مقدمة
...
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الحمد لله ربّ العالمين، أرسل رسوله بالهدى ودين الحقّ ليظهره على الدّين كلّه، وأشهد أن لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمّداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، والذين اتّبعوهم بإحسانٍ، وسلم تسليماً.
أمّا بعد: فإنّ كتاب مختصر سيرة الرّسول ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ للإمام المجدِّد والمصلح المجاهد شيخ الإسلام محمّد بن عبد الوهّاب ـ رحمه الله وأسكنه فسيح جناته آمين ـ لَمِن خير ما ألف في بابه، فإنّه مختصر من كتاب: السّيرة النّبوية لأبي محمّد عبد الملك بن هشام المعافري المؤرِّخ المشهور، فإنّه كتاب وجيز يعدّ خلاصة لسيرة الرّسول ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ التّاريخية، وقد ضمّنه بعض الاستنباطات المفيدة مع ما أضاف إلى ذلك من المقدّمة النّافعة التي بيّن بها واقع أهل الجاهلية اعتقاداً وسلوكاً، وما أشدّ حاجة المسلم وضرورته إلى معرفة هذا الواقع لما تثمره هذه المعرفة عند أولي البصائر من توقي شرور الجاهلية، والاهتداء إلى محاسن الإسلام، كما في الأثر عن عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ: قال: "إنّما تنقض عرى الإسلام عروةً عُروةً إذا نشأ في الإسلام مَن لا يعرف الجاهلية ". كما بيّن ـ رحمه الله ـ حقيقة التّوحيد الذي بعث الله به محمّداً ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ، وأنّه ليس مجرّد التّلفّظ(1/3)
بلا إله إلاّ الله، بل قد يكون الإنسان كافراً حلال الدّم والمال وهو ينطق بكلمة التّوحيد، وقد استدلّ على ذلك بأمثلة تقرّر هذا الأصل مما جرى في عهد الصّحابة كقتالهم لبني حنيفة، وكتحريقهم للغالية في عليّ ـ رضي الله عنه ـ، وما جرى كذلك بعد الصّحابة كما أجمع التّابعون على استحسان قتل الجعد ابن درهم لما جحد صفات الرّبّ مع تلفّظه بالشّهادة واشتهاره بالعلم والعبادة، وكما أجمع العلماء على تكفير العبيديين لما ظهر منهم ما يدلّ على شركهم ونفاقهم مع أنّهم يظهرون شرائع الإسلام ويقيمون الجمعة والجماعة.
ولا ريب أنّ الضّرورة داعية إلى إيضاح هذا الأصل الذي خفي على كثيرٍ من النّاس حتى المنتسبين إلى العلم منهم، لذلك اهتمّ الشّيخ بتقرير هذا الأصل وإيضاحه، وليرد به على مَن خالفه من أهل زمانه.
هذا، ولقد عزمت جامعة الإمام محمّد بن سعود الإسلامية على إعادة طباعة مؤلَّفات الشّيخ محمّد بن عبد الوهّاب ـ رحمه الله ـ بعد المقابلة بين ما وجد من النّسخ الخطّيّة والمطبوعة واختيار الأفضل منها، وقد عهدت أمانة أسبوع الشّيخ إلينا بمقابلة هذا المختصر الذي نقدّم له، وقد قمنا بمقابلة مطبوعتين بمخطوطتين؛ مطبوعة السّنة المحمّدية بتحقيق: الأستاذ الشّيخ محمّد حامد فقي وهي المطبوعة الأولى، وقد ذكر أنّه اعتمد في إخراجها على أصلٍ قَيِّمٍ محقّق للشّيخ سليمان بن سَحْمَان ـ رحمه الله ـ، ومطبوعة مؤسّسة دار السّلام ـ دمشق ـ بإشراف الأستاذ محمّد زهير الشّاويش وهي المطبوعة الثّانية.
وأمّا المخطوطتان؛ فإحداهما بخط سليمان بن عبد الرّحمن بن حمدان(1/4)
بتاريخ: 16 محرّم 1341هـ، وهي موجودة في المكتبة السّعودية بالرّياض تحت رقم: 518-86 وعدد صفحاتها 101 صفحة وفيها سقط من ص: 83-88.
والمخطوطة الأخرى موجودة في المكتبة السّعودية بالرّياض تحت رقم: 49-86، وعدد صفحاتها 226 صفحة وقد كتب في آخرها: "وقع الفراغ من هذه النّسخة عصر يوم الثّلاثاء 26 من شوال عام 1235هـ ولم يسمّ الكاتب نفسه.
ومن الملاحظ خلو المخطوطتين من المقدّمة التي سبق التّنويه بذكرها وهي في المطبوعة الأولى 33 صفحة من القطع المتوسط بحرفٍ دقيقٍ، وفي مطبوعة مؤسّسة دار السّلام 45 صفحة من القطع المتوسط، لكن بحرفٍ كبيرٍ، كما يلاحظ أنّ المخطوطتين كثيرتا السّقط والتّحريف وإن كانت القديمة أسلم بخلاف المطبوعتين فإنّهما في الجملة سليمتان مع اشتمالهما على المقدّمة ومع ما بذل من الجهد في تحقيقها.
لذلك فقد رأينا أن يكون الاعتماد في طباعة هذا الكتاب على المطبوعة الأولى التي بتحقيق: الأستاذ محمّد حامد فقي؛ لأنّها هي الأصل، ولأنّه اعتمد فيها على مخطوطة الشّيخ سليمان بن سحمان وهو العالم الجليل المعروف بالعناية بكتب الشّيخ محمّد بن عبد الوهّاب وأئمة الدّعوة ـ رحمهم الله تعالى ـ، وقمنا أيضاً بترقيم الآيات في الهوامش وتسمية السّور بدلاً من ترقيمها في داخل الكتاب، كما خَرَّجْنَا ما تيسّر من الأحاديث مع بعض التّعليقات، ورأينا أن تبقى تعليقات الشّيخ محمّد حامد فقي كما هي وجعلنا الرّقم الدّال عليها بين قوسين هكذا (.)(1/5)
ونسأل الله تعالى أن ينفعنا وعامة المسلمين بهذا الكتاب وسائر مؤلَّفات الشّيخ وغيرها من كتب أهل العلم النّافعة. والله أعلم، وصلى الله على نبيّنا محمّد وعلى آله وصحبه وسلم.
عبد الرّحمن بن ناصر البرّاك عبد العزيز بن عبد الله الرّاجحي
محمّد العليّ البرّاك(1/6)
الإسراء والمعراج
...
الإسراء والمعراج:
ثم أُسري برسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى بيت المقدس راكباً على البراق صحبة جبريل ـ عليه السّلام ـ. فنَزل هناك. وصلى بالأنبياء إماماً، وربط البراق بحلقة باب المسجد. ثم عُرج به إلى السّماء الدّنيا. فرأى فيها آدم. ورأى أرواح السّعداء عن يمينه، والأشقياء عن شماله، ثم إلى الثّانية، فرأى فيها عيسى ويحيى. ثم إلى الثّالثة. فرأى فيها يوسف. ثم إلى الرّابعة، فرأى فيها إدريس، ثم إلى الخامسة، فرأى فيها هارون، ثم إلى السّادسة، فرأى فيها موسى. فلما جاوزه بكى. فقيل له: ما يبكيك؟ قال: أبكي أنّ غلاماً بعث بعدي يدخل الجنة من أمته أكثر مما يدخلها من أمتي، ثم عُرج به إلى السّماء السّابعة، فلقي فيها إبراهيم. ثم إلى سِدْرَة المنتهى، ثم رُفع إلى البيت(1/113)
فصل في الهجرة
...
فصل الهجرة:
قد ذكرنا أنّه ـ صلى الله عليه وسلم ـ، كان يوافي الموسم كلّ عامٍ، يتبع الحاج في منازلهم، وفي عكاظ وغيرها، يدعوهم إلى الله. فلم يجبه أحد منهم. ولم يُؤْوِه.
فكان مما صنع الله لرسوله: أنّ الأوس والخزرج كانوا يسمعون من حلفائهم يهود المدينة أنّ نبيّاً يبعث في هذا الزمّان، فنتبعه ونقتلكم معه قتل عاد.
وكانت الأنصار تحجّ، كغيرها من العرب، دون اليهود، فلمّا رأى الأنصار رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يدعو النّاس إلى الله، وتأمّلوا أحواله. قال بعضهم لبعض: تعملون والله يا قوم أنّ هذا الذي توعدكم به اليهود. فلا يَسْبِقُنكم إليه. وقَدَّر الله بعد ذلك أنّ اليهود يكفرون به، فهو قوله تعالى: {وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ} والآية بعدها1.
بيعة العقبة الأولى:
فلقي رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في الموسم عند العقبة ستة نفر من الأنصار كلّهم من الخزرج. منهم: أسعد بن زرارة، وجابر بن عبد الله
ـــــــ
1 الآية 89-90 من سورة البقرة.(1/115)
بن رئاب السّلمي. فدعاهم إلى الإسلام فأسلموا. ثم رجعوا إلى المدينة، فدعوا إلى الإسلام. فنشأ الإسلام فيها، حتى لم تبق دار إلاّ دخلها. فلما كان العام المقبل جاء منهم اثنا عشر رجلاً ـ السّتة الأول، خلا جابراً ـ ومعهم عبادة بن الصّامت، وأبو الهيثم بن التّيهان، وغيرهم. الجميع اثنا عشر رجلاً.
وكان السّتة الأوّلون قد قالوا له ـ لما أسلموا ـ: إنّ بين قومنا من العداوة والشّرّ ما بينهم، وعسى الله أن يجمعهم بك. وسندعوهم إلى أمرك، فإن يجمعهم الله عليك فلا رجلٌ أعزّ منك. وكان الأوس والخزرج أخوان لأمٍّ وأبٍ، أصلهم من اليمن من سبأ، وأمّهم قَيْلَة بنت كاهل ـ امرأة من قُضَاعة ـ ويقال لهم لذلك: أبناء قيلة. قال الشّاعر:
بها ليل من أولاد قيلة، لم يجد ... عليهم خليط في مخالطة عتباً
فوقعت بينهم العداوة بسبب قتيلٍ، فلبثت الحرب بينهم مائة وعشرين سنة إلى أن أطفأها الله بالإسلام، وألّف بينهم برسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وذلك قوله: {وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءًفَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً} الآية1.
فلمّا جاءه الاثنا عشر رجلاً من العام الآتي ـ الذين ذكرنا ـ ومنهم اثنان من الأوس: أبو الهيثم وعويم بن ساعدة، والباقي من الخزرج.
فلمّا انصرفوا بعث معهم رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ مُصعب بن عمير، وأمره أن يقرئهم القرآن، ويعلّمهم الإسلام، فنَزل على أبي أمامة
ـــــــ
1 الآية 103 من سورة آل عمران.(1/116)
ـ أسعد بن زرارة ـ فخرج بِمُصْعب ـ في إحدى خريجاته ـ فدخل به حائطاً من حيطان بني ظفر، فجلسا فيه، واجتمع إليهما رجال مِمَن أسلم.
إسلام سعد بن معاذ، وأسيد بن حضير:
فقال سعد بن معاذ ـ سيّد الأوس ـ لأسيد بن حضير: اذهب إلى هذين اللذين قد أتيا ليسفها ضعفاءنا. فازجرهما؛ فإنّ أسعد بن زرارة بن خالتي، ولولا ذلك لكفيتك ذلك. وكان سعد وأسيد سيّدي قومهما. فأخذ أسيد حربته، ثم أقبل إليهما، فلما رآه أسعد بن زرارة قال لِمُصْعب: هذا سيّد قومه قد جاءك، فاصدق الله فيه. قال معصب: إن يكلّمني أكلّمه. فوقف عليهما. فقال: ما جاء بكما إلينا؟ تسفّهان ضعفاءنا؟ اعتزلا، إن كان لكما في أنفسكما حاجة. فقال له مصعب: أو تجلس فتسمع؛ فإن رضيت أمراً قبلته، وإن كرهته كفّ عنك ما تكره. فقال: أنصفت، ثم ركز حربته وجلس، فكلّمه مصعب بالإسلام، وتلا عليه القرآن. قال: فوالله لعرفنا في وجهه الإسلام قبل أن يتكلّم. في إشراقه وتهلله.
ثم قال: ما أحسن هذا وأجمله! كيف تصنعون إذا أردتم أن تدخلوا في هذا الدّين؟
قال له: تغتسل وتطهر ثوبك، ثم تشهد شهادة الحقّ، ثم تصلّي ركعتين، فقام واغتسل، وطهّر ثوبه، وتشهد وصلّى ركعتين. ثم قال: إنّ ورائي رجلاً إن تبعكما لم يتخلف عنه أحد من قومه. وسأرشده إليكما الآن ـ سعد بن معاذ ـ ثم أخذ حربته، وانصرف إلى سعد في قومه، وهم جلوس في ناديهم.(1/117)
فقال سعد: أحلف بالله، لقد جاءكم بغير الوجه الذي ذهب به من عندكم. فلمّا وقف على النّادي، قال له سعد: ما فعلت؟ فقال: كلّمت الرّجلين. فوالله ما رأيت بهما باساً. وقد نهيتهما، فقالا: نفعل ما أحببت.
وقد حُدّثت: أنّ بني حارثة خرجوا إلى أسعد بن زرارة ليقتلوه ـ وذلك: أنّهم عرفوا أنّه ابن خالتك ـ ليخفروك، فقام سعدمغضباً، للذي ذكر له. فأخذ حربته، فلمّا رآهما مطمئنين عرف أنّ أسيداً إنّما أراد أن يسمع منهما، فوقف عليهما مُتَشَتِّماً. ثم قال لأسعد بن زرارة: والله يا أبا أمامة، لولا ما بيني وبينك من القرابة ما رمت هذا مني، تغشانا في دارنا بما نكره؟
وقد كان أسعد قال لمصعب: جاءك والله سيد من ورائه قومه. إن يتبعك لم يتخلف عنك منهم أحد.
فقال له مصعب: أو تقعد فتسمع؟ فإن رضيت أمراً قبلته، وإن كرهته عزلنا عنك ما تكره، قال: قد أنصفت. ثم ركز حربته فجلس.
فعرض عليه الإسلام وقرأ عليه القرآن. قال: فعرفنا والله في وجهه الإسلام قبل أن يتكلم، في إشراقه وتهلله. ثم قال: كيف تصنعون إذا أسلمتم؟ قالا: تغتسل وتطهّر ثوبك ثم تشهد شهادة الحقّ. ثم تصلّي ركعتين. ففعل ذلك، ثم أخذ حربته، فأقبل إلى نادي قومه. فلمّا رأوه قالوا: نحلف بالله لقد رجع بغير الوجه الذي ذهب به، فقال: يا بني عبد الأشهل،(1/118)
كيف أمري فيكم؟ قالوا: سيّدنا وابن سيّدنا، وأفضلنا رأياً. وأيمننا نقيبة. قال: فإنّ كلام رجالكم ونسائكم عليَّ حرام حتى تؤمنوا بالله ورسوله. فما أمسى فيهم رجل ولا امرأة إلاّ أسلموا إلاّ الأصيرم. فإنّه تأخر إسلامه إلى يوم أُحدٍ. فأسلم وقاتل وقتل، ولم يسجد لله سجدة. فقال النَّبِيّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "عَمِلَ قليلاً واُجِرَ كثيراً".
فَأَقام مصعب في منْزل أسعد يدعو النّاس إلى الإسلام حتى لم يبق دار من دور الأنصار إلاّ وفيها رجال ونساء مسلمون، إلاّ ما كان من دار بني أُمية بن زيد وخطمة، ووائل، وواقف.
وذلك: أنّهم كان فهيم قيس بن الأسلت الشّاعر. وكانوا يسمعون منه، فوقف بهم عن الإسلام، حتى كان عام الخندق، بعد أن هاجر رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ.
فلمّا كان من العام المقبل. وجاء موسى الحجّ. قال مَن أسلم من الأنصار: حتى متى نترك رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يُطَرَّد في جبال مكّة ويُخاف؟! فخرجوا مع مشركي قومهم حجاجاً.
بيعة العقبة الثّانية :
فلمّا وصلوا واعدوه العقبة، من أواسط أيام التّشريق للبيعة، بعد ما انقضى حجهم. فقال له العباس: ما أدري ما هؤلاء القوم الذين جاءوك؟ إنّي ذو معرفة بأهل يثرب. فلمّا كان باللّيل تسللوا من رحالهم مختفين، ومعهم عبد الله بن عمرو بن حرام ـ أبو جابر ـ وهو مشرك، وكانوا يكاتمونه الأمر، فلمّا كانت اللّيلة التي واعدوا فيها رسول الله ـ صلى الله عليه(1/119)
وسلم ـ، قالوا له: يا أبا جابر، إنّك شريف من أشرافنا، وإنّا نرغب بك أن تكون حطباً للنّار غداً، قال: وما ذلك؟ فأخبروه الخبر. فأسلم، وشهد العقبة وكان نقيباً.
فلمّا مضى ثلث اللّيل خرجوا للميعاد، حتى اجتمعوا عنده، من رجلٍ ورجلين ومعه عمّه العباس وهو يومئذٍ على دين قومه ولكنه أحبّ أن يحضر أمر ابن أخيه، ويتوثّق له.
فلمّا نظر العباس في وجوههم قال: هؤلاء قوم لا نعرفهم، هؤلاء أحداث، وكان أوّل مَن تكَلّم. فقال: يا معشر الخزرج ـ وكانت العرب تسمّى الجميع الخزرجَ: إنّ محمّداً منا حيث علمتم، وقد منعناه من قومنا وهو في منعة في بلده، إلاّ أنّه أبى إلاّ الانقطاع إليكم، واللّحوق بكم، فإن كنتم ترون أنّكم وافون بما دعوتموه إليه ومانعوه مِمَّن خالفه، فأنتم وما تحمّلتم، وإن كنتم ترون أنّكم مسلموه وخاذلوه بعد خروجه إليكم فمن الآن فدعوه؛ فإنّه في عزٍّ ومنعةٍ.
قالوا: قد سمعنا ما قلت، فتكلّم يا رسول الله، وخذ لنفسك ولربّك ما شئت.
فتكلّم رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ، وقال: "أبايعكم على أن تمنعوني ـ إذا قدمت عليكم ـ مما تمنعون منه نساءكم وأبناءكم. ولكم الجنة"1.
ـــــــ
1 أخرجه الإمام أحمد والبيهقي بإسنادٍ جيّدٍ.(1/120)
فكان أوّل مَن بايعه: البراء بن معرور. فقال: والذي بعثك بالحقّ لنمنعك مما نمع منه أُزُرنا. فبايِعْنا يا رسول الله. فنحن أهل الحرب والحلقة، ورثناها صاغراً عن كابرٍ. فاعترضه أبو الهيثم بن التّيهان، وقال: إنّ بيننا وبين النّاس حبالاً. ونحن قاطعوها، فهل عسيت ـ إن أظهرك الله ـ: أن ترجع إلى قومك وتدعنا؟ فتبسم رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ، ثم قال: "لا والله، بل الدّمّ الدّمّ، والهدم الهدم، أنتم مني وأنا منكم. أحارب مَن حاربتمـ وأسالم مَن سالمتم".
فلمّا قاموا يبايعونه، أخذ بيده أصغرهم ـ أسعد بن زرارة ـ فقال: رويداً يا أهل يثرب، إنا لم نضرب إليه أكباد الإبل إلاّ ونحن نعلم أنّه رسول الله، وإنّ إخراجه اليوم مفارقة للعرب كافّة، وقتل خياركم. وأن تَعَضّكم السّيوف، فإمّا أنتم تصبرون على ذلك، فخذوه وأجركم على الله، وإمّا أنتم تخافون من أنفسكم خيفة فذروه، فهو أعذر لكم عند الله. فقالوا: أمِطْ عنا يدك، فوالله مَا نَذَرُ هذه البيعة ولا نستقيلها.
فقاموا إليه رجلاً رجلاً، يأخذ منهم، ويعطيهم بذلك الجنة، ثم كثر اللّغط. فقال العباس: على رِسْلكم: فإنّ علينا عيوناً.
ثم قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "أخرجوا إليَّ منكم اثنى عشر نقيباً كُفلاء على قومهم، ككفالة الحواريين لعيسى بن مريم، وأنا كفيل على قومي".
وفي رواية: "أن موسى اتّخذ من قومه اثني عشر نقيباً"1.
ـــــــ
1 أخرجه الإمام أحمد والبيهقي بإسنادٍ جيّدٍ.(1/121)
فكان نقيب بني النّجار: أسعد بن زرارة. ونقيب بني سلمة: البراء بن معرور، وعبد الله بن عمرو بن حرام. ونقيب بني ساعدة: سعد بن عبادة، والمنذر بن عمرو. ونقيب بني زريق: رافع بن مالك بن عجلان. ونقيب بني الحارث بن الخزرج: عبد الله بن رواحة، وسعد بن الرّبيع. ونقيب القواقل: عبادة بن الصّامت. ونقيب الأوس: أسيد بن حضير، وأبو الهيثم بن التّيهان. ونقيب بني عوف: سعد بن خيثمة.
وكان جميع أهل العقبة: سبعين رجلاً وامرأتين.
فلمّا بايعوه صرخ الشّيطان بأنفذ صوت سمع قط: يا أهل الأخاشب، هل لكم في محمّد والصَّبَأة معه؟ قد اجتمعوا على حربكم. فقال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "هذا أزب العقبة، أما والله يا عدوّ الله لأفرغنّ لك". ثم قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "ارفضوا إلى رحالكم".
فقال العبّاس بن عبادة بن نضلة: والذي بعثك بالحقّ إن شئت لنميلنّ على أهل مكّة غداً بأسيافنا، فقال: "لم نؤمر بذلك، ولكن ارجعوا إلى رحالكم" فرجعوا.
فلمّا أصبحوا غدت عليهم جِلة قريش. فقالوا: إنّه بلغنا أنّكم جئتم صاحبنا البارحة، تستخرجونه من بين أظهرنا، وتبايعونه على حربنا. وإنّه والله ما من حيّ من العرب أبغض إلينا من أن تَنْشَب الحرب بيننا وبينهم منكم. فانبعث رجال ـ مِمَن لم يعلم ـ يحلفون لهم بالله ما كان من هذا شيء، والذين يشهدون ينظر بعضهم إلى بعض. وجعل عبد الله بن أبيّ بن سَلول يقول: هذا باطل. ما كان هذا. وما كان قومي ليفتاتوا عليَّ بمثل هذا. لو كنت بيثرب ما صنع قومي هذا، حتى يؤامروني.(1/122)
فقام القوم ـ وفيهم الحارث هشام ـ وعليه نعلان جديدان. فقال: كعب بن مالك كلمة ـ كأنّه يريد أن يشرك بها القوم فيما قالوا ـ فقال: يا أبا جابر، ما تستطيع أن تتّخذ ـ وأنت سيّد من سادتنا ـ مثل نعلي هذا الفتى؟ فسمعها الحارث، فخلعها من رجليه، ثم رمى بهما إليه. وقال: والله لتنتعلنهما. فقال أبو جابر: مه أحفظت الفتى. فاردد إليه نعليه. قال: لا أردّهما إليه والله، فأل صالح. لئن صدق الفأل لأسلبنه.
فلمّا انفصلت الأنصار عن مكّة صحّ الخبر عند قريش فخرجوا في طلبهم، فأدركوا سعد بن عبادة، والمنذر بن عمرو، فأعجزهم المنذر ومضى. وأما سعد فقالوا له: أنت على دين محمّد؟ قال: نعم. فربطوا يديه إلى عنقه بنِسْعَة رحله. وجعلوا يسحبونه بشعره، ويضربونه ـ وكان ذا جمة ـ حتى أدخلوه مكّة، فجاء المطعم بن عدي والحارث بن حرب بن أمية. فخلّصاه من أيديهم.
وتشاورت الأنصار أن يَكِروا إليه. فإذا هو قد طلع عليهم. فرحلوا إلى المدينة.
وكان الذي أسّره ضرار بن الخطاب الفهري، وقال:
تداركت سعداً عنوة، فأسرته ... وكان شفائي، لو تداركت منذراً
ولو نِلته طُلّت هناك جراحة ... أحقّ دماء أن تهان وتهدرا
فأجابه حسان بن ثابت ـ رضي الله عنه ـ:
فخرت بسعد الخير، حين أسرته ...
وقلت: شفائي لو تداركت منذراً(1/123)
وإنّ امرءاً يهدي القصائد نحونا ... كمستبضع تمراً إلى أهل خيبرا
فلا تك كالشّاة التي كان حتفها ... بحفر ذراعيها. فلم ترضَ محفرا
ولا تك كالوَسْنان يحلم أنّه ... بقرية كسرى، أو بقرية قيصرا
ولا تك كالثّكلَى، وكانت بمعزل ... عن الثُّكْل. لو أنّ الفؤاد تفكرا
ولا تك كالعاوي، وأقبل نحره ... ولم يخشه سهم من النّبل مضمرا
أتفخر بالكتان لما لبسته ... وقد يلبس الأنباط ريطاً مقصراً
فلولا أبو وهب لمرت قصائد ... على شرف البيداء1 يهوين حسرا
وسَمَعَتْ قريش قائلاً يقول باللّيل على أبي قبيس:
فإن يسلم السّعدان يصبح محمد ... بمكّة لا يخشى خلاف المخالف
قالوا: مَن هما؟ قال أبو سفيان: أسَعْد بن بكر، أم سعد بن هزيم؟ فلمّا كانت اللّيلة القابلة، سمعوه يقول:
فيا سعد-سعد الأوس-كن أنت ناصراً ... ويا سعد-سعد الخرزجين-الغطارف
أجيبا إلى داعي الهدى. وتمنيا ... على الله في الفردوس منة عارف
فإنّ ثواب الله للطّالب الهدى ... جنان من الفردوس ذات رفارف
فقال أبو سفيان: هذا والله سعد بن عبادة، وسعد بن معاذ.
ـــــــ
1 عند ابن هشام: ((البرقاء)).(1/124)
الهجرة إلى المدينة
...
الهجرة إلى المدينة:
وأذن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ للمسلمين في الهجرة إلى المدينة. فبادروا إليها. وأوّل مَن خرج أبو سلمة بن عبد الأسد، وزوجته أم سلمة. ولكنها حبست عنه سنة، وحيل بينها وبين ولدها. ثم خرجت بعدُ هي وولدها إلى المدينة.
ثم خرجوا أرسالاً، يتبع بعضهم بعضاً، ولم يبق منهم بمكّة أحد إلاّ رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأبو بكر، وعليّ ـ أقاما بأمر رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لهما، وإلاّ مَن احتبسه المشركون كرهاً.
وأعدّ رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ جهازه، ينتظر متى يؤمر بالخروج. وأعدّ أبو بكر جهازه.
تآمر قريش بدار النّدوة على قتل رسول الله:
فلمّا رأى المشركون أصحاب رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قد تجهزوا وخرجوا بأهليهم إلى المدينة عرفوا أنّ الدّار دار منعة، وأنّ القوم أهل حلقة وبأس، فخافوا خروج رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ، فيشتدّ أمره عليهم؛ فاجتمعوا في دار النّدوة، وحضرهم إبليس في صورة شيخٍ من أهل نجد، فتذاكروا رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ.
فأشار كلّ منهم برأي، والشّيخ يردّه ولا يرضاه، إلى أن قال أبو جهل: قد فُرِق لي فيه برأي، ما أراكم وقعتم عليه، قالوا: ما هو؟ قال: أرى أن نأخذ من كلّ قبيلةٍ من قريش غلاماً جَلْداً، ثم نعطيه سيفاً صارماً، ثم(1/125)
يضربونه ضربة رجلٍ واحدٍ، فيتفرق دمه في القبائل، فلا تدري بنو عبد مناف بعد ذلك ما تصنع، ولا يمكنها معاداة القبائل كلّها، ونسوق ديته.
فقال الشّيخ: لله درّ هذا الفتى، هذا والله الرّأي، فتفرقوا على ذلك.
فجاء جبريل، فأخبر النَّبِيّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ بذلك. وأمره أن لا ينام في مضجعه تلك اللّيلة.
وجاء رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى أبي بكر نصف النّهار ـ في ساعة لم يكن يأتيه فيها ـ متقنعاً، فقال: "اخرج من عندك"، فقال: إنّما هم أهلك يا رسول الله. فقال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "إنّ الله قد أذن لي في الخروج". فقال أبو بكر: الصّحبةَ يا رسول الله. قال: "نعم". فقال أبو بكر: فخذ ـ بأبي أنت وأمي ـ إحدى راحلَتَيَّ هاتين، فقال: "بالثّمن".
وأمر عليّاً أن يبيت تلك اللّيلة على فراشه.
واجتمع أولئك النّفر يتطعلون من صِير الباب، ويرصدونه يريدون بيَاته، ويأتمرون أيّهم يكون أشقاها؟
فخرج رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ. فأخذ حَفْنة من البطحاء فذرها على رؤوسهم، وهو يتلو: {وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدّاً وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدّاً فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ}1.
وأنْزل الله: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ}2 .
ـــــــ
1 الآية 9 من سورة يس.
2 الآية 30 من سورة الأنفال.(1/126)
ومضى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى بيت أبي بكر. فخرجا من خَوْخَة في بيت أبي بكر ليلاً. فجاء رجل، فرأى القوم ببابه، فقال: ما تنتظرون؟ قالوا: محمّداً. قال: خِبْتُم وخسرتم، قد والله مرَّ بكم، وذرّ على رؤوسكم التّراب. قالوا: والله ما أبصرناه، وقاموا ينفضون التّراب عن رؤوسهم.
فلمّا أصبحوا: قام عليّ ـ رضي الله عنه ـ عن الفراش، فسألوه عن محمّد؟ فقال: لا علم لي به.
ومضى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأبو بكر إلى غار ثَوْر، فنسجت العنكبوت على بابه.
وكانا قد استأجرا عبد الله بن أريقط اللّيثي، وكان هادياً ماهراً ـ وكان على دين قومه ـ وأَمِنَاه على ذلك، وسلما إليه راحِلَتيهما، وواعداه غار ثور بعد ثلاث.
وجَدَّت قريش في طلبهما، وأخذوا معهم القافة، حتى انتهوا إلى باب الغار، فوقفوا عليه. فقال أبو بكر: يا رسول الله، لو أنّ أحدهم نظر إلى ما تحت قديمه لأبصرنا. فقال: "ما ظنّك باثنين الله ثالثهما {لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} 1.
وكانا يسمعان كلامهم، إلاّ أنّ الله عَمَى عليهم أمرهما.
وعامر بن فهيرة يرعى غنماً لأبي بكر، ويتسمع ما يقال عنهما بمكّة. ثم يأتيهما بالخبر ليلاً. فإذا كان السّحر سرح مع النّاس
ـــــــ
1 الآية 40 من سورة التّوبة.(1/127)
قالت عائشة: فجهزناهما أَحَثَّ الجهاز. وصنعنا لهما سُفْرة في جراب، فقطعت أسماء بنت أبي بكر قطعة من نطاقها، فأوْكَتْ به فم الجراب، وقطعت الأخرى عصاماً للقربة، فبذلك لقبت: "ذات النّطاقين".
ومكثا في الغار ثلاثاً، حتى خمدت نار الطّلب. فجاءهما ابن أُريقط بالرّاحِلتَين فارتحلا، وأردف أبو بكر عامر بن فُهيرة.
قصة سراقة بن مالك:
فلمّا أيس المشركون منهما جعلوا لِمَن جاء فيهما دية كلّ واحدٍ منهما، لِمَن يأتي بهما أو بأحدهما. فجدّ النّاس في الطّلب. والله غالب على أمره.
فلمّا مروا بحي من مُدْلج مُصْعِدين من قُدَيد. بَصُر بهم رجل فوقف على الحي. فقال: لقد رأيت آنفاً بالسّاحل أَسْوِدة، وما أُراها إلاّ محمّداً وأصحابه.
ففطن بالأمر سُراقة بن مالك، فأراد أن يكون الظّفر له، وقد سبق له من الظّفر ما لم يكن في حسابه. فقال: بل هما فلان وفلان، خرجا في طلب حاجة لهما، ثم مكث قليلاً، ثم قام فدخل خباءه، وقال لجاريته: أخرجي بالفرس من وراء الخباء وموعدك وراء الأكمَة، ثم أخذ رمحه وخفض عاليه يَخُط به الأرض حتى ركب فرسه. فلمّا قرب منهم، وسمع قراءة النّبِيّ ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ وأبو بكر يكثر الالتفات، ورسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ لا يلتفت، قال أبو بكر: يا سول الله، هذا سراقة بن مالك قد رَهَقنا. فدعا عليه رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ فساخت يدا فرسه في الأرض.(1/128)
فقال: قد علمت أنّ الذي أصابني بدعائكما. فادعوا الله لي. ولكما أن أردّ النّاس عنكما. فدعا له رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ. فخلصت يدا فرسه. فانطلق. وسأل رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ: أن يكتب له كتاباً، فكتب له أبو بكر بأمره في أديم. وكان الكتاب معه إلى يوم فتح مكّة، فجاء به، فوفى له رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ.
فرجع فوجد النّاس في الطّلب، فجعل يقول: قد استبرأت لكم الخبر. وقد كُفيتم ما هاهنا. فكان أوّل النّهار جاهداً عليهما. وكان آخره حارساً لهما.
قصة أم معبد:
ثم مرّوا بخيمة أم مبعد الخزاعية، وكانت امرأة بَرْزة جلْدة، تحتبي بفناء الخيمة ثم تطعم وتسقي مَن مَرَّ بها، فسألاها: هل عندها شيء يشترونه؟ فقالت: والله لو عندنا شيء ما أعوزكم القِرَى. والشّاء عازب ـ وكانت سنة شَهباء ـ فنظر رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ إلى شاةٍ في كِسْر الخيمة، فقال: "ما هذه الشّاة؟". قالت: خَلّفها الجَهْد عن الغنم. فقال: "هل بها من لبن؟". قالت: هي أجهد من ذلك. قال: "أتأذنين لي أن أحلبها؟". قالت: نعم ـ بأبي أنت وأمي ـ إن رأيت بها حليباً فاحلبها.
فمسح رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ بيده ضَرْعَها، وسمى الله ودعا. فتفاجّتْ عليه ودَرَّت فدعا بإناء لها يَرْبِض الرّهط. فحلب فيه حتى علته الرَّغوة. فسقاها فشربت حتى رويت، وسقى أصحابه حتى روا. ثم شرب هو. وحلب فيه ثانياً فملأ الإناء. ثم غادره عندها وارتحلوا.(1/129)
فَقَلَّ ما لبثت أن جاء زوجها يسوق أعنُزاً عجافاً يتساوكن هزالاً. فلمّا رأى اللّبن، قال: من أين هذا، والشّاء عازب، ولا حلوبة في البيت؟
قالت: لا والله إلاّ أنّه مرّ بنا رجل مبارك، من حديثه كيت وكيت. قال: والله إني لأراه صاحب قريش الذي تطلبه. صِفيه لي يا أم معبد.
قالت: ظاهر الوضاءة، أبلح الوجه، حسن الخلق، لم تعبه ثُجْلة، ولم تزرِ به صُعلة، وسيم قَسيم، في عينيه دَعَج، وفي أشفاره وَطَف، وفي صوته صَحَلَ، وفي عنقه سَطَع. وفي لحيته كثاثة، أحور أكحل، أزَج أقرن، شديد سواد الشّعر، إذا صمت علاه الوقار، وإذا تكلّم علاه البهاء، أجمل النّاس وأبهاه من بعيد، وأحسنه وأحلاه من قريبٍ، حلو المنطق، فَصْل. لا نذر ولا هَذْر، كَأَنّ منطقه خَرَزاتِ نظم يتحدرن، رَبْعة لا تقتحمه عين من قِصر، ولا تَشْنَؤه من طولٍ. غَصْن بين غصْنين، فهو أنضر الثّلاثة منظراً، وأحسنهم قدراً. له ورفقاء يَحُفُّون به. إذا قال استمعوا لقوله. وإذا أمر تبادروا إلى أمره محفود محشود. لا عابس ولا مُفْنِد1.
قال أبو معبد: هذا ـ والله ـ صاحب قريش الذي تطلبه. ولقد هممت أن أصحبه ولأفعلن، إن وجدت إلى ذلك سبيلاً.
وأصبح صوت عالٍ بمكّة يسمعونه، ولا يرون القائل، يقول:
جزى الله رَبَّ النّاس خير جزائه ... رفيقين حَلاَّ خَيمتي أم معبد
ـــــــ
1 هو الذي لا فند ولا ضعف في كلامه ولا يرد عليه في أي شأن لكمال قوّته وحكمته.(1/130)
هما نزلا بالبِر، وارتحلا به ... فأفْلَحَ مَن أمسى رفيق محمّد
فيا لَقُصَيّ ما زوى الله عنكمو ... به من فخار، لا يحاذى وسؤدد
وقد غادرت وهناً لديها بحالب ... يرد بها في مصدر ثم مورد
سلوا أختكم عن شاتها وإنائها؟ ... فإنّكمو إن تسألوا الشّاة تشهد
دعاها بشاة حائل، فتحلبت ... له بصريح ضَرَّة الشّاة مزبد
لقد خاب قوم زال عنهم نبيّهم ... وقُدِّس مَن يَسْرِي إليه ويغتدي
ترحّل عن قومٍ؛ فزالت عقولهم ... وحلّ على قومٍ بنور مجدد
هداهم به_بعد الضّلالة-ربّهم ... وأرشدهم، مَن يَتْبَع الحقّ يرشد
وقد نزلت منه على أهل يثرب ... ركاب هديّ، حلّت عليهم بأسعد
نبيّ يرى ما لا يرى النّاس حوله ... ويتلو كتابَ الله في كلّ مشهدٍ
وإن قال في يومٍ مقالة غائبٍ ... فتصديقها في ضَحوة اليوم أو غد
لِيَهْنَ أبا بكر سعادة جدّة ... بصحبته، مَن يُسْعِد اللهُ يَسْعَد
ويَهْنَ بني كعبٍ مكان فتاتهم ... ويقعدها للمؤمنين بمرصد
قالت أسماء بنت أبي بكر: مكثنا ثلاث ليالٍ لا ندري أين توجّه رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ؟ إذ أقبل رجل من الجنّ من أسفل مكّة يتغنى بأبيات غناء العرب. والنّا يتبعونه. ويسمعون منه ولا يرونه. حتى خرج من أعلى مكّة. فعرفنا أين توجّه رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ.(1/131)
قالت: ولما خرج أبو بكر احتمل معه ماله. فدخل علينا جدّي أبو قحافة ـ وقد ذهب بصره ـ فقال: إنّي والله لأراه قد فجعكم بماله مع نسفه. قلت: كلا والله، قد ترك لنا خيراً، وأخذت حجارة، فوضعتها في كُوة البيت. وقلت: ضع يدك على المال، فوضعها، وقال: لا بأس، إن كان قد ترك لكم هذا فقد أحسن. قالت: والله ما ترك لنا شيئاً. وإنّما أردت أن أسكت الشّيخ.
دخول رسول الله المدينة :
ولَمّا بلغ الأنصار مخرجَ رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ من مكّة، كانوا يخرجون كلّ يوم إلى الحَرَّة ينتظرونه، فإذا اشتدّ حرّ الشّمس رجعوا إلى منازلهم، فلمّا كان يومُ الاثنين ثاني عشر ربيع الأوّل، على رأس ثلاث عشرة سنة من نبوّته خرجوا على عادتهم، فلمّا حميت الشّمس رجعوا، فصعد رجل من اليهود على أُطُمٍ من آطام المدينة، فرأى رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ وأصحابه مُبَيِّضين يزول بهم السّراب، فصرخ بأعلى صوته: يا بني قيلة، هذا صاحكم قد جاء، هذا جَدّكم الذي تنتظرونه، فثار الأنصار إلى السّلاح ليتلقوا رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ.
وسُمعت الوَجْبة والتّكبير في بني عمرو بن عوف، وكبر المسلمون فرحاً بقدومه، وخرجوا للقائه، فتلقوه وحيّوه بتحية النّبوّة، وأحدقوا به مطيفين حوله.
فلمّا أتى المدينة، عدل ذات اليمين، حتى نزل بقباء في بني عمرو بن عوف، ونزل على كلثوم بن الهدْم ـ أو على سعد بن خيثمة ـ فأقام(1/132)
في بني عمرو بن عوف أربعة عشرة ليلة، وأسس مسجد قباء وهو أوّل مسجدٍ أسس بعد النّبوّة.
فلمّا كان يوم الجمعة ركب، فأدركته الجمعة في بني سالم بن عوف. فجمّع بهم في المسجد الذي في بطن الوادي. ثم ركب. فأخذوا بخطام راحلته. يقولون: هَلُمَّ إلى القوّة والْمَنَعة والسّلام. فيقول: "خلوا سبيلها. فإنّها مأمورة"، فلم تزل ناقته سائرة، لا يمرّ بدارٍ من دور الأنصار إلاّ رغبوا إليه في النّزول عليهم، فيقول: "دعوها فإنّها مأمورة"، فسارت حتى وصلت إلى موضع مسجده اليوم، فبركت، ولم ينْزل عنها حتى نهضت وسارت قليلاً. ثم رجعت وبركت في موضعها الأوّل، فنَزل عنها.
وذلك في بني النّجار، أخواله1 ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ
وكان من توفيق الله لها؛ فإنّه أحبّ أن ينْزل على أخواله يكرمهم.
فجعل النّاس يكلّمونه في النّزول عليهم. وبادر أبو أيّوب خالد بنزيد إلى رحله، فأدخله بيته، فجعل رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ يقول: "المرء مع رحله"، وجاء أسعد بن زرارة، فأخذ بخطام ناقته. فكانت عنده. وأصبح كما قال قيس بن صرمة ـ وكان ابن عباس يختلف إليه ليحفظها عنه ـ:
ثوى في قريش بضع عشرة حجة ... يذكِّر، لو يلقى حبيباً مواتيا
ـــــــ
1 هو أخوال جدّه عبد المطلب.(1/133)
ويعرض في أهل المواسم نفسه ... فلم يرَ مَن يؤمي ولم يرَ داعياً
فلمّا أتانا واستقرّ به النّوى ... وأصبح مسروراً بطيبة راضياً
وأصبح لا يخشى ظلامة ظالمٍ ... بعيد، ولا يخشى من النّاس باغياً
بذلنا له الأموال من جُلّ مالنا ... وأنفسنا عند الوغى والتآسيا
نعادي الذي عادى من النّاس كلّهم ... جميعاً. وإن كان الحبيب المصافيا
ونعلم أنّ الله لا ربّ غيره ... وأنّ كتاب الله أصبح هادياً
وكما قال حسان بن ثابت ـ رضي الله عنه ـ:
قومي الذين همو آووا نبيّهمو ... وصدّقوه وأهل الأرض كفار
إلاّ حصائص أقوام همو تبع ... في الصّالحين مع الأنصار أنصار
مستبشرين بقسْم الله، قولهمو ... لما أتاهم كريم الأصل مختار:
أهلاً وسهلاً، ففي أمنٍ، وفي سعةٍ ... نعم النَّبِيّ. ونعم القسم والجار
فأنْزلوه بدارٍ لا يخاف بها ... مَن كان جارهموا. دار هي الدّار
وقاسموه بها الأموال، إذ قدموا ... مهاجرين. وقَسْم الجاحد النّار
وكما قال:
نصرنا وآوينا النَّبِيّ محمّداً ... على أنف راضٍ من معد وراغم
قال ابن عبّاس: كان النّبِيّ ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ بمكّة فأمر بالهجرة، وأنزل الله عليه: {وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي(1/134)
مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَاناً نَصِيراً} 1. والنَّبِيّ ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ يعلم: أن لا طاقة له بهذا الأمر إلاّ بسلطانٍ. فسأل الله سلطاناً نصيراً فأعطاه.
قال البراء: أوّل مَن قدم علينا: مُصعب بن عمير، وابن أم مكتوم. فجعلا يُقرءان النّاس القرآن. ثم جاء عمار بن ياسر، وبلال، وسعد. ثم جاء عمر بن الخطاب في عشرين راكباً، ثم جاء رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ. فما رأيت النّاس فرحوا بشيء فرحهم به، حتى جعل النّساء والصّبيان والإماء يقلن: قدم رسول الله، جاء رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ.
قال أنس: "شهدته يوم دخل المدينة، فما رأيت يوماً قط كان أحسن ولا أضوأ من اليوم الذي دخل المدينة علينا، وشهدته يوم مات، فما رأيت يوماً قط كان أقبح ولا أظلم من يوم مات".
فأقام في بيت أبي أيّوب حتى بنى حجره ومسجده.
وبعث رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ وهو في منْزل أبي أيّوب ـ زيد بن حارثة، وأبا رافع، وأعطاها بعيرين وخمسمائة درهم إلى مكّة، فقدما عليه بفاطمة وأم كلثوم ابنتيه، وسودة بنت زمعة زوجه، وأسامة بن زيد، وأم أيمن، وأمّا زينب فلم يمكنها زوجها أبو العاص بن الرّبيع من الخروج، وخرج عبد الله بن أبي بكر بعيال أبي بكر وفيهم عائشة
ـــــــ
1 الآية 80 من سورة الإسراء.(1/135)
. بناء المسجد:
قال الزّهري: بركت ناقة رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ عند موضع مسجده، وكان مِرْبداً لسهل وسهيل، غلامين يتيمين من الأنصار.كانا في حجر أسعد بن زرارة. فساوم رسولُ الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ الغلامين بالمربد، ليتّخذه مسجداً. فقالا: بل نهبه لك يا رسول الله. فأبى رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ. فاشتراه منهما بعشرة دنانير.
وفي الصّحيح: أنّه قال: "يا بني النّجار، ثامنوني بحائطكم. قالوا: لا. والله لا نطلب ثمنه إلاّ إلى الله". وكان فيه شجر غَرْقَد ونخل، وقبور للمشركين، فأمر رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ بالقبور فنبشت، وبالنّخيل والشّجر فقطع، وصفت في قبلة المسجد، وجعل طوله مما يلي القبلة إلى مؤخره مائة ذراع. وفي الجانبين مثل ذلك أو دونه. وأساسه قريباً من ثلاثة أذرع. ثم بنوه باللّبن. وجعل رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ يبني معهم. وينقل اللّبن والحجارة بنفسه ويقول
اللهم إن العيشَ عيش الآخرة ... فاغفر للأنصار والمهاجرة
وكان يقول:
هذا الحمال لا حمال خيبر ... هذا أبَر ربنا وأطهر
وجعلوا يرتجزون، ويقول: أحدهم في رجزه:
ولئن قعدنا والرّسول يعمل ... لذاكَ منا العمل المضلل
وجعل قبلته إلى بيت المقدس، وجعل له ثلاثة أبواب: باب في مؤخره، وباب يقال له: باب الرّحمة، والباب الذي يدخل منه رسول الله ـ صلّى الله(1/136)
عليه وسلّم ـ. وجعل عُمُده الجذوع، وسقفه الجريد. وقيل له: ألا تسقفه؟ قال: "عريش كعريش موسى". وبني بيوت نسائه إلى جانبيه، بيوت الحُجر باللّبن، وسقفها بالجذوع والجريد.
بناؤه بعائشة:
فلمّا فرغ من البناء بنى بعائشة في البيت الذي بناه لها شرقي المسجد. وكان بناؤه بها في شوّال من السّنة الأولى، وكان بعض النّاس يكره البناء في شوّال. قيل: إنّ أصله أنّ طاعوناً وقع في الجاهلية، وكانت عائشة تتحرى أن تدخل نساءها في شوال وتخالفهم. وجعل لسودة بيتاً آخر.
المؤاخاة بين الأنصار والمهاجرين:
ثم آخى بين المهاجرين والأنصار، وكانوا تسعين رجلاً: نصفهم من المهاجرين، ونصفهم من الأنصار، آخى بينهم على المواساة، وعلى أن يتوارثوا بعد الموت، دون ذوي الأرحام، إلى قوله وقعة بدر، فلمّا أنزل الله: {وَأُولُوا الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ} 1. ردّ التوارث إلى الأرحام.
وقيل: إنّه آخى بين المهاجرين بعضهم مع بعض مؤاخاة ثانية. واتّخذ عليّاً أخاً لنفسه. والأثبت الأوّل.
وفي الصّحيح عن عائشة قالت: "قدم رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ المدينة وهي وَبيئة. فمرض أبو بكر. وكان يقول إذا أخذته الحمّى:
كل امرئ مُصَبِّح في أهله ... والموت أدنى من شِراك نعله
ـــــــ
1 الآية 75 من سورة الأنفال.(1/137)
وكان بلال إذا أقلعت عنه الحمى يرفع عقيرته، ويقول:
ألا ليت شعري، هل أبيتَنَّ ليلة ... بواد وحولي إذخِر وجليل؟
وَهَلْ أردنْ يوماً مياه مِجَنّة؟ ... وهل يَبْدُونَ لي شامة وطَفيل؟
اللهم العن عتبة بن ربيعة، وأمية بن خلف، وشيبة بن ربيعة. كما أخرجونا من أرضنا إلى أرض الوباء، فأخبرت رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ فقال: اللهم حبّب إلينا المدينة كحبّنا مكّة أو أشدّ. اللهم صحّحها. وبارك لنا في صاعها ومُدِّها، وانقل حُمّاها إلى الجحفة. فقالت: فكان المولود يولد في الجحفة. فلا يبلغ الحلم حتى تصرعه الحمى".(1/138)
حوادث السنة الأولى
...
حوادث السّنة الأولى:
وفي السّنة الأولى: زيد في صلاة الحضر ركعتين، فصارت أربع ركعات.
وفيها: نزل أهل الصّفة المسجد، وكانت مكاناً في المسجد ينْزل فيه فقراء المهاجرين الذين لا أهل ولا مال. وكان رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ يفرقهم في أصحابه إذا جاء اللّيل، ويتعشى طائفة منهم معه، حتى جاء الله بالغنى.
وهذه السّنة الرّابعة عشرة من النّبوّة: هي الأولى من الهجرة كما تقدم، ومنها أرخ التّاريخ.(1/138)
وتوفي فيها من الأعيان: أسعد بن زرارة، قبل أن يفرغ رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ من بناء المسجد. وتوفي البراء بن معرور في صفر قبل قدوم رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ المدينة. وهو أوّل مَن مات من النقباء.
وفيها: توفي ضمرة بن جنب، وكان قد مرض بمكّة. فقال لبنيه: اخرجوا بي منها، فخرجوا به يريد الهجرة، فلمّا بلغ أضاة بني عقار ـ أو التّنْعيم ـ مات. فأنزل الله تعالى: {وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} الآية1.
وكلثوم بن الهدم الذي نزل عليه رسول الله-صلّى الله عليه وسلّم-.
وفيها: وادع رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ مَنْ بالمدينة من اليهود، وكتب بينه وبينهم كتاباً.
إسلام عبد الله بن سلام:
وبادر عَالِمُ اليهود وحبرهم: عبد الله بن سَلام فأسلم، وأبى عامتهم إلاّ الكفر.
وكانوا ثلاث قبائل: قينقاع، والنّضير، وقريظة. فنقض الثّلاث العهد.
وحاربهم، فَمنَّ على بني قينقاع، وأجلى بني النّضير، وقتل بني قريظة. ونزلت سورة الحشر في بني النّضير، وسورة الأحزاب في بني قريظة.
ـــــــ
1 الآية 100 من سورة النّساء.(1/139)
حوادث السنة الثانية
...
حوادث السّنة الثّانية:
وفي السّنة الثّانية: رأى عبد الله بن زيد بن عبد ربّه الأذان، فأمره رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ أن يلقيه على بلال.
وفيها: فرض صوم رمضان، ونسخ صوم عاشوراء. وبقي صومه مستحباً.
وفيها: زوّج رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ عليّاً فاطمة ـ رضي الله عنهما ـ.
وفيها: صرف الله ـ عزّ وجلّ ـ القبلة عن بيت المقدس إلى الكعبة.
تحويل القبلة:
وكان رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ لما قدم المدينة استقبل بيت المقدس ستة عشر شهراً، قبلة اليهود، وكان يحبّ أن يصرفه الله إلى الكعبة. وقال لجبريل ذلك. فقال: إنّما أنا عبد. فادع ربّك واسأله، فجعل يُقلّب وجهه في السّماء، يرجو ذلك، حتى أنزل الله عليه: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} ، الآيات1.
وكان في ذلك حكمة عظيمة، ومحنة للنّاس، مسلمهم وكافرهم.
فأمّا المسلمون: فقالوا: {آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} 2. وهم الذين هدى الله، ولم تكن بكبيرةٍ عليهم (وأمّا المشركون فقالوا: كما
ـــــــ
1 الآيات من 144-155 من سورة البقرة.
2 الآية 7 من سورة آل عمران.(1/140)
رجع إلى قبلتنا يوشك أن يرجع إلى ديننا، وأمّا اليهود فقالوا)1: {مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا}2 .
وأمّا المنافقون، فقالو: إن كانت القبلة الأولى حقّاً فقد تركها، وإن كانت الثّانية هي الحقّ فقد كان على باطلٍ.
ولما كان ذلك عظيماً وَطّأ الله سبحانه قبله أمر النّسخ، وقدرته عليه، وأنّه سبحانه يأتي بخيرٍ من المنسوخ أو مثله، ثم عقب ذلك بالمعاتبة لِمَن تعنت على رسوله ولم ينْقَدْ له، ثم ذكر بعده اختلاف اليهود والنّصارى، وشهادة بعضهم على بعض بأنّهم ليسوا على شيء، ثم ذكر شركهم بقولهم: اتّخذ الله ولداً3.
ثم أخبر أنّ المشرق والمغرب لله، فأينما ولّى عباده وجوههم فَثَمّ وجهه.
وأخبر رسوله: أنّ أهل الكتاب لا يرضون عنه حتّى يتّبع قبلتهم.
ثم ذكر خليله إبراهيم وبناءه البيت بمعاونة ابنه إسماعيل ـ عليهما السّلام ــ وأنّه جعل إبراهيم إماماً للنّاس، وأنّه لا يرغب عن ملّته إلاّ مَن سَفِه نفسه.
ثم أمر عباده أن يأتَمّوا به، وأن يؤمنوا بما أنْزل إلى رسوله محمّد ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ، وما أنْزل إليهم وإلى سائر النّبيّين.
وأخبر: أنّ الله ـ الذي
ـــــــ
1 ما بين القوسين ليس في المطبوعة، وهو في المخطوطتين.
2 الآية 142 من سورة البقرة.
3 يضاهئون قول الذين كفروا من البوذيّين والبراهمة وقدماء المصريّين وغيرهم من كلّ مشركٍ كان شركه على أساس: أنّ الله اتّخذ ولداً. ولم يكونوا يقولون: إنّها كولادة البشر. بل يقولون: إنّ معبودهم ومقدّسهم ووليّهم من بني الإنسان: هو النّور الأوّل الذي فاض وانبثق من الله. فأخذ كلّ صفات وخصائص الله. وهذه هي عقيدة كلّ مشركٍ. وإن لم يصرّح بها بلسانه. واقرأ سورة الأنعام وغيرها من السّور المكيّة تفهم ذلك.(1/141)
يهدي مَن يشاء إلى صراطٍ مستقيمٍ ـ هو الذي هداهم إلى هذه القبلة التي هي أوسط القبل، وهم أوسط الأمم، كما اختار لهم أفضل الرّسل، وأفضل الكتب.
وأخبر أنّه فعل ذلك لئلا يكون للنّاس عليهم حجة، إلاّ الظّالمين؛ فإنّهم يحتّجون عليهم بتلك الحجج الباطلة الرّاهنة التي لا ينبغي أن تعارض الرّسل بأمثالها، ولِيُتِمَّ نعمته عليهم ويهديهم.
ثم ذكر: نعمته عليهم بإرسال الرّسول الخاتم، وإنزال الكتاب، وأمرهم بذكره وشكره ورغبهم في ذلك بأنّه يذكر مَن ذكره، ويشكر مَن شكره، وأمرهم بما لا يتم ذلك إلاّ به، وهو: الاستعانة بالصّبر والصّلاة.
وأخبرهم: أنّه مع الصّابرين.(1/142)
فصل:
ولما استقرّ رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ في المدينة، وأيّده الله بنصره وبالمؤمنين، وألّف بين قلوبهم بعد العداوة، ومنعته أنصار الله من الأحمر والأسود رمتهم العرب واليهود عن قوسٍ واحدٍ، وشمّروا لهم عن ساق العداوة والمحاربة. والله يأمر رسوله والمؤمنين بالكفّ والعفو والصّفح، حتى قربت الشّوكة، فحينئذٍ أذن لهم في القتال، ولم يفرضه عليهم، فقال تعالى: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ} 1. وهي أوّل آيةٍ نزلت في القتال.
ثم فرض عليهم قتال مَن قاتلهم، فقال تعالى: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ...} الآية2.
ثم فرض عليهم قتال المشركين كافّة، فقال: {وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً} الآية3.
بعض خصائص رسول الله:
وكان رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ يبايع أصحابه في الحرب على أن لا يفرّوا، وربما بايعهم على الموت، وربما بايعهم على الجهاد، وربما
ـــــــ
1 الآية 39 من سورة الحجّ.
2 الآية 190 من سورة البقرة.
3 الآية 36 من سورة براءة.(1/143)
بايعهم على الإسلام، وبايعهم على الهجرة قبل الفتح، وبايعهم على التّوحيد والتزام طاعة الله ورسوله.
وبايع نفراً من أصحابه على أن لا يسألوا النّاس شيئاً، فكان السّوط يسقط من أحدهم. فينْزل فيأخذه، ولا يسأل أحداً أن يناوله إيّاه.
وكان يبعث البعوث يأتونه بخبر عدوّه، ويُطْلِع الطّلائع، ويبثّ الحرس والعيون، حتى لا يخفى عليه من أمر عدوّه شيء.
وكان إذا لقي عدوّه دعا الله واستنصر به، وأكثر هو وأصحابه من ذكر الله، والتّضرّع له.
وكان كثير المشاورة لأصحابه في الجهاد.
وكان يتخلف في ساقتهم، فيزجي الضّعيف، ويردف المنقطع.
وكان إذا أراد غزوة وَرَّى بغيرها.
وكان يرتّب الجيش والمقاتلة، ويجعل في كلّ جَنْبة كفؤاً لها.
وكان يُبارَز بين يديه بأمره، وكان يلبس للحرب عدته، وربما ظاهر بين درعين كما فعل يوم بدر.
وكان له ألوية، وكان إذا ظهر على قوم أقام بعرصتهم ثلاثاً ثم قفل.
وكان إذا أراد أن يُغير ينتظر؛ فإذا سمع مؤذناً لم يُغِرْ، وإلاّ أغار.
وكان يحبّ الخروج يوم الخميس بُكرة.
وكان إذا اشتدّ البأس اتّقوا به. وكان أقربّهم إلى العدوّ.(1/144)
وكان يحبّ الخيلاء في الحرب، وينهى عن قتل النّساء والولدان، وينهى عن السّفر بالقرآن إلى أرض العدو.
أوّل لواء عقده رسول الله:
وأوّل لواء عقد رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ على قول موسى بن عقبة ـ لواء حمزة بن عبد المطلب في شهر رمضان في السّنة الأولى، بعثه في ثلاثين رجلاً من المهاجرين خاصّة، يعترض عيراً لقريشٍ، جاءت من الشّام، فيها أبو جهل في ثلاثمائة رجلٍ، حتى بلغوا سيف البحر من ناحية العِيْص، فالتقوا واصطفوا للقتال فحجز بينهم مَجْدي بن عمرو الجهني، وكان موادعاً للفريقين، فلم يقتتلوا.
سرية عبيدة بن الحارث :
ثم بعث عُبيدة بن الحارث بن عبد المطلب بن عبد مناف في شوّال من تلك السّنة، في سرية إلى بطن رابغ في ستين رجلاً من المهاجرين خاصّة، فلقي أبا سفيان عند رابغ، فكان بينهم الرَّمي، ولم يَسُلُّوا السّيوف، وإنّما كانت مناوشة، وكان سعد بن أبي وقاص أوّلَ مَن رمى بسهم في سبيل الله، ثم انصرف الفريقان.
وقَدَّم ابن إسحاق سرية حمزة.
سرية سعد بن أبي وقاص:
ثم بعث سعد بن أبي وقاص في ذي القعدة من تلك السّنة إلى الخرار من أرض الحجاز، يعترضون عيراً لقريشٍ، وعهد إليه أن لا يجاوز الخرار،(1/145)
وكانوا عشرين، فخرجوا على أقداهم يسيرون باللّيل، ويكمنون بالنّهار. حتى بلغوا الخرار، فوجدوا العير قد مرّت بالأمس.
ثم دخلت السّنة الثّانية.
غزوة الأبواء:
فغزا فيها ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ غزوة الأبواء وكانت أوّل غزوةٍ غزاها رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ بنفسه، خرج في المهاجرين خاصّة، يعترض عيراً لقريشٍ، فلم يلق كيداً.
وفيها وادع بني ضَمْرة على أن لا يغزوهم ولا يغزوه، ولا يعينوا عليه أحداً.
غزوة بواط:
ثم غزا بواطاً في ربيع الأوّل، خرج يعترض عيراً لقريشٍ، فيها أمية بن خلف ومائة رجل من المشركين، فبلغ بواطاً ـ جبلاً من جبال جهينة ـ فرجع ولم يلق كيداً.
خروجه لطلب كرز بن جابر:
ثم خرج في طلب كُرْز بن جابر الفِهْري. وقد أغار على سرح المدينة فاستاقه، فخرج رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ في أثره حتى بلغ سفوان من ناحية بدر، وفاته كرز.
غزوة العشيرة:
ثم خرج جمادى الآخرة في مائة وخمسين من المهاجرين يعترضون عيراً لقريشٍ ذاهبة إلى الشّام، وخرج في ثلاثين بعيراً يتعاقبونها، فبلغ ذا(1/146)
العشيرة من ناحية ينبع، فوجد العير قد فاتته بأيّام، وهي التي خرحوا لها يوم بدر، لما جاءت عائدة من الشّام.
وفيها وادع بني مُدْلج وحلفاءهم.
بعث عبد الله بن جحش:
ثم بعث عبد الله بن جحش إلى نخلة في رجب في اثني عشر رجلاً من المهاجرين كل اثنين على بعيرٍ، فوصلوا إلى نخلة، يرصدون عيراً لقريش. وكان رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ قد كتب له كتاباً وأمره أن لا ينظر فيه حتى يسير يومين، فلمّا فتح الكتاب إذا فيه: ((إذا نظرت في كتابي هذا، فامض حتى تنْزل بنخلة بين مكّة والطّائف، فترصد قريشاً، وتعلم لنا أخبارها)).
فأخبر أصحابه بذلك، وأخبرهم أنّه لا يستكرههم، فقالوا: سمعاً وطاعة.
فلمّا كان في أثناء الطّريق أضل سعد بن أبي وقاص وعتبة بن غزوان بعيرهما. فتخلفا في طلبه، ومضوا حتى نزلوا نخلة.
قتل عمرو بن الحضرمي:
فمرّت بهم عير قريشٍ تحمل زبيباً وتجارة فيها عمرو بن الحضرمي، فقتلوه. وأسرّوا عثمان ونوفلاً ابني عبد الله بن المغيرة، والحكم بن كيسان مولى بني المغيرة.
فقال المسلمون: نحن في آخر يوم من رجب فإن قاتلناهم انتهكنا الشّهر الحرام وإن تركناهم اللّيلة دخلوا الحرم ثم أجمعوا على ملاقاتهم.(1/147)
فرمى أحدهم عمرو بن الحضرمي فقتله، وأسرّوا عثمان والحكم، وأفلت نوفل، ثم قدموا بالعير والأسيرين، حتى عزلوا من ذلك الخمس، فكان أوّل خمس في الإسلام، وأوّل قتل في الإسلام، وأوّل أسر، فأنكر سول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ ما فعلوه.
واشتدّ إنكار قريشٍ لذلك، وزعموا أنّهم وجدوا مقالاً. فقالوا: قد أحلّ محمد الشّهر الحرام. واشتدّ على المسلمين ذلك، حتى أنزل الله: {يَسْأَلونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ} الآية1. يقول سبحانه: هذا الذي أنكرتموه ـ وإن كان كبيراً ـ فما ارتكبتموه وترتكبونه من الكفر بالله، والصّدّ عن سبيله وبيته، وإخراج المسلمين منه أكبر عند الله.
معنى الفتنة :
و((الفتنة)) هنا الشّرك، كقوله: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ}2 .
وقوله: {ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} 3. أي: لم تكن عاقبة شركهم، وآخرة أمرهم إلاّ أن أنكروه، وتبرأوا منه.
وحقيقتها: الشّرك الذي يدعو إليه صاحبه، ويعاقب مَن لم يفتتن به. ولهذا قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا} الآية4. (فُسِّرت بتعذيب المؤمنين وإحراقهم بالنّار، ليرجعوا عن دينهم).
ـــــــ
1 الآية 217 من سورة البقرة.
2 الآية 193 من سورة البقرة.
3 الآية 23 من سورة الأنعام.
4 الآية 10 من سورة البروج.(1/148)
وقد تأتي ((الفتنة)) ويراد بها: المعصية. كقوله تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي...} الآية1. وكفتنة الرّجل في أهله وماله، وولده وجاره، وكالفتن التي وقعت بين أهل الإسلام.
وأمّا التي يضيفها الله لنفسه فهي بمعنى: الامتحان والابتلاء والاختبار.
ـــــــ
1 الآية 49 من سورة براءة.(1/149)
وقعة بدر الكبرى يوم الفرقان
...
وقعة بدر الكبرى، يوم الفرقان:
فلما كان في رمضان: بلغ رسولَ الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ خبر العير المقبلة من الشّام مع أبي سفيان، فيها أموال قريشٍ، فندب رسولُ الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ للخروج إليها. فخرج مسرعاً في ثلاثمائة وبضعة عشر رجلاً. ولم يكن معهم من الخيل إلاّ فرسان: فرس للزّبير، وفرس للمقداد بن الأسود، وكان معهم سبعون بعيراً، يعتقب الرّجلان والثّلاثة على بعيرٍ. واستخلف على المدينة عبد الله بن مكتوم.
فلمّا كان بالرّوحاء رَدّ أبا لبابة، واستعمله على المدينة.
ودفع اللّواء إلى مُصْعب بن عمير، والرّاية إلى عليّ، وراية الأنصار إلى سعد بن معاذ.
ولما قرب من الصّفراء بعث بَسْبَسَ بن عمرو، وعدي بن عمرو وعدي بن أبي الزّغباء يتحسسان أخبار العير.
وبلغ أبا سفيان مخرجُ رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ. فاستأجر ضَمْضَم بن عمرو الغفاري، وبعثه حَثيثاً إلى مكّة. مستصرخاً قريشاً بالنّفير إلى
ـــــــ
1 الآية 49 من سورة براءة.(1/149)
عيرهم، فنهضوا مسرعين، ولم يتخلف من أشرافهم سوى أبي لهب؛ فإنّه عوَّض عنه رجلاً بِجُعْلٍ، وحشدوا فِيمَن حولهم من قبائل العرب. ولم يتخلف عنهم من بطون قريشٍ إلاّ بني عديّ فلم يشهدها منهم أحد. وخرجوا من ديارهم؛ كما قال تعالى: {بَطَراً وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} 1. فجمعهم على غير ميعادٍ، كما قال تعالى: {وَلَوْ تَوَاعَدْتُمْ لاَخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ}2.
ولما بلغ رسولَ الله خروج قريشٍ استشار أصحابه. فتكلّم المهاجرون فأحسنوا، ثم استشارهم ثانياً، فتكلّم المهاجرون، ثم ثالثاً. فعلمت الأنصار أنّ رسول الله إنّما يعنيهم، فقال سعد بن معاذ: كأنّك تُعرض بنا يا سول الله ـ وكان إنّما يعنيهم؛ لأنّهم بايعوه على أن يمنعوه في ديارهم ـ وكأنّك تخشى أن تكون الأنصار ترى عليهم أن لا ينصروك إلاّ في ديارهم. وإنّي أقول عن الأنصار، وأجيب عنهم. فامْضِ بنا حيث شئت، وصِلْ حبْل مَن شئت، واقطع حبل مَن شئت، وخذ من أموالنا ما شئت. وأعطنا ما شئت وما أخذت منها كان أحبَّ إلينا مما تركت. فوالله لئن سرت بنا حتى تبلغ البَرْك من غُمدان لنسيرن معك، ووالله لئن استعرضت بنا هذا البحر لخضناه معك.
وقال المقداد بن الأسود: إذن لا نقول كما قال قوم موسى لموسى: {فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ}3، ولكن نقاتل من بين يديك، ومن خلفك، وعن يمينك وعن شمالك.
ـــــــ
1 الآيات 47 من سورة الأنفال.
2 الآية 42 من سورة الأنفال.
3 الآية 24 من سورة المائدة.(1/150)
فأشرق وجه رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ بما سمع منهم. وقال: ((سيروا وأبشروا؛ فإنّ الله وعدني إحدى الطّائفتين، وإنّي قد رأيت مصارع القوم)).
وكره بعض الصّحابة لقاء النّفير، وقالوا: لم نستعدَّ لهم، فهو قوله تعالى: {كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ ( يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ} ـ إلى قوله ـ: {وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ} 1.
وسار رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ إلى بدر.
وخفض أبو سفيان، فلحق بساحل البحر، وكتب إلى قريش: أن ارجعوا فإنّكم إنّما خرجتم لتحرزوا عيركم، فأتاهم الخبر. فَهَمّوا بالرّجوع. فقال أبو جهل: والله لا نرجع حتى نقدم بدراً، فنقيم بها، نُطْعِم من حضرنا ونسقي الخمر، وتعزف علينا القيان وتسمع بنا العرب، فلا تزال تهابنا أبداً وتخافنا.
فأشار الأخنس بن شريق عليهم بالرّجوع، فلم يفعلوا. فرجع هو وبنو زهرة، فلم يزل الأخنس في بني زُهرة طماعاً بعدها.
وأراد بنو هاشم الرّجوع. فقال أبو جهل: لا تفارقنا هذه العصابة حتى نرجع، فساروا، إلاّ طالب بن أبي طالب، فرجع.
وسار رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ حتى نزل على ماء أدنى مياه بدر. فقال الحُباب بن المنذر: إن رأيت أن نسير إلى قُلُبٍ ـ قد عرفناها ـ كثيرة
ـــــــ
1 الآيات من 5-8 من سورة الأنفال.(1/151)
الماء عذبة، فنَنْزل عليها. ونُغَوِّر ما سواها من المياه؟ وأنْزل الله تلك اللّيلة مطراً واحداً، صَلّب الرّمل. وثبّت الأقدام، وربط على قلوبهم.
ومشى رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ في موضع المعركة، وجعل يشير بيده، ويقول: ((مصرع فلان، وهذا مصرع فلان إن شاء)). فما تعدى أحد منهم موضع إشارته ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ.
فلما طلع المشركون قال رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ: ((اللهم هذه قريش جاءت بخيلائها وفخرها، جاءت تُحادكَ، وتكذّب رسولك. اللهم فنصرَك الذي وعدتني. اللهم احْنِهم الغداة)). وقام ورفع يديه، واستنصر ربَّه، وبالغ في التّضرّع ورفع يديه حتى سقط رداؤه. وقال: ((اللهم أنْجز لي ما وعدتني، اللهم إنّي أنشدك عهدك ووعدك، اللهم إن تهلك هذه العصابة لن تُعْبَدَ في الأرض بعدُ))1.
فالتزمه أبو بكر الصّدِّيق من ورائه، وقال: حَسْبُك مناشدتك ربّك. يا رسول الله، أبشر، فوالذي نفسي بيده لينجزن الله لك ما وعدك.
واستنصر المسلمون الله واستغاثوه، فأوحى الله إلى الملائكة: {أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ}2.
