الفصول في اختصار سيرة الرسول
____________________
(1/1)
& فصل & ذكر نسبه صلى الله عليه وسلم
هو سيد ولد آدم أبو القاسم محمد وأحمد والماحي الذي يمحى به الكفر والحاشر الذي يحشر الناس والعاقب الذي ليس بعده نبي والمقفي ونبي الرحمة ونبي التوبة ونبي الملحمة ابن عبد الله وهو أخو الحارث والزبير وحمزة والعباس ويكنى أبا الفضل وأبي طالب واسمه عبد مناف وأبي لهب واسمه عبد العزى وعبد الكعبة هو المقوم وقيل هما اثنان وحجل واسمه المغيرة والغيداق وسمي بذلك لكثرة جوده وأصل اسمه نوفل وقيل جحل وضرار
وصفية وعاتكة وأروى وأميمة وبرة وأم حكيم وهي البيضاء
وهؤلاء كلهم أولاد عبد المطلب واسمه شيبة الحمد على الصحيح ابن
____________________
(1/73)
هاشم واسمه عمرو وهو أخو المطلب وإليهما نسب ذوي القربى وعباد شمس ونوفل أربعتهم أبناء عبد مناف أخي عبد العزى وعبد الدار وعبد أبناء قصي واسمه زيد وهو أخو زهرة ابنا كلاب أخي تيم ويقظة أبي مخزوم ثلاثتهم أبناء مرة أخي عدي وهصيص وهم أبناء كعب أخي تيم الأدرم ابني غالب أخي الحارث ومحارب بني فهر أخي الحارث ابني مالك أخي الصلت ويخلد بني النضر أخي مالك وملكان وعبد مناة وغيرهم بني كنانة أخي أسد وأسدة والهون بني خزيمة أخي هذيل ابن مدركة واسمه عمرو وهو أخو طابخة واسمه عامر وقمعة وثلاثتهم أبناء الياس وأخو الياس هو عيلان والد قيس كلاهما ولد مضر أخي ربيعة وهم الصريحان من ولد إسماعيل وأخي أنمار وإياد وقد تيامنا أربعتهم أولاد نزار أخي قضاعة في قول أكثر أهل النسب كلاهما أبنا معد بن عدنان
وقد بين ذلك الحافظ أبوعمر النمري في كتاب الأنباه بمعرفة قبائل الرواة بيانا شافيا رحمه الله تعالى
وقريش على قول أكثر أهل النسب هم الذين ينتسبون الى فهر بن مالك بن النضر بن كنانة وأنشدوا في ذلك % قصي لعمري كان يدعى مجمعا % به جمع الله القبائل من %
وقيل بل جماع قريش هو النضر بن كنانة وعليه أكثر العلماء والمحققين
____________________
(1/74)
واستدل على ذلك بالحديث الذي ذكره أبوعمر بن عبدالبر رحمه الله تعالى عن الأشعث بن قيس رضى الله عنه قال قدمت على رسول الله في وفد كندة فقلت ألستم منا يا رسول قال لا نحن بنو النضر بن كنانة لا نقفو أمنا ولا ننتفي من أبينا وقد رواه ابن ماجه في سننه بإسناد حسن وفيه وكان الأشعث يقول لا أوتى برجل نفى رجلا من قريش من النضر بن كنانة إلا جلدته الحد
وقيل إن جماع قريش الياس بن مضر بن نزار وقيل جماعهم أبوه مضر
وهما قولان لبعض أصحاب الشافعي حكاهما أبو القاسم عبد الكريم الرافعي في شرحه وهما وجهان غريبان جدا
وأما قبائل اليمن كحمير وحضرموت وسبأ وغير ذلك فأولئك من قحطان ليسوا من عدنان وقضاعة فيها ثلاثة أقوال قيل إنها من العدنانية
____________________
(1/75)
وقيل قحطانية وقيل بطن ثالث لا من هؤلاء ولا من هؤلاء وهو غريب حكاه أبو عمر وغيره & فصل & ذكر نسبه صلى الله عليه وسلم بعد عدنان
وهذا النسب الذي سقناه إلى عدنان لا مرية فيه ولا نزاع وهو ثابت التواتر والإجماع وإنما الشأن فيما بعد ذلك لكن لا خلاف بين أهل النسب وغيرهم من علماء أهل الكتاب أن عدنان من ولد إسماعيل نبي الله وهو الذبيح على الصحيح من قول الصحابة والأئمة وإسماعيل بن إبراهيم خليل الرحمن عليه أفضل الصلاة والسلام وقد اختلف في كم أب بينهما على أقوال
فأكثر ما قيل أربعون أبا وأقل ما قيل سبعة آباء وقيل تسعة وقيل خمسة عشر ثم اختلف في أسمائهم
وقد كره بعض السلف والأئمة الانتساب إلى ما بعد عدنان ويحكى عن مالك ابن أنس الأصبحي الإمام رحمه الله أنه كره ذلك
قال الإمام أبوعمر بن عبد البر في كتاب الإنباه والذي عليه أئمة هذا الشأن في نسب عدنان قالوا عدنان بن أدد بن مقوم بن ناحور بن تيرح بن يعرب بن يشجب بن نابت بن إسماعيل بن إبراهيم خليل الرحمن بن تارح وهو آزر بن ناحور بن شاروح بن راعو بن فالخ بن عيبر بن
____________________
(1/76)
شالخ بن أرفخشذ بن سام بن نوح بن لامك بن متوشلخ بن أخنوخ وهو إدريس النبي عليه السلام فيما يزعمون والله أعلم وهو أول نبي أعطي النبوة بعد آدم وشيث وأول من خط بالقلم بن يرد بن مهليل بن قينن بن يانش بن شيث بن آدم صلى الله عليه وسلم هكذا ذكره محمد بن اسحاق بن يسار المدني صاحب السيرة النبوية وغيره من علماء النسب وقد نظم ذاك أبو العباس عبد الله بن محمد الناشي المعتزلي في قصيدة يمدح فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد أوردها الإمام أبوعمر وشيخنا في تهذيبه وهي قصيدة بليغة أولها % مدحت رسول الله أبغي بمدحه % وفور خظوظي من كريم المآرب % مدحت امرءا فاق المديح موحدا % بأوصافه عن مبعد ومقارب %
فجميع قبائل العرب مجتمعون معه في عدنان ولهذا قال الله تعالى ( قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى ) قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما لم يكن بطن من قريش إلا ولرسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم قرابة
وهو صفوة الله منهم كما رواه مسلم في صحيحه عن واثلة بن الأسقع رضي
____________________
(1/77)
الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الله إختار كنانة من ولد إسماعيل ثم إختار من كنانة قريشا ثم إختار من قريش بني هاشم ثم اختارني من بني هاشم
وكذلك بنو اسرائيل أنبياؤهم وغيرهم يجتمعون معه في إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام الذي جعل الله في ذريته النبوة والكتاب وهكذا أمر الله سبحانه بني إسرائيل على لسان موسى عليه السلام وهو فى التوارة كما ذكره غير واحد من العلماء ممن جمع بشارات الأنبياء به صلى الله عليه وسلم إن الله تعالى قال لهم ما معناه سأقيم لكم من أولاد أخيكم نبيا كلكم يسمع له وأجعله عظيما جدا ولم يولد من نبي إسماعيل أعظم من محمد صلى الله عليه وسلم بل لم يولد من بني آدم أحد ولا يولد الى قيام الساعة أعظم منه صلى الله عليه وسلم فقد صح أنه قال أنا سيد ولد آدم ولا فخر آدم فمن دونه من الأنبياء تحت لوائي وصح عنه أنه سيقوم مقاما يرغب إليه الخلق كلهم حتى إبراهيم وهذا هو المقام المحمود الذي وعده الله تعالى وهو الشفاعة العظمى
____________________
(1/78)
التي يشفع في الخلائق كلهم ليريحهم الله بالفصل بينهم من مقام المحشر كما جاء مفسرا في الأحاديث الصحيحة عنه صلى الله عليه وسلم
وأمه صلى الله عليه وسلم آمنة بنت وهب بن عبد مناف بن زهرة بن كلاب بن مرة & فصل & ولادته ورضاعه ونشأته
ولد صلى الله عليه وسلم يوم الإثنين لليلتين خلتا من ربيع الأول وقيل ثامنه وقيل عاشره وقيل لثنتي عشرة منه وقال الزبير بن بكار ولد في رمضان وهو شاذ حكاه السهيلي في روضه
وذلك عام الفيل بعده بخمسين يوما وقيل بثمانية وخمسين يوما وقيل بعده بعشر سنين وقيل بعد الفيل بثلاثين عاما وقيل بأربعين عاما والصحيح
____________________
(1/79)
بهأنه ولد عام الفيل وقد حكاه إبراهيم بن المنذر الحزامي شيخ البخاري وخليفة ابن خياط وغيرهما إجماعا
ومات أبوه وهو حمل وقيل بعد ولته بأشهر وقيل بسنة وقيل بسنتين والمشهور الأول واسترضع له في بني سعد فأرضعته حليمة السعدية كما روينا ذلك بإسناد صحيح وأقام عندها في بني سعد نحوا من أربع سنين وشق عن فؤاده هناك فردته إلى أمه فخرجت به أمه إلى المدينة تزور أخواله بالمدينة فتوفيت بالأبواء وهي راجعة إلى مكة وله من العمر ست سنين
____________________
(1/80)
وثلاثة أشهر وعشرة أيام وقيل بل أربع سنين وقد روى مسلم في صحيحه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما مر بالأبواء وهو ذاهب إلى مكة عام الفتح استأذن ربه في زيارة قبر أمه فأذن له فبكى وأبكى من حوله وكان معه ألف مقنع يعنى بالحديد
فلما ماتت أمه حضنته أم أيمن وهي مولاته ورثها من أبيه وكفله جده عبد المطلب فلما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من العمر ثماني سنين توفي جده وأوصى به إلى عمه أبى طالب لأنه كان شقيق عبدالله فكفله وحاطه أتم حياطة ونصره حين بعثه الله أعز نصر مع أنه كان مستمرا على شركه إلى أن مات فخفف الله بذلك من عذابه كما صح الحديث بذلك وخرج به عمه إلى الشام في تجارة وهو ابن ثنتي عشرة سنة وذلك من تمام لطفه به لعدم من يقوم به إذا تركه بمكة فرأى هو وأصحابه ممن خرج معه إلى الشام من الآيات فيه صلى الله عليه وسلم ما زاد عمه في الوصاة
____________________
(1/81)
والحرص عليه كما رواه الترمذي في جامعه بإسناد رجاله كلهم ثقات من تظليل الغمامة له وميل الشجرة بظلها عليه واهتمام بحيرا الراهب به وأمره لعمه بالرجوع به لئلا يراه اليهود فيرمونه سوءا والحديث له أصل محفوظ وفيه زيادات أخرى ثم خرج ثانيا إلى الشام في تجارة لخديجة بنت خويلد رضي الله تعالى عنها مع غلامها ميسرة على سبيل القراض فرأى ميسرة ما بهره من شأنه فرجع فأخبر سيدته بما رأى فرغبت إليه أن يتزوجها لما رجت في ذلك من الخير الذي جمعه الله لها وفوق ما يخطر ببال بشر فتزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم وله خمس وعشرون سنة
____________________
(1/82)
وكان الله سبحانه قد صانه وحماه من صغره وطهره من دنس الجاهلية ومن كل عيب ومنحه كل خلق جميل حتى لم يعرف بين قومه إلا بالأمين لما شاهدوا من طهارته وصدق حديثه وأمانته حتى إنه لما بنت قريش الكعبة في سنة خمس وثلاثين من عمره فوصلوا إلى موضع الحجر الأسود اشتجروا فيمن يضع الحجر موضعه فقالت كل قبيلة نحن نضعه ثم اتفقوا على أن يضعه أول داخل عليهم وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا جاء الأمين فرضوا به فأمر بثوب فوضع الحجر في وسطه وأمر كل قبيلة أن ترفع بجانب من جوانب الثوب ثم أخذ الحجر فوضعه موضعه صلى الله عليه وسلم & فصل & مبعثه صلى الله عليه وسلم
ولما أراد الله تعالى رحمه العباد وكرامته بإرساله العالمين حبب إليه الخلاء وكان يتحنث في غار حراء كما كان يصنع ذلك متعبدو ذلك الزمان كما قال أبو طالب في قصيدته المشهورة اللامية % وثور ومن أرسى ثبيرا مكانه % وراق ليرقى في حراء ونازل %
ففجأة الحق وهو بغار حراء في رمضان وله من العمر اربعون سنة فجاءه الملك فقال له اقرأ قال لست بقارئ فغته حتى بلغ منه الجهد ثم
____________________
(1/83)
أرسله فقال له اقرأ قال ليست بقارئ ثلاثا ثم قال ( اقرأ باسم ربك الذي خلق خلق الإنسان من علق اقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم علم الانسان ما لم يعلم ) فرجع بها رسول الله صلى الله عليه وسلم ترجف بوادره فأخبر بذلك خديجة رضي الله تعالى عنهما وقال قد خشيت على عقلي فثبتته وقالت أبشر كلا والله لا يخزيك الله أبدا إنك لتصل الرحم وتصدق الحديث وتحمل الكل وتعين على نوائب الدهرفي أوصاف أخر جميلة عددتها من أخلاقه صلى الله عليه وسلم وتصديقا منها له وتثبيتا وإعانة على الحق فهي أول صديق له رضي الله تعالى عنها وأكرمها
ثم مكث رسول الله صلى الله عليه وسلم ما شاء الله أن يمكث لا يرى شيئا وفتر عنه الوحي فاغتم لذلك وذهب مرارا ليتردى من رؤوس الجبال وذلك من شوقه إلى ما رأى أول مرة من حلاوة ما شاهده من وحي الله فقيل إن فترة الوحي كانت قريبا
____________________
(1/84)
من سنتين أو اكثر ثم تبدى له الملك بين السماء والأرض على كرسي وثبته وبشره بأنه رسول الله حقا فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم فرق منه وذهب الى خديجة وقال زملوني دثروني فأنزل الله عليه ( يا أيها المدثر قم فأنذر وربك فكبر وثيابك فطهر )
وكانت الحال الأولى حال نبوة وإيحاء ثم أمره في هذه الآية أن ينذر قومه ويدعوهم إلى الله فشمر صلى الله عليه وسلم عن ساق التكليف وقام في طاعة الله أتم قيام يدعو إلى الله سبحانه الكبير والصغير والحر والعبد والرجال والنساء والأسود والأحمر فاستجاب له عباد الله من كل قبيلة
وكان حائز سبقهم أبوبكر رضي الله عنه عبد الله بن عثمان التيمي وآزره في دين الله ودعا معه الى الله على بصيرة فاستجاب لأبي بكر عثمان بن عفان وطلحة وسعد بن أبي وقاص
وأما علي فأسلم صغيرا ابن ثماني سنين وقيل كان إسلامه قبل إسلام أبي بكر وقيل لا وعلى كل حال فإسلامه ليس كإسلام الصديق لأنه كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذه من عمه إعانة على سنة محل
وكذلك أسلمت خديجة وزيد بن حارثة
وأسلم القس ورقة بن نوفل فصدق بما وجد من وحي الله وتمنى أن لو كان
____________________
(1/85)
جذعا وذلك أول ما نزل الوحي وقد روى الترمذي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رآه في المنام في هيئة حسنة وجاء في حديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ( رأيت القس عليه ثياب بيض ) وفي الصحيحين أنه قال هذا الناموس الذي جاء موسى بن عمران لما ذهبت خديجة به إليه فقص عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ما رأى من أمر جبريل عليه السلام
ودخل من شرح الله صدره للاسلام على نور وبصيرة ومعاينة فأخذهم سفهاء مكة بالأذى والعقوبة وصان الله وحماه بعمه أبي طالب لأنه كان شريفا مطاعا فيهم نبيلا بينهم لا يتجاسرون على مفاجأته بشيء في أمر محمد صلى الله عليه وسلم لما يعلمون من محبته له وكان من حكمة الله بقاؤه على دينهم لما في ذلك من المصلحة فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو الى الله ليلا ونهارا سرا وجهارا لا يصده عن ذلك صاد ولا يرده عنه راد ولا يأخذه في الله لومة لائم
____________________
(1/86)
& فصل & فتنة المعذبين والهجرة الى الحبشة
ولما اشتد أذى المشركين على من آمن وفتنوا جماعة إنهم كانوا يصبرونهم ويلقونهم في الحر ويضعون الصخرة العظيمة على صدر أحدهم في شدة الحر حتى إن أحدهم إذا أطلق لا يستطيع أن يجلس من شدة الألم فيقولون لأحدهم اللات إلهك من دون الله فيقول مكرها نعم وحتى إن الجعل ليمر فيقولون وهذا إلهك من دون الله فيقول نعم ومر الخبيث عدو الله أبو جهل عمرو بن هشام بسمية أم عمار هي تعذب وزوجها وابنها فطعنها بحربة في فرجها فقتلها رضي الله عنها وعن ابنها وزوجها
وكان الصديق رضي الله تعالى عنه إذا مر بأحد من الموالي يعذب يشتريه من مواليه ويعتقه منهم بلال وأمه حمامة وعامر بن فهيرة وأم عبيس وزنيرة والنهدية وابنتها وجارية بني عدي كان عمر يعذبها على الاسلام قبل أن يسلم حتى قال أبوه قحافة أبو يا بني أراك تعتق رقابا ضعافا فلو أعتقت قوما جلدا يمنعون فقال له أبو بكر إني أريد ما أريد فيقال إنه نزلت فيه
____________________
(1/87)
( وسيجنبها الأتقى الذي يؤتى ماله يتزكى ) الى أخر السورة
فلما اشتد البلاء أذن الله سبحانه وتعالى في الهجرة الى أرض الحبشة وهي في غربي مكة بين البلدين صحاري السودان والبحر الآخذ من اليمن إلى في القلزم فكان أول من خرج فارا بدينه الى الحبشة عثمان بن عفان رضي الله عنه ومعه زوجته رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم وتبعه الناس وقيل بل أول من هاجر إلى أرض الحبشة أبو حاطب بن عمرو بن عبد شمس بن عبد ود بن نضر بن مالك ثم خرج جعفر بن أبي طالب وجماعات رضي الله عنهم وأرضاهم وكانوا قريبا من ثمانين رجلا
وقد ذكر محمد بن إسحاق في جملة من هاجر إلى أرض الحبشة أبا موسى الاشعري عبدالله بن قيس وما أدري ما حمله على هذا فإن هذا أمر ظاهر لا يخفى على من هو دونه في هذا الشأن وقد أنكر ذلك عليه الواقدي وغيره من أهل
____________________
(1/88)
المغازي وقالوا إن أبا موسى إنما هاجر من اليمن إلى الحبشة الى عند جعفر كما جاء ذلك مصرحا في الصحيح من روايته رضي الله عنه
فانحاز المهاجرون الى مملكة أصحمة النجاشي فآواهم وأكرمهم فكانوا عنده آمنين فلما علمت قريش بذلك بعثت في إثرهم عبد الله بن أبي ربيعة وعمرو بن العاص بهدايا وتحف من بلادهم الى النجاشي ليردهم عليهم فأبى ذلك عليهم وتشفعوا اليه بالقواد من جنده فلم يجبهم الى ما طلبوا فوشوا إليه إن هؤلاء يقولون في عيسى قولا عظيما يقولون إنه عبد فأحضر المسلمون الى مجلسه وزعيمهم جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه فقال ما يقول هؤلاء إنكم تقولون في عيسى فتلا عليه جعفر سورة [ كهيعص ] فلما فرغ أخذ النجاشي عودا من الأرض فقال ما زاد هذا على ما في التوراة ولا هذا العود ثم قال اذهبوا فأنتم شيوم بأرضي من سبكم غرم وقال لعمرو وعبدالله لو أعطيتموني دبرا من ذهب يقول جبلا من ذهب ما سلمتهم إليكما ثم أمر فردت عليهما هداياهما ورجعا مقبوحين بشر خيبة وأسوئها
____________________
(1/89)
& فصل & مقاطعة قريش لبني هاشم وبين المطلب
ثم أسلم حمزة عم رسول الله صلى الله عليه وسلم وجماعة كثيرون وفشا الاسلام
فلما رأت قريش ذلك ساءها وأجمعوا على أن يتعاقدوا على بني هاشم وبني المطلب ابني عبد مناف ألا يبايعوهم ولا يناكحوهم ولا يكلموهم ولا يجالسوهم حتى يسلموا إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وكتبوا بذلك صحيفة وعلقوها في سقف الكعبة ويقال إن الذي كتبها منصور بن عكرمة بن عامر بن هاشم بن عبد مناف ويقال بل النضر بن الحارث فدعا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم
وانحاز الى الشعب بنو هاشم وبنو المطلب مؤمنهم وكافرهم الا أبا لهب لعنه الله فإنه ظاهر قريشا وبقوا على تلك الحال لا يدخل عليهم أحد نحوا من ثلاث سنين
وبعد ذلك قال أبو طالب قصيدته المشهورة جزى الله عنا عبد شمس ونوفلا
ثم سعى في نقض تلك الصحيفة أقوام من قريش فكان القائم في أمر ذلك
____________________
(1/90)
هشام بن عمرو بن ربيعة بن الحارث بن حبيب بن جذيمة بن مالك بن حسل بن عامر بن لؤي مشى في ذلك الى مطعم بن عدي وجماعة من قريش فأجابوه إلى ذلك وأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم قومه أن الله قد أرسل على تلك الصحيفة الأرضة فأكلت جميع ما فيها الا ذكر الله عز وجل فكان كذلك ثم رجع بنو هاشم وبنو المطلب الى مكة وحصل الصلح برغم من أبي جهل عمرو بن هشام
واتصل الخبر بالذين هم بالحبشة أن قريشا أسلموا فقدم مكة منهم جماعة فوجدوا البلاء والشدة كما كانا فاستمروا بمكة الى أن هاجروا الى المدينة الا السكران بن عمرو زوج سودة بنت زمعة فإنه مات بعد مقدمه من الحبشة بمكة قبل الهجرة الى المدينة وإلا سلمة بن هشام وعياش بن أبي ربيعة فإنهما
____________________
(1/91)
احتبسا مستضعفين وإلا عبد الله بن مخرمة بن عبدالعزى فإنه حبس فلما كان يوم بدر هرب من المشركين الى المسلمين & فصل & خروج النبي صلى الله عليه وسلم الى الطائف
فلما نقضت الصحيفة وافق موت خديجة رضي الله عنها وموت أبي طالب وكان بينهما ثلاثة أيام فاشتد البلاء على رسول الله صلى الله عليه وسلم من سفهاء قومه واجترؤوا عليه فخرج رسول اله صلى الله عليه وسلم الى الطائف لكي يؤوه وينصروه على قومه ويمنعوه منهم ودعاهم الى الله عزوجل فلم يجيبوه الى شيء من الذي طلب وآذوه أذى عظيما لم ينل قومه منه أكثر مما نالوا منه
فرجع عنهم ودخل مكة في جوار المطعم بن عدي بن نوفل بن عبد مناف
____________________
(1/92)
وجعل يدعو الى الله عز وجل فأسلم الطفيل بن عمرو الدوسي ودعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجعل الله له آية فجعل الله في وجهه نورا فقال يا رسول الله أخشى أن يقولوا هذا مثله فدعا له فصار النور في سوطه فهو المعروف بذي النور ودعا الطفيل قومه الى الله فأسلم بعضهم وأقام في بلاده فلما فتح الله على رسوله خيبر قدم بهم في نحو من ثمانين بيتا & فصل & الإسراء والمعراج وعرض النبي نفسه على القبائل
وأسرى برسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بجسده على الصحيح من قول الصحابة والعلماء من المسجد الحرام الى بيت المقدس راكبا البراق في صحبة جبريل عليه السلام فنزل ثم أم بالأنبياء ببيت المقدس فصلى
ثم عرج به تلك الليلة من هناك الى السماء الدنيا ثم للتي تليها ثم الثالثة ثم الى التي تليها ثم الخامسة ثم التي تليها ثم السابعة ورأى الأنبياء في السموات على منازلهم ثم عرج به الى سدرة المنتهى ورأى عندها جبريل على الصورة التي خلقه الله عليها وفرض عليه الصلوات تلك الليلة
واختلف العلماء هل رأى ربه عز وجل اولا على قولين
____________________
(1/93)
فصح عن ابن عباس انه قال رأى ربه وجاء في رواية عنه رآه بفؤاده
وفي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها أنها أنكرت ذلك على قائله وقالت هي وابن مسعود إنما رأى جبريل وروى مسلم في صحيحه من حديث قتادة عن عبدالله بن شقيق عن أبى ذر أنه قال سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم هل رأيت ربك قال نور أنى أراه وفي رواية رأيت نورا فهذا الحديث كاف في هذه المسألة
ولما أصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم من نومه أخبرهم بما أراه الله من آياته الكبرى فاشتد تكذيبهم له وأذاهم واستجراؤهم عليه
وجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرض نفسه على القبائل أيام الموسم ويقول من رجل يحملني الى قومه فيمنعني حتى أبلغ رسالة ربي فإن قريشا قد منعوني أن أبلغ
____________________
(1/94)
رسالة ربي هذا وعمه أبو لهب لعنه الله وراءه يقول للناس لا تسمعوا منه فإنه كذاب فكان أحياء العرب يتحامونه لما يسمعون من قريش عنه إنه كاذب إنه ساحر إنه كاهن إنه شاعر أكاذيب يقذفونه بها من تلقاء أنفسهم فيصغي إليهم من لا تمييز له من الأحياء وأما الألباء فإنهم إذا سمعوا كلامه وتفهموه شهدوا بأن ما يقول حق وأنهم مفترون عليه فيسلمون & فصل & حديث سويد بن الصامت وإسلام إياس بن معاذ
وكان مما صنع الله لأنصاره من الأوس والخزرج انهم كانوا يسمعون من حلفائهم من يهود المدينة ان نبيا مبعوث في هذا الزمن ويتوعدونهم به إذا حاربوهم ويقولون إنا سنقتلكم معه قتل عاد وإرم وكان الأنصار يحجون البيت وأما اليهود فلا فلما رأى الأنصار رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو الناس الى الله تعالى ورأوا أمارات الصدق عليه قالوا والله هذا الذي توعدكم يهود به فلا يسبقنكم إليه
وكان سويد بن الصامت أخو بني عمرو بن عوف بن الأوس قد قدم مكة
____________________
(1/95)
فدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يبعد ولم يجب ثم انصرف الى المدينة فقتل في بعض حروبهم وكان سويد هذا ابن خالة عبدالمطلب ثم قدم مكة ابو الحيسر أنس بن رافع في فتية من قومه من بني عبد الأشهل يطلبون الحلف فدعاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم الى الإسلام فقال إياس بن معاذ منهم وكان شابا حدثا يا قوم هذا والله خير مما جئنا له فضربه أبو الحيسر وانتهره فسكت ثم لم يتم لهم الحلف فانصرفوا الى بلادهم الى المدينة فيقال إن إياس بن معاذ مات مسلما & فصل & بيعة العقبة الأولى والثانية
ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لقي عند العقبة في الموسم نفرا من الأنصار كلهم من الخزرج وهم أبو أمامة أسعد بن زرارة بن عدس وعوف بن الحارث بن رفاعة وهو ابن عفراء ورافع بن مالك بن العجلان وقطبة بن عامر بن حديدة وعقبة بن عامر بن نابي وجابر بن عبدالله بن رئاب فدعاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم الى الإسلام فأسلموا مبادرة الى الخير ثم رجعوا الى المدينة فدعوا الى الإسلام ففشا الإسلام فيها حتى لم تبق دار وقد دخلها الإسلام
فلما كان العام المقبل جاء منهم اثنا عشر رجلا الستة الأوائل خلا جابر ابن عبدالله بن رئاب ومعهم معاذ بن الحارث بن رفاعة أخو عوف المتقدم
____________________
(1/96)
وذكوان بن عبد قيس بن خلدة وقد أقام ذكوان هذا بمكة حتى هاجر الى المدينة فيقال إنه مهاجري أنصاري وعبادة بن الصامت بن قيس وأبو عبدالرحمن يزيد بن ثعلبة فهؤلاء عشرة من الخزرج واثنان من الأوس وهما أبو الهيثم مالك بن التيهان وعويم بن ساعدة فبايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم كبيعة النساء ولم يكن امر بالقتال بعد
فلما انصرفوا الى المدينة بعث معهم رسول الله صلى الله عليه وسلم عمرو بن أم مكتوم ومصعب بن عمير يعلمان من أسلم منهم القرآن ويدعوان الى الله عزوجل
____________________
(1/97)
فنزلا على أبي أمامة أسعد بن زرارة وكان مصعب بن عمير يؤمهم وقد جمع بهم يوما بأربعين نفسا فأسلم على يديها أسيد بن حضير وسعد بن معاذ وأسلم بإسلامهما يؤمئذ جميع بني عبد الأشهل الرجال والنساء إلا الأصيرم وهو عمرو بن ثابت بن وقش فإنه تأخر إسلامه الى يوم أحد فأسلم يومئذ وقاتل فقتل قبل أن يسجد لله سجدة فأخبر عنه النبي صلى الله عليه وسلم فقال عمل قليلا وأجر كثيرا
وكثر الاسلام بالمدينة وظهر ثم رجع مصعب الى مكة ووافى الموسم ذلك العام خلق كثير من الأنصار من المسلمين والمشركين وزعيم القوم البراء بن معرور رضي الله عنه
فلما كانت ليلة العقبة الثلث الأول منها تسلل الى رسول الله صلى الله عليه وسلم
____________________
(1/98)
ثلاثة وسبعون رجلا وامرأتان فبايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم خفية من قومهم ومن كفار مكة على ان يمنعوه مما يمنعون منه نساءهم وأبناءهم وكان أول من بايعه ليلتئذ البراء بن معرور وكانت له اليد البيضاء إذ أكد العقد وبادر إليه
وحضر العباس عم رسول الله صلى الله عليه وسلم موثقا مؤكدا للبيعة مع أنه كان بعد على دين قومه
واختار رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم تلك الليلة اثني عشر نقيبا وهم أسعد بن زرارة ابن عدس وسعد بن الربيع بن عمرو وعبد الله بن رواحة بن ثعلبة بن امرئ القيس ورافع بن مالك بن العجلان والبراء بن معرور بن صخر بن خنساء وعبدالله بن عمرو بن حرام وهو والد جابر وكان قد أسلم تلك الليلة رضي الله عنه وسعد بن عبادة بن دليم والمنذر بن عمرو بن خنيس وعبادة بن الصامت فهؤلاء تسعة من الخزرج ومن الأوس ثلاثة وهم أسيد بن الحضير ابن سماك وسعد بن خيثمة بن الحارث ورفاعة بن عبد المنذر بن زبير وقيل بل أبو الهيثم بن التيهان مكانه ثم الناس بعدهم
والمرأتان هما أم عمارة نسيبة بنت كعب بن عمرو التي قتل مسيلمة ابنها حبيب بن زيد بن عاصم بن كعب وأسماء بنت عمرو بن عدي بن نابي
فلما تمت هذه البيعة استأذنوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ان يميلوا على أهل العقبة فلم يأذن لهم في ذلك بل أذن للمسلمين بعدها من أهل مكة في الهجرة الى المدينة فبادر
____________________
(1/99)
الناس الى ذلك فكان أول من خرج الى المدينة من أهل مكة أبو سلمة بن عبد الأسد هو وإمرأته ام سلمة فاحتبست دونه ومنعت من اللحاق به وحيل بينها وبين ولدها ثم خرجت بعد السنة بولدها الى المدينة وشيعها عثمان بن طلحة ويقال إن أبا سلمة هاجر قبل العقبة الأخيرة فالله أعلم ثم خرج الناس أرسالا يتبع بعضهم بعضا & فصل & هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم
ولم يبق من المسلمين إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعلي رضي الله تعالى عنهما أقاما بأمره لهما وخلا من اعتقله المشركون كرها وقد أعد أبو بكر رضي الله عنه جهازه
____________________
(1/100)
وجهاز رسول الله صلى الله عليه وسلم منتظرا حتى يأذن الله عز وجل لرسوله صلى الله عليه وسلم في الخروج فلما كانت ليلة هم المشركون بالفتك برسول الله صلى الله عليه وسلم وأرصدوا على الباب أقواما إذا خرج عليهم قتلوه فلما خرج عليهم لم يره منهم أحد وقد جاء في حديث انه ذر على رأس كل واحد منهم ترابا ثم خلص الى بيت ابي بكر رضي الله عنه فخرجا من خوخة في دار أبي بكر ليلا وقد استأجرا عبدالله بن أريقط وكان هاديا خريتا ماهرا بالدلالة إلى أرض المدينة وأمناه على ذلك مع انه كان على دين قومه وسلما اليه راحلتيهما وواعداه غار ثور بعد ثلاث فلما حصلا في الغار أعمى الله على قريش خبرهما فلم يدروا اين ذهبا
وكان عامر بن فهيرة يريح عليهما غنما لأبي بكر وكانت أسماء بنت أبي بكر تحمل لهما الزاد الى الغار وكان عبدالله بن أبي بكر يتسمع ما يقال بمكة ثم يذهب إليهما بذلك فيحترزان منه وجاء المشركون في طلبهما الى ثور وما هناك من الأماكن حتى إنهم مروا على باب الغار وحاذت أقدامهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبه وعمى الله عليهم باب الغار ويقال والله أعلم إن العنكبوت سدت على باب الغار وإن حمامتين عششتا على بابه وذلك تأويل قوله تعالى ( إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا فأنزل الله سكينته عليه وأيده بجنود لم تروها وجعل كلمة الذين كفروا السفلى وكلمة الله هي العليا والله عزيز حكيم ) وذلك أن
____________________
(1/101)
أبا بكر رضي الله تعالى لشدة حرصه بكى حين مر المشركون وقال يا رسول الله لو أن أحدهم نظر موضع قدميه لرآنا فقال له النبي صلى الله عليه وسلم يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما
ولما كان بعد الثلاث أتى ابن أريقط بالراحلتين فركباهما وأردف أبو بكر عامر ابن فهيرة وسار الديلي أمامهما على راحلته
وجعلت قريش لمن جاء بواحد من محمد صلى الله عليه وسلم وأبي بكر رضي الله عنه مائة من الإبل فلما مروا بحي مدلج بصر بهم سراقة بن مالك بن جعشم سيد مدلج فركب جواده وسار في طلبهم فلما قرب منهم سمع قراءة النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر رضي الله عنه يكثر الالتفات حذرا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو صلى الله عليه وسلم لايلتفت فقال أبو بكر يا رسول الله هذا سراقة بن مالك قد رهقنا
فدعا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فساخت يدا فرسه في الأرض فقال رميت إن الذي أصابني بدعائكما فادعوا الله لي ولكما علي أن أرد الناس عنكما فدعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم فأطلق وسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكتب له كتابا فكتب له أبو بكر في أدم ورجع يقول للناس قد كفيتم ماههنا وقد جاء مسلما عام حجة الوداع ودفع الى رسول الله صلى الله عليه وسلم الكتاب الذي كتبه له فوفى له رسول الله صلى الله عليه وسلم بما وعده وهو لذلك أهل
____________________
(1/102)
ومر رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسيرة ذلك بخيمة أم معبد فقال عندها ورأت من آيات نبوته في الشاة وحلبها لبنا كثيرا في سنة مجدبة ما بهر العقول صلى الله عليه وسلم & فصل & دخوله عليه الصلاة والسلام المدينة
وقد كان بلغ الأنصار مخرجه من مكة وقصده إياهم فكانوا كل يوم يخرجون الى الحرة ينتظرونه فلما كان يوم الإثنين الثاني عشر من ربيع الأول على رأس ثلاث عشرة سنة من نبوته صلى الله عليه وسلم وافاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم حين اشتد الضحى وكان قد خرج الأنصار يومئذ فلما طال عليهم رجعوا الى بيوتهم وكان أول من بصر به رجل من اليهود وكان على سطح أطمه فنادى بأعلى صوته يا نبي قيلة هذا جدكم الذي تنتظرون فخرج الأنصار في سلاحهم وحيوه بتحية النبوة
ونزل رسول الله صلى الله عليه وسلم بقباء على كلثوم بن الهدم وقيل بل على سعد بن
____________________
(1/103)
خيثمة وجاء المسلمون يسلمون على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأكثرهم لم يره بعد وكان بعضهم أو أكثرهم يظنه أبا بكر لكثرة شيبه فلما أشتد الحر قام أبو بكر بثوب يظلل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فتحقق الناس حيئذ رسول الله الصلاة والسلام & فصل & استقراره عليه الصلاة والسلام بالمدينة
فأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بقباء أياما وقيل أربعة عشر يوما وأسس مسجد قباء ثم ركب بأمر الله تعالى فأدركته الجمعة في بني سالم بن عوف فصلاها في المسجد الذي في بطن رانونا ورغب إليه أهل تلك الدار أن ينزل عليهم فقال دعوها فإنها مأمورة فلم تزل ناقته سائرة به لا تمر بدار من دور الأنصار إلا رغبوا إليه في النزول عليهم فيقول دعوها فإنها مأمورة فلما جاءت موضع مسجده اليوم بركت ولم ينزل عنها صلى الله عليه وسلم حتى نهضت وسارت قليلا ثم التفتت ورجعت فبركت موضعها الأول فنزل عنها صلى الله عليه وسلم وذلك في دار بني النجار فحمل أبو أيوب رضي الله عنه رحل رسول الله صلى الله عليه وسلم الى منزله
