الغلاف
قصة الثورة الجزائرية(1/1)
قصة
الثورة الجزائرية
الطبعة الإلكترونية الأولى
1426 هـ
2005 م(1/3)
? قصة الثورة الجزائرية
? أحمد الشقيري
? الطبعة الإلكترونية الأولى 2005 م
المحرر
عبد العزيز السيد أحمد
تدقيق التنضيد والإخراج :-
المؤسسة العربية الدولية للنشر والتوزيع
هاتف : 5650630-6-962+ فاكس: 5668860-6-962+
ب.إ : arab_book@hotmail.com
جميع الحقوق محفوظة All rights reserved(1/4)
المحتويات
- الكتاب و المؤلف ............................................ ... 7
- منشة الذباب.. والاستعمار الإفرنسي ........................ ... 11
- الرئيس ديغول.. خيب آمالنا في الجنرال ديغول .............. ... 51
- الرئيس ديغول.. يخون الجنرال ديغول ....................... ... 83
- الشيخ كندي.. يتحدى الرئيس كندي ......................... ... 127
- الجنرال ديغول .. يقامر في أفيان ............................ ... 171
- الجنرال ديغول.. حرر فرنسا مرتين .......................... ... 213(1/5)
الكتاب والمؤلف
أحمد الشقيري، السياسي العربي المناضل، وخطيب العرب في المنابر الدولية، نقل الثورة الجزائرية من جبال الأوراس إلى منبر الأمم المتحدة.. وسرد قصة الكفاح الجزائري منذ عهد الأمير عبد القادر الجزائري في القرن التاسع إلى عهد جبهة التحرير الجزائرية في القرن العشرين.. وخاض حواراً رفيعاً مع الجنرال ديغول والرئيس كندي ودول ميثاق الأطلنطي.. رفع الفكر الفرنسي إلى أعلى عليين. ونزل بالاستعمار الفرنسي إلى أسفل سافلين.. ويكاد القارئ أن يعيش مع الثورة الجزائرية في ميدان القتال، وأن يلمس دم الشهداء ساخناً بين أنامله، ويسمع سياط العذاب تتهاوى في السجون والمعتقلات.. كل ذلك في أسلوب رائع جمع بين وثائق التاريخ وأسانيد القانون.
هذه هي الخطب التي ألقاها السيد أحمد الشقيري في الأمم المتحدة باسم الوفود العربية والآسيوية والأفريقية، عن الثورة الجزائرية من الاحتلال حتى الاستقلال.
وإنه ليسر دار العودة أن تترجم هذه الخطب إلى اللغة العربية وتقدمها إلى الأمة العربية، لتقرأ سيرة الكفاح البطولي المجيد الذي خاضته على أرض الجزائر، وتكلل – نهاية- بالحرية والاستقلال بعد مئة وثلاثين عاماً من الجهاد.(1/7)
وسيرى القارئ العربي بين دفتي هذا الكتاب قصة الكفاح الجزائري ضد الاستعمار الفرنسي منذ عهد المجاهد العربي الكبير الأمير عبد القادر الجزائري، في أوائل الثلاثينات من القرن التاسع عشر، حتى قيام جبهة التحرير الجزائرية التي قادت الحرب الجزائرية في الخمسينات من القرن العشرين.
وإلى جانب الوقائع المثيرة التي يسردها هذا الكتاب، نبض زاخر من الأسانيد القانونية، والمواقف السياسية، والأحداث التاريخية، والحوار الدولي، مما لا يجده القارئ في أي مرجع أو كتاب، كل ذلك في أسلوب أدبي رفيع يأخذ بمجامع القلوب.
وعلى صعيد الحوار الدولي، فقد تصدى السيد أحمد الشقيري لزعيم فرنسا العظيم شارل ديغول، وتساءل كيف "خان الرئيس ديغول الجنرال ديغول".
وتصدى كذلك لرئيس الولايات المتحدة وتساءل "كيف خان الشيخ كندي الرئيس كندي".. كما تصدى لوزراء خارجية دول ميثاق الأطلنطي الذين وقفوا إلى جانب فرنسا، إذ ذاك، في حربها الاستعمارية ضد الشعب الجزائري البطل.
ومن أروع جوانب هذا الكتاب، تلك الصور الساحرة التي عرض فيها السيد أحمد الشقيري سيرة فرنسا إزاء الثورة الجزائرية، فرفع أمجاد الفكر الفرنسي إلى أعلى عليين، ونزل بالاستعمار الفرنسي إلى أسفل سافلين، كما تناول المفاوضات الفرنسية الجزائرية بالنقد الغاضب في بدايتها، وبالتحية والتقدير في نهايتها.(1/8)
وقد جاءت الخطبة الأخيرة، غداة إعلان استقلال الجزائر، آية في البلاغة والروعة، فقد أودع فيها السيد أحمد الشقيري أرفع المعاني الإنسانية في الإشادة بالحرية والاستقلال، وبالعرفان الكريم للدور التاريخي الذي قام به الرئيس ديغول في "تحرير فرنسا من النازية، وفي تحرير فرنسا من تركة الاستعمار البغيض".
وسيرى المواطن العربي حين ينكبُّ على هذا الكتاب أنه يسمع ولا يقرأ..
أجل، إنه يسمع طلقات المدافع وأزيز الطائرات.. يسمع صيحات المجاهدين وهم يخوضون عشرات المعارك.
بل انه يكاد يرى القتال في حومة القتال، ويكاد يلمس دم الشهداء ينزف ساخناً بين أنامله، ويكاد يسمع سياط العذاب وهي تتهاوى في السجون والمعتقلات.
هذا وغير هذا تقرأه في هذا الكتاب وتسمعه، لتعيش مع الثورة الجزائرية، في أحلك أعوامها، وفي أسعد أيامها، وأكثرها بهاء وسناء.
وما أبهى الحرية وأسعد الاستقلال، بعد ضراوة الكفاح والنضال.
"دار العودة" ـ بيروت(1/9)
منشة الذباب ..
والاستعمار الإفرنسي
(أكتوبر 1957)
... ...
في حديثي إليكم في الجمعية العامة، أرى لزاماً علي أن أبدأ بالقضية الجزائرية، ذلك أن الجزائر تشهد على أرضها حرباً ضارية، ونحن نجتمع اليوم لنحتفل بمرور ثلاثة أعوام عليها.. ولسنا في حاجة إلى عبقرية بارعة لنبسط القضية الجزائرية، وفي كلمات موجزة واضحة، أن الشعب الجزائري كأي من شعوب الأرض، يملك الحق العام في الحرية والسيادة والاستقلال.. ومن جهة ثانية فإن وضع فرنسا في الجزائر، هو وضع استعماري، ولا تستطيع أية فصاحة جدلية أن تدافع عن هذا الوضع الاستعماري، مهما أوتيت من قدرة وخبرة.
وإن فرنسا مشغولة هذه الأيام بوضع نظام خاص للجزائر، وهو ذلك النظام الذي أدى إلى سقوط الحكومة الفرنسية، وهي مشغولة كذلك على أرض الجزائر في تعبئة كل قدراتها العسكرية لتفتح الجزائر مرة ثانية.. ولكن فرنسا ستبوء بالفشل الذريع ولن تستطيع أن تحقق أياً من هذين الهدفين.. إن النظام السياسي لأي شعب يجب أن يضعه الشعب بنفسه لنفسه.. أما مصير الحرب فستكون نصراً للحرية –نصراً للشعب الجزائري.. وإذا(1/11)
كنتم في حاجة إلى دليل على ذلك، فدونكم العشرين دولة إفريقية التي ظفرت بحريتها واستقلالها، وشقت طريقها في هذا العام إلى الأمم المتحدة.
ولا يغيب عنا في هذا المقام أن نعرب عن أشد معاني النقمة والاستنكار للأعمال البربرية التي تقوم بها الفرق الفرنسية في الجزائر.. ولو أننا أردنا أن نلتزم بقواعد الحرب وتقاليد القتال، فإنه من الصعب علينا أن نجعل القوات الفرنسية في مصاف الجيوش.. ولقد اهتز الضمير العالمي للفظائع الرهيبة التي اقترفتها السلطات الفرنسية في الجزائر.. وإنه لمما يعزينا أن المفكرين والكتاب الأحرار في فرنسا قد حركتهم هذه الفظائع فأعربوا عن استنكارها واستفظاعها.. وأنه مما يواسينا كذلك أن وزير الخارجية الفرنسية قد قوبل بمظاهرات صاخبة في أمريكا اللاتينية احتجاجاً على هذه المظالم (1) .. ولقد وقعت هذه المظاهرات، في قارة بعيدة عن الجزائر، ولكنها قريبة منها، بما يربطها بعواطف الأخوة الإنسانية..
... وفي كلمة موجزة فإن أرض الجزائر قد تحولت إلى مسرح للدماء والدمار، وجميع أساليب القمع والقهر، التي تنفر منها المشاعر الإنسانية في عصرنا الحاضر.
... ونحن لو عدنا بالذاكرة إلى ما قررته الجمعية العامة في صدر ميثاق حقوق الإنسان لوجدنا أن الشعب الجزائري، كما أعلن ذلك الميثاق، كان "مضطرا إلى الالتجاء إلى الثورة لدفع الظلم والاستعباد"، وإذا كانت فرنسا قد اصطنعت لنفسها "حق الظلم، فإن الشعب الجزائري يملك بكل تأكيد "حق" الثورة على هذا الظلم.
__________
(1) * كان وزير الخارجية الفرنسية يزور دول أمريكا اللاتينية ليقنعها بتأييد وجهة النظر الفرنسية في قضية الجزائر.(1/12)
وقد أصبح "حق" الثورة على الظلم، في طليعة الحقوق الإنسانية، وإن الشعب الجزائري حين يتمرد على الاستعباد الفرنسي فإنما يمارس حقه الطبيعي والإنساني في الثورة والتمرد على الظلم والاستبداد.. وقد أعلنها الشعب الجزائري حرب تحرير.. كما أعلنتها فرنسا من جانبها حرب إبادة..
ولكننا في الأمم المتحدة لا نستطيع أن نقف مكتوفي الأيدي، نشاهد هذه المأساة الإنسانية من بعيد.. يجب أن تخضع فرنسا لمشيئة الأسرة الدولية.. وإن أدنى واجبات المنظمة العالمية أن تقوم بتحقيق دقيق في الجزائر.. حتى يعرف العالم الحقائق الرهيبة عن الفظائع التي ترتكبها فرنسا في الجزائر.. وأن المستر همرشلد، بوصفه خادم الميثاق لا يعدم الوسيلة للإشراف على هذا التحقيق..
أما من حيث الموضوع، فإننا نعتقد اعتقاداً صادقاً، بأن هذه الحرب المقدسة التي يشتعل لهيبها المقدس على أرض الجزائر، لا يمكن إطفاؤها إلا بالاعتراف بحق الشعب الجزائري بالحرية والاستقلال، وتأييد حقه في عضوية الأمم المتحدة. وهذا الحل وحده هو الذي يفضي إلى السلام.
وليس علينا إلا أن نعير سمعنا وقلوبنا إلى النداء الرفيع الذي توجه به وزير خارجية أيرلندا، مناشداً فرنسا أن تحرر نفسها من الجزائر.. وإذا أصغت فرنسا إلى هذا النداء النبيل، الذي ينم عن شجاعة الشعب الأيرلندي، فستكون قد حررت نفسها بنفسها، وستكتب تاريخها مرة ثانية، كما صنعت في الأيام المجيدة، للثورة الفرنسية المجيدة. ولو كان لنا أن نضع الأمور في نصابها، لوجب أن يكون للقضية الجزائرية المقام الأول على جدول أعمال الأمم المتحدة، وأن تسبق جميع المواضيع الأخرى.. ورغماً عن أهمية(1/13)
المواضيع التي تعالجها الأمم في دورتها الحاضرة، فإن قضية الجزائر يجب أن تكون أولاً..
إن قضية الجزائر لا تنطوي على الحرب، ولكنها هي الحرب بكل معاني الحرب، من آلام وخراب ودمار.. ولا شك أن عدداً من القضايا التي تعالجها الأمم المتحدة في دورتها الحاضرة، حاسمة ودقيقة وقابلة للانفجار، ولكن في الجزائر فإن المشكلة قد تفجرت.. والحرب دائرة الآن.. ولعلها الحرب الوحيدة المشتعلة الآن في أي من أرجاء العالم.. وقد كان من حقنا أن نطالب بدرس القضية الجزائرية في مطلع الدورة، ولكن.. ولكن تقاليد الفروسية والشهامة قد منعتنا عن ذلك.. لم يكن في فرنسا حكومة، ونحن لا نريد أن نتعرض لفرنسا في غيابها.. وإذا كانت فرنسا تخوض الحرب في الجزائر، وهي متحللة من كل تقاليد الحرب، فإننا في الوقت ذاته لا نستطيع أن نتحلل من شرفنا وتقاليدنا، فآثرنا الانتظار حتى تألفت الحكومة الفرنسية الأخيرة، لنواجهها بالقضية الجزائرية، بكل معاني الجدية التي تثيرها في نفوسنا، وبكل آيات الصراحة، العارمة التي تعتمل في قلوبنا.
والقضية الجزائرية بند جديد لمشكلة قديمة.. ذلك لأنها تؤلف فصلاً مفجعاً في تاريخ أفريقيا، وليست كلمة "مفجع" بعيدة عن الحقيقة والواقع.. بل أنها لا تتضمن أية مبالغة. ولست أجد تأييداً لكلامي هذا أكثر من البيان البليغ الذي ألقاه أمامكم المسيو بينو وزير الخارجية الفرنسية.. لقد قال المسيو بينو، في كلمات راجفة، أن مشكلة الجزائر هي "دراما سببت الكثير من الدماء والدموع.."
أجل، إن القضية الجزائرية هي دراما سببت الكثير من الدماء، وما أعز تلك الدماء.. وسببت الكثير من الدموع وما أسخن تلك الدموع.. ولقد(1/14)
بدأت هذه الدراما منذ 127 عاماً، وهذا الفصل الحاضر يدخل الآن عامه الرابع.. وإن مسرح هذه الدراما بكل نواحيها، هو في الجزائر –في مدنها وقراها، في جبالها ووديانها، في صحرائها وشواطئها، وفي غاباتها ومروجها.. وإن أشخاص هذه الدراما ليسوا أفراداً أو جماعات، ولكنهم شعب بكامله، برجاله ونسائه في الحواضر والبوادي.. وليست في هذه الدراما شعراً ولا نثراً، إنها تلفظ الدموع وتنطق بالدماء.. وليست لغة هذه الدراما مجازات واستعارات، ولكنها تعيش في القاذفات والمقاتلات والدبابات.. وهي دراما تقرأ في عيون الأيتام، وحسرات الأرامل، وزفرات الثكالى، وآلام الأجيال والأجيال.. جزائريين وفرنسيين على السواء..
وإني أقول "الجزائريين والفرنسيين على السواء بكل حزن وأسى.. فإن هذه الدراما هي عند الجزائريين تضحية مقدسة من أجل هدف مقدس.. أما للفرنسيين فإنها تضحية من غير هدف كريم.. ورغماً عن ذلك فإن دراما المسيو بينو لم تأسر عواطف المستر بينو..
ولقد أفجعنا المستر بينو، حينما ذكر في خطابه قبل بضعة أيام أنه "من السذاجة أو سوء النية انتظار حل سريع للقضية الجزائرية".. وليقل المسيو بينو ما يشاء، فإننا نعتبر الوصول إلى حل سريع للقضية الجزائرية، ذروة في المشاعر الإنسانية النبيلة، وأروع تعبير للحرية، وأرفع تكريس للسلام؛ وفوق هذا وذاك، فإنه يمثل الاحترام الصادق الأمين، لأقدس أهداف ميثاقنا المقدس.
وأنه لمن الإنصاف لهذه الدراما، التي وضعها أمامنا المسيو بينو، أن نستعرضها من البداية إلى النهاية.. لعرفها الذين لا يعرفونها، وليتذكرها الذين يعرفونها..(1/15)
وتبدأ وقائع هذه الدراما في القرن التاسع عشر، حينما بدأت الدول الغربية مندفعة وراء المنافسات والمنازعات والتوازن الدولي، تمارس مؤامراتها وخططها الاستعمارية في الشمال الإفريقي، ابتداء من المحيط الأطلنطي إلى خليج السويس.. وقد جرت أحداث رهيبة وكانت نتيجتها السيطرة والاستعمار.
وحدث من جراء ذلك، أن وقعت الجزائر وتونس والمغرب وليبيا ومصر فريسة الاستعمار الغربي، واحدة بعد الأخرى.. غير أن شعوب هذه الأقطار، وقد فطروا على التعلق بالحرية والسيادة، لم يبخلوا بأية تضحية، مهما عظمت، ليلقوا عن أكتافهم نير الاستبداد والاستعباد، وهكذا فقد بدأت مرحلة الكفاح والتحرير، بعد مرحلة السيطرة والاستعمار.. وانطلقت قوى الحرية في مسيرتها التاريخية.. وكان أن استقلت مصر، لتلعب دوراً قيادياً في الحياة العربية؛ واستقلت ليبيا وأصبحت عضواً في الأمم المتحدة.. وكذلك فقد استقلت كل من تونس والمغرب وأصبحتا من أعضاء الأمم المتحدة.. أما الآن فإن الجزائر، تغوص في حمامات الدم، وتقاتل في معركة ضارية، لتحقق للشعب الجزائري أمانيه القومية، في الحرية والسيادة والاستقلال.
هذه هي قصة الكفاح في الشمال الإفريقي، في عبارات موجزة بسيطة.. ولكن العجيب الغريب، أنه من بين أقطار الشمال الإفريقي، فإن الجزائر وحدها هي التي ما تزال محرومة من الحرية القومية والسيادة الوطنية؛ وأننا لا نعرف حجة على وجه الأرض، حتى ولو اقترنت بفصاحة المسيو بينو، يمكن أن تبرر هذا الوضع الشاذ في الجزائر، وتعزلها عن أخواتها: المغرب وتونس وليبيا ومصر، وتنكر عليها حقها الطبيعي في الاستقلال... وأن العالم لا يستطيع أن يتحمل وجود جيش استعماري كبير،(1/16)
في قلب الشمال الإفريقي، على ميمنته وميسرته دول كاملة الحرية والاستقلال..
ولقد عرضت هذه الصورة الخاطفة عن الشمال الإفريقي، ليكون الأمر واضحاً أمامكم بكامله.. وإنني لم أقصد أن أقحم على هذه المناقشة أموراً غريبة عنها، أو خارجه عن سياقها.. ذلك أن القضية الجزائرية لا تفهم فهماً كاملاً إلا حينما ينظر إليها ضمن إطارها الصحيح.. ولقد كرس المسيو بينو الشطر الأخير من خطابه، لمعالجة الشمال الإفريقي كموضوع متكامل، واعتبره مدخلاً للقضية الجزائرية.. فإذا كان الشمال الإفريقي موضوعا متكاملا، فليس للمسيو بينو أن يعالج القضية الجزائرية في معزل عن الشمال الإفريقي؛ إن قضية الجزائر هي جزء لا يتجزأ من الاستعمار في شمال إفريقيا.. وأن الكفاح الجزائري هو جزء لا يتجزأ من الكفاح في الشمال الإفريقي بأسره.. وأن الشمال الإفريقي ينعم الآن بحريته واستقلاله، وتناضل الجزائر الآن لبلوغ حريتها واستقلالها.. وليس هناك من سبب، كائنا ما كان، يفرض على الجزائر أن تكون جزيرة مستعبدة وسط محيط فسيح من الحرية والاستقلال.. وما تمتعت به مصر وتونس وليبيا والمغرب، يجب أن تتمتع به الجزائر.. إن الجزائر هي جزء في ذلك الكل؛ وقد عانت الجزائر مع أخواتها شرور الاستعمار، ومعهم دفعت ضريبة البذل والفداء، ومعهم يجب أن تنعم الجزائر بكل مقومات الحرية والاستقلال.
وعلى خلاف ما ذهب إليه المسيو بينو، فليس في القضية الجزائرية أمور معقدة غريبة.. فإن تاريخ الجزائر هو في الواقع تاريخ الشمال الإفريقي.. لقد كان الكفاح واحداً، ولا بد أن يكون المصير واحداً.. ذلك هو حال الأسرة الواحدة.. وحين يزعم المسيو بينو أن أمر الجزائر يختلف عن(1/17)
بقية الأقطار المجاورة، فإن ذلك أسطورة دولية، وخرافة سياسية.. وأننا نربأ بالأمم المتحدة أن تكون مسرحاً لمثل هذه الأساطير والخرافات.
صحيح أن خطط الاستعمار في أقطار الشمال الإفريقي كانت مختلفة، فهي حماية في هذا القطر، واستعمار مكشوف في ذلك القطر، ولكن الأساس واحد في جميع الظروف والأحوال؛ ولقد أعلن المسيو بينو أن فرنسا موجودة في الجزائر منذ 130 سنة، وهذه ليست واقعة جديدة علينا؛ والواقع أن هذه الواقعة،على قدمها هي سبب شكوانا؛ إن جميع الدول الاستعمارية، قد وجدت في مستعمراتها قبل عام 1830 أو بعده، ومنذ ذلك الوقت تحطمت إمبراطوريات عظمى، وأصبحت شظاياها دولاً مستقلة. وإذا كان علينا أن نأخذ بنظرية عام 1830 كما عرضها المسيو بينو، فإن ما لا يقل عن ستين دولة من أعضاء الأمم المتحدة يجب أن تحتجب عن هذه المنظمة العالمية.. وكائنة ما كانت التسميات والحجج التي أدلى بها المسيو بينو، فإن الاستعمار هو الاستعمار، مهما تنوعت الصيغ وتعددت الأسباب.
ويتضح من هذا أن الجزائر ليست لفرنسا ولا أرضاً فرنسية.. إلا إذا كنا نريد أن نزعم أن الشمال الإفريقي هو أوروبا.. فإن الدول الأوروبية، بوسيلة أو بأخرى، كان لها شأن في الشمال الإفريقي.. وكذلك فإن الجزائر ليست لفرنسا، إلا إذا كانت لدينا الشجاعة الوقحة، بأن نزعم بأن آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية كلها هي أوروبا. لقد استولت أوروبا في الماضي على أقطار من العالم، هي ممثلة الآن فيما لا يقل عن سبعين دولة من أعضاء الأمم المتحدة.. وأخيراً فإن الجزائر ليست لفرنسا، كما أراد أن يصور لكم المسيو بينو، إلا إذا جرؤنا على القول بان الولايات المتحدة هي لبريطانيا.. إن "حق" بريطانيا في الثورة على الولايات المتحدة، هو بنفسه "حق" الجزائر(1/18)
في الثورة على فرنسا، مع تباين الظروف والاعتبارات.. ونحن هنا نقف من أجل الحرية، وليست الحرية حكراً على قارة بذاتها، يصح إنكارها على قارة أخرى.. وأن من حق الجزائر أن تتمتع بما نتمتع به، من حرية واستقلال، إلا إذا كنا مستعدين أن نخون، على مشهد من التاريخ، المبادئ السامية التي أعلنها ميثاق الأمم المتحدة.
ومن أجل ذلك فإنه يجب علينا، الآن وإلى الأبد، أن ننزع من أذهاننا تلك الخرافة السياسية التي ينطوي عليها موقف فرنسا.. إن الجزائر ليست جزءاً من التراب الفرنسي.. وليس شعب الجزائر جزءاً من الشعب الفرنسي. إن الجزائر هي جزء من الوطن العربي الكبير، الممتد من المحيط غرباً إلى الخليج شرقاً، وإن شعب الجزائر هو جزء من الأمة العربية، يشترك معها في ثقافتها وحضارتها ويتكلم لغتها، وله تقاليدها وعاداتها؛ وإن شعب الجزائر تهزه مع الأمة العربية، مخاوفها آمالها وآلامها؛ وأن تاريخ الجزائر هو فصل من تاريخ الأمة العربية، في انتصاراتها وفي هزائمها، في وحدتها وفي فرقتها، في الحرب والسلم على السواء.
ولقد قيل في عدد من المناسبات، إن تاريخ الجزائر قد ارتبط بالأمة العربية منذ عهد الفتوحات الإسلامية في القرن السابع الميلادي. والأصح أنه ازداد ارتباطاً.. وعلينا أن لا ننسى الحقيقة الفينيقية التي سبقت انبثاق النصرانية.. فلقد أبرز الوجود العربي ذاته عن طريق الفينيقيين الذين هم فرع من فروع الأسرة العربية.. وإنني أقولها بكل شجاعة وصراحة، ولا أخشى معها تحدياً، إن ارتباط الجزائر بالأمة العربية، قد سبق بأجيال، وجود فرنسا كدولة، بل وجود فرنسا كشعب..(1/19)
ومع هذا، يجب أن يكون واضحاً، أن الجزائر لا تكافح من أجل أن تمارس مجدداً حقاً طبيعياً، ولكنها تكافح لتسترد، لتستعيد، حقاً طبيعياً كانت تمارسه بصورة كاملة.. إن الجزائر لا تكافح لتنال استقلالها، ولكنها تكافح لتسترد، وتستعيد استقلالاً انتزع منها. إن الجزائر لا تكافح لتبني دولة جديدة، ولكنها تكافح لتسترد، وتستعيد دولتها التي كانت قائمة.. في زمن لم تكن فيه عدد من الدول المعاصرة قائمة أو موجودة.
ولقد أجهد المسيو بينو نفسه أمامكم، وهو يعرض على الجزائر أموراً ثلاثة: وقف إطلاق النار، فالانتخابات، ثم المفاوضات، ولم يتفوه بكلمة واحدة عن السيادة والاستقلال.. بل أنه أدان حركة التحرير الجزائرية لأنها تطالب بالاستقلال، ورفض كذلك وساطة المغرب وتونس على أساس الاستقلال..
أما وقد عرض المسيو بينو لتاريخ المشكلة الجزائرية، فقد أصبح من واجبنا أن نذكر المسيو بينو بالوقائع الصحيحة للتاريخ الصحيح.. لقد كانت الجزائر دولة مستقلة، كاملة السيادة، شأنها في ذلك شأن أي دولة مستقلة ممثلة الآن في هذه المنظمة العالمية.. وكان لرئيس دولة الجزائر معاهدة صداقة مع بريطانيا العظمى وهولندا.. وكان للجزائر الدولة دور لا يقل عن أية دولة من الدول المعاصرة.. ففي عام 1679 دخلت الجزائر في علاقات تعاقدية مع هولندا.. وفي عام 1682 وقعت الجزائر معاهدة صداقة مع بريطانيا العظمى وهولندا.. وكانت الجزائر من أوائل الدول التي اعترفت باستقلال الولايات المتحدة.. وقد وقعت الجزائر مع الولايات المتحدة ثلاث معاهدات في 1795، 1815، 1816، وبموجب المعاهدة الأولى تعهدت الجزائر أن لا تبيع سفناً حربية لأية دولة هي في حالة حرب مع الولايات المتحدة؛ وقد نصت المادة 18 من تلك المعاهدة أنه في حالة الحرب بين(1/20)
البلدين، فإن على القنصل والرعايا الأمريكان أن يخرجوا من – مملكة الجزائر-؛ وقد كتب القنصل الأمريكي في الجزائر في عام 1826 يقول: "أن الداي يمارس كامل حقوق السيادة والسلطة عقب انتخابه مباشرة".
هذه هي السيادة القومية التي كانت تمارسها الجزائر، والتي ينكرها اليوم المسيو بينو وزير خارجية فرنسا.
أما بالنسبة لبريطانيا، فقد كانت للجزائر معها علاقات شيقة، ما أظن المندوب البريطاني يستطيع إنكارها.. وإن عراقة الدبلوماسية البريطانية هي التي تجعل هذه العلاقات مثيرة حقاً.. وإن من الحق أن نسرد الوقائع حتى لا يستمر المندوب البريطاني في معارضة القضية الجزائرية.
يذكر تاريخ العلاقات الدبلوماسية، أن جزائرياً اسمه الحاج حسن كان سفيراً للجزائر في لندن.. ولا أظن أحداً غير الإنجليز أنفسهم، يستطيع أن يصف العلاقات التي كانت قائمة بين بريطانيا والجزائر في القرن التاسع عشر؛ فلقد بعث ولي عهد بريطانيا، نيابة عن والده، الملك جورج الثالث، كتاباً إلى الداي في الجزائر.. ولا أحسب أن هنالك ما هو أفصح وأبلغ من ذلك الكتاب.. وسأجعله يتكلم عن نفسه بنفسه.. يقول الكتاب: "إن ولي العهد نيابة عن والده جورج الثالث، يأسف لأن المرض الذي لازم والده طويلاً، قد حال دون الإجابة على كتاب الداي الذي حمله سفيره الحاج حسن، ويؤكد أقوى الصداقة للداي، استناداً إلى المعاهدة القائمة، كما يؤكد للداي العزم على حماية عاصمته بأسطوله، ما بقيت الصداقة الحاضرة قائمة بين شعبينا؛ ويعلن أن الأسطول البريطاني هو سيد البحار، يرهب جميع الدول البحرية، ومستعد لقهر كل من يحاول معارضته.. ويرجو الداي أن لا يسمح لأعداء بريطانيا للانتقاص من الانسجام القائم بين شعبينا، وأن لا يصغي لأقوالهم الشريرة؛(1/21)
وأن سفيركم سيخبركم عن الاستقبال والمعاملة اللائقين اللذين وجدهما في انجلترا؛ وقد أرسل معه بعض مصنوعات المملكة على سبيل الهدية.." حرر في قصر كارلتون في 4 يناير سنة 1812".
ولست أرى حاجة للتعليق على هذا الكتاب، لأنه يتحدث عن نفسه بنفسه، وإني آمل أن لا ينكر المندوب البريطاني، بعد اليوم، سيادة الجزائر واستقلالها، وحقها الكامل في مؤهلات الدولة المستقلة.
وإني لآمل أن لا يضيق صدر المسيو بينو، إذا أنا تعرضت لهذه الناحية بالنسبة لفرنسا... لقد تمت بين عامي 1619-1830، سبع وخمسون معاهدة بين فرنسا والجزائر.. تصوروا!! سبع وخمسون معاهدة دولية بين فرنسا من جانب والجزائر من جانب آخر.. ولقد كانت بين الدولتين بعثات دبلوماسية.. وذات مرة رفضت فرنسا أن يقوم مواطن من أصل أمريكي بتمثيل الجزائر في فرنسا، ورشحت الجزائر فيما بعد مواطناً جزائرياً مولوداً في الجزائر.. وفي عام 1860، بعد غزو الجزائر، كان نابليون الثالث يزور الجزائر، فكتب إلى الحاكم العام في الجزائر يقول "إن الجزائر ليست مستعمرة ولكنها مملكة عربية". ولقد كان هذا الكتاب قبل قرن بكامله من هذا العام الذي يقف فيه المسيو بينو أمام الأمم المتحدة ليعلن أن الجزائر هي أرض فرنسية.
وعلى هذا فإن الاستنتاج الطبيعي، الذي لا مرد له، أن الجزائر كانت دولة مستقلة، كاملة السيادة، شاركت في الحياة الدولية؛ وما هذه المعاهدات العديدة التي أشرت إليها، إلا مظهر واحد من مظاهر السيادة والاستقلال.. إن المعاهدات التي تمت بين فرنسا والجزائر لا تترك مجالاً للشك في سيادة(1/22)
الجزائر كدولة مستقلة، إلا إذا كان المسيو بينو يستطيع أن يثبت أن فرنسا قد تعاقدت مع فرنسا، وأن فرنسا كانت لها علاقات دبلوماسية مع فرنسا!!
وكلنا نعرف ما الذي جرى فيما بعد لدولة الجزائر المستقلة.. لقد قامت فرنسا في عام 1830، بانتهاك سيادة الجزائر، فاحتلت الأرض الجزائرية، وأخضعت البلاد للسيطرة الفرنسية.. وهذه هي الواقعة الأساسية التي تشكل القضية الجزائرية.. ولقد كانت عواقب الاحتلال وخيمة وفظيعة، وإن كانت أسبابه ومبرراته سخيفة وتافهة.. إنها تدعو إلى السخرية حقاً..
لقد شرحت دائرة المعارف البريطانية، وهذه ليست مرجعاً عربياً، مبررات الاحتلال الفرنسي للجزائر كما يلي: في أبريل من عام 1827، نشأ نزاع مع الدَّاي، بسبب شحنة قمح قام بتوريدها اثنان من الجزائريين.. وفي أثناء المفوضات حول هذا النزاع، ضرب الدَّاي القنصل الفرنسي دوفال بمنشة الذباب... وقد أدت هذه الحادثة إلى التدخل العسكري.. وضرب حصار بحري حول مدينة الجزائر لمدة ثلاثة أعوام، فلم يؤد إلى نتيجة؛ وعلى أثر ذلك قامت حملة فرنسية على الجزائر.. ونزلت قوة فرنسية مؤلفة من 37 ألف جندي على الشاطئ الجزائري في سيدي فرج في 14 يونيو 1830.. واستسلمت الجزائر في اليوم الخامس من شهر يوليو".
وهكذا فإن منشة ذباب، هي التي كانت سبباً في تدمير دولة وإخضاع شعب.. وأن دعوى فرنسا تقوم الآن على منشة الذباب... واستناداً إلى منشة الذباب هذه، فإن المسيو بينو يحذركم من التدخل في شئون الجزائر.. ولكن منشة الذباب لا يمكن أن تكون هي النهاية بالنسبة إلى شعب واع لوجوده القومي، متحفز لحريته، متطلع لاستقلاله.(1/23)
إن القضية المطروحة أمامكم ليست كقضية مقاطعتي سافوي ونيس، اللتين أشار إليهما المسيو بينو، شارحاً كيفية اندماجهما في فرنسا.. ليس هنالك تشابه بين القضيتين من قريب أو بعيد، ولا في أي وجه من الوجوه... إن مقاطعتي سافوي ونيس قد اندمجتا في فرنسا، وقبلتا الحكم الفرنسي، وأصبحتا فرنسيتين من حيث اللغة والثقافة والحضارة والتقاليد.. وهاتان المقاطعتان، لم تعلنا الثورة على الحكم الفرنسي، وعلى الاندماج بفرنسا؛ على حين أن الشعب الجزائري قد رفض الاندماج وقاوم الاحتلال.. إن الشعب الجزائري لم يستسلم أبداً.. لقد قاتل بشجاعة، من أجل وطنه، ما يزيد عن مائة عام، قدم خلالها أعظم التضحيات في الأرواح والأموال..
وإنني أعترف للمسيو بينو أنه كانت في هذه الحقبة الطويلة فترات متقطعة من الهدوء، ولكنها كانت فترات من وقف إطلاق النار.. والشعب الجزائري كان على الدوام، ومن غير انقطاع يؤكد مطلبه في الحرية والاستقلال، ومعارضته لسياسة الاندماج، وإصراره على بناء دولة الجزائر في إطار من السيادة الكاملة.. ونحن لا نستطيع أن ننسى في هذا المقام، تلك المجزرة الدموية التي قامت بها القوات الفرنسية في عام 1945، ويا للعار في يوم عيد الهدنة؛ ولقد أثارت تلك المذبحة، التي ذهب ضحيتها آلاف من الجزائريين، ضمير العالم بأسره، وخاصة ضمائر أولئك الأحرار الشرفاء في فرنسا.. والأحرار الشرفاء في فرنسا كثيرون..
والآن.. بعد هذه السنين المتوالية من سفك الدماء والفظائع الوحشية، تأتي إليكم قضية الجزائر محملة بالإرهاب، مثقلة بالعسف والجور.. وإذا كان لأحد أن يرى القضية الجزائرية على أنها مشكلة داخلية لفرنسا، فالأمر في بساطة هو جريمة إبادة للجنس البشري، أما الذين يرون أنها ليست مشكلة(1/24)
داخلية، فهي قضية حرب وإبادة.. وسموها ما شئتم، فإنها مأساة إنسانية، تحضكم على التدخل، حماية للإنسانية، وصوناً للأمن والسلم..
ولقد اختار المسيو بينو أن يسترسل طويلاً فيما أسماه بالإرهاب والإرهابيين، وكل ما أورده في هذا الصدد، هو مجموعة من الأباطيل.. وإنني لا أريد أن أنتهز هذه الفرصة، لأقحم موضوع إرهاب الثورة الفرنسية، على الفرنسيين أنفسهم، وعلى أبطال فرنسا.. فأنتم عارفون بتلك الوقائع الفظيعة التي سجلها تاريخ الثورة الفرنسية، ولكنني سأقتصر على الإرهاب الرهيب الذي اقترفته السلطات الفرنسية، في شعب الجزائر، وفي أرض الجزائر.. وأنه من الغريب حقاً، كيف أن وزيراً فرنسيا حصيفاً ذكياً، مثل المسيو بينو، قد اختار موضوعاً، أحرزت فرنسا فيه رقماً قياسياًً، يتجاوز كل رقم قياسي في العالم؛ ولهذا فإنه يصبح من الواجب أن نستعرض الأحداث من البداية.. كما جاءت في الصحف العالمية، ومن جملتها الصحف الفرنسية.. وسأقتصر على القليل للدلالة على الكثير.
في 26 آب من عام 1955، ذكرت جريدة واشنطن بوست، بأن الأوامر صدرت إلى القوات الفرنسية، بأن "تضرب أولاً وتستوضح ثانياً".. وفي 10 آب 1955، كتب أحد مراسلي جريدة النيويورك تايمس يقول بأن الجنرال (باولاني) ذكر له بأنه يستطيع "أن يقتل 30 ألفاً، 40 ألفاً وحتى 100 ألف إذا اقتضى الأمر" وهذه المقتبسات ليست في حاجة إلى تعليق أو تعقيب.
وفي 7 آب 1955، نشرت جريدة الهرالد تريبيون، أن الفرقة الفرنسية الآلية الثانية، كانت تتدرب على أسلحة صاروخية في فرنسا، قبل أن تسحب من قوات حلف الأطلنطي، وترسل إلى الجزائر.(1/25)
وهنالك تقارير وافرة عن أساليب القمع الوحشية، التي قامت بها القوات الفرنسية، وكانت سبباً في إثارة مشاعر الاستنكار والاشمئزاز في العالم بأسره.. فلقد قصفت قرى بكاملها، وتحولت إلى رماد وأنقاض.. وقد ازدحمت معسكرات الاعتقال بأحرار الجزائريين الذين لم يكن لهم إلا ذنب واحد هو حبهم لوطنهم.. والرهائن الذين يخطفون ليلاً و نهاراً يعدون بالعشرات والمئات.. الإعدام من غير محاكمة قد أصبح هو القانون السائد.. وفي العام الماضي اختطفت فرنسا خمسة من زعماء الجزائر من الجو، وهم في طريقهم لتحقيق غاية سلمية في مهمة للمفاوضات... وهذه جريمة قرصنة دولية، تنفرد فرنسا في بشاعتها وشناعتها.. وعلى الجملة فلم ينج من إرهاب فرنسا المدنيون، ولا العزل من السلاح.. حتى أصبحت الحالة في الجزائر يسودها قانون الإرهاب.. أو إرهاب من غير قانون.. ويكفي أن أذكر لكم، أنه في هذه الساعة التي أحدثكم فيها، يتزاحم ما يقرب من 300 ألف جزائري في معسكرات اللاجئين، بعد أن اضطرهم الإرهاب الفرنسي إلى النزوح إلى الأقطار المجاورة.
هذه هي صورة موجزة للحالة في الجزائر حينما كانت تنظر الأمم المتحدة في القضية في دورتها الأخيرة.. وقد روعت الجمعية العامة يومئذ، وهي تستمع إلى أنباء الفظائع التي يتعرض لها شعب الجزائر.. ولكن الأمم المتحدة اختارت أسلوب اللين والمجاملة مع فرنسا.. فلم تقرر إدانتها، لتعطيها الفرصة الكافية للوصول إلى تسوية عادلة للقضية الجزائرية.. وكل ما قررته الأمم المتحدة في الدورة الماضية، أن أعربت عن أملها في إيجاد تسوية سلمية ديمقراطية عادلة، في روح من التعاون وعن طريق الوسائل المناسبة، بموجب مبادئ ميثاق الأمم المتحدة (قرار 1012 (11) ).(1/26)
كان هذا قرار الأمم المتحدة، في لحمه وعظمه.. صدر بلغة هادئة ناعمة، من غير تراجع عن مبادئ الأمم المتحدة.
ولكن ماذا كانت النتيجة؟ وكيف استجابت فرنسا لذلك القرار الذي حرص أن يحفظ لفرنسا كرامتها وماء وجهها؟ لقد كانت النتيجة مخيبة للآمال، حتى لدى أولئك الذين كانوا حريصين على مجاملة فرنسا.. وها نحن نجتمع اليوم لنرى أن قراركم "اللطيف"، قد تجاهلته فرنسا من غير "لطف"، وأننا لا نرى الحل السلمي الديمقراطي العادل الذي كنتم تتطلعون إليه، ولا نرى، كذلك، أن السلام والديمقراطية والعدالة قد تحقق شيء منها على أرض الجزائر.. وبدلاً من ذلك فإن فرنسا مضت هذا العام في تصعيد الحرب، بعيداً عن تقاليد الحرب.. إنها حرب إبادة تهدف فرنسا من ورائها إلى إفناء شعب، كل ذنبه أنه يريد أن يعيش كما يشاء في وطنه.
وعلى هذا فإن الجواب الوحيد الذي قدمته فرنسا إليكم هو الحرب، وإنني لأرجو أن لا تظنوا إنني أوجه هذه التهمة إلى فرنسا من غير مبرر.. ففي حزيران من عام 1957 أعلن رئيس وزراء فرنسا في المجلس الوطني قائلاً "يجب أن نستمر في المعركة ما دامت مفروضة علينا"، وإنه ليصعب علينا أن نصدق رئيس وزراء فرنسا في قوله هذا... أن أحدكم لم يفرض هذه الحرب على فرنسا.. إن فرنسا هي التي فرضت الحرب على فرنسا.. وأن سجل الأحداث في هذا العام، يثبت بصورة قاطعة ازدراء فرنسا بالأمم المتحدة، وتجاهلها للميثاق.. ولقد قامت فرنسا، ومباشرة بعد قراركم الأخير، بتصعيد حملة الرعب والإرهاب، تلك الحملة التي تسميها فرنسا سياسة التهدئة.. ولقد أثارت قصص التعذيب والمذابح التي اقترفت على الشعب الجزائري، أشد مشاعر الاشمئزاز في جميع أنحاء العالم.. وفي فرنسا نفسها(1/27)
أعرب عدد كبير من أحرار فرنسا الشرفاء من مختلف ألوان الفكر السياسي، عن عميق استنكارهم للفظائع الفرنسية.. ولقد بعث 357 مفكراً من الشخصيات الفرنسية المعروفة، رسالة إلى رئيس الجمهورية الفرنسية يحتجون فيها على "الأعمال التي تثير الضمير الإنساني"، وقد أشاروا بصورة خاصة إلى "أعمال التعذيب التي تقترف ضد السجناء، الذين يحرمون من أن يعاملوا بموجب اتفاقية جنيف، أو بموجب الضمانات القضائية التي يمنحهم إياها القانون الفرنسي" ونوهوا كذلك "بإعدام الرهائن، وهدم القرى وأعمال الانتقام والتعسف".. وكان بين موقعي هذه الرسالة، بل بالأحرى هذه الإدانة، السيد فرانسوا ميرياك الحائز على جائزة السلام، وعدد من الأساتذة الجامعيين في السوربون وليون، ومجموعة من الفلاسفة والمفكرين والصحفيين..
وفي شهر مارس من هذا العام، اجتمع الكرادلة والمطارنة في فرنسا، واستعرضوا الموقف في الجزائر، وناشدوا فرنسا أن "توفر الضمانات الكافية لاحترام الكرامة الإنسانية، وأن تتجنب كل ما من شأنه أن يهتك القانون الطبيعي وشريعة الله" ثم حذروا فرنسا من إتباع "وسائل الإرهاب وأنه حتى ولو كان الهدف نبيلاً، فإن ذلك لا يبرر استخدام أعمال العنف والتعذيب". وكانت آخر كلمات الكرادلة والمطارنة تتضمن الدعاء إلى الله "لتحقيق سلام حقيقي، مستند إلى أساس سليم من العدل والحق".
وأن شعب الجزائر من جانبه لا يتوق إلا للعدل، وأن الثوار الجزائريين حينما يصلون في جبالهم، حيث معاقلهم، إنما يدعون الله أن يحقق لهم السلام القائم على العدل، تماماً كدعاء المطارنة والكرادلة الأجلاء في فرنسا.(1/28)
غير أنه لا بد لنا أن نسجل تحفظاً بسيطاً بالنسبة للكرادلة والمطارنة.. إننا لنرجو أن لا يهتم هؤلاء الأحبار الأجلاء بالشيوعية.. فإن تأييد أي حركة تحريرية، تستهدف السلام القائم على العدل، إنما يعتبر عملاً شيوعياً. وربما وقع على كاهل الكرادلة والمطارنة، أن يثبتوا براءتهم من الشيوعية.. فهذه هي التهمة التي يوجهها المسيو بينو للحركة الجزائرية..
وأرى من واجبي كذلك أن أقرأ عليكم رسالة أخرى مليئة بغضب نبيل، واستنكار شريف ينبئ عن أكرم العواطف الإنسانية.. وليست هذه الرسالة في حاجة إلى أي تقديم أو تعريف، إنها تقول:
"إلى السيد وزير التربية الوطنية في فرنسا..
علمت الآن من أخبار الإذاعة، بأن علي بومنجل قد ألقى بنفسه من بلكون عالٍ في الجزائر، وسقط ميتاً، وذلك لينجو من التحقيق.. وحينما كنت أقود حركة المقاومة في شمال إفريقيا، كان علي بومنجل أحد تلاميذي في كلية الحقوق في الجزائر، لقد أفجعني خبر وفاته، وأصبحت أصدق ما كتبه افري ب. هـ. سيمون في كتابه عن التعذيب الفرنسي.
"وطالما تقوم حكومة بلادي بممارسة هذه الوسائل الإرهابية، التي لم تمارس ضد أسرى الحرب الألمان، فإنني لا أستطيع أن أستمر في إلقاء دروسي في كلية الحقوق الفرنسية، ولا سبيل أمامي إلا التوقف عن إلقاء دروسي.
"ولعلك تقرر استدعائي إلى العمل إذا كنت قادراً على ذلك.. وإنني مستعد أن أتلقى بكل رضاء، أي إجراء يساهم في تعريف الرأي العام،(1/29)
باحتجاجي على هذه الأعمال المشينة، التي تخل بشرف فرنسا، إذا اختارت أن تسكت عليها".
ريني كابيتن
أستاذ القانون في باريس
والوزير السابق للتربية الوطنية في حكومة الجنرال ديجول
إن كل كلمة في هذه الرسالة، أيها السادة، تنطق بنفسها، فيما هو أبلغ من كل خطابة بليغة، وأن علي بومنجل هو واحد من قافلة طويلة من الشهداء الجزائريين، الذين يتساقطون على أرض الجزائر، من أجل وطنهم وحرية شعبهم.
ولقد أصدر واحد وستون عالماً، من أبرز علماء فرنسا، بياناً صارخاً أعلنوا فيه "أن استخدام وسائل الإرهاب، لا يؤدي فحسب إلى سقوط الروح المعنوية في شبابنا، الذين يطلب إليهم تطبيق هذه الوسائل، وإنما يؤدي كذلك إلى انتقاص القيم الروحية لشعبنا.."
وإنني أغتنم هذه الفرصة لأبعث بتحية الإعجاب والتقدير، لهؤلاء الأحرار الشرفاء في فرنسا، الذين رفعوا صوتهم احتجاجاً على هذه المظالم، التي يتعرض لها شعب الجزائر المناضل.
وإنه بوسعي أن أضع أمامكم طائفة كبيرة من أمثال هذه البيانات، التي تكشف عن الإرهاب الفرنسي في الجزائر، ولكني أقتصر على هذا القدر.. لأننا لسنا هنا لنفضح فرنسا أو نجعلها عرضة للمهانة والاحتقار.. كل الذي نقصد إليه، أن يستمع المسيو بينو إلى مناشدة أحرار بلاده.. وكل الذي(1/30)
نقصده أولاً وآخراً، أن نصل إلى تسوية للقضية الجزائرية، تتفق وأحكام ميثاق الأمم المتحدة.
ومن أجل ذلك فإنني أنتقل الآن إلى بحث الأسس العامة التي يجب أن يقوم عليها الحل الصحيح للقضية الجزائرية.
ويجب عليًّ أن أقول، بادئ ذي بدء، إن أسطورة الاندماج بين الجزائر وفرنسا يجب التخلي عنها بصورة مطلقة.. لا بد من الاعتراف بحق الجزائر في السيادة الوطنية بكل مقوماتها ونتائجها.. إن التجربة الفرنسية في سياسة الإدماج تدخل الآن قرنها الثاني، لتثبت أنها فشلت فشلاً ذريعاً.. وبعد عشرات من السنين مضت على هذه المحاولة التي قامت بها فرنسا، بقيت الجزائر عربية في لغتها وتقاليدها، عاداتها وآمالها القومية؛ وستظل الجزائر مدمجة، ولكن في الحياة العربية.
هذه هي الحقيقة المطلقة التي لا بديل عنها، ومن هذه الحقيقة المطلقة يجب أن ينبع الحل الجزائري..
والحقيقة المطلقة الثانية، هي أن حركة التحرير الجزائرية لا لها من بد أن تحقق النصر للشعب الجزائري، كائنة ما كانت القوات العسكرية التي تعبئها فرنسا لهذه المعركة. وعلينا أن نذكر أن الثورة الجزائرية تدخل عامها الرابع في 1 نوفمبر سنة 1957. ولقد ألقت فرنسا في ميدان المعركة بكل طاقاتها العسكرية والاقتصادية، بما في ذلك 500 ألف جندي، بالإضافة إلى نفقات تبلغ ثلاثة ملايين دولار يومياً.. وإن الخسائر الجسيمة، والتضحيات الكبيرة، التي تنزل بفرنسا، لن تنجي فرنسا من هذه المعركة الخاسرة، مهما طال أمد هذه المعركة.. وإنني أقول هذا للمسيو بينو الذي حاول من غير جدوى، أن يثبت لكم إن الحركة الجزائرية تقترب من نهايتها..(1/31)
لقد قال لكم المسيو بينو، "إن الهدوء يخيم في معظم المناطق في الجزائر، وأن "العصيان" في الجزائر قد اختفى فعلاً في الأشهر الماضية.. وأن "العصاة" قد دُحروا في الجبهة العسكرية، ودُحروا كذلك في الجبهات السياسية والمعنوية.. وأن الناس في كل مختلف أرجاء البلاد، في المدن وفي القرى، يزاولون أعمالهم اليومية؛ وإن السيارات تروح وتغدو في الشوارع، وإن التلاميذ يتسابقون إلى المدارس.. وإن الضرائب تجبى بصورة منتظمة..". إن هذه الوقائع طريفة حقاً، وشيقة حقاً، كما استشهد بها المسيو بينو. "وإنني لأعجب ما إذا كانت القضية الجزائرية تستحق أن تعرض عليكم، بعد هذه الحكايات المثيرة، التي وضعها المسيو بينو أمامكم..
ولعله من حقنا أن نسأل المسيو بينو، ما إذا كان الأمر كذلك خلال حركة المقاومة الفرنسية للاحتلال النازي؛ لقد كان الفرنسيون يزاولون أعمالهم، والسيارات تغدو وتروح في باريس، والتلاميذ يتسابقون إلى المدارس.. والضرائب تجبى بانتظام.. أليس كذلك يا مسيو بينو..
ولكن معلومات المسيو بينو عن الحرب الجزائرية، يجب أن نقرأها إلى جانب معلومات مماثلة أخرى، لها صفة رسمية.. ولا أحسب أننا نستطيع أن نجد مصدراً أكثر طرافة من المسيو روبرت لا كوست، الوزير الفرنسي لشئون الجزائر.. وهذا بعض بياناته التي أعلنها على الشعب الفرنسي وعلى الرأي العام العالمي.
"7 أبريل 1956: أعتقد أننا سنجد الحل قبل نهاية الصيف.
يونيو 1956: سنربح الحرب في خلال ستة أشهر لأننا نجحنا في إخضاع عدة مناطق..
سبتمبر 1956: إن خطة التهدئة تسير بأسرع من كل تقديراتنا.(1/32)
أكتوبر 1956: نوشك أن نحقق النصر الكامل.
نوفمبر 1956: نحن في ربع الساعة الأخيرة، وسنواصل خطتنا أكثر من أي وقت مضى..
أغسطس 1957: لم نبلغ نهاية الطريق بعد، ولكن الطريق الآن أوضح، وأستطيع أن أرى نهاية عملنا الشاق.
وإنني أتساءل الآن، وقد انقضى على الحرب الجزائرية أربع سنوات، عما إذا كان السيدان لاكوست وبينو يستطيعان أن يريا نهاية الطريق التي كانا يتنبآن عنها الشيء الكثير.. إن هذه البيانات الصادرة عن السيدين بينو ولاكوست إنما تثبت بما لا يرقى إليه الشك، إن النصر في النهاية هو لشعب الجزائر.. وإن الهزيمة في النهاية هي لفرنسا.
غير أن المسيو بينو قد لجأ إلى أسلوب معروف، لتقليل فشل السياسة الفرنسية في إخضاع الشعب الجزائري وفي قهر الثورة الجزائرية.. والمستعمرون كانوا وما يزالون يتمسكون في هذا التعليل للتنديد بجميع الحركات التحررية حيثما كانت.. لقد تحدث المسيو بينو طويلاً عما سماه بالشيوعية الجزائرية، والمعاونة الأجنبية للثورة الجزائرية؛ وفي هذين الموضوعين سجل المسيو بينو فشلاً ذريعاً.
وفيما يتعلق بالشيوعية الجزائرية، إذا كان شيء من هذا موجوداً في الجزائر، فإني لا أرى داعياً لأن يتسرب القلق إلى المسيو بينو، ذلك أن الشيوعية لها وجودها وأثرها في المجتمع الفرنسي.. ولا تستطيع أية حكومة فرنسية، وهي تتقدم إلى المجلس الوطني بأي قانون أو مشروع، أن تسقط من حسابها قوى الشيوعيين في فرنسا.. سواء بالنسبة لأصواتهم أو سياستهم أو نفوذهم.. إن تهمة التسلل الشيوعي أصبحت شائعة، تلازم حركات التحرر(1/33)
الوطني.. ولو أردنا أن نرجع إلى القاموس السياسي للدول الغربية، لوجدنا إن كلمة شيوعية قد أصبحت مرادفة لكلمة قومية.. وإذا كان الغربيون مخلصين وصادقين في هذا التفسير، فتكون الشيوعية، إذن، شيئاً مجيداً، ولا يمكن أن تكون شيطاناً شريراً، كما يصفون؛ أما إذا كانوا غير صادقين فيما يدعون فتكون حينئذ مهاجمتهم للحرب التحررية الجزائرية عملاً من أعمال الاستعمار وأسلوباً من أساليب حرب الأعصاب، وهذه لم تعد تجوز على أحد، أو تخفى على أحد.
غير أن الواقع، أن المسيو بينو لا يصدق الحجج التي قدمها بنفسه إليكم، وكل ما يهدف إليه أن يجمع حوله أصوات الدول غير الشيوعية.. إن المسيو بينو يريد أن يحذركم، أن يخيفكم، بل أن يلقي الرعب في نفوس الدول الغربية.. والمسيو بينو خانته كلماته، فلقد قال لكم "إذا انسحبت فرنسا من الجزائر فسيتولى أمورها الشيوعيون.." .