وأوحى الله إلى رسوله: {أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ} 3. ـ بكسر الدّال وفتحها. قيل: إردافاً لكم. وقيل: يَرْدُف بعضهم بعضاً، لم يجيئوا دفعة واحدة.
ـــــــ
1 الحديث أخرجه مسلم والتّرمذي كما في جامع الأصول.
2 الآية 12 من سورة الأنفال.
3 الآية 9 من سورة الأنفال.(1/152)
فلمّا أصبحوا أقبلت قريش في كتائبها. وقلّل الله المسلمين في أعينهم، حتى قال أبو جهل ـ لما أشار عتبة بن ربيعة بالرّجوع خوفاً على قريشٍ من التّفرّق والقطيعة، إذا قتلوا أقاربهم ـ أنّ ذلك ليس به. ولكنه ـ يعني: عتبة ـ عرف أنّ محمّداً وأصحابه أكلة جزور، وفيهم ابنه، فقد تخوفكم عليه.
وقلّل الله المشركين أيضاً في أعين المسلمين، ليقضي الله أمراً كان مفعولاً.
وأمر أبو جهل عامر بن الخضرمي ـ أخا عمرو بن الخضرمي ـ أن يطلب دم أخيه فصاح، وكشف عن اسْتِه يصرخ: واعمراه. واعَمْراه فحمي القوم، ونشبت الحرب.
وعدَّل رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ الصّفوف. ثم انصرف وغفا غفوة. وأخذ المسلمين النّعاس، وأبو بكر الصّدّيق مع رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ يحرسه، وعنده سعد بن معاذ، وجماعة من الأنصار على باب العريش فخرج رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ يثب في الدّرع. ويتلو هذه الآية: {سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ} 1.
ومنح الله المسلمين أكتاف المشركين، فتناولوهم قتلاً وأسراً. فقتلوا سبعين، وأسروا سبعين.
وخرج عتبة وشيبة ابنا ربيعة، والوليد بن عتبة يطلبون المبارزة، فخرج إليهم ثلاثة من الأنصار، فقالوا: أكفاء كرام، ما لنا بكم من
ـــــــ
1 الآية 45 من سورة القمر.(1/153)
حاجّةٍ، إنّما نريد من بني عمّنا، فبرز إليهم حمزة، وعٌبيدة بن الحارث بن المطلب، وعليّ بن أبي طالب، فَقَتَلَ عليّ قِرْنَه الوليد، وقتل حمزة قرنه شيبة. واختلف عُبيدة وعتبة ضربتين، كلاهما أثبت صاحبه. فكَرَّ حمزة وعليّ على قرن عُبيدة فقتلاه، واحتملا عُبيدة، قد قطعت رجله. فقال: لو كان أبو طالب حياً لعلم أنّا أولى منه بقوله:
ونُسْلِمه حتى نُصَرَّع حوله ... ونُذْهَلَ عن أبنائنا والحلائل
ومات بالصّفراء، وفيهم نزلت: {هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ} الآية1. فكان عليّ ـ رضي الله عنه ـ يقول: ((أنا أوّل مَن يجثو للخصومة بين يدي الله ـ عزّ وجلّ ـ يوم القيامة)).
ولما عزمت قريش على الخروج ذكروا ما بينهم وبين بني كنانة من الحرب. فتبدَّى لهم إبليس في صورة سُراقة بن مالك. فقال: {لا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ} 2. فلما تعبأوا للقتال، ورأى الملائكة: فرّ ونكص على عقبيه، فقالوا: إلى أين يا سراقة؟ فقال: {إِنِّي أَرَى مَا لا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ}3 .
وظنّ المنافقون ومَن في قلبه مرض أنّ الغلبة بالكثرة، فقالوا: {غَرَّ هَؤُلاءِ دِينُهُمْ} 4. فأخبر الله سبحانه: أنّ النّصر إنّما هو بالتّوكّل على الله وحده.
ولما دنا العدوّ قام رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ، فوعظ النّاس. وذكّرهم بما لهم في الصّبر والثّبات من النّصر، وأنّ الله قد أوجب الجنة لِمَن
ـــــــ
1 الآية 19 من سورة الحجّ.
2 الآية 48 من سورة الأنفال.
3 الآية 48 من سورة الأنفال.
4 الآية 49 من سورة الأنفال.(1/154)
يستشهد في سبيله، فأخرج عمير بن الحمام بن الجموح تمرات من قَرْنه يأكلهن، ثم قال: ((لئن حييت حتى آكل تمراتي هذه، إنّها لَحَيَاة طويلة)). فرمى بهن، وقاتل حتى قتل فكان أوّل قتيل.
وأخذ رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ مِلْء كَفِّه تراباً، فرمى به في وجوه القوم، فلم تترك رجلاً منهم إلاّ ملأت عينيه. فهو قوله تعالى: {رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} 1.
واستفتح أبو جهل فقال: اللهم أَقْطَعَنَا للرّحم، وأتانا بما لا نعرف فأحْنِه الغداة.
ولما وضع المسلمون أيديهم في العدوّ يقتلون ويأسرون وسعد بن معاذ واقف عند رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ في رجالٍ من الأنصار في العريش رأى سولُ الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ في وجه سعد الكراهية. فقال: ((كأنّك تكره ما يصنع النّاس؟)). قال: أجل. والله يا سول الله، كانت أوّلَ وقعة أوقعها الله في المشركين. وكان الإثخان في القتل أحبَّ إليَّ من استبقاء الرّجال.
ولما بردت الحرب، وانهزم العدوّ، قال رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ: ((مَن ينظر لنا ما صنع أبو جهل؟))2. فانطلق ابن مسعود، فوجده قد ضربه مُعَوِّذ وعوف ـ ابنا عَفْراء ـ حتى بَرَد. فأخذ بلحيته، فقال: أنت أبو جهل؟ فقال: لِمَن الدّائرة اليوم؟ قال: لله ورسوله. ثم
ـــــــ
1 الآية 17 من سورة الأنفال.
2 الحديث رواه البخاري.(1/155)
قال له: هل أخزاك الله يا عدوّ الله؟ قال: وهل فوق رجلٍ قتله قومه؟ فاحْتَزَّ رأسه عبد الله بن مسعود، ثم أتى النَّبِيّ ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ. فقال: قتلته، فقال: ((الله الذي لا إله إلاّ هو ـ ثلاثاً ـ ثم قال: الحمد لله الذي صدق وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده. انْطلقْ فأرِنيه. فانطلقنا، فأريته إيّاه، فلمّا وقف عليه، قال: هذا فرعون هذه الأمة)).
وأسَر عبدُ الرّحمن بن عوف أمية بن خلف، وابنه عليّاً، فأبصره بلال ـ وكان يعذّبه بمكّة ـ فقال: رأس الكفر أُميّة؟ لا نجوت إن نجا. ثم استحمى جماعة من الأنصار، واشتدّ عبد الرّحمن بهما،يحجزهما منهم، فأدركوهم. فشغلهم عن أُمية بابنه عليّ، ففرغوا منه، ثم لحقوهما، فقال له عبد الرّحمن:أبرك فبر. وألقى عليه عبد الرّحمن بنفسه، فضربوه بالسّيوف من تحته حتى قتلوه، وأصاب بعضُ السّيوف رِجْل عبد الرّحمن.
وكان أُمية قد قال له قبل ذاك: مَن المعلم في صدره بريش النّعام؟ فقال له: ذاك حمزة بن عبد المطلب. قال: ذاك الذي فعل بنا الأفاعيل.
وانقطع يومئذٍ سيف عُكّاشة بن مِحْصَن. فأعطاه النّبِيّ ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ جَذْلاً من حطب، فلمّا أخذه وَهَزَّه عاد في يده سيفاً طويلاً، فلم يزل يقاتل به حتى قتل يوم الرّدّة.
ولما انقضت الحرب أقبل النّبِيّ ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ، حتى وقف على القتلى. فقال: ((بئس عشيرة النّبِيّ كنتم، كذّبتموني وصدّقني النّاسـ وخذلتموني ونصرني النّاس، وأخرجتموني وآواني النّاس)).(1/156)
ثم أمر بهم فسُحبوا حتى أُلقوا في القَليب ـ قَليب بدر ـ ثم وقف عليهم فقال: ((يا عتبة بن ربيعة، ويا شيبة بن ربيعة، ويا فلان، ويا فلان، هل وجدتم ما وعدكم ربُّكم حقّاً؟ فإنّي قد وجدت ما وعدني ربِّي حقّاً)). فقال عمر: يا رسول الله، ما تخاطب من أقوام قد جَيَّفوا؟ فقال: ما أنت بأسمع لما أقول منهم)).
ثم ارتحل مؤيّداً منصوراً، قرير العين، معه الأسرى والمغانم.
فلمّا كان بالصّفراء قسم الغنائم، وضرب عنق النّضر بن الحارث.
ثم لما نزل بعِرْق الظّبية ضرب عنق عقبة بن أبي مُعَيط.
ثم دخل المدينة مؤيّداً منصوراً. قد خافه كلّ عدوّ له بالمدينة.
فأسلم بشر كثير من أهل المدينة، ودخل عبد الله بن أبي رأس المنافقين، وأصحابه في الإسلام، وجملة مَنْ حضر بدر ثلاثمائة وبضع عشرة رجلاً، واستشهد منهم أربعة عشرة رجلاً.
قال ابن إسحاق: كان أُناس أسلمو،. فلمّا هاجر رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ حبسهم أهلهم بمكّة، وفتنوهم فافتتنوا، ثم ساروا مع قومهم إلى بدر، فأصيبوا فأنزل الله فيهم: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ} الآية1.
قسم غنائم بدر:
ثم إنّ رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ أمر بالغنائم فجمعت. فاختلفوا، فقال مَن جمعها: هي لنا، وقال مَن هزم العدوّ: لولانا ما أصبتموها، وقال
ـــــــ
1 الآية 97 من سورة النّساء.(1/157)
الذين يحرسون رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ: ما أنتم بأحقّ بها منّا، قال عبادة بن الصّامت: فنَزعها الله من أيدينا. فجعلها إلى رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ. فقسمه بين المسلمين وأنزل الله تعالى: {يَسْأَلونَكَ عَنِ الأَنْفَالِ قُلِ الأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ} الآيات1.
وذكر ابن إسحاق عن نُبيه بن وهب. قال: ((فرّق رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ الأسرى على أصحابه. وقال: ((استوصوا بالأسرى خيراً)). فكان أبو عزيز بن عمير عند رجلٍ من الأنصار، فقال له أخوه معصب: شُدَّ يدك به. فإنّ أخته ذاتُ متاع. فقال أبو عزيز: يا أخي. هذه وصيّتك بي؟ فقال مصعب: إنه أخي دونك. قال عزيز: وكنت مع رهطٍ من الأنصار حين قفلوا، فكانوا إذا قدموا طعاماً خصّوني بالخبز، وأكلوا التّمر؛ لوصيّة رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ إيّاهم بنا، ما يقع في يد رجلٍ منهم كِسْرة إلاّ نفحني بها. قال: فأستحيي فأردّها على أحدهم. فيردّا عليَّ، ما يمسّها.
أسارى بدر:
واستشار رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ أصحابه في الأسرى، وهم سبعون، وكذلك القتلى سبعون أيضاً، فأشار الصّدّيق: أن يؤخذ منهم فدية، تكون لهم قوّة، ويطلقهم، لعلّ الله يهديهم للإسلام. فقال عمر: لا والله، ما أرى ذلك، ولكنّي أرى أن تمكّننا، فنضرب أعناقهم؛ فإنّ هؤلاء أئمة الكفر وصناديد الشّرك، فهوى رسولُ الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ ما قال
ـــــــ
1 الآيات من أوّل سورة الأنفال.(1/158)
أبو بكر. فقال: ((إنّ الله ـ عزّ وجلّ ـ لَيُلَيّن قلوب رجال فيه، حتى تكون ألين من اللّبن، وإنّ الله ـ عزّ وجلّ ـ ليشدّد قلوب رجال فيه، حتى تكون أشدّ من الحجارة. وإنّ مَثَلَك يا أبا بكر كمثل إبراهيم، إِذْ قال : {فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} 1. وإنّ مثلك يا أبا بكر كثمل عيسى إذا قال: {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}2.
وإنّ مثلك يا عمر كمثل موسى، قال: {رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الأَلِيمَ}3 . وإنّ مثلك يا عمر كمثل نوح، قال: {رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّاراً }4.
ثم قال: أنتم اليوم عالة فلا ينفلّتن منهم أحد إلاّ بفداء. أو ضرب عنق. فأنزل الله تعالى: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ } الآيتين5.
قال عمر: ((فلمّا كان من الغد، غدوت على رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ، فإذا هو قاعد هو وأبو بكر يبكيان. فقلت: يا رسول الله، أخبرني ما يبكيك؟ وصاحبَك؟ فإن وجدت بكاء بكيت، وإن لم أجد تباكيت لبكائكما، فقال: أبكي للذي عَرَض علَيَّ أصحابُك من الغد من أخذهم الفداء، فقد عُرض عليَّ عذابهم أدنى من هذه الشّجرة ـ لشجرة قريبة منه ـ وقال: لو نزل عذاب ما سلم منه إلاّ عمر))6.
وقال الأنصار للنّبِيّ ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ: نريد أن نترك لابن أختنا العباس فداءه، فقال: ((لا تدعوا منه درهماً)).
ثم دخلت السّنة الثّالثة من الهجرة.
ـــــــ
1 الآية 36 من سورة إبراهيم.
2 الآية 118 من سورة المائدة.
3 الآية 88 من سورة يونس.
4 الآية 26 من سورة نوح.
5 الآيتان 67-68 من سورة الأنفال.
6 الحديث رواه أحمد ومسلم كما في منتقى الأخبار.(1/159)
غزوة بني قينقاع:
فكانت فيها غزوة بني قينقاع. وكانوا من يهود المدينة، فنقضوا العهد. فحاصرهم رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ خمس عشرة ليلة، فنَزلوا على حكمه، فشفع فيهم عبد الله بن أبي بن سلُول، وألحّ على رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ فيهم، فأطلقهم له، وكانوا سبعمائة رجل، وهم رهط عبد الله بن سلام.(1/160)
غزوة أحد
...
غزوة أحد:
وفيها كانت وقعة أحد في شوّال.
وذلك: أنّ الله ـ تبارك وتعالى ـ لما أوقع بقريشٍ يوم بدر، وترأس فيهم أبو سفيان، لذهاب أكابرهم، أخذ يؤلَب على رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ وعلى المسلمين، ويجمع الجموع. فجمع قريباً من ثلاثة آلاف من قريشٍ، والحلفاء والأحابيش، وجاءوا بنسائهم لئلا يفرّوا، ثم أقبل بهم نحو المدينة، فنَزل قريباً من جبل أحد.
فاستشار رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ أصحابه في الخروج إليهم، وكان رأيه أن لا يخرجوا، فإن دخلوها قاتلهم المسلمون على أفواه السّكك، والنّساء من فوق البيوت، ووافقه عبد الله بن أبي ـ رأس المنافقين ـ على هذا الرّأي. فبادر جماعة من فضلاء الصّحابة ـ مِمَن فاته بدر ـ وأشاروا على رسول الله بالخروج وألحّوا عليه، فنهض ودخل بيته، ولبس لامته، وخرج عليهم، فقالوا: اسْتَكْرهنا رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ على الخروج، ثم قالوا: إن أحببت أن تمكث بالمدينة فافعل. فقال: ((ما ينبغي لنَبِيٍّ إذا لبس لامته: أن يضعها حتى يحكم الله بينه وبين عدوّه)).(1/160)
فخرج في ألف من أصحابه، واستعمل على المدينة عبد الله بن أم مكتوم.
وكان رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ رأى رؤيا رأى: ((أنّ في سيفه ثُلْمة، وأنّ بقراً تذبح، وأنّه يدخل يده في درع حصينة. فتأوّل الثُّلْمة: برجل يصاب من أهل بيته، والبقر: بنفر من أصحابه يقتلون. والدّرع: بالمدينة)). فخرج، وقال لأصحابه: ((عليكم بتقوى الله، والصّبر عند البأس إذا لقيتم العدوّ، وانظروا ماذا أمركم الله به فافعلوا)).
فلمّا كان بالشّوط ـ بين المدينة وأحد ـ انخزل عبد الله بن أبي بنحو ثلث العسكر، وقال: عصاني، وسمع من غيري، ما ندري علام نقتل أنفسنا ههنا، أيّها النّاس؟ فرجع، وتبعهم عبد الله بن عمرو ـ والد جابر ـ يحرضهم على الرّجوع، ويقول: {قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا}1، قالوا: لو نعلم أنّكم تقاتلون لم نرجع)). فرجع عنهم وسَبّهم.
وسأل نفر من الأنصار رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ: أن يستعينوا بحلفائهم من يهود، فأبى. وقال: ((مَن يخرج بنا على القوم من كَثَب؟)).
فخرج به بعض الأنصار، حتى سلك في حائط لمربع بن قيظي من المنافقين ـ وكان أعمى ـ فقام يحثو التّراب في وجوه المسلمين، ويقول: لا أُحِل لك أن تدخل في حائطي، إن كنت رسول الله، فابتدروه ليقتلوه. فقال رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ: ((لا تقتلوه، فهذا أعمى القلب أعمى البصر)).
ـــــــ
1 الآية 167 من سورة آل عمران.(1/161)
ونفذ حتى نزل الشّعب من أُحد، في عُدْوة الوادي الدّنيا. وجعل ظهره إلى أحد، ونهى النّاس عن القتال حتى يأمرهم.
فلمّا أصبح يومُ السّبت تعبأ للقتال.، وهو في سبعمائة، منهم خمسون فارساً، واستعمل على الرّماة ـ وكانوا خمسين ـ عبد الله بن جبير. وأمرهم أن لا يفارقوا مركزهم، ولو رأوا الطّير تختطف العسكر، وأمرهم أن ينضحوا المشركين بالنّبل، لئلا يأتوا المسلمين من ورائهم.
وظاهَر رسولُ الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ بين درعين.
وأعطى اللّواء مُصعب بن عمير، وجعل على إحدى المجنبتين الزّبير بن العوام، وعلى الأخرى المنذر بن عمرو، واستعرض الشّباب يومئذٍ، فردّ مَن استغصر عن القتال ـ كابن عمر، وأسامة بن زيد، والبراء، وزيد بن أرقم، وزيد بن ثابت، وعرابة الأوسي ـ وأجاز مَن رآه مطيقاً.
وتعبأت قريش، وهم ثلاثة آلاف، وفيهم مائتا فارس، فجعلوا على ميمنتهم: خالد بن الوليد، وعلى الميسرة: عكرمة بن أبي جهل.
ودفع رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ سيفه إلى أبي دُجانة.
وكان أوّل مَن بدر من المشركين أبو عامر ـ عبد عمرو بن صيفي ـ الفاسق، وكان يُسمّى الرّاهب، وهو رأس الأوس في الجاهلية. فلمّا جاء الإسلام شَرَق به. وجاهر بالعداوة. فذهب إلى قريش يؤلبهم على رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ ووعدهم بأنّ قومه إذا رأوه أطاعوه. فلمّا ناداهم، وتَعَرَّف إليهم، قالوا: لا أنعم الله بك عيناً يا فاسق. فقال: لقد أصاب قومي بعدي شرّ. ثم قاتل المسلمين قتالاً شديداً. ثم أرضخهم بالحجارة.(1/162)
وأبْلَى يومئذٍ أبو دُجانة، وطلحة، وحمزة، وعليّ، والنّضر بن أنس، وسعد بن الرّبيع بلاءً حسناً.
وكانت الدّولة أوّل النّهار للمسلمين، فانهزم أعداء الله، وولّوا مدبرين، حتى انتهوا إلى نسائهم. فلمّا رأى ذلك الرّماة، قالوا: الغنيمة، الغنيمة، فذكّرهم أميرهم عهد رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ، فلم يسمعوا، فأخلوا الثّغر، وكَرَّ فرسان المشركين عليه، فوجدوه خالياً، فجاؤوا منه، وأقبل آخرهم حتى أحاطوا بالمسلمين فأكرم الله مَن أكرم منهم بالشّهادة ـ وهم سبعون ـ وولّى الصّحابة.
وخلص المشركون إلى رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ، فجرحوه جراحات، وكسروا رباعيته، وقُتل مُصعب بن عمير بين يديه، فدفع اللّواء إلى عليّ بن أبي طالب.
وأدركه المشركون يريدون قتله، فحال دونه نحو عشرة حتى قتلوا. ثم جالدهم طلحة بن عبيد الله حتى أجهضهم عنه، وتَرّس أبو دجانة عليه بظهره، والنّبْل يقع فيه وهو لا يتحرك.
وأصيبت يومئذٍ عين قتادة بن النّعمان، فأتى بها رسولَ الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ فردّها بيده فكانت أحسن عينيه.
وصرخ الشّيطان: إنّ محمّداً قد قُتِل فوقع ذلك في قلوب كثير من المسلمين.
فمَرَّ أنس بن النّضر بقومٍ من المسلمين قد ألقوا بأيديهم، فقالوا: قتل رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ فقال: ما تصنعون بالحياة بعده؟ قوموا(1/163)
فموتوا على ما مات عليه ثم استقبل النّاس، ولقي سعد بن معاذ، فقال: يا سعد، إنّي لأجد ريح الجنة من دون أحد، فقاتل حتى قُتل، وُوجِد به سبعون جراحة.
وقَتَل وحْشِي الحبشي حمزة بن عبد المطلب ـ رضي الله عنه ـ، رماه بحربة على طريقة الحبشة.
وأقبل رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ نحو المسلمين، فكان أوّلَ مَن عرفه تحت المِغْفَر: كعب بن مالك، فصاح بأعلى صوته: يا معشر المسلمين، هذا رسول الله، فأشار إليه: أن اسكت، فاجتمع إليه المسلمون، ونهضوا معه إلى الشّعب الذي نزل فيه.
فلمّا أسندوا إلى الجبل أدركه أُبي بن خلف على فرسٍ له، كان يزعم بمكّة: أنّه يقتل عليه رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ. فلمّا اقترب منه طعنه رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ في تَرْقُوته، فَكَرَّ منهزماً. فقال له المشركون: ما بك من بأس. فقال: والله لو كان ما بي بأهل ذي المجاز لماتوا أجمعين. فمات بسَرِف.
وحانت الصّلاة، فصلى بهم رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ جالساً.
وشدّ حنظلة بن أبي عامر على أبي سفيان، فلمّا تمكن منه حمل عليه شداد بن الأسود فقتله، وكان حنظلة جُنُباً؛ فإنّه حين سمع الصّيحة وهو على بطن امرأته ـ قام من فوره إلى الجهاد، فأخبر رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ: أنّ الملائكة تغسله.(1/164)
وكان الأصيرم ـ عمرو بن ثابت بن وَقُش ـ يأبى الإسلام. وهو من بني عبد الأشهل، فلمّا كان يوم أحد، قذف الله الإسلام في قلبه، للحسنى التي سبقت له، فأسلم وأخذ سيفه، فقاتل، حتى أثبتته الجراح، ولم يعلم أحد بأمره. فلمّا طاف بنو عبد الأشهل يلتمسون قتلاهم وجدوا الأصيرم ـ وبه رمق يسير ـ فقالوا: والله إنّ هذا الأصيرم، ثم سألوه: ما الذي جاء بك؟ أحَدب على قومك، أم رغبة في الإسلام؟ فقال: بل رغبة في الإسلام، آمنت بالله وبرسوله وأسلمت، ومات من وقته، فذكروه لرسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ. فقال: ((هو من أهل الجنة)). ولم يصلِّ لله سجدةً قط.
ولما انقضت الحرب أشرف أبو سفيان على الجبل، ونادى: أفيكم محمّد؟ فلم يجيبوه. فقال: أفيكم ابن أبي قحافة؟ فلم يجيبوه. فقال: أفيكم ابن الخطاب؟ فلم يجيبوه. فقال: أمّا هؤلاء فقد كُفيتموهم. فلم يملك عمر نفسه أن قال: يا عدوّ الله، إنّ الذي ذكرتَهم أحياء. وقد أبقى الله لك منهم ما يسوءك. ثم قال: اعْلُ هُبَلَ. فقال رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ: ((ألا تجيبوه؟))، قالوا: ما نقول: قال: ((قولوا: الله أعلى وأجلّ)). ثم قال: لنا العزى، ولا عُزَّى لكم، قال: ((ألا تجيبوه؟))، قالوا: ما نقول؟ قال: ((قولوا: الله مولانا، ولا مولى لكم)). ثم قال: يوم بيوم بدر. والحرب سِجال. فقال: عمر: لا سواء. قتلانا في الجنّة وقتلاكم في النّار.
وأنْزل الله عليهم النّعاس في بدر وفي أحد. والنّعاس في الحرب: من الله وفي الصّلاة ومجالس الذّكر: من الشّيطان.
وقاتلت الملائكة يوم أحد عن رسول الله-صلّى الله عليه وسلّم-.(1/165)
ففي الصّحيحين عن سعد قال: ((رأيت رسول الله يوم أحد، ومعه رجلان يقاتلان، عليهما ثياب يبض، كأشدّ القتال، وما رأيتهما قبل ولا بعد)).
ومرّ رجل من المهاجرين برجلٍ من الأنصار، وهو يتشحط في دمّه ـ فقال: يا فلان، أشعرت أن محمّداً قُتل؟ فقال الأنصاري: إن كان قد قُتل فقد بلّغ، فقاتلوا عن دينكم. فنَزل: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ} الآية1.
وكان يوم أحد يوم بلاء وتمحيص، اختبر الله ـ عزّ وجلّ ـ به المؤمنين، وأظهر به المنافقين، وأكرم فيه مَن أراد كرامته بالشّهادة. فكان مما نزل من القرآن في يوم أحد: إحدى وستّون آية من آل عمران، أوّلها: {وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ} الآيات2.
ولما انصرفت قريش تلاوموا فيما بينهم. وقالوا: لم تصنعوا شيئاً. أصبتم شَوْكتهم، ثم تركتموهم، وقد بقي منهم رؤوس يجمعون لكم. فارجعوا حتى نستأصل بقيتهم.
فبلغ ذلك رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ. فنادى في النّاس بالمسير إليهم. وقال: ((لا يخرج معنا إلاّ مَن شهد القتال)). فقال له ابن أُبي: أركب معك؟ قال: لا.
فاستجاب له المسلمون ـ على ما بهم من القَرْح الشّديد ـ وقالوا: سمعاً وطاعة.
ـــــــ
1 الآية 144 من سورة آل عمران.
2 الآيات من 121-180 من سورة آل عمران.(1/166)
وقال جابر: يا رسول الله، إنّي أُحبّ أن لا تشهد مشهداً إلاّ كنت معك. وإنّما خلّفني أبي على بناته، فائْذَنْ لي أسير معك. فأَذنَ له.
فسار رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ، والمسلمون معه، حتى بلغوا حمراء الأسد، فبلغ ذلك أبا سفيان ومن معه، فرجعوا إلى مكّة. وشرط أبو سفيان لبعض المشركين شرطاً على أنّه إذا مرَّ بالنّبِيّ ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ وأصحابه: أن يخوفهم، ويذكر لهم أنّ قريشاً أجمعوا للكرّة عليهم ليستأصلوا بقيتكم. فلمّا بلغهم ذلك قالوا: {حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ}1.
ثم دخلت السّنة الرّابعة.
فكانت فيها وقعة خبيب وأصحابه، في صفر.
وقعة بئر معونة:
وفي هذا الشّهر بعينه من السّنة المذكورة: كانت وقعة أهل بئر معونة.
وفي شهر ربيع الأوّل: كانت عزوة بني النّضير، ونزل فيها سورة الحشر.
ثم دخلت السّنة الخامسة.
غزوة المريسيع:
فكانت فيها غزوة المريسيع على بني الْمُصطلِق، فأغار عليهم رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ، وهم غارون، فسبى رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ النّساء، والنّعم، والشّاء.
ـــــــ
1 الآية 173 من سورة آل عمران.(1/167)
وكان من جملة السّبي: جويرية بنت الحارث، سيّد القوم، وقعت في سهم ثابت بن قيس فكاتبها، فأدّى عنها رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ، وتزوّجها، فأعتق المسلمون ـ بسبب هذا التّزوج ـ مائة أهل بيت من بني المصطلق. وقالوا: أصهار رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ.
قصّة الإفك:
وفي هذه الغزوة: كانت قصّة الإفك.
وذلك: أنّ عائشة ـ رضي الله عنها ـ خرج بها رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ معه بقرعة ـ وتلك كانت عادته مع نسائه ـ فلمّا رجعوا نزل في طريقهم بعض المنازل فخرجت عائشة لحاجتها، ثم رجعت. ففقدت عقداً عليها، فرجعت تلتمسه. فجاء الذين يُرَحِّلون هَوْدَجها فحملوه وهم يظنّونها فيه؛ لأنّها صغيرة السّن. فرجعت ـ وقد أصابت العقد ـ إلى مكانهم. فإذا ليس به داعٍ ولا مجيب. فقعدت في المنْزل، وظنت أنّهم يفقدونها، ويرجعون إليها فغلبتها عيناها، فلم تستيقظ إلاّ بقول صفوان بن المعَطِّل: إنا لله وإنا إليه راجعون، زوجة رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ؟ وكان صفوان قد عَرَّس في أخريات الجيش، لأنّه كان كثيرَ النّوم. فلمّا رآها عرفها ـ وكان يراها قبل الحجاب ـ فاسترجع. وأناخ راحلته، فركبت، وما كلّمها كلمةً واحدةً، ولم تسمع منه إلاّ استرجاعه، ثم سار يقود بها، حتى قدم بها. وقد نزل الجيش في نحر الظّهيرة. فلمّا رأى ذلك النّاس: تكلّم كلّ منهم بشاكلته. ووجد رأس المنافقين، عدوّ الله عبد الله بن أُبي متنفساً، فتنفس من كرب النفاق والحسد، فجعل يستحكي الإفك، ويجمعه ويفرقه. وكان أصحابه يتقربون إليه به(1/168)
. فلمّا قدموا المدينة: أفاض أهل الإفك في الحديث. ورسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ ساكت لا يتكلّم، ثم استشار في فراقها، فأشار عليه عليّ بفراقها، وأشار عليه أسامة بإمساكها.
واقتضى تمام الابتلاء: أن حبس الله عن رسوله الوحي شهراً في شأنها، ليزداد المؤمنون إيماناً، وثباتاً على العدل والصّدق، ويزداد المنافقون إفكاً ونفاقاً، ولتَتِمّ العبودية المرادة من الصّدّيقة وأبويها، وتتم نعمة الله عليهم، ولينقطع رجاؤها من المخلوق، وتيأس من حصول النّصر والفرج إلاّ من الله.
فدخل عليها رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ، وعندها أبواها. فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: ((يا عائشة، إن كنتِ بريئة فسيبرؤكِ الله، وإن كنتِ قد ألممتِ بذنبٍ فاستغفري؛ فإنّ العبد إذا اعترف بذنبه ثم تاب تاب الله عليه)).
قالت لأبيها: أجب عني رسول الله. قال: والله ما أدري ما أقول لرسول الله.
فقالت: لأمّها مثل ذلك، وقالت أمّها مثل ذلك.
قالت: فقلت: إن قلت إنّي بريئة ـ والله يعلم أني بريئة ـ لا تصدّقوني، ولا أجد لي ولكم مثلاً، إلاّ أبا يوسف، حيث قال: {فَصَبْر جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ}1 .
قالت: فنَزل الوحي على رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ. فأمّا أنا فقلت: إنّ الله لا يقول إلاّ الحقّ. وأمّا أبواي فوالذي ذهب بأنفاسهما
ـــــــ
1 الآية 18 من سورة يوسف.(1/169)
ما أقلع عن رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ، إلاّ خفت أن أرواحهما ستخرجان، فكان أوّل كلمةٍ قالها رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ: ((أمّا الله يا عائشة فقد برّأَكِ))1.
فقال أبويَّ: قومي إلى رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ. قلت: والله لا أقوم إليه، ولا أحمد إلاّ الله.
وكان حسان ـ رضي الله عنه ـ مِمَن قيل عنه: إنّه يتكلّم مع أهل الإفك، فقال يعتذر إلى عائشة، ويمدحها:
حَصان رَزان، ما تُزَن بريبة ... وتصبح غَرْثَى من لحوم الغوافل
عقيلة حَي من لُؤَيّ بن غالب ... كرام المساعي، مجدهم غير زائل
مهذّبة، قد طيّب الله خِيمها ... وطهّرها من كلّ سوءٍ وباطلٍ
لئن كان ما قد قيل عني قُلْتُه ... فلا رَفَعتْ سوطي إليَّ أناملي
وكيف؟ وودي ما حييت، ونصرتي ... لآل رسول الله زين المحافل
وكانت عائشة لا ترضى أن يذكر حسان بشيء يكرهه، وتقول: إنّه الذي يقول:
فإنّ أبي، ووالدتي، وعرضي ... لعرض محمّد منكم وقاء
ـــــــ
1 حديث قصّة الإفك رواه البخاري ومسلم من حديث الزّهري.(1/170)
فأنْزل الله تعالى في هذه القصّة أوّل سورة النّور من قوله: {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ}1 . إلى آخر القصّة.(1/171)
غزوة الأحزاب
...
غزوة الأحزاب:
وفي هذه السّنة ـ وهي سنة خمس ـ كانت وقعة الخندق في شوّال.
وسببها: أنّ اليهود لما رأوا انتصار المشركين يوم أحد، خرج أشرافهم. كسَلاَّم بن أبي الحُقَيق ـ وغيره إلى قريش بمكّة، يحرّضونهم على غزو رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ، ووعدهم من أنفسهم النّصر لهم، فأجابتهم قريش، ثم خرجوا إلى غطفان، فاستجابوا لهم، ثم طافوا في قبائل العرب يدعونهم إلى ذلك فاستجاب لهم من استجاب.
فخرجت قريش ـ وقائدهم أبو سفيان ـ في أربعة آلاف. ووافقهم بنو سليم بمَرِّ الظهران، وبنو أسد، وفزارة، وأشجع وغيرهم. وكان مَنْ وافَى الخندق من المشركين عشرة آلاف.
فلمّا سمع رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ بمسيرهم إليه استشار أصحابه فأشار عليه سلمان الفارسي بحفر خَندق يحول بين العدوّ وبين المدينة، فأمر به رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ. فبادر إليه المسلمون، وعمل فيه بنفسه، وكان في حفره من آيات نبوّته ما قد تواتر الخبر به.
وخرج ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ عليهم، وهم يحفرون في غداة باردة، فلمّا رأى ما بهم من الشّدّة والجوع، قال:
اللهم لا عيش إلاّ عيش الآخرة ... فاغفر للأنصار، والمهاجرة
ـــــــ
1 الآيات من 10-26 من سورة النّور.(1/171)
فقالوا مجيبين له:
نحن الذين بايعوا محمّداً ... على الجهاد ما بقينا أبداً
وخرج رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ في ثلاثة آلاف من المسلمين، فتحصن بالجبل من خلفه ـ جبل سَلْع ـ وبالخندق أمامه، وأمر بالنّساء والذّراري، فجُعلوا في آطام المدينة.
وانطلق حُيي بن أخطب إلى بني قريظة، فدنا من حصنهم، فأبَى كَعْبُ بن أسد أن يفتح له، فلم يزل يكلّمه حتى فتح له، فلّما دخل الحصن قال: جئتك بعزّ الدّهر. جئتك بقريشٍ وغطفان وأسد، على قاداتها لحرب محمّدٍ، قال: بل جئتني والله بذلّ الدّهر، جئتني بجَهَام قد أراق ماءه، فهو يُرْعِد ويبرق، وليس فيه شيء.
فلم يزل به حتى نقض العهد الذي بينه وبين رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ. ودخل مع المشركين. وسُرَّ بذلك المشركون. وشرط كعب على حُيّي: أنّهم إن لم يظفروا بمحمّد أن يجيء حتى يدخل معهم في حصنهم، فيصيبه ما يصيبهم فشرط ذلك ووفى له.
وبلغ رسولَ الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ الخبر. فبعث إليهم السّعدين: ـ سعد بن معاذ، وسعد بن عبادة ـ وخوات بن جبِير، وعبد الله بن رواحة ليتعرفوا الخبر.
فلمّا دنوا منهم وجدوهم على أخبث ما يكون، وجاهروهم بالسّبّ، ونالوا من رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ.
فانصرفوا وَلَحِنوا لرسول ـ صلّى الله عليه وسلّم لحنا(1/172)
فعظم ذلك على المسلمين. فقال رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ: ((الله أكبر، أبشروا، يا معشر المسلمين)).
واشتدّ البلاء، ونجم النّفاق. واستأذن بعض بني حارثة رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ في الذّهاب إلى المدينة. وقالوا: {إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلاَّ فِرَاراً} 1.
وأقام المشركون محاصرين رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ شهراً.
ولم يكن بينهم قتال، لأجل الخندق، إلاّ أن فوارس من قريش ـ منهم عمرو بن عبد وُدٍّ ـ أقبلوا نحو الخندق، فلمّا وقفوا عليه قالوا: إنّ هذه مكيدة ما كانت العرب تعرفها، ثم تيمموا مكاناً ضيّقاً منه، وجالت بهم خيلهم في السّبخة، ودعوا إلى البراز، فانتدب لعمرو: عليّ بن أبي طالب، فبارزه، فقتله الله على يدي عليّ، وكان من أبطال المشركين. وانهزم أصحابه.
ولما طالت هذه الحال على المسلمين: أراد رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ أن يصالح عيينة بن حصن، والحارث بن عوف ـ رئيسي غطفان ـ على ثلث ثمار المدينة وينصرفا بقومهما، وجرت المفاوضة على ذلك. واستشار رسول الله السّعدين. فقالا: إن كان الله أمرك فسمعاً وطاعة. وإن كان شيئاً تحبّ أن تصنعه صنعناه. وإن كان شيئاً تصنعه لنا فلا. لقد كنا نحن وهؤلاء القوم على الشّرك، وعبادة الأوثان، وهم لا يطمعون أن يأكلوا منها ثمرة، إلاّ قِرىً أو بيعاً، أفحين أكرمنا الله بالإسلام، وأعزّنا بك، نعطيهم أموالنا؟ والله لا نعطيهم إلاّ السّيف.
ـــــــ
1 الآية 13 من سورة الأحزاب.(1/173)
فصوّب رأيهما. وقال: ((إنّما هو شيء أصنعه لكم، لما رأيت العرب قد رمتكم عن قوسٍ واحدةٍ)).
ثم إنّ الله ـ عزّ وجلّ ـ وله الحمد ـ صنع أمراً عنده خذل به العدو.
فمن ذلك: أنّ رجلاً من غطفان ـ يقال له: نعيم بن مسعود ـ جاء إلى رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ. فقال: قد أسلمتُ، فمرني بما شئت. فقال: ((إنّما أنت رجل واحد، فَخَذِّل عنّا ما استطعت، فإن الحرب خَدْعَة)).
فذهب إلى بني قريظة ـ وكان عشيراً لهم ـ فدخل عليهم، وهم لا يعلمون بإسلامه. فقال: إنّكم قد حاربتم محمّداً، وإن قريشاً إن أصابوا فرصة انتهزوها، وإلاّ انْشَمروا. قالوا: فما العمل؟ قال: لا تقاتلوا معهم حتى يعطوكم رهائن. فقالوا قد أشرت بالرّأي، ثم مضى إلى قريش فقال: هل تعلمون وُدِّي لكم ونصحي؟ قالوا: نعم. قال: إن اليهود قد ندموا على ما كان منهم، وإنّهم قد أرسلوا إلى محمّدٍ: أنّهم يأخذون منكم رهائن يدفعونها إليه، ثم يمالئونه عليكم، فإن سألوكم فلا تعطوهم. ثم ذهب إلى غطفان. فقال لهم مثل ذلك.
فلمّا كانت ليلة السّبت من شوّال بعثوا إلى يهود: إنّا لسنا معكم بأرض مقام، وقد هلك الكراع والخفّ، فاغْدُوا بنا إلى محمّد حتى نناجزه، فأرسلوا إليهم: إنّ اليوم يوم السّبت، وقد علمتم ما أصاب مَن قبلنا حين أحدثوا فيه. ومع هذا فلا نقاتل معكم حتى تبعثوا لنا رهائن.
فلما جاءتهم رسلهم قالوا: قد صدقكم والله نعيم. فبعثوا إليهم: إنا والله لا نبعث إليكم أحداً. فقالت قريظة: قد صدقكم والله نعيم. فتخاذل الفريقان.(1/174)
وأرسل الله على المشركين جنداً من الرّيح، فجعلت تقوض خيامهم، ولا تدع لهم قِدْراً إلاّ كفأتها، ولا طُنُباً إلاّ قلعته، وجنداً من الملائكة يزلزلون بهم، ويلقون في قلبوهم الرّعب، كما قال الله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْهَا}1.
وأرسل رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ حُذيفة بن اليَمان يأتيه بخبرهم، فوجدهم على هذه الحال، وقد تَهيّؤوا للرّحيل، فرجع إليه، فأخبره برحيلهم.
فلمّا أصبح رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ انصرف عن الخندق، راجعاً والمسلمون إلى المدينة، فوضعوا السّلاح، فجاءه جبريل، وقت الظّهر، فقال: أقد وضعتم السّلاح؟ إنّ الملائكة لم تضع أسلحتها، انهض إلى هؤلاء ـ يعني بني قريظة ـ فنادى رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ: ((مَن كان سامعاً مطيعاً فلا يصليّنّ العصر إلاّ في بني قريظة))2.
فخرج المسلمون سراعاً، حتى إذا دنا رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ من حصونهم، قال: ((يا إخوان القردة، هل أخزاكم الله وأنْزل بكم نقمته؟ وحاصرهم رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ خمساً وعشرين ليلة، حتى جهدهم الحصار، وقذف الله في قلوبهم الرّعب. فقال لهم رئيسهم كعب بن أسد: إنّي عارض عليكم خلالاً ثلاثاً، خذوا أيّها شئتم: نصدق
ـــــــ
1 الآية 9 من سورة الأحزاب.
2 الحديث رواه البخاري عن ابن عمر في باب مرجع النّبِيّ من الأحزاب، ومخرجه إلى بني قريظة، ورواه مسلم أيضاً.(1/175)
هذا الرّجل ونتبعه؛ فإنّكم تعلمون أنّه النّبِيّ الذي تجدونه مكتوباً عندكم في التّوراة. قالوا: لا نفارق حكم التّوراة أبداً. قال: فاقتلوا أبناءكم ونساءكم واخرجوا إليه مصلتي سيوفكم حتى يحكم الله بينكم وبينه. قالوا: فما ضرّ العيش بعد أبنائنا ونسائنا؟ قال: فانزلوا اللّيلة فعسى أن يكون محمّد وأصحابه قد أمنوكم فيها لأنها ليلة السّبت، لعلّنا نصيب منهم غرة. قالوا: لا نفسد سبتنا، وقد علمت ما أصاب من اعتدوا في السّبت. قال ما بات رجل منكم، منذ ولدته أمّه ليلة من الدّهر حازماً. ثم نزلوا على حكم رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ، فحكّم فيهم سعد بن معاذ فحكم: أن تقتل الرّجال، وتقسم الأموال وتسبى النّساء والذّراري1.
وأنزل الله في غزوة الخندق صدر سورة الأحزاب. وذكر قصّتهم في قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ} ـ إلى قوله: {وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ} 2.
ثم دخلت السّنة السّادسة:(1/176)
صلح الحديبية
...
صلح الحديبية:
وفيها كانت وقعة الحدبية. وعدة الصّحابة إذ ذاك ألف وأربعمائة. وهم أهل الشّجرة، وأهل بيعة الرّضوان.
خرج رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ بهم معتمراً، لا يريد قتالاً. فلمّا كانوا بذي الحليفة، قلّد رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ الهَدْي، وأشْعَرَه،
ـــــــ
1 قصّة حكم سعد بن معاذ في بني قريظة أخرجها البخاري ومسلم كما في جامع الأموال.
2 الآيات من 9-27 من سورة الأحزاب.(1/176)
وأحرم بالعمرة وبعث عيناً له من خزاعة يخبره عن قريش، حتى إذا كان قريباً من عسفان أتاه عينه، فقال: إنّي تركت كَعْب بن لُؤيّ وعامر بن لُؤيّ قد جمعوا جموعاً، وهم مقاتلوك، وصادّوك عن البيت.
حتى إذا كان ببعض الطّريق، قال النّبِيّ ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ: ((إنّ خالد بن الوليد بكراع الغيم، فخذوا ذات اليمين))1.
فما شعر بهم خالد،حتى إذا هو بغبرة الجيش. فانطلق يركض نذيراً.
وانطلق رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ، حتى إذا كان في ثنية المرار، التي يهبط عليهم منها بركت راحلته، فقال النّاس: حَلْ، حَلْ. فقالوا: خلأت القصواء، فقال: ((ما خلأت القصواء، وما ذاك لها بخلق، ولكن حبسها حابس الفيل. ثم قال: والذي نفسي محمد بيده، لا يسألوني خُطّة يعظمون فيها حرمات الله إلاّ أعطيتهم إيّاها)).
ثم زجرها فوثبت به، فعدل حتى نزل بأقصى الحديبية، على ثَمَدٍ قليل الماء. فلم يلبث النّاسُ أن نزحوه، فشكوا إليه فاتزع سهماً من كنانته. وأمرهم أن يجعلوه فيه،فوالله ما زال يجيش لهم بالرِّيِّ حتى صدروا عنه.
وفزعت قريش لنُزوله، فأحبّ أن يبعث إليهم رجلاً، فدعا عمر فقال: يا رسول الله، ليس لي بمكّة أحد من بني عدي بن كعب يغضب لي إن أوذيت، فأرسل عُثْمَان؛ فإنّ عشيرته بها، فإنّه يُبَلِّغ ما أردتَ. فدعاه فأرسله إلى قريشٍ، وقال: ((أخبرهم: أنّا لم نأتِ لقتالٍ، وإنّما جئنائ
ـــــــ
1 هذه جملة من حديث صلح الحديبية، رواه أحمد والبخاري من رواية عروة عن المسور بن مخرمة ومروان بن الحكم كما في منتقى الأخبار.(1/177)
عُمّاراً، وادعهم إلى الإسلام، وأمره أن يأتي رجالاً بمكّة مؤمنين ونساء مؤمنات/ فيبشّرهم بالفتح، وأنّ الله ـ عزّ وجلّ ـ مظهر دينه بمكّة، حتى لا يُسْتَخْفَى فيها بالإيمان)).
فانطلق عثمان، فمرّ على قريشٍ، فقالوا: إلى أين؟ فقال: بعثني رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ أدعوكم إلى الله وإلى الإسلام، ويخبركم: أنّه لم يأتِ لقتالٍ، وإنّما جئنا عُمّاراً. قالوا: قد سمعنا ما تقول، فانفذ إلى حاجتك.
وقام إليه أبان بن سعيد بن العاص، فرحب به. وحمله على الفرس، وأردفه أبان حتى جاء مكّة.
وقال المسلمون، قبل أن يرجع: خلص عثمان من بيننا إلى البيت. فقال رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ: ((ما أظنّه طاف بالبيت ونحن محصورون)). قالوا: وما يمنعه يا رسول الله، وقد خلص؟ قال: ((ذلك ظنّي به أن لا يطوف بالكعبة حتى نطوف معه)).
واختلط المسلمون بالمشركين في أمر الصّلح، فرمى رجل من أحد الفريقين رجلاً من الفريق الآخر، فكانت معاركة، وتراموا بالنّبل والحجارة، وصاح الفريقان وارتهن كلّ منهما مَن فيهم.
وبلغ رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ أن عثمان قد قتل، فدعا إلى البيعة، فتبادروا إليه، وهو تحت الشّجرة. فبايعوه على أن لا يفروا، فأخذ بيد نفسه، وقال: ((هذه عن عثمان)).(1/178)
ولَمّا تمت البيعة رجع عثمان، فقالوا له: أشتفيت من الطّواف بالبيت. فقال بئسما ظنتم بي، والذي نفسي بيده لو مكثت بهاسنة، ورسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ بالحديبية ما طفت بها حتى يطوف، ولقد دعتني قريش إلى الطواف فأبيت. فقال المسلمون: رسول الله أعلم بالله، وأحسننا ظنّاً.
وكان عمر أخذ بيد رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ للبيعة، وهو تحت الشّجرة، فبايعه المسلمون كلّهم، لم يتخلّف إلاّ الجد بن قيس.
وكان معقل بن يسار آخذ بغصنها يرفعه عن رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ. وكان أوّل من بايعه: أبو سنان وهب بن محصن الأسدي، وبايعه سلمة بن الأكوع ثلاث مرات: في أوّل النّاس، ووسطهم وآخرهم.
فبينا هم كذلك إذا جاء بُديَل بن وَرْقاء في نفرٍ من خزاعة ـ وكانوا عَيْبة نصح لرسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ من أهلِ تِهامة ـ فقال: إني تركت كعب بن لُؤيّ، وعامر بن لُؤيّ قد نزلوا أعداد مياه الحديبية، معهم العُوذ المطافيل، وهم مقاتلوك، وصادوك عن البيت. فقال: ((إنا لم نجيء لقتال أحد، وإنّما جئنا معتمرين، وإنّ قريشاً نَهَكَتْهُم الحرب، وأضَرَّت بهم؛ فإن شاؤوا مادَدْتُهم. ويخُلُّوا بينِي وبين النّاس، فإن شاءوا أن يدخلوا فيما دخل فيه النّاس فعلوا، وإلاّ فقد جَمّوا، وإن أبوا إلاّ القتالَ، فوالذي نفسي بيده لأقاتلنّهم على أمري هذا حتى تنفرد سالفتي، أو لَيُنْفِذَنَّ الله أمره)).
قال بديل: سأبلغهم ما تقول. فانطلق حتى أتى قريشاً. فقال: إنّي قد جئتكم من عند هاذ الرّجل، وسمعته يقول قولاً، فإن شئتم عرضته عليكم.(1/179)
فقال سفهاؤهم: لا حاجة لنا أن تحدّثنا عنه بشيء. وقال ذوو الرّأي منهم: هات ما سمعته يقول. قال: سمعته يقول كذا وكذا.
فقال عروة بن مسعود: إنّ هذا قد عرض عليكم خُطّة رُشْدٍ، فاقبلوها ودعوني آته. فقالوا: ائْتِه. فأتاه، فجعل يكلّمه. فقال له نحواً من قوله لبديل.
فقال عروة: أي محمّد، أرأيت لو استأصلتَ قومك، هل سمعت بأحدٍ من العرب اجتاح أهله قبلك؟ وإن تكن الأخرى، فوالله إنّي لأرى أو شاباً من النّاس، خليقاً أن يفروا ويدعوك.
فقال أبو بكر: امْصُصْ بَظْر اللات، أنحن نفر عنه وندعه؟
قال عروة: مَن ذا يا محمّد؟ قال: أبو بكر. قال: أمّا والذي نفسي بيده، لولا يد كانت لك عندي ـ لم أجزك بها ـ لأجبتك.
وجعل يكلّم النَّبِيّ ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ ويرمق أصحابه. فوالله ما انْتَخَم النَّبِي ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ نُخامة إلاّ وقعت في كفّ رجلٍ منهم. فدلك بها وجهه وجلده وإذا أمر ابتدروا أمره، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وَضُوءه، وإذا تكلّم خفضوا أصواتهم، وما يحدون إليه النّظر تعظيماً له.
فرجع عروة إلى أصحابه، فقال: أي قوم، والله لقد وَفَدت على الملوك ـ كسرى، وقيصر، والنّجاشي ـ والله إن رأيت ملكاً يعظمه أصحابه كما يعظم أصحاب محمّد محمّداً، والله ما انتخم نخامة إلاّ وقعت في كفّ رجلٍ منهم، فدلك بها وجهه وجلده، ثم أخبرهم بجميع ما تقدم، ثم قال: وقد عرض عليكم خطة رشد فاقبلوها.(1/180)
فقال رجلٌ من بني كنانة: دعوني آتِه، فقالوا: ائْتِه. فلمّا أشرف على النَّبِيّ ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ قال: ((هذا فلان، وهو من قوم يعظمون البُدْن فابعثوها له)). ففعلوا. واستقبله القوم يُلَبُّون. فلمّا رأى ذلك، قال: سبحان الله! ما ينبغي لهؤلاء أن يصدّوا عن البيت، فرجع إلى أصحابه فأخبرهم.
فبيناهم كذلك إذ جاء سهيل بن عمرو. فقال النَّبِيّ ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ: ((قد سُهل لكم من أمركم)).
فقال: هات اكتب بيننا وبينك كتاباً، فدعا الكاتب ـ وهو عليّ بن أبي طالب ـ فقال: ((اكتب: بسم الله الرّحمن الرّحيم)). فقال سهيل: أما الرّحمن، فما أدري ما هو؟ ولكن اكتب: ((باسمك اللّهم))، كما كنت تكتب. فقال المسلمون: والله لا نكتبها إلاّ ((بسم الله الرّحمن الرّحيم)). فقال ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ: ((اكتب باسم اللهم)). ثم قال: ((اكتب: هذا ما قاضى عليه محمّد رسول الله)). فقال سهيل: والله لو نعلم أنّك رسول الله ما صددناك عن البيت، ولكن اكتب: ((محمّد بن عبد الله))، فقال: ((إنّي رسول، وإن كذّبتموني، اكتب محمّد بن عبد الله)). ثم قال النَّبِيّ ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ: ((على أن تخلوا بيننا وبين البيت فَنَطوف به)). فقال سهيل: والله لا تَحَدَّث العربُ أننا أُخذنا ضُغْطة، ولكن ذلك من العام المقبل. فقال سهيل: ((وعلى أن لا يأتيك رجلٌ منا، وإن كان على دينك، إلاّ رددته إلينا)). فقال المسلمون: ((سبحان الله! كيف يرد إلى المشركين وقد جاء مسلماً؟!))1.
ـــــــ
1 حديث صلح الحديبية رواه أحمد والبخاري.(1/181)
فبينا هم كذلك إذ جاء أبو جندل بن سهيل، وقد خرج من أسفل مكّة يَرْسُف في قيوده، حتى رمى بنفسه بين أظهر المسلمين. فقال سهيل: هذا أوّل ما أقاضيك عليه أن تردّه إليَّ، فقال النّبِيّ ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ: ((إنّا لم نقضِ الكتاب بعد)). فقال: إذاً والله لا أصالحك على شيء أبداً. فقال النّبِيّ ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ: ((فأَجِزْه لي)). قال: ما أنا بمجيزه لك. قال: ((بلى فافعل)). قال: ما أنا بفاعل. قال أبو جندل: يا معشر المسلمين، كيف أُرَد إلى المشركين وقد جئت مسلماً؟ ألا ترون ما لقيت؟ ـ وكان قد عُذِّب في الله عذاباً شديداً ـ. قال عمر: ((والله ما شككت منذ أسلمت إلاّ يومئذٍ. فأتيت النّبِي ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ، فقلت: يا رسول الله ألستَ نبيّ الله؟ قال: بلى. قلت: ألسنا على الحقّ، وعدوّنا على الباطل؟ قال: بلى. قلت علامَ نُعْطِي الدَّنِيّة في ديننا؟ ونرجع ولَمَّا يحكم الله بيننا وبين أعدائنا؟ فقال: إنّي رسول الله، وهو ناصريّ. ولست أعصيه. قلت: أو لست تحدّثنا: أنّا نأتي البيتَ، ونَطوّف به؟ قال: بلى. أفأخبرتك أنّك تأتيه العام؟ قلت: لا. قال: فإنّك آتيه ومُطوَّف به. قال: فأتيت أبا بكر، فقلت له مثلما قلت لرسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ، وردّ عليَّ كما ردّ عليَّ رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ سواء، وزاد: فاستمسك بغَرْزه حتى تموت. فوالله إنّه لعلى الحقّ. فعملت لذلك أعمالاً)).
فلمّا فرغ من قضية الكتاب قال رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ لأصحابه: ((قوموا فانحروا، ثم احلقوا)). قال: فوالله ما قام منهم رجل، حتى قالها ثلاث رمرات. فلمّا لم يقم منهم أحد، قام ولم يكلّم أحداً منهم حتى نحر بُدْنة ودعا حالقه.(1/182)
فلمّا رأوا ذلك قاموا فنحروا. وجعل بعضهم يحلق بعضاً، حتى كاد بعضهم يقتل بعضاً غماً. ثم جاء نسوة مؤمنات، فأنْزل الله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ} ـ حتى بلغ ـ {بِعِصَمِ الْكَوَافِر}1 . فطلّق عمر يومئذٍ امرأتين كانتا له في الشّرك.
وفي مرجعه ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ أنزل الله سورة الفتح: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} الآية2. فقال عمر أو فتح هو يا رسول الله؟ قال: نعم. قال الصّحابة: هذا لك يا رسول الله، فما لنا؟ فأنزل الله: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَاناً مَعَ إِيمَانِهِمْ} الآيتين إلى قوله: {فَوْزاً عَظِيماً}3.
ولما رجع إلى المدينة جاءه أبو بصير ـ رجل من قريش ـ مسلماً، فأرسلوا في طلبه رجلين، وقالوا: العهد الذي بيننا وبينك، فدفعه إلى الرّجلين. فخرجا به، حتى بلغا ذا الحليفة، فنَزلوا يأكلون من تمر لهم. فقال أبو بصير لأحدهما: إنّي أرى سيفك هذا جيّداً. فقال: أجل. والله إنّه لجيّد. لقد جربت به ثم جربت. فقال: أرني أنظر إليه. فأمكنه منه. فضربه حتى بَرَد. وفَرَّ الآخر، حتى بلغ المدينة، فدخل المسجد. فقال رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ: ((لقد رأى هذا ذُعْراً)) فلمّا انتهى إليه قال: قُتِل والله صاحبي، وإنّي لمقتول.
فجاء أبو بصير، فقال: يا نبيّ الله، قد أوفَى الله ذمتك، قد رددتنِي إليهم فأنجاني الله منهم. فقال رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ: ((ويلُ أُمّة مسْعِر حرب، لو كان له أحد) ).
ـــــــ
1 الآية 10 من سورة الممتحنة.
2 الآيتان من 1-2 من سورة الفتح.
3 الآيات من 1-5 من سورة الفتح.(1/183)
فلمّا سمع ذلك عرف أنّه سيردّه إليهم، فخرج حتى أَتَى سيف البحر. وتَفَلّت منهم أبو جندل، فلحق بأبي بصير، فلا يخرج من قريش رجل ـ قد أسلم ـ إلاّ لحق به، حتى اجتمعت منهم عصابة، فوالله ما يسمعون بعيرٍ لقريشٍ خرجت إلى الشّام إلاّ اعترضوا لها، فقاتلوهم وأخذوا أموالهم، فأرسلت قريشٍ إلى النَّبِيّ ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ تناشده الله والرّحم: لما أرسل إليهم، فمَن أتاه منهم فهو آمن.
ـــــــ
1 الآية 1 من سورة المطفّفين.(1/184)
غزوة خيبر
...
غزوة خيبر:
ولما قدم رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ من الحديبية، مكث بالمدينة عشرين يوماً، أو قريباً منها، ثم خرج إلى خيبر، واستخلف على المدينة سباع بن عُرْفُطة.
وقدم أبو هريرة حينئذٍ المدينة مسلماً. فوافى سباعاً في صلاة الصّبح. فسمعه يقرأ : {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ} 1. فقال: ـ وهو في الصّلاة ـ ويل أبي فلان، له مكيالان، إذا اكتال اكتال بالوافي، وإذا كال كان بالنّاقص.
وقال سلمة بن الأكوع: خرجنا إلى خيبر. فقال رجل لعامر بن الأكوع: ألا تُسمعنا من هُنَيّاتك؟ فنَزل يحدو ويقول:
لاهُمَّ لولا أنت ما اهتدنا ... ولا تصدّقنا ولا صلينا
فأنْزلن سكينة علينا ... وثبّت الأقدام إن لاقينا
إنّا إذا صِيح بنا أتينا ... وبالصّياح عولوا علينا
وإن أرادوا فتنة أبينا ...
ـــــــ
1 الآية 1 من سورة المطفّفين.(1/184)
فقال ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ: ((مَن هذا السّائق؟)) قالوا: عامر ابن الأكوع. قال: ((رحمه الله))، فقال رجل من القوم: وجبت يا رسول الله. لولا متعتنا به؟
قال: فأتينا خيبر. فحاصرناهم حتى أصابتنا مخمصة شديدة. فلمّا تصافّوا خرج مرحب يخطر بسيفه، ويقول:
قد علمتْ خيبر أنّي مرحَب ... شاكي السّلاح بطل مجرب
إذا الحروب أقبلت تلهب ...
فنَزل إليه عامر، وهو يقول:
قد علمت خيبر أنّي عامر ... شاكي السّلاح بطل مغامر
فاختلفا ضربتين، فوقع سيف مرحب في تُرس عامر فعضه، فذهب عامر يُسفِل له ـ وكان سيفه قصيراً ـ فرجع إليه سيفه فأصاب ركبته فمات.
قال سلمة: فقلت للنّبِيّ ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ: زعموا أنّ عامراً حبط عمله، فقال: ((كذب مَن قال ذلك، إنّ له أجران ـ وجمع بين إصبعيه ـ إنّه لجاهد مجاهد، قَلَّ عربي مشى بها مثله)).
ولما دنا رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ من خيبر قال: ((قفوا)) فوقف الجيش.
فقال: ((اللهم ربّ السّموات السّبع وما أظللن، وربّ الأرضين السّبع وما أقللن، وربّ الشّياطين وما أضللن، وربّ الرّياح وما أذْرَيْنَ(1/185)
فإنّا نسألك خير هذه القرية، وخير أهلها، وخير ما فيها. ونعوذ بك من شرّ هذه القرية، وشرّ أهلها، وشرّ ما فيها. اقدمُوا باسم الله))1.
فحاصرهم رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ قريباً من عشرين ليلة. وكانت أرضاً وَخِمة شديدة الحرّ، فجهد المسلمون جهداً شديداً، فقام النّبِيّ-صلّى الله عليه وسلّم-فيهم، فوعظهم وحضّهم على الجهاد.
وكان فيهم عبد أسود. فقال: يا رسول الله، إنّي رجل أسود اللّون، قبيح الوجه، منتن الرّيح، لا مال لي، فإن قاتلت هؤلاء حتى أقتل أدخل الجنة؟ قال: ((نعم)). فتقدم. فقاتل حتى قتل، فقال النّبِيّ ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ لما رآه: ((لقد حسن الله وجهك، وطيّب ريحك. وكثّر مالك)).
وقال: ((لقد رأيت زوجتيه من الحور العين تتنازعان جبة عليه، وتدخلان فيما بين جلده وجبته)).
فافتتح رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ بعضها، ثم تحول إلى الكتيبة، والوطيح، والسُلالم؛ فإنّ خيبر كانت جانبين:
الأوّل: الشّقّ والنَّطاة، الذي افتتح أوّلاً.
والثّاني: ما ذكرنا.
فحاصرهم حتى إذا أيقنوا بالهلكة: سألوه الصّلح. ونزل إليه سَلام بن أبي الحُقيق فصالحهم على حقن الدّماء وعلى الذّريّة، ويخرجون من خيبر، ويخلون ما كان لهم من مالٍ وأرضٍ، وعلى الصّفراء والبيضاء والحلقة، إلاّ ثوباً على ظهر إنسانٍ
ـــــــ
1 الحديث رواه النّسائي وابن حبان والحاكم وصحّحاه من حديث صهيب.(1/186)
. فلمّا أراد أن يجليهم قالوا: نحن أعلم بهذه الأرض منكم، فدعنا نكون فيها، فأعطاهم إيّاها، على شَطْر ما يخرج من ثمرها وزرعها.
ثم قسمها على ستة وثلاثين سهماً، كلّ سهمٍ مائة سهم، فكانت ثلاثة آلات وستمائة سهم، نصفها لرسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ وما ينْزل به من أمور المسلمين. والنّصف الآخر قسمة بين المسلمين.
قدوم جعفر بن أبي طالب وصحبه من الحبشة:
وفي هذه الغزوة قدم عليه ابن عمّه جعفر بن أبي طالب وأصحابه. ومعهم الأشعريّون: أبو موسى، وأصحابه.
قال أبو موسى: بلغنا مخرجُ رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ، ونحن باليمن، فخرجنا مهاجرين إليه ـ أنا وأخوان لي ـ في بضع وخمسين رجلاً من قومي، فركبنا سفينة، فألقتنا إلى النّجاشي، فوافقنا جعفراً وأصحابه عنده. فقال: إنّ رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ بعثنا وأمرنا بالإقامة، فأقيموا معنا، فأقمنا حتى قدمنا فتح خيبر، وكان ناس يقولون لنا: سبقناكم بالهجرة، فدخلت أسماء بنت عُميس على حفصة. فدخل عليها عمر وعندها أسماء. فقال: مَن هذه؟ قالت: أسماء. قال: الحبشية هذه؟ البحرية هذه؟ قالت أسماء: نعم. قال: سبقناكم بالهجرة، نحن أحقّ برسول الله منكم. فغضبت، وقالت: كلا والله، لقد كنتم مع رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ، يطعم جائعكم، ويعظ جاهلكم، وكنا في أرض البعداء البغضاء، وذلك في ذات الله وفي رسوله، وأيم الله لا أطعم طعاماً، ولا أشرب شراباً حتى أذكر ما قلتَ لرسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ. فلمّا(1/187)
جاء النّبِيّ ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ ذكرتُ له ذلك. فقال: ما قلتِ له؟ قالت: قلت له كذا وكذا. قال: ليس بأحقّ بي منكم، له ولأصحابه هجرة واحدة، ولكم أنتم ـ يا أهل السّيفنة ـ هجرتان)).
فكان أبو موسى وأصحاب السّفينة يأتونها أرسالاً، يسألونها عن هذا الحديث، ما من الدّنيا شيء هم به أفرح، ولا أعظم في أنفسهم مما قال لهم رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ.
محاصرة رسول الله بعض اليهود بوادي القُرَى:
ثم انصرف رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ من خيبر إلى وادي القُرَى. وكان به جماعة من اليهود، وانضاف إليهم جماعة من العرب.
فلما نزلوا استقبلتهم يهود بالرّمي، وهم على غير تَعْبئة، فقتل مُدْعِم ـ عبد لرسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ كان رفاعة بن زيد الجذامي وهبه لرسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ فقال النّاس: هنيئاً له الجنّة. فقال رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ: ((كلا، والذي نفسي بيده، إنّ الشّمْلة التي أخذها يوم خيبر من المغانم لم تصبها القسمة؛ لتشتعل عليه ناراً)). فلمّا سمع ذلك النّاس، جاء رجل بشراك أو شِراكين. فقال رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ: ((شراك من نارٍ، أو شراكان من نار)).
فعبأ رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ أصحابه للقتال وصفّهم، ثم دعاهم إلى الإسلام فأبوا، وبرز رجل منهم، فبرز إليه الزّبير بن العوام فقتله. ثم برز آخر فبرز إليه عليّ فقلته؛ حتى قتل منه أحد عشر رجلاً، فقاتلهم حتى أمسوا، ثم غدا عليهم، فلم ترتفع الشّمس قدر رمحٍ حتى افتتحها عنوةً، وأصابوا أثاثاً ومتاعاً كثيراً، فقسمه في أصحابه(1/188)
وترك الأرض والنّخل بأيدي اليهود وعاملهم عليها.
ولما رجع إلى المدينة ردّ المهاجرون إلى الأنصار منائحهم من النّخيل.
قالت عائشة ـ رضي الله عنها ـ: ((لما فتحت خيبر قلنا: الآن نشبع من التّمر)).
بعث سريّة إلى الحرقات:
ثم بعث رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ سرية إلى الحرقات من جهينة، فلمّا دنوا منهم بعث الأمير الطّلائع. فلما رجعوا بخبرهم أقبل حتى دنا منهم ليلاً، وقد هدأوا، ثم قام فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله. ثم قال: ((أوصيكم بتقوى الله وحده لا شريك له، وأن تطيعوني ولا تعصوني، ولا تخالفوا أمري؛ فإنّه لا رأي لِمَن لا يطاع ثم رتّبهم. فقال: يا فلان أنت وفلان، ويا فلان أنت وفلان، لا يفارق كلّ منكم صاحبه وزميله، وإيّاكم أن يرجع أحد منكم، فأقول: أين صاحبك؟ فيقول: لا أدري؛ فإذا كبّرت فكبّروا، وجرّدوا السّيوف، ثم كبّروا وحملوا حملة واحدة، وأحاطوا بالقوم، وأخذتم سيوف الله.(1/189)
عمرة القضية
...
عمرة القضية:
فلمّا كان في ذي العقدة من السّنة السّابعة خرج رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ معتمراً عمرة القضية؛ حتى إذا بلغ يأجِجَ1 وضع الأداة كلّها، إلاّ الجُحُف والمِجَانَّ والنّبل والرّماح، ودخلوا بسلاح الرّاكب ـ السّيوف ـ وبعث جعفر بن أبي طالب بين يديه إلى ميمونة بنت الحارث يخطبها، فجعلت أمرها إلى العباس، فزوّجه إيّاها.
ـــــــ
1 مكان قريب من مكّة.(1/189)
فلمّا قدم رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ أمر أصحابه أن يكشفوا عن المناكب ويسعوا في الطّواف، ليرى المشركون قوّتهم ـ وكان يكايدهم بكل ما استطاع ـ فوقف أهل مكّة، الرّجال والنّساء والصّبيان ينظرون إليه وإلى أصحابه، وهم يطوفون بالبيت، وعبد الله بن رواحة آخذ بخطام ناقة رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ يرتجز يقول:
خلوا بنِي الكفار عن سبيله ... خلوا فكلّ الخير في رسوله
قد أنْزل الرّحمن في تنْزيل ... في صحفٍ تُتلى على رسوله
بأنّ خير القتل في سبيله ... يا ربّ إنّي مؤمن بقيله
إنّي رأيت الحقّ في قبوله ... اليوم نضربكم على تأويله
كما ضربناكم على تنْزيله ... ضرباً يزيل الهام عن مقيله
ويذهل الخليل عن خليله ...
فأقام بمكّة ثلاثاً، ثم أتاه سهيل بن عمرو، وحويطب بن عبد العزى، فصاح حويطب: نناشدك الله والعقد، لما خرجت من أرضنا، فقد مضت الثّلاث فأمر رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ أبا رافع فأذن بالرّحيل.
ثم دخلت السّنة الثّامنة:
فكانت فيها غزوة مؤتة:
وسببها: أنّ رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ بعث الحارث بن عمير بكتاب إلى ملك الرّوم ـ أو بصرى ـ فعرض له شرحبيل بن عمرو الغساني، فقتله ولم يُقتل لرسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ رسول(1/190)
غيره ـ فاشتدّ ذلك عليه، فبعث البعوث، واستعمل عليهم زيد بن حارثة، وقال: ((إن أصيب زيد: فجعفر بن أبي طالب على النّاس، وإن أصيب جعفر: فعبد الله بن رواحة)) فتجهزوا، وهم ثلاثة آلاف.
فلمّا حضر خروجهم، ودع النّاسُ أمراء رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ وسلموا عليهم، فبكى عبد الله بن رواحة. فقالوا: ما يبكيك؟ قال: أمّا والله ما بي حبّ الدّنيا ولا صبابة بكم، ولكني سمعت رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ يقرأ آية من كتاب الله، يذكر فيها النّار: {وَإِنْ مِنْكُمْ إلاَّ وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيّاً}1. ولست أدري كيف لي بالصّدور بعد الورود. فقال المسلمون: صحبكم الله ودفع عنكم. وردّكم إلينا صالحين. فقال: ابن رواحة:
لكنّنِي أسأل الرّحمن مفغرة ... وضربة ذات فرع تقذف الزّبدا
أو طعنة بيدي حَرَّان مُجهزة ... بحربة تَنْفُذ الأحشاء والكبدا
حتى يقال، إذا مروا على جدثي ... يا أرشدَ الله من غازٍ وقد رشدا
ثم مضوا حتى نزلوا مَعان، فبلغهم أنّ هرقل بالبلقاء في مائة ألف من الرّوم وانضم إليه من لخْم وجُذام وبَلِي وغيرهم مائة ألف.
