مرويات غزوة الحديبية
((جمعٌ وتخريجٌ ودراسة))
تأليف
الدكتور حافظ بن محمد بن عبد الله الحكمي
بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وصحبه أجمعين والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين...
أما بعد: فإن الله قد ختم الرسالات برسالة محمد صلى الله عليه وسلم وجعل دينه ناسخاً للأديان لا يقبل الله من أحد غيره قال تعالى: {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ}(1).
وقد بعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم مبلغاً ومبيناً لهذا الدين قال تعالى: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ}(2).
فقام صلوات الله وسلامه عليه بتلك المهمة خير قيام، حيث أوضح كل صغيرة وكبيرة في هذا الدين بقوله وفعله وتقريره - على مرأى من الناس ومسمع - ابتداء من طور السرية بمكة إلى قيام دولة الإسلام بالمدينة، وكان يسير أثناء ذلك في كل خطوة يخطوها على المستوى البشري، فقد اتخذ كافة الأسباب والوسائل التي هي من مقتضيات الطريق وما ذلك إلا ليتسنى لأمته التأسي به، وترسم خطاه لأنها قد كلفت بمهمته من بعده لا خيار لها، قال تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللّهِ وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ}(3).
__________
(1) سورة آل عمران آية: 85.
(2) سورة النحل آية: 44.
(3) سورة يوسف آية: 108.(1/1)
وكما أنه لا خيار لأتباع محمد صلى الله عليه وسلم في القيام بهمته من الدعوة إلى هذا الدين وحراسته، فإنه لا ضمان لنجاحهم في تلك المهمة إلا بسلوك الطريق الذي سلكه صلى الله عليه وسلم، والدليل لطريقه صلى الله عليه وسلم هو سيرته فلا بد من الوقوف عليها وترسم خطاه فيها.
وأهم جوانب سيرته صلى الله عليه وسلم هي مغازيه؛ لأنها استغرقت قسطاً كبيراً من حياته في مجال الدعوة وهي التطبيق العملي لأحكام الجهاد - الذي يشكل السياج المنيع لحماية هذا الدين كما أنه من أهم وسائل الدعوة إليه، ولذلك أخبر صلى الله عليه وسلم أنه ذروة سنام الإسلام - (1) كما حفلت المغازي بكثير من أساليب الدعوة والأحكام.
وقد أدرك السلف رضوان الله عليهم أهمية مغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم فأولوها جانباً عظيماً من عنايتهم، يدل لذلك ما روى الخطيب عن محمد بن عبد الله قال: سمعت عمي الزهري يقول: في علم المغازي علم الآخرة والدنيا(2).
وما روي عن إسماعيل بن محمد بن سعد (بن أبي وقاص) أنه قال: "كان أبي يعلمنا مغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم وسراياه ويعدها علينا ويقول: هذه مآثر آبائكم فلا تضيعوا ذكرها"(3).
وما روي عن علي بن الحسين أنه كان يقول: "كنا نعلَّم مغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم كما نعلم السورة من القرآن"(4).
وتتمثل عنايتهم بها أيضاً في تدوينهم لها في زمن مبكر، فقد قام بذلك جماعة من التابعين، منهم عروة بن الزبير المتوفى سنة (94هـ)، وأبان بن عثمان بن عفان المتوفى ما بين (101 - 105هـ)، ومحمد بن مسلم بن شهاب الزهري المتوفى (124هـ)، وشرحبيل بن سعد المتوفى (124هـ)، وعبد الله بن أبي بكر بن حزم (135هـ)، وموسى بن عقبة (141هـ)، وغيرهم إلا أن كتب هؤلاء في حكم المفقود اليوم سوى نقولات عنها.
__________
(1) سنن الترمذي، كتاب الإيمان، حديث رقم (2616).
(2) الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع 2/252.
(3) م. السابق.
(4) م. السابق.(1/2)
ثم تلت هؤلاء طبقة أخرى دونت المغازي بنطاق أوسع أمثال: محمد بن إسحاق (151هـ)، ومحمد بن عمر الواقدي (207هـ)، ومحمد بن سعد (230هـ)، وابن جرير الطبري (310هـ)، وغيرهم(1).
ثم تتابع التأليف في ذلك إلا أن المتأخرين درجوا على الاختصار بحذف الأسانيد.
وبما أن سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم ومغازيه على وجه الخصوص بتلك المثابة من الأهمية - بحيث لا تستقيم متابعته في طريق الدعوة إلا من خلالها - فلا بد من معرفتها، وترسم خطاها فيها لكن هناك خطوة أولى لا يأمن العثار إلا بسلوكها، وهي تمييز ما صح من سيرته صلى الله عليه وسلم عن غيره، لأن كتب المغازي المتداولة بأيدينا لم يلتزم أصحابها الصحة فيها، بل يوردون المقبول وغيره، وعذر المتقدمين أنهم يكتفون بذكر السند، إلا أنهم لا يفعلون ذلك دائماً، أما المتأخرون فإنهم لا يذكرون سنداً للروايات فضلاً عن تمييز صحيحها من غيره.
نعم قام بعض المحدثين أخيراً بتخريج المرويات في بعض كتب السيرة، وبيان درجتها إلا أن تلك الكتب لم تستوعب مرويات المغازي.
وكذلك وردت كثير من مرويات المغازي في بطون كتب السنة، وقد تفردت ببعضها عن كتب المغازي، لكن أغلبها لم يشترط أصحابها الاقتصار فيها على الصحيح، وما اشترط فيه ذلك لم يرد فيه إلا القليل من مرويات المغازي بالنسبة لما فاته، إلا أن كتب السنة تمتاز بالتزام السند.
__________
(1) انظر: د. فاروق حمادة مصادر السيرة النبوية وتقويمها: 46، د. أكرم العمري نظرة في مصادر ودراسة السيرة النبوية: 4.(1/3)
وهذا كله يحتم العمل على جمع مرويات المغازي من كتب السنة بالدرجة الأولى، لأنها المصدر الثاني من مصادر السيرة النبوية(1) بعد القرآن الكريم، ثم من كتب المغازي وغيرها من مصادر السيرة(2)، ثم القياد بعد ذلك بدراسة أسانيدها دراسة فاحصة لبيان ما يصح العمل به من غيره لتبرز سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك صافية نقية لمرتاديها.
وهذا ما حملني على اختيار مرويات غزوة الحديبية موضوعاً لبحثي في مرحلة الماجستير.
وقد يسبق هذا السبب في اختياري للموضوع سبب آخر وهو شدة ولوعي بسيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم لما تفردت به من صفات عظيمة كالواقعية، والجدية، والوضوح، فهي بعيدة كل البعد عن الخيالات، والهزل، والغموض والطلاسم.
وقد سبقني في هذا المضمار بعض زملائي في قسم الدراسات العليا بالجامعة الإسلامية، فلهم فضل السبق، وقد أفدت كثيراً من تجاربهم، وما قمنا به من جهد متواضع في هذا المجال أحسب أنه سيسد ثغرة لا بأس بها إن شاء الله، وإن كان ينقصه شيء من الاستيعاب لمضيق الوقت من جهة، ولاشتراط البعض كتباً محدودة من جهة أخرى، علماً بأني قد جانبت هذا الشرط، وبذلت قصارى جهدي لاستيعاب مرويات الغزوة، ولا أدعي حصول ذلك، لكن أسأل الله أن يجعل هذا العمل خالصاً لوجهه، وأن يمد الجميع بالعون لاستكماله حتى تبرز مغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم نقية من كل شائبة، وما بذل من جهد في هذا الصدد إنما هو من ثمرات جهود الجامعة الإسلامية التي بذلتها وتبذلها دائماً - في خدمة الإسلام والسنة على وجه الخصوص.
ولا يفوتني أن أنوه بفضل الدكتور أكرم العمري لأن له اليد الطولى في سبب اختياري لهذا الموضوع، فجزاه الله خيراً...
منهجي في البحث
__________
(1) د. فاروق حمادة مصادر السيرة النبوية وتقويمها: 36، د. أكرم العمري نظرة في مصادر ودراسة السيرة النبوية: 3.
(2) انظر لبيان ذلك المصدرين السابقين.(1/4)
(1) قمت بجمع المرويات من مختلف مصادر السيرة لم أتقيد في ذلك بكتب معينة، فقد رجعت لكثير من كتب السنة من مجاميع ومسانيد وغيرها، كما رجعت لكثير من كتب المغازي والتاريخ والشمائل والدلائل، وكتب معرفة الصحابة ما بين مخطوط ومطبوع محاولاً بذلك استيعاب مرويات الغزوة.
(2) بعد أن جمعت المرويات قسمت البحث إلى أربعة أبواب، ثم حصرت المرويات في الثلاثة الأبواب الأولى، وجعلت الباب الأخير لفقه أهم جوانب المرويات.
والقصد من ذلك هو الحفاظ على تسلسل أحداث الغزوة وترابطها، وتندرج تحت تلك الأبواب فصول ومباحث، وهي مفصلة في صلب الرسالة، وقد سردتها في فهرس الموضوعات.
(3) أورد تحت المبحث الروايات المتعلقة به، وأجعل لكل رواية رقماً ثم أقوم بتخريجها، وإذا ورد الحديث بأكثر من طريق أخرج كل طريق على حدة، محاولاً بذلك استيعاب جميع طرق الحديث وألفاظه دون تكرار.
(4) إذا أعدت الحديث في مبحث آخر لحاجة لا أضع له رقماً آخر، بل أشير إلى الرقم الذي تقدم به، وكذلك لا أعيد تخريجه إلا إذا اقتضت الحاجة ذكر شيء منه.
(5) أعرف برجال السند إذا لم يكن الحديث في الصحيحين أو في أحدهما، وأقتصر في التعريف بهم على التقريب إن كانوا من رجاله، لكن أصرح بسنة وفاة الشخص، ولا أذكر الطبقة التي وضعها ابن حجر، إلا عند تعذر معرفة سنة الوفاة، وإذا أضفت شيئاً كسنة وفاة أو نحوها أشير إلى المصدر.
(6) إذا كان الرواي من رجال التقريب، لكنه متكلم فيه، ويتوقف الحكم على السند على معرفة حاله، فإني أذكر أقوال العلماء فيه عند الكلام على درجة الحديث، وأبين ما ترجح لي فيه، إلا إذا كان في السند أكثر من اثنين بهذه الصفة فأنقل كلام العلماء فيهم عند التعريف بهم خشية الإطالة.
(7) إذا لم يكن الراوي من رجال التقريب أعرف به من كتب الرجال الأخرى باختصار.(1/5)
(8) إذا لم يكن الحديث في الصحيحين أو أحدهما أقوم بدراسة سنده وفق القواعد التي رسمها المحدثون، ثم أذكر ما ترجح في بيان درجته، صحة أو غيرها، وإن وجدت في ذلك كلاماً لأحد نقلته، فإن وافق ما توصلت إليه فبها، وإلا بينت وجه مخالفتي له.
(9) إذا اقتضت الحاجة إيراد حديث من غير مرويات الغزوة، فلا أضع له رقماً، ولا أخرجه، ولا أعرف برجاله، بل أكتفي بنقل أقوال العلماء في بيان درجته، إلا إذا تعذر ذلك فأقوم بدراسة سنده وأبين ما ظهر لي فيه.
(10) إذا وقع خلاف في شيء من الأحداث الواردة في الغزوة، فإني أنقل أقوال العلماء في ذلك وأناقشها ثم أرجح ما يقتضيه الدليل.
(11) ذكرت في الباب الرابع بعض الأحكام والدروس والعبر دون توسع، وقد أغفلت ذكر كثير من الأحكام الواردة في المرويات لضيق الوقت، ولأنها مبسوطة في مظانها من كتب الفقه، وأما ما ذكرته منها فقد جعلت توطئة للباب بينت فيها وجه أهميته.
رموز رجال السند المترجم لهم من التقريب
وضع ابن حجر لرجال التقريب رموزاً تشير إلى من روى عنهم من أصحاب الكتب الستة وإلى الكتاب الذي روى لهم فيه.
وقد استعملت تلك الرموز ونصها من التقريب.
خ: للبخاري في صحيحه.
خت: للبخاري إن كان حديثه عنه معلقاً.
بخ: للبخاري في الأدب المفرد.
عخ: للبخاري في خلق أفعال العباد.
ز: للبخاري في جزء القراء.
ى: للبخاري في رفع اليدين.
م: لمسلم.
مق: في مقدمة صحيحة.
د: لأبي داود.
مد: لأبي داود في المراسيل.
صد: لأبي داود في فضائل الأنصار.
خد: لأبي داود في الناسخ والمنسوخ.
قد: لأبي داود في القدر.
ف: لأبي داود في التفرد.
ل: لأبي داود في المسائل.
كد: لأبي داود في مسند مالك.
ت: للترمذي.
تم: للترمذي في الشمائل.
س: للنسائي.
عس: للنسائي في مسند علي.
كن: للنسائي في مسند مالك.
ق: لابن ماجه.
فق: لابن ماجه في التفسير.
ع: للجماعة.
تمييز: من ليست له رواية عند أحد من أصحاب الكتب الستة.(1/6)
الإحالات للكتب التي رجعت إليها من المطبوع
بالنسبة لصحيح البخاري، ومسلم، وسنن أبي داود، والترمذي وابن ماجه، والموطأ: أحيل إلى اسم الكتاب ورقم الحديث.
والإحالة إلى كتاب الجرح والتعديل، وتهذيب الأسماء واللغات إلى الجزء، ثم القسم، ثم الصفحة.
والإحالة إلى التاريخ الكبير للبخاري إلى القسم، ثم الجزء، ثم الصفحة.
والإحالة إلى سائر الكتب غير هذه: إلى الجزء، والصفحة، أو إلى الصفحة.الباب الأوّل
يَشمَلُ مُقَدِّمَاتِ الغزوةِ
وخُرُوج المسلمينَ لها وما واجههُم أثناءَ سيرهِم
ويضمُّ سبعةَ فصولٍ:
الفصل الأول:تحقيق لاسم الغزوة وموقعها.
الفصل الثاني:سبب الغزوة وتاريخها.
الفصل الثالث:إعداد النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه للخروج إلى الحديبية.
الفصل الرابع:نزول المسلمين بذي الحليفة وما عملوه بها.
الفصل الخامس:إرسال النبي صلى الله عليه وسلم لبعض أصحابه إلى غيقة، وقصة أبي قتادة رضي الله عنه.
الفصل السادس:ما حدث للمسلمين بعسفان.
الفصل السابع:عدول المسلمين إلى الحديبية.
الفصل الأول تحقيقٌ لاسمِ الغزوةِ وموقعهَا
وتحتَه مبحثانِ:
المبحث الأول: المرجحات لتسمية هذه الحادثة بغزوة الحديبية.
المبحث الثاني: تحقيق اسم الحديبية وموقعها.
المبحث الأول: المرجحات لتسمية هذه الحادثة بغزوة الحديبية:
بعد أن تم اختياري ((لمرويات غزوة الحديبية)) موضوعاً لبحثي كانت أول قضية استوقفتني هي: اختلاف الذين كتبوا عن مغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم ((في عنوان هذه الحادثة)).(1/7)
فنرى بعضهم عنون لها بـ ((أمر الحديبية))(1) وبعضهم بـ ((قصة الحديبية))(2)، ومنهم من سماها ببعض القضايا التي وقعت فيها مثل: ((عمرة الحديبية))(3)، أو ((صلح الحديبية))(4)، وفريق آخر سماها بـ ((غزوة الحديبية))(5).
وكان لزاماً علي أن أختار لها عنوان مناسباً من تلك العناوين المطروحة لكن وجدت أمامي سؤالاً يطرح نفسه، وهو: لماذا اخترت هذا العنوان دون غيره؟
وللجواب على هذا السؤال وأمثاله قررت أن يكون اختياري للعنوان ناتجاً عن دراسة وتحليل لتلك العناوين المطروحة لأنه لم يوضع واحد منها إلا باعتبار ما.
فأقول وبالله التوفيق:
بعد دراسة وتأمل لتلك العناوين رأيت أن العنوان المناسب لهذه الحادثة هو: ((غزوة الحديبية)) وذلك للأمور التالية:
أولاً: أنه موافق لاصطلاح أهل السير والمحدثين.
قال الزرقاني: "وقد جرت عادة المحدثين وأهل السير واصطلاحهم غالباً أن يسموا كل عسكر حضره النبي صلى الله عليه وسلم بنفسه الكريمة (غزوة) وما لم يحضره بل أرسل بعضاً من أصحابه إلى العدو (سرية) أو (بعثاً)"(6).
__________
(1) انظر: سيرة ابن هشام 3/308، والمواهب اللدنية 2/179 مع شرح الزرقاني.
(2) انظر: تاريخ الطبري 2/71، وزاد المعاد 3/286.
(3) انظر: الدرر لابن عبد البر ص 204، وفقه السيرة لمحمد الغزالي ص 348.
(4) انظر: تاريخ خليفة ابن خياط ص 81، وكتاب صلح الحديبية لمحمد باشميل.
(5) انظر: صحيح البخاري مع الفتح 7/439، ومغازي الواقدي 2/571، والطبقات الكبرى لابن سعد 2/95، وتاريخ اليعقوبي 2/54، وعيون الأثر 2/113، وجوامع السيرة ص207 وغيرها.
(6) شرح الزرقاني على المواهب اللدنية 1/387.(1/8)
ثانياً: ما يحمله لفظ (غزوة) من إيحاءات عميقة تعطى الحادثة اعتباراً خاصاً في شعور المسلم ولا توجد في مثل لفظ (قصة) و (أمر) ذلك لأن لفظ (غزوة) أصبح ملازماً لشخص رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا تكاد ترى أو تسمع هذه اللفظة حتى يسرح بك الخيال من وراء تلك الأجيال المتعاقبة لترى تحركات رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه الأبرار يزلزلون الطغاة وأتباعهم.
ثالثاً: شمول هذا العنوان لجميع تحركات الرسول صلى الله عليه وسلم في هذه الحادثة ابتداء من إحرامه بالعمرة ومروراً بالبيعة والصلح إلى رجوعه للمدينة.
رابعاً: ورود عدة أحاديث تصرح بأن الصحابة رضوان الله عليهم كانوا يسمونها (غزوة) ومن تلك الأحاديث ما يلي:
حديث سلمة بن الأكوع رضي الله عنه:
(1) قال البخاري: حدثنا محمد بن عبد الله حدثنا حماد بن مسعده عن يزيد بن أبي عبيد عن سلمة بن الأكوع قال: "غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سبع غزوات فذكر خيبر(1)، والحديبية، ويوم حنين(2)
__________
(1) لفظ خيبر: بلسان اليهود الحصن، وصار يطلق هذا الاسم على الولاية، وتشتمل على سبعة حصون ومزارع ونخيل كثيرة، فتحها النبي صلى الله عليه وسلم سنة سبع من الهجرة، وتقع شمال المدينة بحوالي (164) كيلاً.
انظر: معجم البلدان 2/409، ونسب حرب: 356، ومرويات غزوة خيبر لعوض الشهري: 8.
(2) حنين: قال ياقوت: "يجوز أن يكون تصغير الحنان وهو الرحمة تصغير ترخيم، ويجوز أن يكون تصغير الحن، وهو حي من الجن، قال السهيلي: سمي بحنين بن قانيه بن مهائيل، قال: وأظنه من العماليق، حكاه عن أبي عبيد البكري، وهو اليوم الذي ذكره الله عز وجل في كتابه الكريم، وهو قريب من مكة، وقيل: واد قبل الطائف، وقيل: واد بجنب ذي المجاز، وقال الواقدي: بينه وبين مكة بضعة عشر ميلاً".
انظر: معجم البلدان 2/313.(1/9)
، ويوم القرد(1)، قال يزيد: ونسيت بقيتهم"(2).
وأخرجه أحمد(3) عن حماد بن مسعدة.
حديث أبي قتادة رضي الله عنه:
(2) قال مسلم(4): حدثنا عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي أخبرنا يحيى بن حسان حدثنا معاوية هو ابن سلام أخبرني يحيى، أخبرني عبد الله بن أبي قتادة أن أباه أخبره أنه غزا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم غزوة الحديبية، قال: فأهلوا بعمرة غيري... (الحديث).
حديث أنس بن مالك عند ابن جرير:
__________
(1) يعني غزوة ذي قرد: وهو ماء على ليلتين من المدينة، بينها وبين خيبر، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم انتهى إليه لما خرج في طلب عيينة بن حصن حين أغار على لقاحه.
معجم البلدان 4/321.
(2) صحيح البخاري مع الفتح، كتاب المغازي: 4273.
(3) مسند أحمد 4/54.
(4) صحيح مسلم، كتاب الحج: 62، وسيأتي تخريجه برقم (38).(1/10)
(3) قال: حدثنا أحمد بن المقدام(1)، قال: ثنا المعتمر(2) قال: سمعت أبي(3) يحدث عن قتادة(4) عن أنس(5) بن مالك قال: "لما رجعنا من غزوة الحديبية وقد حيل بيننا وبين نسكنا قال: فنحن بين الحزن والكآبة، قال: فأنزل الله عز وجل: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا}(6) أو كما شاء الله فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لقد أنزلت علي آية أحب إلي من الدنيا جميعاً"(7).
هذا حديث صحيح فرجاله رجال الصحيح وأحمد بن المقدام طعن فيه أبو داود بسبب مزاح كان فيه، وقد تعقبه ابن عدي(8) بأنه لا يؤثر فيه، وبين ابن حجر(9) أيضاً وجه عدم تأثير طعن أبي داود فيه.
وقال عنه الذهبي(10): "أحد الأثبات المسندين، واحتج به البخاري وغيره"(11).
__________
(1) أحمد بن المقدام أبو الأشعت العجلي، البصري، صدوق صالح الحديث، طعن أبو داود في مروءته، مات سنة ثلاث وخمسين ومائتين، وله بضع وتسعون سنة: خ، ت، س، ق. تقريب: 16.
(2) معتمر بن سليمان التيمي أبو المعتمر البصري يلقب بالطفيل، ثقة، مات سنة سبع وثمانين ومائة، وقد جاوز الثمانين: ع. تقريب: 342.
(3) سليمان بن طرخان التيمي أبو المعتمر البصري، نزل في التيم فنسب إليهم، ثقة عابد، مات سنة ثلاث وأربعين ومائة، وهو ابن سبع وتسعين: ع. تقريب: 134.
(4) قتادة بن دعامة بن قتادة السدوسي أبو الخطاب البصري، ثقة ثبت، يقال ولد أكمه، مات سنة بضع عشرة ومائة: ع. تقريب: 281.
(5) أنس بن مالك بن النضر الأنصار الخزرجي، خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم، خدمه عشر سنين، صحابي مشهور، مات سنة اثنتين وقيل ثلاث وتسعين، وقد جاوز المائة: ع. تقريب: 39.
(6) سورة الفتح آية: 1.
(7) تفسير ابن جرير 26/69.
(8) تهذيب التهذيب 1/82.
(9) هدي الساري: 387.
(10) هدي الساري: 387.
(11) ميزان الاعتدال 1/158.(1/11)
وفي السند عنعنة قتادة وهو مشهور بالتدليس(1)، لكنها غير مؤثرة على صحة الحديث، لأن أصله في صحيح مسلم(2)، سوى ما في أوله، ويشهد له الحديثان السابقان.
المبحث الثاني: تحقيق لاسم الحديبية وموقعها، وفي مطلبان:
المطلب الأول: التحقيق في اسمها من حيث ضبطه وسبب إطلاقه عليها:
(أ) ضبط لفظ الحديبية:
الحديبية: بالتصغير - هي بضم الحاء وفتح الدال وياء ساكنة وباء موحدة مكسورة وياء مخففة أو مشددة على خلاف:
فأهل العراق على تخفيفها، ونقله النووي عن الشافعي وأهل اللغة، وبعض أهل الحديث"(3).
وقال السهلي: "التخفيف هو الأعرف عند أهل العربية، ونقله البكري عن الأصمعي"(4).
وقال أبو جعفر النحاس: "سألت كل من لقيت ممن وثقت بعمله من أهل العربية عن الحديبية فلم يختلفوا على أنها مخففة"(5).
وقال أحمد بن يحيى: "لا يجوز غير التخفيف"(6).
وأهل المدينة يثقلونها، وكذلك أكثر الفقهاء والمحدثين(7).
وحكى ياقوت عن الشافعي رضي الله عنه أنه قال: الصواب: "تشديد الحديبية، وتخفيف الجعرانة، وأخطأ من نص على تخفيفها، وقيل كل صواب"(8).
قلت: الظاهر أن الكل صواب، فقد قال النووي: "وهما وجهان مشهوران" ا.هـ(9)
وقال ابن حجر: "والحديبية بالتخفيف والتثقيل لغتان ا.هـ(10)
(ب) سبب تسمية ذلك الموضع بالحديبية:
قال ياقوت: "هي قرية متوسطة ليست بالكبيرة، سميت ببئر هناك عند مسجد الشجرة التي بايع تحتها" ا.هـ(11)
وكذلك قال ابن حجر: هي بئر سمي بها المكان ا.هـ(12)
__________
(1) هدي الساري: 387.
(2) جامع التحصيل في أحكام المراسيل: 124.
(3) انظر: ص 253.
(4) انظر: معجمك البلدان 2/229، تهذيب الأسماء واللغات 1/2: 81.
(5) تاج العروس 1/204 - 205، الروض الأنف 6/475.
(6) المصباح المنير 1/170.
(7) تهذيب الأسماء واللغات 1/2: 81، تاج العروس 1/204 - 205.
(8) انظر: معجم البلدان 2/229.
(9) تهذيب الأسماء واللغات 1/2: 81.
(10) فتح الباري 7/439.
(11) معجم البلدان 2/229.
(12) فتح الباري 5/334.(1/12)
وقال الخطابي: "إن الحديبية اسم لشجرة حدباء في ذلك الموضع وصُغِّرت وسُمِّي بها المكان، نقله عنه ياقوت"(1).
وحكاه ابن حجر(2) بصيغة التمريض.
وقال الزبيدي: "جزم المتأخرون أنها قريبة من قهوة الشميسى، ثم أطلق على الموضع"ا.هـ(3)
قلت: القول الأول: يشهد له ما في حديث البراء: "كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم أربع عشرة مائة، والحديبية بئر فنزحناها فلم نترك فيها قطرة..."(4).
ولا يبعد أن تكون البئر سميت بالشجرة، والله أعلم.
المطلب الثاني: موقع الحديبية، وهل هي من الحل أو من الحرم؟
(أ) موقعها:
قال ياقوت: "بين الحديبية ومكة مرحلة وبينها وبين المدينة تسع مراحل".اهـ(5) وقال النووي: "إنها على نحو مرحلة من مكة"(6).
وقال في المصباح: "تقع على طريق جدة دون مرحلة"(7).
وقال صاحب صحيح الأخبار: "فإن جزت وادي فاطمة أتيت الموضع الذي يقال له اليوم الشميسي، وكان يقال له في الزمن القديم: الحديبية."اهـ(8)
وقال صاحب نسب حرب: "تقع غرب مكة على بعد (22كيلاً) على الطريق إلى جدة، وقد تغير اسمها إلى الشميسي لأنه يقال: إن رجلاً يدعى الشميسي حفر بئراً هناك فغلب اسمه عليها، وبالقرب منها من الغرب أقامت أمانة العاصمة حدائق تعرف بـ (حدائق الحديبية) وفي الحديبية اليوم مسجد الرضوان يقال: إنه بني مكان البيعة" .اهـ(9)
__________
(1) انظر: معجم البلدان 2/229.
(2) فتح الباري 5/334.
(3) تاج العروس 1/205.
(4) انظر حديث رقم (53).
(5) معجم البلدان 2/229.
(6) تهذيب الأسماء واللغات 1/ 2: 81.
(7) نقله الزبيدي: تاج العروس 1/205.
(8) صحيح الأخبار عما في بلاد العرب من الآثار 2/138.
(9) نسب حرب: 350.(1/13)
أفادت هذه النقول أن الحديبية تقع في الناحية الغربية من مكة كما صرح بذلك صاحب (نسب حرب) وهو مفهوم قول صاحب (المصباح) وصاحب (صحيح الأخبار) لأن جدة تقع في الجهة الغربية من مكة لكن الواقع أن الحديبية لا تحاذي بمكة من الجهة الغربية، بل تنحرف إلى جهة الشمال وقد أشار إلى ذلك ياقوت حيث ذكر: "أنها ليست في طول الحرم، ولا في عرضه، بل تقع في زاوية الحرم" .اهـ(1)
أما المسافة التي بين الحديبية وبين مكة فقد ذكر ياقوت أنها مرحلة، والمرحلة تقدر بـ (40 كيلو متراً) كما قرر ذلك صاحب تيسير العلام(2).
لكن نرى صاحب (نسب حرب) يقول: "إن بينهما (22كيلو متراً)، وهناك فرق شاسع بين القولين.
لكن الظاهر أن المتقدمين لا يريدون التحديد الدقيق، وإنما يقصدون التقدير التقريبي للمسافة. لذلك نرى النووي يقول: إنها على نحو مرحلة. وصاحب المصباح يقول: دون مرحلة.
أما صاحب (نسب حرب) فإنه يريد التحديد الدقيق للمسافة، وما ذكره هو المعروف اليوم.
وقد ذكر المتأخرون أنه قد غلب على مكان الحديبية اسم (الشميسي) فصار المكان يعرف بهذا الاسم، لكن ذكر صاحب (نسب حرب) أنها توجد، ثم حدائق تعرف بـ (حدائق الحديبية) وهذا يعني أن المكان لا زال يعرف أنه مكان الحديبية.
(ب) هل الحديبية من الحل أو من الحرم؟
عند مالك أن الحديبية جميعها من الحرم(3).
وقال الشافعي: "الحديبية موضع من الأرض منه ما هو في الحل، ومنه ما هو في الحرم"(4).
وقال ياقوت: "وبعض الحديبية في الحل، وبعضها في الحرم، وهو أبعد الحل من البيت"(5).
وقال ابن القيم: "والحديبية في الحل باتفاق الناس".
وقد قال الشافعي: "بعضها في الحل، وبعضها في الحرم، ومراده: أن أطرافها من الحرم، وإلا فهي من الحل باتفاقهم" ا.هـ(6)
__________
(1) معجم البلدان 2/229.
(2) تيسير العلام 1/483.
(3) ذكره الزبيدي: تاج العروس 1/205.
(4) الأم 2/159.
(5) معجم البلدان 2/229.
(6) زاد المعاد 3/380.(1/14)
قلت: الظاهر أن ما ذهب إليه الشافعي وياقوت هو الأرجح، وأما ما حكاه ابن القيم من الاتفاق على أن الحديبية كلها من الحل، فغير مسلم، لأن مالكاً يرى أنها من الحرم كلها، والشافعي وغيره يرون أن بعضها من الحرم.
وقد حمل ابن القيم قول الشافعي على أنه يقصد أن أطرافها من الحرم، لكنه لم يبين مساحة هذه الأطراف، وعلى افتراض أنه يقصد ذلك، فإن هذه الأطراف يطلق عليها بعض الحديبية، والله أعلم.
الفصلُ الثّاني: سببُ الغزوةِ وتاريخُها
ويضمّ مبحثينِ:
المبحث الأول: سبب الغزوة.
المبحث الثاني: تاريخ خروج المسلمين لغزوة الحديبية.
المبحث الأول: سبب الغزوة:
درج كثير من أهل المغازي على جعل السبب في خروج المسلمين لهذه الغزوة رؤيا رآها النبي صلى الله عليه وسلم قبيل خروجه، وملخصها: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى أنه دخل البيت هو وأصحابه وطافوا به، وحلق بعضهم وقصر البعض، وأخبر أصحابه بذلك فاستبشروا.
وأول من أثبت هذا السبب - حسب علمي - هو الواقدي(1)، ثم تابعه كثير ممن كتب في المغازي كاليعقوبي(2)، والمقريزي(3)، الزرقاني(4)، وصاحب تاريخ الخميس(5)، والشيخ محمد بن عبد الوهاب(6)، وغيرهم.
وقد تردد كثيراً في إثبات تلك الرؤيا سبباً للغزوة، لأن أول من أثبتها - كما أشرت - هو الواقدي، بينما أغفلها من هو أثبت منه كابن إسحاق وابن سعد وغيرهما.
لكن بعد البحث والتتبع وجدت ما يشهد لها ويدل على أن لها أصلاً وذلك من القرآن والحديث:
قال تعالى: {لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِن شَاء اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لاَ تَخَافُونَ...} (7).
__________
(1) مغازي الواقدي 2/572.
(2) تاريخ اليعقوبي 2/54.
(3) امتاع الأسماع 1/274.
(4) شرح الزرقاني على المواهب اللدنية 2/179.
(5) تاريخ الخميس 2/179.
(6) مختصر سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم: 261.
(7) سورة الفتح الآية: 27.(1/15)
وقد ذكر المفسرون أن سبب نزول هذه الآية هو التساؤل الذي حصل حول الرؤيا.
فقد روى ابن جرير ذلك عن مجاهد وابن زيد:
(4) قال ابن جرير: حدثنا محمد(1) بن عمرو قال: ثنا أبو عاصم(2) قال: ثنا عيسى(3)، وحدثني الحارث(4) قال ثنا الحسن(5) قال: ثنا ورقاء(6)
__________
(1) محمد بن عمرو بن عباد بن جبلة بن أبي رواد العتكي - بفتح المهلمة والمثناة - أبو جعفر البصري، صدوق، توفي سنة أربع وثلاثين ومائتين: م، د. تقريب: 313.
(2) هو: الضحاك بن مخلد بن الضحاك بن مسلم الشيباني، أبو عاصم النبيل البصري، ثقة ثبت، مات سنة اثنتي عشرة ومائتين أو بعدها: ع. تقريب: 155.
(3) عيسى بن ميمون الجرشي - بضم الجيم وفتح الراء والمعجمة - ثم المكي أبو موسى يعرف بابن داية - تحتانية خفيفة - ثقة من السابعة: خد. تقريب: 272.
(4) الحارث بن محمد بن أبي أسامة التميمي صاحب المسند، رمز له الذهبي بكلمة (صح) - وهي كما قال ابن حجر أنه اعتمد توثيقه - وقال الذهبي: كان عارفاً بالحديث حافظاً، تكلم فيه بلا حجة، وقال الدارقطني هو عندي صدوق، وذكره ابن حبان في الثقات، وضعفه ابن حزم، توفي سنة اثنتين وثمانين ومائتين. ميزان الاعتدال 1/442، لسان الميزان 2/157.
(5) الحسن بن موسى الأشيب - بمعجمة ثم تحتانية - أبو علي البغدادي قاضي الموصل وغيرها، ثقة، مات سنة تسع أو عشر ومائتين: ع. تقريب: 72.
(6) ورقاء بن عمر اليشكري، أبو بشر الكوفي نزيل المدائن، صدوق في حديثه عن منصور لين: ع. تقريب 379.
قال أحمد بن حنبل: ثقة صاحب سنة، توفي سنة نيف وستين ومائة رحمه الله. تذكرة الحفاظ 1/230.(1/16)
جميعاً عن ابن أبي نجيح(1) عن مجاهد(2) في قوله "الرؤيا بالحق" قال: أرى النبي صلى الله عليه وسلم بالحديبية أنه يدخل مكة وأصحابه محلقين، فقال أصحابه حين نحر بالحديبية: أين رؤيا محمد صلى الله عليه وسلم؟"(3).
سند هذا الأثر حسن إلى مجاهد لكنه مرسل.
(5) وقال ابن جرير: حدثني يونس(4)، قال: أخبرنا ابن وهب(5) قال: قال ابن زيد(6): في قوله تعالى: {لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ...}، قال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: "إني قد رأيت أنكم ستدخلون المسجد الحرام محلقين رؤوسكم ومقصرين" فلما نزل بالحديبية، ولم يدخل ذلك العام، طعن المنافقون في ذلك فقالوا: أين رؤياه؟ فنزلت الآية(7).
سند هذا الأثر صحيح إلى ابن زيد وهو عبد الرحمن بن زيد ضعيف، ضعفه ابن معين، وابن المديني، وأحمد والنسائي، وغيرهم(8).
__________
(1) عبد الله بن أبي نجيح يسار المكي أبو يسار الثقفي مولاهم، ثقة، رمي بالقدر وربما دلس، مات سنة إحدى وثلاثين ومائة أو بعدها: ع، تقريب: 191.
(2) مجاهد بن جبر - بفتح الجيم وسكون الموحدة - ابو الحجاج المخزومي مولاهم المكي، ثقة إمام في التفسير والعلم، مات سنة إحدى أو اثنتين أو ثلاث أو أربع ومائة، وله ثلاث وثمانون: ع. تقريب: 328.
(3) تفسير ابن جرير 26/107.
(4) يونس بن عبد الأعلى بن ميسرة الصدفي أبو موسى البصري، ثقة، مات سنة أربع وستين ومائتين، وله ست وتسعون سنة: م، س، ق: تقريب: 390.
(5) عبد الله بن وهب بن مسلم القرشي مولاهم، أبو محمد المصري الفقيه، ثقة، حافظ عابد، مات سنة سبع وتسعين ومائة، وله اثنتان وسبعون سنة: ع، تقريب: 193.
(6) هو: عبد الرحمن بن زيد بن أسلم العدوي مولاهم، ضعيف، مات سنة اثنتين وثمانين ومائة: ت، ق. تقريب: 202.
(7) تفسير ابن جرير 26/107.
(8) ميزان الاعتدال 2/564.(1/17)
لكن معنى الأثرين ثابت من حديث المسور ومروان ففيه من رواية معمر عند البخاري: "فقال عمر بن الخطاب: يا رسول الله أو ليس كنت تحدثنا أنا سنأتي البيت فنطوف به؟ قال: بلى: فأخبرتك أنك تأتيه العام؟ قال: لا، قال: فإنك آتيه ومطوف به(1).
وفي حديثهما من رواية ابن إسحاق عند أحمد بسند حسن "وقد كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم خرجوا وهو لا يشكون في الفتح لرؤيا رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما رأوا ما رأوا من الصلح والرجوع وما تحمل رسول الله صلى الله عليه وسلم على نفسه، دخل الناس من ذلك أمر عظيم حتى كادوا أن يهلكوا..."(2).
فالآية وما في حديث المسور ومروان تدل على أنه قد حصل للنبي صلى الله عليه وسلم رؤيا خرج المسلمون إثرها لهذه الغزوة.
لكن الأثر الذي رواه ابن جرير عن مجاهد يُعَكِّرُ على جعل هذه الرؤيا سبباً لخروج المسلمين إذ فيه: "أن الرؤيا حصلت للرسول صلى الله عليه وسلم بالحديبية"، وذلك بعد خروج المسلمين.
لكن إذا تأملنا حديث المسور ومروان نرى في رواية معمر قول عمر: "أوليس كنت تحدثنا أنا سنأتي البيت فنطوف به؟".
وفي رواية ابن إسحاق: "وقد كان المسلمون خرجوا وهو لا يشكون في الفتح لرؤيا رآها النبي صلى الله عليه وسلم".
فكلام عمر يدل على أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يحدثهم بذلك قبل مجيئهم للحديبية، وما في رواية ابن إسحاق يفيد أن المسلمين خرجوا بعد الرؤيا.
لذلك حمل بعض العلماء الرؤيا التي يشير إليها الأثر الموقوف على مجاهد أنها رؤيا ثانية.
__________
(1) انظر ص:171.
(2) انظر ص: 172.(1/18)
قال الزرقاني: "وأما ما رواه الفارابي وعبد بن حميد والبيهقي في الدلائل عن مجاهد قال: "أري النبي صلى الله عليه وسلم وهو بالحديبية أنه يدخل مكة هو وأصحابه آمنين محلقين رؤوسهم ومقصرين، فلما نحر الهدي بالحديبية قال له أصحابه: أين رؤياك يا رسول الله؟ فنزلت: {لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ...} فهي رؤيا رآها بالحديبية تبشيراً له من الله ثانياً فلا يصلح جعلها سبباً لخروجه من المدينة"(1).
المبحث الثاني: تاريخ خروج المسلمين لغزوة الحديبية
استعمل النبي صلى الله عليه وسلم على المدينة قبل خروجه نميلة بن عبد الله الليثي على قول ابن هشام(2)، وابن(3) سيد الناس ومن تبعهما.
وذكر الواقدي(4)، وابن(5) سعد ومن تبعهما أنه استعمل ابن أم مكتوم، وهناك قول ثالث(6): أنه استعمل أبارهم كلثوم بن الحصين.
قال الزرقاني(7): "يحتمل أنه استخلف نميلة وأبارهم على المصالح والإمام ابن أم مكتوم".
ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه للغزوة، وذلك في يوم الاثنين مستهل ذو القعدة من السنة السادسة، وسأورد ما يثبت هذا التحديد إن شاء الله.
(أ) ما ورد في التحديد بالسنة السادسة:
__________
(1) شرح الزرقاني على المواهب اللدنية 2/179.
(2) سيرة ابن هشام 3/308.
(3) عيون الأثر 2/113.
(4) مغازي الواقدي 2/573.
(5) الطبقات الكبرى 2/95.
(6) نقله الزرقاني عن البلاذري، شرح الزرقاني على المواهب اللدنية 2/180.
(7) المصدر السابق.(1/19)
(6) قال البيهقي: "أخبرنا أبو الحسين بن الفضل بن القطان(1) ببغداد قال: أخبرنا عبد الله بن جعفر بن درستويه(2) النحوي، قال: حدثنا يعقوب(3) بن سفيان قال: أخبرنا ابن المنذر(4) قال: حدثنا عبد الله بن نافع(5) قال: حدثني نافع(6) بن أبي نعيم عن نافع(7) مولى ابن عمر قال: "كانت الحديبية سنة ست بعد مقدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة في ذي القعدة"(8).
__________
(1) محمد بن الحسين بن محمد بن الفضل الأزرق القطان، قال الخطيب: كتبنا عنه وكان ثقة، توفي سنة خمس عشرة وأربعمائة. تاريخ بغداد 2/249.
(2) عبد الله بن محمد بن جعفر بن درستويه بن المرزبان النحوي، نقل الخطيب تضعيفه عن اللالكائي، والبرقاني ثم رده ونقل توثيقه عن أبي سعد الحسين بن عثمان الشيرازي، وعبد الله بن منده الحافظ، توفي سنة سبع وأربعين وثلاثمائة، تاريخ بغداد 9/428.
(3) يعقوب بن سفيان الفارسي أبو يوسف الفسوي، صاحب المعرفة والتاريخ، قال ابن حجر: ثقة حافظ، توفي سنة سبع وسبعين ومائتين، وقيل بعد ذلك: س، ق. تقريب: 386.
(4) هو إبراهيم بن المنذر بن عبد الله بن المنذر بن المغيرة بن عبد الله بن خالد بن حزام الأسدي الحزامي، صدوق، تكلم فيه أحمد لأجل القرآن، مات سنة ست وثلاثين ومائتين: خ، ت، س، ق. تقريب: 23.
(5) عبد الله بن نافع الصائغ المخزومي مولاهم، أبو محمد المدني، ثقة صحيح الكتاب في حفظه لين، مات سنة ست ومائتين وقيل بعدها: بخ، م، الأربعة. تقريب: 191.
(6) نافع بن عبد الرحمن بن أبي نعيم القارئ المدني، مولى بني ليث أصله من أصبهان، وقد ينسب لجده، صدوق ثبت في القراءات، مات سنة تسع وستين ومائة: فق. تقريب: 3550.
(7) نافع أبو عبد الله المدني مولى ابن عمر، ثقة ثبت، فقيه مشهور، مات سنة سبع عشرة ومائة أو بعد ذلك: ع. تقريب: 355.
(8) دلائل النبوة 2، لوحة: 212.(1/20)
سند هذا الأثر حسن، فابن المنذر تكلم فيه أحمد لأنه خلط في القرآن، ولكونه قدم إلى ابن أبي دؤاد، لكن وثقه ابن معين والنسائي وابن وضاح، وأبو حاتم والدارقطني، ورجح الذهبي توثيقه فقد رمز له بـ (صح)، وقال الساجي: "له مناكير لكن تعقبه الخطيب" وقال ابن حجر: "اعتمده البخاري، وانتفى من حديثه"(1)، وفي السند أيضاً نافع بن أبي نعيم، قال أحمد: "ليس بشيء في الحديث، لكن وثقه ابن معين"، وقال ابن سعد: "كان ثبتاً"، وقال أبو حاتم: "صدوق صالح الحديث"، وذكره ابن حبان في الثقات، وقال ابن المديني وابن عدي والدارقطني: "لا بأس به"(2)، فتوثيق هؤلاء مقدم على قول من جرحه، لا سيما والجرح غير مفسر السبب، وبقية رجال السند كلهم ثقات، فالأثر حسن إلى نافع، وقد أرسله نافع لكن معناه ثابت من حديثي ابن عمر التاليين:
(7) قال ابن حجر: "روى يعقوب بن سفيان في تاريخه بسند حسن عن ابن عمر قال: "كانت عمرة القضية في ذي القعدة سنة سبع"(3).
هذه الرواية صريحة في أن عمرة القضية كانت في السنة السابعة، وحديث البخاري الآتي يثبت أنها كانت في السنة التي تلي عام الحديبية.
(8) قال البخاري: حدثنا محمد بن رافع حدثنا سريج بن النعمان حدثنا فليح عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما : "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج معتمراً فحال قريش بينه وبين البيت، فنحر هديه وحلق رأسه بالحديبية، وقاضاهم على أن يعتمر العام المقبل، ولا يحمل سلاحاً عليهم إلا سيوفاً ولا يقيم بها إلا ما أحبوا، فاعتمر من العام المقبل فدخلها كما كان صالحهم، فلما أقام بها ثلاثاً أمروه أن يخرج فخرج" (4).
__________
(1) تاريخ بغداد 6/180 - 181، ميزان الاعتدال 1/67، هدى الساري: 388.
(2) ميزان الاعتدال 4/242، تهذيب التهذيب 10/407.
(3) فتح الباري 7/500.
(4) صحيح البخاري مع الفتح، كتاب الصلح: 2701.(1/21)
وأخرجه من طريق(1) محمد بن الحسين بن إبراهيم عن أبيه عن فليح به مثله.
فهذا الحديث يفيد تصريحاً أن النبي صلى الله عليه وسلم اعتمر عمرة القضية في العام الذي يلي عام الحديبية مباشرة، والحديث الذي قبله صريح في أن هذا العام الذي اعتمر فيه عمرة القضية هو السنة السابعة.
وإذا ثبت أن عمرة القضية كانت في السنة السابعة، وأنها في السنة التي تلي عام الحديبية، فالحديبية إذن في السنة السادسة بلا شك.
الإجماع على أنها كانت في السنة السادسة:
قال النووي: "وقد أجمع المسلمون أن الحديبية كانت سنة ست من الهجرة في ذي القعدة" ا.هـ(2)
وقال ابن كثير: "وكانت الحديبية في ذي القعدة سنة ست بلا خلاف" ا.هـ(3)
وقال ابن حجر: "كانت الحديبية في سنة ست بلا خلاف" ا.هـ(4)
وقد شذ ابن الديبع فقال: "كانت في السنة الخامسة"(5)، ولكن لا مستند له في ذلك.
(ب) التحديد بشهر ذي القعدة ورد فيه ما يلي:
(9) قال البخاري حدثنا عبيد الله عن إسرائيل عن أبي إسحاق عن البراء رضي الله عنه: "اعتمر النبي صلى الله عليه وسلم في ذي القعدة، فأبى أهل مكة أن يدعوه يدخل مكة، حتى قاضاهم: لا يدخل مكة سلاحاً إلا في القرب"(6).
وأخرجه في كتاب الصلح(7) والمغازي(8) بهذا الإسناد مطولاً.
وأخرجه من طريق(9) شعبة، ومن طريق(10) سفيان بن سعيد، كلاهما عن أبي إسحاق عن البراء مختصراً لم يذكر العمرة.
وأخرجه أحمد(11) عن حجين وأسود بن عامر كلاهما عن إسرائيل به مطولاً.
__________
(1) صحيح البخاري مع الفتح: كتاب المغازي: 4252.
(2) المجموع شرح المهذب 7/78.
(3) البداية والنهاية 4/164.
(4) التلخيص الحبير 4/90.
(5) حدائق الأنوار ومطالع الأسرار 2/609.
(6) صحيح البخاري مع الفتح، كتاب جزاء الصيد: 1844.
(7) صحيح البخاري مع الفتح، كتاب الصلح: 2699.
(8) صحيح البخاري مع الفتح، كتاب المغازي 4251.
(9) صحيح البخاري مع الفتح، كتاب الصلح: 2698.
(10) صحيح البخاري مع الفتح، كتاب الصلح: 2690.
(11) مسند أحمد 4/298.(1/22)
وأخرجه الدارمي(1) عن محمد بن يوسف عن إسرائيل به مطولاً.
وأخرجه الترمذي(2) عن عباس بن محمد الدوري عن إسحاق بن منصور السلولي عن إسرائيل به مختصراً، ولفظه: قال: "اعتمر النبي صلى الله عليه وسلم في ذي القعدة".
وأخرج بعضه في كتاب البر والصلة(3)، وفي كتاب المناقب(4) من طريق إسرائيل أيضاً، وليس في ذكر للعمرة.
وأخرجه البخاري من غير طريق إسرائيل بسياق آخر مختصراً: قال: حدثنا أحمد بن عثمان حدثنا شريح بن مسلمة حدثنا إبراهيم بن يوسف عن أبيه عن أبي إسحاق قال: "سألت مسروقاً وعطاء ومجاهد فقالوا: اعتمر رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذي القعدة قبل أن يحج، قال وسمعت البراء بن عازب رضي الله عنهما يقول: اعتمر رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذي القعدة قبل أن يحج مرتين"(5).
وأخرجه بهذا السند في كتاب الجزية والموادعة(6) مطولاً، ولم تذكر فيه العمرة.
حديث أنس رضي الله عنه:
(10) قال البخاري حدثنا حسان بن حسان حدثنا همام عن قتادة: سألت أنساً رضي الله عنه: كم اعتمر النبي صلى الله عليه وسلم. قال: "أربع عمرة الحديبية في ذي القعدة حيث صده المشركون، وعمرة من العام المقبل في ذي القعدة حيث صالحهم، وعمرة الجعرانة(7) إذ قسم غنيمة - أراه حنين - قلت كم حج؟ قال: واحدة"(8).
وأخرجه(9) عن هدبة عن همام به بلفظ: "اعتمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أربع في ذي القعدة إلا التي اعتمر مع حجته، عمرته من الحديبية" نحوه ...
__________
(1) سنن الدارمي 2/237.
(2) سنن الترمذي، كتاب الحج: 938.
(3) سنن الترمذي، كتاب البر والصلة: 1904.
(4) سنن الترمذي، كتاب المناقب: 3763.
(5) صحيح البخاري مع الفتح، كتاب العمرة: 1781.
(6) صحيح البخاري مع الفتح، كتاب الجزية والموادعة: 3184.
(7) الجعرانة - بكسر أوله - : هي ماء بين الطائف ومكة، وهي إلى مكة أقرب. معجم البلدان 2/142.
(8) صحيح البخاري مع الفتح، كتاب العمرة: 1778.
(9) صحيح البخاري مع الفتح، كتاب العمرة: 1780.(1/23)
وأخرجه بهذا الإسناد في المغازي(1) بمثله، وفي الجهاد(2) مختصراًَ ذكر عمرة الجعرانة فقط.
وأخرجه مسلم عن(3) هداب - هو هدبة(4) - به فذكر نحوه، وفيه: "من الحديبية أو زمن الحديبية".
وأخرجه عن(5) محمد بن المثنى عن عبد الصمد عن همام به نحو لفظ هدبة.
وأخرجه أبو داود(6) عن أبي الوليد الطيالسي وهدبة، كلاهما عن همام به نحوه.
وأخرجه البخاري عن أبي الوليد(7) به، وليس فيه تحديد زمن الحديبية.
وأخرجه الترمذي(8) عن إسحاق بن منصور عن حبان بن همام به، وليس فيه تحديد زمن الحديبية.
وأخرجه أحمد(9) عن عفان عن همام به، بمثل لفظ حسان بن حسان.
حكى ابن كثير والعيني الإجماع على إنها في ذي القعدة:
قال ابن كثير: "كان الحديبية في ذي القعدة سنة ست بلا خلاف
"(10).
وقال العيني: "وكان خروجه من المدينة يوم الاثنين لهلال ذي القعدة سنة ست بلا خلاف" (11).
قلت: قد وردت عن عروة بن الزبير رواية بأن غزوة الحديبية كانت في شوال، ونص الرواية:
__________
(1) صحيح البخاري مع الفتح، كتاب المغازي: 4148.
(2) صحيح البخاري مع الفتح، كتاب الجهاد: 3066.
(3) صحيح مسلم، كتاب الحج: 217.
(4) قال ابن حجر: أخرجه مسلم عن هداب، وهو هدبة المذكور، فتح الباري 3/602.
(5) صحيح مسلم، كتاب الحج: 218.
(6) سنن أبي داود مع معالم السنن، كتاب المناسك: 1994.
(7) صحيح البخاري مع الفتح، كتاب العمرة: 1779.
(8) سنن الترمذي، كتاب الحجر: 815.
(9) المسند 3/245.
(10) البداية والنهاية 4/164.
(11) عمدة القاري 14/6.(1/24)
(11) قال ابن أبي شيبة: حدثنا أبو أسامة(1) قال: حدثنا هشام(2) عن أبيه(3) قال: "خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الحديبية، وكانت الحديبية في شوال"(4)، الحديث.
أخرجه يعقوب بن سفيان من طريق آخر: قال: حدثنا إسماعيل(5) ابن الخليل عن علي(6) بن مسهر قال: أخبرني هشام بن عروة عن أبيه قال: "خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الحديبية في رمضان، وكانت الحديبية في شوال"(7).
وأخرجه البيهقي من طريق يعقوب بن سفيان(8) به.
سند هذا الأثر صحيح إلى عروة، وهو مرسل.
وقد اعتبر العلماء هذه الرواية عن عروة شاذة.
فقد حكاها ابن القيم عنه ثم عقب عليها بقوله: "وهذا وهم وإنما كانت غزوة الفتح في رمضان" (9).
كما أوردها ابن كثير من طريق يعقوب بن سفيان، وعقب عليها بقوله: وهذا غريب جداً عن عروة(10).
__________
(1) هو: حماد بن أسامة القرشي مولاهم الكوفي، أبو أسامة مشهور بكنيته، ثقة ثبت، ربما دلس، وكان بآخره يحدث من كتب غيره، مات سنة إحدى ومائتين وهو ابن ثمانين: ع. تقريب: 81.
(2) هشام بن عروة بن الزبير بن العوام الأسدي ثقة فقيه ربما دلس، مات سنة خمس أو ست وأربعين ومائة، وله ثمانون سنة: ع. تقريب: 364.
(3) عروة بن الزبير بن العوام الأسدي، أبو عبد الله المدني، ثقة فقيه مشهور، مات سنة أربع وتسعين على الصحيح، ومولده في أواخر خلافة عمر الفاروق: ع. تقريب: 238.
(4) تاريخ ابن أبي شيبة، لوحة، 56.
(5) إسماعيل بن الخليل الخزاز - بمعجمات - أبو عبد الله الكوفي، ثقة، مات سنة خمس وعشرين ومائتين: خ، مد. تقريب: 33.
(6) علي بن مسهر - بضم الميم وسكون المهملة وكسر الهاء - القرشي الكوفي، قاضي الموصل، ثقة له غرائب بعدما أضر، مات سنة تسع وثمانين ومائة:ع. تقريب: 249.
(7) المعرفة والتاريخ 3/258.
(8) دلائل النبوة، 2، لوحة: 212.
(9) زاد المعاد 3/287.
(10) البداية والنهاية 4/164.(1/25)
وقال ابن حجر: "جاء عن هشام بن عروة عن أبيه أنه خرج في رمضان، واعتمر في شوال وشذ بذلك"(1).
قلت: وقد وردت عن عروة رواية أخرى توافق الجمهور:
(12) قال البيهقي: قال: يعقوب(2): قال حسان(3) بن عبد الله: عن ابن لهيعة(4) عن أبي الأسود(5): "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تجهز يريد العمرة، وتجهز معه ناس كثير، وذلك في ذي القعدة سنة ست"(6).
هكذا ذكر البيهقي هذه الرواية موقوفة على أبي الأسود لكن ابن القيم وابن كثير صرحا بأن أبا الأسود رواها عن عروة بن الزبير.
قال ابن القيم: "وقد قال أبو الأسود عن عروة: أنها كانت في ذي القعدة على الصواب"(7).
وقال ابن كثير: بعد أن حكى قول الجمهور: "وهو الذي رواه ابن لهيعة عن أبي الأسود عن عروة: أنها في ذي القعدة سنة ست"(8).
كما جزم ابن حجر حيث قال: وقد وافق أبو الأسود عن عروة الجمهور(9).
وسند هذا الأثر ضعيف لأنه معلق فبين البيهقي ويعقوب بن سفيان واسطتان(10).
وفي سنده ابن لهيعة ضعفه الحفاظ في غير رواية العبادلة عنه، أما روايتهم عنه فقد صححها(11)
__________
(1) فتح الباري 7/440.
(2) هو يعقوب بن سفيان.
(3) حسان بن عبد الله بن سهل الكندي أبو علي الواسطي، نزيل مصر، صدوق يخطئ، مات سنة اثنتين وعشرين بعد المائتين: خ، س، ق. تقريب، تهذيب التهذيب 2/250.
(4) هو: عبد الله بن لهيعة - بفتح اللام وكسر الهاء - ابن عقبة الحضرمي أبو عبد الرحمن المصري، صدوق، خلط بعد احتراق كتبه، ورواية ابن المبارك وابن وهب عنه أعدل من غيرهما، وله في مسلم بعض شيء مقروناً، مات سنة أربع وسبعين ومائة، وقد ناف على الثمانين: م، د، ت، ق. تقريب: 186.
(5) هو: محمد بن عبد الرحمن بن نوفل الأسدي، أبو الأسود المدني يتيم عروة، ثقة، مات سنة بضع وثلاثين ومائة: ع. تقريب: 308.
(6) دلائل النبوة 2، لوحة: 212.
(7) زاد المعاد 3/287.
(8) البداية والنهاية 4/164.
(9) فتح الباري 7/440.
(10) انظر حديث رقم (6).
(11) ميزان الاعتدال 2/457.
والعبادلة هم: عبد الله بن المبارك، وعبد الله بن وهب، وعبد الله بن يزيد المقري، وعبد الله بن مسلمة القعنبي، المصدر السابق 482، وسير أعلام النبلاء 8/20.(1/26)
بعضهم، وليست هذه منها، وهو مرسل أيضاً لكن معناه ثابت من الروايات السابقة.
(جـ) تحديد خروجه يوم الاثنين:
تحديد خروجه صلى الله عليه وسلم بيوم الاثنين ذكره بعض أهل المغازي وغيرهم:
قال الواقدي: "وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة يوم الاثنين لهلال ذي القعدة..."(1).
وقال ابن سعد: "وركب راحلته القصواء وخرج وذلك يوم الاثنين لهلال ذي القعدة..."(2).
وقال القسطلاني: "خرج عليه السلام يوم الاثنين هلال ذي القعدة سنة ست من الهجرة". ا.هـ(3)
ولم أرَ في كتب المغازي أو غيرها أحداً يذكر خلاف ذلك، بل حكى العيني الإجماع على ذلك:
قال العيني: "وكان خروجه صلى الله عليه وسلم يوم الاثنين لهلال ذي القعدة سنة ست بلا خلاف"(4).
الفصلُ الثالثُ إعدادُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم وأصحابَه للخروجِ إلى الحديبيةِ
وفيه مَبحثانِ:
المبحث الأول: إعداد النبي صلى الله عليه وسلم للخروج إلى الحديبية.
المبحث الثاني: عدد جيش المسلمين.
المبحث الأول: إعداد النبي صلى الله عليه وسلم للخروج إلى الحديبية:
كانت عداوة قريش للمسلمين لا تخفى على من له أدنى علم بأحداث الجزيرة في ذلك الوقت، فآخر هجوم قامت به على المدينة - كان قبل سنة فقط من خروج المسلمين لهذه الغزوة(5) - حشدت فيه كل قواها المادية والمعنوية مستهدفة القضاء على المسلمين، وإبادة خضرائهم، لكن الله ردهم بغيظهم لم ينالوا خيراً، فغيظهم على المسلمين يزداد يوماً بعد يوم، ومن المستحيل أن يمكنوا المسلمين من الدخول إلى مكة عن رضى منهم وطواعية، بل لن يتوانوا في الإيقاع بهم إن وجدوا سبيلاً إلى ذلك.
__________
(1) مغازي الواقدي 2/573.
(2) الطبقات الكبرى 2/95.
(3) المواهب اللدنية 2/179.
(4) عمدة القاري 14/6.
(5) كان ذلك في غزوة الخندق، وهي في سنة خمس على الراجح. انظر: مرويات غزوة الخندق لإبراهيم عمير مدخلي ص 35 - 50.(1/27)
وكان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه على علم بعداوة قريش وحنقها لذلك فقد أخذوا أهبتهم وحيطتهم قبل خروجهم من المدينة.
قال ابن إسحاق: "واستنفر العرب ومن حوله من أهل البوادي من الأعراب ليخرجوا معه، وهو يخشى من قريش الذي صنعوا، أن يعرضوا له بحرب، أو يصدوه عن البيت، فأبطأ عليه كثير من الأعراب، وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم بمن معه من المهاجرين والأنصار ومن لحق به من العرب"(1) ا.هـ
كذا ذكره ابن إسحاق دون سند، لكن أشارت إليه آيات سورة الفتح - ولا شك أن القرآن هو أول مصادر السيرة النبوية(2) - قال تعالى: {سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَن يَمْلِكُ لَكُم مِّنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعًا بَلْ كَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا* بَلْ ظَنَنتُمْ أَن لَّن يَنقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَدًا وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنتُمْ قَوْمًا بُورًا}(3).
فقد ورد في تفسير هذه الآية ما يلي:
(13) قال ابن جرير: حدثنا محمد بن عمرو وقال: ثنا أبو عاصم قال: ثنا عيسى وحدثني الحارث قال: ثنا الحسن قال: ثنا ورقاء جميعاً عن ابن أبي نجيح قوله: {سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا} قال: أعراب المدينة جهينة ومزينة استتبعهم لخروجه إلى مكة قالوا: نذهب معه إلى قوم قد جاءوا فقتلوا أصحابه، فنقاتلهم فاعتلوا بالشغل"(4).
__________
(1) سيرة ابن هشام 3/308.
(2) انظر مصادر السيرة النبوية وتقويمها لفاروق حمادة: 23.
(3) سورة الفتح الآية: 11 - 12.
(4) تفسير ابن جرير 26/77، ورجال الاسناد تقدمت تراجمهم، انظر حديث رقم (4).(1/28)
وسند هذا الأثر صحيح إلى مجاهد، وهو مرسل، لكن يشهد له مرسل قتادة التالي.
(14) قال ابن جرير حدثنا بشر(1) قال: ثنا يزيد(2) قال: ثنا سعيد(3) عن قتادة(4) قوله: {سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الأَعْرَابِ} إلى قوله: {وَكُنتُمْ قَوْمًا بُورًا}، قال: ظنوا بنبي الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه أنهم لن يرجعوا من وجههم ذلك، وأنهم سيهلكون، فذلك الذي خلفهم عن نبي الله صلى الله عليه وسلم(5).
وسنده صحيح إلى قتادة لشاهدة من الحديث السابق.
وقد ورد في حديث المسور بن مخرمة ومروان بن الحكم من طريق سفيان عند البخاري: أنهم كانوا على استعداد لقتال من اعترض سبيلهم، وهذا يفيد أنهم قد حملوا السلاح، يقول في الحديث: "فقال النبي صلى الله عليه وسلم أشيروا أيها الناس عليّ أترون أن أميل إلى عيالهم وذراري هؤلاء الذين يريدون أن يصدونا عن البيت، فإن يأتونا كان الله عز وجل قد قطع عيناً من المشركين، وإلا تركناهم محروبين، فقال أبو بكر: يا رسول الله خرجت عامداً لهذا البيت لا تريد قتل أحد، فتوجه له فمن صدنا عنه قاتلناه، قال: امضوا على اسم الله..."(6).
وكان مع المسلمين خيل كذلك لكن لم أقف على شيء في عددها سوى ما ذكر ابن سعد قال: وقدم عباد بن بشر أمامه طليعة في عشرين فرساً من خيل المسلمين(7).
__________
(1) بشر بن معاذ العقدي - بفتح المهملة والقاف - أبو سهل البصري الضرير، صدوق، مات سنة بضع وأربعين ومائتين: ت، س، ق. تقريب: 45.
(2) يزيد بن زريع - بتقديم الزاي مصغراً - البصري، أبو معاوية، ثقة ثبت، مات سنة اثنتين وثمانين ومائة:ع. تقريب: 382.
(3) هو: سعيد بن أبي عروبة مهران اليشكري مولاهم، أبو النضر البصري، ثقة حافظ، له تصانيف لكنه كثير التدليس، واختلط وكان من أثبت الناس في قتادة، مات سنة ست، وقيل سبع وخمسين ومائة: ع. تقريب: 124.
(4) قتادة بن دعامة.
(5) تفسير ابن جرير 26/78.
(6) انظر ص 125.
(7) الطبقات الكبرى 2/95.(1/29)
وليس فيما ذكر ابن سعد تحديد لعدد الخيل بل يفهم من كلامه أنها كانت أكثر مما ذكر، لأن (من) في قوله من خيل المسلمين تبعيضية(1).
وإذن فالنبي صلى الله عليه وسلم قد استعد بالرجال كما ذكر ابن إسحاق وبالسلاح، وهو مفهوم حديث المسور ومروان وبالخيل كما ذكر ابن سعد، وقد نص على ذلك كله حديث سلمة بن الأكوع يقول فيه: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم غزوة الحديبية فنحرنا مائة بدنة ونحن بضع عشرة مائة ومعهم عدة السلاح والرجال والخيل...(2)
وهذا الحديث ضعيف لأنه من طرق موسى بن عبيدة الربذي، وقد ضعفه الحفاظ لكن يستأنس به مع ما سبق من الشواهد وأقوال أصحاب المغازي.
وقد ذكر الواقدي أنهم خرجوا بغير سلاح وأورد أثرين عن عمر بن الخطاب وسعد بن عبادة يفيدان أن النبي صلى الله عليه وسلم أبى أن يحمل السلاح.
(15) قال الواقدي: فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : "أتخشى يا رسول الله علينا من أبي سفيان بن حرب وأصحابه، ولم نأخذ للحرب عدتها؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما أدري ولست أحب أحمل السلاح معتمراً"(3).
(16) وقال: قال سعد بن عبادة: يا رسول الله لو حملنا السلاح معنا فإن رأينا من القوم ريباً كنا معدين لهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لست احمل السلاح، إنما خرجت معتمراً" ا.هـ(4)
وهذان الأثران ضعيفان، إذ لا أسانيد لهما، وقول الواقدي مرجوح لمخالفته غيره من أهل المغازي.
وقد أخرج ابن جرير بإسناده إلى ابن أبزى رواية يثبت فيها خلاف ما ذكر الواقدي من جواب الرسول صلى الله عليه وسلم لعمر بن الخطاب:
__________
(1) وقد ذكر صاحب السيرة الحلبية أنه كان مع المسلمين مائتا فرس 2/690، وتبعه محمد باشميل، صلح الحديبية: 126.
(2) تاريخ ابن أبي شيبة: لوحة 60، وسيأتي برقم (32).
(3) مغازي الواقدي 2/573.
(4) مغازي الواقدي 2/573.(1/30)
(17) قال ابن جرير: حدثنا ابن حميد(1) قال: حدثنا يعقوب القمي(2) عن جعفر(3) - يعني ابن أبي المغيرة - عن ابن أبزى(4) قال: لما خرج النبي صلى الله عليه وسلم بالهدي وانتهى إلى ذي الحليفة قال له عمر: يا رسول الله تدخل على قوم هم لك حرب بغير سلاح ولا كراع(5)، قال: فبعث النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة فلم يدع فيها كراعاً ولا سلاحاً إلا حمله، فلما دنا من مكة منعوه أن يدخل، فسار حتى أتى منى فنزل بمنى فأتاه عينه أن عكرمة بن أبي جهل قد خرج عليك في خمسمائة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لخالد بن الوليد: يا خالد هذا ابن عمك قد أتاك في الخيل، فقال خالد: أنا سيف الله وسيف رسوله - فيومئذ سمي سيف الله - يا رسول الله ارم بي حيث شئت، فبعثه على خيل فلقي عكرمة في الشعب فهزمه حتى أدخله حيطان مكة، ثم عاد في الثانية فهزمه حتى أدخله حيطان مكة، ثم عاد في الثالثة فهزمه حتى أدخله حيطان مكة، فأنزل الله: {وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُم بِبَطْنِ مَكَّةَ مِن بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ} إلى قوله: { عَذَابًا أَلِيمًا}(6).(7)
__________
(1) محمد بن حميد بن حبان الرازي حافظ ضعيف، وكان ابن معين حسن الرأي فيه، مات سنة ثمان وأربعين ومائتين: د، ت، ق. تقريب: 295، وانظر: التاريخ الكبير 1/1/69، ميزان الاعتدال 3/530.
(2) يعقوب بن عبد الله بن سعد الأشعري، أبو الحسن القمي - بضم القاف وتشديد الميم - صدوق يهم، مات سنة أربع وسبعين ومائة: خت، الأربعة. تقريب: 386.
(3) جعفر بن أبي المغيرة الخزاعي القمي - بضم القاف - قيل اسم أبي المغيرة دينار، صدوق يهم، من الخامسة: بخ، د، ت، س، فق. تقريب: 56.
(4) سعيد بن عبد الرحمن بن أبزى الخزاعي مولاهم الكوفي، ثقة من الثالثة: ع. تقريب: 123.
(5) الكُراع: اسم لجميع الخيل. النهاية 4/165.
(6) سورة الفتح آية: 24.
(7) تاريخ الأمم والملوك 2/72، تفسير ابن جرير 26/95.(1/31)
هذا الحديث مرسل، وسنده إلى ابن أبزى ضعيف، لأن فيه ابن حميد، وهو محمد بن حميد الرازي: ضعفه أبو حاتم وغيره واتهمه أبو زرعة وغيره بالكذب(1).
وفي هذا الحديث - في الشطر الأخير منه - نكارة نبّه عليها بعض العلماء:
فقد نقله ابن كثير عن ابن جرير ثم قال: رواه ابن أبي حاتم عن ابن أبزى بنحوه، وهذا السياق فيه نظر، فإنه لا يجوز أن يكون عام الحديبية، لأن خالداً رضي الله عنه لم يكن أسلم بل قد كان طليعة للمشركين كما ثبت في الصحيح ولا يجوز أن يكون عمرة القضاء، لأنهم قاضوه على أن يأتي من العام القابل، فيعتمر ويقيم بمكة ثلاثة أيام، ولما قدم صلى الله عليه وسلم لم يمانعوه ولا حاربوه ولا قاتلوه، فإن قيل فيكون يوم الفتح.
فالجواب: ولا يجوز أن يكون يوم الفتح لأنه لم يسق عام الفتح هدياً، وإنما جاء محارباً مقاتلاً في جيش عرمرم، فهذا السياق فيه خلل، وقد وقع فيه شيء فليتأمل، والله أعلم ا.هـ(2)
وقال ابن حجر: وفي صحته نظر؛ لأن خالداً لم يكن أسلم في الحديبية، وظاهر السياق أن هذه القصة كانت في الحديبية، فلو كانت في عمرة القضية لأمكن، مع أن المشهور أنهم فيها لم يمانعوه ولم يقاتلوه(3) ا.هـ
قلت: التحقيق أن ما ذكره ابن كثير هو الأظهر، من أنه ليس في الحديبية، ولا في عمرة القضية، ولا في الفتح، وآفته ابن حميد قال عنه الذهبي: وهو مع إمامته منكر الحديث صاحب عجائب ا.هـ(4)
المبحث الثاني: عدد جيش المسلمين في غزوة الحديبية:
وردت نصوص كثيرة تشير إلى عدد المسلمين في هذه الغزوة جاء في بعضها أنهم كانوا بضع عشرة مائة، وورد في بعضها تحديد عددعم لكنها اختلفت فيه اختلافاً كبيراً.
وسأورد تلك النصوص ثم أذكر التوفيق بينها إن شاء الله:
(أ) ما ورد بأنهم كانوا بضع عشرة مائة:
__________
(1) ميزان الاعتدال 3/530، تهذيب التهذيب 9/127.
(2) تفسير ابن كثير 4/193.
(3) الكافي الشافي بتخريج أحاديث الكشاف 2/342 حاشية الكشاف.
(4) سير أعلام النبلاء 11/503.(1/32)
(18) قال البخاري حدثنا عبد الله بن محمد حدثنا سفيان قال: سمعت الزهري حين حدث هذا الحديث حفظت بعضه وثبتني معمر عن عروة بن الزبير عن المسور بن مخرمة ومروان بن الحكم يزيد أحدهما على صاحبه قائلاً: "خرج النبي صلى الله عليه وسلم عام الحديبية في بضع عشرة مائة من أصحابه..." الحديث(1).
(ب) التحديد بألف وثلاثمائة:
(19) قال مسلم: حدثنا عبيد الله بن معاذ حدثنا شعبة عن عمرو - يعني ابن مره - حدثني عبد الله بن أبي أوفى قال: كان أصحاب الشجرة ألفاً وثلاثمائة وكانت أسلم ثمن المهاجرين(2).
وأخرجه البخاري(3) تعليقاً قال: قال عبيد الله بن معاذ به فذكره.
وأخرجه ابن سعد(4) عن أبي داود الطيالسي عن شعبة به قال في أوله: "سمعت عبد الله بن أبي أوفى صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان قد شهد بيعة الرضوان..." ثم ذكر نحو لفظ مسلم.
وأخرجه البيهقي(5) من طريق أبي دواد الطيالسي بمثل لفظ ابن سعد.
(جـ) ما ورد في التحديد بألف وأربعمائة:
(20) قال البخاري: حدثنا علي حدثنا سفيان قال عمرو: سمعت جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية: "أنتم خير أهل الأرض، وكنا ألفاً وأربعمائة، ولو كنت أبصر لأريتكم مكان الشجرة"(6).(7)
وأخرجه(8) عن قتيبة بن سعيد عن سفيان به مختصراً بلفظ: "كنا يوم الحديبية ألفاً وأربعمائة".
__________
(1) سيأتي تخريجه برقم (35).
(2) صحيح مسلم، كتاب الإمارة: 75.
(3) صحيح البخاري، كتاب المغازي: 4155.
(4) الطبقات الكبرى 2/98.
(5) دلائل النبوة 2، لوحة: 213.
(6) الشجرة هي السمرة التي وقعت البيعة تحتها، انظر الحديث رقم (23 - 24).
(7) صحيح البخاري مع الفتح، كتاب المغازي: 4154.
(8) صحيح البخاري مع الفتح، كتاب التفسير: 4840.(1/33)
وأخرجه مسلم(1)، وأحمد(2)، والحميدي(3)، والبيهقي(4)، كلهم من طريق سفيان به نحو لفظ علي بن المديني، وليس عند أحمد: "ولو كنت أبصر لأريتكم موضع الشجرة".
وأخرجه البخاري(5) من طريق الأعمش قال حدثني سالم بن أبي الجعد عن جابر، فذكر في الحديث قصة تفجر الماء من بين أصابع النبي صلى الله عليه وسلم وفي آخر: قلت لجابر كم كنتم يومئذ؟ قال: ألف(6) وأربعمائة.
وأخرجه مسلم(7) والبيهقي(8) كلاهما من طريق الأعمش به مختصراً بلفظ: قلت لجابر كم كنتم يومئذ؟ قال: ألفاً وأربعمائة، زاد البيهقي: "أصحاب الشجرة".
وأخرجه البيهقي عن طريق أبي الزبير عن جابر بن عبد الله قال: كنا يوم الحديبية ألفاً وأربعمائة(9).
وأخرجه من طريق أبي سفيان عن جابر، فذكر عدد البدن التي نحروها ثم قال: "فقلنا لجابر، كم كنتم يومئذ؟ قال: ألفاً وأربعمائة، بخيلنا ورجالنا"(10).
__________
(1) صحيح مسلم، كتاب الإمارة: 71.
(2) مسند أحمد 3/308.
(3) مسند الحميدي 2/214.
(4) دلائل النبوة 2، لوحة: 214.
(5) صحيح البخاري مع الفتح، كتاب الأشربة: 5639.
(6) قال ابن حجر: كذا لهم بالرفع والتقدير: نحن يومئذ ألف وأربعمائة، ويجوز النصب على خبر كان، الفتح 10/102.
(7) صحيح مسلم، كتاب الأمارة: 74.
(8) دلائل النبوة 2، لوحة: 213.
(9) دلائل النبوة 2، لوحة: 214.
(10) دلائل النبوة 2، لوحة: 214.(1/34)
(21) وقال البخاري: حدثنا مالك بن إسماعيل حدثنا إسرائيل عن أبي إسحاق عن البراء رضي الله عنه قال: "كنا يوم الحديبية أربع(1) عشر مائة، والحديبية بئر، فنزحناها حتى لن نترك فيها قطرة، فجلس النبي صلى الله عليه وسلم على شفير(2) البئر، فدعا بماء فمضمض ومج في البئر فمكثنا غير بعيد ثم استقينا حتى روينا وروت - أو صدرت - ركائبنا"(3).
وأخرجه عن عبيد الله بن موسى عن إسرائيل به بلفظ: "تعدون أنتم الفتح فتح مكة، وقد كان فتح مكة فتحاً، ونحن نعد الفتح بيعة الرضوان يوم الحديبية: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم أربع عشرة..."(4) الحديث بنحوه.
وأخرجه(5) أحمد عن أبي أحمد عن إسرائيل به، فذكر نحو لفظ مالك بن إسماعيل.
وأخرجه(6) عن وكيع عن إسرائيل به مختصراً.
وأخرجه البيهقي من طريق عبد الله بن رجا، وعبيد الله بن موسى، كلاهما عن إسرائيل به، فذكره(7) بنحو لفظ عبيد الله بن موسى عند البخاري.
وأخرجه البخاري من طريق زهير بن معاوية عن أبي إسحاق بسياق آخر:
__________
(1) قال ابن حجر: قيل: إنما عدل الصحابي عن قول ألف وأربعمائة إلى قوله أربع عشرة مائة، للإشارة إلى أن الجيش كان منقسماً إلى المئات، وكانت كل مائة ممتازة عن الأخرى، إما بالنسبة إلى القبائل، وإما بالنسبة إلى الصفات. الفتح 7/444.
(2) شفير كل شيء حرفه. النهاية 2/485.
(3) صحيح البخاري مع الفتح، كتاب المناقب: 3577.
(4) صحيح البخاري مع الفتح، كتاب المغازي: 4150.
(5) مسند أحمد 4/290.
(6) مسند أحمد 4/290، 301.
(7) دلائل النبوة 2، لوحة: 219.(1/35)
(22) قال حدثنا فضيل بن يعقوب حدثنا الحسن بن محمد بن أعين أبو علي الحراني، حدثنا زهير حدثنا أبو إسحاق قال: أنبأنا البراء بن عازب رضي الله عنهما أنهم كانوا مع النبي صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية ألفاً وأربعمائة أو أكثر، فنزلوا على بئر فنزحوها، فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتى البئر، وقعد على شفيرها، ثم قال: "ائتوني من مائها فأتي به فبصق فدعا ثم" قال: "دعوها ساعة فأرووا أنفسهم وركابهم حتى ارتحلوا"(1).
(23) وقال مسلم حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا ليث ح وحدثنا محمد بن رمح أخبرنا الليث عن أبي الزبير عن جابر قال: كان يوم الحديبية ألفاً وأربعمائة فبايعناه وعمر أخذ بيده تحت الشجرة، وهي سمرة، وقال: بايعناه على ألا نفر، ولم نبايعه على الموت(2).
وأخرجه أحمد(3)، والدارمي(4)، كلاهما من طريق الليث به مثله إلا عند الدارمي "تحت الشجرة وهي ثمره".
وأخرجه مسلم من طريق ابن جرير بسياق آخر وصرح أبو الزبير بالسماع.
(24) قال حدثنا محمد بن حاتم حدثنا حجاج عن ابن جريج أخبرني أبو الزبير سمع جابراً يسأل كم كانوا يوم الحديبية؟ قال: كنا أربع عشرة مائة، فبايعنها وعمر أخذ بيده تحت الشجرة، وهي سمرة، فبايعناه غير جد بن قيس الأنصاري اختبأ تحت بطن بعيره(5).
وأخرجه ابن سعد(6) من طريق وهب بن منبه قال: سألت جابر بن عبد الله كم كانوا يوم الحديبية؟ قال: كنا أربع عشرة مائة..." في حديث طويل.
__________
(1) صحيح البخاري مع الفتح، كتاب المغازي: 4151.
(2) صحيح مسلم، كتاب الإمارة: 67.
(3) مسند أحمد 3/355.
(4) سنن الدارمي 2/220.
(5) صحيح مسلم، كتاب الإمارة: 69.
(6) الطبقات الكبرى 2/100.(1/36)
(25) وقال مسلم: حدثنا يحيى بن يحيى أخبرنا يزيد بن زريع عن خالد عن الحكم بن عبد الله بن الأعرج عن معقل بن يسار قال: لقد رأيتني يوم الشجرة والنبي صلى الله عليه وسلم يبايع الناس، وأنا رافع غصناً من أغصانها عن رأسه، ونحن أربع عشرة مائة، قال: لم نبايعه على الموت، ولكن بايعناه على ألا نفر(1).
وأخرجه(2) من طريق يونس عن الحكم به.
وأخرجه خليفة بن الخياط(3) عن عبد الوهاب عن خالد الحذاء به، بنحوه، وقال في آخره: "وهم يومئذ ألف وأربعمائة".
وأخرجه ابن سعد(4) من طريق يزيد بن زريع عن خالد الحذاء به نحوه، وفي آخره : "قلنا لمعقل كم كنتم يومئذ؟ قال: ألفاً وأربعمائة رجل".
وأخرجه(5) من طريق وهيب عن خالد الحذاء به نحوه وفي آخره قلنا: كم كنتم؟ قال: ألفاً وأربعمائة.
(26) وقال مسلم: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا هاشم بن القاسم ح، وحدثنا إسحاق بن إباهيم أخبرنا أبو عامر العقدي كلاهما عن عكرمة بن عمار العجلي ح، وحدثنا عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي وهذا حديثه اخبرنا أبو علي الحنفي عبد الله بن عبد المجيد حدثنا عكرمة (وهو ابن عمار) حدثني إياس بن سلمة حدثني أبي قال: قدمنا الحديبية مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن أربع عشرة مائة، وعليها خمسون شاة ما ترويها..." الحديث(6).
وأخرجه أحمد(7) عن عبد الصمد عن عكرمة به مطولاً.
وأخرجه ابن سعد(8) عن موسى بن مسعود النهدي عن عكرمة به مختصراً.
وأخرجه البيهقي(9) من طريق عبد الله بن رجاء وموسى بن إسماعيل، وكلاهما عن عكرمة بن مختصراً.
__________
(1) صحيح مسلم، كتاب الإمارة: 76.
(2) صحيح مسلم، كتاب الإمارة: 76.
(3) تاريخ خليفة: 81.
(4) الطبقات الكبرى 2/99.
(5) الطبقات الكبرى 2/100.
(6) صحيح مسلم، كتاب الجهاد والسير: 132.
(7) مسند أحمد 4/84.
(8) الطبقات الكبرى 2/98.
(9) دلائل النبوة، لوحة: 219.(1/37)
(27) وقال يحيى بن معين: حدثنا شبابة(1) قال: حدثنا شعبة(2) عن قتادة(3) عن سعيد(4) بن المسيب عن أبيه(5) قال: بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت الشجرة ألفاً وأربعمائة(6).
والحديث أخرجه البيهقي(7) من طريق يحيى بن معين به نحوه.
رجال هذا الإسناد رجال الصحيحين، ولا تضره عنعنة قتادة؛ لأن أصله في الصحيح من حديث البراء وجابر ومعقل بن يسار وسلمة بن الأكوع السابق.
(د) ما ورد في التحديد بألف وخمسمائة:
__________
(1) شبابة بن سوار المدائني أصله من خراسان يقال: كان اسمه مروان مولى بني فزارة، ثقة حافظ، رمي بالإرجاء، مات سنة أربع أو خمس أو ست ومائتين: ع. تقريب: 143.
(2) شعبة بن الحجاج بن الورد العتكي مولاهم، أبو بسطام الواسطي ثم البصري، ثقة حافظ، متقن، كان الثوري يقول: هو أمير المؤمنين في الحديث، وهو أول من فتش بالعراق عن الرجال وذب عن السنة، وكان عابداً مات سنة ستين ومائة:ع. تقريب: 145.
(3) قتادة بن دعامة السدوسي.
(4) سعيد بن المسيب بن حزن بن أبي وهب بن عمرو بن عابد بن عمران بن محزوم القرشي المخزومي، أحد العلماء الأثبات الفقهاء الكبار، اتفقوا على أن مرسلاته أصح المراسيل، وقال ابن المديني: لا أعلم في التابعين أوسع علماً منه، مات بعد التسعين وقد ناهز الثمانين: ع. تقريب: 126.
(5) المسيب بن حزن - بفتح المهلمة وسكون الزاي - ابن وهب المخزومي، أبو سعيد له ولأبيه صحبة، عاش إلى خلافة عمر رضي الله عنه: خ، م، د، س. تقريب: 337.
(6) تاريخ يحيى بن معين 1/321.
(7) دلائل النبوة 2/214.(1/38)
(28) قال البخاري: حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا عبد العزيز ابن مسلم حدثنا حصين عن سالم بن أبي الجعد عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: "عطش الناس يوم الحديبية، والنبي صلى الله عليه وسلم بين يديه ركوة(1) فتوضأ فجهش(2) الناس نحوه، فقال: مالكم؟ قالوا: ليس عندنا ماء نتوضأ ولا نشرب إلا ما بين يديك، فوضع يده في الركوة فجعل الماء يثور(3) بين أصابعه كأمثال العيون، فشربنا وتوضأنا قلت: كم كنتم؟ قال: لو كنا مائة ألف لكفانا كان خمس عشرة مائة"(4).
وأخرجه(5) من طريق محمد بن فضيل عن حصين عن سالم به نحوه، وعنده "فجعل الماء يفور...".
وأخرجه مسلم من طريق(6) عبد الله بن إدريس وخالد الطحان، كلاهما عن حصين به مختصراً بلفظ: قال: لو كان مائة ألف لكفانا، كنا خمس عشرة مائة.
وأخرجه مختصراً أيضاً من طريق(7) عمرو بن مرة عن سالم بن أبي الجعد قال: سألت جابر بن عبد الله عن أصحاب الشجرة؟ فقال: لو كنا مائة ألف لكفانا كنا ألفاً وخمسمائة.
وأخرجه أحمد من طريق(8) عبد العزيز بن مسلم عن حصين به نحوه.
وأخرجه من طريق(9) شعبة عن حصين وعمرو بن مرة، كلاهما عن سالم عن جابر بألفاظ متقاربة وفيه اختصار.
وأخرجه ابن سعد(10) من طريق عمرو بن مرة عن سالم بن أبي الجعد قال: "سألت جابر بن عبد الله كم كنتم يوم الشجرة. قال: كنا ألفاً وخمسمائة... وذكره بنحو رواية حصين عند البخاري.
__________
(1) الركوة: إناء صغير يشرب فيه الماء والجمع ركاء. النهاية 2/261.
(2) الجهش: أن يفزع الإنسان إلى الإنسان ويلجأ إليه. النهاية 1/322.
(3) يثور: ينبع بقوة وشدة. النهاية 1/228.
(4) صحيح البخاري مع الفتح، كتاب المناقب: 3576.
(5) صحيح البخاري مع الفتح، كتاب المغازي: 4152.
(6) صحيح مسلم، كتاب الإمارة: 73.
(7) صحيح مسلم، كتاب الإمارة: 72.
(8) مسند أحمد 3/329.
(9) مسند أحمد 3/365.
(10) الطبقات الكبرى 2/98.(1/39)
وأخرجه البيهقي(1) من طريق حصين به مختصراً ولفظه: قال: لو كنا مائة ألف لكفانا، لنا خمس عشرة مائة.
وفيه من حديث جابر أيضاً:
(29) قال البخاري حدثنا الصلت قال: حدثنا يزيد بن زريع عن سعيد عن قتادة: "قلت لسعيد بن المسيب: بلغني أن جابر بن عبد الله كان يقول: كانوا أربع عشرة مائة، فقال لي سعيد: حدثني جابر كانوا خمس عشرة مائة الذين بايعوا النبي صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية(2).
وأخرجه خليفة(3) عن يزيد بن زريع به بلفظ: قلت لسعيد بن المسيب: بلغني أن جابر بن عبد الله يقول: كانوا أربع عشرة مائة، قال: نسي جابر كانوا ألفاً وخمسمائة.
وأخرجه(4) من طريق قرة عن قتادة عن سعيد قال: وَهَمَ جابر رحمه الله، هو حدثني أنهم كانوا ألفاً وخمسمائة.
وأخرجه البيهقي(5) من طريق قرة عن قتادة قال: قلت لسعيد بن المسيب: كم كانوا الذين شهدوا بيعة الرضوان قال: خمس عشرة مائة قال: قلت: فإن جابر بن عبد الله قال: كانوا أربع عشرة مائة، قال: يرحمه الله وَهَمَ هو حدثني أنهما كانوا خمس عشرة مائة.
(هـ) التحديد بسبعمائة:
قال الإمام أحمد: حدثنا يزيد(6) بن هارون قال: أنا محمد بن إسحاق عن الزهري محمد بن مسلم بن شهاب عن عروة بن الزبير عن المسور بن مخرمة ومروان بن الحكم قالا: خرج النبي صلى الله عليه وسلم عام الحديبية يريد زيارة البيت لا يريد قتالاً وساق معه الهدي سبعين بدنة، وكان الناس سبعمائة رجل، فكانت كل بدنة عن عشرة... الحديث(7).
سند هذا الحديث حسن، وسيأتي الكلام عليه إن شاء الله.
(و) التحديد بألف وخمسمائة وخمسة وعشرين:
__________
(1) دلائل النبوة 2، لوحة: 213.
(2) صحيح البخاري مع الفتح، كتاب المغازي: 4153.
(3) تاريخ خليفة بن خياط: 81.
(4) تاريخ خليفة بن خياط: 81.
(5) دلائل النبوة 2، لوحة: 213.
(6) ستأتي ترجمته مع بقية رجال السند انظر ص: 95.
(7) المسند 3/323، وسيأتي الحديث برقم (36)، وهناك يكون تخريجه والكلام على سنده.(1/40)
(30) قال ابن جرير: حدثني محمد(1) بن سعد قال: حدثني أبي(2) قال: حدثني عمي(3) قال: حدثني أبي(4)
__________
(1) هو: محمد بن سعد بن محمد بن الحسن بن عطية العوفي، قال الخطيب: كان ليناً في الحديث، وقال الدارقطني: لا بأس به، توفي سنة ست وسبعين ومائتين. تاريخ بغداد 5/322 - 323، لسان الميزان 5/174.
قلت: محمد بن سعد هذا غير كاتب الواقدي صاحب الطبقات، فالأخير ثقة، وكانت وفاته سنة ثلاثين ومائتين، وعمر ابن جرير آنذاك ست سنوات فقط.
(2) هو: سعيد بن محمد بن الحسن بن عطية العوفي، قال أحمد فيه: جهمي، ثم قال: ولو لم يكن هذا لم يكن ممن يستأهل أن يكتب عنه، ولا كان موضعاً لذاك.
تاريخ بغداد 9/126 - 127، لسان الميزان 3/18.
(3) هو الحسين بن الحسن بن عطية العوفي، قال ابن حبان: يروي الأشياء لا يتابع عليها لا يجوز الاحتجاج بخبره، وضعفه أبو حاتم والنسائي ابن سعد، وقال الجوزجاني: واهي الحديث، وذكره العقيلي في الضعفاء.
الجرح والتعديل 1/2/48، لسان الميزان 2/278.
(4) الحسن بن عطية بن سعد العوفي، ضعيف من السادسة: د. تقريب: 70.
وقال البخاري: ليس بذاك، وقال أبو حاتم: ضعيف الحديث. التاريخ الكبير 1/2/301، الجرح والتعديل 1/2/36.(1/41)
عن أبيه(1) عن ابن عباس(2) قال: كان أهل البيعة تحت الشجرة ألفاً وخمسمائة وخمسة وعشرين(3).
وقد عزا ابن حجر(4) هذا الحديث لابن مردويه وذكر أنه موقوف على ابن عباس.
وسند هذا الحديث مسلسل بالضعفاء، فأولهم محمد بن سعد شيخ ابن جرير، قال عنه الخطيب: كان ليناً في الحديث، وقال الدارقطني: لا بأس به(5)، وعطية العوفي الراوي عن ابن عباس قال عنه يحيى بن معين: صالح، وضعفه أحمد والنسائي وجماعة، وقال أبو حاتم: يكتب حديثه ضعيف، ورجح الذهبي تضعيفه(6).
أما الثلاثة الآخرون فهم ضعاف بالمرة(7).
وقد عدهم (أي عطية وأولاده) ابن رجب في البيوت التي اشتهرت بالضعف(8).
تنبيه:
أورد ابن القيم هذا السند وقال عنه: "وهذا إسناد معروف يروي به ابن جرير وابن أبي حاتم وعبد بن حميد وغيرهم التفسير وغيره عن ابن عباس، وهو إسناد معروف متداول بين أهل العلم وهم ثقات(9).
قلت: قول ابن القيم رحمه الله "وهم ثقات" وهمٌ منه، فلم يوثق أحد من رجال هذا الإسناد، وقد رأينا أقوال أئمة الجرح والتعديل فيهم.
__________
(1) عطية بن سعد بن جنادة - بضم الجيم بعدها نون خفيفة - العوفي الجدلي - بفتح الجيم والمهملة - الكوفي أبو الحسن، صدوق يخطئ كثيراً، كان شيعياً مدلساً، مات سنة إحدى عشرة ومائة: بخ، د، ت، ق. تقريب: 240.
(2) عبد الله بن عباس بن عبد المطلب ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم ولد قبل الهجرة بثلاث سنين، ودعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم بالفهم في القرآن فكان يسمى البحر والحبر لسعة علمه، وقال عمر: لو أدرك ابن عباس أسناننا ما عشره منا أحد، مات سنة ثمان وستين بالطائف، وهو أحد المكثرين من الصحابة، وأحد العبادلة من فقهاء الصحابة: ع. تقريب: 178.
(3) تاريخ الأمم والملوك 2/271.
(4) الكافي الشافي في تخريج أحاديث الكشاف 4/340 مع الكشاف.
(5) انظر ترجمته الصفحة السابقة.
(6) ميزان الاعتدال 3/79 - 80.
(7) انظر تراجمهم.
(8) شرح علل الترمذي: 524.
(9) مختصر الصواعق 2/279.(1/42)
(ز) التحديد بألف وخمسمائة وأربعين:
(31) قال البلاذري: "حدثني الحسين(1) بن الأسود قال: حدثني أبو بكر(2) بن عياش عن الكلبي(3) عن أبي صالح(4) عن ابن عباس قال: قسمت خيبر على ألف وخمسمائة سهم، وثمانين سهماً، وكانوا ألفاً وخمسمائة وثمانين رجلاً الذين شهدوا الحديبية، فيهم ألف وخمسمائة وأربعون، والذين كانوا مع جعفر بن أبي طالب بأرض الحبشة أربعون رجلاً"(5).
سند هذا الحديث ضعيف جداً، وربما كان موضوعاً، ففيه الكلبي وهو متهم بالكذب، وفيه أبو صالح باذام ضعْف لا سيما في رواية الكلبي عنه، قال ابن معين: "ليس به بأس، وإذا روى عنه الكلبي فليس بشيء"(6).
(حـ) التحديد بألف وسبعمائة:
__________
(1) الحسن بن علي بن الأسود العجلي، أبو عبد الله الكوفي، نزيل بغداد صدوق يخطئ كثيراً لم يثبت أن أبا داودا روى عنه من الحادية عشرة: ت. تقريب: 74.
(2) أبو بكر بن عياش - بتحتانية ومعجمة - ابن سالم الأسدي، الكوفي، المقرئ الحناظ - بمهملة ونون - مشهور بكنيته والأرجح أنها اسمه، وفي اسمه عشرة أقوال، ثقة عابد إلا أنه لما كبر ساء حفظه وكتابه صحيح، مات سنة أربع وتسعين ومائة، وقيل قبل ذلك سنة أو سنتين، وقد قارب المائة: ع. تقريب: 396.
(3) محمد بن السائب بن بشر الكلبي، أبو النضر الكوفي النسابة المفسر، متهم بالكذب ورمي بالرفض، مات سنة ست وأربعين ومائة: ت، فق. تقريب: 298.
(4) هو: باذام - بالذال المعجمة ويقال آخره نون - أبو صالح مولى أم هانئ، ضعيف مدلس، من الثالث: الأربعة. تقريب: 42.
(5) فتوح البلدان: 32.
(6) تهذيب التهذيب 1/416.(1/43)
(32) قال ابن أبي شيبة: حدثنا عبيد الله(1) بن موسى عن موسى(2) ابن عبيدة عن إياس(3) بن سلمة عن أبيه(4) قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة الحديبية، فنحرنا مائة بدنة، ونحن سبع عشرة مائة، ومعهم عدة السلاح والرجال والخيل، وكان في بدنة جمل، فنزل بالحديبية فصالحته قريش على أن هذا الهدي محله حيث حبسناه(5).
وأخرجه ابن سعد(6) بسند ابن أبي شيبة مثله، وفيه: "ونحن بضع عشرة مائة".
سند هذا الحديث ضعيف جداً لضعف موسى بن عبيدة، قال عنه أحمد: لا يكتب حديثه، وضعفه النسائي(7)، وابن عدي وغيرهم.
(ط) التحديد بألف وثمانمائة:
__________
(1) عبيد الله بن موسى بن أبي المختار باذام العبسي الكوفي، أبو محمد ثقة كان يتشيع، قال أبو حاتم: كان أثبت في إسرائيل من أبي نعيم واستصغر في سفيان الثوري، مات سنة ثلاث عشرة ومائتين على الصحيح: ع. تقريب: 227.
(2) موسى بن عبيدة بضم أوله ابن نشيط - بفتح النون وكسر المعجمة بعدها تحتانية ساكنة ثم مهملة - الربذي - بفتح الراء والموحدة ثم معجمة - أبو عبد العزيز المدني ضعيف لا سيما في عبد الله بن دينار، وكان عابداً، مات سنة ثلاث وخمسين ومائة: ت، ق. تقريب: 351.
