بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد:
فإن الحديث عن السيرة النبوية حديث تنشرح له الصدور، وتنطلق له الأسارير، وتخفق له الأفئدة.
كيف لا وهو حديث عن أكرمِ البشرية، وأزكاها وأبرها، وعظيمٍ لو طالعت كتب التاريخ والسير عربية وغير عربية، وأمعنت النظر في أحوال عظماء الرجال من مبدأ الخليقة إلى هذا اليوم _ فإنك لا تستطيع أن تضع يدك على اسم رجل من أولئك العظماء، وتقص علينا سيرته ومزاياه وأعماله الجليلة حديثاً يضاهي أو يداني ما تُحدَّث به عن هذا الرسول العظيم.
وغير خفي على مَنْ يَقْدُر هذا النبي قدره أن ليس في طوق كاتب _ ولو ألقت إليها البلاغة أعنتها _ تقصي المعاني التي انطوت في هذه السيرة العظيمة.
وإن من يبتغي عظمةَ رجلٍ بحق فليبحث عنها في ناحية عقله، وعلمه، وخلقه، وإخلاصه، وعزمه، وعمله، وحسن بيانه.
ولقد كان محمد " راجحَ العقل، غزيرَ العلم، عظيم الخلق، شديد الإخلاص، صادق العزم، جليل العمل، رائع البيان.
أما رجحان عقله فمن دلائله بعد اختصاص الله له بالرسالة أنه نشأ بين قوم يعبدون الأصنام، ويتنافسون في مظاهر الأبهة والخيلاء، وينحطون في شهواتهم إلى المنزلة السفلى، فلم يكن لهذه البيئة المظلمة من أثر في نفس محمد " قليل أو كثير؛ فانبذ بين هذه الظلمات المتراكمة مكاناً يخلو فيه بنفسه، ويقدح فيه زناد فكره، ويناجي فيه ربه؛ فإذا نورُ النبوة يتلألأ بين جنبيه، وحكمة الله تتدفق بين شفتيه.
وأما علمه فهو ما يزكي النفوس، وينقي الأبصار، ويرفع الأمم إلى ذروة العز والشرف، حتى تحرز الحياة الطيبة في الأولى والسعادة الباقية في الأخرى.
ومَنْ يتدبر القرآنَ والأحاديث الثابتة حتى يتفقه فيما انطويا عليه من حقائق وحكم وآداب _ يلف رأسه حياءاً من أن ينفي عن المصطفى " عظمة العلم تحت اسم الفلسفة متكئاً على أنه كان أمياً لا يقرأ ولا يكتب.(1/1)
وقد خرج من بين يدي محمد " رجال عظماء، ولم يتلقوا من العلم غير ما كانوا يتلقونه في مجلسه من حكمته، فكانوا منبع علم وأدب، وأدركوا في حصافة الرأي وقوة الحجة الأمد الأقصى.
وأما خُلقه فهذه السيرة المستفيضة في القرآن وعلى ألسنة الرواة وأقلامهم تنطق وتلوح بأنه قد بلغ الذروة في كل خلق كريم، وبَسْطُ القول في هذا الصدد لا يغني فيه سفر، بل أسفار.
وأما إخلاصه فقد كان صافي السريرة لا يبغي إلا هدياً، ولا ينوي إلا إصلاحاً، والإخلاص روح العظمة وقطب مدارها.
وأقرب شاهد على إخلاصه في دعوته أنه لم يحد عن سبيل الزهد في هذه الحياة قيد أنملة؛ فعيشه يوم كان يتعبد في غار حراء كعيشه يوم أظلت رايته البلاد العربية، وأطلت على ممالك قيصر من ناحية تبوك.
وأما صدق عزيمته فقد قام " يدعو إلى العدل ودين الحق ويلقى من الطغاة والطغام أذىً كثيراً، فيضرب عنه صفحاً أو عفواً، ويمضي في سبيل الدعوة لا يأخذه يأس، ولا يقعد به ملل، ولا يثنيه جزع، وقد ظهر دين الله وَعَلتْ حكمته بهذا العزم الذي تخمد النار ولا يخمد، وينام المشرفي ولا ينام.
وأما عمله فتهجد وصيام، وتشريع وقضاء، ووعظ وإرشاد، وسياسة وجهاد، وهل من سيرة تُبْتَغى لعظمة يرضى عنها الله، ويسعد بها البشر غير هذه السيرة؟
وهل يستطيع أحد أن يدلنا على رجل كان ناسكاً مخلصاً، ومشرعاً حكيماً، وقاضياً عادلاً، ومرشداً ناصحاً، وواعظاً بليغاً، وسياسياً أميناً، ومجاهداً مصلحاً، وفاتحاً ظافراً، وسيداً تذوب في محبته القلوب، غير المصطفى _ عليه الصلاة والسلام _؟
وأما حسن بيانه فقد أحرز _ عليه الصلاة والسلام _ من خصلتي الفصاحة والبلاغة الغاية التي ليس وراءها لمخلوق غاية، فانظروا إن شئتم إلى مخاطباته وخطبه، وما يضربه من الأمثال، وينطق به من جوامع الكلم تجدوا جزالة اللفظ، ومتانة التركيب، وسهولة المأخذ، إلى رفعة الأسلوب، إلى حكمة المعنى.(1/2)
عَظَمَةٌ انتظمت من هذه المزايا العالية؛ فبلغت حد الإعجاز، وكل درة في عقد حياة محمد _ عليه الصلاة والسلام _ معجزة(1).
هذا وإن مما يبعث على الأسى، ويدعو إلى الأسف والحسرة ما تناقلته وسائل الإعلام في الأيام الماضية، حيث تناولت ما تبثه صحف الدانمارك والنرويج تلك الصحف التي ما فتئت تنال من مقام النبوة بأسلوب ساخر، ينم عن حقد دفين، وحسد يأكل قلوبهم، ويأبى لها إلا تغالط الحقائق، وتتيه في أودية الزور والبهتان؛ ظانين أن ذلك ينزل من مقام النبوة الأعظم فتيلاً أو قطميراً.
وفي تعب من يحسد الشمس نورها ... ويجهد أن يأتي لها بضريب
[يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلاَّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ] (التوبة:32).
ولقد ساء ذلك الفعل الشائن قلوب المسلمين، وتتابعت أقلام الكتاب في رد ذلك الزيف، وإبطال ذلك الكيد؛ فكان من ذلك بعثٌ لفضائل هذا النبي الكريم _عليه من الله أفضل الصلاة وأتم التسليم_.
وإذا أراد الله نشر فضيلة ... طويت أتاح لها لسان حسود
وفضيلة النبي " لم تطوَ، وإنما تتجدد، وتتلألأ كالبدر في سماء صاحية، وكالشمس في رأْد الضحى.
ولعل من أعظم أسرار سيرة نبينا محمد أنها تمتاز عن سير سائر العظماء بأنها لا تُسْتَنْفَد مهما كتب فيها من كتب؛ فسير العظماء _ على الجملة _ يقوم بأمرها، ويغني في شأنها أن تكتب مرة أو مرات، ثم تستنفد معانيها، ويصير الحديث فيها معاداً مكروراً تغني فيه أعمال الأسلاف عن محاولات الأخلاف.
ولقد عُني المؤرخون والرواة بالسيرة النبوية منذ صدر الإسلام حتى يومنا هذا، وصدر فيها كثير من الكتب في عدة لغات، ومع ذلك لم تخْلَق جِدَّتُها، بل إنها لتزداد على كثرة ما يكتب فيها جدَّة وَرُوَاءَاً.
__________
(1) انظر محمد رسول الله وخاتم النبيين للشيخ محمد الخضر حسين5_7، 204_206.(1/3)
وليس ذلك على خَطره بدعاً من طبيعة الأشياء؛ فمحمد هو رسول الله وخاتم النبيين، وقد أنزل الله إليه الكتاب ليخرج الناس من الظلمات إلى النور، والناس المعنيُّون بهذا هم كلُّ الناس منذ بُعث حتى يرث الله الأرض ومن عليها.
وهؤلاء _بسنة الله في الكون_ في تجدد دائم، وتطور متصل، تَجِدُّ لهم دائماً أحوال، وتحدث لهم أحداث يكون لها آثارها في معاشهم وعلومهم وتفكيرهم.
فليس عجباً أن يلتمس المؤمنون في الكتاب المنزل وفي التفسير الحيّ لهذا الكتاب الذي عاشه خاتم النبيين بسيرته _ هدياً لهم فيما يستقبلون كل يوم من شأن، وليس عجباً أن يلتمس غيرُ المؤمنين في هذا الكتاب المنزَّل وفي تفسيره الحي من سيرة الرسول ما عسى أن يقعوا فيه على مسافة خُلف بين الدين والتطوُّر، أو بين الكتاب والسنة أو السيرة.
وكذلك عُنِيَ المؤمنون وغير المؤمنين بالسيرة عناية تختلف من حيث الحقيقة والخرافة، ومن حيث الإنصاف والجور.
والسيرة الشريفة _مع هذه العناية المتصلة_ جديدةٌ خصبة، ملهمة موحية، لأنها الترجمة الحية العملية لمبادئ الإسلام العليا.
وما أكثر ما تَجنَّى خصوم الإسلام على سيرة نبيه جهلاً أو جحوداً بالحق، فلم ينالوا منها نيلاً، بل ربما دفع تجنِّيهم بعضَ الباحثين إلى العناية بها؛ تَلَمُّساً للإنصاف، وطلباً للمعرفة؛ فهدوا بذلك على الخير، أو شيء منه.
ونحسب أن من صلاة الله على نبيه أن أوزع الناس هذه العناية بسيرته سواء منهم من أقرَّ به، أو من أنكر نبوته؛ لأنه " نور، ومن عرف النور فقد شهد لنفسه بالاستبصار، ومن أنكره فقد شهد على نفسه بالعمى، والنور على الحالين نور.
وقد رفع الله ذكر محمد، فقرن اسمه باسمه في الأذان والصلوات، ووصفه في أكثر من موضع من القرآن بصفات تجعله في المرتبة التي لا تُنال.(1/4)
[الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنْ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمْ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمْ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ] (الأعراف:157).
وليس مصدرُ العناية بالسيرة إرضاءَ حاجةِ العلم والدرس فحسب؛ فحاجات المؤمنين إلى هذا الينبوع من الحب والهدى أشد من حاجات العلماء إلى البحث والدرس، وكلُّ من في قلبه نفخة إيمان يجد نفسه مهما فرّط في الدِّين مشدوداً إلى محمد، راغباً في أن تزداد هذه العلاقة وثاقة.
وحب رسول الله من حب الله، فليس محمد _على شانه الأجل_ إلا بشراً رسولاً(1).
ورغبة في الإسهام في هذا الواجب العظيم، وأداءاً لأقل القليل في حق هذا النبي الكريم _ رأيت أن أقدم جهد المقل في هذا الشأن، وذلك من خلال إلقاء الضوء على بعثة النبي " وخلاصة سيرته، وإيراد بعض المقالات النادرة في السيرة النبوية تلك المقالات التي كُتِبت بأيدي ثلة من أكابر كتاب العربية وعلمائها في العصر الحديث، وناقشت عدداً من القضايا، وردَّت كثيراً من الشبه التي يتكرر إيرادها، وأبرزت جوانب مشرقة من السيرة، وألقت الضوء على موضوعات ربما لم تطرق من ذي قبل، كل ذلك بأسلوب محكم أخَّاذ، جزل، بليغ.
ثم إن كثيراً من هذه المقالات قد انطوى، ودرس، ويُخشى أن تطاله يد النسيان، وتعدو عليه عوادي الضياع،فيحرم الناس من خير عظيم.
__________
(1) انظر إلى مقدمة الأستاذ محمد فتحي عبدالمنعم لكتاب محمد رسول الله للعلامة أحمد تيمور باشا ص14_16.(1/5)
وهي _أيضا_ قد كتبت في وقت تسلط فيه الملاحدة على نبي الإسلام _ عليه الصلاة والسلام _ فكأن التاريخ يعيد نفسه.
وهذه المقالات التي يحتويها هذا المجموع معزوة إلى مراجعها، ومشارٌ إلى تواريخ كتابتها إن كانت موجودة.
وقد نُشر بعضها متفرقاً في الأجزاء الثلاثة من كتابي (مقالات لكبار كتاب العربية في العصر الحديث).
ولأجل أن تكون في مجموع واحد، ولتقريبها للقارئ _ وُضِعت ههنا، وزِيد عليها عددٌ من المقالات التي لم تكن في الأجزاء المذكورة.
والمقالات التي تضمنها هذا المجموع هي:
1_ بيئة الإسلام الأولى التي اختارها الله لمولد خاتم رسله وظهور أكمل رسالاته للعلامة الشيخ محب الدين الخطيب.
2_ مولد الإنسانية للعلامة محب الدين الخطيب.
3_ قدوتنا الأعظم للعلامة محب الدين الخطيب.
4_ من إلهامات الهجرة للعلامة محب الدين الخطيب.
5_ القول الحق في استعداد محمد " للنبوة والوحي للشيخ العلامة محمد رشيد رضا.
6_ عبرة الهجرة للأديب الكبير مصطفى لطفي المنفلوطي.
7_ الإشراق الإلهي وفلسفة الإسلام للأديب الكبير مصطفى صادق الرافعي.
8_ محمد "للعلامة الشيخ محمد بهجة البيطار.
9_ أمهات المؤمنين للعلامة الشيخ محمد بهجة البيطار.
10_ المدينة الفاضلة للعلامة الشيخ محمد الطاهر بن عاشور.
11_ أثر الدعوة المحمدية في الحرية والمساواة للعلامة الشيخ محمد الطاهر ابن عاشور.
12_ مجلس رسول الله " للعلامة الشيخ محمد الطاهر بن عاشور.
13_ الدعوة الشاملة للعلامة الشيخ محمد الخضر حسين.
14_ نظرة في دلائل النبوة للعلامة الشيخ محمد الخضر حسين.
15_ عظمة رسول الله " للعلامة الشيخ محمد الخضر حسين.
16_ شجاعته _ عليه الصلاة والسلام _ للعلامة الشيخ محمد الخضر حسين.
17_ منقذ العالم من الظلمات للعلامة الشيخ محمد الخضر حسين.
18_ رجاحة عقله " وحكمة رأيه للعلامة الشيخ محمد الخضر حسين.(1/6)
19_ قضاء البعثة المحمدية على المزاعم الباطلة للعلامة الشيخ محمد الخضر حسين.
20_ البلاغة النبوية للعلامة الشيخ محمد الخضر حسين.
21_ من آداب خطب النبي " للعلامة الشيخ محمد الخضر حسين.
22_ نبي الملحمة للأستاذ عبدالصبور مرزوق.
فإلى محتويات الكتاب، والله المستعان وعليه التكلان.
الحديث عن بعثة النبي محمد " وسيرته يطول، ولقد أفرد العلماء في هذا الشأن كتباً كثيرة.
والمجال هنا لا يتسع للإطالة والإسهاب؛ ولعل الحديث في الصفحات الآتية يتناول الموضوعات التالية من السيرة النبوية المباركة:
أولاً: مهيئات النبوة:
لقد هيأ الله _ عز وجل _ للنبي " مهيئات كثيرة كانت إرهاصاً لبعثته ونبوته، فمن ذلك ما يلي:
1_ دعوة إبراهيم، وبشرى عيسى _عليهما السلام_ ورؤيا أمه آمنة: يقول النبي"عن نفسه: أنا دعوة أبي إبراهيم، وبشرى عيسى، ورأت أمي حين حملت بي كأنه خرج منها نور أضاءت له بصرى من أرض الشام+.
ومعنى الحديث: أن النبي " يقول: أنا مصداق دعوة إبراهيم الخليل _ عليه السلام _ لأن إبراهيم لمَّا كان يرفع القواعد من الكعبة في مكة، ومعه ابنه إسماعيل كان يقول _ كما أخبرنا الله عنه في القرآن _: [رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (127) رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (128) رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ] (البقرة 127_129).
فاستجاب الله دعوة إبراهيم وإسماعيل، فكان النبي الخاتم محمد _ عليه الصلاة والسلام _ من ذريتهما.(1/7)
أما قوله: =وبشرى عيسى+ فإن نبي الله عيسى _ عليه السلام _ قد بَشَّر بالنبي محمد " كما أخبر الله عنه في القرآن، فقال: [وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ] (الصف: 6).
فعيسى _ عليه السلام _ هو آخر نبي من أنبياء بني إسرائيل، وليس بينه وبين محمد " نبي؛ وقد بَشَّر بنبي يأتي من بعده اسمه أحمد، وأحمد من أسماء النبي محمد ".
أما =رؤيا أمه+ فقد رأت رؤيا صادقة؛ ذلك أن أمه لما أخذها المخاض، فوضعته تَمَثَّل لعينيها ذلك النور الذي أضاءت له بصرى في أرض الشام.
2_ كون النبي " خرج في أمة العرب: تلك الأمة التي فُضِّلَت على غيرها من الأمم آنذاك، حتى استعدت لهذا الإصلاح الروحي المدني العام، الذي اشتمل عليه دين الإسلام، بالرغم مما طرأ عليها من الأمية، وعبادة الأصنام، وما أحدثت فيها غلبة البداوة من التفرق والانقسام.
ومع ذلك فقد كانت أمةُ العربِ متميزةً باستقلال الفكر، وسعة الحرية الشخصية، في الوقت الذي كانت الأمم الأخرى ترسف في عبودية الرياستين الدينية والدنيوية، محظوراً عليها أن تفهم غير ما يُلَقِّنها الكهنة، ورجال الدين من الأحكام الدينية، أو أن تخالفهم في مسألة عقلية، أو كونية، كما حظرت عليها التصرفات المدنية والمالية.
وكانت أمة العرب _ أيضاً _ متميزة باستقلال الإرادة في جميع الأعمال أيام كانت الأمم مُذَلَّلَةً مُسَخَّرة للملوك والنبلاء، المالكين للرقاب والأموال بحيث يستخدمونهم كما يستخدمون البهائم؛ فلا رأي لهم في سلم، ولا حرب، ولا إرادة لها دونهم في عمل ولا كسب.(1/8)
وكانت أمة العرب متميزة بعزة النفس، وشدة البأس، وقوة الأبدان والقلوب أيامَ كانت الأمم مؤلفة من رؤساء أفسدهم الإسراف والترف، ومرؤوسين أضعفهم البؤس والشظف، وسادة أبطرهم بغي الاستبداد، ومُسَوَّدين أذلَّهم قَهْرُ الاستعباد.
وكانت أمة العرب أقرب إلى العدل بين الأفراد، وكانت ممتازة بالذكاء، وكثيرٍ من الفضائل الموروثة والمكتسبة كإكرام الضيف، وإغاثة الملهوف، والنجدة، والإباء، وعلو الهمة، والسخاء، والرحمة، وحماية اللاجىء، وحرمة الجار أيام كانت الأمم مرهقة بالأثرة، والأنانية، والأنين من ثقل الضرائب والأتاوى الأميرية.
وكانت أمة العرب قد بلغت أوج الكمال في فصاحة اللسان، وبلاغة المقال مما جعلها مستعدة للتأثر والتأثير بالبراهين العقلية، والمعاني الخطابية، والشعرية، وللتعبير عن جميع العلوم الإلهية والشرعية، والفنون العقلية، والكونية أيام كانت الأمم الأخرى تنفصم عرى وَحْدتها بالتعصبات الدينية والمذهبية، والعداوات العرقية.
وأعظم مزية امتاز بها العرب، أنهم كانوا أسلم الناس فطرةً، بالرغم من أن أمم الحضارة كانت أرقى منهم في كل فن وصناعة.
والإصلاح الإسلامي مبني على تقديم إصلاح النفس باستقلال العقل، والإرادة، وتهذيب الأخلاق على إصلاح ما في الأرض من معدن، ونبات، وحيوان.
وبهذا كان الله _ عز وجل _ يُعِدُّ هذه الأمة للإصلاح العظيم الذي جاء به محمد".
3_ شرف النسب: فقد كان نسبه " أشرف الأنساب، وأصرحها، قال _تعالى_: [إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ](آل عمران:33).
فالله _ عز وجل _ اصطفى هؤلاء؛ إذ جعل فيهم النبوة والهداية للمتقدمين، واصطفى قريشاً من كِنانة، واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفى من بني هاشم سيد ولد آدم محمداً " فكان آل إسماعيل أفضل الأولين والآخرين، كما كان بنو إسحاق أفضل المتوسطين.(1/9)
أما اصطفاء الله لقبيلة قريش فقد كان بما آتاهم الله من المناقب العظام، ولاسيما بعد سُكنى مكة، وخدمة المسجد الحرام؛ إذ كانوا أصرح ولد إسماعيل أنساباً، وأشرفهم أحساباً، وأعلاهم آداباً، وأفصحهم ألسنة، وهم الممهدون لجمع الكلمة.
أما اصطفاء الله لبني هاشم فقد كان لما امتازوا به من الفضائل والمكارم؛ فكانوا أصلح الناس عند الفتن، وخيرهم لمسكين ويتيم.
وإنما أطلق لقب هاشم على عمْرو بن عبد مناف؛ لأنه أول من هشم الثريد _وهو طعام لذيذ_ للذين أصابهم القحط، وكان يَشْبَعُ منه كلَّ عامٍ أهلُ الموسم كافة، ومائدتُه منصوبةٌ لا ترفع في السراء ولا في الضراء.
وزاد على هاشم ولَدُه عبدالمطلب جدُّ الرسول " فكان يطعم الوحش، وطير السماء، وكان أول من تعبد بغار حراء، وروي أنه حرم الخمر على نفسه.
وبالجملة: فقد امتاز آل النبي"على سائر قومه بالأخلاق العلية، والفواضل العملية، والفضائل النفسية، ثم اصطفى الله محمداً"من بني هاشم؛ فكان خير ولد آدم، وسيدهم.
4_ بلوغه " الذروة في مكارم الأخلاق: فقد جبله الله _ عز وجل _ على كريم الخلال، وحميد الخصال، فكان قبل النبوة أرقى قومه، بل أرقى البشرية في زكاء نفسه، وسلامة فطرته، وحسن خلقه.
نشأ يتيماً شريفاً، وشبَّ فقيراً عفيفاً، ثم تزوج محباً لزوجته مخلصاً لها.
لم يتولَّ هو ولا والده شيئاً من أعمال قريش في دينها ولا دنياها، ولا كان يعبد عبادتهم، ولا يحضر سامرهم، ولا ندواتهم، ولم يُؤْثَرْ عنه قول ولا عمل يدل على حبِّ الرياسة، أو التطلع إليها.
وكان يُعرف بالتزام الصدق، والأمانة، وعلو الآداب؛ فبذلك كان له المقام الأرفع قبل النبوة؛ حتى لقبوه بالأمين.
وعلى هذه الحال كان " حتى بلغ أشده، واستوى، وكملت في جسده الطاهر، ونفسه الزكية جميع القوى، ولا طمع في مال، ولا سمعة، ولا تطلع إلى جاه ولا شهرة، حتى أتاه الوحي من رب العالمين كما سيأتي بيانه بعد قليل.(1/10)
5_ كونه " أميّاً لا يقرأ ولا يكتب: فهذا من أعظم المهيئات والدلائل على صدق نبوته؛ فهذا الرجل الأمي الذي لم يقرأ كتاباً، ولم يكتب سطراً، ولم يقل شعراً، ولم يرتجل نثراً، الناشىءُ في تلك الأمة الأمية _ يأتي بدعوة عظيمة، وبشريعة سماوية عادلة، تستأصل الفوضى الاجتماعية، وتكفل لمعتنقيها السعادة الإنسانية الأبدية، وتعتقهم من رق العبودية لغير ربِّهم _ جل وعلا _.
كل ذلك من مهيئات النبوة، ومن دلائل صدقها.
ثانياً: نبذة عن نسب النبي " وحياته :
هو محمد بن عبدالله بن عبدالمطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي ابن حكيم بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة ابن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان، وعدنان من العرب، والعرب من ذرية إسماعيل بن إبراهيم _ عليه السلام _.
وأُم النبي " هي آمنة بنت وهب بن عبد مناف بن زهرة، وزهرة أخو جد النبي ".
وقد تزوج بها عبدالله والد النبي " وأقام معها في بيت أهلها ثلاثة أيام، فلم تلبث أن حملت بالنبي " ولم تجد في حمله ثقلاً، ولا وحماً كما هو شأن المحصنات الصحيحات الأجسام.
وقد رأت أمه رؤيا لما حملت به، وقد مَرَّ ذِكْرُ الرؤيا في كلام سابق.
وقد ولدته أمه سَويّ الخلق، جميل الصورة، صحيح الجسم، وكانت ولادته عام الفيل الموافق للحادي والسبعين بعد الخمسمائة للميلاد.
وقد تُوفي والده وهو حَمْلٌ في بطن أمه، فكفله جده عبدالمطلب، وأرضعته أمه ثلاثة أيام ثم عهد جده بإرضاعه إلى امرأة يقال لها حليمة السعدية.
وكان من عادة العرب أن يسترضعوا لأولادهم في البوادي؛ حيث تتوافر أسباب النشأة البدنية السليمة.(1/11)
ولقد رأت حليمة السعدية من أمر هذا الرضيع عجباً، ومن ذلك: أنها أتت مع زوجها إلى مكة على أتان هزيلة بطيئة السير، وفي طريق العودة من مكة، وهي تضع الرضيع في حجرها كانت الأتان تعدو عَدْواً سريعاً، وتُخَلِّف وراءها كل الدواب، مما جعل رفاق الطريق كلهم يتعجبون.
وتُحدِّث حليمة بأن ثديها لم يكن يُدِرُّ شيئاً من الحليب، وأن طفلها الرضيع كان دائم البكاء من شدة الجوع، فلما ألقمت الثدي رسول الله " دَرَّ غزيراً، فأصبحت ترضعه وترضع طفلها حتى يشبعا.
وتُحدِّث حليمة عن جدب أرض قومها ديار بني سعد، فلما حظيت بشرف رضاعة هذا الطفل أنتجت أرضها، وماشيتها، وتَبَدَّلت حالها من بؤس وفقر، إلى هناء ويسر.
وبعد سنتين عادت به حليمة إلى أمه وجده في مكة، لكن حليمة ألَحَّتْ على أمه أن توافق على بقائه عندها مرة ثانية؛ لِمَا رأت من بركته عليها، فوافقت أُمُّه آمنة، فعادت حليمة بالطفل مرة أخرى إلى ديارها والفرحة تملأ قلبها.
وبعد سنتين عادت به حليمة إلى أمه، وعمره آنذاك أربع سنوات، فحضنته أمه إلى أن توفيت، وكان له من العمر ست سنين، فكفله جده عبدالمطلب سنتين ثم توفي، وقبل وفاته أوصى به ابنه أبا طالب عمَّ النبي " فحاطه بعنايته كما يحوط أهله وولده.
إلا أنه كان لفقره يعيش عيش الشظف؛ فلم يتعود " نعيم الترف، ولعلَّ ذلك من عناية الله بهذا النبي الكريم.
وكان " قد ألِفَ رعي الغنم مع إخوانه من الرضاع لما كان في بادية بني سعد، فصار يرعى الغنم لأهل مكة؛ فيكفي نفسه بما يأخذه على ذلك من الأجرة، ولا يرهق عمه بالنفقة.
ثم سافر مع عمه أبي طالب في تجارة إلى الشام، وله من العمر اثنتا عشرة سنة وشهران وعشرة أيام، وهناك رآه (بحيرا) الراهب، وبشَّر به عمَّه أبا طالب، وحذَّره من عدوان اليهود عليه بعد أن رأى خاتم النبوة بين كتفيه.(1/12)
ثم إنه سافر مرة أخرى مُتَّجراً بمالٍ لخديجة بنت خويلد، فأعطته أفضل مما كانت تعطي غيره؛ إذ جاءت تلك التجارة بأرباح مضاعفة، بل جاءت بسعادة الدنيا والآخرة.
وكانت خديجة هذه أعقل وأكمل امرأة في قريش، حتى كانت تدعى في الجاهلية: الطاهرة؛ لِما لها من الصيانة، والعفَّة، والفضائل الظاهرة.
ولما حدَّثَها غُلامها ميسرةُ بما رأى من النبي " في رحلته معه إلى الشام من الأخلاق العالية، والفضائل السامية، وما قاله (بحيرا) الراهب لعمه أبي طالب في رحلته الأولى إلى الشام _ تعلقت رغبتها به؛ وبأن تتخذه زوجاً لها، وكانت قد تزوجت من قبل، وتوفي عنها زوجها؛ فتمَّ ذلك الزواج الميمون، وكان عمره آنذاك خمسة وعشرين سنة، وعمرها قريباً من أربعين سنة.
ولم يتزوج عليها طيلة حياتها، ولا أحب مثلها، وتوفيت بعد البعثة النبوية بعشر سنين، فكان كثيراً ما يذكرها، ويتصدق عنها، ويهدي لصاحباتها، وهي الزوجة التي رُزِق منها جميع أولاده عدا إبراهيم؛ فإنه من زوجته ماريا القبطية.
هذه بعض أخباره وسيرته قبل النبوة، وبدء الوحي على سبيل الإجمال.
ثالثاً: بدء الوحي:
بَلَغَ النبي " أشُدَّه وقَرُب من الأربعين، واكتملت قواه العقلية والبدنية، وكان أول ما بدأ به من الوحي الرؤيا الصالحة، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مِثْلَ فَلَق الصبح واضحة كما رآها في منامه.
ثم بعد ذلك حُبِّبَ إليه الخلاء، فكان يخلو بنفسه في غار حراء في مكة، فيتعبد الله الليالي ذوات العدد، ثم يرجع إلى خديجة فيتزود بالطعام والشراب، حتى جاءه الحق، وهو على هذا الشأن بنزول القرآن عليه في شهر رمضان، وذلك بأن تَمَثَّل له المَلَكُ جبريل، ولقَّنَه عن ربِّه أول ما نزل من القرآن، فقال: [اقرأ] فقال: =ما أنا بقارىء+، فقال له: [اقرأ] فقال: =ما أنا بقارىء+، فقال: [اقرأ] فقال: =ما أنا بقارىء+، وكان جبريل بعد كل جواب من الأجوبة الثلاثة يضمه على صدره، ويعصره حتى يبلغ منه الجهد.(1/13)
ولما تركه جبريل في المرة الثالثة ألقى عليه أول آيات أُنزلت من القرآن، وهي [اقْرَأْ بِاسْم رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّك الأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ] (العلق 1_5).
بهذه الآيات العظيمة التي تأمر بالعلم، وتبيِّن بداية خلق الإنسان _ بدأ نزول الوحي على النبي " فرجع النبي إلى زوجته خديجة يرجف فؤاده، ولكنه حفظ رشاده، فقال: =زملوني زملوني+، يعني: لففوني بالثياب، ففعلوا، حتى إذا ذهب عنه الروع، أخبر خديجة الخبر، وقال: =لقد خشيت على نفسي+.
فقالت خديجة _ رضي الله عنها _: =كلا والله لا يخزيك الله أبداً؛ إنك لتصل الرحم، وتحمل الكلّ، وتُكْسِبُ المعدوم، وتُقْري الضيف، وتعين على نوائب الحق+.
وهكذا استدلت هذه المرأة العاقلة على أن من كان هذا شأنه في محبة الخير للناس فلن يخذله الله؛ فسنَّة الله تقتضي بأن الجزاء من جنس العمل.
ثم انطلقت بعد ذلك خديجة بالنبي " حتى أتت ابن عمها ورقة بن نوفل، وكان قد تنصَّر في الجاهلية، ويكتب الإنجيل بالعبرانية، وكان شيخاً كبيراً قد عمي، فقالت له خديجة: اسمع من محمد ما يقول، فقال ورقة: يا ابن أخي، ماذا ترى؟ فأخبره " خبر ما رأى، فقال ورقة: هذا الناموس الذي أُنزل على موسى، يا ليتني فيها جذعاً _ أي: شاباً _ ليتني أكون حياً إذ يخرجك قومك.
فقال له الرسول ": =أَوَمُخْرِجيَّ هم؟+ قال: نعم؛ لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلا عُودِيَ، وإن يدركني يومُك أَنْصُرْك نصراً مؤزراً، ثم توفي ورقة، وفتر الوحي.
واستمرت فترة الوحي ثلاث سنين، قوي فيها استعداد النبي، واشتدَّ شوقه وحنينه.
قال ": =بينما أنا أمشي سمعت صوتاً من السماء، فرفعت بصري، فإذا الملك الذي جاءني في حراء+.
وذكر أنه رعب منه، ولكن ذلك دون الرَّعبة الأولى، فرجع إلى أهله فتزَمَّلَ، وتَدَثَّرَ _ أي: تغطى بالثياب _.(1/14)
ثم أنزل الله عليه قوله _تعالى_: [يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنذِرْ (2) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (3) وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ (4) وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ] (المدثر).
أي: يا أيها الذي تدثر بثيابه قم فأنذر الناس بالقرآن، وبلغهم دعوة الله، وطهر ثيابك وأعمالك من أدران الشرك، واهجر الأصنام، وتبرأ من أهلها.
ثم حمي الوحي بعد ذلك، وتتابع، وبلَّغ " دعوة ربه، حيث أمره وأوحى إليه بأن يدعو الناس إلى عبادة الله وحده، وإلى دين الإسلام الذي ارتضاه الله، وختم به الأديان؛ فقام النبي " يدعو إلى سبيل ربه بالحكمة، والموعظة الحسنة، والمجادلة بالتي هي أحسن.
فاستجاب له أول من استجاب: خديجة من النساء، وأبو بكر الصديق من الرجال، وعلي بن أبي طالب من الصبيان، ثم توالى دخول الناس في دين الله، فاشتدَّ عليه أذى المشركين، وأخرجوه من مكة، وآذوا أصحابه أشدَّ الأذى، فهاجر إلى المدينة، وتتابع عليه نزول الوحي، واستمر في دعوته، وجهاده، وفتوحاته، حتى عاد إلى مكة ظافراً فاتحاً.
وبعد ذلك أكمل الله له الدين، وأقرَّ عينه بعز الإسلام وظهور المسلمين، ثم توفاه الله وعمره ثلاث وستون سنة، أربعون منها قبل النبوة وثلاث وعشرون نبياً رسولاً.
وبه ختم الله الرسالات السماوية، وأوجب طاعته على الجن والإنس؛ فمن أطاعه سعد في الدنيا، ودخل الجنة في الآخرة، ومن عصاه شقي في الدنيا، ودخل النار في الآخرة.
وبعدما توفاه الله _ عز وجل _ تابع أصحابه مسيرته، وبلَّغوا دعوته، وفتحوا البلدان بالإسلام، ونشروا الدين الحق حتى بلغ ما بلغ من الليل والنهار.
ودينه " باقٍ إلى يوم القيامة.(1/15)
فما القول في أميّ نشأ بين أميين، قام بذلك الإصلاح الذي تغيَّر به تاريخ البشر أجمعين: في الشرائع، والسياسات، وسائر أمور الدنيا والدين؟ وامتدَّ مع لغته في قرن واحد من الحجاز إلى آخر حدود أوربا وأفريقيا من الغرب، وإلى حدود الصين من جهة الشرق حتى خضعت له الأمم، ودانت له الدول، وأقبلت إليه الأرواح قبل الأشباح، وكانت تتبعه في كل فتوحه الحضارةُ، والمدنيةُ، والعدل والرحمة، والعلوم العقلية والكونية على أيدي تلك الأمة الحديثة العهد بالأمية، التي زكَّاها القرآن، وعلَّمها أن إصلاح الإنسان يتبعه إصلاح الأكوان؛ فهل يمكن أن يكون هذا إلا بوحي من لدن حكيم عليم، وتأييد سماوي من الإله العزيز القدير الرحيم؟
رابعاً: من أخلاق النبي ":
كان النبي " أكرم الخلق أخلاقاً، وأعلاهم فضائل وآداباً، امتاز بذلك في الجاهلية قبل عهد النبوة فكيف بأخلاقه بعد النبوة؟.
وقد خاطبه ربُّه _تبارك وتعالى_ بقوله له: [وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ] (القلم:4).
لقد أدَّبهُ ربُّه، فأحسن تأديبه، وربَّاه فأحسن تربيته، فكان خُلُقهُ القرآن الكريم، يتأدب به، ويؤدب الناس به، فمن أخلاقه " أنه كان أحلم الناس، وأعدلهم، وأعفَّهم، وأسخاهم.
وكان يخصف النعل، ويرقع الثوب، ويعين أهله في المنزل، ويقطع اللحم معهن، وكان أشد الناس حياءاً، لا يثبت بصره في وجه أحد.
وكان يجيب الدعوة من أي أحد، ويقبل الهدية ولو قلَّت، ويكافىء عليها، وكان يغضب لربِّه، ولا يغضب لنفسه، وكان يجوع أحياناً فيعصب الحجر على بطنه من الجوع، ومرة يأكل ما حضر، ولا يرد ما وجد من المباح، ولا يعيب طعاماً قط، إن وجد تمراً أكله، وإن وجد شواءاً أكله، وإن وجد خبزَ برٍّ أو شعير أكله، وإن وجد حلواً أو عسلاً أكله، وإن وجد لبناً دون خبز اكتفى به، وإن وجد بطيخاً أو رطباً أكله.
وكان يعود المرضى، ويشهد الجنائز، ويمشي وحده بين أعدائه بلا حارس.(1/16)
وكان أشد الناس تواضعاً، وأسكنهم من غير كِبْر، وأبلغهم من غير تطويل، وأحسنهم بِشْراً، لا يهوله شيء من أمور الدنيا.
وكان يلبس ما وجد، فمرة شملة، ومرة جبة صوف، فما وجد من المباح لبس.
يركب ما أمكنه، مرة فرساً، ومرة بعيراً، ومرة بغلة شهباء، ومرة حماراً، أو يمشي راجلاً حافياً.
يجالس الفقراء، ويؤاكل المساكين، ويكرم أهل الفضل في أخلاقهم، ويتألف أهل الشرف في البر لهم، ويصل ذوي الرحم من غير أن يؤثرهم على من هو أفضل منهم.
لا يجفو على أحد، يقبل معذرة المعتذر إليه، يمزح ولا يقول إلا حقاً، يضحك من غير قهقهة، يسابق أهله، ترفع الأصوات عليه فيصبر.
وكان لا يمضي عليه وقت في غير عمل لله _تعالى_ أو فيما لابد له منه من صلاح نفسه.
لا يحتقر مسكيناً لفقره وزمانته، ولا يهاب مَلِكاً لمُلكِهِ، يدعو هذا وهذا إلى الله دعاء مستوياً، قد جمع الله له السيرة الفاضلة، والسياسة التامة، وهو أمي لا يقرأ ولا يكتب.
نشأ في بلاد الفقر والصحاري فقيراً، وفي رعاية الغنم يتيماً، لا أب له، فعلمه الله _ تعالى _ جميع محاسن الأخلاق، والطرق الحميدة، وأخبار الأولين والآخرين، وما فيه النجاة والفوز في الآخرة، والغبطة والخلاص في الدنيا.
ما كان يأتيه أحد إلا قام معه في حاجته، ولم يكن فظاً، ولا غليظاً، ولا صخَّاباً في الأسواق، وما كان يجزي السيئة بالسيئة، ولكن يعفو ويصفح.
وكان من خُلُقه أن يبدأ من لقيه بالسلام، ومَنْ قادَمَهُ لحاجةٍ صابره حتى يكون القادم هو المنصرف.
وما أخذ أحد بيده فيرسل يده حتى يرسلها الآخر.
وكان إذا لقي أحداً من أصحابه بدأه بالمصافحة، ثم أخذ بيده فشابكه، ثم شدَّ قبضته عليه.
وكان أكثر جلوسه أن ينصب ساقيه جميعاً، ويمسك بيديه عليهما، ولم يكن يُعْرَفُ مجلسُهُ من مجلس أصحابه؛ لأنه كان يجلس حيث انتهى به المجلس.
وما رُئِيَ قط ماداً رجليه بين أصحابه؛ حتى لا يضيقَ بهما على أحد إلا أن يكون المجلس واسعاً لا ضيق فيه.(1/17)
وكان يكرم من يدخل عليه حتى ربما بسط ثوبه لمن ليس بينه وبينه قرابة يُجْلِسه عليه.
وكان يؤثر الداخل عليه بالوسادة التي تحته، فإن أبى أن يقبلها عزم عليه حتى يفعل.
وما استصفاه أحد إلا ظن أنه أكرم الناس عليه؛ وكان يعطي من جلس إليه نصيبه من وجهه، وسمعه، وحديثه، ولطيف محاسنه، وتوجيهه.
ومَجْلسُه مع ذلك مجلسُ حياء، وتواضع، وأمانة.
وكان يدعو أصحابه بكناهم؛ إكراماً لهم، واستمالة لقلوبهم، وكان يكني من لم تكن له كنية، وكان يكني النساء اللاتي لهن أولاد، واللاتي لم يلدن يبتدىء لهن الكنى، وكان يكني الصبيان، فيستلين قلوبهم ويستميلهم إليه.
وكان أبعد الناس غضباً، وأسرعهم رضاً، وكان أرأف الناس بالناس، وخير الناس للناس، وأنفع الناس للناس.
وكان يحب اليسر، ويكره العسر، ولا يشافه أحداً بما يكره، ومن رآه بديهة هابه، ومن خالطه معرفة أحبه.
هذه بعض أخلاقه وشمائله ".
خامساً: شهادة الفيلسوف الإنجليزي توماس كارليل على صدق رسالة النبي ":
كل عاقل منصف لا يسعه إلا التصديق برسالة النبي " ذلك أن الأمارات الكثيرة شاهدة ناطقة بصدقه.
ولا ريب أن شهادة المخالف لها مكانتها؛ فالفضل _ كما قيل _ ما شهدت به الأعداء.
وفيما يلي شهادة للفيلسوف الإنجليزي الشهير =توماس كارليل+ الحائز على جائزة نوبل، حيث قال في كتابه =الأبطال+ كلاماً طويلاً عن النبي " يخاطب به قومه النصارى، ومن ذلك قوله: =لقد أصبح من أكبر العار على أي فرد متحدث هذا العصر أن يصغي إلى ما يقال من أن دين الإسلام كذب، وأن محمداً خدّاع مزوِّر.
وإن لنا أن نحارب ما يشاع من مثل هذه الأقوال السخيفة المخجلة؛ فإن الرسالة التي أدَّاها ذلك الرسول ما زالت السراج المنير مدة اثني عشر قرناً لنحو مائتي مليون من الناس، أفكان أحدكم يظن أن هذه الرسالة التي عاش بها ومات عليها هذه الملايين الفائقة الحصر والإحصاء أكذوبة وخدعة؟ !(1/18)
أما أنا فلا أستطيع أن أرى هذا الرأي أبداً، ولو أن الكذب والغش يروجان عند خلق الله هذا الرواج، ويصادفان منهم مثل هذا القبول، فما الناس إلا بُلْهٌ مجانين، فوا أسفا ! ما أسوأ هذا الزعم، وما أضعف أهله، وأحقهم بالرثاء والرحمة.
وبعد، فعلى من أراد أن يبلغ منزلة ما في علوم الكائنات ألا يصدق شيئاً البتة من أقوال أولئك السفهاء؛ فإنها نتائج جيل كفر، وعصر جحود وإلحاد، وهي دليل على خبث القلوب، وفساد الضمائر، وموت الأرواح في حياة الأبدان.
ولعل العالَم لم ير قط رأياً أكفر من هذا وأَلأَم، وهل رأيتم قط معشر الإخوان، أن رجلاً كاذباً يستطيع أن يوجد ديناً وينشره علناً؟
والله إن الرجل الكاذب لا يقدر أن يبني بيتاً من الطوب؛ فهو إذا لم يكن عليماً بخصائص الجير، والجص، والتراب، وما شاكل ذلك _ فما ذلك الذي يبنيه ببيت، وإنما هو تل من الأنفاق، وكثيب من أخلاط المواد.
نعم، وليس جديراً أن يبقى على دعائمه اثني عشر قرناً يسكنه مائتا مليون من الأنفس، ولكنه جدير أن تنهار أركانه، فينهدم؛ فكأنه لم يكن+.
إلى أن قال: =وعلى ذلك، فلسنا نَعُدُّ محمداً هذا قط رجلاً كاذباً متصنعاً، يتذرع بالحيل والوسائل إلى بغيته، ويطمح إلى درجة ملك أو سلطان، أو إلى غير ذلك من الحقائر.
وما الرسالة التي أدَّاها إلا حقٌ صراحٌ، وما كلمته إلا قول صادق.
كلا،=ما محمد بالكاذب+ ولا المُلفِّق، وهذه حقيقة تدفع كل باطل، وتدحض حُجة القوم الكافرين.
ثم لا ننسى شيئاً آخر، وهو أنه لم يتلق دروساً على أستاذ أبداً، وكانت صناعة الخط حديثة العهد إذ ذاك في بلاد العرب _وعجيب وأيم الله أُمِّيَة العرب_ ولم يقتبس محمد من نور أي إنسان آخر، ولم يغترف من مناهل غيره، ولم يكن إلا كجميع أشباهه من الأنبياء والعظماء، أولئك الذين أشبِّههم بالمصابيح الهادية في ظلمات الدهور.(1/19)
وقد رأيناه طول حياته راسخ المبدأ، صادق العزم بعيداً، كريماً بَرًّا، رؤوفاً، تقياً، فاضلاً، حراً، رجلاً، شديد الجد، مخلصاً، وهو مع ذلك سهل الجانب، ليِّن العريكة، جم البشر والطلاقة، حميد العشرة، حلو الإيناس، بل ربما مازح وداعب، وكان _ على العموم _ تضيء وجهه ابتسامةٌ مشرقة من فؤاد صادق؛ لأن من الناس من تكون ابتسامته كاذبة ككذب أعماله وأقواله+.
إلى أن قال: =كان عادلاً، صادق النية، كان ذكي اللب، شهم الفؤاد، لوذعياً، كأنما بين جنبيه مصابيح كلِّ ليل بهيم، ممتلئاً نوراً، رجلاً عظيماً بفطرته، لم تثقفه مدرسة، ولا هذبه معلم، وهو غني عن ذلك.
ويزعم المتعصبون من النصارى والملحدين أن محمداً لم يكن يريد بقيامه إلا الشهرة الشخصية، ومفاخر الجاه والسلطان.
كلا _ وأيم الله _ لقد كان في فؤاد ذلك الرجل ابن القفار والفلوات، المتوقد المقلتين، العظيم النفس، المملوء رحمة وخيراً وحكمة، وحِجَىً _ أفكار غير الطمع الدنيوي، ونوايا خلاف طلب السلطة والجاه، وكيف لا، وتلك نفس صامتة كبيرة، ورجل من الذين لا يمكنهم إلا أن يكونوا مخلصين جادين؛ فبينما ترى آخرين يرضون الاصطلاحات الكاذبة، ويسيرون طبق الاعتبارات الباطلة إذ ترى محمداً لم يرض أن يَتَلَفَّع بمألوف الأكاذيب، ويتوشح بمبتدع الأباطيل.
لقد كان منفرداً بنفسه العظيمة، وبحقائق الأمور والكائنات، لقد كان سرُّ الوجود يسطع لعينيه _ كما قلت _ بأهواله، ومخاوفه، وروانقه، ومباهره، ولم يكن هناك من الأباطيل ما يحجب ذلك عنه، فكان لسان حال ذلك السر الهائل يناجيه: ها أنا ذا، فمثل هذا الإخلاص لا يخلو من معنى إلهي مقدس، فإذا تكلم هذا الرجل فكل الآذان برغمها صاغية، وكل القلوب واعية، وكل كلام ما عدا ذلك هباء، وكل قول جفاء+.
إلى أن قال: =إذاً فلنضرب صفحاً عن مذهب الجائرين أن محمداً كاذب، ونعد موافقتهم عاراً، وسبة، وسخافة، وحمقاً؛ فلنربأ بأنفسنا عنه+.(1/20)
إلى أن قال: =وإن ديناً آمن به أولئك العرب الوثنيون، وأمسكوه بقلوبهم النارية لجدير أن يكون حقاً، وجدير أن يُصَدَّق به.
وإنما أودع هذا الدين من القواعد هو الشيء الوحيد الذي للإنسان أن يؤمن به.
وهذا الشيء هو روح جميع الأديان، وروح تلبس أثواباً مختلفة، وأثواباً متعددة، وهي في الحقيقة شيء واحد.
وباتباع هذه الروح يصبح الإنسان إماماً كبيراً جارياً على قواعد الخالق، تابعاً لقوانينه، لا مجادلاً عبثاً أن يقاومها ويدافعها.
لقد جاء الإسلام على تلك الملل الكاذبة، والنحل الباطلة، فابتلعها، وحق له أن يبتلعها؛ لأنه حقيقة، وما كان يظهر الإسلام حتى احترقت فيه وثنيات العرب، وجدليات النصرانية، وكل ما لم يكن بحق؛ فإنها حطب ميت+.
إلى أن قال: =أيزعم الأفَّاكون الجهلة أنه مشعوذ ومحتال؟
كلا، ثم كلا، ما كان قط ذلك القلب المحتدم الجائش كأنه تَنُّور فِكْر يضور ويتأجج _ ليكون قلب محتال ومشعوذ، لقد كانت حياته في نظره حقاً، وهذا الكون حقيقة رائعة كبيرة+.
إلى أن قال: =مثل هذه الأقوال، وهذه الأفعال ترينا في محمد أخ الإنسانية الرحيم، أخانا جميعاً الرؤوف الشفيق، وابن أمنا الأولى، وأبينا الأول.
وإنني لأحب محمداً لبراءة طبعه من الرياء والتصنع، ولقد كان ابن القفار رجلاً مستقل الرأي، لا يقول إلا عن نفسه، ولا يدّعي ما ليس فيه، ولم يكن متكبراً، ولكنه لم يكن ذليلاً ضَرِعاً، يخاطب بقوله الحرِّ المبين قياصرة الروم وأكاسرة العجم، يرشدهم إلى ما يجب عليهم لهذه الحياة، وللحياة الآخرة، وكان يعرف لنفسه قدرها.
ولم تخل الحروب الشديدة التي وقعت له مع الأعراب من مشاهد قوة، ولكنها كذلك لم تخل من دلائل رحمة وكرم وغفران، وكان محمد لا يعتذر من الأولى، ولا يفتخر بالثانية+.(1/21)
إلى أن قال: =وما كان محمد بعابث قط، ولا شابَ شيئاً من قوله شائبةُ لعبٍ ولهوٍ، بل كان الأمر عنده أمر خسران وفلاح، ومسألة فناء وبقاء، ولم يكن منه بإزائها إلا الإخلاص الشديد، والجد المرير.
فأما التلاعب بالأقوال، والقضايا المنطقية، والعبث بالحقائق _ فما كان من شأنه قط، وذلك عندي أفظع الجرائم؛ إذ ليس هو إلا رقدة القلب، ووسن العين عن الحق، وعيشة المرء في مظاهر كاذبة.
وفي الإسلام خَلَّة أراها من أشرف الخلال وأجلها، وهي التسوية بين الناس، وهذا يدل على أصدق النظر، وأصوب الرأي؛ فنفس المؤمن رابطة بجميع دول الأرض، والناس في الإسلام سواء+.
إلى أن قال: =وسع نوره الأنحاء، وعمَّ ضوؤه الأرجاء، وعقد شعاعه الشمال بالجنوب، والمشرق بالمغرب، وما هو إلا قرن بعد هذا الحادث حتى أصبح لدولة العرب رجل في الهند، ورجل في الأندلس، وأشرقت دولة الإسلام حقباً عديدة، ودهوراً مديدة بنور الفضل والنبل، والمروءة، والبأس، والنجدة، ورونق الحق والهدى على نصف المعمورة+ا_هـ.
بيئة الإسلام الأولى التي اختارها الله لمولد خاتم رسله
وظهور أكمل رسالاته (1) للعلامة محب الدين الخطيب (2)
__________
(1) مع الرعيل الأول ص18 _ 24.
(2) هو الأديب الكبير والكاتب الإسلامي الشهير الشيخ العلامة محب الدين الخطيب بن أبي الفتح محمد عبد القادر صالح الخطيب.
ولد بدمشق عام 1303هـ، وتعلم بالآستانة، وحضر إلى القاهرة، وعمل في جريدة المؤيد، ثم قصد العراق، فاعتقله الإنجليز سبعة أشهر، ثم ذهب إلى مكة المكرمة عند إعلان الثورة العربية 1916م، فحكم عليه الأتراك بالإعدام غيابياً، ثم استقر في مصرسنة1920م، وعمل محرراً للأهرام، وأنشأ مجلتي الزهراء، والفتح، وأنشأ المطبعة السلفية ومكتبتها.
