قراءة في غزوة تبوك
الدكتور عثمان قدري مكانسي
المقدمة
( سبب الغزوة)
روى الواقدي ، قال :
قالوا : كانت الساقطة - وهم الأنباط - يقدمون المدينة بالدرمك ( نوع من الدقيق) والزيت في الجاهلية وبعد أن دخل الإسلام ، فإنما كانت أخبار الشام عند المسلمين كل يوم لكثرة من يقدم عليهم من الأنباط ، فقدمت قادمة فذكروا أن الروم قد جمعت جموعا كثيرة بالشام ، وأن هرقل قد رزق أصحابه لسنة ، وأجلبت معه لخم ، وجذام ، وغسان ، وعاملة . وزحفوا ، وقدموا مقدماتهم إلى البلقاء ، وعسكروا بها ، وتخلف هرقل بحمص .. ولم يكن عدو أخوف عند المسلمين منهم وذلك لما عاينوا منهم - إذ كانوا يقدمون عليهم تجارا - من العدد والعدة والكراع .
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يغزو غزوة إلا ورى بغيرها ، لئلا تذهب الأخبار بأنه يريد كذا وكذا ، حتى كانت غزوة تبوك ، فغزاها رسول الله صلى الله عليه وسلم في حر شديد واستقبل سفرا بعيدا ، واستقبل غزى وعددا كثيرا ، فجلى للناس أمرهم ليتأهبوا لذلك أهبة غزوهم ، وأخبر بالوجه الذي يريد . وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى القبائل وإلى مكة يستنفرهم إلى غزوهم ، فبعث إلى أسلم بريدة بن الحصيب ، وأمره أن يبلغ الفرع . وبعث أبا رهم الغفاري إلى قومه أن يطلبهم ببلادهم ، وخرج أبو واقد الليثي في قومه ، وخرج أبو الجعد الضمري في قومه بالساحل ، وبعث رافع بن مكيث وجندب بن مكيث في جهينة ; وبعث نعيم بن مسعود في أشجع ، وبعث في بني كعب بن عمرو بديل بن ورقاء وعمرو بن سالم وبشر بن سفيان ; وبعث في سليم عدة منهم العباس بن مرداس .(1/1)
وحض رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين على القتال والجهاد ورغبهم فيه ، وأمرهم بالصدقة فحملوا صدقات كثيرة فكان أول من حمل أبو بكر الصديق رضي الله عنه جاء بماله كله أربعة آلاف درهم ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم " هل أبقيت شيئا " ؟ قال : الله ورسوله ، وجاء عمر رضي الله عنه بنصف ماله فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم هل أبقيت شيئا ؟ قال نعم نصف ما جئت به . وبلغ عمر ما جاء به أبو بكر فقال : ما استبقنا إلى الخير إلا سبقني إليه . وحمل العباس بن عبد المطلب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مالا ، وحمل طلحة بن عبيد الله إلى النبي صلى الله عليه وسلم مالا ، وحمل عبد الرحمن بن عوف إليه مالا ، مائتي أوقية وحمل سعد بن عبادة إليه مالا ، وحمل محمد بن مسلمة إليه مالا . وتصدق عاصم بن عدي بتسعين وسقا تمرا . وجهز عثمان بن عفان رضي الله عنه ثلث ذلك الجيش فكان من أكثرهم نفقة ، حتى كفى ذلك الجيش مئونتهم حتى إن كان ليقال ما بقيت لهم حاجة حتى كفاهم شنق أسقيتهم . فيقال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يومئذ " ما يضر عثمان ما فعل بعد هذا " .
وكانت الغزوة خمسين يوماً ، بدأت في العشر الأواخر من رجب عام تسعة للهجرة ، ووصل تبوك أوائل شعبان ، وبقي في تبوك ثلاثين يوماً هي شعبان كله ، فلم يلق رسول الله صلى الله عليه وسلم حرباً ، وخرج من تبوك أول رمضان ليصل المدينة في آخر العشر الأوائل منه .
إضاءة :
1- يؤرق العدوَّ أن يرى للمسلمين قوةً ، ويحاول وأدَها والقضاء عليها ، فيجهز جيشاً قوياً قوامه مئتا ألف جندي رومي مدجج بالسلاح ، ويجمع لها الجموع من العرب التي باعت نفسها وأسلمت قيادها له ليسوقها حربة في قلوب أبناء جلدتها . وهذا مانراه في كل زمان ومكان .(1/2)
2- هذه الجموع التي جمعها هرقل أمامه من العرب أهل الكتاب الذين كرهوا أن يظهر الدين الحق في الجزيرة ، رأوا أن العقيدة التي جمعتهم بالروم أقوى من النسب الذي جمعهم بالعرب أبناء جلدتهم ، فحاربوا تحت راية عقيدتهم الباطلة ، أفلا ينبغي للمسلمين أن يتحدوا للدفاع عن عقيدتهم السليمة أمام كل المناوئين المرجفين ؟!
3- ينبغي للقائد المسلم أن يتتبع أخبار عدوه من القادمين ، ومن العيون ، وأن يستفيد من كل خبر صغيراً كان أم كبيراً ، فتقدير حالة العدو وتجهيزاته بشكل تقريبي من دواعي الأمن وحسن التجهيز والاستعداد.
4- وإذا كان الروم قد أعطوا الأعطيات الجزيلة لجنودهم والمتعاونين معهم ، ووزعوا الرواتب والمؤن لسنة قادمة فهذا يدل على التصميم الأكيد والإصرار على غزو المسلمين في عقر دارهم ليستأصلوهم ، فلا تقوم لهم قائمة .
5- ولأن الروم دولة قوية اعتاد العرب أن يحنوا لها ظهورهم ، وعاشوا قروناً يتبعون لها ولفارس فإن قوتهم أخافت المسلمين بادئ ذي بدء فكان دور القائد العظيم صلى الله عليه وسلم أن يبث في أنفس المسلمين القوة والشجاعة ، ويذكرهم بنصر الله وعونه لعباده ، وأن النصر من عنده سبحانه " وما النصر إلا من عند الله العزيز الحكيم " .(1/3)
6- أعلن الرسول صلى الله عليه وسلم أولاً : أنه سيهاجمهم في بلادهم ، فأفضل وسيلة للدفاع ِ الهجومُ . ثانياً : ينبغي أن تكون الحرب في أرض العدو لا في أرض المسلمين فإن انتصروا فتحوا بلاداً جديدة ، وإن خسروا المعركة لم يخسروا جزءاً من بلادهم فعادوا يستعدون ويتجهزون . ثالثاً : أعلن الرسول صلى الله عليه وسلم عن مكان المعركة ونوع العدو ، ليستعد المسلمون له قدر ما يستطيعون ويُعدوا له العُدّة . رابعاً : دعا قبائل المسلمين كافة للاشتراك في المعركة ، وبعث إليها البعوث يحضهم على ذلك ، فالمعركة مع عدو قوي شرس لا كالقتال مع قبيلة من القبائل العربية التي كان يفجؤها بالهجوم ويأخذها على حين غرة فيهزمها في أول اللقاء .
7- في مثل هذه اللحظات تظهر معادن الرجال ، فيتجهزون للحرب ، ويعين القويّ الضعيفَ والغني الفقيرَ ، ويقدم الكريم ماله كله أو نصفه أو ثلثه أو يتكفل بالدعم المجزي لمعركة قد تطول كثيراً ، - طال زمن الغزوة فعلاً خمسين يوماً – ويتبارى الرجال في التبرع والدعم ، ويرتاح الرسول صلى الله عليه وسلم إلى ما قدّمه أصحابه رضوان الله تعالى عليهم ، وهكذا المسلم دائماً سبّاق إلى كل خير يقدم ماله ونفسه في سبيل الله ودعونه ، ولا يظفر المرء برضوان الله وجنته إلا إذا عرف هدفه المنشود وسعى إليه بإخلاص .
8- لا شك أن المسلم الداعية يطلب رضاء الله بكل ثمن مهما علا ، وكانت غزوة تبوك في الصيف وحرّ القائظة ، والسفر طويل ، والمهمة صعبة ، والعدو قوي ، إلا أن الرجال لا تقف أمامهم المصاعب وإن اشتدّت ، ولا يمنعهم عن هدفهم مانع مهما كان الوصول إليه كؤوداً . وسقط في هذا الاختبار من سقط ، ونجح فيه أولو العزم وأهل الصدق والإيمان . وإن في ثبات هؤلاء الرجال درساً يظهر جوهر الإنسان وينشره .(1/4)
9- خلّد التاريخ النوعين من الرجال .. الرجالَ الرجالَ ، والرجالَ اللارجال ، فرفع القسم الأول إلى الصدارة والقدوة ، وخفض المنافقين إلى الدرك ... وشتان شتان ما بين اليزيدين في الورى .......
10- ونصر الله رسول صلى الله عليه وسلم بالرعب مسيرة شهر، فلم يلق مقاومة ، وهابه العرب ، وقدّموا له الولاء ، وكان نصر الله يسطع في سماء الحق والعدل ، ويعلن البقاء لهما ، فدولة الباطل ساعة ، ودولة الحق إلى قيام الساعة .
قراءة في غزوة تبوك (1)
حث الرسول على النفقة وشأن عثمان في ذلك
قال ابن إسحاق : ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم جد في سفره وأمر الناس بالجهاز والانكماش وحض أهل الغنى على النفقة والحملان في سبيل الله فحمل رجال من أهل الغنى واحتسبوا (الأجر عند لله )، وأنفق عثمان بن عفان في ذلك نفقة عظيمة لم ينفق أحد مثلها .
قال ابن هشام : حدثني من أثق به أن عثمان بن عفان أنفق في جيش العسرة في غزوة تبوك ألف دينار ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " اللهم ارض عن عثمان ، فإني عنه راض "
شأن البكائين
قال ابن إسحاق : ثم إن رجالا من المسلمين أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم البكاءون ، وهم سبعة نفر من الأنصار وغيرهم من بني عمرو بن عوف سالم بن عمير ، وعلبة بن زيد ، أخو بني حارثة وأبو ليلى عبد الرحمن بن كعب أخو بني مازن بن النجار وعمرو بن حمام بن الجموح أخو بني سلمة وعبد الله بن المغفل المزني - وبعض الناس يقول بل هو عبد الله بن عمرو المزني - وهرمي بن عبد الله أخو بني واقف وعرباض بن سارية الفزاري . فاستحملوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانوا أهل حاجة فقال لا أجد ما أحملكم عليه ، فتولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزنا ألا يجدوا ما ينفقون.(1/5)
قال ابن إسحاق : فبلغني أن ابن يامين بن عمير بن كعب النضري لقى أبا ليلى عبد الرحمن بن كعب وعبد الله بن مغفل وهما يبكيان فقال ما يبكيكما ؟ قالا : جئنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ليحملنا ، فلم نجد عنده ما يحملنا عليه وليس عندنا ما نتقوى به على الخروج معه فأعطاهما ناضحا له فارتحلاه ورودهما شيئا من تمر فخرجا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم
إضاءة :
1- تحتاج المعركة الاستعداد وتهيئة الأمور قدر المستطاع " وأعدوا له ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم وآخرين من دونهم لا تعلمونهم ، الله يعلمهم .. " والاستعداد يحتوي الوجوه كلها من جنود ومال وأسلحة وعتاد ومراكب وماء وطعام ..
2- " من جهز غازياً فقد غزا ، ومن خلفه في أهله بخير فقد غزا" أطلق النبي الكريم هذه الصيحة فسارع المسلمون يقدمون ما استطاعوا للجهاد في سبيل الله ، حتى كان أحدهم يأتي بمل كفين من التمر ، ونعى القرآن على المنافقين الذين لمزوا المتطوعين بالقليل " الذين يلمزون المطّوعين من المؤمنين في الصدقات والذين لا يجدون إلا جهدهم فيسخرون منهم ، سخر الله منهم ، ولهم عذاب أليم . "
3- واحتمل الأغنياء كثيراً من الفقراء المجاهدين الذين سألوا الرسول صلى الله عليه وسلم أن يجهزهم للقتال ، فهم فقراء ، فردهم الرسول صلى الله عليه وسلم ابتداء حين لم يجد ما يحملهم عليه ، أنْ لا يجدوا ما ينفقون ، فبكوا بكاء مراً . فلما احتملهم الأغنياء مدح رسول الله صلى الله عليه وسلم الحامل والمحمول ، لأنهم في الجهاد سواء .
4- أما الكريم الحيي عثمان رضي الله عنه فقد كان الفارس المجلي في هذا المضمار حتى قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم : " ما ضر عثمان ما فعل بعد اليوم " وقلت فيه شعراً هذا بعضه :
وجهّز غزوة الإعسار جوداً لوجه الله يرجوه المثابة
وكان المصطفى يثني عليه لنِعْمَ الفضلُ في يوم الإنابة(1/6)
5- أما ثواب من حبسهم العذر فهو كبير لأن نيتهم كانت خالصة لله ورغبوا في الجهاد فلم يستطيعوا . وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم مرجعه من غزوة تبوك : إن بالمدينة لأقواما ما سرتم مسيرا ولا قطعتم واديا إلا كانوا معكم قالوا : يا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم بالمدينة ؟ قال " نعم حبسهم العذر " وقال :" إنما الأعمال بالنيات .."
قراءة في غزوة تبوك (2)
تحريق بيت سويلم وشعر الضحاك في ذلك
قال ابن هشام : وحدثني الثقة عمن حدثه عن محمد بن طلحة بن عبد الرحمن عن إسحاق بن إبراهيم بن عبد الله بن حارثة عن أبيه عن جده قال بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ناسا من المنافقين يجتمعون في بيت سويلم اليهودي ، وكان بيته عند جاسوم ( منطقة في المدينة يسكن فيها بعض اليهود )، يثبطون الناس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك ، فبعث إليهم النبي صلى الله عليه وسلم طلحة بن عبيد الله في نفر من أصحابه وأمره أن يحرق عليهم بيت سويلم ففعل طلحة . فاقتحم الضحاك بن خليفة من ظهر البيت فانكسرت رجله واقتحم أصحابه فأفلتوا . فقال الضحاك في ذلك
كادت وبيت الله نار محمد ... يشيط بها الضحاك وابن أبيرق
وظَلتُ وقد طبقت كبس سويلم ... أنوء على رجلي كسيرا ومرفقى
سلام عليكم لا أعود لمثلها ... أخاف ومن تشمل به النار يحرق
طبّق : علا السطح ... الكبس : البيت الصغير .
إضاءة :
1- يقصد أن طلحة بن عبيد الله حين أحرق البيت بمن فيه علا الضحاك سقف البيت الذي كانوا يجتمعون فيه ، ثم ألقى بنفسه فانكسرت رجله ، وأقسم أن لا يعود لمثلها ، فقد ذاق ويلات نفاقه ، وهرب رفاقه من النار كالفئران المذعورة ، وهذا جزاء من يحارب الله ورسوله ، ويخذّل عن المسلمين ويؤلب الناس عليهم .(1/7)
2- اليهود بذرة الشر وأداة الإفساد في كل زمان ومكان ، فمن حقدهم على الإسلام ورسول الإسلام تجدهم يحتضنون كل منافق ومارق ، ويقدمون لهم العون المادي والأدبي والفكري في حربهم للإسلام وأهله . ولا أدل على ذلك هنا من اجتماع المنافقين في بيت سويلم اليهودي .
