المقدمة
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. ...
وبعد…
أهمية الموضوع ودواعي الاختيار.
لا يكاد مصدر قديم في السيرة أو مرجع حديث إلا ويأتي فيه ذكر عن هجرة المسلمين إلى الحبشة (الأولى والثانية) قلّ هذا الحديث أو كثر، ولم لا يكون ذلك كذلك وهجرة الحبشة أول هجرة في الإسلام، والمتأمل يلحظ تشابهاً أو تكراراً في سوق الأحداث… ومن أي مصدر أو مرجع قرأ أو وقف على جملة أحداث منها، أسباب الهجرة، أعداد المهاجرين، مقابلة النجاشي للمهاجرين، وفد قريش للنجاشي، عودة المهاجرين وقصة الغرانيق… الخ. ذلك من أحداث تتناقلها المراجع الحديثة عن المصادر القديمة.
ومع أهمية هذه الأحداث وحاجة قارئ السيرة للإطلاع عليها – فثمة أحداث أخرى في الهجرة لا تكاد تبرزها المصادر، وهي حرية بالتتبع والاستقراء والاستنتاج، وثمة تساؤلات تتردد في ذهن القارئ وقد لا يجد لها إجابة مباشرة أو كافية في عدد من المصادر مع أهميتها.. وعسى أن تجيب عنها هذه الدراسة، فاختيار الحبشة مكاناً للهجرة، هل له من دواع غير عدل النجاشي؟ وما نوع الحياة التي عاشها المهاجرون في الحبشة؟ وما مدى صلة المسلمين بالحبشة بإخوانهم في مكة- قبل الهجرة- وفي المدينة بعد الهجرة، وما هي وسيلة هذه الصلة وأساليبها؟ وكيف كانت تبلغهم تكاليف الشريعة، وما مدى معرفتهم بآخر ما نزل من القرآن؟ وهل يجهلون شيئاً من الأحكام؟ ما هي الآثار التي خلفوها بالحبشة.(1/1)
وبأمر من عاد من عاد وبقي بعضهم إلى السنة السابعة للهجرة، وكيف عادوا ولماذا؟ ماهي لغة التخاطب بين المهاجرين والنجاشي؟ وإذا لم تحمل لنا المصادر معرفة المهاجرين بلغة الحبشة، فهل يثبت معرفة النجاشي للعربية؟ وكيف عرفها؟ وهل بهذا يفسر تأثره من سماع سورة مريم؟ ما هو أثر الغربة على المهاجرين عموماً، وما الذي كان يخففها؟ أي نجاشي الحبشة كتب له الرسول صلى الله عليه وسلم يدعوه للإسلام، وهل يعارض ذلك إسلام النجاشي وكيف نوفق بين رواية الصحيح ورواية أصحاب السير؟ الخ هذه التساؤلات التي ستبرز في ثنايا البحث – وهي محتاجة إلى إجابة-.
إن فقه السيرة النبوية مطلب ملح، وإن التجاوز عن سرد الأحداث الظاهرة إلى بيان الأهداف والعبر المتوخاة منها من أعظم أهداف دراسة السيرة وما أجمل السيرة حين تدرس بوعي وواقعية فتصل الأجيال اللاحقة بالأجيال السابقة وفق منهج شرعي مؤصل.
ومن رحم هذه الدراسات الواقعية –التي يفترض فيها عدم التكلف في الاستنتاج أو الشطط في التأويل – ندلل بشكل واقعي أن السيرة النبوية ليست نصوصاً جامدة، أو حقبة زمنية وقعت وانتهت – كلا، وإنما هي معين لا ينضب يهتدي بمعالمها الثابتة المسلمون، ويستضيء بنور أحداثها الصحيحة السالكون، وتبقى أحداثها غضة طرية رغم اختلاف المكان وفارق الزمان، وتلك وربي واحدة ممن مناحي العظمة في سيرة محمد صلى الله عليه وسلم وشاهد على صلاحية رسالته لكل زمان ومكان.
وأرجو أن تسهم هذه الدراسة في التأكيد على فقه المرويات، وقراءة نصوص السيرة بشكل يعمق دلالات الحدث ويوسع دائرة الاستفادة من النص من خلال الموازنة والربط بين الأحداث والمرويات.(1/2)
على أنني في كتابة هذا البحث اعتمدت المصادر الأصلية، ورجعت إلى الروايات المتقدمة وسجلت من أفواه الرواة ما يتحدث عن الحدث مباشرة، وحاولت تصحيح الرواية حيناً قبل اعتمادها أو التعليق عليها، حتى إذا توسعت في مدلول الرواية، وفقهها أو استنجت من وراء النص درساً وعبرة، كان الأساس الذي اعتمدته متيناً والمصدر الذي نقلت عنه مطمئناً.
وهذا المنهج النقدي للمرويات رغم أهميته وقناعتي بجدواه، فمن الإنصاف أن أقول أنني لم أستطع طرده وتطبيقه على كل المرويات التي نقلتها، فأستأنس أحياناً بشهرة الرواية وتضافر كتب السيرة الأولى على ذكرها، وأتسامح أحياناً بالاستشهاد برواية لا تحل حراماً أو تحرم حلالاً، مستحضراً تسامح العلماء وتفريقهم في قبول رواية الراوي الضعيف في المغازي والتاريخ عنها في أمور الحلال والحرام.
ومع اعتمادي كثيراً على المصادر الأولية، فلم أهمل الإفادة من المصادر الناقلة عن المصادر الأصلية، فقد يكون لمؤلفيها ترجيح أو توضيح لا يُستغنى عنه، كما أنني لم أنقطع عن الإطلاع والاستفادة من عدد من الدراسات الحديثة.
ورغم ما قدمته في هذه الدراسة من جهد، وما وصلت إليه من نتائج، فهو في سياق جهد البشر، وهو عرضة للخطأ والصواب، وما كان فيه من صواب فمن توفيق الله، وما كان من خطأ فمن نفسي والشيطان، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
تمهيد
ويشمل:
(*) التعريف بموقع الحبشة وديانة أهلها.
الحبش والحبشة جنس من السودان، كما نقل الرازي (1). وأرض الحبشة بالجانب الغربي من بلاد اليمن، ومسافتها طويلة جداً، ويقال إنهم من ولد حبش بن كوش بن حام، وقال بان دريد: جمع الحبش أحبوش – بضم أوله- وأما قولهم: الحبشة فعلى غير قياس (2).
ومن عجب أنني لمن أجد ذكراً للحبشة في معجم ياقوت – في حرف الحاء-
__________
(1) مختار الصحاح، ص 121.
(2) ذكره ابن حجر في الفتح 7/190،191.(1/3)
ويرى بعض الباحثين المحدثين أن الحبشة، البلد المعروف في أفريقية ويسمى اليوم (أثيوبية)(1).
أما ديانة أهلها فيقرر السهيلي إنهم كانوا نصارى يعبدون المسيح ولا يقولون هو عبد الله (2). ويشمل ابن تيمية بالنصرانية، النجاشي وقومه ويقول: كان – النجاشي – نصرانياً هو وقومه (3).
)*) آيات الهجرة في القرآن الكريم.
قلّ أن تتحدث كتب السير عن آي الذكر الحكيم في هجرة
"الحبشة" ولعل مرد ذلك العمومية في آي القرآن، وعدم النص على "الحبشة" أو غيرها في آيات الهجرة، ومع ذلك يقف المتأمل في كتب التفسير على أقوال لأهل العلم في بيان المقصود بهذه الهجرة في هذه الآية أو تلك، ومن أمثلة ذلك:
( أ ) قوله تعالى: (( وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ)) (4). فقد نقل القرطبي- رحمه الله – قول قتادة – رحمه الله – المراد أصحاب محمد محمد صلى الله عليه وسلم ظلمهم المشركون بمكة وأخرجوهم حتى لحق طائفة منهم بالحبشة، ثم بوأهم الله تعالى دار الهجرة وجعل لهم أنصاراً من المؤمنين.
وحيث نقل القرطبي أقوالاً أخرى في المقصود بهذه الهجرة، شملت الهجرة للمدينة، وخروج أبي جندل بن سهيل – بين مكة والمدينة – حين صلح الحديبة، فقد قال معقباً: والآية تعم الجميع (5).
وحين لم يتعرض في آية النحل الأخرى(6) إلى ذكر الحبشة واقتصر على الهجرة للمدينة (7)، علم أن الآية الأولى أقرب إلى هجرة الحبشة.
__________
(1) محمد حسن شراب، المعالم الأثيرة في السنة والسيرة ، ص 96.
(2) الروض الأنف 3/255.
(3) الجواب الصحيح 1/78.
(4) سورة النحل، آية 41.
(5) الجامع لأحكام القرآن 10/107.
(6) سورة النحل، آية 110.
(7) 10/192.(1/4)
( ب) قوله تعالى: (( قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ)) (1).
قال ابن عباس: - رضي الله عنهما – يريد جعفر بن أبي طالب والذين خرجوا معه إلى الحبشة(2).
(ج) قوله تعالى : (( يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ)) (3).
قال ابن كثير – رحمه الله – هذا أمر من الله تعالى لعباده المؤمنين بالهجرة من البلد الذي لا يقدرون فيه على إقامة الدين إلى أرض الله الواسعة حيث يمكن إقامة الدين.. إلى أن قال: ولهذا لما ضاق على المستضعفين بمكة مقامهم بها، خرجوا مهاجرين إلى أرض الحبشة ليأمنوا على دينهم هناك، فوجدوا خير المنزل أصحمه النجاشي ملك الحبشة –رحمه الله – تعالى…(4) .
(د) قال تعالى: (( وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَماً كَثِيراً وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً)) (5).
روى ابن أبي حاتم بسنده إلى هشام بن عروة عن أبيه، أن الزبير ابن العوام قال: هاجر خالد بن حزام إلى أرض الحبشة، فنهشته حيّة في
__________
(1) سورة الزمر، آية 10.
(2) القرطبي: الجامع لأحكام القرآن 15/240.
(3) سورة العنكبوت ، آية 56.
(4) تفسير ابن كثير 3/668.
(5) سورة النساء ، آية 100.(1/5)
الطريق فمات، فنزلت فيه، ومن يخرج من بيته مهاجراً إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت فقد وقع أجره على الله وكان الله غفوراً رحيماً، قال الزبير:وكنت أتوقعه وأنظر قدومه وأنا بأرض الحبشة، فما أحزني شيء حزن وفاته حين بلغني، لأنه قلَّ أحد ممن هاجر من قريش إلا معه بعض أهله، أو ذوي رحمة، ولم يكن معي أحد من بني أسد بن عبد العزي، ولا أرجوه غيره (1).
وروى القصة مختصرة ابن الأثير، وعزاها إلى الثلاثة (ابن عبد البر، وابن منده، وأبو نعيم).
كما نقلها ابن حجر، وأضاف رواية البلاذري لها، ثم أردف بقول البلاذري: ليس بمتفق عليه: (يعني خالد بن حزام) ولم يذكره ابن إسحاق في مهاجرة الحبشة، كما نقل عن الزبير بن بكار عن عمه مصعب رواية عند الواقدي تفيد هجرة خالد بن حزام وسرور الزبير وموت خالد في الطريق، كما تعقب ابن حجر الطبري في قوله: انفرد الواقدي بقوله أن هاجر إلى أرض الحبشة لرواية الزبير بن بكار لها عن عمه مصعب، وإن كان ابن حجر قال: والمشهور أن الذي نزلت فيه الآية هو جندب بن ضمرة في الهجرة للمدينة (2). وقد جاء فيه ( جندع ) بدل (جندب)
قلت: وعند ابن عبد البر أنها نزلت في ضمرة بن العيص الخزاعي (3).
كما علق ابن كثير على رواية ابن أبي حاتم بقوله: وهذا الأثر غريب جداً، فإن هذه القصة مكية، ونزول هذه الآية مدنية، فلعله أراد أنها نزلت تعم حكمه مع غيره، وإن لم يكن ذلك سبب النزول والله أعلم (4).
(هـ) قال تعالى: (( وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ)) (5).
فقد ذكر السهيلي شمولها المهاجرين للحبشة، ضمن عدة أقوال ساقها(6).
__________
(1) انظر: تفسير ابن كثير 2/364.
(2) انظر: الإصابة 3/53-2/109.
(3) الاستيعاب (بهامش الإصابة) 5/202، وعند القرطبي ضمرة بن حبيب، ونسبه لابن عبد البر (الجامع لأحكام القرآن 1/26).
(4) تفسير القرآن العظيم 2/346.
(5) سورة التوبة ، آية 100.
(6) الروض الأنف 3/255-256.(1/6)
(*) أحاديث الهجرة.
أما أحاديث الهجرة فقد عُني بجمعها والتحقيق فيها بعض الباحثين (1).
واكتفى بهذا الصدد بسوف ما يؤكد الهجرة من السنة، وبين فضل المهاجرين للحبشة.
جاء في صحيح البخاري من حديث أسماء بنت عميس رضي الله عنهما وهي إحدى المهاجرات للحبشة- أن النبي محمد صلى الله عليه وسلم قال لها: له – يعني عمر بن الخطاب رضي الله عنه – ولأصحابه هجرة واحدة، ولكم أنتم أهل السفينة هجرتان (2).
زاد أبو يعلى :((هاجرتم مرتين، هاجرتم إلى النجاشي، وهاجرتم إليّ)).
ولابن سعد بإسناد صحيح عن الشعبي قال: قالت أسماء بنت عميس: يا رسول الله إن رجالاً يفخرون علينا ويزعمون أنا لسنا من المهاجرين الأولين، فقال: بل لكم هجرتان، هاجرتم إلى أرض الحبشة ثم هاجرتم بعد ذلك (3).
قال ابن حجر معلقاً: وظاهره تفضيلهم على غيرهم من المهاجرين، لكن لا يلزم منه تفضيلهم على إطلاق، بل من الحيثية المذكورة (4).
المبحث الأول
زمن الهجرة للحبشة
(*) أول هجرة في الإسلام.
قبل أن نأتي على تحديد سنة الهجرة للحبشة، لابد من القول أن هجرة الحبشة أول هجرة في الإسلام، ففي صحيح البخاري، يذكر من فضائل عثمان بن عفان رضي الله عنه، (( وهاجرت الهجرتين الأوليين)) .
وعثمان رضي الله عنه يُقر ذلك ويؤكده (5).
وقال ابن إسحاق إن الهجرة الأولى للحبشة: "أول هجرة كانت في الإسلام" (6). كما أشار إلى ذلك ابن حبان (7).
__________
(1) أمثال د. سليمان السعود في كتابه: أحاديث الهجرة. جميع وتحقيق ودراسة.
(2) انظر: الصحيح مع الفتح 7/485.
(3) الفتح 7/486.
(4) المصدر السابق 7/486.
(5) الصحيح مع الفتح 7/187.
(6) انظر السيرة النبوية لابن هشام 1/343، تاريخ الأمم والملوك للطبري 2/331.
(7) السيرة النبوية وأخبار الخلفاء ص 72.(1/7)
وعند يعقوب بن سفيان البسوي بسند موصول إلى أنس – كما قال الحافظ ابن حجر – قال محمد صلى الله عليه وسلم: (( إن عثمان لأول من هاجر بأهله بعد لوط)) (1). وضعف هذه الرواية أحد الباحثين – مشيراً إلى ضعف أحد رواتها (2)، وحكم لها بالصحة آخر مدللاً بشواهد أخرى للحديث (3).
(*) بين أرباب السير وموسى بن عقبة.
في حديث ابن إسحاق عن الهجرة والمهاجرين للحبشة لم يذكر سنة الهجرة للحبشة (4).ولكن يفهم من حديثه عن حصار الشعب وخبر الصحيفة؛ أن هجرة متقدمة عليها حيث جعل أمن المسلمين عند النجاشي ومنعه المشركين منهم أحد الأسباب في كتابه الصحيفة الآثمة (5)، وكذلك فعل عروة بن الزبير (6).
أما الواقدي فحدد مخرج المهاجرين للحبشة في رجب من السنة الخامسة من حين نبئ رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم (7)، والواقدي وهو يحدد هذا التحديد الدقيق، يوافق ابن إسحاق وعروة في تقدم هجرة الحبشة على حصار الشعب وكتابة الصحيفة.
وكأن تحديد هجرة الحبشة في شهر رجب من السنة الخامسة للبعثة رأي مشتهر لأهل السير، ولهذا قال ابن حجر:(( وذكر أهل السير أن هجرة الحبشة الأولى كانت في شهر رجب من سنة خمس من المبعث، ولم ينقل سواه (8).
وهو المفهوم من سياق ابن حزم في السيرة (9).
__________
(1) انظر: فتح الباري 7/188، ولم أجد ذلك في المطبوع من تاريخ البسوي: المعرفة والتاريخ.
(2) انظر: د. مهدي رزق الله، السيرة النبوية في ضوء المصادر الأصلية ص 198.
(3) انظر: محمد بن رزق بن طرهوني: صحيح السيرة النبوية 2/141-536.
(4) السيرة ، لابن هشام 1/343-364.
(5) ابن هشام: السيرة 1/371.
(6) انظر: مغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم لعروة بن الزبير، جمع وتحقيق د. الأعظمي، ص 114.
(7) الطبقات: لابن سعد 1/204.
(8) الفتح 7/188.
(9) جوامع السير 5/64.(1/8)
إلا ما كان من موسى بن عقبة رحمه الله إذ خالف أهل السير، فزعم أن هجرة الحبشة بعد دخول أبي طالب ومن معه الشعب (1)، ونقل ذلك البيهقي (2)، والذهبي (3)، وتعقبه ابن كثير فقال: "وقد زعم موسى بن عقبة أن الهجرة الأولى إلى أرض الحبشة كانت حين دخل أبو طالب ومن حالفه مع رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم إلى الشعب، وفي هذا نظر والله أعلم))(4).
قلت: ومع ما نقله البيهقي والذهبي، وتعقب ابن كثير لموسى بن عقبة في إيراد هذا الخبر، فقد وقفت على ما يخالف ذلك، إذ نقل ابن حجر في ( حصار الشعب) ما يفيد موافقة موسى بن عقبة لغيره من أهل السير في تأخر حادثة حصار الشعب عن هجرة الحبشة، ونص كلام ابن حجر:" قال ابن إسحاق وموسى بن عقبة وغيرهما من أصحاب المغازي: لما رأت قريش أن الصحابة قد نزلوا أرضاً أصابوا بها أماناً – يقصد الحبشة – وأن عمر أسلم، وأن الإسلام فشاً في القبائل أجمعوا على أن يقتلوا رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم، فبلغ ذلك أبا طالب، فجمع بني هاشم وبني المطلب فأدخلوا رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم شعبهم..)) (5).
وبناء على هذا الرأي الأخير لموسى بن عقبة في تحديد زمن هجرة الحبشة، فمن المحتمل أن قوله بالهجرة للحبشة بعد حصار الشعب متجه إلى هجرة من هاجر من المسلمين متأخراً، أو عودة المهاجرين إلى الحبشة مرة أخرى إثر مجيئهم إلى مكة حين ترامى إلى مسامعهم نبأ إسلام أهل مكة وإن كنا لا نملك دليلاً مؤكداً لهذا الرأي فيبقى في دائرة الاحتمال.
__________
(1) المغازي لموسى بن عقبة، ص 66.
(2) انظر: دلائل النبوة 2/285.
(3) انظر: السيرة النبوية للذهبي ص 112.
(4) البداية والنهاية 3/74.
(5) الفتح 7/192، ولم يذكر ابن حجر هو الآخر مصدره.(1/9)
وأعجب من ذلك صنيع أبي حاتم بن حبان في سيرته حيث ذكر هجرة الحبشة أثراً من آثار أذى قريش للمسلمين بعد وفاة أبي طالب (1). ومعلوم أن أبا طالب هلك بعد خروجهم من الحصار.
(*) صنيع البخاري ودلالته.
ذكر الإمام البخاري الحادثتين (هجرة الحبشة ، حصار الشعب) في صحيحه مصرحاً بالأولى، ومشيراً إلى الثانية ومختصراً، ومع أنه لم يشر إلى زمن الحادثتين كلتيهما، فقد فّهم من تأخيره الحديث عن حصار الشعب تقدم هجرة الحبشة عليها (2).
ولم يتردد ابن حجر في شرحه لحديث: حصار الشعب (3)، في
تأخير هذه الحادثة عن هجرة الحبشة، فقد جزم بكون الحصار في أول بيوم من المحرم سنة سبع من البعثة (4)، وقد سبق حديثه عن زمن هجرة الحبشة.
وكون ابتداء حصار الشعب في السنة السابعة للبعثة هو المفهوم من كلام الواقدي وإن لم يُصرح به حيث جعل مدة الحصار ثلاث سنين، وخروجهم في السنة العاشرة للبعثة (5).
المبحث الثاني
أسباب الهجرة ونوعية المهاجرين
تتعدد الأسباب المعللة لهجرة المسلمين للحبشة، وتتفق المصادر حيناً وتختلف حيناً آخر في ذكر سبب أو عدة أسباب لهذه الهجرة، وجمع هذه الأسباب المتناثرة والتأليف يُعطي صورة لأحوال المسلمين في مكة في تلك الفترة من جانب، ويحدد الأهداف التي من أجلها خرج المسلمون للحبشة من جانب آخر.
ولعل في استقصاء نوعية المهاجرين، وهل كانوا من ذوي النسب والشرف في قومهم أم كانوا من الموالي والمستضعفين، وما نسبة هؤلاء وأولئك ما يكشف كذلك عن طبيعة هذه الهجرة ويسهم في مزيد معرفة أسبابها، وأهدافها.
1ـ ظهور الإيمان وكثرة المسلمين.
__________
(1) السيرة النبوية وأخبار الخلفاء ص 72.
(2) انظر: د. سليمان السعود، أحاديث الهجرة، جمع وتحقيق ص 14 من الرسالة.
(3) تقاسم المشركين على النبي - صلى الله عليه وسلم -.
(4) الفتح 7/92.
(5) الطبقات: لابن سعد 1/208-210.(1/10)
تجاوزت الدعوة في مكة – حين هاجر المسلمون للحبشة – مرحلة الدعوى السرية، فلقد جهر الرسول محمد صلى الله عليه وسلم بدعوته، وكُلّف الصدع بما أمر: ((فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ)) (1).
وكان من نتائج ذلك أن كثر الداخلون في الإسلام، وظهر الإيمان، وتحدث الناس به، ولا شك أن هذا يُقلق قريشاً، ويقض مضجعها، وستعمل جاهدة لإيقاف مده.
يقول الزهري في حديثه عن عروة في هجرة الحبشة قال: (( فلما كثر المسلمون، وظهر الإيمان، فتُحدث به، ثار المشركون من كفار قريش بمن آمن من قبائلهم يعذبونهم ويسجنونهم وأرادوا فتنتهم عن دينهم فلما بلغ ذلك رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم قال للذين آمنوا به: تفرقوا في الأرض، قالوا: فأين نذهب يا رسول الله؟ قال: ها هنا: وأشار إلى أرض الحبشة (2).
ويقول موسى بن عقبة: ((ثم إن قريشاً ائتمرت رويتهم، واشتد مكرهم، وهموا بقتل الرسول محمد صلى الله عليه وسلم أو إخراجه حين رأوا أصحابه يزدادون ويكثرون..)) (3).
ولا شك أن قريشاً تخشى أثر هذا المد، وتأثيره على من لم يسلم بعد، ولم لا تخشَ أثر هذا المد، وقد بلغت آثاره بعض صناديدهم، ورقَّ لإسلام المسلمين، ومطاردتهم قساة القلوب منهم، وفي قصة عمر بن الخطاب مع المرأة التي كانت تستعد للهجرة ما يكشف عن أثر الإسلام وظهور الإيمان في تلك الفترة.
__________
(1) الحجر: 94.
(2) المغازي النبوية: للزهري، تحقيق: سهيل زكار، ص:96، الطبقات الكبرى لابن سعد 1/203.
(3) البيهقي: دلائل النبوة 2/285.(1/11)
أخرج ابن إسحاق بسند صرح فيه بالسماع عن أم عبد الله بنت أبي حثمة قالت: والله إنا لنترحل إلى أرض الحبشة، وقد ذهب عامر في بعض حاجتنا، إذ أقبل عمر بن الخطاب حتى وقف عليّ، وهو على شركه، قالت: وكنا نلقى منه البلاء أذىً لنا وشدة علينا، قالت: فقال: إنه الانطلاق يا أم عبد الله، قالت: فقلت: نعم والله لنخرجن في أرض الله، آذيتمونا وقهرتمونا، حتى يجعل الله لنا مخرجاً، قالت: فقال: صحبكم الله، ورأيت له رقّة لم أكن أرها، ثم انصرف وقد أحزنه، - فيما رأى – خروجنا قالت: فجاء عامر بجاجته تلك، فقلت له: يا أبا عبد الله: لو رأيت عمرآنفاً ورقته وحزنه علينا، قال: أطمعت في إسلامه؟ قالت: نعم، قال: فلا يسلم الذي رأيت حتى يسلم حمار الخطاب، قالت: يأساً منه لما كان يرى من غلطته وقسوته عن الإسلام(1).
وقال الهيثمي – بعد سياق القصة - :رواه الطبري، وقد صرح ابن إسحاق بالسماع فهو صحيح (2).
فإذا كان هذا تأثر عمر، فلا تسأل عن غيره، وهو مؤشر إلى ظهور الإيمان وكثرة المسلمين، الأمر الذي دفع قريشاً للتضيق وأحوج المسلمين للهجرة إلى أرض الحبشة.
2ـ إيذاء قريش وعدوانها.
حين أحست قريش بالخطر إثر ظهر الإيمان وكثرة المسلمين، لم يكن بإمكانها مقارعة الحجة بالحجة، أو سماع المحجة الصادقة من نبي الأمة محمد صلى الله عليه وسلم عمدوا إلى أسلوب الإيذاء كي يتفرق المسلمون عن محمد محمد صلى الله عليه وسلم ويكرهوا الدين الجديد، واستخدموا سلطان القبيلة طريقاً للأذى والتعذيب، وفي نص الزهري السابق: (( ثار ناس كثر من المشركين من كفار قريش بمن آمن من قبائلهم فعذبوهم وسجنوهم وأرادوا فتنتهم عن دينهم…))(3).
__________
(1) انظر: السيرة لابن هشام 1/365، ورواها الإمام أحمد في فضائل الصحابة 1/279، وحسن المحقق إسناد الرواية.
(2) مجمع الزوائد 6/24.
(3) الطبقات لابن سعد 1/203.(1/12)
ومن رواية عروة: " ثم ائتمرت رؤسهم بأن يفتنوا من تبعه عن دين الله من أبنائهم وإخوانهم وقبائلهم، فكانت فتنة شديدة الزلزال على من اتبع رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم من أهل الإسلام، فافتتن من افتتن، وعصم الله منهم من شاء، فلما فعل ذلك بالمسلمين أمرهم رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم أن يخرجوا إلى أرض الحبشة ..)) (1).
وتضيف رواية موسى بن عقبة افتتان بعضهم:" فكانت فتنة شديدة وزلزالاً، فمنهم من عصم الله، ومنهم من افتتن، فلما فعل بالمسلمين ذلك أمرهم رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم حين دخل الشعب مع بني عبد المطلب بالخروج إلى أرض الحبشة)) (2).
ويؤكد جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه في حواره مع نجاشي الحبشة نموذجاً لعدوان قريش عليهم ويقول مبيناً لأسباب هجرتهم (( ولما قهرونا وظلمونا، وشقوا علينا، وحالوا بيننا وبين ديننا خرجنا إلى بلدك واخترناك على من سواك ورغبنا في جوارك، ورجونا أن لا نظلم عندك أيها الملك..)) (3).
__________
(1) انظر: تاريخ الطبري 2/328.
(2) البيهقي: دلائل النبوة 2/285.
(3) من رواية أم سلمة لحديث الهجرة الطويل، رواه أحمد في المسند 5/290، بإسناد صحيح، ورواه ابن إسحاق في السيرة كما في سيرة ابن هشام 1/359، وانظر: أحاديث الهجرة، د. سليمان السعود ص 27، 29.(1/13)
وذكر ابن إسحاق نماذج لإيذاء المؤمنين قبل هجرة الحبشة تكشف عن عدوان قريش وظلمها أسوق نموذجاً واحداً معبراً منها؛ قال ابن إسحاق: وحدثني الزبير بن عكاشة بن عبد الله بن أبي أحمد، أنه حُدث أن رجالاً من بني مخزوم مشوا إلى هشام بن الوليد حين أسلمن أخوه الوليد بن الوليد بن المغيرة، وكانوا قد أجمعوا على أن يأخذوا فتية منهم كانوا قد اسلموا، منهم: سلمة بن هشام، وعياش بن أبي ربيعة، قال: فقالوا له وخشو شرّه: إنّا قد أردنا أن نعاتب هؤلاء الفتية على هذا الدين الذي أحدثوا فإنّا نأمن بذلك في غيرهم، قال: هذا فعليكم به فعاتبوه وإياكم ونفسه ثم قال:
ألا لا يُقتلن أخي عُييس ... فيبقى بيننا أبداً تلاحي
احذروا على نفسه، فأقسم بالله لئن قتلتموه لأقتلن أشرفكم رجلاً، قال فقالوا: اللهم العنة، من يغرر بهذا الحديث، فوالله لو أصيب في أيدينا لقتل أشرفنا رجلاً، فتركوه ونزعوا عنه، قال: وكان ذلك مما دفع الله به عنهم)) (1).
__________
(1) السيرة النبوية لابن هشام، تحقيق همام سعيد، وأبي صعليك، وقال محققاً السيرة: سنده منقطع فالخبر ضعيف.(1/14)
وحين بلغ أذى قريش للمسلمين مبلغه، ولم يكن بمقدور النبي محمد صلى الله عليه وسلم أن يمنعهم كان في الهجرة للحبشة مخرج لهم، وفي هذا قال ابن إسحاق: (( فلما رأى الرسول محمد صلى الله عليه وسلم ما يصيب أصحابه من البلاء، وما هو فيه من العافية، بمكانة من الله، ومن عمه أبي طالب، وأنه لا يقدر على أن يمنعهم مما هم فيه من البلاء، قال لهم: لو خرجتم إلى أرض الحبشة..)) (1).
وفي حديث أم سلمة رضي الله عنها تجلية لأحوال الرسول محمد صلى الله عليه وسلم والمؤمنين بمكة، ومبلغ عدوان قريش عليهم وارتباط ذلك بالهجرة إلى الحبشة.
قالت أم سلمة: "لما ضاقت مكة وأوذي أصحاب رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم وقتنوا، ورأوا ما يصيبهم من البلاء والفتنة في دينهم، وأن رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم لا يستطيع دفع ذلك عنهم، وكان رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم في منعه من قومه ومن عمه لا يصل إليه شيء مما يكره ، ومما ينال أصحابه، فقال لهم رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم:
(( إن بأرض الحبشة ملكاً لا يظلم أحد عنده، فألحقوا ببلاده حتى يجعل الله لكم فرجاً ومخرجاً مما أنتم فيه، فخرجنا إليها إرسالاً حتى اجتمعنابها..)) (2).
__________
(1) السيرة: لابن هشام 1/397، وروى الخبر البيهقي في الدلائل 2/285، من طريق موسى بن عقبة، ورواه الذهبي من طريق يحيى بن أبي طالب عن بشار، عن عبد الله بن إدريس، ثنا ابن إسحاق، حدثني الزهري، عن أبي بكر بن عبد الرحمن وعروة، وعبد الله بن أبي بكر، وصلت الحديث عن أبي بكر عن أم سلمة، كما روى بعضه عن البغوي (السيرة للذهبي ص 110)، وصحح سنده محققاً السيرة لابن هشام 1/397.
(2) انظر: السيرة لابن كثير 1/17، وسنده صحيح، وانظر: القصيمية دراسة نقدية لنصوص السيرة النبوية، محمد الصويان، 1/419.(1/15)
وقال ابن حزم :(( فلما كثر المسلمون واشتد العذاب والبلاء عليهم أذن الله تعالى لهم في الهجرة إلى أرض الحبشة )) (1).
ويؤكد شعر المهاجرين الذين استقروا في الحبشة مبلغ الأذى والفتنة التي لحقت بالمؤمنين في مكة، وعبّر عنها شعراء المهاجرين، فهذا عبد الله بن الحارث بن قيس بن عدي قال – حين أمنوا بأرض الحبشة -.
يا راكباً بلغن عني مغلغلة ... من كان يرجوا بلاغ الله والدين
كل امرئ من عباد الله مضطهد ... ببطن مكة مقهور ومفتون
إنا وجدنا بلاد الله واسعة ... تُنجي من الذل والمخزاة والهون
… في أبيات ابن إسحاق في السيرة(2).
وقال عثمان بن مظعون يعاتب أمية بن خلف – ابن عمه – وكان يؤذيه في إسلامه-:
أتيم بن عمرو للذي جاء بغضه ... ومن دونه الشرمان والبرك أكتع
أأخرجتني من بطن مكة آمناً ... وأسكنتني في صرح بيضاء تقذع
… في أبيات ذكرها ابن إسحاق كذلك في السيرة (3).
3ـ الفرار بالدين.
لم يكن الأذى الجسدي الواقع على المسلمين بمكة هو السبب الأول والأخير في هجرة المؤمنين للحبشة، بل كان الفرار بالدين خشية الافتتان فيه سبباً مهماً من أسباب هجرتهم للحبشة، وكيف لا يكون ذلك كذلك والإيمان أغلى ما يملكه الإنسان في هذه الحياة، وأولئك المهاجرون يعرفون قدر الإسلام والإيمان، فهم لتوهم خرجوا من حمأة الجاهلية وظلمات الكفر ويُقدّر الإسلام حق قدره من عاش فترة من الجاهلية فيفر به حتى ولو كان على حساب الأهل والعشيرة والمال والوطن؛ ولهذا السبب تتضافر النصوص وتكثر النماذج، وهذا طرف منها.
__________
(1) السيرة ص 55.
(2) السيرة: لابن هشام 1/408-410، وقد ذكرها ابن إسحاق دون إسناد، ولذا ضعفها أحد الباحثين (د. سليمان سعود: أحاديث الهجرة، ص 59-60).
(3) ابن هشام 1/410-411.(1/16)
قال ابن إسحاق:" فخرج عند ذلك المسلمون من أصحاب رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم إلى أرض الحبشة مخافة الفتنة وفراراً إلى الله بدينهم" (1).
وجاء في صحيح البخاري من رواية الزهري في خبر الهجرة: ( فلما ابتلى المسلمون خرج أبو بكر مهاجراً نحو أرض الحبشة حتى بلغ برك الغماد، لقيه ابن الدغنة – وهو سيد القارة – فقال: أين تريد يا أبا بكر؟ فقال أبو بكر: أخرجني قومي فأريد أن أسيح في أرض وأعبدربي..) (2).
فسلامة الدين، وتحقيق العبودية لرب العالمين هدف ينشده المسلمون ومن أجله يخرجون، حتى ولو كان لبعضهم ما يشفع له بالمقام ويتسع له المكان، ويؤخذ بالجوار كما قال ابن الدغنة لأبي بكر رضي الله عنه وأجاره، - كما في بقية الرواية السابقة -.
وفي رواية أخرى حسنا الزرقاني – ما يكمل الرواية السابقة – فقد روى ابن إسحاق عن الزهري عن عروة عن عائشة رضي الله عنها قالت: استأذن أبو بكر رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم في الهجرة، فأذن له، فخرج أبو بكر مهاجراً حتى إذا سار من مكة يوماً أو يومين لقيه ابن الدغنة، وهو يومئذ سيد الأحابيش ..)) (3).
ولم تخف ليلى بنت أبي حثمة على عمر بن الخطاب رضي الله عنه سبب خروجها وزوجها إلى الحبشة مهاجرين حين قالت: ((آذيتمونا في ديننا فنذهب في أرض الله حيث لا نؤذي )) روى القصة ابن إسحاق وأحمد بسند حسن (4). كما رواها الطبراني، وقد صرح ابن إسحاق بالسماع فهو صحيح كما قال الهيثمي (5).
__________
(1) السيرة النبوية لابن هشام 1/398.
(2) الصحيح مع الفتح 7/230.
(3) انظر: السيرة النبوية لابن هشام 1/395، وحسن إسنادها العمري في السيرة النبوية الصحيحة 1/171، وانظر، شرح الزرقاني على المواهب اللدينة للقسطلاني 1/288 وقال الزرقاني: وسنده حسن أو صحيح.
(4) انظر: السيرة النبوية لابن هشام 1/365، فضائل الصحابة لأحمد 1/279.
(5) مجمع الزوائد 6/24.(1/17)
أما أسماء بنت عميس رضي الله عنها فقد كشفت عن صعوبة الهجرة، وآلام الغربة، ولكنها تهون في سبيل الله وطاعة رسوله وسلامة الدين: ((كنتم مع رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم يطعم جائعكم ويعض جاهلكم، وكنا في دار البعداء البغضاء بالحبشة، وذلك في الله وفي رسوله..)) (1).
وفي كتاب عروة إلى عبد الملك بن مروان ما يُجلى هذه الفتنة الواقعة على المسلمين وكانت من أسباب إذن الرسول محمد صلى الله عليه وسلم بالهجرة للحبشة، ومما كتبه له : )) ثم ائتمرت رؤسهم بأن يفتنوا من تبعه عن دين الله من أبنائهم وإخوانهم وقبائلهم، فكانت فتنة شديدة الزلزال على من تبع رسول الله صلى الله عليه وسلم من أهل الإسلام، فافتتن من افتتن، وعصم الله منهم من شاء، فلما فعل ذلك بالمسلمين أمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يخرجوا إلى أرض الحبشة..)) (2).وعند موسى بن عقبة: فانطلق إلى النجاشي عامتهم حين قهروا وخافوا الفتنة (3).
__________
(1) صحيح البخاري 5/80، باب غزوة خيبر، وصحيح مسلم 4/1946، باب فضائل حعفر وأسماء.
(2) انظر: تاريخ الطبري 1/328.
(3) دلائل النبوة للبيهقي 2/286.(1/18)
وفي حوار جرى بين مصعب بن عمير رضي الله عنه الله وأمه، ما يكشف عن ظروف الهجرة، ويؤكد خشية الفتنة، وذلك حين بلغ أمه مقدمه إلى مكة من المدينة مع السبعين من الأنصار الذين وافوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في العقبة الثانية وكان – كما في الرواية –حين قدم مكة جاء إلى منزل رسول الله صلى الله عليه وسلم أولاً ولم يقرب منزله، يخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الأنصار وإسلامهم. فأرسلت إليه أمه تقول: يا عاق أتقدم بلداً أنا فيه لا تبدأ بي؟ فقال: ما كنت لأبدأ بأحد قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما سلّم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبره بما أخبره، ذهب إلى أمه فقالت: إنك لعلي ما أنت عليه من الصبأة بعد قال: أناعلى دين رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو الإسلام الذي رضي الله لنفسه ولرسوله، صلى الله عليه وسلم قالت: ما شكرت ما رثيتُك، مرة بأرض الحبشة، ومرة بيثرب، فقال: صلى الله عليه وسلم أفرُّ بديني أن يفتنوني (1).
وهكذا يُلخّص مصعب أسباب الهجرة والغربة بالفرار بالدين، وفي شعور المسلمين وهم بالحبشة بالأمن على دينهم، ما يؤكد الفتنة الحاصلة لهم بمكة، فقد جاء في الطبقات أن المهاجرين قالوا)) وقدمنا أرض الحبشة فجاورنا بها خير جار، أمنّا على ديننا، وعبدنا الله لا نؤذي، ولا نسمع شيئاً نكرهه )) (2).
وجاء ذكر الفتنة في الدين عند الزهري (3) ، وابن حزم (4) ، وعند البيهقي (5). وسبق ذكر طرف من حديث أم سلمة، وفيه ما يؤكد هجرة المسلمين فراراً بدينهم (6).
__________
(1) الطبقات لابن سعد 3/119.
(2) ابن سعد: الطبقات الكبرى 1/204.
(3) المغازي النبوية ص 96.
(4) جوامع السيرة ص 55.
(5) دلائل النبوة 2/285، 286.
(6) انظر: إيذاء قريش وعدوانها.(1/19)
وأكد هذا السبب في الهجرة الثانية حين هاجر جعفر ومن معه فقال: ((خرج جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه في رهط من المسلمين عند ذلك فراراً بدينهم أن يُفتنوا عنه إلى أرض الحبشة )) (1).
بل ذكر ابن إسحاق والواقدي أن الفتنة حين الهجرة الثانية كانت أشد منها حين كانت الهجرة الأولى للحبشة، قال ابن إسحاق:(( فلما اشتد البلاء وعظمت الفتنة تواثبوا على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانت الفتنة الآخرة التي أخرجت من كان هاجر من المسلمين بعد الذين كانوا خرجوا قبلهم إلى أرض الحبشة)) (2).
وقال الواقدي :(( فكانت خرجتهم الآخرة أعظمها مشقة )) (3).
وفي حديث ابن عبد البر عن المهاجرين للحبشة وتعداد أسمائهم قال –مؤكداً الفرار بالدين –وأبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة هارباً عن أبيه بدينه، ومعه أمرأته سهلة بنت سهيل بن عمرو مراغمة لأبيها فارة عنه بدينها (4). ومثل ذلك ذكر عن عثمان بن عفان وامرأته رقية رضي الله عنهم أجمعين (5).
4ـ البحث المبكر عن مكان آمن للمسلمين.
لا ريب أن طلائع المؤمنين الذين هاجروا للحبشة، كانوا يمثلوه الإسلام، في وقت عمت الجاهلية آفاق الأرض، ولم يبقَ أحد من أهل الأرض عربهم وعجمهم لم يمقته الله إلا بقايا من أهل الكتاب، كما ورد ذلك في الحديث الصحيح (6).
ولذا فالحفاظ على هؤلاء الصفوة المؤمنة في هذه الفترة مسؤولية كبيرة وهو حفاظ على الإسلام، والبحث لهم عن مكان آمن يستترون به عن أعين الكفار والمناوئين ريثما يشتد عود الإسلام وتهدأ العاصفة كل ذلك ضرورة تحتمه هذه المرحلة بمكة.
__________
(1) دلائل النبوة 2/293.
(2) انظر: السير والمغازي لابن إسحاق، من رواية يونس بن بكير، تحقيق سهيل زكار ص 213.
(3) الطبقات الكبرى، لابن سعد 1/207.
(4) الدرر في اختصار المغازي والسير ص: 22.
(5) الدرر في اختصار المغازي والسير، ص :21.
(6) انظر: صحيح مسلم.(1/20)
وهذا الدين هو رسالة الله الأخيرة في الوجود، ورسالة محمد صلى الله عليه وسلم ليست للعرب وحدهم بل للناس كافة ولئن ضاقت فجاج مكة بالمؤمنين أوتطيّر القرشيون بمحمد صلى الله عليه وسلم ومن آمن معه، فأرض الله واسعة، (( وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَماً كَثِيراً وَسَعَةً )) (1)، وقد سبق
الكلام عن علاقة هذه الآية بهجرة الحبشة (2).
وقد بات رسول الله صلى الله عليه وسلم يفكر في البحث عن مكان آمن للدعوى والمؤمنين بها، قبل ذهابه للطائف، وقبل هجرته للمدينة، ولاسيما حين اشتد أذى المشركين عليهم، وفي رواية عند الزهري أنه قال لهم: ((تفرقوا في الأرض ، قالوا: فأين نذهب يا رسول الله؟ قال: هاهنا، وأشار بيده إلى أرض الحبشة (3).
ولقد وجد المهاجرون في أرض الحبشة ما أمهم وطمأنهم، وفي ذلك تقول أم سلمة رضي الله عنها: ((لما نزلنا أرض الحبشة جاورنا بها خير جار النجاشي، أمنا على ديننا وعبدنا الله تعالى لا نؤذى..)) (4).
وعند ابن حبان: ((حتى قدموا أرض الحبشة وأقاموا بها على الطمأنينة ))(5).
__________
(1) سورة النساء، آية 100.
(2) انظر: آيات الهجرة في القرآن.
(3) المغازي النبوية، بتحقيق، سيهيل زكار ، ص96.
(4) ابن هشام: السيرة النبوية، تحقيق: همام وأبي صعليك 1/413.