____________________
(1/104)
واشترى رسول الله صلى الله عليه وسلم موضع المسجد وكان مربدا ليتيمين وبناه مسجدا فهو مسجده الآن وبني لآل رسول الله صلى الله عليه وسلم حجرا الى جانبه
واما علي رضي الله عنه فأقام بمكة ريثما أدى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الودائع التي كانت عنده وغير ذلك ثم لحق برسول الله صلى الله عليه وسلم & فصل & المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار
ووادع رسول الله صلى الله عليه وسلم من بالمدينة من اليهود وكتب بذلك كتابا وأسلم حبرهم عبدالله بن سلام رضي الله عنه وكفر عامتهم وكانوا ثلاث قبائل بنو قينقاع وبنو النضير وبنو قريظه
____________________
(1/105)
وآخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين والأنصار فكانوا يتوارثون بهذا الإخاء في ابتداء الاسلام إرثا مقدما على القرابة
وفرض الله سبحانه وتعالى إذ ذاك الزكاة رفقا بفقراء المهاجرين وكذا ذكر ابن
____________________
(1/106)
حزم في هذا التاريخ وقد قال بعض الحفاظ من علماء الحديث إنه أعياه فرض الزكاة متى كان & فصل & فرض الجهاد
لما استقر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة بين أظهر الأنصار وتكفلوا بنصره ومنعه من الأسود والأحمر رمتهم العرب قاطبة عن قوس واحدة وتعرضوا لهم من كل جانب وكان الله سبحانه قد أذن للمسلمين في الجهاد في سورة الحج وهي مكية في قوله تعالى ( أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير ) ثم لما صاروا في المدينة وصارت لهم شوكة وعضد كتب الله عليهم الجهاد كما قال تعالى في [ سورة البقرة ] ( كتب عليكم القتال وهو كره لكم عسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون ) & فصل & أول المغازي والبعوث غزوة الأبواء
وكانت أول عزاة غزاها رسول الله صلى الله عليه وسلم غزوة الأبواء وكانت في صفر سنة
____________________
(1/107)
اثنتين من الهجرة خرج بنفسه صلى الله عليه وسلم حتى بلغ ودان فوداع بني ضمرة بن بكر بن عبد مناة بن كنانة مع سيدهم مخشي بن عمرو ثم كر راجعا الى المدينة ولم يلق حربا وكان استخلف عليها سعد بن عبادة رضي الله عنه بعث حمزة بن عبدالمطلب ثم بعث عمه حمزة رضي الله عنه في ثلاثين راكبا من المهاجرين ليس فيهم أنصاري الى سيف البحر فالتقى بأبي جهل بن هشام وركب معه زهاء ثلاثمائة فحال بينهم مجدي بن عمر والجهني لأنه كان موادعا للفريقين بعث عبيدة بن الحارث بن المطلب وبعث عبيدة بن الحارث بن المطلب في ربيع الآخر في ستين أو ثمانين راكبا من المهاجرين ايضا الى ماء بالحجاز بأسفل ثنية المرة فلقوا جمعا عظيما من قريش عليهم عكرمة بن أبي جهل وقيل بل كان عليهم مكرز بن حفص فلم يكن بينهم قتال إلا أن سعد بن أبي وقاص رشق المشركين يومئذ بسهم فكان أول سهم رمي به في سبيل الله وفر يومئذ من الكفار إلى المسلمين المقداد بن عمرو الكندي وعتبة بن عزوان رضي الله عنهما
فكان هذان البعثان اول راية عقدها رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكن اختلف في أيهما كان أول وقيل إنهما كانا في السنة الأولى من الهجرة وهو قول ابن جرير الطبري والله تعالى أعلم
____________________
(1/108)
& فصل & غزوة بواط
ثم غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم غزوة بواط فخرج بنفسه صلى الله عليه وسلم في ربيع الآخر من السنة الثانية واستعمل على المدينة السائب بن عثمان بن مظعون فسار حتى بلغ بواط من ناحية رضوى ثم رجع ولم يلق حربا غزوة العشيرة
ثم كانت بعدها غزوة العشيرة ويقال بالسين المهملة ويقال العشيراء خرج بنفسه صلى الله عليه وسلم في أثناء جمادى الأولى حتى بلغها وهي مكان ببطن ينبع وأقام هناك بقية الشهر وليالي من جمادى الآخرة ثم رجع ولم يلق كيدا وكان استخلف على المدينة أبا سلمة بن عبد الأسد وفي صحيح مسلم من حديث أبي إسحاق السبيعي قال قلت لزيد بن أرقم كم غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم قال تسع عشرة غزوة أولها العشيرة أو العشيراء
____________________
(1/109)
غزوة بدر الأولى
ثم خرج بعدها بنحو من عشرة أيام الى بدر الأولى وذلك أن كرز بن جابر الفهري أغار على سرح المدينة فطلبه فبلغ واديا يقال له سفوان في ناحية بدر ففاته كرز وقد كان قد استخلف على المدينة زيد بن حارثة رضي الله عنه
وبعث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه في طلب كرز بن جابر فيما قيل والله أعلم وقيل بل بعثه لغير ذلك & فصل & بعث عبدالله بن جحش
ثم بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عبدالله بن جحش بن رئاب الأسدي وثمانية من المهاجرين وكتب له كتابا وأمره ألا ينظر فيه حتى يسير يومين ثم ينظر فيه ولايكره أحدا من أصحابه ففعل ولما فتح الكتاب وجد فيه إذا نظرت في كتابي هذا فامض حتى تنزل ( نخلة ) بين مكة والطائف وترصد بها قريشا وتعلم لنا من أخبارهم فقال سمعا وطاعة وأخبر اصحابه بذلك وبأنه لا يستكرههم فمن أحب الشهادة فلينهض ومن كره الموت فليرجع وأما هو فناهض فنهضوا كلهم
____________________
(1/110)
فلما كان في أثناء الطريق أضل سعد بن أبي وقاص وعتبة بن غزوان بعيرا لهما كانا يعتقبانه فتخلفا في طلبه وتقدم عبدالله بن جحش حتى نزل بنخلة فمرت به عير لقريش تحمل زبيبا وأدما وتجارة فيها عمرو بن الحضرمي وعثمان ونوفل ابنا عبدالله بن المغيرة والحكم بن كيسان مولى بني المغيرة فتشاور المسلمون وقالوا نحن في آخر يوم من رجب الشهر الحرام فإن قاتلناهم انتهكنا الشهر الحرام وإن تركناهم الليلة دخلوا الحرم ثم اتفقوا على ملاقاتهم فرمى أحدهم عمرو بن الحضرمي فقتله وأسروا عثمان والحكم وأفلت نوفل
ثم قدموا بالعير والأسيرين قد عزلوا من ذلك الخمس فكانت أول غنمية في الإسلام وأول خمس في الإسلام وأول قتيل في الإسلام وأول أسير في الاسلام إلا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنكر عليهم ما فعلوه وقد كانوا رضي الله عنهم مجتهدين فيما صنعوا
واشتد تعنت قريش وإنكارهم ذلك وقالوا محمد قد أحل الشهر الحرام فأنزل الله عزوجل في ذلك ( يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبير وصد عن سبيل الله وكفر به والمسجد الحرام وإخراج أهله منه أكبر عند الله ) يقول سبحانه هذا الذي وقع وإن كان خطأ لأن القتال في الشهر الحرام كبير عند الله إلا أن ما أنتم عليه أيها المشركون من الصد عن سبيل الله والكفر به وبالمسجد الحرام وأخراج محمد وأصحابه الذين هم أهل المسجد الحرام في الحقيقة أكبر عند الله من القتال في الشهر الحرام
ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل الخمس من تلك الغنيمة وأخذ الفداء من ذينك الأسيرين
____________________
(1/111)
& فصل & تحويل القبلة وفرض الصوم
وفي شعبان من هذه السنة حولت القبلة من بيت المقدس الى الكعبة وذلك على رأس ستة عشر شهرا من مقدمه المدينة وقيل سبعة عشر شهرا وهما في الصحيحين وكان أول من صلى إليهما أبو سعيد بن المعلى وصاحب له كما رواه النسائي وذلك أنا سمعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب الناس ويتلو عليهم تحويل القبلة فقلت لصاحبي تعال نصلي ركعتين فنكون أول من صلى إليهما فتوارينا وصلينا إليها ثم نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى بالناس الظهر يومئذ
وفرض صوم رمضان وفرضت لأجله زكاة الفطر قبيله بيوم & فصل & غزوة بدر الكبرى
نذكر فيه ملخص وقعة بدر الثانية وهي الوقعة العظيمة التي فرق الله فيها بين الحق والباطل وأعز الإسلام ودمغ الكفر وأهله وذلك أنه لما كان في رمضان من هذه السنة الثانية بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن عيرا مقبلة من الشام صحبة أبي
____________________
(1/112)
سفيان صخر بن حرب في ثلاثين أو أربعين رجلا من قريش وهي عير عظيمة تحمل أموالا جزيلة لقريش فندب صلى الله عليه وسلم الناس للخروج إليها وأمر من كان ظهره حاضرا بالنهوض ولم يحتفل لها إحتفالا كثيرا إلا أنه خرج في ثلاثمائة وبضعة عشر رجلا لثمان خلون من رمضان واستخلف على المدينة وعلى الصلاة ابن ام مكتوم فلما كان بالروحاء رد أبا لبابة واستعمله على المدينة ولم يكن معه من الخيل سوى فرس الزبير وفرس المقداد بن الأسود الكندي ومن الإبل سبعون بعيرا يعتقب الرجلان والثلاثة فأكثر على البعير الواحد ورسول الله صلى الله عليه وسلم وعلي مرثد بن أبي مرثد الغنوي يعتقبون بعيرا وزيد بن حارثة وأبو كبشة وأنسة موالي رسول الله صلى الله عليه وسلم وحمزة يعتقبون جملا وأبو بكر وعمر وعبدالرحمن ابن عوف على جمل آخر وهلم جرا
____________________
(1/113)
ودفع صلى الله عليه وسلم اللواء الى مصعب بن عمير والراية الواحدة الى علي بن أبي طالب والراية الأخرى الى رجل من الأنصار وكانت راية الأنصار بيد سعد بن معاذ وجعل على الساقة قيس بن أبي صعصعة وسار صلى الله عليه وسلم فلما قرب من الصفراء بعث بسبس بن عمرو الجهني وهو حليف بني ساعدة وعدي بن أبي الزعباء الجهني حليف بني النجار الى بدر يتحسسان أخبار العير
وأما أبو سفيان فإنه بلغه مخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وقصده إياه فاستأجر ضمضم ابن عمرو الغفاري مستصرخا لقريش بالنفير الى عيرهم ليمنعوه من محمد وأصحابه
وبلغ الصريخ أهل مكة فنهضوا مسرعين وأوعبوا في الخروج ولم يتخلف من اشرافهم أحد سوى أبي لهب فإنه عوض عنه رجلا كان له عليه دين وحشدوا ممن حولهم من قبائل العرب ولم يتخلف عنهم أحد من بطون قريش إلا بني عدي فلم يخرج معهم منهم أحد
وخرجوا من ديارهم كما قال الله عزوجل ( بطرا ورئاء الناس ويصدون عن سبيل الله ) وأقبلوا في تحامل وحنق عظيم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه لما
____________________
(1/114)
يريدون من أخذ عيرهم وقد أصابوا بالامس عمرو بن الحضرمي والعير التي كانت معه
فجمعهم الله على غير ميعاد لما أراد في ذلك من الحكمة كما قال تعالى ( ولو تواعدتم لا ختلفتم في الميعاد ولكن ليقضي الله أمرا كان مفعولا الآية )
ولما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم خروج قريش استشار أصحابه فتكلم كثير من المهاجرين فأحسنوا ثم استشارهم وهو يريد بما يقول الأنصار فبادر سعد بن معاذ رضي الله تعالى عنه فقال يا رسول الله كأنك تعرض بنا فوالله يا رسول الله لو استعرضت بنا البحر لخضناه معك فسر بنا يا رسول الله على بركة الله فسر صلى الله عليه وسلم بذلك وقال سيروا وأبشروا فإن الله قد وعدني إحدى الطائفتين
ثم رحل رسول الله صلى الله عليه وسلم ونزل قريبا من بدر وركب صلى الله عليه وسلم مع رجل من أصحابه مستخبرا ثم انصرف فلما أمسى بعث عليا وسعدا والزبير الى ماء بدر يلتمسون الخبر فقدموا بعبدين لقريش ورسول الله صلى الله عليه وسلم قائم يصلي فسألهما أصحابه لمن أنتما فقالا نحن سقاة لقريش فكره ذلك أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وودوا
____________________
(1/115)
أن لو كانا لعير أبي سفيان وأنه منهم قرييب ليفوزوا به لأنه اخف مؤونة من قتال النفير من قريش لشدة بأسهم واستعدادهم لذلك فجعلوا يضربونهما فاذا آذاهما الضرب قالا نحن لأبي سفيان فاذا سكتوا عنهما قالا نحن لقريش فلما انصرف رسول اله صلى الله عليه وسلم من صلاته قال والذي نفسي بيده إنكم لتضربونهما إذا صدقا وتتركونهما إذا كذبا ثم قال لهما أخبرني أين قريش قالا وراء هذا الكثيب قال كم القوم قالا لا علم لنا فقال كم ينحرون كل يوم فقالا يوما عشرا ويوما تسعا فقال صلى الله عليه وسلم القوم ما بين التسعمائة الى الألف
وأما بسبس بن عمرو وعدي بن أبي الزغباء فإنهما وردا ماء بدر فسمعا جارية تقول لصاحبتها ألا تقضيني ديني فقالت الأخرى إنما تقدم العير غدا أو بعد غد فأعمل لهم وأقضيك فصدقها مجدي بن عمرو فانطلقا مقبلين لما سمعا ويعقبهما ابو سفيان فقال لمجدي بن عمرو هل أحسست أحدا من أصحاب محمد فقال لا إلا أن راكبين نزلا عند تلك الأكمة فانطلق أبوسفيان الى مكانهما وأخذ من بعر بعيرهما ففته فوجد فيه النوى فقال والله هذه علائف يثرب فعدل العير الى طريق الساحل فنجا وبعث الى قريش يعلمهم أنه قد نجا هو والعير ويأمرهم ان يرجعوا
وبلغ ذلك قريشا فأبى ذلك أبو جهل وقال والله لا نرجع حتى نرد ماء بدر ونقيم عليها ثلاثا ونشرب الخمر وتضرب على رؤوسنا القيان فتهابنا العرب أبدا فرجع الأخنس بن شريق بقومه بني زهرة قاطبة وقال إنما خرجتم لتمنعوا عيركم وقد نجت ولم يشهد بدرا زهري إلا عما مسلم بن عبيد الله بن عبد الله بن شهاب بن عبدالله والد الزهري فإنهما شهداها يومئذ وقتلا كافرين
____________________
(1/116)
فبادر رسول الله صلى الله عليه وسلم قريشا الى ماء بدر ونزل على أدنى ماء هناك فقال له الحباب بن المنذر بن عمرو يا رسول اله هذا المنزل الذي نزلته أمرك الله به أو منزل نزلته للحرب والمكيدة قال بل منزل نزلته للحرب والمكيدة فقال ليس هذا بمنزل فانهض بنا حتى نأتي أدنى ماء من مياه القوم فننزله ونعور ما وراءنا من القلب ثم نبني عليه حوضا فنملؤه فنشرب ولا يشربون فاستحسن رسول الله صلى الله عليه وسلم منه ذلك وحال الله بين قريش وبين الماء بمطر عظيم أرسله وكان نقمة على الكفار ونعمة على المسلمين مهد لهم الأرض ولبدها وبني لرسول الله صلى الله عليه وسلم عريش يكون فيه
ومشى صلى الله عليه وسلم في موضع المعركة وجعل يريهم مصارع رؤوس القوم واحدا واحدا ويقول هذا مصرع فلان غدا إن شاء الله وهذا مصرع فلان وهذا مصرع فلان قال عبدالله بن مسعود فوالذي بعثه بالحق ما أخطأ واحد منهم موضعه الذي أشار إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم
وبات رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك الليلة يصلي الى جذم شجرة هناك وكانت ليلة الجمعة السابع عشر من رمضان فلما أصبح وأقبلت قريش في كتائبها قال صلى الله عليه وسلم اللهم هذه قريش قد أقبلت في فخرها وخيلائها تحادك وتحاد رسولك ورام حكيم بن حزام وعتبة بن ربيعة أن يرجعا بقريش فلا يكون قتال فأبى ذلك أبو
____________________
(1/117)
جهل وتقاول هو وعتبة وأمر أبو جهل أخا عمرو بن الحضرمي ان يطلب دم أخيه عمرو فكشف عن إسته وصرخ واعمراه فحمي القوم ونشبت الحرب
وعدل رسول الله صلى الله عليه وسلم الصفوف ثم رجع الى العريش هو وأبو بكر وحده وقام سعد بن معاذ وقوم من الأنصار على باب العريش يحمون رسول الله صلى الله عليه وسلم وخرج عتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة والوليد بن عتبة ثلاثتهم جميعا يطلبون البراز فخرج إليهم من المسلمين ثلاثة من الأنصار وهم عوف ومعوذ ابنا عفراء وعبدالله بن رواحة فقالوا لهم من أنتم فقالوا من الأنصار فقالوا أكفاء كرام وإنما نريد بني عمنا فبرز لهم علي وعبيدة بن الحارث وحمزة رضي الله عنهم فقتل علي الوليد وقتل حمزة عتبة وقيل شيبة واختلف عبيدة وقرنه بضربتين فأجهد كل منهما صاحبه فكر حمزة وعلي فتمما عليه واحتملا عبيدة وقد قطعت رجله فلم يزل طمثا حتى مات بالصفراء رحمه الله تعالى ورضي عنه وفي الصحيح أن عليا رضي الله عنه كان يتأول قوله تعالى ( هذان خصمان اختصموا في ربهم ) في برازهم يوم بدر ولا شك أن هذه الآية في سورة الحج وهي مكية ووقعة بدر بعد ذلك الا أن برازهم من أول ما دخل في معنى الآية
ثم حي الوطيس واشتد القتال ونزل النصر واجتهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في الدعاء وابتهل ابتهالا شديدا حتى جعل رداؤه يسقط عن منكبيه وجعل ابو
____________________
(1/118)
بكر يصلحه عليه ويقول يا رسول الله بعض مناشدتك ربك فإنه منجز لك ما وعدك ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تعبد في الأرض فذلك قوله تعالى ( إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم أني ممدكم بألف من الملائكة مردفين ) ثم أغفى رسول الله صلى الله عليه وسلم إغفاءه ثم رفع رأسه وهو يقول أبشر يا أبا بكر هذا جبريل على ثناياه النقع
وكان الشيطان قد تبدى لقريش في صورة سراقة بن مالك بن جعشم زعيم مدلج فأجارهم وزين لهم الذهاب الى ما هم فيه وذلك أنهم خشوا بني مدلج أن يخلفوهم في أهاليهم وأموالهم فذلك قوله تعالى ( وإذ زين لهم الشيطان أعمالهم وقال لا غالب لكم اليوم من الناس وإني جار لكم فلما تراءت الفئتان نكص على عقبيه وقال إني برئ منكم إني أرى ما لا ترون ) وذلك أنه رأى الملائكة حين نزلت القتال ورأى ما لا قبل له به ففر وقاتلت الملائكة كما أمرها الله وكان الرجل من المسلمين يطلب قرنه فإذا به وقد سقط أمامه ومنح الله المسلمين أكتاف المشركين فكان أول من فر منهم خالد بن الأعلم فأدرك فأسر وتبعهم المسلمون في آثارهم يقتلون ويأسرون فقتلوا منهم سبعين وأسروا سبعين وأخذوا غنائمهم فكان من جملة من قتل من المشركين ممن سمى رسول الله صلى الله عليه وسلم موضعه بالأمس أبو جهل وهو أبو الحكم عمرو بن هشام لعنه الله قتله معاذ بن عمرو بن الجموح ومعوذ بن عفراء وتمم عليه عبدالله بن
____________________
(1/119)
مسعود فاحتز رأسه وأتى به رسول الله صلى الله عليه وسلم فسر بذلك وعتبة وشيبة ابنا ربيعة والوليد بن عتبة وأمية بن خلف فأمر بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فسحبوا إلى القليب ثم وقف عليهم ليلا فبكتهم وقرعهم وقال بئس عشيرة النبي كنتم لنبيكم كذبتموني وصدقني الناس وخذلتموني ونصرني الناس وأخرجتموني وآواني الناس ثم أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعرصة ثلاثا
ثم ارتحل بالأسارى والمغانم وقد جعل عليها عبدالله بن كعب بن عمرو النجاري وأنزل الله في غزوة بدر سورة الأنفال فلما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم بالصفراء قسم المغانم كما أمره الله تعالى وأمر بالنضر بن الحارث فضربت عنقه صبرا وذلك لكثرة فساده وأذاه رسول الله صلى الله عليه وسلم فرثته أخته وقيل ابنته قتيلة بقصيدة مشهورة ذكرها ابن هشام فلما بلغت رسول الله صلى الله عليه وسلم قال فيما زعموا لو سمعتها قبل أن أقتله لم أقتله ولما نزل عرق الظبية أمر بعقبة بن أبي معيط فضربت عنقه أيضا صبرا
ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم استشار أصحابه في الأسارى ماذا يصنع بهم فأشار عمر بن الخطاب رضي الله عنه بأن يقتلوا وأشار أبو بكر رضي الله عنه بالفداء
____________________
(1/120)
وهوي رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قال أبو بكر فحلل لهم ذلك وعاتب الله في ذلك بعض المعاتبة في قوله تعالى ( ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض تريدون عرض الدنيا والله يريد الآخرة والله عزيز حكيم ) الآيات وقد روى مسلم في صحيحه عن ابن عباس رضي الله عنهما حديثا طويلا فيه بيان هذا كله فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم فداءهم أربعمائة أربعمائة
ورجع رسول الله صلى الله عليه وسلم الى المدينة مظفرا منصورا قد أعلى الله كلمته ومكن له وأعز نصره فأسلم حينئذ بشر كثير من أهل المدينة تقية ومن ثم دخل عبد الله بن أبي بن سلول وجماعته من المنافقين في الدين & فصل & عدة أهل البدر
وجملة من حضر بدرا من المسلمين ثلاثمائة وبضعة عشر رجلا من
____________________
(1/121)
المهاجرين ستة وثمانون رجلا ومن الأوس أحد وستون رجلا ومن الخزرج مائة وسبعون رجلا
وإنما قل عدد رجال الأوس عن عدد الخزرج وإن كانوا أشد منهم وأصبر عند اللقاء لأن منازلهم كانت في عوالي المدينة فلما ندبوا للخروج تيسر ذلك على الخزرج لقرب منازلهم
وقد اختلف أئمة المغازي والسير في أهل بدر في عدتهم وفي تسمية بعضهم اختلافا وقد ذكرهم الزهري وموسى بن عقبة ومحمد بن إسحق بن يسار ومحمد بن عمر الواقدي وسعيد بن يحيى الأموي في مغازيه والبخاري وغير واحد من المتقدمين وقد سردهم كما ذكرتهم ابن حزم في كتاب السيرة له وزعم أن ثمانية منهم لم يشهدوا بدرا بأنفسهم وإنما ضرب لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بأسهمهم فذكر منهم عثمان وطلحة وسعيد بن زيد ومن أجل من اعتنى بذلك من المتأخرين الشيخ الامام الحافظ ضياء الدين أبو عبدالله محمد بن عبدالواحد المقدسي رحمه الله تعالى فأفرد لهم جزءا وضمنه في أحكامه أيضا
وأما المشركون فكانت عدتهم كما قال صلى الله عليه وسلم ما بين التسعمائة الى الألف
____________________
(1/122)
وقتل من المسلمين يومئذ أربعة عشر رجلا ستة من المهاجرين وستة من الخزرج واثنان من الأوس
وكان أول قتيل يومئذ مهجع مولى عمر بن الخطاب رضي الله عنه وقيل رجل من الأنصار اسمه حارثة بن سراقة
وقتل من المشركين سبعون وقيل أقل وأسر منهم مثل ذلك أيضا وفرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من شأن بدر والأسرى في شوال & فصل & غزوة بني سليم
ثم نهض بنفسه الكريمة صلى الله عليه وسلم بعد فراغه بسبعة أيام لغزو بني سليم فمكث ثلاثا ثم رجع ولم يلق حربا وقد كان استعمل على المدينة سباع بن عرفطة وقيل ابن ام مكتوم
____________________
(1/123)
& فصل & غزوة السويق
ولما رجع أبو سفيان الى مكة وأوقع الله في أصحابه ببدر وبابنه نذر أبو سفيان الأ يمس رأسه بماء حتى يغزو رسول الله صلى الله عليه وسلم فخرج في مائتي راكب فنزل طرف العريض وبات ليلة واحدة في بني النضير عند سلام بن مشكم فسقاه ونطق له من خبر الناس ثم أصبح في اصحابه وأمر بقطع أصوارا من النخل وقتل رجلا من الأنصار وحليفا له ثم كرر راجعا
ونذر به رسول الله صلى الله عليه وسلم فخرج في طلبه والمسلمون فبلغ قرقرة الكدر وفاته أبوسفيان والمشركون وألقوا شيئا كثيرا من أزوادهم من السويق فسميت غزوة السويق وكانت في ذي الحجة من السنة الثانية للهجرة ثم رجع صلى الله عليه وسلم الى المدينة وقد كان استخلف عليها أبا لبابة
____________________
(1/124)
& فصل & غزوة ذي أمر
ثم أقام صلى الله عليه وسلم بقية ذي الحجة ثم غزا نجدا يريد غطفان واستعمل على المدينة عثمان بن عفان رضي الله عنه فأقام بنجد صفرا من السنة الثانية كله ثم رجع ولم يلق حربا & فصل & غزوة بحران
ثم خرج صلى الله عليه وسلم في ربيع الآخر يريد قريشا واستخلف ابن ام مكتوم فبلغ بحران معدنا في الحجاز ثم رجع ولم يلق حربا & فصل & غزوة بني قينقاع
ونقض بنو قينقاع أحد طوائف اليهود بالمدينة العهد وكانوا تجارا وصاغة وكانوا نحو السبعمائة مقاتل فخرج النبي صلى الله عليه وسلم لحصارهم واستخلف على المدينة
____________________
(1/125)
بشير بن عبد المنذر فحاصرهم صلى الله عليه وسلم خمس عشرة ليلة ونزلوا على حكمه صلى الله عليه وسلم فشفع فيهم عبدالله بن أبي بن سلول لأنهم كانوا حلفاء الخزرج وهو سيد الخزرج فشفعه فيهم بعد ما ألح على رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانوا في طرف المدينة & فصل & قتل كعب بن الأشرف
وأما كعب بن الأشرف اليهودي فانه كان رجلا من طيء وكانت امه من بني النضير وكان يؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين ويشبب في اشعاره بنساء المؤمنين وذهب بعد وقعة بدر الى مكة وألب على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى المؤمنين فندب رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين الى قتله فقال من لي بكعب بن الأشرف فإنه قد آذى الله ورسوله فانتدب رجال من الأنصار ثم من الأوس وهم محمد بن مسلمة وعباد بن بشر بن وقش وأبو نائلة واسمه سلكان بن سلامة بن وقش وكان أخا كعب بن الأشرف من الرضاعة والحارث بن أوس بن معاذ وأبو عبس بن جبر وأذن لهم صلى الله عليه وسلم أن يقولوا ما شاؤوا من كلام يخدعونه به وليس عليهم فيه جناح فذهبوا اليه واستنزلوه من أطمه ليلا وتقدموا إليه بكلام موهم التعريض برسول الله صلى الله عليه وسلم فاطمأن اليهم فلما استمكنوا منه قتلوه لعنه الله وجاؤوا في آخر الليل وكانت ليلة مقمرة فانتهوا الى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو قائم يصلي فلما انصرف دعا لهم وكان الحارث بن أوس قد جرح ببعض سيوف أصحابه فتفل عليه الصلاة والسلام على جرحه فبرأ من وقته ثم أصبح اليهود يتكلمون في قتله فأذن صلى الله عليه وسلم في قتل اليهود
____________________
(1/126)
& فصل & غزوة أحد
مشتمل على غزوة أحد مختصرة وهي وقعة امتحن الله عز وجل فيها عباده المؤمنين واختبرهم وميز فيها بين المؤمنين والمنافقين وذلك أن قريشا حين قتل الله سراتهم ببدر وأصيبوا بمصيبة لم تكن لهم في حساب ورأس فيهم أبو سفيان بن حرب لعدم وجود أكابرهم وجاء كما ذكرنا الى أطراف المدينة في غزوة السويق ولم ينل ما في نفسه شرع يجمع قريشا ويؤلب على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى المسلمين فجمع قريبا من ثلاثة آلاف من قريش والحلفاء والأحابيش وجاؤوا بنسائهم لئلا يفروا ثم أقبل بهم نحو المدينة فنزل قريبا من جبل احد بمكان يقال له عينين وذلك في شوال من السنة الثالثة
واستشار رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه بالخروج اليهم أم يمكث في المدينة فبادر جماعة من فضلاء الصحابة ممن فاته الخروج يوم بدر الى الاشارة بالخروج اليهم وألحو عليه صلى الله عليه وسلم في ذلك وأشار عبدالله بن أبي سلول بالمقام بالمدينة وتابعه
____________________
(1/127)
على ذلك بعض الصحابة فألح أولئلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم فنهض ودخل بيته ولبس لأمته وخرج عليهم وقد أنثنى عزم أولئك فقالوا يا رسول الله إن أحببت أن تمكث في المدينة فافعل فقال ما ينبغي لنبي إذا لبس لأمته أن يضعها حتى يقاتل وأتي عليه الصلاة والسلام برجل من بني النجار فصلى عليه وذلك يوم الجمعة واستخلف على المدينة ابن ام مكتوم
وخرج الى أحد في ألف فلما كان ببعض الطريق انخزل عبدالله بن أبي في نحو ثلاثمائة الى المدينة فاتبعهم عبدالله بن عمرو بن حرام والد جابر رضي الله عنهما يوبخهم ويحضهم على الرجوع فقالوا لو نعلم أنكم تقاتلون لم نرجع فلما أبوا عليه رجع عنهم وسبهم واستقل رسول الله صلى الله عليه وسلم بمن بقي معه حتى نزل شعب أحد في عدوة الوادي الى الجبل فجعل ظهره الى أحد ونهى الناس عن القتال حتى يأمرهم فلما أصبح تعبأ عليه الصلاة والسلام للقتال في أصحابه وكان فيهم خمسون فارسا واستعمل على الرماة وكانوا خمسين عبدالله بن جبير الاوسي وأمره وأصحابه أن لا يتغيروا من مكانهم وأن يحفظوا ظهور المسلمين أن يؤتوا من خلفهم
وظاهر صلى الله عليه وسلم بين درعين
وأعطى اللواء مصعب بن عمير أخا بني عبدالدار وجعل على إحدى
____________________
(1/128)
المجنبتين الزبير بن العوام وعلى المجنبة الأخرى المنذر بن عمرو المعنق ليموت واستعرض الشباب يومئذ فأجاز بعضهم ورد آخرين فكان ممن أجاز سمرة ابن جندب ورافع بن خديج ولهما خمس عشرة سنة
وكان ممن رد يومئذ أسامة بن زيد بن حارثة وأسيد بن ظهير والبراء بن عازب وزيد بن أرقم وزيد بن ثابت وعبدالله بن عمر وعرابة بن أوس وعمرو بن حزام ثم أجازهم يوم الخندق
وتعبأت قريش أيضا وهم في ثلاثة آلاف كما ذكرنا فيهم مائتا فارس فجعلوا على ميمنتهم خالد بن الوليد وعلى الميسرة عكرمة بن عمرو
وكان أول من بدر من المشركين أبو عامر الفاسق واسمه عبد عمرو بن صيفي وكان يسمى الراهب فسماه رسول الله صلى الله عليه وسلم الفاسق وكان رأس الأوس في الجاهلية وكان مترهبا فلما جاء الاسلام خذل فلم يدخل فيه وجاهر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعداوة فدعا عليه صلى الله عليه وسلم فخرج من المدينة وذهب الى قريش يؤلبهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه من الحنق ووعد المشركين أنه يستميل لهم
____________________
(1/129)
قومه من الأوس يوم اللقاء حتى يرجعوا إليه فلما أقبل في عبدان أهل مكة والأحابيش تعرف الى قومه فقالوا له لا أنعم الله لك عينا يا فاسق فقال لقد أصاب قومي بعدي شر ثم قاتل المسلمين قتالا شديدا
وكان شعار أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ أمت امت وابلى يومئذ أبو دجانة سماك بن خرشة وحمزة عم رسول الله صلى الله عليه وسلم وكذا علي بن أبي طالب وجماعة من الأنصار منهم النضر بن أنس وسعد بن الربيع رضي الله عنهم أجمعين وكانت الدولة أول النهار للمسلمين على الكفار فانهزموا راجعين حتى وصلوا الى نسائهم
فلما رأى ذلك أصحاب عبدالله بن جبير قالوا يا قوم الغنيمة فذكرهم عبدالله بن جبير تقديم رسول الله صلى الله عليه وسلم اليه في ذلك فظنوا أن ليس للمشركين رجعة وأنهم لا تقوم لهم قائمة بعد ذلك فذهبوا في طلب الغنيمة وكر الفرسان من المشركين فوجدوا تلك الفرجة قد خلت من الرماة فجازوها وتمكنوا وأقبل آخرهم فكان ما أراد الله تعالى كونه فاستشهد من أكرمهم الله بالشهادة من المؤمنين فقتل جماعة من أفاضل الصحابة وتولى أكثرهم
وخلص المشركون الى رسول الله صلى الله عليه وسلم فجرح في وجهه الكريم وكسرت رباعيته اليمنى السفلى بحجر وهمشت البيضة على رأسه المقدس ورشقه المشركون بالحجارة حتى وقع لشقه وسقط في حفرة من الحفر التي كان أبو عامر الفاسق حفرها يكيد بها المسلمين فأخذ علي بيده واحتضنه طلحة بن عبيد الله وكان الذي تولى أذى رسول الله صلى الله عليه وسلم عمرو بن قمئة وعتبة بن أبي وقاص وقيل إن عبدالله بن شهاب الزهري أبا جد محمد بن مسلم بن شهاب هو الذي شجه صلى الله عليه وسلم وقتل مصعب بن عمير رضي عنه بين يديه فدفع صلى الله عليه وسلم اللواء الى علي بن أبي طالب رضي الله عنه ونشبت حلقتان من حلق المغفر في وجهه صلى الله عليه وسلم فانتزعهما أبو عبيدة بن الجراح رضي الله عنه وعض عليهما حتى سقطت ثنيتاه فكان الهتم
____________________
(1/130)
يزينه وامتص مالك بن سنان والد أبي سعيد الخدري الدم من جرحه صلى الله عليه وسلم
وأدرك المشركون النبي صلى الله عليه وسلم فحال دونه نفر من المسلمين نحو من عشرة فقتلوا ثم جالدهم طلحة حتى أجهضهم عنه صلى الله عليه وسلم وترس ابودجانة سماك بن خرشة عليه صلى الله عليه وسلم بظهره والنبل يقع فيه وهو لا يتحرك رضي الله عنه ورمى سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه يومئذ رميا منكئا فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم ارم فداك أبي وأمي وأصيبت يومئذ عين قتادة بن النعمان الظفري فأتى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فردها عليه الصلاة والسلام بيده الكريمة فكانت اصح عينيه وأحسنهما
وصرخ الشيطان لعنه الله بأعلى صوته إن محمدا قد قتل ووقع ذلك في قلوب كثير من المسلمين وتولى أكثرهم وكان أمر الله
ومر أنس بن النضر بقوم من المسلمين قد ألقوا بأيديهم ما تنتظرون فقالوا قتل الرسول صلى الله عليه وسلم فقال ما تصنعون في الحياة بعده قوموا فموتوا على ما مات عليه ثم استقبل الناس ولقي سعد بن معاذ فقال يا سعد والله إني لاجد ريح الجنة من قبل أحد فقاتل حتى قتل رضي الله عنه ووجدت به سبعون ضربة
وجرح يومئذ عبدالرحمن بن عوف نحوا من عشرين جراحة بعضها في رجله فعرج منها حتى مات رضي الله عنه
وأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم نحو المسلمين فكان اول من عرفه تحت المغفر كعب بن
____________________
(1/131)
مالك رضي الله عنه فصاح بأعلى صوته يا معشر المسلمين أبشروا هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأشار إليه صلى الله عليه وسلم أن أسكت واجتمع إليه المسلمون ونهضوا معه الى الشعب الذي نزل فيه فيهم أبو بكر وعمر وعلي والحارث بن الصمة الأنصاري وغيرهم