(3) إياس بن سلمة بن الأكوع الأسلمي أبو سلمة ويقال: أبو بكر المدني ثقة، مات سنة تسع عشرة ومائة، وهو ابن سبع وسبعين سنة: ع. تقريب: 40.
(4) هو: سلمة بن عمرو بن الأكوع الأسلمي، أبو مسلم أو أبو إياس شهد بيعة الرضوان، مات سنة أربع وستين: ع. تقريب: 131.
(5) تاريخ ابن أبي شيبة، لوحة: 60.
(6) الطبقات الكبرى 2/102.
(7) ميزان الاعتدال 4/213.(1/44)
(33) قال ابن أبي شيبة: حدثنا خالد(1) بن مخلد قال: حدثنا عبد الرحمن(2) بن عبد العزيز الأنصاري قال: حدثني ابن شهاب قال: حدثني عروة بن الزبير: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج عام الحديبية في ألف وثمانمائة وبعث بين يديه عيناً له من خزاعة..."(3) الحديث.
هذا طرف من حديث طويل في قصة الحديبية وهو مرسل:
وسنده إلى عروة ضعيف أيضاً: حيث تفرد به خالد بن مخلد القطواني، وقد قال عنه أحمد: له مناكير(4)، وقال ابن حجر صدوق يتشيع، وله أفراد(5).
قلت: وهذا من إفراده، وفيه عبد الرحمن بن عبد العزيز الأنصاري: قال عنه أبو حاتم مضطرب الحديث(6)، وقال ابن حجر: صدوق يخطئ(7)، وقد خالف هذا الأثر الروايات الصحيحة.
التوفيق بين النصوص
عندما يستعرض القارئ النصوص الواردة بتحديد عدد الذين شهدوا غزوة الحديبية من المسلمين، يجد الفرق بينها واسعاً، والبون شاسعاً، فمن تلك النصوص ما يحدهم بسبع مائة، ومنها ما يحدهم بألف وثمانمائة، وهناك نصوص تذكر تحديدات أخرى بين هذين العددين، فلذلك لا بد من وقفة مع تلك النصوص حتى يتبين العدد الحقيقي لجيش المسلمين في هذه الغزوة.
عند اختلاف النصوص يصار التوفيق بينها إما بالجمع إن أمكن، وإلا بالترجيح عند تعذر الجمع.
__________
(1) خالد بن مخلد القطواني - بفتح القاف والطاء - أبو الهيثم البجلي مولاهم الكوفي، صدوق يتشيع وله أفراد، مات سنة ثلاث عشرة ومائتين، وقيل بعدها: خ، م، كد، ت، س، ق. تقريب: 90.
(2) عبد الرحمن بن عبد العزيز بن عبد الله بن عثمان بن حنيف الأنصاري الأوسي، أبو محمد المدني الأمامي - بالضم - صدوق يخطئ، مات سنة اثنتين وستين ومائة، وهو ابن بضع وسبعين: م. تقريب: 206.
(3) تاريخ ابن أبي شيبة، لوحة: 61.
(4) تهذيب التهذيب 3/117.
(5) انظر ترجمته في الصفحة السابقة.
(6) الجرح والتعديل 2/2/260.
(7) انظر ترجمته في الصفحة السابقة.(1/45)
لكن هناك خطوة أولى يجب البدء بها، وهي معرفة درجة كل من تلك النصوص، هل كلها في درجة المقبول الذي يعمل به، أو بينها ما هو مردود فيطرح.
ومن خلال الدراسة السابقة لأسانيد تلك النصوص، رأيت أن بعضها لا يعول عليه لضعفه الشديد وهي الروايات التالية:
رواية ألف وخمسمائة وخمسة وعشرين، ورواية ألف وخمسمائة وأربعين ورواية ألف وسبعمائة، ورواية ألف وثمانمائة.
وكذلك التحديد بسبعمائة مردود أيضاً وإن ورد في رواية سندها حسن، إلا أنه من كلام ابن إسحاق أحد رواة الحديث، لذلك استبعد العلماء هذا التحديد: قال ابن حزم: وقد قال بعضهم كانوا سبعمائة، وهذا وهم شديد البتة(1).
وقال ابن القيم: "وغلط غلطاً بيناً من قال: كانوا سبعمائة وعذرهم أنهم نحروا يومئذ سبعين بدنة، والبدنة قد جاء إجزاؤها عن سبعة وعن عشرة، وهذا لا يدل على ما قاله هذا القائل، فإنه قد صرح بأن البدنة كانت في هذه العمرة عن سبعة، فلو كانت السبعون عن جميعهم لكانوا أربعمائة وتسعين رجلاً، وقد قال في تمام الحديث بعينه: إنهم كانوا ألفاً وأربعمائة" ا.هـ(2)
وقال ابن حجر: "وأما قول ابن إسحاق أنهم كانوا سبعمائة، فلم يوافق عليه، لأنه قاله استنباطاً من قول جابر: "فنحرنا البدنة عن عشرة "وكانوا نحروا سبعين بدنة، وهذا لا يدل على أنهم لم ينحروا غير البدن، مع أن بعضهم لم يكن أحرم أصلاً" ا.هـ(3)
قلت: الثابت عن جابر: "أنهم نحروا البدنة عن سبعة" وذكر البيهقي رواية عن سفيان الثوري عن أبي الزبير عنه "أنهم نحروا البدنة عن عشرة" لكن اعتبرها البيهقي وهماً(4).
__________
(1) جوامع السيرة: 207.
(2) زاد المعاد 3/288.
(3) فتح الباري 7/440.
(4) السنن الكبرى 5/236، وسيأتي الكلام عليها، انظر ص:(1/46)
فالتحقيق أن هذا التحديد من كلام ابن إسحاق كما قال ابن حجر، والدليل على ذلك أن كلاً من معمر وسفيان بن عيينة قد تابع ابن إسحاق في شيخه الزهري ولم يذكر واحد منهما هذا التحديد، بل ورد عنهما أن المسلمين كانوا بضع عشرة مائة، وإذا ثبت أنه من كلام ابن إسحاق فلا يعول عليه لمخالفته النصوص الصحيحة.
بقي أمامنا التحديد بألف وثلاثمائة، وألف وأربعمائة، وألف وخمسمائة، وهذا التحديد قد وردت به نصوص صحيحة، لا يمكن ردها، لذلك حاول العلماء التوفيق بينها، وسلكوا في ذلك طريقين:
(أ) طريق الترجيح:
وقد سلك هذا الطريق البيهقي، حيث رجح رواية ألف وأربعمائة.
فقد أخرج رواية ألف وأربعمائة عن جابر ثم عقب عليها بقوله: وهذه الرواية أصح، فلذلك قاله البراء بن عازب، ومعقل بن يسار، وسلمة بن الأكوع في أصح الروايتين عنه ا.هـ(1)
ونقل ذلك عنه ابن حجر قال: "وأما البيهقي فمال إلى الترجيح، وقال: إن رواية ألف وأربعمائة أصح" .اهـ(2)
ومال إلى الترجيح أيضاً ابن القيم: فقد ذكر رواية ألف وأربعمائة عن جابر ثم قال عقبها: "والقلب إلى هذا أميل"(3).
(ب) طريق الجمع:
وقد جنح بعض العلماء إلى الجمع بين تلك النصوص، فقد ذكر النووي الرواية الثلاث: ألف وثلاثمائة، وألف وأربعمائة، وألف وخمسمائة، ثم قال: ويمكن أن يجمع بينها بأنهم كانوا أربعمائة وكسر، فمن قال أربعمائة لم يعتبر الكسر، ومن قال خمسمائة اعتبره، ومن قال ألف وثلاثمائة ترك بعضهم لكونه لم يتقن العد، أو لغير ذلك ا.هـ(4)
وممن ذهب إلى الجمع أيضاً ابن حجر، فقد ذكر نحو كلام النووي وزاد عليه، فبعد أن ذكر الروايات الثلاث قال: والجمع بين هذا الاختلاف أنهم كانوا أكثر من ألف وأربعمائة، فمن قال ألفاً وخمسمائة جبر الكسر، ومن قال ألفاً وأربعمائة ألغاه.
__________
(1) دلائل النبوة 2، لوحة 214.
(2) فتح الباري 7/440.
(3) زاد المعاد 3/288.
(4) شرح النووي على صحيح مسلم 13/2.(1/47)
ويؤيده قوله في الرواية الثالثة من حديث براء "ألفاً وأربعمائة أو أكثر أما قول عبد الله بن أبي أوفى: ألفاً وثلاثمائة، فيمكن حمله على ما اطلع عليه هو، واطلع غيره على زيادة ناس لم يطلع هو عليهم، والزيادة من الثقة مقبولة أو العدد الذي ذكره جملة من ابتداء الخروج من المدينة والزائد تلاحقوا بهم بعد ذلك، أو العدد الذي ذكره عدد المقاتلة والزيادة عليه من الأتباع من الخدم والنساء والصبيان الذين لم يبلغوا الحلم ا.هـ(1)
قلت: الظاهر أن مسلك التوفيق بين النصوص إن أمكن أولى من الترجيح، لا سيما والنصوص الواردة في العدد المذكور صحيحة كلها، وتوجيه ابن حجر ممكن وظاهر، فيجب الأخذ به، وقد تضمن ما ذكر النووي.
وأما رواية "بضع عشرة مائة" فيمكن حملها على أحد الأعداد الثلاثة، لأن البضع يصدق على العدد من ثلاثة إلى عشرة، والله أعلم.
وهناك قول لموسى بن عقبة(2) والواقدي(3) وابن سعد(4): أن المسلمين كانوا ألفاً وستمائة، وهو اجتهاد منهم في مقابل النص، ولم يذكروا مستنداً لذلك، فلا يلتفت إليه، ولم أذكره مع ما سبق لأنه لم يرد مسنداً.
الفصلُ الرابعُ
نزولُ المسلمينَ بذي الحُليفةِ ومَا عملوهُ بها
وفيه مبحثانِ:
المبحث الأول: صلاة المسلمين بذي الحليفة وإحرامهم بالعمرة.
المبحث الثاني: إرسال النبي صلى الله عليه وسلم بسر بن سفيان عيناً إلى مكة.
المبحث الأول: صلاة المسلمين بذي الحليفة وإحرامهم بالعمرة:
خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن معه من المهاجرين والأنصار ومن تبعهم من الأعراب(5)، فلما انتهى إلى ذي الحليفة نزل بها وصلى بها الظهر:
__________
(1) فتح الباري 7/440.
(2) فتح الباري 7/440.
(3) المغازي للواقدي 2/574.
(4) الطبقات الكبرى 2/95.
(5) انظر سيرة ابن هشام 3/308.(1/48)
(34) قال مسلم: "حدثنا إبراهيم بن دينار حدثنا حجاج بن محمد الأعور مولى سليمان بن مجالد قال: قال ابن جريج: وأخبرني أبو الزبير أنه سمع جابر بن عبد الله يسأل: هل بايع النبي صلى الله عليه وسلم بذي الحليفة؟ فقال: لا، ولكن صلى بها، ولم يبايع عند شجرة إلا الشجرة التي بالحديبية(1).
وأخرجه(2) أحمد بن طريق ابن جريج به مثله.
لم يعين في حديث جابر هذا الصلاة التي صلوها بذي الحليفة، لكن ذكر الواقدي(3) وابن سعد(4) أنهم صلوا بها صلاة الظهر.
ثم أحرم النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه بالعمرة، وساقوا الهدي:
(35) قال البخاري: حدثنا أحمد بن محمد أخبرنا عبد الله أخبرنا معمر عن الزهري عن المسور بن مخرمة ومروان بن الحكم قالا: "خرج النبي صلى الله عليه وسلم زمن الحديبية في بضع عشرة مائة من أصحابه حتى إذا كان بذي الحليفة قلد الهدي، وأشعره(5) وأحرم بالعمرة"(6).
هذا طرف من حديث المسور ومروان الطويل في قصة الحديبية، أورده البخاري هنا مختصراً من طريق معمر، وقد أخرجه(7) من طريقه بطوله في كتاب الشروط إلا أنه حذف من أوله الإهلال بالعمرة ومن طريقه أيضاً(8) أخرج جزءاً منه في كتاب المحصر.
ومن طريق معمر أيضاً أخرجه(9) أبو داود بطوله إلا أنه وقع فيه اختصار نبه عليه الخطابي بسنده من طريق معمر هذه فذكره بتمامه(10).
ومن طريق معمر أيضاً أخرجه أحمد(11) بتمامه.
__________
(1) صحيح مسلم، كتاب الإمارة: 70.
(2) مسند أحمد 3/325.
(3) مغازي الواقدي 2/573.
(4) الطبقات الكبرى 2/95.
(5) أشعره: إشعار البدن أن يشق أحد جنبي سنام البدنة حتى يسيل دمها، ويجعل ذلك علامة لها تعرف به أنها هدي. النهاية 2/479.
(6) صحيح البخاري مع الفتح، كتاب الحج: 1694 - 1695.
(7) صحيح البخاري مع الفتح، كتاب الشروط: 2731 - 2732.
(8) صحيح البخاري مع الفتح، كتاب المحصر: 1811.
(9) سنن أبي داود مع معالم السنن، كتاب الجهاد: 2765.
(10) معالم السنن 3/159، مع سنن أبي داود.
(11) مسند أحمد 4/328.(1/49)
وأخرج النسائي(1) طرفاً من أوله.
وأخرجه البخاري من طريق(2) سفيان بن عيينة عن الزهري به فذكر أوله فقط.
ومن طريقه أخرج أبو داود(3) وأحمد(4) طرفاً من أوله.
وأخرجه البخاري من طريق(5) عقيل عن الزهري به قال فيه: "يخبران عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم" ثم ذكر جزءاً من آخره.
وأخرجه من طريق(6) ابن أخي الزهري عن عمه به، فذكر جزءاً من وسطه.
والحديث أخرجه أحمد بن طريق ابن إسحاق عن الزهري مطولاً بسياق آخر:
(36) قال: حدثنا يزيد(7) بن هارون أنا محمد(8) بن إسحاق عن الزهري(9) به قالا: "خرج النبي صلى الله عليه وسلم عام الحديبية يريد زيارة البيت، لا يريد قتالاً، وساق معه الهدي سبعين بدنة"(10) الحديث، وفيه زيادات ستأتي في مظانها.
ومن طريق ابن إسحاق أخرجه ابن هشام، وصرح عنده بالسماع من الزهري.
__________
(1) سنن النسائي 5/170.
(2) صحيح البخاري مع الفتح، كتاب كتاب المغازي: 4178 - 4179.
(3) سنن أبي داود مع معالم السنن، كتاب الحج: 1754.
(4) مسند أحمد 4/323.
(5) صحيح البخاري مع الفتح، كتاب الشروط: 2711 - 2712.
(6) صحيح البخاري مع الفتح، كتاب المغاوي: 4180 - 4181.
(7) يزيد بن هارون بن زاذان السلمي مولاهم، أبو خالد الواسطي، ثقة متقن عابد، مات سنة ست ومائتين وقد قارب التسعين: ع. تقريب: 385.
(8) محمد بن إسحاق بن يسار أبو بكر المطلبي مولاهم، المدني نزيل العراق، إمام المغازي، صدوق يدلس رمي بالتشيع والقدر، مات سنة خمسين ومائة، ويقال بعدها: خت، م، الأربعة. تقريب: 290، تهذيب التهذيب 9/38.
(9) محمد بن مسلم بن شهاب الزهري، أبو بكر الفقيه الحافظ متفق على جلالته وإتقانه، مات سنة خمس وعشرين ومائة، وقيل قبل ذلك بسنة أو سنتين: ع. تقريب: 318.
(10) مسند أحمد 4/323.(1/50)
قال ابن هشام(1) قال ابن إسحاق: حدثني محمد بن مسلم بن شهاب الزهري به، فذكره بطوله.
وأخرجه البيهقي(2) من طريقه أيضاً، وصرح فيه بالسماع من الزهري:
فقد ساقه بسنده إلى يونس(3) بن بكير عن محمد بن إسحاق، حدثني الزهري به مختصراً.
واللفظ الوارد من طريق ابن إسحاق حسن، فقد صرح بالسماع من الزهري عند ابن هشام والبيهقي، وابن إسحاق إذا صرح بالسماع فحديثه حسن، كما قرر ذلك الذهبي وابن حجر:
قال الذهبي: بعد أن نقل أقوال أئمة الجرح والتعديل فيه: "والذي يظهر لي أن ابن إسحاق حسن الحديث صالح الحال صدوق، وما تفرد به ففيه نكارة فإن في حفظه شيئاً، وقد احتج به الأئمة(4)، والله أعلم ا.هـ
وقال الذهبي عنه أيضاً: "كان أحد أوعية العلم حبراً في معرفة المغازي والسير، وليس بذاك المتقن، فانحط حديثه عن رتبة الصحة، وهو صدوق في نفسه مرضى"(5) ا.هـ
وقال ابن حجر: "ما ينفرد به وإن لم يبلغ درجة الصحيح فهو في درجة الحسن، إذا صرح بالتحديث... وإنما يصحح له من لا يفرق بين الصحيح والحسن ويجعل كل ما يصلح للحجة صحيحاً، وهذه طريقة ابن حبان، ومن ذكر معه"(6) ا.هـ
وحديث المسور ومروان ظاهره الإرسال، لأن المسور ومروان لم يشهد أحد منهما القصة.
أما المسور فقدومه للمدينة كان في السنة الثامنة بعد الفتح، وهو ابن ست سنين(7)، بينما كانت الحديبية في السنة السادسة.
__________
(1) سيرة ابن هشام 3/308، والواسطة بين ابن هشام وابن إسحاق هو زياد البكائي، وهو ثبت في المغازي، انظر: سير أعلام النبلاء 10/429، تقريب: 110.
(2) السنن الكبرى 5/235، دلائل النبوة 2، لوحة: 219.
(3) يونس بن بكير بن واصل الشيباني، أبو بكر الجمال الكوفي، صدوق يخطئ، مات سنة تسع وتسعين ومائة: خت، م، ت، ق. تقريب: 390، تهذيب التهذيب 11/434.
(4) ميزان الاعتدال 3/475.
(5) تذكرة الحفاظ 1/173.
(6) فتح الباري 11/163.
(7) الإصابة 9/204.(1/51)
وأما مروان بن الحكم فلم تثبت له صحبة(1).
لكن جاء من طريق عقيل عند البخاري(2): "يخبران عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فهذه الطريق أوضحت أن المسور ومروان سمعا الحديث من بعض الصحابة، وجهالة الصحابي لا تضر"(3)؛ لأن الصحابة كلهم عدول.
وقد وقع في أثناء القصة ما يفيد أنهما سمعاها من عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فقد جاء في الحديث: قال عمر بن الخطاب: فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم...
وقد عقب ابن حجر على هذه العبارة بقوله: "هذا مما يقوي أن الذي حدث المسور ومروان بقصة الحديبية، هو عمر"(4) انتهى.
المبحث الثاني: إرسال النبي صلى الله عليه وسلم بسر بن سفيان عيناً إلى مكة:
وردت قصة إرسال بسر بن سفيان إلى مكة في حديث المسور بن مخرمة ومروان ابن الحكم من طريق سفيان بن عيينة ومن طريق محمد بن إسحاق، فقد جاء في حديثهما من طريق سفيان ما نصه: "فلما أتى ذي الحليفة قلد الهدي وأشعره وأحرم منها بالعمرة، وبعث عيناًً(5) له من خزاعة، وسار النبي صلى الله عليه وسلم حتى إذا كان بغدير الأشطاط(6) أتاه عينه..."(7).
__________
(1) تهذيب التهذيب 10/91، تقريب التهذيب: 332.
(2) تقدم ص: 55.
(3) تقريب النووي 1/207، مع شرحه تدريب الراوي.
(4) فتح الباري 5/346.
(5) عيناً أي: جاسوساً. النهاية 3/331.
(6) غدير الأشطاط: بفتح أوله وإسكان ثانيه بعدها مهملة وألف وطاء أخرى، على وزن أفعال - تلقاء الحديبية وهو المذكور في حديث الحديبية. معجم ما استعجم 1/153.
قلت: جاء في رواية معمر عند أحمد أنه قريب من عسفان. انظر ص 59.
(7) صحيح البخاري مع الفتح، كتاب المغازي: 4178 - 4179، وتقدم تخريجة حديث رقم (35).(1/52)
هكذا جاء في رواية سفيان "عيناً من خزاعة، ولم يسمه، لكن ورد التصريح باسمه في رواية ابن إسحاق حيث قال: "وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا كان بعسفان(1)، لقيه بشر بن سفيان الكعبي، فقال: يا رسول الله هذه قريش قد سمعت بمسيرك"(2).
وربما يتوهم أن الشخص المذكور في رواية ابن إسحاق، غير المشار إليه في رواية سفيان لأن ابن إسحاق قال في نسبته (الكعبي) بينما ذكر في رواية سفيان أنه من (خزاعة).
وقد جاء أيضاً في رواية ابن إسحاق أنه لقي النبي صلى الله عليه وسلم بـ(عسفان) بينما في رواية سفيان لقيه بـ (غدير الأشطاط).
والتحقيق: أن الشخص المذكور في رواية ابن إسحاق هو عين المشار إليه في رواية سفيان، وبيان ذلك:
أما من حيث نسبته: فخزاعة وكعب، اسمان لمسمى واحد، لأن قبيلة كعب هذه هي الأزدية ويطلق عليها خزاعة.
قال صاحب اللباب: وهو في معرض التعريف بقبيلة كعب: "قبيلة كبيرة من الأزد، إنما قيل لهم خزاعة لأنهم انقطعوا عن الأزد لما تفرقت الأزد من اليمن أيام سيل العرم، وأقاموا بمكة"(3).
وأما من حيث المكان الذي لقي النبي صلى الله عليه وسلم فيه، فهو متحد أيضاً، لأن غدير الأشطاط موضع في عسفان أو قريب منه، ففي حديث المسور ومروان من طريق معمر: "حتى إذا كان بغدير الأشطاط قريب من عسفان..."(4).
وفي مرسل عروة من طريق الزهري: "حتى نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم غديراً بعسفان يقال له (غدير الأشطاط) فلقيه عينه بغدير الأشطاط..."(5).
فمن قال: "غدير الأشطاط" إنما قصد تحديد الموضع الذي نزل فيه النبي صلى الله عليه وسلم.
__________
(1) عسفان: محطة تاريخية بين مكة والمدينة على ثمانين كيلاً من مكة. نسب حرب: 370.
(2) مسند أحمد 4/323، وتقدم تخريجة حديث رقم (36).
(3) اللباب في تهذيب الأنساب 1/439.
(4) مسند أحمد 4/328، وتقدم تخريجه حديث رقم (35).
(5) هذه الجملة من حديث طويل وتقدم سنده مع طرف من أوله، انظر حديث رقم(33).(1/53)
ومن قال: "عسفان" أراد الجهة أو الناحية واكتفى به لشهرته دون الآخر.
فالحاصل أنه لا خلاف بين رواية ابن إسحاق ورواية سفيان وأن المسمى في رواية ابن إسحاق هو عين المشار إليه في رواية سفيان.
لكن يلاحظ أن ابن إسحاق سماه "بشراً" بكسر الموحدة وسكون المعجمة، والمشهور عند أهل المغازي كالواقدي(1) وابن سعد(2)، وغيرهم أن اسمه "بسر" بضم الموحدة وسكون المهملة، وبهذا سماه أيضاً الذين ترجموا للصحابة كأبي نعيم(3) وابن عبد البر(4) وابن الأثير(5) وابن حجر(6)، ونصبوا على أنه المذكور في حديث المسور ومروان في قصة الحديبية.
قال ابن حجر في ترجمته: "وضبطه ابن ماكولا وغيره بضم الموحدة وسكون المهملة وكذا رأيت عليه علامة الإهمال في الأصل المعتمد من كتاب الفاكهي"(7).
ويفهم من صنيع ابن هشام أنه قد وقع خلاف في اسمه فقد تعقب ما في رواية ابن إسحاق بقوله(8): "ويقال: بسر" لكن الراجح ما في كتب التراجم لأنها أقرب للضبط من رواية ابن إسحاق، ولاتفاقها مع ما في كتب المغازي، ولا سيما وقد حكى ابن حجر عن ابن إسحاق ما يؤيد قول الجمهور.
قال ابن حجر: "وأما الذي بعثه النبي صلى الله عليه وسلم عيناً لخبر قريش فاسمه "بسر" كذا سماء ابن إسحاق، وهو بضم الموحدة وسكون المهملة على الصحيح"(9) ا.هـ
وجاء خبره في مرسل عروة من طريق الزهري لكن سماه "ناجية": ونص عبارته: "وبعث بين يديه عيناً له من خزاعة يدعى ناجية يأتيه بخبر القوم..."(10).
وما في هذا الأثر لا يقوى لمعارضة رواية ابن إسحاق لكونه مرسلاً وأيضاً في إسناده إلى عروة ضعف.
__________
(1) مغازي الواقدي 2/572 - 573.
(2) الطبقات الكبرة 2/95.
(3) معرفة الصحابة 1، لوحة: 100.
(4) الاستيعاب 1/309، مع الإصابة.
(5) أسد الغابة 1/216.
(6) الإصابة 1/245.
(7) الإصابة 1/146، وانظر الإكمال لابن ماكولا 1/269.
(8) سيرة ابن هشام 3/309.
(9) فتح الباري 5/334.
(10) تاريخ ابن أبي شيبة لوحة: 61، وانظر سنده حديث رقم (33).(1/54)
وقد أورده ابن حجر ثم تعقبه بقوله: "كذا سماه ناجية، والمعروف أن ناجية اسم الذي بعثه مع الهدي كما صرح به ابن إسحاق وغيره، وأما الذي بعثه عيناً لخبر قريش فاسمه بسر بن سفيان، كذا سماه ابن إسحاق..."(1).
وقد ساق الخرائطي بسنده حديثاً إلى ابن عباس ذكر فيه قصة العين الذي بعثه النبي صلى الله عليه وسلم إلى مكة عام الحديبية، وسماه بشر بن سفيان العتكي:
(37) قال الخرائطي: حدثنا عبد الله(2) بن محمد البلوي، قال: قال عمارة(3) ابن زيد ثنا عبد الله(4) بن العلاء عن الزهري عن عبد الله(5) بن الحارث بن عبد المطلب عن أبيه(6) عن ابن عباس قال: "لما توجه رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد مكة في العام الذي ردته قريش عن البيت وهو عام الحديبية، فلما سار رسول الله صلى الله عليه وسلم مرحلتين أو ثلاثة قدم عليه بشر بن سفيان العتكي فسلم عليه، فقال له
__________
(1) فتح الباري 5/334.
(2) عبد الله بن محمد البلوي عن عمارة بن زيد قال الدارقطني: يضع الحديث، وقال الذهبي: روى عنه أبو عوانة في الاستسقاء، حديثاً موضوعاً. ميزان الاعتدال 2/491، وقال ابن حجر: هو صاحب رحلة الشافعي طولها ونمقها وغالب ما فيها مختلق. لسان الميزان 3/338، وقال ابن عراق: كذبه ابن الجوزي، تنزيه الشريعة المرفوعة 1/107.
(3) عمارة بن زيد عن أبيه قال الأزدي: كان يضع الحديث، ميزان الاعتدال 3/177، لسان الميزان 4/278.
(4) عبد الله بن العلاء بن زبر - بفتح الزاي وسكون الموحدة - الدمشقي الربعي، ثقة، مات سنة أربع وستين ومائة، وله تسع وثمانون: خ، الأربعة. تقريب: 184.
(5) عبد الله بن الحارث بن نوفل بن الحارث بن عبد المطلب الهاشمي أبو محمد المدني أمير البصرة، له رواية ولأبيه وجده صحبة، قال ابن عبد البر: أجمعوا على توثيقه، مات سنة تسع وتسعين وقيل أربع وثمانين: ع. تقريب: 170.
(6) الحارث بن نوفل بن عبد المطلب الهاشمي المكي، صحابي نزل البصرة، مات في آخر خلافة عثمان: س. تقريب: 61.(1/55)
رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا بشر هل عندك علم أن أهل مكة علموا بمسيري؟ فقال: بأبي أنت وأمي يا رسول الله أخبرك أني كنت أطوف بالبيت في ليلة كذا وكذا - وسمى الليلة التي أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه بالسير فيها إلى مكة - وقريش في أنديتها(1) إذ صرخ صارخ من أعلى أبي قبيس(2) بصوت أسمع أهل مكة بعيدهم ودانيهم وهو يقول:
هبوا فأخبركم مَنّى صحابته ... سيروا إليه وكونوا معشراً كرما
بعد الطواف وبعد السعي في مهل ... وأن يجوِّزهم من مكة الحَرَما
شاهت وجوهكم من معشر نكل ... لا ينصرون إذا ما حاربوا صنما
فما هو إلا أن سمع القوم ذلك حتى ارتجت مكة و "قال"(3) أبو سفيان في جماعة من أشراف قريش، منهم عكرمة بن أبي جهل وسهيل بن عمرو وصفوان بن أمية في جماعة منهم فاجتمعوا عند الكعبة، وتعاقدوا ألا تدخل عليهم مكة في عامهم هذا، وتركتهم يجمعون لك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أنا الهاتف الذي سمعت سَلْفَع شيطان الأصنام يوشك أن يقتله إن شاء الله، فسر إلى مكة فلتسمع أخبار قريش وانظر ما هو فاعلون، ثم تعود إلي يكسبك الله بذلك أجراً".
__________
(1) أنديتها: الأندية جمع نادي: وهو مجتمع القوم. انظر: النهاية 5/36.
(2) أبو قبيس: بلفظ التصغير كأنه تصغير قبس النار: وهو اسم الجبل المشرف على مكة، وجهه إلى قيقعان ومكة بينهما، أبو قبيس من شرقيها، وقيقعان من غربيها، قيل سمي باسم رجل من مذحج كان يكنى أبا قبيس لأنه أول من بنى فيه قبة، وقيل سبب تسميته غير ذلك. انظر: معجم البلدان 1/80.
(3) هكذا في الأصل و((قال)) تأتي بمعنى ((مال)) ويعبر بها عن التهيؤ للأفعال والإستعداد لها، ترتيب القاموس 3/718.(1/56)
قال: فرجع بشر بن سفيان إلى مكة فبينا هو يطوف بالبيت إذ رأته قريش فهتفت به فجاءهم فقالوا له: يا بشر هل عندك علم من محمد أتراه يريد الدخول إلى مكة في عامه؟ فقلت: إنما أنا كواحد منكم ولقد سمعت الهاتف الذي هتف بكم يؤذنكم بذلك وما أرى ذلك حقاً، قالوا: بلى يا بشر إنه لكائن، هذا هُبَلْ حركنا لنصرته، والمحاماة عليه، وما جربنا عليه كذباً قط، وليعلمن محمد إن جاءنا أنها الفيصل بيننا وبينه، قال: فبينما هم كذلك إذ سمعوا من أعلى الجبل صوتاً وهو يقول:
شاهت وجوه رجال حالفوا صنما ... وخاب سعيهم ما أقصر الهمما
ما خير في حجر لا يستجيب لهم ... إذا دعوا حوله ولا هم صمما
إني قتلت عدو الله سلفعة ... شيطان أوثانكم سحقاًً لمن ظلما
وقد أتاكم رسول الله في نفر ... وكلهم محرم لا يسفكون دما(1)
هذا الحديث قد ذكره ابن حجر في الإصابة(2) - عند ترجمة بشر بن سفيان العتكي - مختصراً.
وكذلك ذكره السيوطي(3) والزرقاني(4) مختصراً.
والحديث ضعيف جداً وربما كان موضوعاً، فإن في سنده شيخ الخرائطي عبد الله بن محمد البلوي، وشيخ البلوي عمارة بن زيد، وقد رمي كل منهما بوضع الحديث.
وقد ورد في هذا الحديث أن اسم الرجل - الذي بعثه النبي صلى الله عليه وسلم عيناً إلى مكة - "بشر بن سيفيان العتكي".
والعتكي: نسبة إلى العتيك بن الأسد بن عمران بن عمرو بن مزيقيا ابن عامر ماء السماء بن حارثة بن امرئ القيس بن ثعلبة بن مازن ابن الأزد(5).
وهذا مغاير لما في حديث المسور ومروان فإن فيه: "الخزاعي" و"الكعبي" وقد بينت أن كلا النسبتين إلى قبيلة كعب التي تنتسب إلى كعب بن عمرو بن ربيعة - وهو لحي - بن حارثة بن عمرو بن عامر بن حارثة بن امرئ القيس بن ثعلبة بن مازن ابن الأزد(6).
__________
(1) هواتف الجنان، لوحة 61 - 62.
(2) الإصابة 1/250.
(3) الخصائص الكبرى 2/47.
(4) شرح الزرقاني على المواهب اللدنية 2/182.
(5) اللباب في تهذيب الأنساب 2/332.
(6) المصدر السابق 1/439.(1/57)
والعتيك وكعب كلاهما من الأزد، ويجمعهما الجد الخامس وهو "عامر بن حارثة" لكن النسبة إلى أحدهما تغاير النسبة إلى الأخر.
ولعله وقع تحريف في حديث ابن عباس عند الخرائطي، فحرفت نسبة الرجل من "الكعبي" إلى "العتكي".
لكن صنيع ابن حجر يوهم أنهما رجلان، فقد عقد ترجمة باسم "بسر بن سفيان" الخزاعي"(1) وأشار إلى انه المذكور في حديث الحديبية، ثم عقد ترجمة باسم "بشر بن سفيان العتكي"(2) وذكر معه حديث الخرائطي هذا عن ابن عباس.
ولعل ابن حجر اعتمد في إثبات هذه الترجمة على حديث الخرائطي هذا، والحقيقة أنه حديث واه جداً لا يعتمد عليه في شيء وقد سبق بيان علته.
الفصلُ الخامسُ
إرسالُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم لبعضِ أصحابِه إلى غيقةَ
وقصةُ أبي قتادةَ رضيَ الله عنهُ
إرسال النبي صلى الله عليه وسلم لبعض أصحابه إلى غيقة
وقصة أبي قتادة رضي الله عنه
__________
(1) الإصابة 1/245.
(2) الإصابة 1/250.(1/58)
ورد في حديث أبي قتادة عند البخاري وغيره إشارة إلى أن النبي صلى الله عليه وسلم أرسل بعض أصحابه إلى جهة غيقة، ولم أر أحداً من أهل المغازي أو غيرهم تعرض لهذه الحادثة بقليل أو كثير اللهم إلا إلماحة سريعة من ابن حجر حيث قال: "وحاصل القصة أن النبي صلى الله عليه وسلم لما خرج في عمرة الحديبية فبلغ الروحاء(1) - وهي من ذي الحليفة على أربعة وثلاثين ميلاً - أخبره بأن عدواً من المشركين بوادي غيقة(2) يخشى منهم أن يقصدوا غرته فجهر طائفة من أصحابه فيهم أبو قتادة إلى جهتهم ليأمن شرهم، فلما أمنوا ذلك لحق أبو قتادة وأصحابه بالنبي صلى الله عليه وسلم فأحرموا إلا هو فاستمر حلالاً"(3) ا.هـ
ذكر ابن حجر أن هذا ملخص القصة، لكنه لم يشر إلى المصدر الذي استفادها منه ولم أجد إلى الآن شيئاً عن هذه الحادثة سوى ما ذكر، ولعله ورد عنها تفصيل أكثر في رواية المطلب عند سعيد بن منصور، فقد ذكر ابن حجر طرفاً منها حيث قال: "وبين المطلب مكان صرفهم ولفظه": "خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا بلغنا الروحاء"(4) ا.هـ
وقد جاءت الإشارة إلى هذه القصة - كما أسلفت في بعض طرق حديث أبي قتادة من رواية ابن عبد الله عنه وهي:
__________
(1) الروحاء - بفتح الراء المهملة وسكون الواو ثم حاء مهملة ممدودة - : محطة في صدر وادي الصفراء على طريق مكة من المدينة على (73كيلاً) مشهورة ((ببئر الروحاء)). نسب حرب: 361.
(2) غيقة: هو بفتح الغين المعجمة بعدها ياء ساكنة ثم قاف مفتوحة ثم هاء - قال السكوني: هو ماء لبني غفار بين مكة والمدينة، وقال يعقوب: هو قليب لبني ثعلب يصب فيه ماء رضوى وهو يصب في البحر. فتح الباري 4/23.
(3) فتح الباري 4/23.
(4) فتح الباري 4/23.
وقد فتشت عن سنن سعيد بن منصور فوقفت على جزأين منها ولم أجد فيها رواية المطلب هذه، ثم قيل لي إن سائر الكتاب مفقود، فنسأل الله أن يأتي به إنه على كل شيء قدير.(1/59)
(أ) طريق يحيى بن أبي كثير عن عبد الله بن أبي قتادة: يشير فيه إلى وصول خبر العدو إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
(38) قال البخاري: حدثنا معاذ بن فضالة حدثنا هشام عن يحيى عن عبد الله بن أبي قتادة قال: "انطلق أبي عام الحديبية فأحرم أصحابه ولم يحرم، وحدث النبي صلى الله عليه وسلم أن عدواً من المشركين يغزوه، فانطلق النبي صلى الله عليه وسلم فبينما أنا مع أصحابه يضحك بعضهم إلى بعض، فنظرت فإذا أنا بحمار وحش، فحملت(1) عليه فطعنته فأثبته(2) واستعنت بهم فأبوا أن يعينوني، فأكلنا من لحمه وخشينا أن نقتطع(3)، فطلبت النبي صلى الله عليه وسلم أرفع(4) فرسي شأواً(5) وأسير شأواً فلقيت رجلاً من بني غفار في جوف الليل فقلت أين تركت النبي صلى الله عليه وسلم فقال: تركته بتعهن(6) وهو قائل(7) السقيا(8)، فقلت يا رسول الله إن أهلك يقرأون عليه السلام ورحمة الله، وإنهم قد خشوا أن يقتطعوا دونك فانتظرهم، قلت: يا رسول الله أصبت حمار وحش وعندي منه فاضله فقال: "للقوم كلوا وهم محرمون"(9).
__________
(1) حملت عليه: الحملة الكرة في الحرب، وحملت عليه أي كررت عليه. ترتيب القاموس 1/712.
(2) أثثبته: أي حبسته وجعلته ثابتاً مكانه لا يفارقه. النهاية 1/205.
(3) نقتطع أي نؤخذ وينفرد بنا. النهاية 4/82.
(4) أرفع فرسي: أي أسرع به، يُقال: ارفع دابتك أي: أسرع بها. النهاية 2/244.
(5) شأواً: الشأو الشوط والمدى. النهاية 2/437.
(6) بتعهن: بكسر أوله وهائه وتسكين العين وآخره نون - اسم عين ماء سمي به موضع على ثلاثة أميال من السقيا بين مكة والمدينة. وقد روى فيه تعهن بفتح أوله وكسر هائه - وبضم أوله. معجم البلدان 2/35.
(7) قائل السقيا: أي سيقيل بالسقيا. فتح الباري 4/ 25.
(8) السقيا: قرية جامعة من عمل الفرع بينهما مما يلي الجحفة تسعة عشر ميلاً. معجم البلدان 2/35.
(9) صحيح البخاري مع الفتح، كتاب جزاء الصيد: 1821.(1/60)
هذا الحديث أخرجه البخاري هنا بصورة الإرسال لأن عبد الله بن أبي قتادة لم يشهد القصة(1).
ومن هذا الوجه أخرجه مسلم(2) وأحمد(3) وزادا تسمية الموضع الذي فيه العدو فعندهما: "وحدث رسول الله صلى الله عليه وسلم أن عدواً بغيقة...".
وأخرجه مسلم(4) أيضاً من طريق عبد العزيز بن رفيع عن عبد الله بن أبي قتادة بصورة الإرسال.
وقد أخرجه البخاري من طرق أخرى وفيها تصريح عبد الله بسماعه من أبيه:
فأخرجه من طريق علي بن المبارك عن يحيى بن أبي كثير به يقول فيه: "أن أباه حدثه" وأشار فيه إلى موضع العدو وإرسال النبي صلى الله عليه وسلم لبعض أصحابه إليهم.
(39) قال: حدثنا سعيد بن الربيع حدثنا علي بن المبارك عن يحيى ابن عبد الله بن أبي قتادة أن أباه حدثه قال: "انطلقنا مع النبي صلى الله عليه وسلم عام الحديبية، فأحرم أصحابه ولم أحرم، فأنبئناه بعدو بغيقة فتوجهنا نحوهم فبصر أصحابي بحمار وحش فجعل بعضهم يضحك إلى بعض، فنظرت فرأيته فحملت عليه..."(5) الحديث بنحوه.
وأخرجه من طريق عثمان بن موهب وأشار فيه إلى الطريق الذي سلكوه إلى العدو:
__________
(1) فتح الباري 4/23.
(2) صحيح مسلم، كتاب الحج: 59.
(3) المسند 5/301.
(4) صحيح مسلم، كتاب الحج: 64.
(5) صحيح البخاري مع الفتح، كتاب جزاء الصيد: 1822.(1/61)
قال: حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا أبو عوانة حدثنا عثمان بن موهب قال: أخبرني عبد الله بن أبي قتادة أن أباه أخبره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج حاجاً فخرجوا معه فصرف طائفة منهم فيهم أبو قتادة فقال: خذوا ساحل البحر، فلما انصرفوا أحرموا كلهم إلا (1) أبو قتادة لم يحرم، فبينما هم يسيرون إذ رأوا حمر وحش فحمل أبو قتادة على الحمر فعقر منها أتاناً(2) فنزلوا فأكلوا من لحمها، وقالوا: أنأكل لحم صيد ونحن محرمون؟ فحملنا ما بقي من لحم الأتان، فلما أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا: "يا رسول الله إنا كنا أحرمنا وقد كان أبو قتادة لم يحرم فرأينا حمر وحش فحمل عليها أبو قتادة فعقر منها أتاناً فنزلنا فأكلنا من لحمها ثم قلنا: أنأكل لحم صيد ونحن محرمون فحملنا ما بقي من لحمها، قال: منكم أحد أمره أن يحمل عليها أو أشار إليها؟ قالوا: لا، قال: فكلوا ما بقي من لحمها"(3).
وأخرجه مسلم(4) والبيهقي(5) من طريق عثمان بن موهب به بنحوه، وعند البيهقي: "حاجاً أو معتمراً".
وأخرجه النسائي(6) من طريق عثمان أيضاً إلا أنه لم يشر إلى ذهابهم من طريق الساحل.
هذه بعض طرق حديث أبي قتادة التي تطرقت لقصة غيقة، وهي طرق لرواية عبد الله بن أبي قتادة عن أبيه، وقد جاءت أيضاً رواية لعبد الله من طريق أبي حازم، وروى الحديث عن أبي قتادة أيضاً غير عبد الله لكن لم يرد في شيء منها ذكره لقصة غيقة، لكن لا بأس من الإشارة إلى تخريجها لأنها تعرضت لقصة أبي قتادة بمعنى الروايات السابقة.
__________
(1) إما على أن (إلا) بمعنى (لكن) وأبو قتادة مبتدأ ولم يحرم خبره، وإما على مذهب من يقول: علي بن أبو طالب. فتح الباري 4/29 - 30.
(2) الأتان: الأنثى من الحمر. النهاية 1/ 21.
(3) صحيح البخاري مع الفتح، كتاب جزاء الصيد: 1824.
(4) صحيح مسلم، كتاب الحج: 60 - 61.
(5) السنن الكبرى 5/189.
(6) سنن النسائي 5/186.(1/62)
1 - فطريق أبي حازم لرواية عبد الله بن أبي قتادة أخرجها البخاري من طريق فضيل(1) بن سليمان، وفليح(2) بن سليمان، ومحمد(3) بن جعفر كلهم عن أبي حازم به.
وأخرجه مسلم(4) من طريق فضيل بن سليمان عن أبي حازم به.
2 - رواية نافع مولى أبي قتادة عن أبي قتادة:
أخرجها: البخاري(5)، ومسلم(6)، وأبو داود(7)، والنسائي(8)، والترمذي(9)، كلهم من طريق مالك عن أبي النضر مولى عمر بن عبيد الله عن نافع عن أبي قتادة.
وأخرجها البخاري من طريق عمرو(10) بن الحارث عن أبي النضر عن نافع وصالح مولى التوأمة كلاهما عن قتادة.
وأخرجها البخاري(11) ومسلم(12) من طريق صالح بن كيسان عن نافع عن أبي قتادة.
3 - رواية عطاء بن يسار عن أبي قتادة:
أخرجها البخاري(13) ومسلم(14) والترمذي(15) كلهم من طريق مالك عن زيد ابن أسلم عن عطاء عن أبي قتادة.
وقد وردت قصة أبي قتادة في حديث أبي سعيد الخدري عند البزار وغيره بسياق آخر:
__________
(1) صحيح البخاري مع الفتح، كتاب الجهاد: 2854.
(2) صحيح البخاري مع الفتح، كتاب الأطعمة: 5406.
(3) صحيح البخاري مع الفتح، كتاب الأطعمة: 5407.
(4) صحيح مسلم، كتاب الحج: 63.
(5) صحيح البخاري مع الفتح، كتاب الجهاد: 2914. وكتاب الذبائح والصيد: 5490.
(6) صحيح مسلم، كتاب الحج: 57.
(7) سنن أبي داود مع معالم السنن، كتاب المناسك: 1852.
(8) سنن النسائي 5/182.
(9) سنن الترمذي، كتاب الحج: 847.
(10) صحيح البخاري مع الفتح، كتاب الذبائح والصيد: 5492.
(11) صحيح البخاري مع الفتح، كتاب الحج: 1823.
(12) صحيح مسلم، كتاب الحج: 56.
(13) صحيح البخاري مع الفتح، كتاب الذبائح والصيد: 5491.
(14) صحيح مسلم، كتاب الحج: 58.
(15) سنن الترمذي: 848.(1/63)
(40) قال البزار: حدثنا محمد(1) بن عثمان العقيلي وإسماعيل(2) بن بشر ابن منصور السليمي قالا: ثنا عبد الأعلى(3) بن عبد الأعلى عن عبيد الله(4) بن عمر عن عياض(5) بن عبد الله بن سعد عن أبي سعيد(6) الخدري قال: "بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا قتادة الأنصاري على الصدقة وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابة محرمين حتى نزلوا عسفان، فإذا هم بحمار وحش وجاء أبو قتادة وهو حل فنكسوا رؤوسهم كراهية أن يُبِدُّوا(7) أبصارهم فيعلم، فرآه أبو
__________
(1) محمد بن عثمان بن بحر العقيلي - بالضم - أبو عبد الله البصري، ذكره ابن حبان في الثقات وقال يغرب، وقال ابن حجر صدوق يغرب، من العاشرة: س. تقريب: 310، تهذيب التهذيب 9/335.
(2) إسماعيل بن بشر بن منصور السليمي - بفتح المهلمة وبعد اللام آخر الحروف التحتانية - بصري يكنى أبا بشر صدوق تكلم فيه للقدر، مات سنة خمس وخمسين ومائتين، وله إحدى وثمانون: د، س، ق. تقريب: 32.
(3) عبد الأعلى بن عبد الأعلى البصري السامي - بالمهملة - أبو محمد وكان يغضب إذا قيل له أبو همام، ثقة، مات سنة تسع وثمانين ومائة: ع. تقريب: 195، ميزان الاعتدال 2/531.
(4) عبيد الله بن عمر بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب العمري المدني أبو عثمان، ثقة ثبت، قدمه أحمد بن صالح على مالك في نافع، وقدمه ابن معين في القاسم عن عائشة رضي الله عنها على الزهري عن عروة عنها. مات سنة بضع وأربعين ومائة: ع. تقريب: 226.
(5) عياض بن عبد الله بن سعد بن أبي السرح - بفتح المهلمة وسكون الراء بعدها مهملة - القرشي العامري المكي، ثقة، من الثالثة، مات على رأس المائة: ع. تقريب: 270.
(6) هو سعد بن مالك بن سنان بن عبيد الأنصاري أبو سعيد الخدري، له ولأبيه صحبة، استصغر بأحد ثم شهد ما بعدها، وروى الكثير، مات بالمدينة سنة ثلاث أو أربع أو خمس وستين، وقيل سنة أربع وسبعين: ع. تقريب: 119.
(7) أي يعطوا أبصارهم حظها من النظر. انظر: النهاية 1/105.(1/64)
قتادة فركب فرسه وأخذ الرمح فسقط منه الرمح، فقال: ناولونيه، فقالوا: ما نعينك عليه فحمل عليه فعقره فجعلوا يشوون منه، ثم قالوا: رسول الله بين أظهرنا وكان تقدمهم فلحقوه فسألوه فلم ير به بأساً، قال: فأحسبه قال: هل معكم منه شيء شك عبيد الله"(1).
قال البزار: "لا نعلم أسند عبيد الله عن عياض إلا هذا ولا عنه إلا عبيد الله"(2).
وأخرجه ابن حبان(3) من طريق محمد بن عثمان العقيلي به نحوه وزاد "بعسفان بثنية(4) الغزال".
وأخرجه الطحاوي(5) من طريق عياش(6) بن الوليد الرقام ثنا عبد الأعلى به نحوه.
الحديث صحيح رجاله كلهم رجال الصحيحين إلا شيخي البزار العقيلي والسليمي، وقال ابن حجر عن كل منهما صدوق، وتابعهما عياش بن الوليد في شيخهما عبد الأعلى، وعياش ثقة روى له البخاري.
تنبيه: وقد جاء في حديث أبي سعيد هذا أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث أبا قتادة الأنصاري على الصدقة بينما في حديث أبي قتادة السابق: أن النبي صلى الله عليه وسلم بعثه إلى العدو الذي أتاه خبره جهة غيقة.
__________
(1) كشف الأستار عن زوائد البزار 2/18.
(2) كشف الأستار عن زوائد البزار 2/18.
(3) موارد الظمآن إلى زوائد ابن حبان: 244.
(4) ثنية الغزال: ريع بين حرتين يشرف على عسفان من الشمال يأخذه الطريق العام بين مكة والمدينة، يعتبر بوابة بين شمال الحجاز وجنوبه، كانت تعرف بغزال. نسب حرب: 343.
(5) شرح معاني الآثار 2/173.
(6) عياش بن الوليد الرقام أبو الوليد البصري، ثقة، مات سنة ست وعشرين ومائتين: خ، د، س. تقريب: 269.(1/65)
وقد جمع بين هذا الاختلاف صاحب الأوجز: حيث قال: "والأوجه عندي أن أبا قتادة لم يخرج معه صلى الله عليه وسلم بل بعثه أهل المدينة إليه ليعلمه أن بعض العرب يقصدون الإغارة فلحقه صلى الله عليه وسلم قبل الروحاء فبعثه النبي صلى الله عليه وسلم إلى ساحل البحر لكشف العدو، فالتقوا معه بالقاحة ثم بعثه صلى الله عليه وسلم لأخذ الصدقة لأنه لم يكن محرماً فرجع بعسفان جمعاً بين الروايات" ا.هـ(1)
الفصلُ السادسُ ما حدثَ للمسلمينَ بعُسْفان
ويضمُّ أربعةَ مباحث:
المبحث الأول: ... عين رسول الله صلى الله عليه وسلم الخزاعي يوافيه بخبر قريش.
المبحث الثاني:صلاة الخوف بعسفان.
المبحث الثالث:بينا أن ابتداء مشروعية صلاة الخوف كان في غزوة الحديبية.
المبحث الرابع:تنبيه على أحاديث وردت في صلاة عسفان وبيان وجه مغايرتها.
المبحث الأول: عين رسول الله صلى الله عليه وسلم الخزاعي يوافيه بخبر قريش:
كان النبي صلى الله عليه وسلم قد بعث بسر بن سفيان الكعبي الخزاعي من ذا الحليفة عيناً له إلى مكة، فسار بسر إلى قريش يتحسس أخبارهم ونواياهم إزاء المسلمين، وبعد أن وقف على أخبارهم وافى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم بعسفان.
__________
(1) أوجز المسالك إلى موطأ مالك 6/352.(1/66)
ففي حديث المسور بن مخرمة ومروان بن الحكم من طريق سفيان عند البخاري: "فلما أتى ذا الحليفة قلد الهدي وأشعره وأحرم منها بعمرة، وبعث عيناً له من خزاعة، وسار النبي صلى الله عليه وسلم حتى إذا كان بغدير الأشطاط، أتاه عينه قال: إن قريشاً جمعوا لك جموعاً وقد جمعوا لك الأحابيش(1) وهم مقاتلوك وصادوك عن البيت ومانعوك، فقال: أشيروا أيها الناس علي، أترون أن أميل إلى عيالهم وذراري هؤلاء الذين يريدون أن يصدونا عن البيت، فإن يأتونا كان الله عز وجل قد قطع عيناً من المشركين، وإلا تركناهم محروبين(2)، فقال أبو بكر: يا رسول الله خرجت عامداً لهذا البيت لا تريد قتل أحد ولا حرب أحد، فتوجه له فمن صدنا عنه قاتلناه، قال: امضوا على اسم الله"(3).
وفي حديثهما من طريق ابن إسحاق عند أحمد:
__________
(1) الأحابيش: هم أحياء من القارة انضموا إلى بني ليث في محاربتهم قريشاً، والتحبش التجمع، وقيل: حالفوا قريشاًَ تحت جبل يسمى حبشياً، فسموا بذلك. النهاية 1/330.
(2) محروبين: مسلوبين منهوبين. النهاية 1/352.
(3) صحيح البخاري مع الفتح، كتاب المغازي: 4179، وتقدم تخريجه برقم (35).(1/67)
"وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا كان بعسفان لقيه بشر بن سفيان الكعبي فقال: يا رسول الله هذه قريش قد سمعت بمسيرك فخرجت معها العوذ(1) المطافيل قد لبسوا جلود النمور، يعاهدون الله أن لا تدخلها عليه عنوة(2) أبداً، وهذا خالد بن الوليد في خيلهم قد قدموا إلى كراع الغميم(3) قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا ويح قريش، لقد أكلتهم الحرب، ماذا عليهم لو خلوا بيني وبين سائر الناس، فإن أصابوني كان الذي أرادوا وإن أظهرني الله عليهم دخلوا في الإسلام، وهو وافرون وإن لم يفعلوا قاتلوا وبهم قوة، فما تظن قريش، والله إني لا أزال أجاهدهم على الذي بعثني الله له حتى يظهره الله، أو تنفرد هذه السالفة"(4)"(5).
وفي مرسل عروة من طريق ابنه هشام:
__________
(1) العوذ المطافيل: يريد النساء والصبيان. النهاية 3/318.
(2) العنوة: أي قهراً وغلبة. النهاية 3/315.
(3) كراع الغميم: موضع بناحية الحجاز، بين مكة والمدينة، وهو أمام عسفان بثمانية أميال، وهذا الكراع جبل أسود في طرف الحرة يمتد إليه. معجم البلدان 4/443.
(4) السالفة: صفحة العنق وهما سالفتان من جانبيه، وكنى بانفرادهما عن الموت، لأنهما لا تنفردان عما يليهما إلا بالموت، وقيل: أراد حتى يرفق بين رأسي وجسدي. النهاية2/390.
(5) تقدم تخريجه والكلام على سنده، انظر حديث رقم (36) وهو في المسند 4/323.(1/68)
"فخرج رسول الله حتى إذا كان بعسفان لقيه رجل من بني كعب، فقال يا رسول الله: إنا تركنا قريشاًَ وقد جمعت لك أحابيشها تطعمها الخزير(1) يريدون أن يصدوك عن البيت، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا تبرز من عسفان لقيهم خالد بن الوليد طليعة لقريش فاستقبلهم على الطريق، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم هاهنا فأخذ بين سورعتين يعني - شجرتين - فمال عن ستر الطريق حتى نزل الغميم فلما نزل الغميم خطب الناس فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله ثم قال أما بعد: فإن قريشاً قد جمعت لكم..." وذكر نحو حديث المسور ومروان إلى أن قال: "فقال المقداد(2) وهو في رحله: إنا والله لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لنبيها إذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون، ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون"(3).
المبحث الثاني: صلاة الخوف بعسفان:
جاء في حديث أبي عياش الزرقي رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى بعسفان صلاة الخوف، لكن لم يرد فيه تحديد الغزوة التي صلى فيها، وحيث إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نزل عسفان في أكثر من غزوة فقد وقع خلاف في تعيين الغزوة التي صلى فيها تلك الصلاة. وسأورد حديث أبي عياش ثم أذكر الخلاف مع الترجيح إن شاء الله:
__________
(1) الخزير: لحم يقطع صغاراً ويصب عليه ماء كثير فإذا نضج ذر عليه الدقيق فإن لم يكن فيها لحم، فهي عصيدة، وقيل غير ذلك. النهاية 2/28.
(2) كذا ورد هنا: أن المقداد قال هذه المقالة في الحديبية، والمشهور أنه قال ذلك في غزوة بدر، انظر مرويات غزوة بدر لأحمد العليمي ص 143.
(3) تاريخ ابن أبي شيببة، لوحة: 56 وتقدم سند الحديث مع طرف من أوله برقم (11).(1/69)
(41) قال أبو داود: حدثنا سعيد(1) بن منصور حدثنا جرير(2) بن عبد الحميد عن منصور(3) عن مجاهد بن أبي عياش(4) الزرقي قال: "كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعسفان وعلى المشركين خالد بن الوليد فصلينا الظهر، فقال المشركون: لقد أصبنا غرة لقد أصبنا غفلة لو كنا حملنا عليهم وهم في الصلاة، فنزلت آية القصر بين الظهر والعصر فلما حضرت صلاة العصر قام رسول الله صلى الله عليه وسلم مستقبل القبلة، والمشركون أمامه فصف خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم صف، وصف بعد ذلك الصف صف آخر، فركع رسول الله صلى الله عليه وسلم وركعوا جميعاً، ثم سجد وسجد الصف الذي يلونه وقام الآخرون يحرسونهم فلما صلى هؤلاء السجدتين وقاموا سجد الآخرون الذين كانوا خلفهم ثم تأخر الصف الذي يليه إلى مقام الآخرين، وتقدم الصف الأخير إلى مقام الصف الأول، ثم ركع رسول الله صلى الله عليه وسلم وركعوا جميعاً، ثم سجد وسجد الصف الذي يليه، وقام الآخرون يحرسونهم، فلما جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم والصف الذي يليه سجد
__________
(1) سعيد بن منصور بن شعبة أبو عثمان الخراساني، نزيل مكة، ثقة مصنف وكان لا يرجع عما في كتابه لشدة وثوقه به، مات سنة سبع وعشرين ومائتين، وقيل بعدها: ع. تقريب: 126.
(2) جرير بن عبد الحميد بن قرط - بضم القاف ويكون الراء بعدها طاء مهملة - الضبي الكوفي، نزيل الري وقاضيها، ثقة صحيح الكتاب، قيل كان في آخر عمره يهم في حفظه، مات سنة ثمان وثمانين ومائة وله إحدى وسبعون سنة: ع. تقريب: 54.
(3) منصور بن المعتمر بن عبد الله السلمي أبو عثاب بمثلثة ثقيلة ثم موحدة - الكوفي، ثقة ثبت، كان لا يدلس من طبقة الأعمش، مات سنة اثنتين وثلاثين ومائة: ع. تقريب: 348.
(4) أبو عياش الأنصاري صحابي روى حديثاً في صلاة الخوف، وقيل: اسمع زيد بن الصامت أو ابن النعمان، وقيل اسمه: عبيد أو عبد الرحمن بن معاوية، شهد أحداً وما بعدها، مات بعد الأربعين: د، س. تقريب: 420.(1/70)
الآخرون ثم جلسوا جميعاً فسلم عليهم جميعاً فصلاها بعسفان، وصلاها يوم بني سليم(1).
هذا الحديث لم يروه فيما أعلم عن أبي عياش غير مجاهد، ولا عن مجاهد إلا منصور بن المعتمر، ورواه عن منصور عدة رواة هم:
(1) جرير بن عبد الحميد: أخرجه عنه سعيد(2) بن منصور، وأخرجه من طريقه الحاكم(3) والطبراني(4) والبيهقي(5).
(2) سفيان الثوري(6): أخرجه عنه عبد الرزاق(7)، وأخرجه من طريقه أيضاً أحمد(8) والطحاوي(9) والطبراني(10).
(3) ورقاء بن عمرو اليشكري(11): أخرجه عنه أبو داود الطيالسي(12)، وأخرجه من طريقه أيضاً الطبراني(13) والبيهقي(14).
(4) شعبة بن الحجاج: أخرجه من طريقه أحمد(15) والنسائي(16) والطبراني(17).
(5) عبد العزيز بن عبد الصمد(18): أخرجه من طريقه النسائي(19).
__________
(1) سنن أبي داود مع معالم السنن، كتاب الصلاة: 215.
(2) سنن سعيد بن منصور، القسم الثاني من الجزء الثالث: 213.
(3) المستدرك 1/337.
(4) المعجم الكبير 5/247.
(5) السنن الكبرى 3/256.
(6) سفيان بن سعيد بن مسروق الثوري أبو عبد الله الكوفي، ثقة حافظ فقيه عابد إمام حجة، وكان ربما دلس، مات سنة إحدى وستين ومائة، وله أربع وستون: ع. تقريب: 128.
(7) مصنف عبد الرزاق 2/505.
(8) مسند أحمد 4/ 59 - 60.
(9) شرح معاني الآثار 1/318.
(10) المعجم الكبير 5/243.
(11) ورقاء بن عمرو اليشكري أبو بشر الكوفي، نزيل المدائن، صدوق في حديثه عن منصور لين، من السابعة: ع. تقريب: 369.
(12) منحة المعبود بترتيب مسند الطيالسي أبو داود 1/150.
(13) المعجم الكبير 5/246.
(14) السنن الكبرى 3/254.
(15) مسند أحمد 4/60.
(16) سنن النسائي بشرح السيوطي والسندي 3/176.
(17) المعجم الكبير 5/244.
(18) عبد العزيز بن عبد الصمد العمي، أبو عبد الله البصري، ثقة حافظ مات سنة سبع وثمانين ومائة، ويقال بعد ذلك: ع. تقريب: 215.
(19) سنن النسائي بشرح السيوطي والسندي 3/177.(1/71)
(6) شيبان بن عبد الرحمن النحوي(1): أخرجه من طريقه ابن جرير(2).
(7) زائدة بن قدامة(3): أخرجه من طريقه الطبراني(4).
(8) علي بن صالح بن حي(5): أخرجه من طريقه الطبراني(6).
(9) جعفر بن الحارث(7) الواسطي: أخرجه من طريقه الطبراني(8).
(10) إسرائيل بن يونس(9): أخرجه من طريقه الطبراني(10).
(11) داود بن عيسى الكوفي: وفي روايته صرح مجاهد بالسماع من أبي عياش الزرقي:
أخرجه من طريقه الطبراني(11).
والحديث صحيح بسند أبي داود، فرجاله رجال الصحيح لكن مجاهداً لم يصرح بالسماع من أبي عياش، وقد أنكر بعض العلماء سماعه من أبي عياش، ورماه بالتدليس: فقد نقل العلائي(12) عن الترمذي قوله: لا يعرف سماع مجاهد من أبي عياش الزرقي.
وذكر ابن حجر أن القطب الحلبي حكى عن الترمذي قوله في العلل: ومجاهد معلوم التدليس فعنعنته لا تفيد الوصل".
__________
(1) شيبان بن عبد الرحمن التميمي مولاهم النحوي، أبو معاوية البصري، نزيل الكوفة، ثقة صاحب كتاب منسوب إلى نحو بطن من الأزد، لا إلى علم النحو، مات سنة أربع وستين ومائة: ع. تقريب: 148.
(2) تفسير ابن جرير 9/131.
(3) زائدة بن قدامة الثقفي أبو الصلت، ثقة ثبت صاحب سنة، مات سنة ستين ومائة. وقيل بعدها: ع. تقريب: 105.
(4) المعجم الكبير 5/243.
(5) علي بن صالح بن صال بن حي الهمداني أبو محمد، ويقال: أبو الحسن، ثقة عابد، مات سنة إحدى وخمسين ومائة، وقيل بعدها: م، الأربعة. تقريب: 246، تهذيب التهذيب 7/332.
(6) المعجم الكبير 5/245.
(7) جعفر بن الحارث بن جميع بن عمرو الواسطي الأشهب، صدوق كثير الخطأ، من السابعة: تمييز. تقريب: 55، تهذيب التهذيب 2/89.
(8) المعجم الكبير 5/246.
(9) إسرائيل بن يونس بن أبي إسحاق السبيعي الهمداني أبو يوسف الكوفي، ثقة، تكلم فيه بلا حجة، مات سنة ستين ومائة، وقيل بعدها: ع. تقريب: 1/31.
(10) المعجم الكبير 5/247.
(11) المعجم الكبير 5/245.
(12) جامع التحصيل في أحكام المراسيل: 337.(1/72)
ثم تعقبه ابن حجر بقوله: "ولم أر من نسبه إلى التدليس، نعم إذا ثبت قول ابن معين أن قول مجاهد: خرج علينا علي ليس على ظاهره، فهو عين التدليس، إذ هو معناه اللغوي وهو الإبهام والتغطية، وقد قال ابن خراش أحاديث مجاهد عن على مراسيل بم يسمع منه شيئاً"(1) ا.هـ
قلت: وإن ثبت عن مجاهد التدليس فقد أمن تدليسه هنا؛ لأن الطبراني(2) قد أخرج الحديث من طريق صرح فيه مجاهد بالسماع من أبي عياش وفي سند الطبراني بكر بن سهل الدمياطي، ضعفه النسائي، وقال الذهبي: مقارب الحال(3).
وشيخ الطبراني داود بن عيسى الكوفي: لم أقف على ترجمته.
لكن البيهقي أخرج الحديث ثم قال: وهذا إسناد صحيح وقد رواه قتيبة بن سعيد عن جرير فذكر فيه سماع مجاهد من أبي عياش(4) ا.هـ
ولم يذكر البيهقي السند كاملاً لكن ذكر الزيلعي أن البيهقي أخرجه في المعرفة بلفظ "حدثنا أبو عياش"، قال: وفي هذا تصريح بسماع مجاهد من أبي عياش(5).
وقد حكى المنذري عن البيهقي أنه قال: "هذا الإسناد صحيح إلا أن بعض أهل العلم يشك في سماع مجاهد من أبي عياش، ثم ذكر أن البيهقي أخرجه بإسناد جيد عن مجاهد قال حدثنا أبو عياش، ثم قال المنذري: وسماعه منه متوجه؛ فإنه ذكر ما يدل على أن مولد مجاهد سنة عشرين وعاش أبو عياش إلى بعد الأربعين، وقيل إلى بعد الخمسين"(6) ا.هـ
__________
(1) تهذيب التهذيب 10/44.
(2) المعجم الكبير 5/245.
(3) ميزان الاعتدال 1/345.
(4) السنن الكبرى 3/257.
(5) نصب الراية 2/248.
(6) مختصر سنن أبي داود مع تهذيب السنن 2/64.(1/73)
وقد صحح هذا الحديث الحاكم(1)، ووافقه الذهبي(2)، وقال البيهقي(3): "هذا إسناد صحيح". وكذلك قال ابن كثير:(4) "هذا إسناد صحيح وله شواهد" ا.هـ، وقال ابن حجر في ترجمة أبي عياش: "روى عن النبي صلى الله عليه وسلم في صلاة الخوف، أخرج حديثه أبو داود والنسائي بسند جيد"(5).
وقد أفاد حديث أبي عياش هذا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى بعسفان صلاة الخوف؛ لكنه لم يسم الغزوة التي صلى فيها، وحيث إن رسول الله قد نزل بعسفان في غزوة بني لحيان وفي غزوة الحديبية، فقد وقع خلاف في تحديد الغزوة التي صلى فيها تلك الصلاة.
فقد أورد ابن كثير حديث أبي عياش في غزوة بني لحيان، ثم قال: "وفي سياق حديث أبي عياش الزرقي ما يقتضي أن آية صلاة الخوف نزلت في هذه الغزوة يوم عسفان فاقتضى ذلك أنها أول صلاة خوف صلاها والله أعلم"(6) ا.هـ
وقد تابع ابن كثير على ذلك الساعاتي حيث قال: "وعسفان أول غزوة شرعت فيها صلاة الخوف ويقال لها: غزوة بني لحيان، وسببها ما نقله ابن كثير في تاريخه"(7).
ويظهر من كلام صاحب المنهل العذب المورد، أنه قد تابع ابن كثير أيضاً على ذلك، فقد ذكر أن صلاة النبي صلى الله عليه وسلم بعسفان كانت في جمادى الأولى سنة ست من الهجرة بعد الخندق وبني قريظة(8).
وهذا التاريخ الذي حدد به هو تاريخ غزوة بني لحيان نقله ابن هشام(9) وابن كثير(10) عن ابن إسحاق.
__________
(1) المستدرك 3/338.
(2) التلخيص بهامش المستدرك 3/338.
(3) السنن الكبرى 3/257.
(4) تفسير ابن كثير 1/548.
(5) الإصابة 11/273.
(6) البداية والنهاية 4/83.
(7) بلوغ الأماني 7/4 مع الفتح الرباني.
(8) المنهل العذب المورود 7/100.
(9) سيرة ابن هشام 3/279.
(10) البداية والنهاية 4/81.(1/74)
وذكر الواقدي(1) وابن سعد(2) وابن الجوزي(3) أن صلاة الخوف بعسفان كانت في غزوة الحديبية، إلا أن ظاهر كلام ابن سعد يفيد أنها صلاة الظهر وهو مخالف لحديث أبي عياش.
وقد نقل ابن حجر عن الواقدي انه روى بإسناده حديثاً عن خالد بن الوليد يصرح فيه بأن صلاة عسفان كانت في غزوة الحديبية ونصه:
(42) عن خالد بن الوليد قال: "لما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الحديبية لقيته بعسفان، فوقفت بإزائه وتعرضت له، فصلى الظهر بأصحابه أمامنا فهممنا أن نغير عليه، ثم لم يعزم لنا فأطلعه الله على ما في أنفسنا من الهم به، فصلى بأصحابه صلاة العصر صلاة خوف"(4). الحديث.
فهذه الرواية صرحت بأن الحادثة كانت في غزوة الحديبية، ومعنى الرواية عموماً متفق مع حديث أبي عياش إلا أنها زادت تحديد الغزوة، وهذه الزيادة وإن كانت ضعيفة من الناحية الحديثية، لأنها بدون سند، ولمجيئها من طريق الواقدي وهو متروك(5) عند المحدثين، لكن يستأنس بها لأمرين:
أولاً: لأنها في المغازي، وقد قال ابن حجر: "والواقدي إذا لم يخالف الأخبار الصحيحة ولا غيره من أهل المغازي، فهو مقبول عند أصحابنا"(6).
ولم يخالف هذا خبراً صحيحاً ولا خالف غيره من أهل المغازي، نعم خالفه ابن كثير، لكن ابن كثير انفرد بذلك وهو وهم منه رحمه الله وسيأتي بيانه إن شاء الله.
__________
(1) مغازي الواقدي 2/582.
(2) الطبقات الكبرى 2/95.
(3) الوفاء بأحوال المصطفى 2/697.
(4) فتح الباري 7/423.
(5) قال الذهبي: استقر الإجماع على وهن الواقدي، الميزان 3/666، وقال ابن حجر: متروك مع سعة علمه. تقريب: 313.
(6) التلخيص الحبير 2/291.(1/75)
ثانياً: ورد ما يشهد لهذه الزيادة في حديث المسور بن مخرمة ومروان بن الحكم من طريق ابن إسحاق عند أحمد ففيه ما نصه: "وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا كان بعسفان، لقيه بشر بن سفيان الكعبي، فقال: يا رسول الله هذه قريش قد سمعت بمسيرك فخرجت معها العوذ المطافيل قد لبسوا جلود النمور يعاهدون الله ألا تدخلها عليهم عنوة أبداً، وهذا خالد بن الوليد في خيلهم قد قدموا إلى كراع الغميم"(1).
فهذه الرواية تفيد أمرين:
الأول: أن النبي صلى الله عليه وسلم نزل عسفان في غزوة الحديبية.
الثاني: أن خالد بن الوليد خرج لملاقاة النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الغزوة.
ولم يذكر أحداً من أهل المغازي أن خالد بن الوليد قد لقي النبي صلى الله عليه وسلم بهذا المكان في غير غزوة الحديبية.
وقد رجح ابن حجر(2) والكاندهلوي(3) أيضاً على أن صلاة عسفان هذه كانت في غزوة الحديبية.
وهذا هو الراجح عندي لما سبق من الأدلة.
ولأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يلق أحداً من كفار قريش في غزوة بني لحيان، كما ذكر ذلك أهل المغازي.
قال ابن سعد بعد أن ذكر انصراف النبي صلى الله عليه وسلم من غزوة بني لحيان: "ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أتى عسفان فبعث أبا بكر في عشرة فوارس لتسمع به قريش فيذعرهم، فأتوا الغميم، ولم يلقوا كيداً"(4).
وذكر ابن إسحاق أن النبي صلى الله عليه وسلم بعد منصرفه من غزوة بني لحيان: "نزل عسفان وبعث فارسين من أصحابه حتى بلغا كراع الغميم، ثم كرا وراح رسول الله صلى الله عليه وسلم قافلاً"(5).
وذكر نحوه ابن كثير أيضاً(6)، وبهذا يتبين أن ما ذهب إليه ابن كثير وهم منه رحمه الله.
تنبيه:
__________
(1) مسند أحمد 4/323، وسبق تخريجه برقم (36).
(2) فتح الباري 7/423.
(3) حاشية بذل المجهود في حل أبو داود 6/329.
(4) الطبقات الكبرى 2/79.
(5) سيرة ابن هشام 3/280.
(6) البداية والنهاية 4/81.(1/76)
يلاحظ أن ابن سعد ذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث عشرة فوارس بينما ذكر ابن إسحاق أنه بعث فارسين.
وقد جمع بينهما الزرقاني: "بأنه صلى الله عليه وسلم بعث الفارسين أولاً، ثم بعث أبا بكر في العشرة أو عكسه"(1).
المبحث الثالث: بيان أن ابتداء مشروعية صلاة الخوف كان في غزوة الحديبية:
ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى صلاة الخوف في أكثر من غزوة، غير أنه لم يرد في شيء من النصوص الثابتة تعيين للغزوة التي صلى فيها صلاة الخوف أولاً.
نعم ساق الواقدي بسنده حديثين: أحدهما حديث أبي عياش الزرقي في عسفان زاد في آخره ما نصه: "وذكر أبو عياش أنه أول ما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الخوف"(2).
وهذه الزيادة ضعيفة لأن الواقدي تفرد بها.
(43) والحديث الثاني: حديث جابر رضي الله عنه قال: صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أول صلاة خوف في غزوة ذات الرقاع، ثم صلاها بعد بعسفان بينهما أربع سنين(3)، ثم قال الواقدي عقب هذا الحديث: وهذا أبين عندنا.
وهذا الحديث أيضاًَ ضعيف لمجيئه من طريق الواقدي.
ثم إن هذا الحديث لا يتمشى مع تحديد الواقدي لزمن كل من ذات الرقاع والغزوة التي صلى فيها بعسفان: ذلك أنه جعل ذات الرقاع في السنة الخامسة، وصلاة عسفان جعلها في غزوة الحديبية - وهو صحيح - وقد اتفق أهل المغازي وهو في جملتهم على أن غزوة الحديبية كانت سنة ست(4)، فكيف يقول:"بينهما أربع سنين"؟.
ولعدم وجود نص ثابت صريح في تعيين الغزوة التي صلى فيها صلاة الخوف أول مرة، فقد وقع خلف في تحديد تلك الغزوة:
فجمهور أهل المغازي يجعلون أول غزوة وقعت فيها صلاة الخوف هي غزوة ذات الرقاع(5).
__________
(1) شرح الزرقاني على المواهب اللدنية 2/147.
(2) مغازي الواقدي 2/583.
(3) مغازي الواقدي 2/583.
(4) انظر الكلام على تاريخها ص:
(5) انظر: مغازي الواقدي 1/396، والطبقات الكبرى لابن سعد 2/61، وسيرة ابن هشام 3/304، وتاريخ ابن جرير الطبري 2/39.(1/77)
والحقيقة أن أهل المغازي لم يصرحوا بأن صلاة الخوف بذات الرقاع أول صلاة وقعت - إلا ما ذكره الواقدي وقد بينا ضعفه - وإنما قدموا غزوة ذات الرقاع على غزوة الحديبية التي وقعت فيها صلاة عسفان فلزم من صنيعهم أن تكون صلاة الخوف بذات الرقاع أول صلاة وقعت، ولم يكن لأهل المغازي معتمد في تقديم ذات الرقاع، لذلك فقد اختلفوا في تحديد زمنها اختلافاً كبيراً.
فعند ابن إسحاق(1) أنها كانت في جمادى الأولى سنة أربع للهجرة.
وذهب الواقدي(2) وابن سعد(3) وابن حبان(4) إلى أنها في المحرم سنة خمس.
وتردد موسى بن عقبة في زمنها فلا يدري أكانت قبل بدر أو بعدها أو قبل أحد أو بعدها(5).
وأما أبو معشر السندي فيرى أنها بعد بني قريظة والخندق(6).
وذهب البخاري(7) - وتبعه ابن القيم(8) وابن كثير(9) وابن حجر(10) - إلى أن غزوة ذا الرقاع متأخرة عن غزوة الحديبية، بل وعن غزوة خيبر، وبذلك تكون صلاة عسفان أول صلاة وقعت لأنها في غزوة الحديبية، كما سبق بيانه.
وما ذهب إليه البخاري ومن تبعه متعين لما يلي:
أولاً: ورد في صحيح البخاري أن أبا موسى الأشعري رضي الله عنه شهد غزوة ذات الرقاع:
__________
(1) سيرة ابن هشام 3/203.
(2) مغازي الواقدي 1/395.
(3) الطبقات الكبرى 2/61.
(4) صحيح ابن حبان 1/257.
(5) فتح الباري 7/417.
(6) فتح الباري 7/417.
(7) صحيح البخاري مع الفتح، كتاب المغازي: باب غزوة ذات الرقاع.
(8) زاد المعاد 3/253.
(9) البداية والنهاية 4/83.
(10) فتح الباري 7/419.(1/78)
(44) قال البخاري: حدثنا محمد بن العلاء حدثنا أبو أسامة عن بريد بن عبد الله بن أبي بردة عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: "خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في غزاة ونحن ستة نفر بيننا بعير نتعقبه فنقبت(1) أقدامنا، ونقبت قدماي وسقطت أظفاري فكنا نلف على أرجلنا الخرق، فسميت ذات الرقاع لما كنا نعصب من الخرق على أرجلنا"(2).
وقد جاء في حديث آخر أن أبا موسى رضي الله عنه لم يصحب النبي صلى الله عليه وسلم إلا بعد فتح خيبر ونصه:
(45) قال البخاري: حدثني إسحاق بن إبراهيم سمع حفص بن غياث حدثنا بريد بن عبد الله عن أبي بردة عن أبي موسى قال: "قدمنا على النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن افتتح خيبر فقسم لنا ولم يقسم لأحد لم يشهد الفتح غيرنا"(3).
وإذا كان أبو موسى الأشعري رضي الله عنه قد شهد الغزوة كما في الحديث الأول، ولم يلق النبي صلى الله عليه وسلم إلا بعد فتح خيبر كما في الحديث الثاني، فيلزم من ذلك تأخر غزوة ذات الرقاع عن خيبر، وإذا كانت بعد خيبر فهي بعد الحديبية من باب أولى.
ثانياً: جاء في حديث عند أبي داود أن أبا هريرة شهد هذه الغزوة:
__________
(1) نقبت أقدامنا: أي رقت جلودها ونفطت من المشي. النهاية 5/102.
(2) صحيح البخاري مع الفتح، كتاب المغازي: 4128.
(3) صحيح البخاري مع الفتح، كتاب المغازي: 4233.(1/79)
(46) قال أبو داود: حدثنا الحسن(1) بن علي حدثنا أبو عبد الرحمن(2) المقري حدثنا حيوة(3) وابن لهيعة(4) قالا: أخبرنا أبو الأسود(5) أنه سمع عروة بن الزبير يحدث عن مروان بن الحكم أنه سأل أبا هريرة هل صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الخوف؟ قال أبو هريرة: نعم، قال مروان: متى؟ فقال أبو هريرة: عام غزوة نجد... (6) ثم ذكر صفة صلاتهم.
سند هذا الحديث صحيح، فهو من رواية أحد العبادلة عن ابن لهيعة(7)، وقد جاء أيضاً مقروناً بحيوة بن شريح المصري، وهو ثقة ثبت كما قال ابن حر، وبقية رجاله ثقات.
وأخرجه أبو داود من وجه آخر، وصرح فيه باسم الغزوة.
__________
(1) الحسن بن علي بن محمد الهذلي، أبو علي الخلال الحلواني - بضم المهملة - نزيل مكة، ثقة حافظ، له تصانيف، مات سنة اثنتين وأربعين ومائتين: خ، م، د، ت، ق. تقريب: 71.
(2) عبد الله بن يزيد المكي، أبو عبد الرحمن المقري أصله من البصرة أو الأهواز، ثقة فاضل أقرأ القرآن نيفاً وسبعين سنة، مات سنة ثلاث عشرة ومائتين: ع. تقريب: 194، تهذيب التهذيب 6/83.
(3) حيوة - بفتح أوله وسكون التحتانية وفتح الواو - ابن شريح بن صفوان التجيبي أبو زرعة المصري، ثقة ثبت فقيه زاهد، مات سنة ثمان وقيل تسع وخمسين ومائة: ع. تقريب: 86.
(4) عبد الله بن لهيعة.
(5) هو محمد بن عبد الرحمن بن نوفل الأسدي.
(6) سنن أبي داود مع معالم السنن، كتاب الصلاة: 1240.
(7) انظر ص:(1/80)
(47) قال أبو داود: حدثنا محمد(1)بن عمرو الرازي حدثنا سلمة(2) حدثني محمد(3) بن إسحاق عن محمد(4) بن جعفر بن الزبير، ومحمد(5) بن الأسود عن عروة بن الزبير عن أبي هريرة قال: "خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى نجد حتى إذا كنا بذات الرقاع من نخل، لقي جمعاً من غطفان..."(6) الحديث.
هذا الحديث حسن في سنده سلمة بن الفضل متكلم فيه ضعفه النسائي، ووثقة ابن معين وابن سعد، وهذا الحديث من روايته عن ابن إسحاق وقد قال عنه ابن جرير: ليس من لدن بغداد إلى أن يبلغ خراسان أثبت في ابن إسحاق من سلمة بن الفضل(7).
وفيه أيضاً ابن إسحاق لم يصرح بالسماع لكن يشهد له الحديث السابق.
فهذان الحديثان أفادا أن أبا هريرة شهد غزوة ذات الرقاع مع النبي صلى الله عليه وسلم وأبو هريرة رضي الله عنه لم يصحب النبي صلى الله عليه وسلم إلا بعد فتح خيبر كما في الحديث الآتي:
__________
(1) محمد بن عمرو بن بكر الرازي أبو غسان زنيج - بزاي ونون وجيم - مصغراً ثقة، مات في آخر سنة أربعين، أو أول التي بعدها أي بعد المائتين: م، د، ق. تقريب: 313.
(2) سلمة بن الفضل الأبرشي - بالمعجمة - مولى الأنصار قاضي الري، صدوق كثير الخطأ، مات بعد التسعين ومائة، وقد جاوز المائة: د، ت، فق. تقريب: 131.
(3) محمد بن إسحاق بن يسار.
(4) محمد بن جعفر بن الزبير بن العوام الأسدي المدني، ثقة، مات سنة بضع عشرة ومائة: ع. تقريب: 292.
(5) هو أبو الأسود محمد بن عبد الرحمن بن نوفل بن الأسود يتيم عروة، وهو ثقة. انظر: تهذيب التهذيب 9/307.
(6) سنن أبي داود مع معالم السنن، كتاب الصلاة: 1241.
(7) تهذيب التهذيب 4/154.(1/81)
(48) قال الإمام أحمد: حدثنا عفان(1) حدثنا وهيب(2) ثنا خثيم(3) - يعني ابن عراك - عن أبيه(4) أن أبا هريرة قدم المدينة في رهط من قومه والنبي صلى الله عليه وسلم بخيبر وقد استخلف سباع بن عرفطة على المدينة قال: "فانتهيت إليه وهو يقرأ في صلاة الصبح في الركعة الأولى بكهيعص، وفي الثانية ويل للمطففين، قال: فقلت ويل لفلان إذا اكتال اكتال بالوافي، وإذا كال كال بالناقص، قال: فلما صلى زودنا شيء حتى أتينا خيبر وقد افتتح النبي صلى الله عليه وسلم خيبر قال: فكلم النبي صلى الله عليه وسلم المسلمين فأشركونا في سهامهم"(5).
هذا الحديث حسن في سنده خثيم مختلف فيه، وثقه النسائي وابن حبان، وقال العقيلي: "ليس به بأس"، وقال الأزدي: "منكر الحديث"(6) وقد رجح الذهبي(7) توثيقه حيث رمز له بـ (صح).
وإذا تقرر أن أبا هريرة رضي الله عنه لم يلق النبي صلى الله عليه وسلم إلا بعد فتح خيبر كما أفاد هذا الحديث وقد شهد غزوة ذات الرقاع كما في الحديثين السابقين فشهوده لها دليل ظاهر على تأخرها عن الحديبية وخيبر.
__________
(1) عفان بن مسلم بن عبد الله الباهلي، أبو عثمان الصغار البصري، ثقة ثبت، قال ابن المديني: كان إذا شك في حرف من الحديث تركه وربما وهم، وقال ابن معين: انكرناه في صفر سنة تسع عشرة، ومات سنة عشرين ومائتين: ع. تقريب: 240، تهذيب التهذيب 7/234.
(2) وهيب - بالتصغير - ابن خالد بن عجلان الباهلي مولاهم، أبو بكر البصري ثقة ثبت، لكنه تغير قليلاً بآخره، مات سنة خمس وستين ومائة: ع. تقريب: 372.
(3) خثيم - بمثلثة مصغراً - ابن عراك بن مالك الغفاري المدني لا بأس به، من السادسة: خ، م، س. تقريب: 92.
(4) عراك بن مالك الغفاري الكناني المدني، ثقة فاضل، من الثالثة، مات في خلافة يزيد ابن عبد الملك بعد المائة: ع. تقريب: 237.
(5) مسند أحمد 2/345.
(6) تهذيب التهذيب 3/137.
(7) ميزان الاعتدال 1/650.(1/82)
(49) ثالثاً: قال البخاري: قال عبد الله بن رجاء أخبرنا عمران القطان عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما: "أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بأصحابه في الخوف في غزوة السابعة غزوة ذات الرقاع"(1).
هذا الحديث أورده البخاري معلقاً لكن بصيغة الجزم، وقد وصله أبو العباس السراج في مسنده وسمويه في فوائده(2).
قال ابن حجر في معرض كلامه على الحديث: "في التنصيص على أنها سابع غزوة من غزوات النبي صلى الله عليه وسلم تأييد لما ذهب إليه البخاري من أنها كانت بعد خيبر، فإنه إن كان المراد الغزوات التي خرج النبي صلى الله عليه وسلم فيها مطلقاً وإن لم يقاتل فإن السابعة منها تقع قبل أحد، ولم يذهب أحد إلى أن ذات الرقاع قبل أُحد إلا ما تقدم من تردد موسى بن عقبة، وفيه نظر، لأنهم متفقون على أن صلاة الخوف متأخرة عن غزوة الخندق، فتعيين أن تكون ذات الرقاع بعد بني قريظة، فتعين أن المراد الغزوات التي وقع فيها القتال، والأولى منها بدر والثانية أحد، والثالثة الخندق، والرابعة قريظة، الخامسة المريسيع، والسادسة خيبر، فيلزم أن تكون ذات الرقاع بعد خيبر للتنصيص على أنها السابعة، فالمراد تاريخ الوقعة لا عدد المغازي وهذه العبارة أقرب إلى إرادة السنة من العبارة التي وقعت عند أحمد بلفظ: "وكانت صلاة الخوف في السابعة" فإنه يصح أن يكون التقدير: في الغزوة السابعة كما يصح في غزوة السنة السابعة"(3) انتهى.
قلت: قد وقع عند أحمد التصريح بالسنة عن جابر ونصه: "غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم ست مرات قبل صلاة الخوف وكانت صلاة الخوف في السنة السابعة"(4).
لكن في سنده ابن لهيعة، وهو متكلم فيه.
__________
(1) صحيح البخاري مع الفتح، كتاب المغازي: 4125.
(2) ذكر ذلك ابن حجر، انظر هدي الساري: 52، وفتح الباري 7/419.
(3) فتح الباري 7/419.
(4) الفتح الرباني لترتيب مسند أحمد بن حنبل الشيباني 7/7.(1/83)
وقد تبين لنا من قصة أبي موسى الأشعري وأبي هريرة رضي الله عنهما ومن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما رجحان القول بتأخر غزوة ذات الرقاع عن غزوة الحديبية، فتكون صلاة الخوف في غزوة الحديبية أول صلاة وقعت.
وقد قال بعضهم إن غزوة ذات الرقاع وقعت أكثر(1) من مرة، وأن التي صليت فيها صلاة الخوف غير التي شهدها أبو موسى رضي الله عنه، وهذا القول مردود لشهود أبي هريرة غزوة ذات الرقاع، وقد ذكر أنه صلى مع النبي صلى الله عليه وسلم صلاة الخوف فيها، وإنما صحب النبي صلى الله عليه وسلم بعد فتح خيبر كما سبق بيانه.
وقد رد ابن القيم رحمه الله القول بتعدد الغزوة: فقد أورد حديث أبي موسى وأبي هريرة رضي الله عنهما ثم قال: "وهذا يدل على أن غزوة ذات الرقاع بعد خيبر، وأن من جعلها قبل الخندق فقد وهم وهماً ظاهراً ولما لم يفطن بعضهم لهذا ادعى أن غزوة ذات الرقاع كانت مرتين، فمرة قبل الخندق، ومرة بعدها على عادتهم في تعديد الوقائع إذا اختلفت ألفاظها، أو تاريخها ولو صح لهذا القائل ما ذكر ولا يصح، لم يمكن أن يكون قد صلى بهم صلاة الخوف في المرة الأولى لما تقدم من قصة عسفان وكونها بعد الخندق، ولهم أن يجيبوا عن هذا بأن تأخير يوم الخندق جائز غير منسوخ وأن في حال المسايفة يجوز تأخير الصلاة إلى أن يتمكن من فعلها، وهذا أحد القولين في مذهب أحمد رحمه الله، لكن لا حيلة لهم في قصة عسفان أن أول صلاة صلاها للخوف بها، وأنها بعد الخندق"(2) ا.هـ
قلت: جزم ابن القيم رحمه الله هنا أن أول صلاة صلاها النبي صلى الله عليه وسلم للخوف هي صلاة عسفان، وكأنه اعتمد في ذلك على ما في حديث أبي عياش من أن آية صلاة الخوف نزلت في شأن صلاة عسفان، وهو دليل ظاهر، وصلاة عسفان هذه وقعت في غزوة الحديبية كما سبق بيانه"(3).
__________
(1) فتح الباري 7/417، 419.
(2) زاد المعاد 3/252.
(3) انظر ص وما بعدها.(1/84)
المبحث الرابع: تنبيه على أحاديث وردت في صلاة عسفان وبيان وجه مغايرتها:
هناك أحاديث ذكرت فيها صفة صلاة الخوف، بعضها يتفق مع حديث أبي عياش في كيفية الصلاة، وبعضها يتفق معه في المكان الذي صليت فيه تلك الصلاة، ولذلك حمل بعض العلماء تلك الأحاديث على قصة عسفان مع حديث أبي عياش بناء على اتحاد القصة.
وبعد النظر والتأمل في تلك الأحاديث ومقارنتها بحديث أبي عياش تبين لي أنها مغايرة لما في حديث أبي عياش، وسأورد تلك الأحاديث وأبين وجه مخالفتها لحديث أبي عياش إن شاء الله.
أولاً: حديث جابر رضي الله عنه:
قال مسلم: حدثنا أحمد بن عبد الله بن يونس، حدثنا زهير حدثنا أبو الزبير عن جابر قال: "غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قوماً من جهينة فقاتلونا قتالاً شديداًَ، فلما صلينا الظهر قال المشركون لو ملنا عليهم لاقتطعناهم(1)، فأخبر بذلك جبريل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكر ذلك لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: وقالوا: إنهم ستأتيهم صلاة هي أحب إليهم من الأولاد، فلما حضرت العصر، قال: صففنا صفين والمشركون بيننا وبين القبلة، قال: فكبر رسول الله صلى الله عليه وسلم وكبرنا وركع فركعنا، ثم سجد وسجد معه الصف الأول، فلما قاموا سجد الصف الثاني ثم تأخر الصف الأول، وتقدم الصف الثاني فقاموا مقام الأول، فكبر رسول الله صلى الله عليه وسلم وكبرنا وركع فركعنا ثم سجد وسجد معه الصف الأول، وقام الثاني فلما سجد الصف الثاني ثم جلسوا جميعاً فسلم عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم"، قال أبو الزبير، ثم خص جابر أن قال كما يصلي أمراؤكم هؤلاء"(2).
__________
(1) لاقتطعناهم: لأخذناهم منفردين، اقتطع الشيء إذا أخذه وانفرد به. النهاية 4/82.
(2) صحيح مسلم، كتاب صلاة المسافرين وقصرها: 308.(1/85)
هذه رواية أبي الزبير عن جابر عند مسلم وأخرجها أبو داود(1) الطيالسي وزاد صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بأصحابه الظهر بنخل...".
وأخرجه مسلم(2) من رواية عطاء عن جابر بمثله ولم يسم القوم الذين غزوهم.
وقد ذكر ابن كثير(3) وابن حجر(4) هذا الحديث في قصة عسفان على أنه متحد مع ما في حديث أبي عياش الزرقي.
والذي يظهر أن هذا الحديث يباين ما في حديث أبي عياش لأمور أهمها ما يلي:
(1) في حديث جابر هذا: "غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قوماً من جهينة"، بينما في حديث أبي عياش: "كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعسفان وعلى المشركين خالد بن الوليد...".
ولا شك أن هؤلاء المشركين هم كفار قريش، كما بينه حديث المسور ومروان بن الحكم من طريق ابن إسحاق عند أحمد فقد جاء فيه: "وهذه قريش قد سمعت بمسيرك فخرجت معها العوذ المطافيل قد لبسوا جلود النمور يعاهدون الله ألا تدخلها عليهم أبداً، وهذا خالد بن الوليد في خيلهم قد قدموا إلى كراع الغميم"(5).
فصلاة الخوف في حديث جابر بسبب قوم جهينة، وصلاة الخوف في حديث أبي عياش بسبب كفار قريش.
(2) يقول جابر في حديثه: "فقاتلونا قتالاً شديداً"، ولم يثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قاتل أحداً من المشركين أثناء سيره لعمرة الحديبية.
(3) يقول جابر في حديثه: "فلما صلينا الظهر قال المشركون لو ملنا عليهم لاقتطعناهم فأخبر جبريل رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم".
ويقول أبو عياش في حديثه: "فصلينا الظهر فقال المشركون لقد أصبنا غزة لقد أصبنا غفلة، لو كنا حملنا عليهم وهم في الصلاة، فنزلت آية القصر بين الظهر والعصر.
__________
(1) مسند أبي داود: 240.
(2) صحيح مسلم، كتاب صلاة المسافرين وقصرها: 307.
(3) البداية والنهاية 4/82.
(4) فتح الباري 7/423.
(5) مسند أحمد 4/323، وتقدم سنده مع طرف من أوله برقم (36).(1/86)
وبالتأمل في هذين النصين نستشف منهما تأخر قصة حديث جابر عن قصة حديث أبي عياش وذلك أن حديث أبي عياش يفيد أن الآية التي بها شرعت صلاة الخوف نزلت في تلك الحادثة، وهو دليل على ابتداء مشروعية صلاة الخوف.
أما حديث جابر فقد ذكر فيه أن جبريل أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بما عزم عليه المشركون فقط فصلى صلاة الخوف وكأنه قد عرف حكمها قبل ذلك.
ثانياً: حديث أبي هريرة رضي الله عنه:
قال النسائي: أخبرنا العباس بن عبد العظيم قال: حدثني عبد الصمد ابن عبد الوارث قال: حدثني سعيد بن عبيد الهنائي قال: حدثنا عبد الله بن شقيق قال: حدثنا أبو هريرة قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم نازلاً بين ضَجَنَان وعسفان محاصر المشركين فقال المشركون: أن لهؤلاء صلاة هي أحب إليهم من أبنائهم وأبكارهم، أجمعوا أمركم ثم ميلوا عليهم ميلة واحدة، فجاء جبريل عليه السلام فأمره أن يقسم أصحابه نصفين فيصلي بطائفة منهم وطائفة مقبلون على عدوهم قد أخذوا حذرهم وأسلحتهم، فيصلي بهم ركعة ثم يتأخر هؤلاء ويتقدم أولئك فيصلي بهم ركعة تكون لهم مع النبي صلى الله عليه وسلم ركعة ركعة، وللنبي ركعتان"(1).
وأخرجه الترمذي(2) بنحوه، وقال هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه من حديث عبد الله بن شقيق عن أبي هريرة(3).
وقد أورد ابن القيم(4) وابن كثير(5) حديث أبي هريرة هذا مع حديث أبي عياش في قصة عسفان، وكأنهما يريان اتحاد القصة فيهما، وكذلك ذكر ابن حجر أنه متفق مع ما في حديث أبي عياش، وقد ظهر لي بعد إمعان النظر في الحديثين عدم اتحادهما لما يلي:
__________
(1) سنن النسائي 3/174.
(2) سنن الترمذي، كتاب التفسير: 3035.
(3) سنن الترمذي 5/243.
(4) زاد المعاد 3/251.
(5) البداية والنهاية 4/82.(1/87)
(1) أن حديث أبي عياش يفيد أن كلتا الطائفتين ائتمت بالنبي صلى الله عليه وسلم في وقت واحد، إلا في حالة السجود ينتظر الصف الثاني حتى يرفع الأول من السجود، ثم يسجد بينما في حديث أبي هريرة صلى بكل طائفة على حدة.
(2) في حديث أبي عياش كانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم ركعتان ولكل من الطائفتين ركعتان كذلك، بينما في حديث أبي هريرة: كانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم ركعتان ولكل طائفة ركعة واحدة.
(3) جاء في حديث أبي هريرة ما يفيد أن العدو كان لغير جهة القبلة وذلك في قوله: "فيصلي بطائفة منهم وطائفة مقبلون على عدوهم...".