وهذه الكلمات واضحة كل الوضوح، إن فرنسا تحرض الغرب، ليحرضها على البقاء في الجزائر.. هذه هي المصيدة التي نصبتها فرنسا، وما حكاية الشيوعية إلا الصنارة في هذه المصيدة.
أما بصدد العون الخارجي، فقد أشار المسيو بينو إلى ما تقدمه مصر وسوريا والجامعة العربية من عون للحركة الجزائرية، وإنني لا أملك التحدث باسم مصر وسوريا، فإن مندوبي هاتين الدولتين موجودان هنا معكم، وأنهما وحدهما يملكان حق الكلام باسم حكومتيهما، وإنني لا أرغب أن أدلي بأية إيضاحات حول هذا الموضوع، ذلك أنني لا أريد أن أدخل السرور على قلب المسيو بينو.. ولن أذكر ما نعمل وما لا نعمل.. وليست الدول العربية هنا في قفص الاتهام.. نحن مسئولون أمام شعوبنا، وأمام شعوبنا فقط.. وما تتلقاه(1/34)
الجزائر من عون، إنما هو واجب قومي وإنساني.. وإنه واجبنا المقدس أن ندعم كفاح الشعب الجزائري.. إن الجزائريين هم إخواننا، والجزائر جزء لا يتجزأ من وطننا العربي الكبير.
وأنه لواجب على جميع الشعوب المحبة للحرية، وعليكم جميعاً، تقديم العون لأية حركة تحريرية، حيثما كانت.. ولقد تلقت جميع الحركات التحريرية في العالم أشكالاً متعددة من العون.. ولعل عدداً كبيراً من الدول الممثلة في الأمم المتحدة، لها سيرة معروفة بالنسبة إلى العون الخارجي؛ إن عدداً من دولكم قد تلقى عوناً خارجياً، وعدداً من دولكم قد قدم العون إلى شعوب ناضلت من أجل حريتها واستقلالها. وأن فرنسا لم تخرج، عن هذه القاعدة.. أن فرنسا التي تشكو الآن من العون الخارجي الذي يقدم للجزائريين، كان لها شأن مع العون الخارجي.. لقد قدمت عوناً، وقد تلقت عوناً..
وأن تقديم العون للحركات التحررية، إذا جاز لي أن أذكر المسيو بينو، كان من أشرف تقاليد فرنسا.. ولا أحسب أنني في هذا الموضوع حجة أكبر من المسيو بينو نفسه.. وأني أستميح المسيو بينو عذره وصبره، إذا أذن لي بأن أستعير فصاحته، لأصف لكم دور البطل الفرنسي لافيت في الثورة الأمريكية..وإذا كان لنا أن ننسى كل شيء في تاريخ فرنسا فعلينا،أن لا ننسى سيرة لافيت؛ فلقد ترك لنا لافيت في مذكراته صورة مشرقة عن تقاليد فرنسا الكريمة، في معاونة الحركات الثورية .. وسأقرأ كلماته بالإنجليزية فإنني أخشى إذا قرأتها بالفرنسية أن انتقص من روعتها و بهائها .. لقد قال لافيت: "حينما سمعت بالأنباء الأولى عن الثورة الأمريكية فقد تغلغلت في فؤادي .." هذه هي كلمات لافيت.. وكان من نتائجها أن فرنسا قدمت لأمريكا العون(1/35)
على الأرض الأمريكية.. وحين نرجع بالذاكرة إلى تلك الأيام المجيدة نجد في محاضر الكونجرس الأمريكي بتاريخ 31 يوليو 1777 قراراً عظيماً يقول "نقر قبول خدمات لافييت.. ونمنحه رتبة جنرال في جيش الولايات المتحدة، بالنظر لما أظهره من شجاعة وحماسة".
هذا هو العون الفرنسي الذي قدمته فرنسا إلى "العصاة" في أمريكا، إلى الولايات المتحدة في ثورتها المجيدة.. وشهدت محاضر الكونجرس الأمريكي، بهذا العون شهادة أصبحت جزءاً من تاريخ كفاح الشعب الأمريكي..
وفي هذه المناسبة فإنني أرغب أن أذكر المسيو بينو، أن فرنسا لم تقدم العون فحسب ولكنها تلقت العون كذلك.. ففي الحرب العالمية الأولى، قامت أمريكا بسداد دينها لفرنسا، وفاء من الولايات المتحدة للشعب الفرنسي؛ وحينما وضع الجنرال الأمريكي "برشنج" قدمه على أرض فرنسا ليعمل على تحرير فرنسا، تذكر البطل الفرنسي لافييت، وصاح بأعلى صوته، وبتقاليد الفارس في أروع تقاليد الفروسية: "لافييت نحن هنا..."
وإن من حقنا أن نضيف إلى ذلك أنه كان بين الأبطال الجزائريين كثير من أمثال البطل لافييت، لقد بذلوا دماءهم ليعيدوا لفرنسا حريتها واستقلالها.. وفي نفس الروح الثورية التي عرف بها لافييت، انطلق الجنود الجزائريون البواسل في الحرب العالمية الأولى والثانية يعملون على تحرير فرنسا.. ولكن فرنسا لم تف بدينها.. والجزائر تكافح الآن لتصفية هذا الحساب.. وعلى كل حال، فإن الجزائر ستخرج منتصرة في النهاية، كما انتصرت كثير من الدول الممثلة الآن في الأمم المتحدة، إن الكلمة النهائية هي لقضية الحرية على الدوام، وإن مسيرة الحرية قد تتأخر بعض الوقت، ولكنها(1/36)
لن تتوقف أو تتعطل، لا بد أن يكون النصر حليفها، فتلك حتمية التاريخ إن شئتم. أو القضاء والقدر، للذين يؤمنون بالقضاء والقدر.
إن كثيرا من الدول المستقلة اليوم، كانت جماعات من "العصاة" بالأمس، والولايات المتحدة هي أقدم هؤلاء "العصاة" في قافلة الحرية.. وأنه ليس عاراً بل فخر، أن دول الأمم المتحدة في معظمها مؤلفة من "عصاة" كانوا يقاتلون من أجل حرية بلادهم.. وإنه لمن دواعي اعتزازنا وفخرنا أننا كنا حتى الأمس القريب "عصابات" تناضل العسف والاستبداد؛ وكنا نحسب أن فرنسا قد تلقت درساً تاريخياً من الأحداث في الهند الصينية وتونس والمغرب، وما آلت إليه حروب التحرير في تلك الأقطار.. إن الجزائر لا تختلف عن هذه الأقطار في شيء.. ولا بد لها أن تنتصر وتحقق كل آمالها القومية، وهذه هي الحقيقة الثانية التي يجب أن ينبثق منها أي حل للقضية الجزائرية.
والحقيقة الثالثة، إن فكرة تقسيم الجزائر مرفوضة بصورة مطلقة، جملة وتفصيلاً.. إن وحدة الوطن الجزائري لا تخضع لأي بحث أو نقاش.. إن الصحراء في الجنوب، والشواطئ في الشمال، وجميع الموارد الطبيعية، هي عناصر أساسية لأي حل جزائري.. وإنني أشير إلى هذا الموضوع، لأن المسيو بينو، قد شرح أخطار التقسيم بمقدرة وفصاحة.. ولكن المسيو بينو لم يكن في حديثه يهدف إلى بيان أخطار التقسيم.. إنه كان يستهدف إلقاء الرعب في نفوس الجزائريين، فلقد كان المسيو بينو واضحاً كل الوضوح حينما قال "إن تطبيق مبدأ تقرير المصير يؤدي إلى تقسيم الجزائر إلى دولتين أو أكثر".. وعلى هذا فإن المسيو بينو يقدم للشعب الجزائري هذه المعادلة: تقرير المصير يساوي التقسيم، والتقسيم هو نتيجة تقرير المصير...(1/37)
وعلى هذا فإن كلام المسيو بينو يوضح نفسه بنفسه، إنه يرمي إلى ترويع الشعب الجزائري بالتنازل عن تقرير المصير تفادياً للتقسيم، وبهذا تتكرر حكاية سيدنا سليمان: تنازل عن الطفل تفادياً لتقطيعه.. وإذا كان الترويع هو الوسيلة، فليست لفرنسا مناعة ضد هذا الترويع.. ومن نفس هذا المنطق، يمكننا أن نقول إن خلق دولة للفرنسيين في الجزائر يعني أن مصير الفرنسيين أنفسهم، سيظل في خطر دائم داهم. إن الشعب الجزائري قادر على إرهاب فرنسا، أكثر مما تستطيع فرنسا إرهاب الجزائر..
وليس للجزائر أن تشهد في وسطها إسرائيل أخرى، وما يتبع ذلك من أخطار على السلم... ولقد وضع المعلق السياسي ريمون آرون كتاباً اسمه "المأساة الجزائرية" استعرض فيه فكرة التقسيم، وتوصل في النهاية إلى النتيجة الآتية "لقد كان التقسيم موضوع دراسة من قبل عدد من الزعماء السياسيين.. ومن هذه المقترحات، إقامة دولة للفرنسيين ودولة للجزائريين المسلمين.. ولا يخلو هذا الاقتراح من صعوبات عملية جمة.. ومعنى ذلك أن تطبق في شمال إفريقيا الحل الإسرائيلي، الذي طبق في الشرق الأوسط.. ولكن هذه السابقة لا تشجع على إعادة تطبيقها.. إن الجالية الفرنسية في الجزائر لا تؤلف مجتمعاً قادراً على الاكتفاء الذاتي.. ذلك أن جميع فئاتهم التجارية متصلة ومختلطة بالجزائريين المسلمين.. والتقسيم يفصل هذه العلاقات ويؤدي إلى أمور غير طبيعية ليست في صالح أي من الفريقين.."
إن صاحب هذا الكتاب، لا يمكن أن يتهم بأنه مناهض لليهودية أو معاد للسامية.. إن اسمه آرون – يتحدث عن يهوديته وساميته..
وأنتقل الآن إلى الحقيقة الرابعة: إن على فرنسا أن تنزع من تفكيرها الآن وإلى الأبد فكرة الاستعلاء العنصري للجالية الفرنسية في الجزائر...(1/38)
ليس هنالك من سبب يدعو إلى إعطاء المعمر الفرنسي أي وضع متميز.. ولا يمكن إعطاء أية طائفة أية معاملة خاصة في الجزائر.. وإنما المساواة للجميع ومن غير تمييز.. الاعتراف بأية معاملة مميزة للمعمرين سيؤدي حتماً إلى الفوضى وعدم الاستقرار.. إن مصير أحد عشر مليوناً من الجزائريين لا يجوز أن يقرره مليون من المعمرين، المتحدرين من أصول متعددة.. إن الجزائر ليست تربة صالحة لأي استعلاء عنصري.. إن على المعمرين أن يختاروا بين أحد أمرين، إما أن يعيشوا بهدوء ونظام في الجزائر، أو يخرجوا منها.. إنهم يستطيعون أن يخرجوا إلى حيث يستطيعون أن يشبعوا شهوة الاستعلاء في نفوسهم.
ولم تغفل الحركة الجزائرية عن ملابسات هذا الموضوع.. لقد أعلنت جبهة التحرير الجزائرية موقفها من الأقلية الأوروبية بطريقة ديمقراطية عادلة، فلقد أصدرت بياناً ذكرت فيه "إن الأقلية الأوروبية يمكن أن تقبل في المجتمع الجزائري على أساس المساواة الفردية الكاملة.. وأننا نترك لأفراد هذه الأقلية، الخيار بين الاندماج في الشعب الجزائري، أو الاحتفاظ بالجنسية الفرنسية كأجانب في إطار نظام يكفل لهم الحفاظ على جميع حقوقهم المشروعة، من غير الامتيازات المنبثقة من النظام الاستعماري.."
هذا هو الموقف الذي أعلنته جبهة التحرير الجزائرية بشأن الأقليات الأوروبية.. ولكن ممثل بريطانيا قد اختار أن يهاجم جبهة التحرير الجزائرية فيما أسماه "بالتشدد والتطرف".. لقد حاول ممثل بريطانيا أن ينجد زميله المسيو بينو لأسباب معروفة، فوقع في خطأ علمي فاحش.. لقد أعلن ممثل بريطانيا إن الجزائر "وطن متعدد الجنسيات" وان أهل الجزائر "مجتمع متعدد الأجناس" وهذا الكلام من جانب ممثل بريطانيا لا يعدو أن يكون خرافة(1/39)
مؤسفة، إن الأقليات الأوروبية على أكرم تقدير، لا يؤلفون أكثر من عشر السكان.. فكيف يجوز أن نصف المجتمع الجزائري بأنه متعدد الأجناس.. ليس هذا الموضوع، أيها الممثل البريطاني، موضوع الجنسيات المتعددة، ولكنه الاحتضار والنزاع لحكام الاستعمار وبقايا الإمبريالية.. وإني أقول هذا دون أن أطمع في إقناع الممثل البريطاني لتغيير آرائه أو تصحيح أخطائه.. إنه من العبث أن نحاول إقناع الممثل البريطاني بأخطائه.. فلقد أعلن هو بنفسه أمامكم بأن حكومته "تحمل آراء محددة في الموضوع" فكيف لنا أن نخرجه من الخنادق التي حفرها لنفسه، وخندق فيها، وصمم أن لا يتزحزح منها.
غير إنني سأحاول في تجربة يائسة، أن أدل الممثل البريطاني على أخطائه.. وسأترك المجال في هذه المهمة لوزير بريطاني سابق، هو المستر ناتنج الذي ترأس وفد بريطانيا إلى الأمم المتحدة في مناسبات سابقة؛ لقد كتب المستر ناتنج اثني عشر مقالاً في جريدة "الهرالد تربيون" تعرض فيها إلى ما أسماه الممثل البريطاني بالمجتمع الجزائري المتعدد الجنسيات، فقال: "على أية حال، إن موضوع المعمرين قد أحيط بمبالغات ضخمة.. ولقد تناولت هذه المبالغات عدد الفرنسيين الحقيقيين وقوة مشاعرهم، بقصد تأييد الدعوى الفرنسية في الاحتفاظ بالجزائر مقاطعة فرنسية.. ولهذا فستظل الجزائر مشكلة مفجعة.. وقد تستطيع فرنسا في الوقت الحاضر أن تربح المعركة ولكنها لن تستطيع أن تربح الحرب... ولن يهدأ بال الجزائريين حتى يحققوا حريتهم واستقلالهم، وخاصة أنهم يرون من حولهم تونس والمغرب دولتين مستقلتين، وإفريقيا السوداء تتمتع بقسط وافر من الحكم الذاتي.. وأنك تستطيع(1/40)
أن تلمح هذه المعاني في عيون الجزائريين.. إن وراء نظراتهم الملتهبة تشع شعلة القومية المتوهجة.. والفرنسيون يتعامون عن هذه الحقيقة".
ومن هنا فإننا نستطيع أن نضع المعالم الرئيسة للحل الجزائري، كما نراه من غير بديل.. يجب، أولاً، الاعتراف غير المشروط بحق الشعب الجزائري في الاستقلال كعنصر أساسي في حل القضية الجزائرية. وكما قال السيد جون كندي عضو مجلس الشيوخ الأمريكي في تموز سنة 1957 (1) "إن الحالة الجزائرية أشبه ما تكون بقنبلة زمنية، ستنفجر يوماً ما، في وجه العالم الحر بأشد خطرٍ من قضية الهند الصينية" إن استقلال الجزائر هو أمر حتمي، لا يمكن تجنبه، ولا مرد له، شأنه في ذلك شأن القدر النازل من السماء.. ولقد وضع عضو مجلس الشيوخ الأمريكي العبء على كاهل "العالم الحر" فإذا أخفق هذا "العالم الحر" فلن يكون جديراً باسمه وشهرته.. وستكون حينئذ عبارة "العالم الحر" بمثابة إعلان تجاري يُنفِّر الجميع، ولا يجتذب أحداً..
ويجب، ثانياً، الاعتراف بحكومة جزائرية مؤقتة، لتبدأ مفاوضات عاجلة مع فرنسا، على مائدة مستديرة، للوصول إلى تسوية عادلة للمشاكل القائمة بين الطرفين.. إن المفاوضات المباشرة بين الجزائر وفرنسا، وعلى أساس الاستقلال، هي المفتاح الوحيد للمشكلة الراهنة.. ولقد كتب المسيو أندريه فيليب في "الاكسبرس" في 17 أكتوبر سنة 1957 ما يلي "لقد دنت ساعة المفاوضات بين فرنسا والجزائر لحل المشكلة الجزائرية، سواء كان هذا الاقتراح يرضي المتطرفين أو يغضبهم.. إن عام 1958 سيشهد هذه المفاوضات.. وإنني أخشى أن نخسر كل شيء، إذا كنا لا نعترف بالوقت المناسب بما يؤدي إلى إنقاذ ما يمكن إنقاذه.."
__________
(1) * رئيس جمهورية الولايات المتحدة 1960.(1/41)
وهذه حقيقة صارخة من غير شك.. فإذا ما بقيت فرنسا ترفض المفاوضات مع الجزائر، واستمرت في هذه الحرب، فإنها ستخسر وإلى الأبد، كل ما يمكن الحفاظ عليه في الوقت الحاضر.. وأن تشكيل حكومة جزائرية مؤقتة ليس بالأمر العسير.. وتستطيع جبهة التحرير الجزائرية أن تتخذ الخطوات المناسبة في هذا السبيل.. ولقد اعترفت تونس والمغرب بالجبهة الجزائرية كأعلى هيئة ممثلة للشعب الجزائري.. وفي رأينا أن جبهة التحرير الجزائرية تمارس سلطة فعلية، في كل ما يتصل بالنشاط السياسي والعسكري للشعب الجزائري..
والواقع أن الاعتراف بالجزائر الحرة، هو محل اهتمام ودراسة جدية من أكثر من مرجع واحد.. ولست أذيع سراً إذا قلت، أن الأمر ينتظر لتنفيذه، الصورة النهائية للقرار الذي يصدر عنكم، بشأن القضية الجزائرية في هذه الدورة.
ويجب، ثالثاً، الإفراج عن المعتقلين السياسيين، كخطوة أساسية لخلق جو ملائم تسير في ظله مفاوضات بناءة وإيجابية.
وأخيراً لا آخراً يأتي موضوع وقف إطلاق النار.. إن هذا الموضوع يجب أن يكون شاملاً للجميع، ولجميع المناطق.. يطبق على الفرنسيين والجزائريين سواء بسواء.. وواضح تماماً أن وقف إطلاق النار لا يمكن أن يبدأ إلا بقبول المبادئ الأساسية التي أشرت إليها.
وعلى هذا فإن الحل في نظرنا يجب أن يكون: الاعتراف بالاستقلال، قيام حكومة جزائرية مؤقتة، المفاوضات، وقف إطلاق النار.
ولكن المسيو بينو قد عكس الآية فلقد اقترح: وقف إطلاق النار، الانتخابات والمفاوضات. وأن الموضوع لا ينطوي على اختيار هذه الصيغة(1/42)
أو تلك.. إن الأمر يتصل بحرية شعب، كان تحت السلاح قرابة مئة وسبعة وعشرين عاماً، وأن التعابير المعسولة لا يمكن أن تزيل مرارة الحالة الحاضرة.. ولقد ذكر المسيو بينو في أكثر من موضع من خطابه، أن المفاوضات مع فرنسا يجب أن لا ترتبط بأية شروط سابقة؛ ويبدو في الظاهر، على كل حال، أن موقف فرنسا يستبعد أية شروط سياسية سابقة للمفاوضات.. فلننعم النظر في هذا الموقف، كما أعلنه المسيو بينو..
لا بد لنا أولاً، أن نؤكد أن الاستقلال ليس شرطاً سياسياً سابقاً.. إنه حق طبيعي.. ولا بد لنا، ثانياً، أن نلاحظ أن المسيو بينو هو الذي يشترط للمفاوضات شروطاً سياسية، ولو أننا فكرنا ملياً في خطابه لرأينا أنه يدعو الجزائريين لأن يعملوا ما يأتي: أولاً: وقف إطلاق النار، ثانياً: الانتخابات، ثالثاً: المفاوضات. وفيما يتعلق بالانتخابات فإن فرنسا هي التي تصدر التشريعات اللازمة، فتحدد الطريقة والأسلوب، وتعين المناطق الانتخابية، وتشكل الهيئات التشريعية والتنفيذية وتنص على اختصاصها وعددها..
إن الشعب الجزائري هو الذي يجب أن يؤسس لنفسه المجلس التأسيسي، ترأسه حكومة جزائرية تملك الصلاحيات الكاملة.. ولقد تحدث المسيو بينو بسخاء وإفراط عن النظم الديمقراطية.. ولكن اقتراحاته ليست من الديمقراطية في شيء، إن المسيو بينو يعرض على الجزائر أن تبني فرنسا كل شيء: الانتخابات والمؤسسات الدستورية، ثم يتعين على الجزائر أن تأتي لتفاوض.. وهذه هي الشروط المسبقة بذاتها.. وبهذا فإن المسيو بينو، يعرض على الجزائر أن تفاوض ولكن بموجب هذه الشروط، وبعد أن تضع فرنسا كل القوانين التي تريدها، وتقيم الأوضاع الدستورية كما تشاء..(1/43)
ومن الجدير بالتنويه إن ممثل بريطانيا لم يشأ أن يترك المسيو بينو يتخبط وحده في هذا الموضوع، وهذا ما دفعه إلى تأييد وجهة النظر الفرنسية، وأن الأسباب التي تدعو إلى هذا التحالف الفرنسي البريطاني يمكن فهمها وإدراكها.. إن قضية قبرص، وهي قضية تهم بريطانيا، تأتي مباشرة على جدول الأعمال بعد قضية الجزائر.. وهذا الترتيب، هو لا شك، من باب المصادفة، ولكنه يفسر لنا أسباب التعاطف بين فرنسا وبريطانيا بالنسبة لقضية الجزائر.. فإن الاستعمار يربط بين البلدين.
ولقد أعلن الممثل البريطاني أمامكم إنه "لا يحسن بنا أن نُصدَّر من نيويورك آراءنا إلى الجزائر.." وهذا تصريح خطير فعلاً، ومما يزيد خطورته أنه يبدو لأول وهلة إنه بريء كل البراءة.. والواقع أن ملاحظة الممثل البريطاني تمس جذور الأمم المتحدة. نحن هنا مطالبون بأن نُصدِّر آراءنا من نيويورك إلى كافة أرجاء العالم.. ومن حقنا أن نتساءل ماذا نعمل هنا في نيويورك، إذا كنا لا نصدِّر آراء ومقترحات وقرارات؟ ومع هذا فإن إصدار الآراء هو ما بقي لهذه المنظمة المسكينة! وإذا كنا ننزع من الأمم المتحدة حقها في إصدار الآراء، فإننا ندفعها إلى حياة الكسل والخمول.. وفوق كل هذا، ألم تكن الأمم المتحدة خلال الاثني عشر عاماً السابقة منصرفة إلى إصدار الآراء والمقترحات في جميع المشاكل الدولية.
ألم تساهم بريطانيا في إصدار الآراء والمقترحات بشأن قضايا كوريا وألبانيا واليونان، وأخيراً في قضية المجر، فلماذا لا تفعل مثل ذلك في قضية الجزائر، وخاصة فيما يتعلق في موضوع الانتخابات الجزائرية التي أسرفت فرنسا في الحديث عنها.. ثم إننا، ونحن جالسون هنا في نيويورك، كيف نسمح لفرنسا، ومن فرنسا أن تُصدِّر إلى الجزائر نظاماً انتخابياً.. إن(1/44)
الانتخابات ليست عطوراً يمكن تصديرها، بعد أن يكتب عليها "صنع في فرنسا" إن الانتخابات شيء، والعطور شيء آخر، وعلى الأمم المتحدة أن تميز بين العطور والانتخابات..
أما فيما يتعلق بالمفاوضات، فإن من حقنا أن نتساءل: ما هو المقصود منها؟ وما هي الأهداف التي ينتظر أن تحققها؟. وإنني أسأل المسيو بينو: ما هي مقاصد فرنسا؟ وماذا يدور في خلد فرنسا؟ ما هي الأمور التي تريد فرنسا أن تفاوض الجزائر على أساسها؟ وهل تريد فرنسا من وراء هذه المفاوضات أن يختار الجزائريون أن تصبح الجزائر فرنسية وأن يصبحوا رعايا فرنسيين؟هذه ليست مفاوضات، ولكنها شروط تريد فرنسا، أن تمليها على الشعب الجزائري. إن المسيو بينو يدعو الجزائريين للمفاوضة، ولكن لا يحق لهم أن يتحدثوا عن الاستقلال، وعن إقامة حكومة جزائرية، وكل ما يطلبه المسيو بينو، هو وقف إطلاق النار، وأن يلتزم الجزائريون بقبول الحلول التي تضعها فرنسا.. ونحن من جانبنا نرى أن هذه المفاوضات، وبهذه الشروط، إنما هي استسلام.. ولا أظن أن إنساناً عاقلاً ينطوي قلبه على ذرة من حب الحرية والاستقلال، يمكن أن يرضى بهذه العروض الفرنسية، إلا إذا أصبحت الحرية ألعوبة، وأصبح الاستقلال سخرية.
وإنه من الغرابة بمكان، أن فرنسا رفضت وساطة تونس والمغرب، ولأسباب واهية. ولقد أدلى ممثل تونس أمامكم ببيان واف حول هذا الموضوع، حتى أن الممثل البريطاني لم يسعه إلا أن يثني عليه ويطريه.. وإذا كان البيان التونسي قد حاز التقدير، فلسنا ندري لماذا ترفض فرنسا وساطة تونس.. ولقد زعم المسيو بينو أمامكم أن المغرب وتونس ليستا محايدتين، ولا يمكن أن تقوما بدور الوساطة.. ونحن لا نريد أن ندخل في(1/45)
مناقشة مفصلة حول هذه النقطة، ولكنا نضع السؤال أمام المسيو بينو: إذا لم تكن تونس والمغرب مؤهلتين للوساطة بسبب عدم حيادهما، فهل فرنسا مؤهلة لإجراء الانتخابات في الجزائر، وفرنسا أحد طرفي النزاع؟؟ .. إن الاعتراض الذي يوجه إلى وساطة تونس والمغرب، يجب أن يوجه إلى فرنسا، ومن باب أولى إلى فرنسا بالنسبة للانتخابات وموضوع الانتخابات أبعد أثراً وخطراً من موضوع الوساطة.. وإن من حقنا أن نطالب فرنسا، استناداً إلى منطق فرنسا نفسها، أن تترك الانتخابات الجزائرية للشعب الجزائري وحده.
هذا هو الحل الذي تعرضه فرنسا للقضية الجزائرية، ولكنه حل يدخل على المشكلة الجزائرية مشكلات إضافية.. إن المقترحات الفرنسية تكشف عن عقلية استعمارية.. إن المسيو بينو قد أشار في مناسبات متعددة إلى "الجماعات الجزائرية".. وإنني لا أعرف تعبيراً يتحدث عن "الجماعات الفرنسية" و"الجماعات الإنجليزية" أو "الجماعات الأمريكية". هذا تعبير فريد، وتعبير جديد علينا.. إن التعبير الذي نعرفه الشعب الجزائري، الشعب الفرنسي، الشعب البريطاني.. ولو أننا رجعنا إلى أي مصدر علمي، تاريخي أو جغرافي، لا نرى إلا تعبيراً واحداً "الشعب الجزائري"؛ ولقد خُيِّل إليَّ وأنا أستمع إلى المسيو بينو، وهو يتحدث عن "الجماعات الجزائرية"، أن الجزائر قد أصبحت هي العالم الصغير، تسكنه جماعات تمثل جميع العناصر البشرية..
ولقد أشار المسيو بينو إلى قرارات مؤتمر باندونغ، وأنه ليسرنا كثيراً أن يستشهد المسيو بينو بقرارات ذلك المؤتمر التاريخي العظيم، لقد أشار المسيو بينو إلى القرار الذي ينص على "عدم التدخل في شئون الدول(1/46)
الأخرى" باعتباره واحداً من المبادئ الرئيسية التي أقرها مؤتمر باندونغ.. ونحن نقبل هذا القرار، ذلك أننا ساهمنا في صياغته والموافقة عليه.. ولكن كيف جاز للمسيو بينو أن يتجاهل قرار باندونغ الذي أعلن حق الشعب الجزائري في الحرية والاستقلال.. ليس للمسيو بينو أن يقتبس من قرار باندونغ ما يحب، وأن يتجنب ما لا يحب. وكان على المسيو بينو وهو يستشهد بمبدأ عام عدم التدخل أن ينصح نفسه، فلا يتدخل في شئون الجزائر، وهذا هو المعنى الحقيقي لقرار باندونغ.
ثم إن المسيو بينو تحدث طويلاً عن الديمقراطية، وهل من الديمقراطية في شيء أن تفرض فرنسا على الجزائر الحل الذي تختاره؟
ولا تكتفي فرنسا بأنها تضع الحل وأنها تنفذه، فهي المخطط والصانع والمنفذ.. وحين تنادي الأمم المتحدة بالوصول إلى حل سريع للقضية الجزائرية، يقف المسيو بينو أمامكم، ليعلن أنه من السذاجة أن يتوقع أحد الوصول إلى حل سريع للقضية الجزائرية.. إن الحديث عن هذه السذاجة هو السذاجة بعينها..
هذه هي وجهة النظر الفرنسية كما شرحها المسيو بينو، وهذه هي وجهة النظر الجزائرية كما عرضتها أمامكم بكل بساطة ووضوح.. ولكن الأمم المتحدة عليها دور كبير، يجب أن تؤديه.. يجب علينا أن نلقي بكل ثقلنا وجهودنا إلى جانب الحرية.. لقد قال لكم المسيو بينو "عليكم أن تختاروا، وأن فرنسا قد اختارت طريقها وانتهى.." هذا هو إنذار موجه لكم.. إنه تحد كبير يطرح أمامكم.. وإنما تقول لكم فرنسا، نحن لا نبالي بما تقررون، فقد قررنا طريقنا.. ولكن الأمم المتحدة لا تستطيع إلا أن تختار الحرية للجزائر... وأنه لا يتفق مع كرامة هذه المنظمة العالمية، ولا مع سمعتها أن تتخذ موقفاً(1/47)
سلبياً.. إنكم لا تستطيعون في الأمم المتحدة أن تجلسوا مكتوفي الأيدي، لا أدريين ولا أباليين، بقلوب مقفلة، وعيون مغمضة، وآذان مقفلة للمآسي الإنسانية. يجب أن نتخذ دوراً إيجابياً فعالاً..
ومن أي زاوية نظرنا إلى القضية الجزائرية، فإن ميثاق الأمم المتحدة يدعو إلى أن نضع حداً لهذه المأساة، وحتى تاريخ فرنسا المشرق فإنه يثور على الأوضاع القائمة في الجزائر.. إن الثورة الفرنسية التي أعطت العالم كنوزاً من المعاني السامية، تستنكر هذه الفظائع الرهيبة التي تجري على أرض الجزائر.. وإنني أقولها لكم وللمسيو بينو، بكل احترام وإخلاص، إن فرنسا تخون فرنسا، إذا بقيت الجزائر مسرحاً يخضع فيه الحق للقوة الغاشمة، ويتمرغ العدل تحت أقدام الطغيان..
وأننا لنرجو بكل إخلاص بأن تستجيب فرنسا في النهاية لنداء العقل والحكمة.. وليس يجدي أن تظل فرنسا تفكر في عقلية "قانون الإصلاح" وما هو بقانون ولا إصلاح.. إن هذا القانون هو صيغة أخرى للاستعمار؛ ولقد أحسنت مجلة تايم الأمريكية في تحليلها لهذا القانون، الذي أشار إليه المسيو بينو أكثر من مرة: فقد قالت المجلة: "في الأسبوع الماضي، تقدمت الحكومة الفرنسية إلى المجلس الوطني بمشروع قانون الإصلاح الذي طال الزمان في انتظاره كحل للقضية الجزائرية.. لقد كان الجواب العربي: إنه مرفوض بصورة قاطعة، والواقع أن هذا القانون هو أشبه شيء بفأر صغير، وقبيح، وعلى شكل غير مألوف.."
ومع أن هذه الأوصاف هي تعبيرات مجلة التايم الأمريكية، ولكنها تذكرنا بالمثل العربي المعروف "تمخض الجبل فولد فأراً" وهذا هو قانون الإصلاح.(1/48)
إن القضية المطروحة أمامكم هي من الخطورة بمكان عظيم.. بالنسبة لفرنسا إنها صراع من غير ثمرة.. ولا تجر إلا الخسارة لفرنسا في الدماء والأموال في معركة خاسرة.. وبالنسبة للجزائر، أنها حقاً خسائر في الدماء والأموال، ولكنها بالنتيجة ليست خسارة، لأنها واصلة إلى الحرية وهي أثمن كنوز الحياة.
يجب علينا أن نتطلع إلى مستقبل مشرق، وستكون فرحة كبرى للعالم بأسره، يوم نرى الجزائر دولة حرة مستقلة، وسترى أوروبا الحرة، الشمال الإفريقي الحر، يواجهها ليكونا شطرين متكاملين، في مضمار الاستقلال والسيادة.
وإننا لنرجو أن تصبح الجزائر، وفي وقت قريب، دولة مستقلة تحتل مقعدها المرموق في هذه المنظمة العالمية، وأنه لأمر عجيب غريب، أن تكون معكم تونس والمغرب، وأن يتخلف عن الركب ذلك القطر الذي يقع بينهما. يجب أن نرى الجزائر معنا متمتعة بحريتها واستقلالها، وبهذا ستقوم صداقة مع فرنسا.. بل صداقة دائمة..
وإنني أدعو وفدي ألبانيا والأرجنتين، وهما الجاران حسب الترتيب الأبجدي، أن يفسحا بينهما مكاناً للجار الجديد، القادم من ميدان الكفاح، الجزائر، لتتبوأ مكانها بين جارين عزيزين في هذه المنظمة العظيمة.
هذا هو أملنا ورجاؤنا.. بل هذه هي الصورة المشرقة التي اختتم بها بياني أمامكم.. وما أعظم هذه الصورة وما أعظم هذا الرجاء.(1/49)
الرئيس ديغول..
خيب آمالنا في الجنرال ديغول
"ديسمبر سنة 1958"
ليس من باب المصادفة العابرة، يا سيدي الرئيس، أن القضية الأولى في الأمم المتحدة قد أصبحت الأخيرة. وها نحن قد بلغنا نهاية الدورة حين نبدأ مناقشة القضية الجزائرية.. ولم يكن هذا من جانبنا غفلة أو إهمالاً، إن قضية الجزائر هي قضية تحرير وحرب تحرير، وإنها لعزيزة حقاً على جميع الشعوب المحبة للحرية.. وقضية هذا شأنها لا يمكن إلا أن تلقى الأولوية الجديرة بقداستها، وسمو أهدافها، وخطورة أحداثها.. والواقع أنه إذا كانت الأولوية تستند إلى الأهمية، فإن قضية الجزائر يجب أن تتبوأ المقام الأول بين جميع قضايا الأمم المتحدة، ولا يصح أن يكون لأية قضية أخرى أسبقية عليها.. ولا شك أن لدى الأمم المتحدة قضايا دولية أو إقليمية تستأثر باهتمامنا، ولكن القضية الجزائرية تتصدر كل هذه القضايا، ذلك أن ما يتصل بالحرية والسيادة، من حقه أن يكون له مقام الصدارة من غير منازع.
غير أن الذي جرى كان على النقيض من ذلك.. لقد تركنا القضية الجزائرية إلى النهاية، وعن قصد واضح.. ولم نطلب أن نناقش القضية في بداية الدورة، بل وافقنا أن تدرج في أخر جدول للأعمال.. وليس السبب في ذلك سراً يحظر إفشاؤه.. لقد كانت فرنسا على أعتاب تجربة قومية جديدة..(1/51)
إن الجمهورية الفرنسية الخامسة كانت في دور المخاض، وكانت القضية الجزائرية أهم العوامل في مولدها.. لقد كان الجنرال ديغول يضع دستوراً جديداً لفرنسا.. ويخطط لسياسة جديدة، تكون القضية الجزائرية من أهم جوانبها.. وكان على المسرح السياسي موضوع الاستفتاء والانتخابات في فرنسا.. كما كان الجو السياسي مفعماً بالحديث عن المفاوضات.. ولهذا فلم يكن من الإنصاف لكم، ولا للقضية الجزائرية، أن تبدأ مناقشتها قبل أن تكتمل عناصر الموقف السياسي في فرنسا، وتبدو صورته النهائية على حقيقتها.. وأن يكون سابقاً لأوانه من غير شك، لو أننا بدأنا النظر في القضية الجزائرية، والاستفتاء ما يزال في القدر والانتخابات في المقلاة..
أما الآن فقد انتهت كل هذه الإجراءات.. لقد انتهى الاستفتاء وانتهت معه الانتخابات، وأصبحت الصورة النهائية أمامكم، لتروها وتبحثوها وتحكموا عليها.. وإنه لمن دواعي القدر الحكيم أن القضية الجزائرية قد جاءت أمامكم في وقت استكملت فيه فرنسا كل الرحلة التي أرادت أن تقطعها، وأنجزت معها "العملية" التي خططت لها، وأصبح من حق فرنسا أن تصدر البلاغ المعتاد " لقد نفذت العملية وفق الخطة المرسومة"، وإنه من حسن حظنا أن تأتي القضية الجزائرية وكأنها على موعد مع الخطة الفرنسية بعد أن تم إنجازها، حتى يكون الحساب الختامي واضحاً أمامكم، إلى آخر سانت أمريكي أو فرنك فرنسي..
ولقد أطلت الحديث في هذه المقدمة، يا سيدي الرئيس، لأنني حين أجيل بصري في قاعة الجمعية العامة، أجد أن مقعد فرنسا شاغر، ليس فيه أحد من الوفد الفرنسي.. إن هذا مؤسف حقاً، فرغماً عن أن موقف فرنسا من القضية الجزائرية فارغ تماماً، فليس لها أن يكون مقعدها فارغاً.. إن تخلف(1/52)
فرنسا عن المشاركة في هذا الاجتماع يدعو إلى الاستنكار، إنه إهانة موجهة للأمم المتحدة، إنه استخفاف بالقضية الجزائرية وما تنطوي عليه من أهداف نبيلة، إنه تناقض مع فرنسا ذاتها، وإنه فوق ذلك ازدراء بالبطل العظيم الجنرال ديجول، فليس من تقاليد الجندي الباسل أن ينسحب من الميدان.. وكائنة ما كانت الأسباب التي دعت فرنسا لتغيب عن هذا الاجتماع، فإنها بداية سيئة للجمهورية الفرنسية الخامسة في بداية عمرها..
وأن غياب فرنسا في هذه الدورة بالذات، يزيد من أسفنا، فنحن مطالبون، بأن نقم إليكم عرضاً لما تم بشأن القضية الجزائرية.. يجب علينا في هذه الدورة أن نستعرض الماضي، وندرس الحاضر، ونخطط للمستقبل.. إنها دورة لتصفية الحساب، ذلك أن فرنسا في الدورة الماضية قد بذلت وعوداً كثيرة، وإن من واجب فرنسا أن تذكر لكم ماذا أنجزت من هذه الوعود.. ولقد تحدثت فرنسا طويلاً في الدورة السابقة عن وقف إطلاق النار وعن المفاوضات.. ولذا بات من واجب فرنسا أن تعرض عليكم نتيجة جهودها بشأن وقف إطلاق النار والمفاوضات.. ولكن فرنسا قد تخلفت عن أداء الحساب وتخلفت عن الحضور.. وقد كان كل أملنا في عهد الجنرال ديغول أن تنسحب فرنسا من الجزائر، بدلاً من الانسحاب من الجمعية العامة.. أجل كان أملنا أن تأتي فرنسا في هذه الدورة لتقول لكم إنها تركت الجزائر للجزائريين، والجزائريين للجزائر.. ولم تكن آمالنا هذه من غير مبرر.. فقد كنا نحسب أن الجنرال ديجول، البطل العظيم لحركة التحرير الفرنسية، سيعمل على تحرير فرنسا من الاستعمار الفرنسي، وبالتالي تحرير الجزائر.
ولكن خاب ظننا، ذلك أن الرئيس ديغول قد خيب آمالنا في الجنرال ديجول.. وها نحن نرى أنفسنا مضطرين مرة ثانية أن نبحث قضية الجزائر(1/53)
وحرب الجزائر.. وما لنا في ذلك حيلة فإن الجنرال ديغول قد انهزم أمام الرئيس ديجول..!!
ويجب أن يكون واضحاً منذ البداية، يا سيدي الرئيس، أن هناك أموراً في القضية الجزائرية لفم تعد محل جدال، فقد أصبحت بدهيات لا مجال لمناقشتها.. ذلك أنه استقرت في الفقه الدولي للأمم المتحدة.
ولهذا فإنني لا أجد نفسي في حاجة إلى مناقشة المزاعم الفرنسية، المستندة إلى حجة الاختصاص الداخلي، التي تلجأ إليها فرنسا دائماً لتعارض سلطة الأمم المتحدة.. إن الحديث عن الاختصاص الداخلي، قد أصبح الآن حديث خرافة بالنسبة للقضية الجزائرية.. إن حق الأمم المتحدة في بحث القضية الجزائرية قد أثبتته المناقشات المسهبة التي جرت في الدورة السابقة، ولقد رفضت الأمم المتحدة دعوى فرنسا المستندة على الاختصاص الداخلي، ولا نرى داعياً للعودة إلى هذا الموضوع.
للأسباب نفسها، فإنني لا أعتزم الرجوع إلى الجانب التاريخي للقضية الجزائرية، ولا أن أتناول بالبحث حق الجزائر في الاستقلال، وما تعرضت له أثناء الاحتلال الفرنسي، وكفاحها الطويل من أجل تحقيق أهدافها القومية.. ذلك كله قد تحدثنا بشأنه في الدورة السابقة، وأثبتنا، بما لا يرقى إليه الشك، السيادة القومية للجزائر كحق طبيعي، واستعادتها لتلك السيادة التي مارستها كأمر واقع لا مجال لإنكاره..
وكذلك، فإننا لا نرغب في أن نتعرض لتفاصيل المظالم الرهيبة، التي نزلت بالشعب الجزائري على أيدي السلطة الفرنسية الغاشمة.. فلقد أصبحت محاضر الأمم المتحدة متورمة بأخبارها؛ وقد طفحت الدورات السابقة بالمقتبسات والتقارير التي تدين فرنسا، لما ارتكبته من أفانين التعذيب التي(1/54)
تفوق حد الخيال.. وما عندنا من جديد نقوله في هذه الدورة حول هذا الموضوع، إن الجديد هو استمرار الفظائع الفرنسية بقسوتها ووحشيتها وبربريتها..
تلك أمور تعيش في الماضي ولكننا سنحصر حديثنا في الحاضر والمستقبل إن الحاضر واضح كل الوضوح، لا يعتريه أي لبس أو غموض، لقد قامت حكومة جزائرية مؤقتة قبل شهرين، وقد اعترف بها عدد من الحكومات الصديقة، وستتوالى الاعترافات قريباً.. ونحن نرى في قيام حكومة جزائرية ضرورة قومية، كما نرى فيها خطوة صحيحة، في الاتجاه الصحيح وفي الوقت المناسب، وإنكم لتذكرون أن القضية الجزائرية مدرجة على جدول أعمال الأمم المتحدة منذ دورتها العاشرة.. ومنذ ذلك الحين، لم تذعن فرنسا لا لضغط الرأي العام العالمي ولا لقرارات الأمم المتحدة.. ولقد تجاهلت فرنسا قراركم الأخير في الدورة السابقة، الذي دعا إلى مباحثات بين فرنسا والجزائر، بقصد الوصول إلى تسوية تتفق وأهداف ميثاق الأمم المتحدة.
وبدلاً من الشروع في المباحثات، فلقد استمر الجيش الفرنسي في أعماله العدوانية، وكان من جملتها ذلك العدوان الصارخ على تونس.. إن القصف الجوي الذي قامت به الطائرات الفرنسية على ساقية سيدي بن يوسف، إنما هوة مثل من أعمال الغدر والجبن، التي تلجأ إليها فرنسا في مقاومتها للحرب التحريرية الجزائرية.
ومن الناحية السياسية، فإن فرنسا قد اقترفت انتهاكاً آخر لقراركم الذي أصدرتموه في العام الماضي. ومرة أخرى بدلاً من أن تحاول فرنسا إيجاد حل للقضية الجزائرية على أساس ميثاق الأمم المتحدة، فإنها تحاول(1/55)
الآن أن تجد هذا الحل على أساس الدستور الفرنسي الجديد.. وقد غاب عن فرنسا أن ميثاق الأمم المتحدة لا الدستور الفرنسي، هو الذي يجب أن يكون أساس الحل للقضية الجزائرية.. هذا هو قراركم بنصه وروحه، كما أصدرتموه في العام الماضي لا بالتصويت فقط ولكن بالتصفيق والهتاف.
ولقد كان من مضاعفات الموقف الاستفتاء، أو الاستفتاء المزعوم، الذي تولت أمره الحكومة الفرنسية، ومن الجلي أن استفتاء تقوم به فرنسا، ومن أجل فرنسا، هو أمر لا شأن لنا به، ولا يعنينا من قريب أو من بعيد، وكل ما نستطيع أن نفعله هو أن نعرب عن تمنياتنا الطيبة أن يعود هذا الاستفتاء على فرنسا بأحسن النتائج.. ولكن استفتاء تقوم به فرنسا، من أجل الشعب الجزائري، وتحت إشراف الإدارة الفرنسية، هو مرفوض بكليته، ويدعو إلى الرثاء.. إن الشعب الجزائري وحده هو الذي يضع دستوره الوطني، وتحت ظروف كاملة الإرادة الحرة، والاختيار الكامل..
ولهذا فإننا نعتبر أن الاستفتاء الفرنسي، بالنسبة إلى الجزائر، لا يملك المقومات الصحيحة التي تجعله استفتاء قانونياُ.. ولا تقصد فرنسا من ورائه إلا أن "تطبخ" حلاً له من الديموقراطية مظهرها لا جوهرها.. وأن تضع هذا الحل أمام الأمم المتحدة كأمر واقع.. ولكن الأمم المتحدة ومعها الرأي العام الدولي لا يمكن أن ترضى بهذه المهزلة الدولية..
وإذا كانت فرنسا تجرؤ أن تدعي أن هذا الاستفتاء له حظ من الدستورية والشرعية، فنحن على استعداد لأن نتحدى فرنسا تحدياً سافراً.. وها نحن ندعو فرنسا لأن تخرج من الجزائر، وسنقبل حينئذ استفتاء الشعب الجزائري تحت إشراف الأمم المتحدة.. إننا نعلن أمامكم، بأننا نقبل استفتاء الشعب الجزائري تحت إشراف المستر همرشلد، لا تحت إشراف الجنرال(1/56)
ديجول، إن مثل هذا الاستفتاء الدولي لا يمكن إلا أن يكون استفتاء شرعياً حراً، فلا يجري في ظل السلاح، والسلاح تحت الزناد.
وليس علينا إلا أن نقوم بهذه التجربة.. فلنجرب استفتاء تحت إشراف الأمم المتحدة، لنرى ما إذا كان الشعب الجزائري يختار الاندماج مع فرنسا، أو الاستقلال، وما إذا كان سيختار الجنرال ديجول، أم حكومة الجزائر المؤقتة..
فإذا كانت فرنسا تثق بالاستفتاء كأسلوب لحل القضية الجزائرية، إذا كانت لفرنسا الشجاعة الكافية لقبول هذا الأسلوب بكل نتائجه.. فها نحن نقف في الأمم المتحدة لنتحدى فرنسا أن تقبل استفتاء الشعب الجزائري، تحت إشراف الأمم المتحدة.. ها نحن نتحدى.. وعلى فرنسا أن تقبل التحدي..
وإن فرص السلام ميسورة من غير شك إذا كانت فرنسا مستعدة أن تتغلب على عناد فرنسا.. إن التوصل إلى حل سلمي عادل، تصل إليه فرنسا والجزائر عن طريق المفاوضات الحرة، يفتح آفاقاً واسعة من التعاون المتبادل والصداقة المشتركة بين البلدين.. إن مثل هذا الحل بين جمهورية فرنسا وجمهورية الجزائر، من شأنه أنن يؤدي إلى السلام والاستقرار في الشمال الإفريقي بأسره.. ونحن نرى في قيام الحكومة الوطنية الجزائرية مبادرة موفقة، فقد أصبح على ساحة القضية الجزائرية فريقان مؤهلان للشروع في مفاوضات مباشرة: الحكومة الفرنسية، والحكومة الجزائرية من جانب آخر، ولا يحتاج الأمر إلا إلى وسيط دولي ممتاز يرضى به الطرفان. وإننا نقترح أن يكون المستر همرشلد هو ذلك الوسيط، ولكم أن تمنحوه الاختصاصات التي تريدونها والصفة التي تختارونها.(1/57)
إن المهمة عسيرة من غير شك، ولكن المستر همرشلد بكفاءته التي نعرفها فيه، قادر على أن يرقى إلى مستوى المسؤولية.. إنه يستطيع أن يتخذ التدابير اللازمة لحمل الطرفين على قبول وقف إطلاق النار، على أساس الاعتراف بحق الشعب الجزائري في الحرية والاستقلال.. ويستطيع كذلك أن يهيئ الأسباب لعقد مؤتمر مائدة مستديرة يحضره الممثلون المعتمدون للفريقين، فرنسا والجزائر..
هذا هو طريق السلام ولا طريق سواه.. ثم إنه هو الطريق الوحيد لصيانة المصالح الشرعية لفرنسا في الجزائر، إذا كان لها من مصالح شرعية. وفضلاً عن ذلك فإنه هو الطريق الأمثل الذي ييسر للجالية الفرنسية في الجزائري عيشاً هادئاً، خالياً من الامتيازات من غير شك، ولكنه قائم على الحق والعدل من غير ريب.. وفوق هذا وذلك فإن حل القضية الجزائرية على الأسس الصحيحة، يكرس عهداً جديداً من الصداقة المتبادلة، لا بين الجزائر وفرنسا فحسب، بل بين الجزائر وجميع الدول العربية؛ ولعل هذا العرض، يا سيدي الرئيس، هو آخر عرض يطرح على فرنسا.. ومن يدري فقد تكون هذه هي الفرصة الأخيرة لفرنسا لتحمي ما يمكن حمايته من المصالح الفرنسية في الجزائر..
ونحن نتساءل ما هو المصير لو أن فرنسا بقيت ماضية في عنادها، دون أن تصغي إلى نداء العقل والحكمة؟ إن المصير واضح أمامنا كل الوضوح، إنه الحرب واستمرار الحرب. إن الشعب الجزائري مصمم كل التصميم على أن يواصل حرب التحرير، على أرض الجزائر وخارجها.. ولقد استطاع المناضلون الجزائريون أن يفتحوا جبهة ثانية على أرض فرنسا نفسها.. والحرب هي الحرب.. إنها حرب التحرير.. إنها حرب مقدسة، وإن(1/58)
الشعب الجزائري يملك "حق" الحرب... وسيظل يمارس هذا الحق حتى النصر النهائي..
ويجب أن لا يغيب عن بالنا أن الشعب الجزائري لن يكون وحده في هذه المعركة.. وستهب شعوب كثيرة لنجدة الجزائر وتقديم العون لها.. ذلك أمر طبيعي.. والعون الدولي قد أصبح هو النظام السائد سواء عن طريق الأمم المتحدة أو خارجها.. في الأسرة الدولية دول تقدم العون ودول تتلقى العون ، وليست الجزائر استثناء من هذه القاعدة.. وقد أصبح الأمر أكثر يسراً بعد قيام حكومة جزائرية مؤقتة، أعلنت من جانبها أنها في حالة حرب مع فرنسا..
أما المصير النهائي فلا يخامرنا ريب في أمره.. المصير النهائي هو انتصار الشعب الجزائري.. هذه هي مسيرة التاريخ.. وهكذا توجت الحروب الثورية في جميع أنحاء العالم. وما أظنني في حاجة إلى أن أسرد أمامكم الوقائع والشواهد.. إن الدليل القاطع أراه قائماً بين صفوفكم في هذا الجمع الكريم.. إن كثيراً منكم لم يدخلوا الأمم المتحدة من أبواب القبول الرسمي المعتاد.. ولكنهم دخلوا مباشرة من ميادين القتال، واستحق الحرية والاستقلال.. وإن على فرنسا أنن تكون أكثر إدراكاً من غيرها لهذه الحقيقة الأصيلة.. إن تاريخ فرنسا الحديث،وما آلت إليه الإمبراطورية الفرنسية، مليء بالعبر.. للذين يتخذون من الماضي عبرة للحاضر..
لقد ناقشنا في الدورة الماضية القضية الجزائرية بصورة مفصلة.. وأصدرت الأمم المتحدة قراراً جماعيا، ينص على مطالب معينة يجدر بنا أن ننعم النظر فيها.. في الفقرة الثانية من ذلك القرار ، أعربت الجمعية العامة عن"علمها بالوساطة التي عرضها كل من ملك المغرب ورئيس الجمهورية(1/59)
التونسية".. وفي الفقرة الثالثة أكدت الجمعية العالمة رغبتها في أن "تبدأ المحادثات بقصد الوصول إلى تسمية بموجب أهداف الميثاق ومبادئه".
وعلى هذا فإن قرار الجمعية العامة قد حدد الهدف، وحدد الوسيلة لبلوغ الهدف.. لقد كان الهدف تحقيق مبادئ الميثاق.. وكانت الوسيلة المباحثات والوساطة. وساطة تونس والمغرب. هذه هي صفوة القرار الذي أصدرتموه بالإجماع في العام الماضي، وبموافقة جميع الأطراف المعنية؛ ولقد أصبح من واجبنا وحقنا، وقد انقضى عام واحد على هذا القرار، أن نرى مدى النجاح الذي بلغناه، وأن نرى ماذا جرى للهدف.. وماذا كان من أمر الوسيلة..
فيما يتعلق بالوساطة، إنه ليحزننا أن نحيطكم علماً بأن فرنسا قد رفضت رفضاً قاطعاً وساطة تونس والمغرب ومن غير أسباب معقولة.. إن لم يكن دورها مقتصراً على تسجيل هذه الواقعة، ولكنها كانت تتطلع إلى أن تؤدي هذه الوساطة غايتها.. لقد كان قراركم بمثابة دعوة صريحة إلى فرنسا لتقبل بهذه الوساطة، وإلا فما الذي دعاكم لأن تشيرواً إلى الوساطة المغربية التونسية وتجعلوها جزءاً بارزاً من قراركم.. وإننا لنستهجن كيف إن فرنسا، وهي عضو دائم في مجلس الأمن، تتنكر لميثاق الأمم المتحدة، الذي نص على الوساطة كوسيلة دولية لحل المنازعات الدولية.
غير أن فرنسا لم تقتصر على رفض الوساطة، ولكنها نسفتها وفجرتها؛ في الثامن من شهر فبراير من عام 1958، أي بعد شهرين من صدور قراركم، اقترفت فرنسا عدواناً صارخاً على الأراضي التونسية.. فقد قامت الطائرات الفرنسية بغارات على ساقية سيدي بن يوسف، فقتلت وأحرقت ودمرت.. وكان بين الضحايا الشيوخ والنساء والأطفال.. وفي شهر(1/60)
مايو قامت القوات الفرنسية بأعمال عدوانية غادرة على مقربة من رمادا.. ولقد نظر مجلس الأمن في هذه الاعتداءات الآثمة، وبعد مناقشات مطولة قرر المجلس أن يعهد إلى بريطانيا والولايات المتحدة لتسوية النزاع بين تونس وفرنسا.. وهكذا تجلت الحرية بأجلى مظاهرها.. في الوقت الذي كانت فيه تونس تعرض وساطتها على فرنسا، أصبحت بريطانيا وأمريكا تعرضان وساطتهما بين تونس وفرنسا، ونحن لا نشك في أن فرنسا سترفض هذه الوساطة الثانية، لنتذكر القول العربي المأثور.. يرضى القتيل وليس يرضى القاتل..
