مستند تاريخ مملكة الأغالبة
لابن وردان
دراسة وتقديم وتحقيق وتعليق الدكتور محمد زينهم محمد عزب
مقدمة…2
الحياة الإجتماعية في إفريقية حتى قيام دولة الأغالبة…7
ا - قيام دولة الأغالبة : ( 184 / هـ - 296 هـ 0 0 8 م -)…7
2 - الحضارة والعمران :…7
ولاية العباس الأشعت بن عقبة الخزاعي…7
ولاية عمر بن حفص بن قبيصة…7
ولاية الأميريزيد بن حاتم…7
ولاية روح بن حاتم بن قبيصة الأزدي…7
ولاية هرثمة بن أعين الهاشمي…7
ولاية إبراهيم بن الأغلب…7
ولاية أبي العباس عبدالله بن إبراهيم بن الأغلب…7
ولاية زيادة الله بن إبراهيم بن الأغلب…7
ولاية أبي عقال الأغلب إبراهيم بن الأغلب…7
ولاية أبي العباس عبد الله بن إبرهيم بن الأغلب…7
ولاية أبي إبراهيم أحمد بن محمد المذكور…7
ولاية أبي محمد زيادة الله بن محمد بن إبراهيم بن الأغلب…7
ولاية أبي عبدالله محمد بن أحمد بن محمد بن إبراهيم بن ا لأغلب…7
ولاية إبراهيم بن أحمد…7
ولاية عبد الله بن إبراهيم بن الأغلب…7
ولاية أمي ضر زيادة الله بن عبد اف الأغلب…7
مقدمة
كان قيام دولة الأغالبة في إفريقية عام 184 هـ - 800 م مرتبطا ارتباطا وثيقا بما كان يسود بلادها من إضطراب وفوضى وصراع مذهبي وثورات الجند العرب والبربر في الفترة الممتدة من خلافة هشام بن عبد الملك ( 105 هـ - 125 /724 م - 743 م ) إلى نهاية الدوله الأموية 132 هـ / 0 75 م (1) .(1/1)
وفي الحقيقة كانت الخلافةالعباسية مشغولة بمشاكلها فى المشرق لتثبيت كيانها ووجودها . فكان عليها محاربة الزندقة والقضاء على حركات العلوين ووقف أخطار البيزنطيين ، ولهذا لم يتسع وقت الخليفة أبو العباس السفاح للاهتمام كثيرا بما يقع ويحدث في بلاد المغرب ، لأن تفكيره كان منصبا نحو المشرق ، ومع ذلك لم تغفل عيناه عن الجناح الغربي لدولة الإسلام والذي كان يشتمل على ا مصر وبرقة وافريقية " ، فاكتفى بالاستجابه إلى ما طلبه عبد الرحمن بن حبيب فقد كان عبد الرحمن بن حبيب بن أي عبيدة بن عقبة بن نافع زعيما سياسيا واسع النشاط، يعتمد على ما حققه جده عقبة بن نافع من شهرة وسمعة وإنجازات حربية ، ولكنه في نفس الوقت انحرف عن نمط سياسة جده ،فكان رجلا طامعا في الحكم فلم يقم بتنظيم امور دولته كما
فعل عبد الرحمن بن معاوية بن هشام بن عبد الملك (138 هـ - 172 ولكن كل همه البقاء في امارته دون سند شرعي وكان عبد الرحمن بن حبيب من أكبر قواد العرب البلديين بافريقية ولذا كان أشدهم تطلعا إلى ولاية إفريقية ، فقد كان يرى نفسه أهلا لها رغم معارضة الكثيرين من أمثاله من قادة العرب البلديين في إفريقية . ولم يسبق في تاريخ المسلمين حتى ذلك الحين أن و فقت دولة الخلافة على أن يستقل أحد الولاة بولايته عن الد ولة سواء أكان استقلالا تاما أم غيرتام .
ولكن الأحوال في دولة الإسلام كانت تمر- أثناء فترة الانتقال الأمويين إلى العباسيين والتي بدأت من متنصف حكم مروان بن محمدالجعدي وطوال خلافة أبي العباس السفاح وجزء من ولاية أبي جعفر المنصور- بحالة الفوضى وعدم الاستقرار ، ولم تستقر الأمور الا بعد عشر سنوات من ولاية المنصور ، وأصبح الخليفة المنصور معيد الدولة الإسلامية بلا منازع(1/2)
فلما أعلن عبد الرحمن بن حبيب نفسه أميرا على القيروان بعث بطاعته الى أبي جعفر المنصور ، ولم يكن لدى الخليفة العباسي حينئذ متسع الوقت للنظر في أمرإفريقية بعناية ، فاقره ريثما تسمح ظروفه بالتفرغ للجناح الغربي من دولته الكبيرة ثم طالبه المنصور بالمال ، وكان ذلك طبيعيا من المنصور لأنه كان خليفةالمسلمين والمفررض على جميع ولاة الدولة أن يرسلوا للحكومة المركزية بالمال المتبقي من خراج ولاياتهم ليستعين به الخليفة على مطالب الخلافة ، وقد فوجىء عبد الرحمن بن حبيب بهذا الطلب لأنه الى ذلك الحين لم يكن صاحب السلطان على إفريقية لكي يستطيع استخراج المال الكافي منها لينفق على إدارتها ومرافقها من ناحية ، ثم لكي يرسل ما يتيسر له الى الخلافة ، وكان يستطيع أن يشرح أمره للخليفة المنصور ولكن بدلا من ذلك قام عبد الرحمن بن حبيب بنزع شعار السواد ، وهو شعار بني العباس ، وقطع ذكر اسم المنصور في الخطبة ، وهذا أول الأخطاء الكبرى التي وقع فيها عبد الرحمن بن حبيب لأنه ظن أنه يستطيع الئغلب على كل منافسيه في ولاية إفريقية ، وفي نفس الوقت كان يعتقد أن الخليفة لا يملك قوة كافية لاستعادة السلطان على إفريقية ، إذ لم يكن من المناسب له وهو في مرحلة تثبيت أمره أن ينفصل عن الدولة العباسية ويحمي نفسه من جيوشها ، خاصة وقد كان له الكثير من المنافسين من أمثاله في ولاية إفريقية ، ثم إن الدولة العباسية كانت شديدة الاهتمام بولاية إفريقية التي كانت تشمل طرابلس لوإفريقية والزاب تأمينا لولاية مصر والتي كانت تعتبر من أهم ولايات الدولة الإسلامية سياسيا وعسكريا وماليا(1/3)
وبعد أن أعلن عبد الرحمن بن حبيب انفصاله عن الدولة العباسية ، شرع في تثبيت سلطانه معتمدا على ما كان تحت إمارته من الجند العربي ومن استطاع إدخاله في خدمته من أهل إفريقية ، وساعده على ذلك أن أخاه الياس بن حبيب كان قائدا عسكريا قادر وهو الذي ثبت أقدام دولة أخيه ، وبدلا من أن يتعاون عبد الرحمن بن حبيب مع أخيه ويظهر له موفيا لما اتفق معه عليه من أن يكون إلياس وليا لعهده ،نجده يتخوف منه ويفكر في عزله عن ولاية الجند ، ولكن إلياس نجح في جمع طائفة كبيرة من الفرسان والمقاتلين الجند البلدية في إفريقية بجانبه
وزاد في ضعف مركز عبد الرحمن بن حبيب أنه لم يفكر في توحيد العناصر العربية الموجودة في البلاد أو الاستعانة بالعنصر البربري في إدارة شؤون الإمارة لكي يستطيع التثبت في ولايته ، إذا ما ظهر له منافس أو ثارعليه ثائر أو خرج عليه خارج ، وتعجل عبد الرحمن بن حبيب الأمر فعزل أخاه عن القياد وأزمع المبايعة لابنه حبيب بولاية العهد مما جعل إلياس يحرض أهل إفريقية ويتآمر مع أخيه عبد الوارث لقتله .
وإزاء كل هذه الأخطاء لعبد الرحمن سواء من ناحية الدولة العباسية أو من ناحية إفريقية تحرج مركزه ووقع القتال بينه وبين أخيه إلياس ، وكان معه معظم رؤساء الجند ، فكانت النتيجة أن قتل عبد الرحمن بن حبيب في سنة 137 هـ ، وفر ابنه حبيب إلى تونس(1/4)
وهكذا أسدل الستار على عبد الرحمن بن حبيب الفهري بعد أن قضى في الإمارة عشر سنوات وسبعة أشهر قضاها كلها في حروب مع البربر . ثم استعان ابنه حبيب بجماعات البربر لاستعادة ملك أبيه في إفريقية ، ونجح في قتل عمه إلياس ولكن لم يدم حكمه حتى استولى عمه عبد الوارث على القيروان ، ففر حبيب إلى قبيلة بربرية كبيرة مستعرية تعرف باسم ورفجومة وهي قبيلة طارق بن زياد ، وكان يرأس هذه القبيلة عاصم بن جميل ، وكان من الخوارج الصفرية وهو ابن أخت طارق بن زياد الذي تمكن من القضاء على حكم ونفوذ بني حبيب في إفريقية ، واقتحم مع رجال قبيلته القيروان وأقام فيها حكما خارجيا صفريا واضطهدوا أهل السنة حتى قيل !نهم دخلوا بخيلهم المسجد الجامع بالقيروان ، ولما بلغ ذلك أبا الخطاب عبد الأعلى بن السمح المعافري إمام الخوارج الإباضية في جبل نفوسة غضب لما أصاب المسجد ، فسار بجموعه ودخل القيروان وقتل عاصم بن جميل ، وبذلك انتهى حكم بني عبد الرحمن بن حبيب في إفريقية . كل هذه الحوادث أفزعت أبا جعفر المنصور ، فامر واليه على مصرآنذاك محمد بن الأشعث الخزاعي بالمسير إلى إفريقية وإخراج الإباضية الذين استولوا على إفريقية من الخوارج الصفرية وإعادتها إلى دولة أهل السنة والجماعة ، وكان جيش واليه يضم حوالي 000 ، 40 مقاتل ، وقد استطاع أن يعيد به إفريقية مرة ثانية إلى مذهب السنة مذهب الدولة العباسيه .(1/5)
غير أن محمد بن الأشعث عين نائبا له في إفريقية يسمى أبا الأحوص عمرو بن الأحوص العجلي ولكنه لم يتمكن من التغلب على ما كان يحدث فيها حتى طرده زعيم الخوارج الإباضية أبو الخطاب عبد الأعلى بن السمح بن مالك المعافري ، وزاد خطر الخوارج الإباضية مما جعل المنصور يطلب من واليه بمصر مرة أخرى سرعة التوجه إلى إفريقية ودارت معركة في منطقة تاورغا ( الواقعة الى الشرق من طرابلس ) قتل فيها أبو الخطاب زعيم الإباضية ، فتولى زعامة الإباضية بعده يعقوب بن حاتم المعروف بابي حاتم الملزوي .