وقد عرف بغيرته الإسلامية، وكتاباته البارعة، ومعالجته لكثير من القضايا الأخلاقية، والعقدية، واللغوية وغيرها.
كان من أكابر الكتاب الإسلاميين في القرن الرابع عشر، حيث مارس الكتابة في سن مبكرة، وحرص على نشر الفضيلة، ومقاومة دعاة التغريب والرذيلة.
له مؤلفات عديدة، منها كتاب =الخطوط العريضة+، وكتاب =مع الرعيل الأول+.
ومن كتبه، ما نحن بصدده وهو كتاب الحديقة.
وكان×ذا علاقات كثيرة، وصداقات متينة مع أكثر علماء وأدباء عصره.
توفي×عام 1389هـ عن ست وثمانين سنة.(1/22)
بلدة لا كالبلاد، لجيل لا كالأجيال، من أمة لا كالأمم...
بلدة اختارها الله _ في الدهر الأول _ لأول بيت قام في الأرض؛ لتوحيد الله والعبادة الخالصة والنسك السليم: [إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ (96) فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِناً وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْ الْعَالَمِينَ] آل عمران:96_ 97.
قال الحسن بن أبي الحسن البصري ×: =كان الرجل قبل الإسلام يَقتل، فيضع في عنقه صوفة ويدخل أرض الحرام، فيلقاه ابن المقتول، فلا يهيجه حتى يخرج من حدود الحرم+.
وقد وصف الله في سورة (العنكبوت الآية: 67) هذه الميزة لبيت الله الحرام، ومنَّ بها على أهله فقال: [أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ].(1/23)
وفي سورة (القصص: 57_ 59) _ وهي مكية _ نعى الله على الحارث بن عامر ابن نوفل بن عبد مناف وأمثاله من رجالات قريش وشبابهم أنهم تخوَّفوا من إقامة الحق بالدخول في الإسلام يوم كانت مكة هي بيئةَ الإسلام الأولى ومشرقَ دعوته [وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعْ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (57) وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلاَّ قَلِيلاً وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ (58) وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولاً يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلاَّ وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ].
ومما خاطب الله قريشاً _ فيما أنزله من القرآن بمكة _ ومنَّ عليهم بهذه الميزة الكبرى لبلدتهم دون بلاد الأرض كلها قوله _ جلَّ ثناؤه _: [فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ (3) الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ(4)] قريش.
إن حرم مكة الآمن لا ينحصر في حرم الكعبة، ولا يقتصر على البلدة كلها، بل يعم أرض الحرم إلى مسافات بعيدة أقيمت لها أعلام في كل ناحية من نواحيها، فما كان خارج هذه الأعلام يسمى الحل، وما هو في داخل نطاقها يسمى الحرم، وفي الحرم تأمن الطير _أيضاً_ كما يأمن الإنسان؛ فلا تنفر عن أوكارها، ويأمن فيه حتى الوحش، فلا يحل اصطياده.
بل من جملة تحريمها تحريمُ قطع شجرها، وقلع حشيشها.
وقد خطب رسول الإنسانية الأعظم _ صلوات الله عليه _ يوم فتح الله عليه مكة، فقام على باب الكعبة يقول لقريش ومن وراءها من جماهير الناس، ولكتائب الفتح من المهاجرين والأنصار:(1/24)
=إن الله حرَّم هذا البلد يوم خلق السموات والأرض؛ فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة، وإنه لم يحلَّ القتال لأحد قبلي، ولم يحلَّ لي إلا في ساعة من نهار؛ فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة، لا يعضد شوكه، ولا يُنَفَّرُ صيدُه، ولا يلتقط لقطته إلا من عَرّفها، ولا يختلى خلاه+.
فقال عمه العباس: يا رسول الله إلا الإذخر _ وهو نبات طيب الرائحة ينتفعون به _ فقال ": =إلا الإذخر+.
وقد حيل بين من يلجأ إلى الحرم من المجرمين وبين حقوق الله والناس بما رواه سعيد بن جبير عن عبدالله بن عباس أن القاتل إذا عاذ ببيت الله في مكة أعاذه البيت، ولكن ليس على أحد من ساكني الحرم أن يؤويه، أو يطعمه ويسقيه، حتى يضطر إلى الخروج من حدود الحرم فإذا خرج أخذ بذنبه.
ومن أعجب ما امتازت به مكة عن بلاد الله جميعاً بين زمن مولد حامل أكمل رسالات الله وزمن هجرته_ أنها بلدة لم يشعر أهلها بحاجتهم إلى حكومة، ولم تمس حاجتهم إلى إقامة شرطة تحمي أهل العافية فيهم من أهل البغي والشر؛ لأنهم قلما عرفوا فيهم مُواطناً من أهل مكة تنزع نفسه إلى البغي والشر(1).
وأكثر ما كان يقع فيهم الباطل أن يمطل المدين دائنه في وفاء ما في ذمته له، فكان يستعين عليه بأهل العافية؛ فيحصل منه على حقه بلا حاجة إلى قضية أو محكمة.
ولأجل هذا انعقد في بيت وجيه من وجهاء مكة وشريف من أشرافها وهو عبدالله بن جدعان التيمي _ من أسرة أبي بكر الصديق _ حِلْفٌ اشترك فيه طائفة من أهل الفُتُوَّة والمروءة في قريش، وتعاقدوا على ألا يجدوا بمكة مظلوماً من أهلها أومن غيرهم ممن دخلها من سائر الناس إلا قاموا معه، وكانوا على مَنْ ظلمه حتى تُرَدَّ عليه مظلمته.
__________
(1) أين الكاتب × من الحال في هذه الأزمان والله المستعان (م).(1/25)
وكان رسول الله "لا يزال يومئذ فتى، روى طلحة الندى _ وهو طلحة ابن عبدالله عوف الزهري قاضي مكة في القرن الأول للإسلام _ أن رسول الله"قال: =لقد شهدت في دار عبدالله بن جدعان حلفاً ما أحب أن لي به حُمْرَ النعم، ولو أُدعى به في الإسلام لأجبت+.
إن الناس هم الناس، وفيهم الطيب والوسط والخبيث، تشترك في ذلك الأمم كلها، غير أنها تتفاضل بنسبة أهل هذه الأصناف الثلاثة بعضهم إلى بعض؛ فمن الأمم من تطغى نسبة الخبيث من أهلها على من فيها من الطيبين والعنصر الوسط؛ فهي من شر الأمم، ومنها من يكثر فيها العنصر الطيب وتكون له الكلمة النافذة والتوجيه المطاع في المجتمع؛ فهي من أكرم الأمم معدناً، ومنها من تعظم فيها نسبة الطبقة الوسطى؛ فيعم فيها الخير ويستتب الاستقرار.
يقول النبي " فيما قرره من حقائق: =الناس معادن كمعادن الذهب والفضة، خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا+.
وقد علق شيخ الإسلام ابن تيمية على هذا الحديث في كتابه منهاج السنة (2:260_261) بقوله: =فالأرض إذا كان فيها معدن ذهب، ومعدن فضة كان معدن الذهب خيراً؛ لأنه مظنة وجود أفضل الأمرين فيه؛ فإن قُدِّر أنه تعطل ولم يخرج ذهباً كان ما يخرج الفضة أفضل منه؛ فالعرب في الأجناس _ وقريش فيها، ثم هاشم من قريش _ مظنةُ أن يكون فيهم الخير أعظم مما يوجد في غيرهم؛ ولهذا كان في بني هاشم النبي "الذي لا يماثله أحد في قريش، فضلاً عن وجوده في سائر العرب وغير العرب.
وكان في قريش الخلفاء الراشدون، وسائر العشرة، وغيرهم ممن لا يوجد له نظير في العرب وغير العرب.(1/26)
وكان في العرب السابقين الأولين مَنْ لا يوجد له نظيٌر في سائر الأجناس؛ فلا بد أن يوجد في الجنس الأفضل ما لا يوجد مثله في المفضول، وقد يوجد في المفضول ما يكون أفضل من كثير مما يوجد في الفاضل، كما أن الأنبياء الذين ليسوا من العرب أفضل من العرب الذين ليسوا بأنبياء، والمؤمنون المتقون من غير قريش أفضل من القرشيين الذين ليسوا مثلهم في الإيمان والتقوى، وكذلك المؤمنون المتقون من قريش وغيرهم أفضل ممن ليس مثلهم في الإيمان والتقوى من بني هاشم؛ فهذا هو الأصل المعتبر في هذا الباب، دون من ألغى فضيلة الأنساب مطلقاً، ودون من ظن أن الله _ تعالى _ يفضل الإنسان بنسبه على من هو أعظم إيماناً وتقوى منه؛ فكلا القولين خطأ، وهما متقابلان، بل الفضيلة بالنسب فضيلةُ جُمْلَة، وفضيلةٌ لأجل المَظِنَّةِ والسببِ، والفضيلةُ بالإيمان والتقوى فضيلةُ تعيينٍ وتحقيق وغاية؛ فالأول يَفْضُل به؛ لأنه سببٌ وعلامة، ولأن الجملة أفضل من جملة تساويها في العدد، والثاني يفضل به؛ لأنه الحقيقة والغاية، ولأن من كان أتقى لله كان أكرم عند الله، والثواب من الله يقع على هذا؛ لأن الحقيقة قد وجدت فلا يعلق الحكم بالمظنة، ولأن الله يعلم بالأشياء على ما هي عليه فلا يستدل بالأسباب والعلامات+.(1/27)
بهذا فسر شيخ الإسلام ابن تيمية حديث معادن الناس، وكان ينظر _ وهو يعالج هذا الموضوع الدقيق _ إلى آية الحجرات 13 [إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ]، كما ينظر إلى حديث عبدالله بن عمر قال: إنا لقعود بفناء رسول الله"إذ مرت امرأة، فقال بعض القوم: هذه ابنة محمد " _ والحقيقة أنها كانت درة بنت أبي لهب، وكانت زوجة للحارث بن نوفل، ثم تزوجها دحية الكلبي _ فقال رجل: إن مثل محمد " في بني هاشم مثل الريحانة في وسط النتن؛ فانطلقت المرأة فأخبرت النبي " فجاء _ عليه السلام _ يُعرَفُ في وجهه الغضب، ثم قام على القوم فقال: =ما بال أقوام تبلغني عن أقوام؟ إن الله _ عز وجل _ خلق الخلق فاختار من الخلق بني آدم، واختار من بني آدم العرب، واختار من العرب مضر، واختار من مضر قريشاً، واختار من قريش بني هاشم، واختارني من بني هاشم؛ فأنا خيار من خيار؛ فمن أحب العرب فبحبي أَحَبَّهم، ومن أبغض العرب فببغضي أبغضهم+.
قال الحافظ العراقي: =وهو حديث حسن، أخرجه الحاكم في المستدرك على الصحيحين، ورواه من غير هذا الإسناد _أيضاً_ وروى نحوه من حديث أبي هريرة، ورواه الطبراني في المعجم الأوسط وقال: حديث صحيح+.
فالتفاضل بالتقوى هو الأصل، وهو الحقيقة والغاية، وكرم المعدن فضيلةُ جملةٍ، ومظنة أن يوجد فيه الخير أكثر مما يوجد في غيره.
إن البيئة التي ولد فيها خاتم رسل الله، وهي قريش سكان شعاب مكة وبطاحها _ قد تفاوت رجالها ونساؤها في سرعة الاستجابة لدعوة الإسلام؛ فهذا عمر بن الخطاب كان من مشركي قريش يوم كان أبو بكر أول رجل من قريش استجاب لهذه الدعوة، وأخذ يحببها بحكمته ورجاحة عقله ودماثة خلقه إلى طائفة من أعز شباب قريش في بطحاء مكة، من أمثال عثمان، والزبير، وعبدالرحمن بن عوف، وطلحة بن عبيد الله، وسعد بن أبي وقاص، وغيرهم من مسلمي الرعيل الأول؛ فهل أزرى بعمر أن تأخر إسلامه عن إسلام هؤلاء وعن إسلام أخته وصهره؟.(1/28)
وهذا خالد بن الوليد كان في وقعة أحد قائد خيل المشركين، وكان المفروض فيه لما عاد من غزوة أحد إلى مكة أن يكون ثملاً بخمرة ما اتفق له من فوز؛ فيكون ذلك أبعد له عن الاستجابة لنداء الحق.
لكننا رأيناه في أوائل السنة الثامنة للهجرة يزهد في عظيم الجاه الذي كان لأبيه وبيته في أم القرى، ويخرج متوجهاً إلى المدينة؛ ليلتحق بدعوة الحق؛ فالتقى في الطريق بين مكة والمدينة بعمرو بن العاص السهمي، وعثمان بن طلحة أحد بني عبدالدار سدنة الكعبة، قال عمرو: فقلت لخالد: إلى أين يا أبا سليمان؟
قال خالد: والله لقد استقام المنسم، وإن الرجل لنبي، إني أذهب والله لأسلم، فحتى متى؟.
قال عمرو: وأنا والله ما جئت إلا لأسلم.
وقال صاحب مفتاح بيت الله الحرام مثل مقالتهما.
فلما دخلوا على رسول " ونظر إليهم من بعيد قال لأصحابه: =لقد رمتكم مكة بأفلاذ كبدها+.
قال عمرو: فتقدم خالد فأسلم وبايع، ثم دنوت فقلت: يا رسول الله، إني أبايعك على أن تغفر لي ما تقدم من ذنبي.
فقال ": يا عمرو بايع، فإن الإسلام يجبُّ ما قبله، وإن الهجرة تجبُّ ما قبلها.
ونقل الحافظ ابن حجر في الإصابة عن الزبير بن بكار أن رجلاً سأل عمرو ابن العاص: ما أبطأ بك عن الإسلام، وأنت أنت في عقلك؟
فأجابه: إنا كنا مع قوم لهم علينا تقدُّم، وكانوا ممن توازن حلومهم الجبال؛ فلما بعث النبي " فأنكروا عليه قلدناهم، فلما ذهبوا وصار الأمر إلينا نظرنا وتدبرنا، فإذا حقٌّ بَيِّنٌ؛ فوقع في قلبي الإسلام، فعرفت قريش ذلك من إبطائي عما كنت أسرع فيه من عونهم عليه؛ فبعثوا إليَّ فتى منهم فناظرني في ذلك، فقلت: أنشدك الله ربك ورب آباءك من قبلك ومن بعدك أنحن أهدى، أم فارس والروم؟
قال: بل نحن أهدى _ أي أعقل وأعظم بصيرة وإدراكاً لحقائق الأمور_.
مولد الإنسانية (1) للشيخ العلامة محب الدين الخطيب
__________
(1) مع الرعيل الأول ص7 _ 17.(1/29)
قال الحكيم الفرنسي الشهير غوستاف لوبون: =ما عرف التاريخ حاكماً أعدل ولا أرحم من العرب+.
وهذا الامتياز الذي تفرَّد به العرب في التاريخ _ كما لاحظه الحكيم الفرنسي وأعلنه للناس _ إنما كانت نفحة من رسالة الله التي اختار لها صفوة عباده، وأكمل مخلوقاته، محمد بن عبدالله _ صلوات الله وسلامه عليه _ فكان يوم مولده يوم مولد العدل الذي كانت الإنسانية في انتظاره، وبشيراً برحمة الله التي تعامل الناس بها للمرة الأولى بمقياس واسع في ظلّ الرسالة المحمدية.
فالمولد المحمدي لم يكن مولد إنسان، وإنما كان مولد إنسانية، وكانت الإنسانية قبل ذلك أمنية الخواص، وكان التعامل بها محصوراً بين أفراد ممتازين، فلما آذن الله بمولد صاحب هذه الذكرى الخالدة على الدهر رفع بمولده مقام الإنسانية، ونهض بمستواها إلى المرتبة التي كان يحلم بها الحكماء، ويرونها من أماني الخيال؛ فصارت الإنسانية عقيدة وديناً، بعد أن كانت أمنية ووهماً، وقامت لها في الأرض دولة تعد الصدق من دعائم دينها، والحياء من شعب إيمانها، والرحمة من أسلحة نضالها، وإقامة الحق من شعائر مجتمعها، وإماطة الأذى عن كل طريق خلقاً إسلاميَّاً يتخلَّق به كلُّ من سار وراء هذا المتبوع الأعظم.
يقول أديب العصر مصطفى صادق الرافعي ×: =ليس المصلح من استطاع أن يفسد عمل التاريخ؛ فهذا سهل ميسور حتى للحمقى، ولكن المصلح من لم يستطع التاريخ أن يفسد عمله من بعده+.
وإن سيد المصلحين، وأفضل رسل الله أجمعين هو صاحب الرسالة الوحيدة التي تولى الله حفظها، وتكفل بالخلود لكتابها، وحاط مبادءها وسننها وأحكامها وأهدافها بحياطته الصمدانية، وأقامها بين أيدي البشر غضة سليمة كأن نبرات صوته الشريف تنطق بنصوصها وحروفها في كل حين، فتبهر الناس بكمالها الذي لا يدركه كمال.
قالت الليدي إيفلين كوبولد في كتابها (الحج إلى مكة):
=لقد تساءل غوتيه: إذا كان هذا هو الإسلام، ألسنا كلنا مسلمين؟(1/30)
فأجاب كارليل: أجل، إن من يحيا بالروح إنما يحيا على الإسلام+.
ويقول مستر ولز أكبر مؤرخي هذا العصر: =كل دين لا يسير مع المدنية في كل طور من أطوارها فاضرب به عرض الحائط، ولا تبال به؛ لأن الدين الذي لا يسير مع المدنية جنباً إلى جنب لهو شرٌّ مستطير على أصحابه يجرهم إلى الهلاك.
وإن الديانة الحقة التي وجدتها تسير مع المدنية أنَّى سارت هي الديانة الإسلامية، وإذا أراد الإنسان أن يعرف شيئاً من هذا فليقرأ القرآن؛ إن كثيراً من أنظمته تستعمل في وقتنا هذا، وستبقى مستعملة إلى قيام الساعة.
وإذا طلب مني القارئ أن أحدد له (الإسلام) فإني أحدده بالعبارة التالية: (الإسلام هو المدنية)+.
وهل في استطاعة إنسان أن يأتيني بدور من الأدوار كان فيه الدين الإسلامي مغايراً للمدنية والتقدم؟
إن محمداً هو الذي استطاع في مدة وجيزة لا تقِلُّ عن ربع قرن أن يكتسح دولتين من أعظم دول العالم، وأن يقلب التاريخ رأساً على عقب، وأن يكبح جماح أمة اتخذت الصحراء المحرقة سكناً لها، واشتهرت بالشجاعة ورباطة الجأش والأخذ بالثأر واتباع آثار آبائها، ولم تستطع الدولة الرومانية أن تغلب الأمة العربية على أمرها؛ فمن الذي يشك أن القوة الخارقة للعادة التي استطاع محمد أن يقهر بها خصومه هي من عند الله؟(1/31)
وهذه الحضارة الإنسانية، بل الإنسانية الممتازة، التي ولدت بمولد الهادي الأعظم، وانطوت عليها رسالته السامية، وحققها بالتعامل بها من اتبعه من الصحابة والتابعين _ هي التي وقف في طريقها شارل مارتل، وكان الذين يجهلون الإسلام من الغربيين يمجِّدون شارل مارتل ويقدسونه لذلك، فلما ظهر فيهم من أدرك أهداف هذه الرسالة، وعرف كريم معدنها، وثمين جوهرها، تغير حكمهم على تلك الحادثة التاريخية الأليمة، فقال مسيو هنري دي شامبون مدير مجلة (ريفو بارلمنتير الفرنسية): =لولا انتصار جيش شارل مارتل الهمجي على تقدم العرب في فرنسا لما وقعت فرنسا في ظلمات القرون الوسطى، ولما أصيبت بفظائعها، ولا كابدت المذابح الأهلية الناشئة عن التعصب الديني والمذهبي.
ولولا ذلك الانتصار البربري على العرب لنجت أسبانيا من وصمة محاكم التفتيش، ولولا ذلك لما تأخر سير المدنية ثمانية قرون. نحن مدينون للشعوب العربية بكل محامد حضارتنا: في العلم، والفن، والصناعة، مع أننا نزعم السيطرة على تلك الشعوب العريقة في الفضائل، وحسبها أنها كانت مثال الكمال البشري مدة ثمانية قرون، بينما كنا يومئذ مثال الهمجية.
وإنه لكذب وافتراء ما ندَّعيه من أن الزمان قد اختلف، وأنهم صاروا يمثلون اليوم ما كنا نمثله نحن فيما مضى+.(1/32)
ويقول مسيو كلود فارير في المقدمة التي كتبها للترجمة الفرنسية من رواية العباسة أخت الرشيد تأليف جورجي زيدان: =أصيبت الإنسانية والعالم الغربي عام 732م بكارثة عظمى لم تصب بمثلها في القرون الوسطى، وبقي أثرها ظاهراً في العالم مدة سبعة قرون أو ثمانية، إن لم يكن مثل ذلك؛ لأن روح التجدد كانت يومئذ قد بدت للعيان، حتى وقعت تلك الكارثة فكان من نتائجها تأخر سير الحضارة ورجوع العالم إلى الوراء، هذه الكارثة هي الانتصار المؤلم الذي أحرزه وحوش الهاركا من جيوش الإفرنج التي كان يقودها شارل مارتل سليل الكارلنجيين محارباً بها كتائب العرب والبربر التي لم يحسن عبدالرحمن جمعها وحشدها بالمقدار الكافي؛ فكان ذلك سبب خذلانها وتقهقرها .
في ذلك اليوم المظلم تقهقرت الحضارة إلى الوراء ثمانية قرون.
وحسب الذين يبتغون أن يشهدوا مثالاً من مدنية العرب يومئذ أن يتنقلوا بين حدائق الأندلس الغناء، ثم أن يأتوا الآن فيترددوا بين خرائب ذلك العصر الماثلة للأنظار في إشبيلية وقرطبة وطليطلة وغرناطة+.
وبينما كان المنصفون من كبار أدباء الغرب وعلمائه يعترفون بهذه الحقائق عن الإنسانية الكاملة التي بعث الله بها أكمل رسله إلى صفوة أممه _ كان شيخ ملاحدة الشرق العالم الشهير الدكتور شبلي شميل يقول بلا محاباة: =إن القرآن فتح أمام البشر أبواب العمل للدنيا والآخرة، وجاء لتقوية الروح والجسد بعد أن أوصد غيره من الأديان تلك الأبواب، فقصر وظيفة البشرية على الزهد والتخلي عن هذا العالم الفاني+.(1/33)
ونتخطى العلماء والحكماء والأدباء إلى سادة العروش وقادة الجيوش، وساسة الأمم، فننقل عن مسيو موريس باليولوغ _ عضو الأكاديمية الفرنسية، وأحد سفراء فرنسا السابقين في روسيا _ من كتابه (غليوم الثاني ونقولا الثاني) فقرة من النص الدقيق لرسالة بعث بها الإمبراطور غليوم إلى قريبه قيصر روسيا يوم 9 نوفمبر 1897 يصف له فيها شعوره عند زيارته بيت المقدس في ذلك الشهر من تلك السنة، وختمها بقوله: =ولما غادرت الأماكن المقدسة كنت أشعر بخجل عظيم من المسلمين، وكنت أقول لنفسي في قرارة نفسي: لو لم يكن لي دين عند وصولي إلى القدس لكنت قد اعتنقت حتماً الدين الإسلامي+.
وهذا الدين الإسلامي هو دين الأخلاق، وشُعَبُ إيمانه _ التي بلغت بضعاً وسبعين شعبة _ يدور أكثرها حول الأخلاق، فالأخلاق من أركان الإيمان في الإسلام، وقد تغنى (شوقي) بذلك يوم قال في الرسول":
يا من له الأخلاق ما تهوى العلا ... منها، وما يتعشق الكبراء
لو لم تُقِمْ ديناً لقامت وحدها ... ديناً تضيء بنوره الآناء
زانتك في الخلق العظيم شمائل ... يُغرى بهن ويُولع الكرماء
فإذا رحمت فأنت أمٌّ أو أبٌ ... هذان في الدنيا هما الرحماء
وإذا غضبتَ فإنما هي غضبة ... في الحق لا ضغن ولا بغضاء
وإذا قضيتَ فلا ارتيابَ كأنما ... جاء الخصومَ من السماء قضاءُ
وإذا أخذت العهد أو أعطيته ... فجميع عهدك ذمةٌ ووفاء
أيها المسلمون، إن الإسلام الذي بعث الله به محمداً " هو ما يسميه الإفرنج (السبرمان) أي الإنسانية في أسمى ذروتها، وإنكم _ يوم تنشدون لمجتمعكم النظام الصالح _ لا مناص لكم من أن ترجعوا إلى هذا النظام فتأخذوه من ينابيعه الأولى، وتفهموا كل فقرة من نصوصه بجوّها الذي كان لها يوم نطق بها هذا الهادي الأعظم، وتأخذوها على أنها أمر لكم من نبيكم لتعملوا بها، لا على أنها حكمة تحفظون ألفاظها؛ لتتحدثوا بها إلى من تجالسونه، ثم تنتهي مهمتها هناك.(1/34)
إن الله بعث صاحب هذه الرسالة الكريمة "؛ لتكون لنا به أسوة حسنة، أي لنحاول السير معه من ورائه؛ فنضع قدمنا على آثار قدمه الشريفة، لا نخرج عن طريقه إلى أي طريق آخر، وإن طريقه _ كما اعترف هؤلاء الإفرنج الذين نقلنا نصوص أقوالهم _ لا تحوجنا إلى التماس طريق آخر، لا طريق موسكو، ولا طريق لندن، ولا طريق واشنطون، ولا طريق باريس، وكل ما عرف الناس وسيعرفون من حق أو خير فإن النظام المحمدي يدل عليه، ويوصل إليه من أيسر الطرق، وأجملها.
نعم إن عصور التأخر التي كان المسلمون محكومين فيها بنظام الاستبداد، ثم بنظام الاستعمار، قد أحالت قوة الإسلام ضعفاً، وجعلته دين مسبحة ومسكنة بعد أن كان دين حق، ونظام مكافحة لإقامة الحق.
ولكن نصوص الإسلام التي تكفل الله بحفظها كفيلة بأن تجعلنا من أصحاب رسول الله _ صلوات الله عليه _ إذا حرصنا على فهمها فهماً سليماً كما لو كنا معاصرين له، وملازمين لمجالسه، وسائرين في ركابه.
وبعد أن استحال دين القوة إلى ما نرى فقد أهله ثقتهم بأنفسهم، وتراخت صلتهم بماضيهم، ووقفوا من رسالتهم وقفة المتفرج، فكان ذلك موضع العجب من عقلاء الأمم الذين عرفوا قوة هذه الرسالة، وشاهدوا ضعف أهلها.
كنت عقب تأسيس جمعية الشبان المسلمين في القاهرة قبل نحو ربع قرن أحد المستمعين إلى حديث عظيم تحدث به العالم المحقق الجليل مستر مارماديوك بكثول في دار الشبان المسلمين، عن الإسلام وقوته وضعف أهله، فكان مما قاله:
=في رأيي أن الزمن الذي نحن فيه أنسب الأزمان وأصلحها لنشر الدعوة الإسلامية في الأرض.
وما يظنه الظانون مثبطاً من نقص القوة هو _ بالعكس _ أدعى لنشر الإسلام وأكثر ملاءمة للنجاح فيه.(1/35)
إن لنا في (هدنة الحديبية) لعبرة نقضي لها العجب كلما فكرنا فيها؛ فالصحابة _ رضوان الله عليهم _ وقعت منهم شروط تلك الهدنة موقع الأسى، وكانت لهم منها صدمة عنيفة لم يسلم من تأثيرها بعد صاحب الهداية العظمى"غير عدد قليل منهم، في مقدمتهم الصِّدِّيق _ رضوان الله عليه _.
ولكن هذه الهدنة كانت الفتح الأكبر للإسلام حتى أن عدد الذين دخلوا في الإسلام في سنة واحدة بعد صلح الحديبية كان أكثر من عدد الذين دخلوا في مدة تسع عشرة سنة قبل ذلك.
والسبب في هذا الإقبال على الإسلام أن قريشاً وسائر العرب لما ظنوا الفوز في جانبهم بما حصلوا عليه من قيود وعهود تساهلوا في أمر الاتصال بالمسلمين، وزال سبب كبير من أسباب صدودهم عن الإصغاء إلى الهداية الإسلامية؛ فكانوا يرون بأعينهم من سيرة أهل هذه الهداية ما يبهر النظر نوراً، وكانوا يسمعون بآذانهم ما يملأ القلب حقَّاً وإيماناً؛ لذلك صاروا يدخلون في دين الله أفواجاً، وكان للإسلام بذلك القوة العظمى التي مهدت لفتح مكة، وإعلاء كلمة الله، فلا يعلو عليها شيء؛ فتبين للذين تلقوا صدمة تلك الشروط القاسية في الحديبية أن هذه المواقف وأمثالها ليس من شأنها أن تدعو إلى اليأس، وليس من شأنها أن تحول بين الحق وبين ما يستحقه من فوز+.
ثم قال أخونا في الإسلام مستر محمد مارماديوك بكثول ×:(1/36)
=إن صوتاً عُلْويَّاً نسمعه الآن من الحديبية ينادينا بأن في الإمكان _ بالرغم مما صرنا إليه من التجرد عن القوة _ أن نلم شعثنا، ونعود لنشر هداية ديننا، وأن نبلغ هذه الهداية إلى البشر أجمع؛ فالشعوب اليوم أشد إصغاءاً إلينا منها في العصور السالفة؛ لأن المشادَّة بين القوة والقوة قد تكون سبباً من أسباب الصدود عن الإصغاء إلى الحق، فلم يبق على المسلمين إلا أن يعملوا، والعمل اليوم ممكن جدَّاً، ولكنَّ له شرطاً واحداً _ ولا مناص من تحقيق هذا الشرط _ وهو أن نكون الآن متحلين بالصفات التي كان متحلين بالصفات التي كان متحلياً بها مسلمو الحديبية؛ فالمسلم المعاصر إذا تحلى بالأخلاق الإسلامية الأولى _ من صدق واستقامة وحزم، وعزة نفس، وسعي للخير جهد الطاقة _ كان من وراء هذه الأخلاق قوةٌ تستمد الدعوة منها، فينتشر الإسلام حتى يعم الأرض.
والشعوب إنما تنظر إلى أهل الدين، قبل أن تنظر إلى الدين نفسه.
وأضرب لكم المثل بالإسلام في الهند؛ فإن إلى جانب مسلمي الهند ملايين كثيرة من مواطنيهم الوثنيين، وإن منهم من إذا أصغى إلى مبادئ الإسلام وتأمل فيها بهرته وقال: إن هذا هو الحق، وإن هذا هو الذي يجب أن يدين به كل إنسان، لكنه لا يملك نفسه بعد ذلك أن يسأل:
ولماذا المسلمون أنفسهم لا يعملون بهذه المبادئ؟ ولماذا لا يهتدون بهذه الهداية؟
هذه هي العقبة الحقيقية الواقفة في سبيل انتشار الإسلام، فلا بد من تذليلها، وليس بعد ذلك ما يحول بين الإسلام وبين أن يكون دين الإنسانية+.
هذا الكلام الموجه إلى المسلمين من أخ لهم في الإسلام دخل في دينهم عن بينة وإيمان، كلام (من طبَّ لمن حب)، ولو أن الله مدَّ في حياته حتى يشهد تطور الدنيا بعد الحرب العالمية الأخيرة لأدرك معنا أننا في فترة من التاريخ يوشك أن تنهار فيها جميع الدعائم التي كان يقوم عليها بنيان النظم الغربية بعد إفلاسها، وثبوت عجزها عن توفير السعادة التي تنشدها الأمم.(1/37)
ولو أن الله _ سبحانه _ لم يبعث رسوله بالإسلام قبل بضعة عشر قرناً لكانت حكمته العظمى ورحمته بالبشر جديرةً بأن تحسن إليهم الآن برسالة الإسلام نفسها دون غيرها؛ لما انطوت عليه من اعتدال ورفق ومعالجة عملية لجميع مشاكل المجتمع، وإقرار للأوضاع المألوفة لبني الإنسانية، مع تهذيبها بإبقاء ما فيها من حق وخير، وتجريدها من كل ما يتصل بأسباب الجور والحيف والضرر؛ فالزمن الذي نحن فيه أنسب الأزمان بقبول الإنسانية مبادئ الإسلام وأحكامه مطبقة على كل مشاكل العصر، ومنظمة تنظيماً يسهل على رجال التشريع وزعماء الشعوب وقادة الفكر الاستفادة منها في معالجة مشاكلهم، والتفهم لما انطوت عليه من حكمة، ومصلحة، وخير.
فهذا التنظيم العصري لمبادئ الإسلام وأحكامه يجب أن يكون من أهم ما تتوجه إليه همم الجامعيين والمثقفين _ فضلاً عن أفاضل علماء الأزهر ونجباء طلابه _.
ولا يكون ذلك إلا بالوفاء لهذا التراث، والإخلاص له، والصبر عليه، وأخذه من ينابيعه، وفهمه فهماً سليماً كما كان يفهمه الصحابة والتابعون، وهو من العموم والشمول بحيث يصلح لكل زمان ومكان.
وإذا كان عقل عالم بريطاني كبير كالمستر مارماديوك بكثول اقتنع بأن زمن إلقائه تلك المحاضرة كان أنسب الأزمان وأصلحها لتعميم النظام الإسلامي في الأرض فإن ما بعد الحرب العالمية الأخيرة أكثر ملاءمة لذلك.
وبعد فإن المسلمين ما برحوا _ من مئات السنين _ حريصين على إحياء ذكرى مولد الهادي الأعظم، ولكن بما نعرفه من أقوال وأشكال ومظاهر.(1/38)
وأكبر ظني أن الأمة بلغت الآن من الوعي الرشيد ما يجعلها تحيي هذه الذكرى بإحياء رسالة صاحبها _ عليه من الله أكرم السلام والتحية _ فالإسلام يحتاج من أبنائه إلى طبقة من الشباب والشيوخ يجعلون شعارهم التأسي برسول الله في أخلاقه الشريفة السامية، وفي مبادئ رسالته العظمى، وتحقيق أهدافها العقلية والاجتماعية والإنسانية، واعتبارها رسالة موجهة إلى عصرنا بالذات؛ لتعالج مشاكله، وتقيم معالمه، وتسن أنظمته، فنتعامل بها في بيوتنا، وأسواقنا، ومحاكمنا، ودواوين حكمنا، وقصور عظمائنا؛ فالإسلام إسلام بالتعامل به، لا بادعائه في شهادة الميلاد، وأرقام التعداد، وتحقيق ذلك يكون بالشروع به من الواحد إلى الاثنين إلى الجماعة الصغيرة، فالبيئة الواسعة، فالوطن الأعظم.
ونحن الآن في عصر الديموقراطية الذي تنزل فيه الدولة على حكم الأمة، ومن هي الأمة؟
أنا كاتب هذه السطور، وأنت القارئ لها، والآخر السامع لك وأنت تقرأ، وغيركما ممن ستجتمعان بهم، وتتحدثان إليهم، وتنقلان من إيمان قلوبكما إلى إيمان قلوبهم.
فإذا كثر المقتنعون بذلك، والداعون إليه، والعاملون به، حتى تكون هذه العقيدة عقيدة الرأي العام كان لا مناص لمجالسنا النيابية أن ينزل أعضاؤها على إرادة ناخبيهم، وبذلك تكون دولنا دولاً إسلامية حقَّاً.
قدوتنا الأعظم (1) للعلامة محب الدين الخطيب
في ضميري دائماً صوت النبي
آمراً: جاهدْ، وكابدْ، واتعبِ!
صائحاً: غالبْ، وطالبْ، وادأبِ صارخاً: كن أبداً حرَّاً أبيّ
كن سواء ما اختفى وما علن
كن قويَّاً بالضمير والبدن
كن عزيزاً بالعشير والوطن
كن عظيماً في الشعوب والزمن
مصطفى صادق الرافعي
__________
(1) الحديقة 10/ 90 _ 96، عام 1353هـ(1/39)
كلما خارت قواي وظننت أن الاستسلام للتيار أجدى رجعت بروحي وعقلي إلى سيرة القدوة الأعظم " فوقفت وقفة الخشوع والإجلال تجاه سنين من حياته الشريفة قضاها في معالجة أخلاق قومه العرب، وإعدادهم لحمل مَشْعَلِ الفضيلة والهدى، والسير به في أقطار الدنيا.
وما هي إلا سنوات قلائل حتى كانت دعوة الإسلام أعز دعوة تتحرك به الألسنة، وحتى كانت الشعوب تتجرد من عقائدها وعباداتها، بل من ألسنتها وعاداتها؛ لتدخل تحت لواء الإسلام، وتنادي بكلمة =حي على الفلاح!+ في آفاق جديدة من آفاق الأرض.
كان من أول ما اشتهيت أن أعرفه _ يوم دخلت مكة _ جبل حراء الذي خوطب عليه سيد الخلق " بوحي الحق جل سلطانه، ودار الأرقم بن أبي الأرقم المخزومي التي كانت مُخْتََبَأَ النبي " وأصحابه إلى أن بلغوا أربعين، فكان منهم صفُّ الجهاد الأول في سبيل إعلاء كلمة الله _عز وجل_.
وقفت من جبل النور على قُلَّة شامخة زَلُوج (1)، وأرسلت بصري في الآفاق، فإذا جبال خالية من الناس بعيدة عن ضوضائهم، مستريحة من دسائسهم وشرورهم، أمرها الله أن تكون فكانت، ولا تزال على ما أمرها الله به من غير تبديل أو تعديل إلى أن يأمرها الله بالزوال فتزول.
وتشرفت بدخول الغار المبارك، ثم خلوت بنفسي بعيداً عن أصحابي أتأمل كيف أن روح خاتم الأنبياء، وسيد أولي العزم كانت من السعة بحيث ترجو الله أن تعم كلمة =لا إله إلا الله+ جميع أقطار الدنيا، وأن تعلو أرواح سكان تلك الأقطار من حضيض العبودية للبشر أوالجمادات إلى مستوى التوحيد الخالص الذي لا يليق بعقولِ البشر ونفوسِهم غيره، وأن تتحول أمم الأرض عن خرافاتها وأكاذيبها وخساساتها وحِيَلِها، فتكون بالإسلام أمة صدق ورحمة، وإيثار وعمل، وجهاد وإصلاح.
__________
(1) القُلَّة: القِمَّة، وقوله: شامخة زلوج: أي مرتفعة زلقة (م).(1/40)
في هذا الغار هبط الوحي الإلهي على قلب عبد الله ورسوله محمد " ومن هذا الغار انتشر نور الهدى، فاستنارت به قلوب أمم لا عِداد لها،وسيدخل هذا النور قلب كل ابن أنثى إذا استطاعت أمة محمد " أن تتأسى به، وتصغي إلى صوته فيما أمر به من معروف، وما نهى عنه من فساد.
ودخلت دار الأرقم بن أبي الأرقم المخزومي الواقعة على يسار الصاعد إلى الصفا، فقلت في نفسي: لو شاء الله أن يُلَيِّن لدعوة عبده محمد قلوب أهل الأرض جميعاً لأجابوا نداءه في بضع سنين، بل في ليال قلائل، ولكنه دَرْسٌ من سيرة سيد الخلق " يجب على كل مسلم أن يتعلمه، فيعلم منه أن الحصاد لا يستحقه إلا الذي زرع، وأن النتائج لا يحصل عليها إلا من قام بمقدماتها.
وويل لمن يتقاعس عن الدعوة إلى الخير بحجة أن أهل هذا الزمان يصدون عن الاستجابة لها، وهو يتجاهل أن ما لقيه قدوتنا الأعظم " من العقبات في سبيل دعوته لا يُعَدُّ ما يلقاه دعاة هذا الزمان في جانبه شيئاً مذكوراً.
ألا فليحاسب ورثة الأنبياء أنفسهم، وليقولوا لنا: ما هو الأذى الذي لقوه في سبيل كلمة الله، وما هو البذل الذي بذلوه لإعلاء كلمة الله، وأيُّ خُلُقٍ من أخلاق محمد " وأصحابه تخلقوا به؛ ليكونوا مثالاً حسناً للإسلام يُغْرِي الأغيارَ بالإقبال عليه، والإذعان له؟
لم تسئ أمة إلى تاريخها، ولم تعْشَ أبصار شعب عن سيرة عظمائه كما أسأنا نحن إلى تاريخنا، وكما عميت أبصارنا وبصائرنا عن مواقف العظمة في سيرة نبينا" وحياة أكابر المهتدين بهديه من الصحابة والأئمة والمجاهدين.
ولعل هذه الثُّغْرة في سور قلعتنا أوسعُ مكان تسرَّبَ إلينا منه الضعف، وأصابنا منه الوهن والانحلال.
نشكو إدبار النصر عنا، ولا نحب أن يمر ببالنا شبح المسؤولية التي تتوجه علينا من هذا الجانب.(1/41)
نذكر بالفخر والإعجاب انتشار الإسلام في الصدر الأول انتشاراً يكاد يكون معجزة، وإذا قال لنا إنكليزي مسلم كالمستر مَرْ مَدْيُوك بِكْتول: إن انتشار الإسلام بمثل تلك السرعة ممكن إذا دعوتم إليه بسيرتكم وأخلاقكم _ رجونا أن ينتهي كلامه بسرعة؛ ونهضنا معاهدين الشيطان على أن نبقى عند حسن ظنه فينا.
كلنا نقول: إن محمداً " هو قدوتنا الأعظم، وكلنا نقرأ في كتاب الله _ عز وجل _ [لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ] وكلنا نعلم أن الموانع الواقفة اليوم في سبيل القرآن لا تعد شيئاً مذكوراً في جانب الموانع التي كانت واقفة في سبيله يوم كان محمد " وأصحابه يجتمعون في دار الأرقم بن أبي الأرقم المخزومي عند الصفا يعاهدون الله على الثبات حتى النهاية.
وأقرب ما نقارن به بين حال اليوم وحال الأمس أننا الآن خمسمائة مليون يتلون القرآن؛ وأنهم كانوا يومئذ أقل من أربعين...
ولكن أين الأخلاق؟!
من إلهامات الهجرة (1) للعلامة محب الدين الخطيب
في الإسلام ظاهرة يمتاز بها على غيره من الأديان التي تموج أقطار الأرض بأتباعها؛ فأهل الديانات الأخرى ينحصر معنى الدين عندهم في العقيدة والعبادة، فإذا ضُمنتا لهم في أي نظام لهم من أنظمة الحكم اكتفوا بهما، وأذعنوا إلى ذلك النظام مهما كان، ولا يعرفون دينهم إلا ساعة الاجتماع في المعابد.
أما الإسلام، فكما أنه دين عقيدة وعبادة، فإنه يشمل _ أيضاً _ الآداب في المنازل والمجتمعات، والتعاون بين الأفراد والجماعات، ويتناول العقود والمصالح والالتزامات، وتتسع دائرته فتحيط بنظام الحكم كله.
والمسلمون لا يعتبرون أنفسهم عائشين في بلد إسلامي إلا إذا ساد نظام الإسلام بلدهم، وقامت فيه أحكامه وآدابه، كما تقوم فيه شعائره، وتسود عقائده.
__________
(1) مع الرعيل الأول ص42 _ 47.(1/42)
وإذا تعذر على المسلمين إقامة أحكام دينهم، وتأييد أنظمته الاجتماعية، وآدابه الخلقية والبيتية _ وجب عليهم الانتقال إلى البلد الذي يعمل فيه بأحكام الإسلام وآدابه؛ تكثيراً لسواد المسلمين، وإعزازاً لأمر الدين، واستعداداً لنصره وتأييده في العالمين.
وإذا لم يكن للمسلمين بلد تتوافر فيه هذه الشروط وجب عليهم أن يتجمعوا في بقعة صالحة يقيمون فيها نظام الإسلام تامَّاً كاملاً، ويتعاونون على حماية دعوته، واتخاذ الأسباب والوسائل؛ لتحقيق رسالة الإسلام كما جاء بها صاحبها _ صلوات الله عليه _ وكما فهمها منه أصحابه والتابعون لهم بإحسان.
هذه هي حكمة الهجرة، وهذا هو الباعث عليها، والداعي لها.
فالإسلام يجب أن يكون له وطن تقام فيه معاني الإسلام كلها، ويُعمل فيه بأحكامه وأنظمته في دواوين الدولة، ومرافق الأمة، ومعاملات الأفراد، وآداب البيوت، بقدر ما يعمل فيه بشعائر العبادات، وبقدر ما تُحمى فيه حقائق العقيدة التي لا يكون الإسلام إسلاماً إلا بها.
وقد غفل عن هذه الظاهرة من أمر الإسلام بعض الذين دخلوا فيه على عهد رسول الله " فلبثوا في وطنهم مكة مستضعفين بها لا يستطيعون إعلاء كلمة الله؛ لغلبة الباطل يومئذ على الحق، ولا يهاجرون منها إلى المدينة، فيقوى بهم الإسلام؛ فنزل فيهم قول الله _ عز وجل _: [إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمْ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ _ أي بعد إقامة دينهم في بلدهم، وتخلفهم عن نصره وتأييده في دار هجرته _قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ؟ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا: أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا؟ فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيراً].(1/43)
وهذه الآية نزلت في قوم أسلموا، وكانوا يؤدون صلواتهم على النهج الشرعي في منازلهم أو في الحرم إن استطاعوا، وكانوا صحيحي العقيدة، وغير مقصرين في العبادة، إلا أنهم كانوا سبب ضعف للإسلام، بإذعانهم لنظام غير نظامه، وإحجامهم عن تقوية الإسلام في وطنه ودار هجرته.
ولما كان الإسلام دين يسر، ومن مبادئه أن تقدر الضرورات بقدرها، وأن يعذر أهلها _ كان من تمام الآيات السالفة قول الله _ عز وجل _: [إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنْ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً (98) فَأُوْلَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوّاً غَفُوراً (99) وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَماً _ أي مذهباً ومتحولاً _ كَثِيراً وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً].
إن النفس الإسلامية يريد لها الإسلام أن تعيش في جو من النظام والحكم يسهِّل لها فهم هداية الإسلام، ويحبب لها العمل بهذه الهداية في كل ضروب من ضروب الحياة، وتتوافر فيه حرية الدعوة إلى كل ما ينشده الإسلام من حقيقة وخير، فيتيسر القيام بها جهاراً في جميع أحوال الفرد المسلم والجماعة الإسلامية، ويكون فيه للحق قوة تقمع كل من يصد عن ذلك، أو يحول بين المسلمين وبين الدعوة إلى هدايتهم، والعمل بها في بيوتهم، وأسواقهم، وأنديتهم، ومجتمعاتهم.
فإذا نشأت النفس الإسلامية ونمت تحت جناح نظام يقيم أحكام الإسلام، ويحمي دعوته، ويحمل الأمة على آدابه _ كانت هذه النفس قوة للإسلام تعمل على رفعته وتوسيع دائرته، غصناً في دوحة الإسلام تزهر وتورق وتثمر في جناته.(1/44)
أما إذا نشأت ونمت تحت جناح يخالف الإسلام، ويخذل دعوته ولا يربي الأمة على آدابه _ فإن قوتها تكون معطلة عن تأييد الإسلام، وتعميم هدايته.
إن الهجرة المحمدية من ديار الشرك إلى دار النصرة قد مضت بأهلها، ولكن الهداية المحمدية لا تزال في أمانة المسلمين، وهي في عصرنا أحوج ما كانت إلى تفكير المسلمين في صيانتها، والتماسهم الأسباب لازدهارها وتعميم العمل بها.
لما هاجر النبي " بأصحابه من ديار الشرك إلى دار النصرة، كان للإسلام _على قلة أهله يومئذ _ قوة بتلك القلة من أهله لا نكون صادقين لو زعمنا أن عندنا للإسلام مثلها اليوم مع كثرتنا واتساع آفاق أوطاننا.
فإذا كانت الهجرة مضت بأهلها فإن القوة التي توخاها النبي " للإسلام بالهجرة لا تزال أنظمة الإسلام وآدابه وأهدافه مفتقرةً اليومَ إلى مثلها، بل هي اليوم أشد افتقاراً إلى مثل تلك القوة مما كانت في زمن الهجرة.
نحن محتاجون اليوم _ من معاني الهجرة وأهدافها وحكمتها _ إلى أن ننخلع في بيوتنا عن الآداب التي تخالف الإسلام، وأن نعيد إلى هذه البيوت الصدق، والصراحة، والنبل، والاستقامة، والاعتدال، والمحبة، والتعاون على الخير.
فالبيت الإسلامي وطن إسلامي، بل هو دولة إسلامية.
وقبل أن أتبجح؛ فأنتقد ما خرج عن دائرتي من بيئات لا يفيدها انتقادي شيئاً يجب عليَّ أن أبدأ بمملكتي التي هي بيتي، فأهاجر أنا ومن فيه من زوجة وبنات وبنين إلى ما يحبه الله من الصدق، هاربين من الكذب الذي يكرهه الله ويلعن أهله في صريح كتابه.
ويجب أن أنخلع أنا وأهل بيتي من رذيلتي الإفراط والتفريط؛ فنكون معتدلين في كل شيء؛ لأن الاعتدال ميزان الإسلام.
ويجب أن نحب أنظمة الإسلام وآدابه محبة تمازج دماءنا، فنتحرى هذه الأنظمة في أخلاقنا، وأحوالنا، وتصرفاتنا، ومعاملة بعضنا لبعض هاجرين كل ما خالفها مما اقتبسناه عن الأغيار، وخذلنا به مقاصد الإسلام، فضيعنا أغراضه الجوهرية.(1/45)
إذا تربينا في بيوتنا على محبة الأنظمة الإسلامية، وتأصل ذلك في أذواقنا وميولنا، وتعودنا العمل به في مختلف ضروب الحياة _ فشا العمل به حينئذ من البيوت إلى الأسواق، والأندية، والمجتمعات، ودواوين الحكم، ولا يلبث الوطن كله بعد عشرات قليلة من السنين أن يتحول من وطن عاص لله إلى وطن مطيع لله، ومن وطن تسود فيه الأنظمة التي يسخطها الله إلى وطن تسود فيه الأنظمة التي أمر بها الله.
نحتفل بذكرى الهجرة في كل سنة، ونتكلم فيها عن الماضي ولا ننتفع بها في الحاضر.
ولو أننا فهمنا الحكمة التي انطوت عليها حادثة الهجرة، وعلمنا أن كتاب الله الذي نتلوه قد أنحى باللائمة على جماعة من أصحاب رسول الله " كانوا في مكة يصلون ويصومون ولكنهم ارتضوا البقاء تحت أنظمة تخالف الإسلام، فلا قوة لهم على تغييرها، ولم يهاجروا إلى قلعة الإسلام ليكونوا من جنودها المتحفزين لتغيير تلك الأنظمة _ لعلمنا أن الإسلام لا يكتفي من أهله بالصلاة والصوم، بل يريد منهم مع ذلك أن يقيموا أنظمته، وآدابه في بيوتهم، وأسواقهم، وأنديتهم، ومجامعهم، ودواوين حكمهم، وأن عليهم أن يتوسلوا بجميع الوسائل لتحقيق هذا الغرض الإسلامي بادئين من البيت، وملاحظين ذلك في تربية من تحت أمانتهم من بنات وبنين، ومتعاونين عليه مع كل من ينشد للإسلام الرفعة والازدهار من إخوانهم، حتى إذا عمَّ هذا الإصلاح أرجاء واسعة تلاشت تحت أشعته ظلمات الباطل، فكان لهذا الأسلوب من أساليب الهجرة مثل الآثار التي كانت لهجرة النبي " وأصحابه الأولين.
روى مسلم في كتاب الأمارة من صحيحه عن أبي عثمان النهدي أن مجاشع ابن مسعود السلمي قال: جئت بأخي (أبي معبد) إلى رسول الله " بعد الفتح فقلت: يا رسول الله بايعه على الهجرة، فقال ": =قد مضت الهجرة بأهلها+.
قال مجاشع: فبأي شيء تبايعه؟ قال: =على الإسلام، والجهاد، والخير+.
قال أبو عثمان النهدي: فلقيت أبا معبد فأخبرته بقول مجاشع، فقال: صدق.(1/46)
وفي كتب السنن وبعضه في الصحيحين عن عبدالله بن عمرو بن العاص وفضالة بن عبيد بن ناقد الأنصاري أن النبي " قال: =المهاجر من هجر السيئات+.
