وقد روى أبو حذيفة إسحق بن بشر بأسانيده عن كعب الاحبار ووهب بن منبه وابن عباس وسلمان الفارسي، دخل حديث بعضهم في بعض، قالوا: لما بعث عيسى بن مريم وجاءهم بالبينات جعل المنافقون والكافرون من بني إسرائيل يعجبون منه ويستهزئون به فيقولون: ما أكل فلان البارحة وما ادخر في منزله ؟ فيخبرهم، فيزداد المؤمنون إيمانا والكافرون والمنافقون شكا (1) وكفرانا.
وكان عيسى مع ذلك ليس له منزل يأوى إليه، إنما يسيح في الارض ليس له قرار ولا موضع يعرف به، فكان أول ما أحيا من الموتى أنه مر ذات يوم على امرأة قاعدة عند قبر وهي تبكى فقال لها: مالك، أيتها المرأة ؟ فقالت ماتت ابنة لي لم يكن لي ولد غيرها وإني عاهدت ربي أن لا أبرح من موضعي هذا حتى أذوق ما ذاقت من الموت أو يحييها
الله لي فأنظر إليها.
فقال لها عيسى: أرأيت إن نظرت إليها أراجعة أنت ؟ قالت: نعم.
قالوا فصلى ركعتين ثم جاء فجلس عند القبر فنادى يا فلانة قومي بإذن الرحمن فاخرجى.
قال: فتحرك القبر ثم نادى الثانية فانصدع القبر بإذن الله، ثم نادى الثالثة فخرجت وهي تنفض رأسها من التراب، فقال لها عيسى: ما أبطأ بك عنى ؟ فقالت: لما جاءتني الصيحة الاولى بعث الله لي ملكا فركب خلقي ثم (2) جاءتني الصيحة الثانية فرجع إلي روحي، ثم جاءتني الصيحة الثانية فخفت أنها صيحة القيامة فشاب رأسي وحاجباي وأشفار عينى من مخافة القيامة: ثم أقبلت على أمها فقالت: يا أماه (3) ما حملك على أن أذوق كرب الموت مرتين يا أماه اصبري
__________
(1) ا: شركا.
(2) ا: فلما جاءتني.
(3): يا أمتاه.
(*)(2/426)
واحتسبي فلا حاجة لي في الدنيا، يا روح الله وكلمته سل ربي أن يردني إلى الآخرة وأن يهون علي كرب الموت.
فدعا ربه فقبضها إليه واستوت عليها الارض.
فبلغ ذلك اليهود فازدادوا [ عليه ] (1) غضبا.
وقدمنا في عقب قصة نوح أن بني إسرائيل سألوه أن يحيى لهم سام ؟ ؟ ابن نوح فدعا الله عزوجل وصلى الله فأحياه الله لهم فحدثهم عن السفينة وأمرها ثم دعا فعاد ترابا.
وقد روى السدى عن أبي صالح وأبي مالك، عن ابن عباس في خبر ذكره وفيه أن ملكا من ملوك بني إسرائيل مات وحمل على سريره فجاء عيسى عليه السلام فدعا الله عزوجل فأحياه الله عزوجل، فرأى الناس أمرا هائلا ومنظرا عجيبا.
وقال الله تعالى وهو أصدق القائلين: " إذ قال الله يا عيسى بن مريم اذكر نعمتي عليك وعلى والدتك إذ أيدتك بروح القدس تكلم الناس في المهد وكهلا وإذ علمتك الكتاب والحكمة والتوراة والانجيل وإذ تخلق من الطين كهيئة الطير بإذني فتنفخ فيها فيكون طيرا بإذني وإذ تبرئ الاكمه والابرص بإذني وإذ تخرج الموتى بإذني وإذ كففت بني إسرائيل عنك إذ جئتهم بالبينات فقال الذين كفروا منهم إن هذا إلا سحر مبين وإذ أوحيت إلى الحواريين أن آمنوا بي وبرسولي قالوا آمنا واشهد بأننا مسلمون (2).
__________
(1) ليست في ا.
(2) سورة المائدة 110، 111.
(*)(2/427)
يذكره تعالى بنعمته عليه وإحسانه إليه في خلقه إياه من غير أب، بل من أم بلا ذكر، وجعله له آية للناس ودلالة على كمال قدرته تعالى ثم إرساله بعد هذا كله " وعلى والدتك " في اصطفائها واختيارها لهذه النعمة العظيمة ؟ ؟ وإقامة البرهان على براءتها مما نسبها إليه الجاهلون ولهذا قال " إذ أيدتك بروح القدس " وهو جبريل بإلقاء روحه إلى أمه وقرنه معه في حال رسالته ومدافعته عنه لمن كفر به " تكلم الناس في المهد وكهلا " أي تدعو الناس إلى الله في حال صغرك في مهدك وفي كهولتك " وإذ علمتك الكتاب والحكمة " أي الخط والفهم.
نص عليه بعض السلف " والتوراة والانجيل " وقوله: " وإذ تخلق من الطين كهيئة الطير بإذني " أي تصوره وتشكله من الطين على هيئة الطير عن أمر الله له بذلك " فتنفخ فيها تكون طيرا بإذني " أي بأمرى يؤكد تعالى بذكر الاذن له في ذلك لرفع التوهم.
وقوله " وتبرئ الاكمه " قال بعض السلف وهو الذي يولد أعمى ولا سبيل لاحد من الحكماء إلى مداواته " والابرص " هو الذي لا طب فيه بل قد مرض بالبرص وصار داؤه عضالا " وإذ تخرج الموتى " أي من قبورهم أحياء بإذني.
وقد تقدم ما فيه دلالة على وقوع ذلك مرارا متعددة بما فيه كفاية.
وقوله " وإذ كففت بني إسرائيل عنك إذ جئتهم بالبينات فقال الذين كفروا منهم إن هذا إلا سحر مبين " وذلك حين أرادوا صلبه فرفعه الله إليه وأنقذه من بين أظهرهم صيانة لجنابه الكريم عن الاذى وسلامة له من الردى.(2/428)
وقوله: " وإذ أوحيت إلى الحواريين أن آمنوا بي وبرسولي قالوا آمنا واشهد بأننا مسلمون " قيل المراد بهذا الوحى وحي إلهام أي أرشدهم الله إليه ودلهم عليه كما قال " وأوحى ربك إلى النحل (1) " " وأوحينا إلى أم موسى أن أرضعيه فإذا خفت عليه فألقيه في اليم (2) " وقيل المراد وحي بواسطة الرسول وتوفيق في قلوبهم لقبول الحق ولهذا استجابوا قائلين " آمنا واشهد بأننا مسلمون ".
وهذا من جملة نعم الله على عبده ورسوله عيسى بن مريم أن جعل له أنصارا وأعوانا ينصرونه ويدعون معه إلى عبادة الله وحده لا شريك له، كما قال تعالى لعبده محمد صلى الله عليه وسلم " هو الذي أيدك بنصره وبالمؤمنين وألف بين قلوبهم لو أنفقت ما في الارض جميعا ما ألفت بين قلوبهم ولكن الله ألف بينهم إنه عزيز حكيم (2) " وقال تعالى: " ويعلمه الكتاب والحكمة والتوراة والانجيل ورسولا إلى بني إسرائيل أنى قد
جئتكم بآية من ربكم أنى أخلق لكم من الطين كهيئة الطير فأنفخ فيه فيكون طيرا بإذن الله وأبرئ الاكمه والابرص وأحيى الموتى بإذن الله وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم إن في ذلك لآية لكم إن كنتم مؤمنين.
ومصدقا لما بين يدي من التوراة ولاحل لكم بعض الذي حرم عليكم وجئتكم بآية من ربكم فاتقوا الله وأطيعون.
إن الله ربي وربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم.
فلما أحس عيسى منهم الكفر قال من أنصارى إلى الله قال الحواريون نحن أنصار الله آمنا بالله واشهد
__________
(1) سورة النحل 68.
(2) سورة القصص 7.
(3) سورة الانفال 62، 63.
(*)(2/429)
بأنا مسلمون.
ربنا آمنا بما أنزلت واتبعنا الرسول فاكتبنا مع الشاهدين.
ومكروا ومكر الله والله خير الماكرين (1) ".
كانت معجزة كل نبي في زمانه بما يناسب أهل ذلك الزمان، فذكروا أن موسى عليه السلام كانت معجزته مما يناسب أهل زمانه وكانوا سحرة أذكياء، فبعث بآيات بهرت الابصار وخضعت لها الرقاب، ولما كان السحرة خبيرين بفنون السحر وما ينتهي إليه وعاينوا ما عاينوا من الامر الباهر الهائل الذي لا يمكن صدوره إلا عمن أيده الله وأجرى الخارق على يديه تصديقا له، أسلموا سراعا ولم يتلعثموا.
وهكذا عيسى بن مريم بعث في زمن الطبائعية الحكماء، فأرسل بمعجزات لا يستطيعونها ولا يهتدون إليها، وأنى لحكيم إبراء الاكمه الذي هو أسوأ حالا من الاعمى، والابرص والمجذوم ومن به مرض مزمن، وكيف يتوصل أحد من الخلق إلى أن يقيم الميت من قبره ؟ هذا مما يعلم
كل أحد معجزة دالة على صدق من قامت به وعلى قدرة من أرسله.
وهكذا محمد صلى الله عليه وسلم وعليهم أجمعين بعث في زمن الفصحاء البلغاء، فأنزل الله عليه القرآن العظيم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد، فلفظه معجز تحدى به الانس والجن أن يأتوا بمثله أو بعشر سور من مثله أو بسورة، وقطع عليهم بأنهم لا يقدرون لا في الحال ولا في الاستقبال، فإن لم يفعلوا
__________
(1) سورة آل عمران 48 - 54 (*)(2/430)
ولن يفعلوا وما ذاك إلا لانه كلام الخالق عزوجل، والله تعالى لا يشبهه شئ لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله.
* * * والمقصود أن عيسى عليه السلام لما أقام عليهم الحجج والبراهين استمر أكثرهم على كفرهم وضلالهم وعنادهم وطغيانهم، فانتدب له من بينهم طائفة صالحة [ فكانوا ] (1) له أنصارا وأعوانا قاموا بمتابعته ونصرته ومناصحته، وذلك حين هم به بنو إسرائيل ووشوا به إلى بعض ملوك ذلك الزمان، فعزموا على قتله وصلبه فأنقذه الله منهم ورفعه إليه من بين أظهرهم وألقى شبهه على أحد اصحابه فأخذوه فقتلوه وصلبوه وهم يعتقدونه عيسى وهم في ذلك غالطون وللحق مكابرون، وسلم لهم كثير من النصارى ما ادعوه، وكلا الفريقين في ذلك مخطئون.