تلك أمور تعيش في الماضي ولكننا سنحصر حديثنا في الحاضر والمستقبل إلى المباحثات بين فرنسا والجزائر؟؟ وعلي أن أعترف بادئ ذي بدء، أن قرار الأمم المتحدة قد استخدم تعبيراً فرنسياً "بور بارلي" بدلاً من كلمة "المفاوضات" وقد رضينا أن يتسرب هذا التعبير، ويقابله بالعربية "المحادثات"، إلى سجلات الأمم المتحدة إرضاء للحساسيات فرنسا وغرورها.. ولفرنسا غرورها كما لها أمجادها.. وكائناً ما كان معنى هذا التعبير الفرنسي، فإن معناه "المحادثات"، وطبيعي أن المحادثة تكون بين فريقين، لأنه ليس من المعقول أن يحادث المرء نفسه.. إن العقلاء هم الذين يتحدثون ويناقشون ويتفاوضون، بعضهم مع بعض، ولا يفاوض المرء نفسه.. وفي قاموس "وبستر" يعني هذا التعبير الفرنسي "المؤتمر التمهيدي لبحث موضوع معين تمهيداً لعقد معاهدة"، وفي "لاروس" يعني التعبير الفرنسي "المؤتمر الذي يمهد لموضوع معين" .
ولهذا فإننا نعتبر أن قرار الأمم المتحدة يدعو فرنسا والجزائر إلى عقد مؤتمر بينهما.. هذه رغبة الأسرة الدولية، وطبيعي أن هنالك قضايا لا(1/61)
تخضع للمفاوضات بطبيعة ظروفها، كالنزاع العربي الإسرائيلي.. غير أنه إذا كان لأحد أن يرفض المفاوضات فإنها الجزائر لا فرنسا.. وكلكم تعرفون الشعار الشهير، لا مفاوضة إلا بعد الجلاء، إن من حق الجزائر، إذا شاءت، أن ترفض المفاوضة مع فرنسا إلا بعد جلاء آخر جندي فرنسي عن أرض الجزائر..
ورغماً عن ذلك، فإن الجزائر كانت على الدوام تعرض على فرنسا الدخول في مفاوضات حرة، لتسوية الخلافات القائمة بين الجانبين.. وقبل قيام الحكومة الجزائرية، بذلت جبهة التحرير الجزائرية، كل جهدها لحمل فرنسا على قبول مبدأ المفاوضات، ولكن هذه الجهود قد ذهبت أدراج الرياح، غير أن فرنسا اختارت أن تلقي بالقضية الجزائرية في خضم الأمور الجدلية البيزنطية، وبقيت مصرة على ترتيب خالٍ من الترتيب: وقف إطلاق النار أولاً، الانتخابات ثانياً، المفاوضات ثالثاً؛ هذه هي الصيغة التي ابتدعتها فرنسا، خالية من المنطق السليم ومن المقتضيات العملية للقضية الجزائرية.. إن هذه الصيغة ليس لها إلا معنى واحد هو التسليم، دون أن تترك شيئاً جديراً بالمفاوضة؛ وبموجب هذا الحل يتعين على الجزائر أن توقف القتال، وعليها أن تقبل دستوراً لم تضعه، وعليها أن تدخل انتخابات لم تحد أهدافها ولا قانونها ونظامها.. وبعد هذا كله يطلب من الجزائر أن تفاوض فيما بقي، على حين أنه لا يبقى شيء للتفاوض.. مفاوضة في كل شيء، بعد أن يكون قد أُنجز كل شيء!!
وبعد قيام الحكومة الجزائرية، اتخذ موضوع المفاوضات طابعاً رسمياً محدد المعالم.. ولقد أعلنت الحكومة في بيانها الصادر في 26 سبتمبر بأن "حكومة الجمهورية الجزائرية مستعدة من جانبها لأن تبدأ المفاوضات،(1/62)
ولتحقيق هذا الغرض فإنها حاضرة في أية لحظة للاجتماع بممثلي الحكومة الفرنسية.." ويتضح من هذا أن الحكومة الجزائرية قد أخذت بزمام المبادرة في هذا الموضوع، وكانت البادئة بنفسها، وأعلنت موقفها هذا في بيان رسمي وجهت فيه الدعوة إلى فرنسا للشروع في المفاوضات.
واسمحوا لي أن أحيطكم علماً بطبيعة هذه المفاوضات كما عرضتها الحكومة الجزائرية.. إن الحكومة الجزائرية لم تربط المفاوضات بشروط سابقة، ولا قيود ولا تحفظات، بل أرادتها مفاوضات حرة؛ للفريقين أن يبحثا كل شيء وأن يدرج كل شيء على جدول الأعمال، من وقف إطلاق النار فصاعداً أو نازلاً.. وللفريقين الحرية الكاملة عند نهاية المفاوضات أن يتفقا أو يختلفا، ولا يمكن أن يكون أيسر من هذا الأسلوب ولا أشرف ولا أقرب إلى الواقعية.. ولا يمكن كذلك أن يكون أدنى من هذا الأسلوب إلى قراركم الذي أصدرتموه في العام الماضي، ولكن فرنسا ضربت بالدعوة الجزائرية عرض الحائط، فرفضت المفاوضات، ولم يصدر عن باريس ما يؤذن بانفراد الأزمة.. بل ظلت الأزمة تزداد تأزماً..
ولكن فرنسا لم تخرج عن صمتها، إلا حينما تحدث الجنرال ديغول في مؤتمر صحفي في 23 أكتوبر.. ولم يتحدث الجنرال ديغول عن المفاوضات في صلب بيانه، وإنما جاء جواباً عن سؤال.. ولسنا ندري إذا كان السؤال والجواب بتدبير سابق، ذلك ما أتركه لتقديركم، ومهما يكن الأمر، فقد أعرب الجنرال ديغول عن وجهة نظره بشأن المفاوضات، فقال: "ليأت السلم الرجل الشجاع، وإنني واثق أن البغضاء ستنتهي".. وماذا أعني، حين أتحدث عن سلم الرجل الشجاع.. إنه يعني ببساطة: على الذين قاتلوا أن يوقفوا القتال، وأن يعودوا إلى بيوتهم وعائلاتهم من غير مذلة.. ولقد قيل لي(1/63)
وماذا عليهم أن يفعلوا ليوقفوا القتال.. وإني أقول لهم أينما كانوا، على قادتهم في الميدان أن يتصلوا بالقيادات حين يرغب المحارب في السلام أن يستعمل العلم الأبيض من أجل السلام.. وإني أقول أنه في هذه الحالة فسيستقبل المقاتلون ويعاملون بشرف.. أما فيما يتعلق بالمنظمة الخارجية، التي كنت أتحدث عنها قبل قليل، والتي تحاول أن تقود القتال من الخارج، فإني أعيد علناً ما قلته في السابق: إذا تم اختيار مندوبين ليحضروا ويسووا مع السلطة وقف القتال، فكل ما عليهم أن يتصلوا بالسفارة الفرنسية في تونس والرباط.. وستتولى أي منهما إيصالهم إلى فرنسا.. وستضمن سلامتهم وإنني أتكفل لهم بحرية العودة..."
ولو أننا عقدنا مقارنة بين العرض الجزائري وعرض الجنرال ديجول، لاتضح لنا أن العرض الفرنسي ينطوي على تعقيد ما بعده تعقيد.. وإنه يصعب علينا أن نعتبر هذا العرض مفاوضات.ز إنه تسليم كامل.. وليس في الجزائر من يقبل التسليم. ليس الاستسلام من تقاليد الشعب الجزائري.
لقد أعلنت الحكومة الجزائرية عن استعدادها للدخول في مفاوضات حرة مع فرنسا، من غير شروط سابقة ولا تحفظات.. لقد اقترحت الحكومة الجزائرية عقد مؤتمر مائدة مستديرة، يكون لكل فريق الحق الكامل في أن يطرح على مائدة المفاوضات المواضيع التي يختارها، ولكن الجنرال ديغول عرض اقتراحاً مضاداً أسماه "سلام الرجل الشريف"، وهو في الواقع جدير بأن يسمى "استسلام الرجل الجبان" وليس بين الجزائريين جبان.. لقد سجل الجزائريون صفحة مشرقة في مساهمتهم في القتال لتحرير فرنسا.. وذلك جزء من تاريخهم المجيد، وعلى فرنسا أن لا تنساه!!(1/64)
ولا في شك أن "سلم الرجل الشجاع" كما اقترح الجنرال ديجول، لا يقدم عليه إلا الجبناء، فلقد أوضحه الجنرال ديغول بعبارة لا لبس فيها ولا غموض حين قال: "على الذين يقاتلون أن يوقفوا القتال، وأن يعودوا لأعمالهم وعائلاتهم من غير مذلة" ليست المسألة بهذه البساطة الساذجة، كما أرادها الجنرال ديجول، إن الذين أطلقوا الرصاصات الأولى في 1 نوفمبر من عام 1954 لا يمكن أن يوفقوا القتال، ويعودوا هكذا ببساطة إلى أعمالهم وعائلاتهم.. إن الجنرال ديغول يؤكد أنهم يعودون من غير مذلة، ولكن العودة على هذه الصورة هي المذلة بعينها، إنها المذلة الكبرى.. إن الهزيمة خير من هذه المذلة.. وأي عمل هذا الذي يعودون إليه؟ إن عملهم هو تحرير الوطن.. ويقيناً أن عائلاتهم لا تقبلهم ولا تستقبلهم، إلا إذا أعادوا لوطنهم الحرية الشاملة والاستقلال التام، حينئذ، وحينئذ فقط، يستطيعون أن يعودوا إلى أعمالهم وعائلاتهم..
وإنها لكبيرة كبيرة، يا سيدي الرئيس، على بطل عظيم مثل الجنرال ديغول أن يعرض على الجزائر مثل هذا السلام.. ولا شك عندنا في أن الجنرال ديغول يثور حقاً لو أنه عرض عليه مثل هذا السلم، يوم كان يقود حركة التحرير الفرنسية، أثناء الحرب العالمية الثانية.
وإننا نتساءل، هل يعود الجنرال ديغول إلى عمله وعائلته لو أنه عرض عليه "سلم الرجل الشجاع"؟ ليس هذا عرضاً كريماً شريفاً، وإنه يبدو لنا أن ديغول السياسي قد خان ديغول البطل.
هذا ما عرضه الجنرال ديغول على المقاتلين الجزائريين، أما ما عرضه على ما أسماه المنظمة الخارجية، فقد كان أبشع وأشنع.. فلقد طلب من ممثلي الجزائر، إذا كانوا يرغبون في إنهاء القتال، أن يتصلوا بسفارتي(1/65)
فرنسا في تونس والرباط، لتضمن إيصالهم إلى فرنسا... بهذه الصورة يتحدث الجنرال ديغول إلى الحكومة الجزائرية.. إنه يطلب من المقاتلين الجزائريين، أن يلقوا سلاحهم، ويعودوا إلى عائلاتهم وأعمالهم، ثم يطلب من ممثلي الجزائر أن يحضروا إلى باريس لإنهاء القتال.. وإني لأسألكم جميعاً، هل عرفتم أحداً على وجه الأرض يوقف القتال، ويسرِّح المقاتلين، ثم يذهب إلى خصمه ليبحث معه انتهاء القتال؟؟!!
وعلى كل حال، يجب علي أن أؤكد لكم حقيقة أصيلة، ليس عاراً أن يكون للشعب الجزائري حكومة في المنفى، اختار الجنرال ديغول أن يسميها "المنظمة الخارجية".. إن في ذلك مفخرة لا معرة.. إن المعرة هي في قبول شروط الجنرال ديجول.. وإن ممثلي الحكومة الجزائرية لا يذهبون إلى باريس ليبحثوا مع "السلطة" أمر السلام، ولسنا ندري معنى "السلطة" كما يفهمها الجنرال ديغول. إن ممثلي الحكومة الجزائرية مستعدون لأن يجلسوا مع ممثلي الحكومة الفرنسية لا "السلطة" الفرنسية. إن السذج الغارقين في السذاجة، هم الذين لا يستطيعون أن يميزوا بين "السلطة" الفرنسية والحكومة الفرنسية... إن الشعب الجزائري يخوض الحرب ضد فرنسا – ضد الجمهورية الفرنسية ممثلة في الحكومة الفرنسية. إنهم ليسوا في حرب مع "السلطة" في باريس.
ولقد أشار الجنرال ديغول إلى "رفع العلم الأبيض" إذا أراد المقاتلون وقف القتال...وأنه ليؤلمني حقاً، وأنا المدني الذي لا يعرف الكثير عن القتال، أن أصحح للجنرال ديغول حديثه عن أساليب وقف القتال.. ويبدو لي أن الرئيس ديغول لا الجنرال ديغول، هو الذي وقع في هذه الأخطاء الفنية بالنسبة لأسلوب وقف إطلاق النار.. إن أسلوب رفع العلم الأبيض لا ينطبق(1/66)
بأي حال من الأحوال على القضية الجزائرية.. إن الشعب الجزائري يقاتل من أجل حريته واستقلاله.. إن الجزائريين مستعدون لوقف إطلاق النار حينما يتم الاعتراف بحقهم في الاستقلال، إن الأسلوب القديم لوقف القتال، الذي أشار إليه الجنرال ديجول، لا يطلب من الحكومة الجزائرية أن تبعث بممثلها إلى باريس.. والعكس هو الصحيح.. إن التقاليد المعروفة تقضي بالتقاء الفريقين على أرض محايدة.. هذا هو الأسلوب الدولي المألوف. ولكن فرنسا على ما يظهر قد تأثرت بتقاليد أخرى، على النقيض من ذلك، تقاليد فرضت عليها في هزائمها العسكرية في العهد النازي، وجاءت اليوم تريد تطبيقها على الجزائر.. وإن فرنسا تتحدث عن هذه الأساليب، لأنها أرغمت يومئذ على رفع العلم الأبيض.. وأرغمت كذلك على أن تطلب الاستسلام إلى عدوها.. ولكن الجزائر تأبى أن ترفع العلم الأبيض.. إن الجزائر مستعدة لأن تجلس على مائدة للمفاوضات للوصول إلى حل عادل شريف للقضية الجزائرية.. وإن الشعب الجزائري يختار أن يفنى عن بكرة أبيه، إلى آخر رجل وامرأة، ولا يستسلم بهذه الطريقة المذلة المهينة.
وبهذا، يا سيدي الرئيس، أكون قد فرغت من بحث الوسيلة التي نص عليها قراركم السابق، سواء بالنسبة للوساطة أو بالنسبة للمباحثات. وانتقل الآن إلى بحث الهدف الذي أراده قراركم، حلاً يتفق ومبادئ الميثاق – وسنرى إلى أي مدى استجابت فرنسا لقراركم، وما هو الحل الذي عرضته فرنسا لتسوية القضية الجزائرية.
ويجب علي يا سيدي الرئيس، أن أُبادر إلى القول، إن فرنسا لا تزال مكبلة بالحلقة المفرغة التي ضربتها لنفسها بنفسها.. وهذه الحلقة المفرغة هي أن الجزائر فرنسية.. هذه هي الخرافة الأسطورة، بل هذه هي البلية التي(1/67)
أربكت عقل فرنسا، وشلت إرادة فرنسا وأجهضت جهود فرنسا، في كل ما تفكر فيه بالنسبة للقضية الجزائرية.. وما بقيت فرنسا تائهة في هذه الحلقة المفرغة، فستظل تائهة في التيه، من غير أمل في الشفاء من هذا البلاء.. ولكن في الدقيقة التي تكسر فرنسا هذه الحلقة المفرغة.. في الدقيقة التي تتنفس فيها الهواء العليل في مناخ عصرنا الذي نعيش فيه، بعيداً عن هذه الحلقة المفرغة، فستجد القضية الجزائرية الحل الطبيعي الصحيح، وفوق هذا سيبدأ عهد جديد من العلاقات المشتركة بين فرنسا من جانب والشمال الإفريقي من جانب آخر.. عهد يسوده الاحترام المتبادل والتفاهم. ولقد كنا نتطلع، بعد خمسة أعوام من الحرب بدمارها وويلاتها، أن تصغي فرنسا إلى نداء العقل والحكمة، وأن تلتزم مبادئ الميثاق.. وأن تخضع لقرار الأمم المتحدة.. وفوق هذا وذاك أن تعتبر بالدروس الدامية التي خلفتها تلك الحرب الطاحنة في الهند الصينية.
أجل، يا سيدي الرئيس، كنا نتوقع أن تأتي فرنسا إليكم في هذه الدورة، وبيدها حل سليم للقضية الجزائرية، يتفق مع مبادئ الميثاق وأهدافه..
... ولكن، أي حل هذا الذي "تصنعه" فرنسا للقضية الجزائرية.. وإنني أقول "تصنعه" عامداً متعمداً.. إن فرنسا لا تفتأ تصنع وتصنع، لا في مجال العطور والزينة والأزياء فحسب.. ولكن في مجالس السياسة كذلك.. وأكثر ما يكون هذا واضحاً في القضية الجزائرية، إذ ما تزال فرنسا تصنع وتصنع.. وإنه لمفجع حقاً أن يصبح البطل العظيم الجنرال ديجول، مصمماً للأزياء.. يصنع للقضية الجزائرية كل يوم لباساً.. لباساً يأبى الشعب الجزائري أن يلبسه..(1/68)
فلنبحث المعالم الرئيسة للحل الذي "صنعته" فرنسا، لتسوية القضية الجزائرية.. يقوم الحل الفرنسي في أساسه على فكرة الإدماج.. إدماج الجزائر بفرنسا.. وهنا تكمن نواة هذه الأسطورة.. إن الإدماج ليس عملية كيميائية، يمكن بموجبها جمع مادتين وخلطهما وتتم عملية الإدماج.. إن الإدماج، إذا كان مقدراً له أن يتم، هو تطور طبيعي، تاريخي، إنساني.. إنه ينشأ نشأة طبيعية، ولا يمكن أن يولد بطريقة صناعية.. إنه نشوء ذاتي، وليس بتركيب كيميائي مصنوع.. وبالنسبة إلى موضوع الجزائر، فلسنا نرى عاملاً واحداً يدعو إلى الإدماج.. كل العوامل تدعو إلى الافتراق والانفصال.. فرنسا والجزائر شعبان منفصلان بعضهما عن بعض، في كل معنى.. إن للشعب الجزائري وجوداً قومياً، ووعياً وطنياً، يختلفان ويتميزان عن الشعب الفرنسي. إن الآمال، اللغة، الثقافة، التقاليد، الماضي والحاضر، كل ذلك متباين بين الشعبين.. ولا توجد قوة على وجه الأرض تستطيع إدماجهما في شعب واحد.. وليس يكفي قرن من الزمان، أو يزيد!! لقد جربت فرنسا خلال هذه الحقبة الطويلة جميع الوسائل العسكرية والاجتماعية والسياسية والثقافية، لتجعل من الجزائر أرضاً فرنسية، ففشلت التجربة؛ فشلاً ذريعاً. ولقد قاومت الجزائر بعناد وضراوة هذه الجهود الفرنسية.. وخرجت الجزائر بعد هذا الصراع الطويل عربية، كأية دولة عربية، تناضل من أجل الحفاظ على عروبتها وشخصيتها وترابها.. وها هي تحارب من أجل حريتها واستقلالها.. حتى الأجيال الجزائرية الناشئة التي اغترفت الكثير من الثقافة الفرنسية إنهم من أشد الأعداء تصميماً على رفض الإدماج.. وأنه ليحلو لكم أن تستمعوا إليهم بلغتهم الفرنسية الباريسية، وهم يسخرون من المهزلة – مهزلة الإدماج.(1/69)
ولقد تعرضت لموضوع الإدماج لا لأناقش جوانبه التاريخية.. لا ليس هذا هو السبب.. السبب إن مصممي الأزياء ف وزارة الخارجية الفرنسية ما فتئوا يضعون الحلول المختلفة على أساس الإدماج، على أساس أن الجزائر أرض فرنسية ويجب أن تبقى كذلك.. قد تختلف الأسماء والأزياء، ولكن المادة، والخامة، والقماش، واحد على الدوام.
إنه الإدماج ولا شيء غير الإدماج.. في زمن السلم تسمى المحاولة الفرنسية الإدماج، وفي زمن الحرب تسمى التهدئة، وفي العهد الأخير أسمتها أجهزة الإعلام الفرنسية سياسة التآخي.. ولكن هذه التعابير جميعها إنما هي مرادفات للاستعمار، والإمبريالية تسير في ركابها، وتعمل في خدمتها وتحقيق أهدافها ومصالحها.. ولكن هذه التعابير المعسولة لم تعد تخدع أحداً.. حتى الأُميون لا تخدعهم هذه الشعارات البراقة، ذلك أن مواضيع الحرية والاستقلال يستوي في فهمهما الأميون والمثقفون.. فإنهم سواء في حق الحياة.. والحياة هي الحرية للناس جميعاً.. ولا يستطيع أحد أن يقبل شعار الأخوة، كما طرحته فرنسا.. فإن الأخوة لا تعيش في ظل الخضوع والعبودية، وإنما تترعرع في جو المساواة والعدل.. وفي الشعار الفرنسي المعروف تأتي الأخوة مرادفة للحرية ولا تأتي مرادفة للعبودية، وإن من يستعبدنا ومن يسيطر على مقدراتنا لا يمكن أن يكون أخاً لنا، ولا أن نلتقي معه على أخوة.. ولكن الأخوة بين الجزائر وفرنسا ليست مستحيلة.. وليس لفرنسا أن تبذل جهوداً مضنية في هذا السبيل.. إن الأمر يسير كل اليسر.. ليس على فرنسا إلا أن تترك الجزائر للشعب الجزائري، وحينئذ، حينئذ فقط، يمكن أن يفتح الباب على مصراعيه، لأخوة صحيحة بين الشعب الفرنسي والشعب الجزائري.(1/70)
كل ذلك يوضح لنا كيف فشلت جميع الحلول الفرنسية السابقة، ويوضح لنا أن السبب الرئيس في فشلها أنها قامت أصلاً على أساس الاندماج.. ولقد أخفق الدستور الجزائري الذي وضعته فرنسا في عام1947، لأنه يتجاهل الشخصية الجزائرية المستقلة، ولأنه اعتبر الاندماج أمراً مفروغاً منه. وبفشل تلك التجربة، ثبت مرة أخرى أن أية سياسة فرنسية، تقوم على أساس الاندماج، لا بد أن يكون مصيرها الزوال.
ثم إن قانون الإصلاح الذي وضعته فرنسا، وطنطنت له هنا في الأمم المتحدة، واعتبرته إنجازاً عظيماً، هذا القانون انتهى إلى فشل، لأنه كان قائماً على فشل، وأثبتت الأيام إنه هزؤ بالديمقراطية وسخرية بالعدالة.. وكان من العجب العجاب أن قانون الإصلاح قد اعترف بالشخصية الجزائرية، ولكن أنكر وحدة التراب الجزائري.. ولقد كان قانون الإصلاح سخياً إلى أبعد حدود السخاء!! لقد أعطى الجزائر كل شيء!! أجل لا تعجبوا لقد أعطى الجزائر كل شيء.. إلا الأمور المتصلة بالجنسية، والأمن العام، والدفاع، والأمور الخارجية، والموارد الطبيعية، والخدمات العامة والمؤسسات التنظيمية!! وهذه الأمور التي سردتها أمامكم ليست من مقتبسات الصحافة.. إنها مأخوذة بنصها من المادة التاسعة من قانون الإصلاح.. وبهذا يتضح لكم أن هذا ليس بقانون، ولا إصلاح إنه سخرية بالديمقراطية.
ولقد كان الظن أن انبثاق الجمهورية الفرنسية الخامسة سيؤذن بانبثاق عهد جديد، يسوده التفاهم الصحيح والتخطيط السياسي السليم.. لكن القرائن تدل على النقيض من ذلك.. إننا نرى فكرة الاندماج تعود من جديد، بكل معالمها المتهرئة الصدئة.. إن فرنسا لا تزال تغوص في وحل الاندماج، ولا تزال تتخيل أن فرنسا تقوم على الشاطئ الآخر من البحر.(1/71)
في 13 مايو سنة 1958 نشرت النيويورك تايمز تصريحاً للمسيو سوستيل وزير الاستعلامات الفرنسي، أعلن فيه أنه يجب أن تكون هنالك "جنسية فرنسية واحدة من دانكرك حتى الصحراء الفرنسية في إفريقيا".. وإذا كان المسيو سوستيل يظن أن الجزائر، هي أرض فرنسية، بعد هذه الحرب التحريرية التي دفعت إلى أرض الجزائر نصف مليون جندي فرنسي.. فإن وزير الاستعلامات ضعيف الاستعلامات!! أنه تنقصه أبسط حقائق الاستعلامات!!
على أنه يمكن القول في هذه الحالة، إن المرء لا يستطيع أن يصل إلى المعلومات الصحيحة من وزارة الاستعلامات.. ففي فرنسا مثلاً، أنها وزارة الاستعلامات الكاذبة.. فلنحاول أن ندرس سياسة فرنسا من بيانات الجنرال ديجول، إنه الآن هو باني الجمهورية الفرنسية الخامسة.. وعلينا أن نذكر فوق ذلك أن الجزائر هي التي جاءت بالجمهورية الفرنسية الخامسة، وجاءت معها بالجنرال ديغول رئيساً عليها.
وأنه ليحزننا أن نرى أن الجنرال ديغول من أنصار سياسة الإدماج.. لقد قال الجنرال ديغول "إنني أعلن من غير أن أخشى أي حرج إن أكثرية المقاتلين الجزائريين قد قاتلوا بشجاعة".. كان هذا هو اعتراف البطل الشجاع الجنرال ديغول وهو يتحدث عن الجزائريين الأبطال الشجعان... ولكن حينما يتكلم الرئيس ديجول، السياسي الفرنسي نجده يغوص في وحل الإدماج..
في الرابع من شهر يونيو خطب الرئيس ديغول قائلاً: "في الجزائر كلها يوجد صنف واحد من السكان.. إنهم جميعاً رعايا فرنسيون".. وقد نص الدستور الفرنسي الذي وضعه الرئيس ديغول على أن أقاليم ما وراء البحار، من حقها أن تختار واحداً من ثلاثة: الإدماج، الاتحاد، أو الانفصال. وبالنسبة(1/72)
للجزائر لم يمنحها الدستور حق الاختيار.. بل على العكس فقد نص الدستور على اعتبار الجزائر أرضاً فرنسية.. وفي الخطاب الذي ألقاه الرئيس ديغول في الخامس من يونيو في بون، أعلن أنه "يعتمد على أصوات عشرة الملايين فرنسي في الجزائر، في التصويت الذي سيجري في شهر سبتمبر".
وبالضبط، هذا هو الذي يحاربه الجزائريون... إن الجزائريين حملوا السلاح ليناضلوا ضد هذه "الصفة الفرنسية" التي يريد ديغول أن يلحقها بالجزائر، وسيظلون يناضلون.. والجنرال ديغول يطلب من الجزائريين أن يوقفوا إطلاق النار ليصبحوا فرنسيين.. إنه يدعو ممثلين عن الحكومة الجزائرية ليتفاوضوا مع فرنسا، ويعلنوا أنفسهم بعد ذلك رعايا فرنسيين.. وإذا كان الجزائريون يرضون بأن يتخلوا عن جزائريتهم وعروبتهم، فلم القتال؟؟ ولم هذه الحرب التي استمرت أعواماً وأعواماً؟؟ هل الرعوية الفرنسية مطلب رفيع لا ينال إلا بالحرب؟؟ وكائنة ما كانت الرعوية الفرنسية بأمجادها ومفاخرها.. فإن أسمى ما يتطلع إليه الجزائريون، ملء جوارحهم وقلوبهم، أن يكونوا جزائريين، وجزائريين فقط.. ولا شيء غير ذلك.
وغني عن الإيضاح بعد هذا الإيضاح، أن فرنسا بدلاً من أن تستجيب لقراركم في التوصل إلى تسوية القضية الجزائرية على وفق مبادئ الميثاق وأهدافه.. قد سلكت سبيلاً مغايراً لما أردتم، مخالفاً لما قررتم. فلقد وضع الجنرال ديغول حلاً على أساس خطة لخمسة أعوام أسماها "برنامج التجديد الواسع المدى" تتضمن الأشغال العامة، والصناعات الحديثة وتصنيع الزراعة..
وفي الرابع من شهر أكتوبر تحدث الرئيس ديجول، وعلى أرض الجزائر، عن السياسة التي يقترح إتباعها في الجزائر.. وفي هذا الخطاب(1/73)
سأل الجنرال نفسه: ما هو المستقبل الذي تتطلع إليه فرنسا بالنسبة للجزائر؟ وأجاب الجنرال ديغول عن سؤاله قائلاً: أيها الجزائريون، رجالاً ونساء، لقد جئتكم هنا إلى الجزائر لأعلن إليكم خطة الأعوام الخمسة". ولقد تذكرت وأنا أقرأ هذا الكلام، عبارة شكسبير الشهيرة: أيها الأصدقاء، أيها الرومان، أيها المواطنون، أعيروني سمعكم، لقد جئت لأدفن القيصر لأمجده!. والصحيح أن الجنرال ديغول قد جاء إلى الجزائر ليدفن القيصر لا ليمجده.. ولقد راح الجنرال ديغول يوضح خطة الأعوام الخمسة، وكان ذلك معناه أن الجنرال ديغول سيدفن حرية الجزائر خمسة أعوام أخرى..
هذا هو، يا سيدي الرئيس، الحل الذي وضعته فرنسا للقضية الجزائرية.. وهذا حل لا يستحق أن يدرس، وليس جديراً بأن يتولى أحد الدفاع عنه.. ولعل هذا هو السبب في غياب فرنسا عن مناقشاتنا، إن خطة الأعوام الخمسة، لا يمكن أن تلفت انتباهنا، أو أن تحولنا عن طريقنا الذي رسمناه لأنفسنا، ولا أن تعطل إرادتنا وتصميمنا على الدفاع عن قضية الحرية المتمثلة في القضية الجزائرية..
وتستطيعون، أيها السادة، أن تثقوا الثقة الكاملة بأن فرنسا لن تبقى في فرنسا هذه الأعوام الخمسة، التي يتحدث عنها الجنرال ديجول... إن فرنسا ستخرج من الجزائر قبل هذه الأعوام الخمسة.. وإن الجزائريين سيضعون، بأنفسهم، لبلادهم خطط الأعوام الخمسة والعشرة، وهم بهذا يؤدون حق الوطن عليهم.. وليس في هذه الدنيا ما هو أسمى وأروع، ولا ما هو أدعى للنجاح من أن يخدم المرء وطنه بجميع عقله، وجميع فؤاده، وبجميع البهجة التي تعمر روحه...(1/74)
وهناك حقيقة أخرى، يا سيدي الرئيس، يجب أن لا تغيب عن بالنا.. إن مشروع الجنرال ديجول، لتسوية القضية الجزائرية لا تعوزه أسباب الضعف في مقوماته فحسب، بل إن الضعف يتجلى في تكوينه العام.. إن الاستفتاء والانتخابات، وهي التي يقوم عليها المشروع الفرنسي، قد تهاويا على الأرض. لقد سقطا حين كانا يبنيان.. ولن أتعرض لهما في شرح طويل، لأنهما لا يستحقان أكثر من كلمة عابرة.. إنهما من الضعف والهزال والسخرية بحيث لا يستحقان تعليلاً وتحليلاً.. إنهما لا يصلحان إلا لشيء واحد.. وهو أن يكونا موضوعاً كاريكاتورياً، أو مثلاً جيداً لطبخة سيئة.. طبخت فيها الديمقراطية على أسوأ صورة..
إن الاستفتاء الذي جاء بنتيجة 97 في المائة في الجزائر، كما قيل، إنما هو خليط من التزوير والفساد.. ولقد صدقت جريدة اكريستشن ساينس مونيترز، 2 أكتوبر سنة 1958، حين قالت عنه "إنه مسرحية عرفت فصولها قبل أن تبدأ، ولم يكن أحد في فرنسا أو الجزائر يشك في أن هذا القطر في شمال إفريقيا سيصوت إلا نعم.." أما جريدة واشنطن بوست (30 سبتمبر سنة 1958). فقد قالت: "إنها لكارثة أن يعتقد الجنرال ديغول، أنه نتيجة الاستفتاء في الجزائر، وأكثريتها المطلقة نعم، تعني موافقة الجزائريين على استمرار بقاء فرنسا في الجزائر" ولقد أدان المسيو منديس فرانس رئيس وزراء فرنسا السابق، ذلك الاستفتاء بأنه "خطر على الأمن والسلم.. وخطر على الديمقراطية، ولن يكون استفتاء.. إنه مجرد قرار مفروض.." وجاء في تعليق المسيو جاستون ديفير الوزير الفرنسي السابق لشؤون أقاليم ما وراء البحار: "لن يكون هناك حرية اختيار ولا استفتاء شعبي، ولكن سيكون هناك قرار مفروض.. ونحن نتنبأ من الآن بأن النتائج ستكون "ناجحة" من 90 إلى 100(1/75)
بالمائة" ولقد كانت تنبؤات المسيو ديفير صحيحة تماماً، فقد جاءت نتيجة الاستفتاء 97 بالمائة لصالح فرنسا..
أما فيما يتعلق بالانتخابات، فقد كانت فشلاً ذريعاً لفرنسا ونصراً مجيداً للجزائر شعباً وحكومة.. لقد كانت نتيجة الانتخابات اسنتكافاً كاملاً.. ولا أريد أن أشرح لكم الاستنكاف، فإنه جزء من نظامنا في الأمم المتحدة، وأصبح جزءا من تقاليدنا.. وإني لأتساءل، في عجب واستغراب، كيف تستطيعون أن تتصوروا قراراً قائماً على الاستنكاف التام؟؟ إن قراراً يقترن بالاستنكاف ليس حرياً بأن يعتبر ساقطاً، ولكنه مجلبة للعار والسخرية. وما أعظم شجاعة الشعب الجزائري، وما أعظم تصميمه القوي حين استنكف عن الانتخابات، في وجه ضغوط عسكرية، وراءها نصف مليون جندي فرنسي. حقاً لقد كانت نتيجة الانتخابات امتحانا حاسماً، ومحكاً قاطعاً، تجلى فيه بوضوح أين تتجه قلوب الجزائريين.. وأين يرتبط ولاؤهم وأين تتعلق آمالهم القومية.. ولو أننا نظرنا إلى هذه الانتخابات في إطارها الصحيح، لرأينا أنها كانت في حقيقتها تصويتاً إلى جانب الحرية والاستقلال، وتصويتاً ضد السياسة التي اتبعتها فرنسا منذ عام 1830 إلى يومنا هذا.
وليس هذا التقييم، يا سيدي الرئيس، بعيداً عن الصواب، إن كل الدلائل والقرائن تنهض دليلا لإثبات صحته.. لقد أدينت الانتخابات من قبل جميع المراقبين المحايدين.. ولعلي أثقل عليكم إذا وضعت أمامكم القليل دليلاً على الكثير.
قالت جريدة الاكسبرس في عددها الصادر في 13 نوفمبر سنة 1958 "إن الحقيقة أروع من الخيال، إن القوائم المستخرجة من هذه المهزلة الكاريكاتورية المسماة بالطريقة الديمقراطية، كما صنعها الجنرال ديجول،(1/76)
يستحيل على المرء أن يصدقها.." وفي 20 نوفمبر عادت الجريدة نفسها لتقول: "إن النتيجة الواضحة تتجلى من هذه الانتخابات تمثل أول هزيمة كبرى لديجول.. وكذلك تتجلى نتيجة أخرى وهي أن باريس، كما في السابق، لا تستطيع أن تحكم الجزائر." أما جريدة النيويورك تايمز فقد ذكرت في عددها الصادر في 15 نوفمبر أن "الانتخابات الجزائرية صورة أخرى عن مجموعة من الرجعيين وعملائهم المسلمين".
كل هذا، يا سيدي الرئيس، صحيح تماماً بالنسبة للانتخابات إلا من ناحية واحدة، ليس في الجزائر عملاء مسلمون، كما ذكرت جريدة النيويورك تايمس.. إن العميل المسلم شيء غير موجود.. إن العميل لا يمكن أن يكون مسلماً، والمسلم لا يمكن أن يكون عميلاً. إن الإسلام هو الخضوع لله وحده، ولا خضوع لسواه، هذا هو الإسلام لفظاً ومعنى.. إنه دين السلام والحق والحرية.
ولقد استعرضت معكم الحل الفرنسي، والاستفتاء الفرنسي والانتخابات الفرنسية.. وإني أصر على الطابع الفرنسي في كل واحد من هذه الإجراءات.. كل شيء كان فرنسياً فيها، من البداية إلى النهاية.. وهنا يثور السؤال أمامنا: ما الذي جاء بنا إلى هنا؟ ولماذا أدرج الموضوع على جدول الأعمال؟ وأخيراً، ما هو الحل الذي نقترحه؟
لقد جئنا بالقضية الجزائرية إلى الأمم المتحدة لأن حرباً طاحنة تدور رحاها على أرض الجزائر.. إنها تدخل عامها الخامس.. وأن المآسي الإنسانية ما تزال على أشدها.. وسواء كان دماً جزائرياً أو فرنسياً، فإنه دم الإنسان الذي يسفك بغزارة على أرض الجزائر.. لقد أعلن الجنرال ديغول في بيانه في 23 أكتوبر، أن خسائر فرنسا في هذه الحرب 7200 بين ضابط(1/77)
وجندي، وأن خسائر الجزائريين 77000 قتيلاً سقطوا في الميدان.. ولست أدري ما هي الصيغة التي تتبعها فرنسا عادة بالنسبة لخسائرها في الحرب، قد تكون هذه الأرقام بالنسبة للحقيقة العشر، أكثر أو أقل، لا أدري.. ولكن الواقع أن الجنود الجزائريين يتساقطون بالألوف، كما أن ضحايا الجزائريين، فيما أعتقد، أكثر من 77 ألفاً.. وكائنة ما كانت الأرقام، فإن الذي يعرف صحتها هو الله والقبور، إنها على كل حال، دماء إنسانية من الجانبين، يتصاعد نزيفها ويستمر كل يوم.. ولقد اقتصرت الحرب إلى يومنا هذا على أرض الجزائر.. ولكن من يدري فقد يمتد نطاقها إلى ما وراء الجزائر.. ومنذ بضعة أشهر وقعت أحداث دامية بين تونس وفرنسا.. كما أن الجزائريين أنفسهم قد فتحوا جبهة ثانية على أرض فرنسا بالذات..
أما على الصعيد السياسي، فقد وقعت تطورات هامة تستحث الأمم المتحدة على أن تبادر إلى التوصل لحل القضية الجزائرية، وهذه التطورات في نظرنا يجب أن تكون بمثابة إنذار ينبّه الأمم المتحدة لتصحو من نومها وتتحمل مسئولياتها..
ويجب علي بادئ ذي بدء، أن أذكر أن عدة مؤتمرات إقليمية ودولية قد أكدت اهتمامها بالقضية الجزائرية، فيما بين 14-24 أبريل انعقد في أكرا المؤتمر الأول للدول الإفريقية المستقلة.. لقد أصدر المؤتمر قراراً يعترف فيه بحق الشعب الجزائري في الاستقلال، ويدعو فرنسا إلى الاعتراف بهذا الحق الطبيعي، وأن تسحب قواتها العسكرية من الجزائر، وأن تدخل في مفاوضات مع جبهة التحرير الجزائرية بغية الوصول إلى حل عادل دائم.. وأصدر المؤتمر كذلك نداء إلى جميع أصدقاء فرنسا وحلفائها، بأن يمتنعوا عن تقديم(1/78)
أي عون لفرنسا، مباشرة أو بصورة غير مباشرة، في حربها ضد الشعب الجزائري.
وفي ما بين 27 – 30 أبريل اجتمع مؤتمر دول شمال إفريقيا في طنجة، وأصدر قراراً يعلن فيه حق الشعب الجزائري في الحرية والاستقلال، وتأييد نضاله في سبيل تحرير وطنه، ويوصي بقيام حكومة جزائرية.
وفي ما بين 17 – 20 يونيو، انعقد المؤتمر الثلاثي في تونس، من حكومتي المغرب وتونس وجبهة الحرير الجزائرية، وأصدر المؤتمر قرارا يرفض فيه أي سياسة فرنسية تقوم على أساس الإدماج، ويؤيد حق الشعب الجزائري في الحرب والاستقلال.
لقد كان هذا، يا سيدي الرئيس، ثورة عارمة في إفريقيا كلها، تأييداً للشعب الجزائري في كفاحه البطولي لتحرير وطنه.. وقد عقب ذلك إنشاء الحكومة الجزائرية المؤقتة.. للجمهورية الجزائرية بتاريخ 26 سبتمبر سنة 1958.. ولقد كان ذلك اليوم صفحة جديدة في مرحلة جديدة من تاريخ الكفاح الوطني الجزائري.. ولم تعد الحركة الجزائرية حركة عصاة ومتمردين.. إنها حرب تحريرية منظمة.. يقودها جيش منظم، تتبادل أسرى الحرب مع فرنسا.. ولقد أعلنت الحكومة الجزائرية أنها في حرب مع فرنسا.. وهي مستعدة أن تواصل الحرب إلى النهاية، ومستعدة كذلك أن تفاوض لتحقيق سلام عادل وشريف.. ولقد أعلنت الحكومة الجزائرية التزامها بميثاق الأمم المتحدة وإعلان حقوق الإنسان واتفاقية جنيف.. وقد اعترف عدد من الحكومات بالحكومة الجزائرية ممثلة للشعب الجزائري.
ويثور أمامنا السؤال الهام، وما هو الحل؟؟ إن الجواب بسيط عن هذا السؤال.. إن الحل يسهل عرضه وشرحه.. هنالك، يا سيدي الرئيس حل(1/79)
واحد، وواحد فقط، إنه الحرية والسيادة والاستقلال للشعب الجزائري.. إنه لحل الوحيد الذي يضمن السلام لإفريقيا بأسرها.. إنه الحل الذي يهيئ قيام المغرب العربي الكبير، في نظام إتحادي ترتضيه تونس والمغرب والجزائر، وبهذا يتيسر أن تقوم العلاقات المنظمة بين فرنسا والشمال الإفريقي، وأخيراً فإنه الحل السليم الذي يفتح المجال واسعاً لتكريس عهد من الصداقة المشتركة بين فرنسا من جانب وجميع الدول العربية من جانب آخر.
وإن مثل هذا الحل، فيه استجابة كاملة لميثاق الأمم المتحدة، روحاً ونصاً، وفيه تحقيق للآمال القومية للشعب الجزائري، وانصياع لتطلعات الأسرة الدولية.
ويصبح من واجب الأمم المتحدة أن تعلن تأييدها لهذا الحل، وهو في واقع الأمر تأييد لذاتها وميثاقها.. إن استقلال الجزائر، وتنظيم علاقاتها بفرنسا، في إطار مفاوضات حرة، هو مفتاح الموقف بأسره، وهو السبيل السوي لتحقيق سلام يقوم على العدل والحق.
وإنني أركز على "السلام"، لأن استمرار الحرب هو البديل الذي لا بديل سواه، إذا لم تعملوا على تأييد هذا الحل وتنفيذه.. إن الجزائر، شعباً وحكومة، مصممة على مواصلة القتال حتى النهاية.. وإن النهاية هي النصر للجزائر..
ولكن ماذا ينتظر فرنسا، وأوروبا، والعالم الغربي، إذا ما استمرت الحرب.. إن النتائج بالغة الخطورة.. بالنسبة لفرنسا ستتضاعف التضحيات وسيتساقط الشباب الفرنسيون بالألوف، وما كان أجدرهم بأن يبذلوا دماءهم لقضية أشرف وأنبل.. والتضحيات الاقتصادية والمالية ستؤدي إلى إفلاس الاقتصاد الفرنسي الذي ينوء الآن تحت أعباء ضخمة.. إن نفقات الحرب(1/80)
الجزائرية قد استنفدت، أو كادت، رصيدها الأجنبي.. وفي يناير من هذا العام اضطرت فرنسا إلى أن تقترض 655 مليون دولار من اتحاد المدفوعات الأوروبية، ومن صندوق النقد الدولي، ومن الولايات المتحدة..
أما بالنسبة، لأوروبا فإن الأضرار كبيرة من غير شك، وفضلاً عن آثار الحرب الجزائرية على السوق الأوروبية المشتركة، فإنها تسد عليها طريق البترول الجزائري. لقد تنبأ المسيو جي موليه رئيس وزراء فرنسا السابق بأن بترول الصحراء سيكفي، في خلال عشر سنوات، نصف حاجة أوروبا للطاقة والوقود.. إن البترول هو الثروة الطبيعية التي يملكها شعب الجزائر، ولا يمكن أن يصل إلى أوروبا، إلا بموافقة الجزائر الحرة.. الجزائر المستقلة، ذات السيادة الكاملة.. إن جميع أعمال التنقيب والإنتاج والتكرير والتسويق لا يمكن أن تتم إلا بموافقة الحكومة الجزائرية.. إن شركات البترول العالمية تقدم على مغامرة خطيرة إذا لم تدرك هذه كالحقيقة.. والواقع أن جيش الجزائر قد قام بأكثر من مناسبة، بتدمير المنشآت البترولية في الجزائر، وإذا استمرت هذه الحرب، فسيستمر معها تدمير المنشآت البترولية، وستظل هدفاً عسكرياُ ما بقيت الحرب.
وبالنسبة للعالم الغربي، فإن استمرار الحرب سيجلب عليه مضاعفات خطيرة، إن خسائر فرنسا هي خسائر للعالم الغربي، ولدول حلف الأطلنطي، وتؤدي بالنهاية إلى فقدان التوازن في أوروبا.. إذا استمرت الحرب الجزائرية فستكون النهاية خراباً على فرنسا.. لقد كانت الحرب الجزائرية سبباً من الأسباب الرئيسة في نهاية الجمهورية الفرنسية الرابعة.. إن القضية الجزائرية هي التي جاءت بالجنرال ديغول من العزلة التي كان يقضيها في(1/81)
ضواحي باريس، لينقذ فرنسا من حرب أهلية طاحنة.. وإن القضية الجزائرية كانت كذلك من الأسباب الرئيسة لانبثاق الجمهورية الفرنسية الخامسة.
وإذا لم تحل القضية الجزائرية كما ينبغي، فما هو المصير؟؟ سنرى نتيجتين لا محالة ، الأولى انتصار الشعب الجزائري وانتزاعه لحقه في الحرية والاستقلال، والثانية هزيمة فرنسا، هزيمة محتومة ستؤدي إلى نهاية الجمهورية الفرنسية الخامسة، وسيعود الجنرال ديغول إلى عزلته ليكتب الفصل الأخير من مذكراته.. والله وحده يعلم ما تأتي به الأقدار بعد ذلك..
هذه هي الصورة كما نراها.. النصر للجزائر.. والهزيمة لفرنسا.
ولكن، يا سيدي الرئيس، إن الطريق ما يزال مفتوحاً أمامكم، لحل سلمي شريف عادل، يصل إليه الطرفان نتيجة لمفاوضات حرة بين فرنسا والجزائر.. إن الجزائر لا تريد أن تهزم أحداً، كل ما تريده الجزائر أن تبلغ حريتها واستقلالها، وأن تعيش بأمن وطمأنينة واستقرار، وقد أعلنت عن رغبتها الصادقة في السلام.
وليس يبقى على الأمم المتحدة، إلا أن يكون قرارها إلى جانب السلام، ضد الحرب، ومع الاستقلال ضد الاستعباد، وانتصاراً للكرامة الإنسانية ضد المذلة والهوان.
ونحن ندعو الله أن تصغي فرنسا لنداء السلم والعدل والكرامة.(1/82)
الرئيس ديغول..
يخون الجنرال ديغول
(1 ديسمبر سنة 1959)
بين جميع قضايا الأمم المتحدة، هنالك قضية فريدة، تتطلب، أكثر من غيرها، مقدمة مسهبة، هي قضية الجزائر.. ورغماً عن خطورة هذه القضية، وما تنطوي عليه من مآسٍ إنسانية، بل رغماً عن تصاعد الحرب التي تدور رحاها بين فرنسا من جانب والشعب الجزائري من جانب آخر، فإن هذه القضية تحتاج إلى مقدمة، لأن الطرف الآخر في هذه القضية هو الحكومة الفرنسية والحساسية الفرنسية..
ولقد عالجت الأمم المتحدة في دوراتها الأربع عشرة الماضية كثيراً من القضايا الدولية الخطيرة، كوريا في ذروة حدتها، وهنغاريا في قمة أزمتها، وسيناء في أوج شدتها... ورغماً عن أن هذه القضايا قد أحاطت بها أجواء رهيبة من التوتر، إلا أن الأمم المتحدة قد عالجتها بكل تؤدة وروية.. ولكن حين دعيت فرنسا لتمثل أمام الأمم المتحدة، لتؤدي الحساب عن القضية الجزائرية، انطلقت صفارات الإنذار في قاعات الأمم المتحدة: إن فرنسا مفرطة الحساسية، إن فرنسا في غاية القلق، هذا ما لا يمكن أن تتحمله فرنسا، هذا عمل عدائي ضد فرنسا، كل من يصوت ضد فرنسا فإنه عدو(1/83)
لفرنسا، قد تنسحب من الأمم المتحدة – وهذه الإنذارات وأمثالها قد ترددت هنا في الأمم المتحدة، كلما جئنا بالقضية الجزائرية إلى الأمم المتحدة.
ورغماً عن أن هذه الإنذارات كانت تعبر دائماً من غير إصغاء لها، إلا أنه كان واضحاً ما وراءها من الذكاء.. إن فرنسا تعرف مكانتها في تاريخ الإنسانية.. إن فرنسا تعرف أمجاد الثورة الفرنسية.. إن فرنسا تعرف روعة فنها، وجمال شعرها، وثراء تقاليدها.. إن فرنسا تعرف جاذبيتها وسحرها وفتنتها.. وإن فرنسا بهذه الكنوز الرفيعة تسعى جاهدة إلى أن تتجنب الحساب أمامكم، أو أن يلتمس منها تقديم الحساب.
نحن نعرف كل هذا عن فرنسا، وكنا نجد فيه إغراء كبيراً، يكاد يجعلنا نستسلم أمام العواطف الفرنسية والحساسية الفرنسية.. ولكنه لم يغب عن خاطرنا كذلك أن القضية الجزائرية مشحونة بالعواطف والحساسيات الإنسانية، على مستوى أعلى، وصعيد أرفع..
إن القضية الجزائرية لها عواطفها وأحاسيسها.. لها تجاربها الأليمة ومآسيها القاسية، وأن لها كذلك الحوافز الإنسانية، على أشد ما تكون لهفة وشوقاً لتحقيق السلام والحق والعدل، بل أن لها كذلك تاريخها الطويل، لمائة وخمسين عاماً تميزت بالحرب، واليتم، والثكل، والخراب، والقمع والإرهاب.. كل هذه المآسي تعيش في صميم القضية الجزائرية بكل ما تثيره من أحاسيس الثأر والانتقام والكراهية..
ولكنني أؤكد لك، يا سيدي الرئيس، أننا جئناكم في العام الحالي لنبحث القضية الجزائرية، دون أن نحمل معنا ملفات الماضي الرهيب، ومن غير رغبة في الاتهام أو الإدانة.. إن الحالة في الجزائر، حتى هذه الدقيقة، تقشعر لها الأبدان.. ولكننا عازمون أن لا نثير هذا الموضوع.. وكنا في شهر(1/84)
أغسطس، قد صممنا على أن نتقدم إلى الأمم المتحدة بالشكوى ضد فرنسا، بتهمة إبادة الجنس، وأن نطالب بإيفاد لجنة تحقيق.. لقد فكرنا في هذا وفي أكثر من هذا.. ولكننا جئنا اليوم، لنعلن إليكم أننا سنتوقف عن هذه الإجراءات في اللحظة الحاضرة.. لقد قررنا أن نطوي، لا أن ننشر شيئا من جوانب الحالة الحاضرة في الجزائر، رغماً عن أحداثها المثيرة... وسنلزم أنفسنا بأن نظل في الحدود التي رسمها الجنرال ديغول في بيانه الذي أصدره في شهر سبتمبر من هذا العام..
ولكني يا سيدي الرئيس، أرى لزاماً علي أن أمهد بمقدمة قبل أن أتناول بيان الجنرال ديغول، كفرنسي وكبطل عظيم، لا يخلو من حساسيات معينة.. ولكن القضية الجزائرية لها حساسياتها كذلك.. والأمم المتحدة، وهي مدركة لمسؤولياتها الدولية، لها حساسياتها كذلك..
إن القضية الجزائرية هي قضية الأمم المتحدة، ناقشتها في كل دورة من دوراتها، منذ عام 1955، وفي الدورتين الحادية عشرة والثانية عشرة، أعربت الأمم المتحدة بالإجماع عن قلقها البالغ لاستمرار الصراع في الجزائر، ودعت إلى إيجاد حل للقضية الجزائرية، يقوم على أساس ميثاق المم المتحدة ومبادئها.. ولكن فرنسا لم يقلقها قلق الأمم المتحدة، ولم تستجب لرغبة الأمم المتحدة في إيجاد حل للقضية الجزائرية، على وفق مبادئ الميثاق وأهدافه.. ولهذا فإن الأمم المتحدة، لا فرنسا، هي التي يجب أن تشعر أن كرامتها قد ثلمت، وأن سلطتها قد استبيحت..
ولكن يا سيدي الرئيس، ليس هذا وقت تصفية الحساب، وليس هذا وقت إدانة المخطئ ومكافأة المصيب.. نحن نؤثر أن ننظر إلى الأمام.. أن ننظر إلى مستقبل يطوي ذكريات الماضي، ويشفي الجراح، إلى مستقبل يبني(1/85)
الثقة والصداقة.. وبدافع من هذه الروح الخيرة، سنبدأ من اليوم السادس عشر من أيلول سنة 1959، وهو اليوم الذي أعلن فيه الجنرال ديغول سياسته التي يعترف فيها بحق الشعب الجزائري في تقرير المصير.. أجل سنبدأ من عام 1959 لا من عام 1830، من عام الاعتراف بحق تقرير المصير، لا من عام انتهاك حق تقرير المصير.
إن بيان الجنرال ديغول، فيما يشبه الألغام، يحتوي على مواد متعددة، فيها مواد الانفجار وما تثيره من دخان وغبار.. وكذلك بيان الجنرال ديغول تكمن مواده المتفجرة في سديم + من الغبار والدخان.. لا ننكر إلى جانب ذلك أن جوهر البيان هو مبدأ تقرير المصير.. ولسنا في حاجة لأن نرحب بتطبيق هذا المبدأ على القضية الجزائرية، ذلك أن هذه القضية منذ أن أدرجت على جدول أعمال الأمم المتحدة، وهي تعتمد في كل مناقشاتها على مبدأ تقرير المصير.. بل إنني أستطيع القول أن الحرب الجزائرية قد قامت أصلاً من أجل تقرير المصير.. وأصبح هذا المبدأ سبب وجودها واستمرارها، وغدا شعارها وعلمها.. يضاف إلى ذلك أن حكومة الجزائر المؤقتة قد اعتمدت مبدأ تقرير المصير كقاعدة أساسية في برنامجها القومي، ذلك أن الجزائر حكومة وشعباً ترى في تحقيق تقرير المصير، تحقيقاً لآمالها القومية، في الحرية والسيادة والاستقلال..