وقام محمد بن الأشعث الخزاعي والي القيروان الجديد بعدة أعمال تميل إلى القسوة نذكر منها : أنه أنشا معسكرأ جديدا ، واتبع الشدة مع سكان القيروان حتى أنه أمر بقتل كل رجل يسمى باسماء أموية مثل سفيان ومروان ، ولا نعرف سببا لهذه الظاهرة ، ولعله أراد أن يتخلص من كل شخصية يخشى منها على السلطة العباسية وإ فريقية التي هي مسرح الحوادث ، أمام هذا لابد أن نقف بعض الوقت عند هذه الولاية ، لنرى كيف كانت في ذلك الوقت لمحة سريعة عن إمارة إفريقية :
بعد أن انتصر المسلمون على الروم في موقعة سبيطلة 27 هـ -8 4 6 م بدأت ولاية إفريقه في الظهور عندما أنشا عقبة بن نافع الفهري مدينة القيروان ومسجدها الجامع فيما بين سنتي ( 50هـ - 55هـ / 670 م - 675 م ) . قامت ولاية إفريقية الإسلامية و لاية مستقلة بنفسها ، لها واليها لادارتها المستقلة عن ولاية مصر .
وعندما تولى تلك الولاية حسان بن النعمان الغساني ( 71 هـ - 85 ر 690 م - 704 م ) وضع أساس النظام الإداري لتلك الولاية الجديدة وكانت حدودها الجغرافية والسياسية مطابقة لولاية إفريقية البيزنطية ، فان إفريقية البيزنطية كانت تشمل ولاية طرابلس مضافا إليها إفريقية نفسها ، وتقابل على وجه التقريب جمهورية تونس الحالية ثم جزءا مما عرف فيما بعد باقليم الزاب عند الجغرافيين المسلمين .(1/6)
وكانت إفريقية البيزنطية بهذه الحدود ولاية كبيرة تضم مساحة واسعة من الشمال الإفريقي ،وإذا كنا نستطيع أن نحد حدودها الغربية بشكل دقيق نقول : إنها كانت تشمل إقليم قسطيلية وما يليه شمالا حتى ساحل البحر ، ويمتد غربا فيشمل النصف الشرقي من جبال أوراس وتقف عند حدود ما يعرف اليوم ببلاد القبائل في الجزء الشرقى من جمهورية الجزائر الحالية - فتدخل فيها قلعة لمبيزة أو قلاقل لمبيزة وباغاية وتصل إلى البحر فتشمل ولاية بيجيا الحالية وتصل إلى مجرى نهر شلف ، ونظن أن هذه كانت حدود ولاية إفريقية في التنظيم الذي وضعه حسان بن النعمان
وعندما تولى أمورإفريقية موسى بن نصير اللخمي أكمل هو وأولاده فتح المغرب الأوسط والمغرب الأقصى ، وأنشا موسى ثلاث ولايات جديدة الأولى ولاية المغرب الأقصى وتشمل النصف الشمالي للملكة المغربية الحالية ، والثانية ولاية سلجماسة وكانت تطلق على النصف الجنوبي من المملكة المغربية الحالية ، أما الولاية الثالثة فهي تلك المساحة التي امتدت من الحدود الغربية لولاية إفريقية إلى حدود ولاية المغرب الأقصى وهي تشمل جزءا كبيرا من أراضي جمهورية تونس الحالية(1/7)
وفي أواخر الدولة الأموية ونتيجة لأحداث الفتنة المغربية الكبرى التي بدأت في المغرب من سنة 122 هـ في ولاية عبيدالله بن الحبحاب واستمرت حتى نهاية العصر الأموي . ورغم الجهود الكبيرة التي بذلها هشام بن عبد الملك لإيقاف هذه الفتنة والقضاء على ثورات الجماعات الخارجية ما بين صفرية وإباضية التي كانت قد أخرجت المغربين الأوسط والأقصى عن السلطان الفعلي للخلافة الأموية ، فلم يبق لها سلطان ملموس إلأ على نهر شلف الذي ينبع من جبال أوراس ويتجه إلى الشمال حتى جنوب مدينة الجزائر الحالية ، فيتجه غربا ويقترب من البحرويواصل سيره حتى يصب في البحر المتوسط إلى الشرق من مدينة وهران الحالية . ويفهم من كلام الجغرافي اليعقوبي أن سلطان دولة الخلافة لم يجاوز المجرى الأعلى لهذا النهر وعلى الأخص من العصر العباسي ، وواضح أن العباسيين عندما ورثوا الخلافة من الأمويين وجدوا أن دولتهم تمتد وتغطي مساحة شاسعة جدا لم تستطع قواهم أن تسيطر عليها سيطرة كاملة خاصة وأن انتقال مركز الدولة من دمشق إلى بغداد زاد من مسئوليتها الأسيوية ، وفرض عليها مطالب جديدة لم تكن تشغل بال الأمويين بالصورة التي كانت عليها أيام العباسيين .
ونتيجة لذلك نجد أن العباسيين ركزوا جهدهم كله في المحافظة على ذلك الجزء الذي كان لدولتهم بصورة فعلية من إفريقية . أما ما وقع غربي نهر شلف أي بيد المغربين الأوسط والأقصى فليس لدينا ما يدل على أن العباسيين كان لهم قيد من سلطان أو حتى حاولوا أن يبسطوا عليه سلطانهم ، وهذا هو الذي جعل عبد الرحمن بن رستم بعد هزيمة الخوارج الإباضية ومقتل أبي الخطاب عبد الأعلى بن السمح بن مالك المعافري سنة 144 هـ - يفر إلى غرب نهر شلف ويحاول إنشاء دولة خارجية إباضية في بلاد كانت خارج سلطان العباسيين وبذلك يامن على دولته من جيوشهم .(1/8)
ولم تتمكن الحكومة المركزية العباسية من أن تسيطر على ولاية إفريقية بسبب عدم الاستقرار فيها نتيجة للصراع الداخلي الذي شغل الخلافة العباسية ، ولم يترك لها من الفراغ ما يمكنها من محاولة بسط سلطانها على بقية بلاد المغرب .
ولما عزل محمد بن الأشعث الخزاعي ، أسند أبو جعفر المنصور ولاية إفريقية لزعيم من زعماء العرب وهو الأغلب بن سالم بن عقال التميمي وكان من كبار جند مصر ، فسار الأغلب بن سالم وابنه إبراهيم إلى إفريقية غير أن زعيم الخوارج أبو حاتم تمكن من قتله وفر ابنه إبراهيم إلى منطقة الزاب ، وبدأ يمهد الأمر لنفسه .
وكانت الدولة العباسية تنظر إلى إفريقية على أنها بلد بعيد عن مركز الخلافة يعيش فيها جماعات متعددة متحاربة متعادية بعضهم سنة ، وبعضهم من الخوارج بشتى مذاهبهم ، وبعضهم عرب ، وبعضهم بربر ، فانتهى رأي المنصور إلى تقليد ولاية إفريقية لرجل من ذوي الكفاية وهو من بني المهلب بن أبي صفرة القائد المعروف الذي حقق المنجزات والأنتصارات العسكرية في العصر الأموي ، هذا الوالي هوعمر بن حفص بن قبيسة بن المهلب ويكنى ابا جعفر والمعروف بهزار مرد يعني ألف رجل أي يعادل ألف رجل في ميدان الحرب وهذا مبالغ فيه
ولما كان عمر بن حفص هذا لا يستطيع أن يثق بالقواد الخراسانيين المقيمين في افريقية ، ولا بالقبائل العربية المستوطنة هناك ، فقد جلب معه جيشا جديدا ، وبرغم تغلغل الجيش العباسي ، في افريقية فان الخوارج ظلوا يحتفظون بسمعة طيبة وشعبية كبيرة من العرب والبربر أيضا مما جعل الجيش العباسي يرابط في القلاع والحصون دون الاندماج بسكان إفريقية .(1/9)
وفي عهده انفجرت ثورة الخوارج الإباضية بقيادة أبي حاتم يعقوب بن تميم الكندي وتمكنوا من الاستيلاء على القيروان ، أما في طبنة كما يقول ابن عذارى فقد اتحد الخوارج الصفرية والإباضية على قتال الجيش العباسي تحت لواء أي قرة الصفري المغيلي الذي أعلن نفسه إماما ، وحاصروا القائد العباسي عمر بن حفص الذي استطاع أن يكسر حصارهم ويفر بحياته عائدا الى القيروان ، ثم تفككت وحدة الخوارج الإباضية والصفرية ولم يتمكنوا من الاستيلاء عليها ، واستمرت القيروان للوالي العباسي كتب عمر بن حفص إلى المنصور يطلب منه إرسال النجدات الجديدة ولكنه قتل قبل أن تصله النجدات والتعزيزات سنة 154 هـ / 771 م ، واحتل أبوحاتم الإباضي القيروان سنة155 هـ / 772 م ، وهكذا تمكن الخوارج من السيطرة على إفريقية وأصبح تعداد أنصارهم ما يقرب 00 ، 400 مقاتل .
استخدم المنصور الحماس الديني ضد الخوارج باسم الجهاد ، فاسند ولاية إفريقية ليزيد بن حاتم بن قبيضة المهلبي لما كان للمهالبة من أدوار بارزة في محاربة الخوارج والقضاء عليهم في العصر الأموي .
وكان يزيد بن حاتم كثير الشبه بجده المهلب بن أبي صفرة في حروبه وكرمه ويكنى أبا خالد ، فاشتهر يزيد بن حاتم بالكفاءة والمهارة. السياسية وحسن القيادة ، وكان قد تقلد لأبي جعفر المنصور عدة ولايات منها أرمينية والسند ومصر وأذربيجان(1/10)
وكانت أكبر الولايات التي تولاها يزيد بن حاتم هي مصر التي حكمها من 144 ه إلى 152 هـ ، فاعد المنصور جيشا من 50ألف مقاتل بالإضافة إلى مقاتلين من الشام والجزيرة وأرسلهم إليه ، وأمره بالمسير إلى إفريقية وأنفق المنصور بسخاء على إعداد الجيش حيث بلغ ما أنفقه عليه 63 مليون درهم وللتاكيد على أهمية الحملة رافق المنصور الجيش حتى وصل إلى مدينة القدس في فلسطين ، وبعد عدة معارك طاحنة استطاع الوالي يزيد بن حاتم أن يقضي على معظم ثورات الخوارج بإفريقية وبقتل أبا حاتم الإباضي سنة155 هـ / 772 م بالقرب من مدينة طرابلس على حين فر بقية أصحابه إلى مناطق جبال نفوسة التي كانت تسكنها جماعات من الخوارج .
مكث يزيد بن حاتم واليا على إفريقية حوالي خمسة عشر عاما ، تعد من أحسن فترات عصر الولاة على إفريقية وأ كثرها خيرا سواء في الناحية الاقتصادة أو الاجتماعية أو المعمارية : فاعاد بناء المسجد الأعظم بالقيروان ، وأعطى للفقهاء المالكية مكانة وأهمية كبيرة واعتمد عليهم في محاربة الخوارج ، فكان يستشيرهم وياخذ برأيهم ، مما جعل إفريقية قاعدة للمذهب السني أو قاعدة للسنه على مذهب الإمام مالك بن أنس في بلاد المغرب ، وهذه صبغة ذات مغزى بعيد في تطور تاريخ المغرب الإسلامي وسنتحدث عن ذلك بالتفصيل فيمابعد(1/11)
ولما توفى يزيد بن حاتم تقلد ولاية إفريقية بعده ابنه داود الذي أخذ له يزيد البيعة بولاية العهد في أثناء مرضه ، فاستمرفي الحكم تسعة شهورونصف يحارب أمراء قبائل البربر الخوارج ، فثار عليه زعيم البربر نصير بن صالح الإباضي فبعث داود إليه أخاه المهلب بن يزيد فهزموه وقتلوه هو ومن معه من أصحابه ، فوجه إليهم داود قائده سليمان بن يزيد في جيش يقدر ب 000 ، 10 مقاتل ، فهرب البربر من أمامه ، فتتبعهم وقتل منهم أ كثر من عشرة آلاف قتيل ، وظل داود مقيما في إفريقية حتى قدم عمه روح بن حاتم ليتقلد إمارة إفريقية من قبل هارون الرشيد ، أما داود فاسند أليه هارون ولاية مصر ثم ولاية السند وظل بها حتى مات فيها .