قال تعالى: " ومكروا ومكر الله والله خير الماكرين " وقال تعالى: " وإذ قال عيسى بن مريم يا بني إسرائيل إني رسول الله إليكم مصدقا لما بين يدي من التوراة ومبشرا برسول يأتي من بعدي اسمه
أحمد فلما جاءهم بالبينات قالوا هذا سحر مبين.
ومن أظلم ممن افترى على الله الكذب وهو يدعى للاسلام والله لا يهدي القوم الظالمين.
يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم والله متم نوره ولو كره الكافرون " إلى أن قال بعد ذلك: " يا أيها الذين آمنوا كونوا أنصار الله كما قال عيسى بن مريم للحواريين من أنصارى إلى الله قال الحواريون نحن
__________
(2) ليست في ا.
(*)(2/431)
أنصار الله.
فآمنت طائفة من بني إسرائيل وكفرت طائفة فأيدنا الذين آمنوا على عدوهم فأصبحوا ظاهرين (1) ".
فعيسى عليه السلام هو خاتم أنبياء بني إسرائيل وقد قام فيهم خطيبا فبشرهم بخاتم الانبياء الآتى بعده ونوه باسمه وذكر لهم صفته ليعرفوه ويتابعوه إذا شاهدوه، إقامة للحجة عليهم وإحسانا من الله إليهم كما قال تعالى: " الذين يتبعون الرسول النبي الامي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والانجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والاغلال التي كانت عليهم فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون (2) ".
قال محمد بن إسحاق: حدثني ثور بن يزيد، عن خالد بن معدان، عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم قالو: يا رسول الله أخبرنا عن نفسك.
قال: " دعوة أبى إبراهيم وبشرى عيسى، ورأت أمي حين حملت بي كأنه خرج منها نور أضاءت له قصور بصرى من أرض الشام ".
وقد روى عن العرباض بن سارية وأبي أمامة عن النبي صلى الله عليه وسلم نحو هذا وفيه: دعوة أبي إبراهيم وبشرى عيسى وذلك أن إبراهيم لما بنى الكعبة قال " ربنا وابعث فيهم رسولا منهم " الآية ولما انتهت النبوة في بني إسرائيل إلى عيسى قام فيهم خطيبا فأخبرهم أن النبوة قد انقطعت عنهم وأنها بعده في النبي العربي الامي خاتم الانبياء على
__________
(1) سورة الصف 14 (2) سورة الاعراف 157.
(*)(2/432)
الاطلاق أحمد، وهو محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم الذي هو من سلالة إسماعيل بن إبراهيم الخليل عليهم السلام.
قال الله تعالى: " فلما جاءهم بالبينات قالوا هذا سحر مبين " يحتمل عود الضمير إلى عيسى عليه السلام ويحتمل عوده إلى محمد صلى الله عليه وسلم.
ثم حرض تعالى عباده المؤمنين على نصرة الاسلام وأهله ونصرة نبيه ومؤازرته ومعاونته على إقامة الدين ونشر الدعوة فقال: " يا أيها الذين آمنوا كونوا أنصار الله كما قال عيسى بن مريم للحواريين من أنصارى إلى الله " أي من يساعدنى في الدعوة، إلى الله " قال الحواريون نحن أنصار الله " وكان ذلك في قرية يقال لها الناصرة فسموا بذلك النصارى قال الله تعالى: " فآمنت طائفة من بني إسرائيل وكفرت طائفة " يعنى لما دعا عيسى بني إسرائيل وغيرهم إلى الله تعالى منهم من آمن ومنهم من كفر، وكان ممن آمن به أهل أنطاكية بكمالهم فيما ذكره غير واحد من أهل السير والتواريخ والتفسير بعث إليهم رسلا ثلاثة، أحدهم شمعون الصفا فآمنوا واستجابوا (1) وليس هؤلاء هم المذكورون في سورة يس
لما تقدم تقريره في قصة أصحاب القرية، وكفر آخرون من بني إسرائيل وهم [ جمهور ] (2) اليهود فأيد الله من آمن به على من كفر فيما بعد وأصبحوا ظاهرين عليهم قاهرين لهم كما قال تعالى: " إذ قال الله يا عيسى إني متوفيك ورافعك إلي ومطهرك من الذين كفروا وجاعل الذين اتبعوك
__________
(1) ا: واستعجلوا.
(2) ليست في ا.
(*) (28 - قصص الانبياء 2)(2/433)
فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة " الآية فكل من كان إليه أقرب كان غالبا (1) لمن دونه، ولما كان قول المسلمين فيه هو الحق الذي لا شك فيه، من أنه عبد الله ورسوله كانوا ظاهرين على النصارى الذين غلوا فيه وأطروه وأنزلوه فوق ما أنزله الله به.
ولما كان النصارى أقرب في الجملة مما ذهب إليه اليهود [ فيه ] (2) عليهم لعائن الله، كان النصارى قاهرين لليهود في أزمان الفترة إلى زمن الاسلام وأهله.
__________
(1) ط: كان عاليا.
(2) من ا.
(*)(2/434)
ذكر خبر المائدة قال الله تعالى: " إذ قال الحواريون يا عيسى بن مريم هل يستطيع ربك أن ينزل علينا مائدة من السماء ؟ قال اتقوا الله إن كنتم مؤمنين قالوا نريد أن نأكل منها وتطمئن قلوبنا ونعلم أن قد صدقتنا ونكون عليها من الشاهدين.
قال عيسى بن مريم اللهم ربنا أنزل علينا مائدة من السماء تكون لنا عيدا لاولنا وآخرنا وآية منك وارزقنا وأنت خير
الرازقين.
قال الله إني منزلها عليكم فمن يكفر بعد منكم فإني أعذبه عذابا لا أعذبه أحدا من العالمين ".
قد ذكرنا في التفسير الآثار الواردة في نزول المائدة عن ابن عباس وسلمان الفارسي وعمار بن ياسر وغيرهم من السلف.
ومضمون ذلك: أن عيسى عليه السلام أمر الحواريين بصيام ثلاثين يوما، فلما أتموها سألوا من عيسى إنزال مائدة من السماء عليهم ليأكلوا منها وتطمئن بذلك قلوبهم أن الله قد تقبل صيامهم وأجابهم إلى طلبتهم، وتكون لهم عيدا يفطرون عليها يوم فطرهم وتكون كافية لاولهم وآخرهم لغنيهم وفقيرهم.
فوعظهم عيسى عليه السلام في ذلك وخاف عليهم أن لا يقوموا بشكرها ولا يؤدوا حق شروطها فأبوا عليه إلا أن يسأل لهم ذلك من ربه عزوجل.
فلمالم يقلعوا عن ذلك قام إلى مصلاه ولبس مسحا من شعر وصف بين قدميه وأطرق رأسه وأسبل عينيه بالبكاء وتضرع إلى الله في الدعاء والسؤال أن يجابوا إلى ما طلبوا.(2/435)
فأنزل الله تعالى المائدة من السماء والناس ينظرون إليها تنحدر بين غمامتين، وجعلت تدنو قليلا قليلا، وكلما دنت سأل عيسى ربه عزوجل أن يجعلها رحمة لا نقمة وأن يجعلها بركة وسلامة.
فلم تزل تدنو حتى استقرت بين يدي عيسى عليه السلام وهي مغطاة بمنديل فقام عيسى يكشف عنها وهو يقول: " بسم الله خير الرازقين " فإذا عليها سبعة من الحيتان وسبعة أرغفة.
ويقال: وخل ويقال: ورمان وثمار، ولها رائحة عظيمة جدا، قال الله لها كوني فكانت.
ثم أمرهم بالاكل منها، فقالوا: لا نأكل حتى تأكل.
فقال: إنكم الذين ابتدأتم السؤال لها.
فأبوا أن يأكلوا منها ابتداء، فأمر الفقراء والمحاويج والمرضى والزمنى وكانوا قريبا من ألف وثلاثمائة فأكلوا منها فبرأ كل من به عاهة أو آفة أو مرض مزمن، فندم الناس على ترك الاكل منها لما رأوا من إصلاح حال أولئك.
ثم قيل إنها كانت تنزل كل يوم مرة فيأكل الناس منها، يأكل آخرهم كما يأكل أولهم حتى [ قيل ] (1) إنها (2) كان يأكل منها نحو سبعة آلاف.
ثم كانت تنزل يوما بعد يوم، كما كانت ناقة صالح يشربون لبنها يوما بعد يوم.
ثم أمر الله عيسى أن يقصرها على الفقراء أو المحاويج دون الاغنياء.
فشق ذلك على كثير من الناس وتكلم منافقوهم في ذلك، فرفعت بالكلية ومسخ الذين تكلموا في ذلك خنازير.
وقد روى ابن أبي حاتم وابن جرير جميعا، حدثنا الحسن بن قزعة
__________
(1) ليست في ا.
(2) ا: إنه.
(*)(2/436)
الباهلي، حدثنا سفيان بن حبيب، حدثنا سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة عن خلاس، عن عمار بن ياسر، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال نزلت المائدة من السماء خبز ولحم وأمروا أن لا يخونوا ولا يدخروا ولا يرفعوا لغد، فخانوا وادخروا ورفعوا، فمسخوا قردة وخنازير.
ثم رواه ابن جرير عن بندار، عن ابن أبي عدي، عن سعيد، عن قتادة، عن خلاس، عن عمار موقوفا.
وهذا أصح.
وكذا رواه من طريق سماك، عن رجل من بني عجل، عن عمار موقوفا.
وهو الصواب والله أعلم.
وخلاس عن عمار منقطع، فلو صح هذا الحديث مرفوعا لكان فيصلا في هذه القصة، فإن العلماء اختلفوا في المائدة: هل نزلت أم لا ؟ فالجمهور أنها نزلت كما دلت عليه هذه الآثار كما هو المفهوم من ظاهر سياق القرآن ولا سيما قوله: " إني منزلها عليكم " كما قرره ابن جرير والله أعلم.
وقد روى ابن جرير بإسناد صحيح إلى مجاهد وإلى الحسن بن أبي الحسن البصري، أنهما قالا: لم تنزل وإنهم أبوا نزولها حين قال " فمن يكفر بعد منكم فإني أعذبه عذابا لا أعذبه أحدا من العالمين " ولهذا قيل إن النصارى لا يعرفون خبر المائدة وليس مذكورا في كتابهم، مع أن خبرها مما تتوفر الدواعى على نقله.
والله أعلم.
وقد تقصينا الكلام على ذلك في التفسير فليكتب من هناك، ومن أراد مراجعته فلينظره من ثم.
ولله الحمد والمنة.(2/437)
فصل قال أبو بكر ابن أبي الدنيا: حدثنا رجل سقط اسمه، حدثنا حجاج [ بن محمد ] (1) حدثنا أبو هلال محمد بن سليمان، عن بكر بن عبد الله المزني قال: فقد الحواريون نبيهم عيسى فقيل لهم توجه نحو البحر، فانطلقوا يطلبونه فلما انتهوا إلى البحر إذا هو يمشى على الماء يرفعه الموج مرة ويضعه أخرى، وعليه كساء مرتد بنصفه ومؤتزر بنصفه، حتى انتهى إليهم فقال له بعضهم، قال أبو هلال ظنت أنه من أفاضلهم: ألا أجئ إليك يا نبي الله ؟ قال بلى.