فلما اسندوا في الجبل أدركه أبي بن خلف على جواد يقال له العود ثم زعم الخبيث أنه يقتل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما اقترب تناول رسول الله صلى الله عليه وسلم الحربة من الحارث بن الصمة فطعنه بها فجاءت في ترقوته ويكر عدو الله منهزما فقال له المشركون والله ما بك من بأس فقال والله لو كان ما بي بأهل ذي المجاز لماتوا أجمعون إنه قال إنه قاتلي ولم يزل به ذلك حتى مات بسرف مرجعه الى مكة لعنه الله
وجاء علي رضي الله عنه الى رسول الله صلى الله عليه وسلم بماء يغسل عنه الدم فوجده آجنا فرده وأراد صلى الله عليه وسلم أن يعلو صخرة هناك فلم يستطيع لما به صلى الله عليه وسلم ولأنه ظاهر يومئذ بين درعين فجلس طلحة تحت حتى صعد وحانت الصلاة فصلى
____________________
(1/132)
جالسا ثم مال المشركون الى رحالهم ثم استقبلوا طريق مكة منصرفين اليها وكان هذا كله يوم السبت
واستشهد يومئذ من المسلمين نحو السبعين منهم حمزة عم رسول الله صلى الله عليه وسلم قتله وحشي مولى بني نوفل وأعتق لذلك وقد أسلم بعد ذلك وكان أحد قتلة مسيلمة الكذاب لعنه الله وعبدالله بن جحش حليف بني أمية ومصعب بن عمير وعثمان بن عثمان وهو شماس بن عثمان المخزومي سمي بشماس لحسن وجهه فهؤلاء أربعة من المهاجرين والباقون من الأنصار رضي الله عنهم جميعهم فدفنهم في دمائهم وكلومهم ولم يصل عليهم يومئذ
وفر يومئذ من المسلمين جماعة من الأعيان منهم عثمان بن عفان رضي الله عنه وقد نص الله سبحانه على العفو عنهم فقال عز وجل ( إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان إنما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا ولقد عفا الله عنهم إن الله غفور حليم )
وقتل يومئذ من المشركين اثنان وعشرون
وقد ذكر سبحانه هذه الوقعة في سورة آل عمران حيث يقول ( وإذ غدوت من أهلك تبوئ المؤمنين مقاعد للقتال والله سميع عليم ) الآيات & فصل & غزوة حمراء الاسد
ولما أصبح يوم الأحد ندب رسول الله صلى الله عليه وسلم الى النهوض في طلب العدو
____________________
(1/133)
إرهابا لهم وهذه غزوة حمراء الأسد وأمر الا يخرج معه الا من حضر أحدا فلم يخرج الا من شهد أحدا سوى جابر بن عبدالله فإنه كان أبوه استخلفه في مهماته فقتل أبوه يوم أحد فاستأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخروج الى حمراء الأسد فأذن له فنهض المسلمون كما أمرهم صلى الله عليه وسلم وهم مثقلون بالجراح حتى بلغ حمراء الأسد وهي على ثمانية أميال من المدينة فذلك قوله تعالى ( الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح للذين أحسنوا منهم واتقوا أجر عظيم )
ومر معبد بن أبي معبد الخزاعي على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه فأجاره حتى بلغ أبا سفيان والمشركين بالروحاء فأخبرهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه قد خرجوا
____________________
(1/134)
في طلبهم ففت ذلك في أعضاد قريش وكانوا أرادوا الرجوع إلى المدينة فنهاهم عن ذلك واستمروا راجعين إلى مكة
وظفر عليه السلام بمعاوية بن المغيرة بن أبي العاص فأمر بضرب عنقه صبرا وهو والد عائشة أم عبد الملك بن مروان فلم يقتل فيها سواه & فصل & بعث الرجيع
ثم بعث صلى الله عليه وسلم بعد أحد بعث الرجيع وذلك في صفر من السنة الرابعة وذلك أنه صلى الله عليه وسلم بعث إلى عضل والقارة بسؤالهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك حين قدموا عليه وذكروا أن فيهم إسلاما فبعث ستة نفر في قول ابن إسحاق وقال البخاري في صحيحه كانوا عشرة وقال أبو القاسم السهيلي وهذا هو الصحيح وأمر
____________________
(1/135)
عليهم مرثد بن أبي مرثد الغنوي رضي الله عنهم ومنهم خبيب بن عدي فذهبوا معه فلما كانوا بالرجيع وهو ماء لهذيل بناحية الحجاز بالهدأة غدروا بهم واستصرخوا عليهم هذيلا فجاؤوا فأحاطوا بهم فقتلوا عامتهم واستأسر منهم خبيب بن عدي ورجل آخر وهو زيد بن الدثنة فذهبوا بهما فباعوهما بمكة وذلك بسبب ما كانا قتلا من كفار قريش من يوم بدر فأما خبيب رضي الله عنه فمكث عندهم مسجونا ثم أجمعوا لقتله فخرجوا به إلى التنعيم ليصلبوه فاستأذنهم أن يصلي ركعتين فأذنوا له فصلاهما ثم قال والله لولا أن تقولوا أن ما بي جزع لزدت ثم قال % ولست أبالي حين أقتل مسلما % على أي جنب كان لله مصرعي % وذلك من ذات الإله وإن يشأ % يبارك على أوصال شلو ممزع %
ثم وكلوا به من يحرسه فجاء عمرو بن أمية فاحتمله بخدعة ليلا فذهب به فدفنه
وأما زيد بن الدثنة رضي الله عنه فابتاعه صفوان بن أمية فقتله بأبيه
وقد قال له ابوسفيان أيسرك أن محمدا عندنا تضرب عنقه وأنك في أهلك فقال والله ما يسرني أني في أهلي وأن محمدا في مكانه الذي هو فيه تصيبه شوكة تؤذيه
____________________
(1/136)
& فصل & بعث بئر معونة
وفي صفر هذا بعث الى بئر معونة أيضا وذلك أن أبا براء عامر بن مالك المدعو ملاعب الأسنة قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة فدعاه الى الإسلام فلم يسلم ولم يبعد فقال يا رسول الله لو بعثت أصحابك الى أهل نجد يدعونهم الى دينك لرجوت أن يجيبوهم فقال إني أخاف عليهم أهل نجد فقال أبو براء أنا جارلهم
فبعث صلى الله عليه وسلم فيما قاله ابن اسحاق أربعين رجلا من الصحابة وفي الصحيحين سبعين رجلا وهذا هو الصحيح وأمر عليهم المنذر بن عمر وأحد بني ساعدة ولقبه المعنق ليموت رضي الله عنهم أجمعين وكانوا من فضلاء المسلمين وساداتهم وقرائهم فنهضوا فنزلوا بئر معونة وهي بين أرض بني عامر وجرة بني سليم ثم بعثوا منها حرام بن ملحان أخا أم سليم بكتاب رسول الله
____________________
(1/137)
صلى الله عليه وسلم الى عدو الله عامر بن الطفيل فلم ينظر فيه وامر به فقتله رجل ضربه بحربة فلما خرج الدم قال فزت ورب الكعبة
واستنفر عدو الله عامر بني عامر الى قتال الباقين فلم يجيبوه لأجل جوار ابي براء فاستنفر بني سليم فأجابته عصية ورعل وذكوان فأحاطوا بأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقاتلوا حتى قتلوا عن آخرهم رضي الله عنهم إلا كعب بن زيد من بني النجار فإنه ارتث من بين القتلى فعاش حتى قتل يوم الخندق
وكان عمرو بن أمية الضمري والمنذر بن محمد بن عقبة بسرح المسلمين فرأيا الطير تحوم على موضع الوقعة فنزل بن محمد هذا فقاتل المشركين حتى قتل مع أصحابه وأسر عمرو بن أمية فلما أخبر أنه من مضر جز عامر ناصيته وأعتقه فيما زعم عن رقبة كانت على أمه
ورجع عمرو بن أمية فلما كان بالقرقرة من صدر قناة نزل في ظل ويجيء رجلان من بني كلاب وقيل من بني سليم فنزلا معه فيه فلما ناما فتك بهما عمرو وهو يرى أنه قد أصاب ثأرا من أصحابه وإذا معهما عهد من رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يشعر به فلما قدم أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بما فعل قال لقد قتلت قتيلين لأدينهما وكان هذا سبب غزوة بني النضير كما ورد هذا في الصحيح
____________________
(1/138)
& فصل & غزوة بني النضير
ونهض رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفسه الكريمة الى بني النضير ليستعين على دية ذينك القتيلين لما بينه وبينهم من الحلف فقالوا نعم وجلس صلى الله عليه وسلم هو وأبو بكر وعمر وعلي وطائفة من أصحابه رضي الله عنهم تحت جدار لهم فاجتمعوا فيما بينهم وقالوا من رجل يلقي بهذه الرحا على محمد فيقتله فانتدب لذلك عمرو بن جحاش لعنه الله وأعلم الله رسوله بما هموا به فنهض صلى الله عليه وسلم من وقته من بين أصحابه فلم يتناه دون المدينة وجاء من أخبر أنه رآه صلى الله عليه وسلم داخلا في حيطان المدينة فقام أبو بكر ومن معه فاتبعوه فأخبرهم بما أعلمه الله من أمر يهود فندب الناس الى قتالهم فخرج واستعمل على المدينة ابن ام مكتوم وذلك في ربيع الأول فحاصرهم ست ليال منه وحينئذ حرمت الخمر كذا ذكره ابن حزم ولم أره لغيره
ودس عبدالله بن ابي بن سلول وأصحابه من المنافقين الى بني النضير أنا معكم نقاتل معكم وإن أخرجتم خرجنا معكم
فاغتر أولئك بهذا فتحصنوا في أطمهم فأمر صلى الله عليه وسلم بقطع نخيلهم وإحراقها فسألوا رسول الله أن يجليهم ويحقن دماءهم على أن لهم ما حملت إبلهم غير السلام فأجابهم الى ذلك فتحمل أكابرهم كحيي بن أخطب وسلام بن أبي الحقيق بإبلهم وأموالهم الى خيبر فدانت لهم وذهبت طائفة منهم الى الشام
ولم يسلم منهم الا رجلان وهما أبوسعد بن وهب ويامين بن عمير بن كعب وكان قد جعل لمن قتل ابن عمه عمرو بن جحاش جعلا لما كان قد هم به
____________________
(1/139)
من الفتك برسول الله صلى الله عليه وسلم فأحرزا أموالهما وقسم رسول الله صلى الله عليه وسلم أموال الباقين بين المهاجرين الأولين خاصة إلا أنه أعطى أبا دجانة وسهل بن حنيف الأنصاريين لفقرهما وقد كانت أموالهم مما أفاء الله على رسوله فلم يوجف المسلمون بخيل ولا ركاب وفي هذه الغزوة أنزل الله سبحانه سورة الحشر وقد كان عبدالله ابن عباس رضي الله عنهما يسميها سورة بني النضير & فصل & غزوة ذات الرقاع
وقنت رسول الله صلى الله عليه وسلم شهرا يدعو على الذين قتلوا القراء أصحاب بئر معونة ثم غزا صلى الله عليه وسلم غزوة ذات الرقاع وهي ( غزوة نجد ) فخرج في جمادى الأولى من هذه السنة الرابعة يريد محارب وبني ثعلبة بن سعد بن غطفان واستعمل على المدينة أبا ذر الغفاري فسار حتى بلغ نخلا فلقي جمعا من غطفان فتواقفوا
____________________
(1/140)
ولم يكن بينهم قتال إلا أنه صلى يومئذ صلاة الخوف فيما ذكره ابن اسحاق وغيره من اهل السير وقد استشكل لأنه قد جاء في رواية الشافعي وأحمد والنسائي عن أبي سعيد أن النبي صلى الله عليه وسلم حبسه المشركون يوم الخندق عن الظهر والعصر والمغرب والعشاء فصلاهن جميعا وذلك قبل نزول صلاة الخوف قالوا وإنما نزلت صلاة الخوف بعسفان كما رواه ابو عياش الزرقي قال كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم بعسفان فصلى بنا الظهر وعلى المشركين يومئذ خالد بن الوليد فقالوا لقد أصبنا غفلة ثم قالوا إن لهم صلاة بعد هذه هي أحب إليهم من أموالهم وأبنائهم فنزلت يعني صلاة الخوف بين الظهر والعصر فصلى بنا العصر ففرقنا فرقتين وذكر الحديث أخرجه الامام أحمد وأبوداود والنسائي
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم نازلا بين ضجنان وعسفان محاصرا المشركين فقال المشركون إن لهؤلاء صلاة هي أحب إليهم من أبناءهم وأبكارهم أجمعوا أمركم ثم ميلوا عليهم ميلة واحدة فجاء جبريل عليه السلام فأمره أن يقسم أصحابه نصفين وذكر الحديث رواه النسائي والترمذي وقال حسن صحيح
____________________
(1/141)
وقد علم بلا خلاف أن غزوة عسفان كانت بعد الخندق فاقتضى هذا أن ذات الرقاع بعدها بل بعد خيبر ويؤيد ذلك أن أبا موسى الأشعري وأبا هريرة رضي الله عنهما شهداها أما أبو موسى الاشعري ففي الصحيحين عنه أنه شهد غزوة ذات الرقاع وأنهم كانوا يلفون على أرجلهم الخرق لما نقبت فسميت بذلك وأما أبوهريرة فعن مروان بن الحكم انه سأل أبا هريرة هل صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الخوف قال نعم قال متى قال عام غزة نجد وذكر صفة من صفات صلاة الخوف أخرجه الإمام أحمد وأبوداود والنسائي
وقد قال بعض أهل التاريخ إن غزوة ذات الرقاع أكثر من مرة واحدة كانت قبل الخندق وأخرى بعدها قلت إلا أنه لا يتجه أنه صلى في الأول صلاة الخوف إن صح حديث أنها إنما فرضت في عسفان
وقد ذكروا أنه كانت من الحوادث في هذه الغزوة قصة جمل جابر وبيعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي ذلك نظر لأنه جاء أن ذلك كان في غزوة تبوك إلا أن
____________________
(1/142)
هذا أنسب لما أنه كان قد قتل أبوه في أحد وترك الاخوات فاحتاج أن يتزوج سريعا من يكفلهن له ومنها حديث جابر أيضا في الرجل الذي سبوا أمراته فحلف ليهريقن دما في اصحاب محمد صلى الله عليه وسلم فجاء ليلا وقد أرصده رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلين ربيئة للمسلمين من العدو وهما عباد بن بشر وعمار بن ياسر رضي الله عنهما فضرب عبادا بن بشر بسهم وهو قائم يصلي فنزعه ولم يبطل صلاته حتى رشقه بثلاثة اسهم فلم ينصرف منها حتى سلم وانبه صاحبه فقال سبحان الله هلا أنبهتني فقال إني كنت في سورة فكرهت أن اقطعها
ومنها حديث غورت بن الحارث الذي هم برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو قائل تحت الشجرة فاستل سيفه وأراد ضربه فصده الله عنه وحبست يده واستيقظ رسول الله صلى الله عليه وسلم من نومه فدعا اصحابه فاجتمعوا اليه فأخبرهم عنه وبما هم به غورث من قتله ومع هذا كله أطلقه وعفا عنه صلى الله عليه وسلم وهذا كان في غزوة ذات الرقاع ألا أنها التي بعد الخندق كما أخرجاه في الصحيحين عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال أقبلنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا كنا بذات الرقاع قال
____________________
(1/143)
كنا إذا أتينا على شجرة ظليلة تركناها لرسول الله صلى الله عليه وسلم قال فجاء رجل من المشركين وسيف رسول الله صلى الله عليه وسلم معلق بالشجرة فأخذ السيف فاخترطه فقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم أتخافني قال لا قال فمن يمنعك مني قال الله قال فتهدده أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فأغمد السيف وعلقه قال فنودي بالصلاة فصلى بطائفة ركعتين ثم تأخروا وصلى بالطائفة الأخرى ركعتين وكانت لرسول الله أربع ركعات وللقوم ركعتان واللفظ لمسلم & فصل & غزوة بدر الصغرى وقد كان أبو سفيان يوم أحد عند منصرفه نادى موعدكم وإيانا بدر العام المقبل فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بعض أصحابه أن يجيب بنعم فلما كان شعبان في هذه السنة نهض رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أتى بدرا للموعد واستخلف على المدينة عبد الله ابن عبد الله بن أبي فأقام هناك ثماني ليال ثم رجع ولم يلق كيدا وذلك أن أبا سفيان خرج بقريش فلما كان ببعض الطريق بدا لهم الرجوع لأجل جدب سنتهم فرجعوا وهذه الغزوة تسمى بدرا الثالثة وبدر الموعد & فصل & غزوة دومة الجندل
وخرج صلى الله عليه وسلم الى دومه الجندل في ربيع الأول من سنة خمس ثم رجع في أثناء الطريق ولم يلق حربا وكان استعمل على المدينة سباع بن عرفطة
____________________
(1/144)
& فصل & غزوة الخندق
يشتمل على ملخص غزوة الخندق التي ابتلى الله فيها عباده المؤمنين وزلزهم وثبت الإيمان في قلوب اوليائه وأظهر ما كان يبطنه أهل النفاق وفضحهم وقرعهم ثم أنزل نصره ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده وأعز جنده ورد الكفرة بغيظهم ووقى المؤمنين شر كيدهم وذلك بفضله ومنه عليهم شرعا وقدرا أن لا يغزوا المؤمنين بعدها بل جعلهم المغلوبين وجعل حزبه هم الغالبين والحمد لله رب العالمين
وكانت في سنة خمس في شوالها على الصحيح من قولي أهل المغازي والسير والدليل على ذلك أنه لا خلاف أن أحدا كانت في شوال من سنة ثلاث وقد تقدم ما ذكره أهل العلم بالمغازي أن أبا سفيان واعدهم العام المقبل بدرا وأنه صلى الله عليه وسلم خرج اليهم فأخلفوه لأجل جدب تلك السنة في بلادهم فتأخروا لهذا العام
وقال أبو محمد بن حزم الأندلسي في مغازيه هذا قول أهل المغازي ثم قال والصحيح الذي لا شك فيه أنها في سنة أربع وهو قول موسى بن عقبة ثم احتج ابن حزم بحديث ابن عمر عرضت على النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد وأنا ابن أربع عشرة
____________________
(1/145)
فلم يجزني وعرضت عليه يوم الخندق وأنا ابن خمس عشرة فأجازني فصح أنه لم يكن بينهما إلا سنة واحدة فقط
قلت هذا الحديث مخرج في الصحيحين وليس يدل على ما ادعاه لأن مناط إجازة الحرب كان عنده صلى الله عليه وسلم خمس عشرة سنة فكان لا يجيز من لم يبلغها ومن بلغوا أجازة فلما كان ابن عمر يوم أحد ممن لم يبلغها لم يجزه ولما كان قد بلغها يوم الخندق أجازه وليس ينفي هذا أن بلوغه قد زاد عليها بسنة أو سنتين أو ثلاثا أو أكثر من ذلك فكأنه قال وعرضت عليه يوم الخندق وأنا بالغ او من أبناء الحرب وقد قيل إنه كان يوم أحد في أول الرابعة عشرة من عمره وفي يوم الخندق في آخره الخامسة عشرة وفي هذا نظر والأول أقوى في النظر لمن أمعن وأنصف والله أعلم وكان سبب غزوة الخندق أن نفرا من يهود بني النضير الذين أجلاهم صلى الله عليه وسلم من المدينة الى خيبر كما قدمنا وهم أشرافهم كسلام بن أبي الحقيق وسلام بن مشكم وكنانة بن الربيع وغيرهم خرجوا الى قريش بمكة فألبوهم على حرب
____________________
(1/146)
رسول الله صلى الله عليه وسلم ووعدوهم من أنفسهم النصر فأجابوهم ثم خرجوا الى غطفان فدعوهم فأجابوهم أيضا وخرجت قريش وقائدهم أبوسفيان بن حرب وعلى غطفان عيينة بن حصن كلهم في نحو عشرة آلاف رجل فلما سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بمسيرهم اليه امر المسلمين بحفر خندق يحول بين المشركين وبين المدينة وكان ذلك إشارة سلمان الفارسي رضي الله عنه فعمل المسلمون فيه مبادرين هجوم الكفار عليهم وكانت في حفره آيات مفصلة يطول شرحها وأعلام نبوة قد تواتر خبرها فلما كمل قدم المشركون فنزلوا حول المدينة كما قال تعالى ( إذ جاءوكم من فوقكم ومن أسفل منكم )
وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فتحصن بالخندق وهو في ثلاثة آلاف على الصحيح من أهل المدينة وزعم ابن إسحاق أنه انما كان في سبعمائة وهذا غلط من غزوة أحد والله تعالى أعلم فجعلوا ظهورهم الى سلع وأمر صلى الله عليه وسلم بالنساء والذراري فجعلوا في آطام المدينة واستخلف عليها ابن أم مكتوم رضي الله عنه
وانطلق حيي بن أخطب النضري الى بنى قريظة فاجتمع بكعب بن أسد رئيسهم فلم يزل به حتى نقض العهد الذي كان بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم ووافق كعب المشركين على حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم فسروا بذلك
وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم السعدين ابن معاذ وابن عبادة وخوات بن جبير وعبدالله بن رواحة ليعرفوا هل نقض بنو قريظة العهد أولا فلما قربوا منهم
____________________
(1/147)
وجدوهم مجاهرين بالعداوة والغدر فتسابوا وقال اليهود عليهم لعائن الله في رسول الله صلى الله عليه وسلم فسبهم سعد بن معاذ وانصرفوا عنهم وقد أمرهم صلى الله عليه وسلم إن كانوا نقضوا أن لا يفتوا بذلك في أعضاد المسلمين لئلا يورث وهنا وأن يلحنوا إليه لحنا أي لغزا فلما قدموا عليه قال ما وراءكم قالوا عضل والقارة يعنون غدرهم بأصحاب الرجيع فعظم ذلك على المسلمين واشتد الأمر وعظم الخطر وكانوا كما قال الله تعالى ( هنالك ابتلي المؤمنون وزلزلوا زلزالا شديدا )
ونجم النفاق وكثر واستأذن بعض بني حارثة رسول الله صلى الله عليه وسلم في الذهاب الى المدينة لأجل بيوتهم قالوا إنها عورة وليس بينها وبين العدو حائل وهم بنو سلمة بالفشل ثم ثبت الله كلتا الطائفتين
وثبت المشركون محاصرين رسول الله صلى الله عليه وسلم شهرا ولم يكن بينهم قتال لأجل ما حال الله به من الخندق بينه وبينهم إلا أن فوارس من قريش منهم عمرو بن عبد
____________________
(1/148)
ود العامري وجماعة معه أقبلوا نحو الخندق فلما وقفوا عليه قالوا إن هذه لمكيدة ما كانت العرب تعرفها ثم يمموا مكانا ضيقا من الخندق فاقتحموه وجازوه وجالت بهم خليهم في السبخة بين الخندق وسلع ودعوا للبراز فانتدب لعمرو بن عبد ود علي بن أبي طالب رضي الله عنه فبارزه فقتله الله على يديه وكان عمرو لا يجارى في الجاهلية شجاعة وكان شيخا قد جاوز المائة يومئذ وأما الباقون فينطلقون راجعين الى قومهم من حيث جاؤوا وكان هذا أول ما فتح الله به من خذلانهم وكان شعار المسلمين تلك الغزوة ( حم لا ينصرون )
ولما طال هذا الحال على المسلمين أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يصالح عيينة بن حصن والحارث بن عوف رئيسي غطفان على ثلث ثمار المدينة وينصرفا بقومهما وجرت المراوضة على ذلك ولم يتم الأمر حتى استشار صلى الله عليه وسلم السعدين في ذلك فقالا يا رسول الله إن كان الله أمرك بهذا فسمعا وطاعة وإن كان شيئا تصنعه لنا فلقد كنا نحن وهؤلاء القوم على الشرك بالله وعبادة الأوثان وهم لا يطعمون أن يأكلوا منها ثمرة إلا قرى أو بيعا فحين أكرمنا الله بالاسلام وهدانا له وأعزنا بك وبه نعطيهم أموالنا والله لا نعطيهم الا السيف فقال صلى الله عليه وسلم إنما هو شئ أصنعه لكم وصوب رأيهما في ذلك رضي الله عنهما ولم يفعل من ذلك شيئا
ثم إن الله سبحانه وله الحمد صنع أمرا من عنده خذل به بينهم وفل جموعهم وذلك أن نعيم بن مسعود بن عامر الغطفاني رضي الله عنه جاء الى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال يا رسول الله إني قد أسلمت فمرني بما شئت فقال صلى الله عليه وسلم إنما أنت رجل واحد فخذل عنا إن استطعت فإن الحرب خدعة فذهب من حينه ذلك الى بني قريظة وكان عشيرا لهم في الجاهلية فدخل عليهم وهم لا يعلمون بإسلامه فقال
____________________
(1/149)
يا بني قريظة إنكم قد حاربتم محمدا وإن قريشا إن أصابوا فرصة انتهزوها وإلا شمروا إلى بلادهم وتركوكم ومحمدا فانتقم منكم قالوا فما العمل يا نعيم قال لا تقاتلوا معهم حتى يعطوكم رهائن قالوا لقد أشرت بالرأي
ثم نهض إلى قريش فقال لأبي سفيان أو لهم تعلمون ودي ونصحي لكم قالوا نعم قال إن يهود ندموا على ما كان منهم من نقض عهد محمد وأصحابه وإنهم قد راسلوه أنهم يأخذون منكم رهائن يدفعونها إليه ثم يمالئونه عليكم ثم ذهب الى قومه غطفان فقال لهم مثل ذلك
فلما كان ليلة السبت في شوال بعثوا الى يهود إنا لسنا بأرض مقام فانهضوا بنا غدا نناجز هذا الرجل فأرسل اليهم اليهود إن اليوم يوم السبت ومع هذا فإنا لا نقاتل معكم حتى تبعثوا الينا رهنا فلما جاءهم الرسل بذلك قالت قريش صدقنا والله نعيم بن مسعود وبعثوا الى يهود إنا والله لا نرسل لكم أحدا فاخرجوا معنا فقالت قريظة صدق والله نعيم وأبوا أن يقاتلوا معهم
وأرسل الله عزوجل على قريش ومن معهم الخور والريح تزلزلهم فجعلوا لا يقر لهم قرار ولا تثبت لهم خيمة ولا طنب ولا قدر ولا شيء فلما رأوا ذلك ترحلوا من ليلتهم تلك وأرسل صلى الله عليه وسلم حذيفة بن اليمان يخبر له خبرهم فوجدهم كما وصفنا ورأى أبا سفيان يصلي ظهره بنار ولو شاء حذيفة لقتله ثم رجع الى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلا فأخبره برحيلهم
____________________
(1/150)
فلما أصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم غدا الى المدينة وقد وضع الناس السلاح فجاء جبريل عليه السلام الى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يغتسل في بيت أم سلمة فقال أوضعتم السلاح أما نحن فلم نضع أسلحتنا انهد الى هؤلاء يعني بني قريظة & فصل & غزوة بني قريظة
نذكر فيه غزوة بني قريظة فنهض صلى الله عليه وسلم من وقته اليهم وامر المسلمين أن
____________________
(1/151)
لا يصلي أحد صلاة العصر وقد كان دخل وقتها إلا في بني قريظة فراح المسلمون أرسالا وكان منهم من صلى العصر في الطريق وقالوا لم يرد رسول الله صلى الله عليه وسلم ترك الصلاة إنما أراد تعجيل السير وكان منهم من لم يصل حتى غربت الشمس ووصل الى بني قريظة ولم يعنف صلى الله عليه وسلم واحدا من الفريقين
قال ابن حزم وهؤلاء هم المصيبون وأولئك مخطئون مأجورون وعلم الله لو كنا هناك لم نصل العصر إلا في بني قريظة ولو بعد أيام
قلت أما ابن حزم فإنه معذور لأنه من كبار الظاهرية ولا يمكنه العدول عن هذا النص ولكن في ترجيح أحد هذين الفعيلين على الآخر نظر وذلك أنه صلى الله عليه وسلم لم يعنف أحدا من الفريقين فمن يقول بتصويب كل مجتهد فكل منهما مصيب ولا ترجيح ومن يقول بأن المصيب واحد وهو الحق الذي لا شك فيه ولا مرية لدلائل من الكتاب والسنة كثيرة فلا بد على قوله من أن أحد الفريقين له أجران بإصابة الحق وللفريق الآخر أجر فنقول وبالله التوفيق الذين صلوا العصر في وقتها حازوا قصب السبق لأنهم امتثلوا أمره صلى الله عليه وسلم في المبادرة الى الجهاد وفعل الصلاة في وقتها ولا سيما صلاة العصر التي اكد الله سبحانه المحافظة عليها في كتابه بقوله تعالى ( حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى ) وهي العصر على الصحيح المقطوع به إن شاء الله من بضعة عشر قولا والتي جاءت السنة بالمحافظة عليها فإن قبل كان تأخير الصلاة للجهاد حينئذ جائزا كما أنه صلى الله عليه وسلم أخر العصر والمغرب يوم الخندق واشتغل بالجهاد والظهر أيضا كما جاء في
____________________
(1/152)
حديث رواه النسائي من طريقين فالجواب انه بتقدير تسليم هذا وأنه لم يتركها يومئذ نسيانا فقد تأسف على ذلك حيث يقول لما قال له عمر بن الخطاب رضي الله عنه يا رسول الله ما كدت أصلي العصر حتى كادت الشمس تغرب فقال والله ما صليتها وهذا يشعر بأنه صلى الله عليه وسلم كان ناسيا لها لما هو فيه من الشغل كما جاء في الصحيحين عن علي رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الأحزاب شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر ملأ الله قبورهم وبيوتهم نارا
والحاصل أن الذين صلوا العصر في الطريق جمعوا بين الأدلة وفهموا المعنى فلهم الأجر مرتين والآخرين حافظوا على أمره الخاص فلهم الأجر رضي الله عنهم جميعهم وأرضاهم
وأعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم الراية علي بن ابي طالب رضي الله عنه واستخلف على المدينة ابن ام مكتوم ونازل حصون بني قريظة وحصرهم خمسا وعشرين ليلة وعرض عليهم سيدهم كعب بن أسد ثلاث خصال إما أن يسلموا ويدخلوا مع محمد في دينه وأما أن يقتلوا ذراريهم ويخرجوا جرائد فيقاتلوا حتى يقتلوا عن آخرهم أو يخلصوا فيصيبوا بعد الأولاد والنساء وأما ان يهجموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه يوم سبت حين يأمن المسلمون شرهم فأبوا عليه واحدة منهن وكان قد دخل معهم في الحصن حيي بن أخطب حين انصرفت قريش لأنه كان أعطاهم عهدا بذلك حتى نقضوا العهد وجعلوا يسبون رسول الله صلى الله عليه وسلم ويسمعون أصحابه
____________________
(1/153)
ذلك فأراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يخاطبهم فقال له علي رضي الله عنه لا تقرب منهم يا رسول الله خشية أن يسمع منهم شيئا فقال لو قد رأوني لم يقولوا شيئا فلما رأوه لم يستطع منهم أحد أن يتكلم بشئ
ثم بعث صلى الله عليه وسلم أبا لبابة بن عبد المنذر الأوسي وكانوا حلفاء الأوس فلما رأوه قاموا في وجهه يبكون رجالهم ونساؤهم وقالوا يا أبا لبابة كيف ترى لنا أننزل على حكم محمد قال نعم فأشار بيده الى حلقه يعني أنه الذبح ثم ندم على هذه الكلمة من وقته فقام مسرعا فلم يرجع الى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى جاء مسجد المدينة فربط نفسه بسارية المسجد وحلف لا يحله إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده وأنه لا يدخل أرض بني قريظة أبدا فلما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك قال دعوه حتى يتوب الله عليه وكان من أمره ما كان حتى تاب الله عليه رضي الله عنه
ثم إن بني قريظة نزلوا على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلم ليلتئذ ثعلبة وأسيد ابنا سعية وأسد بن عبيد وهم نفر من بني هدل من بني عم قريظة والنضير وخرج في تلك الليلة عمرو بن سعدي القرظي فانطلق فلم يعلم أين ذهب وكان قد أبى الدخول معهم في نقض العهد
ولما نزلوا على حكمه صلى الله عليه وسلم قالت الأوس يا رسول الله قد فعلت في بني قينقاع ما قد علمت وهم حلف إخوتنا الخزرج وهؤلاء موالينا فقال ألا ترضون أن يحكم فيهم رجل منكم قالوا بلى قال فذاك الى سعد بن معاذ وكان سعد إذ ذاك قد أصابه جرح في أكحله وقد ضرب له رسول الله صلى الله عليه وسلم خيمة في المسجد ليعوده من قريب فبعث إليه صلى الله عليه وسلم فجئ به وقد وطأوا على حمار وإخوته من الأوس حوله محيطون به وهم يقولون يا أبا عمرو أحسن في
____________________
(1/154)
مواليك فلما أكثروا عليه قال قد آن لسعد أن لا تأخذه في الله لومة لائم فرجع رجال من قومه الى بني عبد الأشهل فنعوا إليهم بني قريظة فلما دنا من رسول الله صلى الله عليه وسلم قال قوموا إلى سيدكم فقام إليه المسلمون فقالوا يا سعد قد ولاك رسول الله صلى الله عليه وسلم الحكم في بني قريظة فقال عليكم بذلك عهد الله وميثاقه أن الحكم فيهم كما حكمت قالوا نعم قال وعلى من ها هنا وأشار الى الناحية التي فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو معرض عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إجلالا له فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم نعم فقال سعد إني أحكم فيهم أن يقتل مقاتلتهم وتسبى ذراريهم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبعة أرقعة فأمر رسول الله أن يقتل من أنبت منهم ومن لم يكن أنبت ترك فضرب أعناقهم في خنادق حفرت في سوق المدينة اليوم وكانوا ما بين الستمائة إلى السبعمائة وقيل ما بين السبعمائة الى الثمانمائة ولم يقتل من النساء أحد سوى امرأة واحدة وهي بنانة امرأة الحكم القرظي لأنها كانت طرحت على رأس خلاد بن سويد رحى فقتله لعنها الله وقسم أموال بني قريظة على المسلمين للراجل سهم وللفارس ثلاثة أسهم وكان في المسلمين يومئذ ستة وثلاثون فارسا
____________________
(1/155)
ولما فرغ منهم استجاب الله دعوة العبد الصالح سعد بن معاذ وذلك أنه لما أصابه الجرح قال اللهم إن كنت أبقيت من حرب قريش شيئا فأبقني لها وإن كنت رفعت الحرب بيننا وبينهم فافجرها ولا تمتني حتى تشفيني من بني قريظة وكان صلى الله عليه وسلم قد حسم جرحه فانفجر عليه فمات منه رضي الله عنه وشيعه رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون وهو الذي اهتز له عرش الرحمن فرحا بقدوم روحه رضي الله عنه وأرضاه وقد استشهد يوم الخندق ويوم قريظة نحو العشرة رضي الله عنهم آمين & فصل & بعث عبدالله بن عتيك الى قتل أبي رافع سلام بن أبي الحقيق
ولما قتل الله وله الحمد كعب بن الأشراف على يد رجال من الأوس كما قدمنا ذكره بعد وقعة بدر وكان أبو رافع سلام بن أبي الحقيق ممن ألب الاحزاب على رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يقتل مع بني قريظة كما قتل صاحبه حيي بن أخطب رغبت الخزرج في قتله طلبا لمساواة الأوس في الأجر وكان الله سبحانه قد جعل هذين الحيين يتصاولان بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخيرات فاستأذنوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في قتله فأذن لهم فاشتد له رجال كلهم من بني سلمة وهم عبدالله بن عتيك وهو أمير القوم بأمره صلى الله عليه وسلم وعبدالله بن أنيس وأبو قتادة الحارث بن ربعي ومسعود ابن سنان وخزاعي بن أسود حليف لهم فنهضوا حتى أتوه في خيبر في دار جامعة فنزلوا عليه ليلا فقتلوه ورجعوا الى رسول الله صلى الله عليه وسلم كلهم ادعى قتله فقال أروني أسيافكم فلما اروه قال لسيف عبدالله بن أنيس هذا قتله إذ رأى فيه اثر الطعام وكان عبدالله بن أنيس قد أتكأ عليه بالسيف حتى سمع صوت عظم ظهره وعدو الله يقول قطني قطني يقول حسبي
____________________
(1/156)
& فصل & غزوة بني لحيان
ثم خرج صلى الله عليه وسلم بعد قريظة بستة أشهر وذلك في جمادى الاولى من السنة السادسة على الصحيح قاصدا بني لحيان ليأخذ ثأر أصحاب الرجيع المتقدم ذكرهم فسار حتى نزل بلادهم في واد يقال له غران وهو بين أمج وعسفان فوجدهم قد تحصنوا في رؤوس الجبال فتركهم وركب في مائتي فارس حتى نزل عسفان وبعث فارسين حتى نزلا كراع الغميم ثم كرا راجعين ثم قفل صلى الله عليه وسلم الى المدينة & فصل & غزوة ذي قرد
ثم أغار بعد قدومه المدينة بليال عيينة بن حصن في بني عبدالله بن غطفان على لقاح النبي صلى الله عليه وسلم التي بالغابة فاستاقها وقتل راعيها وهو رجل من غفار
____________________
(1/157)
