شكر وتقدير
الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، وبفضله وحده تتحقق جلائل المهمات، وعليه وحده الاتكال في جميع الملمات، وبعد:
فإني أشكر في هذه الكلمة أستاذي الدكتور أكرم ضياء العمري على جهوده الموفقة مع جميع أبنائه الطلاب عموماً، وعلى ما أولاني من بالغ عنايته، وشديد حرصه، وما قدمه لي من التوجيه والإرشاد، وغزير الفوائد العلمية من أجل إخراج هذا البحث على الوجه العلمي المطلوب، وهذا دأب شيخنا الكبير في إعانة تلاميذه بفوائده العلمية، وفرائده التوجيهية من الناحية الشكلية والموضوعية، وما كان يبخل بزمنه المليء بالأعمال العلمية المتعددة، ولا بتوجيهاته أو تنبيهاته على سهو غفلت عنه، أو غلط وقعت فيه، أو فكرة نادّة لم أكن متنبها لها.
ولا أجد كلمة تفي بشكره، وتعبر عما تكنه نفسي له من عرفان بالجميل وتقدير لعطائه العلمي، غير أن الرسول الكريم - صلى الله عليه وسلم - أرشدنا إلى ما يكون المناسب في مثل هذا المقام فقال: "ومن صنع إليكم معروفاً فكافئوه، فإن لم تجدوا ما تكافئوه(1) به فادعوا له حتى تروا أنكم قد كافأتموه"(2).
وانطلاقاً من هذا المبدأ، فإني سأظل – إن شاء الله تعالى – داعياً له بالتوفيق وازدياد العلم النافع والعمل الصالح، والله - جل وعلا - يقول: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً}(3).
__________
(1) سقطت النون في أكثر روايات هذا الحديث بلا ناصب ولا جازم، ولعلها سقطت تخفيفاً، وقد ثبتت في رواية الإمام أحمد.
(2) أبو داود: السنن 1/389 كتاب الزكاة، باب عطية من سأل بالله عز وجل. والنسائي: السنن 5/61 كتاب الزكاة، باب من سأل بالله عز وجل. وأحمد: المسند2/68، 95 - 96، 99، 127 الجميع من حديث عبد الله بن عمر. وصححه النووي كما في رياض الصالحين ص605 حديث 1731.
(3) سورة الكهف - آية: 30.(1/1)
وأشكر القائمين على الجامعة الإسلامية الذين سعوا ويسعون جادّين لتيسير سبل طلب العلم الشرعي لأبناء العالم الإسلامي، وأسأل الله أن يعينهم على مساعيهم الحميدة، وأن يجنبهم كل مكروه، وأن يزيد هذا الصرح العلمي الشامخ مزيداً من التقدم والازدهار مادياً وأدبياً في ظل هذه الحكومة المباركة التي تعنى بقضايا الإسلام والمسلمين في كل أنحاء المعمورة، ومن براهين عنايتها الفائقة بتضامن المسلمين وحل مشكلاتهم واتفاق كلمتهم دعمها لهذه الجامعة العلمية العظيمة بكل ما تحتاج إليه من وجوه الدعم المختلفة، ولا شك أن هذه الجامعة قد امتد نفعها وتأثيرها في العالم كله، ممّا يكون في ميزان حسنات هذه الدولة الرشيدة، بل ذلك من أكبر حسناتها، وأجلّ أعمالها التي يعود نفعها وخيرها على المسلمين جميعاً.
فجزاهم الله خير الجزاء، وسدد خطاهم، ووفقهم إلى ما فيه تقدم المسلمين واستعادة مجدهم، وحقق لهم ما يصبون إليه من تضامن العالم الإسلامي على هدي الكتاب والسنة وسبيل سلف الأمة، ولن يصلح آخر هذه الأمة إلاّ ما صلح به أولها.
{وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ}، [سورة العنكبوت، الآية: 69].
وفي ختام هذه الكلمة أتوجه بالشكر والتقدير على وجه العموم لكل من كان له مشاركة في إخراج هذا البحث، وأعانني عليه من جميع الأساتذة والإخوة الزملاء وغيرهم من الإخوة الفضلاء، شكر الله للجميع عونهم ودعمهم، وجزاهم الله خير الجزاء.
والحمد لله أولا وآخرا، وصلى الله على عبده ورسوله الأمين، وعلى آله وأصحابه والتابعين، ومن سار على نهجهم إلى يوم الدين. والله الهادي إلى سواء السبيل.
المقدِّمة(1/2)
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً، أما بعد:
فقد هيأ الله لي أن أكون من طلبة علوم السنة النبوية، وأن أسهم في دراسة السيرة النبوية الطاهرة، فكانت البداية أن تقدمت بدراسة غزوة (بني المصطلق) دراسة علمية متخصصة، أحسبها الأولى من نمطها في تجلية حقائق تلك الغزوة، وبيان أحداثها التاريخية، وعبرها وأحكامها، وغير ذلك ممّا له صلة بها، وكانت تلك أطروحتي لنيل شهادة العالمية (الماجستير)، وكان لتلك التجربة - بالنسبة لي- صداها العميق في نفسي، حيث ارتبطت تَوَجُّهاتي العلمية بخدمة سيرة أحب الخلق إلى الله وأكرمهم عليه، تلك السيرة النقية الحقيقة بالحب والإكبار، الجديرة بالبحث العلمي الجادّ الذي يرسي حقائقها، وينفي عنها الزَبَد(1) ليذهب جُفاء(2) ويمكث ما ينفع الناس.
ولن يتم ذلك إلا بعد التطواف العلمي الحثيث القائم على مناهج المحدِّثين وطرق تقويمهم للحديث النبوي الشريف، وصولاً إلى نتائج علمية محققة، ينتفع بها الدارسون لهذه السيرة العظيمة العطرة، ويزدادون اطمئناناً ويقيناً بهذا الجانب الخطير من جوانب حياة المصطفى صلى الله عليه وسلم.
وفي طليعة هذا التقديم أود أن أشير إلى أهم القضايا التي يحسن أن أتناولها فيه، وستكون على النحو الآتي:
أ - دراسة السيرة واجب إسلامي:
__________
(1) الزَبَد: بالتحريك ما يطفو على الماء من القذا. (لسان العرب 4/176)
(2) والجفاء - بضم الجيم- ما يقذفه السيل من الزَبَد والقذا والوسخ. (النهاية لابن الأثير 1/281)(1/3)
إن إبراز مكانة السيرة النبوية، وإظهار عظمتها في العصر الحديث لهو من الأمور الضرورية في مواجهة تحديات هذا العصر المتكاثرة، ذلك أن عصرنا الحاضر يقوم على مناهج تربوية مؤثِّرة في صبغ الأجيال الصاعدة بصبغة جاهلية معاصرة، في الأعم الأغلب، وقد شمل هذا الفكر التربوي والأدبي أجيال المسلمين، وتغلغل في نفوسهم، واحتل مكان الصدارة في التوجيه والتأثير، وفقدت الأجيال - أو كادت - ثقتها لتراثها، واشتدت الهجمات القوية العنيفة على علوم الإسلام وحضارته، بما في ذلك التشكيك في سيرة الرسول - صلى الله عليه وسلم -، مستغلين في ذلك بعض الروايات الضعيفة والحكايات الغريبة، والمبالغات الشاطحة، التي لم يقم عليها دليل، ولم يسندها عقل، ولم تثبت بنقل فكان لزاماً على الدارسين المختصين أن يولوا هذه السيرة الزكية بالغ اهتمامهم، جمعاً ودراسة وتمحيصاً وتحقيقاً مستندين في ذلك إلى قواعد المحدثين في الجرح والتعديل لكشف العلل الغامضة فيها، وبيان الصحيح من الضعيف في نصوصها.
وإذا كان مصطلح الحديث قد طبق تطبيقاً رائعاً في تقويم الأحاديث النبوية والحكم لها أو عليها، من خلال دراسة الأسانيد والمتون، فإن ذلك لم يطبق مثله أو قريباً منه في دراسة السيرة النبوية وأحداثها وغزواتها، إلى غير ذلك من قضاياها العديدة.
هذا جانب من جوانب دراسة السيرة.(1/4)
والجانب الآخر هو الجانب التحليلي المعاصر، الذي يعنى فيه الدارس بتجلية حقائق السيرة النبوية من الناحية الفكرية والتربوية والفقهية بأسلوب قوي أخّاذ, يهدف إلى تحبيب الناس في هذه السيرة، وترغيب الأجيال في الإقبال عليها والاقتداء بصاحبها العظيم عليه الصلاة والسلام، وإبراز جوانبها المشرقة، ووقفاتها المضيئة، وأشهد أنني لم أقم بشيء يذكر في هذا الجانب؛ لأن الأصل في بحثي تحقيق نصوص السيرة من الوجهة الحديثية الصرفة، ولأن الوقت لا يساعد على الجمع بين الحسنين، ولكني أقرر أن هذا واجب عظيم تجاه خدمة هذه السيرة المباركة.
ولا أنسى أن أنوّه(1) بدراسة جيدة بدأت في هذا الجانب لبعض المهتمين بقضايا الدعوة الإسلامية في هذا العصر(2)، ولكن الأمر يحتاج إلى المزيد الذي يغطي جوانب هذه السيرة تغطية كاملة.
وإغفال هذا الجانب التحليلي في دراسة السيرة النبوية خطأ جسيم في حق السيرة، وترك لواجب يفرضه الواقع المعاصر، وتقتضيه حاجة الأجيال الملحة.
ب - كلمة عن السيرة وضرورة التكامل في دراستها:
لفظ السيرة يراد به في اللغة: السنة والطريقة والهيئة، يقال: سار بهم سيرة حسنة، وسار في الناس سيرة حسنة أو قبيحة(3).
__________
(1) نوهت بالشيء، ونوهته تنويهاً رفعته ونوهت باسمه، رفعت ذكره. (لسان العرب 17/442)
(2) وذلك مثل: فقه السيرة للغزالي، وفقه السيرة للبوطي، والسيرة النبوية للندوي، والسيرة النبوية في ضوء القرآن والسنة لأبي شهبة، ودراسة في السيرة للدكتور عماد الدين خليل، والسيرة النبوية دروس وعبر للدكتور مصطفى السباعي، وخاتم النبيين لمحمد لأبي زهرة، وسيرة الرسول - صلى الله عليه وسلم - لمحمد عزة دروزة. ولكن الموضوع بحاجة إلى جهود أكثر.
(3) لسان العرب لابن منظور 6/56)، و(مختار الصحاح لمحمد بن أبي بكر الرازي ص 325)، و(المصباح المنير لأحمد ابن محمد الفيومي 1/353)، و(القاموس المحيط لمحمد بن يعقوب الفيروزآبادي 2/54).(1/5)
والسيرة على هذا تشمل في مدلولها اللغوي المنهج والطريقة التي يتبعها الراعي في رعيته، والرجل في أهله(1).
كما تطلق السيرة على الهيئة والحالة.
وبتأمل إطلاقات العلماء للفظ السيرة، يظهر أن السيرة مرّت في مدلولها الاصطلاحي بتطورات علمية بارزة، فبالنظر في صنيع العلماء الذين عنوا بتسجيل غزوات الرسول - صلى الله عليه وسلم - وسراياه، وما يتبع ذلك من شؤون الحرب بين المسلمين وأعدائهم في العهد الأول، مثل عروة بن الزبير وأبان(2) بن عثمان بن عفان، ومحمد بن شهاب الزهري، وعبد الله بن أبي بكر بن حزم.
ثم من جاء بعدهم أمثال: موسى بن عقبة، ومحمد بن إسحاق، وأبو معشر(3) السندي، وشرحبيل(4) بن سعد، والأربعة من تلاميذ الزهري، ثم محمد بن عمر الواقدي، ومحمد بن سعد، ثم المؤرخ العظيم الإمام الطبري، وغيرهم من أئمة السير والمغازي القدامى الذين هم الأصل في هذا العلم.
يتبيّن للناظر في تآليفهم العلمية أنهم يخصون لفظ السيرة بالغزوات والسرايا في عهد الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وما يقع فيها من قضايا متعددة الجوانب، لذلك قال الفيومي: "وغالب اسم السيرة في ألسنة الفقهاء على المغازي"(5).
وهذا المدلول الاصطلاحي استمر في الأدوار التاريخية المتلاحقة فإذا أطلق هذا اللفظ انصرف الذهن إلى الغزوات والسرايا وما له صلة بها قبل المعركة وبعدها.
وهناك مصادر أساسية جعلت السيرة بهذا المدلول جزءاً من موضوعاتها وبحوثها، مثل: "دلائل النبوة" للبيهقي، فقد ذكر مباحث السيرة في ثنايا عرضه لما يتصل بحياة الرسول صلى الله عليه وسلم.
__________
(1) دي الساري: لأحمد بن علي بن حجر العسقلاني ص136).
(2) وفاته سنة (105هـ). (التقريب 1/31).
(3) أبو معشر السندي: هو نجيح بن عبد الرحمن السندي المدني، مولى بني هاشم، مشهور بكنيته، توفي سنة (170هـ). (التقريب 2/298).
(4) شرحبيل بن سعد، أبو سعد المدني، مولى الأنصار (ت123هـ) (التقريب 1/348).
(5) المصباح المنير 1/353).(1/6)
وممّن جرى على هذا المنوال من المتأخرين: ابن سيد(1) الناس في كتابه "عيون الأثر في فنون المغازي والشمائل والسير"، وأبو زكريا يحيى بن أبي بكر العامري في كتابه "بهجة المحافل وبغية الأماثل في تلخيص السير والمعجزات والشمائل"، وشهاب الدين أحمد بن محمد القسطلاني في كتابه "المواهب اللدنية بالمنح المحمدية"، فهذه الكتب جمعت بين الشمائل، وهي الصفات الخُلقية(2) والخلقية لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وبين الدلائل وهي البراهين على صحة نبوته صلى الله عليه وسلم، وبين السرايا والمغازي التي تمت في حياته - صلى الله عليه وسلم - وهذا الصنيع أقرب إلى مدلول لفظ السيرة من الوجهة اللغوية، لأن السيرة في اللغة العربية تدور على معنيين:
الأول: الطريقة والمنهج والسنة المتبعة.
والثاني: الهيئة والحالة والصفات الجبليّة(3) والكسبية.
__________
(1) هو أبو الفتح اليعمري محمد بن محمد.
(2) الخلق- بضم الخاء واللام وسكونهما-: الدين والطبع والسجية، وحقيقته أنه لصورة الإنسان الباطنة، وهي نفسه وأوصافها ومعانيها المختصة بها. والخلق- بفتح الخاء وسكون اللام-: صورة الإنسان الظاهرة وأوصافها ومعانيها. (النهاية لابن الأثير 2/70).
(3) الجبلة - بكسرتين وتثقيل اللام -: الطبيعة والخليقة والغريزة بمعنى واحد. وجبله الله على كذا من باب قتل، فطره عليه. (المصباح المنير للفيومي 1/110-111). والمراد بذلك الصفات التي فطر الله الإنسان عليها. والصفات الكسبية هي التي تأتي بالتمرن عليها ومعالجة الإنسان نفسه عليها.(1/7)
وعلى هذا يمكن القول بأن مصطلح السيرة شامل لجميع ما يتصل بتطبيقات الرسول - صلى الله عليه وسلم - العملية للإسلام، وهذا المعنى العام يمكن أن يلحظه الباحث عند بعض العلماء الأجلاء مثل الإمام ابن قيم الجوزية في كتابه العظيم (زاد المعاد في هدي خير العباد) فهو كتاب جامع لسيرة الرسول - صلى الله عليه وسلم - في السلم والحرب وفي العبادة والمعاملة، وفي بيته مع أهله وخدمه، ومع سائر الناس، فكان رصدا كاملا لجميع جوانب السيرة النبوية بالمعنى العام مع التحليل والاستنباط والمناقشة والتحقيق، وهي صفات أساسية في دراسة ابن قيم الجوزية رحمه الله، وهو وإن لم يجعل كتابه معنونا بالسيرة، إلاّ أن إدخاله للسيرة ضمن هديه - صلى الله عليه وسلم - المتعدد الجوانب يدل على نظرة دقيقة إلى مفهوم السيرة عنده، ممّا يشير إلى التدرج العلمي والفكري في مسالك العلماء المختلفة لمعالجة قضايا السيرة النبوية.
وقد ذكر أئمة الحديث مباحث الغزوات والسرايا في جملة مصنفاتهم ولكن أئمة السير والمغازي الذين أفردوها بالتصنيف المستقل كانوا أكثر استقراء واستيعابا للمغازي والسير من غيرهم، لذلك صاروا أئمة في هذا الشأن يرجع إليهم فيه.
ولا شك أن تتبع هذه المصادر المختلفة لاستخراج ما له صلة بغزوة من الغزوات يحتاج من الباحث إلى زمن كاف، وجهد متواصل في كتب التراث ودواوينه(1) الواسعة، لأن مباحث السيرة النبوية لم تقتصر على كتب معينة خاصة بها.
__________
(1) جمع ديوان هو مجتمع الصحف، والكتاب يكتب فيه أهل الجيش ويجمع أيضا على دياوين، وأول من وضعه عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -. (القاموس المحيط 4/224).(1/8)
ومن هنا تكون مهمة الباحث المعاصر في هذا الميدان أن يتنبه لهذه الحقيقة العلمية، وأن يدرك اختلاف طرائق العلماء في تناول مباحث السيرة النبوية في تصانيفهم، وما طرأ عليها من إضافات وتضخيمات بمعزل عن الصواب والحق، ذلك أن بعض المصادر المتأخرة لم تخل من إضافات تخالف الواقع التاريخي للسيرة النبوية، وتخالف روح الإسلام ونصوص القرآن والسنة، ممّا جعل السبيل ممهدة أمام المستشرقين وغيرهم أن يشككوا في سيرة الرسول - صلى الله عليه وسلم -.
وقد اشتملت كتب الشمائل والتواريخ المتأخرة عن عهود التدوين – إلاّ القليل النادر منها – على تهاويل كثيرة تذكر قبل مولد الرسول - صلى الله عليه وسلم - زاعمين أنها إرهاصات(1) لنبوته، وتذكر في أثناء مولده وبعد ولادته، وهي أخبار غريبة ومبالغات مرتجلة(2) لا أساس لها من الصحة يجب تنقية السيرة منها، وبيان زيفها، وقد تلقفها جمهور المسلمين وتناشدوها في حفلات الموالد وسجلوها في أشعار المديح والإطراء للرسول - صلى الله عليه وسلم -، وكلها أخبار واهية، إما إسرائيليات وإما من نسج الخيال وإنشاء المداحين والقصاصين ومن على شاكلتهم، ولا شك أن مثل هذه الأساطير تفتح الباب أمام المغرضين من المستشرقين وأذنابهم لإنكار السيرة والحط منها والتشكيك في أحداثها الزاخرة، ومدلولاتها العظيمة، ومعطياتها المتعددة.
__________
(1) قال محمد بن علي التهاوني: (الإرهاص) شرعا: قسم من الخوارق، وهو الخارق الذي يظهر من النبي قبل البعثة، سمي به لأن الإرهاص في اللغة بناء البيت، فكأنه بناء بيت إثبات النبوة (كشاف اصطلاحات الفنون 3/45).
(2) في (القاموس المحيط 3/382): ارتجل الكلام: تكلم به من غير أن يهيئه، وبرأيه انفرد.(1/9)
إن الباحث المعاصر حري به أن يرجع إلى نمط من المصادر الموثقة للنقاد المعتمدين في علوم الإسلام، مثل كتب الحديث وكتب الرجال وكتب التواريخ المسندة، ومن ثمّ دراسة النص التاريخي للسيرة دراسة نقدية جادّة وفق الأصول والقواعد العلمية المقررة، وهذا النوع من الدراسة هو الكفيل بوضع الحق في نصابه في حوادث السيرة النبوية ودمغ أباطيل المتزيدين والمستكثرين، ومن ثمّ إقناع كل من له إنصاف وعقل بتلك الصفات المشرقة من حياة المصطفى - صلى الله عليه وسلم -.
إن المسلمين أحوج ما يكونون اليوم إلى معطيات سيرة نبيهم - صلى الله عليه وسلم - في شتى مجالاتها المتنوعة. إن هذه السيرة النبوية حفظها الله للمسلمين ولم تحفظ سيرة نبي من الأنبياء كما حفظت سيرة نبينا - صلى الله عليه وسلم -، ولازال الباحثون إلى اليوم وإلى قيام الساعة يتمكنون من بيان هذه السيرة ودراستها ونفي الكذب عنها كما نُفي من حديثه - صلى الله عليه وسلم - رحمة من الله بهذه الأمة لتبقى لهم أعمال نبيهم وتطبيقاته وجميع تحركاته ونشاطاته المختلفة في السلم والحرب المرجع الذي يعودون إليه فيجدون فيه أنفاسه - صلى الله عليه وسلم - وإن كانت نفسه الشريفة قد فارقت الدنيا، ويقتدون بسيرته كما يتبعون سنته.(1/10)
ومن هنا وجب القيام بدراستها من الناحية النقدية الحديثية، ومن الناحية التحليلية التربوية بأسلوب معاصر وعرض جديد يقربها من لغة المثقف المعاصر، وهما واجبان متلازمان لا ينفك أحدهما عن الآخر. وبهذا المنهج يمكن استدراك النقص الناجم عن الدراسات الإنشائية المرتجلة البعيدة عن التحقيق والبحث العلمي، كما يمكن تدارك الخلل الناجم عن الدراسة المتخصصة الدقيقة التي تبعد عن التحليل العلمي المعاصر، ولا تعنى بتقريب أحداث السيرة ونصوصها من فهم المثقفين المعاصرين، مما جعل كثيرا من الدارسين المعاصرين يعتمدون في دراستهم للسيرة على كتب المستشرقين ومن نحا نحوهم في كتابة السيرة بأسلوب العصر ولغته الأدبية وتحليلاته النفسية التربوية وفق مناهج غربية لا تخلو من تحامل وتشكيك في قضايا السيرة.
وهذه الفجوة الخطيرة قد قامت محاولات(1) جادّة لسدها ظهرت في صورة دراسات يغلب عليها طابع العصر في سرعة التناول وغلبة الارتجال ولكنها دراسات نافعة أفادت منها الأجيال المعاصرة، بيد أن الأمر يحتاج إلى ضرورة التكامل في دراسة السيرة.
ج - سبب اختياري لغزوة حنين:
كانت تجربتي الأولى في دراسة غزوة "بني المصطلق" تدفعني لمواصلة خدمة السيرة النبوية، وقد وقع اختياري على هذه الغزوة لبحث الدكتوراه استمرارا لهذا الاتجاه الذي أرجو أن يكون من صالح أعمالي الموفقة، كما أتمنى أن يكون عملا علميا نافعا في خدمة الغزوتين العظيمتين.
وأود أن أجمل دوافع اختياري لغزوة حنين على وجه الخصوص في النقاط الآتية:
1- كثرة أحداث غزوة حنين وتشعب مروياتها وتعدد الجوانب العلمية لوقائعها التاريخية ومعطياتها الجليلة، ممّا جعلها - في نظري - جديرة بإفرادها بالدراسة العلمية الوافية، لذلك اخترتها لبحث الدكتوراه عسى أن أفي بحقها وألم شعثها وأجمع متفرقها وأحقق نصوصها وفق المناهج العلمية المتبعة في نقد الروايات من الوجهة الحديثية.
__________
(1) انظر ص 11.(1/11)
2- تعد غزوة حنين آخر غزوات الرسول الكريم - صلى الله عليه وسلم - في جزيرة العرب، حيث لم تقم بعدها للوثنية العربية قائمة، وارتفع بعدها علم التوحيد عاليا في سماء الجزيرة العربية، وتهاوت ألوية الشرك، ودخل العرب جميعا بعد هذه الغزوة في دين الله أفواجا.
وغزوة هذا شأنها، وهذه بعض معطياتها حقيقة بالدراسة المتأنية والتحقيق العلمي الجادّ، لذلك أجمعت أمري على خوض غمارها، ونقد مروياتها، وتجلية أحداثها واستقصاء جميع ما يتصل بها، بحسب الإمكان وفي حدود طاقتي العلمية المتواضعة.
3– تعددت الجوانب العلمية لهذه الغزوة فهي من جانب تشتمل على تدبيرات الرسول - صلى الله عليه وسلم - العسكرية والسياسية، وهي من جانب آخر جمعت بين الهزيمة للمسلمين في بادئ الأمر ثم كانت العاقبة لهم النصر والظفر بأعدائهم.
وقد احتوت على عدد من المعجزات والدلائل على نبوته - صلى الله عليه وسلم -، وفيها أيضا قضايا متصلة بالعقيدة، وأحكام فقهية واسعة، إلى غير ذلك من المسائل العظيمة البارزة التي تحتاج إلى دراسة مستقلة متخصصة تستوعب هذه الجوانب العلمية وتفي بأطرافها الموزعة في المصادر العلمية الكثيرة.
4– الناظر في كتب التراث عامة يلحظ أن هذه الغزوة لم تحظ بدراسة علمية تجمع ما تفرق منها هنا وهناك، وتنسق موضوعاتها وفق الدراسة الموضوعية المتكاملة في أبواب وفصول ومباحث تنتظم جميع أحداثها ووقائعها التاريخية، لذلك رأيت أن أقوم بذلك الجمع العلمي لما تفرق، وبذلك الترتيب والتبويب لتلك الأحداث والوقائع المتصلة بهذه الغزوة – مع الدراسة النقدية – عسى أن يسد عملي هذا ثغرة علمية، وأن يضيف شيئا ذا بال في طريقة دراسة هذا الموضوع الخطير. والله الموفق والمستعان.
خطة البحث:
سار هذا البحث على خطة رسمتها لنفسي بغية الإحاطة بأطرافه على الطريقة الآتية:(1/12)
1 - المقدمة: وفيها افتتاحية، ووجوب دراسة السيرة، وكلمة موجزة عن السيرة، ومصادرها، وكيف يتم التكامل في دراسة السيرة النبوية.
2 – التمهيد: وفيه قضيتان:
الأولى: التعريف بهوازن وثقيف وفيه:
نسب هوازن وثقيف.
تحديد مواقعهم وديارهم من الناحية الجغرافية.
صلتهم بقريش:
أ - الصلة النسبية.
ب- المصاهرة.
جـ- تبادل المصالح المشتركة.
موقفهم من ظهور الإسلام ودعوته.
موقفهم من الصراع بين المسلمين وقريش.
الثانية: تحركات المسلمين العسكرية:
وفي هذه القضية التمهيدية تناولت ما يلي:
تجهيز سرية لهدم العزى.
بعث سرية أخرى لهدم مناة.
سرية خالد بن الوليد إلى بني جذيمة.
وكانت هذه السرايا الثلاث قبيل معركة حنين.
وبعد هذا التمهيد الموجز رأيت أن يكون هيكل البحث في أبواب ثلاثة وخاتمة.
وتحت كل باب فصول ومباحث.
الباب الأول: في الحديث عن غزوة حنين وتحته أربعة فصول:
الفصل الأول: في مقدمات غزوة حنين وفيه مبحثان:
سبب الغزوة.
الاستعداد للمعركة.
الفصل الثاني: في المسير إلى حنين وفيه سبعة مباحث:
في تاريخ الغزوة.
تعيين الأمير على مكة.
عدد الجيش الإسلامي في هذه الغزوة.
استعداد هوازن العسكري.
تبشير الرسول - صلى الله عليه وسلم - أصحابه بالنصر وبيان فضل الحراسة في سبيل الله.
بقايا من رواسب الجاهلية.
بيان من قال في هذه الغزوة "لن نغلب اليوم من قلة".
الفصل الثالث: في وصف المعركة وفيه أربعة مباحث:
سبب هزيمة المسلمين في بداية المعركة.
مواقف مريبة إثر انكشاف المسلمين في بادئ الأمر.
عدد الثابتين مع الرسول الله-صلى الله عليه وسلم-يوم حنين.
عوامل انتصار المسلمين في حنين.
الفصل الرابع: ما أسفرت عنه معركة حنين من ضحايا وغنائم وفيه مبحثان:
خسائر المشركين في هذه الغزوة.
إصابات المسلمين في هذه الغزوة.
الباب الثاني: ملاحقة فلول المشركين والأحداث التاريخية التي أعقبت ذلك وفيه أربعة فصول:(1/13)
الفصل الأول: تعقب الفارين نحو نخلة وأوطاس - وفيه ثلاثة مباحث:
التوجه إلى النخلة.
سرية أوطاس.
موقف شيماء وبجاد.
الفصل الثاني: في غزوة الطائف – وفيه أربعة مباحث:
حصار الطائف.
ما صدر من التعليمات العسكرية للمسلمين في حصار الطائف.
عدد القتلى من الفريقين في غزوة الطائف.
فك الحصار عن الطائف والعودة إلى الجعرانة.
الفصل الثالث: في تقسيم الغنائم – وفيه خمسة مباحث:
الفرق بين الغنيمة والفيء والنفل.
جفاء الأعراب وغلظتهم.
اعتراض ذي الخويصرة التميمي على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في قسم الغنائم.
في بيان حكمة توزيع الغنائم على قوم دون آخرين.
موقف الأنصار من توزيع الغنائم وخطبة الرسول - صلى الله عليه وسلم - فيهم.
الفصل الرابع: في بيان ما آل إليه أمر هوازن وثقيف بعد المعركة – وفيه مبحثان:
1) في قدوم وفد هوازن إلى الجعرانة مسلمين.
2) في إيفاد ثقيف جماعة منهم إلى المدينة للتفاوض مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
الباب الثالث: في بيان أبرز الأحكام المستنبطة من غزوة حنين – وفيه سبعة عشر حكما، وقد سردتها حكما بدون فصول ولا مباحث لعدم الحاجة الداعية لذلك:
جواز وطء المسبية بعد الاستبراء.
وقوع العزل في سرية أوطاس.
في بيان مسألة المتعة.
منع المخنثين من الدخول على النساء الأجنبية.
في النهي عن قتل النساء والضعفاء ومن في حكمهم.
العذر الذي يبيح ترك حضور صلاة الجماعة.
تعليم أبي محذورة الأذان.
إقامة الحد في دار الحرب.
الاستعانة بالمشركين.
العارية من حيث الضمان وعدمه.
قضاء الرسول - صلى الله عليه وسلم -.
في بيان نذر الكافر وما يفعل فيه إذا أسلم.
استحقاق القاتل سلب القتيل.
في بيان تحريم الفلول في الغنيمة.
المؤلفة قلوبهم.
بعض ما يجتنبه المحرم.
عمرة الرسول - صلى الله عليه وسلم - من الجعرانة.
أما الخاتمة فقد ضمنتها أبرز النتائج العلمية التي توصلت إليها من خلال دراستي لهذه الغزوة.
منهجي في البحث:(1/14)
أريد أن أوضح طريقة عملي في دراسة هذه الغزوة والمنهج الذي سرت عليه في تناول مروياتها جمعا وتحقيقا ودراسة، مجملا ذلك في النقاط الآتية:
1- أول ما قمت به جمع المادة العلمية المتصلة بهذه الغزوة من مظانها في كتب التراث الواسعة ما بين مخطوط ومطبوع مع الإفادة في ذلك من الدراسات المعنية بسيرة الرسول - صلى الله عليه وسلم - قديماً وحديثا.
2- أتبعت ذلك بدراسة مرويات غزوة حنين معتمدا في ذلك على أسلوب المحدثين في نقدهم للروايات وفق قواعد الجرح والتعديل المقررة في مصطلح الحديث، وقد سلكت في ذلك الطريقة الآتية:
أ- إذا كان الحديث في الأصول الستة أو أحدها(1)، فإني أصدر به الباب أو الفصل أو المبحث في الأغلب الأعم، ثم أراعي بعد ذلك الترتيب في إيراد الحديث أو الأثر بحسب الوفيات في الغالب أيضا.
ب- لا أترجم لرواة الحديث الذي أخرجه الشيخان أو أحدهما؛ لأن رجالهما قد جاوزوا القنطرة، وأجمع العلماء بعدهما على توثيق رجالهما، وربما ذكرت الحديث أو جزءا منه مجردا عن الإسناد ما دام مخرجا في الصحيحين أو أحدهما.
ج- ما كان من الأحاديث في غير الصحيحين أو أحدهما أقوم بدراسة إسناده وترجمة رواته والحكم عليه بما يستحقه صحة أو حسنا أو ضعفا.
د - كان اعتمادي في التراجم ودراسة السند على تقريب التهذيب وتهذيب التهذيب لابن حجر، وإذا كان الرجل من غير رجال التقريب أو متكلما فيه ولو كان من رجاله، فإني أرجع إلى بقية كتب الجرح والتعديل غالبا لاستظهار ما يتصل بحقيقة الحال في أمره بحسب الإمكان.
3- بعد تلك الدراسة النقدية الحديثية قمت بما يلي:
أ- ترقيم جميع الأحاديث الواردة في هذه الرسالة بأرقام متسلسلة.
__________
(1) الأصول الستة هي: صحيح البخاري، وصحيح مسلم، وسنن أبي داود، وسنن الترمذي، وسنن النسائي، وسنن ابن ماجة.(1/15)
ب- تخريج الحديث عند أول إيراده في البحث ثم الإحالة إلى رقمه بعد ذلك إذا دعت الحاجة إلى إيراده مرة أخرى. وقد أذكر تخريجه عند أول وروده مقتصرا على بعض ممّن أخرجه، ثم أستوفي تخريجه في مكان لاحق لأنه ألصق بالموضع الذي ورد فيه متأخراً.
ج- تقطيع المتن في أماكن مفرقة بحسب المناسبات المختلقة التي تدعو إلى ذلك.
رموز رجال الإسناد:
سلكت في اختيار رموز رجال الإسناد مسلك الحافظ ابن حجر في كتابه "تقريب التهذيب"، وإليك بيانها:
(خ) البخاري في صحيحه.
(خت) البخاري في صحيحه معلقا.
(بخ) البخاري في الأدب المفرد.
(عخ) البخاري في خلق أفعال العباد.
(ز) البخاري في جزء القراءة خلف الإمام.
(ي) البخاري في رفع اليدين.
(م) مسلم في صحيحه.
(د) أبو داود في سننه.
(مد) أبو داود في كتابه المراسيل.
(صد) أبو داود في كتابه فضائل الأنصار.
(خد) أبو داود في كتابه الناسخ والمنسوخ.
(قد) أبو داود في كتابه القدر.
(ف) أبو داود في كتابه التفرد.
(ل) أبو داود في كتابه المسائل.
(كد) أبو داود في كتابه مسند مالك.
(ت) الترمذي في سننه.
(تم) الترمذي في الشمائل.
(س) النسائي في سننه.
(عس) النسائي في مسند علي.
(كن) النسائي في مسند مالك.
(ق) ابن ماجة في سننه.
(فق) ابن ماجة في التفسير.
(ع) للراوي الذي أخرج له أهل(1) الكتب الستة.
(عم) للراوي الذي أخرج له أهل(2) السنن الأربعة(3).
تمهيد
تمهيد بين يدي غزوة حنين
وفي هذا التمهيد قضيتان:
الأولى: التعريف بهوازن وثقيف، وفيه:
1) نسب هوازن وثقيف.
2) تحديد موقعهم وديارهم من الناحية الجغرافية.
3) صلتهم بقريش.
الصلة النسبية، المصاهرة، المصالح المشتركة.
4) موقفهم من ظهور الإسلام ودعوته.
5) موقفهم من الصراع بين المسلمين وقريش.
__________
(1) هم: البخاري، ومسلم، وأبو داود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجة.
(2) هم: من عدا البخاري ومسلما.
(3) أنظر: (تقريب التهذيب 1/7).(1/16)
الثانية: تحركات المسلمين العسكرية قبل غزوة حنين، وفي هذه القضية:
1) هدم العزى.
2) هدم مناة.
3) سرية خالد بن الوليد إلى بني جذيمة.
أوّلاً: التعريف بهوازن وثقيف
1 - نسب هوازن وثقيف:
قبل الدخول في تفاصيل غزوة حنين وأحداثها، يحسن بنا إعطاء لمحة موجزة عن التعريف بهوازن وديارها التي كانت تقطنها فيها عند بزوغ فجر الإسلام، ومدى الصلة بينهم وبين قريش، وموقفهم من الدعوة الإسلامية قبل غزوة حنين، لنتبين مكانة هذه القبيلة وما كانت تتمتع به من قوة ومنعة.
وإذا أفردنا الحديث عن هوازن فتدخل فيها ثقيف؛ لأنها فرع منها. وهوازن قبيلة من أعظم القبائل العربية وأكثرها خطرا، وهي من حيث القوة والعدد تضاهي قبائل غطفان النجدية الشهيرة.
وهي قبيلة مضرية عدنانية يعود نسبها إلى قيس عيلان، وهي من أهمّ بطون قيس عيلان.
وهوازن جد بطون متفرقة، وهو: هوازن بن منصور بن عكرمة ابن خصفة بن قيس بن عيلان بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان(1).
قال القلقشندي: "المشهور من قبائل العرب المستعربة الموجودين الآن خمس قبائل:
الأولى(2): نزار(3)، وهم بنو نزار بن معد بن عدنان.
والمشهور من الموجودين من عقب نزار بطنان:
__________
(1) ابن حزم: (جمهرة أنساب العرب ص 264، 266، 269). وابن خلدون: (تاريخ ابن خلدون 2/307). وباشميل: (غزوة حنين ص 200).
(2) والقبيلة الثانية: ربيعة بن نزار بن معد بن عدنان.
والثالثة: خندف - بمعجمة ودال مهملة مكسورتين بينهما نون ساكنة -: وهم بنو إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان، عرفوا بالنسبة إلى أمهم خندف امرأة إلياس.
والرابعة: كنانة، وهم: بنو كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان.
والخامسة: قريش، وهم، بنو فهر بن مالك بن النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان.
(3) نزار - بكسر نون وبزاي وراء -. (القلقشندي: قلائد الجمان ص 110، 129، 132، 134، 136)(1/17)
البطن الأول(1): مضر(2)، وهم بنو مضر بن نزار، ومنه تفرعت أكثر قبائل العدنانية.
والمشهور من الموجودين من عقب مضر بن نزار فخذان:
الفخذ الأول(3): قيس بن عيلان(4)، وهو قيس بن عيلان بن مضر ابن نزار بن معد بن عدنان.
والمشهور من الموجودين من الآن من فصائل قيس عيلان هوازن، وهي محل بحثنا.
وهناك فصائل أخرى(5).
وقد بين ابن خلدون بتفصيل - بطون – هوازن فقال:
__________
(1) والبطن الثاني: هو ربيعة بن نزار، فقد ذكر بن قتيبة أن مضر وربيعة إليهما ينسب ولد نزار وهم الصريح من ولد إسماعيل عليه السلام. (المعارف ص29).
(2) مضر - بمضمومة وفتح ضاد معجمة - (ابن طاهر الهندي: المغني ص72)
(3) والفخذ الثاني: هو إلياس بن مضر؛ لأن ولد مضر هما عيلان وإلياس. (ابن كثير: البداية والنهاية 2/199).
(4) قيس عيلان: بإضافة قيس إلى عيلان، وقيس - بفتح قاف ومثناة تحتية ثم سين مهملة -، وعيلان - بفتح مهملة وسكون تحتية ولام ثم نون - وليس في العرب (عيلان) بعين مهملة غيره. واسمه الناس - بالنون -. (القلقشندي: قلائد الجمان ص110). و(نهاية الأرب في معرفة أنساب العرب ص404). وقال ابن حزم: وقال قوم: قيس بن عيلان، والصحيح: قيس عيلان (جمهرة أنساب العرب ص10).
(5) من هذه الفصائل: بنو غطفان بن معد بن قيس عيلان. وبنو سليم بن منصور بن عكرمة بن خصفة بن قيس بن عيلان. وبنو عدوان بن عمرو بن قيس عيلان. (القلقشندي: قلائد الجمان ص110، 112، 115، 123، 128). وانظر: ابن قتيبة: (المعارف ص36، 41). وخليفة بن خياط: (كتاب الطبقات ص4، 53، 55، 130). وابن هشام: (السيرة النبوية 1/14). وابن حزم: (جمهرة أنساب العرب ص271، 272، 273). وابن الأثير: (اللباب 2/328، 3/123). وابن كثير: (البداية والنهاية 2/220). وابن خلدون: (تاريخ ابن خلدون 2/334). وكحالة: (معجم قبائل العرب 3/1231). وباشميل: (غزوة حنين ص41).(1/18)
وأما هوازن بن منصور(1): ففيهم بطون كثيرة يجمعهم ثلاثة أصول كلهم لبكر بن هوازن وهم:
أ- بنو سعد بن بكر بن هوازن بن منصور.
ب- بنو معاوية بن بكر بن هوازن بن منصور.
جـ- بنو منبه بن بكر بن هوازن بن منصور(2).
__________
(1) ولمنصور من الولد غير هوازن: سليم بن منصور، ومازن بن منصور، وسلامان بن منصور.
فولد سليم بن منصور: بهثة، وولد بهثة معاوية وعوفا والحارث، وثعلبة، وامرأ القيس. ومن بني امرئ القيس بن بهثة بن سليم بن منصور: بنو عصية بن خفاف ابن امرئ القيس الذين قتلوا القراء يوم بئر معونة، ودعا عليهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. (ابن حزم: جمهرة أنساب العرب ص263، 481. والنويري: نهاية الأرب 2/333، 341).
(2) ابن خلدون: (تاريخ ابن خلدون 2/309). وابن حزم: (جمهرة أنساب العرب ص264). والنويري: (نهاية الأرب 2/334- 335). وكحالة: (معجم قبائل العرب 3/1231. وباشميل: (غزوة حنين ص41، 200).(1/19)
أ- فأما بنو سعد بن بكر بن هوازن، فمنهم أظآر(1) النبي صلى الله عليه وسلم.
ب- وأما بنو معاوية بن بكر بن هوازن، فمن ولده: صعصعة(2) ابن معاوية، ونصر(3) بن معاوية، وجشم(4) بن معاوية، وعوف بن معاوية، وبنوه يسمون الوقعة(5)، دخلوا في بني عمرو بن كلاب بن الحارث(6).
__________
(1) أظآر: جمع ظئر، والظئر - بالكسر - العاطفة على ولد غيرها المرضعة له في الناس وغيرهم، ويقع على الذكر والأنثى. (ابن الأثير: النهاية في غريب الحديث 3/154. وابن منظور: لسان العرب 6/186. والفيروز آبادي: القاموس المحيط 2/80). ومن بني سعد: حليمة بنت أبي ذؤيب، واسمه: عبد الله بن الحارث بن شجنة - بكسر فسكون - ابن جابر بن رزام - بكسر أوله - ابن ناصرة بن فصية بن نصر ابن سعد بن هوازن بن منصور بن عكرمة بن خصفة بن قيس بن عيلان بن مضر ابن نزار بن معد بن عدنان. أم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الرضاعة، وزوجها والد رسول - صلى الله عليه وسلم - من الرضاعة - الحارث بن عبد العزى بن رفاعة بن ملان بن ناصرة... إلخ. (ابن هشام: السيرة 1/160- 161. وابن عبد البر: الاستيعاب 4/270 مع الإصابة. وابن الأثير: أسد الغابة 7/67. والنويري: نهاية الأرب 2/334- 335. وابن كثير: البداية والنهاية 2/273. وابن خلدون: تاريخ ابن خلدون 2/319. وابن حجر: الإصابة 4/274).
(2) صعصعة - بصادين مهملتين مفتوحتين بينهما عين مهملة ساكنة ثم هاء. (القلقشندي: قلائد الجمان ص115).
(3) منهم مالك بن عوف النصري قائد المشركين في حنين.
(4) منهم: دريد بن الصمة واسمه معاوية بن بكر بن علقمة بن خزاعة بن غزية بن جشم بن معاوية.
(5) الوقعة: محركة - بطر من بني سعد بن بكر (ابن منظور: لسان العرب 10/290. والفيروز آبادي: القاموس المحيط 3/96).
(6) ابن حزم: (جمهرة أنساب العرب ص269- 270، 271، 272، 482). وابن الأثير: (اللباب في تهذيب الأنساب 1/280). والنويري: (نهاية الأرب 2/335- 336. ومجلة العرب ص818).(1/20)
أما صعصعة بن معاوية بن بكر بن هوازن:
فمن ولده:
عامر(1) بن صعصعة، وفيه البيت والعدد(2).
ومرة(3) بن صعصعة وهم بنو سلول.
فولد عامر بن صعصعة:
ربيعة، وفيه البيت والعدد.
هلالا(4).
ونميرا.
وسواءة(5)
وولد ربيعة بن عامر بن صعصعة: كلابا, وكعبا(6)
__________
(1) عامر بن صعصعة بن معاوية بن بكر بن هوازن قبيلة كبيرة، منها: لبيد بن ربيعة بن مالك بن جعفر بن كلاب بن ربيعة بن عامر بن صعصعصة العامري الشاعر المشهور صاحب المعلقة. (ابن الأثير: اللباب 2/306، وأسد الغابة 4/514. وابن كثير: البداية والنهاية 2/220. وابن حجر: الإصابة 3/326).
(2) البيت المراد به: الشرف والسناء والرفعة، والعدد: المراد به: الكثرة. (جمهرة أنساب العرب لابن حزم ص 12).
(3) مرة بن صعصعة بن معاوية بن بكر بن هوازن، ويعرفون ببني سلول، نسبة إلى أمهم: سلول بنت ذهل بن شيبان بن ثعلبة بن عكابة بن صعب بن علي بن بكر بن وائل بن قاصط بن هنب بن أفصى بن دعمى بن جديلة بن أسد بن ربيعة بن نزار ابن معد بن عدنان. (خليفة بن خياط: كتاب الطبقات ص55. وابن حزم جمهرة أنساب العرب ص271.وابن الأثير: اللباب 2/131؟، 219).
(4) هلال بن عامر بن صعصعة بن معاوية بن بكر بن هوازن، ومنهم ميمونة أم المؤمنين ولبابة الصغرى أم الفضل وعبد الله ابني العباس، ولبابة الكبرى أم خالد بن الوليد، وهن: بنات الحارث بن حزم بن بجير بن هزم بن رويبة بن عبد الله بن هلال. (ابن حزم: جمهرة أنساب العرب ص274. وابن عبد البر: الاستيعاب 4/398، 401، 404 مع الإصابة. وابن الأثير: أسد الغابة 7/253- 254، 272. وابن حجر: الإصابة 4/398، 401).
(5) سواءة - بضم السين وتخفيف الواو- منهم: جابر بن سمرة بن جنادة بن جندب ابن حجير بن رئاب بن حبيب بن سواءة بن عامر بن صعصعة. (ابن الأثير: اللباب 2/152، وأسد الغابة 1/304).
(6) كعب وكلاب هم الذين تخلفوا عن غزوة حنين، وقال عنهم دريد بن الصمة: "غاب الحد والجد".
وحضر حنينا من أولاد عامر بن ربيعة بن عامر بن صعصعة: عوف بن عامر وعمرو ابن عامر،الذين قال عنهم دريد: "ذانك الجذعان من عامر لاينفعان ولا يضران". (سيرة ابن هشام 2/438).(1/21)
, وعامرا, وكليبا(1).
ج - وأما منبه بن بكر بن هوازن:
فولده: ثقيف(2) - واسمه - قسي بن منبه بن بكر بن هوازن(3).
فولد ثقيف بن منبه: جشم وعوفا.
فولد جشم بن ثقيف: حطيطا.
فولد حطيط: مالكا(4), وغاضرة.
__________
(1) ابن حزم: جمهرة أنساب العرب ص280. والقلقشندي: قلائد الجمان ص116- 117. والنويري: نهاية الأرب 2/336 و338).
(2) ثقيف: بوزن أمير،وقسي بوزن غني. قال أبو عبيد: "سمي قسيا لأنه مر على أبي رغال وكان مصدقا - يعني جابيا للصدقات - فقلته،فقيل: "قسا قلبه، فسمي قسيا". (أنظر: ابن قتيبة: كتاب المعارف ص41. والزبيدي تاج العروس 10/294).
(3) ابن هشام: سيرة ابن هشام 1/14،47. وخليفة بن خياط: كتاب الطبقات ص53، 130. وابن قتيبة: كتاب المعارف ص41. وابن حزم: جمهرة أنساب العرب ص266، 468، 482. وابن الأثير: اللباب 1/240. وابن خلدون: تاريخ ابن خلدون 2/309. والنويري: نهاية الإرب 2/334. والفيروزآبادي: القاموس المحيط 3/121. والزبيدي: تاج العروس 6/51. وابن السعد: الطبقات 4/284. وباشميل: غزوة حنين ص200).
(4) من بني مالك بن حطيط: عثمان بن عبد الله بن ربيعة بن الحارث بن حبيب بن الحارث بن مالك بن حطيط بن جشم بن قسي،كان صاحب لواء المشركين يوم حنين،وقتل يومئذ كافرا. (ابن حزم: جمهرة أنساب العرب ص266. وابن خلدون: تاريخ ابن خلدون 2/309).(1/22)
وولد عوف بن ثقيف بن منبه بن بكر بن هوازن: سعدا وغيرة(1), ويعرفون بالأحلاف، وذلك أنهم تحالفوا على بني مالك، وصارت غاضرة مع الأحلاف.
فثقيف فرقتان:
بنو مالك بن حطيط بن جشم بن قسي - ثقيف - بن منبه بن بكر ابن هوازن.
وبنو عوف وهم من الأحلاف(2)
__________
(1) غيرة: بكسر معجمة وفتح مثناة تحتية. (ابن طاهر الهندي: المغني ص59- 60) ومن بني غيرة: أبي بن شريق،ويعرف بالأخنس بن شريق بن عمرو بن وهب بن علاج بن أبي سلمة بن عبد العزى بن غيرة بن عوف بن ثقيف الثقفي، يكنى أبا ثعلبة. كان حليفا لبني زهرة ومقدما فيهم، فلما خرجت قريش إلى بدر، أتاهم الخبر عن أبي سفيان بن حرب أنه قد نجا من النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأجمعت قريش على إتيان بدر، أشار الأخنس على بني زهرة بالرجوع إلى مكة، وقال لهم: قد نجى الله عيركم التي مع أبي سفيان، فلا حاجة لكم في غيرها، فعادوا، فلم يقتل منهم أحد في بدر، وحينئذ لقب بلأخنس. (ابن الأثير: أسد الغابة 1/60).
(2) ابن سعد الطبقات الكبرى 5/510- 511. وابن قتيبة: المعارف ص41. وابن خلدون: تاريخ ابن خلدون 2/309. وابن الأثير: أسد الغابة 1/168، 2/41. وأكرم ضياء العمري: في تعليقه على تاريخ خليفة بن الخياط ص97).
ومن الأحلاف: عروة بن مسعود بن معتب بن مالك بن كعب بن عمرو بن سعد ابن ثقيف، لحق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قبل أن يصل إلى المدينة منصرفه من حصار الطائف فأسلم وعاد إلى قومه داعيا فقتلوه. وفي قول آخر أنه قدم المدينة بعد حجة أبي بكر الصديق. انظر حديث رقم (214).
ووهم ابن حزم فقال بأن الذي بعثه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى قومه داعيا هو: معتب بن مالك جد عروة بن مسعود.
ومن الأحلاف أيضا: المغيرة بن شعبة، والحجاج بن يوسف الثقفي، والمختار بن أبي عبيد الثقفي الذي زعم أن جبريل يأتيه بالوحي. وقد ورد في صحيح مسلم 4/1971 كتاب الفضائل باب ذكر كذاب ثقيف ومبيرها (أن أسماء بنت أبي بكر رضي اله عنها قالت: "أما أن رسول الله حدثنا" أن في ثقيف كذابا ومبيرا "فأما الكذاب فرأيناه، وأما المبير فلا إخالك إلا إياه".
قال النووي: "اتفق العلماء على أن المراد بالكذاب هنا المختار بن أبي عبيد. وبالمبير: الحجاج بن يوسف". (شرح مسلم 5/608). وانظر ابن حزم: (جمهرة أنساب العرب ص 267. وابن عبد البر: الاستيعاب 3/112. وابن الأثير: أسد الغابة 4/31-35، 5/247. وابن كثير: البداية والنهاية 8/289، 9/117. وابن حجر: الاصابة 2/277. وابن قتيبة: المعارف ص128، 173. وابن سعد: الطبقات الكبرى 5/503).(1/23)
.
هكذا ذكر علماء النسب وغيرهم أن ثقيفا فرع من هوازن القبيلة العدنانية الشهيرة.
وقد ذكر الفيروزآبادي، وتابعه الزبيدي شارح القاموس بأن ثقيفاً من ثمود واستندوا إلى ما ورد عند أبي داود وغيره أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين خرج إلى حنين مر بقبر فقال: "هذا قبر أبي رغال، وهو "أبو ثقيف وكان من ثمود"(1)
__________
(1) أبو رغال: ككتاب: قال الجوهري والصنعاني: "كان دليلا للحبشة حين توجهوا إلى مكة، فمات في الطريق".
وقال ابن سيدة: "كان عبدا لشعيب عليه الصلاة والسلام، وكان عشارا جائرا، فقبره بين مكة والطائف يرجم إلى اليوم". ورد الفيروزآبادي والزبيدي هذين القولين.
وقال ابن منظور: "رأيت حاشية على هامش صحاح الجوهري ما صورته: أبو رغال اسمه زيد بن مخلف عبد كان لصالح النبي - عليه السلام -، بعثه مصدقا، وأنه أتى قوماً ليس لهم لبن إلا شاة واحدة، ولهم صبي قد ماتت أمه فهم يغذونه بلبن تلك الشاة، فأبى أن يأخذ غيرها، فقالوا له: "دعها نحابي بها هذا الصبي فأبى"، فيقال أنه نزلت به قارعة من السماء، ويقال: "بل قتله صاحب الشاة"، فلما فقده صالح عليه السلام قام في الموسم ينشد الناس فأخبر بصنيعه فلعنه، فقبره بين مكة والطائف يرجمه الناس. (ابن منظور: لسان العرب 13/310. والفيروزآبادي: القاموس المحيط 3/385- 386. والقسطلاني: المواهب اللدنية 1/166. والزبيدي: تاج العروس 7/348. والمباركفوري: تحفة الأحوذي 4/279. ومحمد شمس الحق العظيم آبادي: عون المعبود 8/346- 348).
وقال ابن بلهيد: قبر أبي رغال قبل أن تصل إلى "الزيمة" ترى جبالا يقال لها "ردوم الزيمة" وهي التي تعرف في التاريخ بقبر أبي رغال، وأقرب ما يكون لتلك المواضع موضع يقال له "ردام" (صحيح الأخبار 2/144).
قلت: "والزيمة" تقع في الطريق القديم بين مكة والطائف، قال ابن خميس: كان الطريق قبل بين "مكة" و"الطائف"، فإذا خرجت من مكة إلى الطائف تمر "بالشرائع"، فوادي "يدعان" -جدعان- فوادي "سبوحة" فقرية "الزيمة" فوادي "نخلة اليمانية"...إلخ". غير أن ابن خميس وحمد الجاسر يريان أن قبر أبي رغال في المغمس وهو في طريق غير طريق "الزيمة".
انظر: عبد الله بن محمد بن خميس: المجاز بين اليمامة والحجاز ص268، 391. وحمد الجاسر: التعليق على كتاب المناسك للحربي ص352-353.(1/24)
.
والحديث عند أبي داود في النسخ الموجودة، وليس فيه: "أبو ثقيف، وكان من ثمود".
وهذا نصّ الحديث عند أبي داود قال:
1- حدثنا يحيى(1)بن معين، أخبرنا وهب(2) بن جرير، أخبرني أبي(3) قال سمعت محمد(4) بن إسحاق يحدث عن إسماعيل(5) بن أمية، عن بجير(6)
__________
(1) يحيى بن معين بن عون الغطفاني مولاهم، أبو زكريا البغدادي، ثقة حافظ مشهور، إمام الجرح والتعديل، من العاشرة (ت233) /ع ( ابن حجر: التقريب 2/358، وتهذيب التهذيب 11/280-288).
(2) وهب بن جرير بن حازم بن زيد، أبو عبد الله الأزدي، البصري، ثقة من التاسعة (ت206) /ع (المصدر السابق 2/338، 11/161).
(3) هو جرير بن حازم بن زيد بن عبد الله الأزدي، أبو النضر البصري، والد وهب، ثقة لكن في حديثه عن قتادة ضعف،وله أوهام إذا حدث من حفظه، من السادسة (ت170) بعدما اختلط لكن لم يحدث في حال اختلاطه/ع ( المصدر السابق 1/127، 2/69).
(4) محمد بن إسحاق بن يسار، أبو بكر المطلبي المدني، نزيل العراق، إمام المغازي صدوق يدلس، ورمي بالتشيع والقدر، من صغار الخامسة (ت150) ويقال بعدها /خت م عم ( المصدرالسابق 2/144 و9/38-46).
(5) إسماعيل بن أمية بن عمرو بن سعيد بن العاص بن أمية الأموي، ثقة ثبت، من الثالثة (ت144) وقيل قبلها /ع ( المصدر السابق 1/67، 1/283).
(6) بجير بن أبي بجير - بجيمين مصغرا - حجازي، ويقال اسم أبيه سالم، مجهول من الثالثة /د ( ابن حجر: التقريب 1/93) وفي تهذيب التهذيب (1/418)، قال: "بجير ابن أبي بجير حجازي، روى عن عبد الله بن عمرو بن العاص، روى عنه إسماعيل ابن أمية. روى له أبو داود حديثا واحدا في قصة أبي رغال".
قال يحي بن معين: "لم أسمع أحدا يحدث عنه غير إسماعيل".
قال ابن حجر: قلت: وكذا قال النسائي.
وأما ابن المديني فقال: بجير بن سالم أبو عبيد روى عنه إسماعيل بن أمية وروح بن القاسم حديث أبي رغال، وهو من أهل الطائف مجهول لم يرو عنه غيرهما.
قال أبو داود: حديث روح بن القاسم عن إسماعيل بن أمية عن بجير، لا عن بجير مباشرة، فتبين أنه ليس له راو غير إسماعيل بن أمية.
وأما ابن أبي حاتم: فقد فرق بين بجير بن أبي بجير وبين بجير بن سالم فحكى عن أبيه أن بجير بن سالم يروي عنه يعلى بن عطاء، ولم يذكر لبجير بن أبي بجير راو غير إسماعيل.
ثم ختم ابن حجر ترجمته بقوله: وذكره ابن حبان في الثقات، وجهله ابن القطان. وقال الذهبي: بجير بن أبي بجير لم يعرفه ابن أبي حاتم بشيء، وقال ابن معين: لم أسمع أحدا حدث عنه غير إسماعيل بن أمية، وصدق في ذلك.
ثم قال: قلت: له حديث واحد انفرد ابن إسحاق به، ثم ساق حديث الباب من غير طريق أبي داود، وافق أبا داود في شيخه يحي بن معين، وقال: رواه أبو داود عن يحي بن معين فوافقناه بعلو.
وهكذا قال المزي. (انظر: البخاري: التاريخ الكبير 2/139. وابن أبي حاتم: الجرح والتعديل 2/425. والمزي: تهذيب الكمال1/19. والذهبي: ميزان الاعتدال 1/197).
قلت: والذي يظهر لي أن بجير بن أبي بجير غير بجير بن سالم وذلك أن بجير بن سالم يروي عن عبد الله بن عمر بن الخطاب، وبجير بن أبي بجير يروي عن عبد الله بن عمرو بن العاص هذا الحديث الفرد وليس له غيره. وقد أورده المزي والذهبي في ترجمته.
وقال ابن حجر: روى له أبو داود هذا الحديث الواحد في قصة أبي رغال عن عبد الله بن عمرو بن العاص. وفرق البخاري وأبو حاتم بينهما فجعلا بجير بن أبي بجير يروي عن عبد الله بن عمرو بن العاص، وعنه إسماعيل بن أمية، وبجير بن سالم أبا عبيد يروي عن عبد الله ابن عمر بن الخطاب وعنه يعلى بن عطاء.(1/25)
بن أبي بجير قال: سمعت عبد الله بن عمرو يقول: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول حين خرجنا معه إلى الطائف فمررنا بقبر، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "هذا قبر أبي رغال، وكان بهذا الحرم يدفع عنه فلما خرج أصابته النقمة التي أصابت قومه بهذا المكان فدفن فيه، وآية ذلك(1) أنه دفن معه غصن من ذهب إن أنتم نبشتم عنه أصبتموه، فابتدره(2) الناس فاستخرجوا الغصن"(3).
والحديث أخرجه ابن حزم من طريق يحي بن معين، عن وهب بن جرير بن حازم، عن أبيه، عن محمد بن إسحاق به.
ثم قال: هذا الحديث لا يصح، لأنه عن ابن بجير وهو مجهول(4).
__________
(1) وآية ذلك: أي علامة ذلك (ابن الأثير: النهاية 1/88).
(2) فابتدره الناس: أي تسابقوا إليه مسرعين (الفيروزآبادي: القاموس المحيط 1/369).
(3) أبو داود: (السنن 2/161)، كتاب الخراج والفيء والإمارة، باب نبش القبور العادية يكون فيها المال.
(4) "المحلى 7/528"، وحصل خطأ في المحلى في مقامين:
الأول: جعل ابن إسحاق يروي عن بجير بن أبي بجير مباشرة، وإنما يروي عنه بواسطة إسماعيل بن أمية، كما هو واضح في حديث أبي داود.
والثاني: أنه كتب يحي بن أبي بجير، والصواب بجير بن أبي بجير.(1/26)
وأخرجه إبراهيم الحربي والبيهقي كلاهما من طريق يزيد(1) بن زريع، عن روح(2) بن القاسم، عن إسماعيل بن أمية، عن بجير بن أبي بجير، عن عبد الله بن عمرو قال: خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلما كنا عند قبر أبي رغال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "هذا قبر أبي رغال، وكان امرأ كافرا، وكان من ثمود، وكان يسكن الحرم، وأنه خرج حتى إذا صار في هذا الموضع مات فدفنوه، ومعه غصن من ذهب، فاستخرجوه فابتدرنا فاستخرجناه". لفظ الحربي(3).
ولفظ البيهقي: "عن عبد الله بن عمرو أنهم كانوا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في سفر أو مسير فمروا بقبر فقال: هذا قبر أبي رغال كان من قوم ثمود، فلما أهلك الله قومه بما أهلكهم به منعه لمكانه من الحرم فخرج حتى إذا بلغ هذا المكان أو الموضع مات ودفن معه غصن من ذهب فابتدرناه فأخرجناه"(4).
وأخرجه البيهقي أيضا من طريق أبي الأزهر(5)
__________
(1) يزيد بن زريع - بتقديم الزاي مصغرا- البصري، أبو معاوية، ثقة ثبت من الثامنة (ت182) /ع (ابن حجر: التقريب 2/364، وتهذيب التهذيب 11/325).
(2) روح بن القاسم التميمي العنبري، أبو غياث - بمعجمة وتحتانية خفيفة ثم مثلثة - البصري، ثقة حافظ من السادسة (ت141) /خ م د س ق. (المصدر السابق 1/254، 3/298).
(3) الحربي: (كتاب المناسك ص352- 353).
(4) البيهقي: (السنن الكبرى 4/156).
(5) هو أحمد بن الأزهر بن منيع، أبو الأزهر العبدي النيسابوري، صدوق، كان يحفظ ثم كبر، فصار كتابه أثبت من حفظه، من الحادية عشرة، (ت263) /س ق (ابن حجر: التقريب 1/10، وتهذيب التهذيب 1/11).
وقال أبو حاتم والذهبي: "صدوق". (الجرح والتعديل لابن أبي حاتم 2/41، وميزان الاعتدال للذهبي 1/82).(1/27)
، ثنا وهب بن جرير، ثنا أبي قال: سمعت محمد بن إسحاق يحدث عن إسماعيل بن أمية عن بجير بن أبي بجير قال: سمعت عبد الله بن عمرو بن العاص قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم يقول حين خرجنا معه إلى الطائف فمررنا بقبر فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "هذا قبر أبي فلان وكان بهذا الحرم يدفع به عنه، فلما خرج أصابته النقمة التي أصابت قومه بهذا المكان فدفن فيه، وآية ذلك أنه دفن معه غصن من ذهب إن أنتم نبشتم عنه وجدتموه معه"، فابتدره الناس فاستخرجوا منه الغصن.
ثم قال: رواه أبو داود في السنن عن يحي بن معين، عن وهب بن جرير، وقال: "قبر أبي رغال"(1).
وأخرجه المزي والذهبي في ترجمة بجير بن أبي بجير، كلاهما من طريق أحمد(2) ابن الحسن بن عبد الجبار، عن يحي بن معين، عن وهب بن جرير، عن أبيه به.
ثم قالا: رواه أبو داود عن يحي بن معين فوافقناه(3) بعلو.
وزاد المزي: "وهذا حديث حسن عزيز"(4).
__________
(1) البيهقي: (السنن الكبرى 4/156).
(2) أحمد بن الحسن بن عبد الجبار بن راشد، أبو عبد الله الصوفي، روى عن يحي بن معين وغيره، وعنه جماعة. قال الدارقطني: ثقة (ت306). (الخطيب البغدادي: تاريخ بغداد 4/82، 86. والذهبي: ميزان الاعتدال 1/91، و297. وابن حجر: لسان الميزان 1/151).
(3) الموافقة: هي أن يصل الراوي إلى شيخ أحد المصنفين من غير طريقه مع علو إسناده على إسناد المصنف. وهنا قد وصل المزي والذهبي إلى شيخ أبي داود يحي بن معين بستة رواة، ولو روياه من طريق أبي داود لكان وصلا إلى يحي بن معين بسبعة، فقد وافقا أبا داود في شيخه مع علو إسنادهما عن إسناد أبي داود.
(ابن حجر: نزهة شرح نخبة الفكر ص51. وأطيب المنح في علم المصطلح للعباد وعبد الكريم مراد ص50).
(4) المزي: تهذيب الكمال 1/19. والذهبي: ميزان الاعتدال 1/297).(1/28)
وأخرجه عبد الرزاق، عن معمر بن راشد، عن إسماعيل بن أمية مرسلا(1). بلفظ: "هذا قبر أبي رغال رجل من ثمود"(2).
والجواب عن هذا الحديث من وجوه:
الأول: أنه ليس في حديث أبي داود في النسخ الموجودة بين أيدينا مع شروحها أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "هذا قبر أبي رغال وهو أبو ثقيف وكان من ثمود". وهو بهذا اللفظ عند المزي والذهبي.
الثاني: أن هذا الحديث مداره على بجير بن أبي بجير ولا متابع له، وقد جزم ابن حجر وغيره: بجهالته، ورواية المجهول مردودة عند جماهير العلماء من أهل الحديث وغيرهم(3).
__________
(1) لعل إسماعيل كان يصل الحديث تارة، ويرسله أخرى.
(2) انظر: (البداية والنهاية لابن كثير 4/137). والحديث من مسند عبد الله بن عمرو بن العاص كما هو عند أبي داود وفي الأطراف للمزي 6/281 (حديث 8607) وذخائر المواريث للنابلسي 2/167 (حديث 4458)، وجامع الأصول لابن الأثير 11/803 (حديث 9522)، ووقع في القاموس المحيط للفيروزآبادي، وتاج العروس للزبيدي، وعون المعبود لمحمد شمس الحق العظيم آبادي،وتحفة الأحوذي للمباركفوري،وضعيف الجامع الصغير للألباني: عن ابن عمر ولعله ابن عمرو فسقطت الواو فصار ابن عمر. انظر: (القاموس3/385- 386. وتاج العروس 7/348. وعون المعبود 8/346. وتحفة الأحوذي4/279.وضعيف الجامع الصغير6/37- 38)،(حديث 6095).
(3) ابن الصلاح: (المقدمة ص144 مع التقييد والإيضاح). وابن حجر: (نزهة النظر ص39. والسيوطي: تدريب الراوي ص210).(1/29)
الثالث: أن ثمود من القبائل البائدة التي لم يبق لها عقب، ولذا كان الحجاج بن يوسف الثقفي إذا سمع من يقول بأن "ثقيفا" من بقايا ثمود يقول: كذبوا، قال الله تعالى: {وَثَمُودَ فَمَا أَبْقَى}،[سورة النجمالآية: 51]، أي أهلكهم الله ولم يبق منهم أحدا(1).
الرابع: لعل سبب نسبة "ثقيف" إلى ثمود هو ما ذكره ابن خلدون: من أن ثمود نزلت الطائف قبل وادي القرى(2).
قال: ومن ثم يقال: إن ثقيفاً من بقايا ثمود لكونهم نزلوا الطائف بعد ثمود(3).
الخامس: أن الذي عليه جمهور علماء النسب وغيرهم أن "ثقيفا" فرع من هوازن القبيلة الشهيرة كما تقدم(4).
السادس: أن هذا الحديث الوارد فيه أن "ثقيفاً" من ثمود لا تقوم به حجة لجهالة راويه "بجير بن أبي بجير"، وهي جهالة عينية ولا يعرف هذا الحديث إلاّ من طريقه، كما تقدم ذلك في ترجمته(5).
وأما تحسين المزي لهذا الحديث ففيه نظر، وقد عقب عليه ابن كثير بقوله: قلت: تفرد به بجير بن أبي بجير، ولا يعرف إلا بهذا الحديث، ولم يرو عنه سوى إسماعيل بن أمية.
__________
(1) انظر: (الطبري: جامع البيان 27/78. وابن كثير: التفسير 4/259. والقلقشندي: نهاية الأرب ص198. والشوكاني: فتح القدير 5/117. وحمد إبراهيم الحقيل: كنز الأنساب ص149- 150).
(2) وادي القرى: هو واد بين الشام والمدينة وهو بين تيماء وخيبر، ووادي القرى والحجر والجناب منازل قضاعة ثم جهينة وعذرة وبلى، وكانت قديما منازل ثمود وعاد، وبها أهلكهم الله. (معجم البلدان لياقوت الحموي 4/338).
وقال عاتق بن غيث البلادي: الحجر هو رأس وادي القرى، تقع شمال مدينة العلا بقرابة (22) كيلا وشمال المدينة المنورة ب(322) كيلا. وأهله اليوم قبيلة عنزة. (معجم المعالم الجغرافية ص93).
(3) تاريخ ابن خلدون 2/310).
(4) انظر: ص: 28.
(5) انظر: ص: 30.(1/30)
ثم نقل عن المزي نفسه ما يخالف تحسينه لهذا الحديث فقال: قال شيخنا المزي: فيحتمل أن بجير بن أبي بجير وهم في رفعه، وإنما يكون من كلام عبد الله بن عمرو من زاملته(1).
ثم قال ابن كثير: "لكن يشهد له حديث جابر بن عبد الله، وما رواه عبد الرزاق عن معمر، عن الزهري مرسلا"، بلفظ "أبو رغال أبو ثقيف"(2).
وأورده ابن حجر عن عبد الرزاق، عن معمر، عن الزهري، إلاّ أنه قال أبو رغال هو الجد الأعلى لثقيف(3).
قلت: والحديث من مراسيل الزهري ومراسيله ضعيفة عند العلماء(4). ولا يحصل من هذا الأثر تقوية لحديث بجير بن أبي بجير، لأن الأثر ضعيف. وحديث بجير بن أبي بجير مختلف في وصله وإرساله ووقفه على عبد الله بن عمرو بن العاص(5). مع جهالة بجير بن أبي بجير العينية.
وقد قال ابن الصلاح: ليس كل ضعف في الحديث يزول بمجيئه من وجوه، بل ذلك يتفاوت، فمنه ضعف يزيله ذلك بأن يكون ضعفه ناشئا من ضعف حفظ راويه مع كونه من أهل الصدق والديانة. إلى أن قال: ومن ذلك ضعف لا يزول بنحو ذلك لقوة الضعف وتقاعد هذا الجابر عن جبره ومقاومته(6).
وأما حديث جابر بن عبد الله الذي أشار إليه ابن كثير فليس فيه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "أبو رغال أبو ثقيف"، وهذا سياقه لزيادة الإيضاح.
__________
(1) الزاملة البعير الذي يحمل عليه الطعام والمتاع، من الزمل: وهو الحمل. (ابن الأثير: النهاية 2/313) والمراد هنا حمل بعير من كتب العلم. وفي (تذكرة الحفاظ للذهبي 1/42)، قال: "وكان عبد الله بن عمرو بن العاص أصاب جملة من كتب أهل الكتاب وأدمن النظر فيها، ورأى فيها عجائب". إهـ.
(2) ابن كثير: البداية والنهاية 1/137).
(3) ابن حجر: (فتح الباري 6/381).
(4) انظر: السيوطي: (تدريب الراوي 124- 125).
(5) انظر ص
(6) ابن الصلاح: (المقدمة ص50 مع التقييد والإيضاح).(1/31)
2- عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنه - قال: لما مر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالحجر قال: "لا تسألوا الآيات، وقد سألها قوم صالح فكانت(1) ترد من هذا الفج(2) وتصدر من هذا الفج فعتوا عن أمر ربهم فعقروها فكانت تشرب ماءهم يوما ويشربون لبنها يوما، فعقروها فأخذتهم الصيحة أهمد الله عز وجل من تحت أديم(3) السماء منهم إلا رجلا واحدا كان في حرم الله - عز وجل -، قيل: من هو يا رسول الله؟
قال: "هو أبو رغال، فلما خرج من الحرم أصابه ما أصاب قومه"(4).
قال ابن كثير: "وهذا الحديث على شرط مسلم، وليس هو في شيء من الكتب الستة. وقال في مكان آخر: إسناده صحيح ولم يخرجوه"(5).
وقال ابن حجر: رواه أحمد والحاكم عن جابر بإسناد حسن(6).
والخلاصة: أن حديث أحمد هذا:
أ – لا توجد في متنه زيادة "وكان أبا ثقيف" فتبقى هذه الزيادة لا متابع لها وتكون بذلك ضعيفة مردودة، ويترجح القول بأن ثقيفاً ليس لها صلة نسبية بثمود.
__________
(1) فكانت: أي الناقة.
(2) الفج: الطريق الواسع بين جبلين (الفيروزآبادي: القاموس المحيط 1/202).
(3) ما تحت أديم السماء: قال الفيروزآبادي: "أديم السماء والأرض: ما ظهر". (القاموس 4/73). والمعنى: ما ظهر على الأرض منهم. أي أهلكهم.
(4) أخرجه أحمد في (المسند 3/296)، من طريق أبي الزبير المكي عن جابر وأخرجه الطبري في( جامع البيان 14/50)، من طريق عبد الرحمن بن سابط عن جابر بن عبد الله.
(5) ابن كثير: (البداية والنهاية 1/137، 5/11).
(6) فتح الباري (6/380-381). وانظر الحديث في (المستدرك 2/567-568)، وقال: صحيح على شرط مسلم، وسكت عنه الذهبي.(1/32)
ب– حديث أحمد صريح في أن الله عز وجل أهلك قوم صالح ولم يبق منهم أحدا، بما فيهم أبو رغال، وأن الله أمهله مدة بقائه في الحرم، فلما خرج منه أصابه ما أصاب قومه، فكيف تكون ثقيف من بقايا ثمود، مع أن الحديث صريح في أن الله لم يبق منهم أحدا، كما أن الحديث صريح في ثبوت قصة أبي رغال وأنه من ثمود، وأما كون أبي رغال كان في الحرم وأنه لما خرج منه أخذه الله عز وجل، فهذا لا نزاع فيه، ويصلح أن يكون حديث أحمد مقويا لرواية "بجير بن أبي بجي" في هذه الجزئية.
3- وقد ورد عند الترمذي من حديث عبد الله بن عمر موقوفا أن رجلا من ثقيف طلق نساءه، فقال له عمر: لتراجعن نساءك أو لأرجمن قبرك كما رجم قبر أبي رغال(1).
وأخرجه أحمد أيضا عن ابن عمر وسمى الرجل "غيلان". وهذا سياقه عن عبد الله بن عمر أن غيلان بن سلمة الثقفي أسلم وتحته عشر نسوة فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: اختر منهن أربعا، فلما كان في عهد عمر طلق نساءه وقسم ماله بين بنيه، فبلغ ذلك عمر، فقال: إني لأظن الشيطان فيما يسترق من السمع سمع بموتك، فقذفه في نفسك ولعلك أن لا تمكث إلاّ قليلاً، وايم الله لتراجعن نساءك ولترجعن في مالك أو لأورثهن منك، ولآمرن بقبرك فيرجم كما رجم قبر أبي رغال(2).
وأخرجه ابن ماجة عن ابن عمر أيضا إلى قوله: "أربعا"(3).
وأخرجه مالك عن الزهري بلاغا(4).
وقال جرير(5)
__________
(1) الترمذي: (السنن 2/299)، كتاب النكاح، باب ما جاء في الرجل يسلم وعنده عشر نسوة.
(2) أحمد: (المسند 2/14).
(3) سنن ابن ماجة 1/628)، كتاب النكاح، باب الرجل يسلم وعنده أكثر من أربع نسوة.
(4) الموطأ 2/586)، كتاب الطلاق، باب جامع الطلاق.
(5) هو أبو حزورة جرير بن عطية بن حذيفة بن بدر بن سلمة التميمي الشاعر المشهور، كان من فحول شعراء الإسلام، وكانت بينه وبين الفرزدق مشادة ونقائض، وأجمعت العلماء أنه ليس في شعراء الإسلام مثل ثلاثة: جرير، والفرزدق، والأخطل.
مات جرير سنة (111)، وأما الفرزدق فهو أبو فراس همام بن غالب التميمي الشاعر المشهور، مات سنة (110).
(ابن خلكان: وفيات الأعين 1/321، 326، 6/86، 97).(1/33)
يهجو الفرزدق:
كما ترمون قبر أبي رغال(1) ... إذا مات الفرزدق فارجموه
هذه نبذة موجزة عن التعريف بقبيلة هوازن وفروعها المتعددة، التي من جملتها ثقيف على الراجح من أقوال العلماء، وأنه لا ينهض دليل على القول بأن ثقيفا من بقايا ثمود.
ثانياً: ديار هوازن وثقيف:
تقع مواطن هوزان ما بين غور تهامة(2)
__________
(1) ابن منظور: لسان العرب 13/310.
وانظر: (معالم مكة التاريخية والأثرية لعاتق بن غيث البلادي ص116).
(2) الغور هو: كل ما انحدر سيله مغربا، وما انحدر سيله مشرقا فهو نجد.
وتهامة: ما بين ذات عرق إلى مرحلتين من وراء مكة، وما وراء ذلك من المغرب فهو غور، وما وراء ذلك من مهب الجنوب فهو السراة إلى تخوم اليمن. وقيل: الغور وتهامة واحد.
والخلاصة أن ما سال من جبال السروات مشرقا فهو نجد، وما سال مغربا حتى يفسخ الجبال فهو الحجاز، وما خلف الجبال إلى البحر فهو تهامة.
والسراة: سلسلة جبلية على نسق واحد من أقصى اليمن إلى بلاد الشام، وهي الجبال المطلة على تهامة مما يلي اليمن، وهي الحاجزة بين نجد وتهامة..
وهي ثلاث سروات: سراة ثقيف، ثم سراة فهم وعدوان، ثم سراة الأزد.
وذو المجاز: موضع سوق بعرفة على ناحية كبكب على فرسخ من عرفة، كانت تقوم في الجاهلية ثمانية أيام.
قال ابن بليهد: وهو واقع في واد المغمس إذا قطعت وادي الشرائع المعروف وأنت قاصد مكة أتيت وادي المغمس في الطريق على يسارك فإذا حاذيت كبكب فهو هناك، فيه آثار قديمة لا تزال ماثلة إلى هذا العهد، وفيه بئر باقية إلى هذا العهد بقال لها "ذو المجاز". انظر: ياقوت: (معجم البلدان 2/137، 3/204، 4/216-217، 5/55، 261-262. وابن منظور: لسان العرب19/106.وابن بليهد: صحيح الآثار عما في بلاد العرب من الأخبار 2/50. وابن خميس: المجاز بين اليمامة والحجاز ص216-217، 276، 284. والبلادي: نسب حرب ص349-350. والحربي: كتاب المناسك ص532-538).(1/34)
إلى ما والى بيشة وناحية السراة، والطائف وذي المجاز وحنين وأوطاس وما صاقبها من البلاد. هذه مواطن هوزان "الأم" من حيث الجملة.
ومواطن فروعها الرئيسية يمكن بيانها على النحو الآتي:
1- بنو منبه "ثقيف" كانوا يسكنون سراة الطائف، وسراة الطائف غورها مكة المكرمة، ونجدها ديار هوزان من عكاظ(1)
__________
(1) عكاظ: قال ياقوت: عكاظ - بضم أوله، وآخره ظاء معجمة - اسم سوق من أسواق العرب في الجاهلية، وكانت قبائل العرب تجتمع بعكاظ في كل سنة ويتفاخرون فيها ويحضرها شعراؤهم ويتناشدون ما أحدثوا من الشعر ثم يتفرقون.
وعكاظ: نخل في واد بينه وبين الطائف ليلة وبينه وبين مكة ثلاث ليال، وبه كانت تقام سوق العرب بموضع منه يقال له الأثيداء. وبه كانت أيام الفجار، وكانت هناك صخور يطوفون بها ويحجون إليها.
قال الواقدي: عكاظ بين نخلة والطائف، وذو المجاز خلف عرفة، ومجنة بمر الظهران وهذه أسواق قريش والعرب ولم يكن فيه أعظم من عكاظ. قالوا: كانت العرب تقيم بسوق عكاظ شهر شوال ثم تنتقل إلى سوق مجنة فتقيم فيه عشرين يوما من ذي القعدة، ثم تنتقل إلى سوق ذي المجاز فتقيم فيه أيام الحج. (معجم البلدان 4/142). وأورد ابن خميس أقوال العلماء قديما وحديثا حول تحديد عكاظ. ثم قال: والذي أستخلصه من مجموع تلك الأقوال في تحديد "عكاظ"، أنه يقع في متسع من الأرض يحده من الجنوب: ملتقى وادي شرب بوادي عرج الأخيضر والعبيلاء، ومن الغرب: جبال الصالح وجبال مدسوس ومدفع وادي المهيد. ومن الشمال: الشظفا والخلص ومشرفة وماءة المبعوث. ومن الشرق: الدار السوداء والحرة، فيما بين هذه الأعلام يقع سوق عكاظ وهي تشكل شكلا مستطيلا لا يتجاوز طوله من الجنوب إلى الشمال أربعة أكيال، ومن الغرب إلى الشرق كيلين. وهذا التحديد يدخل الأنصاب - الحجارة - المنصوبة التي تدعى الآن "بالمرزز"، كما أن هذه المنطقة هي مدفع ثلاثة الأودية: العرج والشرب والمهيد. (المجاز ص239-242).(1/35)
والفتق(1) - أي الأرض الواقعة شرق الطائف على مقربة منه -(2).
والموجودون الآن من ثقيف عدة بطون منها:
أ- بطن النمور وهم سكان الهدى ووادي المحرم.
ب- بطن طويق ومنهم الجعيدات والفضل والعبدة والحمران وغيرهم.
ج- بطن سفيان: ومنهم العسران والخضرة وغيرهم(3).
2- بنو سعد: وهم الذين استرضع فيهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. ولا تزال فروعهم إلى الآن يسكنون أطراف السراة الواقعة شرق الطائف وجنوبه.
__________
(1) الفتق - بضم أوله وثانيه وفي آخره قاف -: قرية بالطائف.
وقيل الفتق - بفتح الفاء وسكون التاء - من مخاليف الطائف. (ياقوت: معجم البلدان 4/235)
ووصفها حمد الجاسر بما يدل على أنها تقع شرق الطائف (التعليق على كتاب المناسك للحربي ص645)
(2) حمد الجاسر: سراة غامد وزهران ص356، 433. والمجاز بين اليمامة والحجاز ص278.
(3) حمد إبراهيم الحقيل: كنز الأنساب ص149- 154.
وفؤاد حمزة: قلب جزيرة العرب ص134- 135.
وكحال: معجم قبائل العرب 1/147- 148.(1/36)
3- بنو معاوية الذين منهم مالك بن عوف النصري قائد هوازن في حنين، ودريد بن الصمة الجشمي(1). فإنهم منتشرون حاليا في شمال الطائف مثل وادي السيل – قرن المنازل(2) - وأعالي وادي العقيق(3) وما يقرب من هذه الأمكنة(4) والموجودون الآن من بني نصر ثلاثة بطون:
وهم: شعيث، وحسيكة، وآل موسى.
والموجودون من بني جشم حاليا: الدوانية، والخلد، والعمامرة(5).
هذه كلمة موجزة عن موطن هوازن "الأم" وأجنحتها الرئيسية، وبعض القبائل الموجودين منهم حاليا، وأرجو أن تكون الخارطة التي بين يدي القارئ ضمن هذه الرسالة كافية في توضيح وتحديد أماكن هذه القبائل.
والله أعلم.
ثالثاً: صلة هوازن وثقيف بقريش:
إن صلة هوازن وثقيف بأهل مكة المكرمة صلة عريقة, تتمثل فيما يأتي:
1- الصلة النسبية:
__________
(1) وفي مجلة العرب: والناس الآن ينطقون (جشم) قثمة بالثاء والنسبة إليه قثامي (محمد سعيد حسن كمال: مجلة العرب ص817- 819. وابن خميس: المجاز بين اليمامة والحجاز ص242).
(2) قرن المنازل: هو السيل الكبير وهو قرن الثعالب، ويحرم منه أهل الطائف، وأهل نجد وأهل الكويت، ويبعد عن مكة (80) كيلا. (عبد الله بن عبد الرحمن بن صالح آل بسام: تيسير العلام 1/501- 502. وحمد الجاسر: التعليق على كتاب المناسك للحربي ص 353، 614، 645. وابن خميس: المجاز بين اليمامة والحجاز ص 268، 270، 272).
(3) العقيق: هنا هو عقيق الطائف يمر بشمالي الطائف وينحدر مما يلي جبل "الغمير" (ابن خميس: المجاز بين اليمامة والحجاز ص265. وحمد الجاسر: التعليق على كتاب المناسك للحربي ص411).
(4) حمد الجاسر: (سراة غامد وزهران ص484- 485). وذكر ياقوت: أن من مساكنهم (البوباة) وهي تقع في أعالي نخلة اليمانية (معجم البلدان 1/506).
قال محمد سعيد حسن كمال: "وقد حرف اسم البوباة إلى البهيتاء" (مجلة العرب ص817- 818). وحمد الجاسر: (التعليق على كتاب المناسك للحربي ص353).
(5) محمد سعيد حسن كمال: (مجلة العرب ص817- 819).(1/37)
إذ أن كلاً من هوازن وقريش يلتقون في مضر. وهو الجد السادس لهوازن, والسابع لقريش على قول.
وذلك أن هوازن: هو: هوازن بن منصور بن عكرمة بن خصفة ابن قيس بن عيلان بن مضر.
وقريش: هو: فهر(1) بن مالك بن النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر.
هذا على القول بأن "فهراً" هو قريش.
وأمّا على قول من ذهب إلى أن قرشاً هو "النضر" فيكون مضر هو الجد الخامس لقريش(2).
وعلى كل حال سواء أكان قريش هو "فهراً" أم "النضر". فإن الذي يهمنا هو أن هوازن قبيلة عدنانية تلتقي مع قريش في مضر, ممّا يتوضح(3) به قوة الصلة النسبية بين هوازن وقريش التي تفرعت منها قبائل مكة المكرمة, وهذه الصلة لها قيمتها لدى القوم لأنها إحدى مفاخرهم، التي كانوا يفتخرون بها.
2 – المصاهرة:
كان كثير من رؤساء مكة ووجهائهم متزوجين من قبائل هوازن, وكان بعض رجال هوازن متزوجين أيضا عند المكيين، مما يؤكد قوة الصلة والترابط بين هوازن وأهل مكة، فهي صلة قوية في النسب والمصاهرة وتبادل المصالح المشتركة بين الفريقين.
وممن صاهر هوازن من المكيين:
__________
(1) فهر: بكسر الفاء وسكون الهاء.
والنضر: بفتح النون وسكون الضاد المعجمة.
وكنانة: بكسر الكاف وبنونين بينهما ألف وأولهما خفيفة.
وخزيمة: بلفظ التصغير.
ومدركة: اسم فاعل من الإدراك. (محمد بن طاهر الهندي: كتاب المغني: ص27, 66, 70, 79).
(2) ابن هشام: (سيرة ابن هشام 1/1, 93. وابن قتيبة: المعارف ص31, 51. وابن سعد: الطبقات الكبرى 1/55. والطبري: تاريخ الرسل والملوك 2/262. وابن حزم: جوامع السيرة ص4، وابن الأثير:اللباب3/112.والكلاعي: الاكتفاء1/24. وابن كثير: البداية والنهاية 2/200-201. والقلقشندي: قلائد الجمان ص:8, 14, ونهاية الأرب في معرفة أنساب العرب ص397. وابن حجر: فتح الباري 6/528, 7/163).
(3) يتوضح: يتبين (القاموس المحيط 1/255).(1/38)
أ – رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقد تزوج – من بني عبد الله بن هلال - ميمونة بنت الحارث بن حزن الهلالية.
ب– وكان العباس بن عبد المطلب عم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، متزوجا بأختها لبابة الكبرى بنت الحارث وهي أم ولديه عبد الله والفضل - رضي الله عنهم -.
ج- وكان الوليد بن المغيرة آخذا أختها الثانية لبابة الصغرى بنت الحارث، وهي أم خالد بن الوليد - رضي الله عنه -.
د– وكان صخر بن حرب آخذا عمتها صفية بنت حزن، وهي أم أبي سفيان بن حرب والد أم المؤمنين أم حبيبة.
ه- وكان أبوجهل متزوجا عند بني عبد مناف بن هلال، وهي أم جميل بنت مجالد بن عبد مناف بن هلال، وهي أم عكرمة بن أبي جهل - رضي الله عنه -(1).
وممن تزوج عند المكيين من فروع هوازن:
أ- عروة بن مسعود الثقفي، فقد تزوج بزينب بنت أبي سفيان بن حرب، وهي أخت أم المؤمنين أم حبيبة.
ب- وكانت أمه من قريش كذلك، فقد كان أبوه مسعود بن متعب(2) الثقفي متزوجا بسبيعة(3) بنت عبد شمس بن عبد مناف.
ج- وكان عبد الله بن عثمان الثقفي متزوجا بأم الحكم بنت أبي سفيان بن حرب.
__________
(1) خليفة بن خياط: (كتاب الطبقات ص4، 10، 20). وابن حزم: (جمهرة أنساب العرب ص273، 274). وابن عبد البر: (الاستيعاب 4/398، 401، 404)، مع (الإصابة). وابن الأثير: (أسد الغابة 7/253، 254، 272، 2/109). وابن حجر: (الإصابة 4/398، 411).
(2) معتب: بضم الميم وفتح العين المهملة وكسر المثناة الفوقية الثّقيلة.
(3) سبيعة: بالتصغير. (ابن طاهر الهندي: المغني ص38، 73).(1/39)
4- وفي صحيح البخاري: عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: "كانت أم الحكم بنت أبي سفيان تحت عياض بن غنم(1) الفهري، فطلقها فتزوجها عبد الله بن عثمان الثقفي"(2).
هذه نبذة يسيرة تبين قوة الترابط بين قبائل هوازن وقبائل مكة المكرمة، ولقد قويت هذه الرابطة حتى كان بعض رجال هوازن له الكلمة المسموعة لدى قريش، فقد كان الأخنس بن شريق الثقفي حليفا لبني زهرة، وقد أشار عليهم بعدم حضور معركة بدر الكبرى فأطاعوه، فكان في ذلك سلامة لأرواحهم وحمد على ذلك.
وموقف عروة بن مسعود الثقفي في صلح الحديبية يشهد بما كان لقبائل هوازن من المكانة عند القرشيين، فقد ذكر البخاري - رحمه الله - موقف عروة بن مسعود هذا في قصة صلح الحديبية فقال:
5- قام عروة بن مسعود فقال: "أي قوم، ألستم بوالد(3)؟ قالوا: بلى، قال: أولست بالولد؟ قالوا: بلى، قال: فهل تتهموني؟ قالوا: لا، قال: ألستم تعلمون أني استنفرت أهل عكاظ فلما بلَّحوا(4)علي جئتكم بأهلي وولدي، ومن أطاعني؟ قالوا: بلى، قال: فإن هذا قد عرض عليكم خطة(5) رشد اقبلوها" الحديث(6).
__________
(1) غنم - بفتح الغين المعجمة وسكون النون. (ابن طاهر الهندي: المغني ص59).
(2) البخاري: (الصحيح 7/42 كتاب الطلاق، باب نكاح من أسلم من المشركات وعدتهن. وانظر: ابن سعد: الطبقات الكبرى 8/240. ابن عبد البر: الاستيعاب 4/445 مع الإصابة. وابن الأثير: أسد الغابة 7/131، 320. وابن حجر: الإصابة 2/344، 4/316، 443).
(3) قال هذا لكون أمه منهم فهم كالوالد له، وهو كالولد لهم.
(4) بلّحوا: بالموحدة وتشديد اللام المفتوحتين ثم مهملة مضمومة، أي امتنعوا وأبوا. (ابن الأثير:النهاية في غريب الحديث1/151. وابن حجر: فتح الباري 5/339).
(5) خطة رشد: بضم الخاء المعجمة: أي عرض عليكم أمرا واضحا في الهدى والاستقامة. (ابن الأثير: النهاية في غريب الحديث 2/48).
(6) البخاري: (الصحيح 3/170)، كتاب الشروط، باب الشروط في الجهاد والمصالحة مع أهل الحرب.(1/40)
فكان عروة أحد المفاوضين مع قريش في هذا الصلح.
تلك مكانة قبائل هوازن لدى المكيين الذين كانوا محل عناية واحترام عند سائر قبائل العرب بحكم أنهم سكان بيت الله الحرام وحجابه وأهل سقايته، فكانت هذه المزية إحدى أسباب احترام قريش وتقديرها من قبائل العرب الأخرى.