فأقاموا ليلتين ينظرون في أمرهم.
وقالوا نكتب إلى رسول الله فنخبره، فإمّا أن يمدّنا، وإمّا أن يأمرنا بأمره.
ـــــــ
1 الآية 71 من سورة مريم.(1/191)
فشجعهم عبد الله بن رواحة، وقال: والله إنّ الذي تكرهون للذي خرجتم تطلبون: الشّهادة، وما نقاتل النّاس بقوّة ولا كثرة، ما نقاتلهم إلاّ بهذا الدّين الذي أكرمنا الله به فانطلقوا؛ فإنّما هي إحدى الحسنين: إما ظفر، وإمّا شهادة.
فمضى النّاس، حتى إذا كانوا بتخوم البلقاء لقيتهم الجموع. فانحاز المسلمون إلى مُؤتة ثم اقتتلوا عندها والرّاية في يد زيد، فلم يزل يقاتل حتى شاط في رماح القوم، فأخذها جعفر فقاتل بها حتى إذا أرهقه القتال اقتحم عن فرسه فعقرها ثم قاتل حتى قطعت يمينه، فأخذ الرّاية بيساره، فقطعت يساره. فاحتضن الرّاية حتى قتل. وله ثلاث وثلاثون سنة ـ رضي الله عنهم ـ.
ثم أخذها عبد الله بن رواحة فتقدم بها، وهو على فرسه، فجعل يستنْزل نفسه ويقول:
أقسم بالله لتَنْزِلِنّه ... لتنْزلن أو لتُكْرَهِنّه
يا طالما قد كنتِ مطمئنهْ ... إن أجلب النّاس وشدّوا الرَّنّه
مالي أراك تكرهين الجنّة؟
ويقول أيضاً:
يا نفس إن لم تُقْتلِي تموتي ... هذا حِمام الموت قد صَلِيت
وما تمنيتِ فقد أُعطيت ... إن تفعلي فِعْلَها هُديت
ثم نزل. فأتاه فناداه ابن عمّ له بعرق من لحم. فقال: شُدَّ بهذا صلبك، فإنّك لقيت في أيامك هذه ما لقيت، فأخذها فانتهس منها نهسة،(1/192)
(1/193)
غزوة حنين
...
غزوة حنين:
قال ابن إسحاق: لما سمعت هوازن بالفتح، جمعها مالك بن عوف النّصري مع هوازن ثقيف كلّها.
فلمّا أجمع مالك السّير إلى رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ، ساق مع النّاس أموالهم ونساءهم وذراريهم. فلمّا نزل بأوطاس، اجتمعوا إليه. وفيهم دريد بن الصّمّة الجُشَمِي، وهو شيخ كبير، ليس فيه إلاّ رأيه، وكان شجاعاً مجرباً.
فقال: بأي وادٍ أنتم؟ قالوا: بأوطاس. قال: نِعْمَ مجالُ الجيل، لا حَزْن ضَرْس، ولا سهل دَهْس، ما لي أسمع رُغاء البعير، ونهاق الْحَمير، وبكاء الصّغير، ويَعار الشّاء؟ قالوا: ساق مالك مع النّاس أبناءهم ونساءهم وأموالهم.
قال: أين مالك؟ فدعي له، فقال: إنّك قد أصبحت رئيس قومك.
وإنّ هذا يوم له ما بعده من الأيام، فَلِمَ فعلت هذا؟ قال: أردت أن أجعل خَلْف كلّ رجلٍ أهله وماله، ليقاتل عنهم. قال: راعي ضأن والله،(1/207)
غزوة الفتح الأعظم
...
غزوة الفتح الأعظم:
وكانت سنة ثمان في رمضان:
وسببها: أنّ بكراً عدت على خزاعة على مائهم ((الوَتير)) فبيّتوهم، وقتلوا منهم. وكان في صلح الحديبية: ((أنّ مَن أحب أن يدخل في عقد رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ فعل، ومَن أحبّ أن يدخل في عقد قريش فعل)). فدخلت بنو بكر في عقد قريش، ودخلت خزاعة في عقد رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ، ثم إنّ بني بكر وثبوا على خزاعة ليلاً بماء، يقال له: الوَتير، قريباً من مكّة، وأعانت قريش بني بكر بالسّلاح، وقاتل معهم بعضهم مستخفياً ليلاً، حتى لجأت خزاعة إلى الحرم.
فلمّا انتهوا إليه قالت بنو بكر لنوفل بن معاوية الدّيلي ـ وكان يومئذٍ قائدهم ـ: يا نوفل، إنّا قد دخلنا الحرم إلهك إلهك. فقال كلمة عظيمة لا إله له اليوم، يا بني بكر، أصيبوا ثأركم، فلعمري إنّكم لتسرقون في الحرم. أفلا تصيبون ثأركم فيه؟
فخرج عمرو بن سالم الخزاعي، حتى قدم على رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ المدينة، فوقف عليه، وهو جالس في المسجد بين ظهراني أصحابه، فقال:
يا ربّ إنّي ناشد محمّداً ... حِلْف أبينا وأبيه الأتلدا
قد كُنتموا وُلْداً وكنّا والداً ... ثُمّتَ أسلمنا. ولم ننْزع يداً
فانصر هداك الله نصراً أيدا ... وادعُ عباد الله يأتوا مددا
فيهم رسول الله، قد تجردا ...
أبيض مثل البدر، يسمو صعدا(1/194)
إنْ سِيْمَ خَسفاً وجهه تربَّداً ... في فيلق كالبحر يجري مزبدا
إنّ قريشاً أخلفوك الموعدا ... ونقضوا ميثاقك المؤكدا
وجعلوا لي في كَداء رصداً ... وزعموا أن لستُ أدعو أحدا
وهم أذلّ وأقلّ عدداً ... هم بيّتونا بالوتير هُجّدا
وقتلونا رُكّعاً وسُجّداً
فقال رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ: ((نصرت يا عمرو بن سالم)).
ثم خرج بُدَيْل بن ورقاء في نفرٍ من خزاعة، حتى قدموا على رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ المدينة، فأخبروه بما أصيب منهم، وبمظاهرة قريش بني بكر عليهم. فقال رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ للنّاس: ((كأنّكم بأبي سفيان قد جاءكم ليشدّ العَقد، ويزيد في المدّة. بعثته قريش. وقد رهبوا للذي صنعوا)).
ثم قدم أبو سفيان، فدخل على ابنته أم حبيبة. فلمّا ذهب ليجلس على فراش رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ طوته عنه. فقال: يا بنية، ما أدري أرغبتِ بي عن هذا الفراش، أم رغبتِ به عنِي؟ قالت: بل هو فراش رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ، وأنت مشرك نَجِس. فقال: والله لقد أصابكِ بعدي شرّ، ثم خرج حتى أتى رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ. فكلّمه فلم يرد عليه شيئاً، ثم ذهب إلى أبي بكر فكلّمه في أن يكلّم النّبِيّ ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ فقال: ما أنا فاعل. ثم أتى عمر فقال: أنا أشفع لكم؟ والله لو لم أجد إلاّ الذّرّ، لجاهدتكم به. ثم دخل على عليّ، وعنده فاطمة ـ والحسن غلام يدبّ بين يديها ـ فقال: يا عليّ، إنّك أمَسّ القوم بي رَحِماً، وإنّي جئت في حاجة، فلا أرجعن خائباً، اشفع لي إلى(1/195)
محمّدٍ. فقال: قد عزم رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ على أمرٍ، ما نستطيع أن نكلّمه فيه. فقال لفاطمة: هل لكِ أن تأمري ابنك هذا، فيجير بين النّاس. فيكون سيّد العرب إلى أخر الدّهر؟ فقالت: ما يبلغ ابني ذلك. وما يجير أحد على رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ.
فقال: يا أبا الحسن، إنّي رأيت الأمور قد اشتدّت عليَّ، فانصحني.
قال: والله ما أعلم شيئاً يغني عنك، ولكنّك سيّد بني كنانة، فقُمْ وأَجِرْ بين النّاس، ثم الحَقْ بأرضك.
فقال: أَوَترى ذلك مغنياً عني شيئاً؟ قال: لا. والله ما أظنّه، ولكن ما أجد لك غير ذلك.
فقام أبو سفيان في المسجد، فقال: يا أيّها النّاس، إنّي قد أجرت بين النّاس ثم ركب بعيره، وانصرف عائداً إلى مكّة.
فلمّا قدم على قريشٍ قالوا: ما وراءك؟ قال: جئت محمّداً فكلّمته، فوالله ما ردَّ عليَّ شيئاً. ثم جئت ابن أبي قحافة. فلم أجد فيه خيراً. ثم جئت عمر بن الخطاب فوجدته أدنى العدو ـ يعني: أعدى العدو ـ ثم جئت عليّاً فوجدته ألين القوم. وقد أشار عليَّ بكذا وكذا. ففعلت. قالوا: فهل أجاز ذلك محمّد؟ قال: لا. قالوا: ويلك. والله إنْ زاد الرّجلُ على أن لعب بك.
وأمر رسولُ الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ النّاس بالجهاز، وقال: ((اللّهمّ خذ العيون والأخبار عن قريشٍ، حتى نَبْغتها في بلادها)).(1/196)
فكتب حاطب بن أبي بَلْتَعَة إلى قريشٍ كتاباً، يخبرهم فيه بمسير رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ. ودفعها إلى سارة ـ مولاة لبني عبد المطلب ـ فجعلته في رأسها، ثم فتلت عليه قرونها. وأتى الخبر رسولَ الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ من السّماء. فأرسل رسولُ الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ عليّاً والزّبير إلى المرأة، فأدركاها بروضة خاخ، فأنكرت، ففتشا رحلها، فلم يجدا فيه شيئاً، فهدّداها، فأخرجته من قرون رأسها، فأتيا به رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ، فدعا حاطباً. فقال: ((ما هذا يا حاطب؟)). فقال: لا تعجل عليَّ يا رسول الله، والله إنّي لمؤمن بالله ورسوله، ما ارتددت ولا بدّلت، ولكنّي كنت امرءاً مُلْصَقاً في قريشٍ، لست من أنفسهم، ولي فيهم أهل وعشيرة وولد؛ وليس لي فيهم قرابة يحمونهم، وكان مَن معك لهم قرابات يحمونهم، فأحببت أن اتّخذ عندهم يداً، قد علمتُ أنّ الله مظهر رسوله، ومُتِمّ له أمره.
فقال عمر: يا رسول الله، دعني أضرب عنقه؛ فإنّه قد خان الله ورسوله. وقد نافق. فقال رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ: ((إنّه قد شهد بدراً وما يدريك يا عمر؟ لعلّ الله اطّلع على أهل بدرٍ فقال: اعملوا ما شئتم، فقد غفرت لكم))1.فذرفت عينا عمر، وقال: الله ورسوله أعلم.
ثم مضى رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ، وعَمّى الله الأخبار عن قريشٍ، لكنّهم على وَجَلٍ، فكان أبو سفيان يتجسّس، هو وحكيم بن حزام وبديل بن ورقاء.
ـــــــ
1 الحديث رواه البخاري ومسلم كما في منتقى الأخبار.(1/197)
وكان العباس قد خرج قبل ذلك بأهله وعياله مسلماً مهاجراً. فلقي رسولَ الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ بالجُحْفة، فلمّا نزل رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ مَرَّ الظّهران نزل العشاء، فأمر الجيش فأوقدوا النّيران، فأُوْقِد أكثر من عشرة آلاف نار، فركب العباس بغلة رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ، وخرج يلتمس، لعلّه يجد بعض الحطّابة، أو أحداً يخبر قريشاً، ليخرجوا يستأمنون رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ قبل أن يدخلها عنوة.
قال: فالله إنّي لأسير عليها، إذ سمعت كلام أبي سفيان، وبديل، يتراجعان، يقول أبو سفيان: ما رأيت كاللّيلة نيراناً قط ولا عسكراً.
قال: يقول بديل: هذه والله خزاعة، حَمَشتها الحرب.
قال: يقول أبو سفيان: خزاعة أقلّ وأذلّ من أن تكون هذه نيرانها.
فقلت: أبا حنظلة؟ فعرف صوتي. فقال: أبا الفضل؟ قلت: نعم.
قال: ما لك، فداك أبي وأمّي؟ قال: قلت: هذا رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ في النّاس واصبَاحَ قريش والله، قال: فما الحيلة؟
قلت: والله لئن ظفر بك ليضربن عنقك، فاركب في عجز هذه البغلة، حتى آتيه بك، فاستأمنه لك. فركب خلفي، ورجع صاحباه، فجئت به، فكلّما مررت بنار من نيران المسلمين، قالوا: مَن هذا؟ فإذا رأونا قالوا: عَمَّ رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ على بغلته؛ حتى مررت بنار عمر، فقال: مَن هذا؟ وقام إليَّ، فلمّا رأى أبا سفيان قال: عدوّ الله؟ الحمد لله الذي أمكن الله منك بغير عقدٍ ولا عهدٍ(1/198)
. ثم خرج يشتدُّ نحو رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ. وركَضْتُ البغلة فسبقته، واقتحمت عنها، فدخلت على رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ، ودخل عليه عمر. فقال: يا رسول الله، هذا أبو سفيان، قد أمكن الله منه بغير عقدٍ ولا عهدٍ، فدعني أضرب عنقه. فقلت: يا رسول الله، إنّي قد أجرته.
فلمّا أكثر عمر، قلت: مهلاً يا عمر، فوالله لو كان من بني عدي بن كعب ما قلت هذا. قال: مهلاً يا عباس، فوالله الله لإسلامُك كان أحبّ إليَّ من إسلام الخطاب لو أسلم. وما بيَ إلاّ أنّي عرفتُ أنّ إسلامك كان أحبَّ إلى رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ من إسلام الخطاب. فقال رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ: ((اذهب به يا عباس إلى رحلك، فإذا أصبحت فائْتِنِي به)).
ففعلت. ثم غدوت به إلى رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ. فقال: ((ويحك يا أبا سفيان، ألم يَأنِ لك أن تعلم أن لا إله إلاّ الله؟)). قال: بأبي أنت وأمّي، ما أحلمك وأكرمك وأوصلك!! والله لقد ظننت أن لو كان مع الله غيره لقد أَغْنَى عني شيئاً بعد. قال: ((ويحك يا أبا سفيان، ألم يأن لك أن تعلم أنّي رسول الله؟)). قال: بأبي أنت وأمّي، ما أحلمك وأكرمك وأوصلك. أمّا هذه ففي النّفس حتى الآن منها شيء.
فقال له العبّاس: ويحك، أسلم قبل أن تضرب عنقك. قال: فشهد شهادة الحقّ، فأسلم.
فقال العباس: إنّ أبا سفيان رجل يحبّ الفخر، فاجعل له شيئاً، قال:(1/199)
((نعم. مَن دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومَن أغلق عليه بابه فهو آمن، ومَن دخل المسجد فهو آمن)).
فلمّا ذهب لينصرف قال رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ: ((يا عباس، احْبِسه بمضيق الوادي عند خَطْم الجبل، حتى تمرّ به جنود الله فيراها)). قال: فخرجت حتى حبسته، ومرّت القبائل على راياتها؛ حتى مرَّ به رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ في كتيبته الخضراء ـ لكثرة الحديد وظهوره فيها ـ فيها المهاجرون والأنصار، لا يُرَى منهم إلاّ الحَدَق. فقال: سبحان الله! يا عباس؟ مَن هؤلاء؟ قلت: هذا رسول الله في المهاجرين والأنصار. قال: ما لأحدٍ بهؤلاء طاقة.
وكانت راية الأنصار مع سعد بن عبادة، فلمّا مرّ بأبي سفيان، قال: اليوم يوم الْملْحمَة، اليوم تُسْتَحَلُّ الحرمة، اليوم أذلّ الله قريشاً، فذكره أبو سفيان لرسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ. فقال: ((كذب سعد، ولكن هذا اليوم يوم تعظم فيه الكعبة، اليوم أعزّ الله قريشاً)). ثم نزع اللّواء من سعد. ودفعه إلى قيس ابنه.
ومضى أبو سفيان، فلمّا جاء قريشاً صرخ بأعلى صوته: هذا محمّد قد جاءكم بما لا قبل لكم به، فمَن دخل دار أبي سفيان فهو آمن. قالوا: قاتلك الله، وما تغني عنا دارك؟ قال: ومَن أغلق عليه بابه فهو آمن. ومَن دخل المسجد فهو آمن.
فتفرّق النّاس إلى دورهم وإلى المسجد.
وسار رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ حتى دخل مكّة من أعلاها(1/200)
. وأمر خالد بن الوليد فدخلها من أسفلها، وقال: ((إن عَرَض لكم أحد من قريشٍ فاحصدوهم حصداً، حتى توافوني على الصّفا)).
فما عرض لهم أحد إلاّ أناموه.
وتجمع سفهاء قريش مع عكرمة بن أبي جهل، وصفوان بن أمية، وسهيل بن عمرو، بالْخَنْدَمة ليقاتلوا، وكان حماس بن قيس يعدّ سلاحاً قبل مجيء رسول الله - صلّى الله عليه وسلّم-، فقالت له امرأته: والله ما يقوم لمحمّد وأصحابه شيء. فقال: والله إنّي لأرجو أن أخدمك بعضهم، ثم قال:
إن يقبلوا اليوم فمالي علة ... هذا سلاح كامل وإلّهْ
وذو غِرارين سريع السّلّة
ثم شهد الْخندمة فلمّا لقيهم المسلمون من أصحاب خالد بن الوليد، ناوشوهم شيئاً من قتالٍ، فأصيب من المشركين اثني عشر، ثم انهزموا. فدخل حماس على امرأته، فقال: اغلقي عليَّ بابي. فقالت: وأين ما كنت تقول؟ فقال:
إنّكِ لو شهدتِ يوم الْخَنْدَمة ... إذ فَرَّ صفوان. وفرَّ عكرمة
وأبو يزيد قائم كالْمُؤْتِمة ... واستقبلتنا بالسّيوف المسلمة
يقطعن كلّ ساعدٍ وجمجمة ... ضرباً فلا يسمع إلاّ غمغمهْ
لهم نَهيتٌ خلفنا وهَمَهمة ... لم تَنْطِقي باللّوم أدنى كلمهْ
وقال أبو هريرة: أقبل رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ. فدخل مكّة، فبعث الزّبير على أحدى المجنبتين، وبعث خالداً على المجنبة الأخرى،(1/201)
وبعث أبا عبيدة بن الجراح على الْحُسّر؛ فأخذوا بطن الوادي، ورسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ في كتيبته، وقد وَبشّت قريش أوباشها، وقالوا: نقدم هؤلاء؛ فإذا كان لهم شيء كنا معهم، وإن أصيبوا أعطيناه الذي سألنا. فقال رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ: ((يا أبا هريرة)). فقلت: لبّيك يا رسول الله. فقال: ((اهتف لي بالأنصار، ولا يأتيني إلاّ أنصاري)). فهتفت بهم، فجاء، فأطافوا برسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ. فقال: ((أترون إلى أوباش قريش وأتباعهم؟ ـ ثم قال: بيديه إحداهما على الأخرى ـ احصدوهم حصداً، حتى توافوني على الصّفا)). قال أبو هريرة: فانطلقنا. فما يشاء أحد منا أن يقتل منهم ما شاء إلا قتل، ورُكِزت راية رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ بالحجون عند مسجد الفتح، ثم نهض والمهاجرون والأنصار بين يديه وخلفه وحوله، حتى دخل المسجد. فأقبل إلى الحجَر فاستمله، ثم طاف بالبيت، وفي يده قوس، وحول البيت وعليه، ثلاثمائة وستّون صمناً، فجعل يطعنها بالقوس، ويقول: {وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً} 1. {قُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ} 2. والأصنام تتساقط على وجوهها.
وكان طوافه على راحلته، ولم يكن محرماً يومئذٍ، فاقتصر على الطّواف.
فلمّا أكمله دعا عثمان بن طلحة، فأخذ منه مفتاح الكعبة. فأمر بها ففتحت. فدخلها فرأى فيها الصّور، ورأى صورة إبراهيم وإسماعيل يستقسمان بالأزلام. فقال: ((قاتلهم الله، والله إن استقسما بها قط)). وأمر بالصّور فحميت، ثم أغلق عليه الباب، هو وأسامة، وبلال، فاستقبل
ـــــــ
1 الآية 81 من سورة الإسراء.
2 الآية 49 من سورة سبأ.(1/202)
الجدار الذي يقابل الباب؛ حتى إذا كان بينه وبينه قدر ثلاثة أذرع وقف وصلّى هناك، ثم دار في البيت، وكبّر في نواحيه، ووحّد الله. ثم فتح الباب، وقريش قد ملأت المسجد صفوفاً، ينظرون ما ذا يصنع بهم؟ فأخذ بِعضَادَتَي الباب، وهم تحته. فقال: ((لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له، صدق وعده، ونصر عبده، وأَعَزَّ جندَه، وهزم الأحزاب وحده. ألا كلّ مأثَرة، أو مال، أو دم، فهو تحت قَدَمَيَّ هاتين، إلاّ سِدانة البيت، وسقاية الحاجّ، ألا وقتل الخطأ شبه العمد ـ السّوط والعصا ـ ففيه الدّية مغلظة، مائة من الإبل، أربعون منها في بطونها أولادها، يا معشر قريش، إنّ الله قد أذهب عنكم نَخْوة الجاهلية، وتعظمها بالآباء، النّاس من آدم، وآدم من تراب)).
ثم تلا هذه الآية: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ}1.
ثم قال: ((يا معشر قريش، ما ترون أنّي فاعلٌ بكم؟ قالوا: خيراً، أخ كريم، وابن أخٍ كريم. قال: فإنّي أقول لكم كما قال يوسف لإخوته: {لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ}2. اذهبوا فأنتم الطّلقاء)).
ثم جلس في المسجد، فقام إليه علي ـ ومفتاح الكعبة في يده ـ فقال: يا رسول الله، اجمع لنا الحجابة مع السّقاية، صلّى الله عليك. فقال ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ: ((أين عثمان بن طلحة؟ فَدُعِي له، فقال: هاكَ مفتاحَكَ يا عثمان، اليوم يوم بِرٍّ ووفاءٍ)).
وأمر بلالاً أن يصعد على الكعبة فيؤذّن ـ وأبو سفيان بن حرب، وعَتّاب بن أَسْيَد، والحارث بن هشام، وأشراف قريش جلوس بفناء الكعبة ـ فقال
ـــــــ
1 الآية 13 من سورة الحجرات.
2 الآية 92 من سورة يوسف.(1/203)
عتاب: لقد أكرم الله أَسيداً أن لا يكون سمع هذا. فقال الحارث: أمّا والله لو أعلم أنّه محقّ لاتّبعته. فقال أبو سفيان: لا أقول شيئاً. لو تكلّمت لأخبرت عني هذه الحصبا، فخرج عليهم النّبِيّ ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ. فقال: ((قد علمت الذي قلتم)). ثم ذكر ذلك لهم. فقال الحارث وعتاب: نشهد أنّك رسول الله، والله ما اطّلع على هذا أحد كان معنا. فنقول: أخبرك.
ثم دخل ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ دار أم هانئ فاغتسل، وصلّى ثمان ركعات، صلاة الفتح، وكان أمراء الإسلام إذا فتحوا بلداً صلّوا هذه الصّلاة.
ولما استقرّ الفتح أمّن رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ النّاس كلّهم، إلاّ تسعة نفر؛ فإنّه أمر بقتلهم, وإن وجدو تحت أستار الكعبة: عبد الله بن أبي سِرْح، وعكرمة بن أبي جهل، وعبد العُزّى بن خَطَل، والحارث بن نفيل، ومقيس بن صُبابة، وهَبّار بن الأسود، وقينتان ابن خطل، وسارة مولاة لبني عبد المطلب.
فأمّا ابن أبي سَرْح: فجاء إلى عثمان، فاستأمن له رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ. فقبل منه، بعد أن أمسك عنه، رجاء أن يقوم إليه بعض الصّحابة فيقتله.
وأمّا عكرمة: فاستأمنت له امرأته بعد أن هرب، وعادت به، فأسلم وحسن إسلامه.
وأمّا ابن خطل، ومقيس والحارث، وإحدي القينتين: فقتلوا.
وأمّا هبار: ففرّ ثم جاء فأسلم وحسن إسلامه(1/204)
واستؤمن رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ لسارة، ولإحدى القينتين فأسلمتا.
فلمّا كان الغد من يوم الفتح: قام رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ في النّاس خطيباً، فحمد الله وأثنَى عليه. ثم قال: ((أيّها النّاس، إنّ الله حرم مكّة يوم خلق السّموات والأرض، فلا يحلّ لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يفسك بها دماً، أو يَعْضِدَ بها شجرةً، فإن أحدٌ ترخّص بقتال رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ فقولوا له: إنّ الله أذن لرسوله. ولم يأذن لك، وإنّما أحلت لي ساعة من نهارٍ)).
وهَمَّ فضالة بن عمير بن الملوح اللّيثي أن يقتل رسول الله، وهو يطوف، فلمّا دنا منه، قال: ((أفضالة؟)) قال: نعم فضالة يا رسول الله، قال: ((ماذا تحدث به نفسك؟)). قال: لا شيء، كنت أذكر الله، فضحك ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ، ثم قال: ((استغفر الله)) ثم وضع يده على صدره، فسكن قلبه، وكان فضالة يقول: والله ما رفع يده عن صدري حتى ما من خلق الله شيء أحبّ إليَّ منه، قال فضالة: فرجعت إلى أهلي، فمررت بامرأة كنت أتحدّث إليها، فقالت: هلم إلى الحديث. فقال: لا. وانبعث فضالة يقول:
قالت: هلم الحديث، فقلت: لا ... يأبى الإله عليك والإسلام
لو قد رأيت محمّداً وقبيله ... بالفتح يوم تُكَسّر الأصنام
لرأيتَ دين الله أضحى بيّناً ...
والشّراكَ يغشى وجهه الإظلام(1/205)
وفرّ يومئذٍ صفوان بن أُمية، وعكرمة بن أبي جهل، فاستأمن عمير ابن وهب رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ لصفوان، فلحقه، وهو يريد أن يركب البحر فردّه.
واستأمنت أم حكيم بنت الحارث بن هشام لزوجها عكرمة، فلحقت به باليمن فردّته.
ثم أمر رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ عَتّاب بن أُسيد الخزاعي فجدد أنصاب الحرم.
وبعث ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ سراياه إلى الأوثان التي حول مكّة فكسرت كلّها، منها: اللات والعُزّى ومناة. ونادى مناديه بمكّة: مَن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يدع في بيته صنماً إلاّ كسره.
هدم عمرو بن العاص صنم سواع :
وبعث عمرو بن العاص في شهر رمضان إلى سواع ـ وهو لِهذيل ـ قال: فأتيته وعنده السّادن، فقال: ما تريد؟ قلت: أهدمه. قال: لا تقدر على ذلك قلت: لِمَ؟ قال: تُمْنَع. قلت: حتى الآن أنت على الباطل؟ ويحك. وهل يسمع أو يبصر؟ فدنوت منه فكسّرته. وأمرت أصحابي فهدموا بيت خزانته، فلم نجد فيه شيئاً. فقلت للسّادن: كيف رأيت؟ قال: أسلمت لله.
بعث سعد بن زيد لهدم مناة:
ثم بعث سعد بن زيد بن مالك بن عبد بن كعب بن عبد الأشهل، الأشهلي الأنصاري، في شهر رمضان إلى مناة، وكانت عند قُديد بالمشلّل، للأوس والخزرج وغسان وغيرهم(1/206)
فصل لما أتم رسول الله والمسلمون معه فتح مكة
...
فصل:
لَمّ أتمّ رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ والمسلمون معه فتح مكّة اقتضت حكمة الله أن أمسك قلوب هوازن عن الإسلام، لتكون غنائمهم شكراناً لأهل الفتح، وليظهر حزبه على الشّوكة التي لم يلق المسلمون مثلها. فلا يقاومهم أحدٌ بعدُ من العرب، وأذاق المسلمين أوّلاً مرارة الكسرة، مع قوّة شوكتهم، ليطامن رؤوساً رفعت بالفتح، ولم تدخل حرمه كما دخله رسوله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ واضعاً رأسه، منحنياً على فرسه، حتى إن ذقنه ليكاد يمس قُربوس سرجه تواضعاً لربّه، وليبين سبحانه ـ لِمَن قال: ((لن نغلب اليوم عن قلّة)) ـ أنّ النّصر إنّما هو من عنده سبحانه، وأنّ مَن يخذله فلا ناصر له غيره، وأنّه سبحانه الذي تولّى نصر دينه، لا كثرتكم. فلمّا انكسرت قلوبهم، أرسل إليها خِلعَ الجَبْر مع بريد النّصر: {ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْهَا} 1.
وقد اقتضت حكمته أنّ خِلَعَ النّصر إنّما تفيض على أهل الإنكسار: {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ}2.(1/216)
غزوة الطائف
...
غزوة الطّائف:
ولما أراد المسير إلى الطّائف ـ وكانت في شوّال سنة ثمان ـ بعث الطّفيل بن عمرو إلى ذي الكَفّين ـ صنم عمرو بن حممة الدّوسي ـ يهدمه، وأمره أن يستمد قومه ويوافيه بالطّائف ـ فخرج سريعاً. فهدمه وجعل
ـــــــ
1 الآية 26 من سورة براءة.
2 الآية 5 من سورة القصص.(1/216)
يحثو النّار في وجهه ويقول:
يا ذا الكفّين، لستُ من عُبادكا ... ميلادنا أكبر من ميلادكا
إنّي حشوت النّار في فؤادكا
وانحدر معه من قومه أربعمائة سراعاً. فوافوا النّبِيّ ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ بالطّائف ـ بعد مقدمه بأربعة أيام ـ وقدم بدبابة ومنجنيق.
قال ابن سعد: لما انهزموا من أوطاس دخلوا حصنهم. وتهيّأوا للقتال، وسار رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ. فنَزل قريباً من حصن الطّائف، وعسكر هناك، فرموا المسلمين بالنّبل رمياً شديداً. كأنّه رِجْل جَراد، حتى أصيب ناس من المسلمين بجراحة. وقتل منهم اثنا عشر رجلاً. فارتفع ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ إلى موضع مسجد الطّائف اليوم. فحاصرهم ثمانية عشر يوماً، ونصب عليهم الْمَنْجنيق ـ وهو أوّل مَن رمَى به في الإسلام ـ وأمر بقطع أعناب ثقيف، فوقع النّاس فيها يقطعون، فسألوه أن يدعها لله وللرّحم. فقال رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ: ((فإنّي أدعها لله وللرّحم)).
ونادى مناديه: ((أيّما عبد نزل من الحصن، وخرج إلينا فهو حرّ)).
فخرج منهم بضعة عشر رجلاً، فيهم: أبو بَكَرَة بن مسروج، فأعتقهم رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ، ودفع كلّ منهم إلى رجلٍ من المسلمين يموّنه.
ولم يؤذن في فتح الطّائف، فأمر رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ فأذن بالرّحيل، فضجّ النّاس من ذلك، وقالوا(1/217)
: نرحل، ولم يفتح علينا؟ فقال رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ: ((فاغدوا على القتال)) فغدوا، فأصابهم جراحات. فقال النّبِيّ ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ: ((إنّما قافلون إن شاء الله)). فسروا بذلك. وجعلوا يرحلون ورسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ يضحك.
فلمّا ارتحلوا واستقلوا قال: ((قولوا: آيبون، تائبون،عابدون، لربّنا حامدون)). وقيل: يا رسول الله، ادع الله على ثقيف. فقال: ((اللهم اهد ثقيفاً وأئْتِ بهم)).
ثم خرج إلى الجِعْرَّانة، فدخل منها إلى مكّة محرماً بعمرة فقضاها.
ثم رجع إلى المدينة.(1/218)
فصل:
قال ابن إسحاق: وقدم رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ المدينة من تبوك في رمضان. وقدم عليه في ذلك الشّهر وفد ثقيف.
وكان من حديثهم: ((أنّ رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ لما انصرف عنهم: اتّبع أثره عروة بن مسعود، حتى أدركه قبل أن يدخل المدينة، فأسلم، وسأله أن يرجع إلى قومه بالإسلام، فقال له رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ: ((إنّ فيهم نخوة الامتناع)). فقال: يا رسول الله، أنا أحبّ إليهم من أبكارهم، وكان فيهم محبَّباً مطاعاً)).
فخرج يدعوهم إلى الإسلام، رجاء أن لا يخالفوه، لمنْزلته فيهم، فلمّا أشرف لهم على عِليِّة ـ وقد دعاهم إلى الإسلام ـ رموه بالنّبل من كلّ وجه. فأصابه سهم فقلته. فقيل له: ما ترى في دمك؟ فقال: كرامة أكرمني الله بها، وشهادة ساقها الله إليَّ. فليس فيَّ إلاّ ما في الشّهداء الذين قتلوا في سبيل الله مع رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ قبل أن يرتحل عنكم. فادفنوني معهم، فدفنوه معهم، فزعموا أنّ رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ قال: ((إنَّ مَثَلَه في قومه كَمَثَل صاحب يس في قومه)).
ثم أقامت يثقيف بعد قتل عروة شهراً. ثم ائتمروا بينهم، ورأوا أنّهم لا طاقة لهم بحرب مَن حولهم من العرب. وقد أسلموا وبايعوا، فأجمعوا أن يرسلوا إلى رسول الله-صلّى الله عليه وسلّم-رجلاً، كما أرسلوا عروة.(1/219)
فكلّموا عبد ياليل بن عمرو، وعرضوا عليه ذلك، فأبى، وخشي أن يُصنع به كما صُنع بعروة. فقال: لست فاعلاً حتى ترسلوا معي رجالاً. فأجمعوا أن يرسلوا معه رجلين من الأحلاف وثلاثة من بني مالك، منهم: عثمان بن أبي العاص، فلمّا دنوا من المدينة ونزلوا قناة، أَلْفَوا بها المغيرة بن شبعة، فاشتدّ ليبشّر رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ بقدومهم. فلقيه أبو بكر، فقال: أقسمت عليك بالله،لا تسبقني إلى رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ، حتى أكون أنا أحدّثه، ففعل. ثم خرج المغيرة إلى أصحابه، فروَّح الظّهر معهم، وعلمهم كيف يحَيُّون رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ. فلم يفعلوا إلاّ بتحية الجاهلية. فضرب عليهم قبة في ناحية المسجد.
وكان فيما سألوه: أن يدع لهم اللات لا يهدمها ثلاث سنوات، فأبى، فما برحوا يسألونه سنة، فيأبى. حتى سألوه شهراً واحداً، فأبى عليهم أن يدعهم شيئاً مسمّى؛ وإنّما يريدون بذلك ـ فيما يظهرون ـ أن يَسْلَموا بتركها من سفهائهم ونسائهم، ويكرهون أن يُرَوِّعوهم بهدمها، حتى يَدْخُلَهم الإسلام، فأبى إلاّ أن يبعث أبا سفيان بن حرب والمغيرة بن شبعة يهدمانها.
فلمّا أسلموا أَمَرَ عليهم عثمان بن أبي العاص ـ وكان من أحدثهم سناً ـ وذلك أنّه كان من أحرصهم على التّفقه في الدّين، وتعلّم القرآن.
فلمّا توجّهوا راجعين بعث معهم أبا سفيان والمغيرة بن شبعة، حتى إذا قدموا الطّائف أراد المغيرة أن يقدم أبا سفيان، فأبى، وقال: ادخل أنت على قومك. وأقام أبو سفيان بماله بذي الْهدْم. فلما دخل المغيرة علاها(1/220)
يضربها بالمعول، وقام دونه بنو مغيث،خشية أن يرمى، كما فعل بعروة، وخرج نساء ثقيف حُسّراً يبكين عليها، فلمّا هدمها أخذ مالها وحُليّها وأرسل به إلى أبي سفيان.
ما في غزوة الطّائف من الفقه:
فيها من الفقه: جواز القتال في الأشهر الحرم، ونسخ تحريم ذلك.
وفيها: أنّه لا يجوز إبقاء مواضع الطّواغيت الشّرك بعد القدرة عليها يوماً واحداً؛ فإنّها شعائر الكفر، وهي أعظم المنكرات. وهكذا حكم المشاهد التي بنيت على القبور التي اتّخذت أوثاناً تعبد من دون الله، وكذلك الأحجار والأشجار التي تقصد للتّعظيم والتّبرك والنّذر، لها وكثيرٌ منها بمنْزلة اللات والعُزّى، أو أعظم شركاً عندها، وبها.
ولم يكن أحد من أرباب هذه الطّواغيت يعتقد أنّها تخلق وترزق، وتميت وتحيي، وإنّما كانوا يفعلون عندها ما يفعله إخوانهم من المشركين اليوم عند طواغيتهم، فاتّبع هؤلاء سنن مَن كان قبلهم، وغلب الشّرك على أكثر النّفوس لظهور الجهل وخفاء العلم، وغلبة التّقاليد، وصار المعروف منكراً، والمنكر معروفاً، والسّنة بدعة والبدعة سنة، ونشأ في ذلك الصّغير وهرم عليه الكبير، وطمست الأعلام، واشتدّت غربة الإسلام.
ولكن لا تزال طائفة من العصابة المحمّدية بالحقّ قائمين، ولأهل الشّرك والبدع مجاهدين، إلى أن يرث الله الأرض ومَن عليها وهو خير الوارثين(1/221)
وفيها: صرف الإمام الأموال التي تصير إلى هذه المشاهد من عابديها. فيجب على الإمام أن يصرفها في الجهاد ومصالح المسلمين، وكذلك أوقافها تصرف في مصالح المسلمين.(1/222)
فصل في حوادث سنة تسع
...
فصل:حوادث سنة تسعٍ
ولَمّا قدم رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ المدينة، ودخلت سنة تسع، بعث المصدقين يأخذون الصّدقات من الأعراب.
وفيها: بعث عليّاً ـ رضي الله عنه ـ إلى صنم طَيّ ليهدمه، فشنوا الغارة على محلّة آل حاتم مع الفجر، فهدموه، وملأوا أيديهم من السّبي والنَّعَم والشّاء. وفي السّبي سُفانة أخت عدي بن حاتم، وهرب عدي إلى الشّام. ووجدوا في خزانته ثلاثة أسياف، وثلاثة أدرع. وقسم عليّ الغنائم في الطّريق، ولم يقسم السّبي من آل حاتم حتى قدم بهم المدينة.
قال عديّ: ما كان رجل من العرب أشدّ كراهة لرسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ منِّي، حين سمعت به، وكنت رجلاً شريفاً نصرانياً، وكنت أسير في قومي بِالْمِرْباع وكنت في نفسي على دينٍ. فقلت: لغلامٍ لي راع لإبلي: اعدد لي من إبلي أجمالاً ذُلُلاً سماناً، فإذا سمعت بجيش محمّد قد وَطِئ هذه البلاد فآذني، فأتاني ذات غداة، فقال: ما كنتَ صانعاً إذا غشيتك خيل محمّد فاصنع الآن؛ فإنّي قد رأيت رايات، فسألت عنها؟ فقالوا: هذه جيوش محمّد. قلت: قَرَّب لي أجمالي. فاحتملت بأهلي وولدي، ثم قلت: ألحق بأهل ديني من النّصارى بالشّام، وخلفت بنتاً لحاتم في الحاضرة. فلمّا قدمت الشّام أقمتُ بها، وتخالفني خيل رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ، فتصيب ابنة حاتم. فقدم بها على رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ في سبايا من طيء.(1/223)
وقد بلغ رسولَ الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ هربي إلى الشّام. فمرَّ بها. فقالت: يا رسول الله، غاب الوافد، وانقطع الوالد، وأنا عجوز كبيرة. ما بي من خدمة، فَمُنَّ عليَّ. مَنَّ الله عليك. فقال: ((مَن وافدك؟)). قالت: عدي بن حاتم، قال: ((الذي فرَّ من الله ورسوله؟)) ـ وكررت عليه القول ثلاثة أيام ـ قالت: فَمَنَّ علَيَّ، وسألته الْحُمْلان، فأمر لها به وكساها وحملها وأعطاها نفقة.
فأتتني. فقالت: لقد فعل فِعْلة ما كان أبوك يفعلها. ائتِه راغباً أو راهباً؛ فقد أتاه فلان فأصاب منه، وأتاه فلان فأصاب منه. قال: فأتيته، وهو جالس في المسجد. فقال القوم: هذا عدي بن حاتم ـ وجئت بغير أمان ولا كتاب ـ فأخذ بيدي ـ وكان قبل ذلك قال: ((إنّي لأرجو أن يجعل الله يده في يدي)). فقام إليَّ فلقيته امرأته ومعها صبي. فقالا: إنّ لنا إليك حاجة. فقام معهما حتى قضى حاجتهما، ثم أخذ بيدي حتى أتى داره. فألقت له الوليدة وسادة. فجلس عليها، وجلست بين يديه. فحمد الله وأثنى عليه. ثم قال: ((ما يُفَرُّك؟ أيُفِرك1 أن يقال: ((لا إله إلاّ الله؟)) فهل تعلم من إله سوى الله؟)). فقلت: لا. فتكلّم ساعة. ثم قال: ((أيُفرّك أن يقال: الله أكبر؟ وهل تعلم شيئاً أكبر من الله؟)) قلت: لا. قال: ((فإنّ اليهود مغضوب عليهم، والنّصارى ضالون)). فقلت: فإنّي حنيف مسلم. فرأيت وجهه ينبسط فرحاً.
ثم أمر بي فأنْزلت عند رجلٍ من الأنصار، وجعلت يته طرَفي النّهار، فبينا أنا عنده، إذ جاءه قومٌ في ثيابٍ من صوفٍ من هذه النّمار، فصلّى ثم قام،
ـــــــ
1 أي: ما يحملك على الفرار والهرب من التّوحيد!(1/224)
فحثّ بالصّدقة عليهم، وقال: ((أيّها النّاس، ارضَخوا من الفضل ولو بصاعٍ، ولو بنصف صاعٍ، ولو بقُبْضَةٍ، ولو ببعض قُبْضَةٍ، يَقِي أحدُكم وجهه حرَّ جهنم ـ أو النّار ـ ولو بتمرةٍ، ولو بشقّ تمرة. فإن لم تجدوا فبكلمةٍ طيِّبةٍ؛ فإنّ أحدكم لاقٍ الله، فقائل له ما أقول لكم: ألم أجعل لك مالاً وولداً؟ فيقول: بلى، فيقول: أين ما قدمت لنفسك؟ فينظر قدامه وخلفه وعن يمينه وعن شماله. فلا يجد شيئاً يقي به وجهه حرَّ جهنم، لِيَقِ أحدُكم وجهه النّار، ولو بشقّ تمرة، فإن لم يجد فبكلمةٍ طيِّبةٍ؛ فإنّي لا أخاف عليكم الفاقة؛ فإنّ الله ناصركم ومعطيكم، حتى تسير الظعينة ما بين يثرب والحيرة، ما تخاف على مطيتها السُّرَّق)).
فجعلت أقول: فأين لصوص طيء؟1.
قصّة كعب بن زهير:
قال ابن إسحاق: لما قدم رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ من الطّائف كتب بُجير بن زهير إلى أخيه كعب يخبره أنّ رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ قد قَتَل رجالاً بمكة مِمَن كان يهجوه ويؤذيه، وأنّ مَن بقي من شعراء قريش ـ ابن الزَّبَعرى، وهُبيرة بن أبي وهب ـ قد هربوا في كلّ وجهٍ، فإن كان في نفسك حاجة فَطِرْ إلى رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ؛ فإنّه لا يقتل أحداً جاءه تائباً. وإن أنت لم تفعل فانْجُ إلى نجائبك. وكان قد قال:
ألا بلغا عني بُجيرا رسالة
فهل لك فيما قلت، ويحك. هل لكا؟
ـــــــ
1 قال السّهيلي: وحديث إسلام عدي بن حاتم صحيح عجيب. أخرجه التّرمذي. وأخته اسمها: سفانة.(1/225)
فبَيِّن لنا، إن كنت لست بفاعلٍ ... على أيّ شيء غير ذلك دلكا؟
على خلقٍ لم تُلْفِ أمّاً ولا أباً ... عليه، ولم تلقى عليه أخاً لكا
فإن أنت لم تفعل فلست بآسفٍ ... ولا قائلٍ، إمّا عثرتَ: لعالكا1
سقاك بها المأمون كأساً رَوِيَّة ... وأَنْهَلَك المأمون منها وعَلَّكا
فلما أتت بُجيراً كره أن يكتمها رسولَ الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ، فقال رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ : ((سقاك بها المأمون، صدق والله، وإنّه لكذوب، أنا المأمون)). ولما سمع على خلقٍ لم تلف أمّاً ولا أباً عليه. قال: ((أجل لم يلف عليه أباه ولا أمّه)).
ثم قال بجير بن زهير:
مَن مُبْلغ كعبا، فهل لك في التي ... تلوم عليها باطلاً، وهي أحزم؟
إلى الله ـ لا العُزَّى ولا اللات ـ وحده ... فتنجو إذا كان النّجاء وتسلم
لدى يومَ لا ينجو، وليس بمفلت ... من النّاس إلاّ طاهر القلب مسلم
ـــــــ
1كلمة يدعى بها لإقالة العاثر من عثرته.(1/226)
فدين زهير ـ وهو لا شيء ـ دينه ... ودين أبي سُلْمَى عليَّ محرم
فلمّا بلغ كعباً ضاقت عليه الأرض، وأشفق على نفسه، فلمّا لم يجد من شيء بُداً، قال قصيدته التي مدح فيها رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ، ثم خرج حتى قدم المدينة، فنَزل على رجلٍ كان بينه وبينه معرفة، فغدا به إلى رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ. فذكر لي أنّه قام فجلس إليه ـ وكان رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ لا يعرفه، فقال: يا رسول الله، إن كعب بن زهير قد جاء ليستأمنك تائباً مسلماً، فهل أنت قابل منه، إن أنا جئتك به؟ قال: نعم.)). قال: أنا كعب بن زهير.
فحدّثني عاصم بن عمرو: أنّه وثب عليه رجل من الأنصار. فقال: يا رسول الله، دعني وعدو الله أضرب عنقه. فقال: ((دَعْه عنك، فقد جاء تائباً نازعاً عمّا كان عليه)). فغضب كعب على هذا الحيّ من الأنصار، وذلك أنّه لم يتكلّم فيه رجل من المهاجرين إلاّ بخيرٍ. فقال قصيدته التي أوّلها:
بانت سعاد، فقلبي اليوم متبول ... مُتَيَّم إثرها لم يُفْدَ مكبول
منها:
أمست سعاد، بأرضٍ لا يُبَلّغها ... إلاّ العِتَاق النّجيبات المراسيل
إلى أن قال:
تسعى الغُواة جنابيها، وقولهمو ... إنّك يا ابن أبي سلمى لمقتول
وقال كلّ صديقٍ كنت آمله ...
لا ألهينك إنّي عنك مشغول(1/227)
فقلت: خلوا سبيلي، لا أبا لكموا ... فكلّ ما قَدَّر الرّحمن مفعول
نُبِّئت أنّ رسول الله أوعدني ... والعفو عند رسول الله مأمول
مهلا، هداك الذي أعطاك نافلة الـ ... ـقرآن فيها مواعيظ وتفصيل
لا تأخذني بأقول الوشاة. ولم ... أذنب، وإن كثرت فيَّ الأقاويل
إلى أن قال:
إنّ الرّسول لنور يستضاء به ... وصارم من سيوف الله مسلول
في فتية من قريشٍ قال قائلهم ... ببطن مكّة ـ لما أسلموا ـ زولوا
زالوا. فما زال إنكاس ولا كشف ... عند اللّقاء، ولا مِيْل معازيل
يمشون مشي الجمال الزّهر يعصمهم ... ضرب إذا عَرَّد السّود التّنابيل
شُمَّ العرانين، أبطال لبوسهمو ... من نسج داود في الهيجا سرابيل
ليسوا مفاريح إن نالت رماحهمو ... قوماً، وليسوا مجازيعاً إذا نيلوا
لا يقع الطّعن إلاّ في نحورهمو ... وما لهم عن حياض الموت تهليل
قال عاصم بن عمرو: فلمّا قال: إذا عرَّد السّول التّنابيل، وإنّما عنانا معشر الأنصار، فقال بعد أن أسلم يمدح الأنصار:
مَن سرَّه كرم الحياة فلا يزل ... في مِقْنَبٍ من صالح الأنصار
ورثوا المكارم كابراً عن كابرٍ ... إنّ الخيار هموا بني الأخيار
الذائدين النّاس عن أديانهم ...
بالمشرفي وبالقنا الخطار(1/228)
والبائعين نفوسهم لنبيّهم ... يوم الهياج وفتنة الكفار
والنّاظرين بأعين محمرة ... كالجمر غير كليلة الإبصار
والباذلين نفوسهم لنبيّهم ... للموت يوم تعانق وكرار
يتطهّرون، يرونه نُسُكاً لهم ... بدماء مَن علقوا من الكفار
قوم إذا خوت النّجوم فإنّهم ...
للطّارقين النّازلين مقارى(1/229)
فصل:في غزوة تبوك:
قال إسحاق: كانت في زمان عسرةٍ من النّاس، وجدبٍ من البلاد، حين طابت الثّمار، فالنّاس يحبّون المقام في ثمارهم وظلالهم، وكان ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ قَلَّما يخرج في غزوةٍ إلاّ وَرَّى بغيرها، إلاّ ما كان منها، فإنّه جَلاَّها للنّاس لبعد الشُّقة، وشدّة الزّمان.
فقال ذات يوم ـ وهو في جهازه ـ للجّدِّ بن قيس: ((هل لك في جلاد بني الأصفر؟))، فقال: يا رسول الله، أو تأذن لي ولا تفتني؛ فقد عرف قومي أنّه ما من رجلٍ أشدّ عجباً بالنّساء مني، وإنّي أخشى إن رأيت نساء بني الأصفر أن لا أصبر، فقال: ((قد أذنت لك)). فيه نزلت: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي} الآية1.
وقال قومٌ من المنافقين، بعضهم لبعضٍ: لا تنفروا في الحرّ، فنَزل: {وَقَالُوا لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرّاً...} الآية2.
ثم إنّ رسول اله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ حَضَّ أهل الغنى على النّفقة.
فحمل رجال من أهل الغنى واحتسبوا، وأنفق عثمان ثلاثمائة بعير بأحلاسها، وأقتابها وعدّتها، وألف دينار عيناً.
ـــــــ
1 الآية 49 سورة براءة.
2 الآية 81 من سورة براءة.(1/230)
وجاء البكّاؤون ـ وهم سبعة ـ يستحملون رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ. فقال: {لا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ}1.
وقام عُلبة بن يزيد، فصلى من اللّيل وبكى. ثم قال: ((اللهم إنّك أمرت بالجهاد، ورَغّبت فيه، ثم لم تجعل عندي ما أتقوى به مع رسولك، ولم تجعل في يد رسولك ما يحملني عليه، وإنّي أتصدّق على كلّ مسلمٍ بكلّ مظلمةٍ أصابنِي فيها: من مالٍ، أو جسدٍ، أو عرضٍ، ثم أصبح مع النّاس.
فقال النَّبِيّ ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ أين المتصدّق هذه اللّيلة؟ فلم يقم أحد، ثم قال: أين المتصدِّق؟ فلم يقم. فقام إليه فأخبره، فقال ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ: أبشر، فوالذي نفس محمّد بيده، لقد كتبتْ في الزّكاة المتقبلة)).
وجاء الْمُعَذِّرون من الأعراب ليؤذن لهم، فلم يعذرهم.
واستخلف على المدينة محمّد بن مسلمة الأنصاري. فلمّا سار رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ، تخلف عبد الله بن أُبي ومَن كان معه، وتخلف نفر من المسلمين من غير شكٍّ ولا ارتيابٍ، منهم الثلاثة: كعب بن مالك، وهلال بن أُمية، ومرارة بن الرّبيع، وأبو خيثمة السّالمي، وأبو ذر. ثم لحقاه، وشهدها رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ في ثلاثين ألفاً من النّاس، والخيل عشرة آلاف فرس. وأقام بها عشرين ليلة يقصر الصّلاة. وهرقل يومئذٍ بحمص.
قال ابن إسحاق: ولما خرج رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ، خَلَّف عليّاً على أهله. فقال المنافقون: ما خلّفه إلاّ استثقالاً له، وتخفّفاً منه. فأخذ سلاحه ولحق به بالجُرْف. فقال: يا نبيّ الله زعم المنافقون أنّك
ـــــــ
1 الآية 92 من سورة براءة.(1/231)
ما خلّفتني إلاّ استثقالاً، فقال: ((كذبوا، ولكنِّي خلّفتك لما تركت ورائي، فارجع فاخلفني في أهلي وأهلك، أو لا ترضى أن تكون مني بمنْزلة هارون من موسى؟ إلاّ أنّه لا نبيّ بعدي)). فرجع.
ودخل أبو خيثمة إلى أهله في يوم حار، بعد ما سار رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ أيّاماً، فوجد امرأتين له في عريشين لهما في حائطٍ، قد رَشّت كلّ واحدةٍ منهما عريشها، وبرَّدت له ماءً، وهيّأت له طعاماً، فلمّا دخل قام على باب العريش، فنظر إلى امرأتيه وما صنعتا. فقال: رسول الله في الضَّحِّ والرّيح والحرّ، وأبو خيثمة في ظلٍّ باردٍ، وطعام مهيء، وامرأة حسناء؟ ما هذا بالنّصَف. ثم قال: والله لا أدخل عريش واحدةٍ منكما حتى ألحق برسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ. فَهَيِّئا لي زاداً، ففعلتا. ثم قَدَّم ناضحة فارتحله، ثم خرج حتى أدرك رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ حين نزل تبوك.
وقد كان عمير بن وهب الجمحي أدرك أبا خيثمة، في الطّريق فترافقا، حتى إذا دنوا من تبوك، قال أبو خيثمة له: إنّ لي ذنباً؛ فلا عليك أن تتخلف عني حتى آتي رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ، ففعل، حتى إذا دنا من رسول الله، قال النّاس: هذا راكب على الطّريق مقبل، فقال رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ: ((كن أبا خيثمة)). قالوا: يا رسول الله، هو والله، هو والله أبو خيثمة. فلمّا أناخ أقبل فسلم على رسول الله. فقال له:((أولى لك يا أبا خيثمة)).فأخبره الخبر، فقال له خيراً.ودعا له.
وقد كان رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ، لما مَرَّ بالحِجْر ـ من ديار ثمود ـ قال: ((لا تدخلوا على هؤلاء القوم المعذَّبين، إلاّ أن تكونوا باكين، فإن لم تكونوا(1/232)
باكين فلا تدخلوا عليهم، لا يصيبكم مثل ما أصابهم)). وقال : ((لا تشربوا من مائها شيئاً، ولا تتوضأوا منه للصّلاة وما كان من عجين عجنتموه فأعلفوه الإبل ولا تأكلوا منه شيئاً، وأمرهم أن يهريقوا الماء، وأن يستقوا من البئر التي كانت تردها النّاقة)).
وفي صحيح مسلم عن أبي حميد السّاعدي قال: ((انطلقنا حتى قدمنا تبوك. فقال رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ: سَتَهُبُّ عليكم الليلة ريح شديدة، فلا يَقُمْ أحد منكم، فَمَن كان له بعير فليشد عقاله. فهبت ريح شديدة، فقام رجل، فحملته الرّيح حتى ألقته بجبلي طيء)).
قال ابن إسحاق: وأصبح النّاس ولا ماء معهم، فشكوا ذلك إلى رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ، فدعا الله. فأرسل الله سحابة، فأمطرت حتى ارتوى النّاس واحتملوا حاجتهم من الماء.
ثم سار حتى إذا كان ببعض الطّريق جعلوا يقولون: تخلف فلان، فيقول : ((دعوه، فإن يكُ فيه خير فسيلحقه الله بكم، وإن يك غير ذلك فقد أراحكم الله منه)).
وتَلّوم على أبي ذرٍّ بعيره. فلمّا أبطأ عليه أخذ متاعه على ظهره، ثم خرج يتبع أثر رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ ماشياً.
ونزل رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ في بعض منازله. فنظر ناظر من المسلمين فقال: يا رسول الله: إنّ هذا الرّجل يمشي على الطّريق. فقال رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ: ((كن أبا ذرٍّ)). فلمّا تأملوه. قالوا: يا رسول الله، هو والله أبو ذرٍّ. فقال: ((رحم أبا ذرٍّ. يمشي وحده، ويموت وحده، ويبعث وحده)).(1/233)
وفي صحيح ابن حبان عن أم ذرٍّ، قالت: ((لما حضرت أبا ذرٍّ الوفاة بكيت، فقال: ما يبكيك؟ فقلت: وما لي لا أبكي وأنت تموت بفلاةٍ من الأرض، وليس عندي ثوب يسعك كفناً، ولا يدان لي فيَّ تغيبك؟ فقال: أبشري ولا تبكي، فإنّي سمعت رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ يقول لنفر ـ وأنا فيهم ـ: ليموتن رجل منكم بفلاةٍ من الأرض، يشهده عصابة من المسلمين، وليس من أولئك النّفر أحد إلاّ وقد مات في قريةٍ وجماعةٍ، فأنا ذلك الرّجل، فوالله ما كذبت ولا كُذِبت، فأبصري الطّريقَ. فكنت أشتد إلى الكثيب أتبصر، ثم أرجع فأمرضه. فبينا أنا وهو كذلك، إذا أنا برجال على رحالهم، كأنّهم الرّخَم، تَخُبُّ بهم رواحلهم، قالت: فأشرت إليهم، فأسرعوا إليَّ حتى وقفوا عليّ، فقالوا: يا أمة الله، ما لك؟ قلت: امرؤ من المسلمين يموت تكفنونه. قالوا: مَن هو؟ قلت: أبو ذرٍّ. قالوا: صاحب رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ؟ قلت: نعم. ففدوه بآبائهم وأمهاتهم، وأسرعوا إليه حتى دخلوا عليه. فقال لهم: أبشروا، فإنّي سمعت رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ وذكر الحديث ـ ثم قال: وإنّه لو كان عندي ثوب يسعني كفناً لي ولامرأتي لم أكفن إلاّ في ثوبٍ هو لي، أو لها؛ فإنّي أنشدكم الله أن لا يكفننِي رجل منكم كان أميراً أو عريفاً، أو بريداً أو نقيباً، وليس من أولئك النّفر أحد إلاّ وقد قارف بعض ما قال إلاّ فتى من الأنصار، قال: يا عم. أنا أكفنك في ردائي هذا، وفي ثوبين في عَيْبَتي من غزل أمي. قال: فأنت تكفننِي. فكفنه الأنصاري، وأقاموا عليه ودفنوه في نفرٍ كلّهم يَمان)).
ولما انتهى رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ إلى تبوك، أتاه صاحب أيْلة، فصالحه وأعطاه الجزية، وأتاه أهل جَرْبا وأذْرَح. فأعطوه الجزية، وكتب لهم كتاباً. فهو عندهم(1/234)
. ثم بعث خالد بن الوليد إلى أُكَيدر دُومة، وقال لخالد: ((إنّك تجده يصيد البقر)) فخرج خالد، حتى إذا كان من حصنه بمنظر العين في ليلة مقمرة ـ وهو على سطح له ـ فبانت البقر تَحُكُّ بقرونها باب القصر. فقالت له امرأته: هل رأيت مثل هذا قط؟ قال: لا والله. قالت: فَمَن يترك مثل هذه؟ قال: لا أحد. ثم نزل فأمر بفرسه فأسرج له، وركب معه نفر من أهل بيته. فلما خرجوا، تلقتهم خيل رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ، فأخذته وقتلوا أخاه، وقدم به خالد على رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ، فحقّق له دمه، وصالحه على الجزية، ثم خلّى سبيله. فرجع إلى قريته.
قال ابن إسحاق: فأقام رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ بتبوك بضع عشرة ليلة، ثم انصرف إلى المدينة. قال: وحدّثنِي محمّد بن إبراهيم بن الحرث التّميمي: أن ابن مسعود كان يحدّث، قال: ((قمت من جوف اللّيل، وأنا مع رسول الله في غزوة تبوك، فرأيت شعلة من نارٍ في ناحية العسكر، فاتّبعتها أنظر إليها. فإذا رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ وأبو بكرٍ وعمر. وإذا عبد الله ذو البجادين ـ والبجاد الكساء الأسود ـ المزني قد مات، وإذا هم قد حفروا له، ورسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ في حفرته، وأبو بكرٍ وعمر، يُدلّيانه إليه. وهو يقول: أدْليا إليَّ أخاكما، فأدلياه إليه، فلما هيّأه لشِقِّه، قال: ((اللهم إنّي قد أمسيت راضياً عنه، فارض عنه)). قال: يقول عبد الله بن مسعود: ((يا ليتنِي كنت صاحب الحفرة)).
وأقبل رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ من تبوك، حتى كان بينه وبين المدينة ساعة، وكان أصحاب مسجد الضّرار أتوه، وهو يتجهز إلى تبوك(1/235)
، فقالوا: يا رسول الله، إنّا بنينا مسجداً لذي العِلّة والحاجة، واللّيلة المطيرة، وإنّا نحب أن تصلّي فيه. فقال: ((إني على جناح سفرٍ، ولو قدمنا إن شاء الله لأتيناكم)).
فلمّا نزل بذي أُوان، جاءه خبر المسجد من السّماء فدعا مالك بن الدُخْشم ومعن بن عدي. فقال: ((انطلقا إلى هذا المسجد الظّالم أهله، فاهدماه، وحرّقاه)). فخرجا مسرعين حتى أتيا بني سالم بن عوف ـ وهم رهط بن مالك الدّخشم ـ فقال لِمعن: أنْظِرني حتى أخرج إليك بنار من أهلي فدخل إلى أهله فأخذ سعفاً من النّخل فأشعل فيه ناراً ثم خرجا يشتدان حتى دخلاه، وفيه أهله، فحرّقاه وهدماه، وأنزل الله سبحانه : {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِرَاراً وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ} ـ إلى قوله ـ: {وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ}1 .
قال ابن عبّاس في الآية: هم أُناس من الأنصار ابتنوا مسجداً، فقال لهم أبو عامر الفاسق: ابنوا مسجدكم، واستعدوا ما استطعتم من قوّةٍ ومن سلاحٍ، فإنّي ذاهب إلى قيصر ملك الرّوم، فآت بجند من الرّوم، فأُخرج محمّداً وأصحابه. فلمّا فرغوا من بنائه، أتوا النّبِيّ ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ. فقالوا: إنّا قد فرغنا من بناء مسجدنا، ونحبّ أن تصلّيَ فيه، وتدعو بالبركة. فأنزل الله ـ عزّ وجلّ ـ: {لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً} ـ إلى قوله ـ: {لا يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ} ، يعني: الشّكّ. {إِلاَّ أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ} 2 . يعني: بالموت.
ولما دنا رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ من المدينة، خرج النّاس لتلقيه، والنّساء والصّبيان والولائد يقلن:
ـــــــ
1 الآيات من 107-110 من سورة التّوبة.
2 الآية: من 108-110.(1/236)
طلع البدر علينا ... من ثَنِيَّات الوداع
وجب الشُّكر علينا ... ما دعا الله داعٍ
وكانت غزوة تبوك آخر غزوةٍ غزاها رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ بنفسه. وأنزل الله فيها سورة براءة.
وكانت تسمّى في زمان النَّبِيّ ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ وبعده: ((المبعثرة)) لما كشفت من سرائر المنافقين وخبايا قلوبهم.
وفي غزوة تبوك كانت قصّة تَخَلُّفُ كعب بن مالك، ومرارة بن الرّبيع، وهلال بن أمية الواقفي. مِمَن شهدوا بدراً، ولم يكن لهم عذر في التّخلّف عن رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ. فلمّا عاد رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ إلى المدينة، جاء المعذرون من الأعراب من المنافقين، يحلفون أنّهم كانوا معذورين. فقبل منهم رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ، وأرجأ كعب بن مالك وصاحبيه حتى أنزل الله في شأنهم وفي توبتهم ـ وكانوا من خيار المؤمنين ـ: {لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا} الآتين1. خلفهم الله وأخرّهم توبتهم ليمحصهم ويطهرهم من ذنبٍ تأخرهم. لأنّهم كانوا من الصّادقين.(1/237)
وفود العرب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم
...
وفود العرب إلى رسول الله:
ولما فرغ رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ من تبوك، وأسلمت ثقيف، ضربت إليه أكباد الإبل، تحمل وفود العرب من كلّ وجهٍ، في سنة تسع، وكانت تسمّى سنة الوفود.
ـــــــ
1 الآيتان من 117-119 من سورة التّوبة.(1/237)
قال ابن إسحاق: وإنّما كانت العرب تَرَبَّص بالإسلام أمرَ هذا الحيّ من قريشٍ، وأمرَ رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ.
وذلك: أنّ قريشاً كانوا إمام النّاس وهداتهم، وأهل البيت والحرم، وصريح ولد إسماعيل ـ عليه السّلام ـ، وقادة العرب لا ينكرون ذلك. وكانت قريش هي التي نصبت لحرب رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ. فلمّا افتتحت مكّة، ودانت له قريش، عرفت العرب أن لا طاقة لهم بحرب رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ، ولا عداوته، فدخلوا في دين الله أفواجاً، كما قال تعالى: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً}1.
وفد بني تميم:
فقدم عليه عطارد بن حاجب التّميمي، في أشراف من بني تميم، جاءوا في أسرى بني تيم، الذين أخذتهم سرية عيينة بن حصن الفزاري في المحرم من هذه السنة، وكان عيينة قد أخذ أحد عشر رجلاً، وإحدى وعشرين امرأة، وثلاثين صبيّاً، وساقهم إلى المدينة، فقدم رؤساء بني تيم فيهم. فلمّا دخلوا المسجد، نادوا رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ من وراء الحُجُرات ـ وهو في بيته ـ أن اخرج إلينا. فآذى ذلك رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ؛ فأنزل الله فيهم: {إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ}2.
فلمّا خرج إليهم قالوا: جئنا لنفاخرك، فائْذَنْ لشاعرنا وخطيبنا. قال: ((أذنتُ لخطيبكم)). فقام عطارد، فخطب. فقال رسول الله ـ صلّى الله
ـــــــ
1 سورة النّصر.
2 الآيتان 3-5 من سورة الحُجُرات.(1/238)
عليه وسلّم ـ لثابت بن قيس بن شَمّاس: ((قم فأجب الرّجل)). فقام ثابت فخطب وأجابه. وقام الزِّبْرِقان بن بدر فقال:
نحن الكرام، فلا حَيَّ يعادلن ... منا الملوك. وفينا تُنْصَب البيعَ
وكم قَسَرْنا من الأجياد كلّهمو ... عند النِّهاب، وفضل العِزِّ يُتّبع
ونحن يُطْعِم عند القحط مطعمنا ... من الشّواء إذا لم يؤنس القَزع1
إلى أن قال:
إنّا أبينا، ولم يأبَ لنا أحد ... إنّا كذلك عند الفخر نرتفع
في أبياتٍ ذكرها. فقال رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ لحسان: ((قم، فأجب الرّجل))، فقام، فقال:
إنّ الذّوائب من فِهْرٍ وإخوتهم ... قد بينوا سُننا للنّاس تُتّبع
يرضى بها كلّ مَن كانت سريرته ... تقوى الإله، وكلَّ الخير يصطنع
قوم إذا حاربوا ضَرُّوا عدوّهم ... أو حاولوا النّفع في أشياعهم: نفعوا
سجية، تلك منهم غير مُحْدَثة ... إنّ الخلائق ـ فاعلم ـ شَرّها البدع
إن كان في النّاس سباقون بعدهموا ... فكلّ سَبْقٍ لأدنى سبقهم تبع
إلى أن قال:
لا يبخلون على جارٍ بفضلهمو ... ولا يَمَسُّهموا من مطمعٍ طبع
ـــــــ
1 القزع: جمع قزعة ـ بالتّحريك ـ قطع السّحاب المتفرقة.(1/239)
لا يفخرون إذا نالوا عدوّهمو ... وإن أصيبوا فلا خُور ولا هُلُع
نسموا إذا الحرب نالتنا مخالبها ... إذ الزّعانف من أظافرها خشعوا
إلى أن قال:
أكرم بقومٍ رسولُ الله شيعتهم ... إذا تفرقت الأهواء والشّيع
أهدي لهم مِدْحتي قلبٌ، ووازره ... فيما أحبَّ: لسان حائك صَنَع
وقال الزِّبرقان أيضا:
أتيناك كيما يعلم النّاس فضلنا ... إذا احتفلوا عند احتضار المواسم
فإنّا ملوك النّاس في كلّ موطنٍ ... وأن ليس في أرض الحجاز كدارم1
وإنا نذود المعلمين إذا انتخوا ... ونضرب رأس الأغْيَد المتفاخم
وأن لنا الْمِرْباع2 في كل غارةٍ ... تُغِير بنجدٍ، أو بأرض الأعاجم
فأجاب حسان بن ثابت ـ رضي الله عنه ـ:
هل المجد إلاّ السّؤدد العود والنّدى ... وجاه الملوك، واحتمال العظائم؟
نصرنا وآوينا النَّبِيّ محمّداً ... على أَنْفِ راضٍ من مَعَدٍّ وراغمٍ
ـــــــ
1 حي من تميم ينسبون إلى أبيهم دارم بن مالك بن حنظلة.
2 المرباع: ربع ما يأخذون من الغنيمة. كأن يأخذ السّيّد والرّئيس المطاع، ولو لم يحضر الوقعة.(1/240)
إلى أن قال:
ونحن ضربنا النّاس حتى تتابعوا ... على دينه بالمرفهات الصّوارم
ونحن وَلَدْنا من قريش عظيمها ... ولدنا نَبِيَّ الْخير من آل هاشم
بني دارم، لا تفخروا، إنّ فخركم ... يعود وبالاً عند ذكر المكارم
هُبِلتم، علينا تفخرون؟ وأنتم ... لنا خَوَل، ما بين ظِئْر وخادم
فإن كنتموا جئتم لحقن دمائكم ... وأموالكم، أن تقسموا في المقاسم
فلا تجعلوا لله نِدّاً، وأسلموا ... ولا تلبسوا زِيّاً كزِيِّ الأعاجم
فلمّا فرغ حسان، قال الأكوع بن حابس: إنّ هذا الرّجل لَمُؤتىً. لَخَطيبُه أخطب من خطيبنا، ولشاعره أشعر من شاعرنا، ولأصواتهم أحلى من أصواتنا. فلمّا فرغ القوم أسلموا، وجَوَّزهم رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ فأحسن جوائزهم.
وفد طيء:
وفد على رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ وفد طيء، فيهم زيد الخيل ـ وهو سيّدهم ـ فعرض عليهم رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ الإسلام فأسلموا وحسن إسلامهم.
قال ابن إسحاق: وقال رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ ـ كما حدّثني مَن لا أتّبهم من رجال طيء ـ ((ما ذُكر لي رجل من العرب بفضلٍ،(1/241)
ثم جاءني، إلاّ رأيته دون ما يقال فيه، إلاّ زيد الخيل، فإنّ لم يبلغ كلّ ما فيه)).
ثم سمّاه رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ: ((زيد الخير)). وأقطعه ((فيداً))، وأرضين معه، وكتب له بذلك كتاباً، فخرج من عنده راجعاً إلى قومه، فلمّا انتهى إلى ماء من مياه نجد ـ يقال له: ((فردة)) ـ أصابته الحمى بها فمات، فعمدت امرأته إلى ما كان معه من الكتب التي أقطع له بها رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ، فحرقتها بالنّار.