(5) السيرة النبوية وأخبار الحلفاء، لابن حبان ص 77.(1/21)
ومطلب الأمن للمؤمنين في أرض الحبشة، نتبينه أكثر حين نقف على طلب الرسول صلى الله عليه وسلم عودة المهاجرين من أرض الحبشة إلى المدينة، وهنا يرد السؤال: متى، ولماذا طلب الرسول صلى الله عليه وسلم من مهاجرة الحبشة العودة واللحاق به؟ وإذا تجاوزنا عودة بعض المهاجرين من ذوات أنفسهم مرة أو أكثر، ولسبب أو لآخر – سيأتي بيانه – فلا نكاد نجد طلباً من الرسول صلى الله عليه وسلم بعودتهم إليه إلا بعد صلح الحديبة في أواخر السنة السادسة للهجرة أو أوائل السنة السابعة – أي بعد حوالي أربعة عشر عاماً أو تزيد من هجرتهم – حين بعث عمرو بن أمية الضمري إلى النجاشي ملك الحبشة، ولأكثر من مهمة.(1/22)
ولئن كان ابن هشام يورد خبر بعث الرسول صلى الله عليه وسلم لعمرو بن أمية للحبشة مجملاً دون تفصيل المهمة التي نهدف إليها (1)، فالواقدي يُفصل الأمر ويوضح للمرسل أكثر من مهمة ويقول: ((إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما رجع من الحديبة في ذي الحجة (2) سنة ست أرسل الرسل إلى الملوك يدعوهم إلى الإسلام وكتب إليهم كتباً… فكان أول رسول بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم عمرو بن أمية الضمري إلى النجاشي وكتب إليه كتابين يدعوه في أحدهما إلى الإسلام ويتلو عليه القرآن.. وفي الكتاب الآخر يأمره أن يزوجه أم حبيبة بنت أبي سفيان بن حرب وكانت قد هاجرت إلى الحبشة مع زوجها عبيد الله بن جحش الأسدي فتنصر هناك ومات، وأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم في الكتاب أن يبعث إليه بمن قبله من أصحابه ويحملهم، ففعل: (3)، كما يشير ابن إسحاق إلى بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمرة بن أمية الضمري للنجاشي بشأن المهاجرين فحملهم في سفينتين وقدم بهم عليه وهو بخيبر بعد الحديبية دون ذكر الكتاب )) (4).
تُرى ألم يكن النبي صلى الله عليه وسلم محتاجاً للمهاجرين في معاركه الحاسمة مع المشركين كبدر، وأحد، والأحزاب؟ أو سواها من الوقائع والأحداث التي كانت تهدد وجود المسلمين في المدينة؟ أليس في الحبشة من شجعان المسلمين أمثال جعفر ومن بقي معه؟
__________
(1) انظر: السيرة النبوية لابن هشام 3/338.
(2) ويرى ابن القيم أن ذلك في شهر ربيع الأول من السنة السابعة للهجرة ( زاد المعاد 3/26).
(3) الطبقات الكبرى لابن سعد 1/258-259.
(4) السيرة النبوية لابن هشام 4/8.(1/23)
إن الذي يستوحي من الأحداث أن هذه الفترة غير آمنة، وصورة الصراع بين الإسلام والجاهلية لم تتضح نتائجها بعد، فالنصر يعقبه الهزيمة – كما في بدر وأحد – والأمن يتبعه خوف تبلغ به القلوب الحناجر ويظن المؤمنون بالله الظنونا- كما في الأحزاب – والمهاجرون بأرض الحبشة – مع أمنهم – يؤدون دوراً مهماً في نشر رسالة الإسلام ويكفيهم أن يدخل الملك في دينهم وأن يساندهم في مهمتهم، ويشيع ذكر القرآن والإسلام يتقلص دور النصرانية ويتلاشى الإنجيل المنحرف، حتى إذا تغير الحال، وظهر الانفراج في ميدان الصراع لصالح المسلمين، وسلمت قريش واعترفت بقوة المسلمين وصالحتهم، وتضمنت بنود الصلح أن تضع الحرب أوزارها بين الطرفين لمدة عشر سنين، وأضحت المدينة آمنة، فلابد من طلب المهاجرين وعودتهم ومشاركتهم في بناء الدولة ومساهمتهم في نشر الإسلام، وهنا تصبح (المدينة) كـ (الحبشة) آمنة، وحينها يعود المهاجرون للمساهمة في بناء دولة الإسلام.
5ـ نشر الدعوة خارج مكة.
على أن هذا الأمن للمهاجرين في الحبشة لا ينبغي أن يفهم أنه لذوات أنفسهم، ولا أنه للنجاة من أذى المشركين فحسب وإن كان ذلك مطلباً، بل وراءه التوفر والتفرغ للدعوى لدين الله ونشر الإسلام في آفاق الأرض، وأساس ذلك طبيعة رسالة الإسلام الخاتمة والعامة، ومن مستلزمات ذلك أن تبلغ هذه الرسالة الأحمر والأسود، وحين تضيق أرض أو تستغلق قلوب قوم فلابد من الهجرة إلى أرض أخرى، ولابد من مخاطبة عقول آخرين، وكذلك من أسباب وأهداف هجرة المسلمين للحبشة نشر الدين وتبليغ الدعوة للآخرين.(1/24)
ولقد استنتج عدد من الباحثين المحدثين من أحداث السيرة، ونوعية المهاجرين ما يسند وجهة النظر تلك، يقول صاحب الظلال: ((ومن ثم كان بحث الرسول صلى الله عليه وسلم عن قاعدة أخرى غير مكة، قاعدة تحمي هذه العقيدة وتكفل لها الحرية، ويتاح فيها أن تخلص من هذا التجميد الذي انتهت إليه في مكة، حيث تظفر بحرية الدعوة وحماية المعتنقين لها من الاضطهاد والفتنة، وهذا في تقديري كان هو السبب الأول والأهم للهجرة، ولقد سبق الاتجاه إلى يثرب لتكون قاعدة للدعوة الجديدة عدة اتجاهات، سبقها الاتجاه إلى الحبشة، حيث هاجر إليها كثير من المؤمنين الأوائل، والقول بأنهم هاجروا إليها لمجرد النجاة بأنفسهم لا يستند إلى قرائن قوية، فلو كان الأمر كذلك لهاجر إذن أقل الناس جاهة وقوة ومنعه من المسلمين، غير أن الأمر كان على الضد من هذا، فالموالي المستضعفون الذين كان ينصب عليهم معظم الاضطهاد والتعذيب والفتنة لم يهاجروا، إنما هاجر رجال ذوا عصبيات، لهم من عصبيتهم – في بيئة قبلية- ما يعصمهم من الأذى ويحميهم من الفتنة ، وكان عدد القرشين يؤلف غالبية المهاجرين..)) (1).
__________
(1) في ظلال القرآن 1/29.(1/25)
ويوافق (سيد) في نظرية (الغضبان) ويضيف: هذه اللفتة العظيمة من (سيد)رحمه الله، لها من السيرة ما يعضدها ويساندها، وأهم ما يؤكدها في رأي هو الوضع العام الذي انتهى إليه أمر مهاجرة الحبشة، فلم نعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد بعث في طلب مهاجرة الحبشة حتى مضت هجرة يثرب وبدر وأحد والخندق والحديبية..لقد بقيت يثرب معرضة لاجتياح كاسح من قريش خمس سنوات وكان آخر هذا الهجوم والاجتياح في الخندق، وحين اطمأن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أن المدينة قد أصبحت قاعدة أمينه للمسلمين وانتهى خطر اجتياحها من المشركين عندئذ بعث في طلب المهاجرين من الحبشة، ولم يعد ثمة ضرورة لهذه القاعدة الاحتياطية التي كان من الممكن أن يلجأ إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم لو سقطت يثرب في يد العدو (1).
ويرى الأستاذ الشامي أن ما ذهب إليه ( سيد ) رأي له وجهته،
لاسيما فيما يتعلق بنوعية المهاجرين ويقول: عندما نقرأ أسماء المهاجرين إلى الحبشة في الهجرتين لا نجد( بلالاً) ولا (صهيباً) ولا (خباباً)وهناك شك في هجرة (عمار) والراجح أنه لم يهاجر (2). على أن (الشامي) يُعلل ندرة المستضعفين في هجرة الحبشة بأنها كانت توطئة نفسية وعملية للقرشيين على مغادرة الوطن، الأمر الذي كانوا بحاجة إلى التدريب عليه، بينما لم يكن لأولئك الموالي حاجة بذلك فهم ليسوا أهل مكة (3).
__________
(1) منير الغضبان: المنهج الحركي للسيرة النبوية /67،68.
(2) صالح الشامي: السيرة النبوية، تربية أمة وبناء دولة ص 108،109.
(3) المرجع السابق ص 109.(1/26)
ويضيف في موضع آخر سبباً آخر فيقول: إن هؤلاء الصحابة – من الموالي والمستضعفين – رضي الله عنهم عذبوا حتى ملّ المعذبون، ورأوا ألا فائدة من ذلك، وكأن التعذيب كان لقاحاً مضاداً لجرثوم المرض – الذي هو الخوف – فما عادوا يهتمون.. ثم إن قريشاً شغلت عنهم بالمسلمين الآخرين الذين بدأوا يظهرون في كل قبيلة وفخذ (1).
أما الأستاذ (دروزة) فيميل إلى فتح مجال للدعوة في الحبشة سبباً من أسباب هجرة الحبشة حين يقول: (بل أنه ليخطر بالبال أن يكون من أسباب اختيار الحبشة النصرانية أمل وجود مجال للدعوة فيها، وأن يكون هدف انتداب جعفر متصلاً بهذا الأمل، ولعل فيما روي أكثر من مرة عن إسلام النجاشي وغيره من الأحباش ووفادة بعضهم على النبي صلى الله عليه وسلم مستطلعين ما يستأنس به على هذا الخاطر) (2).
قلت: ومما يدعم الرأي القائل يكون الدعوة للدين الجديد في أرض الحبشة سبباً وهدفاً من أسباب الهجرة إسلام النجاشي، وهو أمر ثابت – كما سيأتي بيان ذلك – بل وإسلام آخرين من أهل الحبشة – سيأتي الحديث عنهم في موضعه – وأمر آخر، فإذا كان ذهاب المهاجرين للحبشة بمشورة النبي صلى الله عليه وسلم وتوجيهه فبقاؤهم في الحبشة إلى فتح خيبر بأمر النبي صلى الله عليه وسلم وتوجيهه، وفي صحيح البخاري: فقال جعفر – للأشعرين – حين وافقوه بالحبشة: (( إن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثنا هنا، وأمرنا بالإقامة فاقيموا معنا)) (3).
وليس يخفى أن مجيئهم كذلك من الحبشة كان بأمر الرسول صلى الله عليه وسلم وتوجيهه كما نص على ذلك ابن إسحاق، والواقدي، وقد سبق البيان (4).
وهذا يعني أنهم ذهبوا لمهمة معينة – ولا أشرف من مهمة الدعوة لدين الله – وأن هذه المهمة قد انتهت حين طُلب المهاجرون.
__________
(1) الشامي: من معين السيرة، ص 74.
(2) سيرة الرسول - صلى الله عليه وسلم - 1/265 عن الشامي ص 111.
(3) الصحيح مع الفتح 6/237.
(4) البحث المبكر عن مكان آمن للمسلمين.(1/27)
نوعية المهاجرين
ولعل مما يعضد هذا الرأي أيضاً التعرف على نوعية المهاجرين – وخاصة الهجرة الأولى – وفي ذلك كذلك ما يكشف عن سبب الهجرة بشكل عام، فهل كان في المهاجرين للحبشة من الموالي الذين وقع عليهم العذاب أكثر من غيرهم، وإذا كان فما نسبتهم إلى عدد المهاجرين، وإذا تبين أن غالبية المهاجرين من ذوي النسب والمكانة والمنعة في قريش فما دلالته؟
إن ما يلفت النظر أننا لا نجد في قائمة أسماء المهاجرين الأول إلى الحبشة أحداً من الموالي الذين نالهم من أذى قريش وتعذبها أشد من غيرهم كبلال، وخباب، وعمار… رضي الله عنهم، بل إننا حين نتفحص قائمة أصحاب الهجرة الأولى نجدهم أو غالبيتهم من ذوي النسب والمكانة في قريش، ويمثلون عدداً من القبائل، وهذه نماذج لمن تتفق على ذكرهم رواية: عروة بن الزبير، ومحمد بن إسحاق، والواقدي:
عثمان بن عفان رضي الله عنه ( من بني أمية).
أبو حذيقة بن عتبة رضي الله عنه (من بني عبد شمس).
الزبير بن العوام رضي الله عنه (من بني أسد).
مصعب بن عمير رضي الله عنه (من بني عبد الدار).
عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه (من بني زهرة).
أبو سلمة بن عبد الأسد رضي الله عنه (من بني مخزوم).
عثمان بن مظعون رضي الله عنه (من جمح بن عمرو).
عامر بن ربيعة رضي الله عنه (من بني عدي – حليف).
أبو سبرة بن رهم رضي الله عنه (من بني عامر بن لؤي).
10- سهيل بن بيضاء رضي الله عنه (من بني الحارث).
أما قائمة النساء المهاجرات، فيتفق الثلاثة (عروة، ابن إسحاق، الواقدي) على ذكر ثلاث منهن: وهن كذلك من ذوي النسب والمتعة، وهن: رقية بنت محمد صلى الله عليه وسلم أم سلمة بنت أبي أمية بن المغيرة بن عبد الله ابن عمر بن مخزوم، سهيلة بنت سهيل بن عمرو بن بني عامر بن لؤي.(1/28)
كما تتفق رواية ابن إسحاق والواقدي على ذكر: ليلى بنت أبي حثمة (القرشية العدوية) ويزيد عليهما (ابن سيد الناس) أم كلثوم بنت سهيل بن عمر (أخت سهلة) (1).
فهل ترى في هذه القوائم أحداً من الموالي ذكراناً أو إناثاً، فإن قيل أن الأذى شمل ذوي النسب والمكانة كما طال غيرهم، قيل: هذا صحيح ولكنه كان على الموالي أشد في بيئة تقيم وزناً للقبيلة وترعى النسب، وبالتالي فلو كان الفرار من الأذى وحده هو السبب في الهجرة، لكان هؤلاء الموالي المعذبون أحق بالهجرة من غيرهم، ويعضد هذا أن ابن إسحاق
وغيره ذكر عدوان المشركين على المستضعفين، ولم يذكر هجرتهم للحبشة (2).
وإذا لم ننف أثر الأذى على الهجرة – كما سبق البيان – استطعنا أن نخلص من هذه الوقفة على أسماء المهاجرين أن ثمة أسباباً أخرى تدفع للهجرة غير الأذى اختار لها النبي صلى الله عليه وسلم نوعية من أصحابه، تمثل عدداً من القبائل، وقد يكون لذلك أثر في حمايتهم لو وصلت قريش إلى إقناع أهل الحبشة بإرجاعهم من جانب ، وتهز هجرتهم قبائل قريش كلها أو معظمهم حدث هجرتهم من جانب آخر فمكة ضاقت بأبنائها ولم يجدوا بدءاً من الخروج عنها بحثاً عن الأمن في بلد آخر، ومن جانب ثالث يرحل هؤلاء المهاجرون بدين الله لينشروه إلى الآفاق، وقد تكون تربة أخصب من غيرها، وقد تنفتح عقول وقلوب حين يستغلق سواها.
__________
(1) انظر: مغازي عروة، تحقيق الأعظمي ص 105 السيرة النبوية لابن هشام 1/389 الطبقات الكبرى لابن سعد 1/204، عيون الأثر في فنون المغازي والسير 1/115.
(2) السيرة لابن هشام 1/392-396، البلاذري، الأنساب 1/156-198.(1/29)
هذه الوقفة المتأملة – أياً كان نسبة الصحة في استنتاجها – أولى من النظرة المشككة في قوائم المهاجرين، بناءً على اختلاف يسير بين المصادر في عرضها، كما صنع صاحب دراسة (الهجرة إلى الحبشة دراسة مقارنة للروايات)، وفوق ما فيها من نفس التشكيك في الهجرة الأولى، ففيها تضخيم للاختلاف في ذكر الأسماء أكبر من الواقع، وتأمل (ص: 8،9)، من المقال والتعليق عليه ).
المبحث الثالث
اختيار الحبشة لماذا؟
جاء في مغازي الزهري، وطبقات ابن سعد أن الحبشة كانت أحبّ الأرض إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يُهاجر إليها (1)، ويبدو أن ذلك لعدة اعتبارات ومنها:
أ ـ النجاشي العادل.
أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى عدل النجاشي بقوله لأصحابه: ((لو خرجتم إلى أرض الحبشة فإن بها ملكاً لا يظلم عنده أحد)) (2)، وتشير بعض المصادر إلى أن (عدل) النجاشي بلغ حداً تحتكم إليه قريش في خصومة زعمائها (3).
__________
(1) المغازي النبوية، ص 96، الطبقات الكبري 1/204.
(2) رواه ابن إسحاق في السيرة معلقاً، انظر: السيرة النبوية لابن هشام 1/397، ورواه البيهقي في الدلائل 2/285، من طريق موسى بن عقبة ولم يسم من حدثه، وساق الذهبي في السيرة 110، الخبر بسند حُكم له بالصحة، وانظر هامش السيرة بتعليق همام سعيد وأبي صعبلبك 1/397.
(3) البلاذري، الأنساب 1/73.(1/30)
وصدقت الأحداث الجارية في أرض الحبشة شهادة النبي صلى الله عليه وسلم للنجاشي بالعدل والحكمة، وفي المسند من حديث أم سلمة رضي الله عنها الطويل في قصة الهجرة ما يؤكد عدله مع المسلمين المهاجرين حين حاولت قريش عن طريق مبعوثها إثارة النجاشي وإخراج المهاجرين، فلم تؤثر فيه هداياهم ولم يصدق الشائعات فيهم، ورأى الاستماع إليهم، وحين أعجبه منطقهم وأحس بصدقهم، وآنس منهم الإيمان رد رسولي قريش مقبوحين، وعاش المسلمون المهاجرون عنده بخير دار وخير جوار (1).
والنجاشي حين يعدل مع المسلمين ويرفض أخذ الرشوة فيهم، يتذكر قصة الظلم الواقعة عليه من الأحباش، ويشكر الله على رد ملكه له، ويأبى أن يعامل المسلمين معاملة تحرج عن أطار هذا العدل الذي مكنه الله به من تملكه لأرض الحبشة، والخبر بطوله أخرجه ابن إسحاق، والشاهد منه قول النجاشي: ( ما أخذ الله مني الرشوة حين ردّ عليّ ملكي فآخذ الرشوة فيه، وما أطاع الناس فيّ فأطيع الناس فيه ) أما تفصيل الخبر فقد قال ابن إسحاق: قال الزهري فحدثت عروة بن الزبير حديث أبي بكر ابن عبد الرحمن عن أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم فقال: هل تدري ما قوله: ما أخذ الله مني الرشوة ين رد عليّ ملكي فآخذ الرشوة فيه، وما أطاع الناس فيّ فأطيع الناس فيه؟ قلت: لا؛ قال: فإن عائشة أم المؤمنين حدثتني أن أباه كان ملك قومه، ولم يكن له ولدٌ إلا النجاشي، وكان للنجاشي عم، له من صلبه اثنا عشر رجلاً، وكانوا أهل بيت مملكة الحبشة، فقالت الحبشة بينها: لو أنا قتلنا أبا النجاشي وملكنا أخاه فإنه لا ولد له غير هذا الغلام، وإن لأخيه من صلبه اثنى عشر رجلاً، فتوارثوا ملكه من بعده، بقيت الحبشة بعده دهراً، فغدوا على أبي النجاشي فقتلوه وملكوه أخاه، فمكنوا على ذلك حيناً.
__________
(1) المسند 1/201-5/290، بإسناد قوي، كما أخرجه ابن إسحاق في السيرة مسنداً مصرحاً بالحديث (السيرة لابن هشام 1/413).(1/31)
ونشأ النجاشي مع عمه، وكان لبيباً حازماً من الرجال، فغلب على أمر عمه، ونزل منه بكل منزلة، فلما رأت الحبشة مكانة [منه] قالت بينها: والله لقد غلب هذا الفتى على أمر عمه، وإنا لنتخوف أن يملكه علينا، وإن ملكه علينا ليقتلنا أجمعين، لقد عرف أنا نحن قتلنا أباه. فمشوا إلى عمه فقالوا: إما أن تقتل هذا الفتى وإما أن تخرجه من بين أظهرنا، فإنا قد خفناه على أنفسنا، قال: ويلكم قتلتُ أبان بالأمس، واقتله اليوم، بل أخرجه من بلادكم، قالت: فخرجوا به إلى السوق، فباعوه من رجل من التجار بست مئة درهم: فقذفه في سفينة فانطلق به، حتى إذا كان العشي من ذلك اليوم، هاجت سحابة من سحائب الخريف، فخرج عمه يتسمطر تحتها، فأصابته صاعقة فقتلته، قالت: ففزعت الحبشة إلى ولده، فإذا هو محمق ليس في ولده خير (1)، فمرج (2) على الحبشة أمرهم.
فلما ضاق عليهم ما هم فيه من ذلك، قال بعضهم لبعض: تعلموا والله أن ملككم الذي لا يقيم أمركم غيره للذي بعتم غدوة، فإن كان لكم بأمر الحبشة حاجة فإدركوه [ الآن ] قالت: فخرجوا في طلبه، وطلب الرجل الذي باعوه منه حتى أدركوه فأخذوه منه، ثم جاءوا به، فعقدوا
عليه التاج، وأقعدوه على سرير الملك فملكوه.
__________
(1) وقوله والمحمق: الذي يلد الحمقى.
(2) وقوله فمرج على الحبشة أمرهم: معناه قلق واختلط.(1/32)
فجاءهم التاجر الذي كانوا باعوه منه فقال: إما أن تُعطوني مالي، وإما أن أكلمه في ذلك؟ قالوا: لا نعطيك شيئاً؛ قال: إذاً والله أكلمه؛ قالوا: فدونك وإياه قالت: فجاءه فجلس بين يديه، فقال: أيها الملك، ابتعت غلاماً من قوم بالسوق بست مئة درهم، فأسلموا إليّ غلامي وأخذوا دراهمي، حتى إذا سرت بغلامي أدركوني، فأخذوا غلامي، ومنعوني دراهمي، قالت؛ فقال لهم النجاشي: لتُعطنه دراهمه، أو ليضعن غلامه يده في يده، فليذهبن به حيث شاء؛ فقالوا: بل نعطيه دراهمه، قالت: فلذلك يقول: ما أخذ الله مني رشوة حين رد عليّ ملكي، فآخذ الرشوة فيه، وما أطاع الناس فيّ فأطيع الناس فيه، قالت: وكان ذلك أول ما خبر من صلابته في دينه، وعدله في حكمه.
قال ابن إسحاق، وحدثني يزيد بن رومان عن عروة بن الزبير عن عائشة قال: لما مات النجاشي كان يتحدث أنه لا يزال يُرى على قبره نور(1).
ب ـ النجاشي الصالح.
شهد النبي صلى الله عليه وسلم للنجاشي بالصلاح فقال حين مات: ((مات اليوم رجل صالح..)) (2).
__________
(1) انظر: السيرة النبوية لابن هشام 1/419، 420، وانظر: الذهبي في سير أعلام النبلاء 1/429، 430، وقال المحققان، رجاله ثقات إلا أن فيه عنعنة ابن إسحاق، على أن الذهبي ذكر في كتابه السيرة ص 116، أن أبا النجاشي ملك الحبشي مات والنجاشي صبي، فأوصى إلى أخيه أن إليك ملك قومك حتى يبلغ ابني، فإذا بلغ فله الملك، فرغب أخوه في الملك، فباع النجاشي لتاجر وبادر بإخراجه إلى السفينة، فأخذ الله عمه قعصاً فمات..
(2) رواه البخاري في المناقب 3877 وغيره.(1/33)
وأورد الطبري بسنده إلى عروة بن الزبير أنه كتب إلى عبد الملك بن مروان يخبره عن بدء دعوة النبي صلى الله عليه وسلم وما ناله وأصحابه منهم، ثم جاء على ذكر هجرة الحبشة وأن الرسول صلى الله عليه وسلم أمرهم أن يخرجوا إلى أرض الحبشة وأثنى على ملكها بقوله: " وكان بالحبشة ملك صالح يقال له النجاشي، لا يظلم أحد بأرضه، وكان يثنى عليه مع ذلك صلاح – أي يشيع عنه ذلك - (1).
ونحن نتبين هذا الصلاح في شخص النجاشي لتأثره بالقرآن يُتلى عليه، فحين سمع ما سمع من المسلمين من آيات الكتاب بكى حتى اخضلت لحيته (2) ونتبين كذلك أثر هذا الصلاح في حماية المسلمين المهاجرين له وإتاحة الفرصة للمؤمنين ليعبدوا ربهم، ويقوموا بشعائر دينهم آمنين، وهو يقول لهم: اذهبوا فأنتم شيوم بالأرض، والشيوم الآمنون، من سبكم غرم، يكررها ثلاثاً، ما أحب أن لي تبراً من ذهب وأني آذيترجلاً منكم (3).
حتى ولو كلفه هذا الصلاح والصدق مخالفة الأحباش البطارقة من حوله، ولو أجمعوا حربه، والخروج عليه، وتفيد رواية ابن إسحاق أن المسلمين حين قالوا معقتدهم الصحيح في عيسى عليه السلام وتلوا عليه في ذلك من القرآن تأثر، ثم ضرب بيده الأرض فأخذ منها عوداً ثم قال: والله ما عدا عيسى بن مريم ما قلتم هذا العود، فتناحرت بطارقته حوله، لأن عقيدة النصارى في عيسى تخالف ذلك حين قال ما قال: فقال: وإن نخرتم والله (4).
__________
(1) تاريخ الأمم والملوك 2/328.
(2) انظر: السيرة لابن هشام 1/416.
(3) المصدر السابق 1/417.
(4) انظر: السيرة لابن هشام 1/416-417.(1/34)
ولم يقف الأمر عند هذا الحد، بل روى ابن إسحاق خروج الحبشة على النجاشي، حين فارق دينهم، قال ابن إسحاق، وحدثني جعفر بن محمد عن أبيه قال: اجتمعت الحبشة فقالوا للنجاشي إنك قد فارقت ديننا، وخرجوا عليه، فأرسل إلى جعفر وأصحابه، فهيأ لهم سُفناً، وقال: اركبوا فيها وكانوا كما أنتم، فإن هزمت فامضوا حتى تلحقوا بحيث شئتم، وإن ظفرت فاثبتوا، ثم عمد إلى كتاب فكتب فيه: هو يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله، ويشهد أن عيسى بن مريم عبده ورسوله وروحه، وكلمته ألقاها إلى مرين، ثم جعله في قبائه عند المنكب الأيمن، وخرج إلى الحبشة، وصفوا له، فقال يا معشر الحبشة: الست أحق الناس بكم؟ قالوا: بلى، قال: فكيف رأيتم سيرتي فيكم ؟ قالوا: خير سيرة ، قال : فما بالكم ؟ قالوا : فارقت ديننا وزعمت أن عيسى عبد
قال: فما تقولون أنتم في عيسى؟ قالوا: نقول هو ابن الله، فقال النجاشي – ووضع يده على صدره على قبائه – هو يشهد أن عيسى بن مريم لم يزد على هذا شيئاً، وإنما يعني ما كتب، فرضوا وانصرفوا عنه، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم ، فلما مات النجاشي صلى النبي عليه واستغفر له(1).
إنها قمة الصلاح وهو يعتقد العقيدة الحقة في عيسى عليه السلام في بيئة تأبى ذلك وترفضه، ومنتهى العدل مع المسلمين وهو يخبرهم بالاستعداد للخروج في حال هزيمته، ولعله أثر المصلحة حين تأول على الأحباش ولم يصطدم معهم.
جـ ـ الحبشة متجر قريش.
كانت قريش على صلة بالحبشة فلا علاقات تجارية، إذ من المعلوم أن التجارة عماد اقتصاد القرشيين، والحبشة من مراكز التجارة في الجزيرة وكان لهم رحلتان في الشتاء والصيف، وحين يفكر المسلمون في الهجرة خارج بلادهم يجدون في الحبشة ما يخفف قليلاً من آلام الغربة ووحشة المهاجر الجديد، فربما عرفها بعضهم لذهابه في تجارة إليها، أو ذكرها لهم من ذهب إليها قبلهم.
__________
(1) السيرة لابن هشام 1/421.(1/35)
ولهذا يمكننا اعتبارها متجراً لقريش من أسباب اختيارها للهجرة، وفي هذا نقل الطبري في معرض ذكره لأسباب الهجرة للحبشة: (وكانت أرض الحبشة متجراً لقريش، يتجرون فيها، يجدون فيها رفاغاً من الرزق، وأمناً، ومتجراً حسناً(1).
كما نقل ابن عبد البر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين دخل الشعب، أمر من كان بمكة من المؤمنين أن يخرجوا إلى أرض الحبشة، وكان متجراً لقريش))(2).
ونقل ابن حيان – ضمن اختيار الحبشة مكاناً للهجرة – أنها كانت أرضاً دفئة ترحل إليها قريش رحلة الشتاء (3).
وفي السير والمغازي لابن إسحاق ما يؤكد الصلة التجارية بين قريش والأحباش، فالحبشة لقريش ملجأ ووجه (4).
د ـ الحبشة البلد الأمن.
ليس في داخل الجزيرة – في تلك المرحلة – مكان آمن يمكن أن يلجأ إليه المسلمون، لاسيما وقريش تُحكم سيطرتها على مكة وما جاورها والعرب من حولها يسمعون ويطيعون لأمرها في الغالب، إذ لها نفوذ عليهم ولهم حاجة إليها في حجهم، وتجارتهم، ومواسمهم، وفوق ذلك فالعرب الآخرون يشاركون قريشاً في حرب الدعوة وعدم الاستجابة للنبي صلى الله عليه وسلم ، ومواقف العرب منه حين دعوتهم في المواسم بشكل عام،
وموقف أهل الطائف منهم – بشكل خاص – يؤكد عدم السمع للنبي صلى الله عليه وسلم ومشاركة قريش في رفض الدعوة الجديدة.
وقد أشار ابن إسحاق إلى نماذج من هؤلاء العرب الذين رفضوا عرضه ودعوته (5).
__________
(1) تاريخ الطبري 2/328، وانظر: مغازي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لعروة بن الزبير ص 104.
(2) الدرر في اختصار المغازي والسير ص 27.
(3) السيرة النبوية وأخبار الخلفاء ص 72.
(4) السيرة والمغازي، تحقيق سهيل زكار ص 167.
(5) السير والمغازي، تحقيق سهيل زكار ص 232.(1/36)
وإذا كان هذا في داخل الجزيرة، فلم يكن – حينها – في خارج الجزيرة بلد أكثر أمناً من بلاد الحبشة، ومن المعلوم بُعد الحبشة عن سطوة قريش من جانب، وهي لا تدين لقريش بالاتباع كغيرها من القبائل (1).
وفي حديث ابن إسحاق عن أسباب هجرة المسلمين للحبشة أوردما يفيد إشارة النبي صلى الله عليه وسلم لاختيار الحبشة مكاناً للهجرة أنها: أرض صدق، وأنها بها ملكاً لا يظلم عنده أحد (2)، فهي أرض صدق، وملكها عادل، وتلك من أهم سمات البلد الآمن.
هـ ـ محبة الرسول صلى الله عليه وسلم ومعرفته للحبشة.
وفوق ما سبق من معرفة قريش – بشكل عام – وصلتها بالأحباش والحبشة، ففي حديث الزهري أن الحبشة كانت أحب الأرض إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يهاجر إليها (3).
أما لماذا هذه المحبة، فلئن لم يتوفر لديّ ما أقطع به سبباً لهذه المحبة؛ فلعلي ألتمس ذلك من خلال مايلي:
أ ـ حاكم النجاشي العادل.
ب ـ التزام الأحباش بالنصرانية، وهي أقرب إلى الإسلمام من الوثنية، ولذلك فرح المؤمنون بانتصار الروم النصارى على فارس المجوس المشركين في الفترة المكية سنة ثمان من البعثة كما في القرآن (4).
ج ـ معرفة الرسول صلى الله عليه وسلم بأخبار الحبشة من خلال حاضنته أم أيمن رضي الله عنه وأم أيمن هذه ثبت في صحيح مسلم وغيره أنها كانت حبشية (5) ونقل ذلك عن ابن شهاب (6).
__________
(1) انظر: أحمد الجمل، هجرة الرسول وأصحابه في القرآن والسنة ص 97، الشامي: السيرة تربية أمه ص 113.
(2) السيرة لابن هشام 1/397.
(3) مغازي الزهري ص 96.
(4) سورة الروم، آية 2، وانظر: طرهوني، صحيح السيرة النبوية 2/152.
(5) انظر:صحيح مسلم 3/1392، النووي، تهذيب الأسماء واللغات 3/357.
(6) ابن الاثير، أسد الغابة 7/303.(1/37)
وفي سنن ابن ماجة أنها كانت تصنع للنبي صلى الله عليه وسلم طعاماُ فقال: ((ما هذا؟ فقالت: طعام نصنعه بأرضنا، فأحببت أن أصنع لك منه رغيفاً..)) (1).
ولم تستطع أن تغير لكنتها الحبشية، ورخص لها النبي صلى الله عليه وسلم فيما لا تستطع نطفه، فعند ابن سعد أنها كانت تقول: سلام لا عليكم، فرخص لها أن تقول:السلام (2).
وعنده أيضاً أنها قالت للمسلمين يوم حنين: سبت الله أقدامكم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم اسكتي فإنك عسراء اللسان (3).
وفوق ذلك فقد عدها بعض العلماء من مهاجرات الحبشة (4)، فهل يستبعد حديثها للنبي صلى الله عليه وسلم عن طبيعة أرضها ومجتمعها وحكامها؟
د ـ أما القول بإمكانية معرفة الرسول صلى الله عليه وسلم أخبار الحبشة من خلال مقابلته وفد النجاشي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة، حين تلى عليهم القرآن وفاضت أعينهم من الدمع (5)، فهذا وإن جاءت الإشارة إلى الوفد في رواية ابن إسحاق عن الزهري (6)، فهو بعيد لعدة أمور:
1 ـ أن آية المائدة التي تُليت على الوفد في هذه الواقعة مدنية وهذا مؤشر لتأخر هذه الحادثة عن ابتداء هجرة الحبشة (7).
__________
(1) سنن ابن ماجة، كتاب الأطعمة، باب الحواري 2/1107 ح 3336، وحسنة البوصيري 1153، والألباني في: صحيح سنن ابن ماجة 2/235.
(2) الطبقات 8/224.
(3) الطبقات 8/225.
(4) ابن الأثير: أسد الغابة 7/303.
(5) ذكره صاحب: الهجرة إلى الحبشة دراسة مقارنة للروايات ص 30، ونسبه كذلك رياض: الإسلام في أثيوبيا ص 34-38.
(6) السير لان إسحاق ص 219.
(7) الآية هي قوله تعالى: { ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَاناً * وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ … إلى قوله: مع الشاهدين } (المائدة:82-83) .(1/38)
2ـ وعلى القول بأنها وقعت في مكة، فقد ورد عن ابن عباس رضي الله عنهما أن هذه الآيات نزلت في النجاشي وأصحابه حين تلى عليهم جعفر بن أبي طالب بالحبشة القرآن ، قال ابن كثير معلقاً : وهذا القول فيه نظر لأن هذه الآية مدنية، وقصة جعفر مع النجاشي قبل الهجرة(1).
3ـ وورد عن عطاء أن هذا الوفد قوم من أهل الحبشة أسلموا حين قدم عليهم مهاجرة الحبشة من المسلمين (2)، وبالتالي تكون الحادثة بعد الهجرة لا قبلها.
4ـ لم يجزم الطبري بكونهم من الحبشة، بل اختار أن الآية نزلت في قوم كانوا على دين عيسى عليه السلام، فلما رأوا المسلمين وسمعوا القرآن أسلموا ولم يتلعثموا سواء أكانوا من أصحاب النجاشي أم غيرهم (3).
5ـ وأورد ابن إسحاق رواية أخرى قريبة من هذه الرواية وإن اختلف عدد الوفد فيها، ونص على كونها بعد أن ظهر خبره صلى الله عليه وسلم من الحبشة (4).
وهذا الظهور للخبر وإن كان وارداً قبل هجرة المسلمين للحبشة، فلعل ظهوره بعد هجرتهم للحبشة أقرب ، ويؤيده ما ورد عن عطاء – كما سبق -.
6ـ على أن هناك رأياً يفيد بأن الوفد من نصارى نجران وليس من الحبشة(5).
المبحث الرابع
المهاجرون في أرص الحبشة
ـ سرية الخروج والوصول إلى الحبشة
لا غرابة – والدعوة تمر بظروف حرجة في هذه المرحلة – أن تحاط هجرة المهاجرين إلى الحبشة بشيء من السرية والكتمان، حتى لا يجهض المشروع قبل قيامه، أو توضع العراقيل في طريق المهاجرين رغم عزيمتهم وتصميمهم.
فهل نجد في مرويات الهجرة ما يؤيد هذه السرية؟ وهل يعني ذلك عدم معرفة مشركي مكة أو بعضهم على الأقل بشيء من أخبار هذه الهجرة؟
يستطيع المتأمل في فقه المرويات أن يتبين سرية المهاجرين مما يلي:
__________
(1) تفسير ابن كثير 3/157.
(2) تفسير ابن كثير 3/157.
(3) تفسير الطبري 5/5، وانظر: ابن كثير 3/157.
(4) السير لابن إسحاق ص 218.
(5) البيهقي: دلائل النبوة 2/306، ابن سيد الناس، عيون الأثر 1/129.(1/39)
أ ـ جاء النص على سرية الهجرة في رواية الواقدي:(( فخرجوا متسللين سراً)) (1). وعنه الطبري (2)، وإن كان في هذه الرواية مقال، إذ فيها جهالة أحد رواتها (( عن رجل من قومه)) (3).
ب ـ وفي رواية ابن إسحاق:(( فلما رأت قريش أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قد آمنوا وأطمأنوا بأرض الحبشة.. ائتمروا بينهم أن يبعثوا منهم رجلين.. إلى النجاشي فيردهم عليهم..)) (4).
ولنا أن نفهم من هذه الرواية أن قريشاً لم تعلم بهم حين خرجوا، فلما بلغها مخرجهم واستقرارهم بعثت بطلبهم وردهم، ولو علمت بهم قبل خروجهم لمنعتهم وهي قادرة على ذلك، وهو أيسر لها من بعث الرسل واهداء الهدايا وقد لا تنجح في ردهم بعد خروجهم وقد كان .
جـ ـ ويؤيد ذلك ما جاء في رواية" أم سلمة" بهذا المعنى على نحو ما ذكر ابن إسحاق(5).
دـ وفي الرواية نفسها يقول المبعوثان القرشيان ما يفيد خرودهم ابتداءً دون علم قومهم ويطالبون بردهم إليهم " وقد بعثنا إلى الملك أشراف قومهم ليردوهم إلينا.." (6).
وقوة إسناد هذه الرواية – كما سبق – يدعم الرواية السابقة المصرحة بخروجهم سراً وإن لم تخل من ضعف في إسنادها، وإن لم تصرح الرواية الأصح سنداً بالخروج سراً، فإذا كانت قريش مصممة على ردّ المهاجرين بعد هجرتهم، متحملة في سبيل هذه المهمة إرسال الرسل وإهداء الهدايا، فلا شك أن منعهم من الهجرة قبل حصولها أولى وأحرى، لو كانوا على علم بها.
هـ ـ بل تفيد بعض الروايات أن قريشاً لحقت بالمهاجرين لتردهم عن الهجرة ولكن بعد فوات الأوان فلم تدركهم (7).
__________
(1) الطبقات 1/204.
(2) تاريخ الطبري 2/329.
(3) وانظر: كلام د. مهدي رزق الله، في السيرة النبوية في ضوء المصادر الأصلية ص 197.
(4) السيرة لابن هشام 1/411-412.
(5) السيرة لابن هشام 1/413.
(6) المصدر السابق 1/413.
(7) شرح الزرقاني على المواهب 1/271.(1/40)
وهذا مؤشر قوي إلى السرية التي أحيطت بالهجرة والمهاجرين فلم تعلم قريش بداية التفكير والتخطيط لها، حتى خرج المهاجرون من مكة وأفلتوا من مطاردة قريش ومنعهم إياهم عن الهجرة.
و ـ وممن ذكر (السرية ) في الهجرة، ابن سيد الناس (1)، وابن القيم (2)، والزرقاني (3).
وإذا جاء في بعض الروايات علم قريش بالهجرة – متأخراً – كما مرّ فثمة رواية أخرى تفيد علم أحد رجالات قريش بما عزم عليه المهاجرون أثناء استعدادهم للهجرة، فعمر بن الخطاب – قبل أن يسلم – يمر على " ليلى بن أبي حثمة" إحدى المهاجرات، فيستشف منها الاستعداد للترحل ويسألها عن وجهتها، فتجيبه بشكل عام عن أسباب من ذلك والهدف من الخروج دون أن تحدد له الجهة التي يراد الخروج إليها، ولذلك لم يترتب على هذا الخبر تفطن قريش ومنعها للمهاجرين (4).
وهذا كما أنه لا يجزم سرية الاستعداد للهجرة من جانب، فهو لا يعني عدم تسري شيء من أخبار الاستعداد من مكة من جانب آخر، وبالتالي يظل الرأي القائم بخروج المهاجرين إلى الحبشة علناً رأياً مرجواً في نظري، والحفاظ على نجاح الهجرة من إحباط قريش لها ووصول المهاجرين إلى الحبشة لتأدية المهمة التي انتدبوا لها أولى من تعليل (شاكر) علنية الهجرة، بقوله: " لم يطلب الرسول صلى الله عليه وسلم من المهاجرين أن يخرجوا سراً حتى يشعر الآباء بما هم قادمون عليه فيراجعوا حساباتهم السابقة وتتحرك عواطف الأبوة" (5).
__________
(1) عيون الأثر 1/116.
(2) زاد المعاد 3/23.
(3) شرح المواهب 1/271.
(4) السير لاين هشام 1/365، وانظر: ما سبق عن تفصيل هذه الرواية.
(5) محمود شاكر، مع الهجرة إلى الحبشة ص 8،9.(1/41)
أما عن أخبار وصول المهاجرين إلى الحبشة، فلا تكاد المصادر المتقدمة تُفصّل في زمن قدومهم الحبشة، ولا كيف استقبلهم الأحباش؟ وهل اتصلوا مباشرة بملك الحبشة (النجاشي) أم لم يعلم بقدومهم حتى جاء وفد قريش يطلب ردّهم؟ وهل كان النبي صلى الله عليه وسلم على صلة بهم ومعرفة بحالهم منذ وطأت أقدامهم أرض الحبشة؟ أم ظلت أخبارهم غائبة عنه، وإلى متى؟
(و) تظل الإجابة على كثير من هذه الأسئلة مجرد تخمين، واستنطاق لظاهر النصوص، قد تصدق هذه التخمينات، وقد يسقط بعضها بعضاً (1)،
والشيء الذي نستطيع الوقوف عليه أن أخبار المهاجرين انقطعت
عن النبي صلى الله عليه وسلم بعد هجرتهم فترة، حتى أورد (الفسوي) في المعرفة: أن خبرهم أبطأ على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقدمت امرأة من قريش فقالت: يا محمد قد رأيت ختنك ومعه امرأته، قال: على أي حال رأيتهما؟ قالت: رأيته قد حمل امرأته على حمار من هذه الدّبابة، وهو يسوقها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " صحبها الله إن عثمان لأول من هاجر بأهله بعد لوط: (2).
وثمة رواية أخرى قريبة ممن سابقتها، وفيها زيادة بيان، فعن أنس أن عثمان خرج مهاجراً إلى أرض الحبشة ومعه رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، واحتبس على النبي صلى الله عليه وسلم خبرهم فكان يخرج يتوقف عنهم الخبر، فجاءته امرأته فأخبرته، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن عثمان لأول من هاجر إلى الله بأهله بعد لوط" (3).
ـ استقبال النجاشي لهم.
__________
(1) انظر: الهجرة إلى الحبشة دراسة مقارنة للروايات ص 12،13.
(2) انظر: المعرفة والتاريخ للفسوي 3/255، قال ابن حجر، وأخرجه الفسوي يسند موصول إلى أنس، الفتح 7/188، وانظر: دلائل النبوة للبيهقي 2/297، وانظر شرح الزرقاني 1/271.
(3) رواه الطبراني، قال الهيثمي وفيه الحسن بن زياد البرجمي، ولم أعرفه، وبقية رجاله ثقات، انظر: مجمع الزوائد 9/80، 81.(1/42)
تتضافرت مرويات كتب السيرة على ذكر حسن استقبال النجاشي للمسلمين المهاجرين، وإكرام وفادتهم، وتأمينهم على أنفسهم وعبادتهم وقبل أن نأتي على بيان ذلك نورد الأسئلة الآتية:
متى كان استقبال النجاشي للمهاجرين ؟ وإذا ثبت استقباله لهم
بعد مجيء أصحاب الهجرة الثانية – جعفر ومن معه – فهل استقبل أصحاب الهجرة الأولى؟ وإذا لم يستقبلهم فهل علم بقدومهم وإن لم يستقبلهم؟
وإذا لم تسعفنا مرويات السيرة بإجابة شافية – كما مرّ – فحسبنا أن نتجاوز ظاهر النصوص إلى فقهها، ونتمعن في مدلول العبارات الواردة فيها، وعسى أن ننهى إلى شيء يغلب على الظن وإن لم يُقطع به إجابة على هذه الأسئلة.
