يبتاع منهم ؟ والله لا أقعد حتى تشق هذه الصحيفة القاطعة الظالمة).
صاح أبو جهل بن هشام، وكان في ناحية من البيت الحرام:
(كذبت، والله لا تشق).
فرد عليه زمعة بن الاسود: (أنت والله أكذب، ما رضينا كتابها حيث كتبت !) وثنى أبوالبختري: (صدق زمعة، لا نرضى ما كتب فيها ولا نقره).
وأيدهما مطعم بن عدى: (صدقتما، وكذب من قال غير ذلك، نبرأ إلى الله منها ومما كتب فيها).(1/126)
وتكلم هشام بن عمرو، فقال نحو ما قالوا.
وبهت أبو جهل، والاصوات تأتيه من كل ناحية بالتكذيب والرفض، فنقل بصره حائرا بين هؤلاء الرجال الخمسة، ثم لم يجد في أخذة المباغتة بموقفهم سوى أن يقول: (هذا أمر قضي فيه بليل، تشوور فيه بغير هذا المكان).
لم يلقوا إليه بالا، وقام المطعم على مرأى من الجمع، وأبو طالب هناك قد انتحى ناحية من المسجد - فانتزع الصحيفة من مكانها في جوف الكعبة ليشقها، فإذا بالارضة قد أكلتها وأتلفتها، لم تدع منها إلا كلمة: (باسمك اللهم) !.
وجمت قريش، ونهض أبو طالب يسعى إلى من في شعبه بالبشرى، وقد ذكر وهو في طريقه من البيت العتيق، بنيه الذين هاجروا إلى الحبشة، فهتف منشدا، يرجو أن يبلغهم هنالك صدى صوته: ألا هل أتى بحرينا صنع ربنا *
على نأيهم، والله بالناس أرود فيخبرهم أن الصحيفة مزقت * وأن كل ما لم يرضه الله مفسد تراوحها إفك وسحر مجمع * ولم يلف سحر آخر الدهر يصعد(1/127)
جزى الله رهطا بالحجون تتابعوا * على ملا، يهدي لحزم ويرشد قعودا لدى خطم الحجون كأنهم * مقاولة، بل هم أعز وأمجد قضوا ما قضوا في ليلهم ثم أصبحوا * على مهل إذ سائر الناس رقد وكنا قديما لا نقر ظلامة * وندرك ما شئنا ولا نتشدد فيا لقصي هل لكم في نفوسكم * وهل لكم فيما يجئ به غد فإني وإياكم كما قال قائل: * (لديك البيان لو تكلمت أسود) (1) وأيقظ صوته كل من في الشعب، فهللوا للبشرى وهتف المسلمون منهم: (الله أكبر).
وسعوا إلى الكعبة فطافوا بها، ثم آبوا إلى بيوتهم في أم القرى، ينتظرون ماذا يكون من أمر قريش بعد أن تهاوى الحصار.
__________
(1) حديث الحصار هنا، منقول من (السيرة النبوية) 1 / 379 و (تاريخ الطبري) 2 / 225.
[ * ](1/128)
لكن محنة الحصار لم تنجل إلا لتسلم إلى ليل طويل لا يبدو له آخر.
ماتت (السيدة خديجة) أم المؤمنين الاولى، وزوج نبيهم المصطفى وسكنه ووزيره، في العاشر من رمضان سنة عشر من المبعث.
ومات في العام نفسه (أبو طالب) عم المصطفى وكافله ومانعه، ومن كان له عضدا وحرزا وناصرا على قومه.
فأحيا موتهما ما مات من أمل المشركين في النصر بعد تهاوي الحصار، فعادت وطأة الاضطهاد إلى أشد ما كانت عليه قبل (عام الحزن).
وأحس المصطفى وحشة الغربة في بيته وأرض مبعثه، واشتدت عليه وطأة الحزن لفقدهما، حتى خيل لاعدائه أن النصر عليه جد قريب، ما دروا أن الظلمة تشتد قبيل الفجر ! أدرك عليه الصلاة والسلام أن الموقف لا بد أن يتخذ متجها آخر.
وراح يمد بصره إلى ما وراء مكة، يستوعب أبعاد الرؤية لما يحتمل من متجه الاحداث.(1/129)
الاسراپء (سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الاقصى الذى باركنا حوله لنريه من آياتنا، إنه هو السميع البصير).
(صدق الله العظيم)
قبل الهجرة كانت رحلة الاسراء، وقد اقترب أوان التحرك إلى موقع جديد، بعد أن بلغت الجولة المكية ذروة تعقدها.
واحتاج مثل ذلك التحول الخطير إلى عملية امتحان قبله، تستخلص الصفوة المؤمنة التي تصلح لاجتياز معبر التحول، وتقدر على حمل تكاليف الجهاد في الجولة الصعبة التي كانت تنتظر الاسلام في دار هجرته.(1/130)
وفى الواقع التاريخي، أن السنوات العشر الاولى من المبعث، مضت تمتحن المسلمين الاولين بالفتنة والاذى والاضطهاد.
وقد تأخر الاذن لهم في القتال، ريثما تتم عملية الامتحان والتمحيص، فكان الثبات لوطأة الفتنة وجهد الحصار، يستصفي للاسلام جنده المخلصين.
ثم جاءت آية الاسراء، تتمة حاسمة لهذا الاستصفاء.
لم تكد الليلة في أولها، تختلف عن ليال سابقات تتابعت على مدى سنين، من ليلة المبعث: طواغيت المشركين من قريش مجتمعون في دار الندوة، يحورون ويدورون في حلقة مفرغة، التماسا لوسيلة أو ثغرة ينفذون منها عبر الطريق المسدود.
والمصطفى عليه الصلاة والسلام، قد أقام صلاة العشاء فيمن كان معه من آله وصحبه، وأوى إلى خلوته يتعبد ويتهجد كعادته في كل ليلة، وما من أحد يتوقع أن يأتي الفجر القريب بجديد غير المعهود المألوف في أم القرى.
وبزغ نور الفجر، والمصطفى حيث تركه آله وأصحابه بعد صلاة
العشاء، وقام عليه الصلاة والسلام فصلى بمن معه، ثم جلس فيهم بعد الصلاة يحدثهم أنه قد أسري به في ليلته تلك، من المسجد الحرام إلى المسجد الاقصى.(1/131)
واشرأبت إليه قلوبهم، وشدت أسماعهم إلى حديث الاسراء، ولو استطاعوا لامسكوا أنفاسهم المبهورة، لكي يخلص إليهم صوت نبيهم في أنقى صفائه وتفرده.
وانتهى الحديث، وران عليهم صمت خاشع، أخذهم فيه العجب كل مأخذ وهم يستعيدون فيما بينهم وبين أنفسهم حديث الاسراء، ويحاولون أن يستوعبوا أبعاد رؤياه الباهرة، ويتمثلوا مشاهده المثيرة.
ولعلهم ما كانوا ليجرحوا هذا الصمت، لولا أن رأوا النبي عليه الصلاة والسلام يقوم من مصلاه، آخذا طريقه إلى حيث كان أهل مكة قد بدأوا حركتهم اليومية مع مشرق الصبح.
عندئذ قامت (أم هانئ بنت أبي طالب) فتشبشت بابن عمها المصطفى، تضرع إليه ألا يحدث الناس بما رأى، لئلا يكذبوه.
وتلبث عليه الصلاة والسلام يسمع ما تقول بنت عمه، وقد أدرك ما يساورها من قلق وخوف.
ثم استأنف سيره ليلقى القوم، مسلمين ومشركين، بحديث الاسراء.
ماذا قال عليه الصلاة والسلام عن مسراه في تلك الليلة ؟ وما الذى نزل في الاسراء من آيات القرآن ؟ في صحيح الحديث تفصيل لرحلة الاسراء من بدئها في المسجد
الحرام:(1/132)
جاء (جبريل) أمين الوحي، والمصطفى نائم.
فأيقظه من نومه وحمله على البراق - دابة بين البغل والحمار - وانطلق يسري به حتى وصل إلى بيت المقدس، حيث وجد فيه ابراهيم وموسى وعيسى، في نفر من الانبياء عليهم السلام، فأمهم المصطفى للصلاة.
ومن الصحابة من يقتصر - فيما نقل ابن هشام عن ابن اسحاق في: السيرة النبوية - على هذه الرحلة من المسجد الحرام إلى المسجد الاقصى، ذهابا وأوبة.
ومنهم كثير، يروون معها قصة المعراج من بيت المقدس صعودا في السماء إلى سدرة المنتهى، ثم عودة إليه حيث ينطلق البراق ساريا بالمصطفى إلى موضعه الاول، بالمسجد الحرام (1).
وهذا الحديث مروي بإسناد عن عدد من الصحابة رضي الله عنهم، وقد يختلفون في بعض التفاصيل، لكن الحديث في جملته ليس موضع خلاف: ففي المكان الذي بدأ منه الاسراء، هناك رواية تقول إن المصطفى كان نائما بالحجر حين أتاه جبريل فأيقظه.
وتؤيدها آية الاسراء بصريح قوله تعالى: (من المسجد الحرام).
وهناك رواية أخرى عن (أم هانئ بنت أبى طالب) قالت: (ما أسري برسول الله صلى الله عليه وسلم إلا وهو في بيتي: نام عندي تلك الليلة فصلى العشاء الآخرة، ثم نام ونمنا.
فلما كان قبيل
__________
(1) أنظر تفصيل الاسراء والمعراج، في (السيرة النبوية لابن هشام): 2 / 36 ط الحلبي.
[ * ](1/133)
الفجر أهبنا صلى الله عليه وسلم، فلما صلى الصبح وصلينا معه قال: يا أم هانئ، لقد صليت معكم العشاء الآخرة كما رأيت بهذا الوادي، ثم جئت بيت المقدس فصليت فيه.
ثم قد صليت صلاة الغداة معكم كما ترين).
ومع نص آية الاسراء: (من المسجد الحرام) حمل المفسرون رواية أم هانئ، على أن المسجد الحرام يمكن أن يتأول في معنى الحرم، والحرم كله مسجد.
ولم يذكر القرآن الكريم تفصيلا لمشاهد الاسراء، فليس في سورته إلا آيتها الاولى التي تحدد مجال الاسراء وغايته: (سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الاقصى الذى باركنا حوله لنريه من آياتنا إنه هو السميع البصير) ومعها، آية الرؤيا من سورة الاسراء: (وما جعلنا الرؤيا التى أريناك إلا فتنة للناس).
فهل كان الاسراء من تجلي الرؤيا، أو كان حقيقة بالجسد ؟ ذلك ما اختلف فيه الصحابة أنفسهم: في رواية عن (ابن عباس): (إنها رؤيا عين أريها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وليست رؤيا منام).
ورواية أخرى عن السيدة (عائشة أم المؤمنين) تقول:(1/134)
(ما فقد جسد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن الله أسرى
بروحه).
وقد نقل ابن إسحاق هذا الخلاف بين أن يكون الاسراء بالجسد حقيقة، أو بالروح رؤيا، ثم قال: (وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيما بلغني، يقول: تنام عيناي وقلبي يقظان.
(والله أعلم أي ذلك كان قد جاءه، وعاين فيه ما عاين من أمر الله، على أي حاليه كان: نائما أو يقظان، كل ذلك حق وصدق) (1).
وكان ما أراد الله للاسراء برسوله، من (فتنة للناس) وابتلاء لمن آمنوا منهم، وللذين أسلموا ولم يدخل الايمان في قلوبهم.
وقد يكفي لبيان ما كان من فتنة الاسراء، أن نقرأ ما نقل (ابن هشام) رواية عن ابن إسحاق: (فلما أصبح صلى الله عليه وسلم، غدا على قريش فأخبرهم الخبر.
فقال أكثر الناس: (هذا والله العجب البين.
والله إن العير لتطرد شهرا من مكة إلى الشام مدبرة، وشهرا مقبلة، أفيذهب ذلك محمد في ليلة واحدة، ويرجع إلى مكة ؟).
(فارتد كثير ممن كان أسلم.
وذهب الناس إلى أبى بكر - ولم يكن قد سمع بعد حديث المصطفى عن الاسراء - فقالوا له:
__________
(1) ابن هشام: السيرة، 2 / 37 واقرأ معه: تفسير الطبري لآية الاسراء.
[ * ](1/135)
- هل لك يا أبا بكر في صاحبك ؟ يزعم أنه قد جاء هذه الليلة بيت المقدس وصلى فيه ورجع إلى مكة ! فقال لهم أبو بكر:
- إنكم تكذبون عليه.
قالوا: بلى، ها هو ذاك في المسجد يحدث به الناس.
قال أبو بكر: - والله لئن كان قاله، لقد صدق.
فما يعجبكم من ذلك ؟ فوالله إنه ليخبرني أن الوحي ليأتيه من السماء إلى الارض في ساعة من ليل أو نهار، فأصدقه، فهذا أبعد مما تعجبون منه) (1).
وغير بعيد من رواية (السيرة) ما نقله (الامام الطبري) في تفسيره: (قال المشركون من قريش: تعشى - فينا بمكة - وأصبح فينا، ثم زعم أنه جاء الشام في ليلة ثم رجع ! وايم الله إن الحدأة لتجيئها في شهرين: شهرا مقبلة وشهرا مدبرة.
ما كان محمد لينتهي حتى يأتي بكذبة تخرج من أقطارها.
(فأتوا أبا بكر فقالوا له: - هذا صاحبك يزعم أنه أتى الشام في ليلته فصلى ببيت المقدس ثم رجع ! فرد أبو بكر: - أو قد قال ذلك ؟ والله لئن كان قاله لقد صدق).
__________
(1) ابن هشام: السيرة النبوية: 2 / 39.
[ * ](1/136)
فلما جادلوه فيه، قال: أصدقه بخبر السماء - وحيا - والسماء أبعد من بيت المقدس، ولا أصدقه بخبر بيت المقدس ؟ (ثم أقبل أبو بكر حتى انتهى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأله:
- يا نبي الله، أحدثت هؤلاء القوم أنك جئت بيت المقدس هذه الليلة ؟ قال عليه الصلاة والسلام: نعم.
فسأله أبو بكر أن يصفه له، فجعل رسول الله يصفه لابي بكر، فكلما وصف منه شيئا قال أبو بكر: - صدقت، أشهد أنك رسول الله.
قال عليه الصلاة والسلام لصاحبه: - وأنت يا أبا بكر الصديق) (1).
وحقق الاسراء آيته: فتنة وابتلاء وتمحيصا: نحى عن حزب الله من رابهم أمر الاسراء بالمصطفى، وليس أعجب من الوحي يأتيه من الله سبحانه.
واستصفى للاسلام جنده المخلصين، ممن صح إيمانهم وصدقت عقيدتهم.
وصدق الله تعالى: (وما جعلنا الرؤيا التى أريناك إلا فتنة للناس).
__________
(1) تفسير الطبري: ج 15 (سورة الاسراء).
[ * ](1/137)
(3) بوادر التحول - نجران.
ويثرب - ابواب موصدة - بيعة العقبة ومتجه الاحداث(1/139)
نجران.
ويثرب (قتل أصحاب الاخدود * النار ذات الوقود * إذ هم عليها قعود * وهم على ما يفعلون بالمؤمنين شهود * وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد).
(صدق الله العظيم) حتى عام الحزن، كانت نجران ويثرب تبدوان بعيدتين عن مسرح الاحداث.
وفى نجران مركز النصرانية في بلاد العرب.
وفى يثرب وما حولها من شمال الحجاز، مستعمرات يهود.
وقد يظن ألا يختلف موقف نصارى نجران من الاسلام عن موقف(1/141)
يهود الشمال، وهؤلاء وأولئك أهل كتاب يتلون التوراة والانجيل ويصدقون برسالات الله.
لكن موقفهما في الواقع التاريخي كان جد مختلف: نصارى نجران عرب مؤمنون، فيهم رهبان بررة كانوا هناك ملء القلوب والاسماع، إخلاصا في العبادة وعزوفا عن الشهوات وعزوفا عن أعراض الدنيا.
ويهود يثرب أجانب طارئون دخلاء، يدعون الموسوية ذريعة استغلال، وفيهم أحبار ذوو عدد، شغلوا عن الدين بالدنيا.
راب نصارى نجران قبيل الاسلام، أن كان اليهود ممن روجوا لبشرى المبعث.
فهل قصدوا بهذا إلى أن يلقوا غشاوة على أبصار العرب،
كيلا تلمح على سحنتهم بصمة الجريمة النكراء للائتمار بالسيد المسيح عليه السلام ؟ لقد بعد العهد بها، كما بعد مسرحها في القرية الظالمة عن بلاد الحجاز وأرض المبعث، لكن النصارى بوجه عام لم يكونوا لينسوا هذه الجريمة، فضلا عن أن ينسى نصارى نجران جريمة أخرى لم يتقادم عليها الزمن، بلغ ضحاياها عشرين ألفا من نصارى العرب في نجران، أول عهدها بالنصرانية.
المأساة بدأت حين وفد على ديارهم راهب نصراني صالح، ابتنى له خيمة بضواحي نجران وعكف على عبادة الله.
فمال إليه فتى عربي من أهلها، وكانوا على دين العرب أهل شرك، قد اتخذوا نخلة باسقة(1/142)
وثنا لهم، وجعلوا لها يوم عيد يعكفون فيه على نخلتهم ويعلقون عليهم أحسن ثيابهم وحلى نسائهم.
واسم الفتى العربي (عبدالله بن الثامر) وكان أبوه يرسله إلى ساحر مشهور هناك ليلقنه أسرار الصنعة، فكلما مر في طريقه إلى الساحر بخيمة الراهب، أطال الوقوف قريبا من بابه، يصغي إلى تراتيله وصلواته.
وعلى يد (ابن الثامر) تنصر أكثر عرب نجران، فسار إليهم (ذو نواس) بتحريض من يهود اليمن، فدعاهم إلى اليهودية وخيرهم بينها وبين القتل، فاختاروا أن يموتوا على دينهم، شهداء.
وأمر ذو نواس جنوده، وكلهم يهود، فحفروا أخدودا عميقا أوقدوا فيه النار، وسيق ألوف من النصارى المؤمنين فألقوا في نار
الاخدود، والمجرمون محيطون بهم يقتلون كل من يحاول الخلاص من الحريق، ضربا بالسيف.
وظلت مأساة الضحايا الشهداء - وفى الخبر أنهم قاربوا عشرين ألفا من الرجال والنساء - تؤرق نجران حتى أوان المبعث.
وفى أولئك الضحايا المؤمنين، وفى السفاحين من أصحاب الاخدود، نزلت آيات البروج: (والسماء ذات البروج * واليوم الموعود * وشاهد ومشهود * قتل أصحاب الاخدود * النار ذات الوقود * إذ هم عليها قعود * وهم على ما يفعلون بالمؤمنين شهود * وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله(1/143)
العزيز الحميد * الذي له ملك السموات والارض، والله على كل شئ شهيد * إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات ثم لم يتوبوا فلهم عذاب جهنم ولهم عذاب الحريق *) وعرب الحجاز كانوا قبل الاسلام بعيدا عن مأساة الاخدود، فألقوا أسماعهم إلى ما روج يهود من بشرى مبعث نبي حان زمانه، غير مستريبين فيما وراء هذه البشرى من قصد.
لكن نصارى نجران، رابهم الامر من يهود عقوا نبيهم موسى، وكفروا بالمسيح وائتمروا به وبمن اتبعه من المؤمنين.
وبعث المصطفى عليه الصلاة والسلام، ونجران على نصرانيتها.
وكان نصاراها بشهادة مؤرخي الاسلام: (أهل فضل وتقوى واستقامة) وقد سمعوا بأخبار المبعث من جيرانهم وأهل ملتهم نصارى الحبشة، وتوقعوا أن يكون ليهود دور خبيث مع الدين الجديد، وإن لم يكن
هذا الدور قد بدأ بعد.
وكان لا بد لنصارى نجران من أن يطمئنوا إلى رأى في الاسلام ونبيه العربي الامي وذلك ما لا سبيل إليه في دوامة الاخبار والشائعات التى تتعثر وتضطرب في طريقها إليهم، فتأتيهم مشوشة مختلطة.
وكان أن قرروا إرسال وفد منهم إلى مكة، يأتيهم بالخبر اليقين عن هذا الدين الجديد، ليكونوا منه على بينة.(1/144)
أخذ الوفد طريقه شمالا إلى مكة، عشرين رجلا من أهل الرأي والعلم فيهم، يلتمسون أن يلقوا نبي الاسلام ويكلموه وينظروا فيما جاء به، بعد ستة قرون وبعض قرن، من ميلاد المسيح عليه السلام.
وفى الحرم المكي، كان اللقاء.
دنوا من المصطفى وقد أخذ مجلسه عند الكعبة، فسألوه في دينه.
وحدثهم عليه الصلاة والسلام عن الاسلام فعرفوا أنه الحق من ربهم.
وتلا عليهم القرآن ففاضت أعينهم من الدمع خشوعا، وتفتحت قلوبهم المؤمنة لتلك الكلمات تخشع لها صم الجبال.
واستجابوا لله.
وفى طريقهم من مجلس المصطفى إلى باب البيت العتيق، عرض لهم أبو جهل بن هشام في نفر من طواغيت قريش، شق عليهم أن يصدق هؤلاء النصارى، وهم أهل كتاب، بنبوة محمد، فيوقعوا الريبة في نفوس العرب، من تكذيب المشركين من قريش.
قالوا لهم:
(خيبكم الله من ركب ! بعثكم من وراءكم من أهل دينكم ترتادون لهم لتأتوهم بخبر الرجل، فلم يطمئن مجلسكم عنده حتى فارقتم دينكم وصدقتموه بما قال.
ما نعلم ركبا أحمق منكم).
رد المؤمنون: (سلام عليكم، لا نجاهلكم.
لنا ما نحن عليه ولكم ما أنتم عليه.(1/145)
لم نأل أنفسنا وقومنا خيرا) (1) فيروى أن هذه الآيات، من سورة المائدة المكية، نزلت فيهم: (لتجدن أشد الناس عداوة للذين امنوا اليهود والذين أشركوا ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى، ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا وأنهم لا يستكبرون * وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق، يقولون ربنا آمنا فاكتبنا مع الشاهدين * وما لنا لا نؤمن بالله وما جاءنا من الحق ونطمع أن يدخلنا ربنا مع القوم الصالحين *) (صدق الله العظيم) فماذا عن (يثرب) عاصمة شمال الحجاز ؟ ماذا عن موقف عصابات يهود من نبى الاسلام الذى طالما بشروا بمبعثه مصدقا لما معهم من التوراة والانجيل، وما عرفهم التاريخ إلا قتلة الانبياء وأعداء كل دين ؟ كمنوا هناك في مستعمراتهم بالشمال الحجازى، يرصدون المواجهة الاولى بين الاسلام والوثنية، وأسماعهم مشدودة إلى مكة تلتقط أنباء الصراع الدائر هناك، وفى حسابهم أن قريشا سوف تتكفل بالقضاء على
الدعوة الجديدة في مهدها، فتريح اليهود الذين ما هدأ لهم بال منذ
__________
(1) ابن هشام: السيرة النبوية 2 / 32.
[ * ](1/146)
نزلت الكلمات الاولى من كتاب الاسلام، خوفا من أن يكشف عما زيفت يهود من الديانة الموسوية، وما حرفت من التوراة التي اتجروا بها وراحوا يمنون على العرب الاميين بأنهم أهل كتاب.
وإن مثلهم فيما حملوا من التوراة ثم لم يحملوها: (كمثل الحمار يحمل أسفارا، بئس مثل الذين كذبوا بآيات الله والله لا يهدي القوم الظالمين).
وإذ ألقت قريش بكل ثقلها في مقاومة الاسلام، توارت يثرب عن مسرح الاحداث، حتى كانت أم القرى هي التي اتصلت بها، والجولة المكية في عنفوان احتدامها: لقد راب قريشا في أمر الدين الجديد الذي تصدت لمقاومته في بغي وعناد، ثبات المصطفى والذين معه في وجه الوثنية الطاغية، وتفانيهم في سبيل عقيدتهم لم يردهم عنها أذى مهلك ولا حصار منهك، ولم تفلح معهم مساومة ولا مفاوضة.
ولقد جاوزت قريش المدى في اضطهاد الدعوة، والمسلمون يزدادون على الاذى صمودا واستبسالا، وإن أحدهم ليلقى الموت في سبيل دينه، ووجهه يتألق بنور الايمان والغبطة والرضى.
أفيمكن أن يكون هذا كله، في سبيل دعوة كاذبة ورسالة مفتراة ! ؟ وما الذي يعد به محمد أصحابه ؟ إنه لا يملك أن يرد عن نفسه أذى قريش إلا أن يشاء ربه، فضلا
عن أن يرده عمن اتبعوه وآمنوا برسالته.
وهو قد باع الدنيا ليدعو(1/147)
إلى ربه، فليس لديه مال يعوض به الذين أوذوا في سبيل دعوته وخرجوا من ديارهم وأموالهم مهاجرين بدينهم من الفتنة والبلاء.
إنما يعدهم محمد ثواب الآخرة ويبشرهم برضوان من ربه.
وفي الذين صدقوه من عرفوا بالحكمة وسداد الرأي، فهل كانوا بحيث يقبلون هذه الصفقة يبيعون فيها دنياهم بالآخرة، لو لم يكونوا موقنين من صدق الوعد ؟ وقريش تفهم أن يجود العربي بحياته دفاعا عن شرفه وذودا عن حماه، وتفهم كذلك أن يبذل العربي حياته غضبا لموروث العقائد والتقاليد والاعراف، لكنها ما عهدت قط مثل ذلك الجود السخي الباذل، جهادا في سبيل عقيدة طارئة غير موروثة، يدعو إليها بشر مثلهم يأكل الطعام ويمشي في الاسواق ! ورابها أكثر، أنه ما من عربي لقي محمدا وأصغى إليه غير معاند، إلا آمن بنبوته وصدق برسالته، وبايعه على الجهاد معه بالنفس والمال ! فماذا لو استفتت أحبار يهود بيثرب، في أمر هذا النبي البشر، لعلهم يحسمون هذا الهاجس من قلق وارتياب ؟ إنهم أهل كتاب، لديهم ما ليس لدى العرب الاميين من علم بالنبوة والانبياء، وعندهم تستطيع قريش أن تلتمس ما تطمئن به إلى(1/148)
موقفها العدائى من بشر يدعو إلى دين جديد، وما جربت على هذا الداعي كذبا قط، وإنه فيها للصادق الامين.
والكلمات التى يتلوها من وحي ربه، ليست مما يستطيعون أن يأتوا بمثلها.
وكان الامد قد طال على يهود في انتظار ما توقعت من حرب بمكة، تقضي على الاسلام وتنهك قريشا ان لم تحصدها حصدا، فتفتح ليهود أبواب أم القرى، وتمكن لهم من النفاذ إلى المركز التجاري الاكبر في بلاد العرب.
وغاظ اليهود أن تشتد وطأة قريش على المسلمين فلا ينفد لهم احتمال ولا يغلب لهم صبر ! كما غاظهم أن يطول صبر قريش على الموقف، فتلجأ إلى المساومة والمفاوضة، والى الايذاء والاضطهاد، ثم إلى المقاطعة والحصار، دون أن تتجاوز بالموقف حافة الحرب ! فمتى يفلت الزمام من أيدي المكيين فتخرج السيوف من أغمادها لتنهي الصراع الذي طال سنين ؟ في مثل هذا كانت يهود تفكر، حين جاءها خبر من مكة عن تشاور قريش في إرسال وفد منها إلى يثرب، يستفتي لها أحبار يهود في أمر النبي، بما لديهم من علم الكتاب.
واستعدت يهود للفرصة المواتية: شهدتهم مستعمراتهم في يثرب وتيماء وخيبر وفدك ووادي القرى.
يجتمعون إلى أحبارهم ويتدارسون.(1/149)
وتذاكروا فيما بينهم أنهم الذين روجوا في العرب لبشرى نبي حان مبعثه، وأنهم كذلك، طالما منوا على العرب الاميين بأنهم أهل كتاب ودين، وهذا النبي العربي يدعو إلى دين مصدق لما بين يديه من التوراة والانجيل، فكيف السبيل إلى تكذيب اليهود بمن بشروا بمبعثه ؟ ومن أي طريق يظاهرون عبدة الاوثان على داع إلى عبادة الله، رب موسى وعيسى، وابراهيم وإسحق وكل الانبياء المرسلين ! ؟ الموقف بالغ التعقيد والحرج، ولكن هل يخونهم دهاؤهم فلا يسعفهم بما يحتالون به عليه ؟ إنها فرصة سانحة للكيد للاسلام وقريش معا، لو تركوها تفلت منهم لعقوا دماءهم.
من هنا التشاور والمدارسة والتواطؤ، احتيالا على الموقف الصعب والتماسا لمخرج منه، وإعدادا للفتوى يقدمونها إلى وفد قريش المنتظر.
تسامع بنو هاشم بما عزمت عليه قريش من استفتاء يهود يثرب في نبوة محمد بن عبدالله، فتوجسوا شرا من هذه العصابة الخبيثة، واسترجعوا ذكرى بعيدة للعم أبى طالب بن عبدالمطلب، حين مر بالراهب (بحيرى) في طريقه إلى الشام في رحلة صيف.
وكان قد صحب معه ابن أخيه محمدا، غلاما لم يبلغ العاشرة بعد.
فلما رآه الراهب بحيرى توسم فيه مخايل غد موعود، ونصح لعمه (أن يعود(1/150)
به إلى بلده، وأن يحذر عليه شر يهود !) (1).
وقد مر على ذلك التحذير نحو أربعين سنة، نسي فيها بنو هاشم
ما كان، وغاب صوت الراهب التقي العابد في ضجيج الاحداث وكر السنين.
حتى بدا لقريش ان تستفتي في أمر محمد، هؤلاء اليهود الذين ذكرهم الراهب بحيرى لعمه أبي طالب، وحذره على ابن أخيه من شرهم.
وإذ لم يكن في استطاعة بنى هاشم أن يردوا قومهم قريشا عما أرادوا، وقد فسد ما بينهم منذ انحازوا إلى أبى طالب في منع محمد ابن عبدالله من قريش، لم يبق إلا أن ينتظروا وتنتظر مكة كلها، ما يكون من فتوى يهود.
أخذ (النضر بن الحارث، وعقبة بن معيط) طريقهما إلى يثرب، موفدين من قريش إلى أحبار يهود، التماسا لرأيهم في أمر محمد ودعوته.
وكانت يهود قد استعدت للقائهما وأعدت فتواها.
أسعفها مكرها فلم تفجأ قريشا بجحد صريح لنبوة طالما بشرت بها، وإنكار مباشر لدين يرفض عبادة الاوثان ويدعو إلى عبادة رب موسى وسائر الانبياء.
وآثرت أن تشغل القوم بمسائل تبلبل أفكارهم وتعنت نبى الاسلام.
__________
(1) السيرة لابن هشام: 1 / 191.
[ * ](1/151)
فكانت فتوى الاحبار للنضر وعقبة، أن يعودا إلى قومهم فليسألوا هذا الداعي عن ثلاث.
قالوا: (سلوه عن فتية ذهبوا في الدهر الاول، ما كان أمرهم ؟ فإنه قد كان لهم حديث عجيب.
(وسلوه عن رجل طواف قد بلغ مشارق الارض ومغاربها، ما كان
نبؤه ؟ (وسلوه عن الروح ما هي ؟ فإن أخبركم بذلك فاتبعوه، وإن لم يفعل فهو رجل متقول، فاصنعوا في أمره ما بدا لكم) (1).
وعاد الرجلان إلى مكة، فاتجها فور وصولهما إلى منتدى قريش، فأبلغاهم فتوى الاحبار.
وعجلوا إلى النبي الامي - عليه الصلاة والسلام - يعنتونه بالمسائل الثلاث، فما درى عليه الصلاة والسلام بم يجيب عنها، وما كان يتلو من قبل القرآن من كتاب ولا يخطه بيمينه.
واستمهلهم في الجواب عما سألوا عنه، عساه يتلقى الوحي بما يقول فيها.
لكنهم ألحوا عليه بإعناتهم، وقد عرفوا ألا جواب لديه عما يسألون من فتوى أحبار يهود.
حتى نزلت آية الاسراء (85) في الروح:
__________
(1) السيرة: 1 / 321.
[ * ](1/152)
(ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلا).
وبعدها نزلت سورة الكهف، وفيها الخبر عن أمر الفتية أصحاب الكهف: (أم حسبت أن أصحاب الكهف والرقيم كانوا من آياتنا عجبا * إذ أوى الفتية إلى الكهف فقالوا ربنا آتنا من لدنك رحمة وهيئ لنا
من أمرنا رشدا * فضربنا على آذانهم في الكهف سنين عددا * ثم بعثناهم لنعلم أي الحزبين أحصى لما لبثوا أمدا * نحن نقص عليك نبأهم بالحق، إنهم فتية آمنوا بربهم وزدناهم هدى.
) الآيات 9 - 12.
ومعها الآيات عن ذي القرنين الطواف: (ويسألونك عن ذي القرنين قل سأتلو عليكم منه ذكرا * إنا مكنا له في الارض وآتيناه من كل شئ سببا، فأتبع سببا.
حتى إذا بلغ مغرب الشمس وجدها تغرب في عين حمئة ووجد عندها قوما، قلنا يا ذا القرنين إما أن تعذب وإما أن تتخذ فيهم حسنا) إلى آخر الآيات من سورة الكهف 83 - 98.
وخاب مكر يهود وحبط سعيهم، وصدق الله تعالى: (قل هل ننبئكم بالاخسرين أعمالا * الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا * أولئك(1/153)
الذين كفروا بآيات ربهم ولقائه فحبطت أعمالهم فلا نقيم لهم يوم القيمة وزنا * ذلك جزاؤهم جهنم بما كفروا واتخذوا آياتي ورسلي هزوا *) الكهف 103 - 106.
وعادت يثرب فتوارت عن مسرح الاحداث إلى حين، دون أن تصرف سمعها عن الصراع الدائر بين الاسلام والوثنية بمكة، وهو يدنو من ذروة تعقده مؤذنا بوشك تحول في متجه الاحداث.
بل لقد بدا في ظاهر الامر أن (يثرب) حددت موقفها بالرفض البات للدعوة الاسلامية، حين أوشكت أن تصل إليها من بعيد.
وكان الخزرج، لا اليهود، هم الذين ردوها بحد السيف.
حدث أن قدم (سويد بن الصامت الاوسي) مكة حاجا في الموسم، فلقيه المصطفى حين سمع بمقدمه، ودعاه إلى الاسلام.
قال سويد: (فلعل الذي معك مثل الذي معي ؟).
ولما سأله النبي صلى الله عليه وسلم عما معه ؟ قال: (مجلة لقمان) - يعنى صحيفة حكمته.