ولقد أشار الجنرال ديغول في مقدمة بيانه السياسي إلى حرية الاختيار، عن طريق استفتاء شعبي، واصفاً إياه بأنه خير طريق يجدر إتباعه.. وإننا نرحب كذلك بأن يمارس الشعب الجزائري حرية الاختيار، ممارسة سليمة تتسم بالديمقراطية الصحيحة.(1/86)
ومن أجل ذلك أصبح من واجبنا أن نتابع الجنرال ديغول في بيانه، لنرى تصوره لحق تقرير المصير، ومبدأ حرية الاختيار، وأسلوب الاستفتاء الشعبي.
قال الجنرال ديغول في بيانه "إذا قدر الله لي الحياة، فإنني ألزم نفسي بأن أسأل الجزائريين ماذا يريدون في النهاية، وأن أطلب إلى الفرنسيين أن يؤيدوا ما يختاره الجزائريون"..
وإن الأمر لا يحتاج إلى عبقرية، للتعرف على معنى هذا الكلام الذي تفوه به الرئيس ديغول، فهذا ليس حق تقرير المصير ولا مبدأ حرية الاختيار.. لقد أعلن الجنرال ديغول أن ما يختاره الجزائريون، يصبح نافذاً، ولكن يجب أن يؤيده الفرنسيون.. هذا هو جوهر بيان الرئيس ديغول، ويتضح من هذا، بكل جلاء، أن مستقبل الجزائر ستقرره فرنسا لا الجزائر.. وأن الخيار هو بيد فرنسا لا بيد الجزائر.. ولكن المستقبل الذي يعنينا هو مستقبل الجزائر نفسها، وأن حرية الاختيار التي نبحث عنها، هي اختيار الجزائر من قبل الجزائر بالذات، وهذا هو جوهر القضية الجزائرية... وأن الذي عرضه الجنرال ديغول يعطي فرنسا الحق بأن تقرر مصير الجزائر.. والقضية التي نحن بصددها هو حق الشعب الجزائري في تقرير مصيره، بنفسه، بإرادته، باختياره..وإن أقل ما نصف فيه بيان الجنرال ديغول، أنه يعرض حرية الاختيار من غير حرية، ويعمل على إفساد المصير تحت شعار تقرير المصير، ويطلب الاستفتاء الشعبي من شعب آخر.
وإن الخطر كل الخطر يكمن في أكثر من وضع واحد في بيان الجنرال ديغول، ويتجلى ذلك أكثر ما يتجلى في طريقة الانتخابات من ناحية وفي توقيت الانتخابات من ناحية أخرى، لقد أعلن الجنرال ديغول أن(1/87)
الجزائريين سينتخبون كأفراد.. "لأنه منذ بدء الخليقة"، كما قال الجنرال ديجول، "لم تكن في الجزائر وحدة حقيقة"، إن هذا الكلام هو الخرافة بعينها.. إن هذه الحجة ليست جديرة برجل عظيم مثل الجنرال ديغول.. وإذا كان علينا أن نرجع عبر القرون، لنقتفي آثار الوحدة الوطنية لكثير من الشعوب، منذ بدء الخليقة، لوجدنا أن ألأمر فرنسا نفسها مشكوك فيه كثيراً، وسيجد الجنرال ديغول نفسه، وهو يشرب الكأس التي أعدها لغيره.. أن الجزائر وحدة ترابية كاملة.. وأن شعبها لواحد، وإذا دعوا إلى التصويت فلا يصوتون كأفراد ولكن يصوتون أمة واحدة.. إن حق تقرير المصير تملكه الأمة بأسرها ولا يملكه الأفراد في معزل عن أمتهم.. وأن الشعب الجزائري يعرف تماماً ماذا يخبئ الجنرال ديغول وراء فكرة تصويت "الأفراد"، إن وراء ذلك تزييف المصير تحت ستار تقرير المصير.. وإن الشعب الجزائري أذكى من أن تجوز عليه هذه الخدعة.
أما فيما يتعلق بزمن التصويت، فإن الجنرال ديغول قد وضع توقيتاً مثيراً للعجب والدهشة.. يقول الجنرال ديغول في بيانه إنه سيحدد زمن الانتخابات "بعد أربع سنوات، على أقصى تقدير، من عودة السلام بصورة فعلية، بحيث لا تتجاوز الضحايا في الأرواح مائتي قتيل.." ولست يا سيدي أريد أن أدين هذا الجدول الزمني بأنه يثير السخرية، لأنه هو السخرية بعينها، مجسدة في هذه الآراء.. إن الانتخابات مشروطة بشروط ساخرة مضحكة.
وأنت تعلمون من غير شك أن الشعب الجزائري ليس من السذاجة، بحيث يلقي السلاح، ثم ينتظر أربعة أعوام إلى أن تنزل عليه رحمة الجنرال ديغول.. وإذا كان أحد يظن السذاجة في الشعب الجزائري، فإنه ساذج بنفسه، وعريق السذاجة!!(1/88)
ولكن الهزأ الصارخ، أن يحدد الجنرال ديغول الحد الأقصى بمائتي قتيل في العام الواحد، كشرط أولي للشروع في الانتخابات.. ولا ندري بأية قاعدة حسابية توصل الجنرال ديغول إلى هذا الرقم الظريف؟.. وعلى أي أساس استطاع الجنرال ديغول أن يقيم الحياة الإنسانية..؟ وأية رياضيات ميتة أوصلت الجنرال ديغول إلى أرقام الموتى؟.. نحن نعلم أن بين "المعمرين" الفرنسيين نفراً من المتعطشين إلى الدماء، من الذين يروق لهم أن يتجاوزوا هذا الحد الأقصى إلى ألفين أو يزيد، وبهذا تتعطل عملية الانتخابات، ويمكن أن تتعطل إلى الأبد.
لا يا سيدي الرئيس، نحن نرفض هذا الجدول الزمني، نحن نرفض أن ترتبط الانتخابات بعدد محدد من القتلى، وبعدد محدد من السنين، يبدو لنا أن الرئيس ديغول قد خان الرئيس ديجول، البطل العظيم الذي حارب من أجل حرية بلاده..
على أننا لو اقتربنا من الصورة كما رسمها الجنرال ديغول، لأفزعتنا التفاصيل،.. صحيح أن الجنرال ديغول قد قرر أولاً مبدأ تقرير المصير، ولكنه حين يسرد التفاصيل نجد أنفسنا أمام صورة مهتزة قلقة. إن التفاصيل تخون المبدأ.. وإن وسائل التطبيق التي اقترحها الجنرال ديغول تقضي على مبدأ تقرير المصير.. ويبدو لنا الجنرال ديغول وقد وأد طفله في لحظة مولده.. وكل ما نجده الآن جثة هامدة لتقرير المصير، ملقاة على عتبات الأمم المتحدة.. هذا هو المشروع الفرنسي، وربما تسابق بعضكم إلى العتبات ليرحبوا بالمشروع الفرنسي، ولكنكم ستصيبكم خيبة الأمل، حينما ترون إن هذا الوليد هو جثة فارقتها الحياة، عند أول نفس من أنفاس الحياة!!(1/89)
ولا تحسبوا أن قولي هذا هو من باب المجاز أو الخيال.. إنه الحقيقة بعينها.. فتعالوا معي ندرس الخيارات الثلاثة التي أعلنها الجنرال ديغول في المشروع الذي يقترحه لتسوية القضية الجزائرية..
أولاً: الانفصال (أي الاستقلال)... وقد وصفه الجنرال ديغول بأنه "خراب ودمار، ولا يمكن تصديقه، وهو يحمل في طياته الفقر المدقع، والفوضى السياسية الرهيبة، والمذابح الشاملة، وديكتاتورية عسكرية شيوعية..".
ثانياً: الفرنسية أو الاندماج، ووصفه الجنرال ديغول بأنه يمنح المساواة مع الفرنسيين، في الرواتب والمسؤوليات والوظائف، والضمان الاجتماعي، ومجموعة من الامتيازات.
ثالثا: الاتحاد مع فرنسا، وقد وصفه الجنرال ديغول بأن يقدم للجزائر معونات اقتصادية وعسكرية واجتماعية.
وغني عن البيان، يا سيدي الرئيس، أن الجنرال ديغول بعروضه هذه، وكما عرضها، لا يفتح المجال أمام الشعب الجزائري ليمارس الاختيار، وبكل حرية الاختيار.. إن الانفصال قد سخر منه الجنرال ديغول بأنه يؤدي إلى الاستقلال.. عرضه الجنرال ديغول على الشعب الجزائري، مع التهديد بالكوارث والفقر والخراب والمذابح. وليثير مخاوف الغرب، فقد أشار الجنرال ديغول إلى أن الاستقلال في الجزائر، سيفضي إلى قيام ديكتاتورية عسكرية شيوعية.. والجنرال ديغول يذهب أبعد من 1لك، إنه يشهر سيف التقسيم على رقاب الشعب الجزائري.. إنه يهدد بتقسيم الجزائر، وإلحاق الصحراء بفرنسا، وبهذا تفقد الجزائر أهم ثرواتها الطبيعية.. فإذا كان الشعب الجزائري سيجد نفسه معرضاً لهذا التهديد والوعيد فأين هي حرية الاختيار، خاصة إذا كانت عملية الاختيار ستقوم تحت إشراف الإدارة الفرنسية، وعلى(1/90)
هذا فإن الخيارات الثلاثة التي يعرضها الجنرال ديغول ترسو على خيار واحد، يفرضه التهديد والوعيد، وهو الإدماج بفرنسا، أو استقلال هزيل يعيش في كنف فرنسا، بعد تقسم الجزائر إلى دويلة هنا ودويلة هناك.
إذا كنا جميعاً نتفق مع الجنرال ديغول على مبدأ تقرير المصير، كقاعدة أساسية لتسوية القضية الجزائرية، فإن الأمر لا يحتاج إلى فلسفة معقدة ولا إلى أساليب ملتوية.. بكل بساطة ووضوح وإيجاز، يجب أن يمارس الشعب الجزائري حرية الاختيار، في استفتاء شعبي ديمقراطي، وفي جو كامل من الحرية.. وإن أول شروط الحرية لهذا الاستفتاء، أن لا يكون لفرنسا دخل فيه، فلا يتم تحت إدارتها وإشرافها.. بل يجب أن يتم تحت إشراف الأمم المتحدة..
ولقد أعلن الجنرال ديغول أنه سيدعوا "المراقبين من كافة أنحاء العالم ليشهدوا إجراءات الاستفتاء.." ونحن نرى أن حضور المراقبين لا يستجيب لمقتضيات العدالة، ولا يرتفع إلى مستوى هذا الحدث التاريخي الهام.. وإذا كان الجنرال ديغول يعني ما يقول حقاً وصدقاً، ويعني استفتاء حراً، تتجلى فيه كل معاني الديمقراطية الصحيحة، فليس أمامه إلا طريق واحد، وهو أن يعهد إلى الأمم المتحدة بالإشراف على عملية الاستفتاء.
ولا شك في أن الحكومة الجزائرية من جانبها توافق على هذا الاستفتاء في إطار الأمم المتحدة.. بل إنني أستطيع أن أعلن باسم الحكومة الجزائرية أنها توافق سلفاً على نتيجة هذا الاستفتاء.. إن الجزائر مستعدة لأن تلتزم بهذه النتائج مهما كانت.. إنها ترضى بالاندماج بفرنسا، أو بالإتحاد مع فرنسا.. إذا كانت هذه نتيجة الاستفتاء، بشرط أن يكون الاستفتاء تحت(1/91)
إشراف الأمم المتحدة.. وبهذا فإننا نتحدى فرنسا أن توافق على الاقتراح.. وعلى فرنسا أن تستجيب لهذا التحدي، إذا كانت تملك الشجاعة لقبوله!!
وإذا رضي الجنرال ديغول بدور الأمم المتحدة في القضية الجزائرية، على هذا الأسلوب الذي اقترحناه فإن الحكومة الجزائرية، من جانبها، مستعدة لأن تبحث مع فرنسا شروط وقف إطلاق النار.. وسوف لا تقتصر النتيجة على تحقيق التهدئة التي أخفقت فرنسا، وستظل تخفق، في بلوغها.. بل سيكون السلام، والسلام الدائم بكل بركاته وخيراته.. وستظل فرص السلام قائمة، وفرص الحرب ستظل قائمة كذلك، إذا ما بقيت فرنسا ماضية في عنادها، ممتنعة عن الدخول في مفاوضات حرة مع الحكومة الجزائرية.. وعلى فرنسا تقع المسئولية، كما ستقع عليها الهزيمة.. حقاً إنها معركة ضارية قاسية يقف فيها مع فرنسا جميع حلفائها وأصدقائها.. ولكن الجزائر يقف في ميادينها أبطال الشعب الجزائري وتقف معهم جميع الشعوب المحبة للحرية في العالم.
ولقد أعلن الرئيس ديغول في بيانه قائلاً: "إن الطريق مفتوحة.. ولقد اتخذنا قرارنا.. وإن العملية جديرة بفرنسا" فإذا كان الجنرال ديغول على حريصاً أن تكون هذه العملية جديرة بفرنسا، فما عليه إلا أن يسلم هذه العملية إلى الأمم المتحدة، ولتنفيذها بموجب كل التقاليد والأعراف التي تستحقها هذه العملية.. أما إذا كان الجنرال ديغول يقصد بهذه العملية الاستهلاك الدولي، في هذه المنظمة الدولية، "ليخطف" بعض الأصوات إلى جانبه، فستكون هذه العملية جديرة بفرنسا كما أعلن الجنرال ديغول، ولكنها ليست جديرة بالأمم المتحدة حيث يجب أن تسود تقاليد الحق وأعراف العدالة.(1/92)
ويبدو واضحاً، يا سيدي الرئيس، أن بيان الرئيس ديجول، في أسسه لا في تفاصيله جدير بالترحيب، ونستطيع أن نعتبره نصراً لقضية الحرية..وإذا أمكن تحقيقه، بأسسه لا في تفاصيله، فإن النصر يعود الفضل فيه إلى ثلاثة، إلى الجزائر أولاً، إلى الأمم المتحدة ثانيا، وإلى الجنرال ديغول ثالثاً، ولكن نصيبه في هذا النصر، قدر الدور الذي لعبه وساهم فيه.. إن الشعب الجزائري، بالتضحيات الغاليات التي بذلها، وبالكفاح الدامي الطويل الذي خاضه عبر مئة وخمسين عاماً، يقف في ميدان النضال منفرداً بمفاخره، لا ثاني له، إن الحكومة الجزائرية منذ اللحظة الأولى لمباشرتها مهامها الوطنية قد أعلنت عن رغبتها للوصول إلى تسوية سلمية للقضية الجزائرية، في نطاق مفاوضات حرة تستهدف تحقيق تقرير المصير..
أما بالنسبة للأمم المتحدة، فإن جميع الدول الأعضاء لم يدخروا جهداً في سبيل الوصول إلى حل للقضية الجزائرية، يقوم على مبادئ الميثاق وأهدافه.. وفي الدورة الأخيرة أقرت منظمتكم، توصية حاسمة تدعو فرنسا والجزائر إلى الشروع في مفاوضات حرة بين فرنسا والجزائر، تستهدف تسوية الفضية الجزائرية تسوية شريف عادلة. أما الرئيس ديغول، فلا ريب أن له دوراً في الإنجازات التي اقترنت بالقضية الجزائرية، هذا إذا تخلى عن غضبته العارمة على الاستقلال.. إن الجنرال ديغول، وهو بطل من أبطال التحرير، لا يستطيع أن يحبس لمدة طويلة إعجابه بالشعب الجزائري، حين يناضل من أجل حريته واستقلاله.. وإلى جانب هذا فإنه ليس لنا أن ننسى الآن الجنرال ديغول تربطه زمالة السلاح بالمجاهدين الجزائريين، ففي الحربين العالميتين قاتل الجزائريون ليردوا لفرنسا شرفها، وليصونوا حريتها، بل ليحفظوا عليها وحدتها.. وأخيراً لا آخراً، إن الجنرال ديغول يعرف، كأي(1/93)
جندي عظيم، إنه مهما طال الأمد على حرب التحرير الجزائرية، فإن النصر سيكون حليف الجزائريين، والهزيمة حليفة فرنسا.. ذلك هو المصير المحتوم الذي لا راد لكلمته..
وإذا كان لبيان الرئيس ديغول مزاياه، فإنه، يا سيدي الرئيس مليء بالمعايب، والمعايب الكثيرة، ولا يتحمل الشعب الجزائري، ولا الأمم المتحدة أية مسؤولية عن الجوانب المظلمة في بيان الرئيس ديغول.. إن المسؤولية تقع على كاهل باريس، فهي التي صنعت هذه المعايب، وباريس ما تزال شوارعها تئن تحت أقدام العسكرية الاستعمارية..
لقد أعلن الرئيس ديغول في بيانه السياسي قائلاً: "سنعمل على الوصول إلى حل للقضية الجزائرية بما يتفق مع تقاليد شعبنا العظيم، وأعني بذلك أن الشعب الجزائري سيختار مصيره ويحدد مستقبله.." وهذه الكلمات الرفيعة التي تفوه بها الجنرال ديجول، يجب أن تتبوأ مكاناً رفيعاً في سجلاتنا.. وليس هنالك ما هو أشرف، ولا أنبل من هذه الكلمات الشريفة النبيلة..وإن فرنسا ستكون عظيمة حقاً، بل أعظم مما قال ديغول، إذا كان الشعب الجزائري سيجد أمامه الفرصة الكاملة لحرية الاختيار، بعيداً عن أي وعيد وتهديد، وبعيداً عن أن وعد وإغراء.. وسيفتح التاريخ أروع صفحاته للجنرال ديغول، كأعظم بطل حقق الحرية لفرنسا، واعترف بالحرية للجزائر..
ولقد أحسن الجنرال ديغول، حين عرض في بيانه السياسي مختلف الحلول التي تخطر على باله، إنه أعلن بأنه سيطرح للتصويت "الاستقلال والإدماج والاتحاد، ليختار الشعب الجزائري واحداً من هذه الخيارات الثلاثة".. إننا نثني على الجنرال ديغول أنه عرض الأمر بهذا الوضوح،(1/94)
ونحن لا نبخل على الجنرال ديغول بالثناء حين يستحق الثناء.. وإذا استطاع الشعب الجزائري أن يختار بحرية كاملة، وأن يطرح صوته بحرية كاملة، فإن الجنرال ديغول سيكون بطل الثورة الفرنسية المعاصرة ثورة لها كل أمجاد الثورة الفرنسية، ولكن من غير خرائبها ودمارها ومظالمها..
ولكن علينا أن نقترب من هذه الصورة الباهرة التي رسمها لنا الجنرال ديغول في بيانه السياسي، ولننعم النظر فيها بعين ذكية فاحصة، ولنتأمل ظلالها وألوانها بصبر وأناة.
وكلما اقتربنا من الصورة تجلت أمامنا تناقضاتها الخطيرة، ففي الوقت الذي يعترف فيه بحق الشعب الجزائري في تقرير المصير، ينكر وجود الشعب الجزائري كأمة لها مقوماتها الوطنية، وبهذا فإنه يعرض حق الاختيار لشعب لا يعترف له بقومية، كما يعرض حق الاختيار لوطن لا يعترف له بالوحدة الإقليمية..
وفي نظر الجنرال ديغول فإن الشعب الجزائري من غير كيان قومي، والوطن الجزائري من غير وجود سياسي.. لقد تحدث الرئيس ديغول عن الجزائر على اعتبار أنا لجميع الناس دون أن تكون للشعب الجزائري.. لقد كانت الجزائر عرضة للغزوات المتعاقبة، كما قال الرئيس ديغول ولم يكن لها كيان سياسي..وإنني أحسب أن خير طريقة لعرض هذه الآراء المشوشة، هي أن أقرأ لكم كلمات الرئيس ديغول نفسه: قال الرئيس ديغول: "لم تكن هناك سيادة جزائرية.. إن القرطاجيين والرومان، والفاندال، والبيزنطيين، والعرب السوريين، والأتراك والفرنسيين، قد تغلغلوا واحداً بعد الآخر في الجزائر دون أن تكون هناك دولة جزائرية، ولذلك فإن حرية الخيار ستعرض على الجزائريين كأفراد..".(1/95)
إن هذه الأسس التي يبني عليها الجنرال ديغول مشروعه السياسي هي غاية في الضعف والهزال، ولا بد من أن تدفع مشروعه إلى الانهيار.. إن حق تقرير المصير هو حق تملكه الشعوب كبيرها و صغيرها، هذا هو ميثاق الأمم المتحدة نصاً وروحاً.. إن الأفراد ليس لهم أن يمارسوا حق تقرير المصير إلا بوصفهم أعضاء في أمة واحدة، وإلا رجعنا إلى المرحلة البدائية التي سبقت نشوء الشعوب والأمم، وإذا كان الجنرال ديغول أميناً في كلامه عن تقرير المصير، فيجب عليه أولاً وقبل كل شيء، وأن يعترف للشعب الجزائري بحقه كشعب واحد.. وإلا فإن حق تقرير المصير يكون أسطورة جميلة.. ثم أن الجنرال ديغول قد أشاروا إلى القرطاجيين والرومان، والفاندال، والبيزنطيين، والعرب السوريين، وعرب قرطبة، والترك، والفرنسيين، وغزواتهم على الجزائر، وكأنما أصبحت هذه الأرض موئلاً للغزاة يتعاقبون عليها، وكأنما دور الجزائريين أن يستقبلوا هؤلاء الغزاة، ويهيئوا لهم معسكراتهم، ليقيموا فيها آمنين مطمئنين.
وإني، مع احترامي للرئيس ديغول، ليس لي إلا أن أبادر إلى القول، إن هذا الكلام يدل على سطحية مفضوحة في الوقائع التاريخية والفهم السياسي.. وما أظن أنني بحاجة إلى أن أضع أمامكم جميع الأسانيد التاريخية والقانونية التي تثبت سيادة الجزائر، كدولة حرة مستقلة كانت في عام 1830 تشارك مع بقية الدول ضمن العلاقات الدولية المعروفة، فقد أوفيت هذا الموضوع حقه في الدورات السابقة.. ولست كذلك بحاجة إلى أن أذكركم بأن فكرة الدولة، في مفهومها المعاصر، إنما هي حديثة حداثة الفكرة القومية، تلك الفكرة التي أرسلت صيحاتها الداوية بعد تفتت الإمبراطوريات العظمى التي كانت تجمع بين ذراعيها معظم شعوب العالم.. إن الدول القائمة الآن هي(1/96)
حديثة كأن اختراع حديث..ولماذا أذهب بعيداً في البحث عن الدليل، إن ما لا يقل عن سبعين دولة من الدول الممثلة في الأمم المتحدة لم تكن موجودة قبل مائتي عام.. وأجيلوا الطرف فيما بين صفوفكم تتجسد أمامكم الحقيقة الصارخة.. إن هولندا قد استقلت في عام 1579، وبلجيكا في عام 1830، والولايات المتحدة في عام 1776، والبرازيل في عام 1822، ودول أمريكا الجنوبية في عام 1810، وأن دول البلقان، والدول الإفريقية والآسيوية، قد ظفرت باستقلالها في هذا القرن الذي نعيش فيه، بعد حروب بطولية تبعث على الإعجاب والتقدير.
ولننظر ماذا تم في عهد الأمم المتحدة، لقد انضم إلى عضوية الأمم المتحدة عدد وافر من الدول لم تكن دولاً قبل ذلك.. وكان بعضها إلى عهد قريب تحت حكم فرنسا المباشر.
أما الغزوات التي تعرضت لها الجزائر، كما سردها الجنرال ديغول، فإني آسف لأن يضعها الجنرال ديغول أمامكم كحجة ضد سيادة الجزائر.. لقد كانت الحرب والغزوات جزءا من تاريخ العلاقات الدولية في كل أرجاء العالم.. إن تاريخ أوروبا، ويشمل ذلك فرنسا بالتأكيد، كان تاريخ غزوات وغزوات مضادة في مراحل متعددة من التاريخ.. إن جميع الغزاة الذي سردهم ديغول قد غزوا فرنسا كما غزوا الجزائر.. وإن العرب الذين أشار إليهم الرئيس ديغول قد غزوا فرنسا، وتوغلوا فيها حتى وصلوا إلى بوردو... ولكن هذه الوقائع التاريخية لا تنفى وحدة الوطن الفرنسي ولا وجود الشعب الفرنسي كأمة واحدة، إن ذلك ينطبق تماماً على الجزائر التي تعرضت لموجات من الغزو الأجنبي، ولكنها بقيت محتفظة بوجودها القوي، واحدة من الشعوب العربية، التي تؤلف في مجموعها الأمة العربية.. وترابها جزء من(1/97)
الوطن العربي الكبير.. إن الحقيقة الثابتة هي أن الجزائر عربية كما أن فرنسا فرنسية. وإن هذه الحقيقة الأساسية التي يجب أن يبنى عليها أي حل للقضية الجزائرية، يمكن أن يكتب له النجاح..
غير أننا، يا سيدي الرئيس، لا بد، لنبلغ هذه النتيجة، التي نتطلع إليها بكل إخلاص، من أن يكون بيان الرئيس ديغول والسياسة التي يستهدفها، متسمين بروح الإخلاص.. يجب أن نتأكد من أن الخيار، الذي سيطرح على الشعب الجزائري، صادق وأمين وحر.. ويؤسفنا أن نعلن أمامكم أن الخيار الذي عرضه الجنرال ديغول مصنوع من خامات ضعيفة، إنه يشكو مرض فقر الدم، فضلاً عن أنه ينقصه الوضوح.. ثم إن الجنرال ديغول، في شرحه للحلول الثلاثة، قد "استقطر" حرية الخيار وانتزع منها الحرية. إلى آخر قطرة منها.. لقد عرض الجنرال ديغول من ناحية نظرية ثلاثة حلول، ولكنه في الواقع قد صب جام غضبه على الحل الأول، الاستقلال، ودعا إلى قبول الاثنين الآخرين بحرارة وحماسة.. لقد قال عن الاستقلال، وهو الحل الأول، ما يلي: "إن فرنسا ستتخلى عن الجزائريين الذين يختارون الانفصال عنها، ومن غير فرنسا سينظمون الإقليم الذي يعيشون فيه، والموارد التي تكون تحت تصرفهم، والحكومة التي يريدونها.. وإن قناعتي الشخصية أن هذه النتيجة لا يمكن تصديقها فضلاً عن أنها تؤدي إلى الكارثة.. وأن الجزائر كما نعرفها، وفي ظل الظروف العالمية السائدة، ستواجه الكوارث والمصائب ومنها الشيوعية والفقر.. وأنه غني عن القول كذلك، أن الجزائريين مهما كان أصلهم، الذين يريدون أن يبقوا فرنسيين، ستجري إعادة تجميعهم استيطانهم.. ومن ناحية أخرى فستتخذ جميع الخطوات لأن نضمن، تحت جميع الظروف، استمرار الأعمال في آبار الزيت في الصحراء فهو نتيجة الجهود الفرنسية(1/98)
ويرتبط بمصالح العالم الغربي بأسره.." وإنني، يا حضرات الزملاء، أستميحكم عذراً وصبراً.. أنكم في حاجة إلى أناة صابرة، وروية هادئة، لتستطيعوا أن تحكموا بهدوء على بيان الرئيس ديغول.. إنه تهديد مكشوف، وملحمة بليغة في الوعيد، إن الاستقلال، في نظر الجنرال ديغول، مجلبة للكوارث، وهو لعنة من السماء ونقمة على الأرض.. إن كلام الرئيس ديغول في هذا الصدد أبعد ما يكون عن الحقيقة، وينفر منه منطق التاريخ المعاصر.. إن الاستقلال لا يؤدي إلى هذه الشرور التي عددها الرئيس ديغول.. إن الاستقلال مجلبة للنماء والتقدم، وفيه إشباع لأرفع المطالب القومية وأقدسها.. لقد سبق لجميع الحركات التحريرية أن واجهت مثل هذه الإنذارات مشحونة بالوعيد والتهديد ولكن سرعان ما أنكشف زيفها، وذابت كالثلوج تحت شعاع الدفء الساطع من شمس الحرية... وإذا كان "المعمرون" الفرنسيون يلتزمون جانب الهدوء والسكينة، والخضوع للنظام العام، فلن يقع في الجزائر ما يكدر الصفو.. وستكون الحالة طبيعية وعادية، تماماً كالحالة التي تسود تونس والمغرب في الوقت الحاضر، وقد كانتا تواجهان مثل هذه الإنذارات، حين كنا نبحث أمر استقلالهما في هذه القاعة نفسها.
أما التهديد بالشيوعية، فقد سبق لي أن عالجت هذا الموضوع، وهو من التفاهة الواهية بحيث لا يصمد أمام أي تحليل جدي، وقد فقدت هذه التهمة جديتها، وأصبحت زياً قدماً مهلهلاً لا يصلح لهذه الحقبة من زماننا.. ولكن الصوت اللاهب الذي يسلطه الجنرال ديغول على ظهور الشعب الجزائري، هو التهديد بالفاقة، إذا اختارت الجزائر الحرية والاستقلال.
إن التهديد بالفقر هو تهديد "فقير" بذاته.. إن كثيراً من الدول الممثلة في الأمم المتحدة هي دول فقيرة، ولكنها تنعم بالحرية والاستقلال.. وإن(1/99)
ميثاق الأمم المتحدة يكون "فقيراً" حقاً، إذا كان لا يقبل في عضويته الدول الفقيرة.. وإن كثيراً من الدول الأعضاء تتلقى معونات اقتصادية وفنية، ولم ينتقص ذلك من حقها في الاستقلال بل إن فرنسا نفسها ليست بريئة من الحاجة للعون.. إن فرنسا تتلقى قروضاً ومعونات مالية متعددة المصادر.. وإنه لا يليق بالجنرال ديغول، أن يرفع شعار الفقر في وجه الحرية والاستقلال.. وإن الجزائر، على كل حال، ليست بلداً فقيراً، إن الجزائر احتملت كل تبعات الحرب لمدة ستة أعوام، سبقتها مائة عام من الكفاح.. وقد احتملت ذلك كله من غير قروض ولا معونات مالية، من المصارف العالمية أو من مؤسسات الأمم المتحدة.. إن الجزائر تتوافر فيها الموارد الطبيعية، ولعل السيو سوستيل الوزير الفرنسي لشؤون الصحراء خير حجة في هذا الموضوع.. فلقد كتب مقالاً في مجلة الشؤون الأجنبية في يوليو 1959، و تحدث عن المخزون الكبير من الزيت و الغاز الطبيعي الكامنين في الصحراء .. ولقد أكد المسيو سوستيل أن حقل الغاز الطبيعي في حاسي الرمل يعتبر واحدا من اكبر الحقول في العالم وإن هدا الحقل يستطيع أن يمد الجزائر والقارة الأوروبية بطاقة رخيصة.. وأشار المسيو سوستيل كذلك إلى المعادن المتوافرة في الجزائر مثل المنغنيز والحديد والنحاس واليورانيوم.. ولقد ألقى المسيو سوستيل خطاباً أمام مجلس الشيوخ الفرنسي، في 21 يوليو، تنبأ فيه أن فرنسا تستطيع أن تبلغ مستوى الاكتفاء الذاتي من الزيت في فترة لا تتعدى عام 1963. وعلى هذا فإن الجزائر لا يمكن أن تصنف من الدول الفقيرة، وهي تملك هذه الموارد الطبيعية، وكيف يمكن للجزائر أن تكون بلداً فقيراً، والزيت الجزائري قادر على أن يجعل فرنسا في مستوى الاكتفاء الذاتي.. وبعد هذا فإن لنا تأن نتساءل أيهما البلد الفقير، الجزائر أم فرنسا..(1/100)
وكائناً ما كان الأمر، فإن الجزائر تستطيع أن تتدبر حياتها الاقتصادية بمواردها الطبيعية، لو أن هذه الموارد تركت تحت تصرف الشعب الجزائري وحده.. ذلك أن ثروة الجزائر الطبيعية تنمو وتستغل على أفضل وجه بأيدي أبنائها، إن اقتصاد الجزائر هو مهمة الشعب الجزائري ومسؤوليته، وليس لفرنسا أو غير فرنسا دخل في هذا الموضوع.. إن الجزائريين هم خير من يبني الاقتصاد القومي في الجزائر.. ولست أعني بهذا أن الجزائر ستعيش في عزلة اقتصادية، وأنها ستمتنع عن تلقي العون الاقتصادي والفني من الدول المتقدمة في مضمار التكنولوجيا والخيرات الفنية.. أي شعب هو أقرب للجزائر من فرنسا، في ميدان التعاون، إذا كانت فرنسا تعترف للجزائر بحريتها واستقلالها؟؟ وخذوها عن، أيها الزملاء المحترمون، وأنا موصوف ظلماً وخطأ بأني عدو فرنسا، إن أحداً لا يداني فرنسا في صداقتها للجزائر.. إذا تركت فرنسا الجزائر للجزائريين.
على أن الأمر الخطير الجسيم هو تقسيم الجزائر كما تحدث عنه الجنرال ديغول بوضوح وصراحة.. وإننا بدورنا نشكر الجنرال ديغول على صراحته في هذا الموضوع، فقد زاد من انتباه الحكومة الجزائرية، وضاعف من إحساسها بالخطر الكامن في السياسة الفرنسية.. ولقد كان الجنرال ديغول واضحاً كل الوضوح حين أعلن أن الجزائر إذا اختارت الاستقلال عليها أن تواجه الخطرين الكبيرين – الأول: تقسيم الوطن الجزائري، والثاني: اختطاف الصحراء الجزائرية بكل مواردها الطبيعية. ولقد أشار الجنرال ديغول إلى إعادة تجميع واستيطان "الجزائريين" الذين يريدون أن يظلوا فرنسيين.. وهكذا فإن الجنرال ديغول يعرض الاستقلال بيد واحدة، ثم يشهر باليد الثانية سيف التقسيم، وهو أشد بلاء يمكن أن تتعرض له أي "أمة في(1/101)
وطنها.. ويترتب على ذلك أن الاختيار يفقد مزيته وأخلاقيته، بل والهدف الذي عرض من أجله.
غير أن الجنرال ديغول لا يقتصر على إنزال العقاب بالاستقلال، وبالذين يختارون الاستقلال، ولكنه يبتعد إلى أبعد من ذلك.. إنه يبذل المكافآت والامتيازات للذين يختارون الحلين الآخرين: الاندماج أو الاتحاد مع فرنسا.. وهذه هي المكافآت والامتيازات كما عبر عنها الجنرال ديغول، بالنسبة للإدماج، إنه يقول "سيكون ميسوراً للجزائريين أن يتبوأوا المناصب السياسية والإدارية والقضائية في الدولة.. وسيفتح لهم مجال الخدمة العامة، وسيتمتعون بجميع النافع بالنسبة للرواتب والأجور والضمان الاجتماعي والتدريب المهني والتعليم، تماماً على المستوى نفسه الذي يطبق في فرنسا نفسها... وسيعيشون ويعملون حيثما يشاءون في أراضي الجمهورية كلها.. وبعبارة أخرى: إنهم سيعيشون بكل معنى الكلمة، وبقطع النظر عن ديانتهم أو الجماعة التي ينتمون إليها، على قدم المساواة وعلى المستوى نفسه، كسائر المواطنين، وفي الصغيرة والكبيرة، وسيصبحون جزءاً لا يتجزأ من الشعب الفرنسي، الذي يمتد فعلاً من دانكرك إلى تامانراسي.."
بهذه العبارات العذبة، يا سيدي الرئيس، سيجد الجزائريون أنفسهم في النهاية في الفردوس المفقود!! سيعيشون حينئذ في جمهورية أفلاطون، التي لا يزال يحلم بها الناس عبثاً، إلى يومنا هذا!!
أما بالنسبة للاتحاد، فهذه هي المكافآت والامتيازات التي يعرضها الجنرال ديغول، إنه يقول "ستكون نتيجة الاتحاد، أن يحكم الجزائريون أنفسهم بأنفسهم، تسندهم المعونة الفرنسية والعلاقة الوثيقة بفرنسا، في شئون الاقتصاد، والمعارف، والدفاع والسياسة الخارجية.. وسيكون الحكم الداخلي(1/102)
على أساس اتحادي، وبهذا تتمتع جميع المجموعات، الفرنسيين والعرب والمرابطين والقبائل، الذين يعيشون معاً في البلاد، بالضمانات الكافية ليكيفوا حياتهم كما يريدون في إطار من التعاون.." وهذه، يا سيدي الرئيس، عبارات عذبة أخرى يرسلها الرئيس ديغول لإغراء الشعب الجزائري لحمله على الاتحاد مع فرنسا.. ولست أريد أن أطيل الكلام في هذه النقطة، فإن عبارات الجنرال ديغول توضح نفسها بنفسها.. إن هذه المكافآت والامتيازات التي يعرضها الجنرال ديغول من شأنها أن تسلب من الاختيار حريته.. إنها كافية بذاتها أن تحيل الاختيار إلى اضطرار.. وليكون الاختيار حراً يجب أن لا يصاحبه وعد أو وعيد، وعد بالامتيازات ووعيد بالكوارث والويلات.. ولقد أوضح الجنرال ديغول في بيانه السياسي أنه حكم على الاستقلال بالإعدام.. وإنه فرش الأرض بالأكاليل والزهور تحت أقدام الاتحاد والاندماج.. في القضايا السياسية يجوز لأي مواطن أن يقوم بحملة دعائية لهذا الحل أو ذاك، وذلك هو حق الجنرال ديغول لو كان مواطناً جزائرياً، ولكن أنى يكون له مثل هذا الحق، وهو رئيس دولة يزعم أنه يريد أن ينهي مشكلة استعمارية، فيخلق مشكلة أخرى لا تقل عنها خطراً وضرراً.
وبهذه المناسبة، أرجو أن يأذن لي سيدي الرئيس، بأن أبتعد قليلاً عن الموضوع لأتحدث عن مفهوم الحرية الاختيار في النظام القضائي البريطاني.. بموجب هذا النظام القضائي، كأي نظام آخر، لا يكون إقرار المتهم ملزماً إلا إذا أعطاه بمحض إرادته وفي حرية اختياره.. وقد حدث مرة، في قضية جنائية شهيرة، أن قال النائب العام للمتهم: "إنه خير لك أن تروي لنا كيف جرت الحادثة" لقد كان هذا الكلام من جانب النائب العام بسيطاً وبريئاً، خالياً من الوعد والوعيد، ولكن المحكمة اعتبرت هذه(1/103)
"النصيحة" التي أسداها النائب العام للمتهم مبطلة لحرية الاختيار، ورفضت المحكمة كل الاعترافات التي أدلى بها المتهم بعد هذه النصيحة.. وإني لأرجو، يا سيدي الرئيس، أن تتأملوا كيف أن المحكمة البريطانية قد رفضت إقرار المتهم، لأنه صدر عنه من غير حرية اختيار، بعد هذه النصيحة، فماذا تقولون في بيان الرئيس ديغول الذي لم يترك غضبة إلا وزمجرها ولا مكافأة إلا وزينها؟!
وانتقل الآن من الشرور التي تسبق الاختيار، إلى شر آخر يأتي بعد انتهاء مرحلة الاختيار، إن الجزائريين، بعد أن يواجهوا الوعد والوعيد قبل إعطاء أصواتهم، سيواجهون خطراً آخر ناجماً عن أصوات غيرهم.. ولقد حدثتكم أن الجنرال ديغول قد أعلن أنه سيطلب من الشعب الفرنسي أن يدخل في عملية تصويت أخرى، ليؤيد ما يختاره الشعب الجزائري، تلك هي بدعة سياسية ما أحسب أن لها مثيلاً في جميع القضايا الاستعمارية التي عرضت على الأمم المتحدة، إن أقل ما يقال في هذا الموضوع أن الجنرال ديغول قد خول الشعب الفرنسي أن يمارس حق الفيتو في مصير الشعب الجزائري.. نحن نعلم أن فرنسا، بوصفها عضواً دائماً في مجلس الأمن، تملك حق الفيتو تمارسه في المشاكل الدولية حين تعرض على مجلس الأمن.. ذلك هو حق فرنسا، كما نص عليه ميثاق الأمم المتحدة، ولكننا لا نعرف نصاً يخول فرنسا حق الفيتو، بالنسبة لمستقبل الجزائر، ولحق الشعب الجزائري في تقرير مصيره.. وإذا كان على الفرنسيين أن يقولوا كلمتهم فيما اختاره الشعب الجزائري لنفسه، فإن المصير الجزائري يكون قد وقع تحت رحمة فرنسا.. ونحن نعرف مصير هذه الرحمة..(1/104)
ولكن علام هذه الحرب دائرة؟؟ إن الحرب دائرة الآن لأن الشعب كالجزائري يريد أن يقرر مصيره بنفسه، ويرفض أن تكون لفرنسا كلمة في هذا المصير، من قريب أو بعيد.. نحن نعرف سلفاً، وبيان الرئيس ديغول هو الدليل، والرئيس ديغول هو الشاهد على ذلك، أن فرنسا لا توافق على استقلال الجزائر، إذا كان هذا الاستقلال سيأتي بأصوات فرنسا. ونحن لم نعرف أبداً أن مصير المحكومين قد تقرر بأصوات الحاكمين.. إن الأصوات التي تعنينا هي أصوات الشعب الذي يحارب من أجل حريته واستقلاله.. وأي اختيار هذا يعرض على الشعب الجزائري، إذا كان الاختيار النهائي سيكون للشعب الفرنسي؟ نحن نعلم أن "استقلال" الجزائر كلمة لا تسقط من فم فرنسا.. ثم ماذا تكون النتيجة لو أن فرنسا –كما نتوقع- رفضت ما اختاره الشعب الجزائري لنفسه؟ ما هو مصير القضية الجزائرية؟ إن عملية الاختيار بكل إجراءاتها تصبح باطلة ولاغية.. وستظل الجزائر في قبضة فرنسا.. وسيكون وقف القتال الذي يدعو إليه الجنرال ديغول استسلاماً مختاراً.. وستكون الحرب الجزائرية، بكل تضحياتها الغالية، وسيلة مباشرة لتقديم الجزائر إلى فرنسا هدية سهلة المنال.. وإننا نعيذ بالشعب الجزائري أن يرضى بأن يكتب صك عبوديته بدماء أبنائه الميامين.. وما استرخصوا أرواحهم إلا لمجاهدة العبودية ونيل الحرية..
هذه نظرة شاملة، يا سيدي الرئيس، ألقيتها على بيان الرئيس ديغول، بما له وما عليه، ولكن من الإنصاف أن نسأل ما هو موقف الفريق الآخر.. ما هو موقف الحكومة الجزائرية المؤقتة؟ هذا السؤال البسيط له جواب بسيط، إنكم تجدون موقف الجزائر متمثلاً في البيان الذي أصدرته الحكومة الجزائرية في 28 سبتمبر، بعد بيان الرئيس ديغول باثني عشر يوماً، وإنكم(1/105)
لواجدون أن بيان الحكومة الجزائرية دقيق وبسيط وواضح.. إنه دقيق لأن قضية الجزائر هي قضية حرية، والحرية ليست بحاجة إلى محاولات معقدة مطولة.. وإنه بسيط لأنه لا شيء أبسط على الفهم من الحرية والاستقلال،.. وأخيراً إنه واضح لأن حق تقرير المصير أسطع من أن تحجبه أفصح الفصاحات أو أعنف المعارك..
وإنني لأستطيع القول بأن بيان الحكومة الجزائرية وثيقة رائعة، ممتازة بأصالة الرأي، ابتداء من التاريخ حتى التوقيع.. وإنني أقول من التاريخ حتى التوقيع، بكل ما في هذه العبارة من الدلالات.. إن البيان الجزائري صدر بعد اثني عشر يوماً من صدور بيان الرئيس ديغول، وبهذا لم تسارع الحكومة الجزائرية إلى القبول أو الرفض، وإنما أذنت لتلك الأيام أن تمر بالدرس العميق والتأمل الصابر، بعقل "بارد" يلم بالموقف من كل أطرافه، وقلب "حار" يتحسس الطريق إلى سلام شريف عادل، أما التوقيع فكانت له دلالة كذلك، إنه يعني ما يقول.. إنه يقول إنها حكومة جزائرية مؤقتة، إلى أن يتيسر للشعب الجزائري أن يقيم حكومة ثابتة.. إن الحكومة الحاضرة لا تريد أن تفرض نفسها على الشعب، ولا أن تقيم حكماً ديكتاتورياً.. إنها تسعى جاهدة لتمكن الجزائريين أن يعبروا عن إرادتهم، كبشر لهم إرادتهم في هذه الحياة، وأن يمارسوا حقوقهم الوطنية كشعب، وأن يعيشوا كدولة مستقلة.. هذا هو ما تدعو إليه الحكومة الجزائرية أولاً وآخراً.. ليست رغبة هذه الحكومة المؤقتة أن تحكم، ولكن رغبتها الأكيدة أن تمكن الجزائر، من أن تحكم الجزائر، ولخير الجزائر..
كل ذلك يوضح لنا الروح القومية التي أملت على حكومة الجزائر أن تنظر إلى الموقف السياسي نظرة شاملة متزنة، آخذة بعين الاعتبار ظروف(1/106)
القضية في مجموعها.. وكان بوسع الحكومة الجزائرية أن ترفض بيان الرئيس ديغول برمته، رفضاً كاملاً، ولها في ذلك أسباب سديدة.. ولقد كان بوسع الحكومة الجزائرية أن تصر، وهذا هو حقها بكل تأكيد، على الاعتراف العاجل بحق الشعب الجزائري في الحرية والاستقلال.. وكان بوسعها أن تصر على عقد مؤتمر مائدة مستديرة، مع الاعتراف الكامل بحق الحكومة الجزائرية في عقد معاهدة سلام بين فرنسا والجزائر.. وكان بوسعها، كذلك، أن يعقد هذا المؤتمر على أرض محايدة ليست في فرنسا ولا في الجزائر.. أجل لقد كان بوسع الحكومة الجزائرية أن تصر على هذه المطالب وأمثالها، ولكن الحكومة الجزائرية قد آثرت أن تسلك طريقاً إيجابياً بناءً، لا تنازلاً منها عن موقفها السياسي، ولكن لأنها على ثقة تامة من عدالة القضية الجزائرية ومقوماتها الأخلاقية والقانونية، وفضلاً عن ذلك فإن الحكومة الجزائرية قانعة كل القناعة بأن أية إجراءات شملها بيان الرئيس ديغول لا بد أن تؤدي في النهاية إلى تحقيق حرية الشعب الجزائري، إذا كانت تطبق في جو من الحرية، وفي كنف الأعراف الديمقراطية وتقاليدها الصحيحة، بل لعل الحكومة الجزائرية قد أخذت بهذا المنهج الإيجابي، لما أعلنته في بيانها من أنها "لا ترغب أن تتجاهل أية فرصة تسنح لإقرار السلام"..
وعلى هذا، فإن الحكومة الجزائرية قد نظرت في بيان الرئيس ديغول نظرة عميقة، فلم تقبل كل شيء ولم ترفض كل شيء.. ولكنها اتبعت سبيلاً وسطاً بين القبول الكامل والرفض الكامل.. فبعد أن أعلنت الحكومة الجزائرية قبولها لمبدأ تقرير المصير، على أساس وحدة الشعب الجزائري، ووحدة التراب الجزائري، أعربت عن استعدادها للدخول في مباحثات مع(1/107)
الحكومة الفرنسية، لتبحث الشروط السياسية والعسكرية، لوقف إطلاق النار، مع الاتفاق على الضمانات اللازمة لتطبيق تقرير المصير بصورة صحيحة..
ويتبين من ذلك أن الحكومة الجزائرية لم تقتصر على التحلي بالحكمة والروية، ولكنها بذلت كل جهدها لمراعاة الحساسيات الفرنسية.. وتلاحظون من الصيغة التي استعملتها الحكومة الجزائرية في بياناتها، أنها أشارت إلى التعبير الفرنسي الذي يقابل "المحادثات" (1) لما يخامر فرنسا من الإحساس بأن هذا التعبير بذاته يصون لفرنسا كرامتها.. وهذه "المحادثات" تستهدف من غير شك الاتفاق على التدابير التي تكفل تحقيق تقرير المصير، بعيداً عن أي ضغط أو إكراه.
وأرجو يا سيدي الرئيس ويا حضرات الزملاء، أن تسمحوا لي بهذه المناسبة أن أؤكد لكم أن هذه التدابير هي ضرورة قصوى، إن على الجزائر وفرنسا أن يتفقا على مجرى هذه التدابير ومراحل تنفيذها.. ذلك لزوم لا بد من لزومه.. فإن الاتفاق بين فرنسا والجزائر على مبدأ تقرير المصير يجب أن يتناول الاتفاق على التدابير التنفيذية لتطبيق تقرير المصير.. وإذا تم ذلك، نكون قد تلاقينا مع فرنسا في مفهوم تقرير المصير، وفي وسائل تطبيقه.
وإنني أقول، مفهوم تقرير المصير، لأنني لست متأكداً مع أننا وفرنسا نتكلم لغة مشتركة، بالنسبة لتقرير المصير.. فلو أننا أنعمنا النظر في موقف فرنسا الرسمي لوجدنا أن تقرير المصير مشدود إلى حبال قد تكون حبال المشنقة.. وليست هذه التعبيرات مجازية، ذلك أن وراءها مخاوف تسندها مبررات متعددة.. ويجب أن تزول هذه المخاوف، إذا كنا حقيقة نريد بكل إخلاص وعزيمة أن نتوصل إلى سلام بين فرنسا والجزائر، سلام دائم، لا
__________
(1) * للفظ الفرنسي pourparles.(1/108)
هدنة مؤقتة.. ففي 30 أبريل 1959، سئل الجنرال ديغول في مؤتمر صحفي، عما يعنيه إدماج الجزائر بفرنسا، ولا شك في أنه يهمكم أن تعرفوا جواب الجنرال عن هذا السؤال.. كان جوابه وأنا أقتبس من كلامه " إن المعنى السياسي لكلمة الإدماج، واضح كل الوضوح.. أن تكون الجزائر فرنسية، وهل من الضروري أن نعلن ذلك، ما دامت هذه هي الحقيقة؟؟".
إن الجنرال ديغول، جندي عظيم، وله استراتيجية بارعة وتكتيك حاذق.. فلقد أجاب بسؤال عن السؤال، بالنسبة للإدماج، حين تساءل "وهل من الضروري أن نعلن ذلك؟ ما دامت هذه هي الحقيقة". ولكن "هذه الحقيقة" لم تكن شعاراً لفظياً وكفى، فقد ترجمت إلى حقيقة فعلية واقعية..
لقد أصدرت الجمعية الوطنية الفرنسية مؤخراً، وبأكثرية ظاهرة، قرارين ينصان على توحيد الموازنة والشؤون المالية بين فرنسا والجزائر.. وفي الثالث من شهر أغسطس أعلن المسيو ميشيل دوبريه رئيس وزراء فرنسا أمام البرلمان الفرنسي أن "مقاطعات الجزائر والصحراء هي جزء من الجمهورية الفرنسية، تماماً كالمقاطعات الفرنسية الأخرى في الوطن الأم.." هذا هو الموقف الرسمي للرجل الثاني في فرنسا بعد الجنرال ديغول.. وقد صدر قبل بيان الرئيس ديغول ببضعة أسابيع، ولكنه يتناول السياسة المالية للعام بكامله.. غير أن من حقنا أن نتساءل كيف تحولت السياسة الفرنسية من إدماج كامل إلى تقرير المصير، بين عشية وضحاها..
ومن أجل ذلك فإن الحكومة الجزائرية حريصة على أن تعلم علم اليقين، وعن طريق المحادثات الثنائية مع فرنسا، ما إذا كانت سياسة تقرير المصير، كما جاءت في بيان 16 سبتمبر، هي من بنات أفكار الرئيس ديغول أم الجنرال ديغول.. هل هي تكتيك جندي عظيم، يريد أن يربح المعركة.. أو(1/109)
هل هي سياسة رئيس حريص على أن يسوي المشكلة.. ولا بد من أن تتجلى هذه الحقيقة في المباحثات الثنائية التي تصر عليها الحكومة الجزائرية..
ورب قائل يقول، إن بيان المسيو دوبريه رئيس وزراء فرنسا هو صفحة من الماضي، وقد مضى الماضي بكل مواقفه وبياناته.. وقد يكون هذا صحيحاً لو أن شيئاً، مما قيل وما حصل بعد بيان الرئيس ديغول في 16 سبتمبر.. ولكن الواقع المؤسف أنه منذ 16 سبتمبر إلى هذه الدقيقة والقوال والأفعال من جانب فرنسا تتعمد أن تنسف حرية الاختيار، وأن تدمر تقرير المصير، وأن تحجب فرص السلام.. وليس هذا الاتهام من غير دليل.. إن كل الدلائل تؤيد الاتهام.. وليس علينا إلا أن نقتفي سير الأحداث، ونتتبع آثارها بعد 16 سبتمبر..
في 28 أكتوبر، وبعد ستة أسابيع من البيان الفرنسي عن تقرير المصير، وجه الرئيس ديغول إلى الإدارة الفرنسية والقوات المسلحة في الجزائر رسالة، تناقض مناقضة صريحة بيانه السياسي،وهذه الرسالة، إن كشفت شيئاً، فإنما تكشف انغماس فرنسا في سياسة الإدماج، من أعلى الرأس حتى أخمص القدمين، لقد قال الرئيس ديغول وأنا أقتبس من كلامه: "إن الموضوع الذي يهمنا في الوقت الحاضر، هو أن تخلد الجزائر إلى السكينة الشاملة، بعد أن شهدت المآسي الطويلة.. وأن نبذل جهدنا في سبيل تقدمها الاقتصادي والاجتماعي، وأن نقدم للجزائريين من مختلف الطوائف جميع الأسباب المعنوية والمادية التي تجعلهم يطلبون الوحدة مع فرنسا..".
إن هذه التوجيهات التي أصدرها الرئيس ديغول إلى الإدارة والقوات المسلحة الفرنسية في الجزائر، ليس لها إلا معنى واحد، ونتيجة واحدة، إنها تتجافى بصورة قاطعة مع بيان الرئيس ديغول في 16 سبتمبر الذي أعلن فيه(1/110)
حرية الاختيار للشعب الجزائري، وأي اختيار حر هذا، وأي تقرير للمصير هذا، إذا كان الرئيس ديغول يدعو إلى تعبئة كل الطاقات الإدارية والعسكرية في الجزائر، لحمل الجزائريين على المطالبة بالوحدة مع فرنسا.! ستكون الوحدة مع فرنسا، إذن، ليست خياراً.. إنها تكون هدفاً محتوماً تسعى فرنسا جاهدة لتحقيقه بكل ما تملك من قدرات.. ولعل هذا هو السبب الذي جعل الرئيس ديغول يقترح فترة أربع سنوات لتطبيق تقرير المصير.. إنها الفترة التي يطمع فيها الجنرال ديغول في أن "يصنع" الشعب الجزائري من جديد، ويصنع معه تقرير المصير كما يشتهيه الجنرال ديغول، ولكن أحداً لا يستطيع أن يصنع الشعب الجزائري من جديد، إنه التاريخ العريق الأصيل الذي صنع الشعب الجزائري.. ثم إن الجنرال ديغول، في ختام رسالته، يتراجع إلى خنادقه القديمة.. إنه يتحدث عن الرسالة المقدسة التي يجب على فرنسا أن تقوم بها، لا بالنسبة للجزائر فحسب، ولكن بالنسبة لإفريقيا كلها.. يقول الجنرال ديغول وأنا أقتبس من رسالته "إنكم تعلمون أكثر من غيركم، وأنتم الذين تعملون في الجزائر، أن مهمة فرنسا هي عظيمة من غير شك.. أنها عظيمة للجزائر نفسها، وأنها عظيمة لفرنسا كذلك بالنسبة لرسالتها في إفريقيا، لصالح الوحدة الوطنية، وللحالة الدولية بصورة عامة.."