وإذا كان منطوق الروايات – التي بين أيدينا – لا يفيد علم النجاشي بالمهاجرين – أول ما قدموا – أرض الحبشة، كما لا يفيد أي مقابلة أو معرفة بأهداف هجرتهم في البداية حتى قدم أصحاب الهجرة الثانية، فكان اللقاء والجوار مع النجاشي.
فمفهم المرويات يؤكد هذا الفهم، ويؤيد تأخر المعرفة واللقيا بهم حتى قدم جعفر وأصحاه ففي رواية عروة أن قريشاً أمرت وفدها بالإسراع في السير إلى الحبشة حتى يسبقوا جعفراً وأصحابه إلى النجاشي ففعلاً" ويفهم منه أن وفد قريش سبق والتقى بالنجاشي قبل لقيا المهاجرين به.
وفي الرواية نفسها: " فلما رأوا ( جعفر وأصحابه ) أن الرجلين ( عمارة بن الوليد وعمر بن العاص ) وفد قريش ، قـ سبقا ودخلا.."
وهذا تأكيد لما سبق (1).
__________
(1) مغازي عروة ص 111، أبو نعيم: دلائل النبوة ص 80.(1/43)
بل لنا أن نفهم من رواية (عروة) أيضاً أن حديث النجاشي مع المهاجرين يفيد لقياه بهم أول مرة، ولا يسعف النص والحوار بسابقة لقاء قبله، واسئلته لجعفر وأصحابه تفيد أن الأمر أنف، ومما قاله لهم: "أخبروني أيها الرهط ما جاء بكم؟ وما شأنكم؟ ولم أتيتموني ولستم بنجّار، ولا سؤال؟ وما نبيكم هذا الذي خرج؟ وأخبروني ما لكم لم تحبوني كما يحييني من أتاني من أهل بلدكم؟ وأخبروني ما تقولون في عيسى ابن مريم؟ (1).
وفي رواية (أم سلمة) رضي الله عنها ما يؤكد ذلك كذلك، وقد جاء في الرواية أن قريشاً طلبت من رسوليها (عبد الله بن ربيعة، وعمر بن العاص)، أن يسألا النجاشي أن يُسلّمهم (المهاجرين) قبل أن يكلمهم.
كما أن اجتماع المسلمين حين بلغهم طلب النجاشي وتشاورهم فيما يقولون للنجاشي إذا جاءوا إليه، ثم حديثهم إليه عن سبب الخروج من مكة، واختيار الحبشة – في كلام طويل - (2).
كل ذلك يفهم منه بداية لقاء لا سابقة له بالنسبة للمهاجرين، ولا معرفة قبله بحالهم بالنسبة للنجاشي.
وحين يغلب على ظننا عدم لقيا النجاشي بأصحاب الهجرة الأولى، إذ لا دليل يثبت خلافه، فيغلب على الظن كذلك عدم معرفة النجاشي بحالهم وسبب قدومهم، وإذا كانت المرويات السابقة تؤكد هذا الفهم، ففي المقابل لا نجد ما نعتمده في معرفة النجاشي بالمهاجرين قبل لقياه بهم، بل نجد في رواية (أبي موسى) رضي الله عنه استغراب النجاشي لخبر وجود المهاجرين حين بلّغه وفداً قريش (عمرو، وعمارة) قائلين: "إن ناساً من أرضاً رغبوا عن ديننا، وهم في أرضك" فردّ النجاشي: فقال لهم في أرضي؟ قالوا: نعم، فبعث إلى المهاجرين، وكان جعفر خطيبهم…(3)
__________
(1) مغازي عروة ص 112.
(2) انظر: السيرة لابن هشام 1/413-415.
(3) رواه الطبراني، ورجاله رجال الصحيح، كما قال الهيثمي: مجمع الزوائد 6/30، 31.(1/44)
كما نجد مثل ذلك في رواية (ابن مسعود)، فحين قال مبعوثاً قريش (عمارة وعمرو) أن ناساً من قومنا رغبوا عن ديننا، وقد نزلوا بأرضك قال النجاشي: وأين هم؟ قالا: هم في أرضك، فبعث إليهم النجاشي وكان خطيبهم جعفر.. (1).
فإن قيل: وكيف يحل قوم غرباء بأرض فلا يعلم ملكها بحالهم حتى يأتيه من يخبره بأمرهم ووجودهم؟ أمكن الإجابة عن ذلك بعدة أمور:
أ ـ قلة عدد المهاجرين (الهجرة الأولى) فمجموعة لا يزيد عددها عن اثني عشر، وربما كانوا أقل لا يستغرب خفاء أمرها في البداية، سيما وهي ليست مكلفة بمقابلة النجاشي ابتداءً، وليست بعثة مفاوضات حتى يشتهر أمرها.
ب ـ يبدو من استقراء النصوص أن المسافة الزمنية بين الهجرتين (الأولى والثانية) قصيرة فما أن استقر أصحاب الهجرة الأولى حتى لحق بهم أصحاب الهجرة الثانية وعبارات (ابن إسحاق) توحي التتابع واتصال الهجرتين، فهو يقول بعد حديثه عن الهجرة الأولى، ثم خرج جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه ، وتتابع المسلمون حتى اجتمعوا بأرض الحبشة، فكانوا بها، منهم من خرج بأهله معه، ومنهم من خرج بنفسه لا أهل له معه (2).
ويفهم من حديث الواقدي عن الهجرتين وقعتا في عام واحد، وأن الفاصل الزمني بين الهجرتين ثلاثة أشهر تقريباً، فأصحاب الهجرة الثانية آذن لهم الرسول صلى الله عليه وسلم بالخروج إلى الحبشة (مرة ثانية) بعد أن اشتد أذى قريش عليهم، إثر قدوم أصحاب الهجرة الأولى من الحبشة إلى مكة حين بلغهم إسلام أهل مكة، وأهل الهجرة الأولى خرجوا إلى الحبشة في رجب سنة خمس فأقاموا شعبان ورمضان وقدموا مكة في شوال
سنة خمس (3).
__________
(1) دلائل النبوة للبيهقي 2/298، ورواه الطبراني وقال الهيثمي: وفيه خديج بن معاوية، وثقة أبو حاتم، وقال: في بعض حديثه ضعف، وضعفه ابن معين وغيره، وبقية رجاله ثقات (مجمع الزوائد 6/24).
(2) السيرة لابن هشام 1/399-400.
(3) الطبقات 1/206، 207.(1/45)
وإذا لم يصرح الواقدي بأن الهجرة الثانية كانت في نفس السنة التي وقعت فيها الهجرة الأولى ( سنة خمس) وإن فهم هذا منه كما سبق، فقد صرح بذلك البيهقي حين قال: " وأما الهجرة الثانية إلى الحبشة وهي فيما زعم الواقدي سنة خمس من مبعث النبي صلى الله عليه وسلم (1).
وقال الذهبي: وذكر الواقدي أن الهجرة الثانية (للحبشة) كانت سنة خمس من المبعث (2).
وإذا ثبت هذا ولم يعارض بما هو أقوى منه، أمكن تفسير عدم علّ النجاشي ومقابلته لأصحاب الهجرة الأولى، ومقابلت لهم جميعاً حين قدم أصحاب الهجرة الثانية، والله أعلم.
جـ ـ كما يبدو أن الظروف السياسية غير مستقرة تماماً للنجاشي في بداية هجرة المسلمين إلى الحبشة، وأن ثمة خصوماً ينافسونه على حكم الأحباش، وإذا لم نستطع تأكيد هذه الخصومة، أو إثبات المنازع له في الحكم أول ما قدم المهاجرون الحبشة فلعلنا نستوحي ذلك من المنازعة التي وقعت له بعد استقرار المهاجرين، ولم يستوسق له أمر الحبشة، حتى أهلك الله عدوه، أواخر رواية أم سلمة رضي الله عنها جاءت الإشارة إلى هذا الوضع السياسي المتأزم تقول أم سلمة رضي الله عنها: فوالله إنا لعلى ذلك إذ نزل به رجل من الحبشة ينازعه في ملكه، إلى أن تقول في نهاية الرواية: ورجع النجاشي وقد أهلك الله عدوه، ومكن له في بلاده، واستوسق عليه أمر الحبشة (3)، وهذا مؤشر إلى عدم استوساق أمر الحبشة قبل ذلك.
__________
(1) دلائل النبوة 2/297.
(2) السيرة النبوية ص 117.
(3) السيرة لابن هشام 1/417-418.(1/46)
وإذا علمنا بداية أمر النجاشي كما سبق البيان، وما وقع له من العبودية والبيع، ثم الحرية والملك، ثم ما تلاه من منازعة على الملك – كما في رواية أم سلمة – أمكن تعضيد هذا الفهم واحتمال عدم الاستقرار في الحبشة – في هذه الفترة – حتى استوسق له الأمر من بعد، وأمكن معه القول، إن انشغال النجاشي بأمر تثبيت ملكه في هذه الفترة كفيل بانشغاله عما سواه، وعدم التفاته إلى مجموعة مسالمة مهاجرة بدينها تنزل أرضه، ولا تشكل خطراً عليه حتى يُعلم بأمرهم، ويُعظم أمرهم في عينه من قبل الوشاة الحاسدين:
وإذا أراد الله نشر فضيلة طويت ... أتاح لها لسان حسود
والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
وشاية قريش بالمهاجرين.
وحين غلب على ظننا لقاء النجاشي بالمهاجرين بعد وشاية قريش بهم، فذلك مبرر لتقديم حديث الوشاية على كيفية استقبال النجاشي للمهاجرين.
إن القارئ المتمعن في أخبار وشاية قريش بالمهاجرين ليعجب من موقف قريش من المهاجرين، إذ يقض المهاجرون على قريش مضجعها،وهم قلة غرباء في أرض بعيدة عن مكة وما جاورها، فلا يهدأ لهم بال، ولا يستقر لهم قرار حتى يبعثوا في أثر المهاجرين، بل ويحرص القرشيون أن يسبق وفدهم وفد المهاجرين إلى ملك الحبشة النجاشي، ويحمل الوفد معه من الهدايا ما تطيب به أنفس الأحباش، وتقدم الهدايا ابتداءً للبطارقة، وتوغر صدورهم حتى يسهموا في نجاح الوفد، ويشيروا على الملك بطرد هؤلاء المهاجرين؟(1/47)
لماذا كل هذا الاستعداد والشحن، أن خشيت قريش على مستقبلها العسكري بسبب هؤلاء المهاجرين؟ أم تخشى على مستقبلها الاقتصادي؟ لا نجد – من تتبع الروايات وحديث الوفد – ما يشير إلى شيء من ذلك ولا نجد في أحاديث المهاجرين ابتداءً وهم في مكة، ولاحقاً حين استقروا بأرض الحبشة أي إشارة للتخطيط لتكوين قوة عسكرية أو اقتصادية تهدد قريشاً، أكثر من وجدنا الفرار بالدين للمهاجرين، والرغبة في نشره عند أقوام آخرين – كما سبق البيان مفصلاً- ولو كان شيء من ذلك مبيتاً لما رجع المهاجرون إلى مكة بعد ثلاثة أشهر تقريباً، ولما رجع آخر المهاجرين بعد ولم يخلفوا، أثراً عسكرياً أو اقتصادياً يذكر، أنه الفرار بالدين والدعوة إليه في العالمين يحسبه الأعداء دائماً تخطيطاً للقضاء عليه، وخطراً يهدد مصالحهم، وتلك مؤشر لقوة الحق وإن كان أصحابه ضعفاء مشردين، وضعف الباطل وإن كان ملأؤه أقوياء ممكنين.
إذاً ما هدف قريش من هذه الوفادة؟
جاء في رواية ابن إسحاق: فلما رأت قريش أن أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد أمنوا واطمأنوا بأرض الحبشة وأنهم قد أصابوا بها داراً وقراراً ائتمروا بينهم أن يبعثوا فيهم منهم رجلين من قريش جلدين إلى النجاشي، فيردهم عليهم ليفتنوهم في دينهم ويخرجونهم من دارهم التي أطمأنوا بها، وأمنوا فيها (1). وهذا ما ورد في رواية أم سلمة رضي الله عنها(2).
وفي رواية أبي موسى وابن مسعود أن وفدا قريش قالا: "إن نفراً من بني عمنا نزلوا أرضك ورغبوا عنا وعن ملتنا " أو " رغبوا عن ديننا" (3).
__________
(1) السيرة النبوية لابن هشام 1/411-412.
(2) السيرة لابن هشام 1/413، وانظر: دلائل النبوة لأبي نعيم ص 82، ومجمع الزوائد 6/25.
(3) دلائل النبوة لأبي نعيم ص 84، والمستدرك 2/310، وصحيحه الحاكم، ومجمع الزوائد 6/24.(1/48)
وفي رواية عمير بن إسحاق قال حدثني عمرو بن العاص قال : لما رأيت جعفراً وأصحابه آمنين بأرض الحبشة حسدته، قلت: لأستقبلن لهذا وأصحابه (1).
وفي رواية عروة قال مبعوثا قريش: إن هذا الرجل الذي بين أظهرنا وأفسد تناولك ليفسد عليك دينك وملكك وأهل سلطانك.. وهؤلاء نفرٌ من أصحاب الرجل الذي خرج فينا، ونخبرك بما نعرف من خلافهم الحق، أنهم لا يشهدون أن عيسى بن مريم إلهاً ولا يسجدون لك (2).
وهكذا تجتمع المرويات عند محاربة قريش للدعوة ومطاردة المؤمنين خارج مكة، ويغيظ قريش ومبعوثوها أن يأمن المهاجرون ويستقروا ويظل التعلق بدين الآباء والأجداد حجة يدلي بها الوفد مبرراً لطرد من خرج عليه، ولا اعتبار لأي شيء آخر سواه، ويحرص الوفد على إبراز نقطا الالتقاء أو الاختلاف مع دين الأحباش بين قريش والمسلمين فتذهب محاولاتهم أدارج الرياح، ويبوء الوفد بالخيبة والخسران.
مبعوثا قريش.
لقد اختلفت الروايات في تحديد أسماء مبعوثي قريش، فهي وإن اتفقت على ذكر عمرو بن العاص، فالخلاف في صاحبه هل كان عبد الله ابن أبي ربيعة المخزومي أو عمارة بن الوليد، أو كلاهما؟
وإذا كانت رواية أم سلمة تنص على عبد الله بن أبي ربيعة، وتغفل ذكر عمارة بن الوليد وهي التي ذكرها ابن إسحاق (3).
فرواية جعفر، وأبي موسى، وابن مسعود، وعروة، وموسى بن عقبة تنص على ذكر عمارة بن الوليد، ولا وجود فيها لعبد الله بن أبي ربيعة (4). كما تتفق مع هؤلاء رواية عبد الرحمن بن أبي ليلى مع ضعفها (5).
بل اقتصر الحافظ ابن حجر في سيرته على ذكر (عمارة) (6).
__________
(1) ومجمع الزوائد 6/28.
(2) مغازي عروة ص 111.
(3) انظر: الرواية في السيرة النبوية لابن هشام 1/413.
(4) انظر: مجمع الزوائد 6/29، 30، مغازي عروة ص 111، دلائل النبوة للبيهقي 2/298، السيرة النبوية للذهبي ص114.
(5) انظر: مجمع الزوائد 6/31-32.
(6) شرح المواهب اللدنية، للزرقاني 1/273.(1/49)
وثمة نوع ثالث من المرويات تذكر عمراً، وتذكر معه – في مقابله النجاشي- مجموعة من أصحابه دون أن تحدد أسماءهم (1).
لكن يبدو أن هذه بعثة متأخرة، فقد جاء في رواية أخرى عن عمرو أنها كانت بعد انصرافهم من غزوة الأحزاب، وأن عمراً خرج إلى النجاشي يرافقه مجموعة من أصحابه (2).
ومن أوائل من تنبه لهذا الاختلاف في المبعوثين، البلاذري (279هـ) وقد انتهى إلى كون ذكر (عمارة) وهماً، وإنما الثبت (عنده) أن الذي مع عمرو هو (عبد الله بن أبي ربيعة) ، وذكر أن وفادة عمرو، وعمارة إنما كانت لسفرة خاصة بينهما لقصد التجارة في الحبشة، وليس لها ارتباط بقضية المهاجرين (3).
وأبو نعيم الأصبهاني (430هـ) وقد نحى منحى آخر إذ حاول التوفيق بين المرويات التي لا يُدفع أصحابها عن الصدق والفهم فقال: "وكل هذه الروايات عمن لا يدفع عن صدق وفهم، فهذا يدل على أن قريشاً بعثت عمر بن العاص دفعتين، مرة مع عمارة بن الوليد، ومرة مع عبد الله بن أبي ربيعة" (4).
وابن عبد البر (463هـ) الذي وضع احتمال بعث قريش إلى النجاشي في مرتين في زمانين، كان لرسول في إحداهما مع عمرو عبد الله بن أبي ربيعة، وفي المرة الثانية كان مع عمرو عمارة بن الوليد (5).
وصنيع ابن عبد البر يدل على أن البعثة الثانية كانت بعد بدر، لاسيما وقد نقل عن الزهري بعث قريش لعمرو، وعبد الله بن أبي ربيعة إلى النجاشي بعد وقعة بدر (6).
__________
(1) هذه رواية عمير بن إسحاق عن جعفر، رواها البزار، انظر: كشف الأستار 2/297، انظر: السعود أحاديث الهجرة ص 41.
(2) رواها أحمد والطبراني، قال الهيثمي ورجالهما ثقات 9/350، وقد رواها ابن إسحاق والواقدي مع اختلاف في بعض ألفاظ الواقدي عن ابن إسحاق، قال ابن كثير، وسياق الواقدي أبسط وأحسن (البداية والنهاية 4/236).
(3) أنساب الأشراف 1/232.
(4) دلائل النبوة ص 84.
(5) الدرر ص 97.
(6) الدرر ص 91.(1/50)
ويميل (السهيلي) إلى إرسال عمارة مع عمرو في المرة الثانية، لكنه يرجأها إلى ما بعد (الأحزاب) مشيراً إلى حادثة إسلام عمرو بن العاص (1).
ويصحح (الزرقاني) نقلاً عن (الشامية) أن في الأولى عمارة وفي الثانية عبد الله بن أبي ربيعة(2).
ويتفق (ابن سيد الناس) مع (أبي نعيم، وابن عبد البر) في بعث الرجلين في وفادتين دون تحديد زمن لمرافقي عمرو ويقول:"وبعثت قريش في شأنهم إلى النجاشي مرتين الأولى عند هجرتهم والثانية عقيب وقعة بدر وكان عمرو بن العاص رسولاً في المرتين، ومعه في إحداهما عمارة بن الوليد وفي الأخرى عبد الله بن أبي ربيعة المخزوميان"(3).
وهذه البعثة الثانية جاء ذكرها قبل ذلك عند (الزهري) بعد بدر دون أن يذكر من كان فيها، وإنما لينال القرشيون ممن كان بأرض الحبشة ثأراً (4).
أما صاحب بهجة المحافل فله منحى آخر في الجمع قال فيه: " كان عمارة معهما أو في رسالة أخرى، ولكن في سياق القصة إبهام من حيث اتحاد جنس الهدية، واشتباه اللفظ من جعفر والنجاشي، وهما في القصتين وأحسن ما يقال تعدد الرسالتين فالأولى عقب هجرتهم، والثانية بعد بدر لطلب الثأر بمن أصيب بها منهم" (5).
وفي المواهب قال القسطلاني: وكان معهما عمارة بن الوليد (6).
__________
(1) الروض الأنف 3/253.
(2) شرح المواهب 1/273.
(3) عيون الأثر 1/115.
(4) البداية والنهاية 3/86.
(5) بهجة المحافل وبغية الأماثل 1/97، سليمان السعود ص 51، من أحاديث الهجرة.
(6) المواهب اللدنية 1/273.(1/51)
ونلخص من هذا العرض إلى أن الجمع بين المرويات إذا أمكن، أولى من إسقاط أحدهما، لا سيما إذا لم يكن ثمة مطعن في سندها، ولا معكر في سياقها ومتنها، ولو أخذنا نموذجين فقط لهذه الروايات المختلفة، لوجدنا جودة الإسناد وحسن السياق متوفر في رواية أم سلمة (وفيها ذكر عبد الله بن أبي ربيعة)، (وقد سبق التعليق على رواية أم سلمة وتصحيح العلماء لها) ورواية ابن مسعود (وفيها ذكر عمارة بن الوليد) وقد قال الحافظ ابن كثير عنها:"وهذا إسناد جيد قوي وسياق حسن.." (1).
فإن عكّر على هذا صعوبة قبول تكرار سفارتين في زمنيين مختلفين، ومع ذلك تتشابه أو تتفق مضامين الكلام من جهة، وتتحد نوعية الهدايا من جهة أخرى ومن جهة ثالثة استشكال دعوة النجاشي لوفد المسلمين مرتين وفي كليهما يستفسر عن دينهم وأسباب عدم سجودهم له، وهو أمر يبعد أن يتكرر مرتين تكراراً متماثلاً كما قال الأعظمي (2).
أمكن القول بوجود (عمارة) مع الرسولين، ويكون الإرسال مرة واحدة، واشتهر فيها عمرو وحدّث الصحابة عن صاحبين كل حسب رؤيته، فمعظم الصحابة رأوا (عمارة) فذكروه وأم سلمة لم ترَ إلا (عبد الله بن أبي ربيعة) فذكرته.
أو يكون الإرسال وقع مرتين ولكن المناظرة لم تقع إلا مرة واحدة (في المرة الأولى) (3).
أو يقال إن (عمارة) كان في الوفد لكنه تخلف عن حضور مجلس النجاشي للعداوة التي وقعت بينه وبين عمرو في مسيرهما قبل لقائهما بالنجاشي كما تشير إلى ذلك رواية عروة (4).
ذلك – في ظني – أولى من القطع بضعف هذه الرواية أو تلك، أو إنكار وجود (عمارة) أو (ابن أبي ربيعة) في وفد قريش للنجاشي.
__________
(1) البداية والنهاية 3/77.
(2) مغازي عروة ص 111 هامش (1) ، وانظر: كذلك استشكال سليمان السعود في: أحاديث الهجرة ص 52.
(3) سليمان السعود، أحاديث الهجرة ص 52.
(4) انظر:مغازي عروة ص 113.(1/52)
ومن عجب أن ترى آراء متناقضة حين يضيق العطن، ويُستعجل في إصدار الحكم، وهذان نموذجان صارخان لاختلاف وجهتي النظر.
النموذج الأول يشكك في وجود (عمارة) في سفارة قريش ويستبعد أي دور له في أحداث الهجرة، ويقول لا مناص من قبول عبد الله بن ربيعة شريكاً لعمرو في وفادة قريش إلى النجاشي . (1).
أما النموذج الآخر فيقع في الطرف الآخر ويقول صاحبه: وقد غيّرت اسم عبد الله بن أبي ربيعة من رواية أم سلمة، فجعلته عمارة ابن الوليد لاتفاق الروايات الأخرى عليه، وهي أكثر وأصح ..؟
ولكن صاحب هذا الرأي عاد مرة أخرى لينتهي إلى أن قريشاً أرسلت الثلاثة ولكنهم لم يدخلوا جميعاً في المرتين، وإنما دخلوا اثنين اثنين، فأما المرة الأولى فدخل فيها عمرو، وابن أبي ربيعة، والدليل ما قالته أم سلمة من أنه كان أتقى الرجلين فيهم، ويبدو أنه أبي الذهاب في المرة الثانية في قطعية قومه، فذهب معه في المرة الثانية (عمارة)… (2).
ويرجح (صادق عرجون) الجمع بن الروايات، وينتهي إلى أن قريشاً بعثت في أثر المهاجرين إلى الحبشة بعثة واحدة، في هجرتهم الثانية، وكان فيها عمرو بن العاص، وعبد الله بن أبي ربيعة مبعوثين أصليين، وكان معهما رديفاً وتابعاً عمارة بن الوليد ويدخل في هذا الترجيح بداهة – كما يقول – (عرجون): أن عمارة لم يكن موجوداً في مجلس الحوار بين النجاشي وجعفر، وعمرو، ومن هنا أغفلت ذكره رواية أم سلمة… (3).
وإن كان يُعكر على هذا الجمع أن معظم الروايات التي ذكرت (عمارة) ليس فيها أي ذكر لعبد الله بن أبي ربيعة، فكيف يكون غير المذكور أصيلاً، والمذكور رديفاً ؟
نقطة ضوء في حياة عمرو
__________
(1) الهجرة إلى الحبشة دراسة مقارنة للروايات ص 24-26.
(2) طرهوني: صحيح السيرة النبوية 2/548، هامش (906).
(3) محمد رسول الله 2/24.(1/53)
وإذا تجاوزنا أمر مبعوثي قريش للنجاشي، وأياُ من كان الأمر فعمرو بن العاص محاوراً أساسياً ومتحدثاً رسمياً باسم قريش، لفت نظرنا – في فقه المراتوي – كيف تحول هذا الحماس من عمرو، والدفاع بكل ما أوتي من فصاحة وقوة حجة ضد الإسلام والمسلمين، إلى رجل آخر يستهويه الإسلام ويعجب بثبات المسلمين وأخلاقهم، ويلفت نظره منطق النجاشي وعدل إسلامه حتى يتحول إلى عنصر فاعل من عناصر الإسلام، وتكون الرحلة للحبشة والمحادثة مع النجاشي والمسلمين بداية الهداية والدخول في الإسلام، وهنا سرُّ العظمة في هذا الدين، ومكمن القوة في أخلاق المسلمين إذا صدقوا وتجردوا – وإذا كان الحديث عن إسلام عمرو وسيأتي في مكانه – فالأمر الذي ينبغي ألا ينسى في هذا الحوار – كيف كان له أثره الخفي على نفسية عمرو وما زال يعتمل في عقله وإن شارك قومه الأحداث الواقعة والصراع الدامي مع المسلمين وفي كل مرة يُمنّي نفسه ويسائلها،.. حتى جاء اليوم الذي أعلن فيه عمرو إسلامه، واختار أو اختار الله أرض الحبشة لتكون بداية إسلامه ولتشهد على قوة أثر الإسلام وإن كان أهلها مهاجرين غرباء؟
استقبال النجاشي للمسلمين.
أما استقبال النجاشي للمسلمين فهو نموذج للحكمة والعقل والعدل فلم يأخذ المسلمين بالظنة والوشاية، ولم تحجيه الهدايا عن التبصر في حقيقة الأمر ولم يؤثر رأي البطارقة المرتشين في الحكم عاجلاً على الأجمهرين، وفي الوقت نفسه لم يأنف حديث القرشيين أو يستعجل ردهم وهداياهم مقبوحين وعن طبيعة الحوار، ونوع الاستقبال الذي قابل ب النجاشي الوفدين سأعتمد على رواية أم سلمة رضي الله عنها – رغم طولها – أساساً فهي أشمل من غيرها، ثم أضيف إليها ما في المرويات الأخرى من زيادات أو إيضاح، مع وقفات عند فقه هذه المرويات.
حديث أم سلمة.(1/54)
قال ابن إسحاق: حدثني محمد بن مسلم الزهري عن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام المخزومي، عن أم سلمة بنت أبي أمية بن المغيرة زوج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قالت: لما نزلنا أرض الحبشة جاورنا بها خير جار النجاشي: أمِنا على ديننا، وعبدنا الله تعالى لا نُؤذى ولا نسمع شيئاً نكرهه، فلما بلغ ذلك قريشاً ائتمروا بينهم أن يبعثوا إلى النجاشي فينا رجلين منهم جلدين، وأن يهدوا للنجاشي هدايا مما يستطرف من متاع مكة، وكان من أعجب ما يأتيه منها الأدم، فجمعوا له أدماً كثيراً، ولم يتركوا من بطارقته بطريقاً إلا أهدوا له هدية، ثم بعثوا بذلك عبد الله بن أبي ربيعة، وعمرو بن العاص، وأمروهما بأمرهم، وقالوا لهما: ادفعا إلى كل بطريق هديته قبل أن تكلما النجاشي فيهم، ثم قدّما إلى النجاشي هداياه، ثمن سلاه أن يسلمهم إليكما قبل أن يكلمهم، قالت: فخرجا حتى قدما على النجاشي، ونحن عنده بخير دار، عند خير جار، فلم يبق من بطارقته بطريق إلا دفعا إليه هديته قبل أن يكلما النجاشي، وقالا لكل بطريق منهم: إنه قد ضوى إلى بلد الملك منا غلمان سفهاء، فارقوا دين قومهم ولم يدخلوا في دينكم، وجاءوا بدين مبتدع، لا نعرفه نحن ولا أنتم، وقد بعثنا إلى الملك فيهم أشراف ليردهم إليهم، فإذا كلمنا بالملك فيهم، فأشيروا عليه بأن يسلمهم إلينا ولا يكلمهم فإنه قومهم أعلى بهم عيناً، وأعلم مما عابوا عليهم، فقالوا لهما: نعم. ثم إنهما قدما هداياهما إلى النجاش ي فقبلها منهما، ثم كلمهما فقالا له: أيها الملك: إنه قد ضوى إلى بلدك منا غلمان سفهاء، فارقوا دين قومهم ولم يدخلوا في دينك، وجاءوا بدين ابتدعوه لا نعرفه نحن ولا أنت، وقد بعثنا إليك فيهم أشراف قومهم من آبائهم وأعمامهم وعشائرهم لتردهم إليهم، فهم أعل بهم عيناً وأعلم بما عابوا عليهم وعاتبوهم فيه. قالت: ولم يكن شيء أبغض إلى عبد الله بن أبي ربيعة وعمرو بن العاص من أن يسمع كلامهم النجاشي.(1/55)
قالت: فقالت بطارقته حوله: صدقاً أيها الملك، قومهم أعل بم عيناً، وأعلم بما عابوا عليهم، فأسلمهم إليهما فليردّاهم إلى بلادهم وقومهم، ولا يُكاد قوم جاورني، ونزلوا بلادي، ونزلوا بلادي، واختاروني على من سواء، حتى أدعوهم فأسألهم عما يقوا هذان في أمرهم، فإن كانوا كما يقولان أسلمتهم إليهما، ورددتهم إلى قومهم، وإن كانوا على غير ذلك منتُهم منهما، وأحسنت جوارهم ما جاورني.
قالت: ثم أرسل إلى أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فدعاهم، فلما جاءهم رسوله اجتمعوا، ثم قال بعضهم لبعض: ما تقولون للرجل إذا جئتموه؟ قالوا: نقول والله ما علمنا، وأما أمرنا به نبينا - صلى الله عليه وسلم - كائناً في ذلك ما هو كائن.(1/56)
فلما جاءوا، وقد دعا النجاشي أساقفته، فنشروا مصاحفهم، حوله، سألهم فقال لهم: ما هذا الدين الذين قد فارقتم فيه قومكم، ولم تدخلوا به في ديني، ولا في دين أحد من هذه الملل؟ قالت: فكان الذي كلمه جعفر بن أبي طالب، فقال له: أيها الملك، كما قوماً أهل الجاهلية، نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام، ونسيء الجوار، ويأكل القوي منا الضعيف، فكنا على ذلك، حتى بعث الله إلينا رسولاً منا، نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه، فدعانا إلى الل لنوحده ونعبده، ونخلع ما كنا نعبد نحن وأباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان، وأمرنا بصدق الحديث، وأداء الأمانة، وصلة الرحم، وحسن الجوار، والكف عن المحارم والدماء، ونهانا عن الفواحش، وقول الزور، وأمل مال اليتيم، وقذف المحصنات، وأمرنا أن نعبد الله وحده ولا نشرك به شيئاً، وأمرنا بالصلاة والزمات والصيام – قالت: فعدد عليه أمور الإسلام – فصدقناه وآمنا به، واتبعناه على ما جاء به من الله فعبدنا الله وحده فلم نشرك به شيئاً، وحرّمنا ما حرم علينا، وأحللنا ما أحلّ لنا، فعدا علينا قومنا، فعذبونا وفتنونا عن دينا ليردونا إلى عبادة الأوثان من عباد الله تعالى، وأن نستحل ما كنا نستحل من الخبائث، فلما قهرونا وظلمونا وضيقوا علينا، وحالوا بيننا وبين ديننا، خرجنا إلى بلادك، واخترناك على من سواك، ورغبنا في جوارك، ورجونا أن لا نظلم عندك أيها الملك، قالت: فقال له النجاشي: هل معك مما جاء به عن الله من شيء؟ قالت: فقال له جعفر: كهيعص: قالت: فبكي والله النجاشي حتى اخضلت لحيته، وبكت أساقفته حتى اخضلوا مصاحفهم، حين سمعوا ما تلا عليهم، ثم قال لهم النجاشي: إن هذا والذي جاء به عيسى ليخرج من مشكاة واحدة، انطلقا، فلا والله لا أسلمهم إليكما، ولا يكادون.(1/57)
قالت: فلمنا خرجا من عنده، قال عمرو بن العاص، والله لآتينه غداً عنهم بما استأصل به خضراءهم، قالت: قال له عبدالله بن أبي ربيعة، وكان أتقى الرجلين فينا: لا نفعل، فإن لهم أرحاماً، وإن كانوا قد خالفونا؛ قال: " والله لأخبرنه أنهم يزعمون أن عيسى بن مريم عبدٌ، قالت: ثم غدا عليه من الغد: فقال له: أيا الملك إنهم يقولون في عيسى بن مريم قولاً عظيماً، فأرسل إليهم فسلهم عمّا يقولون فيه. قالت: فأرسل إليهم ليسألهم عنه. قالت: ولم ينزل بنا مثلها قط. فاجتمع القوم، ثم قال بعضهم لبعض: ماذا تقولون في عيسى بن مريم إذا سألكم عنه؟ قالوا: نقوا والله ما قال الله عزوجل، وما جاءنا به نبينا، كائناً في ذلك ما هو كائن، قالت: فلما دخلوا عليه قال لهم ماذا تقولون في عيسى بن مريم، قالت: فقال جعفر بن أبي طالب: نقول فيه الذي جاءنا به نبينا - صلى الله عليه وسلم - ، يقول: هو عبد الله ورسوله وروحه وكلمته ألقاها إلى مريم العذراء البتول، قالت: فضرب النجاشي بيده إلى الأرض، فأخذ منها، ثم قال: والله ما عدا عيسى بن مريم ما قلت هذا العود، قالت: فتناخرت بطارقته حوله حين قال ما قال فقال: وإن نخرتم والله، اذهبوا فأنتم شُيوم بأرضي – والشيوم الآمنون – من سبكم غرم، ثم قال من سبكم غرم، ثم قال: من سبكم غرم، ما أحب أن براً من ذهب، وأني آذيت رجلاً منكم –قال ابن هشام: ويقال دبراً من ذهب، ويقال: فأنتم سيوم والدبر( بلسان الحبشة ): الجبل – ردوا عليهما هداياهما فلا حاجة لي بها، فوالله ما أخذ الله مني الرشوة حين رد علي ملكي، فآخذ الرشوة فيه، وما أطاع الناس في فأطيعهم فيه. قالت: فخرجا من عنده مقبوحين مردوداً عليهما ما جاءا به، وأقمنا عنده بخير دار مع خير جار.(1/58)
قالت: فوالله إنا لعلى ذلك إذ نزل به رجل من الحبشة ينازعه في ملكه، قالت: فوالله ما علمتُنا حزناً قط كان أشد علينا من حُزن حزناه عند ذلك، تخوفاً أن يظهر ذلك الرجل على النجاشي، فيأتي رجل لا يعرف من حقنا ما كان النجاشي يعرف منه. قالت: وسار إليه النجاشي، وبينهما عرض النيل قالت: فقال أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من رجل يخرج حتى يحضر وقيعة القوم ثم يأتينا الخبر؟ قالت: فقال الزبير بن العوام: أنا؛ فقالوا: فأنت، وكان من أحدث القوم سناً، قالت: فنفخوا له قربة فجعلها في صدره، ثم سبح عليها حتى خرج إلى ناحية النيل التي بما ملتقى القوم، ثم انطلق حتى حضرهم، قالت: فدعونا الله تعالى للنجاشي بالظهور على عدوه، والتمكين له في بلاده قالت: فوالله إنا لعلى ذلك متوقعون لما هو كائن، إذ طلع الزبير وهو يسعى، فلمع بثوبه وهو يقول: ألا أبشروا، فقد ظفر النجاشي، وأهلك الله عدوه، ومكن له في بلاده قالت فوالله ما علمتُنا فرحنا فرحة قط مثلها، قالت: ورجع النجاشي، وقد أهلك الله عدوه، ومن له في بلاده، واستوسق عليه أمرُ الحبشة، فكنا عنده في خير منزل، حتى قدمنا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو بمكة(1).
فقه الحديث ومقارنته.
وإذا بيان ما اشتمل عليه الحديث، وفقهه، ومقارنته بما يماثله من المرويات، أمكن تدوين النقاط الخمس عشرة التالثة:
1ـ قريش تجمع شيئاً كثيراً مما يُستطرف من متاع مكة (الأدم) هدايا النجاشي وبطارقته، وتوصي المبعوثين أن تصل هدايا البطارقة إليهم أولاً، وقبل الحديث مع النجاشي بشأن المهاجرين، وهدايا النجاشي بعد ذلك.
2ـ وتقضي الخطة – بعد الهدايا – الطلب من النجاشي تسليم المهاجرين قبل أن يكلمهم في رواية (عروة) تأمر قريش مبعوثيها الإسراع
في السير حتى يسبقا المسلمين إلى النجاشي ففعلاً (2).
__________
(1) انظر: السيرة لابن هشام 1/413-418، وقد سبق تخريج حديث أم سلمة.
(2) مغازي عروة ص 111.(1/59)
3ـ والمبعوثان يبدآن الحوار مع البطارقة ويعرضان عليهم أسباب طلبهم، ويطلبان منهم المشورة للنجاشي بتسليمهم قبل أن يكلمهم، معللين ذلك بأن قومهم أعلم بحالهم، والبطارقة يوافقون على عرضهم – بعد قبول رشوتهم -.
4ـ ثم يعرضان على النجاشي – بعد قبول هديتهم-ويعيدان القول المزّور عن المهاجرين بنحو ما قالوه للبطارقة، الذي صدقوهم القول أمام النجاشي، وطلبوا منه أن يسلمهم إليهم قبل أن يكلمهم.
5ـ ومع هذه الاحتياطات كلها، والرشاوي للبطارقة والنجاشي،ودقة التخطيط والإسراع في التنفيذ وتزوير القول، فالخوف يحيط بالمبعوثين، ويتوقعان فشل المهمة في أي لحظة، ولأدنى سبب ولذا تراهم يحاذرون من سماع النجاشي كلام المهاجرين، وتقول أم سلمة في الرواية: " ولم يكن شيء أبغض إلى عبد الل بن أبي ربيعة وعمرو بن العاص من أن يسمع (النجاشي) كلام المهاجرين" وعند ابن حبان: قال عمارة – حين طلب النجاشي السماع إلى المسلمين –"لم تصنع شيئاً، لو كان دفعهم إلينا من وراء وراء كان ذلك أحب إلينا قبل أن يكلمهم (1).
6ـ ويبدأ فشل الخطة في أول مراحل المواجهة، فالنجاشي العادل
يغضب للعرض الجائر، ويرفض التسليم والمكيدة في أرضه حتى يدعو المهاجرين – الذين اختاروه على غيره، ويسمع منهم، ويكون من ذلك على بينة، وحينها يسلمهم أو يمنعهم ويحسن إليهم.
7ـ النجاشي يبعث للمسلمين من يدعوهم لمقابلته، فاجتمعوا وتشاوروا فيما يقولون وتُظهر الروايات الأخرى أن (جعفر) عرض أن يكون متحدثهم، فلم يختلفوا عليه(2).
8ـ أسئلة النجاشي للمهاجرين عن الدين الذي فارقوا عليه قومهم، ولم يدخلهم في دين الأحباش، ولا في دين أحد من هذه الملل؟ (كذا في رواية أم سلمة بهذا الإجمال).
__________
(1) السيرة النبوية وأخبار الخلفاء لابن حبان ص 78.
(2) انظر: رواية أبي موسى في المستدرك 2/309، ورواية ابن مسعود في مجمع الزوائد 6/24.(1/60)
وفي رواية (عروة) أن النجاشي سأل المهاجرين قائلاً: أخبروني أيها الرهط ما جاء بكم؟ وما شأنكم؟ ولمَ أتيتموني ولستم بتجّار ولا سؤال؟ وما نبيكم هذا الذي خرج؟ وأخبروني ما لكم لمَ لا تحيّوني كما يحييني من أتاني من أهل بلدكم؟ وأخبروني ما تقولون في عيسى ابن مريم؟ (1)، فهل هذا تفصيل ما أجملته رواية أم سلمة؟ أم أنه لقاء آخر؟ يغلب على الظن الأول دون الآخر؟
وفي رواية ( جعفر ) من طريق أسد بن عمرو أن النجاشي سأل مبعوثي قريش بعد ما سمع كلام المهاجرين أعبيدٌ هم لكم؟ قالا: لا، قال: فلكم عليهم دين؟ قالا: لا ، قال: فخلوا سبيلهم (2).
9ـ أما حديث (جعفر) فكان عن حالتهم قبل بعثة رسول - صلى الله عليه وسلم - وبماذا جاءهم الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأمرهم، ونهاهم، و..
ويلفت النظر في حديث جعفر ذكره للصلاة، والزكاة، والصيام، في هذه الفترة، وهو ما تؤكده، إضافة إلى رواية أم سلمة – ورواية (أبي موسى) التي جاءت على ذكر الصلاة، والزكاة، دون الصيام (3).
ورواية جعفر (من طريق ابن إسحاق) ذكر: الصلاة، والصيام، والصدقة (4)، بل تزيد وتتفق روايتا (أبي موسى وجعفر) على إضافة: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر(5).
والسؤال الذي يرد: وهل فرضت هذه التشريعات في زمن الهجرة للحبشة؟ وإذا لم تفرض فكيف جاء الحديث عنها مُسبقاً؟
__________
(1) مغازي عروة ص 112.
(2) مجمع الزوائد 6/29.
(3) المستدرك 2/310.
(4) مجمع الزوائد 6/30.
(5) المستدرك 2/310، مجمع الزوائد 6/30.(1/61)
وإذا كانت (الصلاة) أول هذه الأركان فرضاً، فالراجح في فرضيتها أنها كانت في حادثة الإسراء والمعراج، ويؤيد ذلك ما جاء في صحيح البخاري، في كتاب الصلاة، باب: كيف فرضت الصلوات في الإسراء؟ ثم ساق البخاري حديث أنس الطويل، وفيه قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " ففرض الله على أمتي خمسين صلاة.. وقول موسى: ارجع إلى ربك فإن أمتك لا تطيق ذلك.. الحديث (1).
وأورد مسلم في صحيحه مثل ذلك في حديث الإسراء، وجاء فيه قوله - صلى الله عليه وسلم -: " فرض الله عليّ خمسين صلاة كل يوم وليلة" (2).
أما حديث ابن إسحاق – في السيرة- عن ابتداء فرض الصلاة في أول الإسلام وصلاته هو وخديجة وعلي بن أبي طالب- رضي الله عنهم – مستخفين، وإمامة جبريل النبي - صلى الله عليه وسلم - فقد تعقبه (السهيلي) وأجاب عنه، سنداً ومتناً، ونقل أقوالاً تفيد فرض الصلاة في الإسراء، وبعد الهجرة زيد في صلاة الحضر ركعتين – في كلام طويل -(3).
وفي الفتح نقل ابن حجر قول جماعة من أهل العلم في أنه لم يكن قبل الإسراء صلاة مفروضة، إلا ما كان وقع الأمر به من صلاة الليل من غير تحديد… وعن الشافعي أنها نسخت بهذه نزول قوله تعالى: { فاقرؤا ما تيسر منه } ثم نسخ ذلك بالصلوات الخمس… (4).
أما بقية التشريعات كالزكاة والصيام، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فجاء فرضها متأخراً بعد الهجرة للمدينة.
يقول الإمام محمد بن عبد الوهاب – يرحمه الله – فلما استقر
النبي - صلى الله عليه وسلم - بالمدينة أمر ببقية شرائع الإسلام مثل: الزكاة، والصوم، والحج، والأذان، والجهاد، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وغير ذلك من شرائع الإسلام (5).
__________
(1) انظر: الصحيح مع الفتح 2/458-459.
(2) صحيح مسلم 1/145-148-150.
(3) انظر: الروض الأنف 3/11-15.
(4) فتح الباري 1/465.