3- تبادل المصالح المشتركة:
لقد كانت الصلات قوية بين أهل مكة وأهل الطائف، تجمع بينهم روابط قوية من المصالح المشتركة، فالأسواق العربية الكبرى(1) كانت تقوم في المنطقة الواقعة بين مكة والطائف في ديار هوازن فيستفيد منها الجميع، كما كانت الطائف تسد النقص الذي تعاني منه مكة المكرمة، وهو افتقارها إلى الزراعة مع شدة حرارة جوها في فصل الصيف، وكانت الطائف خصبة التربة تنمو فيها الفواكه والزروع المختلفة، إلى جانب جوها اللطيف في فصل الصيف لقيامها على قمة جبل غزوان(2)، وتحف بها وديان كثيرة تسيل فيها المياه عند سقوط الأمطار، وحولها عيون وآبار كثيرة(3).
لذلك كانت الطائف مصيف أهل مكة المكرمة.
__________
(1) من أشهرها: سوق عكاظ (انظر ياقوت: معجم البلدان 4/142. وابن خميس: المجاز ص239- 242. وعبد القدوس الأنصاري: بين التاريخ والآثار ص37- 44. وسعيد الأفغاني: أسواق العرب ص333. وباشميل: غزوة حنين ص46).
(2) جبل غزوان: هو الجبل الذي تقع عليه مدينة الطائف.
(3) انظر:(ياقوت:معجم البلدان 4/9-11.والسهلي:الروض الأنف7/263-264. وابن حجر:فتح الباري 8/43.والبلادي: نسب حرب ص367.وابن خميس: المجاز ص254-255، 257، 264-265.وباشميل:غزوة حنين ص200-202).(1/41)
وكان للأغنياء من أهل مكة بها بساتين وزروع، فكان لعتبة وشيبة ابني ربيعة(1) بستان في الطائف، وهو الذي لجأ إليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد أن خرج من الطائف طريدا عندما ذهب يطلب نجدتهم بعد وفاة عمه أبي طالب وزوجه خديجة بنت خويلد - رضي الله عنها -(2).
وكان للعباس بن عبد المطلب عم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مال بالطائف، كرم كان يحمل زبيبه إلى مكة فينبذ فيسقى به الحجاج وكان ذلك دأبه في الجاهلية والإسلام، ثم كان عبد الله بن عباس يفعل مثل ذلك، ثم كان عليّ بن عبد الله بن عباس يفعل مثل ذلك(3).
وكان لأبي سفيان بن حرب مال بالطائف أيضا يسمى "ذا الهرم"(4) وكان لعمرو بن العاص مال بالطائف يسمى "الوهط"(5).
قال ياقوت: "وهو كرم كان على ألف ألف خشبة شرى كل خشبة بدرهم، وكان أكداس الزبيب في وسط البستان كأنها حرار سود، ثم صار هذا البستان لابنه عبد الله بن عمرو بن العاص بعد وفاة عمرو بن العاص - رضي الله عنهم -. وكان أهل مكة يستهلكون كثيرا من أعناب الطائف ورمانها ويجلبون منها الزبيب والأدم"(6).
__________
(1) قتل عتبة وربيعة يوم "بدرالكبرى" على كفرهما. (سيرة ابن هشام 1/420).
(2) المصدر السابق 1/709.
(3) الواقدي: المغازي 2/838).
(4) ذو الهرم: بفتح الهاء وإسكان الراء وميم. (الواقدي: المغازي 3/971. وابن قيم الجوزية: زاد المعاد 3/500. والزرقاني: شرح المواهب اللدنية 4/9). ووقع في زاد المعاد "ذو الهدم" بالدال المهملة وهو خطأ.
(5) الوهط: بفتح أوله وسكون ثانيه، وطاء مهملة. (ياقوت: معجم البلدان 5/386. والذهبي: تذكرة الحفاظ 1/42، وسير أعلام النبلاء 3/89. وابن خميس: المجاز بين اليمامة والحجاز ص255- 256).
(6) الأدم: بضم الهمزة والدال: جمع أديم وهو الجلد. (الفيروزآبادي: القاموس المحيط 4/73).(1/42)
كما كان الثقفيون يشاركون في قوافل مكة التجارية، وكان كثير من رجالهم حلفاء للقرشيين، وقد بلغ بعضهم مبلغ السيادة في البطون القرشية، كالأخنس بن شريق حليف بين زهرة الذي كان مسموع الكلمة فيهم مطاعا.
وقد أشارت بعض الآيات القرآنية إلى ما بين مكة والطائف من ترابط، وأنهم كانوا يماثلون أهل مكة قوة وجاها(1)، قال تعالى: {وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} [سورة الزخرف، الآية: 31] (2).
هذه لمحة موجزة عن مدى الصلة والترابط الذي كان بين مكة ورجال هوازن وثقيف، وهي تتمثل في النسب والمصاهرة والمصالح المشتركة. وأحسب أن هذه اللمسات تعطي صورة واضحة عن الصلات القوية والروابط المتينة بين القبيلتين الكبيرتين: قريش وهوازن.
رابعاً: موقف هوازن وثقيف من ظهور الإسلام ودعوته:
يمكن أن يتحدد هذا الموقف في الأمور الآتية:
أ – رفض دعوة التوحيد، ويرجع ذلك إلى تغلغل رواسب الوثنية في نفوس القوم وحبهم للأوثان واعتزازهم بتقاليدهم وعاداتهم الجاهلية بوجه عام.
وقد واجهوا دعوة الرسول - صلى الله عليه وسلم - بالعداء والكراهية الشديدة.
__________
(1) انظر: (دور الحجاز في الحياة السياسية العامة لأحمد إبراهيم شريف ص23- 24).
(2) ويريدون بالقريتين: مكّة، والطّائف، وبالرّجل: الوليد بن المغيرة بمكّة، وعروة بن مسعود الثقفي بالطّائف، وقيل: غير ذلك مما جاء في تفسير هذه الآية. انظر: ابن كثير 4/126-127.(1/43)
ب – كان لرفض قريش الإسلام أثر بالغ في نكول كثير من القبائل العربية الأخرى عن الإسلام لما وقر في نفوس العرب جميعا من تعظيم هذا الحي من قريش؛ لأنهم سدنة البيت الحرام وحجاب الكعبة وأهل الحرم، وهم قوم الرسول - صلى الله عليه وسلم -، فلما حاربوا دعوته ورفضوا ما جاء به، رفض غيرهم دعوته وقالوا: "القوم أدرى بصاحبهم"، وكانت قريش نفسها تقول ذلك منفرة من دعوة الرسول - صلى الله عليه وسلم -: "نحن أعلم بصاحبنا لو كنا نعلم ما يقول حقا لتبعناه:، فحين شاهدت قبائل هوازن وثقيف ذلك الموقف العدائي من أهل مكة، وهم قوم الرسول - صلى الله عليه وسلم - الأقربون، رفضوا دعوته وقالوا: "أترون أنّ رجلاً يصلحنا وقد أفسد قومه ولفظوه".
وسوف أورد الآثار الدالة على ذلك منها:
6- ما رواه الإمام أحمد بإسناد حسن من طريق عبد الرحمن(1) ابن خالد بن أبي جبل العدواني، عن أبيه(2)
__________
(1) قال ابن حجر: روى عن أبيه وله صحبة، وعنه عبد الله بن عبد الرحمن الطائفي. قال الحسيني: مجهول. ثم عقب ابن حجر بقوله: قلت: صحح ابن خزيمة حديثه، ومقتضاه أن يكون عنده من الثقات. (تعجيل المنفعة ص166).
(2) هو خالد بن أبي جبل - بالجيم والباء الموحدة - ووقع "جيل" بالجيم والمثناة التحتية الساكنة، العدواني: بفتح المهملتين، الطائفي، يقال إنه بايع تحت الشجرة.
له هذا الحديث الواحد أخرجه أحمد وابن أبي شيبة وابن خزيمة في صحيحه، والطبراني وابن شاهين، كلهم من طريق عبد الله بن الرحمن الطائفي عن عبد الرحمن بن خالد بن أبي جبل العدواني عن أبيه.
ثم قال ابن حجر: وفرق ابن حبان بين خالد بن جبل العدواني وخالد بن أبي جبل الثقفي، ووهم في ذلك. (تعجيل المنفعة ص76، والإصابة 1/402- 403، والاستيعاب 1/414- 415 مع الإصابة، وأسد الغابة 2/91- 92).(1/44)
، أنه أبصر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في مشرق ثقيف وهو قائم على قوس – أو عصا – حين أتاهم يبتغي عندهم النصر قال: فسمعته يقرأ: {وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ}، [سورة الطارق، الآية: 1]، حتى ختمها.
قال: فوعيتها في الجاهلية وأنا مشرك ثم قرأتها في الإسلام، قال: فدعتني ثقيف فقالوا: ماذا سمعت من هذا الرجل؟ فقرأتها عليهم، فقال من معهم من قريش: "نحن أعلم بصاحبنا، لو كنا نعلم ما يقول حقا لتبعناه"(1).
والحديث رواه البخاري في تاريخه، والطبراني في معجمه، كلاهما من طريق عبد الرحمن بن خالد، عن أبيه به(2).
قال الهيثمي: رواه أحمد والطبراني، وعبد الرحمن ذكره ابن أبي حاتم ولم يجرحه أحد(3)، وبقية رجاله ثقات(4).
7- ما رواه البخاري من طريق أيوب(5)، عن أبي قلابة، عن عمرو بن سلمة قال(6): قال لي أبو قلابة: ألا تلقاه فتسأله؟
قال: فلقيته فسألته فقال: كنا بماء ممر(7) الناس، وكان يمر بنا الركبان فنسألهم: ما للناس، ما للناس؟ ما هذا الرجل(8)؟
__________
(1) أحمد: (المسند 3/335).
(2) البخاري: (التاريخ الكبير 3/138- 139). والطبراني: المعجم الكبير 4/234- 235.
(3) وقد عرفت أن الحسيني قال عنه: " مجهول" وصحح ابن خزيمة حديثه.
(4) مجمع الزوائد 7/136. وانظر الجرح والتعديل لابن أبي حاتم 5/229).
(5) أيوب: هو ابن أبي تميمة السختياني. وأبو قلابة: هو عبد الله بن زيد الجرمي. وعمرو بن سلمة - بكسر اللام- ابن قيس الجرمي، صحابي صغير. (ابن حجر: التقريب 2/71، وفتح الباري 8/23).
(6) قوله: "قال لي أبو قلابة" هو مقول أيوب، والضمير في "تلقاه" يعود على عمرو ابن سلمة، أي قال أبو قلابة لأيوب: ألا تلقى عمرو بن سلمة فتسأله. (ابن حجر: فتح الباري 8/23).
(7) "ممر" يجوز في ممر الحركات الثلاث.
(8) قوله: "ما هذا الرجل" أي يسألون عن النبي - صلى الله غليه وسلم - وعن حال العرب معه.(1/45)
فيقولون: "يزعم أن الله أرسله، أوحي إليه، أو أوحى الله بكذا(1)، فكنت أحفظ ذلك الكلام، وكأنما يغرى(2) في صدري، وكانت العرب تلوم(3) بإسلامهم الفتح فيقولون: اتركوه وقومه، فإنه إن ظهر عليهم فهو نبي صادق، فلما كانت وقعة أهل الفتح بادر كل قوم بإسلامهم، وبدر(4) أبي(5) قومي بإسلامهم، فلما قدم قال: جئتكم والله من عند النبي - صلى الله عليه وسلم حقاً -"(6) الحديث.
__________
(1) وقوله: "أوحي إليه أو أوحى الله إليه بكذا" يريد ما كانوا يخبرونه به مما سمعوه من القرآن.
(2) قوله: "وكأنما يغرى في صدري" بضم أوله وبغين معجمة مفتوحة وراء ثقيلة، أي يلصق بالغراء، ورجحها عياض. وفي رواية الكشميهني: "يقر" بضم أوله وفتح القاف وتشديد الراء، من القرار.
وفي رواية عنه: "يقرى" بزيادة ألف مقصورة، من التقرية: أي يجمع. وللأكثر "يقرأ" بهمز من القراءة. (فتح الباري 8/23).
(3) "تلوم" بفتح أوله واللام وتشديد الواو تنتظر، وإحدى التاءين محذوفة. (المصدر السابق 8/22)
(4) بدر: أي سبق قومه بالإسلام.
(5) هو: سلمة بن قيس:، ويقال: ابن نفيع، ويقال غير ذلك - الجرمي - بفتح الجيم وسكون الراء - البصري، صحابي، له وفادة، وما له سوى هذا الحديث، وهو والد عمرو بن سلمة. (ابن حجر: التقريب 1/319، وتهذيب التهذيب 4/154، وفتح الباري 8/23).
(6) البخاري: الصحيح 5/124 كتاب المغازي، باب وقال الليث: حدثني يونس... الخ، وتمام الحديث: "فقال: صلوا صلاة كذا في حين كذا وصلوا كذا في حين كذا، فإذا حضرت الصلاة فليؤذن أحدكم وليؤمكم أكثركم قرآنا، فنظروا فلم يكن أحد أكثر قرآناً مني، لما كنت أتلقى من الركبان، فقدموني بين أيديهم وأنا ابن ست أو سبع سنين، وكانت عَلَيَّ بردة كنت إذا سجدت تقلصت عني، فقالت امرأة من الحي: ألا تغطوا عنا است قارئكم، فاشتروا، فقطعوا لي قميصا، فما فرحت بشيء فرحي بذلك".(1/46)
والحديث رواه أبو داود، والنسائي، وأحمد(1).
وأخرجه الحاكم ثم قال: قد روى البخاري هذا الحديث عن سليمان بن حرب مختصرا فأخرجته بطوله ووافقه الذهبي(2).
لقد كانت هوازن وثقيف من جملة القبائل العربية التي تنتظر بإسلامها قبائل مكة المكرمة وقد وقفت إلى جانب قريش تحارب الإسلام وتناصبه العداء.
8- فقد ورد في الصحيحين من حديث عائشة - رضي الله عنها - أنها قالت للنبي صلى الله عليه وسلم: هل أتى عليك يوم كان أشد من يوم أحد؟
__________
(1) أبو داود: السنن1/138- 139 كتاب الصلاة، باب من أحق بالإمامة. والنسائي: السنن 2/9 كتاب الأذان، باب اجتزاء المرء بأذان غيره في الحضر. و55 كتاب القبلة، باب الصلاة في الإزار و26- 36 كتاب الإمامة، باب إمامة الغلام قبل أن يحتلم. وأحمد: (المسند 5/30).
(2) المستدرك 3/47).(1/47)
قال: لقد لقيت من قومك ما لقيت، وكان أشد ما لقيت منهم يوم العقبة إذ عرضت نفسي على ابن عبد يا ليل بن عبد كُلال(1)، فلم يجبني إلى ما أردت، فانطلقت وأنا مهموم على وجهي، فلم أستفق(2) إلا وأنا بقرن الثعالب، فرفعت رأسي فإذا بسحابة قد أظلتني، فنظرت فإذا فيها جبريل، فناداني فقال: إن الله قد سمع قول قومك لك، وما ردوا عليك، وقد بعث الله إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم، فناداني ملك الجبال فسلم عليّ ثم قال: يا محمد، فقال: ذلك فيما شئت، إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين(3)
__________
(1) قوله: "ابن عبد يا ليل" بتحتانية وبعد الألف لام مكسورة، ثم تحتانية ساكنة ثم لام، و"ابن عبد كلال" بضم الكاف وتخفيف اللام وآخره لام، واسمه كنانة. و الذي في المغازي أن الذي كلمه هو عبد يا ليل نفسه. وعند أهل النسب أن عبد كلال أخوه لا أبوه، وأنه عبد يا ليل بن عمرو بن عمير بن عوف، ويقال اسم عبد يا ليل: مسعود، وله أخ أعمى له ذكر في السيرة في قذف النجوم عند المبعث النبوي. وكان عبد يا ليل من أكابر أهل الطائف من ثقيف. (ابن حجر: فتح الباري 6/315). انظر سيرة ابن هشام 1/419.
(2) قوله: "فلم أستفق إلا وأنا بقرن الثعالب" أي لم أفطن لنفيسي ولم أنتبه لحالي إلا وأنا بقرن الثعالب لكثرة همي الذي كنت فيه. وقرن الثعالب: هو قرن المنازل وهو ميقات أهل نجد، ويقال له الآن وادي السيل. (فتح الباري 6/315. والنووي: شرح مسلم 4/438).
(3) الأخشبان: بالمعجمتين، هما جبلا مكة أبو قبيس والذي يقابله، وكأنه قُعَيْقِعَان. وقال الصاغاني: "بل هو الجبل الأحمر الذي يشرف على قعيقعان، ووهم من قال: هو ثور كالكرماني، وسميا بذلك لصلابتهما وغلظ حجارتهما، والمراد بإطباقهما أن يلتقيا على أهل مكة، ويحتمل أن يريد أنهما يصيران طبقاً واحداً". ابن حجر: (فتح الباري 6/316).
وقال عبد الله بن خميس: أما أخشبا مكة فهما (أبو قبيس) و(قعيقعان) وما يتصل من الجبال المشرفة على مكة غربا وشرقا. (المجاز بين اليمامة والحجاز ص322).(1/48)
، فقال النبيصلى الله عليه وسلم: بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئا(1).
ولقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يغشى الناس في أسواقهم ومنتدياتهم، يعرض عليهم دعوته ويطلب من ينصره حتى يبلغ رسالة ربه فلم يجد أذنا واعية، وما يأتي أحدا من تلك القبائل إلا قال: قوم الرجل أعلم به، أترون أن رجلا يصلحنا وقد أفسد قومه ولفظوه(2).
3 – بعد فتح مكة ودخول أهلها في الإسلام أوجست قبائل هوازن خيفة من الإسلام وأهله ولم يدعهم ذلك إلى التفكير في الدخول فيه أو مهادنته، بل فخر القوم بجموعهم المتكاثرة وبأسهم الشديد وشجاعتهم الباسلة، فأخذوا يعدون عدتهم ويحشدون قواهم لمهاجمة المسلمين، وبلغ الرسول صلى الله عليه وسلم خبرهم وما يبيتون من كيد ووقيعة بالمسلمين فبادرهم بالهجوم قبل أن يهاجموه وكانت وقعة حنين الشهيرة كما سيأتي تفاصيلها.
خامساً: موقف هوازن من الصراع بين المسلمين وقريش:
لم تشر المصادر التي بين أيدينا إلى أن هوازن اشتركت مع قريش في معاركها التي خاضتها ضد المسلمين، لا في بدر الكبرى ولا في غيرها من الغزوات، كما أن هوازن أيضا لم تساند قريشا في فتح مكة عندما داهمهم الجيش الإسلامي المسلح، رغم اتحادهم في المبدإ والغاية وهو عداوة الإسلام وأهله، ولعل السبب في ذلك يعود إلى:
أ– ما انتشر وذاع في ربوع هوازن من أن خروج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من المدينة كان قاصدا هوازن أولا.
يؤيد هذا ما ساقه الطبري في هذا الصدد، فقال: وكان من أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأمر المسلمين هوازن:
__________
(1) البخاري: (الصحيح 4/91 كتاب بدء الخلق، باب إذا قال أحدكم آمين والملائكة في السماء...الخ، 9/95 كتاب التوحيد، باب وكان الله سميعاً بصيراً). ومسلم: (الصحيح 3/1420 كتاب الجهاد والسير).
(2) ابن كثير: (البداية والنهاية 3/140- 141).(1/49)
9- ما حدثنا علي(1)بن نصر بن علي الجهضمي، وعبدالوارث(2) ابن عبد الصمد بن عبد الوارث.
قال علي: حدثنا عبد الصمد.
__________
(1) علي بن نصر بن علي بن نصر الجهضمي - بفتح الجيم وسكون الهاء بعدها معجمة مفتوحة - أبو الحسن البصري الصغير، ثقة حافظ من الحادية عشرة (ت 250)/م د ت س.(ابن حجر:التقريب2/45،وتهذيب التهذيب7/390- 391).
(2) عبد الوارث بن عبد الصمد بن عبد الوارث بن سعيد، أبو عبيدة العنبري البصري، صدوق، من الحادية عشرة (ت 252) /م ت س ق (المصدر السابق 1/527، 6/443- 444).(1/50)
وقال عبد الوارث: حدثنا أبي(1) قال: حدثنا أبان(2) العطار، قال: حدثنا هشام(3) بن عروة، عن عروة(4)، قال: أقام النبي - صلى الله عليه وسلم - بمكة عام الفتح نصف شهر، لم يزد على ذلك، حتى جاءت هوازن وثقيف، فنزلوا بحنين، وحنين واد إلى جنب ذي المجاز – وهم يومئذ عامدون يريدون قتال النبي - صلى الله عليه وسلم -، وكانوا قد جمعوا قبل ذلك حين سمعوا بمخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من المدينة، وهم يظنون أنما يريدهم حيث خرج من المدينة. الحديث(5)
__________
(1) هو: عبد الصمد بن عبد الوارث بن سعيد العنبري مولاهم، التنوري - بفتح المثناة وتثقيل النون المضمومة -، أبو سهل البصري والد الذي قبله، صدوق، ثبت في شعبة، من التاسعة (ت 207) /ع (المصدر السابق 1/507، 6/327).
(2) أبان بن يزيد العطار البصري، أبو زيد، ثقة له أفراد، من السابعة (ت في حدود 160) /خ م د ت س. (المصدر السابق 1/31 و1/101).
(3) هشام بن عروة بن الزبير بن العوام الأسدي، ثقة فقيه ربما دلس، من الخامسة (ت 145 أو 146) /ع (المصدر السابق 2/319، 11/48).
(4) عروة بن الزبير بن العوام بن خويلد الأسدي، أبو عبد الله المدني، والد الذي قبله، ثقة فقيه مشهور، من الثانية (ت 94) على الصحيح، ومولده في أوائل خلافة عمر ابن الخطاب - رضي الله عنه -/ع. (المصدر السابق 2/19، 7/180).
(5) الطبري: تاريخ الرسل والملوك 3/70، وانظر: تاريخ ابن خلدون 2/45.(1/51)
10- وعن عليّ(1) - رضي الله عنه - قال: "لما أراد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مكة أرسل إلى ناس من أصحابه أنه يريد مكة وفيهم حاطب(2) بن أبي بلتعة وفشا في الناس أنه يريد حنينا. قال: فكتب حاطب إلى أهل مكة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يريدكم. الحديث.
قال الهيثمي:رواه أبو يعلى،وفيه الحارث الأعور(3)
__________
(1) عليّ بن أبي طالب بن عبد المطلب بن هاشم الهاشمي، ابن عم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وزوج ابنته فاطمة، من السابقين الأولين، المرجح أنه أول من أسلم، وهو أحد العشرة، مات في رمضان سنة (40) وهو يومئذ من أفضل الأحياء من بني آدم بالأرض بإجماع أهل السنة، وله (63) سنة على الأرجح /ع. (ابن حجر: التقريب 2/39، وتهذيب التهذيب 7/334).
(2) حاطب بن أبي بلتعة - بفتح الموحدة وسكون اللام بعدها مثناة ثم مهملة مفتوحتان - ابن عمرو بن عمير بن سلمة بن صعب بن سهل اللخمي حليف بني أسد بن عبد العزى، شهد بدرا والحديبية ومات في خلافة عثمان سنة (65). (الإصابة 1/300).
(3) الحارث بن عبد الله الأعور الهمداني - بسكون الميم - الحوتي - بضم المهملة وبالمثناة الفوقية - الكوفي، أبو زهرة الخارفي، صاحب علي، كذبه الشعبي في رأيه، ورمي بالرفض، وفي حديثه ضعف. وليس له عند النسائي سوى حديثين، (ت في خلافة ابن الزبير) /ع (ابن حجر: التقريب 1/141، وتهذيب التهذيب 2/145).
وساق الذهبي أقوال أئمة الجرح والتعديل ثم قال: "وحديث الحارث في السنن الأربعة، والنسائي مع تعنته في الرجال، فقد احتج به وقَوَّى أمره". والجمهور على توهين أمره مع روايتهم لحديثه في الأبواب. فهذا الشعبي يكذبه ثم يروي عنه، والظاهر أنه كان يكذب في لهجته وحكاياته، وأما في الحديث النبوي فلا، وكان من أوعية العلم. (انظر: ميزان الاعتدال 1/435- 437).(1/52)
،وهو ضعيف. والحديث في الصحيح(1) بغير هذا السياق(2).
والحديث الأول مرسل.
والثاني فيه الحارث الأعور.
وهكذا ذكر الواقدي أن هوازن بعثت جاسوسا لها يرصد وجهة رسول الله - صلى الله عليه وسلم، ويعلم لهم خبره، وأنه إن كان يريد قريشا فسيسلك الطريق، وإن كان يريدنا أولا فسيسلك بطن وادي سَرِف(3) حتى يخرج إلينا، وهذا يدل على أن هوازن كانت مهددة بالخطر في عقر دارها، وأنها كانت تتوقع أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سيبدأ بهم قبل قريش، ولذا فقد وقفت داخل حدودها متخوفة من هجوم المسلمين.
وكون هوازن لم تساند قريشا في معاركها ضد المسلمين، لا يمنع ذلك من وجود بعض أفراد من هوازن وقفوا إلى جانب قريش ضد المسلمين، وخاصة من ثقيف، كما حصل من الأخنس بن شريق الثقفي حليف بني زهرة فإنه كان ممّن خرج مع قريش إلى غزوة بدر الكبرى، وأشار إلى حلفائه من بني زهرة بعدم حضور بدر وقال لهم: إنكم خرجتم لنجدة عيركم، وقد سلمت فلا حاجة لكم بحرب المسلمين، فأطاعه بنو زهرة ولم يحضر بدرا زهري فكان في ذلك سلامة لأرواحهم(4).
__________
(1) انظر:(صحيح البخاري5/119 كتاب المغازي، باب غزوة الفتح. وصحيح مسلم 4/1941 كتاب فضائل الصحابة، باب فضائل أهل بدر، وقصة حاطب بن أبي بلتعة).
(2) مجمع الزوائد 6/162- 163).
(3) سرف: بفتح السين المهملة وكسر الراء وآخره فاء: واد كبير من روافد مر الظهران، يسيل من جبل أظلم وما حوله، وفيه هناك الجعرانة يمر شمال مكة على اثني عشر كيلا، ثم يصب في مر الطهران عند دف خزاعة، وفيه بنى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بميمونة بنت الحارث أم المؤمنين وتوفيت بنفس المكان. (معالم مكة التاريخية والأثرية لعاتق البلادي ص132- 133).
(4) انظر: (ابن الأثير: أسد الغابة 1/60. وابن حجر: الإصابة 1/25).(1/53)
وكما حصل أيضا من عروة بن مسعود الثقفي في صلح الحديبية، فقد جاء بأهله وولده ومن أطاعه من قومه مساندة لقريش، وكان أحد المبعوثين إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من قبل قريش للتفاوض معه، وأشار إلى قريش بقبول ما عرضه عليهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال لهم: "إن هذا عرض عليكم خطة رشد اقبلوها"(1).
ب– تحركات المسلمين العسكرية قبل غزوة حنين:
إن المراد بهذا التحرك هو ذكر الأحداث العسكرية والتحركات الإسلامية التي كانت توطئة لهذه الغزوة.
وبالنظر إلى الروايات التي وردت في هذا الصدد، ظهر أن هذه التحركات الإسلامية كانت ترمي إلى نشر الإسلام بالدعوة إليه، ثم القضاء على كل من يقف في وجه الدعوة الإسلامية.
وكان أبرز أعمال هذه السرايا(2) ملاحقة فلول الوثنية حول مكة وهدم ما تبقى من أصنام تُعبد من دون الله، وكان ذلك تمهيداً عسكرياً وتطهيراً للأرض من رجس الوثنية حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله.
ولقد انهارت الزعامة الوثنية على أيدي المسلمين بفتح مكة، ولم تبق في الجزيرة العربية قوة يحسب لها حساب عند المسلمين بعد أن فتح الله عليهم مكة سوى قبائل هوازن، وهي قبائل كثيرة ممتدة في رقعة واسعة من الأرض، وكانت ذات شوكة ومنعة، فصرف المسلمون نظرهم إليها بعد فتح مكة مباشرة، وفيما يلي بيان التفاصيل وفقا للروايات التاريخية في ذلك.
أوّلاً: سرية خالد بن الوليد لهدم العزى:
__________
(1) تقدم هذا الحديث برقم (5).
(2) السرايا: جمع سرية، وهي طائفة من الجيش يبلغ أقصاها أربعمائة تبعث إلى العدو ثم تعود إليه. سموا بذلك لأنهم يكونون خلاصة العسكر وخيارهم، من الشيء السري، أي النفيس.
وقيل: سموا بذلك لأنهم ينفذون سرا وخفية، وليس هذا بوجيه، لأن لام السر (راء) وهذه ياء. (ابن الأثير: النهاية 2/363).(1/54)
كانت هذه السرية مكونة من ثلاثين فارسا بقيادة خالد بن الوليد، بعثهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم – بعد فتح مكة لخمس ليال بقين من شهر رمضان سنة ثمان للهجرة – لهدم العزى أعظم صنم عند قريش ومن دان بدينها من كنانة وبني شيبان من بني سليم(1).
فقد ذكر ابن إسحاق: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعث خالد بن الوليد إلى العزى، وكانت بنخلة(2)، وكانت بيتا يعظمه هذا الحي من قريش وكنانة ومضر كلها، وكانت سدنتها وحجابها من بني شيبان(3) من بني سليم(4) حلفاء بني هاشم(5)، فلما سمع صاحبها السلمي بمسير خالد إليها، علق عليها سيفه وأسند(6) في الجبل الذي هي فيه، وهو يقول:
أيا عزى شدي شدة لا شوى(7) لها ... على خالد ألقي القناع وشمري
يا عزى إن لم تقتلي المرء خالدا ... فبوئي بإثم عاجل أو تنصري
__________
(1) ابن سعد: الطبقات الكبرى 2/145. والطبري: تاريخ الرسل والملوك 3/65. وابن الأثير: الكامل 2/176. وابن كثير: البداية والنهاية 4/316، 375. وابن قيم الجوزية: زاد المعاد 3/413- 414. والقسطلاني: المواهب اللادنية 1/160. والخضري بك: نور اليقين ص219. وباشميل: غزوة حنين ص17).
(2) هي نخلة الشامية انظر: ص 61 تعليقة (5).
(3) هو: شيبان بن جابر بن مرة بن عيسى بن رفاعة بن الحارث بن عتبة بن سليم بن منصور (الكشميري: فيض الباري 4/239).
(4) بنو سليم: نسبة إلى سليم - بضم السين وفتح اللام- ابن منصور بن عكرمة بن خصفة بن قيس عيلان بن مضر. (ابن الأثير: اللباب في تهذيب الأنساب 2/128).
(5) قال ابن هشام: حلفاء بني أبي طالب خاصة. (سيرة ابن هشام 1/84).
(6) أسند في الجبل: رقي وصعد. (المعجم الوسيط 1/453).
(7) لا شوى لها: أي لا تبقي على شيء. يقال: رمى فأشوى إذا لم يصب المقتل. (ابن الأثير: النهاية 2/511).(1/55)
فلما انتهى إليها خالد هدمها، ثم رجع إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -(1).
12- وأخرج النسائي في السنن الكبرى فقال، أخبرنا عليّ(2) ابن المنذر أخبرنا ابن فضيل(3)
__________
(1) سيرة ابن هشام 2/436. وانظر: (ابن سعد: الطبقات الكبرى 2/145. وخليفة بن خياط: تاريخ خليفة ص88. والطبري: تاريخ الرسل والملوك 3/65. وابن الأثير: الكامل 2/176. وابن كثير: البداية والنهاية 4/316، 2/192).
(2) علي بن المنذر الطريقي - بفتح المهملة وكسر الراء بعدها تحتانية ساكنة ثم قاف - الكوفي، صدوق يتشيع، من العاشرة (ت 256) / ت س ق (ابن حجر: التقريب 2/44، وتهذيب التهذيب 7/386).
وقال ابن أبي حاتم: سمعت منه مع أبي وهو ثقة صدوق.
وقال أيضا: سئل عنه أبي فقال: حج خمسين أو خمسا وخمسين حجة، ومحله الصدق. (الجرح والتعديل 6/206. والذهبي: ميزان الاعتدال 3/157).
(3) محمد بن فضيل بن غزوان - بفتح المعجمة وسكون الزاي - الضبي مولاهم، أبو عبد الرحمن الكوفي، صدوق عارف، رمي بالتشيع، من التاسعة /ع (التقريب 2/200- 201، وتهذيب التهذيب 9/405). وفي هدي الساري ص441 نقل فيه أقوال العلماء، ثم عقب بقوله: قلت: إنما توقف فيه من توقف لتشيعه، وقد قال أحمد بن علي الأبار، حدثنا أبو هاشم قال: سمعت ابن فضيل يقول: رحم الله عثمان، ولا رحم الله من لا يترحم عليه، قال ورأيت عليه آثار أهل السنة والجماعة، - رحمه الله -، وقد احتج به جماعة.
وقال الذهبي: روى عنه عدد كثير وجم غفير على تشيع كان فيه، إلاّ أنّه كان من علماء الحديث، والكمال عزيز. وختم ترجمته بقوله: وقد احتج به أرباب الصحاح. (سير أعلام النبلاء 9/173- 175).
وقد ذكر البخاري في (التاريخ الكبير 1/207- 208): أن وفاة محمد بن فضيل كانت سنة (195)، وهكذا ذكر الذهبي في (سير أعلام النبلاء، وميزان الاعتدال 4/9- 10، وتذكرة الحفاظ 1/315، والخلاصة للخزرجي 2/450)، إلاّ أن الذهبي قال: وقيل مات سنة (194). ووقع في تهذيب التهذيب 9/406 أنّ وفاته كانت سنة (295) وهو خطأ.(1/56)
: حدثناالوليد(1) بن جميع، عن أبيالطفيل(2) قال: لما فتح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مكة، بعث خالد بن الوليد إلى نخلة(3)
__________
(1) الوليد بن عبد الله بن جميع - مصغرا - الزهري المكي، نزيل الكوفة، صدوق يهم، ورمي بالتشيع، من الخامسة /بخ م د ت س. هكذا ذكر ابن حجر في التقريب، والرجل وثقه ابن معين وابن سعد، والعجلي وغيرهم، وضعفه العقيلي وابن حبان والحاكم. (ابن حاتم: الجرح والتعديل 9/8، والذهبي: ميزان الاعتدال 4/337، وابن حجر: التقريب2/333،وتهذيب التهذيب11/138-139،والخزرجي:الخلاصة3/121). وقال الذهبي:في (الكاشف30/210) وثقوه، وقال ابن أبي حاتم: صالح الحديث.
(2) هو: عامر بن واثلة بن عبد الله بن عمرو بن جحش الليثي، أبو الطفيل وربما سمي عمرا، ولد عام أحد، ورأى النبي - صلى الله عليه وسلم -، وروى عن أبي بكر فمن بعده، وعُمِّرَ إلى أن مات سنة عشر ومائة على الصحيح، وهو آخر من مات من الصحابة، قال مسلم وغيره /ع (التقريب1/389، وتهذيب التهذيب5/82).
(3) نخلة: هي الشامية: وهو واد يصب من الغمير ويجتمع مع وادي نخلة اليمانبة في البستان، ويصيران واديا واحدا فيه بطن مر، وكانت العزى في حراض من وادي نخلة الشامية، وحراض: موضع قرب مكة بين المشاش والغمير، وكان أول من اتخذ العزي ظالم بن أسعد. (ياقوت: معجم البلدان 2/234، 5/277).
وقال حمد الجاسر: المراد بالبستان الذي هو مجتمع النخلتين هو بستان بن معمر، وهو معمر بن عبيد بن معمر، من تيم بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب.
ثم قال: والعامة يسمونه بستان بن عامر وهو غلط. (التحقيق على كتاب المناسك للحربي ص365).
وقال عاتق بن غيث البلادي: نخلة الشامية أكبر روافد وادي مر الظهران تأخذ أعلى مساقطها من جبل "الحبلة" بثلاث فتحات من جهته الشرقية قرب الطائف من الغرب، ثم تسمى أسماء عديدة في رحلتها الطويلة فتمر بالمحرم ثم قرن ثم السيل ثم بعج ثم حراض، ثم المضيق ثم تجتمع مع نخلة اليمانية في وادي الزبارة، لها روافد ضخام من السيل الصغير، وبرى، والزرقاء، وسقام وفيه العزى، سكنها ثقيف، فعتبية، فهذيل. (نسب حرب ص388).(1/57)
، وكانت بها العزى، فأتاها خالد وكانت على ثلاث سمرات فقطع السمرات وهدم البيت الذي كان عليها، ثم أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فأخبره فقال: "ارجع فإنك لم تصنع شيئا": فرجع خالد، فلما أبصرته السدنة وهم حَجَبَتُهَا أمعنوا(1) في الجبل وهم يقولون:
يا عزى، يا عزى، فأتاها خالد فإذا امرأة عريانة ناشرة شعرها تحثو التراب على رأسها، فغمسا بالسيف حتى قتلها، ثم رجع إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأخبره فقال: "تلك العزى"(2).
والحديث نسبه السيوطي للنسائي وابن مردويه(3).
وقال الهيثمي:رواه الطبراني وفيه علي(4) بن المنذر وهو ضعيف(5).
ورواه أبو يعلى فقال:حدثنا أبو كريب(6)، ثنا محمد بن الفضل به(7).
ورواه البيهقي أيضاً من طريق أبي كريب عن محمد بن الفضيل به(8).
__________
(1) أمعنوا في الجبل: أي جدوا وأسرعوا في طلوع الجبل. (ابن الأثير: النهاية 4/344).
(2) المزي: تحفة الأشراف 4/235 (حديث 5054). وابن كثير: التفسير 4/254.
(3) الدر المنثور 6/176.
(4) في مجمع الزوائد: وفيه يحيى بن المنذر، وهو خطأ، والحديث أخرجه أبو نعيم في دلائل النبوة ص469 عن الطبراني فقال: علي بن المنذر، وقد تقدم القول في علي ابن المنذر في أول هذا الحديث ص وتابعه أبو كريب محمد بن العلاء عند أبي يعلى والبيهقي.
(5) مجمع الزوائد 6/176.
(6) محمد بن العلاء بن كريب، أبو كريب الهمداني، ثقة حافظ، من العاشرة (ت 248) وقال في التقريب: مات سنة 247، وقال في تهذيب التهذيب: وهو وهم.
ووقع في التقريب الطبعة المصرية في باب الكنى "أبو كريبة" هو محمد بن العلاء، وهو خطأ والصواب أبو كريب بدون هاء./ع (ابن حجر: التقريب2/197، وتهذيب التهذيب 9/385- 386، والخزرجي: الخلاصة 2/46).
(7) مسند أبي يعلى 1/107 أ).
(8) ابن كثير: البداية والنهاية 4/316.(1/58)
13- ما رواه بن أبي شيبة في التاريخ قال: حدثنا علي بن مسهر(1)، حدثنا الأجلح(2) عن عبد الله(3) بن أبي هذيل قال: بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خالد بن الوليد إلى العزى فجعل يضربها بسيفه، ويقول:
يا عزى كفرناك لا سبحانك ... إني رأيت الله قد أهانك(4)
والحديث الثاني من طريق أبي الطفيل - رضي الله عنه - وهو من صغار الصحابة فإن كل من ترجم له قال بأنه ولد عام أحد(5).
__________
(1) علي بن مسهر - بضم الميم وسكون المهملة وكسر الهاء - القرشي الكوفي، قاضي الموصل، ثقة له غرائب بعدما أضر، من الثامنة (ت 189) /ع (التقريب 2/44، تهذيب التهذيب 7/383).
وقال الذهبي عنه: "علي بن مسهر الإمام الحافظ أبو الحسن". قال أحمد العجلي: "كان ممن جمع بين الفقه والحديث ثقة". (تذكرة الحفاظ 1/290- 291).
(2) الأجلح بن عبد الله بن حجية - بالمهملة والجيم مصغرا - يكنى أبا حجية الكندي، يقال اسمه يحيى، والأجلح لقب، صدوق شيعي من السابعة (ت 145)/بخ ع (التقريب 1/49، تهذيب التهذيب 1/189).
(3) عبد الله بن أبي الهذيل الكوفي، أبو المغيرة، ثقة، من الثانية، مات في ولاية خالد بن عبدالله القسري على العراق/زم ت س.(التقريب1/458،وتهذيب التهذيب 6/62. وكان خالد بن عبد الله القسري واليا على العراق من قبل هشام بن عبد الملك، ثم عزله في سنة (125). (تهذيب التهذيب 3/101).
(4) تاريخ ابن أبي شيبة ص25 بسم الله الرحمن الرحيم).
(5) أنظر ابن عبد البر: (الاستيعاب 4/115 مع (الإصابة)، وابن الأثير: أسد الغابة 3/145، وابن حجر: تهذيب التهذيب5/82- 83، والتقريب 1/389). وقد ورد عند أحمد في المسند 5/454 عن أبي الطفيل قال: أدركت ثماني سنين من حياة الرسول صلى الله عليه وسلم وولدت عام أحد.(1/59)
وبعث خالد بن الوليد إلى العزى كان أواخر السنة الثامنة من الهجرة، فيكون سن أبي الطفيل عندئذ خمس سنوات، لأن أحد كانت في السنة الثالثة، وهو وقت يصح السماع فيه(1).
14- وقد ورد عند أبي يعلى: عن أبي الطفيل أن النبي صلى الله عليه وسلم كان بالجعرانة فقسم لحما وأنا يومئذ غلام(2)، فأقبلت امرأة بدوية، فلما دنت من النبي - صلى الله عليه وسلم - بسط لها رداءه، فجلست عليه، فسألت من هذه؟ قالوا أمه التي أرضعته(3).
فلو صح هذا الحديث لكان صريح في السماع أبي الطفيل من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ لأن قصة الجعرانة، وقصة هدم العزى كانتا في وقت واحد، لأن هدم العزى كان قبل خروج رسول الله - صلى الله عليه مسلم - إلى غزوة حنين، وقصة الجعرانة كانت في وقت تقسيم الغنائم التي غنمها رسول الله-صلى الله عليه وسلم-من غزوة حنين، ولكن الحديث لم يصح لأن فيه جعفر بن يحيى بن ثوبان، وعمارة بن ثوبان، وكلاهما مجهول الحال(4).
__________
(1) يؤيد ذلك ما رواه البخاري في صحيحه 1/22 من كتاب العلم، باب متى يصح سماع الصغير من حديث محمود بن الربيع قال: "عقلت من النبي صلى الله عليه وسلم مجة مجها في وجهي وأنا ابن خمس سنين من دلو". وانظر: (فتح الباري 1/171- 173 وتدريب الراوي ص237).
(2) الغلام الطار الشاب والكهل ضد، أو من حيث يولد إلى ان يشيب. (القاموس 4/157).
(3) أبو يعلى: المسند 1/107 أ). والحديث أيضا عند البيهقي، وفيه: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم نعماً بالجعرانة. (البداية والنهاية لابن كثير4/364). والظاهر: أن "نعما" أولى من "لحما".
(4) الذهبي: ميزان الاعتدال 1/420). ابن حجر: التقريب 1/132، 2/49، تهذيب التهذيب 2/109، 7/412.(1/60)
ولذا فقد جزم ابن السكن(1) برؤية أبي الطفيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم دون سماعه منه، فقال: جاءت عنه روايات ثابتة أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم(2)، وأما سماعه منه صلى الله عليه وسلم فلم يثبت(3).
وعلى هذا فيكون أبو الطفيل لم يسمع حديث خالد بن الوليد لهدم العزى من رسول الله-صلى الله عليه وسلم-، وعليه فيكون الحديث من مراسيل الصحابة وهو مقبول على المعتمد سواء أكان الصحابي الذي أرسل الحديث صغيرا أم كبيرا لم يشهد الحادثة لتأخر إسلامه.
قال النووي: في آخر كلامه على الحديث المرسل: "هذا كله في غير مرسل الصحابي، أما مرسله فمحكوم بصحته على المذهب الصحيح"(4).
__________
(1) ابن السكن: هو الحافظ الحجة أبو علي سعيد بن عثمان بن السكن البغدادي، نزيل مصر (294- 353). (الذهبي: تذكرة الحفاظ 3/937، وكحالة: معجم المؤلفين 4/227).
(2) ثبتت رؤيته لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الصحيح 2/927، وأحمد: المسند 5/454 من طريق معروف بن خَرَّبُوذ قال: سمعت أبا الطفيل يقول: "رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يطوف بالبيت ويستلم الركن بمحجن معه ويقبل المحجن" لفظ مسلم، وزاد أحمد: "وأنا غلام شاب".
(3) ابن حجر: الإصابة 4/113، وتهذيب التهذيب 5/83).
(4) تقريب النووي ص126 مع تدريب الراوي).(1/61)
قال السيوطي: "قوله أما مرسله" أي مرسل الصحابي وذلك كإخباره عن شيء فعله النبي - صلى الله عليه وسلم - أو نحوه ممّا يعلم أنه لم يحضره لصغر سنه أو تأخر إسلامه، (فمحكوم بصحته على المذهب الصحيح) الذي قطع به الجمهور من أصحابنا وغيرهم، وأطبق عليه المحدثون المشترطون للصحيح القائلون بضعف المرسل، وفي الصحيحين من ذلك ما لا يحصى(1)، لأن أكثر رواياتهم عن الصحابة وكلهم عدول، ورواياتهم عن غير الصحابة نادرة، وإذا رووها بينوها، بل أكثر ما رواه الصحابة عن التابعين ليس أحاديث مرفوعة، بل إسرائيليات أو حكايات أو موقوفات"(2). إه
والحديث بهذا يكون حسنا لغيره، وهو نص في أن الذي تولى هدم العزى هو خالد بن الوليد - رضي الله عنه -.
وقد ذكره ابن إسحاق معضلا، وابن أبي شيبة عن عبد الله بن أبي الهذيل مرسلا(3)، وأطبق على ذلك علماء المغازي والتفسير.
وأما وجود العزى فقد ثبت في القرآن الكريم، في قوله تعالى: {أَفَرَأَيْتُمُ اللاتَ وَالْعُزَّى}، [سورة النجم، الآية: 19].
وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال:
15- "من حلف فقال في حلفه: واللات والعزى، فليقل: لا إله إلاَّ الله". الحديث..لفظ البخاري(4).
__________
(1) مثل محمود بن الربيع وعبد الله بن عباس وعبد الله بن عمرو والسائب بن يزيد.
(2) السيوطي: تدريب الراوي ص126، والسخاوي: فتح المغيث 1/146).
(3) انظر: الحديث رقم 11، 13.
(4) الصحيح (6/117) تفسير سورة النجم و8/23 كتاب الأدب، باب من لم ير إكفار من قال ذلك متأولاً أو جاهلا، و8/56 كتاب الاستئذان، باب كل لهو باطل إذا شغل عن طاعة الله الخ. و8/112 كتاب الأيمان والنذور، باب لا يحلف باللات والعزى ولا بالطواغيت.
ومسلم: الصحيح (3/1267- 1268) كتاب الأيمان، باب من حلف باللات والعزى، فليقل: لا إله إلا الله.(1/62)
هذه إحدى السرايا التي بعثها الرسول - صلى الله عليه وسلم - لضرب معاقل الوثنية وهدم ما تبقى من أعلامها، لأن هدف الإسلام الأول، هو تثبيت عقيدة التوحيد في نفوس الناس، وبيان أن هذه الأوثان والأصنام لا يصح أن تعبد من دون الله، وعبادتها ضرب من السفه والجهل والخروج عن فطرة الله التي فطر الناس عليها، ومن ثمّ عني الرسول - صلى الله عليه وسلم - بهذا الأمر غاية العناية، كما ثبت في صحيح مسلم عن أبي الهيَّاج(1) الأسدي، قال:
16- قال لي عليّ بن أبي طالب: "ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ "أن لا تدع تمثالا إلا طمسته ولا قبرا مشرفا إلاّ سويته"(2).
ثالثاً: هدم مناة:
ومن الأصنام التي كانت خارج الحرم "مناة"، وهي أقدم صنم وأعظمه عند العرب، فقد كان لهذا الصنم من المكانة والإجلال في نفوسهم ما جعلهم يتسمون به، وكانوا يقربون له القرابين ويطوفون به.
قال ابن الكلبي: كان الذي وضع الأصنام في بلاد العرب عمرو ابن لحي(3)، فكان أقدمها كلها مناة(4)
__________
(1) أبو الهياج - بتشديد الياء - حيان بن حصين الأسدي، الكوفي، ثقة، من الثالثة/م د ت س. (ابن حجر: التقريب 1/208)
(2) مسلم: (الصحيح 2/666 كتاب الجنائز، باب الأمر بتسوية القبور).
(3) عمرو بن لحي - باللام والمهملة مصغرا - وهو والد خزاعة. (انظر: فتح الباري 6/547. ونهاية الأرب للنويري 2/332).
(4) مناة: بفتح الميم والنون المخففة. قرأ الجمهور "مناة" بألف من دون همزة مشتقة من منى يمنى أي صب، لأن دماء النسك كانت تصب عندها يتقربون بذلك إليها.
وقرأ غير الجمهور "مناءة" بالمد والهمزة، مشتقة من النوء، وهو المطر، لأنهم كانوا يستمطرون عندها الأنواء. وقيل: هما لغتان للعرب. (الشوكاني: فتح القدير 5/107- 108)(1/63)
، وكان منصوبا على ساحل البحر من ناحية المشلل(1) بقديد، بين المدينة ومكة، وكانت العرب جميعا تعظمه، وتذبح حوله، وكانت الأوس والخزرج ومن ينزل المدينة ومكة وما قارب من المنطقة يعظمونه ويذبحون له، ويهدون له، ولم يكن أحد أشد إعظاما له من الأوس والخزرج.
وكانت الأوس والخزرج ومن يأخذ بإخذهم(2) من عرب أهل يثرب وغيرها يحجون فيقفون مع الناس المواقف كلها، ولا يحلقون رؤوسهم، فإذا نفروا أتوا مناة فحلقوا رؤوسهم عنده وأقاموا عنده، ولا يرون لحجهم تماما إلا بذلك.
ومناة هذه هي التي ذكرها الله عز وجل فقال: {وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَى}، [سورة النجم، الآية: 20]. وكانت لهذيل وخزاعة، وكانت قريش وجميع العرب تعظمه(3) ا.ه.
هكذا ذكر ابن الكلبي عن تعظيم العرب لمناة ومكانته في نفوسهم.
__________
(1) المشلل: بضم الميم وفتح الشين المعجمة ثم لامين أولهما مشدد مفتوح، وأصل هذا الاسم لتل صغير تكسوه حجارة المرو بطرف قديد من الشمال كانت عليه "مناة" الطاغية، ثم نسبت إليه الحرة الكبيرة المنقادة بين قديد ودوران والتي يقع تل المشلل بطرفها الغربي، يفصل بينهما ثنية المشلل، وتسمى الحرة الآن "القديدية" نسبة على وادي قديد.
(انظر: ياقوت: معجم البلدان 2/480، 4/313، 5/136، 204- 205. والبلادي: نسب حرب ص40، 385)
(2) الإخذ: بكسر الهمزة، قال ابن منظور: والعرب تقول: لو كنت منا لأخذت بإخذنا بكسر الهمزة أي أخذت بخلائقنا وزينا وشكلنا وهدينا. (لسان العرب 5/3-4).
(3) ابن الكلبي: كتاب الأصنام ص13-15.(1/64)
17- وقد ورد عند البخاري وغيره من حديث عروة، عن عائشة رضي الله عنها قال: قلت لعائشة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - وأنا يومئذ حديث السن -: أرأيت قول الله تبارك وتعالى: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا}، [سورة البقرة، الآية: 158]، فلا أرى(1) على أحد شيئا ألا يطوف بهما، فقالت عائشة: "كلا، لو كانت كما تقول(2)
__________
(1) فلا أُرى - بضم الهمزة - أي فلا أظن.
(2) قوله (لو كانت) أي هذه الآية (كما تقول) أي كما تأولها عليه من الإباحة (لكانت فلا جناح عليه أن لا يطوف بهما) بزيادة "لا" بعد "أن" فإنها كانت حينئذ تدل على رفع الإثم عن تاركه، وذلك حقيقة المباح، فلم يكن في الآية نص على الوجوب ولا عدمه.
قال النووي: "قال العلماء: هذا من دقيق علمها وفهمها الثاقب وكبير معرفتها بدقائق الألفاظ، لأن الآية الكريمة إنما دل لفظها على رفع الجناح عمن يطوف بهما، وليس فيه دلالة على عدم وجوب السعي، ولا على وجوبه، فأخبرته عائشة رضي الله عنها أن الآية ليست فيها دلالة للوجوب ولا لعدمه، وبيَّنت السبب في نزولها، والحكمة في نظمها وأنها نزلت في الأنصار حين تحرجوا من السعي بين الصفا والمروة في الإسلام، وأنها لو كانت كما يقول عروة لكانت لا جناح عليه ألا يطوف بهما، وقد يكون الفعل واجبا ويعتقد إنسان أنه يمنع إيقاعه على صفة مخصوصة، وذلك كمن عليه صلاة الظهر وظن أنه لا يجوز فعلها عند غروب الشمس، فسأل عن ذلك فيقال في جوابه: لا جناح عليك إن صليتها في هذا الوقت، فيكون جوابا صحيحا ولا يقتضي نفي وجوب صلاة الظهر". إهـ. (شرح النووي على صحيح مسلم 3/410. وانظر: ابن حجر: فتح الباري 3/499، والمباركفوري: تحفة الأحوذي 8/302، ومحمد شمس الحق العظيم آبادي: عون المعبود 5/356).(1/65)
كانت فلا جناح عليه أن لا يطوف بهما، إنما أنزلت هذه الآية في الأنصار: كانوا يهلون لمناة، وكانت مناة حذو قديد، وكانوا يتحرجون أن يطوفوا بين الصفا والمروة، فلمّا جاء الإسلام، سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فأنزل الله: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا}(1).
وفي لفظ عند البخاري من طريق الزهري عن عروة، قالت عائشة: بئسما قلت يا ابن أختي إن هذه لو كانت كما أولتها عليه، كانت لا جناح عليه أن لا يطوف بهما، ولكنها أنزلت في الأنصار، كانوا قبل أن يسلموا يهلون لمناة الطاغية(2) التي كانوا يعبدونها عند المشلل، فكان من أهل يتحرج أن يطوف بالصفا والمروة، فلما أسلموا سألوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك، قالوا: يا رسول الله إنا كنا نتحرج أن نطوف بين الصفا والمروة، فأنزل الله تعالى {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} الآية.
قالت عائشة - رضي الله عنها -: وقد سن(3) رسول الله- صلى الله عليه وسلم-الطواف بينهما، فليس لأحد أن يترك الطواف بينهما.
__________
(1) البخاري: الصحيح 3/6 كتاب العمرة (باب يفعل في العمرة ما يفعل في الحج). ومالك: (الموطأ 1/373) كتاب الحج (باب جامع السعي). وأبو داود: (السنن 1/438- 439)، كتاب المناسك (باب أمر الصفا والمروة).
(2) الطاغية: صفة إسلامية (لمناة). (ابن حجر: فتح الباري 3/499).
(3) قول عائشة: "وقد سن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الطواف بين الصفا والمروة... الخ": أي فرضه بالسنة وليس مرادها نفي فرضيتها، ويؤيده قولها "لم يتم الله حج أحدكم ولا عمرته ما لم يطف بينهما". (ابن حجر: فتح الباري 3/501) وانظر ص70 تعليقة (3).(1/66)
ثم أخبرت(1) أبا بكر بن عبد الرحمن فقال: إن هذا لعلم ما كنت سمعته، ولقد سمعت رجالا من أهل العلم يذكرون أن الناس – إلا من ذكرت عائشة ممن كان يهل بمناة – كانوا يطوفون بالصفا والمروة، فلما ذكر الله تعالى الطواف بالبيت ولم يذكر الصفا والمروة في القرآن، قالوا: يا رسول الله، كنا نطوف بالصفا والمروة، وأنّ الله أنزل الطواف بالبيت فلم يذكر الصفا، فهل علينا من حرج أن نطوّف بالصفا والمروة؟ فأنزل الله تعالى {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} الآية، قال أبو بكر: "فأسمع هذه الآية نزلت في الفريقين كليهما: في الذين كانوا يتحرجون أن يطوفوا في الجاهلية بالصفا والمروة، والذين يطوفون، ثم تحرجوا ان يطوفوا بهما في الإسلام من أجل أن الله تعالى أمر بالطواف بالبيت ولم يذكر الصفا حتى(2) ذكر ذلك بعدما ذكر الطواف بالبيت"(3).
وهو عند مسلم أيضا ولفظه: قال الزهري: فذكرت ذلك لأبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، فأعجبه ذلك، وقال: إن هذا لعلم، ولقد سمعت رجالا من أهل العلم يقولون: إنما كان من لا يطوف بين الصفا والمروة من العرب يقولون: إن طوافنا بين هذين الحجرين من أمر الجاهلية.
__________
(1) القائل (ثم أخبرت): هو الزهري راوي هذا الحديث كما هو مصرح به عند مسلم. انظر ص69.
(2) قوله: "حتى ذكر ذلك بعدما ذكر الطواف بالبيت"، يعني تأخر نزول آية البقرة في الصفا والمروة عن آية الحج وهي قوله تعالى: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ}، [الحج: من الآية29]. (ابن حجر: فتح الباري 3/501).
(3) البخاري: (الصحيح 2/132)، كتاب الحج (باب وجوب الصفا والمروة).(1/67)
وقال آخرون من الأنصار: إنما أمرنا بالطواف بالبيت ولم نؤمر به بين الصفا والمروة، فأنزل الله عز وجل {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ}. قال أبو بكر بن عبد الرحمن: فأراها قد نزلت في هؤلاء وهؤلاء(1).
وعند البخاري أيضا قال: قال معمر، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة قالت: كان رجال من الأنصار ممن كان يهل لمناة – ومناة صنم بين مكة والمدينة – قالوا: يا نبي الله: كنا لا نطوف بين الصفا والمروة تعظيما لمناة(2).
هكذا علقه البخاري عن معمر، ووصله أحمد ولفظه: ثنا عبد الرزاق، ثنا معمر، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة في قوله عز وجل {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} قالت: كان رجال من الأنصار ممن كان يهل لمناة في الجاهلية ومناة صنم بين مكة والمدينة قالوا: يا نبي الله: إنا كنا لا نطوف بين الصفا والمروة تعظيما لمناة فهل علينا من حرج أن نطوف بهما، فأنزل الله عز وجل {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا}(3).
18- وورد من حديث عاصم بن سليمان قال: سألت أنس بن مالك - رضي الله عنه - عن الصفا والمروة؟
فقال: كنا نرى أنهما من أمر الجاهلية، فلما كان الإسلام أمسكنا عنهما فأنزل الله تعالى {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ}.. إلى قوله.. {أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} لفظ البخاري(4)
__________
(1) مسلم: (الصحيح 2/929)، كتاب الحج (باب بيان أن السعي بين الصفا والمروة ركن لا يصح الحج إلا به)
(2) البخاري: (الصحيح 6/118 كتاب التفسير (باب ومناة الثالثة الأخرى).
(3) أحمد: (المسند 6/162)، ووقع فيه خطأ مطبعي فأسقط "لا" من قوله: كنا لا نطوف... الخ، والصواب إثباتها كما في رواية البخاري.
(4) البخاري: (الصحيح 6/19- 20)، كتاب التفسير، باب قوله (إن الصفا والمروة من شعائر الله).
والترمذي (السنن: 4/277- 278 أبواب التفسير).(1/68)
.
ولفظ مسلم: عن أنس قال: كانت الأنصار يكرهون أن يطوفوا بين الصفا والمروة، حتى نزلت: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا}(1).
وعند مسلم أيضا: قال عروة: قلت لعائشة: ما أرى علي جناح أن لا أتطوف بين الصفا والمروة. قالت: لم؟ قلت: لأن الله عز وجل يقول: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} الآية. فقالت: لو كان كما تقول لكان: فلا جناح عليه أن لا يطوف بهما وإنما أنزل هذا في أناس من الأنصار، كانوا إذا أهلوا أهلوا لمناة في الجاهلية فلا يحل لهم أن يطوفوا بين الصفا والمروة، فلما قدموا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - للحج، ذكروا ذلك له، فأنزل الله تعالى هذه الآية، فلعمري: ما أتم الله(2) حج من لم يطف بين الصفا والمروة(3).
__________
(1) مسلم: (الصحيح 2/930 كتاب الحج)، باب بيان أن السعي بين الصفا والمروة ركن لا يصح الحج إلا به.
(2) وعند البخاري: "ما أتم الله حج امرئ ولا عمرته ما لم يطف بين الصفا والمروة".
(3) مسلم: (الصحيح 2/928 كتاب الحج).
وابن ماجه: (السنن 2/994 فيه (باب السعي بين الصفا والمروة).(1/69)
وفي لفظ: "قلت لعائشة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم -: ما أرى على أحد لم يطف بين الصفا والمروة شيئا، وما أبالي ألا أطوف بينهما، قالت: بئسما قلت يا ابن أختي. طاف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وطاف المسلمون فكانت سُنة وإنما كان من أهلَّ لمناة الطاغية التي بالمشلل لا يطوفون بين الصفا والمروة، فلما كان الإسلام سألنا النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك فأنزل الله عزوجل: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} ولو كانت كما تقول لكانت: فلا جناح عليه أن لا يطوف بهما"(1).
وفي لفظ عن عروة بن الزبير: أن عائشة أخبرته أن الأنصار كانوا قبل أن يسلموا هم وغسان يهلون لمناة فتحرجوا أن يطوفوا بين الصفا والمروة وكان ذلك سنة في آبائهم، من أحرم لمناة(2)
__________
(1) مسلم: (الصحيح 2/929 كتاب الحج). والترمذي: (السنن 4/277 كتاب التفسير).
والبخاري: (الصحيح 6/117 كتاب التفسير، باب ومناة الثالثة الأخرى).
(2) ورد عند مسلم أيضا من طريق أبي معاوية عن هشام بن عروة عن أبيه "أن عائشة قالت لعروة: وهل تدري فيما كان ذاك؟ إنما كان ذاك أن الأنصار كانوا يهلون في الجاهلية لصنمين على شط البحر، يقال لهما إساف ونائلة، ثم يجيؤون فيطوفون بين الصفا والمروة ثم يحلقون، فلما جاء الإسلام كرهوا أن يطوفوا بينهما للذي كانوا يصنعون في الجاهلية. قالت: فأنزل الله عز وجل: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ}، [البقرة: من الآية158]، إلى آخرها، قالت: فطافوا".
قال النووي: قال القاضي عياض: (هكذا وقع في هذه الرواية، وهو غلط، والصواب ما جاء في الروايات الأخرى في الباب "يهلون لمناة"، وفي الرواية الأخرى "لمناة الطاغية التي بالمشلل" قال: وهذا هو المعروف، و"مناة" صنم كان نصبه عمرو بن لحي في جهة البحر بالمشلل مما يلي قديدا، وكذا جاء مفسرا في هذا الحديث في الموطأ، وكانت الأزد وغسان تهل له بالحج،... وأما "إساف ونائلة" فلم يكونا قط في جهة البحر، وإنما كانا عند الكعبة، وقيل على الصفا والمروة. (شرح النووي على صحيح مسلم 3/411، وابن حجر: فتح الباري 3/500).
قلت: ولعل الوهم من أبي معاوية، فإن الحديث رواه مالك، عن هشام بن عروة عن أبيه فجاء مفسرا فيه أنهم كانوا يهلون لمناة وكانت حذو قديد. انظر: الموطأ 1/373 كتاب الحج، باب جامع السعي.(1/70)
لم يطف بين الصفا والمروة، وأنهم سألوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك حين أسلموا، فأنزل الله عز وجل في ذلك {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ}.
إن حديث عائشة - رضي الله عنها - برواياته المتعددة يعطينا صورة عن حالة العرب قبل الإسلام، وكيف تمكن الشيطان منهم فزيّن لهم عبادة غير الله من الأصنام والأحجار والأشجار، ويصور لنا مدى حبهم واحترامهم وإجلالهم لهذه الآلهة المزعومة حتى أنهم كانوا يتحرجون أن يطوفوا بين الصفا والمروة، وأشدهم في ذلك تعظيما لمناة الأوس والخزرج، فلما جاء الله بالهدى والنور ودخلوا في دين الله الحق، سألوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن حكم طوافهم بين الصفا والمروة، فأنزل الله تعالى: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} كما ورد ذلك في حديث عائشة وأنس بن مالك.
هذه نبذة يسيرة عن موقف العرب من الأصنام وما كان لها في نفوسهم من المكانة، وخاصة "مناة" التي كان يعبدها جل العرب، ولذا فإن رسول الله-صلى الله عليه وسلم-عندما دخل مكة فاتحاً وجّه عنايته البالغة إلى تحطيم هذه الأصنام الموجودة داخل الحرم وخارجه، حتى يعبد الله وحده ويكفر بما سواه من الأنداد الفاسدة والعقائد الضالة المنحرفة.
أما الحديث عمن تولى هدم هذا الصنم "مناة" فقد اختلف في ذلك على النحو التالي:(1/71)
أ- فعند ابن الكلبي أن الذي تولى هدمها هو علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -، وكان ذلك سنة ثمان للهجرة، عندما خرج الرسول - صلى الله عليه وسلم - من المدينة قاصدا فتح مكة، فلما سار من المدينة أربع ليال أو خمس ليال بعث عليا إليها فهدمها وأخذ ما كان لها، فأقبل به إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فكان فيما أخذ سيفان كان الحارث(1) بن أبي شمر الغساني ملك غسان أهداهما لها، أحدهما يسمى (مِخْذَماً) والآخر (رسوبا)(2) فوهبهما النبي - صلى الله عليه وسلم - لعيّ - رضي الله عنه -، فيقال: إن ذا الفقار(3)
__________
(1) هو الحارث بن أبي شمر الغساني صاحب دمشق، وعند ابن هشام: ملك تخوم الشام، وكان تابعا لقيصر ملك الروم بعث إليه النبي - صلى الله عليه وسلم - بكتاب مع شجاع بن وهب الأسدي يدعوه فيه إلى الإسلام، فامتنع من الدخول فيه وأسلم حاجبه، ومات الحارث بن أبي شمر عام الفتح. (ابن هشام: السيرة النبوية 2/207، وابن سعد: الطبقات الكبرى 1/261، 3/94، والطبري: تاريخ الرسل والملوك 2/644).
(2) ويقال: أن عليا وجد هذين السيفين في الفِلس - بكسر الفاء - وهو صنم طيئ. حيث بعثه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فهدمه. (ابن الكلبي: كتاب الأصنام ص15، الفيروز آبادي: القاموس 2/238).
(3) كون ذي الفقار أصابه عليّ - رضي الله عنه - عندما هدم "مناة" أو هدم "الفلس" يرد هذا حديث ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: تنفل رسول الله صلى الله عليه وسلم سيفه ذا الفقار يوم بدر وهو الذي رأى فيه الرؤيا يوم أحد فقال: رأيت في سيفي ذي الفقار فلا فأولته فلا يكون فيكم. الحديث: لفظ أحمد. (أحمد: المسند 1/271، والترمذي: السنن 3/61 كتاب السير (باب في النفل)، وابن ماجه: السنن 2/939 كتاب الجهاد (باب السلاح)، والحاكم: المستدرك 2/128- 129، وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه. وأقره الذهبي، ومن طريق الحاكم أورده البيهقي كما هو عند ابن كثير: البداية و النهاية 4/11. وبهذا الحديث يتضح أن ذا الفقار كان موجودا عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قبل هدم "مناة" بأعوام.(1/72)
سيف عليّ - رضي الله عنه - أحدهما(1).
ونسب هذا الفعل إلى علي بن أبي طالب ابن هشام وابن كثير بصيغة التمريض(2).
ب- وعند الواقدي وابن سعد أن الذي تولى هدمها هو سعد(3) بن زيد الأشهلي. وهذا نص كلام ابن سعد قال: "ثم سرية سعد بن زيد الأشهلي إلى "مناة" في شهر رمضان سنة ثمان من مهاجر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قالوا: بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين فتح مكة سعد بن زيد الأشهلي، إلى مناة، وكانت بالمشلل للأوس والخزرج وغسان، فلما كان يوم الفتح بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سعد بن زيد الأشهلي، يهدمها فخرج في عشرين فارسا حتى انتهى إليها وعليها سادن، فقال السادن: ما تريد؟ قال: هدم مناة! قال: أنت وذاك! فأقبل سعد يمشي إليها وتخرج إليه امرأة عريانة سوداء ثائرة الرأس تدعو بالويل وتضرب صدرها، فقال السادن: مناة دونك بعض غضباتك! ويضربها سعد بن زيد الأشهلي وقتلها ويقبل إلى الصنم معه أصحابه فهدموه، ولم يجدوا في خزانتها شيئا، وانصرف راجعا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكان ذلك لست بقين من شهر رمضان(4).
هكذا ذكر ابن سعد بدون إسناد.
__________
(1) ابن الكلبي: (كتاب الأصنام ص15، ابن حجر: فتح الباري 8/612).
(2) ابن هشام: (السيرة النبوية 1/86، ابن كثير: التفسير 4/254، والبداية والنهاية 2/192).
(3) سعد بن زيد بن مالك بن عبد بن كعب بن عبد الأشهل الأنصاري الأشهلي، هو الذي بعثه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بسبايا من بني قريضة فاشترى بها من نجد خيلا وسلاحا. (ابن حجر: الإصابة 2/28).
(4) ابن سعد:الطبقات الكبرى2/146-147، والواقدي:المغازي 2/869-870). وانظر: (الطبري: تاريخ الرسل والملوك 3/66، وابن عبد البر: الاستيعاب 2/47 مع "الإصابة"، وابن الأثير: الكامل 2/177 وأسد الغابة 2/352، وابن قيم الجوزية: زاد المعاد 3/414، وابن حجر: الإصابة 2/28).(1/73)
ج- وقيل أن الذي بعث لهدمها هو أبو سفيان بن حرب(1).
هذه هي أقوال العلماء فيمن بعثه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لهدم مناة وهذه الروايات مختلفة في تعيين الصحابي الذي هدم "مناة" كما أنها اختلفت أيضا في زمن الهدم، فيظهر من بعضها أنه حصل هدم "مناة" قبل الفتح، وهذا ما ذكره ابن الكلبي، وذكر الواقدي وابن سعد أن ذلك كان بعد الفتح، وهو خلاف لا أثر له؛ لأن الغاية التي تحققت هي هدم "مناة" هذا الصنم الذي يحتل مكانة خاصة في نفوس العرب، وتصرف له العبادة، من دون الله، فهو إذاً واحد من الآلهة المزعومة التي يقف عابدوها في وجه الدعوة الإسلامية، بل هو أعتى صنم عند القوم، من أجل ذلك أمر الرسول - صلى الله عليه وسلم - بهدمه، فبعث له من يقوم بهذه المهمة، وحين أراد تنفيذ هدمه اعترضه السادن قائلا: ماذا تريد؟ فقال الصحابي الجليل: أريد هدم مناة، فقال السادن: أنت وذاك، ثم قال بثقة غريبة: "مناة دونك بعض غضباتك" وهو يعتقد بأن إلهه سوف يدافع عن نفسه ويبطش بمن أراده بسوء، ممَّا يدل على تمكن هذه العقيدة في نفوس العرب، فتقدم الصحابي الجليل فهدمه، فسقط في أيدي القوم واتضح لهم ما كانوا عليه من باطل.
وصدق الله إذ يقول: {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ}، [سورة الأنبياء، الآية: 18].
ثالثاً: سرية خالد بن الوليد إلى بني جذيمة:
كانت هذه السرية مكونة من ثلاثمائة وخمسين رجلا من المهاجرين والأنصار وغيرهم من قبائل العرب، وكانت عقب فتح مكة في شهر شوال سنة ثمان للهجرة، قبل الخروج إلى غزوة حنين.
__________
(1) ابن هشام: السيرة النبوية 1/86، وابن كثير: التفسير 4/254 والبداية والنهاية 2/192، وابن حجر الإصابة 2/179 منسوبا لابن إسحاق).(1/74)
قال ابن حجر: وهذا البعث كان عقب فتح مكة في شهر شوال قبل الخروج إلى حنين عند جميع أهل المغازي(1).
19- قال ابن اسحاق: حدثني حكيم(2) بن حكيم بن عباد بن حنيف، عن أبي جعفر(3) محمد بن علي قال: بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خالد بن الوليد حين افتتح مكة داعيا، ولم يبعثه مقاتلا، ومعه قبائل من العرب: سُليم(4)بن منصور، بن مُدِلج(5) بن مرة، فوطئوا بني جَذِيْمة(6)
__________
(1) فتح الباري 8/57، وعند ابن سعد "كان ذلك بعد أن رجع خالد من هدم العزّى، وتعرف هذه السرية "بيوم الغميصاء". (الطبقات الكبرى 2/147). والغميصاء: بضم الغين المعجمة وفتح الميم وسكون التحتية فصاد مهملة ممدودة - ماء لبني جذيمة أوقع فيه خالد بن الوليد ببني جذيمة. (الطبري: تاريخ الرسل والملوك 3/66، وخليفة بن خياط: التاريخ ص 88، وياقوت: معجم البلدان 4/214، والزرقاني: شرح المواهب اللدنية 3/2).
(2) حكيم بن حكيم بن عبّاد بن حنيف - مصغرا - الأنصاري الأوسي، صدوق، من الخامسة / عم (ابن حجر: التقريب 1/194، وتهذيب التهذيب 2/448).
(3) محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، أبو جعفر الباقر، ثقة فاضل من الرابعة (ت بضع عشرة ومائة)/ع. (التقريب 2/192، وتهذيب التهذيب 9/350، وفتح الباري 8/57).
(4) سليم بن منصور بن هوازن.
(5) مُدِلج - بضم الميم وسكون الدال وكسر اللام - هو: مدلج بن مرة بن عبد مناة ابن كنانة، بطن كبير من كنانة، منهم سراقة بن مالك بن جعثم المدلجي له صحبة، ومنهم القافة الذين يلحقون الأولاد بالآباء منهم مجزز المدلجي له صحبة أيضا. (ابن الأثير: اللباب في تهذيب الأنساب 2/183، وأسد الغابة 2/331، وابن حجر: الإصابة 3/365).
(6) جذيمة: بفتح الجيم وكسر المعجمة ثم تحتانية ساكنة، وزن "عظيمة" بين في الحديث بأنه ابن عامر بن عبد مناة بن كنانة، وكانوا بأسفل مكة من ناحية يَلَمْلَم.
ووهم الكرماني فظن أنه من بني جذيمة بن عوف بن بكر بن عوف، قبيلة من عبد القيس. (ابن حجر:فتح الباري 8/58 و10/142).
قلت: ومثل قول الكرماني قال القسطلاني (المواهب اللدنية 1/161). وتعقبه الزرقاني بقوله: فعجب من المصنف كيف جزم بما حكم شيخ الحفاظ ابن حجر بأنه وهم، وكذا قال إمام المغازي ابن إسحاق، وتابعه الإمام اليعمري وغيره. (انظر:شرح المواهب 3/2).
ويَلَمْلَم: بفتح المثناة التحتية فلامين مفتوحتين بينهما ميم ساكنة، آخره ميم أخرى، اسم لا ينصرف، وهو جبل من جبال تهامة، يبعد عن مكة جنوبا بمرحلتين، وبالكيلمتر (80) وهو ميقات أهل اليمن. وميقات جاوه والهند والصين قديما. (ياقوت: معجم البلدان 5/441، وعبد الله بن صالح آل بسام: تيسير العلام 1/501). وعاتق البلادي: (معالم مكة التاريخية والأثرية ص 328).(1/75)
ابن عامر بن عبد مناة بن كنانة، فلما رآه القوم أخذوا السلاح، فقال خالد: ضعوا السلاح فإن الناس قد أسلموا...
فلما وضعوا السلاح أمر بهم خالد عند ذلك، فاكتفوا، ثم عرضهم على السيف، فقتل من قتل منهم، فلما انتهى الخبر إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، رفع يديه على السماء، ثم قال: "اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد بن الوليد"(1).
والحديث أخرجه خليفة بن خياط من طريق ابن إسحاق مختصرا، والطبري وابن كثير بتمامه(2).
والحديث معضل لأنه من رواية محمد بن علي، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو لم يدرك ذلك، لأن ولادته كانت ما بين سنة أربعين إلى سنة ست وخمسين(3). وبالتالي يكون الحديث ضعيفا.
__________
(1) سيرة ابن هشام 2/428- 429).
(2) تاريخ خليفة ص87- 88، وتاريخ الرسل والملوك للطبري 3/66- 67، والبداية والنهاية لابن كثير 4/312).
(3) ابن حجر: (تهذيب التهذيب 9/351).(1/76)
20- وأخرج الطبري من طريق ابن إسحاق قال حدثني عبد الله(1) بن أبي سلمة قال:كان بين خالد بن الوليد وبين عبد الرحمن بن عوف-فيما بلغني-كلام(2) في ذلك، فقال له(3): عملت بأمر الجاهلية في الإسلام، فقال: إنما ثأرت بأبيك، فقال عبد الرحمن بن عوف: كذبت، قد قتلت قاتل أبي. ولكنك ثأرت بعمك الفاكه بن المغيرة، حتى
__________
(1) عبد الله بن أبي سلمة الماجشون-بفتح الجيم وضم الشين-التيمي مولاهم، ثقة من الثالثة(ت106)/ م د س.(ابن حجر:التقريب1/420،وتهذيب التهذيب5/343).
(2) هذا الكلام الذي حصل بين خالد وعبد الرحمن بن عوف جاء عند ابن إسحاق أن سببه أن بني جذيمة كانوا قد أصابوا في الجاهليه عوف بن عبد عوف، والد عبد الرحمن بن عوف، والفاكه بن المغيرة. وذلك أن الفاكه بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم، وعوف بن عبد مناف بن عبد الرحمن بن زهرة، وعفان بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس قد خرجوا تجارة إلى اليمن، ومع عفان ابنه عثمان، ومع عوف ابنه عبد الرحمن، فلما أقبلوا حملوا مال رجل من بني جذيمة بن عامر - كان هلك باليمن إلى ورثته، فادعاه رجل منهم يقال له خالد بن هشام، ولقيهم بأرض بني جذيمة قبل أن يصلوا إلى اهل الميت، فأبوا عليه، فقاتلهم بمن معه من قومه على المال لياخذه، وقاتلوه، فقتل عوف بن عبد عوف، والفاكه بن المغيرة، ونجا عفان بن أبي العاص وابنه عثمان وأصابوا مال الفاكه بن المغيرة، ومال عوف ابن عبد عوف، وانطلقوا به، وقتل عبد الرحمن بن عوف خالد بن هشام قاتل أبيه، فهمت قريش بغزو بني جذيمة، فقالت بنو جذيمة: ما كان مصاب أصحابكم عن ملأ منا، إنما عدا عليهم قوم بجهالة، فأصابوهم ولم نعلم، فنحن نعقل لكم ما كان لكم قبلنا من دم أو مال، فقبلت قريش ذلك، ووضعوا الحرب. (سيرة ابن هشام 2/431، والطبري: تاريخ الرسل والملوك 3/68، والسهيلي: الروض الأنف 7/129، وابن كثير: البداية النهاية 4/314).
(3) أي فقال عبد الرحمن بن عوف لخالد بن الوليد.(1/77)
كان بينهما شيء، فبلغ ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: "مهلاً يا خالد، دع عنك صاحبي، فوالله لو كان لك أحد ذهبا ثم أنفقته في سبيل الله، ما أدركت غدوة رجل من أصحابي ولا روحته"(1). والحديث مرسل.
وهو يدل على ما وقع من خالد بن الوليد مع بني جذيمة، إنما هو انتقام وثأر لعمه الفاكه بن المغيرة، وهذا لا يليق بخالد بن الوليد وبصحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عامة، ولا ينبغي أن يظن بهم أنه يصدر منهم مثل هذا، والحديث ضعيف لا تقوم بمثله حجة، والصحيح في ذلك ما جاء في حديث ابن عمر عند البخاري والنسائي وأحمد وعبد بن حميد، وهذا سياقه عند البخاري:
21- قال حدثني محمود(2)، حدثنا عبد الرزاق، أخبرنا معمر، -ح(3)
__________
(1) الطبري: تاريخ الرسل والملوك 3/66، وسيرة ابن هشام 2/431).
(2) محمود: هو ابن غيلان العدوي مولاهم.
(ابن حجر: فتح الباري 8/57، وتهذيب التهذيب 10/64).
(3) هذه لها أربعة معان:
أن المراد بها التحويل من سند إلى سند آخر، وهذا هو المشهور.
أنها من الحيلولة أي حالت بين السند الأول والسند الثاني، بمعى فصلت بين إسنادين.
ج- أنها إشارة إلى بقية الحديث، كأنه قال لك اقرأ الحديث.
د- أن المراد بها صح، كأنه يقول: الإسناد الأول صحيح، هؤلاء رواته، والإسناد الثاني صحيح وهؤلاء رواته. وحسن إثبات صح هنا لئلا يتوهم أن حديث هذا الإسناد سقط، ولئلا يركب الإسناد الثاني على الأول، فيجعلا إسنادا واحدا. (انظر: المقدمة ابن الصلاح ص218- 219 مع (التقييد والإيضاح)، وتقريب النووي ص303- 304 مع (تدريب الراوي).(1/78)
- وحدثني نعيم(1)، أخبرنا عبد الله، أخبرنا معمر، عن الزهري، عن سالم، عن أبيه قال: بعث النبي - صلى الله خالد - بن الوليد إلى بني جذيمة، فدعاهم إلى الإسلام فلم يحسنوا أن يقولوا أسلمنا، فجعلوا يقولون صبأنا(2) صبأنا، فجعل خالد يقتل منهم ويأسر(3)
__________
(1) نعيم: هو ابن حماد، وعبد الله: هو ابن المبارك (ابن حجر: فتح الباري 8/57).
(2) قوله: "صبأنا صبأنا" قال ابن حجر: هذا من ابن عمر راوي الحديث، يدل على أنه فهم أنهم أرادوا الإسلام حقيقة، ويؤيد فهمه أن قريشا كانوا يقولون لكل من أسلم صبأ، حتى اشتهرت هذه اللفظة، وصاروا يطلقونها في مقام الذم. ومن ثم لما أسلم ثمامة بن أثال وقدم مكة معتمرا قالوا له: صبأت؟ قال: لا بل أسلمت، فلما اشتهرت هذه اللفظة بينهم في موضع أسلمت استعملها هؤلاء.
وأما خالد فحمل هذه اللفظة على ظاهرها، لأن قولهم "صبأنا" أي خرجنا من دين إلى دين، ولم يكتف خالد بذلك حتى يصرحوا بالإسلام.
وقال الخطابي: يحتمل أن يكون نقم عليهم العدول عن لفظ الإسلام، لأنه فهم عنهم أن ذلك وقع منهم على سبيل الأنفة، ولم ينقادوا إلى الدين فقتلهم متأولا قولهم. (فتح الباري 8/57).
(3) وعند النسائي "وجعل خالد قتلا وأسرا". وعند أحمد "وجعل خالد بهم أسرا وقتلا".
قال ابن حجر: وفي كلام ابن سعد أن خالدا أمرهم أن يستأسروا فاستأسروا فاكتف بعضهم بعضا، وفرقهم في أصحابه.
ثم قال ابن حجر: فيجمع بأنهم أعطوا بأيديهم بعد المحاربة. (فتح الباري 8/57، وانظر: (الطبقات الكبرى لابن سعد 2/147- 148).(1/79)
، ودفع إلى كل رجل منا أسيره(1)، حتى إذا كانيوم(2) أمر خالد أن يقتل كل رجل منا أسيره، فقلت(3): والله لا أقتل أسيري، ولا يقتل رجل من أصحابي أسيره، حتى قدمنا على النبي - صلى الله عليه وسلم - فذكرناه(4)، فرفع النبي - صلى الله عليه وسلم - يديه، فقال: "اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد مرتين"(5)(6).
والحديث رواه أحمد، وعبد بن حميد، كلاهما عن عبد الرزاق، عن معمر به(7).
ورواه النسائي من طريق هشام(8) بن يوسف، وعبد الرزاق، ومن طريق عبد الله بن المبارك ثلاثهم عن معمر به(9).
__________
(1) وعند أحمد "ودفع إلى كل رجل منا أسيراً".
(2) وعند النسائي وأحمد وعبد بن حميد "حتى إذا أصبح يوماً".
(3) وعند النسائي وأحمد وعبد بن حميد "قال ابن عمر: فقلت".
(4) وعند أحمد "قال: فقدموا على النبي - صلى الله عليه وسلم - فذكروا له صنيع خالد".
وعند النسائي "قال: فقدمنا على النبي - صلى الله عليه وسلم - فذكر له صنيع خالد، فقال النبي صلى الله عليه وسلم، ورفع يديه، "اللهم إني أبرأ إليك"... الخ.
وعند عبد بن حميد "فذكر له ما صنع خالد".
(5) وعند عبد بن حميد "مرتين أو ثلاثا".
(6) البخاري: (الصحيح 5/131 كتاب المغازي (باب بعث النبي - صلى الله عليه وسلم - خالد بن وليد إلى بني جذيمة). و9/1 كتاب الأحكام،باب إذا قضى الحاكم بجور أو خلاف أهل العلم فهو رد. و8/63 كتاب الدعوات، باب رفع الأيدي في الدعاء تعليقا مختصرا. و4/80 كتاب الجزية، باب إذا قالوا صبأنا، تعليقا أيضا.
(7) أحمد: (المسند 2/150- 151، وعبد بن حميد: المسند 1/100 بسم الله الرحمن الرحيم).
(8) هشام بن يوسف، هو: الصنعاني أبو عبد الرحمن. (ابن حجر: تهذيب التهذيب 11/57).
(9) السنن 8/208 كتاب آداب القضاة (باب الرد على الحاكم إذا قضى بغير حق).(1/80)
والحديث صريح في أن خالدا قتل بني جذيمة لعدم تصريهم بالإسلام، واقتصارهم على قولهم "صبأنا" فلم يقبل ذلك خالد منهم ولم يعتبره عاصما لدمائهم، وهذا يرد ما جاء في الروايات المتقدمة من أن خالدا قتلهم ثأرا بعمه الفاكه بن المغيرة.
ولذا فقد أورد ابن كثير الأحاديث التي ساقها ابن إسحاق، التي ظاهرها أن ما وقع من خالد بن الوليد مع بني جذيمة كان بدافع الانتقام والأخذ بثأر عمه، ثم عقب بقوله "وهذه مرسلات ومنقطعات".
ثم أورد حديث ابن عمر بإسناد أحمد بن حنبل، ثم قال: ورواه البخاري والنسائي من حديث عبد الرزاق به نحوه(1).
وعند تفسير قوله تعالى: {لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا} الآية،[سورة الحديد، الآية: 10].
قال: والجمهور على أن المراد بالفتح ههنا فتح مكة...
__________
(1) البداية والنهاية 4/313- 314).(1/81)
22- وقد يستدل لهذا القول بما قال الإمام أحمد: حدثنا أحمد(1) ابن عبد الملك، حدثنا زهير(2)، حدثنا حميد(3)، عن أنس(4)، قال: كان بين خالد بن الوليد وبين عبد الرحمن بن عوف كلام فقال خالد لعبد الرحمن: تستطيلون علينا بأيام سبقتمونا بها فبلغنا أن ذلك ذكر للنبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: "دعوا لي أصحابي فو الذي نفسي بيده لو أنفقتم مثل أُحد أو مثل الجبال ذهبا ما بلغتم أعمالهم"(5).
__________
(1) أحمد بن عبد الملك بن واقد الحراني، أبو يحيى الأسدي، ثقة تكلم فيه بلا حجة، من العاشرة (ت221)/خ س ق.(ابن حجر:التقريب1/20،وتهذيب التهذيب1/57).
(2) زهير بن معاوية بن خديج، أبو خثيمة الجعفي الكوفي، نزيل الجزيرة، ثقة ثبت، من السابعة(ت72 أو173 أو 174)/ع. (التقريب1/265،وتهذيب التهذيب1/351).
(3) حميد بن أبي حميد الطويل، أبو عبيدة البصري، ثقة مدلس، وعابه زائدة لدخوله في شيء من أمر الأمراء، من الخامسة (ت 142، 143) وهو قائم يصلي/ع. (التقريب 1/202، وتهذيب التهذيب 3/38).
(4) أنس بن مالك بن النضر الأنصاري الخزرجي، خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم، خدمه عشر سنين، صحابي مشهور (ت92 وقيل 93) وقد جاوز المائة/ع. (ابن خجر: التقريب 1/84، وتهذيب التهذيب 1/376).
(5) الحديث في مسند أحمد 3/266 وفيه حميد وهو مدلس وقد عنعن ولكن أصل المشاجرة بين خالد وعبد الرحمن بن عوف ثابتة في صحيح مسلم 4/1967 كتاب فضائل الصحابة (باب تحريم سب الصحابة) من حديث أبي سعيد الخدري قال: كان بين خالد بن الوليد وبين عبد الرحمن بن عوف شيء، فسبه خالد فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تسبوا أحدا من أصحابي فإن أحدكم لو أنفق مثل أُحد ذهبا ما أدرك مدّ أحدهم ولا نصيفه".(1/82)
ثم قال ابن كثير: ومعلوم أن إسلام خالد بن الوليد المواجه بهذا الخطاب كان بين صلح الحديبية وفتح مكة، وكانت هذه المشاجرة بينهما في بني جذيمة، الذين بعث إليهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خالد بن الوليد بعد الفتح، فجعلوا يقولون: صبأنا صبأنا فلم يحسنوا أن يقولوا أسلمنا، فأمر خالد بقتلهم وقتل من أسر منهم، فخالفه عبد الرحمن بن عوف وعبد الله بن عمر وغيرهما، فاختصم خالد وعبد الرحمن بسبب ذلك(1).
فهذا الصنيع من ابن كثير - رحمه الله تعالى - يدل على أنه لم يرتض ما قاله ابن إسحاق وموافقوه من أن سبب الخصومة بين خالد بن الوليد وبين عبد الرحمن بن عوف هو قتل خالد لبني جذيمة ثأرا بعمه الفاكه(2).
والحق أن الاختلاف والمشاجرة بين عبد الرحمن وخالد، كان بسبب قول بني جذيمة "صبأنا صبأنا".
ففهم منها عبد الرحمن بن عوف وعبد الله بن عمر أن مراد القوم بهذه الكلمة الدخول في الإسلام.
وحملها خالد على أن القوم يتنقصون الإسلام ويحتقرونه وأنه لا بدّ من تصريهم بكلمة "أسلمنا".
وهذا هو الذي يتعين المصير إليه إجلالا لصحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الوقوع في مثل هذا.
وفيما يلي ننقل شيء ممّا قاله العلماء حول موقف خالد بن الوليد - رضي الله عنه - مع بني جذيمة، ليتجلى الموقف أكثر، ويتضح أن ما فعله خالد كان بهدف نصرة الإسلام والمسلمين:
عذر خالد بن الوليد:
إن الذي فعله خالد بن الوليد رضي الله عنه مع بني جذيمة كان عن تأويل واجتهاد إذ لم يتيقن أن القوم أسلموا بقولهم "صبأنا"، ومعلوم أن المجتهد إذا اجتهد فأصاب فله أجران، وإن اجتهد فأخطأ فله أجر.
__________
(1) ابن كثير: التفسير 4/306).
(2) انظر ص76 من هذا المبحث، تعليقة (1).؟؟؟(1/83)
وهذا ما حصل من خالد - رضي الله عنه -، فإنه اجتهد في ذلك ولكنه أخطأ، ولذا فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يؤاخذه على ما صنع، وإن كان تبرأ من فعله وغضب - صلى الله عليه وسلم - لتسرعه وعدم تثبته.
قال بن كثير- بعد أن ساق المشاجرة التي أوردها ابن إسحاق بين خالد بن الوليد وعبد الرحمن بن عوف(1):
والمظنون بكل منهما أنه لم يقصد شيئا من ذلك، وإنما يقال هذا في وقت المخاصمة، فإنما أراد خالد بن الوليد نصرة الإسلام وأهله، وإن كان أخطأ في أمر، واعتقد أنهم ينتقصون الإسلام بقولهم "صبأنا صبأنا" ولم يفهم عنهم أنهم أسلموا، فقتل طائفة كثيرة منهم وأسر بقيتهم، وقتل أكثر الأسرى أيضا؛ ومع هذا لم يعزله رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، بل استمر به أمرا، وإن كان قد تبرأ منه في صنيعه ذلك، وودى(2) ما كان جناه خطأ في دم أو مال... ولهذا لم يعزله الصديق حين قتل مالك(3)
__________
(1) انظر ص: 78- 80.
(2) أي سلم دية القتلى، جاء ذلك عند ابن إسحاق من مرسل أبي جعفر محمد بن علي قال: ثم دعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - علي بن أبي طالب رضوان الله عليه، فقال: يا علي، اخرج إلى هؤلاء القوم، فانظر في أمرهم، واجعل أمر الجاهلية تحت قدميك، فخرج علي حتى جاءهم ومعه مال قد بعث به رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فودى لهم الدماء وما أصيب لهم من الأموال، حتى إنه لا يدي لهم ميلغة الكلب، حتى إذا لم يبق شيء من دم ولا مال إلا وداه، بقيت معه بقية من المال، فقال لهم علي - رضوان الله عليه - حين فرغ منهم: هل بقي لكم بقية من دم أو مال لم يود لكم؟ قالوا: لا، قال: فإني أعطيكم هذه البقية من هذا المال، احتياطا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، مما يعلم ولا تعلمون ففعل. الحديث. (انظر: سيرة ابن هشام 2/430).