والواقع أن حديث الرئيس ديغول عن رسالة فرنسا في الجزائر وفي إفريقيا يثير كثيرا ً من التساؤل والعجب.. فما هي رسالة فرنسا الإفريقية في الجزائر وفي القضية الجزائرية؟.. إذا كانت فرنسا مخلصة وصادقة في تطبيق مبدأ تقرير المصير.. إن تقرير المصير في إفريقيا معناه الأول والأخير أنه ليست لفرنسا مهمة أو رسالة في إفريقيا، وإن تقرير المصير معناه أن تصبح إفريقيا سيدة نفسها، مالكة لزمام أمورها، وبهذا لا يعود(1/111)
لفرنسا أية مهمة مقدسة أو غير مقدسة.. ولكن حديث الرئيس ديغول عن مهمة فرنسا في الجزائر، أو في إفريقيا، إنما يكشف عن العقل الباطني والوجدان الداخلي لفرنسا.. إنه ما يزال مشحوناً بالإدماج، بعيداً عن تقرير المصير، وهذا هو الذي يزيد الحكومة الجزائرية إصراراً على المحادثات الثنائية مع فرنسا، حتى تنجلي الأمور، فهما وأسلوبا، هدفاً وتطبيقاً، من غير لبس ولا إبهام.
ومما يضاعف في الحاجة القصوى إلى هذا الجلاء، أن العقل الباطني لفرنسا قد تحدث مرة ثانية حديثاً غريباً عجيباً في هذا الصدد.. ففي 23 نوفمبر، تحدث الرئيس ديغول أثناء جولته في بعض المقاطعات الفرنسية إلى الشعب الفرنسي، وإني أقتبس من حديثه قوله: "إننا نريد السلام في الجزائر، وعلى الطريق الذي اخترناه، وقصدنا الأول أن نحافظ على فرنسا في الجزائر، ولكن بموجب ظروف تختلف عن الظروف السابقة.."
وواضح، إذن، أن الجنرال ديغول مصمم التصميم كله، أن يحتفظ بالجزائر لفرنسا، ولكن تحت ظروف جديدة، أو تحت شعارات جديدة، فالهدف عند الجنرال باق على حاله، ولكن الوسيلة مختلفة. شأن القائد المحنك يتحول إلى طريق آخر، إذا كان الطريق الذي يسير فيه لا يصل إلى الهدف..
غير أن هذه الخيانة، لمبدأ تقرير المصير، لم تقتصر على الجنرال ديغول، فقد أصبحت وباء فاشياً، وقد انتقل إلى جميع الدوائر الفرنسية الحاكمة سواء في باريس أو في الجزائر.. ولا يعوزنا الدليل في هذا المجال.
في 13 أكتوبر، وأثناء المناقشة العامة في الجمعية الوطنية الفرنسية، طرح رئيس وزراء فرنسا على نفسه السؤال التالي : متى يسود القانون والنظام والسكينة في الجزائر؟ ثم أجاب رئيس الوزراء بنفسه عن نفسه وقال:(1/112)
"يسود القانون والنظام والسكينة في الجزائر حينما يتم رفض الانفصال "الاستقلال"، لأن الانفصال يؤدي إلى الدكتاتورية والعنصرية والفوضى.. وهذه كلمات تتنافى مع القانون". وهكذا فإن رئيس وزراء فرنسا يحكم على الاستقلال بأنه يتنافى مع القانون.. فإذا كان الأمر كما يزعم رئيس وزراء فرنسا فكيف يجوز لدولة هذا منطقها أن تتولى إدارة الاستفتاء الشعبي العام في الجزائر، والاستقلال أحد الخيارات المعروضة.. وإذا كان الاستقلال مدعاة إلى الفوضى والدكتاتورية فكيف تستطيع الحكومة الجزائرية أن تثق بالإدارة الفرنسية لتتولى بنفسها تطبيق مبدأ تقرير المصير والسير في عملية الاستفتاء الشعبي؟.
وإني لا أطرح هذا السؤال طمعاً في أن أتلقى عليه جواباً، ولكني طرحته لأؤكد لكم أن الحكومة الجزائرية حينما تصر على توفي الضمانات اللازمة، فإنها لا تفعل ذلك، لأنها تريد أن تفرض حلاً معيناً بذاته، وكلن لتضمن للحل الذي تقترحه فرنسا، أن يولد في ظروف طبيعية تتوافر له فيها كل شروط الحرية والمساواة.. إن الخيارات الثلاثة التي عرضها الجنرال ديغول يجب أن تعامل على قدم المساواة وأن تعامل معاملة واحدة، فلا يصاحب الواحد وعد، ويصاحب الثاني وعيد.. ومن هنا يجب أن يتم الاتفاق بين فرنسا والحكومة الجزائرية على هذه الظروف والشروط، حتى يتحقق للاختيار أن يكون حراً، فإن الحرية وحدها هي التي تميز الاختيار عن الاضطرار..
ونحن نرى أن فرنسا تكبل الاستقلال بالأغلال، قبل أن تبدأ عملية الاستفتاء.. ففي 26 أكتوبر، وجه المسيو دوبريه رئيس وزراء فرنسا رسالة إلى ممثل الجمعية الوطنية الفرنسية في الجزائر، لإعمامها على رؤساء(1/113)
الجزائر والقيادات العسكرية في الجزائر، ولم تكن هذه الرسالة إلا بمثابة إعلان حرب على الاستقلال، فلقد قال رئيس الوزراء "إن النقطة الرئيسة، هي أن نبذل جهدنا في كل طريقة ممكنة حتى يكون الاختيار ضد الانفصال، وبهذا ينتصر اتحاد الجزائر بفرنسا، وبعدها يتسع الوقت لتحديد شكل الاتحاد.. وإني أطلب إليكم أن تنفذوا هذه التعليمات بمنتهى الدقة.."
إن هذه الرسالة التي وجهها رئيس الوزراء الفرنسي توضح نفسها بنفسها.. إن هذه الرسالة هي أمر صادر من باريس إلى جميع السلطات الإدارية والعسكرية في الجزائر، لتعبئ كل قواها لتحارب حرية الاختيار، وتفسد تقرير المصير، وتحبط الاستقلال..
والواقع أن السلطات الإدارية والعسكرية في الجزائر قد استجابت لهذه التوجيهات، كما هو متوقع منها، فإن نفوس هؤلاء الموظفين مشربة بروح هذه الرسالة.. وهذا ممثل الحكومة الفرنسية، في الجزائر، يلقي بياناً، في 30 أكتوبر، بوصفه أعلى سلطة فرنسية في الجزائر، ويقول: "إننا نحارب أولاً من أجل فرنسا.. ونحن نحارب كذلك من أجل أوروبا على أرض يشملها ميثاق حلف الأطلنطي، إن الرئيس ديغول حينما عرض الخيارات الثلاثة لم يكن مقامراً .. فمن هو الذي يشك في نتيجة الاختيار.. إن الاستقلال، إذا وقع عليه الخيار، سيكون البؤس والشقاء.. ولكن ستكون فرنسا وجيشها حاضرين أبداً ودائماً. وبين الانفصال والوحدة لقد اختار معظم الجزائريين.. وعلى الذين يريدون فرنسا أن يتجمعوا ويتحدوا.. إن الجيش باق وسيبقى.. إن فرنسا باقية وستبقى"..
إن هذا البيان، يا سيدي الرئيس، إنما هو حرب غير مقدسة تعلنها فرنسا لإبقاء فرنسا في الجزائر، إنها تدعو الجميع إلى التعبئة، إلى التجمع،(1/114)
إلى الوحدة.. وأنها تعلن أن الاختيار قد تم وانقضى.. وأننا لنتساءل، لماذا يطلب إلى الحكومة الجزائرية أن توقف القتال إذا كان الاختيار قد تم وانقضى. لماذا يجب على الحكومة الجزائرية أن تتوقف عن إطلاق النار، إذا "كان الجيش الفرنسي باقياً وسيبقى وإذا كانت، فرنسا باقية وستبقى"؟! يبدو أن علينا أن نذكر فرنسا أن الجزائريين الأبطال لا يقاتلون لتبقى فرنسا في الجزائر، ولكنهم يقاتلون لتخرج فرنسا من الجزائر، وإلى آخر جندي، وإنهم يقاتلون لتكون الجزائر للجزائريين، وكما قالت الحكومة الجزائرية في بيانها في 28 أكتوبر "إن الاستعمار هو الذي حمل الشعب الجزائري على حمل السلاح".. إن الحرب الجزائرية هي حرب تحرير مقدسة.. ودعوني أقولها لكم بأعلى صوتي، لتسمع فرنسا، وغير فرنسا، إن الشعب الجزائري لم يحمل السلاح ليمد في أجل الاستعمار،ولكن ليقضي على الاستعمار في الصميم.. وأقولها لكم كذلك بأعلى صوتي، نيابة عن الحكومة الجزائرية، إن الشعب الجزائري مستعد لأن يواصل هذه الحرب، المقدسة للجزائر، والقذرة لفرنسا، إلى النهاية، وهو مستعد كذلك للبحث عن حل سلمي شريف عادل يرضاه الشعب الجزائري، ولكن بمحض إرادته اختياره..
وإني أؤكد إرادة الاختيار الحر، لأن الحرية لا يمكن أن تمارس تحت ظروف القمع والإرهاب التي تسود الجو العام في الجزائر في الظروف الراهنة.. وكما قالت الحكومة الجزائرية في بيانها في 28 سبتمبر، أن حرية الاختيار لا يمكن أن تمارس، ونصف مليون جندي من جيش الاحتلال يطأ بأقدامه تراب الوطن، ولا يمكن أن تمارس كذلك، وما يزيد على المليونين من الشعب الجزائري تضيق بهم السجون والمعتقلات، وأكرهوا على النزوح عن مدنهم وقراهم... وإذا كانت فرنسا جادة فيما تعلنه عن الاستفتاء الشعبي،(1/115)
ويجب عليها أولاً وقبل كل شيء أن تعمل على إزالة جميع هذه العوائق، وترفع هذه القيود والضغوط، وتعمل على خلق جو عادي في جميع أنحاء البلاد،وأن تتفق الحكومتان الجزائرية والفرنسية، على جميع هذه القضايا جملة وتفصيلاً..
وإن أؤكد جملة وتفصيلاً لأن عدداً من الأمور الهامة لا تزال غامضة محجبة بالضباب... وإلى عهد قريب فإن وزير الحربية الفرنسية قد وضع لغماً في صميم أساس الاستفتاء الشعبي، وكأنما لينفجر اللغم في الوقت الملائم.. ففي شهر نوفمبر، وجه وزير الحربية الفرنسي رسالة إلى القائد العام للقوات الفرنسية في الجزائر قال فيها: "في وقت غير بعيد، بعد أن يتم تحديد مستقبل الجزائر، سيبقى الجيش الفرنسي في الجزائر، ليضمن استمرار رسالة فرنسا الدائمة، ومن جملتها الدفاع المشترك عن فرنسا والجزائر ضد أي خطر.." هذه كلمات واضحة.. إنها تعني أن فرنسا باقية في الجزائر، وأنها باقية بعد أن يتحدد مستقبل الجزائر السياسي.. إن وزير الحربية الفرنسي يتكلم بكل ثقة واطمئنان عن رسالة فرنسا الدائمة في الجزائر.. وكل هذا الكلام، إذا كان له من معنى، فإنه إنكار تام لحرية الاختيار.. وأن يقول وزير الحربية إن الجيش الفرنسي باق بصورة دائمة على أرض الجزائر، إنما هو تهديد مباشر للشعب الجزائري، وإهدار كامل لحرية الاختيار.. ولكن أليس من حقنا أن نسأل وزير الحربية الفرنسية: ماذا يكون عليه الحال لو أن الشعب الجزائري، كما هو متوقع، قد اختار الاستقلال؟ واختار معه جلاء الجيش الفرنسي وإزالة القواعد العسكرية الفرنسية.. إنه من المسلم به أن هنالك أموراً كثيرة، لا بد أن تتناولها المباحثات الثنائية بين فرنسا والجزائر، ولكن كيف يمكننا أن نتصور أن تقرر فرنسا الآن أن لها رسالة أبدية في(1/116)
الجزائر؟ وكيف تسند فرنسا لنفسها بنفسها مهمة الدفاع عن الجزائر؟! مع أن الواقع أن الجزائر إذا كانت بحاجة إلى دفاع.. فإنه دفاع ضد فرنسا، وضد فرنسا وحدها..
أنتقل الآن يا سيدي الرئيس، إلى موضوع الساعة، وهو موضوع المفاوضات.. وأستطيع أن أبادر إلى القول، إن موقف الحكومة الجزائرية بهذا الصدد، تتجلى فيه الموضوعية والإيجابية والواقعية.. لقد أعلنت الحكومة الجزائرية عن استعدادها للدخول في مفاوضات مع الحكومة الفرنسية للاتفاق على الشروط السياسية والعسكرية لوقف القتال.. وإن الحكومة الجزائرية لا تطلب اعترافاً من فرنسا.. ولا تريد أن تفرض على فرنسا حلاً معيناً بذاته.. بل إنها لا تريد أن تبحث المستقبل السياسي للجزائر.. فأي اعتدال أكثر من هذا؟ كل ما تريده الحكومة الجزائرية أن تنشأ ظروف ديمقراطية صحيحة، يستطيع الشعب الجزائري بموجبها أن يعبر عن إرادته الحرة، بمحض مشيئته واختياره.
لقد اختارت فرنسا موقفاً لا أريد أن أنعطيه وصفه الذي يستحقه، حتى لا أعكر جو المناقشة العامة، يكفي أن أقول عنه إنه موقف فرنسي، وهذا الوصف يكفيكم لتعرفوا طبيعة هذا الموقف.. فلقد ألقى المسيو دوبريه رئيس وزراء فرنسا خطاباً في 15 أكتوبر أمام الجمعية الوطنية، حمل فيه على المفاوضات، لقد قال فيه وأنا أقتبس من كلامه: "إن هناك تناقضا كاملا بين المفاوضات السياسية من جهة، وحرية الاختيار من جهة أخرى، من النواحي القانونية والسياسية والمعنوية.. ولا يمكن أن يكون بيننا وبين الجزائر إلا وقف إطلاق النار، ولا شيء غير ذلك.. ولا يمكن أن تكون بيننا مفاوضات سياسية.." ولست أريد أن أفند هذه الأباطيل التي صدرت عن رئيس وزراء(1/117)
فرنسا بصورة مفصلة، وأنه خير لرئيس الوزراء أن لا يستند في حديثه إلى الأسانيد القانونية والسياسية والمعنوية في القضية الجزائرية.. فإن هذه الأسانيد هي بنفسها التي تظهر بطلان الدعوى الفرنسية، وسقوط مزاعمها على الأرض.. ليس هنالك تناقض بين المفاوضات السياسية وحرية الاختيار، إنما التناقض الفاضح أن تعطي فرنسا بيد، ثم تسلب باليد الأخرى، وأن تعرض فرنسا على الشعب الجزائري حرية الاختيار، ثم ترفض المفاوضات السياسية، وتفرض على المقاتلين الجزائريين أن يلقوا السلاح، ولا حديث بعد ذلك، ولا شيء بعد ذلك، إلا ما تختاره فرنسا، لا ما تختاره الجزائر.
ولم يكتف رئيس وزراء فرنسا بهذا الموقف يعلنه في الجمعية الوطنية في بباريس، ولكنه حرص على أن "يصدر" هذه البضاعة الفاسدة إلى قلب الجزائر.. ففي 26 أكتوبر وجه رئيس وزراء فرنسا رسالة إلى المقيم الفرنسي العام في الجزائر، قال فيها "ليس هناك مفاوضات سياسية بين الحكومة الفرنسية ومنظمات العصاة.. إن المفاوضات السياسية تتناقض تناقضاً أساسياً مع مبادئنا.. وعلى كل حال فإنه لا يمكن أن تكون هناك مباحثات مع العصاة، إلا بصدد الأمور العملية التي يفرضها وقف القتال "إنهاء الحرب، ومصير المقاتلين العصاة، وأسلحتهم ومنظماتهم".
وإن هذه الرسالة التي وجهها رئيس وزراء فرنسا، هي موقف فرنسي آخر خال من المنطق والعقل.. إن وقف القتال كما يفهمه رئيس الوزراء هو هدف بذاته لا وسيلة لهدف.. وإنكم لتعلمون أن وقف القتال إنما هو مرحلة تؤدي إلى مرحلة أخرى.. إنه مقدمة لتسوية سلمية يتوصل إليها الطرفان، باتفاق بينهما، ونتيجة لمفاوضات حرة تتم بينهما.. إن الحكومة الجزائرية، مدفوعة بروح الاعتدال، لم تفرض حلاً سياسياً معيناً، كشرط سابق(1/118)
للمفاوضات، وإنما تركت الأمر معلقاً بمصير الاستفتاء الشعبي.. ولكن الحكومة الجزائرية ليست مجموعة مت الخونة، لتقبل دعوة فرنسا للبحث في مصير "العصاة وأسلحتهم..." ليست القضية مصير "العصاة" ولا حتى موضوع سلامتهم.. إن الحكومة الجزائرية تصر على سلامة الإجراءات التي ينبغي أن تسيطر على الاستفتاء الشعبي.. وقد آن الأوان لأن تتجنب فرنسا الحديث مرة ثانية عن التناقض بين المفاوضات السياسية وحرية الاختيار، وأن لا تعود إلى الحديث الهراء عن الحجج السياسية والقانونية، والمعنوية، التي تتذرع بها فرنسا من حين إلى حين.. ولو أن الحكومة الجزائرية أرادت أن تعتمد على هذه الحجج لكان عليها أن تواصل الحرب إلى النهاية وأن تعلن.. لا مفاوضات إلا بعد الجلاء..
ولكن الحكومة الجزائرية بدلاً من أن تواصل الحرب، آثرت أن تغتنم هذه الفرصة القائمة لتبحث إمكانات الوصول إلى تسوية سلمية شريفة عادلة.. إن إصرار الحكومة الجزائرية على بحث الشروط اللازمة للاستفتاء الشعبي ليس موقفاً يقوم على العناد.. إنني لا أحسب أحداً منكم يرضى للحكومة الجزائرية أن توقف القتال قبل أن تتوافر هذه الضمانات..
إن هذا، أيها الزملاء، هو مصير شعب بكامله، ولا يمكن التهاون أو التفريط في أموره.. وأن أي رجل في فؤاده ذرة من العدل والإدراك السليم لا يمكن أن يطمئن إلى استفتاء شعبي، يجري تحت إشراف فرنسا، وفرنسا تعلن ليلاً ونهاراً أنها تريد إدماج الجزائر بفرنسا.. إن تجاربنا الماضية مع فرنسا تنهض دليلاً قاطعاً لتثبت رأينا.. فمنذ أن تولى الجنرال ديغول السلطة في فرنسا، تمت ثلاثة انتخابات في الجزائر.. في سبتمبر 1958 للاستفتاء على الدستور الفرنسي الجديد، وفي نوفمبر 1958 لانتخاب النواب في البرلمان(1/119)
الفرنسي، وفي أبريل 1959 لانتخاب المجالس البلدية.. لقد كانت هذه الانتخابات كلها تزويراً في تزوير. وأن الدلائل على ذلك أكثر من كثير، يكفي أن نشير إلى أن المسيو منديس فرانس رئيس وزراء فرنسا السابق قد وصف هذه الانتخابات بأنها "خطر على السلام، وخطر على الديمقراطية وليست لها قيمة حقيقية". وقد تساءل المسيو منديس فرانس بسخرية صارخة "هل يمكن لأحد أن يثق بهذه الانتخابات التي تسود الجزائر في الظروف الراهنة؟" أما المسيو جاستون ديفير الوزير الفرنسي السابق لشؤون أقاليم ما وراء البحار فقد علق بقوله "لن يكون هنالك حرية اختيار، ولا استفتاء شعبي، ولكن سيكون هنالك قرار مفروض.." وقد عقبت جريدة "كريتشن ساينس مونيتر" بقولها "إن أحداً في الجزائر وفي فرنسا لم يكن يشك في أن الجزائريين سيصوتون إلا نعم". وقالت جريدة واشنطون بوست "إنه يكون مؤسفاً حقاً أن يفسر الجنرال ديغول تصويت الجزائريين بأنه موافقة على استمرار السيطرة الفرنسية في الجزائر". وسأكتفي بهذا القدر من الاقتباسات وكلها تثبت بما لا يرقى إلى الشك أن حرية الاختيار، لا يمكن أن تمارس تحت الإدارة الفرنسية في الجزائر.
ولقد أصبحت الانتخابات الجزائرية مضرب الأمثال، تماماً كالعطور الفرنسية إنها كذلك تضرب فيها الأمثال.. حتى لقد شاع في الأوساط الصحفية والسياسية أن أفصح تعبير للطعن بالانتخابات المزيفة أن يقال عنها إنها "انتخابات جزائرية" وهذا وحده بالغ الدلالة..
وإن الحكومة الجزائرية، يا سيدي الرئيس، رغبة منها في أن تتجنب انتخابات تجري "على الطريقة الجزائرية" كانت دائماً مصرة على أن تشمل(1/120)
المفاوضات مع فرنسا موضوع الضمانات التي تكفل حرية الاختيار، وسلامة الاستفتاء الشعبي.
وقد أعلنت الحكومة الجزائرية مؤخراً، أنها عينت وفداً مؤلفاً من خمسة مندوبين للشروع في المباحثات مع الحكومة الفرنسية.. صحيح أن هذا الوفد مؤلف من الزعماء الجزائريين المعتقلين في قبضة فرنسا، ولكن هذه هي الفرصة لأن تظهر فرنسا حسن نيتها تجاه الشعب الجزائري. غير أن فرنسا قد أضاعت الفرصة، ورفضت اقتراح الحكومة الجزائرية، استناداً إلى أن الوفد الجزائري مؤلف من المعتقلين السياسيين.. ولكن يبدو أن فرنسا قد أرادت أن تذكر العالم بتلك الجريمة البشعة، جريمة القرصنة الجوية العالمية، حينما اختطفت الزعماء الجزائريين، وهم في طريقهم إلى تونس في مهمة سلام بصدد القضية الجزائرية.. ولست أريد أن أنبش تفاصيل هذا الحادث الغادر، وأثير غضبكم واستنكاركم، يكفي أن أذكر لكم أن الملك محمد الخامس، وهو أحد جنود التحرير في عصرنا الحاضر، قد قال يوم اختطف الزعماء الجزائريون، وكانوا ضيوفه، إن تلك الجريمة كانت أقسى عليه من خلعه عن العرش من قبل السلطات الفرنسية في أغسطس من عام 1953..
وكائناً ما كان الأمر، فليس لفرنسا عذر مشروع في رفض الوفد الجزائري، وإن تعيين الوفد الجزائري هو حق الحكومة الجزائرية، وليس من اختصاص الحكومة الفرنسية، أما أن أعضاء الوفد الجزائري هم في قبضة فرنسا رهن الاعتقال، فلا يصح أن يكون عقبه في سبيل مفاوضات السلام.. في جميع حركات التحرير، كانت المفاوضات تتم مع الزعماء الوطنيين الذين ينقلون سراعاً من المعتقلات إلى مائدة المفاوضات.. وما نهرو، ومكاريوس، ونكروما، وزغلول، إلا بعض الأمثلة النابضة على ذلك، وهنالك سابقة حية(1/121)
مع فرنسا نفسها، فقد دعت الحكومة الفرنسية كلاً من جلالة الملك محمد الخامس وفخامة الرئيس بورقيبة إلى المفاوضات مع فرنسا نيابة عن بلديهما، مع أنهما كانا في قبضة فرنسا.. ولذلك فإنه ليس فريداً أن تدخل فرنسا في مفاوضات مع الجزائر، على وفق الأسلوب نفسه. ولقد كان مدعاة للأسف حقاً، أن بعض الدوائر الفرنسية، قد وصفت تأليف الوفد الجزائري بأنه مداعبة خالية من الطرافة والذوق.. ولكن هذه الملاحظة بعينها هي مداعبة خالية من الأدب.. إن الشعب الجزائري لا يعيش حياته في فراغ، حتى يملأها بالدعابة، المليحة أو الممجوجة، ليس عند الجزائريين وقت للدعابة والتظرف.. إنهم الآن في شغل شاغل أمام أقدس واجب لتحرير وطنهم.. وليس في قلوبهم متسع للمزاح، وهم يخوضون حرباً طاحنة، هم عتادها وهم وقودها، إنهم يناضلون ليصلوا إلى حل شريف عادل، والأمر عندهم جد كل الجد، ولا مكان فيه للمزاح.
ولكن ما هو الدور الذي تستطيع أن تلعبه الأمم المتحدة في الدولة الحاضرة.. نستطيع أن نهنئ الأمم المتحدة على ما بذلته في الدورات الماضية من ضغط أدبي على فرنسا، لتحملها على إيجاد تسوية سلمية تتفق مع أهداف ميثاق الأمم المتحدة ومبادئه.. ونحن في هذه الدورة، نشعر بأننا اقتربنا من نهاية الشوط في القضية الجزائرية، وليس بعيداً أن الفجر يوشك أن تطل تباشيره، وأصبح واجبنا أن نشد شدة واحدة، وسواء في أقوالنا التي نعلنها، أو في القرارات التي مصدرها يجب علينا أن نقف بكل طاقانا نؤيد قضية التحرير... وأنا لا أريدكم أن تدينوا فرنسا، ولا حتى أن تمسوا كرامتها.. نحن نريد تأييد المبادئ، وعلينا أن لا نتخلف عن تأييد المبادئ.(1/122)
يجب علينا أولاً، أن ننظر إلى القضية الجزائرية على أن صاحبها شعب لا أفراد، وعلى أنها تتعلق بوطن واحد لا بمقاطعات متعددة.. يجدب أن نرفض أية فكرة لتجزئة الشعب، وتقسيم وطنه..
ويجب علينا ثانياً، أن نؤيد، من غير قيد ولا شروط، مبدأ تقرير المصير كحق طبيعي أصيل، ينبغي أن يمارسه الشعب الجزائري..
ويجب علينا ثالثاً، أن ندعو الفريقين للمبادرة إلى مفاوضات حرة، للاتفاق على الشروط السياسية والعسكرية لوقف إطلاق النار..
ويجب علينا رابعاً، أن نناشد الفريقين أن يتفقا على الضمانات الصحيحة التي تمكن الشعب الجزائري من ممارسة حقه في تقرير مصيره بملء إرادته، ومحض اختياره..
فإذا تبنت الأمم المتحدة هذه المبادئ الأربعة، كان لنا بأن نفاخر أن المنظمة العالمية قد نهضت بمسؤولياتها الدولية بصورة كاملة، وبصورة عاجلة للفريقين، فرنسا والجزائر.. أما بالنسبة للجزائر فلم تتردد لحظة واحدة في قبول كل قرار يصدر عن الأمم المتحدة متفقاً مع ميثاقها.. وفق بقي على فرنسا أن تذعن لمشيئة الأمم المتحدة.. إن الرئيس ديغول قد أوضح معالم الطريق، وحسناً فعل، ولكن الطريق مليئة بالعقبات والسدود، ونقاط التفتيش والمراقبة، والأسلاك الشائكة، وأن على فرنسا أن تخلي الطريق من هذه العوائق إذا كانت تريد من الشعب الجزائري أن يسير معها في بهذه الطريق..
والواقع أن على فرنسا أن تختار واحداً من اثنين، لاجتياز الأزمة ، الأول أن تعمل فرنسا على اتفاق مع الحكومة الجزائرية لوضع الضمانات الصحيحة التي تكفل استفتاء شعبياً حراً، والثاني أن تتولى الأمم المتحدة(1/123)
عملية الاستفتاء، إدارة وإشرافاً. إن الأمين العام الأمم المتحدة يستأثر بثقتنا واحترامنا جميعاً، فضلاً عن مقدرته وحصافته.. ونحن مطمئنون إلى أن الاستفتاء تحت إشرافه لن يكون على "الطريقة الجزائرية" التي وصفتها، ولكنه سيكون على "طريقة همرشلد" وفي هذا كفاية..
واسمحوا لي يا سيدي الرئيس ويا زملائي الكرام، أن أوجه من الأمم المتحدة نداء صادقاً إلى الجنرال ديغول.. إنه نداء يعبر عن عواطف جميع الشعوب المحبة للحرية والسلام.
وسيكون ندائي إليك، أيها الرئيس ديغول، مستمداً من أقوالك وأفعالك، إن كلمات الرئيس ديغول، كانت تتساءل دوماً لماذا هذه الحرب العقيم على أرض الجزائر؟؟ إن أعمالك البطولية في حرب التحرير الفرنسية هي بنفسها تناديك بأن تعترف للشعب الجزائري بحقه في الحرية والسيادة والاستقلال.. وإن الذين قادوا معارك التحرير مثلك، أيها الجنرال ديغول، ليسوا قليلين.. إنهم أبطال، ولكن أبطال قوميون مثلك، ولكن تاريخ هذا العصر يفتح ذراعيه ليستقبل بطلاً عالمياً، بطلاً عالمياً لا يعمل لحرية شعبه، ولكن لحرية شعب آخر... وإننا لنتمنى من صميم قلوبنا أن يكون الجنرال ديغول هو ذلك البطل العالمي، ليعترف بحق الشعب الجزائري في الاستقلال ويؤيد انضمامه إلى الأمم المتحدة.
إنني أوجه هذا النداء إلى الجنرال ديغول، لا لأن الشعب الجزائري قد أنهكه القتال وأضناه النضال، إن الشعب الجزائري، إذا لم تتم التسوية السلمية، مستعد لأن يواصل القتال إلى أن يرحل آخر جندي فرنسي من أرض الجزائر، إنه مستعد أن يواصل القتال غداً، كأنه بدأه اليوم. ولكني أوجه النداء من أجل وقف القتال، القتال الذي نعرف مصيره معركة أكيدة،(1/124)
ولا أريد أن أقول أنه سيكون هزيمة لفرنسا، بل الذي أؤثر أن أقول إنه سيكون نصراً للجزائر..
وأخيراً يا سيدي الرئيس، أريد، وأنا أختم بياني إليكم، أن أؤكد على حقيقة واحدة لا يخامركم فيها شك أو ريب.. إن الشعب الجزائري على تصميم لا يحول ولا يزول ، لتحقيق مطالبه الوطنية.. إن الشعب الجزائري يقف في ميدان المعركة وقفة صامدة باسلة وهو أشد ما يكون عزماً على مواصلة الحرب إلى أن يستعيد حريته واستقلاله.. ولكن إذا تهيأ للمفاوضات الحرة أن تكون بديلاً، فإن الشعب الجزائري مستعد أن يكبح جماح الحرب، وأن يجنح للسلم..
إننا لنرجو أن تسكت فرنسا من جانبها قعقعة السلاح لتتكلم لغة الحرب وصيحة الاستقلال.
إننا على أمل كبير أننا سنهنئ قريباً الجمهورية الفرنسية والجمهورية الجزائرية، عن طريق وفديهما، وهما يجلسان في هذه القاعة، وعلى نجاح مفاوضاتهما ووصولهما إلى اتفاق كامل بينهما.. وسيكون ذلك اليوم من الأيام المجيدة في تاريخ الأمم المتحدة..
نحن نتطلع إلى ذلك اليوم بدموع الفرح والابتهاج، لنكرس عهدا جديداً من الصداقة لا بين فرنسا والجزائر فحسب ولكن بين فرنسا وجميع الدول العربية.
ومن أجل ذلك اليوم فإننا نصلي..(1/125)
الشيخ كندي..
يتحدى الرئيس كندي
6 ديسمبر سنة 1960
ها نحن نواحه مرة ثانية مشكلة الجزائر، في الوقت الذي تواجه هي فيه ويلات الحرب، حرب الاستعمار التي تشنها فرنسا، وحرب التحرير التي يخوضها شعب الجزائر الباسل، وقد مضت على الأمم المتحدة ست دورات، وهي تبحث هذه المشاكل الملحة اللاهبة، بعد أن دخلت الحرب الجزائرية سنتها السابعة اعتباراً من أول نوفمبر عام 1960.
وليس من غايتنا، في هذه الدورة الراهنة، أن نضع أمامكم، النواحي السياسية والقانونية من قومية أو دولية للمشكلة الجزائرية. إذ على الرغم من أهمية هذه النواحي، فقد غدت من المواضيع التي جرى البت فيها نهائياً لمصلحة الجزائر، وضد فرنسا منذ أمد بعيد، ولا نرى ضرورة أيضاً لبحث طبيعة المشكلة ، أو اختصاص الأمم المتحدة للبحث فيها، إذ أن الفقه القانوني للأمم المتحدة، قد قضى قضاء نهائياً مبرماً في اختصاصها لبحثها. ونحن في الوقت نفسه، لا يهمنا كثيراً غياب فرنسا عن هذه الجلسة، على الرغم من أسفنا، إذ أن هذا الغياب لا يؤثر على المشكلة، ولا يمكن أن يحول بين الأمم المتحدة وبين تحملها لمسؤولياتها., ولقد تقررت الطبيعة الدولية، وللقضية(1/127)
الجزائرية منذ أمد بعيد، وغدا اختصاص الأمم المتحدة أمراً معترفا به، سيان من حضر أو تغيب. ولا ريب في أنه لو حضرت فرنسا، لأمكننا النقاش بصورة أوسع، ولكن غيابها، يسفر عن تحد أكثر شمولاً، ولا ريب في أن تصميمنا، على حمل مسؤولياتنا، سيقف أكثر من أي وقت مضى، ثبتاً غير متزعزع، ولا ينثني أمام مناورات فرنسا.
وقد استعملت هذه النعوت الثلاثة لتصميمنا، لا كتمرين على استعمال المترادفات اللفظية، بل لأؤكد عزمنا، بالتزاماتنا كمنظمة دولية، على دعم العدالة والحفاظ على السلم، وتأمين انتصار الحريات الأساسية وحقوق الإنسان. وقد استخدمت هذه النعوت لأؤكد مسؤولياتنا، ولأثبت التزاماتنا، ولأستعيد جوهر سجلاتنا" في هذه القضية. فلقد غدا للجزائر سجل في الأمم المتحدة، ولم تعد الأمم المتحدة بدون سجل عن الجزائر. والآن، علينا أن نعود بنظرة عابرة إلى هذا السجل.
ففي الخامس من يناير عام 1955، وجهت المملكة العربية السعودية رسالة إلى مجلس الأمن الدولي، لفتت فيه انتباهه إلى عمليات فرنسا العسكرية القاسية، التي تستهدف تصفية الثورة الوطنية في الجزائر، وطمس خصائص الحياة القومية والثقافية لشعب الجزائر. وعلى الرغم من خطورة الوضع، تلقى مجلس الأمن الرسالة، دون أن يتخذ أي إجراء بصددها., واستمرت الحرب في الجزائر، عنيفة، شديدة.
وفي السادس والعشرين من يناير عام 1955، طلبت أربع عشرة دولة إفريقية – آسيوية، هالها الوضع في الجزائر، إدراج قضيتها في جدول أعمال الدورة العاشرة للأمم المتحدة. وقد قررت اللجنة العامة عدم إدراج هذا الموضوع، ولكن الجمعية العامة عكست توصية لجنتها العامة.. وهنا انسحبت(1/128)
فرنسا من الجمعية العامة ومن لجانها الرئيسة. ثم أذعنت الجمعية العامة، لحساسية فرنسا، ولاعتبارات أخرى غير كريمة، وقررت عدم المضي في بحث القضية، وهكذا لم يعد هذا الموضوع على جدول أعمال تلك الدورة ، واستمرت الحرب في الجزائر على عنفها وشدتها..
وعندما ساء الوضع في حرب الجزائر كل السوء، تقدمت سبع عشرة دولة إفريقية آسيوية في الثاني عشر من أبريل عام 1956، إلى مجلس الأمن تلفت انتباهه إلى الوضع الخطر الذي يسود الجزائر، وتحذره من أن الحرب فيها تهدد السلام والأمن في المنطقة، وطلبت اتخاذ الإجراءات اللازمة لضمان احترام حق تقرير المصير وسائر الحقوق الإنسانية والجوهرية الأخرى. ولكن انتباه مجلس الأمن بقسين من غير انتباه. واستمرت الحرب قوية عنيفة.
وتقدمت ثلاث عشرة دولة إفريقية وآسيوية، في الثالث عشر من يونيو عام 1956، وقد أقلقها أشد القلق ما يدور من أعمال القمع في الجزائر، بطلب إلى مجلس الأمن ترجوه فيه عقد جلسة عاجلة لوضع حد للحرب الاستعمارية الفرنسية في الجزائر، ولكن مجلس الأمن رفض طلب التدخل .. واستمرت الحرب في الجزائر على شدتها..
وفي اليوم الأول من أكتوبر عام 1956، وكانت العمليات العسكرية مستمرة في الجزائر، وكان يصحبها الكثير من أعمال الإرهاب والتعذيب، قدمت خمس عشرة دولة إفريقية وآسيوية، بطلب لإدراج قضية الجزائر في جولة أعمال الدورة الحادية عشر. وقد أدرجت القضية في الجدول، وبحثت بحثاً عميقاً، واتخذت الجمعية العامة قراراً جماعيا، أعربت فيه عن أملها في إيجاد حل ديمقراطي سليم وعادل، بروح من التعاون، وبالوسائل المعقولة،(1/129)
ينطبق على مبادئ ميثاق الأمم المحتدة. ولكن فرنسا لم تأبه بقرار الأمم المتحدة. ولم يبد، في الجو، أمل في الوصول إلى حل ديمقراطي عادل شريف، واستمرت الحرب في الجزائر قوية عنيفة.
وفي السادس عشر من تموز يوليو عام 1957 تقدمت اثنتان وعشرون دولة إفريقية وآسيوية، وقد هالها موقف فرنسا،ت بطلب لإدراج قضية الجزائر في جدول أعمال الدورة الثانية عشرة. وقد أدرج الموضوع فعلاًُ، ودرست القضية من جميع نواحيها، واتخذت الجمعية قرارا جماعيا أعرب عن القلق الخطير الناجم عن الوضع في الجزائر، وسجل عرض الوساطة الذي تقدم به ملك المغرب ورئيس تونس.. وأكد الرغبة في إجراء محادثات بروح من التعاون الفعال، تستهدف الوصول إلى حل يتفق مع مبادئ ميثاق الأمم المتحدة وأهدافها... وتجاهلت فرنسا من جديد هذا القرار.. ولم يبد في الجو أمل في الوصول إلى حل على أساس الميثاق. واستمرت الحرب في الجزائر، ملتهبة مشتعلة.
وفي السادس عشر من يوليو عام 1958، تقدمت من جديد أربع وعشرون دولة إفريقية وآسيوية، وقد تأثرت بالتطورات المؤلمة في الجزائر، بطلب لإدراج القضية في جدول أعمال الدورة الثالثة عشرة. وقد أدرج الموضوع، ودرست القضية دراسة عميقة، وقدمت سبع عشرة دولة، مشروع اقتراح يشير إلى حق الشعب الجزائري في الاستقلال، وإلى استعداد حكومة الجزائر المؤقتة، للدخول في مفاوضات مع الحكومة الفرنسية، وحث القرار الفريقين على الوصول إلى تسوية، عن طريق التفاوض، تتفق وميثاق الأمم المتحدة، ولكن فرنسا لم تتقدم بأية خطة جديدة واستمرت الحرب في الجزائر، في عنفها وشدتها.(1/130)
وطلبت خمس وعشرون دولة إفريقية وآسيوية في العام الماضي، أي في الرابع عشر من يوليو عام 1959، في محاولة جديدة لوضع حد للحرب الاستعمارية في الجزائر، إدراج الموضوع في جدول أعمال الدورة الرابعة عشرة.. وقد أدرج فعلاً، ودرست القضية دراسة وافية.. وأقر مشروع قرار تقدمت به اثنتان وعشرون دولة، بأغلبية مطلقة في اللجنة السياسية، وعندما قدم إلى الجمعية العامة عدل بمشروع آخر أكثر اعتدالاً وهدوءاً، ولكنه هزم واستمرت الحرب في شدتها وعنفها.
وبسبب ظاهرة غريبة وفريدة في نوعها، ولا سابق لها في سجلات الأمم المتحدة منذ إنشائها، أود التوقف لحظة واحدة ، وأستميحكم عذراً في تلخيص ذلك القرار على مسامعكم ..
لقد استعاد مشروع القرار في مقدمته يا سيدي الرئيس ، قرارين سبق للأمم المتحدة أن اتخذتهما، كما استعاد المادة الأولى من الميثاق، وأعرب عن القلق من استمرار الأعمال الحربية في الجزائر. واعترف مشروع القرار فش شطره الرئيس، بحق الشعب الجزائري في تقرير المصير، وحث على إجراء محادثات للوصول إلى تسوية سلمية على أساس حق تقرير المصير، وطبقاً لمبادئ الميثاق. ولم يكن المشروع في شكله أو مادته، وفي مقدمته أن نصه الرئيس، إلا تكراراً لكلمات الميثاق، ولسياسة فرنسا في الجزائر كما أعلنها الرئيس ديغول؟.
وهكذا كان مشروع القرار، بسيطاً، وصريحاً وبريئا. ولم ينطو على أي استنكار لموقف فرنسا، كما لم يحتو على أية إشارة مهينة لها. وكان من الواجب، إقرار مثل هذا المشروع في ألأمم المتحدة، لو كانت المنظمة تستمد وحيها وإلهامها من الميثاق ليس إلا، وأن يكون إقراره مشفوعاً بالتصفيق(1/131)
والحماس. أجل كان من الواجب إقراره لا بالاقتراع فقط، بل وبالهتاف أيضاً.. ولكنه هزم مع ذلك، يسجل، في هزيمته، هزيمة للأمم المتحدة نفسها، وللمبادئ السامية التي ينطوي عليه ميثاقها. وستقيم الأحداث الدليل القاطع، على أن هذه الهزيمة عارضة، لأن النصر النهائي سيكون إلى جانب الحرية مهما غلت التضحيات، ومهما طال أمد الصراع.
ولكن الطريقة، التي هزم فيها مشروع القرار، أكثر بعثاً للأسى والألم، فعند الاقتراع عليه، فقرة فقوة، أقرت الجمعية العامة، بأغلبية تفوق أغلبية الثلثين المطلوبة ، الفقرات كلها. ولم يقترع إلا صوت واحد ضد حق الشعب الجزائري في تقرير مصيره. ونالت الفقرة التي تدعو إلى عقد محادثات للوصول إلى حل سلمي على أساس تقرير المصير، ثمانية أصوات تزيد على أغلبية الثلثين المطلوبة. ولكن عندما جرى الاقتراع على مشروع القرار بكامله، وقعت المشكلة المحيرة، فقد هزم القرار الذي قبل فقرة فقرة!!
ومثل هذه الهزيمة، يا سيدي الرئيس، لا تدعو إلى الأسف فحسب، بل تثير الاشمئزاز والاستنكار.. وقد زعم الوفد الفرنسي في الأمم المتحدة، في بيان رسمي، أصدره بعيد الاقتراع، أن هزيمة مشروع القرار، كانت نتيجة، "الخطط والتعاون بين فرنسا ومجموعة من أصدقائها". ومن المعقول في المشاكل ذات الطبيعة العادية، سواء أكانت سياسية أو غيرها، أن تلجأ دولة عضو إلى إحباط مشروع قرار بخططها وأساليبها. فأساليب الاقتراع مقبولة.. ومناورات الإجراءات قد يتساهل بها، أما في القضايا ذات الأهمية الدولية الخطيرة، فلا يمكن التسامح بمثل هذه المناورات. هذا هو قانون الإجراءات البرلمانية، وحسن السلوك. واستخدام الأساليب والمناورات لهزيمة قرار يستند إلى فقرة في الميثاق، ليس بالمحاولة اللائقة الكريمة، ولا ريب في أن(1/132)
قيام فرنسا بهزم قرار يستند إلى سياسية فرنسا، وإلى بيانات رئيسها العظيم الجنرال ديغول، خطة تتناقض مع شرف فرنسا ومع كرامة الأمم المتحدة.
ومن حقنا أن نوجه سؤالاً عن الأساس الذي أدى إلى هزيمة مثل هذه المحاولة لإحلال السلام، وعن كيفية فشل نداء يدعو للتفاوض، وفي وسعي أن أقول، دون أن أكون مجافياً للدماثة في بقولي يا سيدي الرئيس، وبدون أي إطراء أو مديح، بل بمنتهى الصراحة والإخلاص، إن الدول الغربية، هي التي تولت في الدورة السابقة قيادة الأمم المتحدة إلى هاوية ذلك الموقف الباعث على الأسى والأسف. وبدلاُ من أن تثبت إدعاءها بالتعلق بالحرية، وجهت إليها ضربة قاصمة، وبدلا من الذود عن حياض الديمقراطية، اختارت تأييد سياسة تقوم على النفاق.
فلقد اتبعت الدول الغربية، طيلة المناقشة، مع استثناء بعض الدول الكريمة منها، خطأ واضحاً ومحدوداً من الدفاع، وكانت هناك خطة واضحة لرد الحجج الاستعمارية، لم تكن وليدة صدفة عارضة مطلقاً، بل حسرت النقاب عن دلائل إستراتيجية واحدة، فضحها الوفد الفرنسي بعد أن حققت الخطة أهدافها تماماً طبقاً لما هو متفق عليه، إذن حسناً، فعلينا الآن أن نستعرض ولو لحظة واحدة، أين نقف في الوقت الحاضر؟
وكما سبق لي أن أوضحت في هذه اللجنة في العام الماضي، أن قضيتنا في الجزائر، بسيطة، وواضحة أجلى وضوح. فقد فهمنا البيان الذي أصدره الرئيس ديغول في السادس عشر من سبتمبر عام 1959، والذي اعترف فيه بحق شعب الجزائر، بتقرير مصيره، وعلى الرغم من بعض المنافذ في هذا البيان، من هنا وهناك، المصحوبة ببعض الجيوب الخطرة، التي أخفيت تصورة ماكرة بين الأسطر، إلا أن حكومة الجزائر المؤقتة(1/133)
وجدت فيه خطوة، في الاتجاه السليم، بعد أن اعترف بحق تقرير المصير كحق طبيعي للشعب الجزائري. وأعربت الحكومة الجزائرية أيضاً عن استعدادها للتفاوض مع فرنسا على الشروط والضمانات، وبينها وقف إطلاق النار، التي تمكن الشعب الجزائري من أن يقرر بحرية مصيره المقبل. ولا ريب في أن هذا الموقف من جانب الحكومة الجزائرية في منتهى الاعتدال. ولم تصر حكومة الجزائر على الاستقلال الفوري، ومع أن هذا حق من حقوقها. ولم تصر أيضاً على الاعتراف بها اعترافاً واقعيا أو قانونياً كاملاً .. ولم تطالب بأية امتيازات سياسية، كما لم تقترح أي نظام، أو شكل حكم، أو دستور معين، ولكنها أعلنت على النقيض من ذلك بمنتهى الصراحة، أن مستقبل الجزائر يجب أن يترك إلى الشعب الجزائري نفسه ليقرره.. وقد أعلنت حكومة الجزائر يوم قيامها أن المصير السياسي للجزائر سيضعه شعب الجزائر نفسه. ولهذا فقد أطلقت على نفسها أسم حكومة الجزائر المؤقتة، وهذا يفسر أيضاً قبولها بسياسة الرئيس ديغول الرامية إلى إعطاء شعب الجزائر، حرية الاختيار.. ولما كانت الحكومة الجزائرية واثقة من رغبة الشعب الجزائري، فقد وافقت على مبدأ حرية الاختيار. وإذا ما آثر الشعب الجزائري الاستقلال، فإن اختيارها سيكون الاستقلال، أما إذا آثر الاندماج مع فرنسا، فستختار الاندماج، وإذا آثر الاتحاد الائتلافي "الفيدراسيون" مع فرنسا فستؤثر الاتحاد أيضاً. وقد أعلنت حكومة الجزائر ارتباطها بما يختاره الشعب. وكل ما تطلبه، أن يكون الاختيار حراً، وأن يتم في ظروف تضمن حريته. وقد أعلنت الحكومة الجزائرية، رغبة منها في خلق هذا الجزء من الحرية، استعدادها للتفاوض مع فرنسا على الخطوات الضرورية الواجب اتخاذها في هذا السبيل، وبينها وقف إطلاق النار.(1/134)
هذه هي القضية الجزائرية بحذافيرها، كما أعلنتها حكومة الجزائر وكما نقلتها الوفود الإفريقية والآسيوية إلى هذه اللجنة الموقرة في العام الماضي.
فما هي قضية فرنسا يا ترى؟ لقد قدمت فرنسا قضيتها أولاً وراء الستار. فقد آثرت فرنسا التغيب عن كتلك الجلسة، كما تتغيب اليوم عن جلستنا هذه. ولقد كانت فرنسا طيلة دورات ست، تتأرجح بين الحضور والغياب، وبين الاعتراف بصلاحية الأمم المتحدة، وإنكار هذه الصلاحية.. ولقد أشار الرئيس ديغول، حتى بعد افتتاح هذه الدورة إلى هذه المنظمة بأنها "ما تسمى بالأمم المتحدة" ويبدو أن فرنسا في حاجة إلى من يذكرها بأنها عضو في هذه المنظمة "المسماة بالأمم المتحدة"، وأنها عضو دائم في مجلس أمنها. ونحن نوافق الرئيس ديغول، في أن الأمم المتحدة قد فشلت في أكثر من ناحية وفي أكثر من وقت. ولكننا إذا أردنا تعداد الأسباب التي أدت إلى هذا الفشل، تحتم علينا أن نضع تحدي فرنسا في مقدمتها. وإذا أردنا أن نضرب مثلاً واحداً على ذلك قلنا أن فرنسا قد تحدت، في قضية الجزائر، ميثاق الأمم المتحدة والتزاماتها تجاه هذا الميثاق. وليست مشكلة الجزائر، بالحديثة العهد، فهي كقضية استعمارية، مشكلة قائمة منذ أكثر من مائة وثلاثين عاماً، وقد طال أمد الحرب فيها أكثر من خمسين عاماً، ويكفي أننا اختلفنا مع فرنسا في هذه اللجنة طيلة السنوات الست الماضية في ثلاث قضايا، وهي التهدئة والانتخاب والتفاوض، وأيها يجب أن يكون الأول، وأيها يجب أن يكون الثاني أو الثالث.
ومهما يكن فلقد كانت خطة فرنسا الإستراتيجية في الدورة الماضية، كما نفذها أصدقاء فرنسا ومؤيدوها، مدمرة، بالإضافة إلى ما فيها من غرابة(1/135)
وقتام. ولقد أصرت الدول الغربية على وجوب إعطاء فرنسا الوقت التنفيذ سياستها المرتكزة على تقرير المصير. وقد وجهت هذه الدول، في عبارات متشابهة، النداء تلو النداء، بأن لا نغضب فرنسا، وأن لا نستثير مشاعرها. وأن لا نزعجها لأنها أم الديمقراطية، وقد حثتنا هذه الدول أيضاً على تصديق فرنسا، وعدم إرباك الوضع الدقيق الحساس. كانت هذه النغمة هي المسيطرة طيلة الدورة، ونحن نذكر أن مندوب المملكة المتحدة قد أعلن بأن أية كلمة متسرعة، قد تؤثر على الوضع، وأن السبيل الوحيد الذي يجب إتباعه، هو عدم اتخاذ أي قرار. وحثت الولايات المتحدة بدورها على ضبط النفس، وأكدت وجوب اتخاذ سبيل في العمل، ينطوي على عدم العمل. وأعلنت استراليا في تأييدها لسياسة عدم اتخاذ أي قرار، أن ثمة أخطاراً في استباق الأحداث، وأن أي قرار قد نتخذه، ولا ترضى به فرنسا، لن يكون مجدياً. وأيدت إيطاليا بدورها وجوب تجنب الأمم المتحدة اتخاذ أي إجراء قد يعرقل فرص الوصول إلى وقف إطلاق النار وإلى حل مبكر للمشكلة.
وكان هذا هو الإطار الذي وضعت فيه الخطة الإستراتيجية لدول حلف الأطلنطي، وفي منع الأمم المتحدة من اتخاذ عمل كريم، وإلزامها بتخاذل مخضب بالدماء. وقد وصفت هذا التخاذل، بالتخضب بالدماء لأن سفك الدماء وكما زال هو الأمر اليومي في الجزائر، فالحل لم يوضع، ووقف إطلاق النار لم يحدث، والحاصد العبوس للحرب ما زال يحصد الأرواح دون تمييز بين رجل وامرأة وطفل، وبين فرنسي وجزائري، وبين عسكري وجندي.
وإذا ما استعرضنا سير مناقشاتنا في العام الماضي، ولكن بضمير حي، وعقل متفتح، فعلينا جميعاً أن نأسف لسياسة التخاذل، التي سيقت الأمم(1/136)
المتحدة إليها، أو ضللت لاتخاذها ، وإذا شئنا الصراحة في التعبير، وأنا أطالب فرنسا بالندامة، إذ أن الندامة لن تبعث الألوف من الأرواح التي فقدت سواء أكان أصحابها من الفرنسيين أم من الجزائريين. ونحن نحزن لموت الفرنسي أيضاً، فهم إخوان لنا في الإنسانية، ومما يؤسفنا أشد الأسف أنهم يموتون في سبيل قضية غير كريمة.
وهكذا يا سيدي الرئيس، ولولا هذا العناد الذي بدأ من دول حلف الأطلنطي تأييداً لسياسة التخاذل أو عدم العمل، لكان في الإمكان حل مشكلة الجزائر، ولكان عام 1960 سنة سلام بدلاً من أن يكون، كما نشهده، سنة حرب، بكل ما تنطوي عليه الحرب من شقاء وثكل ودمار. ولقد دخلت الحرب الجزائرية في الأول من نوفمبر المنصرم، أي قبل خمسة أسابيع فقط، سنتها السابعة، وقد تحدث رئيس وزراء حكومة الجزائر بهذه المناسبة إلى الشعب الجزائري مخاطباً إياه بالكلمات التاريخية التالية:
"ستدخل حرب الجزائر غداً، في الأول من نوفمبر عام 1960 سنتها السابعة.. وستستمر الحرب في سبيل التحرر والاستقلال، مع كل ما تجره في ذيلها من آلام وتضحيات.. ولكن في إمكان إعلان السادس عشر من سبتمبر عام 1959 أن يكون أساساً لحل سلمي للصراع، وأن يكون عام 1960، سنة سلام" وقد اقتبست هذه العبارة من خطاب رئيس وزراء الجزائر، لا لأضع المسؤولية حيث يجب أن تكون، بل لأؤكد أنه بالنسبة إلى الجزائر، لم يكن عام 1960 سنة سلام، بل سنة حرب. والسبب الوحيد في هذا هو أن الأمم المتحدة تراجعت إلى سياسة التخاذل، وتنكرت لواجبها، وتخلت عن مسؤوليتها. ولكن ما يهمنا في الوقت الحاضر، هو أن نستخلص عبرة من(1/137)
الماضي، بالنسبة إلى المستقبل، وأن نجعل من عام 1961، سنة سلام، لا سنة أخرى في تقويم الحرب.