3- حين يكون الجرم والذنب قوياً ، ويصر أصحابه عليه ، يتحدَّون به القيادة الإسلامية الرشيدة ، ويعلنون حربهم عليها وعلى المسلمين ينبغي أن يكون العقاب صارماً ليبذر الخوف والرعب في نفوس هؤلاء المجرمين الذي يُحادّون الله ورسوله . ولا بد لعيون المسلمين أن يرقبوا تحركات أعدائهم من المنافقين والكافرين لتكون ضربتهم قوية تردعهم أن يعودوا لمثلها . وانظر إلى البيت الأخير تجد خوف الشاعر الذي جعله يعبر فيعد نفسه أولاً وغيره ثانياً أن لا يعود لمثلها .
4- وينبغي أن ننتبه للأمر ، فالنبي صلى الله عليه وسلم لم يأمر بحرق المنافقين بل أمر بحرق البيت الذي هم فيه ، فلا يحرق بالنار إلا رب النار كما قال النبي صلى الله عليه وسلم ، إنما تُرك لهؤلاء أن يهربوا من المكان أمام أعين طلحة وأصحابه ، ولم يُلقَ القبض عليهم ولم يُعتقلوا . ليعلموا أن الرسول صلى الله عليه وسلم غاضب من نفاقهم الذي فاحت رائحته وانكشف أمره ، ومن تثبيطهم الناس وصرفهم لهم عن الجهاز لغزوة تبوك. فلعلهم يرتدعون ويتوبون إلى الله تعالى .
5- ولئن كانت نار الدنيا مخيفة جداً – للضحاك - كما نرى في بيته الأول فماذا يصنع المجرمون أمام نار جهنم وهي أقوى من نار الدنيا بسبعين مرة؟!! أمام المنافق والكافر متسع للنجاة في الدنيا ما داموا فيها ، فإذا ما فجأهم الموت وعاينوا عذاب الآخرة فلا منجىً لهم يومئذ .. نسأل الله العافية .
قراءة في غزوة تبوك (3)
" منزلة علي رضي الله عنه "
روى ابن إسحاق في سيرته قال:(1/8)
ثم استتبّ 0( انتظم عسكره وتتابعوا ) برسول الله صلى الله عليه وسلم سفره ( إلى تبوك ) وأجمع السير ، وقد كان نفر من المسلمين أبطأت بهم النيّة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى تخلفوا عنه من غير شك ولا ارتياب ؛ منهم " كعب بن مالك ومرارة بن الربيع وهلال بن أمية وأبو خيثمة " وكانوا نفر صدق لا يُتّهمون في إسلامهم .
فلما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ضرب عسكره على ثنيّة الوداع - خارج المدينة شمالاً- قال ابن هشام – صاحب السيرة الشهيرة- واستعمل على المدينة "محمد بن مسلمة الأنصاري " .
وذكر عبد العزيز بن محمد الدراوردي عن أبيه : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استعمل على المدينة – مخرجه إلى تبوك – " سباع بن عرفطة " .
وضرب رأس المنافقين عسكره أسفل منه نحو جبل ذباب . فلما سار رسول الله صلى الله عليه وسلم تخلف عنه المنافقون وأهل الريب وعلى رأسهم عبد الله بن أبي .
وخلّف النبي صلى الله عليه وسلم " علي بن أبي طالب " رضي الله عنه على أهله ، وأمره بالإقامة فيهم ، فأرجف به المنافقون ، وقالوا : ما خلّفه إلا استثقالاً له وتخففاً منه .
فلما قال المنافقون ذلك وبلغ علياَ ما قالوه أخذ عليه سلاحه ، وخرج حتى أتى رسولَ الله صلى الله عليه وسلم وهو نازل بالجُرف ( مكان بينه وبين المدينة ثلاثة أميال ) ،
فقال : يا نبي الله ؛ زعم المنافقون أنك إنما خلّفتَني أنك استثقلتني وتخففت مني .
فقال صلى الله عليه وسلم : كذبوا ، ولكنّي خلّفتُك لِما تركتُ ورائي ، فارجع واخلفني في أهلي وأهلك ، أفلا ترضى يا علي أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى ؟ إلاّ أنه لا نبيّ بعدي .
فرجع عليّ إلى المدينة ، ومضى رسول الله صلى الله عليه وسلم على سفره .
إضاءة :(1/9)
1- قد يعتري المسلمَ لحظاتٌ يضعف فيها أمام المغريات ، وتدفعه نفسه للتخفف من المسؤولية . والشيطان خبيث يغتنم الفرص ، والنفس أمارة بالسوء . إلا أنه يظل مسلماً ، ولا يندرج تحت مسمى النفاق لأنه ما خالف القائدَ تمرّداً أوعصياناً ، وما يزال ولاؤه للإسلام وأهله . إنه الضعف الإنساني الذي يؤخره عن اللحوق بالركب الإيماني . فإذا آب إلى الحق وطرد شيطانه وعصى نفسه الأمارة بالسوء عاد صافياً وندم على ما فرّط .
2- لا بد من ترتيب الأمور وتنسيق العمل على الطبيعة قبل البدء بالمهمة ، ولا بد من تفقد القائد العُدّة والعدد ومعرفة إمكانيته واستعداده للأمر الذي قرر القيام به . وهذا ما نجده في خروج النبي صلى الله عليه وسلم من المدينة إلى ثنية الوداع ثم إلى الجرف ليعاين الجيش ويطلع على التجهيزات عامّها وخاصّها ، جلّها ودقّها .
3- من ميزات القائد الناجح أن يتعرف إمكانيّات أصحابه ويكلفهم بما يُحسنونه وأن يوسع دائرة القيادة فلا يحصرها في بعضهم ويهمل بعضهم الآخر . فحين خلّف رسول الله صلى الله عليه وسلم علياً رضى الله عنه في المدينة لم يجعله والياً عليها – وهو أهل لذلك - إنما كلف غيره من الأنصار : محمدبن مسلمة أو سباع بن عرفطة . وبهذا يستفيد القائد من أتباعه كلهم ويكلفهم ما يحسنون ، فيكون أحدهم قائداً مرة وجندياً مرة أخرى .
4- لا بد للمنافق أن يظهر على نفاقه ، ولو لبس لبوس الإيمان وتزيى بزيه ، فهو يتظاهر بالإسلام ويؤدي بعض المناسك الخفيفة ظاهراً ، فإذا ما جد الجد انكفأ على نفسه وانفصل عن جسد الأمة . هذا ما رأيناه في المنافقين وعلى رأسهم عبد الله بن ابيّ بن سلول في عودته بثلاث مئة من أصحابه في غزوة أحد ، وفي جماعة منهم يوم تبوك بعد أن خرج بهم نحو جبل ذباب ولم يدخلوا ابتداءً في معسكر المسلمين إنما تميّزوا عنهم وعادوا إلى المدينة حين انطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى تبوك .(1/10)
5- يأبى المسلم الحق أن يتصف بالنفاق ، وسرعان ما يتحرك ليزيل عنه هذه التهمة التي يريد المنافقون إلصاقها به ، فالنفاق خروج من الملة ، وسقوط ذريع سريع في الدرك الأسفل من النار. هذا ما فعله الصحابي الجليل علي رضي الله عنه إذ سمع المنافقين يغوصون فيه ويطعنون بإيمانه ، فما كان منه إلا أن التحق بالرسول صلى الله عليه وسلم يشكو ما سمعه منهم ، ويتثبت من حب القائد له واعتماده عليه . فعاد إلى المدينة حميداً ، وبأخوّة رسول الله صلى الله عليه وسلم سعيداً .
6- من فضائل علي رضي الله عنه أن الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم كان يحبه حباً شديداً ، ومن دلائل حبه إياه أن زوّجه ريحانته فاطمة رضي الله عنها ، وآخاه أول الهجرة حين أمر المسلمين من المهاجرين والأنصار أن يتآخَوا ، وثبّت هذه الأخوّة مرة ثانية حين قال له : أفلا ترضى يا علي أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى ؟ إلاّ أنه لا نبيّ بعدي .
7- يعلمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم حين ولّى أحد الرجلين من الأنصار على المدينة طيلة غيابه وفيها ابن عمه عليّ أن على القائد أن لا يؤثر أهله بالقيادة ولا أقاربه بالزعامة والريادة ، فهي تكليف لا تشريف ، ومسؤولية يحاسب الإنسان عليها ، ويتحمل غبّها ، وترك رسول الله صلى الله عليه وسلم للمسلمين أن يختاروا خليفته من بعده .
قراءة في غزوة تبوك(5)
في أرض عاد
لما مرّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحجر( أرض عاد ) نزلها ، واستقى الناس من بئرها ، . فلما راحوا ( استراحوا ) قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا تشربوا من مائها شيئاً ، ولا تتوضأوا منه للصلاة ، وما كان من عجين عجنتموه فاعلفوه الإبل ، ولا تأكلوا منه شيئاً ، ولا يخرجْ منكم أحد الليلة إلا ومعه صاحب له " .
ففعل الناس ما أمرهم به رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا رجلين من بني ساعدة ، خرج أحدهما لحاجته ، وخرج الآخر في طلب بعير له .(1/11)
فأما الذي ذهب لحاجته فإنه اختنق على مذهبه ، وأما الذي ذهب في طلب بعيره فاحتملته الريح حتى طرحتْه بجبل طيّء . فأُخبر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : " ألم أنهَكم أن يخرج منكم أحد إلا ومعه صاحبه ؟ " .
ثم دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم للذي أصيب على مذهبه ، فشُفي ، وأما الآخر الذي وقع بجبل طيّء فإن طيّئاً أهدَته لرسول الله صلى الله عليه وسلم حين قدِم المدينة .
قال ابن هشام : بلغني عن الزهريّ أنه قال : لمّا مرّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحِجر سجّى ثوبه على وجهه ، واستحثّ راحلته ، ثم قال : " لا تدخلوا بيوت الذين ظلموا إلا وأنتم باكون خوفاً أن يصيبكم مثلُ ما أصابهم " .
إضاءة :
1- كان النبي صلى الله عليه وسلم ومن معه يعلمون أن الأرض التي نزلوا فيها ديارعاد قوم هود عليه السلام وقد أهلكهم الله تعالى " .... بريح صرصر عاتية سخّرها عليهم سبع ليال وثمانية أيام حسوماً ، فترى القوم فيها صرعى كأنهم أعجاز نخل خاوية " ، وكانت الأرض منبسطة وفيها ماء ومراح . فاستراحوا فيها ، وشربوا من مائها ، وعجنوا الدقيق بمائها ليخبزوه ، فلما فعلوا ذلك جاءهم الأمر الإلهي بالابتعاد عن الأرض التي كفر أصحابها فأصابهم فيها العذاب ، وأهلكهم الله بكفرهم وشركهم . فالتزم المسلمون ذلك سريعاً وخرجوا منها ، حتى إن الأمر جاءهم بالامتناع عن استعمال مائها شرباً ووضوءاً وأكلاً ، فأعلفوا الإبل العجين ولم يخبزوه . وهذا دليل على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن يدري بالنهي إلا بعد أن أوحيَ إليه به ، فهو صلى الله عليه وسلم لا يعلم الغيب . وهو دليل آخر على حسن التزام المسلمين بالامر الإلهي والهدي النبويّ .(1/12)
2- وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الإقامة بدار الكفر إلا للضرورة والأمر الذي لا بد منه كالدعوة إلى الله تعالى ، والهروب إلى أرض عادلة يأمن فيها الإنسان على نفسه وأهله ودينه ... أما المكان الذي أهلك الله فيه الذين ظلموا أنفسهم فقلب بهم الأرض أو أغرقهم فيها أو صعقهم أو مزقهم فيها ، فكانت أرض عذاب فلا يمكث فيها المسلم مطلقاً والله أعلم . ولهذا سجّى النبي صلى الله عليه وسلم ثوبه بوجهه وهو يمر بها ، واستحثّ راحلته وقال لأصحابه : " لا تدخلوا بيوت الذين ظلموا إلا وأنتم باكون خوفاً أن يصيبكم مثلُ ما أصابهم " . والبكاء وتصنّعه تذلل لله سبحانه واسترحام أن يصيبهم مثل ما أصاب القومَ من العذاب .
3- ما يكون من نهي إلا لحكمة قد يتبينها المسلم آنيّاً ، وقد لا يتبينها إلا بعد مدّة ، فحين نهى النبي صلى الله عليه وسلم المسلمين أن يخرجوا فرادى فلأنه يعلم من الله أن أمراً قد يصيب المخالفين ، فنبّههم إلى التقيد بما أمر . والتزم الجميع أمره إلا رجلاً ضيَع ناقته ، فذهب في الليل يبحث عنها وحده ، فحملته بقايا ريح عاد بعيداً عن المعسكر إلى مضارب طيّء شرقاً ، فضيَع نفسه بعد أن ضيّع ناقته ، وحملته الريح ، ثم أنزلته سليماً معافى ، وسلمه من رآه وضافه إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو عائد من تبوك . ورجلاً خرج منفرداً يقضي حاجته فضغطته الريح الشديدة فأصيب بالخنّاق وطاش صوابه ، فدعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فشفاه الله تعالى . ولأنه لا بد من الخروج لأصحاب الحاجة فكان الترخيص به لأكثر من واحد ليتعاونوا ويتآزروا على ما يصيبهم أو يصيب أحدهم ولأن النبي الكريم يريد أن يعلم المسلمين الطاعة لله ورسوله ففيها النجاة من المكروه ، وفي المخالفة العقوبة والضرر.
قراءة في غزوة تبوك (6)
هوان النفاق(1/13)
سار المسلمون بقيادة النبيّ صلى الله عليه وسلم إلى تبوك ، حتى إذاكانوا ببعض الطريق ضلت ناقته صلى الله عليه وسلم ، فخرج أصحابه في طلبها ، وعند رسول الله صلى الله عليه وسلم رجل من أصحابه يُقال له ( عمارة بن حزم ، وكان عقَبياً بدرياً ( من أوائل من أسلم ، وهو من أهل بيعة العقبة وأهل غزوة بدر ) ، وكان في رحله ( تابعاً له ) زيد ُ بن الصلّيت القينقاعي ، وكان منافقاً ، ولا يدري عمارةُ بنفاقه .
ولما كان عمارة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم قال زيد بن الصليت لبعض من كان معه : أليس محمد يزعم أنه نبي ، ويخبركم خبر السماء ، وهو لا يدري أين ناقته؟ .
ويخبر جبريلُ عليه السلام رسولَ الله صلى الله عليه وسلم بما قاله زيد وهو في رحل عمارة .