كان روح قد تقلد عدة مناصب إدا رية قبل مجيئه إفريقية منها ولاية البصرة والكوفة وطبرستان وفلسطين والسند ، وكان روح أكبر سنا من أخيه يزيد ، ولكن حكمه لإفريقية لم يدم ، إذ عزله الرشيد وأسند ولايتها لنصر بن حبيب الهلبي . وعلى أي حال فقد كان آخر أمراء المهالبة لإفريقية الفضل بن روح بن حاتم الذي تولى سنة 77 1 هـ / 793 م ولم يمكث في حكمه إلا سنة ونصف تقريبا ، وثار عليه جند إفريقية والمغرب لاستبداده بائسلطة، فقام عبد الله بن عبدويه الجارود قائد جند تونس ، فتمكن من الإستلاء على السلطة وقتله سنة 78 1 ر - 4 79 م ، 1 ) .
وهكذا انتهت رئاسة المهالبة في إفريقية التي استمرت حوالي ربع قرن من الزمان أي من أواخر أيام أيى جعفر المنصور إلى عهد هارون الرشيد ، ذلك لأن تجربة إسناد حكم إفريقية إلى فرد بعينة مع بقائه على التبعية لدولة الخلافة كانت تجربة ناجحة ، فقد أفادت إفريقية فائدة محققة من فترة المهالبة فاستقرت خلالها الأحوال ، وعمرت المدن وبنيت المساجد واطمان الزراع والتجار وزاد الدخل خصوصا في أيام أكبر أولئك المهالبة وهو يزيد بن حاتم الذي حكم خمس عشرة سنة .(1/12)
وبعد نهاية حكم المهالبة عادت إفريقية إلى التبعية المباشرة لدولة الخلافة وتوالى عليها ولاة بغداد ، ولكن الفوضى سادتها إذ اشتد تنافس زعماء العرب في البلاد في الوصول إلى السلطان في القيروان أو الانفراد بالسلطة السياسية في نواحيهم .
ولما كانت الخلافة العباسية شديدة لاهتمام بشؤون ولاية إفريقيةالتى تشمل طرابلس لافريقيه والزاب ، والتي ذكر اليعقولي الذي زار إفريقية في عصر الأغالبة أن منتهى سلطة العباسيين غربا كانت حتى مدينة إربة الواقعة على المجرى الأعلى لنهر شلف ولى هارون الرشيد على إفريقية عاملا عربيا من طراز فريد في معدنه هو هرثمة بن إعين وكان من أكبر رجال الحزب العربي في بلاط الرشيد ، وكان شيخا مجربا في فن الحروب وحكم الولايات حكم هرثمة بن أعين إفريقية قرابة من العامين من ( 180ه 1 8 1 هـ /796 م - 797 م ) وخلال هذه الفترة القيصرة ساد إفريقية واستقرار ، فعمل هرثمة على تجديد ما تخرب من المدن والموانيء والمنشآ ليعيدثقة الناس في الدولة العباسية ، فجدد ميناء تونس ، وأصلح . القيروان ونظم الأسواق فيها ، واهتم ببناء قصور العباد .
وبعد هاتين السنتين - كما يذكر ابن خلدون - رأى هرثمة بن أعين أنه قد قام بمهمته في إفريقية في إرصاء قواعد الأمن والأطمئنان في البلاد ، ولكن الحقيقة أنه تعب وضاقت نفسه وفضل العودة إلى بغداد ، فعاد إليها سنة 181ه - 797 م وأصبح من خواص هارون وأهل ثقته ، فاسند إليه منصب قائد الحرس(1/13)
وفي سنة 181 هـ ولى أمير المؤمنين الرشيد على إفريقية بعد هرثمة محمد بن مقاتل العكي ، وكان رضيع الرشيد ، وكان أبوه من كبار أهل دولته ، ولم يكن محمود السيرة فيما تولى للرشيد من ولايات ، ولذلك فإنه عندما دخل إفريقية لم يسر في حكمها بطريقة تعجب الناس ، فاضطربت الأمور في إفريقية ، وعلى الأخص فيما فعله مع الفقيه البهلول بن راشد بضربه بالسياط حتى مات مما أثار عليه غضب الفقهاء والعلماء وأهل إفريقية لما كان يتمتع به هذا الفقيه من مكانة ومنزلة في نفوس أهلها ، كما اختلف عليه جنده لإنقاص رواتبهم مما جعلهم ينضمون إلى ثورة تزعمها بن تميم التميمي وسادت البلاد الفوضىووقعت الحرب بين زعماء الجند وفي هذه الظروف برز إبراهيم بن الأغلب على مسرح الأحداث السياسية في إفريقية
الحياة الإجتماعية في إفريقية حتى قيام دولة الأغالبة
أما عن الحياة الاجتماعية في إفريقية قبل قيام دولة الأغالبة فيجدر بنا أن نأتي بنبذة عن تاريخ انتشار الإسلام في إفريقية لكي نتبين كيف تم هذا العمل العظيم من أيام المهالبة وحتى قيام العصر الأغلبي فنجد إفريقية بلدا إسلاميا عربيا يعيش فيها العرب والبربر المستعربون كما كان يعيش فيها قلة من الروم .
1 - الروم : وهم البيزنطيون الذين وجدوا في البلاد إذاك وكانوا حكام البلاد ، ومع الفتح العربي اختفى معظمهم ولم يبق منهم إلا جماعات قليلة كانت تقيم على السواحل ومدنها وخاصة قرطاجنة وكذلك في بعض بلاد الجريد ، وأغلبهم اعتنقوا الإسلام وذابوا في سكان البلاد إلا من هاجر منهم إلى صقلية وغيرها من بلاد الجنوب الأوروبي .(1/14)
2 - البربر : وهم سكان البلاد الأصليون وينقسمون إلى طائفتين : طائفة البربر الحضر المعروفين بالبرانس الذين يسكنون النواحي الخصبة والسفوح المزروعة ، وهؤلاء يعملون بالزراعة والصناعة ، نتيجة لاتصالهم بحضارة القرطاجنيين واللاتين البحر المتوسط ، وطائفة البربر البدو المعروفين بالبتر الذين يقيمون في الصحاري والواحات ، وهؤلاء يعيشون على الرعي ويميلون إلى الإغارة على ما يجاورهم من نواحي العمران
3 - الأفارقة أو الأفارق : فهم أخلاط من الناس كانوا يسكنون النواحي الساحلية حيث يعملون بالزراعة والصناعة ، وقد ذكر ابن عبد الحكم في تاريخه عنهم قوله : ( وأقام الأفارق وكانوا خدما للروم على صلح يؤدونه إلى غلب على بلادهم )
أما العنصر العربي فقد دخل مع مطلع الفتوحات الإسلامية لبلاد المغرب ، فالعنصر العربي دخل بلاد المغرب في صورة جيوش فاتحة ،وقد استقر رجال هذه الجيوش في نواحي المغرب كله بعد إتمام الفتح ، ولحقت بهم جماعات أخرى من الجند والمهاجرين العرب مع استمرار حركة الفتح وكانت نتيجة ذلك قيام مجتمعات عربية صغيرة معظمهم في المدن والمعسكرات ، ومن هذه المراكز بدأوا يتشرون في نواحي البلاد ، ولحقت بهم جماعات من المهاجرين غير العسكريين أو غير الرسميين ، وهؤلاء جميعا تكون منهم ما يعرف بالعرب البلديين ، أي عرب إفريقية الذين استقروا فيها واعتبروها وطنا لهم دون أن يتخلوا عن عروبتهم ، فكانوا يتمسكون باصولهم القبلية ويتحدون ضد الجند العربي التي كانت ترسلهم الحكومة المركزية لإقرار الأمن في البلاد ، وقد عرف هؤلاءالجند العربي بالشاميين لا لأنهم جميعأ من أهل الشام ، بل لأنهم كانوا ياتون من الشام وهي قاعدة الحكم في العصر الأموي .(1/15)
ومن الواضح أن الجند العربي كان يتحول الكثير من رجالهم إلى عرب بلديين نتيجة للاستقرار في البلاد ومخالطة أهلها ، وبهذه الطريقة كانت أعداد البلديين تتزايد بصورة مستمرة حتى نهاية العصر الأموي مما جعل غالبية هؤلاء البلديين - مع أنهم العنصر الهام للسلطان - يتحولون بمرور الزمن وتعاقب الأجيال إلى عرب إفريقيين ، ومن بينهم ظهر كبار الفقهاء والعلماء أمثال بهلول بن راشد وعبد الرحمن بن حبيب الفهري وأسد بن الفرات وحبيب بن سعيد وأخيه سحنون وغيرهم ، ومع تخطيط عقبة بن نافع الفهري لمدينة القيروان 50هـ - 55س بدأت في إفريقية حركة العريب بانتشار الإسلام واللغة العربية وعلوم الفقه والحديث ، حيث دخل نفر من البربر الإسلام ، وقد ذكر ابن خلدون أسماء القبائل البربرية التي اشتركت في بناء القيروان واعتنقت الدين الإسلامي وير لواته ونفوسة ونفراوة
وقد دخل في عهد حسان بن النعمان - واضع أسس النظم الإدارية في بلاد المغرب - عدد كبير من البربر في الإسلام على الرغم من أن هذه الفترة كانت فترة حروب الفتح والمعارك الطاحنة بين البربر والعرب الفاتحين ، قتل فيها من القواد عقبة بن نافع وابن أبي المهاجر وزهيربن قيس إلا أن بعض القبائل البربرية دخلت الإسلام مثل قبيلة أوربة .