(3) هو: مالك بن نويرة اليربوعي، ومحصل قصة قتله أن خالد بن الوليد سار إليه وكان بالبُطحاء، فلما وصل خالد البطحاء بث السرايا، فأسروا مالكا في جملة من أصحابه، وكانت ليلة شديدة البرد، فنادى منادي خالد: أن أدفئوا أسراكم، فظن القوم أنه أراد قتلهم فقتلوهم، وقتل ضرار بن الأزور مالك بن نويرة.
وقيل: إن خالدا استدعى مالك بن نويرة فأنبه على ما صدر منه من متابعة سجاح، وعلى منعه الزكاة، وقال له: ألم تعلم أن الزكاة قرينة الصلاة؟ فقال مالك: إن صاحبكم - يعني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يزعم ذلك. فقال خالد: أهو صاحبنا وليس بصاحبك؟. يا ضرار اضرب عنقه، فضرب ضرار عنقه، واصطفى خالد امرأته أم تميم بنت المنهال. (ابن كثير: البداية والنهاية 6/322).(1/84)
ابن نويرة أيام الردة وتأول عليه ما تأول حين ضرب عنقه واصطفى امرأته أم تميم، فقال له عمر بن الخطاب: اعزله فإن في سيفه رهقا(1)، فقال الصديق: لا أغمد سيفا سله الله على المشركين(2).
وقال ابن حجر: قوله: "اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد" يعني من قتله الذين قالوا: "صبأنا" قبل أن يستفسرهم عن مرادهم بذلك القول، فإن فيه إشارة إلى تصويب فعل ابن عمر ومنم تبعه في تركهم متابعة خالد على قتل من أمرهم بقتلهم من المذكورين، ثم قال: وقال الخطابي(3): الحكمة في تبرئه - صلى الله عليه وسلم - من فعل خالد مع كونه لم يعاقبه على ذلك، لكونه مجتهدا أن يعرف أنه لم يأذن له في ذلك خشية أن يعتقد أحد أنه كان بإذنه، لينْزَجر غير خالد بعد ذلك عن مثل فعله.
__________
(1) رهقا: بالتحريك: أي عجلة (ابن الأثير: النهاية 2/283).
(2) ابن كثير: البداية والنهاية 4/314). وفي مسند أحمد 3/475- 476 أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -، خطب الناس بالجابية ووزع عليهم الأعطيات حسب سبقهم في الإسلام الحديث مطول وفيه "فقال له أبو عمرو بن حفص بن المغيرة يعاتبه في عزل خالد ابن الوليد: لقد نزعت عاملا استعمله رسول الله، وغمدت سيفا سله رسول الله، ووضعت لواء نصبه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -".
(3) هو الإمام العلامة المفيد المحدث الرحال أبو سليمان حمد بن محمد بن إبراهيم بن خطاب البستي الخطابي، صاحب التصانيف، وكان ثقة متثبتا من أوعية العلم، من تصانيفه الكثيرة: "أعلام السنن"، شرح به صحيح البخاري، و"معالم السنن" شرح به سنن أبي داود، توفي الخطابي رحمه الله سنة (388هـ). (الذهبي: تذكرة الحفاظ 3/1018-1020، والمباركفوري:مقدمة تحفة الأحوذي1/126،253-254).(1/85)
وقال أيضا: إنما أنكر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على خالد حيث لم يتثبت في أمرهم قبل أن يعلم المراد من قولهم صبأنا. ا.ه كلام الخطابي(1).
وقال العامري: إنما أنكر النبي - صلى الله عليه وسلم - على خالد حيث لم يتثبت في أمرهم، ثم عذره في إسقاط القصاص، لأن هذا ليس تصريحا في قبولهم الدين(2).
وقال القسطلاني: إنما نقم على خالد استعجاله في شأنهم، وترك التثبت في أمرهم إلى أن سيرى المراد من قولهم صبأنا(3)، ولم يرى عليه قودا لأنه تأول أنه كان مأمورا بقتالهم إلى أن يسلموا(4).
وقد تبين ممّا سبق من أقوال العلماء أن هذه المسألة بين خالد قائد السرية وعبد الرحمن بن عوف وعبد الله بن عمر مسألة اجتهادية أخطأ فيها خالد حينما تسرع في قتل القائلين "صبأنا"، ورأى عبد الرحمن وابن عمر أن مراد القوم بهذه الكلمة الإسلام.
__________
(1) ابن حجر: (فتح الباري 6/274، 8/57- 58، 13/182، والزرقاني: شرح المواهب اللدنية 3/3-4).
(2) بهجة المحافل 1/444.
(3) قال الزرقاني: وهذا إنما هو على رواية الصحيح، وأما ما ذكره ابن سعد من أن بني جذيمة عندما جاءهم خالد فقال لهم: ما أنتم؟ قالوا: مسلمون قد صلينا وصدقنا بمحمد وبنينا المساجد في ساحتنا وأذّنا فيها. فيحمل على أن خالدا تأول أن هذا القول منهم تقية، كما تأول أسامة بن زيد في الرجل الذي قتله بعد أن قال لا إله إلا الله، ظنا منه أنه قالها خوفا من السيف. (شرح المواهب اللدنية 3/4). وانظر: الطبقات الكبرى لابن سعد 2/147 فقد ساق قصة خالد مع بني جذيمة بدون إسناد.
وساقها الواقدي في مغازيه 3/875 من مرسل أبي جعفر محمد بن علي بن حسين الباقر.
(4) إرشاد الساري 6/416- 417. وقال ابن إسحاق: وقد قال بعض من يعذر خالدا أنه قال: ما قاتلت حتى أمرني بذلك عبد الله بن حذافة السهمي، وقال أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد أمرك أن تقاتلهم لامتناعهم عن الإسلام. (سيرة ابن هشام2/430).(1/86)
ولم يفهم ذلك خالد، ولذلك وقع النزاع، وبما أن خالدا هو أمير السرية فقد أنفذ القتل فيهم، إذ فهم أن القوم يسخرون من الإسلام بقولهم "صبأنا" لأن قريشا كانت تنبز الذي يدخل في الإسلام بأنه صابئ، تعييرا له، وكان هذا مشهورا وقد وقع لخالد نفسه حين أسلم، فقال له عكرمة بن أبي جهل صبأت يا خالد، قال بل أسلمت، وكذلك وقع مثله لثمامة بن أثال، وعمر بن الخطاب(1) وغيرهم من الصحابة، فعذر خالد في إسراعه بقتل أولئك القوم قائم، وهو أنه لم يفهم منهم إلا رفض الإسلام، لأنهم لم يصرحوا به، ولكنه لم يستفسرهم عن مرادهم ولم يأخذ برأي عبد الرحمن بن عوف وابن عمر فكان ذلك خطأ منه تبرأ من صنيعه فيه الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وودى أولئك القتلى وأقر خالدا على إمرته، لأنه مجتهد ولم يكن يقصد إلا نصرة الإسلام بما فعل(2).
__________
(1) انظر: (أسد الغابة لابن الأثير 1/294. والإصابة لابن حجر: 1/203، 244).
(2) انظر: (صادق العرجون في كتابه:خالد بن الوليد ص81، 83، 89، 90، 91).(1/87)
المبحث الثاني: ما صدر من التعليمات العسكرية للمسلمين في حصار - الطائف
مر بنا أن المشركين لما انهزموا في موقعة حنين وباءوا بالفشل، انسحبوا إثر ذلك فتوجه بعضهم نحو نخلة وأوطاس، وتوجهت أكثر ثقيف نحو الطائف ومعهم مالك بن عوف النصرى(1)، فدخلوا مدينة الطائف وكانت مدينة محصنة قوية ذات أسوار وحصون، ولها أبواب تغلق عليها، وأدخلوا فيها من الأقوات ما يكفيهم لسنة واستعدوا استعداداً كاملاً وتهيأوا للقتال، ولما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من حنين، سار إلى الطائف حتى نزل قريبا من أسوار المدينة وعسكر هناك، فصوب المشركون نبالهم نحو المسلمين كأنها رجل من جراد فأوقعوا بالمسلمين خسائر في الأرواح، فقرر رسول الله صلى الله عليه وسلم الانسحاب بعيدا عن مرمى النبال وفكر المسلمون في وسيلة يستطيعون بها التغلب على ثقيف وإجبارهم على الاستسلام، ورأوا أن أحسن وسيلة في ذلك هي نصب المنجنيق(2) عليهم ودك حصونهم بالدبابات، وغير أن أهل الطائف أحبطوا تلك المحاولات التي قام بها المسلمون، إذ حموا قطعا من حديد بالنار وألقوها على الدبابات الخشبية فحرقتها، فانسحب المسلمون المحتمون بها من تحتها لئلا يحترقوا، فرمتهم ثقيف بالنبل بعد انكشافهم من حماية الدبابات، فكان هذا مما زاد في جرأة ثقيف، وامتناعها عن الاستسلام، حتى أن بعضهم كان يقول:
نحن قسي وقسنا أبونا: ... والله لا نسلم ما حيينا.
وقد بنينا حائطا حصينا.
__________
(1) انظر ص 252.
(2) انظر حديث (137) و (139) و (141).(2/1)
وعند ذلك أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقطع أعنابهم ونخيلهم وتحريقها إغاظة لهم، فسارع المسلمون إلى ذلك وقطعوا قطعا ذريعا، حتى نادى الثقفيون يا محمد لم تقطع أموالنا؟ إما أن تأخذها إن ظهرت علينا، وإما أن تدعها لله و للرحم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فإني أدعها لله و للرحم"(1).
ثم حث المسلمين على الرمي في سبيل الله، ورغبهم في ذلك، فقال صلى الله عليه وسلم: "من رمى بسهم في سبيل الله فله به درجة في الجنة" كما ورد ذلك في حديث أبي نجيح(2) السلمي عند أبي داود وأحمد وغيرهما وهذا سياقه عند أحمد:
__________
(1) الأم : للشافعي 7/323 والسيرة النبوية لابن هشام 2/478-483، والروض الأنف للسهيلي 7/231-234 ومغازي الواقدي 3/924-929 والطبقات الكبرى لابن سعد 2/158 وأنساب الأشراف للبلاذري ص 367، والتلخيص الحبير لابن حجر 4/112 والرسول القائد لمحمود شيت خطاب ص 251.
(2) هو عمرو بن عبسة - بموحدة ومهملتين مفتوحات - ابن عامر بن خالد السلمي - من سليم بن منصور أبو نجيح - بالنون المفتوحة وكسر الجيم - صحابي مشهور أسلم قديما وهاجر بعد أحد - ثم نزل الشام/م ع (التقريب2/74، تهذيب التهذيب 8/69 والإصابة 3/5 كلها لابن حجر، وأسد الغابة لابن الأثير 4/251-252).
ووقع في الطبقات الكبرى لابن سعد 4/214 في سياق نسب عمرو بن عبسة فقال ابن سليم بن (منظور) بالظاء المعجمة وهو خطأ والصواب ابن (منصور) بالصاد المهملة.(2/2)
142- قال: حدثنا روح(1) قال ثنا هشام(2) بن أبي عبد الله عن قتادة(3) عن سالم(4) بن أبي الجعد عن معدان(5) بن أبي طلحة عن أبي نجيح السلمي قال: حاصرنا مع النبي صن الطائف فسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من بلغ بسهم فله درجة في الجنة" قال: فبلغت يومئذ ستة عشر سهما، فسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من رمى بسهم في سبيل الله عز وجل فهو عدل محرر" الحديث (6).
__________
(1) روح بن عبادة بن العلاء، ثقة فاضل، التقريب 1/253 وتهذيب التهذيب 3/293 وتذكرة الحفاظ للذهبي 1/349-350).
(2) هشام بن أبي عبد الله الدستوائي - بفتح الدال وسكون السين المهملتين وفتح المثناة - أبو بكر البصري - واسم أبيه - سنبر - بمهملة ثم نون ثم موحدة، وزن جعفر - ثقة ثبت، وقد رمي بالقدر، من كبار السابعة (ت 154) / ع (المصادر السابقة 2/319و11/43و1/164)وقد سقط من تهذيب التهذيب(علامة من أخرج له).
(3) ابن دعامة السدوسي ثقة ثبت، تقدم في حديث (48).
(4) سالم بن أبي الجعد رافع،الغطفاني الأشجعي،مولاهم،الكوفي،ثقة وكان يرسل كثيرا من الثالثة،اختلف في سنة وفاته/ع (التقريب1/279 وتهذيب التهذيب3/432).
(5) معدان بن أبي طلحة ويقال: ابن طلحة، اليعمري - بفتح التحتانية والميم بينهما مهملة - شامي، ثقة من الثانية / م ع (المصدر السابق 2/263، و10/228).
(6) المسند: 4/113 و384 وتمام الحديث: "ومن شاب شيبة في سبيل الله كانت له نوراً يوم القيامة، وأيما رجل مسلم أعتق رجلا مسلما فإن الله عز وجل جاعل وفاء كل عظم من عظامه عظما من عظام محرره من النار، و أيما امرأة مسلمة أعتقت امرأة مسلمة فإن الله عز وجل جاعل وفاء كل عظم من عظامها من عظام محررها من النار".(2/3)
والحديث صحيح، وقد صرح قتادة بالتحديث عند البيهقي، وأخرجه أبو داود والترمذي والنسائي وأبو داواد الطيالسي وابن حبان والحاكم والبيهقي كلهم من طريق قتادة به(1).
وقال الترمذي: "حديث حسن صحيح"، وأبو نجيح هو عمرو بن عبسة السلمي.
وقال الحاكم: "هذا حديث صحيح على شرط الشيخين"، فإن أبا نجيح هذا: هو عمرو(2) بن عبسة السلمي. ووافقه الذهبي.
وأورده ابن كثير عن البيهقي ثم قال: "ورواه أبو داود والترمذي وصححه(3) والنسائي من حديث قتادة به"(4).
__________
(1) أبو داود: 2/354-355 كتاب العتق، باب أي الرقاب أفضل دون "من شاب شيبة في الإسلام".
والترمذي: السنن 3/96 كتاب الجهاد، باب ما جاء في فضل الرمي في سبيل الله، بقصة "الرمي" فقط.
والنسائي: السنن 6/23 كتاب الجهاد، باب ثواب من رمى بسهم في سبيل الله عز وجل، بقصة "الرمي" أيضا.
وفي السنن الكبرى،بقصة "العتق" انظر تحفة الأشراف8/163 حديث(10768).
وأبو داود الطيالسي كما في منحة المعبود 2/109-110.
وابن حبان:كما في موارد الظمآن ص294و396دون"من شاب شيبة في الإسلام".
والحاكم: المستدرك 2/95-96و121و 3/49-50.
والبيهقي: السنن الكبرى 9/61 و10/272 ودلائل النبوة 3/ 48أ.
(2) لعله احتراز من أبي نجيح العرباض بن سارية السلمي فإنه لم يخرج له سوى الأربعة، انظر (التقريب 2/17).
(3) وقع في البداية والنهاية "رواه أبو داود والترمذي وصححه النسائي" والظاهر أن العبارة هكذا: "رواه الترمذي وصححه والنسائي وأن حرف العطف سقط من "النسائي". لأن النسائي أخرج هذا الحديث في سننه ولم يصححه والذي صححه هو الترمذي.
(4) البداية والنهاية 4/349.(2/4)
وكان من التعليمات العسكرية أن أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم مناديا ينادي، أيما عبد نزل من الحصن وخرج إلينا فهو حر، فخرج جماعة فأعتقهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودفع كل واحد منهم إلى رجل من المسلمين يمونه، فشق ذلك على أهل الطائف مشقة شديدة وزاد من ألمهم(1).
وكان ذلك من أعظم التدابير العسكرية التي أضعفت من قوة المشركين وفتت في عضدهم ومعنوياتهم وفرقت جمعهم، توضح هذا الأحاديث الآتية:
__________
(1) الطبقات الكبرى لابن سعد 2/158-159.(2/5)
قال البخاري: حدثنا محمد(1) بن بشار حدثنا غندر حدثنا شعبة عن عاصم قال: سمعت أبا عثمان(2)، قال سمعت سعدا(3) - وهو أول من رمى بسهم في سبيل الله - وأبا بكرة(4) وكان تسور(5) حصن الطائف في أناس فجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم" الحديث(6).
والحديث أخرجه أحمد من طريق خالد الحذاء وعاصم الأحول، والدارمي من طريق عاصم عن أبي عثمان به.
__________
(1) محمد بن بشار: هو بندار، وغندر هو محمد بن جعفر، وشعبة هو ابن الحجاج، وعاصم: ابن سليمان الأحول.
(2) هو عبد الرحمن بن مل - بلام ثقيلة والميم مثلثة - أبو عثمان النهدي - بفتح النون وسكون الهاء، مشهور بكنيته، مخضرم من كبار الثانية، ثقة ثبت عابد، (ت 95) وقيل بعد ذلك وعاش (130) وقيل أكثر/ع التقريب 1/499).
(3) هو ابن مالك بن أبي وقاص، أحد العشرة المشهود لهم بالجنة (الإصابة 2/33 وأسد الغابة 2/366 وانظر سيرة ابن هشام 1/591، الطبقات الكبرى لابن سعد 2/7 في كون سعد أول من رمى بسهم في سبيل الله.
(4) هو نفيع بن الحارث بن كلدة - بفتحتين - ابن عمرو الثقفي، أبو بكرة صحابي مشهور بكنيته، تدلى من حصن الطائف إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأسلم فأعتقه يومئذ (التقريب 2/306وتهذيب التهذيب10/469والإصابة3/571-572 وأسد الغابة 5/354 و6/38).
(5) وعند الدارمي "تدلى من حصن الطائف" قال ابن حجر: "المعنى تسور من أسفله إلى أعلاه ثم تدلى منه (فتح الباري 8/46).
(6) البخاري: الصحيح 5/129 كتاب المغازي، باب غزوة الطائف و8/131 كتاب الفرائض، باب من ادعى إلى غير أبيه "وتمام الحديث" فقالا: سمعنا النبي صلى الله عليه وسلم يقول: من ادعى إلى غير أبيه وهو يعلم فالجنة عليه حرام" واقتصر مسلم على هذا الجزء منه من حديث خالد الحذاء وعاصم الأحوال وكذا ابن ماجه من حديث عاصم (انظر: صحيح مسلم 1/80 كتاب الإيمان باب بيان من رغب عن أبيه وهو يعلم، وابن ماجه2/870 كتاب الحدود، باب من ادعى إلى غير أبيه، أو تولى غير مواليه.(2/6)
ولفظ الدارمي: "هذا أول من رمى بسهم في سبيل الله، وهذا تدلى من حصن الطائف إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم" الحديث(1).
144- قال البخاري: وقال هشام و أخبرنا معمر عن عاصم عن أبي العالية(2) أو أبي عثمان النهدي قال: "سمعت سعدا أو أبا بكرة عن النبي صلى الله عليه وسلم"، قال عاصم:
قلت: "لقد شهد عندك(3)
__________
(1) أحمد: المسند 1/169 و174 و179 و5/38 و46، والدارمي: السنن 2/160 كتاب السير، باب في الذي ينتمي إلى غير مواليه و2/248 كتاب الفرائض، باب من ادعى إلى غير أبيه، وعند خليفة بن خياط من طريق شعبة عن عاصم الأحوال عن أبي عثمان قال: "سبق أبو بكرة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من الطائف" (تاريخ خليفة ص 89).
(2) هو رفيع - بالتصغير - ابن مهران، أبو العالية، الرياحي - بكسر الراء وبالتحتانية (التقريب 1/252 وتهذيب التهذيب 3/284).
(3) الخطاب لأبي عثمان أو لأبي العالية، وعند أبي داود قال عاصم: فقلت: "يا أبا عثمان لقد شهد عندك رجلان أيما رجلين" انظر: ص 305.
قال ابن حجر: "وقد وقع في رواية هشيم عن خالد الحذاء عند مسلم في أول هذا الحديث قصة ولفظه: "عن أبي عثمان قال: لما ادعى زياد لقيت أبا بكرة فقلت: ما هذا الذي صنعتم؟ إني سمعت سعد بن أبي وقاص يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من ادعى إلى غير أبيه وهو ويعلم فالجنة عليه حرام".
فقال أبو بكرة: "وأنا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم "والمراد بزياد الذي ادعى: زياد بن سمية وهي أمه كانت أمة للحارث بن كلدة، فزوجها لمولاه عبيد فأتت بزياد على فراشه وهم بالطائف قبل أن يسلم أهل الطائف، فلما كان في خلافة عمر بن الخطاب سمع أبو سفيان بن حرب كلام زياد عند عمر وكان بليغا فأعجبه فقال: إني لأعرف من وضعه في أمه ولو شئت لسميته، ولكن أخاف من عمر، فلما ولي معاوية بن أبي سفيان الخلافة كان زياد على فارس من قبل عليّ بن أبي طالب، وأراد معاوية مداراته، فأطمعه في أنه يلحقه بأبي سفيان فأصغى زياد إلى ذلك فجرت في ذلك خطوب إلى أن ادعاه معاوية وأمَّره على البصرة ثم على الكوفة وأكرمه، وسار زياد سيرته المشهورة، وسياسته المذكورة، فكان كثير من الصحابة والتابعين ينكرون ذلك على معاوية، محتجين بحديث "الولد للفراش" وإنما خص أبو عثمان أبا بكرة بالإنكار لأن زيادا كان أخاه من أمه، وقد نصح أبو بكرة زيادا عن هذا الادعاء فامتنع فحلف أبو بكرة لا يكلم زياداً أبداً، قال السهيلي: وقد غلط ابن قتيبة فجعل سمية هذه المذكورة أم عمار بن ياسر، ثم قال: سمية أم عمار كانت تحت ياسر أبي عمار وقتلها أبو جهل في أوّل المبعث". (ابن حجر: فتح الباري 12/54 والإصابة 1/580 و3/571 وابن عبد البر: الاستيعاب 1/567 و3/567 و4/23 مع الإصابة والروض الأنف: 7/275 وكتاب المعارف لابن قتيبة ص 111-112 و125 و151.(2/7)
رجلان حسبك بهما، قال: أجل، أما أحدهما فأول من رمى بسهم في سبيل الله، وأما الآخر فنزل إلى النبي صلى الله عليه وسلم ثالث ثلاثة وعشرين من الطائف"(1).
قال ابن حجر: "هشام هو ابن يوسف الصنعاني، ولم يقع لي موصولا إليه.
وقد أخرجه عبد الرزاق عن معمر لكن عن أبي عثمان وحده، عن أبي بكرة وحده، وبغير شك، وغرض المصنف منه، ما فيه من بيان من أبهم في الرواية الأولى فإن فيها "تسور من حصن الطائف، في أناس" وفي هذا "فنزل إلى النبي صلى الله عليه وسلم ثالث ثلاثة وعشرين من الطائف".
ثم قال: "وفيه رد على من زعم أن أبا بكرة لم ينزل من سور الطائف غيره، وهو شيء قاله موسى بن عقبة وتبعه الحاكم، وجمع بعضهم بين القولين، بأن أبا بكرة نزل وحده أولا، ثم نزل الباقون بعده وهو جمع حسن"(2).
قلت: حديث عبد الرزاق المشار إليه هذا سياقه:
قال عبد الرزاق: عن معمر عن عاصم بن سليمان قال: حدثنا أبو عثمان النهدي عن أبي بكرة: "أنه خرج إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم - وهو محاصر أهل الطائف - بثلاثة وعشرين عبدا فأعتقهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهم الذين يقال لهم العتقاء"(3).
__________
(1) البخاري: الصحيح 5/129 كتاب المغازي، باب غزوة الطائف.
(2) ابن حجر: فتح الباري 8/46.
(3) المصنف5/301.
وفي مسند أحمد 4/363 عن جرير بن عبد الله البجلي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "والمهاجرون والأنصار أولياء بعضهم لبعض، والطلقاء من قريش، والعتقاء من ثقيف بعضهم أولياء بعض إلى يوم القيامة" وفيه شريك بن عبد الله القاضي، صدوق يخطئ كثيرا.(2/8)
وعند أبي داود قال عاصم: قلت: يا أبا عثمان لقد شهد عند رجلان أيما رجلين؟ فقال: أما أحدهما فأوّل من رمى بسهم في سبيل الله أو في الإسلام - يعنى سعد بن مالك - والآخر قدم من الطائف في بضعة(1) وعشرين رجلا على أقدامهم"الحديث(2).
وقد جاء عند ابن إسحاق تسمية بعضهم من مرسل عبد الله بن مكرم الثقفي وهذا سياقه:
__________
(1) وعند الواقدي وابن سعد: فخرج منهم بضعة عشر رجلا (مغازي الواقدي: 3/931 وطبقات ابن سعد 2/159).
(2) سنن أبي داود 2/623 كتاب الأدب، باب في الرجل ينتمي إلى غير مواليه. وسياق الحديث: حدثنا النفيل أخبرنا زهير أخبرنا عاصم الأحول حدثني أبو عثمان قال: حدثني سعد بن مالك قال سمعته أذناني ووعاه قلبي من محمد صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من ادعى إلى غير أبيه وهو يعلم أنه غير أبيه فالجنة عليه حرام"، قال: فلقيت أبا بكرة فذكرت ذلك له، فقال: سمعته أذاني ووعاه قلبي من محمد صلى الله عليه وسلم، قال عاصم: فقلت: يا أبا عثمان لقد شهد عندك رجلان. إلخ.(2/9)
145- قال ابن إسحاق حدثني عبد الله (1) بن مكرم الثقفي قال: "لما حاصر رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل الطائف خرج إليه رقيق من رقيقهم أبو بكرة عبد الحارث بن كلدة، والمنبعث(2)
__________
(1) عبد الله بن مكرم الثقفي روى عن عبد الله بن قارب، وعنه ابن إسحاق قال ابن أبي حاتم: سمعت أبي يقول ذلك (الجرح و التعديل 5/181)، البخاري: التاريخ الكبير 5/211، وفي سيرة ابن هشام، الروض الأنف، والسنن الكبرى للبيهقي "عبد الله ابن مكدم" بالدال المهملة بدل (الراء) وعند السهيلي 7/238 قال ابن إسحاق حدثني من لا أتهم عن عبد الله بن مكدم.
(2) المنبعث - بمضمومة وسكون نون وفتح موحدة، وكسر عين مهملة، وبمثلثة - كان عبدا لعثمان بن عامر بن معتب، نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم حين كان محاصرا الطائف وأسلم (أسد الغابة لابن الأثير 5/262) والإصابة لابن حجر 3/457-358 والمغني لابن طاهر الهندي ص 75 وفي هذا الحديث استحباب تغيير الاسم إلى ما هو أحسن منه، وكان ذلك من هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد روى البخاري من حديث سعيد بن المسيب أن جده حزنا قدم على النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: "ما اسمك؟ قال: اسمي حزن، قال: بل أنت سهل، قال: ما أنا بمغير اسما سمانيه أبي"، قال: قال ابن المسيب: فما زالت فينا الحزونة بعد.
"صحيح البخاري8/37 كتاب الأدب، باب تحويل الاسم إلى اسم أحسن منه" وأخرجه أبو داود في سننه 2/586 كتاب الأدب، باب في تغيير الاسم القبيح ولفظه عن سعيد بن المسيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: "ما اسمك"؟ قال: حزن، قال: أنت سهل، قال: لا، السهل يوطأ ويمتهن، قال سعيد: فظننت أنه سيصيبنا بعده حزونة" وجاء في غزوة حنين أيضا من حديث رائطة بنت مسلم عن أبيها أنه شهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حنينا فقال له: "ما اسمك؟ قال: غراب، قال: لا، بل اسمك مسلم"، (البخاري: الأدب المفرد ص 287 والتاريخ الكبير 7/252 وابن سعد 5/462). وابن حجر: الإصابة 3/417 وإسناده ضعيف.
قال الدميري في حياة الحيوان 2/105: "وإنما غير النبي صلى الله عليه وسلم اسمه لأن الغراب حيوان خبيث الفعل، خبيث المطعم، و لذلك أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتله في الحل و الحرم".(2/10)
وكان اسمه المضطجع، فسماه رسول الله صلى الله عليه وسلم المنبعث ويحنس(1) ووردان(2)
__________
(1) يحنس - بضم التحتية وفتح المهملة والنون المشددة وسين مهملة - النبال كان عبد اليسار بن مالك. (أسد الغابة 5/469 وشرح المواهب 3/32).
(2) وردان: هو جد الفرات بن زيد بن وردان، وكان وردان عبدا لعبد الله بن ربيعة بن خرشة الثقفي (أسد الغابة 5/445).
وزاد الواقدي: الأزرق بن عقبة أبو عقبة الثقفي كان عبدا لكلدة الثقفي من بني مالك، وقيل كان عبدا للحارث بن كلدة طبيب العرب، إبراهيم بن جابر كان عبدا لخرشة الثقفي، ويسار، كان عبدا لعثمان بن عبد الله ونافع أبو السائب كان عبدا لغيلان بن سلمة الثقفي، فأسلم غيلان بعد فرد النبي صلى الله عليه وسلم إليه ولاءه، ومرزوق غلام لعثمان بن عامر، وزاد ابن حجر: "الأزرق زوج سمية والدة زياد بن عبيد الذي صار يقال له زياد بن أبيه، ونافع مولى الحارث بن كلدة الثقفي طبيب العرب"، قال ابن حجر ويقال: "كان فيهم زياد بن سمية، و الصحيح أنه لم يخرج حينئذ لصغره، ثم قال: ولم أعرف أسماء الباقين"، وقال الواقدي: "كل هؤلاء أعتقهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ودفع كل رجل منهم إلى رجل من المسلمين يمونه و يحمله، فكان أبو بكرة إلى عمرو بن سعيد بن العاص والأزرق إلى خالد بن سعيد، ووردان إلى أبان بن سعيد، ويحنس النبال إلى عثمان بن عفان، وكان يسار بن مالك إلى سعد ابن عبادة، وإبراهيم بن جابر إلى أسيد بن الحضير، أمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقرئوهم القرآن ويعلموهم السنن، فلما أسلمت ثقيف تكلمت أشرافهم في هؤلاء المعتقين - فيهم الحارث بن كلدة - يردوهم في الرق، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أولئك عتقاء الله، لا سبيل إليهم، وبلغ ذلك من اهل الطائف مشقة شديدة، واغتاظوا على غلمانهم".
وعند السهيلي: "وجعل النبي صلى الله عليه وسلم هؤلاء العبيد لساداتهم حين أسلموا" (مغازي الواقدي 3/931-932 و فتح الباري 8/45-46).(2/11)
في رهط من رقيقهم فأسلموا فلما
قدم وفد أهل الطائف، فأسلموا، قالوا: يا رسول الله رد علينا رقيقنا الذين أتوك؟ قال: "لا، أولئك عتقاء الله" ورد على ذلك الرجل ولاء عبده، فجعله له"(1).
والحديث أخرجه البيهقي من طريق ابن إسحاق إلا أنه قال: "فلما قدم وفد أهل الطائف على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلموا، قالوا يا رسول الله : رد علينا رقيقنا الذين أتوك فقال: "لا، أولئك عتقاء الله عز وجل ورد على كلّ رجل ولاء عبده فجعله إليه"(2).
ثم قال: "هذا منقطع"(3).
وهكذا قال السهيلي: "بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم رد ولاء هؤلاء العبيد لسادتهم حين أسلموا، وقال: كل هذا ذكره ابن إسحاق في غير رواية ابن هشام"(4).
والحديث في سيرة ابن هشام و الروض الأنف وليس فيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رد على أهل الطائف ولاء عبيدهم، وهذا نصه:
قال ابن إسحاق: "وحدثني من لا اتهم عن عبد الله بن مكرم عن رجال من ثقيف، قالوا: لما أسلم أهل الطائف تكلم نفر منهم في أولئك العبيد، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا، أولئك عتقاء الله، وكان ممن تكلم فيهم الحارث بن كلدة"(5).
__________
(1) الزيلعي: نصب الراية 3/282 وابن كثير: البداية والنهاية 4/348 واللفظ له.
(2) السنن الكبرى 9/229 و10/308 ودلائل النبوة 3/48 أ.
(3) المراد بالمنقطع هنا المرسل كما صرح بذلك الزيلعي، لأن المنقطع أعم من المرسل فيشمل كل ما لم يتصل إسناده عند العلماء.
(4) الروض الأنف 7/274-275.
(5) يفهم من هذا أن ابن إسحاق لا يروي عن ابن مكرم مباشرة.(2/12)
ثم قال ابن هشام: "وقد سمى ابن إسحاق من نزل من أولئك العبيد، وكذا أورد ابن حجر في ترجمته الحارث بن كلدة"(1).
ما رواه أحمد وغيره من حديث ابن عباس وهذا سياقه عند أحمد:
146- قال: حدثنا أبو معاوية(2) ثنا حجاج(3) عن الحكم(4) عن مقسم(5) عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "أعتق رسول الله يوم الطائف من خرج من عبيد المشركين"(6). ورواه عن يحيى(7) بن زكريا ثنا حجاج به.
__________
(1) سيرة ابن هشام2/485، والروض الانف 7/238،و274-276، والإصابة1/29، 288 و3/458، و633، و649، ومغازي الواقدي3/931، وطبقات ابن سعد 2/159 وأسد الغابة 1/413 و5/262 و445، 469، والزرقاني: شرح المواهب 3/31-32 والديار بكري: تاريخ الحميس 2/111).
(2) هو محمد بن خازم - بمعجمتين - أبو معاوية الضرير الكوفي عمي وهو صغير ثقة، أحفظ الناس لحديث الأعمش، وقد يهم في حديث غيره من كبار التاسعة (ت195) /ع (التقريب 1/157 وتهذيب التهذيب 9/137).
(3) حجاج بن أرطأة - بفتح الهمزة - ابن ثور بن هبيرة النخعي أبو أرطأة الكوفي القاضي، أحد الفقهاء، صدوق كثير الخطأ والتدليس من السابعة (ت 145) / بخ م عم (التقريب 1/152 وتهذيب التهذيب 2/196).
وقال الذهبي: "وأكثر مانقم عليه التدليس،و كان فيه تيه لا يليق بأهل العلم، وكان يقول: أهلكني حب الشرف" (ميزان الاعتدال 1/458-460، وتذكرة الحفاظ 1/186). ووقع في ميزان الاعتدال ذكر علامة النسائي بعد علامة الأربعة وهو خطأ لأن النسائي داخل في الأربعة.
(4) الحكم هو ابن عتيبة ثقة، ثبت، فقيه، تقدمت ترجمته في حديث (73).
(5) مقسم هو ابن بجرة أو ابن نجدة، صدوق وكان يرسل، تقدم في حديث (75).
(6) أحمد: المسند1/223-224 و349 و362.
(7) يحيى بن زكريا بن أبي زائدة الهمداني - بسكون الميم - أبو سعيد الكوفي،ثقة متقن، من كبار التاسعة(ت183أو184)/ع (التقريب2/347 وتهذيب التهذيب11/208).(2/13)
ولفظه: "لما حاصر رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل الطائف أعتق من رقيقهم". ورواه عن يزيد بن هارون ثنا الحجاج به.
ولفظه: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعتق من جاءه من البعيد قبل مواليهم إذا أسلموا(1) وقد أعتق يوم الطائف رجلين". رورواه عن عبد القدوس(2) بن بكير بن خنيس ثنا الحجاج به.
ولفظه: "حاصر رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل الطائف فخرج إليه عبدان فأعتقها(3)، أحدهما أبو بكرة، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعتق العبيد إذا خرجوا إليه". ورواه عن نصر(4) بن باب عن الحجاج به.
ولفظه: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الطائف من خرج إلينا من العبيد فهو حر، فخرج عبيد من العبيد فيهم أبو بكرة، فأعتقهم رسول الله(5).
__________
(1) وعند سعيد بن منصور "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعتق العبيد إذا جاءوا قبل مواليهم" ولم يذكر إسلاما. (زاد المعاد لابن القيم الجوزية 3/503).
(2) عبد القدوس بن بكير بن خنيس - بمعجمة ونون مصغرا - الكوفي أبو الجهم قال أبو حاتم: لا بأس به، من التاسعة / ت ق (التقريب 1/515، وتهذيب التهذيب 6/369 وميزان الاعتدال 2/642. وسقط من مسند أحمد كلمة (عبد) فصار حدثنا القدوس وهو خطأ.
(3) وعند البيهقي "أن عبدين خرجا من الطائف فأسلما فأعتقهما رسول الله صلى الله عليه وسلم أحدهما أبو بكرة", (السنن الكبرى 9/230).
(4) نصر بن باب الخراساني أبو السهل المروزي، نزل بغداد تركه جماعة (ت 193) تعجيل المنفعة لابن حجر ص 275، وتاريخ بغداد للخطيب البغدادي 13/278 وميزان الاعتدال للذهبي 4/250.
(5) مسند أحمد 1/236 و243 و248.(2/14)
والحديث رواه سعيد(1) بن منصور وابن سعد وابن أبي شيبة وخليفة بن خياط والدارمي وأبو يعلى والطحاوي والطبراني والبيهقي كلهم من طريق حجاج بن أرطأة عن مقسم به(2). بألفاظ مختلفة.
ومدار الحديث على الحجاج وهو مدلس،وقد عنعن وبقية رجاله ثقات.
وأروده الهيثمي وقال: "رواه أحمد والطبراني باختصار وفيه الحجاج ابن أرطأة وهو ثقة، ولكنه مدلس"(3).
147- ما رواه أحمد وابن سعد والطحاوي من حديث عامر الشعبي وهذا سياقه عند أحمد:
__________
(1) سعيد بن منصور بن شعبة أبو عثمان الخراساني، نزيل مكة ثقة مصنف وكان لا يرجع عما في كتابه لشدة وثوقه به (ت 227) وقيل بعدها /ع (التقريب 1/306، وتهذيب التهذيب 4/89).
(2) زاد المعاد لابن قيم الجوزية 3/503 وابن سعد: الطبقات الكبرى 2/160، وابن أبي شيبة : التاريخ ص 85، 86 ب برقم 665 وكنز العمال 10/362 ومنتخب كنز العمال 4/173 مع المسند أحمد كلاهما لعلاء الدين المتقي الهندي وخليفة بن خياط: تاريخ خليفة ص 89.
والدارمي: السنن 2/155 كتاب السير، باب في عبيد المشركين يفرون إلى المسلمين، وأبو يعلى : المسند 3/253 أرقم 303. والطحاوي: شرح معاني الآثار 3/278. والطبراني:المعجم الكبير11/387و390،والبيهقي: السنن الكبرى9/229-230.
(3) مجمع الزوائد 4/245.(2/15)
قال: حدثنا يحيى(1) بن آدم ثنا مفضل(2) بن مهلهل عن المغيرة(3) عن شباك(4) عن الشعبي(5) عن رجل(6) من ثقيف قال: "سألنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثا فلم يرخص لنا". الحديث.
وفيه: "وسألناه أن يرد أبا بكرة فأبى وقال: "هو طليق الله وطليق رسوله".
__________
(1) يحيى بن آدم بن سليمان الكوفي، مولى بني أمية، ثقة حافظ فاضل، من كبار التاسعة (ت 203)/ ع (التقريب 2/341 وتهذيب التهذيب 11/175).
(2) مفضل بن مهلهل، السعدي، أبو عبد الرحمن الكوفي، ثقة ثبت، نبيل عابد، من السابعة (ت 167)/ م س ق (التقريب 2/271، وتهذيب التهذيب 10/275).
(3) مغيرة بن مقسم - بكسر الميم - الضبي مولاهم، أبو هشام الكوفي، الأعمى ثقة متقن، إلا أنه كان يدلس، ولا سيما عن إبراهيم النخعي من السابعة (ت 136) على الصحيح / ع (التقريب 2/270 وتهذيب التهذيب 10/275).
(4) شباك - بكسر أوله ثم موحدة خفيفة ثم كاف - الضبي الكوفي، الأعمى ثقة، له ذكر في صحيح مسلم، وكان يدلس، من السادسة، / م د س ق (التقريب 1/345 وتهذيب التهذيب 4/302).
(5) هو عامر بن شراحيل الشعبي - بفتح المعجمة - أبو عمرو، ثقة مشهور فقيه فاضل، من الثالثة، قال مكحول : ما رأيت أفقه منه. (ت بعد 100) / ع التقريب 1/387 وتهذيب التهذيب 5/65).
(6) قوله عن (رجل) هذا الإبهام لا يضر لأنه صحابي كما هو الظاهر من سياق الحديث، والصحابة كلهم عدول وعند ابن سعد: "أن ثقيفا سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم.(2/16)
وكان أبو بكرة خرج إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حين حاصر الطائف فأسلم(1).
ورواه عن علي(2) بن عاصم أخبرنا مغيرة عن شباك عن عامر أخبرني فلان الثقفي قال: "سألنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ثلاث فلم يرخص لنا" الحديث وفيه "سألناه أن يرد إلينا أبا بكرة وكان مملوكا وأسلم قبلنا، فقال: لا، هو طليق الله ثم طليق رسول الله صلى الله عليه وسلم".
ورواه عن الوركاني(3) ثنا أبو الأحوص(4) عن مغيرة بن شباك عن الشعبي عن رجل من ثقيف عن النبي صلى الله عليه وسلم.
ثم قال : "نحوه ولم يسق لفظه"(5). والحديث رواه ابن سعد والطحاوي كلاهما من طريق مغيرة عن شباك عن الشعبي به (6).
غير أن ابن سعد ساقه بسندين أسقط الشعبي في أحدهما.
وأورده الهيثمي وقال: رواه أحمد ورجاله ثقات (7).
__________
(1) مسند أحمد 4/168 ونص الحديث "عن الشعبي عن رجل من ثقيف قال: "سألنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثا فلم يرخص لنا: فقلنا: إن أرضنا أرض باردة فسألناه أن يرخص لنا في الطهور فلم يرخص لنا، و سألناه أن يرخص لنا في الدياء فلم يرخص لنا فيه ساعة، وسألناه أن يرد إلينا أبا بكرة فأبى، وقال : "هو طليق الله وطليق رسوله". وكان أبو بكرة خرج إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حين حاصر الطائف فأسلم.
(2) علي بن عاصم بن صهيب، صدوق تقدم في حديث (97).
(3) هو محمد بن جعفر بن زياد الوركاني - بفتحتين - أبو عمران الخراساني نزيل بغداد، ثقة من العاشرة (ت 228)/م د س (التقريب 2/150 وتهذيب التهذيب 9/93-94 وتاريخ بغداد2/116-117.
(4) أبو الأحوص: هو سلام بن سليم الحنفي ثقة متقن تقدم في حديث (26).
(5) مسند أحمد 4/168 و310.
(6) ابن سعد : الطبقات الكبرى 7/15و16. والطحاوي : شرح معاني الآثار 3/278.
(7) مجمع الزوائد 4/245.(2/17)
148- حديث أبي بكرة رضي الله عنه أنه خرج إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو محاصر الطائف بثلاثة وعشرين عبدا فأعتقهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم الذين يقال لهم عتقاء".
قال الهيثمي: "رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح"(1).
149- حديث غيلان بن سلمة الثقفي أن نافعا(2) كان عبدا لغيلان ففر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وغيلان مشرك، فأسلم غيلان فرد رسول الله صلى الله عليه وسلم عليه ولاءه".
قال الهيثمي: "رواه الطبراني: وفيه ابن لهيعة وحديثه حسن، وفيه ضعف وبقية رجاله ثقات"(3).
150- ما واه أبو داود من مرسل عبد ربه(4) بن الحكم ولفظه: "أن النبي صلى الله عليه وسلم لما حاصر أهل الطائف خرج إليه أرقاء من أرقائهم فأسلموا فأعتقهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما أسلم مواليهم بعد ذلك رد رسول الله صلى الله عليه وسلم الولاء - يعني إليهم"(5).
151- حديث ابن عباس رضي الله عنهما من طريق أبي شيبة عن الحكم عن مقسم عنه قال: "لما نزل النبي صلى الله عليه وسلم الطائف أمر مناديا فنادى "أيما عبد خرج فهو حر". فخرج إليه عبدان فأعتقهما"(6).
قال الهيثمي: رواه الطبراني: "وفيه إبراهيم بن عثمان أبو شيبة وهو متروك"(7).
__________
(1) مجمع الزوائد 4/245.
(2) هو نافع أبو السائب مولى غيلان بن سلمة أورده ابن الأثير في أسد الغابة: 5/302 وابن حجر في الإصابة 3/548 وساقا هذا الحديث في ترجمته.
(3) مجمع الزوائد 4/246 وانظر السنن الكبرى للبيهقي 10/308.
(4) عبد ربه بن الحكم بن سفيان بن عبد الله،ويقال:ابن عثمان ابن بشير الثقفي الطائفي مجهول،من الثالثة، وأرسل حديثا/مد (التقريب1/470 وتهذيب التهذيب6/126 وفيه ذكره ابن حبان في الثقات وقال ابن القطان الفاسي: لا يعرف حاله.
(5) أبو داود: كتاب المراسيل ص 40 وانظر: الزيلعي: نصب الراية 3/281-282.
(6) الطبراني: المعجم الكبير 11/398.
(7) مجمع الزوائد 4/245 وانظر التقريب 1/39.(2/18)
152- حديث أبي أمامة(1) - رضي الله عنه - قال: "تدلى عبد من حصن الطائف فجاءه مولاه، فقال يا رسول الله رد علي غلامي، فقال: إن العبد إذا أسلم قبل مولاه لم يرد إليه، وإذا أسلم المولى ثم أسلم العبد دفع إليه"(2).
قال الهيثمي: "رواه الطبراني وفيه عمر(3) بن موسى بن وجيه وهو متروك".
وهذه الأحاديث تدل على أن العبد إذا نزل في حال الحصار وأسلم ولحق بالمسلمين قبل سيده صار حرا، وهل يصير حراً حكماً شرعياً، أو ذلك راجع إلى اشتراط الإمام له، فيه خلاف بين العلماء:
قال ابن قيم الجوزية - رحمه الله -: "ومنها(4) أن العبد إذا أبق من المشركين ولحق بالمسلمين، صار حراً، ثم أورد حديث سعيد بن منصور المتقدم"(5).
153- ثم قال: وروى سعيد بن منصور أيضا قال: "قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم في العبد وسيده قضيتين، قضى أن العبد إذا خرج من دار الحرب قبل سيده أنه حر، فإن خرج سيده بعده لم يرد عليه، وقضى أن السيد إذا خرج قبل العبد ثم خرج العبد، رد على سيده.
ثم أورد حديث الشعبي المتقدم(6)، ثم قال: قال ابن المنذر: "وهذا قول كل من يحفظ من أهل العلم"(7).
__________
(1) هو صدى - بالتصغير - ابن عجلان، أبو أمامة الباهلي، صحابي مشهور سكن الشام، ومات بها، سنة: (86) / ع (التقريب1/366 وتهذيب التهذيب4/420).
(2) مجمع الزوائد 4/245-246 والمعجم الكبير للطبراني 8/298.
(3) هو عمر بن موسى بن وجيه الأنصاري الدمشقي، قال البخاري: منكر الحديث، وقال ابن معين: ليس بثقة، وقال ابن عدي: هو ممن يضع الحديث متنا وإسنادا (ميزان الاعتدال 3/224) ووقع في مجمع الزوائد: عمر بن إبراهيم بن وجيه وهو خطأ.
(4) أي الأحكام المأخوذة من هذه الغزوة.
(5) انظر الحديث رقم (146).
(6) انظر: حديث (147).
(7) زاد المعاد 3/115، 503-504.(2/19)
وأورد ابن كثير: حديث الحجاج بن أرطأة ثم قال: "تفرد به أحمد(1) ومداره على الحجاج بن أرطأة وهو ضعيف، لكن ذهب الإمام أحمد إلى هذا فعنده أن كل عبد جاء من دار الحرب إلى دار الإسلام، عتق حكماً شرعياً مطلقاً عاماً، وقال آخرون: إنما كان هذا شرطا لا حكماً عاماً، ولو صح الحديث(2) لكان التشريع العام أظهر، كما في قوله عليه السلام: "من قتل قتيلا فله سلبه(3)"(4).
قلت: هذا الحديث مداره على الحجاج بن أرطأة وهو ضعيف. وضعفه آت من قبل تدليسه وقد عنعن(5).
قال الذهبي: "وأكثر ما نقم على الحجاج التدليس، وفيه تيه لا يليق بأهل العلم".
وقال أيضاً: "كان حجاج يقول: أهلكني حب الشرف"(6). إهـ.
ومثله يتقوى حديثه بالمتابعات والشواهد، وقد جاء عند عبد الرزاق بإسناد صحيح ما يؤيد هذا الحديث في مسألة عتق عبيد المشركين، والحديث أيضاً عند البخاري وأبي داود ولا تعرض فيه لإسلام أو عدمه وإنما فيه مجرد نزول العبيد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم (7).
وقد وردت أحاديث أخرى بأسانيد فيها الصحيح وغيره وهي دالة على ما دل عليه حديث الحجاج بن أرطأة، وقد تقدم سياق ذلك.
__________
(1) انظر الحديث رقم (146).
(2) يعني: حديث الحجاج بن أرطأة.
(3) هذا الحديث متفق عليه من حديث أبي قتادة انظر الحديث رقم (62).
(4) ابن كثير: البداية و النهاية 4/347-348.
(5) وقد وضعه ابن حجر في المرتبة الرابعة من طبقات المدلسين، وهي المرتبة التي اتفق العلماء على أنه لا يحتج بشيء من حديثهم، إلاّ بما صرحوا فيه بالسماع لكثرة تدليسهم على الضعفاء والمجاهيل ص 8 و37.
(6) ميزان الاعتدال 1/460.
(7) انظر حديث (144).(2/20)
وهذه الأحاديث نص في كون العبد إذا أسلم ولحق بالمسلمين قبل سيده صار حرا، ويرى الإمام أحمد ذلك حكما شرعيا بينما يراه الشافعي شرطا حيث قال: وإذا استأمن العبد من المشركين على أن يكون مسلما ويعتق فذلك للإمام، أمن رسول الله صلى الله عليه وسلم في حصار ثقيف من نزل إليه من عبيد فأسلموا فشرط لهم أنهم أحرار فنزل إليه خمسة عشر عبدا من عبيد ثقيف فأعتقهم ثم جاء سادتهم بعدهم مسلمين، فسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يردهم إليهم فقال: "هم أحرار لا سبيل عليهم، ولم يردهم"(1).
قلت: يؤيد القائلين بأن هذا حكما لا شرطا ما رواه أبو داود والترمذي من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه وهذا سياقه عند أبي داود:
__________
(1) الشافعي: الأم 4/201.(2/21)
154- قال: حدثنا عبد العزيز(1) بن يحيى الحراني، قال حدثني محمد(2) - يعني ابن سلمة عن محمد بن إسحاق عن أبان(3) بن صالح بن منصور(4) بن المعتمر عن ربعي(5)
__________
(1) عبد العزيز بن يحيى بن يوسف البكائي - بفتح الباء والكاف المشددة - أبو الأصبغ الحراني، صدوق، ربما وهم من العاشرة (ت235) / د س (التقريب 1/513 وتهذيب التهذيب 6/362).
(2) محمد بن سلمة بن عبد الله الباهلي، ثقة (التقريب 2/166).
(3) أبان بن صالح بن عمير بن عبيد القرشي مولاهم وثقه جماعة، ووهم ابن حزم فجهله، وابن عبد البر فضعفه، من الخامسة (ت بضع عشرة ومائة) خت عم (المصدر السابق 1/30 و1/94).
(4) منصور بن المعتمر بن عبد الله السلمي، أبو عتاب - بمثناة ثقيلة ثم موحدة - الكوفي، ثقة ثبت، وكان لا يدلس، من طبقة الأعمش (ت 132) / ع (التقريب 2/276 الطبعة المصرية، وص 348 الطبعة الهندية، تهذيب التهذيب 10/312-315، وتذكرة الحفاظ: 1/142 وسير أعلام النبلاء 5/402 كلاهما للذهبي، والخلاصة للخزرجي 3/58، والمغني لابن طاهر الهندي ص 53، ووقع في التقريب بطبعتيه "أبو عثاب" بمثلثة ثقيلة، ولعله خطأ.
(5) ربعي - بكسر أوله وسكون ثانية - ابن حراش - بكسر المهملة وآخره معجمة - أبو مريم العبسي، الكوفي، ثقة عابد مخضرم من الثانية (ت100)وقيل غير ذلك/ع (التقريب1/243وتهذيب التهذيب3/236-237والخلاصة للخزرجي 1/317).
والمغني لابن طاهر ص 20 و32.(2/22)
بن حراش عن علي بن أبي طالب قال: "خرج عبدان(1) إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم - يعني يوم الحديبية قبل الصلح فكتب إليه مواليهم، فقالوا: يا محمد والله ما خرجوا إليك رغبة في دينك، وإنما خرجوا هربا من الرق، فقال ناس: صدقوا يا رسول الله، ردهم إليهم فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: ما أراكم تنتهون يا معشر قريش حتى يبعث الله عليكم من يضرب رقابكم على هذا وأبى أن يردهم، وقال: "هم عتقاء الله عز وجل"(2).
والحديث فيه محمد بن إسحاق مدلس وقد عنعن.
ورواه الترمذي من غير طريق ابن إسحاق لكن فيه سفيان(3) بن وكيع ولفظه عن ربعي بن حراش قال أخبرنا علي بن أبي طالب بالرحبة(4) قال: لما كان يوم الحديبية خرج إلينا ناس من المشركين فيهم سهيل(5)
__________
(1) عبدان: بكسر العين وضمها وسكون الباء، جمع عبد بمعنى المملوك (عون المعبود 7/368).
(2) أبو داود: السنن 2/59 كتاب الجهاد، باب في عبيد المشركين يلحقون بالمسلمين فيسلمون.
(3) قال عنه ابن حجر في التقريب 1/312 كان صدوقا إلا أنه ابتلي بوراقه فادخل عليه ما ليس من حديثه، فنصح فلم يقبل، فسقط حديثه.
(4) الرحبة: أي: رحبة الكوفة و الرحب فضاء وفسحة بالكوفة كان علي بن أبي طالب يقعد فيها لفصل الخصومات (المباركفوري: تحفة الأحوذي 10/217).
(5) سهيل بن عمرو بن عبد شمس القرشي، أحد أشراف قريش وعقلائهم وخطبائهم وساداتهم وهو الذي أرسلته قريش يوم صلح الحديبية للتفاوض مع رسول الله صلى الله عليه وسلم.
أسلم سهيل يوم الفتح، وروى عنه انه قال: والله لا أدع موقفا وقفته مع المشركين إلا وقفت مع المسلمين مثله، ولا نفقة أنفقتها مع المشركين إلا أنفقت على المسلمين مثلها لعل أمري أن يتلو بعضه بعضا، وموقفه من أهل مكة يوم الردة مشهور. توفي سهيل رضي الله عنه بالشام في طاعون عمواس سنة (18)، وقيل استشهد باليرموك وقيل بمرج الصغر. (أسد الغابة: لابن الأثير 2/480 والإصابة لابن حجر 2/93-94) ومعجم البلدان 5/101.(2/23)
بن عمرو وأناس من رؤساء المشركين، فقالوا: يا رسول الله: خرج إليك ناس من أبنائنا وإخواننا وأرقائنا وليس لهم فقه في الدين، وإنما خرجوا فرارا من أموالنا وضياعنا(1) فارددهم إلينا فإن لم يكن لهم فقه في الدين سنفقههم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: يا معشر قريش لتنتهن أو ليبعثن الله عليكم رقابكم بالسيف على الدين، وقد امتحن الله قلوبهم(2) على الإيمان، قالوا: من هو يا رسول الله؟
فقال له أبو بكر: "من هو يا رسول الله، وقال عمر: من هو يا رسول الله؟ قال: "هو خاصف النعل، وكان أعطى عليا نعله يخصفها، قال: ثم التفت(3) إلينا علي فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار".
ثم قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح غريب، لا نعرفه إلا من هذا الوجه من حديث ربعي عن علي(4).
والحديث أخرجه البيهقي من طريق عبد الله بن يحيى الحراني ثنا محمد بن سلمة الحراني عن محمد بن إسحاق عن أبان بن صالح به. مثل لفظ أبي داود(5).
__________
(1) الضياع: جمع ضيعة وهو ما يكون منه معاش الرجل كالصنعة والتجارة والزراعة وغير ذلك (النهاية لابن الأثير 3/108).
(2) قال المباركفوري: "قد امتحن الله قلوبهم: أي اختبرها، كذا وقع في بعض النسخ بجمع الضمير وهو راجع إلى قوله: ناس من أبنائنا وإخواننا وأرقائنا ووقع في بعض النسخ (قلبه) بإفراد الضمير وهو الظاهر، والضمير راجع إلى من (يخفصها) أي يخرزها من الخصيف وهو الضم والجمع (تحفة الأحوذي 10/218).
(3) قوله: ثم التفت إلينا علي فقال: "إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من كذب علي" إلخ مقصود علي رضي الله عنه بالالتفات إليهم وذكر حديث "من كذب" على أنه قد سمع الحديث المذكور من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يكذب عليه. (المصدر السابق 10/218).
(4) الترمذي: السنن 5/297-298 كتاب المناقب، باب المناقب علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
(5) السنن الكبرى 9/229.(2/24)
قال صاحب عون المعبود: "وإنما غضب رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنهم عاضوا حكم الشرع فيهم بالظن والتخمين، وشهدوا لأوليائهم المشركين بما ادعوه أنهم خرجوا هرباً من الرق، لا رغبة في الإسلام وكان حكم الشرع فيهم، أنهم صاروا بخروجهم من ديار الحرب مستعصمين بعروة الإسلام لا يجوز ردهم إليهم، فكان معاونتهم لأوليائهم تعاوناً على العدوان(1).
155- وأخرج مسلم والنسائي وابن ماجة والبيهقي من حديث أبي الزبير(2) عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: جاء عبد فبايع النبي صلى الله عليه وسلم على الهجرة، ولم يشعر أنه عبد، فجاء سيده يريده، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : "بعنيه" فاشتراه بعبدين أسودين(3)، ثم لم يبايع أحدا بعد، حتى يسأله: "أعبد هو؟"(4). واللفظ لمسلم.
قال الشافعي - رحمه الله -: "ولو كان الإسلام يعتقه لم يشتر منه حرا، ولكنه أسلم غير خارج من بلاد منصوب عليها الحرب"(5).
وخلاصة ما تضمنه الرويات السابقة أمور:
الأول: أن من التدابير العسكرية الناجحة التي استخدمها المسلمون بتوجيه رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم:
__________
(1) عون المعبود 7/368-369.
(2) هو محمد بن مسلم بن تدرس أبو الزبير المكي.
(3) والحديث فيه جواز بيع الحيوان بالحيوان متفاضلا إذا كان يدا بيد، وهذا مما لا خلاف فيه، والخلاف في بيعه متفاضلا إذا كان نسيئة (تهذيب السنن لابن قيم الجوزية9/208-212 مع عون المعبود، وعون المعبود9/208 وتحفة الاحوذي 4/438.
(4) مسلم:الصحيح3/1225 كتاب المساقاة، باب جواز بيع الحيوان من جنسه متفاضلا. والنسائي: السنن 7/135 كتاب البيعة، باب بيعة المماليك و7/257 كتاب البيوع باب بيع الحيوان بالحيوان يدا بيد متفاضلا. وابن ماجه: السنن 2/958 كتاب الجهاد، باب البيعة. البيهقي: السنن الكبرى 9/230.
(5) المصدر السابق 9/230.(2/25)
الأمر بقطع أعناب ثقيف ونخيلهم وتحريقها إغاظة لهم وهزا لمعنوياتهم وكان في ذلك نكاية بالغة بهم، حتى طالبوا الرسول صلى الله عليه وسلم أن يدعها لله وللرحم، فلما بلغته مناشدتهم له بذلك، تركها، ولكن بعد أن أثر بدون شك في نفوس القوم وأضعف عزائمهم.
الثاني: أن الرسول صلى الله عليه وسلم حث المسلمين يومئذ على الرمي فقال: "من رمى بسهم في سبيل الله فله درجة في الجنة"، فكان في ذلك حافز قوي للمسلمين على التسابق في الرمي للفوز بدرجات عظيمة في الجنة حتى قال أحدهم: بلغت يومئذ ستة عشر سهما، وكانت تلك السهام الكثيرة، تنهال على ثقيف كالوابل الغزير فزلزل ذلك كفار ثقيف زلزالا شديدا وحصرهم في حصنهم وشل قدرتهم الدفاعية، حتى تركهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في آخر الأمر، لا لعجز عن مناجزتهم، ولكن رأى أن ثقيفا مآلها الإسلام أو الاستسلام فقد أحيطت بالمسلمين من كل مكان فلماذا يتعرض جيش المسلمين لخسائر كبيرة في حصار مدينة حصينة مآلها إلى السقوط دون أية ضحايا، طال الوقت أم قصر؟
وهل بوسع الطائف أن تقاوم طويلا وحدها بعد أن دخلت مكة في الإسلام ودانت المناطق من حولها للمسلمين؟
وكيف تصرف إنتاجها الزراعي وكيف تقوم بتجاراتها وكل مواصلاتها مقطوعة؟ وقبل ذلك كله فقد جاء في بعض الآثار أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إن الله لم يأذن لي في فتح الطائف الآن، وأنه صلى الله عليه وسلم لما قال له أحد الصحابة: "ادع الله على ثقيف، فقال: الله اهد ثقيفا و ائت بهم، فقد علم صلى الله عليه وسلم أن ثقيفا ستفيق من غفلتها وتستيقظ من سباتها وستأتي بنفسها تعلن ولاءها لرسول الله صلى الله عليه وسلم والانضمام تحت رايته وهذا الذي حصل بالفعل كما سياتي ذلك في مبحث إيفاد ثقيف.(2/26)
الثالث: ذلك النداء الموجه إلى العبيد الذين يعيشون تحت سيطرة سادات ثقيف "أيما عبد نزل من الحصن وخرج إلينا فهو حر"(1) فما أن بلغهم هذا النداء الإسلامي حتى تسابقوا إلى المسلمين واحدا بعد آخر طلبا للحرية ورغبة في الخلاص من ظلم جبابرة الجاهلية فكانت مكافأتهم على هذه التضحية من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أعتقهم وخلصهم من رق الجاهلية وأغلالها، و أسلموا وحسن إسلامهم وحسن إسلامهم وكان في ذلك إضعاف لشوكة ثقيف وخلخلة لصفوفهم من داخلها، وكان عدد العبيد الذين نزلوا من حصن الطائف ولحقوا بالمسلمين ثلاثة وعشرين عبدا(2).
__________
(1) انظر حديث (151) والطبقات الكبرى لابن سعد 2/158-159.
(2) انظر حديث رقم (144).(2/27)
المبحث الثالث: عدد القتلى من الفريقين في غزوة الطائف
كان الجيش الإسلامي قد عسكر قريبا من حصن الطائف فأخذت ثقيف تقذف المسلمين بالنبال مما أدى إلى حدوث خسائر في صفوف المسلمين، فاضطر المسلمون إلى الانسحاب بعيدا عن مرمى النبال، ضرب المسلمون حصارهم الشديد على أهل الطائف فترة من الزمن (1)، غير أن هذا الحصار لم يفت في عضد ثقيف حتى تستسلم، ذلك أن ثقيفاً قد استعدت قبل ذلك وأدخلت داخل حصنها ما يكفيها من الأقوات لمدة سنة، ولما طال مقام المسلمين في هذا الحصار حاولوا الهجوم على حصن الطائف ودك أسوار المدينة، فدخل نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت دبابة خشبية مغشاة بالجلود وزحفوا بها إلى جدار الطائف ليخرقوه، فأرسلت ثقيف على تلك الدبابة سكك الحديد محماة بالنار، فأحرقتها فانسحب المسلمون المحتمون بها من تحتها لئلا يحترقوا، فرمتهم ثقيف بالنبل بعد انكشافهم من حماية الدبابة، فقتلوا رجالا من المسلمين ممن كتب الله لهم الشهادة في سبيله.
وفيما يلي الآثار الواردة في ذلك:
156- روى النسائي أخبرنا إسحاق(2) بن إبراهيم قال: أنبأنا وكيع قال: حدثنا سعيد(3) بن السائب عن رجل يقال له: عبيد الله(4)
__________
(1) تقدم ذلك مبينا في مبحث حصار الطائف ص 278.
(2) إسحاق بن إبراهيم هو ابن راهويه، ووكيع: هو ابن الجراح.
(3) سعيد بن السائب بن يسار الثقفي تقدم في حديث (90) ثقة، عابد.
(4) عبيد الله بن معية - مصغرا، ويقال: عبد الله مكبرا، ويقال: عبيد بدون إضافة، من الثانية، حديثه مرسل / س (التقريب 1/453 وتهذيب التهذيب 6/41 وقال: قال ابن أبي حاتم عن أبيه: أدرك الجاهلية، وقال غيره ولد على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، روى عنه إبراهيم بن ميسرة وأثنى عليه أخيرا، وسعيد بن السائب.
قال صالح بن أحمد عن أبيه: "عبيد الله بن معية ليس بمشهور بالعلم"، قال ابن أبي حاتم: "فذكرته لأبي فقال: هو كما قال".
ثم قال ابن حجر: "وقع اسمه في سنن النسائي عبد الله مكبرا، وكذلك ذكره المؤلف هاهنا، وأما البخاري ويعقوب بن سفيان وغير واحد ممن بعدهم، فذكروا في عبيد الله مصغرا، قلت: في سنن النسائي الموجودة بأيدينا (عبيد الله مصغرا) وفي الإصابة 2/441 قال: عبيد الله بن معية - بفتح أوله وكسر ثانية وتشديد الياء التحتانية السوائي العامري من أهل الطائف، قال ابن السكن له صحبة ورواية، ويقال: إنه أدرك الجاهلية، وقال ابن منده: له صحبة، وقال أبو عمر: يقال: إنه شهد الطائف، وأخرج النسائي والبغوي من طريق وكيع عن سعيد بن السائب سمعت شيخاً من بني عامر أحد بني سواءة يقال له عبيد الله بن معية قال أصيب رجلان من المسلمين "الحديث"" (انظر الجرح والتعديل: لابن أبي حاتم 5/333، وتاريخ الفسوي 3/383 والاستيعاب 2/435، وأسد الغابة 3/398 و533 والبخاري: التاريخ الكبير 5/373 وقال: أردك الجاهلية، عن النبي صلى الله عليه وسلم.(3/1)
بن معية قال: "أصيب رجلان من المسلمين يوم الطائف فحملا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمر أن يدفنا حيث أصيبا، وكان ابن معية ولد على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم(1).
ورواه ابن سعد فقال: أخبرنا وكيع بن الجراح وحميد(2) بن عبد الرحمن الرواسي عن سعيد بن السائب الطائفي قال: سمعت شيخنا من بني سواءة أحد بني عامر بن صعصعة يقال له: عبيد الله بن معية.
قال وكيع في حديثه: "وكان ولد على عهد النبي صلى الله عليه وسلم أو قريبا من ذلك، وقال حميد: وكان قد أدرك الجاهلية، قال: قتل رجلان من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عند باب بني سالم(3) من الطّائف يوم الطّائف، فحملا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبلغه ذلك فبعث أن يدفنا حيث أصيبا أو حيث لقيا، فدفنا فيما بين مقتلهما وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقبرا حيث لقيا"(4).
ورواه ابن أبي شيبة فقال: حدثنا وكيع عن سعيد بن السائب به"(5).
والحديث فيه عبيد الله بن معية وقد ذكره ابن سكن وابن منده في الصحابة، وقال ابن عبد البر: "يقال: إنه شهد الطائف، ثم أورد له هذا الحديث وعلى هذا فيكون الحديث متصلا".
لكن ابن حجر: "ذكر التقريب بأن عبيد الله من الثانية وأن حديثه مرسل فالله أعلم"(6).
__________
(1) السنن 4/65 كتاب الجنائز، باب أين يدفن الشهيد.
(2) حميد بن عبد الرحمن الرؤاسي - بضم الراء بعدها همزة خفيفة - أبو عوف الكوفي، ثقة من الثامنة، (ت 189 أو 190 وقيل بعدها ) / ع (التقريب 1/203 وتهذيب التهذيب 3/44).
(3) بنو سالم بطن من ثقيف سكن واد من روافد لية الجنوبية. معجم قبائل الحجاز للبلادي ص 196.
(4) الطبقات الكبرى 5/517.
(5) تاريخ ابن أبي شيبة ص 86 و87.أ رقم 665.
(6) الاستيعاب 2/331 و435 و439 وأسد الغابة 3/398و533و548 وتهذيب التهذيب 6/41 والتقريب 1/453 والإصابة2/441).(3/2)
ما رواه ابن سعد: أخبرنا عمرو(1) بن عاصم الكلابي، أخبرنا أبو الأشهب(2) أخبرنا الحسن(3) قال: حاصر رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - أهل الطائف، قال فرمى رجل(4) من فوق سورها فقتل"(5) والحديث إسناده حسن وهو مرسل.
ما رواه البيهقي عن عروة بن الزبير في حصار الطائف، فحاصرهم بضع عشرة ليلة، وقاتلته ثقيف بالنبل و الحجارة، وهم في حصن الطائف وكثرت القتلى في المسلمين، وفي ثقيف" الحديث(6).
والحديث مرسل، وفيه محمد(7) بن عمرو بن خالد أبو علاثة.
__________
(1) عمرو بن عاصم بن عبيد الله الكلابي، صدوق تقدم في حديث (71).
(2) هو جعفر بن حيان - بمفتوحة وشدة مثناة تحت - السعدي، أبو الأشهب العطاردي - بضم العين وفتح الطاء المهملتين، وبعد الألف راء ودال مهملتان مكسورتان - البصري، مشهور بكنيته، ثقة من السادسة(ت165)/ع (التقريب1/130وتهذيب التهذيب2/88واللباب في تهذيب الأنساب2/345،والمغني لمحمد طاهر الهندي ص 25 و57).
(3) هو الحسن بن أبي الحسن البصري، الأنصاري مولاهم ثقة فقيه فاضل مشهور وكان يرسل كثيرا و يدلس، وهو رأس أهل الطبقة الثالثة (ت110) / ع (التقريب 1/165 وتهذيب التهذيب 2/263).
(4) وعند الواقدي 3/930: أن رجلا من المسلمين من مزينة رمى أبا محجن الثقفي، فلم يصنع شيئا، فرماه أبو محجن فقتله.
(5) الطبقات الكبرى لابن سعد2/159 وسيأتي سياق الحديث تاما مع الحكم عليه برقم (167).
(6) السنن الكبرى 9/84. وتقدم برقم (137).
(7) لم أجد ترجمته.(3/3)
ما أخرجه ابن إسحاق قال: "حدثني عمرو بن شعيب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما سار إلى الطائف نزل قريبا من حصن الطائف فضرب به عسكره فقتل ناس من أصحابه بالنبل، وذلك أن العسكر اقترب من حصن طائف، فكانت النبل تنالهم" الحديث وفيه أيضا: "حتى إذا كان يوم الشدخة عند جدار الطائف دخل نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت دبابة ثم زحفوا بها إلى جدار الطائف ليخرقوه، فأرسلت عليهم ثقيف سكك الحديدة محماة بالنار، فخرجوا من تحتها، فرمتهم ثقيف بالنبل فقتلوا منهم رجالا"(1).
وقد ورد تسميتهم عند ابن إسحاق فقال:
157- وهذه تسمية من استشهد من المسلمين مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الطائف: من قريش، ثم من بني أمية بن عبد شمس: سعيد(2) بن سعيد بن العاص بن أمية وعرفطة(3)بن جناب، حليف لهم، من الأسد(4)بن الغوث.
__________
(1) سيرة ابن هشام 2/482-483، ودلائل النبوة للبيهقي 3/48أ وقد تقدم الحديث بتمامه مع الحكم عليه برقم (133).
(2) هو ابن عبد شمس القرشي أخو أبان وخالد وعمرو أولاد أبي أحيحة، كان إسلامه قل فتح مكة بيسير، استعمله النبي صلى الله عليه وسلم يوم الفتح على سوق مكة، فلما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الطائف خرج معه، فاستشهد يومئذ.
(3) عرفطة - بضم المهملة وسكون الراء وضم الفاء وطاء مهملة - ابن جناب بجيم ونون خفيفة الأزدي، وعند ابن هشام وموسى بن عقبة ابن (حباب) بضم المهملة وخفة الموحدة - وهو حليف بني أمية بن عبد شمس بن عبد مناف.
(4) وهو الأزد بن الغوث بن نبت بن مالك بن زيد بن كهلان بن سبأ، ويقال فيه: أسد بالسين الساكنة.(3/4)
ومن بني تيم بن مرة: عبد الله(1) بن أبي بكر الصديق، رمى بسهم، فمات منه بالمدينة، بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم.
ومن بني مخزوم: عبد الله(2)
__________
(1) هو شقيق أسماء بنت أبي بكر، ثبت ذكره في صحيح البخاري في قصة الهجرة عن عائشة قالت: وكان عبد الله بن أبي بكر يأتيهما بأخبار قريش وهو غلام شاب فطن فكان يبيت عندهما ويخرج من السحر فيصبح مع قريش وقال ابن عبد البر: وكان إسلامه قديما ولم يسمع له بمشهد إلا شهوده الفتح وحنينا والطائف فرماه أبو محجن الثقفي بسهم فدمل جرحه حتى انتقض به فمات منه في أول خلافة أبيه وذلك سنة إحدى عشرة فيما ذكر الواقدي (انظر: الاستيعاب 2/8 و2/258 و3/155 وأسد الغابة2/390 و3/188 و299 و4/25 والإصابة:2/47 و283 و475 وشرح المواهب اللدنية 3/30).
(2) عبد الله بن أبي أمية بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم المخزومي القرشي أخو أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم من أبيها وابن عمة رسول الله عاتكة بنت عبد المطلب، كان أبوه من أجواد قريش، وكان عبد الله ابن أبي أمية شديدا على المسلمين، وهو الذي قال للنبي صلى الله عليه وسلم {وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنْبُوعاً أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الأَنْهَارَ خِلالَهَا تَفْجِيراً}. [سورة الإسراء، الآيتان: 90-91].
ثم هداه الله للإسلام فهاجر هو وأبو سفيان بن الحارث ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم قبيل الفتح فلقيا رسول الله صلى الله عليه وسلم بطرف مكة فالتمسا الدخول عليه صلى الله عليه وسلم فمنعهما، فكلمته أم سلمة فيهما، فقالت: يا رسول الله، ابن عمك - تعني أبا سفيان، وابن عمتك وصهرك - تعني عبد الله -، فقال: لا حاجة لي بهما، أما ابن عمي فهتك عرضي، وأما ابن عمتي فقال لي بمكة ما قال، ثم أذن لهما، فدخلا عليه، فأسلما، وحسن إسلامهما، وشهد عبد الله مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فتح مكة مسلما وحنينا والطائف ورمي من الطائف بسهم فقتله، ومات يومئذ.
له ذكر في الصحيحين من طريق زينب بنت أبي سلمة عن أمها أم سلمة قالت: دخل علي النبي صلى الله عليه وسلم وعندي مخنث فسمعه يقول: لعبد الله بن أبي أمية، إن فتح الله عليكم الطائف غدا فعليك بابنة غيلان، فإنها تقبل بأربع وتدبر بثمان، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا يدخل هؤلاء عليكن" الحديث انظر رقم (241) (الاستيعاب 2/262، وأسد الغابة 3/177 والإصابة 2/277، وشرح المواهب اللدنية 3/30).(3/5)
بن أبي أمية بن المغيرة، من رمية رميها يومئذ.
ومن بني عدي بن كعب:عبد الله(1)بن عامر بن ربيعة حليف لهم.
ومن بنى سهم بن عمرو: السائب(2) بن الحارث بن قيس بن عدي، وأخوه عبد الله بن الحارث.
__________
(1) عبد الله بن عامر بن ربيعة بن مالك بن عامر العنزي - بسكون النون - حليف بني عدي بن كعب، ثم حليف الخطاب والد عمر بن الخطاب، وهو من عنز بن وائل، أخي بكر بن وائل، القبيلة المشهورة من ربيعة ابن نزار.
وقيل: هو من مذحج من اليمن، وعبد الله هذا هو الأكبر صحب هو وأبوه رسول الله صلى الله عليه وسلم، واستشهد يوم الطائف وهو مع رسول الله وله أخ يقال له: عبد الله بن عامر وهو الأصغر له رؤية قيل توفي رسول الله و له أربع سنين، وقيل خمس سنين.
(2) السائب بن الحارث بن قيس بن عدي (وقال ابن إسحاق والواقدي: ابن عدي بن سعيد بدل (سعد) بن سهم القرشي السهمي، أحد السابقين إلى الإسلام هاجر إلى الحبشة هو وأخوه عبد الله بن الحارث واستشهد هو وأخوه عبد الله بالطائف فيما ذكره ابن إسحاق و الواقدي والزبير بن بكار وجماعة.
وذكر موسى بن عقبة ومعمر بن راشد عن الزهري أن السائب جرح يوم الطائف وأنه عاش بعد ذلك إلى أن استشهد بالأردن يوم فحل - بكسر الفاء وسكون الحاء - في ذي القعدة سنة ثلاث عشرة أول خلافة عمر بن الخطّاب، وقال ابن الكلبي: كانت وقعة فحل سنة أربع عشرة.
وأما عبد الله بن الحارث فذكر ابن إسحاق والزبير بن بكار أنه استشهد يوم الطائف وقيل: إنه قتل يوم اليمامة شهيدا هو وأخوه أبو قيس، وقد انقرض بنو الحارث بن قيس بن عدي (الاستيعاب 2/102 و279 و357 وأسد الغابة 2/312 و3/206 و286 والإصابة 2/ 8 و292 و329.(3/6)
ومن بني سعد بن ليث: حجيلة(1) بن عبد الله.
واستشهد من الأنصار: من بني سلمة: ثابت(2) بن الْجَذَع.
ومن بني مازن بن النجار: الحرث(3) بن سهل بن صعصعة.
ومن بني ساعدة: المنذر(4) بن عبد الله.
__________
(1) جليحة - بضم الجيم وفتح اللام وسكون التحتانية وحاء مهملة - ابن عبد الله بن محارب بن ناشب بن غيرة- بكسر الغين المعجمة، وفتح الياء تحتها نقطتان، ثم راء وهاء - ابن سعد بن ليث بن بكر بن عبد مناة بن كنانة بن خزيمة، والليثي، ذكره ابن إسحاق والواقدي فيمن استشهد بالطائف وهو مع رسول الله. وقيل: في جده "الحارث" بدل (محارب).
(2) ثابت بن الجذع - بفتح المعجمة وبالمهملة - واسم الجذع: ثعلبة ابن زيد بن الحارث ابن حرام - بفتح الحاء المهملة وبالراء - ابن كعب بن غنم بن كعب بن سلمة - بكسر اللام، السلمي شهد العقبة وبدراً والمشاهد كلها، وقتل يوم الطائف شهيدا.
(3) الحارث بن سهل بن أبي صعصعة الأنصاري من مازن بن النجار استشهد يوم الطائف، لا تعرف له رواية، قال ابن الأثير: "هكذا الحارث بن سهل ذكره يونس ابن بكير، وزياد البكائي، وسلمة الأبرش الجميع عن ابن إسحاق، وقال أبو جعفر النفيلي عبد الله بن محمد عن محمد بن سلمة الباهلي عن ابن إسحاق: حباب بن سهل بدل (الحارث)".
وقال ابن حجر: "ويحتمل أن يكونا أخوين"، (الاستيعاب 1/190و307، وأسد الغابة 1/ 265 و348 و396 والإصابة1/190 و242 و280 وشرح المواهب اللدنية 3/30).
(4) المنذر بن عبد الله بن قوال بن وقش بن ثعلبة بن طريف بن الخزرج بن ساعدة الأنصاري الخزرجي الساعدي، ذكره ابن إسحاق والواقدي، فيمن استشهد يوم الطائف، لكن عند الواقدي المنذر بن عبد بدون إضافة، وسمى ابن عبد البر: أباه عبادا ثم أعاده في المنذر بن عبد الله، ثم قال: هو المنذر بن عباد فيما أظن.(3/7)
ومن الأوس: رُقَيم(1) بن ثابت بن ثعلبة بن زيد بن لوذان بن معاوية.
فجميع من استشهد بالطائف من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم اثنا عشر رجلا:
سبعة(2) من قريش، وأربعة(3) من الأنصار، ورجل(4) من بني
ليث(5) هكذا ساقه ابن إسحاق بدون إسناد.
__________
(1) رقيم- بضم الراء وفتح القاف، ولوذان: بضم اللام وسكون الواو وذال معجمة- أبو ثابت الأنصاري، الأوسي، كذا نسبه أبو نعيم وابن منده.
وقال الكلبي بعد ثعلبة: "ابن أكال بن الحارث بن أمية بن معاوية بن مالك بن عوف، استشهد يوم الطائف في قول ابن إسحاق وعروة وموسى بن عقبة وابن الكلبي وابن شهاب".
وذكره الواقدي: فيمن استشهد في حنين (الاستيعاب 2/533 و3/460) وأسد الغابة 2/235 و5/268 والإصابة 2/520 و3/460 وشرح المواهب اللدنية 3/24 و30. وفي مجمع الزوائد 6/190 (رقيب) بالباء الموحدة، والصواب (رقيم) بالميم.
(2) هم: سعيد بن سعيد بن العاص، وعرفطة بن جناب، وعبد الله بن أبي بكر وعبد الله ابن أبي أمية، وعبد الله بن عامر، والسائب بن الحارث وأخوه عبد الله بن الحارث بما فيهم حلفاؤهم.
(3) هم: الحارث بن سهل، والمنذر بن عبد الله، ورقيم بن ثابت وثابت بن الجذع.
(4) هو: جليحة بن عبد الله، وقد تقدم بيان ذلك.
(5) سيرة ابن هشام 2/486-487 وتاريخ خليفة ص 90-92 وتاريخ الطبري 3/85 وجوامع السيرة لابن حزم ص 243-244 والروض الأنف 7/239 والبداية والنهاية 4/351 وتاريخ الخميس 2/112 والسيرة الحلبية 3/78 وشرح المواهب 3/30، ومغازي الواقدي 3/922 و938 إلا أنه جعل. (يزيد بن زمعة بن الأسود) بدل (رقيم بن ثابت) أما ابن إسحاق فذكر يزيد من شهداء حنين، وانظر مجمع الزوائد 6/190.(3/8)
158- وممن أصيب في هذه الغزوة أبو سفيان بن حرب فقد فقئت عينه، وذلك فيما رواه ابن الزبير بن بكار عن سعيد(1) بن عبيد الثقفي قال: "رميت أبا سفيان يوم الطائف فأصبت عينه، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: هذه عيني أصيبت في سبيل الله، فقال: "إن شئت دعوت الله فردت عليك وإن شئت فالجنة، فقال: الجنة"(2). وأخرجه ابن عساكر من طريق سعيد بن عبيد ربه.
ولفظه: "قال رأيت أبا سفيان بن حرب يوم الطائف قاعدا في حائط أبي يعلى يأكل فرميته فأصبت عينه، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله هذه عيني أصيبت في سبيل الله"الحديث (3).
وأورده السيوطي فقال: أخرج الزبير بن بكار وابن عساكر من طرق عن سعيد بن عبيد الثقفي، ثم ساق هذا الحديث(4).
قال الزرقاني: "وفي هذا قوة إيمان أبي سفيان وثبات يقينه بعدما كان من المؤلفة"(5).
وقد جاء عند ابن مندة خلاف هذا، وذلك أنه جعل أبا سفيان بن حرب هو الذي رمى سعيد بن عبيد ففقأ عينه.
قال ابن حجر: "روى ابن مندة من طريق إسماعيل بن طريح حدثني أبي عن جدي أن أبا سفيان رمى سعيد بن عبيد جده يوم الطائف بسهم فأصاب عينه فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "يا رسول الله إن هذه عيني أصيبت في سبيل الله، فقال: إن شئت دعوت الله فرد عليك عينك، و إن شئت فعين في الجنة، قال: عين في الجنة".
ثم قال ابن مندة: "وهذا غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه".
__________
(1) سعيد بن عبيد بن أبي أسيد بن علاج بن أبي سلمة بن عبد العزى بن غيرة بن عوف ابن ثقيف الثقفي جد إسماعيل بن طريح الشاعر، (الإصابة 2/49).
(2) الإصابة 2/179 وشرح المواهب 3/33-34 والسيرة الحلبية 3/77.
(3) كنْز العمال 10/262 ومنتخب كنز العمال 4/172 مع المسند.
(4) الخصائص الكبرى 2/92.
(5) شرح المواهب اللدنية 3/34.(3/9)
قال ابن حجر: "قلت: فيه لفظة منكرة، فإن أبا سفيان في حصار الطائف كان مسلما فكيف يرمي سعيدا إن كان سعيدا مسلما، وأظن الصواب: أن أبا سفيان رماه سعيد".
ويؤيد ذلك ما أخرجه الزبير بن بكار من هذا الوجه فقال عن سعيد بن عبيد قال: رأيت أبا سفيان يوم الطائف قاعدا في حائط يأكل فرميته فأصبت عينه، فذكر الحديث.
وروى ابن عائذ(1) عن الوليد(2) عن سعيد(3) بن عبد العزيز أن عين أبي سفيان أصيبت يوم الطائف.
__________
(1) هو محمد بن عائذ تقدم في ص 414.
(2) الوليد: هو ابن مسلم القرشي الدمشقي ثقة، لكنه كثير التدليس والتسوية تقدم في حديث (118).
(3) سعيد بن عبد العزيز التنوخي - بفتح التاء وضم النون المخففة - الدمشقي ثقة إمام، سواه أحمد بالأوزاعي وقدمه أبو مسهر على الأوزاعي، ولكنه اختلط في آخر عمره، من السابعة (ت 167) وقيل بعدها / خ م ع التقريب 1/301 وتهذيب التهذيب 4/59).(3/10)
159- وروى أبو الفرج(1) الأصبهاني من طريق أسامة(2) بن زيد الليثي عن القاسم(3) بن محمد قال: لم يزل السهم الذي أصاب عبد الله بن أبي بكر عند أبي بكر حتى قدم وفد الطائف فأراهم إياه فقال سعيد بن عبيد: هذا سهمي أنا بريته وأنا رميت به، فقال أبو بكر: الحمد لله الذي أكرمه بيدك ولم يهنك بيده(4).
ثم قال ابن حجر: "وله طريق أخرى في ترجمة عبد الله بن أبي بكر، فثبتت بذلك صحبة سعيد بن عبيد، وتحررت الرواية الأولى، ولله الحمد"(5).
وفي الصحيحين وغيرهما أن المسلمين في حصار الطائف قاتلوا ثقيفا قتالا شديدا حتى كثرت الجراحات في المسلمين (6).
__________
(1) هو علي بن الحسين بن محمد أبو الفرج الأصبهاني الأموي، صاحب كتاب الأغاني، قال الذهبي: شيعي، وهذا نادر في أموي، كان إليه المنتهى في معرفة الأخبار وأيام الناس، والشعر والغناء والمحاضرات يأتي بأعاجيب بحدثنا وأخبرنا، وكان طلبه في حدود الثلاثمائة فكتب ما لا يوصف كثرة حتّى لقد اتهم. والظاهر أنه صدوق (284-356) ميزان الاعتدال 3/123، وانظر تاريخ بغداد للخطيب البغدادي 11/398 ولسان الميزان لابن حجر 4/221).
(2) أسامة ابن زيد الليثي مولاهم، أبو زيد المدني، صدوق يهم، من السابعة (ت 153) خت م ع (التقريب 1/53 وتهذيب التهذيب 1/208-210).
(3) القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق التيمي، ثقة أحد الفقهاء بالمدينة قال أبو أيوب: ما رأيت أفضل منه، من كبار الثالثة (106) على الصحيح / ع (التقريب 2/120 وتهذيب التهذيب 8/333).
(4) عند الواقدي في المغازي 3/930: أن الذي رمى عبد الله بن أبي بكر هو أبو محجن الثقفي، وانظر السنن الكبرى للبيهقي 9/98.
(5) ابن حجر: الإصابة 2/49-50 و179، و283، وانظر كنز العمال 10/361 ومنتخب كنز العمال 4/172 مع المسند.
(6) سيأتي تخريج الحديث برقم (169).(3/11)
فهذا الحديث صريح في أن المسلمين نالهم في هذا الحصار جراحات شديدة، وقد قتل بعضهم كما ورد ذلك في كتب التواريخ وغيرها، وقد تقدم بيان ذلك وهذا ما يتعلق بإصابة المسلمين في هذه الغزوة.
وأما ما يتعلق بإصابات المشركين في الأرواح وغيرها، فقد تقدم في حديث عروة بن الزبير قوله: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حاصر الطائف بضع عشرة ليلة، وقاتلته ثقيف بالنبل و الحجارة وهم في حصن الطائف، وكثرت القتلى في المسلمين، وفي ثقيف"(1).
فهذا الأثر صريح في أن القتل كثر في المشركين أيضا، غير أن المصادر الموجودة بأيدينا لم تنص إلا على ثلاثة فقط وفيما يلي ما ذكره العلماء في هذا الصدد:
160- أخرج أبو داود في كتاب المراسيل عن عكرمة قال: لما حاصر رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل الطائف أشرفت امرأة فكشفت قبلها فقالت: هادونكم فارموا فرماها رجل من المسلمين فما أخطأ ذلك منها.
وفي رواية "فما أخطأ أن قتلها، فأمر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم أن توارى"(2).
وعند الواقدي: "أن أهل الطائف أخرجوا امرأة ساحرة، فاستقبلت الجيش بعورتها وذلك حين نزل النبي صلى الله عليه وسلم يدفعون بذلك عن حصنهم"(3).
فلعل هذه المرأة الساحرة هي الواردة في حديث عكرمة.
161- ما أخرجه الواقدي أن يزيد(4) بن زمعة بن الأسود خرج على فرس له فسأل ثقيفا الأمان يريد يكلمهم، فأعطوه الأمان، فلما دنا منهم رموه بالنبل فقتلوه.
__________
(1) انظر الحديث رقم (137).
(2) أبو داود: كتاب المراسيل ص 37.
(3) مغازي الواقدي 3/926.
(4) هذا على قول الواقدي أن يزيد استشهد في الطائف وذكره ابن إسحاق فيمن استشهد في حنين.(3/12)
وخرج هذيل بن أبي الصلت أخو أمية(1) بن أبي الصلت من باب الحصن، ولا يرى عنده أحدا، ويقال: إن يعقوب(2) بن زمعة كمن له فأسره حتى أتى به النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "قاتل أخي يا رسول الله ! فسر رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أتى به إليه، فأمكنه النبي صلى الله عليه وسلم فضرب عنقه"(3).
162- ما أخرجه الواقدي أيضا: "أن رجلا من المشركين كان يقوم على حصن الطائف فيقول: "روحوا رعاء الشاء! روحوا جلابيب محمد!"(4).
أترون نتباءس على أحبل(5) أصبتموها من كرومنا؟
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اللهم روح مروحا إلى النار".
قال سعيد بن أبي وقاص: "فأهوى له بسهم فوقع في نحره، وهوى من الحصن ميتا، قال: فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم قد سر بذلك"(6).
__________
(1) هو أمية بن أبي الصلت الثقفي الشاعر المشهور، وهو الذي صدقه النبي صلى الله عليه وسلم في شعره حيث قال: قد كاد أمية أن يسلم قال ابن حجر:"لم يختلف أصحاب الأخبار أنه مات كافرا، وصح أنه عاش حتى رثى أهل بدر" (الإصابة 1/129).
(2) يعقوب بن زمعة الأسدي (الإصابة 3/668).
(3) مغازي الواقدي 3/926.
(4) جلابيب: لقب من كان أسلم من المهاجرين، لقبهم بذلك المشركون، وأصل الجلابيب الأزر الغلاظ كانوا يلتحفون بها، فلقبوهم بذلك (لسان العرب 1/265-266).
(5) أحبل: جمع حبلة - بفتح الحاء والباء- وهي الأصل أو القضيب من شجر الأعناب، والكروم: العنب (ابن الأثير: النهاية 1/334).
(6) مغازي الواقدي 3/929-930.(3/13)
هذا ما ذكرته المصادر عن قتلى المشركين، وقد ظهر من النصوص السابقة أن هذه الغزوة كانت من المواقع الشديدة بين المسلمين والمشركين، وقد أصيب المسلمون فيها بجراحات شديدة واستشهد عدد من الصحابة وقد وقع لثقيف المحاصرة قتل في الأرواح وحرق لثمارهم واشتد بأس المسلمين عليهم، واستمر حصارهم مدة من الزمن غير يسيرة(1)، وعلى الرغم من ذلك كله لم تلن قناة المشركين من ثقيف ولم يستسلموا حتى تركهم المسلمون على ما هم عليه من عدم استسلامهم للمسلمين كما سنوضح ذلك في المبحث الآتي:
المبحث الرابع: فك الحصار عن الطائف و العودة إلى الجعرانة
كانت مدة حصار الطائف تتراوح ما بين بضعة عشر يوما إلى أربعين يوما كما مر توضيح ذلك(2).
وفي أثناء هذا الحصار كانت المفاوضة مستمرة بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين أهل الطائف.
__________
(1) تقدم الخلاف في مدة الحصار في مبحث (حصار الطائف) (278).
(2) في مبحث حصار الطائف. (278).(3/14)
163- فقد روى ابن عساكر(1) عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما - قال: لقد بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الطائف حنظلة(2) بن الربيع إلى أهل الطائف فكلمهم فاحتملوه ليدخلوه حصنهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من لهؤلاء وله مثل أجر غزاتنا هذه"، فلم يقم إلا العباس بن عبد المطلب حتى أدركه في أيديهم قد كادوا أن يدخلوه الحصن فاحتضنه العباس، وكان رجلاً شديداً، فاختطفه من أيديهم وأمطروا على العباس الحجارة من الحصن، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يدعو له حتى انتهى به إلى النبي صلى الله عليه وسلم (3).