ثالثاً: يقول ابن حجر في التلخيص الحبير(1): "حديث صلاته بعسفان متفق عليه من حديث سهل بن أبي حثمة، ورواه أبو داود والنسائي وابن حبان والحاكم من حديث أبي عياش الزرقي" ا.هـ
قلت: حديث أبي عياش الزرقي صريح بأنه في صلاة عسفان، أما حديث سهيل بن أبي حثمة فغير ظاهر في ذلك لاختلاف كيفية الصلاة فيه عنها في حديث أبي عياش الزرقي، وهذا نص حديث سهل بن أبي حثمة:
قال البخاري: حدثنا مسدد حدثنا يحيى بن سعيد القطان عن يحيى بن سعيد الأنصاري عن القاسم بن محمد عن صالح بن خوات عن سهل بن أبي حثمة قال: "يقوم الإمام مستقبل القبلة وطائفة منهم معه وطائفة من قبل العدو وجوههم إلى العدو، فيصلي بالذين معه ركعة ثم يقومون فيركعون لأنفسهم ركعة ويسجدون سجدتين في مكانهم، ثم يذهب هؤلاء إلى مقام أولئك فيجيء أولئك فيركع بهم ركعة فله ثنتان، ثم يركعون ويسجدون سجدتين"(2).
هكذا أخرجه البخاري موقوفاً على سهل، ومن هذا الوجه أخرجه مسلم(3) وأبو داود(4).
وبالتأمل في صورة الصلاة في حديث سهل بن أبي حثمة نجدها تختلف عن صورة الصلاة في حديث أبي عياش بما يلي:
__________
(1) التلخيص الحبير 2/75.
(2) صحيح البخاري مع الفتح، كتاب المغازي: 4131.
(3) صحيح مسلم، كتاب صلاة المسافرين وقصرها: 309.
(4) سنن أبي داود مع معالم السنن، كتاب الصلاة: 1239.(1/88)
(1) في حديث أبي عياش كلتا الطائفتين ائتمت بالنبي صلى الله عليه وسلم في آن واحد، بينما في حديث سهل ائتمت طائفة بالنبي صلى الله عليه وسلم، والطائفة الأخرى وقفت تجاه العدو.
(2) في حديث أبي عياش حصلت لكل من الطائفتين ركعتان مع النبي صلى الله عليه وسلم، أما في حديث سهل، فصلت كل طائفة ركعة واحدة مع النبي صلى الله عليه وسلم ثم أتمت لنفسها الركعة الثانية.
(3) في حديث أبي عياش أن العدو كان في جهة القبلة بخلاف حديث سهل فقد حمله الجمهور(1) على أن العدو كان لغير جهة القبلة.
ولعل حديث سهل في صفة صلاة غزوات ذات الرقاع؛ لأن صالح بن خوان الراوي عن سهل أخرج البخاري(2) وغيره الحديث من طريقه يرويه عمن شهد غزوات ذات الرقاع فذكر صورة الصلاة في حديث سهل هذا.
ومفهوم كلام ابن حجر في الفتح: أن حديث سهل بن أبي حثمة في صفة صلاة غزوات ذات الرقاع(3).
فلعل ما وقع في التلخيص الحبير وهم منه رحمه الله.
الفصلُ السابعُ
عدولُ المسلمينَ إلى الحديبيةِ
ويضمُّ ثلاثةَ مباحث:
المبحث الأول: المشاق التي عاناها المسلمون في طريقهم إلى الحديبية.
المبحث الثاني:نزول المسلمين الحديبية ومعجزة النبي صلى الله عليه وسلم في تكثير ماء البئر.
المبحث الثالث: من الذي نزل بالسهم في بئر الحديبية؟
المبحث الأول: المشاق التي عاناها المسلمون في طريقهم إلى الحديبية:
كان خالد بن الوليد - في خيل المشركين - قد قطع طريق المسلمين إلى مكة، فليس أمام المسلمين - إن هم تقدموا في طريقهم ذلك - إلا خوض معركة محققة مع خيل خالد بن الوليد، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم حريصاً على تحاشي القتال مع قريش، ولذلك صرف أصحابه - بعد أن أمسى(4) - إلى طريق آخر لا يمر على خيل خالد - أفضى بهم إلى ثنية أنزلتهم على الحديبية.
__________
(1) فتح الباري 7/424.
(2) صحيح البخاري مع الفتح، كتاب المغازي: 4129.
(3) انظر: فتح الباري 7/422.
(4) انظر الطبقات الكبرى 2/95.(1/89)
(50) قال الطبراني: حدثنا عبد الله بن محمد بن شعيب الرجائي ثنا محمد(1) بن معمر البحراني ثنا عبيد الله بن موسى (عن موسى) بن عبيدة عن عبد الله شيخ من أسلم(2) عن جندب بن ناجية أو ناجية(3) بن جندب، قال: "لما كنا بالغميم لقي رسول الله خبر قريش أنها بعثت خالد ابن الوليد في جريدة(4) خيل يتلقى رسول الله صلى الله عليه وسلم فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يلقاه، وكان بهم رحيماً، فقال: "من رجل يعدلنا عن الطريق؟ فقال: أنا بأبي أنت فأخذتهم في طريق قد كان بها حزنا(5) فدافد(6) وعقاب فاستوت بنا الأرض حتى أنزله على الحديبية، وهي نزح(7) فألقى فيها سهماً أو سهمين من كناته ثم بصق فيها ثم دعا ففارت عيونها حتى إني لأقول أو نقول لو شئنا لاغترفنا بأيدينا"(8).
وذكر ابن حجر أن الحديث أخرجه الحسن بن سفيان في مسنده من طريق موسى بن عبيدة عن عبد الله عن عبد الله بن عمرو بن أسلم عن ناجية بن جندب قال: كنا بالغميم فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم خبر قريش أنها بعثت خالد بن الوليد في جريدة خيل..."(9).
__________
(1) محمد بن معمر بن ربعي القيسي البصري البحراني - بالموحدة والمهملة - صدوق، مات سنة خمسين ومائتين: ع. تقريب: 319.
(2) في رواية الحسن بن سفيان عبد الله بن عمرو بن أسلم.
(3) ناجية بن جندب - هكذا جزم به الحسن بن سفيان - وهو: ناجية بن جندب ابن عمير بن يعمر الأسلمي، صحابي روى عنه مجزأة بن زاهر وغيره: س. تقريب: 354.
(4) جريدة الخيل: قال في القاموس الجريدة خيل لا رجالة فيها (أي كلهم راكبون). ترتيب القاموس 1/471.
(5) حزنا: الحزن المكان الغليظ الخشن. النهاية 1/380.
(6) الفدافد: جمع فدفد، وهو المكان الصلب الغليظ المرتفع، ترتيب القاموس 3/456 - 457.
(7) النزح - بالتحريك - : البئر التي أُخذ ماؤها. النهاية 5/40.
(8) المعجم الكبير 2/193 - 194.
(9) الإصابة 10/124.(1/90)
وقال ابن حجر أيضاً: "ووقع لنا بعلو في المعرفة لابن منده، وكذا أخرجه ابن السكن" ا.هـ(1)
وذكر ابن حجر أنه ورد في رواية ابن منده وابن السكن "ناجية بن جندب أو جندب بن ناجية" بالشك(2)، مثل رواية الطبراني.
والحديث أخرجه أبو نعيم(3) من طريق الطبراني بسنده.
وهذا حديث ضعيف لأن في سنده موسى بن عبيدة الربذي ضعيف، وقد أشار إلى ذلك الهيثمي(4) وابن حجر(5).
__________
(1) الإصابة 10/124.
(2) الإصابة 10/124.
(3) دلائل النبوة: 146.
(4) مجمع الزوائد 6/144.
(5) الإصابة 10/124.(1/91)
(51) وقال البزار حدثنا إسحاق(1) بن بهلول الأنباري حدثنا محمد(2) ابن إسماعيل بن أبي فديك عن هشام(3) بن سعد عن زيد(4) بن أسلم عن عطاء(5) بن يسار عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أنه قال: خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم حتى إذا كنا بعسفان قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن عيون المشركين الآن على ضجنان(6)، فأيكم يعرف طريق ذات الحنظل(7)؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أمسى: هل من رجل ينزل فيسعى بين يدي الركاب(8)؟ فقال رجل: أنا يا رسول الله، فنزل فجعلت الحجارة تنكبه(9) والشجر يتعلق بثيابه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
__________
(1) إسحاق بن بهلول بن حسان، أبو يعقوب التنوخي الأنباري الحافظ الناقد، قال الخطيب: كان ثقة مات بالأنبار في ذي الحجة سنة اثنتين وخمسين ومائتين وله ثمان وثمانون سنة. تذكرة الحفاظ 2/518.
(2) محمد بن إسماعيل بن مسلم بن أبي فديك - بالفاء مصغراً - الديلي مولاهم، المدني أبو إسحاق، صدوق، مات سنة ثمانين ومائة على الصحيح: ع. تقريب: 290.
(3) هشام بن سعد المدني، أبو عبادة أو أبو سعد، صدوق له أوهام ورمي بالتشيع، مات سنة ستين ومائة أو قبلها: خت، م الأربعة. تقريب: 364، تهذيب التهذيب 11/39.
(4) زيد بن أسلم العدوي مولى عمر، أبو عبد الله أو أبو أسامة المدني، ثقة، عالم وكان يرسل، مات سنة ست وثلاثين ومائة: ع. تقريب: 111.
(5) عطاء بن يسار الهلالي أبو محمد مولى ميمونة، ثقة فاضل صاحب مواعظ وعبادة، مات سنة أربع وتسعين، وقيل بعد ذلك: ع. تقريب: 240.
(6) ضجنان - بالتحريك ونونين - : ورواه ابن دريد بسكون الجيم: قيل جبل على بريد من مكة، قال الواقدي: بينة وبين مكة خمسة وعشرون ميلاً. معجم البلدان 3/453.
(7) ذات الحنظل: هو الفج الذي من عين الدورقي إلى ثنية الحرم، تاريخ مكة وأخبارها 2/301.
(8) الركاب: ككتاب: الإبل واحدتها راحلة. ترتيب القاموس 2/380.
(9) تنكبه: أي تصيب رجله. ترتيب القاموس 4/435.(1/92)
اركب، ثم نزل آخر فجعلت الحجارة تنكبه والشجر يتعلق بثيابه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اركب، ثم وقعنا على الطريق حتى سرنا في ثنية يقال لها الحنظل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما مثل هذه الثنية إلا كمثل الباب الذي دخل فيه بنو إسرائيل قيل لهم: {ادْخُلُواْ الْبَابَ سُجَّداً وَقُولُواْ حِطَّةٌ نَّغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ}(1)، لا يجوز لأحد الليلة هذه الثنية إلا غفر له، فجعل الناس يجوزون، وكان آخر من جاز قتادة بن النعمان في آخر القوم قال: فجعل الناس يركب بعضهم بعضاً حتى تلاحقنا، قال: فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم ونزلنا"(2).
وأخرجه ابن مردويه من طريق محمد بن إسماعيل بن أبي فديك به مختصراً ولفظه: "سرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا كان من آخر الليل أجزنا في ثنية يقال لها ذات الحنظل فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما مثل هذه الثنية إلا كمثل الباب الذي قال الله لبني إسرائيل: {ادْخُلُواْ الْبَابَ سُجَّداً وَقُولُواْ حِطَّةٌ نَّغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ}(3).
قال البزار بعد أن أخرج الحديث: "لا نعلم أحداً رواه هكذا إلا محمد بن إسماعيل" (4).
لكن تعقبه ابن حجر بقوله: "وهو ثقة يحتمل له التفرد، وشيخه أخرج له مسلم، والإسناد كلهم على شرطه إلا أن هشاماً فيه لين"(5).
وذكر الهيثمي الحديث ثم قال: "رواه البزار ورجاله ثقات"(6).
قلت: نعم رجاله ثقات إلا هشام بن سعد الذي قال ابن حجر فيه: لين، قد اختلف فيه أئمة الجرح والتعديل، فقد ضعفه ابن معين والنسائي، وقال أحمد: "ليس محكم الحديث، وقال مرة لا يروى عنه"(7).
__________
(1) سورة البقرة الآية: 58.
(2) كشف الأستار عن زوائد البزار 2/337 - 338.
(3) نقله عن ابن كثير. تفسير ابن كثير 1/99.
(4) كشف الأستار عن زوائد البزار 2/338.
(5) زوائد البزار، لوحة: 247.
(6) مجمع الزوائد 6/144.
(7) تهذيب التهذيب 11/40.(1/93)
وقال ابن معين مرة صالح الحديث ليس بمتروك، وقال ابن المديني: صالح وليس بالقوي، وقال العجلي: "جائز الحديث حسن الحديث"، وقال أبو زرعة: "محله الصدق"، وقال الآجري عن أبي داود: "أثبت الناس في زيد بن أسلم"(1).
فهذه أقوال الأئمة قد اختلف فيه جرحاً وتعديلاً لكن الذين جرحوه لم يبينوا سبب التجريح والقاعدة في اصطلاح المحدثين: "أن التعديل يقبل من غير ذكر سببه على الصحيح المشهور، ولا يقبل الجرح إلا مفسر السبب" (2).
فالتعديل في هذه الحال مقدم على الجرح لأن الجرح غير مفسر السبب، نعم هناك تجريح مفسر ذكره الخليلي قال: أنكر الحفاظ حديثه في المواقع في رمضان من حديث الزهري عن أبي سلمة قالوا: إنما رواه الزهري عن حميد(3).
وهذا الجرح يقدح فيه من قبل حفظه، فإذا حملنا تضعيف من ضعفه على هذا السبب، فلا يرد على هذا الحديث لأنه من روايته عن زيد بن أسلم، وقد قال عنه أبو داود: أثبت الناس في زيد بن أسلم(4).
ومع ذلك فللحديث شاهد في المعنى من حديث جابر وحديث المسور ومروان لآتيين، فالحديث لا يقل عن درجة الحسن إن شاء الله.
__________
(1) تهذيب التهذيب 11/40.
(2) تقريب النواوي مع شرحه تدريب الراوي 1/305.
(3) تهذيب التهذيب 11/41.
(4) تهذيب التهذيب 11/40.(1/94)
(52) قال مسلم: حدثنا عبيد الله بن معاذ العنبري حدثنا أبي حدثنا قرة بن خالد عن أبي الزبير عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من يصعد الثنية ثنية المرار(1)، فإنه يحط عنه ما حط عن بني إسرائيل". قال: فكان أول من صعدها خيلنا خيل بني الخزرج، ثم تتام الناس، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كلكم مغفور له إلا صاحب الجمل الأحمر"، فأتيناه فقلنا له: تعال يستغفر لك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: "والله لأن أجد ضالتي أحب إلي من أن يستغفر لي صاحبكم، قال: وكان رجل(2) ينشد(3) ضالة له"(4).
وأخرجه(5) عن يحيى بن حبيب الحارثي عن خالد بن الحارث عن قرة به وفيه: "وإذا هو أعرابي ينشد ضاله له".
__________
(1) ثنية المرار: مهبط الحديبية، والمرار: بقلة مرة إذا أكلتها الإبل قلصت عنه مشافرها. معجم البلدان 5/92، مراصد الإطلاع 3/125.
(2) قال القاضي: قيل هذا الرجل هو الجد بن قيس المنافق، شرح النووي على صحيح مسلم 17/127.
وقال الواقدي: هو رجل من بني ضمرة من أهل سيف البحر، مغازي الواقدي 2/585.
قلت: يشهد لقول الواقدي ما في الطريق الآخر للحديث: ((فإذا أعرابي))، وقائل ذلك هو جابر بن عبد الله، وهو من بني سلمة قوم الجد بن قيس، فلو كان صاحب القصة هو الجد بن قيس لصرح جابر باسمه، ولم يقل أعرابي. والله أعلم.
(3) ينشد ضالة: أي يطلبها ويعرفها. ترتيب القاموس 4/371.
(4) صحيح مسلم، كتاب صفات المنافقين وأحكامهم: 12.
(5) صحيح مسلم، كتاب صفات المنافقين وأحكامهم: 13.(1/95)
وفي حديث المسور بن مخرمة ومروان بن الحكم من طريق معمر ما نصه: "قالا: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم زمن الحديبية حتى إذا كان ببعض الطريق قال النبي صلى الله عليه وسلم إن خالد بن الوليد بالغميم(1) في خيل لقريش طليعة(2)، فخذوا ذا اليمين فو الله ما شعر بهم خالد حتى إذا هم بقترة الجيش، فانطلق يركض نذيراً لقريش، وسار النبي صلى الله عليه وسلم حتى إذا كان بالثنية التي يهبط عليهم منها بركت به راحلته فقال الناس: حل(3) حل، فألحت(4)، فقالوا: خلأت(5) القصواء(6)
__________
(1) حكى ابن حجر عن المحب الطبري أنه قال: يظهر أن المراد كراع الغميم، فتح الباري 5/335، قلت: قد صرح بذلك ابن إسحاق في روايته للحديث انظر ص: 100.
(2) طليعة الجيش: من يبعث ليطلع، طلع العدو، وجمعها طلائع. ترتيب القاموس3/88.
(3) حل: زجر للناقة إذا حثثتها على السير. النهاية 1/433.
(4) ألحت: أي لزمت مكانها، من ألح على الشيء إذا لزمه وأصر عليه. النهاية 4/236.
(5) خلأت: بركت أو حرمت فلم تبرح. ترتيب القاموس 2/87.
(6) القصواء: ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويطلق عليها القصواء والجدعاء والعضباء، وهي صفات للشق في الأذن.
قال البلاذري: حدثني الأعين ثنا الحسن بن موسى الأشهب عن يزيد بن عطاء مولى أبي عوانة عن أبي إسحاق عن أبي عبيدة بن عبد الله قال: "كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم حمار يقال له عفير، وكانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم ناقته القصواء من نعم بني قشير بن كعب بن ربيعة بن عامر، ويقال من نعم بني الحريش بن كعب، ابتاعها أبو بكر رضي الله عنه بأربع مائة درهم، فأخذها النبي صلى الله عليه وسلم منه بذلك الثمن، والثابت أنه وهبها له، فقبلها وهاجر عليها، ولم تزل عنده حتى مات، ويقال: ماتت في خلافة أبي بكر، وكانت تكون بالبقيع، ويقال: بنقيع الخيل وهي تسمى أيضاً: الجدعاء والعضباء.
قاله الواقدي: أنساب الأشراف: 511.
وقال ابن جرير: حدثني الحارث قال: حدثنا ابن سعد قال: أخبرنا الواقدي محمد بن عمر قال: حدثني موسى بن إبراهيم التيمي عن أبيه قال: كانت القصواء من نعم بني الحريش ابتاعها أبو بكر وأخرى معها بثمانمائة درهم وأخذها منه رسول الله صلى الله عليه وسلم بأربعمائة، فكانت عنده حتى نفقت، وهي التي هاجر عليها، كانت حين قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة رباعية، وكان اسمها القصواء والجدعاء والعضباء، تاريخ ابن جرير الطبري 2/422.
ويؤيد كون هذه الصفات لناقة واحدة ما في حديث علي رضي الله عنه حين بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم يبلغ أهل مكة سورة براءة، ففي رواية ابن عباس رضي الله عنهما أنه ركل ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم ((القصواء))، وفي رواية جابر ((العضباء)) وفي رواية غيرهما ((الجدعاء))، فهذا يصرح أن الثلاثة صفة ناقة واحدة لأن القضية واحدة، قاله ابن الأثير 4/74.(1/96)
، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ما خلأت القصواء وما ذاك لها بخلق، ولكن حبسها حابس الفيل(1)، ثم قال: والذي نفسي بيده لا يسألوني خطة(2) يعظمون فيه حرمات الله إلا أعطيتهم إياها، ثم زجرها فوثبت، قال: فعدل عنهم حتى نزل بأقصى الحديبية"(3).
وفي حديثهما من طريق ابن إسحاق عند أحمد: قال: ثم أمر الناس فسلكوا ذات اليمين بين ظهري الحمض(4) على طريق تخرجه عن ثنية المرار والحديبية من أسفل مكة، قال فسلك الجيش تلك الطريق فلما رأت خيل قريش قترة الجيش قد خالفوا عن طريقهم نكصوا راجعين إلى قريش، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا سلك ثنية المرار بركت ناقته"(5).
وفي مرسل عروة من طريق ابنه هشام: "فأخذوا ذات اليمين في ثنية تدعى الحنظل حتى هبط على الحديبية"(6).
المبحث الثاني: نزول المسلمين الحديبية ومعجزة النبي صلى الله عليه وسلم في تكثير ماء البئر:
لقد تحمل المسلمون صنوفاً من الأذى والتعب بسبب وعورة الطريق لكنهم نالوا جزاء ذلك - مغفرة الله تعالى - وهي غايتهم المنشودة، بل وغاية كل مسلم.
__________
(1) حبسها حابس الفيل: أي حبسها الله عز وجل عن دخول مكة كما حبس الفيل عن دخولها. فتح الباري 5/336.
(2) خطة: الخطة الأمر والحال والخطب. النهاية 2/48.
(3) صحيح البخاري مع الفتح، كتاب الشروط: 2731، 2732، وتقدم سنده مع طرف من أوله رقم (35).
(4) الحمض: ما ملح وأمرّ من النبات، وهي كالفاكهة للإبل. ترتيب القاموس 1/709.
(5) مسند أحمد 4/323، وتقدم سنده مع طرف من أوله برقم (36).
(6) تاريخ ابن أبي شيبة: لوحة: 56، وتقدم سنده مع طرف من أوله برقم (11).(1/97)
وبعد أن جازوا الثنية - وكان آخر الليل(1) - هبطوا على الحديبية فلم يجدوا بها إلا ماء منقطعاً لم يقم شيئاً لعطشهم - وكانوا قد نزلوا في شدة الحر - فهرعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يشكون قلة الماء، وعندها ظهرت معجزة النبي صلى الله عليه وسلم التي أكرمه الله بها حيث استحالت تلك البئر - التي قد نضب ماؤها أو كاد - عيوناً متدفقة:
ففي حديث المسور بن مخرمة ومروان بن الحكم من طريق معمر: بعد أن ذكر الثنية وبروك ناقة الرسول صلى الله عليه وسلم قال: "ثم زجرها(2) فوثبت، قال: فعدل عنهم حتى نزل بأقصى الحديبية على ثمد(3) قليل الماء يتبرضه(4) الناس تبرضاً فلم يلبث الناس حتى نزحوه، وشكى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم العطش، فانتزع سهماً من كنانته ثم أمرهم أن يجعلوه فيه، فوالله ما زال يجش بالري حتى صدروا عنه" (5).
وفي حديثهما من طريق ابن إسحاق: "ثم قال للناس انزلوا فقالوا: يا رسول الله ما بالوادي ماء ينزل عليه الناس، فأخرج سهماً من كنانته، فأعطاه رجلاً من أصحابه فنزل قليب(6) من تلك القلب، فغرزه في جوفه فجاش الماء بالرواء حتى ضرب الناس عنه بعطن(7).(8)
وفي من حديث البراء رضي الله عنه:
__________
(1) انظر حديث رقم (51) رواية ابن مردويه.
(2) زجرها: حثها وحملها على السرعة. النهاية 2/296.
(3) الثمد: الماء القليل. النهاية 1/221.
(4) يتبرضه الناس: يأخذونه قليلاً قليلاً، والبرض الشيء القليل. النهاية 1/119.
(5) صحيح البخاري مع الفتح، كتاب الشروط: 2731، 2732، وتقدم سنده مع طرف من أوله برقم (35).
(6) القليب: البئر التي تُطوَ. النهاية 4/98.
(7) بعطن: العطن مبرك الإبل حول الماء، يقال عطنت الإبل فهي عاطنة، وعواطن إذا سقيت وبركت عند الحياض لتعاد إلى الشرب مرة أخرى. النهاية 3/258.
(8) مسند أحمد 4/323، وتقدم سنده مع طرف من أوله برقم (36).(1/98)
(53) قال البخاري: حدثنا مالك بن إسماعيل حدثنا إسرائيل عن أبي إسحاق عن البراء رضي الله عنه قال: "كنا يوم الحديبية أربع عشرة مائة، والحديبية بئر فنزحناها حتى لم نترك فيها قطرة، فجلس النبي صلى الله عليه وسلم على شفير(1) البئر، فدعا بماء فمضمض ومج في البئر فمكثنا غير بعيد ثم استقينا حتى روينا وروت - أو صدرت - ركائبنا"(2).
وأخرجه(3) عن عبيد الله بن موسى بن إسرائيل به، وزاد في أوله: "تعدون أنتم الفتح فتح مكة، وقد كان فتح مكة فتحاً ونحن نعد الفتح بيعة الرضوان يوم الحديبية".
وأخرجه(4) من طريق زهير عن أبي إسحاق عن البراء فذكر نحوه، قال في أوله: "كانوا يوم الحديبية ألفاً وأربعمائة"، الحديث.
وأخرجه أحمد(5) عن أبي أحمد ووكيع، كلاهما عن إسرائيل به نحوه.
وأخرجه ابن جرير(6) من طريق وكيع عن إسرائيل به مختصراً.
وأخرجه البيهقي(7) من طريق عبد الله بن رجاء وعبيد الله بن موسى، كلاهما عن إسرائيل به نحوه.
وفيه من حديث سلمة بن الأكوع رضي الله عنه:
(54) قال مسلم: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا هاشم بن القاسم ح وحدثنا إسحاق بن إبراهيم أخبرنا أبو عامر العقدي، كلاهما عن عكرمة بن عمار ح.
__________
(1) شفير البئر: حافتها وحرفها، وشفير كل شيء حرفه. النهاية 2/485.
(2) صحيح البخاري مع الفتح، كتاب المناقب: 3577.
(3) صحيح البخاري مع الفتح، كتاب المغازي: 4150.
(4) صحيح البخاري مع الفتح، كتاب المغازي: 4151.
(5) مسند أحمد 4/290، 301.
(6) تفسير ابن جرير 26/71.
(7) دلائل النبوة 2، لوحة: 219.(1/99)
وحدثنا عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي وهذا حديثه أخبرنا أبو علي الحنفي عن عبيد الله بن عبد المجيد حدثنا عكرمة (وهو ابن عمار) حدثني إياس بن سلمة حدثني أبي قال: قدمنا الحديبية مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن أربعة عشرة مائة وعليها وخمسون شاة لا ترويها قال: فقعد رسول الله على جبا(1) الركيه(2)، فإما دعا وإما بسق فيها قال: فجاشت فسقينا واستقينا"(3) الحديث.
وأخرجه أحمد(4) عن عبد الصمد عن عكرمة بن عمار به نحوه.
وأخرجه البيهقي(5) من طريق عبد الله بن رجاء وموسى بن إسماعيل كلاهما عن عكرمة بن عمار به مختصراً وعنده "بزق فيها".
تنبيه:
جاء في حديث المسور ومروان: أن تكثير الماء كان بسبب وضع سهم النبي صلى الله عليه وسلم في البئر، وفي حديث البراء وحديث سلمة أن ذلك بسبب مج النبي صلى الله عليه وسلم أو بصاقه في البئر ودعائه.
والتحقيق أنه لا خلاف بين تلك الأحاديث لحصول ذلك كله من النبي صلى الله عليه وسلم، فقد وردت روايات جمعت بين ذلك كله، وهي:
ما أخرجه الطبراني من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه وفيه: "فأخذتهم في طريق قد كان بها حزناً فدافد، وعقاب، فاستوت بنا الأرض حتى أنزله على الحديبية، وهي نزح، فألقى فيها سهما أو سهمين من كنانته ثم بصق فيها ثم دعا ففارت عيونها حتى إنني لأقول أو نقول لو شئنا لاغترفنا بأيدينا"(6).
وما أخرجه البيهقي من طريق أبي الأسود عن عروة:
__________
(1) الجبا: بالفتح والقصر: ما حول البئر. النهاية 1/237.
(2) الركية: البئر. النهاية: 2/261.
(3) صحيح مسلم، كتاب الجهاد والسير: 132.
(4) مسند أحمد 4/48.
(5) دلائل النبوة 2، لوحة: 219.
(6) المعجم الكبير 2/194، وتقدم الحديث برقم (50).(1/100)
(55) قال: أخبرنا أبو عبد الله(1) الحافظ قال أخبرنا أبو جعفر(2) البغدادي قال: حدثنا أبو علاثة محمد(3) بن عمرو بن خالد قال: حدثنا أبي(4) قال: قال حدثنا ابن لهيعة(5) قال حدثنا أبو الأسود(6) قال: قال عروة: فذكر خروج النبي صلى الله عليه وسلم قال: وخرجت قريش من مكة فسبقوه إلى بلدح(7)، وإلى الماء، فنزلوا عليه، فلما رآى رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قد سبق نزل على الحديبية، وذلك في حر شديد وليس بها إلا بئر واحدة، فأشفق القوم من الظمأ والقوم كثير، فنزل فيها رجال يميحونها، ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بدلو من ماء فتوضأ في الدلو ومضمض فاه، ثم مج فيه وأمر أن يصب في البئر، ونزع سهماً من كنانته فألقاه في البئر ودعا الله تبارك وتعالى ففارت بالماء حتى
__________
(1) هو: محمد بن عبد الله بن محمد بن حمدويه بن نعيم الضبي الطهماني المعروف بابن البيع، صاحب التصانيف، قال الخطيب أبو بكر: أبو عبد الله الحاكم كان ثقة يميل إلى التشيع، مات في صفر سنة خمس وأربعمائة رحمه الله. تذكرة الحفاظ 3/1039.
(2) محمد بن محمد بن عبد الله بن حمزة بن جميل أبو جعفر البغدادي، سكن سمرقند وكان ثبتاً صحيح السماع حسن الأصول، سافر الكثير وكتب بالشام ومصر والحجاز واليمن، وليس للبغداديين عنه رواية؛ لأنه خرج من بغداد قديماً، وحصل حديثه عند الخراسانيين، وأهل ما وراء النهر، قال أبو سعيد عبد الرحمن بن محمد الإدريسي: كتبنا عنه وكان ثقة في الحديث فاضلاً انتخب عليه أبو علي الحافظ النيسابوري، وكتب عنه الحفاظ، مات سنة خمس وأربعين وثلاثمائة. تاريخ بغداد 3/217.
(3) أبو علاثة، لم أقف على ترجمته.
(4) عمرو بن خالد بن فروخ بن سعيد التميمي ويقال الخزاعي، أبو الحسن الحراني نزيل مصر، ثقة، مات سنة تسع وعشرين ومائتين: خ، ق. تقريب: 259.
(5) هو: عبد الله بن لهيعة.
(6) هو: محمد بن عبد الرحمن بن نوفل الأسدي.
(7) بلدح: واد قبل مكة من جهة الغرب. معجم البلدان 1/480.(1/101)
جعلوا يغترفون بأيديهم منها وهم جلوس على شفتها"(1).
هذا الأثر مرسل، وسنده إلى عروة ضعيف لأن فيه ابن لهيعة ضعفه الحفاظ، وفيه أيضاً أبو علاثة لم أقف على ترجمته.
فهاتان الروايتان بينتا ما قد يظهر من تعارض بين تلك الأحاديث وإلى هذا الجمع جنح ابن القيم(2)، وابن حجر(3).
المبحث الثالث: من الذي نزل بالسهم في بئر الحديبية؟:
ورد في حديث المسور بن مخرمة ومروان بن الحكم عند البخاري وغيره أن الصحابة رضوان الله عليهم شكوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قلة الماء، فأخذ سهماً من كنانته وأعطاه بعض أصحابه ليغرزه في البئر(4)، بيد أنه لم يرد في شيء من الروايات الصحيحة تصريح باسم الصحابي الذي أعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم السهم، لذلك فقد وقع خلاف بين أهل المغازي في اسم الصحابي الذي نزل بالسهم:
فذهب ابن إسحاق(5) وابن عبد البر(6) ومن تبعهما إلى أن الذي نزل بسهم رسول الله صلى الله عليه وسلم هو ناجية بن جندب بن عمير الأسلمي:
(56) قال ابن إسحاق: "فحدثني بعض أهل العلم عن رجال من أسلم أن الذي نزل في القليب بسهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ناجية بن جندب بن عمير بن يعمر بن دارم ابن عمرو بن واثلة بن سهم بن مازن بن سلامان ابن أسلم بن أفصى بن أبي حارثة، وهو سائق بدن رسول الله صلى الله عليه وسلم(7).
ونقل الهيثمي هذا الحديث عن ابن إسحاق ثم قال: رواه الطبراني ورجاله ثقات(8).
وقال ابن إسحاق ، وقد أنشدت أسلم أبياتاً من شعر قالها ناجية قد ظننا أنه هو الذي نزل بالسهم فزعمت أسلم أن جارية من الأنصار أقبلت بدلوها وناجية في القليب يميح على الناس فقالت:
يا أيها المائح دلوي دونكا ... إني رأيت الناس يحمدونكا
__________
(1) دلائل النبوة 2، لوحة 219 - 220.
(2) زاد المعاد 3/298.
(3) فتح الباري 5/337.
(4) انظر: ص: 176 - 177
(5) سيرة ابن هشام 3/310.
(6) الدرر لابن عبد البر: 204.
(7) سيرة ابن هشام 3/310.
(8) مجمع الزوائد 6/145.(1/102)
يثنون خيراً ويمجدونكا
قال ابن هشام وروى:
إني رأيت الناس يمدحونكا
قال ابن إسحاق: فقال ابن ناجية:
قد علمت جارية يمانيه ... أني أنا المائح واسمي ناجيه
وطعنة ذا رشاش واهية ... طعنتها تحت صدور العادية(1)
وجزم الواقدي بأن الذي نزل بالسهم ناجية بن الأعجم، وذكر أن رجلاً من ولد ناجية بن الأعجم يقال له: عبد الملك بن وهب الأسلمي أنشده الأبيات التي نسبها ابن إسحاق لناجية بن جندب(2).
(57) وأخرج الواقدي أيضاً عن الهيثم بن واقد عن عطاء(3) بن أبي مروان عن أبيه(4) قال: حدثني رجل من أسلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أن ناجية(5) بن الأعجم - وكان ناجية بن الأعجم يحدث - يقول دعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم حين شكى إليه قلة الماء، فأخرج سهماً من كنانته ودفعه إلي... فقال: أنزل بالماء فصبه في البئر، وأثر مائهما بالسهم ففعلت"(6).
وهذا الحديث ضعيف.
__________
(1) سيرة ابن هشام 3/311.
(2) مغازي الواقدي 2/587 - 588.
(3) عطاء بن أبي مروان الأسلمي، أبو مصعب المدني، نزيل الكوفة، واسم أبيه سعيد، وقيل عبد الرحمن، ثقة مات بعد الثلاثين ومائة: س. تقريب: 239.
(4) أبو مروان الأسلمي، اسمه مغيث - بمعجمة مثلثة وقيل بمهملة ومثناة مشددة ثم موحدة - وقيل: اسمه سعيد، وقيل عبد الرحمن، له صحبة؛ إلا أن الإسناد إليه بذلك واه، وهو والد عطاء بن أبي مروان المدني: س. تقريب: 425.
وسماه ابن حجر في الإصابة: معتب بن عمرو. الإصابة 12/16.
(5) ناجية بن الأعجم الأسلمي ذكره ابن سعد في الصحابة، وقال: لا عقب له، وقال العطوي: عقد رسول الله صلى الله عليه وسلم لأسلم لواءين يوم الفتح، أعطى أحدهما: ناجية بن الأعجم، والآخر بريدة بن الحصيب، وذكره ابن أبي حاتم وحكى عن أبيه أنه قال: لا أعرفه، وقال ابن شاهين في الصحابة، مات بالمدينة آخر خلافة معاوية. الإصابة 10/122.
(6) مغازي الواقدي 2/588.(1/103)
(58) وقال ابن حجر: "وأخرج الواقدي عن عطاء بن أبي مروان عن أبيه حدثني أربعة عشر رجلاً من أسلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أن ناجية بن الأعجم هو الذي نزل في القليب القليل الماء يوم الحديبية بسهم رسول الله صلى الله عليه وسلم"(1).
هذا الحديث ضعيف لمجيئة من طريق الواقدي.
وروى الواقدي عن خالد بن عبادة أنه هو الذي نزل بالسهم:
(59) قال الواقدي: حدثني عبد الرحمن بن الحارث بن عبيد عن جده عبيد(2) بن أبي عبيد قال: سمعت خالد(3) بن عبادة الغفاري يقول: أنا الذي نزلت بالسهم يومئذ في البئر(4).
وهذا الحديث ضعيف أيضاً لمجيئه من طريق الواقدي.
ونقل البيهقي(5) عن موسى بن عقبة أن خالداً هذا هو الذي نزل بالسهم.
وقال ابن عبد البر في ترجمته: وهو الذي دلاه رسول الله صلى الله عليه وسلم بعمامته في البئر يوم الحديبية فماح في البئر فكثر ماؤها حتى روى الناس(6) الخ.
وقيل الذي نزل بالسهم البراء بن عازب:
__________
(1) الإصابة 10/122.
(2) عبيد بن أبي عبيد واسم أبي عبيد كثير مولى أبي رهم - بضم الراء وسكون الهاء - مقبول، من الثالثة: د، ق. تقريب: 229.
(3) خالد بن عبادة الفغاري قال ابن عبد البر: هو الذي دلاه رسول الله صلى الله عليه وسلم بعمامته في البئر يوم الحديبية. الاستيعاب 3/174 مع الإصابة.
(4) المغازي للواقدي 2/589.
(5) دلائل النبوة 2، لوحة: 220.
(6) الاستيعاب 3/174 مع الإصابة.(1/104)
(60) قال الواقدي: حدثني سفيان(1) بن سعيد عن أبي إسحاق(2) الهمداني قال: سمعت البراء(3) بن عازب يقول: أنا نزلت بالسهم(4).
وهذا الحديث أيضاً ضعيف لمجيئه من طريق الواقدي.
وقيل أن الذي نزل بالسهم يومئذ بريدة بن الحصيب، نقل ذلك ابن حجر(5) ولم يعزه لأحد.
رأينا فيما مضى أن كل واحد من هؤلاء الصحابة رضي الله عنهم يحكي أو يحكى عنه أنه قد نزل بالسهم يومئذ، لكن لم يرد عن واحد منهم خبر صحيح يمكن الاعتماد عليه وترجيحه على ما عداه، ومن ثم لا يمكن الجزم بأن واحداً منهم فعل ذلك دون الآخر، بل يحتمل أن الجميع قد اشتركوا في القضية.
وإلى ذلك جنح ابن حجر حيث قال: ويمكن الجمع بأنهم تعاونوا على ذلك بالحفر وغيره(6) ا.هـ
ويؤيده ما ورد في مرسل عروة: "فنزل فيها رجال يميحونها" (7).
ثم وجدت رواية عن البراء تؤيد ما ذهب إليه ابن حجر أيضاً وهي:
__________
(1) هو: سفيان بن سعيد بن مسورق الثوري.
(2) هو: عمرو بن عبد الله الهمداني أبو إسحاق السبيعي - بفتح المهملة وكسر الموحدة - مكثر ثقة عابد اختلظ بآخره، مات سنة تسع وعشرين ومائة، وقيل قبل ذلك: ع. تقريب: 260.
(3) البراء بن عازب بن الحارث بن عدي الأنصاري الأوسي، صحابي ابن صحابي، نزل الكوفة، استصغر يوم بدر، وكان هو وابن عمر لدة، مات سنة اثنتين وسبعين: ع. تقريب: 42.
(4) مغازي الواقدي 2/589.
(5) الإصابة 3/62.
(6) فتح الباري 5/337.
(7) انظر حديث رقم (55).(1/105)
(61) قال الإمام أحمد: حدثنا هاشم(1) حدثنا سليمان(2) عن حميد(3) عن يونس(4) عن البراء قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسيرة فأتينا على ركى ذمة - يعني قليلة الماء - قال: فنزل فيه ستة أنا سادسهم ماحة، فأدليت إلينا دلو رسول الله صلى الله عليه وسلم على شفة الركى، فجعلنا فيها نصفها أو قراب ثلثيها فرفعت الدلو إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال البراء: فكدت(5) بإنائي هل أجد شيئاً أجعله في حلقي، فما وجت، فرفعت الدلو إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فغمس يده فيها فقال: ما شاء الله أن يقول: فعيدت إلينا الدلو بما فيها، قال: فلقد رأيت أحدنا أخرج بثوب خشية الغرق، قال: ثم ساحت - يعني جرت نهراً"(6).
وأخرجه(7) عن هدبة عن سليمان به نحوه.
وأخرجه يحيى بن معين(8) عن هاشم عن سليمان به نحوه.
وأخرجه الطبراني(9) من طريق هدبة عن سليمان به نحوه.
__________
(1) هو: هاشم بن القاسم بن مسلم الليثي مولاهم البغدادي أبو النضر، مشهور بكنيته، ولقبه قيصر، ثقة ثبت، مات سنة سبع ومائتين، وله ثلاث وسبعون: ع. تقريب: 362.
(2) سليمان بن المغيرة القيسي مولاهم البصري، أبو سعيد، ثقة، قال يحيى بن معين أخرج له البحاري مقروناً وتعليقاً، مات سنة خمس وستين ومائة: ع. تقريب: 136.
(3) حميد بن هلال العدوني أبو نصر البصري، ثقة عالم، توقف فيه ابن سرين لدخوله عمل السلطان، من الثالثة: ع. تقريب: 85.
(4) يونس بن عبيد مولى محمد بن القاسم الثقفي مقبول من الرابعة: د، ت، س. تقريب: 290.
(5) هكذا في المسند، ولم أقف له على معنى، وفي المعجم الكبير للطبراني ((فكددت إنائي)) وفي القاموس في مادة (ك د د) الكد الشدة والإلحاح والطلب، وكدّ نزع الشيء بيدة يكون في الجامد والسائل.
(6) مسند أحمد 4/292.
(7) مسند أحمد 4/292.
(8) تاريخ يحيى بن معين 1/320.
(9) المعجم الكبير 2/11.(1/106)
وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد ثم قال: هو في الصحيح باختصار كثير، رواه أحمد والطبراني ورجالهما رجال الصحيح(1).
قلت: بل فيه يونس بن عبيد لم يوثقه سوى ابن حبان(2).
ولم يرد في الحديث تصريح بأن القصة كانت في الحديبية، لكن سياقها ظاهر في اتحادها مع قصة الحديبية، والله أعلم.
__________
(1) مجمع الزوائد 8/300.
(2) تهذيب التهذيب 11/445.(1/107)
البابُ الثاني موقفُ قريشٍ مِنَ الغزوةِ وما دارَ بينهَا وبينَ المسلمينَ
وفيه أربعةُ فصولٍ:
الفصل الأول: موقف قريش من هذه الغزوة.
الفصل الثاني: في الحوار الذي دار بين الرسول صلى الله عليه وسلم وقريش.
الفصل الثالث: بيعة الرضوان.
الفصل الرابع: في صلح الحديبية.
الفصلُ الأولُ موقفُ قريشٍ مِنْ هذهِ الغزوةِ
وفيه مبحثانِ:
المبحث الأول: إعداد قريش وخروجها لصد المسلمين.
المبحث الثاني: تحرشات قريش بالمسلمين وموقف المسلمين حيالها.
المبحث الأول: إعداد قريش وخروجها لصد المسلمين:
علمت قريش بخروج رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه إلى مكة فأفزعها الخبر، وأقضى مضجعها، لكن كيف وصل الخبر إلى قريش؟
لم أر أحداً من أهل المغازي أو غيرهم تعرض لهذه النقطة، ولم أقف على رواية تشير إلى ذلك إلا ما ورد في حديث ابن عباس عند الخرائطي فقد جاء فيه ما نصه: "لما توجه رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد مكة في العام الذي ردته قريش عن البيت وهو عام الحديبية، فلما سار رسول الله مرحلتين أو (ثلاث) قدم عليه بشر بن سفيان العتكي فسلم عليه فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا بشر هل عندك علم أن أهل مكة علموا بمسيري؟" فقال: بأبي أنت وأمي يا رسول الله أخبرك أني كنت أطوف بالبيت في ليلة كذا وكذا وسمى الليلة التي أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه بالسير فيها إلى مكة، وقريش في أنديتها حول البيت، إذ صرخ صارخ من أعلي أبي قيبس بصوت أسمع أهل مكة بعيدهم ودانيهم وهو يقول:
هبوا فأخبركم مَنّى صحابته ... سيروا إليه وكونوا معشراً كرما
بعد الطواف وبعد السعي في مهل ... وأن يجوِّزهم من مكة الحَرَما
شاهت وجوهكم من معشر نكل ... لا ينصرون إذا ما حاربوا صنما(2/1)
فما هو إلى أن سمع القوم ذلك، حتى ارتجت مكة، وقال(1) أبو سفيان في جماعة معه فاجتمعوا عند الكعبة وتعاقدوا ألا تدخل عليهم مكة في عامهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أما الهاتف الذي سمعت سلفع شيطان الأصنام يوشك أن يقتله الله"(2).
فهذه الرواية أشارت إلى كيفية وصول خبر خروج النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه إلى قريش لكن في سندها من هو متهم بالوضع، وقد تقدم الكلام عليها.
والحاصل أن خبر توجه المسلمين إلى مكة قد بلغ قريشاً فأخذت تعد العدة لصد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه عن البيت. فقد روى الواقدي أن كفار قريش قد توافدوا وجمعوا الأموال يطعمون بها من ضوى إليهم من الأحابيش، فكان يطعم في أربعة أمكنة في دار الندوة لجماعتهم، وكان صفوان بن أمية يطعم في داره، وكان سهيل بن عمرو يطعم في داره، وكان عكرمة بن أبي جهل يطعم في داره، وكان حويطب بن عبد العزى يطعم في داره(3) ا.هـ
قلت: هذا مصداق قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّواْ عَن سَبِيلِ اللّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ}(4).
وقد أشار إلى استعداد قريش وخروجها حديث المسور بن مخرمة ومروان بن الحكم فقد جاء فيه من طريق سفيان بن عيينة ما نصه: "وسار النبي صلى الله عليه وسلم حتى إذا كان بغدير الأشطاط، أتاه عينه قال: إن قريشاً قد جمعوا لك جموعاً وقد جمعوا لك الأحابيش، وهم مقاتلوك وصادوك عن البيت ومانعوك"(5).
__________
(1) قال: يعني: مال. انظر ترتيب القاموس 3/718.
(2) انظر حديث رقم (37).
(3) مغازي الواقدي 2/582.
(4) سورة الأنفال الآية: 36.
(5) صحيح البخاري مع الفتح، كتاب المغازي: 4178 - 4179، وتقدم سنده برقم(18).(2/2)
وجاء في حديثهما أيضاً من طريق ابن إسحاق ما نصه: "وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا كان بعسفان لقيه بشر بن سفيان الكعبي، فقال: يا رسول الله هذه قريش قد سمعت بمسيرك فخرجت معها العوذ المطافيل قد لبسوا جلود النمور يعاهدون الله أن لا تدخلها عليهم، وهذا خالد بن الوليد في خيلهم قد قدموا إلى كراع الغميم"(1).
وقد ذكر الواقدي(2) وابن سعد(3) أن خالد بن الوليد كان في مائتي فارس.
وخرجت قريش بمجموعها في أشرها وبطرها حتى نزلت بلدح.
ففي رواية أبي الأسود عن عروة بن الزبير: "بعد أن ذكر خروج النبي صلى الله عليه وسلم قال: وخرجت قريش من مكة فسبقوه إلى بلدح وإلى الماء فنزلوا عليه"(4).
المبحث الثاني: تحرشات قريش بالمسلمين وموقف المسلمين حيالها:
نزلت قريش ببلدح وجعلت تترقب أخبار المسلمين - والحقد قد أخذ بمجامع قلوبها - إذ كيف يستقر لها قرار أو يهدأ بها بال وهي ترى المسلمين يداهمونها في عقر دارها - ولما علمت بنزول المسلمين في الحديبية أخذت ترسل مجموعات من فرسانها علهم يصادفون غرة من المسلمين يحققون فيها بعض مآربهم المشينة.
__________
(1) مسند أحمد 4/323، وتقدم سنده مع طرف من أوله برقم (36).
(2) مغازي الواقدي 2/582.
(3) الطبقات الكبرى 2/95.
(4) دلائل النبوة للبيهقي 2، لوحة 219، وتقدم الحديث برقم (55).(2/3)
(62) قال مسلم: حدثني عمرو بن محمد الناقد حدثنا يزيد بن هارون أخبرنا حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس بن مالك: أن ثمانين رجلاً من أهل مكة هبطوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم من جبل التنعيم متسلحين يريدون غرة النبي صلى الله عليه وسلم فأخذهم سلماً فاستحياهم(1)، فأنزل الله عز وجل: {وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُم بِبَطْنِ مَكَّةَ مِن بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ}(2).(3)
وأخرجه أبو داود(4) عن موسى بن إسماعيل عن حماد به نحوه، إلا عنده "من جبال التنعيم(5) عند صلاة الفجر".
وأخرجه الترمذي(6) من طريق سليمان بن حرب عن حماد به نحوه، وزاد: "عند صلاة الصبح".
وأخرجه أحمد(7) عن يزيد بن هارون عن حماد به نحوه.
وأخرجه(8) عن عفان عن حماد به نحوه، وزاد: "عند صلاة الفجر".
__________
(1) ذكر ابن عبد البر: أن هؤلاء الذين أعتقهم الرسول صلى الله عليه وسلم سموا العتقاء وإليهم ينسب العتقيون. الدرر: 207. وكذلك قاله ابن خلدون في تاريخه 2/35.
(2) سورة الفتح الآية: 24.
(3) صحيح مسلم، كتاب الجهاد: 133.
(4) سنن أبي داود مع معالم السنن، كتاب الجهاد: 2688.
(5) التنعيم: بالفتح ثم السكون وكسر العين المهملة وياء ساكنة وميم: موضع بمكة في الحل وهو بين مكة وسرف على فرسخين من مكة، وقيل على أربعة، وسمي بذلك لأن جبلاً عن يمينه يقال له التنعيم، وآخر عن شماله يقال له الناعم، والوادي نعمان. معجم البلدان 2/49.
(6) سنن الترمذي، كتاب التفسير: 3264.
(7) مسند أحمد 3/122، 124.
(8) مسند أحمد 3/290.(2/4)
وقد ذكر بعض تحرشاتهم أيضاً حديث سلمة بن الأكوع رضي الله عنه عند مسلم، فقد جاء فيه ما نصه: "قال: لما اصطلحنا نحن وأهل مكة واختلط بعضنا ببعض، أتيت شجرة فكسحت(1) شوكها، فاضطجعت في أصلها فأتى أربعة من المشركين من أهل مكة فجعلوا يقعون في رسول الله صلى الله عليه وسلم فأبغضتهم فتحولت إلى شجرة أخرى، وعلقوا سلاحهم واضطجعوا، فبينا هم كذلك إذ نادى مناد من أسفل الوادي يا للمهاجرين قتل ابن زنيم، قال: فاخترطت سيفي ثم شددت على أولئك الأربعة، وهم رقود فأخذت سلاحهم فجعلته ضغثاًَ(2) في يدي قال: قلت: والذي أكرم وجه محمد لا يرفع أحد منكم رأسه إلا شربت الذي فيه عيناه، قال: ثم جئت بهم أسوقهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: وجاء عمي عامر برجل من العبلات(3)، يقال له: مكرز يقوده إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على فرس مجفف(4) في سبعين من المشركين فنظر إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: دعوهم يكن لهم بدء الفجور وثناه فعفا عنهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله عز وجل: {وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُم بِبَطْنِ مَكَّةَ مِن بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ}(5) الآية.
وقد أشار إلى تحرشات قريش كذلك حديث عبد الله بن مغفل عند أحمد:
__________
(1) كسحت شوكها: أي كنس شوكها. ترتيب القاموس 5/47.
(2) ضغثاً: أي حزمة. النهاية 3/90.
(3) العبلات: بنو أمية الأصغر بن عبد الشمس. جمهرة أنساب العرب: 75.
(4) مجفف: أي عليه تجفاف، وهو شيء من سلاح يترك على الفرس يقيه الأذى، وقد يلبسه الإنسان أيضاً، وجمعه: تجافيف. النهاية 1/279.
(5) صحيح مسلم، كتاب الجهاد: 132، وقد تقدم طرف من أوله برقم (54) وهناك تخريجه.(2/5)
(63) قال الإمام أحمد: حدثنا زيد(1) بن الحباب قال حدثني حسين(2) بن واقد قال: حدثني ثابت(3) البناني عن عبد الله(4) بن مغفل المزني قال: "كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحديبية في أصل الشجرة التي قال الله تعالى في القرآن، وكان يقع من أغضان تلك الشجرة على ظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلي بن أبي طالب وسهيل بن عمرو بين يديه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلي رضي الله تعالى عنه: "اكتب بسم الله الرحمن الرحيم" فأخذ سهيل بن عمرو بيده: فقال: ما نعرف بسم الله الرحمن الرحيم، اكتب في قضيتنا ما نعرف قال: اكتب باسمك اللهم" فكتب: هذا ما صالح عليه محمد رسول الله، فأمسك سهيل بن عمرو بيده، وقال: لقد ظلمناك إن كنت رسوله، اكتب في قضيتنا ما نعرف، فقال: اكتب هذا ما صالح عليه محمد بن عبد الله بن عبد المطلب، وأنا رسول الله" فكتب فبينا نحن كذلك إذ خرج علينا ثلاثون شاباً فثاروا في وجوهنا فدعا عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخذ الله عز وجل بأبصارهم فقدمنا إليهم فأخذناهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل
__________
(1) زيد بن الحباب - بضم المهملة وموحدتين - أبو الحسن العكلي - بضم المهملة وسكون الكاف - أصله من خراسان وكان بالكوفة، ورحل في الحديث فأكثر منه وهو صدوق يخطئ في حديث الثوري، مات سنة ثلاث ومائتين: م، الأربعة. تقريب: 112.
(2) الحسين بن واقد المروزي أبو عبد الله القاضي، ثقة له أوهام، مات سنة تسع ويقال سبع وخمسين ومائة: خت، م، الأربعة. تقريب: 75، تهذيب التهذيب 2/373.
(3) ثابت بن أسلم البناني - بضم الموحدة ونونين مخففتين - أبو محمد البصري، ثقة عابد، مات سنة بضع وعشرين وله ست وثمانون: ع. تقريب: 50.
(4) عبد الله بن مغفل - بمعجمة وفاء ثقيلة - ابن عبيد بن نهم - بفتح النون وسكون الهاء - أبو عبد الرحمن المزني، صحابي بايع تحت الشجرة ونزل البصرة، ومات سنة سبع وخمسين، وقيل بعد ذلك: ع. تقريب: 190.(2/6)
جئتم في عهد أحد أو هل جعل لكم أحد أماناً؟ فقالوا: لا، فخلى سبيلهم فأنزل الله عز وجل: {وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُم بِبَطْنِ مَكَّةَ مِن بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا}(1).
وقال أبو عبد الرحمن: قال حماد بن سلمة في هذا الحديث عن ثابت بن أنس، وقال حسين بن واقد عن عبد الله بن مغفل وهذا هو الصواب عندي إن شاء الله(2) ا.هـ
والحديث أخرجه النسائي في الكبرى في كتاب التفسير عن محمد بن عقيل عن علي بن الحسين بن واقد عن أبيه به، وذكره المزي في الأطراف وزاد: ورواه أبو بكر بن أبي داود عن محمد بن عقيل بهذا الإسناد(3).
وأخرجه الحاكم(4) من طريق الحسين بن واقد به، وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، إذ لا يبعد سماع ثابت من عبد الله بن مغفل، وقد اتفقا على إخراج حديث معاوية بن قرة، وعلى حديث حميد بن هلال عنه وثابت أسن منهما.
وساق الهيثمي(5) الحديث ثم قال: رجاله رجال الصحيحين.
قلت: الحديث بهذا الإسناد صحيح، فرجاله رجال الصحيح كما قال الحاكم والهيثمي، وزيد بن الحباب قال عنه أحمد(6) كان صدوقاً لكن كان كثير الخطأ، وقال ابن معين(7): كان يقلب حديث الثوري، لكن وثقه ابن معين مرة، ووثقه الدارقطني وابن ماكولا(8).
ورجح الذهبي(9) توثيقه فقد رمز له بـ (صح).
وخطؤه محمول على بعض روايته عن الثوري، وهذا الحديث ليس منها.
__________
(1) مسند أحمد 4/86.
(2) مسند أحمد 4/87.
(3) تحفة الأشراف بمعرفة الأطراف 7/172.
(4) المستدرك 2/460.
(5) مجمع الزوائد 6/145.
(6) تهذيب التهذيب 3/403.
(7) تهذيب التهذيب 3/404.
(8) تهذيب التهذيب 3/404.
(9) ميزان الاعتدال 2/100.(2/7)
قال ابن عدي: "له حديث كثير وهو من أثبت مشايخ الكوفة ممن لا يشك في صدقه، والذي قال ابن معين عن أحاديثه عن الثوري إنما له أحاديث عن الثوري يستغرب بذلك الإسناد وبعضها ينفرد برفعه، والباقي عن الثوري وغير الثوري مستقيمة كلها"(1) ا.هـ
وقد تابعه علي بن الحسين بن واقد عند النسائي، وهو صدوق يهم(2).
وقد ذكر ابن إسحاق أيضاً بعض تلك التحرشات قال:
(64) حدثني بعض من لا أتهم عن عكرمة(3) مولى ابن عباس عن ابن عباس: أن قريشاً كانوا بعثوا أربعين رجلاً منهم أو خمسين رجلاً وأمروهم أن يطيفوا بعسكر رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصيبوا لهم من أصحابه أحداً فأخذوا أخذاً فأتي بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فعفا عنهم وخلى سبيلهم، وقد كانوا رموا في عسكر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحجارة والنبل(4).
هذا الحديث ضعيف بهذا الإسناد؛ لأن شيخ ابن إسحاق غير معروف.
الفصلُ الثاني في الحوارِ الذي دارَ بينَ الرسولِ صلى الله عليه وسلم وقريشٍ
ويضمُّ ثلاثةَ مباحث:
المبحث الأول: ركب من خزاعة يسعى لإيجاد تقارب بين الطرفين.
المبحث الثاني: رسل النبي صلى الله عليه وسلم إلى قريش.
المبحث الثالث: رسل قريش إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
المبحث الأول: ركب من خزاعة يسعى لإيجاد تقارب بين الطرفين:
__________
(1) تهذيب التهذيب 3/404.
(2) التقريب: 245.
(3) عكرمة بن عبد الله مولى ابن عباس أصله بربري، ثقة ثبت عالم بالتفسير ولم يثبت تكذيبه عن ابن عمر، ولا يثبت عنه بدعة، مات سنة سبع ومائة، وقيل بعد ذلك: ع. تقريب: 242.
(4) سيرة ابن هشام 3/314.(2/8)
علم بديل بن ورقاء الخزاعي بنزول رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه الحديبية، فقدم إليه في نفر من قومه وقص عليه ما رأى من حال قريش وما سمع من أخبارهم وأنهم عازمون على صده عن البيت، وبعد أن سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم حديث بديل أخبره بالهدف الذي خرجوا من أجله وأنهم لا يريدون حرب أحد، إنما جاءوا لزيارة البيت فحسب.
ولما وقف بديل على أخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه رجع إلى قريش يعلمهم بذلك، وكان بديل يهدف من وراء سعيه إلى الوفاق بين الطرفين وتحاشي الصدام، ولم يكن رسولاً لأحد من الفريقين كما زعم بعضهم(1)، وسياق قصته يأبى ذلك.
وقد جاء خبر بديل في حديث المسور ومروان:
__________
(1) ذكر صاحب القول المبين في سيرة سيد المرسلين: 267 وغيره أن بديلاً أرسل من قبل قريش.(2/9)
ففيه من طريق معمر بعد أن ذكر نزول المسلمين وقصة البئر قال: فبينا هم كذلك إذ جاء بديل بن ورقاء في نفر من قومه من خزاعة، وكانوا عيبة(1) نصح لرسول الله صلى الله عليه وسلم من أهل تهامة، فقال: إني تركت كعب بن لؤي وعامر بن لؤي(2) نزلوا أعداد(3) مياه الحديبية، ومعهم العوذ المطافيل وهم مقاتلوك وصادوك عن البيت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إنا لم نجئ لقتال أحد، ولكنا جئنا معتمرين، وإن قريشاً قد نهكتهم(4) الحرب، وأضرت بهم فإن شاءوا ماددتهم ويخلوا بيني وبين الناس، فإن أظهر فإن شاءوا أن يدخلوا فيما دخل فيه الناس فعلوا وإلا فقد جموا(5)، وإن هم أبوا والذي نفسي بيده لأقاتلنهم على أمري هذا حتى تنفرد سالفتي، ولينفذن الله أمره، فقال بديل: سأبلغهم ما تقول، قال: فانطلق حتى أتى قريشاً، قال: أنا قد جئناكم من هذا الرجل، وسمعناه يقول قولاً، فإن شئتم أن نعرضه عليكم فعلنا، فقال سفهاؤهم: لا حاجة لنا أن تخبرونا عنه بشيء، وقال ذووا الرأي فيهم هات ما سمعته، يقول: قال: سمعته يقول كذا وكذا فحدثهم بما قال النبي صلى الله عليه وسلم(6).
__________
(1) عيبة نصح: العيبة زنبيل من أدم أو موضع الثياب وكنى بها هنا عند الصدور التي هي موضع السر. ترتيب القاموس 3/351، النهاية 3/327.
(2) قال ابن حجر: إنما اقتصر على ذكر هذين لكون قريش الذين كانوا بمكة ترجع أنسابهم إليهما. فتح الباري 5/338.
(3) الأعداد: جمع عد الماء الدائم الذي له مادة لا انقطاع لها. لسان العرب 4/276.
(4) نهكتهم: أضنتهم وبالغت في الإضرار بهم. ترتيب القاموس 4/452.
(5) جموا: استراحوا وكثروا. النهاية 1/301.
(6) صحيح البخاري مع الفتح، كتاب الشروط: 2731 - 2732، وتقدم سنده مع طرف من أوله برقم (35) وهناك تخريجه.(2/10)
وفي حديثهما من طريق ابن إسحاق: بعد أن ذكر نزول المسلمين الحديبية، وقصة البئر قال: "فلما اطمأن رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا بديل بن ورقاء في رجال من خزاعة فقال لهم كقوله لبشر بن سفيان".
وقوله لبشر بن سفيان تقدم في صدر الرواية ونصه: "يا ويح قريش لقد أكلتهم الحرب، ماذا عليهم لو خلوا بيني وبين سائر الناس، فإن أصابوني كان الذي أرادوا، وإن أظهرني الله عليهم دخلوا في الإسلام وهم وافرون وإن لم يفعلوا قاتلوا وبهم قوة، فماذا تظن قريش، والله إني لا أزال أجاهدهم على الذي بعثني الله له حتى يظهره الله، أو تنفرد هذه السالفة..." قال: "فرجعوا إلى قريش فقالوا: "يا معشر قريش إنكم تعجلون على محمد، وإن محمداً لم يأت لقتال إنما جاء زائراً لهذا البيت معظماً لحقه فاتهموهم"، قال محمد - يعني ابن إسحاق - قال الزهري: "وكانت خزاعة عيبة نصح لرسول الله صلى الله عليه وسلم مسلمها ومشركها، لا يخفون على رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً كان بمكة، قالوا: وإن كان إنما جاء لذلك فلا والله لا يدخلها أبداً علينا عنوة، ولا تتحدث بذلك العرب"(1) الحديث.
المبحث الثاني: رسل النبي صلى الله عليه وسلم إلى قريش:
كانت قريش قد استثارت القبائل من حولها وألبتها على رسول الله صلى الله عليه وسلم بدعوى: أنه اعتدى عليها في عقر دارها وفي الحرم، وكانت العرب تعظم البيت وتجل قريشاً لمكانتها من البيت.
وأراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبطل تلك الدعاوى التي وجهتها قريش ضده، ويكسب تلك القبائل أو على الأقل يخفف من حدتها وحماسها ضده، فأرسل من قبله رسلاً ليبلغوا قريشاً بمرأى ومسمع من الناس: أنه لم يأت لقتالهم، وإنما جاء زائراً للبيت ومعظماً لحرمته، ورسل النبي صلى الله عليه وسلم هم:
خراش بن أمية رضي الله عنه:
__________
(1) مسند أحمد 4/323، وتقدم سنده مع طرف من أوله برقم (36) وهناك تخريجه، والكلام عليه.(2/11)
جاء خبر إرساله إلى قريش في حديث المسور ومروان من طريق ابن إسحاق: فبعد أن ذكر قصة ابن مسعود قال: "وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل ذلك بعث خراش بن أمية الخزاعي إلى مكة وحمله على جمل يقال له الثعلب، فلما دخل مكة عقرت به قريش وأرادوا قتل خراش، فمنعهم الأحابيش حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم(1).
عثمان بن عفان رضي الله عنه:
وفي حديث المسور ومروان من طريق ابن إسحاق أيضاً بعد قصة خراش قال: "فدعا عمر بن الخطاب ليبعثه إلى مكة، فقال: يا رسول الله إني أخاف قريشاً على نفسي وليس بها من بني عدي أحد يمنعني وقد عرفت قريش عداوتي إياها، وغلظتي عليها، ولكني أدلك على رجل هو أعز مني عثمان بن عفان، قال: فدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم فبعثه إلى قريش يخبرهم أنه لم يأت لحربهم، وإنما جاء زائراً لهذا البيت معظماً لحرمته، فخرج عثمان بن عفان رضي الله عنه حتى أتى مكة، ولقيه أبان بن سعيد بن العاص فنزل عن دابته وحمله بين يديه وردف(2) خلفه وأجاره حتى بلغ رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم فانطلق عثمان حتى أتى أبا سفيان ورؤساء قريش فبلغهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أرسله به، فقالوا لعثمان: إن شئت أن تطوف بالبيت فطف، فقال: ما كنت لأفعل حتى يطوف به رسول الله صلى الله عليه وسلم قال فاحتبسته قريش عندها فبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين أن عثمان قد قتل...".
__________
(1) مسند أحمد 4/324، تقدم سند الحديث مع طرف من أوله برقم (36) وهناك تخريجه.
(2) الرديف: الراكب خلف الراكب. ترتيب القاموس 2/325.(2/12)
وفي حديث سلمة بن الأكوع من طريق موسى بن عبيدة الربذي قال: قال إياس عن أبيه: فاشتد البلاء على من كان في يد المشركين من المسلمين، قال: فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عمر فقال: يا عمر هل أنت مبلغ عني إخوانك من أسارى المسلمين؟ فقال: لا يا نبي الله، والله مالي بمكة من عشيرة(1)، غيري أكثر عشيرة مني فدعا عثمان فأرسل إليهم، فخرج حتى جاء عسكر المشركين فعيبوا به وساءوا إليه القول، ثم أجاره أبان بن سعيد بن العاص ابن عمه، وحمله على السرج(2)، وردفه فلما قدم قال: يا ابن أمي مالي أراك متحسفاً؟ أسبل، قال: وكان إزاره إلى نصف ساقه، فقال له عثمان: هكذا إزرة صاحبنا فلم يدع أحداً من أسارى المسلمين بمكة إلا أبلغهم ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم(3).
هذا الحديث في سنده موسى بن عبيدة الربذي، وهو ضعيف، لكن هذا الجزء منه يتقوى بحديث المسور ومروان السابق، وهو حسن.
وقد أخرجه البيهقي عن عروة مرسلاً.
__________
(1) عشيرة الرجل: بنو أبيه الأدنون أو قبيلته. ترتيب القاموس 3/231.
(2) السرج: رحل الدابة. لسان العرب 3/121.
(3) تاريخ ابن أبي شيبة 1، لوحة: 60، وسيأتي سنده مع طرف من أوله برقم (66).(2/13)
(65) قال أخبرنا أبو عبد الله محمد بن عبد الله الحافظ رحمه الله قال: أخبرنا أبو جعفر محمد بن محمد بن عبد الله البغدادي قال: حدثنا أبو علاثة محمد بن عمرو بن خالد قال: حدثني أبي قال: حدثنا ابن لهيعة قال: حدثنا أبو الأسود قال: عروة بن الزبير في نزول النبي صلى الله عليه وسلم الحديبية قال: وفزعت قريش لنزوله عليهم، فأحب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبعث إليهم رجلاً من أصحابه فدعا عمر بن الخطاب رضي الله عنه ليبعثه إليه، فقال: يا رسول الله: إني لا آمنهم، وليس بمكة أحد من بني كعب يغضب لي إن أوذيت، فأرسل إلى عثمان بن عفان فإن عشيرته بها وأنه مبلغ لك ما أردت، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عثمان بن عفان فأرسله إلى قريش وقال: أخبرهم إنا لم نأت لقتال أحد، وإنما جئنا عماراً وأدعهم إلى الإسلام، وأمره أن يأتي رجالاً بمكة مؤمنين ونساء مؤمنات فيدخل عليهم ويبشرهم بالفتح ويخبرهم أن الله عز وجل وشيك أن يظهر دينه بمكة، حتى لا يستخفى فيها بالإيمان تثبيتاً يثبتهم، فانطلق عثمان بن عفان رضي الله عنه فمر على قريش ببلدح، فقالت قريش أين؟ قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إليكم لأدعوكم إلى الله جل ثناؤه وإلى الإسلام وأخبركم أنا لم نأت لقتال، وإنما جئنا عماراً، فدعاهم عثمان كما أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: قد سمعنا ما تقول فأنفذ لحاجتك وقام إليه أبان بن سعيد بن العاص، فرحب به وأسرج فرسه فحمل عثمان على الفرس فأجاره وردفه أبان حتى جاء مكة..." ثم ذكر رسل قريش وما دار بين سهيل وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذكر البيعة ثم قال: "وقال المسلمون وهم بالحديبية قبل أن يرجع عثمان بن عفان: خلص عثمان من بيننا إلى البيت فطاف به، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما أظنه طاف بالبيت ونحن محصورون قالوا: وما يمنعه يا رسول الله وقد خلص، قال: ذلك ظني به أن لا يطوف بالكعبة حتى يطوف معنا، فرجع(2/14)
إليهم عثمان، فقال المسلمون: اشتفيت يا أبا عبد الله من الطواف بالبيت، فقال عثمان: بئس ما ظننتم بي فوالذي نفسي بيده لو مكثت بها مقيماً سنة ورسول الله صلى الله عليه وسلم مقيم بالحديبية ما طفت بها حتى يطوف بها رسول الله صلى الله عليه وسلم ولقد دعتني قريش إلى الطواف بالبيت فأبيت، قال المسلمون: رسول الله كان أعلمنا بالله وأحسننا ظناً(1).
هذا الأثر مرسل، وفي سنده ابن لهيعة ضعيف، وأبو علاثة لم أجد ترجمته لكن أصله ثابت من حديث المسور ومروان السابق دون ما في آخره.
المبحث الثالث: رسل قريش إلى النبي صلى الله عليه وسلم:
كان الحامل لأولئك الذين وقفوا إلى جانب قريش هو إشاعة قريش أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه إنما جاءوا للاعتداء عليها في عقر دارها، وبالتالي الاعتداء على البيت الحرام، ولما بعث النبي صلى الله عليه وسلم رسله إليهم وأوضحوا لهم هدف المسلمين، وأنه لا يعدوا زيارة البيت ونحر الهدي.
عند ذلك تغير موقف حلفاء قريش منها، ورأوا أنه لا ينبغي صد الهدي عن محله ووجهوا اللوم إليها، فلما رأت قريش ذلك أحست أن الأمر لم يعد في صالحها، وأنه لا بد من عمل تستعيد به حماس حلفائها أو تسكتهم على الأقل فبدأت تبعث الرسل من قبلها إلى المسلمين لتظهر بمظهر الإنصاف، ولعلهم يرجعون إليها قولاً يقلب الموقف لصالحها.
لكن الأمور كانت تجري على خلاف ما تتوقع قريش، فكلما بعثت رسولاً رجع يعظم شأن المسلمون ويؤكد الهدف الذي جاءوا من أجله الأمر الذي أثار حفيظتها حتى وقفت ذلك الموقف من بعض رسلها.
__________
(1) دلائل النبوة 2، لوحة: 227 - 228.(2/15)
ورسل قريش هم(1):
عروة بن مسعود الثقفي:
جاء خبر إرساله في حديث المسور بن مخرمة ومروان بن الحكم، ففيه من طريق معمر: بعد أن ذكر قصة بديل قال: "فقام عروة بن مسعود فقال: "أي قوم ألستم بالوالد(2)؟ قالوا: بلى، قال: أولست بالولد؟ قالوا: بلى، قال: فهل تتهموني؟ قالوا: لا، قال ألستم تعلمون أني استنفرت(3) أهل عكاظ فلما بلحوا(4) علي جئتكم بأهلي وولدي ومن أطاعني قالوا: بلى؟ قال: فإن هذا قد عرض عليكم خطة رشد فاقبلوها ودعوني آته، قالوا: ائته، فأتاه فجعل يكلم النبي صلى الله عليه وسلم فقال النبي صلى الله عليه وسلم نحواً من قوله لبديل(5)، فقال عروة عند ذلك: أي محمد أرأيت إن استأصلت أمر قومك، هل سمعت بأحد من العرب اجتاح أهله قبلك؟ وإن تكن الأخرى فإني والله لا أرى وجوها وإني لأرى أشواباً(6) من الناس خليقاً أن يفروا ويدعوك، فقال له أبو بكر: امصص بظر(7) اللات أنحن نفر عنه وندعه؟ فقال: من ذا؟ قالوا: أبو بكر، قال: أما والذي نفسي بيده لولا يد(8)
__________
(1) اتبعت في ترتيبهم ما في حديث المسور ومروان من طريق معمر؛ لأنه أصح شيء في الموضوع، وفي رواية ابن إسحاق جعل مكرز بن حفص أول رسل قريش، لكن الظاهر أنه لم يرد الترتيب؛ لأنه قال في جواب النبي صلى الله عليه وسلم له: ((فقال له: مثل ما قال لأصحابه)) وهذا يفيد أن غيره قد سبقه. والله أعلم.
(2) أي أنكم حي قد ولدوني بالجملة، لكون أمي منكم، فعند ابن إسحاق عن الزهري: أن أمه سبيعة بنت عبد شمس بن عبد مناف. فتح الباري 5/339.
(3) الاستنفار: الاستنجاد والاستنصار. النهاية 5/192.
(4) بلحوا: أي أبوا، يقال: بلح الرجل إذا انقطع من الأعياء فلم يقدر أن يتحرك، كأنهم قد أعيوا عن الخروج معه وإعانته. النهاية 1/151.
(5) انظر قوله لبديل ص: 116.
(6) أشواباً: أخلاطاً لأن الشوب: الخلط. ترتيب القاموس 2/772.
(7) البظر: - بفتح الباء - : الهنة التي تقطعها الخافظة من فرج المرأة عند الختان. النهاية 1/138.
(8) جاء في رواية عبد العزيز الأمامي عن الزهري في هذا الحديث أن اليد المذكورة: أن عروة كان تحمل بدية فأعانه أبو بكر فيها بعون حسن. فتح الباري 5/340.(2/16)
كانت لك عندي لم أجزك بها لأجبتك، قال: وجعل يكلم النبي صلى الله عليه وسلم فكلما تكلم بكلمة أخذ بلحيته، والمغيرة بن شعبة قائم على رأس النبي صلى الله عليه وسلم ومعه السيف وعليه المغفر، فكلما أهوى عروة بيده إلى لحية رسول الله صلى الله عليه وسلم ضرب يده بنعل(1) السيف، وقال له: أخر يدك عن لحية رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرفع عروة رأسه فقال: من هذا؟ قال المغيرة بن شعبة، فقال: أي غدر(2) ألست أسعى في غدرتك، وكان المغيرة صحب قوماً في الجاهلية فقتلهم وأخذ أموالهم، ثم جاء فأسلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أما الإسلام فأقبل، وأما المال فلست منه في شيء، ثم إن عروة جعل يرمق أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بعينيه قال: فوالله ما تنخم رسول الله صلى الله عليه وسلم نخامة إلا وقعت في كف رجل منهم، فدلك بها وجهه وجلده، وإذا أمرهم ابتدروا أمره، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه، وإذا تكلموا خفضوا أصواتهم عنده، وما يحدون إليه النظر تعظيماً له، فرجع عروة إلى أصحابه فقال: أي قوم، والله لقد وفدت على الملوك، ووفدت على قيصر وكسرى والنجاشي والله إن رأيت ملكاً قد يعظمه أصحابه ما يعظم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم محمداً، والله إن يتنخم نخامة إلا وقعت في كف رجل منهم، فدلك بها وجهه وجلده، وإذا أمرهم ابتدروا أمره وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه وإذا تكلموا خفضوا أصواتهم عنده، وما يحدون إليه النظر تعظيماً له، وإنه قد عرض عليكم خطة رشد فاقبلوها"(3).
وفي حديثهما من طريق ابن إسحاق:
__________
(1) نعل السيف: الحديدة التي تكون في أسفل القراب. النهاية 5/82.
(2) غدر: معدول عن غادر للمبالغة. النهاية 3/345.
(3) صحيح البخاري مع الفتح، كتاب الشروط: 2731 - 2732، وتقدم طرف من أوله برقم (35) وهناك تخريجه.(2/17)
"فبعثوا إليه عروة بن مسعود الثقفي فقال: يا معشر قريش إني قد رأيت ما يلقى منكم من تبعثون إلى محمد إذا جاءكم من التعنيف وسوء اللفظ، وقد عرفتم أنكم والد وأني ولد، وقد سمعت بالذي نابكم فجمعت من أطاعني من قومي ثم جئت حتى أسيتكم بنفسي، قالوا: صدقت ما أنت عندنا بمتهم، فخرج حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فجلس بين يديه فقال: يا محمد جمعت أوباش(1) الناس ثم جئت بهم لبيضتك(2) لتفضها(3)، إنها قريش قد خرجت معها العوذ المطافيل قد لبسوا جلود النمور يعاهدون الله أن لا تدخلها عليهم عنوة أبداً، وأيم الله لكأني بهؤلاء قد انكشفوا غداً. قال: وأبو بكر رضي الله عنه خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم قاعد فقال: امصص بظر اللات أنحن ننكشف عنه؟ قال: من هذا يا محمد؟ قال: هذا ابن أبي قحافة، قال: أما والله لولا يد كانت لك عندي لكافأتك بها، ولكن هذه بها، ثم تناول لحية رسول الله صلى الله عليه وسلم والمغيرة بن شعبة واقف على رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديد قال يقرع يده، ثم قال: أمسك يدك عن لحية رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل والله لا تصل إليك، قال: ويحك ما أفظك(4) وأغلظك(5)، قال فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: من هذا يا محمد؟ قال: هذا ابن أخيك المغيرة بن شعبة، قال: أغدر هل غسلت سوأتك إلا بالأمس؟ قال: فكلمه رسول الله صلى الله عليه وسلم بمثل ما كلم به أصحابه، فأخبره أنه لم يأت يريد حرباً، فقام من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد رأى ما يصنع به أصحابه لا يتوضأ وضوءاً إلا ابتدروه، ولا يبسُق بساقاً إلا ابتدروه، ولا يسقط من شعره شيء إلا أخذوه،
__________
(1) أوباشً: جموعاً من قبائل شتى. النهاية 5/146.
(2) لبيضتك: أي أهلك وعشيرتك. النهاية 1/172.
(3) لتفضها: لتكسرها، السابق 3/453.
(4) الفظ: الغليظ الجانب السيء الخلق القاسي الخشن الكلام. ترتيب القاموس 3/505.
(5) الغليظ: من الغلظة وهي ضد الرقة. السابق 3/410.(2/18)
فرجع إلى قريش فقال: يا معشر قريش إني جئت كسرى في مُلكه وجئت قيصر والنجاشي في ملكهما، والله ما رأيت ملكاً قط مثل محمد في أصحابه، ولقد رأيت قوماً لا يسلمونه لشيء فروا رأيكم"(1).
وجاء خبر إرساله أيضاً في مرسل عروة بن الزبير من طريق ابنه هشام:
قال فيه: "ثم قالوا لعروة بن مسعود: انطلق إلى محمد صلى الله عليه وسلم ولا تونين(2) من ورائك، فخرج عروة حتى أتاه" فذكر قوله لرسول الله صلى الله عليه وسلم وجواب رسول الله صلى الله عليه وسلم له بنحو ما في حديث المسور ومروان، ثم قال: "فرجع عروة إلى قريش فقال: تعلمن والله ما على الأرض قوم أحب إلي منكم إنكم لإخواني وأحب الناس إلي، ولقد استنصرت لكم الناس في المجامع، فلما لم ينصروكم أتيتكم بأهلي حتى نزلت معكم إرادة أن أوسيكم والله ما أحب الحياة بعدكم تعلمن أن الرجل قد عرض نصفاً فاقبلوه، تعلمن إني قد قدمت على الملوك ورأيت العظماء فأقسم بالله أن رأيت ملكاً ولا عظيماً أعظم في أصحابه منه أن يتكلم رجل منهم حتى يستأذنه، فإن هو أذن له تكلم وإن لم يأذن له سكت، ثم أنه ليتوضأ فيبتدرون يصبونه على رؤوسهم يتخذونه حناناً(3)"(4).
وأشار إلى قصة عروة بن مسعود حديث سلمة بن الأكوع عند ابن أبي شيبة:
__________
(1) مسند أحمد 4/324، وتقدم سنده مع طرف من أوله برقم (36) وهناك تخريجه والكلام عليه.
(2) لا تونين: أي لا تقصرن، ومن ونى تونيه: إذا لم يجد في العمل. ترتيب القاموس 4/661.
(3) حناناً: أي بركة، الحنان: الرزق والبركة. النهاية 1/452.
(4) تاريخ ابن أبي شيبة، لوحة: 56، وتقدم الكلام على سنده رقم (11).(2/19)
(66) قال: حدثنا عبيد الله بن موسى عن موسى بن عبيدة قال: حدثني إياس بن سلمة عن أبيه قال: بعثت قريش خارجة ابن كوز..." فذكر قصة، وقال: "ثم أرسلوا عروة بن مسعود فجاءه فقال: يا محمد ما هذا الحديث تدعوا إلى ذات الله ثم جئت قومك بأوباش الناس من تعرف ومن لا تعرف، لتقطع أرحامهم وتستحل حرمتهم ودماءهم وأموالهم، فقال: إني لم آت قومي إلا لأصل أرحامهم ليبدلهم الله بدين خير من دينهم ومعايش خير من معايشهم فرجع حامداً يحسن الثناء"(1).
سند هذا الحديث ضعيف، لضعف موسى بن عبيدة.
ووردت قصته مع المغيرة بن شعبة في حديث المغيرة عند ابن أبي شيبة:
(67) قال: ثنا وكيع(2) عن إسماعيل(3) عن قيس(4) عن المغيرة(5) بن شعبة أنه كان قائماً على رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسيف، وهو ملتثم، فجعل عروة - يعني ابن مسعود الثقفي - يتناول لحية رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يكلمه فقال له المغيرة: لتكفن يدك أو لا ترجع إليك يدك، والمغيرة متقلداً سيفاً فقال عروة لرسول الله صلى الله عليه وسلم: من هذا؟ قال: ابن أخيك المغيرة بن شعبة، قال: "أجل يا غدر ما غسلت رأسي من غدرتك"(6).
__________
(1) تاريخ ابن أبي شيبة، لوحة 60.
(2) وكيع بن الجراح بن مليح الرؤاسي، بضم الراء وهمزة ثم مهملة - أبو سفيان الكوفي، ثقة حافظ، عابد مات في آخر سنة ست أو أول سنة سبع وتسعين ومائة، وله سبعون سنة: ع. تقريب: 369.
(3) إسماعيل بن أبي خالد الأحمسي مولاهم البجلي، ثقة ثبت، مات سنة ست وأربعين ومائة: ع. تقريب: 33.
(4) قيس بن أبي حازم البجلي أبو عبد الله الكوفي، ثقة مخضرم، ويقال له رواية وهو الذي يقال إنه اجتمع له أن يروى عن العشرة، مات بعد التسعين أو قبلها، وقد جاوز المائة وتغير: ع. تقريب: 283.
(5) المغيرة بن شعبة بن مسعود بن معتب الثقفي، صحابي مشهور أسلم قبل الحديبية، وولى أمر البصرة ثم الكوفة، مات سنة خمسين على الصحيح: ع. تقريب: 345.
(6) المطالب العالية، لوحة: 304.(2/20)
وأخرجه ابن حبان(1) من طريق وكيع به فذكره بمثله، إلا عنده "يتناول لحية النبي صلى الله عليه وسلم ويجذبه...".
وقد أورد ابن حجر هذا الحديث في المطالب العالية من طريق ابن أبي شيبة ثم قال: هذا الإسناد في غاية الصحة، وهو في صحيح البخاري من طريق الزهري عن عروة عن مروان بن الحكم والمسور بن مخرمة في الحديث الطويل في قصة الحديبية، وفيه إرسال وهذا أحسن اتصالاً ولهذا استدركته(2).
وقد أشار إلى قصة عروة أيضاً مرسل علي بن زيد بن جدعان عند أبي يعلى:
__________
(1) موارد الظمآن: 411.
(2) المطالب العالية 4/235.(2/21)
(68) قال: حدثنا حوثرة(1) بن أشرس ثنا حماد(2) بن سلمة عن علي(3) بن زيد بن جدعان: أن عروة بن مسعود الثقفي قال لقومه زمن الحديبية: أي قوم أني قد رأيت الملوك وكلمتهم، فابعثوني إلى محمد صلى الله عليه وسلم فأكلمه، فأتاه بالحديبية فجعل يكلم النبي صلى الله عليه وسلم ويتناول لحية النبي صلى الله عليه وسلم والمغيرة بن شعبة شاك(4) في السلاح على رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له المغيرة: كف يدك من قبل ألا تصل إليك، فرفع عروة رأسه فقال: أأنت هو؟ والله إني لفي غدرتك ما خرجت منها بعد، فرجع عروة إلى قومه فقال: أي قوم إني قد رأيت الملوك وكلمتهم ما رأيت مثل محمد صلى الله عليه وسلم قط، ما هو بملك ولكن رأيت الهدى معكوفاً وما أراكم مصيبكم إلا قارعة(5)، فانصرف ومن تبعه من قومه فصعد سور الطائف فشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله فرماه رجل بسهم فقتله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "الحمد الله الذي جعل فينا مثل صاحب ياسين"(6).
__________
(1) حوثرة بن أشرس بن عون بن المجشر بن حريث بن الربيع العدوي، أبو عامر روى عن عقبة بن أبي الصهباء، وعامر بن يساف، وسويد بن أبي حاتم، وأبي الأشهب وأبي عوانة وحماد بن سلمة، والبراء بن يزيد الغنوي، روى عنه أبو حاتم وأبو زرعة. الجرح والتعديل 1/2/283.
(2) حماد بن سلمة بن دينار البصري، أبو سلمة ثقة عابد أثبت الناس في ثابت، وتغير حفظه بآخره، مات سنة سبع وستين ومائة: خت، م، الأربعة. تقريب: 82.
(3) علي بن زيد بن عبد الله بن زهير بن عبد الله بن جدعان التيمي البصري أصله حجازي، وهو المعروف بعلي بن زيد بن جدعان، ينسب أبوه إلى جده، ضعيف مات سنة إحدى وثلاثين ومائة، وقيل قبلها: بخ، م، الأربعة. تقريب: 246.
(4) شاك السلاح: أي حديده. ترتيب القاموس 2/778.
(5) قارعة: داهية تفجعكم. ترتيب القاموس 3/598.
(6) إتحاف الخيرة المهرة، القسم الثالث، من الجزء الثالث، لوحة: 105.(2/22)
وأورد ابن حجر هذا الأثر في المطالب العالية وعزاه لأبي يعلى ثم قال: هذا مرسل أو معضل وأصله في البخاري أيضاً من حديث المسور ومروان دون ما في آخره والذي في آخر خطأ، فإن عروة إنما رمي بالسهم عقب غزوة الطائف بعد أن رحل النبي صلى الله عليه وسلم فجاء إليه عروة فأسلم، ورجع إليه فقتلوه ثم أسلموا بعد(1) ا.هـ
قلت: وفي سنده أيضاً علي بن زيد بن جدعان، وهو ضعيف.
ويؤيد كلام ابن حجر بأن إسلام عروة كان متأخراً عن الحديبية ما أخرجه الطبراني في مرسل عروة بن الزبير.
(69) قال حدثنا محمد(2) بن عمرو بن خالد الحراني ثنا أبي ثنا ابن لهيعة عن أبي الأسود عن عروة قال: لما أنشأ الناس الحج سنة تسع قدم عروة بن مسعود على رسول الله صلى الله عليه وسلم مسلماً فاستأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يرجع إلى قومه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إني أخاف أن يقتلوك "فقال: لو وجدوني نائماً ما أيقظوني، فأذن له رسول الله صلى الله عليه وسلم فرجع إلى قومه عشاء فجاءته ثقيف يحيونه فدعاهم إلى الإسلام، فاتهمومه وأغضبوه وأسمعوه ما لم يكن يحتسب، ثم خرجوا من عنده حتى إذا أسحروا وطلع الفجر، قام على غرفة في داره فأذن بالصلاة وتشهد، فرماه رجل من ثقيف بسهم فقتله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مثل عروة مثل صاحب ياسين دعا قومه إلى الله فقتلوه"(3).
وأخرجه عمر بن شبة قال: حدثنا الحزامي(4) قال حدثنا ابن وهب(5) قال: أخربنا ابن لهيعة به فذكره مختصراً(6).
وأخرجه ابن شبة عن الزهري مرسلاً.
__________
(1) المطالب العالية 4/236.
(2) هو: أبو علاثة، وصرح الطبراني هنا بالسماع منه ورأيت بينهما في موضع آخر واسطتان فلا أدري لعله وقع سقط في السند. انظر الحديث (55).
(3) المعجم الكبير 11/147 - 148.
(4) هو: إبراهيم بن المنذر.
(5) هو: عبد الله بن وهب.
(6) تاريخ المدينة 2/471.(2/23)
(70) قال حدثنا إبراهيم بن المنذر قال: حدثني محمد(1) بن فليح عن موسى(2) بن عقبة عن ابن شهاب قال: لما صدر أبو بكر رضي الله عنه وقد أقام الناس حجهم، فقدم عروة بن مسعود على النبي صلى الله عليه وسلم فأسلم ثم استأذن رسول الله أن يرجع إلى قومه فقال: "إني أخاف أن يقتلوك" فقال: لو وجدوني نائماً ما أيقظوني، فأذن له رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرجع إلى الطائف فقدم عشاء فجاءته ثقيف فحيوه فدعاهم إلى الإسلام ونصح لهم فعصوه واتهموه وأسمعوه من الأذى ما لم يكن يخشاهم عليه، وخرجوا من عنده حتى إذا أسحر الفجر قام على غرفة له في داره فأذن بالصلاة وتشهد فرماه رجل من ثقيف بسهم فقتله، فزعموا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: حين بلغه قتله: "مثل عروة مثل صاحب ياسين دعا قومه إلى الله فقتلوه"(3).
وأخرجه أبو نعيم(4) من طريق إبراهيم بن المنذر به نحوه.
__________
(1) محمد بن فليح بن سليمان الأسلمي أو الخزاعي المدني، صدوق يهم، مات سنة سبع وتسعين ومائة: خ، س، ق. تقريب: 315، تهذيب التهذيب 9/406.
(2) موسى بن عقبة أبي عياش - بتحتانية ومعجمة - الأسدي مولى آل الزبير ثقة فقيه إمام في المغازي لم يصح أن ابن معين لينه، مات سنة إحدى وأربعين ومائة، وقيل بعد ذلك: ع. تقريب: 352.
(3) التاريخ المدينة 2/170.
(4) معرفة الصحابة: ع، لوحة: 126.(2/24)
وأخرجه الطبراني: قال: حدثنا الحسن(1) بن هارون بن سليمان الأصبهاني ثنا محمد بن إسحاق المسيبي(2)، ثنا محمد(3) بن فليح به فذكر نحوه(4).
وأخرجه عمر بن شبة عن الليث بن سعد مرسلاً:
(71) قال: حدثنا الحزامي حدثنا ابن وهب قال: حدثني الليث بن سعد أن عروة بن مسعود استأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأتي قومه"(5) الحديث.
ذكر الهيثمي حديث عروة ثم قال: وروى عن الزهري نحوه، وكلاهما مرسل، وإسنادهما حسن(6) ا.هـ
قلت: هذا الحديث وإن كان مرسلاً إلا أنه قد ارتفع إلى درجة الحسن لغيره لتعدد طرقه واختلاف مخرجه.
قال ابن الصلاح ثم إعلم أن حكم المرسل حكم الحديث الضعيف، إلا أن كان يصح مخرجه من وجه آخر(7) ا.هـ
__________
(1) الحسن بن هارون بن سليمان بن داود بن بهرام السلمي الخزاز، توفي سنة اثنتين وتسعين ومائتين، وقد كف بصره يكنى أبا علي، حدث عن أبي بكر بن أبي شيبة وعثمان بن أبي شيبة والمسيبي وداود بن رشيد وعبيد الله ابن عمر القوارايري. ذكر أخبار أصبهان 1/262.
(2) محمد بن إسحاق بن محمد بن عبد الرحمن المسيبي، من ولد المسيب بن عابد المخزومي المدني، صدوق، مات سنة ست وثلاثين ومائتين: م، د. تقريب: 289.
(3) محمد بن فليح بن سليمان الأسلمي أو الخزاعي المدني، صدوق يهم، مات سنة سبع وتسعين ومائة: خ، س، ق. تقريب: 315، تهذيب التهذيب 9/406.
(4) المعجم الكبير 17/148.
(5) تاريخ المدينة 2/171.
(6) مجمع الزوائد 9/386.
(7) علوم الحديث لابن الصلاح: 49.(2/25)
وهذا الحديث قد صح مخرجه من غير وجه، سيما وأنه من مراسيل عروة بن الزبير وقد كان متحرياً في روايته فلا يحدث الناس إلا بما وثق من رواته كما صرح بذلك: قال ابن عدي: حدثنا عبد الملك(1) بن محمد سنة اثنتين وتسعين ومائتين نا الربيع(2) بن سليمان أنا الشافعي(3) أخبرني عمي محمد(4) بن علي عن هشام بن عروة عن أبيه قال: إني لأسمع الحديث فما يمنعني من ذكره إلا كراهية أن يسمع سامع فيقتدي به، أسمعه من الرجل لا أثق به قد حدثه عمن أثق به، وأسمعه من الرجل أثق به قد حدث عمن لا أثق به(5).
__________
(1) عبد الملك بن محمد بن عدي أبو نعيم الجرجاني، المعروف بالاسترباذي، كان مقدماً في الفقه والحديث، وكانت الرحلة إليه في أيامه، وكان أحد أئمة المسلمين من الحفاظ لشرائع الدين مع صدق وتورع وضبط وتيقظ، قال الحاكم: سمعت أبا علي الحافظ يقول: كان أبو نعيم أحد الأئمة وما رأيت بخراسان بعد ابن خزيمة مثله، كان يحفظ الموقوفات والمراسيل، كما نحفظ نحن المسانيد، مات سنة ثلاث وعشرين وثلاثمائة.
تاريخ جرجان: 299، تاريخ بغداد 10/428، تذكرة الحفاظ 3/816.
(2) الربيع بن سليمان بن عبد الجبار المرادي، أبو محمد المصري المؤذن صاحب الشافعي، ثقة، مات سنة سبعين ومائتين وله ست وتسعون سنة: الأربعة. تقريب 101، تذكرة الحفاظ 2/586.
(3) محمد بن إدريس بن العباس بن عثمان بن شافع بن السائب بن عبيد بن يزيد بن هاشم بن عبد المطلب المطلبي أبو عبد الله الشافعي، المكي نزيل مصر، مات سنة أربع ومائتين وله أربع وخمسون سنة: خت، الأربعة. تقريب: 289.
(4) محمد بن علي بن شافع المطلبي المكي، وثقه الشافعي، من السابعة: د، س. تقريب: 312.
(5) مقدمة الكامل لابن عدي: 92 - 93.(2/26)
وأخرجه ابن عبد البر قال: أخبرنا أبو إسحاق إبراهيم(1) بن شاكر قال حدثنا محمد(2) بن يحيى بن عبد العزيز قال: حدثنا أسلم(3) بن عبد العزيز قال: حدثنا الربيع بن سليمان فذكره بمثله وزاد في آخره: "فلا أحدث به"(4).
وهذا القول صحيح الإسناد إلى عروة.
وقال ابن عبد البر تعليقاً على هذا الخبر: هذا فعل أهل الورع والدين، كيف ترى في مرسل عروة بن الزبير وقد صح عنه ما ذكرنا؟ أليس قد كفاك المؤنة؟ ولو كان الناس على هذا المذهب كلهم لم يحتج إلى شيء مما نحن فيه(5).
الحليس بن علقمة الكناني:
__________
(1) إبراهيم بن شاكر بن الخطاب بن شاكر بن الخطاب اللحائي اللجام، من أهل قرطبة يكنى أبا إسحاق، كان رجلاً صالحاً ورعاً حافظاً للحديث، وأسماء الرجال عارفاً بهم، وقد روى عنه ابن عبد البر وأثنى عليه. الصلة لابن بشكوال 1/89.
(2) محمد بن يحيى بن عبد العزيز يعرف بابن الخراز روى عن أسلم بن عبد العزيز القاضي، وغيره، وروى عنه أبو إسحاق إبراهيم بن شاكر، وأبو الوليد عبد الله بن محمد بن يوسف الفرضي. جذوة المقتبس: 99، بغية الملتمس: 145.
(3) أسلم بن عبد العزيز بن هاشم بن خالد بن عبد الله بن خالد بن حسن بن الجعد بن أسلم بن أبان بن عمرو مولى عثمان بن عفان، يكنى أبا الجعد، ولي قضاء الجماعة بالأندلس لعبد الرحمن الناصر، قال الحميدي: له رحلة وكان جليلاً من القضاة، ثقة من الرواة، مات سنة عشر وثلاثمائة.
انظر قضاة قرطبة ص 106، وجذوة المقتبس: 172، وترتيب المدارك: 5/194.
(4) التمهيد 1/38.
(5) التمهيد 1/39.(2/27)
أشار إلى قصة إرسال قريش للحليس المسور بن مخرمة ومروان بن الحكم من طريق معمر: فبعد أن ذكر قصة عروة بن مسعود قال: "فقال رجل من بني كنانة: دعوني آتيه، فقالوا: ائته، فلما أشرف على النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هذا فلان وهو من قوم يعظمون البدن فابعثوها له"، واستقبله الناس يلبون، فلما رأى ذلك قال: سبحان الله، ما ينبغي لهؤلاء أن يصدوا عن البيت، فلما رجع إلى أصحابه قال: رأيت البدن قد قلدت وأشعرت فما أرى أن يصدوا عن البيت"(1).