فتلا عليه المصطفى آيات من القرآن، فلم يبعد منه حتى عاد إليه وقال: (إن هذا لقول حسن).
وانصرف وهو يتدبر ما سمع من القرآن، وكان شاعرا حكيما(1/154)
لا يخفى عليه وجه القول، فقدم يثرب على قومه وراح يتحدث إليهم عن معجزة الكتاب العربي المبين، فلم تلبث الخزرج أن قتلته، وفي حسابها أن يثرب ليست بحيث تحتمل وطأة دين جديد، وحسبها ما لقيت من شر يهود، يزعمون أنهم أهل كتاب ! (1).
وتكرر المشهد مع وفد آخر من الاوس جاءوا من يثرب، وإن اختلفت الاشخاص واختلف المكان.
وكان الاوس، هذه المرة، هم الذين ردوا الاسلام عن يثرب ! قدم (أنس بن رافع) مكة ومعه فتية من بني عبد الاشهل، فيهم إياس بن معاذ، يلتمسون الحلف من قريش على قومهم الاعداء من لخزرج.
وسمع بهم المصطفى عليه الصلاة والسلام، فأتاهم حيث نزلوا
بأم القرى، فعرض عليهم الاسلام وتلا فيهم آيات من القرآن.
قال إياس بن معاذ، وكان فتى حدثا سليم الفطرة: (أي قوم، هذا والله خير مما جئتم فيه، فما كان من زعيم الوفد، أنس بن رافع، إلا أن أخذ حفنة من تراب البطحاء فضرب بها وجه الفتى وهو يقول زاجرا: (دعنا منك، فلعمري لقد جئنا لغير هذا) (2).
فصمت إياس،
__________
(1، 2) السيرة النبوية لابن هشام: 2 / 67، 70.
[ * ](1/155)
وقام عنهم المصطفى صلى الله عليه وسلم، وقد هموا بارتحال عائدين إلى يثرب.
لكن منطق التاريخ لم يكن ليبقي يثرب طويلا بمعزل عن الاحداث، مهما يبد من ظاهر هذا الموقف أو ذاك.(1/156)
أبواب موصدة (قد نعلم إنه ليحزنك الذي يقولون، فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون * ولقد كذبت رسل من قبلك فصبروا على ما كذبوا وأوذوا حتى أتاهم نصرنا، ولا مبدل لكلمات الله ولقد جاءك من نباءي المرسلين) (صدق الله العظيم)
حتى عام الحزن، في السنة العاشرة من المبعث، لم يكن المصطفى عليه الصلاة والسلام قد خرج بدعوته من أم القرى، مهد مولده ومنزل مبعثه، إلا أن يلقى بعض الوافدين على الموسم فيدعوهم إلى الاسلام.(1/157)
ففي مكة قبل سواها، كان ينبغي أن تستقر الدعوة، بحكم التاريخ الديني العريق للبلد الحرام والبيت العتيق.
لكن عشر سنين من الصراع المرير بين الاسلام والوثنية القرشية، بلغت بالجولة المكية ذروة تعقدها وفرضت أن تأخذ الاحداث متجها آخر.
وبدأ المصطفى بالطائف، فخرج من مكة يلتمس النصرة من ثقيف والمنعة بهم من قومه، ويرجو أن يقبلوا منه دعوته التي تصدت لها قريش بالمقاومة والاضطهاد، بغيا وعنادا..خرج وحده، فلما انتهى إلى الطائف اتجه إلى ثلاثة إخوة، أبناء عمرو بن عمير الثقفي، هم يومئذ سادة ثقيف.
وكان أحدهم زوجا لقرشية من بني جمح.
فجلس إليهم صلى الله عليه وسلم حيث وجدهم في بستان لهم ودعاهم إلى الاسلام والتمس نصرتهم.
فكان رد أولهم، أنه يمرط ثياب الكعبة - أي ينزعها ويرمي بها - إن كان الله قد أرسله ! ورد الثاني: أما وجد الله أحدا يرسله غيرك ؟ وقال ثالثهم: والله لا أكلمك أبدا ! لئن كنت رسولا من الله كما تقول، لانت أعظم خطرا من أن أرد عليك الكلام.
ولئن كنت تكذب على الله فما ينبغي لي أن أكلمك.
فقام صلى الله عليه وسلم من عندهم، وقد يئس من خير ثقيف.
وأقصى ما طمع فيه منهم، أن يستجيبوا لرجائه في أن يكتموا أمره معهم، كيلا تزداد قريش جرأة عليه.(1/158)
لكنهم أغروا به سفهاءهم يسبونه ويصيحون به، حتى اجتمع عليه الناس وألجأوه إلى بستان لعتبة وشيبة ابني ربيعة، وهما فيه.
فجلس عليه الصلاة والسلام هناك ريثما ينصرف عنه الناس، وابنا ربيعة ينظران إليه ويريان ما لقي من سفهاء أهل الطائف.
رفع المصطفى وجهه إلى السماء وقال في ضراعة وابتهال: (اللهم إليك أشكو ضعف قوتي وقلة حيلتي وهواني على الناس يا أرحم الراحمين.
أنت رب المستضعفين وأنت ربي، إلى من تكلني ؟ إلى بعيد يتجهمني أم إلى عدو ملكته أمري ؟ إن لم يكن بك علي غضب فلا أبالي، ولكن عافيتك هي أوسع لي.
أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة، من أن تنزل بي غضبك أو يحل علي سخطك.
لك العتبى حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلا بك !).
فكأنما تحركت لضراعته رحم ابني ربيعة، فبعثا إليه بعض العنب مع غلام لهما نصراني يدعى (عداس).
ودهش عداس، حين سمع المصطفى يقول: باسم الله.
قال: والله إن هذا الكلام ما يقوله أهل هذه البلاد.
ولما حدثه المصطفى عن الاسلام، أكب عليه يقبل رأسه ويديه وقدميه.
لمحه سيداه، فانتظرا حتى عاد إليهما وسألاه:
- مالك تقبل رأس هذا الرجل ويديه وقدميه ؟(1/159)
أجاب: يا سيدي، ما في الارض خير من هذا، لقد أخبرني بما لا يقوله غير نبي.
قالا: ويحك يا عداس، لا يصرفنك عن دينك، فإن دينك خير من دينه.
رجع المصطفى إلى مكة محزونا يائسا من خير ثقيف، والموسم قد أهل.
فمضى على عادته يعرض دعوته على وفود القبائل العربية التي سعت إلى أم القرى.
وقومه أشد ما كانوا عليه من خلافه، إلا قليلا ممن آمن به.
وبدت الجولة في أولها مدعاة إلى يأس وقنوط: سعى إلى (منى) حيث مجتمع الحاج، فوقف على الحشود هناك يقول: (يا بني فلان، إني رسول الله إليكم، يأمركم أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا، وأن تخلعوا ما تعبدون من دونه وأن تؤمنوا بي وتصدقوا بي وتمنعوني حتى أبين عن الله ما بعثني به).
فخرج له من جمع قريش رجل أحول وضئ، له غديرتان وعليه حلة عدنية، فقام في الناس وقال: (يا بني فلان، إن هذا إنما يدعوكم إلى أن تسلخوا اللات والعزى من أعناقكم إلى ما جاء به من البدعة والضلالة، فلا تطيعوه ولا تسمعوا منه).
سأل سائل لا يعرفه:(1/160)
- من هذا الذى يتبع محمدا ويرد عليه ما يقول ؟
وأجاب مجيب: - ذاك عمه، عبدالعزى، أبو لهب، بن عبدالمطلب.
وانتظر المصطفى حتى انصرفت القبائل من (منى) إلى منازلها في مكة، فأتى كندة فدعاهم إلى الاسلام فأبوا عليه.
وكذلك رده بنو كلب، لم يقبلوا منه دعوته.
ثم أتى بني حنيفة في منازلهم، فلم يكن أحد من العرب أقبح ردا منهم.
وانتقل بدعوته إلى بني عامر بن صعصعة، فتداولوا أمره فيما بينهم، وإن أحدهم، فراس بن عبدالله بن سلمة العامري، ليقول: (والله لو أني أخذت هذا الفتى من قريش لاكلت به العرب).
ثم قام إلى المصطفى فقال يساومه: (أرأيت إن نحن بايعناك على أمرك، ثم أظهرك الله على من خالفك، أيكون لنا الامر من بعدك ؟).
قال عليه الصلاة والسلام: (الامر إلى الله يضعه حيث يشاء).
ورد المساوم عن بني عامر: (أفتهدف نحورنا للعرب دونك، فإذا أظهرك الله كان الامر لغيرنا ؟ لا حاجة لنا بأمرك !).(1/161)
بيعة العقبة ومتجه الاحداث (واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا، واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء
فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا، وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها، كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تهتدون).
(صدق الله العظيم) ومن حيث بدت الابواب كلها موصدة في وجه الاسلام، ظهرت يثرب على الافق الشمالي البعيد، تجذب إليها مجرى الاحداث من دائرته المقفلة في أم القرى.(1/162)
خرج المصطفى في الموسم كدأبه في كل موسم، يعرض الاسلام على وفود القبائل.
وبلغ العقبة فلقي رهطا من العرب، سألهم لما عرف أنهم من الخزرج: - أمن موالي يهود ؟ قالوا: نعم.
قال: أفلا تجلسون أكلمكم ؟ جلسوا، فدعاهم إلى الله عزوجل، وعرض عليهم الاسلام وتلا عليهم القرآن.
وذكروا ما طالما سمعوا من اليهود الذين غزوهم ببلادهم، عن نبي حان زمانه، يظاهرونه على عرب يثرب من أوس وخزرج فيقتلونهم.
قال بعضهم لبعض: (يا قوم، تعلموا والله إنه للنبي الذى توعدكم به يهود، فلا يسبقنكم إليه).
وأجابوه صلى الله عليه وسلم إلى ما دعاهم إليه، وقالوا: (إنا قد تركنا قومنا ولا قوم بينهم من العداوة والشر ما بينهم.
فعسى أن يجمعهم الله بك، فسنقدم عليهم فندعوهم إلى أمرك ونعرض عليهم الذى أجبناك إليه من هذا الدين، فإن يجمعهم الله عليه فلا رجل أعز منك).
ثم أخذوا طريقهم إلى الشمال عائدين إلى بلادهم وقد آمنوا بالله ورسوله عليه الصلاة والسلام.(1/163)
وشغلت يثرب بأمر الاسلام، منذ عاد إليها الخزرجيون الذين بايعوا المصطفى: العرب من أوس وخزرج، يلقون أسماعهم إلى حديث هؤلاء الانصار، ولا يكاد يفرغ لهم عجب لما يشهدون من حماستهم للدعوة، وصدق حبهم للرسول وإيمانهم برسالته.
ويهود، في شغل شاغل بهذه البادرة الخطرة.
كان الخزرجيون أصحاب البيعة الاولى، ستة نفر أو سبعة، لم يكن عددهم هو الذي شغل يهود، بقدر ما شغلهم أن الدين الاسلامي وصل إلى يثرب وكان الظن أن يبقى محصورا في مكة بين أحياء قريش يمزقها بددا.
وقد راحوا يترصدون خطوات الدعاة الاولين من الانصار، متعلقين بالرجاء في أن عرب يثرب لن يلبثوا أن يختلفوا على الاسلام، وأن الاوس لن ترضى عن دعوة حملها رهط من الخزرج، ومثل هذا الخلاف المتوقع مرجو لان يلهب نار العداوة والبغضاء بينهم، ويمدها بوقود يزيدها حدة وضراما:
لكن عاما مضى والانصار الخزرجيون ماضون في دعوتهم لا يصدهم عنها من قومهم صاد.
حتى إذا حل موسم الحج، ذاع خبر من مكة ان اثني عشر يثربيا ممن وافوا الموسم، لقوا نبي الاسلام عند العقبة وبايعوه.
وجن غيظ يهود وهي ترى في هذه البوادر إيذانا بتحول خطير في حركة الدعوة الاسلامية التى عاشت في مكة أكثر من عشر سنين،(1/164)
صامدة لكل ما قاومتها به الوثنية القرشية من أذى واضطهاد وحصار وفتنة، رافضة كل ما عرضت عليها من مساومات.
وانتظرت يثرب حتى عاد هؤلاء الرهط من الانصار، وفي الظن أنهم خزرجيون كسابقيهم أصحاب البيعة الاولى.
فكانت المفاجأة، أن فيهم ثلاثة من زعماء الاوس، مع تسعة من أحياء الخزرج.
جمعهم الاسلام ووحد بينهم وألف بين قلوبهم، وقد كانوا من قبل متباغضين، بعضهم لبعض عدو.
استقبلت يثرب مع الانصار العائدين من بيعة العقبة، صحابيا جليلا من صميم قريش، هو (مصعب بن عمير بن هاشم) موفدا من قبل المصطفى عليه الصلاة والسلام، مع الذين بايعوه من اليثربيين، ليقرئهم القرآن ويفقههم في الدين.
ونزل مصعب على أنصاري من سادة الخزرج: (أسعد بن زرارة) كبير بني النجار، أخوال عبدالله بن عبد المطلب، والد المصطفى..وكانت يثرب قد تسامعت قبل ذلك بما شاع وذاع من أمر مصعب بن عمير.
قبل إسلامه، كان فتى مكة شبابا وجمالا وزهوا، تلتمس له أمه،
لفرط شغفها به، أفخر الثياب وأندر العطور، حتى ليذكره النبي صلى الله عليه وسلم فيقول:(1/165)
(ما رأيت بمكة أحسن لمة ولا أرق ولا أنعم نعمة، من مصعب ابن عمير).
بلغ مصعبا يوما أن محمد بن عبدالله الهاشمي، في دار الارقم يدعو إلى الاسلام.
فاتجه إليه من تلقاء نفسه فبايعه.
وكتم إسلامه إشفاقا على أبويه اللذين شغفهما حبا.
حتى بصر به (عثمان بن طلحة) يصلي صلاة المسلمين، فأخبر قومه فأخذوه وحبسوه ليفتنوه عن دينه.
فلم يزل محبوسا إلى أن لاحت له فرصة الافلات فهاجر بدينه إلى أرض الحبشة.
وعاد إلى مكة مع من عادوا من مهاجرة الحبشة حين بلغتهم بشرى انهيار الحصار المنهك الذى ضربه المشركون على المسلمين ومن والاهم من بني هاشم.
فما رأت مكة فتى مثل مصعب، استبدل بأناقة المظهر بهاء الايمان، وبخيلاء النعمة جلال التقى وتواضع الخشوع.
واختاره المصطفى من بين أصحابه ليكون إمام الانصار في يثرب، فأقام عاما هناك يتنقل بين دورها: يؤم المسلمين في الصلاة ويعلمهم الدين ويتلو القرآن، فتخشع له القلوب والضمائر متفتحة لنور الهدى.
خرج مصعب يوما مع (أسعد بن زرارة) سيد الخزرج، وكان منزله عليه، إلى حي بني عبد الاشهل، واجتمع إليهما رجال من الانصار.
فسمع بمقدمهما (سعد بن معاذ، وأسيد بن حضير) وهما يومئذ سيدا قومهما، وكلاهما على الشرك، دين العشيرة والآباء.(1/166)
وتحرج سعد بن معاذ من مواجهة أسعد بن زرارة، وهو ابن خالته.
فحرض أسيد بن حضير على أن يقوم فيرده وصاحبه عن الحي.
قال: (لا أبا لك ! انطلق إلى هذين الرجلين - أسعد ومصعب - اللذين أتيا دارينا ليسفها ضعفاءنا، فازجرهما وانههما عن أن يأتيا دارينا، فإنه لولا أن أسعد بن زرارة مني حيث علمت، كفيتك ذلك.
هو ابن خالتي ولا أجد عليه مقدما).
فالتقط أسيد بن حضير حربته، ثم أقبل إليهما فقال متوعدا: (ما جاء بكما إلينا تسفهان ضعفاءنا ؟ اعتزلانا إن كانت لكما بأنفسكما حاجة).
قال له مصعب بن عمير: (أو تجلس فتسمع، فإن رضيت أمرا قبلته، وإن كرهته كف عنك ما تكره ؟).
فركز أسيد حربته وجلس متكئا عليها يسمع حديث مصعب عن الاسلام وتلاوته القرآن، وقد زايله تقبضه وتجهمه.
ثم قال متهلل الاسارير: (ما أحسن هذا الكلام وأجمله !).
وأسلم.
وانطلق عائدا إلى حيث ترك (سعد بن معاذ) ينتظره في الجمع من قومه.
فما لمحه سعد حتى قال لمن حوله: (أحلف بالله لقد جاءكم أسيد بن حضير بغير الوجه الذي ذهب به من عندكم).(1/167)
ثم سأله عما فعل بأسعد بن زرارة وضيفه مصعب، فرد أسيد محاذرا: (كلمت الرجلين فوالله ما رأيت بهما بأسا ! وقد نهيتهما، وإني لاخشى على ابن خالتك من بعض القوم).
فقام سعد مغضبا، فما أبعد حتى رأى أسعد ومصعبا يتجهان إليه مطمئنين، فعرف أن أسيد بن حضير إنما أراد له أن يسمع منهما.
وتجاهل مصعبا وقال لاسعد، ابن خالته: (يا أبا أمامة، أما والله لولا ما بيني وبينك من القرابة ما رمت هذا مني.
أتغشانا في ديارنا بما نكره).
همس أسعد لصاحبه: (أي مصعب، جاءك والله سيد من وراءه من قومه، إن يتبعك لا يتخلف عنك اثنان).
وأقبل مصعب على سعد بن معاذ فقال له مثل الذى قال لاسيد بن حضير: (أو تقعد فتسمع، فإن رضيت أمرا ورغبت فيه قبلته، وإن كرهته عزلنا عنك ما تكره ؟).
قال ابن معاذ: (أنصفت).
وتكلم مصعب وقرأ القرآن.
وقبل أن يلفظ سعد بكلمة، عرف القوم الاسلام في وجهه، لاشراقه وتهلله.(1/168)
وأسلم سعد، ومضى من فوره إلى قومه فسألهم:
(كيف تعلمون أمري فيكم) ؟ قالوا: (سيدنا، وأفضلنا رأيا وأيمننا نقيبة).
فدعاهم إلى الاسلام فأجابوا جميعا، فما أمسى في حي بني عبد الاشهل رجل ولا امرأة، إلا مسلما ومسلمة (1).
وكانت دور المسلمين تتجاوب منذ أول بيعة في العقبة، بشعر في السعدين: سعد بن عبادة وسعد بن معاذ، قبل إسلامهما: فإن يسلم السعدان يصبح محمد * بمكة لا يخشى خلاف المخالف فيا سعد، سعد الاوس، كن أنت ناصرا * ويا سعد، سعد الخزرجين الغطارف أجيبا إلى داعي الهدى وتمنيا * على الله في الفردوس منية عارف دون أن يعرف لمن الشعر، وكأنما هو هاتف يشدو بما كان المسلمون يرجونه من إسلام هذين الرجلين.
(2) وهذا سعد الاوس قد أسلم.
وبعده، في بيعة العقبة الكبرى، أسلم سعد الخزرج، ابن عبادة، وكان أحد اثني عشر نقيبا لاصحاب البيعة الكبرى.
__________
(1) السيرة لابن هشام: 1 / 80.
(2) الابيات رواها الطبري في تاريخه: 2 / 248.
والسمهودي في (وفاء الوفا): 1 / 228.
[ * ](1/169)
وتوقعت يهود، بل توقعت يثرب كلها والحجاز، أن يكون لهذا الامر ما بعده.
بعد إسلام (سعد بن معاذ) وكل قومه من بني عبد الاشهل، فشا الاسلام في يثرب فما من دار للعرب هناك، إلا وفيها للدين الجديد ذكر.
وأهل موسم الحج، لاثنتي عشرة سنة بعد المبعث.
وخرج إمام يثرب (مصعب بن عمير) ساعيا إلى أم القرى، يصحب رهطا من الانصار، فيهم من لم يكن لقي المصطفى بعد.
وفي الركب اليثربي، حجاج آخرون غير مسلمين..ودنا الركب من مشارف مكة، فتهللت وجوه الانصار ورنت قلوبهم إلى لقاء نبيهم عليه الصلاة والسلام، وهم على موعد معه بالعقبة، في ليلة حدودها من ليالي التشريق، دون أن يعلم بقية اليثربيين بهذا الموعد.
فيما عدا (عبدالله بن عمرو) الذي آنس فيه الانصار خيرا، فأسروا إليه بموعدهم مع نبيهم المصطفى وقالوا له: (يا أبا جابر، إنك سيد من ساداتنا وشريف من أشرافنا، وإنا نرغب بك عما أنت فيه) (1).
__________
(1) السيرة لابن هشام، وتاريخ الطبري.
وقد أسلم أبو جابر وشهد العقبة الكبرى، وكان من نقبائها.
[ * ](1/170)
في الليلة الموعودة، أوى الانصار إلى مضاجعهم حيث نزلوا مع سائر قومهم في رحالهم.
فلما مضى ثلث الليل خرجوا لميعاد النبي صلى الله عليه وسلم، يتسللون تسلل القطا مستخفين، حتى وافوه عند العقبة.
كانوا ثلاثة وسبعين رجلا، فيهم أبو جابر عبدالله بن عمرو
وامرأتان: أم عمارة، نسيبة بنت كعب المازنية.
وأم منيع، أسماء بنت عمرو بن عدي، من بني سلمة.
قال العباس بن عبادة بن فضلة يخاطب قومه: (يا معشر الخزرج، هل تدرون علام تبايعون هذا الرجل ؟) قالوا: نعم.
قال: (إنكم تبايعونه على حرب الاحمر والاسود من الناس، فإن كنتم ترون أنكم إذا نهكت أموالكم مصيبة وأشرافكم قتلا أسلمتموه، فمن الآن: فهو والله خزي الدنيا والآخرة.
وإن كنتم ترون إنكم وافون له بما دعوتموه إليه فخذوه، فهو والله خير الدنيا والآخرة).
قالوا للمصطفى: ابسط يدك.
فبسط عليه الصلاة والسلام يده فبايعوه، الخزرج منهم والاوس.
وأمرهم صلى الله عليه وسلم فاختاروا من بينهم اثني عشر نقيبا: تسعة من الخزرج وثلاثة من الاوس.
قال أحد النقباء، العباس بن عبادة:(1/171)
(يا رسول الله، والله الذي بعثك بالحق، إن شئت لنميلن على أهل منى، من المشركين، غدا بأسيافنا).
فرد عليه الصلاة والسلام: (لم نؤمر بذلك، لكن ارجعوا إلى رحالكم.
ورجعوا إلى رحالهم فتسللوا إلى مضاجعهم فناموا مطمئنين، والدنيا من حولهم ساهرة لا تنام.
لم يكن النبأ الخطير لبيعة العقبة الكبرى، بحيث يخفى على المشركين من قريش، وأصحاب العقبة هذه المرة، خمسة وسبعون من الخزرج والاوس، بايعوا نبي الاسلام على أن ينصروه ويمنعوه.
ومتى ؟ وأين ؟ في ليلة من ليالى التشريق بموسم الحج، وفى مكة، معقل قريش والعاصمة الدينية للوثنية العربية.
وقبل أن يسفر الصبح، تسرب النبأ إلى مكة فهاج غضب المشركين.
وإذ ظنوا أن المبايعين من الخزرج دون الاوس، بادر إليهم نفر من طواغيت قريش فقالوا بين وعد ووعيد: (يا معشر الخزرج، إنه قد بلغنا أنكم جئتم إلى صاحبنا تستخرجونه من بين أظهرنا وتبايعونه على حربنا.
وإنه والله ما من حي من العرب أبغض الينا أن تنشب الحرب بيننا وبينهم، منكم).(1/172)
فهب مشركو الخزرج يحلفون لهم أنه ما كان من ذلك شئ، وما علموه.
ولم يطمئن القرشيون، بل ذهبوا إلى (عبدالله بن أبي بن سلول الخزرجي).
وكان يمني نفسه بملك يثرب تؤازره يهود.
فسأله فأنكر الامر كله إنكارا باتا، وقال لقريش: (إن هذا الامر لجسيم، ما كان قومي ليتفوتوا علي بمثله، وما علمته كان).
وانصرفوا وما يزال في نفوسهم ريب مما بلغهم من الامر الجسيم،
فما زالوا يتثبتون حتى علموا يقينا أنه قد كان لقاء في العقبة على موعد بين محمد وأنصاره، وأن بضعة وسبعين يثربيا من الاوس والخزرج قد بايعوه، وأن أحد نقبائهم قال له فيما قال: (نعم والذى بعثك بالحق لنمنعنك.
فبايعنا يا رسول الله فنحن والله أبناء الحروب وأهل الحلقة، ورثناها كابرا عن كابر).
وكرت قريش راجعة إلى منزل الحجاج من يثرب، فإذا بهم قد شدوا رحالهم وأبعدوا في طريقهم إلى شمال الحجاز.
والاسلام معهم، قد بدأ ببيعة العقبة الكبرى مرحلة جديدة مؤذنة بتحول حاسم في اتجاه الاحداث: في قلب الحجاز معقل الوثنية القرشية والعربية، وفي الشمال، بيثرب وما حولها، وكانت حتى ذلك الحين معقلا ليهود.(1/173)
ببيعة العقبة الكبرى، أوشكت الجولة الاولى من جولات الصراع بين الاسلام والوثنية، أن تنتهي في مكة لتبدأ جولة أخرى.
بعد أن استنفذت تلك المواجهة الاولى، كل ما لدى قريش من وسائل وذرائع لمقاومة الدعوة، دون أن تنتقل من موقفها على حافة الحرب إلى صدام مسلح.
وبدأ التاريخ يلتفت إلى يثرب التي يتجه إليها مؤشر التحول، ويستعيد ما طوى من قديم أخبارها (1).
من قديم بعيد موغل في أعماق الماضي إلى عصر ما بعد الطوفان، بدأ الوجود العربي في يثرب والحجاز.
الرواية العربية تقول إن (سفينة نوح) رست قريبا من بابل في
موضع سمي (سوق الثمانين) بعدد من كانوا في السفينة الناجية من الطوفان.
وقد مكثوا هناك حتى كثروا وضاقت بهم المنطقة، فتفرقوا.
اتجه بنو عبيل، أخى عاد، إلى موضع يثرب، وهو اسم أحد أبناء عبيل، فنزلوا به وعمروه.
ثم مالوا إلى موضع آخر في المنطقة دهمهم فيه سيل جاحف، فسمي الجحفة.
وظلت يثرب مهجورة إلى أن عمرتها قبيلة من العرب القحطانية العاربة، بعد تصدع سد مأرب.
هذه القبيلة العربية الصميمة، هي الاوس والخزرج.
__________
(1) مادة هذا الفصل، مستخلصة من كتاب (وفاء الوفا، بأخبار مدينة المصطفى) للسمهودي.
مع مراجعة السيرة لابن هشام، وتاريخ الطبري.
[ * ](1/174)
أخوان شقيقان، أبوهما (عمرو بن عامر) آخر ملوك سبأ قبل خرابها.
وأمهما (قيلة) التي ينسب إليها عرب يثرب، بنو قيلة.
ونزح إخوتهم (بنو جفنة بن غسان) إلى أرض الشام فأسسوا بها إمارة الغساسنة العربية.
وآخرون من جرهم، نزلوا حول مكة.
وهم الذين أصهر إليهم (إسماعيل بن ابرهيم) جد العرب العدنانية.
أقام بنو قيلة في يثرب دهرا طويلا في أمن وسلام ورخاء ونعمة، والمنطقة خالصة لهم.
حتى طرأت عليهم من الشمال شراذم من فلول يهود، فارين من وطأة الرومان الساحقة، بعد المؤامرة على السيد المسيح عليه السلام.
وحطوا على أخصب منطقة هناك، فما لبثوا أن أنشبوا مخالبهم
فيها واستنزفوا خيرها.
وأقاموا لهم مستعمرات حصينة في يثرب وقريظة وخيبر وفدك وتيماء ووادى القرى، وأثروا ثراء فاحشا على حساب الوجود العربي الذي بدأ يتصدع من وطأة الغزاة (1).
حاول العرب أول الامر أن يأمنوا شر يهود، بعقد حلف جوار معهم.
وفى ظل ذلك الحلف استطلع بنو قيلة أن يواصلوا حياتهم ويمارسوا نشاطهم.
فخافت يهود على وجودها المغتصب، وقطعت الحلف الذي بينهم، وصرح الشر منهم حتى خاف بنو قيلة أن تجليهم يهود عن أرضهم.
__________
(1) ولفنسون: تاريخ اليهود في جزيرة العرب: 9، 18 ط لجنة التأليف والترجمة والنشر.
[ * ](1/175)
إلى أن شب (مالك بن العجلان) أخو بني سالم بن عوف بن الخزرج، وسوده الحيان من بني قيلة، فكان الذي تصدى لافاعي يهود وقتل بضعة وثمانين من رؤوسها، فانكمشوا خائفين يلعنونه في بيعهم ومعابدهم كلما دخلوها.
ولجأوا إلى أحياء العرب يستجدون الحماية والجوار (وقد ذلوا وانكسرت شوكتهم وقل امتناعهم).
وإنما مكن لهم من يثرب بعد ذلك، ما شب بين الاوس والخزرج من خصام خب فيه يهود ووضعوا، وسهروا على إلهاب ضرامه لتخلو لهم الارض الطيبة.
وبدأت مرحلة مظلمة في تاريخ يثرب، استغرقت بضعة قرون قبل الاسلام - من القرن الاول إلى السادس للميلاد - لم تنطفئ فيها نار الحروب بين الاوس والخزرج، في كل حرب منها نلمح أثر اليهود في تدمير الوجود العربي هناك (1).
وآذن العصر الجاهلي بمغيب، وهذا العدو الخبيث يتربص بالاوس والخزرج الداوئر، ليميل مع المنتصر منهما ويسلب المهزوم.
والمستعمرات اليهودية في شمال الحجاز تزداد ثراء بما تستنزف من خير الارض.
ومرافق البلاد الحيوية في قبضة مخالب الذئاب الفارة من مخالب النسر الروماني.
وقد كانت آخر حرب بين الاوس والخزرج، يوم بعاث قبل بيعة العقبة الكبرى بأربع سنوات.
ودور يهود فيها معروف مشهور:
__________
(1) بمزيد تفصيل، في الباب الثاني من كتابي (أعداء البشر).
[ * ](1/176)
فحين ظهرت بوادر الحرب بين بني قيلة، تدخل يهود بني قريظة يلهبونها بالتواطؤ سرا مع الاوس.
فلما علم الخزرج بهذا التواطؤ، بعثوا إلى يهود منذرين: (إنكم إن فعلتم لم ننم عن الطلب أبدا.
وأسلم لكم أن تدعونا وتخلوا بيننا وبين إخواننا).
رد يهود على نذير الخزرج: (إنه قد كان الذي بلغكم، والتمست الاوس نصرنا، وما كنا لننصرهم عليكم أبدا).
لكن الخزرج أصروا على أن يأخذوا رهائن من غلمان بني قريظة، ضمانا لعدم غدرهم.
فدفعوا إليهم أربعين غلاما يهوديا، وإن قائلهم ليقول: (خلوهم يقتلوا الرهن، إن هي إلا ليلة يصيب فيها أحدكم امرأته، حتى يولد له غلام مثل الرهن) (1).
وغدرت يهود بوعدها للخزرج، حين لمحت غلبة الاوس عليهم.
وانهزمت الخزرج يوم بعاث، ووضعت فيها الاوس السلاح، وسلبتهم قريظة والنضير.
اجتاحت العصابة اليهودية دور الخزرج تنهب وتسلب، حتى أتوا دار (عبد الله بن أبي بن سلول) ليهدموها، فاشترى منهم الامان بدفع رهائنهم إليهم !
__________
(1) السمهودي: وفاء الوفا: 1 / 218.
[ * ](1/177)
ومن ذلك اليوم بدأ بينه وبينهم حلف الشيطان.
وكان لا بد من حرب جديدة يصلاها عرب يثرب، تصفية ليوم بعاث.
والامر في مثلها لا يعدو انطلاق شرارة من هنا أو من هناك، تؤجج ضرام الجذوة التي لبثت متقدة قرونا، تلتمس بين حين وآخر من ينفخ فيها، لتستعر بوقود من رجال الاوس والخزرج.
وقد كان الخزرجيون أصحاب الثأر لبعاث، ومن هنا كان سعي الاوس إلى مكة التماسا لحلف قريش على الخزرج.
ومن حيث توقعت يثرب أن تلتهب الجذوة بشرارة هذا الحلف، وألقت عاصمة الشمال سمعها إلى مكة في انتظار عواقب المفاوضة بين وفد الاوس وزعماء قريش.
جاءت المعجزة من هناك فأطفأت الجذوة وبددت رمادها هباء منثورا.
وكان عجبا من العجب، أن تأتي (يثرب) بشرى السلام من مكة، في الوقت الذي بلغت فيه معركتها بين الاسلام والوثنية ذروة احتدامها.
وحين هم التاريخ بأن يضيف حربا جديدة إلى الحروب التي مزقت الاوس والخزرج، وقف بعد بيعة العقبة الكبرى فطوى الصفحات الداميات التي خضبت حياة يثرب قرونا ستة، ليبدأ صفحة جديدة بآية الاسلام التي من الله بها على المؤمنين الانصار، فأصبحوا بنعمته إخوانا.(1/178)
وكانت عبرة، أن تجمع العقيدة ما تفرق وانتثر من شتات القوم، وأن تزيل ما تراكم في قلوبهم من ثارات وأحقاد، وتنسخ جاهليتهم المخضبة بالدماء..وفى ظل هذه العقيدة الجامعة المؤلفة للقلوب، وتحت لوائها المبارك الميمون، التقى الاوس والخزرج إخوانا في الدين وعادوا بعد بيعة العقبة الكبرى أنصارا للاسلام ونبيه عليه الصلاة والسلام، فكانوا هم الدعاة الاولين الذين حملوا نوره إلى عاصمة الشمال في الحجاز، وهيأوها لاستقبال المهاجر العظيم عليه الصلاة والسلام.
وما يزال اليهود، حتى عصرنا هذا، يقفون عند بيعة العقبة مأخوذين بما كان من جسيم خطرها وبعد أثرها.
وإن فيهم من يعدها بدء التاريخ الاسلامي، ويراها أولى بذاك من عام الهجرة التي هي في رأيهم أثر للبيعة الكبرى.
قال المؤرخ اليهودي (اسرائيل ولفنسون، أبو ذؤيب): (ومهما يكن من شأن هذه البيعة العظيمة فإنها من الحوادث ذات النتائج الخطيرة في التاريخ الاسلامي.
وإني أعتقد أنه كان من الحق على المسلمين أن يبتدئوا تاريخهم من تلك السنة، لان قيمتها لم تكن
أقل شأنا من قيمة هجرة الرسول إلى يثرب) (1).