قال: فوضع إحدى رجليه على الماء ثم ذهب ليضع الاخرى فقال: أوه غرقت يا نبي الله.
فقال: أرنى يدك يا قصير الايمان، لو أن لابن آدم من اليقين قدر شعيرة مشى على الماء !
ورواه أبو سعيد ابن الاعرابي، عن إبراهيم بن أبي الجحيم، عن سليمان ابن حرب، عن أبي هلال عن بكر بنحوه.
ثم قال ابن أبي الدنيا: حدثنا محمد بن علي بن الحسن بن سفيان (1)، حدثنا إبراهيم بن الاشعث، عن الفضيل بن عياض، قال قيل لعيسى بن مريم: يا عيسى بأي شئ تمشي على الماء ؟ قال: بالايمان واليقين.
قالوا: فإنا آمنا كما آمنت وأيقنا كما أيقنت.
قال: فامشوا إذا.
قال: فمشوا معه في الموج فغرقوا فقال لهم [ عيسى ] (2) ما لكم ؟ فقالوا: خفنا الموج قال: ألا خفتم رب الموج ! قال: فأخرجهم.
ثم ضرب بيده إلى الارض فقبض بها ثم بسطها فإذا في إحدى يديه ذهب وفي الاخرى مدر أو حصى
__________
(1) ا: ابن شقيق.
(2) ليست في ا.
(*)(2/438)
فقال: أيهما أحلى في قلوبكم ؟ قالوا: هذا الذهب.
قال: فإنهما عندي سواء ! وقدمنا في قصة يحيى بن زكريا عن بعض السلف أن عيسى عليه السلام كان يلبس الشعر ويأكل من ورق الشجر ولا يأوى إلى منزل ولا أهل ولا مال ولا يدخر شيئا لغد.
قال بعضهم: كان يأكل من غزل أمه، صلوات الله وسلامه عليه.
وروى ابن عساكر عن الشعبي أنه قال: كان عيسى عليه السلام إذا ذكر عنده الساعة صاح ويقول: لا ينبغي لابن مريم أن يذكر عنده الساعة ويسكت.
وعن عبد الملك بن سعيد بن أبجر أن عيسى كان إذا سمع الموعظة صرخ صراخ الثكلى.
وقال عبد الرزاق: أنبأنا معمر، حدثنا جعفر بن بلقان، أن عيسى كان يقول: " اللهم إني أصبحت لا أستطيع دفع ما أكره ولا أملك نفع ما أرجو، وأصبح الامر بيد غيرى ؟ ؟، وأصبحت مرتهنا بعملي، فلا فقير أفقر مني ! اللهم لا تشمت بي عدوي ولا تسؤبى صديقى، ولا تجعل مصيبتي في ديني ولا تسلط علي من لا يرحمني ".
وقال الفضيل بن عياض عن يونس بن عبيد، كان عيسى يقول لا يصيب أحد (1) حقيقة الايمان حتى لا يبالى من أكل الدنيا ! قال الفضيل: وكان عيسى يقول: فكرت في الخلق فوجدت من لم يخلق أغبط عندي ممن خلق !
__________
(1) ا: لا نصيب حقيقة الايمان حتى لا نبالي.
(*)(2/439)
وقال إسحاق بن بشر، عن هشام بن حسان، عن الحسن قال: إن عيسى رأس الزاهدين يوم القيامة.
قال: وإن الفرارين بذنوبهم يحشرون يوم القيامة مع عيسى.
قال: وبينما عيسى يوما نائم على حجر قد توسده وقد وجد لذة النوم إذ مر به إبليس فقال: يا عيسى ألست تزعم أنك لا تريد شيئا من عرض الدنيا ؟ فهذا الحجر من عرض الدنيا.
قال [ فقام عيسى (1) ] فأخذ الحجر فرمى به إليه وقال: هذا لك مع الدنيا ! وقال معتمر بن سليمان: خرج عيسى على أصحابه وعليه جبة صوف وكساء وتبان (2) حافيا باكيا شعثا مصفر اللون من الجوع يابس الشفتين من العطش فقال: السلام عليكم يا بني إسرائيل، أنا الذي أنزلت الدنيا منزلتها بإذن الله ولا عجب ولا فخر، أتدرون أين بيتى ؟ قالوا: أين بيتك
يا روح الله ؟ قال: بيتى المساجد، وطيبى الماء، وإدامى الجوع، وسراجى القمر بالليل، وصلائى في الشتاء مشارق الشمس، وريحاني بقول الارض، ولباسي الصوف (3)، وشعارى خوف رب العزة، وجلسائي الزمنى والمساكين، أصبح وليس لي شئ وأمسى وليس لي شئ وأنا طيب النفس غير مكترث فمن أغنى مني وأربح ! رواه ابن عساكر.
وروى في ترجمة محمد بن الوليد بن أبان بن حبان أبي الحسن العقيلى
__________
(1) سقطت من المطبوعة وأثبتها من ا.
(2) التبان: سراويل صغير يستر العورة المغلظة.
(3) المطبوعة: الصون.
محرفة.
(*)(2/440)
المصرى، حدثنا هانئ بن المتوكل الاسكندرانى، عن حيوة بن شريح، حدثنى الوليد بن أبي الوليد، عن شفى من ماتع (1)، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: أوحى الله تعالى إلى عيسى: أن يا عيسى انتقل من مكان إلى مكان لئلا تعرف فتؤذى، فوعزتي وجلالى لازوجنك ألف حوراء ولاولمن عليك أربعمائة عام.
وهذا حديث غريب رفعه، وقد يكون موقوفا من رواية شقى بن ماتع (1)، عن كعب الاحبار أو غيره من الاسرائيليين والله أعلم.
وقال عبد الله بن المبارك: عن سفيان بن عيينة، عن خلف بن حوشب، قال: قال عيسى للحواريين: كما ترك لكم الملوك الحكمة فكذلك فاتركوا لهم الدنيا.
وقال قتادة قال عيسى عليه السلام: سلوني فإني لين القلب وإني
صغير عند نفسي.
وقال إسماعيلي بن عياش، عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر قال: قال عيسى للحواريين: كلوا خبز الشعير واشربوا الماء القراح واخرجو من الدنيا سالمين آمنين، بحق ما أقول لكم إن حلاوة الدنيا مرارة الآخرة، وإن مرارة الدنيا حلاوة الآخرة، وإن عباد الله ليسوا بالمتنعمين، بحق ما أقول لكم إن شركم عالم يؤثر هواه على علمه يود أن الناس كلهم مثله.
وروى نحوه عن أبي هريرة.
قال أبو مصعب عن مالك إنه بلغه أن عيسى كان يقول: يا بني
__________
(1) الاصل: سفى بن نافع.
محرفة.
والتصويب من المشتبه للذهبي 2 / 399.
(*)(2/441)
إسرائيل عليكم بالماء القراح والبقل البرير (1) وخبز (2) الشعير، وإياكم وخبز البر فإنكم لن تقوموا بشكره.
وقال ابن وهب عن سليمان بن بلال، عن يحيى بن سعيد قال: كان عيسى يقول اعبروا الدنيا ولا تعمروها (3).
وكان يقول: حب الدنيا رأس كل خطيئة، والنظر يزرع في القلب الشهوة.
وحكى وهيب بن الورد مثله وزاد: ورب شهوة أورثت أهلها حزنا طويلا.
وعن عيسى عليه السلام: يابن آدم الضعيف اتق الله حيث ما كنت، وكن في الدنيا ضيفا، واتخذ المساجد بيتا، وعلم عينك البكاء وجسدك الصبر وقلبك التفكر، ولا تهتم برزق غد فإنها خطيئة.
وعنه عليه السلام أنه قال كما [ أنه ] (4) لا يستطيع أحدكم أن يتخذ على موج البحر دارا فلا يتخذ الدنيا قرارا.
وفي هذا يقول سابق البربري (5): لكم بيوت بمستن السيوف وهل * يبنى على الماء بيت أسه مدر !
__________
(1) البرير: ثمر الاراك.
ومنه حديث طهفة، ونستعضد البريرا، أي نجنيه للاكل وانظر النهاية لابن الاثير 1 / 87.
(2) ا: والخبز الشعير.
(3) هذه المرويات تصور ما أثر عن عيسى عليه السلام من عزوف عن المتاع وإقبال على العبادة، لكنها ليست مما يحتج به في موقف الدين من الدنيا، أما الاسلام فإنه يجمع بين الدنيا والآخرة ويجعل الدنيا ميدانا للعمل والجهاد.
(4) ليست في ا.
(5) هو أبو سعيد سابق بن عبد الله البربري، وليس منسوبا.
إلى البربر، وإنما هو: لقب له.
اللباب لابن الاثير 1 / 107.
(*)(2/442)
وقال سفيان الثوري: قال عيسى بن مريم: لا يستقيم حب الدنيا وحب الآخرة في قلب مؤمن كما لا يستقيم الماء والنار في إناء.
وقال إبراهيم الحربى عن داود بن رشيد، عن أبي عبد الله الصوفى قال: قال عيسى: طالب الدنيا مثل شارب ماء البحر، كلما ازداد شربا ازداد عطشا حتى يقتله.
وعن عيسى عليه السلام: إن الشيطان مع الدنيا ومكره مع المال (1) وتزينه مع الهوى، واستمكانه عند الشهوات.
وقال الاعمش عن خيثمة، كان عيسى يضع الطعام لاصحابه ويقوم عليهم ويقول: هكذا فاصنعوا بالقرى.
وبه قالت امرأة لعيسى عليه السلام: طوبى لحجر حملك ولثدي أرضعك.
فقال: طوبى لمن قرأ كتاب الله واتبعه.
وعنه: طوبى لمن بكى من ذكر خطيئته وحفظ لسانه ووسعه بيته.
وعنه: طوبى لعين نامت ولم تحدث نفسها بالمعصية وانتبهت إلى غير إثم.
وعن مالك بن دينار قال: مر عيسى وأصحابه بجيفة فقالوا: ما أنتن ريحها فقال: ما أبيض أسنانها.
لينهاهم عن الغيبة.
وقال أبو بكر ابن أبي الدنيا: يحدثنا الحسين بن عبد الرحمن، عن زكريا بن عدي قال: قال عيسى بن مريم: يا معشر الحواريين ارضوا
__________
(1) المطبوعة: وفكره من المال.
محرفة.
(*)(2/443)
بدنى الدنيا مع سلامة الدين كما رضى أهل الدنيا بدنى الدين مع سلامة الدنيا.