وفي حديثهما من طريق ابن إسحاق أشار إلى القصة، وصرح باسمه قال: "فبعثوا الحليس بن علقمة الكناني وهو يومئذ سيد الأحابيش، فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "هذا من قوم يتألهون، فابعثوا الهدي في وجهه، فبعثوا الهدي"، فلما رأى الهدي يسيل عليه من عرض الوادي في قلائده قد أكل أوتاره من طول الحبس عن محله، رجع ولم يصل إلى النبي صلى الله عليه وسلم إعظاماً لما رأى فقال: يا معشر قريش قد رأيت مالا يحل صده، الهدي في قلائده(2) قد أكل أوتاره(3) من طول الحبس عن محله، فقالوا: اجلس إنما أنت أعرابي لا علم لك..."(4).
__________
(1) صحيح البخاري مع الفتح، كتاب الشروط: 2731 - 2732، وتقدم طرف من أوله مع تخريجه برقم (35).
(2) القلائج: جمع قلادة، وهي ما وضع في العنق، ترتيب القاموس 3/674.
(3) أوتاره: جمع وتر - محركة - وهو: شرعة القوس ومعلقها. ترتيب القاموس 4/570.
(4) مسند أحمد 4/324، وتقدم طرف من أوله برقم (36) وهناك تخريجه والكلام عليه.(2/28)
ووردت قصته أيضاً في مرسل عروة بن الزبير من طريق الزهري: فبعد أن ذكر قصة عروة بن مسعود قال: "ودعوا رجلاً من بني الحارث بن عبد مناة(1) يقال له: الحليس فقالوا: انطلق فانظر ما قبل هذا الرجل وما يلقاك به؟ فخرج الحليس وهو من قوم يعظمون الهدي، فبعثوا الهدي في وجهه.
قال ابن شهاب: "فاختلف الحديث في الحليس: فمنهم من يقول: جاء فقال له مثل ما قال لبديل وعروة ومنهم من قال: لما رأى الهدي رجع إلى قريش فقال: لقد رأيت أمر لئن صددتموه إني لخائف عليكم أن يصيبكم عنت(2) فابصروا بصركم، فقالوا: اجلس"(3).
وجاء في حديث عروة أيضاَ من طريق ابن هشام ما نصه: بعد أن ذكر نزول الرسول صلى الله عليه وسلم الحديبية قال: "فلما سمعت به قريش أرسلوا إليه أخا بني حليس وهو من قوم يعظمون الهدي فقال: ابعثوا الهدي فلم يكلمهم كلمة، وانصرف من مكانه إلى قريش فقال: يا قوم القلائد والهدي والبدن فحذرهم وعظم عليهم فسبوه وتجهموه(4)، وقالوا: إنما أنت أعرابي جلف(5)، لا نعجب منك، ولكن نعجب من أنفسنا إذ أرسلناك"(6).
وقد روى ابن إسحاق عن عبد الله بن أبي بكر أن الحليس قد غضب من فعل قريش وهددهم:
(72) قال ابن إسحاق: فحدثني عبد الله بن أبي بكر: أن الحليس غضب عند ذلك، وقال: يا معشر قريش والله ما على هذا حالفناكم، ولا على هذا عاقدناكم، أيصد عن بيت الله من جاء معظماً له؟ والذي نفس الحليس بيده لتخلن بين محمد وبين ما جاء له، أو لأنفرن بالأحابيش نفرة رجل واحد، قال: فقالوا: مه، كف عنا يا حليس، حتى نأخذ لأنفسنا ما نرضى به"(7).
__________
(1) الحارث بن عبد مناة هو: ابن كنانة، انظر جمهرة أنساب العرب: 188، وإذن فلا تنافي بين هذه الرواية والتي قبلها.
(2) عنت: أي مشقة وهلاك. النهاية 3/306.
(3) تقدم سنده برقم (33).
(4) تجهموه: استقبلوه بوجوه كريهة. ترتيب القاموس 1/549.
(5) الجلف بالكسر، الرجل الجافي. ترتيب القاموس 1/517.
(6) انظر سنده برقم (11) ص:
(7) سيرة ابن هشام 3/312.(2/29)
وهذا الحديث ضعيف؛ لأنه مرسل.
مكرز بن حفص بن الأخيف:
ورد خبر إرسال قريش له في حديث المسور ومروان.
ففيه من طريق معمر بعد أن ذكر قصة عروة والحليس قال: "فقام رجل منهم يقال له مكرز بن حفص فقال: دعوني آتيه، فقالوا: ائته، فلما أشرف عليهم قال النبي صلى الله عليه وسلم: "هذا مكرز وهو رجل فاجر" فجعل يكلم النبي صلى الله عليه وسلم، فبينما هو يكلمه إذ جاء سهيل بن عمرو"(1).
وفي حديثهما من طريق ابن إسحاق: "ثم بعثوا إليه مكرز بن حفص بن الأخيف أحد بني عامر بن لؤي فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "هذا رجل غادر"، فلما انتهى إلى النبي صلى الله عليه وسلم كلمه رسول الله صلى الله عليه وسلم بنحو مما كلم به أصحابه ثم رجع إلى قريش فأخبرهم بما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "(2).
سهيل بن عمرو وحويطب بن عبد العزى وحفص:
ورد خبر إرسال قريش لسهيل بن عمرو إلى النبي صلى الله عليه وسلم في حديث المسور ومروان، لكن جاء ذكره بمفرده وورد في بعض الأحاديث أن قريشاً أرسلت معه حويطب بن عبد العزى وحفصاً هذا:
ففي حديث المسور ومروان من طريق معمر بعد أن ذكر قصة مكرز بن حفص قال: "فبينما هو يكلمه إذ جاء سهيل بن عمرو وقال معمر(3)
__________
(1) صحيح البخاري مع الفتح، كتاب الشروط: 2731 - 2732، وتقدم طرف من أوله مع تخريجه برقم (35).
(2) مسند أحمد 4/324، وتقدم سنده مع طرف من أوله برقم (36).
(3) قال ابن حجر: هذا موصول إلى معمر بالإسناد المذكور أولاً، وهو مرسل، ولم أقف على من وصله لكن له شاهد موصول عند ابن أبي شيبة من حديث سلمة بن الأكوع قال: "بعثت قريش سهيل بن عمرو وحويطب بن عبد العزى...)) وللطبراني نحوه من حديث عبد الله بن السائب. فتح الباري 5/342.
قلت: حديث سلمة عند ابن أبي شيبة ضعيف، انظر: حديث رقم (73)، وأما حديث عبد الله بن السائب عند الطبراني فلم أقف عليه لعدم وجود القسم الذي هو فيه من المعجم الكبير.(2/30)
: فأخبرني أيوب عن عكرمة أنه لما جاء سهيل بن عمرو قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لقد سهل لكم من أمركم"، قال الزهري(1) في حديثه، فجاء سهيل بن عمرو فقال هات اكتب"(2) الحديث.
وفي حديثهما من طريق ابن إسحاق قال: فحدثني الزهري أن قريشاً أرسلت سهيل بن عمرو أحد بني عامر بن لؤي فقالوا: ائت محمداً فصالحه ولا يكون في صلحة إلا أن يرجع عنا عامه هذا، فو الله لا تتحدث العرب أنه دخلها علينا عنوة أبداً، فأتاه سهيل بن عمرو، فلما رآه النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لقد أراد القوم الصلح حين بعثوا هذا الرجل"، فلما انتهى إلى النبي صلى الله عليه وسلم تكلما وأطالا الكلام وتراجعا حتى جرى بينهما الصلح"(3) الحديث.
وفي مرسل عروة من طريق ابنه هشام أن قريشاً بعثت مكرز بن حفص مع سهيل: فبعد أن ذكر قصة عروة بن مسعود قال: "فلما سمعوا مقالته أرسلوا إليه سهيل بن عمرو ومكرز بن حفص فقالوا: انطلقوا إلى محمد فقاضياه"(4).
وقد تقدم في حديث المسور ومروان من طريق معمر(5) أن مكرزاً ذهب قبل سهيل وفي أثناء حديثه مع النبي صلى الله عليه وسلم قدم سهيل بن عمرو، وهذا في البخاري فالأخذ به أولى.
وجاء في حديث سلمة بن الأكوع عند ابن أبي شيبة وغيره أن قريشاًَ بعثت مع سهيل بن عمرو حويطب بن العزى وحفصاً:
__________
(1) هو موصول بالإسناد المذكور أول الحديث، وإنما اعترض حديث عكرمة في أثنائه. فتح الباري 5/342.
(2) تقدمت الإشارة إليه ص:
(3) تقدمت الإشارة إليه ص:
(4) تقدم سنده مع طرف من أوله برقم (11) وهناك الكلام عليه.
(5) انظر ص:(2/31)
(73) قال ابن أبي شيبة: حدثنا عبيد الله بن موسى عن موسى بن عبيدة عن إياس بن سلمة عن أبيه قال: بعثت قريش سهيل بن عمرو وحويطب بن عبد العزى وحفصاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليصالحوه فلما رآهم النبي صلى الله عليه وسلم فيهم سهيل بن عمرو قال: قد سهل لكم من أمركم القوم ماتون(1) إليكم بأرحامهم وسائلوكم الصلح، فابعثوا الهدي وأظهروا التلبية، لعل الله يلين قلوبهم فلبوا من نواحي العسكر حتى ارتجت أصواتهم بالتلبية قال: فجاءوا فسألوا الصلح"(2).
وأخرجه ابن جرير(3) عن محمد بن عمارة، ومحمد(4) بن منصور، كلاهما عن عبيد الله بن موسى به مثله وقال فيه: "حفص بن فلان...".
سند هذا الحديث ضعيف لضعف موسى بن عبيدة.
ووقع عند البيهقي في مرسل عروة: "بعثت قريش سهيل بن عمرو وحويطب بن عبد العزى ومكرز بن حفص"(5).
وهذا الأثر ضعيف لأنه مرسل، وفي سنده إلى عروة ضعف، ومكرز بن حفص لم يذهب مع سهيل بن عمرو كما سبق بيانه.
الفصلُ الثالثُ بيعةُ الرضوان
وفيهِ خمسةُ مباحث:
المبحث الأول سبب هذه البيعة.
المبحث الثاني: مكان البيعة.
المبحث الثالث: على أي شيء كانت البيعة؟
المبحث الرابع: من هو أول من بايع بيعة الرضوان؟
المبحث الخامس: ما ورد في فضل أصحاب البيعة.
المبحث الأول: سبب هذه البيعة:
اشتهرت هذه البيعة بيعة الرضوان لأن الله سبحانه وتعالى أخبر أنه قد رضي عن أصحابها.
__________
(1) ماتون: أي متوسلون إليكم بقرابة. ترتيب القاموس 4/198.
(2) تاريخ ابن أبي شيبة، لوحة: 60.
(3) تاريخ الأمم والملوك 2/277.
(4) محمد بن منصور بن داود الطوسي، نزيل بغداد أبو جعفر العابد، ثقة، مات سنة أربع أو ست وخمسين ومائتين، وله ثمان وثمانون سنة: د، س. تقريب: 320.
(5) دلائل النبوة 2، لوحة: 227.(2/32)
(74) قال ابن جرير: حدثنا محمد بن عمارة الأسدي قال: حدثنا عبيد الله بن موسى قال: أخبرنا موسى بن عبيدة عن إياس بن سلمة قال: قال سلمة: بينما نحن قائلون زمن الحديبية نادى منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم، يا أيها الناس البيعة البيعة، نزل روح القدس صلوات الله عليه قال: فثرنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو تحت الشجرة سمرة، قال: فبايعناه، وذلك قوله الله: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ}"(1).
وأخرجه ابن أبي حاتم(2) عن أحمد(3) بن محمد بن يحيى بن سعيد القطان عن عبيد الله بن موسى به نحوه.
سند هذا الحديث ضعيف لضعف موسى بن عبيدة، لكن يشهد له حديث جابر الآتي(4).
(75) أما سبب هذه البيعة فما رواه ابن إسحاق قال: فحدثني عبد الله(5) بن أبي بكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال حين بلغه أن عثمان قد قتل: "لا نبرح حتى نناجز القوم، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس إلى البيعة، فكانت بيعة الرضوان تحت الشجرة"(6).
وأخرجه ابن جرير والبيهقي كلاهما من طريق ابن إسحاق: قال ابن جرير(7): حدثنا ابن حميد(8) قال: حدثنا سلمة(9) عن محمد بن إسحاق عن عبد الله بن أبي بكر فذكره.
__________
(1) تفسير ابن جرير 26/86.
(2) تفسيير ابن كثير 4/191.
(3) أحمد بن محمد بن يحيى بن سعيد القطان أبو سعيد البصري، صدوق، مات سنة ثمان وخمسين ومائتين: ق. تقريب: 16.
(4) انظر حديث رقم (84).
(5) عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم الأنصاري المدني القاضي، ثقة، مات سنة خمس وثلاثين ومائة، وهو ابن سبعين سنة: ع. تقريب: 169.
(6) سيرة ابن هشام 3/315.
(7) تفسير ابن جرير 26/86.
(8) هو: محمد بن حميد الرازي.
(9) هو: سلمة بن الفضل الأبرشي.(2/33)
وقال البيهقي(1): أخبرنا أبو عبد الله(2) الحافظ حدثنا أبو العباس(3) محمد بن يعقوب قال: حدثنا أحمد(4) بن عبد الجبار قال: حدثنا يونس(5) عن ابن إسحاق قال: حدثني عبد الله بن أبي بكر بن حزم: فذكر نحوه.
هذا الأثر مرسل وسنده إلى عبد الله بن أبي بكر حسن.
وأخرج البيهقي بسنده إلى عروة بن الزبير أثراً ذكر فيه سبب احتباس قريش لعثمان بن عفان:
__________
(1) دلائل النبوة 2، لوحة: 228.
(2) هو محمد بن عبد الله الحاكم.
(3) أبو العباس محمد بن يوسف بن معقل بن سنان الأموي مولاهم المعقلي النيسابوري، قال عنه الذهبي: "الإمام المفيد الثقة محدث المشرق"، نقل عن الحاكم أنه قال: "حدث في الإسلام ستاً وسبعين سنة، ولم يختلف في صدقه وصحة سماعة"، ونقل عنه أيضاً أنه قال: سمعت محمد بن الفضل بن خزيمة قال: "سمعت جدي إمام الأئمة"، وسئل عن كتاب المبسوط للشافعي فقال: "اسمعوه من أبي العباس الأصم، فإنه ثقة"، مات سنة ست وأربعين وثلاثمائة. تذكرة الحفاظ 3/860.
(4) أحمد بن عبد الجبار بن محمد العطاردي أبو عمر الكوفي، ضعيف وسماعه للسيرة صحيح، لم يثبت أن أبا داود أخرج له، مات سنة اثنتين وسبعين ومائتين وله خمس وتسعون سنة. تقريب: 14.
(5) يونس بن بكير الشيباني.(2/34)
فبعد أن ذكر قدوم وفد قريش على رسول الله صلى الله عليه وسلم للمفاوضة قال: "فكلموا رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعوا إلى الصلح والموادعة، فلما لان بعضهم لبعض وهم على ذلك لم يستقم لهم ما يدعون إليه من الصلح وقد أمن بعضهم بعضاً وتزاوروا فبينما هم كذلك وطوائف من المسلمين في المشركين لا يخاف بعضهم بعضاً ينتظرون الصلح والهدنة إذ رمى رجل من الفريقين رجلاً من الفريق الآخر، فكانت معركة وتراموا بالنبل والحجارة وصاح الفريقان كلاهما، وارتهن كل واحد من الفريقين من فيهم، فارتهن المسلمون سهيل بن عمرو ومن أتاهم من المشركين، وارتهن المشركون عثمان بن عفان ومن كان أتاهم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى البيعة، ونادى منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم: ألا إن روح القدس قد نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمر بالبيعة، فاخرجوا على اسم الله فبايعوا فثار المسلمون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو تحت الشجرة فبايعوه على ألا يفروا"(1) الحديث.
المبحث الثاني: مكان البيعة:
أخبر الله سبحانه وتعالى أن تلك البيعة وقعت تحت الشجرة، قال تعالى: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ}(2).
وقد أشار إليه حديث نافع عند البخاري:
__________
(1) دلائل النبوة 2، لوحة: 228، وتقدم سنده مع طرف من أوله برقم (65) وهناك الكلام عليه.
(2) سورة الفتح الآية: 18.(2/35)
(76) قال: حدثنا شجاع بن الوليد سمع النضر بن محمد حدثنا صخر عن نافع قال: "إن الناس يتحدثون أن ابن عمر أسلم قبل عمر، وليس كذلك ولكن عمر يوم الحديبية أرسل عبد الله إلى فرس له عند رجل من الأنصار يأتي به ليقاتل عليه، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يبايع عند الشجرة، وعمر لا يدري بذلك فبايعه عبد الله ثم ذهب إلى الفرس فجاء به إلى عمر وعمر يستلئم(1) للقتال فأخبره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يبايع تحت الشجرة قال: فانطلق فذهب معه حتى بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم فهي التي يتحدث الناس أن ابن عمر أسلم قبل عمر"(2).
وأخرجه البخاري تعليقاً من حديث ابن عمر ولم يذكر الشجرة.
(77) قال: قال(3) هشام بن عمار حدثنا الوليد بن مسلم حدثنا عمر بن محمد العمري أخبرني نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما أن الناس كانوا مع النبي صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية تفرقوا في ظلال الشجر، فإذا الناس محدقون بالنبي صلى الله عليه وسلم فقال(4): يا عبد الله انظر ما شأن الناس قد أحدقوا برسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فوجدهم يبايعون، فبايع ثم رجع إلى عمر فخرج فبايع(5).
والشجرة المشار إليها هي سمرة، كما صرح بذلك حديث جابر(6) وغيره.
__________
(1) يستلئم: يلبس لأمة الحرب، وهي أداته. النهاية 4/221.
(2) صحيح البخاري مع الفتح، كتاب المغازي: 4186.
(3) هكذا أخرجه البخاري معلقاً، وذكر ابن حجر أن الإسماعيلي قد وصله، انظر فتح الباري 7/456.
(4) يظهر أن سبب إرسال عمر لابنه في هذا الحديث غير السبب المذكور في حديث نافع السابق، وقد جمع بينهما ابن حجر فقال: ويمكن الجمع بينهما بأنه بعثه يحضر له الفرس، ورأى الناس مجتمعين فقال له: انظر ما شأنهم فبدأ بكشف حالهم فوجدهم يببايعون فبايع وتوجه إلى الفرس فأحضرها وأعاد حينئذ الجواب لأبيه. فتح الباري 7/456.
(5) صحيح البخاري مع الفتح، كتاب المغازي: 4187.
(6) انظر الحديث رقم (23 - 24).(2/36)
وقد ورد ذكر الشجرة في حديث سعيد بن المسيب عن أبيه، وبين فيه أنهم قد نسوا مكانها من السنة التي تلي عام الحديبية:
(78) قال البخاري: حدثنا محمود حدثنا عبيد الله عن إسرائيل عن طارق بن عبد الرحمن قال: انطلقت حاجاً فمررت بقوم يصلون قلت ما هذا المسجد؟ قالوا: هذه الشجرة حيث بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم بيعة الرضوان، فأتيت سعيد بن المسيب فأخبرته فقال سعيد: حدثني أبي أنه كان فيمن بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت الشجرة، قال: فلما خرجنا من العام المقبل، نسيناها فلم نقدر عليها.
فقال سعيد: "إن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم لم يعلموها وعلمتموها أنتم؟ فأنتم أعلم!"(1).
وأخرجه من طريق أبي عوانة عن طارق عن سعيد بن المسيب عن أبيه: "أنه كان ممن بايع تحت الشجرة فرجعنا إليها من العام المقبل فعميت علينا"(2).
وأخرجه مسلم من طريق أبي عوانة عن طارق بن سعيد بن المسيب قال: "كان أبي ممن بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم عند الشجرة، قال: فانطلقنا في قابل حاجين فخفي علينا مكانها، فإن كان تبين لكم فأنتم أعلم"(3).
وأخرجه البخاري من طريق(4) سفيان عن طارق به مختصراً.
وأخرجه مسلم من طريق(5) سفيان به مختصراً أيضاً.
وقد ورد في حديث سعيد بن المسيب هذا عن أبيه أن الصحابة رضوان الله عليهم قد خفي عليهم مكان الشجرة من العام التالي لعام الحديبية، لكن يرد عليه ما في حديث جابر رضي الله عنه: "ولو كنت أبصر لأريتكم مكان الشجرة"(6).
__________
(1) صحيح البخاري مع الفتح، كتاب المغازي: 4163.
(2) صحيح البخاري مع الفتح، كتاب المغازي 4164.
(3) صحيح مسلم، كتاب الإمارة: 77.
(4) صحيح البخاري مع الفتح، كتاب المغازي: 4165.
(5) صحيح مسلم، كتاب الإمارة: 78.
(6) انظر الحديث رقم (20).(2/37)
والظاهر أن عدم معرفة والد سعيد بن المسيب ومن كان معه لمكان الشجرة لا ينافي معرفة غيرهم من الصحابة لمكانها، مثل جابر بن عبد الله رضي الله عنهما وغيره(1)، وأيضاً يشهد لذلك ما في أثر نافع:
(79) قال ابن سعد: أخبرنا عبد الوهاب(2) بن عطاء أخبرنا عبد الله(3) بن عون عن نافع(4) قال: كان الناس يأتون الشجرة التي يقال لها شجرة الرضوان، فيصلون عندها قال: فبلغ ذلك عمر بن الخطاب فأوعدهم فيها وأمر بها فقطعت(5).
وسند هذا الأثر صحيح كما ذكر ابن حجر(6).
المبحث الثالث: على أي شيء كانت البيعة:
لما أشيع مقتل عثمان رضي الله عنه دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه رضوان الله عليهم للبيعة فهبوا إليه جميعاً ليبايعوه، لم يتخلف منهم سوى رجل واحد - يقال كان منافقاً - وهو الجد بن قيس كما في حديث جابر: "فبايعناه غير جد بن قيس الأنصاري، اختبأ تحت بطن بعيره(7).
نعم تسابق الصحابة رضوان الله عليهم لمبايعة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعلى أي شيء كانت تلك البيعة يا ترى؟ حتى استحقت تلك المبادرة؟
سئل الصحابة رضوان الله عليهم هذا السؤال فأجابوا عنه بما يلي:
(أ) أجاب سلمة بن الأكوع رضي الله عنه بأنهم بايعوا على الموت:
__________
(1) قد أشار إلى هذا الجمع ابن حجر، انظر: فتح الباري 7/448.
(2) عبد الوهاب بن عطاء الخفاف أبو نصر العجلي مولاهم البصري، نزيل بغداد، صدوق ربما أخطأ، أنكروا عليه حديثاً في فضل العباس يقال: دلسه عن ثور، مات سنة أربع، ويقال: سنة ست ومائتين: عخ، م، والأربعة. تقريب: 222.
(3) عبد الله بن عون بن أرطبان أبو عون البصري، ثقة، ثبت، فاضل من أقران أيوب في العلم والعمل والسن، مات سنة خمسين ومائة على الصحيح: ع. تقريب: 184.
(4) نافع بن عبد الله مولى ابن عمر.
(5) الطبقات الكبرى 2/100.
(6) فتح الباري 7/448.
(7) صحيح مسلم، كتاب الإمارة: 69، ومسند الحميدي 2/537، وتقدم الحديث برقم (24).(2/38)
(80) قال البخاري: حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا حاتم بن يزيد ين أبي عبيد قال: قلت لسلمة بن الأكوع: على أي شيء بايعتم رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية؟ قال: على الموت"(1).
وأخرجه محمد بن مسلمة(2) القعنبي عن حاتم به مثله.
وأخرجه المكي(3) بن إبراهيم بن أبي عبيد عن سلمة من حديث ذكر فيه عدد المرات التي بايعها.
وأخرجه مسلم(4) عن قتيبة بن سعيد عن حاتم وعن إسحاق بن إبراهيم عن حماد بن مسعدة كلاهما عن يزيد عن سلمة مثله.
وأخرجه الترمذي(5) والنسائي(6) كلاهما عن قتيبة عن حاتم به مثله.
وأخرجه أحمد(7) عن صفوان عن يزيد عن سلمة فذكر مثله.
وأخرجه(8) عن المكي بن إبراهيم بسنده عند البخاري ولفظه.
وأخرجه(9) عن حماد بن مسعده عن يزيد عنه بنحو لفظ المكي بن إبراهيم.
وجاء عن عبد الله بن زيد رضي الله عنه ما يؤيد جواب سلمة رضي الله عنه:
(81) قال البخاري: حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا وهيب حدثنا عمرو بن يحيى عن عباد بن تميم عن عبد الله بن زيد رضي الله عنه قال: لما كان زمن الحرة أتاه آت فقال له: إن ابن الحنظلة يبايع الناس على الموت، فقال: لا أبايع على ذلك أحداً بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم"(10).
وأخرجه(11) من طريق سليمان بن بلال عن عمرو بن يحيى به، ذكر نحوه وزاد "وكان شهد معه الحديبية".
وأخرجه مسلم(12) من طريق وهيب به مثله.
(ب) وأجاب معقل بن يسار وجابر بن عبد الله رضي الله عنهم بأنهم بايعوا على عدم الفرار:
__________
(1) صحيح البخاري مع الفتح، كتاب المغازي: 4169.
(2) صحيح البخاري مع الفتح، كتاب الأحكام: 7206.
(3) صحيح البخاري مع الفتح، كتاب الجهاد: 2960.
(4) صحيح مسلم، كتاب الإمارة: 80.
(5) سنن الترمذي، كتاب السير: 1592.
(6) سنن النسائي 7/141.
(7) مسند أحمد 4/51.
(8) مسند أحمد 4/54.
(9) مسند أحمد 4/47.
(10) صحيح البخاري مع الفتح، كتاب الجهاد: 2959.
(11) صحيح البخاري مع الفتح، كتاب المغازي: 4167.
(12) صحيح مسلم، كتاب الإمارة: 81.(2/39)
(82) قال مسلم: حدثنا يحيى بن يحيى أخبرنا يزيد بن زريع عن خالد عن الحكم بن عبد الله الأعرج عن معقل بن يسار قال: لقد رأيتم يوم الشجرة والنبي صلى الله عليه وسلم يبايع الناس، وأنا رافع غصناً من أغصانها عن رأسه، ونحن أربع عشرة مائة، قال: "لم نبايعه على الموت، ولكن بايعناه على ألا نفر"(1).
وقال مسلم أيضاً: حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا الليث بن سعد ح. وحدثنا محمد بن رمح أخبرنا الليث عن أبي الزبير عن جابر قال: كنا يوم الحديبية ألفاً وأربعمائة، فبايعناه وعمر آخذ بيده تحت الشجرة وهي سمرة، وقال: بايعناه على ألا نفر ولم نبايعه على الموت"(2).
وأخرجه من طريق سفيان عن أبي الزبير:
(83) قال: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا ابن عيينة ح.
وحدثنا ابن نمير حدثنا سفيان عن أبي الزبير عن جابر قال: لم نبايع رسول الله صلى الله عليه وسلم على الموت، إنما بايعناه على ألا نفر"(3).
أخرجه الترمذي(4) عن أحمد بن منيع عن سفيان بن عيينة به مثله.
وأخرجه النسائي(5) عن قتيبة عن سفيان به مثله.
وأخرجه أحمد(6) والحميدي(7) كلاهما عن سفيان به مثله، وصرح أبو الزبير بالسماع من جابر عندهما وعند النسائي.
وأخرج الترمذي الحديث عن جابر من طريق آخر بسياق آخر:
__________
(1) صحيح مسلم كتاب الإمارة: 76، وتقدم تخريجه برقم (25).
(2) صحيح مسلم كتاب الإمارة: 67، وتقدم تخريجه برقم (23).
(3) صحيح مسلم، كتاب الإمارة: 68.
(4) سنن الترمذي، كتاب السير: 1594.
(5) سنن النسائي بشرح السيوطي والسندي 7/140.
(6) مسند أحمد 3/381.
(7) مسند الحميدي 2/536.(2/40)
(84) قال: حدثنا سعيد(1) بن يحيى بن سعيد الأموي، حدثنا عيسى(2) بن يونس عن الأوزاعي(3) عن يحيى(4) بن أبي كثير عن أبي سلمة(5) عن جابر بن عبد الله في قوله تعالى: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ}، قال جابر: بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على ألا نفر ولم نبايعه على الموت(6).
قال أبو عيسى: "وقد روى هذا الحديث عن عيسى بن يونس عن الأوزاعي عن يحيى بن أبي كثير قال: "قال جابر بن عبد الله، ولم يذكر فيه أبو سلمة"(7).
قلت: يعني أن الحديث جاء من وجه آخر منقطعاً لأن يحيى بن أبي كثير لم يدرك جابر بن عبد الله.
قال أبو حاتم: "وأبو زرعة والبخاري وغيرهم لم يدرك أحداً من الصحابة إلا أنس بن مالك فإن رآه رؤية ولم يسمع منه"(8) ا.هـ
__________
(1) سعيد بن يحيى بن سعيد بن أبان بن سعيد بن العاص الأموي، أبو عثمان البغدادي، ثقة، ربما أخطأ مات سنة تسع وأربعين ومائتين: خ، م، د، ت، س. تقريب: 127.
(2) عيسى بن يونس بن أبي إسحاق السبيعي - بفتح السين وكسر الموحدة - أخو إسرائيل، كوفي نزل الشام مرابطاً، ثقة مأمون، مات سنة سبع وثمانين ومائة، وقيل إحدى وستين ومائة: ع. تقريب: 273.
(3) عبد الرحمن بن عمرو بن أبي عمرو الأوزاعي، أبو عمرو الفقيه، ثقة جليل، مات سنة سبع وخمسين ومائة: ع. تقريب: 207.
(4) يحيى بن أبي كثير الطائي مولاهم أبو نصر اليمامي، ثقة ثبت لكنه يدلس ويرسل، مات سنة اثنتين وثلاثين ومائة، وقيل قبل ذلك: ع. تقريب: 378.
(5) أبو سلمة عبد الرحمن بن عوف الزهري المدني، قيل اسمه: عبد الله، وقيل: إسماعيل، ثقة مكثر، مات سنة أربع وتسعين وكان مولده بضع وعشرين: ع. تقريب: 409، تهذيب التهذيب 12/115.
(6) سنن الترمذي، كتاب السير: 1591.
(7) م، السابق 4/4/149.
(8) جامع التحصيل في أحكام المراسيل: 369.(2/41)
وهنا قد تعارض الإرسال والوصل لكن الأرجح وصله، فالذي رواه عنه الترمذي موصولاً هو سعيد بن يحيى الأموي ثقة، وثقه ابن المديني بل قال: "إنه أثبت من أبيه ووثقه النسائي وغيره"(1).
أما الطريق الذي فيه الإرسال ففيه انقطاع بين الترمذي وعيسى بن يونس، ورواه الترمذي أيضاً بصيغة التمريض، وإذا ترجح وصله فهناك علة في السند، وهي أن يحيى بن أبي كثير رواه بالعنعنة وهو مدلس(2)، لكن لا يضر تدليسه هنا؛ لأن أصل الحديث ثابت عند مسلم عن جابر وغيره، وقد تقدمت قريباً(3).
وفيه من حديث عبد الله بن مغفل:
(85) قال أحمد: حدثنا وكيع عن أبي جعفر(4) الرازي عن الربيع(5) ابن أنس عن أبي العالية(6) الرياحي أو عن غيره عن عبد الله بن مغفل وكان أحد الرهط الذين نزلت فيهم هذه الآية: {وَلاَ عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ...} الخ، قال: إنني لآخذ بغصن من أغصان الشجرة أظل به النبي صلى الله عليه وسلم وهم يبايعونه فقالوا، "نبايعك على الموت؟ قال: لا، ولكن لا تفروا"(7).
ذكره الهيثمي وقال: "رواه الطبراني وإسناده جيد إلا أن الربيع بن أنس قال: عن أبي العالية أو عن غيره"(8).
__________
(1) تهذيب التهذيب 4/97 - 98.
(2) جامع التحصيل: 128.
(3) انظر الحديث رقم (81، 82).
(4) أبو جعفر الرازي التميمي مولاهم، مشهور بكنيته، واسمه عيسى بن أبي عيسى عبد الله بن ماهان، أصله من مرو وكان يتجر إلى الري، صدوق سيء الحفظ خصوصاً عن مغيرة، مات سنة ستين ومائة: بخ، الأربعة. تقريب: 399.
(5) الربيع بن أنس البكري أو الحنفي، بصري نزل خراسان، صدوق له أوهام، رمي بالتشيع، مات سنة أربعين ومائة أو قبلها: الأربعة. تقريب: 100.
(6) رفيع - بالتصغير - ابن مهران أبو العالية الرياحي - بكسر الراء والتحتانية - ثقة كثير الإرسال، مات سنة ثلاث وتسعين، وقيل بعد ذلك: ع. تقريب: 104.
(7) مسند أحمد 5/54.
(8) مجمع الزوائد 6/146.(2/42)
قلت: شك الربيع بن أنس في شيخه الذي روى عنه يوجب ضعف الحديث، لجهالة الشيخ الذي يحتمل أنه روى عنه غير أبي العالية.
لكن عجز الحديث الذي هو موضع الشاهد ثابت من أحاديث أخرى صحيحة تقدمت قريباً.
(جـ) وقد سئل نافع على أي شيء كانت البيعة؟ فأجاب بأنها كانت على الصبر:
(86) قال البخاري: حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا جويرية عن نافع قال: قال ابن عمر رضي الله عنهما: رجعنا من العام المقبل فما اجتمع منا اثنان على الشجرة التي بايعناه تحتها كانت رحمة من الله فسألنا نافعاً على أي بايعهم؟ على الموت؟ فقال: لا، بايعهم على الصبر(1).
بينت هذه الروايات الشيء الذي بايع عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم الصحابة يوم الحديبية، لكن رأينا في بعضها أنه بايعهم على الموت، وفي بعضها بايعهم على عدم الفرار وفي بعضها على الصبر، فكيف التوفيق بينها؟
الواقع أنه لا خلاف بين هذه النصوص كما بين ذلك بعض العلماء:
قال الترمذي: قد بايعه قوم من أصحابه على الموت، وإنما قالوا: "لا نزال بين يديك حتى نقتل، وبايعه آخرون فقالوا: لا نفر"(2) ا.هـ
وقال ابن حجر: "لا تنافي بين قولهم، بايعوه على الموت، وعلى عدم الفرار لأن المراد بالمبايعة على الموت أن لا يفروا وليس المراد أن يقع الموت ولا بد، وهو الذي أنكر نافع وعدل إلى قوله: "بل بايعهم على الصبر" أي على الثبات سواء أفضى ذلك إلى الموت أو لا، والله أعلم"(3) ا.هـ
قلت: ويؤيد توجيه ابن حجر ما ورد في مرسل الشعبي الآتي في قصة أبي سنان وفيه: "قال يا رسول الله بايعني على ما في نفسك قال: ما في نفسي؟ قال: الفتح أو الشهادة، قال: فبايعه رسول الله صلى الله عليه وسلم وجاء الناس فجعلوا يقولون نبايعك على بيعة أبي سنان"(4).
المبحث الرابع: من هو أول من بايع بيعة الرضوان:
__________
(1) صحيح البخاري مع الفتح، كتاب الجهاد: 2958.
(2) سنن الترمذي 4/150.
(3) فتح الباري 6/118.
(4) سيأتي في المبحث التالي.(2/43)
ورد في بعض الروايات أن أول من بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم بيعة الرضوان هو أبو سنان الأسدي، إلا أنه قد عرف بهذه الكنية اثنان من بني أسد أحدهما: أبو سنان محصن أخو عكاشة بن محصن، والآخر أبو سنان بن وهب، ولذلك وقع خلاف أيهما المراد هنا، وقد ذكر بعضهم في ذلك غير أبي سنان الأسدي، وسوف يأتي بيان ذلك كله إن شاء الله.
(87) قال ابن سعد: أخبرنا وكيع بن الجراح وعبد الله(1) بن نمير عن إسماعيل بن أبي خالد عن عامر(2) قال: إن أول من بايع النبي صلى الله عليه وسلم بيعة الرضوان أبو سنان الأسدي(3).
وقد أخرجه ابن هشام(4) عن وكيع به بمثله.
وأخرجه البيهقي من طريق سفيان(5) بن عيينة عن إسماعيل بن أبي خالد عن الشعبي قال: "لما دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى البيعة، كان أول من انتهى إليه أبو سنان الأسدي فقال: أبسط يدك أبايعك فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "علام تبايعني"؟ فقال أبو سنان رضي الله عنه: على ما في نفسك" هذا أبو سنان الأسدي.
وأورده ابن سيد الناس من طريق عاصم الأحول:
__________
(1) عبد الله بن نمير - بنون مصغراً - الهمداني أبو هشام الكوفي، ثقة صاحب حديث، من أهل السنة، مات سنة تسع وتسعين ومائة، وله أربع وثمانون سنة: ع. تقريب: 192.
(2) عامر بن شراحبيل الشعبي - بفتح المعجمة - أبو عمرو، ثقة مشهور فقيه، فاضل، قال مكحول: ما رأيت أفقه منه، مات بعد المائة وله نحو من ثمانين سنة: ع. تقريب: 161.
(3) الطبقات الكبرى 2/100.
(4) سيرة ابن هشام 3/316.
(5) سفيان بن عيينة بن أبي عمران ميمون الهلالي أبو محمد الكوفي ثم المكي، ثقة حافظ، فقيه إمام حجة إلا أنه تغير حفظه بآخره وكان ربما دلس، لكن عن الثقات، وكان أثبت الناس في عمرو بن دينار، مات في رجب سنة ثمان وتسعين ومائة، وله إحدى وتسعين سنة: ع. تقريب: 128.(2/44)
قال ابن سيد الناس: وروينا عن أبي عروبة(1) ثنا علي(2) بن المنذر ثنا محمد(3) ابن فضيل عن عاصم(4) عن عامر(5) قال: كان أول من بايع بيعة الرضوان أبو سنان الأسدي، قال: "يا رسول الله بايعني على ما في نفسك قال: ما في نفسي؟ قال: الفتح أو الشهادة، فبايعه رسول الله صلى الله عليه وسلم وجاء الناس فجعلوا يقولون: نبايعك على بيعة أبي سنان"(6).
هذا الأثر صحيح بمجموع طرقه إلى الشعبي وهو مرسل.
وجاء في حديث ابن عمر عند الطبراني "أبو سنان بن محصن":
__________
(1) الحسين بن محمد بن أبي معشر، مودود السلمي الحراني صاحب التاريخ، كان أول طلبه لهذا الشأن سنة ست وثلاثين ومائتين، قال ابن عدي: كان عارفاً بالرجال وبالحديث وكان مع ذلك مفتي أهل حران، شفاني حين سألته عن قوم من المحدثين، وقال الذهبي: كان من نبلاء الثقات، توفي سنة ثماني عشرة وثلاثمائة. تذكرة الحفاظ 2/774.
(2) علي بن المنذر الطريقي - بفتح المهملة وكسر الراء بعدها تحتانية ساكنة ثم قاف - الكوفي ، صدوق يتشيع، مات سنة ست وخمسين ومائتين:ت، س، ق. تقريب: 249.
(3) محمد بن فضيل بن غزوان - بفتح المعجمة وسكون الزاي - الضبي مولاهم أبو عبد الرحمن الكوفي، صدوق، عارف، رمي بالتشيع، مات سنة خمس وتسعين ومائتين: ع. تقريب: 315، تذكرة الحفاظ 1/315.
(4) عاصم بن سليمان الأحول أبو عبد الرحمن البصري، ثقة، لم يتكلم فيه إلا القطان، وكان بسبب دخوله في الولاية، مات بعد سنة أربعين ومائة: ع. تقريب: 159.
(5) هو: الشعبي.
(6) عيون الأثر في المغازي والسير 2/125.(2/45)
(88) قال الطبراني: حدثنا أحمد(1) ثنا محمد(2) بن عبد الله بن عبيد ابن عقيل ثنا يعقوب(3) بن محمد الزهري ثنا عبد العزيز(4) بن عمران عن محمد(5) بن عبد العزيز بن عمر بن عبد الرحمن بن عوف عن الزهري عن سالم(6)
__________
(1) أحمد بن يحيى بن زهير أبو جعفر التستري، قال عنه الذهبي الحافظ الحجة، وقال الحافظ بن منده: "ما رأيت في الدنيا أحفظ من أبي إسحاق بن حمزة وسمعته يقول: ما رأيت في الدنيا أحفظ من أبي جعفر التستري، وقال الحاكم: سمعت جعفر بن أحمد المراغي يقول: أنكر عبدان الأهوازي حديثاً مما عرض عليه لابن زهير، فدخل عليه وقال: هذا أصلي ولكن من أين لك ابن عون (لعله ابن عوف كما في هذه الرواية) عن الزهري عن سالم؟ فما زال عبدان يعتذر إليه ويقول: يا أبا جعفر إنما استغربت حديثك، مات سنة عشرة وثلاثمائة. تذكرة الحفاظ 2/757 - 758.
(2) محمد بن عبد الله بن عبيد بن عقيل - بفتح العين - الهلالي أبو مسعود البصري، صدوق، من الحادية عشرة: د، س، ق. تقريب: 305.
(3) يعقوب بن محمد بن عيسى بن عبد الملك بن حميد بن عبد الرحمن بن عوف الزهري المدني، نزيل بغداد، صدوق كثير الوهم والرواية عن الضعفاء، مات سنة ثلاث عشرة ومائتين: خت، ق. تقريب: 387.
(4) عبد العزيز بن عمران بن عبد العزيز بن عمر بن عبد الرحمن بن عوف الزهري المدني الأعرج يعرف بابن أبي ثابت، متروك، احترقت كتبه فحدث من حفظه فاشتد غلطه، وكان عارفاً بالأنساب، مات سنة سبع وتسعين ومائة: ت. تقريب: 215.
(5) محمد بن عبد العزيز بن عمر الزهري، روى عن أبيه والزهري وغيرهما، ولي القضاء بالمدينة، قال البخاري: محمد بن عبد العزيز بن عبد الرحمن بن عوف القاضي، منكر الحديث، وقال النسائي: متروك، وقال في التمييز: منكر الحديث، وقال الدارقطني: ضعيف، وقال أبو حاتم ثلاثة أخوة محمد وعبد الله وعمران ليس لهم حديث مستقيم. لسان الميزان 5/259 - 260.
(6) سالم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب القرشي العدوي، أبو عمر أو أبو عبد الله المدني، أحد الفقهاء السبعة، وكان ثبتاً عابداً فاضلاً، كان يشبه بأبيه في الهدى والسمت، مات في آخر سنة ست ومائة على الصحيح: ع. تقريب: 115.(2/46)
عن أبيه(1) قال: ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية الناس للبيعة، فقام أبو سنان بن محصن فقال: يا رسول الله أبايعك على ما في نفسك، قال: وما في نفسي؟ قال: أضرب بالسيف بين يديك حتى يظهرك الله أو أقتل، فبايعه وبايع الناس على بيعة أبي سنان(2).
قال الطبراني: "لم يروه عن الزهري إلا محمد بن عبد العزيز ولا عنه إلا عبد العزيز بن عمران، تفرد به يعقوب"(3).
وأورده الهيثمي ثم قال: "رواه الطبراني في الأوسط وفيه عبد العزيز ابن عمران، وهو متروك"(4).
قلت: وفيه أيضاً محمد بن عبد العزيز شيخ عبد العزيز بن عمران، قال البخاري: منكر الحديث، وقال النسائي: متروك(5).
وقد عد ابن رجب(6) بيتهم في البيوت التي اشتهرت بالضعف.
وهذا الحديث مع ضعف سنده في متنه نكارة أيضاً، ففيه أن أول من بايع أبو سنان بن محصن، وأبو سنان بن محصن مات قبل ذلك في حصار بني قريظة(7).
وقد ظن الواقدي أن المشار إليه في الروايات السابقة هو هذا فوهّم قائله، وقال(8): إن أول من بايع بيعة الرضوان هو سنان بن أبي سنان وتبعه على ذلك أبو هلال العسكري(9) وابن سيد الناس(10)، وكأنه لم تبلغهم الراويات التي وردت عن الشعبي وغيره تصرح بأن المذكور في البيعة هنا هو أبو سنان بن وهب، والروايات هي:
__________
(1) عبد الله بن عمر بن الخطاب العدوي أبو عبد الرحمن، ولد بعد المبعث بيسير، استصغر يوم أحد، وهو ابن أربع عشرة سنة، وهو أحد المكثرين من الصحابة والعبادلة، وكان أشد الناس اتباعاً للأثر، مات سنة ثلاث وسبعين في آخرها أو أول التي تليها: ع. تقريب: 182.
(2) مجمع البحرين بزوائد المعجمين 1/2 ، لوحة: 240.
(3) مجمع البحرين بزوائد المعجمين 1/2/لوحة: 141.
(4) مجمع الزوائد 6/146.
(5) لسان الميزان 5/260.
(6) شرح علل الترمذي: 527.
(7) الإصابة 11/181.
(8) مغازي الواقدي 2/603، الطبقات الكبرى لابن سعد 2/100.
(9) كتاب الأوائل: 170.
(10) عيون الأثر 2/125.(2/47)
(89) قال ابن عبد البر: ذكر الحلواني(1) عن أبي أسامة(2) عن إسماعيل بن أبي خالد عن الشعبي قال: أول من بايع تحت الشجرة أبو سنان بن وهب الأسدي، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: علام تبايع؟ قال: على ما في نفسك فبايعه وتتابع الناس فبايعوه(3).
(90) وقال أيضاً: ذكر أبو العباس(4) محمد بن إسحاق السراج قال: حدثنا هناد بن السري(5) قال حدثنا أبو بكر(6) بن عياش عن عاصم عن زر(7) قال: أول من بايع تحت الشجرة أبو سنان بن وهب(8).
قال ابن حجر: وأخرجه ابن منده من طريق عاصم عن زر بن حبيش فذكر مثله(9).
وذكر ابن حجر أن طريق زر بن حبيش وطريق الشعبي كلاهما صحيح(10).
فهذا الحديث حسن لغيره وإن كان مرسلاً إلا أنه قد اختلف مخرجه فدل على أن له أصلاً وقد أشار إلى هذه القاعدة ابن الصلاح بقوله: "ثم اعلم أن حكم المرسل حكم الحديث الضعيف، إلا أن يصح مخرجه بمجيئه من وجه آخر(11).
__________
(1) الحسن بن علي بن محمد الهذلي أبو علي الخلال الحلواني.
(2) هو: حماد بن سلمة.
(3) الاستيعاب 11/313 مع الإصابة.
(4) أبو العباس محمد بن إسحاق بن إبراهيم بن مهران الثقفي مولاهم النيسابوري السراج، صاحب المسند والتاريخ، قال عنه الذهبي: الحافظ الإمام الثقة شيخ خراسان، مات في ربيع الآخرة سنة ثلاث عشرة وثلاثمائة. تذكرة الحفاظ 2/731.
(5) هناد بن السري - بكسر الراء الخفيفة - ابن مصعب التميمي أبو السري الكوفي، ثقة، مات سنة ثلاث وأربعين ومائتين وله إحدى وتسعون سنة: عخ، م، الأربعة. تقريب: 365.
(6) أبو بكر بن عياش الأسدي.
(7) زر: بكسر أوله وتشديد الراء - ابن حبيش - بمهملة وموحدة ومعجمة مصغراً - ابن حباشة - بضم المهملة بعدها موحدة ثم معجمة - الأسدي الكوفي، أبو مريم، ثقة جليل مخضرم، مات سنة إحدى أو اثنتين أو ثلاث وثمانين وهو ابن مائة وسبع وعشرين سنة: ع. تقريب: 106.
(8) الاستيعاب 11/314.
(9) الإصابة 11/181.
(10) الإصابة 4/264.
(11) علوم الحديث لابن الصلاح: 49.(2/48)
وهنا قد صح مخرجه من وجهين فارتفع إلى درجة الحسن لغيره، والله أعلم.
وبهذا نكون قد وصلنا إلى نتيجة وهي: رجحان القول بأن أول من بايع هو أبو سنان بن وهب الأسدي، وليس أبو سنان بن محصن لهذا الحديث ولأن حديث ابن عمر الذي ذكر فيه أبو سنان بن محصن ضعيف جداً لا يقوى على المعارضة والروايات التي قالت: أبو سنان الأسدي تفسرها هذه الرواية، والله أعلم.
ذكر ابن حجر: أن البغوي أخرج في ترجمة أبي سفيان بن الحارث من طريق أبي بكر بن عياش عن عاصم قال: "أول من بايع تحت الشجرة أبو سفيان بن الحارث" (1).
وقد تعقبه ابن حجر بقوله: "ولم يصب في ذلك، فقد أخرجه غيره من هذا الوجه فقال: أبو سنان بن وهب وهو الصواب وهو المستفيض عند أهل المغازي كلهم، واسم أبي سنان: عبد الله" (2) ا.هـ
وقد أورد السفاريني على قصة أبي سنان بن وهب - من كونه أول من بايع - ما روى مسلم في حديث سلمة أنه أول من بايع: ثم أجاب عن ذكل بقوله: "والجمع بينهما: بأن أبا سنان أول من بايع مطلقاً، وأن سلمة أول من بايع من الأنصار فأوليته بالإضافة إلى ما دون أبي سنان"(3).
المبحث الخامس: ما ورد في فضل أصحاب البيعة:
قال البخاري: حدثنا علي حدثنا سفيان قال عمرو: سمعت جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية: "أنتم خير أهل الأرض"، وكنا ألفاً وأربعمائة، ولو كنت أبصر لأريتكم موضع الشجرة(4).
وفيه من حديث أم مبشر عند مسلم:
__________
(1) الإصابة 11/171.
(2) الإصابة: 11/171.
(3) شرح ثلاثيات مسند أحمد 2/733.
(4) صحيح البخاري مع الفتح، كتاب المغازي: 4154، وتقدم تخريجه برقم (20).(2/49)
(91) قال: حدثني هارون بن عبد الله حدثنا حجاج بن محمد قال: قال ابن جريج: أخبرني أبو الزبير أنه سمع جابر بن عبد الله يقول: أخبرتني أم مبشر أنها سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول عند حفصة: "لا يدخل النار إن شاء الله من أصحاب الشجرة أحد الذين بايعوا تحتها" قالت: بلى يا رسول الله: فانتهرها فقال: حفصة: {وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا}(1)، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: قد قال الله عز وجل: {ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوا وَّنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا}(2).(3)
وأخرجه أحمد(4) عن حجاج به مثله.
وأخرجه البيهقي(5) من طريق حجاج به مثله.
وأخرجه ابن ماجه من حديث حفصة رضي الله عنها:
__________
(1) سورة مريم الآية: 71.
(2) سورة مريم الآية: 72.
(3) صحيح مسلم، كتاب فضائل الصحابة: 163.
(4) مسند أحمد 6/240.
(5) دلائل النبوة 2، لوحة 231.(2/50)
(92) حدثنا أبو بكر(1) بن أبي شيبة ثنا معاوية(2) عن الأعمش(3) عن أبي سفيان(4) عن جابر(5) عن أم مبشر(6) عن حفصة(7) قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إني لأرجو ألا يدخل النار أحد إن شاء الله تعالى ممن شهد بدراً والحديبية".
قالت قلت: يا رسول الله أليس قد قال الله: {وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَّقْضِيًّا}(8)؟ قال: "ألم تسمعيه يقول: { ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوا وَّنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا}(9).(10)
وأخرجه أحمد(11) وأبو يعلى(12) وإسحاق(13) بن راهويه كلهم من طريق الأعمش به فذكروا نحوه.
__________
(1) هو: عبد الله بن محمد بن أبي شيبة إبراهيم بن عثمان الواسطي الأصل، أبو بكر بن أبي شيبة الكوفي، ثقة، حافظ، صاحب تصانيف، مات سنة خمس وثلاثين ومائتين: خ، م، د، س، ق. تقريب: 187.
(2) هو: شيبان بن عبد الرحمن النحوي.
(3) هو: سليمان بن مهران الأسدي الكاهلي أبو محمد الكوفي الأعمش، ثقة، حافظ عارف بالقراءة ورع لكنه يدلس، مات سنة سبع وأربعين ومائة، وكان مولده أول إحدى وستين سنة: ع. تقريب: 136.
(4) هو: طلحة بن نافع الواسطي أبو سفيان الإسكاف، نزل مكة، صدوق من الرابعة: ع. تقريب: 157.
(5) جابر بن عبد الله بن عمرو بن حرام بن عمرو بن حرام - بمهملة وراء - الأنصاري ثم السلمي - بفتحتين - صحابي ابن صحابي، غزا تسع عشرة غزوة، ومات بالمدينة بعد السبعين وهو ابن أربع وتسعين: ع. تقريب: 52.
(6) أم مبشر الأنصاري، امرأة زيد بن حارثة، يقال: اسمها جهينة بنت صيفي بن صخر، صحابية مشهورة: م، س، ق. تقريب: 476.
(7) حفصة بنت عمر بن الخطاب أم المؤمنين تزوجها النبي صلى الله عليه وسلم بعد خنيس بن حذافة سنة ثلاث، وماتت سنة خمس وأربعين: ع. تقريب: 467.
(8) سورة مريم آية: 71.
(9) سورة مريم آية: 72.
(10) سنن ابن ماجه، كتاب الزهد: 4281.
(11) مسند أحمد 3/285.
(12) مسند أبي يعلى 6، لوحة 642.
(13) مسند إسحاق ، لوحة: 232.(2/51)
وأخرجه ابن أبي عاصم(1) عن أبي بكر بن أبي شيبة به نحوه.
وأخرجه(2) أيضاً عن أبي بكر بن أبي شيبة وابن نمير، كلاهما عن عبد الله بن إدريس عن الأعمش به نحوه.
قال البوصيري(3): حديث حفصة صحيح رجاله ثقات، إن كان أبو سفيان سمع من جابر بن عبد الله.
قلت: كأنه يشير إلى الخلاف في سماع أبي سفيان من جابر:
فقد قال شعبة وابن عيينة: حديث أبي سفيان عن جابر إنما هو صحيفة(4) ا.هـ
وقال أبو خالد يزيد الدالاني: "لم يسمع أبو سفيان من جابر إلا أربعة أحاديث"(5) ا.هـ
لكن قد أثبت البخاري سماعه من جابر:
قال البخاري: نا مسدد عن أبي معاوية عن الأعمش عن أبي سفيان: جاورت جابراً بمكة ستة أشهر(6).
وقال البخاري أيضاً: قال علي: سمعت عبد الرحمن قال: قال لي هشيم: عن أبي العلاء أيوب قال: قال أبو سفيان: كنت أحفظ وكان سليمان اليشكري يكتب، يعني عن جابر(7) ا.هـ
فهذا البخاري قد أثبت سماع أبي سفيان من جابر بن عبد الله وبهذا يكون الحديث صحيحاً على رأي البوصيري.
وقال الألباني(8): "اسناده جيد على شرط مسلم".
قلت: نعم هذا الحديث صحيح، ولا يضره تدليس الأعمش(9) وأبي سفيان(10).
فقد قال ابن عدي(11) عن الأعمش: "أحاديثه عن أبي سفيان مستقيمة، وأيضاً فاصل الحديث ثابت في صحيح مسلم من حديث أم مبشر السابق".
وأخرجه أبو داود من حديث جابر بن عبد الله مختصراً:
__________
(1) كتاب السنة 2/414.
(2) المصدر السابق 2/415.
(3) مصباح الزجاجة، لوحة: 272.
(4) شرح علل الترمذي: 497.
(5) شرح علل الترمذي 497.
(6) التاريخ الكبير 2/2/346.
(7) المصدر السابق.
(8) ظلال الجنة في تخريج السنة 2/414 مع كتاب السنة لابن أبي عاصم.
(9) جامع التحصيل: 228.
(10) جامع التحصيل: 245.
(11) هدي الساري: 411.(2/52)
(93) قال: حدثنا قتيبة(1) بن سعيد ويزيد(2) بن خالد الرملي، أن الليث(3) حدثهم عن أبي الزبير(4) عن جابر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا يدخل النار أحد ممن بايع تحت الشجرة"(5).
وأخرجه الترمذي(6) عن قتيبة به فذكره بمثله.
وأخرجه أحمد(7) عن حجين(8) ويونس(9)، كلاهما عن الليث به مثله.
قال الترمذي:(10) هذا حديث حسن صحيح.
قلت: نعم هو حديث صحيح ولا تضره عنعنة أبي الزبير وإن كان مدلساً لأنه من رواية الليث بن سعد وقد أعلم له على ما سمعه من جابر.
__________
(1) قتيبة بن سعيد بن جميل - بفتح الجيم - ابن طريف الثقفي أبو رجاء البغلاني - بفتح الموحدة وسكون المعجمة - يقال اسمه يحيى، وقيل علي، ثقة ثبت، مات سنة أربعين ومائتين عن تسعين سنة: ع. تقريب: 281.
(2) يزيد بن خالد بن يزيد بن عبد الله بن موهب - بفتح الهاء - الرملي أبو خالد، ثقة عابد، مات سنة اثنتين وثلاثين ومائتين أو بعدها: د، س، ق. تقريب: 381.
(3) الليث بن سعد بن عبد الرحمن الفهمي أبو الحارث المصري، ثقة ثبت فقيه، إمام مشهور، مات في شعبان سنة خمس وسبعين ومائة: ع. تقريب: 287.
(4) هو محمد بن مسلم بن تدرس - بفتح المثناة وسكون الدال المهملة وضم الراء - الأسدي مولاهم أبو الزبير المكي، صدوق إلا أنه يدلس مات سنة ست وعشرين ومائة: ع. تقريب: 318.
(5) سنن أبي داود مع معالم السنن، كتاب السنة: 4653.
(6) سنن الترمذي، كتاب المناقب: 3860.
(7) مسند أحمد 3/350.
(8) حجين بن المثنى اليمامي، أبو عمير سكن بغداد، وولي قضاء خراسان، ثقة، مات سنة خمسين ومائتين أو بعدها: خ، م، د، ت، س. تقريب: 65، تهذيب التهذيب 2/216.
(9) يونس بن محمد بن مسلم البغدادي أبو محمد المؤدب، ثقة ثبت، مات سنة سبع ومائتين: ع. تقريب: 390.
(10) سنن الترمذي 5/695.(2/53)
قال العلائي: قال سعيد بن أبي مريم ثنا الليث بن سعد قال: "جئت أبا الزبير فدفع إليّ كتابين، فانقلبت بهما ثم قلت في نفسي لو أني عاودته فسألته أسمع هذا كله من جابر قال: سألته فقال: منه ما سمعت ومنه ما حدثت عنه، فقلت له: أعلم لي على ما سمعت منه، فأعلم لي على هذا الذي عندي"(1).
وقال العلائي تعقيباً على ذلك، ولهذا توقف جماعة من الأئمة عن الاحتجاج بما لم يروه الليث عن أبي الزبير(2).
ومن جملة ما ورد في فضلهم أيضاً ما ورد في قصة حاطب من حديث جابر عند مسلم:
(94) قال: حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا ليث ح. وحدثنا محمد بن رمح أخبرنا الليث عن أبي الزبير عن جابر أن عبداً لحاطب جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم يشكو حاطباً، فقال: "يا رسول الله ليدخلن حاطب النار، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم كذبت لا يدخلها فإنه شهد بدراً والحديبية"(3).
وأخرجه الترمذي(4) عن قتيبة به فذكره بمثله.
وأخرجه أحمد من طريق الليث(5) وابن جريج(6) كلاهما عن أبي الزبير عنه بمثله.
ومن طريق ابن جريج صرح أبو الزبير بالسماع من جابر.
ومما ورد في فضلهم أيضاً ما رواه الترمذي من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما:
__________
(1) جامع التحصيل: 126.
(2) المصدر السابق.
(3) صحيح مسلم، كتاب فضائل الصحابة: 162.
(4) سنن الترمذي، كتاب المناقب: 3864.
(5) مسند أحمد 3/349.
(6) مسند أحمد 3/325.(2/54)
(95) قال حدثنا محمود(1) بن غيلان حدثنا أزهر(2) السمان عن سليمان(3) التيمي عن خداش(4) عن أبي الزبير عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ليدخلن الجنة من بايع تحت الشجرة إلا صاحب الجمل الأحمر"(5).
وقال الترمذي: هذا حديث حسن غريب.
وأخرجه ابن أبي حاتم من طريق خداش مطولاً:
(96) قال: حدثنا محمد(6) بن هارون الفلاس المخرمي حدثنا سعيد(7) بن عمرو الأشعثي حدثنا محمد(8) بن ثابت العبدي عن خداش بن عياش عن أبي الزبير عن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يدخل من بايع تحت الشجرة كلهم الجنة، إلا صاحب الجمل الأحمر"، قال فانطلقنا نبتدره فإذا رجل قد أضل بعيره، فقلنا تعال فبايع، قال: أصيب بعيري أحب إلي من أن أبايع(9).
هذا الحديث بهذا اللفظ منكر، والمعروف ما روي من طريق قرة بن خالد عن أبي الزبير عند مسلم: "كلكم مغفور له إلا صاحب الجمل الأحمر"(10).
__________
(1) محمود بن غيلان العدوي مولاهم أبو أحمد المروزي، نزيل بغداد، ثقة، مات سنة تسع وثلاثين ومائتين، وقيل بعد ذلك: خ، م، ت، س، ق. تقريب: 330.
(2) أزهر بن سعد السمان، أبو بكر الباهلي، بصري ثقة، مات سنة ثلاث ومائتين وهو ابن أربع وتسعين: خ، م، د، ت، س. تقريب: 26.
(3) هو: سليمان بن طرخان التيمي.
(4) خداش بن عياش العبدي البصري، لين الحديث من السابعة: ت. تقريب: 92.
(5) سنن الترمذي، كتاب المناقب: 3863.
(6) محمد بن هارون أبو جعفر الفلاس المخرمي يلقب شيطا، قال ابن أبي حاتم: سمعت منه ببغداد وهو من الحفاظ الثقات، وقال الدارقطني: ثقة حافظ، مات سنة خمس وستين ومائتين. الجرح والتعديل 4/1/118، تاريخ بغداد 3/353.
(7) سعيد بن عمرو بن سهل الكندي الأشعثي أبو عثمان الكوفي، ثقة، مات سنة ثلاثين ومائتين: عس. تقريب: 124.
(8) محمد بن ثابت العبدي أبو عبد الله البصري، صدوق، لين الحديث، من الثانية: د، ق. تقريب: 292.
(9) تفسير ابن كثير 4/188.
(10) انظر الحديث: رقم (52).(2/55)
لأنه من طريق قرة بن خالد، وقد قال عنه ابن حجر: ثقة ضابط.
أما الحديث الآخر فهو من طريق خداش بن عياش، وقد ذكر الترمذي أنه لا يعرفه(1).
وقال ابن حجر: "لين الحديث، وإذا خالف الضعيف الثقة فحديثه الضعيف منكر"، قال ابن حجر: "فإن خولف الراوي بأرجح يقال له المحفوظ ومقابله يقال به الشاذ، وإن وقعت المخالفة مع الضعف فالراجح يقال له المعروف، ومقابله يقال له: المنكر"(2).
وفيه أيضاً من حديث أبي سعيد الخدري عند أحمد:
(97) قال: حدثنا يحيى(3) عن محمد(4) بن أبي يحيى قال: حدثني أبي(5) أن أبا سعيد حدثه أن النبي صلى الله عليه وسلم لما كان يوم الحديبية قال: "لا توقدوا ناراً بليل" فلما كان بعد ذلك قال: "أوقدوا واصطنعوا فإنه لا يدرك قوم بعدكم صاعكم ولا مدكم"(6).
وأخرجه ابن أبي شيبة(7) ومسدد(8) كلاهما عن يحيى به مثله.
وأخرجه النسائي(9) وأبو يعلى(10) كلاهما من طريق يحيى به نحوه إلا عند أبي يعلى "فلن يدرك قوم بعدكم بمدكم ولا بصاعكم".
__________
(1) تهذيب التهذيب 3/137.
(2) نخبة الفكر: 35 مع نزهة النظر.
(3) يحيى بن سعيد بن فروخ - بفتح الفاء وتشديد الراء المضمومة وسكون الواو ثم معجمة - التميم أبو سعيد القطان البصري، ثقة متقن، حافظ إمام قدوة، مات سنة ثمان وتسعين ومائة وله ثمان وسبعون سنة: ع. تقريب: 375.
(4) محمد بن أبي يحيى الأسلمي المدني واسم أبي يحيى سمعان، صدوق مات سنة سبع وأربعين ومائة: د، تم، س، ق. تقريب: 324.
(5) هو: سمعان أبو يحيى الأسلمي مولاهم المدني، لا بأس به من الثالثة: الأربعة. تقريب: 137.
(6) مسند أحمد 3/26.
(7) تاريخ ابن أبي شيبة، لوحة: 61.
(8) إتحاف الخيرة المهرة، القسم الثالث من الجزء الثالث، لوحة: 105.
(9) السنن الكبرى للنسائي، لوحة: 119.
(10) مسند أبي يعلى: 1، لوحة: 116.(2/56)
وأخرجه الحاكم من طريق يحيى به وقال: "صحيح الإسناد"(1) ووافقه الذهبي(2)، والألباني(3).
وذكر الهيثمي الحديث في مجمع الزوائد وعزاه لأحمد ثم قال: "ورجال ثقات"(4).
وحسنه ابن حجر(5)
قلت: هذا الإسناد حسن كما قال ابن حجر فأبو يحيى هو سمعان الأسلمي لم يوثقه غير ابن حبان، وقال النسائي لا بأس به(6).
وفيه من حديث مالك بن ربيعة السلولي عند الطبراني:
__________
(1) المستدرك 2/26.
(2) م، السابق حاشية.
(3) سلسلة الأحاديث الصحيحة 4/62.
(4) مجمع الزوائد 6/145.
(5) فتح الباري 7/443.
(6) تهذيب التهذيب 4/238.(2/57)
(98) قال: حدثنا محمد(1) بن الحسين بن مكرم ثنا يحيى(2) ابن محمد بن السكن ثنا إسحاق(3) بن إدريس ثنا يحيى(4) بن بريد ابن مالك بن ربيعة السلولي ثنا بريد(5) بن مالك بن ربيعة عن أبيه(6) أنه شهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الشجرة ويوم الهدي معكوفاً قبل أن يبلغ محله، وأن رجلاً من المشركين قال: يا محمد ما يحملك على أن تدخل علينا هؤلاء ونحن لهم كارهون، قال: "هؤلاء خير منك ومن أجدادك يؤمنون بالله واليوم الآخر والذي نفسي بيده لقد رضي الله عنهم"(7).
__________
(1) محمد بن الحسين بن مكرم أبو بكر البغدادي ثم البصري، قال إبراهيم بن فهد ما قدم علينا بغداد أعلم بالحديث من ابن مكرم، وسئل الدارقطني عنه فقال: ثقة، مات بالبصرة في ذي القعدة سنة تسع وثلاثمائة. تاريخ بغداد 2/233، تذكرة الحفاظ 2/735.
(2) يحيى بن محمد بن السكن بن حبيب القرشي البزاز، البصري نزيل بغداد، صدوق، مات بعد الخمسين ومائتين: ح، د، س. تقريب: 379.
(3) إسحاق بن إدريس الأسواري البصري، أبو يعقوب، قال البخاري: تركه الناس، قال أبو حاتم: ضعيف، وقال تركه علي بن المديني وسئل عنه أبو زرعة فقال: واهي الحديث ضعيف الحديث، روى عن سويد بن إبراهيم وأبي معاوية أحاديث منكرة، وقال ابن معين: كذاب يضع الحديث. التاريخ الكبير 1/1/382، الجرح والتعديل 1/1/213، ميزان الاعتدال 1/184.
(4) يحيى بن بريد بن مالك بن ربيعة السلولي، سمع منه إسحاق بن إدريس، روى عن بريد بن مالك بن ربيعة عن أبيه: أنه شهد مع النبي صلى الله عليه وسلم يوم الشجرة في التفسير. التاريخ الكبير 2/4/264.
(5) بريد بن أبي مريم بن مالك بن ربيعة السلولي - بفتح المهلمة - البصري، ثقة من الرابعة: بخ، الأربعة: تقريب: 43.
(6) مالك بن ربيعة أبو مريم السلولي صحابي دعا له النبي صلى الله عليه وسلم: س. تقريب: 326.
(7) مجمع البحرين بزوائد المعجمين 2، لوحة: 241.(2/58)
وذكره في مجمع الزوائد(1) وقال: رواه الطبراني في الكبير والأوسط وفيه إسحاق بن إدريس وهو متروك.
قلت: بل وصف ابن معين إسحاق هذا بالكذب والوضع، فهذا الإسناد ضعيف جداً.
وقد شمل فضل هذه البيعة عثمان بن عفان رضي الله عنه مع أنه كان غائباً عنها، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد بايع له بإحدى يديه:
(99) قال الترمذي: حدثنا أبو زرعة(2): حدثنا الحسن(3) بن بشر حدثنا الحكم(4) بن عبد الملك عن قتادة عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: "لما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بيعة الرضوان، وكان عثمان بن عفان رضي الله عنه رسولُ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم إلى أهل مكة، فبايع الناس، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اللهم إن عثمان في حاجة الله تعالى وحاجة رسوله صلى الله عليه وسلم فضرب بإحدى يديه على الأخرى، فكانت يد رسول الله صلى الله عليه وسلم لعثمان خير من أيديهم لأنفسهم"(5).
قال الترمذي هذا حديث حسن صحيح.
قلت: هذا الإسناد في الحكم بن عبد الملك ضعفه ابن معين وغيره.
وقال ابن عدي: الأحاديث التي أمليتها للحكم عن قتادة منه ما يتابعه عليه الثقات، ومنه لا يتابعه(6) ا.هـ
وهذا الحديث مما تابعه عليه الثقات، فأصل الحديث ثابت من حديث ابن عمر عند البخاري، ومن حديث أبي سلمة عند أحمد:
__________
(1) مجمع الزوائد 6/145.
(2) هو: عبد الله بن عبد الكريم بن يزيد بن فروخ أبو زرعة الرازي إمام حافظ ثقة مشهور، مات سنة أربع وستين بعد المائتين، وله أربع وستون سنة: م، ت، س، ق. تقريب: 226.
(3) الحسن بن بشر بن سلم - بفتح المهلمة وسكون اللام الهمداني أو البجلي أبو علي الكوفي، صدوق يخطئ، مات سنة إحدى وعشرين بعد المائتين: خ، ت، س. تقريب: 68.
(4) الحكم بن عبد الملك القرشي، البصري نزيل الكوفة، ضعيف من السابعة: بخ، ت/ ص/ ق. تقريب: 80.
(5) سنن الترمذي، كتاب المناقب: 3702.
(6) تهذيب التهذيب 2/431.(2/59)
(100) قال البخاري: حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا أبو عوانة حدثنا عثمان - هو ابن وهب - قال: "جاء رجل من أهل مصر وحج البيت، فرأى قوم جلوساً فقال: من هؤلاء القوم؟ فقالوا: هؤلاء قريش، قال: فمن الشيخ فيهم؟ قالوا: عبد الله بن عمر، قال: يا ابن عمر إن سائلك عن شيء فحدثني عنه: هل تعلم أن عثمان فرّ يوم أحد؟ قال: نعم، فقال: تعلم أنه تغيب عن بدر ولم يشهد؟ قال: نعم، قال الرجل: هل تعلم أنه تغيب عن بيعة الرضوان فلم يشهدها؟ قال: نعم، قال: الله أكبر، قال ابن عمر: تعال أبين لك، أما فراره يوم أحد فأشهد أن الله قد عفا عنه وغفر له، وأما تغيبه عن بدر فإنه كان تحته بنت(1) رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانت مريضة، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن لك أجر رجل ممن شهد بدراً وسهمه، وأما تغيبه عن بيعة الرضوان فلو كان أحد أعز من عثمان ببطن مكة، لبعثه مكانه، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عثمان. وكانت بيعة الرضوان بعد ما ذهب عثمان إلى مكة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده اليمنى: "هذه يد عثمان فضرب بها على يده فقال: هذه لعثمان"، فقال له ابن عمر: اذهب بها الآن معك(2).
__________
(1) هي: رقية رضي الله عنها. الإصابة 6/392.
(2) صحيح البخاري مع الفتح، كتاب فضائل الصحابة: 3698.(2/60)
(101) وقال أحمد: حدثنا أبو قطن(1) ثنا يونس(2) - يعني ابن أبي إسحاق عن أبيه(3) عن أبي(4) سلمة بن عبد الرحمن قال: أشرف عثمان رضي الله عنه من القصر وهو محصور، فقال: أنشد بالله من شهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حراء(5) إذ اهتز الجبل فركله بقدمه ثم قال: اسكن حراء ليس عليك إلا نبي أو صديق أو شهيد وأنا معه فانتشد له رجال، قال: أنشد بالله من شهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بيعة الرضوان إذ بعثني إلى المشركين إلى أهل مكة قال: "هذي يدي وهذه يد عثمان رضي الله عنه فبايع لي فانتشد له رجال"(6) الحديث.
سند هذا الحديث صحيح رجاله على شرط مسلم.
الفصلُ الرابعُ في صلحِ الحديبيةِ
وتحتَه ستّة مباحث:
المبحث الأول: ... أسباب الصلح ومقدماته.
المبحث الثاني: ... الشروط التي تم عليها الصلح.
المبحث الثالث: ... كاتب الصلح وشهوده.
المبحث الرابع: ... تألم عمر وبعض الصحابة من شروط قريش.
المبحث الخامس: ... موقف المسلمين من الصلح.
المبحث السادس: ... موقف قريش من الصلح.
المبحث الأول: أسباب الصلح ومقدماته:
__________
(1) هو: عمرو بن الهيثم بن قطن - بفتح القاف والمهملة - القطعي - بضم القاف وفتح المهملة - أبو قطن البصري، ثقة مات على رأس المائتين: بخ، م، الأربعة. تقريب: 263.
(2) يونس بن أبي إسحاق السبيعي أبو إسرائيل الكوفي صدوق يهم قليلاً، مات سنة اثنتين وخمسين بعد المائة على الصحيح: ز، م، الأربعة. تقريب: 390.
(3) هو: عمرو بن عبد الله السبيعي.
(4) أبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف الزهري المدني، قيل: اسمه عبد الله، وقيل: إسماعيل، ثقة مكثر، مات سنة أربع وتسعين، وكان مولده سنة بضع وعشرين /ع/. تقريب: 409.
(5) حراء: بالكسر والتخفيف والمد: جبل من جبال مكة على ثلاثة أميال وهو معروف ومنهم من يؤنثه فلا يصرفه. معجم البلدان 2/233.
(6) مسند أحمد 1/59.(2/61)
إننا حين نستعرض الأحداث والملابسات التي سبقت الصلح ووطّأت ذلك التوتر الناجم عن شوق المسلمين إلى البيت من جانب، وعن حمية قريش وحنقها على المسلمين من جانب آخر - حين نستعرض تلك الأحداث والملابسات نجد أن داعي الصلح وسببه قاسم مشترك بين الفريقين، فقد عرضت للمسلمين أحداث وطنت نفوسهم لقبول الصلح، كما عرضت للمشركين أحداث أخرى وملابسات ألجأتهم لقبول الصلح والرضا به.
(أ) السبب في ميل المسلمين إلى الصلح:
خرج المسلمون من المدينة وهم أشد ما يكونون شوقاً إلى البيت الحرام، ولقد كانوا عازمين على دخول مكة، وأداء نسكهم مهما كلفهم ذلك من ثمن، وفي الوقت نفسه كانوا حاسبين حساب قريش - لما كانوا يعلمونه من عدائها لهم وحنقها عليهم - ولذلك أخذوا أهبتهم لاجتياح كل ما من شانه أن يعوق طريق سيرهم، ولقد تجلى موقفهم بوضوح عندما أتاهم نبأ قريش وإعدادها لصدهم، فقد جاء في حديث المسور ومروان ما نصه: "حتى إذا كان بغدير الأشطاط أتاه عينه قال: إن قريشاً جمعوا لك جموعاً وقد جمعوا لك الأحابيش وهم مقاتلوك وصادوك عن البيت ومانعوك. فقال: أشيروا أيها الناس علي أترون أن أميل إلى عيالهم وذراري هؤلاء الذي يريدون أن يصدونا عن البيت فإن يأتوا كان الله عز وجل قد قطع عيناً من المشركين وإلا تركناهم محروبين؟ فقال أبو بكر: يا رسول الله خرجت عامداً لهذا البيت لا تريد قتل أحد ولا حرب أحد فتوجه له فمن صدنا عنه قاتلناه قال: فامضوا على اسم الله"(1).
نلاحظ من خلال هذا النص حدة موقف المسلمين فرسول الله صلى الله عليه وسلم يستشير أصحابه في الإغارة على أهالي أولئك الذين قاموا بتعزيز جانب قريش ثم يستقر رأيهم أخيراً على قتال كل من حاول صدهم عن البيت.
__________
(1) صحيح البخاري مع الفتح، كتاب المغازي: 4178 - 4179، وتقدم تخريحه برقم (35).(2/62)
كان هذا موقف المسلمين الذي استقر عليه رأيهم بعد المشورة، لكن رأينا بعد ذلك تصريحاً من رسول الله صلى الله عليه وسلم يباين ذلك الموقف تماماً.
يقول صلى الله عليه وسلم: "والذي نفسي بيده لا يسألوني خطة يعظمون فيها حرمات الله إلا أعطيتهم إياها...".
بالمقارنة بين هذا النص والنص السابق نرى الفارق بينهما، ذلك أن النص السابق يشعر بالحزم والصرامة، أما الأخير فيوحي باللين والتسامح إلى حد بعيد.
فما الذي حول الموقف السابق يا ترى؟
هذه العبارة التي صدرت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم تحمل في غضونها السماحة واللين سبقها في الحديث ما نصه: "حتى إذا كان بالثنية التي يهبط عليهم منها بركت به راحلته فقال الناس: حل، حل، فألحت، فقالوا: خلأت القصواء، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "ما خلأت القصواء وما ذاك لها بخلق، ولكن حبسها حابس الفيل عن مكة، ثم قال: والذي نفسي بيده لا يسألوني خطة..."(1) الخ.
فهذا النص يفسر لنا الحامل لرسول الله صلى الله عليه وسلم على ذلك التصريح الذي حول موقفه الأول، فما الذي جاء في هذا النص؟
جاء فيه حادثة بروك ناقته صلى الله عليه وسلم، وإذن فبروك الناقة هو السبب في تحويل موقفه، ولا أعني ببروك ناقته البروك ذاته لكن أقصد ما وراء البروك وهو ما عبر عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: "ولكن حبسها حابس الفيل عن مكة...".
والذي حبس الفيل عن مكة هو الله سبحانه، وإذن فالله هو الذي حبس ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديبية ليقضي الله أمراًً كان مفعولاً.
وحين أدرك رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك الأمر أصدر التصريح الذي غير به موقفه الأول إلى ذلك الموقف السمح المتجاوب، فكان له الأثر الفعال في نجاح الصلح حيث كان الجانب الإيجابي في مقابل سلبيات قريش.
(ب) السبب في انصياع قريش للصلح:
__________
(1) صحيح البخاري مع الفتح، كتاب الصلح: 2731 - 2732 وتقدم سنده مع طرف من أوله برقم (35).(2/63)
أما السبب الذي ألجأ قريشاً لقبول الصلح والرضا به، فيرجع إلى بيعة الصحابة لرسول الله صلى الله عليه وسلم مع ملابسات أخرى، وتوضيح ذلك:
لما هب الصحابة رضوان الله عليهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فبايعوه على القتال حتى يفتح الله عليهم أو يموتوا كان قد حضر ذلك المشهد بعض رسل قريش، فأذهلهم الأمر ثم نقلوا تلك الصورة إلى قومهم، فأحدثت في أنفسهم هزة عنيفة جعلت منهم آذاناً صاغية لقبول الصلح، فقد جاء في مرسل عروة بن الزبير عند البيهقي ما نصه: "ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى البيعة ونادى منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا إن روح القدس قد نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمر بالبيعة فاخرجوا على اسم الله، فبايعوا فثاب المسلمون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو تحت الشجرة، فبايعوه على ألا يفروا أبداً ، فرعبهم الله فأرسلوا من كانوا ارتهنوا من المسلمين، ودعوا إلى الموادعة والصلح"(1).
فهذا النص يبرز لنا مدى تأثير البيعة في نفوس المشركين.
وقد عزز أثر تلك البيعة ملابسات أخرى من قبل رسل المشركين أنفسهم:
فعروة بن مسعود حين رجع إلى قريش عظم لهم شأن رسول الله صلى الله عليه وسلم وذكره لهم من أفعال الصحابة ما يبرهن على أنهم لن يسلموا رسول الله صلى الله عليه وسلم لشيء أبداً وأنهم سيبذلون نفوسهم دونه، ثم نصح قريشاً بقبول الهدنة، وأن يخلوا بين المسلمين وما جاءوا له.
فقد جاء في حديث المسور ومروان من رواية معمر ما نصه:
__________
(1) دلائل النبوة 2، لوحة 228، وتقدم الكلام على سنده، انظر حديث رقم (65).(2/64)
"فرجع عروة إلى أصحابه فقال أي قوم والله لقد وفدت على قيصر وكسرى والنجاشي والله إن رأيت ملكاً قط يعظمه أصحابة ما يعظم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم محمداً، والله إن يتنخم نخامة إلى وقعت في كف رجل منهم، فدلك بها وجهه وجلده، وإذا أمرهم ابتدروا أمره، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه، وإذا تكلموا خفضوا أصواتهم عند، وما يحدون إليه النظر تعظيماً له، وأنه قد عرض عليكم خطة رشد فاقبلوها"(1).
وجاء في حديثهما من طريق ابن إسحاق نحو ما تقدم في رواية معمر وزاد: "ولقد رأيت قوماً لا يسلمونه لشيء فروا رأيكم..."(2).
وعروة بن مسعود له منزلته وشهرته في أوساطهم، حتى قال أكثر المفسرين المراد بالآية: {وَقَالُوا لَوْلاَ نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ }(3) الوليد بن المغيرة أو عروة بن مسعود(4).
لذلك كان لكلامه وقعة في نفوسهم وقد أشار إلى ذلك مرسل عروة بن الزبير عند ابن أبي شيبة فقد جاء فيه ما نصه: "فلما سمعوا مقالته أرسلوا إليه سهيل بن عمرو ومكرز بن حفص فقالوا: "انطلقوا إلى محمد فإن أعطاكم ما ذكر عروة فقاضياه..."(5).
وقال ابن حجر عن عروة بن مسعود: "وكانت له اليد الطولى في تقرير الصلح"(6).
وكان من بين رسل قريش الذين شنعوا عليها تلك الغطرسة أيضاً:
__________
(1) صحيح البخاري مع الفتح، كتاب الصلح 2731 - 2732، وتقدم سنده مع طرف من أوله برقم (35).
(2) مسند أحمد 4/324، وتقدم سنده مع طرف من أوله برقم (36).
(3) سورة الزخرف الآية: 31.
(4) تفسير ابن كثير 4/126 - 127.
(5) تقدم ص:
(6) الإصابة 6/416.(2/65)
الحليس بن علقمة: فقد جاء خبره في حديث المسور ومروان من طريق ابن إسحاق قال: "فبعثوا الحليس بن علقمة الكناني وهو يومئذ سيد الأحابيش، فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: هذا من قوم يتألهون، فابعثوا الهدي في وجهه، فبعثوا الهدي، فلما رآه يسيل من عرض الوادي في قلائده قد أكل أوباره من طول الحبس عن محله، رجع ولم يصل إلى النبي صلى الله عليه وسلم إعظاماً لما رأى فقال: يا معشر قريش قد رأيت مالا يحل صده عن البيت ، الهدي في قلائده قد أكل أوباره من طول الحبس عن محله، فقالوا: اجلس إنما أنت أعرابي لا علم لك..."(1).
وقد روى ابن جرير عن عبد الله بن أبي بكر: "أن الحليس غضب عند ذلك، وقال: يا معشر قريش والله ما على هذا حالفناكم ولا على هذا عاقدناكم أن تصدوا عن بيت الله من جاء معظماً له، والذي نفس الحليس بيده لتخلن بين محمد وبين ما جاء له أو لأنفرن بالأحابيش نفرة رجل واحد، قال: فقالوا: مه، كف عنا يا حليس حتى نأخذ لأنفسنا ما نرضى به"(2).
فهذا الموقف من رسل قريش معها - إلى جانب ما أحدثته البيعة في نفوسها من ذعر - كان السبب في انصياعها وقبولها الصلح.
المبحث الثاني: الشروط التي تم عليها الصلح:
كانت قريش قد ألجأت إلى الصلح إلجاء لأنها لا تريد أن تعترف بالمسلمين كندٍ لها يواقفونها جنباً إلى جنب، فيتحدث الناس بذلك عنها.
أما رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان يهدف من وراء الصلح إلى تحقيق مصالح للدعوة بعيداً عن السمعة والأغراض الشخصية.
وما كانت تلك الشروط التي وقع عليها الصلح إلا صورة عاكسة لذينك الموقفين.
فقد جاء في حديث المسور ومروان من طريق معمر ما نصه:
__________
(1) مسند أحمد 4/324، وتقدم طرف من أوله مع سنده برقم (36).
(2) تاريخ ابن جرير الطبري 2/75، وتقدم سنده والكلام عليه برقم (72).(2/66)
"فجاء سهيل بن عمرو فقال هات اكتب بيننا وبينكم كتاباً، فدعا النبي صلى الله عليه وسلم الكاتب فقال النبي صلى الله عليه وسلم: بسم الله الرحمن الرحيم، فقال سهيل: أما (الرحمن) فوالله ما أدري ما هي، ولكن اكتب (باسمك اللهم) كما كنت تكتب، فقال المسلمون: والله لا نكتبها إلا (بسم الله الرحمن الرحيم) فقال النبي صلى الله عليه وسلم: اكتب (باسمك اللهم)، ثم قال: هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله، فقال سهيل: والله لو كنا نعلم أنك رسول الله ما صددناك عن البيت ولا قاتلناك ولكن اكتب: (محمد بن عبد الله)، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: والله إني لرسول الله وإن كذبتموني اكتب (محمد بن عبد الله) قال: الزهري، وذلك لقوله: "لا يسألونني خطة يعظمون فيها حرمات الله إلا أعطيتهم إياها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: على أن تخلوا بيننا وبين البيت فنطوف به، فقال سهيل: والله لا تتحدث العرب إنا أخذنا ضغطة(1)، ولكن ذلك من العام المقبل، فكتب فقال سهيل: وعلى أنه لا يأتيك منا رجل - وإن كان على دينك - إلا رددته إلينا، قال المسلمون: سبحان الله كيف يرد إلى المشركين وقد جاء مسلماً؟ فبينما هم كذلك إذ دخل أبو جندل بن سهيل بن عمرو يرسف(2) في قيوده وقد خرج من أسفل مكة حتى رمى بنفسه بين أظهر المسلمين، فقال سهيل: هذا يا محمد أول من أقاضيك عليه أن ترده إلي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إنا لم نقض الكتاب بعد، فقال: والله إذا لم أصالحك على شيء أبداً، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: فأجزه(3) لي، فقال: ما أنا بمجيزه لك، قال: بلى فافعل، قال: ما أنا
__________
(1) ضغطه: أي عصراً وقهراً، يقال: أخذت فلاناً ضغطة بالضم إذا ضيقت عليه لتكرهه على الشي. النهاية 3/90.
(2) يرسف: الرسف والرسيف، مشي المقيد إذا جاء يتحامل برجله مع القيد. النهاية 2/222.
(3) أجزه لي: بصيغة الأمر من الإجازة أي أمض لي فعلي فيه، فلا أرده إليك أو استثنيه من القضية. فتح الباري 5/345.(2/67)
بفاعل، قال مكرز: بل قد أجزناه لك..." (1).
وفي حديثهما من طريق ابن إسحاق: بعد أن ذكر الخلاف حول كتابه "بسم الله الرحمن الرحيم" و "محمد رسول الله" قال: فقال سهيل: ولو شهدت أنك رسول الله لم أقاتلك ولكن اكتب هذا ما اصطلح عليه محمد بن عبد الله وسهيل بن عمرو على وضع الحرب عشر سنين يأمن فيها الناس، ويكف بعضهم عن بعض، على أنه من أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم من أصحابه بغير إذن وليه رده عليهم، ومن أتى قريشاً ممن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يردوه عليه وأن بيننا عيبة مكفوفة(2)، وأنه لا إسلال ولا إغلال(3)، وكان في شرطهم حين كتبوا الكتاب أنه من أحب أن يدخل في عقد محمد وعهده دخل فيه، ومن أحب أن يدخل في عقد قريش وعهدهم دخل فيه فتواثبت خزاعة فقالوا: نحن مع عقد رسول الله صلى الله عليه وسلم وعهده، وتواثبت بنو بكر فقالوا: نحن في عقد قريش وعهدهم، وأنك ترجع عنا عامك هذا فلا تدخل علينا مكة، وأنه إذا كان عام قابل خرجنا عنك فتدخلها بأصحابك وأقمت فيهم ثلاثاً معك سلاح الراكب لا تدخلها بغير السيوف في القرب(4).(5)
__________
(1) صحيح البخاري مع الفتح، كتاب الشروط 2731 - 2732، وتقدم سنده وتخريجه حديث رقم (35).
(2) عيبة مكفوفة: العيبة مستودع الثياب، والمكفوفة: المشرجة المشدودة: أي بينهم صدر نقي من الغل والخداع مطوي على الوفاء بالصلح.
وقيل: أراد بينهم موادعة، ومكامة عن الحرب تجريان مجرى المودة التي تكون بين المتصافين الذين يثق بعضهم ببعض. النهاية 3/327.
(3) لا إسلال ولا إغلال: الإسلال: السرقة الخفية، وقيل سل السيوف، والإغلال: الخيانة أو السرقة الخفية. وقيل لبس الدروع. النهاية 2/392، 3/380.
(4) القرب: جمع قراب، وهو غمد السيف. ترتيب القاموي 3/529.
(5) مسند أحمد 4/325، وتقدم سنده مع طرف من أوله برقم (36).(2/68)
وأخرجه أبو داود من طريق ابن إسحاق به مختصراً ذكر فيه بعض الشروط ولفظه: "أنهم اصطلحوا على وضع الحرب عشر سنين يأمن فيهن الناس، وعلى أن بيننا عيبة مكفوفة، وأنه لا إسلال ولا إغلال(1).
وفي مرسل عروة الذي أخرجه ابن أبي شيبة عن أبي أسامة: ذكر نحو رواية ابن إسحاق وبين فيه أبو أسامه معنى العيبة المكفوفة، والإسلال والإغلال، فقد جاء فيه ما نصه: "وكان في شرطهم أن بيننا للعيبة المكفوفة، وأنه لا إسلال ولا إغلال، قال أبو أسامة: الإغلال الدروع، والإسلال السيوف، ويعني بالعيبة المكفوفة أصحابه يكفهم عنه - وأنه من أتاكم منا رددتموه علينا، ومن أتانا منكم لم نردده عليكم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ومن دخل معي فله مثل شرطي، فقالت قريش، ومن معنا فهو منا له مثل شرطنا، فقالت بنو كعب: نحن معك يا رسول الله، وقالت بنو بكر: نحن مع قريش..."(2).
وقد وردت أحاديث أخرى ببعض تلك الشروط:
فمنها حديث البراء رضي الله عنه:
__________
(1) سنن أبي داود مع معالم السنن، كتاب الجهاد: 2766.
(2) تاريخ ابن أبي شيبة، لوحة: 56، وتقدم سنده مع طرف من أوله برقم (11).(2/69)
(102) قال البخاري: حدثنا عبيد الله بن موسى عن إسرائيل عن أبي إسحاق عن البراء رضي الله عنه قال: "اعتمر النبي صلى الله عليه وسلم في ذي القعدة فأبى أهل مكة أن يدعوه يدخل مكة حتى قاضاهم على أن يقيم بها ثلاثة أيام فلما كتبوا الكتاب، كتبوا هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: لا نقر بها، فلو نعلم أنك رسول الله ما منعناك، لكن أنت محمد بن عبد الله ثم قال لعلي: امح رسول الله، قال: لا والله لا أمحوك أبداً، فأخذ رسول الله الكتاب، فكتب(1)، هذا ما قاضى عليه محمد بن عبد الله لا يدخل مكة سلاح إلا في القراب، وأن لا يخرج من أهلها بأحد إن أراد أن يتبعه، وأن لا يمنع أحداً من أصحابه أراد أن يقيم بها، فلما دخلها ومضى الأجل أتوا علياً فقالوا: قل لصاحبك أخرج عنا فقد مضى الأجل، فخرج النبي صلى الله عليه وسلم فتبعته ابنة حمزة..." (2).
وأخرجه في المغازي(3) بنفس السند، وفي: "فأخذ الكتاب - وليس يحسن يكتب - فكتب: ...".
ومنها حديث ابن عمر رضي الله عنهما:
(103) قال البخاري: حدثنا محمد بن رافع حدثنا سريج بن النعمان حدثنا فليح عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج معتمراً فحال كفار قريش بينه وبين البيت، فنحر هديه وحلق رأسه بالحديبية، وقاضاهم على أن يعتمر من العام المقبل، ولا يحمل سلاحاً إلا سيوفاً ولا يقيم بها إلا ما أحبوا، فاعتمر من العام المقبل، فدخلها كما كان صالحهم، فلما أقام بها ثلاثاً أمروه أن يخرج، فخرج"(4).
__________
(1) هل كتب النبي صلى الله عليه وسلم فعلاً أو هو من قبيل المجاز؟ انظر ص:
(2) صحيح البخاري مع الفتح، كتاب الصلح: 2699.
(3) صحيح البخاري مع الفتح، كتاب المغاوي: 4251، وتقدم تخريجة برقم (9).
(4) صحيح البخاري مع الفتح، كتاب الصلح: 2701.(2/70)
وأخرجه(1) في المغازي عن محمد بن رافع بهذا السند وعن محمد بن الحسين بن إبراهيم عن أبيه عن فليح به.
ومنها أيضاً حديث أنس رضي الله عنه:
(104) قال مسلم: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا عفان حدثنا حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس أن قريشاً صالحوا النبي صلى الله عليه وسلم فيهم سهيل بن عمرو، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لعلي: (اكتب بسم الله الرحمن الرحيم) قال سهيل: أما بسم الله فما ندري ما (بسم الله الرحمن الرحيم)؟ ولكن اكتب ما نعرف باسمك اللهم، فقال: أكتب (محمد رسول الله) قالوا: لو نعلم أنك رسول الله لاتبعناك ولكن اكتب اسمك واسم أبيك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: اكتب (من محمد بن عبد الله) فاشترطوا على النبي صلى الله عليه وسلم أن من جاء منكم لم نرده عليكم، ومن جاءكم منا رددتموه علينا. فقالوا: يا رسول الله تكتب هذا؟ قال: نعم، إنه من ذهب منا إليهم فأبعده الله، ومن جاءنا منهم سيجعل الله له فرجاً ومخرجاً" (2).
وأخرجه أحمد(3) عن عفان به مثله، إلا أنه لم يذكر في آخره: "ومن جاءنا منهم...".
ملخص الشروط التي وقع عليها صلح الحديبية:
(1) أن يرجع المسلمون ذلك العام ولا يصلوا إلى مكة.
(2) يقضون عمرتهم من العام المقبل ويقيمون بمكة ثلاثة أيام.
(3) لا يدخلون مكة بسلاح إلا سلاح الراكب، السيوف في القرب.
(4) من جاء النبي صلى الله عليه وسلم من قريش بغير إذن وليه يرده عليهم، ومن جاء قريشاً من المسلمين لا ترده إليهم.
(5) من أراد أن يدخل في عقد النبي صلى الله عليه وسلم وعهده دخل فيه، وله مثل شرطه، ومن أراد أن يدخل في عقد قريش وعهدها دخل فيه، وله مثل شرطها.
(6) أن بينهم عيبة مكفوفة.
(7) أنه لا إسلال ولا إغلال.
(8) توضع الحرب بينهم عشر سنين.
__________
(1) صحيح البخاري مع الفتح، كتاب المغازي: 4252.
(2) صحيح مسلم، كتاب الجهاد: 93.
(3) مسند أحمد 3/268.(2/71)
وهذا التحديد بعشر سنين ورد في حديث المسور ومروان من طريق ابن إسحاق وإسناده حسن(1).
وقد جاء في حديث ابن عمر عند ابن عدي وغيره أن مدة الهدنة كانت أربع سنين.
(105) قال ابن عدي: أخبرنا القاسم(2) بن مهدي قال: ثنا يعقوب(3) بن كاسب قال: ثنا عبد الله بن نافع(4) عن عاصم(5) بن عمر عن عبد الله(6) بن دينار عن ابن عمر قال: كانت الهدنة بين النبي صلى الله عليه وسلم وأهل مكة عام الحديبية أربع سنين(7).
وأخرجه الطبراني(8) من طريق عبد الله بن نافع بع نحوه.
وذكره الهيثمي في المجمع وقال: رواه الطبراني في الأوسط، ورجاله ثقات(9).
وقال ابن حجر: سندع ضعيف، وهو منكر مخالف للصحيح(10).
قلت: هو كما قال ابن حجر منكر لأن مداره على عاصم بن عمر وقد قال البخاري: منكر الحديث وضعفه غير واحد(11)، وقد خالف حديثه هذا ما ثبت في رواية ابن إسحاق.
المبحث الثالث: كاتب الصلح وشهوده:
أ - كاتب الصلح:
__________
(1) انظر الكلام على سنده حديث رقم (36).
(2) القاسم بن عبد الله بن مهدي الأخميمي الحافظ، من شيوخ ابن عدي ضعيف، وقال ابن عدي: كان بعض شيوخ مصر يضعفه، وكان رواية للحديث جماعاً له، وهو عندي لا بأس به، وقال الدارقطني: متهم بالوضع، توفي سنة أربعين وثلاثمائة. ميزان الاعتدال 3/372، لسان الميزان 4/461.
(3) يعقوب بن حميد بن كاسب المدني نزيل مكة، وقد ينسب لجده، صدوق ربما وهم، مات سنة أربعين أو إحدى وأربعين ومائتين: عخ، ق. تقريب: 386.
(4) هو: الصائغ.
(5) عاصم بن عمر بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب العمري، أبو عمر المدني ضعيف من السابعة: ت، ق. تقريب: 159.