(5) الأصول الثلاثة ص 89-90.(1/62)
وفيما يخص الزكاة والصوم قال ابن حجر: اختلف في أول الوقت فرض الزكاة، فذهب الأكثر إلى أنه وقع بعد الهجرة، فقيل كان في السيئة الثانية، ذكره النووي، وجزم ابن الأثير بأن ذلك كان في التاسعة، وعلق ابن حجر عليه بالقول: وفيه نظر (1).
وفي الصيام نقل ابن حجر –اتفاقهم على فرضه بعد الهجرة لأن الآية الدالة على فرضيته مدنية، بلا خلاف (2).
وانتهى ابن حجر. إلى لاستدلال كذلك على فرض الزكاة بعد الهجرة، لأن فرضها تأخر عن صدقة الفطر المتعلقة بالصيام، حيث قال: ((وثبت عن أحمد، وابن خزيمة أيضاً، والنسائي، وابن ماجة، والحاكم من حديث قيس بن سعد بن عبادة، قال: أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بصدقة الفطر قبل أن تنزل الزكاة، ثم نزلت فريضة الزكاة فلم يأمرنا ولم ينهنا ونحن نفعله )) .
ثم علّق ابن حجر على الحديث: إسناده صحيح، رجاله رجال الصحيح إلا أبا عمار الراوي له عن قيس بن سعد وهو كوفي اسمه عريب ابن حميد، وقد وثقه أحمد وابن معين، وهو – يعني الحديث – دال على أن فرض صدقة الفطر كان قبل فرض الزكاة فيقتضي وقوعها بعد رمضان، وذلك بعد الهجرة، وهو المطلوب (3).
وإذا ثبت هذا وترجح يظل السؤال قائماً، والإشكال حاصلاً بذكر (جعفر) - في حديث (أم سلمة) رضي الله عنهم، لهذه التشريعات في زمن هجرة الحبشة، فكيف ورد ذكرها؟
وهو استشكال استوقف العلماء – فيما مضى – وحاولوا الإجابة عليه، كان قبل حجر: وادعى ابن خزيمة في صحيحه أن فرضها – الزكاة – كان قبل الهجرة، واحتج بما أخرجه من حديث (أم سلمة) في قصة هجرتهم إلى الحبشة، وفيها أن جعفر قال للنجاشي في جملة ما أخبره به عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ويأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام …أهـ.
__________
(1) الفتح 3/266.
(2) الفتح 3/266.
(3) فتح الباري 3/266-267.(1/63)
وفي استدلاله بذلك نظر،. . فيحتمل أن تكون مراجعة جعفر لم تكن في أول ما قدم على النجاشي، وإنما أخبره بذلك بعد مدة قد وقع فيها ما ذكر من قصة الصلاة والصيام، وبلغ ذلك جعفراً فقال: " يأمرنا " بمعنى " يأمر به أمته" وهو بعيد جداً، ثم يواصل ابن حجر حديثه قائلاً: وأولى ما حمل عليه حديث أم سلمة هذا – إن سلم في قدح في إسناده – المراد بقوله: "يأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام" أي في الجملة، ولا يلزم من ذلك أن يكون المراد بالصلاة الصلوات الخمس، ولا بالصيام صيام رمضان، ولا بالزكاة هذه الزكاة المخصوصة ذات النصاب والحول، والله أعلم (1).
وإذا استوقفنا من "ابن حجر" هذه الاحتمالات، وترجيحه للأخير منها استوقفنا كذلك عدم قطعه بصحة إسناده حديث أم سلمة حين قال: إن سلم من قدح في إسناده.
فهل هو يؤمن إلى أن الحديث في المسند وغيره مداره على ابن إسحاق؟ وقد ذكر الإمام أحمد أنه لا يقبل إذا تفرد، ذكر ذلك المزي في تهذيب الكمال.
وإذا لم يقطع ابن حجر بذلك، وصحح غيره إسناد حديث أم سلمة –كما سبق البيان- أمكن ترجيح صحة الرواية، وحمل ما ورد فيها عن ذكر الصلاة والزكاة والصيام.. على إحدى الاحتمالات السائغة أو اعتبارها زيادات منكرة في الرواية، والله أعلم.
وقبل أن نتجاوز رواية (أم سلمة) وإشكال بعض ما جاء فيها من نقاط ونأتي إلى رواية (عروة) نجد فيها إسهاماً في حل هذه الإشكالات، إذ لا وجود لذكر التشريعات السابقة في رواية عروة، و (جعفر) يحدد مهمته في ثلاث كلمات ويقول: - مخاطباً النجاشي – سل هذا الرجل - عمرو بن العاص – أعبيدٌ نحن أبقنا من أربابنا؟ فارددنا إلى أربابنا،
__________
(1) الفتح 3/266.(1/64)
فقال النجاشي: أعبيدٌ هم يا عمرو؟ قال عمرو: بل أحرار وكرام، قال جعفر: سل هذا الرجل هل أرقنا دماً بغير حقه؟ فادفعنا إلى أهل الدم، فقال: هل أراقوا دماً بغير حقه؟ فقال: ولا قطرة دم، ثمن قال جعفر: سل هذا الرجل: أخذنا أموال الناس بالباطل؟ فعندنا قضاء، فقال النجاشي: يا عمرو إن كان على هؤلاء قنطار من ذهب فهو عليّ، فقال عمرو: ولا قيراط.
بل إن (جعفر) في هذه الرواية حين يأتي لذكر ما كانوا عليه قبل البعثة، وما جاءهم به النبي - صلى الله عليه وسلم -، لا يرد عند أي ذكر للصلاة أو الزكاة أو الصيام، بل يقول مجيباً للنجاشي عن سؤاله: ما هذا الذي كنتم عليه فتركتموه وتبعتم غيره؟ قال جعفر: أما الذي كنا عليه فدين الشيطان وأمر الشيطان؟ نكفر بالله ونعبد الحجارة، وأما الذي نحن عليه فدين الله عزوجل، نخبرك: أن الله بعث إلينا رسولاً كما بعث إلى الذين من قبلنا، فأتانا بالصدق والبر، ونهانا عن عبادة الأوثان، فصدقناه وآمنا به واتبعناه، فلما فعلنا ذلك عادانا قومنا.. (1).
وهكذا تخلو الرواية من ذكر تشريعات كالصلاة والصيام والزكاة والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، ويكتفي (جعفر) في هذه الرواية بذكر الصدق، والبر، ونهيهم عن عبادة الأوثان، وهذه لا إشكال في ذكرها في تلك المرحلة من الدعوة في مكة.
بل ورد عند البيهقي من رواية ابن إسحاق ومن طريق يونس بن بكير عن أم سلمة إغفال ذكر (الزكاة) وإن ورد ذكر الصلاة والصوم هكذا:"ونصلي له، ونصوم لله، ولا نعبد غيره" (2).
__________
(1) مغازي عروة ص 112.
(2) دلائل النبوة 2/302.(1/65)
10ـ وفي رواية (أم سلمة) وغيرها بيان أن ما وقع لهم من وقوعهم حين آمنوا بالرسول - صلى الله عليه وسلم - وصدقوه كان سبباً لخروجهم إلى الحبشة فارين بدينهم، وفي رواية (عروة) السابقة يقول جعفر: "فصدقناه –النبي - صلى الله عليه وسلم -- وآمنا به، واتبعناه، فلما فعلنا ذلك عادانا قومنا، وأرادوا قتل النبي الصادق، وردنا في عبادة الأوثان ففررنا إليك بديننا ودمائنا، ولو أقرنا قومنا لاستقررنا" (1).
11ـ ويرد في حديث (أم سلمة) طلب النجاشي من (جعفر) شيئاً مما جاء به النبي عن الله، فقرأ عليه (جعفر) صدراً من (كهيعص) فبكى النجاشي حتى اخضلت لحيته، وبكت أساقفته حتى أخضلوا مصاحفهم، ثم قال النجاشي: إن هذا والذي جاء به عيسى ليخرج من مشكاة واحدة (2).
وعند (عروة) قال النجاشي: أيكم أدرس للكتاب الذي أنزل على نبيكم ؟ قالوا : جعفر فقرأ عليهم جعفر سورة ( مريم ) فلما سمعها
عرف أنه الحق، وقال النجاشي: زدنا من الكلام الطيب، ثم قرأ عليه سورة أخرى، فلما سمعها عرف الحق، وقال: صدقتم وصدق نبيكم - صلى الله عليه وسلم - وأنتم والله صديقون.. (3).
وفي رواية (أبي موسى) قال النجاشي: مرحباً بكم وبمن جئتم من عنده، أشهد أنه رسول الله وأنه الذي بشر به عيسى، ولولا ما أنا فيه من الملك لأتيته حتى أقبل نعليه.. (4).
12ـ يظهر في رواية أم سلمة رضي الله عنها أنم لقاء المسلمين مع النجاشي وحوارهم وقع مرتين وكان اللقاء الثاني مجالاً لاستفزاز الأحباش في معتقدهم بعيسى ابن مريم عليه السلام، وامتحاناً صعباً للمسلمين لقول كلمة الحق في عيسى عليه السلام ونازلة أهمتهم حتى قالت أم سلمة: ولم ينزل بنا مثلها قط" (5).
وقال جعفر: " فكانت الدعوة الثانية أشد علينا من الأولى" (6).
__________
(1) مغازي عروة ص 113.
(2) السيرة لابن هشام 1/416.
(3) مغازي عروة ص 113.
(4) مجمع الزوائد 6/31.
(5) السيرة لابن هشام 1/416.
(6) مجمع الزوائد 6/29.(1/66)
وتتفق مع رواية أم سلمة – في ثنائية اللقاء مع النجاشي – رواية جعفر وتضيف أن عمراً حين ذكر للنجاشي مخالفة المهاجرين له في معتقده بعيسى بن مريم عليه السلام قال النجاشي : إن لم يقولوا في عيسى مثل ما نقول لا أدعهم في أرضي ساعة من نهار (1).
ولعل هذا يفسر شدة الأمر على المسلمين، واهتمامهم للإجابة عنه أما رواية أبي موسى، وعروة فتظهران اللقاء مرة واحدة وتجمعان الأسئلة كلها والحوار في جلسة واحدة متصلة (2).
وتتفق الروايات كلها على صدق المسلمين وثباتهم على المعتقد الحق – في عيسى عليه السلام – رغم الظروف الصعبة التي تحيط بهم، ويتجلى الصدق والشجاعة وهو يتناجون بينهم فيهم يقولون؟ فيتفقون على القول: " نقول والله ما قال الله عزوجل، وما جاءنا به نبينا كائناً في ذلك ما كان" كما في رواية أم سلمة(3).
وتتفق إجابتهم على الاعتقاد بأن عيسى عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه وإن اختلفت عباراتها بعض الشيء.
أما اللافت للنظر في هذا الشأن فهو موافقة النجاشي في معتقدهم في المسيح، إلى حدٍ قال معه النجاشي بعد أن ضرب بيده إلى الأرض وأخذ منها عوداً ثم قال: والله ما عدا عيسى بن مريم ما قلت هذا العود!!.
أوليس المعلوم من عقيدة النصارى في المسيح خلاف عقيدة المسلمين ؟ ألم يرد في كتاب الله كفر النصارى وغلوهم في عيسى عليه السلام في أكثر من آية؟
هل كانت الحبشة استثناءً من هذه القاعدة؟ أم كان النجاشي يخالف معتقد قومه ويعتقد في عيسى عليه السلام العقيدة الصحيحة؟ وهل يشاركه هذا المعتقد الصحيح نفرٌ من الأحباش؟
وكيف أمكن اجتماع قوم على عقيدتين مختلفتين في بلد واحد، وما أثر المسلمين في تعزيز المعتقد الحق؟
هذا أسئلة مهمة ، مضى الإجابة على شيء منها ، وسيأتي مزيد بيان لها في موضعها .
__________
(1) مجمع الزوائد 6/29.
(2) انظر: مجمع الزوائد 6/30، 61، ومغازي عروة ص 112-113.
(3) السرة لابن هشام 1/416.(1/67)
13ـ كما تتفق الروايات الأخرى مع رواية أم سلمة في أمر النجاشي للمسلمين بالأمان وحسن الجوار، ومعاقبة من تعرض لهم بإساءة " إذهبوا فأنتم سيوم في أرضي، أو شيوم (أي آمنون) من سبكم غرم – حتى قالت أم سلمة: وأقمنا عنه بخير دار مع خير جار- (1).
وفي رواية جعفر: فأمر النجاشي منادياً فنادى: من آذى أحدً من هؤلاء فاغرموا أربعة دراهم، قال: يكفيكم؟ قلنا: لا، فأضعفها (2).
وفي رواية أبي موسى: امكثوا في أرضي ما شئتم، وأمر لنا بطعام وكسوة، وقال ردوا على هذين (عمرو وصاحبة) هديتهما (3).
وفي رواية (عروة) امكثوا على اسم الله وبركته آمنين ممنوعين، وألقى عليهم المحبة من النجاشي (4).
14ـ وحين تقف رواية (أم سلمة) رضي الله عنها دون التصريح بإسلام النجاشي وإن فهم ذلك فهماً، فإن رواية (أبي موسى) تُصرح بذلك، فقد جاء فيها قول النجاشي: "أشهد أنه رسول الله، وأنه الذي بشر به عيسى ابن مريم ولولا ما أنا فيه من الملك لأتيته حتى أحمل نعليه" (5).
وتتفق معها رواية ابن مسعود كذلك، وفيها قال النجاشي: " أشهد أنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنه الذي نجده في الإنجيل، وأنه الذي بشر به عيسى ابن مريم انزلوا حيث شئتم، فوالله لو ما أنا فيه من الملك لأتيته حتى أكون أنا أحمل نعليه وأوضئه" (6).
__________
(1) السيرة لابن هشام 1/417.
(2) مجمع الزوائد 6/29.
(3) مجمع الزوائد 6/31.
(4) مغازي عروة ص 113.
(5) المستدرك 2/310، مجموع الزوائد 6/31.
(6) مجمع الزوائد 6/24، قال الهيثمي: رواه الطبراني وفيه خديج بن معاوية وثقة أبو حاتم، وقال في بعض حديثه ضعف، وضعفه ابن معين وغيره وبقية رجاله ثقات.(1/68)
15ـ وتصرح رواية أم سلمة، وتتفق معها عدد من الروايات (ابن مسعود، أبي موسى) على رد النجاشي هدايا قريش على مبعوثيها، ويتذكر النجاشي أن الله لم يأخذ منه الرشوة حين ردَّ عليه ملكه، فليس له أن يأخذ رشوة قريش لطرد المسلمين المهاجرين إلى أرضه (الحبشة)، وقد سبق بيان قصة تملك النجاشي للحبشة واستشعاره العدل والعمل به منذ ذلك الحين، مما يغني عن إعادته هنا:
ـ النجاشي ولغة الخطاب مع المهاجرين
هل كان النجاشي يعرف اللغة العربية، وبها كان الخطاب والحوار مع المسلمين المهاجرين من جانب، ووفد قريش من جانب آخر؟
أم كان ذلك عن طريق الترجمة، وبواسطة الترجمان، وذلك دليل على جهله بالعربية، وتمسكه بلغة الأحباش؟
وهذا الرأي الأخير قد يجد له ما يسنده وذلك لما يلي:
أ ـ أن ذلك هو الأصل فالنجاشي من أهل الحبشة، والأحباش يتكلمون لغتهم – غالباً – وإن وجد منهم من يعرف غيرها فلابد من دليل.
ب ـ أن النبي - صلى الله عليه وسلم - حيث بعث رسله إلى الرسل والملوك يدعوهم إلى الإسلام كان كل رجل من هؤلاء المبعوثين يتكلم بلسان القوم الذين بعثه عليهم، وكان أول رسول بعثه - صلى الله عليه وسلم - عمرو بن أمية الضمري إلى النجاشي.. وذلك بعد عودته من الحديبية في السنة السادسة(1).
جـ ـ ورد في ثنايا حوار النجاشي مع المسلمين المهاجرين كلمات حبشية فسر معناها بالعربية من أمثال (سيوم) والسيوم الآمنون بلغة الأحباش و (دبراً من ذهب) قال ابن هشام: والدبر بلسان الحبشة الجبل (2).
وقد يستدل بها من يرى أن لغة الخطاب مع النجاشي لم تكن بالعربية!.
د ـ ويرى أحد الباحثين أن النجاشي لم يغادر الحبشة، وربما لم يكن له علم ببلاد العرب، لذلك فأمر فهمه للغة العربية أمرٌ ينقصه الدليل – كما يقول – (3).
__________
(1) ابن سعد: الطبقات 1/258.
(2) السيرة 1/417.
(3) الهجرة إلى الحبشة دراسة مقارنة للروايات ص 29.(1/69)
ولكن المتتبع لمرويات السيرة، وعبارات الحوار، ومقتضيات الأحوال ربما وجد ما يعضد الرأي الأول، ويدلل على معرفة النجاشي باللغة العربية وذلك من خلال الأدلة التالية:
أ ـ لا يعني كون (الحبشية) هي الأصل في تخاطب الأحباش عدم معرفة بعضهم بالعربية (كالنجاشي) وتاريخ العلاقات بين بلاد الحبشة والبلاد العربية يؤيد هذا الاحتمال ويدعمه، فقد كان للأحباش صلة باليمن، كما كانوا على صلة بعرب الحجاز – وليس هذا موطن تفصيله – ولا شك أن صلة الأحباش بالعرب (سياسياً أو اقتصادياً أو اجتماعياً عن طريق السبايا) كل ذلك داع لانتقال العربية لأهل الحبشة أو بعضهم على الأقل.
2ـ ولا يعني بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رسله إلى الرسل والملوك، بلسانهم القطع بعدم معرفة أي من هؤلاء الرسل والملوك باللغة العربية، أكثر من كونها بعثات رسمية الأصل فيها أن تتحدث بلغات هؤلاء القوم
وإن وجد في بعضهم من يعرف العربية، فقد يوجد فيهم، وقد تكون الأكثرية من لا يعرف العربية، وقد يوجد من يعرفها ولكن يتأفف أن يُخاطب بغير لغته، ولا سيما إذا دُعي إلى ترك دينه والدخول في الإسلام؟
3ـ أما ورود ألفاظ حبشية في حوار النجاشي مع المسلمين فالاستدلال به على كون الحديث بالعربية ولم يسلم من عبارات حبشية أقوى من الاستدلال به على كون الحديث بالحبشية، إذ لو كان الأمر كذلك لعرّب الكلام كله، وحين تُعرب هذه أو مثيلاتها فهذا مؤشر إلى أن بقية الكلام فصيح لا يحتاج إلى تعريب.(1/70)
4ـ ومما يؤيد كون حديث النجاشي وحواره مع المسلمين بالعربية أن النجاشي حين اجتمع بالمسلمين وسمع منهم سأل هل معكم شيء مما جاء به محمد - صلى الله عليه وسلم - من الوحي؟ فأجابوه بالإيجاب وتلى عليهم (جعفر) صدراً من سورة (كهيعص) فتاثر النجاشي لها بكى حتى أخضلت لحيته – كما في رواية أم سلمة وغيرها – وليس في الروايات ما يفيد وجود (ترجمان) بينهم، بل إن تأثر النجاشي وبكاءه مؤشر إلى سماعه القرآن مباشرة وفهمه معانيه.
5ـ وفي أحاديث (عمرو بن العاص) وأصحابه مع النجاشي كذلك لا نجد ذكراً لترجمان بينهم، وليس من دليل يثبت معرفة هؤلاء القرشيين بلغة الحبشة وتخاطبهم مع النجاشي بها، بل ربما زادت هذه العلاقات والصلات بين قريش ومبعوثيها وبين النجاشي من فهمه أكثر للعربية وإجادة نطقها.
6ـ وفوق ما سبق نجد عند الواقدي ما يفيد أن النجاشي عاش في بلاد العرب ورعى الغنم في جوانب (بدر) وكان يعرفها ويصفها معرفة الخبير المقيم بها(1).
7ـ وذكر السهيلي – في قصة بيع الأحباش للنجاشي – أن إحدى الروايات الواردة في ذلك تفيد أن سيدّه كان من العرب وأنه استعبده طويلاً، وهو – كما يقول السهيلي – ما يقتضيه قوله- في الرواية – فلما مرج على الحبشة أمرهم وضاق عليهم ما هم فيه، وهذا يدل على طول المدة في مغيبه عنهم (2).
8ـ بل زاد السهيلي وذكر أن سيد النجاشي في (بدر) من (بني ضمرة) وطول مكث النجاشي في بلاد العرب تعلم من لسان العرب ما فهم به سورة (مريم) حين تليت عليه حتى بكى.. كما يقول (3).
__________
(1) المغازي 1/120-121.
(2) الروض الأنف 3/260.
(3) المصدر السابق 3/260.(1/71)
9ـ وفي سياق الأدلة والمرويات على معرفة النجاشي بالعربية، أورد ابن سعد عن الواقدي في زواج النبي - صلى الله عليه وسلم - بـ (أم سلمة) رضي الله عنها وهي بأرض الحبشة، أن (النجاشي) حين بعث له النبي - صلى الله عليه وسلم - ليعقد له على ( أم حبيبة ) جمع ( جعفراً ومن هناك من المسلمين فخطب فيهم قائلاً: (الحمد لله الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار… )(1).
فهل الأقرب القول بأنه خطب بالحبشية وتُرجمت – وليس في النص ما يشير إلى ذلك – أم الأليق القول بأنها كانت في العربية وهي دليل على معرفة النجاشي بها؟ حتى قال أحد الباحثين: والمعاني الواردة في الخطبة لا تترك مجالاً للشك بأن النجاشي ألقى الخطبة وبرهنت على إلمامه الجيد باللغة العربية: (2).
وبعد ذلك فالذي يظهر أن أدلة معرفة النجاشي بالعربية أقوى من جهله بها، وأن القول بعدم خروج النجاشي عن بلاد الحبشة، وعدم معرفته ببلاد العرب، وبالتالي عدم فهمه للعربية هي التي تحتاج إلى دليل لاسيما وقد قام الدليل بنقضها، وتلك آفة من آفاهت الجزم بالآراء دون اعتماد ما يسندها.
الأوضاع الاجتماعية والدينية للمهاجرين
ترتبط الحياة الدينية بالأوضاع الاجتماعية ارتباطاً وثيقاً وأوضاع المهاجرين في مكة وهجرتهم إلى الحبشة تؤكد هذا الترابط بين الأمرين، بل جاءت الإشارة إلى ارتباط الأمرين بقوله تعالى ممتناً على قريش: (فليعبدوا رب هذا البيت الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف ) (3).
وليس يخفى أن أحد البواعث الرئيسية للهجرة للحبشة البحث عن مكان آمن يعبد المهاجرون فيه ربهم، ولايؤذون ولا يفتنون.
__________
(1) الطبقات 8/97، 98.
(2) د. علي الشيخ أحمد أبو بكر: معالم الهجرتين إلى أرض الحبشة، ص 177.
(3) سورة قريش ، آية 3،4.(1/72)
وهذا ما نص عليه (جعفر) - رضي الله عنهم - حين أستأذن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قائلاً: (يا رسول الله ، ائذن لي حتى أصير إلى أرض أعبد الله فيها، فأذن له) (1).
ويبدو أن المهاجرين مروا بمرحلة خوف وقلق في بداية هجرتهم، ولعله المقصود بقول أسماء بنت عميس رضي الله عنها: (كنتم مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يطعم جائعكم ويعظ جاهلكم، وكنا في دار وأرض البعداء البغضاء بالحبشة، وذلك في الله وفي رسوله، إلى أن قالت: ونحن كنا نؤذى ونخاف) (2).
ثم أعقب ذلك مرحلة أمن وراحة وحسن جوار يسرت للمهاجرين مزاولة العبادة بحرية وراحة وأمان. ولقد عبرت أم سلمة رضي الله عنها عن هذه الحالة بقولها: (وأقمنا عنده – النجاشي – بخير دار مع خير جار) (3). وذلك إثر فشل مبعوثي قريش ورد النجاشي لهم مقبوحين، كما عبرت عنه مرة أخرى حين انتصر النجاشي على الذي نازعه في ملكه فغلبه النجاشي واستوسق له أمر الحبشة ، وحينها قالت أم سلمة رضي الله عنها:( فكنا عنده بخير منزل حتى قدمنا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو بمكة ) (4).
وحين الحديث عن حياة المهاجرين الاجتماعية والدينية في الحبشة فإن المصادر المتوفرة لدينا تضن علينا بالمعلومات التفصيلية التي تجيب على مثل هذه التساؤلات:
__________
(1) رواه الطبراني والبزار عن (عمير بن إسحاق)، وقال الهيثمي: وعمير بن إسحاق وثقه ابن حبان وغيره، وفيه كلام لا يضر، وبقية رجاله رجال الصحيح: مجمع الزوائد 6/29.
(2) رواه البخاري: صحيح البخاري 5/80.
(3) السيرة لابن هشام 1/417.
(4) السيرة لابن هشام 1/418.(1/73)
أين كان يسكن المهاجرون، وما نوع مسكنهم، ومطعمهم، كيف كان لباسهم، وهل احتفظوا بزيهم؟ ما لغة الخطاب مع الأحباش؟ وهل تعلم أحدٌ منهم الحبشية؟ أم كان الأحباش يتكلمون العربية؟ ما نوع عبادتهم، وأين أماكنها؟ وهل يجتمعون لها؟ ما نوع العمل الذي مارسوه، وما هي مصادر الدخل التي تمولهم لسد حاجتهم ومن يعولون؟ إلى غير ذلك من أسئلة تظل الإجابة عنه رهينة استقراء النصوص في جوانب يسيرة منها، ويظل الكثير منها دون إجابة حتى تتوفر نصوص تكشف عنها.
ومع ذلك فالمتأمل في نصوص الهجرة، وأحوال المهاجرين يمكنه أن يرصد شيئاً من مظاهر القلق والخوف، وشيئاً آخر من مظاهر الأمن والراحة وحرية العبادة ونفوذ الكلمة للمهاجرين.
ومن مظاهر القلق وخلخلة الأمن التي طالت آثارها المهاجرين، ما رواه البيهقي بسنده إلى القاسم قال : " خرج عبد الله بن مسعود في رهط من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى أرض الحبشة في البحر، وكان بها سوق يبيعون ويشترون فانطلق عبد الله وحده وأخذ ما معه فقال له صاحب منزله: إن أراك تنطلق وحدك، وإني أحذرك رجلاً بلغ من شره لا يلقى غريباً إلا ضربه أو قتله وأخذ ما معه، قال: ثم وصف لي وصفة الرجل، فلما جئت السوق عرفته بالصفة فجعلت استخفي منه بالناس لا يأخذ طريقاً إلا أخذت غيره حتى بعت ما معي دينارين ثم إن غفلت غفلى فلم أشعر إلا وهو قائم على رأسي قد أخذ بيدي فجعل يسألني ما معك؟ قال: قلت له اتجعل لي أن يخلى سبيلي أعطك ما معي؟ قال: وكم معك؟ قال: قلت له ديناران: قال: زدني، قلت: ما بعت إلا بهما، قال زدني: قال فبينما هو إذ بصر به رجلان وهما تلّ فانحطا نحوه، فلما رآهما خلى سبيلي وهرب، فجعلت أناديه هاك الدينارين ، فقال : لا حاجة لي فيهما واتبعا ورجعت إلى أصحابي" (1).
__________
(1) دلائل النبوة 2/298-299.(1/74)
هذا النص يكشف لنا عن طرف من أحوال المهاجرين الاجتماعية من جانب ويشير إلى الظروف الأمنية التي أحاطت هم في أرض الحبشة في ظروف معينة من جانب آخر.
ولئن كان هذا الحدث مؤشراً لاختلاط المهاجرين بأهل الحبشة، وعدم قيام فوارق (اللغة) حاجزاً دون التعامل في البيع والشراء والأخذ والعطاء فثمة إشارة من أحد الباحثين إلى أن المهاجرين إلى الحبشة لم يختلطوا بغيرهم اختلاطاً واسعاً ، بل أنهم كانوا في أماكن خصصت لهم لا تمكنهم من الاندماج الكامل والعيش الطبيعي في أوساط المجتمع… كما يقول الدكتور علي الشيخ، والذي أضاف قائلاً: " كما أن عامل اللغة من المعوقات التي تعرقل نشاطهم، وتضعف جهودهم لنشر الإسلام في الأوساط الشعبية لأن المهاجرين مما كانوا يعروفون اللغات المتداولة هناك، وهذا حاجز طبيعي يحد من أنشطتهم الدعوية والعلاقات الاجتماعية(1).
ولكن الدكتور لم يعتمد دليلاً لهذه الآراء، ولم يثبت لها مصدراً.
ومن مظاهر قلق المهاجرين وعدم أمنهم ووجود من يؤذيهم: إجابتهم للنجاشي حين سألهم: أيؤذيكم أحدٌ؟ قالوا: نعم، فأمر منادياً فنادى: من آذى أحداً من هؤلاء فأغرموه أربعة دراهم، قال: يكفيكم؟ فقلنا: لا، فأضعفها (2).
فتأكيد المهاجرين لوجود من يؤذيهم، ورغبتهم في مضاعفة العقوبة لمن آذاهم، شواهد لهذه الظروف المحيطة بالمسلمين المهاجرين.
ويمكن أن يستشف من عودة المهاجرين إلى مكة بعد فترة قصيرة من الهجرة عدم ارتياح المهاجرين بالحبشة، وذلك باستجابتهم لخبر بلغهم لا يعدُ أن يكون إشاعة اكتشفوا زيفها قبل أن يدخلوا مكة، وقد تردد في وسطهم القول: (عشائرنا أحبّ إلينا) (3). وبالطبع بنيت هذه المقولة على الظن بأن أهل مكة أسلموا كما سيأتي.
__________
(1) د. علي الشيخ أبو بكر: معالم الهجرتين إلى أرض الحبشة ص 248.
(2) مجمع الزوائد 6/29من رواية جعفر.
(3) الطبقات لابن سعد 1/206.(1/75)
أما مظاهر الأمن للمهاجرين فتبدو في قربهم من النجاشي، وتوثيق صلتهم به، فهو الذي أعلن أمنهم على الملاء، وتوعد بتغريم من سبهم أو آذاهم: ( اذهبوا فأنتم سيوم في الأرض – أي آمنون – من سبكم غرم – وكررها ثلاثاً – كما في رواية أم سلمة السابقة، وكذا رواية جعفر الآنفة.
ولقد بلغت الصلة مع النجاشي أن دخل المسلمون داره، وأرضعت نساؤهم أحد أولاده، فقد كشف لنا ( ابن حجر ) عن علاقة أسرية بين آل جعفر، والنجاشي، وقل عن ( مصعب ) قوله: (ولد للنجاشي ولد فمساه عبد الله، فأرضعته أسماء ( زوج جعفر ) حتى فطمته (1).
وظهرت آثار ذلك في أمن المهاجرين وحريتهم في العبادة حتى قالت أم سلمة رضي الله عنها: (لما نزلنا أرض الحبشة جاورنا بها خير جار النجاشي أمناً على ديننا، وعبدنا الله تعالى لا نؤذى ولا نسمع شيئاً نكرهه..) .
وقد عبر شعرائهم عن أمنهم وارتياحهم بأرض الحبشة فقال عبد الله (2) بن الحارث بن قيس:
إنا وجدنا بلاد الله واسعة ... تُنجي من الذل والمخزاة والهون(3)
ومن مظاهر أمن المهاجرين واستقرارهم وتناسلهم، وولادة عدد من أبنائهم وبناتهم في أرض الحبشة، وحسبنا هنا أن نشير إلى بيتين من بيوت المهاجرين هما: آل جعفر، وآل سلمة، فقد ولد لهم في أرض الحبشة، عبد الله بن جعفر، ومحمد، وعون، كما نقله ابن سعد عن الواقدي (4).
وعنهم ابن حجر (5).
أما آل سلمة، فقد ولد لهم في الحبشة: سلمة بن أبي سلمة، وعمر، ودرة، وزينب، قاله مصعب بن عبد الله ونقله الذهبي (6).
__________
(1) الإصابة 6/39.
(2) وفي رواية يونس بن بكير عن ابن إسحاق: عبد المطلب بن الحارث..(السير والمغازي ص 220).
(3) السيرة لابن هشام 1/410، السير والمغازي ص 221.
(4) الطبقات 8/218.
(5) الإصابة 12/116.
(6) سير أعلام النبلاء 1/151.(1/76)
وقد ذكر صاحب (شباب الصحابة) أسماء ثلاثة عشر مولوداً ذكراً من شباب الصحابة ولدوا في الحبشة (1).
كما أن من مظاهر أمن المهاجرين واستقرارهم اجتماعهم وتدارسهم وتعليم بعضهم بعضاً، وشهادة عدوهم لهم بالأمن وحسدهم على ذلك.
روى ابن أبي عدي، ومعاذ عن ابن عون عن عمير بن إسحاق أن جعفراً قال: يا رسول الله ائذن لي حتى أصير إلى أرض أعبد الله فيها، فأذن له، فأتى النجاشي ، فحدثنا عمرو بن العاص قال: لما رأيت جعفراً آمناً بها هو وأصحابه حسدته، فأتيت النجاشي فقلت: إن بأرضك رجلاً ابن عمه بأرضنا يزعم أنه ليس للناس إلا إله واحد، وإنك إن لم تقتله وأصحابه لا أقطع أليك هذه النطفة أبداً ولا أحد من أصحابي، قال: اذهب إليه فادعه، قلت: إنه لا يجيء معي، فأرسل معي رسولاً فأتيناه وهو بين ظهري أصحابه يُحدثهم.." (2).
ولا يفوت المطلع على أحوال المهاجرين (الدينية) في الحبشة ثباتهم على الحق الذي يعتقدون، وقوتهم في التعبير عنه.
وفي أعظم امتحان واجهه المسلمون في بلاد الحبشة النصرانية نجحوا في التعبير عن عقيدتهم في المسيح عيسى بن مريم عليه السلام، رغم المكيدة التي أريد لهم أن يقعوا فيها، ورغم ظروف الحبشة ومعتقد أهلها، ولا غرو أن تكون هذه النازلة من أعظم ما واجههم حتى قالوا وهم يدعون للامتحان: (ولم ينزل بنا مثلها قط) .
لقد قالوا حين اجتمعوا وتشاوروا:"نقول والله ما قال الله عزوجل، وما جاء به نبينا، كائناً في ذلك هو كائن.
__________
(1) محمد الدويش، شباب الصحابة، ملحق بأسماء شباب الصحابة ص 132-139.
(2) الذهبي: سير أعلام النبلاء 1/437، انظر: مجمع الزوائد 6/27-29، وقد سبق كلام الهيثمي على الرواية.(1/77)
ومن يتق الله يجعل له مخرجاً، فحين صدق المؤمنون مع ربهم وقالوا كلمة الحق في عيسى عليه السلام" هو عبد الله ورسول وروحه وكلمته ألقاها إلى مريم العذراء البتول" حينها ضرب النجاشي بيده إلى الأرض، فأخذ منها عوداً ثم قال: والله ما عد عيسى بن مريم ما قلتم هذا العود فتناخرت بطارقته حوله حين قال ما قال، فقال: وإن نخرتم والله (1).
كما يلفت نظر المتأمل في أحوال المهاجرين وعدم رضوخهم لعوائد الأحباش إذا كانت على حساب دينهم، فالسجود لا ينبغي أن يكون لغير الله، ولهذا لم يشارك المهاجرون غيرهم في تقديم السجود للنجاشي تحية له، ولم يأبهوا بأمر القسس والرهبان – في مجلس النجاشي – الذين قالوا لهم: اسجدوا لملك، فقال متحدثهم (جعفر) : إنا لا نسجد إلا لله (2).
وحين لفتت – هذه العزة الإسلامية – نظر النجاشي، وسألهم: ما لكم لا تحيوني كما تحييني الناس؟ قالوا: إن لنا رباً لا ينبغي أن نسجد لغيره، ولو سجدنا لأحد لسجدنا لنبينا.."(3).
ومما لا شك أن المهاجرين أثّروا وتأثروا بالحياة السائدة في الحبشة، قلّ ذلك الأثر أو كثر.
ولئن لم تُسعفنا النصوص كثيراً برصد (حجم) و (مظاهر) هذا التأثير الاجتماعي، فحسبنا أن نشير إلى لون من ألوان هذا التأثير نقله (ابن سعد) بسنده إلى (عامر الشعبي) قال: أول من أشار بالنعش نعش المرأة – يقول رفعه (4) – أسماء بنت عميس حين جاءت من أرض الحبشة رأت النصارى يصنعونه ثمّ (5).
__________
(1) السيرة لابن هشام 1/416-417.
(2) رواه الطبراني عن أبي موسى وقال الهيثمي: ورجاله رجال الصحيح مجمع الزوائد 6/31.
(3) رواه الطبراين مرسلاً عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، وفيه محمد بن كثير الثقفي، وهو ضعيف : مجمع الزوائد 6/32.
(4) هكذا وردت هذه العبارة، وعند الذهبي جاءت عبارة أخرى بين شرطتين هي : يعني المكبّة، سير أعلام النبلاء 2/284.
(5) الطبقات 8/281.(1/78)
وأشمل من هذا ما نقله (العسكري) في كتاب (الأوائل) من تأثر قريش والعرب بعوائد الأحباش فقال: عن الجاحظ قال: زعم الهيثم ابن عدي أن أربعة أشياء أتت قريشاً والعرب من جهة الحبشة: الغالية (وهي نوع نفيس من الطيب) وحمل النساء في النعوش إذا مُتّن، والمصحف الذي له دفتان وصداق أربع مئة دينار (1).
أما تأثر المهاجرين وأثرهم في الحياة الدينية فذلك أرجأه للحديث عنه في موضعه بمشيئة الله (في فصل: من آثار هجرة الحبشة).
وهكذا بقي المهاجرون في الحبشة، ومرت حياتهم بظروف آمنة مستقرة وأخرى قلقة شديدة وغير آمنة، فعاشوا آلام الغربة، وآمال النصرة، آلام الغربة حيث البلد غريب، وأهلها غرباء، والشقة بعيدة، واللغة والعوائد مختلفة، والمهاجرون يؤذون ويخافون.
وآمال النصرة حيث مساندة النجاشي وحسن جواره واستضافته لهم، وحيث تحقيق الهدف النبيل، ونشر الدين الحق، والبعد عن الفتنة في الدين، وكل ذلك – كما قالت أسماء – في الله وفي رسوله - صلى الله عليه وسلم - ولذلك الهدف النبيل والمقصد الحسن تهون الصعاب، ويطيب الأذى.
المبحث الخامس
الإسلام والمسلمون بين مكة والحبشة
قبل أن يمتد بنا الحديث عن آثار هجرة الحبشة، ودروسها لابد من وقفة نتبين فيها ظروف المسلمين بمكة – في ظل هذه الفترة – فمعرفة أحوال مكة وظروف المسلمين الذين لم يهاجروا تعين على التعرف على ظروف المهاجرين للحبشة ومدى استقرارهم بالحبشة وآثارهم بها، أو رغبتهم في العودة إلى بلادهم والعيش إلى جوار إخوانهم وأهليهم وعسى أن يجيب هذا المبحث على التساؤلات التالية:
- ما أحوال المسلمين في مكة بعد هجرة أهل الحبشة؟
- وما صلة المسلمين بالحبشة بالمسلمين بمكة؟
- لماذا عاد المهاجرون إلى مكة؟
- حرب قريش هل كان لها أثر في بقاء من بقي من المسلمين بالحبشة؟
- لماذا طال مكث جعفر ومن معه بالحبشة؟
__________
(1) انظر: السيوطي: رفع شأن الحبشان ص 211.(1/79)
- هل يعد المهاجرون للحبشة ضمن المهاجرين للمدينة؟
ـ أحوال المسلمين في مكة بعد هجرة أهل الحبشة.
لم تتحسن أحوال المسلمين في مكة بعد هجرة من هاجر إلى الحبشة، بل الذي يظهر من استقراء النصوص، وتأمل الأحداث التالية لهجرة الحبشة، أن الأمور تضيق أكثر والمطاردة للمؤمنين تشتد، وشواهد ذلك ما يلي:
أ ـ ما أخرجه البخاري في صحيحه في قصة خروج أبي بكر من مكة راغباً في الهجرة من رواية الزهري قال: فلما ابتلى المسلمون خرج أبو بكر مهاجراً نحو أرض الحبشة حتى بلغ برك الغماد، لقيه ابن الدغنة فقال أين تريد يا أبا بكر؟ فقال: أخرجني قومي، فأريد أن أسبح في الأرض وأعبد ربي (1).
وحيث أن أبا بكر ليس في عداد المهاجرين للحبشة ابتداءً – كما هو معلوم – وجهة خروجه إلى (برك الغماد) وهي موضع وراء مكة بخمس ليالي مما يلي البحر وقيل بلد باليمن (2).
فتلك مؤشرات بل مرجحات لكون خروج أبي بكر - رضي الله عنهم - بعد خروج المسلمين من مكة واختيارهم الحبشة مكاناً للهجرة، ويؤيد ذلك قول ابن حجر وهو يشرح عبارة (خرج أبو بكر مهاجراً نحو أرض الحبشة) حيث قال: أي ليلحق بمن سبقه إليها من المسلمين (3).
وقبله قال ابن إسحاق بسنده إلى عائشة رضي الله عنها قالت: حين ضاقت على أبي بكر مكة وأصابه فيها الأذى، ورأى من تظاهر قريش على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه ما رأى، استأذن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الهجرة فأذن الله، فخرج أبو بكر مهاجراً حتى إذا سار من مكة يوماً أو يومين لقيه ابن الدغنة.. (4).
وإذا عُلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يأذن لأبي بكر في الهجرة للمدينة حين استأذنه ليكون صاحبه في الهجرة، كشف هذا النص عن رغبة أبي بكر للهجرة للحبشة وكشف كذلك عن طبيعة عدوان قريش على المسلمين في هذه الفترة.
__________
(1) الصحيح مع الفتح 7/230.
(2) معجم البلدان 1/399.
(3) الفتح 7/232.
(4) السيرة لابن هشام 2/14.(1/80)
وإذا كان ذلك فهو مؤكد للتضيق الواقع على المسلمين بمكة بعد هجرة أهل الحبشة، وإذا لم يُستثن – من التضيق والإخراج –أهل الشرف والمكانة- كأبي بكر –فغيره من المسلمين من باب أولى.
ب ـ أخرج ابن إسحاق، عن ابن مسعود قوله: ما كنا نقدر على أن نصلي عند الكعبة حتى أسلم عمر، وفي الرواية نفسها: وكان إسلام عمر بعد خروجه من خرج من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى الحبشة (1).
ودلالة الخبرين على الشدة والأذى للمسلمين بمكة لا تخفى لمن تأمل.
جـ ـ وأخرج ابن إسحاق- كذلك ما يفيد كون حصار الشعب على إثر هجرة الحبشة – وليس يخفى ما في الحصار من شدة على المحاصرين مسلمهم وكافرهم.
قال ابن إسحاق: فلما رأت قريش أن أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد نزلوا بلداً أصابوا به أمناً وقراراً، وأن النجاشي قد منّع من لجأ إليه منهم، وأن عمر قد أسلم… اجتمعوا وائتمروا بينهم أن يكتبوا كتاباً يتعاقدون فيه على بني هاشم وبني المطلب على أن لا ينكحوا إليهم ولا ينُكحوهم.. (2).
وكذلك يربط الطبري بين استقرار المسلمين في الحبشة، وإسلام حمزة وعمر، وبين حصار الشعب (3).
د ـ وإذا كانت قريش تطارد وتتابع من فرّ من أرضها واستقر بالحبشة – كما مرّ مفصلاً – لتمنع آثارهم وتحد من دعوتهم، فكيف الظن بمعاملتها لمن يعتقدون ديناً غير ديانتها، ويدعون لخلاف عوائدها في أرضها؟ مهما سالم المسلمون ورغبوا في عدم المواجهة مع الكافرين في هذه المرحلة.
__________
(1) السيرة لابن هشام 3.
(2) السيرة لابن هشام 3.
(3) تاريخ الطبري 2/335.(1/81)
هـ ـ وحين منع الله نبيه - صلى الله عليه وسلم - من قريش، وقام عمه وقومه من بني هاشم وبني المطلب دونه، وحالوا بينهم وبين ما أرادوا من البطش به، جعلت قريش تسخر بالنبي - صلى الله عليه وسلم - وتهمزه وتستهزئ به، ويخاصمونه، وجعل القرآن ينزل في قريش بأحداثها، وفيمن نصب لعدواته منهم – كما قال ابن إسحاق – (1).
وإذا صنع هذا بمحدو - صلى الله عليه وسلم - صاحب النسب والعشيرة، فلا تسأل عن أذية قريش وسخريتهم بمن هو دونه من المسلمين، سواء كانوا من الأحرار أم من الموالي.