قال زكريا: وفي ذلك يقول الشاعر: أرى رجالا بأدنى الدين قد قنعوا * ولا أراهم رضوا في العيش بالدون فاستغن بالدين عن دنيا الملوك كما * استغنى الملوك بدنياهم عن الدين وقال أبو مصعب عن مالك قال عيسى بن مريم عليه السلام: " لا تكثروا الحديث بغير ذكر الله فتقسو قلوبكم فإن القلب القاسي بعيد من الله ولكن لا تعلمون، ولا تنظروا في (1) ذنوب العباد كأنكم أرباب وانظروا فيها كأنكم عبيد، فإنما الناس رجلان معافى ومبتلى فارحموا أهل البلاء واحمدوا الله على العافية ".
وقال الثوري: سمعت أبي يقول عن إبراهيم التيمى، قال قال عيسى لاصحابه: بحق أقول لكم: من طلب الفردوس فخبز الشعير والنوم في المزابل مع الكلاب كثير.
وقال مالك بن دينار قال عيسى: إن أكل الشعير مع الرماد والنوم
على المزابل مع الكلاب لقليل في طلب الفردوس.
وقال عبد الله بن المبارك: أنبأنا سفيان، عن منصور، عن سالم بن أبي الجعد، قال: قال عيسى اعملوا لله ولا تعملوا لبطونكم، انظروا إلى هذه الطير تغدو وتروح لا تحرث ولا تحصد والله يرزقها، فإن قلتم نحن أعظم بطونا من الطير فانظروا إلى هذه الاباقير (2) من الوحوش والحمر فإنها تغدو وتروح لا تحرث ولا تحصد والله يرزقها.
__________
(1) ا: إلى.
(2) ا: الآثار.
(*)(2/444)
وقال صفوان بن عمرو عن شريح بن عبد الله (1)، عن يزيد بن ميسرة، قال: قال الحواريون للمسيح: يا مسيح الله انظر إلى مسجد الله ما أحسنه.
قال: آمين آمين بحق ما أقول لكم لا يترك الله من هذا المسجد حجرا قائما إلا أهلكه بذنوب أهله، إن الله لا يصنع بالذهب ولا الفضة ولا بهذه الاحجار التي تعجبكم شيئا إن أحب إلى الله منها القلوب الصالحة وبها يعمر الله الارض، وبها يخرب الله الارض إذا كانت على غير ذلك.
وقال الحافظ أبو القاسم ابن عساكر في تاريخه: أخبرنا أبو منصور ابن محمد الصوفى، أخبرتنا عائشة بنت الحسن بن إبراهيم الوركانية، قالت: حدثنا أبو محمد عبد الله بن عمر بن عبد الله بن الهشيم إملاء، حدثنا الوليد بن أبان إملاء، حدثنا أحمد بن جعفر الرازي، حدثنا سهيل بن إبراهيم الحنظلي، حدثنا عبد الوهاب بن عبد العزيز، عن المعتمر.
عن مجاهد، عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال مر عيسى عليه السلام على مدينة خربة، فأعجبه البنيان فقال: أي رب مر
هذه المدينة أن تجيبني.
فأوحى الله إلى المدينة: أيتها المدينة الخربة جاوبى عيسى.
قال فنادت المدينة: عيسى حبيبي وما تريد منى ؟ قال: ما فعل أشجارك وما فعل أنهارك وما فعل قصورك وأين سكانك ؟ قالت: حبيبي جاء وعد ربك الحق فيبست أشجارى ونشفت أنهاري وخربت قصوري ومات سكانى.
قال: فأين أموالهم ؟ فقالت: جمعوها من
__________
(1) ا: ابن عبيدالله (*)(2/445)
الحلال والحرام موضوعة في بطني، لله ميراث السموات والارض.
قال: فنادى عيسى عليه السلام: تعجبت (1) من ثلاث أناس: طالب الدنيا والموت يطلبه، وباني القصور والقبر منزله، ومن يضحك مل ء فيه والنار أمامه ! ابن آدم لا بالكثير تشبع ولا بالقليل تقنع، تجمع مالك لمن لا يحمدك وتقدم على رب لا يعذرك، إنما أنت عبد بطنك وشهوتك، وإنما تملا بطنك إذا دخلت قبرك، وأنت يابن آدم ترى حشد مالك في ميزان غيرك.
هذا حديث غريب جدا وفيه موعظة حسنة فكتبناه لذلك.
وقال سفيان الثوري عن أبيه، عن إبراهيم التيمى، قال عيسى عليه السلام: يا معشر الحواريين اجعلوا كنوزكم في السماء فإن قلب الرجل حيث كنزه.
وقال ثور بن يزيد عن عبد العزيز بن ظبيان قال: قال عيسى بن مريم عليه السلام: من تعلم وعلم وعمل دعي عظيما في ملكوت السماء.
وقال أبو كريب: روى أن عيسى عليه السلام قال: لا خير في علم لا يعبر معك الوادي ويعبر بك النادى.
وروى ابن عساكر بإسناد غريب عن ابن عباس مرفوعا أن عيسى قام في بني إسرائيل فقال: يا معشر الحواريين لا تحدثوا بالحكم غير أهلها فتظلموها ولا تمنعوها أهلها فتظلموهم، والامور ثلاثة: أمر تبين
__________
(1) ط: فعجبت.
(*)(2/446)
رشده فاتبعوه وأمر تبين غيه فاجتنبوه، وأمر اختلف عليكم فيه فردوا علمه إلى الله عزوجل.
وقال عبد الرزاق: أنبأنا معمر، عن رجل، عن عكرمة قال: قال عيسى: لا تطرحوا اللؤلؤ إلى الخنزير فإن الخنزير لا يصنع باللؤلؤ شيئا، ولا تعطوا الحكمة من لا يريدها، فإن الحكمة خير من اللؤلؤ ومن لا يريدها شر من الخنزير ! وكذا حكى وهب وغيره عنه أنه قال لاصحابه: أنتم ملح الارض فإذا فسدتم فلا دواء لكم، وإن فيكم خصلتين من الجهل: الضحك من غير عجب والصبحة (1) من غير سهر.
وعنه أنه قيل له: من أشد الناس فتنة ؟ قال: زلة العالم، فإن العالم إذا زل يزل (2) بزلته عالم كثير.
وعنه أنه قال: يا علماء السوء جعلتم للدنيا على رءوسكم والآخرة تحت أقدامكم، قولكم شفاء وعملكم داء (3) مثلكم مثل شجرة الدقلى (4) تعجب من رآها وتقتل من أكلها.
وقال وهب: قال عيسى: يا علماء السوء جلستم على أبواب الجنة فلا تدخلونها ولا تدعون المساكين يدخلونها، إن شر الناس عند الله عالم يطلب الدنيا بعلمه.
وقال مكحول: التقى يحيى وعيسى، فصافحه عيسى وهو يضحك فقال له
__________
(1) الصبحة.
نوم الغداة (2) ا: زل.
(3) المطبوعة ؟ ؟: دواء.
محرفة.
(4) الدقلى: نبت مر، قتال زهره كالورد الاحمر.
(*)(2/447)
يحيى: يا بن خالة مالي أراك ضاحكا كأنك قد أمنت ؟ ! فقال له عيسى: مالي أراك عابسا كأنك قد يئست ! فأوحى الله إليهما: إن أحبكما إلي أبشكما بصاحبه.
وقال وهب بن منبه: وقف عيسى هو وأصحابه على قبر وصاحبه يدلى فيه، فجعلوا يذكرون القبر وضيقه فقال: قد كنتم فيما هو أضيق منه في أرحام (1) أمهاتكم، فإذا أحب (2) الله أن يوسع وسع.
وقال أبو عمر الضرير: بلغني أن عيسى كان إذا ذكر الموت يقطر جلده دما.
والآثار في مثل هذا كثيرة جدا.
وقد أورد الحافظ ابن عساكر منها طرفا صالحا اقتصرنا منها على هذا القدر.
والله الموفق للصواب.
__________
(1) ط: من أرحام (2) ا: فإذا أراد.
(*)(2/448)
ذكر رفع عيسى عليه السلام إلى السماء في حفظ الرب، وبيان كذب اليهود والنصارى في دعوى الصلب قال الله تعالى: " ومكروا ومكر الله والله خير الماكرين.
إذ قال الله يا عيسى إني متوفيك ورافعك إلي ومطهرك من الذين كفروا وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة ثم إلي مرجعكم فأحكم
بينكم فيما كنتم فيه تختلفون (1) ".
وقال تعالى: " فبما نقضهم ميثاقهم وكفرهم بآيات الله وقتلهم الانبياء بغير حق وقولهم قلوبنا غلف بل طبع الله عليها بكفرهم فلا يؤمنون إلا قليلا، وبكفرهم وقولهم على مريم بهتانا عظيما.
وقولهم إنا قتلنا المسيح عيسى بن مريم رسول الله وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم وإن الذين اختلفوا فيه لفي شك منه مالهم به من علم إلا اتباع الظن وما قتلوه يقينا بل رفعه الله إليه وكان الله عزيزا حكيما.
وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته ويوم القيامة يكون عليهم شهيدا " (2) فأخبر تعالى أنه رفعه إلى السماء بعد ما توفاه بالنوم على الصحيح المقطوع به، وخلصه ممن كان أراد أذيته من اليهود الذين وشوا به إلى بعض الملوك الكفرة في ذلك الزمان.
__________
(1) سورة آل عمران 54، 55.
(2) سورة النساء 155 - 159.
(*) (29 قصص الانبياء 2)(2/449)
قال الحسن البصري ومحمد بن إسحاق: كان اسمه داود بن نورا (1) فأمر بقتله وصلبه، فحصروه في دار ببيت المقدس، وذلك عشية الجمعة ليلة السبت، فلما حان وقت دخولهم ألقى شبهه على بعض أصحابه الحاضرين عنده ورفع عيسى من روزنة [ من ] (2) ذلك البيت إلى السماء، وأهل البيت ينظرون، ودخل الشرط فوجدوا ذلك الشاب الذي ألقى عليه شبهه فأخذوه ظانين أنه عيسى فصلبوه ووضعوا الشوك على رأسه إهانة له، وسلم لليهود عامة النصارى الذين لم يشاهدوا ما كان من أمر عيسى أنه صلب وضلوا بسبب ذلك ضلالا مبينا كثيرا فاحشا بعيدا.
وأخبر تعالى بقوله: " وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل
موته " أي بعد نزوله إلى الارض في آخر الزمان قبل قيام الساعة، فإنه ينزل ويقتل الخنزير ويكسر الصليب ويضع الجزية ولا يقبل إلا الاسلام، كما بينا ذلك بما ورد فيه من الاحاديث عند تفسير هذه الآية الكريمة من سورة النساء، كما أوردنا ذلك مستقصى في كتاب الفتن والملاحم عند أخبار المسيح الدجال، فذكرنا ما ورد في نزول المسيح المهدي عليه السلام من ذي الجلال لقتل المسيح الدجال الكذاب الداعي إلى الضلال.