وما كان لليهود يومها أمل، إلا (أن يفلح زعماء قريش في استمالة
__________
(1، 2) تاريخ اليهود في جزيرة العرب: 109.
[ * ](1/179)
زعماء الخزرج (؟) وإلا فإنهم لا بد ذاهبون للتقرب من بعض زعماء اليهود ليعملوا على إحباط أعمال المسلمين في المدينة) ! (1).
تلاحقت الاحداث بعد بيعة العقبة الكبرى.
فقدت قريش ما بقي من رشدها، فصبت على المسلمين حمما من الاذى والاضطهاد.
والتقطت يهود أنفاسها، أملا في أن تشتعل نار الحرب فتأكل الجمعين من أهل مكة.
لكنهم فوجئوا بتدفق المهاجرين من مسلمي مكة نحو يثرب، بتوجيه من المصطفى عليه الصلاة والسلام، حيث نزلوا على الانصار إخوانهم في الدين، بمأمن من قريش.
وأمست دور المهاجرين في مكة، موحشة خلاء.
لم يبق منهم في أم القرى، غير من حبس أو فتن، إلا الرسول عليه الصلاة والسلام، وصاحباه الصديق أبو بكر، وعلي بن أبي طالب.
(2) وتوقعت قريش أن يلحقوا بالمسلمين في دار الهجرة، فهل تدع الامر يفلت من يدها بعد ثلاث عشرة سنة من الصراع المرير المنهك ؟ لا بد من ضربة باترة، تحسم الامر كله.
وقد حاولتها قريش، في جنون غيظها وقهرها.
__________
(1) المرجع السابق.
(2) السيرة لابن هشام: 2 / 111 وتاريخ الطبري: 2 / 242.
[ * ](1/180)
نقل كتاب السيرة ومؤرخو الاسلام، أن قريشا (لما رأت أن محمدا، صلى الله عليه وسلم، قد صارت له شيعة وأصحاب من غيرهم بغير بلدهم، ورأوا خروج أصحابه من المهاجرين إليهم، عرفوا أنهم قد نزلوا بيثرب دارا وأصابوا منهم منعة.
فحذروا خروج الرسول إليهم وعرفوا أنه قد أجمع لحربهم.
فاجتمعوا في دار الندوة - وهي دار جدهم قصي بن كلاب.
حيث كانت قريش لا تقضي أمرا إلا فيها - يتشاورون فيها ما يصنعون في أمر محمد، عليه الصلاة والسلام، حين خافوه.
(قال بعضهم لبعض: إن هذا الرجل قد كان من أمره ما قد رأيتم، فإنا والله ما نأمنه على الوثوب علينا فيمن اتبعه من غيرنا.
فأجمعوا فيه رأيا).
وتعددت مقترحاتهم، طائشة هوجاء.
حتى قال أبو جهل بن هشام: (والله إن لي رأيا ما أراكم وقعتم عليه بعد).
سألوه: (وما هو يا أبا الحكم ؟).
قال: (أرى أن نأخذ من كل قبيلة فتى شابا جليدا نسيبا فينا، ثم نعطي كل فتى منهم سيفا صارما فيعمدوا إليه فيضربوه ضربة رجل واحد فيقتلوه فنستريح منه.
فإنهم إذا فعلوا ذلك تفرق دمه في القبائل جميعا فلم يقدر بنو عبد مناف على حرب قومهم جميعا، فرضوا منا بالعقل فعقلناه لهم) - يعني الدية (1).
__________
(1) السيرة لابن هشام: 2 / 125 وتاريخ الطبري: 2 / 243 وفيهما أسماء من حضروا الندوة من طواغيت قريش.
[ * ](1/181)
وانصرفوا وهم مجمعون على هذا الرأى المخبول، وحددوا ليلتهم لذلك موعدا.
وفى تلك الليلة، خرج المصطفى عليه الصلاة والسلام ناجيا إلى دار هجرته..(1/182)
(4) مع المصطفى.
في دار هجرته - هجرة.
وتاريخ - أبعاد الموقف في ميدان الصراع - يوم بدر، وموازين القوى - درس من أحد.
ورسالة من شهيد - الاسلام في الجبهات الثلاث: مع عصابات يهود مع الوثنية القرشية مع المنافقين (ودخل الناس في دين الله أفواجا(1/183)
هجرة.
وتاريخ (إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه
الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا، فأنزل الله سكينته عليه وأيده بجنود لم تروها وجعل كلمة الذين كفروا السفلى، وكلمة الله هي العليا، والله عزيز حكيم).
(صدق الله العظيم) في السنة الثالثة عشرة للمبعث، كانت الهجرة التاريخية التي اختارها، بعد، ثاني الخلفاء الراشدين (عمر بن الخطاب) رضي الله عنه، بداية للتاريخ الاسلامي.(1/185)
تقديرا لجلال الحدث الذي كان منطلق تحول حاسم وخطير، في تاريخ الاسلام.
وعلى امتداد الزمان، يحتفل المسلمون حيثما كانوا، بمستهل عام الهجرة، دون أن يفوتهم لمح ما كان لها من أثر بعيد في حركة سير الدعوة الاسلامية.
ودون أن يخطئهم إدراك ما أعقب تلك الهجرة التاريخية من تغير في موازين القوى بين حزب الله، وبين الوثنية الباغية من قريش.
وإن فاتهم، أو فات كثيرا منهم، وعي حركة التحول ذاتها، وأعوزهم فهم التفسير التاريخي لتلك الهجرة الفاصلة بين أخطر المرحلتين من عصر المبعث.
ولقد مضى عليها ما يقرب من ألف وأربعمائة عام، وكلما بدأت السنة القمرية بهلال المحرم، تحركت أقلام تحيي الذكرى الخالدة، وشدت
أبصار وقلوب إلى خطوات المهاجر العظيم ما بين مكة ويثرب، منذ خرج صلى الله عليه وسلم من بيته في مكة ذات نهار - وقد بلغت محنة الاضطهاد أقصى مداها، بعد ثلاث عشرة سنة من المبعث - فاتجه إلى بيت صاحبه الصديق أبي بكر، وأسر إليه أن الله تعالى قد أذن له في الخروج والهجرة.
هتف الصديق: (الصحبة يا رسول الله.
الصحبة).
وبدأ التأهب لرحيل عاجل: بعث أبو بكر يدعو (عبدالله بن أريقيط) وكان دليلا ثقة،(1/186)
خبيرا بمجاهل الطريق، فدفع إليه براحلتين يرعاهما لميعاد موقوت.
ودعا المصطفى ابن عمه (علي بن أبي طالب) فاستخلفه بمكة ليؤدي عنه ودائع كانت للناس.
ثم لما حانت ساعة الرحيل، وقف صلى الله عليه وسلم على مرتفع هناك ببيت صاحبه، فرنا إلى البيت العتيق طويلا، ثم أشرف على أم القرى فاستوعبها بنظرة حزينة وقال مودعا: (والله إنك لاحب أرض الله إلى الله، وإنك لاحب أرض الله الي.
ولولا أن أهلك أخرجوني منك ما خرجت).
وتسللل الصاحبان من خوخة في ظهر الدار، فأخذا طريقهما إلى غار يعرفانه في جبل ثور بأسفل مكة، فأقاما فيه ينتظران ما يكون من أصداء الرحيل.
وجاء اليوم التالي يحمل إليهما في الغار، الانباء عن خروج نفر من
طواغيت قريش لمطاردة المصطفى عليه الصلاة والسلام.
وفى الخبر أنهم بلغوا غار ثور فتلبثوا عنده وهموا بأن يدخلوه، لولا أن صدهم عنه نسيج عنكبوت على مدخله، وحمامتان وحشيتان وقعتا عليه (1).
قال الصديق للمصطفى: (لو أن أحدهم نظر إلى قدمه لرآنا).
فكان جوابه، صلى الله عليه وسلم:
__________
(1) تفصيل الهجرة، في الحزء الثاني من: السيرة لابن هشام، وطبقات ابن سعد، وتاريخ الطبري.
[ * ](1/187)
(لا تحزن إن الله معنا).
وفى هدأة المساء من الليلة الثالثة لمقامهما في الغار، جاء الدليل يسوق الراحلتين حذرا، فأناخ قريبا من فتحته.
وخرج المصطفى وصاحبه.
وجاءت أسماء بنت أبي بكر بطعام لهما، فلما أعوزها عصام تشد به الزاد إلى الرحل، حلت نطاقها فشقته نصفين، علقت الزاد بأحدهما وانتطقت بالشق الآخر.
وسرى الركب في تلك الليلة التاريخية، آخذا طريق الجنوب من أسفل مكة، وكان غير مطروق.
وودعتهما (أسماء) ذات النطاقين، ثم تلبثت تتبعهما بصرها وقلبها حتى أبعدا، فعادت إلى بيت أبيها مستخفية حذرة، وهي توجس خيفة من المطاردين.
ولم تمض لحظات حتى فوجئت بطرقات عنيفة تلح على باب الدار، وإذا نفر من قريش، فيهم أبو جهل بن هشام، يسألونها في غلظة:
(أين أبوك يا بنت أبي بكر ؟) أجابت: (لا أدري والله أين أبي).
وما كذبت، فقد كان آخر عهدها بأبيها مع المصطفى عليه الصلاة والسلام، منطلقين من الغار إلى حيث لا تدري أين بلغ بهما المسرى في مجاهل الفلاة.(1/188)
وفجأة، بغتتها لطمة فاحشة على خدها، من يد أبي جهل، طرحت قرطها.
وانصرف بمن معه، يتهددون ويتوعدون.
ومضت أيام وليال لم يكن لمكة فيها شاغل، غير تلك المطاردة العنيفة، تعدو فيها قريش وراء مهاجر أعزل إلا من إيمانه.
وتضاربت الانباء في الطريق التي أخذها -، حتى جاء الخبر من يثرب أن النبي عليه الصلاة والسلام بلغ دار هجرته آمنا.
ووعت أذن الزمان ما لا نزال نردده في كل عيد للهجرة، من هتاف المدينة ترحيبا بالمهاجر العظيم، وما وجد في دار هجرته من مأمن ونصر..وفي واقع التاريخ أن الهجرة لم تنه الجولة الفاصلة بين الاسلام والذين تصدوا له بالعداوة والكيد والحرب.
وإنما كانت بداية لهذه الجولة الفاصلة، بقدر ما كانت أثرا لما سبقها من أحداث، وتحركا إلى موقع جديد، بعد جولة مريرة وطويلة، في البلد العتيق.
فإذا كان في الناس من يتصورون أن منافذ الخطر قد سدت بمجرد انتقال المصطفى من دار مبعثه، وأن الاسلام صار بمأمن من كيد أعدائه
بمجرد أن تلقاه الانصار في دار هجرته، فالذي يعرفه الواقع التاريخي أن الصدام المسلح بين الاسلام والوثنية(1/189)
القرشية لم يبدأ إلا بعد الهجرة، وبدأ معه في الوقت نفسه، نضال شاق بالغ الصعوبة والحرج، مع عصابات يهود التي تصدت للاسلام بعد الهجرة، بكل ما تملك من أسلحة خبيثة مسمومة.
والذي تعرفه السيرة النبوية، أن النبي والذين آمنوا معه من المهاجرين والانصار، واجهوا مع الهجرة مرحلة خطرة معقدة، كان عليهم فيها أن يخوضوا حربا في أكثر من جبهة، وأن يستبسلوا في الجهاد تحت لواء عقيدتهم من حيث يأتيها الخطر: من مواقع مكشوفة سافرة، وأخرى خفية ماكرة.
والتحول التاريخي لموقع المعركة، لا يمكن فهمه على الوجه الشائع الذي يحسب أن الهجرة عزلت مكة عن مسرح الاحداث، بل تظل مكة في صميم الصراع الدائر مهما ينتقل موقعه إلى شمال الحجاز.
ويظل البيت العتيق مهوى أفئدة المهاجرين والانصار في دار الهجرة، كما كان مثابة حج العرب من قديم العصور والآباد.
وفى مكة كان مهد المصطفى ومبعثه.
وفيها مستقر الوثنية العربية من قديم موغل في القدم.
ولم تكن الارستقراطية القرشية التي ورثت وظائف الشرف الدينية في أم القرى وحققت بها نفوذها وسلطانها، مستعدة لان تتخلى عن نضالها للابقاء على الاوضاع الموروثة والاعراف الراسخة، والدفاع عن دين الاسلاف.(1/190)
وما تجنبت الصدام المسلح مع الاسلام في مكة، إلا رعاية لما للبلد العتيق من حرمة جعلته معبد القبائل العربية ومركز مواسمها التجارية.
كان في حسابها أن تواجه الخطر بالمفاوضة والمساومة، ثم بإلالحاح في إيذاء المسلمين وتعذيب المستضعفين منهم، وتحذير كل وافد إلى مكة في الموسم، من الاصغاء إلى ما يتلو محمد - صلى الله عليه وسلم - من كتاب الاسلام.
ثم كان الحصار المنهك وسيلة أخرى من وسائلهم في مقاومة الدعوة، والترصد لمن يحاول الهجرة من المسلمين، ومطاردتهم حيثما ذهبوا.
حتى كان عام الحزن، إيذانا بحتمية التماس منفذ من الاسوار التي سدت الطريق.
أحس المصطفى بموت زوجه السيدة خديجة وعمه أبي طالب، فراغ مكانهما في دنياه، إحساسا شديد الوطأة، حتى لتقول إحدى الصحابيات (خولة بنت حكيم السلمية): (يا رسول الله، كأني أراك قد دخلتك خلة لفقد خديجة).
وثقل عليه شعور بالغربة، في بلده وبين أهله وعشيرته.
لكن بيعة العقبة الكبرى هي التي وجهت مؤشر الاحداث نحو يثرب.
دون أن تنأى بمكة عن مكانها في مركز الثقل لمصير التحول.
احتشدت يثرب في انتظار المهاجر العظيم الذي لم يكن هناك أدنى(1/191)
شك في وجهته، برغم ما ذاع من توغل المطاردين في طريق مكة إلى
يثرب، دون أن يظفروا بأثر منه.
اليهود أرسلوا راصدهم يرقب مقدم النبي المهاجر، فأخذ مكانه على مشارف يثرب.
وغير بعيد منه كان المهاجرون والانصار من أوس وخزرج، يخرجون كل صباح بعد الصلاة إلى ظاهر المدينة، فما يزالون ينتظرون حتى تغلبهم الشمس على الظلال فيعودوا إلى دورهم.
واليهودى قائم هناك في مرصده لا يريم.
وإذ هم يدخلون بيوتهم ذات يوم بعد أن لم يبق ظل، سمعوا اليهودي يصرخ بأعلى صوته: (يا بني قيلة، هذا جدكم قد جاء).
وسرت البشرى في أنحاء دار الهجرة، فتعالى الهتاف من الاحياء العربية يشق أجواز الفضاء ترحيبا بالمهاجر العظيم.
صرخة اليهودي المعلنة بأعلى الصوت، عن وصول المصطفى إلى دار هجرته، زلزلت الارض تحت يهود في مستعمراتهم الناشبة في شمال الحجاز: من حي بني قينقاع في قلب يثرب، إلى قريظة وخيبر وفدك وتيماء ووادي القرى.
ورج صداها حصون الابلق والوطيح والسلالم وناعم والقموص، وعشرات غيرها من الحصون المنيعة والآطام العازلة التي (أقاموها على(1/192)
رءوس الجبال والقلاع ليتحصنوا بها وقت الخطر (1).
وبدأ من اليوم الاول للهجرة، تأهبهم لدورهم الخبيث في مقاومة الاسلام.
وقبل أن نمضي مع المصطفى عليه الصلاة والسلام في دار هجرته، نقف عند نقطة التحول لنتدبر منطقه ونلمح أبعاده، دون إيغال فيها.
لم تكن الهجرة الاولى إلى الحبشة، ضنا بحياة ذلك الرهط من المسلمين الاولين، وإنما كانت هجرة في سبيل العقيدة بذلا واحتمالا، وسلاحا شهروه في وجه الوثنية الغاشمة، لتدرك مدى ما يطيق المؤمنون احتماله من التضحية والبذل في سبيل ما آمنوا به.
أما الهجرة التاريخية إلى يثرب، فلم تكن بذلا واحتمالا فحسب، بل كانت كذلك تحركا إلى موقع خطير على حافة الحرب، فقد أذن الله في القتال للمسلمين الذين أوذوا وظلموا وأخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله.
وكان الاذن بالقتال، من حيث لم تتوقع قريش أو تحتسب.
وقد مضى على المبعث أكثر من عشر سنين ونبي الاسلام يدعو إلى سبيل ربه بالحكمة والموعظة الحسنة، ويواجه جبروت الوثنية بكلمات من وحي ربه، كانت على المدى الطويل سلاحه الذي يشهره في وجه الوثنية.
__________
(1) السيرة لابن هشام: 2 / 137.
وتاريخ الطبري: 2 / 248.
ووفاء الوفا للسمهودي: 1 / 244 - وقابل عليها ما في (تاريخ اليهود في جزيرة العرب) لاسرائيل ولفنسون: 157، 111.
[ * ](1/193)
وقد أمنت قريش جانب المسلمين فيما تحرص عليه من تجنب الحرب في البلد الحرام.
فلم يخطر لها على بال، أن نبي الاسلام يمكن أن يخوض بالقلة العزلاء من صحابته، معركة حربية مع الوثنية المعتزة بما لها من سلطان، ودونها قوة باطشة من العدد والسلاح.
من هنا أنكر سمعهم آيات الاذن للمسلمين في القتال، وأقبل
بعضهم على بعض يتساءلون: أو يريد محمد أن يفرض عقيدته بالسيف ؟ كأنه لم يتل من قبل، من كلمات ربه: (لكم دينكم ولي دين).
(فإن أعرضوا فما أرسلناك عليهم حفيظا، إن عليك إلا البلاغ).
(ولو شاء ربك لآمن من في الارض كلهم جميعا، أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين) ؟ وفي أخذة المباغتة، فاتهم أن يدركوا مغزى الاذن للمسلمين في القتال: دفاعا عن دينهم، وتقريرا لمبدإ الاسلام في حرية العقيدة.
وانتصارا للذين أوذوا وأخرجوا من ديارهم بغير حق (إلا أن يقولوا ربنا الله).
وإلزاما بتكليف الجهاد في سبيل الحق والخير، في مواجهة الحشد الكاثر والقوى الباغية: أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير * الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا إن يقولوا ربنا الله ولولا(1/194)
دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز * الذين إن مكناهم في الارض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الامور * وإن يكذبوك فقد كذبت قبلهم قوم نوح وعاد وثمود * وقوم ابرهيم وقوم لوط * وأصحاب مدين وكذب موسى فأمليت للكافرين ثم أخذتهم
فكيف كان نكير * فكأين من قرية أهلكناها وهي ظالمة فهي خاوية على عروشها وبئر معطلة وقصر مشيد * أفلم يسيروا في الارض فتكون لهم قلوب يعقلون بها أو آذان يسمعون بها فإنها لا تعمى الابصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور.
(صدق الله العظيم) وهذه هي الجبهة الاولى التي كان على الاسلام أن يخوض معركته معها إثر الهجرة.
ضد الوثنية القرشية الباغية التي وعت منطق الهجرة أتم الوعي، فانكفأت بعد خيبة المطاردة الشرسة، تعبئ قواها استعدادا للصدام.
دون أن يتصور أحد من الفريقين أن الهجرة كانت نهاية مريحة للجولة المكية التي استغرقت ثلاث عشرة سنة، أجهدت المسلمين أذى وفتنة واضطهادا ومقاطعة وحصارا، بقدر ما أجهدت قريشا وأرقت لياليها واستنفدت كل ما لديها من وسائل.
وهل كانت قريش بحيث تغمض عينها وتنام، وقد أعجزها،(1/195)
بكل عتوها وجبروتها أن تنال من دعوة أذلت كبرياءها وسفهت أحلامها وحقرت آلهتها ؟.
أو كانت بحيث تأمن على وجودها الجاهلي ودينها الموروث، وهذا النبي المهاجر قد أخذ موقعه الجديد في عاصمة الشمال، يهدد طريقها التجارية إلى الشام، مصمما على أن ينسخ برسالته دين قومه ويدك صروح وثنيتهم، ومعه رجال مؤمنون قد باعوا الدنيا بالآخرة، فهم يرون الموت في سبيل عقيدتهم شهادة وحياة وانتصارا ؟
هيهات هيهات.
ولو ترك القطا ليلا لنام ! على أن هذه الجبهة لم تكن أخطر ولا أضرى من جبهة ثانية كانت تنتظر الاسلام في دار هجرته.
يهود كانوا هناك، يرصدون مجرى الاحداث في ذعر وقلق: لقد لبثوا طوال العهد المكي يتعلقون بالامل في أن ينهك الصراع أهل مكة، مسلمين ومشركين، فيخلو ليهود الطريق إلى أم القرى، وفيها أسواق العرب التجارية الكبرى: عكاظ ومجنة وذو المجاز.
لكن بيعة العقبة الكبرى خيبت هذا الرجاء، كما خيبت الهجرة أملهم في أن يبقى الاسلام محصورا في البلد العتيق، بعيدا عن شمال الحجاز.
ولم يبق لهم إلا أن يتربصوا بالاسلام ويكيدوا له، بكل ما وسعهم من خبث وشر ودهاء.(1/196)
ثم كانت هناك جبهة ثالثة من المنافقين الذين ابتلي بهم الاسلام في دار هجرته، ولقي المصطفى صلى الله عليه وسلم من عنتهم ونفاقهم وتخاذلهم، أشد مما لقي من طواغيت المشركين.
وكان رأس المنافقين في المدينة: عبدالله بن أبي بن سلول، مولى يهود وحليف الشيطان.
ذلك هو منطق الهجرة: بذلا واحتمالا واستبسالا، وتحركا إلى موقع جديد خاض فيه المسلمون معركتهم في الجبهات الثلاث، جهادا بالنفس والمال، حتى جاء نصر الله والفتح.
استحدثت (يثرب) بهجرة المصطفى إليها، اسما إسلاميا جديدا
هو (المدينة المنورة): مدينة الرسول عليه الصلاة والسلام.
وكان وصوله إليها قبيل الظهر من يوم الاثنين، وقد مضت اثنتا عشرة ليلة من ربيع الاول، في السنة الثالثة عشرة للمبعث.
وأقام في (قباء) بظاهر المدينة، في بني عمرو بن عوف، أيام الاثنين والثلاثاء والاربعاء والخميس، أسس فيها بقباء أول مسجد في الاسلام.
ثم ركب ناقته (القصواء) يوم الجمعة، وسط حشد من المهاجرين والانصار، فأدركته صلاة الجمعة في حي بني عوف بن سالم، فصلى بالصحابة أول جمعة بالمدينة المنورة.
وأرخى العنان لناقته وهي تشق أمواج الزحام، ولم يدر أحد يومها أين يكون منزل المصطفى، وكل بيوت المدينة مفتوحة له ترحب به،(1/197)
وإن لم يكن له صلى الله عليه وسلم دار هناك.
وبدا الموقف صعبا: كلما مر عليه الصلاة والسلام بحي من أحياء الانصار بادر إليه الرجال يسألونه شرف النزول فيهم، وهو عليه الصلاة والسلام يتحرج من إيثار حي على آخر أو دار على دار، فيقول معتذرا شاكرا: (خلوا سبيل ناقتي).
حتى إذا مر بحي بني عدي بن النجار، توقعوا أن يكون لهم من خئولتهم لابيه عبدالله بن عبدالمطلب، حق الحظوة بالشرف الذي رنت إليه كل بيوت الانصار.
هتفوا: (يا رسول الله، هلم إلى أخوالك، إلى العدد والعدة والمنعة).
وتلبث عليه الصلاة والسلام برهة يملا عينيه من هذا الحي، ويسترجع ذكريات رحلته الاولى إلى يثرب، حين جاءت به أمه (آمنة بنت وهب) من مكة وهو في السادسة من عمره، لتزيره قبر أبيه الثاوي هناك.
وتخطى بصره الجموع الزاخرة التي حفت بركابه، وتعلق بطيف أمه، ماثلا شاخصا لا يغيب.
ومع الذكريات، طوى سبعة وأربعين عاما من عمره، ليجد نفسه غلاما غض الصبا، يعود مع أمه في رحلة الاياب إلى أم القرى، ومعهما (بركة أم أيمن) فما قطعوا بعض مراحل الطريق حتى وعكت أمه، ثم أسلمت الروح بين يديه في بقعة موحشة من الفلاة، بين يثرب ومكة.(1/198)
وحملت (بركة) جثمان (آمنة) إلى قرية الابواء فدفنوها هناك.
واستأنف الرحلة إلى مكة واجما صامتا محزونا مضاعف اليتم.
ومن وراء نحو نصف قرن، أتاه صدى من حشرجة الاحتضار التي روعته في الفلاة، مختلطة بهتاف الترحيب وأناشيد الاستقبال.
وبنو النجار يكررون دعوته: (هلم إلى أخوالك.
).
قال وما يزال يملا عينيه من ساحة الحي التي كانت ملعب حداثته أياما، مع لداته من صبية بني النجار: (خلوا سبيل ناقتي).
إلى أين إذن ؟ إلى حيث تمضي به ناقته القصواء.
وقد خطت وئيدا تشق الزحام حتى توقفت غير بعيد، وبركت في مربد هناك لسهل وسهيل، ابني عمرو.
فحط المهاجر رحله، وقام يصلي.
على ساحة المربد الذي بركت فيه (القصواء) حين دخل المصطفى دار هجرته، أمر عليه الصلاة والسلام أن يبنى هناك مسجده، ثاني الحرمين ومزار المسلمين على مر السنين والدهور.
وتنافس المهاجرون والانصار في بنائه بما تيسر من مواد البناء:(1/199)
اللبن والجريد والليف، وبعض الحجارة والخشب.
والمصطفى معهم، يشارك ويوجه ويعين.
وقد يمد يده فينفض الغبار عن لحى بعض صحابته، داعيا للمهاجرين منهم والانصار فيرددون دعاءه مرتجزين: لا عيش إلا عيش الآخره اللهم ارحم الانصار والمهاجره ولم يستغرق البناء أكثر من أيام معدودات.
ومن حول المسجد بنيت تسع حجرات تفتح على ساحته، لتكون دار المصطفى المهاجر.
وكان مبنى المسجد والحجرات بسيطا متواضعا: بعضه من حجارة مرصوصة، وبعضه من جريد يمسكه الطين.
والسقف كله من جريد.
ذكره سبط المصطفى عليه الصلاة والسلام: (الحسن بن علي بن أبي طالب) فقال: (كنت أدخل بيوت النبي صلى الله عليه وسلم وأنا غلام مراهق،
فأنال السقف بيدي).
وشدت خشبات بالليف، فكانت سريرا لمن اصطفاه الله تعالى خاتما لرسل الانبياء.
وغير بعيد من المدينة والحجاز، كانت قصور الحكام والامراء والاغنياء، في الحيرة وغسان واليمن، وفى فارس ومصر والحبشة، تعلو سامقة شامخة، ساطعة ببريق البذخ والترف، فتخطف أبصار(1/200)
الدنيا عن ذلك المبنى البسيط المتواضع الذي لم يلبث سنا جلاله أن كسف كل ما عرفت الدنيا من قصور لكسرى وقيصر وفرعون، أو نجاشي وملك وامبراطور.
وفى الاحياء اليهودية الناشبة في المدينة وما حولها من مستعمراتهم شمالي الحجاز، دور مشيدة وحصون منيعة، تطل على المبنى البسيط المتواضع لنبي الاسلام، فيبدو لها فقيرا أشد الفقر.
ويلتقط أهلها ما يتلو المصطفى من كلمات ربه في الحث على الانفاق في سبيل الخير، قرضا لله تعالى، فتذيع قالتهم الفاحشة: (إن الله فقير ونحن أغنياء) ! في تلك الايام الاولى بدار الهجرة، نزل المصطفى صلى الله عليه وسلم بدار صاحبه (أبي أيوب الانصاري) ريثما تم بناء المسجد والحجرات حوله.
أما صحابته المهاجرون، فنزلوا على الانصار من الاوس والخزرج، وقد آخى الرسول بينهم.
واختار صلى الله عليه وسلم ابن عمه (علي بن أبي طالب) فجعله أخاه.
وهكذا ذهب كل أنصاري بأخ له من المهاجرين، وذهب علي بن أبي طالب بالمصطفى أخا.
وأغلقت دور المهاجرين بمكة.
وتركت مهجورة موحشة خلاء.(1/201)
بعد أن تم بناء بيت المصطفى في دار هجرته، بدت الحاجة إلى زوج تملا هذا البيت، وتهيئ للمصطفى سكنا وراحة، فيما يواجه من أعباء الرسالة في مرحلتها الحرجة الصعبة.
وكانت (عائشة بنت أبي بكر) قد لحقت بأبيها في المدينة مهاجرة.
وقبل الهجرة بثلاث سنين، كان المصطفى قد عقد عليها بمكة، ثم تمهل لم ينقلها إلى بيته هناك، إذ كانت ظروفهما كليهما، لا تعين على التعجيل بإتمام الزواج.
وقد سبقتها إلى بيت المصطفى في المدينة، أم المؤمنين (سودة بنت زمعة بن قيس بن عبد شمس) التى مات عنها زوجها (السكران ابن عمرو) إثر عودتهما من هجرة الحبشة، فأشفق عليها المصطفى، وتزوجها ليحمل عبئها الذي لقيت من غربة وترمل.
(1) وقنعت (سودة) بحظها من زوجها المصطفى: بر ورحمة، لا حب وتآلف وسكن.
وأرضاها كل الرضى أن يشرفها النبي عليه الصلاة والسلام فيدخلها بيته أما للمؤمنين.
وبقيت حياة محمد - عليه الصلاة والسلام - في بيته، تقتات من ذكريات الزوج الحبيبة الراحلة (خديجة بنت خويلد) التي أوحشت
دنياه منذ رحيلها، في عام الحزن، بعد أنس عشرة هنيئة امتدت خمسا
__________
(1) تراجم أمهات المؤمنين، مفصلة في (طبقات الصحابة) ومعها (نساء النبي) (طبعة دار الكتاب العربي) بيروت.
[ * ](1/202)
وعشرين سنة، لم تشاركها فيها زوج أخرى في بيت زوجها، أو في قلبه ودنياه.
وتهيأ مجتمع المدينة ليزف إلى محمد صلى الله عليه وسلم، عروسه الصبية المليحة الذكية (عائشة بنت أبي بكر) وتعلق بها الامل أن تملا في بيته وقلبه، ذلك الفراغ الموحش الذى تركته أم المؤمنين الاولى.
وتم حفل العرس بسيطا غاية البساطة.
مضى محمد صلى الله عليه وسلم، إلى منزل صهره الصديق، فجاءت (أم رومان: زوج أبي بكر) بابنتها العروس بعد أن سوت شعرها وغسلت وجهها وطيبتها، وقدمتها إلى زوجها المصطفى وهي تدعو الله أن يبارك له فيها ويبارك لها فيه.
ولم تنحر جزور ولا ذبحت شاة، بل كان طعام العرس جفنة من طعام، هدية من (سعد بن عبادة الخزرجي الانصاري) وقدحا من لبن، شرب المصطفى بعضه ثم قدمه إلى عروسه فشربت منه.
ونقلها إلى بيتها الجديد، وما كان هذا البيت سوى حجرة من الحجرات البسيطة التى شيدت حول المسجد النبوى من اللبن والجريد.
وأثاثه فراش من أدم حشوه ليف، ليس بينه وبين الارض إلا الحصير.
وفى مدخل الحجرة، أسدل على فتحة الباب ستار من وبر وشعر.
وفى هذا البيت البسيط المتواضع، بدأت (عائشة) حياتها الزوجية الحافلة، وشغلت مكانها المرموق في حياة الرسول والاسلام.
ولم يكن وجود (سودة) على مقربة منها، في بيت الزوج الذى أحبته عائشة بقلبها البكر ووجد انها المرهف وعاطفتها المتوهجة، يشغل(1/203)
بالها في كثير أو قليل.
فما غاب عنها أن ليس لسودة في قلب زوجها مكان ! وإنما الذي كان يشغل عائشة، هو ذلك الحب العميق الذي حظيت به (خديجة) قبلها من الزوج المصطفى، وتلك الذكرى الحية لمن استأثرت بكل عواطفه ربع قرن من الزمان.
والزوج الحبيب يروض عائشة على أن ترضى منه بحظوتها لديه، ومنزلتها في قلبه وفي حياته.
هل كانت (عائشة) طفلة، كما يحلو لبعض المستشرقين أن ينعتوها، وهم يقيسون نضج المرأة في المجتمع العربي مند أربعة عشر قرنا، بمقاييس المجتمع الغربي في عصرنا ؟ الذي يعرفه تاريخنا، هو أن عائشة في صباها الغض وأنوثتها الذكية، بدأت من اليوم الاول لحياتها الزوجية، تحقق وجودها في بيتها الجديد وتعي دورها الفذ في حياة زوجها الرسول عليه الصلاة والسلام، وتفرض شخصيتها على المجتمع المدني، ثم على التاريخ الاسلامي الذي عرف لها أعمق الاثر في الحياة الفقهية والسياسية والاجتماعية للامة الاسلامية.
هل نسى المهاجرون وطنهم الاول في البلد العتيق، مهد مولدهم ومغنى صباهم ومثوى آبائهم من قديم الزمان ؟(1/204)
هل انقطع ما بينهم وبين أم القرى، وطووا ما كان لهم فيها من ذكريات ؟ كلا ! بل بقيت مكة مهوى أفئدتهم كما هي مهوى أفئدة الانصار وسائر العرب.
وما كان الفراق سهلا، ولا كان في المهاجرين من ودعها إلا وقلبه مثقل بالشجن.
وكأنما كان المصطفى صلى الله عليه وسلم يعبر عما يجدون، حين وقف ساعة خروجه للهجرة يستوعب مكة بنظرة حزينة ويقول مودعا: (والله إنك لاحب أرض الله إلى الله، وإنك أحب أرض الله الي، ولولا أن أهلك أخرجوني منك ما خرجت).
ورغم ما حفلت به الايام الاولى في دار الهجرة، من مراسم الترحيب والاخاء وشواغل التنظيم للمجتمع الاسلامي الجديد، كانت وطأة الحنين ترهق أكثرهم فترهف حساسيتهم لتغير الجو ! وألم بكثير منهم سقم وأجهدتهم الحمى.
وفي هذيان الحمى كان المطوي من أشواقهم ومكبوت حنينهم، يتنفس مفلتا من أعماق أفئدتهم، إلى ألسنتهم.
تتحدث أم المؤمنين (عائشة بنت أبي بكر) عن أول عهدهم بالمدينة فتقول: (كان أبو بكر وعامر بن فهيرة وبلال، في بيت واحد.
فأصابتهم الحمى فدخلت عليهم أعودهم، وذلك قبل أن يضرب(1/205)
علينا الحجاب، وبهم ما لا يعلمه إلا الله من شدة الوعك.