و ـ بل ورد أن أشدّ ما لقى الرسول - صلى الله عليه وسلم - من المشركين كان بعد هجرة المهاجرين للحبشة وذلك حين اجتمع أشرافهم بالحجر فذكروا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقالوا: ما أرينا مثل ما صبرنا عليه من هذا الرجل قط فلما طلع عليهم غمزوه ببعض القول فعرف ذلك في وجه الرسول - صلى الله عليه وسلم - .
ثم تطور الأمر بعد إلى حدٍ أخذ رجل منهم يجمع ردائه وكانم يخنقه.! وهكذا يسوق ابن جرير هذه الأحداث بعد خروج من خرج من أصحاب رسول الله - رضي الله عنهم - إلى أرض الحبشة (2).
وحين يكتفي بهذه الحوادث شواهد على طبيعة عدوان قريش وأساليب تعاملها مع المسلمين في مكة في هذه المرحلة، يبقى السؤال:
كيف تعامل المسلمون مع هذه الشدة، وما موقفهم من المشركين في هذه الفترة؟ وللإجابة أسوق نصاً ورد عند ابن إسحاق – من زيادات يونس بن بكير – يكشف فيه عن مصانعة المسلمين للمشركين ويقول: أن رسول الله - رضي الله عنهم - قال مشيداً بأصحاب الهجرة للحبشة : ((لكم هجرتان هاجرتم إلى الحبشة، ونحن مدهنون بمكة، وهاجرتم بعد…) (3).
وأورده ابن سعد بلفظ: (ونحن مرهنون بمكة) (4).
__________
(1) السيرة لابن هشام 1/435.
(2) تاريخ الطبري 2/331-333.
(3) السير والمغازي ص 222.
(4) الطبقات 8/281.(1/82)
وفي رواية أخرى: " وهاجر من هاجر إلى أرض الحبشة، والنبي - صلى الله عليه وسلم - وغيره مدهنون بمكة" (1).
والمداهنة: كالمصانعة (2).
وكان من آثار هذه الشدة، وأنماط المصانعة أن مارس الرسول - صلى الله عليه وسلم - أسلوب الدعوة سراً، وإن كان قد جهر بدعوته.
ولهذا قال الطبري: " ولما خرج من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى أرض الحبشة مهاجراً إليها، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - مقيم بمكة، يدعو إلى الله سيراً وجهراً .." (3).
وقال في حديثه عن حصار الشعب :".. ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - في كل ذلك يدعو قومه سراً وجهراً " (4).
ـ صلة المسلمين بالحبشة بالمسلمين بمكة والمدينة:
لا غرابة لمن يتأمل أحداث هجرة الحبشة بعمق أن يقفز إلى ذهنه عدد من التساؤلات مفادها:
هل من صلة بين المسلمين بالحبشة والمسلمين بمكة – قبل الهجرة – وبالمدينة – بعد الهجرة؟ وما نوع هذه الصلة؟
هل كانت تبلغهم تشريعات الإسلام النازلة في حينها أن يتأخر علمهم بها؟ وإذا كانت تبلغهم فما وسيلة البلاغ ؟
هل يعذرون بالجهل – فيما تركوا من شراع الإسلام التي لم تبلغهم، وهل من نماذج لما فاتهم من شرائع الإسلام النازلة بغير علمهم؟
لابد قبل الإجابة عن هذه الأسئلة من الاعتراف سلفاً، بأن النصوص الماثلة بين أيدينا في كتب السيرة قد لا تسعفنا كثيراً في الإجابة صراحة على كثير من هذه الأسئلة.
ولابد هنا أن نستفيد من كتب العقائد والأحكام، فثمة آراء ونقولات يمكن أن نستضيء بها، في الإجابة على هذه الأسئلة أو بعضها.
__________
(1) طرهوني: صحيح السيرة النبوية 2/218، وقال طرهوني (وإسناده حسن) ص 585.
(2) كما في (مختار الصحاح) (دهن) ص 214.
(3) تاريخ الطبري 2/331-332.
(4) المصدر السابق 2/336.(1/83)
وغني عن البيان أن من المسلمين من مكث بالحبشة ما يقرب من خمسة عشر عاماً (كجعفر ومن معه ) وما من شك أن كثيراً من شرائع الإسلام قد نزلت خلال هذه الفترة ومن أهمها: الصلاة، والصيام، والزكاة، وغيرها فكيف كانت تبلغهم؟ هل كان الرسول - صلى الله عليه وسلم - يبعث إليهم رسلاً من عنده يبلغوهم بما ينزل في حينه؟ أم كان المسلمون في الحبشة يبعثون بين الفينة والأخرى من يحمل لهم ما نزل منها؟
لا تخدمنا نصوص السيرة – في هجرة الحبشة – بالتصريح بهذا أو ذاك، وكل الذي نعلمه من بعثات الرسول - صلى الله عليه وسلم - محددة الهدف والغرض ،
وهي – بشكل عام – من القلّة بحيث لا تكفي لنقل كل التشريعات النازلة في حينها، وتغطية الفترة الزمنية بطولها.
وقد يقال: إن الأخبار تصل إلى أهل الحبشة في حينها بدليل عودة بعضهم إلى مكة، حين سمعوا خبر إسلام أهل مكة – كما سيأتي بيانه -.
ولكن هذا يردُّ خبر الاتصال أكثر ما يثبته، فالخبر كان كاذباً ولم يثبت أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعث لهم في ذلك الأمر أحداً ومثل هذا لا يُعتمد لإثبات الصلة بين مكة والحبشة.
ومن أشهر من بعثهم النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى الحبشة: عمرو بن أمية الضمري - رضي الله عنهم -، وهذا إنما أسلم حين انصرف المشركون عن أحد، كما قال ابن سعد (1)،وبعثته كانت في شأن زواج أم حبيبة رضي الله عنها، وفي دعوة نجاشي الحبشة للإسلام، وأن يبعث إليه من بقي عنده من الصحابة وأن يحملهم ففعل النجاشي (2).
__________
(1) الكبقات 4/248، وانظر: الإصابة 7/85.
(2) الطبقات 1/207-208-258-259-4/249، والإصابة 7/85.(1/84)
وإذا لم نقف على نص يفيد إبلاغ المسلمين في الحبشة ما نزل من تشريعات في مكة أو المدينة، أمكن القولُ بضعف الصلة بينهم، وقد يكون لذلك ما يبرره، وأمكن القول كذلك بتأخر علم المسلمين بالحبشة بتشريعات الإسلام النازلة، ويمكن أن نستدل لذلك بما فاتهم من زيادات في التشريع، بل في تشريع بكاملة لم يبلغهم.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية – وهو يقرر العذر بالجهل - : " ولما زيد في صلاة الحضر حين هاجر إلى المدينة كان من كان بعيداً عنه مثل من كان بمكة، وبأرض الحبشة يُصلون ركعتين، ولم يأمرهم النبي - صلى الله عليه وسلم - بإعادة الصلاة (1).
ثم يقول عن الصيام: " ولما فرض شهر رمضان في السنة الثانية من الهجرة، ولم يبلغ الخبر إلى من كان بأرض الحبشة من المسلمين حتى فات ذلك الشهر لم يأمرهم بإعادة الصيام" (2).
ويقول الذهبي : " فلا يأثم أحد إلا بعد العلم وبعد قيام الحجة عليه ... وقد كان سادة الصحابة بالحبشة ينزل الواجب والتحريم على النبي - صلى الله عليه وسلم - فلا يبلغهم إلا بعد أشهر فهم في تلك الأمور معذورون بالجهل حتى يبلغهم النص ....."(3) .
وبالجملة وكما يقرر أحد الباحثين فقد كان المسلمون من الصحابة الذين كانوا بمكة ثم في المدينة يعلمون من الأحكام التي كانت تنزل على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما لم يكن بعلمه المهاجرون الأولون إلى الحبشة، إذ أن هذه الأخيرة كانت دار كفر وإن كان المسلمون فيها يعيشون بأمان، ولذلك كان أولئك المهاجرون معذورين فيما تركوا من الأحكام لأنهم جهلوها، وما كان في وسعهم أن يعلموا بها حتى تبلغهم (4).
__________
(1) الفتاوي 22/43.
(2) المصدر السابق 22/43.
(3) الكبائر ص12 .
(4) عبد الرزاق بن طاهر معاشي: الجهل بمسائل الاعتقاد وحكمه ص 244-245.(1/85)
ومع ذلك فما من شك أن الصلة لم تنقطع بين المسلمين مكة والمدينة والمسلمين بالحبشة، وأن أخبارهم تبغهم وإن تأخرت بدليل رجوع عامة من هاجر إلى الحبشة إلى المدينة، حين بلغهم هجرة النبي - صلى الله عليه وسلم - والمؤمنين إليها كما في صحيح البخاري (1).
على أن هناك رأياً لبعض كتبة السيرة المعاصرين، مفاده وجود صلة مبكرة بين المسلمين بمكة وأهل الحبشة، ويمثلها كتابة النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى النجاشي بكتاب حملة إليه جعفر بن أبي طالب - رضي الله عنهم - - حين هاجر – ومفاده: الوصية بالمسلمين المهاجرين وإحسان جوارهم وإكرامهم – كما يقول صادق عرجون - (2).
وحيث نسب (عرجون) هذا الكتاب الذي حمله (جعفر) إلى كتب السيرة دون أن يحدد مصدراً معيناً منها، فالذي وجدته في كتب السير نسبة الكتاب إلى (عمرو بن أمية الضمري) وهو الكتاب الذي سبقت الإشارة إليه، أكثر مما وجدت نسبة الكتاب إلى جعفر.
كذا وجدت عند ابن إسحاق من رواية سلمة بن الفضل عنه (3)، وعند ابن هشام (4)، وابن سعد في الطبقات (5)، وابن سيد الناس (6)، والزيلعي (7)، وحتى ابن القيم الذي أشار إليه (عرجون) ممن نقل الكتاب نص على (عمرو بن أمية) ولم يُشر إلى (جعفر) (8).
ومما يدعم كون الكتاب حمله (عمرو بن أمية) أن الدعوة فيه إلى إسلام النجاشي أظهر من حماية المهاجرين والوصية بهم، وهي المهمة التي كلف (عمرو) لا (جعفر) بإبلاغها للنجاشي.
__________
(1) انظر: الصحيح مع الفتح 7/231.
(2) محمد رسول الله 2/27.
(3) انظر: دلائل النبوة للبيهقي 2/309.
(4) السيرة 4/338.
(5) 1/258،259.
(6) عيون الأثر 2/264،265.
(7) نصب الراية 4/421.
(8) زاد المعاد 3/689.(1/86)
وكون الكتابين لا يختلفان في نصهما – كما يقرر عرجون نفسه – سوى إن كتاب (عمرو) لم يرد فيه ذكر (جعفر) فهذا مما يؤكد كون الكتابين واحد، وأن الذي حمله عمرو بن أمية لا جعفر بن أبي طالب – والله أعلم – فهو المشهور في كتب النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى الملوك الرؤساء.
وحتى ولو ثبت حمل (جعفر) لكتاب النجاشي، فنحن في حديثنا عن الصلة بين مكة والحبشة نحتاج إلى معرفة الصلة بعد اكتمال هجرة المسلمين واستقرارهم في الحبشة أكثر من حاجتنا إلى معرفتنا قبل ذلك.
العائدون إلى مكة لماذا ؟
علينا قبل أن ندرس أسباب عودة من عاد من مهاجرة الحبشة إلى مكة أن نحدد كم مرة وكم وفد عاد من الحبشة إلى مكة، ومتى ذلك؟ وهل استمرت عودة المهاجرين من الحبشة إلى المدينة بعد الهجرة إليها؟
يمكننا أن نحدد ثلاث عودات للمهاجرين تختلف في زمنها، وتختلف في أسبابها:
1ـ أما المرة الأولى فهي عودتهم إلى مكة بعد فترة وجيزة من هجرتهم إلى الحبشة حددها الواقدي بشهرين من إقامتهم حيث قال: " خرجوا في رجب سنة خمسٍ فأقاموا شعبان وشهر رمضان، وكانت السجدة في شهر رمضان، وقدموا في شوال خمس" (1).
وهذه القدمة – بقطع النظر عن سببها- يتفق عليها أرباب السير كابن إسحاق(2)، والواقدي كما سبق وعروة(3)، وموسى بن عقبة(4)، وغيرهم. وجاء تحديد عددهم بـ اثني عشر رجلاً (5).
2ـ عودتهم إلى مكة حين بلغهم خبر هجرة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والمؤمنين إلى المدينة ، ومنهم من تأخر فعاد إلى المدينة، ففي صحيح
البخاري أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال للمسلمين: " إني أريت دار هجرتكم ذات نخل بين لابتين- وهما الحرتان- فهاجر من هاجر قبل المدينة، ورجع عامة من كان هاجر بأرض الحبشة إلى المدينة (6).
__________
(1) الطبقات 1/206.
(2) السيرة لابن هشام 2/5.
(3) مغازي عروة ص 106.
(4) دلائل النبوة للبيهقي 2/297.
(5) ابن سيد الناس: عيون الأثر 1/120.
(6) الصحيح مع الفتح 7/231.(1/87)
وإذا فهم من نص البخاري أن المهاجرين قدموا من الحبشة إلى المدينة ودون تحديد لعدد من قدم منهم، فإن أرباب السير يشيرون إلى قدومهم إلى مكة أولاً ثم خروجهم منها إلى المدينة، ويذكرون عدتهم.
فقد نقل ابن سعد عن شيخه الواقدي قوله: فلما سمع المهاجرون بالحبشة بمهاجر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة رجع منهم ثلاثة وثلاثون رجلاً، ومن النساء ثماني نسوة، فمات منهم رجلان بمكة، وحبس بمكة سبعة نفر وشهد بدراً منهم أربعة وعشرون رجلاً (1).
ويتفق ابن إسحاق مع الواقدي في العدد العائد (33) رجلاً، ولكن ابن إسحاق يشمل بهذا العدد الوافدين إلى غزوة بدر، دون ن ينص على عودة حين بلغهم خبر الهجرة، مكتفياً بذكر العودة الأولى حين بلغ المهاجرين إسلام أهل مكة (2).
وقد ذكر أسماء العائدين، ومن أقام بمكة حتى هاجر المدينة فشهد معه (بدراً) و ( أحداً )، ومن حُبس عنه حتى فاته بدر وغيره ، ومن مات بمكة (3).
وفي هذا الصدد يظهر الواقدي أكثر دقة في التعبير في زمن عودة العائدين، وابن إسحاق أكثر تفصيلاً وذكراً للأسماء العائدة بشكل عام.
أما ابن حبان فيكتفي بذكر عودة المهاجرين حين بلغم خبر الهجرة للمدينة دون أن يذكر ما قبلها – خلاف ابن إسحاق – ويجمع بين ما أورده أهل الحديث وأهل السير في كيفية قدومهم حين يقول: فلم يزل المسلمون بأرض الحبشة إلى أن ذكر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الخروج إلى المدينة، فمنهم من رجع إلى مكة فهاجر مع النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة، ومنهم من بقي بأرض الحبشة حتى لحق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد قدومه المدينة (4).
__________
(1) الطبقات 1/207.
(2) سيرة ابن هشام 2/5-10.
(3) المصدر السابق 2/7.
(4) السيرة النبوية وأخبار الخلفاء ص 81.(1/88)
ويتفق ابن حزم مع ابن إسحاق، في ذكر العودة الأولى للمهاجرين (حين بلغهم أن قريشاً أسلمت ) ولكنه يختلف معه في العدد، إذ يكتفي ابن حزم بذكر (ثلاثين) عائداً فقط من الرجال، (وخمس) نسوة فقط من العائدات، مع ذكر أسماء الرجال والنساء (1).
ومن عجب أن تخفى أو تلتبس هذه القدمة الثانية – حين بلغهم خبر الهجرة للمدينة – على ابن القيم، إذ يقول في حديثه عن قدوم ابن مسعود من الحبشة : " ولم يذكر أحد قدوم مهاجري الحبشة - إلا في القدمة الأولى بمكة، والثانية عام خيبر مع جعفر، فمتى قدم ابن مسعود في غير هاتين المرتين ومع من؟ وبنحو الذي قلنا في ذلك قال ابن إسحاق – (2).
ولكن ابن القيم عادة مرة أخرى ليضع قدمة ثالثة للمهاجرين موضع احتمال إذ يقول: "قلت: قد ذكر في هذه الهجرة الثانية عثمان ابن عنان وجماعة ممن شهد بدراً، فإما أن يكون هذا وهماً، وإما أن يكون لهم قدمة أخرى قبل بدر، فيكون لهم ثلاث قددمات: قدمة قبل الهجرة، وقدمة قبل بدر، وقدمة عام خيبر…" ثم نقل قول ابن سعد بقدوم المهاجرين حين سمعوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة (3). ثم ينص على أن القدمة الوسطى بعد الهجرة وقبل بدر (4).
أما ابن حجر فقد نص على هذه القدمة الثانية، مشيراً إلى الفرق بينها وبين القدمة الأولى لأصحاب الهجرة الأولى (5).
__________
(1) جوامع السيرة ص 65-66.
(2) زاد المعاد 3/25.
(3) المصدر السابق 3/26.
(4) المصدر نفسه 3/27.
(5) الفتح 7/234.(1/89)
3ـ أما العودة الثالثة لمهاجري الحبشة فهي في السنة السابعة للهجرة عام خيبر، وهذه يتفق عليها أهل الحديث، وأصحاب السير، وهي عودة جعفر ومن معه (1)، وكان مقدمهم بعد فتح خيبر، كما نص عليه البخاري وابن سعد (2)، وعدتهم ثلاثة وخمسون رجلاً وامرأة، وقيل كانوا أربعين رجلاً، وجمع ابن حجر بين هذين الرقمين بالحمل على الأصول والأتباع (3).
وقال ابن إسحاق: فجميع من قدم في السفينتين إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ستة عشر رجلاً (4).
ولكن ابن إسحاق ذكر من نساء المهاجرين، وأبنائهم ممن حمل معهم في السفينة ما يضاف إلى الرقم السابق، كما يضاف إلى العدد كذلك ما أشار إليه بقوله: وقد كان حمل معهم في السفينتين نساءٌ من هلك هنالك من المسلمين (5).
وفرح الرسول - صلى الله عليه وسلم - بمقدمهم وعبر عن ذلك بقوله: "ماأدري بأيهما أنا آسر بفتح خيبر أم بقدوم جعفر" (6)، وإن كان بعض العلماء أعلَّ الحديث بالإرسال، وبعضهم صححه أو قواه بشواهده (7).
__________
(1) انظر: صحيح البخاري مع الفتح 7/484، السيرة لابن هشام 4/7، الطبقات الكبرى 1/208.
(2) الصحيح مع الفتح 7/487، الطبقات 1/208.
(3) الفتح 7/485-486.
(4) السيرة لابن هشام 4/11.
(5) انظر: السيرة لابن هشام 4/8-11.
(6) انظر: السيرة لابن هشام 4/7، وسنن أبي داود 5/392.
(7) انظر: المستدرك للحاكم 3/211، وصححه، وقال الذهبي إنه مرسل: مجمع الزوائد 9/272، وقال الهيثمي: رواه الطبراني مرسلاً ورجاله رجال الصحيح، ورواه البيهقي في السنن 8/101، مرة مرسلاً ومرة موصولاً قال: والمحفوظ الأول المرسل. وذكر الألباني طرف الحديث وشواهده ومال إلى تحسينه كما في تعليقه على فقه السيرة للغزالي ص 367.(1/90)
هذه ثلاث قدمات لأهل الحبشة إلى مكة والمدينة، لا إشكال فيهن وربما اعتبرها البعض أربع قدمات لمن اعتبر القدوم بعد خبر الهجرة للمدينة قدمتين – قبل بدر – وبعدها، كما يفهم من صنيع ابن هشام في السيرة (1)، والذهبي (2).
أما عن أسباب قدوم المهاجرين في هذه القدمات الثلاث، فهذا أوان بيانه، ففي المقدمة الأولى ابن إسحاق ذلك ببلوغ مهاجرة الحبشة إسلام أهل مكة وإن كانوا علموا حين اقتربوا من مكة أن ذلك كان باطلاً (3)، وقد ذكره ابن إسحاق دون إسناد.
ويزيد (الواقدي) أن مهاجرة الحبشة بلغهم سجود المشركين مع النبي - صلى الله عليه وسلم - حين تلى (النجم) والقى الشيطان على لسانه - صلى الله عليه وسلم - كلمتين ذكر بهما آلهتهم بقوله: { تلك الغرانيق العلى وإن شفاعتهن لترتجى } .
وإن الملاء من قريش – على إثرها- سجدوا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال أهل الحبشة – حين بلغتهم هذه السجدة – فمن بقي بمكة إذا أسلم هؤلاء؟ وقالوا: عشائرنا أحب إلينا فخرجوا راجعين (4).
وعند عروة ذكر لسجود المشركين مع النبي - صلى الله عليه وسلم - حين قرأ سورة
__________
(1) 4/11.
(2) سير أعلام النبلاء 1/151-435.,
(3) السيرة لابن هشام 2/5.
(4) الطبقات الكبرى 1/205-206.(1/91)
(النجم) ولكنه يعرض الرواية بمعنى يختلفعن عرض الواقدي، فالكلمات التي قيلت في آلهة المشركين، ألقاها، الشيطان، فوقعت في قلب كل مشركم واستبشروا بها، ولم يقلها الرسول - صلى الله عليه وسلم - ولم يسمعها المسلمون، ولذا عجب الفريقان – كما في الرواية- كلاهما من جماعتهم في السجود أما المسلمون فعجبوا من سجود المشركين من غير إيمان ولا يقين ولم يكونوا سمعوا الذي ألقى الشيطان على ألسنة المشركين، وأما المشركون فاطمأنت أنفسهم إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وحدثهم الشيطان أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد قرأها في السجدة لتعظيم آلهتهم، ففشت تلك الكلمة في الناس وأظهرها الشيطان حتى بلغت الحبشة، فلما سمعها المسلمون هناك وبلغهم سجود المشركين مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أقبلوا سراعاً إلى مكة (1).
وعلى كل حال فإن أمر سجود المشركين مع الرسول - صلى الله عليه وسلم - حين قرأ سورة (النجم) ثابت لا إشكال فيه (2). ولكن الخلاف والإشكال في سبب السجود، وقد دار جدلٌ واختلاف في الرأي قديماً وحديثاً بين العلماء في تضعيف أو تصحيح الروايات الواردة في شأن ما سمي بـ (قصة الغرانيق) وقد أشيعت القول تفصيلاً في هذه القضية فيما سبق لي من بحث لا داعي لإعادته هنا (3).
وأضيف هنا ما طالعته من جديد في هذه المسألة، فقد جمع صاحب (القصيمية) ما يزيد على عشر روايات للقصة مسندة وحكم عليها بالضعف كلها (4).
__________
(1) مغازي عروة ص 107-108.
(2) انظر: صحيح البخاري مع الفتح 8/614
(3) انظر: السيرة النبوية في الصحيحين وعند ابن إسحاق دراسة مقارنة في العهد المكي للمؤلف ص ..
(4) محمد الصوياني: القصيمية دراسة نقدية لنصوص السيرة النبوية 1/422-434.(1/92)
وإذا كان هذا إبطالاً لقصة الغرانيق من ناحية السند، فثمة إبطال لها من ناحية المتن، وذلك باستقراء جيد للنصوص، واستنتاج بديع من المرويات الصحيحة لما يكفي لإبطال القصة، وصاحب هذا النقد الأستاذ صالح الشامي، فقد أبرز جانبين مهمين بهما أبطل أن يكون سجود المشركين سبباً لعودة المهاجرين للحبشة، قال عن الأول: إن آيات سورة النجم تناولت جانباً من الحديث عن الإسراء والمعراج، ومعنى ذلك أن سورة النجم نزلت بعد حادثة الإسراء، وحادثة الإسراء كانت قبل الهجرة للمدينة بثلاث سنين، فهل يمكن أن تكون سورة النجم سبباً لعودة المهاجرين وهي لم تنزل إلا بعد عودتهم إلى مكة بما لا يقل عن خمس سنين؟
2ـ ويضيف (الشامي) في وقفته عند حديث البخاري في سجود المشركين مع النبي - صلى الله عليه وسلم - قائلاً: إن الحديث نص صريح بحضور عبد الله بن مسعود السجود ومشاركته فيها، فهو راوي الحديث، وقد أكد حضوره برؤية ذلك الرجل الذي لم يسجد واكتفى بأخذه كفاً من حصى والسجود عليه، وحضوره في مكة في هذا الوقت يعني أنه قد عاد من الحبشة مع من عاد من أصحاب الهجرة الثانية، وإذن فحادثة السجود وقعت بعد عودة المهاجرين وهي بالتالي لا تصلح أن تكون سبباً لعودتهم، فعبد الله بن مسعود رجع من هجرته إلى مكة مباشرة، ومكث فيها إلى أن هاجر إلى المدينة.. إلى أن يقول: نستطيع الآن أن نقول بكل الثقة والاطمئنان: أن حادثة السجود في سورة النجم لا علاقة لها من قريب أو بعيد في قضية رجوع المهاجرين الأول أو الثاني، وهذا ما يؤكد بشكل قاطع نفي قصة الغرانيق وبطلانها وهذا الدليل لإبطال قصة الغرانيق لم أرَ من وقف عليه أو استدل به من قبل (1).
ويظل السؤال قائماً: ما سبب عودة المهاجرين الأولى؟
__________
(1) صالح الشامي: أضواء على دراسة السيرة ص 101-102.(1/93)
يبقى ما ذكره ابن إسحاق من وصول أخبار إلى أهل الحبشة عن إسلام وسجود أهل مكة وارداً – دون ذكر قصة الغرانيق -.وهذا السبب يؤكده ابن حزم بقوله: ثم اتصل بمن كان في أرض الحبشة من المهاجرين أن قريشاً قد أسلمت، وكان هذا الخبر كاذباً، فانصرف منهم قوم ... (1).
ويقول الذهبي: رجعوا حين سمعوا بإسلام أهل مكة عند نزول سورة النجم (2).
وقال ابن حجر عن مجيء من رجع من أهل الهجرة الأولى أن ذلك بسبب سجود المشركين مع النبي - صلى الله عليه وسلم - والمسلمين في سورة النجم، فشاع أن المشركين أسلموا وسجدوا، فرجع من رجع من الحبشة (3).
ولم لا يكون وراداً وقد أسلم في هذه الفترة حمزة، وعمر رضي الله عنهما، وهذان لهما مكانتهما في قريش، فكيف إذا وضعنا في الحسبان أن الخبر قد يكون بلغ أهل الحبشة أكبر من هذا.
ووضعنا في الحسبان كذلك السآمة والملل، التي ألمت بالمهاجرين وأشار إليها الذهبي بقوله: وكذا قدم الزبير، وابن مسعود، وطائفة من مهاجرة الحبشة مكة، وملّوا سكنى الحبشة (4).
وآلام الغربة في تجربة تعد الأولى من نوعها للمسلمين عبر عنها الشامي بقوله: فلا شك أن مشاعر الغربة كانت قاسية عليهم، الأمر الذي جعلهم يرون إيذاء قومهم محتملاً إزاء ما كانوا يعانون من غربتهم، وهذا ما دفعهم إلى العودة، وربما ساعد على ذلك وصول نبأ إسلام حمزة وعمر رضي الله عنهما (5).
وإذا وقع الخلاف والإشكال في سبب القدمة الأولى لمهاجرة الحبشة إلى مكة فالأمر ليس كذلك بالنسبة لأسباب القدمتين الثانية والثالثة.
__________
(1) جوامع السيرة ص 65.
(2) سير أعلام النبلاء 1/151.
(3) الفتح 4/234.
(4) سير أعلام النبلاء 1/435.
(5) أضواء على دراسة السيرة ص 104.(1/94)
أما الثانية، فسببها كما في نص البخاري : العلم بهرجة النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة والرغبة في الهجرة معه والمسلمين إلى المدينة، وقد نص ابن حجر على الفرق بين سبب هذه والقدمة الأولى، وأشار إلى أنهم قدموا مكة أولاً، وأن الذين هاجروا منهم إلى المدينة معظمهم لا جميعهم (1).
وكذلك نص عليها ابن سعد في نقله عن الواقدي (2). كما ذكرها ابن عبد البر (3).
أما إغفال ابن إسحاق لذكر سبب هذه القدمة، فيقول عنه الشامي: أنه مسلك لم ينفرد به ابن إسحاق وحده، بل شاركه في ذلك آخرون من كتاب السيرة، ولعل السبب في ذلك أن عودتهم كانت متأخرة وقد سار في تصنيفه حسب السنين، فأرجأ ذلك حتى يأتي وقته ثم نسي ذكر ذلك(4).
ولئن كنا نوافق الشامي على عدم ذكر ابن إسحاق للهجرة سبباً للقدمة الثانية، فلا نوافقه على كون (النسيان) سبباً لذلك بدليل أنه لم ينسَ ذكر القدمة الثالثة (جعفر وأصحابه) حين بعث إليهم النبي - صلى الله عليه وسلم - عمرو بن أمية الضمري، وهذه متأخرة عن القدمة الثانية فكيف نسي الثانية وذكر الثالثة؟
أما صاحب (أحاديث الهجرة) فهو حين يؤكد رأي ابن إسحاق أن للمهاجرين قدمتين فقط (الأولى، والثالثة) يُعلل ذلك بأن صنيع ابن برجوع أحد، فعنده أنه لما هاجر الأولون ووصلوا الحبشة تلاهم البقية بمعية جعفر بن أبي طالب، حتى اجتمعوا هناك، ثم بلغهم إسلام المشركين وسجودهم فرجع منهم ثلاثة وثلاثون رجلاً وهذه هي القدمة الأولى عنده، والثانية عام خيبر (5).
__________
(1) الفتح 4/234.
(2) الطبقات 1/207.
(3) الدرر ص 92.
(4) صالح الشامي: أضواء على دارسة السيرة ص 87.
(5) د. سليمان السعود: أحاديث الهجرة ص 18.(1/95)
أما القدمة الثالثة فكانت استجابة ممن بقي بالحبشة من المهاجرين لطلب الرسول - صلى الله عليه وسلم - لهم بالعودة إثر بعثة عمرو بن أمية الضمري بكتاب إلى النجاشي يطلب منه بعث من بقي من المهاجرين إليه، فحملهم النجاشي في سفينتين(1).
ويضيف ابن سعد: فأرسوا بهم إلى ساحل بَوْلاً وهو الجار، ثم تكاروا الظهر حتى قدموا المدينة فيجدون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بخيبر (2).
ويحدد صاحب الطبقات زمن بعثة النبي - صلى الله عليه وسلم - بكتابه إلى النجاشي مع عمرو بن أمية الضمري بعد رجوعه من الحديبية في ذي الحجة سنة ست (3).
وتحديد زمن عودة آخر من بقي من الحبشة له مغزاة كما سيتضح لك بعد.
حرب قريش هل كان لها أثر في بقاء من بقي بالحبشة؟
تبين لنا في الفقرة السابقة أن آخر وفد قدم على النبي - صلى الله عليه وسلم - المدينة من مهاجرة الحبشة كان وصولهم بعد فتح خيبر، وطلبهم كان على إثر عقد صلح الحديبة مع المشركين في مكة في السنة السادسة للهجرة فما هي دلالة ذلك؟
يبدو للباحث أن حرب قريش للمسلمين كان لها أثر في بقاء البقية الباقية من المهاجرين في الحبشة، وأن عدم استقرار الأمر في المدينة طوال السنوات الخمس الأولى للهجرة لم يكن مشجعاً على طلب عودة من بقي بالحبشة من المسلمين.
حتى إذا رد الله كيد المشركين في الأحزاب بغيظم لم ينالوا خيراً، وكفى الله المؤمنين القتال (4).
وقال الرسول - صلى الله عليه وسلم - على إثر رجوع الأحزاب: (الآن نغزوهم ولا يغزوننا نحن نسير إليهم) (5).
__________
(1) ذكره ابن إسحاق دون إسناد: السيرة لابن هشام 4/8.
(2) الطبقات 1/208.
(3) الطبقات 1/258.
(4) كما في الآية 25 من سورة الأحزاب .
(5) صحيح البخاري مع الفتح 7/405.(1/96)
وكانت تلك من دلائل نبوته - صلى الله عليه وسلم - حيث صدق الواقع ذلك (1) ، ثم جاء بعد ذلك صلح الحديبة وعقد الهدنة على عدم القتال بين المسلمين والمشركين لمدة عشر سنوات، كما هو مشهور في كتب الحديث والسير، حينها التفت الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلى مهاجرة الحبشة، وبعث في طلبهم، وقد وجدت لهذا الرأي ما يسنده.
يقول الزهري –يرحمه الله – فلما قاتل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كفار قريش،حالت الحرب بين مهاجرة أرض الحبشة وبين القدوم على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى لقوه بالمدينة زمن الخندق (2). وقرب من ذلك ذكر ابن عبد البر (3).
فإذا تبين أن أصحاب القدمتين الأوليين وصل معظمهم قبل الأحزاب، بل شارك عدد منهم فب غزوة بدر، فهل يعني (الزهري) بقوله (زمن الخندق) من تخلف من أصحاب القدمة الثانية محبوساً بمكة فلم يستطع اللحاق به - صلى الله عليه وسلم - إلا زمن الخندق؟
أم أنه يقصد بزمن الخندق ما بعد الخندق فيدخل فيه أصحاب القدمة الثالثة، إضافة إلى من تخلف محبوساً بمكة؟
ولكن ذكر الزهري لأسماء بنت عميس رضي الله عنها – زوج جعفر – في الخبر نفسه، مرجح على أنه يقصد ما بعد الخندق.
ومع ذلك يبقى القول بعودة طائفة من مهاجرة الحبشة في زمن الخندق في حدود السنة الخامسة وقبل عودة جعفر ومن معه، له ما يعضده، فقد ذكره ابن عبد البر في معرض حديثه عن عودة جعفر وأصحابه عام خيبر فقال: "وقد أتى من مهاجرة الحبشة قبل ذلك بسنتين سائرهم، وكان هؤلاء آخر من بقي بها منهم" (4).
كما قال ابن حزم إثر تعداده أسماء من قدم مع جعفر: (وقد أتى سائر مهاجرة الحبشة قبل ذلك بسنتين، وكان هؤلاء المذكرون آخر من بقي بها)(5).
__________
(1) ابن حجر: الفتح 7/405.
(2) المغازي النبوية ص 105.
(3) الدرر في اختصار المغازي والسير ص 92.
(4) الدرر في اختصار المغازي والسير ص 152.
(5) جوامع السيرة ص 218.(1/97)
وعلى كل حال فتأخر من تأخر إلى فتح خيبر أو قبلها بسنتين مرجح لكون حرب قريش مع المسلمين من أسباب مكث من بقي من مهاجرة الحبشة بها إلى هذا الزمن.
لقد فهم بعض الباحثين في السيرة أن بقاء جعفر ومن معه بالحبشة إلى آخر لحظة مكثوها تخطيط عميق من محمد - صلى الله عليه وسلم - لإيجاد قاعدة احتياطية أمينة للمسلمين في ظل ظروف الحرب الدائرة مع المشركين، فلما انتهى الخطر في اجتياح المدينة بعد الخندق، وجاء صلح الحديبة مؤكداً الاعتراف الرسمي من قريش بدولة المدينة، وحين اطمأن رسول الهدى - صلى الله عليه وسلم - إلى أن المدينة قد أصبحت قاعدة أمينة للمسلمين وانتهى خطر اجتياحها من المشركين، عندئذٍ بعث في طلب المهاجرين من الحبشة ولم يعد ثمة ضرورة لهذه القاعدة الاحتياطية (1).
وانتهى باحث آخر إلى أن اعتبار حالة الحرب مع قريش سبب لتأخر جعفر ومن معه بالحبشة ضعيف جداُ من الناحية العملية (2).
ولكن صاحب هذا الرأي عاد يناقض نفسه حين نقل تعليلات آخرين لبقاء جعفر (لا تكاد تخرج عن دائرة الحرب والخوف على المدينة من أي خطر والرغبة في كسب النجاشي إلى جانب المسلمين وإبعاده عن استغلال قريش لاستغلال قوة الأحباش لضرب الإسلام والمسلمين)(3).
ثم علق على هذين الرأيين بقوله:" ولعل مما يعطي هذه الآراء شيئاً من القبول هو ارتباط عودة جعفر وأصحابه من الحبشة بتوقيع صلح الحديبة، وتفرغ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لدعوة ملوك الأرض إلى الإسلام، وذلك في أواخر السنة السادسة للهجرة"(4).
__________
(1) منير محمد الغضبان: المنهج الحركي للسيرة النبوية ص 68.
(2) الهجرة إلى الحبشة دراسة مقارنة، ص 37.
(3) محمود شاكر: مع الهجرة ص 77-78، صلاح حمودي: هجرة المسلمين إلى الحبشة ص 261.
(4) الهجرة إلى الحبشة دراسة مقارنة للروايات ص 37.(1/98)
ونحن نقول: أليس صلح الحديبة مؤشراً كبيراً لنهاية الحرب مع قريش؟ وهل تفرغ الرسول - صلى الله عليه وسلم - لدعوة ملوك والرؤساء إلا بعد أن وضعت الحرب أوزارها مع قريش؟
ويبقى السؤال: هل نهاية الحرب مع قريش هي السبب الأول والأخير في تأخر جعفر ومن معه بأرض الحبشة؟ ذاك سؤال تجيب عنه الفقرة التالية.
بقاء جعفر ومن معه إلى عام خيبر لماذا وبأمر من؟
ومع القول بأن حرب قريش للمسلمين كان لها أثرها في بقاء من بقي بالحبشة من المسلمين، فلابد من القول كذلك أن هناك مهمة يؤديها المهاجرون تستحق بقاءهم في ديار الغربة إلى هذه الفترة، وتعوّض غيابهم عن معارك المسلمين الحاسمة، ولئن فاتهم شرف الجهاد في بدر وأحد والأحزاب وأمثالها فحسبهم أنهم على ثغرة من ثغرات الجهاد، ونشر الإسلام في مواقع أخرى.
ويؤكد لنا مهمة بقائهم في أرض الحبشة، طلب رسول - صلى الله عليه وسلم - منهم ذلك، كما في حديث جعفر لأبي موسى وأصحابه حين اجتمعوا معاً في أرض الحبشة، ففي صحيح البخاري قال جعفر للأشعريين حين وافقوه بالحبشة: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعثنا هنا وأمرنا بالإقامة فأقيموا معنا"(1).
كما كان مجيئهم بأمر من الرسول - صلى الله عليه وسلم - حين بعث عمرو بن أمية الضمري للنجاشي – كما سبق-.
وقد عبر الإمام ابن حجر – رحمه الله – عن هذا البقاء للمهاجرين بانتظار الإذن بالرحيل إليه أثناء حديثه عن بقاء أبي موسى مع جعفر بقوله : " ويحتمل أن إقامة أبي موسى بأرض الحبشة طالت لأجل تأخر جعفر عن الحضور إلى المدينة حتى يأتيه الإذن من النبي - صلى الله عليه وسلم - بالقدوم" (2).
وإذا ثبت لنا أن بقاء جعفر ومن معه ورجوعهم من الحبشة، بأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - وإذنه فلنا أن نستشف جوانب من هذه المهمة – التي مكثوا في أرض الحبشة من أجلها – بالأمور التالية:
__________
(1) الصحيح مع الفتح 6/237.
(2) الفتح 7/189.(1/99)
أ ـ وصول الإسلام والدعوى إليه في بقاع جديدة في الكون، وتبليغ رسالة الله الأخيرة إلى أناس آخرين، وقد تم للمهاجرين إيصال ذلك وتبليغه –على أعلى المستويات – فقد شهد بلاط النجاشي وسمع البطارقة، وعليه القوم صوت الإسلام لأول مرة في هذه البلاد الكافرة…. ومازال جعفر ومن بقي معه يواصلون رسالتهم في تبليغ تكاليف الإسلام النازلة والبالغة لهم حتى رجعوا من هجرتهم.
ولربما استمع لهم وتأثر بهم – من القادمين للحبشة – من كان يرفض السماع لدعوة الإسلام في دياره، أمثال عمرو بن العاص - رضي الله عنه - فقد ورد في بعض الروايات أن بداية إسلام عمرو على يد جعفر في الحبشة (1)، وإن كان المشهور إسلام عمرو على يد النجاشي، كما ذكره الواقدي والزبير بن بكار (2)، وسيأتي بيان ذلك فيما بعد إن شاء الله.
وبشكل عام فهذا الوصول المبكر للإسلام واستمرار الدعوة له في الحبشة هيئ للأحباش أن يعرفوا الإسلام – رغم بعد الشقة- قبل أن تعرفه بعض شعوب الجزيرة القريبة، ولذا قيل: إن الحبشة عرفت الإسلام قبل الأوس والخزرج بست سنوات تقريباً (3).
ب ـ نقل القرآن وسماع الأحباش لآياته.
وإذا مر معنا – سابقاً – كيف تأثر النجاشي ومن حوله بسماع آيات القرآن فتلك مهمة جليلة تستحق البقاء ومتابعة إيصال ما ينزل من القرآن على هؤلاء الأحباش المسلمين.
وإذا لم تسعفنا المرويات المتوفرة بين أيدينا عن سماع للأحباش للقرآن كسماعهم حين طُلبوا في مجلس النجاشي أيام بعث قريش مندوبيها للوشاية بالمهاجرين.. فمن المستبعد ألا يكون ثمة سماع آخر.. ولقاءات أخرى مع الحبشان المؤمنين؛ وإن لم نقف عليها؟
ج ـ كسب النجاشي وأهل الحبشة لصالح المسلمين.
__________
(1) رواية عمير بن إسحاق، انظر تفصيلها في سير أعلام النبلاء 3/61-62، وحكم ابن حجر عليها في الإصابة7/123.
(2) انظر: الإصابة 7/122، المطالب العالية 4/195-198.
(3) علي الشيخ: معالم الهجرتين إلى أرض الحبشة ص 246.(1/100)
لا شك أن الحبشة تمثل قوة يحسب حسابها العرب، وللأحباش تاريخ في غزوة مكة- كما في حادثة الفيل – وإن قدم من اليمن، ولكنه مدفوع من الأحباش.
وقريش على صلة بالحبشة والأحباش – ووفد قريش للنجاشي محملاً بالهدايا – يؤكد هذه الصلة،ولذا فإن كسب النجاشي لصالح المسلمين يقطع الطريق على قريش للاستعانة بالأحباش في سبيل القضاء على قوة المسلمين الناشئة، وقد تجد قريش من اختلاف المعتقد بين النصارى والمسلمين ما تتكئ عليه في تأليب الأحباش النصارى ضد المسلمين وإذا ثبت علاقة اليهود بالمدينة بقريش، وتعاونهما معاً في سبيل محاصرة المسلمين والقضاء عليهم وقد بلغت ذروتها في غزوة الأحزاب، فهل يستحيل على قريش أن تصنع مثل ذلك مع نصارى الحبشة؟
وبالتالي فإن بقاء وفد أو مجموعة – تمثل المسلمين – بجوار النجاشي تذكره دائماً بالإسلام، وتبلغه ما ينزل من القرآن، وتبقيه على صلة برسول الإسلام والمؤمنين معه فتلك مهمة تستحق أن يبقى من يرعاها وكيف إذا كان زعيم المرشحين لها ابن عم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأشبه الناس بخلقه وخُلقه (1).
ولعل مما يقوي بقاء جعفر ومن معه لهذه المهمة أن قريشاً لم تنقطع صلتها بالنجاشي ولم يكن بعثها الذي بعثته للنجاشي حين وصل المهاجرين للحبشة – آخر بعثة لها – بل كانت تفكر في النجاشي كلما ضاق بها الأمر، ومن أمثلة ذلك بعثها للنجاشي حين انكسرت في غزوة بدر.
فقد أورد ابن عبد البر بسنده إلى الزهري قال: بلغني أن مخرج عمرو بن العاص وابن أبي ربيعة إلى أرض الحبشة فيمن كان بأرضهم من المسلمين كان بعد وقعة بدر (2).
__________
(1) ثبت في مناقب جعفر قول النبي - صلى الله عليه وسلم - له:" أشبهت خلقي وخلقي" صحيح البخاري مع الفتح 7/75.
(2) الدرر في اختصار المغازي والسير ص 91.(1/101)
كما نقل ابن عبد البر – وبالإسناد – إلى عروة بن الزبير ما يوضح المهمة أكثر، قال: فلما كانت وقعة بدر، وقتل الله فيها صناديد الكفار، قال كفار قريش: إن ثأركم بأرض الحبشة فأهدوا النجاشي وابعثوا إليه رجلين من ذويكم، لعله يعطيكم من عنده من قريش قتقتلونهم ممن قتل منكم ببدر، فبعث كفار قريش عمرو بن العاص وعبد الله بن أبي ربيعة.. (1).