ويقول النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه – وعمارة عنده - : إن رجلاً قال : هذا محمد يخبركم أنه نبي ، ويزعم أنه يخبركم بخبر السماء ، وهو لا يدري أين ناقته. وإني – والله – لا أعلم إلا ما علمني الله ، وقد دلني الله عليها ، وهي في هذا الوادي ، في شِعب كذا كذا ، وقد حبسَتها شجرة بزمامها ، فانطلقوا حتى تأتوني بها ، فذهبوا فجاءوا بها
فرجع عمارة إلى رحله ، فقال : والله لعجب من شيء حدّثَناه رسول الله صلى الله عليه وسلم آنفاً عن مقالة قائل أخبره الله عنه بكذا كذا - يقصد ما قاله زيد بن اللصيت –
فقال رجل ممن كان في رحل عمارة ، ولم يكن في حضرة النبي صلى الله عليه وسلم إذ ذاك :
زيد والله قال هذه المقالة قبل أن تأتي .
فاقبل عمارة على زيد يجأ عنقه ( يطعنها ) ويقول : إليّ عبادَ الله ؛ إن في رحلي لداهية – وما أشعر؟! ... اخرج يا عدوّ الله من رحلي ، فلا تصحبني ...
إضاءة :(1/14)
1- المسلمون درجات في إيمانهم . وفي فضلهم . ومن لحق بالإسلام في بدايته ذاق حلاوته وأحب رسوله ، فما عاد يتحمل فراقه والبعد عنه . فترى هؤلاء الرجال – رضوان الله تعالى عليهم – يغتنمون كل لحظة سانحة ليكونوا قريباً من الحبيب صلى الله عليه وسلم . وعمارة منهم . ما إن يحل المسلمون في مكان حتى تراه يسرع إلى الحبيب يراه ويسمعه ، ويقضي أوقاته في صحبته صلى الله عليه وسلم ، قريباً منه .
2- وترى المنافق وإن تكتّم على نفاقه يكشف الله سره بكلمة يقولها أو حركة تند عنه أو نظرة غدر يلقيها . فالمنافق زيد بن الصليت يفضح نفاقه حين يقول : أليس محمد يزعم أنه نبي ، ويخبركم خبر السماء ، وهو لا يدري أين ناقته؟ وهو يتجاهل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بشر لا يعلم من الغيب إلا ما يخبره الله تعالى به . وهذا ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم بكل وضوح " . وإني – والله – لا أعلم إلا ما علمني الله " .
3- لما أخبر جبريل النبي صلى الله عليه وسلم بما قاله المنافق - والرسول بشر يتألم لما لمثل هذا اللمز والغمز - يكرمه الله تعالى بأن يزيد من رفعته في قلوب أصحابه فيزداد إيمانهم بهذا الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام إذ يخبره في تلك اللحظة بمكان الناقة ، فيرسل بعض أصحابه فيأتونه بها .
4- ويتألم الصحابة رضوان الله عليهم لمقولة المنافق – ولم يكن النبي صلى الله عليه وسلم ليذكر اسم المنافق الذي تفوّه بهذا الهجر من القول لئلا يؤلب عليه المسلمين ، فحسبُ ذلك المنافق أن يبلغه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم علم بما قاله، فيفكر ويتدبر ، عله يتوب إلى الله ويسلم ... ..
5- وكأن الله تعالى بعلمه القديم أن هذا المنافق قد طُمس على قلبه ، يفضحه حين يعود عمارة إلى رحله متألماً من تقوّل المنافق وتخرّصه فيذكر مقالة المنافق في رحله ، وكان في الرحل رجل مسلم سمع مقالة زيد في غياب عمارة ، فيكشف المستور ، ويخبره أن زيداً صاحب المقالة .(1/15)
6- يقبل عمارة على زيد يطرده من رحله ، ويدفعه بعيداً عنه ، ويشهّر به أمام الحاضرين ، فليس لأهل النفاق حب في قلوب المؤمنين ولا وُدٌّ ولا مكان بينهم لأنهم أعداء لله ، والمسلم يحب في الله ويعادي في الله . ولا يكون الولاء والبراء إلا في الله تعالى ، وليت المسلمين يتأسّوْن بالسلف الصالح فيحبون لله ، ويغضبون لله .
قراءة في غزوة تبوك(7)
رحم الله أبا ذر
ثم مضى رسول الله صلى اللله عليه وسلم يجيشه نحو تبوك ، ، فجعل يتخلف عنه الرجل ، فيقولون : يا رسول الله ؛ تخلف فلان .
فيقول : دعوه ؛ فإن يكُ فيه خير فسيلحقه الله تعالى بكم ، وإن يكُ غير ذلك فقد أراحكم الله منه .
حتى قيل : يا رسول الله ؛ تخلف أبو ذر ( جندب بن جنادة ) ، وأبطأ به بعيرُه .
فيقول : دعوه ؛ فإن يكُ فيه خير فسيلحقه الله بكم ، وإن يكُ غيرَ ذلك فقد أراحكم الله منه .
وتلوّم ( تمهّل ) أبو ذر على بعيره ، فلما أبطأ عليه أخذ متاعه فحمله على ظهره ، ثم خرج يتبع أثر رسول الله صلى الله عليه وسلم ماشياً .
ونزل رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض منازله ، فنظر ناظر من المسلمين ، فقال : إن هذا رجل يمشي في الطريق وحده .
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : كن أبا ذر .
فلما تأمله القوم قالوا : يا رسول الله هو – والله – أبو ذر .
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : رحم الله أبا ذر ، يمشي وحده ، ويموت وحده ، ويُبعث وحده .
وفي عهد عثمان رضي الله عنه نُفي أبو ذرإلى ( الرَبَذة ) ، ولم يكن معه أحد إلا امرأته وغلامُه . فأوصاهما : أن اغسلاني وكفّناني ، ثم ضعاني على قارعة الطريق ، فأوّل ركب يمر بكم فقولوا : هذا أبو ذر صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأعينونا على دفنه .
فلما مات فعلا به ذلك ، ثم وضعاه على قارعة الطريق .(1/16)
وأقبل عبد الله بن مسعود في رهط من أهل العراق ، فلم يرُعهم إلا الجنازة على الطريق ، قد كادت الإبل تطؤها . وقام إليهم الغلام . فقال : هذا أبو ذر صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأعينونا على دفنه .
فاستهل عبد الله بن مسعود يبكي ويقول : صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم : تمشي وحدك ، وتموت وحدك ، وتُبعث وحدك .
ثم نزل هو وأصحابه فوارَوه التراب .
ثم حدثهم عبد الله بن مسعود حديثه ، وما قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسيره إلى تبوك .
إضاءة :
1- الشيطان والنفس الأمارة بالسوء تجتمعان على المسلم ، وتوسوسان له حتى يطرد وسواسهما ويستعين بالله عليهما ، فينجو بفضل الله تعالى ، أو تضعف نفسُه فيستمع لهما ويأخذ بوسواسهما ، فيتبعهما . ولهذا نجد بعض الرجال يتأخرون عن الركب وينكفئون إلى الوراء ، ويعودون أدراجهم . حدث الكثير من هذا في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ، وما يزال الصراع بين المرء وشيطانه إلى يوم القيامة . فمن أيّده الله تعالى نجا ، ومن تهاون خاب وخسر .
2- ولهذا تخلف عدد من المسلمين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك ، حين يغلبهم الهوى ، ويزين لهم القعود ، فينسلون إلى الوراء ، ثم يتباطأون في المسير ، ثم ينفصلون عن الركب ، ويتوقفون ، ثم يعودون من حيث أتَوا ، ويظنون أنهم فعلوا الصواب ، ونجوا بأنفسهم . لكنّ التاريخ حين يذكرهم لا يرحمهم . بل يجعلهم مثالاً للمتخلفين وعبرة وعظة للقاعدين .(1/17)
3- والحقيقة أن من كان معك بقلبه كان إيجابياً ذا فائدة ، ومن لم يكن كذلك فهو عبء عليك ينبغي التخلص منه ، فإذا فعل هو ذلك فقد كفاك مؤونته بنفسه ، وأراحك الله منه . وهكذا كان القائد الحكيم صلى الله عليه وسلم يقول حين يخبره أصحابه بتخلف بعض من كانوا معهم " دعوه ؛ فإن يكُ فيه خير فسيلحقه الله تعالى بكم ، وإن يكُ غير ذلك فقد أراحكم الله منه " . ألم يشترط سهيل بن عمرو في صلح الحديبية أن لا يعيد المشركون من ارتد من المسلمين ، وأن يعيد المسلمون من أسلم إلى المشركين ، فاعترض الصحابة لهذا الشرط المجحف ظاهراً ، ورضي به النبي صلى الله عليه وسلم ، بل نافح عنه ؟ فليس للمسلمين حاجة بمن تخلى عنهم . إن التخلص منه معافاة من ورم خبيث وعدو مقيم ! أما المسلم الذي يُعاد إلى المشركين فسيكون عيناً للمسلمين على أعدائهم .
4- المسلم الثابت على المبدأ ، المؤمن به ، الواهب نفسه له لا يحفل بالمصاعب . وهكذا فعل أبو ذر رضي الله عنه ، إذ رأى ضعف ناقته عن المسير ، فصبر عليها حتى علم أنها لن تقوى عليه ، فحمل أمتعته ومشى مسرعاً إلى ركب الرسول صلى الله عليه وسلم يغذ السير وحيداً فريداً . وكان عند حسن ظن حبيبه به . ويبتسم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ويفرح به ، ويدعو له مادحاً " رحم الله أبا ذر ، يمشي وحده ، ويموت وحده ، ويُبعث وحده .
5- وتمر الأيام ، ويصدق في أبي ذر رضي الله عنه قول رسول الله صلى الله عليه وسلم . إن لأبي ذر أسوة حسنة في سيدنا إبراهيم فقد كان أمة وحده كذلك . لقد كان ابن مسعود رضي الله عنه يسمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول ما قاله في أبي ذر ، ولم يكن يخطر بباله أنه سيكون ممن يشهد بصدق هذا الحديث حين يرى جثمان أبي ذر ، ويدفنه في تلك الصحراء . ويبكي ابن نسعود رحمة بأبي ذر وشوقاً إلى النبي الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم .
قراءة في غزوة تبوك (8)
دور النفاق والمنافقين(1/18)
خرج رهط من المنافقين مع رسول الله مهمتهم تخذيل المسلمين وتخويفهم من قتال الروم ، وبث الفرقة بينهم .
من بين هؤلاء ما ذكره ابن إسحاق في سيرته فقال :
كان رهط من المنافقين منهم وديعة بن ثابت ، ومخشّن بن حمير ، يشيرون إلى النبي صلى الله عليه وسلم - يغمزون فيه – وهو منطلق إلى تبوك ، فقال بعضهم لبعض : أتحسبون جلاد ( قتال ) بني الأصفر ( الروم ) كقتال العرب بعضهم بعضاً ؟! ، والله لكأنا بكم غداً مقرّنين في الحبال : إرجافاً وترهيباً للمؤمنين .
فقال مخشّن بن حمير خائفاً أن يصل ما يقوله أصحابه من المنافقين إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فينزل فيهم قرآن يفضحهم : والله ؛ لوددتُ أن أقاضى على أن يُضرب كل رجل منا مئة جلدة وأنّا نفلت أن ينزل فينا قرآن لمقالتكم هذه . وكان أقربهم إلى الفهم ، وأدناهم شفافية .
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمار بن ياسر ، أدركِ القوم ، فإنهم قد احترقوا ، فسَلْهم عمّا قالوا ، فإن أنكروا فقل: بلى ؛ قلتُم كذا وكذا .
فانطلق إليهم عمار، فقال لهم .
فأتَوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يعتذرون إليه فقال وديعة بن ثابت ورسول الله صلى الله عليه وسلم واقف على ناقته ووديعة آخذ بحقّها ( بحزامها الذي يشد حقوها ) : يا رسول الله ؛ إنما كنا نخوض ونلعب .
فأنزل الله عز وجل " ولئن سألتَهم ليقولُنّ إنما كنا نخوض ونلعب ، قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون " ؟!.
واعتذر مخشّن بن حمير ، فقال : يا رسول الله ؛ قعد بي اسمي واسم أبي ، وكأن الذي عفي عنه في هذه الآية مخشّن بن حمير في قوله تعالى " لا تعتذروا ؛ قد كفرتم بعد إيمانكم . إن نعفُ عن طائفة منكم نعذبْ طائفة بانهم كانوا مجرمين " ، فتسمّى عبدَ الرحمن ، وسأل الله تعالى أن يأخذه شهيداً لا يُعلم بمكانه ، فقتل يوم القيامة ، فلم يوجد له أثر .
إضاءة :(1/19)
1- للمنافقين دور مستمر في تثبيط المؤمنين والوسوسة لهم لصالح الأعداء ، وهم يستطيعون اختراق صفوف المسلمين بادعائهم الإسلام ، ويخالطونهم وينفثون سمومهم بينهم ، ويقومون بما لا يستطيع الأعداء الواضحون أن يقوموا به ، ولذلك كان المنافق أشد على الإسلام من صريح العداوة لأنه يتقي بلبوس الإسلام وهو يعمل جاهداً للقضاء عليه . فيلقون بين آونة وأخرى تساؤلات وجملاً قد تجد بين بعض المسلمين آذاناً صاغية فتفت في عضدهم ، وتبذر الشكوك والخوف في نفوس بعضهم . مثال ذلك ما قاه المنافقون : أتحسبون جلاد بني الأصفر كقتال العرب بعضهم بعضاً ؟!
، والله لكأنا بكم غداً مقرّنين في الحبال.
2- قد يعود بعض هؤلاء إلى رشدهم ويتمنون لو كانوا مسلمين ، ولا يريدون الفضيحة ويتمنون أن تنزل بهم مصيبة أو تنالهم عقوبة ولا أن يُفتضحوا . ومثال ذلك ما قاله مخشّن : والله ؛ لوددتُ أن أقاضى على أن يُضرب كل رجل منا مئة جلدة وأنّا نفلت أن ينزل فينا قرآن لمقالتكم هذه . فالعربي القح لا يرضى لنفسه الصغار ولو خالف الناس فيما يعتقدون . وفي هؤلاء خير ينبغي للداعية أن يوظفه ليرفع صاحبه إلى الحق ويدله على طريق الهدى والرشاد .
3- وهكذا كان النبي صلى الله عليه وسلم ، ألم يمدحه رب العزة قائلاً : " لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتّم ، حريص عليكم ، بالمؤمنين رؤوف رحيم " ؟
فمن رحمته صلى الله عليه وسلم بالمؤمنين أن جبريل عليه السلام حين أخبره بما قال هؤلاء أرسل إليهم عمار بن ياسر وهو يقول له : " أدركِ القوم ، فإنهم قد احترقوا " ، وهذا القول كناية عن المآل المخيف الذي يؤول إليه من سخر من الإسلام وأهله ، ولم يكن لهم بل عليهم .