وأخذوا امرأته فكان أول من نذربهم سلمة بن عمروا بن الأكوع الأسلمي رضي الله عنه ثم انبعث في طلبهم ماشيا وكان لا يسبق فجعل يرميهم بالنيل ويقول خذها انا ابن الأكوع واليوم يوم الرضع يعني اللئام واسترجع عامة ما كان في أيديهم
ولما وقع الصريخ في المدينة خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في جماعة من الفرسان فلحقوا سملة بن الأكوع واسترجع اللقاح وبلغ النبي صلى الله عليه وسلم ما يقال ذو قرد فنحر لقحة مما استرجع وأقام هناك يوما وليلة ورجع الى المدينة
وقتل في هذه الغزوة الأخرم وهو محرز بن نضلة رضي الله عنه قتله عبد الرحمن بن عيينة وتحول على فرسه فحمل على عبد الرحمن أبو قتادة فقتله واسترجع القرس وكانت لمحمود بن مسلمة وأقبلت المرأة المأسورة على ناقة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وقد نذرت إن الله أنجاها عليها لتنحرنها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم بئس ما جزيتها لانذر لابن آدم فيما لا يملك ولا في معصية وأخذ
____________________
(1/158)
ناقته وقد روى مسلم في صحيحه عن سلمة بن الأكوع في هذه القصة قال فرجعنا الى المدينة فلم نلبث إلا ثلاث ليال حتى خرجنا الى خيبر ولعل هذا هو الصحيح والله تعالى اعلم & فصل & غزوة بني المصطلق
وغزا بني المصطلق من خزاعة في شعبان من السنة السادسة وقيل كانت في شعبان سنة خمس والأول أصح وهو قول ابن إسحاق وغيره
واستعمل على المدينة أبا ذر وقيل نميلة بن عبدالله الليثي فأغار عليهم وهم غارون على ماء لهم يسمى المريسيع وهو من ناحية قديد الى الساحل فقتل من قتل منهم وسبى النساء والذرية وكان شعار المسلمين يومئذ أمت أمت
وكان من السبي جويرية بنت الحارث بن أبي ضرار ملك بني المصطلق وقعت في سهم ثابت بن قيس بن شماس فكاتبها فأدى عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم وتزوجها فصارت أم المؤمنين فأعتق المسلمون بسبب ذلك مائة بيت من بني المصطلق قد أسلموا
____________________
(1/159)
وفي مرجعه صلى الله عليه وسلم قال الخبيث عبدالله بن أبي سلول لئن رجعنا الى المدينة ليخرجن الاعز منها الأذل يعرض برسول الله صلى الله عليه وسلم فبلغها زيد بن أرقم رسول الله صلى الله عليه وسلم وجاء عبدالله بن أبي معتذرا ويحلف ما قال فسكت عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أنزل الله عزوجل تصديق زيد بن أرقم في سورة المنافقين
وكان في هذه الغزوة من الحوادث قصة الإفك الذي افتراه عبدالله بن أبي هذا الخبيث وأصحابه وذلك أن أم المؤمنين عائشة بنت الصديق رضي الله عنها كانت قد خرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه السفرة وكانت تحمل في هودج فنزلوا بعض المنازل ثم أرادوا أن يرتحلوا أول النهار فذهبت الى المبرز ثم رجعت فإذا هي فاقدة عقدا لأختها أسماء كانت أعارتها إياه فرجعت تلتمسه في الموضع الذي كانت فيه فجاء النفر الذين كانوا يرحلون بها فحملوا الهودج حملة رجل واحد وليس فيه أحد فرحلوه على البعير ولم يستنكروا خفته لتساعدهم عليه ولأن عائشة رضي الله عنها كانت في ذلك الوقت لا تحمل اللحم بل كانت طفلة في سن أربع عشرة سنة فلما رجعت وقد أصابت العقد لم تر بالمنزل أحدا فجلست في المنزل وقالت إنهم سيفقدونها فيرجعون إليها والله غالب على أمره وله الحكم فيما يشاء وأخذتها سنة من النوم فلم تستيقظ إلا بترجيع صفوان بن المعطل السلمي ثم الذكواني فكان قد عرس في أخريات القوم لانه كان شديد النوم
____________________
(1/160)
كما جاء ذلك عنه في رواية ابي داود فلما رأى ام المؤمنين قال إنا لله وإنا إليه راجعون زوجة رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم أناخ بعيره فقربه إليها فركبته ولم يكلمها كلمة واحدة ولم تسمع منه إلا ترجيعه ثم سار بها يقودها حتى قدم بها وقد نزل الجيش في نحر الظهيرة
فلما رأى ذلك الناس تكلم المنافقون بما الله مجازيهم به وجعل عبدالله بن أبي الخبيث مع ما تقدم له من الخزي في هذه الغزوة يتكلم في ذلك ويستحيله ويظهره ويشيعه ويبديه وكان الأمر في ذلك كما هو مطول في الصحيحين من حديث الزهري عن سعيد بن المسيب وعروة بن الزبير وعلقمة بن وقاص الليثي وعبيدالله بن عبدالله بن عتبة كلهم عن عائشة رضي الله عنها الصديقة بنت الصديق المبرأة من فوق سبع سموات مما اتهمها به أهل الإفك في هذه الغزوة في قوله تعالى ( إن الذين جاءوا بالإفك عصبة منكم لا تحسبوه شرا لكم بل هو خير لكم ) الآيات فلما أنزل الله تعالى ذلك وكان بعد قدومهم من هذه الغزوة بأكثر من شهر جلد الذين تكلموا في الإفك وكان ممن جلد مسطح بن أثاثة وحمنة بنت جحش
وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل ذلك صعد على المنبر فخطب المسلمين واستعذر في عبدالله بن أبي وأصحابه فقال من يعذرني من رجل بلغني أذاه في اهلي والله ما علمت على أهلي إلا خيرا وذكروا رجلا ما علمت عليه إلا خيرا وما يدخل على أهلي إلا معي فقام سعد بن معاذ أخو بني عبد الاشهل فقال
____________________
(1/161)
يا رسول الله أنا أعذرك منه فإن كان من الأوس ضربت عنقه وإن كان من إخواننا من الخزرج أمرتنا ففعلنا أمرك فقام سعد بن عبادة فقال كذبت لعمر الله لا تقتله ولا تستطيع قتله ولو كان من رهطك لما أحببت أن يقتل فقال أسيد بن الحضير والله لنقتلنه فإنك منافق تجادل عن المنافقين فتثاروا الحيان حتى كادوا يقتتلون فلم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم يخفضهم ويسكنهم حتى سكنواالحديث
وهكذا وقع في الصحيحين ان المقاول لسعد بن عباد هو سعد بن معاذ وهذا من المشكلات التي أشكلت على كثير من أهل العلم بالمغازي فإن سعد بن معاذ لا يختلف أحد منهم أنه مات إثر قريظة وقد كانت عقب الخندق وهي سنة خمس على الصحيح ثم حديث الإفك لا يشك أنه في غزوة بين المصطلق هذه وهي غزوة المريسيع وقال الزهري في غزوة المريسيع وقد اختلف الناس في الجواب عن هذا فقال موسى بن عقبة فيما حكاه البخاري عنه إن غزوة المريسيع كانت في سنة أربع وهذا خلاف الجمهور ثم في الحديث ما ينفي ما قال لأنها قالت وذلك بعد ما أنزل الحجاب ولا خلاف انه نزل صبيحة دخوله صلى الله عليه وسلم بزينب بنت جحش وقد سأل صلى الله عليه وسلم زينب عن شأن عائشة في ذلك فقالت أحمي سمعي وبصري قالت عائشة وهي التي كانت تساميني من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وقد ذكر أهل التواريخ أن تزويجه بها كان في ذي القعدة في سنة خمس فبطل ما كان ولم ينجل الإشكال
وأما الإمام محمد بن إسحاق بن يسار فقال إن غزوة بني المصطلق كانت في سنة ست وذكر فيها حديث الإفك إلا أنه قال عن الزهري عن عبيدالله بن عبدالله عن عائشة فذكر الحديث قال فقام أسيد بن الحضير فقال أنا أعذرك
____________________
(1/162)
منه لم يذكر سعد بن معاذ قال أبو محمد بن حزم وهذا الصحيح الذي لا شك فيه وذلك عندنا وهم وبسط الكلام في ذلك مع اعترافه بأن ذكر سعد جاء من طرق صحاح
قلت وهو كما قال إن شاء الله وقد وقع من هذا النمط في الحديث مما لا يغير حكما أحاديث ذوات عدد وقد نبه الناس على أكثرها وقد حاول بعضهم أجوبة لها فتعسف والله سبحانه وتعالى أعلم & فصل & غزوة الحديبية
ولما كان ذو القعدة من السنة السادسة خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم معتمرا في ألف ونيف قيل وخمسمائة وقيل وأربعمائة وقيل وثلاثمائة وقيل غير ذلك فأما من زعم أنه إنما خرج في سبعمائة فقط غلط
فلما علم المشركون بذلك جمعوا احابيشهم وخرجوا من مكة صادين له عن الاعتمار هذا العام وقدموا على خيل لهم خالد بن الوليد الى كراع الغميم
وخالفه صلى الله عليه وسلم في الطريق فانتهى صلى الله عليه وسلم الى الحديبية وتراسل هو والمشركون حتى جاء سهيل بن عمرو فصالحه على
____________________
(1/163)
أن يرجع عنهم عامهم هذا وأن يعتمر من العام المقبل فأجابه صلى الله عليه وسلم الى ما سأل لما جعل الله عز وجل في ذلك من المصلحة والبركة وكره ذلك جماعة من الصحابة رضي الله عنهم منهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه وراجع أبا بكر الصديق في ذلك ثم راجع النبي صلى الله عليه وسلم فكان جوابه صلى الله عليه وسلم كما أجابه الصديق رضي الله عنه وهو أنه عبدالله ورسوله وليس يضيعه وهو ناصره وقد استقصى البخاري هذا الحديث في صحيحه
فقاضاه سهيل بن عمرو على
أن يرجع عنهم عامه هذا وأن يعتمر من العام المقبل على أن لا يدخل مكة إلا في جلبان السلاح وأن لا يقيم عندهم أكثر من ثلاثة أيام
وعلى أن يأمن بينهم وبينه عشر سنين
فكانت هذه الهدنة من أكبر الفتوحات للمسلمين كما قال عبدالله بن مسعود رضي الله عنه
وعلى أنه من شاء دخل في عقد رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن شاء دخل في عقد قريش
وعلى أنه لا يأتيه احد منهم وإن كان مسلما إلا رده إليهم وإن ذهب أحد من المسلمين إليهم لا يردونه إليه
____________________
(1/164)
فأقر الله سبحانه ذلك كله إلا ما استثنى من المهاجرات المؤمنات من النساء فإنه نهاهم عن ردهن الى الكفار وحرمهن على الكفار يومئذ وهذا أمر عزيز ما يقع في الأصول وهو تخصيص السنة بالقرآن ومنهم من عده نسخا كمذهب أبي حنيفة وبعض الأصوليين وليس هو الذي عليه أكثر المتأخرين والنزاع في ذلك قريب إذ يرجع حاصله الى مناقشة في اللفظ وقد كان صلى الله عليه وسلم قبل وقوع هذا الصلح بعث عثمان بن عفان رضي الله عنه الى أهل مكة يعلمهم أنه لم يجئ لقتال أحد وإنما جاء معتمرا فكان من سيادة عثمان رضي الله عنه أنه عرض عليه المشركون الطواف بالبيت فأبى عليهم وقال لا أطوف بها قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم
ولم يرجع عثمان رضي الله حتى بلغه صلى الله عليه وسلم انه قد قتل عثمان فحمي لذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم دعا أصحابه الى البيعة على القتال فبايعوه تحت الشجرة هناك وكانت سمرة وكان عدة من بايعه هناك جملة من قدمنا أنه خرج معه الى الحديبية الا الجد بن قيس فإنه كان قد استتر ببعير له نفاقا منه وخذلانا وإلا أبا سريحة حذيفة بن أسيد فإنه شهد الحديبية وقيل إنه لم يبايع وقيل بل بايع
____________________
(1/165)
وكان أول من بايع يومئذ أبو سنان وهب بن محصن أخو عكاشة بن محسن وقيل ابنه سنان بن أبي سنان وبايع سلمة بن الأكوع رضي الله عنه يومئذ ثلاث مرات بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم له بذلك كما رواه مسلم عنه ووضع صلى الله عليه وسلم إحدى يديه عن نفسه الكريمة ثم قال وهذه عن عثمان رضي الله عنه فكان ذلك أجل من شهوده تلك البيعة وأنزل الله عزوجل في ذلك ( لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك ) وقال صلى الله عليه وسلم لا يدخل ممن بايع تحت الشجرة النار
فهذه هي بيعة الرضوان
ولما فرغ النبي صلى الله عليه وسلم من مقاضاة المشركين كما قدمنا شرع في التحلل من عمرته وأمر الناس بذلك فشق عليهم وتوقفوا رجاء نسخه فغضب النبي صلى الله عليه وسلم من ذلك فدخل على أم سلمة فقال لها ذلك فقالت أخرج أنت يا رسول الله فاذبح هديك واحلق رأسك والناس يتبعونك يا رسول الله فخرج ففعل ذلك فبادر الناس الى موافقته فحلقوا كلهم الا عثمان بن عفان وأبا قتادة الحارث بن ربعي فإنهما قصرا ذكره السهيلي في الروض الأنف
____________________
(1/166)
وكاد بعضهم يقتل بعضا غما لأنهم يرون المشركين قد ألزموهم بشروط كما أحبوا وأجابهم صلى الله عليه وسلم إليها وهذا من فرط شجاعتهم رضي الله عنهم وحرصهم على نصر الإسلام ولكن الله عزوجل بحقائق الأمور ومصالحها منهم ولهذا لما انصرف صلى الله عليه وسلم راجعا الى المدينة أنزل الله عز وجل عليه سورة فتح مكة بكما لها في ذلك وقال عبدالله بن مسعود إنكم تعدون الفتح فتح مكة وإنما كنا نعده فتح الحديبية وصدق رضي الله عنه فإن الله سبحانه وتعالى جعل هذه هي السبب في فتح مكة كما سنذكره بعد إن شاء الله تعالى وعوض من هذه سلفا وتعجيلا & فصل & غزوة خير
ولما رجع صلى الله عليه وسلم الى المدينة أقام بها الى المحرم من السنة السابعة فخرج في آخره الى خيبر ونقل عن مالك بن أنس رحمه الله أن فتح خيبر كان في سنة ست والجمهور على أنها في سنة سبع وأما ابن حزم فعنه أنها في سنة ست بلا شك وذلك بناء على اصطلاحه وهو أنه يرى أن أول السنين الهجرية شهر ربيع الأول الذي قدم فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم الى المدينة مهاجرا ولكن لم يتابع عليه إذ الجمهور على أن أول التاريخ من محرم تلك السنة وكان أول من أرخ بذلك يعلى بن أمية باليمن كما رواه الامام أحمد بن حنبل عنه بإسناد صحيح إليه وقيل عمر بن
____________________
(1/167)
الخطاب رضي الله عنه وذلك في سنة ست عشرة كما بسط ذلك في موضع آخر
فسار صلى الله عليه وسلم إليها واستخلف على المدينة نميلة بن عبدالله الليثي فلما انتهى اليها حاصرها حصنا حصنا يفتحه الله عز وجل عليه ويغنمه حتى استكملها صلى الله عليه وسلم وخمسها وقسم نصفها بين المسلمين وكان جملتهم من حضر الحديبية فقط وأرصد النصف الآخر لمصالحه ولما ينوبه من أمر المسلمين
واستعمل اليهود الذين كانوا فيها بعد ما سألوا ذلك عوضا عما كان صالحهم عليهم من الجلاء على أن يعملوها ولرسول الله صلى الله عليه وسلم النصف مما يخرج منها من ثمر أو زرع وقد اصطفى صلى الله عليه وسلم من غنائمها صفية بنت حيي بن أخطب لنفسه فأسلمت فأعتقها وتزوجها وبنى بها في طريق المدينة بعدما حلت
وقد أهدت إليه امرأة من يهود خيبر وهي زينب بنت الحارث امرأة سلام بن مشكم شاة مصلية مسمومة فلما انتهش من ذراعها أخبره الذراع أنه مسموم فترك الأكل ودعا باليهودية فاستخبرها أسممت هذه الشاة فقالت نعم فقال ما أردت الى ذلك فقالت أردت إن كنت نبيا لم يضرك وإن
____________________
(1/168)
كنت غيره استرحنا منك فعفا عنها صلى الله عليه وسلم وقيل إن بشر بن البراء بن معرور كان ممن أكل منها فمات فقتلها به وقد روى ذلك أبو داود مرسلا عن أبي سلمة ابن عبدالرحمن بن عوف
وقدم على النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة خيبر بعد فراغهم من القتال جعفر بن أبي طالب وأصحابه ممن بقي مهاجرا بأرض الحبشة وصحبتهم أبوموسى الأشعري في جماعة من الأشعريين يزيدون على السبعين وقدم عليه أبو هريرة وآخرون رضي الله عنهم أجمعين فأعطاهم صلى الله عليه وسلم من المغانم كما أراد الله عزوجل وقد قال صلى الله عليه وسلم لجعفر لا أدري بأيهما أنا أسر أبفتح خيبر أم بقدوم جعفر ولما قدم عليه قام وقبل ما بين عينيه
وقد استشهد بخيبر من المسلمين نحو عشرين رجلا رضي الله عنهم جميعهم & فصل & فتح فدك
ولما بلغ أهل فدك ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم بأهل خيبر بعثوا إليه يطلبون الصلح فأجابهم فكانت مما لم يوجف المسلمون عليه بخيل ولا ركاب فوضعها صلى الله عليه وسلم أراد عز وجل ولم يقسمها
____________________
(1/169)
& فصل & فتح وادي القرى
ورجع من المدينة الى وادي القرى فافتتحه وقيل إنه قاتل فيه فالله أعلم وفي الصحيحين أن غلاما لرسول الله صلى الله عليه وسلم يدعى مدعما بينما هو يحط رحل رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ جاءه سهم غرب فقتله فقال الناس هنيئا له الشهادة يا رسول الله فقال كلا والذي نفسي بيده إن الشملة التي أخذها من الغنائم لم تصبها المقاسم لتشتعل عليه نارا & فصل & عمرة القضاء
ولما رجع صلى الله عليه وسلم الى المدينة أقام بها الى شهر ذي القعدة فخرج فيه معتمرا عمرة القضاء التي قاضى قريشا عليها ومنهم من يجعلها قضاء عن عمرة الحديبية حيث صد ومنهم من يقول عمرة القصاص والكل صحيح
____________________
(1/170)
فسار حتى بلغ مكة فاعتمر وطاف بالبيت وتحلل من عمرته وتزوج بعد إحلاله بميمونة بنت الحارث أم المؤمنين وتمت الثلاثة أيام فبعث إليه المشركون عليا رضي الله عنه يقولون له اخرج من بلدنا فقال وما عليهم لو بنيت بميمونة عندهم فأبوا عليه ذلك وقد كانوا خرجوا من مكة حين قدمها صلى الله عليه وسلم عداوة وبغضا له
فخرج عليه الصلاة والسلام فبنى بميمونة بسرف ورجع الى المدينة مؤيدا منصورا & فصل & بعث مؤتة
ولما كان في جمادى الآخرة من سنة ثمان بعث صلى الله عليه وسلم الأمراء الى مؤتة وهي قرية
____________________
(1/171)
من أرض الشام ليأخذوا بثأر من قتل هناك من المسلمين فأمر على الناس زيد ابن حارثة مولاه صلى الله عليه وسلم وقال إن أصيب زيد فجعفر بن أبي طالب فإن أصيب جعفر فعبد الله بن رواحة
فخرجوا في نحو من ثلاثة آلاف وخرج صلى الله عليه وسلم معهم يودعهم الى بعض الطريق فساروا حتى إذا كانوا بمعان بلغهم ان هرقل ملك الروم قد خرج اليهم في مائة ألف ومعه مالك بن زافلة في مائة ألف أخرى من نصارى العرب من لخم وجذام وقبائل قضاعة من بهراء وبلي وبلقين فاشتور المسلمون هناك وقالوا نكتب الى رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرنا بأمره أو يمدنا فقال عبدالله بن رواحة رضي الله عنه يا قوم والله إن الذي خرجتم تطلبون أمامكم يعنى الشهادة وإنكم ما تقاتلون الناس بعدد ولا قوة وما نقاتلهم إلا بهذا الدين الذي أكرمنا الله به فانطلقوا فهي إحدى الحسنيين إما ظهور وإما شهادة فوافقه القوم فنهضوا
فلما كانوا بتخوم البلقاء لقوا جموع الروم فنزل المسلمون الى جنب قرية مؤتة والروم على قرية يقال لها مشارف ثم التقوا فقاتلوا قتالا عظيما
وقتل أمير المسلمين زيد بن حارثة رضي الله عنه والراية في يده فتناولها جعفر ونزل عن فرس له شقراء فعقرها وقاتل حتى قطعت يده اليمنى فأخذ الراي بيده الأخرى فقطعت أيضا فاحتضن الراية ثم قتل رضي الله عنه عن ثلاث وثلاثين سنة على الصحيح فأخذ الراية عبدالله بن رواحة الأنصاري رضي الله عنه وتلوم
____________________
(1/172)
بعض التلوم ثم صصم وقاتل حتى قتل فيقال إن ثابت بن أقرم أخذ الراية وأراد المسلمون أن يؤمروه عليهم فأبى فأخذ الراية خالد بن الوليد رضي الله عنه فانحاز بالمسلمين وتلطف حتى خلص المسلمون من العدو ففتح الله على يديه كما أخبر بذلك كله رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه الذين بالمدينة يومئذ وهو قائم على المنبر فنعى اليهم الأمراء واحدا واحدا وعيناه تذرفان صلى الله عليه وسلم والحديث في الصحيح
وجاء الليل فكف الكفار عن القتال
ومع كثرة هذا العدو وقلة عدد المسلمين بالنسبة اليهم لهم يقتل من المسلمين خلق كثير على ما ذكره أهل السير فإنهم لم يذكروا فيما سموا الا نحو العشرة
وكر المسلمون راجعين ووقى الله شر الكفرة وله الحمد والمنة إلا أن هذه الغزوة كانت إرهاصا لما بعدها من غزو الروم وإرهابا لأعداء الله ورسوله
____________________
(1/173)
& فصل & غزوة فتح مكة
نذكر فيه ملخص غزوة فتح مكة التي أكرم الله عز وجل بها رسوله وأقر عينه بها وجعلها علما ظاهرا على إعلاء كلمته وإكمال دينه والاعتناء بنصرته
وذلك لما دخلت خزاعة كما قدمنا عام الحديبية في عقد رسول الله صلى الله عليه وسلم ودخلت بنو بكر في عقد قريش وضربت المدة الى عشر سنين أمن الناس بعضهم بعضا ومضى من المدة سنة ومن الثانية نحو تسعة أشهر فلم تكمل حتى غدا نوفل بن معاوية الديلي فيمن أطاعه من بني بكر بن عبد مناة فبيتوا خزاعة على ماء لهم يقال له الوتير فاقتتلوا هناك بذحول كانت لبني بكر على خزاعة من أيام الجاهلية واعانت قريش بني بكر على خزاعة بالسلاح وساعدهم بعضهم بنفسه خفية وفرت خزاعة الى الحرم فاتبعهم بنو بكر إليه فذكر قوم نوفل نوفلا بالحرم وقالوا أتق إلهك فقال لا إله له اليوم والله يا بني بكر إنكم لتسرقون في الحرم أفلا تدركون فيه ثأركم قلت قد أسلم نوفل هذا بعد ذلك عفا الله عنه وحديثه مخرج في الصحيحين رضي الله تعالى عنه
____________________
(1/174)
وقتلوا من خزاعة رجلا يقال له منبه وتحصنت خزاعة في دور مكة فدخلوا دار بديل بن ورقاء ودار مولى لهم يقال له رافع فانتقض عهد قريش بذلك
فخرج عمرو بن سالم الخزاعي وبديل بن ورقاء الخزاعي [ وقوم من خزاعة ] حتى أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعلموه بما كان من قريش واستنصروه عليهم فأجابهم صلى الله عليه وسلم وبشرهم بالنصر وأنذرهم أن أبا سفيان سيقدم عليهم مؤكدا العقد وأنه سيرده بغير حاجة فكان كذلك وذلك أن قريشا ندموا على ما كان منهم فبعثوا أبا سفيان ليشد العقد الذي بينهم وبين محمد صلى الله عليه وسلم ويزيد في الأجل فخرج فلما كان بعسفان لقي بديل بن ورقاء وهو راجع من المدينة فكتمه بديل ما كان من رسول الله صلى الله عليه وسلم وذهب أبو سفيان حتى قدم المدينة فدخل على ابنته أم حبيبة زوج رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنها فذهب ليقعد على فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم فمنعته وقالت إنك رجل مشرك نجس فقال والله يا بنية لقد أصابك بعدي شر ثم جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فعرض عليه ما جاء له فلم يجبه صلى الله عليه وسلم بكلمة واحدة ثم ذهب إلى أبي بكر رضي الله عنه فطلب منه أن يكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم فأبى عليه ثم جاء الى عمر رضي الله عنه فأغلظ له وقال أنا أفعل ذلك والله لو لم أجد إلا الذر لقاتلتكم به وجاء عليا رضي الله فلم يفعل وطلب من فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنها أن تأمر ولدها الحسن أن يجير بين الناس فقالت ما بلغ بني ذلك وما يجير أحد على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأشار عليه علي رضي الله عنه أن يقوم هو فيجير بين الناس ففعل ورجع الى مكة فأعلمهم بما كان منه ومنهم فقالوا والله ما زاد يعنون عليا أن لعب بك
ثم شرع رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجهاز الى مكة وسأل الله عز وجل أن يعمي على قريش الأخبار فاستجاب له ربه تبارك وتعالى ولذلك لما كتب حاطب بن أبي
____________________
(1/175)
بلتعة كتابا الى أهل مكة يعلمهم فيه بما هم به رسول الله صلى الله عليه وسلم من القدوم على قتالهم وبعث به مع امرأة وقد تأول في ذلك مصلحة تعود عليه رحمه الله وقبل ذلك منه رسول الله صلى الله عليه وسلم وصدقه لأنه كان من أهل بدر بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عليا والزبير والمقداد رضي الله عنهم فردوا تلك المرأة من روضه خاخ وأخذوا منها الكتاب وكان هذا من إعلام الله عز وجل نبيه صلى الله عليه وسلم بذلك ومن أعلام نبوته صلى الله عليه وسلم
وخرج صلى الله عليه وسلم لعشر خلون من رمضان في عشرة آلاف مقاتل من المهاجرين والأنصار وقبائل العرب وقد ألفت مزينة وكذا بنو سليم على المشهور رضي الله عنهم جميعهم
واستخلف صلى الله عليه وسلم على المدينة ابا رهم كلثوم بن حصين
ولقيه عمه العباس بذي الحليفة وقيل بالجحفة فأسلم ورجع معه
____________________
(1/176)
صلى الله عليه وسلم وبعث ثقله الى المدينة
ولما انتهى صلى الله عليه وسلم الى نيق العقاب جاءه ابن عمه أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب وعبد الله بن أبي أمية أخو أم سلمة مسلمين فطردهما فشفعت فيهما أن سلمة وابلغته عنهما مارققه عليهما فقبلهما فاسلما اتم إسلام رضي الله عنهما بعد ما كانا أشد الناس عليه صلى الله عليه وسلم
وصام صلى الله عليه وسلم حتى بلغ ماء يقال له الكديد بين عسفان وأمج من طريق مكة فأفطر بعد العصر على راحلته ليراه الناس وأرخص للناس في الفطر ثم عزم عليهم في ذلك فانتهى صلى الله عليه وسلم حتى نزل بمر الظهران فبات به واما قريش فعمى الله عليها الخبر إلا أنهم قد خافوا وتوهموا من ذلك فلما كانت تلك الليلة خرج ابن حرب وبديل بن ورقاء وحكيم بن حزام يتجسسون الخبر فلما رأوا النيران أنكروها فقال بديل هي نار خزاعة فقال أبو سفان خزاعة أقل من ذلك
وركب العباس بغلة رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلتئذ وخرج من الجيش لعله يلقى أحدا فلما سمع أصواتهم عرفهم فقال أبا حنظلة فعرفه ابو سفيان فقال أبو الفضل قال نعم قال ماوراءك قال ويحك هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم في الناس واصباح قريش قال فما الحيلة قال والله لئن ظفر بك ليقتلنك ولكن اركب ورائي وأسلم فركب وراءه وانطلق به فمر في الجيش كلما أتى على قوم يقولون هذا عم رسول الله صلى الله عليه وسلم على بغلة رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى مر بمنزل عمر بن الخطاب رضي الله عنه فلما رآه قال عدو الله الحمد لله الذي أمكن منك بغير عقد ولا عهد
ويركض العباس البغلة ويشتد عمر رضي الله عنه في جريه وكان بطيئا
____________________
(1/177)
فسبقه العباس فأدخله على رسول الله صلى الله عليه وسلم وجاء عمر في أثره فاستأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ضرب عنقه فأجاره العباس مبادرة فتقاول هو وعمر بن الخطاب رضي الله عنهما فأمره صلى الله عليه وسلم أن يأتيه به غدا فلما أصبح أتى به رسول الله صلى الله عليه وسلم فعرض عليه الاسلام فتلكأ قليلا ثم زجره العباس فاسلم فقال العباس يا رسول الله إن أبا سفيان يحب الشرف فقال صلى الله عليه وسلم من دخل دار أبي سفيان فهو آمن ومن أغلق بابه فهو آمن ومن دخل المسجد الحرام فهو آمن
قال ابن حزم هذا نص في أنها فتحت صلحا لا عنوة
قلت هذا أحد أقوال العلماء وهو الجديد من مذهب الشافعي واستدل على ذلك أيضا بأنها لم تخمس ولم تقسم والذين ذهبوا الى أنها فتحت عنوة استدلوا بأنهم قد قتلوا من قريش يومئذ عند الخندمة نحوا من عشرين رجلا واستدلوا بهذا اللفظ أيضا فهو آمن والمسألة يطول تحريرها ها هنا وقد تناظر الشيخان في هذه المسألة أعني تاج الدين الفزاري وأبا زكريا النووي ومسألة قسمة الغنائم
____________________
(1/178)
والغرض أنه صلى الله عليه وسلم أصبح يومه ذلك سائرا الى مكة وقد أمر صلى الله عليه وسلم العباس أن يوقف أبا سفيان عند خطم الجبل لينظر الى جنود الإسلام اذا مرت عليه
وقد جعل صلى الله عليه وسلم أبا عبيدة بن الجراح رضي الله عنه على المقدمة وخالد بن الوليد رضي الله عنه على الميمنة والزبير بن العوام رضي الله عنه على الميسرة ورسول الله صلى الله عليه وسلم في القلب وكان أعطى الراية سعد بن عبادة رضي الله عنه فبلغه أنه قال لأبي سفيان حين مر عليه يا أبا سفيان اليوم يوم الملحمة اليوم تستحل الحرمة والحرمة هي الكعبة فلما شكا أبوسفيان ذلك الى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال بل هذا يوم تعظم فيه الكعبة فأمر بأخذ الراية من سعد فتعطى عليا وقيل الزبير وهو الصحيح وأمر صلى الله عليه وسلم الزبير أن يدخل من كداء من أعلى مكة وأن تنصب رايته بالحجون وأمر خالدا أن يدخل من كدى من أسفل مكة وأمرهم بقتال من قاتلهم وكان عكرمة بن أبي جهل وصفوان بن أمية وسهيل بن عمرو قد جمعوا جمعا بالخندمة فمر بهم خالد بن الوليد فقاتلهم فقتل من المسلمين ثلاثة وهم كرز بن جابر من بني محارب بن فهر وحبيش بن خالد بن ربيعة بن أصرم الخزاعي وسلمة بن الميلاء الجهني رضي الله عنهم وقتل من المشركين ثلاثة عشر رجلا وفر بقيتهم
ودخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة وهو راكب على ناقته وعلى رأسه المغفر ورأسه يكاد
____________________
(1/179)
يمس مقدمة الرحل من تواضعه لربه عز وجل وقد أمن صلى الله عليه وسلم الناس إلا عبد العزى ابن خطل وعبد الله بن سعد بن أبي سرح وعكرمة بن أبي جهل ومقيس بن صبابة والحويرث بن نقيد وقينتين لابن خطل وهما فرتنا وصاحبتها وسارة مولاة لبني عبد المطلب فإنه صلى الله عليه وسلم أهدر دماءهم وأمر بقتلهم حيث وجدوا حتى ولو كانوا متعلقين بأستار الكعبة فقتل ابن خطل وهو متعلق بالأستار ومقيس بن صبابة والحويرث بن نقيذ وإحدى القينتين وآمن الباقون
ونزل صلى الله عليه وسلم مكة واغتسل في بيت أم هانئ وصلى ثماني ركعات يسلم من كل ركعتين فقيل إنها صلاة الضحى وقيل صلاة الفتح قال السهيلي وقد صلاها سعد بن أبي وقاص في إيوان كسرى إلا أنه صلى ثماني ركعات بتسليم واحد وليس كما قال بل يسلم من كل ركعتين كما رواه أبو داود وخرج صلي الله عليه وسلم الى بيت فطاف به طواف قدوم ولم يسع ولم يكن معتمرا
ودعا بالمفتاح فدخل البيت وأمر بإلقاء الصور ومحوها منه وأذن بلال يومئذ على ظهر الكعبة ثم رد صلى الله عليه وسلم المفتاح الى عثمان بن طلحة بن أبي طلحة وأقرهم على السدانة
وكان الفتح لعشر بقين من رمضان
واستمر صلى الله عليه وسلم مفطرا بقية الشهر يصلي ركعتين ويأمر أهل مكة أن يتموا كما
____________________
(1/180)
54 رواه النسائي بإسناد حسن عن عمران بن حصين رضي الله عنه وخطب صلى الله عليه وسلم الغد من يوم الفتح فبين حرمة مكة وأنها لم تحل لأحد قبله ولا تحل لأحد بعده وقد أحلت له ساعة من نهار وهي غير ساعته تلك حرام
وبعث صلى الله عليه وسلم السرايا الى من حول مكة من أحياء العرب يدعونهم الى الاسلام وكان في جملة تلك البعوث بعث خالد الى بني جذيمة الذين قتلهم خالد حين دعاهم الى الاسلام فقالوا صبأنا ولم يحسنوا أن يقولوا أسلمنا فوداهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وتبرأ من صنيع خالد بهم
وكان أيضا في بلك البعوث بعث خالد أيضا الى العزى وكان بيتا تعظمه قريش وكنانة وجميع مضر فدمرها رضس الله عنه من إمام وشجاع
وكان عكرنة بن أبي جهل قد هرب الى اليمن فلحقه امرأته وهي مسلمة وهي أم حكيم بنت الحارث بن هشام فردته بأمان رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلم وحسن إسلامه
وكذا صفوان بن أمية كان قد فر الى اليمن فتبعه صاحبه في الجاهلية عمير بن وهب بأمان رسول الله صلى الله عليه وسلم فرده وسيره صلى الله عليه وسلم أربعة أشهر فلم تمض حتى أسلم وحسن إسلامه رضي الله عنه & فصل غزوة حنين &
ولما بلغ فتح مكة هوازن جمعهم مالك بن عوف النصري فاجتمع إليه ثقيف وقومه بنو نصر بين معاوية وبنو جشم وبنو سعد بن بكر وبشر من بني هلال
____________________
(1/181)
ابن عامر وقد استصحبوا معهم أنعامهم ونساءهم لئلا يفروا فلما تحقق ذلك دريد بن الصمة شيخ بني جشم وكانوا قد حملوه في هودج لكبره تيمنا برأيه أنكر ذلك على مالك بن عوف النصري وهجنه وقال إنها إن كانت لك لم ينفعك ذلك وإن كانت عليك فإن المنهزم لا يرده شئ وحرضهم على إلا يقاتلوا إلا فقي بلادهم فإبوا عله ذلك واتبعوا رأي مالك بن عوف فقال دريد هذا يوم لم أشهده ولم يغب عني
وبعث صلى الله عليه وسلم عبد الله بن أبي حدرد الأسلمي فاستعلم له خبر القوم وقصدهم فتهيأ رسول الله صلى الله عليه وسلم للقائهم واستعار من صفوان بن امسة أدراعا قيل مائة وقيل أربعمائة واقترض منه جملة من المال وسار اليهم في القشرة آلاف الذين كانوا معه في الفتح وألفين من طلقاء مكة وشهد معه صفوان بن أمية حنينا وهو مشرك وذلك في شوال من هذه السنة واستخلف على مكة عتاب بن أسيد بن أبي العيص بن أمية بن عبد شمس وله نحو عشرين سنة
ومر صلى الله عليه وسلم في مسيره ذلك على شجرة يعظمها المشركون يقال لها ذات أنواط فقال بعض جهال الأعراب اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط فقال قلتم
____________________
(1/182)
والذي نفسي بيده كما قال قوم موسى اجعل لنا إلها كما لهم آلهة لتركبن سنن من قبلكم
ثم نهض صلى الله عليه وسلم موافيا حنينا وهو واد حدور من أدوية تهامة وقد كمنت لهم هوازن فيه وذلك في عماية الصبح فحملوا على المسلمين حملة رجل واحد فولى المسلمون لا يلوي أحد على أحد فذلك قوله تعالى { ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئا وضاقت عليكم الأرض بما رحبت ثم وليتم مدبرين } وذلك أن بعضهم قال لن نغلب اليوم من قلة وثبت رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يفر ومعه من الصحابة أبو بكر وعمر وعلي وعمه العباس وابناه الفضل وقثم وأبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب وابنه جعفر وآخرون وهو صلى الله عليه وسلم يومئذ راكب بغلته التي أهداها له فروة بن نفاثة الجذامي وهو يركضها الى وجه العدو والعباس آخذ بحكمتها يكفها عن التقدم وهو صلى الله عليه وسلم ينوه باسمه يقول أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب
ثم أمر العباس وكان جهير الصوب أن ينادي يا معشر الأنصار يا معشر أصحاب الشجرة يا معشر أصحاب السمرة فلما سمعه المسلمون وهم فارون
____________________
(1/183)
كروا وأجابوه لبيك لبيك وجعل الرجل إذا لم يستطع أن يثني بعيره لكثرة المنهزمين نزل عن بعيره وأخذ درعه فلبسها وأخذ سيفه وترسه ويرجع راجلا الى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا اجتمع حوله عصابة منهم نحو المائة استقبلوا هوازن فاجتلدوا هم وإياهم واشتدت الحرب وألقى الله في قلوب هوازن الرعب حين رجعوا فلم يملكوا أنفسهم ورماهم صلى الله عليه وسلم بقبصة حصى بيده فلم يبق منهم أحد إلا ناله منها وفسر قوله تعالى { وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى } بذلك وعندي في ذلك نظر لأن الآية نزلت في قصة بدر كم تقدم
وتفر هوازن بين يدي المسلمين ويتبعونهم يقتلون ويأسرون فلم يرجع آخر الصحابة الى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا والأسارى بين يديه وحاز صلى الله عليه وسلم أموالهم وعيالهم
وانحازت طوائف من هوازن الى أوطاس فبعث صلى الله عليه وسلم اليهم أبا عامر الأشعري واسمه عبيد ومعه ابن أخيه أبو موسى الأشعري حامل راية المسلمين في جماعة من المسلمين فقتلوا منهم خلقا وقتل أمير المسلمين أبو عامر رماه رجل فأصاب ركبته وكان منها حتفه فقتل أبو موسى قاتله وقيل بل اسلم قاتله بعد ذلك وكان أحد إخوة عشرة قتل أبو عامر التسعة قبله فالله أعلم ولما أخبر أبوموسى رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك استغفر صلى الله عليه وسلم لأبي عامر
وكان أبو عامر رابع أربعة استشهدوا يوم حنين والثاني أيمن بن أم أيمن والثالث يزيد بن زمعة بن الاسود والرابع سراقة بن الحارث بن عدي من بني العجلان من الأنصار رضي الله عنهم
وأما المشركون فقتل منهم خلق كثير
____________________
(1/184)
وفي هذه الغزوة قال صلى الله عليه وسلم من قتل فله سلبه في قصة أبي قتادة رضي الله عنه & فصل & غزوة الطائف
وأما رئيس هوزان وهو مالك بن عوف النصري فإنه حين انهزم جيشه دخل مع ثقيف حصن الطائف ورجع صلى الله عليه وسلم من حنين فلم يدخل مكة حتى أتى الطائف فحاصرهم فقيل بضع وعشرون ليلة وقيل بضع عشرة ليلة قال ابن حزم وهو الصحيح لا شك قلت ما أدري من اين صحح هذا بل كأنه أخذه من قوله صلى الله عليه وسلم لهوزان حين أتوه مسلمين بعد ذلك لقد كنت أستأنيت بكم عشرين ليلة وفي الصحيح عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال فحاصرناهم أربعين يوما يعني ثقيفا فاستعصوا وتمنعوا وقتلوا جماعة من المسلمين بالنبل وغيره
وقد خرب صلى الله علي وسلم كثيرا من أموالهم الظاهرة وقطع أعنابهم ولم ينل كبير شيء فرجع عنهم فأتى الجعرانة فأتاه وفد هوزان هنالك مسلمين وذلك قبل أن يقسم الغنائم فخيرهم صلى الله عليه وسلم بين ذراريهم وبين أموالهم فاختاروا الذرية فقال
____________________
(1/185)
صلى الله عليه وسلم أما ما كان لي ولبني المطلب فهو لكم قال المهاجرون والأنصار وما كان لنا فهو لرسول الله صلى الله عليه وسلم وامتنع الأقرع بن حابس وعيينة بن حصن وقومهما حتى أرضاهما وعوضهما صلى الله عليه وسلم وأراد العباس بن مرداس السلمي أن يفعل كفعلهما فلم توافقه بنو سليم بل طيبوا ما كان لهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم فردت الذرية على هوزان وكانوا ستة آلاف فيهم الشيماء ينت الحارث بن عبد العزى من بني سعد ابن بكر بن هوزان وهي أخت رسول الله صلى الله عليه وسلم من الرضاعة فأكرمها وأعطاها ورجعت إلى بلاد مختارة لذلك وقيل كانت هوزان متوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم برضاعتهم إياه
ثم قسم صلى الله عليه وسلم بقيته على المسلمين وتألف جماعة من سادات قريش وغيرهم فجعل يعطي الرجل المائة بعير والخمسين ونحو ذلك وفي صحيح مسلم عن الزهري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطى يومئذ صفوان بن أمية ثلاثمائة من الإبل
وعتب بعض الأنصار فبلغه فخطبهم وحدهم وامتن عليهم بما أكرمهم الله من الإيمان به وبما أغناهم الله به بعد فقرهم وألف بينهم بعد العدواة التامة فرضوا وطابت أنفسهم رضي الله عنهم وأرضاهم
وطعن ذو الخويصرة التميمي واسمه حرقوص فيما قيل على النبي صلى الله عليه وسلم في قسمته وصفح عنه صلى الله عليه وسلم وحلم بعد ما قال له بعض الأمراء ألا نضرب عنقه فقال لا ثم قال إنه سيخرج من ضئضئ هذا قوم يقرأون القرآن لا يجاوز حناجرهم فأينما لقيتموهم فاقتلوهم فإن في قتلهم أجرا لم قتلهم
____________________
(1/186)
واستعمل صلى الله عليه وسلم مالك بن عوف النصري على من أسلم من قومه وكان قد أسلم وحسن إسلامه وامتدح رسول الله صلى الله عليه وسلم في قصيدة ذكها ابن إسحاق واعتمر صلى الله عليه وسلم من الجعرانة ودخل مكة فلما قضى عمرته ارتحل إلى المدينة وأقام للناس الحج عامئذ عتاب بن أسيد رضي الله عنه فكان أول من حج بالناس من أمراء المسلمين & فصل & غزوة تبوك
ولما أنزل الله عز وجل على رسوله { قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون } ندب رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل المدينة ومن حولهم من الأعراب إلى الجهاد وأعلمهم بغزو الروم وذلك في رجب من سنة تسع وكان لا يريد غزوة إلا ورى بغيرها إلا غزوته هذه فإنه صرح لهم بها ليتأهبوا لشدة عدوهم وكثرته وذلك حين طابت الثمار وكان ذلك في سنة مجدبة فتأهب المسلمون لذلك
وأنفق عثمان بن عفان رضي الله عنه على هذا الجيش وهو جيش العسرة مالا جزيلا فقيل ألف دينار وقال بعضهم إنه حمل على ألف بعير ومائة فرس وجهزها أتم جهاز حتى لم يفقدوا عقالا ولا خطاما رضي الله عنه
ونهض صلى الله عليه وسلم في نحو من ثلاثين ألفا واستخلف على المدينة محمد بن مسلمة وقيل سباع بن عرفطة وقيل علي بن أبي طالب رضي الله عنه والصحيح أن
____________________
(1/187)
عليا كان خليفة له على النساء والذرية ولهذا لما آذاه المنافقون فقالوا تركه على النساء والذرية لحق رسول الله صلى الله عليه وسلم فشكا إليه ذلك فقال ألا ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى غير أنه لا نبي بعدي وقد خرج معه عبد الله بن أبي رأس النفاق ثم رجع من اثناء الطريق
وتخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم النساء والذرية ومن عذره الله من الرجال ممن لا يجد ظهرا يركبه أو نفقة تكفيه فمنهم البكاؤون وكانوا سبعة سالم بن عمير وعلبة بن زيد وأبو ليلى عبدالرحمن بن كعب وعمرو بن الحمام وعبدالله بن المغفل المزني وهرمي بن عبدالله وعرباض بن سارية الفزاري رضي الله عنهم
وتخلف منافقون كفرا وعنادا وكانوا نحو الثمانين رجلا
وتخلف عصاة مثل مرارة بن الربيع وكعب بن مالك وهلال بن أمية ثم تاب الله عليهم بعد قدومه صلى الله عليه وسلم بخمسين ليلة
فسار صلى الله عليه وسلم فمر في طريقه بالحجر فأمرهم أن لا يدخلوا عليهم بيوتهم إلا أن يكونوا بكاين وأن لا يشربوا إلا من بئر الناقة وما كانوا عجنوا به من غيره فليطعموه للإبل وجازها صلى الله عليه وسلم مقنعا
____________________
(1/188)
فبلغ صلى الله عليه وسلم تبوك وفيها عين تبض بشيء من ماء قليل فكثرت ببركته مع ما شوهد من بركة دعائه في هذه الغزوة من تكثير الطعام الذي كان حاصل الجيش جميعه منه مقدار العنز الباركة فدعا الله عز وجل فأكلوا منه وملؤ وكل وعاء كان في ذلك الجيش وكذا لما عطشوا دعا الله تعالى فجاءت سحابة فأمطرت فشربوا حتى رووا واحتملوا ثم وجدوها لم تجاوز الجيش ومن آيات أخر كثيرة احتاجوا إليها في ذلك الوقت
ولما انتهى إلى هناك لم يلق غزوا ورأى أن دخولهم إلى أرض الشام بهذه السنة يشق عليهم فعزم على الرجوع وصالح صلى الله عليه وسلم يحنة بن رؤبة صاحب أيلة وبعث خالدا إلى أكيدر دومة فجيء به فصالحه أيضا ورده
ثم رجع صلى الله عليه وسلم وبعد رجوعه أمر بهدم مسجد الضرار وكان قد أخرج من دار خدام بن خالد وهدمه بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم مالك بن الدخشم أخو بني سالم أحد رجال بدر وآخر معه اختلف فيه وهو المسجد الذي نهى الله رسوله أن يقوم فيه أبدا
____________________
(1/189)
وكان رجوعه من هذه الغزاة في رمضان من سنة تسع وأنزل فيها عامة سورة التوبة وعاتب الله عز وجل من تخلف عنه صلى الله عليه وسلم فقال عز وجل { ما كان لأهل المدينة ومن حولهم من الأعراب أن يتخلفوا عن رسول الله ولا يرغبوا بأنفسهم عن نفسه } الآية التي تليها ثم قال { وما كان المؤمنون لينفروا كافة فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون } فبان لك من هذا واتضح ما اختلف فيه وهو أن الطائفة النافرة هم الذين يتفقهون في الدين بصحبتهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه الغزوة وإذا رجعوا أنذروا قومهم ليحذروا مما تجدد بعدهم في الدين والله سبحانه وتعالى أعلم & فصل & قدوم وفد ثقيف
وقدم وفد ثقيف على رسول الله صلى الله عليه وسلم في رمضان هذه السنة فأسلموا وكان سبب ذلك أن عروة بن مسعود سيدهم كان قد جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم منصرفه من حنين والطائف وقبل وصوله إلى المدينة فأسلم وحسن إسلامه واستأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الرجوع إلى قومه ليدعوهم إلى الله عز وجل فأذن له وهو يخشى عليه فلما رجع إليهم ودعاهم إلى الإسلام رموه بالنبل فقتلوه ثم إنهم ندموا ورأوا أنهم لا طاقة لهم بحرب رسول الله صلى الله عليه وسلم فبعثوا وفدهم إليه في رمضان كما قدمنا وكانوا ستة فأول من بصر بهم المغيرة بن شعبة الثقفي وكان يرعى فترك ذلك وأقبل بهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلمهم في الطريق
____________________
(1/190)
كيف يسلمون عليه وسبق أبو بكر الصديق رضي الله عنه المغيرة وبشر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقدومهم
فأنزلهم عليه الصلاة والسلام في المسجد وضرب لهم فيه قبة وكان السفير بينهم وبينه خالد سعيد بن العاص وكان الطعام يأتيهم من عند النبي صلى الله عليه وسلم فلا يأكلونه حتى يأكل خالد قبلهم فأسلموا واشترطوا أن تبقى عندهم طاغيتهم اللات وأن لا تهدم فلم يجبهم صلى الله عليه وسلم إلى ذلك وسألوا أن يخفف عنهم بعض الصلوات فلم يجبهم إلى ذلك فسألوا أن لا يهدموا بأيديهم طاغيتهم فأجابهم إليه وبعث معهم أبا سفيان صخر بن حرب والمغيرة بن شعبة لهدمها فهدماها وعظم ذلك على نساء ثقيف واعتقدوا أن يصيبهم منها سوء وقد سخر بهم المغيرة بن شعبة حين هدمها فخر صريعا وذلك بتواطؤ منه ومن أبي سفيان ليوهم أن ذلك منها ثم قام يبكتهم ويقرعهم رضي الله عنه فأسلموا وحسن إسلامهم
وجعل صلى الله عليه وسلم إمامهم أحد الستة الذين قدموا عليه وهو عثمان بن أبي العاص وكان أحدثهم سنا لما رأى من حرصه على قراءة القرآن وتعلمه الفرائض وأمره أن يتخذ مؤذنا لا يأخذ على أذانه أجرا وأن يقتدي بأضعفهم & فصل & حجة الصديق وتواتر الوفود وبعث الرسل
وبعث صلى الله عليه وسلم أبا بكر الصديق رضي الله عنه أميرا على الحج هذه السنة وأردفه
____________________
(1/191)
عليارضي الله عنه بسورة براءة وأن لا يحج بعد العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان وينبذ إليهم عهودهم الا من كان ذا عهد مقدر فعهده الى مدته
وتواترت الوفود هذه السنة وما بعدها على رسول الله صلى الله عليه وسلم مذعنة بالاسلام وداخلين في دين الله أفواجا كما قال الله تعالى { إذا جاء نصر الله والفتح ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان توابا }
وبعث صلى الله عليه وسلم معاذ بن جبل الى اليمن ومعه أبوموسى الأشعري رضي الله عنهما وبعث الرسل الى ملوك الأقطار يدعوهم الى الاسلام وانتشرت الدعوة وعلت الكلمة وجاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا & فصل & حجة الوداع
نذكر فيه ملخص حجة الوداع وكيفيتها بعون الله ومنه وحسن توفيقه وهدايته فنقول وبالله التوفيق
____________________
(1/192)
صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الظهر يوم الخميس لست بقين من ذي القعدة من سنة عشر بالمدنية ثم خرج منها بمن معه من المسلمين من أهل المدينة ومن تجمع من الأعراب فصلى العصر بذي الحليفة ركعتين وبات بها
وأتاه آت من ربه عز وجل في ذلك الموضع وهو وادي العقيق يأمره عن ربه عز وجل أن يقول في حجته هذه حجة في عمرة ومعنى هذا أن الله أمره أن يقرن الحج مع العمرة فاصبح صلى الله عليه وسلم فأخبر الناس بذلك فطاف على نسائه يومئذ بغسل واحد وهن تسع وقيل إحدى عشرة ثم اغتسل وصلى في المسجد ركعتين وأهل بحجة وعمرة معا هذا الذي رواه بلفظه ومعناه عنه صلى الله عليه وسلم ستة عشر صحابيا منهم خادمة أنس بن مالك رضي الله عنه وقد رواه عنه صلى الله عليه وسلم ستة عشر تابعيا وهو صريح لا يحتمل التأويل إلا أن يكون بعيدا وما عدا ذلك مما جاء من الأحاديث الموهمة التمتع أو ما يدل على الإفراد فلها محل غير هذا تذكر فيه والقرآن في الحج عند أبي حنيفة هو الأفضل وروي فيه عن الإمام أحمد بن حنبل قول وعن الإمام أبي عبدالله الشافعي وقد نصره جماعة من محققي اصحابه وهو الذي يسهل به الجمع بين الأحاديث كلها وبين العلماء من أوجه والله أعلم
وساق صلى الله عليه وسلم الهدي من ذي الحليفة وأمر من كان معه هدي أن يهل كما أهل صلى الله عليه وسلم
____________________
(1/193)
وسار صلى الله عليه وسلم والناس بين يديه وخلفه وعن يمينه وشماله أمما لا يحصون كثرة كلهم قدم ليأتم به صلى الله عليه وسلم
فلما قدم صلى الله عليه وسلم مكة طاف للقدوم ثم سعى بين الصفا والمروة وأمر الذين لم يسوقوا هديا أن يفسخوا حجهم الى عمرة ويتحللوا حلالا تاما ثم يهلوا بالحج وقت خروجهم الى منى ثم قال لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما سقت الهدي ولجعلتها عمرة فذلك هذا أنه لم يكن متمتعا قطعا خلافا لزاعمي ذلك من أصحاب الإمام احمد وغيرهم
وقدم علي رضي الله عنه من اليمن فقال صلى الله عليه وسلم بم أهللت قال بإهلال كإهلال النبي صلى الله عليه وسلم فقال له النبي صلى الله عليه وسلم إني سقت الهدي وقرنت روى هذا اللفظ أبو داود وغيره من الأئمة بإسناد صحيح فهذا صريح في القرآن وقدم علي رضي الله عنه من اليمن هديا وأشركه صلى الله عليه وسلم في هديه أيضا وكان حاصلها مائة بدنة
ثم خرج صلى الله عليه وسلم الى منى فبات بها وكانت ليلة الجمعة التاسع من ذي الحجة
ثم أصبح فسار الى عرفة وخطب تحت سمرة خطبة عظيمة شهدها من أصحابه نحو من أربعين ألفا رضي الله عنهم أجمعين وجمع بين الظهر والعصر ثم وقف بعرفة
____________________
(1/194)
ثم بات بالمزدلفة وجمع بين المغرب والعشاء ليلتئذ ثم أصبح فصلى الفجر في أول وقتها
ثم سار قبل طلوع الشمس الى منى فرمى جمرة العقبة ونحر وحلق
ثم افاض فطاف بالبيت طواف الفرض وهو طواف الزيارة واختلف اين صلى الظهر يومئذ وقد أشكل ذلك على كثير من الحفاظ
ثم حل من كل شيء حرم منه صلى الله عليه وسلم
وخطب ثاني يوم النحر خطبة عظيمة أيضا ووصى وحذر وأشهدهم على أنفسهم أنه بلغ الرسالة فنحن نشهد أنه بلغ الرسالة وأدى الأمانة ونصح الأمة صلى الله عليه وسلم تسليما كثيرا دائما الى يوم الدين
ثم أقبل صلى الله عليه وسلم منصرفا الى المدينة وقد أكمل الله له دينه & فصل & وفاته صلى الله عليه وسلم
فأقام بها بقية ذي الحجة والمحرم وصفر ثم ابتدأ به صلى الله عليه وسلم وجعه في بيت ميمونة يوم خميس وكان وجعا في رأسه الكريم وكان أكثر ما يعتريه الصداع عليه الصلاة والسلام فجعل مع هذا يدور على نسائه حتى شق عليه فاستأذنهن أن يمرض في
____________________
(1/195)
بيت عائشة رضي الله عنها فأذن لهن فمكث وجعا أثني عشر يوما وقيل أربعة عشر يوما والصديق رضي الله عنه يصلي بالناس بنصه صلى الله عليه وسلم واستثنائه له من جيش أسامة الذي كان قد جهزه صلى الله عليه وسلم إلى الشام لغزو الروم
فلما حصل الوجع تربصوا لينظروا ما يكون من أمره صلى الله عليه وسلم وقد صلى عليه الصلاة والسلام خلف الصديق جالسا
وقبض صلى الله عليه وسلم ضحى يوم الإثنين من ربيع الأول فالمشهور أنه الثاني عشر منه وقيل مستهله وقيل ثانية وقيل غير ذلك
وقال السهيلي ما زعم أنه لم يسبق إليه من أنه لا يمكن أن تكون وقفته يوم الجمعة ذي الحجة ثم تكون وفاته يوم الإثنين الثاني عشر من ربيع الأول بعده سواء حسبت الشهور كاملة أم ناقصة أم بعضها كاملا وبعضها ناقصا
وقد حصل له جواب صحيح في غاية الصحة ولله الحمد أفردته مع غيره من الأجوبة وهو أن هذا إنما وقع بحسب اختلاف رؤية هلال ذي الحجة في مكة والمدينة فرآه أهل مكة قبل أولئك بيوم وعلى هذا يتم القول المشهور لله الحمد والمنة
____________________
(1/196)
وكان عمره يوم مات صلى الله عليه وسلم ثلاثا وستين سنة على الصحيح قالوا ولها مات أبو بكر وعمر وعلي وعائشة رضي الله عنهم ذكره أبو زكريا النووي في تهذيبه وصححه وفي بعضه نظر وقيل كان ستين وقيل خمسا وستين وهذه الأقوال الثالثة في صحيح البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما
فاشتدت الرزية بموته صلى الله عليه وسلم وعظم الخطب وجل الأمر وأصيب المسلمون بنبيهم وأنكر عمر بن الخطاب رضي الله عنه ذلك وقال إنه لم يمت وإنه سيعود كما عاد موسى لقومه وماج الناس وجاء الصديق المؤيد المنصور رضي الله عنه أولا وآخرا وظاهرا وباطنا فأقام الأود وصدع بالحق وخطب الناس وتلا عليهم { وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا وسيجزي الله الشاكرين } وكأن الناس لم يسمعوها قبل ذلك فما من أحد إلا يتلوها
ثم ذهب المسلمون به إلى سقيفة بن ساعدة وقد اجتمعوا على إمرة سعد بن عبادة فصدهم عن ذلك وردهم وأشار عليهم بعمر بن الخطاب أو بأبي عبيدة ابن الجراح فأبيا ذلك والمسلمون وأبى الله ذلك أيضا فبايعه المسلمون رضي الله عنهم هناك ثم جاء فبايعه الناس البيعة العامة على المنبر
ثم شرعوا في جهاز رسول الله صلى الله عليه وسلم فغسلوه في قميصه وكان الذي تولى
____________________
(1/197)
ذلك عمه العباس وابنه قثم وعلي بن أبي طالب وأسامة بن زيد وشقران مولياه يصبان الماء وساعد في ذلك أوس ين خولي الأنصاري البدري رضي الله عنهم أجمعين
وكفنوه في ثلاثة أثواب قطن سحولية بيض ليس فيها قميص وصلوا عليه أفرادا واحدا واحدا لحديث جاء في ذلك رواه البزار والله أعلم بصحته أنه صلى الله عليه وسلم أمرهم بذلك وقال الشافعي إنما صلوا عليه مرة بعد
____________________
(1/198)
مرة أفذاذا لعظم قدره ولمنافستهم أن يؤمهم عليه أحد قال الحاكم أبو أحمد فكان أولهم عليه صلاة العباس عمه ثم بنو هاشم ثم المهاجرون ثم الأنصار ثم سائر الناس فلما فرغ الرجال صلى الصبيان ثم النساء
ودفن صلى الله عليه وسلم يوم الثلاثاء وقيل ليلة الأربعاء سحرا في الموضع الذي توفي فيه من حجرة عائشة لحديث رواه الترمذي عن أبي بكر رضي الله عنه وهذا هو المتواتر تواترا ضروريا معلوما من الدفن الذي هو اليوم داخل مسجد المدينة
آخر الجزء الأول من الترجمة النبوية على صاحبها أفضل الصلاة والسلام ويتلوه الذي يليه
____________________
(1/199)
الجزء الثاني أحواله صلى الله عليه وسلم وشمائله وخصائصه
____________________
(1/201)
& فصل & حجه وإعتماره صلى الله عليه وسلم
لم يحج صلى الله عليه وسلم بعدما هاجر إلا حجته هذه وهي حجة الاسلام وحجة الوداع وكان فرض الحج في السنة السادسة في قول بعض العلماء وفي التاسعة في قول آخرين منهم وقيل سنة عشر وهو غريب وأغرب منه ما حكاه إمام الحرمين في النهاية وجها لبعض الأصحاب أن فرض الحج كان قبل الهجرة
وأما عمره فكن أربعا الحديبية التي صد عنها وعمرة القضاء بعدها ثم عمرة الجعرانة ثم عمرته التي مع حجته
وقد حج صلى الله عليه وسلم قبل الهجرة مرة وقيل أكثر وهو الأظهر لأنه كان صلى الله عليه وسلم يخرج ليالي الموسم يدعو الناس الى الله تعالى صلى الله عليه وسلم تسليما كثيرا دائما الى يوم الدين & فصل & عدد غزاوته وبعوثه
أما غزواته فروى مسلم من حديث عبدالله بن بريدة بن الحصيب الأسلمي عن أبيه قال غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم تسع عشرة غزوة قاتل في ثمان منهن
____________________
(1/203)
وعن زيد بن أرقم قال غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم تسع عشرة غزوة كنت معه في سبع عشرة وأما محمد بن إسحاق فقال كانت غزواته التي خرج فيها بنفسه سبعا وكانت بعوثه وسراياه ثمانيا وثلاثين وزاد ابن هشام في البعوث على ابن اسحاق والله اعلم & فصل & أعلام نبوته
في أعلام نبوته صلى الله عليه وسلم على سبيل الإجمال لأن تفصيله يحتاج الى مجلدات عديدة وقد جمع الأئمة في ذلك ما زاد على ألف معجزة
فمن أبهرها وأعظمها القرآن العزيز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد وإعجازه من جهة لفظه ومعناه
أما لفظه ففي اعلى غايات فصاحة الكلام وكل من ازدادات معرفته بهذا الشأن ازداد للقرآن تعظيما في هذا الباب وقد تحدى الفصحاء والبلغاء في زمانه مع شدة عداوتهم له وحرصهم على تكذيبه بأن يأتوا بمثله أو بعشر سور من مثله أو بسورة فعجزوا وأخبرهم أنهم لا يطيقون ذلك أبدا بل قد تحدى الجن والإنس قاطبة على أن يأتوا بمثله فعجزوا وأخبرهم بذلك فقال الله تعالى { قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا } الى غير ذلك من الوجوه المثبتة لإعجازه
____________________
(1/204)
وأما معناه فإنه في غاية التعاضد والحكمة والرحمة والمصلحة والعاقبة الحميدة والاتفاق وتحصيل أعلى المقاصد وتبطيل المفاسد الى غير ذلك مما يظهر لمن له لب وعقل صحيح خال من الشبه والأهواء نعوذ بالله منها ونسأله الهدى
ومن ذلك انه نشأ بين قوم يعرفون نسبه ومرباه ومدخله ومخرجه يتيما بين أظهرهم أمينا صادقا بارا راشدا كلهم يعرف ذلك ولا ينكره إلا من عاند وسفسط وكابر وكان أميا لايحسن الكتابة ولا يعانيها ولا أهلها وليس في بلادهم من علم الأولين ولا من يعرف شيئا من ذلك فجاءهم على رأس أربعين سنة من عمره يخبر بما مضى مفصلا مبينا يشهد له علماء الكتب المتقدمة البصيرون بها المهتدون بالصدق بل أكثر الكتب المنزلة قبله قد دخلها التحريف والتبديل ويجيء ما أنزل الله عليه مبينا لذلك مهيمنا عليه دالا على الحق منه وهو مع ذلك في غاية الصدق والأمانة والسمت الذي لم ير أولو الألباب مثله صلى الله عليه وسلم والعبادة لله والخشوع له والذلة له والدعاء اليه والصبر على أذى من خالفه واحتماله وزهده في الدنيا وأخلاقه السنية الشريفة من الكرم والشجاعة والحياء والبر والصلة صلى الله عليه وسلم الى غير ذلك من الأخلاق التي لم تجتمع في بشر قبله ولا بعده إلا فيه فبالعقل يدرك أن هذا يستحيل أن يكذب على أدنى مخلوق بأدنى كذبة فكيف يمكن أن يكون مثل هذا قد كذب على الله رب العالمين الذي قد أخبر هو بما لديه من أليم العقاب وما لمن كذب عليه وافترى هذا لا يصدر إلا من شر عباد الله وأجرئهم وأخبثهم ومثل هذا لا يخفى أمره على الصبيان في المكاتب فكيف بأولي الاحلام والنهى الذين بذلوا أنفسهم واموالهم وفارقوا أولادهم وأوطانهم وعشائرهم في حبه وطاعته رضي الله تعالى عنهم و صلى الله عليه وسلم في تعاقب الليل والنهار
____________________
(1/205)
ومن ذلك ما أخبر صلى الله عليه وسلم به في هذا القرآن وفيما صح عنه من الأحاديث من الغيوب المستقبلة المطابقة لخبره حذو بالقذة مما يطول استقصاؤه ها هنا
ومن ذلك ما أظهره الله تعالى على يديه من خوارق العادات الباهرة فمن ذلك ما أخبر عز وجل عنه في كتابه العزيز من انشقاق القمر وذلك أن المشركين سألوه آية وكان ذلك ليلا فأشار إلى القمر فصار فرقين فسألوا من حولهم من الأحياء لئلا يكون قد سحرهم فأخبروهم بمثل ما رأوا وهذا متواتر عنه عند أهل العلم بالأخبار وقد رواه غير واحد من الصحابة رضي الله عنهم أجمعين
ومن ذلك ما ظهر ببركة دعائه في أماكن يطول بسطها وتضيق مجلدات عديدة عن حصرها وقد جمع الحافظ أبو بكر البيهقي رحمه الله تعالى كتابا شافيا في ذلك مقتديا بمن تقدمه في ذلك كما اقتدى به كثيرون بعده رحمه الله تعالى
من ذلك أنه صلى الله عليه وسلم دعا الله تعالى في السخلة التي كانت مع ابن مسعود في
____________________
(1/206)
الرعي وسمى الله وحلبها فدرت عليه فشرب وسقى أبا بكر وكذلك فعل في شاة أم معبد
ودعا للطفيل بن عمروا فصارت له آية في طرف سوطه نور يلمع يرى من بعد
وكذلك حصل لأسيد بن الحضير وعباد بن بشر الأنصاري وقد خرجا من عنده في ليلة ظلماء
ودعا الله على السبعة الذين سخروا منه وهو يصلي فقتلوا ببدر
ودعا على ابن أبي لهب فسلط عليه السبع بالشام وفق دعائه عليه السلام
____________________
(1/207)
ودعى على سراقة فساخت يدا فرسه في الأرض ثم دعا الله فأطلقها
ورمى كفار قريش في بدر بقبضة من حصباء فأصاب كلا منهم شيء منها وهزمهم الله وكذلك فعل يوم حنين سواء
وأعطى يوم بدر لعكاشة بن محصن جذلا من حطب فصار في يده سيفا ماضيا
وأخبر عمه العباس وهو أسير بما دفن هو وأم الفضل من المال تحت عتبة بابهم فأقر له بذلك وأخبر عمير بن وهب بما جاء له من قتله معتذرا بأنه جاء في فداء أسارى بدر فاعترف له بذلك وأسلم من وقته رضي الله عنه
ورد يوم أحد عين قتادة بن النعمان الظفري بعد أن سالت على خده وقيل بعدما صارت في ديه فصارت أحسن عينيه فلم تكن تعرف من الأخرى
وأطعم يوم الخندق الجم الغفير الذين يقاربون ألفا من سخلة وصاع شعير ببيت جابر كما أطعم يومئذ من تمر يسير جاءت به ابنة بشير وكذلك
____________________
(1/208)
أطعم نحو الثمانين من طعام كادت تواريه يده المكرمة وكذلك فعل يوم أصبح عروسا بزينب بنت جحش وأما يوم تبوك فكان أمرا هائلا أطعم الجيش وملأوا كل وعاء معهم من قدر ربضة العنز طعاما وأعطى أبا هريرة رضي الله عنه مزودا فأكل منه دهره وجهز منه في سبيل الله شيئا كثيرا ولم يزل معه إلى أيام مقتل عثمان
وأشياء أخرى من هذا النمط يطول ذكرها مجردة وسنفرد لذلك إنشاء الله تعالى وبه الثقة مصنفا على حده
ودعا الله تعالى لما قحطوا فلم ينزل عن المنبر حتى تحدر الماء على لحيته صلى الله عليه وسلم من سقف المسجد وقد كان قبله لا يرى في السماء سحابة ولا قزعة ولا قدر الكف ثم لما استصحى لهم إنجاب السحاب عن المدينة حتى صارت المدينة في مثل الإكليل
____________________
(1/209)
ودعا الله على قريش فأصابهم من الجهد ما لا يعبر عنه حتى استرحموه فعطف عليهم فأفرج عنهم
وأتي بإناء فيه ماء ليتوضأ به فرغب إليه أقوام هناك أن يتوضؤوا معه فوضع يده في ذلك الإناء فما وسعها ثم دعا الله فنبع الماء من بين أصابعه صلى الله عليه وسلم
وكذلك فعل يوم الحديبية وكان الجيش ألفا وأربعمائة قال جابر ولو كنا مائة ألف لكفانا
وكذلك فعل في بعض أسفاره بقطرة من ماء في سقاء قال الراوي لما أمرني أن أفرغها في الوعاء خشيت أن يشربها يابس القربة فوضع يده فيها ودعا الله تعالى فنبع الماء من بين أصابعه لأصحابه حتى توضؤوا وشربوا
وكذلك بعث سهمه الى عين الحديبية فوضعت فيها فجاشت بالماء حتى كفتهم وكذلك فعل يوم ذات السطيحيتين سقى أصحابه وتوضؤوا وأمر بعضهم فاغتسل من جبابة كانت عليه ولم ينقص من تلك المزادتين اللتين للمرأة
____________________
(1/210)
شيء فذهبت الى قومها فقالت رأيت اليوم أسحر أهل الأرض أو إنه لنبي ثم أسلمت وأسلم قومها رضي الله عنهم
في كثير من هذا النمط يطول بسطه وفيما ذكرنا كفاية إن شاء الله تعالى & فصل & الإخبار بالغيوب المستقبلية
وقد أخبر بالغيوب المستقبلية المطابقة لخبره كما أخبر الله عزوجل في كتابه من إظهار دينه وإعلاء كلمته واستخلاف الذين آمنوا وعملوا الصالحات من أمته في الأرض وكذلك كان
وأخبر بغلبة الروم فارس في بضع سنين فكان كذلك
وأخبر صلى الله عليه وسلم قومه الذين كانوا معه في الشعب أن الله قد سلط على الصحيفة الأرضة فأكلتها إلا ما كان من ذكر الله وكان كذلك
وأخبر يوم بدر قبل الوقعة بيوم بمصارع القتلى واحدا واحدا فكان كما أخبر سواء بسواء
وأخبر أن كنوز كسرى وقيصر ستنفق في سبيل الله فكان كذلك
____________________
(1/211)
وبشر أمته بأن ملكهم سيمتد في طول الأرض فكان كذلك
وأخبر أنه لا تقوم الساعة حتى تقاتل أمته قوما صغار الأعين ذلف الأنوف كأن وجهوهم المجان المطرقة وهذه حلية التتار فكان كذلك
وأخبر بقتال الخوارج ووصف لهم ذا الثدية فوجد كما وصف سواء بسواء
وأخبر أن الحسن بن علي رضي الله عنهما سيصلح الله به بين فئتين عظيمتين من المسلمين فكان كذلك
وأخبر بأن عمارا ستقتله الفئة الباغية فقتل يوم صفين مع علي رضي الله عنهما
وأخبر بخروج نار من أرض الحجاز تضيء لها أعناق الإبل ببصرى وكان ظهور هذه في سنة بضع وخمسين وستمائة وتواتر امرها وأخبرت عمن شاهد إضاءة أعناق الإبل ببصرى فصلى الله على رسوله كلما ذكره الذاكرون
____________________
(1/212)
وأخبر بجزئيات كانت وتكون بين يدي الساعة يطول بسطها وفيما ذكرنا كفاية إن شاء الله وبه الثقة & فصل & بشارة الكتب السماوية المتقدمة برسول الله صلى الله عليه وسلم
وفي الكتب المتقدمة البشارة به كما أخبر الله تعالى ان ذلك في التوارة والإنجيل مكتوب وكما أخبر عن نبيه عيسى عليه السلام أنه قال ( ومبشرا برسول يأتي من بعدي إسمه أحمد ) وروى البخاري عن عبدالله بن عمرو وأنه وجد صفته في التوارة صلى الله عليه وسلم وذكرها
وفي التوارة اليوم التي يقر اليهود بصحتها في السفر الأول أن الله تعالى تجلى لإبراهيم وقال له ما معناه [ فاسلك في الأرض طولا وعرضا لولدك تعظيما ] ومعلوم أنه لم يملك مشارق الأرض ومغاربها إلا محمد صلى الله عليه وسلم كما جاء في الصحيح عنه أنه قال إنه زوى لي الأرض مشارقها ومغاربها وسيبلغ ملك أمتي مازوي لي منها
____________________
(1/213)
وفيه أيضا [ إن الله تعالى قال لإبراهيم إن اسحاق يكون لك منه نسل وأما إسماعيل فإني باركته وكثرته وعظمته وجعلت ذريته بنجوم السماء ] الى أن قال [ وعظمته بماذماذ أي بمحمد وقيل بأحمد وقيل جعلته عظيما عظيما وجعل حذا ]
وفيه [ إن الله وعد إبراهيم أن ولده إسماعيل تكون يده عالية على كل الأمم فكل الأمم تحت يده وبجميع مساكن إخوته يسكن ] وقد علم اهل الكتاب وغيرهم أن إسماعيل لم يدخل قط الشام ولا علت يده على إخوته وإنما كان هذا لولده محمد صلى الله عليه وسلم ولا ملك الشام ومصر من العرب أحد قبل أمة محمد صلى الله عليه وسلم فإن فتحهما كان في خلافة الصديق والفاروق رضي الله عنهما
وفي السفر الرابع من التوارة التي بأيديهم اليوم ما معناه [ نبي أقيم لهم من أقاربهم من أخيهم مثلك يا موسى أجعل نطقي بفيه ] ومعلوم لهم ولكل أحد أن الله عزوجل لم يبعث من نسل إسماعيل سوى محمد صلى الله عليه وسلم بل لم يكن في بني إسرائيل نبي يماثل موسى إلا عيسى عليه السلام وهم لا يقرون بنبوته ثم ليس هو من إخوتهم بل هو منتسب إليهم بأمه صلوات الله وسلامه عليه فتعين ذلك في محمد صلى الله عليه وسلم
ومن ذلك ما ختمت به التوارة في اخر السفر الخامس ما معناه [ جاء الله من سيناء وأشرق من ساعير واستعلى من جبال فاران ] ومعنى هذا أن الله جاء شرعه ونوره من طور سيناء الذي كلم موسى عليه وأشرق من ساعير وهو الجبل الذي ولد به عيسى عليه السلام وبعث فيه واستعلى من جبال فاران وهي مكة بدليل أن الله أمر إبراهيم صلى الله عليه وسلم أن يذهب بإسماعيل الى جبال فاران وقد استشهد بعض العلماء على صحة هذا بأن الله سبحانه أقسم بهذه الأماكن الثلاثة فترقى من
____________________
(1/214)