وفد عبد القيس :
وفد على رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ، الجارود العبدي في وفد عبد القيس، وكان نصرانياً، فقال: يا رسول الله، إنّي على ديني. وإنّي تارك ديني لدينك، فتضمن لي بما فيه؟ قال: ((نعم. أنا ضامن لذلك، إنّ الذي أدعوك إليه خير من الذي كنت عليه)). فأسلم وأسلم أصحابه، فكان حَسَنَ الإسلام صُلْباً في دينه، حتى هلك، وقد أدرك الرّدّة. وكان في الوفد ((الأشج)) الذي قال له رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ ((إنّ فيك لخصلتين يحبّها الله: الحلم، والأناة)).
وقد كان رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ بعث العلاء بن الحضرمي ـ قبل فتح مكّة ـ إلى المنذر بن ساوَى العَبْدي، فأسلم وحسن إسلامه، ثم هلك بعد رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ، قبل ردّة أهل البحرين، والعلاء عنده أمير الرّسول ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ على البحرين.(1/242)
وفد بني حنيفة، فيهم مسيلمة:
وقدم على رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ وفد بني حنيفة، فيهم مسيلمة الكذّاب، فأتوه وخلفوا مسيلمة في رحالهم، فلمّا أسلموا ذكروا مكانه، فقالوا: يا رسول الله، إنا قد خلفنا صاحباً لنا في رحالنا يحفظها لنا. فأمر له بمثل ما أمر به للقوم، وقال: ((أمّا إنّه ليس بشرّكم مكاناً)). يعني: لحفظه ضّيعة أصحابه، ثم انصرفوا، فلمّا انتهوا إلى اليمامة، ارتدّ عدوّ الله وتنبّأ، وقال: إنّي أُشْرِكت في الأمر معه. وقال للوفد: ألم يقل لكم: ((أمّا إنّه ليس بشرّكم مكاناً؟))، ما ذاك إلاّ لما كان يعلم أنّي أشركت في الأمر معه. ثم جعل يسجع لهم السّجعات، مضاهاة للقرآن، وهو مع ذلك يشهد لرسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ بالنّبوّة.
وكتب لرسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ من مسيلمة رسول الله إلى محمّد رسول الله، فأمّا بعد؛ فإنّي أشركت في الأمر معك. وإنّ لنا نصف الأرض ولقريش نصفها، ولكنّ قريشاً قوم لا يعدلون.
فكتب إليه رسول الله ـ صلَى الله عليه وعلى آله وسلّم ـ: ((من محمّدٍ رسول الله، إلى مسيلمة الكذّاب، السّلام على مَن اتّبع الهدى. أمّا بعد؛ فإنّ الأرض لله يورثها مَن يشاء من عباده، والعاقبة للمتقين)).
وقال للرجلين الذين أتيا بكتابه: ما تقولان أنتما؟ فقالا: نقول كما قال. فقال: ((أمّا والله، لولا أنّ الرّسل لا تقتل، لضربت رقابكما)) وذلك في آخر سنة عشر.(1/243)
حجّة أبي بكر بالنّاس:
ثم أقام رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ بعد رجوعه من تبوك ـ بقية رمضان وشوّال وذا القعدة ـ ثم بعث أبا بكر ـ رضي الله عنه ـ أميراً على الحجّ ليقيم للنّاس حجّهم، وأهل الشّرك على دينهم ومنازلهم من حجّهم، فخرج أبو بكر في ثلاثمائة من المدينة. وبعث معه رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ بعشرين بدنة، قلدها وأشعرها بيده، ثم نزلت سورة براءة في نقض ما بين رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ وبين المشركين من العهد الذي كانوا عليه، فأرسل بها عليّ بن أبي طالب على ناقته العضباء، ليقرأ براءة على النّاس. وينبذ إلى كلّ ذي عهدٍ عهده. فلمّا لقي أبا بكر قال له: ((أمين أو مأمور؟ فقال عليّ: بل مأمور)) فلمّا كان يوم النّحر قام عليّ بن أبي طالب. فقال: ((يا أيّها النّاس، لا يدخل الجنة كافر، ولا يحجّ بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان، ومَن كان له عهد عند رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ فهو إلى مدته))1.
ـــــــ
1 وإنّما أخّر رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ حجّه. وبعث أبا بكر ـ رضي الله عنه ـ ليحجّ بالنّاس: لما كانت عليه العرب من الجاهلية الفاسقة. ولإعلانهم بشركهم في مشاعر الحجّ، وطوافهم بالبيت عراة، وإنسائهم الذي كان يقع به الحجّ في غير ميقاته، بدليل قوله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ في حجّة الوداع: ((إنّ الزّمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السّموات والأرض))، ثم إنّ الهدنة كانت لا تزال قائمة بين رسول الله وبين قريش وغيرهم من المشركين. فكان كلّ ذلك سبباً في تأخير رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ حجه حتى نزلت براءة، فنبذ إليهم عهدهم. وأعلمهم أنّ البيت قد أصبح في حكم دولة التّوحيد، وأصبح الأمر فيه إلى رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ. وأعلن أن لا يحجّ بعد العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان.(1/244)
حجّة الوداع:
فلمّا دخل ذو القعدة، تجهّز رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ للحّج، وأمر النّاس بالجهاز له، وأمرهم أن يلقوه. فخرج معه مَن كان حول المدينة وقريباً منها، وخرج المسلمون من القبائل القريبة والبعيدة حتى لقوه في الطّريق، وفي مكّة، وفي منى وعرفات، وجاء عليّ من اليمن مع أهل اليمن، وهي حجّة الوداع.
فخرج لها لخمس بقين من ذي القعدة في آخر سنة عشر. فمضى رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ، وساق معه الهدي. فأرى النّاسَ مناسكهم، وعلّمهم سُنن حجهم، وهو ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ يقول لهم ويكرّر عليهم: ((أيّها النّاس خذوا عني مناسككم، فلعلّكم لا تلقوني بعد عامكم هذا)).
ولَمّا كان بمنى خطب النّاس خطبته التي بيّن فيها ما بيّن: ((فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أيّها النّاس، اسمعوا قولي؛ فإنّي لا أدري لعلّي لا ألقاكم بعد عامي هذا. أيّها النّاس؛ إنّ دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام إلى أن تلقوا ربّكم. وكلّ ربا موضوع. وأوّل ربا أضعه: ربا العبّاس بن عبد المطلب؛ فإنّه موضوع كله. وإنّ كلّ دمٍّ في الجاهلية موضوع، وأوّل دمٍّ أضعه: دم ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب. وإنّي تركتُ فيكم ما إن اعتصمتم به لم تضلّوا ـ كتابَ الله، وأنتم مسؤولون عني. فما أنتم قائلون؟ قالوا: نشهد إنّكَ قد بلّغتَ، وأدّيتَ، ونصحتَ. فجعل يرفع إصبعه إلى السّماء، وينكبها إليهم، ويقول: اللهم اشهد ـ ثلاث مرات)).(1/245)
وكانت هذه الحجّة تُسمّى ((حجّة الوداع))؛ لأنّه ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ لم يحجّ بعدها1.
فلمّا انقضى حجّه، رجع إلى المدينة. فأقام ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ بقية ذي الحجة والمحرم وصفر.
ثم ابتدأ برسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ وجعه الذي مات فيه في آخر صفر.
بعث أسامة بن زيد إلى البلقاء:
ولَمّا كان يوم الاثنين لأربع ليالٍ بقين من صفر سنة إحدى عشرة. أمر رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ النّاس بالتهيّؤ لغزو الرّوم. فلمّا كان من الغد دعا أسامة بن زيد وأمره أن يسير إلى موضع مقتل أبيه زيد بن حارثة، وأن يوطئ الخيل تخوم البلقاء والدّاروم من أرض فلسطين، فتجهّز النّاس، وأوعب مع أسامة المهاجرون والأنصار.
ثم استبطأ رسولُ الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ النّاس في بعث أسامة ـ وهو في وجعه ـ فخرج عاصباً رأسه حتى جلس على المنبر ـ وكان المنافقون قد قالوا في إمارة أسامة: أمَّر غلاماً حدثاً على جِلّة المهاجرين والأنصار. فغضب رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ غضباً شديداً، وخرج عاصباً رأسه ـ وكان قد بدأ به الوجع ـ فصعد المنبر: ((فحمد الله وأثنى عليه. ثم قال: ((أيّها النّاس، أنفذوا بعث أسامة، فلئن طعنتم في إمارته فقد طعنتم في إمارة
ـــــــ
1 ولأنّ المسلمين اجتمعوا له في الحجّ. فعلّمهم شرائع الإسلام في خطبه أيّام الحجّ.ووادعهم فيها.إذ كان يكرّر القول:((لعلّكم لا تلقوني بعد عامكم هذا)).(1/246)
أبيه، وأيم الله إن كان لخليقاً للإمارة. وأنّ ابنه من بعده لخليق للإمارة، وإن كان أبوه لمن أحبّ النّاس إليَّ. وإنّ هذا لمن أحبّ النّاس إليَّ من بعده)) ثم نزل.
وانكمش النّاس في جهازهم. فاشتدّ برسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ وجعه. وخرج أسامة بجيشه، فعسكر بالجُرف. وتتام إليه النّاس. فأقاموا لينظروا ما الله ـ تبارك وتعالى ـ قاضٍ في رسوله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ.
مرض رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ:
قال ابن إسحاق: حُدِّثت عن أسامة قال: ((لما ثقل برسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ، هَبَطْتُ وهبط النّاس معي إلى المدينة، فدخلت على رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ، وقد أُصْمِت، فلا يتكلّم. وجعل يرفع يده إلى السّماء ثم يضعها عليَّ، أعرف أنّه يدعو لي)).
قال ابن إسحاق: وحُدِّثتُ عن أبي مُوَيْهِبة مولى رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ قال: ((بعثني رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ من جوف اللّيل. فقال: يا أبا مويهبة، قد أُمرت أن أستغفر لأهل هذا البقيع، فانطلق معي. فانطلقت معه، فلمّا وقف عليهم قال: السّلام عليكم يا أهل المقابر، لِيَهْنَ لكم ما أصبحتم فيما أصبح النّاس فيه. أقبلت الفتن مثل قطع اللّيل المظلم، يتبع أخراها أولاها، الآخرة شرّ من الأولى. ثم أقبل علي، فقال: إنّي قد أُعطيْت مفاتيح خزائن الدّنيا والخلد فيها. فخيرتُ بين ذلك وبين لقاء ربّي والجنة. فقلت: بأبي أنت وأمي، فخذ مفاتيح خزائن الدّنيا وتُخلّد فيها، ثم الجنّة. قال: لا والله. يا أبا مويهبة، قد اخترت لقاء ربّي والجنة. ثم استغفر لأهل البقيع، ثم انصرف)).(1/247)
فبدأ به وجعه. فلمّا استعزَّ به، دعا نساءه فاستأذنهن أن يُمَرَّض في بيت عائشة ـ رضي الله عنها ـ فأَذِنَّ له.
وعن أبي سعيد الخدري ـ رضي الله عنه ـ قال: ((خطب رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ، فقال: إنّ الله خيّر عبداً بين الدّنيا وبين ما عنده، فاختار ذلك العبد ما عند الله، فبكى أبو بكر، فتعجّبنا لبائكه أن يخبر رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ عن عبدٍ خُيّر! فكان رسولُ الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ هو المخيَّر، وكان أبو بكر أعلمَنا. فقال رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ: إنّ من أمَنَّ النّاس عليَّ في صحبته وماله: أبو بكر، ولو كنتُ متّخذاً خليلاً ـ غير ربّي ـ لاتّخذتُ أبا بكر خليلاً، ولكن أُخوّة الإسلام ومودّته. لا يبقيّن في المسجد باب إلاّ سُدَّ إلاّ باب أبي بكر)).
وفي الصّحيح: ((إنّ ابن عباس وأبا بكر مرّا بمجلس للأنصار، وهم يبكون. فقالا: ما يبكيكم؟ قالوا: ذكرنا مجلس رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ منّا. فدخل على النّبِيّ ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ فأخبره بذلك. فخرج، وقد عصب على رأسه بحاشية بُرْد، فصعد المنبر ـ ولم يصعده بعد ذلك اليوم ـ فحمد الله، وأثنى عليه، ثم قال: أوصيكم بالأنصار خيراً. فإنّهم كِرْشي وعَيبتي، وقد قضوا الذي عليهم. وبقي الذي لهم. فاقبلوا من محسنهم، وتجاوزوا عن مسيئهم)).
وفي الصّحيح عن أبي موسى الأشعري قال: ((اشتدّ مرض رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ، فقال:(1/248)
مروا أبا بكر فَلْيُصَلِّ بالنّاس، قالت عائشة: يا رسول الله، إنّه رجل رقيق، إذا قام مقامك لا يُسمِع النّاس، فلو أمرت عمر؟ قال: مرّوا أبا بكر فَلْيُصَلِّ بالنّاس، فعادت. فقال: مرّوا أبا بكر فَلْيُصَلِّ بالنّاس، فإنّكُنَّ صواحب يوسف. فأتاه الرّسول، فصلّى بالنّاس في حياة النّبيّ ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ. قالت: ووالله ما أقول إلاّ أنّي أحبّ أن يُصرَفَ ذلك عن أبي بكر، وعرفتُ أنّ النّاس لا يحبّون رجلاً قام مقامه أبداً، وأنّ النّاس ستيشاءمون به في كلّ حَدَثٍ كان. فكنتُ أحبّ أن يُصرَفَ ذلك عن أبي بكر)).(1/249)
موت رسول الله صلى الله عليه وسلم
...
موت رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ :
قال الزّهري: حدَّثني أنس قال: ((كان يوم الاثنين الذي قُبِضَ فيه رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ، خرج إلى النّاس، وهم يصلّون الصّبح فرفع السّتر وفتح الباب، فخرج رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ، فقام على باب عائشة. فكاد المسلمون يفتنون في صلاتهم ـ فرحاً به، حين رأوه، وتفرجوا عنه ـ فأشار إليهم: أن اثبتوا على صلاتكم، قال: وتبسم رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ سروراً، لما رأى من هيآتهم في صلاتهم، وما رؤي أحسن منه هيئة تلك السّاعة. قال: ثم رجع، وانصرف النّاس، وهم يرون أنّه قد أفرق من وجعه. وخرج أبو بكر إلى أهله بالسُّنْح، فتوفّي رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ حين اشتّد الضّحى من ذلك اليوم)).
قال ابن إسحاق: قال الزّهري: حدّثني سعيد بن المسب عن أبي هريرة قال:: ((لما تُوُفِّي رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ قام عمر، فقال: إنّ رجلاً من المنافقين يزعمون أنّ رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ قد تُوُفِّي، وإنّ رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ والله ما مات، ولكنّه قد ذهب إلى ربّه، كما ذهب موسى بن عمران. فقد غاب عن قومه أربعين ليلة، ثم رجع إليهم بعد أن قيل مات. ووالله لَيرجعنَّ رسولُ الله ـ صلّى الله عليه وسلّم(1/249)
ـ بعد حينٍ، كما رجع موسى، فليقطعن أيدي رجال وأرجلهم زعموا أنّه قد مات.
قال: وأقبل أبو بكر، حتى نزل على باب المسجد؛ حين بلغه الخبر ـ وعمر يكلّم النّاس ـ فلم يلتفت إلى شيءٍ، حتى دخل على رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ في بيت عائشة، ورسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ مُسَجَّى في ناحية البيت، عليه برد حِبَرة، فأقبل حتى كشف عن وجهه، ثم أقبل عليه فَقَبَّله، ثم قال: بأبي أنت وأمّي، أمّا الموتة التي كتبها الله عليك فقد ذُقتَها، ثم لن تصيبك بعدها موتة أبداً. ثم ردّ البرد على وجهه، وخرج ـ وعمر يكلّم النّاس ـ فقال: على رِسْلِك يا عمر، أنصت. فأبى إلاّ أن يتكلّم. فلمّا رآه أبو بكر لا ينصت أقبل على النّاس. فلمّا سمع النّاس كلام أبي بكر أقبلوا عليه، وتركوا عمر. فحمد الله تعالى، وأثنى عليه، ثم قال: أيّها النّاس، إنّه مَن كان يعبد محمّداً، فإنّ محمّداً قد مات. ومَن كان يعبد الله تعالى فإنّ الله حيّ لا يموت، قال: ثم تلا هذه الآية: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} الآية1.
قال: فوالله لكأنّ النّاسَ لم يعلموا أنّ هذه الآية نزلت، حتى تلاها أبو بكر يومئذٍ، قال: وأخذها النّاس عن أبي بكر، فإنّما هي في أفواههم.
قال أبو هريرة: فقال عمر: فوالله ما هو إلاّ أن سمعت أبا بكر تلاها. فعثرت حتى وقعتُ إلى الأرض، ما تحملني رجلايّ، فاحتملني رجلان، وعرفتُ أنّ رسول الله قد مات)).
ـــــــ
1 الآية 144 من سورة آل عمران.(1/250)
حديث السّقيفة:
فلمّا قبض رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ انحاز هذا الحيّ من الأنصار إلى سعد بن عُبادة في سقيفة بن ساعدة. واعتزل عليّ بن أبي طالب، والزّبير بن العوام، وطلحة بن عبيد الله في بيت فاطمة وانحاز المهاجرون إلى أبي بكر وعمر، ومعهم: أُسيد بن حضير في بني الأشهل، فأتى آتٍ إلى أبي بكر وعمر، فقال: إنّ هذا الحي من الأنصار مع سعد بن عُبادة في سقيفة بني ساعدة قد انحازوا إليه، فإن كان لكم بأمر النّاس من حاجة، فأدركوا النّاس قبل أن يتفاقم أمرُهم، ورسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ في بيته لم يُفْرَغ من أمره، قد أغلق دونه الباب أهلُه. فقال عمر لأبي بكر: انطلق بنا إلى إخواننا هؤلاء من الأنصار، حتى ننظر ما هم عليه.
قال ابن إسحاق: وكان من حديث السّقيفة: أنّ عبد الله بن أبي بكر حدّثني عن محمّد بن شهابٍ الزّهري عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود عن ابن عباس قال: أخبرني عبد الرّحمن بن عوف ـ وكنتُ في منْزله بمنى أنتظره، وهو عند عمر في آخر حجّةٍ حجّها عمر ـ قال: فرجع عبد الرّحمن من عند عمر، فوجدني في منْزله بمنى أنتظره، وكنتُ أقرأه القرآن. فقال لي: لو رأيتَ رجلاً أتى أمير المؤمنين فقال: هل لك في فلان؟ يقول: والله لو قد مات عمر لقد بايعت فلاناً، والله ما كانت بيعة أبي بكر إلاّ فَلْتَةً فتَمّتْ. فغضب عمر، وقال: إنّي ـ إن شاء الله ـ لقائم العشية في النّاس، فمحذرهم من هؤلاء الذين يريدون أن يغصبوهم أمرهم قال عبد الرّحمن: فقلت: لا تفعل، فإنّ الموسم يجمع رَعاع النّاس وغوغاءهم، وإنّهم الذين يغلبون على قُرْبك(1/251)
حين تقوم في النّاس، وإنّي أخشى أن تقوم فتقول مقالةً يطيرها أولئك عنك كلّ مُطيّر، ولا يَعُوها ولا يضعوها على مواضعها. فأمْهِلْ، حتى تَقْدُم المدينة؛ فإنّها دار السّنة، وتخلص بأهل الفقه وأشراف النّاس فتقول ما قلت بالمدينة متمكناً، فيعي أهل الفقه مقالتك، ويضعوها على مواضعها. فقال عمر: أما والله ـ إن شاء الله ـ لأقومَنَّ بذلك أوّل مقام أقومه بالمدينة.
قال ابن عباس: فقدمنا المدينة في عَقِب ذي الحجة، فلمّا كان يومُ الجمعة، عجلت الرّواح حين زالت الشّمس، فأجد سعيد بن زيد بن عمرو بن نُفيل جالساً إلى ركن المنبر، فجلست حَذْوه، تَمَسُّ ركبتاي ركبتيه. فلم أنْشَبْ أن خرج عمر.
فقلت لسعيد: ليقولَنَّ السّاعة على هذا المنبر مقالة لم يقلها منذ اسْتُخْلِف فأنكر عليَّ سعيد ذلك. وقال: وما عسى أن يقول مما لم يقل قبله؟ فجلس على المنبر.
فلما سكت المؤذّن، قام، فأثنى على الله بما هو أهله، ثم قال: أما بعد، فإنّي قائل لكم مقالةً قد قُدّر لي أن أقولها، ولا أدري لعلّها بين يدي أجلي؟ فمَن عَقَلَها ووعاها فليُحَدِّث بها حيث انتهت به راحلته، ومَن خشي أن لا يعيَها فلا أُحِلُّ لأحدٍ أن يكذبَ عليَّ؛ إنّ الله بعث محمّداً ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ بالحقّ، وأنْزل عليه الكتاب، فكان مما أنزل عليه: آية الرّجم، فقرأناها ووعيناها، وعقلناها، ورجم رسولُ الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ ورجمنا بعده. فأخشى ـ إن طال بالنّاس زمان ـ أن يقول قائل: والله ما نجد آية الرّجم في كتاب الله، فيضلوا بترك فريضة قد أنْزلها الله. وإنّ الرّجم في كتاب الله حقّ على مَن زنا، إذا أحصن، من(1/252)
الرّجال والنّساء، إذا قامت البيّنة، أو كان الحبَل أو الاعتراف، ثم إنا قد كنا نقرأ فيا نقرأ من الكتاب: ((لا ترغبوا عن آبائكم فإنّه كفر بكم ـ أو كفر لكم ـ أن ترغبوا عن آبائكم)). إلاّ أنّ رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ قال: ((لا تطروني كما أُطْرِيَ عيسى بن مريم، فإنّما أنا عبد، فقولوا: عبد الله ورسوله)). ثم إنّه قد بلغني أنّ فلاناً قال: لو قد مات عمر بن الخطاب لقد بايعت فلاناً. فلا يَغْتَرَنَّ امرؤٌ يقول: إنّ بيعة أبي بكر كانت فلتة فتمت ـ ألا وإنّها والله قد كانت كذلك، إلاّ أنّ الله وَقَى شرَّها، وليس فيكم مَن تنقطع الأعناق إليه مثل أبي بكر، فمَن بايع رجلاً عن غير مشورة المسلمين فإنّه لا بيعة له هو ولا الذي بايعه. تَغِرّة أن يقتلا. إنّه كان من خبرنا ـ حين توفى الله نبيّه محمّداً ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ: أنّ الأنصار خالفونا، فاجتمعوا بأشرافهم في سقيفة بني ساعدة، وتخلّف عنّا عليّ بن أبي طالب والزّبير بن العوام ومَن معهما، واجتمع المجهاجرون إلى أبي بكر. فقلتُ لأبي بكر: انطلق بنا إلى إخواننا من هؤلاء الأنصار. فانطلقنا نَؤُمُّهم، حتى لقينا منهم رجلان صالحان1، فذكرا لنا ما تمالأ عليه القوم، وقالا لنا: أين تريدون يا معاشر المهاجرين؟ قلنا: نريد إخواننا هؤلاء من الأنصار. فقالا: لا عليكم، ألاّ تقربوهم يا معشر المهاجرين، اقضوا أمركم. قال: قلت: والله لنأتينّهم.
ـــــــ
1 هما: عويم بن ساعدة، وهو الذي قال فيه رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ: ((نعم المرء منهم عويم بن ساعدة)). ومعن بن عدي، أخو بني العجلان، وهو الذي قال: حين بكى النّاس على رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ وقد توفي ـ وقالوا: لوددنا أنا متنا قبله. إنا نخشى أن نفتن بعده ـ فقال معن: ((لكني والله ما أحب أني مت قبله. حتى أصدقه ميّتاً. كما صدقته حيّاً)). وقتل معن يوم اليمامة شهيداً في خلافة أبي بكر ـ رضي الله عنهم ـ.(1/253)
فانطلقنا حتى أتيناهم في سقيفة بني ساعدة. فإذا بين ظَهرانيهم رجلٌ مُزمَّل، فقلت: مَن هذا؟ فقالوا: سعد بن عُبادة. قلت: ما له؟ قالوا: وَجَع. فلمّا جلسنا تشهد خطيبهم، فأثنى على الله ـ عزّ وجلّ ـ بما هو له أهل، ثم قال: أمّا بعد؛ فنحن أنصار الله، وكتيبة الإسلام، وأنتم يا معشر المهاجرين، رهط منا، وقد دَفّت دافة من قومكم. قال: وإذا هم يريدون أن يحتازونا من أصلنا، ويغتصبونا الأمرَ.
فلمّا سكت أردتُ أن أتكلّم ـ وقد زَوَّرت في نفسي مقالةً قد أعجبتني، أريد أن أقدّمها بين يدي أبي بكر، وكنتُ أداري منه بعض الحَدِّ.
فقال أبو بكر: على رِسْلك يا عمر، فكرهت أن أعصيه. فتكلّم ـ وهو كان أعلمَ مني وأحكم وأحلم وأوقر ـ فوالله ما ترك من كلمةٍ أعجبتني من تزويري إلاّ قالها في بديهته، أو أفضل، حتى سكت.
فقال: أما بعد؛ فما ذكرتم فيكم من خيرٍ فأنتم له أهل، ولن تعرف العرب هذا الأمر إلاّ لهذا الحيّ من قريش. هم أوسط العرب نسباً وداراً، وقد رضيت لكم أحدَ هذين الرّجلين، فبايعوا الآن أيّهما شئتم، فأخذ بيدي، وبيد أبي عبيدة عامر بن الجراح ـ وهو جالس بيننا ـ فلم أكره شيئاً مما قال غيرها، كان والله أن أُقَدَّم فتضربَ عنقي لا يقرّبني ذلك إلى إثم، أحبّ إليّ من أتأَمّر على قوم فيهم أبو بكر.
قال: فقال قائلٌ من الأنصار1: أنا جُذَيْلها الْمُحَكّك وغُذَيْقُها الْمُرَجّب، منا أمير ومنكم أمير، يا معشر قريش.
ـــــــ
1 هو: الحباب بن المنذر ـ رضي الله عنه وأرضاه ـ.(1/254)
قال: فكثر اللّغط، وارتفعت الأصوات، حتى خشينا الاختلاف.
فقلت: ابْسُط يدك يا أبا بكر. فبسطها، فبايعته، ثم بايعه المهاجرون، ثم بايعه الأنصار، ونزونا على سعد بن عُبادة.
فقال قائلٌ منهم: قتلتم سعد بن عبادة. فقلت: قتل الله سعد بن عبادة.(1/255)
بيعة العامة لأبي بكر
...
بيعة العامّة لأبي بكر:
ولَمَّا بويع أبو بكر في السّقيفة، وكان الغدُ، جلس أبو بكر على المنبر. فقام عمر قبل أبي بكر فتكلّم فحمد الله، وأثنى عليه بما هو أهله، ثم قال: ((أيّها النّاس، إنّي قد قلت لكم بالأمس مقالة، ما كانت وما وجدتها في كتاب الله، ولا كانت عهداً عهده إليَّ رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ، ولكنّي قد كنتُ أرى أنّ رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ سَيُدَبِّر أمرنا ـ يقول: يكون آخرنا ـ، وإنّ الله قد أبقى فيكم كتابه الذي به هدى رسوله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ؛ فإن اعتصمتم به هداكم الله لما كان هدى له رسوله. إنّ الله قد جمعكم على خيركم ـ صاحب رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ، وثاني اثنين إذ هما في الغار ـ فقوموا فبايعوه)). فبايع النّاس أبا بكر البيعة العامّة، بعد بيعة السّقيفة.
ثم تكلّم أبو بكر ـ رضي الله عنه ـ، فحمد الله، وأثنى عليه بما هو أهله. ثم قال: ((أمّا بعد؛ أيّها النّاس، فإنّي قد وُلِّيتُ عليكم ولستُ بخيركم، فإن أحسنتُ فأعينوني، وإن أسأتُ فقوِّموني. الصّدق أمانة، والكذب خيانة. والضّعيف فيكم قويّ عندي حتى أريح عليه حقّه ـ إن شاء الله ـ والقويّ فيكم ضعيف، حتى آخذ الحقّ منه ـ إن شاء الله(1/255)
، لا يَدَعُ قومٌ الجهادَ في سبيل الله إلاّ ضربهم الله بالذّلّ، ولا تشيع الفاحشة في قومٍ قط إلاّ عمّهم الله بالبلاء. أطيعوني ما أطعتُ الله ورسوله، فإذا عصيت الله ورسوله فلا طاعة لي عليكم)).
فضيلة أبي بكر الصّدِّيق وخلافته الرّاشدة :
وعن ربيعة ـ أحد الصّحابة رضي الله عنهم ـ قال: قلت لأبي بكر ـ رضي الله عنه ـ: ((ما حملك على أن تلي أمر النّاس، وقد نهيتني أن أتأمر على اثنين؟ قال: لم أجد من ذلك بُدّاً؛ خشيت على أمّة محمّد الفرقة)). وفي رواية: ((تخوفت أن تكون فتنة، تكون بعدها ردّة)).
وعن عائشة ـ رضي الله عنها ـ قالت: ((لما تُوُفِّي رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ اشرأبَّ النفاق، وارتدّت العرب، وانحازت الأنصار، فلو نزل بالجبال الرّاسيات ما نزل بأبي لهاضها، فما اختلفوا في نقطةٍ إلاّ طار أبي بفضلها)).
وعن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ أنّه قال: ((والذي لا إله إلاّ هو، لولا أنّ أبا بكر استخلف، ما عبد الله ـ ثم قال الثّانية، ثم قال الثّالثة ـ فقيل له: مَهْ، يا أبا هريرة. فقال: إنّ رسولَ الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ وَجَّه أُسامة بن زيد في سبعمائة إلى الشّام. فلمّا نزل بذي خُشُب1 قُبِضَ رسول الله، وارتدّت العرب. واجتمع إليه الصّحابة. فقالوا: ردّ هؤلاء، توجّه هؤلاء إلى الرّوم، وقد ارتدّت العرب حول المدينة؟ فقال: والذي لا إله إلاّ هو، لو جَرَّت الكلاب بأرجل أزواج رسول الله ـ صلّى الله
ـــــــ
1 وادٍ على مسيرة ليلة من المدينة.(1/256)
عليه وسلّم ـ، ما رددتُ جيشاً وجّهه رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ، ولا حللت لواءً عقده. فوجّه أُسامة. فجعل لا يمرّ بقبائلَ يريدون الارتداد، إلاّ قالوا: لولا أنّ لهؤلاء قوّةً ما خرج مثل هؤلاء من عندهم، ولكن ندعهم حتى يقلى الرّوم. فلقوا الرّوم، فهزموهم، ورجعوا سالمين، فثبتوا على الإسلام. ولله الحمد)).
قصّة الرّدّة ـ أعاذنا الله منها ـ:
قد تقدّم من رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ إخباره بالفتن الكائنة بعده، وإنذاره عنها، وإخباره خاصّة عن الرّدّة.
من ذلك: ما في الصّحيح عن أبي سعيد الخدري ـ رضي الله عنه ـ أنّ رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ قال: ((بينا أنا نائمٌ رأيتُ في يَدَيَّ سوارين من ذهبٍ، فكرهتهما، فنفختهما، فطارا فأولتهما كذابين يخرجان)).
وعن عبد الله بن مسعود ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ : ((ثلاث من نجا منهن فقد نجا: من موتي، ومن قتل خليفة مصطبر بالحقّ معطيه، ومن الدّجال)).
وفي الصّحيح عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال: ((لَمّا تُوُفِّي رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ، وكان أبو بكر، وكفر مَن كفر من العرب، قال عمر لأبي بكر: كيف تقاتل النّاسَ، وقد قال رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ: أُمِرْتُ أن أقاتل النّاسَ حتى يقولوا: لا إله إلاّ الله، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم، إلاّ بحقّها؟ فقال أبو بكر: فإنّ الزّكاة من حقّها. والله لأقاتلَنَّ مَن فرّق بين الصّلاة والزّكاة، والله لو منعوني عنَاقاً(1/257)
كانوا يؤدّونها إلى رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ لقاتلتهم على منعها. قال عمر: فما هو إلاّ أن رأيتُ الله قد شرح صدر أبي بكر للقتال، فعرفتُ أنّه الحقّ. قال عمر: والله لرجح إيمان أبي بكر بإيمان هذه الأمّة جميعاً في قتال أهل الرّدّة)).
وذكر يعقوب بن سعيد بن عبيد، ومحمّد بن مسلم بن شهاب الزّهري عن جماعة قالوا: ((كان أبو بكر أمير الشّاكرين: الذين ثبتوا على دينهم وأمير الصّابرين: الذين صبروا على جهاد عدوّهم ـ وهم أهل الرّدّة ـ وذلك: أنّ العرب افترقت في ردّتها، فقالت فرقة: لو كان نبيّاً ما مات، وقالت فرقة: انقضت النّبوّة بموتهـ فلا نطيع أحداً بعده. وفي ذلك يقول قائلهم:
أطعنا رسولَ الله ما كان بيننا ... فيا لعباد الله، ما لأبي بكر؟
أيورثها بكراً إذا مات بعده ... فتلك لعمر الله قاصمة الظّهر
وقالت فرقة: نؤمن بالله. وقال بعضهم: نؤمن بالله، ونشهد أنّ محمّداً رسول الله، ولكن لا نعطيكم أموالنا.
فجادل الصّحابة أبا بكر ـ رضي الله عنهم ـ وقالوا: احبس جيش أُسامة، فيكون أماناً بالمدينة، وأُرفق بالعرب حتى يتفرج هذا الأمر. فلو أنّ طائفة ارتدّت، قلنا: قاتل بِمَن معك مَن ارتدّ. وقد أصفقت العرب على الارتداد. وقدم على أبي بكر عيينة بن حصن، والأقرع بن حابس في رجالٍ من أشراف العرب، فدخلوا على رجالٍ من المهاجرين، فقالوا: إنّه قد ارتدّ عامة من وراءنا عن الإسلام، وليس في أنفسهم أن يؤدّوا إليكم(1/258)
ما كانوا يؤدّونه إلى رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ فإن تجعلوا لنا جُعلاً كفيناكم. فدخل الصّحابة على أبي بكر، فعرضوا عليه ذلك. وقالوا: نرى أن تطعم الأقرع وعيينة طُعْمةً يرضيان بها، ويكفيانك مَن وراءهما، حتى يرجع إلينا أُسامة وجيشه، ويشتدّ أمرك، فإنّا اليوم قليل في كثيرٍ.
فقال أبو بكر: فهل ترون غير ذلك؟
فقالوا: لا.
قال: قد علمتم أنَّ مَن عهد نبيّكم إليكم: المشورة فيما لم يمض فيه أمر من نبيّكم، ولا نزل به الكتاب عليكم، وأنا رجل منكم، تنظرون فيما أشير به عليكم. وإنّ الله لن يجمعكم على ضلالةٍ؛ فتجتمعون على الرّشد في ذلك.
فأمّا أنا: فأرى أن ننبذ إلى عدوّنا، فمَن شاء فليؤمن ومَن شاء فليكفر، وألاَّ ترشون على الإسلام، فنجاهد عدوّه كما جاهدهم. والله لو منعوني عقالاً لرأيت أن أجاهدهم عليه حتى آخذه. وأما قدوم عيينة وأصحابه إليكم فهذا أمر لم يغب عنه عيينة، هو راضيه، ثم جاءوا له. ولو رأوا ذباب السّيف لعادوا إلى ما خرجوا منه، أو أفناهم السّيف، فإلى النّار. قتلناهم على حقّ منعوه وكفر اتّبعوه، فبان للنّاس أمرهم.
فقالوا له: أنتَ أفضلنا رأياً، ورأينا لرأيك تبع.
فأمر أبو بكر ـ رضي الله عنه ـ النّاس بالتّجهّز، وأجمع على المسير بنفسه.
وقد كان رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ لما صدر من الحجّ سنة عشر ـ وقدم المدينة أقام حتى رأى هلال المحرم سنة إحدى عشرة. فبعث الْمُصّدِّقين في العرب.(1/259)
نفع الله طيئاً بعديّ بن حاتم:
فلمّا بلغهم وفاة رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ، اختلفوا. فمنهم مَن رجع، ومنهم مَن أدّى إلى أبي بكر، منهم عدي بن حاتم، كانت عنده إبل عظيمة من صدقات قومه، فلمّا ارتدّ مَن ارتدّ، وارتدّت بنو أسد ـ وهم جيرانهم ـ اجتمعت طيء إلى عدي فقالوا: إنّ هذا الرّجل قد مات، وقد انتقض النّاس بعده، وقبض كلّ قومٍ ما كان في أيديهم من صدقاتهم، فنحن أحقّ بأموالنا من شذاذ النّاس.
فقال: ألم تعطوا العهد طائعين غير مكرهين؟
قالوا: بلى، ولكن حدث ما ترى، وقد ترى ما صنع النّاس.
فقال: والذي نفس عدي بيده، لا أخيس بها أبداً. فإن أبيتم، فوالله لأقاتلنّكم. فليكوننّ أوّل قتيل يقتل على وفاء ذمّته: عدي بن حاتم، أو يسلمها. فلا تطمعوا أن يُسبّ حاتم في قبره، وعدي ابنه من بعده. فلا يدعونكم غَدْرَ غادرٍ إلى أن تغدروا. فإنّ الشّيطان قادة عند موت كلّ نبيّ يستخفّ بها أهلَ الجهل، حتى يحملهم على قلائص الفتنة، وإنّما هي عجاجة لا ثبات لها، ولا ثبات فيها، إنّ لرسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ خليفةً من بعده يلي هذا الأمر؛ وإنّ لدين الله أقواماً سينهضون به ويقومون، بعد رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ، وذؤابتيه في السّماء. لئن فعلتم لَيُقَارِعَنّكم عن أموالكم ونسائكم بعد قتل عدي وغدركم، فأيّ قومٍ أنتم؟ عند ذلك؟
فلمّا رأوا منه الجد كفوا عنه، وأسلموا له.(1/260)
فلمّا كان زمن عمر: رأى من عمر جَفْوة. فقال له عدي: ما أراك تعرفني؟ قال عمر: بلى والله. والله يعرفك في السّماء. أعرفك والله، أسلمت إذ كفروا، ووفيت إذ غدروا، وأقبلت إذ أدبروا، وأيم الله أعرفك.(1/261)
قتال أهل الردة
...
قتال أهل الرّدّة:
ولَمّا كان من العرب ما كان، ومنع مَن منع منهم الصّدقة، جد بأبي بكر الجد في قتالهم، وأراه الله رشده فيهم، وعزم على الخروج بنفسه، فخرج في مائة من المهاجرين والأنصار، وخالد يحمل اللّواء، حتى نزل بقعاء، يريد أن يتلاحق النّاس، ويكون أسرع لخروجهم، ووكل بالنّاس محمّد بن مسلمة يستحثّهم، وأقام ببقعاء ينتظر النّاس، ولم يبقَ أحد من المهاجرين والأنصار إلاّ خرج.
فقال عمر: ((ارجع يا خليفة رسول الله، تكن للمسلمين فئة، فإنّك إن تقتل يرتدّ النّاس، ويعلو الباطلُ الحقَّ)).
فدعا زيد بن الخطاب ليستخلفه، فقال: قد كنتُ أرجو أن أرزق الشّهادة مع رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ، فلم أرزقها، وأنا أرجو أن أرزقها في هذا الوجه. وإنّ أمير الجيش لا ينبغي أن يباشر القتال بنفسه.
فدعا أبا حذيفة بن عتبة، فعرض عليه ذلك، فقال مثلما قال زيد. فدعا سالماً مولى أبي حذيفة، فأبى عليه. فدعا خالداً فأمّره على النّاس، وكتب معه هذا الكتاب:
((بسم الله الرّحمن الرّحيم.
هذا ما عهد أبو بكر خليفة رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ، إلى خالد(1/261)
بن الوليد، حين بعثه لقتال مَن رجع عن الإسلام إلى ضلالة الجاهلية، وأماني الشّيطان. وأمره: أن يبيّن لهم الذي لهم في الإسلام والذي عليهم. ويحرص على هداهم. فمَن أجابه قبل منه، وإنّما يقاتل مَن كفر بالله على الإيمان بالله. فإذا أجاب إلى الإيمان، وصدق إيمانه لم يكن له عليه سبيل. وكان الله حسيبه بعد في عمله، ولا يقبل من أحدٍ شيئاً أعطاه إيّاه إلاّ الإسلام، والدّخول فيه، والصّبر به وعليه، ولا يدخل في أصحابه حشوا من النّاس، حتى يعرف علامَ اتبعوه، وقاتلوا معه؟ فإنّي أخشى أن يكون معكم ناس يتعوذون بكم، ليسوا منكم، ولا على دينكم، فيكونون عوناً عليكم. وأرفق بالمسلمين في مسيرهم ومنازلهم، وتفقّدهم، ولا تُعَجِّل بعض النّاس عن بعضٍ في المسير، ولا في الارتحال، واستوص بِمَن معك من الأنصار خيراً؛ فإنّ فيهم ضيقاً ومرارة وزَعارة، ولهم حقّ وفضيلة وسابقة ووصية من رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ. فاقبل من محسنهم وتجاوز عن مسيئهم)).
ويروى أنّا أبا بكر كتب مع هذا كتاباً آخر، وأمر خالداً أن يقرأه في كلّ مجمع، وهو:
كتاب أبي بكر لأمرائه:
((بسم الله الرّحمن الرّحيم.
من أبي بكر خليفة رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ، إلى مَن بلغه كتابي هذا، من عامّة النّاس أو خاصّتهم، أقام على إسلامٍ أو راجع عنه. سلام على مَن اتّبع الهدى، ولم يرجع بعد الهدى إلى الضّلالة والعمى. فإنّي أحمد(1/262)
إليكم الله الذي لا إله إلاّ هو. وأشهد أن لا إله إلاّ الله، وأشهد أنّ محمّداً عبده رسوله، الهادي غير المضلّ. أرسله بالحقّ من عنده إلى خلقه، {بَشِيراً وَنَذِيراً }1، {وَدَاعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجاً مُنِيراً} 2، {لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيّاً وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ} 3. فهدى الله بالحقّ مَن أجاب إليه؛ وضرب بالحقّ مَن أدبر عنه؛ حتى صاروا إلى الإسلام طوعاً وكرهاً. ثم أدرك رسولَ الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ عند ذلك أجله. وقد كان الله بيّن له ذلك لأهل الإسلام في الكتاب الذي أنزل عليه فقال: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} 4. وقال: {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ} الآية5. وقال للمؤمنين: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ} الآية6. فمَن كان إنّما يعبد محمّداً؛ فإنّ محمداً قد مات، ومَن كان يعبد الله وحده لا شريك له، فإنّ الله له بالمرصاد، حيّ قيّوم لا يموت، ولا تأخذه سِنةٌ ولا نومٌ، حافظ لأمرِه، منتقم من عدوّه ومُجزيه، وإنّي أوصيكم أيّها النّاس؛ بتقوى الله. وأحضّكم على حظّكم ونصيبكم من الله، وما جاء به نبيّكم ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ، وأن تهتدوا بهداه وتعتصموا بدين الله، فإنّ كلّ مَن لم يحفظ الله ضائع، وكلّ مَن لم يصدّقه كاذب، وكلّ مَن لم يسعده الله شقي، وكلّ مَن لم يرزقه محروم، وكلّ مَن لم ينصُره الله مخذول، فاهدوا بهدي الله ربّكم؛ فإنّه مَن يدي الله فهو المهتدي، ومَن يضلل فلن تجد له وليّاً مُرشِداً)).
ـــــــ
1 الآية 119 من سورة البقرة.
2 الآية 46 من سورة الأحزاب.
3 الآية 70 من سورة يس.
4 الآية 30 من سورة الزّمر.
5 الآية 34 من سورة الأنبياء.
6 الآية 144 من سورة آل عمران.(1/263)
وإنّه قد بلغني رجوع مَن رجع منكم عن دينه، بعد أن أقرّ بالإسلام، وعمل به، اغتراراً بالله، وجهالةً بأمر الله، وطاعة للشّيطان. قال الله تعالى : {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ} 1. وإنّي قد بعثت إليكم خالداً في المهاجرين والأنصار، والتّابعين لهم بإحسانٍ، وأمرته أن لا يقاتل أحداً حتى يدعوه إلى داعية الله، فمَن دخل في دين الله وعمل صالحاً قبل ذلك منه، ومَن أبى فلا يُبْقِي على أحدٍ، ويحرقهم بالنّار، ويسبي الذّراري والنّساء)).
وعن عروة بن الزّبير قال: ((جعل أبو بكر يوصي خالداً، ويقول: عليك بتقوى الله، والرّفق بِمَن معك؛ فإنّ معك أهل السّابقة من المهاجرين والأنصار. فشاورهم، ثم لا تخالفهم. وقدم أمامك الطّلائع تَرْتَدْ لك المنازل، وسِرْ في أصحابك على تعبئةٍ جيّدةٍ؛ فإن أعطاك الله الظّفر على أهل اليمامة، فأقِلَّ البُقْيا عليهم ـ إن شاء الله ـ وإيّاك أن تلقاني غداً بما يضيق به صدري منك. اسمع عهدي ووصيّتي، ولا تُغِيرن على دار سمعت فيا أذاناً، حتى تعلم ما هم عليه)).
((واعلم أنّ الله يعلم من سريرتك ما يعلم من علانيتك. واعلم أنّ رعيتك تعمل بما تراك تعمل)).
((تعاهد جيشك، وانْهَهُم عما لا يصلح لهم. فإنّما تقاتلون مَن تقاتلون بأعمالكم، وبهذا نرجو لكم النّصر على أعدائكم، سِر على بركة الله تعالى)).
ـــــــ
1 الآية 6 من سورة فاطر.(1/264)
ذكر مسير خالد إلى بزاخة وغيرها:
لما سار خالد إلى بُزاخَة1، كان عدي بن حاتم معه، وقد انضم إليه من طيّء ألف، فنَزلوا بُزاخة، وكانت جَديلة معرضة عن الإسلام ـ وهي بطن من طيّء ـ وكان عدي بن حاتم ـ رضي الله عنه ـ من الغَوْث. وقد همت جديلة أن ترتدّ، فجاءهم مِكْنَف بن زيد الخيل. فقال: أتريدون أن تصيروا سُبّة على قومكم؟ ولم يرجع رجلٌ واحد من طيّء، وهذا عدي معه ألف رجلٍ من طيّء، فكسرهم.
فلمّا نزل خالد بزاخة، قال لعدي: ألا نسي إلى جديلة؟ قال: يا أبا سليمان، أقاتل معك بيدين أحبّ إليك، أم بيدٍ واحدةٍ؟ فقال: بل بيدين. قال: فإنّ جديلة إحدى يدي، فكُفَّ عندهم، فكَفَّ عنهم.
فجاءهم عدي. فدعاهم إلى الإسلام. فأسلموا، فحمد الله. وسار بهم إلى خالد، فلما رآهم صاح في أصحابه: السّلاح. فلما جاءوا حلوا ناحية، فجاءهم خالد ورحب بهم، فاعتذروا إليه. وقالوا: نحن لك حيث شيئت. فَجّزّاهم خيراً. فلم يرتدّ من طيّء رجلٌ واحدٌ.
فسار خالد على تعبئته، وطلب إليه عدي أن يجعل قومه مقدمة أصحابه. فقال: أخاف أن أقدّمهم، فإذا ألجمهم القتال انكشفوا، فانكشف من معنا، ولكن دعني أقدّم قوماً صُبُراً، لهم سوابق.
فقال عدي: الرّأي ما رأيت. فقدّم المهاجرين والأنصار.
ولم يزل يقدّم الطّلائع منذ خرج من بقعاء حتى قدم اليمامة.
ـــــــ
1 رملة من وراء النّباج. وقيل: ماء لبني أسد وطيّء.(1/265)
وأمر عيونه أن يختبروا كلّ مَن مرّوا بهم عند مواقيت الصّلاة بالأذان لها، فيكون ذلك دليلاً على إسلامهم.
فلمّا انتهوا إلى طُلَيحة الأسدي وجدوه وقد ضربت له قبة، وأصحابه حوله. فضرب خالد خيام عسكره على ميلٍ أو نحوه، وخرج يسير على فرسٍ، معه نفر من الصّحابة، فوقف قريباً من العسكر. ودعا بطُلَيحة فخرج إليه. فقال: إنّ من عهد خليفتا، إلينا: أن ندعوك إلى الله وحده لا شريك له، وأنّ محمّداً عبده ورسوله، وأن تعود إلى ما خرجت منه. فأبى طُليحة.
وكان عيينة بن حصن قد قال له: لا أبالك. هل أنتَ مُرينا؟ ـ يعني: نبوّتك ـ فقد رأيت ورأينا ما كان يأتي محمّداً. قال: نعم. فبعث عيوناً له، لما أقبل خالد إليهم، قبل أن يسمع النّاس بإقباله. فقال: إن بعثتم فارسين على فرسين، أغَرَّين مُحَجّلين، من بني نصر بن قُعَين، أتوكم من القوم بعين. فبعثوا كذلك، فلقيا عيناً لخالدٍ، فأتوا به، فزادهم فتنة.
فلمّا أبى طُليحة أن يجيب خالداً، انصرف خالد إلى معسكره، فاستعمل تلك اللّيلة على حرسه مكنف بن زيد الخيل، وعدي بن حاتم، فلمّا كان من السّحر نهض خالد، فعبأ أصحابه، ووضع ألويته مواضعها. ودفع اللّواء الأعظم إلى زيد بن الخطاب، فتقدم به، وتقدّم ثابت بن قيس ابن شماس بلواء الأنصار، وطلبت طيْء لواء. فعقد لهم خالد لواء. ودفعه إلى عدي.
فلمّا سمع طُليحة الحركة عبأ أصحابه، حتى إذا استوت الصّفوف، زحف بهم خالد حتى دنا من طُليحة، فأخرج طُليحة أربعين غلاماً جلداً،(1/266)
فأقامهم في الميمنة، وقال: اضربوا حتى تأتوا الميسرة. فتضعضع النّاس، ولم يقتل أحد حتى أقامهم في الميسرة. ففعلوا مثل ذلك، وانهزم المسلمون.
فقال خالد: يا معشر المسلمين، الله، الله. واقتحم وسط القوم، وكرَّ معه أصحابه. فاختلطت الصّفوف، ونادى يومئذٍ مناد من طيء، عند ما حمل أولئك الأربعون: يا خالد، عليك بسَلْمَى وأجا ـ جبلي طيّء ـ فقال: بل إلى الله الملتجأ، ثم حمل فما رجع، حتى لم يبق من الأربعين رجلٌ واحدٌ. وترادَّ النّاس بعد الهزيمة، واشتدّ القتال، وأُسر حبال بن أبي حبال، فأرادوا أن يبعثوا به إلى أبي بكر. فقال: اضربوا عنقي، ولا تروني محمّديكم هذا، فضربوا عنقه.
ولما اشتد القتال: تزمل طُليحة بكساء له، وهم ينتظرون أن ينْزل عليه الوحي فلمّا طال ذلك على أصحابه، وهدتهم الحرب، جعل عيينة يقاتل ويذمر النّاس، حتى إذا ألح المسلمون عليهم السّيف، أتى طُليحة، وهو في كسائه. فقال: لا أبا لك، هل أتاك جبريل بعد؟ قال: لا والله. قال: تباً لك سائر اليوم. ثم رجع عيينة فقاتل. وجعل يحضّ أصحابه على القتال. وقد ضجوا من وقع السّيوف. فلما طال ذلك عليهم، جاء إلى طُليحة وهو متلفف بكسائه. فجبذه جبذة شديدة جلس منها. وقال: قبح الله هذه من نبوّة، ما قيل لك بعد شيء؟ قال: بلى، قد قيل لي: إنّ لك رحى كرحاه، وأمراً لن تنساه.
فقال عيينة: أظنّ أن قدم علم الله أنّه سيكون لك حديث لن تنساهن يا بني فزارة هكذا ـ وأشار تحت الشّمس ـ انصرفوا. هذا والله كذّاب(1/267)
. ما بورك لنا ولا له فيما يطلب. فانصرفت فزارة، وذهب عيينة وأخوه في آثارهما، فأُدْرِك عيينة فأُسِرَ، وأَفْلَتَ أخوه.
ولما رأى طُليحة ما فعل أصحابه خرج منهزماً، فجعل أصحابه يقولون: ماذا تأمرنا؟ وقد كان أعد فرسه، وهيّأ امرأته، فوثب على فرسه وحمل امرأته وراءه. ثم ولّى هارباً. وقال: مَن استطاع منكم أن يفعل هكذا فليفعل، ثم هرب حتى قدم الشّام.
وذُكر أنّه قال لأصحابه لما رأى انهزامهم: ويلكم، ما يهزمكم؟
فقال له رجلٌ: أنا أخبرك، إنّه ليس منّا رجلٌ إلاّ وهو يحبّ أنّ صاحبه يموت قبله، وإنّا نلقي قوماً كلّهم يحبّ أن يموت قبل صاحبه.
ولما ولّى طليحة هارباً، تبعه عكاشة بن مِحْصَن وثابت بن أقرم، وكان طليحة قد أعطى الله عهداً: أن لا يسأله أحد النّزول إلاّ فعل. فلما أدبر ناداه عكاشة بن محصن: يا طليحة، فعطف عليه، فقتل عكاشة، ثم أدركه ثابت فقتله أيضاً طليحة. ثم لحق المسلمون أصحاب طليحة فقتلوا وأسروا. وصاح خالد: لا يطبخن رجلٌ قدراً، ولا يسخنن ماء، إلاّ وأثفيته رأس رجلٍ1.
ـــــــ
1 التّحريق بالنّار مسألة خلافية. قال صاحب الفتح: ((واختلف السّلف في التّحريق فكرهه عمر وابن عباس وغيرهما مطلقاً سواء كان ذلك بسبب كفر أو في حال مقاتلة أو كان قصاصاً، وأجازه عليّ وخالد وغيرهما، وقال المهلب: ليس هذا النّهي على التّحريم بل على سبيل التّواضع، ويدلّ على جواز التّحريق فعل الصّحابة، وقد سمل النّبيّ ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ أعين العرنيّين بالحديد المحمي، وقد حرّق أبو بكر البغاة بالنّار بحضرة الصّحابة، وحرّق خالد بالنّار ناساً من أهل الرّدّة وأكثر علماء المدينة يجيزون تحريق الحصون والمراكب على أهلها. قاله الثّوري والأوزاعي. وقال ابن المنير وغيره: لا حجّة فيما ذكر للجواز؛ لأنّ قصة العرنيّين كانت قصاصاً أو منسوخة لما تقدم.وتجويز الصّحابي معارض بمنع صحابي آخر)).انتهى.فتح الباري6/149-150،طبعة السّلفية.(1/268)
وتلطف رجلٌ من بني أسد حتى وثب على عجز راحلة خالد، فقال: أنشدك الله، أن لا يكون هلاك مضر على يدك، يا خالد حكمك في بني أسد.
فنادى خالد: مَن قام فهو آمن. فقام النّاس كلّهم.
وسمعت بذلك بنو عامر. فأعلنوا الإسلام.
وأمر خالد بالحظائر أن تبنى، ثم أوقد فيها النّار، ثم أمر بالأسرى فألقيت فيها. فألقى فيها يومئذٍ حامية بن سبيع الذي استعمله رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ على صدقات قومه.
وأُخذت أم طّليحة، فعرض عليها الإسلام، فوثبت، وأخذت فحمة من النار، وهي تقول: يا موت عِمْ صباحاً، كافحته كفاحاً، إذا لم أجد براحاً.
وذكر الواقدي: أنّ خالداً جمع الأسرى في الحظائر، ثم أضرمها عليهم فاحترقوا أحياء. ولم يحرق أحداً من فزارة.
فقيل لبعض أهل العلم: لِمَ حرّق هؤلاء من بين أهل الرّدّة؟
فقال: بلغته عنهم مقالة سيّئة، وثبتوا على ردّتهم.
وعن ابن عمر قال: شهدت بزاخة مع خالد، فأظفرنا الله على طليحة. وكنّا كلّما أغرنا على قوم سبينا الذّراري، واقتسمنا الأموال)).
ذكر رجوع بني عامر وغيرهم إلى الإسلام:
ولما أوقع الله ببني أسد وفزارة ما أوقع ببزاخة، بعث خالد السّرايا، ليصيبوا مَن قدروا عليه مِمَن هو على ردّته. وجعلت العرب تسير إلى خالد، رغبة في الإسلام، وخوفاً من السّيف.(1/269)
فمنهم مَن أصابته السّرية، فيقول: جئت راغباً في الإسلام، وقد رجعت إلى ما خرجت منه.
ومنهم مَن يقول: ما رجعنا، ولكن منعنا أموالنا، فقد سلمناها، فليأخذ منها حقّه.
ومنهم مَن مضى إلى أبي بكر، ولم يقرب خالداً.
ثم عمد خالد إلى جبلي طيء ـ أجَا وسَلْمَى ـ فأتتْه عامر وغطفان يدخلون الإسلام، ويسألونه الأمان على مياههم وبلادهم، وأظهروا التّوبة، وأقاموا الصّلاة، وأقرّوا بالزّكاة.فأمنهم خالد، وأخذ عليهم العهود والمواثيق: لتبايعن على ذلك أبناءكم ونساءكم آناء اللّيل وآناء النّهار، فقالوا: نعم، نعم.
وبعث بعيينة إلى أبي بكر مجموعة يداه في وثاقه، فجعل غلمان المدينة ينخسونه بالجريد، ويضربونه/ ويقولون: أيْ عدوَّ الله، أكفرت بالله بعد إيمانك؟ فيقول: والله ما كنت آمنت بالله قط.
وأخذ خالد من بني عامر وغيرهم من أهل الرّدّة ـ مِمَن بايعه على الإسلام ـ كلّ ما ظهر من سلاحهم، واستحلفهم على ما غيبوا منه، فإذا حلفوا تركهم، وإن أبوا شدّهم أسرى حتى أتوا بما عندهم. فأخذ منهم سلاحاً كثيراً، فأعطاه أقواماً يحتاجون إليه في قتال عدوّهم، وكتبه عليهم ثم ردّوه بعد.
وحدث يزيد بن أبي شريك الفزاري عن أبيه قال: قدمت مع أسد وغطفان على أبي بكر وافداً، حين فرغ خالد منهم. فقال أبو بكر:(1/270)
((اختاروا بين خَصْلَتين: حرب مُجْلية، أو سِلْم مُخزية. فقال خارجة بن حصن: هذه الحرب المجلية قد عرفناها، فما السّلم الْمُخزية؟ قال: تشهدون أنّ قتلانا في الجنّة، وقتلاكم في النّار، وأن تردّوا علينا ما أخذتم منا، ولا نردّ عليكم ما أخذنا منكم، وأن تَدُوا قتلانا، كلّ قتيل مائة بعيرٍ، منها أربعون في بطونها أولادها، ولا نَدِي قتلاكم. ونأخذ منكم الحلقة والكراع، وتلحقون بأذناب الإبل حتى يري الله خليفة نبيّه والمؤمنين ما شاء فيكم، أو يرى منكم إقبالاً لما خرجتم منه.
فقال خارجة: نعم. يا خليفة رسول الله.
فقال أبو بكر: عليكم عهد الله وميثاقه أن تقوموا بالقرآن آناء اللّيل وآناء النّهار، وتعلمون أولادكم ونساءكم، ولا تمنعوا فرائض الله في أموالكم قالوا: نعم)).
قال عمر: يا خليفة رسول الله، كلّ ما قلتَ كما قلتَ. إلاّ أن يَدُوا مَن قُتِل منا، فإنّهم قوم قتلوا في سبيل الله.
فتتابع النّاس على قول عمر.
فقبض أبو بكر كلّ ما قدر عليه من الحلقة والكراع.
فلما تُوُفِّي، رأى عمر: أنّ الإسلام قد ضرب بِجِرَانِه، فدفعه إلى أهله وإلى ورثته مَن مات منهم.
مسير خالد إلى اليمامة:
فلمّا فرغ خالد من بزاخة وبني عامر، أظهر أنّ أبا بكر عهد إليه: أن يسير إلى أرض بني تميم، وإلى اليمامة، فقال ثابت بن قيس ـ وهو(1/271)
على الأنصار، وخالد على جماعة المسلمين ـ ما عهد إلينا ذلك، وليس بنا قوّة، وقد كَلَّ المسلمون، وعَجَف كُراعهم. فقال خالد: لا أستكره أحداً، وسار بِمَن تبعه.
وأقامت الأنصار يوماً أو يومين، ثم تلاومت فيما بينها، وقالت: والله وما صنعنا شيئاً. والله لئن أصيب القوم ليقولُنَّ خذلتموهم، وإنّها لمسبّة عارها باقٍ إلى آخر الدّهر. ولئن أصابوا فتحاً إنّه لخير مُنِعْتموه. فابعثوا إلى خالد يقيم حتى تلحقوا. فبعثوا إليهم فأقام حتى لحقوه، فاستقبلهم في كثرة من المسلمين حتى نزلوا.
وساروا جميعاً حتى انتهوا إلى البطاح، من أرض بني تميم، فلم يجدوا بها جمعاً. ففرق خالد السّرايا في نواحيها. فأَتت سريّة منهم بنو حنظلة ـ وسيّدهم مالك بن نويرة ـ وكان قد بعثه النّبِيّ ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ مصدقاً على قومه، فجمع صدقاتهم، فلمّا بلغته وفاة النّبِيّ ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ، جَفّل إبل الصّدقة ـ أي: ردّها إلى أهلها فذلك سمي الجفول ـ وجمع قومه، فقال: إنّ هذا الرّجل قد هلك، فإن قام قائم بعده: رضي منكم أن تدخلوا في أمره، ولم يطلب ما مضى، ولم تكونوا أعطيتم النّاس أموالكم. فتسارع إليه جمهورهم.
فقام فيهم قَعْنَب ـ سيّد بني يربوع ـ فقال: يا بني تميم، لا ترجعوا في صدقاتكم، فيرجع الله في نعمه عليكم، ولا تتجردوا للبلاء، وقد ألبسكم الله العافية ولا تستشعروا خوف الكفر، وأنتم في أمن الإسلام. إنّكم أعطيتم قليلاً من كثيرٍ، والله مذهب الكثير بالقليل، ومسلط على أموالكم غداً مّن يأخذها على غير الرّضى، وإن منعتموها قتلتم، فأطيعوا الله واعصوا مالكاً.(1/272)
فقام مالك، فقال: يا بني تميم، إنّما رددت عليكم أموالكم إكراماً لكم. وإنّه لا يزال يقوم منكم قائم يخطئنِي. والله أنا بأحرصكم على المال، ولا بأجزعكم من الموت. ولا بأخفاكم شخصاً إن أقمت، ولا بأخفاكم رحلة إن هربت. فترضَّوه عند ذلك وأسندوا أمرهم إليه، وأبى الله إلاّ أن يتمّ أمره فيهم.
وقال مالك في ذلك:
وقال رجال: سدّد اليوم مالك ... وقال رجال: مالك لم يُسَدَّد
فقلت: دعوني لا أبا لأبيكم ... فلم أُخْطِ رأياً في المعاد ولا البد
فدونكموها؛ إنّها صدقاتكم ... مُصَرَّرة أخلافها لم تجرد
سأجعل نفسي دون ما تحذرونه ... فأرهنكم يوماً بما قَلَّت يدي
فإن قام بالأمر المجرد قائمٌ ... أطعنا، وقلنا: الدّين دين محمَّدٍ
ولما بلغ ذلك أبا بكرٍ والمسلمين حنقوا عليه، وعاهد اللهَ خالدٌ لَئِنْ أخذه ليجعلن هامته أُثْفِية للقدر.
فلمّا وصلتم السّرية ـ مع طلوع الشّمس ـ فزعوا إلى السّلاح، وقالوا: مَن أنتم؟ قالوا: نحن عباد الله المسلمون، قالوا: ونحن عباد الله المسلمون. قالوا: فضعوا السّلاح. ففعلوا، فأخذوهم، وجاءوا بهم إلى خالد.
فقال له أبو قتادة ـ وهو مع السّريّة ـ أقاتلٌ أنتَ هؤلاء؟ قال: نعم. قال: إنّهم اتّقونا بالإسلام، أَذَّنَّا فأذَّنوا، وصلينا فصلّوا. وكان من عهد أبي بكر: ((أيّما دارٍ غشيتموها، فسمعتم الأذان فيها الصّلاة: فأمسكوا عن أهلها حتى تسألوهم: ماذا نقموا؟ وما يبغون؟ وإن لم تسمعوا الأذان: فشنوا عليها الغارة، فاقتلوا وحرقوا)).(1/273)
فأمر بهم خالد فقتلوا، وأمر برأس مالك، فجعل أثفية للقدر، ورثاه أخوه مُتَمِّم بقصائد كثيرة1.
وروى أنّ عمر قال له: ((لوددت أن رثيت أخي زيداً بمثل ما رثيت به أخاك مالكا)). فقال متمم: لو علمتُُ أنّ أخي صار حيث صار أخوك ما رثيته. فقال عمر: ((ما عزاني أحد عن أخي بمثل تعزيته)).
ذكر ردّة أهل اليمامة مفتونين بمسيلمة الكذّاب:
عن رافع بن خديج قال: ((قدمتْ على النَّبِيّ ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ وفود العرب، فلم يقدم علينا وفدٌ أقسى قلوباً، ولا أحرى أن لا يكون الإسلام يَقَرَّ في قلوبهم ـ من بني حنيفة، وكان مسيلمة مع الوفد)).
فلمّا انصرفوا إلى اليمامة ادّعى أنّ النَّبِيّ ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ أشركه في النّبوّة، وكتب إليه: من مسيلمة رسول الله إلى محمّدٍ رسول الله، أمّا بعد؛ فإنّي أشركتُ في الأمر معك، وإنّا لنا نصف الأرض، ولقريش نصفها، ولكن قريش قوم يعتدون. فكتب إليه رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ:
((بسم الله الرّحمن الرّحيم.
من محمّدٍ رسول الله، إلى مسيلمة الكذّاب. أمّا بعد؛ فإنّ الأرض لله يورثها مَن يشاء من عباده، والعاقبة للمتّقين)).
وجَدَّ بعدوّ الله ضلاله، بعد وفاة رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ. وأصفقت معه بنو حنيفة على ذلك، إلاّ أفذاذاً من ذوي عقولهم.
وكان من أعظم ما فُتِن به قومه: شهادة الرَّجال بن عنْفُوة له بإشراك النّبِيّ ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ إيّاه في الأمر، وكان الرّجال من الوفد الذين قدموا
ـــــــ
1 سبق الكلام على التّحريق بالنّار ص:(1/274)
على النّبِيّ ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ، فقرأ القرآن، وتعلم السّنن. قال ابن عمر: ((وكان من أفضل الوفد عندنا. فكان أعظم فتنة على أهل اليمامة من غيره، لما كان يعرف به)).
قال رافع بن خديج: ((كان بالرَّجال من الخشوع ولزوم قراءة القرآن والخير ـ فيما يُرَى ـ شيء عجب)).
وكان ابن عمر اليشكري من أشرافهم، وكان صديقاً للرَّجال وكان مسلماً يكتم إسلامه. فقال شعراً، فشا في اليمامة حتى كانت الوليدة والصّبيّ ينشدونه:
يا سعاد الفؤاد بنتَ أثال ... طال ليلي بفتنة الرَّجال
إنّها يا سعاد من حدث الدّهـ ... ـر عليكم كفتنة الدَّجّال
فتن القوم بالشَّهادة، ... والله عزيز ذو قوّة ومِحال
لا يساوي الذي يقول من الأمر ... قِبالاً وما احتذى من قبال1
إنّ ديني دين النَّبِيّ، وفي القوم ... رجال على الهدى أمثالي
أهلك القوم مُحَكّم بن طفيل ... ورجال ليسوا لنا برجال
بَزَّهم أمرهم مسيلمة اليوم ... فلن يرجعوه أُخرى اللّيالي
قلت للنّفس، إذ تعاظمها الصّـ ... ـبر. وساءت مقالة الأنذال:
رُبّما تجزع النّفوس من الأمر ... له فُرْجة كحَلِّ العقال
إن تكن ميتتي على فطرة الله ... حنيفاً. فإنّني لا أُبالي
فلّما ذلك مسيلمة ومُحَكِّم، وأشرافهم، فطلبوه ففاتهم. ولحق بخالد، فأخبره بحالهم، ودلّه على عوراتهم
ـــــــ
1 القبال: سير النّعل.(1/275)
وعظمة فتنة بني حنيفة بكذّابهم؛ إذ كان يدعو لمريضهم، ويبرك على مولودهم؛ ولا ينهاهم عن الاغترار به ما يريهم الله ما يحلّ به من الخيبة والخسران.
جاءه رجلٌ بمولودٍ، فمسح رأسه؛ فقرع وقرع كلّ مولودٍ له.
وجاء آخر، فقال: إنّي ذو مالٍ، وليس لي مولودٌ يبلغ سنتين حتى يموت، إلاّ هذا المولود، وهو ابن عشر سنين، ولي مولود ولد أمس، فأحبّ أن تبارك فيه، وتدعو أن يطيل الله عمره. قال: سأطلب لك. فرجع الرّجل إلى منْزله مسروراً، فوجد الأكبر قد تردى في بئر، ووجد الأصغر في نزع الموت، فلم يُمْسِ ذلك اليوم حتى ماتا جميعاً. وتقول أمّهما: لا والله. ما لأبي ثمامة عند إلهه منْزلة محمّدٍ.
وحفرت بنو حنيفة بئراً فاستعذبوها، فأتوا مسيلمة. وطلبوا أن يبارك فيه، فبصق فيها فعادت ملحاً أُجاجاً.
وكان الصّدِّيق ـ رضي الله عنه ـ قد عهد إلى خالد ـ إذا فرغ من أسد وغطفان والضّاحية ـ أن يقصد اليمامة، وأكد عليه في ذلك. فلمّا أظفر الله خالداً بهم، تسلل بعضهم إلى المدينة، يسألون أبا بكر أن يبايعهم على الإسلام. فقال: ((بيعتي إيّاكم وأماني لكم: أن تلحقوا بخالدٍ، فمَن كتب إليَّ خالد: إنّه حضر معه اليمامة، فهو آمن. وليبلغ شاهدكم غاءبكم. ولا تقدموا عليَّ)).
قال ابن الجهم: أولئك الذين لحقوا به هم الذين انكسروا بالمسلمين يوم اليمامة ثلاث مرّات، وكانوا على المسلمين بلاء.(1/276)
قال شريك الفزاري: كنت مِمَن شهد بُزاخة مع عيينة بن حصن، ثم رزقني الله الإنابة؛ فجئت أبا بكر. فأمرني بالمسير إلى خالدٍ، وكتب معي إليه:
((أمّا بعد؛ فقد جاءني كتابك، تذكر ما أظفرك الله بأسد وغطفان، وإنّك سائر إلى اليمامة. فاتّق الله وحده لا شريك له، وعليك بالرّفق بِمَن معك من المسلمين، كن لهم كالوالد، وإيّاك، يا ابن الوليد، ونخوة بني المغيرة؛ فإنّي عصيت فيك من ألم أعصه في شيء قط، فانظر بني حنيفة. فإنّك لم تلق قوماً يشبهونهم. كلّهم عليك، ولهم بلاد واسعة؛ فإذا قدمت فباشر الأمر بنفسك، واستشر مَن معك من أصحاب رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ، واعرف لهم فضلهم. فإذا لقيت القوم، فأَعِدَّ للأمور أقرانها. فإن أظفرك الله بهم، فإيّاك والإبقاء عليهم. أجهز على جريحهم، واطلب مُدْبِرهم، واحمل أسيرهم على السّيف، وهَوِّل فيهم القتل، وحرّقهم بالنّار، وإيّاك أن تخالفَ أمري. والسّلام)).