4- وانظر إلى طريقة التقرير الرائعة حيث أمر الرسول صلى الله عليه وسلم عماراً أن
يسألهم ما نطقوا به ، فإن نكروا ذلك فجأهم بما قالوه فأبلسوا واعترفوا . " فسَلْهم عمّا قالوا ، فإن أنكروا فقل: بلى ؛ قلتُم كذا وكذا .(1/20)
فانطلق إليهم عمار، فقال لهم .
5- من ظل من المنافقين على نفاقه وملأ الظلام قلبه نراه يقدّم اعتذاراً كانت الخطيئة فيه أقرب من الاعتذار، فهو لسفاهته وكفره يعتذر أنه كان يلهو ويمزح ، وهل يلهو العاقل بما يغضب الله ورسوله ويخرجه من الملة ؟ وما أكثر هؤلاء في زماننا ، فهم من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا ، وقد يصلّون معنا ، لكنهم سادرون في الخطيئة والإثم ويكابرون ، فينكرون ولا يعترفون بخطئهم .
6- وما أجمل أن يتوب الإنسان ويعترف بخطئه ويرجو الله أن يعفو عنه ويهديه السبيل القويم ، فهذا مخشّن الذي قال : يا رسول الله ما ترى ممن كان اسمه واسم أبيه دليلين على الغلظة والغباء؟ فأنا مخشّن وأبي حمير !!! وللإنسان من اسمه نصيب – كما يقولون - يا رسول الله أتوب إلى الله ، مما قلت ، وأرجو مغفرته فاعف عني واسألِ الله لي المغفرة والتوبة ... يا رسول الله ؛ غيّر اسمي . فسماه رسول الله عبدَ الرحمن . ولحسن توبته سأل الله عز وجل أن يموت شهيداً لا يُعلم بمكانه ، فأجاب الله دعاءه وقبله شهيداً . فطوبى له هذه النهاية السعيدة .
قراءة في سورة تبوك (9)
سحابة مغيثة
لما خرج المسلمون من أرض عاد أصبجوا ولا ماء عندهم شكوا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم ،
فقال أبو بكر الصديق رضي الله عنه : يا رسول الله ؛ إن الله عز وجل قد عوّدك في الدعاء خيراً ، فادع لنا .
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : تحب ذلك ؛ يا أبا بكر ؟.
قال : نعم يا رسول الله .
فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأرسل الله سبحانه سحابة ، فأمطرت حتى ارتوى الناس ، واحتملوا حاجتهم من الماء .
يقول ابن هشام : قال ابن إسحاق : فحدثني عاصم بن عمرو بن قتادة عن محمود بن لبيد عن رجال من بني عبد الأشهل قال : قلت لمحمود : هل كان الناس يعرفون النفاق فيهم ؟ ( هل كانوا يعرفون المنافق فيهم ؟)(1/21)
قال : نعم والله ، إنْ كان الرجل ليعرفه من أخيه ومن أبيه ومن عمّه وفي عشيرته ، ثم يلبّس بعضهم بعضاً على ذلك ( يستره ويتغاضى عنه ) .
ثم قال محمود : لقد أخبرني رجال من قومي عن رجل من المنافقين معروفٍ نفاقُه كان يسير مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث سار ، فلمّا كان من أمر الناس بالحجر ( ديار عاد ) ما كان ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلم حين دعا ، وأرسل الله تعالى سحابة ، فأمطرت حتى ارتوى الناس أقبل عليه قومه فقالوا : ويحك؛ هل بعد هذا شيء؟
قال : سحابة مارّة .
إضاءة :
1- الدعاء مخ العبادة كما يقول النبي صلى الله عليه وسلم . واللجوءُ إلى الله وعبادتُه والاعتمادُ عليه غاية الإخلاص والتوكل ... كان من السهل على رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يدعو الله أن يغيثهم بمجرد أن خرجوا من الحجر ، لكنّه انتظر حتى يطلب المسلمون ذلك ويلجأوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليدعو لهم .
2- دعاء الطيب الطاهر أدعى للقبول ، ومن أطيب من رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ ومن أقربُ إلى الله تعالى منه؟ . إن الماء لما شح في المدينة المنوّرة على عهد الخليفة عمر رضي الله عنه خرج بالمسلمين إلى ظاهر المدينة واستقوا بعمّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فاستجاب لهم سريعاً .
3- كل الأمور بيد الله سبحانه ، فهو مالك الملك ، لا رادّ لقضائه ، يفعل ما يشاء ، إذا قال للشيء كن ، فيكون . أظهر للنبي الكريم الخير والبركات ، وعلى يديه الشريفتين حدث الكثير من المعجزات ،
4- حين يكون القائد مهتماً بجنده يريد لهم الخير ويسعى له ، ولا يألو في ذلك يحبونه ويلتفون حوله ، ويطيعونه ، ويخلصون له في ذلك .... مثال ذلك وقدوتنا الرسولُ صلى الله عليه وسلم ، فما إن سأله الصديق أن يدعو لهم حتى رفع يديه إلى السماء يستمطر رحمات ربه سبحانه ، فيجيبه الله تعالى ، ويشرب المسلمون ، ويحتملون حاجتهم من الماء .(1/22)
5- لا يظهر النفاق إلا حين يقوى الحق ويهابه الكافرون ، فيظهرون غير ما يبطنون . وعلى هذا كان النفاق في المدينة ، ولم يكن في مكة . ولا يكون الإنسان منافقاً إلا حين يرى مصلحة في اتباع فكرة ما أو يعمل عملاً يظن فيه مصلحة آنيّة عند من يخالفه الرأي ، فيظهر له التبعية ويبطن المخالفة .
6- من المنافقين من أسلم ثم ارتد " ذلك بأنهم آمنوا ثم كفروا ، فطُبع على قلوبهم ..." ومنهم من لم يخالط الإيمانُ قلبه ابتداء ، فهو لا يرى في الحياة إلا مادّة ، لا يؤمن برب واحد ، ولا يرى للدعاء فائدة . ختم الله على قلبه . فهذا المنافق يرى رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو ، وقد كانت السماء صافية ، ويرى السحابة تقبل ، وتمطر على المسلمين ، فيشربون ويملأون قربهم وأوانيهم . ولا يرى في ذلك سوى سحابة صادف الدعاء مرورها ، فأمطرت فوقهم صدفة ، دون استجابة .. وهكذا كان الأمر .
قراءة في غزوة تبوك (10)
جراب بلال
روى الواقدي رحمه الله فقال : حدثني يونس بن محمد عن يعقوب بن عمر بن قتادة عن محمود بن لبيد عن رجل من بني سعد بن هُذيم قال :
جئت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو جالس بتبوك في نفر من أصحابه وهو سابعهم ، فوقفت فسلّمتُ ، فقال : اجلس .
فقلت : يا رسول الله ؛ أشهد أنْ لا إله إلا الله وأنك رسول الله .
قال صلى الله عليه وسلم : أفلح وجهُك . ثمّ قال : يا بلال أطعمنا .
قال: فبسط بلال نطعاً ( بساطاً من جلد ) ، ثم جعل يُخرج من جراب له ، فأخرج بيده من تمر معجون بالسمن والأَقِط .
ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : كلوا .. فأكلنا حتى شبعنا .
فقلت : يا رسول الله ؛ إنْ كنتُ لآكل هذا وحدي .
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : الكافر يأكل في سبعة أمعاء ، والمؤمن يأكل في مِعىً واحد .
قال : ثمّ جئته من الغد متحيِّناً لغدائه لأزداد يقيناً ، فإذا عشرة نفر حوله .
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : هاتِ أطعمنا يا بلال .(1/23)
قال : فجعل بلال يُخرج من جراب تمراً ، بكفّه قبضة قبضة .
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أَخرِجْ ولا تخَف من ذي العرش إقتاراً ...
قال : فجاء بلال بالجِراب ، فنثره ... قال سعد : فحَزَرْتُه مُدّين .
قال : فوضع النبيّ صلى الله عليه وسلم يده على التمر ، ثمّ قال : كلوا باسم الله .
قال الرجل : فأكل القوم وأكلتُ معهم ، وكنت صاحب تمر .
قال : فأكلت حتى لم أجدْ له مسلكاً ، وبقي على النطع مثلُ ما جاء به بلال ، كأنا لم نأكل تمرة واحدة!!!.
قال : ثمّ عُدْتُ من الغد ، وعاد نفر حتى باتوا ، فكانوا عشرة أو يزيدون ،
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يا بلال أطعمْنا .
قال : فجاء بلال بذاك الجِراب بعينه ، أعرفه ! ، فنثره .
فوضع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده ، فقال : كلوا باسم الله .
قال : فأكلنا حتى نهلنا ، ثم رفع مثل الذي صَبّ ، ففعل مثل ذلك ثلاثة أيام .
قراءة في غزوة تبوك ( 11)
سؤال الرسول أبا رهم عمن تخلف من غفار واسلم(1/24)
قال ابن إسحاق : وذكر ابن شهاب الزهري ، عن ابن أكيمة الليثي عن ابن أخي أبي رهم الغفاري أنه سمع أبا رهم كلثوم بن الحصين وكان من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين بايعوا تحت الشجرة ، يقول غزوت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم غزوة تبوك ، فسرت ذات ليلة معه ونحن بالأخضر قريبا من رسول الله صلى الله عليه وسلم وألقى الله علينا النعاس فطفقت أستيقظ وقد دنت راحلتي من راحلة رسول الله صلى الله عليه وسلم فيفزعني دنوها منه مخافة أن أصيب رجله في الغرز فطفقت أحوز راحلتي عنه حتى غلبتني عيني في بعض الطريق ونحن في بعض الليل فزاحمت راحلتي راحلة رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجله في الغرز فما استيقظت إلا بقوله حَسّ ( كلمة تُقال عند الألم المفاجئ) فقلت يا رسول الله استغفر لي . فقال سر فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يسألني عمن تخلف عن بني غفار ، فأخبره به فقال وهو يسألني : ما فعل النفر الحمر الطوال الثطاط ( من خف شعر لحيته وثقل بطنه) . فحدثته بتخلفهم . قال فما فعل النفر السود الجعاد القصار ؟ قال قلت : والله ما أعرف هؤلاء منا . قال بلى ، الذين لهم نعم بشبكة شدخ( موضع من بلاد غفار ) فتذكرتهم في بني غفار ، ولم أذكرهم حتى ذكرت أنهم رهط ٌ مِن أسلم كانوا حلفاء فينا ، فقلت : يا رسول الله أولئك رهط من أسلم ، حلفاء فينا ; فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما منع أحد أولئك حين تخلف أن يحمل على بعير من إبله امرأ نشيطا في سبيل الله إن أعز أهلي علي أن يتخلف عني المهاجرون من قريش والأنصار وغفار وأسلم.
إضاءة :(1/25)
1- كل مسلم حريص أن يكون رفيق الرسول صلى الله عليه وسلم في حله وترحاله ، في الدنيا والآخرة . وهم في الوقت نفسه حريصون أن ينالوا رضاه وتأمين الراحة والهدوء له صلى الله عليه وسلم ، فيجتنبون مزاحمته والتضييق عليه في سيرهم معه أو الجلوس إليه صلى الله عليه وسلم . وما أعظم توقيره صلى الله عليه وسلم وتعظيمه .
2- من عظيم أخلاق الرسول صلى الله عليه وسلم أنه سكت على ألمه ، فلم يصدر عنه سوى كلمة حَسّ عندما صدم أبو رهم رجله صلى الله عليه وسلم في غرزه . ولم يؤنبه أو يوبخه ، فالسفر يحدث فيه كل شيء بعد أن يتعب الإنسان ويأخذه النعاس . بل لا طفه وخفف عنه حين أخذ يحادثه في قومه غفار وأسلم .
3- إن الله لا ينظر إلى أجسادنا وجمال خلقتنا ولكن ينظر إلى أعمالنا وحسن تصرفنا . هذا ما فهمناه من النبي صلى الله عليه وسلم حين قارن بين البيض الطوال السِّمان ، والسود القصار النحاف ، فالقسم الأول تخلفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والقسم الثاني بذل جهده في مواكبته أو تجهيز غيرهم ليكونوا بدلاً عنهم في هذه الغزوة المباركة . ولأن القصار الجعد من بني أسلم حلفاء أبي رهم لم يأبه هذا لهم في بداية الحديث ، فأصر النبي صلى الله عليه وسلم على التعريف بهم وتزكيتهم .
4- يذكرني قول النبي صلى الله عليه وسلم : " إن أعز أهلي علي أن يتخلف عني المهاجرون من قريش والأنصار وغفار وأسلم " بقول الشاعر :
وظلم ذوي القربى أشد مضاضة على المرء من وقع الحسام المهنّد
فقد كان صلى الله عليه وسلم يتوقع أن يسارع القوم من المهاجرين والأنصار وغفار وأسلم إلى مشاركته غزوة تبوك إلا أن كثيراً منهم تخلف ، وهذا لا يليق بأهل الدعوة وعمادها الأول ، وعصبها الحساس .
قراءة في غزوة تبوك(12)
الصلح بين الرسول ويحنة(1/26)
ولما انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى تبوك ( وتبوك الآن مدينة شامية من أعمال المملكة السعودية جنوب الأردن حوالي تسعين كيلو متراً )، أتاه يحنة بن رؤبة ، صاحب أيلة ، (وأيلة مدينة بالشام على ساحل البحرالأحمر وهي الآن من أعمال السعودية ، كثيرة النخيل )، فصالح رسول الله صلى الله عليه وسلم وأعطاه الجزية .
وأتاه أهل جرباء وأذرح (وهما منطقتان إلى الشمال الشرقي من أيلة )، فأعطوه الجزية فكتب رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم كتابا ، فهو عندهم .
كتاب الرسول صلى الله عليه وسلم ليحنة
فكتب ليحنة بن رؤبة بسم الله الرحمن الرحيم هذه أمنة من الله ومحمد النبي رسول الله ليحنة بن رؤبة وأهل أيلة ، سفنهم وسيارتهم في البر والبحر لهم ذمة الله وذمة محمد النبي ومن كان معهم من أهل الشام ، وأهل اليمن ، وأهل البحر . فمن أحدث منهم حدثا ، فإنه لا يحول ماله دون نفسه . وإنه طيب لمن أخذه من الناس وإنه لا يحل أن يُمنعوا ماء يردونه ولا طريقا يريدونه من بر أو بحر.
إضاءة :
1- أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم الأمان للنصارى من أهل الشام ، وصالحهم على أن يعترفوا بتبعيتهم للدولة الإسلامية بالمدينة المنورة ، وأخذ الجزية منهم على أن يأمنوا على دينهم وأنفسهم وموالهم وتجارتهم . وليكون هذا العهد مثالاً للعلاقة بين المسلمين وأهل الكتاب في ديار المسلمين على مر الأيام .