وعندما أتحدث متدفقا بالحماس والعاطفة في هذه القضية، لا أشعر بأن من واجبي الاعتذار عن حماستي، فالقضية ليست مجرد موضوع سياسي عادي. فالحرب في الجزائر هي الحرب الوحيدة في العالم التي تدور في عصر الأمم المتحدة ، وهي دائرة على أشدها، وخطرها يهدد السلام العالمي بكامله. وقد بلغت الآلام الإنسانية في الجزائر، طيلة سنوات عدة، حداً يفوق التصور، وفقي عام 1945، وكان العالم يحتفل بيوم النصر، قامت جماعة من الجزائريين بمظاهرة سلمية تطالب بتطبيق مبادئ شرعة الأطلنطي على الجزائر، فشن الفرنسيون حملة من القمع والإرهاب أسفرت عن مصرع خمسة وأربعين ألف جزائري.. ولم تنف فرنسا نبأ المذبحة، ولكنها زعمت أن رقم الضحايا مل يكن صحيحاً! وهنالك اليوم أكثر من مليون ونصف المليون من الجزائريين، حشرهم الجيش الفرنسي بالقوة في المعسكرات، وهم يواجهون الآن خطر الموت جوعاً، أما بالنسبة إلى ما فرضته الحرب من جزية، فيقدر الخبراء العسكريون، أن مجموع خسائر الفرنسيين قد بلغ زهاء المائة ألف، وأن ضحايا الجزائريين يفوقون هذا العدد كثيراً، وتقدر خسائر فرنسا المادية، من الناحية المالية، بأكثر من ثلاثة ملايين دولار في كل يوم. وإذا ما تطلعنا إلى الحرب الجزائرية من ناحية تأثيرها على الاستقرار السياسي في فرنسا، وجدنا أنها قد وجهت إلى هذا الاستقرار ضربة قاصمة، فمنذ بداية الحرب شهدت فرنسا سبع حكومات وجمهوريتين ودستورين!! وقد أدت الحرب من الناحية الاقتصادية إلى عدد من تدابير تخفيض النقد التي لم يعلن عنها، والى كثير من الإفلاسات التي لم يذع أمرها، وإنني أعرض جميع(1/138)
هذه الحقائق، لكي يتمكن كل فرد من التفكير. وعلى أصدقاء فرنسا بصورة خاصة، أن يبذلوا كل جهد، لإخراج فرنسا من هذه الحرب المدمرة، إذا كانوا حقاً يسهرون على مستقبل فرنسا ورفاهيتها ..
ولكن أصدقاء فرنسا، من دول حلف ألأطلنطي، قد شاؤوا لسوء الحظ، أن يقحموا أنفسهم في تناقض غريب. فهم في الأمم المتحدة، يتبعون سياسة تقوم على عدم اتخاذ أي قرار،أي سياسة عدم العمل والتخاذل.أما في خارج الأمم المتحدة، فيتبعون سياسة من التقرير والعمل، فلقد قدم، ضمن نطاق حلف ألأطلنطي، كل نوع من أنواع ألمساعدة لفرنسا، لمواصلة حربها ألاستعمارية، الحرب التي تشنها لإعادة احتلال البلاد، وهزم قضية الحرية، التي يبذل شعب الجزائر في سبيلها زهرة شبابه.
وإذا أردنا الحديث عن دور حلف الأطلنطي في حرب الجزائر،فعلينا أن لا نقصر حديثنا على التعميم، فمن الواجب اطلاع الأمم المتحدة على حقائق هذه المساعدة، لسبب واحد واضح، وهو عدم السماح لحلف ألأطلنطي بتحطيم المثل الرفيعة للأمم المتحدة، ولا ريب في أن الحقائق أكثر بساطة من أن تذكر وتعد.
فلقد تمكنت فرنسا، بفضل الفرق الثلاث التي وضعتها تحت تصرف حلف ألأطلنطي في أوروبا، من تجهيز جيشها بمعدات حلف ألأطلنطي، قبل إرساله إلى مسارح العمليات العسكرية في الجزائر بموافقة دول ألأطلنطي. وهكذا وجد الشعب الجزائري نفسه يحارب فرقتين فرنسيتين في شرق بلاده وفرقة أخرى في الغرب، وهي فرقة المشاة المدرعة والفرقة الآلية السريعة السابعة وفرقة المشاة المدرعة الرابعة.(1/139)
وجميع معدات الحرب في الجزائر، حتى معدات الوحدات الصغيرة ، والمستشفيات، كلها من معدات حلف ألأطلنطي، ويقيم المدربون العسكريون الأمريكيون في الجزائر، أما قطع الغيار، فهي أمريكية الصنع، ويتم تدريب الطيارين الفرنسيين الذين يعملون في الجزائر تحت إشراف حلف الأطلنطي .
... وقرر الحلف، في الخامس والعشرين من يوليو عام 1955، إعطاء الأولوية لفرنسا في تجهيز طائرات الهيلوكبتر من طراز سيكورسكي, وذلك للعمل في الجزائر.
وطلبت الحكومة الفرنسية في مارس عام 1956، خمسين طائرة من طائرات الهيلوكبتر من الولايات المتحدة، وقد ذكرت صحيفة لموند الفرنسية أن القصد من هذه الطائرات العمل في الجزائر، وهذه الطائرات من ذوات المحركين وتسمى "بالموز الطائر" أو "حصان الشغل" وقد خصصت للعمل في جيش أمريكا وأسطولها، وأطلق عليها اسم H-2 وقد سلمت الشحنة الأولى منها لفرنسا في يونيو عام 1956.
وقدرت مشتريات فرنسا من الأسلحة من الولايات المتحدة في عامي 1957، 1958، ولا سيما للعمليات الجوية بما يعادل خمسمائة مليون دولار تقريباً.
ووافقت الولايات المتحدة في يونيو عام 1959 على أن تبيع للجيش الفرنسي في الجزائر، خمساً وعشرين طائرة ثقيلة من طائرات الهليوكبتر، وعددا غير محدد من الطائرات المحاربة من طراز (تي 28) التي تحتاجها فرنسا للعمل في الجزائر.
وسلمت الولايات المتحدة إلى فرنسا في يناير عام 1960 ستين طائرة من طراز (تي 28) كما طلبت فرنسا مؤخراً ستاً وتسعين طائرة أخرى.(1/140)
وأوقفت فرنسا أثناء الحرب الجزائرية، وخلافاً للقانون البحري الدولي، عام 1959 نحواً من 41300 باخرة، وفتشت 2565 وأرغمت 83 منها على تحويل اتجاهها، والفضل في ذلك كله يعود إلى حلف الأطلنطي. ويقوم الأسطول الأمريكي، الذي يعمل باستمرار في البحر الأبيض المتوسط، بتقديم خدمات الرادار اللازمة لفرنسا في هذه العمليات.
وتقوم طائرات أمريكا البحرية في البحر الأبيض المتوسط بتقديم عونها، بالإضافة إلى كل هذا، إلى فرنسا، وقد وضعت أمريكا اثنتين من حاملات طائراتها التي تزن (11) ألف طن تحت تصرف فرنسا، وهما تشتبكان في حرب الجزائر، وقد تبين أن غارات الفرنسيين على ساقية سيدي يوسف التي جرت يوم الجمعة في الثامن من فبراير عام 1958، والتي حقق فيها مجلس الأمن الدولي، قد تمت بطائرات أمريكية الصنع من طراز (بي 26).
ولقد أعلن المستر دوغلاس ديلون، سفير الولايات المتحدة السابق في باريس، "أن استخدام المعدات الأمريكية ضد ساقية بن يوسف لا يمكن التسامح به أو غفرانه"..
واعترف المستر ديلون بصدد الأسلحة الأخرى التي استخدمت في هذه المذبحة، بأن بقض هذه الأسلحة كان من التجهيزات العسكرية التي قدمتها الولايات المتحدة إلى فرنسا ضمن نطاق حلف الأطلنطي. أما البعض الآخر فكان ملكاً خاصاً لفرنسا.
وقد رفعت دائرة الحسابات العامة الأمريكية في تقرير لها إلى لجنة الشؤون الخارجية في مجلس الشيوخ الأمريكي، أرقاماً تتناول مساهمة أمريكا وحلف الأطلنطي في الأعمال العدوانية الفرنسية ضد الشعب الجزائري، وقد(1/141)
ذكرت هذه التقديرات " كميات هامة" من الأسلحة الأمريكية قد أرسلت من فرنسا إلى الجزائر.
وقد دارت جميع هذه الوقائع يا سيدي الرئيس، باطلاع حلف الأطلنطي الكامل، وأود أن أقول، باشتراكه أيضاً. ولقد أصدر مجلس الحلف بلاغاً رسمياُ في السابع والعشرين من مارس عام 1956 جاء فيه:
"لقد استمر مجلس حلف الأطلنطي في الاطلاع على ما أجرته فرنسا من تخفيضات في القوات التي وضعتها تحت تصرف الحلف، ودرس المجلس الوضع الناجم في أوروبا عن هذه التحركات العسكرية، وقد أخذ المجلس بعين الملاحظة أن فرنسا تعتبر من الضروري حرصاً على أمنها الخاص، زيادة القوات الفرنسية في الجزائر، وهي جزء من المنطقة التي يشملها الحلف باختصاصه، ويعترف المجلس بأهمية الأمن في هذه المنطقة لحلف شمال الأطلنطي".
أما بالنسبة إلى العون المادي الذي قدمه حلف الأطلنطي إلى فرنسا، والذي قدمته الولايات المتحدة بصورة خاصة، فيكفي أن نلاحظ أن نفقات الحرب في الجزائر تحسب جزءاً من إسهام فرنسا في "الدفاع المشترك". وهذه حقيقة ذات أهمية رئيسة، إذ تقيم الدليل على مسؤولية حلف الأطلنطي الخطيرة في الحرب الجزائرية، فالنفقات الحربية التي تصرفها فرنسا على أعمالها في الجزائر، هي جزء على كل حال من نفقات حلف الأطلنطي.
ومن المهم أن نلاحظ أنه في الثلاثين من يناير عام 1958، منحت الولايات المتحدة (665) مليوناً من الدولارات لفرنسا وبعض بلاد دول حلف الأطلنطي. وقد أكد الوفد الفرنسي الذي جاء إلى واشنطن للحصول على هذا العون، في مذكرته، النتائج المالية الخطيرة للحرب في الجزائر.(1/142)
وهكذا في وسعنا أن نقول يا سيدي الرئيس، بكل اطمئنان إن الحرب في الجزائر، كانت الشيء الوحيد الذي حققه حلف الأطلنطي منذ إنشائه، ولقد ذكر أن الخطط العسكرية التي وضعها الحلف للدفاع عن مجموعة دول شمال الأطلنطي، كانت فاشلة، فما زال النقاش يدور حول المواقع التي يجب أن تكدس فيها القنابل النووية، وحول من يمكنه إطلاقها، ومتى يمكن إطلاقها. ولم يحقق الحلف في ميدان التعاون الاقتصادي أي تقدم بسبب الاصطراع في المصالح والتنافس على الأسواق والمواد الأولية. وهكذا فإن النجاح الوحيد الذي حققه الحلف هو مواصلة الحرب الاستعمارية في الجزائر، والسبب في هذا، على حد تعبير أندريه فونتين، المعلق المعروف في صحيفة لموند، "إن حلف الأطلنطي، قد أصبح اتحادا لأولئك الذين يحنون إلى الاستعمار، ولأولئك الذين لا يحلمون، على الرغم من مزاعمهم الإنسانية، إلا بالدفاع عن امتيازاتهم، وتوسيعها"..
ولا تفقه فرنسا، على أي حال، اشتراكها في حلف الأطلنطي، إلا عن طريق الجزائر، والجزائر وحدها. فالنظرية الفرنسية تقول بأن على جميع الدول الأعضاء في الحلف، تأيد موقف فرنسا في قضية الجزائر، دون شرط أو تحفظ أو سؤال. ولقد ذكر رئيس الوزراء الفرنسي السابق فيليكس غايار، أن من الخيانة من جانب الدول الأعضاء في الحلف، أن يتخلوا عن تأييد فرنسا في قضية الجزائر، ولقد قال: "إن منن غير الممكن أن يكون الإنسان حليفا ًفي مكان ما، وأن لا يكون هذا الحليف في نفس الوقت وفي كل مكان آخر". وتذكرني هذه الأقوال يا سيدي الرئيس بالفلسفة النازية، على الرغم من أن فرنسا كانت من أول ضحاياها. فعلى البوابة الرئيسية لأحد معسكرات الاعتقال النازية في الحرب الكونية الثانية، كانت هناك جملة منقوشة تقول(1/143)
"إنني مع بلادي، سواء أكانت على حق أو على غير حق".. وهذه هي الحال مع فرنسا بالنسبة إلى حلف الأطلنطي، فهي تريد منه أن يؤيدها، سواء أكانت على حق أو على باطل.
والحقيقة المجردة تبعاً لذلك، أن الولاء لحلف الأطلنطي، أصبح هو المفضل على كل شيء، إن خطأ وإن صواباً. وقد غدا الولاء للحلف يحتل مكان الصدارة، حتى بالنسبة إلى الأمم المتحدة التي بات الولاء لها في المؤخرة. وعندما اقترعت اليونان وأيسلندة ببسالة في عام 1955 إلى جانب إدراج القضية الجزائرية في جدول أعمال الأمم المتحدة تولى السيد هنري سباك، الأمين العام للحلف، توبيخ البلدين على سلوكهما في الأمم المتحدة، فقد أعلن في حديث صحفي لجريدة "الشعب" الفرنسية ما نصه "أن مفهومي عن الحلف هو أن من واجب دوله على الأقل، أن تحاول تنسيق سياساتها الخارجية، وأنا لا أستطيع أن أصدق كيف يمكن لدول أن تعقد حلفاً بينها لتشترك في القتال، في الحرب، إذا كانت لا تستطيع أن تحيا مع بعضها بانسجام في أوقات السلام". ولا ريب في أن هذا الموقف في منتهى الخطورة، إذ أنه يعني أننا إذا كنا لا نستطيع الاقتراع معاً والتصويت معاً، فإننا لا نستطيع أن نحارب معاً!!
وهكذا يا سيدي الرئيس فإن مشكلة الجزائر، تعري حلف الأطلنطي تمام العراء ، بميثاقه ونشاطه، وسلوك أعضائه، وأرى لزاماً علي أن أقول إن بعض أعضائه، قد عزلوا أنفسهم عن بعض هذه الجرائم. ولا ريب في أن هؤلاء يستحقون بالغ ثنائنا وجزيل إعجابنا. ولقد أثبتت الحرب الجزائرية، أن حلف الأطلنطي مناوئ للأمم المتحدة فالولاء للحلف يقاس بسلوك أعضائه في الأمم المتحدة. وعلى الدولة العضو أن تقترع في الأمم المتحدة إلى جانب(1/144)
سياسة دول الحلف الأخرى، وإلا فإنها تلقي اللوم والتوبيخ، وقد تتعرض للحرمان أيضاً، والحرمان في حاضرنا لا يعن الطرد من الكنيسة وإنما يعني وقف المساعدات العسكرية والاقتصادية. ومثل هذا الوضع يؤلف خطراً مباشراً على الأمم المتحدة، وتهديداً لسلامة إجراءاتها. وإحباطاً خطيرا لرسالتها النبيلة في الحفاظ على الأمن والسلام.
وأود أن أقول أكثر من هذا، وأن أذكر أن حلف الأطلنطي بإتباعه هذه السياسة في الجزائر، يتنكر لأهدافه التي سبق له الإعلان عنها. فالمفروض في الحلف كما زعم مؤسسوه، أن يتوخى الدفاع عن الحرية والديمقراطية. وق أثبتت حرب الجزائر أن الحلف يشن حربا عدوانية ضد الحرية والديمقراطية. وقد قيل أكثر من مرة أيضاً إن الغاية من الحلف الدفاع عن العالم الحر، ولكن الأعمال الفعلية لا مجرد القوال الطنانة الرنانة، قد أثبتت أن الحلف منظمة عدوانية ، وأن العلام "الحر"، متحرر حقاً ولكن من الحرية. وعندما وضع مشروع حلف شمال الأطلنطي للمرة الأولى أراد الرئيس ترومان، إقناع الكونغرس الأمريكي بوجاهة الفكرة ، فقال: إننا نلقى العون من جميع أولئك الذين يحكمون أنفسهم بأنفسهم، والذين يريدون أن يكون لهم صوت في إدارة شؤونهم.. وأن حلفاءنا سيكونون أولئك الملايين من الناس، الذين يتضورون جوعاً ويظمئون عطشاً للعدالة . فهذه هي الفكرة التي أنشئ حلف الأطلنطي من أجلها. وهي أن يكون حصناً للعدالة، وأن يلتف حوله جميع أولئك الذين يتضورون جوعاً ويظمأون عطشاً للعدالة. وقد أثبت تاريخ الأمم المتحدة في هذه الحقبة، حقيقة ما في هذه الأهداف المعلن عنها للحلف من إخلاص وصدق وأصالة!! وفي جميع القضايا الاستعمارية التي تولينا دراسها، وفي طليعتها قضية الجزائر، ظهر حلف الأطلنطي(1/145)
بمظهر الصديق الأول للاستعمار، العدو الأكبر للحرية، ولقد كان الرئيس ترومان صادقاً عندما تحدث عن الجوع والظمأ في حلف الأطلنطي، ولكنه جوع إلى الاستعمار، وتعطش إلى التوسع. ولا ريب في أن قضية الجزائر تقف خير دليل على ما أقول، وإذا كان النهار في حاجة إلى دليل..
ولهذه الأسباب، يا سيدي الرئيس، التي تختص بسيادة الجزائر القومية وبالسلام والأمن الدوليين، قررت حكومة الجزائر المؤقتة في الرابع عشر من أغسطس عام 1960 رفض إدخال الجزائر في حلف الأطلنطي، وإعلان بطلان جميع الارتباطات التي التزمت بها فرنسا باسم الجزائر. وقد أعلنت حكومة الجزائر المؤقت، أن الجزائر ليست منطقة يشملها ميثاق الأطلنطي، وقد حددت الحكومة الجزائرية سياستها التي تقوم على عدم الانحياز، ووجهت ما يعتبر تحذيراً إلى دول حلف الأطلنطي، إذ قالت: "منذ اليوم تعتبر الحكومة المؤقت للجمهورية الجزائرية، أي إسهام من جانب منظمة حلف الأطلنطي، أو الدول الأعضاء فيها في حرب الفتح والإبادة الاستعمارية، التي تشنها فرنسا في الجزائر، عملاً من أعمال العدوان ضد الشعب الجزائري". وإن من واجبنا أن نسجل في وثائق الأمم المتحدة هذا الإعلان الصادر عن حكومة الجمهورية الجزائرية.
وقد أسهبت يا سيدي الرئيس، في الحديث عن هذه الناحية من القضية الجزائرية، وذلك لأنها لباب المشكلة كلها. فهذه الحرب الاستعمارية حرب يشنها حلف الأطلنطي بقواته ومعداته وعونه الاقتصادي والسياسي. وطالما أن هذه السياسة ستستمر، فإن الحرب ستستمر أيضاً، أما في اللحظة التي يتوقف فيها هذا العون، فإن حدة الحرب تضعف، وتقوى الآمال في الوصول إلى حل سلمي. ولا ينطوي حديثنا عن حلف الأطلنطي بصدد موضوع(1/146)
الجزائر، على أي غرض أو تحيز، والحلف غارق في صميم المشكلة الجزائرية إلى أذنيه. وأن كل ما أرجوه بإخلاص وتواضع، هو القول، بأن الوقت قد حان لانفصال الحلف عن الجزائر وقضيتها. فلقد حلت آلام وكوارث، ووقع دمار هائل، وسفك الكثير من الدماء، واقترف الكثير من الإجحاف والظلم. وأننا نوجه الدعوة إلى دول حلف الأطلنطي لوقف عونها لفرنسا، وفي حرب تصفها فرنسا نفسها بمنتهى البلاغة بأنها "حرب قذرة" وإنني أقترح أن تستغفر دول حلف الأطلنطي عن سلوكها، وأن يتمثل ذلك بتحويل مساعداتها إلى حكومة الجزائر في حربها المقدسة من أجل التحرر. وإذا كانت هذه الدول، لا تكترث بنداء الميثاق، وإن عليها أن تكترث بنداء الدم في الجزائر، وبما جرته حربها من آلام وشقاء وأحزان. وكل ما يطلب إلى دول حلف الأطلنطي هو أن تقلب سياستها في الجزائر وهنا في الأمم المتحدة رأساً على عقب. فبدلاً من مناصرة فرنسا وتأييدها في حرب استعمارية، وفي حرب قذرة، من الأكرم لها أن تنصر وتؤيد حرباً من أجل التحرر، لا تقل في أمجادها عن ثورة أمريكا، أو ثورة فرنسا، أو ثورة انجلترا، وأن تسهم كلها إسهاماً سخياً وكريماً في مأثرة عظيمة، هي مأثرة الحرية الإنسانية.
وعندما أتحدث على هذا النحو، آمل أن لا يحكم علي، بأن أفلاطوني النزعة، أو مغرق في المثالية. فهذا هو الاتجاه الراهن للنفسية الفرنسية، وليس في وسعكم أن تكونوا أكثر ميلاً لفرنسا من الفرنسيين أنفسهم ، فهناك موجة عارمة من الليبرالية، تطغى على فرنسا في الوقت الحاضر، ولفرنسا فصل مجيد في الليبرالية. وهاهم قادة فرنسا، وصفوة مثقفيها، يضعون خطة ثورية لمعالجة مشكلة الجزائر، ولا ريب في أن هذه الخطة مدرسة جديدة في(1/147)
الفكر السياسي، فلقد حكموا بعد تفكير عميق، على أن الحرب الدائرة في الجزائر حرب عدوانية ضد شعب الجزائر.. ويقول المثقفون: إنه على ضوء هذه الحقيقة فإن الجنود الفرنسيين غير مرغمين على الاشتراك في حرب الجزائر، وإذا ما لجأ الجنود إلى الهرب من الخدمة، فإن هروبهم لا يعتبر جريمة ضد الدولة. هذه هي المأساة التي تثير فرنسا كلها في الوقت الحاضر، وتعصف بفؤادها، وعندما يتحرك فؤاد فرنسا، فإن التاريخ سيعلن افتتاح فصل جديد من النهضة والإشراق الفكري.
لكن القضية لم تقتصر على النظريات، فقد شرع الجنود الفرنسيون، وقد تأثروا بما في حرب فرنسا الاستعمارية في الجزائر من ظلم وإجحاف، يهربون من الخدمة العسكرية. وهو فرار من صفوف الاستعمار إلى صفوف الحرية، ويقف بعضهم اليوم أمام المحاكم العسكرية في فرنسا، فمن هذه القاعة، نبعث إليهم بجزيل إطرائنا لهم كأبطال يحاولون تحقيق ما لم يتحقق من واجبات الثورة الفرنسية. ولكنهم لا يقفون في قفص الاتهام وحدهم.. فإلى جنبهم يحاكم شركاؤهم الجزائريون.. إنهم في الحقيقة ليسوا بالشركاء، بل هم أخوة ورفاق، يجمعهم كفاح مشترك من أجل الحرية والسيادة.
وأود أن أحذر الأمم المتحدة، بأن هذا الموقف الذي يقفه الجنود الفرنسيون ، ليس منبثقاً عن العاطفة والحماس، إنه موقف اتخذ على أساس الدراسة الثابتة الصحيحة التي قام بها فلاسفة فرنسا وأساتذتها وساستها، وصحفيوها، ومختلف رجالاتها، ولقد أعلن نحو من مائة وثمانين مفكراً يمثلون صفوة الفكر السياسي والثقافي في فرنسا، وفي بيان أصدروه، أن فرار الجنود الفرنسيين من الحرب في الجزائر، لا يعتبر خيانة لوطنهم ، وإن(1/148)
مثل هذا الفرار يجب أن يقابل على النقيض بالاحترام الزائد. وأعلن هؤلاء المثقفون العظماء في نهاية بيانهم ما يلي:
"إننا نحترم كل من يرفض حمل السلاح ضد شعب الجزائر، ونرى له مبرراً في رفضه.
ونحترم سلوك أولئك الفرنسيين الذي يشعرون بالنيابة عن الشعب الفرنسي. بأن من واجبهم إضفاء العون والحماية ، على شعب الجزائر المضطهد، ونرى لهم مبرراً في ذلك.
وإن قضية شعب الجزائر، التي تسهم إسهاماً حاسماً، في تحطيم النظام الاستعماري تحطيماً كاملاً، هي قضية جميع الأحرار في كل مكان".
وقد تلوت هذه الأجزاء من البيان المعرف باسم "إعلان حق عدم الاشتراك في الحرب الجزائرية"، يا سيدي الرئيس، لأقول أن فرنسا نفسها قد بدأت تساعد شعب الجزائر في حربه التحريرية، وإن فرنسا نفسها هي التي تطلب من جنودها، أن لا يتابعوا الحرب الاستعمارية، وأن فرنسا تضرب المثل والقدوة للأمم المتحدة لتحتذي حذوها، ولا ريب في أن هذا الإعلان، سيصبح خالداً في التاريخ "كالعهد الأعظم" (1) . وسيذكره الناس تماماً كما يذكرون الإعلان العامي لحقوق الإنسان، وإذا كان مثقفو فرنسا يقفون هذا الموقف، وإذا كان الجنود الفرنسيون يهجرون قطعاتهم، وإذا كان الموظفون الفرنسيون يستقيلون من مناصبهم، تأييدا لقضية الحرية، فماذا يتحتم على دول
__________
(1) * العهد الأعظم Magna Carta هو الوثيقة المشهورة التي منحها الملك يوحنا الإنجليزي في رونيميد على نهر التايمز للوردات البلاد عام 1215 والتي اعتبرت فيما بعد أساس الحريات في إنجلترا، ولعل أهم ما في هذا العهد أن الملك قد وعد للمرة الأولى بالتزام حدود الاتفاق والتقيد به، وكانت مظالم الملك قد أثارت اللوردات عليه فحملوا السلاح ضده.(1/149)
حلف الأطلنطي أن يفعلون للوصول بهذه الحرب في الجزائر إلى نهاية، ونهاية مشرفة.
وإنني لأقترح بمنتهى الجد، أن تقوم دول حلف الأطلنطي بما قام به الفرنسيون، وأنا أناشدها، أن تقترف شرف الفرار من ميدان الجزائر، حتى تقف بريئة أمام محكمة التاريخ، وإذا ما استجابت إلى نداء الحرية، فإنها تكون في استجابتها قد أسدت خدمة عظيمة لقضية السلام. وستكون هذه الخدمة أعظم، بالطبع، لو أنها حولت مساعداتها إلى شعب الجزائر وقضيته. فهي قضية جديرة بالمساعدة، كما يفعل عدد كبير من الناس في إفريقيا وآسيا وأوروبا وغيرها. ومثل هذه المساعدة التي أحثكم على التقدم بها يمكن أن تكون في كل صورة، وأن تكون في كل شيء.. فنحن نناشدكم العون العسكري، والمساعدة الاقتصادية، والتبرع للاجئين، وتقديم الكساء للأطفال، والدواء للمرضى.. أما أولئك الذين لا يستطيعون تقديم شيء، فإني أناشدهم، أضعف الإيمان، وهو أن يخصصوا يوماً للصلاة والابتهال لنصر الجزائر.
وأنا أوجه هذا النداء يا سيدي الرئيس، لا لأننا من المغرمين بالحرب، أو لأن الشعب الجزائري من دعاتها؟.. فلقد فرضت هذه الحرب على شعب الجزائر فرضاً بعد مائة وثلاثين عاماً من الاستعمار الفرنسي. ولقد لجأ هذا الشعب إليها، بعد أن فشلت جميع الوسائل السلمية التي حاولها. ومع إعلان الحرب من جانب الجزائر، صدر إعلان مماثل، بالاستعداد للتفاوض للوصول إلى تسوي سلمية على أساس مبدأ تقرير المصير. ومع البيان الذي صدر عن قيام الحكومة الجزائرية المؤقتة، صدر بيان آخر، بالاستعداد للوصول إلى حل ديمقراطي عادل، عن طريق المفاوضات المباشرة، وعلى أساس تقرير المصير، ومبدأ تقرير المصير الذي أعلنه الرئيس ديغول في بيانه في أيلول(1/150)
عام 1959، هو عين المبدأ الذي يناضل الشعب الجزائري في سبيل تحقيقه، والذي تكافح الحكومة الجزائرية للوصول إليه. ومع ذلك فقد رفضت فرنسا عرض الحكومة الجزائرية للشروع في مفاوضات حرة، وجرت اتصالات في أشهر مارس وأبريل وأغسطس وأكتوبر من عام 1956 بين الجزائريين وممثلي الحكومة الفرنسية لإعداد العدة لإجراء مفاوضات رسمية، وقامت فرنسا في أكتوبر من ذلك العام نفسه بعملية قرصنة جوية، فاختطفت الزعماء الجزائريين وهم في بعثة لإحلال السلام.. وأحبطت مساعي الوساطة التي قدمها ملك المغرب ورئيس تونس في أكثر من مناسبة. وتقدم عدد من الزعماء العالميين، والذين لا أرى ضرورة للكشف عن أسمائهم، عارضين الاستعداد للقيام بالتوفيق بصورة رسمية أو غير رسمية. واقترحت حكومة الجزائر المؤقتة من أكتوبر في عام 1958، في ردها على خطاب "سلام الشجاع" الذي ألقاه ديغول، الوصول إلى حل شريف عن طريق التفاوض، وأعلنت استعدادها لإيفاد ممثليها للشروع في مفاوضات مع الحكومة الفرنسية. وعادت حكومة الجزائر فاقترحت في يونيو من عام 1959، الإعداد لاجتماع يعقد مع فرنسا سعياً للوصول إلى حل شريف للمشكلة. وردت حكومة الجزائر في سبتمبر عام 1959 على خطاب الجنرال ديغول عن تقرير المصير، فأعلنت استعدادها، لإيفاد مبعوثيها للاتصال بالحكومة الفرنسية وبحث شروط تطبيق تقرير المصير. وحاولت الحكومة المؤقتة في أكتوبر عام 1959، عن طريق وساطة ملك المغرب، البدء بالمفاوضات، وأعلنت في نوفمبر من العام نفسه أسماء خمسة من وزرائها، للشروع في الاتصالات التمهيدية وذلك ردا على البيان الذي أصدره الجنرال ديغول.(1/151)
ووجهت حكومة الجزائر المؤقتة في فبراير عام 1960 رسالة شخصية إلى الجنرال ديغول طلبت فيها أن يقرر ما إذا كان يرغب في استقبال موفد يحمل رسالة شخصية من الحكومة الجزائرية. وبعثت في يونيو من العام نفسه، كمحاولة أخيرة، وبعد خطاب الجنرال ديغول في الرابع عشر من يونيو، مبعوثين إلى ميلون، تمهيداً لوصول وفد جزائري رسمي إلى فرنسا.
وقد برهنت هذه المحاولة الخيرة يا سيدي الرئيس أكثر من أي شيء آخر، على أن فرنسا لا تنشد السلام، وإنما تنشد إعادة احتلال الجزائر.
وها نحن نجد بيننا هنا في هذه القاعة، المبعوثين الجزائريين بومنجل وابن يحيى، وهما على استعداد، للتحدث إليكم بصورة رسمية أو غير رسمية، عن مهزلة ميلون، لقد عوملا كما يعامل أسرى الحرب. ولم تكن محادثات ميلون، محادثات بمعناها الصحيح، وإنما كانت بكلمات واضحة بسيطة إنذاراً، وكأن الجزائر تسعى للحصول على شروط الاستسلام. وقد أوضح البلاغ الفرنسي الرسمي الذي نشر في التاسع والعشرين من يوليو بصراحة أن: "ممثلي الحكومة الفرنسية قد أوضحوا الظروف التي يمكن فيها إجراء المحادثات وتنظيمها". وقد أبلغ المبعوثان الجزائريان بالسلوك الذي يجب أن يتبعه رئيس الحكومة الجزائرية عند وصوله إلى فرنسا، فعليه أن يقيم حيث تطلب إليه الإقامة، وأن يعمل ما يؤمر به، وأن لا يقابل أحداً وأن لا يتحدث إلى أي إنسان، وأفهم المبعوثان بأنه لن يقابل الرئيس ديغول إلا بعد توقيع وقف إطلاق النار.
ومن الطبيعي، يا سيدي الرئيس، أنه لشرف عظيم أن يقابل أي إنسان الرئيس ديغول، بوصفه بطلاً عظيماً من أبطال التحرير في الحرب، ولكن(1/152)
رئيس الحكومة الجزائرية تواق لرؤية التحرير أولاً، ثم بطل التحرير ثانياً. فليس رئيس الحكومة الجزائرية، ولا غيره من الجزائريين من عبدة الأبطال. إن شعب الجزائر يعبد الحرية، في عبادته لله. وهو لن يتوقف عن إطلاق النار، لأنه واثق من حصوله على حريته. ولكن إذا قدر لمحادثات ميلون أن تفشل، فإن على مناقشاتنا في نيويورك أن تتكلل بالنجاح.
وعلى ذلك فإن النجاح الحقيقي لقضية الجزائر، وحلها الصحيح، يقومان في استقلالها.؟ فالسيادة الكاملة والاستقلال التام، والوحدة الإقليمية، هي العناصر التي تؤلف الحل الوحيد لقضية الجزائر. ومن حقنا أن ندهش تمام الدهشة، إذا ما رأينا الاستقلال محرماً على الجزائر. فلقد غدت القطر الوحيد في شمال إفريقيا الذي لم يستقل بعد. وليست هناك أية دولة في شمال إفريقيا، أكثر جدارة بالاستقلال من الجزائر. ولقد كانت مراكش وتونس وليبيا والجمهورية العربية المتحدة، تعيش كلها في ظل السيطرة الأجنبية، ولكنها حصلت على استقلالها. ترى ما هي خطيئة الجزائر حتى ترغم على خوض الحرب للحصول على استقلالها، وقد وقع في هذه الدورة حادث فرض نفسه فلم يترك مجالاً لأي تردد.. وإنني أقول بأن حق شعب الجزائر، قد غدا ثابتاً وغير قابل للنقاش. ففي هذه الدورة، وهي دورة تاريخية، لأنها دورة إفريقيا، أعلن استقلال أكثر من أربع عشرة دولة إفريقية، وقبلت في عضوية الأمم المتحدة، وقد رحبنا بها كلها. ولم يناقش أحد منا حقها في السيادة .
فما هو السبب يا ترى في معاملة الجزائر معاملة مختلفة؟ فلماذا لا تستقل الجزائر وتقبل في عضوية الأمم المتحدة .. إننا نرغب رغبة أكيدة ومخلصة في معرفة السر، إذا وجدت العبقرية الكافية لدى أي إنسان ليطلعنا(1/153)
على هذا السر. ولقد عرضت النيويورك تايمز في مقال افتتاحي أخير الوضع بالكلمات التالية:
"أما وقد غدت في هذا العام، خمس عشرة مستعمرة فرنسية سابقة دولاً مستقلة، فقد بات واضحاً أن من غير المنطق أو المعقول أن تظل الجزائر، وهي أكثر تقدماً منها محرومة من حق تقرير المصير الذي وعد به الجنرال ديغول. وليس من المعقول أيضاً بالنسبة إلى ديغول، وهو الإنسان العملي، أن يسلك في هذه القضية سلوك من يعتبرها غير ذات شأن دولي، وأن يرفض حتى مجرد البحث فيها في الأمم المتحدة ".
وأنا لا أقول ما قالته النيويورك تايمز، بأن الجزائر أكثر تقدماً من عدد من الدول الإفريقية التي قبلت في عضوية الأمم المتحدة ، فليس ثمة من ابتهج بهذا التطور أكثر من الجزائر، التي تعتبر استقلال هذه الدول الإفريقية عيداً لها. لنكني أتفق مع النيويورك تايمز في ما قالته، من أن من غير المعقول أن ننكر، على شعب الجزائر، ما اعترفنا به لإخوانه من الشعوب الأخرى في القارة نفسها. فما هو السبب وما هي العلة يا ترى؟.
ولقد قيل إن في الجزائر مصالح فرنسية ضخمة، وأقلية فرنسية كبيرة. فدعوني أعالج هذه الأقوال، واحداً واحداً..
إن لفرنسا في الجزائر، يا سيدي الرئيس، من المصالح، ما يشبه تلك التي عكفت جميع الدول الاستعمارية على إقامتها في مستعمراتها. ولا أود الخوض في أصل هذه المصالح، وهل هي مشروعة أو غير مشروعة. ولكنني أريد أن أقول، إنه ليست هناك دولة استعمارية واحدة، وهذا يشمل فرنسا طبعاً، لم تكن لها مصالحها في البلاد غير المستقلة، ولكن هذه المصالح لم تكن في يوم ما عائقاً في طريق الاستقلال. فلقد كانت الهند الدرة الكبيرة(1/154)
في التاج البريطاني، ومع ذلك فقد اعترفت بريطانيا باستقلالها، محتفظة بالمصالح المشروعة التي تملكها فيها. ولا يمكن الحفاظ على المصالح الاستعمارية، ولا سيما المشروع منها، إلا عن طريق الاعتراف بالاستقلال. أما عندما يسلب الشعب حقه في الاستقلال، فإنه يثور، ويحمل السلاح، وتتعرض هذه المصالح لخطر الجمار الشامل. ولا أرى حاجة إلى نصح فرنسا في هذه القضية، فقد تلقت درساً نافعاً ومراً في الهند الصينية، هذا إذا كانت تأبه بدروس التاريخ وعبره. وكانت الحكومة الجزائرية، مع ذلك، رشيدة ومتزنة. فلقد أعلنت مرات ومرات، استعدادها لاحترام مصالح فرنسا المشروعة. والاستقلال لا يعني للحكومة الجزائرية العزلة، وإنما يعني مقدمة التعاون الحر مع جميع دول العالم، وبينها فرنسا، ولقد أوضحت الحكومة الجزائرية في بيان رسمي لها أن الشعب الجزائري لا يحمل عداءً لفرنسا، وإنما يعتبر الاستعمار عدوه الوحيد... ونحن نتطلع إلى تعاون صادق مع فرنسا، ونحن نضع هذا ضمن الإطار التالي: فرنسا من ناحية، والمغرب الحر من الناحية الأخرى. وفي وسع فرنسا أن تجد في المغرب مكان الأفضلية، في الحقل الاقتصادي، إذا قبلت فرنسا بحل عن طريق التفاوض للمشكلة الجزائرية. .
وعلينا أن لا ننسى، أن السبيل الوحيد لاحترام هذه المصالح وحمايتها هو التفاوض، أما إذا استمرت الحرب، فإنني أخشى أن يتطور الوضع إلى هند صينية أخرى، حيث ترغم فرنسا على الخروج من البلاد، بعد أن تتحطم مصالحها كافة.(1/155)
أما بشأن قضية الأقلية الأوروبية، فمن الضروري استبعاد بعض الصور المشوهة، والمفاهيم الخاطئة. وإذا ما فعلنا ذلك، أصبحت المشكلة سهلة على العلاج والفهم.
والتشويه الرئيسي في هذا الموضوع، يقوم في عدد هؤلاء المستوطنين الأوروبيين وطبيعتهم. ولقد ضخمت فرنسا دائما ًمن عددهم وقوتهم لاختراع حجة ضد استقلال الجزائر.. وكثيراً ما سمعنا فرنسا تصل بعددهم إلى المليون ونصف المليون. والحقيقة أن هذا الرقم هو ضعف الرقم الحقيقي، فقد قدر "الإحصاء السنوي للجزائر" عدد الأوروبيين بثمانمائة وخمسين ألفاً، من مجموع عشرة ملايين هم سكان البلاد. والطريف في الموضوع، أن فرنسا تضم إلى عدد المستوطنين الفرنسيين المائة والخمسين ألفاً من يهود الجزائر. فهؤلاء اليهود ليسوا من المستوطنين وإنما هم من الجزائريين. ولقد مضى على القسم الغالب منهم، في الجزائر، أكثر من ألفي عام. ويناضل اليهود الجزائريون مع مواطنيهم الجزائريين في سبيل حرية الجزائر. ولقد تعرضوا هم أيضاً في الماضي لطغيان التمييز العنصري الفرنسي في أكثر من مناسبة... ويشترك يهود الجزائر، وفي ميادين القتال، وفي السجون وفي المحاكم العسكرية، مع مواطنيهم الجزائريين في المصير المشترك كشعب واحد، يناضل في سبيل الحرية.
وهناك ناحية أخرى تجب ملاحظتها وهي أن جميع الثمانمائة والخمسين ألفاً من الأوروبيين ليسوا من الفرنسيين. إنهم ينتمون إلى جنسيات مختلفة. وعندما تكون الواجبات موضع الحديث، تعتبرهم فرنسا فرنسيين، أما عند الحقوق، فإنهم أجانب غرباء. هذا هو وضعهم بالنسبة إلى فرنسا. وقد أيدت نشرة فرنسية رسمية اسمها "التعايش في الجزائر"أن هؤلاء الأوروبيين(1/156)
هم خليط من شعوب البحر الأبيض المتوسط، جاءوا إلى الجزائر في مختلف العهود، وكان الأسبان أول من وصل منهم، فأقاموا في وهران، ثم تبعهم الإيطاليون حيث تركزوا في قسطنطينية فالمالطيون الذين أقاموا في الشرق.. وكتب الحجة الفرنسي المشهور ، رمون إينارد، يقول في "نشرة المعلومات التي سيصدرها الحاكم العام للجزائر"أن التقديرات تشير إلى أن واحداً وعشرين في المائة فقط من مجموع الأوروبيين في الجزائر هم من أصل فرنسي. وذكر كاتب سويدي أن "الناس في منطقة وهران، يتحدثون بالأسبانية أكثر من حديثهم بالفرنسية". وهكذا تتهاوى هذه الأسطورة عن المستوطنين الفرنسيين إلى الحضيض. ولا يمثل هؤلاء المستوطنون لفرنسا أكثر من مخلب قط، لفرض سيطرتها الدائمة على الجزائر.
وسواء أكان هؤلاء المستوطنون فرنسيين أو أسباناً أو إيطاليين أو مالطيين، فليس من حقهم أن يؤلفوا مشكلة، وحتى لو كانوا جميعاً من الفرنسيين في الصميم، فوضعهم لا يثير أية صعوبة. فالمجال فسيح أمامهم لاختيار أحد سبيلين.. ففي استطاعتهم أولاً، أن يكونوا جزائريين، وهذا حق طبيعي لهم، فهم جزائريون ولدوا في الجزائر، ولهم كالحق في كل ما في الرعوية الجزائرية من حقوق، دون أي تمييز على أي أساس من الأسس. وفي استطاعتهم ثانياً، أن يؤثروا البقاء كمواطنين فرنسيين وأن يمنحوا حق الإقامة في الجزائر، وأن يمارسوا بحرية كل نشاط مشروع في أي سبيل من سبل الحياة في الجزائر، ضمن نطاق القانون.
ومهما كان اختيار هؤلاء الأوروبيين فهناك حقيق مهمة، يجب أن لا تغيب عن أذهاننا، فلن يكون هناك تمييز في الجزائر على أي أساس من الأسس. وليس ثمة من سبب يدعو الأوروبيين إلى البقاء كأقلية. ففي وسعهم(1/157)
أن يكونوا جزائريين من كل ناحية، وأن يتمتعوا باستقلال الجزائر في قرارة قلوبهم تماما كما يتمتع الأمريكيون باستقلال بلادهم، على الرغم من جذورهم الفرنسية أو الإيطالية أو الأسبانية. وبالطبع لن يكون من حقهم المطالبة بامتيازات خاصة في الجزائر المستقلة، كما ليس من حق الأمريكيين، من ذوي الجذور الفرنسية أو الإيطالية أو الأسبانية، المطالبة بمثل هذه الامتيازات. وسيقوم مقياس الحياة في الجزائر المستقلة على المساواة أمام القانون وتكافؤ الفرص.
وليست هذه التأكيدات صادرة عني يا سيدي الرئيس، بل إنها تمثل الموقف الذي أعلنته حكومة الجزائر في كل مناسبة.
فقد أعلنت جبهة التحرير الوطني الجزائري في السادس عشر من أبريل عام 1956 ما يلي:
"ستتمتع الأقلية الأوروبية في الدولة الجزائرية الحرة، بالمساواة الكاملة في الحقوق والالتزامات، دون أن تمييز من أي نوع".
وأعلنت جبهة التحرير في بيان أخر أصدرته في العشرين من أغسطس عام 1956 ما يلي:
"الثورة الجزائرية ليست حرباً أهلية أو دينية. إنها تريد أن تقيم جمهورية اشتراكية وديموقراطية تؤمن المساواة الحقيقية بين جميع المواطنين، وفي بلاد واحدة دون أي تمييز".
وفي أول بيان وزاري أصدرته الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية، أعلنت ما نصه:
"من المؤكد، أنه بعد تحرر الجزائر من المستعمرين، لن يكون ثمة مواطنون من الدرجة الأولى أو من الدرجة الثانية. ولن تقوم الجمهورية(1/158)
الجزائرية بأي تمييز بسبب العنصر أو الدين بالنسبة إلى أولئك الراغبين في البقاء كجزائريين... إن جميع المصالح المشروعة ستصان وتحفظ".
وهكذا لم تأل الحكومة الجزائرية جهداً، ولم تضع فرصة ، في تأكيد سياستها في بقضية الأوروبيين في الجزائر، أو الفرنسيين في الجزائر، إذا شئتم هذه التسمية. ولقد وجه رئيس الحكومة الجزائرية في السابع عشر من فبراير عام 1960، نداء مؤثرا إلى الأوروبيين ضمنه العبارات التالية:
"إن الجزائر ملك للجميع. ولقد مضت أجيال عدة، وأنتم تطلقون على أنفسكم اسم الجزائريين، فمن ينكر عليكم هذا اللقب؟ إن الجزائر، للجزائريين جميعاً، مهما كان أصلهم. وهذه القاعدة ليست أسطورة إنها حقيقة حية، ترتكز إلى حياة مشتركة. وسيتوافر في الجمهورية الجزائرية التي سنقوم ببنائها معاً، المجال للجميع، والعمل للجميع.. ونحن نريد منكم الاشتراك في هذا البناء".
فهل ينتظر، يا سيدي الرئيس، من الشعب الجزائري، أي شيء آخر، يعرضه بعد هذه البيانات الصادقة، وبعد هذا الموقف الديمقراطي الذي تقفه حكومته. إنه أكثر المواقف التي يمكن لحكومة مسؤولة أن تقفها سخاء وشهامة. وقد أسميته بالسخاء والشهامة ، لأنني لا أريد أن أنبش الماضي وما تعرض له الشعب الجزائري إذا ما تحقق الاستقلال، فسيظل هذا الماضي مغلقاً إلى الأبد.
وعلينا أن لا نبدي أي اكتراث، في هذا الصدد، بما يقوم به من يوصفون بالمتطرفين الفرنسيين في الجزائر من اضطراب ومعارضة. إنهم لا يمثلون إلا أقلية لا يؤبه بها. أما بقية الأوروبيين فيؤثرون العيش بسلام وطمأنينة في الجزائر، وسينعمون بالسلام حتماً. عندما يعترف بالاستقلال للجزائر، فإن سلوك هؤلاء المتطرفين سيتبدل، فلن يعد لهم أمل في امتيازات(1/159)
أو استثناءات ولن يطمعوا في حماية هذه الامتيازات والاستثناءات. ولن يسود في دولة الجزائر المستقلة، وذات السيادة الكاملة، إلا شعار فرنسا العظيم: "الحرية والإخاء والمساواة".
ولإغلاق هذا الفصل المؤلم إلى الأبد، يتحتم على الأمم المتحدة، أن تلعب دورها في فتح فصل جديد، دائم الإشراق والإشعاع. وليس في وسع الأمم المتحدة أن تشهد حرباً، وأن تكتفي بالجلوس، وقد مدت ساقيها، وطوت ذراعيها، ليس في مكنة الأمم المتحدة أن ترى كارثة تحل بشعب كامل، وأن تقبع في برج عاجي من التجاهل وعدم الاكتراث. فمصير عشرة ملايين من إخوانكم، وكرامتهم، ووجودهم في الحاضر والمستقبل، تتعرض كلها لخطر، ويتعرض للخطر أيضاً، سلام المنطقة وطمأنينتها.
وعلينا أن نرى الدور الذي ستلعبه المم المتحدة في عام 1960، والذي سيقدر له أن يحذف مشكلة الجزائر من جدول أعمالنا لعام 1961.
وإنني لأقول يا سيدي الرئيس، إننا تعلمنا الكثير أثناء مناقشاتنا لهذا الموضوع طيلة السنوات الست الماضية، إنني لأبتهل إلى الله، أن يكون مرشدنا ما تعلمناه، وأن يكون حافزنا ما نصبو إليه، وأن يكون نافعنا ما حصلنا عيه.. وإنني أدعي، ولي الحق في ذلك، أننا كسبنا الكثير من الخبرة في موقف فرنسا السياسي والنفساني تجاه مشكلة الجزائر. وليس في مكنتنا أن ننكر أن الجنرال ديغول قد عبر نهر الروبيكون (1) كما لم يعبره غيره من قبل.
__________
(1) * الروبيكون نهر صغير في إيطاليا يصب في الأدرياتيك إلى الشمال من ريمييني وكان يؤلف الحد الفاصل بين رومة ومقاطعاتها في العهد الروماني. وقد اشتهر أمره عندما عبره يوليوس قيصر عام 49 ق.م الميلاد على رأس جيشه مما رمز إلى إعلانه الحرب ضد مجلس الشيوخ الروماني، وغدت لعبور النهر شهرة تاريخية، حتى أصبح مضرب الأمثال.(1/160)
ولكن الجسر الذي أقامه يتأرجح في جميع الاتجاهات. ومن واجب الأمم المتحدة أن تقيم جسراً ثاباً، تستطيعه الحرية والديموقراطية، الانتقال عليه بأمان إلى الجزائر، حيث يقوم دور المم المتحدة. وقد نعود بذاكرتنا إلى أن الرئيس ديغول عازم على طرح القضية كلها أما فرنسا، فهناك استفتاء شعبي يوشك أن يجري..
وفي وسعنا، هنا في الأمم المتحدة، أن نأخذ علماً بهذه الحقيقة.. فالاستفتاء الفرنسي، قضية داخلية، لا علاقة لها بماشاوراتنا، ويجب أن لا تؤثر على سير عملنا. فلقد أحس ديغول أن سلطته في بلاده قد غدت موضع التحدي، فأراد أن يضمن ثقة فرنسا به، أو يتأكد من رغبات فرنسا في قضية الجزائر إن جماهير الشعب في فرنسا، كغيرها من الجماهير، إذا تركت إلى غرائزها، تؤيد الحرية. ولكن مهما كانت نتيجة هذا الاستفتاء، فإن حق الجزائر، في تقرير المصير، يظل قائماً لا يقبل التحدي. وحق شعب الجزائر، في الاستقلال، لا ينبثق من رغبات فرنسا، ولا يمكن أن يتأثر بأية صورة من الصور باستفتاء الرئيس ديغول. وسنفرح بالطبع إذا أيدت فرنسا استقلال الجزائر، ولكننا لن نحيد عن أهدافنا أو نتوقف عن العمل هنا في الأمم المتحدة، إذا آثرت فرنسا الاقتراع بصورة مغايرة. فرغبة الجزائر هي الشيء المهم. إنها القاعدة، بل القاعدة الوحيدة. ولذا فإن على الأمم المتحدة أن تجري استفتاء في الجزائر لتتأكد من رغبات شعبها قي أجواء من الحرية والهدوء والنظام.
ونقد اقترحت استفتاء شعبيا تقوم به الأمم المتحدة، لأننا نريد أن نكون منصفين مع الجميع.وعلينا أن نعدل مع الكل. وأن نمد يد المساواة للجميع. إن فرنسا طرف في القضية، بل أنها طرف في الصرع، وليس من المعقول أن(1/161)
نكل بمصير الجزائر إلى أيدي فرنسا. إن الجزائر في حالة حرب مع فرنسا، ومن الغبن الصارخ للعدالة أن ندع استفتاء الجزائر تحت رحمة فرنسا.
والإدارة كلها في الجزائر من الناحية الثانية معادية تمام العداء لشعب الجزائر ولآماله القومية. إنها إدارة استعمارية، وهل سبق لأية إدارة استعمارية أن كانت عاجلة ومنصفة مع شعب مستعمر.
ومن الناحية الثالثة، فإن الجيش الفرنسي وقوات الأمن في ت الجزائر، قد أشبعا بنزعة الكراهية لمبدأ حق تقرير المصير. ولقد بعث وزير حربية فرنسا برسالة إلى القائد الفرنسي العام في الجزائر يقول: "وعندما يتم تنظيم مستقبل الجزائر السياسي، سيظل الجيش في الجزائر، للأداء رسالته الخالدة وهي الدفاع المشترك عن فرنسا والجزائر". وإذا ما تفهمنا هذه الرسالة الموجهة إلى الجيش الفرنسي في الجزائر، فكيف يمكن لنا أن نثق بأن الاستفتاء الذي ستجريه فرنسا سيكون حراً. وهناك حقيقة أخرى، وهي أن كل جندي فرنسي يذهب إلى الحرب في الجزائر، يسلم كتيباً ، يحمل في صدره بياناً يقول: "إن الجزائر لا تستحق القومية المستقلة، وإن الجزائريين هم من المواطنين الفرنسيين". وفي ظل مثل هذه التعليمات ، كيف يمكن لنا يا سيدي الرئيس أن نثق بأن استفتاء في ظل فرنسا يمكن أن يكون حراً.
وقد أقسمت الحكومة الفرنسية من الناحية الثالثة على محاربة مبدأ تقرير المصير محاربة عنيدة. لقد ذكر المسيو دوبريه رئيس وزراء فرنسا في تعليماته التي وجهها إلى ابمقيم الفرنسي العام في الجزائر، التوجيهات التالية، "إن النقطة الرئيسة، هي أن نتبع كل سبيل ممكن لضمان الاقتراع ضد الانفصال، وانتصار الوحدة الوثيقة مع فرنسا".ومع مثل هذه التوجيهات التي(1/162)
تصدر عن رئيس وزراء فرنسا، كيف يمكن لنا يا سيدي الرئيس أن نثق بأن أي استفتاء تجريه فرنسا يمكن أن يكون حراً؟!
وللرئيس ديغول، من الناحية الرابعة، وهذا شيء مهم للغاية، مفهوم خاص، وتعريف معين، وتطبيق نموذجي لمبدأ تقرير المصير، وهي عوامل تنزع من مبدأ تقرير المصير كل ما فيه من لحم وعظم وأعصاب. وقد تحدث الرئيس ديغول في بيانه في شهر سبتمبر عام 1959 إلى الجزائريين "كأفراد" وأنكر الحقيقة التاريخية بوجود وحدة وسيادة جزائريتين. وقد هدد الجزائريين بأنهم إذا آثروا الاستقلال، فسيعانون الفاقة والفوضى والمذابح والديكتاتورية الشيوعية. أما إذا آثروا الاتحاد مع فرنسا فقد مناهم بالجوائز.. ووعد الفرنسيين بالتقسيم وشطر الصحراء عن الجزائر، ولاستيلاء على ما فيها من ثروات طبيعية!!
وقد حسر الرئيس ديغول في بيانات متوالية النقاب عن تعريفات أخرى لمبدأ تقرير المصير كما يراه.. وقد أعلن في رسالة وجهها إلى القوات المسلحة في الجزائر "أن من الضروري في الوقت الراهن.. إعطاء الجزائريين كل سبب أدبي ومادي، يحملهم على الرغبة في الاتحاد مع فرنسا"، وأعلن الرئيس ديغول أيضاً في إحدى جولاته: "أننا نريد السلام في الجزائر لأننا نريد أولاً الاحتفاظ بفرنسا فيها ولكن بظروف مغايرة تماماً". ومع مثل هذه البيانات الصادرة عن الرئيس ديغول كيف يمكن لنا أن نثق بأن الاستفتاء في ظل فرنسا يمكن أن يكون حراً.