ولما اتّصل بأهل اليمامة مسير خالد إليهم، بعد الذي صنع بأمثالهم، حيرهم ذلك، وجزع له محكم بن طفيل سيّدهم، وهَمَّ أن يرجع إلى الإسلام، ثم استمرّ على ضلالته، وكان صديقاً لزياد بن لَبيد الأنصاري.
فقال له خالد: ((لو ألقيت إليه شيئاً تكسره به؟ فإنّه سيّدهم، وطاعتهم بيده، فبعث إليه هذه الأبيات:
يا محكم بن طفيل، قد أتيح لكم ... الله درّ أبيكم حَيّة الوادي
يا محكم بن طفيل، إنّكم نفر ...
كالشّاء أسلمها الرّاعي لآساد(1/277)
ما في مسيلمة الكذّاب من عوضٍ ... من دار قومٍ وإخوانٍ وأولادٍ
فاكفف حنيفة عنه، قبل نائحه ... تعفي فوارس قومٍ شَجْوُها بادي
لا تأمنوا خالداً بالْبُرْد معتجراً ... تحت العجاجة، مثل الأغطف العادي
ويل اليمامة، ويلٌ لا فراق له ... إن جالت الخيل فيها بالقنا الصّادي
والله لا تنثني عنكم أعِنّتُها ... حتى تكونوا كأهل الحِجْر أو عاد
ووردت على محكم، وقيل له: هذا خالد في المسلمين.
قال: رضي خالد أمراً، ورضينا غيره، وما ينكر خالد أن يكون في بني حنيفة من أُشرك في الأمر؟ فسيرى ـ إن قدم علينا ـ يَلْق قوماً ليسوا كَمَن لقي.
ثم خطبهم، فقال: إنّكم تلقون قوماً يبذلون أنفسهم دون صاحبهم، فابذلوا نفوسكم دون صاحبكم.
وكان عمير بن ضابئ في أصحاب خالد. ولم يكن من أهل حُجْر، كان من أهل مَلْهَم1. فقال له خالد: تقدم إلى قومك فاكسرهم.
فأتاهم فقال: ((يا أهل اليمامة، أظلّكم خالد في المهاجرين والأنصار قد تركت القوم والله يتبايعون على فتح اليمامة، قد قضوا وطراً من أسد وغطفان
ـــــــ
1 بفتح الميم وسكون اللام.من قرى اليمامة. لبني تمير. على ليلة من مرّة. وقيل: لبني يشكر وأخلاط من بني بكر. وهي موصوفة بكثرة النّخل.(1/278)
. وأنتم في أكفهم، وقولُهم: ((لا قوّة إلاّ بالله))، إنّي رأيت أقواماً إن غلبتموهم بالصّبر غلبوكم بالنّصر، وإن غلبتموهم على الحياة غلبوكم على الموت. وإن غلبتموهم بالعدد غلبوكم بالمدد، لستم والقوم سواء. الإسلام مقبل، والشّرك مدبر. وصاحبهم نَبِيٌّ، وصاحبكم كذّاب. ومعهم السّرور، ومعكم الغرور. فالآن ـ والسّيف في غمده، والنّبل في جفِيره ـ قبل أن يسل السّيف، ويرمى بالسّهم)). فكذّبوه واتّهموه.
وقام ثمامة بن أثال فيهم فقال: ((اسمعوا مني. وأطيعوا أمري، ترشدوا. إنّه لا يجتمع نبيّان بأمرٍ واحدٍ. إنّ محمّداً لا نَبِيّ بعده، ولا نبي يرسل معه. ثم قرأ: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}1. {حم تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ} الآيات2. هذا كلام الله ـ عزّ وجلّ ـ. أين هذا من: يا ضفدع يا ضفدعين. نِقِّي، كم تَنِقِّين؟ نصفك في الماء ونصفك في الطّين. لا الشّراب تمنعين ولا الماء تكدرين، ولا الطّين تفارقين. لنا نصف الأرض، ولقريشٍ نصفها. ولكن قريشاً قوم يعتدون. والله إنّكم لترون هذا ما يخرج من إلّ3. وقد استحقّ محمّد أمراً أذكره به خرجت معتمراً، فأخذتني رسله في غير عهدٍ ولا ذمّةٍ، فعفا عن دمي؛ فأسلمت وأَذِنَ لي في الخروج إلى بيت الله، فتُوُفِّي رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ. وقام بهذا الأمر رجل من بعده، هو أفقههم في أنفسهم، لا تأخذه
ـــــــ
1 الآية 1 من سورة الفاتحة.
2 الآيات من 1-3 من سورة فاغر.
3 الإل: الأصل الجيد. وقيل: الرّبوبية. وقيل: النّسب والقرابة. والمعنى: هذا كلام لا يمت إلى الله بسبب، ولا أصل له طيب. بل صادر عن قلبٍ خبيثٍ.(1/279)
في الله لومة لائمٍ، ثم بعث إليكم رجلاً، لا يسمى باسمه، ولا باسم أبيه، يقال له: ((سيف الله)) معه سيوف لله كثيرة، فانظروا في أمركم)).
فآذاه القوم جميعاً، أو مَن آذاه منهم.
وقال ثمامة في ذلك:
مسيلمة، ارجع ولا تُمْحِك ... فإنّك في الأمر لم تُشْرِكِ
كذَبْتَ على الله في وحيه ... وكان هواك هو الأنْوَك
ومَنَّاك قومك أن يمنعوك ... وإن يأتِهم خالد تُتْرك
فما لك من مصعدٍ في السّماء ... وما لك في الأرض من مسلكٍ
ذكر تقديم خالد الطّلائع من البطاح:
لما سار خالد من البطاح، وجاء أرض بني تميم: قَدَّم مائتي فارسٍ، عليهم مَعْن بن عدي، وقَدَّم عينين له أمامه.
وذكر الواقدي: أنّ خالداً لما قَدِم العُرْض قَدَّم مائتي فارسٍ، وقال: من أصبتم من النّاس فخذوه.
فانطلقوا. وأخذوا مُجّاعة بن مرارة، في ثلاثة وعشرين رجلاً من قومه. خرجوا في طلب رجلٍ أصاب فيهم دماً، وهم لا يشعرون بإقبال خالد. فسألوهم مِمَن أنتم؟ فقالوا: من بني حنيفة. فقالوا: ما تقولون في صاحبكم؟ فشهدوا أنّه رسول الله. فقالوا لمجاعة: ما تقول أنتَ؟ فقال: ما كنت أقرب مسيلمة، وقد قدمت على رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ وما غيّرت ولا بدّلت. فضرب خالد أعنقاهم. حتى إذا بقي سارية بن عامر، قال: يا خالد، إن كنت تريد بأهل اليمامة خيراً أو شرّا، فاستبق مجاعة. وكان شريفاً، فلم يقتله، وترك أيضاً سارية، وأمر بهما فأوثقا في جوامع من حديد.(1/280)
وكان يدعو مجاعة ـ وهو كذلك ـ فيتحدّث معه، وهو يظنّ أنّ خالداً يقتله. فقال: يا ابن المغيرة، إنّ لي إسلاماً، والله ما كفرت، وأعاد كلامه الأوّل.
فقال خالد: إنّ بين القتل والتّرك منْزلةً، وهي الحبس، حتى يقضي الله في حربنا ما هو قاضٍ، ودفعه إلى أمّ متمم زوجته، وأمرها أن تحسن إساره.
فظنّ مجاعة أنّ خالداً يريد حبسه لأجل أن يخبره عن عدوّه ويشير عليه.
فقال: يا خالد، لقد علمت أنّي قدمت على رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ، فبايعته على الإسلام، وأنا اليوم على ما كنت عليه أمس، فإن يكن كذاب خرج فينا، فإنّ الله يقول: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} الآية1.
فقال: يا مجاعة، تركت اليوم ما كنت عليه بالأمس، وكان رضاك بأمر هذا الكذّاب، وسكوتك عنه ـ وأنت أعزّ أهل اليمامة، وقد بلغك مسيري ـ إقراراً له، ورضى بما جاء به، فهلا أبديت عذراً، فتكلمت فيمَن تكلّم؟ فقد تكلّم ثمامة، فردّ وأنكر، وتكلّم اليشكري، فإن قلت: أخاف قومي، فهلا عمدت إليَّ، أو بعثت إليّ رسولاً؟
فقال: إن رأيت يا ابن المغيرة أن تعفو عن هذا كلّه؟
فقال: قد عفوت عن دمّك، ولكن في نفسي من تركك حرج.
فقال له ذات يومٍ: أخبرني عن صاحبك، ما الذي يقرؤكم، هل تحفظ منه شيئاً؟ قال: نعم. فذكر له شيئاً من رجزه. فضرب خالد بإحدى
ـــــــ
1 الآية 164 من سورة الأنعام، و15 من سورة الإسراء، و18 من سورة فاطر، و7 من سورة الزّمر.(1/281)
يديه على الأخرى، وقال: يا معشر المسلمين، اسمعوا إلى عدوّ الله، كيف يعارض القرآن؟
فقال: ويحك، يا مجاعة، أراك سيداً عاقلاً، تسمع إلى كتاب الله.
ثم انظر كيف عارضه عدوّ الله؟ فقرأ عليه خالد: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}1 , {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى} الآيتان2.
ثم قال خالد: أفما كان في هذا لكم ناهٍ، ولا زاجر؟ ثم قال: هات من كَذِبِ الخبيث. فذكر له بعض رجزه.
فقال خالد: وقد كان عندكم حقّاً، وكنتم تصدّقونه؟
فقال: لو لم يكن عندنا حقّاً، لما لقيك أكثر من عشرة آلاف سيف، يضاربونك حتى يموت الأعجل.
فقال خالد: إذا يكفيناهم الله، ويقرّ دينه، فإيّاه يعبدون، ودينه يؤيّدون.
قال عبيد الله بن عبد الله: لما أشرف خالد، وأجمع أن ينْزل عَقْرباء، ودفع الطّلائع أمامه، فرجعوا إليه، فأخبروه: أنّ مسيلمة ومَن معه قد نزلوا عقرباء. فشاور أصحابه أن يمضي إلى اليمامة، أو ينتهي إلى عقرباء. فأجعوا أن ينتهي إلى عقرباء، فزحف خالدٌ بالمسلمين إليها، وكان المسلمون يسألون عن الرَّجّال بن عُنْفُوة، فإذا الرَّجّال على مقدمة مسيلمة، فلعنوه وشتموه
ـــــــ
1 الآية 1 من سورة الفاتحة، و30 من سورة النّمل.
2 الآيتان من 1-2 من سورة الأعلى.(1/282)
فلما فرغ خالد من ضرب عسكره ـ وبنو حنيفة تسوي صفوفها ـ نهض خالد إلى صفوفه فصّفها، وقدم رايته مع زيد بن الخطاب. ودفع راية الأنصار إلى ثابت بن قيس بن شماس، فتقدم بها.
وجعل على ميمنته: أبا حذيفة بن عتبة. وعلى ميسرته: شجاع بن وهب. واستعمل على الخيل البراء بن مالك، ثم عزله، واستعمل أسامة بن زيد.
فأقبل بنو حنيفة، وقد سلوا السّيوف، فقال خالد: يا معشر المسلمين: أبشروا، فقد كفاكم الله أمر عدوّكم، ما سلوا السّيوف من بُعْدٍ إلاّ ليرهبوا.
فقال مجاعة: كلا، يا أبا سليمان، ولكنها الهندوانية، خشوا تحطمها، وهي غداة باردة، فأبرزوها للشمس لتسخن متونها. فلما دنوا من المسلمين نادوا: إنّا نعتذر إليكم من سَلِّنا سيوفنا، والله ما سللناها ترهيباً، ولكن غداة باردة، فخشينا تحطمها، فأردنا أن نسخن من متونها إلى أن نلقاكم، فسترون.
فاقتتلوا قتالاً شديداً. وصبر الفريقان صبراً طويلاً، حتى كثر القتل والجراح في الفريقين.
واستحر القتل في المسلمين وحملة القرآن، حتى فنوا إلاّ قليلاً، وهُزم كلّ من الفريقين حتى دخل المسلمون عسكر المشركين، والمشركون عسكر المسلمين مراراً. وجعل زيد بن الخطاب ـ ومعه الرّاية ـ يقول: اللهم إنّي أبرأ إليك مما جاء به مسيلمة، وأعتذر إليك من فرار أصحابي. وجعل يشتدّ بالرّاية في نحور العدوّ. ثم ضارب بسيفه حتى قتل-رحمه الله ورضي عنه-.(1/283)
فأخذ الرّاية سالم مولى أبي حذيفة، فقال المسلمون: إنّا نخاف أن نُؤتي من قِبلك. فقال: بئس حامل القرآن أنا، إذا أتيتم من قبلي.
ونادت الأنصار ثابت بن قيس ـ ومعه رايتهم ـ الزمها؛ فإنّها ملاك القوم فتقدم سالم فحفر لرجليه حتى بلغ أنصاف ساقيه، وحفر ثابت لرجليه مثل ذلك، ثم لزما رايتيهما.
ولقد كان النّاس يتفرّقون في كلّ وجهٍ، وإنّ سالماً وثابتاً لقائمان حتى قتل سالم، وقُتِلِ أبو حذيفة مولاه.
قال وحشي بن حرب: اقتتلنا قتالاً شديداً، حتى رأيت شهب النّار تخرج من خلال السّيوف، حتى سمعت لها صوتاً كالأجراس.
وقال ضمرة بن سعيد المازني ـ وذكر ردّة بني حنيفة ـ لم يلق المسلمون عدوّاً أشدّ نكاية منهم، لقوهم بالموت النّاقع، والسّيوف قد أصلتوها قبل النّبل وقبل الرّماح. فكان المعوَّل يومئذٍِ على أهل السّوابق.
وقال ثابت بن قيس يومئذٍ: يا معشر الأنصار، الله، الله في دينكم، علّمنا هؤلاء أمراً ما كنا نحسنه. ثم أقبل على المسلمين، وقال: أُفٍّ لكم ولما تصنعون.
ثم قال: خلوا بيننا وبينهم، أخْلِصونا. فأخلصت الأنصار، فلم تكن لهم ناهية، حتى انتهوا إلى محكم بن الطّفيل فقتلوه، ثم انتهوا إلى الحديقة فدخلوها، فقاتلوا أشدّ القتال، حتى اختلطوا فيها.
ثم صاح ثابت صيحة: يا أصحاب سورة البقرة.(1/284)
وأوفى عباد بن بشر على نَشَز، فصاح بأعلى صوته: أنا عباد بن بشر، يا للأنصار، أنا عباد، إليَّ إلَّي، فأجابوه: لبّيك لبّيك، حتى توافوه عنده. فقال: فداكم أبي وأمي، حطموا جفون السّيوف، ثم حطم جفن سيفه فألقاه، وحطمت الأنصار جفون سيوفها. ثم قال: حملة صادقة، اتّبعوني. فخرج أمامهم، حتى ساقوا بني حنيفة منهزمين، حتى انتهوا إلى الحديقة، فأغلق عليهم. ثم إنّ الله فتح الحديقة، فاقتحم عليهم المسلمون.
وعن أبي سعيد الخدري ـ رضي الله عنه ـ قال: ((دخلنا الحديقة، حين جاء وقت الظّهر، واستحر القتل، فأمر خالد المؤذّن، فأذن على جدار الحديقة بالظّهر، والقوم مقبلون على القتل، حتى انقطعت الحرب بعد العصر. فصلى بنا خالد الظّهر والعصر.
ثم بعث السّقاة يطوفون على القتلى، فطفت معهم، فمررت بعامر بن ثابت، وإلى جنبه رجل من بني حنيفة به جراح، فسقيت عامراً، فقال الحنفي: اسقني فِدي لك أبي وأمي. فقلت: لا، ولا كرامة، ولكني أجهز عليك. قال: أحسنت، أسألك مسألة لا شيء عليك فيها. قلت: ما هي؟ قال: أبو ثمامة، ما فعل؟ قلت: والله قتل. قال: نبِيّ ضيّعه قومه.
ولما قُتِل منهم مَن قُتل، وكانت لهم أيضاً في المسلمين مقتلة عظيمة، قد أبيح أكثر أصحاب رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ، وقيل: لا تغمدوا السّيوف، وفينا وفيهم عين تطرف. وكان فيمَن بقي من المسلمين جراحات كثيرة.(1/285)
فلما أمسى مجاعة، أرسل إلى قومه ليلاً: أن ألبسوا السّلاح النّساء والذّريّة، ثم إذا أصبحتم فقوموا مستقبلي الشّمس على حصونكم، حتى يأتيكم أمري. وبات المسلمون يدفنون قتلاهم. فلما فرغوا، جعلوا يتكمدون بالنّار من الجراح.
فلما أصبحوا أمر خالد، فسيق مجاعة في الحديد، يُعَرِّفهم القتلى فمرّ برجلٍ وسيمٍ، فقال: يا مجاعة، أهو هذا؟ قال: هذا أكرم منه، هذا محكم بن الطّفيل. إنّ الذي تبتغون؛ لرجلٌ أُصِيفِر أخِيْنِس فوجدوه، فوقف عليه خالد. فحمد الله كثيراً، وأمر به فألقي في البئر التي كان يشرب منها.
وكان خالد يرى أنّه لم يبق منهم أحد إلاّ من لا عتاد عنده. فقال يا مجاعة، هذا صاحبكم الذي فعل بكل الأفاعيل، ما رأيت عقولاً أضعف من عقول أصاحبك، مثل هذا فعل بكم ما فعل؟
فقال مجاعة: قد كان ذلك، ولا تظنّ أنّ الحرب انقطعت، وإنّ قتلته. إنّ جماعة النّاس، وأهل البيوتات لفي الحصون، فانظر، فرفع خالد رأسه، فإذا السّلاح والخلق الكثير على الحصون، فرأى أمراً غَمّه، ثم استند ساعة، ثم أدركته الرّجولة، فقال لأصحابه: يا خيل الله اركبي، يا صاحب الرّاية قدمها.
فقال مجاعة: إنّي لك ناصح. وإنّ السّيف قد أفناك، فتعال أصالحك عن قومي، وقد أخلّ بخالد مصاب أهل السّابقة. ومَن كان يعرف عنده الغناء فقد رقَّ وأحبّ الموادعة، مع عَجَف الكراع.(1/286)
فاصطلحوا على الصّفراء والبيضاء، والحلقة والكراع، ونصف السّبي.
ثم قال مجاعة: إنّي آتٍ القوم فعارض عليهم ما صنعت. قال: فانطلق. فذهب، ثم رجع فأخبره أنّهم أجازوه.
فلمّا بَانَ لخالد أنّما هم النّساء والصّبيان، قال: ويلك يا مجاعة، خدعتني. فقال: قومي، فما أصنع؟ وما وجدت من ذلك بُدّاً.
وقال أسيد بن حضير وغيره لخالد: اتقّ الله، ولا تقبل الصّلح.
فقال: إنّه قد أفناكم السّيف. قالوا: وأفنى غيرنا أيضاً. قال: ومَن بقي منكم جريح. قالوا: ومَن بقي من القوم جرحى، لا ندخل في الصّلح أبداً. أُغْدُ بنا عليهم. حتى يظفرنا الله بهم، أو نبيد عن آخرنا. احملنا على كتاب أبي بكر: ((إن أظفرك الله بهم، فلا تُبْقِ منهم أحداً)).
فبينا هم على ذلك، إذ جاء كتاب أبي بكر يقطر الدّمّ، وفيه: ((إن أظفرك الله بهم، فلا تستبق رجلاً مرّت عليه الموسى)).
فتكلمت الأنصار في ذلك، وقالوا: أمرُ أبي بكر فوق أمرك.
فقال: إنّي والله ما ابتغيت في ذلك إلاّ الذي هو خير. رأيت أهل السّابقة وأهل القرآن قد قُتِلوا. ولم يبقَ معي إلاّ مَن لا بقاء له على السّيف لو لَجَّ عليهم. فقبلت الصّلح، مع أنّهم قد أظهروا الإسلام، واتّقوا بالرّاح.
وتم الصّلح. وكتب إلى أبي بكر يعتذر إليه.(1/287)
فتكلّم عمر في شأن خالدٍ بكلامٍ غليظٍ فقال أبو بكر: ((دع عنك هذا)). فقال: سمعاً وطاعةً. وقال أبو بكر: ((ليته حملهم على السّيف. فلن يزالوا من كذابهم في بلية إلى يوم القيامة، إلاّ أن يعصمهم الله)).
وكانت وقعة اليمامة في ربيع الأوّل سنة اثنتي عشرة.
وذكر عمر يوماً وقعة اليمامة، ومَن قُتِل فيها من أهل السّابقة، فقال: ((أَلَحّت السّيوف على أهل السّوابق، ولم يكن المعوّل يومئذٍ إلاّ عليهم. خافوا على الإسلام أن يكسر بابه، فيُدْخَل منه إن ظهر مسيلمة، فمنع الله الإسلام بهم حتى قُتِل عدوّه. وأظهر كلمته، وقدموا ـ رحمهم الله ـ على ما يسّرون به من ثواب جهادهم من كذب على الله وعلى رسوله. فاستَحرَّ بهم القتل، فرحم الله تلك الوجوه)).
وقال يعقوب بن سعيد بن عبيد والزّهري: قتل من بني حنيفة أكثر من سبعة آلاف، وكان داؤهم خبيثاً، والطّارئ منهم على الإسلام عظيماً. فاستأصل الله شأفتهم، والحمد لله ربّ العالمين.
ذكر ردّة بني سليم:
ذكر الواقدي من حديث سفيان بن أبي العوةجاء السّليمي ـ وكان عالماً بردّة قومه ـ قال: أهدى ملك من ملوك غسان إلى النّبِيّ ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ لَطيمة فيها مسك وعنْبَر، وخيل، فخرجت بها الرّسل، حتى إذا كانت بأرض بني سُليم بلغتهم وفاة النَّبِيّ ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ؛ فتشجع بعض بني سليم على أخذها والرّدّة، وأبى بعضهم من ذلك، وقال: إن كان محمّدٌ قد مات، فإنّ الله حيّ لا يموت. فانتهب الذين ارتدّوا منهم اللّطيمة.(1/288)
فلمّا ولي أبو بكر ـ رضي الله عنه ـ كتب إلى معن بن حاجر، فاستعمله على مَن أسلم من بني سليم، وكان قد قام في ذلك قياماً حسناً. ذكر وفاة رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ، وذكّر النّاس ما قال الله لنبيّه: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} 1. وقال: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ} 2. مع آي من كتاب الله؛ فاجتمع إليه بشر من بني سليم، وانحاز أهل الرّدّة منهم، فجعلوا يغيرون على النّاس.
قتل الفجاءة وتحريقه:
فلمّا بدا لأبي بكر أن يوجّه خالداً، كتب إلى معن أن يلحق بخالد، ويستعمل على عمله أخاه طُريفة بن حاجر، ففعل، وأقام طُريفة يكالب مَن ارتدّ بمَن معه من المسلمين. إِذْ قدم الفجاءة ـ واسمه: إياس بن عبد الله بن عبد ياليل ـ على أبي بكر. فقال: إنّي مسلم، وقد أردت جهاد مَن ارتدّ، فاحملني، فلو كان عندي قوّة لم أقدم عليك.
فسّر أبو بكر بمقدمه، وحمله على ثلاثين بعيراً، وأعطاه سلاحاً، فخرج يستعرض المسلم والكافر، يقتلهم ويأخذ أموالهم، ويصيب مَن امتنع منهم، ومعه رجل من بني الشّريد. يقال له: نُجبة بن أبي الميثاء، مع قومٍ من أهل الرّدّة.، فلمّا بلغ أبا بكر خبره، كتب إلى طُريفة بن حاجر:
((بسم الله الرّحمن الرّحيم.
من أبي بكر إلى طُريفة، سلام عليك. أمّا بعد؛
فإنّ عدوّ الله الفجاءة أتاني فزعم أنّه مسلم وسألني، أنّ أقوّيه على قتال مَن ارتدّ عن الإسلام، فحمَّلته وسلّحته، وقد انتهى إليَّ
ـــــــ
1 الآية 30 من سورة الزّمر.
2 الآية 144 من سورة آل عمران.(1/289)
من يقين الخبر أنّ عدوّ الله قد استعرض النّاس: المسلم والمرتدّ، يأخذ أموالهم ويقتل مَن خالفه منهم، فَسِرْ إليه بِمَن معك من المسلمين، حتى تقتله، أو تأخذه فتأتيني به)).
فقرأ طريفة الكتاب على قومه. فحشدوا إلى الفجاءة. فقدم عليه ابن المثنى، فقتل نجبة، وهرب منه إلى الفجاءة، ثم زحف طريفة إلى الفجاءة فتصادما، فلمّا رأى الفجاء الخلل في أصحابه، قال: يا طريفة، والله ما كفرت. وإنّي مسلم، وما أنت بأولى بأبي بكر مني، أنت أميره وأنا أميره. قال طريفة: إن كنتَ صادقاً فألق السّلاح، ثم انطلق إلى أبي بكر، فأخبره خبرك. فوضع السّلاح فأوثقه طريفة في جامعة. فقال: لا تفعل. فقال طريفة: هذا كتاب أبي بكر إليَّ. فقال الفجاءة: سمعاً وطاعةً. فبعث به في جامعته مع عشرة من بني سليم، فأرسل به أبو بكر إلى بني جشم، فحرقته بالنّار1.
وقدم على أبي بكر ـ رضي الله عنه ـ قبيصة ـ أحد بني الظّربان ـ فذكر أنّه مسلم ولم يرتدّ، فأمره أن يقاتل بِمَن معه مَن ارتدّ، فرجع قبيصة، فاجتمع إليه ناس كثيرة، فخرج يتبع بهم أهل الرّدّة، يقتلهم حيث وجدهم، حتى مرَّ ببيتٍ حُميضة بن الحكم الشّريدي، فوجده غائباً، يجمع أهل الرّدّة، ووجد جاراً له مرتدّاً، فقتله واستاق ماله.
فلمّا أتى حميضة أخبره أهله بخبر جاره، فخرج في طلبهم. فأدركهم. فقال لقبيصة: قتلت جاري؟ فقال: إنّ جارك ارتدّ عن الإسلام.
فقال: أمِنْ بين من كفر تعدو على جارٍ لجأ إليَّ لأمنعه؟
ـــــــ
1 الكلام على التّحريق بالنّار سبق في ص: ؟؟؟ تعليقاً فارجع إليه.(1/290)
فقال قبيصة: قد كان ذلك. فطعنه حميضة بالرّمح، فوقع عن بعيره، ثم قتله. وكان قُبيصة قد فرق أصحابه قبل أن يلحقه حميضة.
وكتب أبو بكر ـ رضي الله عنه ـ إلى خالد: ((إن أظفرك الله ببني حنيفة، فأَقِلَّ اللُّبْث فيهم، حتى تنحدر إلى بني سليم، فتطأهم وَطْأَة يعرفون بها ما منعوا؛ فإنّه ليس بطن من العرب أنا أغيظ عليه مني عليهم، فإن أظفرك الله بهم، فلا آلوك فيهم: أن تحرقهم بالنّار، وهَول فيهم القتل حتى يكون نكالاً لهم))1.
وسمعت بنو سليم بإقبال خالد، فاجتمع منهم بشر كثير. واستجلبوا من بقي من العرب مرتدّاً، وكان الذي جمعهم: أبو شجرة بن عبد العزى. فانتهى خالد إلى جمعهم مع الصّبح، فصاح خالد في أصحابه، وأمرهم بلبس السّلاح، ثم صفّهم. وصفّت بنو سليم، وقد كَلَّ المسلمون وعَجَف كُراعهم وخُفُّهم. وجعل خالد يلي القتال بنفسه، حتى أثخن فيهم القتل. ثم حمل عليهم حملةً واحدةً فانهزموا، وأسر منهم بشر كثير، ثم حظّر لهم الحظائر وحرقّهم فيها.
وجرح أبو شجرة يومئذٍ في المسلمين جراحات كثيرة. وقال في ذلك أبياتاً منها:
فروَّيت رمحي من كتيبة خالد ... وإنّي لأرجو بعدها أن أعمرا
ثم أسلم وجعل يعتذر ويجحد أن يكون قال البيت المتقدم.
فلمّا كان زمن عمر ـ رضي الله عنه ـ قدم المدينة، وأناخ راحلته بصعيد بن قريظة ثم أتى عمر ـ وهو يقسم بين الفقراء ـ فقال: يا أمير المؤمنين
ـــــــ
1 راجع ص: ؟؟؟ تجد الكلام على التّحريق بالنّار.(1/291)
أعطني؛ فإنّي ذو حاجة. فقال: مَن أنتَ؟ قال: أنا أبو شجرة. قال: يا عدوّ الله، ألست الذي تقول:
فروَّيت رمحي من كتيبة خالد....البيت؟
عُمْر سوء. والله ما عشت لك يا خبيث. ثم جعل يعلوه بالدِّرة على رأسه، حتى سبقه عَدْوا، وعمر في طلبه حتى أتى راحلته فارتحلها. ثم اشتدّ بها في حَرَّة شوزان، فما استطاع أن يقرب عمر حتى تُوُفِّي.
وكان إسلامه لا بأس به وكان إذا ذكر عمر: ترحّم عليه، ويقول: ما رأيت أحداً أهيب من عمر ـ رضي الله عنه ـ.
ذكر ردّة أهل البحرين:
قال عيسى بن طلحة: لما ارتدّت العرب ـ بعد وفاة رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ قال كسرى: مَن يكفيني أمر العرب؟ فقد مات صاحبهم، وهم الآن يختلفون بينهم، إلاّ أن يريد الله بقاء ملكهم، فيجتمعون على أفضلهم.
قالوا: ندلّك على أكمل الرّجال، مخارق بني النّعمان، ليس في النّاس مثله، وهو من أهل بيت دانت لهم العرب، وهؤلاء جيرانك، بكر بن وائل،
فأرسل إليهم. وأخذ منهم ستمائة، الأشرف فالأشرف.
وارتدّ أهل هَجَر عن الإسلام، فقام الجارود بن المعلِّي في قومه، فقال: ألستم تعلمون ما كنت عليه من النّصرانية؟ وأنّي لم آتكم قط إلا بخيرٍ،(1/292)
وإنّ الله تعالى بعث نبيّه، ونعى له نفسه، فقال: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ}1 . وقال: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ} الآية2.
وفي لفظٍ: أنّه قال: ما شهادتكم على موسى؟ قالوا: نشهد إنّه رسول الله. قال: فما شهادتكم على عيسى؟ قالوا: نشهد إنّه رسول الله. قال: وأنا أشهد أن لا إله إلاّ الله، وأنّ محمّداً عبده ورسوله. عاش كما عاشوا، ومات كما ماتوا، وأتحمل شهادة من أبى أن يشهد على ذلك منكم. فلم يرتدّ من عبد القيس أحد.
وكان رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ قد استعمل أبان بن سعيد على البحرين، وعزل العلاء بن الحضرمي. فقال: أبلغوني مأمني، فأشهد أمر أصحاب رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ، فأحيا بحياتهم، وأموت بموتهم.
فقالوا: لا تفعل، فأنت أعزّ النّاس علينا، وهذا علينا وعليك فيه مقالة، يقال: فرّ من القتال. فأبى، وانطلق في ثلاثمائة رجلٍ يبلغونه المدينة.
فقال له أبو بكر ـ رضي الله عنه ـ: ((ألا ثبتَّ مع قومٍ لم يبدّلوا ولم يرتدّوا؟)).
فقال: ما كنت لأعمل لأحدٍ بعد رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ.
فدعا أبو بكر العلاء بن الحضرمي، فبعثه إلى البحرين في ستة عشر راكباً، وقال: امض، فإنّ أمامك عبد القيس. فسار ومرّ بثُمامة بن أثال، فأمده برجالٍ من قومه بني سُحيم، ثم لحق به.
فنَزل العلاء بحصنٍ يقال له: جُواثي، وكان مخارق قد نزل بِمَن معه من بكر بن وائل: حصن الْمُشَقّر ـ حصن عظيم لعبد القيس ـ فسار إليهم
ـــــــ
1 الآية 30 من سورة الزّمر.
2 الآية 144 من سورة آل عمران.(1/293)
العلاء فيمَن اجتمع إليه، فقاتلهم قتالاً شديداً، حتى كثر القتلى في الفريقين، والجارود بن المعلى بالخطِّ1 يبعث البعوث إلى العلاء. وبعث مخارق: الْحُطَمَ بن شريح2 ـ أحد بني قيس بن ثعلبة ـ إلى مَرْزُبان الخطّ يستمده فأمده بالأساورة. فنَزل الحطم ردم القداح ـ وكان حلف أن لا يشرب الخمر حتى يرى هَجَراً ـ وأخذ المرزبان الجارود رهينة عنده. وسار الحطم وأبجر العِجْلي حتى حصروا العلاء بجواثي. فقال عبد الله بن حَذَف، وكان من صالحي المسلمين:
ألا أبلغ أبا بكرٍ رسولاً ... وسكان الْمدينة أجمعينا
فهل لكموا إلى نفرٍ يسيرٍ ... قعود في جُواثي مُحْصَرينا
كأن دماءهم في كلّ فَجٍّ ... شعاع الشّمس يغشى النّاظرين
توكلنا على الرّحمن إنّا ... وجدنا النّصر للمتوكلّين
فمكثوا على ذلك محصورين.
فسمع العلاء وأصحابه ذات ليلةٍ لغطاً في العسكر. فقالوا: لو علمنا أمرهم؟ فقال عبد الله بن حذف: أنا أعلم لكم علمهم، فدلوه بحبل. فأقبل حتى يدخل على أبجر العلجي ـ وأمّه منهم ـ قال: ما جاء بك؟ لا أنعم الله بك عيناً.
قال: جاء بي الضّرّ والجوع، وأردت اللّحاق بأهلي، فزودني. فقال: أفعل. على أنّي أظنّك والله غير ذلك؛ بئس ابن الأخت أنتَ
ـــــــ
1 بفتح الخاء: أرض تنسب إليها الرّماح الخطيّة. وهو خط عمان. وذلك السّيف كله يسمّى الخط. ومن قرى الخط: القطيف، والعقير، وقطر.
2 وعند ابن جرير: الحطم بن ضبيعة أخو بني قيس بن ثعلبة.(1/294)
سائر اللّيلة. فزوده وأعطاه نعلين، وأخرجه من العسكر، وخرج معه حتى برز. فمضى كأنّه لا يريد الحصن حتى أبعد ثم عطف، فأخذ بالجبل فصعِد.
فقالوا: ما وراءك؟ قال: تركتهم سكارى، قد نزل بهم تجار معهم خمر، فاشتروا منهم، فإن كان لكم بهم حاجة فاللّيلة.
فنَزلوا إليهم، فبيتوهم فقتلوهم، فلم يفلت منهم أحدٌ.
ووثب الْحُطَم فوضع رجله في الرّكابات، وجعل يقول: مَن يحملني؟ فسمعه عبد الله1 بن حذف، فأقبل يقول: أبا ضُبيعة؟ قال: نعم. قال: أنا أحملك. فلمّا دنا منه قتله. وقطعت رجل أبجر العلجي. فمات منها.
وانهزم فَلّهم فاعتصموا بمفروق الشّبياني.
ثم سار العلاء إلى مدينة دارين فقاتلهم قتالاً شديداً، وضيق عليهم.
فلماّ رأى ذلك مخارق ومَن معه، قالوا: إن خلوا عنا رجعنا من حيث جئنا.
فشاور العلاء أصحابه، فأشاروا بتخليتهم. فخرجوا فلحقوا ببلادهم.
وطلب أهل دارين الصّلح. فصالحهم العلاء على ثلث ما في أيديهم من أموالهم، وما كان خارجاً منها فهو له.
وطفقت بكر بن وائل تنادي: يا عبد القيس، أتاكم مفروق في جماعة بكر بن وائل.
فقال عبد الله بن حَذَف:
لا توعدونا بمفروقٍ وأسرته ... إن يأتنا يَلْقَ منّا سُنّة الْحُطم
ـــــــ
ـ1 وعند ابن جرير: أنّ عفيف بن المنذر قطع فخذه، ولم يجهز عليه، وأن قيس بن عاصم هو الذي أجهز عليه.(1/295)
فالنّخل ظاهرها خيل وباطنها ... خيل تكدس بالفرسان في النّعم
وإن ذا الحيَّ من بكرٍ، وإن كثروا ... لأمّة داخلون النّار في أمم
ثمّ سار العلاء إلى الْخَطِّ، حتى نزل إلى السّاحل، فجاءه نصراني، فقال: ما لي إن دللتك على مخاضة تخوض منها الخيل إلى دارين؟ قال: وما تسألني؟ قال: أهل بيت بدارين، قال: هم لك.
فخاض به. فظفر بهم عنوةً، وسبا أهلها.
وقيل: حبس لهم البحر، حتى خاضوه، وكانت تجري فيه السّفن قبل، ثم جرت بعد.
ويروى: أنّ العلاء وأصحابه جأروا إلى الله، وتضرعوا إليه في حبس البحر. فأجاب الله دعاءهم، وكان دعاؤهم: ((يا أرحم الرّاحمين، يا كريم، يا حليم، يا أحد، يا صمد، يا حيّ، يا محي الموتى، يا حيَّ يا قيّوم، لا إله إلاّ أنتَ يا ربّنا)). فأجازوا ذلك الخليج بإذن الله جميعاً يمشون على مثل رملة.
فقال عفيف بن المنذر في ذلك:
ألم ترَ أنّ الله ذلّل بحره ... وأنْزل بالكفار إحدى الجلائل
دعونا الذي شقّ البحار، فجاءنا ... بأعظم من فلق البحار الأوائل
ولما رأى ذلك أهل الرّدّة من أهل البحرين، صالحوا على ما صالح عليه أهل هجر.
ولما ظهر العلاء على أهل الرّدّة والمجوس: بعث رجالاً من عبد القيس إلى أبي بكر ـ رضي الله عنه ـ، فنَزلوا على طلحة، والزّبير ـ رضي الله عنهما(1/296)
وأخبروهما بقيامهم في أهل الرّدّة، ثم دخلوا على أبي بكر. وحضر طلحة والزّبير، فقالوا: يا خليفة رسول الله، إنا قوم أهل إسلام. وليس شيء أحبّ إلينا من رضاك، ونحن نحبّ أن تعطينا أرضاً من البحر وطواحين.
وكلّمه في ذلك طلحة والزّبير، فأجاب.
وقالوا: اكتب لنا كتاباً، فكتب.
فانطلقوا بالكتاب إلى عمر ـ رضي الله عنه ـ. فلمّا قرأه: تفل في الكتاب ومحاه.
ودخل طلحة والزّبير، فقالا: والله ما ندري، أنت الخليفة أم عمر؟
فقال أبو بكر: ((وما ذاك؟ فأخبروه. فقال أبو بكر: لئن كان عمر كره شيئاً من ذلك، فإنّي لا أفعله)).
فبينما هم على ذلك إذ جاء عمر.
فقال له أبو بكر: ((ما كرهتَ من هذا؟)).
قال: ((كرهت أن تعطي الخاصّة دون العامّة، وأنتَ تقسم على النّاس، فتأبى أن تفضل أهل السّابقة، وتعطي هؤلاء قيمة عشرين ألفاً دون النّاس)).
فقال أبو بكر: ((وفقك الله، وجزاك خيراً. هذا هو الحقّ)).(1/297)
ذكر ردّة أهل دَبَا1 وأزد عمان:
وذلك أنّهم قدموا على رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ مسلمين، فبعث إليهم مصدقاً يقال له: حذيفة بن مِحْصَن البارقي، ثم الأزدي، من أهل دَبَا، وأمره: ((أن يأخذ الصّدقة من أغنيائهم، ويردّها على فقرائهم)). ففعل ذلك حذيفة.
فلمّا تُوُفّي رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ منعوا الصّدقة. وارتدّوا، فدعاهم حذيفة إلى التّوبة، فأبوا، وجعلوا يرتجزون:
لقد أتانا خير رَدِيُّ...
أمست قريش كُلُّها نَبِيُّ...
ظلم، لعمر الله عبقري...
فكتب حذيفة إلى أبي بكر بأمرهم، فاغتاظ غيظاً شديداً. وقال: ((مَن لهؤلاء، ويل لهم)).
ثم بعث إليهم عكرمة بن أبي جهل ـ وكان النّبِيّ ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ قد استعمله على سُفْلي بني عامر بن صعصعة مصدقاً ـ فلمّا بلغته وفاة النّبِيّ ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ انحاز إلى تُبالة في أناس من العرب، ثبتوا على الإسلام. وكان مقيماً بتبالة في أرض كعب بن ربيعة.
فجاءه كتاب أبي بكر: ((سِرْ فِيمَن قِبَلكَ من المسلمين إلى أهل دَبَا)).
فسار عكرمة في نحو ألفين من المسلمين. وكان رأس أهل الرّدّة: لقيط بن مالك
ـــــــ
1 بفتح الدّال المهملة والباء بعدها ألف. كانت عاصمة عمان. وكانت مدينة مشهورة بسوق تقصدها العرب.(1/298)
الأزدي. فلمّا بلغه مسير عكرمة، بعث ألف رجل من الأزد يلقونه. وبلغ عكرمة أنّهم جموع كثيرة، فبعث طليعة، وكان للعدوّ أيضاً طليعة، فالتقت الطّليعتان، فتناوشوا ساعة، ثم انكشف أصحاب لقيط، وقتل منهم نحو مائة رجلٍ. وبعث أصحاب عكرمة فارساً بخبره. فأسرع عكرمة حتى لحق طليعته، ثم زحفوا جميعاً، وسار على تعبئةٍ، حتى أدرك القوم. فاقتتلوا ساعة. ثم هزمهم عكرمة، وأكثر فيهم القتل. ورجع فَلهم إلى لقيط بن مالك، فأخبروه أنّ عكرمة مقبل.
فقوي جانب حذيفة ومَن معه من المسلمين فناهضهم. وجاء عكرمة. فقاتل معهم؛ فانهزم العدوّ حتى دخلوا مدينة دَبَا. فحصرهم المسلمون شهراً. وشقّ عليهم الحصار، إذ لم يكونوا قد أخذوا له أهبة.
فأرسلوا إلى حذيفة، يسألونه الصّلح. فقال: لا. إلاّ بين حرب مجلية، أو سِلْم مخْزية. قالوا: أمّا الحرب المجلية، فقد عرفناها، فما السِّلْم الْمخزية؟ قال: تشهدون أنّ قتلانا في الجنّة وقتلاكم في النّار، وأنّ كلّ ما أخذناه منكم فهو لنا، وما أخذتموه فهو ردّ لنا، وأَنّا على حقٍّ وأنتم على باطلٍ وكفرٍ، ونحكم فيكم بما رأينا. فأقرّوا بذلك.
فقال: اخرجوا عُزلاً، لا سلاح معكم، ففعلوا. فدخل المسلمون حصنهم، فقال حذيفة: إنّي قد حكمت فيكم: أن أقتل أشرافكم، وأسبي ذراريكم.(1/299)
فتقل من أشرافهم مائة رجلٍ، وسبي ذراريهم.
وقدم حذيفة بسبيهم المدينة، وهم ثلاثمائة من المقاتلة، وأربعمائة من الذّرية والنّساء.
وأقام عكرمة بدبا عاملاً عليها لأبي بكر.
فلمّا قدم حذيفة بسبيهم: أنزلهم أبو بكر ـ رضي الله عنه ـ دار رملة بنت الحارث، وهو يريد أن يقتل مَن بقي من المقاتلة، والقوم يقولون: والله ما رجعنا عن الإسلام، ولكن شححنا على أموالنا، فيأبى أبو بكر أن يدعهم بهذا القول، وكلّمه فيهم عمر، وكان رأيه ألا يسبوا.
فلم يزالوا موقوفين في دار رملة حتى مات أبو بكر، فدعاهم عمر، فقال: انطلقوا إلى أيّ بلاد شئتم، فأنتم قوم أحرار.
فخرجوا حتى نزلوا البصرة.
وكان فيهم أبو صُفرة ـ والد المهلب ـ وهو غلام يومئذٍ.
ولما قدم غزو أهل دبا أعطاهم أبو بكر خمسة دنانير.(1/300)
السّنّة الثّانية عشرة:
مسيرة خالد إلى العراق :
ولما دخلت السّنة الثّانية من خلافة أبي بكر ـ رضي الله عنه ـ وهي سنة اثنتي عشرة من الهجرة: كتب إلى خالد: ((إذا فرغت من اليمامة، فَسِرْ إلى العراق، فقد ولّيتك حرب فارس)).
فسار إليه في بضعة وثلاثين ألفاً. فصالح أهل السّواد ثم سار إلى الأُبُلَّة وخرج كسري في مائة وعشرين ألفاً، فالتقى مع خالد، فهزم الله المشركين من الفرس، وكتب خالد إلى كسرى: ((أمّا بعد؛ فأسلموا تسلموا، وإلاّ فأدّوا الجزية، وإلاّ فقد جئتكم بقومٍ يحبّون الموت كما تحبون الحياة)). فصالحوه.
وفيها حجّ أبو بكر ـ رضي الله عنه ـ بالنّاس ثم رجع إلى المدينة.(1/301)
حوادث السنة الثالثة عشرة
...
حوادث السّنة الثّالثة عشرة:
ثم دخلت سنة ثلاث عشرة:
فبعث أبو بكر ـ رضي الله عنه ـ الجنود إلى الشّام، وأمّر عليهم يزيد بن أبي سفيان، وأبا عبيدة عامر بن الجراح، وشرحبيل بن حسنة، وعمرو ابن العاص. ونزلت الرّوم بأعلى فِلِسْطين في سبعين ألفاً.
فكتبوا إلى أبي بكر يخبرونه ويستمدونه، فأمر خالداً ـ وهو بالحيرة ـ أن يُمِدَّ أهل الشّام بِمَن معه من أهل القوّة، ويستخلف على ضعفة الناّس رجلاً منهم.(1/301)
فسار خالد بأهل القوّة، وردّ الضّفعة إلى المدينة.
واستخلف على مَن أسلم بالعراق: الْمُثَنّى بن حارثة.
وسار حتى وصل إلى الشّام، ففتحوا بُصْرَى. وهي أوّل مدينة فتحت.
ثم اجتمع المشركون مع الرّوم، فانحاز المسلمون إلى أجنادين، فكانت الوقعة المشهورة، وكان النّصر للمسلمين.
موت الصّدِّيق ـ رضي الله عنه ـ:
وفي هذه السّنة: مات الصِّدِّيق، ليلة الثّلاثاء، لسبع عشرة ليلة مضت من جمادى الآخرة.
وكانت خلافته سنتين وثلاثة أشهر، واثنتين وعشرين ليلة.
واستخلف على النّاس عمر بن الخطاب. وقال: ((اللهم إنّي وَلَّيتهم خيرهم، ولم أرد بذلك إلاّ إصلاحهم، ولم أرد محاباة عمر، فاخْلُفني فيهم، فهم عبادك، ونواصيهم بيدك، أصلح لهم وَالِيَهم، واجعله من خلفائك الرّاشدين، يتبع هدي نبِيّه ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ، وأصلح له رعيته)).
ثم دعاه، فقال: ((يا عمر، إنّ لله حقّاً في اللّيل لا يقبله في النّهار، وحقّاً في النّهار لا يقبله في اللّيل. وإنّها لا تقبل نافلة حتى تؤدّى فريضة. وإنّما ثقلت موازين مَن ثقلت موازينه: باتّباعهم الحقّ، وثقله عليهم. وحُقَّ لميزانٍ لا يوضع فيه غير الحقّ غداً: أن يكون ثقيلاً. فإذا حفظت وصيّتي، لم يكن غائب أحبَّ إليك من الموت، وهو نازل بك. وإن ضيعتها، فلا غائب أكره إليك منه، ولست تُعْجِزه)).(1/302)
وورث منه أبوه أبو قحافة السّدس.
ولما ورد كتاب أبي بكر ـ رضي الله عنه ـ إلى أمراء الأجناد باستخلاف عمر بايعوه.
ثم ساروا إلى ((فحل)) بناحية الأرْدُن، وقد اجتمع بها الرّوم؛ فكانت وقعة ((فَحْل)) المشهورة، ونصر الله المسلمين، وانحاز المشركون إلى دِمَشق.
حوادث السّنة الرّابعة عشرة:
ثم دخلت السّنة الرّابعة عشرة:
وفيها: ساروا إلى دِمَشق وعليهم خالد، فأتى كتاب عمر ـ رضي الله عنه ـ بعزل خالد، وتأمير أبي عبيدة بن الجراح.
وفيها: أمر عمر بصلاة التّراويح جماعة. وقدم جرير بن عبد الله في ركبٍ من بجيلة، فأشار عليه عمر بالخروج إلى العراق، فسار بهم جرير إلى العراق.فلمّا قرب من الْمُثنى بن حارثة،كتب إليه:((أقبل،فإنّما أنت مَدَدٌ لي)).
فقال جرير: أنت أمير، وأنا أمير، ثم اجتمعا، فكانت وقعة البُوَيب المشهورة.
ثم إنّ عمر أمّر سعد بن أبي وقاص ـ رضي الله عنه ـ على العراق، وكتب له وأوصاه. فقال: ((يا سعد بن وَهيب، لا يغرنّك من الله أن قيل: خال رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ وصاحبه؛ فإنّ الله لا يمحو السّيّئ بالسّيئ، ولكن يمحو السّيّئ بالحسن. وإنّ الله ليس بينه وبين أحد نسبٌ(1/303)
إلاّ بطاعته. فالنّاس شريفهم ووضيعهم في ذات الله سواء. الله ربّهم وهم عباده. يتفاضلون بالعافية، ويدركون ما عند الله بالطّاعة. فانظر الأمر الذي رأيت عليه رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ منذ بُعِثَ إلى أن فارقنا عليه، فالزمه؛ فإنّه الأمر)).
وكتب إلى المثنى وجرير: أن يجتمعا إليه. فسار سعد بِمَن معه. فنَزل بشرافٍ، واجتمع إليه النّاس.
حوادث السّنة الخامسة عشرة:
ثم دخلت السّنة الخامسة عشرة:
فتح القادسية:
فلمّا انحسر الشّتاء سار سعد إلى القادسية، وكتب إلى عمر يستمده.
فبعث إليه المغيرة بن شعبة، في جيشٍ من أهل المدينة. وكتب إلى أبي عبيدة أن يمدّه بألفٍ.
وسمع بذلك رُسْتُم بن الفرخزاد فخرج بنفسه في مائة وعشرين ألفاً، سوى التّبع والرّقيق، حتى نزل القادسية. وبينه وبين المسلمين جسر القادسية، وقيل: كانوا ثلاثمائة ألف، ومعهم ثلاثة وثلاثون فيلاً. واجتمع المسلمون حتى صاروا ثلاثين ألفاً، فكانت وقعة القادسية المشهورة التي نصر الله فيها المسلمين، وهزم المشركين.
فلمّا هزم الله الفرس، كتب عمر إلى سعدٍ: ((أن أَعِدَّ للمسلمين دار هجرة، وإنّه لا يصلح للعرب إلاّ حيث يصلح للبعير والشّاة، وفي منابت العشب، فانظر فلاة إلى جانب بحر)).
فبعث سعد عثمان بن حنيف، فارتاد لهم موضع الكوفة اليوم، فنَزلها(1/304)
سعد بالنّاس، ثم كتب عمر إلى سعدٍ: ((أن ابعث إلى أرض الهند ـ يريد البصرة ـ جنداً، فلينْزلوها)).
فبعث إليها عتبة بن غَزوان في ثلاثمائة رجلٍ حتى نزلها، وهو الذي بَصَّر البصرة.
وفي هذه السّنة كانت وقعة الْيَرْمُوك المشهورة بالشّام.
وخرج عمر إلى الشّام، ونزل الجابية، فصالح نصارى بيت القدس ـ وكانوا قد أبوا أن يجيبوا إلى الصّلح مع أبي عبيدة، حتى يكون عمر يعقدون الصّلح معه ـ فصالحهم، واشترط عليهم إجلاء الرّوم إلى ثلاث. واجتمع إليه أمراء الأجناد.
فلمّا رجع إلى المدينة وضع الدّيوان. فأعطى العطايا على مقدار السّابقة.
فبدأ بالعبّاس، حُرْمَةً لرسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ. ثم الأقرب فالأقرب.
حوادث السّنة السّادسة عشرة:
ثم دخلت السّنة السّادسة عشر.
فيها: كتب عمر التّاريخ، واستشار الصّحابة في مبدئه. فمنهم مَنْ قال: نبدأ من بَدْء النّبوّة، ومنهم مَن قال: من الوفاة، ومنهم مَن قال: من الهجرة، فجعله عمر من الهجرة.
حوادث السّنة السّابعة عشرة:
ثم دخلت السّنة السّابعة عشر.
فكان فيها فتوح كثيرة شرقاً وغرباً.(1/305)
وفيها فُتِحَت تُسْتَر، التي وجد فيها جسد دانيال ـ عليه السّلام ـ، وكان المشركون يستسقون به.
وفيها: تزوج عمر أمّ كلثوم بنت عليّ بن أبي طالب ـ رضي الله عنهم ـ، طلباً لصهر رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ.
حوادث السّنة الثّّامنة عشرة:
ثم دخلت السّنة الثّامنة عشرة.
فيها أصاب النّاس مجاعة شديدة، وتُسَمّى: عام الرّمادة، لكثرة ما هلك فيها من النّاس والبهائم جوعاً، فاستسقى عمر بالنّاس، وسأل العبّاس أن يدعو الله. ويؤمن عمر والنّاس على دعائه، فأزال الله القحط.
وفيها وقع طاعون عِمْواس بالشّام، وقد هلك فيه خمسة وعشرون ألفاً.
ومات فيه أبو عبيدة بن عامر بن الجرَّاح، ومعاذ بن جبل، ويزيد بن أبي سفيان ـ رضي الله عنهم ـ.
فلمّا بلغ عمر موتهم: أمّر على الشّام معاوية بن أبي سفيان.
حوادث السّنة التّاسعة عشرة:
ثم دخلت السّنة التّاسعة عشرة.
فتح فيها فتوح كثيرة شرقاً وغرباً.
حوادث السّنة العشرين :
ثم دخلت السّنة العشرون.(1/306)
وفيها فتحت مصر والإسكندرية.
وفيها: أجلى عمر ـ رضي الله عنه ـ اليهود من الحجاز إلى أذرعات وغيرها.
حوادث السّنة الحادية والعشرين:
ثم دخلت السّنة الحادية والعشرين.
وفيها كان فتح نَهَاوَنْد، وأميرها النَعمان بن مُقَرَّن، وقتل يومئذٍ.
وفيها: مات خالد بن الوليد ـ رضي الله عنه ـ بحمصٍ.
وفيها: مات عمرو بن معدي كرب، وطليحة بن خوليد الأسدي ـ الذي كان تنبّأ، ثم أسلم وحسن إسلامه، وأبلى في قتال الفرس بلاء حسناً ـ قتلا مع النّعمان بن مُقَرَّن بِنَهَاوَنْد.
حوادث السّنة الثّانية والعشرين:
ثم دخلت السّنة الثّانية والعشرون.
وفيها: دخل الأحنف بن قيس خُراسان، وحارب يَزْدَجِرْد آخر ملوك الفرس. فهزمه الله فيها.
وفيها: اعتمر عمر، فتلقاه نافع بن الحارث، وكان عامله على مكّة. فقال له عمر: مَن خلّفت؟ قال: ابن أَبْزَى. قال عمر: ومَن أبزى؟ قال: مولى لنا. قال: ومولى أيضاً؟ قال: إنّه قارئ للقرآن، عالم بالفرائض. فقال عمر: سمعت رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ يقول: ((إنّ الله يرفع بهذا القرآن أقواماً، ويضع به آخرين)).(1/307)
حوادث السّنة الثّالثة والعشرين :
ثم دخلت السّنة الثّالثة والعشرون.
وفيها قُتِلَ عمر ـ رضي الله عنه ـ في صلاة الصّبح من يوم الأربعاء لأربع ليالٍ بقين من ذي الحجة، ودفن يوم الأحد هلال المحرم سنة أربع وعشرين.
ولما رجع من الحجّ في آخرها قام خطيباً، فقال: ((إنّي رأيت كأنّ ديكاً أحمر نَقَرَني نَقْرتين أو ثلاثاً، ولا أرى في ذلك إلاّ حضور أجلي)).
ثم خرج إلى السّوق، فلقيه أبو لؤلؤة المجوسي، غلام المغيرة بن شعبة، وكان صانعاً يعمل الأرحاء. فقال له: ألا تُكَلِّم مولاي يضع عني من خراجي؟ قال: وكم خراجك؟ قال: دينار. قال: إنّك لعامل محسن، فقال: وسِعَ النّاسَ عَدْلُك وضاق بي، وأضمر قتل عمر، فاصطنع خنجراً ذا حدّين وشحذه وسمّه، ثم أتى به الهرمزان. فقال: كيف ترى هذا؟ قال: أرى أنّك لا تضرب به أحداً إلاّ قتله1.
ـــــــ
1 كان أبو لؤلؤة من كبار ساسة الفرس الذين يحقدون على الإسلام أشدّ الحقد؛ لأنّه أزال دولة الفرس بطقوسها وكلّ نظمها، ومحاها محواً تامّاً. فاحتال حتى جاء إلى المدينة عبداً للمغيرة بن شعبة وكَوَّن ـ هو والحاقدون مثله من الفرس واليهود ـ جمعية سرّية لمحاربة الإسلام.
ويقال إنّه كان منهم كعب الأحبار. فالله أعلم. فكان من أوّل عملهم: قتل عمر. لأنّه على يده محا الله دولة الفرس؛ ولأنّه كان محدثاً، يرهبه هؤلاء أشدّ الرّهبة لنفوذ بصره، وشدّة توسمه، ومعرفته للأمور البعيدة. فما كان من السّهل أن يبلغوا في كيد الإسلام في حياة عمر ـ رضي الله عنه ـ ما بلغوا بعد قتله. وهم الذين دبّروا الفتنة التي قتلوا فيها عثمان بن عفان ـ رضي الله عنه ـ، ثم حرب صفين، ثم قتلى عليّ وابنه الحسين ـ رضي الله عنهم ـ. ولا يزالون يكيدون للإسلام إلى اليوم حتى كانت فتنة فلسطين اليوم وتشريد أهلها. وحلول رؤوس الفساد والخبث فيها مِمَن لعنه الله وغضب وجعل منهم القردة والخنازير وعبد الطّاغوت. كلّ ذلك من هذه الجماعة الفارسية اليهودية التي تسمت في كلّ عصر باسم يناسبه. وكان من أخدع أثوابها الصّوفية، والمذهبية التي فرّقت المسلمين وجعلتهم شيعاً وأحزاباً كلّ حزب بما لديهم فرحون.(1/308)
فلمّا كَبّر عمر ـ رضي الله عنه ـ في صلاة الصّبح، طعنه ثلاث طعنات. وقصة مقتله في الصّحيحين.
وكانت خلافته عشر سنين وستة أشهر وأربع ليال، أو خمس.
وبموته انفتح باب الفتنة إلى اليوم.
وقال عبد الله بن سلام لعمر ـ رضي الله عنهما ـ: إني أرى في التّوراة: أنّك باب من أبواب جهنم. قال: فَسِّرْ لي قال: أنت باب من أبوابها مغلقاً، لئلا يقتحمها النّاس فإذا مت انفتح.
وفتح الله على يديه من بلاد الكفّار ألفاً وستة وثلاثين مدينة، وخَرَّب أربعة آلاف بيعة وكنيسة، وبنى أربعة آلاف مسجد، ودَوَّن الدّواوين، ومَصَّر الأمصار، ووضع الخراج، وأرخ التّاريخ.
وله الفضائل المشهورة، والسّوابق المأثورة ـ رحمه الله ورضي عنه ـ.
حوادث سنة أربعٍ وعشرين:
ثم دخلت السّنة الرّابعة والعشرون:
فاستخلف فيها عثمان بن عفان ـ رضي الله عنه ـ، لغُرَّة هلال المحرم ـ أو لثلاث من المحرم ـ بعد دفن عمر بثلاثة أيام.
أسلم قديماً. وكان من ذوي السّابقة، ومن ذوي الشّرف العلم. هاجر الهجرتين، وصلّى القبلتين. وَزَوَّجه رسولُ الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ الابنتين، ولم ينكح ابنتي نبِيٍّ من آدم إلى قيام السّاعة غيره. وكان رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ يقدّمه ويستحي منه، ويقول: ((ما لي لا أستحي مِمَن تستحي منه ملائكة السّماء؟)).(1/309)
وفي هذه السّنة: تُوُفّي سُراقة بن مالك، وأمّ الفضل زوجة العبّاس، وأمّ أيمن بركة مولاة رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ ورضي الله عنهم ـ.
حوادث سنة خمسٍ وعشرين:
ثم دخلت السّنة الخامسة والعشرون:
فتُوُفّي فيها عبد الله بن أمّ مكتوم المؤذّن، وعمير بن وهب بن خلف الجمحي، الذي حزر المسلمين يوم بدر. ثم تعاهد هو وصفوان بن خلف الجمحي على اغتيال رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ. فذهب إلى المدينة بدعوى افتداء ابنه وهب الذي كان أُسر يوم بدر. فلمّا دخل على رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ قص عليه رسول الله ما تعاهد هو وصفوان عليه، فشهد شهادة الحقّ وأسلم.
وفيها تُوُفِّي عروة بن حزام العاشق.
حوادث سنة ستٍّ وعشرين:
ثم دخلت السّنة السّادسة والعشرون:
وفيها غزا عبد الله بن سعد بن أبي سرح إفريقية، ومعه العبادلة ـ عبد الله بن نافع بن قيس، وعبد الله بن نافع بن الحصين، وعبد الله بن الزّبير ـ فلقي جرجس، ملك البربر، في مائتي ألف، فقتل جرجس. قتله عبد الله بن الزّبير وفتح الله على المسلمين.
وفيها مات خارجة بن زيد الأنصاري الذي تكلّم بعد الموت. وكان من كلامه: خلت ليلتان. وبقيت أربع، بئر أريس، وما بئر أريس؟(1/310)
وفيها اعتمر عثمان، فكلّمه أهل مكّة أن يحول السّاحل إلى جدة.
وقالوا: هي أقرب إلى مكّة وأوسع. وكانوا يُرْسون قبل ذلك في الشُّعَيبة1.
فخرج عثمان إلى جُدّة فرآها، وحوّل السّاحل إليها.
حوادث سنة سبعٍ وعشرين:
ثم دخلت السّنة السّابعة والعشرون:
وفيها ـ على قول ابن جرير ـ كان فتح أفريقية والأندلس على يد عبد الله بن سعد بن أبي سرح.
وفيها: عزل عثمان ـ رضي الله عنه ـ عمرو بن العاص عن مصر، وولّى عليها عبد الله بن سعد بن سرح.
وفيها: مات عبد الله بن كعب بن عمرو ـ رضي الله عنه ـ. وكان من أهل بدر.
حوادث سنة ثمانٍ وعشرين :
ثم دخل السّنة الثّامنة والعشرون:
فيها: غزا معاوية بن أبي سفيان البحر، ومعه عبادة بن الصّامت، وامرأته أمّ حرام بنت ملحان ـ أخت أم سليم ـ فسقطت عن دابة لها فهلكت. وهي التي نام رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ في بيتها وقت قيلولة، فاستيقظ وهو يضحك، فسألته؟ فقال: ((ناس من أمتي عُرضوا عليَّ غُزاة في سبيل الله، يركبون ثَبَج البحر، ملوكاً على الأسرة ـ أو كالملوك على الأسرة ـ)). فقالت: ادع الله أن يجعلني منهم. فقال: أنت منهم. ثم نام،
ـــــــ
1 قريبة كانت على ساحل بحر الحجاز من طريق اليمن.(1/311)
ثم استيقظ وهو يضحك، فسألته؟ فقال: مثل قوله. فقالت: ادع الله أن يجعلني منهم. فقال: أنت من الأوّلين)).
وفيها: غزا معاوية قبرس، فصالحه أهلها.
حوادث سنة تسعٍ وعشرين :
ثم دخلت السّنة التّاسعة والعشرون:
فيها: شكى النّاس إلى عثمان ـ رضي الله عنه ـ ضيق مسجد رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ، فأمر بتوسعته، وبناه بالحجارة المنقوشة، والقصّة ـ وهي الجصّ ـ.
وفيها: وسّع المسجد الحرام كذلك.
وفيها: مات سليمان بن ربيعة الباهلي ـ رضي الله عنه ـ. وكان عمر ـ رضي الله عنه ـ ولاّه قضاء المدائن، فمكث أربعين يوماً لم يختصم إليه اثنان.
حوادث سنةٍ ثلاثين:
ثم دخلت سنة ثلاثين:
وفيها: وقع خاتم رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ من يد عثمان بن عفان ـ رضي الله عنه ـ في بئر أريس، فُنُزحت ولم يوجد؛ فحزن لذلك أشدّ الحزن، فوقع من الرّعية الخلل على عثمان بعدها.
وفيها: غزا سعيد بن العاص من الكوفة خراسان، ومعه حذيفة بن اليمان، والحسن، والحسين، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن عمرو بن العاص، وعبد الله بن الزّبير ـ رضي الله عنهم ـ(1/312)
وفيها: كان ما كان من أمر أبي ذرٍّ الغفاري ـ رضي الله عنه ـ، وشدّة إنكاره على معاوية وأهل الشّام في الاستمتاع بما أنعم الله عليهم، والتّوسّع فيما أباح لهم، وأفاء عليهم من الأموال، وأنّه يرى: أن لا يبيت أحد من المسلمين وعنده درهم ولا دينار إلا كان من الذين يكنِزون الذّهب والفضّة.
فكتب معاوية في شأنه إلى عثمان؛ فكتب عثمان بإشخاص أبي ذرٍّ إلى المدينة، ومحاولة بعض دعاة الفتنة الالتفاف حول أبي ذرٍّ. فهرب منهم إلى الرّبذة بإذن عثمان وفي طاعته، وأقام بها حتى مات-رضي الله عنه-.
وفيها: زاد عثمان النّداء الثّالث يوم الجمعة على الزّوراء حين كثر النّاس. فثبت الأمر على ذلك إلى اليوم. والزّوراء: دار كانت له بالمدينة.
وفيها: مات أُبَيّ بن كعب: سيّد القرّاء، وأحد القرّاء الأربعة.
حوادث سنة إحدى وثلاثين :
ثم دخلت السّنة الحادية والثّلاثون:
وفيها: قُتِل يَزْدَجِرْد آخر ملوك الفرس، وهو الذي مزّق كتاب رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ الذي دعاه فيه إلى الإسلام. فدعا عليه أن يمزّق الله ملكه.
وفيها: فتح حبيب بن مسلمة الفهري أرمينية.
وقال الواقدي: كان في هذه السّنة غزوة الصّواري في البحر، وكان فيها: محمّد بن أبي حذيفة، ومحمّد بن أبي بكر، فأظهرا عيب عثمان وما غيّر، وما خالف أبا بكرٍ وعمر، ويقولان: دمه حلال.(1/313)
حوادث سنة اثنتين وثلاثين:
ثم دخلت السّنة الثّانية والثّلاثون1:
فيها: غزا معاوية بلاد الرّوم، حتى بلغ مضيق القسطنطينية.
وفيها: مات عبد الرّحمن بن عوف، وعبد الله بن مسعود، وسلمان الفارسي، وأبو ذرٍّ الغفاري ـ جندب بن جنادة ـ والعبّاس بن عبد المطلب، وأبو سفيان بن حرب ـ رضي الله عنهم ـ.
حوادث سنة ثلاثٍ وثلاثين:
ثم دخلت السّنة الثّالثة والثّلاثون:
وفيها: ذكر أهل العراق عثمان بالسّوء، وتكلّموا فيه بكلامٍ خبيثٍ في مجلس سعيد بن عامر؛ فكتب في أمرهم إلى عثمان. فكتب يأمره بإجلائهم إلى الشّام، فلمّا قدموا على معاوية أكرمهم وتألفهم، ونصحهم، فأجابه متكلّمهم بكلامٍ فيه شناعة. ثم نصحهم فتمادوا في غيّهم وجهالتهم وشرّهم، فنفاهم معاوية عن الشّام، وكانوا عشرة: كميل بن زياد، والأشتر النّخعي ـ مالك بن يزيد ـ وعلقمة بن قيس النّخعي، وثابت بن قيس النّخعي، وجندب بن زهير العامري، وجندب بن كعب الأزدي، وعروة ابن الجعد، وعمرو بن الحمق الخزاعي، وصعصعة بن صوحان، وأخوه زيد ابن صوحان، وابن الكَوَّاء، فأوووا إلى الجزيرة. واستقرّوا بحمصٍ حتى كانت الفتنة التي قادوها لقتل عثمان.
وفيها: مات المقداد بن عمرو ـ رضي الله عنه ـ.
ـــــــ
1 سقطت السّنة الأولى بعد الثّلاثين من الأصل. فكمّلتها من تاريخ ابن جرير والبداية والنّهاية.(1/314)
حوادث سنة أربعٍ وثلاثين:
ثم دخلت السّنة الرّابعة والثّلاثون:
فيها: تكاتب المنحرفون عن عثمان ـ وكان جمهورهم من أهل الكوفة ـ وتواعدوا أن يجتمعوا لمناظرته فيما نقموا منه. فبعثوا إليه منهم مَن يناظره فيما فعل من تولية مَن ولّى وعزل مَن عزل؛ حتى شقّ عليه ذلك جدّاً؛ فبعث إلى أمراء الأجناد، فأحضرهم عنده، واستشارهم، فكلّ أشار برأيٍ، ثم انتهى الأمر بأن قرّر عماله على ما كانوا عليه، وتألف قلوب هؤلاء، وأمر بهم أن يبعثوا إلى الغزو وإلى الثغور، فلم يمنعهم ذلك من التّمادي في غيهم.
وفيها: تُوُفِّي أبو طلحة الأنصاي، وعبادة بن الصّامت ـ رضي الله عنهما ـ.
حوادث سنة خمسٍ وثلاثين :
ثم دخلت السّنة الخامسة والثّلاثون:
وفيها: مات من الصّحابة: عمار بن ربيعة، أسلم قديماً وشهد بدراً ـ رضي الله عنه ـ.
وفيها: كان خروج جماعة من أهل مصر ومن وافقهم على عثمان.
وأصل الفتنة ومنبعها: كان من عبد الله بن سبأ ـ رجل يهودي من أهل صنعاء، أظهر الإسلام ليخفي به حقده عليه وكفره به في زمن عثمان ـ وكان ينتقل في بلدان المسلمين يحاول ضلالتهم. فبدأ بالحجاز، ثم البصرة، ثم الكوفة، ثم الشّام. فلم يقدر على ما يريد. فأخرجوه حتى أتى مصر. فغمز على عثمان. وقاد الفتنة، وأشعل نارها؛ محادة لله ولرسوله، حتى(1/315)
كانت البلية الكبرى بمحاصرة عثمان ـ رضي الله عنه ـ، واغتياله، وهو يتلو كتاب الله تعالى، وكان بيد أولئك المجرمين الخوارج في ذي الحجة من هذه السنة ـ رضي الله عنه ـ.
وبقتله وقعت الفتنة العظيمة التي أخبر بها رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ، والنّاس في بقايا من شرّها إلى اليوم.
ويروى: أنّ عثمان ـ رضي الله عنه ـ صلّى في اللّيلة التي حوصر فيها ونام، فأتاه آتٍ في منامه، فقال له: قم فسأل الله أن يعيذك من الفتنة التي أعاذ منها صالحي عباده. فقام فصلّى، ودعاه فاشتكى، فما خرج إلاّ جنازته.
قال أهل السّير: لما كان من أمر عثمان ما كان، قعد عليّ بن أبي طالب في بيته، فأتاه النّاس، وهم يقولون: عليّ أمير المؤمنين. فقال: ليس ذلك إليكم، إنّما هو إلى أهل بدرٍ. فأتاه أهل بدر، فلمّا رأى عليّ خرج فبايعه النّاس. ولم يدخل في طاعته معاوية وأهل الشّام، فَهَمَّ عليّ بالشّخوص إليهم1.