فدنوت من
أبي فقلت له: - كيف تجدك يا أبت ؟ فرد مرتجزا: كل امرئ مصبح في أهله والموت أدنى من شراك نعله فقلت: والله ما يدري أبي ما يقول.
ثم دنوت إلى عامر بن فهيرة فقلت له: - كيف تجدك يا عامر ؟ فرد منشدا: لقد وجدت الموت قبل ذوقه إن الجبان حتفه من فوقه قلت: والله ما يدري عامر ما يقول.
وكان بلال إذا تركته الحمى، اضطجع بفناء البيت ثم رفع عقيرته، يذكر مكة وربوعها: ألا ليت شعري هل أبيتهن ليلة * بفخ وحولي إذخر وجليل وهل أردن يوما مياه مجنة * وهل تبدون لي شامة وطفيل فذكرت لرسول الله صلى الله عليه وسلم ما سمعت منهم فقلت: - إنهم ليهذون وما يعقلون من شدة الحمى.(1/206)
فقال صلى الله عليه وسلم: - اللهم حبب إلينا المدينة كما حببت إلينا مكة أو أشد) (1).
ويح المشركين من أهل مكة، ضلوا وظلموا، واشتطوا في عتوهم وعنادهم وبغيهم، وأسرفوا على من أسلموا منهم.
وبقيت مكة مهوى الافئدة: لم يسل عنها من هاجروا منها بدينهم، ولم يغض من شأنها عتو الوثنية الطاغية.
وإن مكة لمهد النبوة ودار المبعث، ومثابة حج العرب من عهد ابرهيم واسماعيل.
__________
(1) بنصه، عن ابن إسحاق.
من السيرة النبوية لابن هشام: 2 / 233.
[ * ](1/207)
أبعاد الموقف في ميدان الصراع (لتبلون في أموالكم وأنفسكم ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيرا، وإن تصبروا وتتقوا فإن ذلك من عزم الامور).
(صدق الله العظيم) في حساب التاريخ أن المواجهة الاولى بين الاسلام والوثنية في مكة، تختلف تماما عما يواجهه في المدينة من معركة معقدة بينه وبين أعدائه، في ميدان ذى جبهات ثلاث، يلقى فيه حشود قريش في صدام مسلح، وعصابات يهود في أوكارهم الخطرة، وجيوب المنافقين الذين حالفوا الشيطان.(1/208)
وتتداخل هذه الجبهات زمانا ومكانا، فيزداد الموقف تعقيدا
وصعوبة وحرجا، من حيث لا يستطيع المؤمنون أن يتفرغوا للجهاد في إحدى الجبهات ثم ينتقلوا إلى أخرى منها فيكون الامر عليهم أخف عبئا وأيسر مشقة.
وكذلك يشق علينا، فيما نحاول من متابعة المسير مع المصطفى في دار هجرته، أن نمضي مع الاحداث من موقع إلى اخر في ميدان المعركة الكبرى المعقدة، بمعزل عن غيره من المواقع.
ويمكن القول مع ذلك، إن الجبهة اليهودية بدأت تشحذ أسلحتها المسمومة لحرب الاسلام، من أول يوم للهجرة.
بينما تأخر الصدام المسلح مع الوثنية القرشية، ريثما يتحدد مجاله ما بين مكة والمدينة، ويتم التأهب له والاحتشاد، فلم يبدأ إلا في السنة الثانية للهجرة.
وكذلك تأخر ظهور الجيوب الخطرة للمنافقين، ريثما سرى فيها سم الشيطان بطيئا خفيا لم يكد يلحظ إلا بعد أن ضري واستشرى، يهدد الوجود الاسلامي في أحرج المواقف.
ذلك كله مما كان يدخل في حساب التاريخ، حين بدا ظاهر الامر أن مكة وحدها هي مركز الخطر على الاسلام، وأن له في يثرب مأمنا من كل خطر.
فلنمض مع الاحداث إلى حيث نرقب منطق الحرب في الجبهة اليهودية التي لم تطق الصبر على الاسلام منذ تحول إلى دار الهجرة،(1/209)
بل أخذت زمام المبادرة إلى الكيد له، من اليوم الاول.
وقد اقتضت طبيعة الجبهة، أن يأخذ الصراع فيها
جولتين.
أولاهما إثر الهجرة، بكل سلاح يهودي إلا الحرب والقتال.
والاخرى بعد بدر وأحد والخندق، حيث فرض الوضع المواجهة بالسيف في حرب معلنة.
ومن الجولة الاولى، ينكشف موضع جديد للخطر، لافتا إلى موقع في الميدان لم يكن له حساب في العهد المكي قبل الهجرة.
لم يكن قد مضى على المصطفى في دار هجرته يوم وبعض يوم، حين انكمش يهود في دورهم ومجامعهم يرصدون أبعاد الموقف الطارئ، ويحسبون ألف حساب لما وراءه من تهديد لوجودهم المغتصب هناك.
أقرب الخطر أن ألف بين قلوب عرب المدينة من أوس وخزرج، وأطفأ ما أوقد يهود بينها من نار العداوة والبغضاء.
ووراءه أن ينير الاسلام بصائر العرب الاميين ويعلمهم الكتاب والحكمة، فينكشف لهم ما عق يهود من الدين الموسوي وحرفوا من التوراة، وقتلوا من أنبياء، واقترفوا من جرائم وحشية أرقت البشرية على اختلاف الاجناس والازمان.
من أول يوم للهجرة، بدأ قلقهم وكيدهم.
وفى بيت زعيمهم (حيي بن أخطب) كانت العصابة في شغل شاغل(1/210)
بهذا المهاجر الذي صرخ راصدهم معلنا عن قدومه، فاحتشد عرب يثرب لاستقباله.
وبدا لابن أخطب أن يتسلل هو وأخوه (أبو ياسر) في غلس الفجر، ليتحققا من شخصية هذا النبي العربي ويستوثقا من أمره في ضوء ما
أعطت التوراة من ملامح النبوة.
وكانت (صفية بنت حيي) هناك، صبية مدللة ما تزال في بيت أبيها، لم تر النبي العربي بعد.
قالت بعد أن أسلمت ودخلت بيت المصطفى، تسترجع ذكرياتها عن يوم الهجرة.
(كنت أحب ولد أبي إليه والى عمي أبي ياسر، لم ألقهما قط مع ولدهما إلا أخذاني دونه.
فلما قدم رسول الله، صلى الله عليه وسلم، المدينة، غدا عليه أبي وعمي مغلسين بين الفجر والصبح، فلم يرجعا حتى كانا مع غروب الشمس.
فأتيا متعبين ساقطين يمشيان الهوينى، فهششت إليهما كما كنت إصنع، فوالله ما التفت واحد منهما الي، مع ما بهما من الغم.
وسمعت عمي أبا ياسر، وهو يقول لابي: - أهو هو ؟ قال: نعم، إنه هو.
سأله عمي: أتعرفه وتثبته ؟ قال: نعم أعرفه.(1/211)
وسأل عمي: فما في نفسك منه ؟ ورد أبي: عداوته ما بقيت) (1).
وكأنما كانت كلمته، أول يوم للهجرة، إيذانا بفتح جبهة جديدة، أخطر وأضرى من الجبهة المكشوفة مع المشركين من قريش.
كان هم يهود، أن يوادعهم الاسلام ريثما يفيقون من صدمة
الهجرة، ويتدبرون وسيلة الخلاص من هذا الدين الذي لا يمكن أن يسالموه.
وتعلق أملهم في الموادعة، بأنهم في ظاهر أمرهم أهل كتاب وأتباع نبي مرسل.
والقرآن فيما سمعوا من آياته، يقرر أنه مصدق لما بين يديه من التوراة والانجيل، مقر بنبوة عيسى وموسى ويعقوب واسحاق وابرهيم وسائر الانبياء لا يفرق بين أحد منهم.
وفي خبث ومسكنة، تقدموا يرحبون بالنبي المهاجر ويسألونه الموادعة والامان، وله عليهم أن يكونوا مع أهل المدينة ضد أي عدوان عليها من وثنيي مكة.
وكان الضمان، ما ليهود في المنطقة من مستعمرات غنية وتجارة رابحة وحصون مكدسة بالاموال، فهم أحرص الناس على سلام المدينة وأمن المنطقة.
__________
(1) السمهودي: وفاء الوفا: 1 / 270.
والسيرة لابن هشام: 2 / 165.
[ * ](1/212)
وأعطاهم المصطفى عهده بالموادعة والامان على أموالهم وأنفسهم وحرية عقيدتهم، مسجلا في كتابه إلى أهل المدينة إثر هجرته عليه الصلاة والسلام.
ومما جاء فيه: (بسم الله الرحمن الرحيم.
هذا كتاب من محمد النبي صلى الله عليه وسلم بين المؤمنين والمسلمين من قريش ويثرب - المهاجرين والانصار - ومن تبعهم فلحق بهم وجاهد معهم، أنهم أمة واحدة.
(وأن لا يحالف مؤمن مولى مؤمن دونه.
وإن المؤمنين على من بغى
منهم أو ابتغى دسيعة ظلم أو إثم أو عدوان أو فساد بين المؤمنين.
وان المؤمنين أيديهم عليه جميعا ولو كان ولد أحدهم.
ولا يقتل مؤمن مؤمنا في كافر ولا ينصر كافرا على مؤمن.
(وإن ذمة الله واحدة، يجير عليهم أدناهم، وان المؤمنين بعضهم موالي بعض دون الناس.
(وإن من تبعنا من يهود فإن له النصر والاسوة غير مظلومين ولا متناصرين عليهم.
وإن سلم المؤمنين واحدة، لا يسالم مؤمن دون مؤمن في قتال في سبيل الله إلا على سواء وعدل بينهم..(وإن المؤمنين المتقين على إحسن هدى وأقومه، وإنه لا يجير مشرك - من أهل المدينة وما حولها - مالا لقريش ولا نفسا، ولا يحول دونه على مؤمن.
وإنه من اعتبط مؤمنا قتلا عن بينة فإنه قود به إلا أن يرضى ولي المقتول.
وان المؤمنين عليه كافة، ولا يحل لهم إلا قيام عليه.(1/213)
(وإنه لا يحل لمؤمن أقر بما في هذه الصحيفة وآمن بالله واليوم الآخر، أن ينصر محدثا ولا يؤويه (1).
وإنه من نصره أو آواه فإن عليه لعنة الله وغضبه يوم القيامة ولا يؤخذ منه صرف ولا عدل.
وإنكم مهما اختلفتم فيه من شئ فإن مرده إلى الله عزوجل، والى محمد صلى الله عليه وسلم.
(وإن اليهود ينفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين، وإن يهود بني عوف أمة مع المؤمنين.
لليهود دينهم وللمسلمين دينهم، مواليهم وأنفسهم، إلا من ظلم أو أثم فإنه لا يوتغ - يهلك - إلا نفسه وأهل بيته.
وإن جفنة - بطن من بني ثعلبة - كأنفسهم.
وإن لبني الشطيبة مثل ما ليهود بني عوف، وإن البر دون الاثم.
وإن موالي ثعلبة كأنفسهم، وإن بطانة يهود كأنفسهم.
(وإن على اليهود نفقتهم وعلى المسلمين نفقتهم.
وإن بينهم النصر على من حارب أهل هذه الصحيفة.
وإن بينهم النصح والنصيحة والبر دون الاثم.
وإنه لم يأثم امرؤ بحليفه، وإن النصر للمظلوم، وإن اليهود ينفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين، وإن يثرب حرام جوفها لاهل هذه الصحيفة، وإن الجار كالنفس غير مضار ولا آثم.
وإنه لا تجار حرمة إلا بإذن أهلها.
(وإنه ما كان بين أهل هذه الصحيفة من حدث أو اشتجار يخاف
__________
(1) المحدث: من أحدث في الاسلام بدعة أو ضلالة أو فتنة.
[ * ](1/214)
فساده فإن مرده إلى الله عزوجل، والى محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
(وإن الله على أتقى ما في هذه الصحيفة وأبره (وإنه لا تجار قريش ولا من نصرها.
(وإن بينهم النصر على من دهم يثرب.
وإذا دعوا إلى صلح يصالحونه ويلبسونه فإنهم يصالحونه ويلبسونه.
وإنهم إذا دعوا إلى مثل ذلك فإن لهم على المؤمنين، إلا من حارب في الدين.
على كل أناس حصتهم من جانبهم الذي قبلهم.
(وإن يهود الاوس، مواليهم وأنفسهم، على مثل ما لاهل هذه الصحيفة مع البر المحض من أهل هذه الصحيفة.
(وإن البر دون الاثم.
لا يكسب كاسب إلا على نفسه وإن الله على أصدق
ما في هذه الصحيفة وأبره.
وإنه لا يحول هذا الكتاب دون ظالم وآثم.
وإنه من خرج آمن ومن قعد آمن بالمدينة، إلا من ظلم أو أثم.
وإن الله جار لمن بر واتقى، ومحمد رسول الله صلى الله عليه وسلم) (1).
والصحيفة وثيقة تاريخية شاهدة على استجابة نبي الاسلام صلى الله عليه وسلم لما طلب يهود من موادعة وأمان وحلف وجوار، وعلى احترام الاسلام حريتهم في العقيدة، لهم دينهم وللمسلمين دينهم، وتأمينهم على أموالهم وأنفسهم ومواليهم وبطانتهم، إلا أن يأثموا ويظلموا، ويخونوا العهد فيظاهروا عدوا على أهل المدينة من المهاجرين والانصار.
__________
(1) السيرة لابن هشام: 2 / 149 وتاريخ الطبري: السنة الاولى للهجرة.
[ * ](1/215)
بقدر ما هي شاهدة على أبعاد الجبهة اليهودية، ومدى تغلغلهم في يثرب.
ولم تذكر مع ذلك غير البطون الناشبة في أحياء العرب هناك، والمعدودة من مواليها.
دون تعرض للمستعمرات اليهودية في خيبر وبني النضير وبني قريظة، وتيماء وفدك ووادي القرى.
بل لم تذكر كذلك الاحياء الخاصة بهم في صميم المدينة، مثل حي بني قينقاع.
فلنتابع الاحداث.
المدينة التي فتحت قلبها للمهاجر العظيم وبايعته على الاسلام والنصرة والبذل، كانت تتوجس الشر من عصابات يهود التي مزقت الوجود العربي هناك قبل الاسلام.
وبنو قيلة، الاوس والخزرج، الذين فتحوا دورهم لاخوانهم المهاجرين من مكة، كانوا في ضيق بنفر من أشراف المدينة، ترددوا في الترحيب بهذه الهجرة التي غيرت الاوضاع وحولت مجرى الاحداث.
ثم تابعوا قومهم على الاسلام، بعد تردد وارتياب دون أن يدخل الايمان في قلوبهم عقيدة ودينا.
وعلى رأس المنافقين عبدالله بن أبي بن سلول الخزرجي، حليف اليهود من يوم بعاث.
لقد افتدى نفسه وماله بدفع رهائن اليهود إليهم، حين هجموا بعد انتصار الاوس، على دور الخزرج يذبحون وينهبون.(1/216)
ومن يومها صار حليفهم الذي يدين لهم بحياته، ويجدون فيه عميلا يسخرونه في قضاء مأربهم، حتى فكروا في أن يتوجوه ملكا على يثرب، وعكف بعض صناعهم في حي الصاغة اليهودي، على إعداد تاج لهذا الموالي الحليف.
وجاءت الهجرة فبددت أمله وأملهم، وشحنت نفسه حسرة على تاجه المسلوب.
ذات صباح، من الايام الاولى للهجرة، ركب المصطفى عليه الصلاة والسلام إلى بيت صاحبه (سعد بن عبادة الخزرجي الانصاري) يعوده من مرض ألم به.
وفى طريقه إلى بيت سعد، مر بعبد الله بن أبي، في مجلس له وحوله رجال من أهله.
فكره عليه الصلاة والسلام أن يجاوز المجلس دون أن ينزل.
فنزل وسلم على القوم، ثم جلس قليلا فتلا آيات
من القرآن الكريم، وذكر بالله وحذر، وبشر وأنذر.
وابن أبي بن سلول، صامت واجم.
حتى إذا فرغ المصطفى مما أراد أن يقول، بادره (ابن أبي) قائلا في جفوة وغلظة: - يا هذا، إنه لا أحسن من حديثك هذا إن كان حقا.
فاجلس في بيتك فمن جاءك فحدثه إياه، ومن لم يأتك فلا تغشه في مجلسه بما يكره منه !(1/217)
ولم يدعه الانصار يتم قولته المنكرة الفاحشة.
وانتفض الشاعر الخزرجي الانصاري (عبدالله بن رواحة) يعقب على كلام ابن أبي، متحديا: - بلى يا رسول الله، فاغشنا بحديثك وائتنا في مجالسنا ودورنا وبيوتنا، فهو والله مما نحب، ومما أكرمنا الله به وهدانا له.
وغض ابن أبي بن سلول من بصره وهو يتمثل بقول (خفاف بن ندية السلمي): متى ما يكن مولاك خصمك لا تزل * تذل ويصرعك الذين تصارع وهل ينهض البازي بغير جناحه * وإن جذ يوما ريشه فهو واقع وقام المصطفى فتابع سيره حتى دخل على صاحبه (سعد بن عبادة) وفى وجهه - صلى الله عليه وسلم - ملامح ضيق لما سمع من ابن أبي بن سلول، عدو الله.
سأل سعد: (والله يا رسول إني لارى في وجهك شيئا، لكأنك سمعت شيئا تكرهه).
فأخبره صلى الله عليه وسلم بما كان.
وقال سعد: (يا رسول الله، ارفق به فوالله لقد جاءنا الله بك وإنا لننظم الخرز(1/218)
لنتوجه، فوالله إنه ليرى أن قد سلبته ملكا) (1).
لم يكد اليهود يطمئنون إلى موادعة نبي الاسلام إياهم، حتى عادوا إلى أوكارهم يدبرون لحرب الاسلام في معركة غير مكشوفة، يتقون بها المواجهة المعلنة.
وكان أقسى ما غاظهم من هذا الاسلام، أن أطفأ نار العداوة والبغضاء بين عرب المدينة، الاوس والخزرج، بعد أن سهرت أجيال من السلالة اليهودية على إلهابها بوقود من الدس والفتنة والتواطؤ.
فهل يمكن إيقاظ الفتنة بين الاوس والخزرج، وإهاجة الشر بينهم بعد أن حسمه الاسلام ونسخ ثارات لهم وأحقادا تراكمت على مدى خمسة قرون قبل المبعث ؟ لا بأس من المحاولة، على أن تبدو حادثا فرديا عارضا، لا يحمل اليهود إثمه.
نقل ابن إسحاق والطبري، فيما نقلا من أحداث السنة الاولى للهجرة: (مر شاس بن قيس - وكان شيخا عظيم الكفر شديد الضغن على
المسلمين والحسد لهم - على نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، من الاوس والخزرج، في مجلس قد جمعهم يتحدثون فيه، فغاضه ما رأى من ألفتهم وجماعتهم وصلاح ذات بينهم على الاسلام،
__________
(1) السيرة النبوية لابن هشام: 2 / 237.
[ * ](1/219)
بعد الذي كان بينهم من العداوة في الجاهلية.
فقال، يحدث نفسه أو قومه: - قد اجتمع ملا بني قيلة بهذه البلاد، وما لنا إذا اجتمع أمرهم من قرار ! ثم أمر فتى شابا من يهود كان معه، فقال: - اعمد إليهم فاجلس معهم، ثم اذكر يوم بعاث وما كان قبله من حروب بينهم، وأنشدهم بعض ما تقاولوا فيه من أشعار).
ففعل الشاب اليهودي ما أمره به شيخه، فتكلم القوم عند ذلك وتنازعوا وتفاخروا، حتى تواثب رجلان من الحيين وقال أحدهما لصاحبه: - إن شئتم رددناها الآن جذعة.
فغضب الفريقان جميعا وصاحوا: - قد فعلنا.
وتواعدوا على أن يلتقوا في يومهم ذاك.
بموضع (الحرة) واندفعوا في دروب المدينة يتداعون إلى الحرب وهم يتصايحون: السلاح السلاح.
وجمت دار الهجرة وهي تسمع صيحة الحرب.
وجاء المصطفى في
جمع من صحابته، فأدرك القوم في (الحرة) وقد هموا بقتال.
فقال عليه الصلاة والسلام: (يا معشر المسلمين، الله الله ! أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم،(1/220)
بعد أن هداكم الله للاسلام وقطع عنكم أمر الجاهلية واستنقذكم به من الكفر، وألف بين قلوبكم) ؟ ونفذ صوت المصطفى من مسامعهم إلى أفئدتهم وضمائرهم وعقولهم، (وعرفوا أنها مكيدة عدوهم، فبكوا وعانق الرجال من الاوس والخزرج بعضهم بعضا).
وبطل سم هذه الفتنة، وخاب كيد يهود.
والمصطفى يتلو من آيات (آل عمران) ثانية السور التي نزلت بالمدينة بعد الهجرة: (قل يا أهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله والله شهيد على ما تعملون * قل يا أهل الكتاب لم تصدون عن سبيل الله من آمن تبغونها عوجا وأنتم شهداء وما الله بغافل عما تعملون * يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا فريقا من الذين أوتوا الكتاب يردوكم بعد إيمانكم كافرين * وكيف تكفرون وأنتم تتلى عليكم ايات الله وفيكم رسوله، ومن يعتصم بالله فقد هدي إلى صراط مستقيم * يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون * واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا، واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها، كذلك
يبين الله لكم آياته لعلكم تهتدون * ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، وأولئك هم المفلحون *(1/221)
ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات وأولئك لهم عذاب عظيم *) صدق الله العظيم وخشع المؤمنون لآيات ربهم، وانكمشت العصابة الملعونة تفتش في جعبتها عن سهام أخرى يمكن أن تصيب من حيث ارتد سهم الفتنة هذه المرة إلى صدورهم، يؤجج ما انطوت عليه من ضغينة وغدر وحقد.
على أن تبدو المكيدة حادثا فرديا عارضا، لا يحمل اليهود كلهم إثمه..في أوكار يهود الناشبة في دار الهجرة وما حولها، تمت تعبئة الاحبار ليكيدوا للاسلام كيدا، دون أن يواجهوه بحرب معلنة: يتظاهر نفر منهم بالاسلام، ثم يندسون بين الصحابة في صميم المجتمع الاسلامي بالمدينة، ليبذروا بذور الشر التى تؤتى ثمرها الخبيث على المدى الطويل، ويشربوا ضعاف النفوس من بني قيلة سم النفاق، واثقين من نتيجته وإن يكن بطئ الاثر.
وآخرون منهم يتصدون لمجادلة نبي الاسلام، التماسا للعلم في ظاهر الامر، وقصدا إلى إحراجه، صلى الله عليه وسلم، وإعناته !(1/222)
جاءه نفر منهم، وهو صلى الله عليه وسلم في مجلسه مع صحابته، فقالوا: (1) - يا محمد، أخبرنا عن أربع نسألك عنهن، فإن فعلت ذلك اتبعناك وصدقناك.
سألهم عليه الصلاة والسلام: ما هي ؟ قال كبير منهم: - أخبرنا كيف يشبه الولد أمه وإنما النطفة من الرجل ؟ - وأخبرنا كيف نومك ؟ - وماذا حرم اسرائيل على نفسه ؟ وأخبرنا عن الروح.
- وجاءه (أبوصلوبا الفيطوني) فقال: - يا محمد، ما جئتنا بشئ نعرفه - من دلائل النبوة - ما أنزل الله عليك من آية فنتبعك لها.
وعقب (ابن حريملة) فاقترح على المصطفى مثل ما اقترحه عليه الوثنيون من قريش.
قال: - يا محمد، إن كنت رسولا من الله كما تقول، فقل له فليكلمنا حتى نسمع كلامه.
وأضاف آخر مقترحا: - يا محمد، ائتنا بكتاب تنزله علينا السماء نقرؤه، وإلا جئناك بمثل ما أتيتنا به !
__________
(1) تجد نصوص أسئلتهم والرد عليها في (السيرة لابن هشام) 2 / 91 وما بعدها.(1/223)
تلا المصطفى من وحي ربه:
(وقال الذين لا يعلمون لولا يكلمنا الله أو تأتينا آية، كذلك قال الذين من قبلهم مثل قولهم، تشابهت قلوبهم، قد بينا الآيات لقوم يوقنون).
وجاءه (جبل بن أبي قشيرة، وشمويل بن زيد) فقالا: - يا محمد، أخبرنا متى تقوم الساعة إن كنت نبيا كما تقول.
ولم يجب الرسول عليه الصلاة والسلام بغير ما نزل عليه من كلمات ربه: (يسألونك عن الساعة أيان مرساها قل إنما علمها عند ربي لا يجليها لوقتها إلا هو، ثقلت في السموات والارض لا تأتيكم إلا بغتة، يسألونك كأنك حفي عنها، قل إنما علمها عند الله ولكن أكثر الناس لا يعلمون).
وجاءه صلى الله عليه وسلم، جمع منهم، فيهم (ابن أبي عزير، وسلام بن مشكم، وابن أضاء فسألوا: - أحق يا محمد أن هذا الذي جئت به لحق من عند الله، فإنا لا لا نراه متسقا كما تتسق التوراة ؟ وأضاف (فنحاص، وابن صوريا، وابن صلوبا، وشمويل بن زيد): - يا محمد، أما يعلمك هذا إنس ولا جن ؟ ورد عليه الصلاة والسلام:(1/224)
(أما والله إنكم لتعرفون أنه الحق من عند الله..ولو اجتمعت الانس والجن على أن يأتوا بمثله، ما جاءوا به).
وكرروا سؤالهم عن ذي القرنين وأهل الكهف، وكانوا قد اقترحوا على مشركي قريش أن يسألوه عن (خبر فتية كان لهم حديث عجب، وعن رجل طواف في الارض ما شأنه ؟).
وأجاب صلى الله عليه وسلم، بمثل ما أجاب به قريشا، مما تلقى من آيات سورة الكهف في العهد المكي.
وأتى رهط منهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألوه معنتين: - يا محمد، هذا الله خلق الخلق، فمن خلق الله ؟ فغضب النبي عليه الصلاة والسلام حتى تغير لونه، وهم بهم يريد أن يبطش بهم غضبا لله سبحانه، لكنه تمالك غضبه وراح يتلو: (قل هو الله أحد * الله الصمد * لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد).
وغرهم حلمه صلى الله عليه وسلم، فمضوا في جدلهم الوقح: - فصف لنا يا محمد كيف خلقه - تعالى - ؟ كيف ذراعه وكيف عضده ؟ عندئذ اشتد غضب المصطفى وساورهم، ثم انصرف عنهم يائسا من جدوى مثل ذلك الجدل العقيم..(1/225)
لكنهم لم يكفوا عن جدلهم الخبيث، يبثون سمومه في المجتمع المدني آمنين من جانب نبي الاسلام، محتمين بعهده الموثق.
حتى ضج الصحابة من شرهم ومكرهم، فمضوا يساورونهم ويزجرونهم، عساهم يرتدعون.
دخل (أبو بكر الصديق) بيت المدارس الذي يجتمعون فيه إلى
أحبارهم ويتدارسون في أسفارهم، فوجد عصابة منهم قد اجتمعت إلى حبرين من رؤوسهم: (أشيع وفنحاص) فقال الصديق منذرا: (ويحك يا فنحاص اتق الله، فوالله إنك لتعلم أن محمدا رسول الله قد جاءكم بالحق من عنده، تجدونه مكتوبا عندكم في التوراة والانجيل) رد عدو الله، وقد ذكر ما يتلو المسلمون من آيات القرآن في البر والرحمة، والبذل للخير قرضا حسنا يضاعفه الله لهم: (والله يا أبا بكر، ما بنا إلى الله من فقر وإنه إلينا لفقير ! وما نتضرع إليه كما يتضرع إلينا، وإنا عنه لاغنياء وما هو عنا بغني ! ولو كان غنيا ما استقرضنا أموالنا كما يزعم صاحبكم ! ينهاكم عن الربا ويعطيناه، ولو كان عنا غنيا ما أعطانا الربا) ! فلم يملك أبو بكر غضبه، ولطم وجه فنحاص وقال: (والذي نفسي بيده، لولا العهد الذي بيننا وبينكم لضربت رأسك، أي عدو الله).
وأسرع الخبيث إلى النبي صلى الله عليه وسلم يشكو إليه صاحبه الصديق أبا بكر، وينكر أن يكون قال شيئا مما أغضبه.(1/226)
ونزلت كلمات الله، من سورة آل عمران: (لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء سنكتب ما قالوا، وقتلهم الانبياء بغير حق ونقول ذوقوا عذاب الحريق).
ولجوا في عنادهم ومكرهم، حتى اجترأوا فأنكروا أن يكونوا قد بشروا بقرب مبعث نبي ! ولم يسكت الانصار على هذا الانكار الجرئ، وطالما من عليهم يهود بأنهم أهل كتاب، وشغلوهم بالكلام عن نبي حان زمانه.
وقد تصدى لهم من الانصار (معاذ بن جبل، وسعد بن عبادة، وعقبة بن وهب) قالوا: - يا معشر يهود، اتقوا الله فوالله إنكم لتعلمون أنه رسول الله، ولقد كنتم تذكرونه لنا قبل مبعثه وتصفونه لنا بصفته).
فرد منهم رافع بن حريملة، ووهب بن يهوذا: - ما قلنا لكم هذا قط، وما أنزل الله من كتاب بعد موسى، ولا أرسل بشيرا ولا نذيرا بعده ! وبدا أن المجتمع المدني في حاجة إلى تطهير مما نفثوا فيه من سموم الشر والنفاق، لكن عهد الموادعة بكتاب النبي صلى الله عليه وسلم، كان يرخي لهم في أملهم أن يكيدوا للاسلام دون أن يواجهوه في معركة مكشوفة لم يكن أوانها قد حان بعد.(1/227)
حتى شهر رجب من السنة الثانية للهجرة، كان المصطفى والذين آمنوا معه، يتجهون في صلاتهم مستقبلين الشمال، شطر بيت المقدس.
ولم يكن صلى الله عليه وسلم راضيا عن تلك القبلة الاولى، وطالما رنا في تأملاته إلى البيت العتيق يرجوه قبلة لامته، لكنه لم يكن يملك أن يغير قبلة المسلمين من تلقاء نفسه، فليس له إلا أن ينتظر أمر الله سبحانه وتعالى.
واستجاب الله لرسوله فولاه القبلة التي يرضاها.
وصلى المصطفى والصحابة في دار الهجرة، مستقبلين المسجد الحرام منذ نزلت آية البقرة، أولى السور المدنية: (قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضاها،
فول وجهك شطر المسجد الحرام، وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره، وإن الذين أوتوا الكتاب ليعلمون أنه الحق من ربهم، وما الله بغافل عما يعملون).
ولم يمض هذا التحول الهام دون جدل من يهود: ذهب نفر من أحبارهم إلى المصطفى عليه الصلاة والسلام يسألونه مساومين: - يا محمد، ما ولاك عن قبلتك التي كنت عليها وأنت تزعم أنك على ملة ابرهيم ودينه ؟ ارجع إلى قبلتك التي كنت عليها نتبعك ونصدقك ! وتلا المصطفى من وحي ربه:(1/228)
(سيقول السفهاء من الناس ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها، قل لله المشرق والمغرب يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم) وانصرف اليهود بغيظهم لم ينالوا شيئا بحيلتهم الماكرة ومساومتهم المكشوفة الكاذبة.
وتسامع طواغيت المشركين من قريش في مكة، بنبإ تحول المسلمين عن قبلتهم الاولى إلى المسجد الحرام، فلم يرضهم ما في هذا التحول من تأييد الزعامة الدينية لام القرى وترسيخ حرمة البيت العتيق، بل أوجسوا في أنفسهم خيفة أن تكون مكة متجه الدعوة الاسلامية التي حسبوا أنها خرجت منها إلى يثرب، مع محمد - صلى الله عليه وسلم - والمهاجرين المكيين من صحابته.
وساورهم القلق وهم يحسون نذر المواجهة المحتومة المتحدية، كلما حان موعد الصلاة خمس مرات كل يوم، فتمثلوا المسلمين هناك في
دار هجرتهم يقيمون صلاتهم وقبلتهم المسجد الحرام في أم القرى.(1/229)
يوم بدر وموازين القوى (يا أيها النبي حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين * يا أيها النبي حرض المؤمنين على القتال إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين وإن يكن منكم مائة يغلبوا ألفا من الذين كفروا بأنهم قوم لا يفقهون).
(صدق الله العظيم) في أي الجبهات الثلاث، يبدأ الصدام المسلح الذى لم يكن منه بد، لتأمين الوجود الاسلامي وحماية حرية عقيدته ؟ ليس مع يهود قطعا، فما هو من طبيعتهم ولا في إمكانهم.
وليس مع المنافقين، كذلك، وداؤهم لا يزال في مرحلة الحضانة(1/230)
والتفريخ، والذى يبدو من بوادره يمكن تداركه أو الغض عنه تجنبا لفتح جبهة خطرة في صميم المجتمع الاسلامي بالمدينة، ولما يفرغ من أعدائه الوثنيين ويهود.
إنما الصدام المسلح من الخصوم من قريش التي لم يعد أمامها سواه، بعد أن تجنبته جهدها طويلا، على الرغم منها، حفاظا على السلام في أم القرى وأمن الحمى الحرام في البيت العتيق.
لقد كان في حساب الوثنية القرشية أن تفرغ من القلة المؤمنة في الجولة الاولى بأرض المبعث، دون حاجة إلى قتال وحرب.
وقد غرها أن نبي الاسلام عليه الصلاة والسلام، لبث بضعة عشر عاما في مكة، لا يحمل سلاحا غير عقيدته، ولا يلقى طواغيت المشركين بغير كلمات ربه.
لكن طبيعة الاشياء فرضت حتمية الصدام، وقررت كذلك مصيره من تلك الجولة المكية الاولى، وإن بدا أن المعركة لم تحسم إلا يوم الفتح في السنة الثامنة للهجرة.
ماذا عسى التاريخ أن يعطي من تفسير منطقي لحركة الدعوة الاسلامية إذ تأخذ منطلقها من فجر المبعث، فيحتمل المصطفى عليه الصلاة والسلام والذين آمنوا معه، وطأة الوثنية العاتية الشرسة، دون أن يؤذن لهم بقتال ؟ لا يمكن أن يكون المؤمنون مظنة أن يكرهوا القتال حذرا من معركة(1/231)
تبدو غير متكافئة، وهم الذين باعوا الدنيا بالآخرة، وبايعوا المصطفى عليه الصلاة والسلام على الجهاد معه في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم، وليس فيهم من دخل في دينه إلا وهو على بينة من أمره.