وهذا ذكر ما ورد في الآثار في صفة رفعه إلى السماء: قال ابن أبي حاتم: حدثنا أحمد بن سنان، حدثنا أبو معاوية، عن المنهال بن عمرو، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: لما أراد الله أن يرفع عيسى إلى السماء خرج على أصحابه وفي البيت اثنا عشر
__________
(1) ا: بن فودا (2) من ا.
(*)(2/450)
رجلا منهم من الحواريين، يعني فخرج عليهم من عين في البيت ورأسه يقطر ماء فقال: إن منكم من يكفر بي اثنى عشرة مرة بعد أن آمن بي، ثم قال: أيكم [ يلقى ] (1) عليه شبهي فيقتل مكاني فيكون معى في درجتي ؟ فقام شاب من أحدثهم سنا فقال له: اجلس.
ثم أعاد عليهم فقام الشاب فقال أنا.
فقال: أنت هو ذاك.
فألقى عليه شبه عيسى، ورفع عيسى من روزنة في البيت إلى السماء.
قال: وجاء الطلب من اليهود فأخذوا الشبه فقتلوه ثم صلبوه فكفر به بعضهم اثنى عشرة مرة بعد أن آمن به وافترقوا ثلاث فرق، فقالت طائفة: كان الله فينا ما شاء ثم صعد إلى السماء.
وهؤلاء اليعقوبية.
وقالت فرقة: كان فينا ابن الله ما شاء ثم رفعه الله إليه وهؤلاء النسطورية.
وقالت فرقة: كان فينا عبد الله ورسوله ما شاء ثم رفعه الله إليه.
وهؤلاء المسلمون، فتظاهرت الكافرتان على المسلمة فقتلوها فلم يزل الاسلام طامسا حتى بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم.
قال ابن عباس: وذلك قوله تعالى: " فأيدنا الذين آمنوا على عدوهم فأصبحوا ظاهرين ".
وهذا إسناد صحيح إلى ابن عباس على شرط مسلم.
ورواه النسائي عن أبي كريب، عن أبي معاوية به نحوه.
ورواه ابن جرير عن مسلم بن جنادة عن أبي معاوية.
وهكذا ذكر غير واحد من السلف وممن ذكر ذلك مطولا محمد ابن إسحق بن يسار (2).
__________
(1) سقطت من ا.
(2) المطبوعة: ابن بشار.
محرفة (*)(2/451)
قال: وجعل عيسى عليه السلام يدعو الله عزوجل أن يؤخر أجله، يعني ليبلغ الرسالة ويكمل الدعوة ويكثر الناس الدخول في دين الله قيل: وكان عنده من الحواريين اثنا عشر رجلا: بطرس ويعقوب بن زبدا ويحنس أخو يعقوب، واندراوس، وفليبس، وابرثلما، ومتى، وتوماس، ويعقوب بن حلقيا، وتداوس (1) وفتاتيا، ويودس (2) كريايوطا، وهذا هو الذي دل اليهود على عيسى.
قال ابن إسحق: وكان فيهم رجل آخر اسمه سرجس كتمته النصارى وهو الذي ألقى شبه المسيح عليه فصلب عنه.
قال: وبعض النصارى يزعم أن الذي صلب عن المسيح وألقى عليه شبهه هو يودس بن كريايوطا والله أعلم.
وقال الضحاك عن ابن عباس استخلف عيسى شمعون وقتلت اليهود يودس الذي ألقى عليه الشبه.
وقال أحمد بن مروان: حدثنا محمد بن الجهم، قال: سمعت الفراء يقول في قوله: " ومكروا ومكر الله، والله خير الماكرين " قال: إن عيسى غاب عن خالته زمانا فأتاها، فقام رأس الجالوت اليهودي فضرب على عيسى حتى اجتمعوا على باب داره فكسروا الباب ودخل رأس جالوت ليأخذ عيسى فطمس الله عينيه عن عيسى، ثم خرج إلى أصحابه فقال لم أره.
ومعه سيف مسلول.
فقالوا: أنت عيسى وألقى الله شبه
__________
(1): حلقايا وبراوسيس.
(2) ا: ونودس.
(*)(2/452)
عيسى عليه [ فأخذوه ] (1) فقتلوه وصلبوه، فقال جل ذكره: " وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم ".
وقال ابن جرير: حدثنا ابن حميد، حدثنا يعقوب القمي، عن هرون ابن عنترة، عن وهب بن منبه، قال: أتى عيسى ومعه سبعة عشر من الحواريين في بيت فأحاطوا بهم، فلما دخلوا عليهم صورهم الله كلهم على صورة عيسى فقالوا لهم: سحرتمونا لتبرزن إلينا عيسى أو لنقتلنكم جميعا.
فقال عيسى لاصحابه: من يشتري منكم نفسه اليوم بالجنة (2) فقال رجل أنا.
فخرج إليهم فقال: أنا عيسى.
وقد صوره الله على صورة عيسى، فأخذوه فقتلوه وصلبوه فمن ثم شبه لهم وظنوا أنهم قد قتلوا عيسى، فظنت النصارى مثل ذلك أنه عيسى، ورفع الله عيسى من يومه ذلك.
قال ابن جرير: وحدثنا المثنى، حدثنا إسحاق، حدثنا إسماعيل بن
عبد الكريم، حدثنى عبد الصمد بن معقل، أنه سمع وهبا يقول: إن عيسى ابن مريم لما أعلمه الله أنه خارج من الدنيا جزع من الموت وشق عليه، فدعا الحواريين وصنع لهم طعاما فقال: احضروني الليلة فإن لي إليكم حاجة فلما اجتمعوا إليه من الليل عشاهم وقام يخدمهم، فلما فرغوا من الطعام أخذ يغسل أيديهم ويوضئهم بيده ويمسح أيديهم بثيابه، فتعاظموا ذلك وتكارهوه فقال: من رد على شيئا الليلة مما أصنع فليس مني ولا أنا منه.
فأقروه حتى إذا فرغ من ذلك قال: أما ما صنعت بكم الليلة مما خدمتكم (3) على
__________
(1) ليست في ا.
(2) ا: من يرى اليوم الجنة.
(3) ا: مما حدثتكم.
(*)(2/453)
الطعام وغسلت أيديكم بيدى فليكن لكم بي أسوة، فإنكم ترون أنى خيركم فلا يتعظم بعضكم على بعض، وليبذل بعضكم لبعض نفسه، كما بذلت نفسي لكم، وأما حاجتى التي استعنتكم عليها فتدعون الله [ لي ] (1) وتجتهدون في الدعاء أن يؤخر أجلى.
فلما نصبوا أنفسهم للدعاء وأرادوا أن يجتهدوا أخذهم النوم حتى لم يستطيعوا دعاء، فجعل يوقظهم ويقول: سبحان الله أما تصبرون لي ليلة واحدة تعينوني فيها ؟ فقالوا: والله ما ندرى مالنا، والله لقد كنا نسمر فنكثر السمر وما نطيق الليلة سمرا، وما نريد دعاء إلا حيل بيننا وبينه فقال: يذهب بالراعى وتتفرق الغنم ! وجعل يأتي بكلام نحو هذا ينعى به نفسه.
ثم قال: الحق ليكفرن بي أحدكم قبل أن يصيح الديك ثلاث مرات، وليبيعني أحدكم بدراهم يسيرة وليأكلن ثمني.
فخرجوا وتفرقوا، وكانت اليهود تطلبه فأخذوا شمعون أحد الحواريين فقالوا: هذا من صحابه.
فجحد وقال: ما أنا بصاحبه.
فتركوه.
ثم أخذه آخرون فجحد كذلك، ثم سمع صوت ديك فبكى وأحزنه.
فلما أصبح أتى أحد الحواريين إلى اليهود فقال: ما تجعلون لي إن دللتكم على المسيح ؟ فجعلوا له ثلاثين درهما فأخذها ودلهم عليه وكان شبه عليهم قبل ذلك فأخذوه واستوثقوا منه وربطوه بالحبل وجعلوا يقودونه
__________
(1) من ا.
(*)(2/454)
ويقولون: أنت كنت تحيى الموتى وتنتهر الشيطان وتبرئ المجنون، أفلا تنجي نفسك من هذا الحبل ؟ ! ويبصقون عليه ويلقون عليه الشوك حتى أتوا به الخشبة التي أرادوا أن يصلبوه عليها فرفعه الله إليه وصلبوا ما شبه لهم فمكث سبعا.
ثم إن أمه والمرأة التي كان يداويها عيسى فأبرأها الله من الجنون جاءتا تبكيان حيث كان المصلوب، فجاءهما عيسى فقال: علام تبكيان ؟ قالتا عليك.
فقال: إني قد رفعني الله إليه ولم يصبنى إلا خير، وإن هذا شئ شبه لهم.
فأمرا الحواريين أن يلقوني إلى مكان كذا وكذا.
فلقوه إلى ذلك المكان أحد عشر وفقد الذي كان باعه ودل عليه اليهود، فسأل عنه أصحابه فقالوا إنه ندم على ما صنع فاختنق وقتل نفسه.
فقال: لو تاب لتاب الله عليه.
ثم سألهم عن غلام [ كان ] (1) يتبعهم يقال له يحيى فقال: هو معكم فانطلقوا فإنه سيصبح كل إنسان منكم يحدث بلغة قوم فلينذرهم وليدعهم.
وهذا إسناد غريب عجيب، وهو أصح مما ذكره النصارى لعنهم الله
من أن المسيح جاء إلى مريم وهي جالسة تبكى عند جذعة فأراها مكان المسامير من جسده، وأخبرها أن روحه رفعت وأن جسده صلب.
وهذا بهت وكذب واختلاق وتحريف وتبديل وزيادة باطلة في الانجيل على خلاف الحق ومقتضى الدليل (2).
وحكى الحافظ ابن عساكر من طريق يحيى بن حبيب، فيما بلغه،
__________
(1) من ا.
(2) المطبوعة: ومقتضى النقل (*)(2/455)
أن مريم سألت من بيت الملك بعد ما صلب المصلوب بسبعة أيام، وهي تحسب أنه ابنها، أن ينزل جسده، فأجابهم إلى ذلك ودفن هنالك، فقالت مريم لام يحيى: ألا تذهبين بنا نزور قبر المسيح ؟ فذهبتا فلما دنتا من القبر قالت مريم لام يحيى.
ألا تستترين ؟ فقالت: وممن أستتر ؟ فقالت من هذا الرجل الذي هو عند القبر.
فقالت أم يحيى: إني لا أرى أحدا فرجت مريم أن يكون جبريل، وكانت قد بعد عهدها به، فاستوقفت أم يحيى وذهبت نحو القبر فلما دنت من القبر قال لها جبريل، وعرفته: يا مريم أين تريدين (1) ؟ فقالت: أزور قبر المسيح فأسلم عليه وأحدث عهدا به.