واستدعاء جعفر ومن بقي معه – بعد نهاية الحرب مع قريش، وعقد صلح الحديبة – يؤيد هذا الاحتمال كذلك، ومما يلفت النظر: فرح الرسول - صلى الله عليه وسلم - بمقدم جعفر حين قدم – كما أسلفنا في القول في ذلك – وهنا يرد السؤال: لماذا فرح النبي - صلى الله عليه وسلم - بمقدم جعفر ومن معه؟ أليسوا بانتظار إذنه؟ ألم يبادروا والعودة حين بلغهم أمره؟
وقد يقال في الإجابة: لأن في مجيئه – ومن معه – جمعاً لما تفرق من شمل المسلمين بعد أن نصر الله الدين ورد كيد الكائدين، فقريش اعترفت بالمسلمين وعقدت معهم صلحاً، واليهود في المدينة حوصروا حتى فُتحت حصونهم وصالحهم الرسول - صلى الله عليه وسلم - على أرضهم بعد أن كسر شوكتهم، وهذه وتلك نعمة تستحق الفرحة وتستوجب الشكر . وهذا كله يدعم
القول ببقاء جعفر لمهمة، انتهت بانتهاء موجبها، وفرح الرسول - صلى الله عليه وسلم - بنهاية مرحلة وكان شعوره تجاه مجيء جعفر تعبيراً عنها، والله أعلم.
ومع تلمس بقاء جعفر لهذه المهمة أو تلك، فقد يكون هناك أمر آخر لا نعلمه، ولا تحيط به نصوص كتب السيرة المتوفرة لدينا… ولكننا نجزم بكل حال على بقاء جعفر لمهمة وأن ذلك كان بعلم الرسول - صلى الله عليه وسلم - وتوجيهه.
بين عمر وأسماء رضي الله عنهما، وهل يعد لأهل هجرة الحبشة هجرة للمدينة؟
__________
(1) المصدر السابق ص 92.(1/102)
على إثر عودة جعفر ومن معه من الحبشة جرى حوار لطيف له دلالته بين عمر بن الخطاب، وأسماء بنت عميس – زوج جعفر – رضي الله عنهم، وكان الحكم فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومن ثم كان له دلالته.
وأسوق الحوار ثم أعرج على دلالته.
أخرج البخاري في صحيحه عن أبي موسى الأشعري - صلى الله عليه وسلم - خبر مقدمهم من الحبشة عام فتح خيبر ثم قال: ودخلت أسماء بنت عميس – وهي ممن قدم معنا – على حفصة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - زائرة.. فدخل عمر على حفصة، وأسماء عندها، فقال عمر حين رأى أسماء: من هذه؟ قالت: أسماء بنت عميس، قال عمر: آلحبشية هذه، آلبحرية هذه؟ قالت: أسماء: نعم، قال: سبقناكم بالهجرة فنحن أحق برسول الله - صلى الله عليه وسلم - منكم، فغضبت، وقالت: كلا والله كنتم مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يطعم جائعكم ويعظ جاهلكم، وكنا في دار أو في أرض البعداء البغضاء بالحبشة، وذلك في الله وفي رسوله - صلى الله عليه وسلم - ونحن كنا نؤذي ونخاف، وسأذكر ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم - وأسأله، والله لا أكذب ولا أزيغ ولا أزيد عليه، فلما جاء النبي - صلى الله عليه وسلم - قالت: يا نبي الله إن عمر قال كذا وكذا ، قال : فما قلت له : قلت له : كذا وكذا، قال: ليس بأحق بي منكم، وله ولأصحابه هجرة واحدة، ولكم أنتم أهل السفينة هجرتان، قالت: فلقد رأيت أبا موسى وأصحاب السفينة يأتوني
أرسالاً يسألوني عن هذا الحديث، ما من الدنيا شيء هم به أفرح ولا أعظم في أنفسهم مما قال لهم النبي - صلى الله عليه وسلم - .. (1).
وأخرجه ابن سعد بأكثر من رواية مختصراً (2)، وأحمد والنسائي في الكبرى وجاء فيه: كنتم مع رسول الله يحمل راجلكم، ويعلم جاهلكم، وفررنا بديننا (3).
__________
(1) صحيح البخاري 5/80، كتاب المغازي، باب غزوة خيبر.
(2) الطبقات 8/281.
(3) أحمد 4/395، النسائي 5/103 (8389)، وانظر: السيوطي: رفع شأن الحبشان ص 88.(1/103)
هذا الحوار من أبرز دلالته اعتبار الهجرة للمدينة لأهل الحبشة وإن لم تمكنهم ظروفهم من الهجرة حين هاجر المهاجرون، ولم يستطيعوا الهجرة من مكة ولا الوصول للمدينة إلا في السنة السابعة للهجرة، وهذا ما أثبته الرسول - صلى الله عليه وسلم - لأسماء بقوله: "ولكم أنتم يا أهل السفينة هجرتان" كما في رواية البخاري السابقة.
وفي رواية عند أبي يعلى: "هاجرتم مرتين، هاجرتم إلى النجاشي، وهاجرتم إلي" (1).
وعند ابن سعد بسند صحيح: قالت أسماء: يا رسول الله إن رجالاً يفخرون علينا ويزعمون أنا لسنا من المهاجرين الأولين، فقال: بل لكم هجرتان، هاجرتم إلى أرض الحبشة، ثم هاجرتم بعد ذلك (2).
وفي رواية رابعة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لأسماء حين شكت إليه من يزعمون أن ليس لهم هجرة قال: كذب من يقول ذلك، لكم الهجرة مرتين، هاجرتم إلى النجاشي، وهاجرتم إليّ (3).
وفي رواية خامسة قال - صلى الله عليه وسلم - لها: ((للناس هجرة واحدة ولكم هجرتان )) (4).
وقد مضى مثل ذلك في رواية البخاري السابقة، حتى قال ابن حجر معلقاً على هذه الرواية: وظاهرة تفضيلهم على غيرهم من المهاجرين، ولكن لا يلزم منه تفضيلهم على الإطلاق، بل من الحيثية المذكورة (5).
هذه الدلالة مهمة لأمرين:
1ـ لأنها تثبت فضل الهجرة للمدينة لأهل الحبشة الذين حبسهم العذر عن الهجرة من مكة إلى المدينة، وتعد من مناقبهم.
2ـ وترفع لبساً كان سائداً عند ناس من المسلمين – ومنهم عمر – في عدم احتساب الهجرة لمن قدم من الحبشة إلى المدينة، وبالتالي تقديم غيرهم عليهم في الفضل – كما قال عمر لأسماء – رضي الله عنهما بل ربما زاد عمر فعيرهم بالمكث في أرض الحبشة – كما في رواية الزهري -(6).
__________
(1) الفتح 7/486).
(2) الطبقات 8/281، وقال ابن حجر وإسناده صحيح عن الشعبي: الفتح 7/486.
(3) الطبقات 8/281.
(4) الفتح 7/486.
(5) الفتح 7/486.
(6) المغازي النبوية ص 105.(1/104)
وهذا الفهم لا يخص عمر وإن لم تصرح الروايات التي بين أيدينا إلا باسمه دون سواه – بدليل أنه جاء في رواية البخاري قول أبي موسى: وكان أناس من الناس يقولون لنا – يعني لأهل السفينة – سبقناكم بالهجرة (1).
وعند ابن سعد قالت أسماء: إن رجالا يفخرون علينا ويزعمون أنا لسنا من المهاجرين الأولين (2).ولذا قال الحافظ: سمي منهم عمر (3).
ثم يرد السؤال: وهل يخص هذا الفضل أصحاب السفينة – جعفر ومن قدم معه – كما نصت عليه الروايات؟ أم يشمل كل من قدم إلى المدينة من أصحاب هجرة الحبشة دون أن يمر بمكة؟ ولو قيل بالعموم، فهل يوجد أحد من مهاجرة الحبشة – غير أصحاب السفينتين – قدم من الحبشة إلى المدينة دون المرور بمكة؟
ولئن كانت الإجابة عن هذه الأسئلة تحتاج لمزيد بحث واستقصاء فحسبنا أن نخلص من هذا العرض إلى اعتبار أصحاب السفينتين من الحبشة إلى المدينة دون المرور بمكة؟
ولئن كانت الإجابة عن هذه الأسئلة تحتاج لمزيد بحث واستقصاء فحسبنا أن نخلص من هذا العرض إلى اعتبار أصحاب السفينتين من المهاجرين الأولين وإن لم يشاركوا المسلمين أحداث الهجرة المعروفة من مكة إلى المدينة، وإذا تميز الصحابة إلى مهاجرين وأنصار.. فهم في عداد المهاجرين بشهادة النبي - صلى الله عليه وسلم - لهم، بل لهم هجرتان هجرة إلى النجاشي ،
وهجرة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، وتلك منقبة لأهل هجرة الحبشة كان يعرفها الصحابة لهم.
روى ابن إسحاق بسنده قال: حدثني صالح بن إبراهيم، عن عبد الرحمن بن عوف عن أبيه قال: كنا نسير مع عثمان بن عفان في طريق مكة، إذ رأى عبد الرحمن بن عوف فقال: ما يستطيع أحد أن يعيد على هذا الشيخ فضلاً في الهجرتين جميعاً – يعني هجرته إلى الحبشة وهجرته إلى المدينة - (4). وفي هذا كله توسيع لمفهوم الهجرة، وتوسيع دائرة المهاجرين.
المبحث السادس
__________
(1) الصحيح 5/80.
(2) الطبقات 8/281.
(3) الفتح 7/486.
(4) السير والمغازي ص 222.(1/105)
من آثار هجرة الحبشة
من المستبعد أن يكون حدث كحدث هجرة الحبشة لا أثر له، ومن المستبعد كذلك أن يمكث بعض المهاجرين ما يقرب من أربعة عشر عاماً دون أن يخلفوا أثراً حسناً في الأرض التي هاجروا إليها.
ومعرفة أثر المهاجرين على القوم الذين هاجروا إليهم، أو لجأوا إليهم من غير الأحباش، وأثر الهجرة على المهاجرين أنفسهم، كل ذلك يدل على أهمية هذه الهجرة من جانب، ويكشف عن أهدافها من جانب آخر.
إسلام النجاشي:
لا شك أن إسلام النجاشي أعظم آثار هجرة الحبشة وإن كان الباحث في هذا الأمر معني بتحرير النقاط التالية:
هل النجاشي المسلم هو الذي عاصره المهاجرون، كان إسلامه أثراً من هجرتهم؟
ومن هو النجاشي المسلم الذي كتب إليه النبي - صلى الله عليه وسلم - يدعوه للإسلام؟
هل جهر النجاشي بإسلامه، وحكم الأحباش به؟ أم أسرَّ به، وبماذا حكم الأحباش، ولماذا؟
ولئن سبق لنا من مرويات السنة والسيرة ما يفيد استجابة النجاشي للمهاجرين، وتأثره بدعوتهم، وبكاءه للقرآن الذي سمعه منهم ، وإعلانه
التصديق بنبوة النبي - صلى الله عليه وسلم -، بما يغني عن إعادته هنا – (1).
فقد صح لنا إسلام النجاشي وموته على الإسلام من خلال روايات البخاري التالية:
عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: "نعى النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى أصحابه النجاشي، ثم تقدم فصفوا خلفه فكبّر عليه أربعاً" (2).
وعن جابر - رضي الله عنه - قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (( قد توفي اليوم رجل صالح من الحبش، فهلم فصلوا عليه، قال: فصففنا فصلى النبي - صلى الله عليه وسلم - عليه ونحن صفوف، قال جابر: وكنت في الصف الثاني)) (3).
__________
(1) انظر: حديث أم سلمة والتعليق عليه، وانظر بالذات الفقرة (14) من فقه الحديث ومقارنته.
(2) الصحيح مع الفتح 3/186 (ح 1318).
(3) الصحيح مع الفتح 3/186(ح 1320).(1/106)
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: ((نعى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - النجاشي صاحب الحبشة يوم الذي مات فيه فقال: استغفروا لأخيكم )) (1).
ومن مجموع هذه الروايات نتبين: الصلاة على النجاشي على أنه واحد من المسلمين والاستغفار له، وإطلاق الرسول - صلى الله عليه وسلم - (الأخوة) عليه.
وفي كتاب مناقب الأنصار، بوَّب البخاري: باب موت النجاشي، ثم ساق حديث جابر بلفظ، قال النبي - صلى الله عليه وسلم - حين مات النجاشي: مات اليوم رجل صالح فقوموا فصلوا على أخيكم أصحمة (2). كما ساق أحاديث أخرى بمثل ما مضى في كتاب الجنائز.
وهنا وقفة نبه إليها ابن حجر بقوله: (وقد استشكل كون البخاري لم يترجم بإسلامه وهذا موضعه، وترجم بموته، وإنما مات بعد ذلك بزمن طويل، والجواب: أنه لم يثبت عنده القصة الواردة في صفة إسلامه، وثبت عنده الحديث الدال على إسلامه وهو صريح في موته ترجم به ليستفاد من الصلاة عليه أنه كان قد أسلم ) (3).
والذي يظهر لي وأميل إليه أن هذا النجاشي الذي صلى عليه الرسول - صلى الله عليه وسلم - والمسلمون في المدينة هو النجاشي الذي عاصر المسلمين في الحبشة وآواهم وأكرم وفادتهم، وكان إسلامه أثراً من هجرتهم ودعوتهم، وأرجّح ذلك بعدة أمور:
أ ـ وصف الرسول - صلى الله عليه وسلم - النجاشي الذي صلى عليه بـ (الصلاح) كما في روايات البخاري السابقة، والنجاشي الذي هاجر إليه المسلمون وصفه الرسول - صلى الله عليه وسلم - كذلك بالصلاح… وكان ذلك من مبررات اختيار بلاده مكاناً لهجرة المسلمين – كما سبق – وهذا مؤشراً إلى أن النجاشي الموصوف بالصلاح واحدٌ لا أكثر.
ب ـ كانت وفاة النجاشي – الذي صلى عليه الرسول - صلى الله عليه وسلم - - سنة
تسع من الهجرة – عند الأكثر، وقيل كانت سنة ثمان (4).
__________
(1) الصحيح مع الفتح 3/199 (ح 1327).
(2) الصحيح مع الفتح 7/191 (ح 3877).
(3) الفتح 7/191.
(4) الفتح 7/191، رفع شأن الحبشان ص 120.(1/107)
ومن المعلوم أن جعفراً ومن بقي معه مكث إلى سنة سبع في الحبشة بجوار النجاشي وهو الذي حملهم للنبي - صلى الله عليه وسلم - ولم يُعلم مجاورة جعفر ومن معه لنجاشي آخر غير الذي آزرهم وآواهم منذ قدومهم للحبشة، بل ورد في إحدى الروايات أن النجاشي حين حمل المسلمين وبعثهم للنبي - صلى الله عليه وسلم - قال لجعفر خبر صاحبك بما صنعت إليكم وأن أشهد أن لا إله إلا الله وأنه رسول الله، وقل له يستغفر لي، فلما وصل جعفر ومن معه المدينة، واستبشر بهم الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، قال: اللهم اغفر للنجاشي ثلاث مرات، وقال المسلمون: آمين (1).
وقد انتصر ابن كثير لكون وفاة النجاشي في السنة التي قدم فيها جعفر ومن معه بعد فتح خيبر وعلق على رأي السهيلي بكونه توفي سنة تسع بقوله : وفي هذا نظر والله أعلم .
ج ـ ولو افترضنا – جدلاً – أن الذي صلى عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - نجاشي آخر ( غير الأصحم) فليس لدينا دليل على صلاة الرسول - صلى الله عليه وسلم - مرتين على النجاشي الأصحم، وغير الأصحم، وإذا لم يرد هذا فهل يمكن أن يُصلي النبي - صلى الله عليه وسلم - صلاة الغائب على النجاشي الآخر، ويدع الصلاة على النجاشي الأصحم وهو صاحب الأسبقية والفضل مع المهاجرين؟
بل قال الذهبي مؤكداً صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - على النجاشي الأصحم دون غيره ما نصه: " ولم يثبت أنه صلى - صلى الله عليه وسلم - على غائب سواه " (2).
د ـ فإن اعترض على ذلك بكون النبي - صلى الله عليه وسلم - كتب للنجاشي – كغيره من الملوك والرؤساء – يوم أن كتب إليهم، يدعوهم فيه إلى الإسلام، فكيف يكتب للنجاشي بالإسلام وهو مسلم؟ لاسيما وقد نصت رواية ابن إسحاق على النجاشي الأصم (3).
__________
(1) الذهبي: السيرة النبويةص 121-122.
(2) السير 1/429.
(3) سرة ابن إسحاق من طريق يونس بن بكير، تحقيق حميد الله ص 210.(1/108)
أجيب على ذلك بضعف إسناد الرواية من جهة، فقد ذكرها ابن إسحاق دون إسناد، ومن جهة أخرى فالرواية محتملة للتأويل كما قال ابن كثير: الظاهر أن هذا الكتاب إنما هو إلى النجاشي الذي كان بعد المسلم صاحب جعفر وأصحابه إلى أن قال: وقوله فيه: إلى النجاشي الأصحم لعل الأصحم مقحم من الراوي بحسب ما فهم والله أعلم (1).
وهذا ما قطع به الإمام مسلم في إحدى رواياته حيث قال – وهو يروي حديث كتابة النبي - صلى الله عليه وسلم - للملوك يدعوهم إلى الله تعالى ومنهم النجاشي – قال: وليس بالنجاشي الذي صلى عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - (2).
هـ ـ ومع ذلك فهناك من يرى أن كتابة النبي - صلى الله عليه وسلم - -يوم أن كتب للملوك والرؤساء – يدعوهم إلى الله، إنما كانت للنجاشي الأصحم، ويستند صاحب هذا الرأي إلى ورود روايتين أخريين لم يرد فيهما نفي النجاشي الأصحم بالكتابة، مما جعل الشيخ الأرناؤوط يميل إلى أن النجاشي الذي صلى عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - هو ذات النجاشي الذي أرسل إليه لأن كتب التاريخ لا تذكر سوى خبر نجاشي واحد(3).
كما قطع ابن الأثير بكون كتابة النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى النجاشي الأصحم، فقد نقل عن الإمام أبي القاسم إسماعيل كتابة النبي إلى الملوك في السنة السابعة، وبعث عمرو بن أمية الضمري بكتابة إلى النجاشي أصحمة بن بحر.. ثم ساق الكتاب (4).
__________
(1) السيرة لابن كثير 2/41-42.
(2) مسلم 3/1397.
(3) محمود الأرناؤوط، حاشيته على إعلام السائلين عن كتب سيد المرسلين، لابن طولون ص 45، وانظر: مهدي رزق الله، السيرة النبوية في ضوء المصادر الأصلية ص 211.
(4) أسد الغابة 1/76.(1/109)
وحيث قلت أنني أميل إلى هذا فيمكن الإجابة عن كتابة الرسول - صلى الله عليه وسلم - للنجاشي وهو مسلم، إذ يحتمل أنه كتب إليه ما كتب تأكيداً لإسلامه، وشمولاً له مع غيره، وأقوى من هذا الاحتمال أن يكون النجاشي مُسرَّاً بإسلامه، فأراد النبي - صلى الله عليه وسلم - بذلك أن يُعلنه، وهذه السرية مبررة للكتابة إليه، والله أعلم.
هل أسرَّ النجاشي بالإسلام أم جهر به، وبماذا كان يحكم قومه؟
قال ابن حزم: في حديثه عن النجاشي ورده لمبعوثي قريش: (وكان قد أسلم ولم يقدر على إظهار ذلك خوف الحبشة….) (1).
ويفصل القول شيخ الإسلام ابن تيمية في هذا ويقول: في معرض حديثه عن أعذار أهل الإسلام: وكذلك الكفار من بلغه دعوة النبي - صلى الله عليه وسلم - في دار الكفر وعلم أنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فآمن به وآمن بما أنزل عليه، واتقى الله ما استطاع كما فعل النجاشي وغيره، ولم يمكنه الهجرة إلى دار الإسلام ولا التزام جميع شرائع الإسلام، لكونه ممنوعاً من الهجرة، ممنوعاً من إظهار دينه، وليس عنده من يعلمه جميع شرائع الإسلام فهذا مؤمن من أهل الجنة كما كان مؤمن آل فرعون مع قومه، وكما كانت امرأة فرعون بل وكما كان يوسف الصديق عليه السلام مع أهل مصر فإنهم كانوا كفاراً ولم يمكنه أن يفعل معهم كل ما يعرفه من دين الإسلام فإنه دعاهم إلى التوحيد والإيمان فلم يجيبوه، كما قال تعالى عن مؤمن آل فرعون – حاكياُ أمر يوسف مع قومه – : ((وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولاً )) (2).
إلى أن يقول: وكذلك النجاشي هو وإن كان ملك النصارى فلم يطعه قومه في الدخول في الإسلام، بل إنما دخل معه نفر منهم ، ولهذا لما
__________
(1) جوامع السيرة ص63.
(2) سورة غافر ، آية 34.(1/110)
مات لم يكن هناك من يصلي عليه فصلى عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - عليه بالمدينة.
ثم يقول: وكثير من شرائع الإسلام أو أكثرها لم يكن دخل فيها لعجزه عن ذلك، فلم يهاجر، ولم يجاهد، ولا حج البيت، بل قد روي أنه لم يكن يُصلي الصلوات الخمس، ولا يصوم شهر رمضان، ولا يؤدي الزكاة الشرعية لأن ذلك كان يظهر عند قومه فينكرونه عليه، وهو لا يمكنه مخالفتهم، ونحن نعلم قطعاً أنه لم يكن يمكنه أن يحكم بينهم بحكم القرآن (1).
ثم يضيف شيخ الإسلام: والنجاشي ما كان يمكنه أن يحكم بحكم القرآن فإن قومه لا يقروه على ذلك، وكثيراً ما يتولى الرجل من المسلمين والتتار قاضياً، بل وإماماً وفي نفسه أمور من العدل يريد أن يعمل بها فلا يمكنه ذلك، بل هناك من يمنعه ذلك ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها.
ثم ينتهي ابن تيمية إلى اعتبار النجاشي وأمثاله من أهل الكتاب ويقول: فالنجاشي وأمثاله سعداء في الجنة وإن كانوا لم يلتزموا من شرائع الإسلام ما لا يقدرون على التزامه، بل كانوا يحكمون بالأحكام التي يمكنهم الحكم بها، ولهذا جعل الله هؤلاء من أهل الكتاب، قال تعالى: ( وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ لا يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُولَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ ) (2).
وهذه الآية قد قال طائفة من السلف أنها نزلت في النجاشي، ويروي هذا عن جابر، وابن عباس، وأنس، ومنهم من قال فيه وفي أصحابه، كما قال الحسن وقتادة، وهذا مراد الصحابة لكن هو المطاع (3).
فإذا تجاوزنا كلام ابن تيمية وما فيه من دلات على كتمان النجاشي إسلامه، وتطبيقه ما استطاع من أحكام الإسلام، وحكمه لقومه في الأغلب بغير حكم القرآن.
__________
(1) منهاج السنة 5/111-113.
(2) آل عمران، آية 199.
(3) منهاج السنة 5/114.(1/111)
فإن مما يدعم استسرار النجاشي بإسلامه ومجاراة قومه ظاهراً، ما أخرجه ابن إسحاق بسنده إلى جعفر بن محمد عن آية قال: اجتمعت الحبشة فقالوا للنجاشي: إنك قد فارقت ديننا، وخرجوا عليه، قال: فأرسل إلى جعفر وأصحابه فهيأ لهم سفناً وقال اركبوا فيها وكونوا كما أنتم فإن هُزمت فامضوا حتى تلحقوا بحيث شئتم، وإن ظفرت فاثبتوا، ثم عمد إلى كتاب فكتب فيه: هو يشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً عبده ورسوله، ويشهد أن عيسى بن مريم عبده ورسوله وروحه، وكلمته ألقاها إلى مريم. ثم جعله في قباء عند المنكب الأيمن، وخرج إلى الحبشة وصفوا له. فقال: يا معشر الحبشة ألست بأحق الناس بكم؟ قالوا: بلى.
قال: فكيف رأيتم سيرتي فيكم؟ قالوا: خير سيرة. قال: فما لكم؟ قالوا: فارقت ديننا وزعمت أن عيسى عبد، قال: فما تقولون أنتم في عيسى؟ قالوا: نقول هو ابن الله. فقال النجاشي ، ووضع يده على صدره على قبائه: هو يشهد أن عيسى بن مريم لم يزد على هذا شيئاً وإنما يعني ما كتب، فرضوا وانصرفوا.
ثم علق السهيلي على هذه الرواية بقوله: وفيها من الفقه أنه لا ينبغي للمؤمن أن يكذب كذباً صراحاً، ولا يعطي بلسانه الكفر، وإن أكره ما أمكنه الحيلة، وفي المعاريض مندوحة عن الكذب (1).
كما يدعم استسرار النجاشي بإسلامه أنه وجد في المسلمين بالمدينة من يقول يوم صلى عليه الرسول - صلى الله عليه وسلم -: (صلى على علج من الحبشة ) ، فنزلت: ((وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ )) (2).
__________
(1) الروض الأنف 3/261.
(2) رواه ابن أبي حاتم في التفسير، والدار قطني في الأفراد، والبزار، كما قال الحافظ ابن حجر. الفتح 3/188.(1/112)
وإن كان ورد في رواية أخرى أن الذي طعن في ذلك كان منافقاً (1)وقد اعتذر من لم يرَ الصلاة على الغائب كالخطابي بأن صلاة الرسول - صلى الله عليه وسلم - على النجاشي لأنه كان بأرض لم يصل عليه بها أحد (2).
وهذا إن قُبل فهو مؤشر كذلك للسرية والكتمان وعدم القدرة على تطبيق شرائع الإسلام في الحبشة.
وهذا مع احتمال القول به يحتاج إلى دليل، ولهذا قال ابن حجر: وهذا محتمل إلا أنني لم أقف في شيء من الأخبار على أنه لم يصل عليه في بلده أحد (3).
ونقل ابن كثير عن بعض العلماء – ولم يسمهم – إنما صلى عليه لكونه يكتم إيمانه من قومه، فلم يكن عنده يوم مات من يصلى عليه، فلهذا صلى عليه - صلى الله عليه وسلم - (4).
هل أسلم غير النجاشي من أهل الحبشة؟
هل اقتصر أثر المهاجرين على دعوة النجاشي وإسلامه، أم تجاوزت دعوتهم النجاشي وأسلم غيره؟
هناك رواية نقلتها المصادر تفيد أن النجاشي قد اتبعه قومه على الإسلام وأقروه بما في ذلك الأساقفة والرهبان،وذلك ضمن حديث عمرو بن العاص الطويل مع صاحب عمان (5).
وهذه الرواية الطويلة ذكرها باختصار ابن سعد في طبقاته (6)، ولم يذكر فيها إسلام النجاشي وقومه.
وما قررناه – سابقاً – من كتم النجاشي إسلامه وعدم قدرته على إظهار شعائر الإسلام والحكم بالقرآن رواية ابن سعد المختصرة.
ولا يتفق مع الرواية المطولة التي تشير إلى أن قوم النجاشي تبعوه على الإسلام وأقروه بما في ذلك الأساقفة والرهبان.
__________
(1) هذه رواية الطبراني في الكبير والأوسط، انظر: الفتح 3/188.
(2) ابن حجر: الفتح 3/188.
(3) الفتح 3/188.
(4) البداية والنهاية 3/85.
(5) انظر: الرواية عند ابن سيد الناس: عيون الأثر 2/267-269، الزيلعي: نصب الراية 4/423،424، وابن القيم: زاد المعاد 3/694، الزرقاني: شرح المواهب 3/352-355.
(6) 1/262.(1/113)
ومما يستأنس به على قلة من أسلم من أهل الحبشة عدم الصلاة على النجاشي حين مات بأرض الحبشة لأنه من حوله نصارى، كما قال الذهبي وهو يعلل صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - عليه صلاة الغائب ويقول: وسبب ذلك أنه مات بين قوم نصارى، ولم يكن عنده من يصلي عليه، لأن الصحابة الذين كانوا عنده خرجوا إلى المدينة عام خيبر (1).
ولكن ذلك لا يلغي إسلام آخرين من أهل الحبشة مع النجاشي، قد يكونون قلّة، وقد يكونون مرين بإسلامهم، كما كان يفعل النجاشي.
وفيما نقلناه عن ابن تيمية – فيما مضى – ما يشير إلى أنه دخل في الإسلام مع النجاشي نفرٌ من قومه.
وقال ابن حجر – في ترجمة جعفر - رضي الله عنه - وهاجر إلى الحبشة فأسلم النجاشي ومن تبعه على يديه (2).
وممن أسلم من الأحباش جارية النجاشي وتُدعى (أبرهة) وهي التي بعثها النجاشي إلى أم حبيبة رضي الله عنها تُعلمها برغبة النبي - صلى الله عليه وسلم - الزواج بها بعد وفاة زوجها المنتصر عبيد الله بن جحش، ففرحت أم حبيبة بهذا وأهدت ( أبرهة ) سوارين من فضة ، وخدمتين كانت في رجليها، وخواتيم فضة كانت في أصابع رجليها، سروراً بما بشرتها، ولما وصل إليها الصداق دعت (أبرهة) وقالت: إني كنت أعطيتك ما أعطيتك يومئذ ولا مال بيدي فهذه خمسون مثقالاً فخذيها فاستعيني بها فأبت (أبرهة) وأخرجت حُقْاً فيه كل ما أعطتها أم حبيبة فردته عليها وقالت: عزم عليّ الملك أن لا أرزأك شيئاً، وقد اتبعت دين محمد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأسلمت لله، ثم قالت (أبرهة) فحاجتي إليك أن تقرئي رسول الله مني السلام وتعلميه أني قد اتبعت دينه… وكانت كلما دخلت عليّ تقول: لا تنسي حاجتي إليك (3).
__________
(1) سير أعلام النبلاء 1/429.
(2) الإصابة 2/86.
(3) ابن سعد: الطبقات 8/97-98.(1/114)
ونقل الذهبي عن أبي موسى الأصبهاني الحافظ أن النجاشي أسلم، وبعث أبناً له يسمى (أرمى) إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فمات في الطريق (1).
وعده ابن الأثير في الصحاب، وزاد: أن (أرمي) بن أصحمة خرج في ستين نفساً من الحبشة في سفينة في البحر، فلما توسطوا البحر غرقوا كلهم (2).
وإذا كان هذا الابن للنجاشي مات في الطريق ومن معه قبل أن يروا النبي - صلى الله عليه وسلم - فثمة رواية أخرى عند ابن إسحاق تفيد بإسلام ابن آخر للنجاشي ومكوثه بين أظهر المسلمين – وإن كنا لا نستطيع تحديد زمن ذلك على وجه الدقة- .
والرواية تقول: إنه قدم على أبي نيزر بن النجاشي – وكان علي اعتقه – ناسٌ في الحبشة فأقاموا عنده شهراً ينحر لهم علي بن أبي طالب ويصنع لهم الطعام فقالوا له: إن أمر الحبشة قد مرج عليهم فانطلق معنا نملكك عليهم، وإنك ابن من قد علمت، فقال: أما إذا كرمني الله بالإسلام ما كنت لأفعل، فلما أيسوا منه رجعوا وتركوه (3).
كما نقل ابن حجر عن ابن فتحون في الذيل أسماء ثمانية شاميين قدموا مع جعفر مع اثنين وثلاثين من الحبشة، ثم قال وسمى (مقاتل) الثمانية المذكورين وهم: أبرهة، وإدريس، وأشرف، وأيمن، وبحيرا، وتمام، وتميم، ونافع.
ثم قال مستدركاً على ابن الأثير: وظن ابن الأثير أن بحيرا هذا هو الراهب المشهور الذي رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - قبل البعثة فقال ( ابن الأثير ) قد ذكره ابن منده فلا وجه لاستدراكه، قال ابن حجر: والظاهر أنه غيره لأنه إنما رآه في أرض الشام وهذا الآخر إنما هو من الحبشة وأين الجنوب من الشمال؟ (4).
وهذا التعليق من ابن حجر ترجيح فيما يبدو على أن الثمانية إنما وفدوا من أرض الحبشة ، وإن كان قد نقل عن غيره أن الثمانية شاميون (5).
__________
(1) سير أعلام النبلاء 1/436.
(2) أسد الغابة 1/76.
(3) المغازي والسير ص 220.
(4) الإصابة 1/21.
(5) المصدر السابق 2/21.(1/115)
ومما يؤكد ذلك أن ابن حجر نقل – في الموضع نفسه – عن أبي الشيخ وغيره في التفسير عن سعيد بن جبير في قوله تعالى: ((الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ )) (1).
قال: قال الذين آمنوا من أصحاب النجاشي للنجاشي ائذن فلنأتِ هذا النبي الذي كنا نجده في الكتاب، فأتوا النبي - صلى الله عليه وسلم - فشهدوا معه أحداً، ثم قال ابن حجر معلقاً: فهذا يدل على أن القصة أصلاً. والله أعلم (2).
وذكر القرطبي أن آية القصص السابقة، يدخل فيها من أسلم من علماء النصارى وهم أربعون رجلاً قدموا مع جعفر بن أبي طالب، المدينة، اثنان وثلاثون رجلاً من الحبشة، وثمانية نفر أقبلوا من الشام وكانوا أئمة النصارى ثم ذكر منهم: بحيراء الراهب، وأبرهة، والأشرف، وعامر، وأيمن، وإدريس، ونافع، وقال: كذا أسماهم الماوردي (3).
والملاحظ هنا أن الذين قدموا من الشامن سبعة وليسوا ثمانية، وبين أسمائهم وما ذكره ابن حجر اتفاق واختلاف لا يخفي لمن تأمل، وفي موطن آخر ذكر القرطبي أسماء ثمانية من أهل الشام، ولكن مع اختلاف أكبر في الأسماء (4).
وزاد عدد القادمين من الأحباش إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى سبعين عند ابن كثير حيث نقل عن سعيد بن جبير في تفسير الآية السابقة قوله: نزلت في سبعين من القسسين بعثهم النجاشي، فلما قدموا على النبي - صلى الله عليه وسلم - قرأ عليهم (يس وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ) حتى ختمها، فجعلوا يبكون وأسلموا (5).
__________
(1) القصص، آية 52.
(2) المصدر السابق 1/21.
(3) الجامع لأحكام القرآن 13/296.
(4) الجامع لأحكام القرآن 6/256.
(5) تفسير ابن كثير 3/628.(1/116)
وعن الزهري قال: ما زلت أسمع من علائنا أن هذه الآيات (آيات القصص) وآيات المائدة (( ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَاناً وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ – إلى قوله -فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ )) أنهن نزلن في النجاشي وأصحابه رضي الله عنهم (1)
وفوق ذلك فثمة ما يفيد أثراً للمهاجرين إلى الحبشة، في فترة مبكرة حين كان الرسول - صلى الله عليه وسلم - في مكة، إذ وفد عليه نصارى بلغهم خبره من الحبشة سواء كانوا من نجران أم من الحبشة – كما سيأتي بيانه-.
وإذا لم يكن هذا استقصاءً دقيقاً لكل من أسلم من أهل الحبشة متأثراً بالهجرة والمهاجرين قدر ما هي إشارات لها دلالتها، وليست حصراً لما سواها، فثمة من يرى أن الدعوة في الحبشة بشكل عام لم تتمكن من الانتشار الواسع، ولم يتمكن الإسلام من فرض عقيدته وشرائعه في الساحة تلك، كما أن التاريخ لم يسجل إسلاماً جماعياً هناك أو تغييراً جذرياً أحدثه الإسلام في المجتمع الحبشي كما حدث في الجزيرة العربية وما جاورها بل الحقائق تثبت – كما يقول د. علي الشيخ أبو بكر – لنا أن حركة الدعوة الإسلامية كانت بطيئة أي لم تحدث انقلاباً اجتماعياُ وثقافياً ملموساً.
ثم يرجع الدكتور عند تحقيق نصر كاسح للإسلام في أرض الحبشة إلى عدة أسباب تعود – كما يقول – إلى طبيعة المرحلة الدعوية، ومنها ما يعود إلى طبيعة الفتوحات الإسلامية في عهد الخلافة الراشدة ، ومنها ما يعود إلى طبيعة الأراضي الحبشية (2).
وهي بكل حال وجهات نظر أن ووفق على أصلها، فتفصيلاتها تحتاج إلى مزيد أدلة تؤكدها وقد تخالفها.
إسلام نصارى نجران أو الحبشة؟
__________
(1) المصدر السابق 3/629.
(2) د. علي الشيخ أحمد أبو بكر: معالم الهجرتين إلى أرض الحبشة ص 246-251.(1/117)
ولا يقف أثر الهجرة للحبشة عند هذا الحدّ الذي بينّا طرفاً منه بل تحمل لنا بعض المرويات آثاراً مبكرة لهجرة الحبشة رآها النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو بعدُ في مكة.
قال ابن إسحاق: ثم قدم على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو بمكة عشرون رجلاً أو قريب من ذلك من النصارى حين بلغهم خبرة من الحبشة، فوجدوه في المسجد فجلسوا إليه وكلموه وسألوه، ورجال من قريش في أنيدتهم حول الكعبة، فلما فرغوا من مسألة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عما أرادوا دعاهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى الله عزوجل وتلا عليهم القرآن فلما سمعوا القرآن فاضت أعينهم من الدمع، ثم استجابوا لله، وآمنوا به وصدقوه،وعرفوا منه ما كان يوصف لهم في كتابهم من أمره، فلما قاموا عنه اعترضهم أبو جهل ابن هشام في نفر من قريش فقالوا لهم: خيبكم الله من ركب بعثكم من وراءكم من أهل دينكم ترتادون لهم لتأتوهم بخبر الرجل فلم تطمئن مجالسكم عنده حتى فارقتم دينكم وصدقتموه بما قال! ما نعلم ركباً أحمق منكم أو كما قالوا، فقالوا لهم: سلام عليكم لا نجاهلكم، لنا ما نحن عليه ولكم ما أنتم عليه، لم نأل أنفسنا خيراً.
قال ابن إسحاق: ويقال أن النفر من النصارى من أهل نجران، فالله أعلم أي ذلك كان، فيقال والله أعلم فيهم نزلت هؤلاء الآيات (( الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ،وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ – إلى قوله - لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ )) (1).
__________
(1) القصص، الآيات من 52-55.(1/118)
قال ابن إسحاق: وقد سألت ابن شهاب الزهري عن هؤلاء الآيات فيمن أنزلن؟ فقال لي: ما زلت أسمع من علمائنا أنهن أنزلن في النجاشي وأصحابه، والآيات من سورة المائدة من قوله : (( ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَاناً وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ – إلى قوله – فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ )) (1) .
ولئن كان العنوان الذي شمل هذه الروايات لابن إسحاق عاماً جاء فيه: (أمر وفد النصارى الذين أسلموا) فابن إسحاق في بداية الرواية يحدد أن قدومهم من الحبشة، ثم يتردد مشيراً إلى من قال أن النفر من النصارى من أهل نجران، ثم يحمل سؤاله للزهري وإجابته ترجيحاً لكون هؤلاء النصارى من الحبشة لا من نجران.
وبهذا يفهم توجه السهيلي فقد نص على قدوم الوفد من الحبشة ولم يرد عنده ذكراً لنجران في شرحه المختصر لرواية ابن إسحاق (2).
أما ابن سيد الناس فينقل رواية ابن إسحاق دون تعليق، ولكنه أدرج ذلك تحت مسمى (ذكر خير أهل نجران) (3).
وتأتي رواية عروة بن الزبير مرجحة لكون الوفد من الحبشة، إذ عزى له القرطبي القول بأن آية القصص نزلت في النجاشي وأصحابه حين وجه باثنى عشر رجلاً، فجلسوا مع النبي - صلى الله عليه وسلم -… ثم ساق بقية الرواية بنحو ما ساق ابن إسحاق (4).
وهذه الرواية لعروة مع كونها تحدد الوفد من الحبشة ، فهي كذلك تحصي عدد الوفد باثني عشر رجلاً، وهو أقل مما ورد عند ابن إسحاق.
__________
(1) المائدة، الآيتان 82، 83. انظر السيرة النبوية لابن هشام 2/36 ، 37 .
(2) الروض الأنف 3/390.
(3) عيون الأثر 1/129.
(4) الجامع لأحكام القرآن 13/296.(1/119)
ومن المحتمل مجيء وفد للنبي - صلى الله عليه وسلم - من نصارى نجران، والحبشة، أو غيرهما، فقد جاء في تفسير (مقاتل، والكلبي) لآية المائدة والقصص قالا: كانوا أربعين رجلاً من أهل نجران من بني الحرث بن كعب، واثنين وثلاثين من الحبشة، وثمانية وستين من أهل الشام (1).
وذلك كله غير وفادة من وفد على النبي - صلى الله عليه وسلم - عام الوفود في السنة التاسعة للهجرة، وكان من بين الوفود وفد نصارى نجران، كما هو مشهور في كتب السير وغيرها.
إذ الحديث هنا عن ما قبل ذلك، وبما يغلب على الظن أنه من آثار هجرة الحبشة.
إسلام عمرو بن العاص.
تختلف الروايات في الكيفية التي أسلم بها عمرو بن العاص - رضي الله عنه - ولكنها تتفق على أن بداية إسلامه كان بأرض الحبشة، وهو بلا شك أثر من آثار الهجرة الحبشة، وبرهان على ما حققه المهاجرون من مكاسب للدعوة من خلال مكوثهم بأرض الحبشة.
فكيف أسلم عمرو بن العاص - رضي الله عنه - ؟
أخرج ابن إسحاق يسند متصل إلى عمرو بن العاص - رضي الله عنه - قال: وحدثني يزيد بن أبي حبيب، عن راشد مولى حبيب بن أبي أوس الثقفي، عن حبيب بن أبي أوس الثقفي قال: حدثني عمرو بن العاص من فيه، قال: لما انصرفنا مع الأحزاب عن الخندق جمعت رجالاً من قريش، كانوا يرون رأيي، ويسمعون مني، فقلت لهم: تعلمون والله إني أرى أمر محمد يعلو الأمور علواً منكراً، وإني قد رأيت أمراً، فما ترون فيه؟ قالوا: وماذا رأيت؟ قال: رأيت أن نلحق بالنجاشي فنكون عنده، فإن ظهر محمد على قومنا كنا عند النجاشي، فإما أن نكون تحت يديه أحب إلينا من أن نكون تحت يدي محمد، وإن ظهر قومنا فنحن من قد عرفوا، فلن يأتينا منهم إلا خير، قالوا: إن هذا الرأي؛ قلت: فأجمعوا لنا ما نهديه له ،وكان أحب ما يهدي إليه من أرضنا الأدم، فجمعنا له أدماً كثيراً، ثم خرجنا حتى قدمنا عليه.
__________
(1) القرطبي: الجامع لأحكام القرآن 6/256-257.(1/120)
فوالله إنا لعنده إذ جاءه عمرو بن أمية الضمري، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد بعثه إليه في شأن جعفر وأصحابه، قال: فدخل عليه ثم خرج من عنده. قال : فقلت لأصحابي : هذا عمرو بن أمية الضمري، لو قد دخلت على النجاشي وسألته إياه فإعطاينه، فضربت عنقه، فإذا فعلت ذلك رأت قريش أني قد أجزأت عنها حين قتلت رسول محمد. قال: فدخلت عليه فسجدت له كما كنت أصنع، فقال: مرحباً بصديقي، أهديت إليّ من بلادك شيئاً؟ قالت : قلت : نعم ، أيها الملك ، قد أهديت إليك أدماً كثيراً ، قال : ثم قريته إليه ، فأعجبه واشتهاه، ثم قلت له : أيها الملك، إني قد رأيت رجلاً خرج من عندك، وهو رسول رجل عدو لنا، فأعطنيه لأقتله، فإنه قد أصاب من أشرافنا وخيارنا، قال: فغضب، ثم مد يده فضرب به أنفه ضربة ظننت أنه قد كسره، فلو انشقت لي الأرض لدخلت فيها فرقاً منه، ثم قلت له؛ أيها الملك، والله لو ظننت أنك تكره هذا ما سألتك، قال: أتسألني أن أُعطيك رسول رجل يأتيه الناموس الأكبر الذي كان يأتي موسى لتقلته! قال: قلت: أيها الملك، أكذلك هو؟ قال: ويحك يا عمرو، أطعني واتبعه، فإنه والله لعلى الحق، وليظهرن على من خالفه، كما ظهر موسى على فرعون وجنوده، قال: الإسلام، أفتبايعني له على الإسلام؟ قال: فبسط يده، فبايعته على الإسلام، ثم خرجت إلى أصحابي وقد حال رأيي عما كان عليه، وكتمت أصحابي إسلامي.(1/121)
ثم خرجت عامداً إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأسلم، فلقيت خالد بن الوليد ، وذلك قبيل الفتح ، وهو مقبل من مكة ، فقلت : أين يا أبا سليمان؟ قال: والله لقد استقام المنسم، وإن الرجل لنبي، أذهب والله فأسلم، فحتى متى ! قال: قلت: والله ما جئت إلا لأسلم. قال: فقدمنا المدينة على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فتقدم خالد بن الوليد فأسلم وبايع، ثم دنوت، فقلت: يا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إني أبايعك على أن يغفر لي ما تقدم من ذنبي، ولا أذكر ما تأخر ، قال: فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ يا عمرو، بايع، فإن الإسلام يجب ما كان قبله، وإن الهجرة تجب ما كان قبلها، قال: فبايعته، ثم انصرفت (1).