المهاجرون خرجوا من ديارهم وأموالهم.
والانصار أصحاب العقبة الكبرى، بايعوا النبي عليه الصلاة والسلام (على نهكة الاموال وقتل الاشراف) وودوا لو قاتلوا الوثنية عن دينهم من يوم العقبة، لولا أن قال الرسول عليه الصلاة والسلام: (لم نؤمر بذلك، ولكن ارجعوا إلى رحالكم).
ليس التفسير إذن، أنهم كانوا مظنة التردد في القتال أو الخوف من قوة عدوهم وكثرته.
وإنما اقتضت سنة الله سبحانه، أن تطول تلك الجولة المكية الاولى بغير قتال، ليؤمن من يؤمن عن عقيدة خالصة واقتناع حر، ويكون الابتلاء بوطأة المشركين تمحيصا للصفوة من المؤمنين، وتمزيقا لغشاوة الغفلة عن بصيرة قريش، بما تشهد من هذا الاستبسال الصامد الذى لا يمكن إلا أن يكون عن إيمان بحق.
وتتابعت آيات القرآن تقصر مهمة الرسول على البلاغ: يدعو إلى سبيل ربه بالحكمة والموعظة الحسنة.
وأسلم من أسلم، بمحض إرادته واختياره، دون تورط أو إكراه أو مسايرة.
وما كان بعيدا في منطق الحياة أن تغلب القلة المؤمنة كثرة كافرة،(1/232)
لكن الاسلام بتقريره حرية العقيدة وعدم الاكراه في الدين، أصلا من أصول دعوته، استصفى من قريش والموالي بمكة وسابقي الانصار، الجنود الاولين لحزب الله: لم ينتظروا حتى يحسبوا حسابا لمكسب أو خسارة، بل استجابوا لداعي الاسلام بمحض إرادتهم، عن اعتقاد راسخ وضمير حر، فما عادوا بحيث يخشون فيه لومة لائم، أو يبالون الموت في سبيل ما آمنوا أنه الحق من ربهم.
وزودهم إيمانهم الصادق بطاقة فذة، نفذ أثرها إلى صميم الجبهة القرشية، فكان منها المدد المتصل المتتابع، لكتيبة المؤمنين.
وتصدع بنيان الوثنية من قبل أن تلقى الاسلام في الصدام المسلح الذى فرضته طبيعة الموقف، وقد أذن للمسلمين في القتال إقرارا لمبدأ حرية العقيدة، وغضبا لحرمات الله، ودفعا لما سيموا من أذى
واضطهاد.
وقررت كذلك مصيره: ينتصر الحق على الباطل فيزهقه، وينسخ النور الظلام فتنجلي غواشي الوثنية عن أم القرى والبيت العتيق.
على ساحة (بدر) كانت أولى جولات هذا الصدام، وموقعة بدر لم تأت فجأة، بل سبقتها نذر تراكمت على الافق ما بين دار المبعث ودار الهجرة، معلنة عن حتمية الحرب بين الاسلام والوثنية، إذ ليس من طبيعة الاشياء أن يتهادن حق وباطل.
وقد أذن للمسلمين في القتال، بعد طول صبر واحتمال.(1/233)
لكن القتال لم يبدأ مع ذلك في عام الهجرة الاول، الذى مضى كله احتشادا للجهاد وتنظيما للمجتمع الاسلامي في مركزه بالمدينة، واكتشافا لابعاد الميدان في منطقة كانت، حتى المبعث ولمدى خمسة قرون قبله، ترعى فيها الذئاب من يهود.
ولم يكن هينا على المهاجرين والانصار، أن يأتي موسم الحج في عام الهجرة الاول، وقد حيل بينهم وبين أداء فريضة الحج والسعي إلى بيت الله الحرام الذى يسيطر عليه المشركون وكدسوا أوثانهم في ساحته، وأباحوه لكل الوثنيين العرب، وصدوا عنه المؤمنين الذين يعبدون رب هذا البيت لا يشركون به شيئا.
ومع مطلع السنة الثانية للهجرة، بدأ المصطفى عليه الصلاة والسلام يخرج في غزوات قصار، تدريبا لجنده من حزب الله، وإقرارا لهيبة الاسلام في موقعه الجديد.
كما بدأ عليه الصلاة والسلام يبعث سراياه لتجوب المنطقة ما بين مكة
والمدينة، وأولاهما مركز الوثنية العربية، والاخرى مركز الدعوة الاسلامية.
ولم تكن هذه السرايا قاصدة إلى قتال، وإنما كانت دوريات استطلاع تترصد أبناء قريش في منطقة الحجاز (1).
__________
(1) حديث هذه السرايا بتفصيل، في الجزء الثاني من السيرة النبوية لابن هشام، وطبقات ابن سعد، وتاريخ الطبري.
[ * ](1/234)
أولى السرايا، سرية (عبيدة بن الحارث) إلى مشارف الحجاز، وقد لقي جمعا من قريش فلم ينشب بينهم قتال، إلا أن (سعد بن أبي وقاص) من جنود السرية، رمى بسهم فكان أول سهم رمي به في الاسلام.
وقد اعتز به سعد فأنشد معتدا: ألا هل أتى رسول الله أني * حميت صحابتي بصدور نبلي فما يعتد رام في عدو * بسهم يا رسول الله مثلي بعد سرية (عبيدة بن الحارث) بعث المصطفى سرية عمه (حمزة ابن عبدالمطلب) إلى سيف البحر، في ثلاثين راكبا من المهاجرين، ثم تلتها سرية (سعد بن أبى وقاص) فبلغت غايتها في أرض الحجاز، ثم عادت لم تلق كيدا.
بعدها كانت سرية (عبدالله بن جحش) - ابن عمة المصطفى: أميمة بنت عبد المطلب.
ومن هذه السرية اندلع الشرر الذى أوقد الضرام الكامن فتوهج مشتعلا على ساحة بدر.
خرج (عبدالله بن جحش) في ثمانية من المهاجرين، في أوائل رجب من السنة الثانية للهجرة، ورجب من الاشهر الحرم التي لا يحل فيها
قتال.
وكانت أوامر المصطفى إلى ابن عمته أن يمضي بالسرية حتى ينزل بموضع (نخلة) ما بين مكة والطائف، فيترصد بها قريشا ويستطلع أخبارها.(1/235)
وحدث في مرحلة من الطريق أن خرج (سعد بن أبى وقاص وعتبة ابن غزوان) ينشدان بعيرا لهما ضل.
ثم تخلفا لم يرجعا إلى منزل السرية، وبدا أن قريشا أخذتهما على غرة فأسرتهما.
ومضى أمير السرية بمن بقي معه من المهاجرين حتى نزل بنخلة كما أمره المصطفى عليه الصلاة والسلام.
فمرت عير تجارية لقريش، فيها (عمرو بن الحضرمي) وتحاشى المسلمون القتال حفاظا على حرمة الشهر الحرام.
لكن تجنب الصدام مع المواجهة، لم يكن مستطاعا، وأطلق الصحابي (واقد بن عبدالله) سهما أصاب عمرو بن الحضرمي فقتله.
وعندئذ فرت قريش من عيرها وقتيلها، وعن أسيرين منها.
وعادت السرية الظافرة إلى المدينة بالمغانم والاسيرين، وهى ترجو أن يفتدى بهما سعد بن أبي وقاص وعتبة بن غزوان.
غير أنها ما كادت تدخل المدينة حتى استقبلت بوجوم ذهب بفرحة النصر.
وقال المصطفى لابن عمته، أمير السرية: (ما أمرتكم بقتال في الشهر الحرام).
ثم أعرض صلى الله عليه وسلم عما جاءت به السرية من مغانم، ونحى الاسيرين القرشيين.
فظن عبدالله بن جحش وأصحابه أنهم أثموا وهلكوا.
واشتد الصحابة من المهاجرين والانصار في لومهم، ونقلوا إليهم ما تقول قريش في مكة: (لقد استحل محمد وأصحابه حرمة الشهر الحرام).
وتسللت الافاعي من الاوكار اليهودية، فراحت تطوف بأحياء المدينة وهى تهمهم في حقد واشتفاء:(1/236)
(عمرو بن الحضرمي، قتله واقد بن عبدالله.
(عمرو: عمرت الحرب.
(الحضرمي: حضرت الحرب.
(واقد: وقدت الحرب).
حتى حسم القرآن ذلك الموقف المعقد وأنهى كل جدل فيه بكلمات الله البينات: (يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه، قل قتال فيه كبير وصد عن سبيل الله وكفر به والمسجد الحرام وإخراج أهله منه أكبر عند الله والفتنة أكبر من القتل ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا، ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون * إن الذين آمنوا والذين هاجروا وجاهدوا في سبيل الله أولئك يرجون رحمة الله، والله غفور رحيم *).
وبهذه الآيات استرد جنود السرية طمأنينة بالهم، وطاب لهم النصر على عدوهم، وأنشد عبدالله بن جحش: تعدون قتلا في الحرام عظيمة * وأعظم منه، لو يرى الرشد راشد صدودكم عما يقول محمد * وكفر به، والله راء وشاهد(1/237)
وإخراجكم من مسجد الله أهله * لئلا يرى لله في البيت ساجد فإنا وإن عيرتمونا بقتله * وأرجف بالاسلام باغ وحاسد سقينا من ابن الحضرمي رماحنا * بنخلة لما أوقد الحرب واقد بعد شهرين اثنين، في شهر رمضان من السنة الثانية للهجرة، كانت غزوة بدر الكبرى التى وجهت مجرى الاحداث وحددت موازين القوى، لا بين الاسلام والوثنية فحسب، بل في كل صراع كذلك، بين حق وباطل ! (أبو سفيان بن حرب بن أمية بن عبد شمس) في طريقه من الشام إلى مكة عائدا بعير قريش..وصيحة تعلو في مكة: (يا معشر قريش، اللطيمة اللطيمة ! أموالكم مع أبي سفيان قد عرض لها محمد في أصحابه لا أرى أنكم مدركوها).
وترد أصوات من هنا ومن هناك: (أيظن محمد وأصحابه أن تكون عير أبي سفيان كعير ابن الحضرمي ؟ كلا والله ليعلمن غير ذلك).
وخرجت جموع قريش من مكة مزهوة بعددها وعدتها، تريد(1/238)
القضاء على المسلمين في دار الهجرة، وهي ترى الامر هينا بسيطا،
وكأنها خارجة في رحلة صيد.
ماذا كان من أمر المسلمين حين قال لهم الناس: (إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل) ؟.
جمع المصطفى صحابته من المهاجرين والانصار، وعرض عليهم الموقف من مختلف نواحيه، ثم قال يطلب مشورتهم: (أشيروا علي أيها الناس).
فقام أبو بكر الصديق، ثم عمر بن الخطاب، فتحدثا ما شاء لهما إيمانهما، عن فريضة الجهاد والثقة في النصر، ثم قام (المقداد ابن عمرو) - وكان خرج من قريش ولحق بالمسلمين في سرية عبيدة ابن الحارث - ودنا من المصطفى، وقال: - يا رسول الله، امض لما أراك الله فنحن معك، والله لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى: (اذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون)، ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون.
فوالذي بعثك بالحق لو سرت بنا إلى برك الغماد - بأقصى الجنوب - لجالدنا معك دونه حتى تبلغه.
دعا له المصطفى بخير، ثم التفت صلى الله عليه وسلم إلى الانصار(1/239)
ولم يكن أحد منهم قد تكلم بعد، وعاد يقول: (أشيروا علي أيها الناس).
سأل نقيبهم (سعد بن معاذ) - أحد السعدين: (والله لكأنك تريدنا يا رسول الله ؟).
أجاب المصطفى: (أجل).
فقال سعد: (فقد آمنا بك وصدقناك، وشهدنا أن ما جئت به هو الحق، وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا على السمع والطاعة.
فامض يا رسول الله لما أردت فنحن معك.
فوالذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك ما تخلف منا رجل واحد، وما نكره أن نلقى عدونا غدا، إنا لصبر في الحرب صدق في اللقاء، لعل الله يريك منا ما تقر به عينك، فسر بنا على بركة الله).
وسار بهم المصطفى على بركة الله حتى نزل بماء بدر، ليسمع أن في جيش المشركين بالعدوة القصوى صناديد قريش: عتبة بن ربيعة، شيبة بن ربيعة، الوليد بن عتبة، الحكم بن هشام، نوفل وحكيم ابني خويلد، النضر بن الحارث، أمية بن خلف.
فالتفت صلى الله عليه وسلم إلى أصحابه وقال: (هذه مكة قد أخرجت لكم أفلاذ أكبادها).
ثم لمح قريشا تندفع من وراء كثيب هناك.
هادرة بزئير الوعيد،(1/240)
ثملة بنشوة الغرور ومتعة الصيد، فرفع صلى الله عليه وسلم وجهه إلى السماء وقال يدعو ربه: (اللهم هذه قريش قد أقبلت بخيلائها وفخرها تحادك وتكذب رسولك.
اللهم فنصرك الذي وعدتني، اللهم أحنهم الغداة).
كم كان عدد المشركين الزاحفين من مكة ؟ ألف مقاتل كاملو العدة والسلاح أو يزيدون، ومعهم مائة فرس
مدربة على القتال.
وتجاههم، بالعدوة الدنيا، كان جنود المصطفى من حزب الله: ثلاثمائة وأربعة عشر لا يزيدون: من المهاجرين ثلاثة وثمانون ومن الاوس واحد وتسعون، ومن الخزرج مائة وأربعون.
ومعهم من الخيل ثلاثة أفراس فحسب ! استضعف المشركون جند الاسلام، فتقدم أحد صناديدهم في صلف وخيلاء، يريد أن يقتحم عسكر المسلمين إلى ماء بدر، فلم يمهله (حمزة بن عبدالمطلب) فسقط مضرجا بدمائه دون بدر.
واستكبر طواغيت قريش أن يخوضوا معركة مع هذه القلة المستبسلة: إن انتصروا عليها ضاع النصر في ميزان فقدان التكافؤ، وإذا هزموا قضت عليهم الهزيمة بعار الدهر وكانوا سبة في العرب.
وبدا لكبيرهم (عتبة بن ربيعة) فخرج من صف المشركين يختال(1/241)
بين أخيه شيبة عن يمينه وابنه الوليد عن يساره، وسأل في استخفاف: - هل من مبارز ؟ فخرج إليه ثلاثة من الانصار، زهد في مبارزتهم عندما سألهم من يكونون فعرفوه بنسبهم في بنى قيلة.
قال: (مالنا بكم حاجة) ! ثم نادى: يا محمد، أخرج إلينا أكفاءنا من قومنا.
فأخرج إليه المصطفى ثلاثة من صميم البيت الهاشمي القرشى: عمه، حمزة بن عبدالمطلب.
وابني عمه: على بن أبى طالب، وعبيدة بن الحارث.
ولم تطل المبارزة، وسقط عتبة بن ربيعة، وشيبة أخوه، وابنه الوليد ابن عتبة، صرعى مجندلين على ساحة بدر ! عندئذ تزاحف الناس وحميت المعركة، فأخذ المصطفى براحته حفنة من حصباء بدر قذف بها عسكر المشركين وهو يقول: (شاهت الوجوه).
ثم التفت صلى الله عليه وسلم إلى جنده فقال: (شدوا) ! وشدوا على المشركين فما تركوهم إلا بين قتيل وأسير، وهارب يشترى النجاة بعار الفرار.
وصدق الله وعده ونصر من نصروه، وألقى الرعب في قلوب عدوهم فذهبوا عبرة ومثلا.
وعاد الجيش الظافر إلى المدينة بالاسرى والمغانم.(1/242)
وعادت فلول المشركين إلى مكة بالهزيمة والذل.
أحصى (ابن هشام) في السيرة النبوية قتلى قريش في بدر سبعين رجلا، وبلغ أسراهم نحو ذلك العدد، فكانوا ستة وستين أسيرا والباقون من الجيش المغلوب لاذوا بالفرار.
أما المسلمون فاستشهد منهم يوم بدر أربعة عشر شهيدا: ستة من المهاجرين وثمانية من الانصار، بذلوا أنفسهم فداء عقيدتهم فذهبوا بمجد الشهادة وشرف الجهاد وثواب الآخرة: (ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون * فرحين بما آتاهم الله من فضله ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم ألا خوف عليهم ولا هم يحزنون * يستبشرون
بنعمة من الله وفضل، وان الله لا يضيع اجر المؤمنين * الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح، للذين أحسنوا منهم واتقوا أجر عظيم * الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم ايمانا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل * فانقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء واتبعوا رضوان الله، والله ذو فضل عظيم).
(صدق الله العظيم) وتجاوبت آفاق الحجاز بقصائد حماسية بعيدة الصدى، للشعراء الذين أخذوا أماكنهم في الموقع الوجداني للميدان، يناضلون بسلاح الكلمة لتعبئة الوجدان العام.(1/243)
في مدينة الرسول كان شعراء الاسلام الذين جندهم المصطفى عليه الصلاة والسلام لنصر الدعوة بألسنتهم، يشدون بآية النصر في بدر، ويرمون المشركين بشعر وصفه المصطفى فقال إن وقعه عليهم أشد من نضح النبل.
فمن شعر حسان بن ثابت الانصاري: - ألا ليت شعري هل أتى أهل مكة * إبادتنا الكفار في ساعة العسر قتلنا سراة القوم عند مجالنا * فلم يرجعوا إلا بقاصمة الظهر تركناهم للعاديات ينبنهم * ويصلون نارا بعد حامية القعر
لعمرك ما حامت فوارس مالك * وأشياعهم يوم التقينا على بدر ومن قصيدة لكعب بن مالك الانصاري: ألا هل أتى غسان من نأي دارها * وأخبر شئ بالامور عليمها بأن قد رمتنا عن قسي عداوة * معد معا، إذ أتانا زعيمها نبي له في قومه إرث عزة * وأعراق صدق هذبتها أرومها(1/244)
فساروا وسرنا فالتقينا كأننا * أسود لقاء لا يرجى كليمها ضربناهم حتى هوى في مكرنا * لمنخر سوء من لؤي عظيمها فولوا ودسناهم ببيض صوارم * سواء علينا حلفها وصميمها وفى مكة، كان شعراء المشركين يهدرون بطلب الثأر، ويبكون مصارع الصناديد الذين جندلوا على ساحة بدر.
قال ضرار بن الخطاب يرثي أبا الحكم بن هشام، أبا جهل، ويستنفر للثأر: ألا من لعين باتت الليل لم تنم * تراقب نجما في سواد من الظلم
كأن قذى فيها، وليس بها قذى * سوى عبرة من جائل الدمع تنسجم فآليت لا تنفك عيني بعبرة * على هالك بعد الرئيس أبي الحكم على هالك أشجى لؤي بن غالب * أتته المنايا يوم بدر فلم يرم(1/245)
فلا تجزعوا آل المغيرة واصبروا * عليه، ومن يجزع عليه فلم يلم وجدوا فإن الموت مكرمة لكم * وما بعده في آخر العيش من ندم وقال (أمية بن أبي الصلت) - ذاك الذى آمن لسانه قبل المبعث وكفر قلبه - قصيدة طويلة ينوح فيها على قتلى بدر من صناديد قريش..وكذلك أخذت الشاعرات من الفريقين مكانهن في المعركة.
روى (ابن اسحاق) في (السيرة النبوية) أربع قصائد لهند بنت عتبة وقصيدتين لصفية بنت مسافر حفيدة أمية بن عبد شمس.
كما روى قصيدة لهند بنت أثاثة، حفيدة عبدالمطلب، ترثى شهيدا لها من شهداء بدر، وأخرى لقتيلة بنت الحارث في النضر ابن الحارث الذى قتل صبرا بعد المعركة، في (الاثيل) بين بدر والمدينة.
وفيها تقول:
يا راكبا إن الاثيل مظنة * من صبح خامسة وأنت موفق أبلغ بها ميتا بأن تحية * ما إن تزال بها النجائب تخفق(1/246)
مني إليك، وعبرة مسفوحة * جادت بواكفها وأخرى تخنق هل يسمعني النضر إن ناديته * أم كيف يسمع ميت لا ينطق أمحمد يا خير ضنء كريمة * في قومها والفحل فحل معرق ما كان ضرك لو مننت وربما * من الفتى وهو المغيظ المحنق أو كنت قابل فدية فليفدين * بأعز ما يغلو به ما ينفق فالنضر أقرب من أسرت قرابة * وأحقهم إن كان عتق يعتق فيروى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما بلغه شعر قتيلة في النضر ابن الحارث قال: (لو بلغني هذا قبل قتله، لمننت عليه).
وبدا النصر عجيبا وغريبا، فما تصورت قريش وهي تحتشد في ألف مقاتل كاملي العدة والسلاح، أن يغلبهم القائد الرسول في ثلاثمائة من صحابته.
ولكن سنن الحياة لا ترى في هذا النصر أي شذوذ أو غرابة.
القتال في بدر لم يكن بين فئتين متكافئتين:(1/247)
من حيث العدد والسلاح، كان القرشيون يزيدون أضعافا مضاعفة.
ولكن المعركة لم تكن متكافئة كذلك من حيث القوى المعنوية: المشركون خرجوا للقتال بطرا ورئاء الناس، وإمعانا في البغي والعدوان، وتأمينا لطريق تجارتهم إلى الشام، وانتقاما من المصطفى والذين هاجروا معه والذين آووه ونصروه لا يبالون غضب قريش ! والمسلمون خرجوا جهادا في سبيل دينهم، وتأمينا لحقهم في حرية العقيدة، وغضبا لما سامتهم الوثنية القرشية من أذى واضطهاد.
ومتى كان القتال بين حق وباطل، بين مستبسل في سبيل ما يؤمن أنه الحق، وبين ممعن في البغي والضلال، فإن العشرين من المؤمنين يغلبون المائة، والمائة يغلبون الالف.
وتحددت ببدر موازين القوى: فلم يكن الامر فيها بين كثرة وقلة فحسب، ولكنه كان بين كثرة يعوزها سلاح الايمان، ليس فيها من يقاتل إلا وهو يفكر في حماية الجاه الموروث ويرى في خصومة المسلمين صيدا سهلا، وبين قلة مؤمنة صابرة ليس فيها من يقاتل إلا وهو يرجو انتصار الحق ورضوان الله، ويرى الموت في سبيل عقيدته التى آمن بها، حياة ومجدا ونصرا.
وحزب الله لم يتردد في دخول المعركة حتى يقيس قوته إلى قوة(1/248)
عدوه، ولم يتهيب القتال خوفا من كثرة مسلحة مزهوة بعددها وعدتها، بل بادر جنود الاسلام إلى لقاء عدوهم بعد أن جمعوا له كل ما استطاعوا من قوة، ورحبوا بالجهاد لا يبالي أحدهم حين يقتل مسلما، كيف ولا أنى يقتل: ولست أبالي حين أقتل مسلما * على أي جنب كان في الله مصرعي سيق أسرى بدر إلى المدينة في أعقاب الفئة الظافرة، فتأملهم المصطفى مليا، ثم نحى منهم صهره (أبا العاص بن الربيع) وفرق الباقين بين أصحابه وقال: (استوصوا بالاسارى خيرا).
وبقي أبو العاص عند المصطفى، وقلبه مشدود إلى مكة، حيث ترك هناك زوجه الحبيبة (زينب بنت محمد) مع صغيريهما (علي وأمامة)، ولم يكن الاسلام قد فرق بعد بين زوجة مؤمنة وزوج مشرك.
حتى جاءت رسل قريش في فداء أسراها.
وغالوا في الفداء، حتى إن امرأة لتسأل عن أغلى ما فدي به قرشي فيقال لها: أربعة آلاف درهم، فتبعث بمثلها في فداء ابنها.
وتقدم عمرو بن الربيع فقال للمصطفى: - بعثتني (زينب بنت محمد) بهذا في فداء زوجها، أخى: أبي العاص بن الربيع.(1/249)
وأخرج من ثيابه صرة وضعها بين يدى الرسول، ففتحها صلى الله عليه وسلم فإذا فيها قلادة لم يكد يراها حتى رق لها رقة شديدة، وخفق قلبه للذكرى: لقد كانت قلادة (خديجة) أهدتها ابنتها (زينب) يوم عرسها، حين زفت إلى (أبي العاص بن الربيع) ابن خالتها هالة بنت خويلد.
وأطرق أصحاب المصطفى خشعا وقد أخذوا بجلال الموقف ! قلادة الحبيبة، تبعثها بنت النبي إلى أبيها في فداء زوج حبيب ! وتكلم النبي الاب بعد فترة صمت فقال: (إن رأيتم أن تطلقوا لها أسيرها وتردوا عليها مالها، فافعلوا).
أجابوا جميعا: - نعم يا رسول الله.
وأدنى المصطفى إليه صهره الذى غلبه التأثر لهيبة الموقف، فأسر إليه حديثا، فحنى أبو العاص رأسه موافقا، ثم حيا ومضى.
فلما أبعد التفت المصطفى إلى أصحابه من حوله، فأثنى على أبي العاص وقال: (والله ما ذممناه صهرا) (1).
وعاد (أبو العاص) إلى مكة ليجهز زوجه الحبيبة كى تلحق بأبيها المصطفى، وفاء بوعد قطعه على نفسه، يوم ودع أباها عليه الصلاة والسلام بالمدينة، بعد بدر.
__________
(1) السيرة لابن هشام 2 / 308.
[ * ](1/250)
وكان الفراق قاسيا صعبا، وقد خانه تجلده يوم رحليها، فترك أخاه (كنانة بن الربيع) يصحبها إلى خارج مكة، حيث كان (زيد
ابن حارثة) في انتظارها.
وانطلق (كنانة) يقود بعيرها نهارا وقد أخذ قوسه وكنانته متأهبا، فهال قريشا أن يخرج بها هكذا في وضح النهار على مرأى منهم ومسمع، وخرج بعضهم في أثر المهاجرة حتى أدركوها بذى طوى، فكان أسبقهم إليها (هبار بن الاسود الاسدي) الذى روعها بالرمح، وقد جن حزنه على إخوة له ثلاثة صرعوا جميعا في بدر بأيدى أصحاب محمد.
ونخس البعير، فألقى بزينب على صخرة هناك، وعندئذ برك (كنانة بن الربيع) دونها ونثر كنانته وهو يزأر متوعدا: - والله لا يدنو منها رجل إلا وضعت فيه سهما.
فتراجعوا، ووقف أبو سفيان بن حرب بعيدا يقول لكنانة: - كف عنا نبلك حتى نكلمك.
فكف كنانة، ودنا أبو سفيان منه فقال: (إنك لم تصب يا ابن الربيع: خرجت بالمرأة على رءوس الناس علانية وقد عرفت مصيبتنا ونكبتنا وما دخل علينا من محمد، فيظن الناس أن ذلك عن ذل أصابنا وأن ذلك منا ضعف ووهن.
ولعمري مالنا بحبسها عن أبيها من حاجة، ولكن ارجع بها حتى إذا هدأت الاصوات وتحدث الناس أن قد رددناها، فتسلل بها سرا فألحقها بأبيها).(1/251)
فكبر على كنانة أن يردها ليعود فيتسلل بها سرا بعد أن يذاع في الناس أن قد ردتها قريش.
وهم ليمضي بها، فراعه أن رآها تنزف دما، وقد طرحت جنينها على أديم الصحراء !
وعاد بها إلى مكة، حيث سهر أبو العاص على رعايتها وتمريضها لا يفارقها لحظة من ليل أو نهار، حتى إذا استردت بعض قواها، ودعها للمرة الثانية وداع محب مقهور.
وخرج بها كنانة حتى بلغت مأمنها.
ولم يتبعها في هذه المرة طالب، بل أغمض الذين طاردوها بالامس أعينهم، وقد ركبهم الخزي والعار من قول هند بنت عتبة تعيرهم، وتذكرهم بهزيمتهم في بدر: أفي السلم أعيار، جفاء وغلظة، * وفى الحرب أشباه النساء العوارك ؟ استقبلت دار الهجرة بنت المصطفى بترحاب بالغ، شابت فرحة اللقاء فيه سورة الغضب لما أصابها عند خروجها من مكة، وعاشت زينب في رعاية أبيها المصطفى على أمل لم يغلبها عليه اليأس قط: أن يشرح الله صدر أبي العاص للاسلام، فيلتئم الشمل الممزق.
وكان عليها أن تنتظر ست سنوات طوال ليتحقق هذا الامل الغالي، ثم لا يكاد الشمل يلتئم حتى ترحل عن الدنيا بعد عام وبعض عام من اسلام أبي العاص، فيكون فراق لا لقاء بعده على هذه الارض.(1/252)
درس من أحد.
ورسالة من شهيد (يا أيتها النفس المطمئنة * ارجعي إلى ربك راضية مرضية * فادخلي في عبادي وادخلي جنتي).
(صدق الله العظيم)
ما أبهظ أعباء النصر ! وما أسرع ما يتعرض للضياع بأدنى بادرة من تهاون أو تفريط، يستمرئ فيها المنتصر فرحته فيغفل عن موقعه تجاه عدوه، ويتهاون في تقدير طاقة التحدي في المهزوم ! والنصر في (بدر) قد ألقى على المسلمين تبعاته وأعباءه، بقدر ما أثقل على قريش بخزي العار، وعبأها لاسترجاع شرفها الضائع،(1/253)
والثأر لقتلاها الذين جندلهم المسلمون على ساحة بدر.
وقد احتاج المشركون إلى سنة كاملة ريثما عبأوا قواهم واحتشدوا لمعركة الثأر.
خرجوا من مكة بحدهم وحديدهم وأحابيشهم ومن والاهم من بني كنانة وأهل تهامة.
وخرجت معهم نساؤهم يقطعن على الرجال سبيل النكوص.
و (هند بنت عتبة) في نسوة بني أمية وقريش، يضربن الدفوف على صوت هند: ويها بني عبد الدار * ويها حماة الادبار ضربا بكل بتار أن تقبلوا نعانق * ونفرش النمارق أو تدبروا نفارق * فراق غير وامق ولم تكن هند قد نامت قط على ثأرها، وفى قتلى بدر: حنظلة بن أبى سفيان، وأبو هند (عتبة بن ربيعة) وأخوها الوليد، وعمها شيبة.
ثلاثة منهم صرعوا على ساحة بدر، بسيف الفارس حمزة بن
عبدالمطلب.
حتى إذا دنوا من المدينة، خرج إليهم المصطفى عليه الصلاة والسلام في ألف من المسلمين، لم يلبثوا أن نقصوا بضع مئات قبل أن يلتقي الجمعان في أحد، في منتصف شوال من السنة الثالثة للهجرة.(1/254)
انخذل عن الجيش كبير المنافقين (عبدالله بن أبي بن سلول) بمن معه من منافقي المدينة، وكانوا نحو ثلث الجيش.
قال لهم: ما ندري علام نقتل أنفسنا وقد أهلكنا أموالنا ؟ ولم يجد المصطفى ضيرا من هذا التخاذل، فلقد نحى المنافقين ومرضى القلوب والايمان، عن جنده المخلصين.
فواجه بهم وما يزيد عددهم على سبعمائة، ثلاثة آلاف من المشركين يقودهم أبو سفيان بن حرب، معهم كتيبة من الفرسان على مائتي فرس، بقيادة خالد بن الوليد بن المغيرة.
ألا تغلب مائة من المؤمنين الصابرين، ألفا من الذين كفروا ؟ في الحساب إذن، أن يغلب سبعمائة سبعة آلاف، لا ثلاثة آلاف فحسب ! والتحم الجيشان، ولم تختل موازين القوى التى تحددت من قبل يوم بدر: كان النصر في (أحد) للمؤمنين لا شك فيه، وقد كشفوا المشركين عن عسكرهم فولوا الادبار تاركين لواءهم على الساحة صريعا.
لكن المسلمين تعجلوا الموقف فتركوا مواقعهم في الميدان، وأسرعوا
يهجمون عسكر قريش بعد انكشافهم عنه.
وتركوا القائد الرسول حيث هو في صميم الجبهة، ليس معه إلا نفر قليل استجابوا له فثبتوا في موقعهم حوله.
ولاحت الفرصة لخالد بن الوليد، وكان يترقبها بنظرة ثاقبة،(1/255)
فهجم بالخيل بغتة، من الثغرة التى كشفها المسلمون أنفسهم.
وكرت فلول قريش راجعة إلى الميدان الذى سيطر عليه خالد، وتقدمت إحدى نسائهم: (عمرة بنت علقمة الحارثية) فالتقطت لواءهم الصريع فرفعته لهم.
وكان ما لا بد أن يكون: تغير وجه المعركة، وضاع النصر من المسلمين وقد كان لهم دون ريب.
ولولا ثبات القائد المصطفى صلى الله عليه وسلم، والنفر البواسل من أصحابه المؤمنين، لكانت الكارثة.
واطردت المقاييس لا تتخلف.
استرد المسلمون وعيهم للموقف بعد أن ساورهم اليأس منه، إذ أرجف المشركون أن (محمدا قد قتل).
لكنه، صلى الله عليه وسلم، كان هناك، جريحا مخضب الوجه بالدماء، يوجه جنده من مكانه في قلب الميدان لم يبرحه.
ومن حوله النفر المؤمنون، قد جعلوا من أجسادهم دروعا وتروسا لوقاية قائدهم النبي.
وما إن صاح أحدهم ببشرى حياته صلى الله عليه وسلم، حتى عاد المسلمون جميعا فأخذوا مواقعهم في الجبهة.
وتقهقر جيش المشركين قانعا بالنصر المخطوف.(1/256)
في خشوع، رجع المصطفى وجنده إلى المدينة، فدخل المسجد وصلى بهم قاعدا، من أثر الجراح التى أصابته في أحد.
وذهبت أحد عبرة ومثلا: (وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل، أفئن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم، ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا، وسيجزي الله الشاكرين * وما كان لنفس أن تموت إلا باذن الله كتابا مؤجلا، ومن يرد ثواب الدنيا نؤته منها، ومن يرد ثواب الآخرة نؤته منها، وسنجزي الشاكرين).
(صدق الله العظيم) اكتفى المشركون بنصرهم المخطوف يوم أحد.
وابتدروا الطريق عائدين إلى مكة، لا يكادون يصدقون ما كان.
وفرغ المسلمون لقتلاهم الشهداء، فمضى المصطفى يلتمس عمه الفارس الشهيد (حمزة بن عبدالمطلب) فوجده هناك ببطن الوادي، قد اغتالته حربة غادرة، سددها إليه (وحشي، مولى جبير بن مطعم)، وجاءت (هند بنت عتبة، زوج أبي سفيان) آكلة الاكباد، فرقصت على مصرع الفارس الشهيد ومثلت بجثته أبشع تمثيل: بقر بطنه عن كبده فلاكتها، وجدع أنفه وأذناه فاتخذت منها حليا، بدلا من حليها التى دفعتها إلى (وحشي) من ثمن الصفقة الغادرة.