(6) عبد الله بن دينار العدوي مولاهم أبو عبد الرحمن المدني، مولى ابن عمر، ثقة، مات سنة سبع وعشرين ومائة: ع. تقريب: 172.
(7) الكامل لابن عدي 2،2، لوحة: 190.
(8) مجمع البحرين 2، لوحة: 241.
(9) مجمع الزوائد 6/146.
(10) فتح الباري 5/343.
(11) انظر: تهذيب التهذيب 5/51.(2/72)
كان الذي كتب عقد الصلح بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين مشركي قريش يوم الحديبية هو علي بن أبي طالب، كما ثبت في الأحاديث والآثار التالية.
(106) قال عبد الرزاق: عن عكرمة(1) بن عمار قال: أخبرنا أبو زميل(2) سماك الحنفي أنه سمع ابن عباس يقول: كاتب الكتاب يوم الحديبية علي بن أبي طالب(3).
الحديث صحيح بهذا الإسناد، فعكرمة بن عمار وأبو زميل ثقتان أخرج لهما مسلم.
(107) وقال عبد الرزاق: أخبرنا معمر(4) قال: سألت عنه الزهري فضحك وقال: هو علي بن أبي طالب، ولو سألت عنه هؤلاء قالوا: عثمان بن عفان يعني بني أمية(5).
هذا الأثر أرسله الزهري، لكن يشهد هل حديث ابن عباس السابق وغيره.
__________
(1) عكرمة بن عمار العجلي أبو عمار اليمامي، أصله من البصرة صدوق يغلظ، وفي روايته عن يحيى بن أبي كثير اضطراب، ولم يكن له كتاب، مات سنة تسعو وخمسين ومائة: خت، م، الأربعة. تقريب: 242، تهذيب التهذيب 7/261.
(2) سماك بن الوليد الحنفي أبو زميل - بالزاي مصغراً - اليمامي ثم الكوفي ليس به بأس، من الثالثة: بخ، م، الأربعة. تقريب: 137.
(3) المصنف لعبد الرزاق 5/343.
(4) معمر بن راشد الأزدي مولاهم أبو عروة البصري نزيل اليمن، ثقة ثبت فاضل إلا أن في روايته عن ثابت والأعمش وهشام بن عروة شيئاً، وكذا فيما حدث به بالبصرة، مات سنة أربع وخمسين ومائة، وهو ابن ثمان وخمسين: ع. تقريب:344.
(5) المصنف لعبد الرزاق 5/343.(2/73)
(108) وقال ابن جرير: حدثنا ابن حميد(1) قال: حدثنا سلمة(2) عن محمد بن إسحاق عن بريدة(3) بن سفيان بن فروة الأسلمي عن محمد(4) بن كعب القرظي عن علقمة(5) بن قيس النخعي عن علي(6) بن أبي طالب رضي الله عنه قال: دعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: اكتب "بسم الله الرحمن الرحيم" فقال سهيل: لا أعرف هذا... (7) الحديث.
سند هذا الحديث ضعيف جداً؛ لأن فيه ابن حميد (هو محمد) بن حميد الرازي، قال الذهبي: منكر الحديث(8)، وفي إسناده أيضاً بريدة بن سفيان، قال البخاري: فيه نظر، وسئل أحمد عن حديثه فقال: بليه، وقال الدارقطني: متروك(9).
لكن الحديث أصله في الصحيحين دون ما في آخره، ومما أشار إلى ذلك في الصحيح ما يلي:
__________
(1) هو: محمد بن حميد الرازي.
(2) هو: سلمة بن الفضل الأبرش.
(3) بريدة بن سفيان الأسلمي المدني، ليس بالقوي، وفيه رفض، من السادسة: س. تقريب: 43.
(4) محمد بن كعب بن سليم بن أسد أبو حمزة القرظي المدني، كان قد نزل الكوفى مدة، ثقة عالم، ولد سنة أربعين على الصحيح، ووهم من قال ولد في عهد النبي صلى الله عليه وسلم فقد قال البخاري: إن أباه كان ممن لم ينبت من سبي قريظة، مات سنة عشرين ومائة، وقيل قبل ذلك: ع. تقريب: 316.
(5) علقمة بن قيس بن عبد الله النخعي الكوفي، ثقة، ثبت فقيه عابد، من الثانية، مات بعد الستين، وقيل بعد السبعين: ع. تقريب: 243.
(6) علي بن أبي طالب بن عبد المطلب بن هاشم الهاشمي، ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم وزوج ابنته، من السابقين الأولين، المرجح أنه أول من أسلم، وهو أحد العشرة، مات في رمضان سنة أربعين وهو يومئذ أفضل الأحياء من بني آدم بالأرض بإجماع أهل السنة، وله ثلاث وستون سنة على الأرجح: ع. تقريب: 246.
(7) تاريخ ابن جرير الطبري 2/79.
(8) سير أعلام النبلاء 11/503.
(9) ميزان الاعتدال 11/306، تهذيب التهذيب 1/433.(2/74)
(109) قال البخاري: حدثنا محمد بن بشار حدثنا غندر حدثنا شعبة عن أبي إسحاق قال: سمعت البراء بن عازب رضي الله عنهما قال: لما صالح رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل الحديبية كتب علي بن أبي طالب رضي الله عنه بينهم كتاباً فكتب: "محمد رسول الله" فقال المشركون: لا تكتب محمد رسول الله، لو كنت رسول الله لم نقاتلك فقال لعلي: امحه، فقال علي: ما أنا بالذي أمحاه، فمحاه رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده، وصالحهم على أن يدخل هو وأصحابه ثلاثة أيام ولا يدخلها إلا بجلبان السلاح، فسألوه: ما جلبان السلاح؟ قال: القراب بما فيه"(1).
وأخرجه(2) مسلم عن محمد بن المثنى وابن بشار، كلاهما عن غندر به نحوه.
وأخرجه(3) عن عبيد الله بن معاذ عن أبيه عن شعبة به قال فيه: "كتب علي بن أبي طالب الصلح بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين المشركين يوم الحديبية، فكتب: هذا ما كاتب عليه محمد رسول الله..." الحديث بنحوه.
(ب) الشهود على الصلح:
أما الشهود على هذا العقد فقد سماهم حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه عند ابن جرير:
فبعد أن ذكر الكاتب وما دار بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وسهيل بن عمرو وما اتفقوا عليه وقصة أبي جندل، قال: فلما فرغ من الكتاب أشهد على الصلح رجالاً من المسلمين ورجالاً من المشركين: أبا بكر بن أبي قحافة، وعمر بن الخطاب، وعبد الرحمن بن عوف، وعبد الله بن سهيل بن عمرو، وسعد بن أبي وقاص، ومحمود بن مسلمة أخا بني عبد الأشهل، ومكرز بن حفص بن الأخيف، وهو مشرك أخا بني عام بن لؤي، وعلي بن أبي طالب "وهو كاتب الصحيفة"(4).
سبق أن بينت ضعف هذا الحديث.
__________
(1) صحيح البخاري مع الفتح، كتاب الصلح: 2698.
(2) صحيح مسلم، كتاب الجهاد: 91.
(3) صحيح مسلم، كتاب الجهاد: 90.
(4) تاريخ ابن جرير الطبري 2/80، وتقدم سنده مع طرف من أوله برقم (108).(2/75)
وقد ذكر الواقدي(1) وابن سعد(2) هؤلاء الشهود سوى عبد الله بن سهيل بن عمرو وعلي بن أبي طالب، وقالا: محمد بن مسلمة بدل محمود بن مسلمة، وزادا: عثمان بن عفان وأبا عبيدة بن الجراح، وحويطب بن عبد العزى وكان مشركاً آنذاك.
المبحث الرابع: تألم عمر وبعض الصحابة من شروط قريش:
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أخذ على نفسه ألا يرد خطة يعرضها عليه المشركون تهدف إلى تعظيم حرمات الله، ومن هذا المنطلق جعل يوافق على كل ما تمليه قريش من شروط بل كان يتنازل عما يريده هو إذا رأى تصلباً من جانب قريش، فقد جاء في حديث المسور ومروان من طريق معمر ما نصه: "فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "بسم الله الرحمن الرحيم" فقال سهيل: "أما الرحمن" فوالله ما أدري ما هي، ولكن اكتب: "باسمك اللهم" كما كنت تكتب فقال المسلمون: والله لا نكتبها إلا: "بسم الله الرحمن الرحيم"، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: اكتب "باسمك اللهم" ثم قال: "هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله" فقال سهيل: والله لو كنا نعلم أنك رسول الله ما صددناك عن البيت، ولا قاتلناك، ولكن أكتب: "محمد بن عبد الله" فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "والله إني لرسول الله وإن كذبتموني" اكتب "محمد بن عبد الله"، قال الزهري: وذلك لقوله: "لا يسألوني خطة يعظمون فيها حرمات الله إلا أعطيتهم إياها..."(3) الحديث.
فهذا النص يصور لنا مدى تسامح رسول الله صلى الله عليه وسلم مع قريش، وقد استغلت قريش ذلك اللين من رسول الله صلى الله عليه وسلم فجعلت تملي شروطها، يظهر منها الأجحاف في حق المسلمين الأمر الذي أثار حفيظة بعض المسلمين حتى فعل ما فعل:
__________
(1) مغازي الواقدي 2/612.
(2) الطبقات الكبرى 2/97.
(3) صحيح البخاري مع الفتح، كتاب الشروط: 2731 - 2732، وتقدم سنده مع طرف من أوله برقم (35).(2/76)
ففي حديث المسور ومروان(1) السابق: "فقال سهيل: وعلى أنه لا يأتيك منا رجل وإن كان على دينك إلا رددته إلينا، قال المسلمون: سبحان الله كيف يرد إلى المشركين وقد جاء مسلماً؟ فبينما هم كذلك إذ دخل أبو جندل بن سهيل بن عمرو يرسف(2) في قيوده، وقد خرج من أسفل مكة حتى رمى بنفسه بين أظهر المسلمين، فقال سهيل: هذا يا محمد أول من أقاضيك عليه أن ترده إلي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إنا لم نقض الكتاب بعد، قال: فوالله إذاً لم أصالحك على شيء أبداً، قال النبي صلى الله عليه وسلم: فأجزه(3) لي، قال: ما أنا بمجيزه لك، قال: بلى فافعل، قال: ما أنا بفاعل، قال مكرز: بل قد أجزناه لك، قال أبو جندل: أي معشر المسلمين أرد إلى المشركين وقد جئت مسلماً؟ ألا ترون ما لقيت؟ وكان قد عذب عذاباً شديداً في الله، قال: فقال عمر بن الخطاب: فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: ألست نبي الله حقاً؟ قال: بلى، قلت: ألسنا على الحق وعدونا على الباطل؟ قال: بلى، قلت: فلم نعطي الدنية في ديننا إذاً؟ قال: إني رسول الله ولست أعصيه، وهو ناصري، قلت: أو ليس كنت تحدثنا أنا سنأتي البيت فنطوف به؟ قال: بلى، فأخبرتك أنك تأتيه العام؟ قال: قلت: لا، قال: فإنك آتيه ومطوف به، قال: فأتيت أبا بكر فقلت يا أبا بكر: أليس هذا نبي الله حقاً؟ قال: بلى، قلت: ألسنا على الحق وعدونا على الباطل؟ قال: بلى، قلت: فلم نعطي الدنية في ديننا إذاً؟ قال: أيها الرجل إنه لرسول الله صلى الله عليه وسلم ليس يعصي ربه، وهو ناصره فاستمسك بغرزه فوالله إنه لعلى الحق. قلت: أليس كان يحدثنا أنا سنأتي البيت ونطوف به؟ قال: بلى، أفأخبرك أنك تأتيه
__________
(1) صحيح البخاري مع الفتح، كتاب الشروط: 2731 - 2732، وتقدم سنده مع طرف من أوله برقم (35).
(2) يرسف يتحامل برجله مع القيد. النهاية: 2/222.
(3) أجزه لي: من الإجازة: أي أمض لي فعلي فيه فلا أرده إليك أو أستثنيه من القضية. فتح الباري 5/345.(2/77)
العام؟ قلت: لا، قال فإنك آتيه ومطوف به، قال الزهري(1): قال عمر: فعملت لذلك أعمالاً...".
وفي حديث المسور ومروان أيضاً من طريق ابن إسحاق: "فأتاه سهيل بن عمرو فلما رآه النبي صلى الله عليه وسلم قال: قد أراد القوم الصلح حين بعثوا هذا الرجل، فلما انتهى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تكلما وأطالا الكلام وتراجعا، حتى جرى بينهما الصلح فلما التأم الأمر ولم يبق إلا الكتاب، وثب عمر ابن الخطاب فأتى أبا بكر فقال: يا أبا بكر أوليس برسول الله صلى الله عليه وسلم؟ أو لسنا بالمسلمين؟ أوليسوا بالمشركين؟ قال: بلى، قال: فعلام نعطي الذلة في ديننا؟ فقال أبو بكر: يا عمر إلزم غرزه حيث كان، فإني أشهد أنه رسول الله، قال عمر: وأنا أشهد، ثم أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله أولسنا بالمسلمين؟ أوليسوا بالمشركين؟ قال: بلى، قال: فعلام نعطي الذلة في ديننا؟ فقال: أنا عبد الله ورسوله لن أخالف أمره ولم يضيعني، ثم قال عمر: ما زلت أصوم وأعتق من الذي صنعت مخافة كلامي الذي تكلمت به يومئذ، حتى رجوت أن يكون خيراً..."(2).
__________
(1) قال ابن حجر: هو موصول إلى الزهري بالسند المذكور وهو منقطع بين الزهري وعمر، فتح الباري 5/346.
(2) مسند أحمد 4/325، وتقدم سنده مع طرف من أوله برقم (36).(2/78)
وفي موضع آخر(1) في رواية ابن إسحاق أيضاً: "وقد كان المسلمون خرجوا وهم لا يشكون في الفتح لرؤيا رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما رأوا ما رأوا من الصلح وما تحمل رسول الله صلى الله عليه وسلم على نفسه دخل الناس من ذلك أمر عظيم حتى كادوا أن يهلكوا، فلما رأى سهيل أبا جندل قام إليه فضرب وجهه ثم قال: يا محمد قد لجّت(2) القضية بيني وبينك قبل أن يأتيك هذا، قال: صدقت فقام إليه فأخذ بتلبيبه(3) قال: وصرخ أبو جندل بأعلى صوته يا معاشر المسلمين أتردونني إلى أهل الشرك فيفتنوني في ديني، قال: فزاد الناس شراً إلى ما بهم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا أبا جندل اصبر واحتسب فإن الله جاعل لك ولمن معك من المستضعفين فرجاً ومخرجاً، إنا قد عقدنا بيننا وبين القوم صلحاً فأعطيناهم على ذلك، وأعطونا عليه عهداً وإنا لن نغدر بهم، قال: فوثب إليه عمر بن الخطاب مع أبي جندل فجعل يمشي إلى جنبه وهو يقول: اصبر أبا جندل فإنما هم المشركون وإنما دم أحدهم دم كلب، قال: ويدني قائم السيف منه قال يقول: رجوت أن يأخذ السيف فيضرب به أباه قال: فظن(4) الرجل بأبيه ونفذت القضية...".
وقد وردت قصة عمر في حديث سهل بن حنيف أيضاً:
__________
(1) مسند أحمد 4/325، وتقدم سنده مع طرف من أوله برقم (36).
(2) لجت: أي وجبت، قال ابن الأثير: هكذا جاءت مشروحاً ولا أعرف أصله. النهاية 4/233.
(3) أخذ بتلبيبه: أي أخذ بمجمع ثوبه الذي هو لابسه وقبض عليه يجره. النهاية 4/223.
(4) فظن: هكذا في الأصل - بالظاء المعجمة - والذي يقتضيه السياق أن تكون - بالضاد المعجمة - من الضنانة وهي البخل.(2/79)
(110) قال البخاري: حدثنا عبد الله بن محمد حدثنا يحيى بن آدم حدثنا يزيد بن عبد العزيز عن أبيه حدثنا حبيب بن ثابت قال: حدثني أبو وائل قال: كنا بصفين فقام سهل بن حنيف فقال: أيها الناس اتهموا أنفسكم فإنا كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية، ولو نرى قتالاً لقاتلنا، فجاء عمر بن الخطاب فقال: يا رسول الله ألسنا على الحق وهم على الباطل؟ فقال: بلى، فقال: أليس قتلانا في الجنة وقتلاهم في النار؟ قال: بلى، قال: فعلام نعطي الدنية(1) في ديننا؟ أنرجع ولا يحكم الله بيننا وبينهم؟ فقال: يا ابن الخطاب إني رسول الله ولن يضيعني الله أبداً، قال: فانطلق عمر إلى أبي بكر فقال له: مثل ما قال للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال: إنه رسول الله ولن يضيعه الله أبداً، فنزلت سورة الفتح، فقرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم على عمر إلى آخرها، فقال عمر: يا رسول الله أو فتح هو؟ قال: نعم"(2).
وأخرجه من طريق يعلى بن عبيد الطنافسي عن عبد العزيز عن حبيب قال: "أتيت أبا وائل أسأله فقال: كنا بصفين فقال رجل: ألم تر إلى الذين يدعون إلى كتاب الله فقال علي: نعم، فقال سهل بن حنيف: اتهموا أنفسكم فقد رأيتنا يوم الحديبية - يعني الصلح الذي كان بين النبي صلى الله عليه وسلم والمشركين - ولو نرى قتالاً لقاتلنا فجاء عمر... "(3) الحديث، دون قوله: "فقرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم على عمر...".
وأخرجه مسلم(4) من طريق عبد الله بن نمير عن عبد العزيز بن سياه به فذكر نحوه وزاد في آخره: "فطابت نفسه ورجع".
وأخرجه أحمد(5) من طريق يعلى بن عبيد عن عبد العزيز به نحوه وذكر في أوله قصة.
__________
(1) الدنية: الخصلة المذمومة. النهاية 2/137.
(2) صحيح البخاري مع الفتح، كتاب الجزية: 3182.
(3) صحيح البخاري مع الفتح، كتاب التفسير: 4844.
(4) صحيح مسلم، كتاب الجهاد والسيرة: 94.
(5) مسند أحمد 3/485.(2/80)
وأخرجه البيهقي(1) من طريق يعلى بن عبيد وعبد الله بن نمير كلاهما عن عبد العزيز به فذكره بنحوه وزاد في آخره: "فطابت نفسه ورجع".
كانت هذه رواية حبيب بن أبي ثابت عن أبي وائل، وقد رواه عنه غيره:
فأخرجه البخاري من طريق الأعمش عن أبي وائل:
قال: حدثنا عبدان أخبرنا أبو حمزة قال: سمعت الأعمش قال: "سألت أبا وائل شهدت صفين؟ قال: نعم: فسمعت سهل بن حنيف يقول: اتهموا رأيكم، رأيتني يوم أبي جندل ولو أستطيع أن أرد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم لرددته وما وضعنا أسيافنا على عواتقنا لأمر يفضعنا إلا أسهلن بنا إلى أمر نعرفه غير أمرنا هذا"(2).
وأخرجه(3) من طريق أبي عوانة عن الأعمش به نحوه، وزاد في آخره: وقال أبو وائل: "شهدت صفين وبئست صفين".
وأخرجه مسلم(4) من طريق أبي معاوية وجرير ووكيع كلهم عن الأعمش به نحوه.
وأخرجه أحمد(5) والحميدي(6) كلاهما من طريق ابن عيينة عن الأعمش به نحوه.
وأخرجه البخاري من طريق أبي الحصين عن أبي وائل:
قال: حدثنا الحسن بن إسحاق حدثنا محمد بن سابق حدثنا مالك ابن مغول قال: سمعت أبا حصين قال: قال أبو وائل: لما قدم سهل بن حنيف من صفين أتيناه نستخبره فقال: اتهموا الرأي فلقد رأيتني يوم أبي جندل..." وذكر بنحو من رواية الأعمش، وزاد في آخره: "ما نسد منها خصماً إلا تفجر علينا خصم، ما ندري كيف نأتي له"(7).
وأخرجه مسلم(8) من طريق أبي أسامة عن مالك بن مغول به نحوه.
وقد تحدث عمر رضي الله عنه - نفسه - عما قاساه من عنت قريش يوم صلح الحديبية، جاء ذلك في حديثه عند ابن سعد.
__________
(1) السنن الكبرى 9/222.
(2) صحيح البخاري مع الفتح، كتاب الجزية: 3181.
(3) صحيح البخاري مع الفتح، كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة: 7308.
(4) صحيح مسلم، كتاب الجهاد والسير: 95.
(5) مسند أحمد 3/485.
(6) مسند الحميدي 1/197.
(7) صحيح البخاري، كتاب المغازي: 4189.
(8) صحيح مسلم، كتاب الجهاد والسير: 96.(2/81)
(111) قال: أخبرنا موسى(1) بن مسعود النهدي أخبرنا عكرمة بن عمار عن أبي زميل(2) عن ابن عباس قال: قال عمر(3) بن الخطاب: لقد صالح رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل مكة على صلح وأعطاهم شيئاً لو أن نبي الله أمر علي أميراً فصنع الذي صنع نبي الله ما سمعت ولا أطعت، وكان الذي جعل: أن من لحق من الكفار بالمسلمين يردون ومن لحق بالكفار لم يردوه"(4).
وقد أورده السيوطي ثم عزاه لابن سعد، وقال: سنده صحيح(5).
قلت: الحديث حسن لأن في سنده موسى بن مسعود النهدي مختلف فيه، فقد ضعفه الترمذي وبندار وقال ابن خزيمة لا أحتج به، وقال الحاكم: ليس بالقوي عندهم(6) بينما وثقة العجلي، وقال أبو حاتم: صدوق، وقال أحمد: صدوق في حفظه شيء، وقال ابن معين: لم يكن من أهل الكذب، وقال ابن سعد: كان كثير الحديث، ثقة إن شاء الله، حسن الرواية عن عكرمة بن عمار والثوري وزهير بن محمد(7) ا.هـ
__________
(1) موسى بن مسعود النهدي - بفتح النون - أبو حذيفة البصري، صدوق سيء الحفظ وكان يصحف، مات سنة عشرين ومائتين أو بعدها وقد جاوز التسعين وحديثه عند مسلم في المتابعات: خ، د، ت، ق. تقريب: 352.
(2) هو: سماك بن الوليد الحنفي.
(3) عمر بن الخطاب بن نفيل - بنون وفاء مصغراً - ابن عبد العزى بن رباح - بتحتانية - ابن عببد الله بن قرط - بضم القاف - ابن رزاخ - براء ثم زاي خفيفة - بن عدي بن كعب القرشي العدوي أمير المؤمنين مشهور جم المناقب، استشهد في ذي الحجة سنة ثلاث وعشرين وولي الخلافة عشر ونصفاً: ع. تقريب: 253.
(4) الطبقات الكبرى 2/101.
(5) نقله صاحب كنز العمال 10/473.
(6) ميزان الاعتدال 4/221، تهذيب التهذيب 10/370، هدي الساري: 446.
(7) المصادر السابقة.(2/82)
فإذا استعرضنا أقوال علماء الجرح والتعديل السابقة في موسى بن مسعود نجد أن الذين عدلوه أرسخ قدماً وأطول باعاً في هذا المضمار من الذي جرحوه، ثم نجد أيضاً أن الذين جرحه لم يبينوا سبب التجريح اللهم إلا ما روي عن أحمد أنه قال: صدوق في حفظه شيء، فإذا حملنا تضعيفهم له على هذا الشيء اليسير في حفظه فلا يرد هذا الطعن على روايته عن عكرمة بن عمار؛ لأن ابن سعد قد نص على أن حديثه عن عكرمة بن عمار حسن، كما سبقت الإشارة إليه.
فالذي ترجح لي أن هذا الحديث حسن، والله أعلم.
وقد أشار عمر رضي الله عنه إلى بعض ما حصل له أيضاً في حديثه عند البزار وغيره:(2/83)
(112) قال البزار: حدثنا محمد(1) بن المثنى قال حدثنا يونس(2) بن عبيد الله العميري قال: ثنا المبارك(3) بن فضالة عن عبيد الله(4) عن نافع(5) عن ابن عمر عن عمر أنه قال: اجتهدوا الرأي على الدين فلقد رأيتني يوم أبي جندل أرد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم لرأيي وما آلوا(6) عن الحق أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يكتب كتاباً بينه وبين أهل مكة، فقال: اكتب "بسم الله الرحمن الرحيم" فقالوا: لو نرى ذلك صدقناك بما تقول ولكن اكتب كما كنت تكتب "باسمك اللهم" فرضي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبيت حتى قال: "تراني قد رضيت وتأبى أنت"، قال: فرضيت(7).
قال البزار: "لا نعلمه يروى عن عمر إلا من هذا الوجه، ولم يشارك مباركاً في روايته عن عبيد الله في هذا الحديث أحد، وقد رواه غير عمر".
__________
(1) محمد بن المثنى بن عبيد العنزي - بفتح النون والزاي - أبو موسى البصري المعروف بالزمن مشهور بكنيته وباسمه، ثقة ثبت، وكان هو وبندار كفرسي رهان، وماتا في سنة واحدة سنة اثنتين وخمسين بعد المائة: ع. تقريب: 291، 317.
(2) يونس بن عبيد الله العمير الليثي أبو عبد الرحمن البصري، صدوق من كبار العاشرة: كن. تقريب: 390، وفي تهذيت التهذيب 11/442 ((العمري))، وفي الجرح والتعديل 4/2/241 ((العميري)).
(3) مبارك بن فضالة - بفتح الفاء وتخفيف المعجمة - أبو فضالة البصري صدوق يدلس ويسوي، مات سنة ست وستين ومائة على الصحيح: خت، د، ت، ق. تقريب: 328.
(4) عبيد الله بن عمر بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب العمري.
(5) نافع مولى ابن عمر.
(6) آلوا: أُقَصِّر وأُبطأ. ترتيب القاموس 1/173.
(7) مسند البزار 1، لوحة: 44.(2/84)
وأخرجه الطبراني عن علي(1) بن عبد العزيز عن يونس بن عبيد الله به قال: "أيها الناس اتهموا الرأي على الدين، فلقد رأيتني أرد أمر رسول اله برأيي واجتهاداً، فوالله ما آلوا عن الحق وذلك يوم أبي جندل..."(2) الحديث بنحوه.
وأخرجه أبو نعيم من طريق يونس بن عبيد الله عن مبارك به نحوه(3).
ذكر الهيثمي هذا الحديث في المجمع في موضعين منه قال في أحدهما: رواه البزار ورجاله رجال الصحيح(4) ا.هـ
قلت: هذا وَهْمٌ منه رحمه الله فمبارك ليس من رجال الصحيح، وسأنبه عليه فيما بعد إن شاء الله وأبين سببه.
وقال في الموضع الآخر: رواه أبو يعلى ورجاله موثوقون، وإن كان فيه مبارك بن فضالة(5) ا.هـ
قلت: مبارك بن فضالة مختلف فيه، فقد ضعفه النسائي وغيره، ووثقه عفان وكان يحيى بن سعيد القطان يحسن الثناء عليه، واختلف قول ابن معين فيه، فمرة وثقه، ومرة قال: صالح، ومرة قال: ضعيف.
وقال أبو زرعة: يدلس كثيراً فإذا قال: حدثنا فهو ثقة، وقال أبو داود: شديد التدليس، فإذا قال: حدثنا فهو ثبت ووصفه أحمد بالتدليس أيضاً(6).
وذكر ابن حجر أنه يدلس ويسوي(7).
وقال ابن عدي: عامة أحاديثه أرجو أن تكون مستقيمة(8).
__________
(1) علي بن عبد العزيز بن المرزبان بن سابور أبو الحسن البغوي شيخ الحرم، ومصنف المسند، قال الدارقطني: ثقة مأمون، وقال ابن أبي حاتم: صدوق، مقته النسائي لكونه كان يأخذ على الحديث، وقد اعتذر له الذهبي: بأنه كان فقيراً مجاوراً، وقال إنه ثقة، مات سنة ست وثمانين ومائتين. تذكرة الحفاظ 2/622 - 623، الجرح والتعديل 3/196، ميزان الاعتدال 3/143.
(2) المعجم الكبير 1/26.
(3) معرفة الصحابة 1، لوحة: 15.
(4) مجمع الزوائد 6/146.
(5) مجمع الزوائد 1/179.
(6) ميزان الاعتدال 3/431 - 432.
(7) تقريب التهذيب: 328.
(8) ميزان الاعتدال 3/432.(2/85)
وذكر الذهبي أقوال العلماء فيه ثم قال: هو حسن الحديث، ولم يذكره ابن حبان في الضعفاء، وكان من أوعية العلم(1) ا.هـ
قلت: الذي يترجح لي في مبارك بن فضالة أن حديثه حسن إذا صرح بالسماع، وهذا الحديث لم يصرح فيه بالسماع لكن يشهد له ما في حديث المسور ومروان عند البخاري.
قال الهيثمي: "وهو في الصحيح بطوله، ولم أر فيه قوله: "يا عمر تراني قد رضيت وتأبى أنت"(2).
تنبيه:
سبق أن ذكرت قول الهيثمي عن الحديث: "رجاله رجال الصحيح".
وأشرت إلى أن في سند الحديث من ليس من رجال الصحيح، وهو مبارك بن فضالة، ووعدت ببيان سبب قول الهيثمي هذا، فأقول وبالله التوفيق سبب ذلك: أن السند الذي نقله الهيثمي مع الحديث في "كشف الأستار" ليس فيه مبارك بن فضالة وهذا نصه: "حدثنا محمد بن المثنى ثنا يحيى بن سعيد عن عبيد الله قال: أخبرني نافع عن ابن عمر..."(3).
فهذا السند رجاله رجال الصحيح، كما قال الهيثمي: لكنه ليس بسند الحديث إنما هو سند حديث آخر - يسبق الحديث الذي نحن بصدده في "المسند" - وهو: "عن عمر أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "تصيبني الجنابة من الليل، فأمره أن يتوضأ وضوءه للصلاة"(4).
فلعل ما حصل هو سبق نظر من الهيثمي(5) رحمه الله، أو أنه أخذه عن نسخة أخرى قد انقلب السند فيها.
فالحاصل: أن حكم الهيثمي على سند البزار إنما هو على السند المقلوب لا السند الأصلي، الذي فيه مبارك بن فضالة، والله أعلم.
المبحث الخامس: موقف المسلمين من الصلح: وفيه مطلبان:
المطلب الأول: وفاء المسلمين بالعهد:
__________
(1) سير أعلام النبلاء 7/281 - 284.
(2) كشف الأستار عن زوائد البزار 2/338.
(3) كشف الأستار عن زوائد البزار 2/338.
(4) مسند البزار 1، لوحة: 44.
(5) وقد تابعه على ذلك ابن حجر، انظر: زوائد مسند البزار، لوحة: 202.(2/86)
لقد تألم المسلمون كثيراً ووجدوا في أنفسهم من بعض الشروط التي أملتها قريش، وجدوا في أنفسهم أنهم رأوا أن الرضا بها يعبر عن الضعف والاستكانة أمام الكفار بل صرح عمر رضي الله عنه بذلك حين قال: "فعلام نعطي الدنية في ديننا إذن"(1).
لكن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد رضي تلك الشروط ووقّع العقد مع قريش عليها، وصرح بأنه إنما يفعل ذلك بأمر الله(2)، فليس أمام المسلمين إلا التسليم والرضا بما رضيه رسول الله صلى الله عليه وسلم {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ }(3).
__________
(1) من حديث المسور ومروان.
(2) صرح بذلك في جوابه لعمر ص:
(3) سورة الأحزاب الآية: 36.(2/87)
ولقد سلموا لأمر الله ورسوله تسليماً يصاحبه الإيمان بأن الخير فيما اختاره الله، وقد ترجموا ذلك بأفعالهم، فقد رأينا في قصة أبي جندل(1) مع أبيه كيف ابتزه من بين ظهرانيهم وهو يستغيث فلا يستجاب له، وهذا أبو بصير يلحق بهم في المدينة ثم تسترجعه قريش من ثم... فقد جاء في حديث المسور ومروان من طريق معمر ما نصه: "ثم رجع النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة فجاءه أبو بصير رجل من قريش وهو مسلم، فأرسلوا في طلبه رجلين فقالوا: العهد الذي جعلت لنا، فدفعه إلى الرجلين، فخرجا به حتى إذا بلغا ذا الحليفة فنزلوا يأكلوا من تمر لهم، فقال أبو بصير لأحد الرجلين: والله إني لأرى سيفك هذا يا فلان جيداً، فاستله الآخر فقال: أجل والله إنه لجيد لقد جربت به ثم جربت فقال أبو بصير: أرني أنظر إليه، فأمكنه منه فضربه حتى برد، وفرّ الآخر حتى أتى المدينة فدخل المسجد يعدو فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين رآه: لقد رأى هذا ذعراً(2)، فلما انتهى إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال: قتل والله صاحبي وإني لمقتول فجاء أبو بصير فقال: يا نبي الله: قد والله أوفى الله ذمتك قد رددتني إليهم ثم نجاني الله منهم، قال النبي صلى الله عليه وسلم: ويل أمه مِسْعَر(3) حرب، لو كان له أحد فلما سمع ذلك عرف أنه سيرده عليهم فخرج حتى أتى سِيْفَ(4) البحر..."(5).
وأخرجه البيهقي من طريق ابن إسحاق بسياق آخر فيه شيء من التفصيل:
__________
(1) تقدمت قصته في المبحث السابق.
(2) ذعراً: - بالضم - خوفاً. ترتيب القاموس 2/258.
(3) مسعر حرب: المسعر: ما تحرك به النار من آلة الحديد، يصفه بالمبالغة في الحرب والنجدة. النهاية 2/367.
(4) سيف البحر: أي ساحله. المصدر السابق 2/434.
(5) صحيح البخاري مع الفتح، كتاب الشروط: 2731 - 2732، وتقدم سنده مع طرف من أوله برقم (35).(2/88)
يقول فيه ما نصه: "قالا: ولما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة واطمأن بها، أفلت إليه أبو بصيرة عتبة بن أسيد بن جارية الثقفي حليف بني زهرة، فكتب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه الأخنس بن شريق والأزهر بن عبد عوف وبعثا بكتابهما مع مولى لهما ورجل من بني عامر بن لؤي استأجروه ليرد عليهما صاحبهما أبا بصير، فقدما على رسول الله صلى الله عليه وسلم فدفعا إليه كتابهما فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بصير إن هؤلاء القوم قد صالحونا على ما قد علمت، وإنا لن نغدر فالحق بقومك، فقال: يا رسول الله تردني إلى المشركين يفتنوني في ديني ويعبثون بي، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اصبر يا أبا بصير، واحتسب، فإن الله جاعل لك ولمن معك من المستضعفين من المؤمنين فرجاً ومخرجاً، قال: فخرج أبو بصير وخرجا حتى إذا كانوا بذي الحليفة جلسوا إلى سور جدار فقال أبو بصير للعامري أصارم سيفك هذا يا أخا بني عامر؟ قال: نعم، قال أنظر إليه، قال إن شئت، فاستلّه فضرب به عنقه وخرج المولى يشتد فطلع على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو جالس في المسجد، فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: هذا رجل قد رأى فزعاً فلما انتهى إليه قال: ويحك مالك، قال: قتل صاحبكم صاحبي، فما برح حتى طلع أبو بصير متوشحاً(1) السيف، فوقف على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله وفت ذمتك وأدى الله عنك، امتنعت بنفسي عن المشركين أن يفتنوني في ديني، وأن يعبثوا بي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ويل أمه، مِحَش(2) حرب، لو كان معه رجال، فخرج أبو بصير حتى نزل بالعيص..."(3).
__________
(1) متوشحاً السيف: متقلده. ترتيب القاموس 4/614.
(2) مِحشّ حرب: يقال: حش الحرب إذا أسعرها وهيجها تشبيها بإسعار النار. النهاية 1/389.
(3) السنن الكبرى 9/227، وتقدم الكلام على إسناده حديث رقم (36).(2/89)
وأخرجه من طريق موسى بن عقبة عن الزهري مرسلاً فذكر قدومه المدينة المنورة بنحو ما في رواية ابن إسحاق ثم قال: "فبعث في أثره الأخنس بن شريق في رجلين من بني منقذ(1) أحدهما زعموا مولى، والآخر من أنفسهم اسمه جحش بن جابر وكان ذا جلد ورأي في أنفس المشركين، وجعل لهما الأخنس في طلب أبي بصير جعلاً(2)، فقدما على رسول الله صلى الله عليه وسلم فدفع أبا بصير إليهما فخرجا حتى إذا كانا بذي الحليفة سلّ جحش سيفه ثم هزه فقال: لأضربن بسيفي هذا في الأوس والخزرج يوماً إلى الليل، فقال له أبو بصير: أو صارم سيفك هذا؟ قال: نعم، قال: ناولنيه أنظر إليه، فناوله إليه فلما قبض عليه ضربه حتى برد، ويقال: بل تناول أبو بصير سيف المنقذي بفيه وهو نائم فقطع إساره ثم ضربه حتى برد وطلب الآخر فجمز(3) مذعوراً مستخفياً حتى دخل المسجد..." وذكر نحو ما في رواية ابن إسحاق ثم زاد: "وجاء أبو بصير بسلبه إلى رسول الله فقال خَمِّسْ يا رسول الله قال: إني إذا خمست لم أوف لهم بالذي عاهدتهم عليه، ولكن شأنك بسلب صاحبك، ثم اذهب حيث شئت، فخرج أبو بصير..."(4).
وأخرجه(5) من طريق أبي الأسود عن عروة مرسلاً بنحو مرسل الزهري إلا أن فيه اختصار.
وقصة أبي بصير وردت موصوله كما سبق في حديث المسور ومروان من طريق معمر وابن إسحاق وصرح ابن إسحاق بالسماع فلا يضرها الإرسال.
__________
(1) بنو منقذ: بطن من بني عامر بن لؤي، وهو منقذ بن عمرو بن معيص بن عامر بن لؤي. جمهرة أنساب العرب: 170 - 171.
(2) الجعل الأجرة على الشيء فعلاً أو قولاً. النهاية 1/276.
(3) فجمز: أي أسرع هارباً من القتل. النهاية 1/294.
(4) دلائل النبوة 2، لوحة: 243.
(5) دلائل النبوة 2، لوحة: 245.(2/90)
فقصة أبي بصير هذه مع ما سبق من قصة أبي جندل ترسم لنا صورة واقعية لوفاء المسلمين بعهودهم إذ لم يحل بينهم وبين منع إخوانهم من قريش سوى الوفاء بالعهد، والوفاء وحده، وإلا فقد لحق بالمسلمين قبيل الصلح ناس من قريش ليسوا بأعز عليهم من أبي جندل وأبي بصير، وجاء في طلبهم بعض سادة قريش فلم يمكنهم رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم، كما بين ذلك حديث علي الآتي:
(113) قال أبو داود: حدثنا عبد العزيز(1) بن يحيى الحراني حدثني محمد(2) - يعني ابن سلمة - عن محمد(3) بن إسحاق عن أبان(4) بن صالح عن منصور بن المعتمر عن ربعي(5) بن حراش عن علي بن أبي طالب قال: خرج عُبْدان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يعني يوم الحديبية، قبل الصلح فكتب إليه مواليهم فقالوا: يا محمد والله ما خرجوا إليك رغبة في دينك، وإنما خرجوا هرباً من الرق، فقال ناس: صدقوا يا رسول الله ردهم إليهم، فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: "وما أراكم تنتهون يا معشر قريش حتى يبعث الله عليكم من يضرب رقابكم على هذا"، وأبى أن يردهم وقال: "هم عتقاء الله عز وجل"(6).
__________
(1) عبد العزيز بن يحيى بن يوسف البكائي الأصبع الحراني، صدوق ربما وهم، مات سنة خمس وثلاثين ومائتين: د، س. تقريب: 216.
(2) محمد بن سلمة بن عبد الله الباهلي مولاهم الحراني، ثقة، مات سنة إحدى وتسعين ومائة على الصحيح: ز، م، الأربعة. تقريب: 299، تهذيب التهذيب 9/193 - 194.
(3) محمد بن إسحاق بن يسار.
(4) أبان بن صالح بن عمير بن عبيد القرشي مولاهم، وثقه الأئمة ووهم ابن حزم فجهله، وابن عبد البر فضعفه، مات سنة بضع عشرة ومائة وهو ابن خمس وخمسين: خت، الأربعة. تقريب: 18.
(5) ربعي بن حراش - بكسر المهملة وآخره معجمة - أبو مريم العيسى الكوفي، ثقة عابد مخضرم، مات سنة مائة، وقيل غير ذلك: ع. تقريب: 100.
(6) سنن أبي داود مع معالم السنن، كتاب الجهاد: 2700.(2/91)
وأخرجه البيهقي(1) من طريق عبد العزيز بن يحيى الحراني به فذكره بمثله.
وأخرجه الترمذي من وجة آخر بسياق آخر:
(114) قال: حدثنا سفيان(2) بن وكيع قال: حدثني أبي(3) عن شريك(4) عن منصور عن ربعي بن حراش عن علي بن أبي طالب بالرحبة(5) قال: لما كان يوم الحديبية خرج إلينا ناس من المشركين فيهم سهيل بن عمرو وناس من المشركين فقالوا: يا رسول الله خرج إليك ناس من أبنائنا وإخواننا وأرقائنا، وليس لهم فقه في الدين، وإنما خرجوا فراراً من أموالنا وضياعنا فارددهم إلينا، قال: فإن لم يكن لهم فقه في الدين سنفقههم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "يا معشر قريش لتنتهن أو ليبعثن الله عليكم من يضرب رقابكم بالسيف على الدين قد امتحن الله قلبه على الإيمان"، قالوا: من هو يا رسول الله؟ فقال له أبو بكر: من هو يا رسول الله؟ وقال عمر: من هو يا رسول الله؟ قال: هو خاصف(6) النعل، وكان قد أعطى علياً نعله يخصفها، ثم التفت إلينا علي فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم
__________
(1) السنن الكبرى 9/229.
(2) سفيان بن وكيع بن الجراح أبو محمد الرؤاسي الكوفي، كان صدوقاً إلا أنه ابتلي بوراقه فأدخل عليه ما ليس من حديثه، فنصح فلم يقبل، فسقط حديثه، مات سنة سبع وأربعين ومائتين: ت، ق. تقريب: 129، تهذيب التهذيب 4/124.
(3) وقع في الأصل عن ((أ ُبَيْ)) وهو تصحيف صححته من الأطراف للمزي 7/371.
(4) شريك بن عبد الله النخعي الكوفي القاضي بواسط ثم الكوفة، أبو عبد الله صدوق يخطئ كثيراً تغير حفظه منذ ولي القضاء بالكوفة، وكان عادلاً فاضلاً عابداً شديداً على أهل البدع، مات سنة سبع أو ثمان وسبعين بعد المائة: خت، م، الأربعة. تقريب: 145.
(5) الرحبة: بفتح الراء والمهلمة والموحدة - تنسب إلى خنيس بن سعد أخي النعمان ابن سعد جد أبي يوسف القاضي، يقال لها رحبة خنيس وهي محلة بالكوفة. معجم البلدان 3/33.
(6) خاصف النعل: الذي يخرزها، من الخصف وهو الضم والجمع. النهاية 2/38.(2/92)
قال: "من كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار"(1).
وأخرجه أحمد(2) عن أسود بن عامر(3) عن شريك به مختصراً ولم يذكر أن ذلك في الحديبية.
وقال الترمذي بعد أن أخرج الحديث: هذا حديث حسن صحيح غريب لا نعرفه إلا من حديث ربعي عن علي، قال: وسمعت الجارود يقول: سمعت وكيعاً يقول: لم يكذب ربعي بن حراش في الإسلام كذبة، وأخبرني محمد بن إسماعيل عن عبد الله بن أبي الأسود قال: سمعت عبد الرحمن بن مهدي يقول: منصور بن المعتمر أثبت أهل الكوفة"(4).
وقد نقل السيوطي(5) تصحيح هذا الحديث عن ابن جرير.
قلت: نعم الحديث صحيح، ولكن بمجموع طرقه.
ففي سند أبي داود شيخه عبد العزيز بن يحيى صدوق ربما وهم، كما قال ابن حجر.
وفي سند الترمذي أيضاً شيخه سفيان بن وكيف صدوق إلا أنهم تركوا حديثه لما أدخل عليه وراقة ما ليس منه، لكن أخرج الحديث أحمد عن أسود بن عامر الشامي شاذان وهو ثقة.
وفي سند أبي داود أيضاً لم يصرخ ابن إسحاق بالسماع لكن تابعه وكيع بن الجراح عن شريك عن منصور عند الترمذي وشريك متكلم في حفظه، لكن قال ابن معين(6): شريك صدوق ثقة، إلا أنه إذا خالف فغيره أحب إلينا منه.
وقال ابن عدي(7): إذا روى عنه ثقة فلا بأس بروايته.
قلت: قد روى عنه هنا أسود بن عامر الشامي، وهو ثقة كما قال ابن حجر.
وبقية رجال السند ثقات، فالحديث صحيح بمجموع طرقه، والله أعلم.
المطلب الثاني: بيان أن امتناع النبي صلى الله عليه وسلم عن رد المهاجرات ليس إخلالاً بالصلح:
ورد في حديث المسور بن مخرمة ومروان بن الحكم من طريق عقيل أن النبي صلى الله عليه وسلم امتنع عن رد المهاجرات في الهدنة إلى قريش:
__________
(1) سنن الترمذي، كتاب المناقب: 3715.
(2) مسند أحمد 1/155.
(3) الأسود بن عامر الشامي، نزيل بغداد يكنى أبا عبد الرحمن، ويلقب شاذان ثقة، مات في أول سنة ثمان ومائتين: ع. تقريب: 36.
(4) سنن الترمذي 5/634.
(5) جمع الجوامع 2/53.
(6) تهذيب التهذيب 4/335.
(7) هدي الساري: 410.(2/93)
(115) قال البخاري: حدثنا يحيى بن بكير حدثنا الليث عن عقيل عن ابن شهاب قال: أخبرني عروة بن الزبير أنه سمع مروان والمسور بن مخرمة رضي الله عنهما يخبران عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لما كاتب سهيل بن عمرو يومئذ كان فيما اشترط سهيل بن عمرو على النبي صلى الله عليه وسلم أن لا يأتيك منا أحد - وإن كان على دينك - إلا رددته إلينا، وخليت بيننا وبينه، فكره المؤمنون ذلك وامتعضوا(1) منه، وأبى سهيل إلا ذلك، فكاتبه النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك فرد يومئذ أبا جندل إلى أبيه سهيل بن عمرو، ولم يأته أحد من الرجال إلا رده في تلك المدة، وإن كان مسلماً وجاءت المؤمنات مهاجرات وكانت أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط ممن خرج إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ - وهي عاتق(2) - فجاء أهلها يسألون النبي صلى الله عليه وسلم أن يرجعها إليهم فلم يرجعها إليهم لما أنزل الله فيهن: {إِذَا جَاءكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ } إلى قوله {وَلاَ هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ}(3).(4)
وأخرجه البيهقي(5) من طريق ابن عقيل به، فذكره بمثله.
(116) وأخرجه ابن إسحاق عن عروة بسياق آخر مرسلاً:
__________
(1) امتعضوا: أي غضبوا وشق عليهم. النهاية 4/342، ترتيب القاموس 4/262.
(2) عاتق: الجارية أول ما أدركت، أو التي لم تتزوج، أو التي بين الإدراك والتعنيس. ترتيب القاموس 3/150 - 151، النهاية 3/187 - 189.
(3) سورة الممتحنة الآية: 10.
(4) صحيح البخاري مع الفتح، كتاب الشروط: 2711 - 2712.
(5) السنن الكبرى 9/228.(2/94)
قال ابن إسحاق: فحدثني الزهري عن عروة بن الزبير قال: دخلت عليه وهو يكتب كتاباً إلى ابن أبي هنيدة صاحب الوليد بن عبد الملك وكتب إليه يسأله عن قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلاَ تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لاَ هُنَّ حِلٌّ لَّهُمْ وَلاَ هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُم مَّا أَنفَقُوا وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَن تَنكِحُوهُنَّ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلاَ تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ...}، قال: فكتب إليه عروة بن الزبير: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان صالح قريشاً يوم الحديبية على أن يرد عليهم من جاء بغير إذن وليه، فلما هاجر النساء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وإلى الإسلام أبى الله أن يرددن إلى المشركين، إذا هن امتحن بمحنة الإسلام، فعرفوا أنهم إنما جئن رغبة في الإسلام، وأمر برد صدقاتهن إليهم إن احتبسن عنهم، وإن هم ردوا على المسلمين صداق من حبسوا عنهم من نسائهم ذالكم حكم الله بينكم والله عليم حكيم، فأمسك رسول الله صلى الله عليه وسلم النساء ورد الرجال، وسأل الذي أمره الله به أن يسأل من صدقات نساء من حبسوا منهن وأن يردوا عليهم مثل الذي يردون عليهم، إن هم فعلوا ولولا الذي حكم الله به من هذا الحكم، لرد رسول الله صلى الله عليه وسلم النساء كما رد الرجال، ولولا الهدنة والعهد الذي كان بينه وبين قريش يوم الحديبية لأمسك النساء ولم يردد لهن صداقاً، وكذلك كان يصنع بمن جاءه من المسلمات قبل العهد..." (1).
وأخرجه ابن جرير(2) والبيهقي(3) كلاهما من طريق ابن إسحاق به مختصراً.
__________
(1) سيرة ابن هشام 3/326.
(2) تفسير ابن جرير 28/69.
(3) السنن الكبرى 9/228.(2/95)
وأخرجه البيهقي(1) أيضاًَ عن طريق ابن إسحاق عن الزهري وعبد الله بن بكر ابن حزم مرسلاً.
جاء هذا الحديث هنا من طريق ابن إسحاق مرسلاً وقد جاء موصولاً من طريق عقيل بن خالد الأيلي عند البخاري كما سبق قريباً، وخالد ثقة ثبت كما قال ابن حجر(2)، فالحكم هنا لمن وصله على الصحيح لأنها زيادة ثقة(3).
وقد جاء في هذا الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم امتنع عن رد النساء اللاتي هاجرن إلى المدينة أثناء الهدنة، فهل يعد هذا الفعل نقضاًَ للعهد أم لا؟
الواقع أنه ليس في امتناعه صلى الله عليه وسلم عن رد المهاجرات خروجاً عن المعاهدة للآتي:
أ - إما لأنهن غير داخلات في العهد أصلاً فقد ورد في حديث المسور ومروان من طريق معمر ما نصه: "فقال سهيل: وعلى أنه لا يأتيك منا رجل - وإن كان على دينك - إلا رددته إلينا..."، فقد نص هنا على الرجال دون النساء.
(117) وقد أخرج ابن أبي حاتم من طريق مقاتل بن حيان: "أن المشركين قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: رد علينا من هاجر من نسائنا فإن شرطنا أن من أتاك منا أن ترده علينا، فقال: "كان الشرط في الرجال، ولم يكن في النساء".
ذكر هذا الأثر ابن حجر ثم عقب عليه بقوله: وهذا لو ثبت كان قاطعاً للنزاع(4).
ب - وإما أن يكون العهد قد شملهن ثم نسخته في حقهن آية الامتحان وخصته بالرجال، فقد جاء في حديث المسور ومروان من طريق عقيل ما نصه:
__________
(1) السنن الكبرى 9/229.
(2) تقريب التهذيب: 242.
(3) تقريب النواوي 1/221 - 222 مع تدريب الراوي.
(4) فتح الباري 9/419.(2/96)
"وكانت أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط ممن خرجن إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ - وهي عاتق - فجاء أهلها يسألون النبي صلى الله عليه وسلم أن يرجعها عليهم فلم يرجعها إليهم لما أنزل الله فيهن: { إِذَا جَاءكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ...} (1). الآية، والمراد منها قوله { فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ }، وقد أشار أيضاً إلى نسخ المعاهدة في حق النساء حديث عبد الله ابن أبي أحمد عند ابن أبي عاصم:
(118) قال حدثنا محمد(2)
__________
(1) تقدم الحديث برقم (115).
(2) انظر تاريخ أصبهان 2/306.
محمد بن يحيى الباهلي لم أقف على ترجمته، وقد ساق ابن كثير هذا الحديث في تفسيره 4/350، بسند ابن أبي عاصم لكن قال فيه: ((محمد بن يحيى الذهلي (بدل) الباهلي، وهو خلاف ما في كتاب (الآحاد والمثاني) لابن أبي عاصم، فإن فيه : الباهلي، وقد أخرج ابن أبي عاصم عن ((الباهلي)) حديثاً في كتاب السنة قال: حدثنا محمد بن يحيى أبو عمرو الباهلي...)).
وقال محقق الكتاب المحدث ناصر الدين الألباني ما نصه: "ومحمد بن يحيى أبو عمرو الباهلي لم أجد له ترجمة ويحتمل على بعد أن يكون هو محمد بن يحيى بن عبد الله أبو عبد الله الذهلي النيسابوري الحافظ الإمام من شيوخ البخاري، ويكون ما في الكتاب ((أبو عمر الباهلي)) محرفاً عن ((أبي عبد الله الذهلي)) والله أعلم.
ظلال الجنة 1/191 مع كتاب السنة لابن أبي عاصم.
قلت: والظاهر أن ((الباهلي)) هذا رجل آخر غير ((الذهلي)) فقد روى عنه ابن أبي عاصم في كتابه ((الآحاد والمثاني)) وفي كتابه ((السنة)) وذكره المزي في تهذيبه فيمن روى عن يعقوب بن محمد بن حميد الزهري شيخه في هذا الحديث، والله أعلم.(2/97)
بن يحيى الباهلي ثنا يعقوب(1) بن محمد ثنا عبد العزيز بن عمران عن مجمع(2) بن يعقوب عن حسين(3) بن أبي لبابة عن عبد الله(4) بن أبي أحمد بن جحش قال: هاجرت أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط فخرج أخواها عمارة والوليد حتى قدما على رسول الله صلى الله عليه وسلم فكلماه فيها أن يردها إليهما، فنقض الله العهد بينه وبين المشركين في النساء خاصة، فمنعهم أن يردوهن إلى المشركين وأنزل الله آية الامتحان(5).
وأخرجه أبو نعيم(6) من طريق يعقوب بن محمد الزهري عن عبد العزيز بن عمران به فذكره بمثله.
وأورد ابن كثير(7) وكذلك ابن حجر(8) وعزواه لابن أبي عاصم.
وذكره السيوطي(9) وقال: أخرجه الطبراني وابن مردويه بسند ضعيف.
قلت: نعم الحديث بهذا الإسناد ضعيف جداً؛ لأن فيه عبد العزيز بن عمران وهو متروك، وشيخ ابن أبي عاصم "الباهلي" لم أجد ترجمته.
وأخرجه عمر بن شبة من حديث أم كلثوم مطولاً.
__________
(1) يعقوب بن محمد بن عيسى بن عبد الملك بن حميد بن عبد الرحمن بن عوف الزهري المدني، نزيل بغداد، صدوق كثير الوهم والرواية عن الضعفاء، مات سنة ثلاث عشرة ومائتين: خت، ق. تقريب: 387.
(2) مجمع بن يعقوب بن مجمع بن يزيد بن جارية الأنصاري، صدوق، مات سنة ستين ومائة: د، س. تقريب: 329.
(3) الحسين بن السائب بن أبي لبابة - بضم اللام وموحدتين - بن عبد المنذر الأنصاري المدني مقبول من الثالثة: د. تقريب: 73.
(4) عبد الله بن أبي أحمد بن جحش الأسدي، ولد في حياة النبي صلى الله عليه وسلم وروى عن عمر وغيره، وذكره جماعة في ثقات التابعين: د. تقريب: 167.
(5) الآحاد والمثاني، لوحة: 64.
(6) معرفة الصحابة 1، لوحة 342 - 343.
(7) تفسير ابن كثير 4/350.
(8) الإصابة 7/200.
(9) الدر المنثور 6/206.(2/98)
(119) قال: حدثنا محمد(1) بن يحيى أبو غسان قال: حدثني عبد العزيز بن عمران عن مجمع بن يعقوب الأنصاري عن الحسن ابن السائب بن أبي لبابة عن عبد الله بن أبي أحمد قال: قالت أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط نزلت فيّ آيات من القرآن كنت أول من هاجر في الهدنة حين صالح رسول الله صلى الله عليه وسلم قريشاً على أنه من جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم بغير إذن وليه رده إليه، ومن جاء قريشاً ممن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يردوه إليه، قالت: فلما قدمت المدينة قدم علي أخي الوليد بن عقبة، قالت: ففسخ الله العقد الذي بينه وبين المشركين في شأني فأنزل الله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ} إلى قوله: { وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَن تَنكِحُوهُنَّ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ }، قالت: ثم أنكحني رسول الله صلى الله عليه وسلم زيد بن حارثة وكان أول من نكحني، فقلت: يا رسول الله زوجت بنت عمك مولاك؟ فأنزل الله: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ}(2)، فسلمت لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم(3) الحديث.
وهذا الإسناد أيضاً ضعيف؛ لأن فيه عبد العزيز بن عمران لكن أصل الحديث ثابت في صحيح البخاري من حديث المسور ومروان من طريق عقيل بن خالد الأيلي.
المبحث السادس: موقف قريش من الصلح: وفيه مطلبان:
المطلب الأول: تخلي قريش عن أهم شروطها:
__________
(1) محمد بن يحيى بن علي بن عبد الحميد الكناني أبو غسان المدني ثقة، لم يصب السليماني في تضعيفه من العاشرة: خ. تقريب: 323.
(2) سورة الأحزاب الآية: 36.
(3) تاريخ المدينة 2/492.(2/99)
كان الصلح في ظاهر شروطه لصالح قريش، حتى وجد المسلمون في أنفسهم من ذلك ما وجدوا، لكن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قبل تلك الشروط كان يسير بتوجيه من الله العليم بما سيكون كيف يكون، فكان واثقاً كل الثقة أن كفته هي الراجحة، وإن ظهر للناس ما ظهر، وقد صرح بذلك في جوابه لعمر حين قال له عمر: "فعلام نعطي الدنية في ديننا إذاً؟ فأجابه صلى الله عليه وسلم بقوله: "إني رسول الله ولست أعصيه، وهو ناصري..."(1).
أما قريش فكان محركها في سيرها هو العُنجُهِيَّة وحب السمعة، وقد صرحوا بذلك في وصيتهم لسهيل بن عمرو حين بعثوه للمفاوضة حيث قالوا له: ائت محمداً فصالحه ولا يكون في صلحه إلا أن يرجع عنا عامه هذا، فوالله لا تتحدث العرب أنه دخلها علينا عنوة أبداً" (2).
وعلى أساس من هذه الوصية بنى سهيل بن عمرو شروطه للصلح، فعندما قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "على أن تخلوا بيننا وبين البيت فنطوف به" فقال سهيل: "والله لا تتحدث العرب أنا أخذنا ضُغْطَة..."(3).
وهكذا كان هدف قريش هو الحفاظ على سمعتها دون نظر للعاقبة ولذلك صارت شروطها وبالاً عليها حتى تخلت عن أهم تلك الشروط، فطلبت من النبي صلى الله عليه وسلم أن يؤوي من جاءه من مكة مسلماً ولا يرده إليها:
__________
(1) من حديث المسور ومروان من رواية معمر.
(2) من حديثهما من رواية ابن إسحاق.
(3) من حديث المسور ومروان من رواية معمر.(2/100)
ففي حديث المسور ومروان من طريق معمر بعد أن ذكر قصة أبي بصير وقتله للذي جاء في طلبه من قبل قريش قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "ويل أمه مسعر حرب لو كان له أحد" فلما ذكر ذلك عرف أنه سيرده عليهم فخرج حتى أتى سيف البحر، قال: وينفلت أبو جندل بن سهيل فلحق بأبي بصير فجعل لا يخرج من قريش رجل قد أسلم إلا لحق بأبي بصير حتى اجتمعت منهم عصابة، فوالله ما يسمعون بعير خرجت لقريش إلا اعترضوا لها فقتلوهم وأخذوا أموالهم، فأرسلت قريش إلى النبي صلى الله عليه وسلم تناشده الله والرحم لما أرسل إليهم فمن أتاه فهو آمن، فأرسل النبي صلى الله عليه وسلم إليهم فأنزل(1) الله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُم بِبَطْنِ مَكَّةَ مِن بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ} - حتى بلغ الحمية حمية الجاهلية(2)، وكانت حميتهم أنهم لم يقروا أنه نبي الله ولم يقروا "بسم الله الرحمن الرحيم" وحالوا بينه وبين البيت"(3).
__________
(1) قال ابن حجر: ظاهره انها نزلت في شأن أبي بصير، وفيه نظر، والمشهور في سبب نزولها ما أخرجه مسلم من حديث سلمة بن ألأكوع ومن حديث أنس بن مالك أيضاً، وأخرجه أحمد والنسائي من حديث عبد الله بن مغفل بإسناد صحيح، نزلت بسبب القوم الذي أرادوا من قريش أن يأخذوا من المسلمين غرة، فظفروا بهم فعفا عنهم النبي صلى الله عليه وسلم فنزلت الآية. فتح الباري 5/356.
ويؤيد ما قاله الحافظ رحمه الله أن في الآية {بِبَطْنِ مَكَّةَ}وأبو بصير وجماعته لم يكونوا ببطن مكة، قاله صاحب الصحيح المسند من أسباب النزول: 147.
قلت: الأحاديث التي أشار إليها ابن حجر في سبب نزول الآية تقدمت في مبحث، تحرشات قريش، انظر ص: 199
(2) سورة الفتح الآية: 24 - 26.
(3) صحيح البخاري مع الفتح، كتاب الشروط 2731 - 2732، وتقدم سنده مع طرف من أوله برقم (35).(2/101)
وفي حديثهما من طريق ابن إسحاق عند البيهقي بعد أن ذكر قتل أبي بصير للذي جاء في طلبه قال: "فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ويل أمه محش حرب لو كان معه رجال" فخرج أبو بصير حتى نزل بالعيص(1)، وكان طريق أهل مكة إلى الشام فسمع به من كان بمكة من المسلمين وبما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه، فلحقوا به حتى كان في عصبة من المسلمين قريب من الستين أو السبعين، فكانوا لا يظفرون برجل من قريش إلا قتلوه ولا تمر عليهم عير إلا اقتصعوها حتى كتبت قريش إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يسألونه بأرحامهم لما آواهم فلا حاجة لنا بهم، ففعل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقدموا عليه المدينة"(2).
وأخرجه البيهقي أيضاً من طريق موسى بن عقبة عن الزهري مرسلاً مطولاً:
__________
(1) العيص: - بالكسر ثم السكون وآخره صاد مهملة - هو موضع في بلاد بني سليم على ساحل البحر. معجم البلدان 4/173.
(2) السنن الكبرى 9/227، وتقدم سند الحديث مع طرف من أوله برقم (36).(2/102)
فبعد أن ذكر قتل أبي بصير للذي جاء في طلبه قال: وجاء أبو بصير بسلبه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: خَمِّسْ(1) يا رسول الله قال: إني إذا خمسته لم أوف لهم بالذي عاهدتهم عليه، ولكن شأنك بسلب صاحبك، واذهب حيث شئت، فخرج أبو بصير معه خمسة نفر كانوا قد قدموا معه مسلمين من مكة، حيث قدموا فلم يكن طلبهم أحد، ولم ترسل قريش كما أرسلوا في أبي بصير حتى كانوا بين العيص وذي المروة(2) من أرض جهينة على طريق عيرات قريش، مما يلي سِيْفَ البحر، لا يمر بهم عِيْر لقريش إلا أخذوها وقتلوا أصحابها، وكان أبو بصير يكثر أن يقول:
الله ربي العليُّ الأكبر ... من يَنْصرِ الله فسوف يُنْصَرُ
ويقع الأمر على ما يُقْدَرُ
__________
(1) خمس: أي اجعله خمسة أقسام وخذ الخمس لقوله تعالى: {وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ لِلّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ} الآية (الأنفال آية 41).
(2) ذي المروة: قرية بوادي القرى، وقيل بين خشب ووادي القرى. معجم البلدان 5/116.(2/103)
وانفلت أبو جندل بن سهيل بن عمرو في سبعين راكباً أسلموا وهاجروا فلحقوا بأبي بصير، وكرهوا أن يقدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم في هدنة المشركين، وكرهوا الثواء بين ظَهْرَيْ قومهم، فنزلوا مع أبي بصير في منزل كريه إلى قريش فقطعوا مادتهم من طريق الشام، وكان أبو بصير زعموا وهو في مكانة ذلك يصلي لأصحابه، فلما قدم عليه أبو جندل كان هو يؤمهم واجتمع إلى أبي جندل حين سمعوا بقدومه ناس من بني غفار وأسلم وجهينة، وطوايف من الناس، حتى بلغوا ثلثمائة مقاتل وهم مسلمون قال: فأقاموا مع أبي جندل وأبي بصير لا يمر بهم عيرات لقريش إلا أخذوها وقتلوا أصحابها فأرسلت قريش إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا سفيان بن حرب يسألونه ويتضرعون إليه أن يبعث إلى أبي بصير وأبي جندل بن سهيل ومن معهما فيقدموا عليه وقالوا: من خرج منا إليك فأمسكه غير حرج أنت فيه فإن هؤلاء الركب قد فتحوا علينا باباً لا يصلح إقراره - فلما كان ذلك من أمرهم علم الذين كانوا أشاروا على رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يمنع أبا جندل من أبيه بعد القضية أن طاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم خير لهم فيما أحبوا وفيما كرهوا من أن يأتي من ظن أن له قوة، هي أفضل مما خص الله به رسوله صلى الله عليه وسلم من العون والكرامة(1)، ولم يزل أبو جندل وأبو بصير وأصحابهما الذين اجتمعوا إليهما هنالك حتى مر بهم أبو العاص بن الربيع(2)
__________
(1) هذا الكلام فيه نظر، فالذين أشاروا على رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يمنع أبا جندل هم بعض الصحابة، ولم يكن أحد منهم يظن أن له قوة أفضل مما خص الله بها نبيه من العون والكرامة بل كانوا يعتقدون أن طاعة رسول الله لهم فيما أحبوا وفيما كرهوا.
(2) قصة أبي العاص هذه ذكرها ابن سعد في الطبقات 2/87، وابن جرير في تاريخه 2/83، وابن كثير في البداية والنهاية 4/178، فذكر هؤلاء وغيرهم من أهل المغازي أنها كانت في سرية زيد بن حارثة إلى العيص سنة ست، وذكرها ابن القيم في سرية زيد ثم أورد رواية موسى بن عقبة هذه وعقب عليها بقوله: وقول موسى بن عقبة أصوب، وأبو العاص إنما أسلم زمن الهدنة، وقريش انبسطت عيراتها إلى الشام زمن الهدنة، وسياق الزهري للقصة بين ظاهر أنها كانت في زمن الهدنة.
قلت: يظهر من كلام ابن القيم رحمه الله ترجيح أن الذين أخذوا عير أبي العاص هم أبو بصير وأصحابه لكن جاء في حديث عائشة رضي الله عنها عند الحاكم أن الذي أخذ عير أبي العاص هو زيد بن حارثة وأصحابه.
قال الحاكم: حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب ثنا أحمد بن عبد الجبار ثنا يونس بن بكير عن محمد بن إسحاق، حدثني يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير عن أبيه عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت: "لما بعث أهل مكة في فداء أساراهم..." وذكرت فداء زينب رضي الله عنها لأبي العاص، ثم قالت: "ولم يزل أبو العاص مقيماً على شركه حتى إذا كان قبيل فتح مكة، خرج بتجارة إلى الشام بأموال من أموال قريش أبضعوها معه، فلما فرغ من تجارته وأقبل قافلاً لقيته سرية لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وقيل إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان هو الذي وجه السرية للعير التي فيها أبو العاص، قافلة من الشام، وكانوا سبعين ومائة راكب، أميرهم زيد بن حارثة، وذلك في جمادى الأول سنة ست من الهجرة، فأخذوا ما في تلك العير من الأثقال وأسروا أناساً من العير، فأعجزهم أبو العاص هرباً..." المستدرك 3/236.
وهذا الإسناد حسن قد صرح ابن إسحاق فيه بالسماع، وقال الألباني عن هذا الحديث: وإسناده جيد، فقه السيرة للغزالي 366 حاشية.
فالتحقيق أن الذي أخذ عير أبي العاص هو زيد بن حارثة ومن معه لهذا الحديث، أما ما ذكره موسى بن عقبة فهو من مراسيل الزهري، ومراسيل الزهري كان يحيى بن سعيد لا يراها شيئاً، ويقول: هي بمنزلة الريح. تهذيب التهذيب 9/451.(2/104)
، وكان تحته زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم من الشام في نفر من قريش فأخذوهم وما معهم وأسروهم، ولم يقتلوا منهم أحداً لصهر أبي العاص رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو العاص يومئذ مشرك، وهو ابن أخت خديجة بنت خويلد لأمها وأبيها، وخلوا سبيل أبي العاص، فقدم المدينة على امرأته وهي بالمدينة عند أبيها، وكان أذن لها أبو العاص حين خرج إلى الشام أن تقدم المدينة فتكون مع رسول الله فكلمها أبو العاص في أصحابه الذين أسر أبو جندل وأبو بصير وما أخذوا لهم، فكلمت رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك فزعموا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام فخطب الناس فقال: إنا ناسبنا وصاهرنا أبا العاص، فنعم الصهر وجدناه، وإنه أقبل من الشام في أصحاب له من قريش فأخذهم أبو جندل وأبو بصير ولم يقتلوا منهم أحداً، وإن زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم سألتني أن أجيرهم، فهل أنتم مجيرون أبا العاص وأصحابه، فقال الناس: نعم، فلما بلغ أبا جندل وأصحابه قول رسول الله صلى الله عليه وسلم في أبي العاص وأصحابه الذين كانوا عندهم من الأسرى رد إليهم كل شيء أخذ منهم حتى العقال، وكتب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أبي جندل وأبي بصير يأمرهم أن يقدموا عليه، ويأمر من معهما ممن اتبعهما أن يرجعوا إلا بلادهم وأهليهم ولا يعترضوا لأحد من قريش وعيراتها، فقدم كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم زعموا على أبي جندل وأبي بصير، وأبو بصير يموت، فمات وكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في يده يقرأه فدفنه أبو جندل مكانه، وجعل عند قبره مسجداً(1)، وقدم أبو جندل على رسول الله
__________
(1) هذا الفعل لم يثبت عن أبي جندل، لأن هذا الحديث من مرسلات الزهري، وهي ضعيفة، وعلى فرض ثبوته فهو محمول على عدم بلوغ النهي عن ذلك لأبي جندل، لأن قدومه للمدينة كان بعد هذه الحادثة، كما صرح بذلك هذا الحديث، وإنما شرعت الأحكام بعد هجرة النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة.(2/105)
صلى الله عليه وسلم ومعه ناس من أصحابه ورجع سائرهم إلى أهليهم، وأمنت عيرات قريش..."(1).
ثم ذكر فيه نبذة عن حياة أبي جندل بعد ذلك.
وأخرجه البيهقي أيضاً عن طريق(2) أبي الأسود عن عروة مرسلاً بنحو مرسل الزهري إلا أنه لم يذكر قصة أبي العاص.
رواية الزهري وغيره هذه مرسلة لكن أصل قصة أبي بصير وأبي جندل ثابت من حديث المسور ومروان السابق من طريق معمر وابن إسحاق.
المطلب الثاني: نقض قريش للعهد:
إن المؤمن الحق يعلم أنه محكوم في كل تصرفاته بأوامر الله ونواهيه ويشعر أنه مراقب في كل لحظة من لحظات حياته، مراقب من الله الذي يعلم السر وأخفى، ولذلك تجده وقافاً عند حدود الله مستشعراً عظم المسئولية، وقد رأينا كيف وَفَّى الصحابة رضوان الله عليهم بالعهد - حين امتلأت قلوبهم بالإيمان - فردوا إخوانهم إلى قريش، وقلوبهم تكاد تتقطع أسىً وحسرة.
أما غير المؤمن فإنه محكوم بهواه وشهوته يدفعانه لارتكاب كل رذيلة، ولا يرعوي لشيء إلا أن تكون قوة ظاهر تدركها حواسه، وسوف نرى كيف أقدمت قريش على نقض العهد - حين ظنت أن أمرها سيخفى على رسول الله صلى الله عليه وسلم - فأعانت حلفائها على حلفاء النبي صلى الله عليه وسلم، كما أوضحت ذلك النصوص التالية:
__________
(1) دلائل النبوة 2، لوحة 243، 244.
(2) دلائل النبوة 2، لوحة: 245.(2/106)
(120) قال ابن كثير: وكان سبب الفتح بعد هدنة الحديبية ما ذكره محمد بن إسحاق قال: حدثني الزهري عن عروة بن الزبير عن المسور بن مخرمة ومروان بن الحكم أنهم حدثاه جميعاً قالا: كان في صلح الحديبية أنه من شاء أن يدخل في عقد محمد وعهده دخل، ومن شاء أن يدخل في عقد قريش وعهدهم دخل، فتواثبت خزاعة وقالوا: نحن في عقد محمد وعهده، وتواثبت بنو بكر وقالوا: نحن ندخل في عقد قريش وعهدهم، فمكثوا في تلك الهدنة نحو السبعة أبو الثمانية عشر شهراً، ثم إن بني بكر وثبوا على خزاعة ليلاً بماء يقال له الوتير(1)، وهو قريب من مكة، وقالت قريش: ما يعلم بنا محمد، وهذا الليل وما يرانا من أحد فأعانوهم عليهم بالكراع والسلاح، وقاتلوهم معهم للضغن على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن عمرو بن سالم ركب عندما كان من أمر خزاعة وبني بكر بالوتير، حتى قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم يخبر الخبر، وقد قال أبيات شعر فلما قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم أنشده إياها:
يا رب إني ناشد محمدا ... حلف أبينا وأبيه الأتلدا(2)
قد كنتموا وُلْدا وكنا والدا ... ثمت أسلمنا فلم ننزع يدا
فانصر رسول الله نصراً أيِّدا ... وادع عباد الله يأتوا مددا
فيهم رسول الله قد تجردا ... إن سِيْم خسفاً(3) وجهه تربدا
في فيلق كالبحر يجري مُزْبِدا ... إن قريشاً أخلفوك الموعدا
ونقضوا ميثاقك المؤكدا ... وجعلوا لي في كَداء(4) رَصَدا
وزعموا أن لست أدعوا أحدا ... فهم أذلّ وأقل عددا
هم بيتونا بالوَتِير هُجّدا ... وقتلونا ركعاً وسجدا
__________
(1) الوتير: هو ماء خزاعة، ويقع أسفل مكة. معجم البلدان 5/360.
(2) الأتلد: القديم. انظر: ترتيب القاموس 1/374.
(3) الخسف: النقيصة. ترتيب القاموس 2/55.
(4) كداء: بفتح الكاف والمد. هي الثنية التي بأعلى مكة. تهذيب الأسماء واللغات 2/2/123.(2/107)
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نصرت يا عمرو بن سالم" فما برح حتى مرت بنا عنانة في السماء، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن هذه السحابة لتستهل بنصر بني كعب، وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس بالجهاز، وكتمهم مخرجه، وسأل الله أن يُعمِّي على قريش خبره، حتى يبغتهم في بلادهم(1).
وقد نقل ابن حجر(2) هذا الحديث عن مغازي ابن إسحاق أيضاً.
قال محمد بن إسحاق في المغازي: "حدثني الزهري به، فذكره إلا أنه اختصر القصة".
والحديث بهذا الإسناد حسن؛ لأن ابن إسحاق صرح فيه بالسماع وبقية رجاله رجال الصحيح.
وللحديث شواهد يرتفع بها إلى درجة الصحة، وهي:
حديث ابن عمر عند ابن حبان:
(121) قال: حدثنا الحسين(3) بن مصعب بمرو بقرية سلج(4)، قال: حدثنا محمد(5) بن عمر بن الهياج، حدثني يحيى(6)
__________
(1) البداية والنهاية 4/278.
(2) الإصابة 7/107.
(3) الحسين بن محمد بن مصعب بن رزيق المروزي السنجي، قال ابن ماكولا: كان يقال: ما بخراسان أكثر حديثاً منه، ووصفه الذهبي بالحافظ البارع، توفي سنة خمس عشرة وثلاثمائة. الإكمال 4/474، تذكرة الحفاظ 3/801، طبقات الحفاظ:334.
(4) هكذا في موارد الظمآن، والصواب: (سنج)، كما في الأنساب 7/266، ومعجم البلدان 2/264.
(5) محمد بن عمر بن هياج الهمداني الصائدي الكوفي، صدوق مات سنة خمس وخمسين ومائتين: ت، س، ق. تقريب: 312.
وقال النسائي: لا بأس به، وقال محمد بن عبد الله الحضرمي: كان ثقة، وذكره ابن حبان في الثقات. تهذيب التهذيب 9/362.
(6) يحيى بن عبد الرحمن بن مالك بن الحارث الأرحبي الكوفي، صدوق ربما أخطأ من التاسعة: ت، س، ق. تقريب: 377.
قال أبو حاتم: لا أرى في حديثه إنكاراً، يحدث عن عبيدة بن الأسود أحاديث غرائب، وقال الدارقطني: صالح يعتبر به، وذكره ابن حبان في الثقات، وقال: ربما خالف. تهذيب التهذيب 11/250.(2/108)
بن عبد الرحمن الأرحبي حدثني عبيدة(1) بن الأسود حدثنا القاسم(2) بن الوليد عن سنان(3) بن الحارث بن مصرف عن طلحة(4) بن مصرف عن مجاهد عن ابن عمر قال: "كانت خزاعة حلفاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانت بنو بكر رهط بني كنانة حلفاء لأبي سفيان، قال: وكانت بينهم موادعة أيام الحديبية، فأغارت بنو بكر على خزاعة في تلك المدة، فبعثوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يستمدونه فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم مدداً لهم في شهر رمضان..."(5) في حديث طويل.
هذا اللفظ حسن لشاهده من حديث ابن إسحاق السابق، وقد صرح فيه عبيدة ابن الأسود بالسماع، وبقية رجاله فيهم الثقة، وفيهم دونه وأقلهم حالاً يعتبر بحديثه.
حديث ميمونة رضي الله عنها عند الطبراني:
__________
(1) عبيدة بن الأسود بن سعيد الهمداني الكوفي، صدوق ربما دلس، من الثامنة: د، ت، ق. تقريب: 231.
قال أبو حاتم: ما بحديثه بأس، وذكره ابن حبان في الثقات، وقال: يعتبر بحديثه إذا بين السماع، وكان فوقه ودونه ثقات. تهذيب التهذيب 7/86.
(2) القاسم بن الوليد الهمداني أبو عبد الرحمن الكوفي، القاضي صدوق يغرب، مات سنة إحدى وأربعين ومائة: ق. تقريب: 280، وثقه ابن معين والعجلي وذكره ابن حبان في الثقات وقال: يخطئ ويخالف. تهذيب التهذيب 8/340.
(3) سنان بن الحارث بن مصرف ابن أخي طلحة بن مصرف، روى عن طلحة بن مصرف، روى عنه محمد بن طلحة والقاسم بن الوليد. الجرح والتعديل 2/1/254، وذكره ابن حبان في الثقات 6/434.
(4) طلحة بن مصرف بن عمرو بن كعب اليامي - بالتحتانية - الكوفي، ثقة فاضل، مات سنة اثنتي عشرة ومائة أو بعدها: ع. تقريب: 157.
(5) موارد الظمآن إلى زوائد ابن حبان: 414.(2/109)
(122) قال: حدثنا محمد(1) بن عبد الله القرمطي من ولد عامر بن ربيعة ببغداد، حدثنا يحيى(2) بن سليمان بن نضلة الخزاعي حدثنا عمي محمد بن نضلة عن جعفر(3) بن محمد عن أبيه(4) عن جده علي(5) بن الحسين، حدثتني ميمونة(6) بنت الحارث، زوج النبي صلى الله عليه وسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بات عندها في ليلتها فقام يتوضأ
__________
(1) محمد بن عبد الله العدوي، يعرف بالقرمطي مدني الأصل، حدث عن بكر بن عبد الوهاب ويحيى بن سليمان بن نضلة، روى عنه محمد بن غالب، وأبو القاسم الطبراني، قال أبو القاسم: إنما نسبوا إلى القرامطة لأن النبي صلى الله عليه وسلم رأى عامراً جدهم يمشي فقال: إنه ليقرمط في مشيه. تاريخ بغداد 5/433 - 434.
(2) يحيى بن سليمان بن نضلة الخزاعي المدني، روى عن مالك وسليمان بن بلال، وعنه ابن صاعد، وكان يفخم أمره، قال ابن عقدة: سمعت ابن خراش يقول: لا يسوى شيئاً، قال ابن أبي حاتم: كتب عنه أبي، وسألته عنه فقال: شيخ حدث أياماً ثم توفي، وقال ابن عدي: روى عن مالك وأهل المدينة أحاديث عامتها مستقيمة. الجرح والتعديل 4/2/154، ميزان الاعتدال 4/383، لسان الميزان 6/261.
(3) جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب الهاشمي أبو عبد الله المعروف بالصادق، صدوق فقيه إمام، مات سنة ثمان وأربعين ومائة: بخ، م، الأربعة. تقريب: 56.
(4) محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، أبو جعفر الباقر، ثقة فاضل ، مات سنة بضع عشرة ومائة: ع. تقريب: 311.
(5) علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، زين العابدين، ثقة ثبت عابد فقيه فاضل مشهور، قال ابن عيينة عن الزهري: ما رأيت قرشياً أفضل منه، مات سنة ثلاث وتسعين وقيل غير ذلك: ع. تقريب: 245.
(6) ميمونة بنت الحارث الهلالية زوج النبي صلى الله عليه وسلم، قيل اسمها: برة، فسماها النبي صلى الله عليه وسلم ميمونة وتزوجها بسرف في سنة سبع، وماتت بها ودفنت سنة إحدى وخمسين على الصحيح: ع. تقريب: 473.(2/110)
للصلاة فسمعته يقول في متوضئه: ليبك لبيك ثلاثاً، نصرت نصرت ثلاثاً، فلما خرج قلت: يا رسول الله سمعتك تقول في متوضئك: ليبك لبيك ثلاثاً، نصرت نصرت ثلاثاَ، كأنك تكلم إنساناً فهل كان معك أحد؟ فقال: هذا راجز بني كعب يستصرخني ويزعم أن قريشاَ أعانت عليهم بني بكر، ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمر عائشة أن تجهزه ولا تعلم أحداً، قالت: فدخل عليها أبو بكر فقال: يا بنية ما هذا الجهاز، فقالت: والله ما أدري، فقال: والله ما هذا زمان غزو بني الأصفر، فأين يريد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالت: والله لا علم لي، قالت: فأقمنا ثلاثاً ثم صلى الصبح بالناس فسمعت الراجز ينشده، فذكرت الأبيات، ثم قالت: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ليبك لبيك ثلاثاً، نصرت نصرت ثلاثاً"(1) الحديث.
قال الطبراني(2): "لم يروه عن جعفر إلا محمد بن نضلة، تفرد به يحيى بن سليمان ولا يروى عن ميمونة إلا بهذا الإسناد".
وقال الهيثمي(3): "رواه الطبراني في الصغير والكبير، وفيه يحيى بن سليمان بن نضلة، وهو ضعيف".
قلت: يحيى بن سليمان بن نضلة قال ابن خراش: لا يسوي شيئاً.
وقال أبو حاتم: "شيخ - وهو من يكتب حديثه وينظر فيه"(4).
وقال ابن عدي: "روى عن مالك وأهل المدينة أحاديث عامتها مستقيمة"(5).
حديث عائشة رضي الله عنها:
__________
(1) المعجم الصغير 2/73 - 74.
(2) المعجم الصغير 2/73 - 74.
(3) مجمع الزوائد 6/164.
(4) انظر: تقريب النواوي 1/345 مع تدريب الراوي.
(5) انظر ترجمته.(2/111)
(123) قال أبو يعلى: رحمه الله: ثنا عثمان(1) بن أبي شيبة ثنا عبد الله(2) بن إدريس عن حزام(3) بن هشام أخبرني أبي(4) عن عائشة(5) قالت: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم غضب فيما كان من شأن بني كعب غضباً لم أره غضبه منذ زمان، وقال: "لا نصرني الله إن لم أنصر بني كعب"، قالت: وقال لي: قولي لأبي بكر وعمر يتجهزا لهذا الغزو، فجاءا إلى عائشة فقال: أين يريد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: فقالت: لقد رأيته غضب فيما كان من شأن بني كعب غضباً لم أره غضبه منذ زمان من الدهر"(6).
قال الهيثمي(7): "رواه أبو يعلى عن حزام بن هشام بن حبيش عن أبيه عنها وقد وثقها ابن حبان وبقية رجاله رجال الصحيح".
__________
(1) عثمان بن محمد بن إبراهيم بن عثمان العبسي أبو الحسن بن أبي شيبة الكوفي ثقة حافظ شهير، وله أوهام، وقيل كان لا يحفظ القرآن، مات سنة تسع وثلاثين ومائتين، وله ثلاث وثمانون سنة: خ، م، د، س، ق. تقريب: 235 - 236.
(2) عبد الله بن إدريس بن يزيد بن عبد الرحمن الأودي - بسكون الواو - أبو محمد الكوفي ثقة فقيه عابد، مات سنة اثنتين وتسعين ومائة، وله بضع وسبعون سنة: ع. تقريب: 167.
(3) حزام بن هشام بن حبيش الخزاعي من أهل قديد، روى عن أبيه وعمر بن عبد العزيز، روى عنه ابن إدريس ووكيع، قال ابن أبي حاتم: سألت أبي عن حزام بن هشام فقال: شيخ محله الصدق. الجرح والتعديل 1/2/298.
(4) هشام بن حبيش بن خالد بن الأشعر الخزاعي حجازي والد حزام بن هشام، روى عن عمر، وسراقة بن مالك، وعاءشة، روى عنه ابنه حزام، الجرح والتعديل 4/2/53.
(5) عائشة بنت أبي بكر الصديق أم المؤمنين، أفقه النساء مطلقاً، وأفضل أزواج النبي صلى الله عليه وسلم إلا خديجة، ففيه خلاف شهير، ماتت سنة سبع وخمسين على الصحيح: ع. تقريب: 470.
(6) مسند أبي يعلى 4، لوحة 399.
(7) مجمع الزوائد 6/162.(2/112)
قلت: وقد وثقهما غير ابن حبان أيضاً، أما حزام فقال عنه ابن سعد(1) كان ثقة قليل الحديث، وقال أبو حاتم(2): شيخ محله الصدق، ووثقه يعقوب(3) بن شيبة صاحب المسند الكبير المعلل، وأما أبوه هشام بن خالد فقد ترجم له البخاري(4)، وابن أبي حاتم(5)، ولم يذكرا فيه جرحاً ولا تعديلاً، وكذلك ابن سعد(6) قال: كان قليل الحديث، لكن وثقه يعقوب(7) ابن شيبة، فالحديث بهذا الإسناد لا يقل عن درجة الحسن إن شاء الله.
حديث أبي هريرة رضي الله عنه عند البزار ويشهد له في المعنى:
(124) قال: حدثنا عبد الواحد(8) بن غياث أنبأ حماد بن سلمة عن محمد(9) بن عمرو عن أبي سلمة(10) عن أبي هريرة(11) أن قائد خزاعة قال:
__________
(1) الطبقات الكبرى 5/496.
(2) الجرح والتعديل 1/2/298.
(3) ذكره ابن عساكر في تاريخ دمشق 4، لوحة: 275، ونقله صاحب تهذيب تاريخ دمشق 4/119 - 123، إلا أنه قال: ابن أبي شيبة، وهو وهم لأن ابن أبي شيبة عبسي، وهذا سدوسي، وقد ترجم له الذهبي في تذكرة الحفاظ، وقال صاحب المسند الكبير المعلل ما صنف مسند أحسن منه، ولكنه ما أتمه، تذكرة الحفاظ 2/577.
(4) التاريخ الكبير 2/4/192.
(5) الجرح والتعديل 4/2/53.
(6) الطبقات الكبرى 5/465.
(7) تاريخ دمشق 4، لوحة: 175 في ترجمة ابنه حزام.
(8) عبد الواحد بن غياث - بمعجمة ومثلثة - أبو بحر الصيرفي صدوق، مات سنة أربعين ومائتين، وقيل قبل ذلك: د. تقريب: 222.
(9) محمد بن عمرو بن علقمة بن وقاص الليث المدني، صدوق له أوهام ثبت، مات سنة خمس وأربعين ومائة على الصحيح، /ع/. تقريب: 313.
(10) أبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف الزهري.
(11) أبو هريرة الدوسي الصحابي الجليل حافظ الصحابة، ذكر ابن حجر الاختلاف في اسمه واسم أبيه، ثم ذكر أن الأكثرين ذهبوا إلى أنه عبد الرحمن بن صخر، وذهب جمع من النسابين إلى أنه عمرو بن عامر، مات سنة سبع وقيل سنة ثمان وقيل سنة تسع وخمسبن وهو ابن ثمان وسبعين: ع. تقريب: 431.(2/113)
يا رب إني ناشد محمدا ... حلف أبينا وأبيه الأتلدا
انظر هداك الله نصرا أعتدا ... وادع عباد الله يأتوا مددا
وقال البزار: "لا نعلمه رواه إلى حماد بهذا الإسناد"(1). ...
قال الهيثمي(2) بعد أن ذكره في المجمع: "رواه البزار ورجاله رجال الصحيح، غير محمد بن عمرو وحديثه حسن".
قلت: محمد بن عمرو هو ابن علقمة بن وقاص الليثي، أشار ابن حجر إلى أنه روى له الجماعة(3)، لكن شيخ البزار عبد الواحد ليس من رجال الصحيح، إنما روى له أبو داود فقط، وقد وثقه الخطيب، وذكره ابن حبان في الثقات(4).
وقد أشار ابن حجر إلى سند البزار هذا وقال: "وهو إسناد حسن موصول"(5).
والحديث قد أخرجه موسى بن عقبة مرسلاً بمعنى ما سبق، وسمى بعض من أعان بني بكر من قريش: قال: "ويذكرون أن ممن أعانهم صفوان ابن أمية وشيبة بن عثمان، وسهيل بن عمرو..." (6)
وأخرجه عبد الرزاق(7) من طريق مقسم مرسلاً و مطولاً ذكر فيه قدوم أبي سفيان المدينة لتجديد العهد.
وأخرجه ابن أبي شيبة(8) من طريق أبي سلمة مرسلاً أيضاًَ.
فهذا الحديث جاء موصولاً ومرسلاً وترجح لي وصله لأن طريق الوصل مستقيمة وسبق بيانها، والله أعلم ... .
__________
(1) كشف الأستار عن زوائد البزار 2/342.
(2) مجمع الزوائد 6/162.
(3) رمز له ابن حجر بـ (ع) تقريب التهذيب: 313، وفي تهذيب التهذيب 9/375، وفي هدي الساري: 441.
(4) تهذيب التهذيب 6/438 - 439.
(5) فتح الباري 7/520.
(6) المصدر السابق.
(7) المصنف 5/374.
(8) تاريخ ابن أبي شيبة، لوحة :72.(2/114)
الباب الثالث: يشملُ أحداثاً وقعت بالحديبيةِ لم تحدّد وقت وقوعها وتحلل المسلمين وانصرافهم
وفيه أربعة فصول:
الفصل الأول: أحداث وقعت بالحديبية لم يتعين وقت وقوعها.
الفصل الثاني: تحلل النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه من الإحرام.
الفصل الثالث: أحداث وقعت للمسلمين في طريقهم للمدينة.
الفصل الرابع: فضل غزوة الحديبية ونتائجها.
الفصلُ الأولُ أحداثٌ وقعت بالحديبيةِ لم يتعين وقت وقوعِها
وفيه أربعة مباحث:
المبحث الأول: قصة كعب بن عجرة ونزول آية الفدية.
المبحث الثاني: بيان كفر من قال مطرنا بنوء كذا.
المبحث الثالث: مشروعية الصلاة في الرحال.
المبحث الرابع: نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن لحوم الحمر الأهلية.
المبحث الأول: قصة كعب بن عجرة ونزول آية الفدية:
ورد في ذلك حديث كعب بن عجرة، وقد رواه عنه عبد الرحمن بن أبي ليلى وعبد الله بن معقل ورواه عنهما عدة رواة، ورواه عن كعب أيضاً أبو وائل، ومحمد بن كعب القرظي ويحيى بن جعدة ورجل من الأنصار وعطاء.
رواية ابن أبي ليلى عن كعب:
(125) قال البخاري: حدثنا أبو نعيم حدثنا سيف قال: حدثني مجاهد قال: سمعت عبد الرحمن بن أبي ليلى أن كعب بن عجرة حدثه قال: وقف عليَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحديبية ورأسي يتهافت(1) قملاً، فقال: أيؤذيك هوامك(2)؟ قلت: نعم، قال: فاحلق رأسك، أو قال: "احلق" قال: فيَّ نزلت هذه الآية: {فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّأْسِهِ}(3) إلى آخرها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "صم ثلاثة أيام، أو تصدق بفرق بين ستة أو انسك(4) بما تيسر"(5).
__________
(1) يتهافت: يتساقط. النهاية 5/266.
(2) الهوام: - بتشديد الميم - جمع هامه وهي ما يدب من الأخشاش، وبينت الرواية أن المراد بها هنا القمل. انظر: فتح الباري 4/14.
(3) سورة البقرة الآية: 196.
(4) انسك: اذبح. النهاية 5/48.
(5) صحيح البخاري مع الفتح، كتاب المحصر: 1815.(3/1)
وأخرجه من طريق سيف: مسلم(1) وأحمد(2) بنحوه.
وأخرجه البخاري من طريق ابن أبي نجيح عن مجاهد به بنحوه إلا أن فيه: "فأمر أن يحلق وهو بالحديبية، ولم يتبين لهم أنهم يحلون بها وهم على طمع أن يدخلوا مكة، فأنزل الله الفدية..."(3).
ومن طريق ابن أبي نجيح أخرجه أحمد(4) بمثله.
وأخرجه البخاري من طريق أيوب عن مجاهد به بلفظ: "أتي علي النبي صلى الله عليه وسلم زمن الحديبية، والقمل يتناثر على وجهي، فقال: أيؤذيك هوام رأسك؟ قلت: نعم، قال: فاحلق وصم ثلاثة أيام أو أطعم ستة مساكين أو انسك نسيكة، قال أيوب: لا أدري بأي هذا بدأ"(5).
ومن طريق أيوب أخرجه مسلم(6) وأحمد(7) بنحوه.
وأخرجه البخاري(8) من طريق أبي نجيح وأيوب كلاهما عن مجاهد به مختصراً.
وأخرجه من طريق أبي بشر عن مجاهد به قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم ونحن محرمون وقد حصرنا المشركون قال: وكانت لي وفرة(9) فجعلن الهوام تساقط على وجهي، فمر بي النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أيؤذيك هوام رأسك؟ قلت: نعم، وأنزلت هذه الآية: {فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ}(10).
ومن طريق أبي بشر أخرجه الترمذي(11) وأحمد(12) بنحوه.
__________
(1) صحيح مسلم، كتاب الحج: 82.
(2) مسند أحمد 4/243.
(3) صحيح البخاري مع الفتح، كتاب المحصر 1817 - 1818، كتاب المغازي:4159.
(4) مسند أحمد 4/242 - 243.
(5) صحيح البخاري مع الفتح، كتاب المغازي: 4190.
(6) صحيح مسلم، كتاب الحج: 80.
(7) مسند أحمد 4/241.
(8) صحيح البخاري مع الفتح، كتاب المرضى: 5665.
(9) الوفرة: شعر الرأس إذا وصل إلى شحمة الأذن. النهاية 5/210.
(10) صحيح البخاري مع الفتح، كتاب المغازي: 4191.
(11) سنن الترمذي، كتاب التفسير: 2973.
(12) مسند أحمد 4/241.(3/2)
وأخرجه البخاري من طريق عبد الله بن عون عن مجاهد به، قال: أتيته "يعني النبي صلى الله عليه وسلم" فقال: ادن، فدنوت، فقال: أيؤذيك هوامك؟ قلت: نعم، قال: فدية من صيام أو صدقة أو نسك"(1).
ومن طريق ابن عون أخرجه مسلم وزاد في أوله: قال: فيّ نزلت هذه الآية: {فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ}(2)، الآية، وسائره بنحو لفظ البخاري.
وأخرجه البخاري من طريق حميد بن قيس عن مجاهد به مختصراً وزاد في آخره: "أو انسك بشاة"(3).
وأخرجه مسلم من طريق ابن أبي نجيح وأيوب وحميد وعبد الكريم الجزري كلهم عن مجاهد به: "أن النبي صلى الله عليه وسلم مر به وهو بالحديبية، قبل أن يدخل مكة وهو محرم وهو يوقد تحت قدر، والقمل يتهافت على وجهه، فقال: "أيؤذيك هوامك هذه؟" قال: نعم، قال: "فاحلق رأسك وأطعم فرقاً بين ستة مساكين (والفرق ثلاثة آصع) أو صم ثلاثة أيام، أو انسك نسيكة".
قال ابن أبي نجيح: "أو اذبح شاة"(4).
وأخرجه الترمذي(5) من طريقهم، كلهم به فذكره بمثله، وأخرجه مسلم من طريق أبي قلابة عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن كعب بن عجرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر به زمن الحديبية فقال له: آذاك هوام رأسك؟ قال: نعم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "احلق رأسك ثم اذبح شاة نسكاً أو صم ثلاثة أيام أو أطعم ثلاثة آصع من تمر على ستة مساكين" (6).
وأخرجه من طريقه أبو داود(7) وأحمد(8) بمثله.
__________
(1) صحيح البخاري مع الفتح، كتاب كفارة الأيمان: 6708.
(2) صحيح مسلم، كتاب الحج: 81.
(3) صحيح البخاري مع الفتح، كتاب المحصر: 1814.
(4) صحيح مسلم، كتاب الحج: 83.
(5) سنن الترمذي، كتاب الحج: 953.
(6) صحيح مسلم، كتاب الحج: 84.
(7) سنن أبي داود مع معالم السنن، كتاب المناسك: 1856.
(8) مسند أحمد 4/242.(3/3)
وأخرجه أحمد(1) من طريقه في موضع آخر وأسقط فيه الواسطة بينه وبين كعب بن عجرة، قال ابن حجر: الصواب أن بينهما واسطة وهو ابن أبي ليلى على الصحيح(2).
وأخرجه أبو داود(3) من طريق الحكم بن عتيبة عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن كعب بن عجرة أصابني هوام في رأسي... "فذكر الحديث وفي آخره: "أو أطعم فرقاً من زبيب"(4).