وبإيعاز من عبد العزيز بن مروان تولى بعد حسان موسى بن نصير وكان يريد فتح المغربين الأوسط والأقصى ، ولكن اتبع في ذلك أساليب عنيفة ، فنفر كثير من البربر ، فقد وجه موسى همه ألى غزو القبائل البربرية والحصول على المغانم وإرسال عدد كيير من السبي إلى دمشق إرضاء للخليفة الأموي ، وكان لذلك أثرسيىء في نفوس البربر .(1/16)
ثم تولى عمر بن عبد العزيز خلاقة الدولة الأموية وكانت سياسته تهدف إلى نشر الإسلام وإدخال الناس فيه من اهل البلاد المفتوحة بالرفق والحسنى والدعوة إلى الإسلام ، فكانت أول خطوة اتخذها نحو ولاية إفريقية أن أسندها !لى إسماعيل بن عبيدالله بن أبي المهاجر بدلا من محمد بن يزيد القرشي الذي تقلدها من قبل سليمان بن عبد الملك ، والمعروف عن محمد بن يزيد أن سيرته لم تكن محمودة تتيجة لما ارتكبه من أخطاء في حق أهل إفريقية أدى إلى ثورة البربر عليه وقتله
اتفقت المصادر والمراجع على أن اسماعيل بن عبيد الله ( " دعا من بقي من البربر إلى دين الإسلام ، وأنه كان خير أمير وخير وال ، وما زال على دعاء البربرإلى الإسلام حتى أسلم منهم عدد عظيم في دولة عمر بن عبد العزيز ، والذي علم أهل أفريقية الحلال والحرام وأنه لم يزل حريصا على دعاء البربر للإسلام حتى تم إسلامهم على يده طلب عمر بن عبد العزيز من واليه الجديد أن يبذل كل جهده في سبيل نشر الإسلام بين البربر ، وقد وصف الدباغ هذا الوالي بانه ( ( كان فقيها صالحا ، فاضلا ، زاهدا " ) وكان عمر بن عبد العزيز قد أرسل إسماعيل بن عبيد الله بن أبي المهاجر ومعه عشرة من التابعين ، وهؤلاء التابعون هم : أبو عبد الرحمن بن يزيد المعافري الإفريقي ، وأبو مسعود سعيد بن مسعود التجيبي وإسماعيل بن عبيد الأنصاري ، وأبو الجهم عبد الرحمن بن رافع التغوخي وأبو سعيد جعثل بن عاعان بن عمير الرعيني ، وأسماعيل بن عبيدالله بن أبي المهاجر المخزومي ، وحيان بن أبي جبلة القرشي وعبد الله بن المغيرة بن أبي بردة الكناني ، وموهب بن حبي المعافري وطلق بن جابان الفارسي(1/17)
بدأ هؤلاء التابعون في تعليم البربر وأولادهم أصول وقواعد وتعاليم الدين الجديد ، ويبدو أن أهل إفريقية أ قبلوا على الإسلام بنفس راضية لما وجدوا فيه من سماحة ومساواة وعدالة ، وتركوا ما يخالف عقيدة الإسلام، وقال ابن عذارى وكانت الخمر بإفريقية حلالا حتى وصل هؤلاء التابعون فبينوا تحريمها رضي الله عنهم " )
ونلاحظ أن معظم هؤلاء التابعين كانوا يقيمون في القيروان ولذلك كثر بناء المساجد التي كانوا يعلمون فيها الناس قواعد الإسلام ، وكان البربر يفدون على هذه المساجد فيستمعون إلى الدروس التي كانت تلقى فيها ، وعلى أيدي هؤلاء التابعين بنيت عدة مساجد نذكر منها مسجد الرباطي الذي بناه أبو عبد الرحمن الحبلي عبدالله بن يزيد المعافرين الإفريقي ، وجامع الزيتونة الذي بناه أسماعيل بن عبيد الله الذي اشتهر بلقب تاجر الله .
وبفضل هؤلاء التابعين وضعت أول بذور العلم والفقه الإسلامي حيث تتلمذ على أيديهم الطبقة الأولى من علماء إفريقية أمثال أبي كريب المعافري وعبد الله بن عبد الحكم البلوي وأبي خالد عبد الرحمن ابن زباد بن أنعم المعافري وأبي محمد خالد بن عمران التجيبي وسعيد بن لبيد المعافري وأبي زكريا يحمص بن سلام وغيرهم .
وكان هؤلاء المتعلمون من أهل إفريقية يقضون بعض الوقت للدراسة في القيروان ثم يعودون إلى قبائلهم ونواحيهم فيتقلدون وظائف القضاء والدين ويعلمون الناس أصول ومباديء الإسلام ، فقد ذكر في سيرة أسد بن الفرات بن سنان أن أباه ( " قدم إفريقية وأمه حامل به ، فولد أسد بتونس سنة145 هـ وقرأ على علي بن زياد(1/18)
والشيء الملفت للنظر في تلك الفترة أن العرب لما نزلوا إفريقية كانوا شديدي الاهتمام والحرص على أن يتخذوا لأبنائهم الكتاتيب الصغيرة الملحقة بالمساجد ليدرسوا فيها القرآن والحديث والدين واللغه العربية ، ويعجبني قول الأستاذ الكبير حسن حسني عبد الوهاب في تعليقه على هذه الظاهرة أنهم عندما أناخوا بمعسكرهم وخطوا قيروانهم ، أنشئوا الدور والمساجد ثم التفتوا إلى تعليم صبيانهم ،فاتخذوا لهم محلا كتابا بسيط البناء يجتمعون فيه لقراءة كتاب الله العزيز
ومع قيام الخلافة العباسية لم يجد العنصر العربي سواء أكانوا قيسية أم يمنية في إفريقية سندا من الدولة العباسية حيث وفدت عناصر جديدة من الخراسانيين في الحملات التي كان يبعثها العباسيون من وقت لأخرلبلاد إفريقية .
صحيح أنه حدثت في بداية الأمر إضطرابات وصدامات مباشرة بين الجند العربي والخراساني مما هدد بقاء السلطة العباسية في إفريقية وكانت السبب في مقتل محمد بن الأشعث الخزاعي ، ولكن بمرور الوقت اندمج العنصر العربي الخراساني باهل البلاد الأصليين ( البربر ) عن طريق المصاهرة، فقد برز من العنصر الخراساني عدد من الفقهاء والعلماء كان لهم دور هام في حدوث نهضة فقهية وعلمية في إفريقية من أمثال محمد بن عبدوس .
ولكن من كان يقلق بال الدولة العباسية في إفريقية هم الخوارج بشتى مذاهبهم ، لأن الخوارج كانوا من العوامل الرئيسية في إسقاط الحكم الأموي مما دعا الخليفة المنصور أن يطلق يد ولاة مصر من أجل القيام بالحملات المتوالية للقضاء على الخوارج في المغرب ، ومثال ذلك حملة محمد بن الأشعث التي تكلفت أموالا باهظة، ونجح هذا الوالي في مقتل زعيم الخوارج الإباضية وهو أبو الخطاب عبد الأعلى بن السمح بن مالك المعافري ولكن سرعان ما استولى أبو حانم الإباضي على القيروان وانتصر على واليها العباسي محمد بن الأشعث وقتله.(1/19)
واستمرت مشكلة الخوارج تثير مخاوف وذعر بني العباس ، فكان المنصور يرسل الحملة وراء الحملة وأخيرا أسند هذه المهمة للمهالبة الذين برعوا منذ العصر الأموي بقدراتهم في التصدي للخوارج وقد أنجز المهالبة هذه المهمة حيث ترك الخوارج منطقة إفريقية واتجهوا إلى مناطق أخرى في بلاد المغرب فاسس بنو مدرار دولتهم في سلجماسة ( وأصلهم من البربر) 140 س - 757 م وبنو رستم الإباضية في المغرب الأوسط ( ويقال إن أصلهم فارسي ) .
ففي فترة المهالبة هذه ظهر تعاطف البربر مع العباسيين في تصديهم للخوارج وهذا يرجع لدور الفقهاء والمعلمين والتابعين الذين يمثلون المذهب السني شعار دولة بني العباس إلى جانب الكتاتيب الصغيرة العلمية والمساجد التي يلقى فيها الدروس عن مساوىء الخوارج ومذاهبهم المدمرة للإسلام أي ما نطلق عليه اليوم بالتوعية الدينية .
وتعتبر فترة المهالبة هذه من فترات الرخاء والإستقراء والهدوء التي عاشتها إفريقية خاصة فترة يزيد بن حاتم المهلبي ، إذ برع يزيد بن حاتم في قيادة ولاية إفريقية قيادة حسنة حيث قام بعدة إنجازات وأعمال شهد له بها المؤرخون والرواة ، من أهمها - كما ذكرنا - قضاؤه على ثورات الخوارج فلم نسمع في عهده عن قيام ثورة أو تمرد خارجي من -جانب الخوارج ، كما اهتم بالبناء والعمارة فبنى المسجد الأعظم بالقيروان ، كما اهتم أيضا بالفقهاء والعلماء والشعراء ، نذكرمنهم على سييل المثال لا الحصر عبد الرحمن بن زباد بن أنعم والبهلول بن راشد وابن فروخ
ا - قيام دولة الأغالبة : ( 184 / هـ - 296 هـ 0 0 8 م -)(1/20)
ووسط كل هذه الظروف التي ذكرناها في الفصل السابق ظهر " إبراهيم بن الأغلب " على مسرح الحياة السياسية في بلاد إفريقية فقد قيل كان ظهوره نتيجة خدمته في جيوش بني المهلب، وقد ذكر ابن الأثير أن إبراهيم بن الأغلب كان بولاية الزاب سنة 180 هـ وأنه لاطف هرثمة بن أعين " وقدم له الهدايا فولاه ناحية الزاب ، وكانت بلاد الزاب منزل الكثير من التميميين قوم ورهط بني للأغلب فكانت سندا قويا لإبراهيم بن الأغلب فيما بعد وعندما خلع الرشيد هرثمة ين أعين من ولاية إفريقية بدأ إبراهيم بن الأغلب يتطلع أليها بشغف ، وهناك ظروف وأسباب مهدت له الطريق للوصول إلى هذه الولاية ، فمنها أن الوالي" محمد بن مقاتل العكي " أساء معاملةجنده وقطع عنهم رواتبهم كما ذكرنا ، فثاروا عليه وناصبوه العداء إلى جانب انقلاب أهل القيروان عليه نتيجة علاقته مع البيزنطيين في صقلية ، فقد قيل إنه لاطفهم عن طريق إرسال النحاس والسلاح والجلود والهدايا الثمينة إليهم وليس لدينا ما يثبت ذلك ولكن على أي حال شاع هذا الأمر بين الناس وقد حذره الفقيه بهلول بن راشد من إرسال هذه المواد التي تعتبر موارد عسمكرية الى أعداء الدين ، وهذا يدل على أن الققهاء لم يقتصرعملهم على الناحية الدينية فحسب بل كانت لهم ماواقفهم القومية