وذكر ابن الأثير وابن حجر عن يونس بن بكير عن ابن إسحاق أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث حنظلة بن الربيع إلى أهل الطائف يقول لهم أتريدون الصلح أم لا؟(4).
وعند ابن إسحاق أيضا من حديث عمرو بن شعيب قال: وتقدم أبو سفيان بن حرب و المغيرة بن شعبة إلى الطائف فناديا ثقيفاً:
__________
(1) ابن عساكر: هو الإمام الحافظ الكبير محدث الشام فخر الأئمة ثقة الدين أبو القاسم علي بن الحسن بن هبة الله الدمشقي الشافعي صاحب التصانيف (التاريخ الكبير) (499-571) (تذكرة الحفاظ للذهبي 4/1328و1333).
(2) حنظلة بن الربيع بن صيفي - بفتح المهملة بعدها تحتانية ساكنة - التميمي الأسيدي - بضم الهمزة وفتح السين المهملة وكسر المثناة التحتنية المشددة - أبو ربعي المعروف بحنظلة الكاتب لأنه ممن كتب الوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ابن أخي أكثم بن صيفي حكيم العرب، وهو القائل لأبي بكر الصديق نافق حنظلة (مات بعد علي معتزلا للفتنة) (أسد الغابة 2/65، واللباب 1/61 كلاهما لابن الأثير وتهذيب التهذيب 3/60 والإصابة 1/359 والتقريب 1/206 كلها لابن حجر).
(3) كنْز العمال 10/361-362 ومنتخب كنز العمال 4/172 مع مسند أحمد كلاهما لعلاء الدين المتقي الهندي.
(4) أسد الغابة 2/65 والإصابة 1/359 وتهذيب التهذيب 3/60.(3/15)
أن أمنونا(1) حتى نكلمكم فأمنوهما، فدعوا نساء من نساء قريش وبني كنانة ليخرجن إليهما، وهما(2) يخافان عليهن السباء، فأبين، منهن(3): أمنة(4) بنت أبي سفيان، كانت عند عروة بن مسعود، له منها داود بن عروة، والفراسية بنت سويد بن عمرو بن ثعلبة(5)، لها عبد الرحمن(6) بن قارب.
والفقمية(7) أميمة بنت الناسئ(8)
__________
(1) وعند الوقدي: 3/929 فقالا: أمنوا حتى نتكلم.
(2) وعند الواقدي: "وهم يخافون السباء".
(3) وعند الواقدي: منهم ابنة أبي سفيان بن حرب".
(4) قال ابن هشام: "ويقال إن أم داود ميمونة بنت أبي سفيان، وكانت عند أبي مرة بن عروة بن مسعود فولدت له داود بن أبي مرة"، وكذا سماها ابن سعد وقال ابن حجر: "آمنة بنت أبي سفيان بن حرب بن أمية، ذكرها ابن إسحاق في غزوة الطائف وهي: أميمة بالتصغير، وكانت تحت صفوان بن أمية" (سيرة ابن هشام 2/483 والطبقات الكبرى لابن سعد 8/240، والإصابة لابن حجر 4/225 و241 و358).
(5) عند الواقدي: كانت عند قارب بن الأسود، لها منه عبد الرحمن بن قارب.
(6) عبد الرحمن بن قارب بن الأسود الثقفي، تابعي أرسل حديثا فذكره بعضهم في الصحابة. وأخرج من طريق أبي أوبيس عن إسحاق عن عبد الله بن مكرم عن عبد الرحمن بن قارب في قصة وفد ثقيف.
قال البخاري وأبو حاتم: "هو مرسل".
قال ابن حجر: "قلت: وقد تقدم في الربيع بن قارب أنه وفد على النبي صلى الله عليه وسلم فحمله على ناقة وكساه برداء وسماه عبد الرحمن، فإن يكن هو هذا فالحكم على أن حديثه مرسل، وأنه تابعي مردود وإن يكن غيره فلا إشكال، ويريد بالمغايرة أن هذا ثقفي، وهذا عبسي، والله أعلم" (الإصابة 1/505 و2/418 و3/154).
(7) وعند الواقدي: وامرأة أخرى، ولم يسمها.
(8) النسيء: التأخير من تأخير الشهور بعضها إلى بعض:
قال ابن إسحاق: "وكان أول من نسأ الشهور على العرب، فأحلت منها ما أحل، وحرمت منها ما حرم - القلمس وهو حذيفة بن عبد بن فقيم بن عدي بن عامر ابن ثعلبة بن الحارث بن مالك بن كنانة بن خزيمة، ثم قام بعده على ذلك ابنه عباد ابن حذيفة، ثم قام بعد عباد: قلع بن عباد، ثم قام بعد قلع أمية بن قلع، ثم قام بعد أمية: عوف بن أمية، ثم قام بعد عوف: أبو ثمامة جنادة بن عوف، وكان آخرهم وعليه قام الإسلام، وكانت العرب إذا فرغت من حجها اجتمعت إليه، فحرم الأشهر الأربعة: رجب وذا القعدة و ذا الحجة، والمحرم فإذا أراد أن يحل منها المحرم فأحلوه، وحرم مكانه صفر فحرموه إلخ" (سيرة ابن هشام 1/44).
وأبو ثمامة هذا ذكره ابن حجر في الإصابة ونقل عن السهيلي أنه وجد له خبرا يدل على إسلامه (الإصابة 1/246-247 و4/30 و1/67 بناء على أنه قيل في اسمه أمية ذكره في القسم الأول.(3/16)
أمية بن قلع، فلما أبين عليهما قال لهما ابن الأسود بن مسعود: "يا أبا سفيان ويا مغيرة، ألا أدلكما على خير مما جئتما له، إن مال بني الأسود بن مسعود حيث علمتما وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم بينه و بين الطائف نازلا بواد يقال له العقيق"(1)
__________
(1) في القاموس المحيط 3/266: العقيق موضع بالمدينة، وباليمامة وبالطائف وبتهامة وبنجد، وستة مواضع أخر وعند الواقدي: بواد يقال له العمق.
قال ياقوت: "عمق - بفتح أوله وسكون ثانيه، وآخره قاف - واد من أودية الطائف نزله رسول الله صلى الله عليه وسلم لما حاصر الطائف، وفيه بئر ليس بالطائف أطول رشاء منه (معجم البلدان 4/156).
وقال البلادي في معجم المعالم الجغرافية ص 213-214 و216: "إذا كان يقصد نزول رسول الله صلى الله عليه وسلم أثناء حصار الطائف فإنه لم يكن بالعقيق، وإنما كان بين الطائف ووج، والطائف أنذاك كان إلى الجنوب مما يعرف اليوم بباب الربع إلى جنوب غربي مسجد ابن عباس.
وقد نصت نصوص كثيرة على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان نازلا في موضع مسجد عبدالله بن عباس اليوم، أما العقيق فواد إلى الشمال من الطائف، ويعرف بعقيق الطائف، وهو اليوم داخل فيها، ولا يمكن أن ينْزل العقيق من يريد حصار الطائف، كما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جاء من الشمال ثم طوق الطائف من الجنوب، وذلك ليحيل بين ثقيف وبين مددهم من بني نصر القانطنين شرق وجنوب الطائف، وبين ثقيف أيضا وبين أموالهم في لية وما حولها.
وقد علمنا أن العقيق في شمال الطائف ولو أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينزل فيه لما تجشم هذا التطويق الذي استلزم مدة ويومين على الأقل، ولكن يظهر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما انسحب عن الطائف نزل العقيق، وكان مال بني الأسود لعله بوادي (لقيم) أو قربه فخافت ثقيف أن يقطع نخلة، وبهذا تستقيم الرواية، إذ أن رسول الله عندما انسحب كان طريقه على دحنا إلى الجعرانة وهذا يقضي أن يكون سلك من الطائف على أسفل العقيق ثم على لقيم ثم على دحنا ثم على الثنايا ثم على حنين ثم على الجعرانة".(3/17)
.
إنه ليس بالطائف مال أبعد رشاء ولا أشد مؤنة ولا أبعد عمارة من مال بني الأسود، وإن محمدا إن قطعه لم يعمر أبدا، فكلماه فليأخذه لنفسه أو ليدعه لله والرحم، فإن بيننا وبينه من القرابة ما لا يجهل، فزعموا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تركه لهم.
وأخرج البيهقي من طريق ابن لهيعة عن أبي الأسود عن عروة قال: استأذن عيينة(1)
__________
(1) عيينة بن حصن بن حذيفة بن بدر بن عمرو بن جوية - بالجيم مصغرا - بن لوذان ابن ثعلبة بن عدي بن فزارة بن ذبيان بن بفيض بن ريث بن غطفان بن سعد بن قيس عيلان أبو مالك الفزاري، يقال: كان اسمه حذيفة فلقب عيينة لأنه كانت أصابته شجة فجحضت عيناه قال ابن السكن: له صحبة، وكان من المؤلفة، ولم يصح له رواية أسلم قبل الفتح وشهدها وشهد حنينا والطائف، وبعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم لبني تميم فسبى بعض بني العنبر، ثم كان ممن ارتد في عهد أبي بكر الصديق، ومال إلى طليحة فبايعه ثم عاد إلى الإسلام، وكان فيه جفاء سكان البوادي.
دخل مرة على رسول الله صلى الله عليه وسلم بدون إذن فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أين الإذن؟" فقال: ما استأذنت على أحد من مضر".
كان عيينة في الجاهلية يقود عشرة آلاف مسلح، وهو عم الحر بن قيس الرجل الصالح، ولعيينة بن حصن مواقف مع عمر بن الخطاب ومع عثمان ومواقفة في الإسلام غير محمودة وقد سماه رسول الله صلى الله عليه وسلم الأحمق المطاع. (الاستيعاب 3/167، وأسد الغابة 4/331، والإصابة 3/54).
وانظر ترجمة الحر بن قيس في أسد الغابة لابن الأثير وأنه جاء إلى المدينة مع وفد بني فزارة بعد رجوع رسول الله صلى الله عليه وسلم من تبوك.(3/18)
بن حصن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأتي أهل الطائف يكلمهم لعل الله أن يهديهم، فأذن له فأتاهم فقال: "تمسكوا بمكانكم والله لنحن أذل من العبيد، وأقسم بالله لو حدث به(1) حدث لتملكن العرب عزا ومنعة فتمسكوا بحصنكم وإياكم أن تعطوا بأيديكم، ولا يتكاثرن عليكم قطع هذه الشجر، ثم رجع فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ماذا قلت لهم؟ قال: قلت لهم وأمرتهم بالإسلام ودعوتهم إليه وحذرتهم النار ودللتهم على الجنة. قال: "كذبت بل قلت لهم كذا وكذا. فقال: صدقت يا رسول الله أتوب إلى الله وإليك من ذلك"(2)..
والحديث أخرجه أبو نعيم وفي كليهما محمد(3) بن عمرو بن خالد الحراني أبو علاثة.
__________
(1) الضمير في (به) يرجع لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
(2) البيهقي: دلائل النبوة 3/48 أ- ب وأبو نعيم: دلائل النبوة ص 464 وابن كثير: البداية والنهاية 4/348-349 والسيوطي: الخصائص الكبرى 2/97، وانظر حديث (132).
(3) لم أجد ترجمته وهو من شيوخ الطبراني وانظر المعجم الصغير للطبراني 2/39.(3/19)
وأخرجه الواقدي ولفظه: وقال عيينة: "يا رسول الله، ائذن لي حتى آتي حصن الطائف فأكلمهم، فأذن له، فجاءه فقال: أدنو منكم وأنا آمن؟ قالوا: نعم، وعرفه أبو محجن(1) فقال: إذن فدنا فقال: ادخل فدخل عليهم الحصن، فقال فداؤكم أبي وأمي! والله لقد سرني ما رأيت منكم والله لو أن في العرب أحدا غيركم! والله ما لاقى محمد مثلكم قط، ولقد مل المقام، فاثبتوا في حصنكم، فإن حصنكم حصين، وسلاحكم كثير، وماءكم واتن(2) لا تخافون قطعه! قال: فلما خرج قالت ثقيف لأبي محجن فإنا كرهنا دخوله، وخشينا أن يخبر محمدا بخلل إن رآه في حصننا، وقال أبو محجن: أنا كنت أعرف له، ليس منا أحد أشد على محمد منه وإن كان معه، فلما رجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال له: ما قلت لهم؟
قال: "قلت ادخلوا في الإسلام، والله لا يبرح محمد عقر داركم حتى تنزلوا فخذوا لأنفسكم أمانا، قد نزل بساحة أهل الحصون قبلكم قينقاع والنضير وقريظة وخيبر أهل الحلقة والعدة والآطام فخذلتهم ما استطعت ورسول الله صلى الله عليه وسلم ساكت عنه، حتى إذا فرغ من حديثه، قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كذبت! قلت لهم كذا وكذا للذي قال. قال عيينة: "أستغفر الله!"
__________
(1) أبو محجن الثقفي الشاعر مختلف في اسمه له صحبة، وهو الذي سجنه سعد بن أبي وقاص من أجل شربه الخمر وكان ذلك يوم القادسية، ولما دارت المعركة رحاها استأذن أبو محجن من زوجة سعد بن أبي وقاص أن تفكه من السجن وتعطيه فرس سعد وأعطاها العهد أن يعود من المعركة فقاتل قتال الأبطال وعاد إلى سجنه فعفا عنه سعد وتاب من شرب المسكرات (الإصابة 4/173-176).
(2) الواتن:الشيء الثابت الدائم في مكانه،والماء المعين الدائم(القاموس المحيط4/274).(3/20)
فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: يا رسول الله، دعني أقدمه فأضرب عنقه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يتحدث الناس أني أقتل أصحابي" ويقال: أن أبا بكر - رضي الله عنه - أغلظ له يومئذ وقال: "ويحك يا عيينة! إنما أنت أبدا توضع في الباطل، كم لنا منك من يوم بني النضير وقريظة وخيبر، تجلب علينا وتقاتلنا بسيفك ثم أسلمت كما زعمت فتحرض علينا عدونا!"
قال: "أستغفر الله يا أبا بكر وأتوب إليه، لا أعود أبدا"(1)!
وكان استعصاء ثقيف وعدم استسلامهم في ذلك الوقت هو أن الله - جل وعلا - لم يأذن في فتح الطائف حينئذ وأن ثقيفاً ستأتي معلنة إسلامها وولاءها للمسلمين عما قريب بدون مشقة وقتال، ولذا فقد أشار رسول الله صلى الله عليه وسلم على الصحابة بترك حصار الطائف ولما رأى في أصحابه الرغبة في مواصلة القتال والتصميم على الفتح، أذن لهم في ذلك وقال: اغدوا على القتال، فغدوا فأصابتهم جراحات شديدة من وقع نبال ثقيف فأعاد رسول الله صلى الله عليه وسلم مقالته في ترك الحصار، ففرح الصحابة بذلك وعملوا أن ما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الصواب، وسارعوا إلى الرحيل، طالبين من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يدعو على ثقيف جزاء صنيعهم السيئ ضد المسلمين، فقال صلى الله عليه وسلم "اللهم اهد ثقيفا" وقد ذكر ابن كثير الحكمة في تأخير الفتح عامئذ فقال:
__________
(1) مغازي الواقدي 3/932-933.(3/21)
وكانت الحكمة الإلهية تقتضي أن يؤخر الفتح عامئذ لئلا يستأصلوا قتلا، لأنه قد تقدم أنه عليه السلام لما كان خرج إلى الطائف فدعاهم إلى الله تعالى وإلى أن يؤووه حتى يبلغ رسالة ربه عز وجل وذلك بعد موت عمه أبي طالب، فردوا عليه قوله وكذبوه، فرجع مهموما فلم يستفق إلا عند قرن الثعالب، فإذا هو بغمامة وإذا فيها جبريل فناداه ملك الجبال، فقال: يا محمد إن ربك يقرأ عليك السلام وقد سمع قول قومك لك، وما ردوا عليك، فإن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بل أستأني بهم، لعل الله أن يخرج من أصلابهم مَنْ يعبده، لا يشرك به شيئاً". فناسب قوله: "بل أستأني أن لا يفتح حصنهم لئلا يقتلوا عن آخرهم وأن يؤخر الفتح ليقدموا بعد ذلك مسلمين في رمضان من العام المقبل"(1). إهـ.
وفيما يلي الأحاديث الواردة في هذا المقام:
164- أخرج ابن أبي شيبة فقال: حدثنا عبد الوهاب(2)
__________
(1) البداية والنهاية 4/352 والزرقاني: شرح المواهب 3/33 وانظر: حديث رقم (08). وانظر: ص 339 تعليقة (3).
(2) عبد الوهاب بن عبد المجيد بن الصلت، الثقفي، أبو محمد البصري، ثقة تغير قبل موته بثلاث سنين، من الثامنة، (ت 194)/ع (التقريب 1/528 وتهذيب التهذيب 6/449).
ورمز له الذهبي (بصح) إشارة إلى توثيقه وأنه لا يلتفت إلى ما قيل فيه (ميزان الاعتدال 3/680).(3/22)
الثقفي عن عبد الله(1) بن عثمان بن خشيم عن أبي الزبير(2) أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حاصر أهل الطائف فجاءه أصحابه فقالوا: يا رسول الله أحرقتنا نبال ثقيف فادع الله عليهم فقال: اللهم اهد ثقيفاً مرتين. قال: وجاءته خولة(3) فقالت: إن بنت خزاعى(4) ذات حلي فنفلني حليها إن فتح الله عليك الطائف غدا، قال: إن لم يكن أذن لنا في قتالهم، فقال رجل تراه عمر يا رسول الله ما مقامك على قوم لم يؤذن لك في قتالهم، قال: "فأذن في الناس بالرحيل فنزل الجعرانة فقسم بها غنائم حنين، ثم دخل منها بعمرة ثم انصرف إلى المدينة"(5).
والحديث مرسل.
__________
(1) عبد الله بن عثمان بن خثيم - بالمعجمة والمثلثة، مصغراً - القاري المكي أبو عثمان، صدوق، من الخامسة (ت132) / خت م ع (التقريب 1/432 وتهذيب التهذيب 5/314).
(2) أبو الزبير هو محمد بن مسلم بن تدرس المكي، صدوق مدلس تقدم في حديث (109).
(3) خولة بنت حكيم بن أمية بن حارثة بن الأوقص بن مرة بن هلال بن فالج بن ذكوان بن ثعلبة بن بهثة بن سليم السلمية، امرأة عثمان بن مظعون، يقال كنيتها أم شريك. ويقال لها خويلة بالتصغير، وكانت صالحة فاضلة وهي التي وهبت نفسها للنبي صلى الله عليه وسلم في قول بعض العلماء (الاستيعاب 4/289-290 وأسد الغابة 7/93 والتقريب 2/596 وتهذيب التهذيب 12/415 والإصابة 4/291 وطبقات ابن سعد 8/158.
(4) في سيرة ابن هشام 2/484 وكذا في الإصابة فقالت خولة: أعطني حلي بادية بنت غيلان بن سلمة أو حلي الفارعة بنت عقيل وكانتا من أحلى نساء ثقيف) وعند الواقدي الفارعة بنت خزاعي 3/935.
(5) تاريخ ابن أبي شيبة ص 85 و86 ب رقم (665).(3/23)
ورواه البيهقي من طريق ابن لهيعة عن أبي الأسود عن عروة مرسلا ولفظه: وأقبلت امرأة يقال لها خولة بنت حكيم و كانت ممن بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانت تحت عثمان بن مظعون فدخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله ما يمنعك أن تنهض إلى أهل الطائف، قال: "لم يؤذن لنا حتى الآن فيهم، وماأظن أن نفتحها الآن"، فأقبل عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - فلقيها خارجة من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: هل ذكر لك رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا، قالت: أخبرني أنه لم يؤذن له في قتال الطائف بعد، فلما رأى ذلك عمر بن الخطاب قال: يا رسول الله ألا تدعو الله على أهل الطائف وتنهض لعل الله يفتحها فإن أصحابك كثير وقد شق عليهم الحبس ومنعهم معاشهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لم يؤذن لنا في قتالهم" فلما رأى ذلك عمر قال: أفلا آمر الناس فلا يسرحوا ظهرهم حتى يرتحلوا بالغداة؟
قال: "بلى فانطلق عمر حتى أذن في الناس بالقفول وأمرهم أن لا يسرحوا ظهرهم، فأصبحوا فارتحل النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه".
ودعا النبي - صلى الله عليه وسلم - حين ركب قائلا: "اللهم اهدهم واكفنا مؤنتهم"(1).
165- وأخرجه ابن إسحاق بلاغا فقال: ثم إن خويلة بنت حكيم بن أمية بن حارثة بن الأوقص السلمية، وهي امرأة عثمان بن مظعون قالت: يا رسول الله أعطني إن فتح الله عليك الطائف حلي بادية(2)
__________
(1) البيهقي: دلائل النبوة 3/49ب وانظر ابن كثير: البداية والنهاية 4/350 والسيوطي: الخصائص الكبرى 2/97-98 وانظر حديث (132).
(2) بادية بنت غيلان بن سلمة الثقفي أسلمت عند إسلام أبيها ولها رواية.
قال ابن حجر: "وقد حكى ابن منده: في ضبطها وجهين: (بادية) بالموحدة (ونادية) بالنون، وقال: إنه وهم، وحكى غيره فيها: بالموحدة أوّلها، ثم نون بعد الدال" (بادنة) الإصابة 4/249 وأسد الغابة 7/34.
وقال السهيلي في الروض الأنف 7/271 "وأما بادية بنت غيلان فقيل فيها" "بادنة" بالنون و الصحيح "بادية بالياء".(3/24)
بنت غيلان بن سلمة أو حلي الفارعة بنت عقيل، وكانتا من أحلى نساء ثقيف. فذكر لي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لها: "وإن كان لم يؤذن لي في ثقيف يا خويلة؟"
فخرجت خويلة فذكرت ذلك لعمر بن الخطاب، فدخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "يا رسول الله ماحديث حدثتنيه خويلة، زعمت أنك قلته؟ قال: قد قلته، قال: أو ما أذن لك فيهم يا رسول الله؟ قال: لا، قال: أفلا أؤذن بالرحيل؟ قال: بلى، فأذن عمر بالرحيل"، فلما استقل الناس نادى سعيد(1) بن عبيد بن أسيد بن أبي عمر بن علاج ألا إن الحي مقيم، قال: يقول عيينة بن حصن: أجل، والله مجدة كراما، فقال له رجل(2) من المسلمين: قاتلك الله يا عيينة، أتمدح المشركين بالامتناع من رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد جئت تنصر رسول الله صلى الله عليه وسلم!
فقال: "إني والله ما جئت لأقاتل ثقيفا معكم، ولكني أردت أن يفتح محمد الطائف، فأصيب من ثقيف جارية أطؤها، لعلها تلد لي رجلا، فإن ثقيفا قوم مناكير"(3)
__________
(1) هكذا ساق ترجمته ابن إسحاق والطبري والسهيلي وابن كثير والواقدي إلاّ أنه قال "سعد" بدل "سعيد".
وقد تقدم في حديث (158) ص 323 في سياق نسبه غير هذا.
(2) وعند الواقدي: فقال عمرو بن العاص: قاتلك الله، تمدح قوما مشركين بالامتناع من رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد جئت تنصره؟
فقال: "إني والله ما جئت معكم أقاتل ثقيفاً، ولكن أردت أن يفتح محمد الطائف فأصيب جارية من ثقيف فأطأها لعلها تلد لي رجلا فإن ثقيف قوم مباركون. فأخبر عمرو النبي صلى الله عليه وسلم بمقالته، فتبسم صلى الله عليه وسلم ثم قال: "هذا الحمق المطاع".
(3) سيرة ابن هشام 2/484 والطبري: تاريخ الرسل والملوك 3/85.
والسهيلي: الروض الأنف 7/237 وابن الأثير: الكامل 2/181.
والواقدي: المغازي 3/935 والديار بكري: تاريخ الخميس 2/111.
والحلبي: السيرة الحلبية 3/81 والبداية والنهاية 4/350 لابن كثير.
ومناكير: أصحاب دهاء وفطنة (ابن الأثير: النهاية 5/115). والفيروز آبادي: القاموس المحيط 2/148).(3/25)
.
166- وأخرج ابن أبي شيبة قال: حدثنا حسين(1) بن علي عن زائدة(2) قال: قال عبد الملك(3)، قال النبي صلى الله عليه وسلم وهو محاصر ثقيفاً ما رأيت الملك منذ نزلت منزلي هذا، قال: "فانطلقت خولة بنت حكيم السلمية فحدثت ذلك عمر بن الخطاب، فأتى عمر النبي صلى الله عليه وسلم فذكر له قولها، فقال: صدقت، فأشار عمر على النبي صلى الله عليه وسلم بالرحيل، فارتحل النبي صلى الله عليه وسلم"(4) والحديث مرسل ورجاله ثقات.
__________
(1) الحسين بن علي بن الوليد الجعفي - بضم الجيم وسكون العين المهملة - المقرئ، ثقة عابد، من التاسعة (ت 203 - أو 204) / ع (التقريب 1/177 وتهذيب التهذيب 2/357).
(2) زائدة بن قدامة الثقفي، أبو الصلت الكوفي، ثقة ثبت، صاحب سنة، من السابعة (ت160) وقيل بعدها / ع (التقريب 1/256 وتهذيب التهذيب 3/306).
(3) عبد الملك بن عمير بن سويد اللخمي، حليف بني عدي الكوفي، ويقال له: الفرسي - بفتح الراء و الفاء ثم المهملة - نسبة إلى فرس له سابق، كان يقال له القبطي - بكسر القاف وسكون الموحدة وربما قيل ذلك أيضا لعبد الملك، ثقة فقيه، تغير حفظه و ربما دلس من الثالثة (ت 136) / ع (التقريب 1/521 وتهذيب التهذيب 6/411).
(4) تاريخ ابن أبي شيبة ص 86 و87 أ رقم (665).(3/26)
167- وأخرج ابن سعد قال: أخبرنا عمرو(1) بن عاصم الكلابي، أخبرنا أبو الأشهب(2) أخبرنا الحسن(3) قال: حاصر رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل الطائف، قال: فرمى رجل من فوق سورها فقتل، فأتى عمر فقال: "يا نبي الله ادع على ثقيف، قال: إن الله لم يأذن في ثقيف، قال: فكيف نقتل في قوم لم يأذن الله فيهم؟ قال: فارتحلوا، فارتحلوا(4).
والحديث مرسل، ورجاله ثقات.
وعند ابن إسحاق بلاغا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأبي بكر الصديق وهو محاصر ثقيفا: "يا أبا بكر، إني رأيت أني أهديت لي قعبة(5) مملوءة زبدا، فنقرها ديك فهراق ما فيها". فقال أبو بكر: "ما أظن أن تدرك منهم يومك هذا ما تريد"، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وأنا لا أرى ذلك"(6).
168- وروى الواقدي من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: لما مضت خمس عشرة ليلة من حصارهم استشار رسول الله صلى الله عليه وسلم نوفل(7)
__________
(1) عمرو بن عاصم: صدوق تقدمت ترجمته في حديث (71).
(2) أبو الأشهب: هو جعفر بن حيان، ثقة، تقدمت ترجمته في حديث (156).
(3) الحسن: هو البصري، ثقة فقيه، فاضل مشهور تقدمت ترجمته في حديث (156) ومرسله ضعيف عند العلماء (انظر تدريب الراوي للسيوطي ص 123-124).
(4) الطبقات الكبرى 2/159.
(5) قعبة: القعب: القدح الضخم الجافي، أو إلى الصغر، أو يروي الرجل، جمع أقعب وقعاب وقعبة. والزبد: بضم الزاي وسكون الموحدة: زبد اللبن القاموس المحيط 1/118و297).
(6) سيرة ابن هشام 2/484 وتاريخ الرسل والملوك 3/84 والروض الأنف 7/236، ومغازي الواقدي 3/936 وتقدم الحديث برقم (164).
(7) نوفل بن معاوية بن عروة بن صخر الديلي - بكسر المهملة وسكون التحتانية - أبو معاوية شهد بدراً والخندق مع المشركين وكان له ذكر ونكاية.
ثم أسلم وشهد الفتح وحنينا والطائف، ونزل المدينة فمات بها في خلافة معاوية وقيل في أول خلافة يزيد، عاش نوفل مائة وعشرين سنة، ستون سنة في الجاهلية وستون سنة في الإسلام (التقريب 2/309 وتهذيب التهذيب 10/492).(3/27)
بن معاوية الديلي، فقال: "يا نوفل ما تقول أو ترى؟"
فقال نوفل يا رسول الله، ثعلب في جحر إن أقمت عليه أخذته، وإن تركته لم يضرك شيئا".
قال أبو هريرة: "ولم يؤذن لرسول الله صلى الله عليه وسلم في فتحها"(1).
وعنده أيضا: "قال: قال أبو محجن بن حبيب بن عمرو بن عمير الثقفي، وهو على حصن الطائف: يا عبيد محمد، إنكم والله ما لاقيتم أحدا يحسن قتالكم غيرنا، تقيمون ما أقمتم بشر محبس، ثم تنصرفون لم تدركوا شيئا مما تريدون.
نحن قسي وقسا أبونا ... والله لا نسلم ما حيينا(2)
وقد بنينا طائفا حصينا
فناداه عمر: "يا ابن حبيب والله لنقطعن عليك معاشك حتى تخرج من جحرك هذا، إنما أنت ثعلب في جحر يوشك أن يخرج، فقال أبو محجن: إن قطعتم يا ابن الخطاب حبات عنب، فإن في الماء والتراب ما يعيد ذلك".
فقال عمر: "لا تقدر أن تخرج إلى ماء ولا تراب، ولن نبرح عن باب جحرك حتى تموت!"
قال: يقول أبو بكر: "يا عمر لا تقل هذا، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يؤذن له في فتح الطائف، فقال عمر: وهل قال لك هذا رسول الله؟"
__________
(1) مغازي الواقدي 3/936-937 وطبقات ابن سعد 2/159 وزاد المعاد 3/497 والبداية والنهاية 4/350 والسيرة الحلبية 3/82 وفتح الباري 8/45).
(2) في مغازي الواقدي: "نحن قسي وأبونا قسا" وهذا لا يستقيم مع ما بعده وقد صوبتها من أنساب الأشراف للبلاذري الذي هو تلميذ ابن سعد المعروف، بكاتب الواقدي، وانظر أنساب الأشراف ص 367.(3/28)
فقال: نعم، فجاء عمر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "لم يؤذن لك يا رسول الله في فتحها؟ قال: "لا".قال: أفلا أؤذن في الناس بالرحيل! قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بلى" فأذن عمر بالرحيل، فجعل المسلمون يتكلمون، يمشي بعضهم إلى بعض، فقالوا: ننصرف ولا نفتح الطائف!". لا نبرح حتى يفتح الله علينا؟ والله إنهم لأذل وأقل من لاقينا قد لقينا جمع مكة وجمع هوازن، ففرق الله تلك الجموع! وإنما هؤلاء ثعلب في جحر، لو حصرناهم لماتوا في حصنهم هذا! وكثر القول بينهم والاختلاف، فمشوا إلى أبي بكر فتكلموا، فقال أبو بكر - رضي الله عنه -: الله ورسوله أعلم، والأمر ينزل عليه من السماء، فكلموا عمر فأبى وقال: قد رأينا الحديبية ودخلني في الحديبية من الشك ما لا يعلمه إلا الله، وراجعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ بكلام ليت أني لم أفعل، وأن أهلي ومالي ذهبا ثم كانت الخيرة لنا من الله فيما صنع، فلم يكن فتح كان خيراً للناس من صلح الحديبية – بلا سيف دخل فيه من أهل الإسلام مثل من كان دخل – من يوم بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يوم كتب الكتاب، فاتهموا الرأي، والخيرة فيما صنع رسول الله صلى الله عليه وسلم ولن أراجعه في شيء من ذلك الأمر أبدا! والأمر أمر الله وهو يوحي إلى نبيه ما يشاء!(1).
وهذه الآثار تدل على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يؤذن له في فتح الطائف، وقد تقدم ما نقله ابن كثير من الحكمة في ذلك(2).
ولذا فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما رأى صعوبة الموقف وتأزم الأمور وكثرة الإصابات في أصحابه، أشار إليهم بترك الحصار والرجوع إلى الجعرانة ولكن لما رأى تحمس أصحابه وتصميمهم على الفتح ورغبتهم في ذلك واصل بهم حتى وافقوا في نهاية المطاف وعلموا أن المصلحة فيما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا هو صريح حديث الصحيحين وغيرهما، وهذا سياقه عند البخاري:
__________
(1) مغازي الواقدي 3/935-936.
(2) ص 332.(3/29)
169- حدثنا علي(1) بن عبد الله حدثنا سفيان عن عمرو عن أبي العباس الشاعر الأعمى عن عبد الله(2) بن عمرو قال: لما حاصر رسول الله صلى الله عليه وسلم الطائف، فلم ينل منهم شيئا، قال: إنا قافلون إن شاء الله، فثقل(3) عليهم وقالوا: نذهب ولا نفتحه(4)
__________
(1) علي بن عبد الله هو ابن المديني، وسفيان: هو ابن عيينة، وعمرو: هو ابن دينار، وأبو العباس: هو السائب بن فرخ المكي الأعمى.
(2) اختلف في هذا الحديث هل هو عن عبد الله بن عمرو بن العاص أو عن عبد الله بن عمر بن الخطاب ومدار الحديث على سفيان بن عيينة، وقد اختلف فيه عليه، فمنهم من قال عبد الله بن عمر بن الخطاب، ومنهم من رواه عبد الله بن عمرو بن العاص ومنهم من رواه بالشك، وقد رجح كونه عن عبد الله بن عمر بن الخطاب:
يحيى بن معين، والدارقطني، وأبو زيد المروزي، وأبو بكر البرقاني قال ابن حجر: واخرج الحديث الطبراني من رواية إبراهيم بن يسار وهو ممن لازم ابن عيينة جدا، والذي قال عن ابن عيينة في هذا الحديث: "عبد الله بن عمر" وهم الذين سمعوا منه متأخراً كما نبه عليه الحاكم، وقد بالغ الحميدي في إيضاح ذلك فقال في مسنده في روايته لهذا الحديث عن سفيان "عبد الله بن عمر بن الخطاب" وأخرجه البيهقي في الدلائل من طريق عثمان الدارمي عن عليّ بن المديني قال: "حدثنا به سفيان غير مرة يقول عبد الله بن عمر بن الخطاب لم يقل عبد الله بن عمرو بن العاص. وعند أبي عوانة: بلغني أن إسحاق بن موسى الأنصاري وغيره قالوا": "عبد الله بن عمرو" ورواه عنه - أي سفيان - من أصحابه ممن يفهم ويضبط فقالوا: "عبد الله ابن عمر".
وعند أحمد في هذا الحديث: فقيل لسفيان: ابن عمرو، قال: لا. ابن عمر (شرح النووي لصحيح مسلم 4/409 وفتح الباري 8/44-45 و 10/505).
(3) وعند أحمد: "فكان المسلمون كرهوا ذلك".
(4) وعند مسلم: قال أصحابه "نرجع ولم نفتحه".
وعند ابن أبي شيبة: "فقال المسلمون نرجع ولم نفتحه".
وعند أبي يعلى فقال أصحابه: "نرجع ولم نفتح".
وعند أبي عوانة فقال المسلمون: "نرجع ولم نفتحه".(3/30)
، وقال مرة: نقفل، فقال: اغدوا على القتال، فغدوا، فأصابهم جراح، فقال: إنا قافلون غدا إن شاء الله، فأعجبهم فضحك(1) صلى الله عليه وسلم. وقال سفيان مرة: فتبسم. قال: قال الحميدي: حدثنا سفيان بالخبر كله(2).
ورواه عن قتيبة بن سعيد حدثنا سفيان عن عمرو بن دينار به ولفظه لما كان رسول الله بالطائف قال: إنا قافلون غدا إن شاء الله، فقال ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا نبرح أو نفتحها(3)، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "فاغدوا على القتال، فغدوا فقاتلوهم قتالا شديدا، وكثر فيهم الجراحات، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنا قافلون غدا إن شاء الله، قال فسكتوا(4)، فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم".
__________
(1) قال النووي::معنى الحديث أنه صلى الله عليه وسلم قصد الشفقة على أصحابه والرفق بهم بالرحيل عن الطائف لصعوبة أمره، وشدة الكفار الذين فيه، وتقويتهم، مع أنه صلى الله عليه وسلم علم أو رجا أنه سيفتحه بعد هذا بلا مشقة، كما جرى، فلما رأى حرص أصحابه على المقام والجهاد أقام، وجد في القتال، فلما أصابتهم الجراح رجع إلى مكان قصده أولا من الرفق بهم ففرحوا بذلك، لما رأوا من المشقة الظاهرة، ولعلهم نظروا فعلموا أن رأي النبي صلى الله عليه وسلم أبرك وانفع وأحمد عاقبة وأصوب من رأيهم، فوافقوا على الرحيل، وفرحوا، فضحك النبي صلى الله عليه وسلم تعجبا من سرعة تغير رأيهم" شرح صحيح مسلم 4/410) وشرح المواهب 3/33.
(2) البخاري: الصحيح 5/128 كتاب المغازي، باب غزوة الطائف.
(3) قوله: (لا نبرح أو نفتحها)
قال ابن التين: "ضبطناه بالرفع والصواب: النصب، لأن "أو" إذا كانت بمعنى "حتى أو إلى أن نصبت"، وهي هنا كذلك (فتح الباري 10/505). وانظر: قطر الندى لابن هشام ص:68،وشرح ابن عقيل على ألفية ابن مالك 2/346.
(4) وعند أحمد: "فسر المسلمون، وضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم".(3/31)
ورواه عن عبد الله بن محمد(1) حدثنا ابن عيينة عن عمرو بن دينار به، ولفظه قال: "حاصر النبي صلى الله عليه وسلم أهل الطائف فلم يفتحها، فقال: إنا قافلون إن شاء الله، فقال المسلمون: "نقفل ولم نفتح؟" قال: فاغدوا على القتال، فغدوا فأصابتهم(2) جراحات، قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إنا قافلون غدا إن شاء الله، فكأن(3) ذلك أعجبهم، فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم"(4).
ورواه مسلم والحميدي وابن أبي شيبة وأحمد وأبو يعلى وأبو عوانة والبيهقي كلهم من طريق سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار به(5).
__________
(1) هو أبو بكر بن أبي شيبة.
(2) وعند الحميدي "فأصابتهم جراحة شديدة".
(3) وعند الحميدي "فكأنهم اشتهوا ذلك وسكنوا إليه، قال: فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم.
(4) البخاري: الصحيح 8/20 كتاب الآداب، باب التبسم والضحك و9/113 كتاب التوحيد، باب في قوله الله تعالى: تؤتي الملك من تشاء إلخ.
(5) مسلم: الصحيح 3/1402 كتاب الجهاد والسير، باب غزوة الطائف.
الحميدي: المسند 2/309، وابن أبي شيبة: التاريخ ص 85و 86 أ رقم 665.
وأحمد: المسند 2/11، وأبو يعلى: المسند 5/529 أ رقم (305).
وأبو عوانة: المسند 4/213 و 214، والبيهقي: دلائل النبوة 3/49 أ - ب.(3/32)
وعند الواقدي من حديث أبي هريرة قال: "وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم عمر ابن الخطاب فأذن في الناس بالرحيل فضج الناس من ذلك وقالوا: نرحل ولم يفتح علينا الطائف؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فاغدوا على القتال"، فغدوا فأصابت المسلمين جراحات فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنا قافلون إن شاء الله، فسروا بذلك وأذعنوا وجعلوا يرحلون ورسول الله صلى الله عليه وسلم يضحك، وقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: قولوا لا إله إلا الله وحده صدق وعده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده". فلما ارتحلوا و استقلوا قال: "قولوا آيبون تائبون لربنا حامدون"(1).
وقيل: "يا رسول الله ادع على ثقيف، فقال: اللهم اهد ثقيفا وآت بهم"(2).
وحديث الدعاء على ثقيف أخرجه الترمذي وأحمد من حديث أبي الزبير، مسندا، وابن أبي شيبة مرسلا.
__________
(1) هكذا ذكر هذا الدعاء الواقدي وابن سعد في هذه الغزوة، وقد ثبت في الصحيحين من حديث عبد الله بن عمر ما يشهد لهذا ولفظه:
قال ابن عمر: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قفل من غزو أو حج أو عمرة يكبر على كل شرف من الأرض ثلاث تكبيرات ثم يقول: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، آيبون تائبون عابدون ساجدون لربنا حامدون. صدق الله وعده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده". (البخاري 3/7 كتاب العمرة، باب ما يقول إذا رجع من الحج أو العمرة أو الغزو). و4/61 كتاب الجهاد، باب ما يقول إذا رجع من الغزو. و5/93 كتاب المغازي، باب غزوة الخندق، و 8/69 كتاب الدعوات، باب الدعاء إذا أراد سفراً أو رجع. ومسلم 2/980 كتاب الحج، باب ما يقول إذا قفل من سفر الحج و غيره. ورواه مالك في الموطأ 1/421 كتاب الحج، باب جامع الحج.
(2) الواقدي: المغازي 3/936-937، وابن سعد: الطبقات الكبرى 2/159 والزرقاني شرح المواهب 3/34 وانظر الحديث رقم (167).(3/33)
170- وهذا سياق الترمذي: حدثنا أبو سلمة(1) يحيى بن خلف أخبرنا عبد الوهاب(2) الثقفي عن عبد الله بن عثمان بن خيثم عن أبي الزبير عن جابر بن عبد الله قال: قالوا: "يا رسول الله أحرقتنا نبال ثقيف فادع الله عليهم، فقال: "اللهم أهد ثقيفا"(3). ثم قال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح غريب".
قال الألباني: "هذا الحديث على شرط مسلم و لكنه من رواية أبي الزبير معنعنا وهو مدلس".
وقد تابعه عبد الرحمن(4) بن سابط عند أحمد، ولكنه لم يسمع من جابر، كما قال ابن معين(5).
وهذا سياق حديث أحمد المشار إليه قال:
__________
(1) يحيى بن خلف الباهلي، أبو سلمة البصري، الجوباري - بجيم مضمومة وواو ساكنة ثم موحدة - صدوق من العاشرة(ت 242) /م د ت ق (التقريب 2/346 وتهذيب التهذيب 11/204).
(2) عبد الوهاب ثقة، وعبد الله بن عثمان صدوق، وقد تقدمت ترجمتها في حديث (164).
(3) الترمذي: السنن 5/385-386 كتاب المناقب، باب في ثقيف وبني حنيفة.
(4) عبد الرحمن بن سابط، ويقال عبد الرحمن بن عبد الله بن سابط وهو الصحيح ثقة كثير الإرسال من الثالثة (ت 118) م د ت س ق (التقريب 1/480 وتهذيب التهذيب 6/180).
(5) حاشية مشكاة المصابيح 3/1690 وحاشية فقه السيرة للغزالي ص 432 ودفاع عن الحديث النبوي والسيرة في الرد على البوطي 7-8 و34-35 وانظر: تهذيب التهذيب 6/180.(3/34)
حدثنا محمد(1) بن الصباح ثنا إسماعيل(2) بن زكريا عن عبد الله بن عثمان بن خثيم عن عبد الرحمن بن سابط و أبي الزبير عن جابر - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اللهم اهد ثقيفاً".
قال عبد الله(3): "وسمعته أنا من محمد بن الصباح، فذكر مثله"(4).
وهذه المتابعة لا تجدي شيئا لأن عبد الرحمن بن سابط لم يسمع من جابر فيكون الحديث منقطعا.
وأورد الذهبي هذا الحديث في ترجمة إسماعيل بن زكريا ثم قال: تفرد به عن عبد الله بن عثمان بن خثيم عن عبد الرحمن بن سابط عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم(5).
والحديث رواه ابن أبي شيبة عن عبد الوهاب الثقفي عن عبد الله ابن عثمان بن خثيم عن أبي الزبير مرسلاً(6).
وأخرج البيهقي عن عروة بن الزبير مرسلا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا حين ركب فقال: "اللهم أهدهم واكفنا مؤنتهم"(7).
والخلاصة أن الدعاء لثقيف رواه ابن سعد من مرسل الحسن البصري(8) وساقه مرة أخرى بدون إسناد، ورواه الترمذي وأحمد مسندا من حديث أبي الزبير، ورواه عنه ابن أبي شيبة مرسلاً.
__________
(1) محمد بن الصباح الدولابي، أبو جعفر البغدادي، صاحب السنن- ثقة حافظ، من العاشرة (ت 227) /ع (التقريب 2/171 وتهذيب التهذيب 9/229).
(2) إسماعيل بن زكريا بن مرة، الخلقاني - بضم المعجمة وسكون اللام بعدها قاف- أبو زياد الكوفي، لقبه شقوصا- بفتح المعجمة وضم القاف الخفيفة وبالمهملة - صدوق يخطئ قليلا، من الثامنة (ت 174 وقيل قبلها) / ع (المصدر السابق 1/69و1/297 وتاريخ بغداد 6/218 وميزان الاعتدال 1/229). وقد وقع في التقريب أن وفاة إسماعيل 94 أي بعد المائة وهو خطأ.
(3) عبد الله هو ابن أحمد بن حنبل.
(4) مسند أحمد 3/343.
(5) ميزان الاعتدال 1/228-229.
(6) تاريخ ابن أبي شيبة ص 85و86 ب رقم 665 وانظر حديث رقم (164).
(7) دلائل النبوة 3/49 ب وانظر حديث (138).
(8) تقدم الحديث برقم (167).(3/35)
وأبو الزبير مدلس وقد عنعن(1).
وتابعه عبد الرحمن بن سابط عند أحمد، ولكن جزم ابن معين بأن عبد الرحمن لم يسمع من جابر، فيكون الحديث منقطعا.
وساقه ابن إسحاق بدون إسناد(2).
ورواه البيهقي من طريق ابن لهيعة عن أبي الأسود عن عروة مرسلا. وفيه أيضا أبو علاثة(3).
فالحديث له ثلاث طرق: طريق أبي الزبير وقد عنعن وهو مدلس.
وابن إسحاق ساقه بدون إسناد، وهو من صغار التابعين فيكون الحديث معضلا. وطريق البيهقي، وفيها الإرسال، وراو لم توجد ترجمته. وطريق ابن سعد من مرسل الحسن البصري، ومرسله ضعيف عند العلماء، فالحديث بجميع طرقه ضعيف.
وهذه الآثار تدل على رحمة الرسول صلى الله عليه وسلم وشفقته، حتى مع ألد أعدائه حيث طلب منه الصحابة أن يدعو على ثقيف. فدعا لهم بالهداية وقد استجاب الله دعاءه وجاءوا مسلمين بعد ذلك بدون عناء أو مشقة.
وقد ذكر ابن إسحاق أن طريق رسول الله صلى الله عليه وسلم حين خرج من الطائف كانت على دحنا(4) حتى نزل الجعرانة فيمن معه من الناس، وكان بها سبي هوازن (5).
وعند الواقدي فأخذ على دحنا ثم على قرن المنازل، ثم على نخلة حتى خرج إلى الجعرانة(6).
__________
(1) وقد وضعه ابن حجر في المرتبة الثالثة من مراتب المدلسين وهذه المرتبة لمن أكثر من التدليس ولم يحتج من أحاديثهم إلا بما صرحوا فيه بالسماع، ومنهم من رد حديثهم مطلقا، ومنهم من قبلهم. (انظر: طبقات المدلسين ص 7و 32).
(2) سيرة ابن هشام 2/488 والبداية والنهاية لابن كثير 4/350 و352 وشرح المواهب اللدنية للزرقاني 3/33و35 و4/6.
(3) هو محمد بن عمرو بن خالد الحراني، لم أجد ترجمته.
(4) دحنا - بفتح أوله و سكون ثانية، ونون، يروى مقصورا وممدودا، وهي من مخاليف الطائف (معجم البلدان 2/444).
(5) سيرة ابن هشام 2/488 وتاريخ الرسل و الملوك 3/86 والروض الأنف 7/241.
(6) مغازي الواقدي 3/939.(3/36)
171- وأخرج الطبري من طريق ابن إسحاق عن عبد الله (1) بن أبي بكر أن رجلا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ممن شهد معه حنينا قال: والله إني لأسير إلى جنب رسول الله صلى الله عليه وسلم على ناقة لي، وفي رجلي نعل غليظة إذا زحمت ناقتي ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويقع حرف نعلي على ساق رسول الله صلى الله عليه وسلم فأوجعه، قال: فقرع قدمي بالسوط، وقال: "أوجعتني فتأخر عني فانصرفت"، فلما كان الغد إذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يلتمسني، وقال: قلت: هذا والله لما كنت أصبت من رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأمس، قال: فجئته وأنا أتوقع فقال لي: "إنك قد أصبت رجلي بالأمس، فأوجعتني فقرعت قدمك بالسوط، فدعوتك لأعوضك منها، فأعطاني ثمانين نعجة، بالضربة التي ضربني"(2).
والحديث فيه عنعنة ابن إسحاق، وفيه انقطاع فإن عبد الله بن أبي بكر لم أجد في ترجمته أنه روى عن أحد من الصحابة سوى أنس بن مالك.
__________
(1) عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم الأنصاري، المدني، ثقة من الخامسة (ت 135) / ع (التقريب 1/405، وتهذيب التهذيب 5/164).
(2) الطبري: تاريخ الرسل ة الملوك 3/93.(3/37)
وعند الواقدي وابن سعد نحو هذه القصة(1) وأن صاحبها هو أبو رهم(2) الغفاري، لكن ذكر ابن عبد البر وابن الأثير وابن حجر: "أن أبا رهم الغفاري استخلفه رسول الله صلى الله عليه وسلم على المدينة عند خروجه إلى غزوة الفتح فلم يزل عليها حتى انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الطائف"(3).
وقد حصلت نحو هذه القصة لأبي رهم و لكن في غزوة تبوك جاء ذلك عند الإمام أحمد في مسنده ولفظه:
172- قال أبو رهم الغفاري: غزوت مع النبي صلى الله عليه وسلم غزوة تبوك فلما فصل سرى ليلة فسرت قريبا منه وألقي علي النعاس فطفقت أستيقظ وقد دنت راحلتي من راحلته فيفزعني دنوها خشية أن أصيب رجله في الغرز فأوخر راحلتي حتى غلبتني عيني نصف الليل فركبت راحلتي راحلته ورجل النبي صلى الله عليه وسلم في الغرز فأصابت رجله فلم أستيقظ إلا بقوله حس(4)، فرفعت رأسي، فقلت: استغفر لي يا رسول الله" الحديث(5).
والحديث ضعيف لأن فيه ابن أخي أبي رهم(6).
__________
(1) مغازي الواقدي 3/939 والطبقات الكبرى لابن سعد 4/244.
(2) هو كلثوم بن الحصين أبو رهم - بضم الراء - صحابي مشهور من أصحاب الشجرة أسلم قديما وشهد أحد واستخلفه النبي صلى الله عليه وسلم على المدينة مرتين، مرة في عمرة القضاء، ومرة في غزوة الفتح في خروجه إلى مكة وحنين والطائف فلم يزل أميرا عليها حتى انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم من الطائف (الاستيعاب 3/316 و4/69 مع الإصابة،وأسد الغابة:4/493و6/117، والإصابة 4/70-71 والتقريب 2/136، وتهذيب التهذيب 8/443).
(3) انظر المصادر السابقة.
(4) حس - بكسر السين والتشديد، وفتح الحاء المهملة - كلمة يقولها الإنسان إذا أصابه ما مضة أو أحرقه غفلة، كالجمرة والضربة ونحوهما. (النهاية في غريب الحديث 1/385).
(5) مسند أحمد 4/349-350.
(6) قال عنه ابن حجر في التقريب 2/534 ابن أخي أبي رهم "مقبول" من شيوخ الزهري، من السادسة / ع و انظر تهذيب التهذيب 12/318.(3/38)
وعند الواقدي أيضا أن مثل هذا حصل لعبد الله بن أبي حدرد في مسير رسول الله صلى الله عليه وسلم من الطائف إلى الجعرانة، فقال: وكان عبد الله بن أبي حدرد الأسلمي يقول: كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم في مسيرة وهو يحادثني، فجعلت ناقتي تلصق بناقته، وكانت ناقتي شهمة (1) فجعلت أريد أن أنحيها فلا تطاوعني، فلصقت بناقة النبي صلى الله عليه وسلم وأصيبت رجله فقال: "أخ(2)! أوجعتني! فرفع رجله من الغرز(3) كأنها جمارة، ودفع رجلي بمحجن في يده، فمكث ساعة لا يتحدث، فوالله ما نزلت حتى ظننت أن سينْزل في عذاب".
قال: فلما نزلنا قلت لأصحابي: إني أرعى لكم! ولم يكن ذلك يوم رعيتي، فلما أرحت الظهر عليهم قلت: هل جاء أحد يبغيني؟
فقالوا: رسول الله صلى الله عليه وسلم جاء يبغيك، فقلت في نفسي: هي والله هي! قلت: من جاء؟
قالوا رجل من الأنصار، قال: فكان أكره إلي وذلك أن الأنصار كانت فيهم علينا غلظة، قال: ثم جاء بعد رجل من قريش يبتغيني، قال: فخرجت خائفا حتى واجهت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجعل يبتسم في وجهي وقال: أوجعتك بمحجني البارحة، ثم قال: خذ هذه القطة من الغنم، قال: فأخذتها فوجدتها ثمانين شاة ضائنة(4).
__________
(1) شهمة: أي جلدة (مختار الصحاح ص 350).
(2) أخ: بفتح الهمزة وسكون الخاء: كلمة تكره وتأوه (القاموس المحيط 1/256).
(3) الغرز: ركاب كور الجمل إذا كان من جلد أو خشب، وقيل: هو الكور مطلقا مثل الركاب للسرج.
والجمارة: قلب النخلة وشحمها شبه ساقه صلى الله عليه وسلم ببياضها، والمحجن: عصا معقفة الرأس (النهاية في غريب الحديث 1/294و347، 3/359).
(4) مغازي الواقدي 3/939-940 وقوله: شاة ضائنة: أي من الضأن وهي الشاة من الغنم، وهي خلاف المعز (النهاية لابن الأثير 3/69).(3/39)
ثم قال الواقدي أيضا: وكان أبو زرعة(1) الجهني يقول: "لما أراد صلى الله عليه وسلم أن يركب من قرن راحلته القصواء وطئت له على يديها، والزمام في يدي مطوى، فركب على الرحل وناولته الزمام، ودرت من خلفه فخلف الناقة بالسوط كل ذلك يصيبني، فالتفت إلي فقال: أصابك السوط؟ قلت: نعم بأبي و أمي! قال: فلما نزل الجعرانة إذا ربضة(2) من الغنم ناحية من الغنائم فسأل عنها صاحب الغنائم فخبره عنها بشيء لا أحفظه، ثم صاح: أين أبو زرعة؟ قال: قلت: ها أنا ذا! قال: خذ هذه الغنم بالذي أصابك من السوط أمس، قال: فعددتها فوجدتها عشرين ومائة رأس، قال: فتأثلت(3) بها مالاً(4).
173- وعند الواقدي أيضا من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: اعترض لرسول الله صلى الله عليه وسلم رجل من أسلم معه غنم، ورسول الله صلى الله عليه وسلم على راحلته، فقال: يا رسول الله، هذه هدية قد أهديتها لك، قال: وممن أنت؟
قال: رجل من أسلم، قال: إني لا أقبل هدية مشرك، قال: يا رسول الله إني مؤمن بالله وبرسوله قد سقت الصدقة إلى بريدة بن الحصيب لما لي بعينه مصدقا، قال: وأقبل بريدة فلحق النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: صدق يا رسول الله، هذا من قومي شريف ينزل بالصفاح(5)
__________
(1) هو: معبد بن خالد الجهني أبو زرعة (انظر الإصابة 3/439).
(2) الربضة - بكسر الراء وسكون الموحدة: الجماعة من الغنم والناس، والأصل للغنم. (لسان العرب9/9).
(3) تأثل مالا: اكتسبه واتخذه وثمره (المصدر السابق13/8).
(4) مغازي الواقدي 3/940.
(5) الصفاح - بالكسر وآخره حاء مهملة: موضع بين حنين و أنصاب الحرم على يسرة الداخل إلى مكة من مشاش (معجم البلدان 3/412).
وقال عاتق البلادي: "الصفاح: أرض خارج حدود الحرم على طريق العراق، إذا خرجت من أنصاب الحرم متجاوزا ثنية خل سرت فيها، وهي جرد أبيض سيله جنوبا إلى المغمس ثم عرنة، ويشرف عليها من الشمال جبل الستار ويغذيها بقسم كبير من مياهه". (معالم مكة المكرمة التاريخية والأثرية ص 153).(3/40)
، قال: فما أقدمك إلى نخلة؟ قال: هي أمرع(1) من الصفاح اليوم، ثم قال: نحن على ظهر كما ترى، فالحقنا بالجعرانة، قال: فخرج يعدو عراض(2) ناقة رسول الله وهو يقول: يا رسول الله، فأسوق الغنم معي إلى الجعرانة؟
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تسقها، ولكن تقدم علينا الجعرانة فنعطيك غنما أخرى إن شاء الله.قال: يا رسول الله تدركني الصلاة وأنا في عطن(3) الإبل، أفأ صلي فيه؟قال: لا، قال: فتدركني و أنا في مراح(4) الغنم، فأصلي فيه؟ قال: نعم، قال: يا رسول الله، ربما تباعد منا الماء ومع الرجل زوجته فيدنو منها؟
قال: نعم، ويتيمم(5)، قال: يا رسول الله، وتكون فينا الحائض، قال: تيمم، قال: فلحق النبي صلى الله عليه وسلم بالجعرانة فأعطاه مائة شاة(6).
موقف سراقة
__________
(1) أمرع الوادي: اكلأ، والمريع: الخصيب المكلئ، كالمراع، جمع أمرع وأمراع، ومرع الوادي مثلثة الراء مراعة أكلأ كأمرع (مختار الصحاح ص 622 والقاموس المحيط 3/84 والمعجم الوسيط 2/861).
(2) عراض: بكسر المهملة أي يسير حذاءه معارضا له (النهاية 3/211).
(3) العطن: بالتحريك مبرك الإبل حول الحوض، ومربض الغنم حول الماء لتعاد للشرب مرة ثانية (النهاية 3/258 والقاموس المحيط 4/248).
(4) المراح: بضم الميم: حيث تأوى إليه الماشية بالليل، مختار الصحاح ص 262، والمصباح المنير 1/288-289).
وقد جاء الأمر بالصلاة في مرابض الغنم و النهي عنها في أعطان الإبل، في حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "صلوا في مرابض الغنم و لا تصلوا في أعطان الإبل". أخرجه الترمذي في سننه 1/217-218 كتاب الصلاة وقال: حسن صحيح.
(5) وقد جاء في حديث أبي ذر الغفاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن الصعيد الطيب طهور المسلم، و إن لم يجد الماء عشر سنين، فإذا وجد الماء فليمسه بشرته، فإن ذلك خير". رواه الترمذي 1/81 كتاب الطهارة، باب التيمم للجنب وصححه.
(6) مغازي الواقدي 3/941-942.(3/41)
وكان ممن اعترض رسول الله صلى الله عليه وسلم في طريقه إلى الجعرانة: سراقة بن مالك بن جعشم وكان معه كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي كتبه له في أثناء هجرته صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، توضح ذلك الأحاديث الآتية:
174- قال الواقدي: وقال سراقة(1) بن جعشم: لقيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو منحدر من الطائف إلى الجعرانة، فتحصلت(2)، و الناس يمضون أمامه أرسالاً(3)، فوقعت في مقنب(4) من خيل الأنصار فجعلوا يقرعوني(5) بالرماح ويقولون: إليك! إليك! ما أنت؟
__________
(1) سراقة بن مالك بن جعشم - بضم الجيم والمعجمة بينهما عين مهملة - ابن مالك ابن عمرو بن تيم بن مدلج - بضم الميم وسكون الدال المهملة وكسر اللام آخره جيم - ابن مرة بن مناة بن كنانة الكناني المدلجي يكنى أبا سفيان صحابي مشهور كان ينزل قديدا، كان من مسلمة الفتح كذا ذكره ابن حجر، وعند ابن إسحاق أنه أسلم في الجعرانة. مات سراقة سنة 24 في خلافة عثمان وقيل بعد عثمان. (الطبقات الكبرى لابن سعد 1/188و232 و 5/90 والاستيعاب لابن عبد البر 2/119 مع الإصابة، وأسد الغابة لابن الأثير 2/331). التقريب 1/284 وتهذيب التهذيب 3/456 والإصابة 2/19 كلها لابن حجر.
(2) تحصل: تجمع وثبت. (القاموس المحيط 3/357).
(3) أرسالاً: أفواجا وفرقا متقطعة يتبع بعضهم بعضا، واحدهم رسل: بفتح الراء والسين. (النهاية لابن الأثير 2/222).
(4) مقنب: بكسر أوله: جماعة الخيل والفرسان (المصدر السابق 4/111).
(5) يقرعوني بالرماح: القرع الضرب بالسوط ونحوه (المصدر السابق 4/43).(3/42)
وأنكروني، حتى إذا دنوت وعرفت أنه يسمع صوتي أخذت الكتاب الذي كتبه أبو بكر، فجعلته بين أصبعين من أصابعي، ثم رفعت يدي وناديت: أنا سراقة بن جعشم، وهذا كتابي! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يوم وفاء، أدنوه! فأدنيت منه، فكأني أنظر إلى ساق رسول الله صلى الله عليه وسلم في غرزة كأنها جمارة، فلما انتهيت إليه سلمت، وسقت إليه الصدقة فما ذكرت شيئا أسأله عنه إلا أني قلت: يا رسول الله، أرأيت الضالة من الإبل تغشى حياضى وقد ملأتها لإبلي، هل لي من أجر إن أسقيتها؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نعم، في كل ذات كبد حرى(1) أجر"(2).
وذكر ابن إسحاق هذه القصة في سياق حديث الهجرة، وبين أن مجيء سراقة وإسلامه كان في الجعرانة، وأنه بعد ذلك رجع إلى قومه وساق صدقته لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
175- وهذا سياقه: قال: حدثني الزهري أن عبد الرحمن(3) بن مالك بن جعشم حدثه عن أبيه(4)، عن عمه سراقة بن مالك بن جعشم قال: "لما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة مهاجرا إلى المدينة، جعلت قريش فيه مئة ناقة لمن رده عليهم".
__________
(1) حرى: بفتح أوله بوزن فعلى. والمعنى: أن في سقي كل ذي كبد حرى أجرا (النهاية 1/364).
(2) مغازي الواقدي: 3/941.
(3) عبد الرحمن بن مالك بن مالك بن جعشم بن مالك بن عمرو بن المدلجى وثقه النسائي وابن حبان،من الثالثة/خ ق (التقريب1/496 وتهذيب التهذيب6/263 وقال ابن هشام: هو عبد الرحمن بن الحارث بن مالك بن جعشم (1/491).
(4) مالك بن مالك بن جعشم بن مالك بن عمرو المدلجي، وأكثر ما يأتي منسوبا إلى جده، ذكره ابن حبان في ثقات التابعين، وهو أخو سراقة الصحابي، قال ابن حجر: وأبوه مالك بن جعشم لم أر من ذكره في الصحابة، فالظاهر أنه مات في الجاهلية فيكون لمالك بن مالك إدراك، إن لم يكن له صحبة.
أخرج له خ ق (التقريب 2/226 وتهذيب التهذيب 10/21 والإصابة 3/485).(3/43)
قال: "فبينا أنا جالس في نادي قومي إذ أقبل رجل منا، حتى وقف علينا فقال: والله لقد رأيت ركبة(1) ثلاثة مروا آنفا، وأني لأراهم محمدا وأصحابه، قال: فأومأت إليه بعيني: أن أسكت، ثم قلت: إنما هم بنو فلان، يبتغون ضالة لهم، قال: لعله، ثم سكت، قال: ثم مكثت قليلا ثم قمت فدخلت بيتي، ثم أمرت بفرسي، فقيد لي إلى بطن الوادي، و أمرت بسلاحي فأخرج لي من دبر حجرتي، ثم أخذت قداحي(2) التي استقسم بها، ثم انطلقت فلبست لأمتي(3). ثم أخرجت قداحي، فاستقسمت بها، فخرج السهم الذي أكره "لا يضره"(4) قال: وكنت أرجوا لأن أرده(5) على قريش، فآخذ المائة الناقة قال: فركبت على أثره، فبينا فرسي يشتد بي عثر بي فسقطت عنه قال: فقلت: ما هذا؟
__________
(1) ركبة: بالتحريك، أقل من الركب، والركب من أسماء الجمع، كنفر ورهط (النهاية 2/256و257).
(2) القداح - بكسر أوله: جمع قدح، بكسر أوّله وسكون ثانيه، والاستقسام: طلب الذي قسم له وقدر مما لم يقسم ولم يقدر، وهو استفعال منه، وكانوا في الجاهلية، إذا أراد أحدهم سفرا أو تزويجا، أو نحو ذلك من المهام ضرب بالأزلام وهي القداح، وكان على بعضها مكتوب: أمرني ربي وعلى الآخر: نهاني ربي، وعلى الآخر غفل. فإن خرج "أمرني" مضى لشأنه، وإن خرج "نهاني" أمسك، وإن خرج "الغفل" عاد، وأجالها وضرب بها أخرى إلى أن يخرج الأمر والنهي (المصدر السابق 2/311 و 4/20و63).
(3) اللأمة مهموزة: الدرع، وقيل السلاح، ولأمه الحرب أداته، وقد يترك الهمز تخفيفا (المصدر السابق 4/220).
(4) لا يضره: أي السهم المكتوب فيه هذه الكلمة.
(5) في شرح المواهب: تعرض لهم بعد رواحهم من عند أم معبد، وذكر ابن سعد أن ذلك كان في قديد وكان يوم الثلاثاء. (شرح المواهب اللدنية 1/346 والطبقات الكبرى لابن سعد 1/232).(3/44)
قال: ثم أخرجت قداحي فاستقسمت بها، فخرج السهم الذي أكره "لا يضره" قال: فأبيت إلا أن أتبعه، قال: فركبت في أثره فبينا فرسي يشتد بي عثر بي، فسقطت عنه، قال: فقلت: ما هذا؟ قال: ثم أخرجت قداحي فاستقسمت بها فخرج السهم الذي أكره "لا يضره" قال: فأبيت إلا أن أتبعه، فركبت في أثره فلما بدا لي القوم ورأيتهم، عثر بي فرسي، فذهبت يداه في الأرض، وسقطت عنه، ثم انتزع يديه من الأرض، وتبعتهما دخان كالإعصار(1)، قال: فعرفت حين رأيت ذلك أنه ظاهر، قال: فناديت القوم: فقلت: أنا سراقة بن جعشم، انظروني أكلمكم، فوالله لا أريبكم و لا يأتيكم من شيء تكرهونه، قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي بكر: "قل له: وما تبتغي منا؟"
قال: فقال ذلك أبو بكر(2)، قال: قلت: تكتب لي كتابا يكون آية بيني وبينك، قال: اكتب له يا أبا بكر، قال: فكتب لي كتابا في عظم، أو في رقعة(3)، أو في خزفة(4) ثم ألقاه إليّ، فأخذته، فجعلته في كنانتي(5)، ثم رجعت، فسكت فلم أذكر شيئا مما كان حتى إذا كان فتح مكة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفرغ من حنين والطائف، خرجت ومعي الكتاب لألقاه فلقيته، قال: فدخلت في كتيبة من خيل الأنصار، قال: فجعلوا يقرعونني بالرماح، ويقولون إليك! إليك! ما ذا تريد؟
__________
(1) الإعصار:ريح معها غبار شديد. (القاموس المحيط 2/90).
(2) عند ابن إسحاق و الواقدي: "أن الذي كتب لسراقة هو أبو بكر الصديق".
وعند البخاري: "أنه عامر بن فهيرة" قال الزرقاني: "و الجمع بين هذا أن عامراً لما كتب طلب سراقة كتابة أبي بكر الصديق لشهرته وعظمته". (شرح المواهب 1/348).
(3) الرقعة: بالضم المراد بها هنا قطعة من أدم كما جاء عند البخاري.
(4) الخزف، محركة: كل ما عمل من طين وشوى بالنار حتى تكون فخارا. (القاموس المحيط 3/132).
(5) الكنانة: بالكسر: الجعبة التي يجعل فيها السهام. (النهاية 1/274، القاموس المحيط 4/264).(3/45)
قال: فدنوت من رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على ناقته، والله لكأني أنظر إلى ساقه في غرزه كأنها جمارة، قال: فرفعت يدي بالكتاب، ثم قلت يا رسول الله، هذا كتابك لي، أنا سراقة بن جعشم، قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يوم وفاء وبر، أدنه"، قال: فدنوت منه، فأسلمت. ثم تذكرت شيئا أسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عنه فما أذكره، إلا أني قلت: "يا رسول الله، الضالة(1) من الإبل تغشى حياضي، وقد ملأتها لإبلي، هل لي من أجر في أن أسقيها؟ قال: "نعم، في كل ذات كبد حرى أجر".
ثم رجعت إلى قومي، فسقت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم صدقتي(2).
والحديث رواه موسى بن عقبة فقال: حدثنا ابن شهاب قال: حدثني عبد الرحمن بن مالك بن جعشم المدلجي أن أباه مالكا أخبره أن أخاه سراقة بن جعشم أخبره "أنه لما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة مهاجرا إلى المدينة جعلت قريش لمن رده عليهم مائة ناقة" الحديث(3).
وأخرج الحميدي هذا الحديث مختصرا في قدوم سراقة إلى الجعرانة وسؤاله رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا سياقه:
__________
(1) هذا الجزء من الحديث رواه ابن ماجه من طريق ابن إسحاق، وأحمد من طريق ابن إسحاق أيضا ومن طريق معمر عن الزهري (سنن ابن ماجه: 2/1215 كتاب الأدب، باب فضل صدقة الماء، مسند أحمد: 4/175).
(2) سيرة ابن هشام 1/489-491).
(3) البيهقي: دلائل النبوة 2/219-221 وحصل خطأ مطبعي في الدلائل وهو: حتى إذا فتح الله مكة و فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من أهل "خيبر" و الصواب: من أهل حنين لأن خيبر فتحت قبل فتح مكة.(3/46)
حدثنا سفيان قال: سمعت الزهري يخبر عن ابن سراقة(1) أو ابن أخي سراقة عن سراقة قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجعرانة فلم أدر ما أسأله عنه. فقلت: يا رسول الله إني أملأ حوضي أنتظر ظهري يرد علي فتجيء البهمة(2) فتشرب فهل لي من أجر؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لك في كل كبد حرى أجر"
قال سفيان: "هذا الذي حفظت عن الزهري، واختلط علي من أوله شيء فأخبرني وائل بن داود عن الزهري بعض هذا الكلام لا أخلص ما حفظت من الزهري وما أخبرنيه وائل، قال سراقة: أتيت نبي الله صلى الله عليه وسلم وهو بالجعرانة فجعلت لا أمر على مقنب من مقانب الأنصار إلاّ قرعوا رأسي، وقالوا: إليك! إليك ! فلما انتهيت إليه، رفعت الكتاب، وقلت: أنا يا رسول الله قال: وقد كان كتب لي أمانا في رقعة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "نعم، اليوم يوم وفاء وبر وصدق"(3).
__________
(1) ابن سراقة: هو محمد بن سراقة (ذكره ابن الأثير وابن حجر في ترجمة والده و لم أجد ترجمته، والحديث رواه ابن إسحاق و موسى بن عقبة كلاهما عن الزهري عن ابن أخي سراقة بن مالك وهو عبد الرحمن بن مالك، ورواه أحمد عن عبد الرزاق عن معمر عن الزهري فقال: عن ابن أخي سراقة، والبخاري عن عقيل عن الزهري، فقد رواه عن الزهري بدون شك ابن إسحاق وموسى بن عقبة ومعمر وعقيل.
(2) البهمة: هي ولد الضأن الذكر والأنثى، والجمع بهم (النهاية 1/168) وقال حبيب الرحمن الأعظمي المحقق لمسند الحميدي، وفي نسخة (ظ) بهيمة، قلت: وهذه اللفظة أشمل ولعلها أرجح من لفظ (بهمة) وذلك لأن في حديث ابن إسحاق وموسى بن عقبة فتأتي الضالة من الإبل، والإبل لا تدخل في لفظ بهمة، وتدخل في لفظ بهيمة؛ لأن البهيمة كل ذات أربع قوائم ولو في الماء، أو كل حيى لا يميز جمع بهائم. (القاموس المحيط 4/82 والمصباح المنير 1/81).
(3) الحميدي: المسند 2/401وأحمد: المسند 4/175.(3/47)
وقصة تفاصيل هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم وتعرض سراقة له أثناء الهجرة ومحاولته القبض على رسول الله صلى الله عليه وسلم وطلبه في نهاية الأمر من رسول الله صلى الله عليه وسلم كتاب أمن، ثابت في صحيح البخاري من حديث عائشة (دون مجيء سراقة إلى الجعرانة)(1).
__________
(1) البخاري: الصحيح5/49-52 كتاب مناقب الأنصار، باب هجرة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه إلى المدينة.(3/48)
الفصل الثالث: في تقسيم الغنائم
وفيه خمسة مباحث:
المبحث الأول: الفرق بين الغنيمة والفيء و النفل.
المبحث الثاني: جفاء الأعراب وغلظتهم.
المبحث الثالث:اعتراض ذي الخويصرة التميمي على رسول الله صلى الله عليه وسلم في قسم الغنائم.
المبحث الرابع: في بيان حكمة توزيع الغنائم على قوم دون آخرين.
المبحث الخامس: موقف الأنصار من توزيع الغنائم وخطبة الرسول فيهم.
المبحث الأول: الفرق بين الغنيمة والفيء و النفل
ذهب جمهور العلماء إلى أن هذه الألفاظ الثلاثة لا فرق بينها في أصل اللغة وأنها تلتقي وتجتمع في مطلق الزيادة والرجوع، وذلك أن الغنيمة في أصل اللغة: زيادة وعطية من الله عز وجل لهذه الأمة على ما هو أصل الأجر و الثواب للمجاهد، أو أنها زيادة لهذه الأمة بعد أن كانت الغنائم محرمة على غيرها من الأمم الماضية".
ويشهد لهذا ما رواه جابر بن عبد الله رضي الله عنهما:
176- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أعطيت خمسا لم يعطهن أحد قبلي" الحديث.
وفيه: "وأحلت لي المغانم ولم تحل لأحد قبلي"(1).
والفيء: مأخوذ من فاء يفيء إذا رجع كأنه في الأصل للمسلمين فرجع إليهم، وهو الغنيمة شيء واحد، فجميع ما أخذ من الكفار على أي وجه كان يسمى غنيمة وفيئا.
والنفل: بالتحريك - الغنيمة والهبة والتطوع، وجمعه أنفال، ونفال، والنفل - بالسكون وقد تحرك - معناه الزيادة. وهي زيادة عما فرضه الله تعالى، ومنه قوله تعالى: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَحْمُوداً}، [سورة الإسراء، الآية: 79].
__________
(1) البخاري: الصحيح 1/62-63 كتاب التيمم، باب قول الله تعالى (فلم تجدوا ماء، الخ) و79-80 باب وجعلت لي الأرض مسجدا وطهوراً. ومسلم: الصحيح 1/370 كتاب المساجد ومواضع الصلاة.(4/1)
فسمى سبحانه صلاة التطوع نافلة، لأنها زيادة أجر لهم على ما كتب لهم من ثواب ما فرض عليهم(1).
والفرق بين هذه الألفاظ الثلاثة إنما هو في الاصطلاح الشرعي ذلك أن الغنيمة في الاصطلاح هي المال المأخوذ من الكفار بايجاف (2) الخيل والركاب.
قال القرطبي: "واعلم أن الاتفاق حاصل على أن المراد بقوله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ}، [سورة الأنفال، من الآية:41].
مال الكفار: إذا ظفر المسلمون على وجه الغلبة والقهر، ولا يقتضي اللغة هذا التخصيص، ولكن عرف الشرع قيد بهذا اللفظ النوع".
ثم قال: "وقد سمى الشرع الواصل من الكفار إلينا من الأموال باسمين:غنيمة، و فيئا.
فالشيء الذي يناله المسلمون من عدوهم بالسعي و إيجاف الخيل والركاب يسمى غنيمة، لزم هذا الاسم هذا المعنى حتى صار عرفا.
و الفيء: مأخوذ من فاء يفيء إذا رجع، وهو كل مال دخل على المسلمين من غير حرب و لا إيجاف"(3).
__________
(1) كتاب الأموال لأبي عبيد ص 428 و430 والنهاية لابن الأثير 3/389-390 و482 و5/99، ولسان العرب لابن منظور1/119 و121 و122 و14/194-196 و15/342 والقاموس المحيط، للفيروزآبادي1/24 و4/59 و158 والمصباح المنير للفيومي 2/545 و757 ومختار الصحاح لأبي بكر الرازي ص: 482 و516 و674، وفتح الباري: 6/239 و8/47-48، وهدي الساري ص 196 و197 كلاهما لابن حجر.
(2) الإيجاف: سرعة السير، والركاب: ككتاب: الإبل التي يسار عليها، واحدها راحلة ولا واحد لها من لفظها، وجمعها: ركب بضم الكاف، ككتب وركا بات وركائب. (لسان العرب لابن منظور1/414 و11/267-368) والقاموس المحيط للفيروز آبادي 1/75 و3/303.
(3) الجامع لأحكام القرآن 8/1-2 والفتاوى لابن تيمية 28/269 و562، وتفسير ابن كثير 2/284 و310 وتكملة المجموع 18/136 لمحمد حسين العقبي وأضواء البيان للشنقيطي2/352، وروائع البيان للصابوني1/588 وفتح القدير للشوكاني: 2/309، وجامع البيان للطبري 9/171 و10/2.(4/2)
وقال محمد الأمين الشنقيطي: "اعلم أن أكثر العلماء: فرقوا بين الفيء و الغنيمة. فقالوا: الفيء ما يسره الله للمسلمين من أموال الكفار من غير انتزاعه منهم بالقهر، كفيء بني النضير.
وأما الغنيمة: فهي ما انتزعه المسلمون من الكفار بالغلبة و القهر، وهذا التفريق يفهم من قوله: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ} الآية مع قوله: {فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكَابٍ}، [سورة الحشر، الآية: 6].
فإن قوله تعالى: {فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ} الآية. ظاهر في أنه يراد به بيان ما أوجفوا عليه، وما لم يوجفوا عليه كما ترى.
ثم قال رحمه الله: وعلى هذا القول فلا إشكال في الآيات، لأن آية {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ} ذكر فيها حكم الغنيمة، وآية {وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِه} ذكر فيها حكم الفيء.
وأشير لوجه الفرق بين المسألتين بقوله: {فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكَابٍ} أي فكيف يكون غنيمة لكم، وأنتم لم تتعبوا فيه ولم تنتزعوه بالقوة من مالكيه، ثم قال: وقال بعض العلماء، إن الغنيمة والفيء شيء واحد، فجميع ما أخذ من الكفار على أي وجه كان غنيمة وفيئا، وهذا قول قتادة رحمه الله، وهو المعروف في اللغة والعرب تطلق اسم الفيء على الغنيمة(1).
ثم قال: ولكن الاصطلاح المشهور عند العلماء هو ما قدمنا من الفرق بينهما وتدل له آية الحشر المتقدمة.
__________
(1) ومنه قول مهلهل بن ربيعة التغلبي:
فلا وأبي جليلة ما أفأنا
من النعم المؤبل من بعير
ولكنا نهكنا القوم ضربا
على الأثباج منهم والنحور
يعني أنهم لم يشتغلوا بسوق الغنائم ولكن بقتل الرجال، فقوله: أفأنا يعني غنمنا. (أضواء البيان 2/353).(4/3)
وعلى القول قتادة: فآية الحشر مشكلة مع آية الأنفال، ولأجل ذلك الإشكال قال قتادة: إن آية {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ} ناسخة لآية {وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِه} وهذا القول الذي ذهب إليه باطل بلا شكّ، ولم يلجئ قتادة إلى هذا القول إلاّ دعواه اتحاد الفيء والغنيمة، فلو فرق بينهما كما فعل غيره، لعلم أن آية الأنفال في (الغنيمة) وآية الحشر في (الفيء) ولا إشكال.
ووجه بطلان قول قتادة المذكور:
أن آية: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ} نزلت بعد وقعة بدر، قبل قسم غنيمة بدر، بدليل حديث علي - رضي الله عنه - الثابت في صحيح مسلم(1) الدال على أن غنائم بدر خمست، وآية التخميس التي شرعه الله بها هذه.
وإما آية الحشر فهي نازلة في غزوة بني النضير بإطباق العلماء، وغزوة بني النضير بعد غزوة بدر بإجماع المسلمين.
ولا منازعة فيه البتة، فظهر من هذا عدم صحة قول قتادة - رحمه الله - تعالى وقد ظهر لك أنه على القول بالفرق بين الغنيمة والفيء لا إشكال في الآية، وكذلك على قول من يرى أمر الغنائم والفيء راجعا إلى نظر الإمام، فلا منافاة على قوله بين آية الحشر، وآية التخميس إذا رآه الإمام، والله أعلم(2).
الفيء في الاصطلاح: "هو كل مال أخذ من الكفار من غير قتال ولا إيجاف خيل ولا ركاب، كأموال بني النضير فإنها مما لم يوجف المسلمون عليه بخيل ولا ركاب".
__________
(1) انظر الحديث في صحيح مسلم 3/1568-1570 كتاب الأشربة، باب تحريم الخمر الحديث مطول وفيه "أن عليا قال: كانت لي شارف من نصيبي من المغنم، يوم بدر، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطاني شارفا أخرى من الخمس يومئذ" والحديث أخرجه البخاري أيضا في 4/62 كتاب فرض الخمس، باب فرض الخمس.
(2) أضواء البيان2/345و352-354 وانظر: فتح الباري6/198،وجامع بيان للطبري 10/1 و2.(4/4)
أي: لم يقاتلوا الأعداء فيها بالمبارزة والمصاولة، بل استسلم بنو النضير وصارت أموالهم فيئا أفاءه الله على رسوله صلى الله عليه وسلم فتصرف فيه كما أمره الله سبحانه فرده على المسلمين في وجوه البر والمصالح العامة التي ذكرها الله في آيات سورة الحشر(1).
وقد تقدم أن أكثر العلماء فرقوا بين الفيء و الغنيمة، وأن الفيء: هو ما يسره الله للمسلمين من أموال الكفار من غير انتزاعه منهم بالقهر.
ومن العلماء من قال: إن الغنيمة و الفيء شيء واحد، فجميع ما وصل إلينا من أموال الكفار على أي وجه كان يسمى فيئا وغنيمة.
والمشهور عند العلماء الفرق بينهما كما تقدم(2).
والنفل في الاصطلاح هو: ما يعطيه الإمام لبعض الجيش دون بعض سوى سهامهم، يفعل ذلك بهم على قدر الغناء(3) عن الإسلام والنكاية في العدو(4).
177- وفي حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: "بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية إلى نجد فخرجت فيها، فأصبنا إبلا وغنما، فبلغت سهماننا اثني عشر بعيرا، اثني عشر بعيرا ونفلنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بعيراً بعيراً"(5)
__________
(1) انظر تفسير ابن كثير 4/335 ومجموع الفتاوى لابن تيمية 28/562 وفتح الباري لابن حجر 6/269. وأوجز المسالك إلى موطأ مالك 8/321.
(2) انظر ص 355-357.
(3) الغناء: بفتح الغين المعجمة، ممدودا، معناه النفع و الكفاية (لسان العرب لابن منظور 19/376 وهدي الساري لابن حجر ص 164.
(4) النكاية: هي كثرة القتل و الجراح في العدو. (النهاية لابن الأثير 5/117 ولسان العرب لابن منظور 20/215 والقاموس المحيط للفيروز آبادي 4/397).
(5) البخاري: الصحيح 4/71 كتاب فرض الخمس، باب ومن الدليل على أن الخمس لنوائب المسلمين إلخ.
و5/131 كتاب المغازي، باب السرية التي قبل نجد. ومسلم: الصحيح 3/1368-1369 كتاب الجهاد و السير، باب الأنفال.
قال النووي: "قوله (والخمس في ذلك واجب كله). (كله) مجرور تأكيد لقوله (في ذلك) وهذا تصريح بوجوب الخمس في كل الغنائم ورد على من جهل فزعم أنه لا يجب، فاغتر به بعض الناس، وهذا مخالف للإجماع، وقد أوضحت ذلك في جزء جمعته في قسمة الغنائم إهـ.. (شرح النووي لصحيح مسلم 4/350).(4/5)
.
وعنه - رضي الله عنهما - "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان ينفل بعض من يبعث من السرايا لأنفسهم خاصة سوى قسم عامة الجيش".
زاد مسلم: والخمس في ذلك واجب كله(1).
قال أبو عبيد: "وفي هذا النفل الذي ينفله الإمام سنن أربع لكل واحدة منهن موضع غير موضع الأخرى:
فإحداهن: في النفل الذي لا خمس فيه.
والثانية: في النفل الذي يكون من الغنيمة بعد إخراج الخمس.
والثالثة: في النفل الذي يكون من الخمس نفسه.
والرابعة: في النفل من جملة الغنيمة قبل أن يخمس منها شيء.
فأما الذي لا خمس فيه فإنه السلب، وذلك أن ينفرد الرجل بقتل المشرك فيكون له سلبه خالصا من غير أن يخمس أو يشركه فيه أحد من أهل العسكر.
وأما الذي يكون من الغنيمة بعد الخمس، فهو أن يوجه الإمام السرايا في أرض الحرب فتأتي بالغنائم، فيكون للسرية مما جاءت به الربع أو الثلث بعد الخمس.
وأما الثالث فأن تحاز الغنيمة كلها ثم تخمس، فإذا صار الخمس في يدي الإمام نفل منه على قدر ما يرى.
وأما الذي يكون من جملة الغنيمة، فما يعطي الأدلاء على عورة العدو(2) ورعاء الماشية والسوق لها، وذلك أن هذا منفعة لأهل العسكر جميعا.
ثم قال: وفي كل ذلك أحاديث و اختلاف.
ثم أورد الأدلة على كل مسألة من هذه المسائل المتقدمة"(3).
__________
(1) انظر: الحاشية السابقة.
(2) يعني على كشف مواطن الضعف في العدو والأماكن التي يسهل الدخول عليه منها.
(3) كتاب الأموال لأبي عبيد ص 430-431 و438 و444 و449.(4/6)
وقال الطبري - بعد أن ذكر اختلاف العلماء في المعنى المراد من الأنفال في قوله تعالى: {يَسْأَلونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ} ودليل كل - وأولى هذه الأقوال بالصواب في معنى الأنفال من قال: هي زيادات يزيدها الإمام بعض الجيش أو جميعهم، إما من سلبه على حقوقهم من القسمة، و إما مما وصل إليه بالنفل، أو ببعض أسبابه، ترغيبا له، و تحريضا لمن معه من جيشه، على ما فيه صلاحهم وصلاح المسلمين، أو صلاح أحد الفريقين، وقد يدخل في ذلك ما قال ابن عباس أنه الفرس و الدرع ونحو ذلك (1).
ويدخل ما قاله عطاء من أن ذلك ما عاد من المشركين إلى المسلمين من عبد أو فرس(2).
لأن ذلك أمره إلى الإمام إذا لم يكن ما وصلوا إليه لغلبة وقهر، يفعل ما فيه صلاح أهل الإسلام.
وقد يدخل فيه ما غلب عليه الجيش بقهر.
__________
(1) انظر قول ابن عباس عند مالك في الموطأ 2/455 كتاب الجهاد، باب ما جاء في سلب في النفل والطبري في الجامع البيان 9/170 ولفظه عن القاسم بن محمد قال: سمعت رجلا سأل ابن عباس عن الأنفال، فقال ابن عباس: الفرس من النفل، والسلب من النفل، ثم عاد لمسألته، فقال ابن عباس ذلك أيضا، ثم قال الرجل: الأنفال التي قال الله في كتابه ما هي؟
قال القاسم: "فلم يزل يسأله حتى كاد يحرجه فقال ابن عباس: أتدرون ما مثل هذا؟ مثل صبيغ الذي ضربه عمر بن الخطاب رضي الله عنه".
(2) انظر: قول عطاء: في المصدر السابق 9/169-170 ولفظه عن عطاء بن أبي رباح في قوله تعالى: {يَسْأَلونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ} قال: يسألونك فيما شذ من المشركين إلى المسلمين في غير قتال من دابة أو عبد، فهو نفل للنبي صلى الله عليه وسلم.(4/7)
ثم قال: و إنما قلنا ذلك أولى الأقوال بالصواب، لأن النفل في كلام العرب، إنما هو الزيادة على الشيء، يقال منه نفلتك كذا وأنفلتك: إذا زدتك فإذا كان معناه ما ذكرنا، فكل من زيد من مقاتلة الجيش على سهمه من الغنيمة إن كان ذلك لبلاء أبلاه، أو لغناء كان منه عن المسلمين، بتنفيل الوالي ذلك إياه، فيصير حكم ذلك له كالسلب الذي يسلبه القاتل،فهو منفل ما زيد من ذلك لأن الزيادة وإن كانت مستوجبة في بعض الأحوال بحق،فليست من الغنيمة التي تقع فيها القسمة.
وكذلك كل ما رضخ لمن لا سهم له في الغنيمة فهو نفل، لأنه و إن كان مغلوبا عليه، فليس مما وقعت عليه القسمة، فالفصل إذا كان الأمر على ما وصفنا بين الغنيمة و النفل: أن الغنيمة هي ما أفاء الله على المسلمين من أموال المشركين بغلبة وقهر نفل منه منفل، أو لم ينفل.
والنفل: هو ما أعطيه الرجل على البلاء والغناء عن الجيش على غير قسمة(1).
وبعد أن ذكرنا الفرق بين الغنيمة والفيء والنفل في الاصطلاح الشرعي يحسن بنا أن نذكر حكم كل من الغنيمة والفيء والنفل تكميلا للغرض المقصود من هذا المبحث.
فأقول: الغنائم قسمان: ثابت ومنقول ولكل منهما حكمه الخاص به.
فحكم الثابت كالأرض المفتوحة عنوة والعقار راجع إلى الإمام فهو بالخيار بين قسمها بين الغانمين وبين وقفها في مصالح المسلمين، أو قسم بعضها ووقف البعض، وقد فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم الأنواع الثلاثة، فقسم قريظة و النضير، ولم يقسم مكة، وقسم شطر خيبر وترك شطرها الآخر وهذا هو المشهور من أقوال العلماء أن الإمام مخير بين قسم الأراضي وبين وقفها إن رأى المصلحة في ذلك(2).
__________
(1) الطبري: جامع البيان 9/171.
(2) انظر الفتاوى لابن تيمية 17/492 وزاد المعاد لابن قيم الجوزية 3/328و329 ونيل الأوطار للشوكاني 8/16-17.(4/8)
وإن كانت منقولة فإن جمهور العلماء على أن للغانمين فيها أربعة أخماس وأنها ملك لهم تقسم بينهم للراجل سهم، وللفارس ثلاثة أسهم سهم له، وسهمان لفرسه.
وأن أصل الغنائم كانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم خاصة بقوله تعالى: {يَسْأَلونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُول} وأن هذه الآية منسوخة بآية {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ}. الآية.
قال القرطبي: "لما بين الله تعالى حكم الخمس وسكت عن الباقي، دل ذلك على أنه ملك للغانمين"(1).
وقال ابن تيمية: "فالواجب في المغنم تخميسه، وصرف الخمس إلى من ذكره الله تعالى، وقسمة الباقي بين الغانمين".
قال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: "الغنيمة لمن شهد الوقعة، وهم الذين شهدوها للقتال، قاتلوا أولم يقاتلوا، ويجب قسمتها بينهم بالعدل، فلا يحابي أحد، لا لرياسته، ولا لنسبه، ولا لفضله، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم وخلفاؤه يقسمونها، وما زالت الغنائم تقسم بين الغانمين في دولة بني أمية، ودولة بني العباس، لما كان المسلمون يغزون الروم و الترك والبربر، ولكن يجوز للإمام أن ينفل من ظهر منه زيادة نكاية: كسرية تسرت من الجيش أو رجل صعد حصناً عالياً ففتحه، أو حمل على مقدم العدو فقتله، فهزم العدو ونحو ذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم وخلفاؤه كانوا ينفلون لذلك"(2).
وقال الشوكاني: "وقد ادعى ابن عبد البر الإجماع على أن آية {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ} بعد قوله تعالى: {يَسْأَلونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ} وأن أربعة أخماس الغنيمة مقسومة على الغانمين.
__________
(1) تفسير أبي السعود 5/23 وفتح الباري 6/198، وانظر الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 8/3.
(2) الفتاوى 28/280-271و 29/316.(4/9)
وأن قوله تعالى: {يَسْأَلونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ} نزلت حين تشاجر أهل بدر في غنائم بدر".
ثم قال الشوكاني: "وقد حكى الإجماع جماعة من أهل العلم على أن أربعة أخماس الغنيمة للغانمين وممن حكى ذلك ابن المنذر(1) وابن عبد البر و الداودي(2) والمازري(3) والقاضي عياض وابن العربي"(4).
والأحاديث الواردة في قسمة الغنيمة بين الغانمين، وكيفيتها كثيرة جدا وقال القرطبي: ولم يقل أحد فيما أعلم - أن قوله تعالى: {يَسْأَلونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ} الآية، وناسخ لقوله: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ} الآية. بل قال الجمهور: إن قوله: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ}، ناسخ وهم الذين لا يجوز عليهم التحريف ولا تبديل لكتاب الله (5).