وفي حديث عبيد بن عمير عن عمرو بن عبسة، وفي حديث عبدالله بن عمير عن أبيه عن جده، أنه قيل لرسول الله ": =... فما أفضل الهجرة؟ قال: من هجر ما حرم الله+.
وفي مسند الإمام أحمد بن حنبل (6: 21) من حديث فضالة بن عبيد بن ناقد أن النبي " قال في حجة الوداع: =ألا أخبركم بالمؤمن؟ من أمنه الناس على أموالهم وأنفسهم، والمسلم؟ من سلم الناس من لسانه ويده، والمجاهد؟ من جاهد نفسه في طاعة الله، والمهاجر؟ من هجر الخطايا والذنوب+.
فإلى الهجرة أيها المسلمون...
إلى هجر الخطايا، والذنوب، في أعمالنا، وأخلاقنا، وتصرفاتنا.
إلى هجر ما يخالف أنظمة الإسلام في بيوتنا، وما نقوم به من أعمالنا.
إلى هجر الضعف، والعطالة، والإهمال، والسرف، والكذب، والرياء، ووضع الأشياء في غير مواضعها.
إلى هجر الأنانية، والصغائر، والسفاسف مما أراد نبي الرحمة أن يطهر منه نفوس أمته حتى تكون خير أمة أخرجت للناس كما أراد الله لها.
وهذا هو الفلاح الذي يدعونا إليه المؤذن خمس مرات في كل يوم عندما يدعونا إلى الوقوف بين يدي الله الكريم.
القول الحق في استعداد محمد " للنبوة والوحي(1)
__________
(1) الوحي المحمدي للشيخ محمد رشيد رضا ص129_133.(1/47)
للشيخ العلامة محمد رشيد رضا(1)
__________
(1) هو العلامة الشيخ محمد رشيد رضا ولد يوم 27 من جمادى الأولى عام 1282هـ في بلدة (القلمون) بالقرب من طرابلس الشام، ونشأ في رعاية والديه في بيت علم وفضيلة، لقن فيه الأخلاق الحميدة منذ نعومة أظفاره، وشاهد مجالس العلم تعقد في ساحته، حفظ القرآن الكريم، وبعض مبادئ العلوم الدينية، وقواعد الحساب، والخط، وغير ذلك من العلوم الأساسية لمبتدئي التعليم، وذلك في مدرسة بقريته (القلمون)، ثم التحق بالمدرسة الرشدية الابتدائية بطرابلس، ومكث بها سنة، ثم تركها إلى المدرسة الوطنية الإسلامية التي أسسها الشيخ حسين الجسر الأزهري.
كان سريع الفهم حتى أنه كان يضجر من مجرد تكرار الأساتذة لما يشرحونه من مواضيع، إلا أنه لم يكن سريع الحفظ فنادراً ما كان يحفظ أكثر من بيت واحد من الشعر عند سماع أبيات شعر لأول مرة، لكنه بصفة عامة كان مكباً على طلب العلم، وتفوق على أقرانه حتى أن أستاذه الشيخ الجسر قال عنه في ملأ من الناس: =إن محمد رشيد رضا ساوى في سنة واحدة من سبق لهم الاشتغال عليَّ سبع سنين من أذكياء الطلاب+.
وقد قرأ على الشيخ الجسر وعلى غيره من أفاضل علماء طرابلس، ولشغفه بالقراءة فقد قرأ أثناء طلبه للعلم مصنفات عديدة في التفسير، والحديث، والأدب، والتاريخ، وغير ذلك من علوم.
انتقل إلى مصر عام 1315هـ واتصل بالشيخ محمد عبده، وبعد وصوله مصر بثلاثة أشهر أصدر العدد الأول من مجلة (المنار).
تعددت جهوده وأنشطته في خدمة الإسلام في أكثر من مجال، فقد عمل على إنشاء مدارس، وجمعيات إسلامية في كثير من الأقطار تؤدي خدمات خيرية وتعليمية.
توفي × فجأة في القاهرة يوم الأربعاء 23 من شهر جمادى الأولى عام 1354هـ ودفن بها. انظر المختار من المنار إعداد وتعليق الشيخ عبدالعزيز بن محمد آل الشيخ 1/9_18.(1/48)
التحقيق في صفة حال محمد " من أول نشأته، وإعداد الله _ تعالى _ إياه لنبوته ورسالته: هو أنه خلقه كامل الفطرة؛ ليبعثه بدين الفطرة، وأنَّه خَلَقَهُ كامل العقل الاستقلالي الهيولاني(1)؛ ليبعثه متمماً لمكارم الأخلاق، وأنه بُغِّض إليه الوثنية وخرافات أهلها ورذائلهم من صغر سنه، وحبب إليه العزلة حتى لا تأنسَ نفسه بشيء مما يتنافسون فيه من الشهوات واللذات البدنية، أو منكرات القوة الوحشية، كسفك الدماء، والبغي على الناس، أو المطامع الدنيئة كأكل أموال الناس بالباطل؛ ليبعثه مصلحاً لما فسد من أَنْفُسِ الناس، ومزكِّياً لهم بالتأسِّي به، وجعله المثلَ البشريَّ الأعلى؛ لتنفيذ ما يوجه إليه من الشرع الأعلى.
فكان من عفَّته أنْ سَلَخَ مِنْ سني شبابه وفراغه خمساً وعشرين سنة مع زوجته خديجة كانت في عشر منها كهلةً نَصَفاً أمَّ أولاد، وفي خمسة عشر منها عجوزاً يائسة من النسل، فتوفيت في الخامسة والستين وهي أحب الناس إليه، وظل يذكرها، ويفضِّلها على جميع من تزوج بهن من بعدها، حتى عائشة بنت الصديق على جمالها، وحداثتها، وذكائها، وكمال استعدادها للتبليغ عنه، ومكانة والدها العليا في أصحابه.
وظل طول عمره يكره سفك الدماء ولو بالحق، فكان على شجاعته الكاملة يقود أصحابه؛ لقتال أعداء الله وأعدائه المعتدين عليه وعليهم؛ لأجل صدهم عن دينه، ولكنه لم يقتل بيده إلا رجلاً واحداً منهم هو أبي بن خلف كان موطِّناً نفسه على قتله" فهجم عليه وهو مُدَجَّجٌ بالحديد من مِغْفَر ودرع، فلم يجد" بداً من قتله، فطعنه في ترقوته من خلل الدرع والمغفر فقتله.
وظل طول عمره ثابتاً على أخلاقه، من الزهد والجود والإيثار، فكان بعدما أفاء الله عليه من غنائم المشركين واليهود يؤثر التقشف، وشظف العيش على نعمته، مع إباحة شرعه لأكل الطيبات، ونهيه عن تركها؛ تديناً.
__________
(1) الهَيُولَى: كلمة يونانية ومعناها: أصل الشيء ومادته، ومعنى الهيولاني: الأصلي. (م)(1/49)
وكان يرقع ثوبه ويخصف نعله، مع إباحة دينه للزينة، وأمره بها عند كل مسجد، وكان يساعد أهل بيته على خدمة الدار.
أكمل الله استعداده الفطري الوهبي، لا الكسبي؛ للبعثة بإكمال دين النبيين والمرسلين، والتشريع الكافي الكافل؛ لإصلاح جميع البشر إلى يوم الدين، وجعله حجة على جميع العالمين بأن أنشأه كأكثر قومه أُمِّياً، وصرفه في أُمِّيته عن اكتساب أي شيء من علوم البشر من قومه العرب الأميين ومن أهل الكتاب، حتى إنه لم يجعل له أدنى عناية بما يتفاخر به قومه من فصاحة اللسان، وبلاغة البيان من شعر، وخطابة، ومفاخرة، ومنافرة(1)؛ إذ كانوا يؤمُّون أسواق موسم الحج وأشهرها عكاظ من جميع النواحي؛ لإظهار بلاغتهم وبراعتهم، فكان ذلك أعظم الأسباب لارتقاء لغتهم، واتساع معارفهم، وكثرة الحكمة في شعرهم، فكان من الغريب أن يزهد محمد " في مشاركتهم فيه بنفسه، وفي روايته لما عساه يسمعه منه.
وقد سمع بعد النبوة زهاء مائة قافية من شعر أمية بن الصلت فقال: =إن كاد ليسلم+، وقال:=آمن شعره وكفر قلبه+، وقال: =إن من البيان لسحراً، وإن من الشعر حكماً+ رواه أحمد وأبو داود من حديث ابن عباس.
وأما قوله: =إن من البيان لسحراً+ فقد رواه مالك، وأحمد، والبخاري، وأبو داود، والترمذي، من حديث ابن عمر.
قلنا: إن الله _ تعالى _ جعل استعداد محمد " للنبوة والرسالة فطرياً وإلهامياً لم يكن فيه شيءٌ من كسبه بعلم، ولا عمل لساني، ولا نفسي، وإنه لم يُرْوَ عنه أنه كان يرجوها، كما رُوي عن أمية بن أبي الصلت، بل أخبر الله عنه أنه لم يكن يرجوها، ولكن رُوي عن خديجة _رضي الله عنها _ أنها لما سمعت من غلامها ميسرة أخبار أمانته، وفضائله، وكراماته، وما قاله بحيرى الراهب فيه _ تعلَّق أملُها بأن يكون هو النبي الذي يتحدثون عنه، ولكن هذه الروايات لا يصل شيء منها إلى درجة المسند الصحيح، كحديث بدء الوحي.
__________
(1) المنافرة: المحاكمة والمفاخرة في الأحساب والأنساب .(1/50)
فإن قيل: إنه يقوِّيها حَلِفُها بالله أن الله _تعالى_ لا يُخزيه أبداً، قلنا: إنها عللت ذلك بما ذكرته من فضائله، ورأت أنها في حاجة إلى استفتاء ابن عمها ورقة في شأنه.
وأما اختلاؤه " وتعبده في الغار عام الوحي فلا شك في أنه كان عملاً كسبياً مقوياً لذلك الاستعداد الوَهْبي، ولذلك الاستعداد السلبي، من العزلة، وعدم مشاركة المشركين في شيء من عباداتهم، ولا عاداتهم.
ولكنه لم يكن يقصد به الاستعداد للنبوة؛ لأنه لو كان لأجلها لاعتقد حين رأى الملك، أو عَقِبَ رؤيته حصولَ مأموله، وتحقق رجائه، ولم يَخَفْ منه على نفسه.(1/51)
وإنما كان الباعثُ لهذا الاختلاء والتحنث اشتدادَ الوحشة من سوء حال الناس، والهرب منها إلى الأنس بالله _ تعالى _ والرجاء في هدايته إلى المخرج منها، كما بسطه شيخُنا الأستاذ الإمام(1) في تفسير قوله _تعالى_:[وَوَجَدَكَ ضَالاًّ فَهَدَى](الضحى:7) وما يفسره من قوله _عز وجل_: [وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (52) صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الأُمُورُ](الشورى:52_53) وألم به في رسالة التوحيد إلماماً مختصراً مفيداً، فقال: =من السنن المعروفة أن يتيماً فقيراً أمياً مِثْلَه تنطبع نفسه بما تراه من أول نشأته إلى زمن كهولته، ويتأثر عقله بما يسمعه ممن يخالطه، لاسيما إن كان من ذوي قرابته، وأهل عصبته، ولا كتاب يرشده، ولا أستاذ ينبهه، ولا عضد إذا عزم يؤيده؛ فلو جرى الأمر فيه على جاري السنن لنشأ على عقائدهم، وأخذ بمذاهبهم إلى أن يبلغ مبلغ الرجال، ويكون للفكر والنظر مجال، فيرجع إلى مخالفتهم إذا قام له الدليل على خلاف ضلالاتهم، كما فعل القليل ممن كانوا على عهده(2).
ولكنَّ الأمر لم يَجْرِ على سنته، بل بُغِّضتْ إليه الوثنية من مبدأ عمره، فعالجته طهارة العقيدة، كما بادره حسن الخليقة.
__________
(1) يعني: الشيخ محمد عبده.
(2) كأمية بن أبي الصلت، وزيد بن عمرو بن نفيل.(1/52)
وما جاء في الكتاب من قوله: [وَوَجَدَكَ ضَالاًّ فَهَدَى] لا يُفهم منه أنه كان على وثنية قبل الاهتداء إلى التوحيد، أو على غير السبيل القويم قبل الخلق العظيم، حاش لله، إن ذلك لهو الإفك المبين، وإنما هي الحيرة تُلِم بقلوب أهل الإخلاص، فيما يرجون للناس من الخلاص، وطلب السبيل إلى ما هدوا إليه من إنقاذ الهالكين، وإرشاد الضالين، وقد هدى الله نبيَّه إلى ما كانت تتلمسه بصيرته باصطفائه لرسالته، واختياره من بين خلقه لتقرير شريعته+ أ. هـ.
أقول: وجملة القول أن استعداد محمد" للنبوة والرسالة عبارة عن جعل الله _تعالى_ روحه الكريمة كمرآة صقيلة حيل بينها وبين كلِّ ما في العالم من التقاليد الدينية، والأعمال الوراثية والعادات المنكرة، إلى أن تجلى فيها الوحي الإلهي بأكمل معانيه، وأبلغ مبانيه؛ لتجديد دين الله المطلق الذي كان يُرسل به رسله إلى أقوامهم خاصة، بما يناسب حالهم واستعدادهم، وأراد إكمال الدين به، فجعله خاتم النبيين، وجعل رسالته عامة دائمة، لا يحتاجون بعدها إلى وحي آخر.
عبرة الهجرة (1) لمصطفى لطفي المنفلوطي (2)
__________
(1) مؤلفات مصطفى لطفي المنفلوطي الكاملة الموضوعة ص131_133.
(2) هو مصطفى لطفي المنفلوطي، ولد بمنفلوط من أعمال محافظة أسيوط سنة 1293هـ، 1876م، ونشأ في بيت كريم جليل معروف بالعلم والقضاء، وقد نهج المنفلوطي سبيل آبائه في الثقافة، فحفظ القرآن في المكتب، وتلقى العلم بالأزهر، وكان ميالاً إلى علوم اللغة، وفنون الأدب؛ فهو يحفظ الأشعار، ويتصيد الشوارد، ويصوغ القريض، وينشئ الرسائل، وقد برز في الكتابة أكثر من بروزه في غيرها؛ فصار في مصاف أكابر الكتاب في عصره، وكان× أديباً موهوباً، ذا أسلوب ساحر، وبيان عذب.
وجملة القول _كما يقول الزيات_ أن المنفلوطي في النثر كالبارودي في الشعر كلاهما أحيا، وجدد.
أما مؤلفاته فله النظرات في ثلاثة أجزاء جمع فيها ما نشره في صحيفة المؤيد من الفصول في النقد، والاجتماع، والوصف، والقصص.
وله مختارات المنفلوطي من أشعار المتقدمين ومقالاتهم.
وقد ترجم له بعض أصدقائه من الفرنسية تحت طلال الزيزفون (مجدولين) لأفونس كار روبول سود فرجيني (الفضيلة) لبرناردي سان بيير، وسيرانود برجراك (الشاعر) لأدمون رستان، فصاغها بأسلوبه البليغ الرصين صياغة حرة لم يتقيد فيها بالأصل؛ فأضافت إلى ثراء الأدب العربي ثروة، وكانت للفن القصصي الحديث قوة.
وقد جمعت كتاباته في المجموعة الكاملة _الموضوعة والمقتبسة_.
أما أخلاقه فكان كريماً عف الضمير، رقيق القلب، سليم الصدر.
توفي× سنة 1924م عن 48سنة.
انظر تاريخ الأدب العربي لأحمد حسن الزيات ص537_540.(1/53)
إن في أخلاق النبي " وسجاياه التي لا تشتمل على مثلها نفس بشرية ما يغنيه عن خارقة تأتيه من الأرض أو السماء، أو الماء أو الهواء.
إن ما كان يبهر العرب من معجزات علمه، وحلمه، وصبره، واحتماله، وتواضعه، وإيثاره، وصدقه، وإخلاصه _ أكثر مما كان يبهرهم من معجزات تسبيح الحصى وانشقاق القمر، ومشي الشجر، ولين الحجر؛ وذلك لأنه ما كان يريبهم في الأولى ما كان يريبهم في الأخرى، من الشبه بينها، وبين عرافة العرافين، وكهانة الكهنة، وسحر السحرة، فلولا صفاته النفسية، وغرائزه، وكمالاته ما نهضت له الخوارق بكل ما يريده، ولا تركت له المعجزات في نفوس العرب ذلك الأثر الذي تركته؛ ذلك هو معنى قوله _تعالى_: [وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ]آل عمران: 159.
كان " شجاع القلب، فلم يهب أن يدعو إلى التوحيد قوماً مشركين يعلم أنهم غلاظ جفاة، شرسون، متنمرون، يغضبون لدينهم غضبهم لأعراضهم، ويحبون آلهتهم حبهم لأبنائهم.
كان على ثقة من نجاح دعوته، فكان يقول لقريش _ أشد ما كانوا هزءاً به وسخرية_: =يا معشر قريش والله لا يأتي عليكم غير قليل؛ حتى تعرفوا ما تنكرون، وتحبوا ما أنتم له كارهون+.
كان حليماً سمح الأخلاق؛ فلم يزعجه أن كان قومه يؤذونه، ويزدرونه، ويشعثون(1) منه، ويضعون التراب على رأسه، ويلقون على ظهره أمعاء الشاة، وسلى(2) الجزور، وهو في صلاته، بل كان يقول: =اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون+.
كان واسع الأمل، كبير الهمة، صلب النفس، لبث في قومه ثلاث عشرة سنة يدعو إلى الله فلا يلبي دعوته إلا الرجل بعد الرجل، فلم يبلغ الملل من نفسه، ولم يخلص اليأس إلى قلبه، فكان يقول: =والله لو وضعوا الشمس في يميني، والقمر في شمالي، على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره الله، أو أهلك دونه فيه ما تركته+.
__________
(1) يقال شعث فلان من فلان: تنقصه.
(2) السلى للدواب بمنزلة المشيمة للإنسان.(1/54)
وما زال هذا شأنه حتى علم أن مكة لن تكون مبعث الدعوة، ولا مطلع تلك الشمس المشرقة، فهاجر إلى المدينة؛ فانتقل الإسلام بانتقاله من السكون إلى الحركة، ومن طور الخفاء إلى طور الظهور، لذلك كانت الهجرة مبدأ تاريخ الإسلام؛ لأنها أكبر مظهر من مظاهره.
لقد لقي " في هجرته عناءً كثيراً ومشقةً عظمى؛ فإن قومه كانوا يكرهون مهاجرته لا ضناً به، بل مخافة أن يجد في دار هجرته من الأعوان والأنصار ما لم يجد بينهم، كأنما يشعرون بأنه طالب حق، وأن طالب الحق لابد أن يجد بين المحقين أعواناً وأنصاراً، فوضعوا عليه العيون والجواسيس؛ فخرج من بينهم ليلة الهجرة متنكراً بعد ما ترك في فراشه ابن عمه علي بن أبي طالب ÷ عبثاً بهم، وتضليلاً لهم عن اللحاق به.
ومشى هو وصاحبه أبو بكر ÷ يتسلقان الصخور، ويتسربان في الأغوار والكهوف، ويلوذان بأكناف الشعاب والهضاب، حتى انقطع عنهما، وتم لهما ما أرادا بفضل الصبر والثبات على الحق.
إن حياة النبي " أعظم مثال يجب أن يحتذيه المسلمون للوصول إلى التخلق بأشرفِ الأخلاق، والتحلي بأكرمِ الخصال، وأحسنُ مدرسة يجب أن يتعلموا فيها كيف يكون الصدق في القول، والإخلاص في العمل، والثبات على الرأي _ وسيلةً إلى النجاح، وكيف يكون الجهاد في سبيل الحق سبباً في علوه على الباطل.
لا حاجة لنا بتاريخ حياة فلاسفة اليونان، وحكماء الرومان، وعلماء الإفرنج؛ فلدينا في تاريخنا حياة شريفة مملوءة بالجد والعمل، والبر والثبات، والحب والرحمة، والحكمة والسياسة، والشرف الحقيقي، والإنسانية الكاملة، وهي حياة نبينا " وحسبنا بها وكفى.
الإشراق الإلهي وفلسفة الإسلام(1)
للأديب مصطفى صادق الرافعي (2)
__________
(1) وحي القلم 2/5.
(2) هو الأديب الكبير مصطفى صادق بن عبد الرزاق الرافعي ولد سنة 1298هـ ببلدة بهتيم بمحافظة القليوبية بمصر، وقضى شطراً من صباه فيها والتحق بمدرستها الابتدائية .
ثم انتقل أبوه إلى المنصورية فانتقل معه والتحق بالابتدائية هناك، وتخرج فيها سنة 1315هـ، ثم أصيب بالمرض الذي أضعف صوته، وأفضى بسمعه إلى الصم؛ فانقطع عن الدراسة، وأقبل على مكتبة أبيه الزاخرة بصنوف الكتب ،وكان أبوه من علماء الأزهر لذا كان مجلسه عامراً بالعلماء والأدباء، ومكتبته زاخرة بنفائس الكتب .
ومن هذه المصادر الثلاثة _ والده ,مكتبة والده ,مرتادو مجلس والده _ استقى الرافعي علمه وتحصيله، ثم نقل والده الشيخ عبد الرزاق إلى طنطا قاضياً بمحكمتها, فانتقل معه ابنه مصطفى , وعُيِّن كاتباً في المحكمة، وكان مثال النشاط والإخلاص في عمله الذي لم يصرفه عن الإقبال على القراءة والكتابة .
انتخب الرافعي للمجمع العلمي بدمشق، وكان منزله ومكتبه ومقهى لمنوس أماكن يرتادها تلامذة الرافعي ومحبوه، يتلقى أسئلتهم، ويجيب عليها بصدر رحب .
ويعد الرافعي في زمانه حامل أدب الأصالة، ورافع راية البلاغة؛ فهو الرجل الذي وقف قلمه وبيانه في سبيل الدفاع عن القرآن ولغة القرآن .
وقد بدأ حياته شاعراً, إلا أنه أقبل على الكتابة في أواخر عمره، وكانت صلته بالصحف مبكرة؛ حيث أقبل عليها يودعها مقالاته وبحوثه التي كان يطرق بها كل ميدان؛ فكان يعالج قضايا المجتمع كالفقر, والجهل, و السفور, والرد على مطاعن أعداء الإسلام.
له مؤلفات عديدة، ومنها: تاريخ آداب العرب، وحديث القمر، ورسائل الأحزان، والسحاب الأحمر، وأوراق الورد، وتحت راية القرآن.
وخير كتبه كتاب وحي القلم، ويقع في ثلاث مجلدات، وكان حصيلة ما كتب في مجلة الرسالة، وله مؤلفات عديدة غيرها، وقد ضاع كثير مما كتب بسبب رداءة خطه، توفي× عام 1356هـ.(1/55)
كما تطلع الشمسُ بأنواعها فتُفَجِّرُ ينبوعَ الضوء المسمَّى النهار يولَد النبيُّ فيوجد في الإنسانية ينبوع النور المسمَّى بالدين، وليس النهار إلا يقظةَ الحياة تحقِّقُ أعمالَها، وليس الدينُ إلا يقظة النفس تحقق فضائلَها.
وَرَعَشَاتُ الضوء من الشمس هي قصة الهداية للكون في كلام من النور، وأشعة الوحي في النبي هي قصة الهداية لإنسان الكون في نور من الكلام.
والعامل الإلهيُّ العظيم يعملُ في نظام النفس والأرضِ بأداتين متشابهتين:
أجرام النور من الشموس والكواكب، وأجرام العقل من الرُّسُلِ والأنبياء.
فليس النبي إنساناً من العظماء يقرأ تاريخه بالفكر معه المنطق، ومع المنطق الشك، ثم يدرس بكل ذلك على أصول الطبيعة البشريةِ العامة؛ ولكنه إنسانٌ نجميٌ يقرأ بمثل =التلسكوب+ في الدقة، معه العلم، ومع العلم الإيمان؛ ثم يدرس بكل ذلك على أصول طبيعته النورانية وحدها.
والحياةُ تنشئ علم التاريخ، ولكن هذه الطريقة في درس الأنبياء _ صلوات الله عليهم _ تجعل التاريخ هو ينشئ علم الحياة؛ فإنما النبي إشراقٌ إلهيٌ على الإنسانية، يُقَوِّمُها في فلكها الأخلاقي، ويجذبُها إلى الكمال في نظامٍ هو بعينه صورة لقانون الجاذبية في الكواكب.
ويجيء النبي فتجيء الإلهية معه في مثل بلاغة الفن البياني، لتكون أقوى أثراً، وأيسر فهماً، وأبدع تمثيلاً، وليس عليها خلاف ٌ من الحس.
وهذا هو الأسلوب الذي يجعلُ إنساناً واحداً فَنَّ الناسِ جميعاً، كما تكونُ البلاغةُ فنَّ لغة بأكملها؛ هو الشخص المفسر إذا تعسف الناسُ الحياةَ لا يدرون أين يؤمنون منها، ولا كيف يتَهدَّون فيها، فتضطرب الملايين من البشرية اضطرابها فيما تنقبض عنه وتتهالك فيه من أطماع الدنيا، ثم يخلق رجل واحد؛ ليكون هو التفسيرَ لما مضى وما يأتي، فتظهرَ به حقائقُ الآداب العالية في قالب من الإنسان العامل المرئي أبلغ مما تظهر في قصة متكلمة مروية.(1/56)
وما الشهادة للنبوة إلا أن تكون نفسُ النبي أبلغَ نفوس قومه، حتى لهو في طباعه وشمائله طبيعة قائمة وحدها، كأنها الوضع النفسانيُّ الدقيق الذي يُنْصَبُ لتصحيح الوضع المغلوط للبشرية في عالم المادة وتنازع البقاء، وكأن الحقيقة السامية في هذا النبي تنادي الناس: أن قَابِلوا على هذا الأصل، وصحِّحوا ما اعترى أنفسكم من غلَط الحياة وتحريفِ الإنسانية.
ومن ثمَّ فنبي البشرية كلِّها من بُعثَ بالدين أعمالاً مفصَّلة على النفس أدق تفصيل وأوفاه بمصلحتها، فهو يُعطي الحياة في كل عصر عقلها العمليَّ الثابتَ المستقرَّ تنظِّم به أحوال النفس على مَيْزة وبصيرة، ويَدَع للحياة عقلَها العلمي المتجددَ المتغير تنظِّم به أحوالَ الطبيعة على قصْد وهدى.
وهذه هي حقيقة الإسلام في أخص معانيه، لا يُغني عنه في ذلك دينٌ آخر، ولا يؤدِّي تأديته في هذه الحاجة أدبٌ ولا علم ولا فلسفة، كأنما هو نبعٌ في الأرض لمعاني النور، بإزاء الشمس نبع النور في السماء.
وكل ذلك تراه في نفس محمد " فهي في مجموعها أبلغ الأنفس قاطبة، لا يمكن أن تعرف الأرض أكملَ منها، ولو اجتمعت فضائل الحكماء والفلاسفة والمتألِّهين وجُعلت في نِصاب واحد _ ما بلغتْ أن يجيء منها مثل نفسه " وكأنما خرجت هذه النفس من صيغة كصيغة الدُرَّة في مَحَّارتها، أو تركيب كتركيب الماس في مَنْجمه، أو صفة كصفة الذهب في عِرْقه، وهي النفس الاجتماعية الكبرى، من أين تَدَبَّرْتَها رأيتها على الإنسانية كالشمس في الأفق الأعلى تنبسط وتَضْحَى.
وتلك هي الشهادة له " بأنه خاتم الأنبياء، وأن دينه هو دين الإنسانية الأخير، فهذا الدين في مجموعه إن هو إلا صورة تلك النفس العظيمة في مجموعها: صلابتُه بمقدار الحق الإنساني الثابت، لا بمقدار الإنسان المتغير الذي يكون عند سبَبٍ جبَلاً صَلْداً يَشْمَخ، وعند سببٍ آخر ماءاً عذب يجري.(1/57)
وهو دين يعلو بقوة ويدعو إليها، ويريد إخضاع الدنيا وحكمَ العالم، ويستفرغ همَّه في ذلك، لا لإعزاز الأقوى وإذلال الأضعف، ولكن للارتفاع بالأضعف إلى الأقوى.
وفَرْقُ ما بين شريعته وشرائع القوة أن هذه إنما هي قوة سيادة الطبيعة وتحكُّمها، أما هو فقوة سيادة الفضيلة وتغلُّبها، وتلك تعمل للتفريق، وهو يعمل للمساواةِ، وسيادةُ الطبيعة وعملها للتفريق هما أساس العبودية، وغلبة الفضيلة وعملُها للمساواة هما أعظم وسائل الحرية.
ومن هنا كان طبيعياً في الإسلام ما جاء به من أنه لا فضيلة إلا وهو يطبع عليها صورةَ الجنة بنعيمها الخالد، ولا رذيلةَ إلا وهو يضع عليها صورة النار الأبدية وَقُودُها الناس والحجارة؛ فلا تنظرُ العينُ المسلمة إلى أسباب الحياة نظرةَ الفكر المنازع: يحرص على ما يكون له، ويَشْرَهُ إلى ما ليس له، ويمكُرُ الحيلةَ، ويبدعُ وسائلَ الخداع، ويزيدُ بكل ذلك في تعقيد الدنيا.
بل نظرة القلب المسالم: يخْلع الدنيا ويسخو بكل مضنون فيها؛ فيعفُّ عن كثير، ويعرف الإنسانية ويطمع في غاياتها العليا؛ فيعفو عن كثير، ويُدرك أن الحلال _ وإنْ حلَّ _ فوراءه حسابه، وأن الحرامَ _ وإن غرَّ _ ليس إلا تعلُّلُ ساعة ذاهبة ثم من ورائه عقاب الأبد.
ويخرج من ذلك أن يكون أكبرُ أغراض الإسلام هو أن يجعلَ من خشية الله _تعالى_ قانونَ وجود الإنسان على الأرض؛ فمن أي عِطْفَيْهِ التفتَ هذا الإنسان وجد على يمنته ويَسرته مَلَكين من ملائكة الله يكتبان أعمالَه بخيرها وشرها.(1/58)
وإذا قامت هذه المحكمة الملائكية وتقررت في اعتبار النفس، قام منها على النفس شرعٌ نافذٌ هو قانون الإرادة المميِّزة، تُريد الحسنات وتعملُ لها، وتخشَى السيئات وتنفرُ منها، فإذا معاني الجسد يحكم بعضها بعضاً، لا لتحقيق الحكومة والسلطة، ولكن لتحقيق الخير والمصلحة، وإذا نواميس الطبيعة المجنونة في هذا الحيوان قد نهضتْ إلى جانبها نواميسُ الإرادة الحكيمة في الإنسان، وإذا كل صغيرة وكبيرة في النفس هي من صاحبها مادةُ تُهْمَةٍ عند قاضيها في محكمتها، وإذا كلُّ ما في الإنسان وما حولَ الإنسان لا يُراد منه إلا سلامُ النفس في عاقبتها، وإذا معنى السلام هو المعنى الغالبُ المتصرِّفُ بالإنسانية في دنياها.
وكلُّ أعمال الإسلام وأخلاقِه وآدابه فتلك هي غايتها، وهذه هي فلسفتها، لا يقررها للإنسانية حَسْبُ، بل يغرسها في الوراثة غرساً بالاعتياد والمران الدائم؛ لتكون علماً وعملاً، فتمكِّنَ لسلام النفس بين الأسلحة المسدَّدة إليها من ضرورات الحياة، في أيدي الأعادي المتألِّبة عليها من شهوات الغريزة.
فليس يعمُّ السلام إلا إذا عمَّ هذا الدين بأخلاقه فشمَلَ الأرض أو أكثَرَها؛ فإن قانون العالم حينئذ يصبح منتزَعاً من طبيعة التراحم، فإمَّا انتسخَ به قانونُ التنازع الطبيعي، وإما كسَرَ من شرَّته، ويُولد المولود يومئذ، وتولدُ معه الأخلاق الإنسانية.(1/59)
تقرير معنى الدوام لكل أعمال النفس حتى مثقال الذرة من الخير والشر، وضبط ذلك برياضةٍ عملية دائمة مفروضة على الناس جميعاً _ هذا هو أساس العقيدة الإسلامية، ولا صلاحَ للإنسانية بغيره يردها إلى سبيل قصدها؛ فإن من ذلك تكون الصفة العقلية التي تغلِبُ على المجتمع، وتُجانس بين أفراده، فتوجِّه الإنسانيةَ كلَّها نحو الممكن من كمالها، ولا تزال توجهها نحو ما هو أعلى، وتحكم فاسدها بصالحها، وتأخذ عاصيها بمطيعها، فيصبح المرء _ وهذا دينُه _ كلما تقدم به العمر كَمُلَ فيه اثنان: الإنسان والشريعة، ولا يعودُ طالب السعادة النفسية في الدنيا كالمجنون يجري وراء ظله؛ ليُمْسِكه، فلا يدرك في الآخر شيئاً غيرَ معرفته أنه كان في عمل باطل، وسعي ضائع.
والإسلام يحرص أشد الحرص وأبلَغَه على تقرير ذلك المعنى الإلهي العظيم، لا بالمنطق، ولكن بالعمل، ثم في النفس وعواطفِها، لا في العقل وآرائه، ثم على وجه التعميم، دون الاستثناء والخصوص، وذلك هو سرُّ مشقَّته على النفس بما يفرضه عليها؛ فإن فلسفته أن هذا النفسَ هي أساسُ العالم، وأن النظامَ الخلُقيَّ هو أساسُ النفس، وأن العمل الدائم هو أساس النظام، وأن روح العمل الدائم تكون فيما يشقُّ بعضَ المشقة ولا يبلغ العُسر والحرج كما تكون فيما يَسْهُلُ بعضَ السهولة ولا يبلغ الكَسَل والإهمال.
وللنفس وجهان: ما تُعلن، وما تسرّ، ولا صدقَ لإعلانها حتى يصدقَ ضميرها، ولا صلاحَ لجهرها حتى يصلُحَ السرُّ فيها، ولا يكون الإنسان الاجتماعي فاضلاً بمشهده حتى يكون كذلك بغيْبِه.
وللعالم كذلك وجهان: حاضرُه الذي يمر فيه، وآتيه الذي يمتد له، ولا يُفلح حاضرٌ منقطعٌ لا يورِّثُ ما بعده كما وَرث ما قبله، وما حاضرُ الإنسانية إلا جزء من عمل الناس في استمرار فضائلهم باقيةً نامية.(1/60)
وللنظام أيضاً وجهان: نظامُ الرغبة على الطاعة والاطمئنان لها، ونظام الرغبة على الخشية والنَّفْرة منها، ولا يستقيم شأنٌ ليس أساسُه الطاعةَ في النفس، ولا يستمر نظامٌ عليه خلافٌ من فكر العامل به.
وللعمل الدائم طريقتان: إحداهما(1) طريقة الجاد يعمل للعاقبة يسْتِيقِنُها، فلا يجد مما يشقُّ عليه إلا لذةَ المغالبة للنصر: كلُّ مرارة من قِبَله هي حلاوة فيه من بَعد، ولا يعرف للمحنة يُبتلى بها إلا معناها الحقيقيَّ وهو إيقاظ نفسه، فيصبح الصبر عنده كصبر المحب على أشياء ممن تحبه، صبرٌ فيه من السحر ما يكسو الحرمان في بعض الأحيان خيالَ الاستمتاع، ويُذيق النفسَ في العجز عن بعض أغراضها لذةً كلذة إدراكه.
تلك هي فلسفة الإسلام، لا قِوامَ للأمر فيها، ولا مِساك له إلا بتقرير معنى الدوام لكل أعمال النفس، ووضع طابَع الجنة على أعمال الجنة، وطابَع النار على أعمال النار، وحياطة كل فرد من الناس حياطةً رياضية عمليةً بين الساعة والساعة، بل بين الدقيقة والدقيقة، بما يكلَّف من أعمال جسمه وحواسه، ثم أعمال قلبه ونيَّته، وتعظيم الشخصية الروحية دون الشخصية المادية؛ فلا يحاول كلُّ إنسان أن يجعل بطنَه في حجم مملكة أو مدينة أو قرية بما ينتقض من حقوق غيره، بل تتسع ذاتية كل فرد بما يجب له على المجتمع من الواجبات الإنسانية.
وبهذا لا بغيره تتعين مقاييس الأخلاق في الأرض، بالمصلحة لا باللذة، فلا يقع الخطأ ولا التزوير، وتنحلُّ المشكلة الاجتماعية ما دامت الحياة لا تجد من أهلها كلَّ ساعة عُقَداً فيها.
والاستيلاء بذلك المعنى على العقل والعاطفة هو وحدَه الطريقة لإنشاء طبيعة الخير في الناس على نَسَقها الطبيعي، كما أنه هو وحده الطريقةُ لتطهير التاريخ الإنساني من أوبائه الاقتصادية، التي جعلته كأنما هو تاريخ الأسنان والأضراس، وتركت الناس يهدم بعضهم بعضاً، كما يهدم الجار حائط جاره؛ ليوسِّع بيته.
__________
(1) ذكر واحدة ولم يذكر الأخرى.(1/61)
وأساس العمل في الإسلام إخضاع الحياة للعقيدة، فتجعلها العقيدة أقوى من الحاجة، فيكونُ الفقير مُعْدِماً ويتعفَّفْ، ويكون الغنيُّ موسراً ويتصدَّق، ويكون الشَّرِهُ طامعاً ويمسك، ويكون القوي قادراً ويُحجم، وكما قال العرب في تحقيق ناموس الأَنفة والحميَّة وغلبته على الناموس الاقتصادي: =تجوع الحرَّة ولا تأكل بثدييها+.
تريد الإنسانية امتداداً غيرَ امتدادها التجاري في الأرض، وتحتاج إلى معنى يقود إنسانَها غير الحيوان الذي فيه، وإذا قاد الغراب قوماً فإنما هو _ كما قال شاعرنا _ يمرُّ بهم على جِيَفِ الكلاب.
والإنسانية اليوم في مثل ليل حَوْشِيٍّ مظلم اختلط بعضه في بعض، وليست معاني الإسلام إلا الإشراقَ الإلهي على هذه الكثافة المادية المتراكمة، وإذا رفع المصباح لم تجد الظلامَ إلا وراء الحدود التي تنتهي إليها أشعته.
وقد علمنا من طبيعة النفس أن إنسانية الفرد لا تعظُم وتسمو وتتخيلُ وتفرحُ فرحها الصادقَ وتحزنُ حزناها السامي _ إلا أن تعيش في محبوب؛ فإنسانية العالَم لا تكون مثل ذلك إلا إذا عاشت في نبيِّها الطبيعي، نبيِّ أخلاقها الصحيحة وآدابِها العالية ونظامها الدقيق، وأين تجد هذا المحبوبَ الأعظم إلا في محمد ودين محمد؟(1/62)
وعجيب أن يجهلَ المسلمون حكمةَ ذكر النبي العظيم خمسَ مرات في الأذان كل يوم، يُنادَى باسمه الشريف ملءَ الجو، ثم حكمةَ ذكره في كل صلاة من الفريضة والسنة والنافلة، يُهْمس باسمه الكريم ملء النفس! وهل الحكمة من ذلك إلا الفرضُ عليهم ألا ينقطعوا من نبيهم ولا يوماً واحداً من التاريخ، ولا جزءاً واحداً من اليوم؛ فيمتدُّ الزمن مهما امتدَّ والإسلام كأنه على أوَّله، وكأنه في يومه لا في دهرٍ بعيد، والمسلم كأنه مع نبيِّه بين يديه تبعثه روحُ الرسالة، ويسطع في نفسه إشراقُ النبوَّة، فيكون دائماً في أمره كالمسلم الأول الذي غيَّر وجه الأرض، ويظهر هذا المسلم الأولُ بأخلاقه وفضائله وحَمِيميَّته في كل بقعة من الدنيا مكانَ إنسان هذه البقعة، لا كما نرى اليوم؛ فإنَّ كلَّ أرضٍ إسلامية يكادُ لا يظهر فيها إلا إنسانها التاريخيُّ بجهله وخرافاته وما وَرثَ من القِدَم، فهنا المسلم الفرعوني، وفي ناحية المسلم الوثني، وفي بلد المسلم المجوسي، وفي جهة المسلم المعطِّل... وما يريدُ الإسلام إلا نفسَ المسلم الإنساني(1).
أيها المسلم!
لا تنقطعْ من نبيك العظيم، وعشْ فيه أبداً، واجعله مثلك الأعلى، وحين تذكره في كل وقت فكن كأنك بين يديه، كن دائماً كالمسلم الأول، كن دائماً ابنَ المعجزة.
محمد "(2) للعلامة الشيخ محمد بهجة البيطار (3)
__________
(1) يقصد المسلم الفطري الذي لم تتدنس فطرته (م).
(2) مجلة =الهداية الإسلامية+ الجزء التاسع من المجلد السابع الصادر في ربيع الأول 1354هـ، وانظر كتاب: محمد بهجة البيطار _ بهجة الإسلام _ إعداد الأستاذ علي الرضا الحسيني ص24_27.
(3) هو الشيخ العلامة محمد بهجة بن بهاء الدين بن عبدالغني بن حسن بن إبراهيم الشهير بالبيطار.
ولد في الثاني من شهر رمضان المبارك سنة 1311هـ (1894) في مدينة دمشق من عائلة كريمة يرجع أصلها إلى الجزائر =مدينة بليدة+.
عرف والده بالعلم وقرض الشعر، ووالدته ابنة الشيخ عبدالرزاق البيطار صاحب كتاب =حلية البشر في تاريخ القرن الثالث عشر+ وهي ابنة عم والده.
تلقى علومه في المرحلة العلمية الأولى على والده. وفي المدرستين الابتدائيتين =الريحانية+ و=الكاملية+ بدمشق.
تابع علومه على أفاضل العلماء، والده وجده لأمه الشيخ عبدالرزاق البيطار، وعلى كبار أعلام العصر كالإمام محمد الخضر حسين، والشيخ جمال الدين القاسمي، والمحدث الأكبر محمد بدر الدين الحسني.
وحصل منهم على الإجازات العلمية التي تشهد بتفوقه ومثابرته على طلب العلم.
قام بالخطابة في الجمع والأعياد والإمامة والتدريس في جامع الشربجي بحي الميدان سنة 1328هـ 1910م خلفاً لوالده.
كما تولى الخطابة والتدريس في جامع كريم الدين الشهير بالدقاق سنة 1335هـ _ 1917م وحتى وفاته ولم ينقطع عنهما إلا لداعي السفر أو المرض.
=(1/63)
من تصفح كتب السيرة النبوية الشريفة التي صاغها الحكماء قديماً وحديثاً، أو استجلى سيرة النبي الأعظم " من صفحات الوجود، كان جِدَّ عليمٍ بأنه أعظم مصلح ظهر في هذا الكون، ورأى أن تعاقب الأجيال لم يزد هذه الحقيقة إلا جلاءً وصقالاً؛ فهو " إن ذكر العظماء كان أعظمهم، وإذا ذكر الرسل والأنبياء كان مقدمهم وخاتمهم.
نشأ يتيماً فاقد الأبوين، فلم نر من ذوي الآباء والأمهات والمعلمين والمعلمات من تربى تلك التربية الطاهرة، واشتغل _ على حداثة سنِّه _ بما يعود على كافليه بالخير والبركة والمعاونة(1).
سافر بتجارة لخديجة بنت خويلد، فكان المثل الكامل في كل عصر بقوة نشاطه، وعظيم أمانته، وأرباحه في تجارته.
__________
(1) وكانت دروسه في جامع الشربجي بعد صلاة الصبح. وفي الدقاق ثلاثة أيام في الأسبوع بين المغرب والعشاء.
عمل في سلك التعليم، وتلَّد في عددٍ من المناصب في سوريا والسعودية.
توفي يوم السبت في الثلاثين من جمادى الأولى سنة 1396هـ الموافق للتاسع والعشرين من أيار سنة 1976م.
له عددٌ من المؤلفات منها: كتاب =نقد عين الميزان+ ألفه أيام الطلب والتحصيل انتصاراً لأستاذه الشيخ جمال الدين القاسمي وأئمة الرواية في الأخذ عن كل ثقة ثبت صدوق. طبع بدمشق سنة 1331هـ، ورسالة =نظرة في النفحة الزكية+: هي دعوة إلى مذهب السلف الصالح ونبذ المعتقدات الزائفة والآراء الفاسدة. طبع بدمشق سنة 1922م، رسالة =النفخة على النفحة والمنحة+ طبعت باسم مستعار مع الرسالة السابقة في الرد على رسالة =النفحة الزكية في الرد على شبه الفرقة الوهابية+، كتاب =حياة شيخ الإسلام ابن تيمية+ طبع بدمشق سنة 1961م، رسالة =الكوثري وتعليقاته+ بيان افتراءات زاهد الكوثري في تعليقاته على عقيدة أهل السنة. طبع بمصر سنة 1938م.وغيرها من الكتب، انظر ترجمته في كتاب =محمد بهجة البيطار+ إعداد علي الرضا الحسيني.(1/64)
تزوج بخديجة، فلم يكن بزواجه أنانيَّاً ولا شهوانيَّاً، بل كان " وهو ابن خمسة وعشرين عاماً مضرب المثل في العفة والاستقامة، والاكتفاء بامرأة مسنَّة أيِّم، كانت قبله ذات زوج وولد، وهي أولى أزواجه، وأم أولاده، وقد عاش معها ربع قرن كامل، ولم يتزوج عليها أحداً، وإنما تزوج بعدها سودة بنت زمعة، وعاش بمكة حتى بلغ من العمر 53 عاماً لم يجمع فيها بين اثنتين أصلاً.
أما تزوجه في المدينة _ في بضع سنين _ بتلك النسوة الثاكلات الأيامى، وذوات الأولاد اليتامى _ فلمصالح زوجية واجتماعية، وأسباب خاصة وعامة، مبسوطة في كتب السيرة الشريفة القديمة منها والحديثة، اللهم إلا عائشة التي بنى بها في المدينة وهي بنت تسع سنين، وبقيت كخديجة آية على وجه الدهر في حبها وإخلاصها لزوجها وووفائها له، ثم كانت إحدى معجزاته " الخالدة في مشكلات التفسير والحديث والفتاوى والأحكام، ومسندها في مسند أحمد ابن حنبل يقع في 253 صفحة، وعلى رواياتها المعوّل في معرفة ما كان رسول"يفعل في بيته.
كان أمر المرأة في التاريخ القديم والحديث عجباً، فمنهم من وَأَدَها، ومنهم من عبدها!.
لكن الإسلام هو الذي أنزلها المنزلة اللائقة بها، فهو قد منحها حقوقها، وعرفها واجباتها وآية: [وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ] لا يوجد في الدنيا قانون أعدل ولا أجمع منها، إذ قد ساوت بين الرجل والمرأة في الحقوق والواجبات، وخصت الرجل بدرجة الرئاسة الشورية على الأهل والأولاد؛ فالإسلام لم يستعبد المرأة كما فعلت الأمم السابقة، ولم يقلب نظام الطبيعة؛ ليجعل منها رجلاً ثانياً كما فعلت الأمم الحديثة المتمدنة؛ فقد تخلى عنها عندهم الأب والأخ والابن، ودفعوها جميعاً في تيار العمل خارج المنزل، فشقيت، وشقي الرجل بها ومعها.(1/65)
زعموا أن الإسلام قد هضمها حقها في الميراث، أوَلا يذكر هؤلاء أن ميراثها ومهرها لها، وأنها تتصرف في أموالها كيف شاءت؟
وهل تملك المرأة الحديثة من مال زوجها أو من مالها عنده من التصرف المطلق ما تملكه المرأة المسلمة؟ كلا إنها لا تملك حق التصرف في مالها بغير إذن زوجها.
زعموا أن الإسلام قد جعلها بنصف عقل الرجل في كل شيء! أولا يعلمون أن أصل هذه المسألة هي آية المداينة في آخر سورة البقرة، ومنها قوله _ تعالى _: [وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنْ الشُّهَدَاءِ] وعلل ذلك بقوله: [أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى] أي إذا نسيت إحداهما أذكرتها الثانية، فإذا كان الرجل في مقام امرأتين فيما ليس من خصائصها، ولا هو من وظائفها، وهو يُنسى عادة من مثلها أفلا تعد المرأة بمنزلة رجلين في شؤونها المنزلية، وأمورها الداخلية، وهل ينقص هذا من قدره شيئاً يا ترى؟
ألم يفرق الرسول " بين عقبة بن الحارث وزوجه أم يحيى بنت أبي إهاب مذ شهدت أمة سوداء بأنها أرضعتهما؟ والحديث في الصحيح.
وهل جعلها الرسول " ناقصة العقل، ضعيفة الذاكرة، فيما هو من خصائصها، أم قَبِل خبرها وحدها بعد نحو عشرين عاماً تقريباً؟
وأما كونها بنصفِ دين فالدين كالإيمان يطلق على الصلاة، وللمرأة عادتها الطبيعية في الحيض وفي النفاس، والشارع قد أسقط عنها الصلاة في تلك المدة طالت أو قصرت [ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ].
بخلاف سائر أركان الإسلام كالزكاة والحج والصيام فإنها مطالبة بأدائها كاملة كالرجل.
وجملة القول أنه " أكبر المصلحين، وأكمل الأنبياء، وأشرف الخلق، وأجدر الناس بالمحبة والطاعة والاتباع.(1/66)
أمهات المؤمنين (1) للعلامة الشيخ محمد بهجة البيطار
النساء في عصر النبوة:
النساء في فجر الإسلام وعصر النبوَّة كُنَّ كالرجال، يتدارسن القرآن، ويروين الأحاديث، ويحافظن على العبادات، ويصلين صفوفاً وراء الرجال، ويستمعن المواعظ والخطب في المساجد، ويسافرن لأداء فريضة الحج والعمرة، بل كنَّ يشهدنَ الحروب، ويضمدن الجروح، ويُهيئن الطعام، ويسقين الماء، ويغسلن الثياب، ويشتركن في الجهاد أحياناً كما حصل في واقعة اليرموك.
وقد كان تعلم العلم الديني بعقائده وعباداته إلزامياً، فعمَّ الرجال والنساء، والبنين والبنات، وإنك لتجد أسماء النساء مدونة في كتب طبقات المحدِّثين وغيرهم، وقد استغرقت المحدِّثات المجلد السادس من مسند الإمام أحمد ابن حنبل إلا قليلاً، ومسند السيدة عائشة _ أي الأحاديث التي سمعتها وروتها _ قد بلغ وحده أكثر من مائتين وخمسين صفحة =ص29_282+.
وقد تسلسل العلم ببعض البيوتات في السيدات، حتى صارت الواحدة تروي أحاديث النبي " عن أمها وجدتها.
ومن شواهد ذلك ما رواه الإمام أبو داود في سننه: قال: حدثنا محمد ابن بشار، حدثني عبدالحميد بن عبدالواحد، حدثتني أمُّ جَنوب بنت نميلة عن أمها سُويدة بنت جابر عن أمها عَقيلة بنت أسمر بن مضرّس قالت: أتيت النبي" فقال: =من سبق إلى ما لم يسبق إليه مسلم فهو له+ أي من الأرض _ الحديث.
إحدى أمهات المؤمنين وفتاة في القرن العشرين:
لنقايس الآن من الوجهة العلمية بين فتاة في صدر الإسلام، وفتاة في عصر العلم والحضارة، لنعلم كنه الحياة في العصرين:
__________
(1) مجلة =الهداية الإسلامية+ الجزء العاشر من المجلد التاسع الصادر في ربيع الآخر 1356هـ، وانظر كتاب: محمد بهجة البيطار، إعداد الأستاذ علي الرضا الحسيني ص28_36.(1/67)
عائشة _ رضي الله عنها _ عاشت في صدر الإسلام، ودخلت المدرسة النبوية في التاسعة من عمرها، ولبثت تسع سنوات في مدرستها، وتوفي عنها معلمها الأمين " وهي في الثامنة عشرة من عمرها، فما العلوم التي درستها، وما نوع شهادتها يا ترى؟
كانت تلك النابغة فقيهة جداً حتى قيل: إن ربع الأحكام منقول عنها، عالمة بكل العلوم.
قال أبو موسى الأشعري ÷: =ما أشكل علينا أصحاب رسول الله " حديث قط فسألنا عنه عائشة إلا وجدنا عندها منه علماً+.
وقال عروة: =ما رأيت أحداً أعلم بالقرآن، ولا بفريضة، ولا بحرام، ولا بحلال، ولا بفقه، ولا بشعر، ولا بطب، ولا بحديث العرب، ولا نسب _ من عائشة+.
وقال مسروق: =رأيت مشيخة أصحاب رسول الله " الأكابر يسألونها عن الفرائض+.