وهكذا تبدو علائم الصحة على رواية ابن إسحاق هذه، فقد صرح بالتحديث ورجال السند ثقات، فشيخ ابن إسحاق، يزيد بن أبي حبيب الأزدي مولاهم المصري: تابعي ثقة (2).
وأشد ( مولى حبيب) بن جندل اليافعي المصري، ذكره ابن حبان في الثقات، وقال عنه ابن معين: ثقة روى عن المصريين (3).
وحبيب بن أبي أوس الثقفي المصري ذكره ابن حبان في الثقات (4).
وقال عنه ابن حجر: مقبول الرواية(5).
وقد أخرج هذه الرواية الإمام أحمد في مسنده بنفس سند ابن إسحاق.
وقال صاحب الفتح الرباني: سنده جيد (6).
كما أخرجها الطبراني: وقال الهيثمي : رواه أحمد والطبراني ورجالهما ثقات (7).
__________
(1) السيرة النبوية لابن هشام 3/384-386.
(2) انظر: ابن حجر: تهذيب التهذيب 11/318-319.
(3) تهذيب التهذيب 3/224-225.
(4) تهذيب التهذيب 2/177.
(5) تقريب التهذيب 1/148.
(6) الفتح الرباني 21/133-136.
(7) مجمع الزوائد 9/351.(1/122)
وأخرجها الواقدي بسند آخر، وبمتن قريب من رواية ابن إسحاق، وأطول (1).بل امتدح ابن كثير سياقه وقدمه على ابن إسحاق وقال: وسياق الواقدي أبسط وأحسن (2)، كما نص عليها ابن عبد البر وصحيح تاريخ إسلام عمرو فيها (3).
وابن عبد البر وابن كثير موافقان للبيهقي الذي ابتدأ برواية الواقدي في إسلام عمرو ، ثم أعقبها برواية ابن إسحاق، ولكن دون تعليق (4).
ومن الأدلة على تقارب هاتي الروايتين ما نقله البيهقي عن عبد الحميد بن جعفر (راوي رواية الواقدي) قال (جعفر) فذكرت هذا الحديث ليزيد ابن أبي حبيب (راوي رواية ابن إسحاق) فقال: أخبرني راشد مولى حبيب بن الأبي أوس الثقفي، عن حبيب، عن عمرو نحو ذلك (5).
وبكل حال فقد ساق البيهقي كلتا الروايتين ( الواقدي، ابن إسحاق ) تحت مسمى : ( ذكر إسلام عمرو بن العاص وما ظهر له على لسان النجاشي وغيره من آثار صدق الرسول - صلى الله عليه وسلم - في الرسالة) ، وليس يخفى أن لهذا المسمى دلالته في تأكيد بداية إسلام عمر في أرض الحبشة على يد النجاشي، هذا فضلاً عن العبارات الصريحة الواردة في الروايتين في دعوة النجاشي لعمرو بالإسلام، وقبوله، وقدومه على الرسول - صلى الله عليه وسلم - معلناً إسلامه ومبايعاً.
كما ساق الذهبي رواية نسبها إلى ابن سعد وينتهي سندها إلى الزهري تفيد ما أفادته الروايتان السابقتان، وإن كانت مختصرة (6).
__________
(1) المغازي للواقدي 2/471-475.
(2) البداية والنهاية 4/265.
(3) الاستيعاب بهامش الإصابة 8/323-324.
(4) دلائل النبوة 4/343-348.
(5) دلائل النبوة 4/346.
(6) سير أعلام النبلاء 3/61.(1/123)
ولم أجد ذلك في المطبوع من طبقات ابن سعد في الحديث عن إسلام عمرو (1)، ولكن بداية الحديث هنا مشعرة بسقط قبله، وهذا يؤيد قول الذهبي: " ولعمرو بن العاص ترجمة طويلة في طبقات ابن سعد ثمان عشرة ورقة" (2).والمطبوع أقل من ذلك، فلعل مثل هذه الرواية فيما سقط في المطبوع، واطلع عليه الذهبي.
وذكر ابن حجر عن الزبير بن بكار، والواقدي بسندين لهما: أن إسلام عمرو كان على يد النجاشي وهو بأرض الحبشة (3).
وفي إسلام عمرو هناك ما يفيد أنه انتظر بعض الوقت من حين قدومه من الحبشة إلى ذهابه للنبي - صلى الله عليه وسلم - مسلماً مبايعاً ، ربما تكون لمزيد من
التفكير في الإسلام وقد تكون لمعرفة رد قريش، أو لأمر آخر، ورد ذلك في رواية ساقها البيهقي وفيها: لما قدم عمرو بن العاص من أرض الحبشة جلس في بيته فلم يخرج إليهم فقالوا:ما شأنه، ما له لا يخرج؟ فقال عمرو: إن أصحمة يزعم أن صاحبكم نبي (4).
وقد صحح ابن عبد البر مدلول هذه الرواية، في مقابل من رأى أن عمراً قدم مهاجراً إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - من الحبشة وأسلم قبل عام خيبر، وقال: والصحيح أنه قدم على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في سنة ثمان قبل الفتح بستة أشهر… وكان همَّ بالإقبال إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حين انصرافه من الحبشة، ثم لم يعزم له إلى الوقت الذي ذكرناه، والله أعلم (5).
وهذه الرواية والتعليق عليها تضاف إلى ماسبق من علاقة النجاشي بإسلام عمرو.
__________
(1) الطبقات 4/254.
(2) تاريخ الإسلام 2/240، وانظر هامش (2) من سير أعلام النبلاء 3/61.
(3) الإصابة 7/122.
(4) دلائل النبوة 2/307.
(5) الاستيعاب بهامش الإصابة 8/324-325.(1/124)
ولئن كان ما سبق من مرويات تتجه إلى أن بداية إسلام عمرو كانت على يد النجاشي وهو المشهور كما يقول ابن حجر (1)، وهي لطيفة لا مثل لها إذ أسلم صحابي على يد تابعي، كما يقول الزرقاني (2).
فثمة ما يفيد إسلام عمرو على يد جعفر بن أبي طالب رضي الله عنهما.
فقد روى البزار بسنده قال : حدثنا محمد بن المثنى، ثنا معاذ بن
معاذ، ثنا ابن عون، عن عمير بن إسحاق، قال: قال جعفر بن أبي طالب: يا رسول الله، أئذن لي أن آتي أرضاً أعبد الله فيها لا أخاف أحداُ حتى أموت، قال فأذن له، فأتى النجاشي.
قال معاذ: حدثني ابن عون قال: فحدثني عمير بن إسحاق، قال: حدثني عمرو بن العاص قال: لما رأيت جعفراً وأصحابه آمنين بأرض الحبشة حسدته قلت: لا تستقبلن لهذا وأصحابه فأتيت النجاشي فقلت أئذن لعمرو بن العاص فأذن لي فدخلت فقلت: إن بأرضنا ابن عم لهذا يزعم أنه ليس للناس إلا إله واحد وأنا والله إن لم ترحنا منه وأصحابه لا قطعت إليك هذه النطفة ولا أحد من أصحابي أبداً، فقال: وأين هو؟ قلت: أنه يجيء مع رسولك أنه لا يجيء معي فأرسل معي رسولاً فوجدناه قاعداً بين أصحابه فدعاه فجاء، فلما أتيت الباب ناديت ائذن لعمرو بن العاص ونادى خلفي ائذن لحزب الله عزوجل، فسمع صوته فأذن له قبلي فدخل ودخلت وإذا النجاشي على السرير، قال فذهبت حتى قعدت بين يديه وجعلته خلفي وجعلت بين كل رجلين من أصحابه رجلاً من أصحابي فقال النجاشي نجروا قال عمرو يعني تكلموا، قلت إن بأرضك رجلاً ابن عمه بأرضنا ويزعم أنه ليس للناس إلا إله واحد وأنك إن لم تقطعه وأصحابه لا اقطع إليك هذه النطفة أنا ولا أحد من أصحابي أبداً، قال جعفر صدق ابن عمي وأنا على دينه قال، فصاح صياحاً وقال أوه حتى قلت ما لا ابن الحبشية لا يتكلم وقال أناموس كناموس موسى قال ما تقولون في عيسى بن مريم ؟ قال : أقول هو روح الله وكلمته ، قال:
__________
(1) المطالب العالية 4/198.
(2) شرح المواهب 1/271.(1/125)
فتناول شيئاً من الأرض فقال: ما أخطأ في أمره مثل هذا فوالله لولا ملكي لاتبععتكم وقال لي: ما كنت أبالي أن لا تأتيني أنت ولا أحد من أصحابك أبداً أنت آمن بأرضي من ضربك قتلته ومن سبك غرمته وقال لآذنه متى استأذنك هذا فأئذن له إلا أن أكون عند أهلي فإن أتى فأذن له، قال فتفرقنا ولم يكن أحد أحب إلى أن ألقاه من جعفر، قال: فاستقبلني من طريق مرة فنظرت خلفه فلم أرَ أحداً فنظرت خلفي فلم أرَ أحدً فدنوت منه وقلت أتعلم أني أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله، قال: فقد هداك الله فاثبت فرتكني وذهب فأتيت أصحابي فكأنما شهدوه معي فأخذوا قطيفة أو ثوباً فجعلوه علي حتى عموني بها قال وجعلت أخرج رأسي من هذه الناحية مرة ومن هذه الناحية مرة حتى أفلت وما على قشرة فمررت على حبشية فأخذت قناعها فجعلته على عورتي فأتيت جعفراً فدخلت عليه فقال: ما لك؟ فقلت: أخذ كل شيء لي – ما ترك علي قشرة – فأتيت حبشية فأخذت قناعها فجعلته على عورتي فانطلق وانطلقت معه حتى أتى إلى باب الملك فقال جعفر لآذنه استأذن له، قال: أنه عند أهله، فأذن له، فقلت: إن عمراً تابعني على ديني، قال: كلا، قلت: بلى، فقال: لإنسان: اذهب معه، فإن فعل فلا تقل شيئاً إلا كتبته، قال: فجاء فقال: نعم، فجعلت أقول وجعل يكتب حتى كتبت كل شيء حتى القدح، قال: ولو شئت آخذ شيئاً من أموالهم إلى مالي، فعلت. رواه الطبراني والبزار، وصدر الحديث في أوله له وزاد في آخره قال : ثم كنت نعد من الذين أقبلوا في السفن مسلمين ، وعمير بن إسحاق وثقه ابن حبان وغيره. وفيه كلام لا يضر، وبقية رجاله رجال الصحيح، ورورى أبو يعلى بعضه ثم قال: فذكر الحديث بطوله (1).
هذه الرواية رجال إسنادها – عدا عمير بن إسحاق – ثقات.
فمحمد بن المثنى العنزي ثقة ثبت (2).
__________
(1) انظر: كشف الأستار 2/197، ومجمع الزوائد 6/28، وهي التي اعتمدت هنا.
(2) تهذيب التهذيب 9/240.(1/126)
ومعاذ بن معاذ العنبري ثقة متقن (1).
وعبد الله بن عون البصري ثقة ثبت (2).
أما عمير بن إسحاق فمختلف فيه ، قال عنه ابن معين مرة لا يساوي شيئاً ولكن يكتب حديثه، وقال عنه مرة: ثقة، وقال عنه النسائي: ليس به بأس، وقال عنه مالك: قد روى عنه رجل لا أقدر أن أقول فيه شيئاً، وذكره العقيلي في الضعفاء، وذكره ابن حبان في الثقات، وقال عنه ابن حجر: مقبول (3).
وبناءً على هذا فلا يقل رجال سند هذه الرواية عن رواية ابن إسحاق السابقة، وبالتالي يمكن قبول الرأي بإسلام عمرو على يد جعفر ابن أبي طالب رضي الله عنهما.
ولكن الرواية فيها إشكال وهو الإرسال من عمير بن إسحاق إلى
جعفر، فعمير تابعي، وجعفر توفي السنة الثامنة في غزوة مؤتة، فلمن يتمكن من السماع منه، وهذه علة قادحة في صدر الرواية.
وإذا كانت رواية عمير بن إسحاق عن جعفر غير ممكنة، فروايته عن عمرو بن العاص - رضي الله عنه - ممكنة لتأخر وفاة عمرو، ولذا ذكرا ابن حجر ولم يذكر روايته عن جعفر (4).
ومن الملاحظ في الرواية – التي بين أيدينا – أنها جاءت بسندين يتفقان في البداية ويختلفان في النهاية، إذ ينتهي سند الأولى إلى جعفر، وينتهي سند الأخرى إلى عمرو، ولذا فرق (ابن عون) الراوي عن (عمير) بينهما في الإسناد، وإذا كان ما نحن بصدده من إسلام عمرو على يد جعفر ينتهي إسناده إلى عمرو فذلك داع لقبول الرواية وصحتها.
ولعل هذه الرواية – بهذا الإسناد – هي التي أخرجها البغوي، وقال عنها ابن حجر: "وأخرج البغوي بسند جيد عن عمر (ولعلها تصحفت عن عمير) بن إسحاق أحد التابعين…" (5).
__________
(1) التهذيب 10/194.
(2) التهذيب 5/346.
(3) انظر: الجرح والتعديل 6/375، تهذيب التهذيب 8/143، تقريب التهذيب 2/86.
(4) تهذيب التهذيب 8/143.
(5) الإصابة7/123.(1/127)
كما عزاها ابن حجر إلى أبي يعلى وقال عنها: " وهذا إسناد حسن إلا أنه يخالف المشهور إن إسلام عمرو كان على يد النجاشي نفسه"(1).
وهي التي نقلها لنا الذهبي على النضر بن شميل (2).
وأمام هذه المرويات الصحيحة يمكن الجمع بين ما يبدوا منه الاختلاف ظاهراً وذلك باعتبار بداية إسلام عمرو في الحبشة على يد جعفر ونهايته وإعلانه كانت على يد النجاشي.
أو اختيار المشهور من كون إسلام عمرو على يد النجاشي، والله أعلم، وأياًما كان الأمر، فهو دليل على أثر الهجرة والمهاجرين، لا على أهل الحبشة فحسب، بل وعلى الوافدين إليهم والمتصلين بهم، وهذا ما أردت بيانه والاستدلال له بنموذج عمرو بن العاص - رضي الله عنه - .
هل تنصر أحدٌ من المهاجرين؟
تتضافر المرويات على ذكر تنصر عبيد الله بن جحش بعد هجرته إلى الحبشة، وموته على النصرانية، فمن هوعبيد الله بن جحش؟وكيف تنصر. وما دلالة ذلك؟ وهل كان لتنصره أثر على المهاجرين؟
هو عبيد الله بن جحش بن رياب أو ثارب بن يعمر بن صبرة بن مرة بن كبير بن غنم بن دودان بن أسد بن خزيمة حليف حرب بن أمية (3).
أسلم وزوجته ( أم حبيبة ) رملة بنت أبي سفيان قديماً ، وهاجرا معاً إلى الحبشة (4).
وقد نقل ابن سعد أن إسلامه وأخويه (أبي أحمد، وعبد الله) قبل أن يدخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دار الأرقم يدعو فيها (5).
كما ذكر ابن سعد أن هجرته وزوجه للحبشة كانت في الهجرة الثانية (6).
__________
(1) المطالب العالية 4/198، وانظر: أحاديث الهجرة، د. سليمان السعود ص 41.
(2) سير أعلام النبلاء 3/61-63.
(3) ابن سعد: الطبقات 8/96، ابن حبيب ، المحبّر ص 88.
(4) ابن الأثير: أسد الغابة 7/115.
(5) الطبقات 4/102.
(6) الطبقات 8/96.(1/128)
أما كيف تنصر فتشير الروايات إلى أن عبيد الله بن جحش مرت حياته بعدة أطوار قبل البعثة وبعدها، حتى انتهى به الأمر إلى أن دخل في النصرانية وهو في الحبشة ومات عليها، وبيان ذلك في رواية ابن إسحاق التالية.
قال ابن إسحاق: واجتمعت قريش يوماً في عيد لهم صنم من أصنامهم كانوا يعظمونه وينحرون له، ويعكفون عنده، ويديرون به، وكان ذلك عيداً لهم في كل سنة يوماً، فخلص منهم أربعة نفر بخياً، ثم قال بعضهم لبعض: تصادقوا وليكتم بعضكم على بعض، قالوا: أجل، وهم: ورقة بن نوفل، وعبيد الله بن جحش بن رئاب، وعثمان بن الحويرث، وزيد بن عمرو بن نفيل، فقال بعضهم لبعض: تعلموا والله ما قومكم على شيء، لقد أخطأوا دين أبيهم إبراهيم ما حجر نطيف به لا يسمع ولا يبصر ولا يضر ولا ينفع ! يا قوم التمسوا لأنفسكم ديناً، فإنكم والله ما أنتم على شيء، فتفرقوا في البلدان يلتمسون الحنيفية دين إبراهيم.
فأما ورقة فاستحكم في النصرانية، واتبع الكتب من أهلها حتى علم علماً من أهل الكتاب، وأما عبيد الله بن جحش فأقام على ما هو عليه من الالتباس حتى أسلم، ثم هاجر مع المسلمين إلى الحبشة ومعه امرأته أم حبيبة بنت أبي سفيان مسلمة، فلما قدمها تنصر وفارق الإسلام حتى هلك هنالك نصرانياً (1).
ولئن كنا لا نعلم الأسباب والدوافع التي جعلت عبيد الله يرتد عن الإسلام فلا شك إنها شقوة أدركته، وهو يستبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير، بل بلغ به الأمر أنه كان يسخر بالمسلمين ويلمزهم بعد تنصره وهو بالحبشة ويرى أنه أصاب الحق وأخطأوه.
__________
(1) انظر: السيرة لابن هشام 1/284-285، وقد ساقها ابن إسحاق دون إسناد.(1/129)
قال ابن إسحاق: فحدثني محمد بن جعفر بن الزبير قال: كان عبيد الله بن جحش حين تنصر يمر بأصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهم هنالك من أرض الحبشة فيقول: فقّحنا وصأصأتم، أي أبصرنا وأنتم تلتمسون البصر ولم تبصروا بعد، وذلك أن ولد الكلب إذا أراد أن يفتح عينيه لينظر صأصأ لينظر، وقوله: فقّح: فتح عينه (1).
وصدق الله: (( أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ (( (2).
ومن المؤكد أنه لم يكن لتنصّره أثر على المهاجرين، فلا يُعلم عن تنصر أحدٍ من المسلمين المهاجرين سواه.
بل إن أقرب الناس إليه وأكثرهم احتمالاً للتأثر به خالفه رأيه، وانتقد ما صار إليه، فأم حبيبة (رملة بنت أبي سفيان) رضي الله عنها كانت زوجته يوم تنصر وهي بأرض غربة، وأبوها – بعد – في عداد المشركين، ومع ذلك ثبتت على إسلامها.
وقد جاء في رواية عن الزهري أن الله ثبت لأم حبيبة الإسلام والهجرة حين افتُتن وتنصر زوجها ومات على نصرانيته (3).
وجاء في رواية طويلة عن الواقدي بسنده إلى أم حبيبة ما يفيد فزع أم حبيبة من تنصره، ومحاولتها التأثير عليه، وإصراره هو على النصرانية التي دان بها قبل إسلامه.
__________
(1) السيرة لابن هشام 1/285.
(2) فاطر: آية 8.
(3) المستدرك 4/20.(1/130)
تقول أم حبيبة – في هذه الرواية – رأيت في النوم عبيد الله زوجي بأسوأ صورة وأشوهها، ففزعت وقلت: تغيرت والله حاله! فإذا هو يقول حيث أصبّح: إني نظرت في الدين فلم أرَ ديناً خيراً من النصرانية وكنت قد دنت بها، ثم دخلت في دين محمد، وقد رجعت، فقلت: والله ما خيرٌ لك، وأخبرته بالرؤيا فلم يحفل بها، وأكبَّ على الخمر حتى مات، فأرى في النوم كأن آتياً يقول: يا أم المؤمنين، ففزعت فأولتها أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتزوجني…. وذكرت بقية القصة بطولها (1).
وقد أنكر الذهبي هذه الرواية في السير (2)، وسكت عنها في تلخيصه للمستدرك (3).
ولم يبين لنا الذهبي سبب إنكاره لها، وهل يقصد بالنكارة بقية القصة أم القصة بكاملها؟ كما يلاحظ أنه سبق للذهبي ذكر القصة في موضع آخر بأطول مما ذكر هنا ولم يعلق عليها بصحة ولا نكارة (4).
وعلى كل حال فثبات أم حبيبة على الإسلام حين ارتد زوجها ثابت بغير هذه الرواية وهو – كما قلت – مؤشر على عدم تأثر المهاجرين بتنصر عبيد الله بن جحش.
وإذا كان هذا من دلالات الحدث، فيمكننا أن نستشف من دلالات الحدث كذلك قوة النصرانية في الحبشة – في هذه الفترة – وكثرة النصارى وقلة المسلمين إلى درجة أغرت عبيد اله بن جحش وشجعته على الالتحاق بالنصرانية، والسخرية بالإسلام والمسلمين.
وإذا احتملنا هذا، فثمة احتمال آخر يمكن – دون قطع – أن يُفسر به تنصر عبيد الله جحش، هو خليفته التاريخية، وأطوار حياته التي مرَّ بها حتى أسلم، فقد تفسر هذه اضطرابه وعدم ثباته على شيء؟ فقد مرت حياته بالوثنية أولاً ، ثم بالكره لها ، والالتباس ثانياً ، ثم
بالنصرانية ثالثاً، ثم بالإسلام، ثم عاد إلى النصرانية ومات عليه.
__________
(1) انظر : الرواية بطولها عند ابن سعد: الطبقات 8/97-98، والحاكم: المستدرك 4/20-22.
(2) سير أعلام النبلاء 2/221.
(3) 4/21.
(4) سير أعلام النبلاء 1/441-443.(1/131)
والذي يُقطع به (( إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (( (1).
ولا شك أن الثبات على الحق منحة إلاهية وهو أعلم وأحكم: ))يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ (( (2).
ومن دعا المؤمنين: ((رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ )) (3).
زواج الرسول - صلى الله عليه وسلم - بأم حبيبة ودلالته.
يرتبط زواج الرسول - صلى الله عليه وسلم - بأم حبيبة بهجرة الحبشة ارتباطاً وثيقاً، ويحمل هذا الزواج منه - صلى الله عليه وسلم - لإحدى المهاجرات الثابتات معنى كبيراً، ولكن هذا الحدث وقع خلاف في تفصيلاته زماناً ومكاناً، وتعارضت في سياقته مرويات صحيحة، وهذه وتلك أحدثت لبساً وإشكالاً، لابد من بيانها وجلائها، وجمع أقوال أهل السير والأثر فيها.
متى تزوج الرسول - صلى الله عليه وسلم - بأم حبيبة؟
وهذه إحدى المسائل التي وقع الخلاف فيها ، فأبو عبيدة معمر بن
المثنى يرى أن ذلك وقع في السنة السادسة للهجرة، نقله عنه ابن عبد البر (4). وبه جزم ابن الأثير (5).
أما ابن سعد فنقل أن الزواج كان في السنة السابعة للهجرة(6).
وبه قال ابن القيم (7). وقال ابن حجر: هو أشهر (8).
وأشار ابن حزم إلى أن ذلك كان فيما بعد الحديبية ولم يحدد أكثر من هذا (9).
__________
(1) القصص، آية 56.
(2) إبراهيم، آية 27.
(3) آل عمران، آية 8.
(4) الاستيعاب 13/8.
(5) أسد الغابة 7/116.
(6) الطبقات 8/99.
(7) زاد المعاد 1/110.
(8) الإصابة12/261.
(9) جوامع السيرة ص 35.(1/132)
وقال الذهبي: قيل بني بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سنة ست، وقال خليفة: دخل به سنة سبع من الهجرة (1).
ويمكن لهذا الرأي أن يقرب بين الرأيين السابقين.
ومن الآراء الواردة وإن كانت بعيدة أن الزواج كان بعد فتح مكة ذكره ابن حبيب (2).
واستبعده ابن حجر، وعلق على الآية الواردة بشأنه كما نقل ابن حبيب ((عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً )) (3) (4).
أين تزوج الرسول - صلى الله عليه وسلم - بأم حبيبة؟
فإذا انتهينا من الخلاف في الزمان، وميلنا إلى أن ذلك كان في السنة السادسة أو السابعة، والأخير الأشهر، فالخلاف في مكان الزواج وارد، وإن لم يعتد به بعض أهل السير، الذين رأوا أن كونه وقع في الحبشة أمرٌ مجمع عليه كما نسب ذلك إلى ابن حزم (5).
وقال ابن الأثير: لم يختلف أهل السير في ذلك (6)، وانتصر له ابن القيم فقال: هذا هو المعروف المتواتر عند أهل السير والتواريخ (7).
وقال الذهبي: ليس في أزواجه من تزوج بها وهي نائية الدار أبعد منها عُقد له - صلى الله عليه وسلم - عليها بالحبشة(8).
وهذا هو المشهور في كتابات المتقدمين من أهل السير، فقد ذكر ابن سعد في أكثر من موطن من كتابه بعث عمرو بن أمية الضمري بكتاب للنجاشي يأمره فيه أن يزوجه بأم حبيبة بعد تنصر وموت زوجها بالحبشة ،ففعل النجاشي ذلك (9).
__________
(1) سير أعلام النبلاء 1/443.
(2) المحبر ص 88.
(3) الممتحنة، آية 7.
(4) الإصابة 12/261.
(5) انظر: الإصابة 12/262، ولم أجد هذا الرأي لابن حزم في جوامع السيرة في حديثه عن زواج أم حبيبة ص 35.
(6) أسد الغابة 7/116.
(7) زاد المعاد 1/109.
(8) سير أعلام النبلاء 2/219.
(9) انظر: الطبقات 1/259، 4/249، 8/99.(1/133)
وهذا الرأي في عقد الزواج على أم حبيبة رضي الله عنها وهي في أرض الحبشة، جاء تأكيده في كتب السنة، فقد روى أبو داود في سننه – بسند صحيح – عن أم حبيبة رضي الله عنها أنها كانت تحت عبيد الله ابن جحش، فمات بأرض الحبشة، فزوجها النجاشي النبي - صلى الله عليه وسلم - وأمهرها عنه أربعة آلاف، وبعث بها إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - مع شرحبيل بن حسنة (1).
وكذا النسائي في النكاح (2). وأحمد (3).
وجاء في مستدرك الحاكم كذلك وبأكثر من رواية (4).
كما نقل ابن عبد البر أكثر من رواية في هذا، وأضاف: وقد ذكر الزبير في ذلك أخباراً كثيرة كلها يشهد لتزويج النجاشي إياها بأرض الحبشة (5).
وانتهى هو إلى القول: هذا هو الأكثر والأصح إن شاء الله (6).
أما الرأي الآخر فيقول أصحابه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - تزوج أم حبيبة بالمدينة، وهذا الرأي مروي عن قتادة، والزهري.
فقد جاء في المستدرك عن الزهري – في حديثه عن تنصر عبيد الله ابن جحش وموته كذلك في الحبشة – قال : وأتم الله الإسلام والهجرة لأم حبيبة حتى قدمت المدينة فخطبها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فزوجها إياه عثمان بن عفان.
قال الزهري : وقد زعموا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كتب إلى النجاشي فزوجها إياه (7).
وهذه الرواية للزهري عند الحاكم إن حملت في نهايتها ما يعارضها من قول الزهري نفسه وإن جاءت بلفظ (زعموا)، فقد أخرج الحاكم في رواية أخرى عن الزهري تنص على زواج الرسول - صلى الله عليه وسلم - بأم حبيبة في أرض الحبشة لا في المدينة، هكذا:
__________
(1) انظر: الألباني: صحيح سنن أبي داود 2/396.
(2) 6/119.
(3) 6/427.
(4) المستدرك 4/22.
(5) الاستيعاب 13/4،7.
(6) المصدر السابق 13/6،7.
(7) المستدرك 4/20، وانظر: ابن عبد البر: الاستيعاب 13/6، وابن حجر: الإصابة 12/262.(1/134)
عن الزهري قال: جهز النجاشي أم حبيبة إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبعث بها مع شرحبيل بن حسنة (1).
كما أن رواية أبي داود السابقة – في تزويج النجاشي لها وبعثها للنبي - صلى الله عليه وسلم - من الحبشة – مروية عن الزهري.
كما أورد ابن عبد البر رواية ابن المبارك عن معمر عن الزهري عن عروة عن أم حبيبة تفيد زواج النبي - صلى الله عليه وسلم - بأم حبيبة وهي بأرض الحبشة، بواسطة النجاشي (2).
أما قتادة فقد روي عنه أيضاً تزوج النبي - صلى الله عليه وسلم - بأم حبيبة في المدينة بمثل قول الزهري السابق (3).
ولكن روي عنه كذلك زواجة بها في الحبشة، قال ابن عبد البر: وروي عن سعيد عن قتادة أن النجاشي زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - أم حبيبة بنت أبي سفيان بأرض الحبشة وأصدق عنه بمائتي دينار، ذكره الزبير، عن محمد بن الحسين، عن سفيان بن عيينة، عن سعيد، عن قتادة (4).
حديث مسلم ودفع الإشكال: ورد في صحيح مسلم من رواية أبي زميل عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان المسلمون لا ينظرون إلى أبي سفيان ولا يقاعدونه، فقال للنبي - صلى الله عليه وسلم - يا نبي الله: ثلاث أعطنيهن، قال:نعم، قال: عندي أحسن العرب وأجمله أم حبيبة بنت أبي سفيان أزوجكما، قال: نعم، ومعاوية تجعله كاتباً بين يديك، قال: نعم، قال: وتؤمرني حتى أقاتل الكفار كما كنت أقاتل المسلمين، قال: نعم، قال أبو زميل: ولولا أنه طلب ذلك من النبي - صلى الله عليه وسلم - ما أعطاه ذلك لأنه لم يكن يُسئل إلا قال: نعم (5).
__________
(1) المستدرك 4/22.
(2) الاستيعاب 13/7.
(3) انظر: الاستيعاب 13/6، الإصابة 12/262.
(4) الاستيعاب 13/4.
(5) صحيح مسلم 4/1945ح 2501.(1/135)
ويتضح لك الإشكال في الحديث ومحاولة دفعه، والإجابة عنه فيما نقله النووي يرحمه الله حيث قال: " واعلم أن هذا الحديث من الأحاديث المشهورة بالإشكال، ووجه الإشكال أن أبا سفيان إنما أسلم يوم فتح مكة سنة ثمان من الهجرة وهذا مشهور لا خلاف فيه، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - قد تزوج أم حبيبة قبل ذلك بزمان طويل. قال أبو عبيدة وخليفة بن خياط وابن البرقي والجمهور تزوجها سنة ست، وقيل سنة سبع، قال القاضي عياض: واختلفوا أين تزوجها؟ فقيل بالمدينة بعد قدومها من الحبشة، وقال الجمهور بأرض الحبشة، قال: واختلفوا فيمن عقد له عليها هناك، فقيل عثمان، وقيل خالد بن سعيد بن العاص، وقيل النجاشي، لأنه كان أمير الموضع وسلطانه.
قال القاضي: والذي في مسلم هنا أنه زوجها أبو سفيان غريب جداً، وخبرها مع أبي سفيان حين ورد المدينة في حال كفره مشهور، ولم يزد القاضي على هذا.
وقال ابن حزم: هذا الحديث وهمٌ من بعض الرواة لأنه لا خلاف بين الناس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - تزوج أم حبيبة قبل الفتح بدهر وهي بأرض الحبشة وأبوها كافر، وفي رواية عن ابن حزم أيضاً أنه قال: موضوع، قال: والآفة فيه من عكرمة بن عمار الراوي عن أبي زميل.
وأنكر الشيخ أبو عمرو بن الصلاح – رحمة الله – هذا على ، ابن حزم وبالغ في الشناعة عليه ، قال: وهذا القول من جسارته، فإنه كان هجوماً على تخطئة الأئمة الكبار وإطلاق اللسان فيهم، قال: ولا نعلم أحداً من أئمة الحديث نسب عكرمة بن عمار إلى وضع الحديث… قال: وما توهمه ابن حزم من منافاة هذا الحديث لتقدم زواجها غلط منه لأنه يحتمل تجديد العقد تطيباً لقلبه لأنه كان ربما يرى عليها غضاضة من رياسته ونسبه أن تتزوج ابنته بغير رضاه، أو أنه ظن أن إسلام الأب في مثل هذا يقتضي تجديد العقد، وقد خفي أوضح من هذا على أكبر مرتبة من أبي سفيان من كثر علمه وطالت صحبته.(1/136)
قال النووي: هذا كلام أبي عمرو رحمه الله، وليس في الحديث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - جدد العقد، ولا قال لأبي سفيان أنه يحتاج إلى تجديده، فلعله - صلى الله عليه وسلم - أراد بقوله نعم أن مقصودك يحصل وإن لم يكن بحقيقة عقد، والله أعلم"(1).
وهكذا يتضح لك ما في الحديث من تكأة لمن قال بتأخر زواج النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى ما بعد فتح مكة، لارتباط ذلك بإسلام أبي سفيان، ومن قال بأن الزواج في المدينة لا في الحبشة، لأن آخر وفد قدم من المسلمين من مهاجرة الحبشة كان بعد فتح خيبر وقبل فتح مكة – كما مضى بيان ذلك – ولئن كان النووي أجاب عن إشكال الحديث بما نقله عن العلماء قبله وبما علقه في نهاية نقله، فقد تعرض غيره من العلماء لهذا الحديث وأجابوا عن إشكاله.
فابن الأثير عدّ الحديث من أوهام مسلم، لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان قد تزوج أم حبيبة وهي بالحبشة قبل إسلام أبي سفيان، قال: ولم يختلف أهل السير في ذلك، ثم استدل على ذلك بدليل آخر حيث قال: ولما جاء أبو سفيان إلى المدينة قبل الفتح، ولما أوقعت قريش بخزاعة ونقضوا عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فخاف فجاء إلى المدينة ليجدد العهد، فدخل على ابنته أم حبيبة ، فلمن تتركه يجلس على فراش رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقالت : أنت مشرك (2).
وتتبعه ابن حجر فقال: وفي جزم (ابن الأثير) بكونه وهماً نظر، فقد أجاب بعض الأئمة باحتمال أن يكون أبو سفيان أراد تجديد العقد، ثم قال ابن حجر: نعم لا خلاف أنه - صلى الله عليه وسلم - دخل على أم حبيبة قبل إسلام أبي سفيان ، ثم ساق روايتين عند ابن سعد، تشهدان لذلك، وإحداهما التي ساق ابن الأثير (3).
__________
(1) شرح النووي لمسلم 16/63،64.
(2) أسد الغابة 7/116.
(3) انظر: الإصابة 12/262، وانظر: الروايتين في طبقات ابن سعد 8/99،100.(1/137)
وقال الذهبي يرحمه الله: وإما ما ورد من طلب أبي سفيان من النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يزوجه بأم حبيبة فما صحَّ، ولكن الحديث في مسلم، وحمله الشارحون على التماس تجديد العقد، وقيل: بل طلب منه أن يزوجه بابنته الأخرى واسمها (عزة) فوهم راوي الحديث، وقال: أم حبيبة (1).
ولابن القيم يرحمه الله كلام طويل متين على حديث مسلم هذا، وفي أكثر من كتاب، ففي جلاء الأفهام فصَّل القول فيه ثم قال: " فالصواب أن الحدي غير محفوظ، بل وقع فيه تخليط، والله أعلم" (2).
وفي زاد المعاد فصّل القول أيضاً، وابتداء الحديث عنه قائلاً: "وهذا الحديث غلط لا خفاء فيه" (3).
ثم تتبع تخريج العلماء لهذا الحديث، فانتقدها، واستحسن بعضها وأضاف إليها ومما انتقده منها قوله: وقد أكثر الناس الكلام في هذا الحديث، وتعددت طرقهم في وجهه، فمنهم من قال: الصحيح أنه تزوجها بعد الفتخ لهذا الحديث، قال: ولا يُردُّ هذا بنقل المؤرخين، وهذه الطريقة باطلة عند من له علم بالسيرة وتواريخ ما قد كان.
وقال طائفة: بل سأله أن يجدد له العقد تطيباً لقلبه، فإنه كان قد تزوجها بغير اختياره، وهذا باطل لا يُظن بالنبي - صلى الله عليه وسلم -، ولا يليق بعقل أبي سفيان، ولم يكن من ذلك شيء (4).
__________
(1) سير أعلام النبلاء 2/222.
(2) جلاء الأفهام 185-195.
(3) زاد المعاد 1/110.
(4) زاد المعاد 1/110.(1/138)
واستمر ابن القيم يبطل هذه التأويلات، فقد أبطل ثلاثة أقوال إثر القولين السابقين، ثمن استوقفه القول الأخير وحسنه وأضاف إليه فقال: وقالت طائفة : بل الحديث صحيح، ولكن وقع الغلط والوهم من أحد الرواة في تسمية أم حبيبة، وإنما سال أن يزوجه أختها رملة (1)، ولا يبعد خفاء التحريم للجمع عليه، فقد خفى ذلك على ابنته وهي أفقه منه وأعلم حين قالت لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: هل في أختي بنت أبي سفيان؟ فقال: أفعل ماذا؟ قالت: تنكحها، قال: أو تحبين ذلك؟ قالت:لست لك بمخلية، وأحب من شركني في الخير أختي، قال فإنها لا تحل لي (2).
فهذه – كما يقول ابن القيم – هي التي عرضها أبو سفيان على النبي - صلى الله عليه وسلم - فسماها الراوي من عنده أم حبيبة، وقيل: بل كانت كنيتها أيضاً أم حبيبة، وهذا الجواب حسن، لولا قوله في الحديث: فأعطاه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ما سأل، فيُقال: حينئذ: هذه اللفظة وهم من الراوي، فإنه أعطاه بعض ما سأله، فقال الراوي أعطاه ما سأل، أو أطلقها اتكالاً على فهم المخاطب أنه أعطاه ما يجوز أعطاؤه مما سأل والله أعلم " (3).
ونخلص مما سبق من كلام العلماء إلى أن حديث مسلم له علتان:
1ـ علة في المتن حيث خالف المشهور من زواج الرسول - صلى الله عليه وسلم - من أم حبيبة في الحبشة وقبل أن يسلم أبوها (أبو سفيان) ، كما سبق البيان.
2ـ وعلة في الإسناد إذ قالوا بتفرد عكرمة بن عمار بالحديث
وهو معدود في أوهام الرواة، ولذا فالحديث عند بعضهم غير محفوظ – كما سبق -.
__________
(1) هكذا وقع عند ابن القيم في نسخة الزاد التي بين يدي، ولعلها (عزة)لأن رملة هي أم حبيبة على قول الأكثر من العلماء، وإن وقع في تسميتها اختلاف.
(2) الحديث أخرجه البخاري في كتاب النكاح – في أكثر من باب – ومسلم في الرضاع، باب تحريم الربيبة وأخت المرأة، وأخرجه غيرهما.
(3) زاد المعاد 1/110-112.(1/139)
قال الذهبي: في آخر ترجمة عكرمة بن عمار-: : وفي صحيح مسلم قد ساق له أصلاً منكراً عن سماك الحنفي، عن ابن عباس في الثلاثة التي طلبها أبو سفيان.." (1).
وإذا تواتر دفع إشكال هذا الحديث سنداً، أو متناً، أو كليهما، واعتمد المشهور والأصح من زواجه - صلى الله عليه وسلم - بأم حبيبة رضي الله عنها، وهي مهاجرة في أرض الحبشة، فلنا أن نستنتج من دلالات هذا الحدث المهم متابعة الرسول- صلى الله عليه وسلم - لأحوال المهاجرين، ومشاركتهم في مصابهم، وتطيب أنفس الصابرين، وتقدير ثبات الثابتين، وما من شك أن تنصر زوج أم حبيبة، ومفارقته لها (2)، صعب على نفسيتها، عانت منه، فوق آلام الغربة – بشكل عام – ما هو متوقع من مثلها ويعيش ظروفها، ولكن زواج الرسول - صلى الله عليه وسلم - بها وقبل قدومها يُسري عنها، ويدفع شماتة الأعداء بها ويزيد في ثباتها.
وبالتتبع لأحوال المهاجرات لا نجد (أم حبيبة ) رضي الله عنها هي الوحيدة التي يُعنى الرسول الكريم - صلى الله عليه وسلم - بأمرها، ويواسيها في مصابها، بل سبق ذلك صنيعه مع (سودة) رضي الله عنها.
فقد أخرج ابن سعد من طريق الواقدي بسنده قال: قدم السكران بن عمرو مكة من أرض الحبشة، ومعه امرأته بنت زمعة، فتوفى عنها بمكة، فلما حلّت أرسل إليها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فخطبها، فقالت: أمري إليك يا رسول الله، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مُري رجلاً من قومك يزوجك، فأمرت حاطب بن عمرو بن عبد شمس بن عبد ودّ فزوجها، فكانت أول امرأة تزوجها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد خديجة (3).
وهذا الحدثان مؤشران من مؤشرات حكم تعدده - صلى الله عليه وسلم - في الزواج بشكل عام، ولهما دلالتهما وحكمتهما بالاهتمام بالنساء المهاجرات المجاهدات بشكل خاص.
__________
(1) ميزان الاعتدال 3/93.
(2) ذكر ابن حجر أن عبيد الله بن جحش حين تنصر وارتد فارقتها (الإصابة 12/260).
(3) الطبقات 8/53.(1/140)
هذا فضلاً عن ما يمكن أن يقال أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - كان يهدف أيضاً وراء الزواج بأم حبيبة تخفيف عداوة قومها (بني أمية) بشكل عام، وتخفيف عداوة زعيمهم أبي سفيان بشكل أخص للإسلام ونبيه والمسلمين (1).
فالتأليف للإسلام وارد في السيرة والرسول - صلى الله عليه وسلم - كان حريصاً على دعوة قومه بكل وسيلة لا تتنافى وقيم الإسلام.
حصار الشعب وعلاقته بهجرة الحبشة.
ما علاقة حصار الشعب بهجرة المهاجرين للحبشة ؟ وهل يمكن اعتباره أثراً من آثار هجرتهم، ولماذا؟
من المرجح أن حصار الشعب وقع إثر هجرة المسلمين للحبشة، ومن المعلوم أن قريشاً مارست مع المسلمين أساليب لمحاربة الدعوة والتضيق على النبي - صلى الله عليه وسلم - والمسلمين.
والحدث يمكن ربطه بهجرة الحبشة لأنه جاء بعدها في الزمن من جانب ولكونه متعلقاً بأحداثها من جانب آخر.
أما الزمن فيفهم من سياق ابن سعد أنه كان في السنة السابعة للهجرة، إذا كان خروج المسلمين من الحصار سينة عشر للبعثة، ومدة حصرهم ثلاث سنين، وقيل سنتين (2).
ولذا جزم ابن حجر أن الحصار كان أول يوم من المحرم سنة سبع من البعثة (3).
وإذ سبق البيان أن عودة المهاجرين للحبشة ثانية إثر اكتشافهم كذب الخبر الذي بلغهم بإسلام أهل مكة في شوال من السنة الخامسة للبعثة، فالفارق الزمني بين ذلك ومن حصار الشعب سنة وثلاثة أشهر تقريباً.
فإذا وضع في الحسبان أن المشركين في هذه المدة كانوا ينتظرون رد النجاشي وموقف الأحباش من المهاجرين – والذي تبين لهم بعد – تضاءلت هذه المدة، ولم يكن ثمة فاصل كبير بين حدث الهجرة وما أعقبها من الحصار.
__________
(1) انظر: د. مهدي رزق الله: السيرة النبوية في ضوء المصادر الأصلية ص 706-707.
(2) الطبقات 1/208-210.
(3) الفتح 7/192.(1/141)
وأهم من ذلك ارتباط الحدثين ببعضهما من حيث استمرار الأذى، والتنفيس عن الضيق والغضب الذي وجده المشركون إثر نجاح الهجرة واستقرار المهاجرين، كما جاء ذلك في سياق أهل السير الأوائل.
فأبن إسحاق مثلاً يجعل من أحداث هجرة الحبشة سبباً في الحصار وكتابة الصحيفة الآثمة، ويقول في خبر الصحيفة: فلما رأت قريش أن أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد نزلوا بلداً أصابوا به أمناً وقراراً، وأن النجاشي قد منع من لجأ إليه منهم، وأن عمر قد أسلم ... اجتمعوا على أن لا ينكحوا إليهم.. فلما اجتمعوا لذلك كتبوه في صحيفة... (1).