وقال محمد الأمين الشنقيطي: إعلم أن جماهير علماء المسلمين على أن أربعة أخماس الغنيمة للغزاة الذين غنموها، وليس للإمام أن يجعل تلك الغنيمة لغيرهم.
__________
(1) ابن المنذر: هو أبو بكر محمد بن إبراهيم تقدمت ترجمته في حديث (56).
(2) هو أبو الحسين عبد الرحمن بن محمد بن مظفر الداودي (374-467) هـ (فتح الباري 1/6 ومعجم المؤلفين لكحالة 5/192.
(3) المازري هو أبو عبد الله محمد بن علي بن عمر التميمي المازري الفقيه المالكي كان ثقة متقنا، شرح صحيح مسلم بكتاب سماه "المعلم بفوائد كتاب مسلم" (ت 536) (ابن خلكان: وفيات الأعيان 4/285).
(4) هو أبو بكر محمد بن عبد الله بن محمد الأشبيلي ابن العربي، العلامة الحافظ القاضي (468-543). (الذهبي: تذكرة الحفاظ 4/1294-1298).
(5) فتح القدير للشوكاني 2/309 وانظر أوجز المسالك إلى موطأ مالك للكندهلوي 8/308، وانظر الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 8/2 و3.(4/10)
ويدل لهذا قوله تعالى: {غَنِمْتُمْ} فهو يدل على أنها غنيمة لهم، فلما قال: {فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} علمنا أن الأخماس الأربعة الباقية لهم لا لغيرهم، ونظير ذلك قوله تعالى: {فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ} أي: ولأبيه الثلثان الباقيان إجماعا، فكذلك قوله: {فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} أي: للغانمين ما بقي، وهذا القول هو الحق الذي لا شك فيه، ثم أشار إلى الإجماع الذي ذكره الشوكاني ثم قال: وخالف في ذلك بعض أهل العلم وهو قول كثير من المالكية، ونقله عنهم المازري أيضا قالوا: للإمام أن يصرف الغنيمة فيما يشاء من مصالح المسلمين ويمنع منها الغزاة الغانمين، واحتجوا لذلك بأدلة منها قوله تعالى: {يَسْأَلونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُول} الآية.
قالوا: الأنفال: الغنائم كلها، والآية محكمة لا منسوخة، احتجوا أيضا بما وقع في فتح مكة، وقصة حنين، قالوا: إنه صلى الله عليه وسلم فتح مكة عنوة ومن على أهلها فردها عليهم، ولم يجعلها غنيمة ولم يقسمها على الجيش، فلو كان قسم الأخماس الأربعة على الجيش واجبا لفعله صلى الله عليه وسلم لما فتح مكة.
وكذلك غنائم هوازن في غزوة حنين، أعطى منها عطايا عظيمة جدا، ولم يعط الأنصار منها مع أنهم من خيار المجاهدين، الغانمين معه صلى الله عليه وسلم، فلو كان يجب قسم الأخماس الأربعة على الجيش الذي غنمها لما وزعت الغنائم على غير الغانمين، ثم قال: وأجاب الجمهور عن هذه الاحتياجات بأن آية: {يَسْأَلونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ} منسوخة بآية {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ}.
وأما الجواب عما وقع في فتح مكة، فإن مكة وإن كانت فتحت عنوة على المشهور، فإنها ليست كغيرها من البلاد التي ليست لها هذه الحرمة.(4/11)
وأما ما وقع في قصة حنين فالجواب عنه ظاهر، وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم استطاب نفوس الغزاة عن الغنيمة ليؤلف بها قلوب المؤلفة قلوبهم لأجل المصلحة العامة للإسلام والمسلمين وقد عوضهم نفسه صلى الله عليه وسلم فإن الأنصار لما قالوا يمنعنا ويعطي قريشا وسيوفنا تقطر من دمائهم فجمعهم وكلمهم بقوله: "يا معشر الأنصار ألا ترضون أن يذهب الناس بالشاة و البعير وتذهبون برسول الله صلى الله عليه وسلم إلى رحالكم" فرضي القوم وطابت نفوسهم، وقالوا: "رضينا برسول الله صلى الله عليه وسلم قسما و حظا"(1)
قال الشوكاني: "وليس لغيره صلى الله عليه وسلم أن يقول هذا القول"(2). وأجاب ابن تيمية عن هذا أيضا فقال: "ولو فتح الإمام بلدا وغلب على ظنه أن أهله يسلمون ويجاهدون جاز أن يمن عليهم بأنفسهم و أموالهم و أولادهم كما فعل صلى الله عليه وسلم بأهل مكة، فإنهم أسلموا كلهم بلا خلاف، بخلاف أهل خيبر فإنه لم يسلم أحد، فأولئك قسم أرضهم لنهم كانوا كفارا مصرين على الكفر، وهؤلاء تركها لهم لأنهم كلهم صاروا مسلمين، و المقصود بالجهاد أن تكون كلمة الله هي العليا، وأن يكون الدين كله لله، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يعطي المؤلفة قلوبهم ليتألفهم على الإسلام، فكيف لا يتألفهم بإبقاء ديارهم وأموالهم"(3).
والخلاصة أن القول الأرجح في هذا أن أربعة أخماس الغنيمة للغانمين الذين شهدوا الوقعة هذا إذا كانت الغنائم منقولة وأما غير المنقول، فيخير الإمام بين قسمها ووقفها، وهذا هو الظاهر من نصوص الشريعة، والله أعلم.
وأما الفيء:
__________
(1) أضواء البيان 2/354، و356، و357، وانظر: الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 8/3-4.
(2) فتح القدير 2/309.
(3) الفتاوى 17/493.(4/12)
فقد بين الله عز وجل حكمه ومصارفه في قوله تعالى: {وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ}. [سورة الحشر، الآيتان: 6و7].(4/13)
قال ابن كثير في شرح هذه الآيات: "يقول تعالى: مبينا ما الفيء وما صفته وما حكمه، فالفيء كل مال أخذ من الكفار من غير قتال ولا إيجاف خيل ولا ركاب، كأموال بني النضير هذه فإنها مما لم يوجف المسلمون عليه بخيل ولا ركاب، أي لم يقاتلوا الأعداء فيها بالمبارزة و المصاولة، بل نزل أولئك من الرعب الذي ألقى الله في قلوبهم من هيبة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأفاء ه الله على رسوله، ولهذا تصرف فيه كما يشاء فرده على المسلمين في وجوه البر والمصالح التي ذكرها الله - عز وجل - في هذه الآيات، فقال تعالى: {وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ} أي: من بني النضير، {فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكَابٍ} يعني: الإبل {وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} أي: هو قادر لا يغالب ولا يمانع بل هو القاهر لكل شيء ثم قال تعالى: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى} أي: جميع البلدان التي تفتح هكذا فحكمها حكم أموال بني النضير ولهذا قال تعالى {فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ} إلى آخرها والتي بعدها فهذه مصارف أموال الفيء ووجوهه.(4/14)
178- ثم قال: روى الإمام أحمد فقال: حدثنا سفيان عن عمرو ومعمر عن الزهري عن مالك(1) بن أوس بن الحدثان عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: "كانت أموال بني النضير مما أفاء الله على رسوله صلى الله عليه وسلم مما لم يوجف المسلمون بخيل أو ركاب، وكانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم خالصة، وكان ينفق على أهله منها نفقة سنة، وقال مرة قوت سنة، وما بقي جعله في الكراع والسلاح عدة في سبيل الله عز وجل"(2).
ثم قال: "هكذا أخرجه أحمد ههنا مختصرا، وقد أخرجه الجماعة(3) في كتبهم إلا ابن ماجة من حديث سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار عن الزهري به"(4).
وقال ابن حجر: "واختلف العلماء في مصرف الفيء، فقال مالك: الفيء والخمس سواء يجعلان في بيت المال ويعطى الإمام أقارب النبي صلى الله عليه وسلم بحسب اجتهاده".
__________
(1) مالك بن أوس بن الحدثان - بمهملتين مفتوحتين ومثلثة- النصري- بالنون أبو سعيد المدني، له رؤية، وروى عن عمر، مات سنة 92 وقيل (91) /ع 0 التقريب 2/223).
(2) انظر الحديث في مسند أحمد 1/25و48، والبخاري 4/31 كتاب الجهاد باب المجن ومن تترس بترس صاحبه، ومسلم 3/1376 كتاب الجهاد و السير، باب حكم الفيء، والنسائي 8/119-120 كتاب قسم الفيء و أبو داود 2/125 كتاب الخراج والإمارة والفيء، باب في صفايا رسول الله صلى الله عليه وسلم، والترمذي 3/81-82 أبواب السير باب ما جاء في تركة النبي صلى الله عليه وسلم.
(3) المراد بالجماعة: البخاري و مسلم وأبو داود والترمذي و النسائي وابن ماجة.
(4) تفسير ابن كثير 4/335.(4/15)
وفرق الجمهور بين خمس الغنيمة وبين الفيء، فقالوا: الخمس موضوع فيما عينه الله فيه من الأصناف المسمين في آية الخمس من سورة الأنفال(1)، لا يتعدى به إلى غيرهم، وأما الفيء فهو الذي يرجع النظر في مصرفه إلى رأي الغمام بحسب المصلحة.
ثم قال: "انفرد الشافعي - كما قال ابن المنذر وغيره - بأن الفيء يخمس وأن أربعة أخماسه للنبي صلى الله عليه وسلم، وله خمس الخمس كما في الغنيمة وأربعة أخماس الخمس لمستحق نظيرها من الغنيمة".
وقال الجمهور: "مصرف الفيء كله إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم واحتجوا بقول عمر: "فكانت هذه لرسول الله صلى الله عليه وسلم خاصة".
وتأول الشافعي قول عمر المذكور بأنه يريد الأخماس الأربعة(2).
وقال النووي: "وقد أوجب الشافعي الخمس في الفيء، كما أوجبوه كلهم في الغنيمة، وقال جميع العلماء سواه: لا خمس في الفيء ثم قال: يؤيد الجمهور بأنه لا خمس في الفيء قوله في حديث الباب "كانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم خاصة".
وقد ذكرنا أن الشافعي أوجبه، ومذهبه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان له من الفيء أربعة أخماس وخمس خمس الباقي(3).
__________
(1) هي قوله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} الآية 41 من سورة الأنفال.
(2) فتح الباري 6/208 و269 وعون المعبود 8/186-187.
(3) شرح مسلم للنووي 4/361 وفتاوى ابن تيمية 28/564-565 وفتح القدير للشوكاني 5/198، ومعنى قول الشافعي رحمه الله أنّ مال الفيء يقسم خمسة أقسام، فأربعة من هذه الخمسة لرسول الله صلى الله عليه وسلم والخمس الباقي يقسم أيضا خمسة أقسام فلرسول الله صلى الله عليه وسلم منها خمسا و الأربعة الأخماس الباقية تقسم على المذكورين في آية خمس الغنيمة، انظر: الأم، للشافعي: 4/64-66.(4/16)
وقال ابن تيمية في أثناء كلامه على الفيء، ومن الفيء ما ضربه عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - على الأرض التي فتحها عنوة ولم يقسمها، كأرض مصر وأرض العراق - إلا شيئا يسيرا منها - وبر الشام، وغير ذلك، فهذا الفيء لا خمس فيه عند جماهير الأئمة: كأبي حنيفة، ومالك وأحمد، وإنما يرى تخميسه الشافعي وبعض أصحاب أحمد، وذكر ذلك رواية عنه.
قال ابن المنذر: "لا يحفظ عن أحد قبل الشافعي أن في الفيء خمسا كخمس الغنيمة"، ثم قال ابن تيمية: "وهذا الفيء لم يكن ملكا للنبي صلى الله عليه وسلم في حياته عند أكثر العلماء".
وقال الشافعي وبعض أصحاب أحمد: "كان ملكا له"، ثم قال: "وأما مصرفه بعد موته صلى الله عليه وسلم، فقد اتفق العلماء على أن يصرف منه أرزاق الجند المقاتلين، الذين يقاتلون الكفار، فإن تقويتهم تذل الكفار، فيؤخذ منهم الفيء، وتنازعوا هل يصرف في سائر مصالح المسلمين، أم تختص به المقاتلة؟"
على القولين للشافعي، ووجهين في مذهب الإمام أحمد، لكن المشهور في مذهبه، وهو مذهب أبي حنيفة ومالك: "أنه لا يختص به المقاتلة، بل يصرف في المصالح كلها. أهـ"(1).
وأما النفل فقد تقدم حكمه(2).
والخلاصة في هذا أن الغنيمة والنفل والفيء تلتقي في الأصل اللغوي، وتفترق في المعنى الشرعي.
وأن أربعة أخماس الغنيمة لمن شهد الوقعة حق ثابت لهم، وأن الفيء يصرف في مصالح المسلمين، حسب المصلحة الراجحة، وأن النفل يرجع فيه إلى رأي الإمام فيعطي كلا على حسب غنائه وبلائه في مصلحة الإسلام و المسلمين.
المبحث الثاني: جفاء الأعراب وغلظتهم
__________
(1) ابن تيمية: الفتاوى 28/564-565.
(2) تحت حديث (177).(4/17)
لقد عرف الأعراب بالجشع والحرص على أتفه متاع الدنيا مع الغلظة وشراسة الطبع والجفاء، لبعدهم عن مواطن الوعي الاجتماعي وتحررهم من قيود النظام وقوانين الحضارة الإنسانية، فالأعراب قوم من العرب يعيشون في البوادي ويتتبعون مواقع القطر وأماكن الخصب، ولا تجمعهم قرية و لا يحكمهم قانون ولا يخضعون لسلطان وقد سجل القرآن على هؤلاء الأعراب أشد الكفر والنفاق وأسوأ الجهل والفظاظة الأمر الذي يؤدي إلى كل تصرف وحشي وكل قول غليظ جاف.
قال تعالى: {الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفَاقاً وَأَجْدَرُ أَلّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ، وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ مَغْرَماً وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}. [سورة التوبة: آية 97و98].
وتاريخ الأعراب في الجاهلية حافل بالهمجية والفوضى وما يتبع من تصرفات نادة عن الذوق والوعي و المسئولية.
والإسلام جاء ليستنقذ هؤلاء التعساء وغيرهم من الظلمات الجاهلية إلى نور الإيمان، وقد استمرت الدعوة الإسلامية في طريقها لتخليص هذه النفوس المأفونة من رق الكفر وأغلال الجاهلية فأقبل على هذه الدعوة المحمدية من علم الله فيه الخير فتحرر من تقاليد الجاهلية وانحرافها في الفكر والسلوك في العقيدة و العمل بيد أنّ كثيراً من هؤلاء الجاهليّين ظل شاكاً في حقيقة الدعوة الإسلامية يتربص بها الدوائر يخرج مع المسلمين لا حباً في نصر الدين و إنما للحصول على الغنائم و يبدوا أن فرار الأعراب يوم حنين لا يبعد أن يكون من دوافعه ريب في قلوبهم وشك في إيمانهم، على أنهم ليسوا على درجة واحدة في ذلك.(4/18)
ومن الظواهر العجيبة التي تستحق التنبيه أن هؤلاء الأعراب كانوا أول من فر من ميدان القتال فصاروا سببا مباشرا في انكشاف المسلمين بادئ الأمر أمام جموع هوازن كما كانوا في نهاية المعركة أحرص الناس على الغنائم و أشدهم غلظة في القول يوضح ذلك الموقف المشار له في الأحاديث الآتية:
ما رواه مسلم وأحمد من حديث أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: "افتتحنا مكة ثم إنا غزونا حنينا فجاء المشركون بأحسن صفوف رأيت، قال: فصفت الخيل، ثم صفت المقاتلة، ثم صفت النساء من وراء ذلك، ثم صفت الغنم، ثم صفت النعم، قال: ونحن بشر كثير قد بلغنا ستة آلاف، وعلى مجنبة خيلنا خالد بن الوليد، قال: فجعلت خيلنا تلوى خلف ظهورنا فلم نلبث أن انكشفت خيلنا، وفرت الأعراب ومن نعلم من الناس" الحديث(1).
وما رواه البخاري وغيره من حديث جبير بن مطعم وهذا سياقه عند البخاري:
179- قال: حدثنا عبد العزيز بن عبد الله الأويسي حدثنا إبراهيم بن سعد عن صالح(2) عن ابن شهاب قال: أخبرني عمر بن محمد ابن جبير بن مطعم أن محمد بن جبير قال: أخبرني جبير بن مطعم أنّه بينا هو مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه الناس مقبلاً(3) من حنين علقت(4)
__________
(1) تقدم تخريجه برقم (46).
(2) صالح: هو ابن كيسان.
(3) مقبلا: قال ابن حجر: منصوب على الحال، للكشمهيني: "مقفله من حنين" وهو بفتح الميم وسكون القاف وفتح الفاء وباللام يعني: زمن رجوعه (فتح الباري 6/35 و254).
قلت: وهو كذلك عند عبد الرزاق وأحمد وأبي يعلى والطبراني (مقفله من حنين) وعند الطبري "مقبله من حنين".
(4) علقت: بفتح العين وكسر اللام الخفيفة بعدها قاف - أي نشبوا وتعلقوا - قال ابن حجر: وفي رواية الكشميهيني: "فطفقت" وهو بوزنه ومعناه (فتح الباري 6/35، و254 ولسان العرب 12/95).
وعند البخاري أيضا "فعلقت الناس يسألونه" وعند عبد الرزاق وأحمد و الطبراني "علقه الأعراب" وعند الطبري "عاقت رسول الله صلى الله عليه وسلم الأعراب".(4/19)
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الأعراب يسألونه حتى اضطروه(1) إلى سمرة فخطفت(2) رداءه، فوقف رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "اعطوني ردائي، فلو كان عدد هذه العضاه(3) نعما لقسمته بينكم،ثم لا تجدوني بخيلا، ولا كذوبا(4)
__________
(1) اضطروه إلى سمرة: أي ألجؤه، والسمرة: بفتح المهملة وضم الميم، شجرة طويلة متفرقة الرأس قليلة الظل، صغيرة الورق والشوك صلبة لخشب، قاله ابن التين. وقال الخطابي: ورق السمرة أثبت وظلها أكثف، ويقال: هي شجرة الطلح وقال الدوادي: السمرة هي العضاه. (فتح الباري 6/35 و254 ولسان العرب 6/45). وعند الطبراني: "حتى اضطره بسدرة خطفت رداءه".
(2) قوله فخطفت رداءه: وعند عبد الرزاق وهو على راحلته.
قال ابن حجر: "وفي مرسل عمرو بن سعيد عند عمر بن شبة (في كتاب مكة) حتى عدلوا بناقته عن طريق، فمرت بسمرات فانتهسن ظهره وانتزعن رداءه، فقال: "ناولني ردائي" فذكر نحو حديث جبير ابن مطعم وفيه "فنَزل و نزل الناس معه فأقبلت هوازن فقالوا: جئنا نستشفع بالمؤمنين إليك، ونستشفع بك إلى المؤمنين" فذكر القصة. (فتح الباري 6/254).
والزرقاني شرح المواهب 3/40 ووقع عنده (عمرو بن شبة) وصوابه (عمر).
(3) والعضاه بكسر المهملة بعدها معجمة خفيفة، وفي آخرها هاء، يقرأ في الوصل وفي الوقف بالهاء. واختلف في واحدها فقيل: عضة - بفتحتين - مثل شفة وشفاه، والأصل عضهة وشهقة فحذفت الهاء، وقيل: واحدها عضاهة.
قال القزاز: "العضاه: شجر الشوك كالطلح والعوسج والسدر، ويدخل فيه السمر" (فتح الباري 6/254، ولسان العرب 17/411).
(4) وعند عبد الرزاق وأحمد وأبي يعلى والطبري والطبراني "ولا كذابا" قال الزرقاني: أي إذا جربتموني لا تجدوني ذا بخل ولا ذا كذب ولا ذا جبن، فالمراد نفي الوصف من أصله، لا نفي المبالغة التي تدل عليها الثلاثة، لأن كذوبا من صيغ المبالغة، وجبانا صفة مشبهة، وبخيلا يحتمل الأمرين.
قال ابن المنير: "وفي جمعه صلى الله عليه وسلم بين هذه الصفات اللطيفة لأنها متلازمة، وكذا أضدادها الصدق والكرم والشجاعة، وأصل المعنى هنا الشجاعة فإن الشجاع واثق من نفسه بالخلف من كسب سيفه فبالضرورة لا يبخل، وإذا سهل عليه العطاء لا يكذب بالخلف في الوعد، لأن الخلف إنما ينشأ من البخل".
وقوله: "فلو كان لي عدد هذه العضاه نعما لقسمته بينكم: تنبيه بطريق الأولى لأنّه إذا سمح بمال نفسه فلأن يسمح بقسم غنائمهم عليهم أولى، واستعمال (ثم) هنا بعدما ما تقدم ذكره ليس مخالفا لمقتضاها، وإن كان الكرم يتقدم العطاء، لكن علم الناس بكرم الكريم إنما يكون بعد العطاء، وليس المراد (بثم) الدالة على تراخي العلم بالكرم عن العطاء، وإنما التراخي هنا لعلو رتبة الوصف، كأنه قال: أعلى من العطاء بما لا يتعارف أن يكون العطاء عن كرم، فقد يكون عطاء بلا كرم، كعطاء البخيل ونحو ذلك". (شرح المواهب اللدنية 3/40-41) والكندهلوي أوجز المسالك إلى موطأ مالك 8/321-322.(4/20)
ولا جبانا"(1).
قال ابن حجر: "في هذا الحديث: ذم الخصال المذكورة وهي البخل والكذب والجبن، وأن إمام المسلمين لا يصلح أن يكون فيه خصلة منها، وفيه ما كان في النبي صلى الله عليه وسلم من الحلم وحسن الخلق وسعة الجود والصبر على جفاة الأعراب، وفيه جواز وصف المرء نفسه بالخصال الحميدة عند الحاجة لخوف ظن أهل الجهل به خلاف ذلك، ولا يكون ذلك من الفخر المذموم، و فيه رضاء السائل للحق بالوعد إذا تحقق عن الواعد التنجيز، وفيه أن الإمام مخير في قسم الغنيمة إن شاء بعد فراغ الحرب، وإن شاء بعد ذلك"(2).
__________
(1) البخاري: الصحيح 4/19 كتاب الجهاد، باب الشجاعة في الحرب و الجبن 4/75 كتاب فرض الخمس، باب ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يعطي المؤلفة قلوبهم من الخمس ونحوه.
وعبد الرزاق: المصنف 5/243. وأحمد: المسند 4/82-84.
وأبو يعلى: المسند 6/683 أ رقم 306. الطبري: تهذيب الآثار كما في كنز العمال 10/357، ومنتخب كنز العمال 4/170، والمواهب اللدنية 1/167. والطبراني: المعجم الكبير 2/134-136. أبو عبيد: كتاب الأموال ص 354.
(2) ابن حجر: فتح الباري 6/254، والزرقاني: شرح المواهب 3/41.(4/21)
والحديث رواه الطبراني أيضا والطبري من طريق نافع(1) بن جبير ابن مطعم عن أبيه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: وهو عند ثنية الأراكة(2) وهو يعطي حين فرغ من حنين، فاضطره الناس إلى سلمة (3) فانتزع غصن من السلمة رداءه، فالتفت إلينا بوجهه مثل شقة القمر، فقال: "أعطوني ردائي فأعطيناه إياه، ثم قال: تخافون علي البخل، فوالذي نفسي بيده لو كان عندي صواحي هذا الجبل لأعطيتكموه". وقال: "صوحا الجبل(4) جانبا مقادمه و مآخره"(5)
وقال الهيثمي: "رواه الطبراني وفيه من لم أعرفهم" (6).
180- وما رواه الطبري أيضا من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عام حنين سأله الناس فأعطاهم من البقر و الغنم والإبل، حتى لم يبق شيء من ذلك، فقال: "فماذا تريدون أتريدون أن تبخلوني؟ فوالله ما أنا بخيل ولا جبان ولا كذوب، فجذبوا ثوبه حتى بدا منكبه فكأنما انظر حين بدا منكبه إلى شقة قمر من بياضه"(7).
__________
(1) نافع بن جبير بن مطعم النوفلي، أبو محمد، أو أبو عبد الله، المدني، ثقة فاضل، من الثالثة (ت 199) /ع (التقريب 2/295، وتهذيب التهذيب 10/404).
(2) ذكر ياقوت الحموي في معجم البلدان 1/135 قال: أراك بالفتح و آخره كاف: وهو وادي الأراك، قرب مكة ونقل عن الأصمعي أن أراك جبل لهذيل، وقيل هو موضع من نمرة، في موضع من عرفة.
(3) السلم: بفتحتين: نوع من العضاه (لسان العرب 15/188).
(4) الصوح: بفتح الصاد و ضمها: الجانب من الرأس و الجبل، ووجه الجبل القائم كأنه حائط، وصوحا الوادي حائطاه.لسان العرب3/352،والقاموس المحيط1/235).
(5) كنْز العمال 10/358 ومنتخب كنز العمال 4/170 ونسبه للطبري في تهذيبه، وانظر المعجم الكبير للطبراني 2/142.
(6) مجمع الزوائد 8/280.
(7) منتخب كنز العمال 4/171 مع مسند أحمد ونسبه لابن جرير الطبري وقال: سنده على شرط الشيخين.(4/22)
وكان سبب هذا الفعل الصادر من الأعراب وغيرهم هو ما صرح به حديث عمرو بن شعيب عند ابن إسحاق و غيره وهو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما رد على هوازن سبيهم خاف الناس أن يرد إليهم الأموال أيضا فطالبوا بقسم الأموال بإلحاح شديد(1).
وهذا سياق الحديث عن ابن إسحاق:
قال: حدثني عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عبد الله بن عمرو بن العاص أن وفد هوازن أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد أسلموا، فقالوا يا رسول الله إنا أصل وعشيرة، وقد أصابنا من البلاء ما لم يخف عليك، فأمنن علينا من الله عليك، الحديث وفيه: "ولما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من رد سباياً حنين إلى أهلها، ركب، واتبعه الناس يقولون: يا رسول الله اقسم علينا فيئنا من الإبل والغنم، حتى ألجئوه إلى شجرة، فاختطفت رداءه، فقال: "ردوا علي ردائي أيها الناس فوالله أن لو كان لكم بعدد شجر تهامة نعما لقسمته عليكم، ثم ما ألفيتموني بخيلا ولا جبانا ولا كذابا" الحديث(2).
والحديث رواه أبو داود والنسائي وأحمد وابن الجارود والطبري والبيهقي، الجميع من طريق ابن إسحاق منهم المختصر ومنهم المطول، وقد صرح بالتحديث عند ابن الجارود والطبري والبيهقي، وكذا عند ابن هشام(3)
__________
(1) انظر البداية و النهاية: لابن كثير 4/355.
(2) سيرة ابن هشام 2/488-490 و 492 و الروض الأنف 7/241-243 و245 و 279 -280.
(3) أبو داود: السنن 2/57 كتاب الجهاد، باب في الفداء الأسير بالمال والنسائي: السنن 6/220 كتاب الهبة7/119كتاب قسم الفيء، وأحمد:المسند2/184 و218 وابن الجارود:المنتقى ص:362، والطبري:تاريخ الرسل والملوك3/86-87و89-90.
والبيهقي: السنن الكبرى 6/336-337 و7/17 و9/75 ودلائل النبوة 3/54-55 ب أ ب.(4/23)
فالحديث حسن لذاته(1).
وقد تابع ابن إسحاق على وصل هذا الحديث - يحيى(2) بن سعيد الأنصاري عند ابن أبي شيبة والطبراني، ومحمد(3) بن عجلان وعمرو(4) بن دينار عند الطبراني والبيهقي الجميع عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده(5).
ورواه مالك عن عبد الرحمن(6)
__________
(1) انظر الألباني: تخريج أحاديث فقه السيرة للغزالي ص 426 وصحيح الجامع الصغير 6/280 وإرواء الغليل 5/36-37 و73-74، وتقدم الحديث برقم (130) مع تراجم رواته، وسيأتي تحت رقم (288).
(2) ثقة ثبت تقدم في حديث (109).
(3) محمد بن عجلان المدني، صدوق، إلا أنه اختلط عليه أحاديث أبي هريرة من الخامسة (ت 148) خت م ع (التقريب 2/190 وتهذيب التهذيب 9/341) وقال عنه الذهبي في سير أعلام النبلاء 6/317-322.
محمد بن عجلان: الإمام القدوة الصادق بقية الأعلام، وختم ترجمته بقوله: وقد ذكرت ابن عجلان في الميزان فحديثه إن لم يبلغ رتبة الصحيح فلا ينحط عن رتبة الحسن (انظر ميزان الاعتدال 3/644 وتذكرة الحفاظ 1/165.
(4) عمرو بن دينار المكي، أبو محمد الأثرم، الجمحي مولاهم ثقة ثبت من الرابعة (ت 126) / ع (التقريب 2/69 وتهذيب التهذيب 8/28-30).
(5) ابن أبي شيبة: التاريخ ص 87 أ رقم 665 و الطبراني: كما في مجمع البحرين 2/235 و 244 رقم 77 ومجمع الزوائد 5/338-339 كلاهما للهيثمي.
(6) قال الألباني: "عبد الرحمن بن سعيد، هكذا لم أجد من ترجمه، لكن شيوخ مالك كلهم ثقات كما هو معلوم لدى العلماء بالرجال"، (إرواء الغليل 5/74).
وقال الكندهلوي: "إنما هو عبد ربه بن سعيد، هكذا في النسخ الهندية وبعض المصرية، وفي بعضها عبد الرحمن بن سعيد و ليس الصحيح، وهو عبد ربه بن سعيد بن قيس الأنصاري، أخو يحيى بن سعيد له في الموطأ مرفوعا ثلاثة أحاديث هذا ثانيها.
وفي التقصي: له ثلاثة أحاديث، وذكر من جملتها هذا الحديث ولم يذكر عبد الرحمن بن سعيد في شيوخ مالك في الموطأ إهـ. (أوجز المسالك إلى موطأ مالك 8/320).
قلت: الأحاديث المشار إليها في "التقصي" هي في ص 105-106 من التقصي وهي برقم (328 و329 و330).
وقد قرأت الموطأ بتصحيح محمد فؤاد عبد الباقي من أوله إلى آخره فلم أجد مالكا روى عن عبد الرحمن بن سعيد وإنما وجدته روى عن عبد ربه بن سعيد خمسة أحاديث من جملتها حديث الباب، وهي في الموطأ1/289-290 و2/457 و514، و574، و589، وهي في كتاب الجهاد، باب ما جاء في الفلول، وكتاب الفرائض، باب ميراث الجدة، وكتاب الطلاق، باب ما جاء في طلاق العبد، وباب عدة المتوفى زوجها إذا كانت حاملاً، وكتاب الصيام، باب ما جاء في صيام الذي يصبح جنبا.
وأرقامها: (و6، و10 و22 و49 و83) ذكر صاحب التقصي منها رقم (10 و22 و83) فقط وهي عنده رقم 328 و329 و330 ولم يذكر حديث رقم (6/49) وهما في الموطأ 2/514 و2/574 من كتاب الفرائض وكتاب الطلاق وانظر ترجمة عبد ربه بن سعيد في التقريب 1/470 وتهذيب التهذيب 6/126.(4/24)
بن سعيد عن عمرو بن شعيب فأرسله ولفظه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين صدر من حنين، وهو يريد الجعرانة سأله الناس حتى دنت به ناقته من شجرة، فتشبكت(1) بردائه، حتى نزعه عن ظهره، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ردوا علي ردائي أتخافون أن لا أقسم بينكم ما أفاء الله عليكم، والذي نفسي بيده لو أفاء الله عليكم مثل سمر تهامة نعما لقسمته بينكم، ثم لا تجدوني بخيلا ولا جبانا ولا كذابا" الحديث (2).
قال ابن عبد البر: "لا خلاف عن مالك في إرساله".
قال الكندهلوي: "ووصله النسائي، قال الحافظ بإسناد حسن من طريق حماد بن سلمة عن محمد بن إسحاق عن عمرو بن شعيب عن جده. وأخرجه النسائي أيضاً بإسناد حسن من حديث عبادة، قاله الزرقاني. ثم قال: قلت: ووصله أبو داود أيضاً برواية حماد عن ابن إسحاق بهذا السند"(3).
وأورد ابن كثير حديث ابن إسحاق عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده ثم قال: وهذا السياق يقتضي أنه عليه السلام رد إلى هوازن سبيهم قبل القسمة كما ذهب إليه محمد بن إسحاق بن يسار خلافا لموسى بن عقبة و غيره(4).
__________
(1) تشبكت: أي نشبت (القاموس المحيط 3/308).
(2) الموطأ 2/457.
(3) أوجز المسالك إلى موطأ مالك 8/320. وسنن النسائي 6/220 كتاب الهبة و 7/119 كتاب قسم الفيء. وسنن أبي داود 2/57 كتاب الجهاد، باب في الفداء الأسير بالمال.
(4) انظر قول موسى بن عقبة عند البيهقي في دلائل 3/54 أ. وابن حجر: فتح الباري 8/33 وانظر ص (436) تعليقة (6) من مبحث قدوم وفد هوازن إلى الجعرانة.(4/25)
ثم قال: "وفي صحيح البخاري من طريق الليث عن عقيل عن الزهري عن عروة عن المسور بن مخرمة ومروان بن الحكم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام حين جاءه وفد هوازن مسلمين فسألوا أن ترد إليهم أموالهم ونساؤهم فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: "معي من ترون واحب الحديث إليّ أصدقه فاختاروا إحدى الطائفتين إما السبي و إما المال. وقد كنت استأنيت بكم" وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم انتظهرهم بضع عشرة ليلة حين قفل من الطائف، فلما تبيّن لهم أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم غير راد إليهم إلاّ إحدى الطائفتين، قالوا: إنا نختار سبينا، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسلمين وأثنى على الله بما هو أهله، ثم قال: "أما بعد فإن إخوانكم هؤلاء قد جاءوا تائبين و إني قد رأيت أن أرد إليهم سبيهم، فمن أحب أن يطيب ذلك فليفعل، ومن أحب منكم أن يكون على حظه حتى نعطيه إياه من أول يفيء الله علينا فليفعل".(4/26)
فقال الناس: "قد طيبنا ذلك يا رسول الله، فقال لهم: "إنا لا ندري من أذن منكم ممن لم يأذن، فارجعوا حتى يرفع إلينا عرفاؤكم أمركم". فرجع الناس فكلمهم عرفاؤهم، ثم رجعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبروه بأنهم قد طيبوا و أذنوا" فهذا الذي بلغنا عن سبي هوازن (1) إلى أن قال: والمقصود من هذا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رد إلى هوازن سبيهم بعد القسمة كما دل عليه السياق وغيره، وظاهر سياق حديث عمرو بن شعيب الذي أورده محمد بن إسحاق عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رد إلى هوازن سبيهم قبل القسمة، ولهذا لما رد السبي وركب علقت الأعراب برسول الله صلى الله عليه وسلم يقولون اقسم علينا فيئتنا حتى اضطروه إلى سمرة فخطفت رداءه، فقال: "ردوا علي ردائي أيها الناس، فوالذي نفسي بيده لو كان لكم عدد هذه العضاه نعما لقسمته فيكم ثم لا تجدوني بخيلا و لا جبانا ولا كذابا". كما رواه البخاري عن جبير بن مطعم بنحوه.
ثم قال: "كأنهم خشوا أن يرد إلى هوازن أموالهم كما رد إليهم نسائهم وأطفالهم فسألوه قسمة ذلك فقسمها - عليه الصلاة والسلام - بالجعرانة كما أمره الله عز وجل(2).اهـ.
قلت: وقد وردت أحاديث غير هذا تدل على أن قدوم وفد هوازن، كان بعد قسم سبيهم بين المسلمين، كما سيأتي ذلك في قدوم وفد هوازن(3). والذي يهمنا هنا هو ما حصل من هؤلاء الأعراب وغيرهم من الطلقاء وغوغاء الناس الذين لم يكن همهم إلا الحصول على الغنيمة سواء أكان قدوم وفد هوازن بعد قسم نسائهم وأطفالهم على المسلمين، أم كان قدومهم قبل ذلك.
__________
(1) قال ابن حجر:" القائل: فهذا الذي بلغنا إلخ هو الزهري" (فتح الباري 8/34) وانظر الحديث في صحيح البخاري 5/126 كتاب المغازي باب ويوم حنين وقد تقدم برقم (108).
(2) ابن كثير: البداية و النهاية 4/354، 355 وانظر فتح الباري 8/33، 34.
(3) انظر ص 435.(4/27)
وهذه الأحاديث تدل على حلم رسول الله صلى الله عليه وسلم وسعة صدره وصبره على عتاة الأعراب وغيرهم من ضعفاء الإيمان، ويزيد ذلك وضوحا ما رواه البخاري و مسلم من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال:
181- كنت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو نازل بالجعرانة بين مكة و المدينة(1) ومعه بلال فأتى النبي صلى الله عليه وسلم أعرابي(2) فقال: "ألا تنجز لي ما وعدتني"(3).
فقال له: "أبشر، فقال، قد أكثرت علي من أبشر(4). فأقبل على أبي موسى وبلال كهيئة الغضبان، فقال: "رد البشرى(5)، فاقبلا أنتما، قالا: قبلنا، ثم دعا بقدح(6)
__________
(1) قال ابن حجر: أنكر الدوادي: الشارح قوله: أن (الجعرانة) بين مكة والمدينة، وقال: إنما هي بين مكة والطائف، و كذا جزم النووي بان الجعرانة بين الطائف ومكة، وهو قول عياض و الفاكهي. (فتح الباري 8/46).
(2) وعند مسلم: "رجل أعرابي".
(3) وعند مسلم: "ألا تنجز لي يا محمد ! ما وعدتني".
قال ابن حجر: "يحتمل أن الوعد كان خاصا به، ويحتمل أن يكون عاما، وكان طلبه أن يعجل نصيبه من الغنيمة فإنه صلى الله عليه وسلم، كان أمر أن تجمع غنائم حنين بالجعرانة، وتوجه هو بالعساكر إلى الطائف، فلما رجع منها قسم الغنائم حينئذ بالجعرانة فلهذا وقع في كثير ممن كان حديث عهد بالإسلام استبطاء الغنيمة واسنتجاز قسمتها 0 فتح الباري8/46.
(4) أبشر: بهمزة قطع، أي بقرب القسمة، أو بالثواب الجزيل على الصبر (المصدر السابق 8/46).
وعند مسلم: "فقال له الأعرابي"
(5) عند مسلم: "إن هذا قد رد البشرى".
(6) القدح: بفتح القاف والدال- آنية للشرب تروي الرجلين، وقيل هو اسم يجمع صغارها وكبارها، والجمع أقداح. ومتخذها قداح، وصنعته القداحة.
(لسان العرب لابن منظور3/388 والقاموس المحيط للفيروزآبادي 1/241، ومختار الصحاح لبي بكر الرازي ص 523).(4/28)
فيه ماء، فغسل يديه ووجهه فيه ومج فيه، ثم قال: اشربا منه، وأفرغا على وجوهكما ونحوركما وابشرا، فأخذ القدح ففعلا (1)، فنادت أم سلمة من وراء الستر أن أفضلا لأمكما، فأفضلا لها منه طائفة"(2)
قال النووي: "في الحديث: فضيلة ظاهرة لأبي موسى وبلال وأم سلمة - رضي الله عنهم -، وفيه استحباب البشارة واستحباب الازدحام فيما يتبرك به و طلبه ممن هو معه، والمشاركة فيه" (3).
__________
(1) عند مسلم "ففعلا ما أمرها به رسول الله صلى الله عليه وسلم فنادتهما أم سلمة من وراء الستر: أفضلا لأمكما مما في إنائكما"
قال ابن حجر: "أم سلمة هي: زوج النبي صلى الله عليه وسلم وهي أم المؤمنين ولهذا قالت: لأمكما" (فتح الباري 8/46-47).
(2) البخاري: الصحيح 5/129 كتاب المغازي، باب غزوة الطائف و 1/42 كتاب الوضوء، باب الغسل و الوضوء في المخضب و القدح و الخشب و الحجارة، ذكر طرفا منه، انظر فتح الباري 1/295و302و8/46، ومسلم: الصحيح 4/1943 كتاب الفضائل الصحابة، باب من فضائل أبي موسى و أبي عامر الأشعريين.
(3) النووي: شرح صحيح مسلم 5/367.(4/29)
ومجموع ما مضى من الأحاديث صريح في الدلالة على ضعف إيمان هؤلاء الجشعين على غنائم حنين وعلى سوء أدبهم مع الرسول صلى الله عليه وسلم في أقوالهم و أفعالهم، ويؤخذ منها أيضا أن هم هؤلاء هو المغنم لأنهم فروا في ميدان القتال وأصابهم الهلع والجشع بعد النهاية المعركة على الغنائم، وفي ذلك دلالة واضحة على أن نفوس هؤلاء الأعراب والطلقاء ونحوهم، ولم تتهذب بأخلاق الإسلام ولم ترسخ في نفوسهم العقيدة الإسلامية ويظهر أن كثيرا من هؤلاء حسن إسلامهم فيما بعد وأصبحوا جنوداً باسلة في صفوف الجيش الإسلامي، وقد كان لحكمة الرسول صلى الله عليه وسلم وحلمه على هؤلاء وقسمه بينهم تلك الغنائم الهائلة أثر كبير في تحسن إسلامهم ورضا نفوسهم وإيقانهم بأن هذا الكرم العظيم الذي لا يقادر قدره لا يصدر إلا من رسول حق لا يخشى الفقر و لا يقيم لحطام الدنيا وزنا. والله أعلم.
المبحث الثالث: اعتراض ذي الخويصرة التميمي على الرسول صلى الله عليه وسلم في قسم الغنائم
كان الرسول صلى الله عليه وسلم قد أمر - وهو لحنين - بالغنائم أن تجتمع وأن تحبس في الجعرانة حتى يعود من الطائف، ثم توجه صلى الله عليه وسلم بمن معه من المسلمين إلى الطائف فضرب عليها الحصار كما مر ذلك مفصلاً(1).
__________
(1) في مبحث (حصار الطائف) ص (278).(4/30)
ثم قرر صلى الله عليه وسلم العودة إلى الجعرانة فوصلها ليلة الخميس لخمس ليال خلون من ذي القعدة، وأقام بها ثلاث عشرة ليلة ينتظر هوازن لعلها أن تقدم مسلمة فيرد إليها سبيها وأموالها، ولما لم تقدم في هذه المدة(1)، شرع صلى الله عليه وسلم في توزيع الغنائم حسب ما تقتضيه المصلحة العامة، فوضعها في موضعها اللائق بها، غير أن بعض أهل الزيغ والنفاق عباد الدينار والدرهم انتقد رسول الله صلى الله عليه وسلم في صنيعه هذا ونسبه إلى الجور والظلم فخاطب رسول الله صلى الله عليه وسلم بلهجة قاسية تنبئ عما انطوت عليه نفسه من الحقد والغل والبعد عن هدي الإسلام وتعاليمه السامية "يا محمد اعدل" فتألم رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذلك وغضب غضبا شديدا حتى طلب عمر بن الخطاب الإذن منه في قتل هذا المنافق الخبيث، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم منعه من ذلك وقال: "معاذ الله أن يتحدث الناس أني أقتل أصحابي". ذلك أن هذا القائل معدود في الصحابة وله شيعة وأتباع، فالحكمة تقتضي عدم قتله وأن يتركه وما تولى، وهذا ما دلت عليه الأحاديث الآتية:
أ- فقد جاء في حديث جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما - عند البخاري و مسلم وغيرهما وهذا سياقه وهذا سياق مسلم:
182- حدثنا محمد بن رمح بن المهاجر، أخبرنا الليث(2) عن يحيى(3) بن سعيد عن أبي الزبير(4) عن جابر بن عبد الله قال:
__________
(1) انظر: مبحث (فك الحصار عن الطائف والعودة إلى الجعرانة)، ص (328).
(2) الليث: هو ابن سعد الفهمي.
(3) هو الأنصاري النجاري.
(4) أبو الزبير، هو: محمد بن مسلم بن تدرس المكي.(4/31)
أتى رجل(1) رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجعرانة منصرفه من حنين و في ثوب بلال فضة ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقبض منها يعطي الناس، فقال: يا محمد! اعدل(2).
قال: "ويلك(3)! ومن يعدل إذا لم أكن أعدل؟ لقد خبت(4)
__________
(1) وعند أحمد "رجل من بني تميم" وفي حديث أبي سعيد الخدري وعبد الله بن عمرو ابن العاص أنه ذو الخويصرة التميمي، انظر حديث (184) وتعليقة (4) من ص 384 وفتح الباري 8/69.
(2) وعند البخاري: "بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم غنيمة الجعرانة إذ قال له رجل: اعدل، قال: "لقد شقيت إن لم أعدل" وعند الحميدي: قال قال أبو الزبير: سمعت جابر بن عبد الله يقول: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم غنائم حنين بالجعرانة والتبر في حجر بلال، فجاءه رجل فقال: يا محمد اعدل فإنك لم تعدل، قال: "ويحك، فمن يعدل إذا لم أعدل".
وعند ابن ماجة "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجعرانة وهو يقسم التبر والغنائم وهو في حجر بلال، فقال رجل: اعدل يا محمد، فإنك لم تعدل، فقال: "ويلك ومن يعدل بعدي إذا لم أعدل"؟
وعند أحمد: قال أبو الزبير سمعت جابراً يقول: بصر عيني وسمعت أذني رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجعرانة وفي ثوب بلال فضة ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقبضها للناس يعطيهم، فقال رجل: اعدل.
وعند الطبراني عن جابر، قال: "أبصرت عيناي وسمعت أذناي رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجعرانة وفي ثوب بلال فضة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقبضها للناس فيعطيهم، فقال له رجل: يا رسول الله! اعدل".
(3) ويل: كلمة تقال لمن وقع في هلكة يستحقها، والويل: حلول الشر وكلمة عذاب (هدي الساري لابن حجر ص 207 والمعجم الوسيط 2/1061).
(4) عند البخاري وأحمد "لقد شقيت إن لم أعدل".
قال النووي: قوله: "خبت وخسرت" روي بفتح التاء فيهما وضمهما ومعنى الضم ظاهر، وتقدير الفتح خبت أنت أيها التابع إذا كنت لا أعدل لكونك تابعا ومقتديا بمن لا يعدل، والفتح أشهر".
وقال ابن حجر: في رواية البخاري "لقد شقيت": هو بضم المثناة للأكثر، ومعناه ظاهر ولا محذور فيه والشرط لا يستلزم الوقوع؛ لأنه ليس ممن لا يعدل حتى يحصل له الشقاء، بل هو عادل فلا يشقى، ثم قال: وحكى عياض فتحها ورجحه النووي، وحكاه الإسماعيلي عن رواية شيخه المنيعي من طريق عثمان بن عمر عن قرة والمعنى: "لقد شقيت أي ضللت أنت أيها التابع حيث تقتدي بمن لا يعدل أو حيث تعتقد في نبيك هذا القول الذي لا يصدر عن مؤمن" (انظر: شرح صحيح مسلم للنووي 3/106 وفتح الباري لابن حجر 6/243).(4/32)
وخسرت، إن لم أكن أعدل".
فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "دعني(1) يا رسول الله فأقتل هذا المنافق، فقال: "معاذ الله أن يتحدث الناس أني أقتل أصحابي. إن هذا(2) وأصحابه يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم(3)
__________
(1) وعند ابن ماجة: "دعني يا رسول الله حتى أضرب عنق هذا المنافق" وعند أحمد فقال عمر بن الخطاب: يا رسول الله دعني أقتل هذا المنافق الخبيث". وعنده أيضا فقال عمر: يا رسول الله ألا أقوم فأقتل هذا المنافق، قال: "معاذ الله أن تتسامع الأمم أن محمد يقتل أصحابه" وقد جاء في بعض طرق حديث أبي سعيد الخدري في الصحيحين أن خالد بن الوليد استأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في قتله أيضا، قال ابن حجر: "ولا تنافي في ذلك لاحتمال أن يكون كل منهما سأل في ذلك، ثم رأيت عند مسلم من طريق جرير عن عمارة بن القعقاع بسنده فيه: "فقام عمر بن الخطاب فقال يا رسول الله ألا أضرب عنقه؟ قال: لا، ثم أدبر فقام إليه خالد بن الوليد سيف الله فقال يا رسول الله أضرب عنقه؟ قال: لا.".
فهذا نص في أن كليهما سأله..
ثم قال: وقد استشكل سؤال خالد في ذلك لأن بعث علي إلى اليمن كان عقب بعث خالد بن الوليد إليها والذهب المقسوم أرسله علي من اليمن كما في صدر حديث ابن أبي نعم عن أبي سعيد، ويجاب بأن عليّاً لما وصل إلى اليمن رجع خالد منها إلى المدينة فأرسل علي الذهب فحضر خالد قسمته.
وأما حديث عبد الله بن عمرو فإنه في قصة قسم وقع بالجعرانة من غنائم حنين والسائل في قتله عمر بن الخطاب جزما، وقد ظهر أن المعترض في الموضعين واحد. فتح الباري 8/69 و12/291 و293).
وانظر تخريج حديث أبي سعيد الخدري تحت (184) تعليقة (4) ص 384 وحديث عبد الله بن عمرو (184).
(2) عند ابن ماجة "إن هذا في أصحابي أو أصيحاب له". وعند الحميدي وابن الجارود: "فإن هذا مع أصحاب له أو في أصحاب له".
(3) وعند ابن ماجة وأحمد: "لا يجاوز تراقيهم".
وعند أحمد أيضا "لا يجاوز حناجرهم أو تراقيهم".
وعند الطبراني: "لا يجاوز حلوقهم - أو حناجرهم"
والحناجر جمع حنجرة وهي الحلقوم وهو العظم الناتيء في وسط الحلق.
والتراقي جمع ترقوة - بفتح أوله وسكون الراء و ضم القاف و فتح الواو- وهي العظم الذي بين نقرة النحر والعاتق، وهما ترقوتان من الجانبين.
والمعنى أن قراءتهم لا يرفعها الله و لا يقبلها، وقيل لا يعملون بالقرآن فلا يثابون على قراءته فلا يحصل لهم إلا سرده.
وقيل: المراد أنهم ليس لهم فيه حظ إلاّ مروره على ألسنتهم لا يصل إلى حلوقهم فضلاً عن أن يصل إلى قلوبهم لأن المطلوب تعقله و تدبره ووقوعه في القلب.
(النهاية لابن الأثير 1/187، و449، وشرح صحيح مسلم للنووي 3/107 وفتح الباري 12/293 وهدي الساري ص 92 و108، كلاهما لابن حجر).(4/33)
يمرقون منه(1) كما يمرق السهم من الرمية"(2).
حدثنا محمد بن المثنى حدثنا عبد الوهاب الثقفي قال: سمعت يحيى ابن سعيد يقول أخبره أبو الزبير أنه سمع جابر بن عبد الله.
ح- وحدثنا أبو بكر(3) عن أبي شيبة حدثنا زيد(4) بن الحباب، حدثنا قرة(5) بن خالد حدثني أبو الزبير عن جابر بن عبد الله أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقسم غنائم، وساق الحديث(6).
والحديث رواه أحمد والطبراني والبيهقي الجميع من طريق يحيى بن السعيد عن أبي الزبير به(7).
ورواه ابن ماجة والحميدي وابن الجارود كلهم من طريق سفيان ابن عيينة عن أبي الزبير به(8).
__________
(1) وعند ابن ماجة وأحمد والحميدي وابن الجارود: "يمرقون من الدين"
وعند أحمد أيضا والطبراني "يمرقون من الدين مرور السهم من الرمية".
وعند احمد أيضا "يمرقون من الدين كما يمرق المرماة من الرمية".
وفي حديث أبي سعيد الخدري "يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية".
قال القاضي عياض: "معناه يخرجون منه خروج السهم إذا نفذ من الصيد من جهة أخرى، ولم يتعلق به شيئ منهم". (شرح النووي على صحيح مسلم 3/107).
(2) الرمية بفتح الراء وكسر الميم وتشديد التحتانية، أي الشيء الذي يرمى به و يطلق على الطريدة من الوحش إذا رماها الرامي، وهي فعيلة بمعنى مفعولة (فتح الباري 6/618 و12/288 و289 وهدي الساري ص: 125 وشرح النووي على صحيح مسلم 3/107 والنهاية لابن الأثير 2/268-269).
(3) هو عبد الله بن محمد.
(4) زيد بن الحباب - بضم المهملة وموحدتين -.
(5) قرة بن خالد - بضم القاف و تشديد الراء ثم هاء- السدوسي.
(6) مسلم: الصحيح 2/740 كتاب الزكاة، باب ذكر الخوارج وصفاتهم.
(7) أحمد المسند 3/353 والطبراني 2/200-201 والبيهقي دلائل النبوة 3/53أ.
(8) ابن ماجة: السنن1/61 في المقدمة باب في ذكر الخوارج والحميدي المسند2/534 وابن الجارود: المنتقى ص 363.(4/34)
ورواه أيضا أحمد من طريق معان(1) ابن رفاعة حدثنا أبو الزبير به(2).
فقد روى هذا الحديث عن أبي الزبير يحيى بن سعيد الانصاري وعيينة ومعان بن رفاعة وقرة بن خالد كما هو عند مسلم(3) من طريق زيد بن الحباب عن قرة بن خالد عن أبي الزبير(4).
ورواه البخاري عن مسلم بن إبراهيم وأحمد عن أبي عامر(5) والعقدي كلاهما عن قرة بن خالد عن عمرو بن دينار عن جابر بن عبدالله.
فقرة في هذا السند يروي عن عمرو بن دينار بدل أبي الزبير.
وهذا سياق الحديث عند البخاري:
قال: حدثنا مسلم بن إبراهيم حدثنا قرة بن خالد حدثنا عمرو بن دينار عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: "بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم غنيمة بالجعرانة إذ قال له رجل: اعدل، فقال له: "شقيت إن لم أعدل"(6)
__________
(1) معان - بضم أوله وتخفيف المهملة أخره نون - ابن رفاعة السلامي بتخفيف اللام الشامي - لين الحديث، كثير الإرسال، من السابعة/ ق (التقريب 2/258 وتهذيب التهذيب 6/369 و10/201 وميزان اعتدال 4/134. والخلاصة للخزرجي 3/82-83 ووقع في المسند (معاذ) بالذال المعجمة وهو خطأ.)
(2) المسند 3/354-355
(3) الحديث عند مسلم من طريق يحيى بن سعيد الأنصاري ومن طريق قرة بن خالد كلاهما عن أبي الزبير.
(4) تقدم في حديث 182
(5) هو عبد الملك بن عمرو القيسي، أبو عامر العقدي - بفتح المهملة والقاف- ثقة من التاسعة (ت 204أو 205) / ع التقريب 1/521 وتهذيب التهذيب 6/409 وتذكرة الحفاظ للذهبي 1/347 والخلاصة للخزرجي 2/178 وقد سقطت من تهذيب التهذيب علامة من أخرج له).
(6) البخاري: الصحيح 4/72 كتاب فرض الخمس، باب ومن الدليل على أن الخمس لنوائب المسلمين إلخ.
وأحمد: المسند 3/332.
قال ابن حجر: "وقد خالف زيد بن الحباب مسلم بن إبراهيم فيه فقال: "عن قرة عن أبي الزبير" "بدل" عمرو بن دينار أخرجه مسلم، وسياقه أتم، ورواية البخاري أرجح فقد وافق شيخه على ذلك عن قرة عثمان بن عمر - هو ابن فارس - عند الإسماعيلي، والنضر بن شميل عند أبي نعيم، فاتفاق هؤلاء الحفاظ الثلاثة أرجح من انفراد زيد بن الحباب على ما في رواية هؤلاء كلهم عن قرة عن عمرو (فتح الباري 6/242-243).
قلت: وكون الحديث عند قرة عن شيخين هو الظاهر بمعنى أن قرة روى الحديث عن أبي الزبير وعن "عمرو بن دينار" ويكون قد وافقه في روايته عن "أبي الزبير" ابن عيينة و يحيى بن سعيد و معان بن رفاعة ووافقه في روايته عن (عمرو بن دينار) عثمان بن عمر والنضر بن شميل وأبو عامر العقدي.(4/35)
.
ب- وفي حديث عبد الله بن مسعود عند البخاري ومسلم وغيرهما وهذا سياقه عند البخاري:
183- قال: حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا جرير(1) عن منصور عن أبي وائل عن عبد الله - رضي الله عنه - قال: لما كان يوم حنين آثر النبي صلى الله عليه وسلم أناسا(2) في القسمة: فأعطى الأقرع بن حابس مائة من الإبل وأعطى عيينة مثل ذلك، وأعطى أناسا من أشراف العرب فآثرهم يومئذ في القسمة، قال رجل: "والله إن هذه القسمة ما عدل فيها(3) وما أريد بها وجه الله فقلت والله لأخبرن النبي صلى الله عليه وسلم فأتيته فأخبرته(4)، فقال: "فمن يعدل إذا لم يعدل الله ورسوله؟"
رحم(5) الله موسى قد أوذي بأكثر من هذا فصبر".
وأخرجاه من طريق حفص بن غياث حدثنا الأعمش(6) قال: سمعت شقيقا يقول: قال عبد الله: "قسم النبي صلى الله عليه وسلم قسمة - كبعض ما كان يقسم - فقال رجل من الأنصار (7)
__________
(1) جرير: هو ابن عبد الحميد بن قرط.
ومنصور: هو ابن معتمر.
وأبو وائل: هو شقيق بن سلمة الأسدي الكوفي.
(2) عند مسلم "ناسا".
(3) وعند مسلم "إن هذه لقسمة ما عدل فيها وما أريد فيها وجه الله".
(4) عند مسلم "فأتيته فأخبرته بما قال، قال: فتغير وجهه حتى كان كالصرف ثم قال: "فمن يعدل" الخ.
(5) عند مسلم "ثم قال: يرحم الله موسى قد أوذي بأكثر من هذا فصبر" قال: قلت: "لا جرم لا أرفع إليه بعدها حديثا".
(6) الأعمش هو سليمان بن مهران.
(7) قوله: "فقال رجل من الأنصار" قال ابن حجر: "وفي رواية الواقدي: أنه معتب بن قثير من بني عمرو بن عوف وكان من المنافقين، وفيه تعقب على مغلطاي حيث قال: لم أر أحداً قال إنه من الأنصار إلاّ ما وقع هنا، وجزم بأنه حرقوص بن زهير السعدي، وتبعه ابن الملقن وأخطأ في ذلك فإن قصة حرقوص غير هذه كما سيأتي قريبا من حديث أبي سعيد الخدري" اهـ.
(فتح الباري 8/56 و69 و10/512 و11/138 و12/292، وانظر: مغازي الواقدي 3/949 والروض الانف 7/289 وانظر الحديث رقم (206) وقد ذكر ابن حجر معتب بن قشير في الإصابة 3/443 فقال قيل إنه كان منافقا، وقيل إنه تاب، وقد ذكره ابن إسحاق فيمن شهد بدرا.).(4/36)
: و الله إنها لقسمة ما أريد بها وجه الله، قلت: أما(1) لأقولن للنبي صلى الله عليه وسلم فأتيته - وهو في بعض أصحابه - فساررته(2) فشق ذلك على النبي صلى الله عليه وسلم وتغير وجهه وغضب حتى وددت أني لم أكن أخبرته، ثم قال: "قد أوذي موسى بأكثر من ذلك فصبر"(3)
__________
(1) قوله (أما لأقولن) قال ابن حجر: "قال ابن التين: هي بتخفيف الميم ووقع في رواية (أما) بتشديدها، وليس ببين ثم قال ابن حجر قلت: "وقع للكشميهني "أم" بغير ألف وهو يؤيد التخفيف ويوجه التشديد على أن في الكلام حذفا تقديره أما إذا قلت: ذلك لأقولن" (فتح الباري 10/512).
(2) عند مسلم "فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فساررته فغضب من ذلك غضبا شديدا واحمر وجهه حتى تمنيت أني لم أذكره له".
(3) البخاري: الصحيح 4/75 كتاب فرض الخمس، باب ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يعطي المؤلفة قلوبهم وغيرهم من الخمس الخ.
و5/131 كتاب المغازي، باب غزوة الطائف، و8/22 كتاب الأدب باب الصبر على الأذى، والأدب المفرد ص 141 واللفظ له.
ومسلم: الصحيح 2/739 كتاب الزكاة، باب إعطاء المؤلفة قلوبهم على الإسلام وتصبر من قوى إيمانه.
قال ابن حجر: "وفي الحديث جواز إخبار الإمام وأهل الفضل بما يقال فيهم مما لا يليق بهم ليحذورا القائل، وفيه بيان ما يباح من الغيبة والنميمة لأن صورتها موجودة في صنيع ابن مسعود هذا، ولم ينكره النبي صلى الله عليه وسلم وذلك أن قصد ابن مسعود كان نصح النبي صلى الله عليه وسلم وإعلامه بمن يطعن فيه ممن يظهر الإسلام ويبطن النفاق ليحذر منه، وهذا جائز كما يجوز التجسس على الكفار ليؤمن من كيدهم، وقد ارتكب الرجل المذكور بما قال إثما عظيما فلم يكن له حرمة.
وفيه أن أهل الفضل قد يغيظهم ما يقال فيهم مما ليس فيهم، ومع ذلك فيتلقون ذلك بالصبر والحلم كما صنع النبي صلى الله عليه وسلم اقتداء بموسى - عليه السلام -.
وأشار بقوله صلى الله عليه وسلم: "قد أوذي أوذي أخي موسى بأكثر من ذلك فصبر" إلى قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى}. قد حكي في صفة أذاهم له ثلاث قصص:
إحداها: قولهم هو آدر وذلك أن اليهود كانوا يغتسلون عراة يرى أحد بعضهم عورة بعض وكان موسى - عليه السلام - حييا لا يحب أن يرى أحد عورته فاتهموه لأنه آدر.
الثانية: إتهامهم له بقتل هارون وذلك أنه توجه معه إلى زيارة فمات هارون فدفنه موسى، فطعن فيه بعض بني إسرائيل وقالوا: أنت قتلته.
الثالثة: إتهامهم له بانه زنى بامرأة وذلك بتواطئ قارون مع بني إسرائيل، حتى يقام عليه الحد فيرجم حتى يموت فيستريحوا منه، وقد برأه الله مما قالوا فيه من زور وبهتان". (انظر فتح الباري 6/438ز448 و 8/56 و10/476و512).(4/37)
.
والحديث رواه البخاري أيضا من طريق سفيان الثوري، ومن طريق أبي حمزة السكري محمد بن ميمون، ومن طريق شعبة بن الحجاج الجميع عن الأعمش به(1).
ورواه أحمد عن أبي معاوية الضرير محمد بن خازم عن الأعمش به. ومن طريق شعبة عن الأعمش به(2).
كما رواه أيضا من طريق عاصم بن بهدلة عن أبي وائل، ولفظه يخالف ما تقدم بعض المخالفة وهذا سياقه: حدثنا يونس، حدّثنا حماد - يعني ابن زيد عن عاصم(3) عن أبي وائل عن عبد الله بن مسعود قال: لما قسم رسول الله غنائم حنين بالجعرانة، ازدحموا عليه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن عبدا من عباد الله بعثه الله إلى قومه فضربوه وشجوه(4)، قال: فجعل يمسح الدم عن جبهته ويقول: رب اغفر لقومي إنهم لا يعلمون" قال عبد الله كأني انظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح الدم عن جبهته يحكي الرجل ويقول: "رب اعفر لقومي إنهم لا يعلمون".
__________
(1) البخاري: الصحيح 4/125 كتاب أحاديث الأنبياء. و5/131كتاب المغازي، باب غزوة الطائف، و8/16 كتاب الأدب، باب من أخبر صاحبه بما يقال فيه، و8/54-55 كتاب الاستذان، باب إذا كانوا أكثر من ثلاثة فلا بأس بالمسارة و المناجاة، و8/62 كتاب الدعوات، باب قوله الله تعالى (وصل عليهم).
(2) أحمد المسند: 1/380 و411 و441، ورواه أيضا أبو يعلى في مسنده 5/470-471 ب - أ و5/479 أ رقم 305، والبيهقي دلائل النبوة 3/52 ب.
(3) عاصم بن بهدلة بن أبي النجود الأسدي مولاهم الكوفي، أبو بكر المقرئ، صدوق له أوهام حجة في القراءة وقال الذهبي هو حسن الحديث وقد تقدم في حديث119.
(4) الشج مختص من الجراح بالرأس و الوجه (هدي الساري ص 137).(4/38)
حدثنا عفان ثنا حماد بن سلمة قال أنا عاصم بن بهدلة عن أبي وائل عن ابن مسعود قال: تكلم رجل من الأنصار كلمة فيها موجدة على النبي صلى الله عليه وسلم فلم تقرني نفسي أن أخبرت بها النبي صلى الله عليه وسلم، فلوددت أني افتديت منها بكل أهل ومال، فقال: "قد آذوا موسى - عليه الصلاة والسلام - أكثر من ذلك فصبر، ثم أخبر أن نبيا كذبه قومه وشجوه حين جاءهم بأمر الله، فقال وهو يمسح الدم عن وجهه "اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون"(1).
ج- ما أخرجه ابن إسحاق من حديث عبد الله بن عمرو وهذا سياقه:
__________
(1) مسند أحمد 1/453 و 456 و في الصحيحين من طريق الأعمش حدثني شقيق قال: قال عبد الله: كأني أنظر إلى النبي صلى الله عليه وسلم يحكي نبيا من الأنبياء ضربه قومه فأدموه، فهو يمسح الدم عن وجهه ويقول: "رب اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون" لفظ البخاري. (صحيح البخاري 9/14 كتاب استتابة المرتدين) باب (5). وصحيح مسلم 3/1417 كتاب الجهاد والسير باب غزوة أحد.
قال النووي: "قوله (يحكى نبيا من الأنبياء الخ) فيه ما كانوا عليه صلوات الله وسلامه عليهم من الحلم والتصبر، والعفو والشفقة على قومهم، ودعائهم لهم بالهداية والغفران وعذرهم في جنايتهم على أنفسهم بأنهم لا يعلمون وهذا النبي المشار إليه من المتقدمين، وقد جرى لنبينا صلى الله عليه وسلم مثل هذا في أحد" (شرح النووي على صحيح مسلم 4/434) وأشار ابن حجر إلى ما حصل لرسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة أحد، ثم قال: وعند أحمد من رواية عاصم عن أبي وائل عن ابن مسعود أنه صلى الله عليه وسلم قال نحو ذلك يوم حنين لما ازدحموا عليه عند قسمة الغنائم". (فتح الباري 12/282)، وعلى هذا فتكون هذه الحكاية حصلت في غزوة أحد، وفي غزوة حنين.(4/39)
184- قال: حدثني أبو عبيدة (1) بن محمد بن عمار بن يسار عن مقسم(2)
__________
(1) كذا في الحديث: (أبو عبيدة بن محمد بن عمار بن ياسر) والحديث عند أحمد في المسند 2/219 من طريق ابن إسحاق وفي نهاية الحديث قال عبد الله بن أحمد: أبو عبيدة اسمه محمد وهو ثقة، وأخوه سلمة بن محمد ابن عمار لم يرو عنه الأعلى بن زيد، ولا يعلم خبره.
ومقسم ليس به بأس ولهذا الحديث طرق في هذا المعنى وطرق أخر في هذا المعنى صحاح قلت:
وقد وثق أبا عبيدة ابن معين وقال أبو حاتم: منكر الحديث وعقب الذهبي عليه بقوله: قلت: صدوق إن شاء الله، وختم ترجمته بقوله: وثقه غير واحد. (ميزان الاعتدال 4/549).
أما ابن حجر فقال عنه في التقريب2/448: أبو عبيدة بن محمد بن عمار بن ياسر، أخو سلمة، وقيل هما واحد "مقبول" من الرابعة / ع (انظر تهذيب التهذيب 12/160-161).
وعلى كل فإن أبا عبيدة يكون من رجال الحسن على أقل تقدير وقد حسن هذا الحديث ابن حجر نفسه في فتح الباري 12/291.
(2) مقسم قال عنه ابن حجر في التقريب 2/273: صدوق وكان يرسل وفي التهذيب التهذيب 10/288-289. وثقه أحمد بن صالح المصري والعجلي ويعقوب بن سفيان والدارقطني.
وقال أبو حاتم: صالح الحديث لا بأس به.
وضعفه ابن سعد و الساجي وابن حزم.
ورمز له الذهبي في ميزان الاعتدال 4/176 (بصح) إشارة إلى توثيقه، ثم قال: والعجب من أن البخاري أخرج له في صحيحه، وذكره في كتاب الضعفاء فساق له حديث شعبة عن الحكم عن مقسم عن ابن عباس: "احتجم النبي صلى الله عليه وسلم وهو صائم" ثم روى عن شعبة أن الحكم لم يسمع من مقسم حديث الحجامة.وانظر:التاريخ للبخاري ص: 133-134 وقد تقدمت ترجمة مقسم في حديثها (75).(4/40)
أبي القاسم، مولى عبد الله بن الحارث بن نوفل قال: خرجت أنا وتليد(1) بن كلاب الليثي حتى أتينا عبد الله بن عمرو بن العاص، وهو يطوف بالبيت معلقا نعله(2) بيده، فقلنا له: هل حضرت رسول الله حين كلمه التميمي(3) يوم حنين؟
قال: "نعم جاء رجل من بني تميم، يقال له ذو الخويصرة(4)
__________
(1) تليد بن كلاب الليثي، ذكره ابن حجر في الإصابة 1/188-189 في القسم الرابع فيمن ذكر في الصحابة على سبيل التصحيف والغلط، وقال: استدركه الذهبي في التجريد، فقال حديثه في مسند أحمد في قول ذي الخويصرة "اعدل".
رواه ابن إسحاق عن أبي عبيدة بن محمد بن عمار عن مقسم عن رجل عنه، ثم عقب ابن حجر على قول الذهبي هذا بقوله قلت: و الحديث المذكور وقع في مسند عبد الله بن عمرو بن العاص من مسند أحمد، وليس لتليد بن كلاب فيه رواية، بل له فيه مجرد ذكر.
ثم ساق حديث الباب عن أحمد من طريق ابن إسحاق، ثم قال: وكذا أخرجه الطبراني في المعجم الكبير في مسند عبد الله بن عمرو بن العاص وقد تبين أن مقسما أخذ هذا الحديث عن عبد الله بن عمرو بن العاص مشافهة، وليس في السياق ما يقتضي أن يكون لتليد بن كلاب صحبة ولا له فيه رواية.
(2) عند أحمد والطبري "معلقا نعليه".
(3) عند أحمد (حين يكلمه).
(4) جاء في الصحيحين من حديث أبي سعيد الخدري: أن علي بن أبي طالب بعث من اليمن بذهبية فقسمها رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أربعة نفر: بين عيينة و الأقرع بن حابس وزيد الخيل، وعلقمة بن علاثة.
فقال ذو الخويصرة رجل من بني تميم، يا رسول الله اعدل، قال: "ويلك من يعدل إذا لم أعدل" فقال عمر: ائذن لي فلأضرب عنقه "قال: "لا، إن له أصحابا يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم، وصيامه مع صيامهم يمرقون من الدين مروق السهم من الرمية" الحديث.
قال ابن حجر: "تنبيه:هذه غير القصة المتقدمة في غزوة حنين وقد وهم من خلطها بها".
ثم قال: "ولمسلم من حديث جابر بن عبد الله نحو حديث أبي سعيد وفيه فقال: عمر: دعني يا رسول الله فأقتل هذا المنافق، فقال: "معاذ الله أن يتحدث الناس أني أقتل أصحابي، إن هذا وأصحابه يقرأون القرآن لا يجاوز حناجرهم"، يمرقون منه، لكن القصة التي في حديث جابر صرح في حديثه بأنها كانت منصرف النبي صلى الله عليه وسلم من الجعرانة، وكان ذلك في ذي القعدة سنة ثمان، وكان الذي قسمه النبي صلى الله عليه وسلم حينئذ فضة كانت في ثوب بلال، وكان يعطي كل ما جاء منها".
والقصة التي في حديث أبي سعيد صرح في رواية ابن أبي نعيم عنه أنها كانت بعد بعث عليّ إلى اليمن، وكان ذلك في سنة تسع، وكان المقسوم فيها ذهبا وخص به أربع أنفس، فهما قصتان في وقتين اتفق في كل منهما إنكار القائل، وصرح في حديث أبي سعيد أنه ذو الخويصرة التميمي ولم يسم القائل في حديث جابر ووهم من سماه ذا الخويصرة ظانا إتحاد القصتين.
ووجدت لحديث جابر شاهدا من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أتاه رجل يوم حنين وهو يقسم شيئا، فقال: يا محمد اعدل، ولم يسم الرجل أيضا. وسماه محمد بن إسحاق بسند حسن عن عبد الله بن عمرو بن العاص وأخرجه أحمد و الطبري أيضا ولفظه: أتي ذو الخويصرة التميمي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقسم الغنائم بحنين فقال: يا محمد اعدل، فذكر نحو هذا الحديث المذكور، فيمكن أن يكون تكرر ذلك منه في الموضعين عند قسمة الغنائم حنين وعند قسمة الذهب الذي بعثه علي فظهر أن المعترض في الموضعين واحد إهـ.
(فتح الباري 8/68 و12/291 و293 بتصرف، وحديث أبي سعيد في البخاري 4/109 و159-160 و5/134 و6/56 و162 و8/32 و15 و102 و130، ومسلم: الصحيح 2/741-746، كتاب الزكاة، باب ذكر الخوارج.
والروايات الواردة في هذا الباب جاء فيها بأن القائل لرسول الله صلى الله عليه وسلم "لعدل" أنه رجل، وفي بعضها رجل من بني تميم وفي بعضها ذو الخويصرة التميمي، وفي بعضها ابن ذي الخويصرة التميمي وفي بعضها عبد الله بن ذي الخويصرة التميمي، وقد اتفقت جميعها بأنه تميمي،وجاء عن الثعلبي ومن طريقه أخرجه الواحدي في أسباب النُّزول، فقال: ابن ذي الخويصرة التميمي وهو حرقوص بن زهير أصل الخوارج.
وكذا جاء عند أبي يعلى من طريق أفلح بن عبد الله بن المغيرة.
قال ابن حجر: "وما أدري من الذي قال هو حرقوص، وقد اعتمد على ذلك ابن الأثير، فترجم لذي الخويصرة في الصحابة، ثم ذكر رواية الثعلبي وقال في نهايتها: فقد جعل في هذه الرواية اسم ذي الخويصرة حرقوها". والله أعلم
قال ابن حجر: "وقد زعم بعضهم بأنه ذو الثدية وليس كذلك، وأكثر ما جاء ذكر هذا القائل في الأحاديث مبهما، ووصف بأنه مشرف الوجنتين غائر العينين ناشز الجبهة محلوق الرأس. الخ اهـ.
والخلاصة: أن تسمية القائل حرقوصا، جاء في رواية الثعلبي وقد قال ابن تيمية: الثعلبي: في نفسه خير و دين ولكنه حاطب ليل وقال ابن كثير: يوجد في كتبه من الغرائب شيء كثير".
وأما رواية أبي يعلى فإن فيها أبا معشر السندي، وهو ضعيف و أيضا فإن أفلح بن عبد الله قد روى هذا الحديث عن الزهري، فقال عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة ابن مسعود عن أبي سعيد الخدري، بينما رواه عن الزهري معمر وشعيب فقالا: عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن أبي سعيد الخدري، ورواه الأوزاعي عن الزهري فقال فيه عن أبي سلمة الضحاك المشرقي عن أبي سعيد الخدري،ولذا فقد قال ابن حجر:وقد شذ أفلح بن عبد الله بن المغيرة عن الزهري،فروى هذا الحديث عنه فقال عن عبيد الله بن عبد الله ابن عتبة عن أبي سعيد الخدري، أخرجه أبو يعلى.
(انظر فتح الباري12/292بتصرف،وأسد الغابة2/172والبداية النهاية لابن كثير 12/40 والتبيان في علوم القرآن للصابوني ص:211 وأسباب النزول للواحدي ص:167 ومسند أبي يعلى1/119 و2/120 رقم 301 ومجمع الزوائد6/234.(4/41)
، فوقف عليه وهو يعطي الناس، فقال: يا محمد، قد رأيت ما صنعت في هذا اليوم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أجل(1) كيف رأيت؟ فقال: لم أرك عدلت، قال: "فغضب النبي صلى الله عليه وسلم، ثم قال: "ويحك!(2) إذا لم يكن العدل عندي، فعند من يكون!" فقال عمر بن الخطاب يا رسول الله ألا أقتله؟ فقال: "لا دعه فإنه سيكون له شيعة يتعمقون(3) في الدين حتى يخرجوا منه كما يخرج السهم من الرمية، ينظر في النصل(4)، فلا يوجد شيء، ثم في القدح(5)، فلا يوجد شيء ثم في الفوق(6)، فلا يوجد شيء، سبق الفرث(7) والدم"(8).
__________
(1) أجل: بفتحتين: حرف جواب بمعنى "نعم".
(2) ويحك: كلمة زجر لمن أشرف على هلكة.
(3) يتعمقون في الدين: التعمق: التنطع والتعمق البعيد الغور الغالي في القصد المتشدد في الأمر الذي يطلب أقصى غايته.
(4) النصل: حديدة السهم و الرمح.
(5) القدح: بالكسر السهم قبل أم يراش وينصل جمعه قداح و أقاديح.
(6) الفوق: طرف السهم الذي يباشر الوتر.
(7) الفرث: ما يوجد في الكرش (النهاية 1/26 و3/299 و480 و4/20 و5/67 والقاموس المحيط 1/171 و241 و256 و3/268 و278، و327 و4/57 وهدي الساري ص 75 و160 و166 و170 و195 و207.
قال ابن حجر: "في معنى الحديث: أي يخرجون من الإسلام بغتة كخروج السهم إذا رماه رام قوي الساعد فأصاب ما رماه فنفذ منه بسرعة بحيث لا يعلق بالسهم و لا بشيء منه من المرمى شيء فإذا التمس الرامي سهمه وجده ولم يجد الذي رماه فينظر في السهم ليعرف هل أصاب أو أخطأ فإذا لم يره علق فيه شيء من الدم ولا غيره ظن أنه لم يصبه و الفرض أنه أصابه، و إلى ذلك أشار بقوله "سبق الفرث والدم" أي: جاوزهما ولم يتعلق فيه منهما شيء، بل خرجا بعده" (فتح الباري 6/618 و 12/294).
(8) سيرة ابن هشام 2/496 و الروض الأنف 7/251 والبداية والنهاية 4/362.(4/42)
والحديث رواه أحمد والطبري والبيهقي الجميع من طريق ابن إسحاق به(1).
وأورده الهيثمي ثم قال: "رواه أحمد والطبراني باختصار ورجال أحمد ثقات"(2).
وقال ابن حجر: "بسند حسن"(3).
ثم قال ابن إسحاق: "وحدثني محمد(4) بن علي بن الحسين أبو جعفر بمثل حديث أبي عبيد وسماه ذا الخويصرة".
وحدثني عبد الله(5) بن أبي نجيح عن أبيه(6) بمثل ذلك(7).
ومما مضى من الأحاديث يتبين لنا جفاء من صدر منه هذا القول السيء وخبث طويته حيث خاطب نبيه صلى الله عليه وسلم ذلك الخطاب اللاذع المملوء بالحقد والغلظة والشراسة، كما يتضح لنا جليا حلم رسول الله صلى الله عليه وسلم وتحمله لملاقاة هذا القول وغيره إقتداء بسلفه الصالح من الأنبياء والمرسلين صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، ولذا قال صلى الله عليه وسلم: "رحم الله موسى قد أوذي بأكثر من هذا فصبر" إن صفة الصبر والحلم من أبرز الصفات التي يجب أن تتوافر في المسلم اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم ذلك أن طريق الدعوة إلى الإسلام محفوف بالمكاره والمصاعب، فالإيذاء والبطش والاتهام والتعيير والسخرية، كلها من العقبات التي تزدحم في وجه العاملين الدائبين في الدعوة إلى الله عز وجل،كي تثبط هممهم وتشل حركتهم وتصرفهم عن الدعوة إلى الله.
__________
(1) أحمد: المسند 2/219 والطبري: تاريخ الرسل والملوك 3/92. والبيهقي: دلائل النبوة 3/53 أ.
(2) مجمع الزوائد 6/227-228.
(3) فتح الباري 12/291.
(4) هو الباقر ثقة فاضل تقدم في حديث (19).
(5) عبد الله بن أبي نجيح، يسار المكي، أبو يسار الثقفي مولاهم ثقة رمي بالقدر، وربما دلس، من السادسة (ت 131تو بعدها) / ع (التقريب 1/456 وتهذيب التهذيب 6/54).
(6) هو يسار المكي، أبو نجيح مولى ثقيف، مشهور بكنيته، ثقة من الثالثة وهو والد عبد الله بن أبي نجيح (ت109) / م د ت س (التقريب 2/274 وتهذيب التهذيب 11/377).
(7) سيرة ابن هشام 2/497 والروض الأنف 7/251 وتاريخ الرسل الملوك 3/92.(4/43)
ومن هنا فإن مهمة الداعية أن يتحمل ما يقال له من لذعات وسخرية وأن يقابل ذلك بالصبر والحلم، ولهذا كانت التوجيهات القرآنية والنبوية تفيض بالحث على التحلى بالصبر والحلم والأناة، وفي هذه الحادثة بالذات نرى كيف قابل رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك القول السيّئ "يا محمد اعدل لم أرك عدلت" كان مقتضى ذلك قتله و لكن رسول صلى الله عليه وسلم لم يفعل ذلك، واكتفى بقوله: "ويلك ومن يعدل إذا لم أعدل".
ثم قال: "رحم الله موسى قد أوذي بأكثر من هذا فصبر".
ولقد قال بعض الصحابة لرسول الله صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله ائذن لي في قتل هذا المنافق، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "معاذ الله أن يتحدث الناس أني أقتل أصحابي".
ذلك أن هذا القائل معدود في الصحابة، فلو أمر بقتله لقال الذي لا يعرف حقيقة الأمر إن محمدا يقتل أصحابه فكان في ذلك تنفير الناس عن الدخول في الإسلام، وتشويه سمعته، ولعل هذا وجه الحكمة في عدم معاقبة هذا القائل مع تصريحه بما يوجب قتله وإخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن له أصحابا يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية.
وقد بوب البخاري بقوله: "باب من ترك قتال الخوارج للتآلف ولئلا ينفر الناس عنه" ثم ساق حديث أبي سعيد الخدري(1).
قال ابن حجر: "في أثناء شرحه للحديث، قوله: "فإن له أصحابا" "هذا ظاهره أن ترك الأمر بقتله بسبب أن له أصحابا" بالصفة المذكورة، وهذا لا يقتضي ترك قتله مع ما أظهره من مواجهة النبي صلى الله عليه وسلم بما واجهه.
فيحتمل أن يكون لمصلحة التألف كما فهمه البخاري، لأنه وصفهم بالمبالغة في العبادة مع إظهار الإسلام، فلو أذن في قتلهم لكان ذلك تنفيرا عن دخول غيرهم في الإسلام(2).اهـ.
__________
(1) الصحيح 9/15 كتاب استتابة المرتدين والمعاندين وقتالهم.
(2) فتح الباري 12/293.(4/44)
وقال المارزي: "وجه الحكمة في ترك قتل هذا القائل: يحتمل أن يكون لم يفهم منه الطعن في النبوة، وإنما نسبه إلى ترك العدل في القسمة، والمعاصي ضربان: كبائر وصغائر، فهو صلى الله عليه وسلم معصوم من الكبائر بالإجماع، واختلفوا في الصغائر، ومن جوزها منع من إضافتها إلى الأنبياء على طريق التنقيص، وحينئذ فلعله صلى الله عليه وسلم لم يعقب هذا القائل: لأنه لم يثبت عليه ذلك، وإنما نقله عنه واحد، وشهادة الواحد لا يراق بها الدم"(1).
وقد رد هذا القاضي عياض بقوله:
"هذا التأول باطل يدفعه قوله "اعدل يا محمد" "واتق الله يا محمد" وخاطبه خطاب المواجهة بحضرة الملأ حتى استأذن عمر بن الخطاب، وخالد بن الوليد النبي صلى الله عليه وسلم في قتله، فقال: "معاذ الله أن يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه" فهذه هي العلة، وسلك معه مسلكه مع غيره من المنافقين الذين آذوه، وسمع منهم في غير موطن ما كرهه،لكنه صبر استبقاء لانقيادهم وتأليفاً لغيرهم، لئلا يتحدث الناس أنه يقتل أصحابه فينفروا، وقد رأى الناس هذا الصنف في جماعتهم وعدوه من جملتهم"(2)اهـ.
والخلاف طويل في تكفير الخوارج وقتالهم، وليس هذا محله وقد ذكرنا ما يتطلبه المقام.
وأورد ابن تيمية اعتراض هذا المعترض على قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم واستئذان عمر بن الخطاب في قتله، وجواب الرسول صلى الله عليه وسلم له بقوله: "معاذ الله أن يتحدث الناس أني أقتل أصحابي".
__________
(1) شرح النووي على صحيح مسلم 3/106.
(2) شرح النووي على صحيح مسلم 3/106.(4/45)
ثم قال: "فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يمنع عمر من قتله إلا لئلا يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه، ولم يمنعه لكونه في نفسه معصوماً كما قال في حديث حاطب بن أبي بلتعة عندما كتب لأهل مكة: يخبرهم بغزو الرسول صلى الله عليه وسلم لهم، فقال عمر: دعني أضرب عنق هذا المنافق، فقال: "إنه شهد بدرا وما يدرك لعل الله اطلع على أهل بدر" فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم".
فبيّن صلى الله عليه وسلم أنه باق على إيمانه، وأنه صدر منه ما يغفر له الذنوب فعلم أن دمه معصوم، وهنا علل بمفسدة زالت فعلم أن قتل مثل هذا القائل في غزوة حنين إذا أمنت هذه المفسدة جائز.
ثم قال: "ومما يشبه هذا أن عبد الله بن أبي لما قال: "لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل" استأمر عمر في قتله فقال: "إذن ترعد له أنوف كثيرة بالمدينة" وقال: "لا يتحدث الناس أنّ محمداً يقتل أصحابه".
فعلم أن من آذى النبي صلى الله عليه وسلم بمثل هذا الكلام جاز قتله كذلك مع القدرة، وإنما ترك النبي صلى الله عليه وسلم قتله لما خيف في قتله من نفور الناس عن الإسلام لما كان ضعيفاً(1).
__________
(1) ابن تيمية: الصارم المسلول على شاتم الرسول ص 178-179 بتصرف، وانظر: قصة حاطب وعبد الله بن أبي غزوة بني المصطلق ص 172 و184 و187 و189، وحاشية ص 211 تعليقة (6) من غزوة بني المصطلق أيضاً.(4/46)
المبحث الرابع: في بيان حكمة توزيع الغنائم على قوم دون آخرين
في نهاية غزوة حنين وزع رسول الله صلى الله عليه وسلم الغنائم بطريقة لم تكن مألوفة للصحابة من قبل، فقد خص صلى الله عليه وسلم المؤلفة قلوبهم بالحظ الأوفر من هذه الغنائم.
ولقد أحدث ذلك التقسيم في نفوس أجلاء الصحابة تساؤلا فيما بينهم وعجب بعض مشاهير الصحابة من ذلك الأسلوب الذي اتبع في توزيع غنائم حنين وظن بعض الصحابة أن في ذلك حرمانا لهم وهم القاعدة الصلبة التي تحطمت عليها جحافل الشرك في الغزوات كلها ومنها غزوة حنين، ولم يكن أولئك المؤلفة قلوبهم ومن شاكلتهم ليبلغوا معشار ما بلغه مشاهير الصحابة من النجدة والجهاد والصمود في وجوه أعداء الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، ومن هنا كان لا بد للباحث أن يبين الحكمة في توزيع غنائم حنين خاصة إذا ظهر أنها قد خفيت على أولئك العظماء من أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم، ولم تظهر لهم إلا بعد أن بين لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وجه الحكمة من ذلك، فاستبانوا الأمر وزال عنهم الإشكال، وسوف نمضي سياق النصوص الواردة في هذا الصدد لندرك من خلال التأمل والتدبر فيها وجه الحكمة في توزيع الغنائم ويزول الإشكال الذي عبر عنه بعض الأنصار بقولهم: "إن هذا لهو العجب إن سيوفنا تقطر من دمائهم وإن غنائمنا ترد عليهم"(1).
__________
(1) انظر: 419-420 من مبحث موقف الأنصار من توزيع الغنائم تحت الحديث 203.(5/1)
لقد حظي بهذه الغنائم الطلقاء والأعراب والرؤساء الذين يحملون الحقد للإسلام ونبي الإسلام والذين كانوا من جملة الأسباب في هزيمة المسلمين في بداية المعركة فقد جاء في حديث أنس بن مالك - رضي الله عنه - أن أم سليم اتخذت يوم حنين خنجرا فكان معها، فرآها أبو طلحة فقال: يا رسول الله هذه أم سليم معها خنجر!(1)، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما هذا الخنجر"؟ قالت: اتخذته إن دنا مني أحد من المشركين بقرت به بطنه، فجعل رسول الله يضحك، وقالت: يا رسول الله اقتل من بعدنا من الطلقاء انهزموا بك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا أم سليم إن الله قد كفى و أحسن" و في حديثه أيضا قال: "افتتحنا مكة ثم إنا غزونا حنينا" الحديث وفيه: "ونحن بشر كثير قد بلغنا ستة آلاف، وعلى مجنبة خيلنا خالد بن الوليد، وقال: فجعلت خلينا تلوي خلف ظهورنا فلم نلبث أن انكشفت خيلنا وفرت الأعراب ومن نعلم من الناس"(2).
وفي حديث صفوان بن أمية - رضي الله عنه - عند مسلم والترمذي وغيرهما وهذا سياق الترمذي:
185- "حدثنا الحسن(3) بن علي الخلال أخبرنا يحيى(4) بن آدم عن ابن المبارك(5) عن يونس(6) عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن صفوان بن أمية قال: "أعطاني رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين و إنه لأبغض الخلق إلي، فمازال يعطيني حتى أنه لأحب الخلق إلي".
قال أبو عيسى: "حدثني بن علي بهذا أو شبهه".
__________
(1) تقدم تخريجه برقم (47) و (60).
(2) تقدم تخريجه برقم (46).
(3) هو الحرواني ثقة حافظ.
(4) هو ابن سليمان الكوفي أبو زكريا مولى بني أمية ثقة حافظ.
(5) هو عبد الله بن المبارك، ثقة ثبت.
(6) هو ابن يزيد الأيلي ثقة، إلا أنه في روايته عن الزهري وهما قليلا، قاله ابن حجر في التقريب 2/386.(5/2)
ثم قال: حديث صفوان: "رواه معمر و غيره عن الزهري عن سعيد ابن المسيب أن صفوان بن أمية قال: أعطاني رسول الله صلى الله عليه وسلم وكأن هذا الحديث أصح وأشبه، إنما سعيد بن المسيب أن صفوان بن أمية"(1).
وعند مسلم عن ابن شهاب قال: "غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم غزوة الفتح فتح مكة، ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم بمن معه من المسلمين فاقتتلوا بحنين، فنصر الله دينه والمسلمين وأعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ صفوان بن أمية مائة من النعم، ثم مائة، ثم مائة"(2).
قال ابن شهاب: حدثني سعيد بن المسيب أن صفوان قال: "والله! لقد أعطاني(3) رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أعطاني و إنه لأبغض الناس إلي فما برح يعطيني حتى إنه لأحب الناس إلي"(4)
__________
(1) الترمذي: السنن 2/88 كتاب الزكاة باب ما جاء في إعطاء المؤلفة قلوبهم.
(2) وعند الواقدي: "و يقال إن صفوان طاف مع النبي صلى الله عليه وسلم، والنبي صلى الله عليه وسلم يتصفح الغنائم إذ مر بشعب مما أفاء الله عليه، وفيه غنم و إبل ورعاؤها مملوء فأعجب صفوان، وجعل ينظر إليه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أعجبك يا أبا وهب هذا الشعب؟ قال: نعم، قال: هو لك و ما فيه. فقال صفوان: أشهد ما طابت بهذا نفس أحد قط، إلا نبي وأشهد أنك رسول الله (مغازي الواقدي 3/946).
وانظر: أنساب الأشراف للبلاذري ص 362.
(3) وعند أحمد: "أعطاني رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين وإنه لأبغض الناس إلي فمازال يعطيني حتى صار وإنه لأحب الناس إلي".
وعند ابن سعد: "لقد أعطاني رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين، وإنه لمن أبغض الناس إليّ، فما زال يعطيني حتى إنه لمن أحبّ الناس إليّ".
(4) مسلم: الصحيح 4/1806كتاب الفضائل، باب ما سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا قط فقال: "لا وكثرة عطائه".
والترمذي: السنن 2/88 كتاب الزكاة، باب ماجاء في إعطاء المؤلفة قلوبهم.
وابن سعد: الطبقات الكبرى 5/449 والطبراني المعجم الكبير 8/60 وأحمد: المسند 3/401 و6/465 وقد رواه بسندين:
الأول: قال حدثنا زكريا بن عدي عن سعيد بن المسيب عن صفوان بن أمية به.
والثاني: حدثنا زكريا بن عدي قال أنا ابن المبارك عن يونس عن الزهري عن سعيد ابن المسيب عن صفوان بن أمية به.