وكانت فصيحةً جداً، قال معاوية: =والله ما رأيت خطيباً قط أبلغ، ولا أفصح، ولا أفطن من عائشة+.
وعند الطبراني برجال الصحيح عن موسى بن طلحة: =ما رأيت أحداً كان أنفح من عائشة+.
من أخذ عنها من الصحابة:
روى عنها جماعة كثيرة من الصحابة كعمر وابنه عبدالله، وأبي هريرة، وأبي موسى، وزيد بن خالد، وابن عباس، وربيعة بن عمرو بن السائب بن يزيد، وصفية بنت شيبة، وعبدالله بن عامر بن الحارث بن نوفل.
تلاميذها من كبار التابعين:
من أجلاّئهم ابن المسيب، وعمرو بن ميمون، وعلقمة بن قيس، ومسروق، وعبدالله بن عليم، والأسود بن يزيد، وأبو سلمة بن عبدالرحمن، وأبو وائل.
من روى عنها من آل بيتها:
أختها أم كلثوم، وعائشة بنت طلحة، وأخوها من الرضاع عوف ابن الحارث، وابنا أخيها محمد: القاسم وعبدالله، وبنتا أخيها الآخر عبدالرحمن: حفصة وأسماء، وابنا أختها أسماء: عبدالله وعروة، وحفيد عبدالله: عباد ابن حمزة، وآخرون كثيرون.
فهذه شذرة من شهادة كبار الصحب لعائشة بكونها صارت مرجعاً في كل علم، حلاّلة لكل مشكل.(1/68)
إن عائشة _ رضي الله عنها _ كانت على حداثة سنها تجيب كبار الرجال عما يُشكل عليهم من أمر دينهم، ولكن فتياتنا في سنها لا يُجبن عن مشكلات الدين أحداً، بل هنَّ يسألن ويستشكلن مسائل كان يُرجى منهن أنفسهن الجواب عليها، مثل كون شهادة المرأة نصف شهادة الرجل، وميراثها نصف ميراثه، ومثل تعدد الزوجات =أو عدم المساواة كما يُقال+، وعن الحكمة في كون أزواج النبي أكثر من أربع، وأمثال هذه المسائل.
حكمة تعدد أمهات المؤمنين بعد الهجرة:
لو رجعنا إلى التاريخ الصحيح في أزواج النبي " أمهات المؤمنين، لعلمنا أنَّ التعددَ، أو الجمع بين التسع لم يكن إلا بعد هجرته " إلى المدينة في السنوات العشر الأخيرة من عمره ".
أما في مكة فقد عاش فيها قبل الهجرة ثلاثة وخمسين عاماً، لم يجمع في أثنائها بين زوجتين قط، والسيدة خديجة التي كانت أولى أزواجه وأم أولاده _عدا إبراهيم؛ فإنه من مارية القبطية_ قد تزوج بها(1) وهي امرأة في الأربعين من عمرها، وهو في الخامسة والعشرين من حياته الشريفة، في نضارة الصبا، وريعان الفتوة، وجمال الطلعة، وكمال الرجولة، وعاشت معه 25 عاماً، ثم توفيت وهي عجوز في الخامسة والستين من عمرها.
قضى حياة الشباب، وسنَّ الحاجة إلى النساء مع خديجة، المرأة الثيب التي تزيد عنه في السن خمسة عشر عاماً، ولم يتزوج عليها، ولا أحب بعدها أحداً أكثر من حبه لها، وكان طول حياته يذكرها، ويكرم صديقاتها ومعارفها، ولما قالت له عائشة: =هل كانت إلا عجوزاً أبدلك الله خيراً منها _تعني نفسها_+ وكانت تُدِلّ بحداثة سنها وجمالها، وكونها بنت صديقه الأول، وصديقه الأكبر أبي بكر ÷ _ قالت: فغضب، وقال: =والله ما أبدلني خيراً منها، آمَنَتْ بي إذ كفر الناس، وصدقتني إذ كذبني الناس، وواستني بمالها إذ حرمني الناس، ورزقني الله منها الولد دون غيرها من النساء+.
__________
(1) الضمير يعود إلى أم المؤمنين خديجة _رضي الله عنها_ (م)(1/69)
من هذا الشاهد تعلم أن عفَّتَه " لا نظير لها، ولو شاء لتزوج بحسان الأبكار، أو لو شاء لتزوج على خديجة كما كان يفعل غيره، لاسيما أن تعدد النساء كان في الجاهلية شائعاً جداً، وليس له حدٌ معين، ولكنه عف ضميره، ولم يمد عينه إلى زهرة الحياة، وزينتها.
أما باقي أزواجه " فخمس من قريش، وهنَّ عائشة بنت أبي بكر، وحفصة بنت عمر، وأم حبيبة بنت أبي سفيان، وسودة بنت زمعة، وأم سلمة بنت أمية، وأما الأربع الباقيات فهن صفية بنت حيي الخيبرية، وميمونة بنت الحارث الهلالية، وزينب بنت جحش الأسدية، وجويرية بنت الحارث المصطلقية، وليس فيهن كلِّهن بِكْرٌ إلا عائشة.
والحكمة في تزوجه " بعد هجرته إلى المدينة ببضع نسوة في بضع سنين هو العناية بإصلاح البيوت، وتهذيب النفوس، ونشر الفضيلة، وأن تكون أزواجه قدوة حسنة لجميع النساء في تلقي العلم والحكمة، والرحمة، والتقوى والعبادة، والتربية والتعليم، وإليك البيان:
1_ جعل الله _ تعالى _ من بيوت نساء النبي " مدارس داخلية يتعلمن فيها الدين، عقائده وعباداته، ومعاملاته وأخلاقه، لاسيما ما يختص منه بالنساء، قال _ تعالى _:[وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ... الآية] (الأحزاب: 33).
فالقرار في البيوت من أجل أن يتعلمن ما يحتجن إليه، وما يعظن به النساء والرجال، ولهذا قال _تعالى_: [وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ ...الآية](الأحزاب:34).
وآيات الله: براهينه وكتابه، والحكمة: سنة نبيه " المبينة ما نزل إليه من ربه.
وإنما نهى عن التبرج الجاهلي؛ لأن المتبرجات المتهتكات، الكاسيات العاريات، المائلات المميلات، لا يأتي منهن معلمات ولا مربيات.
ونساء النبي " إنما وجدن عند النبي لتعليم الأمة وتربيتها، وإرشادها وإسعادها.(1/70)
2_ لما طلبن منه التوسع في الطيبات، وملابس الزينة، والترف في المعيشة نزلت في حقهن آيتا التخيير، وهما قوله _تعالى_:[يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً (28) وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً](الأحزاب: 28_29).
لما نزلت هاتان الآيتان بدأ " بعائشة _ وكانت أحبهن إليه، كما كان أبوها أعز الرجال عليه _ فقال: =يا عائشة إني أريد أن أعرض عليك أمراً أحب أن لا تعجلي فيه حتى تستشيري أبويك+ قالت: وما هو يا رسول الله؟ فتلا عليها الآية، قالت: أفيك يا رسول الله أستشير أبوي؟ بل أختار الله ورسوله والدار الآخرة، ثم خيرهن كلهن فاخترن ما هو خير لهن، اخترن الله ورسوله والدار الآخرة.
3_ أراد نساء النبي " أن يقمن حيث أقامهن الله ورسوله صالحات مربيات ومعلمات، مرشدات ومفتيات، فاخترن الدار الآخرة ونعيمها الدائم، ورضوان الله الأكبر، على حظوظهن من هذه الحياة الدنيا وزينتها، ومُتعها ومفاتنها، فأثابهن الله كرامة لهن، وجزاء على ما اخترن ورضين بأن قصر نبيه " عليهن، دون أن يتزوج أو يطلق، أو يستبدل بهن غيرهن، فقال _ عز شأنه _:[ لا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ](الأحزاب:52).
والحكمة في تحريم تطليقهن هي استدامة سماعهن ما يُتلى في بيوت النبي " من آيات الله والحكمة، وذِكر ذلك، ونشره بين الناس، لاسيما نساء الصحابة _رضي الله عنهم_.
وأيّة فائدة تُرجى لهن أو لغيرهن من طلاقهن وهن أمهات المؤمنين؟ أي تحريماً وتعظيماً على الرجال كالأمهات.(1/71)
فأنت ترى أنَّ النبي " قد قُصِر على أزواجه الطاهرات، وحُرِّم عليه أن يمد عينيه إلى غيرهن بالزيادة أو التبدل، بخلاف رجال أمته الذين أبيح لهم التعدد بشروطه، وكذا التطليق، وأن يستبدلوا بأزواجهم غيرهن، إذاً فقد قصر النبي " على دائرة ضيقة من الأزواج، وكانت الأمة في دائرة أوسع منها.
أهذا الذي يسمونه تمتعاً بالنساء أو الأزواج؟
نساء كلهن ثيبات _ عدا السيدة عائشة _ ومنهن من لها أولاد،تزوجهنَّ _صلوات الله عليه_ في سن الكهولة أو الشيخوخة، وحين الحاجة إلى التبليغ والتعليم، وربما كان التزوج بهن كلهن قبل نزول آية التحديد بأربع نسوة، فهي قد نزلت في السنة الثامنة للهجرة، وكان تزوجه بآخرهن ميمونة بنت الحارث الهلالية في أواخر سنة سبع منها، وحرم عليه تطليقهن؛ لأنهن قد اخترن ما عند الله على زهرة الحياة الدنيا وزينتها، على أنهن قد صرن أمهات المؤمنين، فما الفائدة من طلاقهن وهن حرام على الرجال؟ أوليست الحكمة في بقائهن عند هذا الزوج الكريم، والرسول العظيم متعلماتٍ، ومعلماتٍ، ومُثلاً عليا في البر والتقوى وسائر الصالحات؟ بلى ثم بلى.
المدينة الفاضلة (1) للشيخ العلامة المحقق محمد الطاهر بن عاشور(2)
__________
(1) الهداية الإسلامية، الجزء العاشر/ المجلد التاسع/ ربيع الآخر 1356هـ _ يونيو 1937م، ص578_594، ولعلك _ أيها القارئ _ لا تكاد تظفر بمثل هذا المقال في بابه (م).
(2) هو العلامة الشيخ محمد الطاهر بن محمد بن محمد الطاهر بن عاشور، ولد في ضاحية المرسى في تونس سنة 1296هـ بقصر جده للأم الصدر الوزير محمد العزيز بو عتور.
وقد شب في أحضان أسرة علمية، ونشأ بين أحضان والد يأمل أن يكون على مثال جده في العلم والنبوغ والعبقرية، وفي رعاية جده لأمه الوزير الذي يحرص على أن يكون خليفة في العلم والسلطان والجاه.
تلقى العلم كأبناء جيله، حيث حفظ القرآن، واتجه إلى حفظ المتون السائدة في وقته، ولما بلغ الرابعة عشرة التحق بجامع الزيتونة سنة 1310، وشرع ينهل من معينه في تعطش وحب للمعرفة، ثم برز ونبغ في شتى العلوم سواء في علوم الشريعة، أو اللغة، أو الآداب أو غيرها؛ فكان آية في ذلك كله.
له مؤلفات عديدة في شتى الفنون، منها تفسيره المسمى بالتحرير والتنوير، ومقاصد الشريعة، وأصول النظام الاجتماعي في الإسلام، وكشف المغطى من المعاني والألفاظ الواقعة في الموطأ، وردٌّ على كتاب الإسلام وأصول الحكم لعلي عبد الرازق، وأصول التقدم في الإسلام، وأصول الإنشاء والخطابة، وغيرها كثير.
وكان ذا عقل جبار وذا تدفُّق وتدفُّع في العلم؛ فكأنه إذا كتب في أي فنٍّ أو موضوع_ يغرف من بحر، وينحت من صخر؛ فإذا رأيت عنوان الموضوع قلت ماذا سيقول؟ فإذا قرأت ما تحته رأيت العجب العجاب، لهذا فإنك تحتاج وأنت تقرأ له أن تُحضر ذهنك، ولا تتشاغل عنه.
توفي × يوم الأحد 13 رجب 1393هـ.
وإذا أردت التوسع في ترجمته فارجع إلى كتاب شيخ الجامع الأعظم محمد الطاهر بن عاشور حياته وآثاره، تأليف د. بلقاسم الغالي.(1/72)
لم تزل أمنية كل مصلح قيضه الله للبشر لأن يهدي الناس إلى تكوين ما يسمى في عُرْف الحكماء بالمدينة الفاضلة، وهم إن اختلفت عندهم الأسماء لاختلاف أساليب التعبير في اللغات لا نجد بينهم اختلافاً في أن مسمى الذي يدعون إليه هو مسمى ما عناه الحكماء المدينة الفاضلة: مجتمع من الناس هو على أكمل حال يكون عليها المجتمع البشري في الرأي والعمل؛ ذلك أن الإنسان مدنيُّ بالطبع كما هو مشهور على الألسنة، وقد علل كثير من الحكماء كون الإنسان مدنياً بالطبع.
وأنا أختصره وأزيد بياناً: فمعنى كونه مدنيَّاً بالطبع أنه بطبع خلقته مجعول لأن يكون مدنياً، لأنه خلق بحيث لا يستقل وحده بأمر نفسه، بل هو محتاج إلى مشاركة غيره من بني جنسه؛ لظهور كثرة حاجاته الناشئة عن ضعفه الجبلي وتفكيره؛ فالضعف الجبلي جعله محتاجاً إلى مكملات يصير بها قويَّاً على مصادمة الكوارث والمهالك، والتفكير جعله متطلعاً إلى أن يعيش كما يحب لا كما يلقى، وذلك بالمُقام في حيث يريد دون انزواء أمام الحوادث المغتالة، وبتحصيل ما لا يستطيع نواله مع فرط رغبته؛ فزاد بالتفكير ضعفه جلاء لأنه يطمح به إلى تمنيات وفروض لا يستطيع تحصيلها لعجزه، على حد قول أبي الطيب:
وإذا كانت النفوس كباراً ... تعبت في مرادها الأجسام
فاحتاج أفراد البشر إلى معونة بعضهم بعضاً؛ لتصل لهم من تفكيرهم وسعيهم قوةُ التعاضد والتوازر، فيبذل كلَّما يستطيع بذله من كده أو من كسبه، عسى أن يحصل من مجموع سعيهم تحصيل معظم أماني الجميع، وبذلك التفكير والتعاضد امتاز البشر عن أصناف الحيوان.
لولا العقول لكان أدنى ضيغم ... أدنى إلى شرف من الإنسان(1/73)
وقد صار الإنسان بموجب هذا الاحتياج إلى التعاون والتكاتف مضطراً إلى اقتراب بعض أفراده من بعض، وإلى التكثر من هؤلاء المقتربين والمجتمعين، وإقامة بعضهم حيال بعض؛ ليجد كلٌّ عن احتياجه مَنْ يسارع إلى سد خلته؛ فاضطر إلى التجمع والإقامة، وهو المعبر عنه بالتمدن؛ المأخوذ من لفظ المدينة، الذي هو مشتق من فعلٍ مُماتٍ في اللغة العربية وهو فعل مدَن.
ثم إن هذا الخُلق الجِبِلِّي من شأنه أن يتدرج بهم في سلم الارتقاء، ولا يزال يغريهم نوال شيء بالتطلع إلى ما فوقه.
ثم إن هذا التمدن يفضي بالناس في غالب الأحوال إلى توارد الرغبات على شيء يكون الموجود منه لا يفي بإرضاء الجميع، أو إلى اختلافهم في وسائل السعي إلى ما يدفع عنهم ضرراً، أو يجلب إليهم نفعاً، فكانوا في اجتماعهم ذلك مَظِنَّةَ حدوثِ الخلاف بينهم، وكان ذلك الخلاف من شأنه أن يهيِّج ما فيهم من قوة الغضب، ويحمل بعضهم على مقارعة بعض؛ فيصير بعضهم سبب إتلاف مصالح بعض، وإفساد ما أصلحوه في تجمعهم بعد أن كان تجمعهم سبب تحصيل تلك المصالح؛ فيؤول اجتماعهم في الإهلاك والضلال على أن يكون عائداً على مقصدهم الأول بالإبطال؛ فلذلك لم يزل الساعون إلى إصلاحهم من الأنبياء والحكماء يدعونهم إلى الاستقامة، وينبهونهم على أن مراد الله منهم أن يكون مجتمعهم كاملاً، ومدينتهم فاضلة؛ ليكون لهم من تقويم أحوالهم ما يلائم أحسن تقويم خلقوا عليه، الدال على أن الله _ تعالى _ حين خلقهم على أحسن تقويم قد أراد أن يكونوا متصفين بكل وصف قويم.
وإنما يتضح كمال هذا التمدن إذا كان مظهر هؤلاء المتحدين كاملاً، ولا يكمل مظهرهم إلا بكمال أفرادهم، فإذا كملت أفرادهم كمل المجتمع المتركب منهم؛ لأن المركب من الصالحِ صالحٌ.(1/74)
فليس المراد بالمدينة الفاضلة ما لولاه لهلك النوع؛ إذ قد ينتظم حال النوع انتظاماً ما _ أي في الجملة _ بمجرد صلاح قليل؛ فيسلم من الهلاك، ويعيش عيشاً بسيطاً، ولكنه لا يكون على حالة ملائمة لحال التقويم الجبلي الذي خلق عليه.
أودع خالق النوع _ سبحانه _ في جِبِلَّة أفراده عقلاً يهديهم إلى إيجاد وسائل قليلة لحفظ النوع كما قدمنا، ولكنه لما علم أن ذلك غير كاف في العروج بهم إلى معارج الكمال التي أُعدوا لها، ولا في الخروج عن مآزق قد يلقون أنفسهم فيها _ قيض الله دعاة يدعونهم إلى الهدى، ويحذرونهم مواقع الردى، وهم العارفون؛ فمنهم أنبياء تولى الحقُّ إرشادَهم إلى ما فيه صلاح قومهم، ومنهم حكماء خصهم الله بعقول تفوق عقول عامة أقوامهم، وخص الفريقين بجلائل الصفات النافعة في إيصال الإصلاح إلى البشر غير مشوب ولا مؤرب(1)؛ فتظافر الفريقان وعملا على الأخذ بيد البشر في مزالق الضلال، ومهاوي السقوط، وانتشاله من مخالب الهلاك، وجعل بمقدار تخلقهم بأخلاق الكمال وجريهم على طريق الهدى مقدار عروجهم في المعالي في عالم الخلود الذي لا فناء يعتريه، ولا حقائق تقلب فيه.
وجماع هذا الصلاح هو صلاح الاعتقاد، وصلاح العمل، وقد جمع ذلك قوله " في حديث مسلم عن أبي عمرة الثقفي، قال: =قلت يا رسول الله قل لي في الإسلام قولاً لا أسأل عنه أحداً غيرك، قال قل آمنت بالله ثم استقم+.
ابتدأ أول دعاة الصلاح، وهو أول رسول أُرسل إلى البشر، نوح _ عليه السلام _ دعوته بتطهير العقيدة، ووجوب التوبة من الشرك، ولم يزدهم على ذلك، فعلمنا أن الله ابتدأ البشر بالترقي به إلى أُولى درجات الصلاح.
وكذلك جاء إبراهيم قومه بالدعوة إلى التوحيد وإعلانه، وإلى مكارم الأخلاق، ورحل في بلاد الله يبث دعوته الصالحة بين البشر.
__________
(1) لعل مراده أنه خالص لا يداخله ريبة، أو شيء من المآرب الخاصة الدنيوية (م).(1/75)
ثم جاءت الرسل تترى، ما منهم إلا يأمر بالإصلاح العام، فقد قال هود لقومه [وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ (130) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (131)] الشعراء.
وقال صالح لثمود [إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ] هود: 88.
وقال شعيب لأهل مدين [وَلا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا] الأعراف: 56.
وقرون بين ذلك كثير [مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ] غافر: 78.
وهؤلاء كلهم قد اقتصرت دعوتهم على تأسيس جماعة فاضلة، ثم اتسعت الدعوة في شريعة موسى اتساعاً يؤذن باقتراب استعداد البشر إلى تلقي التهذيب الكامل؛ فأخذ في تخطيط ما يصلح لأن يكون تأسيس مدينة فاضلة، ولكنه توفي ولم يقض إلا إصلاح الجماعة، إلا أنها كانت جماعة كبيرة، ثم كانت بعده أشكال كثيرة في سياسة بني إسرائيل؛ فكانت أمة فيها فضلاء كثيرون، وفيها دون ذلك.
وجاء دعاة كثيرون مختلطون: أنبياء وحكماء، مثل أنبياء بني إسرائيل حتى عيسى، ومثل لقمان، وذي القرنين وتبَّع، وهرمس الأكبر الحكيم المصري الذي قيل: إنه النبي إدريس، وبياس الحكيم اليوناني، وسولون المشرِّع اليوناني، ثم سقراط، وأفلاطون.
قال الحكيم الجليل يحيى السهروردي في حكمة الإشراق، وقطب الدين الشيرازي في شرحه(1) بعد أن ذكر أساتذة أرسطاليس: =ومن جملتهم جماعة من أهل السفارة _ أي أهل الكتب السماوية وإصلاح الناس _ مثل هرمس _ أي إدريس _ واسقليبوس _ خادم هرمس، وهو أبو الأطباء(2) وغيرهم _ وإنما سمي الثلاثة لأنهم من عظماء الأنبياء الجامعين بين الفضيلة النبوية، والحكمة الفلسفية+ اهـ.
__________
(1) ورقة 8 من شرح حكمة الإشراق لقطب الدين الشيرازي في شرح الديباجة (مخطوطة).
(2) هو واضع علم الطب عند اليونانيين، فتلقبه بأبي الأطباء إما لأن مؤسس الشيء يدعى أباً له، وإما لأن معظم الأطباء في العصور الأولى كان من ذريته، وكلا الوجهين أمر واقع.(1/76)
وهؤلاء الحكماء قد دعوا، وسعوا إلى إيجاد المدينة الفاضلة، وكان أكثرهم تنويهاً بها هو أفلاطون.
فقد رام سولون(1) الحكيم إيجاد المدينة الفاضلة بما شرع لأهل أثينا من قوانين العدل، ونظام الشورى؛ وقال بيتاقوس الحكيم: =إذا أراد الملك ضبط المملكة وجب أن يكون هو وخاصته وجنوده مطيعين للقانون مثل سائر الرعية+.
ورام أفلاطون إيجاد المدينة الفاضلة بضبط قواعد تكوينها.
وفيهم من كان انصرافه إلى إيجاد المدينة الفاضلة أكثر من انصرافه إلى إعداد أمة فاضلة لها، مثل سولون، ومن كان انصرافهم إلى إصلاح النفوس لإعداد أمة فاضلة للمدينة الفاضلة، مثل سقراط وأفلاطون.
كانت شكايات من الرسل والحكماء من سوء تلقي أقوامهم لنصيحتهم أوضح دليل على أن المدينة الفاضلة لم تلتئم، فما من الرسل السالفين إلا قائل [إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ] الشعراء: 117، أو قائل [لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِنْ لا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ] الأعراف: 79، أو قائل [فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحاً وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِي مِنْ الْمُؤْمِنِينَ] الشعراء: 118، أو قائل [فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ] المائدة: 25.
__________
(1) سولون هو حكيم يوناني من أهل أثينا، ولد في حدود سنة 640 قبل المسيح؛ كان من أساطين الحكمة في السياسة والتشريع، وتوفي وعمره ثمانون سنة بجزيرة قبرص.(1/77)
وربما فارق كثير منهم أوطانهم، إذ أبوا أن يروا فيها الفساد، فقد قال إبراهيم [إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ] الصافات: 99، وقال لوط [إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ] العنكبوت: 26، وخرج الحكيم سولون من أثينا بعد أن أقام لها الشرائع والعدل، والحكومة الشورية، فأفسد أهلها ذلك، وولوا عليهم الملك (بيزاستراتث) وأخذ (يوجينوس) الحكيم مصباحاً في يده في الصباح، وجعل يجول به في شوارع أثينا كأنه يفتش على شيء، فإذا سئل: على ماذا تفتش؟ قال: لعلي أظفر برجل.
بقيت المدينة الفاضلة مرتسمة في خيال الحكماء، فلم يزالوا يدعون، ويبتغون تأسيسها، ولكنهم لم يحصلوا على طِلْبَتِهم المنشودة؛ ذلك أن المدينة الفاضلة يلزم أن يكون رئيسها حكيماً صالحاً عارفاً، وأن يكون أصحابه أهلُ الحل والعقد فيها حكماءَ مثلَ رئيسهم، وأن يكون سكانها أفاضلَ قابلين لسياسة الحكيم مطيعين له، غير مفسدين لما يصلحه.
وقد كادت مدينة أثينا في زمن سولون أن تكون المدينة الفاضلة، وقد كان سولون يقول: =المملكة البالغة غاية الكمال هي التي لا يقبل أهلها الذل والظلم، وينتصرون للمظلوم كما ينتصرون لأنفسهم+.
إلا أنها لم تحصل على عامة مطيعين لرؤسائهم إلا في فترات قليلة من الزمن؛ فإن سولون مؤسس شرائع أثينا، ومنظم حكومتها الجمهورية لم يلبث أن فارق أثينا، وسكن في بلاد مصر، وأبى الرجوع إلى بلده مع شدة رغبة الملك (بيزاستراتث) في رجوعه، والانتفاع بحكمته، ودارت بينهما في ذلك مراسلة لها شأنها في التاريخ.
وكذلك أوشكت أن تكون مقدونية مدينة فاضلة في زمن مُلْك اسكندر ابن فيليبوس، ووزارة أرسطاليس له، غير أن ذلك لم يخلص لهما، ولم يلبث أن غضب ارسطاليس على الاسكندر، وفارقه فراقاً لا لقاء بعده.
وقد اعترف أفلاطون بعده بقرون بأن ليس في نظام الجمهورية في أثينا في زمانه ما يجعلها ملائمة للحكمة والفضيلة التامة.(1/78)
واضطرب العالم عقب ذلك اضطراباتٍ عامةً في كل مكان؛ فلم يتأتَ إيجادُ المدينة الفاضلة.
كان الرسلُ _ كما قلنا _ أولَ المصلحين للبشر، وأعظمَ المصلحين، وكان الحكماء من أتباع الرسل ومن غيرهم يظهرون في فترات من التاريخ يكملون الإصلاح، ويبرهنون عليه، فرجعت محاولة إيجاد ما يسمى بالمدينة الفاضلة إلى دعوة الرسل؛ فلا جرم أن يكون أعظمُ الرسل الذي جاء بالدين الخالص القيم، والذي هو المقصدُ من الإصلاح الأخيرِ للبشر [إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ] آل عمران: 19، والذي كانت الأديانُ الماضيةُ معه بنسبة مقدمة الجيش للجيش، [وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ] الأنعام: 92، والذي كانت دعوتُه عامةً لسائر البشر، والذي كان الرسول الجائي به هو أفضل الرسل _ لا جرم أن يكون ذلك الرسولُ هو الذي ادُّخر له تأسيس المدينة الفاضلة في جملة ما ادُّخر له من الفضائل الجمة.
جاء محمد " يدعو إلى إصلاح البشر قاطبة، وشملت دعوتُه علاج إصلاح الأفراد وإصلاح المجموع؛ فكان مرماها إيجادَ المدينة الفاضلة، وإعدادَ أمةٍ فاضلة لها.
ولم تشتمل دعوة رسول ممن جاء قبله على ما اشتملت عليه دعوته من أصول نظام الاجتماع وتفاصيله؛ فبقي بمكة ثلاث عشرة سنة يدعو إلى الدين، ويصلح نفوس الذين آمنوا به والتفوا حوله، فكانت في مكة جماعة فاضلة هي زَرْع المدينة الفاضلة.(1/79)
فلما تهيأت للدعوة ساعةُ الانتشار، وتردد صداها في معظم بلاد العرب، وأصغت لها آذان السامعين، وانفتحت أعين الناس إليها _ ألهم اللهُ الأوسَ والخزرج أهلَ مدينة يثرب إلى الدخول في الإسلام إلهاماً خارقاً للعادة؛ فأصبح سكان تلك المدينة كلهم مسلمين، وبذلوا أنفسهم وأموالهم ووطنهم لنصر هذا الدين؛ فأذن الله لرسوله وللمسلمين معه في الهجرة إلى هذه المدينة؛ فانتقل إليها الرسول بمن معه من المسلمين بمكة، ودعا اسمها (طيبة) وخصها الله _تعالى_ بشرف أن تكون محققةً أمنيةَ المدينةِ الفاضلة.
ومن العجب أن الله ألهم الناس إلى أن يدعوا هذه البلدة باسم (المدينة) وأنساهم اسم يثرب واسم طيبة أيضاً؛ ليكون ما جرى على الألسنة رمزاً إلهياً لطيفاً إلى أنها المدينة المقصودة، والضالة المنشودة.
دخل رسول الله " المدينة (يثرب) ودخلها خمسون رجلاً من أصحابه المهاجرين، وهم المسلمون الأولون، وكانت المدينة تحتوي على زهاء خمسة آلاف رجل من الأوس والخزرج وأحلافهم، كانوا مسلمين إلا قليلاً منهم لا يبلغون مائة رجل.
فتلك مدينة سكانها أفاضلُ أهلِ عصرهم، قد تطهرت نفوسهم بإقبالهم على الخير، والتزكية بمحض الاختيار.
إن قوام المدينة الفاضلة يتقوَّم من صلاح الأفراد في خاصتهم، وصلاح المجتمع المتقوِّم منهم في حال معاملتهم؛ ومن سهولة طباعهم مع المسالمين، ومن الشدة والذب عن حوزتهم أمام العدو، ومن سياسة تدبير جماعتهم؛ فإذا تقومت هاتِهِ الأصولُ في المدينة حصل فيها الأمن، وهو جالب جميع الخيرات لكل أهل المدينة، وجاعلها أفضل مدينة.(1/80)
لا جرم أن المدينة كالجسد؛ فكما يتركب الجسد من الأعضاء والجوارح فكذلك تتركب المدينةُ من آحاد الناس، وإن سلامة المدينة وفضلها كصحة المزاج؛ فكما لا يصح المزاج إلا بسلامة جميع أجزائه كذلك لا تصلح المدينة إلا بصلاح جميع أفرادها، وكما أن بعض أجزاء الجسم أجدر بكمال السلامة ودوامها من بعض الأجزاء التي قد تشتكي، فتزول شكواها سريعاً عند سلامة البقية، وذلك البعض هو الأعضاء الرئيسية كالقلب والدماغ والرئة _ كذلك المدينة تتطلب صلاح ولاة أمورها أكثر مما تطلب صلاح عامتها، وإن صلاح ولاة الأمور يعود بصلاح العامة إذا عرض لها فسادٌ ما بخلاف العكس، كما تعود صحة الأعضاء الرئيسية بسلامة الجوارح والأعضاء إذا اشتكت وجعاً بخلاف العكس؛ فكان صلاح المدينة يتطلب صلاح ولاة الأمور، وصلاح أعوانهم، وصلاح عامة الناس على تفاوت في المقدار المطلوب من ذلك الصلاح.
ولنلتفت لفتة تاريخية صادقة إلى حالة مدينة الرسول وحالة مجتمعها، ونقارن بين تلك الحالة وبين الصفة التي عينت للمدينة الفاضلة؛ حتى نرى تحقق معنى المدينة الفاضلة في مدينة الرسول _ عليه السلام _.
فأما ولاة الأمور فيها فإن سيد ولاة الأمور بالمدينة هو الرسول المؤيد بالعصمة، المسيَّر بالوحي والتوفيق الإلهيين، وهما ملاك الفضائل كلها، وحسبك برأس المدينة أن يكون بهذه المثابة؛ فإن الحكماء اشترطوا للمدينة الفاضلة أن يحكمها الحكماء المتصفون بصفات الكمال، وقد جمعها أفلاطون في عشر صفات، وهي: المعرفة، والإعراض عن التعلق بالدنيا، والصدق، ومحبة اللذات الروحية، والزهد، والعفة، والإقبال على الآخرة، والشجاعة، والإنصاف، وصحة العقل.
وقد كانت هذه الصفات كمالات رسول الله " وكانت العصمة فوقها كلها.(1/81)
وأما أعضاء رأس المدينة وأصحابه فشرطهم المعرفة، أي أن يكونوا من العارفين، والعارف فسره الشيخ ابن سينا بأنه هو الذي يريد الحق الأول _سبحانه_ لذاته لا لشيء آخر، ولا يُؤْثِر شيئاً عليه، والعارف شجاع جواد، صفّاح عن الذنوب، نسّاء للأحقاد.
وإن أصحاب رسول الله وبطانته هم أولئك المهاجرون الذين نبذوا الشرك وآثاره كلَّها عن محض اختيار، ومحبة للخير، وتخلَّقوا من أجل ذلك بأخلاق الإسلام، وخاصة الأنصار وأعيانهم الذين رغبوا في الإسلام لما دعاهم إليه رسول الله يومي العقبتين؛ فلم يترددوا في قبوله، على ما هم عليه يومئذ من كثرة ومنعة؛ فكانوا لاحقين بالمهاجرين في إقبالهم على الحق ونبذ الضلال، وكان سادتهم وأهل الرأي منهم ملازمين لرسول الله؛ للاقتباس منه وتنفيذ أوامره.
ثم إن الرسول آخى بين المهاجرين وبين زهاء خمسين من الأنصار بقدر المهاجرين؛ ليحصل من تلك المؤاخاة تماثل في الأخلاق والفضائل، وقد حكى القرآن حالهم الجامعة للفضائل، ونبذ الرذائل بقوله [مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ اللَّهِ وَرِضْوَاناً] الفتح: 29.
وفي الصحيح أن رسول الله " قال: =خير القرون قرني+ وهم أصحابه الذين رأوه وآمنوا به، لأن شرف ذلك القرن إنما كان به وبهم؛ إذ كان آخرهم وفاة أنس بن مالك وسهل بن سعد الساعدي، توفيا في أوائل العشرة الأخيرة من القرن الأول من الهجرة.
وأما عامة أهل المدينة فهم المؤمنون السابقون بعد المهاجرين، كما وصفهم الله _ تعالى _ [وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ] التوبة: 100.(1/82)
وهم أصحاب رسول الله الذين سكن بين ظهرانيهم، وتملَّوا من طلعته المباركة كل يوم، وشهدوا هديه، وأشرقت عليهم أنواره، ففيهم أشرقت الشريعة؛ فصلح اعتقادهم، وصلح عملهم، وصلح خُلُقُهم، ولم يزل رسول الله يبين لهم المكارم، ويحذرهم المآثم، حتى أصبحوا خيرة أهل الأرض.
في الصحيح عن عبادة بن الصامت أنه قال: =بايعنا رسول الله على السمع والطاعة في المنشط والمكره، وأن لا ننازع الأمر أهله، وأن نقوم بالحق حيثما كنا، لا نخاف في الله لومة لائم+.
فاستملوا صحة الإيمان، وفضل العمل، وحسن الخلق، ومحبة العدل.
يحق لأهل المدينة أن يكونوا أهل بأس شديد على أعدائهم، وأن يكونوا فضلاء؛ أما شدتهم على أعدائهم فلأنهم جند المدينة يدفعون عنها، وذلك وصفٌ تُحْفَظ به المدينة من تَطَرُّقِ أهل الفساد إليها، فإذا تطرقوها أفسدوا بهجتها، كما قال _ تعالى _ [قالت إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها].
تريد ما هو معهود من ملوك الجور.
وهذه الشدة أساسها الشجاعة، وقد عرف أهل المدينة بالشجاعة والبأس، كما خلدت لهم حرب بعاث أجمل الذكر في الشجاعة.
ومن فضائل شجاعة أهل المدينة في الجاهلية أنها شجاعة فاضلة؛ لأنهم ما كانوا يغيرون على القبائل الآمنة، ولكنهم كانوا يذبون عن مدينتهم من كل طارق بسوء؛ فكانت مدينتهم من أحصن مدن العرب في الجاهلية، واشتهرت بسورها، وبحصونها المنيعة المسماة بالآطام؛ يتحصنون بها إذا دهمهم العدو، وكانت تحف بها بساتين النخيل التي تمونهم إذا حاصرهم العدو، على أن تلك الحوائط كانت فيها آطام(1) لهم للدفاع عن ثمارهم.
__________
(1) الآطام: بالمد جمع أطم بضم الهمزة وضم الطاء المهملة: الحصن بلسان أهل المدينة.(1/83)
فأما المهاجرون فمن أهل مكة، وأهل مكة وإن لم تكن لهم سابقة في الحرب؛ إذ كان العرب مسالمين لهم، إلا أن الفئة الذين آمنوا منهم قد أكسبهم الإيمان واليقين بالله؛ والغيرة على الحق، والحنق على المشركين _ إقداماً على الانتصار للدين، ظهرت بوادره في صبرهم واستخفافهم بعداوة أعدائهم.
وقد أيَّد الله المسلمين في مدينتهم بعصمة الهيئة من أن يتطرَّقها ما يفسد أهلها. ففي الحديث أن =على أنقاب المدينة ملائكة لا يدخلها الطاعون، ولا الدجال+ وفي الحديث =المدينة كالكير تنفي خبثها، وينصع طيبها+.
وأما كونهم فضلاء فلكي لا يختل فضل المجموع باختلال فضيلة أجزائه، وقد أشرنا على فضل المجموع الذي تتركب منه مدينة الرسول آنفاً.
ونريد أن ننبه هنا على أن أهل المدينة الفاضلة لا يكونون في الفضل سواسية، ولكن يشترط أن يكون الفضل متأصلاً في نفوسهم، وجماع ذلك هو الطاعة لولي أمرهم، وقد كان المسلمون في الطاعة للرسول أفضل مثل لأمة في طاعة قائدها؛ فكانوا إذا أمرهم رسول الله أمراً في الشؤون العامة؛ والقضايا الخاصة، امتثلوا، سواء وافق مرغوبهم أم لا.
قال الله _ تعالى _ [وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ] الأحزاب: 36.
وقال سهل بن حنيف: لقد رأيتُنا يوم أبي جندل _ يوم صلح القضية _ ولو نستطيع أن نرد على رسول الله أمره لفعلنا، والله ورسوله أعلم.
وقال _ تعالى _: [فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً] النساء: 65.
أراد بالحرج المنفي حرجَ توهمِ أن يكون قضاءُ الرسول غيرَ عادل.(1/84)
لقد يندر أن يكون في المدينة الفاضلة سفلة وأراذل؛ لأن المجتمع البشري لا يخلص جميعه من ذوي العاهات النفسية، إلا أن وجودهم لا يضر المجتمع؛ لأنهم مغمورون بالصالحين؛ ففسادهم يقتصر على أنفسهم، ثم يرجى لهم الصلاح بتأثير الوسط عليهم؛ فقد كان في المدينة المنافقون، وعن ابن عباس كانوا ثلاثمائة من الرجال، ومائة وسبعين من النساء؛ فانقرض معظمهم؛ إذ كانوا كلهم شيوخاً إلا قيس بن عمرو بن سهل المختلف في بقائه، ومنهم من تاب وحسن إسلامه مثل ثعلبة بن حاطب، ومتعب بن قشير، ومنهم من بقي على نفاقه وقد عد بعضهم من بقي على النفاق اثنين وأربعين.
وقد حدثت في المدينة في حياة الرسول أحداث قليلة، منها ثلاثة حوادث في السرقة، وحادثان أو ثلاثة في الزنا، وحوادث قليلة في شرب الخمر، وثلاثة حوادث في القتل، على أن بعض هذه الحوادث منسوب إلى اليهود، ونوازل قليلة في الخديعة والغصب والجراح مما لا يخلو من مثله مجتمع بشري.
وكل ذلك إذا عرض في المدينة الفاضلة لا يكدر صفاء المدينة، لأن الصلاح الغالب يغطي على تلك العوارض النادرة؛ فَوِزَانُ ذلك وِزَانُ ما يعرض للجسم السليم من صداع أو انحراف مزاج، ثم لا يلبث الجسم أن يدفع ذلك عنه، ويسرع العود إلى معتاده من السلامة.
ولا تخلو المدينة الفاضلة _ أيضاً _ من العوارض الخفية اللازمة للاجتماع والمعاشرة، مثل ما ينشأ بين بعض الأزواج من عدم الملاءمة في المعاشرة، وما يعرض بين الشركاء والجيران من النزاع، وما يعرض بين الناس من الحوادث كالجراح الخفيفة والدعاوي.
كل ذلك لا يقدح في فضل المدينة إذا كان العدل قائماً، والقضاء نافذاً، وكانت نفوس أهلها مطيعة لما تقضى به العدالة، وقد قال الله _ تعالى _: [مَا كَانَ لأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلا يَرْغَبُوا بِأَنفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ] التوبة: 120.(1/85)
تحتاج المدينة الفاضلة إلى الاستكثار من الأفاضل فيها، حتى تعتضد عزتهم النفسانية بالعزة الجثمانية، وإن كانت العزة الجثمانية في الدرجة الثانية كما قال السموأل:
وما ضرّنا أنا قليل وجارنا ... عزيز وجار الأكثرين ذليل
يريد ما ضرنا القلة إذا كنا أعزاء؛ لأن عزةَ الجار هنا كناية عن عزة من أجاره، ومن أجل هذا قصد الإسلام إزواء المؤمنين كلهم إلى المدينة، فكانت الهجرة إليها واجبة على المسلمين الذين يسلمون بمكة.
قال الله _ تعالى _: [وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجَرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا] الأنفال: 72.
وقال: [إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمْ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيراً (97) إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنْ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً (98)]النساء.
إلا من أذن له النبي"في الالتحاق بأفقه، مثل الأعرابي الذي قال له: ويلك إن الهجرة شأنها شديد، ثم قال له: اعمل من وراء البحار.
وقد كان الأعراب النازلون حول المدينة من مزينة وجهينة وأشجع وغفار معدودين كالنازلين بالمدينة، ولما فتحت مكة نسخ حكم الهجرة.
تحتاج المدينة الفاضلة إلى سلامة سكانها من الآفات الجسدية؛ ليتم لهم التمتع بالصحة، فيكونوا أهل مقدرة على الأعمال العظيمة، ويطولَ الانتفاع بفضلهم.(1/86)
وقد متع الله المدينة بهذه النعمة بدعوة رسول الله "، فقد كانت المدينة مشهورة بالحمى المستوبئة قد اعتادها سكانها، ولا يطيقها من وفد عليها؛ فلما قدم المهاجرون أصابت الحمى كثيراً منهم، منهم أبو بكر الصديق وبلال وعائشة، فدعا النبي ربه أن تنقل حماها إلى الجحفة، واستجيب له، فما بقيت الحمى المستوبئة تصيب سكان المدينة وقد دعا لها رسول الله بأن لا يدخلها الطاعون؛ فلم يدخل المدينة قط، ولا تدخلها أبداً إن شاء الله.
وإن جدوى المدينة الفاضلة على المجتمع الإسلامي أنها إذا قامت على الفضيلة والعدالة كانت قدوة المجتمع كله؛ إذ هي قلبه، وبصلاح القلب صلاح الجسد كله؛ فتكون هي المرجعَ عند اضطراب الناس، وهي الآخذةُ على يد كل من يحاول فساداً في المجتمع.
ولقد يسر الله لمدينة الرسول هذه الخصلة الكاملة؛ فصارت قدوة الإسلام مدة قيام الخلافة فيها، ثم أخذ أمرها في اضطراب بعد الفتنة التي أثارها الثائرون على عثمان ÷ فكانت تلك الفتنة أول بوارق اضطراب الحكومة الإسلامية؛ فبئست فئة الفئة التي أثارت تلك المصيبة.
ومن أجل هذا قُصِدَتْ أن تبقى مدينة الرسول مدينة فاضلة، فَخُصَّت بمزايا أشرنا إلى بعضها آنفاً، ثم حيطت بأن جعلها رسول الله " حرماً، وبدعائه لها بقوله =من أحدث فيها أوآوى محدثاً فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل الله منه صرفاً ولا عدلاً+.
ولذلك أمر رسول الله بتعمير المدينة، وكره أن تعرى المدينة، وقال لبني سلمة لما أرادوا أن ينتقلوا بالسكنى إلى قرب المسجد النبوي: =يا بني سَلِمة ألا تحتسبون خطاكم؟+.(1/87)
وفي الموطأ عن سفيان بن أبي زهير قال: سمعت رسول الله يقول: =تفتح اليمن فيأتي قوم يبِسّون(1)، فيتحملون بأهليهم ومن أطاعهم، والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون، وتفتح العراق فيأتي قوم يبِسّون فيتحملون بأهليهم ومن أطاعهم، والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون، وتفتح الشام فيأتي قوم يبِسّون فيتحملون بأهليهم ومن أطاعهم، والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون+.
أثر الدعوة المحمدية في الحرية والمساواة (2)
للعلامة الشيخ محمد الطاهر بن عاشور
المقام الأول
في الحرية والمساواة في الشريعة الإسلامية
وهو مقام يستدعى شيئاً من الإطالة؛ ليكون الحكم فيه على شيء مضبوط، فلا يظن أحد أن الإسلام دعا إلى الحرية والمساواة على الإطلاق أو على الإجمال؛ لأن هنالك حدوداً دقيقة بعضها محمود وبعضها ضارٌّ مذموم.
الحرية:
لا تجد لفظاً تهواه النفوس، وتهش لسماعه، وتستزيد من الحديث فيه _ مع أن معظمهم لا يضبط مقدار المراد منه _ مثلَ لفظِ الحرية.
وما سبب ذلك التعلق العام إلا أن معظم من يسمعون هذا اللفظ، أو ينطقون به يحملونه على محامل يخف محملها في نفوسهم.
فالوقح يحسب الوقاحة حرية، فيخف عنده ما ينكره الناس من وقاحته، والجريء الفاتك ينمي صنيعه إليها، فيجد من ذلك مبرراً لجرأته، ومحب الثورة يعد الحرية مسوغاً لدعوته، والمَفْتون في اعتقاده يدافع الناقمين عليه بأنه حر العقيدة إلى غير هؤلاء.
فيا لله لهذا المعنى الحسن ماذا لقي من المحن، وماذا عُدِل به عن خير سنن؟
والتحقيق أن الحرية إنما يُعنى بها السلامةُ من الاستسلام إلى الغير بقدر ما تسمح به الشريعة والأخلاق الفاضلة.
__________
(1) يبسون بكسر الباء الموحدة وتشديد السين المهملة مضارع بسّ بمعنى سار.
(2) الهداية الإسلامية، الجزء التاسع والعاشر، المجلد السادس، ربيع الأول وربيع الثاني 1353هـ(1/88)
ولقد أصاب الذين اختاروا للتعبير عن هذا المعنى في العربية لفظ الحرية؛ لأن الحرية في كلام العرب ضد الرق، وقد شاع عند العرب أن يلصقوا مَذامَّ الصفات النفسانية بالرق؛ إذ قد عرى العبيد عندهم عن الاهتمام باكتساب الفضائل، وزهدوا في خصال الكمال، قال ابن زيابة:
إنك يا عمر وَتَرْكَ الندى ... كالعبد إذ قَيَّدَ أجمالَه(1)
ولما استصرخ شداد العبسي ابنه عنترة؛ ليرد غارات عدوهم _ وكان عنترة ابن أمة كما هو مشهور، وكان أبوه يأبى أن يعده في عداد بنيه بل جعله عبداً له على عادة أهل الجاهلية _ أجابه عنترة بقوله: =العبد لا يحسن الكر وإنما يحسن الحلاب والصر+(2).
فقال له شداد =كر وأنت حر+.
وبضد ذلك جعلوا الفضائل من سمات الأحرار قال جعفر بن علبة الحارثي:
ولا يكشف الغماء إلا ابن حرة ... يرى غمرات الموت ثم يزورها
وقال الراجز الجاهلي:
لن يُسْلِمَ ابنُ حرةٍ زَميلَه ... حتى يموت أو يرى سبيله
وقال مخيس بن أرطاة التميمي:
فقلت له تجنب كل شيء ... يعاب عليك إن الحرَّ حرُّ
قال المبرد: =يعني أن الحر على الأخلاق التي عهدت في الأحرار وكما كنت تعهد+. ا. هـ يعني وأنت حر فلا تخالف خلق الأحرار.
حتى لقد احتاج بعض أصحاب الأخلاق الحميدة من عبيدهم إلى إعلان الاختلاف بين حال عبودية شخصه، وكرم نفسه كما قال حية النوبي الملقب بـ: سحيم عبد بني الحسحاس:
إن كنت عبداً فنفسي حرة كرماً ... أو أسود اللون أني أبيض الخلق
دعوة الإسلام إلى الحرية:
الحرية وصف فطري في البشر؛ فإننا نرى المولود ييفع حرَّاً لا يعرف للتقييد شبحاً.
وإذ قد كان الإسلام دين الفطرة كما وصفه الله _ تعالى _ بقوله: [فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا] الروم:30
فكل ما هو من أصل الفطرة فهو من شعب الإسلام ما لم يمنعه مانع.
__________
(1) فإنه إذا قيَّد جِمَال سيده يرى أنه قد أتم واجبه كله.
(2) الصر: شد ضرع الناقة عند الحلب.(1/89)
ويزيد إعراباً عن كون الحرية من أصول الإسلام قوله _ تعالى _ في وصف محمد " ووصف أتباعه: [الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنْ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمْ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمْ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ] الأعراف: 157.
فالإصر: هو التكاليف الشاقة، والأغلال: غير الإصر؛ فهي مستعارة للعبودية التي كانوا عليها في الجاهلية وهي عبودية الأصنام وسدنتها، وعبودية الملوك، وعبودية القادة أصحاب المرابيع(1).
ومما يزيد هذا بيانا قول عمر لعمرو بن العاص في قصة ولده الآتية: =متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً+.
طرأت على الحرية الفطرية وسائل الضغط من القوة والتسلط، فَسَخَّرت الضعيفَ للقوي، والبسيطَ للمحتال وزادت هذا التسخير تمكناً التعاليمُ المضللةُ وهي أساطير الوثنية، والشرك، والكهانة، فجاء محمد " يضع عنها الأغلال إلى الحد الذي تصير به نفعاً ورحمةً قال _ تعالى _: [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ (107)] الأنبياء:107
لا تتحقق حرية تامة في نظام البشر؛ لأن تمام الحرية هو الانخلاع عن جميع القيود، وعن كل مراعاة للغير بأن يعيش المرء عيشة الوحوش، وذلك غير مستطاع إلا فيما تخيَّله الشنفري إذ يقول:
ولي دونكم أهلون سِيْدٌ عَمَلَّسٌ ... وأرقط زهلول وعرفاء جيأل(2)
هم الأهلُ لا مستودع السر ذائع ... لديهم ولا الجاني بما دان يعزل
__________
(1) المرابيع: جمع مرباع، وهو ربع الغنيمة كان يأخذه سيد القبيلة حين يُغير بها.
(2) السِيْد: الذئب، والعملس: السريع السير، والأرقط: النمر؛ لأن فيه نقطاً بيضاً وسوداً، والزهلول: الأملس، والعرفاء: الضبع؛ لأن لها عرفاً من الشعر، والجيأل: اسم للضبع.(1/90)
فأما والإنسان مدني بطبع خلقته، محتاج إلى الاتصال ببني نوعه؛ لأنه ضعيف محتاج في قوام أمره إلى التعاون _ فالحرية المطلقة تنافي مدنيته؛ فتعين أن الحرية المحمودة التي يدعو إليها الإسلام والحكماء هي حرية مقيدة لا محالة.
فلننظر إلى القيود التي دخلت على الحرية في تاريخ الحضارة، فان كانت تحصل منها فائدة للمقيد بها في خاصته أو في حالته الاجتماعية العامة فهي المعبَّر عنها بالشرائع والقوانين، ودخولها على الحرية مقصود منه تعديلها؛ لتكون نافعة غير ضارة.
وإن كانت تلك القيود في فائدة غير المقيد بها لاستغلال حقوق المقيد بها فهي الاستعباد الذي قصد منه، أو آل إلى إفساد الحرية.
مظاهر الحرية:
تتعلق الحرية بالاعتقاد، والقول، والعمل.
فأما حرية الاعتقاد فقد أسس الإسلام حرية العقيدة بإبطال العقائد الضالة المخالفة لما في نفس الأمر؛ فان محور تلك العقائد هو إرغام الناس على أن يعتقدوا مالا قبل له بجولان الفكر فيه، أو ما يموه بتخيلات، وتكليف اعتقاد مالا يفهم ينافي الحرية.
فبَيَّن الإسلامُ الاعتقادَ الحقَّ، ونصبَ الأدلةَ عليه وعلى تفريعه، ودعا الناس إلى الاستنتاج من تلك الأدلة قال _ تعالى _: [قُلْ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ] يونس:101.