وفوق ذلك كله كانت براعة إبراهيم بن الأغلب في القضاء على ثورة تمام بن تميم الذي بث الذعر والخوف والرعب لأهل إفريقية كلها حيث استعان إبراهيم باهل إفريقية وهذه ميزة من ميزات الأغالبة عن أسرة آل طولون وقد اختلف الرواة والمؤرخون حول الدوافع والأسباب التي جعلت الخليفة هارون الرشيد يوافق على إسناد ولاية إفريقية لإبراهيم بن الأغلب ، فقد ذكر لنا " ابن الأبار ) أن حصول إبراهيم على هذه الولاية نتيجة فيما نجاحه في الكيد للأدارسة(1/21)
بينما ذكر النويري " أن الرشيد قلده إياها نتيجة لما فعله مع محمد بن مقاتل العكي " في مساعدته في القضاء على ثورة تمام التميمي . وهناك رأي آخريقول : إن تنازل إبراهيم بن الأغلب " عن الإعانة السنوية التي تجلب له من مصروتقدر بمائة ألف دينار ، وتعهده بدفع أربعين ألف دينار للخلافة العباسية جعلت هارون يستجيب ويرحب بتقلده ولاية إفريقية وقيل إن صاحب البرد يحي بن زياد له الفضل في تقلد إبراهيم إفريقية حيث كان يطلع الخليفة هارون بأمور وأحوال هذه الولاية وبإخلاص وكفاءة إبراهيما لسياسية والحربية كما يذكر الدكتور حسن مؤنس بان سياسة الرشيد كانت تهدف إلى تامين ولاية إفريقية لأنها كانت كل ما بقي لدولة بني العباس في الجناح الغربي لدولة الإسلام . وقد سبق أن ذكرنا أن حدود دولة بني العباس وقفت عند نهر شلف الفاصل بين ولاية إفريقية والمغرب الأوسط ولهذا فعندما أيد هرثمة بن أعين فكرة تولية إبراهيم بن الأغلب أمور إفريقية ومنحه استقلالا محليا طبقا للشروط السابق ذكرها وافق الرشيد على ذلك ، وأصبحت ولاية إفريقية في بيت إبراهيم بن الأغلب(1/22)
صفوة القول أن كل الأحداث التي مرت بها المغرب جعلت الخلافة العباسية تفكر في إسناد هذه الولاية لرجل يتميز بصفات القدرة علىالحكم والولاء للدولة والإخلاص للبيت العباسي ، والذي شجع العباسيين على إسناد هذه الولاية لإبراهيم بن الأغلب تلك التجربة السابقة مع المهالبة وهم بيت من الحكام طالت ولايتهم واحدا بعد واحد على إفريقية في طاعةالدولةالعباسية ، لأن بني العباس كانوا يرون إفريقية عبئا كبيرا عليهم ، ويريدون أن يطمإن بالهم عن ناحيتها خاصة أنها كانت تكلفهم الكثير من المال فإذا عرض عليهم أحد رجالهم القادرين أن يحمل عنهم عبء إفريقية مع بقائه على طاعتهم وحفظ الأمن في الولاية دون أن يكلفهم مالا . كان من الطبيعي أن يرحبوا بمثل هذا الرض فما بالنا بإبراهيم بن الأغلب الذي عرض في هذه الصفقةأن يتنازل عن مبلغ مائة ألف دينار كانت مصر ترسلها معونة لوالي إفريقية ، وهذا المبلغ سيئول إلى خزانة الدولة العباسعية في هذه الحال ، لكل هذا وافقت الدولة العباسية على جعل ولاية إفريقية في بيت إبراهيم بن الأغلب مع البقاء علىالطاعة والولاء واستطاع إبراهيم بن الأغلب أن يحقق التزاماته نحو الخلافة فكون قوة عسكرية كبيرة من البربر المستعربة الذين عملوا كجند في الجيش الأغلبي كما استكثر إبراهيم بن الأغلب من الصقالبة و هم جند من أصل أوربي كانوا يشترون صغارا من تجار الرقيق الذين يجلبونهم من أوروبا ، كانوا يربون تربية عربية إسلامية ليكونوا بعد ذلك جندا وخدمأ للدولة في القصور والوظائف وكما أضاف إليهم بعد ذلك قوة من السود(1/23)
كذلك كون إبراهيم بن الأغلب قوة بحرية هائلة مكنت الأغالبة بعد ذلك من غزو صقلية ومالطة والسواحل الإيطالية ، ولم يطمئن على حكمه إلا بعد أن تم له إنشاء كل هذه القوات خلال السنوات الأولى من حكمه لإفريقية ، كما أقام إبراهيم الخطبة لبني العباس على المنابر ورفع شعار بني العباس ، ودفع الخراج المقرر عليه وهو أربعون ألف دينار ، ونقش اسم الخليفة على السكة ، وشيد مدينة جديدة أطلق عليها العباسية ( القصر القديم ) تمجيدا لهم وتقع على بعد ثلاثة أميال جني القيروان ، وفي عهد إبراهيم بن الأغلب ثار بتونس رجل من كبار رجالات العرب يسمى حمديس ونزع السواد شعار بني العباس ، فارسل إبراهيم قائد عمران بن مجالد في جيش كبير للقضاء على حركته ، فالتقى عمران معه في معركة قرب تونس انهزم فيها حمديس وأنصاره ، وقتل منهم نحو عشرة آلاف مقاتل ، وتمكن عمران من دخول تونس ، وبرغم أن عهد بن الأغلب لم يخل من الثورات والفتن ولكنها كانت لا تقاس بالثورات التي كانت تضطرم في إفريقية في العهود السابقة ، على أي حال تمكن إبراهيم بن الأغلب بفضل مالديه من كفاءة وشجاعة وذكاء وقوة مؤيديه من الجماعات اليمنية والقيسية من أن يقيم دولة جديدة لمثل الدولة العباسية في بلاد إفريقية(1/24)
وكان لتربية إبراهيم بن الأغلب الدينية أثر كبير في ثقافته الظاهرة ، فقد كان حافظأ للقران الكريم ، فقيها عالما مؤيدا لمذهب أهل السنة ، كثير الزيارات لشيخه الذي تتلمذ على يديه وهو الليث بن سعد الفهمي الذي وهب لإبراهيم جارية تدعى جلاجل وهي أم ولده زيادة الله ، كما كان شاعرا خطيبا ذا رأي وحزم وباس وعلم بالحروب والمكائد وهذا هو ما قرب بينه وبين الفقهاء من أهل الدين وهذا بدوره أكسبه تأييد الناس فاتخذ من الفقهاء مستشارين له كانوا خير عون له في ضبط أمور الدولة ، ود فعها إلى طريق العلم والحضارة والرقي .ووسط هذا الجو الذي كان يحمل الهدوء والاستقرار برز عدد كبير من العلماء والفقهاء الذين لعبوا دورا هاما في النهضة الفقهية للمذهب المالكي السني ، كما تصدوا للخوارج الذين كانوا يشكلون خطرا على كيان أهل السنة وخطرا على السلطان لبني العباس في إفريقية قبل قيام دولة الأغالبة وبعدها
2 - الحضارة والعمران :
ذكرنا - من قبل - أن فترة الأغالبة في إفريقية تعتبر من أمجد فترات تاريخها كما يروي المؤرخون ، فقد دامت هذه الفترة أكثر من قرن من الزمان ساد في أثنائها الاستقرار السياسي النسبي لبلاد إفريقية ، وكان للمذهب السني وشيوخه نصيب كبير في إقامة وتثبيت دعائم هذا الاستقرار ، فقد تمكن الفقهاء بمعا ونة أمراء الأغالبة من إخراج الخوارج من بلاد إفريقية ، فلم يعودوا يعيشون إلا في جبل نفوسة جنوب ولاية طرابلس من أملاك الأغالبة ، أما طرابلس نفسها فقد كانت سنية يسودها الفقه المالكي ، وعندما أقام الخوارج الإباضية دولة لهم أقاموها خارج بلاد الأغالبة في إقليم تاهرت ، وهو الجز الغربي من المغرب الأوسط(1/25)
إن قيام دولة الأغالبة جعل لإفريقية وأهلها شخصية مميزة وفريدة تختلف كل الاختلاف عن بقية بلدان المغرب ، فكانت المدن والقرى الإفريقية محطات ومراكز العلم والشيوخ والتجار ، فنهضت حركة العمران والانشاءإلى جانب الزراعة والرعي ، وكانوا يتنقلون من مكان إلى آخر ، واحتلت تونس بخطواتها السريعة هذه محل مدينة قرطاجنة ، فهي تشتمل على معالم الحياة من مبان وأسواق ودار صناعة للسفن التي أنشاها حسان بن النعمان ومن جاء بعده من الولاة والحكام الأغالبة ، مما جعل العرب من سكان إفريقية يصابون بالغرور والكبرياء والتمرد على الحكام في القيروان
وإذا كان من المعروف عن فترة المهالبة أنهم قد أعطوا إهتماما كبيرا إفريقية لإقامة الأبنية والمنشات التي تميزت بها وخاصة في فترة يزيد بن حاتم الذي كان له دور كبير في توسيع جامع القيروان وإنشاء العديد من الأسواق في مدينتي تونس والقيروان وغيرهما ، كما أنشا هرثمة ابن أعين القصور للمرابطين والزهاد والمحاربين على الساحل ، فإن الأغالبة قد جلبوا المدينة والحضارة في إفريقية والمغرب الأوسط .