ففي سند أحمد الأوّل زكريا بن عدي عن سعيد بن المسيب مباشرة، وفي السند الثاني بينه وبين سعيد بن المسيب ثلاثة من الرواة، وبهذا يكون قد سقط من السند الأوّل ثلاثة من الرواة.
وأيضاً فقد ذكر ابن حجر في تقريبه: سعيد بن المسيب من كبار الطبقة الثانية وزكريا في كبار العاشرة، فبينهما ثمان طبقات (انظر: التقريب 1/261و305).(5/3)
.
والحديث عند الترمذي وابن سعد وأحمد والطبراني بلفظ عن سعيد بن المسيب "عن صفوان بن أمية" وظاهره الاتصال وعند مسلم والفسوي وابن عبد البر والبيهقي: "أن صفون بن أمية"(1) وظاهره الانقطاع بين "سعيد بن المسيب وصفوان بن أمية".
وقد رجح الترمذي الأخير.
وأيده ابن العربي في عارضة الأحوذي حيث قال: الصحيح من هذا عن سعيد بن المسيب أن صفوان بن أمية؛ لأن سعيدا لم يسمع من صفوان شيئا وإنما يقول الراوي فلان عن فلان إذا سمع شيئا ولو حديثاً واحداً، فيحمل سائر الأحاديث التي سمعها من واسطة عنه على العنعنة، فأما إذا لم يسمع منه شيئا فلا سبيل إلى أن يحدث عنه لا بعنعنة ولا بغيرها(2). اهـ.
إن هذا العطاء الجزيل من رسول الله صلى الله عليه وسلم للمؤلفة قلوبهم وغيرهم ليدل على علو نفسه وغزارة جوده وعظيم سخائه، ومعرفته الكاملة بالدواء الذي يحسم الداء من أصله.
__________
(1) الفسوي: المعرفة والتاريخ 1/309 وابن عبد البر: الشفا 1/123، والبيهقي: السنن الكبرى 7/19.
وحديث صفوان هذا نسبه الزرقاني في شرح المواهب اللدنية 3/37 للبخاري ومسلم ونسبه السفاريني في شرح ثلاثيات مسند أحمد 2/28-29، للبخاري دون مسلم، والظاهر أن نسبته للبخاري خطأ وإنما هو عند مسلم عن أبي الطاهر، وأحمد ابن عمرو بن السرح أخبرنا ابن وهب أخبرني يونس عن ابن شهاب، وقد نسبه ابن الجوزي والمزي والنابلسي لمسلم دون البخاري.
انظر: تحفة الأشراف للمزي 4/189، حديث (4944). وذخائر المواريث للنابلسي 1/270 حديث (2423) وتلقيح فهوم أهل الأثر لابن الجوزي ص 394.
والحديث رواه الطبري أيضا في جامع البيان 10/162 من طريق معمر عن الزهري قال: قال صفوان بن أمية الخ بإسقاط "سعيد بن المسيب".
(2) انظر: المباركفوري: تحفة الأحوذي 3/335 والألباني: تخريج أحاديث فقه السيرة للغزالي ص 427-428.(5/4)
إن الحكمة والسياسة العادلة في هذا العطاء لأقوام دون آخرين هي إنقاذ أناس من النار بحطام زائل من الدنيا، ووكل آخرين إلى ما جعل الله في قلوبهم من الغنى والخير، والإيمان واليقين، ويدل على هذا حديث عمرو ابن تغلب عند البخاري وأحمد وغيرهما وهذا سياقه عند البخاري:
186- حدثنا محمد(1) بن معمر قال حدثنا أبو عاصم(2) عن جرير بن حازم، قال سمعت الحسن(3) يقول حدثنا عمرو(4) بن تغلب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتي(5) بمال أو سبي(6) فقسمه، فأعطى رجالا و ترك رجالا فبلغه أن الذين ترك عتبوا(7)، فحمد(8) الله ثم أثنى عليه ثم قال: "أما بعد: فوالله إني لأعطي الرجل و أدع الرجل، والذي أدع أحب إلي من الذي أعطي ولكن أعطي أقواما لما أرى في قلوبهم من الجزع والهلع(9)
__________
(1) هو ابن ربعي القيسي البصري البحراني - بالموحدة والمهملة.
(2) أبو عاصم هو الضحاك بن مخلد الشيباني.
(3) الحسن: هو البصري.
(4) عمرو بن تغلب - بفتح المثناة وسكون المعجمة وكسر اللام ثم الموحدة - النمري - بفتح النون والميم - صحابي تأخر إلى الأربعين / خ س ق (التقريب 2/66 وتهذيب التهذيب 8/8-9).
(5) وفي لفظ عند البخاري والفسوي "قال: أتى النبي صلى الله عليه وسلم مال، فأعطى قوماً ومنع آخرين، فكأنهم عتبوا عليه" وعند أحمد "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاه شيء فأعطاه ناسا وترك ناسا فبلغه عن الذين ترك أنهم عتبوا وقالوا".
(6) قال ابن حجر: "في رواية الكشميهني "بشيء" وهو أشمل" (فتح الباري 6/254) وفي رواية أحمد "أتاه شيء".
(7) عتب عليه يعتب ويعتب عتبا ومعتباً، والاسم المعتبة بفتح التاء وكسرها من الموجدة والغضب (النهاية 3/175).
(8) وعند أحمد "فصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه وقال: "إني أعطي ناسا وأدع ناساً وأعطي رجالا وأدع رجالاً"، وعنده أيضاً، "إني أعطي أقواماً وأرد آخرين".
(9) الجزع - محرك ضد الصبر، والهلع: أشد الجزع والضجر. (النهاية 5/269 ومختار الصحاح ص:103،و697).وفي لفظ عند البخاري "إني أعطي قوماً أخاف ظلعهم وجزعهم".وعنده وعند الفسوي "أعطي أقواماً لما في قلوبهم من الجزع والهلع".(5/5)
وأكل أقواما إلى ما جعل الله في قلوبهم من الغنى(1) والخير، فيهم عمرو بن تغلب(2). "فوالله(3) ما أحب أن لي بكلمة(4) رسول الله صلى الله عليه وسلم حمر النعم"(5). تابعه يونس(6).
وفي حديث أنس بن مالك - رضي الله عنه - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إني لأعطي رجالاً حدثاء عهد بكفر أتألفهم أو قال: أستألفهم"(7).
__________
(1) الغني: بالكسر والقصر: ضد الفقر (مختار الصحاح ص: 483) وفي لفظ عند البخاري "من الخير والغنى".
(2) وفي لفظ عند البخاري وأحمد والفسوي وأبي نعيم "منهم عمرو بن تغلب".
(3) وعند البخاري أيضا "فقال عمرو بن تغلب: ما أحب أن لي بكلمة رسول الله الخ" وعند أحمد "قال: وكنت جالساً تلقاء وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم".
(4) قوله: "ما أحب أن لي بكلمة من رسول الله الخ" أي التي قالها في حقه وهي إدخاله إياه في أهل الخير والغنى.
وقيل المراد: "الكلمة التي قالها في حق غيره، فالمعنى: لا أحب أن يكون لي حمر النعم بدلا من الكلمة المذكورة التي لي، أو يكون لي ذلك، وتقال تلك الكلمة في حقي" (فتح الباري 6/253).
(5) البخاري: الصحيح 2/10، كتاب الجمعة، باب من قال في الخطبة بعد الثناء أما بعد) 4/74 كتاب فرض الخمس، باب ما كان النبي يعطي المؤلفة وغيرهم من الخمس ونحوه.
و9/125-126 كتاب التوحيد، باب قول الله تعالى: {إِنَّ الْأِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً} وأحمد: المسند 5/65 والفسوي: المعرفة والتاريخ 1/330 وأبو نعيم: حلية الأولياء 2/11 والبيهقي: السنن الكبرى 7/18).
(6) قال ابن حجر: "يونس هو: ابن عبيد، وقد وصله أبو نعيم في مسند يونس بن عبيد له، بإسناده عنه عن الحسن عن عمر بن تغلب" (فتح الباري 2/405) والمعنى: أن يونس تابع جريراً في شيخه الحسن البصري.
(7) انظر مبحث موقف الأنصار من توزيع الغنائم حاشية (4) ص: 418.(5/6)
187- وفي حديث سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه - قال: قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم قسماً، فقلت: يا رسول الله! اعط فلاناً؛ فإنه مؤمن، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أو مسلم" أقولها ثلاثاً، ويردها على ثلاثاً "أو مسلم" ثم قال: "إني لأعطي الرجل وغيره أحب إلي منه مخافة(1) أن يكبه الله في النار"(2).
قال ابن حجر: "الرجل المتروك اسمه: جعيل بن سراقة الضمري، سماه الواقدي في المغازي"(3).
قلت: قول الواقدي المشار إليه هو "قال سعد بن أبي وقاص: يا رسول الله، أعطيت عيينة بن حصن والأقرع بن حابس مائة مائة، وتركت جعيل بن سراقة الضمري!.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أما والذي نفسي بيده، لجعيل بن سراقة خير من طلاع(4) الأرض كلها مثل عيينة والأقرع، ولكني تألفتهما ليسلما ووكلت جعيل بن سراقة إلى إسلامه"(5).
188- وأخرج ابن إسحاق قال: حدثني محد بن إبراهيم بن الحارث التيمي أن قائلا قال: لرسول الله صلى الله عليه وسلم من أصحابه: يا رسول الله اعطيت عيينة بن حصن والأقرع بن حابس مائة ومائة وتركت جعيل بن سراقة الضمري!"(6).
ثم ساق مثل حديث الواقدي.
وأورده ابن حجر في الإصابة ثم قال: هذا مرسل حسن: لكن له شاهد موصول.
__________
(1) وفي لفظ "خشية أن يكب في النار على وجهه".
(2) البخاري: الصحيح 1/11 كتاب الإيمان، باب إذا لم يكن الإسلام على الحقيقة الخ، 2/105-106،كتاب الزكاة،باب قول الله تعالى: {لا يَسْأَلونَ النَّاسَ إِلْحَافاً}، ومسلم:الصحيح1/132-133كتاب الإيمان،باب تأليف قلب من يخاف على إيمانه لضعفه، والنهي عن القطع بالإيمان من غير دليل قاطع،و2/732-733 كتاب الزكاة باب إعطاء من يخاف على إيمانه واللفظ له وأحمد:المسند1/176-182.
(3) فتح الباري 1/80.
(4) طلاع الأرض، أي ما يملؤها حتى يطلع عنها ويسيل (النهاية 3/133).
(5) مغازي الواقدي 3/948.
(6) سيرة ابن هشام 2/496 وتاريخ الرسل والملوك 3/91 والروض الأنف 7/250.(5/7)
189- روى الروياني(1) في مسنده وابن عبدالحكم(2) في فتوح مصر من طريق بكر(3) بن سوادة عن أبي سالم(4) الجيشاني عن أبي ذر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: "كيف ترى جعيلا؟".
قلت: مسكينا كشكله من الناس.
قال: "وكيف ترى فلانا؟"
قلت: سيد من السادات
قال: "لجعيل خير من ملء الأرض مثل هذا".
قال: قلت يا رسول الله، فلان هكذا وتصنع به ما تصنع.
__________
(1) الروياني، هو: الإمام الحافظ أبو بكر محمد بن هارون، صاحب المسند المشهور مات سنة سبع وثلاث مائة (تذكرة الحفاظ للذهبي 1/752-758).
(2) هو عبد الرحمن بن عبد الله بن عبد الحكم بن أعين المصري، ثقة من الحادية عشرة (ت 257) س / له تاريخ مصر وغيره (التقريب 1/487 وتهذيب التهذيب 6/208، وشجرة النور الزكية في طبقات المالكية ص 67.
(3) بكر بن سوادة بن ثمامة الجذامي أبو ثمامة المصري، ثقة فقيه من الثالثة (ت بضع و عشرين ومائة / خت م ع التقريب 1/106 وتهذيب التهذيب 1/483).
(4) هو سفيان بن هانئ المصري، أبو سالم الجيشاني - بفتح الجيم وسكون التحتانية بعدها معجمة - تابعي مخضرم، شهد فتح مصر، ويقال له صحبة، مات بعد ثمانين / م د س (المصدر السابق 1/312و4/123) وفي الإصابة (2/113) قال ابن مندة اختلف في صحبته، ثم قال ابن حجر، قلت: "اتفق البخاري ومسلم وأبو حاتم والعجلي وابن حبان على أنه تابعي، وقال ابن يونس: شهد فتح مصر وله رواية عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - وكان قد وفد عليه وصحبه وروى أيضا عن أبي ذر وعقبة بن عامر وعبد الله بن عمرو بن العاص وغيرهم، وروى عنه ابنه سالم وحفيده سعيد بن سالم ويزيد بن أبي حبيب وبكر بن سوادة وآخرون ومات بالإسكندارية في إمرة عبد العزيز بن مروان، وكان عبد العزيز بن مروان أميراً على مصر من قبل أبيه واستمر عشرين سنة من سنة (60) إلى سنة (86) وهو والد عمر بن عبد العزيز (تهذيب التهذيب 6/356).(5/8)
قال: "إنه رأس قومه فتألفهم". إسناده صحيح و أخرجه ابن حبان من وجه آخر عن أبي ذر، ولكن لم يسم جعيلا(1).
190- وأخرجه البخاري من حديث سهل بن سعد، فأبهم جعيلا وأبا ذر(2)
__________
(1) الحديث أخرجه ابن حبان مطولا كما في موارد الظمآن ص 635 وفيه "قال أبو ذرّ: سألني رسول الله صلى الله عليه وسلم عن رجل من قريش قال: "هل تعرف فلانا؟" قلت: نعم يا رسول الله.
قال: "فكيف تراه أو تره"؟ قلت: إذا سأل أعطي، و إذا حضر أدخل قال: "ثم سألني عن رجل من أهل الصفة" قال: هل تعرف فلانا ؟ قلت: لا و الله ما أعرفه يا رسول الله، فما زال يحليه وينعته حتى عرفته يا رسول الله فقلت: قد عرفته يا رسول الله، قال: فكيف تراه؟ فقلت: هو رجل مسكين من أهل الصفة فقال: "هو خير من طلاع الأرض من الآخر"، قلت: "يا رسول الله أفلا يعطى من بعض ما يعطى من بعض الآخر؟ فقال: إذا أعطي خيرا فهو أهله، وإذا صرف عنه فقد أعطي حسنة".
(2) الإصابة 1/239 والحديث في صحيح البخاري 7/8، كتاب النكاح، باب الأكفاء في الدين 8/80، كتاب الرقاق، باب فضل الفقر، ولفظه: "عن سهل بن سعد الساعدي - رضي الله عنه - قال: مرّ رجل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "ما تقولون في هذا؟" قالوا: حري إن خطب أن ينكح، وإن شفع أن يشفع، وإن قال: أن يستمع"، قال: ثم سكت،. فمرّ رجل من فقراء المسلمين، فقال: ما تقولون في هذا؟"، قالوا: حري إن خطب أن لا ينكح، وإن شفع أن لا يشفع، وإن قال: أن لا يستمع"، فقال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هذا خير من ملء الأرض مثل هذا".
وأخرجه أيضا ابن ماجه في 2/1379 كتاب الزهد، باب فضل الفقراء، قال ابن حجر: في هذا الحديث قوله (مر برجل) لم أقف على اسمه ويؤخذ من رواية ابن إسحاق أنه عيينة بن حصن الفزاري، والأقرع بن حابس ثم ساق حديث ابن إسحاق.
وأما المار الثاني: فإني لم أقف على اسمه ويؤخذ مما أخرجه الروياني في مسنده وابن عبد الحكم (في فتوح مصر) أنه جعيل بن سراقة (فتح الباري 9/136 و11/227).(5/9)
.
وأخرجه أبو نعيم من طريق بكر بن سوادة أيضاً(1).
191- وفي حديث رافع بن خديج - رضي الله عنه - عند مسلم وغيره وهذا سياق مسلم:
حدثنا محمد(2) بن أبي عمر المكي حدثنا سفيان(3) عن عمر(4) بن سعيد بن مسروق عن أبيه(5)، عن عباية(6) بن رفاعة عن رافع بن خديج قال: أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا سفيان بن حرب و صفوان(7) بن أمية وعيينة بن حصن والأقرع بن حابس كل إنسان منهم مائة من الإبل، وأعطى عباس بن مرداس دون ذلك، فقال عباس بن مرداس:
أتجعل نهبي ونهب العبيد ... بين عيينة والأقرع؟
فما كان بدر ولا حابس ... يفوقان مرداس(8) في المجمع
وما كنت دون امرئ منهما ... ومن تخفض اليوم لا يرفع
قال: فأتم له رسول الله صلى الله عليه وسلم مائة.
ثم قال مسلم: وحدثنا أحمد بن عبدة الضبي أخبرنا ابن عيينة عن عمر بن سعيد بن مسروق بهذا الإسناد أن النبي صلى الله عليه وسلم قسم غنائم حنين فأعطى أبا سفيان بن حرب مائة من الإبل، وساق الحديث بنحوه.
وزاد: وأعطى علقمة بن علاثة(9) مائة(10).
__________
(1) حلية الأولياء 1/353.
(2) هو العدني.
(3) هو ابن عيينة.
(4) هو أخو سفيان الثوري.
(5) هو سعيد بن مسروق الثوري.
(6) عباية - بفتح أوله والموحدة الخفيفة وبعد الألف تحتانية - خفيفة ابن رفاعة بن رافع ابن خديج الأنصاري الزرقي، من الثالثة.
(7) تقدم في حديث (185)، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطاه مائة من الغنم، ثم مائة، ثم مائة.
(8) قوله (يفوقان مرادس)، قال النووي: هو كذا في جميع الروايات غير مصروف وهو حجة لمن جوز ترك الصرف بعلة واحدة، وأجاب الجمهور بأنه في ضرورة الشعر (شرح النووي 3/103).
(9) علاثة: بضم العين المهملة و تخفيف اللام وبثاء مثلثة المصدر السابق 3/103.
(10) مسلم: الصحيح 2/737 كتاب الزكاة، باب إعطاء المؤلفة قلوبهم على الإسلام و تصبر من قوي إيمانه، والحميدي:المسند 1/200، والمعجم الكبير للطبراني 4/325، والبيهقي: دلائل النبوة 3/51 ب.(5/10)
وفي حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: لما كان يوم حنين آثر رسول الله صلى الله عليه وسلم أناساً في القسمة، فأعطى الأقرع بن حابس مائة من الإبل، وأعطى عيينة مثل ذلك، وأعطى ناساً من أشراف العرب، فآثارهم يومئذ في القسمة" الحديث(1).
وفي حديث أنس بن مالك إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطى أبا سفيان وعيينة والأقرع وسهيل بن عمرو في الآخرين يوم حنين" الحديث(2).
وفي لفظ "لما أفاء الله على رسوله أموال هوازن فطفق رسول الله صلى الله عليه وسلم يعطي رجالا من قريش المائة من الإبل كل رجل"(3).
وفي لفظ: "وأصاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من غنائم كثيرة فقسم في المهاجرين والطلقاء"(4).
وفي حديث عبد الله بن زيد بن عاصم رضي الله عنه قال: "لما أفاء الله على رسوله صلى الله عليه وسلم يوم حنين قسم في الناس في المؤلفة قلوبهم" الحديث(5).
192- وعند الطبراني قال: حدثنا إسحاق(6)
__________
(1) تقدم تخريجه برقم (183).
(2) انظر حديث (204).
(3) انظر تحت حديث (203) تعلقة (6) ص 417).
(4) انظر تحت حديث (203) ص: (416).
(5) انظر تخريجه برقم: (205).
(6) إسحاق بن إبراهيم بن عباد أبو يعقوب - الدبر - بفتح الدال المهملة و الباء الموحدة وبعدها راء - راوي كتب عبد الرزاق عنه.
وقد استصغر في عبد الرزاق فسمع منه تصانيفه وهو ابن سبع سنين أو نحوها وقد روى عن عبد الرزاق أحاديث منكرة فوقع التردد فيها، هل هي منه فانفرد بها، أو هي معروفة مما تفرد به عبد الرزاق. وقد احتج بالدبري أبو عوانة في صحيحه وغيره وأكثر عنه الطبراني.
قال الدارقطني في رواية الحاكم: "صدوق ما رأيت فيه خلافا، إنما قيل لم يكن من رجال هذا الشأن قلت: ويدخل في الصحيح! قال: إي والله وقد رمز له الذهبي بـ (صح) إشارة إلى أنه ثقة، مات سنة 285 على الأشهر أو 287" (ميزان الاعتدال 1/181-182 ولسان الميزان لابن حجر 1/349-350 واللباب لابن الأثير 1/489).(5/11)
بن إبراهيم الدبري عن عبد الرزاق عن معمر(1) عن الزهري عن سعيد بن المسيب وعروة بن الزبير، وعن هشام بن عروة عن أبيه، قال أعطى النبي صلى الله عليه وسلم حكيم بن حزام يوم حنين عطاء فاستقبله(2) فزاده، فقال: يا رسول الله أي عطيتك خير؟ قال: "الأولى". فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "يا حكيم بن حزام إن هذا المال خضرة حلوة فمن أخذها بسخاوة نفس وحسن أكلة بورك له فيه، ومن أخذه باستشراف نفس وسوء أكلة لم يبارك له، وكان الذي يأكل ولا يشبع، اليد العليا خير من اليد السفلى". قال: ومنك يا رسول الله، قال: "ومني". قال: "فوالذي بعثك بالحق لا أرزأ(3) بعدك أحداً شيئاً أبداً". قال: "فلم يقبل ديوانا (4) ولا عطاء حتى مات" (5).
فكان عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - يقول: "اللهم إني أشهدك على حكيم بن حزام أني ادعوه لحقه من هذا المال وهو يأبى، فقال: "إني والله لا أرزاك ولا غيرك، فمات حين مات وإنه لمن أكثر قريش مالاً"(6).
__________
(1) أي: إن معمراً روى هذا الحديث عن الزهري عن سعيد بن المسيب وعروة بن الزبير. ورواه أيضا عن هشام بن عروة عن أبيه عروة بن الزبير.
(2) لعل الصواب: فاستقله.
(3) لا أرزأ: أي لا آخذ من أحد شيئا بعدك (النهاية 2/218).
(4) الديوان - ويفتح مجتمع الصحف، والكتاب يكتب فيه أهل الجيش، وأهل العطية، وأول من وضعه عمر بن الخطاب رضي الله عنه، جمعه دواوين ودياوين (القاموس المحيط 4/224).
(5) قال ابن حجر: "وإنما امتنع حكيم من أخذ العطاء مع أنه حقه لأنه خشي أن يقبل من أحد شيئا فيعتاد الأخذ فتتجاوز به نفسه إلى ما لا يريده ففطمها عن ذلك وترك ما يريبه، وإنما أشهد عليه عمر - رضي الله عنه - لأنه أراد أن لا ينسبه أحد لم يعرف باطن الأمر إلى منع حكيم من حقه" (فتح الباري 3/336).
(6) المعجم الكبير للطبراني 3/210.(5/12)
والحديث أخرجه الواقدي من طريق سعيد بن المسيب وعروة بن الزبير عن حكيم بن حزام قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم بحنين، مائة من الإبل فأعطنيها، ثم سألته مائة فأعطنيها، ثم سألته مائة فأعطنيها، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا حكيم بن حزام، إن هذا المال خضرة حلوة فمن أخذه بسخاوة نفس بورك له فيه" الحديث.
ثم قال الواقدي أيضا وحدثني ابن أبي الزناد(1) قال: "أخذ حكيم المائة الأولى ثم ترك" (2).
193- والحديث في الصحيحين وغيرهما من طريق الزهري عن سعيد بن المسيب وعروة بن الزبير نحوه(3)
__________
(1) ابن أبي الزناد: هو عبد الرحمن بن عبد الله بن ذكوان.
(2) مغازي الواقدي 3/945.
(3) البخاري: الصحيح 2/104 كتاب الزكاة، باب الاستعفاف عن المسألة، و4/5 كتاب الوصايا، باب تأويل قوله تعالى: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ} و4/73 كتاب الفرض الخمس، باب ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يعطي المؤلفة وغيرهم من الخمس، و8/79 كتاب الرقاق، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: "هذا المال خضرة حلوة". ومسلم: الصحيح 2/717 كتاب الزكاة، باب بيان أن اليد العليا خير من اليد السفلى، الترمذي: السنن 4/56 كتاب صفة القيامة.
والنسائي: السنن 5/45 كتاب الوكالة، باب اليد العليا، 5/75-77 من كتاب الزكاة أيضا، باب مسألة الرجل في أمر لا بد منه.
والحميدي: المسند 1/253 والدارمي: السنن 1/326 كتاب الزكاة، باب النهي عن المسألة و2/219 كتاب الرقاق، باب الدنيا خضرة حلوة. واحمد: المسند 3/434 والطبراني: المعجم الكبير 3/210-213 والبيهقي: السنن الكبرى 4/196 وقد نسب المزي في الأطراف وتبعه صاحب ذخائر المواريث - هذا الحديث للترمذي في كتاب الزهد عن سويد بن نصر، ولم أجده في كتاب الزهد بعد مراجعته مراراً في الطبعة التي بين يدي، وقد تحصلت على الحديث في كتاب القيامة، وهو عن سويد بن نصر.
(انظر: الأطراف للمزي 3/74 حديث: (3426)، وذخائر المواريث 1/197، حديث 1788).(5/13)
وليس فيه لفظ "حنين".
ومن المعلوم أن حكيم بن حزام من مسلمة الفتح، ومن مؤلفة قلوبهم، و أن هذا تأليف لأهل مكة إنما كان في غزوة حنين.
كما صرّح حديث الطبراني والواقدي بذلك، وأن تلك الأموال الكثيرة إنما كانت في غزوة حنين، ولم يقع بعد فتح مكة، غزوة حصلت فيها مثل تلك الغنائم في العهد النبوي سوى غزوة حنين، إن هذه العطايا من رسول الله صلى الله عليه وسلم قد وقعت من نفوس القوم موقعها و ظهرت الحكمة جلية من وراء ذلك، وهو استئلاف أناس للدخول في الإسلام أو تثبيتهم عليه، ووكل آخرين إلى إيمانهم.
قال ابن حجر: "اقتضت حكمة الله أن غنائم الكفار لما حصلت ثم قسمت على من لم يتمكن الإيمان من قلبه لما بقي من الطبع البشرى في محبة المال فقسمه فيهم لتطمئن قلوبهم وتجتمع على محبته، لأنها جلبت على حب من أحسن إليها، ومنع أهل الجهاد من أكابر المهاجرين ورؤساء الأنصار مع ظهور استحقاقهم لجميعها، لأنه لو قسم ذلك فيهم لكان مقصورا عليهم، خلاف قسمته على المؤلفة، لأن فيه استجلاب قلوب أتباعهم الذين كانوا يرضون إذا رضي رئيسهم فلما كان ذلك العطاء سببا لدخولهم في الإسلام و لتقوية قلب من دخل فيه قبل تبعهم من دونهم في الدخول، فكان في ذلك عظيم المصلحة". إهـ(1).
194- "وفي حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال: ما سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم على الإسلام شيئا إلا أعطاه"(2).
ومن خلال ما سبق من النصوص التاريخية و الأحاديث النبوية تبرز أمامنا حقيقتان:
__________
(1) فتح الباري 8/49.
(2) صحيح مسلم 4/1806 كتاب الفضائل، باب ما سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا قط فقال: لا، وكثرة عطائه.(5/14)
الأولى: دقة نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم وعمق معرفته بدخائل النفوس البشرية وما يقوم اعوجاجها، حيث أعطى تلك العطايا السخية ومنح تلك المنح الهائلة لأناس يعادونه، وكفار لم يدخلوا في دين الله بعد وآخرين يتألف بهم قومهم لعلهم يهتدون ويسلمون، وكانت النتيجة التي توخها صلى الله عليه وسلم من تخصيص هؤلاء الذين تألفهم بهذه العطايا أن أسلموا وحسن إسلامهم وكانوا جنودا صادقين في الدفاع عن الإسلام والانخراط في سلك المهاجرين والأنصار الذين رضي الله عنهم ورضوا عنه كما دلت على ذلك النصوص السابقة.
وعلى وجه الإيجاز كانت تلك الأعطيات بردا وسلاما على نفوس أولئك النفر وشفاء لما في صدورهم من مرض الضلال وحب المادة وقد عبروا أنفسهم عن هذا الإحساس وهذا التحول النفسي الخطير حين قال بعضهم "أعطاني رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين، وإنه لأبغض الخلق إلي، فما زال يعطيني حتى إنه لحب الخلق إلي" وكفى بهذه النتيجة العظيمة دليلا على حسن ذلك التقسيم للغنائم، وأنه واقع موقعه، وكيف لا يكون كذلك وهو عمل المعصوم صلى الله عليه وسلم الذي لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى.
الحقيقة الثانية: في هذه الغزوة تجلت قوة إيمان أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم و ثباتهم العظيم أمام مغريات المادة و أنهم كانوا كما قيل "يقلون عند الطمع ويكثرون عند الفزع"(1).
__________
(1) ذكر ذلك الجاحظ في البيان والتبيين 2/45 بلفظ "فمن كلامه صلى الله عليه وسلم حين ذكر الأنصار فقال: "أما والله ما علمتكم إلا لتقلون عند الطمع وتكثرون عند الفزع" ولم أجده في كتاب من كتب الحديث.(5/15)
بل إنهم أعظم من هذا بكثير كانت غايتهم - رضي الله عنهم - الدفاع عن دينه ونشر الحق، ولم تكن المادة مسيطرة على نفوسهم ولا باعثة لهم على الجهاد كما يزعم ذلك أعداء اله من المستشرقين وأذنابهم، وهذا الموقف العظيم لهم من أعظم الأدلة على طهارة نفوسهم ووضوح هدفهم ونبل مقاصدهم في جهادهم في سبيل الله، ولقد رباهم الرسول الله صلى الله عليه وسلم التربية الإسلامية الكاملة في معناها، ووثق صلى الله عليه وسلم من إيمانهم ووكلهم إلى هذا الإيمان، وما كان تساؤلهم في مبدأ توزيع الغنائم ولا تعجبهم من ذلك التقسيم لها إلا بسبب خفاء الحكمة عليهم في ذلك حتى بين لهم الرسول صلى الله عليه وسلم الحكمة من ذلك فرضوا وسلموا له تسليما ولم يبق في نفوسهم حرج ولا ميل عن الحق، بل كانوا مغتبطين بما أوضحه الرسول صلى الله عليه وسلم لهم من أنه وكلهم إلى ما في قلوبهم من الغنى والخير والإيمان واليقين.
وما دام الحديث عن المؤلفة قلوبهم والحكمة من إعطائهم فيحسن بنا أن نعرفهم ونسرد أسماءهم كما ذكر ذلك أهل المغازي وغيرهم فنقول:
المؤلفة قلوبهم
أ- المؤلفة: جمع مؤلف، مأخوذ من التأليف، وهو المدارة و الإيناس، يقال: تألف فلان فلانا إذا داراه و آنسه و قاربه وواصله حتى يستمليه(1) إليه.
__________
(1) القاموس المحيط 3/119 ولسان العرب 10/ 353 والمصباح المنير 1/26).(5/16)
ب- وفي الاصطلاح: هم السادة المطاعون في عشائرهم ممن يرجى إسلامه أو يخشى شره، أو يرجى بعطيته قوة الإيمان منه، أو إسلام نظيره، أو جباية الزكاة ممن لا يعطيها، أو الدفع عن المسلمين(1).
قال ابن حجر: "المراد بالمؤلفة ناس من قريش أسلموا يوم الفتح إسلاما ضعيفا، و قيل كان فيهم من لم يسلم بعد كصفوان بن أمية، وقد اختلف في المراد بالمؤلفة قلوبهم الذين هم أحد المستحقين للزكاة فقيل: كفار يعطون ترغيبا في الإسلام، وقيل مسلمون لهم أتباع كفار ليتألفوهم وقيل مسلمون أوّل ما دخلوا في الإسلام ليتمكن الإسلام من قلوبهم".
ثم قال: "وأما المراد بالمؤلفة هنا: فهذا الأخير، لقوله في الحديث "فإني أعطي رجالا حديثي عهد بكفر أتألفهم"(2).
__________
(1) جامع البيان للطبري 10/161 والإفصاح لابن هبيرة 1/224-225، والمغني لابن قدامة 6/428-429 والعدة شرح العمدة للمقدسي ص 142-143 والإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف لعلاء الدين المرداوي 3/227 وتاريخ الخميس للدياربكري 2/114 والسيرة الحلبية لبرهان الحلبي3/85 والفقه على المذاهب الأربعة للجزيري 1/623 و624 و625 ومنهاج المسلم للجزائري ص 256.
(2) فتح الباري 8/48.(5/17)
195- وقال ابن إسحاق(1): أعطي رسول الله صلى الله عليه وسلم المؤلفة قلوبهم وكانوا أشرافاً من أشراف الناس، يتألفهم ويتألف بهم قومهم، فأعطى أبا سفيان بن حرب مئة بعير(2)، وأعطى ابنه معاوية مائة بعير، وأعطى حكيم ابن حزام مئة بعير(3)، وأعطى الحارث(4) بن الحارث بن كلدة مئة بعير، وأعطى الحارث بن هشام مئة بعير، وأعطى سهيل بن عمرو ومئة بعير(5)، وأعطى حويطب بن عبد العزى بن أبي قيس مئة بعير(6)، وأعطى العلاء(7)
__________
(1) وساق الطبري أسماء المؤلفة قلوبهم من غير طريق ابن إسحاق: فقال: حدثنا عبد الأعلى قال: ثنا محمد بن ثور عن معمر عن يحيى بن أبي كثير: أن المؤلفة قلوبهم الخ (جامع البيان 10/161-162.
(2) وأربعين أوقية فضة، وأعطى ابنه معاوية ويزيد كل واحد مثله، فقال أبو سفيان لرسول الله صلى الله عليه وسلم والله إنك لكريم فداك أبي وأمي، والله لقد حاربتك فلنعم المحارب كنت، ولقد سالمتك فنعم المسالم أنت جزاك الله خيراً (مغازي الواقدي 3/944-945).
(3) وعند الواقدي: أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعطاه مائة، ثم مئة ثم مئة، ثم وعظه رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذ المائة الأولى ثم ترك.
(4) كان أبوه طبيب العرب وحكيمها، وهو من المؤلفة قلوبهم، وكان من أشراف قومه وأما أبوه الحارث بن كلدة فمات أوّل الإسلام ولم يصح إسلامه.
(انظر: أسد الغابة 1/384 و420 و2/45 و3/10 و5/209 و491 و6/148-149) وانظر: ترجمة الحارث بن كلدة في الإصابة 1/288).
(5) زاد الزرقاني: (أخوه سهل) (شرح المواهب 3/37 وأسد الغابة 2/475.
(6) انظر: الطبقات الكبرى لابن سعد 5/454.
(7) العلاء بن جارية - بجيم و تحتية- كذا في الإصابة 2/497 وشرح المواهب اللدنية 3/37 ووقع في أسد الغابة 4/73 وفتح الباري 8/48.
العلاء بن (حارثة) بالحاء المهملة والمثلثة وكذا في جامع البيان للطبري 10/162 وعند الواقدي 3/946 أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطاه خمسين بعيرا.(5/18)
ابن جارية الثقفي حليف بني زهرة مئة بعير، وأعطى عيينة بن حصن بن حذيفة بن بدر مئة بعير، و أعطى صفوان بن أمية مئة بعير(1)، فهؤلاء أصحاب المئين.
وأعطى دون المائة رجالا من قريش منهم:
مخرمة بن نوفل الزهري(2)، وعمير بن وهب الجمحي(3).
وهشام(4) بن عمرو أخو بني عامر بن لؤي لا أحفظ ما أعطاهم وقد عرفت أنها دون المئة.
وأعطى سعيد بن يربوع بن عن كثة بن عامر بن مخزوم خمسين من الإبل(5)، وأعطى السهمي خمسين من الإبل(6)
__________
(1) تقدم في حديث (185) أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطاه مائة من النعم ثم مائة، ثم مائة.
(2) وعند الواقدي 3/946 وأسد الغابة 5/125 أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطاه خمسين بعيرا.
(3) في شرح المواهب قال: أعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم خمسين من الإبل وذكر ابن عبد البر في المؤلفة: عمير بن ودقة وقال: "لم يبلغه رسول الله صلى الله عليه وسلم مائة من الإبل من غنائم حنين وكذا قيس بن مخرمة وعباس بن مرداس وهشام بن عمرو وسعيد بن يربوع وسائر المؤلفة قلوبهم أعطاهم مائة مائة" (الاستيعاب 2/489).
وقال ابن حجر: "لم يذكر ابن إسحاق عمير بن ودقة في المؤلفة وذكر بدله "عمير بن وهب الجمحي" وبدل "قيس بن مخرمة" "مخرمة بن نوفل" الإصابة 3/35).
(4) وعند الواقدي 3/946 أعطاه خمسين من الإبل.
(5) انظر الاستيعاب: لابن عبد البر 2/489 مع الإصابة، والإصابة 2/51-52.
(6) قال ابن حجر: "قال ابن هشام: اسمه عدي بن قيس السهمي، وروى ابن مردويه من طريق بكر بن بكار عن علي بن المبارك عن يحيى ابن أبي كثير في تسمية المؤلفة عدي بن قيس السهمي".
ثم قال ابن حجر: "عند ذكره قيس بن عدي السهمي: قال: ذكره ابن إسحاق في السيرة الكبرى، وعبد الله بن أبي بكر بن حزم فيمن أعطاه النبي صلى الله عليه وسلم من غنائم حنين في المؤلفة دون المائة".
وذكره الواقدي فيمن أعطاه مائة، ثم قال: "فلا أدري هل عدي بن قيس، وقيس بن عدي واحد انقلب، أو اثنان".
وقال الزرقاني: "قال الشامي: الظاهر أنهما اثنان، لاتفاق ابن إسحاق والواقدي على ذلك". (انظر الإصابة 2/471 و3/35 و255 ومغازي الواقدي 3/946 وشرح المواهب اللدنية 3/37).(5/19)
، وأعطى عباس بن مرداس أبا عمر فسخطها، فعاتب فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال عباس بن مرداس يعاتب رسول الله صلى الله عليه وسلم:
كانت نهابا تلافيتها ... بكري على المهر في الأجرع (1)
وإيقاظي القوم أن يرقدوا ... إذا هجع الناس لم أهجع
فأصبح نهبي و نهب العبيد ... بين عيينة والأقرع(2)
وقد كنت في الحرب ذا تدرا ... فلم أعط شيئا ولم أمنع
إلاّ أفائل(3) أعطيتها ... عديد قوامها الأربع
وما كان حصن ولا حابس ... يفوقان شَيْخِيَّ في المجمع(4)
وما كنت دون امرئ منها ... ومن تضع اليوم لا يرفع
__________
(1) الأجرع: الأرض ذات الحزونة متشاكل الرمل. (المعجم الوسيط 1/118).
(2) قال ابن هشام: وحدثني بعض أهل العلم: أن عباس بن مرداس أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنت القائل: فأصبح نهبي ونهب العبيد بين الأقرع وعيينة، فقال أبو بكر الصديق: بين عيينة والأقرع. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم هما واحد.
فقال أبو بكر: أشهد أنك كما قال الله: {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ}،[سورة يّس: من الآية: 69]. (سيرة ابن هشام 2/494). ونسبه ابن كثير: لعروة بن الزبير وموسى بن عقبة عن الزهري (البداية والنهاية 4/360).
(3) في القاموس المحيط 3/329: أفيل: كأمير ابن المخاض فما فوقه، والفصيل، جمعه أفال كجمال، وأفائل.
(4) شيخي: يعني أباه مرداسا، ويروى "شَيْخِيَّ" بتشديد الياء يريد أباه وجده، قال ابن هشام: "أنشدني يونس النحوي" فما كان حصن ولا حابس.. يفوقان (مرداس) في المجمع واستشهد بهذا البيت على ترك صرف ما ينصرف لضرورة الشعر.(5/20)
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اذهبوا به، فاقطعوا عني لسانه، فأعطوه حتى رضي(1)، فكان ذلك قطع لسانه الذي أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم" (2).
الحديث أخرجه الطبري من طريق ابن إسحاق عن عبد الله بن أبي بكر بن حزم به، ثم ساق سندا آخر عن عبد الله الأعلى عن محمد بن ثور عن معمر عن يحيى بن أبي كثير ثم ساق جملة من المؤلفة(3).
وقد سرد ابن هشام تسمية المؤلفة قلوبهم ونسبهم إلى بطونهم فقال:
196- حدثني من أثق به من أهل العلم في إسناد له، عن ابن شهاب الزهري عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة عن ابن عباس قال: "بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم من قريش وغيرهم، فأعطاهم يوم الجعرانة من غنائم حنين:
أ- من بني أمية بن عبد شمس: أبو سفيان بن حرب بن أمية، وطليق بن سفيان بن أمية، وخالد بن أسيد بن أبي العيص بن أمية(4).
__________
(1) وعند مسلم في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتم له مائة انظر حديث (191).
(2) سيرة ابن هشام 2/492-494 والروض الأنف 7/246-248.
(3) تاريخ الرسل والملوك 3/90 وجامع البيان 10/161-162.
(4) وزاد غيره فيهم: معاوية بن أبي سفيان ويزيد بن أبي سفيان. وانظر حديث (195) وخالد بن أسيد - بفتح الهمزة وكسر السين هو أخو عتاب بن أسيد، وطليق بن سفيان كان هو وابنه حكيم بن طليق من المؤلفة قلوبهم، وعند ابن حزم: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطى طليقاً وخالد بن أسيد كل واحد دون المائة (جوامع السيرة ص (246) وانظر: أسد الغابة 2/89 و3/96).(5/21)
ب- ومن بني عبد الدار بن قصي: شيبة(1) بن عثمان بن أبي طلحة بن عبد العزى بن عثمان بن عبد الدار، وأبو السنابل(2) بن بعكك ابن الحارث بن عميلة بن السباق بن عبد الدار، وعكرمة بن عامر بن هاشم بن عبد مناف بن عبد الدار.
ج- ومن بني مخزوم بن يقظة: زهير(3) بن أبي أمية بن المغيرة، والحارث بن هشام بن المغيرة، وهشام بن الوليد بن المغيرة، وسفيان بن عبد الأسد بن عبد الله بن عمر بن مخزوم، وخالد بن هشام بن المغيرة، والسائب بن أبي السائب بن عائذ بن عبد الله بن عمر بن مخزوم.
د- ومن بني عدي بن كعب: مطيع بن الأسود بن حارثة بن نضلة، وأبو جهم بن حذيفة بن غانم(4).
هـ- ومن بني جمح بن عمرو: صفوان بن أمية بن خلف، وأحيحة(5) بن أمية بن خلف، وعمير بن وهب بن خلف، وعمير بن وهب بن خلف.
و- ومن بني سهم: عدي بن قيس بن حذافة السهمي(6)
__________
(1) هو الذي حاول الفتك برسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين، وكان ممن ثبت بعد ذلك وقاتل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ذكر ابن حزم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطاه دون المائة.
(2) أبو السنابل: جمع سنبلة، وبعكك - بموحدة فمهملة، فكافين وزن جعفر - كره ابن حزم فيمن أعطي دون المائة، وكذا عكرمة بن عامر بن هاشم.
(3) قيل أنه أخو أم سلمة زوج رسول الله صلى الله عليه وسلم، وزاد بعضهم في بني مخزوم: سعيد بن يربوع انظر حديث (195). وعبد الرحمن بن يربوع، عثمان بن وهب المخزومي.
(4) انظر: أسد الغابة 2/261، و534، و112، و3/501، و4/73، 5/191، و6/57، وجوامع السيرة لابن حزم ص 246).
(5) أحيحة - بمهملتين مصغرا - أخو صفوان بن أمية، كان من المؤلفة قلوبهم (انظر أسد الغابة 1/69، والإصابة 1/23، شرح المواهب 3/37).
(6) تقدم في حديث (195) حاشية ص 405 تعليقة (1) قول ابن حجر: فلا أدري هل عدي بن قيس وقيس بن عدي واحد انقلب أو اثنان.
وزاد الزرقاني في شرح المواهب 3/37: الجد بن قيس السهمي وقال: أورده ابن الجوزي في التلقيح. وقد راجعت أسد الغابة والإصابة فلم أجد من اسمه الجد بن قيس السهمي، وإنما الموجود الجد بن قيس الأنصاري السلمي وكان ممن يظن فيه النفاق وفيه نزل قوله تعالى:
{وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ}، [سورة التوبة، الآية: 49]. (أسد الغابة: 1/327 والإصابة 1/228).(5/22)
.
ز- ومن بني عامر بن لؤي: حويطب بن عبد العزى بن أبي قيس ابن عبدود، وهشام بن عمرو بن ربيعة بن الحارث بن حبيب.
ومن أفناء القبائل:
ح- من بنى بكر بن عبد مناة بن كنانة: نوفل بن معاوية بن عروة ابن صخر بن رزن بن يعمر بن نفاثة بن عدي بن الديل.
ط- ومن بنى قيس، ثم من بني عامر بن صعصعة ثم من بني كلاب ابن ربيعة بن عامر بن صعصعة: علقمة(1) بن علاثة بن عوف بن الأحوص ابن جعفر بن كلاب، ولبيد(2) بن ربيعة بن مالك بن جعفر بن كلاب.
ي- ومن بني عامر بن ربيعة: خالد بن هوذة بن ربيعة بن عمرو ابن عامر بن ربيعة بن عامر بن صعصعة، وحرملة بن هوذة بن ربيعة بن عمرو.
ك- ومن بني نصر بن معاوية: مالك بن عوف بن سعيد بن يربوع.
ل- ومن بني سليم بن منصور: عباس بن مرداس بن أبي عامر: أخو بني الحارث بن بهثة بن سليم(3).
م- ومن بني غطفان، ثم من بني فزارة: عيينة بن حصن بن حذيفة ابن بدر.
__________
(1) قال ابن حجر: ثبت ذكره في الصحيح في حديث أبي سعيد الخدري من رواية عبد الرحمن بن أبي نعم عنه قال: بعث علي بن أبي طالب رضي الله عنه إلى النبي صلى الله عليه وسلم بذهبية في تربتها، فقسمها بين (أربعة نفر: عيينة بن حصن، والأقرع بن حابس، وعلقمة بن علاثة / وزيد الخيل) الحديث (الإصابة 2/503).
والحديث في صحيح البخاري 4/109 كتاب الأنبياء، باب قول الله تعالى (وإلى عاد أخاهم هودا). وصحيح مسلم: 2/741-742 كتاب الزكاة، باب إعطاء المؤلفة قلوبهم على الإسلام، إلخ.
وكذا ثبت ذكره في حديث رافع بن خديج عند مسلم انظر حديث (191).
(2) في أسد الغابة 4/516: وكان لبيد بن ربيعة، وعلقمة بن علاثة العامريان من المؤلفة قلوبهم، وحسن إسلامهما.
(3) وزاد ابن الجوزي: عمير بن مرداس، أخو عباس بن مرداس، ذكر ذلك ابن حجر في الفتح 8/48 والزرقاني في شرح المواهب اللدنية 3/37).(5/23)
ن- ومن بني تميم ثم من بني حنظلة: الأقرع بن حابس بن عقال، من بني مجاشع بن دارم(1).
فهؤلاء تسعة وعشرون شخصا ذكرهم ابن هشام.
قلت: وزاد غيره:
س- في بني أمية بن عبد شمس: معاوية بن أبي سفيان، يزيد بن أبي سفيان، خالد بن أسيد، طليق بن سفيان و ابنه حكيم بن طليق(2).
ع- وفي بني مخزوم بن يقظة: سعيد بن يربوع، وعبد الرحمن بن يربوع، عثمان بن وهب المخزومي، عكرمة بن أبي جهل(3).
ف- وفي بني سهم: الجد بن قيس السهمي(4).
ص- وفي بني سليم: عمير بن مرداس اخو عباس بن مرداس.
ق- ومن بني هاشم: أبو سفيان الحارث بن عبد المطلب(5).
ر- ومن ثقيف: العلاء بن جارية الثقفي(6)، وأسيد(7) بن جارية الثقفي، والأخنس(8) بن شريق، عمير بن الأخنس بن شريف(9).
ش- ومن بني تميم: عمرو بن الأهتم(10).
ت- ومن بني أسد بن عبد العزى: حكيم بن حزام(11).
ث- ومن بني عبد مناف: جبير بن مطعم بن عدي بن نوفل بن عبد مناف النوفلي(12).
خ-ومن بني نبهان:زيد بن مهلهل النبهاني،المعروف بزيد الخيل(13).
ذ- ومن بني عبد شمس بن عبدود: سهيل بن عمرو العامري، وأخوه سهيل بن عمرو(14).
__________
(1) سيرة ابن هشام 2/494 -496 والروض الأنف 7/248-250.
(2) انظر حاشية ص 406 تحت حديث (196) والقاموس المحيط 3/118.
(3) انظر شرح المواهب اللدنية 3/37.
(4) انظر:حاشية ص407تعليقة(3)تحت حديث(196)والقاموس المحيط3/118-119.
(5) انظر جامع البيان للطبري 10/162، نصب الراية للزيلعي 2/394 وشرح المواهب اللدنية للزرقاني 3/37.
(6) انظر حديث (195).
(7) أسيد - بفتح الهمزة - (أسد الغابة 1/109 وشرح المواهب اللدنية 3/37).
(8) شرح المواهب اللدنية 3/37.
(9) الإصابة 3/28-29.
(10) أسد الغابة 4/196 وفتح الباري 8/48 وشرح المواهب اللدنية 3/37.
(11) انظر حديث (195).
(12) انظر القاموس المحيط 3/118.
(13) انظر القاموس المحيط 3/118 وتعليقة (4) من حاشية ص 407
(14) انظر شرح المواهب الدنية 3/37 وحديث (195) وتعليقة (2) من ص 404.(5/24)
ض-كعب بن الأخنس(1).
فهؤلاء اثنان و خمسون رجلا.
قال الزرقاني: "وقد سردهم ابن الجوزي(2) في التلقيح وابن طاهر(3) في "مبهماته" والحافظ في "الفتح" والبرهان(4) في "النور" وهو أحسنهم وعند كل ما ليس عند الآخر، ثم ساقهم الزرقاني فأوصلهم سبعة وخمسين رجلا ثم قال: فهؤلاء سبع وخمسون نفسا".
__________
(1) انظر شرح المواهب اللدنية 3/37.
(2) هو أبو الفرج عبد الرحمن بن علي المعروف بابن الجوزي، وكتابه هذا يسمى "تلقيح فهوم أهل الأثر في عيون التواريخ والسير" وقد راجعته فلم أجده ذكر أسماء المؤلفة قلوبهم على نحو ما أشار الزرقاني.
(3) هو أبو الفضل محمد بن طاهر المقدسي المعروف (بابن القيسراني) (ولد سنة 448 وتوفي سنة 507) (تذكرة الحفاظ للذهبي 4/1242-1245 والكتاني: الرسالة المستطرقة ص 102).
(4) هو برهان الدين إبراهيم بن محمد بن خليل الطرابلسي الأصل (طرابلس الشام) المعروف (بسبط ابن العجمي)، ولد سنة: (753هـ)، وتوفي سنة: (84)، وله كتاب يسمى: (نور النبراس على سيرة ابن سيد الناس). (البدر الطالع للشوكاني 1/28-30 ومعجم المؤلفين لكحالة 1/92-93).(5/25)
ثم قال: قال الحافظ: "وفي عد العلاء بن جارية ومالك بن عوف النصرى نظر. وقد قيل إنهما أتيا طائعين من الطائف إلى الجعرانة"(1).اهـ.
وهؤلاء المؤلفة قلوبهم حسن إسلامهم وصاروا مجاهدين في سبيل الله الناشرين للدين الإسلامي في الآفاق، والذابين عنه.
قال ابن حزم: "وقد حسن إسلام جميع المؤلفة قلوبهم، حاشا عيينة ابن حصن فلم يزل مغموزاً".
وكان المؤلفة - مع حسن إسلامهم - متفاضلين في الإسلام، منهم الفاضل المجتهد: كالحارث بن هشام، وسهيل بن عمرو، حيكم بن حزام. وفيهم خيار دون هؤلاء: كصفوان بن أمية، وعمرو بن وهب، ومطيع بن الأسود/ ومعاوية بن أبي سفيان. وسائرهم لا نظن بهم إلا الخير.
وكان ممن أسلم يوم الفتح وبعده، من الأشارف نظراء من ذكرنا - ووثق رسول الله صلى الله عليه وسلم بصحة إيمانهم، وقوة نياتهم في الإسلام لله تعالى فلم يدخلهم مدخل من أعطاه - عكرمة بن أبي جهل، وعتاب بن أسيد بن أبي العيص بن أمية، وجبير(2) بن مطعم(3).
__________
(1) شرح المواهب اللدنية 3/36-37.وانظر:مغازي الواقدي3/944-948 والطبقات الكبرى لابن سعد2/152-153 وتاريخ خليفة بن خياط ص:90، والتفسير لابن أبي حاتم 4/114أ رقم 283، وكتاب المنمق في أخبار قريش لمحمد بن حبيب البغدادي ص 532-533 وكتاب المعارف لابن قتيبة ص: 149، وجامع البيان للطبري 10/100 و161-162، وجوامع السيرة لابن حزم ص 245-247، ولسان العرب 10/353 ونصب الراية للزيلعي 2/394 والقاموس المحيط للفيروز آبادي 3/118-119 وفتح الباري لابن حجر 8/48 وتاريخ الخميس للديار بكري 2/114، والسيرة الحلبية لبرهان الدين الحلبي 3/84-85 ونيل الأوطار للشوكاني 7/308، وسيأتي في الأحكام بيان من أين يعطون وهل حكمهم باق أولا انظر ص (684).
(2) قد عد في المؤلفة جبير بن مطعم وعكرمة بن أبي جهل انظر فقرة (ث) و (ع) ص 408-409.
(3) جوامع السيرة ص 248.(5/26)
قال ابن الجوزي: "اعلم أن من المؤلّفة أقواماً تؤلفوا في بدء الإسلام ثم تمكن الإسلام في قلوبهم فخرجوا بذلك عن حدّ المؤلّفة".
وإنما ذكرهم العلماء في المؤلفة اعتبار ببداية أحوالهم، وفيهم من لم يعلم منه حسن الإسلام، والظاهر بقاؤه على حالة التأليف، ولا يمكن أن يفرق بين من حسن إسلامه، وبين من لم يحسن إسلامه، لجواز أن يكون من ظننا به شرا أنه على خلاف ذلك، إذ الإنسان قد يتغير عن حاله ولا ينقل إلينا أمره، فالواجب أن نظن بكل من نقل عنه الإسلام خيراً.
197- وقد جاء عن أنس - رضي الله عنه - قال: "كان(1) الرجل يأتي النبي صلى الله عليه وسلم فيسلم لشيء يعطاه من الدنيا، فلا يمسي حتى يكون الإسلام أحب إليه من الدنيا وما فيها"(2).
__________
(1) الحديث في صحيح مسلم ولفظه "عن أنس رضي الله عنه أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم غنما بين جبلين، فأعطاه إياه، فأتى قومه فقال: أي قوم أسلموا فوالله إن محمدا ليعطي عطاء ما يخاف الفقر".
فقال أنس: "إن كان الرجل ليسلم ما يريد إلاّ الدنيا، فما يسلم حتى يكون الإسلام أحب إليه من الدنيا وما عليها" (4/1806 كتاب الفضائل، باب ما سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا قط، فقال: لا وكثرة عطائه.
(2) السيرة الحلبية 3/85-86.(5/27)
المبحث الخامس: موقف الأنصار من توزيع الغنائم وخطبة الرسول فيهم
وجد الأنصار في أنفسهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث لم ينلهم ما نال غيرهم من الغنائم، مع بلائهم الشديد في هذه الغزوة وفي غيرها من معارك الإسلام الفاصلة.
ولقد كانوا - لكثرة عددهم وشدة بأسهم في الحرب- أعمدة أساسية للجيش النبوي في أية معركة ضد أعداء الإسلام، فهم الذين ناصروا هذا الدين وقام على كواهلهم، وفتحوا قلوبهم وأبوبهم لكل من جاءهم من إخوانهم المهاجرين الفارين بدينهم، وناضلوا أشد النضال من أجل إقامة هذا الدين وتثبيت دعائمه.
ولقد سجل الله لهم ذلك في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ تَبَوَّأُوا الدَّارَ وَالْأِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}، [سورة الحشر، الآية: 9].
وقال تعالى: {وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ}، [سورة الأنفال، الآية: 74].
فهم أنصار الله وأنصار رسوله صلى الله عليه وسلم حقا وصدقاً.(6/1)
198- وفي صحيح البخاري من طريق غيلان بن جرير قال: "قلت لأنس بن مالك: اسم الأنصار(1) كنتم تسمون به. أم سماكم الله؟ قال: بل سمانا الله"(2).
ولقد عرف رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم تلك المواقف العظيمة وأثنى عليهم ثناء عطرا و أوصى بهم خيرا، وكان ذلك في آخر رمق من حياته صلى الله عليه وسلم.
199- فقد روى البخاري من حديث هشام بن زيد بن أنس بن مالك قال: سمعت أنس بن مالك يقول: "مر أبو بكر والعباس - رضي الله عنهما - بمجلس من مجالس الأنصار وهم يبكون فقال: ما يبكيكم؟(3)، قالوا ذكرنا مجلس النبي صلى الله عليه وسلم منا، فدخل على النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره بذلك، قال: فخرج النبي صلى الله عليه وسلم وقد عصب على رأسه حاشية برد، قال: فصعد المنبر ولم يصعده بعد ذلك اليوم، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: "أوصيكم بالأنصار، فإنهم كرشي(4)
__________
(1) الأنصار: جمع ناصر، كأصحاب وصاحب، أو جمع نصير كأشراف وشريف واللام فيه للعهد، أي أنصار رسول الله صلى الله عليه وسلم، والمراد الأوس والخزرج، وكانوا قبل ذلك يعرفون بابني قيلة، اسم امرأة - بقاف مفتوحة وياء تحتانية ساكنة - وهي الأم التي تجمع القبيلتين - فسماهم النبي صلى الله عليه وسلم الأنصار، فصاروا علما عليهم، وأطلق ذلك على أولادهم، وحلفائهم، ومواليهم وخصوا بهذه المنقبة العظمى لما فازوا به دون غيرهم من القبائل من إيواء النبي صلى الله عليه وسلم ومن معه، والقيام بأمرهم، ومواساتهم بأنفسهم و أموالهم، (شرح ثلاثيات مسند أحمد 1/673).
(2) 5/26 كتاب المناقب، باب مناقب الأنصار والذين تبوؤا الدار والإيمان من قبلهم.
(3) قال ابن حجر: "لم أقف على اسم الذي خاطبهم بذلك هل هو أبو بكر الصديق أو العباس بن عبد المطلب ويظهر لي أنه العباس. (فتح الباري 7/121).
(4) كرشي- الكرش بوزن الكبد، لكل مجتر بمنزلة المعدة للإنسان والكرش أيضا الجماعة من الناس.
والعيبة: بفتح المهلمة وسكون المثناة بعدها موحدة أراد أنهم بطانته وموضع سره، والذين يعتمد عليهم في أموره أي أنتم خاصتي وموضع سري، والعرب تكني عن القلوب والصدور بالعياب، لأنها مستودع السرائر كما أن العياب مستودع الثياب (النهاية في غريب الحديث 3/327، و4/163-164، ومختار الصحاح ص: 567 وفتح الباري 7/121.
وفي القاموس المحيط 1/109 والعيبة: زنبيل من أدم وما يجعل فيه الثياب ومن الرجل موضع سره، جمعه عيب، وعيبات وعياب.(6/2)
وعيبتي، وقد قضوا الذي عليهم وبقي الذي لهم فاقبلوا من محسنهم، وتجاوزوا عن مسيئهم"(1).
200- وفي حديث ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: "خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليه ملحفة متعطفا بها على منكبيه، وعليه عصابة دسماء(2)، حتى جلس على المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: "أما بعد أيها الناس إن الناس يكثرون وتقل الأنصار حتى يكونوا كالملح في الطعام(3)
__________
(1) 5/29 كتاب مناقب الأنصار، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم اقبلوا من محسنهم وتجاوزوا عن مسيئهم.
(2) دسماء: أي لونها كلون الدسم وهو الدهن، وقيل المراد أنها سوداء لكن ليست خالصة السواد ويحتمل أن تكون اسودت من العرق أو من الطيب كالغالية، وقد تبين من حديث أنس أنها كانت حاشية البرد، والحاشية غالبا تكون من لون غير الأصل. (فتح الباري 7/122).
(3) قوله: "إن الناس يكثرون وتقل الأنصار"، فيه إشارة إلى دخول قبائل العرب والعجم في الإسلام وهم أضعاف أضعاف قبيلة الأنصار، فمهما فرض الأنصار من الكثرة كالتناسل فرض في كل طائفة من أولئك، فهم أبدا بالنسبة إلى غيرهم قليل، ويحتمل أن يكون صلى الله عليه وسلم اطلع على أنهم يقلون مطلقا فأخبر بذلك فكان كما أخبر؛ لأن الموجودين الآن من ذرية علي بن أبي طالب ممن يتحقق نسبه إليه أضعاف من يوجد من قبيلتي الأوس والخزرج ممن يتحقق نسبه وقس على ذلك ولا التفات إلى كثرة من يدعي أنه منهم بغير برهان.
وقوله: "حتى يكونوا كالملح في الطعام"، وفي لفظ "بمنزلة الملح في الطعام" أي في القلة، لأنه جعل غاية قلتهم الانتهاء إلى ذلك والملح بالنسبة إلى جملة الطعام جزء يسير منه والمراد بذلك المعتدل (فتح الباري 7/122).(6/3)
، فمن ولي منكم أمراً يضر فيه أحداً أو ينفعه فليقبل من محسنهم ويتجاوز عن مسيئهم"(1).
وقد جعل صلى الله عليه وسلم حبهم من علامات الإيمان، وبغضهم من علامات النفاق.
201- فقد ورد في حديث أنس بن مالك - رضي الله عنه - عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "آية الإيمان حب الأنصار، آية النفاق بغض الأنصار"(2).
202- وفي حديث البراء بن عازب - رضي الله عنهما - قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم - أو قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم - "الأنصار لا يحبهم إلا مؤمن، ولا يبغضهم إلا منافق،فمن أحبهم أحبه الله،ومن أبغضهم أبغضه الله"(3).
203- وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم - أو قال أبو القاسم صلى الله عليه وسلم (4)-، "لو أن الأنصار سلكوا واديا(5)
__________
(1) البخاري: الصحيح 5/29 كتاب المناقب، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم اقبلوا من محسنهم وتجاوزوا عن مسيئهم و 4/164 كتاب المناقب، باب علامات النبوة.
(2) المصدر السابق 5/27، كتاب المناقب، باب حب الأنصار واللفظ له، ومسلم الصحيح 1/85، كتاب الإيمان باب الدليل على أن حب الأنصار وعلي بن أبي طالب - رضي الله عنهم - من الإيمان وعلاماته الخ.
(3) البخاري: الصحيح 5/27 كتاب مناقب الأنصار، باب حب الأنصار، ومسلم: الصحيح 1/85 كتاب الإيمان، باب الدليل على أن حب الأنصار من الإيمان الخ.
(4) وعند أحمد: "قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أو أبو القاسم".
(5) واديا: هو المكان المنخفض، وقيل الذي فيه ماء والمراد هنا بلدهم.
والشعب: بكسر الشين المعجمة، وهو اسم لما انفرج بين جبلين، وقيل الطريق في الجبل.
وأراد صلى الله عليه وسلم بهذا: التنبيه على جزيل ما حصل لهم من ثواب النصرة والقناعة بالله ورسوله عن الدنيا، ومن هذا وصفه فحقه أن يسلك طريقه ويتبع حاله.
قال الخطابي:" لما كانت العادة أن المرء يكون في نزوله وارتحاله مع قومه وأرض الحجاز كثيرة الأودية والشعاب، فإذا تفرقت في السفر الطرق سلك كل قوم منهم واديا وشعبا فأراد أنه مع الأنصار" (فتح الباري 8/51-52).(6/4)
أو شعباً، لسلكت في وادي الأنصار، ولولا الهجرة(1) لكنت امرأ من الأنصار"، فقال أبو هريرة: "ما ظلم - بأبي وأمي- آووه و نصروه، أو كلمة أخرى"(2)
__________
(1) قوله: "ولولا الهجرة لكنت امرأ من الأنصار"، قال الخطابي: "أراد بهذا الكلام تألف الأنصار واستطابة نفوسهم والثناء عليهم في دينهم حتى رضي أن يكون واحداً منهم لولا ما يمنعه من الهجرة التي لا يجوز تبديلها وقد اختلف العلماء في تمني رسول الله صلى الله عليه وسلم الانتساب إلى الأنصار، لولا مانع الهجرة":
فقال بعضهم: "لم يرد بذلك الانتقال عن نسب آبائه، لأنه ممتنع قطعا، وإنما أراد النسبة إلى دارهم، ولولا أن النسبة الهجرية لا يسعه تركها ويحتمل أنه لما كان الأنصار أخواله لكون أم عبد المطلب منهم، أراد أن ينتسب إليهم بهذه الولادة لولا مانع الهجرة".
وقال بعضهم: "معناه لتسميت باسمكم وانتسبت إليكم كما كانوا ينتسبون بالحلف، لكن خصوصية الهجرة وتربيتها سبقت فمنعت من ذلك، وهي أعلى و أشرف فلا تتبدل بغيرها.
وقيل: "التقدير لولا أن ثواب الهجرة أعظم لاخترت أن يكون ثوابي ثواب الأنصار ولم يرد ظاهر النسب أصلا".
وقيل: "لولا التزامي بشروط الهجرة ومنها ترك الإقامة بمكة فوق ثلاثة لاخترت أن أكون من الأنصار فيباح لي ذلك، أي الإقامة بمكة" (فتح الباري 8/51 بتصرف).
(2) وعند أحمد: "فقال أبو هريرة فما ظلم بأبي وأمي صلى الله عليه وسلم لآووه ونصروه، قال: وأحسبه قال: "وواسوه".
وفي لفظ "لقد آووه ونصروه وكلمة أخرى".
وفي لفظ: "قال أبو هريرة: وما ظلم بأبي وأمي لقد آووه ونصروه أو واسوه ونصروه".
قال ابن حجر: قوله: "(ما ظلم)، أي: ما تعدى في القول المذكور ولا أعطاهم فوق حقهم، ثم بين وجه ذلك بقوله "آووه ونصروه".
وقوله: "لسلكت في وادي الأنصار" أراد بذلك حسن موافقتهم له لما شاهده من حسن الجوار والوفاء بالعهد وليس المراد أنه يصير تابعاً لهم، بل هو المتبوع المفترض الطاعة على كل مؤمن" (فتح الباري 7/112).
(3) البخاري: الصحيح 5/26 كتاب مناقب الأنصار، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم لولا الهجرة لكنت امرأ من الأنصار 9/70 كتاب التمني، باب ما يجوز من اللو واللفظ له، وأحمد المسند 2/410، و414 و469 وإسحاق بن راهويه: المسند ص: 22 أ- ب رقم 377.(6/5)
.
ومن هنا لم يكن الرسول الله صلى الله عليه وسلم - بحرمانه الأنصار من الغنائم يجهل حقهم أو يحط من قدرهم حاشاه صلى الله عليه وسلم من ذلك، وإنما تركهم ثقة منه بقوة إيمانهم وسخاوة نفوسهم، وأعطى الغنائم أناساً يخاف هلعهم وجزعهم ويتألفهم على الإسلام.
ويبدوا أن الأنصار خفي عليهم ما أراده رسول الله صلى الله عليه وسلم من توزيع الغنائم على ذلك النحو، فصدرت منهم هذه المقالة:
"إذا كانت الشدة فنحن ندعى، وترد غنائمنا على غيرنا".
ولما بلغت هذه المقالة رسول الله صلى الله عليه وسلم جمعهم في مكان واحد بين لهم وجهة نظره في إيثاره المؤلفة قلوبهم، فزال ما علق بأذهان الأنصار وطابت نفوسهم، وبرهنوا بذلك على صدق إخلاصهم لله في جهادهم وعظيم حبهم لنبيهم صلى الله عليه وسلم، وأن متاع الدنيا لم يكن غاية لجهادهم.
وهذا ما تدل عليه الأحاديث الآتية:
1- حديث أنس بن مالك وقد جاء عنه من أربعة أوجه.
أ- من طريق هشام بن زيد بن أنس بن مالك عنه قال:
"لما كان يوم حنين أقبلت هوازن وغطفان وغيرهم بذراريهم ونعمهم ومع النبي صلى الله عليه وسلم يومئذ عشرة آلاف، ومعه الطلقاء، فأدبروا عنه حتى بقي وحده"(1).
__________
(1) وعند أحمد وابن أبي شيبة: "فلما التقوا ولى الناس".(6/6)
قال فنادى يومئذ نداءين لم يخلط بينهما شيئاً(1)، قال: فالتفت عن يمنيه فقال: "يا معشر(2) الأنصار!" فقالوا: لبيك يا رسول الله!(3) أبشر نحن معك، قال: وهو على بغلة بيضاء(4) فنَزل فقال: أنا عبد الله ورسوله(5)، فانهزم المشركون(6) وأصاب رسول الله صلى الله عليه وسلم غنائم كثيرة، فقسم في المهاجرين والطلقاء(7)، ولم يعط الأنصار شيئا، فقالت الأنصار: إذا كانت الشدة(8) فنحن ندعى، وتعطى الغنائم غيرنا!.
__________
(1) وعند أحمد وابن أبي شيبة: "ونادى يومئذ نداءين لم يخلط بينهما كلام".
(2) المعشر: كمسكن الجماعة وأهل الرجل (القاموس المحيط 2/90).
(3) وعند البخاري: "قالوا: لبيك يا رسول الله وسعديك، لبيك نحن بين يديك".
(4) وعند أحمد وابن أبي شيبة: "و النبي صلى الله عليه وسلم يومئذ على بغلة بيضاء".
(5) وعند أحمد وابن أبي شيبة: "فنزل وقال: إني عبد الله ورسوله".
(6) وعند ابن أبي شيبة: "ثم نزل إلى الأرض فالتقوا فهزموا". وعند احمد: "ثم نزل بالأرض والتقو فهزموا".
(7) وعند البخاري: "فأعطى الطلقاء والمهاجرين". وعند ابن أبي شيبة "وأصابوا من الغنائم، فأعطى النبي صلى الله عليه وسلم الطلقاء وقسم فيها".
(8) وعند البخاري: "إذا كانت شديدة فنحن ندعى ويعطى الغنيمة غيرنا". وعند أحمد: "ندعى عند الكرة وتقسم الغنيمة لغيرنا".(6/7)
فبلغه ذلك، فجمعهم في قبة(1) فقال: "يا معشر الأنصار! ما حديث بلغني عنكم" فسكتوا، فقال: "يا معشر الأنصار(2)! أما ترضون أن يذهب الناس بالدنيا وتذهبون بمحمد صلى الله عليه وسلم تحوزونه إلى بيوتكم"(3).
قالوا: بلى يا رسول الله! رضينا قال: فقال: "لو سلك الناس واديا و سلكت الأنصار شعبا لأخذت(4) شعب الأنصار".
قال هشام(5): فقلت: يا أبا حمزة ! أنت شاهد ذاك؟(6) قال: وأين أغيب عنه.
ب- من طريق الزهري قال أخبرني أنس بن مالك أن أناساً(7) من الأنصار قالوا يوم حنين، حين أفاء الله على رسوله(8) من أموال هوازن ما أفاء فطفق رسول الله، يعطي رجالاً من قريش(9)
__________
(1) وعند أحمد وابن أبي شيبة: "فجمعهم وقعد في قبة". وعند البخاري ومسلم في لفظ وأحمد: "فجمعهم وقعد في قبة من أدم". والقبة: من الخيام: بيت صغير مستدير، وهو من بيوت العرب(النهاية (4/3).
(2) وعند أحمد وابن أبي شيبة فقال: "أي: معشر الأنصار".
(3) تحوزونه بالحاء المهملة والزاي من الحوز وهو الضم يقال: حزت الشيء أحوزه حوزا وحيازة ضممته وجمعته، وكل من ضم إلى نفسه شيئا فقد حازه (المصباح المنير للفيومي 1/188).
(4) عند البخاري "لاخترت شعب الأنصار".
(5) قال ابن حجر: "هو موصول بالإسناد المذكور، أبو حمزة: هو أنس بن مالك". اهـ.
قلت: والإسناد المشار إليه هو: حدثنا محمد بن بشار حدثنا معاذ بن معاذ حدثنا ابن عون عن هشام بن زيد بن أنس بن مالك عن أنس بن مالك (انظر فتح الباري 8/53و55).
(6) عند البخاري: "وأنت شاهد ذلك ؟".
(7) عند البخاري: "قال ناس من الأنصار". وعند أحمد: "أن ناسا من الأنصار".
(8) عند البخاري: "حين أفاء الله على رسوله صلى الله عليه وسلم ما أفاء من أموال هوازن".
(9) عند البخاري: "يعطي رجالا المائة من الإبل".
وعند أحمد: "يعطي رجالا من قريش المائة من الإبل كل رجل".(6/8)
المائة من الإبل فقالوا: يغفر الله(1) لرسول الله، يعطي قريشا ويتركنا وسيوفنا تقطر من دمائهم! قال أنس بن مالك: فحدث ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم من قولهم فأرسل إلى الأنصار، فجمعهم في قبة من أدم(2) فلما اجتمعوا(3)، جاءهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: "ما حديث بلغني عنكم؟" فقال له فقهاء الأنصار(4): أما ذوو رأينا(5)
__________
(1) عند البخاري وأحمد: "فقالوا: يغفر الله لرسول الله صلى الله عليه وسلم قال الزرقاني: قالوا ذلك توطئة وتمهيدا لما بعده من العتاب، كقوله تعالى: {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ}، [سورة التوبة، من الآية: 43]. شرح المواهب 3/38.
(2) قوله:"من أدم":بفتح الهمزة المقصورة والدال جلد مدبوغ (شرح المواهب3/39).
(3) وعند أحمد: "ولم يدع أحدا غيرهم".
وعند البخاري "ولم يدع معهم غيرهم، فلما اجتمعوا قام النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "ما حديث بلغني عنكم".
(4) عند أحمد "فقالت الأنصار".
(5) عند البخاري "أما رؤساؤنا يا رسول الله فلم يقولوا شيئا" وتقدم في ص: 416 في رواية هشام بن زيد عن أنس "فقال: يا معشر الأنصار ما حديث بلغني عنكم" فسكتوا.
قال ابن حجر: "يحمل على أن بعضهم سكت وبعضهم أجاب، وفي رواية أبي التياح عن أنس عند الإسماعيلي فجمعهم فقال: "ما الذي بلغني عنكم ؟" قالوا: "هو الذي بلغك، وكانوا لا يكذبون".
ولأحمد من طريق ثابت عن أنس بت مالك "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطى أبا سفيان وعيينة والأقرع وسهيل بن عمرو في الآخرين يوم حنين، فقالت الأنصار: يا رسول الله سيوفنا تقطر من دمائهم وهم يذهبون بالمغنم" فذكر الحديث وفيه "ثم قال: أقلتم كذا وكذا؟ قالوا نعم، وكذا ذكر ابن إسحاق عن أبي سعيد الخدري أن الذي أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بمقالتهم سعد بن عبادة ولفظه: "لما أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أعطي من تلك العطايا في قريش وفي قبائل العرب، ولم يكن في الأنصار منها شيء وجد هذا الحي من الأنصار في أنفسهم، حتى كثرت منهم القالة، فدخل عليه سعد بن عبادة فذكر له ذلك فقال له: فأين أنت من ذلك يا سعد؟ قال: ما أنا إلاّ من قومي: قال: فاجمع لي قومك فجمعهم" الحديث. وأخرجه أحمد من هذا الوجه وهذا يعكر على الرواية التي فيها: "أما رؤساؤنا فلم يقولوا شيئا"؛ لأن سعد بن عبادة من رؤساء الأنصار بلا ريب إلا أن يحمل على الأغلب الأكثر، وأن الذي خاطبه بذلك سعد بن عبادة ولم يرد إدخال نفسه في النفي أو أنه لم يقل لفظا وإن كان - رضي الله عنه - رضي بالقول المذكور فقال: ما أنا إلا من قومي وهذا أوجه اهـ. (فتح الباري 8/50) انظر حديث 204و 206.(6/9)
يا رسول الله! فلم يقولوا شيئاً، وأما أناس(1) منا حديثة أسنانهم، قالوا(2): يغفر الله لرسوله يعطي قريشاً وتركنا(3)، وسيوفنا تقطر من دمائهم! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فإني أعطي(4) رجالاً حديثي عهد بكفر أتألفهم، أفلا ترضون أن يذهب الناس بالأموال، وترجعون(5) إلى رحالكم(6) برسول الله؟ فوالله، لما تنقلبون به خير مما ينقلبون به".
فقالوا: بلى يا رسول الله، قد رضينا، قال: "فإنكم ستجدون(7) أثرة(8) شديدة، فاصبروا حتى تلقوا الله ورسوله، فإني على الحوض(9) قالوا: سنصبر(10).
__________
(1) عند البخاري وأحمد: "وأما ناس".
(2) وعند أحمد: "فقالوا: كذا وكذا اللذي قالوا".
(3) وعند البخاري "من حديث شعبة عن قتادة عن أنس" يعطي قريشاً و يدعنا.
(4) عند البخاري البخاري: "إني لأعطي رجالاً حديث عهدهم بكفر".
وعند أحمد: "إني لأعطي رجالاً حدثاء عهد بكفر أتألفهم، أو قال أستألفهم ومعنى: أتألفهم، أي: أستميل قلوبهم بالإحسان ليثبتوا على الإسلام، رغبة في المال".
(5) عند البخاري "وتذهبون برسول الله صلى الله عليه وسلم إلى رحالكم".
(6) رحالكم: بالحاء المهملة، أي بيوتكم، وهي رواية قتادة عن أنس. انظر ص (419) (فتح الباري 8/51).
(7) عند البخاري "سترون بعدي أثرة شديدة".
(8) أثرة) قال النووي: فيها لغتان: إحداهما ضم الهمزة وإسكان الثاء، وأصحها وأشهرهما بفتحهما جميعاً. والأثرة: الاستئثار بالمشترك، أي يستأثر عليكم ويفضل عليكم غيركم بغير حق (شرح النووي على صحيح مسلم 3/99).
(9) وعند البخاري: "موعدكم الحوض". وعند أحمد "فإني فرطكم على الحوض".
(10) وعند مسلم أيضاً: "قالوا: نصبر" وعند البخاري "قال أنس فلم يصبروا" وعند البخاري أيضا وأحمد: "قال أنس: فلم نصبر".(6/10)
ج- من طريق شعبة قال: سمعت قتادة يحدث عن أنس بن مالك قال: جمع(1) رسول الله صلى الله عليه وسلم الأنصار، فقال: أفيكم(2) أحد من غيركم؟".
فقالوا: لا، إلاّ ابن أخت لنا(3)
__________
(1) وعند البخاري والترمذي: "جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم ناسا من الأنصار" وعند البخاري أيضا "دعا النبي صلى الله عليه وسلم الأنصار".
(2) وعند البخاري وأحمد: "هل فيكم أحد من غيركم".
(3) قوله: "إلا ابن أخت لنا"، قال ابن حجر: "هو النعمان بن مقرن المزني كما أخرجه أحمد من طريق شعبة عن معاوية بن قرة في حديث أنس هذا وكانت أم النعمان أنصارية" (فتح الباري 6/552و 12/49) قلت: والحديث في مسند أحمد 3/19 بإسناد صحيح وسياقه: حدثنا وكيع ثنا شعبة قال قلت لمعاوية بن قرة أسمعت أنسا يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للنعمان بن مقرن ابن أخت القوم منهم قال: نعم، قال النووي: "استدل بحديث الباب من يورث ذوي الأرحام وهو مذهب أبي حنيفة وأحمد و آخرين".
ومذهب مالك والشافعي وآخرين أنهم لا يرثون، وأجابوا بأنه ليس في هذا اللفظ ما يقتضي توريثه، وإنما معناه أن بينه وبينهم ارتباطاً وقرابة، ولم يتعرض للإرث، وسياق الحديث يقتضي أن المراد أنه كالواحد منهم في إفشاء سرهم بحضرته ونحو ذلك اهـ. شرح النووي على صحيح مسلم (3/99-100).
قلت: بوب البخاري بقوله: "باب مولى القوم من أنفسهم وابن أخت القوم منهم" ثم ساق حديث: "ابن أخت القوم منهم أو من أنفسهم". قال ابن حجر: وكأن البخاري رمز إلى الجواب بإيراد هذا الحديث، لأنه لو صح الاستدلال بقوله "ابن أخت القوم منهم" على إدارة الميراث لصح الاستدلال به على أن العتيق يرث ممن أعتقه لورود مثله في حقه، فدل على أن المراد بقوله "من أنفسهم" كذا "منهم" في المعاونة أو الانتصار والبر والشفقة ونحو ذلك لا في الميراث.
ثم قال ابن حجر: "وقال ابن أبي جمرة: الحكمة في ذكر ذلك إبطال ما كانوا عليه في الجاهلية من عدم الالتفات إلى أولاد البنات فضلاً عن أولاد الأخوات حتى قال قائلهم:
بنونا بنو أبنائنا وبناتنا
بنوهن أبناء الرجال الأباعد
فأراد بهذا الكلام التحريض على الألفة بين الأقارب. اهـ. (فتح الباري 12/49).(6/11)
، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن ابن أخت القوم منهم فقال: "إن قريشا حديث(1) عهد بجاهلية ومصيبة، وإني أردت أن أجبرهم(2) وأتألفهم، أما ترضون أن يرجع الناس بالدنيا وترجعون برسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بيوتكم؟" لو سلك الناس واديا(3) وسلك الأنصار شعبا لسلكت شعب الأنصار".
د- وفي لفظ من طريق أبي التياح(4) قال سمعت أنس بن مالك قال: لما فتحت مكة قسم الغنائم في قريش(5)
__________
(1) قال ابن حجر: "كذا وقع بالإفراد في الصحيحين، والمعروف حديثو عهد، وكتبها الدمياطي بخطه "حديثو عهد" وفيه نظر. وقد وقع عند الإسماعيلي "إن قريشا كانوا قريب عهد".اهـ. (فتح الباري 8/54).
وقال محمد فؤاد عبد الباقي بعد أن أشار إلى ما ذكره ابن حجر قال: "وفعيل يستوي فيه الإفراد و غيره (تعليقه على صحيح مسلم، وهذا معروف في اللغة انظر: شرح ابن عقيل (1/61).
(2) قوله: (أن أجبرهم) قال ابن حجر: "كذا للأكثر - بفتح أوله وسكون الجيم بعدها موحدة ثم راء مهملة - للسرخسي والمستملي: بضم أوله وكسر الجيم بعدها تحتانية ساكنة ثم زاي - من الجائزة" (فتح الباري 8/54).
(3) وعند الترمذي: "لو سلك الناس واديا أو شعبا، وسلكت الأنصار وادياً أو شعباً لسلكت وادي الأنصار وشعبهم"، وعند البخاري: "لو سلك الناس وادياً وسلكت الأنصار شعبا لسلكت وادي الأنصار أو شعب الأنصار".
(4) أبو التياح - بمثناة ثم تحتانية ثقيلة آخره مهملة- هو يزيد بن حميد.
(5) وعند البخاري وأحمد: "فقسم الغنائم في قريش" و في لفظ عند البخاري أيضا "لما كان يوم فتح مكة قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم غنائم بين قريش فغضبت الانصار".
قال ابن حجر: "ووقع عند القابسي:قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم "غنائم قريش" ولبعضهم "غنائم من قريش" وهو خطأ؛ لأنه يوهم أن مكة لما فتحت قسمت غنائم قريش، وليس كذلك بل المراد بقوله: "يوم فتح مكة" زمن فتح مكة وهو يشمل السنة كلها، ولما كانت غزوة حنين ناشئة عن غزوة فتح مكة أضيفت إليها" (فتح الباري8/54).(6/12)
فقالت الأنصار: إن هذا لهو العجب(1) إن سيوفنا تقطر من دمائهم(2)، وإن غنائمنا ترد عليهم، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فجمعهم، فقال: "ما الذي بلغني عنكم؟". قالوا: هو الذي بلغك، وكانوا لا يكذبون، قال: "أما ترضون(3) أن يرجع الناس بالدنيا إلى بيوتهم، وترجعون برسول الله صلى الله عليه وسلم؟ لو سلك الأنصار وادياً أو شعبا وسلكت الأنصار وادياً أو شعباً لسلكت وادي الأنصار أو شعب الأنصار"(4)
__________
(1) وعند البخاري: "والله إن هذا لهو العجب".
(2) وعند البخاري وأبي يعلى: "إن سيوفنا تقطر من دماء قريش".
(3) عند البخاري "أولا ترضون أن يرجع الناس بالغنائم إلى بيوتهم و ترجعون برسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بيوتكم؟".
(4) البخاري: الصحيح 4/74 كتاب فرض الخمس، باب ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يعطى المؤلفة وغيرهم، الخ و145 كتاب المناقب، باب ابن أخت القوم منهم ومولى القوم منهم 5/26 و28 كتاب فضائل أصحاب النبي، باب مناقب الأنصار والذين تبوؤوا الدار والإيمان من قبلهم الخ.
وباب قول النبي صلى الله عليه وسلم للأنصار اصبروا حتى تلقوني على الحوض و 130و 131 كتاب المغازي، باب غزوة الطائف، و 7/ كتاب اللباس، باب القبة الحمراء من أدم.
و8/130 كتاب الفرائض، باب مولى القوم من أنفسهم وابن الأخت منهم و9/106 كتاب التوحيد، باب قول الله تعالى، و جوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة، ومسلم: الصحيح 2/733-736 كتاب الزكاة، باب إعطاء المؤلفة قلوبهم على الإسلام وتصبر من قوى إيمانه واللفظ له، وأحمد: المسند 3/165-166 و169 و176 و222 و249 و275 و276، و277، و279-280.
والترمذي: السنن 5/371 كتاب المناقب، باب في فضل الأنصار وقريش، والسنائي: السنن 5/80، كتاب الزكاة، باب ابن أخت القوم منهم، مختصرا جدا، وابن أبي شيبة: التاريخ ص 90.
وأبو يعلى: المسند 3/292 و307 و337 ورقم 303.
والبيهقي: السنن الكبرى 6/337-338 ودلائل النبوة 3/50-51، هكذا أخرج هؤلاء الأئمة هذا الحديث مطولاً ومختصراً. تقدم برقم (40).(6/13)
.
ورواه مسلم وأحمد والبيهقي الجميع عن طريق السميط السدوسي عن أنس بن مالك قال: افتتحنا مكة ثم غزونا حنينا فجاء المشركون بأحسن صفوف رأيت" الحديث.
وفيه: "قال فنادى رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا للمهاجرين يا للمهاجرين" ثم قال: "يا للأنصار يا للأنصار".
قال أنس: هذا حديث عمية، قال: قلنا لبيك يا رسول الله، قال: فتقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأيم الله ما أتيناهم حتى هزمهم الله، قال: فقبضنا ذلك المال، ثم انطلقنا إلى الطائف فحاصرناهم أربعين ليلة ثم رجعنا إلى مكة، قال: فنزلنا فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يعطي الرجل المائة ويعطي الرجل المائة(1) قال: فتحدث الأنصار بينهم، أما من قاتله فيعطيه، وأما من لم يقاتله فلا يعطيه، قال: فرفع الحديث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم أمر بسراة(2) المهاجرين والأنصار أن يدخلوا عليه، ثم قال: "لا يدخل على إلاّ أنصاري أو الأنصار" قال: فدخلنا القبة حتى ملأنا القبة، قال نبي الله صلى الله عليه وسلم: "يا معشر الأنصار – أو كما قال- ما حديث أتاني؟" قالوا ما أتاك يا رسول الله؟ قال: "ألا ترضون أن يذهب الناس بالأموال وتذهبون برسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى تدخلوا بيوتكم؟".
قالوا: رضينا يا رسول الله، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لو أخذ الناس شعبا وأخذت الأنصار شعبا، لأخذت شعب الأنصار" قالوا: يا رسول الله رضينا قال: "فارضوا أو كما قال"(3).
__________
(1) هذا العطاء كان بالجعرانة؛ لأن قسمة الغنائم كانت بها، ولا يفهم من قوله رجعنا إلى مكة أن قسم الغنائم كان بمكة.
(2) سراة المهاجرين والأنصار: أي أشرافهم (النهاية 2/363).
(3) أحمد: المسند 3/157 واللفظ له، مسلم: الصحيح 2/736 كتاب الزكاة، باب إعطاء المؤلفة قلوبهم على الإسلام وتصبر من قوي إيمانه، والبيهقي دلائل النبوة 3/50 أ، وتقدم برقم (46).(6/14)
204- ورواه أحمد وابن أبي شيبة عن يزيد(1) بن هارون قال: أنبأنا حميد(2) عن أنس قال: أعطى النبي صلى الله عليه وسلم من غنائم حنين الأقرع بن حابس مائة من الإبل، وعيينة بن حصن مائة من الإبل، فقال ناس من الأنصار: يعطي(3) رسول الله صلى الله عليه وسلم غنائمنا ناس تقطر سيوفهم من دمائنا أو تقطر سيوفنا من دمائهم، فبلغه ذلك فأرسل إلى الأنصار فقال: "هل فيكم من غيركم؟". قالوا: لا، إلا ابن أخت لنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ابن الأخت القوم منهم، أقلتم(4) كذا وكذا؟ أما ترضون أن يذهب الناس بالدنيا وتذهبون بمحمد إلى دياركم؟". قالوا: بلى يا رسول الله، قال: "والذي نفسي(5) بيده، لو أخذ الناس وادياً أو شعباً، أخذت وادي الأنصار أو شعبهم، الأنصار كرشي وعيبتي، لولا الهجرة لكنت امرأ من الأنصار"(6).
ورواه أحمد أيضا من:
__________
(1) هو ابن زاذان السلمي مولاهم، أبو خالد الواسطي.
(2) هو ابن أبي حميد الطويل.
(3) وفي لفظ عند أحمد أيضاً: "فقالت الأنصار: أيعطي غنائمنا من تقطر سيوفنا من دمائهم، أو تقطر دماؤهم من سيوفنا".
(4) وعند ابن أبي شيبة فقال: قلتم كذا وكذا؟".
(5) وفي لفظ عند أحمد: "والذي نفس محمد بيده".
(6) أحمد: المسند 3/201 واللفظ له وابن أبي شيبة: التاريخ ص 92 ب.(6/15)
أ- طريق ثابت البناني عن أنس بن مالك إلا أنه قال: أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا سفيان وعيينة والأقرع وسهيل بن عمرو في الأخيرين يوم حنين. فقالت الأنصار: يا رسول الله سيوفنا تقطر من دمائهم، وهم يذهبون بالمغنم، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، فجمعهم في قبة له حتى فاضت، فقال: "أفيكم أحد من غيركم؟". قالوا: لا، إلا ابن اختنا، قال: "ابن الأخت القوم منهم". ثم قال: "أقلتم كذا وكذا؟" قالوا: نعم، قال: "أنتم الشعار(1) والناس دثار، أما ترضون أن يذهب الناس بالشاة والبعير، وتذهبون برسول الله صلى الله عليه وسلم إلى دياركم" الحديث(2).
ب- حدثنا عبيدة(3) بن حميد عن حميد عن أنس بن مالك قال: أعطى النبي صلى الله عليه وسلم من غنائم حنين عيينة والأقرع وغيرهما، فقالت الأنصار: أيعطي غنائمنا من تقطر سيوفنا من دمائهم، أو تقطر دماؤهم من سيوفنا، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فدعا الأنصار فقال: "يا معشر الأنصار، أما ترضون أن يذهب الناس بالدنيا وتذهبون بمحمد إلى دياركم؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: والذي نفس محمد بيده لو سلك الناس واديا وسلكت الأنصار شعبا لسلكت شعب الأنصار، الأنصار كرشي وعيبتي، ولولا الهجرة لكنت امرأ من الأنصار"(4).
__________
(1) الشعار: بكسر المعجمة بعدها مهملة خفيفة، الثوب الذي يلي الجلد من الجسد، والدثار: بكسر المهملة ومثلثة خفيفة: الذي فوق الشعار، وأرد أنهم بطانته وخاصته وأنهم ألصق به وأقرب إليه من غيرهم (فتح الباري 8/52 والنهاية 2/100 و480 والقاموس المحيط 2/27و 59).
(2) مسند أحمد 3/246. وقال ابن حجر: إسناده على شرط مسلم 8/50.
(3) عبيدة - بفتح أوله هو الكوفي أبو عبد الرحمن المعروف بالحذاء صدوق نحوي ربما أخطا (التقريب 1/547).
(4) مسند أحمد 3/188 وإسناده حسن.(6/16)
ج- حدثنا بن أبي عدي(1) عن حميد عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "يا معشر الأنصار ألم آتكم ضلالا(2) فهداكم الله عز وجل بِيَ، ألم آتكم متفرقين فجمعكم الله بي، ألم آتكم أعداء فألف الله بين قلوبكم بي؟". قالوا: بلى يا رسول الله، قال: "أفلا تقولون جئتنا خائفا فأمناك(3) وطريداً فآوينك ومخذولاً (4) فنصرناك؟"(5). فقالوا: بل(6) لله تبارك وتعالى المن به علينا ولرسوله صلى الله عليه وسلم(7)
__________
(1) هو محمد بن إبراهيم.