وقد اختلف الصحابة، وحدث الخلاف في عهدهم ومن بعدهم في مسائل كثيرة كمسألة الإمامة، ومسألة القدر، ومسألة التكفير بالذنب، فلم تكن طائفة ترغم غيرها إلا إذا خرج المخالف عن حد المناظرة إلى المغالبة والإرهاق.(1/91)
وانقسم المسلمون إلى طوائف مختلفة الاعتقاد من آخذين بما ورد في السنة دون تأويل، وآخذين بذلك مع التأويل، ومن خوارج، وقدرية، وجبرية، ومرجئة، ومعتزلة، وظاهرية، وصوفية؛ فلم يكن أهل حكومة الإسلام يجبرون الناس على اتباع معتقدهم، بل كان الفصل بينهم قائماً على صحة الحجة، وحسن المناظرة إلى أن ظهرت في القرن الثالث مسألة خلق القرآن، وإثبات الكلام النفسي القديم التي أيقظت عين الفتنة، وابتلي فيها أهل السنة ببغداد ومصر، وظهرت بالقيروان مسألة الاستثناء في الإيمان، وهي قول المؤمن: أنا مؤمن إن شاء الله، ومسألة العندية في الإيمان وهي قول المؤمن أنا مؤمن عند الله، وتبعت ذلك فتن تبدو وتخفى، وتلتهب تارة ثم تطفى.
لم يسمح الإسلام بتجاوز حرية الاعتقاد حد المحافظة على دائرة الإيمان والإسلام المفسَّرَين في حديث جبريل الشهير؛ لأن ما تجاوز من حرية الاعتقاد يفضي إلى انحلال الجامعة الإسلامية فلا يكون محموداً.
فالذي يعتقد عقيدة الإسلام ثم يخرج عنه فهو المرتد؛ فارتداده إما أن يكون مع إظهار الحرابة للإسلام وهذا النوع قد حدث زمن النبي " من نفر من عُكل وعُرينة فحكم فيهم رسول الله بحكم المحارب.
وأما بدون حرابة فقد ارتد نفر آخرون ثم تابوا فقبل رسول الله "توبتهم.
ثم ارتدت قبائل من العرب بعد وفاة رسول الله " بإعلان الكفر، أو بجحد وجوب الزكاة، وقد أجمع الصحابة على وجوب قتالهم؛ فكان إجماعهم أصلاً في قتل المرتد مع الاعتضاد له بما رواه معاذ بن جبل وعبد الله بن عباس _ رضي الله عنهم _ أن رسول الله " قال: =من بدل دينه فاقتلوه+، يعني الإسلام.(1/92)
وليس هذا الحكم بقادح في أصل حرية الاعتقاد؛ لأن الداخل في الإسلام قد كان على حريته في اعتقاده قبل دخوله فيه، فلما دخل في الإسلام صار غير حرٍّ في خروجه منه؛ لقيام معارض الحرية؛ لأن الارتداد يؤذن بسوء طوية المرتد من قبل؛ فإنه لا يتصور أن يجد بعد إيمانه ديناً آخر أنفذ إلى القلب من الإيمان، فتعين أن يكون دخوله في الإيمان لقصد التجسس، أو لقصد التشويه بالدين في نظر من لم يؤمنوا به؛ ليوهمهم أنه دين لا يستقر متبعه عليه بعد أن يعرفه؛ لأن معظم الناس أغرار تغرهم الظواهر، ولا يغوصون إلى الحقائق.
وكما استدل هرقل على صدق نبوة محمد " بسؤاله أبا سفيان =هل يرتد أحد من أتباع محمد بغضة لدينه بعد أن يدخل فيه+ فأجابه أبو سفيان _ وهو يومئذ مشرك _ بأن لا، فقال هرقل: =وكذلك الإيمان حين تخالط بشاشته القلوب+.
فكذلك يعكس الكائد للإسلام وجه الاستدلال، فيجعل من ارتداد الداخل في الإسلام دليلاً وهميَّاً على صحته.
وقد يكون الارتداد لمجرد الاستخفاف والسخرية بالإسلام.
وحرمة الله توجب الذب عن دينه في مثل هذا، على أن عدم المؤاخذة به يفضي إلى انحلال الجامعة كما وقع في ردة العرب لو لم يؤخذوا بالصرامة.
أما حرية الاعتقاد نحو غير الداخلين في الإسلام فلم يحمل الإسلام أهل الملل على تبديل أديانهم، بل اقتنع منهم بالدخول تحت سلطانه، وبدعائهم على الدخول في الإسلام بالحكمة والموعظة الحسنة والمجادلة بالتي هي أحسن.
ومعلوم أن الدخول تحت سلطان الإسلام ليس متعلقاً بالاعتقاد ولا بالعمل، ولكنه راجع إلى حفظ أمن دولة الإسلام، إذ الإسلام دينٌ قرينُ دولة؛ فكان من موجباتِ حفظِ بقائه تأمينُه من غوائل الناقمين على ظهوره.(1/93)
قال بعض العلماء: كان رسول الله " لا يُكْرِه أحداً على اتباعه، فأبى المشركون إلا أن يقاتلوه فنزل قوله _ تعالى _: [أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا] الحج: 39، وقد قال الله _ تعالى _: [لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنْ الغَيِّ](1) البقرة: 256.
وأما حرية القول فهي أن يجهر المفكر برأيه ويصرح بما يراه صواباً مما يأنس من نفسه أنه يحسن الإصابة فيه(2)، قال الله _ تعالى _: [وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى] الأنعام: 152.
ولا شك أن قول العدل قد تكرهه النفوس التي يقمعها الحق؛ ولذا كان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أكبر شعب الإيمان قال الله _ تعالى _: [وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ] آل عمران: 104.
وقال: [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ] آل عمران:110.
وفي الحديث الصحيح =من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان+.
__________
(1) اختلف العلماء في المقصود من هذه الآية اختلافاً في إحكامها ونسخها والصحيح أنها محكمة، وأن المقصود منها أنْ لا يجبر غير المسلمين على التدين بالإسلام، ولم يُستثن من ذلك إلا مشركو قريش عند مالك، أو مشركو جميع العرب عند أبي حنيفة والشافعي.
(2) لأن تكلم الإنسان فيما لم يتعاطَ علمه، أو في الأمور التي يدق وجهُ الصواب فيها ليس من الحرية، بل ذلك يُعدُّ من التكلم فيما لا يعني، وقد قال _ تعالى _:[فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُوْن].(1/94)
فالتغيير باليد خاص بأولي الأمر، وجعل التغيير بالقلب أضعف الإيمان فهو حظ ضعيف، فتعيَّن أن حظ عامة المؤمنين هو تغيير المنكر باللسان.
ومن حرية القول بذل النصيحة قال الله _ تعالى _: [وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ (3)]العصر.
وفي الحديث الصحيح: =الدين النصيحة لله ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم+.
وفي حديث جرير بن عبد الله البجلي: =بايعت رسول الله " على الإسلام فشرط عليَّ =والنصح لكل مسلم+ فبايعته على ذلك+.
ومن حرية القول حق المراجعة من الضعيف للقوي كمراجعة الابن أباه والمرأة زوجها، وفي حديث عمر بن الخطاب =كنا معشر قريش نغلب النساء، فلما قدمنا على الأنصار إذا قوم تغلبهم نساؤهم؛ فطفق نساؤنا يأخذن من أدب نساء الأنصار، فصخبت عليَّ امرأتي فراجعتني، فأنكرت عليها أن تراجعني قالت: ولِمَ تُنكر عليَّ أن أراجعك فوالله إن أزواج النبي ليراجعنه وقد أخبر عمر بذلك رسول الله " فأقره+.
وقد راجع الصحابة رسول الله " في أشياء من غير التشريع، من ذلك لما نزل رسول الله " بالجيش أدنى ماء من بدر في وقعة بدر قال له الحباب بن المنذر: =أهذا منزل أنزلكه الله ليس لنا أن نتقدمه، ولا نتأخر عنه أم هو الرأي والحرب والمكيدة+؟
قال رسول الله ": =بل هو الرأي والحرب والمكيدة+.
فقال: =يا رسول الله فإن هذا ليس بمنزل؛ فانهض بالناس حتى نأتي أدنى ماء من القوم، فننزلَه، ثم نعورَ ما وراءه من القُلُب(1) ثم نبنيَ عليه حوضاً، فنملأَه، فنشربَ ولا يشربوا+.
فقال رسول الله " =لقد أشرت بالرأي+.
وقال عمر لرسول الله " يوم صلح القضية حين رأى عزم رسول الله"على إجابة شروط قريش: =ألسنا على الحق وعدونا على الباطل فعلام نعطى الدنية في ديننا+
__________
(1) نعور بالعين المهملة: أي نفسدها ونسدمها، شبَّه القلب بعيون الناس، فجعل إفسادها كالعور يقال: عور العين وعارها، والقُلُب: جمع قليب وهي البئر القريبة الماء.(1/95)
ومن حرية القول حرية العلم والتعليم، ومظهرها في الإسلام في حالين: الحال الأول: الأمر ببث العلم بقدر الاستطاعة؛ فقد أمرنا ببث القرآن وتعليمه، وببث الآثار النبوية؛ ففي الحديث الصحيح: =نضَّر الله امرءاً سمع مقالتي فوعاها فأداها كما سمعها فرب حامل فقه إلى من هو أفقه منه، ورب حامل فقه إلى من ليس بفقيه+.
=وفي خطبة حجة الوداع، ليبلغ الشاهد الغائب+.
وقد أمر الخليفة الثالث بنسخ المصاحف وأرسل بها إلى أقطار الإسلام، وجعل النبي " يوما في الأسبوع لتعليم النساء، وأُسِّست المكاتب لتعليم الصبيان من عهد أبي بكر أو عمر، ثم قد وردت أحاديث في فضل العبيد والإماء.
ووراء هذا مرتبة أخرى في العلم والتعليم وهي مرتبة الاستنباط في العلم، فقد دعا الإسلام إليها، وأوجبها على من بلغ رتبة المقدرة عليها في الأحكام الشرعية وهي مرتبة الاجتهاد بمراتبه.
قال علماؤنا: إنها من مشمولات أمر الوجوب في قوله _ تعالى _: [فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ] التغابن:16، وغيره من آيات القرآن.
وفي الحديث: =من اجتهد وأصاب فله أجران، ومن اجتهد وأخطأ فله أجر واحد+.
وأَيَّةُ حريةٍ للعلم أوسع من هذه؛ إذ جعل الأجر على الخطأ؟.
الحال الثاني: تخويل أهل العلم نشر آرائهم ومذاهبهم وتعليمها مع اختلافهم في وجوه العلم، واحتجاج كل فريق لرأيه ومذهبه، وحرصهم على دوام ذلك تطلباً للحق؛ لأن الحق مشاع.
ولقد قال أبو جعفر المنصور للإمام مالك بن أنس: =إني عزمت أن أكتب كتبك هذه _ يعني الموطأ باعتبار أبوابه _ نسخاً ثم أبعث إلى كل مصر من الأمصار بنسخة، وآمرهم أن يعملوا بما فيها، ولا يتعدوها إلى غيرها+.
فقال مالك: =لا تفعل يا أمير المؤمنين؛ فإن الناس قد سبقت لهم أقاويل، وسمعوا أحاديث، وأخذ كل قوم بما سبق إليهم من اختلاف أصحاب رسول الله"وغيرهم، وإن ردهم عن ذلك شديد فدع الناس وما هم عليه+.(1/96)
ولقد كان في مدة الدولة العبيدية بالقيروان مذهبان متضادان تمام المضادة في أصول الدين وفروعه وهما مذهب المالكية سكان البلاد، ومذهب الإسماعيلية من الشيعة مذهب أهل الدولة، وكان علماء الفريقين ينشرون كتبهم، ويدرسون مذاهبهم لا يصد أحدهم الآخر.
ثم كان نظير ذلك بمصر في عهد انتقال العبيديين إليها، وتأسيس دولتهم الملقبة بالفاطمية.
وشواهد هذا كثيرة في تاريخ المذاهب.
لم يقتصر الإسلام في بذل حرية العلم على المسلمين، بل منح الحرية لأهل الملل الداخلين في ذمته وسلطانه، وقد كان اليهود في حياة رسول الله " يدرسون التوراة في المدارس بالمدينة، وجاء رسول الله " إلى مدارسهم ودعاهم إلى الإسلام كما هو ثابت في الصحيح.
وأما حرية العمل فهي تتعلق بعمل المرء في خُوَيِّصته، وبعمله المرتبط بعمل غيره؛ فحرية العمل في الخويصة مثل تناول المباح والاحتراف بما شاء، ولا يجبر على أن يعمل لغيره إلا إذا تعين عليه عمل من المصالح العامة أو ما فيه حفظ حياء الغير مثل الدفاع عن الحوزة، وحراسة الثغور، وإنقاذ الغريق، وخدمة من تتعين عليه خدمته، وإعطاء الزكاة، ونفقة القرابة.
وكل ذلك يرجع إلى القسم الثاني في الحقيقة.
وكذلك التصرف في المال عدا ما هو محظور شرعاً، إلا إذا طرأ عليه اختلال التصرف من عَتَهٍ أو سفه، وذلك قيد في الحرية؛ لأنها حرية غير ناشئة عن إرادة صحيحة؛ فألغيت لأجل مصلحته ومصلحة عائلته.
وحكم النساء في حرية التصرف مثل الرجال بحسب ما تسمح به حالتهن من انتفاء المفاسد؛ فلهن التصرف في أموالهن إذا كن رشيدات، ولهن إشهاد الشهود في غيبة أزواجهن.
وكل ذلك لا عهد للعرب ولا لأهل الأديان الأخرى بمثله.
ولهن الخروج لقضاء حوائجهن بالمعروف، ولهن حضور الجمعة والجماعة والعيدين وفي الحديث: =ولتخرج العواتق، وربات الخدور، وليشهدن الخيرَ ودعوة المسلمين+.(1/97)
وكانت امرأة عمر بن الخطاب _ رضي الله عنهما _ تخرج إلى صلاة الجماعة وتعرف منه الكراهية فتقول: =والله لأخرجن إلا أن تمنعني فلا يستطيع منعها+.
ومعنى كراهته لذلك أنه يود أنها تترك فضيلة الجماعة؛ لما عرف به من شدة الغيرة، ومعنى قولها له: إلا أن تمنعني أي أن تصرح لي بالمنع وهو لا يستطيع ذلك؛ لأنه رأى أنه ليس من حقه عليها، وكان وقافاً عند كتاب الله.
وللمرأة حق مطالبة الزوج بحسن المعاشرة، وطلب عقوبته على ضد ذلك، ويُحكم لها بالطلاق في أحوال معينة، قال الله _ تعالى _: [وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ] (البقرة: 228).
وأما حرية العمل المرتبط بعمل الغير فأصله أنه لا يضر بأحد؛ لينتفع غيره، ولكنه لا يعمل عملاً فيه اعتداء على حق الغير كاحترام الكليات التشريعية، وذلك بالتحقيق من قبيل رعي الحريات المختلفة؛ لأن مرجع أحكام المعاملات إلى حفظ مجموع الحريات.
وكذلك قد تراعى أعمال تجب على المرء لغيره؛ لإقامة المصالح كما تقدم، أو لبث الخير بين الأمة كالإرفاق والمواساة.
حرية العبيد:
سلط الإسلام حقيقة الحرية على حقيقة العبودية؛ قصداً لعلاجها، وإصلاح مزاجها.
إن الرق شيء قديم في المجتمع البشري من قبل التاريخ، وهو أثر تسلط القوي على الضعيف؛ فكان الرقيق معدودينَ كالحيوان يذيقهم سادتهم النكال؛ فلا يرثي لهم أحد، ولا ينتصف لهم قانون، وقد عذب العرب في الجاهلية بعض الرقيق، فعذبت قريش أَمَةً اتهموها بسرقة وشاح جويرية، ثم تبين أن الحدأة اختطفته، ثم ألقته بمكان فكان ذلك سبب إسلام هذه الأمة، وهجرتها إلى المدينة وكانت تقول:
ويومَ الوشاحِ من تعاجيبِ ربِّنا ... ألا إنَّه من دارةِ الكفرِ نَجَّاني
وقتلت بنو الحسحاس من بني أسد عبدهم سُحيماً الشاعر بتهمة تغزله بابنة سيده.(1/98)
فمنح الإسلام من الحرية للعبيد ما لم يمنحهم إياه شرع سابق، ابتدأ الإسلام فأبطل معظم أسباب الرق وهي:
1_ الاسترقاق الاختياري: كان الأب أو الأم أو الولي يبيع قريبه لمن يصيره مملوكاً له، وكان هذا الاسترقاق مشروعاً في الشرائع القديمة، وقد ثبت في شريعة التوراة حسبما في الإصحاح 21 من سفر الخروج، والإصحاح 25 من سفر اللاويين.
2_ والاسترقاق في الجناية: بأن يحكم على الجاني ببقائه رقيقاً، وقد كان هذا مشروعاً حكاه القرآن في قصة يوسف بمصر [قَالُوا جَزَاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ] إلى قوله:[لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ].
3_ والاسترقاق في الدَّين: وكان مشروعاً عند الرومان أن يأخذ الدائنُ مَدِيْنَهُ إذا عجز عن الدفع فيسترقه، وكذلك كان في شرائع اليونان في عهد سولون الحكيم.
4_ والاسترقاق في الفتن والحروب الداخلية: أعني الحروب بين المسلمين فهو ممنوع في الإسلام.
5_ واسترقاق السائبة: كما استرقت السيارة من الإسماعيليين يوسف _ عليه السلام _ حيث وجدوه في الجب [فَأَدْلَى دَلْوَهُ قَالَ يَا بُشْرَى هَذَا غُلامٌ وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً].
وقد عزز الإسلام ذلك بروافع ترفع حكم الرق وهي كثيرة:
_ فمنها: أن جعل من مصارف أموال المسلمين اشتراء العبيد، وعتقهم، وإعانة المكاتبين بنص قوله _ تعالى _: [وَفِي الرِّقَابِ].
_ ومنها: أنْ جَعَلَ عتق العبيد من خصال الكفارات الواجبة ككفارة قتل الخطأ، وتعمد فطر رمضان، والظهار، والحنث.
_ ومنها: أن أمر بمكاتبة العبيد وهي التعاقد معهم على مقدار من المال يؤديه العبد منجَّماً فإذا استوفاه صار حرَّاً قال _ تعالى _: [وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ] النور: 33، حمل كثير من علماء الصحابة ومن بعدهم الأمر في قوله: [فَكَاتِبُوهُمْ] على الوجوب، وحمله الجمهور على الندب.(1/99)
_ ومنها: أن من أعتق جزءاً من عبده أُجْبِرَ على إكمال عتقه إن كان بقيته له، وإن كان لغيره معه فيه شركة قوّم عليه نصيب شريكه، وألزم الشريك ببيع نصيبه للمعتق بالقيمة، وأعتق جميعه.
_ ومنها: أن من أولد أمته صارت في حكم الحرة بمعنى أنه لا يجوز له بيعها ولا له عليها خدمة ولا استغلال، وتعتق من رأس تركته بعد مماته.
_ ومنها: أن من عاقب عبده عقاباً شديداً، فمثل به أعتق عليه جبراً، أو وجب عليه عتقه دون جبر إذا لم يبلغ حد التمثيل كاللطمة؛ لأن عتقه كفارة الاعتداء عليه كما في الأحاديث الصحيحة وأقوال الأئمة.
_ ومنها: كثرة الترغيب في عتق العبيد والإماء.
_ ومنها: أَنْ جَعل الفقهاءُ دعوى العتق لا يعجَّز مدعيها، ولا يحكم عليه أن لم يجد بَيِّنة _ بحكم قاطع لدعواه، بل له أن يقوم بها متى وجد بينة.
ولقد استخلص فقهاء الإسلام من استقرائهم لأدلة الشريعة، وتصرفاتها في شأن العبيد قاعدة فقهية جليلة وهي قولهم =إن الشارع متشوف إلى الحرية+.
ويضاف إلى هذا تأكيد الوصاية بالعبيد، وفي حديث أبي ذر÷ قال رسول الله " =عبيدكم خَوَلُكم(1) إنما هم إخوانكم جعلهم الله تحت أيديكم؛ فمن جعل أخوه تحت يده فليطعمه مما يأكل، وليلبسه مما يلبس، ولا يكلفه من العمل ما يغلبه، فإن كلفه فَلْيُعِنْه+.
وفي حديث آخر وأحسب أنه موجود في بعض روايات خطبة حجة الوداع =اتقوا الله في العبيد؛ فإن الله ملككم إياهم ولو شاء لملكهم إياكم+.
وفي الصحيح نهى رسول الله " عن أن يقول العبد لمالكه: ربي أو سيدي وليقل: مولاي، ونهى المالك أن يقول: عبدي، وأمتي وليقل: فتاي، وفتاتي، وغلامي.
__________
(1) الخول: بفتح الخاء المعجمة وفتح الواو الذين يتخولون الأمور، ويصلحونها، وهذا الوصف؛ لبيان مزيتهم.(1/100)
فإن قال قائل: لماذا لم يبطل الإسلام أصل الاسترقاق، أو يبطل أسباب حدوثه بعد الإسلام فيكون أقطع ليجرثومته(1) وأنفع لتحقيق مقصد الشريعة من التشوف إلى الحرية؟
قلنا: تبين أن الاسترقاق قد بنيت عليه نظم المدنية يومئذ في الخدمة والعمل والزراعة، والحراسة، وأصبح من المتمولات الطائلة، والتجارة الواسعة المسماة بالنخاسة، وانعقدت بسبب ذلك أواصر عظيمة، وهي أواصر الأمومة بين العائلات، وأواصر الولاء في القبائل؛ فإبطاله إدخال اضطراب عظيم على الثروة العامة، والحياة الاجتماعية بأسرها، على أنه ربما يعرض العبيد إلى الهلاك، والذهاب على وجوههم في الأرض لا يجدون من يؤويهم.
ثم لو أبطل الإسلام أسباب الرق في نظامه لكان ذلك ذريعة إلى جرأة أعدائه من العرب وغيرهم على حربه؛ لأن أعظم ما يتوقعه المحاربون من الهزيمة هو الأسر والسبي، فإذا أمنوا منهما لم يعبئوا بالموت وما دونه، وعبر عن ذلك أبو فراس بنزعته العربية بقوله يخاطب سيف الدولة:
ولكنَّني أختار موت بني أبي ... على سروات الخيل غير موسَّد
وتأبى وآبى أن أموت موسَّدا ... بأيدي الأعادي موت أَكْبَدَ أكْمدِ
وقال النابغة في شأن الأسر والسبي:
حذار على أن لا تنال مقادتي ... ولا نسوتي حتى يمتن حرائرا
سد ذرائع انخرام الحرية:
جرى الإسلام على عادته في التشريع وهي أن يشرع الوسائل، ويؤسس القواعد المفضية إلى مقاصده، ثم يحيطها بسد الذرائع التي قد تتسلل من منافذها مفسدات المقاصد، فتعود على أصولها بالإبطال، وتلك هي المُلَقَّبة في أصول الفقه بسد الذريعة.
__________
(1) هكذا في الأصل، ولعلها: لجرثومته، أي أصله(م).(1/101)
وهذه الذرائع إنما تتعلق بالقول والعمل؛ فأوجب الإسلام على المسلم أن يريد بكل قول وعمل وجه الله والإخلاص فيه، وترك الرياء، وسمي الرياء بالشرك الأصغر؛ وذلك ليجتنب الناس حب المحمدة الباطلة؛ فإن حب المحمدة قائد إلى الاستعباد الاختياري، ومانع للحرية؛ لأن الافتتان بحب المحمدة يُحَتِّم على صاحبه الخوف من الانتقاد، وغضب الجمهور من الذين لا يفقهون مصلحة من غيرها، ولا يميزون بين الحق والباطل، فإذا َحِمدوا ومجَّدوا أحداً حسبوا فعلهم مزية أنالوها إياه؛ فأصبحوا يمنُّون عليه، ويترقبون منه أن يطيعهم في قضاء ما يشتهون مما يظنونه مصلحة.
والفرض أنهم لا يفقهون؛ فإذا كان ناصحاً أميناً لم يستفزه ذلك إذا علم أن فيه لهم سيئَ العواقب، ولم يغترَّ منهم بتلك الظواهر الكواذب، ولم يَرُقْه السير في عراض المواكب(1).
وقد حكى الله _ تعالى _ من مواقف الرسل والناصحين من ذلك كثيراً: فحكى عن موسى _ عليه السلام _: [قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَل لَنَا إِلَهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (138) إِنَّ هَؤُلاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (139)] (الأعراف).
فأما إذا فتنته تلك الظواهر الخلاَّبة، فانتفخ عُجْباً، وخشي انحرافاً منهم وسلباً خَصَّ في إدراك الحقيقة، وخادعهم، وواربهم أضاع مصالحهم، وغلب سفههم على رشده، قال _ تعالى _:[وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى](الأنعام:152)، وقال: [فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا] (آل عمران:146).
وقد سقط في هذه المهواة كثير من زعماء الأمم.
__________
(1) هذا تضمين لقول الشاعر في الشاهد النحوي:
فأما القتال لا قتال لديكم ولكن سيراً في عراض المواكب (م)(1/102)
وسدَّ ذرائعَ قتل الحرية بالقوة المالية؛ إذ قد يعرض الاستعباد من الحاجة إلى المال، وفي الحديث: =تعس عبد الدينار والدرهم والقطيفة والخميصة إن أعطي رضي، وإن لم يعط لم يرض+.
فلذا أبطل الإسلام الربا؛ لأنه طريق واسع لاستبعاد المضطرين، وأبطل عقود الإكراه، وأبطل معظم الشروط التي تشترط على العامل في القراض، والإجارة، والمغارسة، والمساقاة، والمزارعة، وقد أمكن أن تُستخرج قاعدةٌ شرعية لهذه المسائل الممنوعة وهي منع أن يفترص(1) الغني احتياج الفقير إليه، فَيُعْنِتَه لأجل ذلك.
وذرائع فساد حرية القول تكون فيها تقدم، وتكون في حرية العلم بأن نحمل العلماء على تحريف الحقائق؛ لأجل المحمدة الكاذبة، أو لأجل الحصول على مال قليل.
وقد نعى الله ذلك على علماء بني إسرائيل فقال:[فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً] البقرة: 79.
وقال _ تعالى _: [فَلا تَخْشَوْا النَّاسَ وَاخْشَوْنِي وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً] المائدة: 44.
وكان ذلك كله في إرضائهم عامتهم، وحملهم الشريعة على ما يوافق هوى العامة كما أوضحته الآثار وأئمة التفسير.
وتكون _ أيضاً _ في حرية القضاء؛ فلذلك حرَّم الإسلام الرشوة، وأوجب إجراء أرزاق الحكام وكفايتهم من بيت مال المسلمين بحسب الزمان والمكان.
قال ابن العربي في تفسير قوله _ تعالى _: [قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنْ الْمَالِ] البقرة: 247: =ليس من شرط الخليفة ولا القاضي أن يكون غنيَّاً، ولكنه في حكم الإسلام لا يكون إلا غنيَّاً؛ لأنه يأخذ ما يكفيه من بيت المال؛ فغناه فيه+.
تحصيل:
__________
(1) يعني يغتنم الفرصة(م).(1/103)
إذا تبينت ما تقدم من البيان في أنحاء الحرية تَبَيُّنَ الحكيمِ البصير علمت أن الإسلام بذل للأمة من الحرية أوسع ما يمكن بذله في الشريعة جامعةً بين أنواع المصالح بحيث قد بلغ بها حدَّاً لو اجتازته لجر اجتيازها إياه إلى اختلال نظام المدنية بين المسلمين، أو بينهم وبين الأمم المرتبطة بهم اختلالاً قويَّاً أو قليلاً، وذلك الاختلال قد يفضي إلى نقض أصولها، وامتشاق السيوف؛ لتمزيق إهابها.
ومن القواعد المقررة في الحكمة: أن لا عبرة بوجود يفضي إثباته إلى نفيه.
ومن القواعد في أصول التشريع الإسلامي: أن المناسبة التشريعية لا تعتبر مناسبة إلا إذا كانت غير عائدة على أصلها بالإبطال، وأنها تتخرم إذا لزمها مفسدة راجحة أو مساوية.
وبقول راجح أقول: إن ما يتجاوز الحدود التي حدد الشرع بها امتداد الحرية في الإسلام لا يخلو عن أن يكون سببَ فوضى، وخلعٍ للوازع بين الأمة، أو موجب وهنٍ ووقوع في إشراك غفلة ومهاوي خطل سياسي، وتفصيل ذلك يحتاج إلى تحليل وتطويل لا يُعْوِز صاحب الرأي الأصيل.
المساواة:
نُقَفِّي القول في الحرية ببيان المساواة: المساواة مصدر ساواه إذا كان سواءاً له أي مماثلاً؛ فالسَّواء المِثل.
ولا يتصور تمام المساواة بين شيئين، أو أشياء في البشر؛ لأن أصل الخلقة جاء على تفاوت في الصفات المقصودة ذاتية ونفسية، وذلك التفاوت يؤثر تمايزاً متقارباً، أو متباعداً في أخلاق البشر وآثارهم بتفاوت الحاجة إليهم، وترقب المنافع والمضار من تلقائهم، وذلك يقضي تفاوت معاملة الناس بعضهم لبعض في الاعتبار والجزاء.
فلو دعت شريعة إلى دحض هذه الفروق والمميزات لدعت إلى مالا يستطاع.
وتأبى الطباع على الناقل
فضلاً على ما في ذلك من حمل الناس على إهمال المواهب السامية، وذلك فساد قبيح، والله لا يحب الفساد.(1/104)
ويكون الاقتراب إلى الفساد يفيد الاقتراب إلى الإفراط في إلغاء المميزات الصالحة، ولا تستقيم شريعة ولا قانون لو جاء بهذا الإلغاء؛ فإن الذين تطرفوا في اعتبار المساواة لا يسيرون طويلاً حتى تجبههم سدود لا يستطيعون اقتحامها كالشيوعيين؛ فقد وقفوا في حدود عجزوا عن تحقيق مبدأ المساواة فيها كمساواة أبكم لفصيح، ومعتوه لذكي.
ومن هذا يتضح القياس، وتظهر المساواة الحقة بين الناس قال _ تعالى _: [وَمَا يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ (19) وَلا الظُّلُمَاتُ وَلا النُّورُ (20)]فاطر، وقال: [إِنْ هُمْ إِلاَّ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً] الفرقان: 44.
إذن فالمساواة تعتمد توفر شروط وانتفاء موانع؛ فالشريعة التي تبني المساواة على اعتبار الشروط والقيود شريعة مساواتها ضعيفة.
والشريعة التي تبني مساواتها على انتفاء الموانع شريعةٌ مساواتُها واسعةٌ صالحةٌ، ويظهر أن الدعوة الإسلامية بنت قاعدة المساواة على انتفاء الموانع.
وشتان بين قوَّةِ تأثيرِ الشرط وتأثير المانع، والشريعةُ التي لا تقيد المساواة بشيء شريعةٌ مضلِّلَة.
فإذا عددنا المساواة في أصول شريعة الإسلام فإنما نعني بها المماثلة بين الناس في مقاديرَ معلومةٍ، وحقوق مضبوطة من نظام الأمة سواء كان الضبط بكليات ومستثنيات منها أم كان بتعداد مواقع المساواة.
المساواة في الإسلام تتعلق بثلاثة أشياء: الإنصاف، وتنفيذ الشريعة، والأهلية:
الأول: المساواة في الإنصاف بين الناس في المعاملات: وهي المُعَبَّر عنها بالعدل، وهو خصلة جليلة جاءت به جميع الشرائع، وبينت تفاصيله بما يناسب أحوال أتباعها.
وشريعة الإسلام أوسع الشرائع في اعتبار هذه المساواة، ففي خطبة الوداع: =وإن ربا الجاهلية موضوع، وإن أول رباً أبدأ به ربا عمي العباس بن عبدالمطلب، وإن دماء الجاهلية موضوعة وإن أول دم أبدأ به دم ابن ربيعة ابن الحارث بن عبد المطلب+.(1/105)
وفي الصحيح: أن الرُّبَيِّعَ بنت النَّضْر لطمت جارية، فكسرت ثنيَّتها، فطلب أهل الجارية القصاص، فأمر رسول الله " بالقصاص، فجاء أنس بن النضر أخو الربيع وكان من خاصة الصحابة من الأنصار فقال: يا رسول الله والله لا تكسر ثنية الربيع، فقال رسول الله ": =كتاب الله القصاص+.
ثم إن أهل الجارية رضوا بالأرش.
وقصة الفزاري الذي لطمه جبلة بن الأيهم معروفة(1).
الثانية: المساواة في تنفيذ الشريعة وإقامتها بين الأمة: بحيث تجري أحكامها على وتيرة واحدة ولو فيما ليس فيه حق للغير؛ مثل إقامة الحدود.
وقد سرقت امرأة من بني مخزوم من قريش حليَّاً، فأمر رسول الله " بإقامة الحد عليها، وعظم ذلك على قريش فقالوا: من يشفع لها عند رسول الله "؟ فقال قائل: ومن يجترئ عليه غير أسامة بن زيد، فكلموا أسامة، فكلم رسول الله "في شأنها فغضب رسول الله "وقال: =أتشفع في حدٍّ من حدود الله؟ إنما أهلك الذين من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، والله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها+.
__________
(1) جَبَلَة بنُ الأَيهم ملك غسان بدمشق أسلم بعد فتح الشام، وسكن المدينة، وحج مع عمر ابن الخطاب، فبينما هو يطوف إذ وطئ رجل من فزارة إزار جبلة فانحل إزاره، فلطمه جبلة، فهشم أنفه وكسر ثناياه؛ فاستعدى الفزاري عمر بن الخطاب على جبلة، فقال عمر لجبلة: إما أن يعفوَ عنك الفزاري وإما أن يقتص منك، فقال جبلة: أيقتص مني وأنا ملك وهو سوقة، قال عمر: شملك وإياه الإسلام؛ فما تفضله إلا بالعافية والتقوى، قال جبلة: ما كنت أظن ألا أكون في الإسلام أعزَّ مني في الجاهلية، قال عمر: دع عنك هذا، فلما رأى جبلة الجد من عمر قال له: أنظر في أمري الليلة، فرحل جبلة بخيله ورواحله ليلاً ولحق بالشام، ثم بالقسطنطينية، فتنصر، وبقي عند قيصر.(1/106)
أشار كلام رسول الله " إلى ما كان في الأمم السالفة من التفاضل في إقامة الشريعة، وقد كان ذلك في بني إسرائيل كما ثبت في بعض طرق هذا الحديث في الصحاح، وثبت أن الرومان كانت عقوبات الجنايات المتماثلة تختلف عندهم على حسب اختلاف حالات المجرمين ووسائلهم.
الثالثة: المساواة الأهلية أي في الصُّلوحية للأعمال والمزايا وتناول المنافع بحسب الأهلية لذلك: وهذه قد تكون بين جميع من هم داخلون تحت سلطة الإسلام، وتكون بين المسلمين خاصة، وتكون بين أصناف المسلمين من الرجال أو من الأحرار من النساء.
والأصل في هذه الأهلية في الإسلام هو المساواة بين الداخلين تحت حكم الإسلام كلهم لقوله " في أهل الذمة: =لهم مالنا وعليهم ما علينا+.
ثم المساواة بين المسلمين خاصة في أحكام كثيرة بحكم قوله _ تعالى _: [إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ] الحجرات:10.
قد جمع حكمُ الأخوةِ اطرادَ المساواةِ، فدخل الرجال والنساء والأحرار والعبيد إلا فيما دلت الأدلة على تخصيصه بصنف دون آخر لا تخصيصاً اقتضاه حال الفطرة، أو مصلحة عامة.
وفي الحديث: =الناس كأسنان المشط+ فلم يقصر المساواة على جنس أو قبيلة، ولم يقدم عربيَّاً على عجمي، ولا أبيض على أسود، ولا صريحاً على مولى، ولا لصيق، ولا معروف النسب على مجهوله، وفي خطبة حجة الوداع: =أيها الناس، إن ربكم واحد وإن أباكم واحد، كلكم لآدم وآدم من تراب لا فضل لعربي على عجمي إلا بالتقوى+.
قد كان تمايز الأجناس أو القبائل في القوانين والشرائع السالفة أصلاً في الأحكام؛ ففي التوراة سفرٌ لِخَصَائصِ اللاويين(1)، وعند الرومان والفرس وبني إسرائيل لم يكن للدخيل في الأمة مثل ما للأصيل، وعند العرب لم يكن للصريح ما للصيق بَلْهَ الغريب عن القبيلة، والإسلام أبطل ذلك.
__________
(1) نسبة إلى لاوي بن يعقوب (م).(1/107)
أَمَّر النبيُّ " زيدَ بنَ حارثة وهو من موالي قريش، وأَمَّرَ ابنَه أسامة بن زيد على جيش؛ فتكلم في المرتين بعض العرب فخطب رسول الله " فقال: =إن تطعنوا في إمارته =يعني أسامة+ فقد طعنتم في إمارة أبيه من قبل وأيم الله إن كان =زيد+ لخليقاً بالإمارة وإن هذا =أسامة+ لمن أحب الناس إليَّ+.
فنبه بقوله إن كان لخليقاً بالإمارة على أن الاعتبار بالكفاءة، ونبه بقوله: =لمن أحب الناس إلي+ على أنه إنما اكتسب محبة الرسول " لفضله وكفاءته؛ إذ بذلك تكتسب محبة الرسول ".
كذلك لم يختص الإسلامُ بالمساواة طبقةً.
وقد كان نظام الطبقات فاشياً بين الأمم؛ فكانت الفرس والروم يعدون الناس أربع طبقات أشرافاً، وأوساطاً، وسفلةً، وعبيداً.
وكان العرب يعدون الناس طبقات ثلاثاً سادةً، وسوقةً، وعبيداً، فكان الفرس يخصون كل طبقة بخصائص لا تبلغ إليها الطبقة التي هي دونها.
سأل رستم قائد جيوش الفرس في حرب القادسية زهرة بن حوية عن الإسلام فكان من جملة ما قاله زهرة لرستم: =إن الناس بنو آدم إخوة لأب وأم.
فقال رستم: إنه منذ ولي أردشير لم يدع أهل فارس أحداً من السفلة يخرج من عمله، ورأوا أن الذي يخرج من عمله تعدى طوره، وعادى أشرافه.
قال زهرة: نحن خير الناس للناس، فلا نستطيع أن نكون كما تقول، بل نطيع الله في السفلة ولا يضرنا من عصى الله فينا.
وكان العرب يفرقون في الدية بين السادة والسُّوقة وفي الاقتصاص في الدماء، ويسمون ذلك بالتكايل، فَيُقَدَّر دمُ السيدِ أضعافَ دمِ السُّوقة، فجاء الإسلام بإبطال ذلك ففي الحديث: =المسلمون تتكافأ دماؤهم+.(1/108)
ولم يعتبر الإسلام للطبقات أحكاماً في الأهلية للكمال إلا في جعل الناس قسمين أهل الحل والعقد، والرعية؛ فأهل الحل والعقد هم ولاة الأمور، وأهل العلم، ورؤساء الأجناد، فهؤلاء طبقة إسلامية جُعل إليها النظر في إجراء مصالح الأمة، ومن خصائصها: انتخاب الخليفة، كما فعل عبد الرحمن بن عوف في تعيين الخليفة من الستة بعد عمر _ رضي الله عنهم _.
وأما المخالفون في الدين من أتباع حكومة الإسلام فقد منحهم الإسلام مساواة في معظم الحقوق عدا ما روعي لهم فيه احترام شرائعهم فيما بينهم، وعدا بعض الأحكام الراجعة إلى موانع المساواة.
وقد اختلف علماء الإسلام في القصاص بين المسلم والذمي، وجوز العلماءُ ولايةَ الذمي ولاياتٍ كالكتابة ونحوها.
وقد كان في الأمم الماضية يعد الاختلاف بين الحكومات ورعاياها في الدين حائلاً دون نيل الحقوق، وموجباً للاضطهاد.
وقد قص التاريخ علينا عدة اضطهادات من هذا القبيل كاضطهاد الآشوريين والرومان لليهود، واضطهاد التبابعة للنصارى في نجران، وهم أصحاب الأخدود، وتاريخ الإسلام مُبَرَّأ من ذلك.
موانع المساواة:
موانع المساواة في الإسلام كما أشرت إليه في أول مبحثها تكون: جِبِلِّية، وشرعية، واجتماعية، وسياسية؛ فالموانع الجبلية كموانع مساواة المرأة للرجل، فيما لا تستطيع أن تساويه فيه بخلقها؛ مثل قيادة الجيش، والقضاء عند جمهور المسلمين؛ لاحتياج هذه الخطط إلى رباطة الجأش، وكمنع مساواة الرجل للمرأة في كفالة الأبناء الصغار، وفي استحقاق النفقة.
والموانع الشرعية هي المعلولة لعلل أوجبتها، وهي مبينة في مواضعها من كتب الشريعة مثلاً عدم المساواة في إباحة تعدد الأزواج للمرأة، وفي مقدار الميراث، وفي عدد الشهادة، ومثل عدم مساواة العبد للحر في قبول الشهادة، وكذلك أهل الذمة عند من منع قبول شهادتهم، ومن منع القصاص لهم من المسلمين بالقتل .(1/109)
والموانع الاجتماعية تتعلق غالباً بالأخلاق، وبانتظام الجامعة الإسلامية على أكمل وجه كعدم مساواة الجاهل للعالم في الولايات المشروطة بالعلم كالقضاء والفتوى، وعدم مساواة العطاء بين أهل ديوان الجند، فقد أعطاهم عمر على حسب السابقية في الإسلام، وحفظ القرآن.
والموانع السياسية هي التي ترجع إلى حفظ حكومة الإسلام، وسد منافذ الوهن أن يصل إليها كمنع مساواة أهل الذمة للمسلمين في الأهلية للولايات التي يمنع منها التدين بغير الإسلام، ومنع مساواتهم للمسلمين في تزوج المسلمات، ومنع مساواة غير القرشيِّ القرشيَّ في الخلافة للوجه الذي نبه إليه أبو بكر ÷ يوم السقيفة؛ إذ قال: =إن العرب لا تدين لغير هذا الحي من قريش+.
قال إمام الحرمين في الإرشاد: =ومن شرائطها _ أي الخلافة _ عند أصحابنا أن يكون الإمام من قريش، وهذا مما يخالف فيه بعض الناس وللاحتمال فيه مجال+.
المقام الثاني:
أثر الدعوة في الحرية والمساواة بين الأمم غير أتباع الإسلام: أهابت دعوة الإسلام بالأمم، وقد كانوا غافلين مستسلمين، ففتحت أعينهم إلى ما في معاملة سادتهم وكبرائهم إياهم من الاعتداء والغض؛ فأخذ أولئك يقتربون إلى تقويم أَوَدِ جبابرتهم، والطموح إلى إصلاح أحوالهم، وأَخَذَ هؤلاء ينزلون عن صياصي الجبروت، ويخفضون من غلوائهم، فحدثت بذلك يقظة فكرية في العالم.
اخترقت دعوة الإسلام أفكار الحضارة العالمية بطرق شتى: منها تناقل الأخبار، ومنها الجوار، ومنها الدعوة بالكتب النبوية إلى ملوك الأمم المشهورة مثل الفرس، والروم والحبش، والقِبْط، وملوك أطراف بلاد العرب في العراق والشام والبحرين وحضرموت، ومنها: هجرة المسلمين الأولين إلى بلاد الحبشة، ومنها: الفتوح الإسلامية في بلاد الفرس، والروم، والجلالقة _ أسبانيا _ والإفرنج، والصقالبة، والبربر، والهند، والصين.(1/110)
قد كانت سيادة العالم حين ظهور الدعوة المحمدية منحصرةً في مملكتين الفرس والروم؛ فأما المملكة الفارسية فقد أوهنتها الحروب المادية بين الفرس والروم في زمن سابور الثاني وأبناء قسطنطين الروماني، وأعقبت تلك الحروب تنازعاً مستمرَّاً بين قواد الجيوش الفارسية إلى أن صار المُلك إلى أبرويز بن بهرام الذي أخذ يجدد ملك الدولة الفارسية، وهو الذي كان ملكه في وقت البعثة، وكتب إليه رسول الله " كتابه المشهور مع عبد الله بن حذافة السهمي.
وأما المملكة الرومانية فقد بلغت من الاختلال في الشرق والغرب أوائل القرن السادس مبلغاً أشرف بها على الفوضى بتنازع قواد الجيوش السلطة، ولم تأخذ في تدارك صلاح أحوالها إلا في زمن هرقل _ هيرا كليوس _.
وقد كان ملكه في عصر البعثة، وهو الذي جرى بينه وبين أبي سفيان المحاورة في شأن الإسلام كما تقدم، وهو الذي كتب إليه رسول الله " كتابه المشهور مع دحية الكلبي.
فكان لشيوع دعوته " في بلاد العالم أثران:
الأول: أنها سهلت لكثير من الأمم الدخول في دين الإسلام، أو في حكمه بما شاهدوا من آثار محامد سياسته لرعاياه مع عدم التشويش على أهل الأديان في عقائدهم؛ فتمكنوا بذلك خير تمكن من مخالطة المسلمين في معظم شئون الحياة مخالطةً خَوَّلَتْ لهم مزيد الاطلاع على محاسن الإسلام وتربية أهله، وربما كان ذلك هو السبب في إسلام كثير من المتدينين مثل نصارى نجران وتغلب وقضاعة وغسان، ومثل يهود اليمن، ومثل مجوس الفرس والبربر، ومثل نصارى القبط والجلالقة والبربر.
ومن لم يدخل منهم في دين الإسلام سهل عليه الدخول في ذمته.
الأثر الثاني: كان مِنْ تناقل تلك الحوادث، ومن تمازج الفرق من الأمة الواحدة، أو من تمازج الأمم سمعة حسنة للإسلام ومعاملته، فكان لتلك السمعة أثر جليل في بقية الممالك التي بقيت خارجة عن حكم الإسلام.(1/111)
ومن أمثلة ذلك ما تقدم من كلام زهرة بن حوية، وما جرى بين يدي النجاشي من كلام أفصح به جعفر بن أبي طالب عن حقيقة الإسلام ومن جملة ما قال له: =إنا كنا قبل الإسلام يأكل القوي الضعيف+.
ومعناه فقد الحرية والمساواة، فصمم النجاشي على حماية المهاجرين من المسلمين، ورد سفراء الإسلام أساليب جديدة في سياسة ممالكهم أفضت إلى تخفيف وطأة الاستبداد، وإلى حصول خير كثير للبشر، وشكلاً جديداً للمدنية كانت عاقبته ما نشاهده اليوم من رقيٍّ إلى معارج سامية؛ فإن للفضائل عدوى سريعة كما قال أبو تمام:
ولو لم يزعني عنك غيرك وازع ... لأعديتني بالحلم إن العلا تعدى
وحقت كلمة ربك: [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] الأنبياء: 107.
مجلس رسول الله "(1) لفضيلة الشيخ العلامة محمد الطاهر بن عاشور
احتفاف العظيم بمظاهر العظمة في أعين ناظريه وتُبَّاعه وسيلة من وسائل نفوذ تعاليمه في نفوسهم، وتلقيهم إرشادَه بالقبول والتسليم، واندفاعِهم بالعمل بما يمليه عليهم.
وإن للعظمة نواحيَ جمةً، ومظاهرَ متفاوتةَ الاتصال بالحق: فمنها العظمة الحقة الثابتة، ومنها المقبولة النافعة، ومنها الزائفة التي إنْ نفعت حيناً أضرت أزماناً، وإن راجت عند طوائف عُدَّتْ عند الأكثرين بطلاناً، وفي هاته الأصناف معتاد وغير معتاد، وبينها مراتب كثيرة الأعداد، لا يعزب عن الفطن استخراجُها من خلال أصنافها، والحكمُ الفصلُ في آدابها وأُلاَّفها.
وبمقياس اتسام العظيم بسمات العظمة الحقة، يكون مقياس غُنْيته عن مخايل التعاظم الزائفة، كما أنه بمقدار خلوه من تلك السمات الحقة يقترب من الاحتياج إلى شيء من تلك المخايل، كالمصاب بفقر الدم لا يستغني عن زيادة التدثر بدثر الدفاء.
__________
(1) مجلة الهداية الإسلامية، الجزء العاشر، المجلد العاشر ص578_597، ربيع الثاني 1357هـ _1938م.(1/112)
ولَكَثْرُ ما تحمَّل العظماءُ مشاقَّ التكلف، لما يثقل عليهم التظاهر به؛ مجاراةً لأوهام التُّبَّاع أولي المدارك البسيطة؛ حذراً من أن ينظروا إليهم بعين الغضاضة، أو يلاقوهم بمعاملة الفضاضة.
فهم يقتحمون ذلك الثقل، ولسان حالهم يقول: =مكره أخوك لا بطل+ فلا غرو أن كان المتوسمون منذ القدم تقوم لهم من صفات مجالسِ السَّراة والجماعات دلائلُ منبئةٌ بأحوال أصحاب تلك المجالس كما قال:
ولما أن رأيت بني جُوَيْن ... جلوساً ليس بينهم جليس
يئست من التي قد جئت أبغي ... إليهم إنني رجل يؤوس
وإننا إذا تتبعنا ما يعد من هيئات المجالس أحوال كمالٍ حقَّاً أو وهماً نجد منها المتضاد الذي إن اشتمل المجلس على شيء منه لم يشتمل على ضده، مثل الحجاب والإذن، والوقار والهزل، ونجد بعضها غير متضاد بحيث يمكن اجتماعه كوضع الأرائك والطنافس النفيسة مع التزام الوقار والحكمة، وكالفخامة والزركشة مع إقامة الإنصاف؛ فقد كان مجلس سليمان _عليه السلام_ مكسوَّاً بفخامة الملك، وهو مع ذلك منبع لآثار النبوة والحكمة، وكانت مدرسة أفلاطون الحكيم محفوفة بمظاهر الرفاهية والترف وهي مناخ كل أستاذ حكيم.
فأما الأوصافُ المتضادةُ فلا شبهةَ في كون مجالسِ العظماء حقًّا تُنَزَّه عما يضاد الحق منها، وأما غير المتضادة فلا يُعد تجردُ مجلسِ العظيمِ عما هو من هذا الصنف مهمَّاً إلا زيادةً في عظمته، وليس ذلك بلازم في تحقق أصل عظمته الحقة.(1/113)
تجرى أشكال الدعوة الإلهية على حسب استعداد الأقوام؛ لتلقي مراد الله منهم، فيسن لهم من الأحوال والهيئات ما هم به أَحْرِياء(1)؛ لنفوذ مراد الله فيهم؛ فقد يُتسامح لدعاتهم ببعض المظاهر التي لا حظ لها في التأثير الخلقي، أو التشريعي، ولا تحط من اعتبار صاحب الدعوة في أنظار أهل الكمال، وتعين على قبول دعوته بين العموم البسطاء؛ لموافقتها بساطة إدراكهم، وعدم منافاتِها الحقَّ؛ فإن بني إسرائيل لما فَتَنَتْهم مظاهرُ عبدةِ الأصنام وقالوا لموسى: [اجْعَل لَنَا إِلَهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ] غضب عليهم رسولهم، ووبخهم على ذلك.
ولما بهرتهم مظاهر الملك التي شاهدوها عند الأقوام الذين مروا بهم في تيههم، والذين جاوروا بلادهم وقالوا لنبيهم شمويل: [ابْعَثْ لَنَا مَلِكاً نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ] لم ير نبيهم في ذلك بأساً؛ إذ رآه أعونَ لهم على الدفاع عن جامعتهم؛ فأقام لهم شاول ملكاً، ثم خلفه من الملوك من كان له وصف النبوة مثل داود وابنه سليمان الذي عظم سلطانه، وفخمت مَظاهرُ ملكه التي ما كانت تُنْقِصُ كماله النبوي.
وأظهر حجة على ذلك أن ملكة سبأ ما دانت له حين مجيء كتابه إليها بالدعوة إلى الإيمان بالله، والدخول في طاعة ملكه العادل، فقالت: [إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ].
ثم هي لما وفدت عليه بمدينته، ورأت من عظمة سلطانه ما أبْهَتَها ودخلت الصرح الممرد فحسبته لجة _ هنالك قالت: [رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ].
وكذلك فرعون موسى كان مما منعه أن يؤمن بموسى أنه لم ير عليه آثار العظمة الزائفة؛ إذ قال في تعليل كفره به: [فَلَوْلا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْاوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ] وهي شعار الملوك في عرفهم.