قال عليه الصلاة والسلام حين رأى ما رأى: (لن أصاب بمثلك(1/257)
أبدا.
ما وقفت موقفا قط أغيظ الي من هذا).
وأمر صلى الله عليه وسلم فسجوا حمزة ببردته، وصلى عليه مكبرا سبع تكبيرات.
ثم جئ بالشهداء فكانوا يوضعون واحدا بعد الآخر إلى جانب حمزة، فيصلي النبي عليهم وعليه، حتى بلغت مرات الصلاة على سيد الشهداء اثنتين وسبعين، بعدد الشهداء يوم أحد.
وتجاوبت أرجاء الحجاز، ما بين أم القرى ودار الهجرة، بأصداء المعركة، في نقائض الشعراء من الحزبين: المشركون بمكة يهزجون بقصائد شعرائهم، ويترنمون برسالة (عبد الله بن الزبعرى السهمى) - ولم يكن أسلم بعد - إلى حسان بن ثابت الانصاري: يا غراب البين أسمعت فقل * إنما تنطق شيئا قد فعل إن للخير وللشر مدى * وكلا ذلك وجه وقبل أبلغا حسان عني آية * فقريض الشعر يشفي ذا الغلل كم ترى بالجر من جمجمة * وأكف قد أترت ورجل(1/258)
وسرابيل حسان سريت * عن كماة أهلكوا في المنتزل
كم قتلنا من كريم سيد * ماجد الجدين مقدام بطل ليت أشياخي ببدر شهدوا * جزع الخزرج من وقع الاسل حين حكت بقباء بركها * واستحر القتل في عبد الاشل فقتلنا الضعف من أشرافهم * وعدلنا ميل بدر فاعتدل فيرد عليه، من حزب الله، صوت حسان، شاعر المصطفى: ذهبت يا ابن الزبعري وقعة * كان منا الفضل فيها لو عدل ولقد نلتم ونلنا منكم * وكذاك الحرب أحيانا دول نضع الاسياف في أكنافكم * حيث نهوى عللا بعد نهل إذ تولون على أعقابكم * هربا في الشعب أمثال الرسل إذ شددنا شدة صادقة * فأجأناكم إلى سفح الجبل وتركنا في قريش عورة * يوم بدر، وأحاديث المثل والاصداء تتلاقى وتتصادم، كاشفة في وهج الصراع المحتدم،(1/259)
عن أبعاد الميدان وأسلحته لمعركة طويلة المدى.
في ذلك اليوم العصيب، افتقد المصطفى عليه الصلاة والسلام صاحبه (سعد بن الربيع الانصاري) - أحد النقباء في بيعة العقبة الكبرى - فقال لمن حوله: (من رجل ينظر لي ما فعل سعد بن الربيع، أفي الاحياء هو أم في
الاموات) ؟ فذهب رجل من الانصار ينظر لرسول الله صلى الله عليه وسلم ما فعل سعد، فألفاه على ساحة القتال جريحا وبه رمق.
فأخبره عما كان من افتقاد المصطفى إياه وسؤاله عنه، فجمع (سعد) ما بقي له من طاقة المحتضر وقال: (أبلغ رسول الله صلى الله وسلم عني السلام، وقل له: إن سعد بن الربيع يقول لك: جزاك الله عنا خير ما جزى نبيا عن أمته.
وأبلغ قومك عني السلام، وقل لهم: إن سعد بن الربيع يقول لكم: إنه لا عذر لكم عند الله إن خلص العدو إلى نبيكم صلى الله عليه وسلم، ومنكم عين تطرف).
وأسلم الروح مطمئنا، بعد أن بعث رسالته إلى النبي عليه الصلاة والسلام، والى قومه الانصار.
ولم ينس المصطفى صلى الله عليه وسلم وأصحابه (سعد ابن الربيع).(1/260)
ولا نسيه تاريخ الاسلام الذى استوعب رسالة هذا الجندي الشهيد، وعرف مغزاها ودلالتها، ورصد موقعها من نفوس المؤمنين: تزيدهم ثباتا وقوة واستبسالا وإصرارا.
ومن نفوس أعدائهم: تهز ثقتهم في جدوى معركة خاسرة بلا ريب، يخوضونها مع أمثال هؤلاء الجنود المؤمنين الذين يرون الموت في سبيل عقيدتهم: شرفا وحياة.
روى (ابن هشام) في السيرة النبوية، أن رجلا دخل على (أبي
بكر الصديق) رضى الله عنه، وقد ضم طفلة صغيرة إلى صدره وأقبل عليها يلاعبها ويقبلها.
فسأل الرجل: (من هذه ؟).
أجاب الصديق: (هذه بنت رجل خير مني: سعد بن الربيع.
كان من النقباء يوم العقبة، وشهد بدرا، واستشهد يوم أحد).
وكل نفس ذائقة الموت، ولكن الصفوة من عباد الله المؤمنين هم الذين يستقبلون الموت في سبيل الله راضين مطمئنين: (يا أيتها النفس المطمئنة * ارجعي إلى ربك راضية مرضية * فادخلي في عبادي وادخلي جنتي).
(صدق الله العظيم)(1/261)
الاسلام في الجبهات الثلاث 1 - في الجبهة اليهودية: من قلب المدينة، إلى خيبر.
(هو الذى أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم لاول الحشر، ما ظننتم أن يخرجوا وظنوا أنهم مانعتهم حصونهم من الله فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا وقذف في قلوبهم الرعب يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين فاعتبروا يا أولى الابصار *).
(صدق الله العظيم) مصير المعركة العنيفة بين الاسلام والوثنية، قد تقرر يوم بدر، وإن طال مداها سنين عددا وتعددت جولاتها حتى حسمت يوم الفتح
في السنة الثامنة للهجرة.(1/262)
وكذلك تقرر، من يوم بدر، مصير الصراع في جبهة أخرى أخطر وأضرى من الجبهة القرشية، والمعركة فيها سافرة مكشوفة والاسلحة مألوفة معروفة.
لقد كان العرب القرشيون يقاتلون ببسالة، دفاعا عن أوضاع موروثة وتقاليد راسخة واعراف مقررة، وغضبا لحرمة أسلافهم، من حيث لم يهن عليهم أن يتصوروا أن أولئك الآباء الكرام، من أمثال عبدالمطلب وهاشم وعبد مناف وقصي والمغيرة وزهرة، إلى فهر ومضر وعدنان، كانوا على سفه وضلال.
وعلى مدى السنين العشرين التى استغرقتها المعركة بين العرب المشركين والمسلمين، في جولتيها المكية والمدنية، كان الاسلام يستقبل من يصغي من قريش إلى ما يتلو المصطفى عليه الصلاة والسلام من آيات معجزته، فيؤمن برسالته ويبايعه على الاسلام والبذل والجهاد.
وحزب الله الذى بدأ فجر ليلة القدر من شهر رمضان، بالمسلمة الاولى السيدة خديجة زوج المصطفى وأم المؤمنين، ثم انضم إليه السابقون الاولون، كان يستقبل كل يوم جنديا جديدا من الجبهة القرشية والعربية، يعزه الله بالاسلام ويعز الاسلام به، والمئات الثلاث من المجاهدين والانصار الذين شهدوا بدرا تحت لواء المصطفى، لم يلبثوا أن كثروا بمن انضم إليهم من العرب، فدخل صلى الله عليه وسلم مكة يوم الفتح، في عشرة آلاف من الصحابة،(1/263)
فيهم من كان قبل أن يشرح الله صدره للحق، أشد الناس عداوة للاسلام وحربا للمصطفى والذين آمنوا معه.
والذين تأخر إسلامهم إلى عام الفتح وغزوة حنين والطائف بعده، وعام الوفود في السنة التاسعة للهجرة، لم يلبثوا أن خرجوا مع الكتائب المجاهدة في الفتوح الكبرى التى حملت لواء الاسلام إلى أقصى المشرق وأقصى المغرب.
كلا، لم تكن الجبهة القرشية العربية أخطر ما واجه الاسلام في عصر المبعث، والجبهة فيها مكشوفة والسلاح معروف، ومنها كان يأتي المدد تباعا إلى حزب الله، إنما كان الخطر الاكبر في الجبهة الخبيثة لاعداء البشر ومن شرب سمهم من المنافقين في المدينة: لقد حرص اليهود على ألا يواجهوا الاسلام في معركة مكشوفة، وسهرت عصاباتهم في أوكارها الناشبة في شمال الحجاز، تنفث سم النفاق في المدينة، ثم تمادى بها الشر فسعت إلى قريش، تؤلب الاحزاب منها وتستنفرها لقتال المسلمين بالمدينة، على وعد النصرة من يهود الذين وادعهم المصطفى وأمنهم على دينهم وأموالهم.
وكانت موقعة بدر، هي التى كشفت المستور من غدرهم بعهدهم للمصطفى وفيه النص الصريح: (وإن على اليهود نفقتهم وعلى المسلمين نفقتهم، وإن بينهم النصر(1/264)
على من حارب أهل هذه الصحيفة، وإن بينهم النصر على من دهم يثرب).
إنه الغدر ! فجيش قريش لم يخرج من مكة إلا ليدهم يثرب.
والغدر من طبيعة يهود، وهو متوقع ومحسوب.
وأملى لهم المصطفى، واكتفى صلى الله عليه وسلم بأن جمع يهود المدينة بسوق بني قينقاع، وحذرهم من الله مثل ما نزل بقريش من النقمة.
وحين يقتصر الامر على الانذار أو ما هو أشد منه، فإن يهود تتطاول وتجترئ، ما بقيت السيوف في أغمادها.
وغدا بنو قينقاع إلى سوقهم بالمدينة يأكلون المال، ويكيدون للاسلام لا يبالون نذيرا من الله ورسوله.
وبدا لنفر منهم أن يعرضوا لاحدى المسلمات يريدونها على أمر تكرهه، ثم احتالوا حتى كشفوا ثوبها في السوق عن عورتها، فصاحت تستصرخ العرب، ووقع الشر بين من في السوق من المسلمين، ويهود بني قينقاع.
وأقبل المصطفى في جمع من الانصار فحاصر اليهود خمس عشرة ليلة، حتى استسلموا ونزلوا على حكمه.
وعندئذ تقدم المنافق (عبد الله بن أبي سلول) فقال للمصطفى على الملا من الناس: (يا محمد، أحسن الي في موالي !).
وأعرض عنه المصطفى، لكن المنافق مضى في لجاجته، مصرا على استنقاذهم !(1/265)
قال عليه الصلاة والسلام: (هم لك !).
واكتفى بأن جردهم من سلاحهم، وأمهلهم ثلاثة أيام يجلون بعدها عن المدينة.
فخرجوا أذلة مقهورين إلى وادي القرى، حيث
نزلوا على عصابتهم هناك وتطهرت دار الهجرة بجلاء بني قينقاع عنها بعد (يوم بدر) في السنة الثانية للهجرة ! وتتابعت أحداث فردية، تعكس صدى الرعب في قلوب يهود، وتنم عن كيدهم وحقدهم.
وقد تعلق أملهم، بأن تثأر قريش لقتلاها في بدر، فما كانت لتسكت عليه كما سكتت يهود على إجلاء بني قينقاع.
بعد عام واحد، في شهر شوال من السنة الثالثة للهجرة، كانت موقعة أحد، وكان من أمرها ما كان.
نقضت يهود ميثاقها مع الرسول هذه المرة أيضا، فلم تكن (على النصر ضد من حارب أهل هذه الصحيفة).
وبنو النضير، كانوا في منطقة المدينة.
وقد لبثوا في أوكارهم يرقبون سير المعركة في أحد.
وطاب لهم ما لقي المسلمون من عدوهم، وتأهبوا لكي يرجفوا في المدينة بقالتهم الخبيثة: - انهزم محمد وأصحابه، ويقول إنه نبي مرسل ؟ لو كان نبيا ما انتصر عليه الوثنيون !(1/266)
ثم هموا بأن يغتالوا الرسول ! خرج عليه الصلاة والسلام إلى بني النضير، يستعينهم في دية قتيلين من بني عامر، وكان بينهم وبين بني النضير حلف وجوار.
(قالت يهود: نعم يا أبا القاسم، نعينك على ما أحببت.
ثم خلا بعضهم إلى بعض فقالوا: (إنكم لن تجدوا الرجل على
مثل حاله هذه - ورسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جنب جدار من بيوتهم قاعد - فمن رجل يعلو على هذا البيت فيلقي عليه صخرة فيريحنا منه) ؟.
وصعد يهودى فألقى الصخرة، لكن بعد أن كان المصطفى قد تحرك من مكانه.
ولم تزده فعلتهم علما بغدرهم.
لكنها زادته تصميما على حسم شرهم.
وعاد إليهم صلى الله عليه وسلم، فحاصرهم ست ليال من شهر ربيع الاول، من السنة الرابعة للهجرة.
واستسلموا، بغير قتال، لحكم المصطفى عليهم بالجلاء.
وتضرعوا إليه أن يدعهم يذهبون بما حملت الابل.
فسمح لهم بها الرسول المنتصر.
وبلغ بهم الحرص، أن راحوا ينزعون الاخشاب من دورهم ليحملوها معهم.
ومضوا بالنساء والاولاد وما حملت الابل من مال ومتاع إلى عشيرتهم في خيبر، ولم يكن دورها قد حان بعد.(1/267)
فكأنما كانوا في خروج الجلاء، في ضغطة الحشر ! وصدق الله تعالى: (هو الذى أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم لاول الحشر ما ظننتم أن يخرجوا وظنوا أنهم مانعتهم حصونهم من الله فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا وقذف في قلوبهم الرعب يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين فاعتبروا يا أولى الابصار.
ولو لا أن كتب الله عليهم الجلاء لعذبهم في الدنيا ولهم في
الآخرة عذاب النار * ذلك بأنهم شاقوا الله ورسوله ومن يشاق الله فإن الله شديد العقاب *).
خانهم المعهود من حذرهم، فسعوا إلى حتفهم بأظلافهم ومخالبهم ! لقد ضاقوا بطول الانتظار، وعدوهم نبى الاسلام يبدو كمن لا يقهر، وإنه ليوشك أن يقذف بهم إلى تيه تشردهم القديم، بعد أن طاب لهم المقام في مستعمراتهم بالارض الطيبة، شمال الحجاز، أكثر من خمسة قرون.
أزمة (أحد) لم تكسر من معنوية جنوده، بل أعطتهم الدرس والعبرة، وزادتهم إيمانا وثباتا وإصرارا.
وقريش تبدو حذرة مترددة، وتود لو أعفتها الظروف من الصدام مع جند الاسلام، خوفا من أن يضيع النصر الذى اختطفته في (أحد) من حيث توقعت أن تبوء بالهزيمة والعار.(1/268)
ولم يجد عليها هذا النصر المخطوف، وإنها لتعلم علم اليقين أن بين رجالها من اهتز إيمانهم بالاوثان، فلن يلبثوا أن يلحقوا بإخوانهم الذين سبقوهم إلى الاسلام ! ولاحت الفرصة ليهود بنى قريظة: بعثت وفدا من أحبارها إلى مكة، يرد على المرتابين إيمانهم بآلهتهم ويغري الوثنية العربية بحرب دين التوحيد.
قالوا لقريش: - دينكم خير من دينه، وأنتم أولى بالحق منه.
حاربوه ونحن معكم !
فلما اطمأنوا إلى أن المشركين نشطوا لما دعوهم إليه من حرب نبى الاسلام، خرج أولئك النفر من يهود حتى جاءوا غطفان فدعوهم إلى مثل ما دعوا إليه قريشا، ووعدوهم المؤازرة والنصرة.
ثم تسللوا عائدين إلى أوكارهم في شمال الحجاز، ومن ورائهم جيش المشركين: قريش وعليها أبو سفيان بن حرب، والاحزاب من غطفان: بني فزارة، وبني مرة، وبني أشجع بن ريث.
لكن مثل هذا التواطؤ لم يكن بحيث يخفى أمره، وقد علم المصطفى بمسعى يهود وما بيتت من غدر، فانتظر عليه الصلاة والسلام حتى فرغ من الاحزاب يوم الخندق، ورجع بجنده إلى المدينة في ساعة الظهيرة فما كادوا ينفضون عن ثيابهم غبار المعركة الظافرة، حتى سمعوا(1/269)
دعاء المصطفى يعلو به صوت مؤذنه من المسجد النبوي: (أيها الناس، من كان سامعا مطيعا فلا يصلين العصر إلا في بني قريظة).
وتدفقت جموع المؤمنين إلى موعد الرسول: صلاة العصر في بني قريظة.
وصلوا هناك، وقد لاذ اليهود الجبناء بحصونهم التى ظنوا أنها مانعتهم من الله.
وامتد الحصار خمسا وعشرين ليلة، ثم أخرجهم الرعب منها مستسلمين لحكم نبى الاسلام.
لكنه صلى الله عليه وسلم، ترك الحكم لسعد بن معاذ، نقيب الاوس.
وقد حاول نفر من قومه أن يحملوه على الرفق بأعداء الاسلام وطالما ظاهروهم على الخزرج في الجاهلية.
قالوا لسعد:
- يا أبا عمرو، أحسن إلى مواليك، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما ولاك ذلك لتحسن إليهم.
فلما أكثروا عليه، ردهم بقوله: (آن لسعد ألا تأخذه في الله لامة لائم).
ونطق (سعد بن معاذ) بحكمه الصارم العادل على رجال بني قريظة، دون النساء والصبية.
حسما لشرهم الوبيل، وجزاء وفاقا على ما كان من غدرهم وكيدهم.(1/270)
وذهبت بنو قريظة، قصة وعبرة ومثلا.
وتجاوبت الجزيرة بأصداء القصائد التى قالها الشعراء فيهم وفيمن حزبوا من المشركين يوم الخندق، وفى المنافقين.
وتلا المصطفى من وحى ربه، من سورة الاحزاب: (يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ جاءتكم جنود فأرسلنا عليهم ريحا وجنودا لم تروها، وكان الله بما تعملون بصيرا * إذ جاءوكم من فوقكم ومن أسفل منكم وإذ زاغت الابصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنونا * هنالك ابتلي المؤمنون وزلزلوا زلزالا شديدا * وإذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض ما وعدنا الله ورسوله إلا غرورا * وإذ قالت طائفة منهم يا أهل يثرب لا مقام لكم فارجعوا، ويستأذن فريق منهم النبي يقولون إن بيوتنا عورة وما هي بعورة إن يريدون إلا فرارا * ولو دخلت عليهم من أقطارها ثم سئلوا الفتنة لاتوها وما تلبثوا بها إلا يسيرا * ولقد كانوا عاهدوا الله من قبل لا يولون الادبار وكان عهد الله
مسئولا * قل لن ينفعكم الفرار إن فررتم من الموت أو القتل وإذا لا تمتعون إلا قليلا * قل من ذا الذى يعصمكم من الله إن أراد بكم سوءا أو أراد بكم رحمة، ولا يجدون لهم من دون الله وليا ولا نصيرا * قد يعلم الله المعوقين منكم والقائلين لاخوانهم هلم إلينا ولا يأتون البأس إلا قليلا * أشحة عليكم، فإذا جاء الخوف رأيتهم ينظرون إليك تدور أعينهم كالذى يغشى عليه من الموت فإذا ذهب(1/271)
الخوف سلقوكم بألسنة حداد أشحة على الخير، أولئك لم يؤمنوا فأحبط الله أعمالهم، وكان ذلك على الله يسيرا * يحسبون الاحزاب لم يذهبوا وإن يأت الاحزاب يودوا لو أنهم بادون في الاعراب يسئلون عن أنبائكم ولو كانوا فيكم ما قاتلوا إلا قليلا * لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا * ولما رءا المؤمنون الاحزاب قالوا هذا ما وعدنا الله ورسوله وصدق الله ورسوله وما زادهم إلا إيمانا وتسليما * من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا * ليجزي الله الصادقين بصدقهم ويعذب المنافقين إن شاء أو يتوب عليهم، إن الله كان غفورا رحيما * ورد الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيرا، وكفى الله المؤمنين القتال، وكان الله قويا عزيزا * وأنزل الذين ظاهروهم من أهل الكتاب من صياصيهم وقذف في قلوبهم الرعب فريقا تقتلون وتأسرون فريقا * وأورثكم أرضهم وديارهم وأموالهم وأرضا لم تطؤوها وكان الله على كل شئ قديرا *.
(صدق الله العظيم) إذن فقد بدأ سم النفاق يحدث أثره ويهدد الجبهة الاسلامية من داخلها، في الوقت الذى كانت تخوض فيه معركتها مع العرب المشركين والعصابات من يهود.
لكن المنافقين الذين انكشفوا يوم الخندق في غزوة الاحزاب،(1/272)
لم يلبثوا بوسوسة من يهود، أن شغلوا المجتمع الاسلامي عنهم بفرية الافك، التى هزت المدينة هزا هزا لمدى شهر كامل من أيام شعبان ورمضان من السنة السادسة للهجرة.
قبلها كان النبي عليه الصلاة والسلام قد خرج غازيا إلى بني المصطلق، وصحبته أم المؤمنين السيدة عائشة بنت الصديق.
وفي طريق العودة أناخ الركب قرب المدينة فباتوا بعض الليل ثم ارتحلوا، وما يدرون أن أم المؤمنين تخلفت عنهم، حتى افتقدوها في هودجها حين بلغوا المدينة في الصبح.
وقبل أن يشتد القلق عليها، وصلت على بعير يقوده (صفوان ابن المعطل السلمى) وحدثت زوجها المصطفى عن سبب تخلفها فما أنكر منه شيئا: كانت قد خرجت من هودجها من العسكر لبعض حاجتها، قبل أن يؤذن فيه بالرحيل.
وكان في عنقها عقد من جزع انسل منها فالتمسته حتى وجدته، واتجهت إلى هودجها فإذا الركب قد رحلوا واحتملوه، لم يحسوا أنها ليست فيه، لخفة وزنها.
تلفعت بجلبابها وانتظرت في مكانها واثقة أنهم لن يلبثوا أن
يفتقدوها فيرجعوا إليها.
وحدث أن مر بها (صفوان) فأنكر أن يتركها وحدها في الخلاء، وقدم بعيره إليها ثم استأخر عنها حتى ركبت، فانطلق يقود بها حتى أبلغها مأمنها في المدينة.
ونسج المنافقون واليهود فرية الافك، من هذا الحادث العارض.(1/273)
ورددها ناس من المسلمين فبلغت سمع زوجها المصطفى وأبيها الصديق وأمها، أم رومان.
فصكت آذانهم، وإن لم يجرؤ أحد منهم على مواجهة السيدة عائشة بالشائعة الخبيثة، إذ كانت تشكو من علة.
ولما أحست جفوة من زوجها المصطفى استأذنته في الانتقال إلى أمها لتمرضها، فأذن لها.
بعد بضع وعشرين ليلة، نقهت من علتها فخرجت من بيت أبيها لبعض حاجتها، ومعها (أم مسطح بنت أبى رهم بن المطلب بن عبد مناف) وإذ هما في الطريق عثرت السيدة عائشة في مرطها، فقالت رفيقتها: (تعس مسطح).
فأنكرت السيدة ما سمعت، وقالت: (بئس لعمر الله ما قلت لرجل من المهاجرين قد شهد بدرا).
سألتها أم مسطح: (أوما بلغك الخبر يا بنت أبى بكر ؟) ولاول مرة، سمعت السيدة عائشة بفرية الافك، فارتاعت وهرعت إلى أمها، تسألها باكية: (يغفر الله لك، تحدث الناس بما تحدثوا به ولا تذكرين لى من
ذلك شيئا ؟).
فلم تملك أمها إلا أن تقول: (أي بنية، خفضي عليك الشأن، فوالله لقلما كانت امرأة(1/274)
حسناء عند رجل يحبها، لها ضرائر، إلا كثرن وكثر الناس عليها).
لكن ذلك لم يهون عليها من محنة الفرية الخبيثة التى امتحنت بها، وإن لم تدر ماذا عساها أن تصنع، إلا أن تكل أمرها إلى الله سبحانه.
وفى المسجد النبوى، كان زوجها عليه الصلاة والسلام، يحاول أن يرد عنها ألسنة السوء، فيقول: (يا أيها الناس، ما بال رجال يؤذوننى في أهلى ويقولون عليهم غير الحق ؟ والله ما علمت منهم إلا خيرا.
ويقولون ذلك لرجل والله ما علمت منه إلا خيرا، وما يدخل بيتا من بيوتي إلا وهو معي).
فتنفذ كلماته إلى قلوب المؤمنين، ويثورون غضبا للسيدة الكريمة، ويتماسك الاوس والخزرج متصايحين مطالبين بأعناق أصحاب الافك من هؤلاء وهؤلاء.
حتى كاد يكون بين الحيين شر) (1).
وخيف على المجتمع الاسلامي من التصدع، وخيف على السيدة عائشة من وطأة الحزن والقهر.
حتى حسم القرآن الكريم تلك الفرية الفاحشة بآيات النور: (إن الذين جاءوا بالافك عصبة منكم، لا تحسبوه شرا لكم بل هو خير، لكم لكل امرئ منهم ما اكتسب من الاثم والذي تولى كبره
__________
(1) تفصيل حديث الافك، في (صحيح البخاري) 4 / 27 ط الشرفية، وفي السيرة لابن هشام
وتاريخ الطبري (حوادث السنة السادسة للهجرة) ومعها (السمط الثمين، للمحب الطبري) ص 63.
[ * ](1/275)
منهم له عذاب عظيم * لولا إذ سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيرا وقالوا هذا أفك مبين *).
إلى قوله تعالى: (ولولا فضل الله عليكم ورحمته في الدنيا والآخرة لمسكم في ما أفضتم فيه عذاب عظيم * إذ تلقونه بألسنتكم وتقولون بأفواهكم ما ليس لكم به علم وتحسبونه هينا وهو عند الله عظيم * ولولا إذ سمعتموه قلتم ما يكون لنا أن نتكلم بهذا سبحانك هذا بهتان عظيم * يعظكم الله أن تعودوا لمثله أبدا إن كنتم مؤمنين * ويبين الله لكم الايات، والله عليم حكيم * إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم في الدنيا والآخرة، والله يعلم وأنتم لا تعلمون *).
(صدق الله العظيم) وكان (عبدالله بن أبي بن سلول) هو الذى تولى كبر ذلك الافك.
في أم المؤمنين عائشة، أحب أزواج المصطفى إليه وأحظاهم عنده.
بنت أبي بكر الصديق، أقرب الصحابة إلى المصطفى وأعزهم عليه، وأول السابقين إلى الاسلام ! فهل حانت المواجهة الحاسمة، مع مرضى القلوب المنافقين ؟ كلا، بل يمكن أن تنتظر ريثما يأمن الاسلام شر يهود ويحسم المعركة مع الوثنية العربية.(1/276)
وهذه المعركة أيضا تحتمل الهدنة بعض الوقت، وقد عقدت الهدنة في (الحديبية) في أواخر السنة السادسة للهجرة.
وبعدها، في مستهل السنة السابعة، كان مسير المصطفى إلى يهود خيبر الذين سارعوا إلى حصونهم يحتمون بها، فتساقطت حصنا بعد حصن، حتى إذا لم يبق لهم سوى حصني الوطيح والسلالم، بعثوا وافدهم إلى نبي الاسلام، يسألونه أن يحقن دماءهم ويكتفي منهم بالجلاء.
وأجاب المصطفى سؤلهم، وتركهم يجلون عن (خيبر) هائمين على وجوههم في الفلاة.
بعد سقوط خيبر، انتهت قصة الاستعمار اليهودي لشمال الحجاز، لم يبق من عصاباتهم سوى فلول مبعثرة في فدك ووادي القرى وتيماء، حتى كان أمير المؤمنين (عمر بن الخطاب) هو الذى طهر جزيرة العرب من بقاياهم.
وعاد اليهودي التائه إلى ضلاله القديم، يضرب في التيه من بادية الشام، تلفظه الارض حيث أقام، وتطارده اللعنة أينما حط أو سار.
(فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم، وبصدهم عن سبيل الله كثيرا، وأخذهم الربا وقد نهوا عنه وأكلهم أموال الناس بالباطل، وأعتدنا للكافرين منهم عذابا أليما).
(صدق الله العظيم)(1/277)
2 - في الجبهة القرشية:
من هدنة الحديبية إلى الفتح.
(وقل جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا) (سورة الاسراء) كانت غزوة خيبر، في السنة السابعة للهجرة.
قبلها، في آخر السنة السادسة، كانت هدنة الحديبية مع قريش، وبيعة الرضوان.
أقام المصطفى بالمدينة شهري رمضان وشوال، ثم خرج في ذي القعدة قاصدا إلى العمرة، لا يريد حربا.
ومعه مئات من الصحابة، المهاجرين والانصار: في رواية أنهم كانوا سبعمائة، وفي أخرى أنهم زادوا على ذلك بضع مئات (1).
وسار الركب النبوي من المدينة، يحدوه الشوق إلى زيارة (البيت
__________
(1) السيرة لابن هشام: 3 / 322.
[ * ](1/278)
الحرام) مهوى أفئدتهم وقبلة صلاتهم، والحنين إلى (أم القرى) بعد ست سنين من الهجرة والاغتراب.
في الطريق إلى مكة، لقي الرسول عليه الصلاة والسلام من أنبأه بخبر احتشاد قريش لصده ومن معه عن المسجد الحرام، فتطوع رجل من الصحابة، وسلك بالركب طريقا وعرا غير الطريق التى لقريش.
حتى وصلوا إلى (الحديبية) من أسفل مكة، وعندئذ لمحتهم خيل قريش، فطارت إلى مكة بالنبأ.
من مكة، جاء وافد خزاعي (بديل بن ورقاء) مع نفر من قومه،
يسألون المصطفى: - ما الذي جاء بك ؟ فأخبرهم عليه الصلاة والسلام أنه لم يأت يريد حربا، وإنما جاء زائرا للبيت ومعظما لحرمته.
وعاد الخزاعيون إلى مكة، يؤكدون لقريش أنه ما جاء لقتال، وينصحون لهم ألا يعجلوا عليه، وأن يدعوه وما جاء له من زيارة البيت العتيق.
فاتهمهم طواغيت المشركين، وردوا في عناد وسفه: (وإن كان جاء ولا يريد قتالا، فوالله لا يدخلها علينا عنوة أبدا، ولا تتحدث بذلك عنا العرب).(1/279)
وتتابعت رسل قريش، تحاول أن ترد المصطفى عما جاء له، وهو عليه الصلاة والسلام يؤكد لكل وافد منهم، أنه ما جاء لقتال.
ويعودون إلى طواغيت قريش بما قاله عليه الصلاة والسلام فيلقونهم بالمكروه من القول والاتهام.
حتى ضاق ذوو الحلم بهذا التمادي في السفة والاعنات.
قال أحدهم - الحليس بن علقمة، وكان سيد أحابيش مكة - غاضبا متوعدا: (يا معشر قريش ما على هذا حالفناكم، ولا على هذا عاقدناكم.
أيصد عن بيت الله من جاء معظما له ؟ والذى نفس الحليس بيده، لتخلن بين محمد وبين ما جاء له، أو لانفرن بالاحابيش نفرة رجل واحد).
وقال (عروة بن مسعود الثقفي) قبل أن يستجيب لهم فيخرج إلى
المصطفى، في محاولة أخيرة لحسم الموقف دون قتال: (يا معشر قريش، إني قد رأيت ما يلقى منكم من بعثتموه إلى محمد إذ جاءكم، من التعنيف وسوء اللفظ.
وقد عرفتم أنكم والد وأني ولد - أمه: سبيعة بنت عبد شمس - وقد سمعت بالذي نابكم، فجمعت من أطاعني من قومي ثم جئتكم حتى آسيتكم بنفسي).
قالوا يحثونه على مفاوضة المصطفى، عنهم، ليحول دون مكة والحرب: (صدقت، ما أنت عندنا بمتهم) (1).
__________
(1) السيرة: 3 / 327، تاريخ الطبري: السنة السادسة.
[ * ](1/280)
خرج (عروة) حتى أتى المصطفى عليه الصلاة والسلام في مناخه عند الحديبية، فجلس بين يديه وقال في تؤدة، يذكر محمد بن عبدالله بما يهدد بلدته، أم القرى: (يا محمد، أجمعت أوشاب الناس ثم جئت بهم إلى بيضتك لتفضها بهم ؟ إنها قريش، قد خرجت معها العوذ المطافيل، قد لبسوا جلود النمور يعاهدون الله لا تدخلها عليهم عنوة أبدا.
وايم الله لكأني بهؤلاء - الذين معك - قد انكشفوا عنك غدا).
وأنكر أبو بكر الصديق ما سمع، فاعترض يقول من مكانه خلف الرسول: أنحن ننكشف عنه ؟ ورد (عروة) وقد عرفه: (أما والله لولا يد كانت لك عندي لكافأتك بها، ولكن هذه بها).
وحف الصحابة بالمصطفى وهو يرد على وافد قريش، بمثل ما
قاله لمن سبقوه: إنه لم يأت يريد حربا.
وعاد (عروة) إلى قريش، يحدثها عما رأى وما سمع، من حب أصحاب محمد لمحمد، وتفانيهم في القيام دونه: (يا معشر قريش، إني قد جئت كسرى في ملكه، وقيصر في ملكه، والنجاشي في ملكه، وإني والله ما رأيت ملكا في قوم قط، مثل محمد في أصحابه.
ولقد رأيت قوما لا يسلمونه لشئ أبدا، فروا رأيكم).(1/281)
ولاحت النذر: بعثت قريش أربعين رجلا منهم أو خمسين، وأمروهم أن يطيفوا بعسكر رسول الله صلى الله عليه وسلم، ليصيبوا لهم من أصحابه أحدا.
وأخذتهم فئة من الصحابة أخذا، فجئ بهم إلى المصطفى فعفا عنهم وخلى سبيلهم، بعد أن رموا في عسكر المسلمين بالحجارة والنبل.
وجاء دور المصطفى ليحاول رد قريش عن غيها، كي تخلي طريقه إلى البيت الحرام.
بعث إليهم صاحبه وصهره: عثمان بن عفان - وهو من صميم عبد شمس - ليكرر عليهم أن المصطفى لم يأت لحرب، وإنما جاء زائرا لهذا البيت، ومعظما لحرمته.
قالت قريش لعثمان تسترضيه، بعد أن أدى رسالة المصطفى: (إن شئت أن تطوف بالبيت فطف).
ورد رضي الله عنه: (ما كنت لافعل حتى يطوف به رسول الله صلى الله عليه وسلم).
وبدا لقريش، فاحتبست عثمان عندها، لعل ذلك يجدي عليها من حيث فشل مسعاها.
وخرجت من مكة شائعة تقول: إن عثمان بن عفان قد قتل.
فما بلغت سمع النبي حتى قال عليه الصلاة والسلام: (لا نبرح حتى نناجز القوم).(1/282)
ودعا أصحابه إلى البيعة على ذلك، فكانت (بيعة الرضوان) تحت الشجرة هناك.