وأخرجه(5) من طريق عبد الكريم الجزري عن عبد الرحمن به، في هذه القصة زاد: أي ذلك فعلت أجزأك".
وأخرجه النسائي(6) وأحمد(7) من طريق عبد الكريم الجزري عن مجاهد عن عبد الرحمن به وفيه: "أو أطعم ستة مساكين مدين(8) لكل مسكين أو أنسك بشاة أي ذلك فعلت أجزأك".
__________
(1) مسند أحمد 4/241.
(2) فتح الباري 4/13.
(3) سنن أبي داود مع معالم السنن، كتاب المناسك: 1860.
(4) في هذه الرواية: "من زبيب" وفي رواية شعبة عند مسلم: "من تمر" وفي رواية بشر بن عمر "نصف صاع حنطة" وفي رواية شعبة عند أحمد "نصف صاع من طعام".
قال ابن حزم: لا بد من ترجيح إحدى هذه الروايات لأنها في قصة واحدة، في مقام واحد في حق رجل واحد. نقله ابن حجر ثم قال: المحفوظ عن شعبة أنه قال: في الحديث: "نصف صاع من طعام" والاختلاف عليه في كونه تمراً أو حنطة، لعله من تصرف الرواة، وأما الزبيب فلم أره إلا في رواية الحكم، وقد أخرجها أبو داود وفي سندها ابن إسحاق وهو حجة في المغازي، لا في الأحكام إذا خالف، والمحفوظ رواية التمر فقد وقع الجزم بها عند مسلم من طريق أبي قلابة كما تقدم، ولم يختلف فيه على أبي قلابة". فتح الباري 4/17.
(5) سنن أبي داود مع معالم السنن، كتاب المناسك: 1861.
(6) سنن النسائي 5/195، مع شرح السيوطي وحاشية السندي.
(7) مسند أحمد 4/241.
(8) لا منافاة بين ما في هذه الرواية "مدين لكل مسكين" وبين الروايات السابقة، لأن المدين تساوي نصف صاع. قال ابن الرفعة: والصاع أربعة أمداد باتفاق. الإيضاخ والتبيان في معرفة المكيال والميزان: 63.(3/4)
وقد أخرجه أحمد(1) من طريق الشعبي عن ابن أبي ليلى به، ومرة من طريق الشعبي عن كعب، لكن قال ابن حجر(2): الصواب أن بينهما ابن أبي ليلى.
رواية عبد الله بن معقل عن كعب بن عجرة:
قال البخاري: حدثنا أبو الوليد حدثنا شعبة عن عبد الرحمن بن الأصبهاني عن عبد الله بن معقل قال: "جلست إلى كعب بن عجرة رضي الله عنه فسألته عن الفدية فقال: نزلت فيَّ خاصة وهي لكم عامة، حملت(3) إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم والقمل يتناثر على وجهي، فقال: "ما كنت أرى الوجع بلغ بك ما أرى ..." أو "ما كنت أرى الجهد بلغ بك ما أرى تجد شاة؟ فقلت: لا، فقال: فصم ثلاثة أيام أو أطعم ستة مساكين لكل مسكين نصف صاع"(4).
وأخرجه عن آدم عن شعبة به فذكر نحوه وزاد فيه: "قعدت إلى كعب بن عجرة في هذا المسجد - يعني مسجد الكوفة..."(5) الحديث.
__________
(1) مسند أحمد 4/243.
(2) فتح الباري 4/13.
(3) قال هنا: "حملت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم" وفي رواية زكريا بن أبي زائدة الآتية: "فأرسل إليه فدعا الحلاق..."، والروايات السابقة من طريق ابن أبي ليلى تفيد أن النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي جاء إلى كعب، ففي طريق سيف عن مجاهد "وقف علي رسول الله صلى الله عليه وسلم" ومن طريق أبي بشر عن مجاهد: "فمر بي رسول الله صلى الله عليه وسلم"، وقد جمع ابن حجر بين ما يظهر في هذه الرواية من تعارض فقال: والجمع بين هذا الاختلاف أن يقال: مر به أولاً فرآه على تلك الصورة فاستدعى به إليه فخاطبه وحلق رأسه بحضرته، فنقل واحد منهما ما لم ينقله الآخر، ويوضحه قوله في رواية ابن عون السابقة حيث قال فيها: فقال: أدن، فدنوت" فالظاهر أن هذا الاستدناء كان عقب رؤيته إياه إذ مر به، وهو يوقد تحت القدر. (من فتح الباري 4/14 بتصرف يسير).
(4) صحيح البخاري مع الفتح، كتاب المحصر: 1816.
(5) صحيح البخاري مع الفتح، كتاب التفسير: 4517.(3/5)
وأخرجه مسلم(1) وابن ماجه(2) وأحمد(3) من طريق شعبة به نحوه، زاد في رواية أحمد: "نصف صاع من طعام".
وأخرجه مسلم من طريق زكريا بن أبي زائدة عن عبد الرحمن بن الأصبهاني به: "أنه خرج مع النبي صلى الله عليه وسلم فقمل رأسه ولحيته فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فأرسل إليه فدعا الحلاق، فحلق رأسه ثم قال: هل عندك نسك؟ قال: ما أقدر عليه، فأمره أن يصوم ثلاثة أيام أو يطعم ستة مساكين لكل مسكينين صاع، فأنزل الله عز وجل فيه خاصة: {فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّأْسِهِ ...}. ثم كانت للمسلمين عامة(4).
وأخرجه أحمد(5) من طريق سليمان بن قرم عن عبد الرحمن بن الأصبهاني به، فذكر نحو رواية ابن أبي زائدة وزاد: "فوقع القمل في رأسي ولحيتي، وحاجبي وشاربي"، وفي آخره: "لكل مسكين نصف صاع من تمر".
وأخرجه أحمد(6) من طريق الشعبي عن عبد الله بن معقل عنه.
رواية أبي وائل عن كعب بن عجرة:
__________
(1) صحيح مسلم، كتاب الحج: 85.
(2) سنن ابن ماجه، كتاب المناسك: 3079.
(3) مسند أحمد 4/242.
(4) صحيح مسلم، كتاب الحج: 86.
(5) مسند أحمد 4/243.
(6) مسند أحمد 4/243.(3/6)
قال النسائي: أخبرني أحمد(1) بن سعيد هو الرباطي قال: أنبأنا عبد الرحمن(2) بن عبد الله الدشتكي، قال: أنبأنا عمرو(3) - هو ابن أبي قيس - عن الزبير(4) - وهو ابن عدي - عن أبي وائل(5) عن كعب(6) بن عجرة قال: أحرمت فكثر قمل رأسي، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فأتاني وأنا أطبخ قدراً لأصحابي، فمس رأسي بإصبعه فقال: "انطلق فاحلقه وتصدق على ستة مساكين"(7)، هذا السند لا بأس به.
رواية محمد بن كعب عن كعب بن عجرة:
__________
(1) أحمد بن سعيد بن إبراهيم الرباطي المروزي، أبو عبد الله الأشقر، ثقة حافظ، مات سنة ست وأربعين ومائتين: خ، د، ت، س. تقريب: 12.
(2) عبد الرحمن بن عبد الله بن سعد بن عثمان الدشتكي - بفتح المهملة وسكون المعجمة وفتح المثناة - أبو محمد الرازي المقري ثقة، مات سنة بضع عشرة ومائتين: الأربعة /ز/. تقريب: 204.
(3) عمرو بن أبي قيس الرازي الأزرق، كوفي نزل الري صدوق له أوهام من الثامنة: خت، الأربعة. تقريب: 262.
(4) الزبير بن عدي الهمداني اليامي - بالتحتانية - أبو عبد الله الكوفي، ولي قضاء الري، ثقة، مات سنة إحدى وثلاثين ومائة: ع. تقريب: 106.
(5) شقيق بن سلمة الأسدي أبو وائل الكوفي ثقة مخضرم، مات في خلافة عمر بن عبد العزيز وله مائة سنة: ع. تقريب: 147.
(6) كعب بن عجرة الأنصاري المدني، أبو محمد صحابي مشهور، مات بعد الخمسين وله نيف وسبعون سنة: ع. تقريب: 286.
(7) سنن النسائي 5/195، مع شرح السيوطي وحاشية السندي.(3/7)
قال ابن ماجه: حدثنا عبد الرحمن(1) بن إبراهيم ثنا عبد الله(2) بن نافع عن أسامة(3) بن زيد عن محمد(4) بن كعب عن كعب بن عجرة قال: "أمرني النبي صلى الله عليه وسلم حين آذاني القمل أن أحلق رأسي وأصوم ثلاثة أيام أو أطعم ستة مساكين وقد علم أن ليس عندي ما أنسك"(5).
هذا الإسناد حسن، وأسامة بن زيد أخرج له مسلم.
رواية رجل من الأنصار عن كعب بن عجرة:
قال أبو داود: حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا الليث(6) عن نافع(7) أن رجلاً من الأنصار أخبره عن كعب بن عجرة - وكان قد أصابه في رأسه أذى فحلق - فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يهدي بقرة"(8).
هذا الإسناد فيه رجل مجهول، قاله المنذري(9).
رواية يحيى بن جعدة عن كعب بن عجرة:
__________
(1) عبد الرحمن بن إبراهيم بن عمرو العثماني مولاهم الدمشقي، أبو سعيد لقبه دحيم - مصغراً - ابن اليتيم، ثقة حافظ متقن، مات سنة خمس وأربعين ومائتين وله خمس وسبعون سنة: خ، م، د، س، ق. تقريب: 198، تهذيب التهذيب 6/131.
(2) هو: عبد الله بن نافع الصائغ.
(3) أسامة بن زيد الليثي مولاهم أبو زيد المدني، صدوق يهم، مات سنة ثلاث وخمسين ومائة وهو ابن بضع وسبعين سنة: خت، م، الأربعة. تقريب: 26.
(4) هو: محمد بن كعب القرظي.
(5) سنن ابن ماجه، كتاب المناسك: 3080.
(6) هو: ابن سعد.
(7) هو: مولى ابن عمر.
(8) سنن أبي داود مع معالم السنن، كتاب المناسك: 1859.
(9) مختصر سنن أبي داود 2/367 مع تهذيب السنن.(3/8)
قال الإمام أحمد: ثنا محمد بن بكر(1) أنا ابن جريج(2)، أخبرني عمرو(3) بن دينار عن يحيى(4) بن جعدة عن كعب بن عجرة: "أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر كعباً أن يحلق رأسه من القمل، قال: صم ثلاثة أيام أو أطعم ستة مساكين مدين مدين أو اذبح"(5).
هذا الإسناد رجاله رجال الصحيح، إلا يحيى بن جعدة، وهو ثقة.
رواية عطاء لقصة كعب بن عجرة:
قال ابن جرير ابن المثنى(6) قال: ثنا سويد(7) قال: أخبرنا ابن المبارك عن يعقوب(8) قال: سألت عطاء(9)
__________
(1) محمد بن بكر بن عثمان البرساني - بضم الموحدة وسكون الراء ثم مهملة - أبو عثمان البصري، صدوق يخطئ، مات سنة أربع ومائتين: ع. تقريب: 291.
(2) عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج الأموي مولاهم المكي ثقة فقيه فاضل، وكان يدلس ويرسل، مات سنة خمسين ومائة أو بعدها، وقد جاوز السبعين، وقيل جاوز المائة، ولم يثبت: ع. تقريب: 219.
(3) عمرو بن دينار المكي أبو محمد الأثرم الجمحي مولاهم ثقة ثبت، مات سنة ست وعشرين ومائة: ع. تقريب: 259.
(4) يحيى بن جعدة بن هبيرة بن أبي وهب المخزومي، ثقة وقد أرسل عن ابن مسعود ونحوه، من الثالثة: د، تم، س، ق. تقريب: 374.
(5) مسند أحمد 4/242.
(6) هو: محمد بن المثنى.
(7) سويد بن نصر بن سويد المروزي أبو الفضل لقبه الشاه، راوية ابن المبارك ثقة، مات سنة أربعين ومائتين وله تسعون سنة: ت، س. تقريب: 141.
(8) يعقوب بن القعقاع بن الأعلم الأزدي الخراساني أبو الحسن، ثقة من العاشرة: د، س. تقريب: 387.
(9) عطاء بن أبي رباح - بفتح الراء والموحدة - واسم أبي رباح أسلم القرشي مولاهم المكي، ثقة فقيه فاضل لكنه كثير الإرسال، مات سنة أربع عشرة ومائة على المشهور، وقيل إنه تغير بآخره ولم يكن ذلك منه: ع. تقريب: 239.
ويحتمل أن يكون عطاء هو الخراساني فقد صرح باسمه ابن جرير، وروى عنهما جميعاً.
وقال الشيخ أحمد شاكر: "الظاهر أنه عطاء بن أبي رباح ويحتمل أن يكون عطاء بن عبد الله الخراساني، لأن الحديث مرة جاء من روايته". تفسير ابن جرير 4/75 حاشية.(3/9)
عن قوله: {فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} فقال: إن كعب بن عجرة مر به النبي صلى الله عليه وسلم..."(1) الحديث معنى ما سبق.
وأخرجه من طريق ابن جريج قال: أخبرني عطاء ان النبي صلى الله عليه وسلم كان بالحديبية عام حبسوا بها وقمل رأس رجل من أصحابه يقال له: كعب بن عجرة فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أيؤذيك هوامك..."(2) الحديث.
وأخرجه من طريق مالك(3) بن أنس عن عطاء(4) بن عبد الله الخراساني أنه قال: أخبرني شيخ بسوق الكوفة عن كعب بن عجرة جاءني رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا أنضج تحت قدر لأصحابي..."(5).
هذه الأسانيد ضعيفة، فطريق يعقوب وطريق ابن جرير مرسلة.
وطريق مالك بن أنس فيها راو مبهم.
قال الشيخ أحمد شاكر(6): هذا الإسناد ضعيف لإرساله لأن عطاء يحكي قصة في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يدركها، ولم يذكر من حدثه بها.
المبحث الثاني: بيان كفر من قال مطرنا بنوء كذا:
__________
(1) تفسير ابن جرير 4/57.
(2) تفسير ابن جرير 4/58
(3) مالك بن أنس بن أبي عامر بن عمرو الأصبحي أبو عبد الله المدني الفقيه إمام دار الهجرة، رأس المتقنين وكبير المثبتين حتى قال البخاري: أصح الأسانيد مالك عن نافع عن ابن عمر، مات سنة تسع وسبعين ومائة، وكان مولده سنة ثلاث وتسعين، وقال الواقدي: بلغ تسعين سنة: ع. تقريب: 326.
(4) عطاء بن أبي مسلم الخراساني أبو عثمان واسم أبيه ميسرة، وقيل عبد الله صدوق يهم كثيراً ويرسل ويدلس، مات سنة خمس وثلاثين ومائة، ولم يصح أن البخاري أخرج له: م، الأربعة: 239.
(5) تفسير ابن جرير 4/66.
(6) تفسير ابن جرير 4/57 حاشية.(3/10)
(126) قال البخاري: حدثنا عبد الله بن مسلمة عن مالك عن صالح بن كيسان عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود عن زيد بن خالد الجهني أنه قال: "صلى لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الصبح بالحديبية - على أثر سماء كانت من الليلة - فلما انصرف أقبل على الناس فقال: هل تدرون ماذا قال ربكم؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر، فأما من قال: مطرنا بفضل الله ورحمته، فذلك مؤمن بي كافر بالكوكب، وأما من قال: بنوء(1) كذا وكذا، فذلك كافر بي ومؤمن بالكوكب"(2).
وأخرجه(3) عن إسماعيل بن أبي أويس عن مالك به مثله.
وأخرجه مسلم(4) عن يحيى بن يحيى قال: قرأت على مالك به مثله.
وأخرجه أبو داود(5) عن القعنبي عن مالك به فذكره بمثله.
وأخرجه مالك(6) بهذا اللفظ.
وأخرجه أحمد(7) عن إسحاق عن مالك به فذكره بمثله.
وفي روايتهم جميعاً "إثر سماء كانت من الليل".
__________
(1) الأنواء: هي ثمان وعشرون منزلة ينزل القمر كل ليلة في منزلة منها، وإنما سميت نوءاً لأنه إذا سقط الساقط منها بالمغرب ناء الطالع بالمشرق ينوء نوءاً: أي نهض وطلع، وقيل أراد بالنوء الغروب، وهو من الأضداد، وقال أبو عبيد لم نسمع في النوء أنه السقوط إلا في هذا الموضع. النهاية في غريب الحديث 5/122.
(2) صحيح البخاري مع الفتح، كتاب الأذان: 846.
(3) صحيح البخاري مع الفتح، كتاب الاستسقاء: 1038.
(4) صحيح مسلم، كتاب الإيمان: 125.
(5) سنن أبي داود مع معالم السنن، كتاب الطب: 3906.
(6) الموطأ، كتاب الاستسقاء: 4.
(7) المسند 4/117.(3/11)
وأخرجه البخاري عن خالد بن مخلد حدثنا سليمان بن بلال حدثني صالح بن كيسان به قال: "خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الحديبية، فأصابنا مطر ذات ليلة فصلى لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الصبح، ثم أقبل علينا فقال: أتدرون ماذا قال ربكم؟ ثم ذكر الحديث"، وفيه: "وأما من قال مطرنا بنجم كذا..."(1) وسائره مثله.
وأخرجه النسائي(2) عن قتيبة عن سفيان عن صالح به، فذكره بمعناه وليس فيه ذكر للحديبية.
وأخرج الواقدي حديثاً لأبي قتادة رضي الله عنه يفيد أن سبب هذا الحديث هو كلام صدر من ابن أبي بن سلول قال:
(127) حدثنا ابن أبي سبرة(3) عن إسحاق(4) بن عبد الله عن أبي سلمة الحضرمي قال: سمعت أبا قتادة يقول: سمعت ابن أُبَيْ يقول - ونحن بالحديبية ومطرنا بها - فقال ابن أُبَيْ: هذا نوء الخريف مطرنا بالشَّعْرَى(5).
هذا الحديث ضعيف جداً فيه الواقدي، وفيه شيخه سبرة يقول ابن حجر: رموه بالوضع.
المبحث الثالث: مشروعية الصلاة في الرحال:
__________
(1) صحيح البخاري مع الفتح، كتاب المغازي: 4147.
(2) سنن النسائي 3/165 مع شرح السيوطي وحاشية السندي.
(3) هو: أبو بكر بن عبد الله بن محمد بن أبي سبرة - بفتح المهملة وسكون الموحدة - ابن أبي رهم بن عبد العزى القرشي العامري المدني، قيل اسمه: عبد الله، وقد ينسب إلى جده، رموه بالوضع، وقال مصعب الزبيري: كان عالماً، مات سنة اثنتين وستين ومائة: ق. تقريب: 395.
(4) إسحاق بن عبد الله بن أبي فروة مولاهم المدني متروك، مات سنة أربع وأربعين ومائة: د، ت، ق. تقريب: 29.
(5) مغازي الواقدي 2/590.(3/12)
(128) قال ابن ماجه: حدثنا أبو بكر(1) بن أبي شيبة ثنا إسماعيل(2) بن إبراهيم عن خالد(3) الحذاء عن أبي المليح(4) بن أسامة قال: خرجت إلى المسجد في ليلة مطيرة فلما رجعت استفتحت فقال أبي(5): من هذا؟ قال: أبو المليح، قال: لقد رأيتنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية وأصابتنا سماء لم تبل أسافل نعالنا، فنادى منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "صلوا في رحالكم"(6).
وأخرجه أحمد(7) عن إسماعيل وسفيان ووكيع كلهم عن خالد عن أبي قلابة عن أبي المليح فذكرا الحديث بنحوه.
وفي رواية وكيع قال عن أبي المليح عن أبيه ولم يذكر قصة خروجه للمسجد.
__________
(1) عبد الله بن محمد بن أبي شيبة، إبراهيم بن عثمان الواسطي الأصل، الكوفي ثقة حافظ صاحب تصانيف، مات سنة خمس وثلاثين ومائتين: خ، م، د، س، ق. تقريب: 187.
(2) إسماعيل بن إبراهيم بن مقسم الأسدي مولاهم، أبو بشر البصري المعروف بابن علية، ثقة حافظ، مات سنة ثلاث وتسعين ومائة وهو ابن ثلاث وثمانين: ع. تقريب: 32.
(3) خالد بن مهران أبو المنازل - بفتح الميم وقيل: ضمها وكسر الزاي - البصري الحذاء - بفتح المهملة وتشديد الذال المعجمة - قيل له ذلك لأنه كان يجلس عندهم وقيل: لأنه كان يقول: أحذ على هذا النحو، وهو ثقة يرسل، وقد أشار حماد بن زيد إلى أن حفظه قد تغير لما قدم من الشام وعاب عليه بعضهم دخوله في عمل السلطان، مات سنة إحدى وأربعين ومائة: ع. تقريب: 901، تهذيب التهذيب 3/120.
(4) أبو المليح بن أسامة بن عمير أو عامر بن حنيف بن ناجية الهذلي اسمه عامر وقيل: زيد وقيل زياد ثقة، مات سنة ثمان ومائة، وقيل بعدها: ع. تقريب: 428، تهذيب التهذيب 12/246.
(5) أسامة بن عمير بن عامر بن الأقيش الهذلي البصري، والد أبي المليح، صحابي تفرد ولده عنه: الأربعة. تقريب: 26.
(6) سنن ابن ماجه، كتاب إقامة الصلاة: 936.
(7) مسند أحمد 5/74.(3/13)
وأخرجه(1) ابن سعد عن عبد الوهاب بن عطاء العجلي عن خالد به فذكر الحديث بنحوه.
وهذا الحديث صحيح، فسنده متصل برواية الثقات، وقد صححه ابن حجر(2).
وأخرجه أبو داود وزاد فيه: "في يوم الجمعة"، لكن في سنده انقطاع:
(129) قال: حدثنا نصر بن علي(3) قال سفيان(4) بن حبيب: خُبّرنا عن خالد الحذاء عن أبي قلابة عن أبي المليح عن أبيه أنه شهد النبي صلى الله عليه وسلم زمن الحديبية في يوم الجمعة وأصابهم مطر لم يبل أسفل نعالهم فأمرهم أن يصلوا في رحالهم(5).
وأخرجه الحاكم(6) بهذا السياق من طريق نصر بن علي عن سفيان عن خالد الحذاء به.
وسند أبي داود فيه انقطاع بين سفيان بن حبيب وخالد الحذاء قال سفيان خُبّرنا عن خالد بالبناء للمفعول.
قال صاحب عون المعبود: "المخبر لسفيان بن حبيب لم يعرف"(7).
لكن جاء في سند الحاكم عن سفيان عن خالد الحذاء، ولم أرَ أحداً وصف سفيان بالتدليس.
وقد ذكر المزي(8) أن سفيان بن حبيب روى عن خالد الحذاء.
وصحح هذه الزيادة الحاكم(9) ووافقه الذهبي(10) والألباني(11).
وقد جاء عند أبي داود(12) وأحمد(13) من طريق قتادة عن أبي المليح أن ذلك كان يوم حنين، فلعلها وقعت مرة أخرى بحنين والله أعلم.
__________
(1) الطبقات الكبرى 2/105.
(2) فتح الباري 2/113.
(3) نصر بن علي بن علي الجهضمي ثقة ثبت طلب للقضاء فامتنع، مات سنة خمسين ومائتين أو بعدها: ع. تقريب: 357.
(4) سفيان بن حبيب البصري، البزار أبو محمد وقيل غير ذلك ثقة، مات سنة اثنتين وثمانين ومائة، وقيل بعد ذلك وهو ابن ثمان وخمسين سنة: بخ، الأربعة. تقريب: 128.
(5) سنن أبي داود مع معالم السنن، كتاب الصلاة: 1059.
(6) المستدرك 1/293.
(7) عون المعبود 1/410.
(8) تهذيب الكمال 1، لوحة 365، 510.
(9) المستدرك 1/293.
(10) تلخيص الذهبي للمستدرك 1/293 مع المستدرك.
(11) إرواء الغليل 2/342.
(12) سنن أبي داود مع معالم السنن، كتاب الصلاة: 1057.
(13) مسند أحمد 5/74 - 75.(3/14)
المبحث الرابع: نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن لحوم الحمر الأهلية:
(130) قال الحارث بن محمد بن أبي أسامة ثنا العباس(1) بن الفضل ثنا حرب(2) بن شداد ثنا يحيى بن أبي كثير عن النحاز(3) بن جُدَىْ الحنفي عن سنان(4) بن سلمة بن المحبق الهذلي عن أبي(5) قال: مر بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية وأمر بالقدور أن تكفأ من لحوم الحمر الأهلية(6).
هذا الحديث منكر: تفرد به العباس بن الفضل عن حرب بن شداد، والعباس قد ضعفه غير واحد، وكذبه ابن معين، وقد خالف فيه، فقد رواه الثقات عن حرب بن شداد وذكروا أن ذلك كان يوم خيبر:
__________
(1) العباس بن الفضل بن العباس بن يعقوب أبو عثمان الأزرق، ضعيف من التاسعة، كذبه ابن معين: تمييز. تقريب: 166، وقال البخاري وأبو حاتم ذهب حديثه، وقال ابن حبان: يخطئ ويخالف. تهذيب التهذيب 5/128.
(2) حرب بن شداد اليشكري أبو الخطاب البصري، ثقة مات سنة إحدى وستين ومائة: خ، م، د، ت، س. تقريب: 66.
(3) نحاز بن جدي الحنفي عن سنان بن سلمة عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أمر بقدور فأكفئت كان فيها من لحوم حمر الناس. التاريخ الكبير 2/4/132، وذكره ابن حبان في الثقات: نحاز بن جدي الحنفي بمثل ما عند البخاري. الثقات 7/542، وترجم له ابن أبي حاتم فقال: نجاز بن جري الحنفي، الجرح والتعديل 4/1/512.
(4) سنان بن سلمة بن المحبق البصري الهذلي، ولد يوم حنين، فله رواية وقد أرسل أحاديث، مات في آخر إمارة الحجاج: م، د، س، ق. تقريب: 137 - 138.
(5) سلمة بن المحبق، وقيل هو: ابن ربيعة بن صخر الهذلي أبو سنان، صحابي سكن البصرة: د، س، ق. تقريب: 131.
(6) بغية الباحث عن زوائد الحارث، لوحة: 60.(3/15)
قال الإمام أحمد: ثنا أبو داود(1) الطيالسي قال: ثنا حرب بن شداد عن يحيى بن أبي كثير عن النحاز الحنفي أن سنان بن سلمة أخبره عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بلحوم حمر الناس يوم خيبر وهي في القدور فأكفئت(2).
وأخرجه أيضاً عن عبد الصمد(3) بن عبد الوارث عن حرب بن شداد به بنحو حديث أبي داود(4).
وأخرجه الطبراني من طريق عمرو(5) بن مرزوق عن حرب بن شداد به بنحو لفظ أبي داود(6).
والحديث صحيح له شواهد كثيرة في الصحيحين.
ففي البخاري من حديث ابن عمر:
قال البخاري: حدثنا محمد بن مقاتل أخبرنا عبد الله حدثنا عبيد الله ابن عمر عن نافع عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نهى يوم خيبر عن لحوم الحمر الأهلية" (7).
وأخرجه من طريق سالم عن ابن عمر بلفظ: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى يوم خيبر عن أكل الثوم وعن لحوم الحمر الأهلية"(8).
وأخرجه مسلم(9).
__________
(1) سليمان بن داود بن الجارود، أبو داود الطيالسي البصري، ثقة حافظ غلط في أحاديث، مات سنة أربع ومائتين: خت، م، الأربعة. تقريب: 133.
(2) مسند أحمد 3/476.
(3) عبد الصمد بن عبد الوارث بن سعيد العنبري مولاهم التنوري - بفتح المثناة وتثقيل النون المضمومة - أبو سهل البصري، صدوق ثبت في شعبة، مات سنة سبع ومائتين: ع. تقريب: 213.
(4) مسند أحمد 3/476.
(5) عمرو بن مرزوق الباهلي أبو عثمان البصري، ثقة له أوهام، مات سنة أربع وعشرين ومائتين: خ، د. تقريب: 262.
(6) المعجم الكبير 7/54 - 55.
(7) صحيح البخاري مع الفتح، كتاب المغازي: 4218.
(8) صحيح البخاري مع الفتح، كتاب المغازي: 4215.
(9) صحيح مسلم، كتاب الصيد والذبائح: 24.(3/16)
وفي الصحيحين أيضاً من حديث علي(1) بن أبي طالب، وجابر(2) ابن عبد الله، وعبد الله(3) بن أبي أوفى، والبراء(4) بن عازب، وابن عباس(5)، وسلمة(6) بن الأكوع، وأبو ثعلبة(7) الخشني، وأنس(8) بن مالك.
فهؤلاء كلهم رووا حديث النهي عن أكل لحوم الحمر الأهلية وصرحوا بأن ذلك النهي كان في غزوة خيبر، وقد روى الحديث غيرهم أيضاً من الصحابة(9).
الفصل الثاني
تحللُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم وأصحابَه من الإحرامِ
وفيه أربعة مباحث:
المبحث الأول: ... أمر النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه بالنحر والحلق، وذكر ما دار بينهم.
المبحث الثاني: ... عدد الهدي الذي نحره المسلمون في عمرة الحديبية.
المبحث الثالث: ... قصة جمل أبي جهل.
المبحث الرابع: ... هل نحر المسلمون الهدي في الحل أو في الحرم؟
المبحث الأول: أمر النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه بالنحر والحلق، وذكر ما دار بينهم:
كان من جملة الشروط التي أملتها قريش وأصرت عليها، أن يرجع المسلمون عامهم ذلك ولا يصلوا إلى البيت.
__________
(1) صحيح البخاري مع الفتح، كتاب المغازي: 4216، وفي صحيح مسلم، كتاب الصيد والذبائح: 22.
(2) صحيح البخاري مع الفتح، كتاب المغازي: 4219، وفي صحيح مسلم، كتاب الصيد والذبائح: 36 - 37.
(3) صحيح البخاري مع الفتح، كتاب المغازي: 4220، وفي صحيح مسلم، كتاب الصيد والذبائح: 26 - 27.
(4) صحيح البخاري مع الفتح، كتاب المغازي: 4226، وفي صحيح مسلم، كتاب الصيد والذبائح: 29 - 31.
(5) صحيح البخاري مع الفتح، كتاب المغازي: 4227، وفي صحيح مسلم، كتاب الصيد والذبائح: 32.
(6) صحيح البخاري مع الفتح، كتاب المغازي: 4196، وفي صحيح مسلم، كتاب الصيد والذبائح: 33.
(7) صحيح البخاري مع الفتح، كتاب الذبائح والصيد: 5527، وفي صحيح مسلم، كتاب الصيد والذبائح: 23.
(8) صحيح البخاري مع الفتح، كتاب المغازي: 4198 - 4199، وفي صحيح مسلم، كتاب الصيد والذبائح: 34 - 35.
(9) انظر مرويات غزوة خيبر لعوض الشهري ص230.(3/17)
وبعد أن وقع الاتفاق على الصلح، ومن ضمنه هذا الشرط قام رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه فنحروا هديهم، وكانوا قد ساقوه معهم من المدينة وحلقوا وقصر بعضهم فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم لمحلقين ثلاثاً، وللمقصرين مرة:
(131) قال البخاري: حدثنا محمود حدثنا عبد الرزاق أخبرنا معمر عن الزهري عن عروة عن المسور بن مخرمة رضي الله عنه: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نحر قبل أن يحلق وأمر أصحابه بذلك"(1).
وأخرجه البغوي(2) من طريق محمود به بهذا اللفظ.
وأخرجه أحمد من حديث المسور ومروان ونص على أنه كان في الحديبية:
قال حدثنا عبد الرزاق به عن المسور ومروان قالا: قلد رسول الله صلى الله عليه وسلم الهدي وأشعره من ذي الحليفة وأحرم منها بالعمرة، وحلق بالحديبية في عمرته، وأمر أصحابه بذلك، ونحر بالحديبية قبل أن يحلق وأمر أصحابه بذلك(3).
وقد أشار إلى أمر النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه بذلك وما دار بينهم حديث المسور ومروان الطويل: فقد جاء فيه من طريق معمر ما نصه:
"فلما فرغ من قضية الكتاب قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه قوموا فانحروا ثم احلقوا، قال: فوالله ما قام منهم رجل حتى قال ذلك ثلاث مرات، فلما لم يقم منهم أحد دخل على أم سلمة فذكر لها ما لقي من الناس، فقالت له أم سلمة: يا نبي الله أتحب ذلك؟ أخرج لا تكلم أحداً منهم حتى تنحر بدنك وتدعو حالقك فيحلقك، فخرج فلم يكلم أحداً منهم حتى فعل ذلك نحر بدنه ودعى حالقه فحلقه، فلما رأوا ذلك قاموا فنحروا وجعل بعضهم يحلق بعضاً، حتى كاد بعضهم يقتل بعضاً غماً"(4).
وأخرجه من طريق ابن إسحاق(5) بنحوه.
__________
(1) صحيح البخاري مع الفتح، كتاب المحصر: 1811.
(2) شرح السنة 7/285.
(3) مسند أحمد 4/327.
(4) صحيح البخاري مع الفتح، كتاب الشروط: 2731 - 2732، وتقدم سنده مع طرف من أوله برقم (35).
(5) المسند 4/326، وتقدم سنده مع طرف من أوله برقم (36).(3/18)
وأخرجه البيهقي من طريق ابن إسحاق بنحوه وزاد فيه: "فلما رأى الناس أنه قد فعل ذلك قاموا ففعلوا فنحروا وحلق بعضهم وقصر بعض، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اللهم اغفر للمحلقين، فقيل: يا رسول الله والمقصرين، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اللهم اغفر للمحلقين ثلاثاً، قيل: يا رسول الله وللمقصرين، فقال: وللمقصرين"(1).
وهذه الزيادة عند البيهقي، قد رواها عدد من الصحابة رضوان الله عليهم:
1 - فقد وردت من حديث ابن عمر رضي الله عنهما عند أحمد:
(132) قال: حدثنا عبد الرزاق(2) أنا معمر(3) عن أيوب(4) عن نافع عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال يوم الحديبية: "اللهم اغفر للمحلقين، فقال رجل: والمقصرين، فقال: اللهم اغفر للمحلقين، فقال: وللمقصرين، حتى قالها ثلاثاً أو أربعاً ثم قال: وللمقصرين"(5).
سند هذا الحديث صحيح فرجاله رجال الصحيح.
2 - ومن حديث ابن عباس رضي الله عنهما عند الإمام أحمد وغيره:
__________
(1) دلائل النبوة 2/ لوحة: 234.
(2) عبد الرزاق بن همام بن نافع الحميري مولاهم، أبو بكر الصنعاني ثقة حافظ مصنف شهير، عمى في آخر عمره، فتغير وكان يتشيع، مات سنة إحدى عشرة ومائتين، وله خمس وثمانون: ع. تقريب: 213.
(3) معمر بن راشد.
(4) أيوب بن أبي تميمة كيسان السختياني - بفتح المهملة بعدها معجمة ثم مثناة ثم تحتانية وبعد الألف نون - أبو بكر البصري، ثقة ثبت حجة، من كبار الفقهاء العباد، مات سنة إحدى وثلاثين ومائة وله خمس وستون: ع. تقريب: 41.
(5) مسند أحمد 2/34، 151.(3/19)
(133) قال الإمام أحمد رحمه الله: حدثنا يزيد(1) قال: قال محمد - يعني ابن إسحاق - : حدثني عبد الله بن أبي نجيح عن مجاهد عن ابن عباس قال: حلق رجال يوم الحديبية وقصر آخرون، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "يرحم الله المحلقين"، قالوا: يا رسول الله والمقصرين، قال: "يرحم الله المحلقين"، قالوا: يا رسول الله والمقصرين، قال: "يرحم الله المحلقين" قالوا: يا رسول الله والمقصرين، قال: "والمقصرين"، قالوا: فما بال المحلقين ظاهرت لهم الترحم؟ قال: "لم يشكوا"، قال: فانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم"(2).
وأخرجه أبو يعلى(3) من طريق يزيد بن هارون به فذكره بمثله إلا أن عنده: "ظاهرت لهم بالترحم" ولم يقل في آخره "فانصرف...".
وأخرجه الطحاوي(4) من طريق يحيى بن زكريا بن أبي زائدة وعبد الله بن إدريس كلاهما عن ابن إسحاق به مثله.
وأخرجه من طريق يونس بن بكير عن ابن إسحاق عن ابن جريج عن مجاهد قال: قلت لابن عباس لم ظاهر رسول الله صلى الله عليه وسلم للمحلقين ثلاثاً وللمقصرين مرة، قال: لأنهم لم يشكوا".
هذا الإسناد حسن؛ لأن مداره على ابن إسحاق وقد صرح بالسماع لكن الحديث صحيح لشواهده، من حديث ابن عمر السابق وحديث جابر الآتي وغيرهما:
__________
(1) يزيد بن هارون.
(2) مسند أحمد 1/353.
(3) مسند أبي يعلى /3/ لوحة: 271.
(4) شرح معاني الآثار 2/255 - 256، مشكل الآثار 2/144.(3/20)
(134) قال: حدثنا عبيد(1) بن رجال ثنا محمد(2) بن يوسف ثنا أبو قرة(3) موسى بن طارق عن زمعة(4) بن صالح عن زياد(5) بن سعد عن أبي الزبير(6) أنه سمع جابر بن عبد الله يقول: "حلق رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية وحلق ناس كثير من أصحابه حين رأوه حلق، وأمسك آخرون، فقالوا: والله ما طفنا بالبيت فقصروا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يرحم الله المحلقين، فقال
__________
(1) عبيد بن رجال المصري، أحد مشايخ الطحاوي الذين روى عنهم وكتب وحدث، ذكره ابن يونس في علماء مصر وقال: عبيد بن محمد بن موسى البزار المؤذن يكنى أبا القاسم، ويعرف بابن الرجال، مولى لقريش، يروي عن زيد بن بشر، توفي في شوال يوم الأربعاء لعشر خلون منه سنة أربع وثمانين ومائتين. مباني الأخبار في شرح معاني الآثار، لوحة: 333، كشف الأستار: 71.
(2) محمد بن يوسف الزبيدي - بفتح الزاي وكسر الموحدة أبو حمه بضم المهملة وفتح الميم الخفيفة - صاحب أبي قرة صدوق، مات في حدود الأربعين ومائتين: د. تقريب: 325، وهناك محمد بن يوسف الزيادي، ذكر ابن حجر أن ابن عساكر أفرده عن الزبيدي، ثم قال ابن حجر: ويظهر أنه هو - يعني الزبيدي - وكلاهما يروي عن أبي قرة.
(3) موسى بن طارق اليماني أبو قرة - بضم القاف - الزبيدي - بفتح الزاي - القاضي، ثقة يغرب، من التاسعة: س. تقريب: 351.
(4) زمعة بسكون الميم - ابن صالح الجندي - بفتح الجيم والنون - اليماني نزيل مكة أبو وهب ضعيف وحديثه عند مسلم مقرون، من السادسة: م، ق، ت، س، ق. تقريب: 108، وقد وقع في مشكل الآثار ((ربيعة)) ولم أجد ترجمته بهذا الاسم بعد البحث الطويل، ثم تبين لي أنه محرف عن (زمعة)، كما ورد في سند الطبراني وفي ترجمة شيخه وتلميذه في تهذيب المزي. والحمد لله.
(5) زياد بن سعد بن عبد الرحمن الخراساني، نزيل مكة ثم اليمن، ثقة ثبت، قال ابن عيينة كان أثبت أصحاب الزهري، من السادسة: ع. تقريب: 110.
(6) هو: محمد بن مسلم بن تدرس.(3/21)
رجال: والمقصرين يا رسول الله، فقال صلى الله عليه وسلم: يرحم المحلقين، قالوا: والمقصرين يا رسول الله، قال: والمقصرين"(1).
وأخرجه الطبراني(2) عن مفضل(3) ثنا علي بن زياد اللحجي، قال ذكر زمعة به نحوه وفيه اختصارٌ من آخره.
هذا الحديث حسن لشواهده من حديث ابن عمر وابن عباس السابقين لأن في سنده زمعة بن صالح ضعفه أحمد وابن معين وأبو داود وغيرهم، لكن قال ابن معين مرة: صويلح الحديث، وقال عمر بن علي: هو جائز الحديث مع الضعف الذي فيه، وقال ابن عدي: ربما يهم في بعض ما يرويه، وأرجو أن حديثه صالح لا بأس به(4).
وأخرجه أبو داود الطيالسي من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه بسياق آخر:
__________
(1) مشكل الآثار 2/124.
(2) مجمع البحرين 2/ لوحة: 152.
(3) مفضل بن محمد بن إبراهيم بن مفضل بن عامر بن شراحيل الجندي الشعبي صاحب أبي حمه، نقل الحاكم عن أبي علي الحافظ أنه قال: ما كان إلا ثقة مأموناً، وقال ابن حجر: روى عنه أحمد بن جعفر المقري اليماني وأبو القاسم الطبراني وأبو حاتم بن حبان، وابن عدي وابن المقري، وغيرهم. مات سنة ثمان وثلاثمائة بمكة. لسان الميزان 6/82.
(4) تهذيب التهذيب 3/338.(3/22)
(135) قال: حدثنا هشام(1) عن يحيى بن أبي كثير عن أبي إبراهيم(2) الأنصاري عن أبي سعيد: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه حلقوا رؤوسهم يوم الحديبية، إلا عثمان بن عفان وأبا قتادة فاستغفر رسول الله صلى الله عليه وسلم للمحلقين ثلاثاً وللمقصرين مرة(3).
وأخرجه(4) ابن سعد من طريق هشام الدستوائي به فذكره بمثله.
وأخرجه الطحاوي من طريق علي(5) بن المبارك عن يحيى بن أبي كثير به، ولفظه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الحديبية حلق، وحلق أصحابه غير رجلين من الأنصار ورجل من قريش(6).
وأخرجه من طريق الأوزاعي(7) عن يحيى بن أبي كثير به ولفظه: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يستغفر يوم الحديبية للمحلقين ثلاثاً وللمقصرين مرة(8).
وأخرجه البيهقي من طريق هشام الدستوائي عن يحيى به، ولفظه: حلق أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية غير رجلين قصرا ولم يحلقا(9).
__________
(1) هشام بن أبي عبد الله - سنبر - بمهملة ثم نون ثم موحدة - وزن جعفر - أبو بكر البصري الدستوائي - بفتح الدال وسكون السين المهملتين، وفتح المثناة ثم مد - ثقة ثبت، وقد رمي بالقدر، مات سنة أربع وخمسين ومائة، وله ثمان وسبعون سنة: ع. تقريب: 364.
(2) أبو إبراهيم الأشهلي المدني مقبول من الثالثة، قيل إنه عبد الله بن أبي قتادة، ولا يصح: ت، س. تقريب: 392، وفي تهذيب التهذيب 12/2، وروى عن أبي سعيد حديث: "اللهم اغفر للمحلقين...".
(3) مسند أبي داود: 295.
(4) الطبقات الكبرى 2/104.
(5) علي بن المبارك الهنائي - بضم الها وتخفيف النون ممدود - ثقة، كان له عن ابن أبي كثير كتابان، أحدهما سماع والآخر إرسال، فحديث الكوفيين عنه فيه شيء، من كبار السابعة: ع. تقريب: 248.
(6) مشكل الآثار 2/146، شرح معاني الآثار 2/256.
(7) هو: عبد الرحمن بن عمرو.
(8) مشكل الآثار 2/146، شرح معاني الآثار 2/256.
(9) دلائل النبوة 2/ لوحة: 234.(3/23)
هذا الحديث بهذا الإسناد ضعيف، لأن مدراه على أبي إبراهيم، وقال عنه أبو حاتم: لا يدرى من هو؟(1).
ورمز له ابن حجر بـ "مقبول" ويعني بعد المتابعة لأنه من المرتبة السادسة، التي يقول فيها: "من ليس له من الحديث إلا القليل ولم يثبت فيه ما يترك حديثه من أجله وإليه الإشارة لفظ "مقبول" حيث يتابع وإلا فلين الحديث(2)، قلت: ولم يتابع على هذا الحديث إلا رواية الأوزاعي عند الطحاوي، وعجز رواية هشام عند أبي داود، فهي ثابتة من حديث ابن عمر وابن عباس السابقين، والله أعلم.
وهناك أحاديث أخرى أشارت أيضاً إلى تحلل النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه - في الحديبية - بالنحر والحلق، فقد أشار إلى ذلك حديث ابن عباس رضي الله عنهما:
(136) قال البخاري: حدثنا يحيى بن صالح حدثنا معاوية بن سلام حدثنا يحيى بن أبي كثير عن عكرمة قال: قال ابن عباس رضي الله عنهما: "قد أحصر رسول الله صلى الله عليه وسلم فحلق رأسه وجامع نساءه، ونحر هديه حتى اعتمر عاماً قابلاً"(3).
ذكر ابن حجر أنه رأى الحديث في جميع النسخ بلفظ: "فقال ابن عباس". قال: وهو يقتضي سبق كلام يعقبه قوله: "فقال ابن عباس" ثم ذكر أنه وجده في "كتاب الصحابة" لابن السكن كاملاً ولفظه: "قال حدثني هارون بن عيسى حدثنا الصنعاني هو محمد بن إسحاق أحد شيوخ مسلم حدثنا يحيى بن صالح حدثنا معاوية بن سلام عن يحيى بن أبي كثير قال: سألت عكرمة فقال: قال عبد الله بن رافع مولى أم سلمة أنها سألت الحجاج بن عمرو الأنصاري عمن حبس وهو محرم، فقال: قال رسول الله
__________
(1) الجرح والتعديل 4/2/332.
(2) تقريب التهذيب: 10.
(3) صحيح البخاري مع الفتح، كتاب المحصر: 1809.(3/24)
صلى الله عليه وسلم من عرج أو كسر أو حبس، فليجزئ مثله وهو في حل. "قال فحدثت أبا هريرة، فقال: صدق، وحدثته ابن عباس فقال: "قد أحصر رسول الله صلى الله عليه وسلم فحلق ونحر هديه وجامع نساءه حتى اعتمر عاماً قابلاً"، قال ابن حجر: "فعرف بهذا السياق القدر الذي حذفه البخاري من هذا الحديث، والسبب في حذفه أن الزائد ليس على شرطه لأنه قد اختلف في حديث الحجاج بن عمرو على يحيى بن أبي كثير عن عكرمة مع كون عبد الله بن رافع ليس من شرط البخاري... إلى أن قال: فاقتصر البخاري على ما هو من شرط كتابه مع أن الذي حذفه ليس بعيداً من الصحة، فإن كان عكرمة سمعه من الحجاج بن عمرو فذاك، وإلا فالواسطة بينهم وهو - عبد الله بن رافع - ثقة وإن كان البخاري لم يخرج له(1) ا.هـ
وقد أشار إلى ذلك أيضاً حديث ابن عمر رضي الله عنهما:
(137) قال البخاري: حدثنا عبد الله بن محمد بن أسماء حدثنا جويرية عن نافع أن عبيد الله بن عبد الله وسالم بن عبد الله أخبراه أنهما كلما عبد الله بن عمر رضي الله عنهما ليالي نزل الجيش بابن الزبير فقالا: لا يضرك أن لا تحج العام، وإنا نخاف أن يحال بينك وبين البيت، فقال: خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم فحال كفار قريش دون البيت، فنحر النبي صلى الله عليه وسلم هديه وحلق رأسه وأشهدكم أني أوجبت العمرة إن شاء الله، فأنطلِقُ فإن خلي بيني وبين البيت طفت، وإن حيل بيني وبينه فعلت كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم، وأنا معه فأهل بالعمرة من ذي الحليفة ثم سار ساعة، ثم قال: إنما شأنهما واحد، أشهدكم أني قد أوجبت حجة مع عمرتي، فلم يحل منهما حتى دخل يوم النحر وأهدى، وكان يقول: لا يحل حتى يطوف طوافاً واحداً يوم يدخل مكة(2).
ومن هذا الوجه أخرجه النسائي(3) والبيهقي(4) بنحوه.
__________
(1) فتح الباري 4/7.
(2) صحيح البخاري مع الفتح، كتاب المحصر: 1807.
(3) سنن النسائي 5/198، مع شرح السيوطي وحاشية السندي.
(4) السنن الكبرى 5/216.(3/25)
وهذه الرواية تفيد أن نافعاً لم يشهد القصة، وإنما أخبره بذلك عبد الله وسالم ابنا عبد الله بن عمر، لكن رواية موسى بن إسماعيل عن جويرية أفادت أنّ نافعاً قد شهد القصة ونصها:
قال البخاري: حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا جويرية عن نافع أن بعض بني عبد الله قال: لو أقمت العام فإني أخاف ألا تصل إلى البيت، قال: "خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم فحال كفار قريش دون البيت، فنحر النبي صلى الله عليه وسلم هداياه وحلق وقصر أصحابه، وقال أشهدكم أني قد أوجبت عمرة..."(1).
وقد أخرجه البخاري أيضاً من طرق أخرى غير طريق جويرية وكلها تفيد شهود نافع للقصة.
فأخرجه من طريق(2) أيوب عن نافع أن ابن عمر رضي الله عنهما دخل ابنه عبد الله بن عبد الله وظهره في الدار فقال: إني لا آمن أن يكون العام بين الناس قتال، فيصدوك عن البيت فلو أقمت فقال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فحال كفار قريش بينه وبين البيت، فإن حيل بيني وبين البيت، أفعل كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ}.
وأخرجه من طريقه(3) أيضاً بلفظ: قال عبد الله بن عبد الله بن عمر لأبيه: "أقم فإني لا آمن أن تصد عن البيت..." الحديث بنحوه.
ومن طريق أيوب أخرجه مسلم(4) وأحمد(5) بنحوه.
وأخرجه البخاري من طريق(6) الليث عن نافع أن ابن عمر رضي الله عنهما أراد الحج عام نزل الحجاج بابن الزبير فقيل له: إن الناس كائن بينهم قتال، وإنا نخاف أن يصدوك فقال: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} إذاً أصنع كما صنع رسول الله صلى الله عليه وسلم.
__________
(1) صحيح البخاري مع الفتح، كتاب المحصر 1808، كتاب المغازي: 4185.
(2) صحيح البخاري مع الفتح، كتاب الحج: 1639.
(3) صحيح البخاري مع الفتح، كتاب الحج: 1693.
(4) صحيح مسلم، كتاب الحج: 183.
(5) مسند أحمد 2/4.
(6) صحيح البخاري مع الفتح، كتاب الحج: 1640.(3/26)
وأخرجه من طريق الليث مسلم(1) والنسائي(2) بنحوه.
وأخرجه البخاري من طريق(3) موسى بن عقبة عن نافع قال: "أراد ابن عمر رضي الله عنهما الحج عام حجة الحَروريَّة(4) في عهد ابن الزبير رضي الله عنهما فقيل له: إن الناس كائن بينهم قتال...".
وأخرجه من طريق(5) مالك عن نافع: "أن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما حين خرج إلى مكة معتمراً في الفتنة قال: "إن صُددت عن البيت صنعت كما صنعنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم...".
وأخرجه مالك(6) ومسلم(7) بنحوه، وأحمد(8) مختصراً.
وأخرجه البخاري من طريق(9) عمر بن محمد العمري قال: وحدث نافع أن عبد الله(10)
__________
(1) صحيح مسلم، كتاب الحج: 182.
(2) سنن النسائي 5/158، مع شرحه السيوطي وحاشية السندي.
(3) صحيح البخاري مع الفتح، كتاب الحج: 1708.
(4) ذكر ابن حجر أن بين هذه الرواية وبين رواية جويرية ((ليالي نزل الحجاج بابن الزبير)) تغاير، قال: لأن حجة الحرورية كانت في السنة التي مات فيها يزيد بن معاوية سنة أربع وستين، وذلك قبل أن يتسمى ابن الزبير بالخلافة، ونزول الحجاج بابن الزبير كان في سنة ثلاث وسبعين وذلك في آخر آيام ابن الزبير، إما أن يحمل على أن الراوي أطلق على الحجاج وأتباعه حرورية لجامع ما بينهم من الخروج على أئمة الحق، وإما أن يحمل على تعدد القصة. فتح الباري 3/550.
(5) صحيح البخاري مع الفتح، كتاب المحصر: 1806 - 1813، كتاب المغازي: 4183.
(6) الموطأ، كتاب الحج: 100.
(7) صحيح مسلم، كتاب الحج: 180.
(8) مسند أحمد 2/63.
(9) صحيح البخاري مع الفتح، كتاب المحصر: 1812.
(10) جاء في هذه الرواية عبد الله - بالتكبير - وفي رواية جويرية السابقة عبيد الله - بالتصغير - وذكر البيهقي أن عبد الله أصح. السنن الكبرى 5/216.
لكن ابن حجر قال: ليس بمستبعد أن يكون كل منهما كلم أباه في ذلك، ولعل نافعاً حضر كلام عبد الله - المكبر - مع أخيه سالم، ولم يحضر كلام عبيد الله - المصغر - مع أخيه سالماً، أيضاً بل أخبراه بذلك، فقص عن كل ما انتهى إليه علمه. فتح الباري 4/5.
قلت: وهو توجيه حسن. والله أعلم.(3/27)
وسالماً كلما عبد الله بن عمر رضي الله عنهما فقال: "خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم معتمرين فحال كفار قريش دون البيت، فنحر رسول الله صلى الله عليه وسلم بدنه وحلق رأسه".
وأخرجه البيهقي(1) من هذا الطريق بنحوه وزاد "ثم رجع".
وأخرجه البخاري من طريق عبيد الله بن عمر العمري عن نافع أنه أهلّ وقال: "إن حيل بيني وبينه فعلت كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم حين حالت كفار قريش بينه، وتلا: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ}(2).
وأخرجه مسلم(3) من هذا الطريق بأطول من هذا اللفظ.
وأخرجه أحمد(4) من طريق عبيد الله بن عمر وعبد العزيز بن أبي رَوّاد كلاهما عن نافع بأطول منه.
سبق أن رأينا أن أول رواية عن نافع لهذا الحديث - وهي رواية عبد الله بن محمد بن أسماء عن جويرية - تفيد أن نافعاً لم يشهد القصة، وإنما سمعها من ابني عبد الله بن عمر. وبقية الروايات عن نافع تفيد أنه شهد القصة وقد وجه ذلك ابن حجر فقال: والذي يترجح في نقدي أن ابني عبد الله أخبرا نافعاً بما كلما به أباهما وأشارا عليه به من التأخير ذلك العام، وأما بقية القصة فشاهدها نافع، وسمعها من ابن عمر؛ لملازمته إياه، فالمقصود من الحديث موصول وعلى تقدير أن يكون نافعاً لم يسمع شيئاً فقد عرف الواسطة بينهما وهي ولدا عبد الله بن عمر: سالم وعبد الله، وهما ثقتان لا مطعن فيهما" (5).
ثم ذكر أنه لم ينبه على ذلك أحد من شرّاح البخاري قبله.
المبحث الثاني: عدد الهدي الذي نحره المسلمون في عمرة الحديبية:
نحر النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه في هذه العمرة سبعين بدنة، فقد ورد التصريح بذلك في حديث جابر، وحديث أنس بن مالك، وحديث المسور بن مخرمة ومروان بن الحكم التالية:
__________
(1) السنن الكبرى 5/216.
(2) صحيح البخاري مع الفتح: 4184.
(3) صحيح مسلم، كتاب الحج: 181.
(4) مسند أحمد 2/151.
(5) فتح الباري 4/5.(3/28)
(138) قال الدارمي: أخبرنا يعلى(1) ثنا سفيان(2) عن أبي الزبير(3) عن جابر قال: نحرنا يوم الحديبية سبعين بدنة البدنة عن سبعة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اشتركوا في الهدي"(4).
وأخرجه ابن حبان(5) من طريق عبد الرحمن(6) بن مهدي عن سفيان به، فذكر نحوه.
وأخرجه الدارقطني من طريق عبد الرحمن بن مهدي ويعلى بن عبيد ويحيى بن آدم كلهم عن سفيان به(7).
وأخرجه ابن سعد(8) عن محمد(9) بن عبد الله الأسدي عن سفيان به، فذكره بنحوه.
وأخرجه أحمد من طريق أبي الزبير بسياق آخر:
__________
(1) يعلى بن عبيد بن أمية الكوفي، أبو يوسف الطنافسي ثقة إلا في حديثه عن الثوري ففيه لين، مات سنة بضع ومائتين وله تسعون سنة: ع. تقريب: 387.
(2) هو: سفيان بن سعيد الثوري.
(3) هو: محمد بن مسلم بن تدرس.
(4) سنن الدارمي 2/78.
(5) موارد الظمآن: 243.
(6) عبد الرحمن بن مهدي بن حسان العنبري مولاهم أبو سعيد البصري، ثقة ثبت حافظ عارف بالرجال والحديث، قال ابن المديني: ما رأيت أعلم منه، مات سنة ثمان وتسعين ومائة، وهو ابن ثلاث وسبعين: ع. تقريب: 210.
(7) سنن الدارقطني 2/244.
(8) الطبقات الكبرى 2/103.
(9) محمد بن عبد الله بن الزبير بن عمرو بن درهم الأسدي أبو محمد الكوفي، ثقة ثبت إلا أنه قد يخطئ في حديث الثوري، مات سنة ثلاث ومائتين: ع. تقريب: 304.(3/29)
(139) قال: حدثنا سليمان(1) بن داود ثنا عبد الرحمن(2) بن أبي الزناد عن موسى بن عقبة عن أبي الزبير عن جابر: فذكر قصة بيعة العقبة ثم قصة بيعة الحديبية، وقال: نحرنا يومئذ سبعين من البدن لكل سبعة جزور"(3).
وأخرجه من طريق أبي سفيان عن جابر رضي الله عنه:
قال: حدثنا أبو معاوية(4)، ثنا الأعمش(5) عن أبي سفيان(6) عن جابر قال: ساق رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الحديبية سبعين بدنة، قال فنحر البدنة عن سبعة(7).
وأخرجه ابن سعد(8) عن أبي معاوية الضرير ومحمد(9) بن عبيد، كلاهما عن الأعمش به فذكر نحوه، وزاد محمد بن عبيد في حديثه: "وكنا يومئذ ألفاً وأربعمائة ومن لم يضح يومئذ أكثر ممن ضحى".
وأخرجه أحمد أيضاً من طريق سليمان بن قيس اليشكري عن جابر رضي الله عنه:
__________
(1) سليمان بن داود بن علي بن عبد الله بن عباس أبو أيوب البغدادي الهاشمي الفقيه ثقة جليل قال أحمد بن حنبل: يصلح للخلافة، مات سنة تسع عشرة ومائتين: عخ الأربعة. تقريب: 133
(2) عبد الرحمن بن أبي الزناد عبد الله بن ذكوان المدني، مولى قريش، صدوق تغير حفظه لما قدم بغداد وكان فقيهاً، ولي خراج المدينة فحمد، مات سنة أربع وسبعين ومائة وله أربع وسبعون سنة: خت، م، الأربعة: تقريب: 201.
(3) مسند أحمد 3/396.
(4) محمد بن خازم - بمعجمتين - أبو معاوية الضرير الكوفي، ثقة عمي وهو صغير، ثقة أحفظ الناس لحديث الأعمش وقد يهم في حديث غيره، مات سنة خمس وتسعين ومائة وله اثنتان وثمانون، وقد رمي بالإرجاء: ع. تقريب: 295.
(5) هو: سليمان بن مهران.
(6) هو: طلحة بن نافع.
(7) مسند أحمد 3/316.
(8) الطبقات الكبرى 2/102.
(9) محمد بن عبيد بن أبي أمية الطنافسي، الكوفي ثقة يحفظ، مات سنة أربع ومائتين: ع. تقريب: 310.(3/30)
قال: حدثنا عفان(1) حدثنا أبو عوانة(2) حدثنا أبو بشر(3) عن سلميان(4) بن قيس عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: "نحرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية سبعين بدنة، البدنة عن سبعة"(5).
وأخرجه ابن سعد(6) عن عفان به فذكره بمثله.
وأخرجه(7) عبد بن حميد عن أبي الوليد(8) عن أبي عوانة به فذكره بمثله.
حديث جابر هذا حسن بمجموع طرقه.
فطريق أبي الزبير عند الدارمي فيه يعلى بن عبيد قال ابن حجر: حديثه عن سفيان الثوري فيه لين، وتابعه محمد بن عبد الله الأسدي عند ابن سعد، ويقول ابن حجر فيه أيضاً: قد يخطئ في حديثه عن سفيان لكن تابعهما عبد الرحمن بن مهدي عند ابن حبان وهو ثقة ثبت.
__________
(1) عفان بن مسلم الباهلي.
(2) وضاح - بتشديد المعجمة ثم مهملة - ابن عبد الله اليشكري - بالمعجمة - الواسطي البزار أبو عوانة مشهور بكنيته، ثقة ثبت، مات سنة خمس أو ست وسبعين ومائة: ع. تقريب: 369.
(3) جعفر بن إياس أبو بشر بن أبي وحشية - بفتح الواو وسكون المهملة وكسر المعجمة وتثقيل التحتانية - ثقة من أثبت الناس في سعيد بن جبير، وضعفه شعبة في حبيب بن سالم وفي مجاهد، مات سنة خمس، وقيل سنة ست وعشرين ومائة: ع.تقريب: 55.
(4) سليمان بن قيس اليشكري - بفتح التحتانية بعدها معجمة - البصري ثقة، مات قديماً قبل الثمانين: ت، ق. تقريب: 135.
(5) مسند أحمد 3/353، 364.
(6) الطبقات الكبرة 2/103.
(7) مسند عبد بن حميد 2/ لوحة: 142.
(8) هشام بن عبد الملك الباهلي مولاهم أبو الوليد الطيالسي البصري ثقة ثبت، مات سنة سبع وعشرين ومائتين، وله أربع وتسعون: ع. تقريب: 364.(3/31)
وفي هذا السند أيضاً لم يصرح أبو الزبير بالسماع من جابر، وهو مدلس(1)، ولكن تابعه في الطريق الثاني عند أحمد وابن سعد وأبو سفيان عن جابر. وأبو سفيان أيضاً لم يصرح بالسماع وهو مدلس(2)، لكن روايته تجبر رواية أبي الزبير، وتدل على أن للحديث أصلاً.
قال ابن حجر: "ومتى توبع السيئ الحفظ بمعتبر وكذا المستور والمرسل والمدلس، صار حديثهما حسناً لا لذاته، بل بالمجموع"(3).
أما طريق سليمان بن قيس اليشكري عند أحمد، فهو منقطع، لأن أبا بشر لم يسمع من سليمان، قاله البخاري(4).
ويشهد لحديث جابر أيضاً حديث أنس بن مالك عند ابن سعد:
(140) قال ابن سعد: أخبرنا محمد(5) بن عبد الله الأنصاري أخبرنا سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن أنس بن مالك: أنهم نحروا يوم الحديبية سبعين بدنة عن كل سبعة بدنة(6).
هذا الحديث في سنده ابن أبي عروبة(7) وقتادة(8) لم يصرح واحد منهما بالسماع، وهما مدلسان لكن كل منهما في هذا الإسناد ثبت فيمن يروي عنه.
فابن أبي عروبة يروي عن قتادة وهو من أثبت أصحاب قتادة فيه، قاله(9) ابن أبي خيثمة، وأبو حاتم، وأبو رزعة، وكذلك قتادة قال: أبو حاتم(10) أثبت أصحاب أنس الزهري ثم قتادة.
ويشهد له حديث جابر السابق، فالحديث حسن إن شاء الله.
__________
(1) انظر: جامع التحصيل: 126، 130، وطبقات المدلسين لابن حجر: 32.
(2) انظر: جامع التحصيل: 130، طبقات المدلسين لابن حجر: 23، 28.
(3) نخبة الفكر ص: 51 - 52 مع نزهة النظر.
(4) التاريخ الكبير 2/2/31، تهذيب التهذيب 4/214.
(5) محمد بن عبد الله بن المثنى بن عبد الله بن أنس بن مالك الأنصاري البصري القاضي، ثقة، مات سنة خمس عشرة ومائتين: ع. تقريب: 306.
(6) الطبقات الكبرى 2/103.
(7) انظر: جامع التحصيل: 121، طبقات المدلسين لابن حجر: 21.
(8) انظر: جامع التحصيل: 124، 130، وطبقات المدلسين لابن حجر: 31.
(9) تهذيب التهذيب 4/63 - 64.
(10) م، السابق 8/355.(3/32)
وتحديد الهدي بسبعمائة جاء أيضاً في حديث المسور ومروان من طريق ابن إسحاق عند أحمد وغيره:
قال الإمام أحمد: حدثنا يزيد بن هارون أنا محمد بن إسحاق عن الزهري محمد بن مسلم بن شهاب عن عروة بن الزبير عن المسور(1) بن مخرمة ومروان(2) بن الحكم قالا: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الحديبية يريد زيارة البيت، لا يريد قتالاً، وساق معه الهدي سبعين بدنة، وكان الناس سبعمائة رجل، فكانت كل بدنة عن عشرة..."(3).
وأخرجه الدارقطني من طريق يونس بن بكير عن ابن إسحاق به مختصراً ولفظه: "أن النبي صلى الله عليه وسلم ساق يوم الحديبية سبعين بدنة عن سبعمائة رجل"(4).
وأخرجه البيهقي(5) من طريق يونس بن بكير عن ابن إسحاق حدثني الزهري به، فذكره بمثل لفظ أحمد.
سند هذا الحديث حسن فقد صرح ابن إسحاق بالسماع من الزهري في رواية البيهقي، وتقدم الكلام على الحديث.
ويلاحظ أن ابن إسحاق قال: "وكان الناس سبعمائة رجل" وهذا مخالف لما ثبت في الصحيح عن عدد أصحاب الحديبية، وتقدم الكلام(6) عنه فليراجع.
وقال ابن إسحاق أيضاً: "فكانت كل بدنة عن عشرة"، وهذا مغاير لما تقدم "في حديث جابر وأنس من أنهم نحروا في الحديبية البدنة عن سبعة، ويؤيد ما في حديث جابر وأنس ما ورد عند مسلم عن جابر:
__________
(1) المسور بن مخرمة بن نوفل بن أهيب بن عبد المناف بن زهرة الزهري، أبو عبد الرحمن، له ولأبيه صحبة، مات سنة أربع وستين: ع. تقريب: 337.
(2) مروان بن الحكم بن أبي العاص بن أمية أبو عبد الملك الأموي المدني، ولي الخلافة في آخر سنة أربع وستين، ومات سنة خمس في رمضان وله ثلاث أو إحدى وستون سنة لا يثبت له صحبة: خ، الأربعة. تقريب: 332.
(3) مسند أحمد 4/324 وتقدم سنده مع طرف من أوله برقم (36).
(4) سنن الدارقطني 2/243.
(5) السنن الكبرى 5/235.
(6) انظر ص: 87 وما بعدها.(3/33)
(141) قال: حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا مالك ح وحدثنا يحيى بن يحيى (واللفظ له) قال: قرأت على مالك عن أبي الزبير عن جابر بن عبد الله قال: "نحرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الحديبية البدنة عن سبعة والبقرة عن سبعة" (1).
وهو في الموطأ(2) بهذا اللفظ.
وأخرجه أبو داود(3) عن القعنبي عن مالك به مثله.
وأخرجه الترمذي(4) عن قتيبة عن مالك به مثله.
وأخرجه ابن ماجه(5) من طريق عبد الرزاق عن مالك به مثله.
وأخرجه أحمد(6) عن عبد الرزاق وروح كلاهما عن مالك به مثله.
وأخرجه ابن سعد(7) عن إسحاق بن عيسى عن مالك به مثله.
وأخرجه البيهقي(8) من طريق قتيبة عن مالك به مثله.
فهذا الحديث في مسلم وغيره وقد نص على أن الصحابة رضوان الله عليهم في الحديبية نحروا البدنة عن سبعة والبقرة عن سبعة، وكذلك حديث جابر وأنس السابقان ورد فيهما أنهم نحروا البدنة عن سبعة والتعارض بين هذه الأحاديث وما في حديث ابن إسحاق ظاهر، وابن إسحاق قد تفرد بذكر البدنة عن عشرة.
قال البيهقي(9): "وأما ما في حديث الزهري عن عروة فإن محمد بن إسحاق بن يسار تفرد بذكر البدنة عن عشرة فيه".
وقد ذكر البيهقي رواية معلقة عن سفيان تفيد أنهم نحروا في الحديبية البدنة عن عشرة، أوردها بصيغة التمريض: قال: "وقد روي عن سفيان الثوري عن أبي الزبير عن جابر قال: "نحرنا يوم الحديبية البدنة عن عشرة"(10).
ثم تعقبها بقوله: "ولا أحسبه إلا وهماً، فقد رواه الفريابي عن الثوري وقال: البدنة عن سبعة"(11).
__________
(1) صحيح مسلم، كتاب الحج: 350.
(2) موطأ مالك، كتاب الضحايا: 9.
(3) سنن أبي داود مع معالم السنن، كتاب الضحايا: 2809.
(4) سنن الترمذي، كتاب الأضاحي: 1502.
(5) سنن ابن ماجه، كتاب الأضاحي: 3132.
(6) مسند أحمد 3/293.
(7) الطبقات الكبرى: 2/103.
(8) السنن الكبرى 5/216.
(9) السنن الكبرى 5/236.
(10) السنن الكبرى 5/236.
(11) السنن الكبرى 5/236.(3/34)
قلت: نعم، المحفوظ من رواية سفيان "البدنة عن سبعة" فقد أخرجها الدارمي(1) عن يعلى بن عبيد وابن حبان(2) من طريق ابن مهدي، وابن سعد(3) عن محمد بن عبد الأسدي، كلهم عن سفيان، وفيها "البدنة عن سبعة"(4).
وقد حاول ابن خزيمة التوفيق بين حديث جابر ورواية ابن إسحاق من حديث المسور ومروان حيث قال: فقول جابر: "اشتركنا في الجزور سبعة وفي البقرة سبعة" يريد بعض أهل الحديبية، وخبر المسور ومروان: "اشترك عشرة في بدنة" أي سبعمائة وهم نصف أهل الحديبية لا كلهم"(5).
قلت: هذا الجمع يتجه لو كان الهدي الذي ساقوه في غزوة الحديبية أكثر من سبعين بدنة، لكن نصت رواية ابن إسحاق هذه وحديث جابر وحديث أنس السابقان على أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما ساق سبعين بدنة فقط، وأما ما ورد في حديث سلمة بن الأكوع: "أن النبي صلى الله عليه وسلم نحر في الحديبية مائة بدنة"(6) فهو ضعيف.
والتحقيق: أن الصحابة رضوان الله عليهم نحروا بالحديبية البدنة عن سبعة، كما ثبت في صحيح مسلم وغيره، أما رواية ابن إسحاق فهي شاذة، والله أعلم.
المبحث الثالث: قصة جمل أبي جهل:
وكان في جملة ما نحر النبي صلى الله عليه وسلم في هديه - يوم الحديبية - جمل لأبي جهل كان من غنائم بدر:
__________
(1) سنن الدارمي 2/78.
(2) موارد الظمآن: 243.
(3) الطبقات الكبرى 2/103.
(4) انظر حديث رقم (138).
(5) صحيح ابن خزيمة 4/291.
(6) انظر حديث سلمة بن الأكوع برقم (33).(3/35)
(142) قال أبو داود: حدثنا النفيلي(1) حدثنا محمد بن سلمة، حدثنا محمد بن إسحاق ح، وحدثنا محمد(2) بن المنهال، حدثنا يزيد(3) بن زريع عن ابن إسحاق - المَعْنى - قال: عبد الله - يعني ابن أبي نجيح - حدثني مجاهد عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم أهدى عام الحديبية في هدايا رسول الله(4) صلى الله عليه وسلم جملاً كان لأبي جهل في رأسه برة(5) من فضة، قال ابن المنهال: بُرة من ذهب، زاد النفيلي: يغيض بذلك المشركين(6).
وأخرجه ابن خزيمة عن ابن إسحاق من طريقين صرح في أحدهما بالسماع من ابن أبي نجيح:
قال ابن خزيمة: ثنا الفضل(7) بن يعقوب الجزري ثنا عبد الأعلى(8) عن محمد بن عبد الله بن أبي نجيح به، ولفظه: أهدى رسول الله صلى الله عليه وسلم جمل أبي جهل في هديه عام الحديبية وفي رأسه برة من فضة، كان أبو جهل أسلمه يوم بدر(9).
__________
(1) عبد الله بن محمد بن علي بن نفيل - بنون وفاء مصغراً - أبو جعفر النفيلي الحراني ثقة، حافظ، مات سنة أربع وثلاثين ومائتين: خ، الأربعة. تقريب: 188.
(2) محمد بن المنهال الضرير أبو عبد الله أو أبو جعفر البصري التميمي، ثقة حافظ، مات سنة إحدى وثلاثين ومائتين: خ، م، د، ت. تقريب: 320.
(3) يزيد بن زريع - بتقديم الزاي مصغراً - البصري أبو معاوية ثقة ثبت، مات سنة اثنتين ومائة: ع. تقريب: 382.
(4) قال صاحب عون المعبود: ((كان حقه أن يقول: في هداياه، فوضع المظهر موضع المضمر)) 2/79.
(5) البرة: حلقة تجعل في أنف البعير. النهاية 1/122.
(6) سنن أبي داود مع معالم السنن، كتاب المناسك: 1749.
(7) الفضل بن يعقوب البصري، المعروف بالجزري - بجيم وزاي وراء - صدوق مات سنة ست وخمسين ومائتين: د، ق. تقريب: 276.
(8) هو: عبد الأعلى بن عبد الأعلى البصري السامي.
(9) صحيح ابن خزيمة 4/286.(3/36)
وقال: حدثنا محمد(1) بن عيسى نا سلمة(2) قال محمد: وحدثني عبد الله بن أبي نجيح به فذكر نحوه، إلا أنه لم يذكر أنه أسلمه يوم بدر، وزاد "ليغيظ المشركين بذلك"(3).
وأخرجه الحاكم(4) من طريق عياش بن الوليد الرقام ثنا عبد الأعلى ابن عبد الأعلى عن محمد بن إسحاق حدثني عبد الله بن أبي نجيح به فذكر نحوه.
وأخرجه أحمد(5) من طريق ابن إسحاق حدثني عبد الله بن أبي نجيح فذكر نحوه.
وأخرجه ابن جرير(6) من طريق سلمة عن ابن إسحاق به نحوه.
وأخرجه البيهقي من طريق محمد بن سلمة عن ابن إسحاق به، فذكر نحوه وزاد: وعليه خشاش من ذهب، وهي الزمام، قال: وذلك أن الزمام يكون في اللحم، والخشاش يكون في العظم، وما فعل ذلك إلا ليغيظ به قريشاً(7).
وأخرجه أحمد من طريق جرير بن حازم عن ابن أبي نجيح:
قال: حدثنا حسين(8)
__________
(1) محمد بن عيسى بن زياد الدامغاني أبو الحسن نزيل الري، مقبول من العاشرة: س. تقريب: 314.
(2) هو: سلمة بن الفضل الأبرش.
(3) صحيح ابن خزيمة 4/287.
(4) المستدرك 1/467.
(5) المسند 1/261.
(6) تاريخ الأمم والملوك 2/81.
(7) دلائل النبوة 2/ لوحة: 235.
(8) الحسين بن محمد بن بهرام التميمي أبو أحمد، أو أبو علي المروذي - بتشديد الواو وبذال معجمة - نزيل بغداد، ثقة، مات سنة ثلاث عشرة ومائتين أو بعدها بسنة أو سنتين: ع. تقريب: 75، وهناك الحسين بن الوليد القرشي النيسابوري، روى عن جرير، وروى عنه أحمد وهو ثقة أيضاً. تهذيب التهذيب 2/374.
وإنما أثبت ذاك لأن أحمد صرح باسم أبيه قبل هذا الحديث وبعده.(3/37)
ثنا جرير(1) بن حازم عن ابن أبي نجيح عن مجاهد عن ابن عباس: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أهدى في بدنه بعيراً كان لأبي جهل في أنفه برة من فضة"(2).
قال الحاكم بعد أن ساقه من طريق ابن إسحاق: هذا حديث صحيح على شرط مسلم، ولم يخرجاه(3).
قلت: نعم هذا الحديث صحيح دون قوله: "برة من ذهب" فقد صرح ابن إسحاق بالسماع في سند ابن خزيمة والحاكم، وقد تابع ابن إسحاق في ابن أبي نجيح جرير بن حازم عند أحمد في سند رجاله ثقات.
وأخرج أحمد هذا الحديث من طريق مقسم عن ابن عباس:
(143) قال حدثنا وكيع ثنا سفيان(4) عن ابن أبي ليلى(5) عن الحكم(6) عن مقسم(7) عن ابن عباس: "أن النبي صلى الله عليه وسلم أهدى في بدنه جملاً كان لأبي جهل برته من فضة"(8).
وأخرجه ابن ماجه(9) من طريق وكيع به مثله.
__________
(1) جرير بن حازم بن زيد بن عبد الله الأزدي، أبو النضر البصري، والد وهب، ثقة لكن في حديثه عن قتادة ضعف، وله أوهام إذا حدث من حفظه مات سنة سبعين ومائة بعدما اختلط، لكن لم يحدث في حال اختلاطه: ع. تقريب: 54.
(2) مسند أحمد 1/273.
(3) المستدرك 1/467.
(4) هو: سفيان الثوري.
(5) محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى الأنصاري، الكوفي القاضي، أبو عبد الرحمن صدوق سيء الحفظ جداً، مات سنة ثمان وأربعين بعد المائة: الأربعة. تقريب:308.
(6) الحكم بن عتيبة - بالمثناة ثم موحدة مصغراً - أبو محمد الكندي الكوفي، ثقة ثبت فقيه إلا أنه ربما دلس، مات سنة ثلاث عشرة ومائة أو بعدها وله نيف وستون: ع. تقريب: 80.
(7) مقسم - بكسر أوله - ابن بجره - بضم الموحدة وسكون الجيم - ويقال: نجده - بفتح النون وبدال - أبو القاسم، مولى عبد الله بن الحارث، ويقال له: مولى ابن عباس للزومه له، صدوق وكان يرسل، مات سنة إحدى ومائة، وما له في البخاري سوى حديث واحد: خ، الأربعة. تقريب: 346.
(8) مسند أحمد 1/234.
(9) سنن ابن ماجه، كتاب المناسك: 3100.(3/38)
وأخرجه أحمد عن مؤمل عن سفيان به بلفظ: "أهدى رسول الله صلى الله عليه وسلم مائة بدنة فيها جمل أحمر لأبي جهل، في أنفه برة من فضة"(1).
وأخرجه الطبراني من طريق أبي نعيم(2) وأبي عاصم(3)، كلاهما عن سفيان به فذكره بمثله(4) دون قوله: "أحمر".
وأخرجه أحمد من طريق زهير بن محمد عن ابن أبي ليلى بسياق آخر في حديث:
(144) قال: حدثنا يحيى(5) بن آدم ثنا زهير(6) عن محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن الحكم عن مقسم عن ابن عباس قال: نحر رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحج مائة بدنة، نحر بيده منها ستين، وأمر ببقيتها فنحرت وأخذ من كل بدنة بضعة فجمعت في قدر، فأكل منها وحسا من مرقها، ونحر يوم الحديبية سبعين فيها جمل أبي جهل، فلما صدت عن البيت حنت كما تحن إلى أولادها(7).
وأخرجه البيهقي(8) من طريق زهير بن محمد به فذكره مختصراً ابتدأ من قوله: " نحر يوم الحديبية..." الخ.
__________
(1) مسند أحمد 1/269.
(2) هو: الفضل بن دكين الكوفي، واسم دكين عمرو بن حماد بن زهير التيمي مولاهم الأحول، أبو نعيم الملائي - بضم الميم - مشهور بكنيته، ثقة ثبت، مات سنة ثمان عشرة وقيل تسع عشرة ومائتين: ع. تقريب: 275.
(3) هو: الضحاك بن مخلد بن الضحاك الشيباني.
(4) المعجم الكبير 11/378.
(5) يحيى بن آدم بن سليمان الكوفي، أبو زكريا مولى بني أمية، ثقة حافظ فاضل، مات سنة ثلاث ومائتين: ع. تقريب: 373.
(6) زهير بن محمد التميمي أبو المنذر الخراساني، سكن الشام ثم الحجاز، رواية أهل الشام عنه غير مستقيمة فضعف بسببها، قال البخاري عن أحمد: كان زهير الذي يروي عنه الشاميون آخر، وقال أبو حاتم: حدث بالشام من حفظه فكثر غلطه، مات سنة اثنتين وستين ومائة: ع. تقريب: 108.
(7) مسند أحمد 1/314.
(8) دلائل النبوة 2/ لوحة: 234.(3/39)
هذا السند ضعيف فمداره على محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال عنه الإمام أحمد: "مضطرب الحديث"، وقال يحيى القطان: "سيئ الحفظ جداً"، وقال شعبة: "ما رأيت أسوأ من حفظه"، وقال يحيى بن معين: "ليس بذاك"، وقال الدارقطني: "رديء الحفظ كثير الوهم"(1)، وقال الذهبي(2): "صدوق سيئ الحفظ"، والإسناد مع ذلك منقطع فالحكم بن عتيبة لم يسمع الحديث من مقسم، قال يحيى القطان وشعبة وأحمد وغيرهم: "أحاديث الحكم عن مقسم كتاب إلا خمسة أحاديث"، قال يحيى القطان هي: "حديث الوتر، وحديث القنوت، وحديث عزيمة الطلاق، وجزاء الصيد، وإتيان الحائض"(3).
قلت: فالحديث الذي نحن بصدده ليس من الخمسة التي سمعها الحكم من مقسم، وأيضاً فالمتن الوارد بهذا الإسناد فيه اضطراب يشعر بسوء حفظ ابن أبي ليلى، كما قال الأئمة: "فقد جاء في إحدى روايات سفيان عنه: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أهدى مائة بدنة" بينما في رواية زهير بن محمد عنه: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نحر يوم الحديبية سبعين بدنة".
وعند ابن ماجه من رواية أخرى لسفيان عن ابن أبي ليلى فيها أن جمل أبي جهل كان مع الهدي الذي ساقه النبي صلى الله عليه وسلم في حجته:
__________
(1) انظر: ميزان الاعتدال 3/614، تهذيب التهذيب 9/301 - 303.
(2) ميزان الاعتدال 3/613.
(3) سير أعلام النبلاء 5/210، تهذيب التهذيب 2/433 - 434.(3/40)
(145) قال ابن ماجه: حدثنا القاسم(1) بن محمد بن عباد المهلبي، ثنا عبد الله(2) بن داود ثنا سفيان قال: "حج رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث حجات حجتين قبل أن يهاجر، وحجة بعدما هاجر من المدينة وقرن مع حجته عمرة، واجتمع ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم وما جاء به عليٌّ مائة بدنة، منها جمل لأبي جهل في أنفه برة من فضة، فنحر النبي صلى الله عليه وسلم بيده ثلاثاً وستين، ونحر علي ما غبر.
قيل له: من ذكره؟ قال: جعفر عن أبيه عن جابر، وابن أبي ليلى عن الحكم عن مقسم عن ابن عباس(3).
وهذا الحديث ضعيف وإن كان قد تابع ابن أبي ليلى فيه محمد بن جعفر عن أبيه عن جابر.
فقد أخرجه الترمذي(4) من طريق سفيان عن جعفر به، ثم قال: هذا حديث غريب من حديث سفيان، لا نعرفه إلا من حديث زيد بن الحباب، ثم قال: وسألت محمداً عن هذا فلم يعرفه من حديث الثوري عن جعفر عن أبيه عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم ورأيته لم يعد هذا محفوظاً، وقال إنما يروى عن الثوري عن أبي إسحاق عن مجاهد مرسلاً(5).
المبحث الرابع: هل نحر المسلمون الهدي في الحل أو في الحرم؟
__________
(1) القاسم بن محمد بن عباد المهلبي، أبو محمد البصري، نزيل بغداد ثقة من الحادية عشرة: ق. 280.
(2) عبد الله بن داود بن عامر الهمداني، أبو عبد الرحمن الخُرَيبي - بمعجمة وموحدة مصغراً - كوفي الأصل ثقة عابد، مات سنة ثلاث عشرة ومائتين وله سبع وثمانون سنة، أمسك عن الرواية قبل موته، فلذلك لم يسمع منه البخاري: خ، الأربعة. تقريب: 172.
(3) سنن ابن ماجه، كتاب المناسك: 3076.
(4) سنن الترمذي، كتاب الحج: 815.
(5) سنن الترمذي 3/170.(3/41)
صرحت بعض الروايات بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه نحروا الهدي بالحديبية، لكن الحديبية منها ما هو في الحل، ومنها ما هو من الحرم، وقد ورد في بعض الروايات أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان نازلاً في الحل، وأفادت بعض الروايات أيضاً أنه صلى الله عليه وسلم نحر الهدي في المكان الذي نزل فيه، وقد جاء في حديث ناجية رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أرسله بالهدي فنحره في الحرم، وسوف أسرد النصوص مرتبة على هذا النحو، مع مناقشتها وبيان ما ترجح لي في ذلك إن شاء الله.
قال البخاري: حدثنا محمد بن رافع، حدثنا سريج بن النعمان حدثنا فليح عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج معتمراً فحال كفار قريش بينه وبين البيت، فنحر هديه وحلق رأسه بالحديبية..."(1).
وقال مسلم: حدثنا نصر بن علي الجهضمي، حدثنا خالد بن الحارث حدثنا سعيد بن أبي عروبة عن قتادة: أن أنس بن مالك حدثهم قال: لما نزلت: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا* لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ} إلى قوله: {فَوْزًا عَظِيمًا}، مرجعه من الحديبية وهم يخالطهم الحزن والكآبة، وقد نحر الهدي بالحديبية، فقال: "لقد أنزلت علي آية هي أحب إلي من الدنيا جميعاً"(2).
وأخرجه البيهقي من طريق الحكم بن عبد الملك عن قتادة عن أنس ثم ذكر الحديث وفيه: "وأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم قد خالطوا الحزن والكآبة، حيث ذبحوا هديهم في أمكنتهم..."(3).
وقد جاء في حديث المسور أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان نازلاً في الحل:
__________
(1) صحيح البخاري مع الفتح، كتاب الصلح: 1701، وتقدم برقم (8).
(2) صحيح مسلم، كتاب الجهاد والسير: 97، وسيأتي تخريجه حديث رقم (155).
(3) السنن الكبرى 5/217.(3/42)
(146) قال الطحاوي: حدثنا ابن أبي داود(1)، حدثنا سفيان(2) بن بشر الكوفي، قال: حدثنا يحيى(3) بن أبي زائدة عن محمد بن إسحاق عن الزهري عن عروة عن المسور: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان بالحديبية خباؤه في الحل ومصلاه في الحرم"(4).
وهذا الحديث حسن رجال سنده ثقات غير سفيان بن بشر ترجم له العيني ولم يذكر فيه جرحاً ولا تعديلاً، لكن صحح له ابن الجوزي حديثاً تفرد بوصله وقال: ما علمنا أحداً طعن في سفيان بن بشر(5)، وفي السند أيضاً ابن إسحاق لم يصرح بالسماع، ولكن ورد هذا اللفظ في حديث المسور ومروان الطويل عند الإمام أحمد(6) والبيهقي، وصرح فيه ابن إسحاق بالسماع ونصه: "وكان مضطربه في الحل، وكان يصلي في الحرم" (7).
وقد ورد عن عطاء أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان نازلاً في الحرم:
(147) ففي مصنف ابن أبي شيبة ثنا أبو أسامة(8) عن عطاء: "أن منزل النبي صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية في الحرم"(9).
__________
(1) هو: أبو إسحاق بن أبي داود سليمان بن داود البُرلُّسي، الأسدي، وعنه أحمد بن محمد بن سلامة أبو جعفر الطحاوي، وكان حافظاً ثقة، مات بمصر سنة اثنتين وسبعين ومائتين، ويعرف بابن أبي داود. وذكره ابن يونس وقال: كان ثقة من حفاظ الحديث. معجم البلدان 1/402.
(2) سفيان بن بشر الكوفي، ابن أيمن بن غالب الأسدي، أبو الحسن الكوفي عن شريك وعنه ابن أبي داود، قال ابن يونس في الغرباء قدم مصر وحدث بها، وتوفي بمصر في شوال سنة إحدى وأربعين ومائتين. مباني الأخبار، لوحة: 223.
(3) يحيى بن زكريا بن أبي زائدة الهمداني - بسكون المهملة - أبو سعيد الكوفي، ثقة متقن، مات سنة ثلاث أو أربع وثمانين ومائة، وله ثلاث وتسعون سنة: ع. تقريب: 375.
(4) شرح معاني الآثار 2/242.
(5) التعليق المغني على الدارقطني 2/194، مع سنن الدارقطني.
(6) مسند أحمد 4/326.
(7) السنن الكبرى 5/215.
(8) هو: حماد بن سلمة.
(9) الجوهر النقي 5/217 مع السنن الكبرى للبيهقي.(3/43)
لكن هذا الأثر ضعيف؛ لأنه مرسل، فلا يقوى على معارضة الحديث السابق.
وإذا تقرر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان نازلاً في الحل، فقد ورد في بعض النصوص أنه نحر الهدي في المكان الذي نزل فيه:
جاء في حديث أنس السابق من طريق الحكم بن عبد الملك عند البيهقي "أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ذبحوا هديهم في أمكنتهم".
وهذا يقيد ما أطلق من طريق ابن أبي عروبة، فيكون المقصود بالحديبية منزل النبي صلى الله عليه وسلم منها وهو في الحل، والله أعلم.
ويدل لذلك أيضاً أثر مجاهد عند البيهقي:(3/44)
(148) قال: حدثنا أبو عبد الله(1) الحافظ وأبو بكر أحمد(2) بن الحسن القاضي قالا ثنا أبو العباس محمد(3) بن يعقوب ثنا أحمد بن عبد الجبار ثنا يونس بن بكير عن عمر(4) بن ذر عن مجاهد قال: "اعتمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث عمر كلها في ذي القعدة منها العمرة التي صد فيها الهدي، فراسل رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل مكة فصالحوه على أن يرجع عنهم في عامه ذلك، قال: فنحر رسول الله صلى الله عليه وسلم الهدي بالحديبية، حيث حلّ عند الشجرة وانصرف(5).
وهذا الأثر مرسل، لكن يشهد له الحديث السابق.
وقد أشار إلى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نحر الهدي في الحل، أثر مجمع بن يعقوب عن أبيه عن ابن سعد:
__________
(1) هو: محمد بن عبد الله الحاكم النيسابوري.
(2) أحمد بن الحسن بن عمران بن موسى أبو بكر القاضي، حدث عن أحمد بن منصور الرمادي، ومحمد بن إسحاق الصنعاني، روى عنه أحمد بن الفرج بن الحجاج، وذكر ابن الثلاج أنه سمع منه في سنة خمس وعشرين وثلثمائة. تاريخ بغداد 4/90.
(3) محمد بن يعقوب بن يوسف بن معقل بن سنان الأموي مولاهم أبو العباس الأصم، وكان يكره أن يقال له الأصم، قال الحاكم وهو محدث عصره بلا مدافعة، وقال: حدث في الإسلام ستاً وسبعين سنة، لم يختلف في صدقه وصحة سماعه ووصفه الذهبي بالإمام المفيد الثقة محدث المشرق. تذكرة الحفاظ 3/860.
(4) عمر بن ذر بن عبد الله بن زرارة الهمداني - بالسكون - المرهبي، أبو ذر الكوفي ثقة، رمي بالإرجاء، مات سنة ثلاث وخمسين ومائة، وقيل غير ذلك: خ، د، ت، س، فق، التقريب: 253.
(5) السنن الكبرى 5/317.(3/45)
(149) قال: حدثنا إسماعيل(1) بن عبد الله بن أبي أويس عن مجمع ابن يعقوب عن أبيه(2) أنه قال: لما صدر(3) رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه حلقوا بالحديبية ونحروا، بعث الله ريحاً عاصفاً(4) فاحتملت أشعارهم فألفتها في الحرم(5).
هذا الأثر بهذا الإسناد ضعيف، لأنه مرسل، فوالد مجمع بن يعقوب يحكي قصة في زمن النبي صلى الله عليه وسلم لم يشهدها ولم يذكر من حدثه بها، لكن تشهد لهذا الأثر في المعنى الروايات السابقة، فمضمونها أن النبي صلى الله عليه وسلم نحر هديه في المكان الذي نزل فيه، وكان منزله في الحل على الصحيح، والله أعلم.
وذكر الشافعي أن الحديبية بعضها في الحل وبعضها في الحرم ثم قال: وإنما ذهبنا إلى أن النبي صلى الله عليه وسلم نحر في الحل؛ لأن الله تعالى يقول: {هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَن يَبْلُغَ مَحِلَّهُ}، والحرم كله محله عند أهل العلم(6).
وقد أخرج النسائي حديثاً لناجية بن جندب يفيد أن النبي صلى الله عليه وسلم أرسله بالهدي فنحره في الحرم.
__________
(1) إسماعيل بن عبد الله بن أويس بن مالك بن أبي عامر الأصبحي، أبو عبد الله بن أبي أويس أخطأ في أحاديث من حفظه، مات سنة ست وعشرين ومائتين: خ، م، د، ت، ق. تقريب: 34.
(2) هو: يعقوب بن مجمع بن يزيد بن جارية الأنصاري المدني، مقبول من الرابعة. د. تقريب: 387، وذكره ابن حبان في ثقات أتباع التابعين. الثقات 7/642.
(3) صدر: الصدر بالتحريك رجوع المسافر من مقصده. النهاية 3/15.
(4) ريح عاصف: شديد الهبوب. النهاية 3/248.
(5) الطبقات الكبرى 2/104.
(6) الأم 2/159.(3/46)
(150) قال: أخبرنا أحمد(1) بن سليمان قال: ثنا عبيد الله بن موسى قال: أنا إسرائيل(2) عن مجزأة(3) قال: حدثني ناجية بن جندب الأسلمي أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم حين صد الهدي فقال: يا رسول الله ابعث به معي فأنا أنحره في الحرم، قال: وكيف؟ قال: آخذ به في أودية لا يقدر عليه، قال: فدفعه رسول الله صلى الله عليه وسلم إليه فانطلق به حتى نحره في الحرم(4).
وأخرجه أبو نعيم(5) من طريق عمرو بن محمد العنقري عن إسرائيل به نحوه.
وأخرجه الطحاوي من طريق مخول(6) بن راشد به قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم حين صد الهدي فقلت: يا رسول الله ابعث معي بالهدي فلأنحره في الحرم، قال: وكيف تأخذ به؟ قلت: آخذ به في أودية لا يقدرون علي فيها، فبعثه معي حتى نحرته في الحرم(7).
سند هذا الحديث صحيح فرجاله رجال الصحيحين، ما عدا شيخ النسائي أحمد بن سليمان وقال عنه ابن حجر: ثقة حافظ.
وهذا الحديث يشهد للروايات السابقة من وجه ويخالفها من وجه:
__________
(1) أحمد بن سليمان بن عبد الملك أبو الحسين الرهاوي، ثقة حافظ، مات سنة إحدى وستين ومائتين: س. تقريب: 13.
(2) هو: ابن يونس بن أبي إسحاق السبيعي.
(3) مجزأة - بفتح أوله وسكون الجيم وفتح الزاي بعدها همزة مفتوحة - ابن زاهر الأسلمي الكوفي ثقة، من الرابعة: خ، م، س. تقريب: 329.
(4) السنن الكبرى للنسائي، لوحة: 54.
(5) معرفة الصحابة 2/ لوحة: 224.
(6) مخول - بوزن محمد - وقيل بكسر أوله وتخفيف الواو - ابن راشد أبو راشد بن أبي مجالد النهدي الكوفي الحناط - بمهملة ونون - ثقة، نسب إلى التشيع، مات بعد سنة أربعين ومائة: ع. تقريب: 331.
(7) شرح معاني الآثار 2/242.(3/47)
فمفهوم الحديث يفيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان نازلاً في الحل، وهذا يؤيد الروايات السابقة، ومنطوق الحديث يفيد أنهم نحروا الهدي في الحرم، وهذا يخالف الروايات السابقة ظاهراً، لكن يجمع بينها بأن الرسول صلى الله عليه وسلم بعث مع ناجية بعض الهدي لا كله، وظاهر كلام(1) ابن حجر على هذا الجمع ويؤيده أيضاً ما روي عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث من هديه بعشرين بدنة، عند المروة مع رجل من أسلم(2).
الفصل الثالث أحداث وقعت للمسلمين في طريقهم للمدينة
وفيه أربعة مباحث:
المبحث الأول: انصراف المسلمين من الحديبية ونومهم عن صلاة الصبح.
المبحث الثاني: نزول سورة الفتح.
المبحث الثالث: معجزة النبي صلى الله عليه وسلم في نبع الماء من أصابعه وفي تكثير الطعام.
المبحث الرابع: نزول المسلمين بالأثاية.
المبحث الأول: انصراف المسلمين من الحديبية ونومهم عن صلاة الصبح:
كانت مدة إقامة المسلمين بالحديبية بضعة عشر يوماً، ويقال عشرين ليلة على قول الواقدي(3) وابن سعد(4).
وعن ابن عائذ: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقام في غزوته هذه شهراً ونصفاً"(5).
والذي يبدو: أن الواقدي وابن سعد أرادا تحديد مدة إقامته صلى الله عليه وسلم في الحديبية، أما ابن عائذ فقصد الزمن الذي استغرقته غيبة النبي صلى الله عليه وسلم منذ خروجه من المدينة إلى عودته إليها، والله أعلم.
__________
(1) فتح الباري 4/11.
(2) ذكره الواقدي، المغازي 2/615، وذكره الزرقاني وعزاه لابن سعد دون إسناد، شرح الزرقاني على المواهب 2/209، ولم أجده في طبقات ابن سعد.
(3) مغازي الواقدي 2/616.
(4) الطبقات الكبرى 2/98.
(5) نقله ابن سيد الناس، عيون الأثر 2/123، ونقله الزرقاني، شرح الزرقاني على المواهب 2/210.(3/48)
وبعد أن تحلل المسلمون من عمرتهم تلك، قفلوا راجعين إلى المدينة، فلما كان من الليل عدلوا عن الطريق للنوم ووكلوا بلالاً بحراستهم، فنام بلال ولم يوقظهم إلا حر الشمس، كما جاء في حديث ابن مسعود رضي الله عنه:
(151) قال أبو داود: حدثنا محمد بن المثنى حدثنا محمد بن جعفر حدثنا شعبة عن جامع(1) بن شداد سمعت عبد الرحمن(2) بن أبي علقمة سمعت عبد الله(3) بن مسعود قال: أقبلنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم زمن الحديبية فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من يكلؤنا"(4)؟ فقال بلال: أنا، فناموا حتى طلعت الشمس، فاستيقظ النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "افعلوا كما كنتم تفعلون"، قال: ففعلنا، قال: "فكذلك فافعلوا لمن نام أو نسي"(5).