وقعة الجمل:
وبلغ الخبر عائشة ـ وهي حاجّة ـ ومعها طلحة، والزّبير، فخرجوا
ـــــــ
1 قال الحافظ ابن كثير في البداية والنّهاية: ((قال شيخنا أبو عبد الذّهبي في آخر ترجمة عثمان ـ رضي الله عنه ـ وفضائله: الذين قتلوه؛ أو ألبوا عليه: قتلوا إلى عفو الله ورحمته. والذين خذلوه: خذلوا، وتنغص عيشهم. وكان الملك بعده في نائبه معاوية وبنيه. ثم في وزيره مروان وثمانية من ذرّيّته، استطالوا حياته وملوه، مع فضله وسوابقه. فتملك عليهم مَن هو من بني عمّه بضعاً وثمانين سنة. فالحكم لله العليّ الكبير. هذا لفظ الذّهبي بحروفه)).(1/316)
إلى البصرة يريدون الإصلاح بين النّاس، واجتماع الكلمة. وأرسل عليّ عمار بن ياسر وابنه الحسن بن عليّ إلى الكوفة يستنفرون النّاس ليكونوا مع عليّ، فاستنفروهم، فنفروا. وخرج عليّ من المدينة في ستمائة رجلٍ. فالتقى هو والحسن بذي قار، ثم التقوا هم وطلحة والزّبير قرب البصرة. وكان في العسكرين ناس من الخوارج، فخالفوا من تمالُؤ العسكرين عليهم، فتحيلوا حتى أثاروا الحرب بينهما من غير رأي، فكانت وقعة الجمل المشهورة؛ لأنّ عائشة كانت في هودج على جملٍ، وعُقِر الجمل ذلك اليوم، فأمر عليّ بحمل الهودج، فحمله محمّد بن أبي بكر، وعمار بن ياسر. فأدخل محمّد يده في الهودج، فقالت: مَن ذا الذي يتعرض لحرم رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ؟ أحرقه الله بالنّار. فقال: يا أختاه قولي بنار الدّنيا. فقالت: بنار الدّنيا. فكان الأمر كذلك.
وكانت وقعة الجمل في جمادى الآخرة سنة ستٍّ وثلاثين.
ثم التقى عليّ وعائشة، فاعتذر كلّ منهما للآخر، ثم جهّزها إلى المدينة.
وأمر لها بكلّ شيء ينبغي لها، وأرسل معها أربعين امرأة من نساء أهل البصرة المعروفات.
وفي هذه السّنة: مات حذيفة بن اليمان، وأبو رافع مولى رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ، وقدامة بن مظعون ـ رضي الله عنهم ـ.
حوادث سنة سبعٍ وثلاثين :
ثم دخلت السّنة السّابعة والثّلاثون:
فسار عليّ ـ رضي الله عنه ـ، والتقى هو وأهل الشّام بصفين، لسبع(1/317)
بقين من المحرم ـ وصِفِّين اسم موضع بين الشّام والعراق ـ فكانت به الوقعة المشهورة. فلمّا اشتدّ البلاء على الفريقين، وطال أياماً، وكثر القتل بينهم: رفع أهل الشّام المصاحف على رؤوس الرّماح، ونادوا: ((ندعوكم إلى كتاب الله))، فَسُرَّ النّاس؛ وأنابوا إلى الحكومة.
فحكّم أهلُ الشّام عمرو بن العاص، وحكم عليّ بن أبي طالب أبا موسى الأشعري ـ رضي الله عنهما ـ. وكتبوا بينهم العهود بالرّضى بما يحكم به الحكمان. فلمّا حلّ الموعد في رمضان توافوا بأذرح، بدومة الْجَنْدَل. فلم يتّف الحكمان على شيء.
وانصرف عليّ ـ رضي الله عنه ـ إلى العراق، ومعاوية ـ رضي الله عنه ـ إلى الشّام.
فلمّا وصل عليّ الكوفة خرجت عليه الخوارج، وكفّروه حيث رضي بالتّحكيم، وقالوا: لا حُكْمَ إلاّ لله. واجتمعوا بِحَرُوراء ـ اسم موضعٍ بالعراق ـ فَسُمُّوا الْحَرُورِيّة، فأرسل عليّ إليهم عبد الله بن عباس فأتاهم. قال: ((فلم أرَ قوماً أشدّ اجتهاداً منهم، ولا أكثر عبادة)). فقال: ما تنقمون؟ قالوا: ثلاث.
إحداهن: أنّه حكّم الرّجال في أمر الله، وقد قال الله تعالى: {إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ} الآية1.
والثّانية: أنّه قاتل، ولم يَسْبِ ولم يَغْنَم. فإن كانوا مؤمنين، فما حَلَّ لنا قتالهم، وإن كانوا كافرين فقد حلّت لنا أموالهم وسبيهم.
ـــــــ
1 الآية 57 من سورة الأنعام، والآية 40، و67 من سورة يوسف.(1/318)
والثّالثة: أنّه مَحَا نفسه من أمير المؤمنين. فإن لم يكن أمير المؤمنين فهو أمير الكافرين.
فقال لهم: أرأيتم إن قرأت عليكم من كتاب الله الحكم، وحدّثتكم من سنة نبيّكم ما لا تنكرون، أترجعون؟ قالوا: نعم.
فقلت: أما قولكم: إنّه حكّم الرّجال في دين الله، فإنّ الله تعالى يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ } إلى قوله: {يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ}1 .
وقال: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِهَا }2.
أنْشُدُكم الله، أفتحكيم الله الرّجال في إصلاح ذات بينهم، وحقن دمائهم وأموالهم: أحقّ، أم في أرنب ثمنها ربع درهم، أو بُضْع امرأة؟
فقالوا: اللهم بلى، في حقن دمائهم، وإصلاح ذات بينهم.
فقلت: أخرجت من هذه؟
فقالوا: اللهم نعم.
ـــــــ
1 الآية 95 من سورة المائدة.
2 الآية 35 من سورة النّساء.(1/319)
قال :وأمّا قولكم: إنّه قاتَلَ ولم يَسْبِ ولم يَغْنَم، أَفَتَسْبُون أُمَّكم، وتستحلّون منها ما تستحلّونه من غيرها؟ فإن قلتم: نعم. فقد كفرتم. وإن زعتم أنّها ليست لكم بأمّ، فقد كفرتم؛ لأنّ الله يقول : {وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} 1 . فإن كنتم تتردّدون بين ضلالتين، فاختاروا أيّتهما شئتم. أخرجت من هذه؟ قالوا: اللهم نعم.
قال: وأمّا قولكم: إنّه مَحَا نفسه من ((أمير المؤمنين)) فإنّ النّبِيّ ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ يوم الحديبية ـ أراد أن يكتب بينه وبين قريشٍ في الصّلح. فقال لعلي: ((اكتب. هذا ما قاضى عليه محمّد رسول الله. فقالوا: لو نعلم أنك رسول الله ما صددناك عن البيت، ولا قاتلناك، ولكن اكتب: محمّد بن عبد الله. فقال: امْحُ يا علي، واكتب: محمّد بن عبد الله. فقال: والله لا أمحوك أبداً. قال: فأرني موضعه، فأراه ذلك. فمحاه رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ)). فوالله لرسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ أفضل من عليٍّ. أخرجت من هذه؟ قالوا: اللهم نعم)).
فرجع منهم أربعة آلاف، وخرج عليه باقيهم. فقاتلوه، فقتل منهم مقتلة عظيمة، وأمر بالتماس الْمُخَدَّج ذي الثُّدَيّة. فلمّا وجده سجد لله شكراً.
وفي هذه السّنة مات خَبَّاب بن الأرَتِّ، وخزيمة ذو الشّهادتين، وسفينة مولى رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ. وعبد الله بن سعد بن أبي السرّح ـ رضي الله عنهم ـ.
حوادث سنة ثمانٍ وثلاثين:
ثم دخلت السّنة الثّامنة والثّلاثون:
فيها: قُتِلَ محمّد بن أبي بكر وأُحْرِق.
وفيها: مات سهل بن حُنيف، وصهيب الرّومي.
ثم دخلت السّنة الأربعون2:
ـــــــ
1 الآية 6 من سورة الأحزاب.
2 سقطت السّنة التّاسعة والثّلاثون.(1/320)
وفيها: كتب معاوية إلى عليّ: ((أمّا إذا شئت فلك العراق، ولي الشّام. ونكفّ السّيف عن هذه الأمة، ولا نهريق دماء المسلمين)). ففعل. وتراضيا ـ رضي الله عنهما ـ على ذلك.
وفيها: قتل عليّ ـ رضي الله عنه ـ قتله ابن ملجم ـ رجلٌ من الخوارج ـ لَمَّا خرج لصلاة الصّبح، لثلاث عشرة ليلة بقيت من رمضان.
فبايع النّاس ابنه الحسن، فبقي خليفة نحو سبعة أشهر. ثم سار إلى معاوية، فلمّا التقى الجمعان، علم الحسن أن لن تَغْلِب إحدى الفئتين حتى يذهب أكثر الأخرى؛ فصالح معاوية، وترك الأمر له، وبايعه على أشياء اشترطها، فأعطاه معاوية إيّاها وأضعافها.
وجرى مصداق ما صحّ عن رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ أنّه قال في الحسن: ((إنّ ابني هذا سيّد. ولعلّ الله أن يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين)).
وصحّ عنه أنّه قال في الخوارج: ((يخرجون على حين فرقةٍ بين النّاس، تقتلهم أقرب الطّائفتين إلى الحقّ)).
وصحّ عنه ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ في أحاديث كثيرة: أنّه نهى عن القتال في الفتنة. وأخبر ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ بوقوعها، وحذّر منها.
فحصل بمجموع ما ذكرنا: أنّ الصّواب مع سعد بن أبي وقاص، وابن عمر، وأُسامة بن زيد، وأكثر الصّحابة الذين قعدوا واعتزلوا الطّائفتين.
وأنّ عليّ بن أبي طالب وأصحابه: أقرب إلى الحقّ من معاوية وأصحابه.
وأنّ الفريقين كلّهم لم يخرجوا من الإيمان.(1/321)
وأنّ الذين خرجوا من الإيمان: إنّما هم أهل النّهروان.
وأنّ ما فعل الحسن بن عليّ ـ رضي الله عنهما ـ أحبّ إلى الله مما فعل أبوه عليّ؛ لأنّ رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ لا يمدحه على ترك واجبٍ، أو مستحبٍّ.
وأجمع أهل السّنة على السّكوت عمّا شَجَرَ بين الصّحابة ـ رضي الله عنهم ـ ولا يقال فيهم إلاّ الحسنى. فمَن تكلّم في معاوية أو غيره من الصّحابة فقد خرج عن الإجماع. والله سبحانه وتعالى أعلم.
وكان هذا العام يُسَمّى عام الجماعة، لاجتماع المسلمين فيه على إمامٍ واحدٍ، بعد الفرقة. وهو عام إحدى وأربعين في ربيع الأوّل. فاجتمعوا على معاوية ـ رضي الله عنه ـ، ودُعي من يومئذٍ أمير المؤمنين. ورجع الحسن بن عليّ ـ رضي الله عنهما ـ إلى المدينة.
ثم دخلت سنة اثنتين وأربعين:
فيها: مات عمرو بن العاص ـ رضي الله عنه ـ بمصر، وهو واليها.
ثم دخلت سنة ثلاثٍ وأربعين:
فيها: مات عبد الله بن سلام ـ رضي الله عنه ـ.
ثم دخلت سنة أربعٍ وأربعين:
فماتت فيها أمّ حبيبة بنت أبي سفيان،أم المؤمنين-رضي الله عنها-.
ثم دخلت سنة خمسٍ وأربعين:
فماتت فيها حفصة بنت عمر، أم المؤمنين، وزيد بن ثابت ـ رضي الله عنهم(1/322)
ثم دخلت سنة ستٍّ وأربعين:
فمات فيها محمّد بن مسلمة ـ رضي الله عنه ـ.
ثم دخلت سنة سبعٍ وأربعين:
فمات فيها قيس بن عاصم ـ رضي الله عنه ـ.
حوادث سنة تسعٍ وأربعين:
ثم دخلت سنة تسعٍ وأربعين:
وفيها: كانت غزوة يزيد بن معاوية بن أبي سفيان الرّوم، حتى بلغ قسطنطينية. ومعه: ابن عبّاس، وابن عمر، وابن الزّبير، وأبو أيّوب الأنصاري.
وفيها: مات الحسن بن علي، وجويرية بنت الحارث أم المؤمنين، وصفيّة بنت حُيَيّ أم المؤمنين، وجبير بن معطم، وحسان بن ثابت، ودحية ابن خليفة الكلبي، وكعب بن مالك، وعمرو بن أُمية الضّمري، وعقيل بن أبي طالب، وعتبان بن مالك، والمغيرة بن شعبة-رضي الله عنهم أجمعين_.
ثم دخلت سنة إحدى وخمسين:
فمات فيها سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل، وجرير بن عبد الله البجلي ـ رضي الله عنهم ـ.
ثم دخلت سنة اثنتين وخمسين:
فمات فيها: أبو أيّوب زيد بن خالد الأنصاري غازياً، ودفن عند سور(1/323)
القسطنطينية، وكان النّصارى يستسقون بقبره ـ رضي الله عنه، وبرّأه الله من عقائد النّصارى ـ.
ومات بها أبو موسى الأشعري، وعمران بن حصين ـ رضي الله عنهما ـ.
ثم دخلت سنة ثلاثٍ وخمسين:
فمات فيها: صعصعة بن ناجية الصّحابي، الذي يقال: إنّه أحيا أربعمائة موؤودة في الجاهلية، وزياد بن سمية ـ رضي الله عنهم ـ.
ثم دخلت سنة أربعٍ وخمسين:
فماتت فيها سودة بنت زمعة أم المؤمنين، وأبو قتادة الأنصاري، وحكيم بن حزام ـ رضي الله عنهم
ثم دخلت سنة خمسٍ وخمسين:
فمات سعد بن مالك، والأرقم بن أبي الأرقم ـ الذي كان رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم-يدعو إلى الإسلام مختبئاً في داره-وسحبان وائل البليغ الذي يضرب به المثل في الفصاحة ـ رضي الله عنهم
ثم دخلت سنة ستٍّ وخمسين:
فدعا فيها معاوية النّاس إلى بيعة ابنه يزيد.
ثم حوادث سنة سبعٍ وخمسين:
فمات فيها عثمان بن حنيف ـ رضي الله عنه ـ.
ثم دخلت سنة ثمانٍ وخمسين :
فمات فيها: سعيد بن العاص ـ أحد الأجواد السّبعة ـ وعبد الرّحمن بن أبي بكر، وعبد الله بن عبّاس ـ أحد الأجواد السّبعة ـ رضي الله عنهم ـ.
حوادث سنة ستّين:
ثم دخلت سنة ستّين:(1/324)
فمات فيها معاوية بن أبي سفيان. وصحّ أنّ أبا هريرة مات قبلها بسنةٍ، وأنّه كان يقول: ((اللهم إنّي أعوذ بك من رأس السّتّين، وإمارة الصّبيان)).
واستخلف معاوية ابنه يزيد، فجرت الفتنة الثّانية. ولم تزل الفتنة قائمة سنين حتى اجتمع النّاس على عبد الملك بن مروان.
فأوّل ما جرى في أيّام يزيد: مقتل الحسين بن عليّ ـ رضي الله عنهما ـ وأهل بيته في يوم عاشرواء سنة إحدى وستّين.
ثم بعدها: جرت وقعة الْحَرّة العظيمة بالمدينة، قتلوا أهلها. وأباحوها ثلاثة أيّام.
ثم بعد ذلك: توجّهوا إلى مكّة لقتال عبد الله بن الزّبير ـ رضي الله عنهما ـ فحاصروها. فلم يزالوا محاصريها حتى بلغهم موت يزيد. فلمّا مات يزيد افترق النّاس افتراقاً كثيراً كما قيل:
وتشعّبوا شعباً بكلّ جزيرةٍ ... فيها أمير المؤمنين ومنبر
وثبت مروان بالشّام، وخرج المختار بن أبي عبيد الثّقفي المبيد المفسد بالعراق، ونجدة بن عويمر باليمامة.
والمشهور بأمير المؤمنين في هذه السّنين: عبد الله بن الزّبير بمكّة. وبايع له أكثر النّاس.
فلما مات مروان تولّى بعده ابنه عبد الملك سنة خمسٍ وستّين.
ولَمّا تولّى تصدّى لحرب عبد الله بن الزّبير، فجرى بينهما ما يطول ذكره، وآخره: أنّه وجّه لقتال ابن الزّبير جيشاً عليهم الحجاج بن يوسف الثّقفي، فحصره بمكّة، ثم قتله ـ رضي الله عنه ـ سنة ثلاثٍ وسبعين.
فاجتمع النّاس بعده على عبد الملك بن مروان، فلم يزل والياً كذلك إلى(1/325)
سنة ستٍّ وثمانين. فمات واستخلف ولده الوليد، فبقي في الخلافة سبع سنين وأشهراً.
وفي أيّامه مات أنس بن مالك ـ رضي الله عنه ـ، والحجاج بن يوسف.
ثُمَّ ولي بعده أخوه سليمان بن عبد الملك، فبقي سنتين وأشهراً.
واستخلف عمر بن عبد العزيز، فبايعه النّاس سنة تسعٍ وتسعين في صفر.
فسار ـ رحمه الله ـ سيرة الخلفاء الرّاشدين، وأحيا السّنن وأمات البدع، وبقي في الخلافة رشيداً مهدياً سنتين وأشهراً، ومات في رجب سنة إحدى ومائة.
ومات في أيّامه ابنه عبد الملك، وكان يشبه أباه ـ رحمهما الله ـ.
ثُمّ تولَّى بعده: يزيد بن عبد الملك، فبقي أربع سنين وشهراً واحداً. وتُوُفِّي سنة خمسٍ ومائة.
ثُمّ تولّى بعده: أخوه هشام بن عبد الملك. فبقي تسع عشرة سنة وأشهراً.
وفي خلافته: ظهر الجعد بن درهم، أوّل مَن قال بخلق القرآن، وأظهره في دِمَشق، فطلبه بنو أمية؛ فهرب منهم إلى الكوفة. فلمّا أظهر قوله هناك: أخذه خالد بن عبد الله القسري. قتله يوم عيد الأضحى من سنة أربعٍ وعشرين ومائة. خطب النّاس، فقال: ((أيّها النّاس ضحّوا، تقبل الله ضحاياكم؛ فإنّي مضحٍّ بالجعد بن درهم؛ إنّه زعم: أنّ الله لم يتّخذ إبراهيم خليلاً. ولم يكلّم موسى تكليماً، تعالى الله عمّا قال الجعد علوّاً كبيراً. ثم نزل فذبحه في أصل المبنر.
وتُوُفِّي هشام بن عبد الملك سنة خمسٍ وعشرين ومائة.
ثُمّ تولّى بعده: ابن أخيه الوليد بن يزيد بن عبد الملك، فبقي سنة أو أقل أو أكثر، ثم قتل سنة ستٍّ وعشرين ومائة.(1/326)
ثُمَّ تولّى بعده: ابن عمّه يزيد بن الوليد بن عبد الملك، فبقي خمسة أشهر، وتُوُفِّي في ذي القعدة ـ أو في أوّل ذي الحجة ـ من سنة ستٍّ وعشرين ومائة.
وبعده انقضت الخلافة التّامة، ولم تجتمع الأمّة بعده على إمامٍ واحدٍ إلى اليوم. وهو آخر الخلفاء الاثني عشر، الذين ذكرهم النَّبِيّ ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ في الحديث الصّحيح: ((لا يزال أمر هذه الأمة عزيزاً، ينصرون على مَن ناوأهم إلى اثني عشر خليفة، كلّهم من قريش)).
وفي لفظٍ لمسلمٍ: ((إنّ هذا الأمر لا ينقضي، حتى يمضي فيهم اثنا عشر خليفة)).
وعند البزار: ((لا يزال أمر أمتي قائماً، حتى يمضي اثنا عشر خليفة)).
وفي لفظٍ: ((لا يزال الإسلام عزيزاً منيعاً إلى اثني عشر خليفة)).
وعند أبي داود: ((قالوا: ثم يكون ماذا؟ قال: ثم يكون الهَرْج)).
فلمّا مات يزيد: طلب الأمر أخوه إبراهيم، فبايعه أخوه، ولم ينتظم له أمر.
فطلب الأمر مروان بن محمّد بن مروان ـ الذين يقال له: مروان الحمار ـ فبايعه بعض النّاس في صفر سنة سبعٍ وعشرين ومائة.
ولم يزل في حروبٍ وتخبيط إلى آخر سنة اثنتين وثلاثين ومائة ـ يوم الأحد لثلاث بقين من ذي الحجة ـ فقتل في كنيسة أبي صير. وكانت مدة خلافته: خمس سنين وعشرة أشهر وعشرة أيام. وهو آخر مَن ولي الخلافة من بني أمية.
دولة بني العبّاس:
ثُمّ قامت دولة بني العبّاس:
وفي هذه السّنين: وقعت الفتنة الثّالثة التي لم يرقع الخرق بعدها إلى اليوم(1/327)
. فأوّل مَن قام من بني العبّاس: السّفاح، واسمه: عبد الله بن محمّد بن عليّ بن عبد الله بن عبّاس. فبقي نحو ستّ سنين ثم مات، وعهد إلى أخيه المعروف بالمنصور، فبقي فيها اثنتين وعشرين سنة، ثم توفي، وعهد إلى ابنه المعروف بالمهدي، فبقي نحو عشر سنين، ثم مات.
وقام بعده ابنه: موسى، المسمَّى بالهادي، فبقي سنة وشهراً، ثم توفي.
وقام بعده: أخوه هارون، المسمَّى بالرّشيد، فبقي أكثر من عشرين سنة، ثم مات.
وقام بعده: ابنه المسمّى بالأمين ـ وأمّه زبيدة بنت جعفر بن المنصور ـ وبقي نحو ثلاث سنين، ثم قتله عسكر أخيه المأمون.
وقام بعده: المأمون، وهو الذي جَرَّ على المسلمين كثيراً من الفتن في العقائد، فترجم اليونان في الفلسفة، وأظهر القول بخلق القرآن، وألزم النّاس القول به، وامتحن الإمام أحمد وغيره من الأئمة ـ رحمهم الله ـ في ذلك.
بدء تأليف الكتب:
وفي أيام عمر بن عبد العزيز: كتب إلى أبي بكر بن حزم بالمدينة: ((انظر ما كان من حديث رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ فأجمعه، فإني خفت دروس العلم، وذهاب العلماء)).
وفي أيّام المنصور: شرع العلماء في تصنيف كتب التّفسير والحديث.
فصنّف ابن جريج بمكّة، ومالك بن أنس بالمدينة، وعمرو الأوزاعي بالشّام، وحماد بن سلمة بالبصرة، وسفيان الثّوري بالكوفة، ومعمر بن المثنى باليمن.(1/328)
وصنّف محمّد بن إسحاق المغازي. وصنّف أبو حنيفة النّعمان بن ثابت الرّأي.
وقبل هذا: كان الأئمة يتكلّمون من حفظهم، ويروون العلم صحفاً غير مرتّبة. والله سبحانه وتعالى أعلم.
والحمد لله ربّ العالمين. وصلّى الله وسلّم وبارك على خاتم سيّد المرسلين محمّدٍ، وعلى آله وصحبه أجمعين.
وكان الفراغ من نسخ هذا الكتاب الشّريف يوم الأربعاء، لإحدى عشرة خلت من شهر رجب سنة: 1309هـ على يد الفقير إلى ربّه: سليمان بن سَحْمان غفر الله له ولوالديه وللمسلمين والمسلمات، والمؤمنين والمؤمنات.
اللهم صلِّ على محمّدٍ وآله وصحبه وسلّم.
وكان الفراغ من مراجعة هذا الكتاب ومقابلته وترقيم الآيات وتخريج الأحاديث وتعليق ما رأينا الحاجة داعية إلى إيضاحه يوم الأربعاء السّابع والعشرين من شهر ربيع الآخر عام 1398هـ. وصلَى الله على محمّدٍ وآله وصحبه وسلّم ـ
المراجعون.(1/329)
مقدمة الشيخ
...
مختصر سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم ِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الحمد لله ربّ العالمين، وصلّى الله وسلّم وبارك على محمّد وعلى آله وصحبه أجمعين.
اعلم ـ رحمك الله ـ أنّ أفرض ما فرض الله عليك معرفة دينك، الذي معرفته والعمل به سبب لدخول الجنة، والجهل به وإضاعته سبب لدخول النّار.
ومن أوضح ما يكون لذوي الفهم: قصص الأوّلين والآخرين: قصص مَن أطاع الله وما فعل بهم، وقصص مَن عصاه، وما فعل بهم، فمَن لم يفهم ذلك، ولم ينتفع به فلا حيلة فيه، كما قال تعالى: {وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشاً فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ}1.
وقال بعض السّلف:"القصص جنود الله"يعني أنّ المعاند لا يقدر يردها.
فأوّل ذلك: ما قصّ الله سبحانه عن آدم، وإبليس، إلى أن هبط آدم وزوجه إلى الأرض ففيها من إيضاح المشكلات ما هو واضح لِمَن تأمّله، وآخر القصّة قوله تعالى: {قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ
ـــــــ
1 الآية رقم: 36 من سورة ق.(1/7)
مِنِّي هُدىً فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَاأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}1.
وفي الآية الأخرى: {فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى } ـ إلى قوله ـ {وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى}2.
وهداه الذي وعدنا به: هو إرساله الرّسل، وقد وفّى بما وعد سبحانه، فأرسل الرّسل {مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُل} 3، فأوّلهم: نوح وآخرهم: نبيّنا محمّد ـ صلى الله عليه وعليهم وسلم ـ.
فاحرص يا عبد الله على معرفة هذا الجبل، الذي بين الله وبين عباده، الذي مَنِ استمسك به سلم، ومَن ضيّعه عطب.
فاحرص على معرفة ما جرى لأبيك آدم، وعدوّك إبليس، وما جرى لنوح وقومه، وهود وقومه، وصالح وقومه، وإبراهيم وقومه، ولوط وقومه، وموسى وقومه، وعيسى وقومه، ومحمّد ـ صلّى الله عليهم وعليه وسلّم ـ وقومه.
واعرف ما قصّه أهل العلم من أخبار النّبي ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ وقومه، وما جرى له معهم في مكة، وما جرى له في المدينة.
واعرف ما قصّ العلماء عن أصحابه، وأحوالهم، وأعمالهم، لعلّك أن تعرف الإسلام والكفر؛ فإنّ الإسلام اليوم غريب، وأكثر النّاس لا يميّز بينه وبين الكفر، وذلك هو الهلاك الذي لا يرجى معه فلاح.
ـــــــ
1 الآيتان 38-39، من سورة البقرة.
2 الآيات من 123-137 من سورة طه.
3 الآية 165 من سورة النساء.(1/8)
وأمّا قصّة آدم وإبليس، فلا زيادة على ما ذكر الله في كتابه ولكن قصة ذريته.
فأوّل ذلك: أنّ الله أخرجهم من صلبه أمثال الذّرّ وأخذ عليهم العهود: أن لا يشركوا به شيئاً، كما قال تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا1}2، ورأى فيهم الأنبياء مثل السّرج، ورأى فيهم رجلاً من أنورهم، فسأله عنه؟ فأعلمه أنّه داود. فقال: كم عمره؟ قال: ستّون سنة. قال: وهبت له من عمري أربعين سنة، وكان عمر آدم ألف سنة. ورأى فيهم الأعمى، والأبرص، والمبتلى. قال: يا ربّ، لم لا سويت بينهم؟ قال: إنّي أحبّ أن أُشْكَر. فلما مضى من عمر آدم ألف سنة إلاّ أربعين، أتاه ملك الموت. فقال: إنّه بقي من عمري أربعون سنة. فقال: إنّك وهبتها لابنك داود. فنسي آدم، فَنَسِيَتْ ذريته. وجحد آدم، فجحدت ذريته.
فلمّا مات آدم بقي أولاده بعده عشرة قرون على دين أبيهم، دين الإسلام، ثم كفروا بعد ذلك، وسبب كفرهم: الغلوّ في حبّ الصّالحين. كما ذكر الله تعالى في قوله: {وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدّاً وَلا سُوَاعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً} 3؛ وذلك أنّ
1 ولا يزال ربّنا ـ سبحانه ـ يقيم الحجة بسننه في الخلق والزّرق، وآياته وكتابه، ويأخذ العهود والمواثيق، ولكن أكثر النّاس عن هذا غافلون؛ لأنّهم يدينون دين الآباء والشّيوخ فيشركون كما يشركون (2/170)، { وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ}، الآية 170 من سورة البقرة.
ـــــــ
2 الآية رقم: 172 من سورة الأعراف.
3 الآية رقم: 23 من سورة نوح.(1/9)
هؤلاء الخمسة قوم صالحون كانوا يأمرونهم وينهونهم. فماتوا في شهرٍ. فخاف أصحابهم من نقص الدّين بعدهم، فصوّروا صورة كلّ رجلٍ في مجلسه؛ لأجل التّذكرة بأقوالهم وأعمالهم إذا رأوا صورهم، ولم يَعْبُدُوهم، ثم حدث قرن آخر فعظموهم أشدّ من تعظيم مَن قبلهم، ولم يعبدوهم. ثم طال الزّمان، ومات أهل العلم، فلما خلت الأرض من العلماء ألقى الشّيطان في قلوب الجهال: أنّ أولئك الصّالحين ما صوّروا صور مشايخهم إلاّ ليستشفعوا بهم إلى الله، فعبدوهم.
فلما فعلوا ذلك أرسل الله إليهم نوحاً ـ عليه السّلام ـ، ليردّهم إلى دين آدم وذريّته، الذين مضوا قبل التّبديل، فكان من أمرهم ما قصّ الله في كتابه، ثم عَمَرَ نوحٌ وأهل السّفينة الأرضَ، وبارك الله فيهم، وانتشروا في الأرض أُمَماً، وبقوا على الإسلام مدة لا ندري ما قدرها.
ثم حدث الشّرك، فأرسل الله الرّسل، وما من أمّة إلاّ وقد بعث الله فيها رسولاً يأمرهم بالتّوحيد، وينهاهم عن الشّرك، كما قال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ}1 .
وقال تعالى: {ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَا كُلَّ مَا جَاءَ أُمَّةً رَسُولُهَا كَذَّبُوهُ} الآية2.
ولما ذكر القصص في سورة الشّعراء ختم كلّ قصةٍ بقوله: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ} 3.
ـــــــ
1 الآية 36 من سورة النّحل.
2 الآية 44 من سورة المؤمنون.
3 من الآية: 67، و103، و121، 139، و158، و174، و190 من سورة الشّعراء.(1/10)
فقصّ الله ـ سبحانه ـ ما قصّ لأجلنا، كما قال تعالى: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُولِي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثاً يُفْتَرَى...} الآية1.
ولما أنكر الله على أناسٍ من هذه الأمّة ـ في زمن النّبِي ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ أشياء فعلوها2، قال: {أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْرَاهِيمَ وَأَصْحَابِ مَدْيَنَ} الآية3.
وكذلك كان رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ يقصّ على أصحابه قصص من قبلهم، ليعتبروا بذلك.
وكذلك أهل العلم في نقلهم سيرة رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ، وما جرى له مع قومه، وما قال لهم، وما قيل له.
وكذلك نقلهم سيرة الصّحابة، وما جرى لهم مع الكفار والمنافقين، وذكرهم أحوال العلماء بعدهم. كلّ ذلك لأجل معرفة الخير والشّرّ.
إذا فهمت ذلك:
فاعلم أنّ كثيراً من الرّسل وأممهم لا نعرفهم؛ لأنّ الله لم يخبرنا عنهم، لكن أخبرنا عن عادٍ، التي لم يُخْلَق مثلها في البلاد، فبعث الله إليهم هوداً ـ عليه السّلام ـ فكان من أمرهم ما قصّ الله في كتابه، وبقي التّوحيد في أصحاب هود إلى أن عُدم بعد مدة، لا ندري كم هي. وبقي في أصحاب صالح إلى أن عُدم مدة لا ندري كم هي؟
ـــــــ
1 الآية رقم 11 من سورة يوسف.
2 هم المنافقون وما فعلوا في غزوة تبوك.
3 الآية: 70 من سورة التّوبة.(1/11)
ثم بعث الله إبراهيم ـ عليه السّلام ـ، وليس على وجه الأرض يومئذٍ مسلم، فجرى عليه من قومه ما جرى، وآمنت به امرأته سارة، ثم آمن له لوط ـ عليه السّلام ـ، ومع هذا نصره الله، ورفع قدره، وجعله إماماً للنّاس.
ومنذ ظهر إبراهيم ـ عليه السّلام ـ لم يعدم التّوحيد في ذريّته. كما قال تعالى: {وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ}1.
فإذا كان هو الإمام فنذكر شيئاً من أحواله. لا يستغني مسلم عن معرفتها، فنقول:
في الصّحيح: أنّ رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ قال : "لم يكذب إبراهيم النَّبِي ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ قط إلاّ ثلاث كذبات: ثنتين في ذات الله، قوله: "إنّي سقيم" ، وقوله : "بلى فعله كبيرهم هذا" ، وواحدة في شأن سارة؛ فإنّه قدم أرض جبّار ومعه سارة، وكانت أحسن النّاس. فقال لها: إنّ هذا الجبّار إنْ يعلم أنّكِ امرأتي: يغلبني عليك، فإن سألكِ فأخبريه: أنّكِ أختي. فإنّكِ أختي في الإسلام. فإنّي لا أعلم في الأرض مسلماً غيري وغيركِ. فلما دخل أرضه رآها بعض أهل الجبّار، فأتاه. فقال: لقد قدم أرضَك امرأة لا ينبغي أن تكون إلاّ لك. فأرسل إليها، فأُتيِ بها. فقام إبراهيم إلى الصّلاة. فلما دخلت عليه، لم يتمالك أن بسط يده إليها، فَقُبِضَتْ يده قبضة شديدة. فقال لها: ادعي الله أن يطلق يدي. فلكِ اللهُ، أن لا أضرّكِ، فَفَعَلَتْ، فعاد. فَقُبِضَتْ يده
ـــــــ
1 الآية 28 من سورة الزّخرف.(1/12)
أشدّ من القبضة الأولى. فقال لها مثل ذلك، فعاد: فَقُبِضَتْ يده أشدّ من القبضتين الأولتين. فقال لها: ادعي الله أن يطلق يدي، ولك الله، أن لا أضركِ، ففعلت. فأطلقت يده. ودعا الذي جاء بها، فقال له: إنّكِ إنّما جئتِني بشيطان، ولم تأتنِي بإنسانٍ، فأَخْرِجْها من أرضي، وأعطاها هاجر. فأقبلت. فلما رآها إبراهيم. انصرف، فقال لها: مَهْيَم؟ قالت: خيراً. كَفَّ الله يد الفاجر، وأخدم خادماً".
قال أبو هريرة :فتلك أُمّكم يا بني ماء السّماء1.
وللبخاري: "أنّ إبراهيم لما سُئل عنها؟ قال: هي أُختي، ثم رجع إليها. فقال: لا تكذبي حديثي. فإنّي أخبرتهم: أنّكِ أختي. والله ما على الأرض مؤمن غيري وغيركِ. فأرسل بها إليه، فقام إليها. فقامت: تتوضأ وتصلي. فقالت: اللهم إن كنتُ آمنت بكِ وبرسولكِ، وأحصنت فرجي إلاّ على زوجي، فلا تسلّط عليَّ يدَ الكافر، فَغَطَّ حتى ركض برجله الأرض. فقالت: اللهم إن يمت، يقال: هي قتلته، فأُرْسِل. ثم قام إليها، فقامت تتوضأ وتصلي، وتقول: اللهم إن كنتُ آمنت بكِ وبرسولكِ، وأحصنت فرجي إلاّ على زوجي، فلا تسلّط عليَّ هذا الكافر، فَغَطَّ حتى ركض برجله. فقالت: اللهم إن يمت، يقال: هي قتلته، فأُرْسِل في الثّانية،
ـــــــ
1 الحديث عند البخاري في باب: ((واتّخذ الله إبراهيم خليلاً)) من كتاب أحاديث الأنبياء. ولكن فيه بعض اختلاف في اللّفظ. ويقصد أبو هريرة ـ رضي الله عنه ـ العرب، لكثرة ملازمتهم للفلوات التي بها مواقع القطر لأجل رعي دوابهم. قال الحافظ ابن حجر في الفتح (6/276) الطّبعة الأميرية، ففيه متمسك لِمَن زعم أنّ العرب كلّهم من ولد إسماعيل. وقيل: أراد بماء السّماء: زمزم؛ لأنّ الله أنبعها لهاجر. فعاش ولدها بها. وقيل: أراد الأوس والخزرج؛ لأنّ جدّهم عمرو بن مريقيا كان يسمى بذلك؛ لأنّه كان إذا قحط النّاس أقام لهم مقام المطر.
ورواه مسلم أيضاً فهو من المتّفق عليه عن أبي هريرة.(1/13)
أو الثّالثة، فقال: والله ما أرسلتم إليَّ إلاّ شيطاناً، أرجعوها إلى إبراهيم، وأعطوها هاجر، فرجعت إلى إبراهيم، فقالت: أشَعُرْتَ؟ إنّ الله كبت الكافر، وأخدم وليدة".
وكان ـ عليه السّلام ـ في أرض العراق. وبعد ما جرى عليه من قومه ما جرى هاجر إلى الشّام، واستوطنها، إلى أن مات فيها. وأعطته سارة الجارية التي أعطاها الجبّار. فواقعها. فولدت له إسماعيل ـ عليه السّلام ـ، فغارت سارة، فأمره الله بإبعادها عنها. فذهب بها وبابنها فأسكنهما في مكّة. ثم بعد ذلك وهب الله له ولسارة إسحق ـ عليه السّلام ـ، كما ذكر الله بشارة الملائكة له ولها بإسحق. ومن وراء إسحق يعقوب.
وفي الصّحيح عن ابن عبّاس قال: "لما كان بين إبراهيم وبين أهله ما كان، خرج بإسماعيل وأم إسماعيل، ومعه شَنّة فيها ماء. فجعلت أم إسماعيل تشرب من الشّنة فَيدُرُّ لبنها على صبيها، حتى قدم مكّة. فوضعها تحت دَرْحة فوق زمزم في أعلى المسجد ـ وليس بمكّة يومئذٍ أحد، وليس بها ماء ـ ووضع عندهما جراباً فيه تمر وسقاءً فيه ماء. ثم قفّى إبراهيم منطلقاً، فتبعته أم إسماعيل. فلما بلغوا كَداء1، نادته من ورائه: يا إبراهيم، أين تذهب، وتتركنا بهذا الوادي الذي ليس به أنيس ولا شيء؟ فقالت له ذلك مراراً، وجعل لا يلتفت إليها. فقالت له: آلله أمرك بهذا؟ قال: نعم. قالت: إذن لا يضيعنا ـ وفي لفظ: إلى مَن تَكِلُنا؟ قال: إلى الله. قالت: رضيتُ ـ ثم رجعت. فانطلق إبراهيم، حتى إذا كان عند
ـــــــ
1 قال الحافظ في الفتح (6/284) بفتح الكاف ممدوداً: هو الموضع الذي دخل منه النّبِيّ ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ مكّة في حجّة الوداع.(1/14)
الثّنيّة؛ حيث لا يرونه، استقبل بوجهه البيت. ثم دعا بهؤلاء الدّعوات، ورفع يديه فقال: {رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ} 1. وجعلت أم إسماعيل ترضعه. وتشرب من الشّنة. فيدر لبنها على صبيّها. حتى إذا نَفَدَ ما في السّقاء عطشت، وعطش ابنها. وجعلت تنظر إليه يتَلَوَّى ـ أو قال: يَتَلَبَّط ـ فانطلقت كراهية أن تنظر إليه. فوجدت الصّفا أقرب جبل إليها، فقامت واستقبلت الوادي تنظر: هل ترى أحداً؟ فلم ترَ أحداً. فهبطت من الصّفا، حتى إذا بلغت الوادي: رفعت طرف دِرْعها. ثم سعت سعي الإنسان المجهود، حتى جاوزت الوادي. ثم أتت المروة، فقامت عليها. فنظرت: هل ترى أحداً؟ فلم ترَ أحداً. ففعلت ذلك سبع مرات ـ قال ابن عبّاس: قال النّبِيّ ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ: فذلك سعي النّاس بينهما ـ ثم قالت: لو ذهتُ فنظرت ما فعل؟ ـ تعني الصّبي ـ فذهبت فنظرت فإذا هو على حاله، كأنّه يَنْشَغُ للموت2. فلم تقرّ نفسها. فقالت: لو ذهبت لَعَلِّي أحسّ أحداً؟ فذهبت فصعدت الصّفا. فنظرت فلم تحسّ أحداً. حتى أتمت سبعاً. ثم قالت: لو ذهبت فنظرت ما فعل؟ فإذا هي بصوتٍ. فقالت: أغِثْ إن كان عندك خير. فإذا بجبريل. قال: فقال بعقبه على الأرض. فانبثق الماء فذهبت أم إسماعيل، فجعلت تحفر. فقال أبو القاسم ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ: يرحم الله أم إسماعيل، لو تركت زمزم ـ أو قال: لو لم تغرف من الماء ـ لكانت زمزم عيناً معيناً وفيش
ـــــــ
1 الآية 37 من سورة إبراهيم.
2 النّشغ: الشّهيق بشدّة حتى يبلغ إلى الغشي من شدّة البكاء.(1/15)
حديثه: فجعلت تغرف الماء في سقائها. قال: فشربت، وأرضعت ولدها. فقال لها الملك: لا تخافي الضّيعة. فإنّ ههنا بيتاً لله، يبنيه هذا الغلام وأبوه. إنّ الله لا يضيع أهله. وكان البيت مرتفعاً من الأرض كالرّابية. تأتيه السّيول. فتأخذ عن يمينه وشماله. فكانت كذلك حتى مرَّت بهم رفقة من جُرّهم، مقبلين من طريق كَداء، فرأوا طائراً عائفاً، فقالوا: إنّ هذا الطّائر ليدور على ماء. لَعَهْدُنا بهذا الوادي وما فيه ماء. فأرسلوا جَرِيّاً، أو جريين1. فإذا هم بالماء. فرجعوا فأخبروهم فأقبلوا, وقالوا لأمّ إسماعيل: أتأذنين لنا أن ننْزل عندكِ؟ قالت: نعم. ولكن لا حقّ لكم في الماء. قالوا: نعم ـ قال ابن عبّاس: قال النّبِيّ ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ : فألفَى ذلك أمَّ إسماعيل وهي تحبّ الأنْس، فنَزَلوا. وأرسلوا إلى أهليهم فنَزَلوا معهم. حتى إذا كان بها أهل أبيات منهم، وشَبَّ الغلام. وتعلم العربية منهم. وأنْفَسَهم2 وأعجبهم حين شبّ، فلما أدرك زوجوه امرأة منهم. وماتت أم إسماعيل. وجاء إبراهيم ـ بعد ما تزوج إسماعيل ـ يُطالع تَرِكَتَه، فلم يجد إسماعيل. فسأل امرأته عنه؟ فقالت: خرج يبتغي لنا. ثم سألها عن عيشهم وهيئتهم؟ فقالت: نحن بِشَّرٍ، نحن في ضيقٍ وشدّة. فشكت إليه. قال: فإذا جاء زوجكِ اقرئي عليه السّلام، وقولي له: يُغَيِّر عَتَبَةَ بابه. فلما جاء إسماعيل كأنّه آنس شيئاً. فقال: هل جاءكم من أحدٍ؟ قالت: نعم. جاءنا شيخ ـ كذا وكذا ـ فسألنا عنكَ؟
ـــــــ
1 قال الحافظ في الفتح (6/286) بفتح الجيم وكسر الرّاء وتشديد الياء: الرّسول، وقد يطلق على الوكيل وعلى الأجير. وقيل: سمّي بذلك لأنّه يجري مجرى مرسله أو موكِّله، أو لأنه يجري مسرعاً.
2 بفتح الفاء بوزن أفعل التّفضيل من النّفاسة. أي: كثرت رغبتهم فيه.(1/16)
فأخبرته، وسألني كيف عيشنا؟ فأخبرته: أنّا في جَهْد وشدّة. قال: فهل أوصاكِ بشيء؟ قالت: نعم. أمرني أن أقرأ عليك السّلام، ويقول: غيِّر عَتَبَةَ بابك. قال: ذاك أبي. وقد أمرني أن أفارقكِ. إلحقي بأهلكِ، فطلّقها. وتزوّج منهم امرأة أخرى، فلبث عنهم إبراهيم ما شاء الله، فقال لأهله: إني مُطّلع تركتي، فجاء فقال لامرأته: أين إسماعيل؟ قالت: ذهب يصيد. قالت: ألا تنْزل فتطعم، وتشرب؟ قال: وما طعامكم وما شرابكم؟ قالت: طعامنا اللّحم، وشرابنا الماء. قال: اللهم بارك لهم في طعامهم وشرابهم ـ قال: فقال أبو القاسم ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ: بركة دعوة إبراهيم، فهما لا يخلو عليهما أحد بغير مكّة إلاّ لم يوافقاه. قال النّبِيّ ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ: ولم يكن لهم يومئذٍ حبّ. ولو كان لهم حبّ دعا لهم فيه، وسألها عن عيشهم وهيئتهم؟ فقالت: نحن بخيرٍ وسعةٍ وأثنت على الله. قال: إذا جاء زوجكِ فاقرئي عليه السّلام، ومُريه يُثَبِّتْ عَتَبَةَ بابه. فلما جاء إسماعيل. قال: هل أتاكم من أحد؟ قالت: نعم. شيخ حسن الهيئة ـ وأثنت عليه ـ فسألني عنك؟ فأخبرته. فسألني: كيف عيشنا؟ فأخبرته أَنَّا بخيرٍ. قال: هل أوصاكِ بشيء؟ قالت: نعم. هو يقرأ عليك السّلام، ويأمركَ أن تُثَبِّتَ عَتَبَةَ بابك. قال: ذاك أبي. وأنْتِ العَتَبَة. أمرني أن أمسكَكِ. ثم لبث عنهم ما شاء الله، فقال لأهله: إني مطّلع تركتي، فجاء. فوافق إسماعيل يَبْري نَبْلاً له تحت دَوْحة قريباً من زمزم. فلما رآه قام إليه، فصنعا كما يصنع الوالد بالولد، والولد بالوالد، ثم قال: يا إسماعيل، إنّ الله أمرني بأمرٍ، قال: فاصنع ما أمرك ربّك. قال: وتعينني؟ قال: وأعينك. قال: فإنّ الله أمرني أن أبنيَ ههنا(1/17)
بيتاً، وأشار إلى أكمَة مرتفعة على ما حولها. قال: فعند ذلك رفعا القواعد من البيت. فجعل إسماعيل يأتي بالحجارة وإبراهيم يبني حتى إذا ارتفع البناء جاء بهذا الحجر، فوضعه له. فقام عليه وهو يبني، وإسماعيل يناوله الحجارة وهما يقولان : {رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} 1.
هذا آخر حديث ابن عبّاس.
فصارت ولاية البيت ومكّة لإسماعيل، ثم لذرّيّته من بعده، وانتشرت ذرّيّته في الحجاز وكثروا. وكانوا على الإسلام دين إبراهيم وإسماعيل قروناً كثيرة. ولم يزالوا على ذلك حتى كان في آخر الدّنيا: نشأ فيهم عمرو بن لُحَي فابتدع الشّرك، وغيّر دين إبراهيم. وتأتي قصته إن شاء الله.
وأمّا إسحاق ـ عليه السّلام ـ فإنّه بالشّام. وذرّيّته: هم بنو إسرائيل والرّوم. وأمّا بنو إسرائيل: فأبوهم يعقوب ـ عليه السّلام ـ ابن إسحاق، ويعقوب هو إسرائيل.
وأمّا الرّوم: فأبوهم عيص بن إسحق.
ومما أكرم الله به إبراهيم ـ عليه السّلام ـ أنّ الله لم يبعث بعده نبيّاً إلاّ من ذرّيّته، كما قال تعالى: {وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ} 2. وكلّ الأنبياء والرّسل من ذرّيّة إسحق. وأمّا إسماعيل: فلم يبعث من ذرّيّته إلاّ نبيُّنا محمّدٌ ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ، بعثه الله إلى العالمين كافّة، وكان مَنْ قبله من الأنبياء: كلّ نبيٍّ يبعث إلى قومه خاصّة. وفضّله الله على جميع الأنبياء بأشياء غير ذلك.
ـــــــ
1 الآية 127 من سورة البقرة.
2 الآية 27 من سورة العنكبوت.(1/18)
وأمّا قصّة عمرو بن لُحَيٍّ، وتغييره دين إبراهيم: فإنّه نشأ على أمرٍ عظيمٍ من المعروف والصّدقة، والحرص على أمور الدّين. فأحبّه النّاس حبّاً عظيماً، ودانوا له لأجل ذلك حتى مَلَّكُوه عليهم، وصار ملكَ مكّة وولاية البيت بيده، وظنّوا أنّه من أكابر العلماء، وأفاضل الأولياء. ثم إنّه سافر إلى الشّام فرآهم يعبدون الأوثان، فاستحسن ذلك وظنّه حقّاً؛ لأنّ الشّام محلّ الرّسل والكتب؛ فلهم الفضيلة بذلك على أهل الحجاز وغيرهم. فرجع إلى مكّة، وقدم معه بهُبَل. وجعله في جوف الكعبة. ودعا أهل مكّة إلى الشّرك بالله. فأجابوه. وأهل الحجاز في دينهم تَبَعٌ لأهل مكّة؛ لأنّهم ولاة البيت وأهل الحرم. فتبعهم أهل الحجاز على ذلك ظنّاً أنّه الحق. فلم يزالوا على ذلك حتى بعث الله محمّداً ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ بدين إبراهيم ـ عليه السّلام ـ وإبطال ما أحدثه عمرو بن لُحَيّ.
وكانت الجاهلية على ذلك، وفيهم بقايا من دين إبراهيم لم يتركوه كلّه. وأيضاً يظنّون أنّ ما هم عليه، وأنّ ما أحدثه عمرو: بدعة حسنة، لا تغيّر دين إبراهيم. وكانت تلبية نزار: لبيك، لا شريك لك، ألاّ شريكاً هو لك، تملكه وما ملك، فأنزل الله: {ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلاً مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآياتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ}1 .
ومن أقدم أصنامهم "مناة" وكان منصوباً على ساحل البحر بقُدَيد. تعظمه العرب كلّها، لكن الأوس والخزرج كانوا أشدّ تعظيماً له من غيرهم.
ـــــــ
1 الآية 28 من سورة الرّوم.(1/19)
وبسبب ذلك أنْزل الله : {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا}1 .
ثم اتّخذوا "اللات" في الطّائف، وقيل: إنّ أصله رجل صالح كان يَلُتُّ السَّويق للحاج، فمات فعكفوا على قبره.
ثم اتّخذوا "العُزَّى" بوادي نخلة بين مكّة والطّائف.
فهذه الثّلاث أكبر أوثانهم.
ثم كثر الشّرك، وكثرت الأوثان في كلّ بقعةٍ من الحجاز.
وكان لهم أيضاً بيوتٌ يعظمونها كتعظيم الكعبة. وكانوا كما قال تعالى: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ}2.
ولما دعاهم رسول الله إلى الله اشتدّ إنكار النّاس له، علمائهم وعبّادهم، وملوكهم وعامّتهم، حتى إنّه لما دعا رجلاً إلى الإسلام قال له: "مَنْ معك على هذا؟ قال: حرّ وعبد". ومعه يومئذٍ أبو بكر وبلال ـ رضي الله عنهما ـ.
وأعظم الفائدة لك أيها الطّالب، وأكبر العلم وأجل المحصول ـ إن فهمت ما صحّ عنه ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ ـ أنّه قال: "بدأ الإسلام غريباً، وسيعود غريباً كما بدأ "3.
ـــــــ
1 الآية 158 من سورة البقرة.
2 الآية 164 من سورة آل عمران.
3 الحديث رواه مسلم عن أبي هريرة وابن عمر كما في كشف الخفا وذكر عن النّجم أنّه مشهور أو متواتر.(1/20)
وقوله: "لتتّبعن سنَنَ مَن كان قبلكم حَذْوَ القُذّة بالقُذّة، حتى لو دخلوا جُحْرَ ضبّ لدخلتموه. قالوا: يا رسول الله، اليهود والنّصارى؟ قال: فَمَن؟"1.
وقوله : "ستفترق هذه الأمّة على ثلاث وسبعين فرقة. كلّها في النّار إلاّ واحدة "2.
فهذه المسألة أجلّ المسائل؛ فَمَنْ فهمها فهو الفقيه، ومَنْ عمل بها فهو المسلم. فنسأل الله الكريم المنّان أن يتفضّل علينا وعليكم بفهمها والعمل بها.
أمّا البيت المحرّم: فإن إبراهيم وإسماعيل ـ عليهما السّلام ـ لما بنياه، صارت ولايته في إسماعيل وذرّيّته. ثم غلبهم عليه أخوالهم من جُرْهُم. ولم ينازعهم بنو إسماعيل، لقرابتهم وإعظامهم للحرمة، أنْ لا يكون بها قتال. ثم إن جرهم بغوا في مكّة. وظلموا من دخلها، فرقَّ أمرهم. فلما رأى ذلك بنو بكر بن عبد مناف بن كنانة، وغبشان من خزاعة، أجمعوا على جرهم فاقتتلوا، فغلبهم بنو بكر وغبشان ونفوهم من مكّة.
وكانت مكّة في الجاهلية لا يقرّ فيها ظلم، ولا يبغي فيه أحد إلاّ أُخرج، ولا يريدها ملك يستحلّ حرمتها إلاّ هلك.
ثم إنّ غبشان ـ من خزاعة ـ وليت البيت دون بني بكر. وقريش إذا ذاك حلول وصرم، وبيوتات متفرقون في قومهم من بني كنانة. فوليت
ـــــــ
1 الحديث أخرجه البخاري ومسلم من حديث أبي سعيد الخدري.
2 الحديث رواه الأربعة، ورمز له في الجامع الصّغير بالصّحّة.(1/21)
خزاعة البيت يتوارثون ذلك. حتى كان آخرهم حليل بن حبيشة. فتزوج قُصَي بن كلاب ابنته.
فلما عظم شرف قصي وكثر بنوه وماله هلك حليل، فرأى قصي أنّه أولى بالكعبة وأَمْرِ مكّة من خزاعة وبني بكر، وأنّ قريشاً رؤوس آل إسماعيل وصريحهم، فكلّم رجالاً من قريش وكنانة في إخراج خزاعة وبني بكر من مكّة، فأجابوه.
وكان الغوث بن مرة بن أُدّ بن طابخة بن إلياس بن مضر يلي الإجازة للنّاس بالحجّ من عرفة، وولده من بعده؛ لأنّ أمّه كانت جرهمية لا تلد. فنذرت لله إن ولدت رجلاً أن تتصدق به على الكعبة يخدمها. فولدت الغوث. فكان يقوم على الكعبة مع أخواله من جرهم. فَوَلِيَ الإجازة بالنّاس، لمكانه من الكعبة، فكان إذا رفع يقول:
اللهم إنِّي تابع تباعة ... إن كان إثماً فعلى قضاعة
وكانت "صوفة" تدفع بالنّاس من عرفة، وتجيزهم إذا نفروا من منىً. فإذا كان يومُ النَّفْر أتوا رمي الجمار ورجل من صوفة يرمي لهم، لا يرمون حتى يرمي لهم. فكان المتعجلّون يأتونه يقولون: إرم حتى نرمي. فيقول: لا والله. حتى تميل الشّمس. فإذا مالت الشّمس رمى ورمى النّاس معه. فإذا فرغوا من الرّمي وأرادوا النّفر من منىً أخذت صوفة بالجانبين. فلم يجز أحد حتى يمروا، ثم يخلون سبيل النّاس.
فلما انقرضوا ورثهم بنو سعد بن زيد مناة من بني تميم.
وكانت الإفاضة من مزدلفة في "عدوان" يتوارثونها. حتى كان آخرهم كَرْبُ بن صفوان بن جناب الذي قام عليه السّلام. فلما كان ذلك العام(1/22)
، فعلت صوفة ما كانت تفعل، قد عرفت العرب ذلك لهم. هو دين لهم من عهد جرهم وولاية خزاعة.
فأتاهم قصي بِمَن معه من قريشٍ وقضاعة وكنانة عند العقبة. فقال: نحن أولى بهذا منكم. فقاتلوه فاقتتل النّاس قتالاً شديداً. ثم انهزمت صوفة. وغلبهم قصي على ما كان بأيديهم. وانحازت عند ذلك خزاعة وبنو بكر عن قصي، وعرفوا أنّه سيمنعهم، كما منع صوفة، ويحول بينهم وبين الكعبة وأمر مكّة.
فلما انحازوا بادَأهم وأجمع لحربهم. فالتقوا واقتتلوا قتالاً شديداً. ثم تداعوا إلى الصّلح، فحكّموا يَعْمُر بن عوف، أحد بني بكر. فقضى بينهم بأنّ قصياً أولى بالكعبة وأمر مكّة من خزاعة. وكلّ دم أصابه قصيّ منهم موضوع شَدْخُه تحت قدميه، وما أصابت خزاعة وبنو بكر ففيه الدّيّة، وأن يخلَّى بين قصيّ وبين الكعبة ومكّة. فسمّى يومئذٍ يعمر الشّداخ.
فوليها قصيّ. وجمع قومه من منازلهم إلى مكّة. وتملك عليهم وملكوه؛ لأنّه أَقَرَّ للعرب ما كانوا عليه؛ لأنّه يراه ديناً لا يغير، فأقرّ النّسَأَة وآل صفوان وعدوان، ومرة بن عوف على ما كانوا عليه. حتى جاء الإسلام، فهدم ذلك كلّه وفيه يقول الشّاعر:
قُصَيّ، لعمري كان يُدْعَى مجمعاً ... به جمع الله القبائل من فِهْر(1/23)
فكان قصيّ بن لؤيّ أصاب ملكاً أطاع له به قومه، فكانت إليه الحجابة، والسّقاية، والرّفادة، والنّدوة، واللّواء. وقَطّع مكّة رباعاً بين قومه. فأنزل كلّ قومٍ منهم منازلهم.
وقيل: إنّهم هابوا قطع الشّجر عن منازلهم. فقطعها يبده وأعوانه، فسّمته قريش "مجمعاً" لما جمع من أمرهم، وتيمنت بأمره. فلا تُنكح امرأة منهم ولا يتزوّج رجل ولا يتشاورن فيما نزل بهم، ولا يعقدون لواء حرب إلاّ في داره يعقده لهم بعض ولده.
فكان أمره في حياته، وبعد موته عندهم كالدّين المتبّع، واتّخذ لنفسه دار النّدوة، فلما كبر قصيّ ورقَّ عظمه ـ وكان عبد الدّار بِكْره. وكان عبد مناف قد شرف في زمان أبيه، وعبد العزى وعبد الدار. فقال قصيّ لعبد الدّار: لأُلْحِقَنَّك بالقوم، وإن شرفوا عليك. لا يدخل أحد منهم الكعبة حتى تكون أنت تفتحها له. ولا يعقد لقريش لواء لحربها إلاّ أنت. ولا يشرب رجل بمكّة إلاّ من سقايتك. ولا يأكل أحد من أهل الموسم طعاماً إلاّ من طعامك.ولا تقطع قريش أمراً من أمورها ألاّ في دارك.
فأعطاه دار النّدوة، والحجابة، واللّواء، والسّقاية، والرّفادة، وهي خَرْج تخرجه قريش في الموسم من أموالها إلى قصيّ، فيصنع به طعاماً للحاج، يأكله مَنْ لم يكن له سعة ولا زاد؛ لأنّ قصيّاً فرضه على قريش. فقال لهم: إنّكم جيران الله وأهل بيته. وإنّ الحاج ضيف الله، وهم أحقّ الضّيف بالكرامة. فاجعلوا لهم طعاماً وشراباً أيام الحجّ حتى يصدروا عنكم. ففعلوا.(1/24)
وكان قصيّ لا يخالف، ولا يرد عليه شيء صنعه.
فلما هلك أقام بنوه أمره لا نزاع بينهم.
ثم إنّ بني عبد مناف أرادوا أخذ ما بيد عبد الدّار، ورأوا أنّهم أولى بذلك فتفرقت قريش بعضهم معهم. وبعضهم مع عبد الدّار. فكان صاحب أمر عبد مناف: عبدُ شمس؛ لأنّه أسنهم. وصاحب أمر بني عبد الدّار عامرُ بن هاشم بن عبد مناف بن عبد الدّار. فعقد كلّ قوم حلفاً مؤكَّداً، فأخرج بنو عبد مناف جَفْنة مملوءة طيباً. فغمسوا أيديهم فيها، ومسحوا بها الكعبة. فسمّوا "المطيبن" وتعاقد بنو عبد الدّار وحلفاؤهم فسمّوا "الأحلاف"، ثم تداعوا إلى الصّلح، على أنّ لعبد مناف السّقاية والرّفادة، وأنّ الحجابة واللّواء والنّدوة لبني عبد الدّار، فرضوا. وثبت كلّ قوم مع مَن حالفوا، حتى جاء الله بالإسلام. فقال ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ : "كلّ حلفٍ في الجاهلية لم يزده الإسلام إلاّ شدة".
وأمّا حلف الفضول: فاجتمعوا له في دار عبد الله بن جدعان لشرفه وسنه، وهم: بنو هاشم، وبنو الطلب، وأسد بن عبد العزى، وزهرة بن كلاب، وتَيم بن مرة، تعاهدوا على أن لا يجدوا بمكة مظلوماً من أهلها، أو مِمَن دخلها، إلاّ قاموا معه، حتى ترد إليه مظلمته، فقال الزّبير بن عبد المطلب:
إنّ الفضول تحالفوا وتعاقدوا ... أن لا يقيم ببطن مكّة ظالم
أمر عليه تحالفوا وتعاقدوا1 ... فالجار والمعتر فيهم سالم
ـــــــ
1 عند السّهيلي ((وتواثقوا)).(1/25)
فولي السّقاية والرّفادة هاشم بن عبد مناف؛ لأنّ عبد شمس سَفّار، قلما يقيم بمكّة. وكان مُقلاً ذا ولد. وكان هاشم موسراً، وهو أوّل مَن سنّ الرّحلتين؛ رحلة والصّيف. وأوّل مَن أطعم الثّريد بمكّة، فقال بعضهم1:
عمرو الذي هشم الثّريد لقومه ... قوم بمكّة مسنتين عجاف
ولما مات هاشم ولي ذلك المطلب بن عبد مناف. فكان ذا شرفٍ فيهم، يسمّونه الفياض لسماحته.
وكان هاشم قدم المدينة، فتزوج سلمى بنت عمرو، من بني النّجار، فولدت له عبد المطلب. فلما ترعرع خرج إليه المطلب ليأتي به، فأبت أمّه. فقال: إنّه يلي مُلك أبيه، فأذنت له فرحل به. وسلم إليه ملك أبيه. فولي عبد المطلب ما كان أبوه يلي. وأقام لقومه ما أما آباؤه. وشرف فيهم شرفاً لم يبلغه أحد من آبائه. وأحبوه وعظُم خطره فيهم.ثم ذكر قصّة حفر زمزم، وما فيها من العجائب.
ثم ذكر قصّة نذر عبد المطلب ذبح ولده، وما جرى فيها من العجائب.
ثم ذكر الآيات التي لرسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ قبل ولادته، وبعدها. وما جرى له وقت رضاعه وبعد ذلك.
ثم ذكر كفالة أمّه له، ثم كفالة جدّه، ثم كفالة عمّه أبي طالب.
ـــــــ
1 هو: عبد الله بن الزّبعري.(1/26)
ثم ذكر قصّة بُحَيْرَى الرّاهب وغيرها من الآيات.
ثم ذكر تزوجّه خديجة، وما ذكر لها غلامها مَيْسرة، وما ذكرته هي لورقة، وقول ورقة:
لججت وكنت في الذّكرى لجوجاً ... لَهِم طالما بعث النّشيجا
إلى آخرها.
ثم ذكر حُكْمَهُ ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ بين قريش في الحَجَر الأسود عند بنائهم الكعبة. وذكر قصّة بنائها.
وذكر أمر الحُمْس، وقال: إنّ قريشاً ابتدعته رأياً رأوه، فقالوا: نحن بنو إبراهيم، وأهل الحرم، وولاة البيت؛ فليس لأحدٍ من العرب مثل حقّنا، فلا تعظموا أشياء من الحلّ مثلما تعظمون الحرم، لئلا تستخف العرب بحرمتكم. فتركوا الوقوف بعرفة، والإفاضة منها، مع معرفتهم أنّها من المشاعر، ومن دين إبراهيم. ويرون لسائر العرب أن يقفوا بها، ويفيضوا منها، إلاّ أنّهم قالوا: نحن أهل الحرم. فلا ينبغي لنا أن نخرج منه. نحن الحمس، و"الحمس"1 أهل الحرم.
ثم جعلوا لِمَن وُلدوا من العرب من أهل الحرم مثلَ ما لهم بولادتهم إياهم. أيحلّ لهم ما يحل لهم. ويحرم عليهم ما يحرم عليهم.
وكانت كنانة وخزُاعة قد دخلوا معهم في ذلك،
ـــــــ
1 أصله من التّحمس وهو التّشدّد والتّنطّع في الدّين بقصد التّرفع والتّعالي على غيرهم. وسمّيت قريش ((حمساً)) لتشدّدهم وتنطّعهم فيما ابتدعوه من الدّين الذي خالفوا به النّاس، يريدون الشّرف عليهم، والعلوَّ في الأرض. وكانت هذه من صوفية قريش.(1/27)
ثم ابتدعوا في ذلك أموراً، فقالوا: لا ينبغي للحُمْس أن يَقِطوا الأقطَ، ولا أن يَسْلوا السّمن وهم حُرم، ولا يدخلوا بيتاً من شَعر، ولا يستظلوا إلاّ في بيوت الآدَم ما داموا حُرُماً.
ثم قالوا: لا ينبغي لأهل الحلّ أن يأكلوا من طعام جاءوا به من الحلّ إلى الحرم، إذا جاءوا حجاجاً أو عُمّاراً، ولا يطوفوا بالبيت إذا قدموا ـ أوّلَ طوافهم ـ إلاّ في ثياب الحمس. فإن لم يجدوا منها شيئاً طافوا بالبيت عراة. فإن لم يجد القادم ثيابَ أحمس طاف في ثيابه، وألقاها إذا فرغ، ولم ينتفع بها ولا أحد غيره. فكانت العرب تسمّيها: "اللّقَى" وحملوا على ذلك العربَ، فدانت به. أمّا الرّجال فيطوفون عراة، وأمّا النّساء فتضع المراة ثيابها كلّها إلاّ درعاً مفرجاً ثم تطوف فيه، فقالت امرأة وهي تطوف1:
اليوم يبدو بعضه أو كلّه ... وما بدا منه فلا أُحِلُّه
فلم يزالوا كذلك حتى جاء الله بالإسلام. فأنْزل الله: {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ}2 .
وأنْزل فيما حرّموا: {يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاساً يُوَارِي سَوْآتِكُمْ...} إلى قوله: {يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} إلى قوله: {...لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ }3.
ـــــــ
1 قال السّهيلي: هي ضباعة بنت عامر بن صعصعة. ثم من بني سلمة بن قشير. وإنّما كانت قريش ابتدعت هذا لتبيع الثّياب للحجاج، وتكسب ما تشاء من المال. ثم تغالت حتّى عجز الكثير عن الأثمان التي تطلبها قريش. فأمروهم أن يطوفوا عراة.
2 الآية 199 من سورة البقرة.
3 الآيات 25-32 من سورة الأعراف.(1/28)
وذكر حدوثَ الرّجوم، وإنذارَ الكهان به ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ ونزول سورة الجّن وقصتهم.
ثم ذكر إنذار اليهود، وأنّه سبب إسلام الأنصار، وما نزل في ذلك من القرآن، وقصّة ابن الهيبان، وقوله: "يا معشر يهود، ما ترونه أخرجني من أرض الخمر والخمير إلى أرض البؤس والجوع؟".
وقوله: "إنّما قدمت هذه البلدة أتوكّف خروج نبيٍّ قد أظَلَّ زمانه. وهذه البلدة مهاجرهُ". إلى آخرها.
ثم ذكر قصّة إسلام سلمان الفارسي ـ رضي الله عنه ـ.
ثم ذكر الأربعة المتفرّقين عن الشّرك في طلب الدّين الحقّ وهم: ورقة بن نوفل، وعبيد الله بن جحش، وعثمان بن الحوريث، وزيد بن عمرو بن نفيل.
ثم ذكر وصّية عيسى بن مرين ـ عليه السّلام ـ باتّباع محمّد ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ، وما أخذ الله على الأنبياء من الإيمان به والنّصر له، وأن يؤدوه إلى أممهم، فأدّوا ذلك، وهو قول الله تعالى : {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ...}1.
ـــــــ
1 الآية 81 من سورة آل عمران.
ظاهر الآية وتنكير لفظ ((رسول)) ـ والله أعلم ـ أنّ الله أخذ العهد والميثاق على كلّ نبيّ ورسول أن يؤمن بالرّسول الذي يأتي من بعده. حتى تكون سلسلة الرّسالات مرتبطة، لإقامة الحجّة على البشرية من أوّلها إلى آخرها .{ وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً }، الآية 36 من سورة النّحل .{ وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خَلا فِيهَا نَذِيرٌ} الآية 24 من سورة فاطر. وبذلك تبطل مزاعم الجاهليّين في كلّ وقتٍ وحينٍ لئلا يكون للنّاس على الله حجّة. وما زال ذلك حتى كانت بشارة موسى بمحمّد ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ مجملة في الكناية عن دار بعثته بتجلي النّور من جبال فاران، ثم بشارة عيسى بأظهر صفاته التي يحمد بها {اسْمُهُ أَحْمَدُ } ، الآية 6 من سورة الصّف. وأحمد وصف لا علم.(1/29)
ثم ذكر قصّة بدء الوحي إلى رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ والقصّة في الصّحيحين وفيها: أنّ أوّل ما نزل عليه: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} إلى قوله: {عَلَّمَ الإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ}1.
ثم أنْزل عليه: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ}2.
فَمَن فهم أنّ هذه أوّل آية أرسله الله بها عرف أنّه سبحانه أمره أن ينذر النّاس عن الشّرك الذي يعتقدون أنّه عبادة الأولياء ليقرّبوهم إلى الله قبل إنذاره عن نكاح الأمّهات والبنات. وعرف أنّ قوله تعالى: {وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ} 3، أمر بالتّوحيد قبل الأمر بالصّلاة وغيرها. وعرف قدر الشّرك عند الله وقدر التّوحيد.
فلما أنذر ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ النّاس استجاب له القليل: وأمّا الأكثر فلم يتّبعوا ولم ينكروا، حتى بادأهم بالتّنفير عن دينهم وبيان نقائصه وعيب آلتهم. فاشتدّت عداوتهم له ولِمَن تبعه. وعذبوهم عذاباً شديداً، وأرادوا أن يفتنوهم عن دينهم.
فمَن فهم هذا عرف أنّ الإسلام لا يستقيم إلاّ بالعداوة لِمَن تركه وعيب دينه وإلاّ لو كان لأولئك المعذَّبين رخصة لفعلوا4.
وجرى بينه وبينهم ما يطول وصفه. وقصّ الله سبحانه بعضه في كتابه
ـــــــ
1 الآيات 1-5 من سورة العلق.
2 الآيات 1-7 من سورة المدّثّر.
3 الآية 3 من سورة المدّثّر.