فقال: يا مريم إن هذا ليس المسيح، إن الله قد رفع المسيح وطهره من الذين كفروا، ولكن هذا الفتى الذي ألقى شبهه عليه وصلب وقتل مكانه، وعلامة ذلك أن أهله قد فقدوه فلا يدرون ما فعل به فهم يبكون عليه فإذا كان يوم كذا وكذا فأت غيضة كذا وكذا فإنك تلقين المسيح.
قال: فرجعت إلى أختها وصعد جبريل فأخبرتها عن جبريل وما قال لها من أمر الغيضة، فلما كان ذلك اليوم ذهبت فوجدت عيسى في الغيضة
فلما رآها أسرع إليها وأكب عليها فقبل رأسها وجعل يدعو لها كما كان يفعل، وقال يا أمه إن القوم لم يقتلوني ولكن الله رفعني إليه وأذن لي في لقائك والموت يأتيك قريبا فاصبري واذكري الله كثيرا.
ثم صعد عيسى فلم تلقه إلا تلك المرة حتى ماتت.
__________
(1) ا: أين تريدون.
(*)(2/456)
قال: وبلغني أن مريم بقيت بعد عيسى خمس سنين وماتت ولها ثلاث وخمسون سنة.
رضي الله عنها وأرضاها.
وقال الحسن [ البصري ] (1): كان عمر عيسى عليه السلام يوم رفع أربعا وثلاثين سنة.
وفي الحديث: " إن أهل الجنة يدخلونها (2) جردا مردا مكحلين أبناء ثلاث وثلاثين ".
وفي الحديث: الآخر: " على ميلاد عيسى وحسن يوسف " وكذا قال حماد بن سلمة عن علي بن يزيد، عن سعيد بن المسيب، أنه قال: رفع عيسى وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة.
فأما الحديث الذي رواه الحاكم في مستدركه ويعقوب بن سفيان الفسوى في تاريخه، عن سعيد بن أبي مريم، عن نافع بن يزيد، عن عمارة ابن غزية، عن محمد بن عبد الله بن عمرو بن عثمان، أن أمه فاطمة بنت الحسين حدثته أن عائشة كانت تقول: أخبرتني فاطمة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبرها أنه لم يكن نبي كان بعده نبي إلا عاش الذي بعده نصف عمر الذي كان قبله، وأنه أخبرني أن عيسى بن مريم عاش عشرين ومائة سنة فلا أراني إلا ذاهب على رأس ستين.
هذا لفظ الفسوى.
فهو حديث غريب.
قال الحافظ ابن عساكر: والصحيح أن عيسى لم يبلغ هذا العمر، وإنما
أراد به مدة مقامه في أمته، كما روى سفيان بن عيينة، عن عمرو بن دينار عن يحيى بن جعدة، قال قالت فاطمة: قال لي رسول الله صلى الله
__________
(1) ليست في ا.
(2) ا: يدخلون.
(*)(2/457)
عليه وسلم: إن عيسى بن مريم مكث في بني إسرائيل أربعين سنة وهذا منقطع.
وقال جرير والثوري عن الاعمش، عن (1) إبراهيم: مكث عيسى في قومه أربعين عاما.
ويروى عن أمير المؤمنين علي أن عيسى عليه السلام رفع ليلة الثاني والعشرين من رمضان، وتلك الليلة في مثلها توفى علي بعد طعنه بخمسة أيام.
وقد روى الضحاك عن ابن عباس أن عيسى لما رفع إلى السماء جاءته سحابة فدنت منه حتى جلس عليها وجاءته مريم فودعته وبكت ثم رفع وهي تنظر وألقى إليها عيسى.
دا له وقال: هذا علامة ما بينى وبينك يوم القيامة وألقى عمامته على شمعون، وجعلت أمه تودعه بإصبعها تشير بها إليه حتى غاب عنها، وكانت تحبه حبا شديدا، لانه توفر (2) عليها حبه من جهتى الوالدين إذ لا أب له، وكانت لا تفارقه سفرا ولا حضرا [ وكانت كما (3) ] قال بعض الشعراء: وكنت أرى كالموت من بين ساعة * فكيف ببين كان موعده الحشر وذكر إسحاق بن بشر، عن مجاهد بن جبير (4) أن اليهود لما صلبوا ذلك الرجل شبه لهم وهم يحسبونه المسيح وسلم لهم أكثر النصارى بجهلهم ذلك، تسلطوا على أصحابه بالقتل والضرب والحبس فبلغ أمرهم
__________
(1) الاصل: أن إبراهيم (2) ا: موفر (3) من ا (4) ا: ابن جبر.
(*)(2/458)
إلى صاحب الروم وهو ملك دمشق في ذلك الزمان، فقيل له إن اليهود قد تسلطوا على أصحاب رجل كان يذكر لهم أنه رسول الله وكان (1) يحيى الموتى ويبرئ الاكمه والابرص ويفعل العجائب، فعدوا عليه فقتلوه وأهانوا أصحابه وحبسوهم فبعث فجئ بهم وفيهم يحيى بن زكريا وشمعون وجماعة، فسألهم عن أمر المسيح فأخبروه عنه، فبايعهم في دينهم وأعلى كلمتهم وظهر (2) الحق على اليهود وعلت كلمة النصارى عليهم، وبعث إلى المصلوب فوضع عن جذعه وحئ بالجذع الذي صلب عليه ذلك الرجل فعظمه فمن ثم عظمت النصارى الصليب، ومن هاهنا دخل دين النصرانية في الروم.
وفي هذا نظر من وجوه: أحدها: أن يحيى بن زكريا نبي لا يقر على أن المصلوب عيسى، فإنه معصوم يعلم ما وقع على جهة الحق.
الثاني: ان الروم لم يدخلوا في دين المسيح إلا بعد ثلاثمائة سنة، وذلك في زمان قسطنطين بن قسطن بانى المدينة المنسوبة إليه على ما سنذكره.
الثالث: أن اليهود لما صلبوا ذلك الرجل ثم ألقوه بخشبته جعلوا مكانه مطرحا للقمامة والنجاسة وجيف الميتات والقاذورات، فلم يزل كذلك حتى كان في [ زمان ] قسطنطين المذكور فعمدت أمه هيلانة الحرانية الفندقانية فاستخرجته من هنالك معتقدة أنه المسيح، ووجدوا الخشبة التي
__________
(1) ا: وأنه كان (2) ا: فأظهر.
(*)(2/459)
صلب عليها للصلوب، فذكروا أنه ما مسها ذو عاهة إلا عوفي.
فالله أعلم أكان هذا أم لا، وهل كان هذا لان ذلك الرجل الذي بذل نفسه كان رجلا صالحا أو كان هذا محنة وفتنة لامة النصارى في ذلك اليوم، حتى عظموا تلك الخشبة وغشوها بالذهب واللآلئ، ومن ثم اتخذوا الصلبانات وتبركوا بشكلها وقبلوها، وأمرت أم الملك هيلانة فأزيلت تلك القمامة وبنى مكانها كنيسة هائلة مزخرفة بأنواع الزينة، فهي هذه المشهورة اليوم ببلد بيت المقدس التي يقال لها القمامة باعتبار ما كان عندها، ويسمونها القيامة يعنون التي يقوم جسد المسيح منها.
ثم أمرت هيلانة بأن توضع قمامة البلد وكناسته وقاذوراته على الصخرة التي هي قبلة اليهود فلم تزل كذلك حتى فتح عمر بن الخطاب بيت المقدس، فكنس عنها القمامة بردائه وطهرها من الاخباث والانجاس، ولم يضع المسجد وراءها ولكن أمامها حيث صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الاسراء بالانبياء وهو [ المسجد ] الاقصى.(2/460)
ذكر صفة عيسى عليه السلام وشمائله وفضائله قال الله تعالى: " ما المسيح ابن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل وأمه صديقة ".
قيل سمى المسيح لمسحه الارض وهو سياحته فيها وفراره بدينه من الفتن في ذلك الزمان، لشدة تكذيب اليهود له وافترائهم عليه وعلى أمه عليهما السلام.
وقيل لانه كان ممسوح القدمين.
وقال تعالى: " وقفينا على آثارهم برسلنا وقفينا بعيسى بن مريم وآتيناه الانجيل فيه هدى ونور " وقال تعالى: " وآتينا عيسى بن مريم
البينات وأيدناه بروح القدس " والآيات في ذلك (1) كثيرة جدا.
وقد تقدم ما ثبت في الصحيحين: " ما من مولود إلا والشيطان يطعن في خاصرته حين يولد فيستهل صارخا إلا مريم وابنها، ذهب يطعن فطعن في الحجاب " وتقدم حديث عمير بن هانئ [ عن جنادة، عن عبادة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال (2) ] " من شهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدا عبد (3) الله ورسوله وأن عيسى عبد الله ورسوله وكلمته التي ألقاها إلى مريم وروح منه، والجنة حق والنار حق أدخله الله الجنة على ما كان من العمل ".
رواه البخاري وهذا لفظه، ومسلم.
__________
(1) ا: في ذكره.
(2) سقط من ا.
(3) ط: عبده.
(*)(2/461)
وروى البخاري ومسلم من حديث الشعبي، عن أبي بردة بن أبي موسى، عن أبيه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إذا أدب الرجل أمته فأحسن تأديبها وعلمها فأحسن تعليمها ثم أعتقها فتزوجها كان له أجران، وإذا آمن بعيسى بن مريم ثم آمن بي فله أجران، والعبد إذا اتقى ربه وأطاع مواليه فله أجران ".
هذا لفظ البخاري.
وقال البخاري: حدثنا إبراهيم بن موسى، أنبأنا هشام، عن معمر (ح) وحدثني محمود، حدثنا عبد الرزاق، أنبأنا معمر، عن الزهري، أخبرني سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة قال: قال النبي (1) صلى الله عليه وسلم " ليلة أسرى بي لقيت موسى.
قال فنعته فإذا رجل حسبته قال مضطرب رجل الرأس كأنه من رجال شنوءة.
قال ولقيت عيسى فنعته النبي صلى الله
عليه وسلم فقال: ربعة (2) أحمر كأنما خرج من ديماس، يعني الحمام، ورأيت إبراهيم وأنا أشبه ولده به " الحديث.
وقد تقدم في قصتي إبراهيم وموسى.
ثم قال: حدثنا محمد بن كثير، أنبأنا اسرائيل، عن عثمان بن المغيرة، عن مجاهد، عن ابن عمر، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: " رأيت عيسى وموسى وإبراهيم.
فأما عيسى فأحمر جعد (2) عريض الصدر.
وأما موسى فآدم جسيم سبط (3) كأنه من رجال الزط ".
تفرد به البخاري.
__________
(1) ا: قال رسول الله.
(2) الربعة: المتوسط بين الطول والقصر.
(3) السبط: المسترسل الشعر.