(2) ضلالاً: بالضم والتشديد جمع ضال والمراد هنا ضلالة الشرك بالهداية الإيمان، وقد رتب صلى الله عليه وسلم ما من الله عليهم على يديه من النعم ترتيبا بالغا فبدأ بنعمة الإيمان التي لا يوازها شيء من أمر الدنيا، وثنى بنعمة الألفة وهي أعظم من نعمة المال، لأن الأموال تبذل في تحصيله وقد لا تحصل، وقد كانت الأنصار قبل الهجرة في غاية التنافر والتقاطع لما وقع بينهم من حرب بعاث وغيرها، فزال ذلك كله بالإسلام، كما قال الله تعالى: {لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ}، [سورة الأنفال، من الآية: 63]، (فتح الباري 8/50).
(3) خائفاً فأمناك: بمناصرتنا لك، وقيامنا بنصرتك، وطريداً: من بلدك قد آذاك قومك.
(4) مخذولاً: أي غير منصور يقال: خذله خذلا و خذلانا - بالكسر - ترك نصرته.
(5) فنصرناك: أي: على من عاداك وآزرناك على من ناوأك.
(6) بل) إضراب عما قال صلى الله عليه وسلم، وعدد من أياديهم ومنهم. (لله) سبحانه وتعالى: (المن علينا ولرسوله) صلى الله عليه وسلم، إذ هدانا الله تعالى به إلى الدين القويم والصراط المستقيم. والمن: بفتح الميم، وتشديد النون - العطاء والإحسان. ومن أسمائه تعالى ؟ المنان، هو المنعم المعطي من المن الذي هو العطاء (السفاريني: شرح ثلاثيات مسند أحمد 1/676-677) النهاية لابن الأثير 4/365.
(7) أحمد: المسند 3/104-105 و253 قال ابن حجر: وإسناده صحيح (فتح الباري 8/51). والحديث من ثلاثيات الإمام أحمد.(6/17)
.
وفي حديث عبد الله بن زيد بن عاصم عند البخاري ومسلم وغيرهما، وهذا سياقه عند البخاري:
205- حدثنا موسى(1) بن إسماعيل، حدثنا وهيب(2)، عن عمرو(3) بن يحيى بن عباد بن تميم عن عبد الله بن زيد بن عاصم، قال:
لما أفاء(4) الله على رسوله صلى الله عليه وسلم يوم حنين قسم في الناس في المؤلفة قلوبهم(5)، ولم يعط الأنصار شيئا، فكأنهم وجدوا(6)
__________
(1) هو المنقري بكسر الميم وسكون النون وفتح القاف.
(2) وهيب - مصغراً - هو ابن خالد بن عجلان.
(3) هو ابن عمارة بن أبي الحسن المازني، المدني.
(4) قوله: "لما أفاء الله على رسوله يوم حنين"، أي: أعطاهم غنائم الذين قاتلهم يوم حنين، وأصل الفيء الرد والرجوع، ومنه سمي الظل بعد الزوال فيئا لأنه رجع من جانب إلى جانب، فكأن أموال الكفار سميت فيئا لأنها كانت في الأصل للمؤمنين إذا الإيمان هو الأصل والكفر طاريء عليه، فإذا غلب الكفار على شيء من المال فهو بطريق التعدي، فإذا غنمه المسلمون منهم فكأنه رجع إليهم ما كان لهم (فتح الباري 8/47-48).
(5) المؤلفة قلوبهم: بدل من الناس وهو بدل بعض من كل (المصدر السابق 8/48).
(6) يقال وجد عليه يجد ويجد جداً وجدة وموجدة إذا غضب، وفي الحب والحزن وجد يجد وجداً فقط. (القاموس المحيط 1/343).
قال ابن حجر: "وفي (مغازي سليمان التيمي) أن سبب حزنهم أنهم خافوا أن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد الإقامة بمكة، والأصح ما في الصحيح حيث قال: إذ لم يصبهم ما أصاب الناس" على أنه لا يمتنع الجمع و هذا أولى" (فتح الباري 8/50).
قلت: وفي مرسل قتادة عند الطبري "أن الأنصار قالوا) والله ما قلنا ذلك إلا حرصا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله ورسوله يصدقانكم ويعذرانكم" (انظر ص 433).
وعليه فيكون الجمع أظهر من غيره فالأنصار قالوا ما قالوا للسببين وهما خوفهم من بقاء رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة كما جاء ذلك صريحا في صحيح مسلم وكما في هذا الأثر عن قتادة، وحينما شاهدوا قسم الغنائم على الأعراب والطلقاء وغيرهم من أهل مكة ولم ينالوا منها شيئا ازداد خوفهم وصدر منهم ما صدر من القول فبين لهم بعد ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم وجه الحكمة في قسمة الغنائم وبين لهم أنه معهم في الحياة والممات فقال المحيا محياكم والممات مماتكم".
(انظر ص 433 تعليقة (1).(6/18)
إذ لم يصبهم ما أصاب الناس، فخطبهم فقال: "يا معشر الأنصار! ألم أجدكم ضلالا فهداكم الله بي، وكنتم متفرقين فألفكم الله بي، وعالة (1) فأغناكم الله بي؟". كلما قال شيئا، قالوا: الله ورسوله أمن (2). قال: "ما يمنعكم أن تجيبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟" (3). قال: "كلما قال شيئا، قالوا: الله ورسوله أمن. قال: "لو شئتم قلتم جئتنا كذا وكذا (4)
__________
(1) عالة بالمهملة أي فقراء لا مال لكم، العيلة الفقر، جمع عائل وهو الفقير (النهاية لابن الأثير 3/323) وفتح الباري لابن حجر 8/50.
(2) أمن بفتح الهمزة والميم والنون المشددة: أفعل تفضيل من المن. (المصدر السابق 8/50).
(3) وعند أحمد: "ما يمنعكم أن تجيبوني" وعند مسلم: "فقال: ألا تجيبوني".
(4) قوله: "لو شئتم قلتم جئتنا كذا وكذا". وعند مسلم من طريق إسماعيل بن جعفر "أما إنكم لو شئتم أن تقولوا كذا وكذا، وكان من الأمر كذا وكذا" لأشياء عددها زعم عمرو - وهو ابن يحيى المازني المدني راوي الحديث - أنه لا يحفظها.
قال ابن حجر: "وهذا رد على من قال أن الراوي كنى عن ذلك عمدا على طريق التأدب، وقد جوز بعضهم أن يكون المراد جئتنا ونحن على ضلالة فهدينا بك "وفيه بعد، فقد فسر ذلك في حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - عند ابن إسحاق ولفظه: "أما والله لشئتم لقلتم فلصدقتم ولصدقتم: أتيتنا مكذباً فصدقناك، مخذولا فنصرناك وطريداً فآويناك وعائلاً فواسيناك" ونحوه في مغازي أبي الأسود عن عروة مرسلا، وابن عائذ من حديث ابن عباس موصولا، وفي مغازي سليمان التيمي أنهم قالوا في جواب ذلك: "رضينا عن الله ورسوله" وكذا ذكر موسى بن عقبة في مغازيه بغير إسناد.
وأخرجه أحمد عن ابن عدي عن حميد عن أنس بلفظ "أفلا تقلون جئتنا خائفا فأمناك وطريدا فآويناك، ومخذولاً فنصرناك" فقالوا: "بل لله تبارك وتعالى المن وعلينا ولرسوله صلى الله عليه وسلم".
وروى أحمد من وجه آخر عن أبي سعيد قال: "قال رجل من الأنصار لأصحابه: لقد كنت أحدثكم أنه لو قد استقامت الأمور قد آثر عليكم قال: فردوا عليه ردا عنيفا" الحديث وفيه "قال: أفلا تقولون قاتلك قومك فناصرناك وأخرجك قومك فآويناك؟". قالوا: "نحن لا نقول ذلك يا رسول الله، أنت تقوله". ثم قال ابن حجر: "وإنما قال صلى الله عليه وسلم ذلك تواضعا منه وإنصافا وإلا ففي الحقيقة الحجة البالغة والمنة الظاهرة في جميع ذلك له عليهم، فإنه لولا هجرته إليهم وسكناه عندهم لما كان بينهم و بين غيرهم فرق، وقد نبه على ذلك، بقوله صلى الله عليه وسلم "ألا ترضون" الخ، فنبههم على ما غفلوا عنه من عظيم ما اختصوا به منه بالنسبة إلى ما حصل عليه غيرهم من غرض الدنيا الفانية". (فتح الباري 8/51 بتصرف يسير).(6/19)
، ألا ترضون أن يذهب الناس بالشاة(1) والبعير، وتذهبون بالنبي صلى الله عليه وسلم إلى رحالكم ؟ لولا الهجرة لكنت امرأ من الأنصار، ولو سلك الناس واديا وشعبا لسلكت وادي الأنصار وشعبها(2)، الأنصار شعار والناس دثار، إنكم ستلقون بعدي أثرة فاصبروا حتى تلقوني على الحوض"(3).
والحديث رواه مسلم وابن أبي شيبة وأحمد الجميع من طريق عمرو بن يحيى به(4).
وروى ابن إسحاق من حديث أبي سعيد الخدري قال:
__________
(1) الشاة والبعير: اسم جنس فيهما والشاة تقع على الذكر والأنثى وكذا البعير (فتح الباري 8/51) و عند مسلم (بالشاء والإبل).
(2) وعند مسلم وابن أبي شيبة وأحمد "وشعبهم".
(3) البخاري: الصحيح 5/129 كتاب المغازي، باب غزوة الطائف و9/70 كتاب التمني باب ما يجوز من اللو، وفي تحفة الأشراف، للمزي 4/34 حديث (5303)، قال رواه البخاري في المغازي بتمامه، وفي التمني ببعضه عن موسى بن وهيب والصواب عن موسى عن وهيب، ب (عن) بدل (بن).
(4) مسلم: الصحيح 2/738 كتاب الزكاة، باب إعطاء المؤلفة قلوبهم على الإسلام وتصبر من قوي إيمانه، وابن أبي شيبة: التاريخ ص: 94 ب وأحمد: المسند4/42.(6/20)
206- وحدثني عاصم بن عمر بن قتادة عن محمود(1) بن لبيد عن أبي سعيد(2) قال: لما أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أعطى من تلك العطايا، في قريش وفي قبائل العرب، ولم يكن في الأنصار منها شيء وجد هذا الحي من الأنصار في أنفسهم، حتى كثرت منهم القالة(3)، حتى قال قائلهم: لقد لقي والله رسول الله صلى الله عليه وسلم قومه(4) فدخل عليه سعد بن عبادة، فقال: يا رسول الله إن هذا الحي(5)
__________
(1) محمود بن لبيد بن عقبة بن رافع الأوسي الأشهلي، أبو نعيم المدني صحابي صغير، وجل روايته عن الصحابة (ت 96 وقيل 97) / ب خ م ع (التقريب 2/233) وفي تهذيب التهذيب 3/387 والإصابة 3/387 وأسد الغابة 5/117-118 اختلف العلماء في صحبته ورجح البخاري صحبته وأيده ابن عبد البر. انظر: الاستيعاب 3/423-424 مع الإصابة.
(2) أبو سعيد: هو سعد بن مالك بن سنان الأنصاري، له ولأبيه صحبة.
(3) القالة: الكلام الرديء وفي القاموس 4/42: القال والقيل والقالة في الشر.
(4) وعند الواقدي: "أما حين القتال فنحن أصحابه، وأما حين القسم فقومه و عشيرته، ووددنا أنا نعلم ممن كان هذا إن كان هذا من الله صبرنا، وإن كان هذا من رأي رسول الله صلى الله عليه وسلم استعتبناه، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فغضب من ذلك غضبا شديداً فدخل عليه سعد بن عبادة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما يقول فِيَّ قومك" قال: ما يقولون يا رسول الله؟ قال: يقولون: أما حين القتال فنحن أصحابه، وأمّا حين القسم فقومه وعشيرته، ووددنا أنانعلم من أين هذا إن كان من قبل الله صبرنا وإن كان من رأي رسول الله صلى الله عليه وسلم استعتبناه، فأين أنت من ذلك يا سعد؟ فقال سعد: يا رسول الله، ما أنا إلا كأحدهم، وإنا لنحب أن نعلم من أين هذا؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فاجمع من كان هاهنا من الأنصار في هذه الحظيرة"، الخ (مغازي الواقدي 3/956-957).
(5) الحي: هو اسم لمنْزل القبيلة سميت القبيلة به؛ لأن بعضهم يحيا ببعض (فتح الباري 1/131 وفي القاموس 4/322 والحي: البطن من بطونهم جمعه أحياء.(6/21)
من الأنصار قد وجدوا عليك في أنفسهم، لما صنعت في هذا الفيء الذي أصبت، قسمت في قومك وأعطيت عطايا عظاما في قبائل العرب، ولم يك في هذا الحي من الأنصار منها شيء، قال: "فأين أنت من ذلك يا سعد؟". قال: يا رسول الله، ما أنا إلا من قومي، قال: فاجمع لي قومك في هذه الحظيرة(1)، قال: فخرج سعد، فجمع الأنصار في تلك الحظيرة، قال: فجاء رجال من لمهاجرين فتركهم فدخلوا، وجاء آخرون فردهم، فلما اجتمعوا له أتاه سعد، فقال: قد اجتمع لك هذا الحي من الأنصار، فأتاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله، ثم قال: "يا معشر الأنصار: ما قَالَةٌ بلغتني عنكم، وجدة وجدتموها علي في أنفسكم؟". ألم آتكم ضلالا فهداكم الله، وعالة فأغناكم الله، وأعداء فألف الله بين قلوبكم؟ قال: بلى، الله ورسوله أمن وأفضل، ثم قال: "ألا تجيبونني يا معشر الأنصار؟".
__________
(1) الحظيرة: هي الموضع الذي يحاط عليه لتأوي إليه الغنم والإبل يقيهما البرد والريح. (النهاية لابن الأثير 4/414).(6/22)
قالو: بما ذا نجيبك يا رسول الله؟ لله ولرسوله المن والفضل، قال: صلى الله عليه وسلم: "أما والله لو شئتم لقلتم فلصدقتم، ولصدقتم، أتيتنا مكذبا فصدقناك، ومخذولاً(1) فنصرناك، وطريدا فآويناك، وعائلاً(2) فآسيناك، أوجدتم يا معشر الأنصار في أنفسكم في لعاعة(3) من الدنيا تألفت بها قوما ليسلموا، ووكلتكم إلى إسلامكم، ألا ترضون يا معشر الأنصار، أن يذهب النّاس بالشاة والبعير، وترجعون برسول الله إلى رحالكم؟ فوالذي نفس محمد بيده، لولا الهجرة لكنت امرءا من الأنصار، ولو سلك الناس شعبا وسلكت الأنصار شعبا، لسلكت شعب الأنصار(4)
__________
(1) الخذل والخذلان ترك الإغاثة والنصرة (المصدر السابق 2/16 ولسان العرب لابن منظور 13/214 والقاموس المحيط للفيروز آبادي 3/367).
(2) عائلاً: فقيراً: وآسيناك: أي جعناك كأحدنا، والمواساة: المشاركة والمساهمة في المعاش والرزق، وأصلها الهمزة فقبلت واو تخفيفا. (النهاية 1/50 والقاموس المحيط 4/299).
(3) اللعاعة: بالضم: نبت ناعم في أول ما ينبت، يعنى أن الدنيا كالنبات الأخضر قليل البقاء (النهاية 4/254 ولسان العرب 10/195 والقاموس المحيط 3/81).
(4) وذكر الواقدي في مغازيه 3/958: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا الأنصار ليكتب لهم بالبحرين كتابا من بعده تكون لهم خاصة دون الناس، فهي يومئذ أفضل ما فتح الله عليه من الأرض، فأبو و قالوا: ماحاجتنا بالدنيا بعدك يا رسول الله ؟ قال: "أمالا فسترون بعدي أثرة فاصبروا حتى تلقوا الله ورسوله، فإن موعدكم الحوض، وهو كما بين صنعاء وعمان، وآنيته أكثر من عدد النجوم". اهـ.
قلت: وإشارة رسول الله صلى الله عليه وسلم على الأنصار أن يكتب لهم كتاباً بالبحرين ثابت في صحيح البخاري من حديث أنس بن مالك و ليس فيه أن ذلك كان في غزوة حنين.
ولفظه: "دعا النبي صلى الله عليه وسلم الأنصار ليكتب لهم بالبحرين، فقالوا: لا والله حتى تكتب لإخواننا من قريش بمثلها، فقال: ذاك لهم ما شاء الله على ذلك يقولون له قال: "فإنكم سترون بعدي أثرة، فاصبروا حتى تلقوني".
وفي لفظ "دعا النبي صلى الله عليه وسلم الأنصار إلى أن يقطع لهم البحرين، فقالوا: لا، إلا أن تقطع لإخواننا من المهاجرين مثلها" وفي لفظ "دعا النبي صلى الله عليه وسلم الأنصار ليقطع لهم بالبحرين، فقالوا: يا رسول الله إن فعلت فاكتب لإخواننا من قريش بمثلها، فلم يكن ذلك عند النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: "إنكم سترون بعدي أثرة فاصبروا حتى تلقوني".
(البخاري: الصحيح 3/100 كتاب المساقاة، باب القطائع و4/78 كتاب الجزية، باب ما أقطع النبي صلى الله عليه وسلم من البحرين الخ و 5/28 كتاب المناقب، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم للأنصار اصبروا حتى تلقوني على الحوض وقال ابن حجر: "وذكر ابن سعد أن النبي صلى الله عليه وسلم - بعد قسمة الغنائم بالجعرانة - أرسل العلاء ابن الحضرمي إلى المنذر بن ساوي عامل البحرين يدعوه إلى الإسلام فأسلم وصالح مجوس تلك البلاد على الجزية وكان ذلك في سنة الوفود سنة تسع من الهجرة" (فتح الباري 6/262. وانظر الطبقات الكبرى لابن سعد 1/263 و4/359-360، فهذا يدل على أن الكتابة للأنصار بالبحرين متأخرة عن غزوة حنين.(6/23)
، اللهم ارحم الأنصار، وأبناء الأنصار، وأبناء أبناء الأنصار، قال: فبكى القوم حتى أخضلوا لحاهم(1)، وقالوا: رضينا برسول الله صلى الله عليه وسلم قسما وحظا. ثم انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم وتفرقوا (2).
والحديث رواه أحمد وابن أبي شيبة والطبري والبيهقي الجميع من طريق ابن إسحاق(3).
ورواه أحمد أيضا من غير طريق ابن إسحاق وذلك من الأوجه الآتية:
__________
(1) أخضلوا لحاهم - بفتح الهمزة وسكون الخاء وفتح الضاد المعجمتين - أي بلوها بالدموع (النهاية 2/43 وشرح ثلاثيات مسند أحمد 1/679).
(2) سيرة ابن هشام 2/498-500 والروض الأنف 7/252-254 وهو حسن لذاته.
(3) أحمد: المسند 3/67و76-77 وابن أبي شيبة: التاريخ ص 92 ب-أ، والطبري: تاريخ الرسل والملوك 3/93-94، والبيهقي: دلائل النبوة 3/51 أ,(6/24)
207- أ- حدثنا يحيى(1) بن أبي بكير ثنا الفضيل(2) بن مرزوق عن عطية العوفي قال: قال أبو سعيد قال رجل من الأنصار لأصحابه أما والله لقد كنت أحدثكم أنه لو قد استقامت الأمور قد آثر عليكم، قالوا: فردوا عليه ردا عنيفا، قال: فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فجاءهم فقال لهم أشياء لا أحفظها، قالوا: بلى يا رسول الله، قال: "فكنتم لا تركبون الخيل، فكلما قال: قال لهم شيئاً، قالوا بلى يا رسول الله، قال: فلما رآهم لا يردون عليه شيئا، قال: "أفلا تقولون: قاتلك قومك فنصرناك وأخرجك قومك فآويناك؟ قالوا: نحن لا نقول ذلك يا رسول الله أنت تقوله، قال: "يا معشر الأنصار ألا ترضون أن يذهب الناس بالدنيا وتذهبون أنتم برسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: "يا معشر الأنصار ألا ترضون أن الناس لو سلكوا واديا وسلكتم واديا لسلكت وادي الأنصار؟" قالوا: بلى يا رسول الله. قال: "لولا الهجرة لكنت امرأ من الأنصار، الأنصار كرشي وأهل بيتي وعيبتي التي آوي إليها، فاعفوا عن مسيئهم واقبلوا من محسنهم".
قال أبو سعيد: "قلت لمعاوية(3) أما إن رسول الله صلى الله عليه وسلم حدثنا أننا سنرى بعده أثرة"، قال معاوية: "فما أمركم، قلت: أمرنا أن نصبر قال: فاصبروا إذا"(4).
__________
(1) هو: الكرماني، كوفي الأصل نزل بغداد ثقة من التاسعة (ت 208أو 209)/ ع (التقريب 2/344، وتهذيب التهذيب 11/190).
(2) هو الأغر - بالمعجمة والراء - الرقاشين الكوفي، أبو عبد الرحمن ووقع في البداية والنهاية لابن كثير 4/359 (يحيى بن بكير) عن (الفضل) بن مرزوق وهو خطا مطبعي، والصواب: يحيى بن أبي بكير (والفضيل).
(3) هو معاوية بن أبي سفيان.
(4) مسند أحمد 3/89.(6/25)
والحديث ضعيف؛ لأن فيه عطية(1) العوفي،
وفضيل(2) بن مرزوق.
__________
(1) هو ابن جنادة - بضم الجيم بعدها نون خفيفة - أبو الحسن قال عنه ابن حجر: صدوق يخطئ كثيرا، كان متشيعاً مدلّساً، وقال ابن حبان: سمع من أبي سعيد الخدري أحاديث فلما مات أبو سعيد جعل يجالس الكلبي ويحضر قصصه فإذا قال الكلبي قال رسول الله بكذا فيحفظه وكناه أبا سعيد ويروي عنه فإذا قيل له: من حدثك بهذا؟.
فيقول: "حدثني أبو سعيد فيتوهمون أنه يريد أبا سعيد الخدري وإنما أراد الكلبي، فلا يحل الاحتجاج به ولا كتابة حديثه إلا على جهة التعجب.
(2) قال عنه ابن حجر: "صدوق يهم ورمي بالتشيع" وقال أحمد: "لا يكاد يحدث عن غير عطية العوفي. وقال ابن حبان: كان يخطئ على الثقات، ويروي عن عطية الموضوعات" (انظر: التقريب 2/113 و344 وتهذيب التهذيب 7/298-300 و11/190 والمجروحين لابن حبان 2/176و 209).(6/26)
ب- حدثنا إبراهيم(1) بن خالد ثنا رباح (2) عن معمر عن الأعمش عن أبي صالح (3) عن أبي سعيد الخدري قال: اجتمع أناس من الأنصار فقالوا: آثر علينا غيرنا فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فجمعهم ثم خطبهم فقال: "يا معشر الأنصار ألم تكونوا أذلة فأعزكم الله؟ قالوا: صدق الله ورسوله، قال: "الم تكونوا ضلالا فهداكم الله؟" قالوا: صدق الله ورسوله، قال: "ألم تكونوا فقراء فأغناكم الله؟" قالوا: صدق الله ورسوله. ثم قال: "ألا تجيبونني؟" ألا تقولون: "أتيتنا طريدا فآويناك، وأتيتنا خائفا فآمنك؟ ألا ترضون أن يذهب الناس بالشاء والبقران - يعني البقر- وتذهبون برسول الله صلى الله عليه وسلم فتدخلونه بيوتكم؟ لو أن الناس سلكوا واديا أو شعبة(4) وسلكتم وادياً أو شعبة سلكت واديكم أو شعبتكم، لولا الهجرة لكنت امرأ من الأنصار، وإنكم ستلقون بعدي أثرة فاصبروا حتى تلقوني على الحوض"(5).
ورواه عبد بن حميد من طريق معمر عن الأعمش به(6).
والحديث من رواية معمر عن الأعمش(7).
__________
(1) هو ابن عبيد القرشي الصنعاني المؤذن، ثقة (تهذيب التهذيب 1/117 والتقريب 1/35).
(2) رباح: هو ابن زيد القرشي مولاهم الصنعاني، ثقة (تهذيب التهذيب 3/233 والتقريب 1/242).
(3) أبو صالح هو ذكوان السمان الزيات المدني ثقة ثبت (تهذيب التهذيب 3/219).
(4) في القاموس المحيط 1/82 والشعبة بالضم: المسيل في الرمل وما صغر من التلعة وما عظم من سواقي الأودية وصدع في الجبل يأوي إليه المطر، وتجمع على شعب وشعاب.
(5) أحمد: المسند 3/57.
(6) المسند: 2/121 ب رقم 323.
(7) قال ابن معين: "إذا حدثك معمر عن العراقيين فخالفه إلاّ عن الزهري و ابن طاوس فإن حديثه عنهما مستقيم، فأمّا أهل الكوفة وأهل البصرة فلا، وما عمل في حديث الأعمش شيئاً".
وفي التقريب: "معمر بن راشد ثقة ثبت فاضل، إلا أن في روايته عن ثابت و هشام بن عروة والأعمش شيئا". (تهذيب التهذيب 10/245 والتقريب 2/266).(6/27)
وفيه عنعنة الأعمش وهو مدلس(1).
ج- من حديث جابر بن عبد الله وهذا سياقه:
208- حدثنا موسى(2) حدثنا ابن لهيعة عن أبي الزبير عن جابر ابن عبد الله - رضي الله عنهما - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما فتحت حنين بعث سرايا فأتوا بالإبل والشاء فقسموها في قريش، قال: "فوجدنا أيها الأنصار عليه، فبلغه ذلك فجمعنا فخطبنا فقال: "ألا ترضون أنكم أعطيتم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوالله لو سلكت الناس واديا وسلكتم شعبا لاتبعت شعبكم".
قالوا: رضينا يا رسول الله(3).
قال الهيثمي: رواه أحمد وفيه ابن لهيعة وهو حسن الحديث وبقية رجاله رجال الصحيح(4).
قلت: وفيه أبو الزبير - محمد بن مسلم بن تدرس - وهو مدلس وقد عنعن.
وأخرج الطبراني نحوه من حديث ابن عباس رضي الله عنهما(5).
__________
(1) تدليس تسوية وهو شر أنواع التدليس وهو مذموم جدا، وهو أن يعمد الراوي إلى ضعيف بين ثقتين لقي أحدهما الآخر فيسقطه ويروي الحديث عن شيخه عن الأعلى لكونه سمع منه أو أدركه فيوهم الآخرين أن الحديث عن الثقة عن الثقة الآخر، وأنه لا يوجد واسطة بينهم والحال أن بينهما رجلا ضعيفا وقد أسقطه قال ابن حجر: فيقبل من الثقة ما صرح فيه بالحديث ويتوقف عما عداه. (انظر: جامع التحصيل للعلائي ص116-117،وطبقات المدلسين لابن حجر ص11،وص23.
(2) قال ابن كثير في البداية والنهاية 4/359 بأن موسى هو ابن عقبة صاحب المغازي، لم يدركه الإمام أحمد - رحمه الله -، ذلك أن وفاة موسى كانت سنة (141 أو 142 ه-).
وكانت ولادة الإمام أحمد سنة (164هـ) فبين ولادة أحمد ووفاة موسى (23أو 22 سنة)، والظاهر أن موسى هنا هو ابن داود الضبي، فإنه من تلاميذ ابن لهيعة ومن شيوخ أحمد، (انظر: تهذيب الكامل للمزي 7/692 وتهذيب التهذيب لابن حجر 10/342).
(3) أحمد: المسند 3/347.
(4) مجمع الزوائد 10/30.
(5) المعجم الكبير 12/196.(6/28)
قال الهيثمي: رواه الطبراني وفيه محمد بن جابر السحيمي وهو ضعيف وقد وثق(1).
209- وأخرجه البزار أيضا من حديث ابن عباس مختصراً(2)، قال الهيثمي: وفيه حفص بن عمر العدني وهو ضعيف(3) وقال ابن الطهراني(4): كان ثقة(5).
وروى الطبري من حديث قتادة، فقال: حدثنا بشر(6) بن معاذ، قال ثنا يزيد عن قتادة، قوله: "لقد نصركم الله في مواطن كثيرة ويوم حنين" قال... وذكر لنا أنه خرج يومئذ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم اثنا عشر ألفا، عشرة آلاف من المهاجرين والأنصار وألفان من الطلقاء" الحديث.
__________
(1) مجمع الزوائد 10/31.
(2) كشف الأستار 2/353.
(3) انظر:التقريب 1/188 وتهذيب التهذيب 2/410 والجرح والتعديل لابن أبي حاتم 3/182.
(4) لعله محمد بن حماد أبو عبد الله الرازي الطهراني - بكسر المهملة وسكون الهاء - ثقة - حافظ لم يصب من ضعفه من التاسعة (ت 271) فإنه يعرف بابن الطهراني كما في تهذيب التهذيب ووقع في الخلاصة للخزرجي الظهراني - بالظاء المعجمة وهو خطأ فقد قال ابن الأثير بأنه منسوب إلى طهران الري بالطاء المهملة. (انظر: التقريب 2/155 وتهذيب التهذيب 9/124-126) وميزان الاعتدال 3/527 وتذكرة الحفاظ 2/610 وسير أعلام النبلاء 12/628 كلها للذهبي والخلاصة للخزرجي 2/395 واللباب لابن الأثير 2/291.
(5) مجمع الزوائد 6/189.
(6) بشر: هو العقدي، ويزيد: هو ابن زريع، وقتادة: هو ابن دعامة السدوسي، تقدموا في حديث (1) و (47).(6/29)
وفيه: "فلما جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم الغنائم، وأتى الجعرانة فقسم بها مغانم حنين، وتألف أناساً من الناس فيهم أبو سفيان بن حرب والحارث ابن هشام، وسهيل بن عمرو، والأقرع بن حابس، فقالت الأنصار: حن الرجل إلى قومه، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في قبة له من أدم، فقال: يا معشر الأنصار، ما هذا الذي بلغني ألم تكونوا ضلالا فهداكم الله، وكنتم أذلة فأعزكم الله(1) وكنتم وكنتم، قال: فقال: سعد بن عبادة - رضي الله عنه -: ائذن لي فأتكلم، قال: تكلم، قال: أما قولك: كنتم ضلالا فهداكم الله، كنا كذلك، وكنتم أذلة فأعزكم الله، فقد علمت العرب ما كان حي من أحياء العرب أمنع لما وراء ظهورهم منا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا سعد أتدري من تكلم". فقال: نعم أكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "والذي نفسي بيده لو سلكت الأنصار وادياً والناس وادياً لسلكت وادياً الأنصار، ولولا الهجرة لكنت امرءا من الأنصار".
__________
(1) قوله: "وكنتم أذلة فأعزكم الله"، هذه الجملة جاءت في حديث أبي سعيد الخدري وكان جواب الأنصار: "صدق الله ورسوله" انظر ص 429 وفي هذا الحديث فقال سعد بن عبادة "فقد علمت العرب ما كان حي من أحياء العرب أمنع لما وراء ظهورهم منا" وكلا الحديثين ضعيف.
والأحاديث الصحيحة لم ترد فيها هذه الجلمة "وكنتم أذلة فأعزكم الله" كما أن هذا الجواب من سعد بن عبادة لم يرد في الأحاديث الصحيحة وقد تفرد بها قتادة وسندها ضعيف، ولا شك أن عزة الإسلام أرفع و أمنع من المنعة والحمية التي كان عليها الأنصار قبل الإسلام، وما كان لسعد بن عبادة في يقينه وعظيم إيمانه أن يخفى عليه ذلك، ولا أن يجيب الرسول صلى الله عليه وسلم بهذا الجواب، وبخاصة أن الروايات الصحيحة لم ترد فيها الجملة وقد سلم الأنصار لكل ما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم. والله أعلم.(6/30)
وذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: "الأنصار كرشي وعيبتي، فاقبلوا من محسنهم، وتجاوزوا عن مسيئهم".
ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا معشر الأنصار أما ترضون أن ينقلب الناس بالإبل والشاء، وتنقلبون برسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بيوتكم؟".
فقالت الأنصار: "رضينا عن الله ورسوله، والله ما قلنا ذلك إلا حرصا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله ورسوله(1) يصدقانكم ويعذرانكم"(2).
والحديث فيه قتادة من صغار التابعين ولم يصرح بمن حدثه (3).
وروى البيهقي نحوه من مرسل عروة بن الزبير وموسى بن عقبة(4).
وهذه الآثار يشد بعضها بعضا، وتؤيدها الأحاديث الصحيحة الواردة في هذا المبحث وقد تقدمت.
__________
(1) جاءت جملة: "إن الله ورسوله يصدقانكم ويعذرانكم" في صحيح مسلم3/1408 كتاب الجهاد، باب فتح مكة من حديث أبي هريرة مطول وفيه "وجاءت الأنصار فأطلقوا بالصفا، فجاء أبو سفيان فقال: يا رسول الله أبيدت خضراء قريش، لا قريش بعد اليوم، قال أبو سفيان: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن ألقى السلاح فهو آمن ومن أغلق بابه فهو آمن".
فقالت الأنصار: "أما الرجل فقد أخذته الرأفة بعشيرته ورغبة في قريته ونزل الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: "قلتم: أما الرجل فقد أخذته رأفة بعشيرته ورغبة في قريته، ألا فما اسمي إذا (ثلاث مرات) أنا محمد بن عبد الله ورسوله، هاجرت إلى الله وإليكم، فالمحيا محياكم والممات مماتكم" قالوا: والله ما قلنا إلا ضنا بالله ورسوله، قال: "فإن الله ورسوله يصدقانكم و يعذرانكم".
(2) جامع البيان 10/100-101 وتقدم الحديث برقم (42).
(3) فهو من مراسيل قتادة ومراسيله بمنزلة الريح، كما قال: يحيى بن سعيد القطان. انظر فتح المغيث 1/148 وتدريب الراوي للسيوطي ص 125.
(4) تقدم الحديث برقم (43).(6/31)
وهي تدل على أن الأنصار وجدوا في أنفسهم حيث اختص بالغنائم غيرهم ولم ينلهم منها شيء،حتى حصل منهم ما حصل وتكلم منهم من تكلم، وكان ذلك قبل أن تظهر لهم وجه الحكمة في توزيع الغنائم على سائر القبائل دونهم، ولما تبين لهم الأمر واتضح الحال، وعرفوا الهدف الذي قصده رسول الله صلى الله عليه وسلم، طابت نفوسهم واغتبطوا برسول الله صلى الله عليه وسلم ورضوا به قسما وحظا وعلموا يقينا أن الذي حظوا به لا يوازيه ولا يدانيه شيء، وما الدنيا وحطامها أمام رضى رسول الله صلى الله عليه وسلم عنهم وتمنيه أن يكون واحدا منهم ووجوده بين أظهرهم حيا وميتا، إنه لشرف عظيم حظيت به الأنصار دون سائر القبائل.
وقد أشار ابن حجر إلى وجه الحكمة في قسم غنائم حنين على المؤلفة دون غيرهم ممن قوي إيمانه، فقال: "اقتضت تلك الحكمة أن تقسم تلك الغنائم في المؤلفة قلوبهم ويوكل من قبله ممتلئ بالإيمان إلى إيمانه، ثم كان من تمام التأليف رد من سبي من المشركين إليهم، فانشرحت صدورهم للإسلام فدخلوا طائعين راغبين، وجبر ذلك قلوب أهل مكة بما نالهم من النصر والغنيمة، عما حصل لهم من الكسر والرعب فصرف عنهم شر من كان يجاورهم من أشد العرب من هوازن وثقيف بما وقع بهم من الكسرة، وبما قيض لهم من الدخول في الإسلام، ولولا ذلك ما كان أهل مكة يطيقون مقاومة تلك القبائل مع شدتها و كثرتها.(6/32)
وأما قصة الأنصار وقول من قال منهم فقد اعتذر رؤساؤهم بأن ذلك كان من بعض أتباعهم، ولما شرح لهم صلى الله عليه وسلم ما خفي عليهم من الحكمة فيما صنع رجعوا مذعنين ورأوا أن الغنيمة العظمى ما حصل لهم من عود رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بلادهم، فسلوا عن الشاة والبعير والسبايا من الأنثى والصغير، بما حازوه من الفوز العظيم، مجاورة النبي الكريم لهم حيا وميتا. وهذا دأب الحكيم يعطي كل أحد ما يناسبه"(1). اهـ.
__________
(1) فتح الباري 8/49 وانظر: زاد المعاد لابن قيم الجوزية 3/377 والصارم المسلول لابن تيمية ص 189-194.(6/33)
الفصل الرابع: في بيان ما آل إليه أمر هوزان وثقيف بعد المعركة
وفيه مبحثان:
المبحث الأول: في قدوم وفد هوزان إلى الجعرانة مسلمين.
المبحث الثاني: في إيفاد ثقيف جماعة منهم إلى المدينة
للتفاوض مع الرسول صلى الله عليه وسلم .
المبحث الأول: في قدوم وفد هوزان إلى الجعرانة مسلمين
بعد انصراف رسول الله صلى الله عليه وسلم من الطائف توجه إلى الجعرانة وكان بها السبايا والغنائم، فأخر قسم الغنائم بضع عشرة ليلة، رجاء أن تقدم هوزان مسلمة، فيرد إليهم ما أخذ منهم، ولما لم تقدم في هذه المدة أخذ صلى الله عليه وسلم في توزيع الغنائم.
ثم قدمت وفود هوزان بعد ذلك فأعلنت إسلامها، وطلبت من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يرد إليها ما فقدته من السبايا وأموال، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أحب الحديث إلي أصدقه فاختاروا إحدى الطائفتين: إما السبي وإما المال، وقد كنت استأنيت بكم، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم انتظرهم بضع عشرة ليلة حين قفل من الطائف، فلما تبين لهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم غير راد إليهم إلا إحدى الطائفتين، قالوا فإنا نختار سبينا".
يدل على ذلك الأحاديث الآتية:
أ- حديث المسور بن مخرمة ومروان بن الحكم عند البخاري وغيره وهذا سياق البخاري:
حدثنا يحيى(1) بن بكير حدثنا الليث عن عقيل(2) عن ابن شهاب(3) عن عروة أن مروان بن الحكم والمسور بن مخرمة أخبراه(4)
__________
(1) هو يحيى بن بكير المخزومي مولاهم المصري (تهذيب التهذيب 11/237).
(2) عقيل - بالضم - ابن خالد بن عقيل - بالفتح (تهذيب التهذيب 7/255).
(3) هو محمد بن مسلم الزهري.
(4) وفي لفظ عند البخاري و أحمد و البيهقي "عن ابن شهاب قال: وزعم عروة أن مروان بن الحكم والمسور بن مخرمة أخبراه".
وعند البخاري أيضاً: "وعن ابن شهاب ذكره عروة أن مروان والمسور بن مخرمة أخبراه".
وعنده عند البيهقي "عن ابن شهاب: حدثني عروة بن الزبير أن مروان بن الحكم والمسور بن مخرمة أخبراه".(7/1)
أن النبي صلى الله عليه وسلم حين جاء وفد هوزان(1) مسلمين(2)
__________
(1) قال النووي: "الوفد الجماعة المختارة للتقدم للقاء العظماء واحدهم وافد". اهـ
قال الزرقاني: "وكأنه استعمال عرفي، وإلا ففي اللغة أن الوفد القادم مطلقاً مختاراً للقاء العظماء أم لا، راكبا أم لا، قال في القاموس: وفد إليه وعليه يفد وفدا ووفودا ووفادة وإفادة قدم، وورد نحوه في الصحاح وغيره". إهـ
وقال القسطلاني: "وكان ابتداء الوفود على النبي صلى الله عليه وسلم بعد رجوعه من الجعرانة في آخر سنة ثمان وما بعدها" إهـ.
وقال ابن إسحاق: "بعد غزوة تبوك" إهـ.
وقال ابن هشام: "كانت سنة تسع تسمى سنة الوفود" إهـ.
قال القسطلاني: "وقد سرد محمد بن سعد "في الطبقات" الوفود وتبعه الدمياطي في "السيرة" له وابن سيد الناس ومغلطاي والحافظ زين الدين العراقي ومجموع ما ذكر يزيد على الستين" إهـ.
قال الزرقاني: "والمتبادر من مثل هذه العبارة أن الوفود لا يبلغون السبعين عرفا، وقد سردهم الشامي فزادوا على المائة، فلعل الجماعة اقتصروا على المشهورين، أو الآتين لترتيب مصالحهم، وذكر المصنف خمسا وثلاثين روما للإيجاز" إهـ. (انظر المواهب اللدنية للقسطلاني1/243 وشرح المواهب للزرقاني 4/2 والقاموس للفيروز آبادي 1/346 ومختار الصحاح لأبي بكر الرازي ص 729-730 وسيرة ابن هشام 2/559 والطبقات الكبرى لابن سعد 1/299-359 ولم يذكر وفد هوزان كما قال ابن حجر (الفتح: 8/33).
(2) وفي لفظ عند البخاري وأحمد والبيهقي "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام حين جاءه وفد هوزان مسليمين" إلخ.
قال ابن حجر: "ساق الزهري هذه القصة من هذا الوجه مختصرة وقد ساقها موسى ابن عقبة في "المغازي" مطولة ولفظه: ثم انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم من الطائف في شوال إلى الجعرانة وبها السبي يعني سبي هوزان، وقدم عليه وفد هوزان مسلمين، فيهم تسعة نفر من أشرافهم فأسلموا، وبايعوا ثم كلموه فقالوا: يا رسول الله إن فيمن أصبتم الأمهات والأخوات والعمات والخالات وهن مخازي الأقوام، فقال: "سأطلب لكم وقد وقعت المقاسم فأي الأمرين أحب إليكم: السبي أم المال؟ قالوا: خيرتنا يا رسول الله بين الحسب والمال فالحسب أحب إلينا، ولا نتكلم في شاة ولا في بعير، فقال: "أما الذي لبني هاشم فهو لكم، وسوف أكلم لكم المسلمين، فكلموهم وأظهروا إسلامكم"، فلما صلى النبي صلى الله عليه وسلم الهاجرة، قاموا فتكلموا خطباؤهم فأبلغوا ورغبوا إلى المسلمين في رد سبيهم، ثم قام رسول الله صلى الله عليه وسلم حين فرغوا فشفع لهم وحض المسلمين عليه وقال: "قد رددت الذي لبني هاشم عليهم".
ثم قال ابن حجر: "فاستفيد من هذه القصة عدد الوفد وغير ذلك مما لايخفى، وقد أغفل محمد بن سعد - لما ذكر الوفود - وفد هوزان هؤلاء مع أنه لم يجمع أحد في الوفود أكثر مما جمع.
وممن سمي من وفد هوزان زهير بن صرد وأبو مروان - ويقال أبو ثروان أوله مثلثة بدل ميم، ويقال أبو برقان بموحدة وقاف - وهو عم النبي صلى الله عليه وسلم ذكره ابن سعد".
وعند ابن إسحاق من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده تعيين الذي خطب لهم في ذلك… وهو زهير بن صرد (فتح الباري 8/33، ودلائل النبوة للبيهقي3/54 أ. وعند ابن سعد "وقدم وفد هوزان على النبي صلى الله عليه وسلم وهم أربعة عشرة رجلا ورأسهم زهير بن صرد (الطبقات الكبرى 2/153 وزاد المعاد لابن قيم الجوزية 3/475).(7/2)
.
فسألوه أن يرد إليهم أموالهم وسبيهم(1)، فقال لهم: معي من ترون(2)، وأحب الحديث إلي أصدقه(3)، فاختاروا إحدى الطائفتين إما السبي و إما المال(4)، وقد كنت استأنيت(5)
__________
(1) عند أبي داود "أن يرد إليهم أموالهم" دون ذكر السبي.
قال صاحب عون المعبود: "كذا في النسخ الحاضرة، وفي رواية البخاري أن يرد إليهم أموالهم وسبيهم" (عون المعبود 7/357).
(2) وفي لفظ عند البخاري: "إن معي من ترون".
والمعنى: أن معي من ترون من السبايا غير التي قسمت بين الغانمين وبوب البخاري في كتاب الوكالة بقوله: "باب إذا وهب شيئا لوكيل أو شفيع قوم جاز، لقول النبي صلى الله عليه وسلم لوفد هوزان حين سألوه المغانم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم "نصيبي لكم".
وعند ابن إسحاق من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أما ما لكم لي ولبني عبد المطلب فهو لكم" فقال المهاجرون: وما كان لنا فهو لرسول الله، و الحاصل أن النبي صلى الله عليه وسلم أجابهم برد ما عنده صلى الله عليه وسلم في ملكه. عون المعبود 7/357 وانظر ص (443).
(3) قوله: "وأحب الحديث إلي أصدقه"، مبتدأ وخبر، والمعنى: فالكلام الصادق، والوعد الصادق أحب إلي فما قلت لكم هو كلام صادق، وما وعدتكم به فعلي إيفاؤه (المصدر السابق 7/357).
(4) وفي لفظ عند البخاري "إما المال وإما السبي".
(5) وفي لفظ عند البخاري والبيهقي "وقد كنت استأنيت بهم".
وعند البخاري والبيهقي أيضا وأحمد "وقد استانيت بكم".
واستأنيت: بالمثناة قبل الألف المهموزة الساكنة ثم نون مفتوحة وتحتانية ساكنة أي انتظرت وأخرت قسم السبي لتحضروا فأبطأتم، وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد ترك السبي بغير قسمة وتوجه إلى الطائف فحاصرها ثم رجع عنها إلى الجعرانة ثم قسم الغنائم هناك، فجاءه وفد هوزان بعد ذلك فبين لهم أنه أخر القسم بضع عشرة ليلة ليحضروا فأبطأوا. (فتح الباري 5/171 و8/34 وهدي الساري ص: 82 وعون المعبود 7/357-358).(7/3)
وكان النبي صلى الله عليه وسلم انتظرهم(1) بضع عشرة ليلة حين قفل من الطائف، فلما تبين لهم أن النبي صلى الله عليه وسلم غير راد إليهم إلا إحدى الطائفتين، قالوا: فإنا نختاروا سبينا، فقام في المسلمين فأثنى على الله بما هو أهله(2)، ثم قال: "أما بعد فإن إخوانكم هؤلاء جاءونا تائبين(3)
__________
(1) وفي لفظ عند البخاري وأحمد والبيهقي "كان أنظرهم رسول الله بضع عشرة ليلة".
وعند البخاري أيضا "وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم انتظرهم آخرهم بضع عشرة ليلة".
(2) وعند أحمد "فأثنى على الله عز وجل بما هو أهله".
(3) وفي لفظ للبخاري وأحمد والبيهقي "فإن إخوانكم قد جاءونا تائبين" قال ابن حجر: "قال ابن بطال: كان الوفد رسلاً من هوزان، وكانوا وكلاء و شفعاء في رد سبيهم، فشفعهم النبي صلى الله عليه وسلم فيهم، فإذا طلب الوكيل أو الشفيع لنفسه ولغيره فأعطي ذلك فحكمه حكمهم، وقال الخطابي: فيه أن إقرار الوكيل على موكله مقبول؛ لأن العرفاء بمنزلة الوكلاء فيما أقيموا له من أمرهم، وبهذا قال أبو يوسف، وقيده أبو حنيفة ومحمد بالحاكم".
وقال مالك والشافعي وابن أبي ليلى: لا يصح إقرار الوكيل على الموكل، قال ابن حجر: "وليس في الحديث حجة للجواز لأن العرفاء ليسوا وكلاء وإنما هم كالأمراء عليهم، فقبول قولهم في حقهم بمنزلة قبول قول الحاكم في حق من هو حاكم عليه". (فتح الباري 4/484).(7/4)
، وإني أردت أرد إليهم سبيهم، فمن أحب منكم أن يطيب(1) ذلك فليفعل، ومن أحب أن يبقى على حظه حتى نعطيه إياه من أوّل ما يفئ(2) الله علينا فليفعل"، فقال الناس:طيبنا(3)
__________
(1) يطيب: بضم أوله وفتح الطاء المهملة، وتشديد التحتانية المكسورة، والمعنى فمن أحب منكم أن يعطيه عن طيب نفس منه من غير عوض فليفعل. (المصدر السابق 8/34 وعون المعبود 7/358 وقال السهيلي: "عوض رسول الله صلى الله عليه وسلم من لم تطب نفسه بالرد مما كان بيده واستطاب نفوس الباقين، وذلك أن المقاسم كانت قد وقعت فيهم فلا يجوز للإمام أن يمن على الأسرى بعد القسم، ويجوز له ذلك قبل المقاسم، كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم بأهل خيبر حين من عليهم، وتركهم عمالا للمسلمين في أرضهم التي افتتحوها عنوة" (الروض الأنف 7/281).
(2) يفيء: بفتح أوله ثم فاء مكسورة وهمزة بعد التحتانية الساكنة، أي يرجع إلينا من مال الكفار من خراج أو غنيمة أو غير ذلك، ولم يرد الفيء الاصطلاحي وحده (فتح الباري 5/178).
وقال ابن الأثير: "أراد بما يفيئه الله عليه: الخمس الذي جعله الله له من الفيء خاصة دون الناس، فإنه يعطي كل من أخذ منه شيئاً عوضه من ذلك". (جامع الأصول 8/409).
قال ابن حجر: "واستدل بالحديث على القرض إلى أجل مجهول، لقوله "حتى نعطيه من أوّل ما يفيء الله علينا" (فتح الباري 4/484).
(3) طيبنا: بتشديد التحتانية و سكون الباء الموحدة، أي رضينا بذلك. وفي رواية موسى بن عقبة "فأعطى الناس ما بأيديهم، إلا قليلاً من الناس سألوا الفداء" وفي رواية عمرو بن شعيب "فقال المهاجرون: "ما كان لنا فهو لرسول الله، وقالت الأنصار: وما كان لنا فهو لرسول الله، وقال الأقرع بن حابس: "أما أنا وبنو تميم فلا، وقال عيينة: اما أنا و بنو فزارة فلا".
وقال عباس بن مرداس: "أما أنا وبنو سليم فلا، فقالت بنو سليم: بل ما كان لنا فهو لرسول الله".
قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من تمسك منكم بحقه فله بكل إنسان ست فرائض من أول فيء نصيبه". (فتح الباري 8/34 ودلائل النبوة للبيهقي3/54أ وانظر: حديث عمرو بن شعيب ص (441).
قال ابن قيم الجوزية: "ولم يتخلف منهم أحد غير عيينة بن حصن فإنه أبى أن يرد عجوزا صارت في يده ثم ردها بعد ذلك" (زاد المعاد 3/476).(7/5)
يا رسول الله لهم(1)، فقال لهم: "إنا لا ندري من أذن منكم فيه ممن لم يأذن، فارجعوا حتى يرفع إلينا عرفاؤكم(2)
__________
(1) وفي لفظ عند البخاري والبيهقي "قد طيبنا ذلك يا رسول الله لهم". وفي لفظ عند البخاري أيضا وأحمد "قد طيبنا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم".
(2) عرفاؤكم: بالمهملة والفاء جمع عريف بوزن عظيم، وهو القائم بأمر طائفة من الناس، يلي أمورهم و يتعرف أحوالهم، سمي بذلك لكونه يتعرف أمورهم حتى يعرف بها من فوقه عند الاحتياج.
قال ابن حجر: قال ابن بطال: "في الحديث مشروعية إقامة العرفاء؛ لأن الإمام لا يمكنه أن يباشر جميع الأمور بنفسه فيحتاج إلى إقامة من يعاونه ليكفيه ما يقيمه فيه".
قال: "والأمر والنهي إذا توجه إلى الجميع يقع التواكل فيه من بعضهم فربما وقع التفريط، فإذا أقام على كل قوم عريفاً لم يسع كل أحد إلا القيام بما أمر به".
وقال ابن المنير: "في الحاشية: يستفاد منه جواز الحكم بالإقرار بغير إشهاد، فإن العرفاء ما أشهدوا على كل فرد فرد شاهدين بالرضاء، و إنما أقر الناس عندهم وهم نواب الإمام فاعتبر ذلك، وفيه أن الحاكم يرفع حكمه إلى حاكم آخر مشافهة فينفذه إذا كان كل منهما في محل ولايته. ثم عقب ابن حجر على هذا فقال قلت: وقع في سير الواقدي أن أبارهم الغفاري كان يطوف على القبائل حتى يجمع العرفاء واجتمع الأمناء على قول واحد".
ثم قال ابن حجر: "وفي الحديث أن الخبر الوارد في ذم العرفاء لا يمنع إقامة العرفاء، لأنه محمول - إن ثبت - على أن الغالب على العرفاء الاستطالة ومجاوزة الحد وترك الإنصاف المفضي إلى الوقوع في المعصية ثم قال و الحديث المذكور: أخرجه أبو داود من طريق المقدام بن معد يكرب رفعه: "العرافة حق ولابد للناس من عريف، والعرفاء في النار".
ولأحمد وصحّحه ابن خزيمة من طريق عباد بن أبي علي عن أبي حازم عن أبي هريرة رفعه "ويل للأمراء، وويل للعرفاء".
قال الطيبي: "وقوله: "والعرفاء في النار" ظاهر أقيم مقام الضمير يشعر بأن العرافة على خطر، ومن باشرها غير آمن الوقوع في المحذور المفضي إلى العذاب، فهو كقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً}، [سورة النساء، الآية:10]، فينبغي للعاقل أن يكون على حذر منها لئلا يتورط فيما يؤديه إلى النار".
قال ابن حجر: "ويؤيد هذا التأويل الحديث الآخر حيث توعد الأمراء بما توعد به العرفاء، فدل على أن المراد بذلك الإشارة إلى أن كل من يدخل في ذلك لا يسلم، وأن الكل على خطر، و الاستثناء مقدرا في الجميع. وأما قوله "العرافة حق" فالمراد به أصل نصبهم، فإن المصلحة تقتضيه، لما يحتاج إليه الأمر من المعاونة على ما يتعاطاه بنفسه، ويكفي في الاستدلال لذلك وجودهم في العهد النبوي، كما دل عليه حديث الباب" (فتح الباري 13/169-170).
قلت: حديث أبي داود المشار إليه أخرجه أبو داود في سننه 2/19 كتاب الخراج والفيء والإمارة، باب في العرافة، بلفظ "إن العرافة حق ولا بد للناس من العرفاء، ولكن العرفاء في النار".
قال المنذري: "في إسناده مجاهيل" (عون المعبود 8/153)، والحديث عند أبي داود باللفظ المذكور ليس من طريق المقدام بن معد يكرب كما قال ابن حجر - رحمه الله -، ويخرج قول الطيبي: أقيم الظاهر مقام الضمير على لفظ أبي داود هذا، وحديث أحمد في المسند 2/352 وعباد بن أبي علي قال فيه ابن حجر في التقريب 1/393 "مقبول".(7/6)
أمركم، فرجع الناس فكلمهم عرفاؤهم، ثم رجعوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبروه أنهم طيبوا(1) وأذنوا وهذا الذي بلغنا من سبي هوزان.
هذا آخر قول الزهري، يعني فهذا الذي بلغنا.
والحديث رواه البخاري أيضا عن سعيد بن عفير قال: حدثنا الليث عن عقيل عن ابن شهاب به(2).
ورواه البخاري أيضا و أبو داود كلاهما من طريق سعيد(3) بن أبي مريم حدثنا الليث به(4).
ورواه البخاري أيضا و النسائي والبيهقي الجميع من طريق موسى ابن عقبة عن ابن شهاب عن الزهري به(5).
ورواه البخاري أيضا وأحمد والبيهقي الجميع من طريق ابن أخي الزهري(6) عن عمه به(7).
رواه البيهقي أيضا من طريق يحيى بن بكير وعبد الله(8) بن صالح المصريّين أن الليث بن سعد حدثهما قال: حدثني عقيل ابن شهاب به.
ثم قال عقب هذا الحديث في "السنن الكبرى" رواه البخاري في الصحيح عن يحيى بن بكير(9).
__________
(1) طيبوا: بفتح الطاء المهملة وتشديد التحتانية، أي حملوا أنفسهم على ترك السبايا حتى طابت بذلك، يقال طيبت نفسي بكذا إذا حملتها على السماح به من غير إكراه فطابت بذلك.
قال ابن حجر: "وتقدم في غزوة حنين ما يؤخذ منه أن نسبة الإذن وغيره إليهم حقيقة، ولكن سبب ذلك مختلف فالأغلب الأكثر طابت أنفسهم أن يردوا السبي لأهله بغير عوض، وبعضهم رده بشرط التعويض" (فتح الباري 13/169).
(2) تقدم الحديث برقم (108).
(3) هو سعيد بن الحكم بن محمد بن سالم بن أبي مريم الجمحي بالولاء، أبو محمد المصري (تهذيب التهذيب 4/17).
(4) أبو داود: السنن 2/57 كتاب الجهاد، باب في فداء الأسير بالمال.
(5) النسائي: في السنن الكبرى مختصرا بقصة العرفاء كما في تحفة الأشراف للمزي 8/373 حديث. (11251).
(6) ابن أخي الزهري هو: محمد بن عبد الله بن مسلم (التقريب 2/180).
(7) أحمد: المسند 4/326، والبيهقي: السنن الكبرى 9/64.
(8) عبد الله بن صالح: هو المعروف بكاتب الليث (التقريب 1/423).
(9) 6/360.(7/7)
وفي "دلائل النبوة" بعد أن ساقه قال: رواه البخاري في الصحيح عن سعيد بن عفير وعبد الله(1) بن يوسف عن الليث(2).
ب- ما رواه ابن إسحاق وغيره من حديث عمرو بن شعيب وهذا سياقه:
عن ابن إسحاق قال: حدثني عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عبد الله بن عمرو أن وفد هوزان أتوا(3)
__________
(1) عبد الله بن يوسف التنسي - بمثناة ونون ثقيلة بعدها تحتانية ثم مهملة- أبو محمد (التقريب 1/463 وتهذيب التهذيب 6/86).
(2) 3/54أ.
قال ابن حجر: في "النكت الظراف" بعد أن ذكر مواضع هذا الحديث في صحيح البخاري.
قلت: ذكر البيهقي في "الدلائل" أن البخاري أخرجه عن عبد الله بن يوسف عن الليث، ولم أره أنا فيه أهـ. (انظر النكت على هامش تحفة الأشراف للمزي 8/373).
قلت: وقد تتبعت مواضع هذا الحديث في صحيح البخاري حسبما ذكره المزي في "تحفة الأشراف" والنابلسي "في الذخائر" وعبد الله الغنيمان في "دليل القاري" فلم أجد البخاري روى هذا الحديث عن عبد الله بن يوسف.
(انظر تحفة الأشراف 8/373 حديث 11251) وذخائر المواريث 3/95 حديث (6201) ودليل القاري ص 31 حديث (129) الرقم العام و الخاص (2).
(3) وعند النسائي: "قال كنا عند رسول اله صلى الله عليه وسلم إذ أتته وفد هوزان، فقالوا: يا محمد إنا أصل وعشيرة، وقد نزل بنا من البلاء ما لا يخفى عليك".
وعند أحمد: "قال شهدت رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين وجاءته وفود هوزان، فقالوا: يا محمد إنا أصل وعشيرة فمنّ علينا من الله عليك، فإنه قد نزل بنا من البلاء ما لا يخفى عليك".
وعند الطبري: "قال أتى وفد هوزان رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بالجعرانة، وقد أسلموا فقالوا: يا رسول الله إنا أصل و عشيرة".
وعند البيهقي "قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بحنين فلما أصاب من هوزان ما أصاب من أموالهم وسباياهم أدركه وفد هوزان بالجعرانة وقد أسلموا فقالوا يا رسول الله لنا أصل وعشيرة وقد أصابنا من البلاء ما لم يخف عليك".(7/8)
رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد أسلموا، فقالوا: "يا رسول الله إنا أصل وعشيرة، وقد أصابنا من البلاء ما لم يخف عليك فامنن علينا من الله عليك، قال: وقام رجل(1) من هوزان، ثم أحد بني سعد بن أبي بكر، يقال له: زهير(2) يكنى أبا صرد فقال:
__________
(1) وعند الطبري "فقام رجل من هوزان - أحد بني سعد بن بكر، وكان بنو سعد هم الذين أرضعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم - يقال له: زهير بن صرد وكان يكنى بأبي صرد".
(2) زهير - بضم الزاي وفتح الهاء وسكون التحتية- ابن صرد - بضم الصاد وفتح الراء و دال مهملات، مصروف ليس معدولاً - السعدي الجشمي أبو صرد، وقيل: أبو جرول، سكن الشام وقدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم في وفد قومه من هوزان (أسد الغابة لابن الأثير 2/262، وكتاب المغني لابن طاهر الهندي ص 46 وشرح المواهب اللدنية للزرقاني 4/4) وصرف (صرد)؛ لأنه اسم جنس، و ليس علما، قال الخضري في حاشيته على شرح ابن عقيل في الكلام على العلم المعدول، قوله: "العلم المعدول"، أي: عدلا تقديريا فإن طريق العلم بعدل هذا النوع سماعه غير مصروف مع علة العلمية فقط، فيقدر فيه العدل لئلا يترتب المنع على علة واحدة فلو سمع مصروفا لم يحكم بعدله، كأدد، وكذا غير العلم من اسم الجنس كنغر وصرد إلخ (حاشية الخضري 2/107).(7/9)
يا رسول الله(1) إنما في الحظائر عماتك وخالاتك وحواضنك(2) اللاتي كن يكفلنك ولو أنا ملحنا(3)
__________
(1) وعند البيهقي في "الدلائل" وقام خطيبهم زهير بن صرد فقال: يا رسول الله إنما في الحظائر من السبايا خالاتك وعماتك وحواضنك اللاتي كن يكفلنك "وعند الطبري" فقال رسول الله: "نساؤنا عماتك وخالاتك وحواضنك اللاتي كفلنك"، وعند الواقدي في المغازي 3/949-950 "وكان في الوفد عم النبي صلى الله عليه وسلم من الرضاعة، قال: يومئذ: يا رسول الله إنما في هذه الحظائر من كان يكفلنك من عماتك وخالتك وحواضنك، وقد حضناك في حجورنا وأرضعناك بثدينا، ولقد رأيتك مرضعا فما رأيت مرضعاً خيرا منك، ورأيتك فطيماً فيما رأيت فطيماً خيراً منك، ثم رأيتك شاباً، فما رأيت شاباً خيراً منك، وقد تكاملت فيك خلال الخير، ونحن مع ذلك أهلك وعشيرتك فامنن علينا من الله عليك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قد استأنيت بكم حتى ظننت أنكم لا تقدمون، وقد قسم السبي وجرت فيهم السهمان".
الحديث، وعنده أيضا "ويقال: أن أبا الصرد زهير بن صرد قال يومئذ: إنما في هذه الحظائر أخواتك وعماتك وبنات عماتك، وخالاتك وبنات خالاتك وأبعدهن قريب منك يا رسول الله، بأبي أنت وأمي إنهن حضنك في حجورهن وأرضعنك بثديهن، وتوركنك على أوراكهن، وأنت خير المكفولين".
(2) الحواضن: جمع حاضنة وهي التي تقوم بتربية الصبي والحضانة: بالفتح فعلها، والحضن: بالكسر الجنب وهما حضنان. (اللسان 16/178-279 ومختار الصحاح ص 142).
(3) قال ابن هشام: "ويروي ولو أنا ما لحنا الحارث بن أبي شمر أو النعمان ابن المنذر" أهـ. قلت: "وهي رواية البخاري في التاريخ الصغير".
والملح: بالفتح والكسر: الرضع و الممالحة المراضعة (النهاية لأبن الأثير 4/354، والروض الأنف للسهيلي 7/279).
وعند الطبراني في معجمه الكبير: 5/312 ولو أنا لحقنا الحارث بن أبي شمر والنعمان ابن المنذر، ثم نزل بنا منه إلخ.(7/10)
للحارث بن أبي شمير، أو النعمان بن المنذر، ثم نزل منا بمثل الذي نزلت به، رجونا عطفه وعائدته علينا وأنت خير المكفولين، قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أبناؤكم ونساؤكم أحب إليكم أم أموالكم؟"(1). فقالوا: "خيرتنا يا رسول الله بين أموالنا وأحسابنا، بل ترد إلينا نسائنا وأبناءنا(2) فهو أحب إلينا، فقال لهم: "أما ما كان لي ولبني عبد المطلب فهو لكم، وإذا ما أنا صليت الظهر بالناس(3)، فقوموا فقولوا: إنا نستشفع برسول الله إلى المسلمين، وبالمسلمين إلى رسول الله في أبنائنا ونسائنا، فسأعطيكم عند ذلك، وأسأل لكم، فلما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناس الظهر، قاموا فتكلموا(4)
__________
(1) وعند النسائي: فقال: "اختاروا من أموالكم أو من نسائكم وأبنائكم"، فقالوا: "قد خيرتنا بين أحسابنا وأموالنا، بل نختار نساءنا وأبناءنا".
وعند أحمد:"فقال:اختاروا بين نسائكم وأموالكم وأبنائكم،قالوا:خيرتنا بين أحسابنا وأموالنا، نختار أبناءنا" وعند البيهقي "نساؤكمو أبناؤكم أحب إليكم أم أموالكم؟ فقالوا: يا رسول الله خيرتنا بين أحبابنا وبين أموالنا أبناؤنا و نساؤنا أحب إلينا".
(2) وعند أحمد "بل ترد علينا نساؤنا و أبناؤنا بالبناء للمفعول، وعند الطبري: "بل ترد علينا أموالنا ونساؤنا" ولفظ (أموالنا خطأ) والصواب "أبناءنا ونساءنا" لأنه خيرهم بين الأموال والأحساب دون الجمع بينهما.
(3) وعند النسائي "فإذا صليت الظهر فقوموا فقولوا: إنا نستعين برسول الله على المؤمنين، أو المسلمين في نسائنا وأبنائنا" وعند أحمد "فإذا صليت بالناس الظهر" وعند الواقدي "وإذا صليت الظهر بالناس فقولوا: إنا لنستشفع برسول الله إلى المسلمين و بالمسلمين إلى رسول الله".
(4) عند النسائي: "قاموا فقالوا ذلك". وعند أحمد: "قال: ففعلوا".
وعند الطبراني: "قاموا فكلموه بما أمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم".
وعند البيهقي: "قاموا فقالوا ما أمرهم به رسول الله صلى الله عليه وسلم".
وعند الواقدي: "قاموا فتكلموا بالذي أمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم".
فقالوا: "إنا نستشفع برسول الله إلى المسلمين، وبالمسلمين إلى رسول الله".(7/11)
بالذي أمرهم به، فقال رسول اله صلى الله عليه وسلم: "وأما ما كان لي ولبني عبد المطلب فهو لكم"، فقال المهاجرون: "وما كان لنا فهو لرسول الله صلى الله عليه وسلم. وقالت الأنصار: وما كان لنا فهو لرسول الله صلى الله عليه وسلم(1). فقال الأقرع بن حابس: أما أنا وبنو تميم فلا. وقال عيينة بن حصن: أما أن وبنو فزازة فلا. وقال عباس بن مرداس: أما أنا وبنو سليم فلا. فقالت بنو سليم: بلى، ما كان لنا فهو لرسول الله(2). قال: يقول عباس بن مرداس لبنو سليم: وهنتموني(3)، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "أما من تمسك منكم بحقه من هذا السبي(4)، فله بكل إنسان ست فرائض(5)، من أول سبي أصيبه، فردوا إلى الناس أبنائهم ونسائهم" الحديث.
__________
(1) وعند الطبراني: "وقالت الأنصار مثل ذلك".
(2) وعند النسائي: "فقامت بنو سليم فقالوا: كذبت ما كان لنا فهو لرسول الله صلى الله عليه وسلم".
وعند أحمد: "قالت بنو سليم: لا ما كان لنا فهو لرسول الله صلى الله عليه وسلم".
وعند البيهقي: "فقالت بنو سليم: بل ما كان لنا فهو لرسول الله صلى الله عليه وسلم".
(3) وهنتموني: أضعفتموني وفي القاموس المحيط 4/276: وهنه وأوهنه ووهنه: أضعفه.
(4) وعند النسائي: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا أيها الناس ردوا عليهم نساءهم وأبناءهم فمن تمسك من هذا الفيء بشيء فله علينا ستة فرائض من أوّل شيء يفئه الله عز وجل علينا".
وعند أحمد: "فمن تمسك بشيء من الفيء فله علينا ستة فرائض من أول شيء يفيئه الله علينا".
وعند الطبراني: "فله ست قلائص من أول فيء نصيبه" وعند الواقدي: "وتمسكت بنو سليم مع الأقرع بالسبي، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم الفداء ست فرائض، ثلاث حقاق وثلاث جذاع".
(5) الفرائض: جمع فريضة: يريد به: البعير المأخوذة في الزكاة سمي به فريضة، لأنه الواجب على رب المال، ثم سمي البعير فريضة في غير الزكاة. (جامع الأصول 8/409).(7/12)
والحديث رواه أبو داود من طريق حماد بن سلمة عن ابن إسحاق مختصرا عقب حديث مروان بن الحكم والمسور بن مخرمة.
ورواه النسائي وأحمد كلاهما من طريق حماد بن سلمة بتمامه.
ورواه الطبري من طريق سلمة بن الفضل الأبرش.
والبيهقي من طريق يونس بن بكير كلاهما عن ابن إسحاق بتمامه.
ورواه أيضا أحمد من طريق إبراهيم بن سعد.
والبيهقي من طريق يونس بن بكير.
والطبراني من طريق محمد بن سلمة الباهلي ثلاثتهم عن ابن إسحاق إلى قوله "نسائهم و أبنائهم"(1).
ورواه البخاري في "التاريخ الصغير" من طريق عبد الله بن إدريس عن ابن إسحاق إلى قوله "ما كان لي ولبني عبد المطلب فهو لكم"(2).
وأورده الهيثمي، ثم قال: "رواه أبو داود باختصارٍ كثير، ورواه أحمد، ورجال أحد إسناديه ثقات"(3). اهـ.
والحديث رواه النسائي أيضا تاما كما بينت ذلك.
ويشهد له حديث المسور بن مخرمة ومروان بن الحكم(4).
ج-ما رواه الطبراني في معاجمه الثلاثة من حديث زهير بن صرد وهذا سياقه من المعجم الصغير قال:
210-حدثنا عبيد الله(5)
__________
(1) الطبراني المعجم الكبير 5/312.
(2) التاريخ الصغير ص 5 ورواه الواقدي أيضا في مغازيه 3/949-954. وتقدم تخريجه برقم (130) ص 227 وتحت حديث رقم (180) ص 371.
(3) مجمع الزوائد 6/187-188.
(4) تقدم الحديث في ص 435.
(5) عبيد الله بن رماحس - بضم الراء وفتح الميم وكسر الحاء المهملة وفي آخره سين مهملة- الجشمي- بضم الجيم وفتح الشين المعجمة - القيسي الرمادي الرملي.
قال الذهبي: روى عن زياد بن طارق، وعنه الأمير بدر الحمامي، وأبو القاسم الطبراني، وأحمد بن إسماعيل بن عاصم، وأبو سعيد بن الأعرابي والحسن بن زيد الجعفري، ومحمد بن إبراهيم بن عيسى المقدسي.
ثم قال الذهبي: وكان معمرا، رأيت للمتقدمين فيه جرحا، وما هو بمعتمد عليه (ميزان الاعتدال 2/90و3/6 والاستيعاب لابن عبد البر 1/577مع الإصابة، واللباب في تهذيب الأنساب لابن الأثير 2/35و36 ومعجم البلدان لياقوت 3/66 وتاريخ بغداد 7/105و106 وقد حصل في هذه الترجمة خطأ مطبعي في معاجم الطبراني الثلاثة وغيرها، في كلمة (رماحس) فوقعت في المعجم الصغير (رما حبيب) وفي الكبير (رماحي) وفي الأوسط (رماجس) بالجيم، وكذا في لسان الميزان لابن حجر.
وفي شرح المواهب اللدنية (دماحش) والصواب ما أثبتناه.(7/13)
بن رماحس القيسي برمادة الرملة(1) سنة أربع وسبعين ومائتين، حدثنا أبو عمر زياد(2) بن طارق وكان قد أتت عليه(3) عشرون ومائة سنة سمعت أبا جرول زهير(4) بن صرد الجشمي يقول: لما أسرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين يوم هوزان وذهب يفرق السبي والشاء(5) أتيته وأنشأت أقول هذا الشعر:
أمنن علينا رسول الله في كرم ... فإنك المرء نرجوه وننتظر(6)
أمنن على بيضة قد عاقها قدر ... مشتت شملها في دهرها غير(7)
أبقت لنا الدهر هتافا على حزن ... على قلوبهم الغَمَّاء والغَمَر(8)
__________
(1) هي رمادة فلسطين كما في معجم البلدان. وفي شرح المواهب الدنية (بزيادة الرملة) الزاي والياء وهو خطأ.
(2) زياد بن طارق بن أبي جرول، نكرة لا يعرف، تفرد عنه عبيد الله ابن رماحس (ميزان الإعتدال 2/90).
وقال ابن حجر: "وقد ضبطه الدارقطني في المؤتلف والمختلف بفتح الزاي وتشديد الياء، فكان ينبغي إفراده. ثم قال: وقال أبو منصور البارودي في كتاب "معرفة الصحابة" أنه مجهول" (لسان الميزان 2/495).
(3) في المعجم الكبير: "وكان قد لبث عليه عشرون ومائة سنة".
(4) تقدمت ترجمته ص (441) وعلى أنه يكنى أبا صرد أيضاً.
(5) في المعجم الكبير: "وذهب يفرق الشبان والسبي". والظاهر أنه خطأ؛ لأن الشبان من جملة السبي.
(6) أمنن: بهمزة مضمومة فميم ساكنة فنون مضمومة فأخرى ساكنة، أي: أحسن إلينا من غير طلب ثواب ولا جزاء. (ورسول الله) منادى بحرف نداء محذوف، (والمرء) بفتح الميم وبالراء والهمزة (وأل) لاستغراق أفراد الجنس أي أنت المرء الجامع للصفات المحمودة المتفرقة في الرجال.
(7) بيضة) أهل العشيرة، و(غير) بكسر المعجمة وفتح الياء: تغير حال وانتقالها من صلاح لفساد.
(8) الدهر) نصب معمول (أبقت)، (وهتافا) بفتح الهاء وفوقية وفاء أي ذا هتف أي صوت مشتمل على (حزن) بفتحتين. (والغماء) بفتح المعجمة وشد الميم أي الحزن لأنه يغطي السرور. (والغمر) بفتح المعجمة وتكسر وميم مفتوحة وراء: الحقد.(7/14)
إن لم تداركهم نعماء تنشرها ... يا أرجح الناس حلما حين يختبر(1)
أمنن على نسوة قد كنت ترضعها ... إذ فوك تملأه من مخضها الدرر(2)
إذ أنت طفل صغير كنت ترضعها ... وإذ يزينك ما تأتي وما تذر(3)
لاتجعلنا كمن شالت نعماته ... واستبق منه فإنا معشر زهر(4)
إنا لنشكر للنعماء إذ كفرت ... وعندنا بعد هذا اليوم مدخر(5)
فألبس العفو من قد كنت ترضعه ... من أمهاتك إن العفو مشتهر(6)
يا خير من مرحت كمت الجياد له ... عند الهياج إذا ما استوقد الشرر(7)
إنا نؤمل عفوا منك تلبسه ... هذى البرية إذ تعفو وتنتصر(8)
__________
(1) إن لم تداركهم نعماء تنشرها) عليهم هلكوا فجواب إن محذوف أو شرط في (أبقيت) فلا حذف.
(2) ترضعها) بفتح الفوقية: و(مخضها) بفتح الميم وسكون المعجمة: لبنها الخالص، و(الدرر) بكسر المهملة وفتح الراء الأولى: كثرة اللبن وسيلانه جمع درة.
(3) يزينك) بفتح الياء وكسر الزاي، و(تذر) أي تترك.
(شرح المواهب اللدنية 4/4-5)
(4) لاتجعلنا) بتشديد النون، و(شالت) ارتفعت، (والنعامة) باطن القدم، ومعنى شالت نعامته أي هلك.
(وزهر) بضمتين. والأزهر من الرجال: الأبيض النير الحسن وهو أحسن البياض كأنه له بريقا (اللسان 5/430).
(5) "النعماء" بفتح النون وإسكان العين وميم والمد: النعمة.
(إذ كفرت) بالبناء للمجهول، وكفران النعمة: جحدها وسترها وعدم الاعتراف بها لمسديها، و(مدخر) بميم مضمومة فمهملة مشددة فمعجمة مفتوحتين فراء.
(6) فألبس) بفتح الهمزة وكسر الموحدة، (إن العفو مشتهر) أي حسنه بين الناس.
(7) مرحت) بفتح الميم والراء والحاء المهملة: نشطت و(كمت) بضم الكاف وسكون الميم وفوقية جمع كميت و(الجياد) بكسر الجيم و(الهياج) بكسر الهاء وخفة التحتية وجيم: القتال، والكميت من الخيل بين الأسود والأحمر.
(انظر: المصباح المنير 2/654-655).
(8) نؤمل) نرجو، و(تلبسه) بضم الفوقية وسكون اللام وكسر الموحدة، (هذى البرية) إشارة للنسوة التي طلب العفو عنهن.
ووقع في المعجم الكبير للطبراني: (هادي البرية) بهاء ودال مهملة وهو منادي أي يا هادي البرية، (إذ تعفو وتنتصر) أي فتجمع بين الحسنين النصر والعفو.(7/15)
فاعفو عفا الله عما أنت راهبه ... يوم القيامة إذ يهدى لك الظفر(1)
قال: فلما سمع النبي صلى الله عليه وسلم هذا الشعر، قال صلى الله عليه وسلم: "ما كان لي ولبني عبد المطلب فهو لكم". وقالت قريش: "ما كان لنا فهو لله ولرسوله"، وقالت الأنصار: "ما كان لنا فهو لله ولرسوله". لم يرو عن زهير بن صرد بهذا التمام إلا بهذا الإسناد. تفرد به عبيد الله(2).
ومن طريقه رواه الخطيب في تاريخه(3).
قال الهيثمي: "رواه الطبراني في ثلاثة، وفيه من لم أعرفهم"(4).
والحديث أعله الذهبي بالجهالة، والانقطاع، أما الجهالة: فقد قال عن عبيد الله بأنه لم يعرف فيه جرحا ولا تعديلا، وقال عن زياد بأنه نكرة لا يعرف.
وأما الانقطاع فقد قال في أثناء ترجمة عبيد الله: ثم رأيت الحديث الذي رواه، له علة قادحة.
__________
(1) فاعفو) بواو الإشباع أو حكي لغة من يجري المعتل مجرى الصحيح.
وفي المعجم الكبير للطبراني "فاعف" بحذف الواو و(راهبه) بموحدة أي خائفة، والظفر: الفوز (شرح المواهب اللدنية للزرقاني 4/5).
وقد وردت بعض هذه الأبيات من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، عند الطبراني في المعجم الكبير 5/312 من طريق محمد بن سلمة عن ابن إسحاق، والبيهقي في الدلائل 3/54-55 من طريق يونس بن بكير عن ابن إسحاق.
وساق السهيلي هذه الأبيات في الروض الأنف 7/280.
ثم قال: لم يذكر ابن إسحاق شعر زهير في النبي صلى الله عليه وسلم يوم حنين في رواية البكائي، وذكره في رواية إبراهيم بن سعد عنه.
قلت: "وهذه الرواية ساقها ابن عبد البر في الاستيعاب 1/575-577 مع الإصابة من رواية إبراهيم بن سعد عن ابن إسحاق".
(2) المعجم الصغير: 1/236-237. والكبير: 5/311-312. والأوسط 2/244 رقم 77 "مجمع البحرين".
(3) تاريخ بغداد: للخطيب البغدادي7/105-106.
(4) مجمع الزوائد 6/186-187.(7/16)
قال أبو عمر بن عبد البر في شعر زهير: "رواه عبيد الله بن رماحس عن زياد بن طارق، عن زياد بن صرد بن زهير، عن أبيه، عن جده زهير ابن صرد، فعمد عبيد الله إلى الإسناد وأسقط رجلين منه، وما قنع بذلك حتى صرح بأن زياد بن طارق قال حدثني زهير، كذا في معجم الطبراني وغيره بإسقاط اثنين من سنده"(1).
ورد هذا ابن حجر فقد نقل قول الذهبي هذا، ثم قال: "وهذا الذي قاله المؤلف(2) تحكم لا دليل له عليه ولا له فيما حكاه عن ابن عبد البر ترجمة قائمة".
وسياقه يقتضي أن هذا كلّه كلام ابن عبد البر، وليس كذلك، بل من قوله، فعمد عبيد الله إلى آخر الترجمة، قاله المؤلف من عند نفسه بانيا على صحة ما حكاه ابن عبد البر.
ثم ساق ابن حجر بإسناده إلى كتاب "الاستيعاب" لابن عبد البر أنه قال: "زهير بن صرد الجشمي السعدى من بني سعد بن بكر وقيل يكنى أبا جرول كان رئيس قومه وقدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم في وفد هوزان إذ فزع من حنين فساق أبو عمر القصة، ثم أسندها من طريق ابن إسحاق، ثم قال في آخره إلا أن في الشعر بيتين لم يذكرهما محمد بن إسحاق في حديثه، وذكرهما عبيد الله بن رماحس عن زياد بن طارق عن زياد بن صرد بن زهير بن صرد عن أبيه عن جده زهير بن صرد أبي جرول أنه حدثه هذا الحديث" انتهى كلام ابن عبد البر.
__________
(1) ميزان الاعتدال 3/6.
(2) يريد الذهبي.(7/17)
ثم قال ابن حجر: "فهذا كما تراه حكاه ابن عبد البر مرسلا ولم يسق إسناده إلى عبيد الله بن رماحس حتى يعلم…ثم قال: والحديث رواه عن عبيد الله الستة(1) الذين ذكرهم المؤلف(2)، وأبو بكر محمد ن أحمد بن محمويه العسكرية وأبو الحسين أحمد بن زكريا، وعبيد الله بن علي بن خواص، فهؤلاء عدد من الثقات رووه عن عبيد الله بن رماحس أنه قال: حدثنا زياد قال سمعت أبا جرول زهير بن الصرد، فالظاهر أن قولهم أولى بالصواب، والعدد الكثير أولى بالحفظ من الواحد لا سيما وهو لم يسم.
ثم أورد ابن حجر عدة طرق لهذا الحديث عن الطبراني وغيره من العلماء كلها تدور على عبيد الله بن رماحس، ثم قال في نهاية تلك الطرق فكملت ذلك عندي عدة من رواه عن عبيد الله بن رماحس غير الطبراني أربعة عشر نفسا".
ثم قال: "فالحديث حسن الإسناد، لأن راوييه مستوران لم يتحقق أهليتهما ولم يجرحا، ولحديثهما شاهد قوي(3)، وصرحا بالسماع، وأما رميا بالتدليس لا سيما تدليس التسوية الذي هو أفحش أنواع التدليس، إلا في القول الذي حكيناه آنفا عن ابن عبد البر، ولا يثبت ذلك إن شاء الله".اهـ. كلام ابن حجر بتصرف(4).
وخلاصة القول في هذا أن ابن حجر يرى أن الحديث متصل وأنه من ثلاثيات الطبراني(5) وهو حسن بالمتابعة، وأن ما قاله ابن عبد البر عن هذا الحديث بأنه منقطع قول بدون برهان. وأن ما بناه الذهبي على قول ابن عبد البر في تضعيف هذا الحديث غير سديد.
__________
(1) انظر حديث (210) تعليقه (5) ص 444.
(2) يريد الذهبي.
(3) من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عند ابن إسحاق انظر ص 441-444.
(4) لسان الميزان 4/99-104 وفتح الباري 8/34 والإصابة 1/553 والاستيعاب 1/575-577 مع الإصابة، والمواهب اللدنية 1/234-235، وشرح المواهب 4/4-6).
(5) أي أن بينه و بين النبي صلى الله عليه وسلم فيه ثلاثة أنفس.(7/18)
ما رواه ابن سعد والطبري من مرسل سعيد بن المسيب وهذا سياقه عند الطبري: حدثنا ابن عبد الأعلى، قال ثنا محمد بن ثور عن معمر عن الزهري عن سعيد بن المسيب، أنهم أصابوا يومئذ ستة آلاف سبي، ثم جاء قومهم مسلمين بعد ذلك، فقالوا: يا رسول الله، أنت خير الناس وأبر الناس، وقد أخذت أبناءنا ونساءنا وأموالنا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن عندي من ترون، و إن خير القول أصدقه، اختاروا إما ذَرَارِيَّكم، ونساءكم، وإما أموالكم"، قالوا: ما كان نعدل بالأحساب شيئا.
فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "إن هؤلاء قد جاءوني مسلمين وإنا خيرناهم بين الذراري والأموال، فلم يعدلوا بالأحساب شيئا، فمن كان بيده منهم شيء، فطابت نفسه أن يرده فليفعل ذلك، ومن لا، فليعطنا، وليكن قرضا علينا حتى نصيب شيئا فنعطيه مكانه"، فقالوا: يا نبي الله رضينا وسلمنا، فقال: "إني لا أدري، لعل منكم من لا يرضى، فمروا عرفاءكم فليرفعوا ذلك إلينا" فرفعت إليه العرفاء أن قد رضوا وسلموا(1).
والحديث رواه عبد الرزاق عن الزهري عن سعيد بن المسيب وعروة بن الزبير غير أنه فصل قول كل واحد عن الآخر، وهذا سياقه:
فقال: قال الزهري: وأخبرني سعيد بن المسيب أن النبي صلى الله عليه وسلم سبى يومئذ ستة آلاف سبي من امرأة وغلام، فجعل عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: أبا سفيان بن حرب.
__________
(1) جامع البيان 10/102، والطبقات الكبرى لابن سعد 2/155.
وتقدم برقم (107).(7/19)
ثم قال: قال الزهري: وأخبرني عروة بن الزبير قال لما رجعت هوزان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا: أنت أبر الناس وأوصلهم، وقد سبي أموالنا ونساؤنا، وأخذت أموالنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إني كنت استأنيت بكم ومعي من ترون، وأحب القول إلي أصدقه، فاختاروا إحدى الطائفتين، إما المال، وإما السبي" فقالوا: "يا رسول الله: أما إذا خيرتنا بين المال وبين الحسب، فإنا نختار الحسب- أو قال: ما كنا نعدل بالحسب شيئا – فاختاروا نسائهم وأبناءهم، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم وخطب في المسلمين، "فأثنى على الله بما هو أهله، ثم قال: أما بعد فإن إخوانكم هؤلاء قد جاءوا مسلمين، أو مستسلمين وإنا قد خيرناهم بين الذراري والأموال، فلم يعدلوا بالأحساب، وإني قد رأيت أن تردوا إليهم أبناءهم ونساءهم فمن أحب منكم أن يطيب ذلك فليفعل، ومن أحب أن يكتب علينا حصته من ذلك حتى نعطيه من بعض ما يفيئه الله علينا فليفعل، قال: فقال المسلمون: طيبنا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: إني لا أدري من أذن في ذلك ممن لم يأذن، فأمروا عرفاءكم فليرفعوا ذلك إلينا، فلما رفعت العرفاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الناس قد سلموا ذلك وأذنوا فيه، رد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى هوزان نساءهم وأبناءهم وخير رسول الله صلى الله عليه وسلم نساء كان أعطاهن رجالا من قريش بين أن يلبثن عند من عنده، وبين يرجعن إلى أهلن".
قال الزهري: "فبلغني أن امرأة منهم كانت تحت عبد الرحمن بن عوف فخيرت فاختارت أن ترجع إلى أهلها وتركت عبد الرحمن، وكان معجبا بها، وأخرى عند صفوان بن أمية فاختارت أهلها".
قال الزهري: "فأخبرني سعيد بن المسيب قال: قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قسم بين المسلمين ثم اعتمر من الجعرانة بعد ما قفل من غزوة حنين، ثم انطلق إلى المدينة، ثم أمر أبا بكر على تلك الحجة(1)
__________
(1) مصنف عبد الرزاق 5/380-382.
المشهور أن الأمير على تلك الحجة كان عتاب بن أسيد.
انظر تفسير ابن كثير 2/332 وص (723).(7/20)
. ما رواه ابن أبي شيبة من مرسل عبد الله بن عبيد وهذا سياقه:
211- حدثنا عبيد الله(1) بن موسى قال: أنا موسى(2) عن أخيه عبد الله(3) بن عبيد أن نفرا من هوزان جاءوا بعد الوقعة، فقالوا: يا رسول الله إنا نرغب في رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: في أي ذلك ترغبون أفي الحسب أم في المال؟
قالوا: بل في الحسب والأمهات والبنات، وأما المال فسيرزقنا الله، قال: أما أنا فأرد ما في يدي وأيدي بني هاشم من عورتكم، وأما الناس فسأشفع لكم إليهم، إذا صليت إن شاء الله، فقوموا وقولوا كذا وكذا، فعلمهم ما يقولون، ففعلوا ما أمرهم به، وشفع لهم ولم يبق أحد من المسلمين إلا رد ما في يده من عورتهم غير الأقرع بن حابس وعيينة بن حصن، امسكا الأموال التي في أيديهما(4). والحديث مرسل، وفيه موسى بن عبيد وهو ضعيف.
وهذه الآثار يقوي بعضها بعضاً وتعتضد بالأحاديث السابقة واللاحقة.
ما رواه مسلم من حديث عبد الله بن عمر في إعطاء عمر بن الخطاب جارية من سبي هوزان وهذا سياقه:
__________
(1) عبيد الله بن موسى بن أبي المختار تقدم في حديث (70).
(2) موسى بن عبيدة - بضم أوله - ابن نشيط - بفتح النون وكسر المعجمة بعدها تحتانية ساكنة ثم مهملة - الربذي - بفتح الراء والموحدة ثم المعجمة، أبو عبد العزيز المدني، ضعيف، ولا سيما في عبد الله بن دينار، وكان عابدا من صغار السادسة (ت153)/ ت ق. (التقريب 2/286، وتهذيب التهذيب 10/356-360).
(3) عبد الله بن عبيدة بن نشيط، أخو الذي قبله ثقة من الرابعة قتلته الخوارج بقديد سنة (130)/ خ (التقريب 1/431 وتهذيب التهذيب 5/309).
(4) تاريخ ابن أبي شيبة ص 91ب.(7/21)
212- حدثني أبو طاهر(1) أخبرنا عبد الله بن وهب حدثنا جرير ابن حازم أن أيوب(2) حدثه أن نافعا حدثه أن عبد الله بن عمر حدثه أن عمر بن الخطاب سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بالجعرانة بعد أن رجع من الطائف فقال رسول الله إني نذرت في الجاهلية أن أعتكف يوما في المسجد الحرام فكيف ترى؟ قال: "اذهب فاعتكف يوما"(3). قال: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أعطاه جارية من الخمس فلما أعتق رسول الله صلى الله عليه وسلم سبايا الناس سمع عمر بن الخطاب أصواتهم يقولون أعتقنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ما هذا؟ فقالوا: أعتق رسول الله صلى الله عليه وسلم سبايا الناس. فقال عمر: يا عبد الله! اذهب إلى تلك الجارة فخل سبيلها(4).
__________
(1) أبو طاهر: هو أحمد بن عمرو بن السرح - بمهملات - المصري التهذيب 1/64.
(2) هو أيوب السختياني (تهذيب التهذيب 1/397 و10/413).
(3) سياتي الكلام على نذر عمر الإعتكاف في الأحكام تحت حديث(271) ص 618.
(4) مسلم: الصحيح 3/1277 كتاب الإيمان: باب النذر الكافر وما يفعل فيه إذا أسلم ورواه البيهقي في السنن الكبرى 6/338 من طريق الحسن بن سفيان ثنا أبو طاهر ثنا ابن وهب ثنا جرير بن حازم به. ثم قال: "رواه مسلم في الصحيح عن أبي طاهر واستشهد به البخاري".(7/22)
والحديث رواه البخاري من طريق حماد بن زيد عن أيوب عن نافع أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: يا رسول الله إنه كان علي اعتكاف يوم الجاهلية، الحديث وفيه: "قال: وأصاب عمر جاريتين(1) من سبي حنين فوضعهما في بعض بيوت مكة، قال فمن رسول الله صلى الله عليه وسلم على سبي حنين فجعلوا يسعون في السكك، فقال عمر: يا عبد الله انظر ما هذا؟
فقال: "من رسول الله صلى الله عليه وسلم على السبي، قال: اذهب فأرسل الجاريتين". الحديث(2).
فقد روى الحديث هنا مرسلا بإسقاط ابن عمر، ثم قال: ورواه معمر عن أيوب عن نافع عن ابن عمر في النذر.
ثم أعاد حديث حماد بن زيد في المغازي مرسلا أيضا ثم اتبعه برواية معمر عن أيوب موصولا، ولكن في قصة النذر فقط.
ثم قال: وقال بعضهم: حماد(3) عن أيوب عن نافع عن ابن عمر.
ورواه جرير بن حازم وحماد بن سلمة عن أيوب عن نافع عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم(4)
__________
(1) في بعض الروايات أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطاه جارية فقط، قال ابن حجر: "يجمع بين الروايات بأن عمر أعطى إحدى جاريتيه ابنه عبد الله بن عمر، كما هو في رواية ابن إسحاق" (فتح الباري8/36) وانظر رواية ابن إسحاق حديث(213)ص455.
(2) البخاري: الصحيح 4/74 كتاب فرض الخمس، باب ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يعطي المؤلفة قلوبهم وغيرهم من الخمس ونحوه والحديث اشتمل على ثلاث مسائل:
نذر عمر بن الخطاب الاعتكاف في الجاهلية، واعطاه جاريتين من سبي هوزان، وعمرة رسول الله صلى الله عليه وسلم مكن الجعرانة.
(3) حماد: هنا هو ابن زيد، فإنه ذكر عقبه رواية حماد بن سلمة وهي مخالفة لسياقه. (فتح الباري 8/35).