وبنحو هذا اللفظ أخرجه أحمد(6) عن يحيى بن سعيد القطان، وابن أبي شيبة(7) عن غندر، وابن جرير(8) من طريق أبي بحر(9) عبد الرحمن بن عثمان، وابن عبد البر(10) من طريق محمد بن جعفر غندر، كلهم عن شعبة به.
وأخرجه النسائي بأطول من هذا:
__________
(1) جامع بن شداد المحاربي، أبو صخرة الكوفي، ثقة فاضل، مات سنة سبع، ويقال سنة ثمان وعشرين ومائة: ع. تقريب: 53.
(2) عبد الرحمن بن أبي علقمة أو ابن علقمة، يقال: له صحبة، وذكره ابن حبان في ثقات التابعين: د، س. تقريب: 207.
(3) عبد الله بن مسعود بن غافل - بمعجمة وفاء - بن حبيب الهذلي أبو عبد الرحمن، من السابقين الأولين ومن كبار العلماء من الصحابة، مناقبه جمة وأمّره عمر على الكوفة، ومات سنة اثنتين وثلاثين أو في التي بعدها بالمدينة: ع. تقريب: 189.
(4) يكلؤنا: يحرسنا، الكلاءة الحفظ والحراسة. النهاية 4/194.
(5) سنن أبي داود مع معالم السنن، كتاب الصلاة: 447.
(6) مسند أحمد 1/386.
(7) المصنف 2/64.
(8) تفسير ابن جرير 26/69.
(9) عبد الرحمن بن عثمان بن أمية بن عبد الرحمن بن أبي بكرة الثقفي، أبو بجر البكراوي ضعيف، مات سنة خمس وتسعين ومائة: د، ق. تقريب: 206.
(10) التمهيد 5/252.(3/49)
قال: أخبرنا محمد بن المثنى ومحمد بن بشار عن محمد(1) قال: ثنا شعبة عن جامع بن شداد عن عبد الرحمن بن أبي علقمة قال: سمعت عبد الله بن مسعود يقول: أقبلنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم زمن الحديبية، فذكر أنهم نزلوا دهاساً من الأرض - يعني بالدهاس الرمل - فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من يكلؤنا"، فقال بلال: أنا يا رسول الله، قال: "إذاً ننام" فناموا حتى طلعت الشمس، فاستيقظ ناس فيهم فلان وفلان وفيهم عمر، واستيقظ النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "افعلوا ما كنتم تفعلون" ففعلنا قال: "كذلك فافعلوا لمن نام أو نسي": قال: فضلت ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم فطلبتها فوجدت حبلها قد تعلق بشجرة فجئت بها فركب فسرنا.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا نزل عليه الوحي اشتد ذلك عليه، وعرفنا ذلك فيه فتنحى منتبذاً(2) خلفنا فجعل يغطي رأسه ويشتد عليه حتى عرفنا أنه قد أنزل عليه، فأتانا وأخبرنا أنه إنما أنزل عليه {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا}(3).
وأخرجه أحمد(4)، وابن أبي شيبة(5) كلاهما عن محمد بن جعفر عن شعبة به.
وأخرجه البزار(6) عن محمد بن المثنى عن محمد بن جعفر به، كلهم لنحو لفظ النسائي.
سند هذا الحديث صحيح، رجاله رجال الصحيحين ما عدا عبد الرحمن بن أبي علقمة، ولم يطعن فيه أحد(7)، وقد ذكره ابن حبان(8) في ثقات التابعين، وقال الهيثمي(9) عن الحديث: رجاله موثقون، وابن أبي علقمة من جملتهم، وقال الألباني(10) عن الحديث: إسناده صحيح.
__________
(1) هو: ابن جعفر غندر.
(2) منتبذاً: متنحياً، والانتباذ: التنحي. ترتيب القاموس 4/311.
(3) السنن الكبرى، لوحة: 119.
(4) مسند أحمد 1/464.
(5) تاريخ ابن أبي شيبة، لوحة: 56.
(6) كشف الأستار عن زوائد البزار 1/202.
(7) انظر ترجمته في: الجرح والتعديل 2/2/273، تهذيب الكمال 2/ لوحة: 805، تهذيب التهذيب 6/233.
(8) الثقات 5/106.
(9) مجمع الزوائد 1/319.
(10) إرواء الغليل 1/293.(3/50)
وقد أخرج النسائي وغيره الحديث من طريق المسعودي عن جامع ابن شداد بسياق آخر:
(152) قال النسائي: أخبرنا سويد(1) بن نصر قال: أنا عبد الله(2) عن المسعودي(3) عن جامع بن شداد عن عبد الرحمن بن أبي علقمة قال عبد الله: لما رجع النبي صلى الله عليه وسلم زمان الحديبية قال: "من يحرسنا الليلة" قال عبد الله: أنا، قال: "إنك تنام" ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "من يحرسنا الليلة"؟ قال: وسكت القوم، فقلت: أنا، قال: "فأنت إذاً" قال: فحرستهم حتى إذا كان في وجه الصبح أدركني ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فنمت، فما استيقظت إلا بحرِّ الشمس على أكتافنا، فقام رسول الله فصنع كما كان يصنع، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لو شاء الله ألا تناموا عنها لم تناموا عنها، ولكن أراد أن تكون سنة لمن بعدكم لمن نام أو نسي"(4).
__________
(1) سويد بن نصر بن سويد المروزي، أبو الفضل، لقبه الشاه راوية ابن المبارك ثقة، مات سنة أربعين ومائتين: ت، س. تقريب: 141.
(2) هو: عبد الله بن المبارك.
(3) عبد الرحمن بن عبد الله بن عتبة بن مسعود الكوفي المسعودي، صدوق اختلط قبل موته، ضابطه أن من سمع منه ببغداد فبعد الاختلاط، مات سنة ستين، وقيل: خمس وستين ومائة: خت، الأربعة. تقريب: 205.
(4) السنن الكبرى، لوحة: 119.(3/51)
وأخرجه أحمد عن يزيد بن هارون عن المسعودي به، فذكر نحو هذا اللفظ وزاد: "قال: ثم إن ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم وإبل القوم تفرقت، فخرج الناس في طلبها، فجاؤوا بإبلهم إلا ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال عبد الله: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خذها هنا"، فأخذت حيث قال لي فوجدت زمامها قد التوى على شجرة ما كانت لتحلها إلاّ يد، قال: فجئت بها النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله والذي بعثك بالحق نبياً لقد وجدت زمامها ملتوياً على شجرة ما كانت لتحلها إلا يد، قال: ونزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم سورة الفتح: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا}(1).
وساق أبو داود الطيالسي حديث شعبة والمسعودي معاً.
قال: حدثنا شعبة والمسعودي عن جامع بن شداد به، قال: وحديث المسعودي أحسن، قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم مرجعه من الحديبية فعرسنا(2) فقال: "من يحرسنا لصلاتنا"، وقال شبعة: "من يكلؤنا" قال بلال: أنا، قال المسعودي في حديثه: "إنك تنام"، ثم قال: "من يحرسنا لصلاتنا"، فقال ابن مسعود قلت: أنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنك تنام"، قال: فحرستهم..."(3) الحديث بسياق المسعودي.
وأخرجه البيهقي(4) من طريق أبي داود به مثله.
__________
(1) مسند أحمد 1/391.
(2) فعرسنا: من التعريس: وهو نزول المسافر آخر الليل نزلة للنوم والاستراحة. النهاية 3/206.
(3) مسند أبي داود: 49 - 50.
(4) السنن الكبرى 2/218.(3/52)
وأخرجه من طريق يونس بن بكير عن المسعودي به، قال فيه: لما أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم من الحديبية جعلت ناقته تثقل فتقدمنا فأنزل عليه: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا}، فأدركنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وبه من السرور ما شاء الله فأخبرنا أنها أنزلت عليه فبينما نحن ذات ليلة إذ عرسنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من يحرسنا"؟ فقلت: أنا يا رسول الله..."(1) الحديث.
وأورد الهيثمي رواية المسعودي هذه ثم قال: وفيه عبد الرحمن بن عبد الله المسعودي وقد اختلط في آخر عمره(2).
قلت: وقد قال عنه الذهبي سيء الحفظ(3)، وقد خالف في روايته فذكر أن الذي قام بحراسة المسلمين تلك الليلة عبد الله بن مسعود، والمحفوظ عن جامع بن شداد ما رواه شعبة أن الذي قام بحراسة المسلمين تلك الليلة إنما هو بلال، أما ما في رواية المسعودي فهو شاذ؛ لأنه خالف من هو أوثق منه، والله أعلم.
وقد أخرج البيهقي الحديث من طريق زافر بن سليمان(4) عن شعبة به، وذكر أن القصة كانت في غزوة تبوك(5).
وقد شذ زافر بن سليمان بذلك، والمحفوظ عن شعبة ما سبق من رواية الثقات مثل يحيى بن سعيد القطان، ومحمد بن جعفر غندر وغيرهم أن ذلك كان في غزوة الحديبية، أما زافر بن سليمان فقد قال عنه ابن حبان: كثير الغلط واسع الوهم، على صدق فيه(6)، وقال ابن حجر: صدوق كثير الأوهام ا.هـ
فلعل هذا من أوهامه، والله أعلم.
__________
(1) دلائل النبوة 2/ لوحة: 236.
(2) مجمع الزوائد 1/319.
(3) ميزان الاعتدال 2/574.
(4) زافر: بالفاء ابن سليمان الإيادي أبو سليمان القهستاني - بضم القاف والهاء وسكون المهملة - سكن الري ثم بغداد وولي قضاء سجستان، صدوق كثير الأوهام من التاسعة: ت، ق. تقريب: 105.
(5) دلائل النبوة 2/ لوحة: 236.
(6) ميزان الاعتدال 2/63 - 64.(3/53)
وقد وردت أحاديث أخرى تفيد أن قصة نومهم عن صلاة الصبح وقعت في غير الحديبية أيضاً: منها حديث أبي هريرة عند مسلم(1) أنها وقعت للمسلمين عند رجوعهم من خيبر، ومنها مرسل زيد بن أسلم عند مالك(2) أنها وقعت لهم بطريق مكة.
ومنها مرسل عطاء بن يسار(3) أنها كانت في غزوة تبوك.
وقد حاول بعض العلماء التوفيق بين هذه النصوص:
فذهب ابن عبد البر إلى أن القصة واحدة، وأن الصحيح وقوعها في غزوة خيبر. ثم حمل بعض النصوص عليها وضعف البعض الآخر، فبعد أن ذكر مرسل زيد بن أسلم قال: وقد جاء معناه متصلاً مسنداً من وجوه صحاح ثابتة في نومه صلى الله عليه وسلم عن صلاة الصبح في سفره، روى ذلك جماعة من الصحابة وأظنها قصة لم تعرض له إلا مرة واحدة فيما تدل عليه الآثار، والله أعلم.
إلا أن بعضها فيه: مرجعه من خيبر، كذا قال ابن شهاب عن سعيد بن المسيب في حديثه هذا، وهو أقوى ما يروى في ذلك، وهو الصحيح إن شاء الله، وقول زيد بن أسلم في حديثه هذا بطريق مكة ليس بمخالف لأن طريق خيبر وطريق مكة من المدينة يشبه أن يكون واحداً، وربما جعلته القوافل واحداً، وحديث زيد بن أسلم هذا مرسل، وليس مما يعارض ابن شهاب، وفي حديث ابن مسعود "من يوقظنا، فقلت: أنا أوقظكم" وليس في ذلك دليل على أنها غير قصة بلال لأنه لم يقل له: أيقظنا، ويحتمل أنه لا يجيبه إلى ذلك، ويأمر بلالاً، وقال ابن مسعود في هذا الحديث: زمن الحديبية - وهو زمن واحد في عام واحد لأنه منصرفه من الحديبية مضى إلى خيبر في عامه ففتحها الله عليه" (4) اهـ.
__________
(1) صحيح مسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة: 309.
(2) الموطأ، كتاب وقوت الصلاة: 26.
(3) ذكره ابن عبد البر، التمهيد 5/206، وابن حجر، فتح الباري 1/448، وهو في مصنف عبد الرزاق 1/588، وليس فيه تصريح أنها في غزوة تبوك فلعل ابن عبد البر، وابن حجر وقفا على نسخة غير التي بين أيدينا.
(4) التمهيد 5/204 - 206.(3/54)
هكذا قال ابن عبد البر - رحمه الله - وقد نقل ابن حجر رحمه الله بعض كلامه هذا - في محاولة الجمع - ثم قال: ولا يخفى ما فيه من تكلف ورواية عد الرزاق بتعيين غزوة تبوك ترد عليه(1) ا.هـ
قلت: يعني ابن حجر برواية عبد الرزاق مرسل عطاء بن يسار(2)، لكنه لا يرد على ابن عبد البر؛ لأنه قد ضعفه حيث قال: وقد قال عطاء بن يسار أنها كانت في غزوة تبوك، وهذا لا يصح والآثار الصحاح على خلاف قوله مسندة ثابتة، وقوله مرسل(3).
لكن محاولة ابن عبد البر لتوحيد القصة، غير مجدية فإن كان قد أعل حديث زيد بن أسلم وحديث عطاء بن يسار بالإرسال، فإن حديث ابن مسعود صحيح لا يمكن رده بحال، وقد صرح فيه بأن الحادثة وقعت أثناء رجوعه من غزوة الحديبية، والحديبية تقع جنوب المدينة قريب من مكة، فالقادم منها إلى المدينة يتجه شمالاً، بينما تقع خيبر شمال المدينة فالقادم منها إلى المدينة يتجه جنوباً فلا يمكن أن يكون طريقهما من المدينة أو إلى المدينة واحداً، وما ذكره ابن عبد البر رحمه الله بعيدٌ جداً وعذره في ذلك أنه لا يعرف تلك الأماكن، لأنه لم يخرج عن الأندلس كما قال الحميدي(4).
وقد جنح ابن القيم - فيما يفهم من صنيعه - إلى كون الحادثة وقعت مرة واحدة، وترجيح كونها في خيبر: فبعد أن ذكر قصة نومهم عن الصلاة في غزوة خيبر قال: وروي أن هذه القصة كانت مرجعهم من الحديبية، وروي أنها كانت مرجعهم من غزوة تبوك..." اهـ(5).
__________
(1) فتح الباري 1/449.
(2) صرح بذلك في المصدر السابق ص 286.
(3) التمهيد 5/206.
(4) جذوة المقتبس 367.
(5) زاد المعاد 3/356.(3/55)
هكذا حكى قصة الحديبية وتبوك بصيغة التمريض، ثم عاد مرة أخرى فذكر حديث ابن مسعود في قصة نومهم عن الصلاة في الحديبية ثم أعله بالاضطراب، فبعد أن ذكره من طريق شعبة قال: لكن اضطربت الرواة في هذه القصة، فقال عبد الرحمن بن مهدي عن شعبة عن جامع: إن الحارس فيها كان ابن مسعود، وقال غندر عنه: إن الحارس كان بلالاً، واضطربت الرواية في تاريخها، فقال المعتمر بن سليمان عن شعبة عنه: إنها كانت في غزوة تبوك، وقال غيره عنه: إنها كانت في مرجعهم من الحديبية، فدل على وهم وقع فيها، ورواية الزهري عن سعيد سالمة من ذلك، وبالله التوفيق(1).
قلت: ما حكاه ابن القيم عن ابن مهدي والمعتمر بن سليمان وجعله سبباً في اضطراب الحديث لم يسنده ابن القيم ولم يعزه لأحد ممن سبقه، ولم أرَ أحداً - بعد بحث طويل - سوى ابن القيم يذكر أن ابن مهدي أو المعتمر بن سليمان قد روى هذا الحديث عن شعبة، وكذلك لم يذكر أحد ممن رواه عن شعبة أن ابن مسعود حرسهم تلك الليلة، ولم يرد أيضاً عن شعبة أن القصة وقعت في غزوة تبوك إلا من رواية زافر بن سليمان عنه، وقد بينا شذوذه في ذلك.
والمحفوظ عن شعبة هو ما رواه الثقات وهم محمد بن جعفر غندر، ويحيى بن سعيد القطان، وأبو داود الطيالسي، فهؤلاء كلهم رووا عنه أن الحادثة وقعت عند رجوع المسلمين من غزوة الحديبية، وأن الذي حرسهم تلك الليلة هو بلال، وعلى هذا فإن ثبت ما ذكره ابن القيم عن ابن مهدي والمعتمر يكون من قبيل الشاذ، ولا يعل به الحديث، والله أعلم.
والتحقيق: أن ما ورد من اختلاف بين حديث ابن مسعود في قصة الحديبية، وغيره محمول على تعدد القصة، كما رجح ذلك النووي(2) وجنح إليه ابن كثير(3) والزرقاني(4)، وابن حجر(5)، بل قال السيوطي: "ولا يجمع إلا بتعدد القصة"(6).
__________
(1) زاد المعاد 3/356.
(2) شرح صحيح مسلم 5/181 - 182.
(3) البداية والنهاية 4/213.
(4) شرح الزرقاني على الموطأ 1/47.
(5) فتح الباري 1/449.
(6) تنوير الحوالك 1/33.(3/56)
المبحث الثاني: نزول سورة الفتح:
انصرف المسلمون من الحديبية وفي نفوسهم ما فيها بسبب صد قريش لهم عن البيت، وقد علم الله ذلك منهم - وهو العليم بالسر وأخفى - فأنزل على رسوله صلى الله عليه وسلم سورة الفتح يبشرهم فيها بأنهم لم يخسروا سفرتهم تلك، وأن ذلك الصلح كان فتحاً، وأنهم قد انقلبوا بمغفرة من الله ورضوان، وذلك أسمى ما تصبو إليه نفوسهم، فيالها من بشارة!
(153) قال البخاري: حدثنا عبد الله بن يوسف أخبرنا مالك عن زيد بن أسلم عن أبيه "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يسير في بعض أسفاره - وعمر بن الخطاب يسير معه ليلاً - فسأله عمر بن الخطاب عن شيء فلم يجبه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم سأله فلم يجبه، وقال عمر بن الخطاب: "ثكلتك أمك يا عمر، نزرت(1) رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث مرات كل ذلك لا يجيبك"، قال عمر: "فحركت بعيري ثم تقدمت أمام المسلمين، وخشيت أن ينزل فيّ قرآن، فما نشبت(2) أن سمعت صارخاً يصرخ بي" قال: "فقلت لقد خشيت أن يكون نزل فيّ قرآن، وجئت رسول الله صلى الله عليه وسلم فسلمت عليه" فقال: "لقد أنزلت علي الليلة سورة لهي أحب إليّ مما طلعت عليه الشمس، ثم قرأ: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا}(3).(4)
وأخرجه من طريق محمد(5) بن مسلمة القعنبي وإسماعيل(6) بن أبي أويس كلاهما عن مالك به مثله وتكرر عندهما لفظ: "ثم سأله فلم يجبه" مرتين.
__________
(1) نزرت: ألححت عليه. النهاية 5/40.
(2) نشبت: أي لبثت. النهاية 5/52.
(3) سورة الفتح الآية: 1.
(4) صحيح البخاري مع الفتح، كتاب المغازي: 4177.
(5) صحيح البخاري مع الفتح، كتاب المغازي: 4833.
(6) صحيح البخاري مع الفتح، كتاب المغازي: 5012.(3/57)
هذا الحديث ظاهره الإرسال، وهو مما انتقده الدارقطني على البخاري، وقد أجاب عنه ابن حجر فقال: "بل ظاهر رواية البخاري الوصل، فإن أوله وإن كان صورته صورة المرسل فإن بعده ما يصرح بأن الحديث لأسلم عن عمر ففيه بعد" قوله: "فسأله عمر عن شيء فلم يجبه"، فقال عمر: "نزرت رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث مرات، كل ذلك لا يجيبك"، قال عمر: "فحركت بعيري ثم تقدمت أمام الناس، وخشيت أن ينزل في قرآن، وساق الحديث على هذه الصورة حاكياً لمعظم القصة عن عمر فكيف يكون مرسلاً، هذا من العجب(1)، والله أعلم.
قلت: وقد جاء الحديث من طرق أخرى لغير البخاري يصرح فيها أسلم بأخذه هذا الحديث عن عمر: فأخرجه الترمذي من طريق محمد بن خالد بن عثمة عن مالك به، وفيه: سمعت عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: "كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره..." (2).
وأخرجه البزار(3) من طريق ابن عثمة به، قال فيه: "سمعت عمر"، وذكره.
وأخرجه(4) من طريق عبد الرحمن بن غزوان به، وقال فيه: "عن عمر" وذكر الحديث.
ثم قال البزار: "هذا الحديث لا نعلمه يروى عن عمر إلا من هذا الوجه ولا نعلم حدث به عن زيد بن أسلم إلا مالك ولا رواه عن مالك إلا محمد بن خالد بن عثمة، وعبد الرحمن بن غزوان"(5) اهـ.
وابن غزوان هذا يكنى بأبي نوح وقد روى عنه أحمد هذا الحديث متصلاً.
قال: ثنا أبو نوح عن مالك به قال فيه(6): عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وذكر نحوه.
وأخرجه ابن عبد البر من طريق محمد بن حرب عن مالك به قال فيه عن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يسير في بعض أسفاره..."(7) الحديث بنحوه.
__________
(1) هدي الساري 3/37.
(2) سنن الترمذي، كتاب التفسير: 3262.
(3) مسند البزار 1/ لوحة: 32.
(4) مسند البزار 1/ لوحة: 32.
(5) مسند البزار 1/ لوحة: 32.
(6) مسند أحمد 1/31.
(7) التمهيد 3/264 - 265.(3/58)
ثم قال ابن عبد البر: "وهكذا رواه مسنداً روح بن عبادة ومحمد بن خالد بن عثمة جميعاً أيضاً عن مالك كرواية محمد بن حرب سواء ذكره النسائي عن محمد بن عبد الله بن المبارك"(1) اهـ.
وذكر ابن حجر أن الدارقطني أورد في غرائب مالك من طريق ابن غزوان وابن عثمة ويزيد بن أبي حكيم ومحمد بن حرب وإسحاق الحنيني، ثم قال ابن حجر: "فهؤلاء خمسة رووه عن مالك بصريح الاتصال"(2) اهـ
قلت: وقد أشار ابن عبد البر - كما سبق - إلى أن روح بن عبادة رواه متصلاً عن مالك، فيصبح الذين رووه عن مالك بصريح الاتصال ستة، والله أعلم.
(154) قال البخاري: حدثنا أحمد بن إسحاق حدثنا عثمان بن عمر أخبرنا شعبة عن قتادة عن أنس بن مالك رضي الله عنه {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا} قال: الحديبية، قال أصحابه: هنيئاً مريئاً فما لنا؟ فأنزل الله {لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ}(3)، قال شعبة: فقدمت الكوفة فحدثت بهذا كله عن قتادة ثم رجعت فذكرت له فقال: أما { إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ} فعن أنس، وأما "هنيئاً مريئاًَ" فعن عكرمة(4).
وأخرجه أبو عوانة من طريق عثمان بن عمر عن شعبة به، فذكر نحوه وفيه، قال شعبة: فأتيت الكوفة فحدثتهم بهذا الحديث عن قتادة عن أنس فلما رجعنا إلى البصرة سألت عنه قتادة فقال: أما الأول: فتح الحديبية، فهو عن أنس، وأما هذا قول أصحابه: "هنيئاً لك" هذا عن عكرمة(5).
ومن هذا الوجه أخرجه البيهقي(6) أيضاً بنحو لفظ أبي عوانة.
__________
(1) التمهيد 3/264 - 265.
(2) فتح الباري 8/583.
(3) سورة الفتح الآية: 5.
(4) صحيح البخاري مع الفتح، كتاب المغازي: 4172.
(5) مسند أبي عوانة 4/250.
(6) السنن الكبرى 9/222، دلائل النبوة 2/ لوحة: 237.(3/59)
وأخرجه أحمد عن حجاج بن محمد عن شعبة به، فذكره بمعنى ما سبق وفيه: قال: فظننت أنه كله عن أنس فأتيت الكوفة فحدثت عن قتادة عن أنس ثم رجعت فلقيت قتادة بواسط فإذا هو يقول: أوله عن أنس، وآخره عن عكرمة، قال: فأتيتهم بالكوفة فأخبرتهم بذلك(1).
وأخرجه الخطيب(2) من طريق أحمد بن إبراهيم الدورقي عن حجاج به مثله.
وفي هذا الحديث أدرج قتادة رواية عكرمة في رواية أنس وساقهما مساقاً واحداً، لكن شعبة بين أخيراً ما رواه عن أنس وما رواه عن عكرمة من الحديث.
وذكر الخطيب أن أحمد - في روايته عن حجاج - لم يبين رواية قتادة عن أنس من روايته عن عكرمة(3)، والواقع أنه قد بين كما سبق، فلعله لم يقف عليها.
وأخرجه الخطيب من طريق أبي معشر الرؤاسي عن شعبة به، وفصل قتادة رواية كل منهما على حدة، ولفظه: "قال: لما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من الحديبية نزلت عليه {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا}، قال قتادة: عن عكرمة: فقال أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: هنيئاً لك يا رسول الله ما أعطاك الله فما لنا؟ فنزلت: {لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ}(4).
وقد روى الحديث عن قتادة غير شعبة، وأدرج رواية عكرمة في رواية أنس دون تمييز بينهما.
__________
(1) المسند 3/173.
(2) المدرج، لوحة: 64 - 65.
(3) المدرج، لوحة: 63.
(4) المدرج، لوحة: 65.(3/60)
فأخرجه الترمذي من طريق معمر بن راشد عن قتادة عن أنس رضي الله عنه قال: نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم: {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ}(1)، مرجعه من الحديبية، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لقد نزلت علي آية أحب إلى مما على الأرض، ثم قرأها النبي صلى الله عليه وسلم عليهم"، فقالوا: هنيئاً مريئاً يا نبي الله قد بين الله لك ماذا يفعل بك، فماذا يفعل بنا؟ فنزلت عليه: {لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ} إلى قوله: {فَوْزًا عَظِيمًا}(2). وقال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح".
وأخرجه أحمد(3) وابن حبان(4) وابن جرير(5) والخطيب(6) كلهم من طريق معمر به نحوه.
وأخرجه أحمد من طريق همام(7) عن قتادة عن أنس قال: "لما انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم من الحديبية نزلت عليه هذه الآية: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا}... الحديث.
وأخرجه أبو عوانة من طريق(8) همام به فذكر نحوه.
وأخرجه أبو عوانة أيضاًَ من طريق(9) شيبان عن قتادة عن أنس بنحوه.
وأخرجه ابن جرير(10) من طريق سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن أنس فذكر نحوه.
وأخرجه الخطيب(11) من طريق همام وسعيد بن أبي عروبة كلاهما عن قتادة عن أنس فذكره.
وأخرجه من طريق حجاج عن شعبة عن قتادة عن عكرمة وأنس بن مالك فذكره بنحوه(12).
ثم قال الخطيب: "قصة نزول أول هذه السورة حسب عن قتادة عن أنس".
__________
(1) سورة الفتح الآية: 2.
(2) سنن الترمدي، كتاب التفسير : 3263.
(3) مسند أحمد 3/197.
(4) موارد الظمآن: 436.
(5) تفسير ابن جرير 26/70.
(6) المدرج، لوحة: 63.
(7) مسند أحمد 3/122، 134.
(8) مسند أبي عوانة 4/247 - 248.
(9) مسند أبي عوانة 4/247 - 248.
(10) تفسير ابن جرير: 26/ 69.
(11) المدرج، لوحة: 62 - 63.
(12) المدرج لوحة: 62 - 63.(3/61)
وأما قصة نزول قوله تعالى: {لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ}، إلى آخر الآية فهي عن قتادة عن عكرمة لا عن أنس(1) ا.هـ
وقد روى شعبة وغيره عن قتادة حديث أنس بانفراده فأخرجه البخاري من طريق محمد بن جعفر غندر عن شعبة به.
(155) قال: حدثنا محمد بن بشار حدثنا غندر حدثنا شعبة قال: "سمعت قتادة عن أنس رضي الله عنه: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا} قال الحديبية"(2).
وأخرجه أبو عوانة من طريق غندر(3) وعبد الرحمن(4) بن زياد الرصاصي وأبي النضر(5) هاشم بن القاسم كلهم عن شعبة به نحوه.
وأخرجه الخطيب(6) من طريق الثلاثة المتقدمين ومن طريق عبد الله ابن خيران ويحيى بن سعيد القطان ومعاذ بن معاذ كلهم عن شعبة به نحوه.
وأخرجه مسلم(7) من طريق سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن أنس بن مالك حدثهم قال: لما نزلت: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ} إلى قوله: {فَوْزًا عَظِيمًا}. مرجعه من الحديبية فقال: "لقد أنزلت علي آية هي أحب إلي من الدنيا جميعاً"، وساق سنده إلى سليمان التيمي وهمام وشيبان، وقال: جميعاً عن قتادة عن أنس نحو حديث ابن أبي عروبة.
وأخرجه أبو عوانة(8) وابن جرير(9) والخطيب(10) كلهم من طريق سليمان التيمي عن قتادة عن أنس نحو حديث سعيد بن أبي عروبة عند مسلم.
وقد أفرد محمد بن جعفر غندر وعبد الرحمن بن زياد الرصاصي عن شعبة حديث عكرمة:
__________
(1) المدرج لوحة: 62 - 63.
(2) صحيح البخاري مع الفتح، كتاب التفسير: 4834.
(3) مسند أبي عوانة 4/249.
(4) مسند أبي عوانة 4/249.
(5) مسند أبي عوانة 4/249.
(6) المدرج لوحة: 63 - 64.
(7) صحيح مسلم، كتاب الجهاد والسير: 67.
(8) مسند أبي عوانة 4/274.
(9) تفسير ابن جرير 26/69.
(10) المدرج، لوحة: 64(3/62)
(156) فأخرجه ابن جرير(1) والخطيب(2) كلاهما من طريق محمد بن جعفر عن شعبة عن قتادة عن عكرمة قال: لما نزلت {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} قال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: هنيئاً مريئاً لك يا رسول الله هذا لك فما لنا؟ قال: فنزلت هذه الآية: {لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ}.
وأخرجه الخطيب من طريق عبد الرحمن بن زياد الرصاصي عن شعبة عن قتادة عن عكرمة قال: لما نزلت هذه الآية قال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله هنيئاً لك ما أعطاك ربك، هذا لك فما لنا؟ فأنزل الله: {لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ}(3) الآية.
وقد أشار إلى نزول سورة الفتح حديث المسور ومروان:
__________
(1) المدرج، لوحة: 64
(2) المدرج، لوحة: 64
(3) تفسير ابن جرير 26/70.(3/63)
(157) قال الحاكم: أخبرنا أحمد بن جعفر القطيعي(1) ثنا عبد الله ابن أحمد بن حنبل(2) حدثني أبي(3) ثنا محمد بن سلمة عن محمد بن إسحاق عن الزهري عن عروة عن المسور بن مخرمة ومروان بن الحكم قالا: "أنزلت سورة الفتح بين مكة والمدينة في شأن الحديبية، من أولها إلى آخرها"(4).
__________
(1) أحمد بن جعفر بن حمدان، أبو بكر القطيعي، صدوق في نفسه، مقبول تغير قليلاً، قال الخطيب: لم نر أحداً ترك الاحتجاج به، وقال الحاكم: ثقة مأمون، وقال ابن الصلاح: اختل في آخر عمره حتى كان لا يعرف شيئاً مما يقرأ عليه، ذكر هذا أبو الحسن بن الفرات، قال الذهبي: وهذا القول غلو وإسراف، وقد كان أبو بكر أسند أهل زمانه، وقال ابن أبي الفوارس: لم يكن في الحديث بذاك، وذكر البرقاني أنه ثقة صدوق لا يشك في سماعه، مات آخر سنة ثمان وستين وثلاثمائة، وله خمس وتسعون. ميزان الاعتدال 1/87، وجمع المعلمي أقوال النقاد فيه، ورجح أنه لم يكن منها ما يخدش في الاحتجاج به، التنكيل: 1/101 - 103.
(2) عبد الله بن أحمد بن محمد بن حنبل الشيباني أبو عبد الرحمن، ولد الإمام ثقة، مات سنة تسعين ومائتين وله بضع وسبعون: س. تقريب: 167.
(3) أحمد بن محمد بن حنبل بن هلال الشيباني المروزي، نزيل بغداد أبو عبد الله، أحد الأئمة، ثقة حافظ فقيه حجة، مات سنة إحدى وأربعين ومائتين: ع. تقريب: 16.
(4) المستدرك 2/459.(3/64)
وأخرجه البيهقي أيضاً من طريق ابن إسحاق، وصرح فيه بالسماع من الزهري، قال: أخبرنا أبو عبد الله(1) الحافظ، وأبو بكر أحمد بن الحسن القاضي، قالا: ثنا أبو العباس محمد بن يعقوب ثنا أحمد بن عبد الجبار، ثنا يونس بن بكير عن ابن إسحاق قال: حدثني الزهري عن عروة عن مروان والمسور بن مخرمة في قصة الحديبية وفيها مدرجاً: "ثم انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم راجعاً، فلما كان بين مكة والمدينة نزلت عليه سورة الفتح، من أولها إلى آخرها: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا}(2).
قال الحاكم بعد أن ساق الحديث: "وهذا حديث صحيح على شرط مسلم، ولم يخرجاه".
قلت: الحديث صحيح لشواهده؛ لأن مداره على ابن إسحاق وحديثه حسن على الراجح من أقوال أهل العلم(3)، والقصة يحكيها المسور ومروان ولم يشهد أحد منهما الحديبية، فالحديث مرسل لكن المسور صحابي ومرسل الصحابي حجة، والله أعلم.
وقد أشار إلى قصة نزول سورة الفتح أيضاً حديث مجمع بن جارية الأنصاري:
__________
(1) هو: محمد بن عبد الله الحاكم النيسابوري.
(2) السنن الكبرى 9/223، دلائل النبوة 2، لوحة: 238.
(3) انظر ص: 97.(3/65)
(158) قال أبو داود: حدثنا محمد بن عيسى(1) حدثنا مجمع بن يعقوب بن يزيد الأنصاري قال: سمعت أبي يعقوب بن مجمع يذكر عن عمه عبد الرحمن(2) بن يزيد الأنصاري عن عمه مجمع(3) بن جارية الأنصاري - وكان أحد القراء الذين قرؤوا القرآن - قال: شهدنا الحديبية مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما انصرفنا عنها إذا الناس يهزون(4) الأباعر، فقال بعض الناس لبعض : ما بال الناس؟ قالوا: أوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فخرجنا مع الناس نوجف، فوجدنا النبي صلى الله عليه وسلم واقفاً على راحلته عند كراع الغميم، فلما اجتمع عليه الناس قرأ عليهم: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا}، فقال رجل: يا رسول الله أفتح هو؟ قال: "نعم والذي نفسي بيده إنه لفتح"، فقسمت خيبر على أهل الحديبية، فقسمها رسول الله صلى الله عليه وسلم على ثمانية عشر سهماً، وكان الجيش ألفاً وخمسمائة، فيهم ثلاثمائة فارس، فأعطى الفارس سهمين، وأعطى الراجل سهماً(5).
__________
(1) محمد بن عيسى بن نجيح، أبو جعفر بن الطباع البغدادي نزيل أَذَنَه ثقة فقيه كان أعلم الناس بحديث هيثم، مات سنة أربع وعشرين ومائتين، وله أربع وسبعون سنة: خت، د، تم، س، ق. تقريب: 314.
(2) عبد الرحمن بن يزيد بن جارية - بالجيم والتحتانية - الأنصاري أبو محمد المدني أخو عاصم بن عمر لأمه يقال: ولد في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، مات سنة ثلاث وتسعين: خ، الأربعة. تقريب: 211، ذكره ابن إسحاق في ثقات التابعين. الثقات 5/110.
(3) مجمع - بضم أوله وفتح الجيم وتشديد المكسورة - ابن جارية - بالجيم - بن عامر الأنصاري الأوسي المدني صحابي، مات في خلافة معاوية: د، ت، ق. تقريب: 329.
(4) يهزون: ينشطونها ويسرعون بها. النهاية 5/262، ترتيب القاموس 4/508.
(5) سنن أبي دواد مع معالم السنن، كتاب الجهاد: 2736.(3/66)
وأخرجه أحمد عن إسحاق بن عيسى عن مجمع بن يعقوب به فذكره وفيه: "فإذا الناس ينفرون الأباعر"(1).
وأخرجه ابن أبي شيبة(2) وابن سعد(3) كلاهما عن يونس بن محمد المؤدب عن مجمع بن يعقوب به، وفيه: "فإذا الناس يوجفون(4) الأباعر".
وأخرجه الحاكم من طريق إسماعيل بن أبي أويس عن مجمع به، وفيه: "فإذا الناس يرسمون(5) نحو رسول الله صلى الله عليه وسلم..."(6).
وأخرجه الحاكم أيضاً(7) وابن جرير(8) والبيهقي(9) كلهم من طريق محمد بن عيسى عن مجمع به مثله.
قال الحاكم: بعد أن أورده من طريق محمد بن عيسى: هذا حديث كبير صحيح الإسناد، ولم يخرجاه(10)، ووافقه الذهبي(11).
وأخرجه من طريق ابن أبي أويس وقال: هذا حديث صحيح على شرط مسلم، ولم يخرجاه(12)، وتعقبه الذهبي فقال: "لم يرو مسلم لمجمع شيئاً ولا لأبيه، وهما ثقتان"(13).
قلت: مجمع بن يعقوب وأبوه تُكِلم فيهما: فمجمع قال عنه الشافعي: شيخ لا يعرف(14)، وأبو يعقوب جهّله القطان، نقل ذلك عنه الزيلعي ونص عبارته: "وعلة هذا الحديث الجهل بحال يعقوب بن مجمع، ولا يعرف روى عنه غير ابنه مجمع وابنه مجمع ثقة"(15).
__________
(1) مسند أحمد 3/420.
(2) تاريخ ابن أبي شيبة، لوحة: 58.
(3) الطبقات الكبرى 2/105.
(4) يوجفون: يحثونها على السير، أوجف دابته يوجفها إيجافاً: إذا حثها. النهاية5/157.
(5) يرسمون: يسرعون، والرسم ضرب من السير سريع يؤثر في الأرض. النهاية 2/224.
(6) المستدرك 2/459.
(7) المستدرك 2/131.
(8) تفسير ابن جرير 26/71.
(9) السنن الكبرى 6/325.
(10) المستدرك 2/131.
(11) تلخيص الذهبي على المستدرك 2/131 مع المستدرك.
(12) المستدرك 2/459.
(13) تلخيص الذهبي على المستدرك 2/459.
(14) نقله المنذري، مختصر سنن أبي داود 4/53.
(15) نصب الراية 3/417.(3/67)
قلت: أما مجمع فقول الشافعي فيه غير مُسلَّم، فقد قال المزي في ترجمته: روى عنه إسماعيل بن أبي أويس وعاصم بن سويد الأنصاري القبائي، وعبد الله بن مسلمة القعنبي وعبد العزيز بن يحيى المدني، وقتيبة بن سعيد ومحمد بن عيسى ومحمد بن معن الغفاري، ويونس بن محمد المؤدب وغيرهم.
وقال يحيى بن معين: ليس به بأس وكذلك قال النسائي وأبو حاتم: لا بأس به، وقال ابن سعد: كان ثقة(1) ا.هـ
وقد وثقه القطان كما سبق في معرض كلامه عن أبيه حيث قال: وابنه مجمع ثقة، وقول ابن معين ليس به بأس، يعني ثقة(2)، وكذلك وثقه الذهبي كما مر معنا قريباً، فمن هذه حاله كيف لا يكون معروفاً؟
وأما أبوه يعقوب بن مجمع فسبق أن جهله القطان لكن قال المزي: روى عنه ابن أخيه إبراهيم بن إسماعيل بن مجمع، وعبد العزيز بن عبيد الله ابن حمزة بن صهيب وابنه مجمع بن يعقوب(3).
وذكره ابن حبان(4) في ثقات أتباع التابعين ووثقه الذهبي، وترجم له في الكاشف وقال وثق(5)، ومثل هذا ليس بمجهول، وأيضاً فالحديث له شواهد من الأحاديث السابقة فهو صحيح، كما قال الحاكم، والله أعلم.
المبحث الثالث: معجزة النبي صلى الله عليه وسلم في نبع الماء من أصابعه وفي تكثير الطعام:
تكررت معجزة النبي صلى الله عليه وسلم بتكثير الماء في غزوة الحديبية فقد سبق ذكر المعجزة بتكاثر ماء البئر حين وضع فيها سهم النبي صلى الله عليه وسلم، والنصوص التالية تفيد أنها قد حصلت للنبي صلى الله عليه وسلم معجزة أخرى من هذا النوع، وذلك حيت وضع يده صلى الله عليه وسلم في الإناء.
__________
(1) تهذيب الكمال ح3/ 1306.
(2) تاريخ يحيى بن معين 4/346، انظر النص رقم: 4856.
(3) تهذيب الكمال 3/ لوحة: 1554.
(4) الثقات 7/642.
(5) الكاشف 3/293.(3/68)
قال البخاري: حدثنا يوسف بن عيسى عن ابن فضيل حدثنا حصين عن سالم عن جابر رضي الله عنه قال: عطش الناس يوم الحديبية ورسول الله صلى الله عليه وسلم بين يديه ركوة(1) فتوضأ منها، ثم أقبل الناس نحوه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما لكم؟ قالوا: يا رسول الله ليس عندنا ماء نتوضأ ولا نشرب إلا ما في ركوتك، قال: "فوضع النبي صلى الله عليه وسلم يده في الركوة فجعل الماء يفور من بين أصابعه كأمثال العيون"، قال: "فشربنا وتوضأنا"، فقلت لجابر: "كم كنتم يومئذ؟" قال: "لو كنا مائة ألف لكفانا كنا خمس عشرة مائة"(2).
وأخرجه عن موسى بن إسماعيل عن عبد العزيز بن مسلم عن حصين به فذكر نحوه وفيه: "فجعل الماء يثور من بين أصابعه"(3).
وأخرجه من طريق الأعمش عن سالم بن أبي الجعد عن جابر قال: "قد رأيتني مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد حضرتْ صلاة العصر وليس معنا ماء غير فضلة فجعل في إناء فأُتي النبي صلى الله عليه وسلم به فأدخل يده فيه، وفرّج بين أصابعه ثم قال: "حي على أهل الوضوء البركة من الله"، فلقد رأيت الماء يتفجر من بين أصابعه فتوضأ الناس وشربوا فجعلت لا آلوا ما جعلت في بطني منه فعلمت أنه بركة".
قلت لجابر: "كم كنتم يومئذ؟" قال: "ألف(4) وأربعمائة" تابعه عمرو بن دينار عن جابر"(5).
__________
(1) الركوة: إناء صغير من جلد، يشرب فيه الماء، والجمع ركاء. النهاية 2/261.
(2) صحيح البخاري مع الفتح، كتاب المغازي: 4152، وتقدم رقم (28).
(3) صحيح البخاري مع الفتح، كتاب المناقب: 3576.
(4) قال ابن حجر: "كذا لسهم بالرفع، والتقدير نحن يومئذ ألف وأربعمائة، ويجوز النصب على خبر كان". فتح الباري 10/102.
(5) صحيح البخاري مع الفتح، كتاب الأشربة: 5639.(3/69)
وأخرجه أحمد عن طريق عمرو بن مرة وحصين بن عبد الرحمن، كلاهما عن سالم عن جابر قال: "أصابنا عطش بالحديبية، فجهشنا(1) إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين يديه تور(2) فيه ماء فقال بأصابعه هكذا فيها وقال: "خذوا بسم الله، قال: فجعل الماء يتخلل من بين أصابعه كأنها عيون، فوسعنا وكفانا"، وقال حصين في حديثه: "فشربنا وتوضأنا".
وهذه القصة مغايرة للقصة الأولى كما ذكر ذلك ابن القيم(3) وابن حجر(4) ووجه مغايرتها ظاهر: فالمعجزة في هذه وقعت في ماء كان في إناء، وسببها أن النبي صلى الله عليه وسلم وضع يده في الإناء بينما المعجزة في تلك وقعت في البئر عندما وضع فيها سهم النبي صلى الله عليه وسلم وصب فيه الماء الذي مج فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقد جمع بينهما ابن حجر فقال: "وكأنّ ذلك (أي ما في حديث جابر) كان قبل قصة البئر"(5) اهـ.
والذي يظهر لي: أن هذه القصة وقعت بعد قصة البئر أثناء رجوع المسلمين للمدينة لما يلي:
ورد في حديث سلمة بن الأكوع عند مسلم أن قصة تكثير الماء الذي في الإناء وقعت عقب معجزة النبي صلى الله عليه وسلم في تكثير الطعام:
__________
(1) الجهش: أن يفزع الإنسان إلى الإنسان، ويلجأ إليه، وهو مع ذلك يريد البكاء، كأن يفزع الصبي إلى أمه. يقال: جهشت وأجهشت. النهاية 1/322.
(2) تور: إناء من صفر أو حجارة كالإجانة وقد يتوضأ منه. النهاية 1/199.
(3) زاد المعاد 3/298.
(4) فتح الباري 5/337.
(5) فتح الباري 5/337.(3/70)
(159) قال حدثني أحمد بن يوسف الأزدي، حدثنا النضر (يعني ابن محمد اليمامي) حدثنا عكرمة (هو ابن عمار) حدثنا إياس بن سلمة عن أبيه قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة فأصابنا جهد حتى هممنا أن ننحر بعض ظهرنا(1)، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم فجمعنا مزاودنا(2) فبسطنا له نطعاً(3) فاجتمع زاد القوم على النطع، قال: فتطاولت لأحزره(4) كم هو؟ فحزرته كربضة العنز، ونحن أربع عشرة مائة، قال: فأكلنا حتى شبعنا جميعاً ثم حشونا جربنا(5) فقال نبي الله صلى الله عليه وسلم "فهل من وضوء؟" قال: "فجاء رجل بإداوة(6) له فيها نطفة فأفرغها في قدح، فتوضأنا كلنا ندغفقه(7) دغفقة أربع عشرة مائة".
قال: "ثم جاء بعد ذلك ثمانية فقالوا: "هل من طهور؟" فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فرغ الوضوء"(8).
فهذا الحديث قد أفاد أن قصة تكثير الماء الذي في الإناء وقعت عقب معجزته صلى الله عليه وسلم في تكثير الطعام.
وقد صرح حديث ابن عباس بأن حادثة تكثير الطعام كانت عند رجوع المسلمين من الحديبية:
__________
(1) ظهرنا: أي إبلنا، فالظهر الإبل التي يحمل عليها وتركب. النهاية 3/166.
(2) المزاود: جمع مزود كمنبر، وعاء الزاد. ترتيب القاموس 2/490.
(3) النطع: بالكسر وبالفتح وبالتحريك وكعنب: من الأديم جمعه أنطاع. ترتيب القاموس 4/391.
(4) لأحزره من الحزر وهو التقدير والخرص، ترتيب القاموس 1/631.
(5) جربنا جمع جراب: وهو المزود أو الوعاء. ترتيب القاموس 1/466.
(6) الإداوة بالكسر: إناء صغير من جلد يتخذ للماء، وجمعه أداوي. النهاية 1/33.
(7) ندغفقه: دغفق الماء صبه صباً كثيراً. ترتيب القاموس 2/189.
(8) صحيح مسلم، كتاب اللقطة: 19.(3/71)
(160) قال البيهقي: أخبرنا أبو الحسين(1) بن الفضل قال: أخبرنا أبو بكر بن عتاب(2) قال: حدثنا القاسم(3) بن عبد الله بن المغيرة، قال: حدثنا ابن أبي أويس(4) قال حدثنا إسماعيل(5) بن إبراهيم بن عقبة ح.
__________
(1) هو: محمد بن الحسين بن الفضل القطان.
(2) محمد بن أبي عتاب البغدادي أبو بكر الأعين واسم أبيه طريف، وقيل: حسن بن طريف صدوق مات سنة أربعين ومائتين: مق، ت. تقريب: 310.
(3) القاسم بن عبد الله بن المغيرة، أبو محمد الجوهري مولى أم عيسى بنت علي بن عبد الله بن عباس، قال الدارقطني: "ثقة مأمون"، ووثقه الخطيب، مات يوم الجمعة غرة محرم سنة خمس وسبعين ومائتين وكان مولده سنة خمس وتسعين ومائة. تاريخ بغداد 12/433.
(4) هو: إسماعيل بن عبد الله بن أويس.
(5) إسماعيل بن إبراهيم بن عقبة الأسدي مولاهم أبو إسحاق المدني، ثقة تكلم فيه بلا حجة من السابعة، مات في خلافة المهدي: خ، تم، س. تقريب: 31.(3/72)
وأخبرنا أبو عبد الله الحافظ قال: أخبرنا إسماعيل(1) بن محمد بن الفضل الشعراني قال: حدثنا جدي(2) قال: ثنا إبراهيم بن المنذر قال: حدثني محمد بن فليح عن موسى بن عقبة عن ابن شهاب قال: قال ابن عباس لما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من الحديبية، كلمه بعض أصحابه فقالوا: "جهدنا وفي الناس ظهر، فانحره لنا فنأكل من لحومه ولندهن من شحومه، ولنحتذي من جلوده"، فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "لا تفعل يا رسول الله فإن الناس إن يكن معهم بقية ظهر أمثل"، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ابسطوا أنطاعكم وعباءكم ففعلوا ثم قال: من كان عنده بقية من زاد وطعام فلينثره ودعا لهم، ثم قال: قربوا أوعيتكم فأخذوا ما شاء الله"، حدثه نافع بن جبير(3): "هذا لفظ إسماعيل وفي رواية ابن فليح قال موسى بن عقبة وحدثنيه نافع بن جبير" (4).
وأخرجه البيهقي من طريق أبي الطفيل عن ابن عباس:
__________
(1) إسماعيل بن محمد بن الفضل الشعراني النيسابوري، من شيوخ الحاكم، وقال الحاكم: ارتبت في لقيه بعض الشيوخ ثم قال: حدثني إسماعيل ثنا جدي ثنا عبيد الله العيشي ثنا حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "طلب العلم فريضة على كل مسلم". غريب فرد. لسان الميزان 1/434.
(2) الفضل بن محمد بن المسيب البيهقي أبو محمد الشعراني من ذرية ملك اليمن باذام الذي أسلم بكتاب النبي صلى الله عليه وسلم، روى عنه حفيده إسماعيل بن محمد بن الفضل وغيره، قال ابن أبي حاتم: "تكلموا فيه"، وقال ابن الأخرم: "صدوق غال في التشيع"، وقال الحكم: "ثقة لم يطعن فيه بحجة" وقال: "كان أديباً فقيهاً عابداً عارفاً بالرجال، كان يرسل شعره فلقب بالشعراني". تذكرة الحفاظ 2/626.
(3) نافع بن جبير بن مطعم النوفلي أبو محمد أو أبو عبد الله المدني، ثقة فاضل مات سنة تسع وتسعين: ع. تقريب: 355.
(4) دلائل النبوة 2/ لوحة: 222.(3/73)
(161) قال: حدثنا أبو محمد عبد الله(1) بن يوسف الأصبهاني قال: أخبرنا أبو سعيد(2) بن الأعرابي حدثنا الحسن(3) بن محمد الزعفراني قال: حدثنا يحيى بن سليم(4) الطايفي عن عبد الله(5) بن عثمان عن خيثم عن أبي الطفيل(6) عن عبد الله بن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما نزل مر(7) في صلح قريش - قال أصحاب رسول الله
__________
(1) عبد الله بن يوسف بن أحمد بن بابويه - وقيل مامويه - الأصبهاني ساكن نيسابور، أبو محمد قدم بغداد حاجاً سنة تسعين وثلاثمائة، وحدث بها عن أبي العباس الأصم، ومحمد بن الحسن بن الخليل النيسابوريين وأبي سعيد بن الأعرابي ساكن مكة، وكان ثقة، مات بعد سنة أربعمائة بسنين كثيرة. تاريخ بغداد 10/198.
(2) أحمد بن محمد بن زياد أبو سعيد بن الأعرابي الإمام الحافظ الثقة الصدوق الزاهد له أوهام سمع من أحمد بن منصور الرمادي، والحسن بن علي بن عفان، والحسن بن محمد بن الصباح الزعفراني وطبقتهم ومن بعدهم، توفي في ذي الحجة سنة أربعين وثلاثمائة عن أربع وتسعين سنة. لسان الميزان 1/308.
(3) الحسن بن محمد بن الصباح الزعفراني أبو علي البغدادي صاحب الشافعي وقد شاركه في الطبقة الثانية من شيوخه، ثقة، مات سنة ستين ومائتين أو قبلها بسنة: خ، الأربعة. التقريب: 71.
(4) يحيى بن سليم الطائفي، نزيل مكة، صدوق سيء الحفظ، مات سنة ثلاث وتسعين ومائة أو بعدها: ع. تقريب: 376.
(5) عبد الله بن عثمان بن خثيم - بالمعجمة والمثلثة مصغراً - القاري المكي أبو عثمان صدوق، مات سنة اثنتين وثلاثين ومائة: خت، م، الأربعة. تقريب: 181.
(6) عامر بن واثلة بن عبد الله أبو عمرو بن جحش الليثي أبو الطفيل، وربما سمي عمراً، ولد عام أحد، ورأى النبي صلى الله عليه وسلم وروى عن أبي بكر ومن بعده، وعمر إلى أن مات سنة عشر ومائة على الصحيح، وهو آخر من مات من الصحابة، قاله مسلم وغيره: ع. تقريب: 162.
(7) مر: أي مر الظهران: موضع على مرحلة من مكة، معجم البلدان 5/104.(3/74)
صلى الله عليه وسلم: "يا رسول الله لو انتحرنا من ظهورنا فأكلنا لحومها وشحومها وحسونا من المرق، أصبحنا غداً إذا غدونا عليهم وبنا جمام"، قال: "لا، ولكن إيتوني بما فضل من أزوادكم فبسطوا أنطاعاً، ثم صبوا عليها فضول ما فضل من أزوادهم فدعا عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالبركة"، فأكلوا حتى تضلعوا شبعاً ثم لففوا فضول ما فضل من أزوادهم في جربهم"(1).
هذا الحديث صحيح بمجموع طرقه.
وقد أفاد هذا الحديث أن معجزة تكثير الطعام إنما حصلت للنبي صلى الله عليه وسلم أثناء رجوعهم من غزوة الحديبية ومعجزة تكثير الماء في الإناء وقعت بعد هذه المعجزة، كما هو صريح حديث سلمة السابق عند مسلم، ولا يتوهم أن العدو المشار إليه في رواية أبي الطفيل هم قريش، بل هو عدو آخر عرض للمسلين أثناء رجوعهم كما بين ذلك حديث سلمة عند مسلم فقد جاء فيه ما نصه: "قال: ثم خرجنا راجعين إلى المدينة فنزلنا منزلاً بيننا وبين بني لحيان جبل وهم(2) المشركون فاستغفر رسول الله صلى الله عليه وسلم لمن رقى هذا الجبل الليلة كأنه طليعة للنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، قال سلمة، فرقيت تلك الليلة مرتين أو ثلاثاً ثم قدمنا المدينة..."(3).
المبحث الرابع: نزول المسلمين بالأثايه:
__________
(1) دلائل النبوة 2/ لوحة: 222 - 223.
(2) وهم المشركون: هذه اللفظة ضبطوها بوجهين ذكرهما القاضي عياض وغيره، أحدهما : وهُمُ المشركون على الابتداء والخبر، والثاني: وهَمّ المشركون: أي هموا النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه وخافوا غائلتهم، يقال: همنى الأمر وأهمني، وقيل: همني أذابني، وأهمني أغمني، وقيل معناه: همّ أمر المشركين النبي صلى الله عليه وسلم خوف أن يبيتوهم لقربهم منهم. صحيح مسلم 3/1435 حاشية.
(3) صحيح مسلم، كتاب الجهاد والسير: 132، وتقدم سند الحديث برقم (36).(3/75)
(162) قال أبو بكر بن أبي شيبة: ثنا أبو خالد(1) الأحمر عن يحيى(2) بن سعيد عن شرحبيل(3) - هو ابن سعد - عن جابر قال: أقبلنا مع رسلو الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا كنا بالسقيا(4) قال معاذ: "من يسقينا في أسقيتنا؟" قال: فخرجت في فتيان معي حتى أتينا الأثايه(5)، فأسقينا واستقينا قال: فلما كان بعد عتمة(6) من الليل إذا رجل ينازعه بعيره الماء، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذت راحلته فأنختها فتقدم فصلى العشاء وأنا عن يمينه ثم صلى ثلاث عشرة ركعة(7).
__________
(1) سليمان بن حيان الأزدي، أبو خالد الأحمر الكوفي صدوق يخطئ، مات سنة تسعين ومائة أو قبلها وله بضع وسبعون سنة: ع. تقريب: 133.
(2) يحيى بن سعيد بن قيس الأنصاري المدني، أبو سعيد القاضي ثقة ثبت، مات سنة أربع وأربعين ومائة أو بعدها: ع. تقريب: 376.
(3) شرحبيل بن سعد، أبو سعد المدني، مولى الأنصار صدوق اختلط بآخره، مات سنة ثلاث وعشرين ومائة، وقد قارب المائة: بخ، د، ق. تقريب: 144.
(4) السقيا هكذا في إتحاف المهرة، وفي مصنف عبد الرزاق، وهي قرية جامعة من عمل الفرع بينهما مما يلي الجحفة تسعة عشر ميلاً. معجم البلدان 3/228، وقال حمد الجاسر: وتعرف السقيا اليوم: بأم البركة، لكثرة ما وقع فيها، منها كتاب المناسك للحربي: 450 حاشية، ووقع في مصنف ابن أبي شيبة "الصهباء" ولعله تحريف فالصهباء يقول عنها ياقوت: اسم موضع بينه وبين خيبر روحه. معجم البلدان 3/435. أي أنها في شمال المدينة بينما السقيا في جنوبها على طريق مكة.
(5) الأثاية: موضع من طريق الجحفة بينه وبين المدينة خمسة وعشرون فرسخاً. معجم البلدان 1/90.
(6) العتمة: ثلث الليل الأول بعد غيبوبة الشفق، أو وقت صلاة العشاء الآخرة. ترتيب القاموس 3/151.
(7) مصنف بن أبي شيبة 2/491، إتحاف الخيرة المهرة، القسم الثالث من الجزء الثالث، لوحة: 105.(3/76)
وأخرجه أحمد عن يزيد بن هارون عن يحيى بن سعيد به فذكره وفيه: "فخرجت في فتية من الأنصار حتى أتينا الماء الذي بالأثاية وبينهم قريباً من ثلاثة وعشرين ميلاً..."، وفيه: فصلى العتمة وجابر فيما ذكر إلى جنبه ثم صلى بعدها ثلاث عشرة سجدة(1).
وأخرجه عبد الرزاق(2) عن ابن جريج(3) عن يحيى بن سعيد عن مولى الأنصار عن جابر نحوه.
وأخرجه البزار من طريق يحيى بن سعيد(4) الأموي عن يحيى بن سعيد به مختصراً ولفظه: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى بعد العتمة ثلاث عشرة ركعة"، وقال البزار تفرد به يحيى الأموي(5).
وذكر الهيثمي هذا الحديث ثم قال: رواه أحمد وأبو يعلى والبزار باختصار وفيه شرحبيل بن سعد وثقه ابن حبان وضعفه جماعة(6).
وذكره البوصيري بسند ابن أبي شيبة ثم قال: وإسناده حسن(7) وكذلك حسنه ابن حجر(8).
وقال الساعاتي:لم أقف عليه لغير الإمام أحمد وسنده صحيح ورجاله ثقات وهو من ثلاثيات أحمد رحمه الله(9).
قلت: كلام الساعاتي رحمه الله فيه وهم، وسيأتي بيانه فيما بعد إن شاء الله.
__________
(1) غاية المقصد، لوحة: 68.
(2) مصنف عبد الرزاق 2/35.
(3) هو: عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج الأموي مولاهم المكي، ثقة فقيه فاضل وكان يدلس ويرسل، مات سنة خمسين بعد المائة وقد جاوز السبعين: ع. تقريب:219.
(4) يحيى بن سعيد بن أبان بن سعيد بن العاص الأموي، أبو أيوب الكوفي، نزيل بغداد لقبه الجمل صدوق يغرب، مات سنة أربع وتسعين ومائة، وله ثمانون سنة: الأربعة. تقريب: 375.
(5) كشف الأستار عن زوائد البزار 1/349 - 350.
(6) مجمع الزوائد 2/273.
(7) اتحاف الخيرة، القسم الثالث من الجزء الثالث، لوحة: 105.
(8) المطالب العالية 4/236.
(9) بلوغ الأماني 21/109، مع الفتح الرباني.(3/77)
وسند الحديث مداره على شرحبيل بن سعد، وقد ضعفه ابن معين والنسائي وغيرهما، ولكن وثقه ابن حبان وحكى مضر بن محمد عن يحيى ابن معين أنه وثقه وقد خرج حديثه ابن خزيمة وابن حبان في صحيحهما وقال ابن عيينة: "لم يكن أحمد أعلم بالمغازي والبدريين منه"(1).
قلت: وهذا الحديث من أحاديث المغازي ولذلك حسنه البوصيري وابن حجر فهو كما قالا، والله أعلم.
تنبيه:
قول الساعاتي رحمه الله: "إن هذا الحديث من ثلاثيات أحمد، وهم منه رحمه الله، وسببه أنه وقع سقط في سند أحمد فهو في المطبوع من المسند هكذا:
"حدثنا عبد الله حدثني أبي ثنا يحيى بن سعيد أن شرحبيل بن سعد أخبره عن جابر... الحديث"(2).
والناظر في هذا السند لأول وهله يظنه متصلاً؛ لأنه لم يوصف أحد من رواته بالتدليس، ولذلك قال الساعاتي رحمه الله إنه من ثلاثيات أحمد، لكن بالتأمل في تواريخ وفيات رجال السند يتبين السقط، وقد رجعت إلى ثلاثيات المسند فلم أجده في مسند جابر ثم رجعت إلى غاية المقصد فتبين أن الساقط من السند شيخ أحمد وهو يزيد بن هارون وقد أثبته في تخريج الحديث، ويبدو أنه سقط على أحد النساخ"(3)، والله أعلم.
الفصل الرابع فضل غزوة الحديبية ونتائجها
وفيه مبحثان:
المبحث الأول: فضل غزوة الحديبية.
المبحث الثاني: نتائج غزوة الحديبية.
المبحث الأول: فضل غزوة الحديبية:
لقد استحقت هذه الغزوة أن تقرن بغزوة بدر في الفضيلة، لما ترتب عليها من عز وانتصار للإسلام وذل وانكسار للكفر والنفاق.
قال ابن عبد البر: ليس في غزوات الرسول صلى الله عليه وسلم ما يعدل بدراً أو يقرب منها إلا غزوة الحديبية، هذا هو الراجح عندنا، وأما متكلموا الأشاعرة فقدموا أحداً في الفضيلة والأول أولى(4)، والله أعلم.
__________
(1) تهذيب التهذيب 4/321 - 322.
(2) المسند 3/380.
(3) وقد تنبه لهذا السقط ابن عثيم، مسند جابر: 451 - 452.
(4) نقله السفاريني: ثلاثيات المسند 1/278.(3/78)
ويكفيها فضلاً أنها كانت فتحاًَ مبيناً كما أخبر الله بذلك، قال تعالى: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا}.
فقد بينت الأحاديث أن الفتح المشار إليه هو غزوة الحديبية:
ومن تلك الأحاديث حديث أنس بن مالك رضي الله عنه:
قال البخاري: حدثنا محمد بن بشار حدثنا غندر حدثنا شعبة قال: "سمعت قتادة عن أنس رضي الله عنه {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا} قال: الحديبية"(1).
ومنها حديث البراء بن عازب رضي الله عنهما:
قال البخاري: حدثنا عبد الله بن موسى عن إسرائيل عن أبي إسحاق عن البراء رضي الله عنه قال: "تعدون أنتم الفتح فتح مكة، وقد كان فتح مكة فتحاً، ونحن نعد الفتح بيعة الرضوان يوم الحديبية"(2) الحديث.
وأخرجه ابن سعد من طريق أبي إسحاق عنه بلفظ: "أما نحن فنسمي الذي يسمون فتح مكة يوم الحديبية بيعة الرضوان"(3).
ومنها حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما:
(163) قال ابن جرير: حدثنا محمد بن المثنى قال حدثني يحيى بن حماد(4): قال ثنا أبو عوانة(5) عن الأعمش عن أبي سفيان عن جابر قال: "ما كنا نعد فتح مكة إلا يوم الحديبية"(6).
وأخرجه من طريق أبي عبيدة(7) المسعودي عن الأعمش به بلفظ: "ما كنا نعد الفتح إلا يوم الحديبية" (8).
سند هذا الحديث فيه تدليس الأعمش وأبي سفيان، لكنه منجبر بشاهده من الحديثين السابقين في الصحيح.
__________
(1) صحيح البخاري مع الفتح، كتاب التفسير 4834، وتقدم تخريجه برقم (155).
(2) صحيح البخاري مع الفتح، كتاب المغازي: 4150، وتقدم تخريجه برقم (9).
(3) الطبقات الكبرى 2/105.
(4) يحيى بن حماد بن زياد الشيباني مولاهم البصري، ختن أبي عوانة، ثقة، مات سنة خمس عشرة ومائتين، /خ، م، خد، ت، س، ق/. تقريب: 374.
(5) هو: وضاح بن عبد الله اليشكري.
(6) تفسير ابن جرير 26/70.
(7) عبد الملك بن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود الهذلي، أبو عبيدة المسعودي ثقة من السابعة: م، د، س، ق. تقريب: 220.
(8) تفسير ابن جرير 26/70.(3/79)
ومنها ما أخرجه البيهقي من مرسل عروة بن الزبير والزهري:
(164) قال: أخبرنا أبو الحسن بن الفضل القطان قال: أخبرنا أبو بكر(1) بن عتاب قال: حدثنا القاسم بن عبد الله بن المغيرة قال: حدثنا ابن أبي أويس(2) قال: حدثنا إسماعيل بن إبراهيم بن عقبة عن عمه موسى بن عقبة، ح.
وأخبرنا أبو عبد الله الحافظ قال: أخبرنا إسماعيل بن محمد بن الفضل قال: حدثنا جدي(3) قال: حدثنا إبراهيم بن المنذر قال: حدثنا محمد بن فليح عن موسى بن عقبة عن ابن شهاب، ح.
__________
(1) هو: محمد بن أبي عتاب الأعين.
(2) هو: إسماعيل بن أبي أويس.
(3) هو: الفضل بن محمد بن المسيب.(3/80)
وأخبرنا أبو عبد الله الحافظ قال: أخبرنا أبو جعفر(1) البغدادي قال: حدثنا محمد بن عمرو بن خالد قال: حدثنا أبي قال: حدثنا ابن لهيعة قال: حدثنا أبو الأسود عن عروة قالوا: "وأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم من الحديبية راجعاً قال رجال من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما هذا بفتح، لقد صددنا عن البيت وصد هدينا، وعكف رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحديبية، ورد رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلين من المسلمين خرجا، فبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم قول رجال من أصحابه إن هذا ليس بفتح، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بئس الكلام، هذا أعظم الفتح، لقد رضي المشركون أن يدفعوكم بالراح عن بلادهم ويسألونكم القضية، ويرغبون إليكم في الأمان، وقد رأوا منكم ما كرهوا وقد أظفركم الله عز وجل عليهم وردكم سالمين غانمين، مأجورين، فهذا أعظم الفتوح أنسيتم يوم أحد إذ تصعدون ولا تلوون على أحد وأنا أدعوكم في أخراكم؟ "أنسيتم يوم الأحزاب إذ جاءوكم من فوقكم ومن أسفل منكم، وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنونا"؟ قال المسلمون: "صدق الله ورسوله هو أعظم الفتوح، والله يا نبي الله ما فكرنا فيما فكرت فيه، ولأنت أعلم بالله عز وجل وبالأمور منا، وأنزل الله عز وجل سورة الفتح: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا} إلى قوله: { صِرَاطاً مُسْتَقِيماً}(2).
هذا الحديث مرسل، لكنه يرتفع إلى درجه الحسن لغيره لتعدد طرقه واختلاف مخرجه، لا سيما ولبعضه شاهد من الأحاديث السابقة.
المبحث الثاني: نتائج غزوة الحديبية:
لقد تمخضت هذه الغزوة عن نتائج عظيمة لم تتوافر في غزوة قبلها أو بعدها فيما أعلم، وأهمها ما يلي:
أولاً: ترتبت على الصلح آثار إيجابية ضخمة منها ما يلي:
__________
(1) هو: محمد بن محمد بن عبد الله.
(2) دلائل النبوة 2، لوحة: 238.(3/81)
أ - اعترفت قريش في هذه المعاهدة بكيان المسلمين، فالمعاهدة دائماً لا تكون إلا بين ندين، وكان لهذا الاعتراف أثره في نفوس القبائل المتأثرة بموقف قريش الجحودي، حيث كانوا يرون أنها الإمام والقدوة.
ب - دخلت المهابة في قلوب المشركين والمنافقين وتيقن الكثير منهم بغلبة الإسلام، وقد تجلت بعض مظاهر ذلك في مبادرة كثير من صناديد قريش إلى الإسلام، مثل خالد بن الوليد وعمرو بن العاص(1)، كما تجلت في مسارعة الأعراب المجاورين للمدينة إلى الاعتذار عن تخلفهم بعد أن خابت ظنونهم إذ كانوا يتوقعون أنها القاضية على المسلمين، كما أخبر الله بذلك عنهم(2).
جـ - أعطت الهدنة فرصة لنشر الإسلام، وتعريف الناس به، مما أدى إلى دخول كثير من القبائل فيه.
يقول الزهري: "فما فتح في الإسلام فتح قبله، كان أعظم منه، إنما كان القتال حيث التقى الناس، فلما كانت الهدنة ووضعت الحرب، وأمن الناس بعضهم بعضاً، والتقوا فتفاوضوا في الحديث والمنازعة فلم يكلم أحد بالإسلام يعقل شيئاً إلا دخل فيه، ولقد دخل في تينك السنتين مثل من كان في الإسلام قبل ذلك"(3) اهـ.
__________
(1) كان إسلامهما عقب صلح الحديبية، انظر سيرة ابن هشام 3/276.
(2) قال تعالى:{سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَن يَمْلِكُ لَكُم مِّنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعًا بَلْ كَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا* بَلْ ظَنَنتُمْ أَن لَّن يَنقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَدًا وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنتُمْ قَوْمًا بُورًا}. سورة الفتح آية: 10 - 11.
(3) سيرة ابن هشام 3/322.(3/82)
وعقب عليه ابن هشام(1) بقوله: "والدليل على قول الزهري: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إلى الحديبية في ألف وأربعمائة في قول جابر بن عبد الله، ثم خرج في عام الفتح بعد ذلك بسنتين في عشرة آلاف"(2) اهـ.
د - أمن المسلمون جانب قريش فحولوا ثقلهم على اليهود ومن كان يناوئهم من القبائل الأخرى(3).
ثانياً: كسب المسلمون الذين شهدوا هذه الغزوة بسببها فوائد كثيرة - أخروية ودنيوية - وأهمها ما يلي:
أ - فازوا برضى الله عز وجل عنهم.
قال الله تعالى: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ...} الآية(4).
ب - أخبرهم النبي صلى الله عليه وسلم: "أن الله قد غفر لهم".
ففي صحيح مسلم من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما "فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كلكم مغفور له إلا صاحب الجمل الأحمر" (5).
جـ - شهد لهم النبي صلى الله عليه وسلم أنهم خير أهل الأرض.
ففي صحيح البخاري من حديث جابر قال: قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية: "أنتم خير أهل الأرض..." (6).
د - بشرهم النبي صلى الله عليه وسلم: بالنجاة من النار.
ففي صحيح مسلم من حديث أم مبشر أنها سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول عند حفصة: "لا يدخل النار إن شاء الله من أصحاب الشجرة أحد الذين بايعوا تحتها..." (7).
__________
(1) سيرة ابن هشام 3/322.
(2) جاء هذا العدد في حديث ابن عباس، صحيح البخاري مع الفتح كتاب المغازي: 4276، وقد روي أنهم أكثر من ذلك، انظر مرويات غزوة فتح مكة لمحسن الدوم ص 56 وما بعدها.
(3) أخذت بعض المعاني السابقة عن كتاب "سيرة الرسول" لمحمد عزة دروزة 2/292 - 293، وكتاب "موسوعة التاريخ الإسلامي" لأحمد شلبي 1/330 - 331، وكتاب "السيرة النبوية" لأبي شهبة: 282.
(4) سورة الفتح آية: 18.
(5) تقدم برقم (52).
(6) تقدم برقم (20).
(7) تقدم برقم (91).(3/83)
هـ - قسمت عليهم غنائم خيبر، ففي حديث مجمع بن جارية الأنصاري: "فقسمت خيبر على أهل الحديبية، فقسمها النبي صلى الله عليه وسلم على ثمانية عشر سهماًَ، وكان الجيش ألفاً وخمسمائة فيهم ثلاثمائة فارس، فأعطى الفارس سهمين، وأعطى الراجل سهماً" (1).
ثالثاً: شرعت في هذه الغزوة كثير من الأحكام والرخص التي كان لها أثر كبير في حياة المسلمين ومن أهمها ما يلي:
أ - شرعت فيها صلاة الخوف على الصحيح(2).
ب - شرعت فيها الفدية لمن ارتكب شيئاً من محظورات الإحرام(3).
جـ - شرع فيها الصلح مدة معلومة عند حاجة المسلمين إليه(4).
د - شرع فيها التحلل للمحصر، وأنه لا يلزمه القضاء.
هـ - شرعت فيها رخصة الصلاة في الرحال في حال المطر(5).
و - شرع فيها قضاء الصلاة الفائتة بالنوم أو النسيان عند ذكرها(6).
__________
(1) تقدم برقم (158).
(2) انظر الكلام على ذلك ص: 143.
(3) انظر الحديث رقم (125).
(4) انظر الكلام على هذه المسألة ص: 525.
(5) وردت الإشارة إلى أمر النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه بالصلاة في الرحال في حديث ابن عمر في صحيح البخاري مع الفتح، كتاب الأذان: 632، وفي صحيح مسلم، كتاب صلاة المسافرين: 22 - 24، وفي حديث جابر، صحيح مسلم، كتاب صلاة المسافرين: 25.
وأشار إليه حديث ابن عباس في المصدر السابق حديث رقم 26 - 30، ولم يعين في شيء من تلك الأحاديث الزمن الذي فعل النبي صلى الله عليه وسلم فيه ذلك، وإنما ورد التعيين في حديث أبي المليح، فقد ذكر أنه وقع في الحديبية، وقد تقدم الحديث برقم (128)، وقد ورد في حديث أبي المليح أيضاً أنها حصلت لهم القصة في حنين وسبقت الإشارة إلى ذلك في ص: 394، وغزوة الحديبية كانت قبل غزوة حنين، كما هو معلوم فابتداء مشروعية الصلاة فيها ظاهر، والله أعلم.
(6) انظر حديث رقم (151).(3/84)
ز - نزل في هذه الغزوة تحريم نكاح الكفار من المسلمات، وذلك في قوله تعالى: {فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلاَ تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لاَ هُنَّ حِلٌّ لَّهُمْ وَلاَ هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ}(1).
قال ابن كثير: "هذه الآية هي التي حرمت المسلمات على المشركين، وقد كان جائزاً في ابتداء الإسلام أن يتزوج المشرك المؤمنة..." (2).
ح - نزل فيها أيضاً الأمر بفسخ نكاح المشركات وعدم الاستمرار عليه، وذلك في قوله تعالى: {وَلاَتُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ...} (3) الآية.
وقد اشتملت مرويات هذه الغزوة على أحكام كثيرة غير هذه وسوف يأتي ذكر بعضها مع شيء من التفصيل في الباب الأخير إن شاء الله.
__________
(1) انظر حديث رقم (115).
(2) تفسير ابن كثير 4/351.
(3) انظر الحديث رقم (115).(3/85)
الباب الرابع أحكام وفوائد من فقه مرويات الغزوة
وفيه توطئة وثلاثة فصول:
الفصل الأول: من أحكام الجهاد الواردة في الغزوة.
الفصل الثاني: أحكام تتعلق بالعقيدة.
الفصل الثالث: الدروس والعبر المستقاة من بعض مواقف الغزوة.
توطئة
حفلت مرويات غزوة الحديبية بكثير من الأحكام والفوائد الفقهية وهي غنية كذلك بالدروس والعبر التي تنير للمسلم الطريق وتجنبه كثيراً من المزالق إذا وفقه الله للتنبه لها.
ولذلك استرعت هذه الغزوة انتباه كثير من العلماء وحظيت بجل اهتمامهم، فقد وقف ابن القيم(1) رحمه الله عندها طويلاً، واستخرج منها كثيراً من الأحكام والفوائد، وسبقه إلى شيء من ذلك مجد الدين بن تيمية(2) وتبعهما الشيخ محمد بن عبد الوهاب(3) فاستنبط منها ما يربو على مائة مسألة، وقد وقف عندها علماء آخرون غير هؤلاء فاستقوا منها كثيراً من الأحكام والفوائد.
وأردت في هذا الباب أن أعرج على تلك الأحكام والفوائد إتماماً للفائدة أولاً، وثانياً لإبراز أهمية هذه الغزوة، لكن رأيت أن الحال كما قال الشاعر:
تكاثرت الظباء على خراش ... فما يدرى خراش ما يصيد
لكن ما لا يدرك كله لا يترك كله، لذلك قررت الاقتصار على بعض الأحكام المتعلقة بالجهاد وبعض قضايا العقيدة الواردة في الغزوة.
لأن أحكام الجهاد ذات صلة وثيقة بالغزوة.
وأما قضايا العقيدة الواردة في هذه الغزوة فهي مهمة كذلك في نظري لأن منها ما هو معارض لنصوص صحيحة ربما تستوقف القارئ، فأردت أن أذكر توجيه العلماء لها، ومنها ما هو خاص بمثل الموطن الذي وقعت فيه، أو بالنبي صلى الله عليه وسلم، فأردت التنبيه على ذلك حتى لا يتوسع في القياس عليها.
__________
(1) زاد المعاد 3/300.
(2) منتقى الأخبار 5/732.
(3) ملحق مصنفات الإمام محمد بن عبد الوهاب، جزء في 16 صفحة.(4/1)
ثم رأيت أن أختم هذا الباب بالدروس والعبر المستفادة من بعض المواقف التي اشتملت عليها الغزوة لأن الاعتبار بالأحداث والاستفادة من القصص مطلوب شرعاً.
وقد يجد القارئ أن تلك الدروس والعبر قد علقت بذهنه أثناء مروره بتلك المواقف لكن ربما غفل عن بعضها، فيجد فيما سجلت تذكيراً له بذلك، وما رأى أنه يستحق الإضافة في هذا الفصل أو في غيره من فصول الرسالة، فأرجو ألا يتوانى في التنبيه عليه، مشكوراً مأجوراً، والله المستعان.
الفصل الأول من أحكام الجهاد الواردة في الغزوة
وفيه ستة مباحث:
المبحث الأول: ... مشروعية الشورى.
المبحث الثاني: ... حكم الاستعانة بالمشرك.
المبحث الثالث: ... مقدار المدة التي تجوز مهادنة الكفار عليها.
المبحث الرابع: ... هل تجوز مصالحة الكفار على رد من جاء من قبلهم مسلماً.
المبحث الخامس: ... إذا رد الإمام إلى المعاهدين من جاء من قبلهم فأحدث جناية فيهم، فهل عليه أو على الإمام ضمان؟
المبحث السادس: ... إذا عاهد الإمام قوماً فخرجت عليهم طائفة من المسلمين غير متحيزة إلى الإمام، فهل على الإمام دفعها عنهم؟
المبحث الأول: مشروعية الشورى:
الشورى ميزة عظمى لهذه الأمة، وقد ذكرها الله سبحانه وتعالى في معرض المدح للمؤمنين، وقرنها بالطاعة والصلاة والزكاة.
قال تعالى: {وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ}(1).
وأمر بها نبيه صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ}(2) الآية.
وقد ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه استشار أصحابه رضوان الله عليهم في أكثر من موطن:
__________
(1) سورة الشورى آية: 37.
(2) سورة آل عمران آية: 159.(4/2)
1 - استشارهم في غزوة بدر مرتين:
المرة الأولى: استشارهم في العير(1).
والثانية: في المنزل، ونزل على رأي الحباب بن المنذر(2).
2 - في غزوة أحد استشارهم في البقاء بالمدينة أو يخرج إلى العدو، فخرج بمشورة أكثر الصحابة(3).
3 - في غزوة الأحزاب، استشارهم مرتين:
الأولى: في الخندق حيث أمر بحفره بمشورة سلمان الفارسي(4).
والثانية: في مصالحة غطفان، بثلث ثمار المدينة، استشار في ذلك سعد بن معاذ وسعد بن عبادة ونزل على رأيهما في عدم إعطائهم شيئاً(5).
4 - في غزوة الحديبية - هذه - استشار مرتين:
الأولى: استشار الصحابة في الإغارة على ذراري المشركين أو تركهم، ونزل على رأي أبي بكر رضي الله عنه في تركهم(6).
والثانية: استشار أم سلمة رضي الله عنها في أمر الناس حين لم يبادروا بالنحر والحلق، وقد أمرهم بذلك، فأشارت عليه بأن يبدأ ذلك بنفسه ففعل صلى الله عليه وسلم(7).
5 - في غزوة بني المصطلق: استشار علي بن أبي طالب وأسامة بن زيد رضي الله عنهم في فراق عائشة رضي الله عنها(8).
وقد جعل عمر بن الخطاب رضي الله عنه الخلافة من بعده شورى في الستة الباقية من العشرة المبشرين بالجنة رضي الله عنهم(9).
وبهذا تتضح لنا أهمية الشورى ومكانتها في الإسلام حيث جعلها الله من صفات المؤمنين، وأمر بها نبيه صلى الله عليه وسلم، وعمل بها النبي صلى الله عليه وسلم في مواطن كثيرة، وعمل بها الخلفاء الراشدون رضي الله عنهم.
فمن بعدهم أولى بالمشورة وأحوج إليها منهم.
__________
(1) صحيح مسلم، كتاب الجهاد والسير: 83.
(2) انظر: مرويات غزوة بدر ص: 157 لأحمد العليمي.
(3) سيرة ابن هشام 3/63، وانظر مرويات غزوة أحد: 61 لحسين الباكري.
(4) انظر: مرويات غزوة الخندق: 90 لإبراهيم عمير.
(5) م السابق: 83.
(6) انظر ص: 289-290.
(7) انظر ص: 402.
(8) صحيح مسلم، كتاب التوبة: 56، وانظر مرويات غزوة بني المصطلق: 213 لإبراهيم القريبي.
(9) صحيح البخاري مع الفتح، كتاب فضائل الصحابة: 3700.(4/3)
وقد نوه ابن عطية بشأن الشورى، ثم حكى الإجماع على وجوب عزل من لا يستشير أهل الدين.
قال: والشورى من قواعد الشريعة وعزائم الأحكام، من لا يستشير أهل العلم والدين فعزله واجب، هذا ما لا خلاف فيه(1).
وقال ابن تيمية(2): "لا غنى لولي الأمر عن المشاورة، فإن الله قد أمر بها نبيه صلى الله عليه وسلم فقال: {فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ} الآية".
ومحل الشورى: هو أمور الحرب، والنوازل، وسائر الأمور التي لم يرد فيها دليل صريح من الشرع(3).
ومن فوائد الشورى:
1 - تأليف قلوب الأتباع واستطابة نفوسهم.
2 - استخراج وجه الرأي منهم(4).
3 - التعرف على مصلحة يختص بعلمها بعضهم دون بعض(5).
المبحث الثاني: حكم الاستعانة بالمشرك:
جاء في حديث المسور بن مخرمة ومروان بن الحكم أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث بسر بن سفيان الخزاعي عيناً إلى مكة(6).
وقد استدل بعض العلماء بقصة بسر هذه على جواز الاستعانة بالمشركين في الجهاد.
قال ابن القيم: "إن الاستعانة بالمشرك المأمون في الجهاد جائزة عند الحاجة، لأن عينه الخزاعي كان كافراً إذ ذاك، وفيه من المصلحة أنه أقرب إلى اختلاطه بالعدو وأخذه أخبارهم"(7) اهـ.
هكذا قال ابن القيم، وقد سبقه إلى ذلك مجد الدين ابن تيمية(8)، وتبعهما بعض المتأخرين(9).
والظاهر أن ليس في قصة الخزاعي هذه دلالة على جواز الاستعانة بالمشرك في الجهاد؛ لأنه لم يرد في هذا الحديث ولا في غيره ما يدل على أنه كان كافراً إذ ذاك.
بل ورد عن بعض العلماء ما يدل على أنه أسلم قبل الحديبية.
__________
(1) تفسير ابن عطية 3/280.
(2) السياسة الشرعية: 157.
(3) انظر م السابق، وتفسير ابن عطية 3/281.
(4) انظر المصدرين السابقين، وزاد المعاد 3/302.
(5) زاد المعاد 3/302.
(6) انظر ص:99.
(7) زاد المعاد 3/301.
(8) منتقى الأخبار: 732.
(9) الأستاذ أبو زهرة، خاتم النبيين: 858، والدكتور البوطي، فقه السيرة: 352.(4/4)
قال ابن عبد البر: "بسر بن سفيان بن عويمر الخزاعي، أسلم سنة ست من الهجرة، وبعثه النبي صلى الله عليه وسلم عيناً إلى قريش إلى مكة، وشهد الحديبية، وهو المذكور في حديث الحديبية من رواية الزهري عن عروة عن المسور ومروان قوله: حتى إذا كان بغدير الأشطاط لقيه عينه الخزاعي، فأخبره خبر قريش وجموعهم، قالوا: هو بسر بن سفيان هذا"(1) اهـ
وقد نقل ابن حجر كلام ابن عبد البر وسكت عليه(2).
وقال الزرقاني: "واختار بسر بن سفيان بن عمرو هذا، لقرب عهده بالإسلام؛ لأنه أسلم في شوال فلا يظنه من رآه عيناً فلا يؤذيه"(3) اهـ.
فقد رأينا من كلام ابن عبد البر والزرقاني أنهما يريان أن بسر بن سفيان أسلم قبل الحديبية.
وعلى فرض أنه لم يثبت ما ورد في إسلامه فلا تصلح قصته دليلاً على جواز الاستعانة بالمشرك، لوجود الاحتمال، لا سيما وهي معارضة بأحاديث صحيحة.
فالحاصل: أن قصة بسر بن سفيان الخزاعي لا دلالة فيها على جواز الاستعانة بالمشرك مطلقاً ولم يثبت في ذلك شيء عن النبي صلى الله عليه وسلم كما ذكر بعض العلماء، وإنما وردت بذلك أحاديث كلها ضعيفة، وهي:
1 - حديث ابن عباس رضي الله عنهما:
قال البيهقي: أخبرنا أبو عبد الله الحافظ ثنا أبو العباس محمد بن يعقوب أنا الربيع بن سليمان قال: قال الشافعي: قال أبو يوسف أنبأ الحسن بن عمارة عن الحكم بن مقسم عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: "استعان رسول الله صلى الله عليه وسلم بيهود بني قينقاع، فرضخ(4) لهم ولم يسهم لهم"(5).
قال البيهقي: "تفرد به الحسن بن عمار وهو متروك، ولم يبلغنا في هذا حديث صحيح"(6).
2 - حديث الزهري:
__________
(1) الاستيعاب 1/309 مع الإصابة.
(2) الإصابة 1/245.
(3) شرح الزرقاني على المواهب اللدنية 2/181.
(4) الرضخ: العطية القليلة. النهاية 2/228.
(5) السنن الكبرى 9/53.
(6) م السابق.(4/5)
قال البيهقي: أخبرنا أبو عبد الله الحافظ أنبأ أبو الوليد الفقيه ثنا الحسن بن سفينا ثنا أبو بكر بن أبي شيبة ثنا حفص عن ابن جريج عن الزهري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم غزا بناس من اليهود فأسهم لهم(1).
وهذا الحديث قد أرسله الزهري، والمرسل من قسم الضعيف، لا سيما مرسلات الزهري.
3 - حديث فطير الحارثي:
قال البيهقي: وقد روى الواقدي عن ابن أبي سيرة عن فطير الحارثي قال: "خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم بعشرة من اليهود من يهود المدينة إلى خيبر فأسهم لهم كسهمان المسلمين"(2).
قال البيهقي: "هذا منقطع وإسناده ضعيف"(3).
فهذه الأحاديث التي دلت على جواز الاستعانة بالمشرك، وهي ضعيفة لا تقوم بها حجة ولا يثبت بها حكم.
وقد ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم خلاف ذلك من حديث عائشة رضي الله عنها.
قال مسلم: حدثني زهير بن حرب، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي عن مالك ح.
وحدثنيه أبو طاهر (واللفظ له)، حدثني عبد الله بن وهب عن مالك ابن أنس عن الفضيل بن أبي عبد الله عن عبد الله بن دينار الأسلمي عن عروة بن الزبير عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أنها قالت: "خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل بدر فلما كان بحرة الوبرة(4)، أدركه رجل قد كان يذكر منه جرأة ونجدة، ففرح أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حين رأوه، فلما أدركه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم جئت لأتبعك وأصيب معك، قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تؤمن بالله ورسوله"؟ قال: لا ، قال "فارجع فلن أستعين بمشرك".
__________
(1) م السابق.
(2) م السابق.
(3) السنن الكبرى 9/53.
(4) حرة الوبرة: محركة وبعضهم جوز تسكين الباء على ثلاثة أميال من المدينة، عمدة الأخبار في مدينة المختار: 310، وهي المشرفة على وادي العقيق. انظر حاشية رقم (1) من المصدر السابق.(4/6)
قالت: ثم مضى، حتى إذا كنا بالشجرة(1) أدركه الرجل، فقال له كما قال أول مرة، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم كما قال أول مرة، قال: "فارجع فلن أستعين بمشرك"، قال: "ثم رجع فأدركه بالبيداء، فقال له كما قال أول مرة: "تؤمن بالله ورسوله؟" قال: نعم، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فانطلق"(2).
وفيه من حديث أبي حميد الساعدي رضي الله عنه:
قال البيهقي: أخبرنا محمد بن عبد الله الحافظ ثنا أحمد بن محمد العنبري ثنا عثمان بن سعيد الدارمي ثنا يوسف بن عيسى المروزي ثنا الفضل بن موسى السيناني، عن محمد بن عمرو عن سعيد بن المنذر عن أبي حميد الساعدي رضي الله عنه قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا خلف ثنية الوداع إذا كتيبة قال من هؤلاء؟ قالوا: بني قينقاع - وهم رهط عبد الله بن سلام - قال: وأسلموا؟ قالوا: لا، قال: بل هم على دينهم، قال: "قل لهم فليرجعوا فإنا لا نستعين بالمشركين" (3).
وأشار البيهقي(4) إلى أن سند هذا الحديث صحيح.
وفيه من حديث خبيب بن عبد الرحمن:
قال الإمام أحمد: ثنا يزيد بن هارون قال: أنا المستلم بن سعيد الثقفي عن عباد ثنا خبيب بن عبد الرحمن عن أبيه عن جده قال: "أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يريد غزواً أنا ورجل من قومي ولم نسلم فقلنا: إنا نستحي أن يشهد قومنا مشهداً لا نشهده معهم، قال: أو أسلمتا؟ قلنا: لا، قال: "فلا نستعين بالمشركين على المشركين"، فأسلمنا وشهدنا معه..." الحديث(5).
وسند هذا الحديث حسن.
__________
(1) الشجرة: هي ذو الحليفة، انظر كتاب ((المناسك وأماكن طرق الحج)) للحربي:425، وقال الأسدي: الرحلة من المدينة إلى ذي الحليفة وهي الشجرة، ومنها يحرم أهل المدينة وهي على خمسة أميال ونصف، انظر المصدر السابق ص427 حاشية رقم (2).
(2) صحيح مسلم، كتاب الجهاد والسير: 150.
(3) السنن الكبرى 9/37.
(4) السنن الكبرى 9/37.
(5) مسند أحمد 3/454.(4/7)
وقد ذهب إلى جواز الاستعانة بالمشركين جماعة من العلماء، وهو مروي عن أبي حنفية والشافعي وأحمد(1)؛ للأحاديث السابقة في جواز الاستعانة بهم(2).
وقد استدلوا أيضاً بقصة شهود صفوان بن أمية لغزوة حنين، وهو مشرك، وبشهود قزمان غزوة أحد وهو مشرك، وبشهود ابن أُبَيْ لبعض الغزوات(3).
وقد اشترطوا لجواز ذلك شروطاً هي:
1 - أن يكون في المسلمين قلة وتدعوا الحاجة إلى ذلك.
2 - أن يكونوا ممن يوثق بهم فلا تخشى ثائرتهم(4).
3 - أن يكون مع الإمام جماعة يستقل بهم في إمضاء الأحكام(5).
وذهب جماعة إلى عدم جواز الاستعانة بالمشركين، وممن قال بذلك ابن المنذر، والجوزجاني، وهو مروي عن الشافعي(6).
واستدل أصحاب هذا القول: بحديث عائشة رضي الله عنها وحديث أبي حميد الساعدي وحديث خبيب بن عبد الرحمن السابقة.
وقالوا: إن الأحاديث الدالة على الجواز كلها ضعيفة، لا تقوى على المعارضة.
وقد رجح الشوكاني هذا القول حيث قال: "والحاصل أن الظاهر من الأدلة عدم جواز الاستعانة بمن كان مشركاً مطلقاً لما في قوله صلى الله عليه وسلم: "إنا لا نستعين بالمشركين" من العموم، وكذلك في قوله: "لن أستعين بمشرك"(7).
وأجاب عن قصة قزمان بأنه لم يثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم أذن له بذلك في ابتداء الأمر.
قال: وأما استعانته بابن أُبَي فليس ذلك إلا لإظهاره الإسلام(8).
__________
(1) انظر المغني لابن قدامة 8/414، ونيل الأوطار 7/237.
(2) السنن الكبرى 9/37، والاعتبار في الناسخ والمنسوخ: 397.
(3) نيل الأوطار 7/237.
(4) انظر: الاعتبار في الناسخ والمنسوخ: 396، والمغني لابن قدامة 8/414.
(5) نيل الأوطار 7/237، وسبل السلام 4/50.
(6) المغني لابن قدامة 8/414، ونيل الأوطار 7/237.
(7) نيل الأوطار 7/237.
(8) المصدر السابق.(4/8)
قلت: وقصة صفوان بن أمية ليس فيها دليل أيضاً على ذلك؛ لأنه لم يثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم طلب منه الخروج، وإنما الثابت في ذلك استعارة رسول الله صلى الله عليه وسلم للأدراع منه فحسب(1).
المبحث الثالث: مقدار المدة التي تجوز مهادنة الكفار عليها:
جاء في حديث المسور ومروان من طريق ابن إسحاق "أن النبي صلى الله عليه وسلم صالح قريشاً على وضع الحرب عشر سنين"(2).
وقد أخذ جماعة بظاهر هذا الحديث.
قال الشافعي(3): "لا تتجاوز المهادنة عشر سنين، وعند الضرورة يجدد العقد بعد انتهاء العشر".
وحكى ابن قدامة(4) عن القاضي أن ظاهر كلام أحمد يقتضيه.
وحكاه ابن حجر عن الجمهور ورجحه(5).
وقالوا: إن قوله تعالى: {فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ}، عام وقد خص منه الحديث هذه المدة ، ففيما زاد يبقى على مقتضى العموم(6).
وذهب قوم إلى جواز الهدنة أكثر من عشر سنين على ما يراه الإمام من المصلحة وهو قول أبي حنيفة(7).
وحكى ابن قدامة عن أبي الخطاب أنه ظاهر كلام أحمد(8).
وقالوا: "إن العام مخصوص بالعشر بمعنى موجود فيما زاد عليها، وهو أن المصلحة قد تكون في الصلح أكثر منها في الحرب"(9).
وقيل: لا تتجاوز الهدنة أربع سنين(10).
ولعل هؤلاء تمسكوا بحديث ابن عمر أن مدة الصلح كانت أربع سنين، وهو ضعيف(11).
وقيل: لا تتجاوز ثلاث سنين(12).
وهؤلاء نظروا إلى أن المدة التي استمر فيها الصلح مع قريش.
والتحقيق: أن القول الأول هو الراجح لظاهر الحديث، وإن وجدت مصلحة في الزيادة على العشر جدد العقد، كما قال الشافعي، والله أعلم.
__________
(1) حديث صفوان أخرجه أبو داود في السنن، كتاب البيوع: 3562-3563، وصححه الألباني: إرواء الغليل 5/348.
(2) انظر ص: 300.
(3) الأم 4/189.
(4) المغني 8/460.
(5) فتح الباري 5/343.
(6) المصدر السابق.
(7) فتح القدير 5/456.
(8) المغني 8/460.
(9) المصدر السابق.
(10) شرح السنة 11/161.
(11) انظر حديث رقم (105).
(12) شرح السنة 11/161.(4/9)
وقال بعض المتأخرين:(1) يجوز عقد الصلح مؤبد غير مؤقت بمدة معينة.
واستدل بقوله تعالى: {فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْاْ إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً}(2).
وهذا القول مبني على أن الأصل في علاقة المسلمين بالكفار هي السلم لا الحرب(3)، وأن الجهاد إنما شرع لمجرد الدفاع عن المسلمين فحسب(4).
وهذا القول مردود لما يلي:
1 - أن صاحب هذا القول قد خرق الاتفاق بعد أن حكاه بنفسه حيث قال: "اتفق الفقهاء على أن عقد الصلح مع العدو لا بد من أن يكون مقدوراً بمدة معينة، فلا تصح المهادنة مطلقة إلى الأبد من غير تقدير بمدة"(5).
2 - الآية التي استدل بها منسوخة بقوله تعالى: {فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ...} (6) الآية.
فقد نقل ذلك ابن جرير(7) عن عكرمة والحسن وقتادة وابن زيد.
وحكاه ابن كثير(8) عن ابن عباس.