وفيها نزلت آيات الفتح: (إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله يد الله فوق أيديهم، فمن نكث فإنما ينكث على نفسه ومن أوفى بما عاهد عليه الله فسيؤتيه أجرا عظيما).
ولكن الخبر اليقين ما لبث أن جاء بأن (عثمان لم يقتل) وكانت بيعة الرضوان قد رابت قريشا، وأكدت لها تصميم هذه القلة المؤمنة، على الصمود والاستبسال.
ومهما يكن من حمية قريش الجاهلية، فليست بحيث تستبعد أن ينتصروا عليها، لو نشب قتال.
قبلها، انتصروا في (بدر) وكانوا أقل عددا، وكانت قريش، على عددها وعدتها أقوى أملا في الغلبة.
كلا.
ما ينبغي أن ينشب قتال، بعد عبرة بدر التى تحددت فيها موازين القوى.
من مكة، جاء (سهيل بن عمرو) مبعوثا من قريش، للمفاوضة على الصلح.
وتركت لسهيل حرية التصرف، لم تشترط عليه في الصلح، (إلا أن يرجع محمد عن مكة عامه هذا، فوالله لا تحدث العرب أنه دخلها عليهم عنوة أبدا).(1/283)
ودارت المفاوضة بين المصطفى وبين مبعوث قريش، وتراضيا على أن يرجع محمد بأصحابه عن مكة هذا العام، على أن يعودوا في الموسم القابل فيدخلوها ويقيموا بها ثلاث ليال، بغير سلاح إلا سلاح الراكب: السيوف في القرب.
واتفقا على هدنة مداها عشر سنين، من جاء المسلمين من قريش فيها ردوه إليهم، ومن جاء قريشا من المسلمين لم يردوه.
وكان أصحاب المصطفى يتابعون هذه المفاوضة بينه صلى الله عليه وسلم، وبين سهيل بن عمرو.
وقد غاب عن بعضهم مغزى شروطها وحكمتها: هدنة، تسمح للمصطفى أن يفرغ للعصابات اليهودية ويحسم شرها.
ولا بأس على من يرد إلى قريش، فذاك ابتلاء لعقيدته.
ولا خير فيمن يجئ قريشا من المسلمين، فلا جدوى من رده إليهم، ولا حاجة لهم إليه.
وإذ تم التراضي على شروط الصلح ولم يبق إلا أن يكتب، وثب عمر بن الخطاب فقال لابي بكر: - يا أبا بكر، أليس برسول الله ؟ قال الصديق: بلى.
وتابع عمر أسئلته: (ألسنا بالمسلمين ؟
(أليسوا بالمشركين ؟(1/284)
(فعلام نعطى الدنية في ديننا ؟) وأبو بكر، يحاول رده إلى التسليم بحكمة ما يرضى به رسول الله.
ويمضي (عمر) إلى المصطفى فيسأله مثل ما سأل أبا بكر: - يا رسول الله، ألست برسول الله ؟ - أو لسنا بالمسلمين ؟ - أو ليسوا بالمشركين ؟ - فعلام نعطى الدنية في ديننا ؟ وانتظر عليه الصلاة والسلام حتى فرغ صاحبه من كل ما أراد ان يقول، ثم لم يزد على أن قال: (أنا عبدالله ورسوله، لن أخالف أمره، ولن يضيعني).
ثم دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ابن عمه (علي بن أبي طالب) وأملى عليه نص وثيقة الهدنة فكتبها (1) وأشهد على الصلح رجالا من المسلمين، وآخرين من المشركين.
ثم قام عليه الصلاة والسلام إلى هديه فنحره، وحلق شعره.
وكان قد دعا أصحابه إلى أن يفعلوا، فتردد منهم من لم يكونوا راضين عن شروط الصلح، ثم ما هو إلا أن رأوا المصطفى ينحر هديه ويحلق شعره، حتى تواثبوا جميعا ينحرون ويحلقون (2).
__________
(1) تجد النص، في السيرة لابن هشام: 3 / 332، وتاريخ الطبري: 30 / 80، وطبقات ابن سعد: ح 2.
(2) السيرة لابن هشام: 3 / 333.
[ * ](1/285)
وما لبثوا أن أدركوا حكمة هذا الصلح الخطير الذى عده القرآن فتحا مبينا.
وفيه نزلت سورة الفتح، يقول فيها تعالى لرسوله المصطفى: (لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة فعلم ما في قلوبهم فأنزل السكينة عليهم وأثابهم فتحا قريبا * ومغانم كثيرة يأخذونها وكان الله عزيزا حكيما * وعدكم الله مغانم كثيرة تأخذونها فعجل لكم هذه وكف أيدي الناس عنكم ولتكون آية للمؤمنين ويهديكم صراطا مستقيما * وأخرى لم تقدروا عليها قد أحاط الله بها، وكان الله على كل شئ قديرا *).
(صدق الله العظيم) بعدها كان السير إلى خيبر.
هل هلال المحرم من السنة السابعة للهجرة، وقد رجع المصطفى صلى الله عليه وسلم من الحديبية، والمدينة في موقف ترقب وانتظار.
من طريق مكة، جاء رجل يسعى، عرفت فيه المدينة (أبا العاص ابن الربيع) فكأنها كانت في انتظاره.
ولم يكن قد مضى غير سبعة أشهر على وداعها إياه ! مر قريبا منها، في جمادى الاولى من السنة السادسة، في طريق عودته من الشام إلى أم القرى، في مال له ولقريش.
فعرضت له سرية إسلامية أصابت كل ما معه، وأفلت منها مع الفجر إلى أم ولديه، بنت خالته (زينب(1/286)
بنت محمد) عليه الصلاة والسلام، مستجيرا بها.
ولم تكن رضي الله عنها قد رأته منذ ودعها إلى دار الهجرة وقد فرق الاسلام بينهما، بعد أن افتدته من الاسر يوم بدر، بقلادة أمها وأم المؤمنين، خالته السيدة خديجة.
وفى هدأة الفجر سرى صوت زينب: (أيها الناس، إنى قد أجرت أبا العاص بن الربيع) فبلغ سمع أبيها عليه الصلاة والسلام وهو يصلي بالناس في مسجد المدينة، فلما سلم سأل من حوله إن كانوا قد سمعوا ما سمع ؟ أجابوا: نعم يا رسول الله.
قال: أما والذى نفس محمد بيده، ما علمت بشئ من ذلك حتى سمعت ما سمعتم.
وأضاف بعد صمت قصير: (إنه يجير على المسلمين أدناهم، وقد أجرنا من أجارت).
ثم انصرف عليه الصلاة والسلام فدخل على ابنته وعندها ابن خالتها أبو ولديها (علي، وأمامة) فما كادت ترى أباها حتى قالت توضح موقفها: (يا رسول الله، إن أبا العاص إن قرب فابن عم، وإن بعد فأبو ولد، وإنى قد أجرته).
قال الاب عليه الصلاة والسلام: (أي بنية، أكرمي مثواه، ولا يخلصن إليك فإنك لا تحلين له) وتركهما وما يدريان علام استقر رأيه فيهما.(1/287)
ولاحت لهما من بعيد رؤيا ماضيهما السعيد والشمل مجتمع والبال خلي، وتذكرت زينب أن قد طال عليهما الامد - سنين عددا - في
انتظار تحقق أملها الذى لم تتخل عنه قط: أن يشرح الله سبحانه صدر أبي العاص للاسلام.
وسمعته يقول: (لقد عرضوا علي بالامس أن أسلم وآخذ ما معي من أموال فإنها أموال المشركين، فأبيت قائلا: بئس ما أبدأ به إسلامي، أن أخون أمانتي).
فرنت إليه زينب، تفكر في مغزى ما سمعت.
وفى الصبح، بعث المصطفى عليه الصلاة والسلام من صحب أبا العاص إلى المسجد، وفيه رجال السرية الذين أصابوا مال أبى العاص.
قال لهم عليه الصلاة والسلام: (إن هذا الرجل منا حيث قد علمتم، وقد أصبتم له مالا، فإن تحسنوا وتردوا عليه الذى له فإنا نحب ذلك، وإن أبيتم فهو فئ الله الذى أفاء عليكم وأنتم أحق به.
) أجابوا جميعا: يا رسول الله، بل نرده عليه.
وتأهب أبو العاص للرحيل إلى مكة، فقال عليه الصلاة والسلام وهو يودعه: (حدثني فصدقني، ووعدني فوفى لي)(1/288)
وتوقعت دار الهجرة أن يعود إليها.
وهذا هو قد عاد مع هلال السنة الهجرية السابعة.
بعد أن صفى حسابه بمكة، ودفع إلى أهلها ما خرج فيه من مالهم إلى الشام.
ثم وقف في الحرم المكي هناك، يسأل بأعلى صوته:
(يا معشر قريش، هل بقي لاحد منكم عندي مال لم يأخذه ؟) قالوا: (لا، فجزاك الله خيرا، فقد وجدناك وفيا كريما).
فأدار بصره في الجمع الحاشد، ثم قال على مهل: (فأنا أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا عبده ورسوله، والله ما منعني من الاسلام إلا تخوف أن تظنوا أني إنما أردت أن آكل أموالكم، فلما أداها الله إليكم، وفرغت منها، أسلمت) (1).
وخلف القوم واجمين كأنما انقضت عليهم صاعقة، وانطلق مستقبلا دار الهجرة وكأنه معها على موعد.
اتجه فور وصوله إلى المسجد النبوى، فهلل المسلمون وكبروا حين رأوه يبايع النبي صلى الله عليه وسلم، وحفوا به مهنئين مرحبين، لكنه كان مشغول البال عنهم بأمر أهمه: أترى يرد إليه المصطفى ابنته الحبيبة (زينب) زوجا، بعد الذى كان ؟
__________
(1) السيرة لابن هشام: 2 / 312، تاريخ الطبري 1 / 293، الاستيعاب لابن عبد البر: 4 / 73.
1 - ط الحلبي.
[ * ](1/289)
وساوره قلق، ثم ذكر أن الاسلام يجب عما قبله، فتقدم إلى المصطفى يلتمس أن يجيبه إلى حاجته في استرجاع (زينب).
أثنى المصطفى عليه خيرا، ثم قام صلى الله عليه وسلم وسار إلى بيته، ومعه ابن الربيع.
ودعا إليه ابنته، فردها على أبي العاص.
واجتمع الشمل الممزق، بعد فراق طال.
ومضى عام واحد، ثم كان الفراق الذى لا لقاء بعده في هذه
الدنيا.
ماتت (زينب) في مستهل السنة الثامنة للهجرة، وتركت لزوجها أبى العاص ذكراها الحية، وولديها عليا وأمامة، حتى لحق بها بعد أربع سنين.
في فترة الهدنة مع قريش، وبعد أن تطهرت المنطقة الاسلامية من الوباء اليهودي.
اتجه تفكير المصطفى إلى نشر دعوته خارج بلاد العرب، فبعث رسلا من أصحابه بكتب منه إلى الملوك والحكام لعهده، يدعوهم إلى الاسلام بالحسنى، امتثالا لامر الله الذى بعثه إلى الناس كافة: أرسل المصطفى: (دحية بن خليفة الكلبي) إلى قيصر، امبراطور الروم.
و (عبدالله بن حذافة السهمي) إلى كسرى فارس.(1/290)
و (عمرو بن أمية الضمري) إلى نجاشي الحبشة.
و (حاطب بن أبي بلتعة) إلى المقوقس عظيم القبط.
و (عمرو بن العاص) إلى ملكي عمان.
و (سليط بن عمرو) إلى ملكي اليمامة.
و (العلاء بن الحضرمي) إلى المنذر العبدي ملك البحرين.
و (شجاع بن وهب الاسدي) إلى الحارث الغساني بالشام.
و (المهاجر بن أبى أمية المخزومي) إلى الحارث بن عبد كلال الحميري ملك اليمن.
ثم وجه المصطفى عليه الصلاة والسلام، عناية خاصة إلى بلاد الشام،
حيث تمد إمبراطورية الروم سلطانها إلى شمال الجزيرة العربية، وتفرض نفوذها المادي والمعنوي على أهل المنطقة، بالبطش والارهاب.
وفى جمادى الاولى من سنة ثمان للهجرة، جهز عليه الصلاة والسلام جيشا لغزوة مؤتة، أول غزوة سيرها المصطفى إلى خارج بلاد العرب، تأمينا لحدودها من ناحية الروم، وتدريبا لجند الاسلام على لقاء عدو ذي صولة وصلف، واتجاها بالدعوة الاسلامية إلى ما وراء الحدود.
واختار صلى الله عليه وسلم (زيد بن حارثة) أميرا على الجيش وقال: (إن أصيب زيد فجعفر بن أبي طالب على الناس، فإن أصيب فعبد الله بن رواحة على الناس).(1/291)
كان عددهم ثلاثة آلاف، أسلحتهم الحربية السيوف والقسي والرماح والنبل والسهام، وزادهم التمر والخبز الجاف وما قد يتيسر لهم من صيد.
وساروا حتى نزلوا (معان) من أرض الشام، فبلغهم أن (هرقل) قد نزل مآب من أرض البلقاء، في مائة ألف من الروم، انضمت إليهم ألوف وألوف من لخم وجذام والقين وبهراء وبلى.
وتشاور المسلمون في خطر الموقف، وكان رأى عدد منهم ألا يجازفوا بلقاء الروم في معركة تفني جند الصحابة.
وأن يكتبوا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، عسى أن يمدهم بالرجال أو يأمرهم بالعودة إلى المدينة.
لكن (عبدالله بن رواحة) أبى إلا أن يتقدموا للقتال لا ينكصون،
قال: (يا قوم، والله إن التي تكرهون للتي خرجتم تطلبون: الشهادة.
وما نقاتل الناس بعدد ولا قوة ولا كثرة، ما نقاتلهم إلا بهذا الدين الذي أكرمنا الله به.
فانطلقوا فإنما هي إحدى الحسنيين: إما ظهور وإما شهادة).
هتف جند الاسلام: قد والله صدق ابن رواحة.
ومضوا حتى إذا بلغوا تخوم البلقاء لقيتهم جموع هرقل، فانحاز المسلمون إلى قرية (مؤتة) وقاتل (زيد بن حارثة) بلواء المصطفى حتى استشهد، فتلقى جعفر بن أبي طالب اللواء بيمينه، فقاتل به حتى(1/292)
قطعت، فأخذه بشماله حتى قطعت، فاحتضنه بعضديه حتى استشهد.
وتلقى اللواء من بعده (عبدالله بن رواحة) فما تخلى عنه حتى استشهد، فكانت له إحدى الحسنيين التى أراد.
واختار المسلمون (خالد بن الوليد قائدا)، فلم ير أن يعرض جنده للهلاك، وظل يدافع الروم في بسالة ومهارة وهو ينحاز بجنده حتى نجا بهم، لم يتركوا من ورائهم غير ثمانية شهداء، كانت دماؤهم الزكية هي التي مهدت أرض الشام للفتح الاسلامي بعد نحو عشر سنين ! استقبلت المدينة الجيش العائد من مؤتة بالغضب والانكار، وجعل الناس يحثون التراب على جنود خالد بن الوليد ويقولون: - يا فرار، فررتم في سبيل الله ؟ والمصطفى يرد عنهم الناس ويقول: (ليسوا بالفرار، ولكنهم الكرار إن شاء الله)
ويمضي وقت، نحو شهرين: جمادى الاخرة ورجب، في بطء مرهق بالتوتر، وعلى الافق نذر.
لم يكن هناك يهود يلوكون حديث مؤتة، ولكن المنافقين كانوا هناك في صميم المجتمع المدني، لا يكتمون شماتتهم ولا يكفون عن سخرية بما حسبوه تطاولا من المؤمنين إلى تخوم الروم.
وقريش تزداد حمقا وتطاولا، فتظاهر بكرا على خزاعة وترفدها(1/293)
بالسلاح، لا تبالي عهد الحديبية، وفيه النص على (أنه من أحب أن يدخل في عقد رسول الله صلى الله عليه وسلم فليدخل فيه، ومن أحب أن يدخل في عقد قريش وعهدهم فليدخل فيه).
وخزاعة كانت قد اختارت الدخول في عقد الرسول وحلفه، فبيتتها (بكر) بالوتير، وأمعنت فيها قتلا بسلاح قريش ! وتمهل المصطفى، لعل قريشا ترجع عن غيها فيما نقضت من عهد الحديبية، بما ظاهرت بكرا على خزاعة، وهي في عقد الرسول وعهده ! (المدينة) تهدر بالغضب والقلق والترقب.
والمصطفى هناك قد أخذ مجلسه بين أصحابه في مسجده، وما يدري أحد خطوته التالية.
وفجأة، تعلقت الابصار برجل، يشق طريقه في زحام الناس حتى يصل إلى مجلس الرسول عليه الصلاة والسلام، فيقف عليه، ويلتقط أنفاسه من سفر بعيد.
وعرف المهاجرون فيه (عمرو بن سالم الخزاعي).
وانتظروا ماذا يكون من أمره، فانصرف عمرو عنهم وابتدر المصطفى
ينشده مرتجزا: يا رب إني ناشد محمدا حلف أبينا وأبيه الا تلدا قد كنتم ولدا وكنا والدا(1/294)
ثمت أسلمنا فلم ننزع يدا فانصر هداك الله نصرا أعتدا وادع عباد الله يأتوا مددا فيهم رسول الله قد تجردا إن سيم خسفا وجهه تربدا في فيلق كالبحر يجري مزبدا إن قريشا أخلفوك الموعدا ونقضوا ميثاقك المؤكدا وزعموا أن لست أدعو أحدا وهم أذل وأقل عددا هم بيتونا بالوتير هجدا وقتلونا ركعا وسجدا قال عليه الصلاة والسلام: (نصرت يا عمرو بن سالم) ثم قام يتجهز لفتح مكة.
(1) الوقت مساء.
المدينة ساهرة تحتشد للتعبئة، وقد أوشك جند الاسلام على المسير
إلى مكة.
__________
(1) السيرة لابن هشام: 4 / 36 وتاريخ الطبري، السنة الثامنة ه.
[ * ](1/295)
ووافد من مكة جاء يسعى حثيثا حتى بلغ بيت أم المؤمنين (أم حبيبة، رملة بنت أبي سفيان) في دور النبي المحيطة بمسجده.
واستأذن فدخل، وأم المؤمنين لا تكاد تصدق أنه والدها (أبو سفيان بن حرب) ! هل جاء مبايعا، بعد أن طال ضلاله وأهلك قومه ؟ لو كان قد جاء مسلما، لما تردد في أن يعجل إليها بالبشرى، فيضع حدا لما كابدته من هم، في موقفها بين زوجها وأبيها ! وقد كان الموقف صعبا: من قبل أن تشرف (رملة) بالزواج من المصطفى، آمنت به نبيا مع زوجها الاول (عبيد الله بن جحش) وهاجرت معه إلى الحبشة.
فلم يلبث أن ارتد عن الاسلام، وتركها تموت بقهرها، لولا أن واساها عليه الصلاة والسلام، وشرفها بأن أرسل إلى ابن عمه (جعفر ابن أبي طالب) فخطبها إليه في بلد النجاشي.
وعادت من مهاجرها مع جعفر، يوم فتح خيبر، وأخذت مكانها الرفيع في بيت النبي، فما كانت امرأة أعز منها بزوج وأشقى بأب ! فإن لم يكن أبوها قد جاء من مكة مبايعا، فلعله موفد من مشركي قريش، يتوسل بابنته إلى زوجها نبي الاسلام، ليجدد الهدنة التى نقضها القرشيون ! وانتظرت أم المؤمنين، لم تدع أباها إلى الجلوس حتى تعلم فيم
جاء !(1/296)
وتقدم هو من تلقاء نفسه، فهم بالجلوس على فراش هناك، فسبقته إليه أم المؤمنين وطوته عنه.
سألها وهو يتجاهل مغزى ما فعلت: - يا بنية، ما أدري أرغبت بي عن هذا الفراش، أم رغبت به عني ؟ فما راعه إلا أن أجابت: (بل هو فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنت مشرك نجس، ولم أحب أن تجلس على فراشه صلى الله عليه وسلم).
قال أبو سفيان مقهورا: - والله يا بنية، لقد أصابك بعدي شر ! (1) وخرج بحسرته، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد مع جمع من أصحابه، فيهم أبو بكر وعمر.
ووقف بين يدى المصطفى، يعتذر عن قريش ويسأله أن يستبقي الهدنة، فما رد عليه المصطفى بكلمة.
واتجه أبو سفيان إلى الصديق أبى بكر، يرجوه في أن يكلم النبي عليه الصلاة والسلام، فما زاد الصديق على أن قال: (ما أنا بفاعل !).
والتمس أبو سفيان الشفاعة عند الرسول، من عمر بن الخطاب، فكان رد عمر: (أأنا أشفع لكم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فوالله لو لم
__________
(1) السيرة: 4 / 38، تاريخ الطبري 3 / 112.
السمط الثمين 100.
[ * ](1/297)
أجد إلا الدر لجاهدتكم به !).
ونقل أبو سفيان بصره في القوم، فما وجد ألا الصد والجفاء.
وقاوم يأسه، فخرج متعثرا في حيرته حتى بلغ بيت (علي بن أبي طالب) صهر المصطفى وابن عمه، فقص عليه ما كان من أمره مع ابنته رملة، ثم مع الرسول وصاحبيه أبى بكر وعمر.
وقال يستنجد بابن أبي طالب، ويذكر جدهما (قصي بن كلاب) والد عبد مناف وعبد شمس: (يا علي، إنك أمس القوم بي رحما، وإني قد جئت في حاجة فلا أرجعن كما جئت خائبا، فاشفع لي إلى صهرك وابن عمك).
رد علي، كرم الله وجهه: (ويحك يا أبا سفيان، والله لقد عزم الرسول صلى الله عليه وسلم على أمر ما نستطيع أن نكلمه فيه).
فالتفت أبو سفيان إلى (الزهراء) وكانت حتى هذه اللحظة صامتة لا تشارك في حديث، فقال لها وهو يشير إلى ابنها (الحسن بن علي) سبط النبي: (يا ابنة محمد، هل لك أن تأمري بنيك هذا فيجير بين الناس فيكون سيد العرب إلى آخر الدهر ؟) ردت الزهراء: (والله ما بلغ بني أن يجير بين الناس، وما يجير أحد على رسول(1/298)
الله صلى الله عليه وسلم).
ولم يبق إلا أن ينصرف.
غير أنه لم يكن يدري إلى أين، وقد أوصدت الابواب في وجهه.
وتمهل برهة فقال لعلي: - يا أبا الحسن، إني أرى الامور قد اشتدت علي، فانصحني.
قال علي: (والله ما أعلم لك شيئا يغني عنك شيئا، ولكنك سيد في بني كنانة، فقم فأجر بين الناس ثم الحق بأرضك).
سأله: (أو ترى ذلك مغنيا عني شيئا ؟) فرد علي: (لا والله ما أظنه، ولكني لا أجد لك غير ذلك) (1).
على ناقته (القصواء) التي خرجت به من غار ثور، قبل ثماني سنين، طريدا مستخفيا مهاجرا، أعزل إلا من إيمانه، ليس معه غير صاحبه أبي بكر، والله ثالثهما.
دخل صلى الله عليه وسلم مكة يوم الفتح، في عشرة آلاف من جند الله.
وفتحت أم القرى قلبها للنبي العائد، ومن معه من أبنائها المهاجرين
__________
(1) السيرة لابن هشام: 4 / 39 - تاريخ الطبري: 3 / 113.
[ * ](1/299)
وأصحابه الانصار.
ولم يدر يومها قتال، وكأنما عاشت أم القرى في انتظار هذه اللحظة التاريخية، لتتحرر من أغلال الوثنية.
وكأنما كان أهلها، جيرة الحرم الاقدس، يتطلعون إلى اليوم الذى يكفون فيه عن حرب عقيم، بعد أن فقدوا إيمانهم بالاوثان التي حاربوا من أجلها، فما أغنت عنهم شيئا ! وعلى راحلته، طاف عليه الصلاة والسلام بالبيت العتيق سبعا، وسط الجموع الحاشدة من الناس، ثم ترجل فدخل البيت خاشعا، وقام يصلي بالمسلمين في الحرم المكي الذي تطهر يومئذ من رجس الاوثان.
وتجاوبت الآفاق بدعائه: (الله أكبر، لا إله إلا الله وحده، نصر عبده، وأعز جنده، وهزم الاحزاب وحده).
والجموع من حوله تردد الدعاء فتخشع له صم الجبال.
والتفت إلى أهل مكة، بعد أن خطب خطبة الفتح، فقال: (يا معشر قريش، ما ترون أني فاعل بكم ؟) قالوا: خيرا، أخ كريم وابن أخ كريم.
فقال عليه الصلاة والسلام: (اذهبوا فأنتم الطلقاء !)(1/300)
وباتت مكة يوم الفتح، وليس في حرمها رجل ولا امرأة، إلا مسلما أو مسلمة.
وأصبح الناس ذات يوم بعد الفتح، وقد خرجت قالة من منازل الانصار، تعبر عن قلقهم، أن يبقى المصطفى في مكة، بعد أن رأوه يسخو في عطاء المكيين، تأليفا لقلوبهم وهم حديثو عهد بالاسلام.
قالوا: (لقد لقي والله رسول الله صلى الله عليه وسلم قومه).
وبلغت قالتهم سمع المصطفى، نقلها إليه (سعد بن عبادة) شاكيا له عليه الصلاة والسلام ما تجد الانصار من قلق وضيق.
سأله المصطفى: (فأين أنت من ذلك يا سعد ؟) ورد نقيب الانصار: - يا رسول الله، ما أنا إلا من قومي ! فلم يضق عليه الصلاة والسلام بصاحبه، بل طلب إليه أن يجمع له قومه من الانصار، ثم خرج إليهم المصطفى فقال بعد أن حمد الله وأثنى عليه: (يا معشر الانصار، ما قالة بلغتني عنكم وجدة وجدتموها علي في أنفسكم ؟ ألم آتكم ضلالا فهداكم الله، وعالة فأغناكم الله، وأعداء فألف بين قلوبكم ؟).
أجابوا: بلى، الله ورسوله أمن وأفضل.(1/301)
سألهم: (ألا تجيبونني يا معشر الانصار ؟).
فسألوا بدورهم: بماذا نجيبك يا رسول الله ؟ لله ولرسوله المن والفضل.
قال عليه الصلاة والسلام: (أما والله لو شئتم لقلتم فلصدقتم ولصدقتم: أتيتنا مكذبا فصدقناك، ومخذولا فنصرناك، وطريدا فآويناك، وعائلا فآسيناك، أوجدتم يا معشر الانصار في أنفسكم، في لعاعة من الدنيا تألفت بها قوما ليسلموا ووكلتكم إلى إسلامكم ؟ ألا ترضون يا معشر الانصار أن يذهب الناس بالشاة والبعير وترجعوا برسول الله إلى رحالكم ؟ فوالذي نفس محمد
بيده، لولا الهجرة لكنت إمرأ من الانصار، ولو سلك الناس شعبا وسلكت الانصار شعبا، لسلكت شعب الانصار ! اللهم ارحم الانصار، وأبناء الانصار، وأبناء أبناء الانصار).
فبكى القوم حتى أخضلوا لحاهم، وهتفوا جميعا: - رضينا برسول الله قسما وحظا (1).
وكذلك بكى أهل مكة، وقد علموا أن المصطفى يوشك أن ينصرف إلى دار الهجرة التى اختارها منزلا ومقاما.
ولكنه صلى الله عليه وسلم، تمهل في العودة مع الانصار إلى المدينة، ريثما يقضي على فلول الوثنية الناشبة في بعض القبائل العربية، ومن أهمها: هوازن وثقيف.
__________
(1) السيرة لابن هشام 4 / 143، طبقات ابن سعد 2 / 98.
[ * ](1/302)
وخرج المصطفى في غزوة حنين إلى هوازن، في الآلاف العشرة الذين شهدوا معه فتح مكة، ومعهم ألفان من أهل مكة.
وكادت مأساة (أحد) تتكرر.
بلغ القائد الرسول بجنده منحدرا في واد من تهامة، سبقهم إليه المشركون من هوازن وأحلافها، فكمنوا لهم في شعابه وأحنائه ومضايقه، ثم انحطوا بغتة في عماية الصبح، فشدوا عليهم، فولوا راجعين لا يلوي أحد على أحد، لم يبق منهم مع المصطفى سوى نفر من المهاجرين والانصار وأهل بيته.
يومها تكلم رجال من المنافقين ومن المكيين حديثي العهد بالاسلام بما في أنفسهم من الضغن، وقال أبو سفيان في شماتة: لا تنتهي هزيمتهم
دون البحر.
وعقب آخر، جبلة بن الحنبل: ألا بطل السحر اليوم ! وبطل السحر حقا، لكنه سحر الغفلة والضلال.
تدارك المصطفى الموقف، فأمر عمه (العباس بن عبدالمطلب) - وكان جهير الصوت - فصاح بالمسلمين يستنفرهم للجهاد مع نبيهم المصطفى، ويسترجعهم إلى أماكنهم حوله، وإن واحدة من الصحابيات (أم سليم بنت ملحان) لتثبت مع القلة المؤمنة وإنها لحامل بعبد الله ابن أبى طلحة، وقد حزمت وسطها ببرد تتقي الاجهاض، ومعها خنجر مشهر، فيقول صلى الله عليه وسلم: (أم سليم ؟) وتجيب: نعم، بأبي أنت وأمي يا رسول الله.
اقتل هؤلاء الذين(1/303)
ينهزمون عنك كما تقتل الذين يقاتلونك، فإنهم لذلك أهل.
قال عليه الصلاة والسلام: (أو يكفي الله يا أم سليم ؟) (1) ويسألها زوجها أبو طلحة: ما هذا الخنجر معك يا أم سليم ؟ أجابت: خنجر أخذته، إن دنا مني أحد من المشركين بعجته به.
وعاد المسلمون على صوت النفير، والتحم الفريقان وحمي الوطيس، فكان النصر للمؤمنين.
وكانت تجربة أخرى، يذكرهم الله بها بعد غزوة تبوك، في السنة التالية، التاسعة للهجرة، فيقول تعالى في سورة التوبة: (لقد نصركم الله في مواطن كثيرة ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئا وضاقت عليكم الارض بما رحبت ثم
وليتم مدبرين * ثم أنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين وأنزل جنودا لم تروها وعذب الذين كفروا، وذلك جزاء الكافرين * ثم يتوب الله من بعد ذلك على من يشاء، والله غفور رحيم).
(صدق الله العظيم)
__________
(1) السيرة لابن هشام: 4 / 88.
[ * ](1/304)
3 - مع المنافقين.
(ولا تصل على أحد منهم مات أبدا ولا تقم على قبره، إنهم كفروا بالله ورسوله وماتوا وهم فاسقون).
(سورة التوبة) استغرقت تلك الاحداث الكبار، ما بين غزوة مؤتة وفتح مكة وغزوة حنين، شهور السنة الثامنة للهجرة، من جمادى الاولى إلى ذي القعدة.
واعتمر المصطفى وعاد إلى المدينة كوعده للانصار، فأقام بها إلى آخر صفر من سنة تسع، وقد نجم النفاق هناك وكثر الحديث عن (مؤتة) يلوك المنافقون فيه ما كان من غلبة الروم، ويتندرون(1/305)
بسذاجة الآلاف الثلاثة من المسلمين، يطمعون في منازلة الامبراطور هرقل، في مائة ألف من جنده ! وآن الاوان لتطهير دار الاسلام من جيوب النفاق التى كانت
تهدده في الصميم، بعد أن انتصر على المشركين من العرب والاعداء من يهود.
لقد كمن السم في أول الامر، وإن ظهرت بوادر منه في مثل إصرار (عبدالله بن أبي بن سلول) على أن يجير مواليه من يهود بني قينقاع، وانخذاله بمن معه من منافقي المدينة، عن جند المصطفى يوم أحد، ثم نشاطه الخبيث في فرية الافك الذي تولى كبره.
وتتابعت البوادر مع ثقل أعباء الجهاد وتكاليفه، في غزوة الاحزاب وغزوة مؤتة، ويوم حنين، دون أن يملك أحد أن ينفي المنافقين عن الاسلام وهم يتظاهرون به ويشهدون بألسنتهم أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، يحقنون بهذه الشهادة دماءهم ويعتصمون بها من أن يرجمهم مؤمن بلعنة الردة.
والنوايا لله، هو وحده الذى يعلم سرهم ونجواهم فليس للرسول إلا أن يكلهم إليه سبحانه، يحمي دينه منهم ويكشف المستور من كفرهم.
وقد جاءت (غزوة تبوك) فمزقت أقنعتهم، بعد أن توالت النذر منبهة إلى أن النفاق قد تمكن من مرضى القلوب حتى صار داء عياء لا(1/306)
يجدي فيه غير البتر والتطهير.
في مستهل رجب من السنة التاسعة للهجرة، أمر المصطفى أصحابه بالتهيؤ لغزو الروم، تثبيتا لجند الله في لقاء عدو مرهوب، وليزيل التهيب الذي تركته التجربة الاولى في مؤتة.
وأراد الله سبحانه أن تكون هذه الغزوة امتحانا لايمان المؤمنين،
وفاضحة لزيف المنافقين المحسوبين على الاسلام زورا وادعاء.
ولم يكن من عادة الرسول القائد، أن يصرح بوجهته في كل مرة يخرج فيها بأصحابه للجهاد، بل يكتفي بالتكنية عنها، تدريبا لجند الاسلام على الامتثال لامر الله والرسول.
لكنه في هذه المرة، صرح بوجهته لم يكن عنها، لبعد المسير وشدة الوقت وكثرة العدو الذى يصمد له، حتى يتأهب المسلمون لذلك أهبتهم (1).
وذلك في زمان من عسرة الناس وشدة من الحر، وحين طابت الثمار بعد جدب، فطاب للناس المقام في ثمارهم وظلالهم.
وبدأ المنافقون منهم ينتحلون الاعذار للتخلف والقعود، حتى إن أحدهم ليقول للمصطفى: - يا رسول الله، أو تأذن لي ولا تفتني ؟ فوالله لقد عرف قومي
__________
(1) تفصيل الحديث عن غزوة تبوك، في: السيرة لابن هشام: 4 / 159، والجزء الثاني من طبقات ابن سعد، والثالث من تاريخ الطبري.
[ * ](1/307)
أنه ما من رجل بأشد عجبا بالنساء مني، وإني أخشى أن رأيت نساء بني الاصفر - الروم - أن لا أصبر ! فأعرض عنه صلى الله عليه وسلم وقال: (قد أذنت لك).
ومشى بعضهم إلى بعض، يتواصون بالقعود قائلين: (لا تنفروا في الحر).