__________
(1) أحرياء جمع حري، بمعنى خليق وجدير. (م)(1/114)
وفي هذا ما يشرح لنا تلك المجادلة التاريخية العظيمة الجارية بين عظيمين من عظماء أمتنا عمر بن الخطاب ومعاوية بن أبي سفيان؛ إذ شاهد عمر حين مقدمه الشامَ فخامةَ إمارةِ معاويةَ هنالك فقال له: =أَكُسْرَوَيَّةٌ(1) يا معاوية؟!+.
فقال معاوية: =إننا بجوار عدو فإذا لم يروا منا مثل هذا هان أمرنا عليهم+.
فقال عمر حينئذ: =خدعة أريب، أو اجتهاد مصيب لا آمرك ولا أنهاك+.
الآن تهيأ لنا أن نفيض القول في صفة مجلس رسول الله " ومتعلقاته، وهو مبحث جليل لم يسبق للعلماء الباحثين عن السيرة والشمائل النبوية تدوينُه، وتخصيصُه بالبحث والتبويب، واستيعابُ ما يتعلق به.
ومن العجب أن ذكر هذا المجلس الشريف ورد في القرآن، قال الله _تعالى_: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انشُزُوا فَانشُزُوا].
قال جمهور العلماء من السلف ومن بعدهم: المراد بالمجلس في الآية هو مجلس رسول الله، وسأذكر ذلك في المبحث المناسب له.
ثم إني لم أر لأحد من الباحثين في السيرة من ذكر هذا المجلس سوى عياض في كتاب الشفاء؛ فإنه ذكره بكلمة واحدة في غرض آخر؛ إذ قال في فصل زيارة القبر الشريف هذه العبارة: =قال إسحاق بن إبراهيم(2) الفقيه: لم يزل مِنْ شأن مَنْ حجَّ المرورُ بالمدينة، والقصد إلى التبرك برؤية مسجد رسول الله، وروضته، ومنبره، وقبره، ومجلسه+ ا _هـ.
فكان حقَّاً علينا أن نخصه بمقال أتقصَّى فيه ما تناثر في خلال كتب الحديث والسيرة؛ فيجيء بحثاً أُنُفاً(3) يبهج من كان بسيرة رسول الله كلفاً.
* صفة مجلس الرسول _عليه السلام _:
__________
(1) كسروية: منسوبة إلى كسرى، والمعنى: أهيئة كسروية، أو أإمارة كسروية؟
(2) هو إسحاق بن راهويه.
(3) أُنُفاً: أي جديداً (م).(1/115)
إن رسول الله هو أكمل البشر، وإن أصحابه هم أفضل أصحاب الرسل، وأفضل قوم تقوَّمت بهم جامعةٌ بشريةٌ حسبما بينته في مقال المدينة الفاضلة(1) المنشور في الجزء العاشر من المجلد التاسع من مجلة الهداية الإسلامية، فأراد الله _تعالى_ أن يكون أعظم المصلحين وأفضل المرسلين مقصوراً على التأييد بالدلائل الحقة الباقية على الزمان، وأن يجرد عن وسائل الخِلابة والاسترهاب؛ فتكون دعوتُه أكملَ الدعوات، وعِظَتُه أبلغَ العظات كما كان هو أكمل الدعاة والواعظين، وفي ذلك حكم جمة يحضرني الآن منها خمس:
الحكمة الأولى: أن لا يكون جلالُ قَدْرِه في النفوس ونفوذُ أمره في الملأ محتاجاً إلى معونة بوسيلة من الوسائل المكملة للتأثير الذاتي النفساني، بل يكون تأثيره الذاتي كافياً في نفوذ آثاره في قلوب أتباعه؛ إذ كانت نفسُه الشريفةُ أكملَ نفسٍ برزت في عالم الوجود الحادث، فتكون أغنى النفوس عن التوسل بغير صفاتها الذاتية؛ إذ لا نقص في تأثير نفسه.
من أجل ذلك ادخر الله لرسوله التأييد بأوضح الدلائل، وأغناها عن العوارض التي تصطاد النفوس، وتسترهب العيون؛ حتى لا يكون شأنه جارياً على الشؤون المألوفة.
ولعل هذا مما يلوح إليه قوله _تعالى_: [وَقُلْ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ].
أي هذه دعوة الحق المحض الغَنِيَّةُ عن البهرجةِ الزائلة والله أعلم؛ فيكون هذا من المعجزات الخفية التي هي آيات للمتوسمين على كُرور الأيام والسنين.
الحكمة الثانية: أن يكون الرسول غيرَ مشارك لأحوال أصحاب السيادة الباطلة من الجبابرة والطغاة؛ حتى لا يكون من دواعي إيمان بعض الفرق به وطاعتهم له ما بهرهم من تلك الزخارف، كحال الذين استكبروا من قوم نوح إذ قالوا: [ وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِي الرَّأْيِ].
__________
(1) مضى ذكره (م).(1/116)
وهذا معنى قول رسول الله ": =خيرت بين أن أكون نبيَّاً عبداً أو نبيَّاً ملكاً فاخترت أن أكون نبيَّاً عبداً +.
الحكمة الثالثة: أن يحصل له _ مع ذلك _ أعظمُ جلال في نفوس أعدائه بله أوليائه؛ فيكون فيه دليل على أن جلاله مستمد من عناية الله _ تعالى _ وتأييده.
روى الترمذي أن قيلة بنت خرمة جاءت رسول الله وهو في المسجد قاعداً القرفصاءَ قالت: =فلما رأيت رسول الله المتخشع في الجلسة أرعدت من الفرق+.
فقولها: المتخشع في الجلسة أَوْمَأَ إلى أن شأن المتخشع في المعتاد ألا يرهب، وهي قد أَرْعَدَتْ منه؛ رهبة.
ووصف كعب بن زهير رسول الله حينما دخل عليه المسجد في أصحابه مؤمناً تائباً وكان كعب يومئذ أقرب عهداً بالشرك وأوغل في معرفة مظاهر ملوك العرب وسادتهم؛ إذ هو الشاعر ابن الشاعر؛ فإذا هو يقول بين يدي رسول الله يصف مجلسه:
لقد أقوم مقاماً لو أقوم به ... أرى وأسمع ما لو يسمع الفيل
لظل يرعد إلا أن يكون له ... من الرسول بإذن الله تنويل
ثم يقول في صفة الرسول:
لذاك أهيبُ عندي إذ أُكَلِّمُه ... وقيل: إنك منسوب ومسؤول
من خادر من ليوث الأسد مسكنه ... من بطن عَثَّرَ غِيلٌ دونه غيلُ
الحكمة الرابعة: أن رسول الله بعث بين قوم اعتادوا من سادتهم وكبرائهم أن يكونوا محفوفين بمظاهر الأبهة والفخامة، والرسول سيد الأمة، وقد جاء بإبطال قوانين سادتهم وكبرائهم؛ فناسب أن يشفع ذلك بتجرده عن عوايد سادتهم؛ ليريهم أن الكمال والبر ليس في المظاهر المحسوسة، ولكنه في الكمالات النفسية، وأن الكمال _ كما يحصل بالتخلق والتحلي _ يحصل بالتجرد والتخلي، ولذلك قال رسول الله: =أما أنا فآكل كما يأكل العبد، وأجلس كما يجلس العبد+.(1/117)
الحكمة الخامسة: أن مجلس رسول الله هو مصدر الدين الموسوم ببساطة الفطرة؛ فكان من المناسب أن تكون هيئةُ ذلك المصدرِ على بساطة الفطرة؛ ليحصل التماثل بين الحالِّ والمحل، ولتكون أحوال الرسول مظاهرَ كمالٍ ماثلةً لجميع الأجيال على اختلاف المدارك والأذواق؛ ليكون التاريخ شاهداً على ما لرسول الله من الكمال الحق، الذي لا تختلف فيه مدارك الخلق؛ فإن الفخامة _ وإن كانت تبهر الدهماء_ فالبساطة تُبهج نفوس الحكماء، وإن بينها وبين ناموس الفطرة أشدَّ انتماء.
* مكان مجلس الرسول:
إن من مارس الحديث والسيرة لا يَشُكُّ في أن مجلس رسول الله الذي يلتف حوله فيه أصحابه، وتجرى فيه معظم أعماله في شؤون المسلمين _ إنما كان بمسجده، وأن ما عداه من الأمكنة التي ورد في الآثار حلوله فيها إنما هي مقاعد كان يحل فيها قبل البعثة، وبعدها قبل الهجرة، وبعدها قبل أن ينتظم أمر المسلمين، أو بعد ذلك فيما بعد الهجرة؛ لعوارض تعرض من زيارة، أو ضيافة، أو عيادة، أو قضاء مصالح، أو نحو ذلك؛ فقد جلس قبل البعثة وهو بمكة في دار ابن جُدعان، وفي المسجد الحرام، وآوى إلى غار حراء يَتَحَنَّث بإلهام من الله _تعالى_ استئناساً بالوحي، وجلس بعد البعثة في دار الأرقم بن أبي الأرقم، وفي شعب أبي طالب مدة القطيعة، وسكن دار أبي أيوب الأنصاري عند مقدمه المدينة، وجلس بمسجد قباء قبل بناء المسجد النبوي، ولم يلبث أن بنى مسجده؛ فكان مجلسه بَعْدُ في ذلك المسجد فيما عدا أحوالاً تعرض مثل خروجه إلى بني عمرو بن عوف؛ للإصلاح بينهم.
وقد أرشدنا إلى ذلك ما في الصحيح عن أبي موسى الأشعري أنه قال: =توضأت يوماً وخرجت من بيتي فقلت: لألزمن رسول الله يومي هذا، ولأكونن معه، فجئت المسجد فسألت عنه، فقالوا: خرج+ إلخ.
فقوله فجئت المسجد، فسألت عنه ينبئ بأن مَظِنَّةَ لقاءِ الرسول هي المسجد.
ثم إن تعيين مكان جلوسه من المسجد لم يَجْرِ له ذكر في كلامهم.(1/118)
والذي يظهر لي أنه كان يلزم مكاناً معيناً للجلوس؛ لينتظره عنده أصحابه والقادمون إليه.
والظاهر أن هذا المكان المعين هو ما بين المنبر وحجرة عائشة _ رضي الله عنها _، وهو الملقب بالروضة، ويدل لذلك أربعة أدلة:
الدليل الأول: ما ورد في الصحيح عن أبي هريرة أن رسول الله قال: =ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة+.
وللعلماء في معنى ذلك تأويلات أظهرها والذي مال إليه جمهورهم أنه كلام جرى على طريقة المجاز المرسل؛ فإن ذلك المكانَ لما كان موضع الإرشاد والعلم كان الجلوس فيه سبباً للتنعم برياض الجنة؛ فأطلق على ذلك المكان أنه روضة من رياض الجنة بإطلاق اسم المسبب على السبب.
أو جرى على طريق الاستعارة بأن شَبَّه ما يصدر في ذلك المكان من الإرشاد والتشريع والعلم والموعظة والحكمة المنعشة للأرواح بما في رياض الجنة من الثمار والأزهار والأنهار ذات الإنعاش الخالد، فأطلق اسم المشبه به على المشبه.
وفي هذا إنباء بأن موضع الروضة مجلس رسول الله الذي كان فيه معظم إرشاده وتعليمه الناس.
الدليل الثاني: أنا نجد أحاديث كثيرة روتها عائشة _رضي الله عنها_ تتضمن ما دار بين رسول الله وبين سائليه، ولم نجد مثل ذلك لبقية أمهات المؤمنين؛ فعلمنا أن ذلك انفردت به عائشة؛ من أجل قرب بيتها من مجلس الرسول، وقد كان بيتها بقرب الروضة.
الدليل الثالث: قوله": =خذوا شطر دينكم عن عائشة+.
وهو كلام جار مجرى البلاغة في غزارة علمها بالدين، ومن جملة أسباب ذلك اطلاعها على ما يجري في مجلس رسول الله، وبذلك امتازت على بقية الأزواج.
الدليل الرابع: ما رواه الترمذي عن أبي هريرة أنه قال: =لقد رأيتني وإني لأَخِرُّ فيما بين منبر رسول الله وحجرة عائشة؛ فيجيء الجائي، فيضع رجله على عنقي يرى أن بي جنوناً وما بي جنون، وما هو إلا الجوع+.(1/119)
مع ما رواه البخاري وغيره أن أبا هريرة قال: =يقول الناس أكثر أبو هريرة، وإن إخواننا المهاجرين كان يشغلهم الصفق بالأسواق، وكان إخواننا من الأنصار يشغلهم العمل في أموالهم، وكنت ألزم رسول الله على شبع بطني؛ فأسمع ما لا يسمعون، وأشهد ما لا يشهدون+.
فينتج من ذلك أن مقام أبي هريرة كان في الروضة، وأن ملازمته رسول الله كانت في ذلك المقام، وأن الروضة هي مجلس رسول الله ".
هذا وقد رأيت في كلام شهاب الدين الخفاجي في شرحه على شفاء عياض كلمة تقتضي الجزم بأن مجلس رسول الله هو الروضة؛ فإنه لما بلغ إلى قول عياض: =لم يزل من شأن مَنْ حج المرورُ بالمدينة والقصد إلى التبرك برؤية مسجد رسول الله وروضته ومنبره وقبره ومجلسه+ إلخ... قال: =ومجلسه أي موضع جلوسه في الروضة المأثور ا _ هـ.+ ولم أقف على مستنده الصريح فيما جزم به.
* كيفية التئام مسجد الرسول وخروجه إليه:
كان أصحاب رسول الله إذا قصدوا مسجده يحضرون المكان الذي اعتاد الجلوس فيه، فإذا قدموا قبل خروج الرسول يجلسون ينتظرونه حتى إذا خرج رسول الله كانوا يقومون له، فنهاهم عن ذلك، روى أبو أمامة قال: =خرج علينا رسول الله فقمنا له فقال: لا تقوموا كما يقوم الأعاجم يعظم بعضهم بعضاً+ فصار القيام منسوخاً على الأصح.
وعندما يخرج رسول الله على أصحابه يبقون جلوساً؛ فلا يرفع أحد منهم بصره إلى رسول الله إلا أبو بكر وعمر؛ فإنهما كانا ينظران إليه، وينظر إليهما، ويبتسمان إليه، ويبتسم إليهما، كذا في الشفاء.
وفي الشفاء أنه كان يجلس حيث انتهى به المجلس، ويجلس بين أصحابه مختلطاً بهم.(1/120)
والظاهر أن معنى ذلك أنه حين يخرج إليهم لا يتخطى رقابهم، ولكن يجلس حيث انتهى به المجلس؛ ففي صحيح البخاري عن أبي واقد الليثي أن رسول الله بينما هو جالس في المسجد والناس معه إذ أقبل ثلاثة نفر فأقبل اثنان منهم إلى رسول الله وذهب واحد، فوقفا على رسول الله، فأما أحدهما فرأى فرجة في الحلقة فجلس فيها، وأما الآخر فجلس خلفهم، وأما الثالث فأدبر ذاهباً، فلما فرغ رسول الله _ أي من كلامه _ قال: =ألا أخبركم عن النفر الثلاثة؟ أما أحدهما فأوى إلى الله فآواه الله، وأما الآخر فاستحيى فاستحيى الله منه، وأما الآخر فأعرض فأعرض الله عنه+.
وفي أسباب النزول والتفسير أن رسول الله كان يكرم أهل بدر من المهاجرين والأنصار، وأن ناساً منهم جاؤوا إلى مجلسه فلم يجدوا موضعاً فقاموا مواجهين له ولم يوسع لهم أحد، فقال رسول الله لبعض من حوله من غير أهل بدر: قم يا فلان ويا فلان، وفي ذلك نزل قوله _تعالى_: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَلِسِ] الآية.
وسيأتي تفصيله في ذكر آداب مجلسه.
وربما وقف السامع إلى حديث رسول الله. وفي البخاري: باب من سأل وهو قائم عالماً جالساً، وأخرج حديث أبي موسى الأشعري: جاء رجل إلى النبي فقال: يا رسول الله ما القتال في سبيل الله؟ فرفع رسول الله رأسه إليه وقال: =من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا+، قال الراوي: وما رفع رأسه إليه إلا أن السائل كان قائماً.
وكان الملازمون مجلسَ رسول الله " أصحابَه من الرجال.
وفي صحيح البخاري عن أبي سعيد الخدري أنه قال: =قال النساء للنبي غلبنا عليك الرجال؛ فاجعل لنا يوماً لنفسك، فوعدهن يوماً لقيهن فيه فوعظهن وأمرهن+...إلخ.(1/121)
وظاهر ترجمة البخاري لهذا الحديث أن اليومَ المجعولَ للنساء لم يكن يوماً مفرداً وحيداً، بل جعل لهن نوبة من الأيام؛ فيحتمل أنه جعل لهن يوماً في الأسبوع، أو في الشهر، أو بعد مدة غير معينة يعين لهن موعده من قبل، والله أعلم.
* هيئة المجلس الرسولي:
تدل الآثار على أن مجلس رسول الله " كان على صورة الحلقة الواحدة، أو الحِلَق المتداخلة كما ورد في حديث أبي واقد الليثي في صحيح البخاري؛ إذ قال فيه: =فأما أحدهما فرأى فرجة في الحلقة فجلس فيها، وأما الآخر فجلس خلفهم+.
وقد تقدم آنفاً، بل صرح بعض الرواة بأن أصحاب رسول الله "كانوا يجلسون حوله حِلَقاً.
أما رسول الله "فكان مجلسه في وسطهم؛ ففي الصحيح عن أنس ابن مالك÷أن ضماماً بن ثعلبة السعدي ÷لما دخل المسجد قال: أيكم محمد؟ قال أنس والنبي متكئ بين ظهرانيهم، وسيأتي الحديث، ومعنى بين ظهرانيهم أنه في وسطهم.
ومن الغريب ما ذكره القرطبي في كتاب المفهم على صحيح مسلم عن مسند البزار عن عمر بن الخطاب ÷ قال: =كان النبي " يجلس بين ظهراني أصحابه، فيجيء الغريب فلا يدري أهو هو حتى يسأل، فطلبنا لرسول الله "أن نجعل له مجلساً كي يعرفه الغريب، فبنينا دكاناً من طين يجلس عليه+ ا_هـ.
وهذا غريب، إذ لم يذكر هذا الدكان فيما ذكروه من تفصيل صفة المسجد النبوي في الكتب المؤلفة في ذلك.
وكانت هيئة جلوس رسول الله "في مجلسه غالباً الاحتباء، فقد ذكر الترمذي في كتاب الشمائل عن أبي سعيد الخدري ÷=كان رسول الله "إذا جلس في المجلس احتبى بيديه+ ا_هـ.
وقول الراوي: كان يفعل، يدل على أنه السُّنةُ المتكررة.
والاحتباء هو الجلوس وإيقاف الساقين، فتجعل الفخذان تجاه البطن بإلصاق، ويلف الثوب على الساقين والظهر، فإذا أراد المحتبي أن يقوم أزال الثوب.
وأما الاحتباء باليدين هو أن يجعل المحتبي يديه يشد بهما رجليه عوضاً عن الثوب، فإذا قام قالوا حلَّ حُِبوته (بكسر الحاء وضمها).(1/122)
وكان الاحتباء أكثر جلوس العرب، وربما جلس رسول الله "القُرْفُصَاء _بضم القاف وسكون الراء بالمد والقصر_ وهي الاحتباء باليدين، وربما جعلت اليدان تحت الإبطين وهي جلسة الأعراب والمتواضعين.
وقد وُصِف جلوس رسول الله " القرفصاء في حديث قيلة بنت مخرمة _رضي الله عنها_ وقد تقدم آنفاً، وربما اتكأ رسول الله " في مجلسه في المسجد.
وفي الصحيح عن أبي بكرة ÷ أن رسول الله " قال: =ألا أحدثكم بأكبر الكبائر؟ الإشراك بالله وعقوق الوالدين وكان متكئاً فجلس وقال: ألا وقول الزور...الخ.
وفي حديث جابر بن سمرة ÷ رأيت رسول الله " متكئاً على يساره وربما اتكأ على يمينه، وفي حديث جابر بن سمرة ÷ أن رسول الله " جلس متربعاً.
ويؤخذ ذلك من حديث جبريل في الإيمان والإسلام من صحيح مسلم.
وقد تجعل له وسادة، روى الترمذي عن جابر بن سمرة ÷أنه رأى رسول الله " متكئاً على وسادة سوداء.
وعددُ جُلساء رسول الله " لا ينضبط، بل كان يختلف باختلاف الأيام وأوقات النهار، فربما اشتمل المجلس على أربعين رجلاً كما ورد في الصحيح من حديث أنس بن مالك ÷ قال: =أرسلني أبو طلحة الأنصاري ÷أدعو له رسول الله " خامس خمسة لطعام صنعه لرسول الله " فوجدت النبي " في المسجد معه ناس فقمت، فقال: أأرسلك أبو طلحة؟ قلت: نعم، قال: لطعام؟ قلت: نعم، فقال لمن معه: قوموا وكانوا نحو الأربعين+.
وربما كان مجلسه يشتمل على عشرة، ففي الصحيح عن عبد الله بن عمر _رضي الله عنهما_ قال: بينما نحن جلوس عند رسول الله " إذ أتى بجمار نخلة فقال النبي " : =إن من الشجرة لما بركته كبركة المسلم+، فأردت أن أقول هي النخلة ثم التفت، فإذا أنا عاشر عشرة أنا أحدثهم فسكتُّ+... إلخ.
* ما كان يجري في مجلس رسول ":(1/123)
نبعت ينابيع الهدى والحكمة والتشريع من مجلس رسول الله " ومن منبره، ولقد كان أكثر ما رواه أصحابه عنه مما سمعوه منه في مجلسه؛ لذلك يكثر أن تجد في الأحاديث المروية عن الصحابة أن يقول الصحابي: =بينما نحن جلوس عند رسول الله "+.
وكان يقع التحاكم عند رسول الله " في مجلسه، وقد حكم فيه بين المسلمين كثيراً، وبين اليهود في قصة الرجم؛ إذ جاءه اليهود برجل وامرأة زنيا فأمر بهما، فرجما في موضع الجنائز من المسجد.
وكانت تفد عليه الوفود وهو في مجلسه، ويأتيه سفراء المشركين من أهل مكة، ويَعْتَوِرُه العُفاة، وأصحاب الحاجات.
في الشفاء أن أعرابيَّاً جاء يطلب من النبي " شيئاً فأعطاه ثم قال له: أأحسنت إليك؟ قال الأعرابي: لا ولا أجملت، فغضب المسلمون وقاموا إليه، فأشار إليهم رسول الله " أَنْ كُفُّوا، ثم قام ودخل منزله وأرسل إليه وزاده، فقال له: أأحسنت إليك؟ قال: نعم.
ثم هو _ أيضاً _ مجلس أدب ينشد فيه الشعر وتضرب فيه الأمثال.
ولقد أنشد كعب بن زهير قصيدته المشهورة فلما بلغ إلى وصف راحلته فقال:
قنواء في حرتيها للبصير بها ... عِتْقٌ مبينٌ وفي الخدين تسهيل
فقال رسول الله " لأصحابه: ما حرتاها؟ فقال بعضهم: عيناها، وسكت بعضهم، فقال رسول الله ": هما أذناها.
ولما بلغ كعب قوله في مدح المهاجرين:
لا يقع الطعن إلا في نحورهم ... وما لهم عن حياض الموت تهليل
نظر رسول الله "إلى من حوله من قريش نظر من يومئ إليهم أن اسمعوا هذا المدح.
وروى الترمذي عن جابر بن سمرة ÷ قال: جالست رسول الله "أكثر من مرة وكان أصحابه يتناشدون الشعر، ويتذاكرون من أمر الجاهلية وهو ساكت، وربما تبسم معهم.
وقد ورد في الأثر أن أصحاب رسول الله " إذا دخلوا عليه كانوا لا يفترقون إلا عن ذَواق، ويخرجون أدلة.(1/124)
للعلماء اختلاف في تأويله، فحمله بعضهم على ظاهره، أي لا يفترقون إلا بعد أن يطعموا طعاماً قليلاً؛ ولذلك عبر عنه بذَواق، وهو بفتح الذال الشيء المَذُوق من تمر أو نحوه أو ماء.
وقد ورد في حديث عبد الله بن عمر _ رضي الله عنهما _ أنه قال: بينما نحن جلوس عند رسول الله "إذ أتى بِجُمَّار نخلة...إلخ. أي أتى به ليؤكل في مجلسه، ولذلك ترجم البخاري هذا الحديث: باب أكل الجمار، وفي حديث الموطأ عن أبي هريرة ÷: جاء رجل إلى رسول الله "يذكر أنه وقع على أهله في نهار رمضان إلى أن قال: فبينما نحن على ذلك إذ أُتي النبي "بعرق فيه تمر... إلخ.
والعَرَِق بفتح العين وفتح الراء ويجوز كسرها هو المكتل أي الزنبيل.
وتأوله الأنباري، وابن الأثير، وغير واحد أنه أراد أنهم لا يتفرقون إلا عن علم تعلموه يَقُوْم لأنفسهم مقامَ الطعامِ والشراب للأجسام في الانتعاش والالتذاذ؛ فجرى الكلام على طريقة الاستعارة.
* وقت المجلس الرسولي:
أحسب أن معظم جلوس رسول الله " للناس كان في أوقات تفرغ معظم الصحابة من العمل، فكان يجلس لهم بعد صلاة الصبح كما يشهد لذلك حديث كعب بن مالك ÷ وتوبته، قال كعب: =وأتى رسول الله " وهو في مجلسه بعد الصلاة ثم قال: فلما صليت صلاة الفجر صبح خمسين ليلة وأنا على ظهر بيت من بيوتنا سمعت صوت صارخ يا كعب بن مالك أبشر، وانطلقت إلى رسول الله " حتى دخلت المسجد فإذا رسول الله " جالس حوله الناس... إلخ+.
وكذلك حديث أبي موسى الأشعري ÷ المتقدم إذ يقول: توضأت يوماً وخرجت من بيتي فقلت: لألزمن رسول الله " يومي هذا وأكون معه فجئت المسجد... إذ لا شك أن ذلك وقت صلاة الصبح، وما كان رسول الله" يستغرق الصباح كله في المجلس فإن أصحابه كانوا يذهبون إلى أعمالهم وحاجاتهم، ولأن رسول الله " كان يدخل بيوت أزواجه، فقد قالت عائشة _رضي الله عنها_ كان يكون في بيته في مَهَنَةِ أهله.(1/125)
وفي حديث علي ÷ من رواية الترمذي ورواية عياض: كان دخوله لنفسه فكان إذا أوى إلى منزله جزَّأ دخوله ثلاثة أجزاء: جزءاً لله، وجزءاً لأهله، وجزءاً لنفسه، ثم جزأ جزءه بينه وبين الناس، فيرد ذلك على العامة بالخاصة، ولا يدخر عنهم شيئاً.
أي كان له في بيته وقت يجلس إليه فيه خاصة أصحابه ومن له حاجة خاصة.
ومعنى يرد ذلك على العامة أنه تحصل منه منفعة للعامة بما يرويه الخاصة من علمه للناس، وفي هذا دليل على أن معظم ما عدا وقت دخوله إلى منزله كان وقت مجلسه إلا إذا عرضت حاجة يذهب إليها.
* آداب مجلس رسول الله:
كيف لا يكون مجلس يحتله رسول الله " ميدان تسابق الآداب إلى غاياتها، وجوَّاً ترفرف فيه الكمالات راقبةً إلى سماواتها.
فإن صاحبه هو الذي أدبه ربه بأحسن تأديب، وجلساءه هم أولئك الغُرُّ المناجيب، وناهيك بأن ورد بعض آدابه في الكتاب المجيد، قال الله _ تعالى _: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَلِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انشُزُوا فَانشُزُوا ].
قال الواحدي، وابن عطية عن مقاتل وقتادة وزيد بن أسلم: كان النبي " يجلس في المسجد فجلس يوماً وكان في المجلس ضيق؛ إذ كان الناس يتنافسون في القرب من رسول الله "، وفي سماع كلامه، والنظر إليه، وكان رسول الله " يكرم أهل بدر، فجاء أناس من أهل بدر فلم يجدوا مكاناً في المجلس فقاموا وِجَاهَ النبي"على أرجلهم يرجون أن يوسع الناس لهم، فلم يوسع لهم أحد، فأقام رسول الله " أناساً بقدر من جاء من النفر البدريين، فعرف رسول الله " الكراهية في وجوه الذين أقامهم فنزلت الآية.(1/126)
فقوله: [إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَلِسِ] فيما إذا كان في المجلس ضيق، فيتفسح الناس بدون أن يقوم أحد، وقوله: [وَإِذَا قِيلَ انشُزُوا فَانشُزُوا] أي إذا قيل لكم ارتفعوا وقوموا عن المجلس فافعلوا، أي إذا أمركم الرسول " في مجلسه بالقيام فلا تتحرجوا، وهو ضرب من التفسح.
وقيل التفسح يكون بالتوسعة من قعود أو من قيام، فهما داخلان في قوله: تفسحوا، والنشوز هو أن يؤمروا بالانفضاض عن المجلس، فإذا أمروا بذلك فلا يتحرجوا؛ لأن رسول الله " يحب أحياناً الانفراد بأمور المسلمين؛ فربما جلس إليه القوم فأطالوا؛ لأن كل أحد يحب أن يكون آخر الناس عهداً بالنبي "، وكل ذلك من فرط محبتهم إياه، وحرصهم على تلقي هداه.
ومن آدابه المذكورة في الكتاب المجيد ما في قوله _ تعالى _: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ ]، وقوله: [ لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً].
قال علماء التفسير: نزلت هاتان الآيتان بسبب محاورة جرت بين أبي بكر وعمر _ رضي الله عنهما _ بين يدي رسول الله " في مجلسه، وذلك حين قدم وفد بني تميم أشار أبو بكر ÷ على النبي "أن يؤمَّ على بني تميم القعقاع بن معبد، فقال عمر ÷ بل أمِّر عليهم الأقرع بن حابس، فقال أبو بكر لعمر: ما أردت إلا خلافي! فقال عمر: ما أردت خلافك، فتماديا، وارتفعت أصواتهما، فنزل القرآن بهذه الآية، قالوا: فكان أبو بكر بعد ذلك لا يكلم رسول الله "إلا كأخي السرار _ أي كصاحب السر والمسارة _ وكان عمر ÷ بعد ذلك إذا كلم رسول الله " لا يكاد يسمعه حتى إن رسول الله " لَيَسْتَفْهِمه.(1/127)
ومن آداب مجلسه أن أصحابه يكونون فيه على غاية التؤدة والسكينة؛ فقد روى أصحاب السنن عن أسامة بن شريك ÷أن رسول الله "إذا تكلم أطرق جلساؤه كأنما على رؤوسهم الطير، ومثله في حديث هند بن أبي هالة في صفة رسول الله ".
ومعنى كأنما على رؤوسهم الطير: أي في حالة السكون؛ لأن الطائر ينفر من أدنى تحرك.
وفي حديث هند بن أبي هالة _ رضي الله عنها _: كان رسول الله "يعطي كل جلسائه نصيبه لا يحسب أحد أن أحداً أكرم عليه منه.
وفيه أن مجلسه مجلس وقار، وحلم، وحياء، وخير، وأمانة، لا ترفع فيه الأصوات، ولا تؤبن فيه الحرم، ولا تثنى فلتاته.
ومعنى لا تؤبن فيه الحرم: أي لا تذكر فيه حرمات الناس بسوء، يقال أبَنه إذا ذكره بسوء، والمراد بالحرم هنا أعراض الناس وما يحرِّمون تناوله منهم، ومعنى لا تثنى فلتاته: لا تعاد، مأخوذٌ من التثنية وهي الإعادة، والفلتات جمع فلتة وهي الزلة من القول والفعل إذا جرت على غير قصد بغتة؛ يعني أن أهل ذلك المجلس أهل حفظ للسر، وإعراض عن اللغو، فلو صدرت من أحد فلتة لم يتناقلها جلساؤه بالتسميع والتشنيع، وهذا أدب عربي رفيع، وفي هذا المعنى قال وداك بن ثميل من شعراء الحماسة:
وأحلام عاد لا يخاف جليسهم ... إذا نطق العوّارَ غربُ لسان
الدعوة الشاملة الخالدة (1) للعلاَّمة الشيخ محمد الخضر حسين(2)
__________
(1) مجلة لواء الإسلام العدد السابع من السنة الأولى في أول ربيع سنة 1367هـ، وانظر كتاب:(هدى ونور) ص43_45، للشيخ محمد الخضر، عناية الأستاذ علي الرضا الحسيني.
(2) ولد × في بلدة ( نفطة ) بتونس عام 1293هـ _ 1873م من أسرة علم، وصلاح، وتقوى.
_ يتصل نسبه بالنبي " وجده للأب علي بن عمر، وجده لأمه مصطفى بن عزوز، وخاله العلامة الشيخ محمد المكي بن عزوز، وشقيقاه العلامة اللغوي محمد المكي بن الحسين، والعلامة زين العابدين بن الحسين.
_ لما بلغ الثانية عشرة من عمره انتقل مع والده إلى العاصمة تونس، والتحق بطلاب العلم بجامعة الزيتونة أرقى المعاهد الدينية وأعظمها شأناً في المغرب، وحصل منها على الشهادة العالمية في العلوم الدينية والعربية.
_ أوتي بياناً ساحراً، وقلماً سيالاً قلما يوجد له نظير في العصور المتأخرة، بل إنه يضارع أرباب البيان الأوائل.
_ كان ذا همة عالية، ونفس كريمة، وغيرة إسلامية، وقوةٍ في الحق.
_ كان هادئ الطبع، حسن المعشر، لَيِّن العريكة، جم التواضع، ذا زهد وقناعة.
_ كان متفنناً في علوم الشريعة من أصول، وتفسير، وفقه، ونحو ذلك.
_ كان إماماً من أئمة العربية في العصور المتأخرة، وفذاً من أفذاذ علماء الإسلام كما قال عنه العلامة محمد الطاهر بن عاشور _ رحمهما الله _ .
_ كان مستقصياً في بحثه وفي نقاشه لآراء مخالفيه، وكان معتدلاً في حكمه وفتاويه يتمثَّلُ في ذلك نزاهةَ قلمِ المؤلف، وحسن أدبه، ونبل أخلاقه _كما يقول الشيخ العلامة عبدالرزاق عفيفي ×_.
_ أصدر مجلة ( السعادة العظمى ) عام 1321 هـ، وهي أول مجلة ظهرت في المغرب ثم أغلقتها سلطات الاستعمار الفرنسي.
=(1/128)
بينما العالم يتخبط في جهل وغواية فإذا بنور يلوح تحت سماء مكة، وتنبعث أشعته في اليمين واليسار، حتى أخذت بلاد العرب من أطرافها، وضربت في أقاصي الشرق والغرب، فانقلب الجهل إلى علم، والغواية إلى هدى(1)
__________
(1) تولى القضاء في مدينة بنزرت عام 1906م، ولم يرقْهُ ميدان القضاء؛ إذ حال بينه وبين الدعوة إلى الإصلاح والجهاد، فتركه إلى التدريس في جامع الزيتونة أستاذاً للعلوم الشرعية والعربية، كما تولى التدريس في مدرسة الصادقية بتونس.
_ حكم عليه بالإعدام _ إبان الاستعمار الفرنسي لتونس _ لاشتغاله بالسياسة ودعوته إلى التحرير، فهاجر إلى دمشق مع أسرته عام 1331هـ، وأقام فيها مدة طويلة تولى في مطلعها التدريس وأعاض الله به أهل الشام بعد رحيل علامة الشام الشيخ جمال الدين القاسمي × فكان الخضر من أسباب النهضة العلمية في بلاد الشام.
_ رحل رحلات عديدة، حيث رحل إلى الآستانة، وألمانيا، وقد أتقن اللغة الألمانية وكتب عن مشاهداته في برلين.
وبعد ذلك عاد إلى دمشق، فلحقته سلطات الاحتلال الفرنسي، فرحل إلى مصر لاجئاً سياسياً عام 1920م ، والتقى كبار علمائها ورجالها.
_ قام بتأسيس جمعية الهداية الإسلامية، وأصدر مجلة تحمل نفس الاسم، واشترك في تأسيس جمعية الشبان المسلمين، واستلم رئاسة تحرير مجلة ( نور الإسلام ) التي يصدرها الأزهر، والمعروفة اليوم باسم مجلة (الأزهر ).
_ انضم إلى علماء الأزهر، وعين مدرساً للفقه في كلية أصول الدين، ثم أستاذاً في التخصص.
_ عين عضواً في مجمع اللغة العربية في القاهرة أول إنشائه، كما عين عضواً في المجمع العلمي بدمشق، واختير عضواً في جماعة كبار العلماء بعد أن قدم رسالته العلمية ( القياس في اللغة العربية ).
_ استلم رئاسة تحرير مجلة ( لواء الإسلام ) كما ترأس جمعية ( جبهة الدفاع عن أفريقيا الشمالية ).
_ اختير عام 1952م إماماً لمشيخة الأزهر، فقام بالأزهر خير قيام، وهو آخر عالم تولى الأزهر بترشيح العلماء، ثم أصبح بعد ذلك يعين من قبل الدولة.
_ توفي عام 1377هـ، 1958م، ودفن في المقبرة التيمورية إلى جانب صديقه العلامة أحمد تيمور باشا _ رحمهما الله _ بناءً على وصيته. ... ... ... ... ... ... ... =
= قد خلف آثاراً علمية عديدةً منها الحرية في الإسلام، ورسائل الإصلاح، والسعادة العظمى، والهداية الإسلامية، ومحاضرات إسلامية، والدعوة إلى الإصلاح، ونقض كتاب الشعر الجاهلي، ونقض كتاب الإسلام وأصول الحكم، والرحلات، وتراجم الرجال، وأسرار التنزيل، والخيال في الشعر، ودراسات في الشريعة الإسلامية، وبلاغة القران، وله ديوان شعر جمعه بعض محبيه واسمه (خواطر الحياة ).
وقد اعتنى ابن أخيه الأستاذ علي الرضا الحسيني بتلك الكتب، وبالترجمة للشيخ الخضر.
_ لقد كان لتلك الآثار أثرها البالغ في حياة الشيخ، وبعد وفاته، ولا زال الناس يفيدون منها، ويقبسون من نورها.
ولا زالت حياته، وآراؤه، ومؤلفاته، موضع الدراسة، والتحليل.
ولازال العلماء يتلقون كتبه بالعناية، والقبول، والثناء. انظر تمام ترجمته في كتاب =الصداقة بين العلماء+ للمؤلف.(1/129)
، ذلك هو نور الدعوة التي قام بها أكمل الخليقة محمد بن عبد الله ".
ترمي هذه الدعوة الصادقة إلى أهداف سامية: إصلاح العقائد، والأخلاق والأعمال، وتنقية النفوس من المزاعم الباطلة، وتحرير العقول من أسر التقليد، حتى تحت ضياء الحجة(1)، وعلى ما يرسمه لها المنطق السليم.
جاء الرسول الأعظم بهذه الدعوة الشاملة، فكانت مصدر خير ومطلع حكمة، وقد أيدها الله _ تعالى _ بما يضعها في النفوس موضع القبول، ويجعلها قريبة من متناول العقول.
ومن أقوى مؤيداتها الآيات القائمة على أنَّ المبلغ لها رسول من رب العالمين، وسيرته _ عليه الصلاة والسلام _ مملوءة بأرقى الفضائل وأَسنى الآداب وأجَلّ الأعمال، حتى إنَّ الباحث في السيرة على بصيرة ليجد في كل حلقة من سلسلة حياته معجزة، ولو استطعت ـ ولا إخالك تستطيع ـ أن تضعها في كفه، ثم تعمد إلى سيرة أعظم رجل تحدث عنه التاريخ، فتضعها في الكفة الأخرى، لعرفت الفرق بين من وقف في كماله عند حد هو أقصى ما يبلغه الناس بذكائهم وحزمهم، وبين من تجاوز ذلك الحد بمواهبه الفطرية، وبما خصه الله به من معارف غيبية، وحكم قدسية.
هي دعوة الحق اتجه إليها أقوام لا يؤمنون بأنها وحي سَمَاويّ، فاطلعوا على جملة من حقائقها، ووقفوا على جانب من أسرارها، فشهدوا لها بأنها محكمة الوضع، سامية الغاية، وألموا بأطراف من سيرة المبعوث بها، فاعترفوا بأنه أكبر مصلح أنقذ الإنسانية من غمرات الاستبداد، وعلمها بأقواله وسيرته العملية كيف تتمتع بحقوقها كاملة، وتحتفظ بحريتها وهي آمنة.
__________
(1) هكذا في الأصل، ولعل هناك سقطاً، ولعله: حتى صارت.... (م).(1/130)
دعوة تأبى الخمول والإحجام، حيث ينبغي لها أنْ تظهر في شهامة وإقدام، توجه نصائحها إلى الأمم على اختلاف طبقاتها وتفاضل درجاتها؛ فتسدي النصيحة إلى الملوك فمن دونهم من ذوي المناصب السياسية، والقضائية، والتنفيذية، وتأخذ بأيدي العاملين من نحو التُّجَّار، والصُّنَّاع، والزُّرَّاع إلى أن يسيروا في الطريق الكافل للسلامة والنجاح، وأقبلت على الأسرة فرسمت لها نظماً تيسر لها أن تعيش في ألفة وهناءه، فقررت للزوجة والقرابة من نحو الأبوة والبنوة حقوقاً عادلة، وأوجبت على من يستطيع إسعاد ذوي الحاجات بمال أو جاه أن يسعدهم ما استطاع، وأوصت مع هذا برعاية حقوق الجوار.
وراعت في معاملة المخالفين ما تستدعيه العزة من الحزم، ثم ما تستدعيه العاطفة الإنسانية من الرفق، ففرقت بين من يدخل تحت سلطانها، وبين من يناصبها العداء، فمنحت المسالمين من الحقوق ما تطمئن به نفوسهم، وتنعم به حياتهم، وأذنت في تقويم المناوئين بالقدر الكافي للنجاة من عدوانهم.
طلعت الدعوة المحمدية على الناس فصيحة البيان، قوية الحجة، حكيمة الأساليب، ولم تسلم مع هذا من طوائف يرمون أمامها أو وراءها عن قوس إلحاد وقح، أو جهل قاتم، ولولا أن الله _ تعالى _ تكفل بحفظها، وقيض لها في كل عصر أنصاراً رسخوا في فهم مقاصدها، وتصدوا للذود عن ساحتها بيقظة وحزم _ لتمكن أولئك المفسدون من إخفات صوتها، وطمس معالمها.
وليست دعوة الإسلام بالدعوة التي ترشد إلى مواطن الإصلاح، ثم تترك الناس وشأنهم كما يفعل وعاظ المساجد والجمعيات(1)، بل هي دعوة تحمل في مبادئها فرضاً على الأمة أن تقوم بتنفيذ ما تقرره من حقوق، أو تفرضه من واجبات؛ إذ لا ينفع تَكُلُّمٌ بحق لا نفاذ له.
__________
(1) لو قال: بعض وعاظ ... (م).(1/131)
نظرة في دلائل النبوة (1) للعلامة الشيخ محمد الخضر حسين
جرت حكمة الله على أن يبعث في الناس رسلاً يعلمونهم واجبات ألوهيته اعتقاداً وعملاً، ويهدونهم السبيل إلى الفلاح عاجلاً وآجلاً، وقضت حكمته أن تكون دعوة هؤلاء الرسل مقرونة بآيات تشهد بأنهم لم يقولوا على الله إلا حقاً، حتى تقوم الحجة على الجاحد؛ فإما إيماناً بعد وإما عناداً.
والآيات القائمة على أن محمداً " رسول الله إلى الخليقة حقاً تكاد تتجاوز حدَّ ما يستقصى، وقد تتبعها القاضي أبو بكر بن العربي عداً، وأملى في تفسيره (أنوار الفجر) ألف معجزة.
وهي على كثرتها واختلاف مظاهرها ترجع إلى ثلاثة أصول: القرآن الكريم، والسيرة النبوية، والمعجزات المحسوسة التي تنقل إلينا على طرق ثابتة.
ولا أقصد في هذا المقام إلى أن أتحدث عن هذه الأصول بتفصيل، بل آتي عليها بالقول الموجز، وأدع بسط القول فيها إلى كتب تأتي _إن شاء الله_.
القرآن الكريم:
نزل القرآن بلسان عربي مبين وهو يحمل دعوة حكيمة ومعجزة باهرة، أما الدعوة الحكيمة فهي ما أرشد إليه من عقائد سليمة، وآداب جليلة، وأحكام عادلة، ونظم عمرانية راقية، وذلك ما يدل عليه قوله _تعالى_: [إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ](الإسراء:9).
وأما المعجزة فهي ما يدركه أولو الألباب من بلوغه في حكمة المعاني، وسمو المقاصد، وفصاحة الكلم، وجودة النظم غايةً فوق ما تنتهي إليه طاقة البشر، وذلك ما يدل قوله _تعالى_: [قُلْ لَئِنْ اجْتَمَعَتْ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً](الإسراء:88).
__________
(1) مجلة الهداية الإسلامية، الجزء الرابع من المجلد الثاني الصادر في رمضان 1348، والجزء الخامس من المجلد الثاني الصادر في شوال 1348، وانظر محمد رسول الله وخاتم النبيين للشيخ محمد الخضر حسين، إعداد علي الرضا الحسيني، ص85_98.(1/132)
وكثير من حكماء العرب وبلغائهم يسمعون القرآن؛ فيدخل الإيمان في قلوبهم من غير حاجة إلى أقيسة منطقية: شرطية أو جملية؛ ذلك أنهم يتلقون الدعوة وهي محفوفة بدلائل الصدق من كل ناحية، وليس بينهم وبين الاهتداء بهذه الدلائل سوى التنبه لوجه دلالتها.
ومن شواهد التاريخ على هذا قصة عمر بن الخطاب ÷ إذ قرئت عليه سورة طه فانشرح صدره للإسلام، وقال: أين رسول الله؟ فقيل له في دار أرقم ابن الأرقم، فقصد إليه فوراً، وسرعان ما نطق بالشهادة بين يديه.
وينبئكم أن القرآن الحجة الناطقة على صدق المبعوث به قوله _تعالى_: [ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَاناً وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ (82) وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنْ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنْ الْحَقِّ] (المائدة:82_83).
فالآية ظاهرة في أن هؤلاء القسيسين والرهبان لم يزيدوا على أن سمعوا قرآناً يتلى، فعرفوا فيه وجه الحق، فقالوا: [رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ] (المائدة:83).
وفي قوله _تعالى_: [أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ] (العنكبوت: 51) ما هو صريح في أن القرآن آية كافية للدلالة على صدق الدعوة، وصحة الرسالة.
وانظروا إلى قوله _تعالى_: [وَإِنْ أَحَدٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ] (التوبة:6).
فالآية منبهة لما نقول من أن تلاوة القرآن على الضالين تكفي في هدايتهم، وإقامةِ الحجة عليهم متى كانوا يتدبرون.
ومجادلتُهم بعد إسماعهم القرآن إنما هي لإزاحة الشبهة التي تخالط أوهامهم أو تكشف عما يلفقونه من زور وبهتان.(1/133)
والحقيقة أن دلالة القرآن على محمد " لا تنحصر في ناحية واحدة، بل هي ذات وجوه مختلفة، يجتليها كل من يتلوه بيقظة، أو يلقي إليه أذناً واعية.
بلاغته:
ومن هذه الوجوه بلوغه في فصاحة الألفاظ، وبلاغة المعاني، وجودة النظم _ منزلةً تقف دونها فطاحل البلغاء.
ذلك أن البلاغة لعهد البعثة المحمدية قد وصلت إلى درجتها العليا، كان العرب يتنافسون في فنونها، ويطلقون الأعنّة في مضمارها، حتى أتى محمد صلوات الله عليه بما عجز عن أن يأتي بمثله بلغاء العرب قاطبة.
ثم إنك تجد القرآن لا يتناول فناً من فنون الكلام إلا أتى باللفظ الرائع، والأسلوب البديع، وقصارى الواحد من بلغاء البشر أن يبرع في بعض فنون القول، ويضيق باعه في فنونه الأخرى؛ فلا يدرك فيها سوى المنزلة المتوسطة أو السفلى.
وإذا نظرت إلى الأفراد الذين يفوقون أقرانهم فصاحة وبلاغة، ويصبح كل واحد منهم علماً في عصره يشار إليه بالبنان _ لم تجد منزلتهم بعيدة من منازل البارعين من غيرهم بعد أن يجعلها خارقة للعادة، كالبعد ما بين منزلة القرآن ومنازل غيره من منظوم الشعراء، ومنثور الخطباء.
وإذا بدا لنا أن في الإسلاميين أو المحدثين من يفوق بلغاء العرب يوم البعثة _ فالفضل في هذا عائد إلى القرآن، إذ كانوا يهتدون بنور بيانه، ويجتهدون في أن ينسجوا على منواله، وهم على ما سنَّه القرآن من طرق الإبداع، وأدناه من قطوف البيان لم يستطيعوا أن يأتوا بما يدانيه فضلاً عما يقف بجانبه.
وقد كان رسول الله " أفصح العرب منطقاً، ونجد الفرق بين حديثه والقرآن الكريم جلياً واضحاً، ومن عقد بينهما مقايسة رأى حق اليقين أن أولئك الذين يقولون: إن القرآن من تأليف محمد قوم لم يذوقوا للبلاغة طعماً، أو لم يهتدوا للإنصاف سبيلاً.
ومن تلك الوجوه ما احتواه من الأخبار عن أمور من قبيل الغيب، وظهرت بَعْدُ كما أخبر.
ومن شواهد هذا الوجه قوله _تعالى_: [وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنْ النَّاسِ] (المائدة:67).(1/134)
فقد عاش رسول الله " وهو محاط بأعدائه الذين يتمنون له الموت العاجل، ويحرصون أشد الحرص على أن لا يتأخر في الحياة ساعة من زمان، وهم أصحاب جرأة واغتيال، ولم يكن _ عليه الصلاة والسلام _ ممن يجعل بينه وبين الناس حجاباً، ولا يهتم بأن يتخذ منهم حراساً، وكان يضع نفسه عندما يحمى وطيس الحرب بالمكانة الأولى، ومع ما لأعدائه من التلهف على قتله والتهالك على الفتك به، ومع ماله من الانفراد عن أصحابه في كل حين من الأحيان، وظهوره لأعدائه كلما رغبوا في الاجتماع به، وتقدمه لمواقع الجهاد ليس بينه وبينهم حامية _ لم يأته أجله إلا وهو على فراشه، وذلك مصداق قوله _تعالى_: [وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنْ النَّاسِ].
ومن شواهد هذا قوله _تعالى_: [الم (1) غُلِبَتْ الرُّومُ (2) فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (3) فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ] الروم.
وقد وقع ما أخبر به القرآن فعاد الروم بعد غلبهم إلى محاربة الفرس، وظهروا عليهم في السنة السابعة من الهجرة، ويروى أن خبر هذه الواقعة كان السبب في إسلام أناس من الجاحدين غير قليل.
ومن تلك الوجوه قوة أدلته، فقد عرفنا أن محمداً _ صلوات الله عليه_ قد نبت في وادي جاهلية، ونشأ في أمية، ونجد مع هذا حجج القرآن العقلية القائمة نافذة، كقوله في الاستدلال على وجود الخالق: [أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمْ الْخَالِقُونَ] (الطور:35).
فإن المعنى: أُوجِدوا من غير موجد أم هم الذين أوجدوا أنفسهم؟!
وكلا القضيتين غير صحيح، فوجب أن يكونوا صنع قادر حكيم.
وكقوله في الاستدلال على وحدته: [لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا] (الأنبياء:22).
وقوله: [وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ] (المؤمنون:91).(1/135)
ففي الآيتين برهان قائم على وجوب وحدة الإله، وأن الألوهية تقضي الاستقلال بالتصرف في السماوات والأرض تغييراً وتبديلاً، وإيجاداً وإعداماً.
وكقوله يدفع شبهة منكري البعث، ويريهم أنه من قبيل ما يدخل تحت سلطان قدرته: [قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (78) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ (79)] يس.
وهكذا نجده يأتي على شبههم بما يزيحها، وينادي على غلطهم في إيرادها، كقوله _تعالى_ في الرد على من ألحقوا في أن يكون الرسول مَلَكاً: [وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكاً لَجَعَلْنَاهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ] (الأنعام:9).