الأدنى الى الأعلى في قوله تعالى ( والتين والزيتون وطور سنين وهذا البلد الأمين ) ففي التوراة ذكرهن بحسب الوقوع الاول فالأول وبحسب ما ظهر فيهن من النور وفي القرآن لما أقسم بهن ذكر منزل عيسى ثم موسى ثم محمد صلاة الله وسلامه عليهم اجمعين لأن عادة العرب إذا أقسمت ترقت من الأدنى الى الأعلى
وكذا زبور داود عليه السلام والنبوءات الموجودة الآن بأيدي أهل الكتاب فيها البشارات به صلى الله عليه وسلم كما يخبر بذلك من أسلم منهم قديما وحديثا
وفي الإنجيل ذكر الفا رقليط موصوفا بصفات محمد صلى الله عليه وسلم سواء بسواء
وأما كلام أشعيا وأرميا فظاهر جدا لكل من قرأه ولله الحمد والمنة والحجة البالغة & فصل & أولاده تقدم ذكر أعمامه وعماته عند ذكر نسبه المطهر صلى الله عليه وسلم
فأما أولاده فذكورهم وإناثهم من خديجة بنت خويلد رضي الله عنها إلا إبراهيم فمن مارية القبطية وهم
القاسم وبه كان يكنى لأنه أكبر أولاده ثم زينب ثم رقية ثم أم كلثوم ثم فاطمة
ثم بعد النبوة عبدالله ويقال له الطيب والطاهر لأنه ولد في الاسلام وقيل الطاهر غير الطيب وصحح ذلك بعض العلماء
____________________
(1/215)
ثم إبراهيم من مارية ولد له صلى الله عليه وسلم بالمدينة في السنة الثامنة وتوفي عن سنة وعشرة أشهر فلهذا قال صلى الله عليه وسلم إن له مرضعا في الجنة
وكلهم مات قبله إلا فاطمة رضي الله عنها توفيت بعده بيسير قيل ستة أشهر على المشهور وقيل ثمانية أشهر وقيل سبعون يوما وقيل خمسة وسبعون يوما وقيل ثلاثة أشهر وقيل مائة يوم وقيل غير ذلك وصلى عليها علي وقيل أبو بكر وهو قول غريب وقد ورد في حديث أنها
____________________
(1/216)
اغتسلت قبل موتها بيسير وأوصت ألا تغسل بعد موتها وهو غريب جدا وروي أن عليا والعباس وأسماء بنت عميس زوجة الصديق وسلمى أم رافع وهي قابلتها غسلوها وهذا هو الصحيح & فصل & زوجاته
في زوجاته رضي الله عنهن
أول من تزوج صلى الله عليه وسلم خديجة بنت خويلد رضي الله عنها فكانت وزير صدق له لما بعث وهي أول من آمن به على الصحيح وقيل أبو بكر وهو شاذ ولم يتزوج في حياتها بسواها لجلالها وعظم محلها عنده واختلف أيها أفضل هي أو عائشة رضي الله عنهما فرجح فضل خديجة جماعة من العلماء وقد ماتت قبل الهجرة
ثم تزوج سودة بنت زمعة القرشية العامرية بعد موت خديجة بمكة ودخل بها هناك ثم لما كبرت أراد صلى الله عليه وسلم طلاقها فصالحته على أن وهبت يومها
____________________
(1/217)
لعائشة وقيل له فجعله لعائشة وفيها نزل قوله تعالى ( وإن امرأة خافت من بعلها نشوزا أو إعراضا ) الآية وتوفيت في آخر أيام أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه
وقيل تزوج عائشة قبل سودة ولكنه لم يبن بها إلا في شوال من السنة الثانية من الهجرة ولم يتزوج بكرا سواها ولم يحب أحدا من النساء مثلها وقد كانت لها مآثر وخصائص ذكرت في القرآن والسنة ولا يعلم في هذه الأمة امرأة بلغت من العلم مبلغها وتوفيت سنة ثمان وخمسين
ثم تزوج حفصة بنت عمر بن الخطاب رضي الله عنه في السنة الثالثة من الهجرة وقد طلقها صلى الله عليه وسلم ثم راجعها وتوفيت سنة إحدى وأربعين وقيل سنة خمسين وقيل سنة خمس وأربعين
____________________
(1/218)
ثم أم سلمة واسمها هند بنت أبي أميه واسمه حذيفة ويقال سهيل بن المغيرة بن عبدالله بن عمر بن مخزوم القرشية بعد وفاة زوجها أبي سلمة عبدالله ابن عبدالأسد بن هلال بن عبدالله بن مخزوم مرجعه من بدر فلما انقضت عدتها خطبها صلى الله عليه وسلم وهذا يقتضي أن ذلك أول السنة الثالثة وقد كان ولي عقدها ابنها عمر كما رواه النسائي عن طريق حماد بن سلمة عن ثابت البناني عن ابن عمر ابن أبي سلمة عن أبيه عن ام سلمة وقد جمعت جزءا في ذلك وبينت أن عمر
____________________
(1/219)
المقول له في هذا الحديث إنما هو عمر بن الخطاب رضي الله عنه لأنه كان الخاطب لها على رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد ذكر الواقدي وغيره أن وليها ابنها سلمة وهو الصحيح إن شاء الله وقد ذكر أنه صلى الله عليه وسلم تزوجها بغير ولي والله تعالى أعلم قال الواقدي توفيت سنة تسع وخمسين وقال غيره في خلافة يزيد بن معاوية سنة اثنتين وستين
ثم تزوج زينب بنت جحش في سنة خمس من ذي القعدة وقيل سنة ثلاث وهو ضعيف وفي صبيحة عرسها نزل الحجاب كما أخرجاه في الصحيحين عن أنس وأنه حجبه حينئذ وقد كان عمره لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة عشرا فدل على أنه كان استكمل خمس عشرة سنة والله أعلم وقد كان وليها الله سبحانه وتعالى دون الناس قال الله تعالى ( فلما قضى زيد منها وطرا زوجناكها ) وروى البخاري في صحيحه بسند ثلاثي أنها كانت تفخر على نساء
____________________
(1/220)
رسول الله صلى الله عليه وسلم وتقول زوجكن أهاليكن وزوجني الله في السماء وكانت أول أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم وفاة قال الواقدي توفيت سنة عشرين وصلى عليها عمر بن الخطاب رضي الله عنه
ثم تزوج جويرية بنت الحارث بن أبي ضرار المصطلقية وذلك أنه لما غزا قومها في سنة ست بالماء الذي يقال له المريسيع وقعت في سهم ثابت بن قيس ابن شماس وكاتبها فجاءت رسول الله صلى الله عليه وسلم تستعينه في كتابتها فاشتراها وأعتقها وتزوجها فقيل إنها توفيت سنة خمسين وقال الواقدي سنة ست وخمسين
ثم تزوج صفية بنت حيي بن أخطب الاسرائيلية الهارونية النضرية ثم الخيبرية رضي الله تعالى عنها وذلك أنه صلى الله عليه وسلم اصطفاها من مغانم خيبر وقد كانت في أوائل سنة سبع فأعتقها وجعل ذلك صداقها فلما حلت في أثناء الطريق بنى بها وحجبها فعلموا أنها من أمهات المؤمنين قال الواقدي توفيت سنة خمسين وقال غيره سنة ست وثلاثين والله اعلم
وفي هذه السنة وقيل في التي قبلها سنة ست تزوج ام حبيبة واسمها رملة بنت أبي سفيان صخر بن حرب بن أمية بن عبد شمس الاموية خطبها عليه عمرو بن أمية الضمري وكانت بالحبشة وذلك حين توفي عنها زوجها عبيدالله بن جحش فولي عقدها منه خالد بن سعيد بن العاص وقيل النجاشي والصحيح الأول ولكن أمهرها النجاشي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعمائة دينار وجهزها وأرسل بها اليه رضي الله عنه
فأما ما رواه مسلم في صحيحه من حديث عكرمة بن عمار اليماني عن أبي
____________________
(1/221)
زميل سماك بن الوليد عن ابن عباس أن أبا سفيان لما أسلم قال في حديث لرسول الله صلى الله عليه وسلم عندي أحسن العرب وأجمله أم حبيبة بنت أبي سفيان ازوجكها الحديث فقد استغرب ذلك من مسلم رحمه الله كيف لم يتنبه لهذا لأن أبا سفيان إنما أسلم ليلة الفتح وقد كانت بعد تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم أم حبيبة بسنة وأكثر وهذا مما لا خلاف فيه وقد أشكل هذا على كثير من العلماء فأما ابن حزم فزعم أنه موضوع وضعف عكرمة بن عمار ولم يقل هذا أحد قبله ولا بعده وأما محمد بن طاهر القدسي فقال أراد أبو سفيان أن يجدد العقد لئلا يكون تزوجها بغير إذنه غضاضة عليه أو أنه توهم أن بإسلامه ينفسخ نكاح ابنته وتبعه على هذا أبو عمرو بن الصلاح وأبو زكريا النووي في شرح مسلم وهذا بعيد جدا فإنه لو كان كذلك لم يقل عندي أحسن العرب وأجمله إذ رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم منذ سنة فأكثر وتوهم فسخ نكاحها بإسلامه بعيد جدا والصحيح في هذا آن أبا سفيان لما رأى صهر رسول الله صلى الله عليه وسلم مشرفا أحب أن يزوجه ابنته الأخرى وهي عزة واستعان على ذلك بأختها أم حبيبة كما أخرجا في الصحيحين عن أم حبيبة أنها قالت يا رسول الله صلى الله عليه وسلم انكح أختي بنت أبي سفيان قال أو تحبين ذلك قالت نعم الحديث وفي صحيح مسلم أنها قالت يا رسول الله انكح أختي عزة بنت أبي سفيان الحديث وعلى هذا فيصح الحديث الاول ويكون قد وقع الوهم من بعض الرواة في قوله وعندي أحسن العرب وأجمله أم
____________________
(1/222)
حبيبة وإنما قال عزة فاشتبه على الراوي او أنه قال الشيخ يعني ابنته فتوهم السامع أنها أم حبيبة إذ لم يعرف سواها ولهذا النوع من الغلط شواهد كثيرة قد أفردت سرد ذلك في جزء مفرد لهذا الحديث ولله الحمد والمنة وتوفيت أم حبيبة رضي الله عنها سنة أربع وأربعين فيما قاله أبو عبيد وقال أبو بكر بن أبي خيثمة سنة تسع وخمسين قبل أخيها معاوية بسنة
ثم تزوج في ذي القعدة من هذه السنة ميمونة بنت الحارث الهلالية واختلف هل كان محرما أولا فاخرج صاحبا الصحيح عن ابن عباس أنه كان محرما فقيل كان ذلك من خصائصه صلى الله عليه وسلم لما رواه مسلم عن عثمان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لا ينكح المحرم ولا ينكح ولا يخطب واعتمد أبو حنيفة على الأول وحمل حديث عثمان على الكراهة وقيل بل كان حلالا كما رواه مسلم عن ميمونة أنها قالت تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو حلال وبني بها وهو حلال وقد قدم جمهور العلماء هذا الحديث على قول ابن عباس لأنها صاحبة القصة فهي أعلم وكذا أبو رافع أخبر بذلك كما رواه الترمذي عنه وقد كان هو السفير بينهما
____________________
(1/223)
وقد أجيب عن حديث ابن عباس بأجوبة ليس هذا موضعها وماتت بسرف حيث بنى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم منصرفه من عمرة القضاء وكان موتها سنة إحدى وخمسين وقيل سنة ثلاث وقيل ست وستين وصلى عليها ابن أختها عبدالله ابن عباس رضي الله عنهما
فهؤلاء التسع بعد خديجة اللواتي جاء في الصحيحين أنه صلى الله عليه وسلم مات عنهن وفي رواية في الصحيح أنه مات عن إحدى عشرة والأول أصح
____________________
(1/224)
وقد قال قتادة بن دعامة أنه صلى الله عليه وسلم تزوج خمس عشرة امرأة فدخل بثلاث
____________________
(1/225)
عشرة وجمع بين إحدى عشرة ومات عن تسع وقد روى الحافظ أبو عبدالله محمد بن عبدالواحد المقدسي نحو هذا عن أنس في كتابه ( المختارة ) فهذا هو المشهور وقد رأيت لبعض أئمة المتأخرين من المالكية وغيرهم في كتاب النكاح تعداد زوجات لم يدخل بهن مع اللواتي دخل بهن ما ينيف على العشرين
وقد كان له من السراري اثنتان هما
مارية بنت شمعون القبطية أم إبراهيم ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم أهداها له المقوقس صاحب اسكندرية ومصر ومعها أختها شيرين وخصي يقال له ما بور وبغلة يقال لها الدلدل فوهب صلى الله عليه وسلم شيرين إلى حسان بن ثابت فولدت له عبد الرحمن وتوفيت مارية في محرم سنة ست عشرة وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يحشر الناس لجنازتها بنفسه وصلى عليها ودفنها بالبقيع رضي الله عنها
وأما الثانية فريحانة بنت عمرو وقيل بنت زيد اصطفاها من بني قريظة وتسرى بها ويقال إنه تزوجها وقيل بل تسرى بها ثم أعتقها فلحقت بأهلها وذكر بعض المتأخرين انه تسرى أمتين أخريين والله تعالى أعلم & فصل & مواليه
في ذكر موالي رسول الله صلى الله عليه وسلم على حروف المعجم رضي الله عنهم أجمعين وذلك
____________________
(1/226)
حسبما أورده الحافظ الكبير أبو القاسم بن عساكر في أول تاريخه وهم
احمر ويكنى أبا عسيب وأسود وأفلح وأنس وأيمن بن أم أيمن وباذام وثوبان بن بجدد وذكوان قيل طهمان وقيل كيسان وقيل مروان وقيل مهران ورافع ورباح ورويفع وزيد بن حارثة وزيد جد هلال بن يسار وسابق وسالم وسعيد وسفينة وسلمان الفارسي وسليم ويكنى بأبي كبشة ذكر فيمن شهد بدرا وصالح ( شقران ) وضميرة ابن أبي ضميرة وعبيدالله بن أسلم وعبيد وعبيد أيضا يكنى بأبي صفية وفضالة اليماني وقصير وكركرة بكسرهما ويقال بفتحهما ومابور القبطي ومدعم وميمون ونافع ونبيل وهرمز وهشام وواقد ووردان ويسار ( نوبي ) وأبو أثيلة وأبو بكرة وأبو الحمراء وأبو رافع واسمه أسلم فيما قيل وابو عبيدة
فهؤلاء الذين حررهم أبو زكريا النووي رحمه الله تعالى في أول كتابه ( تهذيب الأسماء واللغات ) إلا أني رتبتهم على الحروف ليكون أسهل للكشف
وأما إماؤه فأميمة وبركة أم ايمن وهي أم أسامة بن زيد وخضرة
____________________
(1/227)
ورضوى وريحانة وسلمة وهي أم رافع امرأة أبي رافع وشيرين وأختها مارية أم إبراهيم عليه السلام وميمونة بنت سعد وأم ضميرة وأم عياش
قال أبو زكريا رحمه الله تعالى ولم يكن ملكه صلى الله عليه وسلم لهؤلاء في زمن واحد بل في أوقات متفرقة & فصل & خدمه
وقد التزم جماعة من الصحابة رضي الله عنهم بخدمته كما كان عبدالله بن مسعود صاحب نعليه إذا قام ألبسه إياهما وإذا جلس جعلهما في ذراعيه حتى يقوم وكان المغيرة بن شعبة سيافا على رأسه وعقبة بن عامر صاحب بغلته يقود به في الأسفار وأنس بن مالك وربيعة بن كعب وبلال وذو مخبر ويقال ذو مخمر ابن أخي النجاشي ملك الحبشة ويقال ابن أخته وغيرهم & فصل & كتاب الوحي
أما كتاب الوحي فقد كتب له أبو بكر وعمر وعثمان علي والزبير وأبي بن كعب وزيد بن ثابت ومعاوية بن أبي سفيان ومحمد بن مسلمة
____________________
(1/228)
والأرقم بن أبي الأرقم وابان بن سعيد بن العاص وأخوه خالد وثابت بن قيس وحنظلة بن الربيع الاسدي الكاتب وخالد بن الوليد وعبدالله بن الأرقم وعبدالله بن زيد بن عبد ربه والعلاء بن عتبة والمغيرة بن شعبة وشرحبيل بن حسنة وقد أورد ذلك الحافظ أبو القاسم في كتابه أتم إيراد وأسند ما أمكنه عن كل واحد من هؤلاء إلا شرحبيل بن حسنة وذكر فيهم السجل كما رواه أبوداود والنسائي عن ابن عباس في قوله تعالى ( يوم نطوي السماء كطي السجل للكتب ) قال هو كاتب كان للنبي صلى الله عليه وسلم وقد أنكر هذا الحديث الامام أبوجعفر بن جرير في تفسيره وقال لا يعرف في كتاب النبي صلى الله عليه وسلم بل ولا في أصحابه أحد يسمى سجلا
قلت وقد أنكره أيضا غير واحد من الحفاظ وقد أفردت جزءا وبينت طرقه وعلله ومن تكلم فيه من الأئمة ومن ذهب منهم الى أنه حديث موضوع والله تعالى أعلم
____________________
(1/229)
& فصل & المؤذنون
كان له صلى الله عليه وسلم مؤذنون أربعة بلال بن رباح وعمرو بن ام مكتوم الاعمى وقيل اسمه عبدالله وكانا في المدينة يتناوبان في الأذان وسعد القرظ بقباء وأبو محذورة بمكة رضي الله عنهم & فصل & نوقه وخيوله
وكان له صلى الله عليه وسلم من النوق العضباء والجدعاء والقصواء وروي عن محمد ابن ابراهيم التيمي أنه قال إنما كان له ناقة واحدة موصوفة بهذه الثلاث صفات وهذا غريب جدا حكاه النووي
وكان له من الخيل السكب وكان أغر محجلا طلق اليمين وهو أول فرس غزا
____________________
(1/230)
عليه وسبحة وهو الذي سابق عليه والمرتجز وهو الذي اشتراه من الأعرابي وشهد فيه خزيمة بن ثابت وقال سهل بن سعد كان له ثلاثة أفراس لزاز والظرب واللخيف وقيل بالحاء المهملة وقيل النحيف فهذه ستة وسابعة وهي الورد أهداها له تميم الداري
وكانت له بغلة يقال لها الدلدل أهداها له المقوقس وحضر بها يوم حنين وقد عاشت بعده صلى الله عليه وسلم حتى كان يحسى لها الشعير لما سقطت أسنانها وكانت عند علي ثم بعده عند عبدالله بن جعفر
وكان له حمار يقال له عفير بالعين المهملة وقيل بالمعجمة قاله عياض
____________________
(1/231)
قال النووي واتفقوا على تغليطه في ذلك
قلت وأغرب من هذا كله رواية أبي قاسم السهيلي في ( روضه ) الحديث المشهور في قصة عفير أنه كلم النبي صلى الله عليه وسلم وقال إنه من نسل سبعين حمارا كل منها ركبه نبي وأن اسمه يزيد بن شهاب وأنه كان يبعثه النبي صلى الله عليه وسلم في الحاجات الى أصحابه
فهذا شيء باطل لا أصل له من طريق صحيح ولا ضعيف إلا ما ذكره أبو محمد ابن ابي حاتم من طريق منكر مردود ولا يشك أهل العلم بهذا الشأن أنه موضوع وقد ذكر هذا أبو إسحاق الاسفراييني وإمام الحرمين حتى ذكره القاضي عياض في كتابه ( الشفاء ) استطرادا وكان الأولى ترك ذكره لأنه موضوع سألت شيخنا أبا الحجاج عنه فقال ليس له أصل وهو ضحكة وكان له صلى الله عليه وسلم في وقت عشرون لقحة ومائة من الغنم
____________________
(1/232)
& فصل & سلاحه
وكان له من آلات الحرب ثلاثة أرماح وثلاث أقواس وستة أسياف منها ذو الفقار تنفله يوم بدر ودرع وترس وخاتم وقدح غليظ من خشب وراية سوداء مربعة ولواء أبيض وقيل أسود & فصل & رسله الى الملوك
في ذكر رسله الى ملوك الآفاق
أرسل صلى الله عليه وسلم عمرو بن أمية الضمري الى النجاشي بكتاب فأسلم رضي الله عنه ونور ضريحه
ودحية بن خليفة الكلبي الى هرقل عظيم الروم فقارب وكاد ولم يسلم وقال بعضهم بل أسلم وقد روى سنيد بن داود في تفسيره حديثا مرسلا فيه ما يدل على إسلامه وروى ابو عبيد في كتاب الأموال حديثا مرسلا أيضا فيه تصريح بعد إسلامه
____________________
(1/233)
وبعث عبدالله بن حذاقة السهمي الى كسرى ملك الفرس فتكبر ومزق كتابه صلى الله عليه وسلم فمزقه الله وممالكه كل ممزق بدعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم عليه بذلك
وحاطب بن أبي بلتعة الى المقوقس ملك الإسكندرية ومصر فقارب ولم يذكر له إسلام وبعث الهدايا اليه صلى الله عليه وسلم والتحف
وعمرو بن العاص الى ملكي عمان فأسلما وخليا بين عمرو والصدقة والحكم بين الناس رضي الله عنهما
وسليط بن عمرو العامري الى هوذة بن علي الحنفي باليمامة
وشجاع بن وهب الأسدي الى الحارث بن أبي شمر الغساني ملك البلقاء من الشام
والمهاجر بن أبي أمية المخزومي الى الحارث الحميري
والعلاء بن الحضرمي الى المنذر بن ساوى العبدي ملك البحرين فأسلم
وارسل أبا موسى الأشعري ومعاذ بن جبل كليهما الى أهل اليمن فأسلم عامة ملوكهم وسوقتهم & فصل & صفته الظاهرة
في صفته الظاهرة وقد صنف العلماء في هذا الباب فأحسن من جمع في ذلك الإمام أبو عيسى محمد بن عيس بن سورة الترمذي رحمه الله تعالى أعني ( كتاب الشمائل ) وتبعه العلماء والأئمة وقد استوعى ذلك بأسانيد وشرحه مطولا الحافظ أبو القاسم بن عساكر رحمه الله تعالى وشيخنا الإمام الحافظ أبو الحجاج
____________________
(1/234)
المزي في ( تهذيب الكمال ) وقد ذكر الشيخ أبو زكريا النووي في تهذيبه فصلا مختصرا فيه فقال
كان صلى الله عليه وسلم ليس بالطويل البائن ولا القصير ولا الأبيض الأمهق ولا الآدم ولا الجعد القطط ولا البسط
وتوفي وليس في رأسه عشرون شعرة بيضاء وكان حسن الجسم بعيد ما بين المنكبين له شعر الى منكبيه وفي وقت الى نصف أذنيه كث اللحية شثن الكفين أي غليظ الأصابع ضخم الرأس والكراديس في وجهه تدوير أدعج العينين طويل أهدابهما أحمر المآقي ذا مشربة وهي الشعر الدقيق من الصدر الى السرة كالقضيب إذا مشى كأنما ينحط من صبب أي يمشي بقوة والصبب الحدور يتلألأ وجهه تلألؤ القمر ليلة البدر كان وجهه كالقمر حسن الصوت سهل الخدين ضليع الفم سواء الصدر والبطن أشعر المنكبين والذراعين وأعالي الصدر طويل الزندين رحب الراحة أشكل العينين أي طويل شقهما منهوس العقبين أي قليل لحم العقب بين كتفيه خاتم النبوة كزر الحجلة وكبيضة الحمامة
وكان إذا مشى كأنما تطوى له الأرض ويجدون في لحاقه وهو غير مكترث
____________________
(1/235)
وكان يسدل شعر رأسه ثم فرقه وكان يرجله ويسرح لحيته ويكتحل بالإثمد كل ليلة في كل عين ثلاثة أطراف عند النوم
أحب الثياب اليه القميص والبياض والحبرة وهي ضرب من البرود فيه حمرة وكان قميصه صلى الله عليه وسلم الى الرسغ ولبس في وقت حلة حمراء وإزارا ورداء وفي وقت ثوبين أخضرين وفي وقت جبة ضيقة الكمين وفي وقت قباء وفي وقت عمامة سوداء وأرخى طرفيها بين كتفيه وفي وقت مرطا أسود أي كساء ولبس الخاتم والخف والنعل
وقال انس بن مالك رضي الله عنه ما مسست ديباجا ولا حريرا ألين من كف رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا شممت رائحة قط أطيب من رائحة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولقد خدمت رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر سنين فما قال لي أف قط ولا قال لشيء فعلته لم فعلته ولا لشيء لم أفعله ألا فعلت كذا رواه مسلم
وقال عبدالله بن سلام لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة انجفل الناس إليه فلما نظرت اليه عرفت ان وجهه ليس بوجه كذاب صلى الله عليه وسلم صلاة دائمة الى يوم الدين وسلم تسليما كثيرا
____________________
(1/236)
& فصل & أخلاقه الظاهرة
وأما أخلاقه الظاهرة فقد قال الله سبحانه ( ن والقلم وما يسطرون ما أنت بنعمة ربك بمجنون وإن لك لأجرا غير ممنون وإنك لعلى خلق عظيم ) وفي الصحيح عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت كان خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم القرآن ومعنى هذا أنه صلى الله عليه وسلم قد ألزم نفسه ألا يفعل إلا ما أمره به القرآن ولا يترك إلا ما نهاه القرآن فصار امتثال أمر ربه خلقا له وسجية صلوات الله وسلامه عليه الى يوم الدين وقد قال الله تعالى ( إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم ) فكانت أخلاقه صلى الله عليه وسلم أشرف الأخلاق وأكرمها وأبرها وأعظمها
فكان أشجع الناس وأشجع ما يكون عند شدة الحروب
وكان أكرم الناس وأكرم ما يكون في رمضان
وكان أعلم الخلق بالله وأفصح الخلق نطقا وأنصح الخلق للخلق وأحلم الناس
وكان صلى الله عليه وسلم أشد الناس تواضعا في وقار صلوات الله وسلامه عليه الى يوم الدين قالت قيلة بنت مخرمة في حديثها عند أبي داود فلما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم
____________________
(1/237)
المتخشع في جلسته ارتعدت من الفرق وفي السيرة أنه صلى الله عليه وسلم لما دخل مكة يوم الفتح جعل يطأطىء رأسه من التواضع حتى إن مقدم رحله ليصيب عثنونه وهو من شعر اللحية
وكان أشد حياء من العذراء في خدرها ومع ذلك فأشد الناس بأسا في أمر الله وروي عنه أنه قال صلى الله عليه وسلم أنا الضحوك القتال
وهكذا مدح الله عز وجل أصحابه حيث قال تبارك وتعالى ( محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم )
وستأتي إن شاء الله تعالى بقية أوصافه الجميلة مستقصاة فيما نورده من الأحاديث بعد هذا إن شاء الله تعالى وبه المستعان
____________________
(1/238)
& فصل & الأماكن التي حلها
في ذكر الأماكن التي حلها صلوات الله وسلامه عليه وهي الرحلات النبوية
قدم الشام مرتين
الأولى مع عمه أبي طالب في تجارة له وكان عمره إذ ذاك ثنتي عشرة سنة وكان من قصة الحبر وتبشيره به ما كان من الآيات التي رآها مما بهر العقول وذلك مبسوط في الحديث الذي رواه الترمذي مما تفرد به قراد أبو نوح واسمه عبدالرحمن ابن غروان وهو إسناد صحيح ولكن في متنه غرابة قد بسط الكلام عليه في موضع آخر وفيه ذكر الغمامة ولم أر لها ذكرا في حديث ثابت أعلمه سواه
المقدمة الثانية في تجارة لخديجة بنت خويلد وصحبته مولاها ميسرة فبلغ أرض بصرى فباع ثم التجارة ورجع فأخبر ميسرة مولاته بما رأى عليه صلى الله عليه وسلم من لوائح النبوة فرغبت فيه وتزوجته وكان عمره حين تزوجها على ما ذكره أهل السير خمسا وعشرين سنة
وتقدم أنه صلى الله عليه وسلم أسري به ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى فاجتمع بالأنبياء وصلى بهم فيه ثم ركب الى السماء ثم إلى ما بعدها من السموات سماء سماء ورأى الأنبياء هناك على مراتبهم ويسلم عليهم ويسلمون عليه ثم صعد الى سدرة المنتهى فرأى هناك جبريل عليه السلام على الصورة التي خلقه عليها له ستمائة جناح ودنا الجبار رب العزة فتدلى كما يشاء على ما ورد في الحديث فرأى
____________________
(1/239)
من إيات ربه الكبرى كما قال تعالى ( لقد رأى من آيات ربه الكبرى ) وكلمه ربه سبحانه وتعالى على أشهر قولي أهل الحديث ورأى ربه عزوجل ببصره على قول بعضهم وهو اختيار الامام أبي بكر خزيمة من أهل الحديث وتبعه في ذلك جماعة من المتأخرين وروى مسلم عن ابن عباس رضي الله عنها أنه رآه بفؤاده مرتين وأنكرت عائشة ام المؤمنين رضي الله عنه رؤية البصر وروى مسلم عن أبي ذر قلت يا رسول الله رأيت ربك فقال نور أنى أراه وإلى هذا مال جماعة من الأئمة قديما وحديثا اعتمادا على هذا الحديث واتباعا لقول عائشة رضي الله عنها قالوا هذا مشهور عنها ولم يعرف لها مخالف من الصحابة إلا ما روي عن ابن عباس أنه رآه بفؤاده ونحن نقول به وما روي في ذلك من إثبات الرؤية بالبصر فلا يصح شيء من ذلك لا مرفوعا بل ولا موقوفا والله أعلم ورأى الجنة والنار والآيات العظام وقد فرض الله سبحانه عليه الصلاة ليلتئذ خمسين ثم خففها الى خمس وتردد بين موسى عليه السلام وبين ربه جل وعز في ذلك ثم أهبط الى الأرض الى مكة الى المسجد الحرام فأصبح يخبر الناس بما رأى من الآيات من الأيات
فأما الحديث الذي رواه النسائي في أول كتاب الصلاة أخبرنا عمرو بن هشام حدثنا مخلد هو ابن يزيد عن سعيد بن عبدالعزيز حدثنا يزيد بن أبي مالك
____________________
(1/240)
حدثنا أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال أتيت بدابة فوق الحمار ودون البغل خطوها عند منتهى طرفها فركبت ومعي جبريل عليه السلام فسرت فقال أنزل فصل ففعلت فقال أتدري أين صليت صليت بطيبة و إليها المهاجر ثم قال انزل فصل فصليت فقال أتدري أين صليت صليت بطور سيناء حيث كلم الله موسى ثم قال انزل فصل فصليت فقال أتدري أين صليت صليت ببيت لحم حيث ولد عيسى ثم دخلت بيت المقدس فجمع لي الانبياء فقدمني جبريل حتى أممتهم ثم صعد بي إلى السماء الدنيا وذكر بقية الحديث فإنه حديث غريب منكر جدا وإسناده مقارب وفي الأحادي الصحيحة ما يدل على نكارته والله أعلم
وكذلك الحديث الذي تفرد به بكر بن زياد الباهلي المتروك عن عبدالله بن المبارك عن سعيد بن ابي عروبة عن قتادة عن زرارة بن أوفى عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ليلة أسري بي قال لي جبريل هذا قبر أبيك إبراهيم أنزل فصل فيه لا يثبت أيضا لحال بكر بن زياد المذكور
وهذا الحديث الذي رواه ابن جرير في أول تاريخه من حديث أبي نعيم عمر ابن الصبح أحد الكذابين المعترفين بالوضع عن مقاتل بن حيان عن عكرمة
____________________
(1/241)
عن ابن عباس أنه صلى الله عليه وسلم ليلة أسري به ذهب الى يأجوج ومأجوج فدعاهم الى الله عزوجل فأبوا أن يجيبوه ثم انطلق به جبريل عليه السلام الى المدينتين يعني جابلق وهي مدينة بالمشرق وأهلها من بقايا عاد ومن نسل من آمن منهم ثم الى جابرس وهي بالمغرب وأهلها من نسل من آمن من ثمود فدعا كلا منهما الى الله عزوجل فآمنوا به وفي الحديث أن لكل واحدة من المدينتين عشرة آلاف باب ما بين كل بابين فرسخ ينوب كل يوم على كل باب عشرة آلاف رجل يحرسون ثم لا تنوبهم الحراسة بعد ذلك الى يوم ينفخ في الصور فو الذي نفس محمد بيده لولا كثرة هؤلاء القوم وضجيج أصواتهم لسمع الناس من جميع أهل الدنيا هذه وقعة الشمس حين تطلع وحين تغرب ومن ورائهم ثلاث أمم منسك وتافيل وتاريس وفيه أنه صلى الله عليه وسلم دعا هذه الثلاث أمم فكفروا وأنكروا وهم مع يأجوج ومأجوج وذكر حديثا طويلا لا يشك من له أدنى علم أنه موضوع وإنما نبهت عليه ها هنا ليعرف حاله فلا يغتر به ولأنه من ملازم ما ترجمنا الفصل به ومن توابع ليلة الإسراء والله اعلم & فصل &
وهاجر صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة
وقدمنا ذكر غزواته
وعمره
وحجته
وذلك كله من توابع هذا الفصل فأغنى ذكر ما تقدم عن إعادته
____________________
(1/242)
& فصل & سماعاته
قد قدمنا أنه صلى الله عليه وسلم سمع كلام ربه عز وجل وخطابه له ليلة الإسراء حيث يقول صلى الله عليه وسلم فنوديت أن قد أتممت فريضتي وخففت عن عبادي يا محمد إنه لا يبدل القول لدي هي خمس وهي خمسون فمثل هذا لا يقوله إلا رب العالمين كما في قوله تعالى لموسى ( إنني أنا الله لا إله إلا أنا فأعبدني وأقم الصلاة لذكري ) قال علماء السلف وأئمتهم هذا من أول الدلائل على أن كلام الله غير مخلوق لأن هذا لا يقوم بذات مخلوقة وقال جماعة منهم من زعم أن قوله تعالى ( إنني أنا الله لا إله إلا أنا فأعبدني ) مخلوق فهو كافر لأنه بزعمه يكون ذلك المحل المخلوق قد دعا موسى الى عبادته وقد بسط هذا في غير هذا الموضع
وقد روى صلى الله عليه وسلم عن ربه عز وجل أحاديث كثيرة كحديث يا عبادي كلكم جائع إلا من أطعمته الحديث وقد رواه مسلم وله أشباه كثيرة وقد أفرد العلماء في هذا الفصل مصنفات في ذكر الأحاديث الإلهية فجمع زاهر بن طاهر في ذلك مصنفا وكذلك الحافظ الضياء أيضا وجمع علي بن بلبان
____________________
(1/243)
مجلدا رأيته يشتمل على نحو من مائة حديث
وقد ذهب جماعة من أهل الحديث والأصول أن السنة كلها بالوحي لقوله تعالى ( وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى ) وهذه المسألة مقررة في كتب الأصول وقد أتقنها الحافظ أبو بكر البييهقي في كتابه ( المدخل الى السنة ) واختلفوا هل رأى ربه سبحانه كما قدمنا
وقد رأى جبريل عليه السلام هناك على صورته وكان قد رآه قبل ذلك منهبطا من السماء الى الأرض على الصورة التي خلق عليها وذلك في ابتداء الوحي وهو المعني بقوله تعالى ( علمه شديد القوى ذو مرة فاستوى وهو بالأفق الأعلى ثم دنا فتدلى فكان قاب قوسين أو أدني ) فالصحيح من قول المفسرين بل المقطوع به أن المتدلي في هذه الآية هو جبريل عليه السلام كما أخرجاه في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها أنها سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال ذاك جبريل فقد قطع هذا الحديث النزاع وأزاح الإشكال
وقد قدمنا أنه اجتمع بالأنبياء ورآهم على مراتبهم ورأى خازن الجنة وخازن النار وشيعه من كل سماء مقربوها الى السماء التي تليها وتلقاه المقربون في
____________________
(1/244)
الأخرى وفي السنن أنه صلى الله عليه وسلم قال ما مررت ليلة أسري بي بملأ من الملائكة إلا قالوا يا محمد مر أمتك بالحجامة تفرد به عباد بن منصور وفي حديث آخر إلا قالوا مر أمتك يستكثروا من غراس الجنة سبحان الله والحمد لله الحديث وهما غريبان
ونزل عليه جبريل عليه السلام بالقرآن عن الله عز وجل على قلبه الكريم وفي الصحيحين أنه أتاه ملك الجبال يوم قرن الثعالب برسالة من الله تعالى فقال إن شاء أن يطبق عليهم الأخشبين فقال بل أستأني بهم
____________________
(1/245)
وفي صحيح مسلم أن ملكا نزل بالآيتين من آخر سورة البقر
وفي مغازي الأموي عن أبيه قال وزعم الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس قال بينما النبي صلى الله عليه وسلم يجمع الأقباض وجبريل عن يمينه إذ أتاه ملك من الملائكة قال يا محمد إن الله يقرأ عليك السلام قال رسول الله صلى الله عليه وسلم هو السلام ومنه السلام وإليه السلام فقال الملك إن الله يقول لك إن الأمر الذي أمرك به الحباب بن المنذر فقال صلى الله عليه وسلم لجبريل عليه السلام أتعرف هذا قال ما كل أهل السماء أعرف وإنه لصادق وما هو بشيطان وهذا وإن كان إسناده ليس بذاك إلا أن له شاهدا وذلك أنه صلى الله عليه وسلم لما نزل على أدنى مياه بدر قال له الحباب بن المنذر يا رسول الله إن كنت نزلت هذا المنزل بأمر الله فذاك وإن كنت إنما نزلته للحرب والمكيدة فليس بمنزل قال للحرب والمكيدة قال فانطلق حتى تجلس على أدنى المياه من القوم ونعور ما وراءنا من المياه كما تقدم في قصة بدر
وقد روي أنه صلى الله عليه وسلم حدث عن قس بن ساعدة الإيادي بما سمعه يقول بسوق عكاظ وفي سنده نظر
____________________
(1/246)
وفي صحيح مسلم عن فاطمة بنت قيس أنه صلى الله عليه وسلم حدث على المنبر عن تميم الداري بقصة الدجال & فصل & السماع منه
وسمع منه أصحابه بمكة والمدينة وغيرهما من البلدان التي غزا إليها وحلها كعرفة ومنى وغير ذلك
وقد سمع منه الجن القرآن وهو يقرأ بأصحابه بعكاظ وجاؤوه فسألوه عن أشياء ومكث معهم ليلة شهدها عبدالله بن مسعود إلا أنه غير مباشر لهم لكنه كان ينتظر رسول الله صلى الله عليه وسلم في مكان محوط عليه لئلا يصيبه سوء فأسلم منهم طائفة من جن نصيبين رضي الله عنهم اجمعين وقد روينا في الغيلانيات خبرا من حديث رجل منهم يقال له عبدالله سمحح وفي إسناده غرابة
____________________
(1/247)
وقد جاءه جبريل في صورة رجل أعرابي فحدثه عن الإسلام والإيمان والإحسان وأمارات الساعة & فصل & عدد المسلمين حين وفاته وعدد من روى عنه من الصحابة