2- شعار المسلمين على مدى حكمهم لبلاد النصارى في الشرق والغرب أنه " لا إكراه في الدين " فلم يُفرض الإسلام على أحد ديناً لأن الدين قناعة وإيمان ، ولا خير في إنسان يظهر غير ما يُبطن . ولا أمان له ولا عهد ، لأنه سوف ينقض ما اتّفق عليه بمجرد القدرة على الجهر به .(1/27)
3- ولم ينتشر الإسلام بالسيف كما يزعم أعداؤه بل بالفهم والمنطق والأسوة الحسنة والقدوة الطيبة . وفي القرآن كثير من الآيات ترفض الإيمان بالإكراه " أفأنت تُكره الناس حتى يكونوا مؤمنين ؟ " ولكنّ الإسلام يحارب من وقف في طريقه يمنعه الوصول إلى الناس ويقف بينهم وبينه سداً مانعاً ويحارب دعاته .
4- ولغير المسلم من المعاهدين ما للمسلمين من حرية في الحركة والتجارة والبيع والشراء وإقامة طقوسهم وشعائر عبادتهم كما وضح في كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لأمير أيلة ، ولهم ذمة الله وذمة رسوله ، وحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم يوضح هذا المبدأ : " من ظلم معاهداً أو كلفه فوق طاقته فأنا خصمه يوم القيامة "
5- وقد حفظ الإسلام للمعاهدين كرامتهم ودافع عنهم بل إننا نجد الحاكم المسلم يفرض للذمي في دولة الإسلام ما يحافظ على حياته : فقد رأى عمر رضي الله عنه في الطريق يهودياً يتكفف الناس فقال: والله ما أنصفناك إذ أخذنا منك الجزية وأنت شاب وتركناك وأنت شيخ ، وأمر له براتب من بيت مال المسلمين .
6- أما إذا نقض الذمي العهد فعقوبته – كماذكر النبي صلى الله عليه وسلم – قاسية إذ قال في كتابه لصاحب أيلة : فمن أحدث منهم حدثا ، فإنه لا يحول ماله دون نفسه . ولا بد أن تكون العقوبة رادعة حتى لا يجرؤ أحد على إيذاء المسلمين ونقض عقودهم ، وليكون الفاعل عبرة لغيره .
قراءة في غزوة تبوك(13)
أسر أكيدر ثم مصالحته(1/28)
ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا خالد بن الوليد ، فبعثه إلى أكيدر دومة ( دومة الجندل شرق تبوك وغرب سكاكا السعودية ) ، وهو أكيدر بن عبد الملك رجل من كندة كان ملكا عليها ، وكان نصرانيا ; فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لخالد " إنك ستجده يصيد البقر "، فخرج خالد حتى إذا كان من حصنه بمنظر العين وفي ليلة مقمرة صائفة وهو على سطح له ومعه امرأته فباتت البقر تحك بقرونها باب القصر فقالت له امرأته هل رأيت مثل هذا قط ؟ قال لا والله قالت فمن يترك هذه ؟ قال لا أحد .
فنزل فأمر بفرسه فأسرج له وركب معه نفر من أهل بيته فيهم أخ يقال له حسان . فركب وخرجوا معه بمطاردهم . فلما خرجوا تلقتهم خيل رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذته ؟ وقتلوا أخاه وقد كان عليه قَباء ( الثوب الخارجي يلبسه الرجل فوق ثيابه ويتمنطق عليه ) من ديباج ( حرير) مخوص ( مطرّز ) بالذهب فاستلبه خالد فبعث به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل قدومه به عليه
قال ابن إسحاق : فحدثني عاصم بن عمر بن قتادة ، عن أنس بن مالك ، قال رأيت قباء أكيدر حين قدم به على رسول الله صلى الله عليه وسلم فجعل المسلمون يلمسونه بأيديهم ويتعجبون منه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أتعجبون من هذا ؟ فوالذي نفسي بيده لمناديل سعد بن معاذ في الجنة أحسن من هذا .
قال ابن إسحاق : ثم إن خالدا قدم بأكيدر على رسول الله صلى الله عليه وسلم فحقن له دمه وصالحه على الجزية ثم خلى سبيله فرجع إلى قريته فقال رجل من طيئ : يقال له بجير بن بجرة يذكر قول رسول الله صلى الله عليه وسلم لخالد : إنك ستجده يصيد البقر وما صنعت البقر تلك الليلة حتى استخرجته لتصديق قول رسول الله صلى الله عليه وسلم
تبارك سائق البقرات إني ... رأيت الله يهدي كل هاد
فمن يك حائدا عن ذي تبوك ... فإنا قد أمرنا بالجهاد
الرجوع إلى المدينة(1/29)
فأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بتبوك بضع عشرة ليلة لم يجاوزها ، ثم انصرف قافلا إلى المدينة .
إضاءة :
1- يعلمنا النبي القائد أنه لا بد من تأمين حدود الدولة الفتية وإخضاع الخصوم وإخافتهم حتى لا يكونوا عوناً للروم في قتال المسلمين ، فأرسل قادته ببعض السرايا لإثبات الوجود وفرض القوة الإسلامية . وقد تحصن بعض الحكام في حصونهم وقراهم ، يأبون الاعتراف بالقوة الجديدة ، فما كان من النبي صلى الله عليه وسلم إلا أن أمر بمهاجمتهم وفرض الأمر الواقع .
2- " وما يعلم جنود ربك إلا هو " أراد الله تعالى – ولا رادّ لقضائه – أن يكون أسر أكيدر حاكم دومة الجندل سهلاً يسيراً ، فما إن وصل خالد بن الوليد إلى حصن أكيدر في ليلة مقمرة حتى أرسل الله تعالى بقر الوحش يطوف بالحصن ويدفع بابه ويغري الحاكم بالخروج ليصطاده ، فقد اعتاد أن يبتعد المسافات الطويلة ليصطادها ، وهي اليوم تحوم حول باب الحصن . وهكذا خرج أكيدر في الليلة القمراء مع بعض أصحابه يطاردها ، فصار مطارَداً ، وأصبح صيداً بعد أن كان صائداً، وكان أن أوحى الله تعالى لنبيه الكريم صلى الله عليه وسلم أن يقول لقائد سريته خالدٍ : إنه سيرى أكيدر خارج حصنه يصيد البقر . وهكذا كان ، فاستاقه أسيراً . ومن جاهد في سبيل الله أعانه الله تعالى ويسّر أمره ، وأعانه على تنفيذ المهمة !!... إنها بعض معجزات النبي صلى الله عليه وسلم تشرح قلب المؤمنين وتشحذ عزائمهم .
3- كنوز الدنيا على عظمها لا تعادل مطلقاً ما أعده الله تعالى لعباده في الجنات ، ففيها ما لا عين رأت ، ولا اذن سمعت ولا خطر على قلب بشر. فرداء أكيدر الذهبي لا يساوي بحال من الأحوال مناديل سعد بن معاذ في الجنة ، وما قال النبي صلى الله عليه وسلم ذاك إلا مثال بسيط يقرب فيه النبي صلى الله عليه وسلم جمال الحياة الرغيدة للمسلم المؤمن في جنات المأوى .
قراءة في غزوة تبوك (14)
وفاة ذي البجادين وقيام الرسول على دفنه(1/30)
قال ابن إسحاق : وحدثني محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمي ، أن عبد الله بن مسعود كان يحدث ،
قال : قمت من جوف الليل وأنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك ، قال فرأيت شعلة من نار في ناحية العسكر ، قال فاتبعتها أنظر إليها ، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر وإذا عبد الله ذو البجادين المزني قد مات وإذا هم قد حفروا له ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم في حفرته ، وأبو بكر وعمر يدليانه إليه ، وهو يقول أدنيا إليّ أخاكما ، فدلياه إليه ، فلما هيأه لشقه قال : اللهم إني أمسيت راضيا عنه ، فارض عنه . قال يقول وعبد الله بن مسعود: يا ليتني كنت صاحب الحفرة.
سبب تسميته ذا البجادين
قال ابن هشام : وإنما سمي ذا البجادين لأنه كان ينازع إلى الإسلام ، فيمنعه قومه من ذلك ويضيقون عليه حتى تركوه في بجاد ليس عليه غيره (والبجاد الكساء الغليظ الجافي )، فهرب منهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلما كان قريبا منه شق بجاده باثنين ، فاتزر بواحد ، واشتمل بالآخر ، ثم أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم . فقيل له ذو البجادين لذلك .
والبجاد أيضا : المسح قال ابن هشام : قال امرؤ القيس :
كأن أبانا في عرانين ودقه ... كبير أناس في بجاد مزمل
إضاءة :
1- عبد الله شاب سمع بمبعث الرسول صلى الله عليه وسلم ، ووصل إليه شمائل هذا الدين العظيم ، فأحبه وأعلن إسلامه في قومه الذين كرهوا منه إسلامه ، فسلبوه ماله ، ومنعوه حقه في حياة حرة كريمة فكان أهل الكهف قدوة له في الصبر على الدين وتحمل المشاق لأجله .(1/31)
2- لما عزم في غفلة من قومه على الهروب بدينه إلى حيث النور والضياء ، لم يمنعه أنه ذو كساء واحد غليظ يلفه فانطلق إلى النبي صلى الله عليه وسلم ولقيه بمئزر وشملة كأنه في حج أو عمرة حافي القدمين يشرب الماء من حفر الطريق ، ويأكل لحاء الشجر حتى وصل إلى المصطفى صلى الله عليه وسلم . وهكذا المؤمن يتحمل الصعاب في سبيل دينه والعيش في أفيائه .
3- ويصل الشاب إلى حيث الهداية والأمان ، إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يعيش بين فقراء المسلمين ، ويحتضنه رسول الله صلى الله عليه وسلم ويرعاه ، فتطمئن نفسه ، ويسلو همه .
4- وينطلق عبد الله ذو البجادين مع النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك يلازمه كظله ، فلا يفارقه ، ويغرف من معين الإيمان وبحر الهدى وشمس الهداية . ويشاء الله تعالى أن يعتل في هذه الغزوة ، ثم يفارق الحياة في إحدى ليالي تبوك والرسول صلى الله عليه وسلم عائد بالمسلمين إلى المدينة ، فيحفر له المسلمون قبره . ويأبى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أن يدفنه بيديه الشريفتين تقديراً له وحباً . وينزل حفرته ، ويطلب من صاحبيه ووزيريه الكريمين أبي بكر وعمر أن ينزلاه إليه ليوسده الثرى بنفسه ، وليدعو له الله تعالى أن يتغمده برحمته ، ومن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم عنه راضياً فالله تعالى عنه راض. ويرى ابن مسعود هذا الموقف ويسمع هذا الدعاء ، فيتمنى لو كان مكان عبد الله ذي البجادين رضي الله عنه وأرضاه ، ويا سعد من دفنه رسول الله بيديه ودعا له وشهد له بالصلاح والتقوى .
5- ومهما غرف الإنسان من مباهج الدنيا فإن القبر مصيره ، والوحشة أنيسه ، فيكن مبتغى المسلم رضاء الواحد الأحد والسير على خطا الرسول الأعظم . ليكون من أهل الفردوس الأعلى في نعيم مقيم إلى جوار رب كريم سبحانه من رب رؤوف ، ورحيم غفار .
قراءة في غزوة تبوك (15)
وادي المُشّقِّقِ
قال ابن إسحاق في سيرته :(1/32)
وكان في طريق العودة – من تبوك – ماء يخرج من وشَل ( الماء القليل يسيل من صخر أو جبل ) ما يروي الراكب أو الراكبَين والثلاثة ، بواد يقال له : وادي المشقّق .
-- وقل الماء بين يدي الجيش واشتكى المسلمون لقائدهم وسيدهم رسول الله صلى الله عليه وسلم .
واقترب الجيش من ذلك الوادي ذي الماء الذي لا يشفي غليل رجال بعدد أصابع الجيش ، فكيف بعشرات الآلاف منهم؟! --
فقال النبي صلى الله عليه وسلم : من سبقنا إلى ذلك الوادي فلا يَستَقِيَنّ منه شيئاً حتى نأتيه .
قال – ابن إسحاق – فسبقه إليه نفر من المنافقين ، فاستَقَوا ما فيه .
فلما أتاه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقف عليه فلم يرَ فيه شيئاً . فقال : من سبقَنا إلى هذا الماء ؟ ! فقيل له : يا رسول الله ؛ فلان وفلان .
فقال : ألم أنههم أن يستقوا منه شيئاً حتى آتيه ؟! ثم لعنهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ودعا عليهم . ثم نزل ، فوضع يده تحت الوشل ، فجعل يصب في يده ما شاء الله أن يصب ، ثم نضحه به ، ومسحه بيده ، ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بما شاء الله أن يدعو به .
فانخرق من الماء – كما يقول من سمعه – ما إنّ له حِسّاً كحِسّ الصواعق . فشرب الناس ، واستتقَوا حاجتهم منه .
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لئن بقيتم أو من بقي منكم لتسمعُنّ بهذا الوادي وهو أخصب ما بين يديه وما خلفه .
...............................................
وماء تبوك اليوم ذات ماء كثير ، وهي من أخصب البلاد حولها ...
صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم .
إضاءة :(1/33)
1- الصبر على الشدة وطاعة القائد صفة ينبغي أن يتسم بها الجندي ، فله بذلك أجر وثواب ، وبهما يتحقق الكثير من عوامل النصر ، فما بعد الصبر إلا الفرج ، هذا أولاً ، أما ثانياً فالجندي الذي يرى نفسه لبنة في بناء متكامل مع إخوانه من الجنود لا يستأثر عليهم بشيء . وثالثاً نرى الجندي الذ يسارع إلى قطف الثمار وحده أناني لا خير فيه ، ولو كان الإيمان في قلبه حياً قدّم الآخرين عليه .
2- يستحق الإنسان التوبيخ واللوم حين يخالف الأمر ، ويستحق الحب والتقدير حين يطيعه .
3- اللجوء إلى الله والاعتماد عليه والعمل في سبيله يفتح آفاق الخير وأبواب الرضى ، ولن يضيّع الله تعالى أجر من أحسن عملاً بل يزيده خيراً ويفتح مغاليقه ، ومن كان مع الله كان الله معه .
قراءة في غزوة تبوك(16)
بئر بني سعد
قال الواقدي : حدّثني يونس بن محمد بن يعقوب بن عمر بن قتادة عن محمود بن لبيد قال :
قدم نفر من بني سعد بن هُذيم على رسول الله صلى الله عليه وسلم في تبوك ، فقالوا :
يا رسول الله إنا قدمنا عليك ، وتركنا أهلنا على بئر لنا قليلٍ ماؤها . وهذا القيظ ، ونحن نخاف إن تفرقنا أن نُقتطَع لأن الإسلام لم يفشُ حولنا بعد ، فادعُ الله لنا في بئرنا . وإن روينا فلا قوم أعزّ منا ، لا يعبر بنا أحد مخالف لديننا .
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ابغوني حُصَيّات .
فتناولت ثلاث حصيات ، فدفعتهنّ إليه ، ففركهنّ بيده ، ثم قال : اذهبوا بهذه الحصيّات إلى بئركم ، فاطرحوها واحدة واحدة ، وسموا بالله .
فانصرفوا من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ففعلوا ذلك ، فجاشت بالرواء ، ونَفَوا مَن قاربهم من المشركين ووطئوهم ، .