فمن أعظم إنجازات الأغالبة المعمارية تجديد مسجدي القيروان وتونس وهما المعروفان بمسجد عقبة بن نافع ومسجد الزيتونة - فمسجد القيروان قد تعرض لعدة تجديدات منذ أن أسسه عقبة ابن نافع الفهري إلى نهاية عصر الأغالبة ، وذلك فى عهود : حسان بن النعمان وحنظلة بن صفوان وزيادة الله بن الأغلب الذي أدخل عليه التجديدات الحاسمة ورفع قبابته ومئذنته وإعطائه صورته الحالية ، ويذكر ابن عذاري أن زياالله أنفق أموالا كثيرة في هذا العمل ، وكان يفتخر بهذا العمل فيقول ( " ما أبالي ما قدمت عليه يوم القيامه وفي صحيفتي أربع حسنات : . بنياني المسجد الجامع بالقيروان ، وبنياني قنطرة أم الربيع ، وبنياني حصن مدينة سوسة ، وتوليتي أحمد بن أبي محرز قضاء افريقية(1/26)
وقال الأستاذ أحمد فكري عن جامع القيروان في كتابه " آثار تونس الإسلامية ومصادر الفن الإسلامي : ( " ولا يقتصر فضل القيروان على التخطيط ، فإن هذا المسجد العظيم يحوي عناصرمعمارية ظهرت فيه لأول مرة في تاريخ العمارة أو على الأقل يبقى فيها أقدم الأمثلة التي لاقت من بعده انتشارأ كبيرا في بلاد الشرق والغرب ، وأصبحت من العناصر المميزة للعمارة الإسلامية ، وأذكر من هذه العناصر اقواس مسجد القيروان
وكذلك قام زيادة الله بتجديد وتوسيع جامع تونس ولكن المنية أدركته قبل أن يكملها ، فتولى بعده إبراهيم بن أحمد سادس أمراء الأغالبة فهو الذي أمر ببناء قبابه المضلعة ، ووضع فيه أعمدة الرخام وزينه بالزخارف والنقوش والكتابات الكوفية الجميلة ، وكذلك أمر إبراهيم بن أحمد ببناء القبة الكبيرة الموجودة الأن في جامع القيروان وهي من أجمل القباب في تاريخ المساجد الإسلامية. وحول القباب في مسجد القيروان يقول الدكتور أحمد فكري ( " ولا شك أن أول مثل إسلامي للنظام المبتكر للقباب المرتكزة على اقواس يظهر أيضا في مسجد القيروان ، وسواء أكان الفضل في وضع هذا النظام الجديد يعود إلى الفرس أو إلى الرومان ، وسواء أكان الأصل في اشتقاق هذه القباب يرجع إلى مصر القبطية أم إلى إفريقية البيزنطية ، وأيا كان الأصل في هذه القباب فإنه لا يضعف شأن بنيان القيروان
ثم قام أبو العباس محمد بن الأغلب خامس أمراء الأغالبة ببناء جامع سوسة الذي يعتبر من أجمل الأثار المعمارية الإسلامية في إفريقية ومن منشآته أيضا رباط سوسة المعروف بقصر الرباط(1/27)
و إذا كان بنو الأغلب قد اعتنوا بالمنشآت الدينية فإن عنايتهم بالمنشآت العسكرية والمدنية لا تقل أهمية ، ضد أنشاء الأغالبة الكثير من الأسوار والابراج للمدن وخاصة التي تقع على الساحل، ولا ننسى دارتونس لبناء السفن ودار سوسة لصناعة الأسلحة واللتان كانت لهما أمجاد في تاريخ البحرية الإسلا مية وخاصة في حوض البحر المتوسط وخيرمثال على ذلك فتح جزيرة صقلية
ومن أشهر المنشآت العسكرية في عصر الأغالبة الرباطات وهي قريبة الشبه بالقصور السابق ذكرها ولكنها كانت تخصص للمجاهدين والمرابطين بين حاميات رسمية وأفراد من المتطوعين ولكن من المعروف أن الرباط كان للأفراد ، أما الجند الرسمي فكانت تبنى لهم معسكرات ، وقد وصف لنا الأستاذ الدكتور حسين مؤنس الرباطات فقال ( " يحيط بالرباط عادة سور مرتفع ، تقوم على أركانه وعلى مسافات منه أبراج يقف فيها الحراس ، وتوقد فيها النيران وقت الخطر ، وقد بقي لنا من رباطات عصر الأغالبة رباط سوسة وهو من بناء زيادة الله بن الأغلب أسسه في سنة 206 ه ، وتاريخ الإنشاء مسجل على لوحة من الرخام باعلى مدخل المنار ، تقرأ عليها النص التالي مما أمر به الأمير زيادة الله بن إبراهيم أطال الله بقاءه على يد سرور الخادم مولاه في سنة ست ومائتين ، اللهم أنزلنا منزلا مبارك وأنت خير المنزلين " ) ويقع رباط سوسة على خليج قابس ، وهو داخل سور المدينة من ناحية البحر وطول ضلع سوره أربعون مترا تقريبا ، ويداخل السور ثلاث قاعات واسعة تسمى الأسطوانات مرفوعة على عمد وفوقها سقف يتكون من ثلاث قباب ، وهذه القاعات والأسطوانات يؤدي بعضها الى بعض وهي تستعمل للنوم والأكل ، ويليها صحن الرباط وهو مساحة واسعة مسورة تدورحولها البوائك ، وهذه البوائك طابقين وهي تفتح أو تطل على صحن الرباط ، وفي ركن من الصحن يقوم مسجد الرباط(1/28)
وحول الرباط وقصره قال الأستاذ حسن حسني عبد الوهاب ( " في فجر المائة الثالثة للهجرة وجه الأمير زيادة الله عناية كاملة لإعادة الحصن الذي أقامه أبو إبراهيم الأكبر في مكان الرباط الخالي ، فيامر أحد فتيانه بتوسيع نطاق الحصن الأول ويجعله على طابقين أسفل وأعلى ويقيم فيه ثلاثين غرفة لسكنى المرابطين علاوة على الحمام والمرحاضات ، وينصب في الطابق العلوي مسجدا جامعا للصلاة والخطبة ، ويبني المسجد على أقواس متماسكة العقود . وهو أول مسجد يبنى أي قبل إنشاء فنائه وقبل الجامع الكبير الاتي ذكرهما ، فمن يقطن سوسة وقتئذ كان يقصد الرباط لأداء الجمعة والأعياد
وكان رباط سوسة قريب الشبه برباط المنستير وهوأقدم وأجمل منه من الناحية الهندسية ، وقد اتسع هذا الرباط حتى أصبح على شكل حصن كثير المساكن ، والرباط عبارة عن طابقين يخص الأول منهما للمسجد وقاعات الدرس والإجتماع والطعام الذي كان المرابطون وأهل الرباط يتناولونه أحيانا ، ويخصص الثاني للحراسة والعبادة والخلوة ، وفي العادة يتولى الرباط شيخ من أهل التقوى والورع والصلاح هو الذي يتولى تنظيم وتسيير العبادة أو الحراسة فيه
أما المنشات المدنية وخاصة مدينة القصر القديم التي بناها إبراهيم بن الأغلب وتبعد ثلاثة كيلومترات جنوبي مدينة القيروان لتكون معسكرا لجنده ومقاما له ومعقلا لأسرته كانت تتكون من قصور وحدائق ومعسكرات وأماكن للعبادة ، ولم يبق من آثار هذه المدينة (الأن ) شيء ، كما كانت تسمى العباسية ثم سميت بالقصر القديم تميزأ لها عن مدينة القصر الجديد (رقادة) التي بناها إبراهيم بن أحمد سنة264 هـ /78 م(1/29)
واعتنى الأغالبة كذلك ببناء صهاريج المياه وجبابها ، والصهريج عبارة عن خزان ماء فوق الأرض ، أما الجب فلا يكون إلا في باطن الأرض ،والجب مخزن واسع يتكون من حجرة واسعة قد يصل قطرها إلى أربعين مترا، وعمقها نحو عشرين مترا ثم يبنون عند الماء حجرة أو قبوا واسعا بالحجر أوالطوب الأحمر أو الطوب المغطى بالبلاط الذي لا تؤثر فيه المياه
كذلك أكثر الأغالبة من بناء المواحل ، والماحل عبارة عن أحواض ماء واسعة وعميقة تشبه الفسقيات يتجمع فيها ماء المطر وهي دائما مكشوفة ، وقد يقام في وسط الماحل جوسق يجلس فيه الأمير للراحة ، ومواحل القيروان وسوسة وتونس تعتبر من الأثار الجميلة التي تستحق المشاهلة وقد أنشا زيادة الله الثالث آخر أمراء الأغالبة في عهده بركة أو ماجلا طوله خمسمائة ذراع وعرضه أربعمائة ذراع وأجرى إليه الماء بالسواقي وسمي هذا الماجل الفسيح بالبحر ، وأقام على إحدى ضفتيه قصرا من أربعة طوابق سماه العروس ، وأنفق على إنشائه فيما يقال 000 ، 232 دينار. غير أن الفاطميين في عهده كانوا قد أوغلوا في بلاد إفريقية وكثر جندهم ، واقتربوا من القيروان وهنا جمع زيادة الله ألفا من أهل ييته وهرب بهم إلى مصر تاركا بلاد إفريقية مقر ملكه للفاطميين(1/30)
ومما لا شك فيه ان الحياة الاقتصادية قد ازدهرت في إفريقية بقيام الأغالبة ، فاستفادوا من وضع البلاد الجغرافي فجمعوا الثروات الطائلة وبفضل المواني المنتشرة على شاطىء البحر المتوسطوهي موان يسوسة وتونس وبجاية أمكن للأمراء الأغالبة أن يقيموا الأساطيل ويحرزوا الانتصارات وقد انعكس أثر هذا على سكان إفريقية فانتعشوا إقتصاديا ونتيجة إحكام الأغالبة على زمام البحرية دون منازع ، احتكروا دور الوساطة التجارية بالنسبة للتجاره العالمية بين الشرق والغرب وجنوا من وراء ذلك أطيب الثمار ، كما اهتموا بالتجارة مع الجنوب فمهدوا طرق القوافل لتسهيل التجارة مع أهل اللثام وبلاد الجريد ، كما راجت دور الصناعة مثل دور تونس وسوسة وغيرها مستفيدة من الاستقرار النسبي للبلاد ، وأصبحت القيروان من أكبر المراكز التجارية في غرب البحر المتوسط ، وأيضا سوسة والأربس وقفصة وغيرهم .
كذلك اشتهرت رقادة بالأسواق والفنادق والقصور وكذلك العباسية - وإذا كانت بغداد ودمشق والإسكندرية قد عرفت نظام الأسواق المتخصصة - فإن القيروان أيضا قد شهدت مثل هذه الأسواق منذ أيام حاتم بن يزيد المهلبي ، وعلا طريقها الرئيسي بالمتاجر ودور الصناعة ، ويحدثنا المالكي عن حوانيت الرفائين والكفايين وتجمعها في مكان واحد حيث عرفت بالحوانيت ا لجدد
وكانت إفريقية الأغلبية تصدر القمح والشعير إلى الإسكندرية والرقيق السوداني إلى بلاد الشام كما كانوا يصدرون أيصا النسيج والأبسطة والأقمشة الفاخرة إلى بغداد ولم يكتف الأغالبة بما تجود به أرضهم من بعض أنواع الزراعة بل استوردوا بعض المحاصيل الزراعية من المشرق مثل القطن وقصب السكر ، وما جناه الأغالبة من ثروات طانلة ظهرت أثارها فيما أقاموه من منشآت وعمائر بإفريقية(1/31)
وتعتبر فترة إبراهيم ين الأغلب وإبنه زيادة الله الأول من أزهى فترات دولة الأغالبة حيث ساد الرخاء الإقتصادي في عهدهما فضربت الدنانير والدراهم على نمط الطراز العباسي ، كما دونت الدواوين مثل ديوان الخراج وكان من يسند إليه يعتبر من الشخصيات المرموقة وصاحب ثقة في البلاط الأغلبي ، وديوان الخاتم وكان إبراهيم بن الأغلب قد أسنده لابنه عبد الله ، وكذلك دار الطراز التي كانت تنتج مايرسله الأمير من الكساوي والإنعامات إلى مشاهير وكبار رجال الدولة في المناسبات ، كما عرف الأغالبة الحسبة والعس وكان بلاط الأغالبة صورة مصغرة للبلاط العباسي
وصاحب هذا العمل هو ابن وردان أو ابن أبي وردان وهو مجهول الشخصية ويحتمل أن يكون من أعيان القرن التاسع أو العاشر الهجري ، فاسلوبه ضعيف ومعظم العبارات منقولة أو بمعنى آخر ملخص من عدة مصادر نذكر منها وفيات الأعيان لابن خلكان ، والخلاصة النقية في أمراء إفريقية للباجي المسعودي ، وكتاب تاريخ إفريقية والمغرب للرقيق القيرواني ، ونهاية الأدب للنويري ، والولادة والقضاة للكندي وأعمال الأعلام لابن الخطيب ، وكتاب المؤنس في أخبار إفريقيا وتونس لابن أبي دينار ، إلى صاحب كتاب الكامل في التاربخ لابن الأثير وعدة مصادرأخرى . وقد رجعت لهذه المصادر والأصول وضبطت كل ما يتعلق بهذا النص مع وضع تراجم لعدد من الشخصيات التي تمس فترت الأغالبة وما لهم من دور يذكر في تاريخ إفريقية بصفة خاصة والمغرب الإسلامي بصفة عامة
وتقع المخطوطه في 37 ورقة وتد عثرت عليها في دار الكتب المصرية تحت رقم وهي واضحة الخط وسهلة القراءة وهي بخط ألاسي أومغريي جميل الشكل .
وأسال الله المغفرة والعون والحمدلله رب العالمين والله ولي التوفيق .