قال الإمام أبو عبدالله الشافعي رحمه الله توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون ستون ألفا ثلاثون ألفا بالمدنية وثلاثون ألفا في غيرها
وقال الحافظ أبو زرعة عبيد الله بن عبدالكريم الرازي رحمه الله تعالى توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد رآه وسمع منه زيادة على مائة ألف
وقال الحافظ أبو عبدالله محمد بن عبدالله الحاكم النيسابوري روى عنه صلى الله عليه وسلم أربعة آلاف صحابي
قلت قد أفرد الأئمة أسماء الصحابة في مصنفات على حدة كالبخاري في أول
____________________
(1/248)
تاريخه الكبير وابن أبي خيثمة والحافظ أبي عبدالله بن مندة والحافظ أبي نعيم الأصبهاني والشيخ الإمام أبي عمر بن عبدالبر وغيرهم وقد أفرد أبو محمد بن حزم أسماءهم في جزء جمعه من كتاب الإمام بقي بن مخلد الأندلسي رحمه الله تعالى وذكر ما روى كل واحد منهم وسنفرد ذلك في فصل بعد إن شاء الله تعالى ونضيف اليه ما ينبغي إضافته وإن يسر الكريم الوهاب ذكرت من المسانيد والسنن ما روى كل صحابي من الأحاديث وتكلمت على كل منها وبينت حاله من صحة وضعيف إن شاء الله تعالى وبه الثقة وعليه التكلان ولا حول ولا قوة إلا بالله العزيز الحكيم
____________________
(1/249)
& فصل & خضائص رسول الله صلى الله عليه وسلم
في ذكر شيء من خصائص رسول الله صلى الله عليه وسلم التي لم يشاركه فيها غيره قد أكثر أصحابنا وغيرهم من ذكر هذا الفصل في أوائل كتب النكاح من مصنفاتهم تأسيا بالإمام أبي عبدالله صاحب المذهب فإنه ذكر طرفا من ذلك هنالك وحكى الصيمري عن أبي علي بن خيران أنه منع من الكلام في خصائص رسول الله صلى الله عليه وسلم في أحكام النكاح وكذا في الإمامة ووجهه أن ذلك قد انقضى فلا عمل يتعلق به وليس منه من دقيق العلم ما يقع به التدريب فلا وجه لتضييع الزمان برجم الظنون فيه
وقال الشيخ أبو عمرو بن الصلاح بعد حكايته ذلك وهذا غريب مليح والله أعلم
وقال إمام الحرمين قال المحققون وذكر الخلاف في مسائل الخصائص خبط لا فائدة فيه فإنه لا يتعلق به حكم ناجز تمس الحاجة اليه وإنما يجري الخلاف فيما لا نجد بدا من إثبات حكم فيه فإن الأقيسة لا مجال لها والأحكام الخاصة تتبع فيها النصوص وما لا نص فيه فالخلاف فيه هجوم على الغيب من غير فائدة
وقال الشيخ أبو زكريا النووي الصواب الجزم بجواز ذلك بل باستحبابه
____________________
(1/250)
ولو قيل بوجوبه لم يكن بعيدا إذ لم يمنع من إجماع وربما رأى جاهل بعض الخصائص ثابتا في الصحيح فيعمل به أخذا بأصل التأسي فوجب بيانها لتعرف فلا مشاركة فيها وأي فائدة أعظم من هذه وأما ما يقع في أثناء الخصائص مما لا فائدة فيه اليوم فقليل جدا لا تخلو أبواب الفقه عن مثله للتدرب ومعرفة الأدلة
وأما جمهور الأصحاب فلم يعرجوا على ما ذكره ابن خيران وإمام الحرمينن بل ذكروا ذلك مستقصى لزيادة العلم لا سيما الإمام أبو العباس أحمد بن أبي أحمد بن القاص صاحب كتاب ( التلخيص ) وقد رتب الحافظ أبو بكر البيهقي على كلامه في ذلك سننه الكبير ولكن فرع كثيرا من ذلك على أحاديث فيها نظر سأذكرها إن شاء الله تعالى
وقد رتبوا الكلام فيها على أربعة أنحاء الأول ما وجب عليه دون غيره الثاني ما حرم عليه دون غيره الثالث ما أبيح له دون غيره الرابع ما اختص به من الفضائل دون غيره
فذكروا في كل منها أحكام النكاح وغيرها وقد رأيت أن أرتبها على نوع آخر أقرب تناولا مما ذكروا إن شاء الله تعالى فأقول وبالله التوفيق
____________________
(1/251)
الخصائص على قسمين
أحدهما ما اختص به عن سائر إخوانه من الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين الثاني ما اختص به من الأحكام دون أمته القسم الأول ما اختص به دون غيره من الأنبياء
أما القسم الأول ففي الصحيحين عن جابر بن عبدالله بن عمرو بن حرام الأنصاري رضي الله عنهما قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطيت خمسا لم يعطهن أحد من الأنبياء قبلي نصرت بالرعب مسيرة شهر وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل وأحلت لي الغنائم ولم يحل لأحد قبلي وأعطيت الشفاعة وكان النبي يبعث الى قومه خاصة وبعثت الى الناس عامة
فقوله صلى الله عليه وسلم نصرت بالرعب مسيرة شهر قيل كان اذا هم بغزو قوم أرهبوا منه قبل ان يقدم عليهم بشهر ولم يكن هذا لأحد سواه وما روي في صحيح مسلم في قصة نزول عيسى عليه الصلاة والسلام الى الأرض وأنه لا يدرك نفسه كافرا إلا مات ونفسه ينتهي حيث ينتهي بصره فإن كان ذلك صفة له لم تزل من قبل أن يرفع فليست نظير هذا وإلا فهو بعد نزوله الى الأرض أحد أمة محمد صلى الله عليه وسلم يعني انه يحكم بشرعه ولا يوحى اليه بخلافها والله تعالى أعلم
____________________
(1/252)
واما قوله صلى الله عليه وسلم وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا فمعنى ذلك في الحديث الذي رواه الإمام أحمد في مسنده إن من كان قبلنا كانوا لا يصلون في مساكنهم وإنما كانوا يصلون في كنائسهم وقوله وطهورا يعني به التيمم فإنه لم يكن في أمة قبلنا وإنما شرع له صلى الله عليه وسلم ولأمته توسعة ورحمة وتخفيفا
وقوله صلى الله عليه وسلم وأحلت لي الغنائم فكان من قبله إذا غنموا شيئا أخرجوا منه قسما فوضعوه ناحية فتنزل نار من السماء فتحرقه
وقوله صلى الله عليه وسلم وأعطيت الشفاعة يريد بذلك صلوات الله وسلامه عليه المقام المحمود الذي يغبطه به الأولون والآخرون والمقام الذي يرغب إليه الخلق كلهم ليشفع لهم الى ربهم ليفصل بينهم ويريحهم من مقام المحشر وهي الشفاعة التي يحيد عنها أولو العزم لما خصه الله به من الفضل والتشريف فيذهب الى الجنة قبل الأنبياء وقول الخازن له بك أمرت لا أفتح لأحد قبلك وهذه خصوصية أيضا ليست إلا له من البشر كافة فيدخل الجنة فيشفع الى الله تعالى في ذلك كما جاء في الأحاديث الصحاح وهذه هي الشفاعة الأولى التي يختص بها دون غيره من الرسل ثم تكون له بعدها شفاعات في إنقاذ من شاء الله من أهل الكبائر من النار من أمته ولكن الرسل يشاركونه في هذه الشفاعة فيشفعون في عصاة أممهم وكذلك الملائكة بل والمؤمنون كما في الصحيح من حديث أبي هريرة وأبي سعيد فيقول الله تعالى شفعت الملائكة وشفع النبيون وشفع
____________________
(1/253)
المؤمنون ولم يبق إلا أرحم الراحمين وذكر الحديث وقد استقصى هذه الشفاعات الإمام أبو بكر بن خزيمة في آخر كتاب التوحيد وكذلك أبو بكر بن أبي عاصم في كتاب ( السنة ) له وكذلك هي مبسوطة بسطا حسنا في حديث الصور الذي رواه الطبراني في المطولات وأبو موسى المديني الأصبهاني وغيرهما ممن صنف في المطولات وقد جمع الوليد بن مسلم عليه مجلدا وقد أفردت إسناده في جزء فأما رواية أصحاب الكتب الستة كالصحيحين وغيرهما فإنه كثير ما يقع عندهم اختصار في الحديث أو تقديم وتأخير ويظهر ذلك لمن تأمله والله أعلم
ثم رأيت في صحيح البخاري شيئا من ذكر الشفاعة العظمى فإنه قال في كتاب الزكاة باب من سأل الناس تكثرا حدثنا يحيى بن بكير حدثنا الليث
____________________
(1/254)
عن عبيد الله بن أبي جعفر قال سمعت حمزة بن عبدالله بن عمر قال سمعت عبدالله بن عمر رضي الله عنهما قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يزال الرجل يسأل الناس حتى يأتي يوم القيامة ليس في وجهه مزعة لحم وقال إن الشمس تدنو يوم القيامة حتى يبلغ العرق نصف الأذن فبينما هم كذلك استغاثوا بآدم ثم بموسى ثم بمحمد وزاد عبدالله بن يوسف حدثني الليث عن أبي جعفر فيشفع ليقضى بين الخلق فيمشي حتى يأخذ بحلقة الباب فيومئذ يبعثه الله مقاما محمودا يحمده أهل الجمع كلهم فهذه هي الشفاعة العظمى التي يمتاز بها عن جميع الرسل أولي العزم بعد أن يسأل كل واحد منهم أن يقوم فيها فيقول لست هناكم اذهبوا الى فلان فلا يزال الناس من رسول الى رسول حتى ينتهوا الى محمد صلى الله عليه وسلم فيقول أنا لها فيذهب فيشفع في أهل الموقف كلهم عند الله تعالى ليفصل بينهم ويريح بعضهم من بعض
ثم له بعد ذلك شفاعات أربع أخر منها في إنقاذ خلق ممن أدخل النار ثم هو أول شفيع في الجنة كما رواه الامام أحمد في مسنده عن المختار بن فلفل عن أنس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا أول شافع في الجنة وهو شفيع في رفع درجات بعض أهل الجنة وهذه الشفاعة اتفق عليها أهل السنة والمعتزلة ودليلها ما في صحيح البخاري من رواية أبي موسى أن عمه أبا عامر لما قتل بأوطاس قال رسول الله صلى الله عليه وسلم اللهم اغفر لعبيد ابي عامر واجعله يوم القيامة
____________________
(1/255)
فوق كثير من خلقك وقال عليه الصلاة والسلام لما مات أبو سلمة بن عبد الأسد اللهم ارفع درجته وسنفرد إن شاء الله تعالى في الشفاعة جزءا لبيان أقسامه وتعدادها وأدلة ذلك إن شاء الله تعالى
أما قوله صلى الله عليه وسلم وكان النبي يبعث الى قومه وبعثت إلى الناس عامة فمعناه في الكتاب العزيز وهو قوله عز وجل ( وما أرسلنا من رسول الا بلسان قومه ليبين لهم ) وقوله تعالى ( وإن من أمة إلا خلا فيها نذير ) فكان النبي ممن كان قبلنا لا يكلف من أداء الرسالة إلا ما يدعو به قومه إلى الله وأما محمد صلوات الله وسلامه عليه فقال الله تعالى ( قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا ) وقال تعالى ( لأنذركم به ومن بلغ ) وقال تعالى ( ومن يكفر به من الأحزاب فالنار موعده ) وقال تعالى ( وقل للذين أوتوا الكتاب والأميين أأسلمتم فإن أسلموا فقد اهتدوا وإن تولوا فإنما عليك البلاغ والله بصير بالعباد ) في آي كثير من القرآن تدل على عموم رسالته الى الثقلين فأمره الله تعالى أن ينذر جميع إنسهم وجنهم وعربهم وعجمهم فقام صلوات الله وسلامه عليه بما أمر وبلغ عن الله رسالته
من خصائصه على إخوانه من الأنبياء صلوات الله وسلامه عليه وعليهم
____________________
(1/256)
أجمعين أنه أكملهم وسيدهم وخطيبهم وإمامهم وخاتمهم وليس لنبي إلا وقد أخذ عليه الميثاق لئن بعث محمد وهو حي ليؤمنن به ولينصرنه وأمر أن يأخذ على أمته الميثاق بذلك قال الله تعالى ( وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه قال أأقررتم وأخذتم على ذلكم إصري قالوا أقررنا قال فاشهدوا وأنا معكم من الشاهدين ) يقول تعالى مهما آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول بعد هذا كله فعليكم الإيمان به ونصرته وإذا كان هذا الميثاق شاملا لكل منهم تضمن أخذه لمحمد صلى الله عليه وسلم من جميعهم وهذه خصوصية ليست لأحد منهم سواه
ومن ذلك أنه صلى الله عليه وسلم ولد مسرورا كما ورد في الحديث الذي جاء من طرق عديدة لكنها غريبة وقد قيل إنه شاركه فيها غيره من الأنبياء كما ذكره أبو الفرج ابن الجوزي في كتاب ( تلقيح الفهوم )
ومن ذلك أن معجزة كل نبي انقضت معه ومعجزته صلى الله عليه وسلم باقية بعده إلى ما شاء الله وهو القرآن العزيز المعجز لفظه ومعناه الذي تحدى الإنس والجن أن يأتوا بمثله فعجزوا ولا يمكنهم ذلك أبدا الى يوم القيامة
ومن ذلك أنه صلى الله عليه وسلم أسري به الى سدرة المنتهى ثم رجع الى منزله في ليلة
____________________
(1/257)
واحدة وهذه من خصائصه صلى الله عليه وسلم إلا أن يكون في الحديث من قوله بحيث يقول جبريل للبراق حين جمح لم أراد صلى الله عليه وسلم أن يركبه اسكن فوالله ما ركبك خير منه وكذا قوله في الحديث فربطت الدابة في الحلقة التي كانت تربط بها الأنبياء ما يدل على أنه قد قربهم ربهم إلا أننا نعلم أنه صلى الله عليه وسلم لم يشاركه أحد منهم في المبالغة في التقريب والدنو منه للتعظيم ولهذا كانت منزلته في الجنة أعلاها منزله وأقربها الى العرش كما جاء في الحديث ثم سلوا الله لي الوسيلة فإنها منزلة في الجنة لا تنبغي الا لعبد من عباد الله وأرجو أن أكون أنا هو ف صلى الله عليه وسلم
ومن ذلك أن أمته اذا اجتمعت على قول واحد في الأحكام الشرعية كان قولها ذلك معصوما من الخطأ بل يكون اتفاقها ذلك صوابا وحقا كما قرر ذلك في كتب الأصول وهذه خصوصية لهم بسببه لم تبلغنا عن أمة من الأمم قبلها
ومن ذلك أنه صلى الله عليه وسلم أو من تنشق عنه الأرض
ومن ذلك أنه عليه الصلاة والسلام إذا صعق الناس يوم القيامة يكون هو أولهم إفاقة كما أخرجاه في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه في قصة اليهودي لما قال لا والذي اصطفى موسى على العالمين فلطمه رجل من المسلمين وترافعا الى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لا تفضلوني على موسى فإن الناس يصعقون يوم القيامة فأكون أول من يفيق فأجد موسى باطشا بقائمة العرش فلا أدري أفاق أم كان ممن استثنى الله وفي رواية أم جوزي بصعقة الطور
____________________
(1/258)
وقد حمل بعض من تكلم على هذا الحديث هذه الإفاقة على القيام من القبر وغيره في ذلك ما وقع في بعض روايات البخاري من حديث يحيى بن عمرو المديني عن أبي سعيد رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تخيروني على الأنبياء فإن الناس يصعقون يوم القيامة فأكون أول من تنشق عنه الأرض فإذا أنا بموسى آخذ بقائمة من قوائم العرش فلا أدري أكان ممن صعق أم جوزي بصعقته الأولى وهذا اللفظ مشكل والمحفوظ رواية البخاري عن يحيى بن قزعة عن إبراهيم بن سعد عن الزهري عن أبي سلمة وعبد الرحمن الأعرج عن أبي هريرة فذكر قصة اليهودي الى أن قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تخيروني على موسى فإن الناس يصعقون يوم القيامة فأصعق معهم فأكون أول من يفيق فأجد موسى وذكر الحديث فهذا نص صريح لا يحتمل تأويلا أن هذه الإفاقة عن صعق لا عن موت وهذا حقيقة الإفاقة ثم من تأمل قوله فلا أدري أفاق قبلي أم جوزي بصعقة الطور جزم بهذا والله سبحانه وتعالى أعلم
ومن ذلك أنه صاحب اللواء الأعظم يوم القيامة ويبعث هو وأمته على نشز من الأرض دون سائر الأمم يأذن الله له ولهم بالسجود في المحشر دون سائر الأمم كما رواه ابن ماجه عن جبارة بن المغلس الحماني حدثنا عبد الأعلى بن أبي المساور عن أبي بردة عن أبيه أبي موسى قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا
____________________
(1/259)
جمع الله الخلائق يوم القيامة أذن لأمة محمد في السجود فيسجدون له طويلا ثم يقال ارفعوا رؤوسكم فقد جعلنا عدتكم فداءكم من النار وجبارة ضعيف وقد صح من غير وجه أنهم أول الأمم يقضى بينهم يوم القيامة
ومن ذلك أنه صاحب الحوض المورود وقد روى الترمذي وغيره أن لكل نبي حوضا ولكن نعلم أن حوضه صلى الله عليه وسلم أعظم الحياض وأكثرها واردا
ومن ذلك أن البلد الذي بعث فيه أشرف بقاع الأرض ثم مهاجره على قول الجمهور وقيل إن مهاجره أفضل البقاع كما هو مأثور عن مالك بن أنس رحمه الله وجمهور الأصحاب وقد حكى ذلك عياض السبتي عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه والله أعلم ونقل الإتفاق على أن قبره الذي ضم جسده بعد موته أفضل بقاع الأرض وقد سبقه إلى حكاية هذا الإجماع القاضي أبو الوليد الباجي وابن بطال وغيرهما وأصل ذلك ما روي أنه لما مات صلى الله عليه وسلم اختلفوا في موضع دفنه فقيل بالبقيع وقيل بمكة وقيل ببيت المقدس فقال أبو بكر رضي الله عنه إن الله لم يقبضه إلا في أحب البقاع إليه ذكره عبدالصمد بن عساكر في كتاب ( تحفة الزائر ) ولم أره بإسناد
____________________
(1/260)
ومن ذلك أنه لم يكن ليورث بعد موته كما رواه أبو بكر وأبو هريرة رضي الله عنهما عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال لا نورث ما تركناه فهو صدقة أخرجاه من الوجهين ولكن روى الترمذي بإسناد جيد في غير ( الجامع ) عن أبي بكر رضي الله عنه أنه صلى الله عليه وسلم قال نحن معشر الأنبياء لا نورث فعلى هذا يكونون قد اشتركوا في هذه الصفة دون بقية المكلفين
ومما يشترك فيه هو والأنبياء أنه صلى الله عليه وسلم كان تنام عيناه ولا ينام قلبه وكذلك الأنبياء وجاء في الصحيح تراصوا في الصف فإني أراكم من وراء ظهري فحمله كثير على ظاهره والله أعلم وقال أبو نصر بن الصباغ كان ينظر من ورائه كما ينظر من قدامه ومعنى ذلك التحفظ والحس وجاء في حديث رواه أبو يعلى الموصلي في مسنده عن أنس مرفوعا الأنبياء أحياء في قبورهم يصلون
____________________
(1/261)
& القسم الثاني & ما اختص به دون أمته وقد يشاركه فيها غيره من الأنبياء
القسم الثاني من الخصائص ما كان مختصا به دون أمته وقد يشاركه في بعضها الأنبياء وهذا هو المقصود الأول فلنذكره مرتبا على أبواب الفقه كتاب الإيمان
فمن ذلك أنه كان معصوما في أقواله وأفعاله لا يجوز عليه التعمد ولا الخطأ الذي يتعلق بأداء الرسالة ولا يقر فيبقى عليه فلا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى فلهذا قال كثير من العلماء لم يكن له الاجتهاد لأنه قادر على النص وقال آخرون بل له أن يجتهد ولكن لا يجوز عليه الخطأ وقال آخرون بل لا يقر عليه فعلى الأقوال كلها هو واجب لا يتصور استمرار الخطأ عليه بخلاف سائر أمته فإنه يجوز ذلك كله على كل منهم منفردا فأما إذا اجتمعوا كلهم على قول واحد فلا يجوز عليهم الخطأ كما تقدم
ومن ذلك ما ذكره أبو العباس بن القاص أنه كلف وحده من العلم ما كلف الناس بأجمعهم واستشهد البيهقي على ذلك بحديث ابن عمر رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال بينا أنا نائم إذ أتيت بقدح فيه لبن فشربت منه حتى إني لأرى الري يجري في أظفاري ثم أعطيت فضلي عمر بن الخطاب رضي الله عنه قالوا فما أولت ذلك يا رسول الله قال العلم رواه مسلم
____________________
(1/262)
ومن ذلك أنه كان يرى ما يرى الناس حوله ففي الصحيح عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لها هذا جبريل يقرأ عليك السلام فقالت عليه السلام يا رسول الله ترى ما نرى وعنها في حديث الكسوف الذي في الصحيحين والله لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا وقال البيهقي حدثنا الحكم حدثنا محمد بن علي بن دحيم حدثنا أحمد بن حازم الغفاري حدثنا عبيد بن موسى حدثنا إسرائيل عن إبراهيم بن مهاجر عن مجاهد عن مورق عن أبي ذر رضي الله عنه قال قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم ( هل أتي على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئا مذكورا ) حتى ختمها ثم قال إني أرى ما لا ترون وأسمع ما لا تسمعون أطت السماء وحق لها تئط ما فيه موضع قدر أصبع إلا ملك واضع جبهته ساجدا لله والله لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا وما تلذذتم بالنساء على الفرش ولخرجتم إلى الصعدات تجأرون إلى الله والله لوددت أني شجرة تعضد رواه ابن ماجه قال البيهقي يقال إن قوله شجرة تعضد من قول أبي ذر والله أعلم
____________________
(1/263)
ومن ذلك أن الله أمره أن يختار الآخرة على الأولى وكان يحرم عليه أن يمد عينيه إلى ما متع به المترفون من أهل الدنيا ودليله من الكتاب العزيز ظاهر
ومن ذلك أنه لم يكن له أن يعلم الشعر قال الله تعالى ( وما علمناه الشعر وما ينبغي له ) وعن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ما أبالي ما أتيت إن أنا شربت ترياقا أو تعلقت تميمة أو قلت الشعر من قبل نفسي رواه أبو داود فلهذا قال أصحابنا كان يحرم عليه تعلم الشعر
ومن ذلك أنه لم يكن يحسن الكتابة قالوا وقد كان يحرم عليه ذلك قال الله تعالى ( الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل ) وقال تعالى ( وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك إذا لارتاب المبطلون ) وقد زعم بعضهم أنه صلى الله عليه وسلم لم يمت حتى تعلم
____________________
(1/264)
الكتابة وهذا قول لا دليل عليه فهو مردود إلا ما رواه البيهقي من حديث أبي عقيل يحيى بن المتوكل عن مجالد عن عون بن عبدالله عن أبيه قال لم يمت رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى كتب وقرأ وقال مجالد فذكرت ذلك للشعبي فقال قد صدق سمعت من أصحابنا يذكرون ذلك ويحيى هذا ضعيف ومجالد فيه كلام وهكذا ادعى بعض علماء المغرب أنه كتب صلى الله عليه وسلم صلح الحديبية فأنكر ذلك عليه أشد الإنكار وتبرئ من قائله على رؤوس المنابر وعملوا فيه الأشعار وقد غره في ذلك ما جاء في بعض روايات البخاري فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم فكتب هذا ما قاضى عليه محمد بن عبدالله وقد علم أن المقيد يقضي على المطلق ففي الرواية الأخرى فأمر عليا فكتب هذا ما قاضى عليه محمد ابن عبدالله صلى الله عليه وسلم
____________________
(1/265)
ومن ذلك أن الكذب عليه ليس كالكذب على غيره فقد توترت عنه صلوات الله وسلامه عليه أن من كذب عليه متعمدا فليتبوأ مقعده من النار روي هذا الحديث من طريق نيف وثمانين صحابيا فهو في الصحيحين من حديث علي وأنس وأبي هريرة والمغيرة بن شعبة وعند البخاري من رواية الزبير بن العوام وسلمة بن الأكوع وعبدالله بن عمروا ولفظه بلغوا عني ولو آية وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج ومن كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار وفي مسند أحمد عن عثمان وعمر وأبي سعيد وواثلة بن الأسقع وزيد بن أرقم وعند الترمذي عن ابن مسعود ورواه ابن ماجه عن جابر وأبي قتادة وقد صنف فيه جماعة من الحفاظ كإبراهيم الحربي ويحيى بن صاعد والطبراني والبزار وابن مندة وغيرهم من المتقدمين وابن الجوزي ويوسف بن خليل من المتأخرين وصرح بتواتره ابن الصلاح والنووي
____________________
(1/266)
وغيرهما من حفاظ الحديث وهو الحق فلهذا أجمع العلماء على كفر من كذب عليه متعمدا مستجيزا لذلك واختلفوا في المتعمد فقط فقال الشيخ أبو محمد يكفر أيضا وخالفه الجمهور ثم لو تاب فهل تقبل روايته على قولين فأحمد بن حنبل ويحيى بن معين وأبو بكر الحميدي قالوا لا تقبل لقوله صلى الله عليه وسلم إن كذبا علي ليس ككذب على أحد من كذب علي فليتبوأ مقعده من النار قالوا ومعلوم أن من كذب على غيره فقد أثم وفسق وكذلك الكذب عليه لكن من تاب من الكذب على غيره يقبل بالإجماع فينبغي أن لا تقبل رواية من كذب عليه فرقا بين الكذب عليه والكذب على غيره وأما الجمهور فقالوا تقبل روايته لأن
____________________
(1/267)
قصارى ذلك أنه كفر ومن تاب من الكفر قبلت توبته وروايته وهذا هو الصحيح
ومن ذلك أنه من رآه في المنام فقد رآه حقا كما جاء في الحديث فإن الشيطان لا يتمثل بي لكن بشرط أن يراه على صورته التي هي صورته في الحياة الدنيا كما رواه النسائي عن ابن عباس واتفقوا أن من نقل عنه حديثا في المنام أنه لا يعمل به لعدم الضبط في رواية الرائي فإن المنام محل تضعف فيه الروح وضبطها والله تعالى أعلم
ومن ذلك ما ذكره الحافظ أبو بكر البيهقي في سننه الكبير عن أبي عباس ابن القاص في قوله تعالى ( لئن أشركت ليحبطن عملك ) قال أبو العباس وليس كذلك غيره حتى يموت لقوله تعالى ( ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم ) قال البيهقي كذا قال أبو العباس وذهب غيره إلى أن المراد بهذا الخطاب غير النبي عليه الصلاة والسلام ثم المطلق محمول على المقيد انتهى كلامه قلت وهذا الفرع لم يكن إلى ذكره حادة لعدم الفائدة منه وما كان ينبغي أن يذكر لولا ما يتوهم من إسقاطه إسقاط غيره مما
____________________
(1/268)
ذكروه وإلا فالضرب عن مثل هذا صفحا أولى والله أعلم
ومن ذلك أنه لم يكن له خائنة الأعين أي أنه لم يكن له أن يومئ بطرفه خلاف ما يظهره كلامه فيكون من باب اللمز ومستند هذا قصة عبدالله بن سعد ابن أبي سرح حين كان قد أهدر صلى الله عليه وسلم دمه يوم الفتح في جملة ما أهدر من الدماء فلما جاء به أخوة من الرضاعة عثمان بن عفان رضي الله عنه فقال يا رسول الله بايعه فتوقف صلى الله رجاء أن يقوم إليه رجل فيقتله ثم بايعه ثم قال لأصحابه أما كان فيكم رجل رشيد يقوم إلى هذا حين رآني قد أمسكت يدي فيقتله فقالوا يا رسول الله هلا أومأت إلينا فقال إنه لا ينبغي لنبي أن تكون له خائنة الأعين كتاب الطهارة
فمن ذلك أنه كان قد أمر بالوضوء لكل صلاة فلما شق ذلك عليه أمر بالسواك ومستنده ما رواه عبدالله بن حنظلة بن أبي عامر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بالوضوء لكل صلاة طاهرا وغير طاهر فلما شق عليه أمر بالسواك لكل صلاة أخرجه أبو داود فالظاهر من هذا أنه أوجب عليه السواك وهو الصحيح عند الأصحاب قال أبو زكريا ومال إلى قوته الشيخ أبو عمرو بن الصلاح ويؤيده ما رواه الإمام أحمد بن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لقد أمرت بالسواك حتى ظننت أنه سينزل علي به قرآن أو وحي وعن أم سلمة
____________________
(1/269)
قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما زال جبريل يوصيني بالسواك حتى خشيت على أضراسي رواه البيهقي وقال البخاري هذا حديث حسن وقال عبدالله بن وهب حدثنا يحيى بن عبدالله بن سالم عن عمرو مولى المطلب عن المطلب بن عبدالله عن عائشة رضي الله تعالى عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لقد لزمت السواك حتى تخوفت أن يدردني رواه البيهقي وفيه انقطاع بين المطلب وعائشة فيشكل على هذا ما رواه الإمام أحمد عن واثلة بن الأسقع قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرت بالسواك حتى خشيت أن يكتب علي ولهذا قال بعض أصحابنا إنه لم يكن واجبا عليه بل مستحبا
ومن ذلك أنه كان لا ينتقض وضوؤه بالنوم ودليله حديث ابن عباس في الصحيحين أنه صلى الله عليه وسلم نام حتى نفخ ثم جاءه المؤذن فخرج فصلى ولم يتوضأ
____________________
(1/270)
وسببه ما ذكر في حديث عائشة رضي الله عنها أنها سألته فقالت يا رسول الله تنام قبل أن توتر فقال يا عائشة تنام عيناي ولا ينام قلبي أخرجاه واختلفوا هل كان ينتقض وضوؤه بمس النساء على وجهين والأشهر منهما الانتقاض وكان مأخذ من ذهب إلى عدم الإنتقاض حديث عائشة في صحيح مسلم أنها افتقدت رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد فوقعت يدها عليه وهو ساجد وهو يقول اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك وبمعافاتك من عقوبتك وبك منك لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك وجاء من غير وجه عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقبل ثم يصلي ولا يتوضأ وكأن هذا القائل ذهب إلى تخصيص ذلك به صلى الله عليه وسلم ولكن الخصوم لا يقنعون منه بذلك بل يقولون الأصل في ذلك عدم التخصيص إلا بدليل مسألة
هل كان يحتلم على وجهين
صحح النووي المنع ويشكل عليه حديث عائشة في الصحيحين كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصبح جنبا من غير جماع غير احتلام ثم يغتسل ويصوم
____________________
(1/271)
والأظهر في هذا التفصيل وهو أن يقال إن أريد بالإحتلام فيض من البدن فلا مانع من هذا وإن أريد به ما يحصل من تخبط الشيطان فهو معصوم من ذلك صلى الله عليه وسلم ولهذا لا يجوز عليه الجنون ويجوز عليه الإغماء بل أغمي عليه في الحديث الذي روته عائشة رضي الله عنها في الصحيح وفيه أنه اغتسل من الإغماء غير مرة والحديث مشهور
ومن ذلك ما ذكره أبو العباس بن القاص أنه لم يكن يحرم عليه المكث في المسجد وهو جنب واحتجوا بما رواه الترمذي من حديث سالم بن أبي حفصة عن عطية عن أبي سعيد قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يا علي لا يحل لأحد أن يجنب في هذا المسجد غيري وغيرك قال الترمذي حسن غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه وقد سمع البخاري مني هذا الحديث قلت عطية ضعيف الحديث قال البيهقي غير محتج به وكذا الراوي عنه ضعيف وقد حمله ضرار بن صرد على الاستطراق كذا حكاه الترمذي عن شيخه علي بن المنذر الطريقي عنه وهذا
____________________
(1/272)
مشكل لأن الاستطراق يجوز للناس فلا تخصيص فيه اللهم إلا أن يدعى أنه لا يجوز الاستطراق في المسجد النبوي لأحد من الناس سواهما ولهذا قال لا يحل لأحد يجنب في هذا المسجد غيري وغيرك والله أعلم وقال محدوج الذهلي عن جسرة بنت دجاجة عن أم سلمة قالت دخل النبي صلى الله عليه وسلم صرحه هذا المسجد فقال ألا لا يحل هذا المسجد لجنب ولا لحائض إلا لرسول الله صلى الله عليه وسلم وعلي وفاطمة والحسن والحسين إلا قد بينت لكم الأسماء أن تضلوا رواه ابن ماجة والبيهقي وهذا لفظه قال البخاري محدوج عن جسرة فيه نطر ثم رواه البيهقي من وجه آخر عن إسماعيل بن أمية عن جسرة عن أم سلمة مرفوعا نحوه ولا يصح شيء من ذلك ولهذا قال القفال من أصحابنا إن ذلك لم يكن من خصائصه صلى الله عليه وسلم وغلط إمام الحرمين أبا العباس بن القاص في ذلك والله أعلم
____________________
(1/273)
ومن ذلك طهارة شعره صلى الله عليه وسلم كما في صحيح مسلم عن أنس أنه صلى الله عليه وسلم لما حلق شعره في حجته أمر أبا طلحة يفرقه على الناس وهذا إنما يكون من الخصائص إذا حكمنا بنجاسة شعره من سواه المنفصل عنه في حال الحياة وهو أحد الوجهين فأما الحديث الذي رواه ابن عدي من رواية ابن أبي فديك عن بريه بن عمر بن سفينة عن أبيه عن جده قال احتجم النبي صلى الله عليه وسلم ثم قال لي خذ هذا الدم فادفنه من الدواب والطير أو قال الناس والدواب شك ابن أبي فديك قال فتغيبت به فشربته قال ثم سألني فأخبرته أني شربته فضحك فإنه حديث ضعيف لحال بريه واسمه إبراهيم فإنه ضعيف جدا وقد رواه البيهقي من طريق أخرى فقال حدثنا أبو الحسن بن عبدان حدثنا أحمد بن عبيد حدثنا محمد بن غالب حدثنا موسى بن إسماعيل أبو سلمة حدثنا عبيد بن القاسم سمعت عامر بن عبدالله بن الزبير يحدث عن أبيه قال احتجم النبي صلى الله عليه وسلم وأعطاني دمه فقال اذهب فواره لا يبحث عنه سبع أو كلب أو إنسان قال فتنحيت فشربته ثم أتيته فقال ما صنعت قلت صنعت الذي أمرتني قال ما أراك إلا قد شربته قلت نعم قال ماذا تلقى أمتى منك وهذا إسناد ضعيف لحال عبيد بن القاسم الأسدي الكوفي فإنه متروك الحديث وقد كذبه يحيى بن معين لكن قال البيهقي
____________________
(1/274)
روي ذلك من وجه آخر عن أسماء بنت أبي بكر وسلمان الفارسي في شرب ابن الزبير دمه صلى الله عليه وسلم قلت فلهذا قال بعض أصحابنا بطهارة سائر فضلاته صلى الله عليه وسلم حتى البول والغائط من وجه غريب واستأنسوا في ذلك بما رواه البيهقي عن أبي نصر بن قتادة حدثنا أبو الحسن محمد بن أحمد بن حامد العطار حدثنا أحمد بن الحسن بن عبد الجبار حدثنا يحيى بن معين حدثنا حجاج عن ابن جريج قال أخبرتني حكيمة بنت أميمة عن أميمة أمها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يبول في قدح من عيدان ثم يوضع تحت سريره فجاء فأراده فإذا القدح ليس فيه شيء فقال لامرأة تقال لها بركة كانت تخدم لأم حبيبة جاءت معها من أرض الحبشة أين البول الذي كان في هذا القدح قالت شربته يا رسول الله هكذا رواه وهو إسناد مجهول فقد
____________________
(1/275)
أخرجه أبو داود والنسائي من حديث حجاج بن محمد الأعور عن ابن جريج وليس فيه قصة بركة كتاب الصلاة
فمن ذلك الضحى والوتر لما رواه الإمام أحمد في مسنده والبيهقي من حديث أبي جناب الكلبي واسمه يحيى بن أبي حية عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم ثلاث هن علي فرائض وهي لكم تطوع النحر والوتر وركعتا الضحى اعتمد جمهور الأصحاب على هذا الحديث في هذه الثلاث فقالوا بوجوبها
قال الشيخ تقي الدين بن الصلاح رحمه الله تعالى تردد الأصحاب في وجوب السواك عليه وقطعوا بوجوب الضحى والأضحى والوتر عليه مع أن
____________________
(1/276)
مستنده الحديث الذي ذكرنا ضعفه ولو عكسوا فقطعوا بوجوب السواك عليه وترددوا في الأمور الثلاثة لكان أقرب ويكون مستند التردد فيها أن ضعفه من جهة ضعف رواية أبي جناب الكلبي وفي ضعفه خلاف بين أئمة الحديث وقد وثقه بعضهم والله أعلم
قلت جمهور أئمة الجرح والتعديل على ضعفه
وقد حكى الشيخ أبو زكريا النووي في الثلاثة المذكورة ترددا لبعض الأصحاب وأن منهم من ذهب إلى استحبابها في حقه صلى الله عليه وسلم