يريد أنهم لا يستطيعون الأخذ من المَلَك وهو في صورته الملكية، ولو بعثه إليهم في صورة بشر لعادوا إلى هذا اللبس الذي يلبسون وما كانوا مؤمنين.
فجميع حجج القرآن واردة على قانون المنطق الصحيح، ومن لم ينتفع بها ويستقم على طريقتها؛ فلأنه استكبر عليها، أو لم يوقع النظر على وجه دلالتها، قال الرازي: =وقد تأملت الطرق الكلامية والمناهج الفلسفية فما رأيتها تشفي عليلاً، ولا تروي غليلاً، ورأيت أقرب الطرق طريقة القرآن+.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: =وأحسن الأدلة العقلية الأدلة التي بيَّنها القرآن وأرشد إليها الرسول، فينبغي أن يعرف أن أجلَّ الأدلة العقلية وأكملها وأفضلها مأخوذ عن الرسول+.
ومن تلك الوجوه غزارة حِكَمِهِ ونبوغها، بحيث جاءت آخذة بأسباب السعادة آتية على الخصال التي تسمو بها الأفراد والجماعات إلى سماء السيادة، ومن أمثلة هذا قوله _تعالى_: [ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ] (فصلت:34).
فمن الطبائع الغالبة على البشر التسرع إلى إذاية العدو بما أمكن.(1/136)
ومن مقاصد القرآن تقويم الطباع التي تنزع إلى الأذى وتبعث على التقاطع، فجاءت هذه الآية تأمر الإنسان بأن يسلك في دفع خصمه الطريقة التي هي أجمل؛ رجاء أن يكون لهذه المجاملة أثر صالح، هو قلب العداوة ألفة وصداقة.
ومن أمثلة هذا الوجه قوله _تعالى_: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ] (الحجرات:6).
أمر بالتثبت فيما ينقله الفاسق؛ حذراً من أن يكون حديثاً مفترى، فيكون العمل عليه على جهالة، وعاقبة عمل الجاهل ندامة وخسران، وكم من بلاء يلحق الأشخاص أو الجماعات من اندفاعهم إلى العمل على خبر الفاسق قبل أن يتبينوا.
وانظروا إن شئتم إلى قوله _تعالى_: [وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلاًّ وَلا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ] (التوبة:8).
فهذه الآية نصيحة للأمة بأن لا ينخدعوا لقولٍ لَيِّنٍ، ووعدٍ مؤكَّد يبذله لهم العدو، فيركنوا إليه بقلوبهم، ولا يأخذوا منه حذرهم؛ فإذا هو يبسط عليهم سلطاناً طاغياً، ويريهم أنه ألان لهم القول خادعاً، وقطع لهم العهد غادراً.
وإن هذه النصيحة لمن أبلغ النصائح التي تقوم عليها حياة الأمة وعظمتها، ولو حفظها المسلمون في سويداء قلوبهم، وجعلوها بمرأى من أبصارهم _ لاستقاموا على عزتهم، ولم يفقدوا شيئاً من حريتهم.
ويدخل من قبيل حِكَم القرآن ونصائحه عنايته بمكارم الأخلاق، فهو مملوء بالحثِّ على نحو الصدق، والحلم، والصبر، والسخاء، والشجاعة، والعدل، والوفاء.
تلك الأخلاق التي تقوم عليها قواعد العمران، وتتأكد بها روابط التوادد والاتحاد، وبها تحرز الأمة قوة معنوية وأخرى مادية، فلا يجد أعداؤها الطريق إلى أن يطئوا موطئاً يغيظها.(1/137)
عني القرآن بأصول الفضائل التي هي مطلع السعادة، ومن أجلِّ هذه الفضائل ما يسمونه الشجاعة الأدبية، وهي خلق الصراحة والإقدام على قول الحق، فقد جاء بها القرآن على أكمل وجه، وفرضها على الناس في أبلغ خطاب، قال _تعالى_: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوْ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ] (النساء:135).
فهذه الآية تأمر الرجل أن يؤثر الحق على الهوى، ولا يبالي عند إقامة الحق ما ينازعه من عاطفة القربى وإن بلغت أشدها وكانت عاطفته نحو والديه اللذين ربياه صغيراً.
وقال _تعالى_: [إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنْ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُوْلَئِكَ يَلْعَنُهُمْ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمْ اللاَّعِنُونَ] (البقرة:159).
فهذه الآية تذكر الذين يكتمون ما يعرفون من الحق وتجعل جزاءهم اللعنة من الله ومن يتأتى منه اللعن من الملائكة والمؤمنين.
ومَنِ الذي يجهل المفاسد التي تجري على يد عالم يشتري رضا المخلوق برضا الله، ويتبدل متاع هذه الحياة بما هو خير وأبقى؟!
وكم نتلو في القرآن من أنباء دعاة الإصلاح ما شأنه أن يطبع النفوس على خصلة الجهر بالحق والدعوة إلى الإصلاح، وإن وجدوا الناس على أهواء غالبة، أو لقوا في سبيل الدعوة أذى كثيراً.
ومن أوضح الآيات في هذا المعنى قوله _تعالى_: [وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلا تُنْظِرُونِ] (يونس:71).(1/138)
فالأمة التي تملك الشجاعة الحربية لا تصل إليها يد العدو بأذى، فإذا ضمَّت إلى ذلك الشجاعة الأدبية استقامت شؤونها الداخلية، وأمنت من أن يفسد عليها رؤساؤها أمر سياستها، أو يضلوا السبيل، فيهيئوا لأبنائها مستقبلاً منكراً شقياً.
ومن تلك الوجوه ما أتى فيه من كلمات العتاب لرسول الله " على أشياء فعلها أو همَّ أن يفعلها، ووجه دلالتها على أن دعوته لله خالصة، ما نراه في طبائع الرجال ولا سيما ذوي المكانة في قومهم من أنهم يحرصون ما استطاعوا على أن تكون جميع آرائهم في نظر الناس سديدة، وجميع أعمالهم حكيمة، ولو كان محمد " من أولئك الذين يدعون القرب من الله والكرامة عنده رياءًا وخداعاً، وكان هذا القرآن من تأليفه كما يزعم الجاحدون _ لوجد نفسه في غنى عن هذه الآيات التي تحمل وتدل قرَّاءها على أنه فعل خلاف ما هو الأولى.
لو كان القرآن من تأليف محمد _عليه الصلاة والسلام_ وكان محمد من عظماء الرجال فقط دون أن يكون مبعوثاً من الله هادياً ونذيراً، لما أودع في الكتاب آية: [عَبَسَ وَتَوَلَّى (1) أَنْ جَاءَهُ الأَعْمَى (2) وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى (3) أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى (4) أَمَّا مَنْ اسْتَغْنَى (5) فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى (6) وَمَا عَلَيْكَ أَلاَّ يَزَّكَّى (7) وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى (8) وَهُوَ يَخْشَى (9) فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى (10)] عبس.
وقد كان لمحمد _ صلوات الله عليه _ أن يعتذر لابن أم مكتوم حين انصرف عنه بوجهه بأنه كان يرجو هداية أولئك الغاوين الذين تصدى لدعوتهم، وكل أصحابه يتلقون هذا العذر بقبول، ولكن الله _تعالى_ يريد أن يعلمنا أن للنفوس الزاكية مزيداً وفضلاً على النفوس الطاغية؛ فليس لأحد أن يعبس في وجه نفس تطلب الخير، ملتفتاً عنها إلى نفس مضروبة في الغواية.
السيرة النبوية:(1/139)
سنَّة الله في الخليقة أن من تظاهر بغير ما هو واقع، وادعى لنفسه ضرباً من ضروب الكمال زوراً ورياءًا، فلا بدَّ أن يفتضح أمره ولو بعد أمد، ثم لا تكون عاقبته إلا خساراً وهواناً.
والشأن في فضيحته ووخامة عاقبته أن تكونا على قدر ما يدعيه لنفسه من كمال واصطفاء، ولا كمال ولا عظمة للإنسان فوق مقام الرسالة والنبوة؛ فمن ادعى هذا المقام فقد ادعى أقصى ما يمكن للبشر إدراكه، وادعى أنه أقرب الناس أو من أقربهم إلى رب العالمين.
فلو أن محمداً _صلوا ت الله عليه_ ادعى الرسالة بغير صدق لاستبان لمن اتبعه من ذوي العقول الكبيرة شيء مما ينقض هذه الدعوى.
وقد عاش نبي الله بعد دعوى الرسالة نحواً من ثلاثٍ وعشرين سنة، وهي مدة بالغة من الطول ما فيه كفاية لمن أراد أن ينظر في هذه الدعوى من كل ناحية، ويرقب سيرة صاحبها لعله يقف على أثر يدلّه على أنه غير ما يبطن، أو أنه يقول على الله ما لا يعلم.
ومن شواهد أن سيرته _ عليه الصلاة والسلام _ كانت نقية من كل ما يخدش في دعوى الرسالة أنَّ أشد الناس إيماناً به، وأملأهم قلوباً بمحبته وإجلاله هم أطول الناس صحبة له، ومن لا يكادون يفارقونه إلا قليلاً كالسابقين الأولين من المهاجرين والأنصار.
ليس في سيرة محمد " ما يدخل الريب في صحة رسالته؛ فسيرته من أعظم الدلائل على أنه يحمل نفساً بالغة من العظمة ما لا يبلغه الإنسان الذي يطلب العلا من نفسه، ولو بلغ من العبقرية ما بلغ، ولُقِّن من الحكمة ما شاء أن يُلقن.
نرى في محمد " رجلاً نهض بأمة عظيمة في نحو عشرين سنة، كانت متفرقة متشاكسة، فأصبحت متحدة متآلفة.
كانت الأمم تنظر إليها بعين الازدراء، فأصبحت معزَّزة الجانب تفتح البلاد وتضرب على هذه الأمم بسلطانها الكريم.(1/140)
كانت في ظلمات من الجهل، فأصبحت في نور من العلم دون أن يجلب إليها من بلاد أجنبية، وإنما هو ذلك الرجل الناهض بها يلقي إليها الحكمة بنفسه، ويزكّيها بما يتحلى به، أو بما يدعوها إليه من خصال الشرف والحمد.
نرى في محمد"رجلاً أقام بين هذه الأمة شريعة تقرر حقوق الأفراد والجماعات، وتشتمل بتفاصيلها وأصولها على كل ما يحتاج إليه في فصل القضايا من أحكام هي مظهر العدل والمساواة، ولم يعقد لهذه الشريعة لجنة تتألف من أشخاص درسوا قوانين بعض الأمم، وإنما هو ذلك الرجل الناهض بها يملي عليها أحكام الوقائع مدنيةً كانت أو جنائية، يمليها عليها بالحضر والسفر، يمليها عليها في يوم السلم أو في مواطن القتال.
نرى من محمد " رجلاً يستخف بأشياع الباطل، ولا تأخذه الرهبة من كثرة عددهم ووفرة أموالهم، فيلاقيهم بالفئة القليلة ويفوز عليهم فوزاً عظيماً، ولم يكن بالرئيس الذي يبعث بالجيش إلى مواقع القتال، ويقعد خلافهم؛ حذراً من الموت، بل ترونه يقود الجند ويدبر أمر القتال بنفسه، ويقابل الأعداء بوجهه، ولا يولِّيهم ظهره وإن تزلزل موقف جنده وانصرفوا من حوله جميعاً.
نرى من محمد " رجلاً يصرف عنايته في تزكية الأمة وتدبير شؤونها والقيام بجهاد عدو هاجم، أو عدو متحفز للهجوم، ولم تشغله هذه الأعمال الخطيرة عن أن يقوم الليل قانتاً لله متهجداً، ثم يملأ جانباً من النهار في عبادة ربه متطوعاً.
نرى من محمد " رجلاً زاهداً في متاع هذه الحياة، ولو كان للشهوات عليه من سبيل لذهبت به في ابتغاء العيش الناعم مذهب أولئك الذين يتظاهرون بالزهد إذا لم يجدوا، حتى إذا ما أيسروا، ورأوا زهرة الحياة الدنيا طوع أيمانهم خلعوا ثوب الزهد، وتحولوا إلى طبيعة الشره كثيراً أو قليلاً.
أما تعدد زوجاته _ عليه الصلاة والسلام _ فقد كان لمصالح جليلة ومقاصد نبيلة، ندع تفصيل القول فيها إلى محاضرة أخرى.(1/141)
وهل في ميسور ذلك البائس(1) الذي يجحد عظمة محمد " أن يدلنا على رجل ألَّف بين أمة متفرقة، ثم أفاض عليها حكمة بالغة، وأقام فيها شريعة عادلة، وجعلها وهي فئة قليلة تظهر على الأمم الكثيرة دون أن تكون أكثر منها مالاً، وأجود منها سلاحاً.
ثم إذا نظرنا إلى هذه المصلح الكبير، والمشرِّع الخطير، والمجاهد الظافر _ نجده طلق اليد إذا بذل، واسع الحلم إذا أوذي، صادق اللهجة إذا حدّث، وبعبارات أوجز نجده المثل الأعلى لكل خصلة تطمح إليها الهمم الكبيرة.
إنْ هذا إلاَّ محمد بن عبدالله الذي بعثه الله في الأميين رسولاً.
وقد دلَّ أبو بكر الصديق ÷ على أن خلقه _ عليه الصلاة والسلام _ بالغ من الكمال غاية تنقطع دونها الآمال، فقال حين تشاغل بحرب أهل الردة واستبطأته الأنصار =أما كلفتموني أخلاق رسول الله " فوالله ما ذاك عندي ولا عند أحد من الناس+.
المعجزات المحسوسة:
الإسلام دين عام يتوجه الخطاب به إلى كل قبيل، ولا يختص به جيل دون جيل، ومن أجل هذا جعل الله _تعالى_ لصدق المبعوث به دلائل تدرك بالعقل، حتى يمكن للأجيال على اختلاف أزمنتها أن تهتدي بها، فيكون إيمانها عن بينة لا عن تقليد، وقد عرفنا أن هذه الدلائل ترجع إلى ما احتواه الكتاب العزيز من حكمة وبلاغة، ثم إلى أخلاق الرسول وسيرته العملية المنقولة إلينا على طرق صحيحة.
وهناك نوع ثالث من أعلام النبوة شهده الناس الذين أدركوا عهد البعثة نسميه المعجزات المحسوسة، وشأننا في هذا أن نضيفه إلى تلك الدلائل المعقولة متى كان سنده صحيحاً ووسعته دائرة الإمكان.
ولهذا النوع من المعجزات أثر في زيادة الإيمان وإن نقل إلينا على طرق الآحاد، فإن أخبار الآحاد المستوفية لشروط الصحة يفيد كل واحد منها ظناً قوياً، والدلائل الظنية إذا تعددت وأخذ بعضها برقاب بعض أصبحت بجملتها كالخبر المتواتر، لا تقصر عن أن تضع في النفس اعتقاداً جازماً.
__________
(1) المقصود علي عبدالرازق.(1/142)
درسنا هذا النوع من المعجزات، فوجدناه يروى بأسانيد متينة إلى أمة كبيرة من أكابر الصحابة كعبدالله بن عمر، وعبدالله بن عباس، وعبدالله بن مسعود، وعبدالرحمن بن أبي بكر، وعدي بن حاتم، وعائشة أم المؤمنين، وعمران ابن حصين، وجابر بن عبدالله، وأنس بن مالك، والبراء بن عازب، وجماعة من غير هؤلاء، ويرويه عن أصحاب رسول الله " جماعات من أهل العلم والتقوى حتى يتصل بأمثال الإمام مالك بن أنس، والإمامين البخاري ومسلم.
ومن أمثلة هذا النوع إخباره " بغيوب واقعة كنعيه للنجاشي يوم موته، وقوله للصحابة: =مات اليوم رجل صالح، فقوموا فصلوا على أخيكم أصحمة+.
أو إخباره بغيوب مستقبلة كقوله لعدي بن حاتم: =لئن طالت بك الحياة لترين الظعينة ترتحل من الحيرة حتى تطوف الكعبة لا تخاف إلا الله، ولئن طالت بك حياة لتفتحن كنوز كسرى+.
قال عدي بن حاتم: فرأيت الظعينة ترتحل من الحيرة حتى تطوف الكعبة لا تخاف إلا الله، وكنت فيمن افتتح كنوز كسرى.
ومن أمثلة هذا النوع دعاؤه " واستجابة الله له في الحال، كواقعة استسقائه وهو قائم في خطبة الجمعة والسماء مصحية، فما انتهى من الخطبة حتى أرسلت السماء مدراراً.
إلى غير هذا مما لا يسع المقام الحديث عنه بتفصيل، كوقائع تكثير الماء أو الطعام القليل، وآية انشقاق القمر التي لم تبلغ شُبَه منكريها أن تضعف الثقة بصحة روايتها ذات االطرق المتينة المتعددة.(1/143)
وهذا النوع من المعجزات قد يقصد به إقامة الحجة على الجاحدين الذين يؤخذون بالدلائل المحسوسة أكثر مما يؤخذون بالدلائل المعقولة، وقد يجري بمحضر المؤمنين لتطمئن قلوبهم ويزدادوا إيماناً على إيمانهم، ومنها ما يشهده الرسول وحده ليرى من آيات الله ما لم يكن قد رأى، كواقعة الإسراء، وعلى هذا يدل قوله _تعالى_: [سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ] (الإسراء:1).
فمن تدبر القرآن الكريم، ودرس السيرة النبوية بعقل سليم، ونظر فيما يرويه أئمة الحديث من المعجزات نظر الراسخين في العلم، لم يكن منه إلا أن يكون مسلماً عقيدة قيِّمة وعملاً صالحاً.
عظمة رسول الله"وهدايته (1) للعلامة الشيخ محمد الخضر حسين
خطر لي أن أستضيء في حديثي عن عظمة رسول الله " وهدايته بآيات من الكتاب العزيز، وسبق إليَّ في التلاوة قوله _تعالى_: [لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ] (الأحزاب:21) فرأيت في الآية مرعى خصيباً، ومجالاً فسيحاً.
ننظر في سيرة الرسول الأكرم، فنرى ما يبهر الأبصار وضاءة، ويملأ القلوب جلالة، فما شئتم من أخلاق عظيمة، وحكم غزيرة وهمم خطيرة، وأعمال جليلة فهو الرسول الذي بعثه الله _تعالى_ لإبلاغ شريعته المحكمة، وجعله المثل الأعلى لأقصى ما يبلغه البشر في مراقي الكمال والعظمة.
ومن أجل هذا عهد الله إلى الناس كافة أن يقتدوا بسنته، ويعملوا للسعادة على سيرته فقال _تعالى_: [لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ].
__________
(1) مجلة الهداية الإسلامية الجزء الحادي عشر من المجلد الثاني الصادر في ربيع الآخر1349، وانظر محمد رسول الله وخاتم النبيين للشيخ محمد الخضر ، إعداد علي الرضا الحسيني، ص99_104.(1/144)
تتناول الآية الكريمة كل ما يتحلى به " من محاسن الشيم، أو يصدر منه على أنه شرع سماوي، إلا ما علم أنه مختص به كالوصال الذي هو إلحاق الليل بالنهار في الصيام، أما ما يفعله على وجه العادة أو الجبلّة دون أن يظهر فيه معنى للتشريع كالقيام والقعود في بعض الأمكنة أو الأزمنة، وكتركه أكل بعض الأطعمة مع تصريحه بإباحتها، فذلك ما لا يتناوله طلب التأسي به، وإن كان عبدالله بن عمر، لا يدع التأسي في مثل هذا ما أمكنه.
وقد يختلف أهل العلم في بعض ما يفعله _ عليه الصلاة والسلام _ فيذهب قوم إلى أنه فعله على وجه التشريع، ويذهب آخرون إلى أنه وقع على سبيل العادة.
ومثال هذا أنه " كان يرسل شعر رأسه إلى أذنيه، فقال بعض أهل العلم كأبي بكر ابن العربي: =إنه من قبيل الهيئات المشروعة؛ فالحالق لشعر رأسه يعد تاركاً لما هو سنة+.
وقال كثير منهم: =إنه من قبيل العادات التي يأخذه فيها كل قوم بما يجري في وطنهم أو زمانهم+.
ولو تفقهنا في هذه الآية الكريمة لانكشف عنا ظلام البدع والمحدثات؛ ذلك أننا نتعرف سيرة رسول الله من طرق الروايات الصحيحة، ونتأسى بها في التقرب إلى الله فلا نتعدى حدودها بإحداث ما لا يصح أن يكون قربة في حال.
ليس في استطاعتي أن أفصل القول في السيرة النبوية التي أرشدت الآية إلى اقتفائها، وإنما أنبه على ناحيتين ترينا إحداهما كيف كان الرسول " يطيع الخالق بإخلاص، وترينا أخراهما كيف كان يعامل الناس في نصح، ويسوسهم في حكمة ورفق.
نقلب الوجه في طريقته المثلى فنجده قد أسلم وجهه للخالق، واستقام على طاعته آناء الليل وأطراف النهار، فكان يتهجد في حجرته كما يتهجد في المسجد، ويعبد الله خالياً كما يعبده في جماعة، ويبتغي رضوانه في السر كما يبتغيه في العلانية.(1/145)
ونحن نعلم أن مِنْ أمهات المؤمنين مَنْ كان أبوها مِنْ أشد الناس إيماناً به وإجلالاً لقدره، كعائشة بنت أبي بكر الصديق، وحفصة بنت عمر ابن الخطاب، ومنهن من كان أبوها من أشد الناس عداوة ومحاربة له كأم حبيبة بنت أبي سفيان؛ فلو لم يكن يقوم الليل على الدوام كما فرض عليه القرآن لعلم به المخلصون في صحبته، ودخلهم الريب في صحة دعوته، أو علم به خصومه الألداء؛ فوجدوا في أيديهم ما يطعنون به في صدق نبوته.
نُحَوِّل النظر إلى موقفه تجاه الخالق حين تمسه الضراء، فنراه كالعلم الشامخ تهب عليه عواصف البلاء فلا تلقى إلا قلباً صابراً وقدماً ثابتاً، وحسبكم شاهداً على هذا ما كان يلاقيه في بعض غزواته من شدائد، فلا يكون من هذه الشدائد إلا أن تؤكد عزمه، وتشد أزره، وتزيد داعية توكله على الله قوة، وكذلك ينبغي للمسلم أن يواجه البأساء في صبر ووقار، ويعمل على كشفها ما استطاع، ويضيف إلى هذا الدواء الناجع الاعتماد على من بيده ملكوت كل شيء، فقد قال _تعالى_: [لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ].
هذا شأنه " في الخطوب، إما إذا أفاض الله عليه نعمة فإنها تنزل بأرض طيبة المنبت؛ فلا تثمر إلا شكراً، ومن شكره للنعمة أن لا يتعاظم بها، أو يلبس في معاملة الناس حالاً غير ما كان يلبسه قبلها.
وقد كان حاله " في الزهد والتواضع بعد فتح مكة وغيرها من البلاد كحاله يوم كان يدعو إلى الله وحيداً وسفهاء الأحلام في مكة يسخرون منه ويضحكون.
نصوب النظر بعد هذا إلى سيرته في الخليقة فنراهم أمامه أربع طوائف:
1_ طائفة المهتدين: وهؤلاء يلاقيهم في بشر وطلاقة محيا، ويخالطهم في تواضع يعلمهم به أدب المساواة بين الرئيس والمرؤوس، ويحمل لهم من الرحمة ما هو أرق من النسيم، وأجود من الغيث العميم.(1/146)
أما البشاشة وطلاقة المحيا فإنا نقرأ في الصحيح عن جرير بن عبدالله البجلي أنه قال: =ما حجبني(1) رسول الله " منذ أسلمت ولا رآني إلا تبسم+.
فالذين يلقون ذوي النفوس الطاهرة في كُلُوحٍ وانقباض بعلة المحافظة على الوقار _ لم يهتدوا إلى السيرة الحميدة سبيلاً.
وأما التواضع فقد قال أنس بن مالك: كان رسول الله " أحسن الناس خُلُقاً وإن كان ليخالطنا حتى يقول لأخ لي صغير: =يا أبا عمير ما فعل النغير+.
فالذين يخرجون للناس في وجوه عليها غبرة الكبرياء إنما يلقون قلوباً نافرةً، وألسنةً ساخرةً، ولقد كان لهم في رسول الله أسوة حسنة لو شاءوا أن يكونوا أجلاء محترمين.
وأما الرحمة فقد قال _تعالى_ في كتابه الكريم: [عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ] (التوبة:128).
وحدثنا عن هذه الرحمة مالك بن الحويرث إذ قال: أتينا رسول الله " ونحن شَبَبَة(2) متقاربون فأقمنا عنده عشرين ليلة، فظن أننا اشتقنا أهلنا، وسألنا عمن تركنا وراءنا من أهلنا فأخبرناه، وكان رقيقاً رحيماً، فقال: =ارجعوا إلى أهليكم، فعلموهم، ومُرُوهم، وصلوا كما رأيتموني أصلي+.
2_ طائفة المنافقين: وهؤلاء كان _ عليه الصلاة والسلام _ يعاملهم بما يشبه معاملة المهتدين من الرفق بهم، والإحسان إليهم، ومقابلة إساءتهم بالعفو.
نقرأ في السيرة أن طائفة منهم هموا بقتله في طريق إيابه من غزوة تبوك، وخاب سعيهم بما أوحى الله إليه من أمرهم، فقال بعض المسلمين: ألا تأمر بهم يا رسول الله فنضرب أعناقهم، فكان جوابه أن قال: =أكره أن يقول الناس: أن محمداً قد وضع يده في أصحابه+.
__________
(1) ما منعني من الدخول إليه إذا كان في بيته ما استأذنت عليه.
(2) جمع شاب.(1/147)
3_ طائفة المخالفين المسالمين: وهؤلاء يلقاهم بالجميل، ويقسط إليهم، ولا يهضم لأحد منهم حقاً، يأخذ فيهم بأدب قوله _تعالى_: [لا يَنْهَاكُمْ اللَّهُ عَنْ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ] (الممتحنة:8).
ونقرأ في الصحيح: أن غلاماً يهودياً كان يخدم النبي " فمرض الغلام، فعاده رسول الله " ودعاه إلى الإسلام، فأجاب الدعوة، ومات مسلماً.
وحسن معاملته _ عليه الصلاة والسلام _ للمخالفين الذين دخلوا معه في عهده، أو رضوا بأن يعيشوا تحت راية الإسلام من أوضح الشواهد على سماحة الدين الحنيف وبنائه على رعاية قاعدتي الحرية وتوطيد السلام؛ فراية الإسلام صالحة لأن تخفق على رؤوس أمم مختلفة في عقائدها، متفاوتة على مرافق حياتها.
4_ طائفة المخالفين المحاربين: وهؤلاء يخرج لهم _ عليه الصلاة والسلام _ في مظهر الحزم والاحتراس، ويدفعهم بالتي هي أحكم وأعدل؛ فيرفق بهم إن كان هنا موضع للرفق، ويأخذ فيهم بسنة العزم إن طغى بهم الشر، فلم يكن الرفق ليزيدهم إلا تمرداً.
فإذا أذن _ صلوات الله عليه _ بقتل كعب بن الأشرف فلأن كعباً هذا كان شاعراً، وكان يهجو رسول الله، ويحرض عليه كفار قريش، ويفعل بعد هذا شيئاً وهو أشد على قلوب العرب من وقع السهام النافذة، وهو أنه كان يشبب بنساء المسلمين.
وقد احتمل منه النبي _عليه الصلاة والسلام_ هذا الأذى حيناً، ولما أبى كعب أن ينزع عن إثارة هذه الفتن أذن لأحد الأنصار في قتله؛ ليميط عن سبيل الدعوة إلى الله حية تسعى، ويدفع عن أعراض المسلمين شعراً مقذعاً.
قال سخيفٌ معروف في العراق يتزلف لمذهب النصرانية: =إن عيسى فدى العالم بنفسه، ومحمداً قاتل أعداءه حرصاً على حياته+.(1/148)
ومن ذا يجهل أن محمداً " قد أفاض على العالم حكمة وهداية وإصلاحاً، وما الحسام الذي يأمر بانتضائه إلا كمبضع طبيب ناصح يشرط به جسم العليل؛ لينزف دمه الفاسد حرصاً على صحته وسلامته.
ومن تقصى السيرة النبوية وجد فيها ما يصدق قول عائشة _رضي الله عنها_: =ما انتقم رسول الله " لنفسه إلا أن تنتهك حرمات الله فينتقم لله+.
فمحمد _ عليه الصلاة والسلام _ لم يقاتل الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون حرصاً على حياته، وإنما كان يقاتلهم حرصاً على حياة الفضيلة، وظهور الحق، وإقامة نظم المدنية المهذبة، ولكن الناشئين على اللهو واتباع الشهوات لا يفقهون.
شجاعته _ عليه الصلاة والسلام _(1) للشيخ محمد الخضر حسين
إن سيرة تُبْهر العيون سناءاً، وتُطْرِق لها القلوبُ مهابةً لا يبلغ اللسان من وصفها إلا مقدارَ ما يبلغه واصف الشمس وهو لا يعرف منها سوى أنها كوكب ينسخ طلوعه سواد الليل.
وإني أخص كلمتي بخصلة خطيرة هي من أول ما يتوقف عليه النجاح في الدعوة، وهي شجاعته _ عليه الصلاة والسلام _ فقد كان المثل الأعلى في رباطة الجأش، واستقبال الخطوب بجبين طلق، وعزم لا يلتوي.
ولاحت نجوم للثريا كأنها ... جبين رسول الله إذ شاهد الزحفا
كان " يتقدم في الحرب حتى يكون موقفه أقرب موقف من العدو، وإذا اتقدت جمرة الحرب واشتد لهبها آوى إليه الناس واحتموا بظله الشريف.
قال الإمام علي ÷: =إنا كنا إذا حمى البأس، واحمرت الحدق، اتقينا برسول الله "+.
وقال: =ولقد رأيتني يوم بدر ونحن نلوذ بالنبي " وهو أقربنا إلى العدو+.
__________
(1) مجلة الهداية الإسلامية الجزءان الحادي عشر والثاني عشر من المجلد الثالث الصادران في ربيع الثاني وجمادى الأولى 1350، وانظر محمد رسول الله وخاتم النبيين للشيخ محمد الخضر، إعداد علي الرضا الحسيني، 105_107.(1/149)
ومما قرأنا في غزوة أحد أن أبا سفيان جمع جيشاً من قريش وأحلافهم، وأقبل بهم إلى حرب رسول الله في المدينة، فاستشار النبي " أصحابَه: أيخرج إليهم، أم يمكث في المدينة؟
وكان رأيه أن يتركهم حتى ينفذوا إلى المدينة فيقاتلهم المسلمون في أفواه أَزِقَّتها، فبادر جماعة من أفاضل الصحابة، وطلبوا الخروج إلى العدو بإلحاح، فنهض " ودخل بيته، ولبس لامته، وخرج عليهم وقد انثنى عزم أولئك الذين كانوا قد ألحوا عليه في الخروج وقالوا له: إن أحببت أن تمكث في المدينة فافعل، فقال: =ما ينبغي لنبي إذا لبس لامته أن يضعها حتى يحكم الله بينه وبين عدوه+.
هذه الكلمة لا تصدر إلا من قلب ملؤه الشجاعة، وفيها شاهد على أن اختياره للمقام بالمدينة حتى ينفذ إليهم العدو، لم يَشُبْه خاطرُ التهيب من لقائهم، وإنما هو الرأي والمكيدة في الحرب.
=ما ينبغي لنبي إذا لبس لامته أن يضعها حتى يحكم الله بينه وبين عدوه+.
هذه الكلمة لا يقولها إلا من نهض ليقضي حياته في الجهاد، ووجد بين جنبيه شجاعة يصغر أمامها كلُّ عظيم، وكذلك كان المصطفى _ صلوات الله عليه _ يحتقر كلَّ ما يسميه الناس خطراً، ويثبت في وجه كلِّ ما تتزلزل له أقدام الأبطال رهباً، وهل يتوارى عن الموت أو يقطب عند لقائه من يتيقن أن موته إنما هو انتقال من حياة مخلوطة بالمتاعب والمكاره إلى حياة أصفى لذة، وأهنأ راحة، وأبقى نعيماً.
بُلي المسلمون في تلك الغزوة حتى ولوا المشركين أكتافهم.
ولكن رسول الله " ثبت بمكانه حتى انكفأت عليه كتائب المشركين، وهو في نفر قليل من أصحابه، فهشموا البيضة على رأسه، وجرحوا وجهه الكريم، وكسروا رَبَاعِيتَه، ولدينا مشاهد صدق على أنه كان يعظ الناس حين خفوا إلى الهزيمة وعظاً بليغاً، قال _تعالى_: [إِذْ تُصْعِدُونَ وَلا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ] (آل عمران:153).(1/150)
ولما تقطعت من حوله أسباب النصر الظاهرة، ولم يبق من سبب إلا سنة تأييد الله الخفية _ أخذ حصيات ورمى بها في وجوه المشركين؛ فأدبروا.
ومن أقرب الشواهد على أنه يأخذ بوسائل الحذر، ويلاقي الأخطار في سكينة ورباطة جأش _ أنه كان يوم هاجر، وآوى إلى غار ثور؛ احتراساً من أن يبصره عيون المشركين رأى الشيخَ الوقورَ أبا بكر الصديق وقد ساوره حزن، فَثَبَّتَ فؤاده، وقال له: [لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا] (التوبة:40).
والشأن في رئيس القوم الذي يأنسُ في عدوه قوة تفوق قوته أضعافاً مضاعفة _ أن يقف موقف الدفاع؛ لأن الغلبة إلى الدفاع أقرب منها إلى الهجوم، وقلما حدثته نفسه أن يهاجم قوماً هم أكثر منه عَدداً وأوفى عُدداً.
أما رسول الله " فقد بلغه أن الروم وقبائل من العرب يجمعون جموعهم؛ ليزحفوا على المدينة، فنادى بالتهيؤ لغزو الروم، وجدَّ في السير حتى انتهى إلى تبوك؛ فقذف الله في قلوب أولئك القوم رعباً؛ فأتاه رؤساؤهم، وطلبوه إلى الصلح، وأعطوه الجزية، ولما أَمِنَ مكرهم قفل إلى المدينة راجعاً.
أما إقدامه في الدعوة إلى الحق وهو ما يسمونه الشجاعة الأدبية فأوضح ما يعبر عنه أنه نشأ بين قوم غلاظ شداد، لا قانون يرهبهم، ولا محاكم تزجرهم؛ فقام يطعن في دينهم، ويذم آلهته، ويسفه أحلامهم، ويعيب كثيراً من عاداتهم، وطالما آذوه فاحتمل الأذى، وتوعدوه فما وهن لوعيدهم حتى كأن وعيدهم له حث وإغراء.
فحقيق على علماء الإسلام وزعمائه أن يقتدوا برسول الله " في أدب الشجاعة التي هي الإقدام في حكمة، فقد جرت سنة الله على أن الحق لا يمحق الباطل ، والإصلاح لا يدرأ الفساد، إلا أن يقيض الله لهما رجالاً يؤثرون الموت في جهاد على الحياة في غير جهاد.(1/151)
منقذ العالم من الظلمات(1) للعلامة الشيخ محمد الخضر حسين
كان العالم يتخبط في ظلمات بعضها فوق بعض: ظلمة من الجهل، ظلمة من دناسة الأخلاق، ظلمة من منكر الأعمال، فبعث الله المصطفى " ليخرج الناس من هذه الظلمات إلى نور يسعى بين أيديهم في الحياة الأولى، ويهديهم السبيل على السعادة في الحياة الأخرى.
طلع محمد _صلوات الله عليه_ بكتاب مُمَتَّع بالحكمة، مُقَوِّم للأخلاق، مصلح للأعمال، منظم لشؤون الحياة، تدبرته فئة قليلة، واتخذته قائدها المطاع؛ فكانت خير أمة جاهدت في الله فانتصرت، وغَلبت فرحمت، وحكمت فعدلت، وساست فأطلقت الحرية من عقالها، وفجرت المعارف ينابيع بعد نضوبها، واسألوا التاريخ؛ فإنها قد استودعته من مآثرها الغرّ ما بصر بضوئه الأعمى، وازدهر في الأرض ازدهار الكواكب في كبد السماء.
هذه حقائق لم أنحُ فيها نحو المبالغة؛ فإن المصطفى _ صلوات الله عليه _ قد قضى على عبادة الاوثان، والغلو في الخضوع لغير الواحد القهار، وقضى على الإلحاد وإنكار الإله، فأصبح المؤمنون أمماً بعد أن كانوا أفراداً.
وأنتم تعلمون أن الغلو في تعظيم غير الله رجس من عمل الشيطان، وأن الإلحاد داعية الفسوق والطغيان؛ فلدعوة محمد" الفضل الاكبر في رفع النفوس من حضيض الشرك إلى سماء التوحيد الخالص، ولها الفضل في تطهير النفوس من خبث الإلحاد الذي يشوه فطرتها، ويوفر أسباب شقوتها.
جاهد المصطفى " الجهل، وشرُّ الجهل عدم معرفة مبدع الكائنات بحق، وجاهد الأخلاق الرذيلة، فكرَّه للنفوس الجزعَ، والجبنَ، والبخلَ، والصغارَ، والكبارَ، والقسوةَ، والأثرةَ.
وعلمها الصبرَ، والشجاعةَ، والكرمَ، والعزّةَ، والتواضعَ، والرحمةَ، والإيثارَ.
__________
(1) مجلة الهداية الإسلامية الجزء الحادي عشر من المجلد الرابع الصادر في ربيع الثاني 1351، وانظر محمد رسول الله وخاتم النبيين للشيخ محمد الخضر حسين، إعداد علي الرضا الحسيني، ص108_109.(1/152)
علّمها الصبر فهان عليها كل عسير، وعلمها الشجاعة فحقر أمامها كل خطير، وعلمها الكرم فجادت في سبيل الخير بكل نفيس، وعلمها العزة فسمت إلى كل مقام مجيد، وعلمها التواضع فتألفت كل قلب سليم، وعلمها الرحمةَ والرحمةُ رباطُ التآزرِ والتعاونِ على تكاليف الحياة، وعلمها الإيثارَ والإيثارُ أقصى ما يبلغه الإنسان من مراتب الكمال.
رفع المصطفى " أعلام العلم، وهدى إلى مكارم الأخلاق، ثم علّم الإنسان كيف يعمل صالحاً، ويعيش آمناً، وهو الذي أوحى إليه بأصولٍ تجعل المدنية محكمة البناء، وآدابٍ تكسوها رونقاً وبهاءاً.
رجاحة عقله " وحكمة رأيه(1) للعلامة الشيخ محمد الخضر حسين
تقلبوا في أرقى البلاد علماً وحضارة, وابحثوا عن أسلم الأميين بها فطرة، وأذكاهم جناناً، وأنفذهم بصيرة، وأطولهم تجارب, ثم اجلسوا إلى هذا الأمي ليالي وأياماً تزنون أقوله بقسطاس الحكمة, وتعرضون آراءه على قانون المنطق الصحيح, ثم انظروا إلى ما سمعتموه من قول صائب، ورأي مقبول, وضعوه بجانب ما تسمعون من أقوال لاغية، وآراء زائفة, لاشك إن فعلتم ذلك عرفتم أنَّ لنبوغ الأميين مجالاً ضيقاً وحداً غير بعيد.
بل انظروا في نوابغ الرجال من أهل العلم, فإنكم تجدون الرجل منهم قد وهبه الله _تعالى_ حظاً عظيماً من رجاحة العقل، وحكمة الرأي, ففاق أقرانه وصار في عصره العَلَمَ المشارَ إليه بالبنان, حتى إذا انقرض ذلك العصر, وأقبل على الناس عصر آخر, ظهر في هذا العصر نابغة يضاهي نابغة العصر السابق في تصرفه الفكري, وأتى بمثل ما أتى به من ثمر علمي.
__________
(1) مجلة الهداية الإسلامية الجزء التاسع من المجلد السابع الصادر في ربيع الأول 1354، وانظر محمد رسول الله وخاتم النبيين، إعداد علي الرضا الحسيني، ص118_123.(1/153)
أما محمد رسول الله " فإنه كان أميّاً لا يقرأ ولا يكتب, وكان مع هذه الأمية، والنشأة البعيدة من مواطن العلوم، ومجالس العلماء ينظر إلى الحقائق الغامضة؛ فيصيب كبدها, وينطق فإذا الحكمة كاشفة النقاب، والبلاغة آخذة بالألباب.
وحرامٌ على العصور أن تخرج للناس رجلاً يدانيه في عظمته, أو يقاربه في صدق لهجته, وروعة حكمته, لا تفعل العصور ذلك وإن بلغت في الحضارة أشدها، وأشرقت فيها العلوم على اختلاف موضوعاتها وتبيان غاياتها.
فكمال عقل المصطفى " من النوع الذي يخص الله _تعالى_ به بعض المصطفين من عباده؛ ليُعِدَّهم بذلك إلى أشرف مقام, هو مقام النبوة والرسالة.
وإذا كان ما ألقي على عاتق هذا الرسول العظيم هي الرسالة العامة الخالدة _ فمن المعقول أن يهب الله _تعالى_ له من فضل العقل، وسمو الحكمة ما يناسب عمومَ رسالته، وبقاءَها إلى قيام الساعة.
وليس ببعيد ما قاله بعض الفقهاء: إن النبي " كان يجتهد في أحكام بعض الوقائع, أي أنه يقتبسها من أصول الشريعة بروحه المطوي على علم بمقاصد التشريع؛ فإن الأحكام التي يستنبطها عَقْلٌ خلقه الله _تعالى_ في صفاء، وقوة لائقين بمقام رسوله الكريم جدير بأن تدخل في سلك الأحكام الثابتة من طريق الوحي الصحيح.
فإن حدثناكم عن كمالِ عقلِ علاّمةٍ نحرير, أو سياسي كبير، أو فاتح خطير فإنما نحدثكم عن عقل أتى الزمان بمثله, وفي وسعه أن يأتي بأمثاله, وليس بينك وبين أن تدرك سبب كبر هذا العقل إلا أن تنظر إلى البيئة التي شبَّ فيها، والمعارف التي تلقنها.
وإذا فرضت أن عقلين من هذا النوع قد تماثلا بحسب الفطرة كان عقل المتأخر أكبر من عقل المتقدم, لأن المتأخر يجد من ثمرات العقل السابق ما يساعد على التفكير، وسرعة الإنتاج, كما انتفع أرسطو من آراء أفلاطون؛ فكان عقله أكثر إنتاجاً من عقل أفلاطون.(1/154)
أما إذا حدثناكم عن كمال عقل محمد " فلا نحدثكم عن عقل يرجع سبب عظمته إلى بيئة أو دراسة, إنما نحدثكم عن عقل أودعه _تعالى_ في أكمل خلقه؛ ليفهم به مقاصد الوحي؛ فيقوم ببيانها, ويدرك أمراض النفوس؛ فيصف أدواءها, ويتدبر أمور الجماعات فيحسن سياستها.
اقرؤوا سيرته في تلك السنين المعدودة التي قضاها _عليه السلام_ في المدينة المنورة, وانظروا ماذا كان يقوم عليه من جلائل الأعمال, ويدعوا إليه من وجوه الإصلاح, ويبينه من حلال وحرام, يؤم الناس في الصلوات, ويقود الجيوش في الغزوات, ويفتي السائلين في العبادات والمعاملات والجنايات, ويجلس إلى الأفراد والجماعات: يذكر الغافلين, ويرشد الضالين, ويجادل المعاندين, ويبشر المتقين, ويفصل بين المتخاصمين, وينظر في شؤون منزله, ويسوس آل بيته وخَدَمَه في رفق وعدل.
ولا شك أن هذه الأعمال المختلفة النواحي كما رأيتم, لا يكفي في تدبيرها وإقامتها عقل من هذه العقول التي يحدثنا عنها التاريخ, ولو صدقت مبالغاته في إطرائها، وإعلاء شأنها.
قال القاضي عياض في كتاب (الشفاء): =لا مرية أنه " كان أعقل الناس وأذكاهم, ومن تأمل تدبيره أمورَ بواطنِ الخلق وظواهرهم، وسياسة العامة والخاصة مع عجيب شمائله، وبديع سيره, فضلاً عما أفاضه من العلم, وقرره من الشرع, دون تعلم سبق, ولا ممارسة تقدمت _ لم يَمْتَرِ في رجحان عقله، وثقوب فهمه لأول بديهته+.
فظهور هذا العقل الكبير في أمي لا يقرأ ولا يكتب من أظهر الدلائل على أن هذا الأمي صادق في دعوى أنه رسول رب العالمين؛ فنحن إذا خطبنا في كمال عقل المصطفى ", إنما نصف آية تبعث في قلب الجاحد إيماناً, وتزيد قلب المؤمن اطمئناناً.
ولعلك تذكر قوله _تعالى_:[وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ](آل عمران:159), فيختلج في صدرك أن أمره باستشارة أصحابه يقتضي أن آراءهم قد تكون أصوب من رأيه.(1/155)
والجواب أنه كان " يستشير أصحابه في أمر الحروب ونحوها؛ ليقيم قاعدة الشورى بين الناس, وبالشورى تسعد الأمة، ويرتفع شأن الدولة, قال الحسن ÷: =قد علم الله أنه ما به إليهم من حاجة ولكن أراد أن يستنَّ به من بعده+.
وفي استشارته " لأصحابه تَطْيِبٌ لنفوسهم، وزيادة تأليف لقلوبهم؛ إذ كان العرب من أشد الناس كراهة للاستبداد, ونفوراً من الرئيس الذي لا يجعل لهم في تصريف الأمور العامة نصيباً من الرأي.
وفي استشارته " أصحابَه إشعارٌ لهم بعلو مكانتهم عنده؛ إذ يدلّهم على أنه يراهم مَطْلع الآراء السديدة، ومواطن الإخلاصِ, والإخلاصُ رأس كل فضيلة, وأي منزلة أرفع من منزلة قوم يعرض عليهم " الأمر يستطلع آراءهم فيه, وهو الغني عنهم بما يأتيه من وحي السماء, وبما رزقه الله _تعالى_ من سمو الفكر، وصفاء البصيرة.
وقد نطق القرآن المجيد بوقائع أشار إلى النبي " جرى فيها على خلاف ما هو الأصلح والأولى.
منها: أخذه الفداء عن أسرى بدر, وذلك ما عاتبه الله عليه فقال: [مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ] (الأنفال:67).
والمفهوم من الآية أن النبي الذي بُعث؛ ليطهر الأرض من أرجاس الشرك والفسوق؛ فقام في وجهه أعداءٌ ألدَّاءُ يبسطون إليه وإلى أنصاره أيديهم بالأذى, ويصدون الناس عما جاء به من الهدى, ويذهبون في الكيد له إلى أبعد مدى _ ينبغي له أن يأخذ في معاملة هؤلاء الأعداء المحاربين بالشدة حتى يكسر شوكتهم، وتعظم مهابته في قلوبهم, والمالُ وإن كان من وسائل القوة والغلبة ليست له في جانب المصلحة التي أشارت إليها الآية الكريمة من قيمته.(1/156)
ومنها: إذنه لبعض المنافقين حين استأذنوه في التخلف عن غزوة تبوك، وذلك ما عاتبه الله _تعالى_ في قوله: [عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ] (التوبة:43).
والواقع أن خروج هؤلاء المنافقين للقتال ليس فيه مصلحة للدين, بل أشار القرآن إلى ما في خروجهم إلى الغزو من ضرر فقال _تعالى_: [لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً وَلأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمْ الْفِتْنَةَ] (التوبة:47).
فلم يعاتب الله نبيه _عليه السلام_ من جهة أنه أذن في التخلف لقوم شأنهم أن يبلوا في الجهاد بلاء حسناً, بل العتاب من جهة أنه أذن لهم في التخلف، ولم يؤخر الأذن فيه إلا أن يفتضح أمرهم, ويظهر على رؤوس الأشهاد كذبهم, وأنه لا عذر يستدعي تخلفهم, حتى إذا قعدوا عن الغزو قعدوا متألمين من هذه الفضيحة, متخوفين من سوء عاقبتها.
واقعتان أو ثلاث وقائع أو أربع أو خمس يسبق فيها رأي رسول الله " إلى خلاف الأولى, فيرشده علام الغيوب إلى ما هو الأولى _ لا تقف في سبيل ما وصفناه وأقمنا عليه الحجة من أَنَّ كِبَرَ عقلِ محمد _صلوات الله عليه_ آية من آيات النبوة.
ولعلك تذكر أن طائفة من المشركين بلغت بهم الرَّقاعة أنْ وصفوا صاحب هذا العقل العظيم بالجنون, كما حكى الله عنهم ذلك في قوله _تعالى_: [يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ] (الحجر:6)
ويقدح في خاطرك أن عقلاً تهبط منه الحكم البالغة, وتسطع منه الحجج الدامغة لا يَصِفُ صاحبَه بالمجنون إلا مَنْ فقد عقله, وصار يرمي بالألفاظ في غير معنى, فتقول: =كيف يحكي القرآن كلام من فقدوا عقولهم, وأطلقوا في الهذيان ألسنتهم؟+.(1/157)
والجواب: أن القوم يعلمون أنه ينطق بالحكمة, ويجادل بالحجة, وإنما رموه بالجنون؛ تناهياً في العناد, وقصداً للإساءة بالقول, وحكى الله عنهم ذلك الزعم البين البطلان؛ ليرينا مبلغهم من العناد، وسقوطهم أمام الحجة، وتخبطهم في تطلب وجه يصرفون به الناس عن إجابة دعوته.
وأي تخبط بعد تخبط من يأتي إلى أرجح البشر عقلاً, وأسناهم خلقاً, وأحسنهم سمتاً, وأجلّهم وقاراً _ فيقول عنه: إنه مجنون؟!
وقد انحدرت من سماء ذلك العقل العظيم حِكَمٌ أنفسُ من الدرر, وأنفع من الغيث, وفي وسعي أن أسوق إليكم منها مثلاً, وأنبّه على ما ينطوي تحتها من المعاني السامية ولكن ضيق الوقت يدعوني إلى أن أقف عند هذا الحد.
قضاء البعثة المحمدية على المزاعم الباطلة (1)
للعلامة الشيخ محمد الخضر حسين
بعث الرسول الأعظم _ صلوات الله عليه _ بالدعوة إلى الإصلاح الذي تصل به الأفراد، والأمم إلى الحياة الطيبة في الدنيا، والسعادة العظمى في الأخرى، ونواحي هذا الإصلاح ترجع إلى العقائد، والأخلاق، والعبادات المقربة إلى الله _ جل جلاله _ والمعاملات الجارية بين الناس.
وهناك ناحية أخرى هي: تنقية النفوس من المزاعم الباطلة، والتعلق بالعادات المستهجنة _ قد اتجهت إليها دعوة الرسول.
وهذه الناحية هي التي نقصد أن نلقي فيها كلمتنا الموجزة.
بعث رسول الله " فوجد العرب في ظلمات من الجهالة، ومن هذه الظلمات ظلمة التخيلات الزرية، والعادات الممقوتة؛ فأقبل ينبه على بطلان هذه التخيلات، وقَبَّح ما ابتني عليها من العادات، حتى نبذها المسلمون بحق، وبمثل هذا كانوا خير أمةٍ أخرجت للناس.
__________
(1) مجلة الهداية الإسلامية الجزء العاشر من المجلد العاشر الصادر في ربيع الثاني 1357_1938، وانظر محمد رسول الله وخاتم النبيين للشيخ محمد الخضر، إعداد علي الرضا الحسيني، ص157_162.(1/158)
وبسط الحديث عن هذه المزاعم، والعادات يستدعي مقاماً أوسع من هذا المقام؛ فنكتفي بأن نسوق إلى حضراتكم طائفةً منها على سبيل التمثيل، وندع استيفاء البحث عنها إلى فرصةٍ أخرى.
وإذا تحدثت في هذه الكلمة عن العرب فلأنهم أول أمةٍ تلقت هذه الدعوة الإصلاحية الشاملة، ووقعت منها موقع الدواء الناجع من العلل المزمنة.
ومن حديثي عن العرب يُعْرَفُ أثر دعوته _ عليه الصلاة والسلام _ في تخليص سائر البشر من التخيلات الضارة، والسمو بها إلى المنزلة العليا في البحث والتفكير؛ فإن الأمم غير العربية لم تكن في تعلقها بالأوهام، وانحطاطها في العادات بأقل، ولا أحقر من الأمة العربية قبل الإسلام، كما أنها كانت تضاهيها في بطلان عقائدها، واعوجاج سيرتها.