فما انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة حتى أوطأوا من حولهم ، ودانوا بالإسلام
إضاءة :(1/34)
1- توافد المسلمين على النبي صلى الله عليه وسلم في تبوك ، وعلى الطريق إليها ، ومنها يعلمنا أموراً عديدة منها : أولاً أن في الحركة بركة ، وأن الداعية الواعي هو الذي يأتي الناس قبل أن يأتوه ، ويقصد من لا يستطيع المجيء إليه . وثانياً أنه يتصل بهم في ديارهم ، فيتعرف مشاكلهم ، ويعينهم بإذن الله على حلها . وثالثاً أنه يعلمهم أمور دينهم دون واسطة ويرتبطون به رباط الثقة والمحبة والولاء .
2- التئام شمل الجماعة قوة لها ودعم لمسيرتها ، فبنو سعد ماؤهم قليل ، وبعضهم مضطر للهجرة إلى مكان آخر سعياً إلى الماء والكلأ ، وهذا التفرق يضعف قوتهم ويُذهب مهابتهم ، وبقاؤهم معاً يزرع المهابة لهم في قلوب جيرانهم . فكيف إذا كانوا مسلمين يحيط بهم بحر من المشركين ؟.
3- هذه الحصيات التي فركها النبي صلى الله عليه وسلم بيده الشريفة كانت الرسالة المنتظرة من الله تعالى لبئر بني سعد ليتفجر ينابيعه ، ويكثر ماؤه . وما فعله النبي صلى الله عليه وسلم كان بأمر من الله تعالى ومعجزة أجراها على يد نبيّه الكريم صلى الله عليه وسلم ليثبّت قلوب المؤمنين الجدد على الإيمان بهذا الدين العظيم .
4- واختيار أحدهم هذه الحصيّات بيان للجميع أن الله تعالى يفعل ما يشاء ، ويجعل من الجماد حياة طيبة ،" وإن منها لما يتفجر فيخرج منه الماء " " ألم يتفجر الماء بضربة من عصى موسى عليه السلام اثني عشر ينبوعاً للعشائر الاثنتي عشرة كي يستقوا دون زحام أو شجار ؟ " وأوحينا إلى موسى أن اضرب بعصاك الحجر فانبجست منه اثنتا عشرة عيناً ، قد علم كل أناس مشربهم " .
5- ومن كان صادقاً يسر الله أمره وأعانه في هدفه ، فبنو سعد حين كثر ماؤهم تجمعوا حوله ، وبسطوا سلطانهم على من حولهم ، ودعَوا إلى الله ، فانتشر الإسلام حولهم ، ودخل الناس في دين الله أفواجاً .
قراءة في غزوة تبوك(17)
بركة النبي صلى الله عليه وسلام(1/35)
... انطلق جيش المسلمين بقيادة النبي صلى الله عليه وسلم إلى تبوك –وهي بلدة صغيرة تقع في بلاد الشام شمالي المدينة المنورة بسبعمائة كيلو متر- للقاء جيش الروم الذي هدد باجتياح مدينة الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، فزرع الله تعالى الرعب في قلوبهم لما سمعوا بقدوم رسول الله صلى الله عليه وسلم إليها، فانسحب جيشهم إلى داخل الأردن خوفاً من لقاء المسلمين، على الرغم من أن جيش رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يتعد الثلاثين ألف مجاهد، وجيش الروم يشارف على مئتي ألف مقاتل، ولا غروَ فالرسول صلى الله عليه وسلم، بطل الأبطال يقول: "ونُصرت بالرعب مسيرة شهر".
... كان هذا في السنة التاسعة للهجرة، وزادُ المسلمين قليل، والطريق طويل لكنّ الإسلام يجب أن ينتصر، والدين ينبغي أن تعلو شمسه، ويمتد ضياؤه، وينير جنبات الأرض، مشارقها ومغاربها، فاستنفر الله تعالى المسلمين للقتال فقال: "انفروا خفافاً وثقالاً وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله، ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون).
... وأصاب الناس مجاعةٌ، فقالوا: يا رسول الله، قلّ الزاد، ونحلت أجسادنا ووهنت قوانا، وهذه إبلنا ما عدنا نحتاج إليها، فلا ميرة نرفعها عليها، ولا أحمال نشدها إليها، فلو أذنت لنا فنحرناها، فأكلنا وادَّهَنّا.
... كان أدباً منهم أن يستأذنوا القائد في الاستغناء عن خدمة الدواب التي يستعينون بها في القتال، فلربما رأى مصلحة في الاحتفاظ بها فمنعهم ذلك، لكن رسول الله صلى الله عليه وسلم سمح لهم قائلاً: "افعلوا".
... سمع الفاروق عمر بن الخطاب باستئذانهم وموافقة رسول الله صلى الله عليه وسلم إياهم، فجاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يشتد ، فلما لقيه قال: يا رسول الله إن ذبحوا إبلهم لم يبق لهم ما يركبونه، ويحملون عليه متاعهم، فتباطأت حركاتهم وأصابهم جهد ومشقة في سيرهم.(1/36)
... ولكني أرى يا رسول الله أن تأمرهم بإحضار ما تبقى من أزوادهم، فإذا جمعوها دعوت الله لهم عليها بالبركة، وأنت يا رسول الله مبارك قريب إلى الله ، حبيب إليه، ولعل الله يجعل لهم في ذلك البركة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نعم ما أشرت به يا عمر".
... أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ببساط من جلد متسع، فَمُدَّ على الأرض وأمر المسلمين أن يأتوا بفضل أزوادهم، فجعل الرجل يأتي بكف ذرة، ويجئ الآخر بكف تمر، ويجئ الآخر بكسرة خبز، حتى اجتمع على البساط من ذلك شيء يسير، ثم رفع يديه الشريفتين إلى رافع السموات بغير عمد وباسط الأرض على ماء جمد، يسأله البركة والفضل العميم، وارتفعت معه أكف المسلمين مؤمنِّة راجية.
... وكان العجب العجاب أن النبي صلى الله عليه وسلم: أمرهم أن يملأوا أوعيتهم مما على هذا الأديم (البساط)، فما تركوا في المعسكر وعاء إلا ملأوه وأكلوا حتى شبعوا، وفضل فضلة.
... فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أشهد إن لا إله إلا الله وأني رسول الله" ، وردد المسلمون وراءه: نشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله ، ثم قال عليه الصلاة والسلام: "لا يلقى اللهَ عبد مؤمنٌ بما شهد، مطمئنٌ بما قال، إلا وجبت له الجنة".
... فارتج المعسكر بالنغم الأبدي السرمدي: لا إله إلا الله محمد رسول الله.
...
...
قراءة في غزوة تبوك (18)
اصابع النور
قال الواقدي : لما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ببعض طريقه إلى تبوك مكر به أناس من المنافقين ، وائتمروا أن يطرحوه من عقبة ( مرتفع ضيق ) في الطريق ، فلما بلغ رسولُ الله تلك العقبة أرادوا أن يسلكوها معه ، فأخبر الله تعال نبيه بخبرهم ، فقال للناس : اسلكوا بطن الوادي ، فإنه أسهل لكم وأوسع .
فسلك الناس بطن الوادي وسلك رسول الله صلى الله عليه وسلم العقبة ، وأمر عمار بن ياسر أن يأخذ بزمام الناقة يقودها ، وأمر حذيفة بن اليمان أن يسوق من خلفه .(1/37)
فبينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يسير في العقبة إذ سمع حسّ القوم قد غَشُوه ، فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأمر حذيفة أن يردّهم .
فرجع حذيفة إليهم ، وقد رأَوا غضب رسول الله صلى الله عليه وسلم قد اطّلع على مكرهم ، فانحطّوا من العقبة مسرعين حتى خالطوا الناس . وأقبل حذيفة حتى أتى رسولَ الله صلى الله عليه وسلم ، فساق به .
فلما حرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من العقبة نزل الناسُ ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : يا حذيفة؛ هل عرفتَ أحداً من الركب الذين ردَدْتَهم ؟ قال : يا رسول الله عرفت راحلة فلان ، وكان لقوم ملثّمين ، فلم أبصرهم من أجل ظلمة الليل .
وكانوا قد أنفروا ( الحركة السريعة ذات ردة الفعل ) برسول الله صلى الله عليه وسلم ، فسقط بعض متاع رحله ، فكان حمزة بن عمرو الأسلميّ يقول : فنُوّر لي في أصابعي الخمس فأضَأنَ ( صار لهنّ ضياء ) ، حتى كنا نجمع ما سقط من السوط والحبل وأشباههما ، حتى ما بقي شيء من المتاع إلا جمعناه .
إضاءة :
1- لا تغمض عيون النفاق ، فهي دائماً تمكر بالمؤمنين ، وتخطط للإيقاع بهم ، وما يخرجون في مواكب الإيمان إلا للتعمية عن نفاقهم " ويحلفون بالله إنهم لمنكم ، وما هم منكم ، ولكنهم قوم يفرقون " ، وإما خوفاً وجبناً أن يلحقهم ما لا يرغبون ، وإما حرصاً على مكانتهم التي كانت لهم قبل الإسلام ، وإما ليمكروا باالإسلام وأهله " لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالاً ، ولأوضعوا خلالكم يبغونكم الفتنة ... ".
2- ولا بد أن يفضح الله تعالى مكرهم ولو بعد حين ، لقد أرادوا قتل النبي صلى الله عليه وسلم ،ففضحهم الله تعالى ، فأخبر النبي بسوء تخطيطهم . إنهم انتظروا ليلة مظلمة في مكان مرتفع ضيق يزاحمون فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم ويدفعونه ليهوي في الوادي السحيق ، فيتخلصوا منه ، والله غالب على أمره ، ولن يخذل نبيه ، ولن يضيّع دينه .(1/38)
3- وليكشف رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر المسلمين أن يمشوا في الوادي ، ففعلوا ، وأمر عماراً ، فأمسك بزمام ناقته ، وأمر أمين سره حذيفة ، فسار خلفه ، وظن المنافقون الفرصة مناسبة في إحدى العقبات ، فاندفعوا برواحلهم نحوه يزاحمونه صلى الله عليه وسلم ، فيتصدى لهم حذيفة بقوة ، ويمنعهم ، ويرفع فيهم سيفه ، فيشعرون بانكشاف أمرهم ، وينسحبون مسرعين إلى بطن الوادي ، وهذا دأب النفاق الجبان " وهموا بما لم ينالوا " .
4- يعرف حذيفة راحلة أحدهم ، فيتابعه نهاراً ، ويحاول الإمساك بالخيوط أملاً في معرفتهم ، وكشف مستورهم . إنه لم يرهم فقد كانوا ملثمين .ولكنْ " ألم يعلموا أن الله يعلم سرهم ونجواهم ، وأن الله علام الغيوب ؟ " .
5- نور في الأصابع ؟! إنه نور الله الذي يهبه المسلم في ليل الدنيا وظلام الآخرة " يوم يقول المنافقون والمنافقات للذين آمنوا : انظرونا نقتبس من نوركم ، قيل ارجعوا وراءكم ، فالتمسوا نوراً .." فرب النور هو هو في الدارين ، ومن كان مع الله كان الله معه .
قراءة في غزوة تبوك(19)
أمر مسجد الضرار عند القفول من غزوة تبوك
قال ابن إسحاق : ثم أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نزل ( بذي أوان ) بلد بينه وبين المدينة ساعة من نهار وكان أصحاب مسجد الضرار قد كانوا أتوه وهو يتجهز إلى تبوك ، فقالوا : يا رسول الله إنا قد بنينا مسجدا لذي العلة والحاجة والليلة المطيرة والليلة الشاتية وإنا نحب أن تأتينا ، فتصلي لنا فيه فقال إني على جناح سفر وحال شغل ، أو كما قال صلى الله عليه وسلم ولو قد قدمنا إن شاء الله لأتيناكم فصلينا لكم فيه .
أمر الرسول اثنين بهدمه(1/39)
فلما نزل " بذي أوان"، أتاه خبر المسجد فدعا رسول ؟ الله صلى الله عليه وسلم مالك بن الدخشم ، أخا بني سالم بن عوف ومعن بن عدي أو أخاه عاصم بن عدي ، أخا بني العجلان فقال انطلقا إلى هذا المسجد الظالم أهله فاهدماه وحرقاه . فخرجا سريعين حتى أتيا بني سالم بن عوف وهم رهط مالك بن الدخشم ، فقال مالك لمعن أنظرني حتى أخرج إليك بنار من أهلي . فدخل إلى أهله فأخذ سعفا من النخل فأشعل فيه نارا ، ثم خرجا يشتدان حتى دخلاه وفيه أهله فحرقاه وهدماه وتفرقوا عنه ونزل فيهم من القرآن ما نزل " والذين اتخذوا مسجدا ضرارا وكفرا وتفريقا بين المؤمنين " . . . إلى آخر القصة .
أسماء بُناته
وكان الذين بنوه اثنا عشر رجلا : خذام بن خالد من بني عبيد بن زيد أحد بني عمرو بن عوف ومن داره أخرج " مسجد الشقاق والضرار"، وثعلبة بن حاطب من بني أمية بن زيد ومعتب بن قشير ، من بني ضبيعة بن زيد وأبو حبيبة بن الأزعر من بني ضبيعة بن زيد وعباد بن حنيف أخو سهل بن حنيف ، من بني عمرو بن عوف وجارية بن عامر وابناه مجمع بن جارية ، وزيد بن جارية ونبتل بن الحارث من بني ضبيعة وبحزج من بني ضبيعة وبجاد بن عثمان من بني ضبيعة ووديعة بن ثابت ، وهو من بني أمية ( بن زيد ) رهط أبي لبابة بن عبد المنذر .
إضاءة :(1/40)
1- مجموعة من المنافقين با لغوا في الإجرام ، حتى ابتنوا مجمعاً يدبرون فيه الشر، وسمّوه مسجداً مَضارّة للمسلمين ، ونُصرة للكفر الذي يُخفونه ، يفرّقون به جماعة المسلمين ، ويصرفونهم عن مسجد قباء الذي بناه النبي صلى الله عليه وسلم مقتبل مجيئه مدينته صلى الله عليه وسلم ، ليكون مركزاً لأبي عمرو الفاسق ، وقد قال هذا الخبيث لرسول الله صلى الله عليه وسلم : لا أجد قوماً يقاتلونك إلا قاتلتك معهم . وأبو عمرو الفاسق هو الذي أمرهم ببناء هذا المسجد! ليكون معقلاً له . وقال المنافقون : إذا بُنِي هذا البناء وعاد أبو عمرو الراهب ( الفاسق ) وصلى فيه ظَهَرَ على محمد وتغلّب عليه .
2- ويقسم هؤلاء المنافقون كذباً وتورية " وليحلفُنّ : إنْ أردنا إلا الحسنى والله يشهد إنهم لكاذبون " وكيف يكون الإحسان والخير ببنائه إذا أقاموه لحرب المسلمين وحرفهم عن دينهم ؟! وادّعوا أنهم أرادوا التوسعة فيه على المسلمين ... فكشفهم الله تعالى وفضحهم حين نهى نبيه الكريم صلى الله عليه وسلم أن يصلي فيه " لا تقم فيه أبداً " فهم لم يبنوه إلا ليكون معقلاً للنفاق على التقوى وأهلها .