زهدا في الجهاد وشكا في المصير، وإرجافا برسول الله صلى الله
عليه وسلم.
وانبث نفر منهم في أحياء المدينة يخذلون قومهم ويقولون: (أتحسبون جلاد بني الاصفر كقتال العرب بعضهم بعضا ؟).
ولكن هؤلاء وهؤلاء، لم يبلغوا من التخذيل والارجاف، ما بلغته مكيدة كبيرهم (عبدالله بن أبي): لقد وجد اللعين فرصة العمر التى طال انتظاره لها، فتظاهر بالتأهب للخروج، وجمع إليه حشدا من شيعته أهل النفاق ومن اغتر بهم، ثم ضرب عسكره على حدة وانتظر حتى تمت التعبئة للجهاد وخرج المصطفى بجنده من مكة، وما يشك أحد في أن (ابن أبي بن سلول) ماض وراءه بعسكره، ولم يكن أقل العسكرين ! لكن الخبيث تحرك، لا إلى الشمال في طريق الجيش المجاهد، وإنما انحاز بعسكره من أسفل مكة إلى الطريق المضاد !.
ومضى المصطفى بالمؤمنين من جند الاسلام، وتخلف كل المنافقين،(1/308)
وتخلف معهم نفر قليل من ذوي العذر، ومن استثقلوا العبء، عن غير شك ولا نفاق ! وفى الطريق لحق بالمصطفى من لم يطيقوا القعود ولهم عذر فيه.
منهم اثنان من البكائين، وهم سبعة من الصحابة التمسوا من رسول الله أن يحملهم وكانوا أهل حاجة، فقال عليه الصلاة والسلام: (لا أجد ما أحملكم عليه).
فتولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزنا ألا يجدوا ما ينفقون.
وحدث أن مر اثنان منهم بابن عمير بن كعب النضري وهما يبكيان،
فسألهما عن أمرهما فقالا: - جئنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ليحملنا فلم نجد عنده ما يحملنا عليه، وليس عندنا ما نتقوى به على الخروج معه.
فأعطاهما بعيرا له، وزودهما شيئا من تمر، فارتحلا البعير ولحقا بجند المصطفى ! وكذلك لحق بهم من صحا ضميره من غفوته، فكره أن يقعد مع القاعدين وليس من أهل النفاق.
في الخبر أن (أبا خيثمة الانصاري، مالك بن قيس) رجع ذات يوم حار بعد مسير الرسول بأيام.
فوجد امرأتين له في عريشين ببستانه، قد رشت كل منهما عريشها وبردت له فيه ماء، وهيأت له طعاما، فلما رأى ذلك كله أنكره، وقال يحدث نفسه:(1/309)
- رسول الله صلى الله عليه وسلم في الضح والريح والحر، وأبو خيثمة في ظل بارد وطعام مهيإ وامرأة حسناء، في ماله مقيم ؟ ما هذا بالنصف !.
ثم التفت إلى امرأتيه وقال: (والله لا أدخل عريش واحدة منكما حتى ألحق برسول الله صلى الله عليه وسلم، فهيئا لي زادا).
وركب راحلته، وخرج يغذ السير حتى لحق بجند الاسلام في تبوك (1).
وفى الطريق أيضا، تخلف الرجل بعد الرجل، ممن خرجوا في أول الامر مكرهين، ثم استثقلوا مشقة السفر وعبء الجهاد.
ويقول الصحابة للمصطفى وهو ماض في طريقه إلى وجهته: - يا رسول الله، تخلف فلان.
فيقول عليه الصلاة والسلام: (دعوه، فإن يك فيه خير فسيلحقه الله تعالى بكم.
وإن يك غير ذلك فقد أراحكم الله منه).
حتى قيل له مرة: - يا رسول الله، قد تخلف (أبو ذر) وأبطأ به بعيره.
فقال المصطفى، مثل ما كان يقوله في الرجل يتخلف.
__________
(1) السيرة النبوية: 4 / 164.
[ * ](1/310)
لكن أبا ذر لم يتخلف مختارا، وإنما خذله بعيره بعد أن أبطأ به، فما كان منه رضي الله عنه إلا أن أخذ متاعه فحمله على ظهره، ومشى يتبع أثر الركب المجاهد.
فبينا رسول الله صلى الله عليه وسلم في منزل ببعض مراحل الطريق، نظر ناظر من المسلمين فلمح من بعيد شخصا يمشي، فقال: - يا رسول الله، إن هذا الرجل يمشي على الطريق وحده.
قال عليه الصلاة والسلام وهو ينظر إلى الجهة التى يشير إليها صاحبه: (كن أبا ذر).
فلما تأمله القوم، قالوا: يا رسول الله، هو والله أبو ذر ! ورد المصطفى: (رحم الله أبا ذر، يمشي وحده، ويموت وحده، ويبعث وحده.
) (1) بلغ المصطفى بجنده المؤمنين مدينة (تبوك).
وهناك أتاه (يوحنه) صاحب أيلة، فصالح نبي الاسلام وأعطاه الجزية.
وكذلك أتاه أهل جرباء وأذرح، فصالحوه على الجزية.
وتخلف (أكيدر بن عبدالملك النصراني) صاحب (دومة) فندب له المصطفى (خالد بن الوليد) في كتيبة من جنده.
فأخرج (أكيدر) أخاه في فرسان دومة للقاء كتيبة خالد، ودار قتال سقط فيه أخو أكيدر
__________
(1) السيرة: 4 / 167، وانظر أبا ذر الغفاري في طبقات الصحابة.
[ * ](1/311)
قتيلا، وانهزم فرسانه..وعاد خالد بن الوليد إلى معسكر المسلمين، ومعه (أكيدر) قد نزع عنه قباؤه.
وكان من ديباج مخوص بالذهب.
قال المصطفى وقد رأى أصحابه يلمسون القباء بأيديهم ويتعجبون منه: (أتعجبون من هذا ؟ فوالذي نفسي بيده، لمناديل سعد بن معاذ في الجنة، أحسن من هذا) (1).
ثم أطلق المصطفى صاحب دومة، بمصالحة على الجزية.
ورجع المصطفى إلى المدينة، بعد أن بنى مسجدا في (تبوك) وأقام بها بضع عشرة ليلة، لم يجاوزها إلى ما وراءها من أرض الروم.
فماذا عمن تخلفوا بالمدينة لم يخرجوا للجهاد ؟ أتاه المنافقون منهم، يحلفون له ويعتذرون، فلم يملك صلى الله عليه وسلم إلا أن يقبل ظاهر عذرهم، مفوضا أمرهم إلى العليم بما يسرون وما يعلنون.
وأما الذين تخلفوا تكاسلا، عن غير شك ولا نفاق، فلم يجدوا ما يعتذرون به، وكرهوا أن يضيفوا إلى ذنب القعود عن الجهاد، وزر اختلاق عذر يقدمونه إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، كما فعل المنافقون.
__________
(1) السيرة لابن هشام: 4 / 170.
[ * ](1/312)
وأنكر صلى الله عليه وسلم موقفهم، ونهى أصحابه أن يكلموا أحدا منهم حتى يقضي الله فيهم، وكانوا ثلاثة: (كعب بن مالك، ومرارة بن الربيع، وهلال بن أمية) صدقوه القول أن لم يكن لهم عذر.
ونبذهم المجتمع الاسلامي نبذا أليما، وكابدوا من تأنيب النفس اللوامة، ما الموت أهون منه وأرحم، وأترك لاحدهم (كعب بن مالك الانصاري) أن يصف محنته وصاحبيه، فيما روى ابن اسحق بالسيرة النبوية، عن الزهري عن عبدالرحمن بن كعب عن أبيه قال: (ما تخلفت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة غزاها قط، غير أني تخلفت عنه في بدر، وكانت غزوة لم يعاتب الله ولا رسوله أحدا تخلف عنها.
(ولقد شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم العقبة وحين تواثقنا على الاسلام، وما أحب أن لي بها مشهد بدر، وإن كانت غزوة بدر هي أذكر في الناس منها - يعني: من العقبة.
(وكان من خبري حين تخلفت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك، أني لم أكن قط أقوى ولا أيسر مني حين تخلفت عنه في تلك الغزوة.
(وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قلما يريد غزوة يغزوها إلا ورى بغيرها.
حتى كانت تلك الغزوة، فغزاها صلى الله عليه وسلم في حر شديد واستقبل سفرا بعيدا، واستقبل غزو عدو كثير، فجلى للناس أمرهم ليتأهبوا لذلك أهبته، والمسلمون كثير، لا يجمعهم(1/313)
كتاب حافظ - أي ديوان مكتوب - فقل رجل يريد أن يتغيب إلا ظن أن سيخفى له ذلك، ما لم ينزل فيه وحي من الله.
(فتجهز رسول الله صلى الله عليه وسلم وتجهز المسلمون معه، وجعلت أغدو لاتجهز معهم فأرجع ولم أقض حاجة فأقول في نفسي: (أنا قادر على ذلك إذا أردت) فلم يزل ذلك يتمادى بي حتى شمر بالناس الجد فأصبح صلى الله عليه وسلم غاديا والمسلمون معه، ولم أقض من جهازي شيئا، فقلت: (أتجهز بعده بيوم أو يومين ثم ألحق بهم).
فغدوت بعد أن فصلوا لاتجهز، فرجعت ولم أقض شيئا، ثم غدوت فرجعت ولم أقض شيئا.
فلم يزل ذلك يتمادى بي حتى أسرعوا وتفرط الغزو - يعنى فات وسبق - فهممت أن أرتحل فأدركهم، وليتني فعلت، فلم أفعل.
(وجعلت إذا خرجت في الناس بالمدينة بعد خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم فطفت فيهم، يحزنني أني لا أرى إلا رجلا مطعونا عليه في النفاق، أو رجلا ممن عذر الله من الضعفاء.
(ولم يذكرني صلى الله عليه وسلم حتى بلغ تبوك، فقال وهو جالس في القوم: (ما فعل كعب بن مالك ؟) فقال رجل من بني سلمة: يا رسول الله، حبسه برداه والنظر في عطفيه.
فقال له معاذ بن جبل:
بئس ما قلت ! والله يا رسول الله ما علمنا منه إلا خيرا.
فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم.
(فلما بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد توجه قافلا من(1/314)
تبوك، حضرني بثي، فجعلت أتذكر الكذب وأقول: (بماذا أخرج من سخطة رسول الله صلى الله عليه وسلم غدا ؟) وأستعين على ذلك كل ذي رأي من أهلي.
فلما قيل إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أظل قادما، زاح عني الباطل وعرفت أني لا أنجو إلا بالصدق، فأجمعت أن أصدقه.
وصبح رسول الله بالمدينة، وكان إذا قدم من سفر بدأ بالمسجد فركع فيه ركعتين ثم جلس للناس.
فلما فعل جاءه المخلفون فجعلوا يحلفون له ويعتذرون، وكانوا بضعة وثمانين رجلا.
فيقبل منهم رسول الله صلى الله عليه وسلم علانيتهم وأيمانهم ويستغفر لهم، ويكل سرائرهم إلى الله تعالى.
حتى جئت فسلمت، فتبسم تبسم المغضب، ثم قال لي: (تعاله) فجئت أمشي حتى جلست بين يديه فقال لي: (ما خلفك ؟ ألم تكن ابتعت ظهرك ؟) قلت: إني يا رسول الله، والله لو جلست عند غيرك من أهل الدنيا لرأيت أني سأخرج من سخطه بعذر، ولقد أعطيت جدلا.
ولكن والله لقد علمت لئن حدثتك اليوم حديثا كذبا لترضين عني، وليوشكن الله أن يسخطك علي، ولئن حدثتك حديثا صدقا تجد علي فيه، إني لارجو عقباي من الله فيه.
لا والله ما كان لي عذر ! والله ما كنت قط أقوى ولا أيسر مني حين تخلفت عنك ! (فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أما هذا فقد صدقت فيه،
فقم حتى يقضي الله فيك.
فقمت، وثار معي رجال من بني سلمة فاتبعوني، فقالوا لي:(1/315)
- والله ما علمناك كنت أذنبت ذنبا قبل هذا، ولقد عجزت عن أن لا تكون اعتذرت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بما اعتذر به إليه المخلفون، قد كان كافيك ذنبك استغفار رسول الله صلى الله عليه وسلم لك.
(فوالله ما زالوا بي حتى أردت أن أرجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأكذب نفسي.
ثم قلت لهم: - هل لقي هذا أحد غيري ؟ قالوا: نعم، رجلان قالا مثلك: مرارة بن الربيع، وهلال بن أمية الواقفي.
(فذكروا لي رجلين صالحين فيهما أسوة، فصمت حين ذكروهما لي.
ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كلامنا أيما الثلاثة، من بين من تخلف عنه.
فاجتنبنا الناس وتغيروا لنا حتى تنكرت لي نفسي والارض، فما هي بالارض التي كنت أعرف.
فلبثنا على ذلك خمسين ليلة.
فأما صاحباي فاستكانا وقعدا في بيوتهما، وأما أنا فكنت أشب القوم وأجلدهم، فكنت أخرج وأشهد الصلوات مع المسلمين وأطوف بالاسواق ولا يكلمني أحد.
وآتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلم عليه وهو في مجلسه بعد الصلاة فأقول في نفسي: (هل حرك شفتيه يرد السلام علي أو لا ؟) ثم أصلي قريبا منه فأسارقه النظر، فإذا أقبلت على صلاتي نظر الي، وإذا التفت نحوه أعرض عني.
(حتى إذا طال ذلك علي من جفوة المسلمين، مشيت حتى تسورت(1/316)
جدار حائط (أبي قتادة) وهو ابن عمي وأحب الناس الي، فسلمت عليه فوالله ما رد علي السلام.
فقلت: - يا أبا قتادة، أنشدك بالله، هل تعلم أني أحب الله ورسوله ؟ فسكت.
فعدت فناشدته مرة بعد مرة، فسكت عني، فعدت فناشدته فقال: الله ورسوله أعلم.
(ففاضت عيناي، ووثبت فتسورت الحائط ثم غدوت إلى السوق.
فبينا أنا أمشي إذا نبطي يسأل عني من نبط الشام، فجعل الناس يشيرون الي، حتى جاءني فدفع الي كتابا من ملك غسان، فيه: (أما بعد، فإنه قد بلغنا أن صاحبك قد جفاك.
فالحق بنا نواسك).
* قلت حين قرأتها: وهذا من البلاء أيضا، قد بلغ بي ما وقعت فيه أن طمع في رجل من أهل الشرك ! (فعمدت بالرسالة إلى تنور فسجرته بها.
فأقمنا على ذلك حتى إذا مضت أربعون ليلة، من الخمسين، إذا رسول رسول الله يأتيني بأمره أن أعتزل امرأتي.
قلت: أأطلقها أم ماذا ؟ قال: لا، بل اعتزلها ولا تقربها.
وأرسل إلى صاحبي بمثل ذلك.
فقلت لامرأتي: الحقي بأهلك فكوني عندهم حتى يقضي الله في هذا الامر ما هو قاض.
وجاءت امرأة (هلال بن أمية) رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت:(1/317)
- يا رسول الله، إن هلال بن أمية شيخ كبير ضائع لا خادم له، أفتكره أن أخدمه ؟ قال: لا، ولكن لا يقربنك.
قالت: والله يا رسول الله ما به من حركة الي، والله ما زال يبكي منذ كان من أمره ما كان إلى يومنا هذا، ولقد تخوفت على بصره.
(فقال لي بعض أهلي: لو استأذنت رسول الله لامرأتك، فقد أذن لامرأة هلال بن أمية أن تخدمه.
قلت: والله لا أستأذنه بها، ما أدري ما يقول صلى الله عليه وسلم لي إذا استأذنته فيها، وأنا رجل شاب.
(فلبثنا بعد ذلك عشر ليال، فكمل لنا خمسون ليلة من حين نهى رسول الله المسلمين عن كلامنا.
ثم صليت الصبح، صبح خمسين ليلة، على ظهر بيت من بيوتنا.
إذ سمعت صوت صارخ أوفى على ظهر سلع يقول بأعلى صوته: يا كعب بن مالك، أبشر.
فخررت ساجدا وعرفت أن قد جاء الفرج.
(ونزعت ثوبي فكسوتهما من جاء يبشرني، والله ما أملك يومئذ غيرهما، واستعرت ثوبين فلبستهما ثم انطلقت أتيمم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتلقاني الناس يبشرونني بالتوبة.
حتى دخلت المسجد، فلما سلمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال لي ووجهه يبرق من السرور: - أبشر بخير يوم مر عليك منذ ولدتك أمك.(1/318)
قلت: أمن عندك يا رسول الله أم من عند الله ؟ قال: بل من عند الله.
قلت: يا رسول الله، إن من توبتي إلى الله عزوجل أن أنخلع من مالي، صدقة إلى الله والى رسوله.
قال صلى الله عليه وسلم: أمسك عليك بعض مالك فهو خير لك.
وقلت: يا رسول الله، إن الله نجاني بالصدق، وإن من توبتي إلى الله أن لا أحدث إلا صدقا ما حييت) (1).
الآيات التى بشر بها هؤلاء الثلاثة الذين خلفهم الرسول حتى يقضي الله فيهم، هي آيات التوبة: (لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والانصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة من بعد ما كاد يزيغ قلوب فريق منهم ثم تاب عليهم، إنه بهم رؤوف رحيم * وعلى الثلثة الذين خلفوا حتى إذا ضاقت عليهم الارض بما رحبت وضاقت عليهم أنفسهم وظنوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه ثم تاب عليهم ليتوبوا، إن الله هو التواب الرحيم *).
(صدق الله العظيم) ونزلت معها، من سورة التوبة في أواخر العهد المدني بعد غزوة تبوك، الآيات البينات (الفاضحة) لزيف المنافقين الممزقة لكل
__________
(1) من السيرة: 1 / 175.
بإسناد إلى الزهري عن عبدالرحمن بن عبدالله بن كعب بن مالك.
[ * ](1/319)
أقنعتهم.
وفيها يعتب الله سبحانه على رسوله أن أذن لهم في التخلف.
وكان، لو لم يفعل، بحيث يكشف عن خبث سريرتهم ويتبين له كفرهم وارتيابهم:
(لو كان عرضا قريبا وسفرا قاصدا لاتبعوك، ولكن بعدت عليهم الشقة، وسيحلفون بالله لو استطعنا لخرجنا معكم، يهلكون أنفسهم والله يعلم إنهم لكاذبون * عفا الله عنك لم أذنت لهم حتى يتبين لك الذين صدقوا وتعلم الكاذبين * لا يستأذنك الذين يؤمنون بالله واليوم الآخر أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم والله عليم بالمتقين * إنما يستأذنك الذين لا يؤمنون بالله واليوم الآخر وارتابت قلوبهم فهم في ريبهم يترددون * ولو أرادوا الخروج لاعدوا له عدة ولكن كره الله انبعاثهم فثبطهم وقيل اقعدوا مع القاعدين * لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالا ولاوضعوا خلالكم يبغونكم الفتنة وفيكم سماعون لهم، والله عليم بالظالمين * لقد ابتغوا الفتنة من قبل وقلبوا لك الامور حتى جاء الحق وظهر أمر الله وهم كارهون * ومنهم من يقول ائذن لي ولا تفتني، ألا في الفتنة سقطوا، وإن جهنم لمحيطة بالكافرين * إن تصبك حسنة تسؤهم وإن تصبك مصيبة يقولوا قد اخذنا أمرنا من قبل ويتولوا وهم فرحون * قل لن يصيبنا ألا ما كتب الله لنا هو مولنا، وعلى الله فليتوكل المؤمنون * قل هل تربصون بنا إلا إحدى الحسنيين ونحن نتربص بكم أن يصيبكم الله بعذاب من عنده أو بأيدينا فتربصوا إنا معكم متربصون *).(1/320)
وتمضي الآيات بحكم الله فيهم: تنفيهم عن الاسلام أحياء وأمواتا، وتعزلهم عن مخالطة المؤمنين، وتحرم خروجهم معهم إذا خرجوا للجهاد، حسما لشر الفتنة، وتنهى نبى الاسلام نهيا باتا عن أن يستغفر لهم أو يصلي على أحد منهم مات أبدا أو يقوم على قبره:
(استغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم، ذلك بأنهم كفروا بالله ورسوله، والله لا يهدى القوم الفاسقين * فرح المخلفون بمقعدهم خلاف رسول الله وكرهوا أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله وقالوا لا تنفروا في الحر، قل نار جهنم أشد حرا، لو كانوا يفقهون * فليضحكوا قليلا وليبكوا كثيرا جزاء بما كانوا يكسبون * فإن رجعك الله إلى طائفة منهم فاستأذنوك للخروج فقل لن تخرجوا معى أبدا ولن تقاتلوا معى عدوا إنكم رضيتم بالقعود أول مرة فاقعدوا مع الخالفين * ولا تصل على أحد منهم مات أبدا ولا تقم على قبره، إنهم كفروا بالله ورسوله وماتوا وهم فاسقون *.
(صدق الله العظيم) ثم يقول الله جل شأنه في نفس السورة: (ليس على الضعفاء ولا على المرضى ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون حرج إذا نصحوا لله ورسوله، وما على المحسنين من سبيل والله عفور رحيم * ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم قلت لا أجد ما(1/321)
أحملكم عليه تولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزنا إلا يجدوا ما ينفقون * إنما السبيل على الذين يستأذنونك وهم أغنياء، رضوا بأن يكونوا مع الخوالف وطبع الله على قلوبهم فهم لا يعلمون * يعتذرون إليكم إذا رجعتم إليهم، قل لا تعتذروا لن نؤمن لكم قد نبأنا الله من أخباركم وسيرى الله عملكم ورسوله ثم تردون إلى عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون * سيحلفون بالله لكم
إذا انقلبتم إليهم لتعرضوا عنهم فأعرضوا عنهم إنهم رجس ومأوهم جهنم جزاء بما كانوا يكسبون * يحلفون لكم لترضوا عنهم فإن ترضوا عنهم فإن الله لا يرضى عن القوم الفاسقين *).
(صدق الله العظيم)(1/322)
سنة الوفود ودخل الناس في دين الله أفواجا كانت غزوة تبوك في شهر رجب من السنة التاسعة للهجرة.
بعدها فيما بقي من شهور السنة، تتابعت وفود القبائل العربية على دار الهجرة، ساعية إليها من كل وجه، تبايع الرسول صلى الله عليه وسلم على الاسلام.
أسلمت (ثقيف) وكانت قد امتنعت بالطائف يوم حنين.
وقدم وفد (همدان) على رسول الله عليه الصلاة والسلام، مرجعه من تبوك.
وجاء وفد (تميم) وفيه: (قيس بن عاصم، وعطارد بن حاجب، والاقرع بن حابس، وعمرو بن الاهتم، والزبرقان بن بدر).
وجاء ضمام بن ثعلبة، في وفد (بنى سعد بن بكر).
والجارود بن عمرو، في وفد (عبدالقيس) والاشعث بن قيس في وفد (كندة) وصرد بن عبدالله، في وفد (الازد).(1/323)
كما قدم وفد (طئ) وفيهم سيدهم الفارس (زيد الخيل) الذى قال فيه المصطفى صلى الله عليه وسلم:
(ما ذكر لي رجل من العرب ثم جاءني، إلا رأيته دون ما يقال فيه.
إلا زيد الخيل فإنه لم يبلغ كل ما كان فيه).
ودعاه المصطفى: زيد الخير.
وجاء رجال من (بنى زبيد) فيهم عمرو بن معديكرب.
ووفد بنى حنيفة، فيهم مسيلمة بن حبيب (1).
قال (ابن اسحاق) في سنة الوفود (2): (وإنما كانت العرب تربص بالاسلام أمر هذا الحي من قريش وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وذلك أن قريشا كانوا إمام الناس وهاديهم، وأهل البيت الحرام، وصريح ولد إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام، وقادة العرب لا ينكر ذلك.
وكانت قريش هي التى نصبت لحرب رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلافه، فلما افتتحت مكة ودانت له قريش.
دخلوا في دين الله، كما قال عزوجل، أفواجا، يضربون إليه من كل وجه.
يقول الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: (إذا جاء نصر الله والفتح * ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا * فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان توابا).
(صدق الله العظيم)
__________
(1) هو مسيلمة الكذاب، الذى ارتد وادعى النبوة بعد النبي صلى الله عليه وسلم.
وقتل الكذاب في حروب الردة.
(2) والطبري في تاريخه، السنة التاسعة.
[ * ](1/324)
الوداع
والرحيل ! (وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل، أفئن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم، ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا، وسيجزي الله الشاكرين).
(صدق الله العظيم)(1/325)
تطهرت ديار الاسلام من وباء اليهود، أعداء البشر.
وتطهرت أرض المبعث وبلاد العرب من رجس الوثنية، وسقطت أقنعة المنافقين، وعزلوا عن المجتمع الاسلامي، ودخل الناس في دين الله أفواجا.
فهل بقي من رسالة المصطفى ما يؤديه في عصر مبعثه ؟ بعد سنة الوفود، حج صلى الله عليه وسلم حجة الوداع في السنة العاشرة للهجرة، وعلم المسلمين مناسك الحج، وخطب فيهم خطبته المشهورة التى كانت الوصية الاخيرة إلى المسلمين من نبيهم المصطفى عليه الصلاة والسلام، قال بعد أن حمد الله وأثنى عليه: (أيها الناس، اسمعوا قولي فإني لا أدرى لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا بهذا الموقف أبدا.
أيها الناس، إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام إلى أن تلقوا ربكم،(1/327)
كحرمة يومكم هذا وكحرمة شهركم هذا.
وإنكم ستلقون ربكم فيسألكم عن أعمالكم وقد بلغت، فمن كانت عنده أمانة فليؤدها إلى من ائتمنه
عليها.
وإن كان ربا موضوع، ولكن لكم رءوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون.
قضى الله أنه لا ربا، وإن ربا عباس بن عبدالمطلب موضوع كله.
وإن كل دم كان في الجاهلية موضوع.
وإن أول دمائكم أضع دم ابن ربيعة بن الحارث بن عبدالمطلب - وكان مسترضعا في بنى ليث فقتلته هذيل - فهو أول ما أبدأ به من دماء الجاهلية.
(أما بعد أيها الناس، فإن الشيطان قد يئس أن يعبد بأرضكم هذه أبدا.
ولكنه إن يطع فيما سوى ذلك فقد رضي بما تحقرون من أعمالكم، فاحذروه على دينكم).
وبعد أن بين المصطفى إبطال الاسلام للنسئ، وحدد الاشهر الاربعة الحرم، أوصى بالنساء خيرا، ثم ختم خطبة الوداع بقوله: (فاعقلوا أيها الناس قولي فإنى قد بلغت.
وقد تركت فيكم ما إن اعتصمتم به فلن تضلوا أبدا: أمرا بينا، كتاب الله وسنة نبيه.
أيها الناس، اسمعوا قولي واعقلوه، تعلمن أن كل مسلم أخ للمسلم، وأن المسلمين إخوة، فلا يحل لامرئ من أخيه إلا ما أعطاه عن طيب نفس منه فلا تظلمن أنفسكم، اللهم هل بلغت ؟).
هتف المسلمون جميعا، ممن شهدوا حجة الوداع: - اللهم نعم.(1/328)
فقال عليه الصلاة والسلام: (اللهم اشهد) (1).
ثم أقام المصطفى بالمدينة بقية ذى الحجة والمحرم وصفر.
وفيها جهز (أسامة بن زيد بن حارثة) ليخرج إلى الشام في جند الاسلام،
ومعه المهاجرون الاولون.
وأمره صلى الله عليه وسلم، أن يصل بالاسلام إلى تخوم البلقاء والداروم من أرض فلسطين.
وبدا كأن المصطفى أتم رسالته، وترك للمؤمنين من بعده أن ينشروا الدين الحق في الآفاق، وأن يحملوا لواءه الميمون إلى المشرق والمغرب !.
ثم يموت محمد بن عبدالله، ويحيا المصطفى في رسالته، نبى الاسلام المبعوث خاتما للانبياء ومصدقا لما بين يديه من الدين كله.
وتكون آيته، بعد أن أتم رسالته، أن يجوز عليه المرض والموت، كما جازت عليه أعراض البشرية وهمومها وعواطفها، من حزن وثكل وكره وضيق وكرب، مثلما تجوز على سائر البشر.
لكيلا يفتن به المسلمون فينسوا أنه بشر رسول، كما فتن من قبلهم، فاتخذوا نبيهم مع الله إلها.
__________
(1) السيرة لابن هشام: 4 / 252.
[ * ](1/329)
في ليال بقين من صفر، في السنة الحادية عشرة للهجرة، شكا المصطفى من مرض ألم به، فحسب آل البيت النبوى والمسلمون معهم، أنها وعكة طارئة لا تلبث أن تزول، دون أن يتصور أحد منهم أنه مرض الموت.
وثقل المرض على (محمد بن عبدالله) فاستأذن نساءه أمهات المؤمنين أن يمرض في بيت عائشة، وقال: (مروا أبا بكر فليصل بالناس).
ولم يطل عليه المرض.
أهل شهر ربيع الاول، وخرج أهل المدينة لصلاة الصبح من يوم الاثنين، فبينا هم في المسجد وأبو بكر يصلى بهم، رفع الستر من باب بيت أم المؤمنين عائشة، وخرج المصطفى عاصبا رأسه، فما كاد الناس يلمحونه حتى كادوا يفتنون في صلاتهم برؤيته فرحا به، لولا أن أشار إليهم أن (اثبتوا على صلاتكم).
وشعر أبو بكر بما كان من المصلين خلفه، فعرف أنهم لم يصنعوا ذلك إلا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فنكص عن مصلاه يفسح مكانه للمصطفى، لكنه دفعه وقال: (صل بالناس).
وجلس صلى الله عليه وسلم عن يمين أبى بكر، فصلى قاعدا، حتى إذا قضيت الصلاة أقبل المسلمون على نبيهم المصطفى فرحين مستبشرين، يهللون ويدعون ويباركون.(1/330)
لم يدروا أنها صحوة الموت ! دخل المصطفى بيته والوقت ضحى، فاضطجع على فراشه في حجر زوجه عائشة، فما راعها إلا أن ثقل في حجرها، ونظرت في وجهه فإذا بصره قد شخص وهو يقول: (بل الرفيق الاعلى من الجنة) (1) من بيت المصطفى علا نحيب النساء فصك مسمع المدينة التى كانت قد استبشرت برؤية الرسول عليه الصلاة والسلام في صلاة الصبح من ذلك اليوم ! وفى ذهول المباغتة، وجم الناس بين مصدق ومكذب، وكان (عمر بن الخطاب) أشد من أنكروا أن يكون محمد صلى الله عليه وسلم
قد مات ! وجاء أبو بكر، وعمر في المسجد يتوعد من يزعم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد مات، قال: عفا الله عنه: (إن رجالا من المنافقين يزعمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد توفى ! وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم والله ما مات، ولكنه ذهب إلى ربه كما ذهب موسى بن عمران، فقد غاب عن قومه أربعين ليلة ثم رجع إليهم بعد أن قيل قد مات، ووالله ليرجعن رسول الله صلى الله عليه وسلم كما رجع موسى، فليقطعن أيدى رجال وأرجلهم زعموا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مات !).
__________
(1) السيرة لابن هشام: 4 / 304.
[ * ](1/331)
تركه أبو بكر لم يكلمه، ومضى لا يلتفت إلى شئ حتى دخل على المصطفى في بيت ابنته عائشة، فإذا هو مسجى هناك، فأقبل عليه محزونا حتى كشف عن وجهه فقبله، وقال: (بأبى أنت وأمى، أما الموتة التى كتب الله عليك، فقد ذقتها، ثم لن تصيبك بعدها موتة أبدا).
ثم رد البرد على الوجه الحبيب.
وخرج إلى الناس المحتشدين في المسجد، و (عمر بن الخطاب) ما يزال يكلمهم فدنا منه وقال مترفقا، قد أحس ما أخذ ابن الخطاب من وقع الصدمة: - على رسلك يا عمر، أنصت ! فلما لم يلتفت إليه، أقبل على الناس فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال:
(أيها الناس، من كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حى لا يموت).
ثم تلا الآية، من سورة آل عمران: (وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا وسيجزي الله الشاكرين).
فكأن الناس لم يعلموا أن هذه الآية نزلت حتى تلاها أبو بكر يومئذ.(1/332)
أما عمر بن الخطاب، فما هو إلا أن سمع أبا بكر تلاها، حتى وقع إلى الارض ما تحمله رجلاه، وقد عرف أن محمدا قد مات.
جهزوه للرحيل يوم الثلاثاء.
ثم فتحوا باب بيته لالوف المسلمين فدخلوا عليه يودعونه ويصلون عليه أرسالا: الرجال منهم أولا، ثم الناس، ثم الصبيان.
ودفنوه حيث قبض، في بيت زوجه عائشة بنت أبى بكر.
رفعوا فراشه فحفر له تحته، ثم أضجعوه هناك في ليل الاربعاء من ذلك الشهر، ربيع الاول، السنة الحادية عشرة من هجرته.
دفنوا محمد بن عبدالله الهاشمي القرشى.
وعاش الرسول صلى الله عليه وسلم، خاتم الانبياء.
ذاك الذى اصطفاه الله فأرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره الكافرون.
في فجر تلك الليلة الغراء من شهر رمضان المبارك، التى خرج فيها
أما عمر بن الخطاب، فما هو إلا أن سمع أبا بكر تلاها، حتى وقع إلى الارض ما تحمله رجلاه، وقد عرف أن محمدا قد مات.
جهزوه للرحيل يوم الثلاثاء.
ثم فتحوا باب بيته لالوف المسلمين فدخلوا عليه يودعونه ويصلون عليه أرسالا: الرجال منهم أولا، ثم الناس، ثم الصبيان.
ودفنوه حيث قبض، في بيت زوجه عائشة بنت أبى بكر.
رفعوا فراشه فحفر له تحته، ثم أضجعوه هناك في ليل الاربعاء من ذلك الشهر، ربيع الاول، السنة الحادية عشرة من هجرته.
دفنوا محمد بن عبدالله الهاشمي القرشى.
وعاش الرسول صلى الله عليه وسلم، خاتم الانبياء.
ذاك الذى اصطفاه الله فأرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره الكافرون.
في فجر تلك الليلة الغراء من شهر رمضان المبارك، التى خرج فيها مع النور البازغ يتلو الكلمات الاولى من هذا القرآن: معجرة نبوة، وكتاب شريعة، ولواء عقيدة وجهت التاريخ وحررت الانسان.
والنور الذى حدا مسرى البشرية الامية من ليل الجاهلية.
وقاد مسعاها إلى آفاق المثل العليا للحق والخير والجمال.(1/333)
(هو الذى بعث في الاميين رسولا منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة، وإن كانوا من قبل لفى ضلال مبين).
صدق الله العظيم(1/334)