4 أي: لو كان لهم رخصة في مداهنتهم وعدم إظهار العداوة والبغضاء لهم ولدينهم لفعلوا ذلك ليخلصوا من تعذيب المشركين لهم.(1/30)
(1/31)
. إلى الصّحابة الذين بالحبشة، فركبوا البحر راجعين لظنّهم أنّ ذلك صِدْقٌ. فلما ذُكِر ذلك لرسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ خاف أن يكون قاله. فخاف من الله خوفاً عظيماً. حتى أنزل الله عليه: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ} إلى قوله: {عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ}1.
فَمَن عرف هذه القصّة2، وعرف ما عليه المشركون اليوم، وما قاله ويقوله علماؤهم، ولم يميّز بين الإسلام الذي أتى به النّبِي ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ وبين دين قريش الذي أرسل الله رسوله ينذرهم عنه، وهو الشّرك الأكبر فأبعده الله. فإنّ هذه القصّة في غاية الوضوح، إلاّ مَن طبع الله على قلبه وسمعه، وجعل على بصره غشاوة، فذلك لا حيلة فيه، ولو كان مِن أفهم النّاس، كما قال الله تعالى في أهل الفهم الذين لم يوفقوا: {وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصَاراً وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصَارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ} الآية3.
ثم لما أراد الله إظهار دينه، وإعزاز المسلمين أسلم الأنصار ـ أهل المدينة ـ بسبب العلماء الذين عندهم من اليهود. وذِكْرِهم لهم النَّبِي
ـــــــ
1 الآيات 52-55 من سورة الحجّ.
2 ذكر صاحب فتح الباري 8/439 طبعة السّلفية: ((أنّ القصّة رويت بثلاثة أسانيد على شرط الصّحيح وهي مراسيل يحتج بمثلها مَن يحتجّ بالمرسل وكذا مَن لا يحتجّ به لاعتضاد بعضها ببعض. قال: وإذا تقرّر ذلك تعين تأويل ما وقع فيها مما يستنكر وهو قوله: ((ألقى الشّيطان على لسانه: تلك الغرانيق العلا وإنّ شفاعتهن لترتجى))، ثم ذكر أجوبة للعلماء في ذلك، وأحسنها القول: أنّ الشّيطان أوقع في مسامع المشركين ذلك فتوهموا أنّه صدر عن رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ ذلك وليس كذلك في نفس الأمر)). اهـ.
3 الآية 26 من سورة الأحقاف.(1/32)
(1/33)
وقالوا: قتلنا إخواننا، فأنزل الله تعالى فيهم: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً}1.
فليتأمّل النّاصح لنفسه هذه القصّة، وما أنزل الله فيها من الآيات. فإنّ أولئك لو تكلموا بكلام الكفر، وفعلوا كفراً ظاهراً يُرضون به قومهم لم يتأسّف الصّحابة على قتلهم؛ لأنّ الله بَيَّن لهم ـ وهم بمكّة ـ لما عذبوا قوله تعالى : {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإيمَانِ} 2.
فلو سمعوا عنهم كلاماً أو فعلاً يرضون به المشركين من غير إكراهٍ ما كانوا يقولون: "قتلنا إخواننا".
ويوضّحه قوله تعالى: {قَالُوا فِيمَ كُنْتُم} ، ولم يقولوا: كيف عقيدتكم؟ أو كيف فعلكم؟ بل قالوا: في أيّ الفريقين كنتم؟3. فاعتذروا بقوله: {كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ} ، فلم تكذّبهم الملائكة في قولهم هذا، بل قالوا لهم: {أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا}4.
ويوضّحه قوله: {إِلا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوّاً غَفُوراً}5.
ـــــــ
1 الآيات من 97-100 من سورة النّساء.
2 الآية رقم: 106 من سورة النّحل.
3 الاستفهام ((فيم كنتم)) يفيد السّؤال عن الحال والصّفة، والسّؤال عن القرناء. وهو عن الحال والصّفة أظهر.
4 الآية 97 من سورة النّساء.
5 الآيتان رقم: 98-99 من سورة النّساء.(1/34)
فهذا في غاية الوضوح. فإذا كان هذا في السّابقين الأوّلين من الصّحابة، فكيف بغيرهم؟
ولا يفهم هذا إلاّ مَن فهم أنّ أهل الدّين اليوم لا يعدونه ذنباً.
فإذا فهمتَ ما أنزل الله فهماً جيداً، وفهمت ما عند مَن يدّعي الدّين اليوم، تبيّن لك أمور:
منها: أنّ الإنسان لا يستغني عن طلب العلم. فإنّ هذه وأمثالها لا تعرف إلاّ بالتّنبيه. فإذا كانت قد أشكلت على الصّحابة قبل نزول الآية، فكيف بغيرهم؟
ومنها: أنّك تعرف أنّ الإيمان ليس كما يظنّه غالب النّاس اليوم، بل كما قال الحسن البصري ـ فيما روى عنه البخاري ـ: "ليس الإيمان بالتّحلّي ولا بالتّمنّي، ولكن ما وقر في القلوب وصدّقته الأعمال".
نسأل الله أن يرزقنا علماً نافعاً، ويعيذنا من علمٍ لا ينفع.
قال عمر بن عبد العزيز: "يا بني ليس الخير أن يكثر مالك وولدك، ولكن الخير أن تعقل عن الله، ثم تطيعه".
ولما هاجر المسلمون إلى المدينة، واجتمع المهاجرون والأنصار شرع الله لهم الجهاد. وقبل ذلك نهوا عنه، وقيل لهم: {لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ }1. فأنزل الله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ
ـــــــ
1 الآية 77 من سورة النّساء.(1/35)
لا تَعْلَمُونَ}1 . فبذلوا أنفسهم وأموالهم لله تعالى ـ رضي الله عنهم ـ فشكر الله لهم ذلك، ونصرهم على مَن عاداهم. مع قلّتهم وضعهم، وكثرة عدوّهم وقوّتهم.
فَمِن الوقائع المشهورة، التي أنزل الله فيها القرآن وقعة بدر، قد أنزل الله فيها سورة الأنفال، وبعدها وقعة قَيْنُقَاع، ثم وقعة أحد بعد سنةٍ، وفيها الآيات التي في آل عمران، وبعدها وقعة بني النّضير، وفيها الآيات التي في سورة الحشر، ثم وقعة الخندق، وبني قريظة، وفيها الآيات التي في سورة الأحزاب، ثم وقعة الحديبية، وفتح خيبر، وأنزل الله فيها سورة الفتح، وفتح مكّة، ووقعة حنين، وأنزل الله فيها سورة النّصر، وذكر حنين في سورة براءة، ثم غزوة تبوك، وذكرها الله في سورة براءة.
ولما دانت له العرب، ودخلوا في دين الله أفواجاً، وابتدأ في قتال العجم اختار الله له ما عنده. فتُوُفّي رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ، بعد ما أقام بالمدينة عشر سنين. وقد بلغ الرّسالة، وأدّى الأمانة. فوقعت الرّدّة المشهورة.
وذلك أنّه لما مات رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ ارتدّ غالب مَن أسلم، وحصلت فتنة عظيمة، ثبت الله فيها مَن أنعم عليهم بالثّبات، بسبب أبي بكر الصّدّيق ـ رضي الله عنه ـ. فإنّه قام فيها قياماً لم يدانِه فيه أحد من الصّحابة، ذكّرهُم فيه ما نسوا. وعلّمهم ما جهلوا. وشجّعهم
ـــــــ
1 الآية 216 من سورة البقرة.(1/36)
لما جبنوا، فثبت الله به دين الإسلام، جعلنا الله من أتباعه، وأتباع ما حمله أصحابه.
قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} الآية1. قال الحسن: هم والله أبو بكر وأصحابه.
قتال أهل الرّدّة:
وصورة الرّدّة: أنّ العرب افترقت في ردّتها. فطائفة رجعت إلى عبادة الأصنام. وقالوا: لو كان نبيّاً لما مات. وفرقة قالت: نؤمن بالله ولا نصلّي. وطائفة أقرّوا بالإسلام وصلّوا. ولكن منعوا الزّكاة. وطائفة شهدوا أن لا إله إلاّ الله، وأنّ محمّداً رسول الله، ولكن صدقوا مسيلمة أنّ النّبِي ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ أشركه معه في النّبوّة، وذلك أنّه أقام شهوداً شهدوا معه بذلك. وفيهم رجل من أصحابه معروف بالعلم والعبادة، يقال له: الرّجال، فصدّقوه لأجل ما عرفوا فيه من العلم والعبادة ففيه يقول بعضهم مِمَن ثبت منهم:
يا سعاد الفؤاد بنت أثال ... طال ليلى بفتنة الرَّجَّال
فتن القومَ بالشّهادة ... والله عزيز ذو قوّةٍ ومحال
وقوم من أهل اليمن، صدقوا الأسود العَنَسي في ادّعائه النّبوّة
ـــــــ
1 الآية 53 من سورة المائدة.(1/37)
. وقوم صدقوا طُلَيحة الأسدي.
ولم يشكّ أحد من الصّحابة في كفر مَن ذكرنا، ووجوب قتالهم، إلاّ مانع الزّكاة، ولما عزم أبو بكر ـ رضي الله عنه ـ على قتالهم قيل له: كيف تقاتلهم، وقد قال رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ : "أُمرت أن أقاتل النّاس حتى يقولوا: لا إله إلاّ الله. فإذا قالوها عصموا منّي دماءهم وأموالهم، إلاّ بحقّها؟ ". قال أبو بكر: فإنّ الزّكاة من حقّها. والله لو منعوني عِقَالاً كانموا يؤدّونه إلى رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ لقاتلتهم على منعه 1.
ثم زالت الشّبهة عن الصّحابة ـ رضي الله عنهم ـ وعرفوا وجوب قتالهم، فقاتلوهم ونصرهم الله عليهم. فقتلوا مَنْ قتلوا منهم، وسبوا نساءهم وعيالهم.
فمِنْ أهمِّ ما على المسلم اليوم: تأمّل هذه القصّة التي جعلها الله من حججه على خلقه إلى يوم القيامة. فمَن تأمّل هذا تأمّلاً جيّداً، خصوصاً إذا عرف أنّ الله شهّرها على أَلْسِنَةِ العامة، وأجمع العلماء على تصويب أبي بكر في ذلك، وجعلوا من أكبر فضائله، وعلمه أنّه لم يتوقّف في قتالهم، بل قاتلهم من أوّل وهلة، وعرفوا غزارة فهمه في استدلاله عليهم بالدّليل الذي أشكل عليهم، فردّ عليهم، بدليلهم بعينه، مع أنّ المسألة موضَّحة في القرآن السّنة.
أمّا القرآن فقوله تعالى: {فَإِذَا انْسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} 2.
ـــــــ
1 رواه بهذا اللّفظ مسلم وأبو داود والتّرمذي، وقال السّيوطي هو متواتر.
2 الآية 5 من سورة براءة.(1/38)
وفي الصّحيحين أنّ رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ قال: "أُمِرْتُ أن أُقاتِلَ النّاسَ حتى يشهدوا أن لا إله إلاّ الله، وأنّ محمّداً رسول الله، ويقيموا الصّلاة، ويؤتوا الزّكاة. فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم، إلاّ بحقّ الإسلام وحسابهم على الله تعالى".
فهذا كتاب الله الصّريح، للعامي البليد، وهذا كلام رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ. وهذا إجماع العلماء الذين ذكرتُ لك.
والذي يعرّفك هذا جيّداً: هو معرفة ضدّه، وهو أنّ العلماء في زماننا يقولون: مَن قال: "لا إله إلاّ الله" فهو المسلم، حرام المال والدّم لا يُكَفَّر ولا يقاتل، حتى إنّهم يصرّحون بذلك في شأن البدو الذين يكذّبون بالعبث، وينكرون الشّرائع، ويزعمون أنّ شرعهم الباطل هو حقّ الله، ولو طلب أحد منهم خصمه أن يخاصمه عند شرع الله لعدوّه مِن أنكر المنكرات، بل من حيث الجملة؛ إنّهم يكفرون بالقرآن من أوّله إلى آخره، ويكفرون بدين الرّسول كلّه، مع إقرارهم بذلك بألسنتهم، وإقرارهم أنّ شرعهم أحدثه آباؤهم لهم كفراً بشرع الله.
وعلماء الوقت يعترفون بهذا كلّه، ويقولون: ما فيهم من الإسلام شعرة. وهذا القول تلقته العامة عن علمائهم، وأنكروا به ما بيّنه الله ورسوله. بل كفّروا مَن صدّق الله ورسوله في هذه المسألة، وقالوا: مَن كفّر مسلماً فقد كفر. والمسلم عندهم: الذي ليس معه من الإسلام(1/39)
شعرة، إلاّ أنّه يقول بلسانه: "لا إله إلاّ الله" وهو أبعد النّاس عن فهمها وتحقيق مطلوبها علماً وعقيدة وعملاً.
فاعلم ـ رحمك الله ـ أنّ هذه المسألة أهمّ الأشياء كلّها عليك، لأنّها هي الكفر والإسلام. فإن صدقتهم فقد كفرت بما أنزل الله على رسوله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ، كما ذكرنا لك من القرآن والسّنة والإجماع. وإن صدقت الله ورسوله عادوك وكفرّوك.
وهذا الكفر الصّريح بالقرآن والرّسول في هذه المسألة قد اشتهر في الأرض مشرقها ومغربها، ولم يسلم منه إلاّ أقل القليل.
فإن رجوت الجنة، وخفت من النّار فاطلب هذه المسألة، وادرسها من الكتاب والسّنة، وحرّرها، ولا تقصر في طلبها، لأجل شدّة الحاجة إليها، ولأنّها الإسلام والكفر. وقل: اللهم ألهمني رشدي. وفهمي عنك، وعلّمني منك، وأعذني من مضلات الفتن ما أحييتنِي.
وأكثر الدّعاء بالدّعاء الذي صحّ عن رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ أنّه كان يدعو به في الصّلاة وهو : "اللهم ربّ جبريل وميكائيل وإسرافيل، فاطر السّماوات والأرض، عالم الغيب والشّهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا في يختلفون، اهدني لما اخْتُلِفَ فيه من الحقّ بإذنك. إنّك تهدي مَن تشاء إلى صراطٍ مستقيمٍ"1.
ـــــــ
1 الحديث رواه مسلم وأبو داود والتّرمذي والنّسائي وابن ماجه.(1/40)
ونزيد المسألة إيضاحاً ودلائل لشدّة الحاجة إليها، فنقول:
ليتفطن العاقل لقصّةٍ واحدةٍ منها. وهي أنّ بني حنيفة أشهر أهل الرّدّة، وهم الذين يعرفهم العامة من أهل الرّدّة. وهم عند النّاس أقبح أهل الرّدّة. وأعظمهم كفراً، وهم ـ مع هذا ـ يشهدون: أن لا إله إلاّ الله وأنّ محمّداً رسول الله، ويؤذنون ويصلّون، ومع هذا فإنّ أكثرهم يظنّون أنّ النّبِيّ ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ أمرهم بذلك، لأجل الشّهود الذين شهدوا مع الرَّجال.
والذي يعرف هذا ـ ولا يشكّ فيه ـ يقول: مَن قال: "لا إله إلاّ الله" فهم المسلم، ولو لم يكن معه من الإسلام شعرة، بل قد تركه واستهزأ به متعمداً. فسبحان الله مقلّب القلوب كيف يشاء!! كيف يجتمع في قلب مَن له عقل ـ ولو كان من أجهل النّاس ـ أنّه يعرف أنّ بني حنيفة كفروا، مع أنّ حالهم ما ذكرنا، وأنّ البدو إسلام. ولو تركوا الإسلام كلّه، وأنكروه، واستهزأوا به على عمدٍ؛ لأنّهم يقولون: "لا إله إلاّ الله" لكن أشهد أنّ الله على كلّ شيءٍ قدير. نسأله أن يثبّت قلوبنا على دينه، ولا يزيغ قلوبنا بعد إذ هدانا، وأن يهب لنا منه رحمةً. إنّه هو الوهّاب.(1/41)
الدّليل الثّاني:
قصّة أخرى وقعت في زمن الخلفاء الرّاشدين
وهي أنّ بقايا من بنِي حنيفة، لما رجعوا إلى الإسلام، وتبرأوا من مسيلمة، وأقرّوا بكذبه كبر ذنبهم عند أنفسهم، وتحملوا بأهليهم إلى الثّغر؛ لأجل الجهاد في سبيل الله، لعلّ ذلك يمحوا عنهم آثار تلك الرّدّة. لأنّ الله تعالى يقول : {إِلا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً}1.
ويقول: { وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً ثُمَّ اهْتَدَى}2 .
فنّزلوا الكوفة، وصار لهم بها محلّة معروفة، فيها مسجد يسمى مسجد بني حنيفة، فمرّ بعض المسلمين على مسجدهم بين المغرب والعشاء. فسمعوا منهم كلاماً معناه: أنّ مسيلمة كان على حقّ، وهم جماعة كثيرون، لكن الذي لم يقله لم ينكره على مَن قاله. فرفعوا أمرهم إلى عبد الله بن مسعود، فجمع مَن عنده من الصّحابة واستشارهم: هل يقتلهم وإن تابوا، أو يستتيبهم؟ فأشار بعضهم بقلتهم من غير استتابة. وأشار بعضهم باستتابتهم، فاستتاب بعضهم، وقتل بعضهم ولم يستتبه.
فتأمّل ـ رحمك الله ـ إذا كانوا قد أظهروا من الأعمال الصّالحة الشّاقّة ما أظهروا، لما تبرأوا من الكفر، وعادوا إلى الإسلام، ولم يظهر منهم إلاّ كلمة أخفوها في مدح مسيلمة، لكن سمعها بعض المسلمين.
ـــــــ
1 الآية 70 من سورة الفرقان.
2 الآية 82 من سورة طه.(1/42)
ومع هذا لم يتوقّف أحد في كفرهم كلّهم ـ المتكلّم والحاضر الذي لم ينكر ـ ولكن اختلفوا: هل تقبل توبتهم أو لا؟ والقصّة في صحيح البخاري.
فأين هذا من كلام مَن يزعم: أنّه من العلماء، ويقول: البدو ما معهم من الإسلام شعرة، إلاّ أنّهم يقولون: "لا إله إلاّ الله"، ومع ذلك يحكم بإسلامهم بذلك؟ أين هذا مما أجمع عليه الصّحابة فيمَن قال تلك الكلمة، أو حضرها ولم ينكر؟
سارت مشرقة، وسرت مغرباً ... شتان بين مشرق ومغرب
ربنا إنّي أعوذ بك أن أكون مِمَن قلت فيهم: {فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لا يُبْصِرُونَ صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ}1 . ولا مِمَن قلت فيهم: {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ}2.
ـــــــ
1 الآيتان 17-18 من سورة البقرة.
2 الآية 22 من سورة الأنفال.(1/43)
الدّليل الثّالث:
ما وقع في زمان الخلفاء الرّاشدين
قصّة أصحاب عليّ بن أبي طالب ـ لما اعتقدوا فيه الإلهية التي تُعْقَد اليوم في أناسٍ من أكفر بني آدم وأفسقهم ـ فدعاهم إلى التّوبة فأبوا، فخدَّ لهم الأخاديد، وملأها حطباً، وأضرم فيها النّار، وقذفهم فيها وهم أحياء.
ومعلوم أنّ الكافر ـ مثل اليهودي والنّصراني ـ إذا أمر الله بقتله لا يجوز إحراقه بالنّار؛ فعلم أنّهم أغلظ كفراً من اليهود والنّصارى.
هذا، وهم يقومون اللّيل، ويصومون النّهار، ويقرأون القرآن، آخذين له عن أصحاب رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ. فلما غلوا في عليّ ذلك الغلوّ أحرقهم بالنّار وهم أحياء. وأجمع الصّحابة وأهل العلم كلّهم على كفرهم. فأين هذا مِمَن يقول في البدو تلك المقالة، مع اعترافه بهذه القصّة وأمثالها، واعترافه أنّ البدو كفروا بالإسلام كلّه، إلاّ أنّهم يقولون: لا إله إلاّ الله؟!
واعلم أنّ جناية هؤلاء إنّما هي على الألوهية، وما علمنا فيهم جناية على النّبوّة، والذين قبلهم جنايتهم على النّبوة، وما علمنا لهم جناية على الإلهية. وهذا مِمَّات يبيّن لك شيئاً من معنى الشّهادتين الذين هما أصل الإسلام.(1/44)
الدّليل الرّابع:
ما وقع في زمن الصّحابة أيضاً
وهي قصّة المختار بن أبي عبيد الثّقفي. وهو رجلٌ من التّابعين، مصاهر لعبد الله بن عمر ـ رضي الله عنه وعن أبيه، مظهر للصّلاح. فظهر في العراق يطلب بدم الحسين وأهل بيته، فقتل ابن زياد، ومال إليه من مال، لطلبه دم أهل البيت مِمَن ظلمهم ابن زياد. فاستولوا على العراق، وأظهر شرائع الإسلام، ونصب القضاة والأئمة من أصحاب ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ وكان هو الذي يصلي بالنّاس الجمعة والجماعة، لكن في آخر أمره زعم أنّه يوحي إليه؛ فسيّر إليه عبد الله بن الزّبير جيشاً، فهزموا جيشه وقتلوه، وأمين الجيش مصعب بن الزّبير، وتحته امرأة أبوها أحد الصّحابة، فدعاها مصعب إلى تكفيره فأبت. فكتب إلى أخيه عبد الله يستفتيه فيها، فكتب إليه: إن لم تبرأ منه فاقتلها، فامتنعت فقتلها مصعب.
وأجمع العلماء كلّهم على كفر المختار ـ مع إقامته شعائر الإسلام ـ لما جنى على النّبوّة.
وإذا كان الصّحابة قتلوا المرأة التي هي من بنات الصّحابة لما امتنعت من تكفيره، فكيف بِمَن لم يكفر البدو مع إقراره بحالهم؟ فكيف بِمَن زعم أنّهم هم أهل الإسلام، ومَن دعاهم إلى الإسلام هو الكافر؟ يا ربّنا نسألك العفو والعافية.(1/45)
الدّليل الخامس:
ما وقع في زمن التّابعين
وذلك قصّة الجعد بن درهم، وكان من أشهر النّاس بالعلم والعبادة. فلما جحد شيئاً من صفات الله ـ مع كونها مقالة خفية عند الأكثر ـ ضحى به خالد بن عبد الله القَسْري يوم عيد الأضحى، فقال: أيّها النّاس، ضحوا تقبّل الله ضحاياكم فإنّي مضحٍ بالجعد بن درهم، فإنّه زعم أنّ الله لم يتّخذ إبراهيم خليلاً، ولم يكلّم موسى تكليماً، ثم نزل فذبحه، ولم يعلم أنّ أحداً من العلماء أنكر ذلك عليه. بل ذكر ابن القيم إجماعهم على استحسانه، فقال:
شكر الضّحية كلّ صاحب سنة ... لله درك من أخي قربان
فإذا كان رجل من أشهر النّاس بالعلم والعبادة، أخذ العلم عن الصّحابة، أجمعوا على استحسان قتله، فأين هذا مِن اعتقاد أعداء الله في البدو؟!(1/46)
الدليل السّادس:
قصّة بني عبيد القداح
فإنّهم ظهروا على رأس المائة الثّالثة، فادّعى عبيد الله أنّه من آل عليّ بن أبي طالب، من ذرّيّة فاطمة، وتزيّى بزيّ أهل الطّاعة والجهاد في سبيل الله، فتبعه أقوام من البربر من أهل المغرب، وصار له دولة كبيرة في المغرب ولأولاده من بعده، ثم ملكوا مصر والشّام، وأظهروا شرائع الإسلام، وإقامة الجمعة والجماعة، ونصبوا القضاء والمفتين. لكن أظهروا الشّرك ومخالفة الشّريعة، وظهر منهم ما يدلّ على نفاقهم وشدّة كفرهم. فأجمع أهل العلم أنّهم كفّار، وأنّ دارهم دار حربٍ مع إظهارهم شعائر الإسلام.
وفي مصر من العلماء والعبّاد أناس كثير، وأكثر أهل مصر لم يدخل معهم فيما أحدثوا من الكفر، ومع ذلك أجمع العلماء على ما ذكرنا، حتى إنّ بعض أكابر أهل العلم المعروفين بالصّلاح قال: لو أنّ معي عشرة أسهم لرميت بواحد منها النّصارى والمحاربين. ورميت بالتّسعة بني عبيد.
ولما كان زمان السّلطان محمود بن زَنْكي أرسل إليهم جيشاً عظيماً بقيادة صلاح الدّين، فأخذوا مصر من أيديهم، ولم يتركوا جهادهم بمصر لأجل مَن فيها من الصّالحين.
فلما فتحها السّلطان محمود فرح المسلمون بذلك أشّد الفرح. وصنّف ابن الجوزي في ذلك كتاباً سمّاه: "النّصر على مصر".(1/47)
وأكثر العلماء التّصنيف والكلام في كفرهم، مع ما ذكرنا من إظهارهم شرائع الإسلام الظّاهرة.
فانظر ما بين هذا وبين ديننا الأوّل1: أنّ البدو إسلام، مع معرفتنا بما هم عليه من البراءة من الإسلام كلّه، إلاّ قول: "لا إله إلاّ الله"، ولا تظنّ أنّ أحداً منهم يكفر إلاّ إن انتقل يهودياً أو نصرانياً.
فإن آمنت بما ذكر الله ورسوله، وبما أجمع عليه العلماء، وتبرأت من دين آبائك في هذه المسألة، وقلت: آمنت بالله وبما أنْزل الله، وتبرأت مما خالفه باطناً وظاهراً، مخلصاً لله الدّين في ذلك، وعلم الله ذلك من قبلك، فأبشر. ولكن اسأل الله التّثبيت. واعرف أنّه مقلّب القلوب.
ـــــــ
1 يقصد الشّيخ ـ رحمه الله ـ ما كانت عليه نجد من الجاهلية قبل دعوة الشّيخ محمّد بن عبد الوهّاب.(1/48)
الدّليل السّابع:
قصّة التّتار
وذلك: أنّهم بعد ما فعلوا بالمسلمين ما فعلوا، وسكنوا بلاد المسلمين، وعرفوا دين الإسلام استحسنوه وأسلموا. لكن لم يعملوا بما يجب عليهم من شرائعه، وأظهروا أشياء من الخروج عن الشّريعة، لكنهم كانوا يتلفظون بالشّهادتين، ويصلون الصّلوات الخمس والجمعة والجماعة، وليسوا كالبدو، ومع هذا كفروهم العلماء، وقاتلوهم وغزوهم، حتى أزالهم الله عن بلدان المسلمين.
وفيما ذكرنا كفاية لِمَن هداه الله.
وأمّا مَن أراد الله فتنته: فلو تناطحت الجبال بين يديه لم ينفعه ذلك.
ولو ذكرنا ما جرى من السّلاطين والقضاة، من قتل مَن أتى بأمور يكفر بها ـ ولو كان يظهر شعائر الإسلام ـ وقامت عليه البيّنة باستحقاقه للقتل، مع أنّ في هؤلاء المقتولين مَن كان من أعلم النّاس وأزهدهم وأعبدهم في الظّاهر، مثل: الحلاج وأمثاله، ومَن هو من الفقهاء المصنّفين، كالفقيه عمارة.
فلو ذكرنا قصص هؤلاء لاحتمل مجلدات، ولا نعرف فيهم رجلاً واحداً بلغ كفره كفر البدو الذين يقول عنهم ـ مَن يزعم إسلامهم ـ: إنّه ليس معهم من الإسلام شعرة إلاّ قول: "لا إله إلاّ الله" ولكن مَن يهد الله فهو المهتدي. ومَن يضلل فلن تجد له وليّاً مرشداً.(1/49)
والعجب أنّ الكتب التي بأيديهم، والتي يزعمون أنّهم يعرفونها ويعملون بها فهيا مسائل الرّدّة.
وتمام العجب: أنّهم يعرفون بعض ذلك ويقرّون به، ويقولون: مَن أنكر البعث كفر، ومَن شكّ فيه كفر، ومَن سبّ الشّرع كفر، ومَن أنكر فرعاً مجمعاً عليه كفر. كلّ هذا يقولونه بألسنتهم.
فإذا كان مَن أنكر الأكل باليمين، أو أنكر النّهي عن إسبال الثّياب، أو أنكر سنة الفجر أو الوتر فهو كافر، ويصرّحون أنّ مَن أنكر الإسلام كلّه وكذّب به، واستهزأ بِمَن صدّقه فهو أخوك المسلم، حرام الدّم والمال، ما دام يقول: "لا إله إلاّ الله" ثم يكفروننا، ويستحلّون دماءنا وأموالنا، مع أنّا نقول: "لا إله إلاّ الله" فإذا سئلوا عن ذلك؟ قالوا: مَن كفر مسلماً فقد كفر.
ثم لم يكفهم ذلك حتى أفتوا لِمَن عاهدنا بعهد الله ورسوله أن ينقض العهد وله في ذلك ثواب عظيم، ويفتون مَنْ عنده أمانة لنا، أو مال يتيم أنّه يجوز له أكل أمانتنا، ولو كانت مال يتيم، بضاعة عنده أو وديعة، بل يرسلون الرّسائل لِدَهَّام بن دَوَّاس وأمثاله إذا حاربوا التّوحيد ونصروا عبادة الأصنام، يقولون: أنت يا فلان قمت مقام الأنبياء. مع إقرارهم أنّ التّوحيد ـ الذي ندعو إليه، وكفروا به وصدّوا النّاس عنه هو دين الأنبياء عليهم الصّلاة والسّلام، وأنّ الشّرك الذي نهينا النّاس عنه، ورغبّوهم هم فيه، وأمروهم بالصّبر على آلتهم ـ أنّه الشّرك الذي نهى عنه الأنبياء. ولكن هذه من أكبر آيات الله، فَمَن لم يفهمها فليبك على نفسه. والله سبحانه وتعالى أعلم.(1/50)
نسب النبي صلى الله عليه وسلم
...
نسب النَّبِيّ ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
محمّد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قُصَيّ ابن كلاب بن مرّة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النّضر ابن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان. إلى هنا معلوم الصّحة. وما فوق عدنان مختلف فيه. ولا خلاف أنّ عدنان من ولد إسماعيل. وإسماعيل هو الذّبيح على القول الصّحيح. والقول بأنّه إسحاق باطل.
ولا خلاف أنّه ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ ولد بمكّة عام الفيل. وكانت وقعة الفيل تقدمة قدّمها الله لنبيّه وبيته، وإلاّ فأهل الفيل نصارى أهل الكتاب، دينهم خير من دين أهل مكّة؛ لأنّهم عباد أوثان. فنصرهم الله نصراً لا صنع للبشر فيه، تقدمة للنّبِيّ الذي أخرجته قريش من مكّة، وتعظيماً للبلد الحرام.
قصّة الفيل:
وكان سبب قصّة الفيل على ما ذكر محمّد بن إسحاق ـ أنّ أبرهة بن الصّباح كان عاملاً للنّجاشي ملك الحبشة على اليمن. فرأى النّاس يتجهّزون أيام الموسم إلى مكّة ـ شرّفها الله ـ فبنى كنيسة بصنعاء، وكتب(1/51)
إلى النّجاشي: "إنّي بنيت لك كنيسة لم يبنَ مثلها، ولست منتهياً حتى أصرف إليها حجّ العرب"، فسمع به رجل من بني كنانة، فدخلها ليلاً. فلطخ قبلتها بالعذرة. فقال أبرهة: مَن الذي اجترأ على هذا؟ قيل: رجل من أهل ذلك البيت، سمع بالذي قلت. فحلف أبرهة ليسيّرنّ إلى الكعبة حتى يهدمها، وكتب إلى النّجاشي يخبره بذلك، فسأله أن يبعث إليه بفيله. وكان له فيل يقال له: محمود، لم يُرَ مثله عظماً وجسماً وقوّة، فبعث به إليه، فخرج أبرهة سائراً إلى مكّة، فسمعت العرب بذلك فأعظموه، ورأوا جهاده حقّاً عليهم.
فخرج ملك من ملوك اليمن، يقال له ذو نفر فقاتله، فهزمه أبرهة وأخذه أسيراً، فقال: أيّها الملك استبقني خيراً لك، فاستحياه وأوثقه.
وكان أبرهة رجلاً حليماً، فسار حتى إذا دنا من بلاد خثعم خرج نفيل بن حبيب الخثعمي، ومَن اجتمع إليه من قبائل العرب، فقاتلوهم فهزمهم أبرهة، فأخذ نفيلاً، فقال له: أيّها الملك، إنّني دليلك بأرض العرب، وهاتان يداي على قومي بالسّمع والطّاعة، فاستبقني خيراً لك. فاستبقاه، وخرج معه يدلّه على الطّريق.
فلما مرَّ بالطّائف خرج إليه مسعود بن معتب في رجالٍ من ثقيف، فقال له: أيّها الملك، نحن عبيدك، ونحن نبعث معك مَن يدلّك. فبعثوا معه بأبي رِغال مولى لهم، فخرج حتى إذا كان بالْمُغَمّس مات أبو رِغال، وهو الذي يرجم قبره. وبعث أبرهة رجلاً من الحبشة ـ يقال له: الأسود بن مفصود ـ على مقدمة خيله وأمر بالغارة على نَعَم النّاس، فجمع الأسود إليه أموال الحرم، وأصاب لعبد المطلب مائتي بعير.(1/52)
ثم بعث رجلاً من حمير إلى أهل مكّة، فقال: أبلغ شريفها أنّني لم آتِ لقتال، بل جئت لأهدم البيت. فانطلق، فقال لعبد المطلب ذلك.
فقال عبد المطلب: ما لنا به يدان، سنخلّي بينه وبين ما جاء له؛ فإنّ هذا بيت الله وبيت خليله إبراهيم، فإن يَمْنَعْهُ فهو بيته وحرمه، وإن يخلّي بينه وبين ذلك فوالله ما لنا به من قوّة.
قال: فانطلق معي إلى الملك ـ وكان ذو نَفَر صديقاً لعبد المطلب ـ فأتاه، فقال: يا ذا نفر، هل عندك غناء فيما نزل بنا؟ فقال: ما غناء رجلٍ أسيرٍ لا يأمن أن يقتل بكرة أو عشيّاً، ولكن سأبعث إلى أنيس سائس الفيل، فإنّه لي صديق، فأسأله أن يعظم خطرك عند الملك.
فأرسل إليه، فقال لأبرهة: إنّ هذا سيّد قريش يستأذن عليك. وقد جاء غير ناصب لك، ولا مخالف لأمرك، وأنا أحبّ أن تأذن له.
وكان عبد المطلب رجلاً جسيماً وسيماً، فلما رآه أبرهة أعظمه وأكرمه، وكره أن يجلس معه على سريره، وأن يجلس تحته. فهبط إلى البساط، فدعاه فأجلسه معه. فطلب منه أن يردّ عليه مائتي البعير التي أصابها من ماله.
فقال أبرهة لترجمانه: قل له: إنّك كنت أعجبتنِي حين رأيتك ولقد زهدت فيك. قال: لِمَ؟ قال: جئت إلى بيت ـ هو دينك ودين آبائك، وشرفكم وعصمتكم ـ لأهدمه. فلم تكلّمنِي فيه، وتكلّمني في مائتي بعير؟ قال: أنا ربّ الإبل، والبيت له ربٌّ يمنعه منك.
فقال: ما كان ليمنعه مني.(1/53)
قال: فأنت وذاك. فأمر بإبله فردّت عليه.
ثم خرج، وأخبر قريشاً الخبر. وأمرهم أن يتفرّقوا في الشّعاب، ويتحرّزوا في رؤوس الجبال، خوفاً عليهم من مَعَرَّة الجيش.
ففعلوا. وأتى عبدُ المطلب البيتَ، فأخذ بحلقة الباب، وجعل يقول
يا ربّ، لا أرجو لهم سواكا ... يا ربّ فامنع منهمو حماكا
إنّ عدوّ البيت مَن عاداكا ... فامنعهمو أن يخربوا قراكا
وقال أيضا:
لا هُمَّ إنّ المرء يمنع رحله ... وحلاله. فامنع حلالك
لا يَغْلِبَنَّ صليبهم ... ومحالهم غدواً محالك
جروا جموعهم وبلادهم ... والفيل، كي يسبوا عيالك
إن كنت تاركهم وكعبتـ ... ـنا فأمرٌ ما بدا لك
ثم توجّه في بعض تلك الوجوه مع قومه، وأصبح أبرهة بالْمغمس قد تهيّأ للدّخول. وعبأ جيشه، وهيّأ فيله، فأقبل نفيل إلى الفيل، فأخذ بإذنه، فقال: أبرك محمود؛ فإنّك في بلد الله الحرام. فبرك الفيل، فبعثوه فأبى، فوجّهوه إلى اليمن فقام يهرول، ووجّهوه إلى الشّام ففعل مثل ذلك، ووجّهوه إلى المشرق ففعل ذلك. فصرّفوه إلى الحرام فبرك. وخرج نفيل يشتد حتى صعد الجبل، فأرسل الله طيراً من قبل البحر، مع كلّ طائرٍ ثلاثة أحجار. حجرين في رجليه وحجراً في منقاره، فلما غشيت القوم أرسلتها عليهم، فلم تصب تلك الحجارة أحداً إلاّ هلك. وليس كلَّ القوم أصابت، فخرج البقية(1/54)
هاربين يسألون عن نفيل، ليدلّهم على الطّريق إلى اليمن. فماج بعضهم في بعض يتساقطون بكلّ طريق، ويهلكون على كلّ منهلٍ، وبعث الله على أبرهة داء في جسده، فجعلت تساقط أنامله، حتى انتهى إلى صنعاء وهو مثل الفرخ. وما مات حتى انصدع صدره عن قلبه ثم هلك.
رجعنا إلى سيرته ـ صلّى الله عليه وسلم ـ
وفاة عبد الله والد رسول الله:
قد اختلف في وفاة أبيه: هل توفّي بعد ولادته أو قبلها؛ الأكثر: على أنّه توفّي وهو حمل. ولا خلاف أنّ أمّه ماتت بين مكّة والمدينة بالأبواء، منصرفَها من المدينة من زيارة أخواله، ولم يستكمل إذ ذاك ست سنين.
فكفله جدّه عبد المطلب، ورقّ عليه رقّة لم يرقّها على أولاده، فكان لا يفارقه، وما كان أحد من ولده يجلس على فراشه ـ إجلالاً له ـ إلاّ رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ.
وقدم مكّة قوم من بني مُدْلج من القافة. فلما نظروا إليه قالوا لجدّه: احتفظ به، فلم نجد قدماً أشبه بالقدم الذي في المقام من قدمه. فقال لأبي طالب: اسمع ما يقول هؤلاء، واحتفظ به.
وتوفّي جدّه في السّنة الثّامنة من مولده، وأوصى به أبي طالب، وقيل إنّه قال له(1/55)
أوصيك يا عبد مناف بعدي ... بمفرد بعد أبيه فرد
وكنت كالأمّ له في الوجد ... تُدْنيه من أحشائها والكبد
فأنتَ من أرجَى بَنِيَّ عندي ... لرفع ضيم ولشد عضد
عبد المطلب جدّ رسول الله:
قال ابن إسحاق: وكان عبد المطلب من سادات قريش، محافظاً على العهود، متخلّقاً بمكارم الأخلاق، يحبّ المساكين، ويقوم في خدمة الحجيج. ويطعم في الأزمات، ويقمع الظّالمين، وكان يطعم حتى الوحوش والطّير في رؤوس الجبال، وكان له أولاد أكبرهم الحارث. توفّي في حياة أبيه. وأسلم من أولاد الحارث عبيدة. قتل ببدر. وربيعة، وأبو سفيان، وعبد الله.
ومنهم: الزّبير بن عبد المطلب شقيق عبد الله. وكان رئيس بني هاشم وبني المطلب في حرب الفجار، شريفاً شاعراً، ولم يدرك الإسلام. وأسلم من أولاده: عبد الله. واستشهد بأجنادين. وضُباعة، ومَجْل، وصفية، وعاتكة.
وأسلم منهم: حمزة بن عبد المطلب والعباس.
ومنهم: أبو لهب مات عقيب بدر. وله من الولد: عتيبة الذي دعا عليه النّبِيّ ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ فقتله السّبع. وله عتبة، ومعتب، أسلما يوم الفتح.
ومن بناته: أروى. تزوّجها كرز بن ربيعة بن حبيب بن عبد شمس. فولدت له عامراً وأروى، فتزوّج أروى عفان بن أبي العاص بن أمية، فولدت له عثمان، ثم خلف عليها عقبة بن أبي مُعَيط، فولدت له الوليد بن عقبة، وعاشت إلى خلافة ابنها عثمان.(1/56)
ومنهن: بَرَّة بنت عبد المطلب، أمّ أبي سلمة بن عبد الأسد المخزومي.
ومنهن: عاتكة أم عبد الله بن أبي أمية. وهي صاحبة المنام قبل يوم بدر. واختلف في إسلامها.
ومنهن: صفية أمّ الزّبير بن العوام. أسلمت وهاجرت.
وأروى أمّ آل جحش: عبد الله، وأبي أحمد، وعبيد الله، وزينب، وحَمْنة.
وأمّ عبد المطلب هي: سلمى بنت زيد من بني النّجار، تزوّجها أبوه هاشم بن عبد مناف. فخرج إلى الشّام، وهي عند أهلها، قد حملت بعبد المطلب، فمات بغزة. فرجع أبو رُهْم بن عبد العزى وأصحابه إلى المدينة بتركته. وولدت امرأته سلمى عبدَ المطلب، وسمّته شيبة الحمد، فأقام في أخواله مكرماً، فبينما هو يناضل الصّبيان، فيقول: أنا ابن هاشم، سمعه رجل من قريش، فقال لعمّه المطلب: إنّي مررت بدور بني قَيْلَة، فرأيت غلاماً يغتزي إلى أخيك، وما ينبغي ترك مثله في الغربة، فرحل إلى المدينة في طلبه، فلما رآه فاضت عيناه، وضمّه إليه، وأنشد شعراً:
عرفت شيبة والنّجّار قد جعلت ... أبناءها حوله بالنّبل تنتضل
عرفت أجلاده فينا وشيمته ... ففاض مني عليه وابل هطل
فأردفه على راحلته، فقال: يا عمّ، ذلك إلى الوالدة. فجاء إلى أمّه، فسألها أن ترسل به معه، فامتنعت. فقال لها: إنّما يمضي إلى ملك أبيه، وإلى حرم الله. فأذنت له. فقدم به مكّة، فقال النّاس: هذا عبد المطلب. فقال: ويحكم إنّما هو ابن أخي هاشم(1/57)
.فأقام عنده حتى ترعرع. فسلم إليه ملك هاشم: من أمر البيت. والرّفادة، والسّقاية، وأمر الحجيج، وغير ذلك.
وكان المطلب شريفاً مطاعاً جواداً، وكانت قريش تسمّيه الفيّاض لسخائه. وهو الذي عقد الحلف بين قريش وبين النّجاشي. وله من الولد: الحارث، ومخرمة، وعباد، وأنيس، وأبو عمر، وأبو رهم، وغيرهم.
ولما مات وثب نوفل بن عبد مناف على أركاح1 شيبة فغصبه إيّاها، فسأل رجالاً من قريش النّصرة على عمّه. فقالوا: لا ندخل بينك وبين عمّك. فكتب إلى أخواله من بني النّجار أبياتاً، منها:
يا طول ليلي لأحزاني وإشغالي ... هل من رسولٍ إلى النّجار أخوالي؟
بني عدي ودينار ومازنها ... ومالك عصمة الحيران عن حالي
قد كنت فيهم وما أخشى ظلالة ذي ... ظلم، عزيزاً مينعاً ناعم البال
حتى ارتحلت إلى قومي، وأزعجني ... لذاك مُطّلب عمّي بترحالي
فغاب مطلب في قعر مظلمه ... ثم انبرى نوفل يعدو على مالي
لما رأى رجلاً غابت عمومته ... وغاب أخواله عنه بلا والي
فاستنفروا. وامنعوا ضيم ابن أختكم ... لا تخذلوه، فما أنتم بخذالي
ـــــــ
1 الرُّكح ـ بضمّ الرّاء المهملة ـ المراد به هنا: الفضاء بين البيوت.(1/58)
فلما وقف خاله أبو سعد بن عدي بن النّجار على كتابه بكى، وسار من المدينة في ثمانين راكباً، حتى قدم مكّة، فَنَزل بالأبطح، فتلقاه عبد المطلب، وقال: المنْزل يا خال: فقال: لا والله حتى ألقي نوفلاً. فقال: تركته بالحجر جالساً في مشايخ قومه. فأقبل أبو سعد حتى وقف عليهم، فقام نوفل قائماً، فقال: يا أبا سعد، أنعم صباحاً، فقال: لا أنعم الله لك صباحاً، وسَلَّ سيفه. وقال: وربّ هذا البيت، لَئِن لم ترّد على ابن أختي أركاحه لأمكّننّ منك هذا السّيف. فقال: رددتها عليه. فاشهد عليه مشايخ قريش. ثم نَزل على شيبة، فأقام عنده ثلاثاً، ثم اعتمر ورجع إلى المدينة. فقال عبد المطلب:
ويأبى مازن وأبو عدي ... ودينار ابن تيم الله ضيمي
بهم ردّ الإله على رُكْحي ... وكانوا في انتساب دون قومي
فلما جرى ذلك حالف نوفلٌ بني عبد شمس بن عبد مناف على بني هاشم، وحالفت بنو هاشم خزاعة على بني عبد شمس ونوفل. فكان ذلك سبباً لفتح مكّة. كما سيأتي.
فلما رأت خزاعة نصر بني النّجار لعبد المطلب، قالوا: نحن ولدناه كما ولدتموه، فنحن أحقّ بنصره. وذلك أنّ أمّ عبد مناف منهم. فدخلوا دار النّدوة وتحالفوا وكتبوا بينهم كتاباً.
عبد الله والد رسول الله:
وأمّا عبد الله والد النَّبِيّ ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ فهو: الذّبيح.(1/59)
وسبب ذلك: أنّ عبد المطلب أُمر في المنام بحفر زمزم، ووُصِف له موضعها، وكانت جُرْهم قد غلبت آل إسماعيل على مكّة، وملكوها زماناً طويلاً، ثم أفسدوا في حرم الله، فوقع بينهم وبين خُزاعة حرب، وخزاعة من قبائل اليمن، من أهل سبأ، ولم يدخل بينهم بنو إسماعيل، فغلبتهم خزاعة، ونفت جرهماً من مكّة، وكانت جرهم قد دفنت الحجر الأسود، والمقام وبئر زمزم. وظهر بعد ذلك قُصَيّ بن كلاب على مكّة. ورجع إليه ميراث قريش. فأنْزل بعضهم داخل مكّة ـ وهم قريش الأباطح ـ وبعضهم خارجها ـ وهم قريش الظّواهر ـ فبقيت زمزم مدفونة إلى عصر عبد المطلب، فرأى في المنام موضعها، فقام يحفر، فوجد فيها سيوفاً مدفونة وحلياً، وغزالاً من ذهب مُشنَّفاً بالدّرّ، فعلّقه عبد المطلب على الكعبة. وليس مع عبد المطلب إلاّ ولده الحارث، فنازعته قريش، وقالوا له: أشركنا، فقال: ما أنا بفاعلٍ. هذا أمر خُصصت به. فاجعلوا بيني وبينكم مَن شئتم أحاكمكم إليه.
فنذر حينئذٍ عبد المطلب: لَئْن آتاه الله عشرة أولاد، وبلغوا أن يمنعوه ليَنْحرَنَّ أحدهم عند الكعبة. فلما تموا عشرة، وعرف أنّهم يمنعونه أخبرهم بنذره فأطاعوه، وكتب كلّ منهم اسمه في قدحٍ، وأعطوها القداحَ قَيَّم هُبَل ـ وكان الذي يُجِيل القداح ـ فخرج القدح على عبد الله. وأخذ عبد المطلب المدية ليذبحه، فقامت إليه قريش من ناديها فمنعوه. فقال: كيف أصنع بنذري؟ فأشاروا عليه أن ينحر مكانه عشراً من الإبل، فأقرع بين عبد الله وبينها، فوقعت القرعة عليه. فاغنتم عبد المطلب، ثم لم يزل يزيد عشراً عشراً، ولا تقع القرعة إلاّ عليه، إلى أن بلغ مائة. فوقعت القرعة على الإبل، فنحرت عنه فجرت سنة.(1/60)
ورُوي عن النّبِيّ ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ أنه قال: "أنا ابن الذّبيحين" 1، يعني: إسماعيل ـ عليه السّلام ـ وأباه عبد الله.
ثم ترك عبدُ المطلب الإبلَ لا يرد عنها إنساناً ولا سبعاً. فجرت الدّية في قريش والعرب مائة من الإبل. وأقرّها رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ.
وقالت صفية بنت عبد المطلب:
نحن حفرنا للحجيج زمزم ... سُقيا الخليل وابنه المكرّم
جبريل الذي لم يذمم ... شفاء سُقْم وطعام مطعم
أبو طالب عمّ رسول الله:
وأمّا أبو طالب: فهو الذي تولّى تربية رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ من بعد جدّه كما تقدم، ورقّ عليه رقّة شديدة. وكان يقدّمه على أولاده.
قال الواقدي: قام أبو طالب ـ من سنة ثمانٍ من مولد رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ إلى السّنة العاشرة من النّبوّة ثلاث وأربعين ـ يحوطه ويقوم بأمره، ويذبّ عنه، ويلطف به.
وقال أبو محمّد بن قدامة: "كان يقرّ بنوّة النّبِيّ ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ. وله في ذلك أشعار منها:
ألا أبلغا عني على ذات بيننا ... لُؤَيّاً. وخُصّاً من لؤي بني كعب
بأنا وجدنا في الكتاب محمّداً ... نبيّاً كموسى، خُطَّ في أوّل الكتب
ـــــــ
1 الحديث رواه الحاكم في مستدركه بلفظ: ((أنّ أعرابياً قال للنّبِي ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ يا ابن الذّبيحين))، كما في كشف الخفا عن المقاصد.(1/61)
وأنّ عليه في العباد محبّة ... ولا خير مِمَن خصّه الله بالحبّ
ومنها:
تَعَلَّم خيارَ النّاس أنّ محمّداً ... وزيراً لِموسى والمسيح ابن مريم
فلا تجعلوا لله ندّاً. وأسلموا ... فإنّ طريق الحقّ ليس بمظلم
ولكنّه أبى أن يدين بذلك خشية العار. ولما حضرته الوفاة: دخل عليه رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ وعنده أبو جهل، وعبد الله بن أبي أمية ـ فقال: "يا عمّ قل: لا إله إلاّ الله، كلمة أحاجّ لك بها عند الله"، فقالا له: أترغب عن ملّة عبد المطلب؟ فلم يزل ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ يردّدها عليه، وهما يردّدان عليه حتى كان آخر كلمةٍ قالها: "هو على ملّة عبد المطلب". فقال رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ: "لأستغفرنّ لك ما لم أُنْهَ عَنْكَ" . فأنْزل الله تعالى: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ}1 .
ونزل قوله تعالى: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} الآية2")3.
قال ابن إسحاق: وقد رثاه ولده عليّ بأبيات، منها:
أرِقْتُ لطير آخر اللّيل غَرَّدا ... يذكرني شجواً عظيماً مجدداً
ـــــــ
1 الآية 113 من سورة براءة.
2 الآية 56 من سورة القصص.
3 قصّة وفاة أبي طالب أخرجها البخاري ومسلم عن سعيد بن المسيب عن أبيه ورواها أحمد ومسلم والتّرمذي من حديث أبي هريرة (.(1/62)
أبا طالب، مأوى الصّعاليك، ذا النّدى ... جواداً إذا ما أصدر الأمر أو ردا
فأمست قريش يفرحون بموته ... ولست أرى حيّاً يكون مخلَّداً
أرادوا أموراً زَيّفتها حُلومهم ... ستوردهم يوماً من الغي مورداً
يُرَجُّون تكذيب النَّبِيّ وقتله ... وأن يفترى قدماً عليه ويجحدا
كذّبتم وبيت الله، حتى نذيقكم ... صدور العوالي والحسام المهندا
خلّف أبو طالب أربعة ذكور وابنتين. فالذكور: طالب، وعقيل، وجعفر، وعليّ، وبين كلّ واحد عشر سنين. فطالب أسنّهم، ثم عقيل، ثم جعفر، ثم عليّ.
فأمّا طالب: فأخرجه المشركون يوم بَدْر كرهاً، فلمّا انهزم الكفار طُلِبَ، فلم يوجد في القتلى، ولا في الأسرى، ولا رجع إلى مكّة، وليس له عقب.
وأمّا عقيل: فأُسر ذلك اليوم، ولم يكن له مال، ففداه عمّه العباس، ثم رجع إلى مكّة، فأقام بها إلى السّنة الثّامنة. ثم هاجر إلى المدينة، فشهد مُؤتة مع أخيه جعفر. وهو الذي قال فيه النَّبِيّ ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ: "وهل ترك لنا عقيل من منْزل؟"1.
واستمرّت كفالة أبي طالب لرسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ ـ كما ذكرنا ـ فلمّا بلغ اثنتي عشرة سنة ـ وقيل: تسعاً ـ خرج به أبو طالب إلى الشّام
ـــــــ
1 الحديث رواه البخاري ومسلم من حديث أسامة بن زيد.(1/63)
في تجارةٍ، فرآه بُحَيْرَى الرّاهب، وأمر عمّه أن لا يقدم به الشّام، خوفاً عليه من اليهود. فبعثه عمّه مع بعض غلمانه إلى المدينة.
ووقع في التّرمذي: "أنّه بعث معه بلالاً". وهو غلط واضح. فإنّ بلالاً إذ ذاك لعلّه لم يكن موجوداً.
خروجه إلى الشّام وزواجه خديجة :
فلمّا بلغ رسولُ الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ خمساً وعشرين سنة خرج إلى الشّام في تجارةٍ لخديجة ـ رضي الله عنها ـ، ومعه ميسرة غلامها. فوصل بُصْرَى.
ثم رجع فتزوّج عقب رجوعه خديجة بنت خوليد. وهي أوّل امرأة تزوّجها، وأوّل امرأة ماتت من نسائه، ولم ينكح عليها غيرها، وأمره جبريل: "أن يقرأ عليها السّلام من ربّها ويبشّرها ببيتٍ في الجنّة من قصب".
تحنّثه في غار حراء :
ثم حُبِّب إليه الخلاء، والتّعبّد لربّه، فكان يخلو بغار حراء يتعبّد فيه1. وبُغِّضت إليه الأوثان ودينُ قومه، فلم يكن شيء أبغضَ إليه من ذلك، وأنبته الله نباتاً حسناً، حتى كان أفضلَ قومه مروءةً، وأحسنهم خلُقاً،
ـــــــ
1 إنّما كان تعبّده: تفكّراً فيما آل إليه أمر النّاس من ظلمات الجاهلية المنافية كلّ المنافاة للعقل والفطرة السّليمة، وكيف السّبيل إلى إنقاذهم من دركات هذه التّقاليد، وإخراجهم من هذه الظّلمات، وشفائهم من هذه الدّاءات الوبيلة!. ويشير إلى ذلك قول الله تعالى :{ وَوَجَدَكَ ضَالاً فَهَدَى} ، سورة الضحى الآية7.
{أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ}، سورة الشّرح الآيات 1-3.(1/64)
وأعزّهم جواراً وأعظمهم حلماً، وأصدقهم حديثاً، وأحفظهم لأمانة، حتى سمّاه قومه "الأمين" لما جمع الله فيه من الأحوال الصّالحة، والخصال الكريمة المرضية.
بناء الكعبة:
ولمّا بلغ رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ خمساً وثلاثين سنة قامت قريش في بناء الكعبة حين تضعضعت.
قال أهل السّير: كان أمر البيت ـ بعد إسماعيل عليه السّلام إلى ولده، ثم غلبت جرهم عليه، فلم يزل في أيديهم حتى استحلّوا حرمته ـ وأكلوا ما يهدي إليه. وظلموا مَن دخل مكّة. ثم وَلِيَتْ خزاعة البيتَ بعدهم، إلاّ أنّه كان إلى قبائل من مُضر ثلاثُ خلال:
الإجازة بالنّاس من عرفة يوم الحجّ إلى مزدلفة، تجيزهم صُوفة.
والثّانية : الإفاضة من جَمْعٍ، غداة النّحر إلى منى. وكان ذلك إلى يزيد بن عدوان، وكان آخر مَن ولي ذلك منهم أبو سيارة.
والثّالثة : إنساءُ الأشهر الحرم، وكان إلى رجلٍ من بني كنانة يقال له حذيفة، ثم صار إلى جُنادة بن عوف.
قال ابن إسحاق: ولمّا بلغ رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ خمساً وثلاثين سنة, جمعت قريش لبنيان الكعبة، وكانوا يهمون بذلك ليسقفوها، ويهابون هدمها، وإنّما كانت رَضْماً فوق القامة، فأرادوا رفعها وتسقيفها؛ وذلك أنّ قوماً سرقوا كنْز الكعبة، وكان في بئر في جوف الكعبة، وكان البحر قد(1/65)
رمى سفينة إلى جدّة لرجلٍ من تجار الروم، فتحطمت، فأخذوا خشبها فأعدوه لسقفها.
وكان بمكّة رجل قبطي نجّار، فهيّأ لهم بعض ما كان يصلحها. وكانت حَيّة تخرج من بئر الكعبة التي كان يُطرح فيه ما يهدى لها كلّ يوم، فتتَشَرَّقُ على جدار الكعبة، وكانت مما يهابون، وذلك أنّه كان لا يدنو منها أحد إلاّ احْزَأَلَت وكَشّت وفتحت فاها، فبينا هي ذات يوم تتشرق على جدار الكعبة، بعث الله إليها طائراً فاختطفها. فذهب بها. فقالت قريش: إنّا لنرجو أن يكون الله قد رضي ما أردنا، عندنا عامل رفيق، وعندنا خشب، وقد كفانا الله الحيّة.
فلمّا أجمعوا أمرهم في هدمها وبنائها قام أبو وهب بن عمرو بن عائد المخزومي فتناول من الكعبة حجراً، فوثب من يدهه حتى رجع إلى موضعه، فقال: يا معشر قريش، لا تدخلوا في بنيانها من كسبكم إلاّ طيّباً، لا يدخل فيها مَهْر بَغِيّ، ولا بيع ربا، ولا مظلمة أحد من النّاس.
ثم إنّ قريشاً تجزأت الكعبة؛
فكان شِقّ الباب لبني عبد مناف وزهرة. وما بين الرّكن الأسود واليماني لبني مخزوم، وقبائل من قريش انضافت إليهم. وكان ظهر الكعبة لبني جُمَح وبني سَهْم، وكان شقّ الحِجْر لبني عبد الدّار، ولبني أسد بن عبد العزى، ولبني عدي، وهو الحطيم.
ثم إنّ النّاس هابوا هدمها، فقال الوليد بن المغيرة: أنا أبدؤكم في هدمها، فأخذ المعول، ثم قام عليها، وهو يقول: اللهم لا تُرَعْ ـ أو:(1/66)
لم نَزِغ ـ اللهم إنّا لا نريد إلاّ الخير. ثم هدم من ناحية الرّكنين، فتربص النّاس تلك اللّيلة، وقالوا: إن أصيب، لم نهدم منها شيئاً، ورددناها كما كانت، وإلاّ فقد رضي الله ما صنعنا. فأصبح الوليد من ليلته غادياً على عمله، فهدم وهدم النّاس معه.
حتى إذا انتهى الهدم بهم إلى الأساس ـ أساس إبراهيم عليه السّلام ـ أفضوا إلى حجارة خضر كالأسنة، آخذٍ بعضها بعضاً، فأدخل بعضهم عَتَلة بين حجرين منها ليقلع بها أحدهما، فلما تحرك الحجر انتفضت مكّة بأسرّها. فانتهوا عند ذلك الأساس.
ثم إنّ القبائل من قريش جمعت الحجارة لبنائها، كل قبيلة تجمع على حدة ثم بنوها، حتى بلغ البنيان موضع الحجر الأسود، فاختصموا فيه، كل قبيلة تريد أن ترفعه إلى موضعه، حتى تحاوروا وتحالفوا، وأعدوا للقتال، فقربت بنو عبد الدّار جفنة، مملوءة دماً، تعاهدوا ـ هم وبنو عدي بن كعب ـ على الموت، وأدخلوا أيديهم في ذلك الدّم؛ فسمّوا "لَعَقَة الدّم" فمكثت قريش على ذلك أربع ليالٍ، أو خمساً.
ثم إنّهم اجتمعوا في المسجد، فتشاوروا وتناصفوا؛
فزعم بعض أهل الرّواية أنّ أبا أمية بن المغيرة بن عبد الله بن عمرو ابن مخزوم المخزومي ـ وكان يومئذٍ أسَنَّ قريش كلّهم ـ قال: اجعلوا بينكم أوّلَ مَن يدخل من باب المسجد. ففعلوا، فكان أوّل مَن دخل رسولُ الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ. فلمّا رأوه، قال: "هذا الأمين، رضينا به، هذا محمّد". فلمّا انتهى إليهم أخبروه الخبر. فقال ـ صلّى الله عليه(1/67)
وسلّم ـ: "هلم إليّ ثوباً" فأُتي به. فأخذ الرّكن فوضعه فيه بيده. ثم قال: "لتأخذ كلّ قبيلة بناحية من الثّوب، ثم ارفعوا جميعاً"، ففعلوا، حتى إذ بلغوا به موضعه وضعه هو بيده ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ ثم بنى عليه.
وكان رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ ينقل معهم الحجارة. وكانوا يرفعون أُزرَهم على عواتقهم، ففعل ذلك رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ فَلُبط به ـ أي: طاح على وجهه ـ ونودي: "استر عورتك" فما رؤيت له عورة بعد ذلك.
فلمّا بلغوا خمسة عشر ذراعاً سقفوه على ستة أعمدة، وكان البيت يُكْسَى القباطي ثم كُسِيَ البرود، وأوّل مَن كساه الدّيباج: الحجاج بن يوسف.
وأخرجت قريش الحِجْر لقلة نفقتهم. ورفعوا بابها عن الأرض، لئلا يدخلها إلاّ مَن أرادوا. وكانوا إذا أرادوا أن لا يدخلها أحد لا يريدون دخوله تركوه حتى يبلغ الباب، ثم يرمونه.
فلمّا بلغ ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ أربعين سنة بعثه الله بشيراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذن وسراجاً منيراً.(1/68)
بعض ما كان علية أهل الجاهلية
...
بعض ما كان عليه أهل الجاهلية:
ونذكر قبل ذلك شيئاً من أمور الجاهلية، وما كانت عليه قبل مبعث رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم
قال قتادة: ذُكر لنا أنّه كان بين آدم ونوح عشرة قرون، كلّهم على الهدى، وعلى شريعة من الحق، ثم اختلفوا بعد ذلك. فبعث الله نوحاً ـ عليه(1/68)
السّلام ـ. وكان أوّل رسول إلى أهل الأرض. قال ابن عبّاس في قوله تعالى: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً} 1، قال: "على الإسلام كلّهم". وكان أوّل ما كادهم به الشّيطان هو تعظيم الصّالحين، وذكر الله ذلك في كتابه في قوله: {وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدّاً وَلا سُوَاعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً} 2. قال ابن عبّاس: "كان هؤلاء قوماً صالحين. فلمّا ماتوا في شهر: جزع عليهم أقاربهم فصوروا صورهم".
وفي غير حديثه: "قال أصحابهم: لو صورناهم كان أشوق لنا إلى العبادة". قال: فكان الرّجل يأتي أخاه وابن عمّه فيعظمه، حتى ذهب ذلك القرن، ثم جاء قرن آخر، فعظموهم أشدّ من الأوّل، ثم جاء القرن الثّالث، فقالوا: ما عظم أوّلونا هؤلاء إلاّ وهم يرجون شفاعتهم عند الله، فعبدوهم.
فلمّا بعث الله إليهم نوحاً، وغرق من غرق أهبط الماء هذه الأصنام من أرضٍ إلى أرضٍ، حتى قذفها إلى أرض جدة. فلما نضب الماء بقيت على الشّطّ، فسفت الرّيح عليها التّراب، حتى وارتها.
عمرو بن لُحَيّ أوّل مَن غيّر دين إبراهيم:
وكان عمرو بن لُحَيِّ سيدُ خزاعة كاهناً وله رِئي من الجن فأتاه. فقال: "عجل السّير والظّعن من تهامة، بالسّعد والسّلامة، ائتِ جُِدَّة، تجد أصناماً معدة، فأوردها تهامة ولا تهب، وادع العرب إلى عبادتها تجب". فأتى جدّة فاستثارها، ثم حملها حتى أوردها تهامة.
ـــــــ
1 الآية 213 من سورة البقرة.
2 الآية 22 من سورة نوح.(1/69)
وحضر الحجّ، فدعا العرب إلى عبادتها، فأجابه عوف بن عذرة، فدفع إليه ودّاً فحمله، فكان بوادي القُرَى بِدومَة الْجَنْدَل. وسَمَّى ابنَه: عبدَ ودّ، فهو أوّل مَن سمّى به. فلم يزل بنوه يسدنونه، حتى جاء الإسلام، فبعث رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ خالد بن الوليد لهدمه، فحالت بينه وبينه بنو عُذرة، وبنو عامر فقاتلهم فقتلهم، ثم هدمه وجعله جُذاذاً.
وأجابت عَمْرَوَ بن لُحَيّ مُضَرُ بن نزار، فدفع إلى رجلٍ من هذيل سُواعاًن فكان بأرضٍ يقال لها: وُهاط، من بطن نخلة، يعبده مَن يليه من مضر. وفي ذلك قيل:
تراهم حول قبلتهم عكوفاً ... كما عكفت هذيل على سواع
وأجابته مَذْحج. فدفع إلى نعيم بن عمر الموادي يغوث، وكان بأكمة باليمن تعبده مذحج ومَن والاها.
وأجابته همدان فدفع إليهم يعوق. فكان بقرية يقال لها: خِيوان. تعبده همدان ومَن والاها من اليمن.
وأجابته حمير، فدفع إليهم نَسْراً، فكان بموضع بسبأ، تعبده حمير ومَن والاها. فلم تزل هذه الأصنام تعبد حتى بعث الله رسوله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ فكسّرها.
وفي الصّحيح عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ: "رأيت عمرو بن عامر الخزاعي يجر قُصْبه في النّار. فكان أوّل(1/70)
مَن سيّب السّوائب". وفي لفظ: "وغيّر دين إبراهيم"، وفي لفظ عن ابن إسحاق: "فكان أوّل مَن غيّر دين إبراهيم، ونصب الأوثان".
وكان أهل الجاهلية على ذلك، فيهم بقايا من دين إبراهيم، مثل تعظيم البيت، والطّواف به، والحجّ والعمرة، والوقوف بعرفة ومزدلفة، وإهداء البُدْن، وكانت نزار تقول في إهلالها: "لبّيك اللهم لبّيك، لبّيك لا شريك لك، إلاّ شريكاً هو لك، تملكه وما ملك"، فأنْزل الله: {ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلاً مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآياتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ}1.
صنم مناة:
ومن أقدم أصنامهم:مَنَاة. وكان منصوباً على ساحل البحر من ناحية المشلّل بقديدٍ، بين مكّة والمدينة. وكانت العرب تعظمه قاطبة، ولم يكن أحد أشدّ تعظيماً له من الأوس والخزرج، وبسبب ذلك أنزل الله تعالى: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} الآية2. فبعث رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ عليّاً ـ رضي الله عنه ـ فهدمها عام الفتح.
صنم اللات:
ثم اتّخذوا اللات في الطّائف، قيل: إنّ أصل ذلك رجل كان يَلّت السّويق للحاج، فمات. فعكفوا على قبره. وكانت صخرة مربعة، وكان سدنتها
ـــــــ
1 الآية 28 من سورة الرّوم.
2 الآية 158 من سورة البقرة.(1/71)
ثقيف، وكانوا قد بنوا عليها بيتاً، فكان جميع العرب يعظمونها، وكانت العرب تسمّى زيد اللات، وتيم اللات، وهي في موضع منارة مسجد الطّائف.
فلمّا أسلمت ثقيف، بعث رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ المغيرة بن شعبة فهدمها، وحرّقها بالنّار.
صنم العزى:
ثم اتّخذوا العزَّى. وهي أحدث من اللات. وكانت بوادي نخلة، فوق ذات عرق. وبنو عليها بيتاً، وكانوا يسمعون منها الصّوت، وكانت قيش تعظمها، فلمّا فتح رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ مكّة، بعث خالد بن الوليد فأتاها فعضدها، وكانت ثلاث سمُرات، فلمّا عضد الثّالثة فإذا هو بحبشية نافشة شعرها، واضعة يدها على عاتقها، تضرب بأنيابها وخلفها سادنها، فقال خالد:
يا عَزُّ كُفوانك لا سُبحانك ... إنّي رأيت الله قد أهانك
ثم ضربها ففلق رأسها، فإذا هي حممة. ثم قتل السّادن.
صنم هُبَل:
وكانت لقريش أصنام في جوف الكعبة وحولها. وأعظمها هُبَل، وكان من عقيق أحمر على صورة الإنسان. وكانوا إذا اختصموا، أو أرادوا سفراً أتوه، فاستقسموا بالقداح عنده، وهو الذي قال فيه أبو سفيان يوم أحد: "اعْلُ هبل"، فقال رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ: "قولوا: الله أعلى وأجل(1/72)
".وكان لهم إساف ونائلة، قيل: أصلهما أنّ إسافاً رجل من جُرْهُم، ونائلة امرأة منهم، فدخلا البيت، ففجر بها فيه. فسمخهما الله فيه حجرين، فأخرجوهما فوضعوهما ليتعظ بهما النّاس، فلمّا طال الأمد وعبدت الأصنام: عبدا.
ذو الخلصة:
وكان لخَشْعَم وبجِيلة صنم يقال: ذو الخَلَصة، بين مكّة والمدينة. فقال رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ لجرير بن عبد الله البجلي : "ألا تريحني من ذي الخلصة؟". فسار إليه بأحمس. فقاتلته همدان، فظفر بهم وهدمه.
وكان لقُضَاعة ولخم وجدام وعاملة وغطفان صنم في مشارف الشّام.
وكان لأهل كلّ وادٍ بمكّة صنم، إذا أراد أحدهم سفراً كان آخر ما يصنع في منْزله أن يتمسح به.
صنم عمّ أنس:
قال ابن إسحاق: وكان لخولان صنم، يقال له: عَمّ أنس، وفيهم أنزل الله : {وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالأَنْعَامِ نَصِيباً فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ}1.
فلمّا بعث الله محمّداً ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ بالتّوحيد، قالت قريش: {أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} 2.
وكانت العرب قد اتّخذت مع الكعبة طواغيت. وهي بيوت تعظمها كتعظيم الكعبة.
ـــــــ
1 الآية 136 من سورة الأنعام.
2 الآية 5 من سورة ص.(1/73)
ولما فتح رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ مكّة وجد حول البيت ثلاثمائة وستين صنماً، فجعل يطعن في وجوهها وعيونها، ويقول : {جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً} 1. وهي تتساقط على رؤوسها، ثم أمر بها فأخرجت من المسجد وحُرِّقت.(1/74)
بدء الوحي
...
بدء الوحي:
في الصّحيح عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ قالت: "أوّل ما بدئ برسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ من الوحي: الرّؤيا الصّادقة. فكان لا يرى رؤيا إلاّ جاءت مثل فَلَق الصّبح، ثم حُبِّب إليه الخلاء. فكان يخلو بغار حراء، فيتحنّث فيه ـ وهو التّعبّد ـ الليالي ذوات العدد، قبل أن يَنْزَع إلى أهله، ويتزوّد لذلك، ثم يرجع إلى خديجة فيتزوّد لمثلها؛ حتى فاجأه الحقّ، وهو في غار حراء، فجاءه الملك. فقال: اقرأ. فقلت: ما أنا بقاريءٍ. قال: فأخذني فغطّني، حتى بلغ مني الجَهْد. ثم أرسلني. قال: اقرأ، فقلت: ما أنا بقاريءٍ. فأخذني فغطّني الثّانية، حتى بلغ مني الجَهْد. ثم أرسلني. فقال: اقرأ. فقلت: ما أنا بقاريء. فأخذني الثّالثة فغطّني الثّالثة، ثم أرسلني، فقال لي في الثّالثة: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الإنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ}2. فرجع بها رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ يَرْجُف فؤاده، حتى دخل على خديجة بنت خويلد. فقال: زمّلوني، زمّلوني. فزمّلوه حتى ذهب عنه الرّوع، فقال لخديجة ـ وأخبرها الخبر
ـــــــ
1 الآية 81 من سورة الإسراء.