(*)(2/462)
وحدثنا إبراهيم بن المنذر، حدثنا أبو ضمرة، حدثنا موسى بن عقبة، عن نافع، قال: قال عبد الله بن عمر: ذكر النبي صلى الله عليه وسلم يوما بين ظهراني الناس المسيح الدجال فقال: إن الله ليس بأعور إلا أن المسيح الدجال أعور العين اليمنى كأن عينه عنبة طافية، وأراني الليلة عند الكعبة في المنام فإذا رجل آدم كأحسن ما يرى من أدم الرجال تضرب لمته بين منكبيه رجل الشعر يقطر رأسه ماء واضعا يديه على منكبي رجلين، وهو يطوف بالبيت فقلت من هذا ؟ فقالوا: المسيح بن مريم ثم رأيت رجلا وراءه جعدا قططا (1) أعور عين اليمنى كأشبه من رأيت بابن قطن، واضعا يده على منكبي رجل يطوف بالبيت فقلت من هذا ؟ فقالوا: المسيح الدجال.
ورواه مسلم من حديث موسى بن عقبة.
ثم قال البخاري: تابعه
عبد الله بن نافع.
ثم ساقه من طريق الزهري عن سالم بن عمر قال الزهري: وابن قطن رجل من خزاعة هلك في الجاهلية.
فبين صلوات الله وسلامه عليه صفة المسيحين: مسيح الهدى ومسيح الضلالة، ليعرف هذا إذا نزل فيؤمن به المؤمنون ويعرف الآخر فيحذره الموحدون.
وقال البخاري: حدثنا عبد الله بن محمد، حدثنا عبد الرزاق، أنبأنا (2)
__________
(1) الجعد: خلاف السبط، وهو المسترسل من الشعر.
والقطط: الشديد الجعودة.
وفي الاصل: جعد قطط والتصويب من البخاري 2 / 124.
(2) ا: حدثنا.
(*)(2/463)
معمر، عن همام بن منبه، عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " رأى عيسى بن مريم رجلا يسرق فقال له: أسرقت ؟ قال: كلا والذي لا إله إلا هو.
فقال عيسى آمنت بالله وكذبت عينى " وكذا رواه [ مسلم عن ] (1) محمد بن رافع عن عبد الرزاق.
وقال أحمد: حدثنا عفان، حدثنا حماد بن سلمة، عن حميد الطويل، عن الحسن وغيره، عن أبي هريرة قال:، ولا أعلمه إلا عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " رأى عيسى رجلا يسرق فقال: يا فلان أسرقت ؟ فقال لا والله ما سرقت.
فقال آمنت بالله وكذبت بصرى ".
وهذا يدل على سجية طاهرة، حيث قدم حلف ذلك الرجل فظن (2) أن أحدا لا يحلف بعظمة الله كاذبا على ما شاهده منه عيانا، فقبل عذره ورجع على نفسه فقال: آمنت بالله.
أي صدقتك وكذبت بصرى لاجل حلفك.
وقال البخاري: حدثنا محمد بن يوسف، حدثنا سفيان، عن المغيرة ابن النعمان، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " تحشرون حفاة عراة غرلا ثم قرأ: " كما بدأنا أول خلق نعيده وعدا علينا إنا كنا فاعلين " فأول الخلق يكسى إبراهيم، ثم يؤخذ برجال من أصحابي ذات اليمين وذات الشمال فأقول أصحابي فيقال إنهم لن يزالوا مرتدين على أعقابهم منذ فارقتهم فأقول كما قال العبد الصالح عيسى بن مريم: " وكنت عليهم شهيدا ما دمت
__________
(1) سقطت من المطبوعة (2) ا: وظن (*)(2/464)
فيهم فلما توفيتنى كنت أنت الرقيب عليهم وأنت على كل شئ شهيد * إن تعذبهم فإنهم عبادك، وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم ".
تفرد به دون مسلم من هذا الوجه.
وقال أيضا: حدثنا عبد الله بن الزبير الحميدي، حدثنا سفيان، سمعت الزهري يقول: أخبرني عبد الله بن عبد الله، عن ابن عباس سمع عمر يقول على المنبر سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " لا تطرونى كما أطرت النصارى عيسى بن مريم فإنما أنا عبد فقولوا عبد الله ورسوله ".
وقال البخاري: حدثنا إبراهيم، حدثنا جرير بن حازم، عن محمد بن سيرين، عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لم يتكلم في المهد إلا ثلاثة: عيسى، وكان في بني إسرائيل رجل يقال له جريج يصلى إذ جاءته أمه فدعته فقال أجيبها أو أصلى ؟ فقالت: اللهم لا تمته حتى تريه وجوه المومسات، وكان جريج في صومعة فعرضت له امرأة وكلمته فأبى فأتت راعيا فأمكنته من نفسها فولدت غلاما فقيل لها ممن ؟ قالت:
من جريج فأتوه وكسروا صومعته فأنزلوه وسبوه فتوضأ وصلى ثم أتى الغلام فقال: من أبوك يا غلام ؟ قال: فلان الراعى.
قالوا: أنبنى صومعتك من ذهب ؟ قال: لا إلا من طين.
وكانت امرأة ترضع ابنا لها في بني إسرائيل فمر بها رجل راكب ذو شارة فقالت: اللهم اجعل ابني مثله، فترك ثديها وأقبل على الراكب فقال: اللهم لا تجعلني مثله.
ثم أقبل على ثديها يمصه.
قال أبو هريرة: كأني أنظر إلى النبي صلى الله عليه وسلم يمص إصبعه.
ثم مر بأمة فقالت: اللهم لا تجعل ابني مثل هذه.
فترك (30 - قصص الانبياء 2)(2/465)
ثديها فقال: اللهم اجعلني مثلها.
فقالت: لم ذلك فقال: الراكب جبار من الجبابرة، وهذه الامة يقولون سرقت وزنت (1).
ولم تفعل " وقال البخاري: حدثنا أبو اليمان، حدثنا شعيب، عن الزهري، أخبرني أبو سلمة، أن أبا هريرة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " أنا أولى الناس بابن مريم، والانبياء أولاد علات (2) ليس بيني وبينه نبي ".
تفرد به البخاري من هذا الوجه.
ورواه ابن حبان في صحيحه من حديث أبي داود الحفرى، عن الثوري عن أبي الزناد، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة.
وقال أحمد: حدثنا وكيع، حدثنا سفيان هو الثوري، عن أبي الزناد، عن الاعرج، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أنا أولى الناس بعيسى عليه السلام والانبياء إخوة أولاد علات، وليس بيني وبين عيسى نبي ".
وهذا إسناد صحيح على شرطهما ولم يخرجوه من هذا الوجه.
وأخرجه
أحمد عن عبد الرزاق، عن معمر، عن همام، عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحوه، وأخرجه ابن حبان من حديث عبد الرزاق نحوه (3).
قال أحمد حدثنا: يحيى، عن ابن أبي عروبة، حدثنا قتادة، عن عبد الرحمن ابن آدم، عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " الانبياء إخوة
__________
(1) ا: وزنيت.
(2) العلات: الضرائر (3) ا: به نحوه.
(*)(2/466)
لعلات، ودينهم واحد وأمهاتهم شتى، وأنا أولى الناس بعيسى بن مريم لانه لم يكن بيني وبينه نبي، وإنه نازل فإذا رأيتموه فاعرفوه، فإنه رجل مربوع إلى الحمرة والبياض، سبط كأن رأسه يقطر وإن لم يصبه بلل بين مخصرتين (1)، فيكسر الصليب ويقتل الخنزير ويضع الجزية ويعطل الملل حتى تهلك في زمانه كلها غير الاسلام، ويهلك الله في زمانه المسيح الدجال الكذاب، وتقع الامنة في الارض حتى ترتع الابل مع الاسد جميعا والنمور مع البقر والذئاب مع الغنم ويلعب الصبيان والغلمان بالحيات لا يضر بعضهم بعضا فيمكث ما شاء الله أن يمكث، ثم يتوفى فيصلى عليه المسلمون ويدفنونه.
ثم رواه أحمد عن عفان، عن همام، عن قتادة، عن عبد الرحمن، عن أبي هريرة فذكر نحوه.
وقال: فيمكث أربعين سنة، ثم يتوفى ويصلى عليه المسلمون.
ورواه أبو داود عن هدبة بن خالد، عن همام بن يحيى به نحوه.
وروى هشام بن عروة، عن صالح مولى أبي هريرة عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " فيمكث في الارض أربعين سنة " وقد بينا
نزوله عليه السلام في آخر الزمان في كتاب الملاحم، كما بسطنا ذلك أيضا في التفسير عند قوله تعالى في سورة النساء: " وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته ويوم القيامة يكون عليهم شهيدا " وقوله " وإنه لعلم للساعة " الآية وأنه ينزل على المنارة البيضاء بدمشق وقد أقيمت صلاة الصبح فيقول له إمام المسلمين: تقدم يا روح الله فصل.
فيقول:
__________
(1) المخصرة: ما يتوكأ عليه كالعصا، وما يأخذه الملك ليشير به إذا خاطب.
(*)(2/467)
لا بعضكم على بعض أمراء مكرمة الله هذه الامة.
وفي رواية فيقول له عيسى: إنما أقيمت الصلاة لك.
فيصلى خلفه.
ثم يركب ومعه المسلمون في طلب المسيح الدجال فيلحقه عند باب لد فيقتله بيده الكريمة.
وذكرنا أنه قوى الرجاء حين بنيت هذه المنارة الشرقية بدمشق التي هي من حجارة بيض، وقد بنيت أيضا من أموال النصارى حين حرقوا التي هدمت وما حولها، فينزل عليها عيسى بن مريم عليه السلام فيقتل الخنزير ويكسر الصليب ولا يقبل من أحد إلا الاسلام، وأنه يخرج من فج الروحاء حاجا أو معتمرا أو لثتتيهما (1)، ويقيم أربعين سنة، ثم يموت فيدفن فيما قيل في الحجرة النبوية عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبيه.
وقد ورد في ذلك حديث ذكره ابن عساكر في آخر ترجمة المسيح عليه السلام في كتابه عن عائشة مرفوعا، أنه يدفن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر في الحجرة النبوية ولكن لا يصح إسناده.
وقال أبو عيسى الترمذي: حدثنا زيد بن أخزم الطائي، حدثنا أبو قتيبة مسلم بن قتيبة، حدثني أبو مودود المدنى، حدثنا عثمان بن الضحاك، عن محمد بن يوسف عن عبد الله بن سلام، عن أبيه، عن جده قال
مكتوب في التوراة: صفة محمد وعيسى بن مريم عليهم السلام يدفن معه.
قال أبو مودود: وقد بقى من البيت موضع قبر.
ثم قال الترمذي: هذا حديث حسن.
كذا قال.
والصواب: الضحاك ابن عثمان المدني.
__________
(1) ا: أو ليثنيهما.
(*)(2/468)
وقال البخاري: هذا الحديث لا يصح عندي ولا يتابع عليه.