ولاية العباس الأشعت بن عقبة الخزاعي
أول من دخل إفريقية من عمال بني العباس الأشعت بن عقبة الخزاعي أرسله أبوجعفر المنصور سنة أربع وأربعين ومائة(1/32)
وقال ابن نباتة هومن عمال السفاح ، أرسله سنة ثلاث وثلاثين ومائة ، وقال أنه لما تشتت جميع بني أمية ، واستقام الأمر لبني العباس ، واستغلوا البلاد (قه 2،بالمشرق ، فوقع بهم إهمال بافريقية فاشتعلت بها نار الفتن وهاجت الخوارج بإفريقية، وقام أيو الخطاب رأس الخوارج ، فبلغ بنو العباس ذلك فارسل لهم أبوجعفرالمنصور الأشعت بن عقبة الخزاعي ، فقاتل الخوارج وهزمهم وقتل أبا الخطاب، وشرد الصفرية وبدد شملهم ، واستقام الأمر ، فبنى سور القيروان من الطوب سبعة عشر ذراعا في ربيع الأول من السنة المذكورة ، وكمل في رجب الفرد سنة 146 ، وهو أول قائد أهل السودة بإفريقية . والسودة كانت لبني العباس لأنهم جعلوا شعراهم والسواد كناية عن طلب الثار لأنهم خرجوا طالبين دم الحسين وزيد وإ براهيم الإمام رضي الله عنهم ، فكان لباسهم السواد وكانت أعلامهم سود وخلعهم سود ، وبثوا ذلك في كل البلاد إلى أن بلغت شعارهم إفريقية ، وكان أول قائد لهم ( محمد بن الأشعت المذكور .
ولاية عمر بن حفص بن قبيصة
ثم أولى المنصور على إفريقية عمر بن حفص فكان ثاني عامل لبني العباس بإفريقية أخو المهلب بن أبي صفرة ، وعمر المذكور كان يلقب هزار مرد معناه ألف رجل لقبه الفرس بذلك لأنه كان يقوم مقام ألف فارس في الحرب ، وكان بطلا شجاعا ، مهابا ، مقدما عند. المنصور ، ولاه السند وهمذان وفارس ثم عزله عن ذلك لهشام بن عمر الثعلبي وسيره إلى إفريقية سنةنة 151 ه ، فقدمها ومعه خمسمائة فارس ، فاجتمع إليه وجوه القيروان بواطهم ، وأقام الأمور المستقيمة ثلاث سنين ثم سار إلى الزاب ، وبنى مدينة طبنة وذلك بعد أن ورد عليه كتاب الخليفة المنصور يؤكد عليه بقتل الخوارج الذين بافريقية ، فقتل منهم خلقا كثيرا ثم اشتد عليه الأمر في الخوارج فلجا إلى جبل أوراس فقتله بعضهم وهو نائم ، فمات قتيلا رحمة الله عليه
ولاية الأميريزيد بن حاتم(1/33)
وجهه المنصورإلى إفريقية سنة خمسة وخمسين ومائة بعد قتل عمر بن حفص المذكور ، فدخلها ومعه خمسون ألفا من العسكر فقتلوا الخوارج الذين قتلوا عمر بن حفص ، ومهد البلاد ودانت له العصاة والعباد ثم دخل القيروان لعشر بقيت من جمادي الأخرة من السنة المذكورة ، ورتب أمر القيروان ، وجعل كل صناعة في مكانها ، وكان جوادا مشكورا . وحكى عنه سحنون أنه كان يقول ( " والله الذي لا إله إلا هو ما وهبت شيئا قط هيبتي رجلا واحدا يزعم أني ظلمته ، وأنا أعلم أن لا ناصر إلا الله) ويقول بيني وبينكم الله، وهدم جامع القيروان ما عدا المحراب وبناه ، واشترى العمود الأخضر بمال جزيل ، وكان ذا حزم يباشر الأمور بنفسه مع ما فيه من الجود والكرم والعقل .
ولما رجع من العراق وكان في صحبته يزيد السلمي عامل مصر فكان يزيد بن حاتم ينفق على الجيشين من عنده وهذا غاية الكرم والجود ، وقصده جماعة من الشعراء ، فأحسن إليهم وكان قصده مروان بن أبي حفصة وأنشده ، فأمر له بخمسين ألف درهم ونادى في الجند من أجينى وأمينى وأسيني بهذا الشاعر ، فحضر له الجند خمسون ألفا أيضا فرجع من عنده بمائة ألف درهم في بيتين وكانت ولايته خمسة عشر عاما ، ومات بالقيروان سنة سبعين و وخلف ولده من بعده وبايعوه أهل القيروان .
وكانت هذه السنة التي مات فيها الهادي ، واستخلف مكانه الرشيد ولما أن استقر له الأمر ، وجه إلى إفريقية روح بن حاتم .
ولاية روح بن حاتم بن قبيصة الأزدي
وهو أخو يزيد المذكوروجهه الرشيد إلى إفريقية سنة إحدى وستين ومائة ، وعزل ولد أخيه عن إفريقية ولاه الموصل ووجه روح عمه المذكور إلى إفريقية. وكان روح من الأمراءالكبار وولي الولايات الضحمة وخدم من الخلفاء السفاح والمنصور والمهدي والهادي والرشيد وكانت له همة وفصاحة وبلاغة وكرم وشجاعه.(1/34)
قال ابن رشيق القيرواني : كان روح بن حاتم جالس يوما في بعض منزهاته إلى جانبه حظيه من حظاياه ، وكان في وسط النهار إذا فجا ء عليه رجل ومعه وعاء يسمى قادوس مليان بالورد الأبيض والأحمر في غير أوان الورد ، وأمر أن يملاله ذلك القادوس دراهم . فقالت الحظية : ما أنصفته أيها الأمير . قال لها : وبم قالت : لأنه أتاك به وهو من لونين فينبغي أن تلون له كما أتي به ، فضحك وأمر أن يكون نصفه دراهم ونصفه دنانير ، إنتهى . وكان مقامه بإفريقية أربع سنين ومات بالقيروان في شهر رمضان ، ومن غريب الاتفاق أنه لما مات أخوه بإفريقية وكان هو على السند في شدة ما بينهما بعد المسافة حيث كان أحدهما بالسند والاخر بإفريقية عزله الرشيد عن السند ، وولاه مكان أخيه في ذلك اليوم ومات بها ودفن في القبر الذي دفن فيه أخوه وضمهما تراب واحد ولله عاقبة كل أمر . وكان على عهد روح المذكور الأدارسة بالمغرب سنة 172 هـ ، ولما مات روح وجه الرشيد إلى إفريقية هرثمة بن أعين.
ولاية هرثمة بن أعين الهاشمي
ولاه أمير المؤمنين الرشيد لإفريقية سنة 179 هـ فقدمها لثلاث خلون ربيع الأخر من تلك السنة قال ابن خلكان وبنى بلد المنستيرسنة 180 هـ ، وقال إن الشباط أنه بنى القصر الكبيرسنة 180 هـ على يد زكريا بن قادم ، وبنى مدينة طرابلس وأمن التاس في أيامه وفعل إلى المشرق في رمضان سنة 181 هـ بعد ما كتب إلى الرشيد يستعفيه عن الولاية لما رلآه من الخلاف ، فأعفاه الرشيد وكاتب إليه بالقدم إلى المشرق وعاش إلى أيام المإمون وكان يعتمد عليه في الأمور العظام إلى أن حقد عليه وحبسه في سنة 182 ه ثم أرسل إليه من قتله وقيل قتله الفضل بن سهل (2) بغيرعلم المأمون ، وكان من الأمراء الكبار من موالي بني العباس ، ولما رجع إلى المشرق تولى بعده إبراهيم بن الأغلب من قبل الرشيد ، وهو أول الأغالبة بالقيروان .
ولاية إبراهيم بن الأغلب(1/35)
ولاه الرشيد على إفريية أميرا سنة 184 ه وذلك أنه في تلك السنة ، ولى حماد البربري في اليمن ومكة ، وولى دواد بن مرشد بن حاتم المهلبي السند ، وولى يحمى الحرشي الجبل ، وولى مهروية الرازي طبرستان ، وولى إفريقية إبراهيم بن الأغلب وكان على الموصل عاملها فعزله ، وولى يزيد بن مرشد بن زائدةالشيباني مكانه .
وقدم إبراهيم إلى إفريقية من ستته وبنى مدينة القصر على ثلاثة أميال من القيروان ، وهدم دار الإمارة التي كانت بالقيروان قبل الجامع الأعظم ، وانتقل إلى القصر وجعله دار الإمارة ، وعمرت بازايه مدينة ، وصار بها أسواق وحمامات وفنادق وجامع وذلك سنة185 ه ، إلا أنه لم تطل أيامه بعده لأنه أنفاه على عمله لما استخلف وخدمها معا إلى أن مات وخلفه ولده العباس .
ولاية أبي العباس عبدالله بن إبراهيم بن الأغلب
كانت ولايته من قبل المامون في سنة مات فيها والده إبراهيم المذكور وذلك أنه لما مات إبراهيم بن الأغلب كان الأمين محصورا ببغداد في آخر آيامه ، وظهرت أيام شيامالخلافة على المامون ، وخلع الناس طاعة الأمين وجاءت كتبهم إلى المامون بالطاعة والبيعة ، فكتب لهم بالولايات . أعمالهم وجا من جهلة ذلك كتاب إفريقية بموت إبراهيم بن الأغلب فكتب إلى ولده أبي العباس عبد الله بن إبراهيم بالولاية مكان أبيه إبراهيم الأمر ، لعبد الثه المذكور من قبل المامون فمكث سنتين ثم قام عليه منصور الطنبدي كان من قواد الجند وفيه ميل لمحمد الأمين فاخذ معه من الجند واستجمع الجموع ونسب أهل الجور ، وحصار أبا العباس ، المذكور واستولى على إفريقية وبرقة والمغرب ، كله ، ودام أمره نحو أثني عشر سنة ، وآخر الأمر انتصر أبو العباس عبد الله على الطنبدي وهزمه ، وملك القيروان لافريقية بعد حروب يشيب لها الرضيع وفتح الله تعالى ، واستقام له الأمرإلى أن مات في خلافة المامون سنة 201 هـ ، فولى بعده زيادة الله.
ولاية زيادة الله بن إبراهيم بن الأغلب(1/36)
كانت ولايته من قبل المامون سنة 201 هـ فطالت أيامه واستقام الأمر وبنى جامع سور القيروان ودار سوسة وبنى جامع القيروان بعد هدمه ما عدا محرابه ، وأنفق عليه ستة وثمانين ألف دينار ، وبنى قنطرة باب الربيع ، وحصن الرباط بسوسة وفتح فى أيامه جزيرة صقلية على يد قاضيه أسد بن الفرات وكان قاضى القيروان قال ابن رشيق : سيرة في نحو من عشرين ألفا من الجيش واركبه من سوسة ، وسار إلى صقلية والتقى بجانبها ، يقال : أنه كان مائة ألف وخمسين ألف مقاتل فهزمه أسد بن الفرات ، وخذل الله الكافرين وغنم المسلمون أموالهم وبددوا شملهم واستفتحو من صقالية مواضع كثيرة ، ومات أسد بن الفرات محاصرا لسرقوسة في رييع الأخر سنة 213 هـ ، واستولى المسلمون على الجزيرة واستوطنوها، ودفن أسد المذكور هناك ، وسارت الجزيرة بايدي المسلمين يتداول عليها الولاية من قبل القرويين ولاة بني العباس ومن بعدهم وهي بأيدي المسلمين إلى ما بعد الأربعين وخمسمائه ثم افتكها العدو ورجعت إلى الكفار . وكان فتحها أيام زيادة الله على عهد الخليفة المامون وأقام زيادة الله على أعماله إلى أن مات سنة 223ه في خلافة المعتصم . وكان زيادة الله يقول : ما أبالي إن شاء الله تعالى باهوال يوم القيامة وقد قدمت أربعة أشياء : بناء الجامع القيروان ، وقد أنفقت عليه ثمانين ألف دينار، وبناء القنطرة بباب الربيع ، وبناء حصن الرابط بسوسة، وتولية أحمد بن محرز القضاء وكان من العلماء العالمين الزاهدين ، وتوفي في سنة 221 هـ قبل زيادة الله المذكور ، ولما مات زيادة الله ولي بعده أخو أبى عقال .