وحتى في غضون هذه الدورة، يا سيدي الرئيس، فإن الرئيس ديغول قد أقام الدليل الشامل، على أن أي استفتاء، في ظل فرنسا، سيكون بطبيعة الأمر خالياً من الحرية، وغارقاً في اللاشرعية. وقبل شهر واحد، أي في(1/163)
الرابع من نوفمبر عام 1960 ألقى الجنرال ديغول خطاباً قال فيه: "سنقوم بالإجراءات اللازمة، لحماية أولئك الجزائريين الذي يؤثرون البقاء كفرنسيين من ناحية، ولضمان مصالحنا من الناحية الثانية". أولا يكشف هذا القول، يا سيدي الرئيس، عن الرغبة في تقسيم الجزائر؟!
يضاف إلى هذا أن الرئيس ديغول أشار إلى رجال الحكومة الجزائرية بأنهم "ألئك الزعماء الثوريون الذي عاشوا خارج الجزائر، مدة ستة أعوام". وأنهم يتخذون مواقفهم "وكأنهم قد عينوا، مسبقاًً مني، كحكام للجزائر". إن هذا البيان غير منصف يا سيدي الرئيس، لا لحكومة الجزائر، ولا لسجل الجنرال ديغول المجيد، بوصفه زعيم حركة التحرر في فرنسا. فلقد كان الجنرال ديغول نفسه بعيداً عن فرنسا عدة سنوات يقود حركة التحرر من لندن وإفريقيا. وان عمله هذا مصدر فخار له لا مصدر عيب وعار. وأرى لزاماً علي أن أقول من الناحية الأخرى إن حكومة الجزائر، لم تحاول أن تعين لتحكم الجزائر، فإن وزراء الجزائر يريدون أن يختارهم شعبهم، لا أن يعينهم الرئيس ديغول، وهدفهم هو استقلال بلادهم، سواء اختارهم شعبهم أو لم يخترهم، تماماً كم فعل الجنرال ديغول عندما ناضل لتحرير فرنسا، قبل أن تختاره فرنسا حاكماً لها. ولو كان هم الوزراء الجزائريين منصرفاً إلى أن يعينوا كحكام للجزائر، لما قادوا الحرب الجزائرية. فهناك طريق أسهل، وبثمن أبخس، وهو أن يكونوا كويزليين أو فيشيين (1) ، ولكنهم آثروا أن يكونوا مواطنين جزائريين، أو طبقاً للتعبير
__________
(1) * نسبة إلى كويز لنغ النرويج وحكومة فيشي الفرنسية، اللذين تعاونا مع الألمان في الحرب وأصبحا رمزاً للخيانة.(1/164)
الفرنسي، ديغوليين، يكافحون لتحرير بلادهم من آخر مظاهر الاستعمار الفرنسي.
ويتحدث الرئيس ديغول أيضاً في خطابه عن الجزائر الجزائرية. ولكن الواضح، من إشاراته، أن يستقر في سويداء عقل فرنسا وقلبها، جزائر فرنسية خاصة، إنها ستكون طرازاً أخر من حكومة فيشي على الأرض الجزائرية، مستعدة للاقتراع بصوتها كما قال الجنرال ديغول "لتحويل الوضع الواقع إلى وضع قانوني. وهذا الوضع، هو الجزائر، التي اعتقد بجماع فؤادي وعصارة فكري، أنها ستؤثر الاتحاد مع فرنسا"، هذه هي كلمات الرئيس ديغول نفسه. لا كما ترجمتها من الفرنسية أو كما ترجمتها النيويورك تايمز ، إنه النص الذي جاءنا بالبريد من سفارة فرنسا، مكتب الصحافة والمعلومات، برقم 972 الشارع الخامس – نيويورك، وإزاء مثل هذا البيان الصادر عن الرئيس ديغول، كيف يسعنا يا سيدي الرئيس، أن نثق بأن الاستفتاء الذي ستجريه فرنسا سيكون استفتاء شعبياً حراً..
وبالنظر إلى جميع هذه الاعتبارات، يا سيدي الرئيس، يجب أن يكون استفتاء الجزائر تحت إشراف الأمم المتحدة مباشرة. وإذا كانت فرنسا مخلصة، ونحن نأمل في أنها ستكون مخلصة، فلن يكون ثمة اعتراض على قيام الأمم المتحدة بإجراء الاستفتاء. أما إذا كانت فرنسا تبيت لخطط معينة، كما يعتقد بعضنا، فإن هذا سبب كاف ليحمل الأمم المتحدة على التدخل، لأن هذه هي الضمانة الوحيدة لحرية الاختيار، وسلامة الاستفتاء..
وأنا مخول من حكومة الجزائر المؤقتة، في هذا الصدد، أن أقول بالنيابة عنها، إنها تقبل نتيجة أي استفتاء حر في الجزائر، تنظمه الأمم المتحدة، شريطة أن يتحرر هذا الاستفتاء من كل ضغط، ووعد ووعيد، من(1/165)
أي نوع، يصدر عن الفرنسيين في الجزائر. وإذا كانت النتيجة الدمج أو الاتحاد، فإننا سنقبل الاختيار، أما إذا ما كانت النتيجة الاستقلال، وهو ما نحن واثقون منه، فعلى فرنسا أن تقبل بها، وأن تترك شعب الجزائر حراً يقرر مصيره.
وأود أن أؤكد أيضاً، أن ليس ثمة ما يدعو فرنسا إلى معارضة استفتاء الأمم المتحدة. فالاستفتاء نفسه ليس غريباً عن فرنسا، فقد طبق الاستفتاء في عهد نابليون الثالث في إمارتي سافوي ونيس وفي دوفيان شمال إيطاليا، واقترح مؤتمر الصلح في عام 1919 إجراء سبعة عشر استفتاء. وأسفر استفتاء السار في عام 1935 عن عودته إلى ألمانيا. واقترع السار في استفتاء عام 1947 على العودة إلى فرنسا. وكانت هذه الاستفتاءات تجري دائماً بصورة دولية لا قومية ، وتحت إشراف دولي.
وهناك سبب آخر يدعو إلى إجراء الاستفتاء تحت إشراف الأمم المتحدة، إذ أن الجزائر لم تكن في يوم ما فرنسية، ولن تكون فرنسية. وقد فشلت مائة وثلاثون عاماً من "الفرنسة" في إيجاد الجزائر الفرنسية، وقد حان الوقت للاعتراف بالحقيقة التاريخية، وهي أن الجزائر كانت وستظل بلاداً عربية، وجزءاً لا يتجزأ من القارة الإفريقية.
وأود، عند التأكيد على ضرورة إجراء استفتاء المم المتحدة، أن أذكركم بأن الرئيس ديغول في بيانه في سبتمبر عام 1959، الذي أكده ببيانه في نوفمبر عام 1960 قد أعلن أنه سيدعو ممثلين من أوساط الصحفيين ودوائر المعلومات من كافة أنحاء العالم للمجيء كمراقبين، ليشهدوا صحة الاستفتاء. ولا ريب في أن هذا العرض يتيح أساساً أصدق لو تم الاستفتاء على أيدي الأمم المتحدة. فإذا كانت فرنسا تقبل الصحفيين كمراقبين، فلماذا لا(1/166)
تقبل أن يتولى المستر همرشولد العملية بنفسه، فالمستر همرشولد يتمتع بثقة فرنسا وحكومة الجزائر، ودول إفريقيا والأمم المتحدة.
وأود أن أختم كلامي في النهاية، يا سيدي الرئيس، بأقوال مستقاة من أحد كبار القادة الأحياء. إنه زعيم عظيم، على وشك أن يصنع التاريخ، إذا ما عجزتم عن معرفة اسمه، فسأذكر هذا الاسم في النهاية.
فقد تحدث هذا الزعيم العظيم عن الجزائر فقال: "إن القوة المفردة العظيمة في العالم اليوم، ليست هي الشيوعية أو الرأسمالية، لا ولا القنبلة الهيدروجينية أو الصاروخ الموجه، وإنما هي رغبة الإنسان الخالدة في أن يعيش حراً مستقلاً".
وقال هذا الزعيم العظيم، حاثاً شعبه على كفاح الاستعمار "وفي هذا الاختبار، ستتعرض بلادنا للحكم الناقد من ملايين المحايدين وغير الملتزمين في آسيا وإفريقيا.. وإذا فشلنا في مواجهة هذا التحدي.. من الاستعمار الغربي، فلن يكون في مكنة أي عون خارجي أو أي تضخم في الأسلحة أن يحول دون نكسات أخرى تمنى بها سلامتنا".
وتحدث هذا الزعيم العظيم، بصورة خاصة عن الجزائر فقال: "هناك حالات عدة من التصادم بين الاستقلال والاستعمار في العالم الغربي، ولعل من أبرز هذه الاصطدامات وأكثرها حراجة اليوم، قضية الجزائر".
وتحدث عن حلف الأطلنطي فقال: "إن حرب الجزائر، التي يشتبك فيها أكثر من أربعمائة ألف جندي فرنسي، قد نزعت من قوات حلف الأطلنطي كل إمكاناتها".(1/167)
وأشار الرجل الزعيم إلى شرور حرب الجزائر فقال: "لقد أثرت على موقفنا في عيون العالم الحر، كما أثرت على قيادتنا للنضال لإبقاء هذا العالم حراً، وعلى سمعتنا وسلامتنا".
وأشار إلى أثر الحرب على فرنسا، فقال: "لقد استنزفت حرب الجزائر بالاستمرار من فرنسا رجالها ومواردها، وأفقدت إحدى حليفاتنا القديمات والمهمات روحها وحيويتها"..
واتقد الزعيم العظيم غضباً عندما أكد الشعبية الدولية لمشكلة الجزائر فقال: "لا، إن الجزائر، لم تعد مشكلة تهم فرنسا وحدها، ولن تكون كذلك مرة ثانية".
وقال في معرض تصحيح الخطأ الشائع عن رقم الأوروبيين في الجزائر ما نصه "يقال إن السكان الفرنسيين يبلغون المليون عدداً، وكأنهم إذا عدوا عداً دقيقاً وصحيحاً، لم يتجاوز تعدادهم السبعمائة ألف.".
وأشار الرجل العظيم إلى قضية المفاوضات فقال: "إنني أرى أن من واجب فرنسا أن تسير في المفاوضات مع الوطنيين على أساس الاستقلال".
واستشاط الزعيم العظيم غيظاً عندما تحدث عن مساعدات أمريكا العسكرية لفرنسا فقال: "وبدلاً من أن نسهم بجهودنا للوصول إلى وقف إطلاق النار وتحقيق تسوية، نرى المعدات العسكرية الأمريكية، ولا سيما طائرات الهليوكبتر تبتاع في هذه البلاد.. لتستخدم ضد الثائرين.."
واستنكر الزعيم الكبير، سجل الولايات المتحدة في موضوع الجزائر فقال: "إنه ليس بالسجل الذي ننظر إله بعين الزهو، عندما يقترب يوم الاستقلال.. فسجل الولايات المتحدة في قضية الجزائر، سجل تراجع عن مبادئ الاستقلال ومناهضة الاستعمار.."(1/168)
وتذكر الرجل الكبير تسامح الجزائر فقال: "وأنا لا أعتقد أنه عندما يتم وضع تسوية، فإن أي فرنسي هناك سيطرد من البلاد أو تنتزع منه ممتلكاته".
وتوجه بكلمة نصح إلى فرنسا والدول الغربية فقال: "وسواء أحبت فرنسا ذلك أو لم تحبه، وسواء قبلت به أم لم تقبل، وسواء تلقت تأييدنا أو لم تتلقه، فإن ممتلكاتها عبر البحار، ستحطم أغلالها، وتنظر بعين الشك إلى الدول الغربية، التي عرقلت خطواتها نحو الاستقلال".
ودافع الزعيم العظيم عن استقلال الجزائر فقال: "ويجب أن لا تحول الكياسة مهما توافرت، بين فرنسا وبين الولايات المتحدة، وبين رؤية الحقيقة وهي أنه إذا أرادت فرنسا أن يكون لها نفوذ في شمال إفريقيا.. فإن الخطوة الأساسية الأولى التي يجب أن تخطوها، هي أن تعطي للجزائر استقلالها كما سبق لها أن فعلت مع تونس ومراكش".
إن هذا الزعيم العظيم، يا سيدي الرئيس، هو الرئيس المنتخب، المستر كنيدي (1) . وهذه الاقتباسات التي تلوتها، مستقاة من خطاب ألقاه في مجلس الشيوخ في الثاني من مايو عام 1957، وهو خطاب لا يقل في طوله وإسهابه عن خطابي اليوم. وإنني أغتنم هذه الفرصة لأقدم أوفر الاحترام لهذا الزعيم الكبير، على التأييد العظيم الذي قدمه لقضية الجزائر.
ولكنني لم أستخدم هذه الاقتباسات، رغبة مني في مجرد تلاوتها، لقد قرأتها لأطلب إلى زملائنا من وفود الدول الغربية، أن يؤيدوا استقلال الجزائر، وأقول "أطلب" لأنني بعد أن سمعت هذا البيان القوي من المستر كينيدي، أصبح من حقنا أن نطلب إليكم مساندة حرية الجزائر.
__________
(1) * كان السيد كينيدي رئيسا منتخبا، ولم يباشر بعد سلطاته الدستورية.(1/169)
وإنني أوجه الكلام الآن إلى الدول الغربية، لأن هذه الدول ، على حد تعبير المستر كينيدي هي التي تعرقل استقلال الجزائر، وعندما نؤكد المطالبة باستقلال الجزائر، يقول البعض منكم إننا من المتطرفين، وأننا غلاظ القلوب، ودعاة حرب. ولكن ها هو بيان المستر كينيدي أمامكم، وهو يتحدث باللغة نفسها والأسلوب نفسه، وقد حان الوقت ليترجم هذا البيان إلى مواقف حاسمة، تتخذونها هنا في الأمم المتحدة..
وأنا لم أوجه كلامي إلى الكتلة السوفيتية. لأن هذه الكتلة أيدت قضية الجزائر منذ عرضت على الأمم المتحدة لأول مرة، واستمرت في تأييدها دون تحفظ. ومثل هذا التأييد سواء أكانت له دوافعه أو لم تكن، جدير بالإعجاب والثناء. والأسوأ بالنسبة إليكم أن تقفوا إلى جانب الاستعمار في الوقت الذي تزعمون فيه أنكم تمثلون العالم الحر.
وإنني أتحداكم مثل هذا التحدي المرير، لأن الآلام التي يعانيها شعب الجزائر مغرقة في الوحشية، ولا تأذن بالكلمات الناعمات..
وفي هذا التحدي، أذي أضعه أمال الغرب، وجهاً لوجه، وبصراحة، أود من هذه الدول الغربية، أن تذكر أن زعيمها العظيم، زعيم الدول الغربية، قد لخص القضية بوضوح، وحتم عليها الاختيار بين الاستقلال أو الاستعمار.
وإني لأتضرع إلى الله يا سيدي الرئيس أن يختار الغرب بزعامة الولايات المتحدة الأمريكية الوقوف إلى جانب الاستقلال.
إن مثل هذا الاتجاه، يا سيدي الرئيس، جدير بالأمم المتحدة وبقضية السلام، وقضية الكرامة الإنسانية.
هذا هو أملنا، وهذا محط ثقتنا، وموضوع ابتهالنا.(1/170)
الجنرال ديغول..
يقامر في أفيان؟
ديسمبر 1961
... في تاريخ الشعب الجزائري، في كفاحه المجيد لنيل حريته واستقلاله، أيام فاصلة، لها ذكرياتها العميقة الحافلة، وإنا لنذكر بألم ومرارة، اليوم الخامس من شهر يوليو عام 1830 حين استسلمت الجزائر لفرنسا بعد تلك المعارك البطولية الضارية التي قادها الأمير عبد القادر الجزائري، وفي حزن عميق نذكر اليوم السابع من شهر مايو سنة 1945 حينما ذبح خمسون ألف جزائري على أيدي القوات الفرنسية وهي تحتفل بيوم "النصر".. وفي فخر واعتزاز نذكر اليوم الأول من شهر نوفمبر من عام 1945 حينما أعلن الشعب الجزائري حربه المقدسة على فرنسا لتحرير وطنه، وتحقيق آماله القومية في السيادة والاستقلال.
وفي الأمم المتحدة، للقضية الجزائرية كذلك، أيام تاريخية، ولست أريد أن أستعرضها جميعاً، ولكني سأقتصر على الإشارة إلى اليوم التاسع عشر من شهر ديسمبر سنة 1960، ففي ذلك اليوم أصدرت الأمم المتحدة قرارها المعروف رقم 1573 في دورتها الحادية عشرة، بعد مناقشات شاملة(1/171)
وافية، قدمت خلالها مقترحات متعددة ، وقد تضمن هذا القرار أربعة أمور رئيسة..
أولاً: إن الجمعية العامة "قد أحيطت علماً بأن الفريقين قد وافقا على حق تقرير المصير كأساس لحل القضية الجزائرية".
ثانياً: إن الجمعية العامة "اعترفت بحق الشعب الجزائري بتقرير المصير والاستقلال".
ثالثاً: إن الجمعية العامة "أكدت الحاجة القصوى لوضع الضمانات الفعلية المناسبة التي تكفل تطبيق مبدأ تقرير المصير بنجاح وعدالة، على أساس الاعتراف بالوحدة والسلامة الإقليمية للجزائر".
رابعاً: إن الجمعي العامة تعترف بأن على الأمم المتحدة "مسؤولية في المساهمة في تنفيذ حق الشعب الجزائري بكل نجاح وعدالة.."
وإنه يهمنا في الدورة الحاضرة أن نستعرض مدى النجاح الذي كنا نتطلع إليه في الدورة السابقة، ذلك أنه حقنا وواجبنا أن نضع أيدينا على النتائج التي وصلت إليها المبادئ الأربعة التي قررتها الأمم المتحدة في العام الماضي.. فلننظر، إذن، في الحساب الختامي الذي انتهى إليه ذلك القرار لنعرف كيف استجاب الفريقان لرغبات الأمم المتحدة، وكيف نستطيع في هذا العام أن نساهم لدفع القضية الجزائرية إلى الأمام وصولاً إلى حل سلمي شريف على أساس تقرير المصير والاستقلال.
بعد أن صدر قراركم السابق بأربعة عشر يوماً، أخذ أحد الفريقين زمام المبادرة في سبيل تنفيذه، وما أظنكم في حاجة إلى بحث طويل لتعرفوا من هو ذلك الفريق.. إن ذلك الفريق هو الحكومة المؤقتة لجمهورية الجزائر.. فلقد بادرت الحكومة الجزائرية إلى العمل على تنفيذ القرار الذي(1/172)
أجمعتم عليه في العام الماضي.. وما انتهت فرنسا من الاستفتاء الشعبي في 8 يناير، حتى أعلنت الحكومة الجزائرية استعدادها للدخول في مفاوضات مع الحكومة الفرنسية على أساس تقرير المصير والاستقلال.
وإنصافاً للتاريخ، فإن الحكومة الجزائرية كانت دائماً تقترح المفاوضات، كما كانت فرنسا ترفض المفاوضات. والواقع أن الشعب الجزائري قد لجأ إلى الحرب لأن فرنسا قد رفضت أن تتفاوض مع الجزائر لتحقيق تسوية سلمية.. ولقد أعرب أحد وزراء فرنسا، ذات مرة، في غضب بالغ عن اعتقاده بأن المفاوضات معناها الحرب.. وكذلك فإن الاستقلال، الذي كرستموه في قراركم السابق، قد اعتبرته فرنسا مظهراً من مظاهر الحماقة والجنون.. ثم إن فرنسا كثيراً ما أشارت إلى الزعماء الجزائريين بأنهم "مصابون بالجنون، ويكفي للدلالة على ذلك أنهم يطالبون بالاستقلال للجزائر".
ورغماً عن ذلك فإن الجزائريين لم يدعوا فرصة تمر إلا وأعلنوا فيها رغبتهم بالمفاوضات، وحتى حين كانت الحرب الجزائرية على أشدها، تنزل الضربات القاصمة بالقوات الفرنسية، لم تتردد جبهة التحرير الجزائرية، المرة بعد المرة، في الدعوة إلى المفاوضات لإيجاد تسوية سلمية، ففي مارس، وأبريل، وأغسطس وأكتوبر من عام 1956 بذل الزعماء الجزائريون كل جهودهم لإقناع فرنسا بالموافقة على مبدأ المفاوضات، وفي عام 1957 في أكتوبر ونوفمبر جدد الزعماء الجزائريون سعيهم المتواصل في هذا السبيل.. وفي عام 1958 في سبتمبر وأكتوبر تابع الجزائريون مطالبتهم بالمفاوضات، وفي عام 1959 بادرت الحكومة الجزائرية، بعد إنشائها، للقيام بأربع محاولات للمفاوضات، في يونيو وسبتمبر وأكتوبر ونوفمبر، وحتى(1/173)
اجتماع ميلون في يوليو 1960 للإعداد للمفاوضات، قد تم بناء على مبادرة الزعماء الجزائريين.. وهنا.. هنا في أروقة الأمم المتحدة كان الوزراء الجزائريون يشعون سعياً حثيثاً مع وفود الدول الأعضاء ليكون قرار الأمم المتحدة متضمناً مبدأ المفاوضات.
وكان موقف فرنسا في هذا الصدد، تناقضاَ ومتبايناً، ففي بعض الأوقات كانت فرنسا ترفض المفوضات رفضاً قاطعاً، وفي مرات أخرى كانت فرنسا ترفض استخدام لفظ المفاوضات.. وأخيراً فإن الصائغين البارعين في الأمم المتحدة، وهم ينبشون القواميس الدبلوماسية، عثروا على تعبير فرنسي يقابل كلمة المحادثات، وذلك ليرضوا المشاعر الفرنسية الحساسة.. وهذا ما دعا الجمعية العامة أن تستخدم هذا التعبير الفرنسي في قرار الدورة السابقة (1) .. ذلك أنه لم يعد سراً، أنه، عبر السنين الماضيات، كان ينهال علينا سيل من المناشدات والنداءات، بأن نأخذ بعين الاعتبار مصالح فرنسا، وأن نمجد عظمتها، وأن نشبع غرورها، وأن نبالغ في امتداحها والثناء عليها، وأن نراعي عاطفتها الحساسة، ورقة شعورها.. وكثيراً ما كنا نستجيب لهذه النداءات.
ولم يقتصر الشعب الجزائري على المطالبة بالمفاوضات، بل أن حق تقرير المصير للشعب الجزائري كما أعلنه الرئيس ديغول في بيان 16 سبتمبر 1959 وقبلته الحكومة الجزائرية في 28 سبتمبر 1959 كان مطلباً جزائرياً على الدوام.. لقد كان حق تقرير المصير هو كلمة السر في الحرب الجزائرية والشعار القومي للشعب الجزائري.. ولولا الحساسيات الفرنسية لوجب علينا حين نشير في قراراتنا إلى المفاوضات وحق تقرير المصير أن
__________
(1) * التعبير الفرنسي Pourparlers وقد أصرت عليه فرنسا بدلا من لفظ Negotiation.(1/174)
نوجه نداءنا إلى فرنسا وإلى فرنسا وحدها، فلقد كانت الجزائر تقف دائماً إلى جانب مبدأ المفاوضات لتجري بصورة أمينة صادقة، وإلى جانب تقرير المصير يطبق بكل جد وعدالة.. ولكن فرنسا هي التي كانت تتخلف مرة، وتنتحل الأعذار مرة أخرى.
ولقد استطردت إلى هذه الجوانب من القضية الجزائرية عن قصد متعمد، لا عن غفلة ساهية.. فإن الذي أريد أن أؤكده لكم ، يا سيدي الرئيس أن الحكومة الجزائرية في الوقت الذي كانت فيه مستعدة للحرب، كانت كذلك مستعدة للسلام.. لقد كانت الحرب هي البديل الوحيد أمام الجزائر، بعد أن استنفدت جميع الوسائل السلمية.. لقد كان زمام المبادرة دائماً بيد الجزائر، للحرب والسلام، على السواء.. وإنني أؤكد لكم إنه حين كان الجزائريون يلحون على المفاوضات، والسلام عن طريق المفاوضات، فقد كان إلحاحهم صادراً من مركز القوة، حين كانوا يسجلون انتصاراتهم في الميدان، ظفراً بعد ظفر، وهذا هو سلا قوتهم..
ومن أجل ذلك، كان جلياً للعيان، أنه حينما أعلنت الحكومة الجزائرية في يناير سنة 1961 أنها على استعداد لأن تقبل بصورة رسمية الدخول في مفاوضات مع الحكومة الفرنسية استجابة لقرار الجمعية العامة الأمم المتحدة، إنما فعلت ذلك رغبة منها في السلام، وفي الحرية التي تستهدف السلام، لقد أخذت الحكومة الجزائرية زمام المبادرة وأدى ذلك إلى مؤتمر أفيان الذي عقد في مايو 1961.. ولقد كان سرورنا عظيماً أن فرنسا قد تخلت أخيراً عن أسطورة "الجزائر فرنسية"، وشرعت في مفاوضات مباشرة مع الحكومة الجزائرية.. ولكن أسفنا كان عظيماً كذلك أن هذه المفاوضات قد فشلت، وكان سجل هذا العام يتسم بطابع خاص، تعاقب فيه الأسف على السرور، فقد بدأت(1/175)
المفاوضات وكان فرنسا الفضل في بدايتها وكلنها تتحمل وزر فشلها.. لقد عاد لفرنسا عنادها القديم في موضوع الصحراء، ووحدة التراب الجزائري.. وكان حرياً بالجنرال ديغول، وقد ارتبط اسمه بشمال إفريقيا، أن يكو أكثر معرفة بالتاريخ والجغرافيا.. أو وحدة الجزائر حتمية كالقدر، وأن سلامتها الإقليمية، بشواطئها وجبالها وصحرائها، حاسمة قاطعة.. لا تقبل جدالاً، ولا قيلاً وقالاً.. إن الجزائر ترفض أن تطرح هذه الأمور على مائدة المفاوضات، حتى لو أدى ذلك إلى أن تصبح الحرب الجزائرية حرب الماية عام (1) ..
إن في القضايا الوطنية أموراً أساسية لها مناعتها وحصانتها، إنها تأبى بطبيعتها أن تكون موضع مفاوضات.. وبالنسبة للقضية الجزائرية فإن وحدة الشعب الجزائري ووحدة وطنه لا تقبل المفاوضة أو المساومة.. ونحن نرفض ذلك الآن وإلى الأبد.. وإننا لنتساءل هل كان الجنرال ديغول، وهو يقود النضال الفرنسي، مستعداً لأن يرضى بالمفاوضة على وحدة الشعب الفرنسي ووحدة الوطن الفرنسي، إن الواقع التاريخي المجيد أن الجنرال ديغول قد بدأ حربه التحريرية بمقاومة أولئك العملاء الفرنسيين الذين لم يخلصوا لوحدة الشعب الفرنسي، ووحدة الوطن الفرنسي.. لقد اعتبرهم الجنرال ديغول خونة مارقين، وأعلن الحرب عليهم كما أعنها على جميع أعدا الوطن.
ومهما يكن الأمر فإن المفاوضات قد أظهرت أين يقف هذا الفريق، وأين يقف ذاك الفريق، وأظهرت كذلك، بما لا يرقى إليه الشك، موقف الفريقين من قرار المم المتحدة، وأيهما دخل المفاوضات برغبة صادقة
__________
(1) * هي حرب المئة عام الشهيرة في التاريخ وقد وقعت بين إنجلترا وفرنسا في عام 1320 وانتهت في عام 1453.(1/176)
وباعتراف مخلص بالمبادئ الثلاثة: الاستقلال، وحق تقرير المصير، والوحدة الجزائرية.. والوقع أن مؤتمر أفيان قد أوضع أي الفريقين هو الذي نسف الهدف الذي من أجله عقد المؤتمر، إن وقائع المفاوضات بمختلف مراحلها واضحة أمامنا الآن كل الوضوح، ومنها نستطيع أن نستنتج، وبها نستطيع أن نحكم.. على من يستحق الحكم.
وفيما يتعلق بالحكومة الجزائرية فإن سجل المفوضات وأضح أباداً، وناصع أبداً، ولقد كان مؤتمر أيفيان من غير جدول أعمال متفق عليه، ولكن الحكومة الجزائرية لم تشأ أن تعلق أهمية على هذا الموضوع البالغ الأهمية.. وقد تجاوزت الحكومة الجزائرية عن كثير من جوانب الغموض التي أحاطت بالمؤتمر وموضوعاته منذ البداية.. ففي 30 مارس 1961 أصدرت الحكومة الفرنسية بلاغاً رسمياً مبهماً أعلنت فيه أن المفاوضات ستدور حول "تقرير المصير والأمور المتصلة به". ولم تشأ الحكومة الجزائرية أن تلفت النظر إلى هذه الصيغة المغلفة بالغموض، وارتأت أن تسير ففي هذه الرحلة إلى نهايتها، رغماً عن الألغام التي كانت فرنسا قد زرعتها في الطريف منذ بدايتها..
إن هذا الموقف الذي اتخذته الحكومة الجزائرية كان في منتهى الإيجابية البناءة ، وليس هذا هو تحليلي الشخصي، ولكنه هو في صميم السياسة المعلنة التي أقرتها الحكومة الجزائرية إراديا صوت تلقائياً.. ففي عشية مؤتمر أفيان في 19 مايو 1961 أصدرت الحكومة الجزائرية من مقرها في تونس، بياناً سياسياً كشفت فيه عن خطتها في مؤتمر أفيان.. ولم تقتصر الحكومة الجزائرية على الإعراب عن أطيب تمنياتها بنجاح المؤتمر، ولكنها سردت المبادئ العامة التي تؤد إلى نجاحه، متناولة كل جوانب القضية(1/177)
الجزائرية.. والوقع أن الحكومة الجزائرية قد اتخذت من مفاوضات إيفيان مناسبة حية لتكشف عن حقائق الفضية الجزائرية أمام الرأي العام الدولي، حقائق عارية في رابعة النهار.. وليس في القضية الجزائرية ما يفرض الخفاء، فإنها تطالب بالحرية للجميع، والأخوة للجميع، والمساواة للجميع، وهذا هو شعار فرنسا الشهير.. واستناداً إلى ذلك فإن بيان الحكومة الجزائرية قد نص على ما يأتي: إن المفاوضات بين الحكومة الفرنسية والحكومة الجزائرية ستبدأ، غداً في إيفيان؟؟ وأن وفدنا سيحضر هذا المؤتمر برغبة قاطعة للوصول إلى حل حاسم للمكلة التي نشأت منذ 130 عاماً، إن وفدنا سيحضر المؤتمر على أمل بأن توضع نهاية للحرب، وأن السلام ممكن إذا توافرت الضمانات التي لا غنى عنها..
إن هدف الاجتماع في إيفيان يجب أن يكو تحرير الجزائر تحريراً حقيقياً شاملاً، وأن معنى هذا، أن الشعب الجزائري يجب أن يجد نفسه متحرراً من العبودية، بعد أم أخضع 130 عاماً للقانون الفرنسي، قانون القوى.. ومنذ نوفمبر 1945 إلى يومنا هذا قاتل الجزائريون من أجل استقلالهم وماتوا في سبيله، ولم تبخل الجزائر لتحقيق هذه الغاية بالأرواح والأموال.. وقد أصبح عسيراً أن نحصي شهداءنا.. وإن كفاح جيش التحريري الجزائري الذي لا يقهر، هو الذي جعل مفاوضات الغد ممكنة.. وأن هذه المفاوضات يجب أن تيسر لشعبنا أن يمارس ممارسة حقيقة سيادته، وأن يحقق استقلاله.."
وفيما يتصل بالسياسة الخارجية والعلاقات مع فرنسا فقد أعلنت الحكومة الجزائرية ما يلي:(1/178)
"في الشئون الخارجية: إن سياسة الجزائر تستهدف إقامة العلاقات المثمرة المتواصلة مع جميع الشعوب، وبطبيعة الحال مع الشعب الفرنسي. وإن الجزائر قد أغنتها تجارب حرب سبع السنوات، لترغب أن تساهم في بناء السلم العالمي.. وإن الجزائر المستقلة مستعدة أن تمد يدها إلى فرنسا.. وهي مستعدة كذلك أن تحترم المصالح الفرنسية التي لا تتعارض مع المصالح الجزائرية. وإنه من طبيعة الأشياء أن الشعب الجزائري، متحرراً من قيود العبودية، ستكون له أحسن العلاقات بالشعب الفرنسي.. وسرعان ما تنتهي الحرب ويتحقق الاستقلال، فإن العلاقات العادية بين الشعبين ليست ممكنة فحسب ولكنها مرغوب فيها.. وبين شعبينا سيكون المجال واسعاً للتعاون الحر".
أما بشأن الأقلية الأوروبية فقد أعلنت الحكومة الجزائرية قولها: "إننا نأمل أن تفهم الأقلية الأوروبية في الجزائر بصورة قاطعة أننا على أبواب عهد جديد، وأنه ليس لهم ما ينفعهم من ارتباطهم بالاستعمار.. وفي الجزائر سيكون لكل جزائري المكانة المرموقة.. وننحن نتطلع إلى مستقبل مليء بالسلام والتقدم في الجزائر".
ثم ذهبت الحكومة الجزائرية إلى مدى أبعد في الرغبة بنسيان الماضي، والتوجه أإلى مستقبل مشرق، فأعلنت نداء مؤثرا بكلمات، جاء فيها "إذا كانت فرنسا مستعدة بإخلاص لأن قلب صفحة الماضي الاستعماري بصورة نهائية قاطعة، فننحن مستعدون من جانبنا أن نضمد جراحنا ونتغلب على مشاعر المرارة في نفوسنا.."
وبهذه الروح الخيرة، يا سيدي الرئيس، اتجه وفد الحكومة الجزائرية إلى إيفيان يحمل العزم الصادق، والإخلاص العميق، تطلقاً إلى الحل السلمي(1/179)
الشريف العادل، وكان الوفد ممثلاً لوزارات الخارجية والمالية، والتنمية الاقتصادية والإعلام، وجيش التحرير الجزائري، وكان الوفد مخولاً أن يبحث جميع المسائل السياسية والاقتصادية العسكرية، ومفوضاً أن يدخل في مفاوضات حرية مع فرنسا، من غير شروط مسبقة إلا ما نص عليه قرار الأمم المتحدة، تقرير المصير على أساس وحدة الشعب الجزائري وسلامة الوطن الجزائري، وعلينا أن نقف قليلاً لنتابع سير المفاوضات في إيفيان.
انعقد المؤتمر في مايو 1961 في إيفيان، وبادر الوفد الجزائري إلى عرض القضية الجزائرية عل أبسط ما يكون، وبموضوعية واضحة.. فأعطى للجزائر ما للجزائر، ولفرنسا ما لفرنسا.. ابتدأ الوفد الجزائري بيانه قائلاً "إن الموضوع الذي يواجهنا في هذه الدقيقة هو استئصال الاستعمار من جذوره.." وإن هاتين الكلمتين "استئصال الاستعمار" على إيجازهما تحددان المشكلة وتحددان الحل.. إن القضية الجزائرية في لحمها وعظمها، هي قضية استعمار.. ولذلك فإن حلها، شأنها شأن جميع القضايا الاستعمارية، هو باستئصال الاستعمار.. وليس هذا ما يفرضه المنطق البسيط، بل إن هذه هي روح العصر، بل هي روح اليوم الذي نعيشه.. وبهذه الروح مضى الوفد الجزائري يؤكد في بيانه "إن تقرير المصير يجب أن يمارسه الشعب الجزائري، في معزل عن أية شروط". وبهذه الروح نفسها أكد الوفد الجزائري الضرورة الملحة لاحترام حق الشعب الجزائري في وحدته وسلامة وطنه، في جميع الظروف والأحوال.. ويتضح من هذا أن موقف الوفد الجزائري متفق تماماً مع قرار الأمم المتحدة، وكأنما كان الوفد الجزائري يقرأ في إيفيان، ما قررته الأمم المتحدة في نيويورك..(1/180)
ولم يكتف الوفد الجزائري بأن سرد مطالب الشعب الجزائري ووقف عندها، بل إنه ذهب إلى أبعد من ذلك، في محاولة صادقة لإزالة مخاوف فرنسا.. فمل يترك لها مات تخشاه حين أعلن "أن استقلال الجزائر ليس معناه العداء للأجنبي، وليس له أن يؤدي إلى الكراهية.. نحن نفهم الاستقلال في إطار العلاقات النافعة بين شعبين متحررين.. وأن هذه العلاقات يمكن تنميتها، ويمكن أن تنفع الشعب الفرنسي والشعب الجزائري".
إني لا أحسب يا سيدي الرئيس أنه يمكن أن يكون هنالك كلام أوضح من هذا الكلام الواضح، ولا أحسب أنه يمكن أن تكون هنالك عواطف أصدق من هذه العواطف الصادقة، لقد وضع الوفد الجزائري كل أوراقه على مائدة المفاوضات من غير مخادعة، ذلك أن الحكومة الجزائرية لم يكن عندها مات تخفيه، وما يحملها على اللف والدوران.. لقد كان موقفها وحدة الشعب الجزائري وسلامة وطنه.
ثم إن الوفد الجزائري قد عرض أكثر من ذلك.. لقد مد يد الصداقة مع فرنسا.. لقد أكد أن من اليسير أن يقوم تعاون مثمر وفعال، وصداقة مخلصة بين فرنسا من جانب، والجزائر المستقلة من جانب آخر.. إن الاستقلال في نظر الجزائر هو لتحقيق أسمى المطالب القومية وأنبل الأماني الوطنية لتتجلى في بناء دولة ديمقراطية ترعى حياة الجزائريين، جميعاً من غير تمييز.. إن اتقلال الجزائر معناه الاتصال لا الانفصال، معناه التعاون لا القطيعة، معناه الصداقة لا الكراهية، معناه المستقبل المشرق لا الماضي المرير – كل ذلك على أساس السيادة المتكافئة والاحترام المتبادل للمصالح المشتركة.. كان ذلك هو موقف الجزائر في إيفيان، موقف يتسم بالاستقامة والصدق، فماذا كان موقف فرنسا..(1/181)
لقد كان موقف فرنسا، يا سيدي الرئيس، قائماً منذ البداية على استراتيجية ملتوية، وتكتيك منحرف.. إن فرنسا لم تحضر مؤتمر إيفيان في نية صادقة لتنفيذ القرار الذي أصدرته المم المتحدة في العام الماضي.. لقد جاءت فرنسا إلى إيفيان لتقامر لا لتفاوض.. وكما هو معروف فإن إيفيان هي دار القمار الأولى في أوروبا.. وكذلك فقد جاءت فرنسا إلى المؤتمر لتغرق القضية الجزائرية في إيفيان، هوي المعروفة بحماماتها الشهيرة..فهل يريد الجنرال ديغول أن يقامر في إيفيان وعلى حساب القضية الجزائرية.؟.. ليس هذا السؤال من باب المجاز، فلنلق نظرة إلى الوراء على مؤتمر إيفيان، إلى يوم 20 مايو 1961، اليوم الذي افتتح فيه المؤتمر..
في ذلك اليوم، وعلى وجه التحديد بعد أربعين دقيقة من افتتاح المؤتمر، حين أن الوفد الفرنسي يلقي بيانه الأول ، أعلنت الحكومة الفرنسية هدنة في الجزائر.. وفي يظاهر الأمر كانت هذه الخطوة من جانب فرنسا مدعاة إلى التقدير، فوق أنها تدل على " الورع والتقوى"، ولكن لم تنقض لحظات بعد ذك حتى أدرك الرأي العام الدولي، بفطرته السليمة، حقائق الموضوع يتساقط عن جنباته القناع والستار.. لقد انكشف أولاً أن هذه الهدنة هي هدنة فرنسية، وحيدة الطرف، حتى أن الحكومة الجزائرية لم تبلغ بها.. ليست هذه هدنة .. إن الهدنة هي تدبير متفق عليه، يتم بالمفاوضة بين الفريقين المتحاربين.. فإذا أعلنه فريق واحد فهو خدعة لا هدنة.. ولا يكون إلا تكتيكاً مفضوحاً، خالياً من روح التكتيك..
لقد ظنت فرنسا أنها بهذه الخطوة تستطيع أن تأسر خيال رجل الشارع في فرنسا، وتربح الرأي العام الدولي، وتحرج الحكومة الجزائرية.. ولكن فرنسا قد أخفقت في تحقيق هذه الأهداف الثلاثة، فلقد خاب ظن(1/182)
المواطن الفرنسي في حكومته، وهزأ الرأي العام الدولي بفرنسا، وسخر الشعب الجزائري من هذه اللعبة المكشوفة... ذلك أن الخدعة سرعان ما اكتشفت، وبدا واضحاً أن الهدنة كانت مجرد إعلان من طرف واحد.. ثم إن الأمر كان أكثر إثارة للسخرية حينما عرفت التعليمات الخاصة التي وجهها المندوب الفرنسي العام في الجزائر بشأن تنفيذ الهدنة، وكأنما الحكاية لا تعدو أن تكون مسرحية أخرى في "الكوميدي فرانسيز"، لقد خولت تلك التعليمات الحرية الكاملة للجيش، "القيام بعمليات هجومية حيثما كان، وحينما تقضي الظروف". وبدا جلياً أن هذه الهدنة هي أشبه ما تكون بمهرجان الكرنفال، ولكن خالياً من جماله وروعته.
أما بالنسبة للحكومة الجزائرية فقد كانت "الهدنة" مفاجأة لها، وإن لم تذهلها هذه المفاجأة.. هذه الهدنة لم تحرج الحكومة الجزائرية، ذلك أنها لم تكن أكثر من "ضربة تسلل" وأن الذين يعرفون لعبة الكرة يعرفون معنى "ضربة التسلل"، والمتمرسون برماية النار يسمونها طلقة فارغة، أو طلقة إلى الخلف، لا تصل إلى الهدف ولكنها تصيب صاحبها.. ولقد أصدرت الحكومة الجزائرية من مقرها في تونس بياناً بتاريخ 21 مايو 1961 أعلنت في أنها لا تعلم شيئا عن هذه الهدنة الفرنسية.. وبدلك لم يتيسر للخدعة أن تخدع أحداً..
وفيما يتعلق بجوهر المفاوضات في أيفيان فإن موقف الحكومة الفرنسية كان أسوأ من حكاية الهدنة، وأنكم يا سيدي الرئيس قد تغفرون لفرنسا خدعتها ومناوراتها بصدد الهدنة، مجاملة لها، ولكني واثق بأنكم لن تقبلوا لها عذراً ولا دفاعاً بصدد جوهر الموضوع نفسه.. إن موقف فرنسا يجلب لها المهانة ويجعلها جديرة بالإدانة.. لقد تصرف الوفد الفرنسي بصدد(1/183)
المفاوضات تصراً جعل من إيفيان ذات الحمامات، إيفيان ذات حقل الألغام.. وكأنما زرعت تلك الألغام في إيفيان لتنسف تقرير المصير وتدمر الاستقلال، ففي 8 يونيو 1961 قدم الوفد الفرنسي خطة لما أسماه "إزالة الاستعمار"غير أن الأمر لم يكن يحتاج إلى ذكاء خارق ليكشف المرء أن ما أسمته فرنسا "إزالة الاستعمار"، إنما هو استعمار جديد تحت شعار جديد.. وحتى نزلاء مصحة الأمراض العقلية في باريس، كان يسيراً عليهم أن يروا أن الخطة الفرنسية، إنما هي استعمار عن طريق المفاوضات.. وإذا قبلت الجزائر بالخطة الفرنسية فإن النتيجة ستكون استعماراً بالتراضي.. بل إن ذلك ليعني بصورة أكيدة أن الجزائر قد قاتلت 130 عاماً لتضفي الصفة الشرعية على السيطرة الفرنسية.. وإليكم النقاط الرئيسة في الخطة الفرنسية.
ولنبدأ بموضوع الأقلية الأوروبية، فلقد نص الوفد الفرنسي في بيانه على وجود "الجماعة" الأوروبي بضمانات "كيانية" ودستورية.. ويتضمن هذا النص، في جملة ما يتضمن، حق التمثيل في البرلمان الفرنسي لهذه "الجماعة الأوروبية" في كيان منفصل .. وبهذا فإن الخطة الفرنسية تقيم في داخل "الدولة الجزائرية" دويلة أوروبية، أوروبية دائماً ومفضلة متميزة دائماً.
وبصدد الصحراء، فإن الحجة الفرنسية تقوم على الأسطورة القديمة –الصحراء الفرنسية. ذلك أن فرنسا تزعم أن الصحراء ليست قطعة من الجزائر ولكنها قطعة من فرنسا.. وهذا زي فرنسي قديم، ليس له جمال الأزياء ولا فتنتها.. وواضح أن الكلمة الأجنبية "سهارا" مأخوذة عن اللفظ العامي والفصيح " للصحراء"، منذ كانت اللغة العربية ومنذ كانت الصحراء... وإذا كانت أسطورة الجزائر الفرنسية قد تحطمت، فإن هذا يستتبع أن تتحطم معها أسطورة الصحراء الفرنسية في الجزائر الحرة، بل في(1/184)
إفريقيا الحرة.. إن أسطورة الصحراء الفرنسية لن تكون موجودة إلا في صحراء الأسطورة الاستعمارية، وما أخصبها في خيال الاستعمار الفرنسي العقيم!
وفوق هذا فإن الخطة الفرنسية تتضمن خرافات سياسية أخرى.. لقد طالب الوفد الفرنسي بإنشاء مناطق عسكرية داخل الدولة الجزائرية... وليست هذه قواعد حربية ولكنها مناطق شاسعة بكاملها، مخصصة لأغراض عسكرية، ويكون لفرنسا عليها سيادة كاملة، وبهذا يكون لفرنسا دويلات عسكرية موزعة هنا وهناك في داخل الدولة الجزائرية.
يضاف إلى ذلك أن الخطة الفرنسية تدعو إلى إنشاء نظام خاص في مدن معينة، يعاد فيها تجميع الأوروبيين، وبهذا تنشأ دول المدن (1) ، لتذكرنا بدول المدن التي كانت سائدة في اليونان القديمة.
ولهذا فإن الخطة الفرنسية يا سيدي الرئيس هي خطة كاملة، ولكن.. من أجل تهشيم تقرير المصير، وتجزئة الوطن الجزائري، وتحطيم وحدة الشعب الجزائري.. وفوق هذا وذاك فإنها تصنع كوكتيلاً من الدول، على المذاق الفرنسي.. الدولة الأوروبية دولة المدن، دولة الصحراء، وأخيراً دولة الجزائر، محطمة مهشمة ممزقة.
ورغما عن أن هذه الخطة الفرنسية كانت مشينة، فقد استمر الوفد الجزائري، يعارض، مناقشاً ومجادلا بصبر بارد وحماسة دافئة.. وراح يفند الخطة الفرنسية موضوعا موضوعا.. ولكن جميع الحجج لم تكن تقنع الوفد الفرنسي بالرضوخ إلى قرار الأمم المتحدة وإلى ميثاقها، حتى تلك الحجج المنبثقة من قرار الأمم المتحدة وميثاقها.. وليضيف الإهانة إلى الأذى فقد
__________
(1) * City State(1/185)
قرر الوفد الفرنسي، فجأة وبعد ثلاثة أساببع من المفاوضات وقف أعمال المؤتمر، بدون بيان أي سبب من الأسباب.
وكان هذا الموقف من جانب فرنسا بغير علم الوفد الجزائري أو موافقته، تماماً كموقفها من حكاية الهدنة في بداية أعمال المؤتمر.. وحتى لعبة الكرة لها نظام ولها تقاليد، ولا يصح لأحد الفريقين أن يوقف اللعب وحده، بناء على مشيئته واختياره.. ولكن الوفد الجزائري اعتصم بالصبر والأناة، وأعرب عن استعداده لاستئناف المفاوضات حينما يحلو للفريق الفرنسي أن يعود إلى اللعب مرة ثانية.
وبدلاً ممن أن تنصرف فرنسا في ذلك الوقت إلى دراسة الموقف من جديد، أثبتت الأحداث فيما بعد، أن فرنسا قد أطلقت حملة من الحرب النفسية.. فلقد ألقت فرنسا الذنب في تعثر المفاوضات على عتبات الوفد الجزائري.. فلقد ألقى المسيو لويس جوكس الوزير الفرنسي لشؤون الجزائر، بياناً أذيع في الراديو والتلفزيون، عن سير المفاوضات في مؤتمر أيفيان، ملخصاً موقف الوفد الجزائري كما يلي: "نحن لم نستطع أن نتبين موقف جبهة التحرير الجزائرية بصدد أي من المواضيع المطروحة على المؤتمر.. حتى أننا وجدنا أنفسنا نلام للقرار الذي اتخذناه بشأن وقف الأعمال الحربية، ذلك القرار الذي اعتبر مناورة عسكرية.. وفي المواضيع الأخرى كان ممثلو جبهة التحرير الجزائرية يقيدون أنفسهم بأمور نظرية مجردة، أو يلتزمون الصمت، أو أنهم يعربون عن نوايا طيبة، سرعان ما تجدها تطير في الهواء حينما نحاول أن نمسك بها".(1/186)
إن هذا البيان الفرنسي، على لسان الوزير الفرنسي، هو بيان قائم على الأباطيل، ونحن نأسف لأن الوزير الفرنسي للشئون الجزائرية قد جعل من نفسه وزيراً للتضليل في الشئون الجزائرية!!
لقد أوضحت لكم أن الوفد الجزائري قد كشف عن موقفه في جميع المواضيع كشفاً صريحاً شاملاً وإنه افتئات على الحقيقة أن يقول الوزير الفرنسي أن الوفد الجزائري قد قيد نفسه بأمور نظرية مجردة، إن الوفد الجزائري قد طرح جميع المشاكل واقترح جميع الحلول، حلا لكل مشكلة.. مشكلة.. وإنه افتراء على الصدق كذلك، أن يقول الوزير الفرنسي أن الوفد الجزائري قد التزم الصمت.. لقد شرح الوفد الجزائري موقفه من القضية الجزائرية بكل جوانبها، وبكل صراحة.. وليست لديه أسرار يخفيها، ولا شؤون يخجل منها.. وهل تستطيعون تصديق هذا الكلام، وهل يعقل أن يلوذ الوفد الجزائري بالصمت، ويدافع جيش التحرير الجزائري يتجاوب هديرها في جبال الجزائر وسهولها وأوديتها تدوي بمطالب النضال الجزائري في الحرية والاستقلال.
والواقع أن الوفد الجزائي قد أعلن موقفه في جميع جوانب القضية الجزائري، ببيانات رسمية مدونة، ففي 10 يونيو 1061 قدم الوفد الجزائري إلى مؤتمر ايفيان، وما أظن ذلك من أسرار المفاوضات، مذكرة خطية وصفها الوفد الجزائري بأنها "تأخذ بعين الاعتبار جميع الحقائق، وجميع العوامل الإنسانية والنفسية في نطاق خطة صادقة لإزالة الاستعمار والتعاون المثمر".
وإني أستأذنكم يا سيدي الرئيس أن أخرج من نطاق التعميم إلى التخصيص، لنضع الأمور في نصابها الصحيح..(1/187)
في ما يتعلق بالصحراء فلقد أوضح الوفد الجزائري "بأن الجزائري لن تنسى أن الصحراء تحت السيادة الجزائرية ستكون مفتوحة أمام الإنتاج الكامل، وأن تستغل ثروتها إلى أبعد حد.. وسنأخذ بعين الاعتبار مصالح الأقطار المجاورة، وكذلك مصالح إفريقيا وفرنسا نفسها، وسيكون المجال مفتوحاً كذلك أمام جميع الدول الراغبة في التعاون معنا على قدم المساواة".. ليس هذا صمتاً ولا أفكارا مجردة من جانب الجزائر، كما زعم الوفد الفرنسي. إن هذه كلمات واضحة أرسلها الوفد الجزائري في صيحة عالية في داخل المؤتمر، تنادي بالتعاون مع الجميع لصالح الجميع، وفرنسا مشمولة في ذلك.
وفيما يتعلق بالأقلية الأوروبية، فقد أكد الوفد الجزائري أن "الجزائر لا تمنع الجنسية الجزائرية عن الأقلية الأوروبية، ولكنها لا تفرضها عليها. إن الحكومة الجزائرية تعرض الجنسية الجزائرية على الأقلية الأوروبية، من شاء منهم أن يرغب فيها، وإن هذا الحل ينطوي على أقصى قدر من الواقعية والإنسانية والديمقراطية.. وإن نتائج هذا الحل واضحة كل الوضوح.. سيكون لجميع الجزائريين من غير تمييز نفس الحقوق ونفس الواجبات، وسيشاركون في الحياة السياسية العامة للشعب". ولا شك يا سيدي الرئيس في أنكم ستقولون مع الوفد الجزائر إن هذا الحل ينطوي على أقصى قدر من الواقعية والإنسانية الديمقراطية.
أما فيما يتعلق بالضمانات المحددة الخاصة بالأوروبيين، فقد أعلن الوفد الجزائري ما يلي: "نحن حريصون على أن نوضح تماماً حقوق الجزائريين الذين هم من أصل أوروبي.. نحن على استعداد لأن يبحث جميع الضمانات التي تكفل لهم الحقوق الإنسانية والمدنية، سواء بالنسبة للأحوال(1/188)
الشخصية، والتعليم، والحرية الدينية، أو في سائر المجالات التي تضمن لهم ممارسة جميع نشاطاتهم من غير إكراه ولا إجبار".. ثم مضى الوفد الجزائري في شرح هذا الموضوع قائلاً: "إن الأوروبيين الذين يريدون أن يبقوا فرنسيين فذلك حقهم، وبهذا فإنهم يختارون أن يكونوا أجنب، وبهذه الصفة فإنهم يستطيعون أن يتمتعوا بالضمانات المقررة .. أما الفرنسيون الذين يريدون أن يحتفظو بجنسيتهم فنحن مستعدون أن نبحث موضوعهم بصورة واقعية... ومهما كان عددهم ووضعهم، فنحن عل استعداد لأن نحدد الضمانات التي تكفل لهم بصورة مشروعة الاستمرار في الإقامة في الجزائر، في إطار السيادة الكاملة للدولة الجزائرية". هذا هو موقف الجزائر بالنسبة للأقلية الأوروبية من حيث المبدأ وأن حيث التفاصيل، فهل يمكن أن يوصف هذا الموقف بأنه ينطوي على الصمت؟ إلا إذا كان للصمت معنى آخر في القاموس الفرنسي.
أما بشأن القواعد العسكرية فقد كان موقف الوفد الجزائري غاية في المسؤولية الرشيدة والسداد، فقد قال الوفد الجزائري ما يلي: "إن الوفد الجزائري لم يعالج هذا الموضوع من الزاوية المعروفة.. لقد جعله الوفد الفرنسي موضوعاً إقليمياً، تريد فرنسا من ورائه أن تحتفظ عليه بسيادة كاملة، وبهذا فإنها تنتقص من وحدتنا الإقليمية وسيادتنا الوطنية". لقد كان هذا الموقف من جانب الوفد الجزائري موقفاً دبلوماسياً بارعاً ذكياً، نابعا من ذهن متفتح.. لقد ذكر الوفد الجزائري بمقدرة وكفاءة ، الوفد الفرنسي بأن يعالج الموضوع من زاوية المعتاد لا على اعتبار أنه موضوع إقليمي، بل من زاوية أخرى يتفق عليها بين الفريقين.(1/189)
هذه، يا سيدي الرئيس، هي الجوانب المتعددة للقضية الجزائرية –الصحراء، الأقلية الأوروبية، والقواعد العسكرية، ولقد عالج الوفد الجزائري هذه القضايا معالجة كاملة شاملة، فلم يلجأ إلى الصمت ولا لجأ إلى الجدل النظري وفي كل موضوع تقدم الوفد الجزائري بحلول تتفق مع ميثاق الأمم المتحدة، وتنسجم مع قراركم الذي أصدرتموه في العام الماضي.