وهذا القول أرجح لوجوه أحدها أن مستند ذلك هذا الحديث وقد علمت ضعفه وقد روي من وجه آخر في حديث مندل بن علي العنزي وهو أسوأ حالا من أبي جناب والثاني أن الوتر قد ثبت في الصحيحين عن ابن عمر أنه كان صلى الله عليه وسلم يصليه على الراحة وهذا من حجتنا على الحنفية في عدم وجوبه لأنه لو كان واجبا لما فعله على الراحة فدل على أن سبيله في حقه سبيل المندوب والله أعلم وأما الضحى فقد جاء عن عائشة رضي الله عنها في الصحيح أنه كان
____________________
(1/277)
لا يصلي الضحى إلا أن يقدم من مغيبه فلو كانت واجبة في حقه لكان أمر مداومته عليها أشهر من أن ينفى وما في هذا الحديث الآخر أنه كان يصليها ركعتين ويزيد ما شاء الله فمحمول على أنه يصليها كذلك إذا صلاها وقد قدم من مغيبه جمعا بين الحديثين والله أعلم وأما قيام الليل وهو التهجد فهو الوتر على الصحيح لما رواه الإمام أحمد عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال الوتر ركعة من آخر الليل وإسناده جيد
وإذا تقرر ذلك فاعلم أنه قد قال جمهور الأصحاب إن التهجد كان واجبا عليه وتمسكوا بقول الله تعالى ( ومن الليل فتهجد به نافلة لك عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا )
قال عطية بن سعيد العوفي عن ابن عباس في قوله تعالى ( نافلة لك ) يعني بالنافلة أنها للنبي صلى الله عليه وسلم خاصة أمر بقيام الليل فكتب عليه
وقال عروة عن عائشة رضي الله عنها كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلى قام حتى تتفطر قدماه فقالت عائشة يا رسول الله تفعل هذا وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر قال يا عائشة أفلا أكون عبدا شكورا رواه مسلم عن هارون بن معروف عن عبدالله بن وهب عن أبي صخر ابن قسيط عن
____________________
(1/278)
عروة به وأخرجاه من وجه آخر عن المغيرة بن شعبة وروى البيهقي من حديث موسى بن عبدالرحمن الصنعاني عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث علي فريضة وهن سنة لكم الوتر والسواك وقيام الليل ثم قال موسى بن عبدالرحمن هذا ضعيف جدا ولم يثبت في هذا إسناد والله أعلم
وحكى الشيخ أبو حامد رحمه الله تعالى عن الإمام أبي عبدالله الشافعي رحمه الله تعالى أن قيام الليل نسخ في حقه صلى الله عليه وسلم كما نسخ في حق الأمة فإنه كان واجبا في ابتداء الإسلام على الأمة كافة قال الشيخ أبو عمر وبن الصلاح وهذا هو الصحيح الذي تشهد له الأحاديث منها حديث سعد بن هشام عن عائشة وهو في الصحيح معروف وكذا قال أبو زكريا النووي رحمه الله تعالى
قلت والحديث الذي أشار إليه رواه مسلم من حديث هشام بن سعد أنه دخل على عائشة أم المؤمنين فقال يا أم المؤمنين أنبئيني عن قيام رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت ألست تقرأ بيا أيها المزمل قلت بلى قالت فإن الله افترض القيام في أول هذه السورة فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه حولا حتى انتفخت أقدامهم وامسك الله خاتمتها اثني عشر شهرا في السماء ثم أنزل الله التخفيف في آخر هذه السورة فصار قيام الليل تطوعا بعد فريضة وقد أشار الشافعي إلى الاحتجاج بهذا
____________________
(1/279)
الحديث في النسخ ومن قوله تعالى ( ومن الليل فتهجد به نافلة لك ) قال فاعلم أن قيام الليل نافلة لا فريضة والله تعالى أعلم مسألة
وفاتته ركعتان بعد الظهر فصلاهما بعد العصر وأثبتهما وكان يداوم عليهما كما ثبت ذلك في الصحيحين وذلك من خصائصه صلى الله عليه وسلم على أصل الوجهين عند أصحابنا وقيل بل لغيره إذا اتفق له ذلك أن يداوم لله عليهما والله تعالى أعلم مسألة
وكانت صلاته النافلة قاعدا كصلاته قائما إن لم يكن له عذر بخلاف غيره فإنه على النصف من ذلك واستدلوا على ذلك بما رواه مسلم عن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما قال حدثت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال صلاة الرجل قاعدا نصف الصلاة فأتيته فوجدته يصلي جالسا فوضعت يدي على رأسه فقال مالك يا عبدالله بن عمرو فقلت حدثت رسول الله أنك قلت صلاة الرجل قاعدا على نصف الصلاة وأنت تصلي قاعدا فقال أجل ولكن لست كأحد منكم مسألة وكان يجب على المصلي إذا دعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجيبه لحديث أبي سعيد بن
____________________
(1/280)
المعلى في صحيح البخاري وليس هذا لأحد سواه اللهم إلا ما حكاه الأوزاعي عن شيخه مكحول أنه كان يوجب إجابة الوالدة في الصلاة لحديث جريج الراهب أنه دعته أمه وهو قائم يصلي فقال اللهم أمي وصلاتي ثم مضى في صلاته فلما كانت المرة الثانية فعل مثل ذلك ثم الثالثة فدعت عليه فاستجاب الله منها فيه وكان من قصته ما ذكر في صحيح وغيره وقد حكي مقررا ولم ينكر والجمهور على أن ذلك لا يجب بل لا يصلح في الصلاة شيء من كلام الناس للحديث الصحيح اللهم الا ما جوزه الإمام أحمد من مخاطبة الإمام بما ترك من آخر الصلاة لحديث ذي اليدين والله أعلم مسألة وكان لا يصلي على من مات وعليه دين لا وفاء له أخرجه البخاري في
____________________
(1/281)
صحيحة ثلاثيا عن سلمة بن الأكوع لكن اختلف أصحابنا هل كان يحرم عليه أو يكره على وجهين ثم نسخ ذلك بقوله من ترك مالا فلورثته ومن ترك دينا أو ضياعا فإلي فقيل كان يقضيه عنه وجوبا وقيل تكرما ومن ذلك أنه كان إذا دعا لأهل القبول يملؤها الله عليهم نورا ببركة دعائه صلوات الله وسلامه عليه كما ثبت في صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها ومن ذلك أنه مر بقبرين فقال إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير ثم أخذ جريدة رطبة فشقها نصفين فوضع على كل قبر شقة ثم قال لعل الله يخفف عنهما ما لم ييبسا أخرجاه عن ابن عباس مسألة ومن ذلك أنه صلى الله عليه وسلم وعك في مرضه وعكا شديدا فدخل عليه عبدالله بن مسعود فقال يا رسول الله أنك لتوعك وعكا شديدا فقال أجل إني
____________________
(1/282)
لأوعك كما يوعك الرجلان منكم قلت لأن لك أجرين قال نعم رواه الشيخان مسألة ولم يمت صلى الله عليه وسلم حتى خيره اله تعالى بين أن يفسح له في أجله ثم الجنة وإن أحب لقي الله سريعا فاختار ما عند الله على الدنيا وذلك ثابت في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها مسألة ومن ذلك أن الله حرم أن تأكل أجساد الأنبياء والدليل عليه حديث شداد بن أوس وهو في السنن وقد صححه بعض الأئمة
____________________
(1/283)
= كتاب الزكاة
كان يحرم عليه أكل الصدقة سواء كان فرضا أم تطوعا لقوله صلى الله عليه وسلم إن الصدقة لا تحل لمحمد ولا لآل محمد وروى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يأكل الهدية ولا يأكل الصدقة وهذا عام وللشافعي قول في صدقة التطوع أنها كانت تحل له حكاه الشيخ أبو حامد والقفال قال الشيخ أبو عمرو بن الصلاح وخفي على إمام الحرمين والغزالي والصحيح الأول
أما توهم بعض الأعراب بعد وفاته صلى الله عليه وسلم أنها لا تدفع إلا إليه صلى الله عليه وسلم وامتناعهم عن أدائها الى الصديق حتى قاتلهم عليها الى أن دانوا بالحق وأدوا الزكاة فقد أجاب الأئمة عن ذلك في كتبهم أجوبة وقد بسطنا الكلام عليه في غير هذا الموضع كتاب الصيام
كان الوصال في الصيام له مباحا ولهذا نهى أمته عن الوصال فقالوا إنك تواصل قال لست كأحدكم إني أبيت عند ربي يطعمني ويسقيني أخرجاه فقطع تأسيهم به بتخصيصه بأن الله تعالى يطعمه ويسقيه وقد
____________________
(1/284)
اختلفوا هل هما حسيان أو معنويان على قولين الصحيح أنهما معنويان وإلا لما حصل الوصال مسألة
وكان يقبل وهو صائم فقيل كان ذلك خاصا به وهل يكره لغيره أو يحرم أو يباح أو يبطل صوم من فعله كما قال ابن قتيبة أو يستحب له أو يفرق بين الشيخ والشاب على أقوال للعلماء لبسطها موضع آخر مسألة
قال بعض أصحابنا كان إذا شرع في تطوع لزمه إتمامه وهذا ضعيف يرده الحديث الذي في صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل عليها فقالت يا رسول الله ههنا حيس فقال أرنيه فلقد أصبحت صائما فأكل منه
____________________
(1/285)
& كتاب الحج & مسألة
قال بعض أصحابنا كان يجب عليه أن إذا رأى شيئا يعجبه أن يقول لبيك إن العيش عيش الآخرة وكأن مستنده في ذلك ما رواه البخاري عن سهل بن سعد قال كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الخندق وهو يحفر ونحن ننقل فبصر بنا فقال لا عيش إلا عيش الآخرة فاغفر للأنصار والمهاجرة
وقال الشافعي أنبأنا سعيد عن ابن جريج أخبرني حميد الأعرض عن مجاهد أنه قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يظهر من التلبية لبيك اللهم لبيك لا شريك لك لبيك إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك قال حتى إذا كان ذات يوم والناس يصرفون عنه كأنه أعجبه ما هو فيه فزاد فيها لبيك إن العيش عيش الآخرة قال ابن جريج وحسبت أن ذلك كان يوم عرفة
قلت لا يظهر من هذين الحديثين وجوب ذلك أكثر ما فيه استحباب مثل ذلك وقد قيل به في حق المكلفين وحديث مجاهد مرسل وقول ابن جريج منقطع والله أعلم * مسألة
أبيحت له مكة يوما واحدا فدخلها بغير إحرام وقتل من أهلها يومئذ نحوا
____________________
(1/286)
من عشرين وهل كان فتحها عنوة أو صلحا على قولين للشافعي نصر كلا ناصرون وبالجملة كان ذلك من خصائصه كما ذكر صلى الله عليه وسلم في خطبته صبيحة ذلك اليوم حيث قال فإن ترخص أحد بقتال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها فقولوا إن الله أذن لرسوله ولم يأذن لكم والحديث مشهور * مسألة
تقدم الكلام على الحديث المقتضى لوجوب النحر عليه وأنه ضعيف كتاب الأطعمة
ومن الأطعمة قال بعض الأصحاب يحرم عليه أكل البصل والثوم والكراث ومستند ذلك ما أخرجاه عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى بقدر فيه خضرات من بقول فوجد لها ريحا فقال لبعض أصحابه كلوا فلما رآه كره أكلها قال كل فإني أناجي من لا تناجي وقد يشكل على هذا القائل ما حكاه الترمذي عن علي وشريك بن حنبل أنهما إلى تحريم البصل والثوم النيئ
____________________
(1/287)
والصحيح الذي عليه الجادة أن ذلك ليس حراما عليه بل كان أكل ذلك مكروها في حقه والدليل على ذلك ما رواه مسلم عن أبي أيوب أنه صنع لرسول الله صلى الله عليه وسلم طعاما فيه ثوم فرده ولم يأكل منه فقال له أحرام هو فقال لا ولكني أكرهه فقال إني أكره ما كرهت قال الشيخ أبو عمرو وهذا يبطل وجه التحريم والله تعالى أعلم * مسألة
ومثل ذلك الضب قال صلى الله عليه وسلم لست بآكله ولا محرمه أي على الناس وإنما أمسك عن أكله تقذرا وقد قال له خالد يا رسول الله أحرام قال لا ولكنه لم يكن بأرض قومي فأجدني أعافه وهكذا يكره لكل من كره أكل شيء أن يأكله لما روى أبو داود عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال من القرف التلف وقد كره الأطباء ذلك لما يؤدي إليه من سوء المزاج والله تعالى أعلم
____________________
(1/288)
* مسألة وروى البخاري عن أبي جحيفة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال أما أنا فلا آكل متكئا فقال بعض أصحابنا إن ذلك كان حراما عليه قال النووي والصحيح أنه كان مكروها في حقه لا حراما قلت فعلى هذا لا يبقى من باب الخصائص فإنه يكره لغيره أيضا الأكل متكئا سواء فسر الاتكاء بالاضطجاع كما هو المتبادر إلى أفهام كثيرين لما يحصل به من الأذى كما نهي عن الشرب قائما أم بالتربع كما فسره الخطابي وغيره من أهل اللغة وهو الصحيح عند التأمل وإنعام النظر لما فيه من التجبر والتعاظم والله تعالى أعلم * مسألة
قال أبو العباس بن القاص ونهي عن طعام الفجأة وقد فاجأءه أبو الدرداء على طعامه فأمره بأكله وكان ذلك خاصا له صلى الله عليه وسلم قال البيهقي لا أحفظ النهي عن طعام الفجأة من وجه يثبت ثم أورد حديث أبي داود من رواية درست بن زياد عن أبان بن طارق عن نافع عن ابن عمر مرفوعا من دعي فلم يجب
____________________
(1/289)
فقد عصى الله ورسوله ومن دخل على غير دعوة فقد دخل سارقا وخرج مغيرا * مسألة
قالوا وكان يجب على من طلب منه طعاما ليس غيره أن يبذله له صيانة لمهجة النبي صلى الله عليه وسلم ووقاية لنفسه الكريمة بالأموال والأرواح ولقوله تعالى ( النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم ) قلت ويشبه هذا الحديث الحديث الذي في الصحيحين لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين * مسألة
روى البخاري عن الصعب بن جثامة مرفوعا لا حمى إلا لله ورسوله
قال بعض أصحابنا هو مختص به وقال بعضهم يجوز لغيره لمصلحة كما حمى رسول الله صلى الله عليه وسلم النقيع وحمى رضي الله عنه السرف والربذة إلا أن
____________________
(1/290)
ما حماه رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يجوز تغييره بحال ومن ذلك الهبة * مسألة
كان يقبل الهدية ويثيب عليها ثبت ذلك في الصحيح عن عائشة رضي الله عنها وما ذاك إلا لما يرجو من تأليف قلب من يهدي إليه بخلاف غيره من الأمراء لإإنه قد صح الحديث أن هدايا العمال غلول ولأنها في حقهم كالرشي لوجود التهمة والله تعالى أعلم * مسألة
قال زكريا بن عدي حدثنا ابن المبارك عن الأوزاعي عن ابن عطاء قال
____________________
(1/291)
زكريا أراه عمر عن ابن عباس في قوله تعالى ( وما آتيتم من ربا ليربو في أموال الناس فلا يربو عند الله ) قال هو الربا الحلال أن يهدى يريد أكثر منه فلا أجر فيه ولا وزر ونهي عنه النبي صلى الله عليه وسلم خاصة ( ولا تمنن تستكثر ) رواه البيهقي عن الحاكم وغيره عن الأصم عن محمد بن إسحاق عن زكريا وهو أثر منقطع إن كان عمر بن عطاء هو ابن وارز وهو ضعيف أيضا وإن كان ابن أبي الخوار فقد روى له مسلم وقد روى عن ابن عباس ولكن الأمر فيه مبهم كتاب الفرائض
وهو أنه صلى الله عليه وسلم لا يورث وأن ما تركه صدقة كما أخرجاه في الصحيحين عن أبي بكر رضي الله عنه أن فاطمة رضي الله عنها سألته ميراثها من أبيها فقال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لا نورث ما تركنا صدقة إنما يأكل آل محمد في
____________________
(1/292)
هذا المال وإني والله لا أغير شيئا من صدقة رسول الله صلى الله عليه وسلم عن حالها التي كانت عليه في عهده ولهما عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لا تقسم ورثتي دينارا ما تركت بعد نفقة نسائي ومؤنة عاملي فهو صدقة وقد أجمع على ذلك أهل الحب والعقد ولا التفات إلى خرافات الشيعة والرافضة فإن جهلهم قد سارت به الركبان كتاب النكاح
وفيه عامة أحكام التخصيصات النبوية على صاحبها أفضل الصلاة والسلام ولنذكرها مرتبة على الأقسام التي ذكرها الأصحاب ليكون ذلك أخضر لها وأسهل تناولا القسم الأول وهو ما يوجب عليه دون غيره أمره الله تعالى بتخيير أزواجه فقال تعالى ( يا أيها النبي قل أزواجك إن كنتن تردن الحياة الدنيا وزينتها فتعالين أمتعكن وأسرحكن سراحا جميلا وإن كنتن تردن الله ورسوله والدار الآخرة فإن الله أعد للمحسنات منكن أجرا عظيما ) وقد أخرجا في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها ذكر هذا التخيير وإن الله أمره بذلك
واختلف الأصحاب هل كان ذلك واجبا عليه أو مستحبا على وجهين صحح النووي وغيره الوجوب
____________________
(1/293)
واختلف الأصحاب هل كان يجب جوابهن على الفور أو على التراخي على وجهين قال ابن الصباغ وما معناه ولا خلاف أنه خير عائشة على التراخي بقوله فلا عليك أن تسامري أبويك
قالوا فلما اخترنه فهل كان حرم عليه طلاقهن على وجهين وصححوا أنه لا يحرم إلا أن الله تعالى حرم عليه النساء غيرهن مكافأة لصنيعهن ثم أباحه له لتكون له المنة في ذلك قالت عائشة رضي الله عنها ما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أبيح له النساء رواه الشافعي القسم الثاني ما حرم عليه من النكاح دون غيره * مسألة
قالوا كان يحرم عليه إمساك من اختارت فراقه على الصحيح بخلاف غيره ممن يخير امرأته فإنها لو اختارت فراقه لما وجب عليه فراقها والله تعالى أعلم وقال بعضهم بل كان يفارقها تركما * مسألة
هل كان يحل نكاح الكتابية على وجهين صحح النووي الحرمة وهو
____________________
(1/294)
اختيار ابن سريج والاصطخري وأبي حامد المروروذي واستدل الشيخ أبو نصر بن الصباغ لهذا الوجه فقال لقوله صلى الله عليه وسلم زوجاتي في الدنيا زوجاتي في الآخرة ثم حكى الوجه الآخر وهو الإباحة وكأنه مال إليه ثم قال والخبر لا حجة فيه لجواز أن من توزج به منهن أسلمن
قلت هذا الحديث له أصل يعتمد عليه في رفعه وإنما هو من كلام بعض الصحابة وقال أبو إسحاق المروزي ليس بحرام وفي جواز تسريه بالأمة الكتابية وتزوجه بالأمة المسلمة ثلاثة أوجه أصحها أنه يباح تسري الكتابية ولا يباح له نكاح الأمة المسلمة بل يحرم وأما الأمة الكتابية فقطع الجمهور بتحريم نكاحها عليه وطرد الحناطي فيها
____________________
(1/295)
وجهين وهما ضعيفان جدا وفرعوا هنا فروعا فاسدة تركها أولى من ذكرها وهذا النوع من الخصائص الذى زجر عنه ابن خيران والإمام وهما مصيبان في ذلك والله أعلم القسم الثالث ما أبيح له من النكاح دون غيره مسألة
مات صلوات الله وسلامه عليه عن تسع نسوة واتفقوا على إباحة تسع واختلف أصحابنا في جواز الزيادة فالصحيح أنه كان له ذلك ودليله ما في البخاري عن بندار عن معاذ بن هشام عن أبيه عن قتادة عن أنس قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يطوف على نسائه في الساعة الواحدة من ليل أو نهار وهن إحدى عشرة قلت لأنس هل كان يطيق ذلك قال كنا نتحدث أنه أعطي قوة ثلاثين وفي رواية أربعين ثم رواه البخاري من حديث سعيد عن قتادة عن أنس وعنده تسع وقال أنس تزوج صلى الله عليه وسلم خمس عشرة امرأة ودخل بثلاث عشرة واجتمع عنده إحدى عشرة ومات عن تسع وقاله قتادة أيضا وذكره ابن الصباغ في ( شامله ) قال وقال أبو عبيد تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم ثماني عشرة امرأة واتخذ من الإماء ثلاثا مسألة
قالوا وكان يصح عقده بلفظ الهبة لقوله تعالى ( إن وهبت نفسها للنبي
____________________
(1/296)
إن أراد النبي أن يستنكحها خالصة لك من دون المؤمنين ) وإذا عقده بلفظ الهبة فلا مهر بالعقد ولا بالدخول بخلاف غيره
وهل كان ينحصر طلاقه في الثلاث فيه وجهان أصحهما نعم لعموم الآية وقيل لا لأنه لما لم ينحصر نكاحه في الأربع لم ينحصر طلاقه في الطلقات الثلاث وهذا تعسف لعدم التلازم * مسألة
كان يباح له التزوج بغير ولي ولا شهود على الصحيح لحديث زينب بنت جحش أنها كانت تفخر على أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وتقول زوجكن أهلوكن وزوجني الله من فوق سبع سماوات رواه البخاري مسألة
وهل كان يباح له التزوج في الإحرام على وجهين أحدهما لا لعموم الحديث الذي في مسلم عن عثمان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لا ينكح المحرم ولا ينكح ولا يخطب والمخاطب داخل في عموم متعلق خطابه عند الأكثرين
وصححوا الجواز لحديث ابن عباس أنه صلى الله عليه وسلم تزوج ميمونة وهو محرم أخرجاه ولكن يعارضه ما رواه مسلم عن ميمونة نفسها أنه تزوج بها وهما حلالان وصاحب القصة أعلم بها من الغير والله أعلم
____________________
(1/297)
مسألة
وإذا رغب في نكاح امرأة وجب عليها إجابته على الصحيح عند الأصحاب فيحرم على غيره خطبتها مسألة
هل كان يجب عليه أن يقسم لنسائه وإمائه على وجهين والذي يظهر من الأحاديث الوجوب لأنه صلى الله عليه وسلم لما مرض جعل يطوف عليهن وهو كذلك حتى استأذنهن أن يمرض في بيت عائشة رضي الله عنها فأذن له وقال أبو سعيد الإصطخري لا يجب لقوله تعالى ( ترجي من تشاء منهن وتؤوي إليك من تشاء ) الآية فيكون من الخصائص
وهذا كله تفريع على تزوجه هل هو بمنزلة التسري في حقنا أولا على وجهين مسألة
وأعتق صفية وجعل عتقها صداقها كما ثبت ذلك في الصحيحين عن أنس فقيل معنى ذلك أنه أعتقها وشرط عليها أن تتزوج به فوجب عليها الوفاء بالشرط بخلاف غيره وهو اختيار الغزالي
قلت يشكل على هذا ما حكاه الترمذي عن الشافعي أنه جوز ذلك لآحاد الناس وهو وجه مشهور
____________________
(1/298)
وقيل أعتقها بلا عوض وتزوجها بلا مهر لا في الحال ولا في المال وهذا المحكي عن أبي إسحاق وقطع به الحافظ أبو بكر البيهقي وصححه ابن الصلاح والنووي قلت ووجه الشيخ أبو عمر قوله وجعل عتقها صداقها يعني أنه لم يمهرها غير أنه أعتقها فيكون كقولهم الجوع زاد من لا زاد له
وقيل بل أمهرها جارية كما رواه البيهقي بإسناد غريب لا يصح القسم الرابع ما اختص به من الفضائل دون غيره
فمن ذلك أن أزواجه أمهات المؤمنين قال الله تعالى ( النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجه أمهاتهم ) ومعنى هذه الأمومة الإحترام والطاعة وتحريم العقوق ووجوب التعظيم لا في تحريم بناتهن وجواز الخلوة بهن ولا تنتشر الحرمة إلى من عداهن
وهل هن أمهات المؤمنات على وجهين صححوا المنع وهو قول عائشة رضي الله عنها وهذا تفريع على أن جمع المذكر السالم هل يدخل فيه النساء وهي مقررة في الأصول
وهل يقال في أخوتهن أخوال المؤمنين فيه نزاع والنص جوازه
____________________
(1/299)
وهل يطلق على بناتهن أخوات المؤمنين نص الشافعي في ( المختصر ) على جوازه وجوزه بعض الأصحاب ومنع منه آخرون وقد أنكر ابن الصباغ وغيره ذلك على المزني وقالوا غلط
وهل يقال له صلى الله عليه وسلم أبو المؤمنين نقل البغوي عن بعض الأصحاب الجواز قلت وهو قول معاوية وقد قرأ أبي وابن عباس رضي الله عنهم ( النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وهو أب لهم وأزواجه أمهاتهم ) ونقل الواحدي عن بعض الأصحاب المنع لقوله تعالى ( ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ) ولكن المراد أباهم من النسب وإلا فقد روى أبو داود إنما لكم مثل الوالد الحديث في الاستطابة مسألة
وأزواجه أفضل نساء الأمة لتضعيف أجرهن بخلاف غيرهن ثم أفضلهن خديجة وعائشة قال أبو سعيد المتولي واختلف أصحابنا أيتهما أفضل وقول
____________________
(1/300)
ابن حزم إن أزواجه صلى الله عليه وسلم أفضل من سائر الصحابة حتى من أبي بكر الصديق رضي الله عنه قول لم يسبقه إليه أحد وهو أضعف الأقوال مسألة
ويحرم نكاح زوجاته اللاتي توفي عنهن إجماعا وذلك لأنهن أزواجه في الجنة وإذا لم تتزوج المرأة بعد موت زوجها فهي له في الآخرة كما روي أن أبا الدرداء قالت له زوجته عند الاحتضار يا أبا الدرداء إنكا خطبتني إلى أهلي فزوجوك وإني أخطبك اليوم إلى نفسك قال فلا تزوجي بعدي فخطبها بعد موته معاوية وهو أمير فأبت عليه وروى البيهقي من حديث عيسى بن عبد الرحمن السلمي عن أبي إسحاق السلمي عن صلة عن حذيفة أنه قال لامرأته إن سرك أن تكوني زوجتي في الجنة فلا تزوجي بعدي فإن المرأة في الجنة لآخر أزواجها في الدنيا فلذلك حرم على أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنهن أن ينكحن بعده لأنهن أزواجه في الجنة
____________________
(1/301)
واختلفوا فيمن طلقها في حال حياته على ثلاثة أوجه ثالثها أن من دخل بها تحرم على غيره ونص الشافعي على التحريم مطلقا ونصره ابن أبي هريرة لقوله تعالى ( وأزواجه أمهاتهم ) وعلى هذا ففي أمة يفارقها بوفاة أو غيرها بعد الدخول وجهان وقيل لم يكن أزواجه حراما على غيره الا أن يمت عنهن والدليل على ذلك آية التخيير فإنه لو لم تخير للغير لما كان في تخييره لهن فائدة والله أعلم مسألة ومن قدف عائشة أم المؤمنين قتل إجماعا حكاه السهيلي وغيره ولنص القرآن على براءتها وفيمن عداها من الزوجات قولان مسألة وكذلك من سبه صلى الله عليه وسلم قتل رجلا كان أو أمرأة للأحاديث المتضافرة في ذلك التي يطول ذكرها ها هنا فمن ذلك حديث ابن عباس في الأعمى الذي قتل أم ولده لما وقعت في النبي صلى الله عليه وسلم وذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال ألا اشهدوا أن دمها هدر وقال شعبة عن توبة العنبري عن أبي السوار عن أبي برزة أن رجلا
____________________
(1/302)
سب أبا بكر فقلت ألا ضربت عنقه فقال ما كانت لأحد بعد النبي صلى الله عليه وسلم رواة النسائي والبيهقي وروى ابن عدي من حديث يحيى بن إسماعيل الواسطي حدثنا ابراهيم بن سعد عن الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة رضي الله عنه قال لا يقتل أحدكم بسب أحد إلا بسبب النبي صلى الله عليه وسلم وقد صنف في ذلك الشيخ الإمام أبو العباس بن تيمة كتاب ( الصارم المسلول على من سب الرسول صلى الله عليه وسلم ) وهو من أحسن الكتب المؤلفة في ذلك والله أعلم مسألة وكان من خصائصه أنه إذا سب رجلا ليس بذلك حقيقا يجعل سب رسول الله صلى الله عليه وسلم كفارة عنه ودليله ما أخرجاه في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم اللهم إني اتخذت عندك عهدا لن تخلفه إنما أنا بشر فأي المؤمنين آذيته أو شتمته أو جلدته أو لعنته فاجعلها له صلاة وزكاة وقربة تقربه بها اليك يوم القيامة ولهذا لما ذكر مسلم في ( صحيحه ) في فضل
____________________
(1/303)
معاوية أورد أولا هذا الحديث ثم أتبعه بحديث ( لا أشبع الله بطنا ) فيحصل منها مزية لمعاوية رضي الله عنه وهذا من جملة إمامة مسلم رحمه الله تعالى مسألة
وكان اذا لبس لأمة الحرب لم يجز له أن يقلعها حتى يقضي الله أمره لحديث يوم أحد لما أشار عليه جماعة من المؤمنين بالخروج الى عدوه الى أحد فدخل فلبس لأمته فلما خرج عليهم قالوا يا رسول الله إن رأيت أن ترجع فقال إنه لا ينبغي لنبي إذا أخذ لأمة الحرب أن يرجع حتى يقاتل الحديث بطوله ذكره أصحاب المغازي فقال عامة أصحابنا إن ذلك كان واجبا عليه وإنه يحرم عليه أن ينزعها حتى يقاتل وفرعوا عليه أنه لو شرع في تطوع لزمه إتمامه على أحد الوجهين وهو ضعيف لما قدمنا في الصوم والله أعلم وقد ضعف هذا التفريع أبو زكريا أيضا مسألة وذكروا في خصائصه صلى الله عليه وسلم وجوب المشاورة يعني أنه يشاور أصحابه في أمور الحرب قال الله تعالى ( وشاورهم في الأمر ) قال الشافعي حدثنا سفيان ابن عيينة عن الزهري قال قال أبو هريرة رضي الله عنه ما رأيت أحدا أكثر مشورة لأصحابه من رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال الشافعي رحمه الله تعالى قال
____________________
(1/304)
الحسن لقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم غنيا عن المشاورة ولكنه أراد أن يستن بذلك الحكام بعده قلت فعلى هذا لا يبقى في الخصائص مسألة قالوا وكان يجب عليه مصابرة العدو وإن زادوا على الضعف وكأن ذلك مأخوذ من حديث الحديبية والله أعلم حيث يقول عليه الصلاة والسلام لعروة في جملة كلامه فإن أبوا فوالله لأقاتلنهم يعني قريشا على هذا الأمر حتى تنفرد سالفتي والحديث مخرج في صحيح البخاري مسألة وقد قدمنا قوله صلى الله عليه وسلم إنه لم يكن لنبي خائنة الأعين قالوا وكان مع هذا يجوز له الخديعة في الحروب لقوله صلى الله عليه وسلم الحرب خدعة وكما فعل يوم
____________________
(1/305)
الأحزاب من أمره نعيما أن يوقع بين قريش وقريظة ففعل حتى فرق الله شملهم على يديه وألقى بينهم العداوة وفل الله جموعهم بذلك وبغيره وله الحمد والمنة مسألة وقد كان له صلى الله عليه وسلم الصفي من المغنم وهو أن يختار فيأخذ ما يشاء عبدا أو أمة أو سلاحا أو نحو ذلك قبل القسمة وقد دل على ذلك أحاديث في السنن وغيرها وكذلك كان له خمس خمس الغنيمة وأربعة أخماس الفئ كما هو مذهبنا لا خلاف في ذلك [ مسائل متفرقة ] مسألة قالوا له أن يحكم بعلمه لعدم التهمة وشاهده حديث هند بنت عتبة حين اشتكت من شح زوجها أبي سفيان فقال خذي من ماله بالمعروف ما يكفيك ويكفي بنيك وهو في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها
____________________
(1/306)
وفي حكم غيره بعلمه خلاف مشهور حاصله ثلاثة أقوال ثالثها يحكم في غير حدود الله قالوا وعلى هذا فيحكم لنفسه وولده ويشهد لنفسه وولده وتقبل شهادة من يشهد له لحديث خزيمة بن ثابت وهو حديث حسن مبسوط في غير هذا الموضع والله أعلم مسألة قالوا ومن استهان بحضرته أو زنى كفر وقال الشيخ أبو زكريا النووي وفي الزنى النظر والله أعلم مسألة يجوز التسمي باسمه بلا خلاف وفي جواز التكني بكنية أبي القاسم ثلاثة أقوال للعلماء أحدها المنع مطلقا وهو مذهب الشافعي حكاه عنه البيهقي والبغوي وأبو القاسم بن عساكر الدمشقي لحديث ورد فيه عن جابر
____________________
(1/307)
قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم تسموا باسمي ولا تكنوا بكنيتي أخرجاه ولهما عن أبي هريرة مثله والثاني وهو مذهب مالك واختيار النووي رحمهما الله تعالى إباحته مطلقا لأن ذلك كان لمعنى في حال حياته زال بموته صلى الله عليه وسلم الثالث يجوز لمن ليس اسمه محمدا ولا يجوز لمن اسمه محمد لئلا يكون قد جمع بين اسمه وكنيته وهذا اختيار أبي القاسم عبد الكريم الرافعي مسألة وذكروا في الخصائص أن أولاد بناته ينتسبون إليه استنادا إلى ما رواه البخاري عن أبي بكرة رضي الله عنه قال رأيت الحسن بن علي رضي الله عنهما عند النبي صلى الله عليه وسلم على المنبر وهو ينظر إليه مرة وإلى الناس أخرى فيقول إن ابني هذا سيد ولعل الله أن يصلح به بين فئتين من المسلمين مسألة ومن الخصائص أن كل نسب وسبب ينقطع نفعه وبره يوم القيامة إلا نسبه وسببه وصهره صلى الله عليه وسلم قال الله تعالى ( فإذا نفخ في الصور فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون ) وقال الإمام أحمد حدثنا أبو سعيد مولى بن هاشم حدثنا عبد الله بن جعفر حدثنا أم بكر المسور بن مخرمة عن عبد الله بن أبي رافع عن المسور عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال فاطمة بضعة مني يغيظني ما يغيظها ويبسطني ما يبسطها وإن الأنساب يوم القيامة تنقطع غير نسبي وسببي
____________________
(1/308)
وصهري هذا الحديث في الصحيحين عن المسور بغير هذا اللفظ وبدون هذه الزيادة قال الحافظ أبو بكر البيهقي وقد روى جماعة هذا الحديث بهذه الزيادة عن عبد الله بن جعفر هذا وهو الزهري عن أم بكر بنت المسور بنت مخرمة عن أبيها ولم يذكر ابن أبي رافع فالله أعلم وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه لما خطب أم كلثوم بنت علي بن أبي طالب رضي الله عنه فقال له علي إنها صغيرة فقال إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول كل سبب ونسب ينقطع يوم القيامة إلا سببي ونسبي فأحببت أن يكون لي من رسول الله صلى الله عليه وسلم سبب ونسب فزوجه علي رضي الله عنهما رواه البيهقي من حديث سفيان بن وكيع وفيه ضعف وعن روح بن عبادة عن ابن جريج عن ابن أبي مليكة عن حسن بن حسن عن أبيه أن عمر فذكره قال أصحابنا قيل معناه أن أمته ينتسبون إليه يوم القيامة وأمم سائر الأنبياء لا تنتسب إليهم وقيل ينتفع يومئذ بالانتساب إليه ولا ينتفع بسائر الأنساب وهذا أرجح من الذي قبله بل ذلك ضعيف قال الله تعالى ( ويوم
____________________
(1/309)
نبعث في كل أمه شهيدا عليهم من أنفسهم ) وقال تعالى ( ولكل أمة رسول فإذا جاء رسولهم قضي بينهم بالقسط وهم لا يظلمون ) في أي كثيرة دالة على أن كل أمة تدعى برسولها الذي أرسل اليها والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب والحمد لله أولا وآخرا وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم قد تمت هذه النسخة المباركة في يوم الأربعاء من شهر جمادى الآخرة من سنة إحدى ومائة وألف على يد أضعف العباد وأحوجهم حسن بن الحاج رمضان الخطيب الأيوبي غفر الله له ولوالديه وأحسن اليهما واليه خاتمة تم بحمد الله تعالى ومنه انتهاؤنا من تحقيق هذه السيرة النبوية العطرة والتعليق عليها ليلة الجمعة 15 جمادى الآخرة من سنة 1399 ه بالمدينة المنورة على ساكنها أفضل الصلاة وأزكى السلام ونسأله تعالى أن يكون عملا مبرورا خالصا لوجهه الكريم ولخدمة دينه الحنيف
____________________
(1/310)