ولاية أبي عقال الأغلب إبراهيم بن الأغلب(1/37)
وهو أخو زيادة الله ، كانت ولايته من قبل المعتصم بالله وكان الأمير على صقلية محمد بن عبد الله بن الأغلب ، فمكث أبي عقال المذكور مدة ولم تطول أيامه ودركه جماعة ومات سنة 226 هـ في خلافة المعتصم وقبل وفاته بسنة ، وكانت مدة ولاية الأغلب سنتين وتسعة أشهر، وتولى بعده أخو العباس .
ولاية أبي العباس عبد الله بن إبرهيم بن الأغلب
كانت ولايته قبل المعتصم في الستة خمسة وأمنت السبل في أيامه ، وكان على عهد الإمام سحنون بن سعيد . ومنع الإمام سحنون في زمانه أهل الأهواء من مسجد الجامع ،ا وكان قبل ذلك يجتمعون فيه ويتناظرون في مذاهبهم الفاسدة مثل الإباضية ولأصفرية والزنادقة والمعتزلة فمنعهم سحنون من الإجتماع لذلك في المسجد ، وكان على عهده أميرا على صقيلية العباس بن الفضل بن يعقوب بن فزارة تولاها سنة 237 هـ ففتح فيها الفتوحا ت الجليلة وفتح قصريانه يوم الخميس منتصف شوال من السنة المذكورة،أعمن سنة 237ه وهي المدينة التي بها دارالملك بصقلية فكان الملك قبل ذلك يسكن سرقوسة فلما أخذ المسلمون بعض الجزيرة انتقل الملك إلى قصريانه المذكور لحصانتها ، ففتحها العباس المذكور كما قلنا وبنى فيها المسجد في الحال ونصب فيه منبرا وخطب عليه وصلى فيه الجمعة وذلك على عهد أبي العباس بن فزارة المذكور وذلك في خلافة المتوكل ومات أبو العباس بن الأغلب سنة 242 ه وتولى بعده ولده إيراهيم .
ولاية أبي إبراهيم أحمد بن محمد المذكور(1/38)
كانت ولايته بعد أبيه من قبل الخليفة المتوكل على الله ، استولى على إفريقية بالقيروان ، وعصى عليه أهل تونس سنة 240 ه، فغزاهم وسبا منهم خلقا كثيرا ، وللإمام سحنون معه واقعة مشهورة في السبيات التونسيات من داره ، ومنع من التصرف فيهن ، فبعث الأمير أبو إبراهيم في ردهن فاقسم سحنون لا يردهن ما دام قاضيا إلا أن ترفع يده عن القضاء فكف عنه الأميرأبو إبراهيم بن الأغلب وعلى عهده توفي العباس بن الفضل الفزارة صاحب صقلية سنة 247 ه ، فولى الناس عليهم ابنه عبد الله بن العباس ، ثم ورد عليهم من إفريقية من قبل أبي إبراهيم الأغلبي المذكور خفاجه بن سليمان أميرا على صقلية فغزا وفتح فيها ثم اغتاله رجل من عسكره ، فقتله وهرب إلى المشركين فاولى الناس بعد قتله أبنه محمد بن خفاجه وأمره ابن إبراهيم على ولايته ، وبقي محمد بن خفاجه على إفريقية إلى سنة 257 هـ فقغله خدمة الخصياز وبقي أبو إبراهيم الأغلعب على إفريقية إلى خلافة المنتصر بن المتوكل بن المعتصم ، ومات في خلافة المستعين سنة 244 ه وتولى موضعه أخوه أبي محمد زيادة الله بن محمد .
ولاية أبي محمد زيادة الله بن محمد بن إبراهيم بن الأغلب
كانت ولايته بعد أخيه من قبل الخليفة أحمد المستعين بالله ولم تطل أيامه ومات بعد ثمانية عشر من ولايته ، فكانت مدة ولايته ومات سنة 250ه في خلافة المستعين وتولى بعده ابن أخيه أبو عبد اللة محمد بن أحمد.
ولاية أبي عبدالله محمد بن أحمد بن محمد بن إبراهيم بن ا لأغلب(1/39)
كانت ولايته بعد موت عمه من قبل المستعين بالله ، وعلى عهده ظهرت السمانية وتولى نصر ابن أحمد السماني فيما وراء النهر وذلك سنة 261 ه ، وفيها عصى أهل برقة على أحمد بن طولون فجهزإليهم جيشا من مصر ففتحها وقبض على رؤسا ئهم وكانت برقة خرجت على إفريقية وصارت مصرية وتوفي أبو عبد الله المذكور سنة 261 هـ في جمادي الأول منها في خلافة المعتمد على الله وخطب أ ربعة من الخلفاء : المستعين والمعتز والمهتدي والمعتمد المذكور ، ودنت ولايته على إفريقية عشر سنين وخمسة أشهر وتولى بعده أخوإبراهيم بن أحمد .
ولاية إبراهيم بن أحمد
كانت ولايته من قبل المعتمد على الله ، وكان ذا فطنة عظيمة ومعروف جزيل وحسنات وكان يكثر الإقامة بتونس ، فبنى بها الجامع وبنى أيضا ماجل القيروان ، وأسس مدينة رقادة سنة 263 ه ، وتمها سنة 4 6 2 هـ فكان عملها في سنة واحدة ، وبنى بها الجامع وانتقل بالملك إليها وسكنها وجعلها دار ملكه ، وكان يصدق بجميع مال الولاية ، وبعث إلى صقلية الحسن بن المياس عاملا، فبعث الحسن سراياه فيها وفتح بها عدة حصون وأماكن ، ودانت له البلاد وصلح حالها في أيامه ثم أنتقل إلى صقالية بنفسه ، فسار إليها وخلف على إفريقية و لده أبا العباس أحمد وفتح فيها بنفسه الفتوحات وجاهد في الله حق جهاده وبقي و لده أبو العباس أحمد بإفريقية ينوب أباه إبراهيم إلى أن مات سنة 288 ه، ومات إبراهيم المذكور ليلة السبت لأحد عشرة ليلة بقيت من ذى القعلة سنة 289 هـ بصقلية في تابوت وحمل إلى إفريقية ودفن بالقيروان ، فكانت ولايته خمس وعشرين سنة وتولى بعده ولد عبد الله
ولاية عبد الله بن إبراهيم بن الأغلب
كانت ولايته من قبل المكتفي بالله وأنه تولى بعده نحوستة أشهر من خلافته ومات أخوه في خلافته أيضا لأنه خدم ثلاث من الخلفاء وخطب لهم وهم المعتمد والمعتضد والمكتفي هذا .(1/40)
وكان عبد الله المذكور حسن السيرة ، كثير العدل صاحب معروف و إحسان ، صار إليه الأمر بعد أبيه فانتقل إلى مدينة تونس وجعل مقامه بها وسكنها ، وكان قد حبس ولده زيادة الله على شرب الخمر ، فكره زيادة الله ذلك واتفق مع ثلاثة من موالي أبيه الصتالبة على قتل أبيه فاجابوه إلى ذلك وقتلوا عبدالله بن الأغلب بالاتقاق مع ولده زيادة الله وأحضر له رأس أبيه وهو في السجن ، فاخرج من سجنه قدم للبيعة وولى بعد أبيه ، وكان مقتل أبيه سنة295 هـ ، وقال المؤيد سنة 296 هـ .
ولاية أمي ضر زيادة الله بن عبد اف الأغلب(1/41)
كانت ولايته في خلافة المقتدر بالله، استهل بالأمر بعد قتل أبيه ودفنه بمدينة تونس ، وكان زيادة الله المذكورسيىء السيرة هل الملك وأحوال الرعية وتغافل عن مصالح البلاد وانعكف عن اللذات ، وانهمك في الشرب واللهو ، وجالس المغنيين وأهل اللهو والمضحكين فكانوا لا يفارقوه ليلا ونهارا وقتل قتلة أييه مع أنهم فعلوا ذلك باتفاق معهم ، وقتل من الأغالبة كلما قدر عليه من عماله وأخوته وأهل بيته على غير جرم صدر منهم . وفي أيامه قوي أمر أبي عبدالله الشيعي القائم بدعوة الدولة العلوية الفاطمية بالمغرب ، وكان أول ظهوره بارض كتامة يدعو الى الرضى من آل محمد في أيام جده إبراهيم بن الأغلب المقدم الذكر، واستفحل أمره في أيام زيالة الله ، فارسل زيادة الله جميع عسكره من تونس إلى سبتة وكانوا أربعين ألفا ، وقد أمر عليهم إبراهيم بن الأغلب وهو من بني عم زيادة الله المذكور ، فتوجه إبراهيم الأغلبي إلى أبي عبد الله الشيعي بسبتة ، فانهزم إبراهيم بن الأغلبي بعسكره ، واستفحل أبوعبدالله الشيعي وقوي أمره وعلم زيادة الله أن لا مقاومه له لما رأى من هزيمه عسكره وضعف أمره ، فجمع ما قدر عليه من أمواله وأخذ عياله وأقاربه وأهل بيته وخرج فارا عن ملكه إلى المشرق وذلك في أول خلافة المقتدر، وسار زيادة الله إلى أن بلغ الرقة، فوافاه كتاب الخليفة المقتدر يامره بالعود إلى بلاده لقتل الشيعي ، ويامر النوشري عامل مصر أن يعد زيادة الله بما يحتاجه من المال والرجال ، فامره النوشري بالذهاب إلى الحمامات ليخرج اليه ما يحتاجه من الرجال والأموال ، فخرج زبادة الله وما طلبه من النوشري ، وأطال مقام زبادة الله ينظر ما يمده النوشري ، فتفرق عنه أصحابه وتتابعت به الأمراض وسقط شعر لحيته ومع ذلك لا يفارق الهوى وملازمة الشمرب واسماع الملاهي الى أن أيست منه أصحابه فتفرقوا عنه وأيس هو من النوشري ، فسار إلى القدس يريد المقام بها فمات بالرملة ودفن بها ، ولم(1/42)
يبق بالمغرب من بني الأغلب أحد ، فكان زيادة الله المذكور أخرهم ، وبه انقرضت أيامهم فكانت مدة ملكهم سنين 112 بالتقريب لأن جدهم إبراهيم بن الأغلب كان ولاه الرشيد على إفريقية سنة 84 هـ ودامت أيامهم إلى أن قرضت في خلافة المقتدر باللهس سنة 296 ه وكان المقتدر بالله هوآخر الخلفاء من بني العباس الذين استولوا على إفريقية ، وخطب لهم بها قبل بني عبيد الفواطم لأن بني عبيد الشيعي كان ابتدأ دولتهم بافريقية سنة 296 هـ ، حين انقرض فيها بنو الأغلب وتمحضت لبني العبيد الشيعي وخطب لهم بها وانقطع ذكربني العباس منها وكان المقتدر بالله هو الثامن عشر من بني العباس رحمهم الله ، انتهى .(1/43)