وحكاه القرطبي(9) عن مجاهد، ثم قال: وهو أصح شيء في معنى الآية.
3 - الأصل الذي انبنى عليه هذا القول: مردود بآية براءة السابقة، وبواقع سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم، وخلفائه الراشدين من أعدائهم.
__________
(1) الدكتور وهبه الزحيلي، آثار الحرب في الفقه الإسلامي: 680.
(2) سورة النساء آية :90.
(3) آثار الحرب في الفقه الإسلامي: 680.
(4) المصدر السابق: 675 حاشية: (2).
(5) آثار الحرب في الفقه الإسلامي: 675.
(6) سورة التوبة آية: 5.
(7) تفسير ابن جرير 9/24-26.
(8) تفسير ابن كثير 1/531.
(9) تفسير القرطبي 5/308.(4/10)
4 - أما فكرة أن الجهاد إنما شرع للدفاع عن المسلمين، فهي فكرة دخيلة، وقد تصدى لها سيد قطب(1) رحمه الله ففندها، وبين أن سبب نشوئها هو الانهزام أمام هجمات المستشرقين، وعدم الفهم لمرحلية(2) الدعوة.
المبحث الرابع: هل تجوز مصالحة الكفار على رد من جاء من قبلهم مسلماً:
كان من جملة الشروط التي وقع عليها صلح الحديبية أن يرد النبي صلى الله عليه وسلم إلى قريش من جاءه من قبلها، وألا ترد قريش من جاءها من المسلمين(3).
وقد وقع خلاف بين العلماء في جواز هذا الشرط:
فعند أبي حنيفة أنه غير جائز، لأن ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم في الحديبية منسوخ عنده بحديث سرية خالد بن الوليد حين وجهه النبي صلى الله عليه وسلم إلى خثعم وفيهم ناس مسلمون فاعتصموا بالسجود فقتلهم خالد فوداهم النبي صلى الله عليه وسلم نصف الدية، وقال: "أنا بريء من مسلم بين مشركين"(4).
وذهب الحنابلة(5) وهو ظاهر كلام الشافعي(6) إلى جواز هذا الشرط لقصة الحديبية.
وقال أصحاب الشافعي: لا يصح شرط رد المسلم إلا أن يكون له عشيرة تحميه وتمنعه(7).
__________
(1) في ظلال القرآن 3/1433، وما بعدها.
(2) يعني بمرحلية الدعوة الأطوار التي مرت بها دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد أمر بالكف، ثم أذن لهم في قتال من قاتلهم، ثم أمروا بقتال المشركين كافة، وقد لخصها ابن القيم في الزاد 3/158 فليراجع.
(3) انظر ص: 298, 299.
(4) الروض الأنف 6/384، فتح القدير 5/460.
(5) المغني لابن قدامة 8/465.
(6) الأم 4/191.
(7) شرح السنة 11/163.(4/11)
وحكى السهيلي عن العراقيين أنهم قالوا: "ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم بالحديبية يختص بالنبي صلى الله عليه وسلم وبمكة، لأن النبي صلى الله عليه وسلم ما رد المسلمين إلى قريش إلا لقوله: "لا تدعوني قريش إلى خطة يعظمون فيها حرمات الله إلا أجبتهم إليها"، قالوا: وفي رد المسلم إلى مكة عمارة البيت وزيادة خير له في الصلاة بالمسجد الحرام، والطواف بالبيت، فكان هذا من تعظيم حرمات الله تعالى"(1).
والتحقيق: جواز الصلح على رد الرجال، لأنه قد ثبت من فعل النبي صلى الله عليه وسلم ولم يرد ما ينسخه أو يخصصه، والحديث الذي استدل به من قال بالنسخ لم يكن في محل النزاع، إنما هو في خصوص من أقام بين الكفار عن طواعية واختيار، أما الذي يرده الإمام فهو مكره على الرجوع إليهم.
وما ذكره أصحاب الشافعي من اشتراط الأهل والعشيرة لا دليل عليه، فرسول الله صلى الله عليه وسلم حين رد أبا جندل لم يقل له إن أباك سيمنعك بل قال له: "إن الله جاعل لك ولمن معك من المستضعفين فرجاً ومخرجاً" وقال نحو ذلك لأبي بصير.
وكذلك دعوى تخصيص ما وقع في صلح الحديبية بمكة وبالنبي صلى الله عليه وسلم لا دليل عليها وما ذكر من مسوغات لا تكفي للتخصيص. والله أعلم.
المبحث الخامس: إذا رد الإمام إلى المعاهدين من جاء من قبلهم فأحدث جناية فيهم، فهل عليه أو على الإمام ضمان؟
جاء في حديث المسور ومروان أن أبا بصير حين دفعه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى رسولي قريش، قتل واحداً منهما، ولم يضمن النبي صلى الله عليه وسلم ذلك، ولا ضمنه أبو بصير(2).
__________
(1) الروض الأنف 6/384.
(2) انظر ص: 328.(4/12)
ولذلك قال ابن القيم: "إن المعاهدين إذا تسلموه وتمكنوا منه، فقتل أحداً منهم، لم يضمنه بدية، ولا قود، ولم يضمنه الإمام بل يكون حكمه في ذلك حكم قتله لهم في ديارهم، حيث لا حكم للإمام عليهم، فإن أبا بصير قتل أحد الرجلين المعاهدين بذي الحليفة، وهي من حكم المدينة، ولكن كان قد تسلموه وفصل عن يد الإمام وحكمه"(1) اهـ.
قلت: هذه المسألة فيها قضيتان:
الأولى: ضمان الجاني.
الثانية: ضمان الإمام.
فبالنسبة للجاني يرى ابن القيم أنه لا ضمان عليه، ولم يذكر تعليلاً لذلك.
وأما السهيلي: فيرى ارتفاع الحرج عنه فقط، ويعلل ذلك بأمرين هما:
1 - أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يثرب على أبي بصير بل مدحه حيث قال: "ويل أمه محش حرب".
2 - أنه دافع عن نفسه ودينه: قال: "ومن قتل دون دينه فهو شهيد" اهـ.
أما الضمان فإنه يلزمه عند السهيلي كما هو مفهوم كلامه حيث قال: "وإنما لم يطالبه رسول الله صلى الله عليه وسلم بدية، لأن أولياء المقتول لم يطالبوه إما لأنهم قد أسلموا، وإما لأن الله شغلهم عن ذلك حتى انتكث العهد وجاء الفتح"(2).
قلت: بل طالب أولياء المشرك الذي قتله أبو بصير بدية صاحبهم.
قال ابن إسحاق: "فلما بلغ سهيل بن عمرو قتل أبي بصير صاحبهم العامري أسند ظهره إلى الكعبة" ثم قال: "والله لا أؤخر ظهري عن الكعبة حتى يودى هذا الرجل"، فقال أبو سفيان بن حرب: "والله إن هذا لهو السفه، والله لا يودى (ثلاثاً)" (3).
ونقله ابن حجر عن ابن إسحاق وفيه: فقال أبو سفيان: ليس على محمد مطالبة بذلك؛ لأنه وفّى بما عليه وأسلمه لرسولكم، ولم يقتله بأمره ولا على آل أبي بصير شيء أيضاً، لأنه ليس على دينهم(4) ا.هـ
فالتحقيق أنه لا ضمان على القاتل في هذه الحالة بدية، ولا قود، لأنهم أهل حرب بالنسبة له لا أهل عهد وذمة.
__________
(1) زاد المعاد 3/308.
(2) الروض الأنف 6/494.
(3) سيرة ابن هشام 3/324.
(4) فتح الباري 5/351.(4/13)
قال ابن حجر: ولا يعد ما وقع من أبي بصير غدراً لأنه لم يكن في جملة من دخل في المعاقدة التي بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين قريش، لأنه إذ ذاك كان محبوساً بمكة(1) ا.هـ
والقضية الثانية من المسألة:
هل على الإمام ضمان في مثل ما فعل أبو بصير؟
ذكر ابن القيم أنه لا ضمان عليه وعلل ذلك: بأنه سلمه لهم ولم يعد تحت يده وحكمه.
وظاهر كلام السهيلي أيضاً أنه لا ضمان على الإمام(2).
المبحث السادس: إذا عاهد الإمام قوماً فخرجت عليهم طائفة من المسلمين غير متحيزة إلى الإمام، فهل على الإمام دفعها عنهم؟
جاء في حديث المسور ومروان أن أبا بصير وأبا جندل في جماعة من المسلمين قد خرجوا إلى سيف البحر، على طريق عير قريش، فكانت لا تمر بهم عير إلا قتلوا أصحابها، وأخذوها ولم يمنعهم رسول الله صلى الله عليه وسلم(3).
ولذلك قال ابن القيم: "إن المعاهدين إذا عاهدوا الإمام فخرجت منهم طائفة فحاربتهم وغنمت أموالهم ولم يتحيزوا إلى الإمام لم يجب على الإمام دفعهم عنهم، ومنعهم منهم، سواء دخلوا في عقد الإمام وعهده ودينه، أو لم يدخلوا، والعهد الذي كان بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين المشركين لم يكن عهداً بين أبي بصير وأصحابه وبينهم، وعلى هذا فإذا كان بين بعض ملوك المسلمين وبعض أهل الذمة من النصارى وغيرهم عهد، جاز لملك آخر من ملوك المسلمين أن يغزوهم ويغنم أموالهم، إذا لم يكن بينه وبينهم عهد، كما أفتى به شيخ الإسلام في نصارى ملطية مستدلاً بقصة أبي بصير مع المشركين"(4) اهـ.
الفصلُ الثاني أحكامٌ تتعلقُ بالعقيدةِ
وفيه خمسة مباحث:
المبحث الأول: حكم القيام على رأس الكبير وهو جالس.
المبحث الثاني: تعريف الفأل وبيان استحبابه وأنه مغاير للطيرة.
المبحث الثالث: بيان كفر من اعتقد أن للكوكب تأثيراً في إيجاد المطر.
__________
(1) فتح الباري 5/351.
(2) الروض الأنف 6/494.
(3) انظر ص: 348.
(4) زاد المعاد 3/309.(4/14)
المبحث الرابع: هل يجوز التبرك بفضلات الصالحين وآثارهم؟
المبحث الخامس: هل كتب النبي صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية حقيقة؟
المبحث الأول: حكم القيام على رأس الكبير وهو جالس:
جاء في حديث المسور ومروان: أن المغيرة بن شعبة كان قائماً على رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه السيف(1).
قال ابن القيم: "في قيام المغيرة بن شعبة على رأس النبي صلى الله عليه وسلم بالسيف ولم يكن من عادته أن يقام على رأسه وهو قاعد، سنة يُقتدى بها عند قدوم رسل العدو من إظهار العز والفخر وتعظيم الإمام وطاعته ووقايته بالنفوس، وهذه هي العادة الجارية عند قدوم رسل المؤمنين على الكافرين، وقدوم رسل الكافرين على المؤمنين، وليس هذا من النوع الذي ذمه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: "من أحب أن يتمثل له الرجال قياماً فليتبوأ مقعده من النار".
كما أن الفخر والخيلاء في الحرب ليسا من هذا النوع المذموم في غيره(2) اهـ.
قلت: نعم الحديث الذي أورده ابن القيم لا يعني هذا النوع من القيام، إنما ينهى عن القيام للشخص، أما النوع الذي فعله المغيرة فهو القيام على الشخص، وقد ورد فيه نهي بخصوصه، كما في حديث جابر الآتي.
وقد أوضح الفرق بينهم ابن القيم نفسه في تهذيب السنن حين تعقب المنذري: فقد ذكر أبو داود في باب (قيام الرجل للرجل) حديث معاوية "من أحب أن يتمثل له الرجال قياماً فليتبوأ مقعده من النار"(3)، وحديث أبي أمامة: "خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم متوكئاً على عصا فقمنا إليه فقال: " لا تقوموا كما تقوم الأعاجم، يعظم بعضهم بعضاً"(4).
__________
(1) انظر ص: 219.
(2) زاد المعاد 3/304.
(3) سنن أبي داود مع معالم السنن، كتاب الأدب: 5229.
(4) سنن أبي داود مع معالم السنن، كتاب الأدب: 5230.(4/15)
وذكر المنذري عقب هذين الحديثين حديث جابر عند مسلم، وفيه: "أنهم لما صلوا خلفه قعوداً قال: فلما سلم، قال: "إن كدتم آنفاً أن تفعلوا فعل فارس والروم، يقومون على ملوكهم وهم قعود فلا تفعلوا"(1).
والمنذري أورد هذا الحديث عقب الحديثين السابقين لتقويتهما، وكأنه يرى أن مدلولهما واحد، فتعقبه ابن القيم بقوله: "وحمل أحاديث النهي عن القيام على مثل هذه الصورة ممتنع، فإن سياقهم يدل على خلافه، وأنه صلى الله عليه وسلم كان ينهى عن القيام به إذا خرج عليهم، ولأن العرب لم يكونوا يعرفون هذا النوع، وإنما هو من فعل فارس والروم، ولأن هذا لا يقال له قيام للرجل، وإنما هو قيام عليه ففرق بين القيام للشخص المنهي عنه، والقيام عليه المشبه لفعل فارس والروم، والقيام إليه عند قدومه وهو سنة العرب وأحاديث الجواز تدل عليه فقط"(2) اهـ.
فمن خلال كلام ابن القيم هذا يظهر لنا الفرق بين القيام للشخص الذي ورد فيه حديث معاوية، والقيام على الشخص الذي فعله المغيرة، وقد ورد بخصوصه حديث جابر السابق، وقد علق عليه النووي بقوله: "وفيه النهي عن قيام الغلمان والتباع على رأس متبوعهم الجالس لغير حاجة"(3).
وقد ساق ابن حجر كلام ابن القيم في التفريق بين أنواع القيام ثم عقب عليه بقوله: "وقد ورد في خصوص القيام على رأس الكبير الجالس ما أخرجه الطبراني في الأوسط عن أنس قال: "إنما هلك من كان قبلكم بأنهم عظموا ملوكهم بأن قاموا وهم قعود"(4).
__________
(1) مختصر سنن أبي داود 8/92-94.
(2) تهذيب السنن 8/92-93 مع مختصر سنن أبي داود للمنذري.
(3) شرح النووي على مسلم 4/135.
(4) فتح الباري 11/51، ذكره الهيثمي في المجمع 8/40، وقال فيه الحسن بن قتيبة وهو متروك.(4/16)
فالحاصل: أن نوع القيام الذي فعله المغيرة بن شعبة رضي الله عنه منهي عنه، والمرخص فيه منه ما كان في مثل تلك الحالة التي فعلها فيها المغيرة، وهي حال قدوم رسل العدو، ليروا مدى طاعة المسلمين لإمامهم وحمايتهم له، وأحسب ابن القيم رحمه الله لا يريد أكثر من هذا المعنى، لأنه قاسه على إظهار الخيلاء والفخر في الحرب، ومعلوم النهي عنهما في غير هذا الموطن، والله أعلم.
المبحث الثاني: تعريف الفأل وبيان استحبابه وأنه مغاير للطيرة:
قال ابن القيم: "استحباب التفاؤل وأنه ليس من الطيرة المكروهة لقوله لما جاء سهيل "سهل أمركم" (1).
قلت: قد وردت أحاديث تبين معنى الفأل:
ففي صحيح البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا طيرة وخيرها(2) الفأل"، قالوا: "وما الفأل يا رسول الله؟" قال: "الكلمة الصالحة يسمعها أحدكم"(3).
وفيه من حديث أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: "لا عدوى ولا طيرة ويعجبني الفأل الصالح الكلمة الحسنة"(4).
وفي سنن أبي داود من حديث عروة بن عامر قال: ذكرت الطيرة عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "أحسنها الفأل ولا ترد مسلماً فإذا رأى أحدكم ما يكره فليقل: اللهم لا يأتي بالحسنات إلا أنت، ولا يدفع السيئات إلا أنت، ولا حول ولا قوة إلا بك" (5).
__________
(1) زاد المعاد 3/305.
(2) قال ابن حجر:"أفعل التفضيل هنا إنما هو بين القدر المشترك بين الشيئن، والقدر المشترك بين الطيرة والفأل تأثير كل منهما فيما هو فيه، والفأل في ذلك أبلغ". فتح الباري 10/214.
(3) صحيح البخاري مع الفتح، كتاب الطب: 5755.
(4) صحيح البخاري مع الفتح، كتاب الطب: 5756.
(5) سنن أبي داود مع معالم السنن / كتاب الطب: 3919.(4/17)
فهذه الأحاديث تؤيد ما ذكره ابن القيم من استحباب التفاؤل، وأنه ليس من الطير المذمومة، والفرق بينهما: "أن الفأل من طريق حسن الظن بالله، والطيرة لا تكون إلا في السوء؛ فلذلك كرهت"(1).
المبحث الثالث: بيان كفر من اعتقد أن للكوكب تأثيراً في إيجاد المطر:
جاء في حديث زيد بن خالد: "وأما من قال مطرنا بنوء كذا وكذا فذاك كافر بي مؤمن بالكوكب"(2).
وقد حمل العلماء الكفر المذكور في الحديث على أحد نوعيه الاعتقادي أو كفر النعمة بحسب حال القائل.
فمن قال مطرنا بنوء كذا معتقداً أن للكوكب فاعلية وتأثيراً في إيجاد المطر، فهو كافر كفراً مخرجاً من الملة.
قال الشافعي: "من قال مطرنا بنوء كذا وكذا على ما كان أهل الجاهلية يعنون من إضافة المطر إلى أنه بنوء كذا، فذلك كفر كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأن النوء وقت، والوقت مخلوق لا يملك لنفسه ولا لغيره شيئاً، ومن قال مطرنا بنوء كذا على معنى مطرنا في وقت كذا فلا يكون كفراً وغيره من الكلام أحب إلي منه"(3) اهـ.
فالشافعي يقصد هنا الكفر الاعتقادي.
أما من قال: مطرنا بنوء كذا، ويقصد أن النوء علامة للمطر فقط وأن المدبر هو الله، فهذا لا يكفر كفراً مخرجاً من الملة، كما قال الشافعي.
لكن قال ابن حجر: "يجوز إطلاق الكفر عليه، وإرادة كفر النعمة لأنه لم يقع في شيء من طرق الحديث بين الكفر والشرك واسطة، فيحمل الكفر فيه على المعنيين لتناول الأمرين، والله أعلم"(4).
__________
(1) نقله ابن حجر، فتح الباري 10/215.
(2) انظر حديث رقم (126).
(3) الأم 1/252.
(4) فتح الباري 2/524.(4/18)
وكذلك قال ابن مفلح في الفروع: "إنه كفر نعمة لكن قال يحرم إطلاق هذا اللفظ(1) أي "مطرنا بنوء كذا"، ووافقه على تحريم ذلك صاحب الإنصاف(2) وكذلك قال بتحريم إطلاقه صاحب تيسير العزيز الحميد(3)، وصاحب فتح المجيد(4)، لكن قالا: إنه من الشرك الأصغر.
قلت: ويلحق بهذا الحكم كل من نسب شيئاً من التأثير في الكون لغير الله بحسب حاله على التفصيل السابق.
المبحث الرابع: هل يجوز التبرك بفضلات الصالحين وآثارهم؟
جاء في حديث المسور ومروان: "فوالله ما تنخم رسول الله صلى الله عليه وسلم نخامة إلا وقعت في كف رجل منهم، فدلك بها وجهه وجلده... وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه"(5).
قال ابن حجر عند هذه القصة: "جواز التبرك بفضلات الصالحين الطاهرة"(6).
قلت: قد تطرق الشاطبي لهذه القضية وذكر كلاما ًجيداً بين فيه إجماع الصحابة على ترك هذا الأمر: ووجه ذلك:
__________
(1) الفروع 2/163.
(2) الإنصاف 2/461.
(3) تيسير العزيز الحميد في شرح كتاب التوحيد: 403.
(4) فتح المجيد شرح كتاب التوحيد: 326.
(5) انظر ص: 219.
(6) فتح الباري 5/341.(4/19)
فقد ذكر الشاطبي ما في حديث المسور ومروان هذا، وأحاديث أخرى تماثله ثم قال: فالظاهر في مثل هذا النوع أن يكون مشروعاً في حق من ثبت ولايته واتباعه لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأن يتبرك بفضل وضوءه ويتدلك بنخامته ويستشفى بآثاره كلها، ويرجى نحو مما كان في آثار المتبوع الأصل(1) صلى الله عليه وسلم إلا أنه قد عارضنا في ذلك أصل مقطوع به في متنه مشكل في تنزيله، وهو أن الصحابة رضي الله عنهم بعد موته عليه السلام لم يقع من أحد منهم شيء من ذلك بالنسبة إلى من خلفه إذ لم يترك النبي صلى الله عليه وسلم بعد موته في الأمة أفضل من أبي بكر الصديق رضي الله عنه فهو كان خليفته ولم يفعل به شيء من ذلك، ولا عمر رضي الله عنه وهو كان أفضل الأمة بعده ثم كذلك عثمان ثم علي، ثم سائر الصحابة الذين لا أحد أفضل منهم في الأمة، ثم لم يثبت لواحد منهم من طريق صحيح معروف أن متبركاً تبرك به على أحد تلك الوجوه أو نحوها، بل اقتصروا على الاقتداء بالأفعال والأقوال والسير التي اتبعوا فيه النبي صلى الله عليه وسلم، فهو إذاً إجماع منهم على ترك تلك الأشياء.
وبقي النظر في وجه ترك ما تركوا منه، ويحتمل وجهين:
__________
(1) قال محقق كتاب الاعتصام: يظهر أن الجملة محرفة.(4/20)
أحدهما: أن يعتقدوا فيه الاختصاص وأن مرتبة النبوة يسع فيها ذلك كله للقطع بوجود ما التمسوا من البركة والخير، لأنه عليه السلام كان نوراً كله في ظاهره وباطنه، فمن التمس منه نوراً وجده على أي وجه التمسه بخلاف غيره من الأمة - وإن حصل له من نور الاقتداء به والاهتداء بهديه ما شاء الله - لا يبلغ مبلغه على حال توازيه في مرتبته ولا تقاربه، فصار هذا النوع مختصاً به كاختصاصه بنكاح ما زاد على الأربع، وإحلال بضع الواهبة نفسها له، وعدم وجوب القسم على الزوجات وشبه ذلك، فعلى هذا المأخذ: لا يصح لمن بعده الاقتداء به في التبرك على أحد تلك الوجوه ونحوها، ومن اقتدى به كان اقتداؤه بدعة، كما كان الاقتداء في الزيادة على الأربع نسوة بدعة.
الثاني: أن لا يعتقدوا الاختصاص ولكنهم تركوا ذلك من باب سد الذرائع خوفاً من أن يجعل ذلك سنة - كما تقدم ذكره في اتباع الآثار - (1) والنهي عن ذلك، أو لأن العامة لا تقتصر في ذلك على حد بل تتجاوز فيه الحدود، وتبالغ بجهلها في التماس البركة، حتى يداخلها للمتبرك به تعظيم يخرج به عن الحد، فربما اعتقد في المتبرك به ما ليس فيه، وهذا التبرك هو أصل العبادة، ولأجله قطع عمر رضي الله عنه الشجرة التي بويع تحتها رسول الله صلى الله عليه وسلم بل هو كان أصل عبادة الأوثان في الأمم الخالية - حسبما ذكر أهل السير - فخاف عمر أن يتمادى الحال في الصلاة إلى تلك الشجرة، حتى تعبد من دون الله، فكذلك يتفق عند التوغل في التعظيم...
إلى أن قال: وقد يظهر بأول وهلة أن هذا الوجه الثاني أرجح لما ثبت في الأصول العلمية أن كل قربة أعطيها النبي صلى الله عليه وسلم فإن لأمته أنموذجاً منها ما لم يدل دليل على الاختصاص.
__________
(1) انظر الاعتصام 1/346.(4/21)
إلا أن الوجه الأول أيضاً راجح من جهة أخرى، وهو إطباقهم على الترك إذ لو كان اعتقادهم التشريع لعمل به بعضهم بعده أو عملوا به ولو في بعض الأحوال، إما وقوفاً مع أصل المشروعية، وإما بناء على اعتقاد انتفاء العلة الموجبة للامتناع.
وقد أخرج ابن وهب في جامعه من حديث يونس بن يزيد عن ابن شهاب قال: حدثني رجل(1) من الأنصار أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا توضأ أو تنخم ابتدر من حوله من المسلمين وضوءه ونخامته فشربوه ومسحوا به جلودهم، فلما رآهم يصنعون ذلك سألهم "لم تفعلون هذا؟ "قالوا: نلتمس الطهور والبركة بذلك. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من كان منكم يحب أن يحبه الله ورسوله فليصدق الحديث وليؤد الأمانة، ولا يؤذ جاره"، فإن صح(2) هذا الحديث فهو مشعر بأن الأولى تركه وأن يتحرى ما هو آكد(3) ا.هـ
__________
(1) هو: عبد الرحمن بن أبي قراد رضي الله عنه. الترغيب والترهيب 3/589.
(2) هذا الحديث قال عنه الألباني: "هو حديث ثابت له طرق وشواهد في معجمي الطبراني وغيرهما، وقد أشار المنذري في الترغيب 3/26 إلى تحسينه، وقد خرجته في الصحيحة برقم (2998))) ا.هـ التوسل: 147 حاشية (1).
(3) الاعتصام 2/8 وما بعدها.(4/22)
وبهذا يتبين أن ما فعله الصحابة رضوان الله عليهم مع النبي صلى الله عليه وسلم من التبرك لا يقاس عليه غيره فيه لما خصه الله سبحانه وتعالى به من أمور لا توجد في أحد غيره صلى الله عليه وسلم، ولأنه لو كان جائزاً مع غيره لسارع الصحابة رضوان الله عليهم - وهم أحرص الناس على الخير - إلى فعله مع أفضل الأمة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن شهد لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجنة، لكنه لم يحصل شيء من ذلك، بل أفاد حديث عبد الرحمن بن أبي قراد هذا: أن الأولى تركه حتى مع النبي صلى الله عليه وسلم والانصراف إلى ما هو أولى وأنفع، ولعل سكوت النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك يوم الحديبية ليرى عروة بن مسعود رسول قريش مدى تعلق الصحابة رضوان الله عليهم بالنبي صلى الله عليه وسلم وحبهم له لا سيما وقد قال للنبي صلى الله عليه وسلم: "إني لأرى أشواباً من الناس خليقاً أن يفروا ويدعوك"(1).
المبحث الخامس: هل كتب النبي صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية حقيقة؟:
جاء في حديث البراء رضي الله عنه عند البخاري: "فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم الكتاب - وليس يحسن يكتب - فكتب: هذا ما قاضى عليه محمد بن عبد الله"(2).
فأخذ أبو الوليد الباجي بظاهر هذه الرواية، وقال: "إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب حقيقة"(3)، وقد أنكر عليه ذلك علماء عصره ورموه بالزندقة.
قال ابن حجر تعليقاً على الرواية السابقة: وقد تمسك بظاهر هذه الرواية أبو الوليد الباجي فادعى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب بيده بعد أن لم يكن يحسن يكتب، فشنع عليه علماء الأندلس في زمانه، ورموه بالزندقة، وأن الذي قاله يخالف القرآن حتى قال قائلهم:
__________
(1) انظر ص: 218.
(2) انظر حديث رقم (103).
(3) حكاه القاضي عياض، وذكر أن الباجي ألف في ذلك رساله سماها تحقيق المذهب من أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد كتب. ترتيب المدارك 4/805.(4/23)
برئت ممن شرى دنيا بآخرة ... وقال: إن رسول الله قد كتبا(1)
بل حكى القاضي عياض: "أن الفقيه أبا بكر الصائغ قد كفره بإجازة الكتب على رسول الله صلى الله عليه وسلم "النبي الأمي" وأنه تكذيب بالقرآن(2).
وقد بلغ خبر أبي الوليد إلى أمير وطنه، وجرت بحضرته مناظرة بين أبي الوليد وبعض العلماء الذين أنكروا عليه قوله، فذكر ابن حجر: أن الباجي تغلب عليهم بما لديه من المعرفة حيث ادعى أن كتابة النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك الوقت لا تنافي القرآن بل تؤخذ من مفهومه لأنه قيد النفي بما قبل ورود القرآن فقال: { وَمَا كُنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلاَ تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ ...} وبعد أن تحققت أميته وتقررت معجزته وأمن من الارتياب في ذلك، فلا مانع من أن يعرف الكتابة بعد ذلك من غير تعليم فتكون معجزة أخرى(3) ا.هـ
وقد كتب الأمير في المسألة إلى أفريقية وصقلية برغبة الباجي في ذلك، فجاءته الأجوبة من هناك، كان في بعضها تصويب لرأيه، وفي بعضها رد عليه.
وممن صوب رأيه: ابن الخزاز.
وكان ممن رد عليه الزاهد أبو محمد بن مفوز ألف في ذلك جزءاً(4).
وقد وافق الباجي في قوله جماعة منهم: أبو ذر أحمد بن عبد الله الهروي، والسمناني، وأبو الفتح النيسابوري(5).
وقد استدل هؤلاء لما ذهبوا إليه بما يلي:
1 - ما أخرجه ابن أبي شيبة وعمر بن شبة من طريق مجاهد عن عون بن عبد الله قال: "ما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى قرأ وكتب".
وقال مجاهد: "فذكرت ذلك للشعبي فقال: صدق سمعت من يذكر ذلك"(6).
__________
(1) فتح الباري 7/503، وانظر نفح الطيب 2/68.
(2) ترتيب المدارك 4/805.
(3) فتح الباري 7/503.
(4) ترتيب المدارك 4/805-806، تاريخ قضاة قرطبة: 202.
(5) تفسير القرطبي 13/352، فتح الباري 7/503، والخصائص الكبرى 3/272.
(6) فتح الباري 7/ 504، الخصائص الكبرى 3/270.(4/24)
وذكر السيوطي أن سند هذا الحديث ضعيف، وحكى عنه الطبراني أنه قال: هذا حديث منكر(1).
2 - واستدلوا بما ورد من طريق يونس بن ميسرة عن أبي كبشة السلولي عن ابن الحنظلية أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر معاوية أن يكتب للأقرع وعيينة، فقال عيينة: أتراني أذهب بصحيفة المتلمس فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم الصحيفة فنظر فيها، فقال: "قد كتب لك بما أمر لك".
قال يونس: "فنرى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب بعدما أنزل عليه"(2).
وحكى القرطبي عن ابن عطية: "أنه ذكر هذا الحديث والذي قبله ثم قال: هذا كله ضعيف وقول الباجي منه"(3).
3 - واستدلوا أيضاً بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لكاتبه: "ضع القلم على أذنك فإنه أذكر لك" (4).
4 - وربما روي أنه صلى الله عليه وسلم قال لمعاوية: "ألق الدواة وحرف القلم وأقم الباء وفرق السين ولا تعور الميم" (5).
وقد ذكر ابن حجر هذين الحديثين مع الحديثين السابقين ثم قال: وأجاب الجمهور بضعف هذه الأحاديث(6).
وبهذا نرى أن الأدلة التي استند إليها القائلون بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد كتب واهية كلها، لا يعتمد عليها ، لا سيما في مثل هذا الأمر الخطير.
أما حديث البراء في قصة الحديبية، فذكر ابن حجر: أن الجمهور أجابوا عنه: بأن القصة واحدة والكاتب فيها علي، وقد صرح في حديث المسور بأن علياً هو الذي كتب، فيحمل على أن النكتة في قوله: "فأخذ الكتاب - وليس يحسن يكتب" لبيان قوله: "أرني إياها"، أنه ما احتاج أن يريه موضع الكلمة التي امتنع علي عن محوها إلا لكونه كان لا يحسن الكتابة، وعلى أن قوله بعد ذلك "فكتب" فيه حذف تقديره فمحاها فأعادها لعلي فكتب، وهو كثير كقوله: كتب إلى قيصر وكتب إلى كسرى.
__________
(1) الخصائص الكبرى 3/270.
(2) فتح الباري 7/504.
(3) تفسير القرطبي 13/352.
(4) فتح الباري 7/504.
(5) فتح الباري 7/504.
(6) م السابق.(4/25)
وذكر ابن حجر جواباً ثانياً فقال: "وعلى تقدير حمله على ظاهره فلا يلزم من كتابة اسمه الشريف في ذلك اليوم وهو لا يحسن الكتابة أن يصير عالماً بالكتابة عن كونه أمياً، فإن كثيراً ممن لا يحسن الكتابة يعرف تصوير بعض الكلمات ويحسن وضعها بيده، وخصوصاً الأسماء، ولا يخرج بذلك عن كونه أمياً ككثير من الملوك"(1).
وحكى عن السمناني وابن الجوزي جواباً آخر وهو: "أن تكون جرت يده بالكتابة حينئذ، وهو لا يحسنها فخرج المكتوب على وفق المراد فيكون معجزة أخرى في ذلك الوقت خاصة، ولا يخرج بذلك عن كونه أمياً"(2).
وقد مال ابن خلدون إلى هذا حيث قال: "ولا يقع في ذهنك من أمر هذه الكتابة ريب، فإنها قد ثبتت في الصحيح وما يعترض في الوهم من أن كتابته قادحة في المعجزة، فهو باطل؛ لأن هذه الكتابة إذا وقعت من غير معرفة بأوضاع الحروف وقوانين الخط وأشكالها، بقيت الأمية على ما كانت عليه، وكانت هذه الكتابة خاصة من إحدى المعجزات"(3).
وقد تعقب السهيلي هذا الجواب فقال: "وقد ظن بعض الناس أنه كتب بيده"، وفي البخاري: "أنه كتب بيده وهو لا يحسن يكتب" فتوهم أن الله قد أطلق يده بالكتابة في تلك الساعة خاصة، قال: وهي آية.
فيقال له: كانت تكون آية لولا أنها مناقضة لآية أخرى وهو كونه أمياً لا يكتب وبكونه أمياً في أمة أمية، قامت الحجة وأفحم الجاحد وانحسمت الشبهة، فكيف يطلق الله يده لتكون آية؟ وإنما الآية ألا يكتب والمعجزات يستحيل أن يدفع بعضها بعضاً، وإنما معنى كتب: أي: أمر أن يكتب(4) اهـ.
وقد تعقب ابن حجر كلام السهيلي فقال: "وفي دعوى أن كتابة اسمه الشريف فقط على هذه الصورة تستلزم مناقضة المعجزة، وتثبت كونه غير أمي نظر كبير"(5) اهـ.
__________
(1) فتح الباري 7/504.
(2) فتح الباري 7/504.
(3) تاريخ ابن خلدون 2/221.
(4) الروض الأنف 6/485-486.
(5) فتح الباري 7/504.(4/26)
قلت: ما قاله السهيلي وجيه لا نظر فيه، وكان يمكن أن يقال إن كتابة اسمه الشريف على تلك الصورة لا تنافي الأمية إلا أن الله قد نفى عنه الكتابة بيده، بخصوصها وأخبر أن ذلك لو حصل لأدى إلى ريب في قلوب المبطلين، فقال تعالى: {وَمَا كُنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلاَ تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ}(1)، ولو قلنا إنه كتب حقيقة لحصل ذلك الارتياب في قلوب المبطلين بل قد حصل شيء من ذلك فعلاً وجعل بعض المتربصين هذه الرواية ذريعة للوصول إلى أهدافهم المشبوهة(2).
فالراجح هو ما أجاب به الجمهور من أن المراد من قوله "كتب" أي أمر علياً بالكتابة، والله أعلم.
الفصلُ الثالثُ الدروسُ والعبرُ المستقاةُ من بعضِ مواقفِ الغزوةِ
ويضم خمسة مباحث:
المبحث الأول: اتهام العقل أمام النصوص الصريحة.
المبحث الثاني: أنموذج من التربية النبوية.
المبحث الثالث: مثل رائع لوفاء المسلم وثباته على عقيدته.
المبحث الرابع: صروح الكفر والطغيان تتهاوى أمام عزمات الإيمان.
المبحث الخامس: رعاية الله للجماعة المؤمنة.
المبحث الأول: اتهام العقل أمام النصوص الصريحة:
جاء في حديث المسور ومروان وغيره في قصة الحديبية أن عمر بن الخطاب وبعض الصحابة رضي الله عنهم كرهوا الصلح مع قريش(3) لما رأوا في شروطها من الظلم والإجحاف في حقهم، لكنهم ندموا بعد ذلك على صنيعهم ورأوا أنهم قد وقعوا في حرج، إذ كيف يكرهون شيئاًَ رضيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وظلت تلك الحادثة درساً لهم فيما استقبلوا من حياتهم، وكانوا يحذرون غيرهم من الوقوع فيما وقعوا فيه من الاعتماد على الرأي:
__________
(1) سورة العنكبوت آية: 48.
(2) انظر الرد الشافي الوافر على من نفى أمية سيد الأوائل والأواخر: 128.
(3) انظر ص: 314 وما بعدها.(4/27)
فكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: "أيها الناس اتهموا الرأي على الدين فلقد رأيتني أرد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم برأي اجتهاداً فوالله ما آلو عن الحق وذلك يوم أبي جندل" (1).
وكان سهل بن حنيف رضي الله عنه يقول: "اتهموا رأيكم رأيتني يوم أبي جندل ولو أستطيع أن أرد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم لرددته"(2).
ولقد ظل عمر بن الخطاب رضي الله عنه - برهة من الزمن - متخوفاً أن ينزل الله به عقاباً للذي صنع يوم الحديبية:
فكان رضي الله عنه يتحدث عن قصته تلك ويقول: "فما زلت أصوم وأتصدق وأعتق من الذي صنعت مخافة كلامي الذي تكلمت به يومئذ حتى رجوت أن يكون خيراً"(3).
هذا فعل أهل الورع والتقوى والذين يقدرون نصوص الشريعة حق قدرها.
فليت أولئك الذي يردون النصوص الصريحة لحدس عقولهم(4) يعتبرون بما في هذه الحادثة.
قال ابن الديبع الشيباني تعليقاً على هذه الحادثة: "قال العلماء لا يخفى ما في هذه القصة من وجوب طاعته صلى الله عليه وسلم والانقياد لأمره، وإن خالف ظاهر ذلك مقتضى القياس أو كرهته النفوس، فيجب على كل مكلف أن يعتقد أن الخير فيما أمر به، وأنه عين الصلاح المتضمن لسعادة الدنيا والآخرة، وأنه جار على أتم الوجوه وأكملها غير أن أكثر العقول قصرت عن إدراك غايته وعاقبة أمره"(5) اهـ.
__________
(1) انظر ص: 324.
(2) انظر ص: 319.
(3) انظر ص: 316.
(4) يقولون إذا تعارض العقل والنقل، وجب تقديم العقل، حكاه ابن تيمية عن جماعة منهم: الرازي والغزالي، ثم بين فساده، وكذلك فنده ابن القيم.
انظر: درء التعارض بين العقل والنقل 1/ 4، ومختصر الصواعق 1/129.
وقد تبنى تلك النظرية الفاسدة بعض الناس في هذا العصر فجعلوا عقولهم مقياساً لقبول النصوص وردها، ولو كانت في الصحيحين، انظر للرد عليهم: الرد على من كذب الأحادب الصحيحة الواردة في المهدي: 44، 47، ومرويات غزوة بدر:47.
(5) حدائق الأنوار ومطالع الأسرار 2/622.(4/28)
وقد ذكر ابن القيم(1) أن الرأي الباطل أنواع: فذكر منها الرأي المخالف للنص، والكلام في الدين بالخرص والظن مع التفريط في معرفة النصوص وفهمها، والرأي المتضمن تعطيل الأسماء والصفات الإلهية، ثم قال: "وكل من له مسكة من عقل يعلم أن فساد العالم وخرابه إنما نشأ من تقديم الرأي على الوحي، والهوى على العقل، وما استحكم هذان الأصلان الفاسدان في قلب إلا استحكم هلاكه، وفي أمة إلا وفسد أمرها أتم فساد، فلا إله إلا الله.
كم نُفي بهذه الآراء من حق، وأُثبت بها من باطل، وأُميت بها من هدى، وأُحيى بها من ضلالة، وكم هدم من معقل الإيمان، وعمر بها من دين الشيطان، وأكثر أصحاب الجحيم، هم أهل هذه الآراء الذين لا سمع لهم، ولا عقل، بل هم شر من الحمر، وهم الذين يقولون يوم القيامة: {لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ}"(2).
المبحث الثاني: أنموذج من التربية النبوية:
جاء في حديث جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من يصعد الثنية ثنية المرار فإنه يحط ما حط عن بني إسرائيل" (3).
ويتجلى في هذا الحديث جانب عظيم من جوانب التربية النبوية جدير بالتأمل والتدبر.
فرسول الله صلى الله عليه وسلم يستحث أصحابه على صعود الثنية ثم يخبرهم أن الذي يجتازها سينال مغفرة الله تعالى.
وحين نتأمل هذا الحديث تبرز لنا معان عظيمة أهمها أمران:
الأول: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد أن يربط قلوب أصحابه باليوم الآخر في كل لحظة من لحظات حياتهم.
الثاني: أنه يريد لفت أنظارهم إلى أن كل حركة يتحركونها وكل عمل يقومون به - حتى ما يرون أنه من العادات أو من دواعي الغريزة - يجب استغلاله للتزود لذلك اليوم.
وكان صلى الله عليه وسلم يسعى دائماً لترسيخ تلك المعاني في قلوب أصحابه:
__________
(1) أعلام الموقعين 1/71-72.
(2) سورة الملك آية: 10.
(3) انظر حديث رقم (52).(4/29)
فنراه يقول في موطن آخر: "وفي بضع أحدكم صدقة" قالوا: يا رسول الله! أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر؟ قال: "أرأيتم لو وضعها في حرام أكان عليه فيها وزر؟ فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجر" (1).
ويقول في موطن ثالث: "وإنك مهما أنفقت من نفقة فإنها صدقة، حتى اللقمة التي ترفعها إلى في امرأتك"(2).
ولكن ما الذي يحدث حين تترسخ تلك المعاني في شعورهم؟
إن تلك المعاني - إذا تمكنت من قلب المسلم - لكفيلة بأن تصبغ حياته كلها بصبغة العبودية لله وحده، وإذا شملت العبادة كل نواحي حياة المسلم فإن لهذا الشمول آثاراً مباركة سوف يشعر بها الفرد في نفسه ثم يلمسها فيمن حوله "ومن أبرز تلك الآثار أمران:
الأول: أنه يصبغ حياة المسلم وأعماله فيها بالصبغة الربانية، ويجعله مشدوداً إلى الله في كل ما يؤديه، فهو يقوم بنية العابد الخاشع، وروح القانت المخبت، وهذا يدفعه إلى الاستكثار من كل عمل نافع، وكل إنتاج صالح، وكل ما ييسر له ولأبناء نوعه الانتفاع بالحياة، على أمثل وجوهها، فإن ذلك يزيد رصيده من الحسنات والقربات عند الله تعالى كما يدعوه هذا المعنى إلى إحسان عمله الدنيوي وتجويده وإتقانه، ما دام يقدمه إلى ربه سبحانه ابتغاء رضوانه وحسن مثوبته.
الثاني: أنه يمنح المسلم وحدة الوجهة، ووحدة الغاية في حياته كلها، فهو يرضى رباً واحداً في كل ما يأتي ويدع، ويتجه إلى هذا الرب بسعيه كله الديني والدنيوي، لا انقسما ولا صراع، ولا ازدواج في شخصيته ولا في حياته" (3).
__________
(1) صحيح مسلم، كتاب الزكاة: 53.
(2) صحيح البخاري مع الفتح، كتاب الوصايا: 2742.
(3) انظر: كتاب العبادة في الإسلام: 66.(4/30)
وقد يقول قائل - انطلاقاً من واقعنا المؤلم الذي تلاشت فيه هذه المعاني أو كادت - إن هذه المعاني خيالات وأوهام لا تعدو ذهن قائلها ولا رصيد لها من الواقع، ونحن نطالبه أن يرجع إلى الوراء قليلاً فينظر واقع الصحابة رضوان الله عليهم كيف استحالت تلك المعاني إلى حقائق ملموسة في حياتهم كلها، وما حفظ الله سيرتهم إلا لتكون حجة على كل من جاء بعدهم.
المبحث الثالث: مثل رائع لوفاء المسلم وثباته على عقيدته:
كان من جملة الشروط التي أخذتها قريش على المسلمين في صلح الحديبية: أن على المسلمين أن يردوا من جاءهم من قبل قريش، ولا ترد قريش من جاءها من قبل المسلمين.
وقد كره المسلمون هذا الشرط إلا أن سهيل بن عمرو قد أصر عليه، وما أن وقع الاتفاق بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وسهيل بن عمرو على عقد الصلح حتى طلع عليهما أبو جندل بن سهيل بن عمرو يرسف في الحديد، وكان قد خرج فاراً بدينه إلى المسلمين.
فلما رآه والده قام إليه فضرب وجهه وأخذ يجره بثيابه ليرده إلى مكة، وأبو جندل يستنجد برسول الله صلى الله عليه وسلم وبالمسلمين ليحولوا بينه وبين أبيه، لكن ماذا يملك رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون؟ إنهم قد أعطوا قريشاً عهداً على رد من جاء من قبلها، فالأمر أصبح بيد قريش، وسهيل بن عمرو هو الناطق باسمها.
وحين رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم إصرار سهيل بن عمرو على رد أبي جندل تركه وشأنه، ثم أوصى أبا جندل بكلمات قال فيها: "يا أبا جندل اصبر واحتسب فإن الله عز وجل جاعل لك ولمن معك من المستضعفين فرجاً ومخرجاً".
ورجع سهيل بن عمرو بأبي جندل رضي الله عنه إلى مكة حيث الفتنة والتعذيب(1).
وليست قصة أبي جندل هذه بأعجب من قصة أبي بصير رضي الله عنه، فأبو بصير ترك مكة فراراً بدينه من الفتنة، وقدم المدينة، لكنه لم يكد يستعيد أنفاسه حتى قدم في طلبه رجلان من قبل قريش.
فما الذي سيحدث يا ترى؟
__________
(1) انظر قصة أبي جندل ص 314، 315.(4/31)
هل خوف أبي بصير على دينه من الفتنة سيشفع له في عدم إسلامه لرسولي قريش؟
إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يدرك حال أبي بصير تماماً ويشفق عليه أيما إشفاق، كيف لا! والله عز وجل يقول في حقه: {لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ}(1).
لكن كان يحول بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين حماية أبي بصير من قريش العهد الذي أخذته قريش على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فلذلك أسلم رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بصير إلى رسولي قريش بعد أن زوده بنحو الوصية التي زود بها أبا جندل.
وخرج الرجلان بأبي بصير يريدان مكة، حيث الفتنة والتعذيب(2).
ففي هاتين القصتين دروس عظيمة أهمها درسان:
الأول: وفاء المسلم بعهده، فقد رأينا كيف أسلم المؤمنون إخوانهم إلى الكفار وهم يعلمون أن مصيرهم ثَمّ هو التعذيب، وما فعلوا ذلك إلا وفاء بالعهد، فالوفاء صفة أصيلة في المؤمن، وقد امتدح الله المؤمنين بذلك في قوله: {إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللّهِ وَلاَ يِنقُضُونَ الْمِيثَاقَ}(3)، كما ذم الكفار بنقيض ذلك فقال: {وَالَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللّهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ أُوْلَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ}(4).
__________
(1) سورة التوبة آية: 128.
(2) انظر قصة أبي بصير ص 328.
(3) سورة الرعد آية: 19-20.
(4) سورة الرعد آية: 25.(4/32)
الثاني: ثبات المؤمن على عقيدته مهما كلفه من ثمن، فأبو بصير وأبو جندل يعلم كل منهما ما ينتظره في مكة من الفتنة والتعذيب، لكن لم يعبأ واحد منهما لذلك إنما كان خوفهما على دينهما لأن العقيدة هي أغلى ما يملكه المؤمن، ولقد شهدت مكة نماذج كثيرة من ذلك الثبات، فقد شهدت قبل ذلك خبيب بن عدي رضي الله عنه تتناوشه رماح قريش وهو يقول:
ما إن أبالي حين أقتل مسلماً ... على أي جنب كان في الله مصرعي
وذلك في ذات الإله وإن يشأ ... يبارك على أوصال شلو ممزع(1)
المبحث الرابع: صروح الكفر والطغيان تتهاوى أمام عزمات الإيمان:
أسلم رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بصير رضي الله عنه إلى رسولي قريش - وفاء بشرطها الذي أصرت عليه - فخرجا به إلى مكة حيث الفتنة والتعذيب.
لكن أبا بصير استطاع التخلص من الرجلين فقتل أحدهما وفر الآخر إلى المدينة، ورجع أبو بصير مرة أخرى إلى المدينة، يبشر المسلمين بخلاصه من قبضة المشركين.
ولم ينكر رسول الله صلى الله عليه وسلم صنيع أبي بصير، ولكن أشعره بعدم البقاء في المدينة حيث قال له صلى الله عليه وسلم: "ويل أمه مسعر حرب لو كان له أحد".
__________
(1) قال ذلك حين أرادت قريش قتله، وكان من قصته أنه جاء رهط من عضل والقاره إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فادّعوا الإسلام وطلبوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يرسل معهم من يعلمهم، فأرسله في تسعة من القراء، سنة ثلاث، وأميرهم عاصم بن ثابت، فغدر بهم أولئك الرهط فقتلوا بعضهم وأسروا البعض، وكان ممن أسروا خبيب بن عدي فأسلموه إلى قريش. انظر صحيح البخاري مع الفتح، كتاب المغازي: 4086، وسيرة ابن هشام 3/169.(4/33)
وفد فطن أبو بصير بكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم فخرج حتى أتى ساحل البحر - حيث تمر عير قريش إلى الشام - فأقام هناك يهدد تجارة قريش، وتسامع المسلمون في مكة بخبر أبي بصير فخرجوا إليه حتى اجتمع معه نحو السبعين، فيهم أبو جندل بن سهيل بن عمرو، وقد استطاعوا أن يقطعوا على قريش طريق تجارتها إلى الشام.
ولما رأت قريش أنها قد حرمت مصدراً يدر عليها الأموال الطائلة، هرع سيدها أبو سفيان بن حرب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يخبره أن قريشاً قد تخلت عن شرطها وأن له أن يؤوي من جاء من قبل قريش، ويستعطفه ويضرع إليه في استقدام أبي بصير وأصحابه، فلبى رسول الله صلى الله عليه وسلم طلب قريش وكتب إلى أبي بصير وأصحابه في القدوم إلى المدينة، وبذلك فتح باب الهجرة إلى المدينة على مصراعيه أمام المستضعفين في مكة.
وفي هذه القصة دروس وعبر جليلة، جديرة بالتأمل والتدبر، وأهمها ما يلي:
أولا: تضحية المؤمن بكل شيء في سبيل عقيدته:
فأبو بصير ترك أهله وعشيرته ووطنه - حين أرادوا النيل من عقيدته - وهاجر يلتمس جواً ملائماً لعقيدته ودعوته.
ثانياً: غيرة المؤمن على عقيدته وانتصاره لها:
فأبو بصير حين تخلص من قبضة المشركين لم يبحث لنفسه عن مأمن يلجأ إليه - ولو بحث لوجد - لكنه أراد الانتقام لعقيدته من قريش التي ناصبتها العداء.
ثالثاً: في خروج سيد قريش - أبي سفيان - من مكة وتجشمه مشاق الطريق حتى يصل إلى المدينة ليستعطف رسول الله صلى الله عليه وسلم في إقالة قريش من شرطها الذي أصرت عليه، وظنت أنه سيحول بين الناس وبين الدخول في الإسلام - عبرة لكل طاغية يقف في طريق الإسلام ليصد الناس عنه.
المبحث الخامس: رعاية الله للجماعة المؤمنة:(4/34)
يشعر القارئ لهذه الغزوة أن عناية الله ورعايته كانت تحوط المؤمنين وتلازمهم ملازمة ظاهرة، فحينما قدم المسلمون لهذه الغزوة - وكانوا عازمين على دخول مكة لأداء عمرتهم - حبس الله ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحديبية فكان ذلك الصلح العظيم.
ولما وجد الصحابة رضوان الله عليهم في نفوسهم من الصلح - بسبب شروط قريش - أنزل الله سورة الفتح فسرى بها عن أنفسهم وبشرهم بأن الصلح فتح مبين.
وعندما قدم بعض المهاجرات فراراً بدينهن من فتنة قريش أرسلت قريش في ردهن فأنزل الله آية الامتحان، تنهى المؤمنين عن ردهن إلى الكفار.
وقد أبرزت سورة الفتح جوانب كثيرة من مظاهر رعاية الله للمؤمنين في تلك الغزوة.
فهل يا ترى هذه الرعاية - التي أولاها الله رسوله صلى الله عليه وسلم والصحابة رضوان الله عليهم - كانت خاصة بهم، أم أن هناك أسباباً بذلوها فأهلتهم لتلك الرعاية من الله سبحانه؟
إن الله سبحانه وتعالى قد بين في كتابه المؤهلات لرعايته وعنايته فقال تعالى: {إِنَّ اللّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ}(1).
وقال: {إِنَّ رَحْمَتَ اللّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ}(2).
وقال: {وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا* وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ}(3).
وقال: {وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ}(4).
وقال: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ}(5).
فهذه الصفات قد توافرت في الصحابة رضوان الله عليهم فنالوا تلك الرعاية والعناية من الله، ومتى توافرت في شخص أو أمة في كل زمان ومكان فإن رعاية الله سوف تتنزل عليهم، لأن الله قد وعد بذلك ووعده الحق.
الخاتمة
__________
(1) سورة النحل آية: 128.
(2) سورة الأعراف آية: 56.
(3) سورة الطلاق آية: 2.
(4) سورة الطلاق آية: 3.
(5) سورة العنكبوت آية: 69.(4/35)
بعد أن أتممت هذا البحث - بعون الله وتوفيقه - أحب أن أشير في الختام إلى أبرز النتائج التي توصلت إليها فيه.
فأقول وبالله التوفيق:
قسمت البحث إلى أربعة أبواب وقد حصرت المرويات في الثلاثة الأبواب الأولى منه، وجعلت الباب الأخير لفقه المرويات.
أ - وكانت أبرز نتائج الباب الأول هي:
(1) بيان أن العنوان المناسب لهذه الحادثة هو: "غزوة الحديبية" مع ذكر المرجحات لذلك.
(2) بيان الصواب في تسمية الخزاعي الذي بعثه النبي صلى الله عليه وسلم عيناً إلى مكة.
(3) إضافة قصة "غيقة" إلى هذه الغزوة، ولم يذكرها قبل أحد ممن كتب في المغازي - حسب علمي - ولم تذكر في جملة السرايا كذلك.
(4) ترجيح أن صلاة الخوف المذكورة في حديث أبي عياش الزرقي كانت في غزوة الحديبية وبيان أنها أول صلاة وقعت في الخوف.
(5) هناك أحاديث ذكرت فيها صفة صلاة الخوف، أوردها بعض العلماء على ما في حديث أبي عياش والظاهر مغايرتها له.
ب - وأبرز نتائج الباب الثاني:
(1) بيان أن بديل بن ورقاء لم يكن رسولاً لأي من الفريقين.
(2) ترجيح أن عروة بن مسعود الثقفي إنما أسلم في السنة التاسعة.
(3) بيان الراجح في تسمية أول من بايع بيعة الرضوان.
(4) توضيح أسباب الصلح وبيان أنها مشتركة بين الطرفين.
(5) بيان أن المسلمين لم يردوا إخوانهم إلى قريش إلا وفاء بالعهد، وأن عدم ردهم للمهاجرات لم يكن إخلالاً بالعهد.
(6) بيان أن الذي أخذ عير أبي العاص هو زيد بن حارثة وليس أبا بصير.
جـ - وأبرز نتائج الباب الثالث:
(1) بيان أن نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن لحوم الحمر الأهلية كان في غزوة خيبر، لا في غزوة الحديبية.
(2) ترجيح أن الصحابة رضوان الله عليهم نحروا البدنة - في الحديبية - عن سبعة فقط.
(3) ترجيح أن الصحابة نحروا بعض الهدي في الحل، وبعضه في الحرم.
(4) ترجيح أن نوم المسلمين عن صلاة الصبح حصل في أكثر من غزوة، منها غزوة الحديبية.(4/36)
(5) بيان أن معجزة النبي صلى الله عليه وسلم في تكثير الماء - في غزوة الحديبية - وقعت مرتين:
الأولى: حال نزولهم الحديبية.
الثانية: في طريق عودتهم.
(6) ذكر أهم نتائج الغزوة وتشتمل: آثار صلح الحديبية، وما حصل للمسلمين بسبب هذه الغزوة من مغانم أخروية مثل رضا الله عنهم، وتبشير الرسول صلى الله عليه وسلم لهم بالجنة والنجاة من النار، ومغانم دنيوية مثل: إحرازهم غنائم خيبر، وما شرع لهم في هذه الغزوة من رخص وأحكام.
د - وأما الباب الرابع فكان في فقه المرويات:
وتضمن أحكاماً في الجهاد والعقيدة وردت في الغزوة، وبعض الدروس، والعبر المستقاة منها.
و{سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ وَسَلاَمٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}...(4/37)
ثبت المصادر والمراجع
القرآن الكريم.
ابن الأثير: أبو الحسين علي بن محمد بن عبد الكريم الجزري (630هـ).
(1) أسد الغابة في معرفة الصحابة، دار الشعب، القاهرة، 1390هـ.
(2) اللباب في تهذيب الأنساب، دار صادر، بيروت بدون تاريخ.
ابن الأثير: أبو السعادات المبارك بن محمد الجزري (606هـ).
(3) النهاية في غريب الحديث والأثر، تحقيق محمود الطناحي، المكتبة الإسلامية، بدون تاريخ.
الإمام أحمد بن محمد بن حنبل الشيباني (241هـ).
(4) مسند أحمد، المكتب الإسلامي، ط الثانية 1398هـ.
البخاري: محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة (256هـ).
(5) التاريخ الكبير، بدون تاريخ.
(6) صحيح البخاري المطبوع مع فتح الباري، السلفية، بدون تاريخ.
البزار: أبو بكر أحمد بن عمرو بن عبد الخالق (292هـ).
(7) مسند البزار (مخطوط) بمكتبة الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة.
ابن بشكوال: أبو القاسم خلف بن عبد الملك (578هـ).
(8) الصلة لابن بشكوال، الدار المصرية للتأليف والترجمة 1966م.
البغوي: أبو محمد الحسين بن مسعود الفراء (516هـ).
(9) شرح السنة، المكتب الإسلامي، ط الأولى، 1390هـ.
البكري: أبو عبيد عبيد الله بن عبد العزيز الأندلسي (487هـ).
(10) معجم ما استعجم، مطبعة لجنة التأليف، القاهرة 1364ه.
البلاذري: أحمد بن يحيى (279هـ).
(11) أنساب الأشراف، دار المعرفة بمصر، 1959م.
(12) فتوح البلدان، مكتبة النهضة العربية، بدون تاريخ.
البوصيري: أحمد بن أبي بكر بن إسماعيل (840هـ).
(13) إتحاف الخيرة المهرة بزوائد المسانيد العشرة، (مخطوط) بمكتبة الجامعة الإسلامية.
(14) مصباح الزجاجة في زوائد ابن ماجة (مخطوط) بمكتبة الجامعة الإسلامية.
البيهقي: أبو بكر أحمد بن الحسين بن علي (458هـ).
(15) دلائل النبوة (مخطوط) بمكتبة الجامعة الإسلامية.
(16) السنن الكبرى، مطبعة مجلس دائرة المعارف، الهند ط الأولى، 1344هـ.(5/1)
ابن التركماني: علاء الدين بن علي بن عثمان المارديني (745هـ).
(17) الجوهر النقي، مطبوع مع السنن الكبرى للبيهقي.
الترمذي: محمد بن عيسى بن سورة (279هـ).
(18) سنن الترمذي، مطبعة الحلبي وأولاده بمصر، ط الثانية 1395هـ.
ابن تيمية: أبو العباس تقي الدين أحمد بن عبد الحليم (728هـ).
(19) درء تعارض العقل والنقل، جامعة الإمام محمد بن سعود، ط الأولى، 1399هـ.
(20) السياسة الشرعية في إصلاح الراعي والرعية، دار الكتاب العربي، بدون تاريخ.
ابن تيمية: أبو البركات مجد الدين عبد السلام بن عبد الله (652هـ).
(21) منتقى الأخبار من أحاديث سيد الأخيار، الطبعة السلفية، بدون تاريخ.
ابن الجوزي: أبو الفرج عبد الرحمن (597هـ).
(22) الوفا بأحوال المصطفى، دار الكتب الحديثة، ط الأولى، 1386هـ.
ابن أبي حاتم: أبو محمد عبد الرحمن بن أبي حاتم الرازي (327هـ).
الجرح والتعديل، مطبعة مجلس دائرة المعارف الهند، ط الأولى، 1371هـ.
الحازمي: أبو بكر محمد بن موسى (584هـ).
(24) الاعتبار في الناسخ والمنسوخ من الآثار، مكتبة عاطف، بدون تاريخ.
الحاكم: أبو عبد الله محمد بن عبد الله محمد النيسابوري (405هـ).
(25) المستدرك على الصحيحين، دار الكتاب العربي، بيروت، بدون تاريخ.
ابن حبان: أبو حاتم محمد بن حبان بن أحمد التميمي البستي (354هـ).
(26) الثقات، مطبعة مجلس دائرة المعارف، الهند، ط الأولى 1401هـ.
(27) صحيح ابن حبان، المكتبة السلفية، المدينة المنورة، ط الأولى 1390هـ.
ابن حجر: أحمد بن علي بن حجر العسقلاني (852هـ).
(28) إتحاف المهرة بأطراف المسانيد العشرة، (مخطوط) بمكتبة الجامعة الإسلامية.
(29) الإصابة في تمييز الصحابة، الكليات الأزهرية، ط الأولى 1396هـ
(30) تقريب التهذيب، دار نشر الكتب الإسلامية، باكستان، ط الأولى، 1393هـ.
(31) التلخيص الحبير في تخريج أحاديث الرافعي الكبير، المكتبة الأثرية، باكستان 1384هـ.(5/2)
(32) تعريف أهل التقديس بمراتب الموصوفين بالتدليس (طبقات المدلسين)، مكتبة الكليات الأزهرية، القاهرة، بدون تاريخ.
(33) تهذيب التهذيب، دار صادر بيروت.
(34) فتح الباري شرح صحيح البخاري، السلفية القاهرة، بدون تاريخ.
(35) الكافي الشافي في تخريج أحاديث الكشاف، مطبوع مع الكشاف، مطبعة الاستقامة، 1377هـ.
(36) لسان الميزان، مؤسسة الأعلمي، بيروت، ط الثالثة، 1390هـ.
(37) المطالب العالية بزوائد المسانيد الثمانية -المسندة- (مخطوط) بمكتبة الجامعة الإسلامية.
(38) المطالب العالية بزوائد المسانيد الثمانية -المختصرة- تحقيق حبيب الرحمن الأعظمي.
(39) زوائد مسند البزار (مخطوط) بمكتبة الجامعة الإسلامية.
(40) نخبة الفكر المطبوعة مع شرحها نزهة النظر، دار مصر للطباعة، ط الثانية، بدون تاريخ.
(41) هدي الساري (مقدمة فتح الباري)، السلفية.
الحربي: أبو إسحاق إبراهيم بن إسحاق بن إبراهيم (285هـ).
(42) المناسك وأماكن طرق الحج ومعالم الجزيرة، تحقيق حمد الجاسر، منشورات دار اليمامة، الرياض 1389هـ.
ابن حزم: أبو محمد علي بن أحمد بن سعيد بن حزم (456هـ).
(43) جمهرة أنساب العرب، الناشر: دار المعارف، ط الرابعة، بدون تاريخ.
(44) جوامع السيرة، دار إحياء السنة، باكستان، بدون تاريخ.
الحلبي: علي بن برهان الدين (1044هـ).
(45) إنسان العيون في سيرة الأمين المأمون (السيرة الحلبية)، مطبعة الحلبي وأولاده، ط الأولى 1384هـ.
الحميدي: أبو بكر عبد الله بن الزبير (219هـ).
(46) مسند الحميدي، الناشر دار الباز، مكة المكرمة.
الحميدي: أبو عبد الله محمد بن أبي نصر الأزدي (488هـ).
(47) جذوة المقتبس في ذكر ولاة الأندلس، الدار المصرية للتأليف والترجمة، 1966م.
الخرائطي: محمد بن جعفر بن محمد بن سهل السامري (327هـ).
(48) هواتف الجنان وعجيب ما يحكى عن الكهان، مما يبشر بالنبي محمد ويدل بواضح البرهان (مخطوط) بالجامعة الإسلامية.(5/3)
ابن خزيمة: أبو بكر محمد بن إسحاق السلمي (311هـ).
(49) صحيح ابن خزيمة، المكتب الإسلامي، بدون تاريخ.
الخشني: أبو عبد الله محمد بن حارث بن أسد القيرواني (361هـ).
(50) قضاة قرطبة، الدار المصرية للتأليف والترجمة، 1966م.
الخطابي: أبو سليمان حمد بن محمد بن إبراهيم بن خطاب البستي (ت388هـ).
(51) معالم السنن بهامش سنن أبي داود، دار الحديث ط الأولى، 1391هـ.
الخطيب: أبو بكر أحمد بن علي البغدادي (463هـ).
(52) تاريخ بغداد، الناشر: دار الكتاب العربي، بيروت، بدون تاريخ.
(53) الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع، الناشر: مكتبة الفلاح، ط الأولى 1401هـ.
(54) الفصل للوصل المدرج في النقل (المدرج) (مخطوط) بمكتبة الجامعة الإسلامية.
ابن خلدون: عبد الرحمن بن خلدون (808هـ).
(55) العبر وديوان المبتدأ والخبر (تاريخ ابن خلدون)، مطبعة النهضة، مصر، 1355هـ.
خليفة: بن خياط الصفري (240هـ).
(56) تأريخ خليفة، مؤسسة الرسالة، ط الثانية، 1397هـ.
الدارقطني: علي بن عمر (385هـ).
(57) سنن الدارقطني، الناشر عبد الله هاشم يماني المديني 1386هـ.
الدارمي: أبو محمد عبد الله بن عبد الرحمن (255هـ).
(58) سنن الدارمي، الناشر: دار إحياء السنة النبوية، بدون تاريخ.
أبو داود السجستاني سليمان بن الأشعث (275هـ).
(59) سنن أبي داود (المطبوع مع معالم السنن) تحقيق الدعاس، دار الحديث، حمص، ط الأولى، 1388هـ.
أبو داود الطيالسي سليمان بن داود بن الجارود (204هـ).
(60) مسند أبي داود، دار الكتاب اللبناني، دار التوفيق، بدون تاريخ.
الديار: بكري حسين بن محمد بن الحسن (966هـ).
(61) تاريخ الخميس في أحوال أنفس نفيس، مؤسسة شعبان، بيروت.
ابن الديبع: عبد الرحمن بن علي بن محمد الشيباني (944هـ).
(62) حدائق الأنوار ومطالع الأسرار، تحقيق عبد الله إبراهيم الأنصاري.
الذهبي: شمس الدين محمد بن أحمد بن عثمان (748هـ).(5/4)
(63) تذكرة الحفاظ، دار إحياء التراث، بيروت، بدون تاريخ.
(64) تلخيص المستدرك للحاكم، حاشية المستدرك.
(65) سير أعلام النبلاء، مؤسسة الرسالة، ط الأولى 1401هـ.
(66) الكاشف في معرفة من له رواية في الكتب الستة، دار الكتب الحديثة، القاهرة، ط الأولى 1392هـ.
(67) ميزان الاعتدال، دار المعرفة بيروت، بدون تاريخ.
ابن راهويه: إسحاق بن إبراهيم الحنظلي (238هـ).
(68) مسند إسحاق بن راهويه (مخطوط) بمكتبة الجامعة الإسلامية.
ابن رجب: زين الدين عبد الرحمن بن أحمد (795هـ).
(69) شرح علل الترمذي، الأوقاف العراقية، بدون تاريخ.
ابن الرفعة: أبو العباس نجم الدين بن الرفعة الأنصاري (710هـ).
(70) الإيضاح والتبيان في معرفة المكيال والميزان، جامعة الملك عبد العزيز، 1400هـ.
الزبيدي: محمد مرتضى الحسيني (1205هـ).
(71) تاج العروس من جواهر القاموس، دار مكتبة الحياة، بيروت.
الزرقاني: محمد بن عبد الباقي المالكي (1122هـ).
(72) شرح المواهب اللدنية، دار المعرفة، بيروت، ط الثانية، 1393هـ.
الزيلعي: أبو محمد جمال الدين عبد الله بن يوسف الحنفي (762هـ).
(73) نصب الراية لأحاديث الهداية، المجلس العلمي، الهند 1357هـ.
السخاوي: شمس الدين مجد بن عبد الرحمن (902هـ)
(74) فتح المغيث بشرح ألفية الحديث
ابن سعد: محمد بن سعد بن منيع البصري (230هـ).
(75) الطبقات الكبرى، دار صادر بيروت، 1388هـ.
سعيد بن منصور بن شعبة الخراساني (227هـ).
(76) سنن سعيد بن منصور، تحقيق حبيب الرحمن الأعظمي، 1387هـ.
السفاريني: أبو عون محمد بن أحمد بن سالم الحنبلي (1188هـ).
(77) شرح ثلاثيات مسند أحمد، المكتب الإسلامي، ط الثانية 1391هـ.
سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب (1233هـ)
(78) تيسير العزيز الحميد في شرح كتاب التوحيد، مكتبة الرياض، يدون تاريخ.
السهمي أبو القاسم حمزة بن يوسف (427هـ).(5/5)
(79) تاريخ جرجان (معرفة علماء أهل جرجان) مطبعة مجلس دائرة المعارف، الهند ط الثانية 1387هـ.
السهيلي: أبو القاسم عبد الرحمن بن عبد الله بن أحمد بن أصبغ الخثعمي الضرير (581).
(80) الروض الأنف، دار الكتب الحديثة، 1390هـ.
ابن سيد الناس: محمد بن محمد أبو الفتح اليعمري (734هـ).
(81) عيون الأثر في فنون المغازي والشمائل والسير، دار المعرفة، بيروت، بدون تاريخ.
السيوطي: جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر (911هـ).
(82) تنوير الحوالك شرح على موطأ مالك، دار إحياء الكتب العربي.
(83) جمع الجوامع، مصور عن مخطوط دار الكتب المصرية بمكتبة الجامعة الإسلامية.
(84) الخصائص الكبرى، دار الكتب الحديثة، بدون تاريخ.
(85) الدر المنثور، دار المعرفة بيروت.
(86) طبقات الحفاظ، مكتبة وهبة، القاهرة، بدون تاريخ.
الشاطبي: أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد (790هـ).
(87) الاعتصام الناشر: دار المعرفة، بدون تاريخ.
الشافعي: الإمام محمد بن إدريس (204هـ).
(88) الأم، الناشر مكتبة الكليات الأزهرية، 1381هـ.
ابن شبة: عمر بن شبة بن عبيدة النمري (262هـ).
(89) تاريخ المدينة، تحقيق فهيم شلتوت، الناشر، سيد حبيب.
الشوكاني: محمد بن علي بن محمد (1250هـ).
(90) نيل الأوطار شرح منتقى الأخبار، مطبعة الحلبي وأولاده بمصر، ط الأخيرة.
ابن أبي شيبة: أبو بكر عبد الله بن محمد بن إبراهيم العبسي (235هـ).
(91) تاريخ ابن أبي شيبة، مخطوط بالجامعة الإسلامية.
(92) مصنف ابن أبي شيبة، المطبعة العزيزية، حيدر آباد، الهند 1386هـ.
ابن الصلاح: أبو عمرو عثمان بن عبد الرحمن الشهرزوري (643هـ).
(93) علوم الحديث (مقدمة ابن الصلاح)، المكتبة العلمية بالمدينة المنورة، ط الثانية 1972م.
الصنعاني: محمد بن إسماعيل الكحلاني الأمير (1182هـ).
(94) سبل السلام شرح بلوغ المرام، دار إحياء التراث العربي، ط الرابعة، 1379هـ.
الضبي: أحمد بن يحيى بن أحمد بن عميرة (599هـ).(5/6)
(95) بغية الملتمس في تاريخ رجال الأندلس، دار الكتاب العربي، 1967م.
الطبراني: أبو القاسم سليمان بن أحمد الطبراني (360هـ).
(96) المعجم الكبير، الأوقاف العراقية.
(97) المعجم الصغير، المكتبة السلفية بالمدينة المنورة، 1388هـ.
الطبري: أبو جعفر محمد بن جرير الطبري (310هـ).
(98) تاريخ الأمم والملوك (تاريخ ابن جرير الطبري)، دار القلم، بيروت. بدون تاريخ.
(99) جامع البيان عن تأويل القرآن (تفسير ابن جرير الطبري)، مطبعة الحلبي وأولاده، ط الثالثة، 1388هـ.
الطحاوي: أبو جعفر أحمد بن محمد بن سلامة (321هـ).
(100) شرح معاني الأثار، مطبعة الأنوار المحمدية، 1387هـ.
(101) مشكل الآثار، دار صادر بيروت، مصورة عن طبعة دائرة المعارف، 1333هـ.
ابن أبي عاصم: أبو بكر أحمد بن عمرو بن أبي عاصم الشيباني (287هـ).
(102) الآحاد والمثاني لابن أبي عاصم، (ميكروفيلم) بمكتبة الجامعة الإسلامية.
(103) السنة لابن أبي عاصم، المكتب الإسلامي، ط الأولى: 1400هـ.
ابن عبد البر: أبو عمر يوسف بن عبد الله بن عبد البر النمري (463هـ).
(104) الاستيعاب في معرفة الأصحاب، مطبوع مع الإصابة، الناشر مكتبة الكليات الأزهرية، ط الأولى، 1396هـ.
(105) الدرر لابن عبد البر في اختصار المغازي والسير، المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية، القاهرة، 1386هـ.
(106) التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد، الناشر: وزارة الأوقاف المغربية 1387هـ.
عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ (1258هـ).
(107) فتح المجيد شرح كتاب التوحيد، مطابع القصيم، ط الثامنة، 1386هـ.
عبد الرزاق بن همام الصنعاني الحميري (211هـ) .
(108) مصنف عبد الرزاق، المجلس العلمي كراتشي، 1390هـ.
عبد بن حميد نصر الكسي، (ت249هـ).
(109) المسند (مخطوط) مكتبة الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة.
ابن عدي: أحمد بن عبد الله (365هـ).
(110) مقدمة الكامل، مطبعة سليمان الأعظمي، بغداد بدون تاريخ.(5/7)
(111) الكامل، (مخطوط) بمكتبة الجامعة الإسلامية.
ابن عراق: أبو الحسن علي بن محمد بن عراق الكناني (963هـ).
(112) تنزيه الشريعة المرفوعة عن الأخبار الشنيعة والموضوعة، دار الكتب العلمية، ط الأولى، 1399هـ.
ابن عساكر: علي بن الحسن بن هبة الله الدمشقي (571هـ) .
(113) تاريخ دمشق، (مخطوط) بمكتبة الجامعة الإسلامية.
ابن عطية: أبو محمد عبد الحق بن غالب الأندلسي (546هـ).
(114) المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز (تفسير ابن عطية)، الأوقاف المغربية.
العلائي: صلاح الدين أبو سعيد خليل بن كيكلدي (761هـ).
(115) جامع التحصيل في أحكام المراسيل، وزارة الأوقاف العراقية، ط الأولى، 1398هـ.
أبو عوانة: يعقوب بن إسحاق الإسفراييني (316هـ).
(116) مسند أبي عوانة، مطبعة مجلس دائرة المعارف، الهند، ط الأولى، 1385هـ.
عياض بن موسى بن عياض السبتي (544هـ).
(117) ترتيب المدارك، الناشر: وزارة الأوقاف المغربية، بدون تاريخ.
العيني: بدر الدين أبو محمد محمود بن أحمد (855هـ).
(118) عمدة القاري شرح صحيح البخاري، إدارة الطباعة المنيرية، بدون تاريخ.
(119) مباني الأخبار في شرح معاني الآثار، (مخطوط) مصور عن النسخة المصرية بمكتبة الشيخ حماد الأنصاري.
الفسوي: أبو يوسف يعقوب بن سفيان (277هـ).
(120) المعرفة والتاريخ، مطبعة الإرشاد، بغداد، 1394هـ.
ابن قدامة: أبو محمد عبد الله بن أحمد بن محمد (620هـ).
(121) المغني، مكتبة الرياض الحديثة، بدون تاريخ.
القرطبي: أبو عبد الله محمد بن أحمد الأنصاري (671هـ).
(122) الجامع لأحكام القرآن (تفسير القرطبي)، دار إحياء التراث العربي، بيروت، 1965م.
القسطلاني: شهاب الدين أبو العباس أحمد بن محمد (923هـ).
(123) المواهب اللدنية بالمنح المحمدية مع شرح الزرقاني، دار المعرفة، بيروت، ط الثاني. 1393هـ.
ابن القيم: شمس الدين أبو عبد الله محمد بن أبي بكر الزرعي (751هـ).(5/8)
(124) أعلام الموقعين عن رب العالمين، تحقيق عبد الرحمن الوكيل، دار الكتب الحديثة.
(125) تهذيب سنن أبي داود بهامش مختصر المنذري، المكتبة الأثرية، باكستان، ط الثانية، 1399هـ.
(126) زاد المعاد في هدي خير العباد، بتحقيق الأرناؤوط، مؤسسة الرسالة، ط الثناية، 1401هـ.
(127) مختصر الصواعق، مكتبة الرياض الحديثة، بدون تاريخ.
ابن كثير: أبو الفداء عماد الدين إسماعيل بن كثير القرشي (774هـ).
(128) البداية والنهاية، مطبعة الحلبي وأولاده، ط الأولى 1389هـ.
(129) تفسير القرآن العظيم (تفسير ابن كثير)، مطبعة الاستقامة بالقاهرة، ط الثالثة، 1373هـ.
ابن ماجه: أبو عبد الله محمد بن يزيد القزويني (275هـ).
(130) سنن ابن ماجه، دار إحياء التراث العربي، بيروت، 1395هـ.
ابن ماكولا: علي بن هبة الله بن علي العجلي (475هـ).
(131) الإكمال في رفع الارتياب عن المؤتلف والمختلف في الأسماء والكنى والأنساب، الناشر: محمد أمين رمح، بيروت، بدون تاريخ.
مالك بن أنس الأصبحي، إمام دار الهجرة (179هـ).
(132) الموطأ، تصحيح محمد فؤاد عبد الباقي، دار كتاب الشعب.
الشيخ محمد بن عبد الوهاب (1206هـ).
(133) مختصر سيرة الرسول - صلى الله عليه وسلم - دار العربية، بيروت، بدون تاريخ.
(134) ملحق مصنفات محمد بن عبد الوهاب، جامعة الإمام محمد بن سعود.
المرداوي: علاء الدين أبو الحسين علي بن سليمان (885هـ).
(135) الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف على مذهب الإمام أحمد بن حنبل، طبع على نفقة الملك سعود.
المزي: جمال الدين أبو الحجاج يوسف بن الزكي عبد الرحمن المزي (742هـ).
(136) تحفة الأشراف بمعرفة الأطراف، الناشر: الدار القيمة، 1384هـ.
(137) تهذيب الكمال للمزي، (مخطوط) بمكتبة الجامعة الإسلامية، مصور عن النسخة المصرية.
مسلم بن الحجاج القشيري (261هـ).
(138) صحيح مسلم، دار إحياء التراث العربي، ط الثانية 1972م.(5/9)
ابن معين: يحيى بن معين بن عون المري الغطفاني مولاهم (233هـ).
(139) تاريخ يحيى بن معين. الناشر: جامعة الملك عبد العزيز ط الأولى، 1399هـ.
ابن مفلح: شمس الدين أبو عبد الله المقدسي (763هـ).
(140) الفروع، دار مصر للطباعة، ط الثانية، 1380.
المقري: أحمد بن محمد المقري التلمساني (1041هـ).
(141) نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب، دار صادر 1388هـ.
المقريزي: أحمد بن علي بن عبد القادر (845هـ).
(142) إمتاع الأسماع بما للرسول من الأبناء والأموال والمتاع، لجنة التأليف والنشر، القاهرة، 1941.
المنذري: عبد العظيم بن عبد القوي بن عبد الله المنذري (656هـ).
(143) الترغيب والترهيب، مطبعة الحلبي وأولاده، ط الثانية 1373هـ.
(144) مختصر سنن أبي داود، المكتبة الأثرية، باكستان، ط الثانية، 1399هـ.
ابن منظور: جمال الدين محمد بن مكرم الأنصاري (711هـ).
(145) لسان العرب، طبعة مصورة عن طبعة بولاق، الدار المصرية للتأليف والترجمة.
النباهي: أبو الحسن بن عبد الله بن الحسن المالقي الأندلسي (793هـ).
(146) المرقبة العليا فيمن يستحق القضاء والفتيا، (تاريخ قضاة الأندلس)، المكتب التجاري للطباعة والنشر، بيروت.
النسائي: أبو عبد الرحمن أحمد بن شعيب (303هـ).
(147) سنن النسائي (المجتبى)، دار إحياء التراث، بيروت، بدون تاريخ.
(148) السنن الكبرى للنسائي، (مخطوط)، بمكتبة الجامعة الإسلامية.
النووي: أبو زكريا محي الدين بن شرف النووي (676هـ).
(149) التقريب في علم الحديث، مطبوع مع شرحه تدريب الراوي، الناشر: المكتبة العلمية بالمدينة المنورة، ط الثانية: 1392هـ.
(150) تهذيب الأسماء واللغات، الناشر دار الباز بمكة، بدون تاريخ.
(151) شرح صحيح مسلم، دار الفكر، بيروت، ط الثانية/ 1398هـ.
(152) المجموع شرح المهذب، مكتبة الإرشاد، جدة، بدون تاريخ.
أبو نعيم: أحمد بن عبد الله الأصبهاني (430هـ).
(153) دلائل النبوة، عالم الكتب، بيروت.(5/10)
(154) ذكر أخبار أصبهان، مطبعة أبريل، ليدن، 1934م.
(155) معرفة الصحاية، (مخطوط) بمكتبة الجامعة الإسلامية؟
ابن هشام: أبو محمد عبد الملك بن هشام الحميري (218هـ).
(156) سيرة ابن هشام، مطبعة الحلبي وأولاده بمصر، ط الثانية، 1375هـ.
أبو هلال العسكري: الحسن بن عبد الله بن سهل: (395هـ).
(157) الأوائل: تحقيق محمد السيد الوكيل.
ابن الهمام: كمال الدين محمد بن عبد الواحد الإسكندري (681هـ).
(158) شرح الهداية، مطبعة الحلبي وأولاده، ط الأولى، 1389هـ.
الهيثمي: أبو بكر نور الدين علي بن أبي بكر بن سليمان (807هـ).
(159) بغية الباحث عن زوائد الحارث، (مخطوط) بمكتبة الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة.
(160) غاية المقصد (مخطوط)، بمكتبة الجامعة الإسلامية.
(161) كشف الأستار عن زوائد البزار، مؤسسة الرسالة، ط الأولى، 1399هـ.
(162) مجمع البحرين بزوائد المعجمين، (مخطوط) بمكتبة الجامعة الإسلامية.
(163) مجمع الزوائد ومنبع الفوائد، دار الكتاب العربي، بيروت، ط الثالثة، 1402هـ.
(164) موارد الظمآن إلى زوائد ابن حبان، دار الكتب العلمية، بيروت، بدون تاريخ.
الواقدي: محمد بن عمر بن واقد (207هـ).
(165) مغازي الواقدي، عالم الكتب، بيروت، بدون تاريخ.
ياقوت بن عبد الله الحموي الرومي (626هـ).
(166) معجم البلدان، دار صادر، بيروت، 1397هـ.
اليعقوبي: أحمد بن أبي يعقوب بن جعفر اليعقوبي (284هـ).
(167) تاريخ اليعقوبي، دار صادر بيروت، بدون تاريخ.
أبو يعلى الموصلي: أحمد بن علي بن المثنى (307هـ).
(168) مسند أبي يعلى، (مخطوط) بمكتبة الجامعة الإسلامية.
المراجع الحديثة
إبراهيم بن إبراهيم القريبي:
(169) مرويات غزوة بني المصطلق، الناشر الجامعة الإسلامية.
إبراهيم محمد عمير:
(170) مرويات غزوة الخندق، مطبوع على الآلة الكاتبة في الجامعة الإسلامية.
أحمد شلبي:(5/11)
(171) موسوعة التاريخ الإسلامي والحضارة الإسلامية، مكتبة النهضة المصرية، ط الثامنة، 1978م.
أحمد بن حجر آل بن علي:
(172) الرد الشافي الوافر على من نفى أمية سيد الأوائل والأواخر، دار الإرشاد بيروت، ط الأولى، 1388هـ.
أحمد بن عبد الحميد العباسي:
(173) عمدة الأخبار في مدينة المختار، الناشر: أسعد الحسيني، ط الثالثة، بدون تاريخ.
أحمد محمد العليمي:
(174) مرويات غزوة بدر، مكتبة طيبة، ط الأولى، 1400هـ.
الألباني: محمد ناصر الدين الألباني:
(175) إرواء الغليل في تخريج أحاديث منار السبيل، الناشر المكتب الإسلامي، ط الأولى، 1399هـ.
(176) تخريج أحاديث فقه السيرة، للغزالي بهامش فقه السيرة.
(177) التوسل أنواعه وأحكامه، الطبعة الثانية، 1397هـ.
(178) ظلال الجنة في تخريج السنة، مطبوع مع السنة لابن أبي عاصم، المكتب الإسلامي، بدون تاريخ.
باشميل محمد أحمد:
(179) صلح الحديبية، ط الأولى، 1390هـ.
بريغش محمد حسن:
(180) أبو بصير قمة في العزة الإسلامية، مكتبة الحرمين، الرياض، ط الثالثة، 1397هـ.
البلادي عاتق بن غيث:
(181) نسب حرب، مكتبة دار البيان، دمشق، ط الأولى 1397هـ.
ابن بليهد النجدي: محمد بن عبد الله:
(182) صحيح الأخبار عما في بلاد العرب من الآثار، مطبعة السنة المحمدية 1370هـ.
أبو تراب: رشد الله شاه السندهي:
(183) كشف الأستار عن رجال معاني الآثار.
حسين الباكري:
(184) مرويات غزوة أحد، مطبوع على الآلة الكاتبة بالجامعة الإسلامية.
دروزه محمد عزة:
(185) سيرة الرسول، على نفقة الشيخ خليفة آل ثاني أمير دولة قطر.
أبو زهرة محمد:
(186) خاتم النبيين، دار الفكر العربي، القاهرة، 1973م.
الزواوي الطاهر أحمد:
(187) ترتيب القاموس المحيط، الناشر عيسى البابي الحلبي وشركاه، ط الثانية، بدون تاريخ.
الساعاتي أحمد بن عبد الرحمن البنا:
(188) بلوغ الأماني في أسرار الفتح الرباني بهامش الفتح الرباني.(5/12)
(189) الفتح الرباني، لترتيب مسند الإمام أحمد بن حنبل الشيباني، دار إحياء التراث، بدون تاريخ.
(190) منحة المعبود بترتيب مسند الطيالسي أبو داود، المطبعة المنيرية، القاهرة، 1372هـ.
السبكي: محمود محمد خطاب (1352هـ).
(191) المنهل العذب المورود شرح سنن أبي داود، مطبعة الاستقامة، ط الأولى، 1353هـ.
السهارنفوري: خليل الدين أحمد (1346هـ)
(192) بذل المجهود في أبي داود، مطبعة دار البيان، ط الثانية، 1393هـ.
سيد قطب:
(193) في ظلال الجنة، دار الشروق، ط الرابعة، 1397هـ.
أبو شهبة: محمد محمد:
(194) السيرة النبوية، دار الطباعة المحمدية، القاهرة.
العباد عبد المحسن بن حمد:
(195) الرد على من كذب الأحاديث الصحيحة الواردة في المهدي، ط الأولى 1402هـ.
عبد الله بن صالح آل بسام:
(196) تيسير العلام شرح عمدة الأحكام، مكتبة النهضة الحديثة، مكة المكرمة، 1398هـ.
عبد القادر بن بدران (1346هـ)
(197) تهذيب تاريخ دمشق، دار المسيرة، ط الثانية، 1993م.
العثيم: عبد العزيز بن عبد الرحمن:
(198) مسند جابر (من مسند الإمام أحمد)، مطبوع على الآلة الكاتبة، بجامعة أم القرى.
عوض بن أحمد الشهري:
(199) مرويات غزوة خيبر، مطبوع على الآلة الكاتبة بالجامعة الإسلامية.
فاروق حمادة:
(200) مصادر السيرة النبوية وتقويمها، دار الثقافة، الدار البيضاء، ط الأولى، 1400هـ.
القرضاوي يوسف:
(201) العبادة في الإسلام، مؤسسة الرسالة، ط السادسة، 1399هـ.
الكاندهلوي محمد زكريا:
(202) أوجز المسالك إلى موطأ مالك، دار الفكر، بيروت، ط الثانية، 1394هـ.
كحالة عمر رضا:
(203) معجم المؤلفين، الناشر: مكتبة المثنى، بيروت.
محسن محمد الدوم:
(204) مرويات فتح مكة، مطبوع على الآلة الكاتبة بالجامعة الإسلامية.
محمد سعيد رمضان البوطي:
(205) فقه السيرة، دار الفكر، ط الخامسة، 1392هـ.
محمد شمس الحق العظيم آبادي:(5/13)
(206) التعليق المغني على الدارقطني، مطبوع مع سنن الدارقطني، الناشر عبد الله هاشم يماني المدني، 1386هـ.
(207) عون المعبود شرح سنن أبي داود، الناشر، دار الكتاب العربي، بيروت، بدون تاريخ.
محمد الغزالي:
(208) فقه السيرة، دار الكتب الحديثة، ط السابعة، 1976م.
المعلمي عبد الرحمن بن يحيى المعلمي (1386هـ):
(209) التنكيل بما في تأنيب الكوثري من الأباطيل، تحقيق محمد ناصر الدين الألباني، المطبعة العربية، باكستان 1401هـ.
مقبل بن هادي الوادعي:
(210) الصحيح المسند من أسباب النزول، الجامعة الإسلامية.
النجار محمد الطيب:
(211) القول المبين في سيرة سيد المرسلين، دار الاعتصام، القاهرة، 1398هـ.
وهبة الزحيلي:
(212) آثار الحرب في الفقه الإسلامي، الناشر: المكتبة الحديثة، بدون تاريخ.
أكرم ضياء العمري:
(213) نظرة في مصادر ودراسة السيرة النبوية، بحث مطبوع على الآلة الكاتبة.(5/14)
فهرس الموضوعات
الباب الأول ويشمل مقدمات الغزوة والخروج لها وما واجه المسلمين أثناء سيرهم للحديبية ويضم سبعة فصول
المقدمة
الفصل الأول: تحقيق لاسم الغزوة موقعها وتحته مبحثان:
المبحث الأول: المرجحات لتسمية هذه الحادثة بغزوة الحديبية
المبحث الثاني: تحقيق لاسم الحديبية وموقعها: وفيه مطلبان
المطلب الأول: التحقيق في اسمها من حيث ضبطه وسبب إطلاقه عليها
المطلب الثاني: موقع الحديبية وهل هي من الحل أو من الحرم
الفصل الثاني: سبب الغزوة وتاريخها، ويضم مبحثين:
المبحث الأول: سبب الغزوة
المبحث الثاني: تاريخ خروج المسلمين للغزوة
الفصل الثالث: إعداد النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه للخروج إلى الحديبية، وفيه مبحثان:
المبحث الأول: إعداد النبي صلى الله عليه وسلم للخروج
المبحث الثاني: عدد جيش المسلمين
الفصل الرابع نزول المسلمين بذي الحليفة وما عملوه بها، وفيه مبحثان:
المبحث الأول: صلاة المسلمين بذي الحليفة وإحرامهم بالعمرة
المبحث الثاني: إرسال النبي صلى الله عليه وسلم بسر بن سفيان عيناً إلى مكة
الفصل الخامس: إرسال النبي صلى الله عليه وسلم لبعض أصحابه إلى غيقة، وقصة أبي قتادة رضي الله عنه
الفصل السادس ما حدث للمسلمين بعسفان، ويضم أربعة مباحث:
المبحث الأول: عين رسول الله صلى الله عليه وسلم الخزاعي يوافيه بخبر قريش
المبحث الثاني: صلاة الخوف بعسفان
المبحث الثالث: بيان أن ابتداء مشروعية صلاة الخوف كانت في غزوة الحديبية
المبحث الرابع: تنبيه على أحاديث وردت في صلاة عسفان وبيان وجه مغايرتها
الفصل السابع: عدول المسلمين إلى الحديبية، ويضم ثلاثة مباحث:
المبحث الأول: المشاق التي عاناها المسلمون في طريقهم إلى الحديبية
المبحث الثاني: نزول المسلمين الحديبية ومعجزة النبي صلى الله عليه وسلم في تكثير ماء البئر
المبحث الثالث: من الذي نزل بالسهم في بئر الحديبية؟(6/1)
الباب الثاني موقف قريش من الغزوة وما دار بينهم وبين المسلمين
ويضم سبعة فصول:
الفصل الأول: موقف قريش من هذه الغزوة، وفيه مبحثان:
المبحث الأول: إعداد قريش وخروجها لصد المسلمين
المبحث الثاني: تحرشات قريش بالمسلمين وموقف المسلمين حيالها
الفصل الثاني: في الحوار الذي دار بين الفريقين ويضم ثلاثة مباحث:
المبحث الأول: ركب من خزاعة يسعى لإيجاد تقارب بين الطرفين
المبحث الثاني: رسل النبي صلى الله عليه وسلم إلى قريش
المبحث الثالث: رسل قريش إلى النبي صلى الله عليه وسلم
الفصل الثالث: بيعة الرضوان، وفيه خمسة مباحث:
المبحث الأول: سبب هذه البيعة
المبحث الثاني: مكان البيعة
المبحث الثالث: على أي شيء كانت البيعة
المبحث الرابع: من هو أول من بايع بيعة الرضوان؟
المبحث الخامس: ما ورد في فضل أصحاب البيعة
الفصل الرابع: في صلح الحديبية، وتحته ستة مباحث:
المبحث الأول: أسباب الصلح ومقدماته
المبحث الثاني: الشروط التي تم عليها الصلح
المبحث الثالث: كاتب الصلح وشهوده
المبحث الرابع: تألم عمر وبعض الصحابة من شروط قريش
المبحث الخامس: موقف المسلمين من الصلح: وفيه مطلبان:
المطلب الأول: وفاء المسلمين بالعهد
المطلب الثاني: بيان أن امتناع النبي صلى الله عليه وسلم عن رد المهاجرات ليس إخلالاً بالصلح.
المبحث السادس: موقف قريش من الصلح، وفيه مطلبان:
المطلب الأول: تخلي قريش عن أهم شروطها
المطلب الثاني: نقض قريش للعهد
الباب الثالث ويشمل أحداثاً وقعت بالحديبية لم يحدد وقت وقوعها وتحلل المسلمين وانصرافهم وما حصل أثناء ذلك
وفيه أربعة فصول
الفصل الأول: أحداث وقعت بالحديبية لم يتعين وقت وقوعها، وفيه أربعة مباحث:
المبحث الأول: قصة كعب بن عجرة ونزول آية الفدية
المبحث الثاني: بيان كفر من قال مطرنا بنوء كذا
المبحث الثالث: مشروعية الصلاة في الرحال
المبحث الرابع: نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن لحوم الحمر الأهلية(6/2)
الفصل الثاني: تحلل النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه من الإحرام، وفيه أربعة مباحث:
المبحث الأول: أمر النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه بالنحر والحلق وذكر ما دار بينهم
المبحث الثاني: عدد الهدي الذي نحره المسلمون في عمرة الحديبية
المبحث الثالث: قصة جمل أبي جهل
المبحث الرابع: هل نحر المسلمون الهدي في الحل أو في الحرم
الفصل الثالث: أحداث وقعت للمسلمين في طريقهم للمدينة، وفيه أربعة مباحث:
المبحث الأول: انصراف المسلمين من الحديبية ونومهم عن صلاة الصبح.
المبحث الثاني: نزول سورة الفتح
المبحث الثالث: معجزة النبي صلى الله عليه وسلم في نبع الماء من أصابعه وفي تكثير الطعام
المبحث الرابع: نزول المسلمين بالأثاية
الفصل الرابع: فضل غزوة الحديبية ونتائجها، وفيه مبحثان:
المبحث الأول: فضل غزوة الحديبية.
المبحث الثاني: نتائج غزوة الحديبية.
الباب الرابع أحكام وفوائد من فقه مرويات الغزوة ويضم توطئة وثلاثة فصول
التوطئة
الفصل الأول: من أحكام الجهاد الواردة في الغزوة، وفيه ستة مباحث:
المبحث الأول: مشروعية الشورى
المبحث الثاني: حكم الاستعانة بالمشرك
المبحث الثالث: مقدار المدة التي تجوز مهادنة الكفار عليها
المبحث الرابع: هل تجوز مصالحة الكفار على رد من جاء من قبلهم مسلماًً.
المبحث الخامس: إذا رد الإمام إلى المعاهدين من جاء من قبلهم فأحدث فيهم جناية فهل عليه أو على الإمام ضمان؟
المبحث السادس: إذا عاهد الإمام قوماً فخرجت عليهم طائفة من المسلمين غير متحيزة إلى الإمام فهل على الإمام دفعها عنهم
الفصل الثاني: أحكام تتعلق بالعقيدة، وفيه خمسة مباحث:
المبحث الأول: حكم القيام على رأس الكبير وهو جالس
المبحث الثاني: تعريف الفأل وبيان استحبابه وأنها مغاير للطيرة.
المبحث الثالث: بيان كفر من اعتقد أن للكوكب تأثيراً في إيجاد المطر.
المبحث الرابع: هل يجوز التبرك بفضلات الصالحين وآثارهم.(6/3)
المبحث الخامس: هل كتب النبي صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية حقيقة.
الفصل الثالث: الدروس والعبر المستقاة من بعض مواقف الغزوة، وفيه خمسة مباحث:
المبحث الأول: اتهام العقل أمام النصوص الصريحة
المبحث الثاني: أنموذج من التربية النبوية
المبحث الثالث: مثل رائع لوفاء المسلم وثباته على عقيدته
المبحث الرابع: صروح الكفر والطغيان تتهاوى أمام عزمات الإيمان
المبحث الخامس: رعاية الله للجماعة المؤمنة
الخاتمة
الفهارس
4- ثبت المصادر والمراجع
5- فهرس موضوعات الكتاب(6/4)