3- وبين الله تعالى الفرق بين مسجد الضرار ومسجد التقوى . إن مسجد التقوى بني على الإيمان من البداية " لمسجد أسس على التقوى من أول يوم أحق أن تقوم فيه " .. لماذا ؟ إن فيه رجالاً أتقياء يحبون التطهر من الشرك والكفر " فيه رجال يحبون أن يتطهروا ، والله يحب المطّهرين " .(1/41)
4- بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم اثنين من المسلمين فهدّماه وحرّقاه وأمر المسلمين بإلقاء الجِيَف فيه والنتن والقمامة إهانة لأهله المنافقين وكشفاً لضلالهم وفسادهم ، فاشتد غيظ المنافقين وحقدهم " لا يزال بنيانهم الذي بنوا ريبة في قلوبهم إلا أن تقطع قلوبهم . " فيموتوا غيظاً وقهراً . وما ينبغي في هذا الزمن الذي يتكالب الأعداء على المسلمين فيه وعلى عقيدتهم أن يُسمح لمثل هذه المجمّعات باسم الإسلام أن تظهر .
5- ويبني المنافقون في هذا الزمن أبنية شامخة ليس لها من المسجد سوى المظهر ، ويسمونها بغير أسمائها التي أمر الله بها . فلا تُقام صلاة المسلمين بها ، وما هي إلا زمزمات ولقاءات يملأ بها شياطينها قلوب أتباعهم بكره المسلمين وعداوتهم حتى صار المسلم عدوهم الأول والأخير دون المجوس والمشركين من أهل الكتاب وعبّاد الأصنام ، إنهم يحاولون بالمال ونساء المتعة والشهوة الحرام أن يحرفوا المسلم عن دينه باسم الإسلام الذي قنّنوا له قواعد وتأويلات ما أنزل الله بها من سلطان ... والله غالب على أمره . ولينصرنّ أهل الحق وليُدمّرنّ الباطل وأهله .
قراءة في غزوة تبوك ( 20)
كعب بن مالك( الثلاثة الذين خُلفوا )
تخلف كعب بن مالك رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك من السنة التاسعة للهجرة من شهر رجب فقال:
... لم أتخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة غزاها قط إلا في غزوة تبوك.. تخلفت عنها وقد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين أن يتجهزوا جميعاً للخروج معه.(1/42)
... غير أني قد تخلفت كذلك في غزوة بدر أول قتال بين المسلمين والكافرين، ولم يعاتب رسول الله صلى الله عليه وسلم أحداً ممن تخلف عنها، فقد كان يريد عير قريش القادمة من بلاد الشام، فخرج ومن كان معه من أصحابه، لا يريدون قتالاً، لكن الله تعالى قدره لأمر يريده سبحانه، فجمع بينهم وبين عدوهم على غير ميعاد، ونصرهم عليهم، فكان ذلك وسام فخر لمن حضرها، فكان يقال له: البدري، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكرر في كل مناسبة مادحاً البدريين قائلاً:
... "كأن الله اطلع عليهم فقال لهم: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم".
... ولقد شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة العقبة حين تواثقنا على الإسلام، فكنت من أوائل الأنصار الذين بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة، في المنشط والمكره، والعسر واليسر، وعلى أثرة علينا.. وأن نكون دعاة إليه سبحانه، وانطلقت الدعوة الوليدة إلى المدينة على أيدينا، فكنا لا نعدل بهذه البيعة مشهداً آخر، وما أُحِبُّ أن لي بها مشهد بدر، وإن كانت بدرٌ أذكَرَ في الناس منها.
... أما قصة تخلفي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك، فقد كانت درساً بليغاً لي ولغيري ممن عقلها. فقد كنت إذ ذاك غنياً موسراً، صحيح البنية قادراً على تجهيز نفسي لهذه الغزوة التي ندبَنا رسول الله إليها دون عنَتٍ أو تكلف، بل أستطيع تجهيز عدد ممّن عذرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم لفقرهم، أو ضعف ذَوات أيديهم.(1/43)
... ولم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد غزوة إلا ورّى بغيرها، وأوهم أنه يريد سواها، والحرب خدعة، فكان المشركون يُؤخذون على حين غَرّة، ويخافون أن يدهمهم المسلمون كل لحظة فكانوا –دائماً- على خوف ووجل، وزرع الله في قلوبهم الرعب والفزع فما يقرٌّ لهم قرار، وهكذا يجب أن يكون المسلمون مع أعدائهم... إلا في هذه الغزوة فقد أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين بوجهته التي يريد، لأسباب عدة منها:
1- أن المسافة بين المدينة وتبوك طويلة جداً.
2- وأن الطريق مفاوز وصحارى، يجب الاستعداد لها أتم الاستعداد.
3- وأن العدو قوي عُدَّةً وعدداً، فهم الروم أكبر دولة،وأشرس عدو.
4- وأنه صلى الله عليه وسلم يريد تجنيد أوفى عدد من المسلمين، فأرسل إلى القبائل كلها يأمرهم أن يشتركوا في هذه الغزوة.
5- وأنه يريد أن يثأر للمسلمين في غزوة مؤتة من عدوهم الذي فاق عدده المسلمين عشرات المرات.
6- وأنه مصمم على إثبات وجود هذه الدولة الناشئة في جزيرة العرب، وعلى الروم أن يفكروا ألف مرَّة قبل أن يهاجموها.
وأجاب المسلمون نبيَّهم، فوفدوا إلى مدينته صلى الله عليه وسلم، فكانت تَعُج بهم، بعضهم حمل معه جهازه، ومنهم مَنْ سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجهِّزَهُ، ودعا رسول الله المسلمين إلى البذل والعطاء، فالأمر يحتاج إلى ذلك، وبَذل المسلمون، فهذا الصديق رضي الله عنه يضع بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم كلَّ ماله، وهذا عمر رضي الله عنه يقدم نصف ما يملك، وهذا ذو النورين عثمان رضي الله عنه يجهز الحملة كلها، فقدّم ألف بعير محمَلٍ بالزاد حتى دعا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم له بالخير، وبشره بالجنة فقال: "ما ضر عثمان ما فعل بعد اليوم".
... ... ولم يبخل الصادقون منهم بما يستطيعون، وهل يمتنع المسلمون عن اكتساب فرص الفوز برضا ربهم جلَّ شأنه ونبيهم الكريم،؟! إنها نفحاتٌ مَنْ تعرَّض إليها أفلح ونجا.(1/44)
... ولم يكن هناك ديوان يجمع المسلمين، يحصيهم ويتابعهم، فالدولة ما تزال فتيّةً، وكل جندي إذ ذاك متكفل بنفسه، فمن عَنَّ على باله التأخر أو التخلف وعدم المشاركة في الغزو، فقد يضيع في زحمة هذا الزخم المتدفِّق على المدينة، ولن يعرف بغيابه أحد إلا إذا نزل فيه وحيٌ يفضحه، ويكشف لرسول الله صلى الله عليه وسلم وللمسلمين أمره.
... كان الصيف حاراً، والسفر ذا مشقةٍ، ونفسي تميل للبقاء، فقد أينع الثمر وطاب، وشدّتني ظلال الأشجار وبردُها إلى الأرض، فأنا أتأرجح بين الامتثال إلى دعوة الجهاد تحت راية الرسول المجاهد، وبين التثاقل إلى الدعة وخفض العيش، ورخاء الحياة، والبونُ شاسع بين هذه وتلك، فكنت أخرج أحاول تجهيز نفسي ، فأعود متثاقلاً لم أقض شيئاً، وأقول في نفسي: أنا قادر على ذلك إذا أردت، ولم أزل على هذه الحال من التردد والتباطؤ حتى استمر الناس بالجد، وانطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون معه، ولم أقض من جهازي شيئاً.. الرغبة في صحبة الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم وصحبه الأبرار تشدني ، فأغدو لأجهز نفسي وأعد راحلتي وزادي، فأعود وقد اجتمع عليَّ شيطاني وحبٌّ الأرض والمال والنساء والأولاد، فأراني اثاقلت إليها والتصقت بها حتى أسرعَ ركب الجهاد وتسابق، فخَلتِ المدينة منهم، ثم ابتعدوا عنها وتفارطوا.(1/45)
... ما أشد وحشة المدينة مذ فارقها ضوءها، وما أشدَّ كآبتي فيها حيث خلا منها الحبيب والأنيس... يا ويحي! أهذه المدينة التي أهواها ؟ أراها باهتة!! أهذه المرابع التي ملأت قلبي فأحببتها ، وجاهدت عنها في أُحد والخندق؟ غاب عنها النور، ابتعدت عنه مصابيح الهداية، غادرها المسلمون بقيادة هاديهم إلى مهمة عظيمة، يا ويحي!! ما لي أنظر في أرجائها فلا أرى فيها إلا المنافقين يرتعون ويمرحون.. أأنا منهم؟! رحماك يا رب.. هؤلاء بعض الضعفاء من المسلمين جالسين، تخلفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لضعفهم... ولست منهم، فأنا صحيح الجسم معافى.. ما الذي أخرني عن حبيبي وقرَّةِ عيني.. رحماك يا رب، وهؤلاء بعض المسلمين الفقراء جاءوا إلى رسول الله يسألونه أن يحملهم معه للجهاد فيعتذر حين لا يجد ما يحملهم عليه، فيتولّون باكين، وأعينهم تفيض من الدمع أنْ لم يجدوا ما يبلغون به تبوك.. وأنا غني ميسور.. رحماك يا رب!! أي معصية حلت بي ، وأيُّ فتنة لزمتني؟!
... أدور في أنحاء المدينة كاللديغ لا يقرُّ لي قرار، ثم أعود إلى بيتي وبستاني وزرعي وظلي وأهلي..!!.. بئس ما صنعتُ.. رحماك يا رب رحماك يا رب..
... ولم يذكرني رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بلغ تبوك، فقال وهو جالس في القوم: "ما فعل كعب بن مالك؟" واخجتلاه منك يا سيدي يا رسول الله! واخلجتي منك يا سيد المجاهدين وبطل المحاربين، قد خاب ظنك بكعب هذا.. ليت كعباً لم تلده أمه..(1/46)
... تسأل عني يا رسول الله، فيجيبك رجل من بني سلمة ، يغمز من قناتي، وأنا أستحق ذلك ، بل أستحق أكثر من هذا فيقول: يا رسول الله حبسه برداه، والنظرُ في عطفيه، منعه الإعجاب بماله ، والقعود بين أهله وبنيه في ظل ظليل وماء بارد.. حبسه تخلفه عن ركب الهداة الصالحين وإيثارُه الراحة على التعب، والرخاء على الشدة.. رحماك يا رب رحماك يا رب. . ويحسُّ معاذ بن جبل رضي الله عنه، وهو أخي وصاحبي، يحسُّ بي وهو بعيد عني مئات الميال، فيعلم أني جواد أصيل كبا به حظّه ، وخانه تفكيره وتدبيره، فيدفع عني هذه التهمة التي استحقها، ويخفف من وَجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فيتوجه إلى ذلك الرجل مؤنباً: بئس ما قلتَ، فالمسلم يلتمس لأخيه سبعين عذراً، فهلا قلت خيراً يا رجل.. ويلتفت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقول راغباً في الدفاع المهدئ الحاني: والله يا رسول الله ما علمنا عليه إلا خيراً.
... رحمك الله يا أخي معاذ، وأجزل لك المثوبة، هكذا تكون الأخوَّةُ.. جزاك الله خيراً، جزاك الله خيراً.(1/47)
... ويسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلا ينبس ببنت شفة، فلعله قصد من سؤاله أنه على علم بمن تبعه، ومن تخلّف عنه، وأن الفرق كبير بين من استجاب ولبى، ومن تخلّف وتكاسل.. نعم إن الفرق كبير والبَوْنَ واسع، وينظر رسول الله صلى الله عليه وسلم أمامه، فيرى في قلب الصحراء المترامية الأطراف مِن بين السراب المتلألى هيولى تتحرك باتجاه المسلمين، سرعان ما يظهر رجل يخب السير نحوهم، يلبس البياض... ويبتسم رسول الله صلى الله عليه وسلم، لقد عرفه، إنه الصحابي الجليل أبو خيثمة الذي لم يستطع أن يقدّم لجيش المسلمين سوى صاع تمر، فلمزه المنافقون وضحكوا منه، وقالوا: إن الله غني عن صاع هذا، ونسى هؤلاء الطاعنون العابثون أن الأعمال بالنيات، وأنّ درهماً سبق ألف درهم.. لم يستطع الرجل أن يلحق بالمسلمين أوّل مسيرهم، فلحق بهم، بَعْدُ مسرعاً وسرَّ به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعبّر عن سروره حين قال: "كن أبا خيثمة" فكان أبا خيثمة، وتمنى كعب لو فعل مثل ما فعل أبو خيثمة، ولكن سبق السيف العذل، وهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم ينتظر جيش الروم ليعلمه كيف يكون الجهاد والقتال، وكيف يكون الصبر على المبدأ والدفاع عنه، لكنَّ الروم الذين عجبوا لصمود ثلاثة آلاف مسلم في غزوة مؤته أمام مئة ألف منهم، هابوا وهم مئتا ألف أن يثبتوا أمام ثلاثين ألف مسلم، قائدهم رسول الله صلى الله عليه وسلم –بطل الأبطال- ورأس المجاهدين فانسحبوا إلى الشمال مضحين بما كان لهم من مهابة وجبروت، راضين من الغنيمة بالإياب، لقد نصر الله نبيه بالرعب مسيرة شهر، فكيف وهو وجيشه على تخوم بلاد الشام؟!.
...(1/48)
... قال كعب: فلما بلغني أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قد توجَّه قافلاً من تبوك، اشتد حزني، سوف أقف أمام رسول الله صلى الله عليه وسلم فيسألني سبب تخلفي عنه، فماذا أقول له؟ أأكذبه متعللاً بما ليس من الحقيقة بمكان؟ وهل يليق بمن بايع رسول الله أن يكذب؟ حاشا وكلا، بمَ أخرج من سخطه غداً؟ وأستعين على ذلك بكل ذي رأي.. وأنّى للباطل أن يكون ردءاً؟ إنه سرعان ما يزول حين يسطع ضياء الحقِّ، ويضمحلّ حين يقبل العذر ولو كان صاحبه كاذباً، لكنني أخاف أن لا يرى فيَّ كعباً الذي كان يعرفه، فأسقط في ميزانه، وقد خاب وخسر من زلّت مكانته عند الصادق الأمين.. فلمّا قيل: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أظلَّ قادماً زاح عني الباطل حتى عرفت أني لم أنجُ منه بشيء أبداً، فعزمت على الصدق معه، وإذا كان الكذب ينجي –أحياناً- فالصدق أنجى.. يا ربّ؛ هب لي لسان الصدقِ، ورضِّ عني نبيك وحبيبك..
... وأصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم قادماً، وكان إذا قدم بدأ بالمسجد، فركع فيه ركعتين سنة المجيء من السفر، ثم جلس للناس، فلما فعل ذلك جاءه المخلَّفون يعتذرون إليه ويحلفون كعادتهم كاذبين، ليرضى عنهم رسول الله، وكانوا بضعة وثمانين رجلاً، فقبل منهم علانيتَهُم واستغفر لهم، ووكل سرائرهم إلى الله تعالى، فليس من عمل الداعية أن يبحث وينقِّب عما في نفوس الناس.. وجئت أمشي إليه صلى الله عليه وسلم وقلبي يخفق ونَفَسي يتردد.. كيف يفعل حين تقع عيناه عليَّ.. لا بد أن آتيه، إنه قَدَري وأحْبِبْ به من قَدَرٍ سام عليٍّ سامقٍ صلى الله عليه وسلم، فلما سلمت عليه، تبسَّمَ تبسُّم المغضب، تبسُّم الذي يعرف معادن الرجال، فيسألهم ليحفظ لهم ماء وجههم، ثم قال: تعال... بأبي أنت وأمي يا رسول الله، هكذا كنت أقول في نفسي.. فقال لي: "ما خلّفك؟ ألم تكن قد ابتعت ظهرك واشتريت راحلتك"؟(1/49)
... قلت –خافضاً رأسي غاضاً بصري متجهاً إليه بكلّي: يا رسول الله؛ إني والله، لو جلستُ عند غيرك من أهل الدنيا، لرأيت أني سأخرج من سخطه بعذر، وسيرضى عني، لقد وهبني الله لساناً فصيحاً وبديهة حاضرة وجدلاً صائباً، ولكني والله، لقد علمت لئن حدثتك اليوم حديث كذب ترضى به عنّي ليوشكن الله يسخطك علي، وإن حدثتك حديث صدق يجعلك تغضب عليَّ فيه إني لأرجو حسن العاقبة بتوبة الله تعالى عليَّ إذ كنت صادقاً... ولن أقول سوى الصدق يا رسول الله، والله ما كان لي من عذر، والله ما كنتُ قطُّ أقوى، ولا أيسر منّي حين تخلفت عَنك.
... إن الإنسان العادي ليعرف من محدثه الصدقَ، وتهويمَ الكذب، فكيف برسول الله صلى الله عليه وسلم الذي بلغ العلا بكماله، وكرمت جميع خصاله.. لقد قال صلى الله عليه وسلم: "أما هذا فقد صدق، فقم حتى يقضي الله فيك" وقمتُ، وسار رجال من بني سلمة قومي ، فاتبعوني، فقالوا لي: والله ما علمناك أذنبت ذنباً قبل هذا، لقد عجزت أن تعتذر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بما اعتذر إليه المخلفون، فقد كان كافيك ذنبَكَ استغفارُ رسول الله صلى الله عليه وسلم لك،.. إنهم لم يريدوني أن أكذب.. إنما أن أختصر الطريق إلى السلامة كما فعل الآخرون حين أبدَوُا الأعذار، فقبلها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ورأوا أني حملت نفسي ما لا لزوم له، فألحوا عليَّ يؤنبونني على ذلك، ويكثرونه، حتى أردت أن أرجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأكذّب نفسي وأدعي ما ادعاه المتخلفون الآخرون.
... لكن الله ثبتني إذ قلت لهم: هل قال غيري مثل ما قلتُ، فأجابهم رسول الله مثل ما أجابني؟ قالوا: نعم، رجلان، قالا مثل ما قلت، وقيل لهما مثل ما قيل لك، قل من هما؟ قالوا: مُرارة بن الربيع العَمْريُّ، وهلال بن أمية الواقفيُّ.. قلت: إنَّ لي بهما أسوة حسنة، فهما رجلان صالحان قد شهدا بدراً، ولن أكون إلا ثالثهما.. ومضيت حين ذكروهما لي.(1/50)
... إن الذهب يشتد لمعانه حين تلمسه النار فتُذهب عنه خبثه ويزداد تألقاً وحسناً وهكذا كنّا –أيها الثلاثة- فقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكلمنا أحد، فاجتنَبنَا الناس، وتغيّروا لنا، كأنهم لا يعرفوننا، حتى تنكّرَت لي في نفسي الأرض، فما هي بالأرض التي أعرف، فلبثنا على ذلك خمسين ليلةً، فأما صاحباي فاستكانا، وقعدا في بيتيهما يبكيان، ويصليان، ويستغفران، يسألان الله التوبة، وانقطعا عن الناس إذ كانا عجوزين هدَّتهما المقاطعةُ، وأمّا أنا فكنت أشبَّ القوم، وأجلدهم، فكنت أخرج فأشهد الصلاة مع المسلمين وأطوف في الأسواق، ولا يكلمني أحد – إن المجتمع المسلم المتماسك يلتزم بأوامر القيادة وتعليماتها، ولا يدع للمخطئ مجالاً ينفذ منه، كي لا يتمادى في خطئه –وآتي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأسلم عليه، وهو في مجلسه بعد الصلاة، فأقول في نفسي: هل حرّك شفتيه برد السلام أم لا؟ ثم أصلي قريباً منه، وأسارقه النظر، فإذا أقبلت على صلاتي نظر إليَّ، وإذا التفت نحوه أعرض عنّي.
... فالقائد قدوة، يلتزم بما يصدره من أوامر، فيكون لها من قوّة الأداء وحسن الالتزام عند العامة الأثرُ الإيجابي الطيبُ. وأنا أعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما نهى عن كلامنا إلا ليقضي الله تعالى فينا... فيا رب هيئ لنا من أمرنا رشداً...(1/51)
... حتى إذا طال ذلك عليَّ من جفوة المسلمين فاض ما في النفس من حزن وكرب، انطلقت إلى ابن عمي أبي قتادة وهو من أحب الناس إليَّ فعلوت سور بستانه، وسلمت عليه، فوالله ما ردَّ السلامَ، فقلت له: يا أبا قتادة أنشُدُك بالله! هل تعلمني أحبُّ الله ورسوله صلى الله عليه وسلم؟ فسكت.. وكيف يجيب، وقد امتنع عن رد السلام آنفاً التزاماً بأوامر رسول الله وإيماناً به؟.. فعدت فناشدُته، فسكت.. فعدتُ فناشدته، فلما رأى ما بي من الحزن والألم نظر إليَّ مشفقاً فقال: الله ورسوله أعلم.. ففاضت عيناي، وتولّيتُ حتى تسوَّرتُ الجدار، فبينا أنا أمشي في أسواق المدينة إذا نبطيُّ (فلاح) من نبط أهل الشام ممن قدم بالطعام يبيعه بالمدينة يقول: من يدلُّ على كعب بن مالك؟ فطفق الناس يشيرون إليَّ، حتى جاءني فدفع إليَّ كتاباً من ملك غسان، وكنت كاتباً، فقرأت فإذا فيه: أما بعدُ، فإنّه قد بلغنا أن صاحبك قد جفاك، ولم يجعلك الله بدار هوان ولا مَضْيَعَةٍ، فالحق بنا نواسِك.
... لا إله إلا الله وحده لا شريك له، آمنت بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد نبياً.(1/52)
... إنها الفتنة تُطلُّ عليَّ من أوسع أبوابها تدعوني إلى الكفر بعد الإيمان، وإلى الردَّة بعد الثبات، إنني يا هذا لست في دار هوان ولا ذلّة، إنني في دار الهداية والرشاد، في كنف خير العباد، لئن جفاني لقد أخطأت، وما هي بجفوةٍ إن هي إلا عقوبة استحقها، يطهرني الله بها ويمحو ذنبي، إنَّ هذا لمن البلاء، فتيممت بها التنّور فأحرقتها.. لن أضعف عن احتمال ما كتبه الله عليَّ، ولأصبرن حتى يكتب الله لي خير الدنيا والآخرة، حتى إذا مضت أربعون يوماً من الخمسين، وأبطأ الوحيُ إذا رسولٌ من رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتيني فقال: إن رسول الله يأمرك أن تعتزل امرأتك، فقلت: أطلِّقها أم ماذا أفعل؟ قال: لا بل اعتزلها فلا تقرَبنّها.. فقلت: أمرُ رسول الله نافذ.. سمعاً وطاعة وإيماناً واحتساباً، وأرسل إلي صاحبيَّ بمثل ذلك، فقلتُ لامرأتي: الحقي بأهلك فكوني عندهم حتى يقضي الله هذا الأمر.
... فجاءت امرأة هلال بن أمية رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: يا رسول الله، إن هلال بن أمية شيخ ضائع ليس له خادم، فهل تكره أن أخدمه؟ قال: "لا، ولكن لا يقربنّك". قالت: إنه والله ما به من حركةٍ إلى شيء، ووالله ما زال يبكي منذ كان من أمره ما كان إلى يومه هذا. فقال لي بعض أهلي: لو استأذنت رسول الله صلى الله عليه وسلم في امرأتك، فقد أذن لامرأة هلال بن أمية أن تخدمه؟ فقلت: لا استأذنه فيها وأنا رجل شاب –فلبثت ذلك عشر ليالٍ- فكمل لنا خمسون ليلةً من حينَ نهى عن كلامنا.
... اللهم مالك السموات والأرض اجعل لنا فرجاً وهيّئْ لنا من أمرنا رشداً.(1/53)
... ثم صليت صلاة الفجر صباحَ خمسين ليلة على ظهر بيت من بيوتنا، فبينا أنا جالس على الحال التي ذكر الله منا – قد ضاقت عليَّ نفسي، وضاقت عليَّ الأرض بما رحبت – سمعت صوت صارخ صعد على جبل سَلْعٍ يقول بأعلى صوته: يا كعب بن مالك أبشر.. لم أتمالك نفسي إذ سمعتُ البشرى فخررت ساجداً لله أبكي وأحمده، أبكي وأستغفره، أبكي وأشكره، وعرفت أنه قد جاء الفرج من الله تعالى، فآذن رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس بتوبة الله عزَّ وجلَّ علينا حين صلى الفجر، فذهب الناس يبشروننا.. أرأيت يا كعبُ عاقبة الصبر؟ إنها التوبة من الله تعالى، ينتظرها رسول الله لك ولصاحبيك، وينتظرها الناس لك ولصاحبيك، إنهم يحبونكم. أيها الثلاثة، هكذا المجتمع المسلم المتماسك، يلتزم أمر الله تعالى فيمتنع عن كلامكم، لا عن هَجرٍ وقِلى، إنما عن امتثال وطاعة ، وقلوب الجميع ترجو لكم التوبة والمغفرة... ها قد جاءت، فسمعتَ صوت أحد إخوانك يبشرك، ولمّا يصلْ إليك... انطلق جمع من المصلين يبشرون مرارة بن الربيع وهلال بن أمية بما أنعم الله عليهما من التوبة، وامتطى أحدهم فرسه مسرعاً إليك، وسعى رجل من عشيرتك إليك مبتهجاً، فصعد الجبل كان صوته أسرع من فرس ذاك، وفي كلٍّ فضلٌ وخير، ولم تتمالك نفسك أن نزعت ثوبك لصاحب الصوت، بل أعطيته ثوبك الثاني ولم تكن تملك غيرهما يومئذ، واستعرت ثوبين غيرهما وانطلقت إلى حَبِّ القلوب، وضياء الأفئدة، وصاحبِ الرسالة العظمى، انطلقتَ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والناس يتلقونك فوجاً فوجاً يهنئونك بالتوبة، ويقولون لك: ليهنِك توبةُ الله عليك، حتى وصلت إلى المسجد ودخلته إلى رسول الله ، العزيزِ عليه ما اعنتك، الحريصِ عليك، الرحيم ِبك وبالمؤمنين، فإذا هو يبرُقُ وجهه من السرور فيقول لك: "أبشر بخير يوم عليك مذ ولدتك أمُّك"، أهناك أجمل من هذه البشرى؟ أهناك أعظم من هذه البشرى؟ لا ورب الكعبة.(1/54)
فلم تتمالك نفسك أن قلت: أمن عندك يا رسول الله أم من عند الله؟ قال: " لا بل من عند الله عزَّ وجلَّ"، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سُرَّ استنار وجهه حتى كأن وجهه قطعة قمر.. صلى الله عليه ، وحشرنا في زمرته ، وسقانا من حوضه ،وجعلنا إلى الجنة في ركابه.
... قال كعب: فلما جلست بين يديه قلت: يا رسول الله، إن من توبتي أن أنخلع من مالي صدقة إلى الله وإلى رسوله ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أمسك عليك بعض مالك فهو خير لك"، وكأنه أحس أني في غمرة الفرح والسعادة قد أتخلى عما قد أضنُّ به إذا سكن فرحي وعادت إليَّ نفسي. فأمرني بالاحتفاظ ببعض مالي، فقلت: إنني أمسك نصيبي الذي وهبتنيه في فتح خيبر، وقلت: يا رسول الله إن الله تعالى إنما أنجاني بالصدق، وإن من توبتي أن لا أحدِّث إلا صدقاً ما بقيت ، فوالله ما علمت أحداً من المسلمين أنعم الله عليه في صدق الحديث منذ ذكرتُ ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن مما أنعم الله تعالى به عليَّ، والله ما تعمَّدت كذبة منذ قلتُ ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يومي هذا، وإني لأرجو أن يحفظني الله تعالى فيما بقي منه، لقد أنزل الله تعالى فينا معشر الثلاثة قوله: "لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة" حتى بلغ "إنه بهم رءوف رحيم، وعلى الثلاثة الذين خلفوا حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت وظنوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه ثم تاب عليهم ليتوبوا" حتى بلغ "اتقوا الله وكونوا مع الصادقين" سورة التوبة.(1/55)
... قال كعب: والله ما أنعم الله عليَّ من نعمة قط بعد إذ هداني الله للإسلام أعظم في نفسي من صدقي رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، أن لا أكونَ كذبتُه، فأهلكَ كما هلك الذين كذبوا، إنّ الله تعالى قال للذين كذبوا حين أنْزَل الوحي شرَّ ما قال لأحد، فقال الله تعالى: "سيحلفون بالله لكم إذا انقلبتم إليهم لتعرضوا عنهم فأعرضوا عنهم إنهم رجس ومأواهم جهنم جزاء بما كانوا يكسبون، يحلفون لكم لترضوا عنهم فإن ترضوا عنهم فإن الله لا يرضى عن القوم الفاسقين".
...
... قال كعب: كنا خُلّفنا أيها الثلاثة عن أمر أولئك الذين قبل منهم رسول الله صلى الله عليه وسلم حين حلفوا له، فبايعهم واستغفر لهم، وأرجأ رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرنا حتى قضى الله تعالى فيه بذلك، قال الله تعالى: "وعلى الثلاثة الذين خلفوا" وليس الذي ذكر مما خُلِّفنا تخلّفَنا عن الغزو، وإنما هو تخليفه إيانا، وإرجاؤه أمرنا عمن حلف له، واعتذر إليه، فقبل منه.(1/56)