وإذا كان ابن إسحاق ساق الخبر دون إسناد، فقد أورده بنحو ذلك ابن سعد من طريق الواقدي بأسانيد جمعية – أدخل بعضها في بعض – ثم قال: قالوا: لما بلغ قريشاً فعل النجاشي لجعفر وأصحابه وإكرامه إياهم كبر ذلك عليهم وغضبوا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، وأجمعوا على قتل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكتبوا كتاباً على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، وأجمعوا على قتل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكتبوا على بني هاشم ألا يناكحوهم ولا يبايعوهم ولا يخالطوهم .. (2).
وكذا أحست قريش أن الأمر خرج من يدها وتجاوز أثر المسلمين سلطانها، فما بقي لها إلا تنتقم ممن بقي من المسلمين – وعلى رأسهم الرسول - صلى الله عليه وسلم - - ومن آزره ولو كان على دينهم، بعد تقديم الكيد للمهاجرين وفشلهم .
__________
(1) السيرة لابن هشام 430-431.
(2) الطبقات 1/208-209.(1/142)
وهذا الربط بين الحدثين بهذا الإطار عبر عنه الطبري بقوله: قال أبو جعفر: ولما استقر بالذين هاجروا إلى أرض الحبشة القرار بأرض النجاشي واطمأنوا بها، تآمرت قريش فيما بينها في الكيد بمن ضوى إليه من المسلمين، فوجها عمرو بن العاص، وعبد الله بن ربيعة... فلم يصلا إلى ما أمّل قومها من النجاشي فرجعا مقبوحين، وأسلم عمر... وقد كان أسلم قبل ذلك حمزة، ووجد الصحابة في أنفسهم قوة، وجعل الإسلامن يفشو في القائل وحمى النجاشي من ضوى إلى بلده منهم، اجتمعت قريش فائتمرت بينها أن يكتبوا بينهم كتاباً يتعاقدون فيه على ألا ينكحوا إلى بني هاشم وبني المطلب، ولا ينكحوهم، ولا يبيعوهم شيئاً ولا يبتاعوا منهم، فكتبوا بذلك صحيفة وتعاهدوا على ذلك ثم علقوا في جوف الكعبة توكيداً بذلك الأمر على أنفسهم (1).
ويعزو ابن حجر الربط بين الحدثين إلى أئمة المغازي كابن إسحاق وموسى بن عقبة وغيرهم من أصحاب المغازي إذ يقول:
قال ابن إسحاق : وموسى بن عقبة وغيرهما من أصحاب المغازي :
لما رأت قريش قد نزلوا أرضاً أصابوا بها أماناً، وأن عمر أسلم، وأن الإسلام فشا في القبائل، أجمعوا على أن يقتلوا الرسول - صلى الله عليه وسلم - - فبلغ ذلك أبا طالب فجمع بن هاشم وبني المطلب فأدخلوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شعبهم ومنعوه ممن أراد قتله... (2).
على أننا نجد في بعض المصادر ما يفيد تقدم حصار الشعب على هجرة المهاجرين للحبشة، فقد نقل ابن عبد البر، وابن سيد الناس: فلما دخلوا الشعب أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من كان بمكة من المؤمنين أن يخرجوا إلى أرض الحبشة... وانطلق إليها عامة من آمن بالله ورسوله (3).
__________
(1) تاريخ الطبري 2/335-336.
(2) الفتح 7/192.
(3) الدرر في اختصار المغازي والسير ص 27، عيون الأثر في فنونم المغازي والسير 1/126.(1/143)
ولكن ذلك مردود بما أجمع عليه أهل السير الأوائل – كما سبق – بل وفي سياق ابن عبد البر، وابن سيد الناس جاء حصار الشعب إثر الحديث عن هجرة الحبشة.
ويمكن حمل هذا الرأي – إن صح – على أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - وإذنه لمن لم يكن هاجر بعد أن يهاجر، كما حاول أبو بكر الصديق الهجرة، فمنعه ابن الدغنة وأجاره،وقال: مثلك لا يخرج ولا يُخرج – كما سبق في رواية البخاري - (1).
ومما يعزز هذا أن ابن كثير ساق عدة أحداث بين الحصار ونقض
الصحيفة عن ابن إسحاق – ومنها عزمن أبي بكر - رضي الله عنه - على الهجرة إلى الحبشة، ثم علق عليها موافقاً ومثنياً على ابن إسحاق في توقيتها وذلك حين قال: " كل هذه القصص ذكرها ابن إسحاق معترضاً بها بين تعاقد قريش على بني هاشم وبني المطلب وكتابتهم عليهم الصحيفة الظالمة، وحصرهم إياهم في الشعب، وبين نقض الحصيفة، وما كان من أمرها، وهي أمور مناسبة لهذا الوقت، ولهذا قال الشافعي رحمة الله: من أراد المغازي فهو عيال على ابن إسحاق" (2).
وبعد فالحدثان يرتبطان في كون منهما فيه دروس معلمة، وجوانب تربوية للصفوة المختارة.
وأحد الباحثين يربط بين درسسي الهجرة والحصار ويقول:
(قلنا في بحث الهجرة إلى الحبشة إن القاعدة التي يقوم عليها البناء الشامخ لا بد أن تتوافر فيها الصفات الكفيلة باستقرار هذا البناء وثباته، وبينا كيف استطاعت العقيدة أن ترتفع على روابط العصبية وعلى الصلة بالأرض، ونلاحظ اليوم في محنة الحصار اختباراً آخر هو التحرر من حاجات الجسد في الطعام والجنس، وقد أثبت المسلمون عملياً قدرتهم على ذلك، وهي حاجات ضرورتها أكبر وأمس من الحاجات النفسية السابقة، وهكذا يتنقل المسلمون من دورة إلى أخرى مبرهنين أن عقيدة الإيمان قدرتها عجيبة في صياغة النفس الإنسانية.. ) (3).
المبحث السابع
__________
(1) انظر: الفتح 7/231.
(2) صالح الشامي: من معين السيرة ص 86.
(3) صالح الشامي: من معين السيرة ص 86.(1/144)
من دروس الهجرة
حفلت هجرة المسلمين إلى الحبشة بدروس مهمة، وخلفت آثاراً عظيمة، جاء ذكر بعضها عرضاً في ثنايا الحديث والتعليق في المباحث السابقة، وأقف هنا مؤكداً على بعض ما سلف، ومضيفاً إليها ما لم يسبق بيانه، أو ضاق عنه التفصيل لحاجة الاختصار في موضعه، وأهم ما في هذه الدروس أنها تربط الحاضر بالماضي وتحيي نصوص السيرة في أذهان الأجيال الناشئة، ويسير الخلف على منهج السلف الذين رباهم الرسول - صلى الله عليه وسلم - فساروا على توجيهه وتمثلوا هديه، ومن هذه الدروس:
1 ـ الفرار بالدين ووقفة أهل السير.
سبق لنا في أسباب الهجرة اعتبار الفرار بالدين سبباً مهماً في خروج المسلمين إلى أرض الحبشة، واعتضد ذلك بذلك كلام صريح لبعض المهاجرين يكشف عن هذا الجانب في هجرتهم، من أمثال: مصعب بن عمير، جعفر بن أبي طالب، أبي بكر الصديق رضي الله عنهم أجمعين (كما سبق بيانه).
وما نص عليه ابن إسحاق في هذا الباب ، ورواية الزهري في البخاري ، ورواية موسى بن عقبة وما أورده الطبري، وابن حزم، وابن عبد البر، وغيرهم (1).
وفي أوفى ما وقفت عليه في هذا الباب كلام للسهيلي – رحمه الله – لم آتٍ عليه من قبل ولأهميته أنقله بحروفه، لدلالته قديماً في الحدث، ولما فيه من إشارة إلى استمرار الحكم كلما استجدت ظروف مماثلة لظروف المهاجرين السابقين.
__________
(1) انظر: في أسباب الهجرة: 2- الفرار بالدين.(1/145)
قال السهيلي: وفي حديث أصحاب الهجرة من الفقه : ( الخروج عن الوطن وإن كان الوطن مكة على فضلها، إذا كان الخروج فراراً بالدين، وإن لم يكن إلى الإسلام، فإن الحبشة كانوا نصارى يعبدون المسيح، ولا يقولون: هو عبد الله، وقد تبين ذلك في هذا الحديث، وسموا بهذه مهاجرين، وهم أصحاب الهجرتين الذين أثنى الله عليهم بالسبق فقال: ((وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ )) وجاء في التفسير أنهم الذين صلوا القبلتين، وهاجروا الهجرتين... فانظر كيف أثنى الله عليهم بهذه الهجرة، وهم قد خرجوا من بيت الله الحرام إلى دار الكفر، لما كان فعلهم ذلك احتياطاً على دينهم، ورجاء أن يخلى بينهم وبين دينه، ويظهر فيه عبادة ربهم ، يذكرون آمنين مطمئنين، وهذا حكم مستمر متى غلب المنكر في بلد ، وأوذي على الحق مؤمن ، ورأى الباطل قاهراًَ للحق ورجا أن يكون في بلد آخر ـ أي بلد كان ـ يخلى بينه وبين دينه ، ويظهر عبادة ربه، فإن الخروج على هذا الوجه حتّمٌ على المؤمن، وهذه الهجرة لا تنقطع إلى يوم القيامة ( وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ )) (1) (2).
ومن خلال هجرة المهاجرين وخروجهم عن أرضهم وأهليهم وأموالهم فارين بعقيدتهم نستبين أن قضية العقيدة فوق كل اعتبار، وإذا كان المسلمون بمكة – وطنهم الأصيل – لم يعودوا قادرين فيه على ممارسة شعائر دينهم وإعلان عقيدتهم فلا مناص من أن تثبت العقيدة أنها هي الأولى، وكانت الهجرة هي التطبيق العملي لأولية العقيدة وترك الأرض بكل ما تعنيه من وشائج ومصالح وارتباطات – في سبيلها - (3).
2ـ عزة المسلم بدينه وتوكله على خالقه.
__________
(1) سورة البقرة ، آية 115.
(2) الروض الأنف 3/255، 256؟.
(3) صالح الشامي: من معين السيرة ص 75.(1/146)
ورغم الشدة وظروف الغربة التي مرّ بها المسلمون المهاجرون إلى الحبشة، مما يتسبب مثله أحياناً من الذلة والمسكنة والاضطرار إلى مصانعة الخلق، والركون إليهم، فالمتابع لأحداث الهجرة، وسلوكيات المهاجرين لا يرى شيئاً من ذلك، بل يرى فيهمن نموذجاً لعزة المسلم، وتوكله على خالقه.
وفي لقاء المهاجرين – في بلاط النجاشي – بين يدي ملك الحبشة وبطارقته وخصومهم القرشين، والتُّهمن تُلصق بهم، والهدايا تقدمن للملك وبطارقته من أجل الوشاية بهم، ومعتقدهم لا يخالف معتقد قومهم فحسب بل ويخالف معتقد القوم الذين ، هاجروا إليهم، كل هذه أرضية وأجواء برزت فيها العزة والتوكل.
وبرغم من ذلك كله صاحبتهم العزة، وأغناهم التوكل على خالقهم عن المداهنة والمصانعة مع مخلوق على حساب عقيدتهم الحقة.
وإذا كان جعفر متحدثهم، فهو بقوله وسلوكه إنما يمثل المهاجرين بأجمعهم ولم يتحدث بما تحدث به إلا عن رأيهم ومشورتهم، وهو إنما عبّر عن مشاعر كل واحد منهم.
ولم تنقل لنا الروايات – في الحوار أن أحداً من المهاجرين انتقد جعفراً في حديثه أو لم يوافقه على قوله أو لامه في قوته، وجزالة عباراته، وصدقه في الحديث.
وإذ سبق حوار جعفر – نائباً وممثلاً للمسلمين – بما يغني عن إعادته هنا، فإن العزة والتوكل تبرزان فيه من خلال الأمور التالية:
الاستعلاء بمعتقدهم الحق في مقابل ذكر ما كانوا عليه من جاهلية وضلال.
الثقة والتصديق الجازم بالنبي المبعوث، وتنزيه تاريخه عن الكذب والادعاء.
الاغتباط بتشريعات الإسلام المأمور بها، والتذمر من عوائد الجاهلية وأخلاقها.
الجرأة في قول الحق، مع استصحاب الأدب، والثقة بنصر الله.(1/147)
عدم المداهنة في شيء من أمور العقيدة ولو خالفت ما عليه معتقد أهل البلاد التي هاجروا إليها، وكان فيها مواجهة للملك الذي نزلوا أرضه وطلبوا أمانه، ولو حُفت هذه المصارحة بشيء من المخاطر ، فالهدف واضح والتصميم على تبعاته بارز في قول المهاجرين – في معتقدهم بعيسى ابن مريم عليه السلام – " نقول ما قال الله وما جاءنا به نبينا كائناً في ذلك ما هو كائن" هكذا اختار المهاجرون وصدقوا.
إن الذين تركوا أهلهم وديارهم وأموالهم في سبيل الحق الذي آمنوا به لن يتنازلوا عن هذا الحق من أجل إقامة مؤقتة، وإذا كانت قد هانت عليهم أرضهم في سبيل ما آمنوا به، فكل أرض أخرى أهون من باب أولى (1).
وكما تظهر العزة بالإسلام والتوكل على الله في كلمات المهاجرين في أرض الحبشة، فهي ظاهرة كذلك في كلمات الذين حاولوا الهجرة فلم يُقدر لهم ذلك، ويمثلهم أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - الذي أقنعه ابن الدغنة بالمكوث بمكة وضمن الجوار له، ولم تكذبه قريش، ولكنهم اشترطوا عليه أن يلزم أبا بكر داره يتعبد فيها ما شاء، ولا يستعلن بذلك خشية تأثر النساء والأبناء بقراءته، فلبث أبو بكر على ذلك بعض الوقت، ثم بدا له أن يبني مسجداً بفناء داره، فتقصفت عليه نساء المشركين وأبناؤهم، وكان ذلك سبباً في أن تطلب قريش من ابن الدغنة أن يرد على أبي بكر جواره أو يلتزم بما يلتزم به من قبل، فرفض أبو بكر ورد على ابن الدغنة جواره وقال معتزاً بإسلامه ومتوكلاً على خالقه " أرضي بجوار الله عز وجل " (2).
__________
(1) صالح الشامي: من معين السيرة ص 74.
(2) الصحيح مع الفتح 7/231.(1/148)
وهي ظاهرة كذلك في عبارات العائدين من الهجرة إلى مكة للخبر الكاذب، فلم يدخل أحد منهم مكة إلا بجوار، ومن نماذجهم عثمانم بن مظعون - رضي الله عنه - ، الذي دخل في البداية في جوار الوليد بن المغيرة، فلما رأى إيذاء المشركين للمسلمين وهو آمن، ردّ على الوليد جواره، وفي إحدى المواقف تجرأ أحد القريشين على عثمان فلطمه فاخضَّرت عينه، فلامه الوليد على ردّ جواره، فأجابه بكل عزة: : (( إن عيني الأخرى إلى ما أصاب أختها في الله لفقيرة، فقال له الوليد: عد إلى جوارك، فأجابه بكل ثقة وتوكل: بل أرضى بجوار الله )) (1).
3ـ صبر المرأة المسلمة وجهادها.
ومن الدروس العامة التي يخرج بها المطالع للسيرة النبوية – بشكل عام – اشتراك المرأة إلى جانب الرجل في المواقف الإيمانية، ومساهمتها في الجهاد والهجرة والدعوى والبيعة، ونحو ذلك، وتحملها في سبيل ذلك المشاق والمصاعب، فقد شاركت المرأة في الدعوة للإسلام في المراحل السرية ، ثم جاهدت وصبرت في مرحلة الجهر بالدعوة وبروز الأذى، وهكذا استمرت مشاركتها بعد الهجرة للمدينة في الجهاد والتعليم وبناء الدولة – بما يطول تفصيله والاستشهاد عليه وليس هذا موطنه - .
وفيما نحن بصدده نرى نموذجاً، بل نماذج ناصعة لصبر المرأة وجهادها في هجرة الحبشة، وسأكتفي بالإشارة إلى ثلاث نماذج.
__________
(1) رواه ابن إسحاق مصرحاً بالسماع، ولكن في سند جهالة (عمن حدثه ) انظر: السيرة لابن هشام 2/10-12، ورواه الطبراني عن عروة بن الزبير مرسلاً، وقال الهيثمي: وفيه ابن لهيعة أيضاً، انظر: مجمع الزوائد 6/36.(1/149)
يمثل الأولى: أسماء بنت عميس رضي الله عنها، وهذه يكيفها صبراً وجهاداً مكوثها في أرض الغربة ما يقرب من أربعة عشر عاماً، كانت خلالها تُحس كغيرها بالغربة، وتشعر بالآم البعد عن الوطن والعشيرة، وأهم من ذلك بعدها عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - وتوجيهه، ولذا عبرت عن ذلك بقولها: كنتم مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يطعم جائعكم ويعظ جاهلكم، وكنا في دار البعداء والبغضاء بالحبشة، وذلك في الله وفي رسوله - صلى الله عليه وسلم - (1).
وأم حبيبة بنت أبي سفيان رضي الله عنها نموذج آخر لصبر المرأة وجهادها، بل وثباتها على دينها حين المحنة، وقد مرّ معنا قريباً في خبر زواج النبي - صلى الله عليه وسلم - بها، ودلالة ذلك الزواج ما يؤكد ما نحن فيه من صبر وجهاد وثبات.
وأضيف هنا ما يدعوا لتقدير هذا الصبر والثبات من هذه المرأة من خلال عوامل ثلاثة هي:
1 ـ كون أبيها (أبي سفيان) زعيم المشركين في هذه المرحلة.
2ـ كونه من بلاد الغربة بعيدة عن الأهل والوطن.
3ـ ردة زوجها عن الإسلام، وهو أقرب الناس إليها، وأكثر الناس أثراً عليها، ومع ذلك كله تجاوزت أم حبيبة هذه الظروف كلها، وثبتت على دينها، وصبرت على مصابها.
أما النموذج الثالث من نماذج المهاجرات الصابرات المجاهدات فتمثله عدة نساء كن في قائمة المهاجرات إلى الحبشة، وآباؤهن في طليعة أعداء الرسول - صلى الله عليه وسلم - ومن هؤلاء:
فاطمة بنت صفوان بن أمية، زوج عمرو بن سعيد بن العاص بن أمية (2).
أم كثلوم بنت سهيل بن عمرو بن عبد شمس،زوج ابن سيرة بن أبي رهم (3)
أم حبيبة (رملة بنت أبي سفيان) ، زوج عبيد الله بن جحش (4).
4ـ الجهل ببعض أحكام الإسلام لمصلحة راجحة.
__________
(1) الصحيح مع الفتح 7/484،485.
(2) انظر: السيرة لابن هشام 1/400.
(3) المصدر السابق 1/406.
(4) المصدر السابق 1/401.(1/150)
ومن دروس هجرة الحبشة نعلم أن الجهل ببعض أحكام الإسلام لمصلحة راجحة لا يضر، وحيث سبق بيان شيء من الأحكام التي جهلها المهاجرون أول نزولها نظراً لتأخر عملهم بها – ولم نعلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد لامهم أو عاتبهم على شيء من ذلك، كيف والله يقول:(( لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا )) (1).
ولو لم تكن المصلحة راجحة في بقائهم في أرض الحبشة، ولو جهلوا بعض أحكام الإسلام أو تأخر علمهم بها، لما أقرّ الرسول - صلى الله عليه وسلم - وجودهم هناك، وأثنى عليهم واعتبر لهم هجرتين – كما سبق -.
وإذا كانت الهجرة للحبشة عذراً مقبولاً ومبرراً للجهل ببعض أحكام الإسلام، لقاء ما وراءها من مصلحة للمسلمين، فإن الجهل دون عذر، وترك الواجب دون سبب مقبول أمر آخر، تكلم فيه العلماء، ومما قاله فيه شيخ الإسلام ابن تيمية: (( من ترك الواجب أو فعل المحرم لا باعتقاد ولا بجهل يعذر فيه، ولكن جهلاً وإعراضاً عن طلب العلم الواجب عليه، مع تمكنه منه، أو أنه سمع إيجاب هذا وتحريم هذا ولم يلتزمه إعراضاً لا كفراً بالرسالة، فهذان نوعان يقعان كثيراً في ترك طلب العلم الواجب عليه، حتى ترك الواجب وفعل المحرم غير عالم بوجوبه وتحريمه أو بلغه الخطاب في ذلك ولم يلتزم أتباعه تعصباً لمذهبه أو اتباعاً لهواه، فإن هذا ترك الاعتقاد الواجب بغير عذر شرعي، كما ترك الكافر الإسلام (2).
ويُفرق العلماء في العذر بالجهل بأحكام الإسلام ، بين مسلم مقيم في دار حرب لم يستطع الهجرة منها، وبين ذمي أسلمن في دار الإسلام، فالأول معذور لخفاء الدليل في حقه، والثاني غير معذور لشيوع الأحكام، وتمكنه من السؤال (3).
5ـ البقاء بين أظهر الكفار، وإجارة غير المسلم.
__________
(1) انظر: الفتاوي 22/43.
(2) الفتاوي 22/16.
(3) غمز عيون البصائر 3/300 عن: عبد الرزاق معاش: الجهل بمسائل الاعتقاد وحكمه ص 290-291.(1/151)
الأصل في الإسلام نهي المسلم عن الإقامة بني أظهر المشركين لغير حاجة، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: " أنا بريء من كل مسلم يقيمن بين أظهر المشركين. قالوا يا رسول الله : لِمَ ؟ قال: لا تراءى ناراهما" (1).
والأصل كذلك عدم الركون للكافرين والبراءة منهم، كما جاء بيان ذلك في أكثر من آية في كتاب الله، وعلق عليها الشيخ عبد الرحمن ابن حسن بقوله: " وهذا كله يدل بلا ريب على أن الله أوجب على المؤمنين البراءة من كل مشرك، وأمر بإظهار العداوة والبغضاء للكفار عامة، وللمحاربين خاصة، وحرّم على المؤمنين موالاتهم والركون إليهم(2).
ولكننا نأخذ من أحداث الهجرة للحبشة إباحة الإقامة بين أظهر الكفار لغرض شرعي كما مكث المسلمون المهاجرون عند الأحباش النصارى.
وأنه يجوز للمسلمين أن يدخلوا في حماية غير المسلمين ، إذا دعت الحاجة إلى ذلك، سواء أكان المجير من أهل الكتاب كالنجاشي النصراني – والذي أسلمن بعد ذلك – أو كان مشركاً كأولئك الذين عاد المسلمون المهاجرون إلى مكة في حمايتهم، وكأبي طالب الذي حمى الرسول - صلى الله عليه وسلم -، والمطعم بن عدي الذي حمى النبي - صلى الله عليه وسلم - وأجاره يوم أن عاد من الطائف (3).
6ـ تفاضل الجهاد بسبب الحاجة.
__________
(1) رواه داود والترمذي والنسائي بسند صحيح، انظر: جامع الأًصول، لابن الأثير 4/445.
(2) عبد الرحمن بن قاسم: الدرر السنية 2/128، عبد الرزاق بن طاهر معاش: الجهل بمسائل الاعتقاد وحكمه ص 451-456.
(3) البوطي: فقه السيرة ص 100-102، منهدي رزق الله، السيرة النبوية في ضوء المصادر الأصلية ص 210.(1/152)
ومن دروس هجرة الحبشة نستفيد تفاضل الجهاد حسب الحاجة، فإذا كانت الهجرة للمدينة جهاداً ميّز الله أصحابها وخصهم بالذكر والفضيلة بقوله تعالى: (( لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ )) (1).
فقد نال هذا الفضل أصحاب هجرة الحبشة وأن تأخر لحوقهم بالنبي - صلى الله عليه وسلم - حتى فتح خيبر، وذلك للحاجة لقائهم في الحبشة، وهذا ما أكده النبي - صلى الله عليه وسلم - لأصحاب السفينتين، وإن ظن بعض المسلمين خلافه، كما سبق في الحوار بين عمر وأسماء بنت عميس رضي الله عنهما.
وإذا كان شهود بدر منقبة أختص بها البدريون، كما قال عليه الصلاة والسلام لعمر - رضي الله عنه - - في قصة حاطب - رضي الله عنه - - : (( أليس من أهل بدر؟ قال: لعل الله اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد وجبت لكم الجنة، أو قد غفرا لكم )) رواه البخاري (2).
فمما يلفت النظر أن بعض من لم يشهد بدراً من أهل الحبشة كجعفر بن أبي طالب - رضي الله عنه - ضرب له بسهم فيها، فقد جاء في مستدرك الحاكم وتلخيص الذهبي، عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جابر قال: ضرب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لجعفر يوم بدر بسهمه وأجره (3).
وفي حديث ابن حجر عن النفر الذين عدوا في أهل بدر ولم يشهدوها، لكونهم تخلفوا لضرورات، ذكر من بينهم جعفر بن أبي طالب ونسبه إلى الحاكم، ولكنه نقله بهذه الصيغة : "وقيل إن جعفر بن أبي طالب ممن ضرب لهم بسهم، نقله الحاكم" (4).
الخاتمة
__________
(1) سورة الحشر ، آية 8.
(2) انظر: الصحيح مع الفتح 7/305.
(3) انظر: تلخيص المستدرك للذهبي 3/53، وسكت عنه الذهبي، ولم أرَ ذلك في أصل المستدرك – في النسخة التي بين يدي - .
(4) الفتح 7/292.(1/153)
الحمد لله الذي بنعمته تتمن الصالحات، وهكذا ينتهي البحث مؤكداً أهمية الهجرة إلى الحبشة بأسبابها وأهدافها وآثارها ودروسها وينتهي البحث مؤكداً أفضلية المهاجرين إلى الحبشة، ومبرزاً الدور الذي قاموا به والأثر الذي خلفوه.
أجل لقد كشف البحث عن أسباب مهمة، وأبان عن عوامل في الهجرة قد لا تكون مشهورة، كما أجاب البحث عن اختيار الحبشة مكاناً للهجرة في خمس نقاط، ليس عدل النجاشي إلا واحداًُ منها، وثمة نقاط أربع جاء بيانها في ثنايا البحث، وهي لا تقل أهمية عن غيرها.
ولئن جاءت الدراسة على نوعية المهاجرين وكون عدد منهم من علية قريش نسباً وقلة الموالي والمستضعفين في قوائم المهاجرين، فذلك له دلالته وتصحيحه لمفهوم ساد عن أسباب الهجرة ودوافعها.
وجاء البحث كاشفاً لأحوال المهاجرين أو بعضها في أرض الحبشة وكيف استقبلهم النجاشي، ولغة الخطاب بين الطرفين.
وأبرز البحث نوع العلاقة بين المسلمين في الحبشة، والمسلمين في مكة قبل الهجرة للمدينة، والمسلمين في المدينة بعد الهجرة إليها، وكيف عاد، ولماذا عاد من عاد منهم، ومن بقي ولماذا بقي، معتمداً الدليل، ومستقصياً الهدف من وراء الإقامة في بلاد الغربة مع طول المدة.
كما تناول البحث الإشارة بالتصحيح إلى مفهوم كان سائداً عند
بعض المسلمين في المدينة عن إخوانهم المقيمين في الحبشة، وظنهم أفضليتهم عليهم بالهجرة وتصحيح النبي - صلى الله عليه وسلم - هذا المفهوم، واعتباره الهجرة بل الهجرتين لأصحاب السفينة العائدين بعد فتح خيبر.
كما جاء البحث على تسجيل لأبرز الآثار التي خلفتها الهجرة، وساهم فيها المهاجرون، ولئن كان إسلام النجاشي من أعظمها، فقد تتبع الباحث من أسلم غيره من الأحباش، وجاء ذكره في كتب السير والمغازي والطبقات والتراجم.(1/154)
ولئن شمل البحث وقفة عند تنصر عبيد الله بن جحش في أرض الحبشة، فقد توقف الباحث عند درس الثبات – رغم الظروف العصيبة – الذي سجلته أم حبيبة رضي الله عنها، ودلة زواج الرسول - صلى الله عليه وسلم - بها بعد هذا الحدث.
كما رصد موقفاً مماثلاً للنبي - صلى الله عليه وسلم - مع إحدى المهاجرات، وإن اختلفت ظروفهما وأسباب انفصالهما عن أزواجهما.
وأخيراً استكمل الباحث فصول الكتاب ومباحثه بتسجيل أبرز الدروس التي لم يأتِ البحث – أو أمكن التفصيل فيها أكثر من ذي قبل.
على أن ثمة نقاط أخرى، ووقفات ذات دلالات جاء بيانها وتفصيلها في ثنايا البحث ومباحثه، وأرجو أن يكون الصواب قد حالف الباحث في تحريرها، والإجابة عنها.
وحسب الباحث أنه اجتهد في اختيار المادة العلمية من مصادرها الأولى، وتجاوز ظاهر النص إلى دلالته، ومجرد سرد الأحداث إلى فقهها.
والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
قائمة المصادر و المراجع
* ابن الأثير:أبو السعادات مجد الدين المبارك بن محمد ( ت 606 هـ).
جامع الأصول في أحاديث الرسول. تحقيق : عبد القادر الأرناؤوط. الناشر: مكتبة الحلواني، مطبعة الملاح، مكتبة دار البيان، الطبعة الأولى 1390 هـ - 1970م.
* ابن الأثير:أبو الحسن علي بن أبي الكرم الشيباني ( ت 630هـ )
... - أسد الغابة في معرفة الصحابة. تحقيق: محمد البنا، محمد عاشور. طبعة: الشعب، القاهرة.
* ابن إسحاق: محمد المطلبي (ت 151هـ).
السير والمغازي: تحقيق: د. سهيل زكار، نشر: دار الفكر، الطبعة الأولى 1398هـ – 1978م.
سيرة ابن إسحاق: تحقيق: محمد حميد الله، الطبعة الثانية 1401هـ –1981م، تركيا.
*البخاري: أبو عبد الله محمد بن إسماعيل (ت 256هـ ).
صحيح البخاري (الجامع الصحيح)، المكتبة الإسلامية، محمد أوزدمير، استانبول، تركيا.
* الألباني: ناصر الدين.(1/155)
صحيح سنن ابن ماجة: الناشر: مكتب التربية العربي لدول الخليج، الرياض، الطبعة الثالثة 1408هـ ، 1988م.
* البسوي: أبو يوسف يعقوب بن سفيان (ت 277هـ ).
المعرفة والتاريخ: تحقيق: د. أكرم ضياء العمري، نشر: مؤسسة
الرسالة، بيروت، الطبعة الثانية1401هـ – 1981م.
* البيهقي: أبو بكر أحمد بن الحسين (ت 458هـ).
دلائل النبوة ومعرفة أحوال صاحب الشريعة: تحقيق: . عبد المعطي قلعجي، نشر: دار الكتب العلمية: بيروت، الطبعة الأولى 1405هـ – 1985م.
* ابن تيمية: أبو العباس أحمد بن عبد الحليم (ت 728هـ).
الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح. مطابع المجد.
الفتاوي (مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية). جمع وترتيب: عبد الرحمن بن محمد بن قاسم، وابنه محمد، نشر: مطابع الرياض، الطبعة الأولى 1383هـ.
منهاج السنة في نقض كلام الشيعة والقدرية: تحقيق: د. محمد رشاد سالم، نشر: جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية 1406هـ، الطبعة الأولى.
* الجمل: أحمد عبد الغني.
هجرة الرسول وصحابته في القرآن والسنة: نشر: دار الوفاء، المنصورة، الطبعة الأولى 1409هـ – 1989م.
*الحاكم: أبو عبد الله محمد بن عبد الله (ت 405هـ).
المستدرك على الصحيحين في الحديث. دار الكتب العلمية.
* ابن أبي حاتم: أبو محمد عبد الرحمن بن أبي حاتم الرازي (ت 327هـ).
الجرح والتعديل: مطبعة مجلس دائرة المعارف العثمانية، حيدر أباد، الدكن، الهند، الطبعة الأولى.
* ابن حبان: أبو حاتم محمد بن حبان البستي (ت 345هـ).
السيرة النبوية وأخبار الخلفاء: صحيحه وعلق عليه الحافظ السيد عزيز بك وجماعة من العلماء، نشر: مؤسسة الكتب الثقافية، بيروت، الطبعة الأولى 1407هـ – 1987م.
* أبو حبيب: أبو جعفر محمد بن حبيب الهاشمي (ت 245هـ).
المحبّر: اعتنت بتصحيحه د. إيلزه ليختن شتيتر، منشورات دار الآفاق الجديدة، بيروت.
* ابن حجر: أحمد بن علي العسقلاني (ت 852هـ).(1/156)
الإصابة في تمييز الصحابة: تحقيق: د. طه محمد الزيني، نشر: مكتبة الكليات الأزهرية، القاهرة 1396هـ – 1976م.
- تقريب التهذيب: تحقيق: عبد الوهاب عبد اللطيف، نشر: دار المعرفة للطباعة والنشر، الطبعة الثانية 1395هـ – 1975م.
تهذيب التهذيب: الطبعة الأولى بمطبعة مجلس دائرة المعارف النظامية بالهند، حيدر أباد 1326هـ.
فتح الباري (شرح صحيح البخاري) تصحيح وتعليق: فضيلة الشيخ عبد العزيز بن باز. نشر: رئاسة البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد.
* ابن حزم: أبو محمد علي بن أحمد (ت 456هـ).
جوامع السيرة: تحقيق: د. إحسان عباس، د. ناصر الدين الأسد، مراجعة أحمد شاكر، المطبعة العربية، لاهور 1401هـ – 1981م.
* الحموي: أبو عبد الله ياقوت بن عبد الله (ت 622هـ).
معجم البلدان: دار إحياء التراث العربي، بيروت.
* ابن حنبل: أبو عبد الله أحمد بن محمد (ت 241هـ).
المسند: تحقيق: أحمد شاكر، دار المعارف 1400هـ – 1980م.
فضائل الصحابة: تحقيق: وصي الله بن محمد عباس، نشر: مركز البحث بجامعة أم القرى، مكة المكرمة، الطبعة الأولى 1403هـ – 1983م.
* الدويش: محمد بن عبد الله.
شباب الصحابة: نشر: دار الوطن، الرياض 1417هـ-1996م.
* الذهبي: محمد بن أحمد (ت 748هـ).
تلخيص مستدرك الحاكم. دار الكتب العلمية.
سير أعلام النبلاء: تحقيق شعيب الأرناؤوط وآخرين، نشر: مؤسسة الرسالة، بيروت، الطبعة الأولى 1401هـ-1981م.
السيرة النبوية: تحقيق: حسام الدين القدسي، مكتبة الهلال، بيروت.
ميزان الاعتدال: تحقيق: علي محمد اليجاوي: نشر: درا إحياء الكتب العربية، الطبعة الأولى 1382هـ-1963م.
مختار الصحاح: الناشر: دار الكتاب العربي، بيروت، الطبعة الأولى 1967م.
* ابن الزبير: عروة (ت 93هـ).
مغازي رسول الله (. تحقيق: د. محمد الأعظمي، نشر مكتب التربية العربي لدول الخليج، الرياض، الطبعة الأولى 1401هـ- 1981م.
* الزرقاني: محمد بن عبد الباقي.(1/157)
شرح العلامة الزرقاني على المواهب اللدنية للقسطلاني. نشر: دار المعرفة، بيروت.
* ... الزهري: محمد بن مسلم بن عبيد الله بن شهاب (ت 124هـ).
المغازي النبوية: تحقيق: د. سهيل زكار، نشر: دار الفكر، دمشق 1401هـ-1981م.
* الزيلعي: أبو محمد عبد الله بن يوسف (ت 762هـ).
نسب الراية لأحاديث الهداية: دار الحديث، القاهرة.
* ابن سعد: أبو عبد الله محمد بن سعد الزهري (ت 230هـ).
الطبقات الكبرى، طبعة دار صادر، بيروت.
* السعود: سليمان بن علي.
أحاديث الهجرة، رسالة ماجستير (مطبوعة على الاستنسل)، مقدمة للجامعة الإسلامية، المدينة النبوية (ماجستير).
* السهيلي: عبد الرحمن (ت 581هـ).
الروض الأنف في شرح السيرة النبوية لابن هشام. تحقيق: عبد الرحمن الوكيل. نشر: دار الكتب الحديثة.
* ابن سيد الناس: أبو الفتح محمد بن محمد ( ت 734هـ).
عيون الأثر في فنون المغازي والشمائل والسير: دار المعرفة، بيروت.
* السيوطي: جلال الدين (ت 911هـ).
رفع شأن الحبشان. تحقيق: صفوان داوودي، حسن عبجي. نشر: دار القبلة للثقافة الإسلامية بجدة، مؤسسة علوم القرآن بيروت.
* الشامي: صالح أحمد.
أضواء على دراسة السيرة. نشر المكتب الإسلامي، بيروت، دمشق، الطبعة الأولى 1412هـ-1992م.
السيرة النبوية تربية أمة وبناء دولة. المكتب الإسلامي، الطبعة الأولى 1411هـ- 1992م.
من معين السيرة. المكتب الإسلامي، الطبعة الأولى 1405هـ، 1984م.
* شراب: محمد محمد حسين.
المعالم الأثيرة في السنة والسيرة. دار القلم، دمشق، الدار الشامية، بيروت، الطبعة الأولى 1411هـ-1991م.
* الهوياني: محمد.
القصيمية دراسة نقدية للنصوص السيرة النبوية: دار طيبة، الرياض، 1409هـ-1989م.
* الطبري: أبو جعفر محمد بن جرير (ت 310هـ).
تاريخ الأمم والملوك: تحقيق: محمد أو الفضل إبراهيم، نشر: دار المعارف، مصر.
* طرهوني: محمد رزق.(1/158)
صحيح السيرة النبوية (السيرة الذهبية) نشر: مكتبة ابن تيمية، القاهرة، الطبعة الأولى 1414هـ.
* ابن عبد البر: أبو عمر يوسف بن عبد البر النمري (ت 463هـ).
الاستيعاب في معرفة الأصحاب (بهامش الإصابة لابن حجر). (سبق).
الدرر في اختصار المغازي والسير. دار الكتب العلمية، بيروت.
* ابن عبد الوهاب: محمد (ت 1206هـ).
الأصول الثلاثة .
* عرجون : محمد الصادق ابراهيم.
- محمد رسول الله( منهج ورسالة. بحث وتحقيق: نشر: دار القلم، دمشق، الطبعة الولى 1405هـ- 1985م.
* علي الشيخ أحمد أبو بكر.
معالم الهجرتين إلى أرض الحبشة. مكتبة التوبة، الرياض، الطبعة الأولى 1413هـ-1993م.
* ... العمري: أكرم ضياء.
السيرة النبوية الصحيحة. مكتبة العلوم والحكم، المدينة النبوية 1412هـ-1992م.
* الغضبان: منير محمد.
المنهج الحركي للسيرة النبوية. مكتبة المنار. الأردن، الطبعة الأولى 1404هـ-1984م.
* ابن قاسم: عبد الرحمن بن قاسم النجدي.
الدرر السنية في الأجوبة النجدية. نشر: دار العربية للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت، الطبعة الثالثة 1398هـ-1978م.
* القرطبي: أبو عبد الله محمد بن أحمد (ت 671هـ).
الجامع لأحكام القرآن. دار الفكر.
* ابن القيم: أبو عبد الله محمد بن أبي بكر (ت 751هـ).
زاد المعاد في هدي خير المعاد. تحقيق: شعيب وعبد القادر الأرناؤوط.
نشر: مؤسسة الرسالة، بيروت، الطبعة الخامسة عشر 1407هـ- 1987م.
* قطب: سيد.
في ظلال القرآن. طبعة: درا الشروق، بيروت 136هـ- 1976م.
* ابن كثير: أبو الفداء إسماعيل (ت 747هـ).
البداية والنهاية: تحقيق ومراجعة، محمد النجار، نشر: مؤسسة دار العربي للنشر والتوزيع.
تفسير القرآن العظيم. تحقيق: عبد العزيز غنيم، محمد عاشور، محمد البنا، مطبعة الشعب، القاهرة.
* مسلم: أبو الحسين مسلم بن الحجاج (ت 261هـ).(1/159)
صحيح مسلم. تحقيق وتعليق محمد فؤاد عبد الباقي. نشر: رئاسة إدارة البحوث العلمية والافتاء والدعوة والإرشاد، الرياض.
* مهدي رزق الله أحمد.
السيرة النبوية في ضوء المصادر الأصلية. الطبعة الأولى 1412هـ-1992م. نشر: مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية، الرياض.
* معاش: عبد الرزاق بن طاهر بن أحمد.
الجهل بمسائل الاعتقاد وحكمه: نشر: دار الوطن، الرياض، الطبعة الأولى 1417هـ-1996م.
* أبو نعيم: أحمد بن عبد الله (ت 430هـ).
دلائل النبوة من منشورات عالم الكتب، بيروت.
* النووي. أبو زكريا يحيى بن شرف الدين (ت 676هـ).
شرح صحيح مسلم. المطبعة المصرية ومكتبتها. القاهرة.
* ابن هشام: أبو محمد عبد الملك بن هشام المعافري (ت 228هـ).
السيرة النبوية. تحقيق: همام، وأبي صعيليك، الطبعة الأولى 1409هـ-1988م، نشر: مكتبة المنار، الأردن.
* الهيثمي: أحمد بن حجر المكي (ت 947هـ).
مجمع الزوائد ومنبع الفوائد. من منشورات دار الكتاب العربي، بيروت، الطبعة الثالثة 1402هـ- 1982م.
* الواقدي: محمد بن عمر (ت 207هـ).
- المغازي. تحقيق. د. مارسدن جونسن. نشر: مؤسسة الأعلمي للمطبوعات، بيروت.
الموضوع
المقدمة
أهمية الموضوع
التمهيد
التعريف بموضع الحبشة وديانة أهلها
آيات الهجرة في القرآن الكريم
أحاديث الهجرة
المبحث الأول : زمن الهجرة للحبشة
أول هجرة في الإسلام
بين أرباب السير وموسى بن عقبة
صنيع البخاري ودلالته
المبحث الثاني : أسباب الهجرة ونوعية المهاجرين
ظهور الإيمان وكثرة المسلمين
إيذاء قريش وعدوانها
الفرار بالدين
البحث المبكر عن مكان آمن للمسلمين
نشر الدعوة خارج مكة
نوعية المهاجرين
الموضوع
المبحث الثالث : اختيار الحبشة لماذا؟
النجاشي العادل
النجاشي الصالح
الحبشة متجر قريش
الحبشة البلد الأمين
محبة الرسول ومعرفته للحبشة
المبحث الرابع : المهاجرون في أرض الحبشة
سرية الخروج والوصول إلى الحبشة
استقبال النجاشي لهم(1/160)
وشاية قريش بالمهاجرين
مبعوثا قريش
نقطة ضوء في حياة عمرو
استقبال النجاشي للمسلمين
حديث أم سلمة
فقه الحديث مقارنته
النجاشي ولغة الخطاب مع المهاجرين
الأوضاع الاجتماعية والدينية للمهاجرين
المبحث الخامس : الإسلام والمسلمون بين مكة والحبشة
الموضوع
أحوال المسلمين في مكة بعد هجرة أهل الحبشة
صلة المسلمين بالحبشة بالمسلمين بمكة والمدينة
العائدون إلى مكة لماذا؟
حرب قريش هل كان لها أثر في بقاء من بقي بالحبشة
بقاء جعفر ومن معه إلى عام خيبر لماذا وبأمر من؟
بين عمر وأسماء وهل يعد لأهل هجرة الحبشة هجرة للمدينة
المبحث السادس : من آثار هجرة الحبشة
إسلام النجاشي
هل أسر النجاشي بالإسلام أم جهر به وبماذا كان يحكم قومه
هل أسلم غير النجاشي من أهل الحبشة
إسلام نصارى نجران أو الحبشة
إسلام عمرو بن العاص
هل تنصر أحد من المهاجرين
زواج الرسول - صلى الله عليه وسلم - بأم حبيبة ودلالته
متى تزوج - صلى الله عليه وسلم - بأم حبيبة
أين تزوج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأم حبيبة
الموضوع
حديث مسلم ودفع الإشكال
حصار الشعب وعلاقته بهجرة الحبشة
المبحث السابع : من دروس الهجرة
الفرار بالدين ووقفة أهل السير
عزة المسلم بدينه وتوكله على خالقه
صبر المرأة المسلمة وجهادها
الجهل ببعض أحكام الإسلام لمصلحة راجحة
البقاء بين أظهر الكفار وإجارة غير المسلم
تفاضل الجهاد حسب الحاجة
الخاتمة
قائمة المصادر والمراجع
فهرس الموضوعات(1/161)