ولعلك لا تجد زعماً باطلاً في العرب إلا وجدته بنفسه، أو وجدت ما يضاهيه في غير العرب، وإذا حط الشرك، والاعتقاد بإلهية المخلوق رحاله في قوم فهنالك ترى البصائر في ظلمة، وهنالك يَبِيْضُ التخيل ويُفَرِّخ، وهنالك تسمع، وترى من الأباطيل، والخرافات ما يدلك على أن أشخاصاً، أو جماعات يعدون في الناس وهم لا يشبهون الناس إلا بأن أصواتهم تشتمل على حروفٍ متمايزة.
كان العرب يتشاءمون بكثيرٍ من الأشياء: نحو الغراب والبومة، أو مرور الطير من ناحية الشمال، وقد نهى رسول الله "عن التشاؤم بإطلاق، فقال: =لا طيرة+، ونبه على أن وجوه الخير والشر إنما تعرف من طريق الشرع، أو العقل.
ومن سوء عواقب التشاؤم بهذه المخلوقات أنها قد تصد الرجل عن وجهةٍ لو مضى فيها لنال خيراً كثيراً، أو قليلاً.(1/159)
ومن المحزن أن ينهى رسول الله " عن التشاؤم، ويزيحه عن طريق العاملين المجدين، ويضع عقيدة التوكل على الخالق مكانه، ثم لا يلبث وباؤه الخبيث أن يعود، ويتفشى في نفوس كثيرٍ من جماعات المسلمين؛ فهذا يتشاءم بمن يعوده وهو مريض في يوم الأربعاء، وذاك يتشاءم بتناول سكين، أو مقراض من يد صديق له، بل لا يزال كثير من الناس يتشاءمون بما كان الجاهلية يتشاءمون به من نحو: رؤية البوم، والغرابِ.
والبصائرُ المشرقةُ بنور الحكمة لا يحوم عليها التطير في حال.
وكان العرب في جاهليتهم يستقسمون بالأزلام؛ ذلك أنهم كانوا يتخذون ثلاثة أقداح يكتبون على واحدٍ منها (افعل)، وعلى الثاني (لا تفعل) ويتركون الثالث غفلاً، فإذا أراد أحدهم أمراً يهمه من نحو: سفرٍ، أو نكاحٍ، أو تجارة، أجال هذه الأقداح، فإن خرج له قدح الأمر فَعَل، وإن خرج له قدح النهي ترك، وإن خرج له القدح غفلاً أجال الأقداح مرة ثانية.
ومن أثر هذا التخيل الفاسد أن الرجل قد يترك العمل، وفيه خيرٌ كثير، أو يقدم على عملٍ وفيه شرٌ عظيم، وكان هذا التخيل مما تناولته الدعوة المحمدية، وجاء النهي عنه في القرآن المجيد، ووضعت السنة الغراء مكانه الاستخارة الشرعية، والاستشارة.
وإبطال الشريعة للأزلام يجري حكمه في كل ما يتخذ وسيلةً للاطلاع على عواقب الأمور من غير طرقه الشرعية، أو العلمية، مثل: الاستخارة بالمصحف، أو السبحة ونحوها، فكل هذا ما عدا الاستخارة الشرعية بدعة لا يجوز التعلق بها.
وكان للعرب غلو في الاعتقاد بتصرف الجن في نفع الناس، وضرهم، وتعرضهم في الفلوات لمن يمر بها، ومن هنا جاء اسم الغول والسعلاة، وذهب بهم هذا الغلو إلى مزاعم باطلة، وعادات منبوذة كزعمهم في بعض الحيوان أنها نوع من الجن، أو من مراكب الجن، مثل: القنفذ، والأرنب، والظبي، والنعام، وزعموا أن الجن قالوا في أشعارهم:
وكل المطايا قد ركبن فلم نجد ... ألذ وأشهى من ركوب الأرانب(1/160)
وللعرب في الجاهلية رقية يعالجون بها من اعتقدوا أن به مساً من الجن، تسمى: (النشرة) وقد سُئل عنها النبي " فقال: =هي من عمل الشيطان+.
وكذلك ترى القرآن والسنة يحاربان إسراف العرب في الاعتقاد بالجن، وينبهان على ما نشأ عن هذا الإسراف من المزاعم الباطلة، كما قال _تعالى_ في نفي أن يكون الجن يعلمون الغيب: [فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتْ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ] (سبأ: 14).
وقال " في إبطال ما يتخيلونه من الغول: =لا صفر ولا غول+.
ومما يؤسف له أشد الأسف أن تعود الجماعات غير المهذبة إلى الإكثار من الحديث عن تصرفات الجن، ويتخذوا لمعالجتها أمثال ما كان في عهد الجاهلية، كهذا الصنيع الذي يسمونه: (الزَّار).
وما كنا لنجد سلفنا الذين تهذبت نفوسهم ببعثة الرسول الأكرم _ صلوات الله عليه _ ما نجده في أزمنةٍ متأخرة من المزاعم المتعلقة بالجن، كزعم اتخاذ زوجات منهم، أو رواية أحاديث نبوية عن بعضهم.
ومن مزاعمهم الفاسدة أنهم كانوا إذا أجدبوا، وحبس عنهم المطر _ عمدوا إلى نوعين من الشجر يقال لهما: السلع، والعشر، فحزموهما، وعقدوهما في أذناب البقر، وأضرموا فيها النار، وأصعدوها في جبلٍ وعرٍ يستشفعون بها، وإلى هذا يشير الشاعر بقوله:
أجاعل أنت بيقوراً مسلعة ... ذريعة لك بين الله والمطر
وقد أبطلت الدعوة المحمدية هذه العادة المنكرة، ووضعت مكانها صلاة الاستسقاء التي هي عبادةٌ لله خالصة.
ومن البلاء أن ترى أقواماً من العامة في بعض البلاد يتخذون للاستسقاء وسائل تشبه ما يفعله الجاهلية كالخروج ببعض الأناشيد، وآلات الطرب، ونحو ذلك من البدع التي لم يضعها الشارع الحكيم وسائل للاستسقاء.(1/161)
ولنسق إلى حضراتكم مثلاً آخر من المزاعم التي حاربها الرسول _ عليه الصلاة والسلام _ هو: اعتقادهم بنفع خرزات، أو أحجار، أو أعضاء بعض الحيوان، فكانوا يعلقونها على أنفسهم؛ لأغراضٍ مختلفة، مثل: اجتلاب المحبة، أو المنع من الحمل، أو السلو عن الحب، أو الحفظ من مس الجان, وقد نهى رسول الله " عن تعليق ما يماثل هذا من التمائم فقال: =من يعلق تميمة فلا أتم الله له+.
وامتنع _ عليه الصلاة والسلام _ من مبايعة شخص كانت عليه تميمة، فأدخل الرجل يده فقطعها، فبايعه عند ذلك النبي " وقال: =من علق تميمة فقد أشرك+، وقال: =من علق شيئاً وكل إليه+.
وهذه الأحاديث وإن وردت في تمائم الجاهلية، فإن السلف الصالح لم يعرفوا بتعليق التمائم، وإنما كانوا يستشفون بالقرآن الكريم على وجه الرقية كما ثبت في السنة.
وإذا نظرتم إلى هذه المزاعم، والعادات التي أبطلتها الدعوة المحمدية، وجدتم بعضها أثراً من آثار عقيدة الشرك، وبعضها إنما هو أثر الجهل، وضعف الفكر. فمن مزاعمهم التي هي وليدة الشرك: أخذ الغلام لسنه إذا سقطت، ورميها في وجه الشمس عندما تطلع، وقوله: يا شمس أبدلينا سناً أحسن منها, وهذا أثر من آثار الاعتقاد بإلهية الشمس.
ومن المحزن أنا نرى هذه العادة الوثنية بعد أن طردها التوحيد، ونفاها من الأرض ترجع وتنتشر بين الجماعات الجاهلة ككثير من مزاعم الجاهلية وعاداتهم.
ومن المزاعم الناشئة عن الجهل، وضعف الفكر أن الواحد منهم إذا أراد السفر، عقد خيطاً بشجرة على اعتقاد أنه متى أحدثت امرأته بعده أمراً منكراً، انحل ذلك الخيط, وفي هذا الزعم الساقط ضررٌ كبيرٌ على صلة الزوجية، وعلى عرض المرأة؛ فإن الخيوط التي تعقد في الأشجار معرضة للحل، أو الانحلال في كل وقت.(1/162)
فالحق أن من وقف على هذه الأوهام، والخرافات التي كان العرب، وغير العرب منغمسين في أرجاسها، ازداد علماً بعظمة رسول الله " وفضل بعثته في إصلاح العقول، وتهيئة الأفكار؛ للبحث في العلوم، والسير بها إلى غايات سامية.
البلاغة النبوية (1)
يقصد كل خطيب أو شاعر ناحية من نواحي كمال الرسول الأعظم _ صلوات الله عليه _ فيصفها، ويذكر الناس بها؛ ليزدادوا إيماناً بأنه _عليه الصلاة والسلام_ قد بلغ الغاية التي لا تدرك إلا بعناية إلهية خاصة، وليتخذها طلاب السيادة في الدنيا، والسعادة في الآخرة المثل الأعلى يتأسون به، ويسيرون في ضوئه.
ومن أعظم ما يبهر العقول من خصال كماله " خصلة فصاحته وبلاغته.
لا يدعو رسول الله إلا إلى حق، ولا ينطق إلا بحكمة، وأعطي مع هذه العصمة أسمى ما يمكن أن يصل إليه البشر من فصاحة وحسن بيان؛ فإن الحكمة التي تلقى في أسلوب بليغ تنفذ إلى القلوب قبل أن تنفذ إليها الحكمة التي تلقى في عبارة غير بليغة، وإن الحق ليعتمد على الحجة، ولكن حسن البيان يسعد الحجة في جعل الحقِ أقربَ إلى النفوس، وأنفذ إلى القلوب.
وقد طلب موسى _ عليه السلام _ من الله _ تعالى _ أن يرسل معه أخاه هارون؛ ليشد أزره بفصاحة لسانه، وحسن بيانه، فقال: وأرسل معي أخي هارون [هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَاناً] (القصص: 34).
لفصاحة رسول الله وحسن بيانه بعد الفيض الإلهي أسباب، منها أنه قرشي، وقريش أفصح العرب لساناً، وأبرعها بياناً، وإنه نشأ في بني سعد حيث استرضع فيهم، وبنو سعد من أرقى قبائل العرب فصاحة.
وبذلك جمع الرسول الأكرم بين جزالة كلام البادية، ورونق كلام الحاضرة.
__________
(1) مجلة الهداية الإسلامية، الجزء العاشر من المجلد الحادي عشر الصادر في ربيع الثاني سنة 1358 _ مايو 1939، وانظر محمد رسول الله وخاتم النبيين للشيخ محمد الخضر حسين، إعداد علي الرضا الحسيني، ص163_168.(1/163)
ولنزول القرآن الكريم عليه _ وهو البالغ مرتبة الإعجاز _ أثر كبير في سمو فصاحته.
رأى رسول الله " سحابة في يوم دجن، فقال لمن كان في الحضرة: =كيف ترون بواسقها؟+(1).
قالوا: ما أحسنها، وأشد تراكمها.
قال: =كيف ترون قواعدها؟+(2).
قالوا: ما أحسنها، وأشد تمكنها.
قال: =كيف ترون رحاها؟+(3).
قالوا: ما أحسنها، وأشد استدارتها.
قال: =كيف ترون جونها؟+(4).
قالوا: ما أحسنه، وأشد سواده.
قال: =كيف ترون بريقها: أخفياً أو ميضاً، أم يشق شقاً؟+.
قالوا: بل يشق شقاً.
فقال: =الحيا+(5).
فقال رجل: يا رسول الله ما أفصحك! ما رأينا الذي هو أعرب منك.
قال: =حق لي؛ فإنما نزل القرآن عليَّ بلسان عربي مبين+.
ولسعة العلم بلهجات العرب دخل كثير في إحراز المرتبة العليا في مرتبة الفصاحة، وقد أَطْلَع اللهُ الرسول الأكمل على لهجات العرب؛ فكنت موضوعة أمامه يتناول منها ما يشاء.
ومن الوارد في كتب الحديث والسيرة بروايات ثابتة متعددة أنه كان يخاطب الوفود، ويراسل القبائل بلهجاتهم، حتى كان بعض الصحابة يسألونه في غير موطن عن شرح كلامه، وتفسير قوله(6).
وقد جمع الرواة من هذا الباب شواهد كثيرة.
ومن ينظر فيما روي عنه من الخطب، والرسائل، والمحاورات، والفتاوى، وما يلقيه في أثنائها من الحكم، وما يورده فيها من الأمثال، والاستعارات _ يرى في ذلك من وجوه البلاغة، وحسن البيان ما لم يره، ولن يره قد تَأَتَّى لأحد البلغاء من غيره.
ووصف الجاحظ فصاحة النبي " وبلاغته في فصل ممتع، ثم قال: =ولعل بعض من يتسع في العلم، ولم يعرف مقادير الكلام يظن أننا تكلفنا له من الامتداح والتشريف، ومن التزيين والتجويد ما ليس عنده، ولا يبلغه قدره.
__________
(1) بواسقها: ما استطال من فروعها.
(2) ما اعترض من السحاب وسفل.
(3) رحاها: وسطها.
(4) الجون: الأسود.
(5) المطر.
(6) الشفاء للقاضي عياض.(1/164)
كلا والذي حَرَّم التزيُّد على العلماء، وقبح التكلف عند الحكماء، وبهرج الكذابين عند الفقهاء _ لا يظن هذا إلا من ضل سعيه، وإنه لقسم لو تعلمون عظيم+.
والحق أن فصاحة رسول الله " وروعة بيانه لا يدركها إلا من تردد بنظره على الحديث الشريف، ودخل في كل باب من أبوابه؛ إذ يرى الكلام الذي يصدر عفواً دون أن يكون للتصنع فيه أثر، ويمر فيما يقرأ على جمل تهتز لروعتها القلوب.
ومن لم يسعده الحال أن يطالع كتب الحديث فلينظر في كتب غريب الحديث؛ فإنه يطالع في أقرب وقت على جانب عظيم من الألفاظ النبوية البالغة منتهى الفصاحة، وحكمة الأسلوب.
وفي الناس من تسمو حكمته في بعض نواحي الحياة، وتقتصر(1) في بعض، أما رسول الله " فيلقي الحكمة في النواحي المختلفة من شؤون الحياة الفردية أو الاجتماعية، فتتردد في أعلى طبقة من سمو اللفظ، وحسن التصوير؛ فهو الذي يتكلم في الحقوق مثلاً، فيقول: =ولا يجني على المرء إلا يده+.
ويتكلم في سياسة الحرب، فيقول: =الحرب خدعة+.
ويحذر من الخروج على جماعة المسلمين، فيقول: =من خالف الجماعة، فقد خلع ربقة الإيمان من عنقه+.
ومن الظلم، فيقول: =الظلم ظلمات يوم القيامة+.
ويشير إلى شأن المؤمن أن يكون نبيهاً حازماً، فيقول: =لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين+.
لبلاغته " مظاهر شتى، ومن أوضح مظاهرها الأمثال التي يضربها لإخراج المعاني في صورة المحسوسات الخفية في صورة المحسوسات الجلية.
انظروا إلى قوله في موقع بعثته من بعثات الأنبياء قبله: =إنما مثلي ومثل الأنبياء قبلي رجل بنى داراً فأكملها، وأحسنها إلا موضع لبنة، فجعل الناس يدخلونها، ويتعجبون منها، ويقولون: لولا موضع تلك اللبنة؛ فكنت أنا موضع تلك اللبنة+.
وإلى قوله في محو الصلاة للآثام: =أرأيتم لو أن نهراً بباب أحدكم، يغتسل منه خمس مرات هل يبقى من درنه شيء+.
__________
(1) هكذا في الأصل، ولعل الصواب: تقصر. (م)(1/165)
وإلى قوله فيما ينبغي أن يكون عليه المسلمون من الإخاء والتراحم: =مثل المؤمنين في توادهم، وتراحمهم، وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى عضو منه تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى+.
وهكذا نرى في تشابيهه، واستعاراته سهولةَ مأخذٍ، وبعداً عن التصنع، وإبداعاً في إعطاء المعنى صورة تجعله أوضح ما تكون، أو تزيد النفوس ترغيباً فيه، أو تنفيراً منه؛ فانظروا إلى قوله يصف الشريعة الغراء: =قد تركتم على البيضاء، ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك+.
وفي الناس من إذا خطب في الجمهور، رأيته في درجة عالية من حسن البيان؛ فإن عرض له حديث مع بعض الأفراد، أو حديث في معان قريبة التناول رأيته قد انحط إلى درجة دون الدرجة الأولى.
أما حديث رسول الله " مع الإفراد في المعاني السهلة الفهم فإنه لا ينزل عن مرتبة بلاغته العليا.
يقول " في بعض خطبه: =من كان همه الآخرة جمع الله شمله، وأتته الدنيا وهي راغمة، ومن كان همه الدنيا فرق الله أمره، وجعل فقره بين عينيه، ولم يأته من الدنيا إلا ما كتب له+.
وهذا طرز فصاحته في المعاني التي تجري على الألسنة كثيراً، كقوله في الاستعداد للسفر: =إني على جناح سفر+.
وقوله في معنى الموت على الفراش: =من مات حتف أنفه(1)في سبيل الله فهو شهيد+.
وهذه الكلمة من الكلمات التي لم تعرف في حديث قبل حديث رسول الله(2).
وقد عقد ابن دريد في كتاب المجتبى باباً للألفاظ التي سمعت من النبي " ولم تسمع من أحد قبله.
__________
(1) أي مات على فراشه من غير قتل، ولا غرق، ولا حرق.
(2) البيت المعروف:
وما مات منا سيد في فراشه
ولا طل منا حيث كان قتيل
وقد روي:
وما مات منا سيد حتف أنفه
وإنما تصح هذه الرواية إذا قلنا: إن القصيدة لعبدالملك بن عبدالرحمن الحارثي وهو شاعر إسلامي لا للسموأل الذي هو شاعر جاهلي.(1/166)
وبالنظر في أحاديثه _ عليه الصلاة والسلام _ تجده ينحو في كلامه، وخطه، ومراسلاته نحو الإيجاز؛ فهو الغالب في أقواله، وربما خطب فأطنب.
قال أبو سعيد الخدري: خطب النبي " بعد العصر خطبة قال فيها: =ألا إن الدنيا خضرة حلوة، ألا وإن الله مستخلفكم فيها، فناظر كيف تعملون+.
قال: ولم يزل يخطب حتى لم يبق من الشمس إلا حمرة على أطراف السعف(1).
ومن متممات الفصاحة أن لا يعجل بالكلام، بل يلقي الكلمات مفصلة حتى تقع في الذهن كلها كأنها عقد جيد تنسيقه(2).
وكان " يلقي الكلام مفصلاً، قالت عائشة _ رضي الله عنها _: =ما كان رسول الله " يسرد سردكم هذا، ولكن كان إذا تكلم بكلام بَيَّنه؛ فيحفظه من يجلس إليه+.
وقالت أم معبد تصف حديث رسول الله: =حلو المنطق، كأن منطقه خرزات نُظِمْنَ+.
سمت بلاغة رسول الله " إلى الذروة، ولكنها لم تبلغ حد الإعجاز الذي هو خاص بالقرآن المجيد.
والفرق بين بلاغة الحديث وبلاغة القرآن لا يخفى على ذوي الفطر السليمة، لا سيما الذين دربوا فنون البلاغة، وقلبوا أنظارهم في أساليبها المختلفة، وعرفوا كيف يضعون كل كلام بليغ في مرتبته.
وهذا التفاوت الواضح بين القرآن والحديث من أصدق الشواهد على أن القرآن الكريم كتاب نزل من السماء، لا أنه من صنع النبي " كما يزعم من يجحدون بآيات الله.
وقد أجاز كثير من المُحَدِّثين رواية الحديث بالمعنى، ولو التزم جميع الرواة نقل الأحاديث باللفظ كما نطق بها الرسول " لعرفنا من فصاحته، وبراعة بيانه أكثر مما عرفنا.
__________
(1) السعف: جمع سَعَفة (بفتحتين) وهو غصون النخل.
(2) لعل في الكلام سقطاً وهو: عِقْدُ جِيْدٍ أحسن ...(1/167)
وهذه الخصلة من خصال كماله " وهي الفصاحة، وحسن البيان تدخل فيما يطلب الاقتداء به فيها؛ فإن دراسة علوم البلاغة، ومطالعة منشآت البلغاء، والتمرين على الخطابة والتحري _ كل ذلك مما ينهض بالناشئين إلى أن يكونوا فصحاء بلغاء؛ حتى إذا تصدوا لبيان حق، أو دعوة إلى خير، استطاعوا أن يسترعوا الأسماع، ويأخذوا بالقلوب.
من آداب خطب النبي _ عليه الصلاة والسلام _(1)
للدعوة إلى الإصلاح طرق، ومن أقرب هذه الطرق نجاحاً، وأبلغها أثراً الخطابة؛ ولهذا شرعت في يوم الجمعة من كل أسبوع، وفي يومي عيد الفطر، وعيد الأضحى من كل سنة، بل في كل وقت يقتضي الحال فيه تذكير الناس بحكمة، أو أمرهم بمعروف، أو نهيهم عن منكر.
وكان النبي _ عليه الصلاة والسلام _ ينهض للخطابة عند كل أمر هام، وكتبُ الحديثِ والسيرة عامرةٌ بأنباء وقائعَ يقوم فيها خطيباً؛ فيأمر، أو ينهى، أو يزيح أوهاماً عالقة ببعض الأذهان.
ولقد كانت خطبه _ عليه الصلاة والسلام _ مُثلاً عليا، يحق على كل داعٍ إلى الإصلاح أن يقتدي بها، ويقتبس من آدابها، ويسوس النفوس بمثل أساليبها.
يحرص _ عليه الصلاة والسلام _ أن تطرق مواعظه آذان المستمعين متمايزة الحروف، مفصلة الكلمات؛ فكان يلقي الخطبة قائماً رافعاً بها صوته، وإنما يخطب على مكان مرتفع، ولذلك اتخذ المنبر في مسجده بالمدينة.
__________
(1) مجلة الهداية الإسلامية الجزءان الحادي عشر والثاني عشر من المجلد السادس عشر جمادى الأولى وجمادى الثانية 1363هـ، وانظر محمد رسول الله وخاتم النبيين للشيخ محمد الخضر، إعداد علي الرضا الحسيني، ص184_187.(1/168)
ويحرص على أن تقع الموعظة في قرارات النفوس؛ فكان يلقي الخطبة بألفاظ مأنوسة، وتأليف محكم، ومعان بارزة في صور بارعة؛ فانظروا إلى قوله في بعض خطبه: =من كان همه الآخرة جمع الله شمله، وجعل غناه في قلبه، وأتته الدنيا وهي راغمة، ومن كان همه الدنيا فرق الله أمره، وجعل فقره بين عينيه، ولم يأته من الدنيا إلا ما كتب له+.
وهكذا ترون خطبة مصوغة بألفاظ مألوفة، ومعان قريبة المأخذ، وهي مع سهولة ألفاظها، وقرب معانيها من أذهان الجمهور قد حازت في مراقي البلاغة الأمد الأسمى.
وربما أعاد الجملة فنطق في ثلاث مرات يدل على أنها موضع اهتمام، ويخشى أن تمر على أذهان المستمعين دون أن تستقر في نفوسهم، كما قال في خطبة التشريق: =ألا لا تظالموا+ وكررها مرتين بعد الأولى.
ولم يكن _ عليه الصلاة والسلام _ يلتزم السجع في خطبه، وإنما يأخذ فيها بطريقة الترسل إلا أن يجيء السجع عفواً؛ وذلك أن السجع الملتزم لا يخلو من تكلف تَفْقِدُ به صور المعاني جانباً من الوضوح.
وإن شئت مثلاً يشهد بأن خطبه لم تنسج على منوال السجع، فإليك قوله في إحدى خطبه: =فليأخذ العبد من نفسه لنفسه، ومن دنياه لآخرته، ومن الشبيبة قبل الكبر، ومن الحياة قبل الموت+.
وقد أولع أكثر الناس منذ عهد بعيد بتسجيع الخطب؛ إما لقصر باعهم في البيان، وإما لأنه الأسلوب الذي تلذه الأذواق لتلك العهود، وقد تحولت الأذواق اليوم فيما يظهر إلى استحسان الكلام المرسل، وإيثاره على السجع؛ حيث يبرز المعاني في صور تصل إلى القلوب عندما تصل الكلم إلى الآذان.
ولم يكن _ عليه الصلاة والسلام _ ليطيل الخطب؛ يخشى على الناس الملل، فلا ينتفعون بالموعظة انتفاعهم بها وهم يصغون إليها بإقبال ونشاط، وكان يقول: =إن طول صلاة الرجل، وقصر خطبته من فقهه+.
وكانت خطبته مع قصرها مُمَتَّعةً بالحكمة والموعظة الحسنة؛ إذ تجيء حافلة بجوامع الكلم، والجمل التي تجري على الألسنة مجرى الأمثال إيجازاً وبلاغة.(1/169)
وقد يطيل الخطبة في غير يوم الجمعة متى اقتضى الحال الإطالة، روى أبو سعيد الخدري: =أن النبي " خطب بعد العصر ولم يزل يخطب حتى لم يبق من الشمس إلا حمرة على أطراف السعف+.
وكان يفتتح الخطبة بحمد الله والثناء عليه، ويصلهما بالتشهد، ويقول: =أما بعد+ متنقلاً بها إلى حكمة أو موعظة.
وقد يدع الخطبة العامة ويتجه في أثنائها إلى إرشاد شخص بعينه متى خشي فوات الفرصة.
جاء رجل إلى والنبي " يخطب الناس يوم الجمعة، فقال _ عليه الصلاة والسلام _: =صليت يا فلان؟+.
فقال: لا
فقال: =قم فاركع+ ثم عاد إلى الخطبة.
وقد يستعين _ عليه الصلاة والسلام _ في تثبيت المعنى بالإرشاد بيده إشارة مناسبة للمعنى، كما قال في إحدى خطبه: =بعثت أنا والساعة كهاتين+ وقرن بين أصبعيه السبابة والوسطى.
وروي أن كان يشير بأصبعه السبابة عند ذكر الله _ تعالى _ ودعائه.
فالإشارة باليد لا تنافي وقار الخطيب متى استعملت في أثناء الخطبة استعمالاً مناسباً للمعنى.
ومما يجعل للخطبة أثراً بليغاً في النفوس أن يكون الخطيب مخلصاً في وعظه، حريصاً على أن يأتي بثمرات طيبة من المسارعة إلى الخير، والإقلاع عن الشر.
وقد يظهر لهذا الإخلاص إمارات في وجه الخطيب، أو صوته، كاشتداد الغضب عند الإنذار، وورد في الصحيح أنه _ عليه الصلاة والسلام _: =كان إذا خطب احمرت عيناه، واشتد غضبه حتى كأنه منذر جيش+.
والناس يعرفون الغضب المتصنع، والبكاء الذي لم تبعثه خشية؛ فينبغي للخطيب أن يترك نفسه على فطرتها، ولا يهزها إلى مظهر الخشوع والغضب هزاً؛ ليرى الناس أنه حريص على إصلاحهم، ومن شواهد الرياء أن يأمرهم بالخير وينسى نفسه.(1/170)
وكان _ عليه الصلاة والسلام _ ينظر إلى حال القوم يوم الخطبة؛ فيلقيها على مقتضى حالهم، فيأمر بمعروف أخلوا به، أو يحذر من مكروه اقتربوا منه، وجرى على هذا الخلفاء الراشدون، والخطباء المصلحون، وهذا منذر بن سعيد قاضي قرطبة رأى الخليفة عبدالرحمن الناصر قد أسرف في تشييد المباني وزخرفتها، كما صنع في بناء الزهراء، فاتجه بخطبته إلى هذا الغرض، وأنكر فيها الإسراف في البناء والزخرفة، وإنفاق الأموال في غير مصلحة.
وشأن الخطب التي تلقى على طبقات من الناس متفاوتة في العلم والفهم أن لا يتعرض الخطيب فيها إلى المسائل التي قد يتعثر فهمها على كثير منهم، أو يتناولونها على غير وجهها.
وكانت خطب النبي " جارية على هذا الشأن، بحيث يستوي في فهمها الطبقات المختلفة دون أن يجدوا فيها ما ينبو عنه الفكر، أو يحار فيه العقل.
وكان الصحابة _ رضي الله عنهم _ يراعون هذا الأدب الحكيم؛ فقد روى البخاري أن عمر بن الخطاب أراد أن يخطب أيام الحج في أمر عرض له، فقال له عبدالرحمن بن عوف: =لا تفعل؛ فإن الموسم يجمع رعاع الناس يغلبونك على مجلسك، فأخاف أن لا ينزلوها على وجهها، فيطيروا بها كل مطار، فأمهل حتى تقدم المدينة دار الهجرة ودار السنة، فتخلص بأصحاب رسول الله " المهاجرين والأنصار، فيحفظوا مقالتك، وينزلوها على وجهها+.
وطالما حاد أكثر الناس بالخطب عن سيرتها في عهد النبوة، فبعد أن كان الخطيب يصور المعاني بفكره، ويكسوها بألفاظ من عنده، ثم يلقيها مقبلاً على الناس ببصره، كما كان يفعل النبي " والخلفاء من بعده _ صار الخطيب يبحث عن خطبة صدرت من قريحة غير قريحته، وكتبت بقلم غير قلمه، فيقف ممسكاً لها بيده، مقلباً فيها وجهه.
ولا مرية أن الخطبة التي تصدر من قلب الخطيب، مصوغة بعبارات من صنعه، هي أجدى نفعاً، وأعظم في النفوس أثراً من خطبة يستعيرها من غيره.(1/171)
نبي الملحمة (1) للأستاذ عبد الصبور مرزوق
الحربُ في حق لديك شريعة ... ومن السموم الناقعات دواء
(شوقي)
مظلوم.. ومظلومون
الذين قالوا: إن محمداً رفع السيف, ونشر على حدِّه دعوته، ماذا كانوا يريدون منه أن يفعل بعد ما لقى من أذى المشركين ما يفوق احتمال البشر؛ حتى لقد كانت حمالة الحطب أم جميل بنت حرب تجمع الشوك والأقذار من كل مكان لتضعها على بابه وعلى طريقه؛ فلما نزل فيها وفي زوجها قوله _تعالى_: [وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ (4) فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِّن مَّسَدٍ (5)] (المسد).
زادها الوعيد عنفاً؛ فأقبلت على الرسول " وكان جالساً بالمسجد مع أبي بكر, وبيدها حجر ضخم تريد _كما قالت_ أن تدق به فم الرسول, فصرف الله بصرها عنه، وقالت لأبي بكر: والله لَوْ وَجدْتُه لضَربْتُ بهذَا الحجَرِ فَمَه, ثم أنشدت من شعرها تسب الرسول وتتحداه:
مُذَمَّماً عَصَيْنَا وَأَمْرَهُ أَبَيْنَا
وَدِينَهُ قَلَيْنَا
وكان أمية بن خلف إذا رأى الرسول سبه علانية، وآذاه، وسخر منه حتى نزل فيه قوله _تعالى_: [وَيْلٌ لِّكُلِّ هُمَزَةٍ لُّمَزَةٍ (1) الَّذِي جَمَعَ مَالاً وَعَدَّدَهُ (2)] (الهمزة).
وكان النضر بن الحارث يصف رسالة محمد " بأنها أساطير الأولين, وفيه نزل قوله _سبحانه وتعالى_:[وَيْلٌ لِّكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (7) يَسْمَعُ آيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِراً كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (8)] (الجاثية).
ومشى عقبة بن أبي معيط يوماً إلى الرسول " فتفل في وجهه بعد ما حرضه عليه أُبَيُّ بن خلف حتى قال الله فيه: [وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً (27) يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً (28)] (الفرقان).
__________
(1) _ محمد رسول الله "، أحمد تيمور باشا، ص 181_185.(1/172)
أما الوليد بن المغيرة فقد وقف مستهيناً بالرسول يقول: أينزل على محمد وأُترك, وأنا كبير قريش وسيدها؟ ويُتْرَكُ أبو مسعود بن عمر سيد ثقيف ونحن عظيما القريتين، إن هذا لغير معقول, وقد أجابه الله _تعالى_ بقوله: [وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنْ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ (31)](الزخرف).
هكذا كانوا يعاملون الرسول " لا يرعون حرمته, ولا يجاملون أهله وقرابته، ولا يترفقون به, حتى كان في مناجاته ربه يهتف بصوت يخنقه الألم.
الَّلهم إنِّي أَشْكُو إلَيكَ ضَعْف قُوَّتي, وَقِلة حيلتي، وهواني عَلَى النَّاسِ، يَا أَرْحَمَ الرَّاحمين! أنْتَ ربُّ المُستَضعَفِين، وأَنْتَ رَبِّي فَإلى مَنْ تكلني؟ إلى بعيدٍ يتجهَّمُني، أم إلى عدو ملكته أمري؟ إن لم يكن بك عليَّ غضبٌ فلا أُبالي..+
ولم يكن العذاب منصباً على الرسول وحده, بل لعل ما عاناه _على قسوته_ كان أخف كثيراً إذا قيس بنصيب أصحابه من العذاب.
فقد لقي بلالُ بن رباح من أذى أُمَيَّةَ بن خلف ما يعرفه الصبية في معاهدهم حتى قال له أبو بكر يوماً: ألا تتقي الله في هذا المسكين؟حَتَّى متى؟
قال أمية: أنت الذي أفسدته فإن شئت فَأَنْقذهُ, فأنقذه الصديق وأعتقه.
ولقي عمار بن ياسر وأمه وأبوه من بني مخزوم من الأذى مالا يكاد يوصف.
ولم يكن الرسول " يملك إلا أن يقول لهم حين يراهم قولته الشهيرة: =صَبْراً آلَ يَاسِر؛ فَإنَّ مَوْعِدَ كم الجَنَّة+.
فلما تمادى المشركون في طغيانهم, وأحس الرسول من نفسه العجز عن حماية أصحابه، ورَفْع الضُّرِّ عنهم آذنهم بالهجرة, وكان مهجرهم الأول خارجَ حدود الجزيرة إلى أرض الحبشة.
بل إن الرسول هو الذي اختار المكان لهم حين قال: =لَوْ خَرَجْتُم إلى أرض الحبشة فإن بها ملكتً لا يظلم عندهُ أحدٌ, حتَّى يَجْعَلَ الله لكم فَرجاً مِمَّا أنتم فيه+.(1/173)
فما الذي كان يريده المفترون على محمد " أن يفعل بعد ما ألح عليه العدوان هكذا, حتى كاد يأتي عليه.
إن الدنيا لَتَعرف كيف تَكتَّلَ الكفار ضده في الحصار الاقتصادي والسياسي والاجتماعي المشهور الذي أنزل بمحمد وصحبه وبعض قرابته من الضُّر ما آذاهم حتى أكل بعضهم يوماً من الجوع أوراق الشجر؛ ولولا رحمة الله التي عطفت عليه قلوب بعض الكرام لبلغ الكفار مرادهم، مما أكره الرسول " على الإذن لصحبه بالهجرة الكبرى إلى المدينة.
ثم أدركهم بعدها صبيحة الليلة التي جمع الكفارُ فيها من كل قبيلة فتى وقرروا أن ينُهْوا حياته بالسيف؛ حتى يضيع في القبائل دمه، وما تقوى على حربهم قريش.
فأي صبر كانوا ينتظرون من الرسول " فوق هذا الصبر؟ وكيف تكون الموادعة بعد هذا سبيل التفاهم من أناس رفعوا عليه السيف, ولم يحمه منه أحد غير رعاية الله له؟!
إن صبر محمد " على قومه حتى هذا المدى لهو آية الآيات على عظمة التسامح والمسالمة عند محمد، وإرخائه العِنان لقوم لم يكونوا يستحقون سوى الكبريت والحطب.
لقد سَالَمَ محمدٌ المشركين , وجاوز حدود الصبر, فما أجدت المسالمة, ولا أفاد الصَّبرُ, وأصبح الاستمرار عليهما مما لا يتفق ومنطقَ الحياة, ومما لا يتفق _كذلك_ ومنطقَ النبي الذي جاء قوياً كفرسان العرب, عظيماً في حسبه ونسبه وفضائله, والذي جاء قبل هذا ليكون رسول حياة يخاطب أهلها بما يفهمون.
وما دامت السماء، بل ما دام التطور الزمني للمجتمعات قد جعل هذا نصيبه, فليكن هذا نصيبه..
إن لقيه الناس بالإحسان فهل جزاء الإحسان إلا الإحسان؟ وإن كانت الأخرى فدين محمد فيه ترياق السموم، وقرع الحديد بالفولاذ.
وإذا كان الشر قد انتصر على الخير حيناً في نُبُوَّة مُوسى وعيسى _عليهما الصلوات السلام_ فقد أُذن لمحمد في القتال حتى يَفْرِضَ الخير وجوده.(1/174)
ومن عَجَبٍ أن ما اتخذه محمد _صلوات الله عليه_ سلوكاً لنفسه، وطريقاً لحماية دعوته منذ القرون الطوال هو نفسه الطريق الذي آثرته البشرية دون غيره لضمان البقاء.
ولو خضع الناس، وأداروا خدودهم اليسرى لمن يصفعهم على اليمنى لما قامت على وجه الدنيا ثورة واحدة في وجه ظالم, ولعاش الطغاة أعمارهم محفوفين بالإجلال والإعظام.
ولو قال أصحاب محمد " مقالة أصحاب موسى: [اذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ] (المائدة: 24) لما قُدِّرَ للحياة أن تفيد من أسرار هذا الدين العظيم الذي لا يوجد لمشكلات عالم اليوم من حلول أفضل مما فرضها لها دين محمد "!
هذا هو نبي الملحمة الذي قال الله فيه: [أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (39)] (الحج).
ــ المقدمة ... 3
ــ بعثة النبي محمد وخلاصة سيرته " ... 13
أولاً: مهيئات النبوة ... 14
ثانياً: نبذة عن نسب النبي " وحياته ... 19
ثالثاً: بدء الوحي ... 22
رابعاً: من أخلاق النبي " ... 26
خامساً: شهادة الفيلسوف الإنجليزي توماس كارليل على صدق رسالة النبي " ... 30
_ مقالات نادرة في السيرة النبوية ... 37
1ــ بيئة الإسلام الأولى التي اختارها الله لمولد خاتم رسله وظهور أكمل رسالاته للعلامة محب الدين الخطيب. ... 38
_ من خصائص مكة ... 38
_ من أعجب ما امتازت به مكة عن بلاد الله جميعاً ... 41
_ تعليق شيخ الإسلام ابن تيمية على حديث =الناس معادن...+ ... 42
_ تفاوت أهلها في الاستجابة لدعوة الإسلام ... 44
_ من أخبار خالد بن الوليد وعمرو بن العاص ... 44
2 ــ مولد الإنسانية للعلامة محب الدين الخطيب ... 47
3 ــ قدوتنا الأعظم للعلامة محب الدين الخطيب ... 58
4 ــ من إلهامات الهجرة للعلامة محب الدين الخطيب ... 62
5 ــ القول الحق في استعداد محمد " للنبوة والوحي للشيخ العلامة محمد رشيد رضا. ... 69(1/175)
6ــ عبرة الهجرة للأديب الكبير مصطفى لطفي المنفلوطي ... 75
7 ــ الإشراق الإلهي وفلسفة الإسلام للأديب الكبير مصطفى صادق الرافعي ... 79
_ كل ذلك تراه في نفس محمد " فهي في مجموعها أبلغ الأنفس قاطبة ... 81
_ تقرير معنى الدوام لكل أعمال النفس حتى مثقال الذرة من الخير والشر ... 84
_ وللعالَم _كذلك_ وجهان: حاضرُه الذي يمر فيه، وآتيه الذي يمتد له ... 85
_ وللنظام _أيضاً_ وجهان: نظامُ الرغبة على الطاعة والاطمئنان لها، ونظام الرغبة على الخشية والنَّفْرة منها ... 85
_ وللعمل الدائم طريقتان: إحداهما طريقة الجاد يعمل للعاقبة يسْتِيقِنُها، فلا يجد مما يشقُّ عليه إلا لذةَ المغالبة للنصر ... 85
_ وأساس العمل في الإسلام إخضاع الحياة للعقيدة..... ... 86
8 ــ محمد " للعلامة الشيخ محمد بهجة البيطار ... 89
9ــ أمهات المؤمنين للعلامة الشيخ محمد بهجة البيطار ... 94
- النساء في عصر النبوة ... 94
- إحدى أمهات المؤمنين وفتاة في القرن العشرين ... 95
- من أخذ عنها من الصحابة ... 96
- تلاميذها من كبار التابعين ... 96
- من روى عنها من آل بيتها ... 96
- حكمة تعدد أمهات المؤمنين بعد الهجرة ... 97
- الحكمة في تزوجه " بعد الهجرة ببضع نسوة في بضع سنين ... 98
10ــ المدينة الفاضلة للعلامة الشيخ محمد الطاهر بن عاشور ... 102
_ المدينة الفاضلة: مجتمع من الناس هو على أكمل حال يكون عليها المجتمع البشري في الرأي والعمل ... 103
_ التمدن يفضي بالناس في غالب الأحوال إلى توارد الرغبات على شيء يكون الموجود منه لا يفي بإرضاء الجميع ... 104
_ يتضح كمال هذا التمدن إذا كان مظهر هؤلاء المتحدين كاملاً ... 105
_ فليس المراد بالمدينة الفاضلة ما لولاه لهلك النوع ... 105
_ جماع هذا الصلاح هو صلاح الاعتقاد، وصلاح العمل ... 105
_ قصة تهيؤ المدينة الفاضلة ... 110
_ لفتة تاريخية صادقة إلى حالة مدينة الرسول وحالة مجتمعها ... 112(1/176)
_ فأما ولاة الأمور فيها فإن سيد ولاة الأمور بالمدينة هو الرسول المؤيد بالعصمة ... 112
_ وأما أعضاء رأس المدينة وأصحابه فشرطهم المعرفة ... 113
_ وأما عامة أهل المدينة فهم المؤمنون السابقون بعد المهاجرين ... 114
_ وهذه الشدة أساسها الشجاعة ... 115
_ ومن فضائل شجاعة أهل المدينة في الجاهلية أنها شجاعة فاضلة ... 115
_ يندر أن يكون في المدينة الفاضلة سفلة وأراذل ... 116
_ حدثت في المدينة في حياة الرسول أحداث سيئة لكنها قليلة ... 117
_ كل ذلك إذا عرض في المدينة الفاضلة لا يكدر صفاء المدينة ... 117
_ لا تخلو المدينة الفاضلة _ أيضاً _ من العوارض الخفية اللازمة للاجتماع والمعاشرة ... 117
_ كل ذلك لا يقدح في فضل المدينة إذا كان العدل قائماً، والقضاء نافذاً ... 117
_ تحتاج المدينة الفاضلة إلى الاستكثار من الأفاضل فيها ... 117
_ تحتاج المدينة الفاضلة إلى سلامة سكانها من الآفات الجسدية ... 118
_ جدوى المدينة الفاضلة على المجتمع الإسلامي أنها إذا قامت على الفضيلة والعدالة كانت قدوة المجتمع كله ... 119
11ــ أثر الدعوة المحمدية في الحرية والمساواة للعلامة الشيخ محمد الطاهر ابن عاشور ... 121
_ المقام الأول: في الحرية والمساواة في الشريعة الإسلامية ... 121
_ الحرية ... 121
_ الحرية الحقة ... 121
_ دعوة الإسلام إلى الحرية ... 123
_ مظاهر الحرية ... 125
_ حرية الاعتقاد وهي إبطال العقائد الضالة المخالفة لما في نفس الأمر ... 125
_ حرية القول فهي أن يجهر المفكر برأيه ... 128
_ لا شك أن قول العدل قد تكرهه النفوس التي يقمعها الحق ... 128
_ من حرية القول بذل النصيحة ... 129
_ من حرية القول حق المراجعة من الضعيف للقوي ... 129
_ من حرية القول حرية العلم والتعليم وتتمثل في حالين: ... 130
_ الحالة الأولى ... 130
_ الحالة الثانية ... 131
_ حرية العمل فهي تتعلق بعمل المرء في خُوَيِّصته ... 132(1/177)
_ حرية العبيد ... 134
_ إبطال الإسلام لأسباب الرق ... 134
1_ الاسترقاق الاختياري ... 134
2_ الاسترقاق في الجناية ... 135
3_ الاسترقاق في الدَّين ... 135
4_ الاسترقاق في الفتن والحروب الداخلية ... 135
5_ استرقاق السائبة ... 135
_ روافع سنها الإسلام ترفع حكم الرق ... 135
_ سد ذرائع انخرام الحرية ... 138
_ المساواة ... 141
_ المساواة تعتمد توفر شروط وانتفاء موانع ... 142
_ المساواة في الإسلام تتعلق بثلاثة أشياء: الإنصاف، وتنفيذ الشريعة، والأهلية ... 143
_ الأول: المساواة في الإنصاف بين الناس في المعاملات ... 143
_ الثانية: المساواة في تنفيذ الشريعة وإقامتها بين الأمة ... 144
_ الثالثة: المساواة الأهلية أي في الصُّلوحية للأعمال والمزايا وتناول المنافع بحسب الأهلية لذلك ... 145
_ موانع المساواة ... 148
_ الموانع الشرعية هي المعلولة لعلل أوجبتها ... 148
_ الموانع الاجتماعية تتعلق غالباً بالأخلاق ... 148
_ الموانع السياسية هي التي ترجع إلى حفظ حكومة الإسلام ... 148
_ المقام الثاني: أثر الدعوة في الحرية والمساواة بين الأمم غير أتباع الإسلام ... 149
_ أثران لشيوع الدعوة المحمدية في بلاد العالم ... 150
_ الأول: أنها سهلت لكثير من الأمم الدخول في دين الإسلام ... 150
_ الأثر الثاني: كان مِنْ تناقل تلك الحوادث، ومن تمازج الفرق من الأمة الواحدة ... 151
12ــ مجلس رسول الله " للعلامة الشيخ محمد الطاهر بن عاشور ... 152
-مظاهر العظمة ونواحيها في أعين الناظرين والتُّبَّاع ... 152
-المجادلة التاريخية العظيمة بين عُمَرَ ومعاوية _ رضي الله عنهما _ ... 154
- صفة مجلس الرسول _عليه السلام _ ... 156
-الحِكَمُ من كون الرسول " مقصوراً على التأييد بالدلائل الحقة الباقية على الزمان ... 156
-الحكمة الأولى ... 156
-الحكمة الثانية ... 157
-الحكمة الثالثة ... 157
-الحكمة الرابعة ... 158(1/178)
-الحكمة الخامسة ... 158
- مكان مجلس الرسول ... 159
-الأدلة على كون مجلس رسول الله " ما بين المنبر وحجرة عائشة ... 160
-الدليل الأول ... 160
-الدليل الثاني ... 160
-الدليل الثالث ... 160
-الدليل الرابع ... 161
-كيفية التئام مسجد الرسول وخروجه إليه ... 161
- هيئة المجلس الرسولي ... 163
- ما كان يجري في مجلس رسول الله " ... 166
- وقت المجلس الرسولي ... 168
- آداب مجلس رسول الله ... 169
13ــ الدعوة الشاملة الخالدة للعلامة الشيخ محمد الخضر حسين ... 173
14ــ نظرة في دلائل النبوة للعلامة الشيخ محمد الخضر حسين ... 178
-حكمة الله تتجلى في بعثه للرسل ... 178
-من دلائل النبوة تلك الآيات التي واكبة بعثة النبي" ... 178
-الأصول التي ترجع إليها تلك الآيات: ... 178
-القرآن الكريم، ومن دلائل إعجازه: ... 178
-إيمان كثير من حكماء العرب وبلغائهم عند سماع القرآن ... 179
-بلاغة القرآن الكريم ... 180
-ما حواه من الأخبار عن أمور الغيب ... 181
-قوة أدلته ... 182
-غزارة حِكَمِهِ ونبوغها ... 184
-السيرة النبوية، ومن دلائل إعجازها: ... 187
-أن أشد الناس إيماناً به أولهم صحبة له ... 188
-محمد"رجل نهض بأمة عظيمة في نحو عشرين سنة ... 188
-محمد"رجل أقام شريعة تقرر حقوق الأفراد والجماعات ... 189
-محمد"رجل يستخف بأشياع الباطل ... 189
-محمد"رجل صرف عنايته في تزكية الأمة، وتدبير شؤونها ... 189
-المعجزات المحسوسة ... 191
-ذكرٌ لمعجزات محسوسة وقعت في عهده " أو بعد وفاته ... 191
15ــ عظمة رسول الله " للعلامة الشيخ محمد الخضر حسين ... 194
-ناحيتان أساسيتان في سيرة الرسول": ... 195
-كان يطيع الخالق بإخلاص ... 195
-كان يعامل الناس في نصح، ويسوسهم في حكمة ورفق ... 195
1_ طائفة المهتدين ... 197
2_ طائفة المنافقين ... 198
3_ طائفة المخالفين المسالمين ... 198
4_ طائفة المخالفين المحاربين ... 198(1/179)
16ــ شجاعته ــ عليه الصلاة والسلام ــ للعلامة الشيخ محمد الخضر حسين ... 200
-الشجاعة هي أول ما يتوقف عليه النجاح في الدعوة ... 200
-نماذج لنجاحه " في الحروب ... 200
-مع شجاعته " فقد كان يأخذ بوسائل الحذر ... 202
-شجاعته الأدبية " ... 202
17ــ منقذ العالم من الظلمات للعلامة الشيخ محمد الخضر حسين ... 202
18ــ رجاحة عقله " وحكمة رأيه للعلامة الشيخ محمد الخضر حسين ... 206
-كمال عقله " من النوع الذي يخص الله _تعالى به بعض المصطفين ... 207
-مقولة للقاضي عياض تصف رجحان عقله " ... 208
-أَمْرُ الله _تعالى_ له بمشورة صحابته ليس دليلاً على أن آراءهم قد تكون أصوب من رأيه، وإنما ... ... 209
19ــ قضاء البعثة المحمدية على المزاعم الباطلة للعلامة الشيخ محمد الخضر حسين ... 213
-بُعِث الرسول " بالدعوة إلى الإصلاح ... 213
-بُعث الرسول " لتنقية النفوس من المزاعم الباطلة ... 213
-مزاعم باطلة أتى الرسول " ليقضي عليها: ... 214
-تشاؤم العرب بكثيرٍ من الأشياء: نحو الغراب والبومة ... 214
-استقسام العرب بالأزلام ... 215
-غلو العرب في الاعتقاد بتصرف الجن في نفع الناس ... 215
-ما يفعله العرب عند الجدب وحبس المطر ... 216
-اعتقاد العرب بنفع خرزات، أو أحجار، أو أعضاء بعض الحيوان ... 217
20ــ البلاغة النبوية للعلامة الشيخ محمد الخضر حسين ... 219
-الفصاحة والبلاغة من أعظم ما يبهر العقول من خصال كماله" ... 219
-شيءٌ من أسباب فصاحته " ... 219
-وَصْفُ الجاحظ لفصاحة النبي " ... 221
-فصاحته " لا تُدرك إلا بالنظر في الحديث الشريف ... 222
-فصاحته وحكمته " شملت شؤون الحياة المختلفة ... 222
-مظاهر لبلاغته " ... 223
21ــ من آداب خطب النبي " للعلامة الشيخ محمد الخضر حسين ... 227
-الخطابة من أقرب طرق الدعوة إلى الإصلاح نجاحاً ... 227
-خطبه " مُثُلٌ عُليا ... 227(1/180)
-يحرص " أن تطرق مواعظه آذان المستمعين متمايزة الحروف ... 227
-يحرص " أن تقع الموعظة في قرارات النفوس ... 227
-يحرص " أن يُعيد الجملة ثلاث مرات إذا كانت موضع اهتمام ... 228
-لم يكن " يلتزم السجع في خطبه ... 228
-لم يكن " يطيل الخطب ... 228
-كانت خطبته " مع قصرها مُمَتَّعةً بالحكمة والموعظة الحسنة ... 229
-قد يُطيل " الخطبة متى لزم الأمر ذلك ... 229
-كان " يفتتح الخطبة بحمد الله والثناء عليه ... 229
-قد يستعين " في تثبيت المعنى بالإرشاد بيده إشارة مناسبة للمعنى ... 229
-كان " في خُطبه مخلصاً في وعظه ... 230
-يستوي في فهم خُطبه " الطبقات المختلفة ... 231
22ــ نبي الملحمة للأستاذ عبدالصبور مرزوق ... 232
ــ المحتويات ... 237(1/181)