2 الآية 1-3 من سورة العلق.(1/74)
ـ لقد خشيت على نفسي. فقالت خديجة: كلا والله، ما يخزيك الله أبداً، إنّك لتصل الرّحم، وتحمل الكَلَّ، وتقري الضَّيف، وتُكْسِب المعدوم، وتعين على نوائب الحقّ. فانطلقت به خديجة حتى أتت به ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزى ـ ابن عمّ خديجة ـ وكان قد تنصر في الجاهلية. وكان يكتب الكتاب العبراني، فيكتب من الإنجيل بالعبرانية ما شاء الله أن يكتب، وكان شيخاً كبيراً قد عمي. فقالت له خديجة: يا ابن عم، اسمع من ابن أخيك. فقال له ورقة: يا ابن أخي، ما ذا ترى؟ فأخبره رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ خبرَ ما رأى. فقال له ورقة: هذا النّاموس الذي أنزل الله على موسى، يا ليتني فيها جذعاً، ليتني أكون حيّاً إذ يخرجك قومك؟ قال: أو مخرجيّ هم؟ قال: نعم، لم يأتِ رجل قط بمثل ما جئت به إلاّ عُودي. وإن يُدرِكْنِي يومك أنصرك نصراً مؤزراً".
ثم أنشد ورقة:
لججتَ، وكنت في الذّكرى لجوجاً ... لهمّ طالما بعث النّشيجا
ووصف من خديجة بعد وصف ... فقد طال انتظاري يا خديجا
ببطن المكتين على رجائي ... حديثَك أن أرى منه خروجاً
بما خبرتنا من قول قُسّ ... من الرّهبان أكره أن يعوجا
بأنّ محمّداً سيسود قوماً ... ويخصم من يكون له حجيجاً
ويظهر في البلاد ضياء نور ... يقيم به البرية أن تموجاً
فيلقى مَن يحاربه خساراً ... ويلقى مَن يسالمه فلوجاً
فيا لَيْتَنِي إذا ما كان ذاكم ...
شهدت، وكنت أوّلهم ولوجاً(1/75)
ولوجاص بالذي كرهت قريش ... ولو عَجّت بمكتها عجيجاً
أرَجّي بالذي كرهوا جميعاً ... إلى ذي العرش-إن سفلوا-عروجاً
وهل أمر السّفالة غير كفر ... بِمَن يختار من سَمَك البروجا
فإن يبقوا وأبقى تكن أمور ... يضجّ الكافرون لها ضجيجاً
وإن أهلك، فكلّ فتى سيلقى ... من الأقدار متلفة خروجاً
فلم يلبث ورقة أن توفّي، وفتر الوحي؛ حتى حزن رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ حزناً شديداً؛ حتى كان يذهب إلى رؤوس شواهق الجبال، يريد أن يُلْقِي بنفسه منها، كلّما أوفى بذروة جبل تَبَدّى له جبريل ـ عليه السّلام ـ فقال: "يا محمّد، إنّك رسول الله حقّا"، فيسكن لذلك جأشه وتَقَر نفسه، فيرجع، فإذا طال عليه فترة الوحي غدا لمثل ذلك، فإذا أوفى بذروة الجبل تبدى له جبريل، فيقول له ذلك.
فبينما هو يوماً يمشي إذ سمع صوتاً من السّماء. قال: فرفعت بصري فإذا الملك الذي جاني بحراء جالس على كرسي بين السّماء والأرض، فرُعِبْت منه، فرجعت إلى أهلي، فقلت: دثّروني. دثّروني. فأنّزل الله: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ}1 . فحمي الوحي وتتابع".
أنواع الوحي:
وكان الوحي الذي يأتيه ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ أنواع:
أحدها: الرّؤيا. قال عبيد بن عمر: "رؤيا الأنبياء وحي". ثم قرأ: في {إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ}2.
ـــــــ
1 الآيتان 1-2 من سورة المدّثر.
2 الآية 102 من سورة الصّافات.(1/76)
الثّاني : ما كان الملك يلقيه في رُوْعه ـ أي: قلبه ـ من غير أن يراه، كما قال ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ: "إنّ روح القدس نَفَث في روعي: أنّه لن تموت نفسٌ حتى تستكمل رزقها وأجلها، فاتّقوا الله وأجملوا في الطّلب، ولا يحملنكم استبطاء الرّزق على أن تطلبوه بمعصية الله. فإن ما عند الله لا يُنال إلاّ بطاعته".
الثّالث : أنّ الملك يتمثّل له رَجُلاً فيخاطبه. وفي هذه المرتبة كان يراه الصّحابة أحياناً.
الرّابع : أنّه كان يأتيه مثل صلصلة الجرس، وهو أشدّه عليه. فيلتبس به الملك. حتى إنّ جبينه لَيَتَفَصَّد عرقاً في اليوم الشّديد البرد. وحتى إن راحلته لتبرك به إلى الأرض. وجاءه مرة وفخذه على فخذ زيد بن ثابت، فكادت تُرَض.
ا لخامس : أن يأتيه الملك في الصّورة التي خلق عليها. فيوحي إليه ما شاء الله. وهذا وقع مرتّين كما ذكر الله سبحانه في سورة النّجم.
السّادس : ما أوحاه الله له فوق السّماوات ليلة المعراج، من فرض الصّلاة وغيرها.
قال ابن القيم ـ رحمه الله ـ: "أوّل ما أوحى إليه ربّه أن يقرأ بسم ربّه الذي خلق. وذلك أوّل نبوّته ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ. فأمره أن يقرأ في نفسه ولم يأمره بالتّبليغ. ثم أنزل الله عليه : {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ} 1. فنبّأه باقرأ، وأرسله بـ {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ }. ثم أمره أن ينذر عشيرته الأقربين. ثم
ـــــــ
1 الآيتان من سورة المدّثر.(1/77)
أنذر قومه، ثم أنذر مَن حولهم من العرب، ثم أنذر العرب قاطبة، ثم أنذر العالمين.
فأقام بضع عشرة سنة ينذر بالدّعوة من غير قتالٍ ولا جزية. ويأمره الله بالكفّ والصّبر، ثم أذن له في الهجرة، وأذن له في القتال. ثم أمره أن يقاتل مَن قاتله، ويكفّ عَمَن لم يقاتله، ثم أمره بقتال المشركين، حتى يكون الدّين كلّه لله.
أوّل مَن آمن:
ولما دعا إلى الله استجاب له عباد الله من كلّ قبيلةٍ، فكان حائز السّبق: صدِّيق الأمّة أبا بكر ـ رضي الله عنه ـ، فوازره في دين الله. ودعا معه إلى الله. فاستجاب لأبي بكر عثمان وطلحة وسعد ـ رضي الله عنهم ـ.
وبارد إلى استجابته أيضاً صدّيقة النّساء خديجة-رضي الله عنها-.
وبادر إلى الإسلام عليّ بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ، وكان ابن ثمان سنين، وقيل: أكثر؛ إذ كان في كفالة رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ، أخذه من عمه.
شأن زيد بن حارثة:
وبادر زيد بن حارثة ـ رضي الله عنه ـ حِبّ رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ، وكان غلاماً لخديجة، فوهبته لرسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ لمّا تزوّجها. وقدم أبوه حارثة وعمّه في فدائه، فقالا للنّبِيّ ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ: يا ابن سيّد قومه، أنتم أهل حرم الله وجيرانه، تَفُكّون العاني، وتطعمون الأسير، جئناك في ابننا عبدِك، فأحسن لنا في فدائه. فقال ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ: "فهل غير ذلك؟". فقالوا: وما هو؟ قال: "ادعوه فأخيره،(1/78)
فإن اختاركم فهو لكم، وإن اختارني فوالله ما أنا بالذي أختار على مَن اختارني". قالوا: قد زدتنا على النّصَف، وأحسنت. فدعاه. فقال: "هل تعرف هؤلاء؟"، قال: نعم. أبي وعمّي. قال: "فأنا مَن قد علمت، وقد رأيتَ صحبتي لك، فاختبرني، أو اخترهما". فقال: ما أنا بالذي أختار عليك أحداً، أنت مني مكان أبي وعمّي، فقالا: ويحك يا زيد، أتختار العبودية على الحريّة، وعلى أبيك، وعمّك، وأهل بيتك؟ قال: نعم. قد رأيت من هذا الرّجل شيئاً، ما أنا بالذي أختار عليه أحداً أبداً. فلمّا رأى رسولُ الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ ذلك، خرج إلى الحِجْر. فقال: "أشهدكم أنّ زيداً ابني، أرثه ويرثني". فلمّا رأى ذلك أبوه وعمّه طابت نفوسهما فانصرفا. ودُعِيَ زيد بن محمّدٍ، حتى جاء الله بالإسلام فنَزلت: {ادْعُوهُمْ لآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ}1 . قال الزهري: ما علمنا أحداً أسلم قبل زيد.
وأسلم ورقة بن نوفل. وفي جامع التّرمذي: "أنّ النّبِيّ ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ رآه في المنام في هيئة حسنة ".
ودخل النّاس في دين الله واحداً بعد واحدٍ، وقريش لا تنكر ذلك، حتى بادأهم بعيب دينهم وسبّ آلهتهم2. وأنّها لا تضرّ ولا تنفع. فحينئذٍ
ـــــــ
1 الآية 5 من سورة الأحزاب.
2 لم يكن رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ سباباً ولا شتّاماً ولا لعّاناً. وهو الذي أنْزل الله عليه:{ وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ } ، [سورة الأنعام، من الآية108]. وإنّما كان يتلوا عليهم ما ينْزله الله عليه من الآيات التي تكشف حقيقة أوليائهم وتجرّدهم مما كان شياطين الإنس والجن نسجوه حولهم في عقول النّاس من أكاذيب تجعلهم عند النّاس مقدسين كتدقيس الله. بل تجعل لهم من صفات الله ما يعتقدون أنّها تقدر على كلّ شيء، وتسمع وتجيب وغير ذلك مما يدعوهم إلى دعائهم والنّذر لهم والحلف بهم وغير ذلك. فحين كان يتلو عليهم رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ هذه الآيات، يشيع السّدنة أنّه يسب آلتهم ويعيبها.(1/79)
شمروا له ولأصحابه عن ساق العداوة، فحمى الله رسوله بعمّه أبي طالب؛ لأنّه كان شريفاً معظماً، وكان من حكمة أحكم الحاكمين بقاؤه على دين قومه، لما في ذلك من المصالح التي تبدو لِمَن تأمّلها.
وأمّا أصحابه: فَمَن كان له عشيرة تحميه امتنع بعشيرته، وسائرهم تصدّوا له بالأذى والعذاب، منهم: عمار بن ياسر، وأمّه سُمَيّة، وأهل بيته، عُذِّبوا في الله، وكان رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ إذا مرّ بهم وهم يعذّبون يقول: "صبراً يا آل ياسر؛ فإنّ موعدكم الجنّة".
سميّة أوّل شهيدة:
ومرَّ أبو جهل بِسُمّية ـ أم عمار رضي الله عنهما ـ وهي تُعَذّب، وزوجها وابنها، فطعنها بحربة في فرجها فقتلها.
وكان الصّديق إذا مرَّ بأحد من العبيد يُعذّب اشتراه وأعتقه. منهم: بلال.؛ فإنّه عُذّب في الله أشدّ العذاب. ومنهم: عامر بن فُهَيرة، وجارية لبني عدي، وكان عمر يُعَذّبها على الإسلام. فقال أبو قحافة ـ عثمان بن عامر ـ لابنه أبي بكر: يا بني، أراك تعتق رقاباً ضعافاً، فلو أعتقت قوماً جلداً يمنعونك؟ فقال: إنّي أريد ما أريد، وكان بلال كلّما اشتدّ به العذاب يقول: أحد، أحد.(1/80)
ابتداء الدعوة
...
ابتداء الدّعوة:
وقال الزّهري: لما ظهر الإسلام، أتى جماعة من كفار قريش إلى مَن آمن من عشائرهم، فعذّبوهم وسجنوهم، وأرادوا أن يفتنوهم عن دينهم. قال التّرمذي: "حدّثَنِي محمّد بن صالح عن عاصمٍ بن عمرو بن قتادة ويزيد(1/80)
بن رومان وغيرهم. قالوا: قام رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ بمكّة ثلاث سنين مستخفياً ثم أعلن في الرّابعة، فدعا النّاس عشر سنين يوافي المواسم كلّ عام، يتبع النّاس في منازلهم. وفي المواسم بعكاظ، ومِجَنّة، وذي المجاز يدعوهم أن يمنعوه حتى يبلغ رسالات ربّه، ولهم الجنّة، فلا يجد أحداً ينصره ويحميه. حتى ليسأل عن القبائل ومنازلها قبيلة قبيلة، فيقول: "أيّها النّاس! قولوا: (لا إله إلاّ الله) تفلحوا وتملكوا بها العرب، وتدين لكم بها العجم. فإذا متم كنتم ملوكاً في الجنّة"، وأبو لهب وراءه يقول: لا تطيعوه. فإنّه صابئ كذّاب، فيردّون على رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ أقبح الرّدّ، ويؤذونه، ويقولون: عشيرتك أعلم بك حيث لم يتبعوك، وهو يقول: "اللهم لو شئت لم يكونوا هكذا". ولما نزل عليه قوله تعالى: { وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ}1 . صعد الصّفا فنادى: "واصباحاه" فلمّا اجتمعوا إليه قال: "لو أخبرتكم أنّ خيلاً تريد أن تخرج عليكم من سَفْح هذا الجبل، أكنتم مصدّقي؟". قالوا: نعم، ما جربنا عليك كذباً. قال: "فإنّي نذير لكم بين يدي عذابٍ شديدٍ". فقال أبو لهب: تَبّاً لك، ما جمعتنا إلاّ لهذا؟ فأنْزل الله قوله تعالى: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ}2.
قال ابن القيم ـ رحمه الله ـ: دعا رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ إلى الله مستخفياً ثلاث سنين، ثم نزل عليه: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ}3.
ـــــــ
1 الآية 214 من سورة الشّعراء.
2 الآيتان 1-2 من سورة المسد.
والحديث رواه البخاري ومسلم والتّرمذي والنّسائي من حديث ابن عبّاس.
3 الآية 94 من سورة الحجر.(1/81)
أوّل دم أهريق:
وفي السّنة الرّابعة: ضرب سعد بن أبي وقاص رجلاً من المشركين فشَجّه: وذلك أنّ أصحاب رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ كانوا يجتمعون في الشّعاب؛ فيصلون فيها، فرآهم رجل من الكفار، ومعه جماعة من قريش، فسبّوهم، وضرب سعد بن أبي وقاص رجلاً منهم، فسال دمّه، فكان أوّل دم أهريق في الإسلام.
استهزاء المشركين:
وكان النّبِيّ ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ إذا جلس وحوله المستضعفون من أصحابه ـ مثل عمار بن ياسر، وخبّاب بن الأرتّ، وصُهيب الرّومي، وبلال، وأشباههم ـ فإذا مرت بهم قريش استهزؤا بهم، وقالوا: أهؤلاء جلساؤه ـ قد مَن الله عليهم من بيننا؟ فأنزل الله {أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ}1 .
وفيهم نزل: {وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} 2.
وقال أبو جهل: والله لئن رأيت محمّداً يصلي لأطأنَّ على رقبته. فبلغه أن رسول الله يصلي، فأتاه. فقال: ألم أَنْهَك عن الصّلاة؟ فانتهره رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ. فقال: أَتَنْتَهِرني وأنا أعزّ أهل البطحاء؟ فنَزل قوله تعالى: {أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى عَبْداً إِذَا صَلَّى}3 . وفي بعض الرّوايات أنّه قال: ألم أنهك؟ فوالله ما في مكّة أعزّ من ناديَّ.
ـــــــ
1 الآية 53 من سورة الأنعام.
2 الآية 41 من سورة النّحل.
3 الآتيان 9-10 من سورة العلق.(1/82)
وأخرج مسلم عن أبي هريرة قال: قال أبو جهل: "يعفر محمّد وجهه بين أظهركم؟ فقيل: نعم. فقال: واللات والعزى، لئن رأيته لأطأن على رقبته. فأتى رسولَ الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ وهو يصليّ، وزعم لَيَطَأَنَّ رقبته، فما فجأهم إلاّ وهو ينكص على عقبيه، ويتقي بيديه، وقال: بيني وبينه خِندق من نار وهول وأجنحة. فقال رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ: لو دنا مني لاختطفته الملائكة عضواً عضواً ". فأنْزل الله تعالى: ـ لا ندري في حديث أبي هريرة أو شيء بلغه ـ {كَلاّ إِنَّ الإنْسَانَ لَيَطْغَى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى}1.
ـــــــ
1 الآيتان 6-7 من سورة العلق.(1/83)
الهجرة الأولى إلى الحبشة
...
الهجرة الأولى إلى الحبشة:
وفي السّنة الخامسة، أمر النّبِي ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ أصحابه بالهجرة إلى الحبشة لما اشتدّ عليهم العذاب والأذى، وقال: "إنّ فيها رجلاً لا يُظلَم النّاس عنده".
وكانت الحبشة متجر قريش، وكان أهل هذه الهجرة الأولى اثني عشر رجلاً وأربع نسوة، وكان أوّل مَن هاجر إليها عثمان بن عفان ـ رضي الله عنه ـ، ومعه زوجته رقية بنت رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ وستر قوم إسلامهم.
ومِمَن خرج: الزّبير وعبد الرّحمن بن عوف وابن مسعود وأبو سلمة وامرأته ـ رضي الله عنهم ـ، خرجوا متسلّلين سرّاً، فوفق الله لهم ساعة وصولهم إلى السّاحل سفينتين للتّجار، فحملوهم إلى الحبشة، وخرجت قريش
ـــــــ
1 الآيتان 6-7 من سورة العلق.(1/83)
في آثارهم حتى جاءوا البحر، فلم يدركوا منهم أحداً، وكان خروجهم في رجب، فأقاموا بالحبشة شعبان ورمضان. ثم رجعوا إلى مكّة في شوّال، لمّا بلغهم أنّ قريشاً صافوا رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ وكَفُّوا عنه.
وكان سبب ذلك: أنّ رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ قرأ سورة النّجم، فلما بلغ: {أَفَرَأَيْتُمُ اللاتَ وَالْعُزَّى وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَى}1. ألقى الشّيطان على لسانه: "تلك الغرانيق العُلى، وإنّ شفاعتهن لترتجى" فقال المشركون: ما ذكر آلهتنا بخيرٍ قبل اليوم، وقد علمنا أنّ الله يخلق ويرزق ويحيى ويميت، ولكن آلهتنا تشفع عنده، فلما بلغ السّجدة سجد، وسجد معه المسلمون والمشركون كلّهم، إلاّ شيخاً من قريش، رفع إلى جبهته كفّاً من حصى فسجد عليه. وقال: يكفيني هذا2. فحزن النَّبِيّ ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ حزناً شديداً. وخاف من الله خوفاً عظيماً. فأنْزل الله : {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلاَّ إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ...} الآيات3.
ولما استمرّ النَّبِي ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ على سبّ آلهتهم، عادوا إلى شرّ مما كانوا عليه، وازدادوا شدّة على مَن أسلم.
ـــــــ
1 الآيتان 18-19 من سورة النّجم.
2 قد حقّق المحدِّثون: أنّ قصّة الغرانيق واهية. قال القاضي عياض: ((إنّ مَن ذكرها من المفسِّرين وغيرهم لم يسندها أحد منهم. ولا رفعها إلى صاحب إلاّ راوية البزار، وقد بين البزار أنّه لا يعرف من طريق يجوز ذكره، سوى ما ذكره. وفيه ما فيه)). اهـ. وإنّما سجد المشركون حين أخذتهم عظمة القرآن بقوّة أسلوبه وعظمة آياته، وحلال سحره، وعذوبة ألفاظه، وحلاوته الأخاذة. وبالأخص حين قرأه رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ. وتلاه حقّ تلاوته.
3 الآيات 52-55 من سورة الحج.(1/84)
الهجرة الثانية إلى الحبشة
...
الهجرة الثّانية إلى الحبشة :
فلمّا قرب مهاجرة الحبشة من مكّة، وبلغهم أمرهم، توقفوا عن الدّخول، ثم دخل كلّ رجل في جوار رجلٍ من قريش، ثم اشتدّ عليم البلاء والعذاب من قريش وسطت بهم عشائرهم، وصعب عليهم ما بلغهم عن النّجاشي من حسن جواره، فأذن لهم رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ في الخروج إلى الحبشة مرّةً ثانيةً فخرجوا.
وكان عدة مَن خرج في المرّة الثّانية ثلاثة وثمانين رجلاً ـ إن كان فيهم عمار بن ياسر ـ ومن النّساء تسع عشرة امرأة.
فلمّا سمعوا بمهاجر رسول الله إلى المدينة رجع منهم ثلاثة وثلاثون رجلاً، ومن النّساء ثمان. ومات منهم رجلان بمكة. وحبس سبعة. وشهد بدراً منهم أربعة وعشرون رجلاً.
كتاب رسول الله إلى النّجاشي يزوّجه أم حبيبة:
فلمّا كان شهر ربيع سنة سبع من الهجرة كتب رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ كتاباً إلى النّجاشي يدعوه إلى الإسلام. وكتب إليه أن يزوّجه أم حبيبة بنت أبي سفيان، وكانت مهاجرة مع زوجها عبد الله بن جحش. فتنصر هناك ومات نصرانياً.
وكتب إليه أيضاً أن يبعث إليه مَن بقي من أصحابه، فلمّا قرأ الكتاب أسلم. وقال: لو قدرت أن آتيه لأتيته، وزوّجه أم حبيبة، وأصدقها عنه أربعمائة دينار. وحمل بقية أصحابه في سفينتين. فقدموا على رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ بخيبر، وقد فتحها(1/85)
بعث قريش إلى النّجاشي تطلب إرجاع المسلمين:
ولمّا كان بعد بدر اجتمعت قريش في دار النّدوة. وقالوا: إنّ لنا في الذين عند النّجاشي ثأراً، فأجمعوا مالاً، وأهدوه إلى النّجاشي؛ لعلّه يدفع إليكم مَن عنده ولنَنْتَدِبْ لذلك رجلين من أهل رأيكم. فبعثوا عمرو بن العاص وعمارة بن الوليد1 مع الهدية، فركبا البحر. فلمّا دخلا على النّجاشي سجدا له، وسلما عليه، وقالا: قومنا لك ناصحون، وإنّهم بعثونا إليك لنحذّرك هؤلاء الذين قدموا عليك لأنّهم قوم اتّبعوا رجلاً كذاّباً. خرج فينا يزعم أنّه رسول الله، ولم يتبعه إلاّ السّفهاء فضيّقنا عليهم، وألجأناهم إلى شعبٍ بأرضنا، لا يخرج منهم أحد ولا يدخل عليهم أحد. فقتلهم الجوع والعطش؛ فلمّا اشتدّ عليهم الأمر، بعث إليك ابن عمّه ليفسد عليك دينك وملكك. فاحذرهم، وادفعهم إلينا لنكفيكهم، وآية ذلك: أنّهمك إذا دخلوا عليك لا يسجدون لك، ولا يحيّونك بالتّحيّة التي تُحَيَّى بها، رغبةً عن دينك.
فدعاهم النّجاشي. فلمّا حضروا صاح جعفر بن أبي طالب بالباب: "يستأذن عليك حزب الله"، فقال النّجاشي: مرّوا هذا الصّائح فليعد كلامه ففعل. قال: نعم. فليدخلوا بإذن الله وذمّته؛ فدخلوا ولم يسجدوا له. فقال: ما منعكم أن تسجدوا لي؟ قالوا: إنّما نسجد لله الذي خلقك وملّكك، وإنّما كانت تلك التّحيّة لنا ونحن نعبد الأوثان. فبعث الله فينا نبيّاً صادقاً، وأمرنا بالتّحيّة التي رضيها الله. وهي: "السّلام" تحيّة أهل الجنّة.
ـــــــ
1 وعند ابن هشام: أنّهم بعثوا معهما عبد الله بن أبي ربيعة.(1/86)
فعرف النّجاشي أنّ ذلك حقّ، وأنّه في التّوراة والإنْجيل.
فقال: أيّكم الهاتف يستأذن؟ فقال جعفر: أنّا. قال: فتكلّم.
قال: إنّك ملك لا يصلح عندك كثرة الكلام ولا الظلم. وأنا أحبّ أن أجيب عن أصحابي. فأمُرْ هاذين الرّجلين فليتكلّم أحدهما، فتسمع محاورتنا.
فقال عمرو لجعفر: تكلّم. فقال جعفر للنّجاشي: سله، أعبيد نحن أم أحرار؟ فإن كنا عبيداً أبقنا من أربابنا، فارددنا إليهم. فقال عمرو: بل أحرار كرام.
فقال: هل أهرقنا دماً بغير حقٍ فيقتص منا؟ قال عمرو: ولا قطرة.
فقال: هل أخذنا أموال النّاس بغير حقٍّ، فعلينا قضاؤها؟ فقال عمرو: لا قيراط.
فقال النّجاشي فما تطلبون منهم؟ قال: كنا نحن وهم على أمرٍ واحدٍ، على دين آبائنا. فتركوا ذلك واتّبعوا غيره.
فقال النّجاشي: ما هذا الذي كنتم عليه، وما الذي اتّبعتموه؟ قل: واصْدُقني.
فقال جعفر: أمّا الذي كنا عليه فتركناه. هو دين الشّيطان. كنا نفكر بالله، ونعبد الحجارة. وأمّا الذي تحوّلنا إليه: فدين الله الإسلامُ، جاءنا به من الله رسول وكتاب مثل كتاب ابن مريم موافقاً له.
فقال: تكلّمت بأمرٍ عظيمٍ، فعلى رِسْلك(1/87)
، ثم أمر بضرب النّاقوس، فاجتمع إليه كلّ قسيس وراهب. فقال لهم: أنشدكم الله الذي أنزل الإنْجيل على عيسى، هل تجدون بين عيسى وبين يوم القيامة نبيّاً؟ قالوا: اللهم نعم. قد بَشَّرَنَا به عيسى. وقال: مَن آمن به فقد آمن بِيَ، ومَن كفر به فقد كفر بِيَ.
فقال النّجاشي لجعفر ـ رضي الله عنه ـ: ماذا يقول لكم هذا الرّجل وما يأمركم به؟ وما ينهاكم عنه؟
فقال: يقرأ علينا كتاب الله ويأمرنا بالمعروف، وينهانا عن المنكر.
ويأمرنا بحسن الجوار، وصلة الرّحم، وبرّ اليتيم. ويأمرنا بأن نعبد الله وحده لا شريك له.
فقال: اقرأ مما يقرأ عليكم. فقرأ سورتي العنكبوت والرّوم. ففاضت عينا النّجاشي من الدّمع. فقال: زدنا من هذا الحديث الطّيّب. فقرأ عليه سورة الكهف.
فأراد عمرو أن يُغْضِب النّجاشي. فقال: إنّهم يشتمون عيسى وأمّه.
فقال: ما تقولون في عيسى وأمّه؟ فقرأ عليهم سورة مريم. فلما أتى على ذكر عيسى وأمّه رفع النّجاشي بقَشَّةٍ من سواكه قدر ما يقذي العين. فقال: والله ما زاد المسيح على ما تقولون نقيراً.
وفيه نزل قول الله تعالى: {وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ وَمَا لَنَا لا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ...} الآيات1.
ـــــــ
1 الآيات 83-85 من سورة المائدة.(1/88)
فأقبل النّجاشي على جعفر. ثم قال: اذهبوا فأنتم سُيوم بأرضي ـ والسّيوم الآمنون ـ من سَبّكم غرم. فلا هوادة1. اليوم على حزب إبراهيم.
موت النّجاشي:
ولَمّا مات النّجاشي، خرج رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ. فصّلى عليه كما يصلي على الجنائز. فقال المنافقون: يصلي على علجٍ مات بأرض الحبشة. فأنزل الله تعالى: {وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ...} الآية2.
وقيل: إنّ إرسال قريش في طلبهم كان قبل الهجرة إلى المدينة.
وفي سنة خمس من النّبوّة استتر رسول اله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ في دار الأرقم بن أبي الأرقم.
إسلام حمزة بن عبد المطلب:
وفي السّنة السّادسة أسلم حمزة بن عبد المطلب وعمر.
قال ابن إسحاق: مرَّ أبو جهل برسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ عند الصّفا، فآذاه ونال منه، ورسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ ساكت. فقام رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ ودخل المسجد. وكانت مولاة لعبد الله بن جدعان في مسكن لها على الصّفا، تسمع ما يقول أبو جهل. وأقبل حمزة من القَنص متوشحاً قوسه. وكان يسمّى: أَعَزَّ قريش. فأخبرته مولاة
ـــــــ
1 أي: لا محاباة ولا رخصة.
2 الآية 199 من سورة آل عمران.(1/89)
ابن جدعان بما سمعت من أبي جهل. فغضب. ودخل المسجد ـ وأبو جهل جالس في نادي قومه ـ فقال له حمزة: يا مُصَفّر اسْتَه، تشتمّ ابن أخي وأنا على دينه؟ ثم ضربه بالقوس فشَجّه مُوضِحه. فثار رجال من بني مخزوم، وثار بنو هاشم. فقال أبو جهل: دعو أبا عمارة؛ فإنّي سببت ابن أخيه سبّاً قبيحاً. فعلمت قريش أنّ رسول الله قد عَزَّ. فكفّوا عنه بعض ما كانوا ينالون منه.
إسلام عمر ـ رضي الله عنه ـ:
وعن ابن عمر أنّ رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ قال: "اللهم أعزَّ الإسلام بأحبّ الرّجلين إليك: إمّا عمر بن الخطاب، أو أبو جهل بن هشام". فكان أحبّهما إلى الله: عمر ـ رضي الله عنه ـ1.
وروي عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ أنّه قال لعمر ـ رضي الله عنه ـ: "لِمَ سمّيت الفاروق؟ فقال: أسلم حمزة قبلي بثلاثة أيام. ثم شرح الله صدري للإسلام. وأوّل شيء سمعته من القرآن وَوَقَر في صدري : {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى}2 . فما في الأرض نسمة أحبّ إليّ من نسمة رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ. فسألت عنه؟ فقيل لي: هو في دار الأرقم. فأتيت الدّار ـ وحمزة في أصحابه جلوساً في الدّار، ورسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ في البيت ـ فضربت الباب، فاستجمع القوم. فقال لهم حمزة: ما لكم؟ فقالوا: عمر. فخرج رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ. فأخذ بمجامع ثيابي. ثم نترني نترة لم أتمالك أن وقعت على ركبتي
ـــــــ
1 الحديث رواه أحمد في مسنده والتّرمذي وابن سعد والبيهقي مرفوعاً كما في كشف الخطأ.
2 الآية 8 من سورة طه.(1/90)
. فقال: ما أنت بمنتهٍ يا عمر؟ فقلت: أشهد أن لا إله إلاّ الله، وأنّك رسول الله، فكبّر أهل الدّار تكبيرةً سمعها أهل المسجد. فقلت: يا رسول الله، ألسنا على الحقّ، إن متنا أو حيينا؟ قال: بلى. فقلت: ففيم الاختفاء؟ والذي بعثك بالحقّ لنخرجنّ، فخرجنا في صفّين. حمزة في صفٍّ، وأنا في صفٍّ ـ له كديد ككديد الطّحن ـ حتى دخلنا المسجد. فلما نظرت إلينا قريش أصابتهم كآبة لم يصبهم مثلها قط. فسمّاني رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ: الفاروق".
وقال صهيب: لما أسلم عمر ـ رضي الله عنه ـ جلسنا حول البيت حِلقاً، فطفنا واستنصفنا مِمَن غلظ علينا.
حماية أبي طالب لرسول الله:
ولما رأت قريش أنّ رسول الله يتزايد أمرُه ويقوى، ورأوا ما صنع أبو طالب به. مشوا إليه بعمارة بن الوليد، فقالوا: يا أبا طالب، هذا أنهد فتى في قريش وأجمله. فخذه وادفع إلينا هذا الذي خالف دينك ودين آبائك فنقلته، فإنّما هو رجل برجلٍ. فقال: بئسما تسومونني، تعطوني ابنكم أربيه لكم وأعطيكم ابني تقتلونه؟! فقال المطعم بن عدي بن نوفل: يا أبا طالب، قد أنصفك قومك، وجهدوا على التّخلّص منك بكلّ طريقٍ. قال: والله ما أنصفتموني، ولكنك أجمعت على خذلاني. فاصنع ما بدا لك.
وقال أشراف مكّة لأبي طالب: إمّا أن تُخلى بيننا وبينه فنكفيكه. فإنّك على مثل ما نحن عليه، أو أجمِع لحربنا، فإنا لسنا بتاركي ابن أخيك(1/91)
على هذا، حتى نهلكه أو يكفّ عنا، فقد طلبنا التّخلّص من حربك بكلّ ما نظنّ أنّه يخلّص.
فبعث أبو طالب إلى رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ، فقال له: يا ابن أخي، إنّ قومك جاءوني، وقالوا: كذا وكذا، فأبِق عليَّ وعلى نفسك، ولا تحملني ما لا أطيق أنا ولا أنت. فاكْفْف عن قومك ما يكرهون من قولك. فقالـ صلّى الله عليه وسلّم ـ: "والله لو وضعوا الشّمس في يميني والقمر في يساري، ما تركت هذا الأمر حتى يُظهره الله، أو أهلك في طلبه". فقال: امض على أمرك، فوالله لا أسلمك أبداً.
ودعا أبو طالب أقاربه إلى نصرته فأجابه بنو هاشم وبنو المطلب، غير أبي لهب. وقال أبو طالب:
والله لن يصلوا إليك بجمعهم ... حتى أوسد في التّراب دفينا
فاصدع بأمرك ما عليك غضاضة ... وابشر وقَرَّ بذاك منك عيوناً
ودعوتني، وعرفتُ أنّك ناصحي ... ولقد صَدَقْتَ، وكنتَ ثم أميناً
وعرضت ديناً قد عرفت بأنّه ... من خير أديان البرية ديناً
لولا الملامة أو حِذار مسبّة ... لوجدتني سمحاً بذاك مبيناً
حصار بني هاشم في الشّعب :
ولما اجتمعوا ـ مؤمنهم وكافرهم ـ على منع رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ: اجتمعت قريش. فأجمعوا على أمرهم على أن لا يجالسوهم، ولا يبايعوهم ولا يدخلوا بيوتهم. حتى يُسْلِموا رسول الله للقتل.
وكتبوا بذلك صحيفة فيها عهود ومواثيق: "أن لا يقبلوا من بني هاشم(1/92)
صلحاً أبداً، ولا تأخذهم بهم رأفة حتى يسلموه للقتل". فأمرهم أبو طالب أن يدخلوا شَهبة فلبثوا فيه ثلاث سنين. واشتدّ عليهم البلاء، وقطعوا عنهم الأسواق. فلا يتركون طعاماً يدخل مكّة، ولا بيعاً إلاّ بادروا فاشتروه.
ومنعوا أن يصل شيء منه إلى بني هاشم. حتى كان يسمع أصوات نسائهم يتضاغون من وراء الشّعب من الجوع. واشتدّوا على مَن أسلم مِمَن لم يدخل الشّعب، فأوثقوهم،وعظمت الفتنة وزلزلوا زلزالاً شديداً، وكان أبو طالب إذا أخذ النّاس مضاجعهم، أمر رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ أن يضطجع على فراشه، حتى يرأى ذلك مَن أراد اغتياله. فإذا نام النّاس أمر أحد بنيه أو إخوانه أو بني عمّه فاضطجع على فراش رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ. وأمره أن يأتي أحد فُرُشهم.
وفي ذلك عمل أبو طالب قصيدته اللامية المشهورة التي قال فيها:
ولَمّا رأيت القوم لا وُدَّ فيهمو ... وقد قطعوا كلّ العُرَى والوسائل
وقد صارحونا بالعداوة والأذى ... وقد طاوعوا أمر العدوّ المزايل
صبرت لهم نفسي بسمراء سمحة ... وأبيض عضب من تراث المقاول
وأحضرت عند البيت رهطي وأسرتي ... وأمسكت من أثوابه بالوصائل
أعوذ بربّ النّاس من كلّ طاعن ... علينا بسوء، أو مُلِحّ بباطل
ومن كاشح يسعى لنا بمغيِظة ... ومن ملحق في الدّين ما لم يحاول
وثور، ومَن أرسَى ثَبيراً مكانه ...
وراقٍ لبرقَى في حِراء ونازل(1/93)
وبالبيت-حقّ البيت-من بطن مكّة ... وبالله. إنّ الله ليس بغافلٍ
وبالحجر المسود إذ يمسحونه ... إذا اكتنفوه بالضّحى والأصائل
وموطئ إبراهيم في الصّخر رطبه ... على قدميه حافياً غير ناعل
وأشواط بين المروتين إلى الصّفا ... وما فيهما من صورةٍ وتماثل
وبالمشعر الأقصى، إذا عمدوا له ... إلالٍ إلى مفضي الشّراج القوابل
ومَن حجّ بيت الله من كلّ راكبٍ ... ومن كلّ ذي نذرٍ، ومن كلّ راجلٍ
وليلة جَمْع والمنازل من منى ... وهل فوقها من حرمة ومنازل؟
فهل بعد هذا من معاذ لعائذ؟ ... وهل من معيذ يتقي الله عادل؟
كذبتم وبيت الله نترك مكّة ... ونظعن إلاّ أمركم في بلابل
كذبتم وبيت الله نبزي محمّداً ... ولما نُطاعن دونه ونناضل
ونسلمه حتى نُصَرَّع حوله ... ونُذْهَل عن أبنائنا والحلائل
وينهض قوم في الحديد إليكمو ... نهوض الرّاويا تحت ذات الصّلاصل
وإنا لَعَمْرُ الله إن جَدَّ ما أرى ... لَتُلْتَبِسَن أسيافُنا بالأماثل
بكفّي فتى مثل الشّهاب سَمَيْدَع ... أخي ثقة حامي الحقيقة باسل
وما تَرْكُ قوم ـ لا أبا لك ـ سيدا ...
يحوط الذّمار غير ذربٍ مواكل(1/94)
وأبيض يستسقي الغمام بوجهه ... ربيع اليتامى عِصْمة للأرامل
يلوذ به الهُلاَّك من آل هاشم ... فهم عنده في حرمة وفواضل
فعتبة، لا تسمع بنا قول كاشح ... حسود كذوب، مبغض ذي دغائل
ومَرَّ أبو سفيان غَنِي مُعْرض ... كما مرَّ قَيْلٌ من عظام المقاول
تفرّ إلى نجد وبَرْد مياهه ... وتزعم أنِّي لست عنك بغافل
أمُطْعِممُ، لم أخذلك في يوم نجدة ... ولا معظم عند الأمور الجلائل
أمطعم، إنّ القوم ساموك خِطَّة ... وإنّي متي أُوكَل فلستَ بآكلي
جزى الله عنا عبد شمس ونوفلا ... عقوبة شرّ عاجلاً غير آجلٍ
فعبد مناف أنتمو خير قومكم ... فلا تشركوا في أمركم كلّ واغلٍ
وكنتم حديثاً حَطْبَ قِدْر، فأنتمو ... الآن حِطاب أقْدرُ ومراجل
فكلّ صديقٍ وابن أخت نعدّه ... لعمري وجدنا غِبّه غير طائلٍ
سوى أنّ رهطاً من كلاب بن مرّة ... بَرَاءٍ إلينا من مَعَقّةِ خاذل
ونعم ابن أخت القوم غير مكذب ... زهيراً حساماً مفرداً من حمائل
لعمري لقد كُلِفتُ وجداً بأحمد ... وإخوته، دأب المحبّ المواصل
فمَن مثله في النّاس أيّ مؤمل ...
إذا قاسه الحكام عند التّفاضل؟
...(1/95)
حليم رشيد عادل، غير طائش ... يوالي إلهاً ليس عنه بغافل
فوالله لولا أن أجيء بسبة ... تُجَر على أشياخنا في المحافل
لكنّا اتّبعناه على كلّ حالة ... من الدّهر جدّاً، غير قول التّهازل
لقد علموا أنّ ابننا لا مكذّب ... لدينا، ولا يُعْنى بقول الأباطل
حَدَبْت بنفسي دونه، وحميتُه ... ودافعت عنه بالذّرى والكلاكل
نقض الصّحيفة:
ثم بعد ذلك مشى هشام بن عمرو من بني عامر بن لؤي. وكان يصل بني هاشم في الشّعب خفية باللّيل بالطّعام ـ مشى إلى زهير بن أبي أمية المخزومي ـ وكانت أمه عاتكة بنت عبد المطلب ـ وقال: يا زهير، أرضيت أن تأكل الطّعام وتشرب الشّراب، وأخوالك بحيث تعلم؟ فقال: ويحك، فما أصنع وأنا رجل واحد؟ أمَا والله لو كان معي رجل آخر لقمت في نقضها. قال: أنا. قال: ابغِنا ثالثاً. قال: أبو البختري بن هشام. قال: ابغنا رابعاً: قال: زمعة بن الأسود. قال: ابغنا خامساً. قال: المطعم بن عدي. قال: فاجتمعوا عند الحجون، وتعاقدوا على القيام بنقض الصّحيفة.
فقال زهير: أنا أبدأ بها، فجاءوا إلى الكعبة، وقريش محدقة بها فنادى زهير: يا أهل مكّة، إنا نأكل الطعام، ونشرب الشّراب، ونلبس الثّياب، وبنو هاشم هَلْكَى، والله لا أقعد حتى تُشَقَّ هذه الصّحيفة القاطعة الظّالمة.
فقال أبو جهل: كذبت. والله لا تشق. فقال زمعة: أنت والله أكذب ما رضينا كتابتها حين كُتِبَت(1/96)
.وقال أبو البختري: صدق زمعة، لا نرضى ما كتب فيها ولا نقار عليه.
فقال المطعم بن عدي: صدقتما. وكذب مَن قال غير ذلك، نبرأ إلى الله منها ومما كتب فيها.
وقال هشام بن عمر نحو ذلك.
فقال أبو جهل:هذا أمر قد قضي بليل،تُشُووِرَ فيه بغير هذا المكان.
وبعث الله على صحيفتهم الأرَضة، فلم تترك اسماً لله إلاّ لحسته، وبقي ما فيها من شركٍ وظلمٍ وقطيعةٍ، وأطلع الله رسوله على الذي صنع بصحيفتهم فذكر ذلك لعمه. فقال: لا والثّواقب ما كذبتنِي.
فانطلق يمشي بعصابة من بني عبد المطلب، حتى أتى المسجد وهو حافل من قريش. فلمّا رأوهم ظنّوا أنّهم خرجوا من شدّة الحصار، وأتوا ليعطوهم رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ. فتكلّم أبو طالب. فقال: قد حدث أمر؛ لعلّه أن يكون بيننا وبينكم صلحاً، فائتوا بصحيفتكم؛ وإنّما قال ذلك خشية أن ينظروا فيها قبل أن يأتوا بها، فلا يأتون بها، فأتوا بها معجبين، لا يشكّون أنّ رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ مدفوع إليهم، قالوا: قد آن لكم أن تفيئوا وترجعوا خطراً لهلكة قومكم. فقال أبو طالب: لأعطينكم أمراً فيه نَصَف، إنّ ابني أخبرني ـ ولم يكذّبنِي ـ أنّ الله ـ عزّ وجلّ ـ بريء من هذه الصّحيفة التي في أيديكم، وأنّه محا كلّ اسمٍ له فيها، وترك فيها غدركم، وقطيعتكم، فإن كان ما قال حقّاً، فوالله لا نسلمه إليكم حتى نموت عن آخرنا، وإن كان الذي يقول باطلاً، دفعناه لكم فقتلتموه، أو استحييتموه(1/97)
قالوا: قد رضينا، ففتحوا الصّحيفة فوجدوها كما أخبر. فقالوا: هذا سحر من صاحبكم، فارتكسوا وعادوا إلى شرّ ما هم عليه.
فتكلّم عند ذلك النّفر الذين تعاقدوا ـ كما تقدم ـ وقال أبو طالب شعراً يمدح النّفر الذين تعاقدوا على نقض الصّحيفة. ويمدح النّجاشي، منه:
جزى الله رهطاً بالحجون تتابعوا ... على ملأ، يُهْدَى بحزم ويرشد
أعان عليها كلّ صقر كأنّه ... إذا ما مشى في رفرف الدّرع أجرد
قعوداً لدى جنب الحجون كأنّهم ... مقاولة، بل هم أعزّ وأمجد
وأسلم هشام بن عمرو يوم الفتح.
وخرج بنو هاشم من شعبهم وخالطوا النّاس. وكان خروجهم في سنة عشر من النّبوّة. ومات أبو طالب بعدها بستة أشهر.
موت خديجة وأبي طالب:
وماتت خديجة أم المؤمنين ـ رضي الله عنها ـ بعد موت أبي طالب بأيامٍ؛ فاشتدّ البلاء على رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ من قومه بعد موت خديجة وعمّه، وتجرأوا عيه، وكاشفوه بالأذى، وأرادوا قتله. فمنعهم الله من ذلك.
قال عبد الله بن عمرو بن العاص ـ رضي الله عنهما ـ: "حضرتهم. وقد اجتمع أشرافهم في الحِجْر، فذكروا رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقالوا: ما رأينا مثل صبرنا عليه، سَفّه أحلامنا. وشتم آباءنا. وفرّق جماعتنا. فبينما هم في ذلك، إذ أقبل. فاستلم الرّكن. فلمّا مرّ بهم غمزوه".(1/98)
وفي حديث: أنّه قال لهم في الثّانية: "لقد جئتكم بالذّبح". وأنّهم قالوا له: يا أبا القاسم، ما كنت جَهولاً، فانْصَرِف راشداً1.
فلمّا كان من الغد اجتمعوا فقالوا: ذكرتم ما بلغ منكم، حتى إذا أتاكم بما تكرهون تركتموه، فبينما هم كذلك، إذ طلع عليهم، فقالوا: قوموا إليه وَثْبَة رجلٍ واحدٍ، فلقد رأيت عُقْبَة بن أبي عُقبة بن أبي مُعَيْط آخذاً بمجامع ردائه، وقام أبو بكر دونه وهو يبكي، يقول: أتقتلون رجلاً أن يقول ربّي الله؟
وفي حديث أسماء: "فأتى الصّريخ إلى أبي بكر. فقالوا: أدرك صاحبك، فخرج من عندنا وله غدائر أربع، فخرج وهو يقول: ويلكم، أتقتلون رجلاً أن يقول ربّي الله؟ فلهوا عند، وأقبلوا على أبي بكر. فرجع إلينا لا يمس شيئاً من غدائر إلاّ رجع معه".
ومرّة كان يصلّي عند البيت، ورهط من أشرفهم يرونه، فأتى أحدهم بسلا جَزور. فرماه على ظهره.
وكانوا يعملون صدقه وأمانته، وأنّ ما جاء به هو الحقّ، لكنّهم كما قال الله تعالى: {فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ}2.
وذكر الزّهري: "أنّ أبا جهل، وجماعة معه، وفيهم الأخنس بن شريق، استمعوا قراءة رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في اللّيل،
ـــــــ
1 الحديث رواه البيهقي عن الحاكم عن الأصم عن أحمد بن عبد الجبار عن يونس عن محمّد بن إسحاق.
2 الآية 33 من سورة الأنعام.(1/99)
فقال الأخنس لأبي جهل: يا أبا الحكم! ما رأيك فيما سمعت من محمّد؟ فقال: تنازعنا نحن وبنو عبد مناف الشّرف: أطعموا فأطعمنا. وحملوا فحملنا. وأعطوا فأعطينا. حتى إذا تجاثينا على الرّكَب، وكنا كفرسي رهان، قالوا: منا نَبِيٌّ يأتيه الوحي من السّماء! فمتى ندرك هذا؟ والله لا نسمع له أبداً، ولا نصدّقه أبداً".
وفي رواية: "إنّي لأعم أنّ ما يقول حقّ، ولكن بني قُصَيّ قالوا: فينا النّدوة. فقلنا: نعم. قالوا: وفينا الحجابة. فقلنا: نعم. قالوا: فينا السّقاية. فقلنا: نعم..." وذكر نحوه.
سؤالهم عن الرّوح وأهل الكهف:
وكانوا يرسلون إلى أهل الكتاب يسألونهم عن أمره.
قال ابن إسحاق عن ابن عبّاس: "بعث قريش النّضر بن الحارث، وعقبة بن أبي مُعَيط، إلى أحبار بالمدينة، فقالوا لهما: سلاهم عن محمّد، وصفا لهم صفته؛ فإنّهم أهل الكتاب. وعندهم ما ليس عندنا من علم الأنبياء.
فخرجا حتى قدما المدينة، فسألاهم عنه، ووصفا لهم أمره. فقالت لهما أحبار اليهود: سلوه عن ثلاث، فإن أخبركم بهن فهو نبِيّ مرسل، وإلاّ فهو رجل متقول. سلوه عن فِتْيَةٍ ذهبوا في الدّهر الأوّل: ما كان أمرهم؟ فإنّه قد كان لهم حديث عجيب. وسلوه عن رجلٍ طوّاف قد بلغ مشارقَ الأرض ومغاربها. فما كان نبؤه؟ وسلوه عن الرّوح ما هو؟
فأقبلا حتى قدما مكّة، فقالوا: قد جئناكم بفصلٍ ما بينكم وبين محمّد. قد أخبرنا أحبار يهود أنّ نسأله عن أشياء أمرونا بها. فجاءوا(1/100)
رسول الله، فسألوه عمّا أخبرهم أحبار يهود. فجاءه جبريل بسورة الكهف فيها خبر ما سألوه عنه. من أمر الفتية، والرّجل الطّوّاف، وجاءه بقوله: {وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الرُّوحِ} 1.
قال ابن إسحاق: فافتتح السّورة بحمده وذكر نبوّة رسوله لما أنكروا عليه من ذلك. فقال: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ}2 . يعني: أنّك رسول منِي، أي: تحقيق ما سألوه من نبوّتك {وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا} 3. أي: أنْزله معتدلاً، لا خلاف فيه ـ وذكر تفسير السّورة ـ إلى أن قال: {أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَباً}4 . أي: ما رأوا من قدرتي في أمر الخلائق، وفيما وضعت على العباد من حججي ما هو أعظم من ذلك وأعجب.
وعن ابن عبّاس: الذي آتيتك من الكتاب والسّنة أعظم من شأن أصحاب الكهف. قال ابن عباس: والأمر على ما ذكروا؛ فإن مكثهم نياماً ثلاثمائة سنة آية دالة على قدرة الله ومشيئته، وهي آية دالة على معاد الأبدان، كما قال تعالى: { وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لا رَيْبَ فِيهَا} 5. وكان النّاس قد تنازعوا في زمانهم، هل تعاد الأرواح وحدها؟ أم الأرواح والأبدان؟ فجعلهم الله آية دالة على معاد الأبدان، وإخبار النّبِيّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ بقصّتهم، من غير أن يُعَلِّمه
ـــــــ
1 الآية 85 من سورة الإسراء.
2 الآية 1 من سورة الكهف.
3 الآية 1 من سورة الكهف.
4 الآية 9 من سورة الكهف.
5 الآية 21 من سورة الكهف.(1/101)
َشَرٌ، آية دالة على نبوّته، فكانت قصّتهم آية دالة على الأصول الثّلاثة: الإيمان بالله، ورسوله، واليوم الآخر. ومع هذا فمن آيات الله ما هو أعجب من ذلك.
وقد ذكر الله سبحانه وتعالى سؤالهم عن هذه الآيات التي سألوه عنها ليعلموا هل هو نبِيّ صادق، أو كاذب؟ فقال: {وَيَسْأَلونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْراً} الآيات1.
وقوله: {لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِلسَّائِلِينَ} إلى قوله: {إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ} 2.
والقرآن مملوء من إخباره بالغيب الماضي الذي لا يعلمه أحد من البشر إلاّ من جهة الأنبياء، لا من جهة الأولياء، ولا من جهة غيرهم. وقد عرفوا أنّه ـ صلى الله عليه وسلم ـ لا يتعلم هذا من بشر. ففيه آية وبرهان قاطع على صدقه ونبوّته.
قول الوليد بن المغيرة في القرآن "سحر":
وعن ابن عباس قال : "إنّ الوليد بن المغيرة، جاء إلى النَّبِيّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقال: اقرأ عليَّ، فقرأ عليه: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى} الآية3. فقال: أعد، فأعاد. فقال: والله إنّ له لحلاوة، وإنّ عليه لطلاوة، وإنّ أعلاه لمثمر، وإنّ أسفله لمغدِق، وإنّه ليعلو ولا يُعْلَى عليه. وإنّه ليَحْصِمُ ما تحته وما يقول هذا بشر".
ـــــــ
1 الآية 83-100 من سورة الكهف.
2 الآيات 7-102 من سورة يوسف.
3 الآية 90 من سورة النّحل.(1/102)
وفي رواية: "وبلغ ذلك أبا جهل، فأتاه. فقال: يا عمّ، إنّ قومك يريدون أن يجمعوا لك مالاً. قال: ولم؟ قال: أتيت محمّداً لتعوض مما قِبَلَه. قال: قد علمت قريش أنّي من أكثرها مالاً. قال: فقل فيه قولاً يبلغ قومك أنّك منكر له. قال: ما ذا أقول؟ فوالله ما فيكم أعلم بالأشعار مني...الخ".
وفي رواية أن الوليد بن المغيرة قال لهم ـ وقد حضر الموسم ـ: "ستقدم عليكم وفود العرب من كلّ جانبٍ، وقد سمعوا بأمر صاحبكم. فأجمعوا فيه رأياً، ولا تختلفوا؛ فيكذب بعضكم بعضاً. فقالوا: فأنت فقل. فقال: بل قولوا وأنا أسمع. قالوا: نقول: كاهن. قال: ما هو بزمزة الكهان، ولا سجعهم. قالوا: نقول: مجنون، قال: ما هو بمجنون. لقد رأينا الجنون وعرفناه. فما هو بخنقه، ولا وسوسته ولا تخالجه. قالوا: نقول: شاعر. قال: ما هو بشاعرٍ. لقد عرفنا الشّعر؛ رَجَزه وهزجه، وقريضه ومقبوضه، ومبسوطه. قالوا: نقول: ساحر، قال: ما هو بساحرٍ. لقد رأينا رأينا السّحرة وسحرهم، فما هو بعقدهم ولا نفقهم، قالوا: فما نقول يا أبا عبد شمس؟ قال: ما نقول من شيء من هذا إلاّ عرف أنّه باطل. وإنّ أقرب القول، أن تقولوا: ساحر، يفرق بين المرء وأخيه، وبين المرء وزوجه، وبين المرء وعشيرته فتفرّقوا عنه بذلك. فجعلوا يجلسون للنّاس، لا يمرّ بهم أحد إلاّ حذّروه رسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ: فأنْزل الله في الوليد بن المغيرة: {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً} إلى قوله: {سَأُصْلِيهِ سَقَرَ} 1.
ـــــــ
1 الآيات 11-26 من سورة المدّثر.(1/103)
ونزل في النّفَر الذين كانوا معه يصنّفون القول في رسول الله، وفيما جاء به من عند الله: {الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ} 1. أي: أصنافاً.
وكانوا يسألون رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ الآيات، فمنها ما يأتيهم الله به، لحكمة أرادها الله سبحانه.
انشقاق القمر:
فمن ذلك أنّهم سألوه أن يريهم آية، فأراهم انشقاق القمر. وأنْزل قوله: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ} إلى قوله: {وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ} 2. فقالوا: سحركم، انظروا إلى السُّفار، فإن كانوا رأوا مثل ما رأيتم فقد صدق. فقدموا من كلّ وجهٍ. فقالوا: رأينا.
وكان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ربما طلب من الآيات ـ التي يقترحون ـ رغبة منه في إيمانهم، فيجاب بأنّها لا تستلزم الهدى. بل توجب عذاب الاستئصال لِمَن كذب بها.
سؤالهم الآيات:
والله سبحانه قد يظهر الآيات الكثيرة، مع طبعه على قلب الكافر، كفرعون، قال تعالى: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا} إلى قوله: {وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ} 3.
وقال تعالى: {وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالآياتِ إِلاَّ أَنْ كَذَّبَ بِهَا الأَوَّلُونَ} الآية4.
ـــــــ
1 الآية 91 من سورة الحجر.
2 الآيات 1-3 من سورة القمر.
3 الآيات 109-111 من سورة الأنعام.
4 الآية 59 من سورة الإسراء.(1/104)
بيّن سبحانه وتعالى أنّه ما منعه أن يرسل بها إلاّ أن كذب بها الأوّلون، فإذا كذب هؤلاء كذلك استحقّوا عذاب الاستئصال.
وروى أهل التّفسير، وأهل الحديث عن ابن عباس. قال: "سأله أهل مكّة أن يجعل لهم الصّفا ذهباً، وأن يُنَحِّي عنهم الجبال حتى يزرعوا. فقيل له: إن شئت نستأنى بهم، وإن شئت أن نؤتيهم الذي سألوا فإن كفروا هلكوا، كما هلك مَن قبلهم. فقال: بل أستأنى بهم؛ فأنْزل الله: {وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ إِلاَّ أَنْ كَذَّبَ بِهَا الأَوَّلُونَ} الآية1.
وروى ابن أبي حاتم عن الحسن في الآية. قال: رحمة لكم أيّها الأمّة، إنا لو أرسلنا بالآيات، فكذبتم بها أصابكم ما أصاب مَن قبلكم. وكانت الآيات تأتيهم آية بعد آية. فلا يؤمنون بها، قال تعالى: {وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلاَّ كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ} الآيات2.
أخبر سبحانه بأنّ الآيات تأتيهم فيعرضون عنها، وأنّهم سيرون صدق ما جاءت به الرّسل، كما أهلك الله مَن كان قبلهم بالذّنوب التي هي تكذيب الرّسل، فإنّ الله سبحانه وتعالى يقول: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولاً} الآية3. وأخبر بشدّة كفرهم بأنّهم لو أنْزل عليهم كتاباً في قرطاس فلمسوه بأيديهم، لكذبوا به، وبيّن سبحانه أنّه لو جعل الرّسول ملكاً لجعله على صورة الرّجل؛ إذ كانوا لا يستطيعون أن يروا الملائكة في صورهم التي خلقوا عليها. وحينئذٍ يقع اللبس عليهم، لظنّهم
ـــــــ
1 الآية 59 من سورة الإسراء.
2 الآيات من 4-6 من سورة الأنعام.
3 الآية 59 من سورة القصص.(1/105)
الرّسول بشراً لا ملكاً. وقال تعالى: {وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنْبُوعاً} الآيات1.
وهذه الآيات لو أجيبوا إليها، ثم لم يؤمنوا لأتاهم عذاب الاستئصال، وهي لا توجب الإيمان، بل إقامة للحجّة، والحجّة قائمة بغيرها، وهي أيضاً مما لا يصلح فإنّ قولهم: {حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنْبُوعاً} ، يقتضي تفجيرها بمكّة، فيصير وادياً ذا زرع، والله سبحانه وتعالى قضى بسابق حكمته أن جعل بيته بواد غير ذلك زرعٍ، لئلا يكون عنده ما ترغب النّفوس فيه من الدّنيا؛ فيكون حجهم للدّنيا.
وإذا كانت له جنة من نخيل وعنب كان في هذا من التّوسّع في الدّنيا ما يقتضي نقص درجته.
وكذلك إذا كان له قصر من زخرف؛ وهو الذّهب.
وأمّا إسقاط السّماء كِسَفاً؛ فهذا لا يكون إلاّ يوم القيامة.
وأمّا الإتيان بالله والملائكة قبيلاً فهذا لما سأل قوم موسى موسى ما هو دونه أخذتهم الصّاعقة، وقال تعالى: {يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَاباً مِنَ السَّمَاءِ} الآيات2.
بيّن سبحانه أنّ المشركين وأهل الكتاب سألوه إنزال كتاب من السّماء، وبيّن أنّ الطّائفتين لا يؤمنون إذا جاءهم ذلك، وأنّهم إنّما سألوه تعنتاً، فقال عن المشركين: {وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَاباً فِي قِرْطَاسٍ} الآية3.
ـــــــ
1 الآيات من 90-96 من سورة الإسراء.
2 الآيات من 153-161 من سورة النّساء.
3 الآية 7 من سورة الأنعام.(1/106)
وقال عن أهل الكتاب: {فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ }. إلى قوله: {مِيثَاقاً غَلِيظاً } 1. فهم ـ مع هذا ـ نقضوا الميثاق، وكفروا بآيات الله، وقتلوا النّبيّين، فكان فيه من الاعتبار: أنّ الذين لا يهتدون إذا جاءتهم الآيات المقترحة لم يكن في مجيئها منفعة لهم، بل فيها وجوب عقوبة عذاب الاستئصال إذا لم يؤمنوا، وتغليظ الأمر عليهم، كما قال تعالى: {فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا} الآية2.
ولما طلب الحواريون من المسيح المائدة، كانت من الآيات الموجبة لِمَن كفر بها عذاباً، لم يعذّب الله به أحداً من العالمين، وكان قبل نزول التّوراة يهلك الله المكذّبين بالرّسل بعذاب الاستئصال عاجلاً. وأظهر آيات كثيرة لما أرسل موسى ليبقى ذكرها في الأرض؛ إذ كان بعد نزول التّوراة لم يهلك أمة بعذاب الاستئصال، كما قال تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الأُولَى}3 . بل كان بنو إسرائيل لما كانوا يفعلون ما يفعلون ـ من الكفر والمعاصي ـ يعذّب الله بعضهم ويبقي بعضهم، إذ كانوا لا يتفون على الكفر، ولم يزل في الأرض منهم أمة باقية على الصّلاح. قال تعالى: {وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الأَرْضِ أُمَماً مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذَلِكَ} الآية4.
وقال: {مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ} الآيتين5.
ـــــــ
1 الآيتان 153-154 من سورة النّساء.
2 الآية 160 من سورة النّساء.
3 الآية 43 من سورة القصص.
4 الآية 168 من سورة الأعراف.
5 الآيتان 113-114 من سورة آل عمران.(1/107)
وكان من حكمته تعالى ورحمته لما أرسل محمّداً ـ صلى الله عليه وسلم خاتم المرسلين ـ أن لا يهلك قومه بعذاب الاستئصال، بل عذب بعضهم بأنواع العذاب كالمستهزئين الذين قال الله فيهم : {إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئينَ} الآيات1.
والذي دعا عليه النَّبِيّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن يسلط عليه كلباً من كلابه فافترسه الأسد، كما قال تعالى : {قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلاَّ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِه} ا لآية2.
فأخبر سبحانه أنّه يعذّب الكفار تارة بأيدي المؤمنين بالجهاد والحدود، وتارة بغير ذلك؛ فكان ذلك مما يوجب إيمان أكثرهم، كما جرى لقريش وغيرهم؛ فإنّه لو أهلكهم لبادوا، وانقطعت المنفعة بهم، ولم يبق لهم ذريّة تؤمن، بخلاف ما عذبهم به من الإذلال والقهر، فإنّ في ذلك ما يوجب عجزهم، والنّفوس إذا كانت قادرة على كمال أغراضها، فلا تكاد تنصرف عنها، بخلاف عجزها عنها؛ فإنّه يدعوها إلى التّوبة، كما قيل: "من العصمة أن لا تقدر"، ولهذا آمن عامتهم.
وقد ذكر الله في التّوراة لموسى: "إنّي أُقَسي قلب فرعون. فلا يؤمن بك لتظهر آياتي وعجائبي".
بيّن أنّ في ذلك من الحكمة: انتشار آياته الدّالّة على صدق أنبيائه في الأرض إذ كان موسى أخبر بتكليم الله له، وبكتابة التّوراة له، فأظهر
ـــــــ
1 الآيات من 95-99 من سورة الحجر.
2 الآية 52 من سورة براءة.(1/108)
له من الآيات ما يبقى ذكره في الأرض، وكان في ضمن ذلك: "ومن تقسية قلب فرعون ما أوجب هلاكه وهلاك قومه".
وفرعون كان جاحداً للصّانع. فلذلك أوتي موسى من الآيات ما يناسب حاله.
وأما بنو إسرائيل ـ مع المسيح ـ فكانوا مقرّين بالكتاب الأوّل. فلم يحتاجوا إلى مثل ما احتاج إليه موسى. ولم يكن محتاجاً إلى جنس تقرير النّبوّة، إذ كانت الرّسل قبله جاءت بما يثبت ذلك. وإنّما الحاجّة إلى تثبيت نبوّته.
ومع هذا فقد أظهر الله على يديه من الآيات مثل آيات مَن قبله وأعظم، ومع هذا لم يأتِ بآيات الاستئصال، بل بيّن الله في القرآن أنّها لا تنفعهم بل تضرّهم؛ لأنّه علم أنّ قلوبهم كقلوب الأوّلين. كما قال تعالى: {كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ أَتَوَاصَوْا بِه} الآية1.
وقال تعالى: {كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ} الآية2.
وقال تعالى: {أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولَئِكُمْ}. الآية3.
وسورة اقتربت التي ذكر فيها انشقاق القمر، وإعراضهم عن الآيات، وقولهم: {سِحْرٌ مُسْتَمِر} 4. وقال فيها: {وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنَ الأَنْبَاءِ مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ}5.
ـــــــ
1 الآيتان 52-53 من سورة الذّاريات.
2 الآية 118 من سورة البقرة.
3 الآية 43 من سورة البقرة.
4 الآية 2 من سورة القمر.
5 الآية 4 من سورة القمر.(1/109)
أي: يزجرهم عن الكفر زجراً شديداً، إذ كان في تلك الأنباء صدق الرّسل والإنذار بالعذاب الذي وقع بالمتقدمين.
ولهذا يقول عقيب كلّ قصّة: {فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ} 1. أي: عذابي لِمَن كذب رسلي، وإنذاري لهم بذلك قبل مجيئه.
ثم قال: {أَكُفَّارُكُمْ} أيّتها الأمة {خَيْرٌ مِنْ أُولَئِكُمْ } الذين كذبوا الرّسل من قبلكم، {أَمْ لَكُمْ بَرَاءَةٌ فِي الزُّبُرِ}. {أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ}2.
وذلك: أنّ كونكم لا تعذبون مثلهم؛ إمّا لكونكم لا تستحقّون ما استحقّوا، أو لكون الله أخبر أنّه لا يعذّبكم؛ فهذا بالنّظر إلى فعل الله.
وأمّا بالنّظر إلى قوّة الرّسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأتباعه، فيقولون: {نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ}، فإنّهم أكثر وأقوى. كما قالوا: {أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقَاماً وَأَحْسَنُ نَدِيّاً} إلى قوله: {أَثَاثاً وَرِئْياً} 3. أي: أموالاً ومنظراً. فقال تعالى: {سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ}4.
أخبر رسولَه ـ صلى الله عليه وسلم ـ بهزيمتهم، وهو بمكّة، في قلة من الأتباع، وضعف منهم، ولا يظن أحد ـ قبل أن يهاجر ـ بالعادة المعروفة أنّ أمره يعلو، ويقاتلهم؛ فكان كما أخبر. وذلك ببدر، وتلك سنة الله، كما قال تعالى: {سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ} ا لآية5.
ـــــــ
1 الآيات: 16، و18، و21، و30 من سورة القمر.
2 الآيتان 43-44 من سورة القمر.
3 الآيتان 73-74 من سورة مريم.
4 الآية 45 من سورة القمر.
5 الآية 23 من سورة الفتح.(1/110)
وحيث يظهر الكفار ويغلبون، فإنّما يكون ذلك لذنوب المؤمنين التي أوجبت نقص إيمانهم، فإذا تابوا نصرهم الله، كما قال تعالى : { وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} 1.
فإذا كان من تمام الحكمة والرّحمة أن لا يهلكهم بالاستئصال كالذين من قبلهم، قال تعالى: {أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولَئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَرَاءَةٌ فِي الزُّبُرِ}2 . كان لا يأتي بموجب ذلك، مع إتيانه سبحانه بما يقيم الحجة أكمل في الحكمة والرّحمة، إذ كان ما أتى به حصل به كمال الهدى والحجّة، وما امتنع منه دفع من عذاب الاستئصال ما أوجب بقاء جمهور الأمّة، حتى يهتدوا ويؤمنوا. وكان في إرسال خاتم الرّسل ـ صلى الله عليه وسلم ـ من الحكمة البالغة، والمنن السّابغة، ما لم يكن في رسالة غيره. صلوات الله وسلامه عليه وعليهم أجمعين.
رجعنا إلى سيرته ـ صلى الله عليه وسلم ـ.
خروجه ـ صلى الله وسلم إلى الطّائف ـ:
ولما اشتدّ البلاء من قريش على رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بعد موت عمّه خرج إلى الطّائف، رجاء أن يؤوه وينصروه على قومه، ويمنعوه منهم، حتى يبلغ رسالة ربّه، ودعاهم إلى الله ـ عزّ وجلّ ـ، فلم يرَ مَن يؤوي ولم يرَ ناصراً، وآذوه أشدّ الأذى، ونالوا منه ما لم ينَلْ منه قومه، وكان منه زيد بن حارثة مولاه.
ـــــــ
1 الآية 139 من سورة آل عمران.
2 الآية 43 من سورة القمر.(1/111)
فأقام بينهم عشرة أيام، لا يدع أحداً من أشرافهم إلاّ كلّمه. فقالوا: أخرج من بلدنا، وأغروا به سفهاءهم، فوقفوا له سماطين، وجعلوا يرمونه بالحجارة وبكلمات من السّفه، هي أشدّ وقعاً من الحجارة. حتى دميت قدماه، وزيد بن حارثة يقيه بنفسه، حتى أصابه شجاج في رأسه، فانصرف إلى مكّة محزوناً.
وفي مرجعه ذلك دعا بالدّعاء المشهور: "اللهم إنّي أشكو إليك ضعف قوّتي، وقلة حيلتي، وهواني على النّاس، أنت ربّ المستضعفين، وأنت ربّي، إلى مَن تكلني؟ إلى بعيدٍ يتجهمنِي، أو إلى عدوٍّ ملكته أمري؟ إن لم يكن بك غضب عليَّ فلا أبالي، غير أن عافيتك هي أوسع لي. أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظّلمات، وصلح عليه أمر الدّنيا والآخرة أن يحلّ عليَّ غضبك، أو ينْزل بي سخطك. لك العُتْبَى حتى ترضى. ولا حول ولا قوّة إلاّ بك"1.
فأرسل ربّه ـ تبارك وتعالى ـ إليه ملك الجبال، يستأمره أن يطبق الأخشبين على أهل مكّة ـ وهما جبلاها اللذان هي بينهما ـ فقال: "بل اسْتَأنى بهم. لعلّ الله يخرج من أصلابهم مَن يعبده، ولا يشرك به شيئاً".
فلما نزل بنخلة في مرجعه، قام يصلي من اللّيل ما شاء الله، فصرف الله إليه نفراً من الجن، فاستمعوا قراءته، ولم يشعر بهم رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ حتى نزل عليه: {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ} ـ إلى قوله ـ: {أُولَئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} 2.
ـــــــ
1 عزاه السّيوطي في الجامع للطّبراني في الكبير عن عبد الله بن جعفر.
2 الآيات من 28-32 من سورة الأحقاف.(1/112)