وروى البخاري عن يحيى بن حماد، عن أبي عوانة، عن عاصم الاحول، عن أبي عثمان النهدي (1)، عن سلمان: قال: الفترة ما بين عيسى ومحمد صلى الله عليه وسلم ستمائة سنة وعن قتادة خمسمائة وستون سنة.
وقيل خمسمائة وأربعون سنة وعن الضحاك أربعمائة وبضع وثلاثون سنة.
والمشهور ستمائة سنة.
ومنهم من يقول ستمائة وعشرون سنة بالقمرية، لتكون ستمائة بالشمسية والله أعلم.
وقال ابن حبان في صحيحه: " ذكر المدة التي بقيت فيها أمه عيسى على هديه ": حدثنا أبو يعلى، حدثنا أبو همام، حدثنا الوليد بن مسلم، عن الهيثم بن حميد، عن الوضين بن عطاء، عن نصر بن علقمة، عن جبير ابن نفير، عن أبي الدرداء، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لقد قبض الله داود من بين أصحابه فما فتنوا ولا بدلوا ولقد مكث أصحاب المسيح على سنته وهديه مائتي سنة ".
وهذا حديث غريب جدا، وإن صححه ابن حبان.
وذكر ابن جرير عن محمد بن إسحاق، أن عيسى عليه السلام قبل أن يرفع وصي الحواريين بأن يدعو الناس إلى عبادة الله وحده لا شريك
له وعين كل واحد منهم إلى طائفة من الناس في إقليم من الاقاليم من الشام والمشرق وبلاد المغرب، فذكروا أنه أصبح كل إنسان منهم يتكلم بلغة الذين أرسله المسيح إليهم.
__________
(1) أ: اليزيدي.
محرفة.
(*)(2/469)
وذكر غير واحد أن الانجيل نقله عنه أربعة: لوقا ومتى ومرقس ويوحنا، وبين هذه الاناجيل الاربعة تفاوت كثير بالنسبة إلى كل نسخة ونسخة، وزيادات كثيرة ونقص بالنسبة إلى الاخرى، وهؤلاء الاربعة منهم اثنان ممن أدرك المسيح وراءه [ وهما (1) متى ويوحنا، ومنهم اثنان من أصحاب أصحابه وهما مرقس ولوقا.
وكان ممن آمن بالمسيح وصدقه من أهل دمشق رجل يقال له ضينا، وكان مختفيا في مغارة داخل الباب الشرقي قريبا من الكنيسة المصلبة خوفا من بولس اليهودي، وكان ظالما غاشما مبغضا للمسيح ولما جاء به، وكان قد حلق رأس ابن أخيه حين آمن بالمسيح وطاف به في البلد ثم رجمه حتى مات رحمه الله.
ولما سمع بولص أن المسيح عليه السلام قد توجه نحو دمشق جهز بغاله وخرج ليقتله، فتلقاه عند كوكبا، فلما واجه أصحاب المسيح جاء إليه ملك فضرب وجهه بطرف جناحه فأعماه، فلما رأى ذلك وقع
__________
(1) من هنا إلى آخر الكتاب سقط من ا.
وفي ا زيادة نصها: وقد أنشد الشيخ شهاب الدين القرافى في كتابه " الرد على النصارى " لبعضهم يرد عليهم في قولهم بصلب المسيح وتسليمهم ذلك لليهود، مع دعواهم أنه ابن الله، تعالى الله عن قولهم علوا كبيرا.
عجبا للمسيح بين النصارى * وإلى الله والدا نسبوه أسلموه إلى اليهود وقالوا * إنهم بعد قتله صلبوه فإن كان ما تقولون حقا * وصحيحا فأين كان أبوه حين خلى ابنه رهين الاعادي * أتراهم أرضوه أم أغضبوه فلئن كان راضيا بأذاهم * فاعذروهم لانهم واقفوه ولئن كان ساخطا فاتركوه * واعبدوهم لانهم غلبوه(2/470)
في نفسه تصديق المسيح فجاء إليه واعتذر مما صنع، وآمن به فقبل منه وسأله أن يمسح عينيه ليرد الله عليه بصره، فقال اذهب إلى ضينا عندك بدمشق في طرف السوق المستطيل من المشرق فهو يدعو لك فجاء إليه فدعا فرد عليه بصره وحسن إيمان بولص بالمسيح عليه السلام أنه عبد الله ورسوله وبنيت له كنيسته باسمه فهي كنيسة بولص المشهورة بدمشق من زمن فتحها الصحابة رضي الله عنهم حتى خربت.
فصل اختلف أصحاب المسيح عليه السلام بعد رفعه إلى السماء فيه على أقوال، كما قاله ابن عباس وغيره من أئمة السلف كما أوردناه عند قوله: " فأيدنا الذين آمنوا على عدوهم فأصبحوا ظاهرين ".
قال ابن عباس وغيره: قال قائلون منهم: كان فينا عبد الله ورسوله فرفع إلى السماء.
وقال آخرون: هو الله.
وقال آخرون: هو ابن الله.
فالاول هو الحق والقولان الآخران كفر عظيم، كما قال: " فاختلف الاحزاب من بينهم فويل للذين كفروا من مشهد يوم عظيم ".
وقد اختلفوا في نقل الاناجيل على أربعة أقاويل ما بين زيادة ونقصان
وتحريف وتبديل.
ثم بعد المسيح بثلاثمائة سنة حدثت فيه الطامة العظمى والبلية الكبرى اختلف البتاركة الاربعة وجميع الاساقفة والقساوسة والشمامسة والرهابين في المسيح على أقوال متعددة لا تنحصر ولا تنضبط، واجتمعوا وتحاكموا(2/471)
إلى الملك قسطنطين بانى القسطنطينية وهم المجمع الاول، فصار الملك إلى قول أكثر فرقة اتفقت على قول من تلك المقالات، فسموا الملكية (1) ودحض من عداهم وأبعدهم، وتفردت الفرقة التابعة لعبد الله بن أريوس الذي ثبت على أن عيسى عبد من عباد الله ورسول من رسله فسكنوا البراري والبوادي وبنوا الصوامع والديارات والقلايات، وقنعوا بالعيش الزهيد ولم يخالطوا أولئك الملل والنحل وبنت الملكية (2) الكنائس الهائلة، عمدوا إلى ما كان من بناء اليونان فحولوا محاريبها إلى الشرق وقد كانت إلى الشمال إلى الجدى.
بيان بناء بيت لحم والقمامة وبنى الملك قسطنطين بيت لحم على محل مولد المسيح، وبنت أمه هيلانة القمامة، بعنى على قبر المصلوب وهم يسلمون لليهود أنه المسيح.
وقد كفرت هؤلاء وهؤلاء ووضعوا القوانين والاحكام.
ومنها مخالف للعتيقة التي هي التوراة، وأحلوا أشياء هي حرام بنص التوراة ومن ذلك الخنزير، وصلوا إلى الشرق ولم يكن المسيح صلى إلا إلى صخرة بيت المقدس، وكذلك جميع الانبياء بعد موسى، ومحمد خاتم النبيين صلى إليها بعد هجرته إلى المدينة ستة عشر أو سبعة عشر شهرا ثم حول إلى الكعبة التي بناها إبراهيم الخليل.
وصوروا الكنائس ولم تكن مصورة قبل ذلك، ووضعوا العقيدة التي
__________
(1) الاصل الملائكة (2) الاصل الملائكة.
(*)(2/472)
يحفظها أطفالهم ونساؤهم ورجالهم التي يسمونها بالامانة، وهي في الحقيقة أكبر الكفر والخيانة.
وجميع الملكية والنسطورية أصحاب نطورس أهل المجمع الثاني، واليعقوبية أصحاب يعقوب البراذعى أصحاب المجمع الثالث، يعتقدون هذه العقيدة ويختلفون في تفسيرها.
وها أنا أحكيها وحاكي الكفر ليس بكافر لابث، على ما فيها [ من ] ركة الالفاظ وكثرة الكفر والخبال المفضى بصاحبه إلى النار ذات الشواظ فيقولون: " نؤمن بإله واحد ضابط الكل خالق السموات والارض كل ما يرى وكل ما لا يرى، وبرب واحد يسوع المسيح ابن الله الوحيد المولود من الاب قبل الدهور نور من نور إله حق من إله حق، مولود غير مخلوق مساو للاب في الجوهر الذي كان به كل شئ، من أجلنا نحن البشر ومن أجل خلاصنا نزل من السماء وتجسد من روح القدس ومن مريم العذراء وتأنس وصلب على عهد ملاطس النبطي وتألم وقبر وقام في اليوم الثالث كما في الكتب وصعد إلى السماء وجلس عن يمين الاب، وأيضا فسيأتي بجسده ليدبر الاحياء والاموات الذي لافناء لملكه، وروح القدس الرب المحيى المنبثق من الاب مع الاب، والابن مسجود له وبمجد الناطق في الانبياء كنيسة واحدة جامعة مقدسة يهولية، وأعترف بمعمودية واحدة لمغفرة الخطايا وأنه حي قيامة الموتى وحياة الدهر العتيد كونه آمين.(2/473)
يحفظها أطفالهم ونساؤهم ورجالهم التي يسمونها بالامانة، وهي في الحقيقة أكبر الكفر والخيانة.
وجميع الملكية والنسطورية أصحاب نطورس أهل المجمع الثاني، واليعقوبية أصحاب يعقوب البراذعى أصحاب المجمع الثالث، يعتقدون هذه العقيدة ويختلفون في تفسيرها.
وها أنا أحكيها وحاكي الكفر ليس بكافر لابث، على ما فيها [ من ] ركة الالفاظ وكثرة الكفر والخبال المفضى بصاحبه إلى النار ذات الشواظ فيقولون: " نؤمن بإله واحد ضابط الكل خالق السموات والارض كل ما يرى وكل ما لا يرى، وبرب واحد يسوع المسيح ابن الله الوحيد المولود من الاب قبل الدهور نور من نور إله حق من إله حق، مولود غير مخلوق مساو للاب في الجوهر الذي كان به كل شئ، من أجلنا نحن البشر ومن أجل خلاصنا نزل من السماء وتجسد من روح القدس ومن مريم العذراء وتأنس وصلب على عهد ملاطس النبطي وتألم وقبر وقام في اليوم الثالث كما في الكتب وصعد إلى السماء وجلس عن يمين الاب، وأيضا فسيأتي بجسده ليدبر الاحياء والاموات الذي لافناء لملكه، وروح القدس الرب المحيى المنبثق من الاب مع الاب، والابن مسجود له وبمجد الناطق في الانبياء كنيسة واحدة جامعة مقدسة يهولية، وأعترف بمعمودية واحدة لمغفرة الخطايا وأنه حي قيامة الموتى وحياة الدهر العتيد كونه آمين.
وإلى هنا ينتهي كتاب قصص الانبياء للامام أبي الفداء إسماعيل بن ابن كثير، والحمد لله على نعمته..(2/473)