والواقع أن البعثة الجزائرية الدائمة لدى الأمم المتحدة قد أفاضت في شرح موقف الجزائر في تقرير تقدمت به إلى المجموعة الآسيوية الإفريقية.. وقد عالج هذا التقرير مختلف جوانب القضية الجزائرية، على هدى المبادئ الأساسية التي التزمت بها الأمم المتحدة.
في صدد الأقلية الأوروبية أوضح التقرير أن الجولة الجزائرية المقبلة ستضمن لجميع الجزائريين جميع الحقوق من غير نظر إلى أصولهم، وأعلن التقرير أن "الجزائر ترفض رفضا باتا أية فكرة من شأنها، أن تمنح أية جماعة عنصرية امتيازات خاصة، وتعتبر هذا العمل منافيا للديمقراطية، إن تصنيف الجزائريين على أسس عنصرية إنما هو تهديد للاستقلال الذي كافح الشعب الجزائري من أجله زمناً طويلا.. غير أن الحكومة الجزائرية لا يغيب عن بالها الخصائص الذاتية للأقلية الأوروبية في النواحي الثقافية واللغوية والدينية... لقد أعلنت الحكومة الجزائري المرة بعد المرة أنها على استعداد لأن تمنح الجنسية الجزائرية لجميع الأوروبيين الذين يرغبون بأن يصبحوا جزائريين.. ومن ناحية أخرى فإن الذين يريدون أن يبقوا فرنسيين، وأن يستمروا في العيش في الجزائر، فلهم الحرية الكاملة في ذلك.. وستوفر لهم الضمانات اللازمة التي تتفق مع السيادة الجزائرية، ومع القوانين المعمول بها.. ونحن نتطلع إلى حل يستند إلى مفهموم الديمقراطية الصحيح.. نحن(1/190)
نعتر ف بالخصائص الذاتية للأقلية الأوروبية، نحن مستعدون لأن نمنح الجنسية الجزائرية الكاملة والمساواة الشاملة للأقلية الأوروبية وفيها عدد من أشد أعدائنا".
وإني لأعجب يا سيدي الرئيس، وأتساءل، هل تطلب فرنسا مزيداً على ذلك من الحكومة الجزائرية؟؟ إن هذه الضمانات، وأقولها بكل صراحة، هي ضمانات مميزة تكاد أن تصبح نظاماً مفضلا، لم تمنحه أي من الخمسين دولة التي حازت على استقلالها، منذ أن نشأت الأمم المتحدة.
وفيما يتعلق بموضوع الصحراء فقد ذكر تقرير البعثة الجزائرية ما يلي "إن الحكومة الجزائرية تميز بين السيادة على الصحراء، وموضوع استثمار ثرواتها الطبيعية، إن الثروة الطبيعية يجب أن تنتفع بها إفريقيا تعن طريق التعاون المثمر.. وإن هذا التعاون يمكن أن يتحقق مع فرنسا، خصوصا إنها قد بدأت فعلا في مشروعات الاستثمار".
وهذه، يا سيدي الريس، هي السياسة المعلنة للجزائر بشأن الصحراء.. إن الجزائر تدعو فرنسا إلى الاستثمار المشترك، وفرنسا تصر على الاحتكار.. وإننا نترك الأمر لكم، لتحكموا أي الفريقين أكثر عدلا، وأصدق موقفا؟؟
أما بشان المناطق العسكرية فقد ذكر تقرير البعثة الجزائرية "أن هذا الطلب يتنافى مع الوحدة الإقليمية للوطن الجزائري ومع مبدأ تقرير المصير، لأن هذا المبدأ يجب أن ينطبق على جميع الجزائر وجميع الجزائريين.."
هذا يا سيدي الرئيس موقف الجزائر من القضية الجزائرية، كما عرض في مؤتمر ايفيان وفي الأمم المتحدة، وهو موقف في غاية الوضوح والشمول، ولا يمكن تشويهه وتزييفه، إن أدوات التجمل في باريس تستطيع(1/191)
أن تصنع الجمال.. هاذ ما نعترف به، ولكنها لا تستطيع أن تجعل الجميل قبيحاً!!
ولكن فرنسا لم تقتصر على التشويه والتزييف، بل أنها استغلت فترة إيقاف مؤتمر ايفيان، وراحت تضرب في ميدان الدسائس والمؤامرات.. وبدلا من أن تستخدم تلك الفترة في مراجعة الموقف مراجعة رشيدة، سددت فرنسا ضرباتها في ثلاث جبهات لتضعف موقف الحكومة الجزائرية، غير أن فرنسا قد هزمت في الجبهات الثلاث.. وكانت هزيمة مجيدة!!
ولقد كانت الهزيمة الأولى مع الدول الإفريقية المجاورة للصحراء.. فقد لجأت فرنسا إلى الأسلوب القديم –فرق تسد- فاتصلت بتلك الدول، وهمست في آذانهم إن مطالب الجزائر بشأن الصحراء لن تترك لمصالحهم أي مجال، وستسد الطريق على جميع ادعاءاتهم.. ولكن الحكومة الجزائرية قد أفسدت على فرنسا هذه الفرية، فاتصلت بوزارات الخارجية في تلك الدول وأوضحت لها موقف الجزائر من موضوع الصحراء، وكانت النتيجة نصراً للجزائر وهزيمة لفرنسا.. وقد تجلى ذلك في الموقف الرائع الذي أعلنته الدول الإفريقية، في أن موضوع الصحراء يمكن أن يحل بصورة ودية بين الدول الإفريقية ذاتها، ولكن بعد استقلال الجزائر.
أما الجبهة الثانية فقد فتحتها فرنسا في الجزائر نفسها.. فلقد طار المسيو جوكس، بعد مؤتمر ايفيان مباشرة إلى الجزائر في محاولة يائسة لإنشاء "سلطة تنفيذية" من زعماء الجزائر المسلمين، وهي السلطة التي حاولت فرنسا إنشاءها عدة مرات.. ولقد اتصل المسيو جوكس ومعاونوه بجميع الزعماء الجزائريين في جميع المدن والمقاطعات الجزائرية.. وقد جرت أحاديث تفصيلية بين الجانبين الفرنسي والجزائري، ولكن جواب(1/192)
الجزائريين كان قاطعا حاسما.. فقد رفض الزعماء الجزائريون أن يتعاونوا مع السلطة الفرنسية من غير موافقة الحكومة الجزائرية.. ولقد واجه المسيو جوكس كلمة "لا"حتى من أولئك الذين يعرفون بأنهم جماعة "نعم" في الجزائر، وجماعة "نعم" يمكن أن تكون في كل شعب، وعلى حافة كل حركة تحريرية في العالم. وهكذا فقد فشل المسيو جوكس وطار إلى فرنسا ليرفع تقريراً عن فشله الذريع، وثبت مرة أخرى أكثر من أي وقت مضى، أنه يستحيل عل فرنسا أن تصل إلى أية نتيجة من غير موافقة الحكومة الجزائرية.. وأنه لجهد يقصم الظهر، أن تحاول فرنسا العمل من وراء ظهر الحكومة الجزائرية..
وكانت الجبهة الثالثة مركزة على موضوع تقسيم الجزائر.. وقد قاد هذه الحملة الرئيس ديغول بنفسه.. فيفي الحلة الكبرى التي أقامها في حديقة الاليزيه تفجر الرئيس ديغول، وثورة وغضبا، على الحكومة الجزائرية لأنها رفضت خطة "الجمعية الجزائرية الفرنسية" وقد بدا في ملاحظاته تهديد صريح بتطبيع فكرة التقسيم في الجزائر.. لقد تحدث الرئيس ديغول عن "إعادة التجميع"، وهو تعبير ابتدعه الرئيس ديجول، يدعو بموجبه إلى تجميع الذين يريدون أن يبقوا فرنسيين في منطقة مجددة من الجزائر، إذا اختار الجزائريون الاستقلال.. "وإعادة التجميع"هو "كبسولة"حلوة تخفي مرارة التقسيم.
وأنه ليس سرا يا سيدي الرئيس، أن بين ملفات وزراء الخارجية الفرنسية ملفا ضخما خاصا بتقسيم الجزائر، ويتضمن هذا الملف خطة متصلة يكون بموجبها للجزائريين الصحراء القاحلة.. والناطق الجبلية، أما الفرنسيون فإن هذه الخطة تعطيهم منطقة وهران – اوزو، مستغانم التي تحتوي 44 في المائة من كروم الجزائر و27 في المائة من الموالح و50 في المائة من(1/193)
الإسمنت، مع السيطرة على غاز حاسي الرمل.. وتعطيهم كذلك سهل ميجا وشاطئ الجزائر، بما يحتوي من 20 في المائة من الكروم و20 في المائة من التبغ و42 في المائة من الموالح و50 ي المائة من الإنتاج الصناعي.. وتعطيهم كذلك منطقة بوجي التي تسيتطر على نقل مصنوعات الحجيج في حاسي بون، وتحتوي على 65 بالائة من إنتاج العطن، و50 بالمائة من التبغ، و12 في المائة من الموالح و19 بالمائة من إنتاج الكهرباء.. وبموجب هذه الخطة فإن فرنسا تسيطر على 750 كيلو مترا من ألف كيلو من الشاطئ الجزائري، وأغنى الأراضي التي تمون الإنتاج الزراعي بما تقدر قيمته باثنين بليون فرنك "جديد"، من أصل اثنين ونصف بليون فرنك تمثل مجموع الإنتاج في البلاد.
وبهذه الخطة ما تفتأ فرنسا تهدد الحكومة الجزائرية، وخاصة بعد مؤتمر ايفيان، ولكن الجزائر حكومة وشعبا لا يمكن أن ترتجف أمام هذه الخطط الاستعمارية .. إن الجزائر أصلب عوداً مما تظن فرنا، ولا يمكن أن ينثني عزمها أمام هذه التهديدات والمناورات.. لقد قاتل الشعب الجزائري من أجل وطنه قرابة 130 عاماً.. وفي الحربين العالميتين صمد المقاتلون الجزائريون إلى النهاية، دفاعاً عن حرية فرنسا، حينما كان مرشالات وجنرالات فرنسا يوقعون صكوك الاستسلام، واتفاقات الهزيمة والعار.
وجوابا عن تهديدا الرئيس ديغول التي أطلقها في حدائق الاليزيه.. أعلنت الحكومة الجزائرية تجديا مكشوفاً ، لا في القصور ولا في الحدائق، ولكن في الجزائر كلها، في مدنها وقراها وفي جبالها وسهولها، إلى آخر أكواخها وخيامها.. لقد أعلنت الحكومة الجزائرية اليوم الخامس من شهر يوليو "اليوم الوطني ضد التقسيم"، ولقد أصبح ذلك اليوم تاريخيا في عمر الجزائر.(1/194)
وكانت النتيجة فيوق ما يتوقع أكثر الناس تفاؤلا.. فلقد أضربت الجزائر لمدة 24 ساعة.. وأخفقت كل وسائل الإرهاب لإحباط الإضراب. وفي الجزائر العصمة وحدها، كان ما يقرب من 35 ألفا من رجال الجيش والشرطة ليقمعوا المظاهرات العامة.. ولم تكن هذه مظاهرات عادية.. في بذلك اليوم كان الشعب الجزائري كله في الشوارع،وفي الساحات، في الميادين العامة، احتجاجا على التقسيم... وفي مجلة "كايمي انترناسيونو" في عددها الصادر في يوليو – أغسطس، أعلن الكاتب الفرنسي المعروف "مسيو لنسن" أن صيحات "لا تقسيم في الجزائر" ترددت ألولف المرات في ذلك اليوم.. ثم تساءل الكاتب.. وقد تساقط المئات من القتلى والجرحى، "من الذي يشك في قوة الحكومة الجزائرية، بعد هذا الاستفتاء الشعبي الذي سالت فيه الدماء في الشوارع".
حقا يا سيدي الرئيس، فقد كان الخامس من يوليو يوما قوميا عظيما، لقد قالها الشعب الجزاري كلمة واحدة للجنرال ديغول: إن الجزائر واحدة ولا يمكن تقسيمها.. ولقد دهشت صحيفة المساجرو في روما، وهي المعروفة بولائها لباريس، فقالت: "لقد أثبت اليوم الخامس من يوليو القدرة الفائقة للحكومة الجزائرية، التي استطاعت في الوقت المناسب أن تعبئ شعور المسلمين جميعاً في الجزائر.. والواقع أن المسلمين في الجزائر يعتبرون الحكومة الجزائرية حكومتهم الشرعية.. وأن اليوم الخامس من يوليو كان انتصاراً مجيداً للثوار، من ناحية سياسة ومعنوية".
وحتى قبل أن يبدأ الإضراب، تنبأ مدير دائرة الأنباء في الإدارة الفرنسية في الجزائر، بأن مائة في المائة من المسلمين في الجزائر سيلبون نداء الإضراب، وكما توقع المسيو كودي فرجيك ، مدير الدائرة المشار إليه،(1/195)
فقد أو قع الإضراب في ذلك اليوم شللا كاملا في النشاط الاقتصادي في جمعي أنحاء البلاد..
وبعد انقضاء خمسة أسابيع على هذه الهزائم، في الفترات التي توقفت فيها أعمال مؤتمر ايفيان، استؤنفت المفاوضات بين الجانبين في 20 يوليو، ولكن هذه المرة في "لوغران".. ولقد أدركت فرنسا أنها لن تستطيع إغراق القضية الجزائرية في حمامات ايفيان، فنقلت مقر المؤتمر إلى "لوغران"، فتعالوا معي لنرى مصير المفاوضات في مرحلتها الثانية..
وكما في ايفيان فقد أعاد الفريقان موقفيهما في "لوغران"، وفي هذه المرة أعد جدول أعمال دقيق بناء على طلب الحكومة الجزائرية.. لم يترك هذا الجدول أي موضوع يتصل بتطبيق مبدأ تقرير المصير، أو في الأمور التي يجب أن تقرر بالنسبة لمستقبل الجائر.. وقد تولى الوفد الجزائر بسط القضية الجزائرية بصورة كاملة مفصلة.. وابتدأ بموضوع الأقلية الأوروبية فكان غاية في الديمقراطية الحرة.. فأعلن قوله "إن الجزائر هي البلد المستعمر الوحيد الذي يعرض من تلقاء نفسه حقوق الجنسية على رعايا الدولة المستعمرة. وبهذا نحن لا نثبت بأننا منسجمون مع روح العصر الذي نعيشه فحسب، ولكننا نؤكد أن سياستنا قائمة على الحكمة والواقعية، إلى جانب العدل والاحترام المطلق للإنسان.."
أما موضوع الصحراء، وهو مسألة مفتوحة للمفاوضات مع الجزائر المستقلة، فقد أكد الوفد الجزائري أنه يجب استطلاع جميع أفاق التعاون .. وأعلن الوفد الجزائري من جديد استعداد الجزائر للوصول إلى اتفاق بشأن استثمار الصحراء.. ولكن على أساس أنها جزء لا يتجزأ من الجزائر المستقلة.(1/196)
ولكن الوفد الفرنسي بقي متخندقا في خنادقه لا يتراجع خطوة واحدة في سبيل الوصول إلى التفاهم، ولقد ربطوا مصير المؤتمر بالصحراء، وربطوا مصير الصحراء بالمصالح الفرنسية، فلقد كانت الصحراء لفرنسا، مشكلة قائمة بذاتها، وذلك هو الشعار الذي كان يردده الوفد الفرنسي.. ولكن الصحراء لا يمكن أن تكون "مشكلة بذاتها"، إن الصحراء تؤلف أربعة أخماس الجزائر، وإن وحدة لوطن الجزائري تعبير لا معنى له إذا كان أربعة أخماس الوطن يؤلف منطقة منفصلة قائمة بذاتها .. ولا يمكن أن يكون هنالك وطن جزائري بدون الصحراء، إن الحديد في تندوف، والفحم في جنوب وهران، والمعادن المشعة في هوجار، والزيب في حاسي مسعود والدحبيلة، والغاز في الرمل ، كل هذه الثروات الطبيعية يجب أن لا تكون سبباً في تجزئة الجزائر بل في وحدتها.. إن هذه الثروة الطبيعية يجب أن تكون نعمة، لا نقمة عل الشعب الجزائري، فإننا لا نعرف خطراً أدهى وأمر من التقسيم.
وفضلاً عن ذلك، فإن الأمم المتحدة، منذ إنشائها، وهي مهتمة بالمعاونة الاقتصادية والفنية تقدمها للدول النامية.. وإنها تكون، بلا شك، هزيمة منكرة للأمم المتحدة إذا كان على أي بلد أن يحرم من سيادته على رقعة من أرضه بسبب الثروة الطبيعية الكامنة فيها.. إن الجزائر، وهذا أقل واجبات الأمم المتحدة، يجب أن تساعد لتساعد نفسها في استثمار ثرواتها الطبيعية.. إن سيادة الجزائر على الصحراء هي أولى المقومات الرئيسية للتنمية الاقتصادية في الجزائر.. والجزائر لم ترفض أي اقتراح معقول لاستثمار الصحراء في إطار الجدولة الجزائرية المستقلة.. ولكن اقتطاع الصحراء يؤدي إلى تهشيم الوطن الجزائري، وإلى إفقار الشعب الجزائري.(1/197)
غير أن الوفد الفرنسي لجأ آخر الأمر إلى محاولة أخيرة فقد اقترح في محادثات لوغران أن تجمد قضية الصحراء وتوضع في "الثلاجة" إلا أن الوفد الجزائري رفض هذا الاقتراح بكل تصميم، ذلك أن كل شيء يمكن أن يجمد ويوضع في الثلاجة إلا الصحراء.. إن الصحراء بطبيعتها تأبى أن تحتويها أية ثلاجة!! ومهما كانت كمية الثلج التي استخدمتها فرنسا، فإن الصحراء تهزأ بهذه المحاولة!! ولا بد للثلج من أن يذوب كما يذوب الاستعمار الفرنسي، تحت التحرير اللاهب الذي يخوضه الشعب الجزائري في معركته المقدسة.
هذه هي الظروف والأسباب، يا سيدي الرئيس، التي أدت إلى فشل مؤتمر لوغران.. وكان لا بد لهذا المؤتمر أن يفشل، وأن تقع مسؤولية الفشل على كاهل فرنسا وحدها؟... وكما كان الحل في ايفيان، فقد ذهبت فرنسا إلى لوغران مستعدة لأن تقبل كل شيء، إلا حق تقرير المصير، وأن ترضى بكل شيء إلا وحدة الوطن الجزائري، والشعب الجزائري.
ولكن فرنسا، على ما يبدو، لم تخجل من موقفها الذي اتخذته في مؤتمري ايفيان ولوغران.. ولم تتورع أن تعلن موقفها هذا على الملأ، وبهذا أضافت العار إلى العار.. فلقد ألقى الرئيس ديغول خطاباً على الشعب الفرنسي في الراديو والتلفزيون في 12 يوليو 1961، مستعرضاً مختلف جوانب القضية الجزائرية.. فأشار الرئيس ديغول إلى أن القضية الجزائرية تنطوي على صعوبة خاصة لأنه ، كما قال: "لم يعمل شيء في الجزائر منذ عام 1830 لإيجاد حل للقضية الجزائرية".. إن هذا الكلام من جانب الرئيس ديغول هو بمثابة إدانة تثبت الجريمة، لا دليل يثبت البراءة، وإن هذا الدفاع الذي لجأ إليه الرئيس ديغول هو الجناية بنفسها.. إن حقبة 130 عاماً، وقد(1/198)
طوت أربعة أجيال من القتال والمقاتلين، تكفي وحدها لأن تدل على الجريمة، كما أنها تكفي لتدل علو طريق الحل.. إنها تعني ببساطة ووضوح أنه قد آن الأوان، وإن لم يكن قد تأخر، لأن تتخرج فرنسا من الجزائر، وأن تترك الجزائر للجزائريين.
ثم إن الرئيس ديغول ذهب في دفاعه إلى أبعد من ذلك حين قالت: "يوجد في الجزائر ما يزيد على مليون من السكان من أصل أوروبي ، ولا يمكن أن يوضعو تحت رحمة الغير"، وهذه يا سيدي الرئيس حجة فرنسية باطلة، ليس لها ظل من الحقيقة والواقع.. إن الحكومة الجزائرية لم يخطر ببالها لدقيقة واحدة أن تضع الجالية الأوروبية تحت رحمة أحد .. إن الجزائر مستعدة لأن تمنحهم حق الجنسية، إذا أرادوا أن يكونوا مواطنين جزائريين.. وأن تمنحهم حق السكنى في الجزائر، إذا كانوا يريدون أن يكونوا من سكانها، ومن غير جنسية جزائرية.. فماذا يطلب من الجزائر أكثر من ذلك حتى لا تكون الجالية الأوروبية تحت رحمة الغير؟؟ وكلنا نعلم أن الشعب الجزائري كان وما يزال حتى الآن تحت رحمة الجالية الأوروبية منذ 130 عاماً.. وقد آن الأوان أن تقوم المساواة في الجزائر بين الأوروبيين وغير الأوروبيين، وإذا كان الرئيس ديغول لا يريد أن يصبح المليون من الأوروبيين تحت رحمة الغير، فكيف يرد لعشرة ملايين جزائري أن يكونا تحت رحمة الأقلية الأوروبية؟؟ إن الحكومة الجزائرية من غير أن تلتفت لحظة واحدة إلى الماضي التعيس، قد عرضت المساواة التامة من غير تمييز، فهل يناد الرئيس ديغول بالاستعلاء والتمييز العنصري؟ هل هذه هي فرنسا التي يعلنون عنها وعلى الدوام أنا أم الديمقراطية؟ وهل من أجل هذا، ومن(1/199)
أجل أن يبرر هذا الظلم، يصيح الرئيس ديغول في نهاية خطابه هاتفاً" لتحيا الجمهورية ، ولتحيا فرنسا"؟؟ !!
ثم إن الرئيس ديغول عاد مرة ثانية إلى التهديد بالتقسيم، في مناورة غير بارعة.. فلقد قال الرئيس ديغول، إنه إذا لم يتم الاتحاد بين فرنسا والجزائر.. "فسيكون من الضروري في النهاية أن تجمع فرنسا في منطقة واحدة، جميع السكان الذين يرفضون أن يكونا في دولة مصيرها الفوضى.." إن الجزائر المستقلة، يا سيدي الرئيس، سيكون مصيرها التقدم والازدهار، لا الفوضى والخراب، إن هذا التفكير الفرنسي هو الذين سيكون مصيره الفوضى والخراب.. إن على السكان الذين يرفضون أن يعيشوا في الجزائر المستقلة أم يخرجوا من الجزائر.. عليهم أن يرحلو عن الجزائر حالاً.. إننا لا نعرف بلدا يخضع مصيره إلى رغبات جزء من السكان يرفضون أن يتبعوا وطنهم، تماماً كما ترفض فرنسا أن تربط الوطن برغبات هستيرية تنادي بها أية جماعة في فرنسا، ترفض أن تتبع فرنسا..
والواقع، يا سيدي الرئيس، إن حكاية الأقلية الأوروبية هي خرافة فرنسية أخرى.. إن كثيرا من الأوروبيين الموجودين في الجزائر يريدون أن يعيشو بسلام في الجزائر.. إنها لسماحة بالغة أن الجزائر لا ترغب أن تستذكر الماضي الدموي الذي جاء بهؤلاء الأوروبيين إلى الجزائر، ليستعبدوا الشعب، ويحتكروا ثرواته وينهبوا خيراته.. يكفي أن الجزائر تريد أن تنظر إلى الأمام لا إلى الوراء.. ناسية آلام الماضي لتسدل ستار العفو والغفران.. إن الجزائر مصممة على أن تبني دولة ديمقراطية حيث تستطيع القلية الأوروبية أن تعيش بتقدم وطمأنينة.. إن "الحركة الأوروبية" التي يعلن عنها كثيراً زوراً وباطلا ليست حركة أوروبية في حقيقتها .. إنها من صنع(1/200)
الجنرالات المتقاعدين الباحثين عن السلطة، المتطلعين إلى الحكم.. إنها أحلام المارشالات يتآمرون ليصنهوا انقلاباً يأتي بالجمهورية الفرنسية السادسة، ويأتون بمارشال مغامر يكون رئيساً للجمهورية الفرنسي!!
ليس في الجزئر "حركة أوروبية" لا تحت الأرض ولا فوق الأرض.. وستجدون أنه حتى المتطرفين من الأوروبيين سيتصرفون تصرفاً هائاً لائمقا حينما يغادر الجيش الفرنسي أرض الجزائر. إن بعضهم في الوقت الحاضر يمثلون الأولاد المدللين للجيش الجزائري ولهذا فإنههم يتصرفون، تصرف العبث بالقانون والنظام. وحينما يجلو الجيش الفرنسي، عن الجزائر، ستجدون أن هؤلاء سيخلدون إلى السكينة .. وينصاعون لحكم القانون.. أو أنهم سيحملون على الانصياع لحكم القانون.. انتظروا وانظروا..
غير أن الموقف الفرنسي قد انكشفت فضائحه على يد فرنسا نفسها، فلقد ألقى رئيس الوفد الفرنسي خطابا بالراديو والتلفزيون الفرنسي في أغسطس 1961 خطابا هتك فيه أسرارا غير كريمة عن مؤتمري افيان ولوغران، فلقد أباح لنفسه المسيو جوكس الوزير الفرنسي لشؤون الجزائر، ورئيس الوفد، أن يتحدث عن الأقلية الفرنسية واصفاً إياهم "مواطنونا"، وهذا الكلام يوضح، من غير خفاء، الروح التي تعالج بها فرنسا موضوع الأقلية الأوروبية.. وكل ما نستطيع أن نقلله لرئيس الوفد الفرنسي، إذا كان هؤلاء هم "مواطنوكم" فلماذا لا ترحلوا بهم إلى فرنسا، حيث تستطيعون أن تسبغوا عليهم كل الامتيازات التي تريدونها.. أما إذا كنتم تريدونهم أن يعيشوا في الجزائر فر يمكن أن يظلوا "مواطنيكم"، يجب أن يصبحوا جزائريين، ولا حرج علي أن أقول يجب أن يصبحوا إفريقيين، إن الرجل الأبيض في إفريقيا يجب أن يصبح إفريقيا.. وإني أستميحكم عذرا يا سيدي الرئيس أن أقول من غير تحفظ، يجب على(1/201)
الرجل الأبيض في إفريقيا أن يسود وجهه ويبيض ضميره.. إنه لا يستطيع أن يظل إفريقيا وأوروبيا في وقت واحد، إن عليه أن يختار بين الاثنين.. وعلى كل حال فإن الأوروبيين في إفريقيا يعاملون معاملة أفضل بكثير من الإفريقيين في أوروبا وهذا وحده يكفي أن يكون فخراً للشرق وعارا للغرب..
وبعد هاذ، فد راح رئيس الوفد الفرنسي يهزأ بالوفد الجزائري والموقف الجزائري ... لقد قال رئيس الوفد الفرنسي "أعلن الوفد الجزائري أنه مستعد أن يبحث كل شيء، وأن يذلل كل الصعوبات، وأن يقترح صيغا متعددة وصولا إلى الاتفاق .. ولكن الوفد الجزائري، وفي أول جلسة من جلسات المؤتمر وقف جامدا أمام كلمة "الصحراء"، ورفض أن يسير خطوة واحدة قبل أن نعترف له بالسيادة على الصحراء".
وإنه لم دواعي السرور، أن الوفد الفرنسي، يا سيدي الرئيس قد لخص موقف الوفد الجزائري على هذه الصوةة.. إن ذلك يوضح بكل جلاء الموقف البناء للوفد الجزائري، والموقف المدمر للوفد الفرنسي، لقد كان الوفد الجزائري مستعدا لأن يبحث جميع جوانب القضية الجزائرية.. وكل ما أصر عليه الوفد الجزائري هوة الاعتراف بالسيادة الجزائرية على الصحراء.. هذا هو الخطأ الذي ينسبه الوفد الفرنسي إلى الوفد الجزائري.. ولكن أي خطا هذا ؟ إنه عين الصواب.. إن السيادة الجزائرية عل الصحراء هي بديهية لا تقبل مناقشة ولا جدلا.. ولكن الوفد الفرنسي رفض هذه البديهية.. لقد بتر الوفد الفرنسي "الرأس" وراح يشكو أن الجثة هامدة.. هذه سخرية فاضحة، وهزؤ بالأمم المتحدة وميثاقها وقراراته..
ومع هذا فإن الوفد الفرنسي، ليبرر موقفه هذا، قد انتحل أسبابا ، أثبتت في النهاية أن موقف لا مبرر له.. فلقد اقترح رئيس الوفد الفرنسي، أن(1/202)
يكون مصير الصحراء مرهونا بما تقرره مجموعات السكان في الصحراء، وأن يقوم ترابط بين الصحراء وفرنسا والجزائر.. وأنه من المؤسف حقا إن مثل هذا التبرير قد أيده الرئيس ديغول بنفسه!!
ففي المؤتمر الصحفي الذي عقده في 5 سبتمبر 1961 في قصر الاليزيه، أعلن الجنرال ديغول أن "مجموعات السكان" الذين يقطنون في الصحراء يجب أن يؤخذا رأيهم بشأن مصيرهم وفق شروط تتلاءم مع تفرقهم في البلاد وتعدد تجمعاتهم".. إن هذا الحديث من جانب الرئيس ديغول هو فوضى عريقة، على مستور رئاسي.. لا يوجد في الصحراء "مجموعات من السكان" متباينة الآراء والرغبات.. إن أهل الصحراء هم أهل الجزائر، لقد غلبوا معا في عام 1830، ومنذ ذلك الوقت حاربوا فرنسا معاً ، من أجل حريتهم واستقلالهم.
إن مستقبل الصحراء هو مستقبل الجزائر.. تماماً كما أن مستقبل نورماندي هو مستقبلا فرنسا.. إن الصحراء ليست منطقة قائمة بذاتها، حتى تربط بفرنسا والجزائر كما اقترح الوفد الفرنسي، وليس في الصحراء "مجموعات من السكان"، لهم كيان منفصل، كما ادعى الجنرال ديغول.. إن الصحراء هي جزء من الجزائر، وسكانها هم جزاء من الشعب الجزائري.. إن مصير الصحراء يقرره الشعب الجزائري في مجموعه، وليس سكان الصحراء وحدهم .. وإذا كان لكم، يا سيدي الرئيس، أن تقبلوا منطق الرئيس ديغول، تكون النتيجة تقسيما مضاعفا، وتمزيق وحدة الشعب، وتفتيت وحدة الوطن، إن الاستفتاء الشعبي في الجزائر يجب أن يكون على أساس شعبي شامل .. يشمل كل الشعب وكل الوطن، والصحراء جزء لا يتجزأ من الوطن.. وإلا أصبح الاستفتاء هزؤا وسخرية، يذكرنا "بالانتخابات الجزائرية"(1/203)
السابقة التي أصبحت مضرب الأمثال في العالم بأسره، ويكفي أن يشار إليه بأنها انتخابات على "الطريقة الجزائرية".؟..
ولقد فشلت مفاوضات لوغران بسبب موقف فرنسا هذا، ولا سبب سواه...وأضافت إلى الفشل أنها لا تقدم إلى الأمم المتحدة تقريرا عن الفشل وأسبابه، كما يجب أن يفعل كل عضو في الأمم المتحدة يدرك مسؤولياته الدولية التي فرضها الميثاق.. إن فرنسا متغيبة عن الاجتماعات في هذه الدورة، كما فعلت في أكثر الدورات السابقة، وإن كنا نستطيع أن نعتبرها موجودة بوجود عدد من حلفائها من دول الأطلنطي.. وإن العرض الذي قدمته إليكم عن سير المفاوضات في ايفيان ولوغران ليس مستنداً إلى قصاصا الصحف، ولكني اعتمدت المحاضر الرسمية، وإن أتحدى حلفاء فرنسا أن ينقضوا كلمة واحدة مما قدمته إليكم عن سير المباحثات.. ومن شاء أن يتحدى فليتفضل!!
وكائنا مما يكن الأمر، يا سيدي الرئيس، فإني أريد أن أؤكد لكم شيئا واحداً .. إذا كنا نجتمع اليوم مرة أخرى لننظر في القضية الجزائرية.. وإذا كانت الدماء ما تزال تنزف غزيرة في الجزائر.. وإذا كانت الحرب الجزائرية تدخل الآن عنها الثامن، فإن السبب في ذلك كله هو فرنسا.. إنه الموقف السلبي العنيد الذي تقفه فرنسا، وإني لأستميحكم عذر إذا لجأت إلى تعبير غير كريم، إن فرنسا ما تزال تمضغ المفاوضات، وتتقيأ تقرير المصير..
ومن الناحية الأخرى فإن حكومة الجزائر، وقد اعترفت بها قرابة ثلاثين دولة تمثل نحو ثلثي سكان العام، قد قطعت شوطا طويلا في مسيرة التوفيق والصبر والاحتمال.. إن الشعب الجزائري كما قالت الحكومة(1/204)
الجزائرية "لا يحارب من أجل الحرب، وليست الحرب صناعته".. ولكن صبر الشعب الجزائري له حدويد لقد أعلنت الحكومة الجزائرية في أول بيان لها في 15 سبتمبر 1961 ما يلي "إذا كنا مصممين على القتال، وتقويته وتدعيمه ومتابعته.. فنحن مستعدون كذلك لأن نبحث عن حل سلمي للنزاع القائم بيننا وبين فرنسا.. وأننا نعتبرها محاولة عقيمة من جانب فرنسا أن تؤخر تحقيق استقلالنا وحريتنا.. وسيكون ذلك خطرا على السلم العالمي وعلى علاقات المستقبل بين الشعبين الفرنسي والجزائري.. إنه من الممكن الوصول إلى حل عادل عملي.. ولكن من الضروري أن تقلع فرنسا عن سياستها السلبية التي كانت سبباً في وقف المحادثات في ايفيان ولوغران"..
وقد اختتمت الحكومة الجزائرية بيانها بعبارة أحسب أنها موجهة إلى الأمم المتحدة، وإنني أجيز لنفسي أن أضعها بين أيديكم نيابة عن الحكومة الجزائرية.. يقول البيان.. وأنا أقتبس خاتمته "إن قضيتنا عادلة وأن نصرنا محقق.. وفي هذه اللحظة التي يتهيأ فيها عدد من الشعوب أن ترقى إلى مرتبة الاستقلال يستحيل علينا أن نقبل دوام الحكم الأجنبي، ونحن الذين دفعنا أغلى التضحيات في ميدان الحرية.."
أجل، يا سيدي الرئيس، إنه من المستحيل أن تبقى الجزائر تحت الحكم الأجنبي ، إلى هذه الدقيقة وقد هبت رياح التغيير فغيرت جميع الألوان والظلال من على خارطة القارة الإفريقية... ودخلت أربعة عشر دولة الإفريقية إلى الأمم المتحدة، وفي دورة واحدة..
لقد كان ذلك يوماً مجيداً رائعا في حياة الأمم المتحدة، وإننا نمجده ولا نحسده.. ولكن هل يصح أن تظل الجزائر خارج الأمم المتحدة؟ هل يصح أن يجلس الوزراء الجزائريون في مقاعد الزوار هنا في الأمم المتحدة وكلنا(1/205)
نجلس في مقاعدنا نتحدث من وراء ميكرفوناتنا، فندلي بآرائنا ونطرح أصواتنا؟ لماذا هاذ التمييز!! إن الميثاق ينكر التمييز، فلماذا نحن هنا في الأمم المتحدة نطبق سياسة التمييز وإني أدعو أي عضو منكم أن يجيبني عن هذه الأسئلة نيابة عن فرنسا.. وإنني أريد جواباً .. جوابا عاقلا سديدا.
إن الحكومة الجزائرية قد بذلت كل جهدها لتصل بالمفاوضات إلى النجاح.. ولقد تخلفت الجزائر فقط، في إفشال المفاوضات.. على حين نجحت فرنسا فقط، وفي دفعها إلى الفشل... لقد أظهرت الحكومة الجزائرية نصباً وافرا من الحكمة والاعتدال إلى آخر مرحلة ممن مراحل المفاوضات، وحتى بعد توقف المفاوضات.. ففي شهر نوفمبر 1916 نقلت مجلة "افريك اكسيون" بيانا للحكومة الجزائرية قالت فيه: "نحن ندرك جيداً أن فرنسا لا تستطيع أن ترحل ثمانمائة ألف إنسان في ليلة واحدة" فأي موقف أكثر اعتدالا من هذا الموقف المعتدل..
إن الإنصاف يقتضي يا سيدي الرئيس، أن أضع أمامكم وجهة نظر الجزائر من البيانات الرسمية الجزائرية، وأن أنقلها إليكم بكل أمانة ، ليس للجزائر صوت في هذه القاعة، ولهذا فإني أريد أن أنوب عن الحكومة الجزائرية لأقتبس من البيان الأخير الذي أصدرته الحكومة الجزائرية، وفيه تلخيص لموقف يتفق مع مفهوم الديموقراطية الصحيحة.. يقول البيان "نحن متشددون فيما يختص بالسيادة الجزائرية في الميدانين الداخلي والخارجي.. وإذا توصلنا إلى فترة انتقال فنحن لا نتصور جلاء جميع القوات الفرنسية في خلال فترة الانتقال.. إن فرنسا، وهي تبعد ساعة واحدة بالطائرة عن الجزائر، لا يمكن أن تجد نفسها قد عدم وسائل الدفاع عن مصالحها أو عن الأقلية الفرنسية في الجزائر.. خلال فترة الانتقال يصبح واجب الفرنسيين أن(1/206)
يكيفو أنفسهم في ظل جولة الجزائر، كما يصبح واجب الجزائريين أن يألفوا وجود الفرنسيين بينهم ووجود المصالح الفرنسية وعلى الجميع أن يكيفوا أنفسهم في ظل ظروف المستقبل.. يجب أن يقوم تعاون بالنسبة للصحراء وفي شمال الجزائر.. يجب أن يكون تعاون في حقول الثقافة والمواصلات، ولا مناص من أن يكون هذا التعاون مع فرنسا.. وسيرى العالم بنفسه أننا سننشئ قوة بوليس لحماية منشآت البترول والغاز، الذي سيصدر أكثره إلى فرنسا وأوروبا الغربية.. لأننا نحن في إفريقيا لم نبلغ بعد المرحلة الكافية لاستهلاك مقادير كبيرة من البترول والغاز.. أما موضوع الأقلية الفرنسية فيجب أن نجد له حلا سليما.. وكل ما نطلبه أن لا يظل الفرنسيون يعتبرون أنفسهم مواطنين مميزين.. نحن مصممون على أن نمنحهم جميع الحقوق التي تكفل لهم حياة كاملة في الجزائر، حتى إذا لم يرغبوا أن يكون جزائريين".
إن هذه الضمانات، يا سيدي الرئيس، هي أقصى ما تستطيع أن تمنحه أية دولة في العالم.. وأما ما يزيد على ذلك فمعناه الجزائر الفرنسية،.. وهنا يكمن سبب الحرب وسبب استمرار الحرب. إن حرب التحرير الجزائرية هي أطول حرب تحريرية شهدها العالم المعاصر.. وفي بهذا كفاية.
وفيما يتعلق بالصحراء ، فإنها ليست أرضا لا صاحبت لها.. من شواطئ الأطلنطي حتى دلتا النيل تقع الصحراء تحت سيادة الدول المتاخمة، إقليماً بعد إقليم، ليست الجزائر وحدها صاحبة صحراء في هذه الصحراء الكبرى.. إن لكل من تونس والمغرب ومالي ونيجيريا وتشاد وليبيا والجمهورية العربية المتحدة، صحراء خاصة بها واقعة تحت سيادتها.. ونحن نرفض أن تكون الجزائر مستثناة من هذه الصحراء الكبرى.(1/207)
والواقع أن التشريع الفرنسي نفسه قد اعترف للجزائر بصحرائها.. ففي 1902 أصدرت الحكومة الفرنسية تشريعا بقي نافذ المفعول قرابة نصف قرن.. وفيه اعتراف صريح بأن الصحراء جزء لا يتجزأ من الجزائر.. وقد أشار هذا التشريع إلى الصحراء بأنها "إقليم جنوب الجزائر"، ثم إن الصحراء كانت ممثلة في المجلس الوطني الجزائري، ومشمولة في التمثيل الجزائري في البرلمان الفرنسي، وليست هنالك من جدوى إذا نحن رأينا في الخارطة الفرنسية الحديثة "الصحراء الفرنسية" فهذه ألوان لا بد أن تزول، كما زالت ألوان الإمبراطورية الفرنسية من على خريطة العالم..
واسمحوا لي، سيدي الرئيس، أن أؤكد لكم أن بين الواحد والتسعين موضوعا المدرجة على جدول أعمال هذا العام، لن تجدوا ما هو أخطر ولا أبعد أثرا من القضية الجزائرية... ليست القضية الجزائرية واحدة من تلك القضايا الموسمية التي تروح وتجيء أمامكم بصورة عادية.. هذه القضية، للشعب الجزائري، هي قضية سيادة وطنية، ولإفريقيا هي قضية تضامن من أجل الحرية، ولكنها للأمم المتحدة هي قضية حرب أو سلام.. وإن الحرب الجزائرية هي الحرب الوحيدة في العالم التي تتجاوب أصادؤها على مسمع من الأمم المتحدة.. إن في الميزان مصير شعب بكامله.. وفي الميزان كذلك كرامة الأمم المتحدة..
لقد أصدرت الأمم المتحدة في العام الماضي قرار يلح على الفريقين أن يدخلا في مفاوضات لإيجاد حل سلمي عادل، يقوم على أساس الاستقلال ووحدة الوطن الجزائري.. ولقد فشلت المفاوضات ولم يتوصل الفريقان إلى الحل المطلوب، ولا تزال الحرب هي الحرب التي تقتل بالألوف.. الحرب التي ترمل بالألوف.. الحرب التي تدمر، ولا تبقي ولا تذر..(1/208)
ولهذا فإن على الأمم المتحدة أن تصر من جديد على موقفها، وأن تطالب الفريقين، فرنسا والجزائر، ليستأنفا المفاوضات آخذين بعين الاعتبار المبادئ اللآتية:
أولا: يجب الاعتراف بحق تقرير المصير واحترامه.. إن حق تقرير المصير يجب أن يطبق على الشعب الجزائري بأسره. ليس في الجزائر مجموعات من السكان، وإنما شعب واحد، يرفض كل ألوان التجزئة.
ثانيا: يجب الاعتراف بوحدة الوطن الجزائري واحترامها. إن السواحل والجبال والصحراء هي أجزاء من الوطن الواحد –الجزائر- إن الوطن الجزائري وحدة لا تتجزأ.
ثالثا: الشعب الواحد لا بد له من دولة واحدة، هي دولة الجزائر الواحدة.. ويجب أن لا يكون في داخل الدولة الجزائرية مجموعات من الدول .. دولة أوروبية –دولة عسكرية- ودولة بترولية في الصحراء.. وإن الجزائر مستعدة لتعاون والاعتراف بالحقوق المشروعة لفرنسا.
رابعا: إن وقف إطلاق النار ليس عملا فرديا وحيد الطرف، يجب الاعتراف به واحترامه حينما يكون عملا ثنائيا يتم الاتفاق عليه ضمن تسوية سياسية شاملة.
خامسا: يجب إطلاق سرح الزعماء الجزائريين الذين اختطفتهم فرنسا من الجزائر، وذلك تمهيدا لخلق جو يؤدي إلى نجاح المفاوضات.
سادسا: يجب أن يعامل السجناء والمعتقلون الجزائريون معاملة تتفق مع القوانين والأعراف الدولية، وعلى الأمم المتحدة أن تطلب إلى الصليب الأحمر أن يقدم تقارير دورية عن حالتهم ومعاملتهم. ليس السجناء الجزائريون مجرمين عاديين ، إنهم سجناء سياسيون وأسرى حرب،(1/209)
يحاربون من أجل أقدس قضية هي قضية الحرية الإنسانية.. ونحن لا نطالب بمعاملتهم معاملة إنسانية، وإنما معاملة نبيلة شريفة تتفق مع أسمى تقاليد الفروسية.
هذا هو الطريق للسلام في رأينا. وإن الجزائر مستعدة للسلام على أساس ميثاق الأمم المتحدة، وبقي على فرنسا أن تختار الحرب أم السلام.. فإذا اختارت فرنسا السلام فإن الجزائر مستعدة لأن تختار السلام، الآن وإلى الأبد.. وإلى أن تحقق الحرية والاستقلال.
ولكن حرية الجزائر آتية لا ريب فيها.. والأمر أمر وقت ليس إلا، وتلك مسيرة التاريخ.. غير أن الأمم المتحدة ليس لها أن تنتظر، إن عليها أن تقوم بدورها في هذه المعركة المجيدة، من أجل الحرية، ومن أجل السلام في إطار الحرية.
إن على الأمم المتحدة أن تعمل أكثر مما عملت، إن قضية الشعب الجزائري البطل في حاجة إلى المزيد والمزيد.. وإذا كانت الأمم المتحدة حريصة على أن تنجح المفاوضات بين فرنسا والجزائر، وإذا كانت حريصة على أن يستقر السلام في إفريقيا، وإذا كانت حريصة أن تنتصر الحرية، فعلى الأمم المتحدة أن تعمل أكثر وأكثر.. إن فرنسا، على ما يبدو، لا تكترث لميثاق الأمم المتحدة على أنه دستور ينظم العلاقات الدولية، وفي الواقع أن فرنسا إن فرنسا لا تكترث بالأمم المتحدة كمنظمة دولية. إن الأمم المتحدة على حد تعبير الرئيس ديغول "هي منظمة عالمية غير منظمة"، ومن ناحية معينة فإننا نوافق الرئيس ديغول على أن الأمم المتحدة قد أصبحت منظمة غير منظمة.. وأن فرنسا هي واحد من الأسباب التي جعلت هذه المنظمة العالمية غير منظمة.. إن فرنسا قد انتهكت قرارات الأمم المتحدة غير مرة(1/210)
ولا تزال تتبوأ مقعدها في الأمم المتحدة.. إن فرنسا خالفت قرارات مجلس الأمن ولا تزال تتبوأ مقعدها كعضو دائم في مجلس الأمن، ولو أن الرئيس ديغول ينصاع لمنطقة لكان عليه أن يخلي مقعده في مجلس الأمن وفي الأمم المتحدة بأسرها، وليفعل ذلك ابتداء من هذه الدورة، فلعل الأمم المتحدة تصبح بعد ذلك منظمة، أدعى إلى الكرامة والاحترام..
وفي الختام يا سيدي الرئيس، إني أدعوكم إلى مزيد من التأييد لقضية الحرية في الجزائر.. إلى المزيد من الدعم.. إلى مزيد من الأصوات بل إلى مزيد من السلاح والعتاد ذلك أن فرنسا لن تذعن إلا لقوة السلاح لا لقوة الميثاق.(1/211)
الجنرال ديغول حرر فرنسا مرتين
أكتوبر 1962
ها قد جاءت إليهم الجزائر.. إنها الجمهورية الجزائرية.. الدولة الإفريقية، المغربية العربية وقد حققت كامل حريتها وسيادتها واستقلالها.
جاءت إليكم الجزائر وقد أعلنت عشية استقلالها سياستها القومية وفي طليعتها الحياد الإيجابي وعدم الانحياز.
وقد جاء إليكم وفد الحكومة الجزائرية، إلى هذه المنظمة العالمية، يحمل إليكم أوراق اعتماده ، كتبت في الميدان وما يزال غبار المعركة يملأ حواشيها..
وإنني أغتنم هذه الفرصة المهيبة لأعرب عن أصدق التهنئة الأخوية للجزائر، لحكومتها وشعبها الباسل.. إننا معتزون بانتصار الشعب الجزائري الشقيق، فخورون ببطولته، مبتهجون بنضاله المديد.. ولقد أصبحت الجزائر، وبعد زمان طويل، معنا في هذه المنظمة العالمية، دولة حرة كاملة السيادة والاستقلال.. ولقد كانت الجزائر، إلى عهد قريب ولثماني سنين خلت ، واحدة من البنود التي تدرج على جدول أعمال الأمم المتحدة.. وكم وكم جرى النقاش طويلا حول ما إذا كانت القضية الجزائرية يجب أن تدرج على جدول الأعمال أو أن تستبعد منه.. وكم أفضنا في شرح عدالة هذه القضية.. وكم(1/213)
أسهبنا في سرد وقائعها وأحداثها.. لقد انتهى كل ذلك الآن وأسدل الستار إلى الأبد.. ولم تعد القضية الجزائرية، بعد اليوم، بندا على جدول الأعمال.. إن الجزائر في هذا اليوم تتبوأ مقعدها الرفيع في المجتمع الدولي بكل جدارة واستحقاق..
وإن هذا الاحتفال الرائع، بانضمام الجزائر إلى الأمم المتحدة، ليس من المراسم المألوفة ولا من التقاليد المعتادة.. ولا هو مجاملة تفرضها الآداب الدولية.. إن في حجز هذا الاحتفال من المعاني ما هو أجل وأرفع.. إنه يوم نقيم فيه صلاة النصر، لانتصار الحرية والاستقلال.. إننا نعتبره يوم الشكر بالنسبة للأمم المتحدة بأسرها تقديرا لنعمة الاستقلال وعرفانا بفضائل الحرية وتتويجا للنضال الإنساني من أجل الكرامة والسيادة..
دعوني أؤكد لكم أني لا أقول قولي هذا شوقا إلى الفصاحة أو رغبة في البلاغة.. إنه الحق لا مراء فيه والحقيقة لا ريب فيها.. فلسنا نحن الآن أمام مناسبة نحتفل فيها بدخول عضو آخر إلى الأمم المتحدة، مع جلال هذه المناسبة وروعتها.. إنها تتجاوز تكريس دولة جديدة تدخل الأسرة الدولية.. إن الذي يوشك أن يدخل هذه المنظمة العالمية ليس مجرد دولة فحسب.. ذلك أن في ركاب هذه الدولة تدخل طائفة من المبادئ الحية، ومجموعة من العقائد النيرة، وفيض منن الذكريات الغالية، وكنز من التضحيات والفداء، بل سيرة مجيدة من الكفاح الدامي الذي يخوضه الإنسان في سبيل تحقيق ذاته وتقرير مصيره..
إن تمثال الحرية ينتصب عاليا على شواطئ القارة الأمريكية وهكذا تنتصب الجزائر اليوم بيننا شامخة لتعبر عن أقدس معاني الإنسانية.. إن الجزائر بترابها الغالي وشعبها الباسل تقف بيننا لتكون مثلا للبطولة وتجسيدا(1/214)
للشجاعة، ورمزا للثبات والمثابرة، وعنوانا رائعا لإرادة الإنسان وتصميمه على العيش بحرية في عامل تسوده الحرية.. حرية حقيقية تحرره من الظلم والاستعباد.
وفي هذا اللحظة التاريخية، فإنا لنذكر بعقولنا وقلوبنا الكفاح البطولي لشعب الجزائر.. لقد خاض هذا الشعب العظيم معركة مريرة لا يتسع المقام لسرد سيرتها الآن.. ولست أريد أن أذكر الألوف والألوف من زهرة الأجيال الجزائري ة المتعاقبة الذين قضوا نحبهم في معارك التحرير عبر مائة واثنين وثلاثين عاما من الكفاح.. لا ولا أريد أن أذكر الألوف من الضحايا الفرنسيين الذين سقطوا في الميدان، سقطوا أبرياء ولكن من أجل قضية باطلة.. ولست أريد أن أذكر قصص العناء والشقاء التي تمرس بها شعب بكامله في نضاله من أجل الحرية.. بل إنني لا أريد أن أذكر حملات التدمير والإجرام التي قامت بها الجماعات الفرنسية المتطرفة لتكون الدليل القاطع على أن الاستعمار في النهاية يلقى مصرعه على أيدي القوى الاستعمارية نفسها..
أجل إننا لا نريد أن نذكر هذه المآسي التي تقشعر لهولها الأبدان.. فهذه لحظة فرح وابتهاج.. مع أن تلك المآسي وذكرياتها الرهيبة تملك علينا مشاعرنا، نحس الآن في أعماق ضميرنا أننا فرحون مبتهجون.. إن هذه اللحظة البهيجة التي نعيشها الآن تفرض علينا مشاعر الفرح، وتفرض علينا أن نسلم أنفسنا للفرح.. وها نحن نجتمع الآن في هذه القاعة لنفرح..
ودعوني أيها السادة أقول، من غير إساءة لأحد، أو إهانة لأحد.. دعوني أقول من هذا المنبر العالمي، دون أن أخشى تفنيدا، إنه ما من شعب قد تحمل أعباء النضال، بصبر وعزم وإيمان كما تحمل الشعب الجزائري(1/215)
الشجاع.. وإنني أقف الآن على هذا المنبر لأحيي في الشعب الجزائري الشجاع بطولته النادرة وتصميمه الذي لا يقهر.
وفي الوقت نفسه، فإنني أشعر بأنه يجب علي أن أوجه كلمة إلى فرنسا، وإلى الجنرال ديغول بالذات.. في الدورات السابقة لقد وجهت إلى فرنسا كلمات قاسية وفي لهجة خشنة.. وإن لأعتراف أن كلماتي في أوقات معينة كانت بالغة الصرامة والضراوة وإن يكن الحق كل الحق.. لقد كانت الظروف الصارمة الضارية هي التي فرضت تلك العبارات الصارمة الضارية.
ولكننا الآن نجد أنفسنا وجها لوجده أمام ظروف أخرى.. إن الصداقة مع الجزائر هي صداقة مع الأمة العربية بأسرها.. نجحن مع الجزائر في السراء والضراء.. إن أصدقاء الجزائر هم أصدقاؤنا.. وإن أعداء الجزائر هم أعداؤنا.. نحن مع الجزائر في لحرب وفي السلم، في الولاء وفي العداء، في الشدة وفي الرخاء.. ولهذا فإن فرنسا تستطيع أن تتأكد أن عهدا جديدا من العلاقات العربية الفرنسية ينتظر المصالح المشتركة بين الأمة العربية من جانب، وفرنسا من جانب آخر..
وإن مساهمة الرئيس ديغول في هذا المجال لا شك في أنها تكون عظيمة قدر الشخصية العظيمة التي يتمتع بها الرئيس ديغول.. لقد كان للرئيس ديغول دورا رفيع في بناء صرح الحرية، ولا نملك إلا أن نسجل له هذه المكرمة البارزة بكل تقدير وإعجاب.. إن الرئيس ديغول قد حرر فرنسا مرتين، وإني أقول مرتين بكل تأكيد، في المرة الأولى استطاع الرئيس ديغول أن يحرر فرنسا من النازية، وفي المرة الثانية كان للرئيس ديغول دور في تحرير فرنسا من الاستعمار –استعمار الجزائر.. ولكنني أرغب في أن أؤكد(1/216)
أن المرة الثانية أدعى للخلود من المرة الأولى، إنه لأمر مجيد أن يحرر المرء نفسه من استعباد الغير.. وانطلاقا من هذه المفاضلة فإننا نزن عظمة الجنرال ديغول ونقيم شخصيته الرفيعة.
لقد فتحت الجزائر أبواب الأمم المتحدة على مصراعيها، بالدماء والعرق والدموع، وظلت مقفلة في وجهها، وإننا نناشدكم أن تظل الأمم المتحدة مفتحة الأبواب حتى يتيسر لجميع الشعوب أن تدخلها وهي تمارس حريتها وسيادتها واستقلالها.
يومئذ تصبح الأمم المتحدة، منظمة عالمية حرة، جديرة باسمها وميثاقها..
... ... ... ... ... ...(1/217)