(4) البخاري: الصحيح 5/127 كتاب المغازي، باب ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئا إلخ. وانظر سياق الحديث تحت رقم (271).
ورواه مسلم في الصحيح 3/1278 كتاب الإيمان، باب نذر الكافر وما فيه إذا سلم عقب رواية جرير بن حازم من طريق عبد الرزاق عن معمر به، وقال: اعتكاف يوم، ثم ذكر بمعنى حديث جرير بن حازم. ورواه أحمد في مسنده 2/35 عن عبد الرزاق عن معمر به ولفظه:
"قال: لما قفل النبي صلى الله عليه وسلم من حنين سأل عمر عن نذر كان نذره في الجاهلية، اعتكاف يوم فأمره به، فانطلق عمر بين يديه، قال: وبعث معي بجارية كان أصابها يوم حنين، قال: فجعلتاها في بعض بيوت الأعراب حين نزلت فإذا أنا بسبي حنين قد خرجوا يسعون ويقولون: أعتقنا رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: فقال عمر لعبد الله: اذهب فأرسلها، قال: فذهبت فأرسلتها".(7/23)
اهـ.
قال ابن حجر: "كذا رواه حماد بن زيد عن أيوب عن نافع مرسلا ليس فيه ابن عمر، وسيأتي في المغازي أن البخاري نقل أن بعضهم(1) رواه عن حماد بن زيد موصولا، وهو عند مسلم وابن خزيمة لكن في القصة الثالثة المتعلقة بعمرة الجعرانة، لا في جميع الحديث"(2).
وذكر هنا(3) أن معمرا وصله أيضا عن أيوب، ورواية معمر وصلها في المغازي وهو في قصة النذر فقط(4).
وذكر في المغازي أيضا أن حماد بن سلمة رواه موصولا(5)، وهو أيضا في النذر فقط.
وقال في المغازي هكذا ذكر البخاري حديث حماد بن زيد عن أيوب مرسلا مختصرا، ثم عقبه برواية معمر عن أيوب عن نافع عن ابن عمر موصولا تاما.
وقد عاب الإسماعيلي جمعهما(6) لأن قوله: "لما قفلنا من حنين" لم يقع في رواية حماد بن زيد أي الرواية الأولى المرسلة.
__________
(1) هذا البعض المبهم هو أحمد بن عبدة الضبي، انظر ص (454).
(2) رواه مسلم في الصحيح 3/1278 كتاب الأيمان، باب نذر الكافر، وما يفعل فيه إذا أسلم، وابن خزيمة في صحيحه 3/347 كلاهما عن أحمد بن عبدة الضبي حدثنا حماد بن زيد حدثنا أيوب عن نافع قال: ذكر عند ابن عمر عمرة رسول الله صلى الله عليه وسلم من الجعرانة فقال: لم يعتمر منها، قال: وكان عمر نذر اعتكاف ليلة في الجاهلية. ثم ذكر نحو حديث جرير بن حازم ومعمر عن أيوب، لفظ مسلم.
(3) يريد في كتاب فرض الخمس 4/74.
(4) انظر: الرواية في تعليقه (3) من ص 452.
(5) وراوية حماد بن سلمة أخرجها أحمد في مسنده 2/153.
فقال حدثنا عبد الصمد وعفان قالا: ثنا حماد بن سلمة أنا أيوب عن نافع عن ابن عمر أن عمر رضي الله عنه: سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجعرانة فقال: "إني كنت نذرت في الجاهلية أن أعتكف في المسجد الحرام".
قال عبد الصمد: "ومعه غلام من سبي هوزان فقال له: اذهب فاعتكف، فذهب فاعتكف فبينما هو يصلي إذ سمع الناس يقولون: أعتق رسول الله سبي هوزان، فدعا الغلام فأعتقه.
(6) يعني رواية حماد بن زيد ورواية معمر.(7/24)
والجواب أن البخاري إنما نظر إلى أصل الحديث لا إلى النقص و الزيادة في ألفاظ الرواة.
وإنما أورد طريق حماد بن زيد المرسلة للإشارة إلى أن روايته مرجوحة، لأن جماعة من أصحاب شيخه أيوب خالفوه فيه فوصلوه، بل بعض أصحاب حماد بن زيد رواه عنه موصولا(1)، كما أشار إليه البخاري أيضاً هنا(2).
على أن رواية حماد بن زيد وإن لم يقع فيها ذكر القفول من حنين صريحا لكنه فيها ضمنا كما سأبينه، وقد وقع في رواية بعضهم، ما ليس عند معمر أيضا مما هو ادخل في المقصود الباب كما سأبينه، فأما بقية اللفظ الرواية الأولى(3) فقد ساقها في فرض الخمس بلفظ "أن عمر قال لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أنه كان عليَّ اعتكاف ليلة(4) في الجاهلية فأمره أن يفي به.
قال: "وأصاب عمر جاريتين من سبي حنين فوضعهما في بعض بيوت مكة". الحديث.
وكذا أورده الإسماعيلي(5) من طريق سليمان(6) بن حرب وأبي ربيع الزهراني وخلف بن هشام كلهم عن حماد بن زيد عن أيوب عن نافع "أن عمر كان عليه اعتكاف ليلة في الجاهلية، فلما نزل النبي صلى الله عليه وسلم بالجعرانة سأله عنه، فأمره أن يعتكف" لفظ أبي الربيع.
ثم قال ابن حجر: قلت: "وكان نزول النبي صلى الله عليه وسلم بالجعرانة بعد رجوعه من الطائف بالاتفاق، وكذا سبي حنين إنما قسم بعد الرجوع منها، فاتحدت رواية حماد بن زيد ومعمر معنى، وظهر رد ما اعترض به الإسماعيلي".
__________
(1) هو أحمد بن عبدة الضبي، انظر ص 452 تعليقة (4).
(2) يريد في المغازي.
(3) يريد رواية حماد بن زيد.
(4) لفظ الحديث "اعتكاف يوم".
(5) الإسماعيلي: هو أبو بكر أحمد بن إبراهيم بن إسماعيل، تقدم
(6) سليمان بن حرب الأزدي، الواشحي - بمعجمة ثم مهملة - البصري ثقة إمام حافظ، وأبو ربيع الزهراني هو: سليمان بن داود العتكي ثقة، وخلف بن هشام بن ثعلب البغدادي المقري ثقة (انظر تهذيب التهذيب 3/156 و4/178 و190، والتقريب 1/226 و322 و324).(7/25)
وأما رواية من رواه عن حماد بن زيد موصولا فأشار إليه البخاري بقوله: "وقال بعضهم عن حماد إلخ" فالمراد بحماد بن زيد، فإنه ذكر عقبه رواية حماد بن سلمة وهي مخالفة لسياقه(1).
والمراد بالبعض المبهم: أحمد بن عبدة الضبي، كذلك أخرجه الإسماعيلي من طريقه فقال: أخبرني القاسم هو ابن زكريا حدثنا أحمد بن عبدة الضبي حدثنا حماد بن زيد عن أيوب عن نافع عن ابن عمر قال: "كان عمر نذر اعتكاف ليلة في الجاهلية، فسأل النبي - صلى الله عليه وسلم - فأمره أن يفي به".
وكذا أخرجه مسلم وابن خزيمة(2) عن أحمد بن عبدة وذكرا فيه إنكار ابن عمر عمرة الجعرانة، ولم يسق مسلم لفظه(3).
وفي هدي الساري قال: قال الدارقطني حديث حماد بن زيد عن أيوب عن نافع أن عمر أصاب جاريتين من سبي حنين، وفي أوله أن عمر قال: نذرت نذرا هكذا أخرجه مرسلا.
ووصل حديث النذر حماد بن سلمة وجرير بن حازم وجماعة عن أيوب عن نافع عن ابن عمر وهو صحيح.
ووصل حديث الجاريتين جرير بن حازم عن أيوب وقول حماد أصح(4).
ثم عقب ابن حجر على هذا فقال: قلت: "إذا صح أصل الحديث صح قول من وصله وقد بين البخاري الخلاف فيه، وقد قدمناه أنه في مثل هذا يعتمد على القرائن والله الموفق"(5).اهـ.
ما أخرجه أحمد والطبري من طريق ابن إسحاق وهذا لفظ أحمد:
__________
(1) رواية حماد بن سلمة عند أحمد انظر ص 453 تعليقه (3).
(2) انظر: الرواية في ص 453 تعليقة (1).
(3) فتح الباري 6/252-253 و8/35-36.
(4) يعني الإرسال. وحماد: يعني ابن زيد.
(5) هدي الساري ص364(7/26)
213- حدثنا يعقوب(1) ثنا أبي(2) عن ابن إسحاق حدثني نافع مولى عبد الله بن عمر عن عبد الله بن عمر قال: "أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم عمر بن الخطاب جارية من سبي هوزان فوهبها لي فبعثت بها إلى أخوالي من بني جمح(3) ليصلحوا لي منها حتى أطوف بالبيت ثم آتيهم، وأنا أريد أن أصيبها(4) إذا رجعت إليها، قال: فخرجت من المسجد حين فرغت فإذا الناس يشتدون فقلت: ما شأنكم؟ قالوا: رد علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم أبناءنا و نساءنا، قال: قلت: تلك صاحبتكم في بني جمح فاذهبوا فخذوها، فذهبوا فأخذوها(5).
والحديث في سيرة ابن هشام عن ابن إسحاق لكن ذكر قبله مرسل أبي وجزة السعدي ثم ذكر عقبه حديث عبد الله بن عمر، فقال: وحدثني أبو وجزة(6) يزيد بن عبيد السعدي: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطى علي بن أبي طالب رضي الله عنه جارية، يقال لها ريطة بنت هلال بن حيان بن عميرة بن هلال بن ناصرة بن قصية بن نصر بن سعد بن بكر، وأعطى عثمان بن عفان جارية، يقال لها زينب بنت حيان بن عمرو بن حيان، وأعطى عمر بن الخطاب جارية فوهبها لعبد الله بن عمر ابنه.
ثم قال ابن إسحاق: "فحدثني نافع مولى عبد الله بن عمر، عن عبد الله بن عمر، قال: "بعثت بها إلى أخوالي من بني جمح" الحديث(7).
__________
(1) هو ابن إبراهيم بن سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف الزهري.
(2) هو إبراهيم بن سعد.
(3) جمح: بضم الجيم وفتح الميم وفي آخره حاء مهملة هو: جمح بن عمرو بن هصيص ابن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النصر (اللباب في تهذيب الأنساب 1/291).
(4) أن أطأها بملك اليمين.
(5) مسند أحمد 2/69 وتاريخ الرسل والملوك 3/88.
(6) ثقة تقدم في حديث (122).
(7) سيرة ابن هشام 2/490 وتاريخ الرسل والملوك للطبري 3/87 والروض الأنف للسهيلي7/243 ودلائل النبوة للبيهقي 3/55 ب.(7/27)
قال ابن إسحاق: "وأما عيينة بن حصن، فأخذ عجوزا من عجائز هوزان، وقال حين أخذها: أرى عجوزا إني لأحسب لها في الحي نسبا، وعسى أن يعظم فداؤها.
فلما رد رسول الله صلى الله عليه وسلم السبايا بست فرائض، أبى أن يردها، فقال له زهير أبو صرد: خذها عنك، فوالله ما فوها ببارد ولا ثديها بناهد(1)، ولا بطنها بوالد، ولا زوجها بواجد(2)، ولا درها بماكد(3)، فردها بست فرائض حين قال هل زهير ما قال: "فزعموا أن عيينة لقي الأقرع بن حابس، فشكا إليه ذلك فقال: إنك والله ما أخذتها بيضاء(4) غريرة، ولا نصفا وثيرة".
__________
(1) ولا ثديها بناهد) أي مرتفع يقال نهد الثدي، إذا ارتفع عن الصدر وصار له حجم.
(2) بواجد) أي: أن زوجها لا يحزن عليها إذا ذهبت لأنها عجوز لا ولد فيها ومع ذلك فهي سيلطة اللسان فهو لا يحبها.
(3) ولا درها بماكد) أي دائم، والموكد: التي يدوم لبناها ولا ينقطع.
(4) بيضاء غريرة) الغريرة هي الشابة الحديثة التي لم تجرب الأمور (ولا نصفا وثيرة) النصف بالتحريك: المرأة بين الحداثة و المسنة، والوثيرة من النساء السمينة.
(النهاية لابن الأثير 3/355 و4/348-349 و5/135 و156، الروض الأنف للسهيلي 7/284 والقاموس المحيط للفيروز آبادي 2/152، و3/200.(7/28)
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لوفد هوزان، وسألهم عن مالك بن عوف(1) ما فعل؟ فقالوا هو في الطائف مع ثقيف، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أخبروا مالكاً أنه إن أتاني مسلما رددت عليه أهله وماله، وأعطيته مائة من الإبل"، فأتى مالكا بذلك، فخرج إليه من الطائف، وقد كان مالكا خاف ثقيف على نفسه أن يعملوا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له ما قال، فيحبسوه فأمر براحلته فهيئت له، وأمر بفرس له، فأتى به إلى الطائف، فخرج ليلا، فجلس على فرسه، فركض حتى أتى راحلته حيث أمر بها أن تحبس، فركبها، فلحق برسول الله صلى الله عليه وسلم، فأدركه بالجعرانة أو بمكة، فرد عليه أهله وماله، وأعطاه مائة من الإبل، فأسلم فحسن إسلامه.
فقال مالك بن عوف حين أسلم:
ما إن رأيت ولا سمعت بمثله ... في الناس كلهم بمثل محمد
أوفى وأعطى للجزيل إذا اجْتُدِى(2) ... ومتى تشأ يخبرك عما في غد
وإذا الكتيبة عردت أنيابها ... بالسِّمَهْرِيّ وضرب كل مهند(3)
فكأنه ليث على أشباله ... وسط الهَباء خادر في مرصد(4)
فاستعمله رسول الله صلى الله عليه وسلم على من أسلم من قومه، وتلك القبائل: ثمالة، وسلمة(5)
__________
(1) هو رئيس هوزان في غزوة حنين.
(2) إذا اجتدي: أي إذا طلب منه شيء.
(3) عردت أنيابها: قويت واشتدت، والسمهري: الرمح و المهند السيف.
(4) الهباءة: الغبار يثور عند اشتداد الحرب، و الخادر: الأسد في عرينه، وهو حينئذ أشد ما يكون بأسا على أشباله، يصفه بالقوة، والمرصد: المكان يرقب منه، يصفه باليقظة. (القاموس المحيط 1/294 و313 و349 و2/18 و52 و4/402).
(5) قال السهيلي: "هكذا تقيد في النسخة (سلمة) بكسر اللام، و المعروف من قبائل قيس: سلمة بالفتح إلا أن يكون من الأزد، فإن ثمالة المذكورين معهم حي من الأزد، وفهم من دوس، وهم من الأزد أيضاً".
وأمهم: جديلة وهي من غطفان بن قيس بن عيلان، على أنه لا يعرف من الأزد سلمة بكسر اللام في الأنصار، وهم من الأزد، (الروض الأنف 7/285-286).
وثمالة: بضم الثاء المثلثة، اسمه عوف بن أسلم بن أحجن بن كعب بن الحارث بن كعب بن عبد الله بن مالك بن نصر بن الأزد بن الغوث.
وفهم: هم فهم بن غنم بن دوس بن عدثان بن عبد الله بن زهران بن كعب بن الحارث بن كعب بن عبد الله بن مالك بن نصر بن الأزد. (اللباب في تهذيب الأنساب 2/448 و 1/241-242 و263).(7/29)
، وفهم، فكان يقاتل بهم ثقيفا لا يخرج لهم سرح إلا أغار عليه، حتى ضيق عليهم.
فقال أبو محجن بن حبيب بن عمرو بن عمير الثقفي:
هابت الأعداء جانبنا ... ثم تغزونا بني سلمة
وأتانا مالك بهم ... ناقضا للعهد والحرمة
وأتونا في منازلنا ... ولقد كنا أولى نقمة(1)
والحديث رواه الطبري عن ابن إسحاق دون شعر مالك بن عوف.
ثم قال في نهاية الحديث: "هذا آخر حديث أبي وجزة"(2).
فهو يشير إلى أن هذا الحديث رواه ابن إسحاق عن أبي وجزة ولكنه في سيرة ابن هشام وكذا عند الطبري فصل بين حديث أبي وجزة بحديث عبد الله بن عمر، فالقسم الأول من حديث أبي وجزة إلى وأعطى عمر بن الخطاب جارية، فوهبها لعبد الله بن عمر.
وتمامه: وأما عيينة بن حصن الخ.
وعلى هذا فالحديث مرسل فإن أبا وجزة من صغار التابعين فقد ذكره ابن حجر في الطبقة الخامسة من طبقات التابعين(3).
والأحاديث المتقدمة تدل على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخر قسم الغنائم بعد انصرافه عن الطائف ووصوله إلى الجعرانة بضع عشرة ليلة ثم وزع الغنائم بعد ذلك، ثم قدمت عليه وفود هوزان بعد أن تم توزيع السبايا والأموال بين المسلمين.
فسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يرد إليهم سبيهم وأموالهم، فأجابهم رسول صلى الله عليه وسلم إلى أن يرد إليهم إحدى الطائفتين: إما السبي وإما المال، فاختاروا سبيهم، فرده عليهم بعد أن استطاب نفوس المسلمين في ذلك(4).
كما تدل الأحاديث أيضا على جواز استرقاق العرب كغيرهم من سائر الكفار من الأعاجم من يهود ونصارى وغير ذلك، وهو قول جمهور العلماء.
وقد أشرت إلى هذه المسألة في رسالتي غزوة بني المصطلق(5) فلا حاجة إلى إعادة القول في هذه المسألة هنا.
__________
(1) سيرة ابن هشام 2/490-492. الروض الأنف 7/243-245.
(2) تاريخ الرسل والملوك 3/87-89.
(3) انظر: التقريب (2/368، و1/5).
(4) انظر: ص: (373).
(5) ص: (359-362).(7/30)
المبحث الثاني: في إيفاد ثقيف جماعة منهم إلى المدينة للتفاوض مع الرسول صلى الله عليه وسلم
كان من أمر ثقيف أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لما حاصر الطائف واستعصت عليه انصرف عنها إلى الجعرانة، فطلب منه الصحابة أن يدعوا على ثقيف.
فقال: "اللهم اهد ثقيفا".
وفي لفظ: "اللهم اهد ثقيفا واكفنا مؤنتهم".
وعند الواقدي: "اللهم اهد ثقيفا وأت بهم"(1).
وقد سبق إسلام مالك بن عوف النصري الذي كان فيه إضعاف لمعنويات ثقيف حيث صار مالكا جنديا من جنود الإسلام فضايق ثقيفا وشدد عليها، حتى وصف أبو محجن الثقفي هذا الفعل من مالك بأنه نقض للذي كان بينهم وبينه ضد رسول الله صلى الله عليه وسلم(2)، واستاءت ثقيف لذلك وصار الأمر يزداد عليها شدة يوما بعد يوم، فكان أول من فكر في خلاص ثقيف من هذه الأزمة التي كانوا هم السبب في إيجادها عروة بن مسعود الثقفي، فقد كان هو وسلمة بن غيلان بجرش يتعلمان صنعة العرادات والمنجنيق والدبابات، ولم يشهد حنينا ولا حاصر الطائف، وإنما قدما وقد انصرف رسول اله صلى الله عليه وسلم عن الطائف، فنصبا المنجنيق و العارادات والدبابات وأعدا للقتال، ثم ألقى الله في قلب عروة الإسلام وغيره عما كان عليه(3).
وفيما يلي ما نقله ابن إسحاق في هذا الصدد قال:
214- وقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة من تبوك في رمضان، وقدم عليه في ذلك الشهر وفد ثقيف.
__________
(1) تقدم الحديث برقم (170) وانظر مغازي الواقدي 3/937.
(2) انظر: "ص (457).
(3) سيرة ابن هشام 2/478 ومغازي الواقدي 3/960 والطبقات الكبرى لابن سعد 1/312 و5/503 ودلائل النبوة لأبي نعيم ص 466-468).(8/1)
وكان من حديثهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما انصرف عنهم، اتبع أثره عروة بن مسعود الثقفي،حتى أدركه قبل أن يصل إلى المدينة، فأسلم وسأله أن يرجع إلى قومه بالإسلام، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم - كما يتحدث قومه - إنهم قاتلوك، وعرف رسول الله صلى الله عليه وسلم أن فيهم نخوة(1) الامتناع الذي كان منهم، فقال عروة: "يا رسول الله أنا أحب إليهم من أبكارهم(2).
-وكان فيهم كذلك محببا مطاعا - فخرج يدعو قومه إلى الإسلام رجاء أن لا يخالفوه، لمنتزلته فيهم، فلما أشرف لهم على علية(3) له، وقد دعاهم إلى الإسلام، وأظهر لهم دينه، رموه بالنبل من كل وجه، فأصابه سهم فقتله، فتزعم بنو مالك أنه قتله رجلا منهم، يقال له أوس بن عوف(4)، أخو بني سالم بن مالك.
وتزعم الأحلاف أنه قتله رجل منهم، من بني عتاب بن مالك، يقال له وهب بن جابر(5)".
__________
(1) نخوة الامتناع: "أي كبر و عجب، و أنفة وحمية (النهاية 5/34).
(2) قال ابن هشام: "ويقال من أبصارهم".
(3) العلية: "بضم العين وكسرها وتشديد التحتية: "الغرفة". وعند الواقدي وابن سعد "حتى إذا طلعت الفجر أوفى على غرفة فأذن بالصلاة". (القاموس المحيط4/366 ومختار الصحاح ص453 وشرح المواهب اللدنية4/7).
(4) أوس بن عوف بن جابر بن سفيان بن عبد ياليل بن سالم بن مالك بن حطيط من جشم بن ثقيف، كذا نسبه ابن حبان في الصحابة، وقال: "كان في وفد ثقيف"، وزعم أبو نعيم: "أنه: "هو أوس بن حذيفة، نسب إلى عوف أحد أجداداه، وليس كذلك لاختلاف النسبين، وعند الدارمي أن قاتله: "أوس بن أبي أوس الثقفي وأوس ابن أبي أوس هو أوس بن حذيفة"، وانظر ترجمة أوس والخلاف في ذلك في حديث (221) ص 472 و(الإصابة 1/86 وأسد الغابة 1/174).
وقال الواقدي: "والأثبت عندنا أن قاتله أوس بن عوف" (المغازي 3/961، وطبقات ابن سعد 5/510.
(5) في شرح المواهب 4/7: "وهب بن جارية".(8/2)
فقيل لعروة: "ما ترى في دمك؟" قال: "كرامة أكرمني الله بها، وشهادة ساقها الله إلي، فليس في إلا ما في الشهداء الذين قتلوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يرتحل عنكم، فادفنوني معهم، فدفنوه معهم(1) فزعموا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال فيه: "إن مثله في قومه كمثل صاحب ياسين(2) في قومه"(3).
هكذا ساقه ذلك ابن إسحاق بدون سند، وذكر أن عروة بن مسعود أدرك رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يدخل المدينة.
قال ابن كثير: "هكذا ذكر موسى بن عقبة قصة عروة بن مسعود ولكن زعم أن ذلك كان بعد حجة أبي بكر الصديق". وتابعه أبو بكر البيهقي في ذلك وهذا بعيد". والصحيح أن ذلك قبل حجة أبي بكر كما ذكره ابن إسحاق(4).
وذكره ابن حجر والزرقاني عن موسى بن عقبة عن الزهري وأبي الأسود عن عروة بن الزبير(5).
وأورده الهيثمي في المجمع فقال:
__________
(1) وعند ابن سعد "فرماه رجل من بني مالك يقال له أوس بن عوف، فأصاب أكحله فلم يرقأ دمه، وقام غيلان بن سلمة وكنانة بن عبد ياليل والحكم بن عمرو بن وهب ووجوه الأحلاف، فلبسوا السلاح وحشدوا، فلما رأى عروة ذلك"، قال: "قد تصدقت بدمي على صاحبه لأصلح بذلك بينكم، وهي كرامة أكرمني الله بها وشهادة ساقها الله إلي"، وقال: "ادفنوني مع الشهداء الذين قتلوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم" (الطبقات الكبرى 1/312و5/405).
(2) قال السهيلي: "قوله: "كمثل صاحب ياسين في قومه". يحتمل أن يريد به المذكور في سورة ياسين، الذي قال لقومه: "(اتبعوا المرسلين) فقتله قومه، واسمه حبيب بن مري، ويحتمل أن يريد صاحب الياس، وهو اليسع، فإن إلياس يقال في اسمه ياسين أيضا". (الروض الأنف 7/371).
(3) سيرة ابن هشام 2/537-338 والروض الأنف 7/331-332 وتاريخ الرسل والملوك 3/96).
(4) البداية والنهاية 5/29 ودلائل النبوة للبيهقي 3/74ب).
(5) الإصابة2/477 وشرح المواهب4/6 والمعجم الكبير للطبراني17/147-148).(8/3)
215- وعن عروة بن الزبير قال: "لما أنشأ الناس الحج سنة تسع قدم عروة بن مسعود على رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يرجع إلى قومه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إني أخاف أن يقتلوك"، قال: "لو وجدوني نائماً ما أيقظوني، فأذن له رسول الله صلى الله عليه وسلم فرجع إلى قومه مسلماً فرجع عشاءا فجاء ثقيف يحيونه، فدعاهم إلى الإسلام، فاتهموه وأغضبوه وأسمعوه(1)، فقتلوه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مثل عروة مثل صاحب ياسين دعا قومه إلى الله فقتلوه". ثم قال الهيثمي: "رواه الطبراني، وروى عن الزهري نحوه، وكلاهما مرسل وإسنادهما حسن"(2).
وذكر ابن سعد أن عروة قدم المدينة على رسول الله صلى الله عليه وسلم في شهر ربيع الأول سنة تسع من الهجرة، فأسلم فسر رسول الله صلى الله عليه وسلم بإسلامه، ونزل على أبي بكر الصديق، فلم يدعه المغيرة بن شعبة حتى حوله إليه(3)".
وقال الواقدي: "وهو الأثبت"(4).
وروى الطبراني من حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال:
__________
(1) في الإصابة: "فدعاهم إلى الإسلام ونصح لهم فعصوه وأسمعوه من الأذى فلما كان من السحر قام على غرفة له فأذن فرماه رجل من ثقيف بسهم فقتله" وبه يظهر المعنى وكذا في المعجم الكبير للطبراني 17/148.
(2) مجمع الزوائد 9/386 والمعجم الكبير للطبراني 17/147-148 ودلائل النبوة للبيهقي 3/74، والخصائص الكبرى للسيوطي 2/144-146".
(3) الطبقات الكبرى لابن سعد 5/503".
(4) مغازي الواقدي 3/961-962".(8/4)
216- حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل، حدثني أبو عبيدة بن فضيل بن عياض ثنا عبد الله(1) بن معاذ الصنعاني عن معمر(2) عن عثمان(3) الجزري عن مقسم(4) عن ابن عباس قال: "بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عروة بن مسعود إلى الطائف، فرماه رجل بسهم فقتله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "ما أشبه هذا بصاحب ياسين"(5)".
قال الهيثمي: "رواه الطبراني وفيه أبو عبيدة(6) بن الفضيل وهو ضعيف"(7). وقد تداول هذه القصة أصحاب المغازي و السير في كتبهم".
__________
(1) عبد الله بن نشيط - بفتح النون بعدها معجمة - الصنعاني، صاحب معمر، صدوق، تحامل عليه عبد الرزاق، من التاسعة (ت190) /ت ق (التقريب 1/452 وفي تهذيب التهذيب 6/38 قال ابن حجر: "ذكر ابن خلفون أنه مات سنة (181).
(2) معمر: "هو ابن راشد (تهذيب التهذيب 10/243).
(3) عثمان الجزري كذا في مجمع الزوائد وقد استدركه - حمدي عبد المجيد السلفي المحقق لمعجم الطبراني - على الهيثمي، بأنه مجهول".
والذي وجدته أنا في شيوخ معمر و تلاميد مقسم هو (عبد الكريم الجزري). انظر تهذيب التهذيب 6/373-375، فالله أعلم".
(4) مقسم هو ابن بجرة ويقال: "ابن نجدة أبو القاسم صدوق يرسل تقدم في حديث (75).
(5) المعجم الكبير للطبراني 11/407-408.
(6) قال الذهبي في ميزان الاعتدال 4/549، "فيه لين"، وقال ابن الجوزي: "ضعيف"، وقد وثقه الدار قطني، فلا يلتفت إلى كلام ابن الجوزي". اهـ وساق ابن حجر كلام الذهبي هذا وزاد: "وذكره ابن حبان في الثقات، وأخرج حديثه في صحيحه وكذلك الحاكم ولم يذكره أحد ممن صنف في الضعفاء".
ثم قال ابن حجر: "وسلف ابن الجوزي في تضعيف أبي عبيدة الجوزقاني" لسان الميزان 7/79".
(7) مجمع الزوائد9/386.(8/5)
ثم إن ثقيفا أقامت بعد قتل عروة بن مسعود أشهرا ثم تشاوروا فيما بينهم على نبذ الخلافات التي كانت بينهم، وعلى أن يتحدوا جميعا على أمر يأمنون فيه على أنفسهم وأموالهم وذلك بأن يبعثوا وفدا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم للتفاوض معه على الدخول في الإسلام، وذلك أنهم تيقنوا أن لا طاقة لهم بحرب القبائل من حولهم وقد أسلمت وبايعت، وأخذ أمر الإسلام يعلو يوما بعد يوم، وأن دولة الأصنام قد أخذت طريقها في الأفول".
قال ابن إسحاق: "ثم أقامت ثقيف بعد قتل عروة أشهرا، ثم إنهم ائتمروا بينهم، ورأوا أنه لا طاقة لهم بحرب من حولهم من العرب وقد بايعوا وأسلموا".
217- حدثني يعقوب(1) بن عتبة بن المغيرة بن الأخنس: "أن عمرو(2) بن أمية أخا بني علاج، كان مهاجرا لعبد بن عمرو (لشيء كان بينهم)(3) - وكان عمرو بن أمية من أدهى العرب - فمشى إلى عبد ياليل ابن عمرو، حتى دخل داره، ثم أرسل إليه أن عمرو بن أمية يقول لك: "اخرج إلي، قال: "فقال عبد ياليل للرسول ويك! أعمرو أرسلك إلي؟"
__________
(1) انظر ترجمته في التقريب 2/376 وتهذيب التهذيب 11/392 وهو ثقة".
(2) قال ابن حجر: "له ذكر في مغازي ابن إسحاق لما أسلمت ثقيف، وأنه بنى عند مصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالطائف حيث كان يحاصرها مسجدا". وقد اختلف في اسمه ففي مختصر السيرة هكذا". وعند الأموي في المغازي عن ابن إسحاق أبو أمية بن عمرو بن وهب (الإصابة 2/524 و4/11). وانظر ص 283".
(3) ما بين القوسين من شرح المواهب 4/7 والذي في سيرة ابن هشام "الذي بينهما سيء" ولا يظهر منه المراد".(8/6)
قال: "نعم، وها هو واقفا في دارك(1)، فقال: "إن هذا لشيء ما كنت أظنه، لعمرو كان أمنع في نفسه من ذلك، فخرج إليه، فلما رآه رحب به فقال له عمرو: "إنه قد نزل بنا أمر ليست معه هجرة، إنه كان من أمر هذا الرجل(2) ما قد رأيت، قد أسلمت العرب كلها(3)، وليست لكم بحربهم طاقة، فانظروا في أمركم".
فعند ذلك ائتمرت ثقيف بينهما، وقال بعضهم لبعض: "أفلا ترون أنه لا يأمن لكم سرب(4)
__________
(1) عند الواقدي: "وكان عبد ياليل يحب صلحه ويكره أن يمشي إليه فقال عبد ياليل: "إن هذا شيء ما كنت أظنه بعمرو، وما هو إلا عن أمر قد حدث وكان أمرا سوءا ما لم يكن من ناحية محمد".
(2) يريد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
(3) عند الواقدي: "وقد أسلمت العرب كلها وليست لكم بهم طاقة، وإنما نحن في حصننا هذا، ما بقاؤنا فيه وهذه أطرافنا تصاب! ولا نأمل من أحد منا يخرج شبرا واحدا من حصننا هذا، فانظروا في أمركم! قال عبد ياليل: "قد والله رأيت ما رأيت، فما استطعت أن أتقدم بالذي تقدمت به، وإن الحزم والرأي الذي في يديك" (المغازي 3/962).
(4) وعند ابن كثير نقلا عن موسى بن عقبة قال: "كان الوفد بضعة عشر رجلا فيهم كنانة بن عبد ياليل - وهو رئيسهم - وفيهم عثمان بن أبي العاص وهو أصغر الوفد (البداية والنهاية 5/30)، وهو أيضا قول الواقدي، وعد فيهم سفيان ابن عبد الله، وجعل رئيسهم وصاحب أمرهم (عبد ياليل) بدل كنانة ابن عبد ياليل) (المغازي للواقدي 3/963).
وعند ابن سعد أن الوفد السبعون رجلا من الأحلاف وبني مالك، فيهم عبد ياليل وابناه كنانة وربيعة، وشرحبيل بن غيلان بن سلمة، والحكم بن وهب بن معتب، وعثمان بن أبي العاص وأوس بن عوف ونمير بن خرشة بن ربيعة، وهؤلاء الستة رؤساؤهم". ثم قال: "وقال بعضهم: "كانوا جميعا بضعة عشرة رجلا، وهو أثبت (الطبقات الكبرى 1/313 و5/511).(8/7)
، ولا يخرج منكم أحد إلا اقتطع، فأتمروا بينهم، وأجمعوا أن يرسلوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا، كما أرسلوا عروة(1) فكلموا عبد ياليل بن عمرو بن عمير، وكان سن عروة(2) بن مسعود، وعرضوا ذلك عليه، فأبى أن يفعل، وخشي أن يصنع به إذا رجع كما صنع بعروة، فقال: "لست فاعلا حتى ترسلوا معي رجالا فأجمعوا أن يبعثوا معه رجلين من الأحلاف، وثلاثة من بني مالك فيكونوا ستة، فبعثوا مع عبد ياليل: "الحكم(3) بن عمرو بن وهب بن معتب، وشرحبيل(4) بن غيلان بن سلمة ابن معتب(5)".
__________
(1) كذا قال ابن إسحاق بأن عبد ياليل ممن وفد على رسول الله صلى الله عليه وسلم في وفد ثقيف وقال موسى بن عقبة وابن الكلبي وأبو عبيدة وغيرهم، إنما الذي وفد ابنه مسعود ابن عبد ياليل". قال ابن عبد البر: "وهو الصحيح" (أسد الغابة 3/512) وقد ذكر ابن حجر عبد يايليل فمن غلط فيه من الصحابة فقال: "ذكره ابن حبان في الصحابة وقال: "كانت له صحبة وكان من الوفد، وقال غيره إنما هذا لولد مسعود". (الإصابة 2/432 و3/158).
وقال الزرقاني: "لكن صاحب الإصابة وغيره ترجموا مسعود بن عمرو وقالوا: "إنه أخو عبد يايليل لابنه، ولم يذكروا لابنه ترجمة".
(شرح المواهب 4/7) وانظر ترجمة مسعود بن عمرو (الإصابة 3/412 و1/307 في ترجمة أخيه حبيب".
(2) ناب القوم: "سيدهم (القاموس المحيط 1/135).
(3) وعند الواقدي "وهو رأسهم وصاحب أمرهم، لكنه أحب أن يرجعوا أن يسهل كل رجل رهطه".
(4) السرب: "المسلك والطريق (النهاية 2/356).
(5) عند الواقدي "كما خرج عروة بن مسعود إلى النبي صلى الله عليه وسلم".(8/8)
ومن بني مالك: "عثمان(1) بن أبي العاص بن بشر بن عبد دهمان، أخا بني يسار، وأوس(2) بن عوف، أخا بني سالم بن عوف ونمير(3) بن خرشة بن ربيعة(4) أخا بني الحارث فخرج بهم عبد ياليل(5) وهو ناب(6) القوم وصاحب أمرهم(7)، ولم يخرج بهم إلا خشية من مثل ما صنع بعروة ابن مسعود، لكي يشغل كل رجل منهم إذا رجعوا إلى الطائف رهطه،فلما دنوا إلى المدينة، ونزلوا قناة(8)
__________
(1) عند الطبري "وكان في سن عروة". وفي النهاية 2/412: "يقال فلان سن فلان، إذا كان مثله في السن".
(2) انظر ترجمته في الإصابة 1/347".
(3) المصدر السابق 2/145".
(4) وعند الواقدي: "وهؤلاء الأحلاف رهط عروة".
(5) انظر ترجمته في الإصابة 2/460، وانظر ص 467 تعليقة (2).
(6) المصدر السابق 1/86".
(7) المصدر السابق 3/574
(8) قناة: "بالفتح واد بالمدينة يأتي من الطائف ويمر بالعاقول ثم يمضي شمالا في موازاة الحرة، ثم يمر بقبور الشهداء جنوب جبل أحد". معجم البلدان 4/401 والمدينة بين الماضي والحاضر للعياشي ص 490".
وعند الواقدي: "فلما كانوا بوادي قناة مما يلي دار حرض نزلوا فيجدون نشرا من الإبل، فقال قائلهم: "لو سألنا صاحب الإبل لمن الإبل، وخبرنا خبر محمد فبعثوا عثمان بن أبي العاص، فإذا هو المغيرة بن شعبة يرعى في نوبته ركاب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم" وانظر معالم الجزيرة للبلادي ص 257".
وحرض: "بضمتين واد صغير في أرض الزبير بن العوام يسيل من بعض جبال الضليعات الحمر والدقاقات حتى يصب في قناة، والحرض هو الإشنان". معجم البلدان 2/242 والمدينة بين الماضي والحاضر للعياشي ص 491 و493".(8/9)
، ألفوا بها المغيرة بن شعبة، يرعى في نوبته ركاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، - وكانت رعيتها نوبا على أصحابه صلى الله عليه وسلم- فلما رآهم ترك الركاب عند الثقفيّين، وضبر(1) يشتد يبشر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقدومهم عليه، فلقيه أبو بكر الصديق قبل أن يدخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخبره عن ركب ثقيف أن قد قدموا يريدون البيعة و الإسلام، بأن يشرط لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم شروطا ويكتتبوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم كتابا في قومهم وبلادهم وأموالهم، فقال أبو بكر للمغيرة: "أقسمت عليك بالله لا تسبقني إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أكون أنا أحدثه(2)، ففعل المغيرة، فدخل أبو بكر على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخبره بقدومهم عليه، ثم خرج المغيرة إلى أصحابه، فروح الظهر معهم، وعلمهم كيف يحيون رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم يفعلوا إلا بتحية الجاهلية(3)
__________
(1) في القاموس المحيط2/74:ضبر الفرس والمقيد يضبر ضبرا وضبرانا جمع قوائمه ووثب".
(2) وعند الواقدي "فقال أبو بكر: "أقسمت بالله عليك لا تسبقني إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بخبرهم حتى أكون أنا أخبره - وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد ذكرهم ببعض الذكر - فأبشره بمقدمهم، فدخل أبو بكر رضي الله عنه على النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره، والمغيرة على الباب، ثم خرج إلى المغيرة فدخل المغيرة على النبي صلى الله عليه وسلم وهو مسرور، فقال يا رسول الله، قدم قومي يريدون الدخول في الإسلام بأن تشرط لهم شروطا، ويكتبون كتابا على من وراءهم من قومهم وبلادهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يسألون شرطا ولا كتابا أعطيته أحدا من الناس إلا أعطيتهم فبشرهم! فخرج المغيرة راجعا فخبرهم ما قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وبشرهم".
(3) وعند الواقدي "فكل ما أمرهم المغيرة فعلوا إلا التحية، فإنهم قالوا: "أنعم صباحا ودخلوا المسجد فقال الناس: "يا رسول الله، يدخلون المسجد وهم مشركون؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الأرض لا ينجسها شيء".(8/10)
، ولما قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم ضرب عليهم قبة في ناحية مسجده(1)، كما يزعمون".
فكان خالد بن سعيد بن العاص، هو الذي يمشي بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى اكتتبوا كتابهم، وكان خالد هو الذي كتب كتابهم، وكان خالد هو الذي كتب كتابهم بيده، وكانوا لا يطعمون طعاما يأتيهم من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يأكل منه خالد حتى أسلموا وفرغوا من كتابهم، وقد كان فيما سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يدع لهم الطاغية، وهي اللات(2)
__________
(1) وفي زاد المعاد نقلا عن موسى بن عقبة فقال المغيرة بن شعبة: "يا رسول الله أنزل قومي علي فأكرمهم، فإني حديث الجرح فيهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا أمنعك أن تكرم قومك، ولكن أنزلهم حيث يسمعون القرآن" وكان من جرح المغيرة في قومه أنه كان أجير الثقيف، وأنهم أقبلوا من مصر حتى إذا كانوا ببعض الطريق، عدا عليهم وهم نيام، فقتلهم ثم أقبل بأموالهم حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أما الإسلام فنقبل، و أما المال فلا فإنا لا نغدر" وأبى أن يخمس ما معه، وأنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم وفد ثقيف في المسجد، وبنى لهم خياما لكي يسمعوا القرآن، ويروا الناس إذا صلوا، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خطب لا يذكر نفسه، فلما سمعه وفد ثقيف، قالوا: "يأمرنا أن نشهد أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يشهد به في خطبته، فلما بلغه قولهم، قال: "فإني أول من شهد أني رسول الله" (زاد المعاد 3/596) وذكر نحو هذا الواقدي وأصل قصة إسلام المغيرة في الصحيح انظر ص 496 تعليقة (2).
(2) اللات: "قال ابن كثير: "كانت اللات صخرة بيضاء منقوشة عليها بيت بالطائف له أستار وسدنة، وحوله فناء معظم عند أهل الطائف، وهم ثقيف ومن تبعها يفتخرون بها على من عداهم من أحياء العرب بعد قريش".
قال ابن جرير: "وكانوا قد اشتقوا اسمها من اسم الله، فقالوا: "اللات يعنون مؤنثة منه تعالى الله عن قولهم علوا كبيرا".
وحكي عن ابن عباس ومجاهد والربيع بن أنس أنهم قرءوا اللات: "بتشديد التاء وفسروه بأنه كان رجلا يلت للحجيج في الجاهلية السويق فلما مات عكفوا على قبره فعبدوه".
ثم قال ابن كثير: "وقد بعث إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم المغيرة بن شعبة وأبا سفيان صخر ابن حرب، فهدماها وجعلا مكانها مسجدا بالطائف".
(تفسير بن كثير 4/ 253و254)إهـ".
قلت: "جعل مكان اللات مسجدا: "جاء عند أبي داود وابن ماجه والطبراني والحاكم من حديث محمد بن عبد الله بن عياض عن عثمان بن أبي العاص رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره أن يجعل مسجد الطائف حيث كانت طاغيتهم" (سنن أبي داود 2/118 كتاب الصلاة باب في بناء المساجد، وسنن ابن ماجه 1/245كتاب المساجد، باب أين يجوز بناء المساجد والمعجم الكبير للطبراني 9/39، والمستدرك للحاكم 3/618، والحديث فيه محمد بن عبد الله بن عياض الطائفي، وقال ابن حجر: "مقبول، وذكره ابن حبان في الثقات، وقال الذهبي: "لا يعرف (التقريب 2/179 وتهذيب التهذيب 9/271 وميزان الإعتدال 3/602".(8/11)
لا يهدمها ثلاث سنين، فأبى رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك عليهم فما برحوا يسألونه سنة سنة، ويأبى عليهم، حتى سألوا شهرا واحد بعد مقدمهم، فأبى أن يدعها شيء مسمى، وإنما يريدون بذلك فيما يظهرون أن يتسلموا بتركها من سفائهم ونسائهم وذراريهم ويكرهون أن يروعوا قومهم بهدمها حتى يدخلهم الإسلام، فأبى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أن يبعث أبا سفيان بن حرب والمغيرة بن شعبة فيهدماها، وقد كانوا سألوه مع ترك الطاغية أن يعفيهم من الصلاة، وأن لا يكسروا أوثانهم بأيديهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أما كسر أوثانكم بأيديكم فسنعفيكم منه(1)
__________
(1) وعند ابن قيم الجوزية: "فقال كنانة بن عبد ياليل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: "هل أنت مقاضينا حتى نرجع إلى قومنا؟"
قال: "نعم، أن انتم أقررتم بالإسلام أقاضيكم، وإلا فلا قضية ولا صلح بيني وبينكم"، وأنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يرخص لهم الزنى، والربا والخمر، "فأبى عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم".
وقال: "هي عليكم حرام وتلا الآيات الواردة في ذلك فارتفع القوم فخلا بعضهم ببعض، فقالوا: "ويحكم إنا نخاف إن خالفناه يوما كيوم مكة، انطلقوا نكاتبه على ما سألناه، فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: "نعم لك ما سألت، أرأيت الربة - يعنون اللات- ماذا نصنع فيها؟
قال: "اهدموها" قالوا: "هيهات لو تعلم الربة أنك تريد هدمها لقتلت أهلها، فقال عمر بن الخطاب: "ويحك يا ابن عبد ياليل، ما أجهلك إنما الربة حجر، فقالوا: "إنا لم نأتك يا ابن الخطاب، وقالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم: "تول أنت هدمها، فأما نحن فإنا لا نهدمها أبدا، قال: "فسأبعث إليكم من يكفيكم هدمها" فكاتبوه (انظر زاد المعاد 3/596-597)، ومغازي الواقدي (3/966-967).(8/12)
، وأما الصلاة فإنه لا خير في دين لا صلاة فيه،فقالوا: "يا محمد، فسنؤتيكها، وإن كانت دناءة(1)".
فلما أسلموا وكتب لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم كتابهم، أمر عليهم عثمان(2)
__________
(1) عند الواقدي: "فقالوا: "يا محمد، أما الصلاة فسنصلي، وأما الصيام فسنصوم، وتعلموا فرائض الإسلام وشرائعه".
(2) عثمان بن أبي العاص بن بشر بن عبد بن دهمان بن عبد الله بن همام الثقفي أبو عبد الله نزيل البصرة، أسلم في وفد ثقيف، فاستعمله رسول الله صلى الله عليه وسلم على الطائف، وأقره أبو بكر زمن خلافته ثم استعمله عمر بن الخطاب على البحرين وعمان سنة خمس عشرة ثم سكن البصرة، حتى مات بها سنة خمسين وقيل سنة إحدى وخمسين، وكان هو الذي منع ثقيفا عن الردة، خطبهم فقال: "كنتم آخر الناس إسلاما فلا تكونوا أولهم ارتداداً".
(أسد الغابة 3/579-581 والإصابة2/460 وشرح المواهب4/7-8، والاستيعاب 3/91 ووقع في شرح المواهب "عثمان بن أبي العاص بن بشر بن عبيد ابن درهمان" ولعله خطأ".(8/13)
بن أبي العاص، وكان من أحدثهم سنا، وذلك كان أحرصهم على التفقه في الإسلام وتعلم القرآن(1)، فقال أبو بكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا رسول الله، إني قد رأيت هذا الغلام منهم من أحرصهم على التفقه في الإسلام وتعلم القرآن"(2)".
والحديث رواه الطبري من هذا الطريق(3)".
وقال الألباني: "ضعيف ذكره ابن هشام عن ابن إسحاق معضلا، والجملة الأخيرة وصلها أبو داود وأحمد عن الحسن عن عثمان بن أبي العاص مرفوعا نحوها، ورجاله ثقات، لكن الحسن وهو البصري مدلس وقد عنعنه(4)".
قلت: "الحديث المشار إليه عند أبي داود وأحمد وهو أيضا عن أبي داود الطيالسي والطبراني وهذا سياقه عند أبي داود:
__________
(1) وذكر موسى بن عقبة "أن وفدهم كانوا إذا أتو رسول الله خلفوا عثمان ابن أبي العاص في رحالهم فإذا رجعوا وسط النهار جاء هو إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسأله عن العلم فاستقرأه القرآن، فإن وجده نائما، ذهب إلى أبي بكر الصديق فلم يزل دأبه حتى فقه في الإسلام وأحبه رسول الله صلى الله عليه وسلم حبا شديدا (زاد المعاد 3/596، والبداية والنهاية 5/31) والطبقات الكبرى لابن سعد 5/508).
(2) السيرة النبوية لابن هشام 2/538-540، الورض الأنف 7/332-335، وزاد المعاد3/595-597، والبداية والنهاية 5/29-31 وتاريخ الخميس2/134-136، وشرح المواهب 4/6-8 والطبقات الكبرى لابن سعد 1/312-314 و5/508 ومغازي الواقدي 3/960-968).
(3) تاريخ الرسل والملوك 3/97-99".
(4) تخريج أحاديث فقه السيرة للغزالي ص 450".(8/14)
218- حدثنا أحمد(1) بن علي بن سويد - يعني ابن منجوف - اخبرنا أبو داود(2) عن حماد بن سلمة عن حميد(3) عن الحسن(4) عن عثمان بن أبي العاص أن وفد ثقيف لما قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم أنزلهم المسجد(5) ليكون أرق لقلوبهم(6)، فاشترطوا عليه أن لا يحشروا(7)
__________
(1) أحمد بن عبد الله بن علي بن سويد بن منجوف - بنون ساكنة ثم جيم وآخره فاء - أبو بكر السدوسي، صدوق، من الحادية عشرة (ت 252) /خدس". التقريب 1/18 وتهذيب التهذيب 1/48).
(2) هو سليمان بن داود بن الجارود أبو داود الطيالسي". (تهذيب التهذيب 4/182).
(3) حميد بن أبي حميد الطويل أبو عبيدة تقدم في حديث (22).
(4) الحسن بن أبي الحسن أبو سعيد البصري تقدم في حديث (156).
(5) عند الطيالسي "أنزلهم في قبة في المسجد".
(6) قوله: "ليكون أرق لقلوبهم" أرق هاهنا: "اسم تفضيل من أرقه إرقاقا بمعنى ألانه وإِلاَنَةً، وهو عند سيبويه قياس من باب أفعل مع كونه ذا زيادة، ويؤيد كثرة السماع كقولهم هو أعطاهم للدينار وأولاهم، للمعروف، وهو عند غيره سماع مع كثرته، قاله الرضي في شرح الكافية".
فالمعنى أي ليكون إنزالهم المسجد أكثر وأشد إلانة وترقيقا لقلوبهم بسبب رؤيتهم حال المسلمين وخشوعهم وخضوعهم واجتماعهم في صلواتهم وفي عباداتهم لربهم (عون المعبود 8/267).
(7) أن لا يحشروا: "أي لا يجمعوا، والمراد به: "جمعهم إلى الجهاد، والنفير إليه، ولا يعشروا: "أي لا يؤخذ عشر أموالهم، وقيل: "أرادوا الصدقة الواجبة، ولا يجبوا: "بالجيم وتشديد الباء الموحدة، وأصل التجبية: "أن يقوم الإنسان قيام الراكع، وقيل: "هو أن يضع يده على ركبتيه وهو قائم، وقيل: "هو أن ينكب على وجهه باركا، وهو السجود".
والمراد بقوله (لا يجبوا) أي أنهم لا يصلون، ولفظ الحديث يدل على الركوع، لأنه صلى الله عليه وسلم قال لهم في الجواب "ولا خير في دين ليس فيه ركوع" والأفعال كلها مبنية للمجهول".
ويشبه أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم إنما سمح لهم بالجهاد و الصدقة لأنهما لم يكونا بعد واجبين في العاجل، لأن الصدقة إنما تجب بحول الحول، والجهاد إنما يجب بحضور العدو، وأما الصلاة فهي واجبة في كل يوم وليلة في أوقاتها المؤقتة فلم يجز أن يشترطوا تركها". وقد سئل جابر بن عبد الله عن اشتراط ثقيف أن لا صدقة عليها ولا جهاد؟
فقال: "علم أنهم سيتصدقون ويجاهدون إذا أسلموا انظر الحديث (220).
(جامع الأصول لأبن الأثير 8/413-414 وعون المعبود لشمس الحق العظيم آبادي 8/267-268) وروى الإمام أحمد في المسند 5/224، والطبراني في الكبير 2/32 من حديث بشير بن الخصاصية قال: "أتيت النبي صلى الله عليه وسلم لأبايعه قال: "فاشترط علي شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله وأن أقيم الصلاة وأن أودي الزكاة، وأن أحج حجة الإسلام وأن أصوم شهر رمضان وأن أجاهد في سبيل الله، الحديث وفيه فقلت: "أما الصدقة والجهاد فلا أطيقهما قال: "فقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم يده ثم حرك يده ثم قال: "فلا جهاد ولا صدقة فيم تدخل الجنة" قال: "فبايعته عليهن كلهن". قال الهيثمي في مجمع الزوائد 1/42 رجال أحمد موثقون، قال ابن الأثير في النهاية 3/239-240 فلم، يحتمل لبشير ما احتمل لثقيف، ويشبه أن يكون إنما لم يسمح له لعلمه أنه يقبل إذا قيل له وثقيف كانت لا تقبله في الحال، وهو واحد وهم جماعة فأراد أن يتألفهم ويدرجهم عليه شيئا فشيئا".(8/15)
ولا يعشروا وألا يجبوا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لكم أن تحشروا ولا تعشروا، ولا خير في دين ليس فيه ركوع"(1).
والحديث رواه أحمد وأبو داود الطيالسي والطبراني الجميع من طريق حماد بن سلمة به(2)".
والحديث من رواية الحسن البصري عن عثمان بن أبي العاص، قال المنذري: "وقد قيل إن الحسن البصري لم يسمع من عثمان بن أبي العاص(3)". وكذا قال ابن حجر".
وجزم علي بن المديني بسماع الحسن من عثمان بن أبي العاص(4)".
وما ذكره ابن إسحاق وغيره في شأن وفد ثقيف قد جاء أكثره مفرقا في أحاديث كثيرة فيها الصحيح و الحسن و الضعيف وهي:
ما رواه مسلم وغيره من حديث جابر بن عبد الله وهذا سياقه عند مسلم:
219- حدثنا يحيى بن يحيى(5) وإسماعيل بن سالم قالا: "أخبرنا هشيم عن أبي بشر عن سفيان عن جابر بن عبد الله أن وفد ثقيف سألوا النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: "إن أرضنا أرض باردة، فكيف بالغسل؟ فقال: "أما أنا فأفرغ على رأسي ثلاثا". قال ابن سالم في روايته: "حدثنا هشيم أخبرنا أبو بشر". وقال: "إن وفد ثقيف، قالوا: "يا رسول الله"(6)".
__________
(1) سنن أبي داود2/146كتاب الخراج والفيء والإمارة،باب ما جاء في خبر الطائف".
(2) أحمد: "المسند 4/218 وزاد في آخر الحديث "قال عثمان بن أبي العاص يا رسول الله: "علمني القرآن واجعلني إمام قومي".
وأبو داود الطيالسي كما في منحة المعبود 1/25 وزاد في آخر الحديث قال أبو داود: "قال ابن فضالة: "سمعت الحسن يزيد في هذا الحديث أن ثقيفا قالت: "سنعطيكها على قماة فيها". والطبراني: "المعجم الكبير 9/45".
(3) عون المعبود 8/268 وانظر تهذيب التهذيب لأبن حجر 2/244".
(4) العلل لابن المديني ص 54".
(5) يحيى بن يحيى هو النيسابوري أبو زكريا، وإسماعيل بن سالم: "هو الصائغ البغدادي، وهشيم: "هو ابن بشير".
وأبو بشر: "هو جعفر بن إياس ابن أبي وحشية، وأبو سفيان: "هو طلحة بن نافع الإسكاف".
(6) صحيح مسلم 1/ 159 كتاب الحيض".(8/16)
قال النووي: "قوله قال ابن سالم في روايته حدثنا هشيم قال حدثنا(1) أبو بشر هذا فيه فائدة عظيمة من دقائق هذا العلم ولطائفه، وهي مصرحة بغزارة علم مسلم رحمه الله تعالى، ودقة نظره، وهي أن هشيما - رحمه الله تعالى - مدلس، وقد قال في الرواية المتقدمة، عن أبي بشر".
والمدلس إذ قال "عن" لا يحتج به إلا إذا أثبت سماعه ذلك الحديث من ذلك الشخص، الذي عنعن عنه، فبين مسلم أنه ثبت سماعه من جهة أخرى".
وهي رواية ابن سالم فإنه قال فيها: "أخبرنا أبو بشر(2)". اهـ".
والحديث رواه أبو داود الطيالسي قال: "حدثنا هشيم عن أبي بشر به، ولفظه "أن أهل الطائف قالوا يا رسول الله إن أرضنا أرض باردة، فما يجزئنا من غسل الجنابة؟
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أما أنا فأفرغ على رأسي ثلاثا"(3).
رواه الإمام أحمد من طريق أبي زبير عن جابر، فقال: "حدثنا موسى(4) ثنا ابن لهيعة(5) عن ابن الزبير(6) قال سألت جابر عن الغسل، قال: "أتت ثقيف النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: "إن أرضنا باردة، فكيف تأمرنا بالغسل؟
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أما أنا فأصب على رأسي ثلاث مرات ولم يقل غير ذلك"(7).
وأورده الهيثمي عن أنس بن مالك ثم قال: "رواه أبو يعلى ورجاله رجال الصحيح(8)". بلفظ: "أن وفد ثقيف قالوا:يا رسول الله إن أرضنا أرض باردة فما يكفينا من غسل الجنابة؟ قال: "أما أنا فأفيض على رأسي ثلاثا".
__________
(1) في المتن "أخبرنا".
(2) شرح النووي على صحيح مسلم 1/624".
(3) منحة المعبود 1/60".
(4) موسى بن داود الضبي، أبو عبد الله الطرسوسي، نزيل بغداد، قاضي طرسوس صدوق فقيه زاهد، له أوهام، من صغار التاسعة (ت 217) م د س ق (التقريب 2/282 وتهذيب التهذيب 10/342).
(5) عبد الله بن لهيعة صدوق تقدم في حديث 0 64).
(6) محمد بن مسلم بن تدرس أبو الزبير المكي، صدوق تقدم في حديث (109).
(7) مسند الإمام أحمد 3/348 والفتح الرباني 2/131".
(8) مجمع الزوائد 1/271".(8/17)
وأخرج أحمد أيضا من طريق أخرى فقال: "حدثنا يحيى بن آدم ثنا مفضل بن مهلهل عن مغيرة عن شباك عن الشعبي عن رجل من ثقيف قال: "سألنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثا فلم يرخص لنا، فقلنا: "إن أرضنا باردة فسألناه أن يرخص لنا في الطهور فلم يرخص لنا وسألناه أن يرخص لنا في الدباء(1) فلم يرخص لنا فيه، وسألناه أن يرد إلينا أبا بكرة فأبى وقال: "هو طليق الله و طليق رسوله" الحديث(2)".
قال الهيثمي: "رواه أحمد ورجاله ثقات"(3).
ما رواه أبو داود و أحمد من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما و هذا سياقه عند أبي داود قال:
220- حدثنا الحسن(4)
__________
(1) الدباء: "القرع واحدها دباءة، ووزن الدباء: "فعّال، ولامه همزة لأنه لا يعرف انقلاب لامه عن واو أو ياء، قاله الزمخشري وأخرجه الهروي في هذا الباب على أن همزته زائدة".
أخرجه الجوهري في المعتل على أن همزته منقلبة، وكأنه أشبه".
ونهاهم عن الدباء،أي عن الإنتباذ فيه لأنه تسرع تسرع الشدة فيه فيؤدي إلى السكر (النهاية لابن الأثير 2/96).
(2) تقدم تخريجه برقم (147).
(3) مجمع الزوائد (4/245).
(4) الحسن بن الصباح البزار - آخره راء - أبو علي الواسطي نزيل بغداد، صدوق يهم، وكان عابدا فاضلا، من العاشرة (ت 249) هكذا قال عنه ابن حجر، وفي ميزان الاعتدال رمز له الذهبي بـ (صح) إشارة إلى أنه ثقة".
وقد روى عنه (خ د ت س) كما في هدي الساري لابن حجر وتهذيب التهذيب له، وسير أعلام النبلاء للذهبي و الخلاصة للخزرجي".
وسقطت علامة النسائي من ميزان الاعتدال وتذكرة الحفاظ كلاهما للذهبي وفي تقريب التهذيب الطبعة المصرية بزيادة مسلم".
والظاهر أن الذي أخرج له هو البخاري والأربعة سوى ابن ماجه كما قال ابن حجر في هدي الساري (انظر التقريب 1/167 و تهذيب التهذيب 2/289-290 وسير أعلام النبلاء 2/262 وميزان الاعتدال 1/499 وتذكرة الحفاظ 2/476 وهدي الساري ص 397 والخلاصة 1/214).(8/18)
بن الصباح أخبرنا إسماعيل(1) يعني بن عبد الكريم - حدثني إبراهيم(2) - يعني بن عقيل بن منبه- عن أبيه(3) عن وهب(4) قال: "سألت جابر عن شأن ثقيف إذ بايعت، قال: "اشترطت على النبي صلى الله عليه وسلم أن لا صدقة عليها و لاجهاد، وأنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "سيتصدقون ويجاهدون إذا أسلموا"(5). والحديث حسن لذاته".
ورواه أحمد قال ثنا حسن(6) ثنا ابن لهيعة(7) ثنا أبو الزبير قال: "سألت جابرا عن شأن ثقيف إذ بايعت". الحديث(8)".
ما رواه أبو داود و ابن ماجه و أحمد وغيرهم من حديث أوس بن حذيفة وهذا سياقه عند أحمد قال: "
__________
(1) إسماعيل بن عبد الكريم بن معقل بن منبه - بالموحدة - أبو هشام الصنعاني، صدوق من التاسعة / د فق (التقريب 1/72، وتهذيب التهذيب 1/315).
(2) إبراهيم بن عقيل بن معقل الصنعاني، صدوق من الثامنة / د (التقريب 1/40 وتهذيب التهذيب 1/146).
(3) هو عقيل بن معقل بن منبه اليماني، ابن أخي وهب، صدوق، من السابعة/ د (التقريب 2/29 وتهذيب التهذيب 7/255).
(4) وهب بن منبه بن كامل اليماني، أبو عبد الله الأبناوي - بفتح الهمزة وسكون الموحدة بعدها نون- ثقة من الثالثة، (ت سنة بضع عشرة ومائة / خ م د ت س فق (التقريب 2/339 وتهذيب التهذيب 11/166-168).
(5) أبو داود: "السنن 2/146 كتاب الخراج والفيء والإمارة، باب ما جاء في خبر الطائف".
(6) الحسن بن موسى الأشيب - بمعجمة ثم تحتانية - أبو علي البغدادي قاضي الموصل وغيرها، ثقة من التاسعة (ت 209 أو 210) / ع (التقريب 1/171 وتهذيب التهذيب 2/323، ومسند أحمد 3/337".
(7) ابن لهيعة: "هو عبد الله بن لهيعة، وأبو الزبير هو محمد بن مسلم بن تدرس المكي، تقدمت ترجمتهما".
(8) المسند 3/341".(8/19)
221- حدثنا عبد الرحمن بن مهدي ثنا عبد الله(1) بن عبد الرحمن الطائفي عن عثمان(2) بن عبد الله بن أوس(3)
__________
(1) عبد الله بن عبد الرحمن بن يعلى بن كعب أبو يعلى الطائفي الثقفي صدوق يخطأ ويهم تقدم في حديث (45).
(2) عثمان بن عبد الله بن أوس الثقفي الطائفي مقبول من الثالثة/ د ق (التقريب 2/11 وقال الذهبي في ميزان الاعتدال 3/43:محله الصدق وثقه ابن حبان وفي تهذيب التهذيب 7/129 ذكره ابن حبان في الثقات له عند أبي داود وابن ماجه حديث في وفد ثقيف". وانظر: "(الخلاصة للخزرجي2/217) وقد سقطت علامة أبي داود من التقريب الطبعة المصرية".
(3) أوس بن حذيفة وهو أوس بن أبي أوس، واسم أبي أوس حذيفة، وهو والد عمرو بن أوس الثقفي، روى عن النني صلى الله عليه وسلم وعن علي بن أبي طالب وعنه ابنه عمرو وابن ابنه عثمان بن عبد الله، والنعمان بن سالم وجماعة".
وفي مسند أحمد 3/8: "أوس بن أوس الثقفي وهو أوس بن حذيفة".
وقال البخاري في (التاريخ الكبير 2/ 15-16): "أوس بن حذيفة الثقفي والد عمرو ابن أوس، ويقال: "أوس بن أبي أوس، ويقال أوس بن أوس 10 هـ".
وكذا قال ابن حبان في الصحابة".
وقال أبو نعيم في معرفة الصحابة: "اختلف المتقدمون في أوس هذا: "فمنهم من قال: "أوس بن حذيفة، ومنهم من قال: "أوس بن أبي أوس وكنى أباه، ومنهم من قال أوس ابن أوس".
وأما أوس بن أوس الثقفي، و قيل أوس بن أبي أوس، فروى عنه الشاميون، قال: "وتوفي أوس بن حذيفة سنة (49)، وقال ابن حجر: "أوس بن أبي أوس: "هو أوس ابن حذيفة وأن أوس بن أوس: "غير أوس بن أبي أوس". وإنما قيل في أوس بن أوس هذا: "أوس بن أبي أوس، وقيل في أوس بن أبي أوس: "أوس بن أوس خطأ".
والتحقيق أنهما اثنان". تهذيب التهذيب 1/381-382 والإصابة 1/79-82 و1/133 وكذا فرق المزي بينهما في تحفة الأشراف 2/2و4 وأن أوس بن أوس ابن أبي أوس هو أوس بن حذيفة".(8/20)
الثقفي عن جده أوس بن حذيفة قال: "كنت في الوفد الذين أتو النبي صلى الله عليه وسلم أسلموا من ثقيف(1)، من بني مالك أنزلنا في قبة له، فكان يختلف إلينا بين بيوته وبين المسجد، فإذا صلى العشاء الآخرة(2) انصرف إلينا، ولا نبرح(3)
__________
(1) وعند أبي داود"قدمنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم في وفد ثقيف، قال فنزلت الأحلاف على المغيرة بن شعبة وأنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم بن مالك في قبة له"، وعند ابن ماجه "فنزلوا الأحلاف على المغيرة بن شعبة" وعند أبي داود الطيالسي "قال: "قدمنا وفد ثقيف على النبي صلى الله عليه وسلم، فنزل الأحلافيون على المغيرة وأنزل المالكيين قبته" وكذا عند أبي نعيم "وعند الطبراني" قدمنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفد ثقيف فأنزل عليه في قبة له، فنزل إخواننا من الأحلاف على المغيرة بن شعبة".
(2) وعند أبي داود "قال كان كل ليلة يأتينا بعد العشاء يحدثنا قائما على رجليه حتى يراوح بين رجليه من طول القيام"
وعند ابن ماجه "فكان يأتينا كل ليلة بعد العشاء فيحدثنا قائما على رجليه، حتى يراوح بين رجليه".
وعند أبي نعيم "فكان يأتينا بعد العشاء الآخرة فيحدثنا".
وعند أبي داود الطيالسيي"قال وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتينا فيحدثنا بعد العشاء الآخرة حتى يراوح بين قدميه من طول القيام"
وعند ابن سعد "وكان ينصرف إليهم بعد العشاء الآخرة فيحدثهم قائما على رجليه، يرواح بين قدميه مما قد مل من القيام".
(3) وعند أحمد أيضا "فلا يبرح يحدثنا ويشتكي قريشا"
وعند أبي داود الطيالسي "فكان أكثر ما يحدثنا اشتكاء قريش"
وعند أبي داود وابن ماجه "وأكثر ما يحدثنا ما لقي من قومه من قريش".
وعند ابن سعد "وأكثر ما يحدثهم اشتكاء أهل مكة وقريش".
وعند الطبراني "وكان أكثر حديثه تشكية قريش"
وعند أبي نعيم "فكان أكثر ما اشتكى قريشا".(8/21)
حتى يحدثنا ويشتكي قريشا ويشتكي أهل مكة ثم يقول: "لا سواء(1) كنا بمكة مستذلين ومستضعفين فلما خرجنا إلى المدينة كانت سجال الحرب علينا ولنا(2) فمكث عنا ليلة لم يأتينا حتى طال ذلك علينا بعد العشاء(3)، قال: "قلنا ما أمكثك عنا يا رسول الله؟
قال: "طرأ(4)
__________
(1) لا سواء: "أي حالنا الآن غير ما كانت عليه قبل الهجرة (عون المعبود 4/271) وعند أبي داود أيضا "لا أنسى" "والمعنى لا أنسى أذيتهم وعداوتهم".
(2) وعند أبي داود الطيالسي "فلما قدمنا المدينة انتصفنا من القوم، فكانت سجال الحرب علينا ولنا".
وعند أبي داود وابن ماجه "وكانت سجال الحرب بيننا و بينهم ندال عليهم ويدالون علينا".
وعند ابن سعد "وكانت الحرب بيننا و بينهم سجالا".
وعند الطبراني "فلما أتينا المدينة كانت الحرب سجالا علينا ولنا".
والسجال: "مرة لنا ومرة علينا (النهاية 2/344).
(3) وعند أبي داود "فلما كانت ليلة أبطأ عن الوقت الذي كان يأتينا فيه، فقلنا لقد أبطأت عنا الليلة".
وعند ابن ماجه "فلما كان ذات ليلة أبطأ عن الوقت الذي كان يأتينا فيه".
وعند أبي داود الطيالسي "فاحتبس عنا ليلة عن الوقت الذي كان يأتينا فيه ثم أتانا، فقلنا يا رسول الله احتبست عنا الليلة عن الوقت الذي كنت تأتينا فيه".
وعند ابن سعد "فاحتبس عنا ذات ليلة فقلنا: "يا رسول الله ما حبسك عنا الليلة؟". وعند الطبراني "فأبطأ علينا ذات ليلة فأطول فقلنا يا رسول الله لقد أبطأت".
(4) طرأ علي حزب من القرآن: "أي ورد وأقبل، يقال طرأ يطرأ مهموزا إذا جاء مفاجأة، كأنه فجأه الوقت الذي كان يؤدي فيه ورده من القراءة (النهاية 3/117، عون المعبود 4/271).
وعند أبي داود وابن ماجه و أبي داود الطيالسي والطبراني "طرأ علي حزبي" وعند ابن سعد "أنه طرأ علي نفر من الجن، وبقي علي من حزبي شيء فكرهت أن أخرج من المسجد حتى أقرأه".(8/22)
علي حزب من القرآن فأردت أن لا أخرج حتى أقضيه". قال فسألنا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، حين أصبحنا، قال: "قلنا كيف تحزبون القرآن؟(1)".
قالوا: "نحزبه ثلاث سور، وخمس سور، وسبع سور، وتسع سور، وإحدى عشرة سورة، وثلاث عشرة سورة وحزب مفصل(2) من قاف حتى يختم"(3).
__________
(1) وعند أبي داود الطيالسي "قال فلما أصبحنا سألنا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أحزاب القرآن كيف تحزبونه؟
فقالوا: "ثلاث، وخمس، وسبع، وتسع، وإحدى عشرة، وثلاث عشرة، وحزب المفصل".
وعند ابن سعد: "فلما أصبحنا قلنا: "لأصحابه: "إن رسول الله صلى الله عليه وسلم، حدّثنا أنه طرأ عليه نفر من الجنّ وبقي عليه حزب من القرآن فكيف كنتم تحزبون القرآن؟".
فقالوا: "نحزبه ثلاث سور، خمس سور، سبع سور، تسع سور، احدى عشرة سورة، وثلاث عشرة سورة، وحزب المفصل ما بين قاف فأسفل".
وعند أبي داود "قال أوس: "سألت أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف تحزبون القرآن؟ قالوا: "ثلاث وخمس إلخ".
(2) وعند أبي داود "وحزب المفصل وحده"
والمراد بالحزب: "هو ما يجعله الإنسان على نفسه من قراءة أو صلاة، والحزب الطائفة، والمعنى أنهم كانوا يجعلون للقرآن منازل، فالمراد (بالثلاث) البقرة، وآل عمران، والنساء، فهذه السور الثلاث منزل واحد من سبع منازل القرآن، (وخمس) من المائدة إلى براءة، و(سبع) من يونس إلى النحل، و(تسع) من بني إسرائيل إلى الفرقان، و(إحدى عشرة) من الشعراء إلى ياسين و(ثلاث عشرة) من الصفات إلى الحجرات، و(حزب المفصل) من قاف إلى آخر القرآن، فعلم من هذا أن في عصر الصحابة كان ترتيب القرآن مشهور على هذا النمط المعروف الآن". (النهاية 1/376 وجامع الأصول 2/476 وعون المعبود 4/272).
(3) مسند أحمد 4/9 و 343".(8/23)
والحديث رواه أبو داود وابن ماجه وأبو داود الطيالسي والطبراني وأبو نعيم كلهم من طريق عبد الله بن عبد الرحمن الطائفي به(1).
ورواه ابن سعد عن الضحاك بن مخلد والفضل بن دكين وعبد الملك(2) بن عمرو أبي عامر، ومحمد(3) بن عبد الله الأسدي، قالوا: "حدثنا عبد الله بن عبد الرحمن الثقفي، قال: "حدثني عثمان بن عبد الله بن أوس".
قال الفضل بن دكين ومحمد بن عبد الله وأبو عامر عن جده أوس ابن حذيفة(4)".
وقال الضحاك بن مخلد عن عمه(5) عمرو بن أوس عن أبيه، الحديث(6)".
والحديث مدراه على عبد الله بن عبد الرحمن الطائفي عن شيخه عثمان بن عبد الله، وقد قال ابن حجر: "عن عبد الله بن عبد الرحمن "صدوق يخطئ ويهم"(7)".
__________
(1) أبو داود: "السنن 1/321-322 كتاب شهر رمضان باب في تحزيب القرآن وابن ماجه: "السنن 1/427-428 كتاب الإقامة، باب في كم يستحب يختم القرآن، وأبو داود الطيالسي: "كما في منحة المعبود 2/4 والطبراني: "المعجم الكبير 1/190، أبو نعيم: "حلية الأولياء 1/347-348".
(2) هو القيسي أبو عامر العقدي (تهذيب التهذيب 6/409).
(3) الظاهر أنه محمد بن عبد الله بن الزبير بن عمر بن درهم الأسدي أبو أحمد فإنه يروي عن سفيان الثوري، وقد ذكر ابن سعد أن محمدا هذا يروي عن سفيان بن سعيد". (الطبقات الكبرى 1/488 و5/521 وتهذيب التهذيب 9/254).
(4) تقدم في حديث (221).
(5) والمعنى: "أن عبد الله بن عبد الرحمن الثقفي في رواية الضحاك حدث عن عثمان بن عبد الله عن عمه عمرو بن أوس عن أبيه أوس بن حذيفة وهو جد عثمان".
والمعنى أن عثمان لم يرو عن جده مباشرة كما هو عند الباقين، وإنما روى عنه بواسطة عمرو بن أوس". وهذا لا مانع منه فقد يكون أخذ عثمان هذا الحديث عن عمه عمرو وعن جده، فكان تارة يرويه بواسطة وتارة بدون واسطة وقد ذكر ابن حجر أنه يروي عن جده أيضا".
(6) الطبقات الكبرى 5/510-511".
(7) انظر حديث (221).(8/24)
وقال عن عثمان بن عبد الله "مقبول"(1)".
ولكن عبد الله بن عبد الرحمن قد وثقه ابن حبان والعجلي، وابن المديني فيما حكى ابن خلفون(2)(3)".
وعثمان بن عبد الله: "وثقه ابن حبان أيضا، وقال الذهبي: "محله الصدق(4)".
وعلى كل حال فإن قسم الحديث الأول وهو ما يتعلق بوفود ثقيف، ثابت في الأحاديث المتقدمة والأحاديث المتقدمة والأحاديث الآتية وهي: "
حديث أوس أيضا عند أحمد والنسائي وابن ماجه وغيرهم وهذا سياق أحمد:
222- ثنا محمد(5) بن جعفر قال ثنا شعبة عن النعمان(6) بن سالم قال: "سمعت أوسا(7) يقول: "أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في وفد ثقيف فكنا(8)
__________
(1) انظر حديث (221).
(2) هو: "الحافظ محمد بن إسماعيل بن محمد بن خلفون الإمام المجود أبو بكر الأزدي، الأندلسي نزيل إشبيلية، ولد سنة (555) ومات (636) كان بصيرا بصناعة الحديث حافظا للرجال متقنا، له كتاب سماه (المنتقى) في رجال الحديث في خمسة أسفار، وله كتاب "المفهم في شيوخ البخاري ومسلم) وله غير ذلك (تذكرة الحفاظ للذهبي 4/1400).
(3) تهذيب التهذيب 5/299".
(4) تهذيب التهذيب 7/129 وميزان الإعتدال 3/43".
(5) هو (غندر).
(6) النعمان بن سالم الطائفي، روى عن جدته وعثمان بن أبي العاص وأوس بن أبي أوس، وعمرو بن أوس وغيرهم".
وعنه شعبة وسماك بن حرب وحاتم بن أبي صغيرة وغيرهم، ثقة من الرابعة وقيل هما اثنان/م ع (التقريب 2/304، وتهذيب التهذيب 10/453).
(7) هو أوس بن أبي أوس وهو أوس بن حذيفة".
انظر حديث (221). ص 472 تعليقة (7).
(8) وعند النسائي "فكنت معه في قبة فنام من كان في القبة غيري وغيره فجاء رجل فساره إلخ".
وعند الدارمي "عن النعمان بن سالم قال: "سمعت أوس بن أبي أوس الثقفي، قال: "أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في وفد ثقيف، قال: "وكنت في أسفل القبة ليس فيها أحد إلا النبي صلى الله عليه وسلم نائم، إذ أتاه رجل فساره الخ".
وعند أبي داود الطيالسي "عن أوس بن أبي أوس الثقفي وكان في الوفد قال: "كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم في قبة وما من القوم أحد إلا أنا ثم غيري فجاء رجل فساره إلخ" كذا وقع والصواب وما من القوم أحد إلا نائم غيري، وعند أبي نعيم "عن أوس بن أوس الثقفي قال: "دخل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن في فبته في مسجد المدينة، فأتاه رجل فساره بشيء لا ندري ما يقول".(8/25)
في قبة فقام من كان فيها غيري و غير رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاء رجل فساره(1) فقال: "اذهب(2) فاقتله".
ثم قال: "أليس(3) يشهد أن لا إله إلا الله، قال: "بلى، ولكنه يقولها تعوذا(4) فقال: "رده، ثم قال: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فإذا قالوها(5) حرمت علي دماؤهم وأموالهم إلا بحقها".
فقلت لشعبة: "أليس في الحديث ثم قال: "أليس يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، قال شعبة: "أظنها معها(6) وما أدري(7)".
__________
(1) ساره مسارة وسرارا بالكسر ناجاه (مختار الصحاح ص 295).
(2) وعند ابن ماجه: "اذهبوا به فاقتلوه" وعند أبي نعيم: "اذهب فقل لهم يقتلوه".
(3) وعند أحمد أيضا "أن أوسا قال: "إنا لقعود عند رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصفة وهو يقص علينا ويذكرنا إذ جاءه رجل فساره فقال: "اذهبوا فاقتلوه" قال: "فلما ولّى الرجل دعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أيشهد أن لا إله إلا الله، قال رجل نعم نعم، يا رسول الله فقال: "اذهبوا فخلوا سبيله".
وعند ابن ماجه "فلما ولى الرجل دعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "هل يشهد أن لا إله إلا الله؟" قال: "نعم، قال: "اذهبوا فخلوا سبيله".
وعند النسائي "فقال: "أليس يشهد أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله؟". قال: "يشهد، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ذره".
(4) ولكنه يقولها تعوذا: "أي إنما أقر بالشهادة لا جئا إليها لا معتصما بها ليدفع عنه القتل، وليس بمخلص في إسلامه (النهاية 3/318).
(5) وعند ابن ماجه "فإذا فعلوا ذلك، حرم علي دماؤهم وأموالهم". وعند أبي داود الطيالسي "فإذا شهدوها فقد منعوا دماؤهم واموالهم". أو قال: "قد منعوا إلا بحقها".
(6) وعند الدارمي "قال شعبة وأشك: "أن محمدا رسول الله".
(7) مسند أحمد: "4/8-9".(8/26)
والحديث صحيح وقد رواه النسائي وأبو داود الطيالسي والدارمي كلهم عن طريق شعبة عن النعمان بن سالم به(1)".
ورواه أبو نعيم من طريق سماك بن حرب عن النعمان بن سالم به(2)".
والحديث في هذه الطرق من رواية النعمان بن سالم قال: "سمعت أوسا بدون واسطة".
ورواه النسائي وابن ماجه وأحمد الجميع من طريق حاتم بن أبي صغيرة قال: "حدثني النعمان بن سالم أن عمرو بن أوس أخبره عن أبيه(3) أوس، فوسط بين النعمان وأوس (عمرو بن أوس) وحاتم ثقة(4).
فيخرج على أن النعمان بن سالم حمل هذا الحديث عن عمرو بن أوس عن أبيه أوس.
ثم لقي أوسا بعد ذلك فحمله عنه مباشرة، فكان بعد ذلك تارة يروي الحديث عن أوس بواسطة ابنه عمرو بن أوس، وتارة يرويه عن أوس مباشرة، ولا مانع من هذا، خاصة أنّ عمرو بن أوس من شيوخ النعمان بن سالم أيضا(5)".
ما رواه أبو داود الطيالسي من حديث أوس الثقفي قال: "
__________
(1) النسائي: "السنن 7/74-75 كتاب تحريم الدم، وأبو داود الطيالسي: "كما في منحة المعبود 1/26".
والدارمي: "2/137 كتاب السير، باب في القتال على قول النبي صلى الله عليه وسلم أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله". وعنده وعند الطيالسي "عن النعمان بن سالم قال: "سمعت أوس بن أبي أوس".
(2) حلية الأولياء1/347-348 وعنده عن النعمان بن سالم عن أوس بن أبي أوس".
(3) النسائي: "السنن 7/74-75 كتاب تحريم الدم، وأحمد: "المسند 4/9 وابن ماجه: "السنن 2/1295 كتاب الفتن، باب الكف عمن قال: "لا إله إلا الله قال: "محمد فؤاد عبد الباقي في هذا الحديث إنه من زوائد ابن ماجه وإسناده صحيح، ورجاله ثقات، لكن الحديث في النسائي أيضا موجود، وأشار في الزوائد إلى شيء من ذلك".
(4) انظر ترجمته في التقريب 1/137".
(5) انظر تهذيب التهذيب 10/453".(8/27)
223- حدثنا قيس(1) عن عمير(2) بن عبد الله بن عبد الملك(3) بن المغيرة الطائفي عن أوس الثقفي قال: "قدمنا على النبي صلى الله عليه وسلم في وفد ثقيف فأقمنا عنده نصف شهر، فرأيته ينفتل عن يمينه وعن يساره"(4)".
ورواه الطحاوي من طريق قيس بن الربيع به فقال: "عن أوس بن أوس، أو أوس بن أويس، قال: "أقمت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم نصف شهر فرأيته يصلي ويسلم عن يمينه وعن شماله(5)".
قال ابن حجر: "وعندي أن أوسا هذا هو أوس بن أبي أوس الثقفي المتقدم ذكره في القسم الماضي، وهم في اسم أبيه قيس بن الربيع، وقد رواه شعبة عن النعمان بن سالم سمعت رجلا جده أوس بن أبي أوس، قال: "كان جدي يصلي فيأمرني أن أناوله نعليه ويقول رأيت رسول الله يصلي في نعليه(6)".
__________
(1) قيس بن الربيع الأسدي، أبو محمد الكوفي، صدوق تغير لما كبر، وأدخل عليه ابنه ما ليس من حديثه فحدث به تقدم في حديث (27).
(2) عمير بن عبد الله بن بشر الخثعمي الكوفي، ثقة من السادسة /مد (التقريب 2/86 وتهذيب التهذيب 8/148).
(3) عبد الملك بن المغيرة الطائفي من الرابعة، /مد ت (التقريب 1/523 وفي تهذيب التهذيب 6/426) قال: "ذكره ابن حبان في الثقات".
(4) منحة المعبود 1/103-104، وفي صحيح البخاري ومسلم من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: "لا يجعل أحدكم للشيطان شيئا من صلاته يرى أنّ حقاً عليه أن لا ينصرف إلا عن يمينه، لقد رأيت النبي صلى الله عليه وسلم كثيرا ينصرف عن يساره" لفظ البخاري ولفظ مسلم "أكثر ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينصرف عن شماله" وبوب البخاري بقوله (باب الانفتال والانصراف عن اليمين والشمال، وساق الحديث (صحيح البخاري 1/140 وصحيح مسلم 1/392 كتاب صلاة المسافرين باب جواز الانصراف من الصلاة عن اليمين والشمال).
(5) شرح معاني الآثار 1/269".
(6) الإصابة 1/133 و1/79".(8/28)
ما رواه مسلم والنسائي وابن ماجه وأحمد والطبراني من حديث الشريد بن سويد وهذا سياقه عند مسلم قال:
224- حدثني يحيى(1) بن يحيى أخبرنا هشيم - ح - وحدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا شريك(2) بن عبد الله، وهشيم بن بشير عن يعلى(3) عن عطاء عن عمرو(4) بن الشريد، عن أبيه قال: "كان في وفد ثقيف رجل مجذوم(5)، فأرسل إليه النبي صلى الله عليه وسلم "إنا قد با يعناك فارجع"(6)
__________
(1) هو ابن بكير أبو زكريا النيسابوري".
(2) شريك بن عبد الله القاضي النخعي الكوفي تقدم في حديث (26).
(3) يعلى بن عطاء العامري الليثي الطائفي (تهذيب التهذيب 11/403).
(4) عمرو بن الشريد بن سويد الثقفي أبو الوليد الطائفي (تهذيب التهذيب 8/47) وعند النسائي وابن ماجه من طريق هشيم عن يعلى بن عطاء عن رجل من آل الشريد يقال له عمرو عن أبيه الخ".
(5) الجذام: "داء تتآكل منه الأعضاء وتتساقط (النهاية لابن الأثير 1/251، والمعجم الوسيط 1/113 والمصباح المنير 1/115).
وعند أحمد: "قدم على النبي صلى الله عليه وسلم رجل مجذوم من ثقيف ليبايعه، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له، فقال: "ائته فأخبره أنى قد بايعته فليرجع". وعند الطبراني: "ائته فاعلمه أنى قد بايعته فليرجع".
(6) صحيح مسلم 4/1752 كتاب السلام، باب بيعة من به عاهة".
وفي معنى هذا الحديث قال النووي: "هذا الحديث موافق للحديث الآخر في صحيح البخاري" "وفر من المجذوم فرارك من الأسد" ثم نقل عن القاضي عياض أنه قال: "وقد اختلفت الآثار عن النبي صلى الله عليه وسلم في قصة المجذوم، فثبت عنه الحديثان المذكوران، وعن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم أكل مع المجذوم وقال له: "كل ثقة بالله و توكلا عليه".
وعن عائشة قالت: "وكان لي مولى مجذوم فكان يأكل في صحافي ويشرب في أقداحي وينام على فراشي".
قال: "وقد ذهب عمر - رضي الله عنه - وغيره من السلف إلى الأكل مع المجذوم ورأوا أن الأمر باجتنابه منسوخ، والصحيح الذي قاله الأكثر ون ويتعين المصير إليه أنه لا نسخ، بل يجب الجمع بين الحديثين وحمل الأمر باجتنابه والفرار منه على الاستحباب والاحتياط، لا للوجوب وأما الأكل معه ففعله لبيان الجواز (شرح صحيح مسلم للنووي 5/87). وزاد ابن حجر وجهاً ثالثاً؛ وهو الترجيح وقد سلكه فريقان:
الأول: "رجح الأخبار الدالة على نفي العدوى، ورد الأحاديث الدالة على ثبوت العدوى".
الثاني: "سلك في الترجيح عكس الفريق الأول، فرد الأحاديث الدالة على نفي العدوى، ورجح الأحاديث الدالة على ثبوت العدوى". ثم قال ابن حجر: "والجواب عن ذلك أن طريق الترجيح لا يسار إليها إلا مع تعذر الجمع، وهو ممكن فهو أولى". (فتح الباري 10/159-160).اهـ".
وأحسن ما قيل في أوجه الجمع بين هذه الأحاديث أن تحمل أحاديث الفرار من ذوي العاهات وما يفهم منه وجود العدوى على استعمال الأسباب وأن المسلم ينبغي له الابتعاد عما يتوقع أن يكون سببا في وقوع العلل به، وتحمل أحاديث نفي العدوى والأكل مع ذوي العاهات المعدية على أن السبب بذاته غير مؤثر إلا بتقدير الله سبحانه وتعالى".
انظر: "فتح المجيد شرح كتاب التوحيد لعبد الرحمن بن حسن آل الشيخ ص 307-308، وأطيب المنح في علم المصطلح لعبد الكريم مراد وعبد المحسن العباد ص 22-23).(8/29)
.
والحديث رواه النسائي وابن ماجه وأحمد كلهم من طريق هشيم عن يعلى بن عطاء به(1)".
ورواه أحمد أيضا والطبراني كلاهما من طريق شريك بن عبد الله عن يعلى ابن عطاء به(2)".
والحديث مداره على هشيم وشريك وهما مدلسان و قد عنعناه(3)".
ما رواه الطبراني من حديث عثمان ابن أبي العاص وهذا سياقه:
__________
(1) سنن النسائي 7/134 كتاب البيعة، باب بيعة من به عاهة. وسنن ابن ماجه 2/1172 كتاب الطب، باب الجذام". ومسند أحمد 4/390".
(2) مسند أحمد 4/389 والمعجم الكبير للطبراني 7/380".
(3) ولكن الحديث في صحيح مسلم وقد قال النووي - رحمه الله - في مقدمة شرح مسلم 1/26: "واعلم أن ما كان في الصحيحين عن المدلسين بعن ونحوها فمحمول على ثبوت السماع من جهة أخرى، وقد جاء كثير منه في الصحيح بالطريقين جميعا فيذكر رواية المدلّس بعن ثم يذكرها بالسماع ويقصد به هذا المعنى الذي ذكرته".(8/30)
225- حدثنا يحيى(1) بن أيوب العلاف المصري، ثنا سعيد(2) بن أبي مريم ثنا محمد(3) بن جعفر عن سهيل(4) بن أبي صالح عن حكيم(5) ابن حكيم بن عباد بن حنيف عن عثمان بن أبي العاص قال: "قدمت في وفد ثقيف حين وفدوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فلبسنا حللنا بباب النبي صلى الله عليه وسلم، فقالوا: "من يمسك لنا رواحلنا، وكل القوم أحب الدخول على النبي صلى الله عليه وسلم وكره التخلف عنه، قال عثمان: "وكنت أصغر القوم، فقلت: "إن شئتم أمسكت لكم على أن عليكم عهد الله لتمسكن لي إذا خرجتم، قالوا: "فذلك لك، فدخلوا عليه ثم خرجوا، فقالوا: "انطلق بنا، قلت: "أين؟ فقالوا: "إلى أهلك فقلت ضربت من أهلي حتى إذا حللت بباب النبي صلى الله عليه وسلم أرجع ولا أدخل عليه وقد أعطيتموني من العهد ما قد علمتم، قالوا: "فاعجل فإنا قد كفيناك المسألة، لم ندع شيئا إلا سألناه عنه، فدخلت فقلت يا رسول الله: "ادعوا الله أن يفقهني في الدين ويعلمني، قال: "ماذا قلت؟". فأعدت عليه القول، فقال: "لقد سألتني شيئا ما سألني عنه أحد من أصحابك، اذهب فأنت أمير عليهم(6)
__________
(1) يحيى بن أيوب بن بادي - بموحدة وزن وادي - العلاف الخولاني، صدوق من الحادية عشر(ت 289) / س (التقريب2/343 وتهذيب التهذيب11/185).
(2) سعيد بن الحكم بن محمد بن سالم بن أبي مريم، ثقة ثبت فقيه".
(3) محمد بن جعفر بن أبي كثير الأنصاري الزرقي، مولاهم المدني، ثقة من السابعة/ ع (التقريب 2/150 وتهذيب التهذيب 9/94).
(4) سهيل بن أبي صالح، ذكوان السمان أبو يزيد المدني، صدوق، تغير حفظه بآخره، روى له البخاري مقروناً وتعليقاً من السادسة مات في خلافة المنصور / ع (التقريب 1/338 وتهذيب التهذيب 4/263). وقال عنه الذهبي في تذكرة الحفاظ 1/137: "سهيل بن أبي صالح في عداد الحفاظ، وفي سير أعلام النبلاء 5/458 قال عنه الإمام المحدث الكبير الصادق".
(5) صدوق تقدم في حديث (19).
(6) وعنه الطبراني أيضا من طريق محمد بن سعيد بن عبد الملك عن المغيرة بن شعبة قال: "قال عثمان بن أبي العاص- وكان شاباً- وفدنا على النبي صلى الله عليه وسلم فوجدني أفضلهم أخذا للقرآن وقد فضلتهم بسورة البقرة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "قد أمرتك على أصحابك وأنت أصغرهم فإذا أممت فأمهم بأضعفهم فإن وراءك الكبير والصغير والضعيف وذا الحاجة".
وأصل جعله أميرا على قومه وعلى أهل الطائف ثابت عند أحمد في مسنده 4/218 وابن ماجه في سننه 1/316 كتاب إقامة الصلاة باب من أم قوما فليخفف، وابن إسحاق كما في سيرة ابن هشام 2/541 والطبراني في عدة مواضع من معجمه الكبير، وأشار إلى ذلك مسلم و الترمذي (صحيح مسلم 1/342 كتاب الصلاة باب أمر الأئمة بتخفيف الصلاة في تمام).
وسنن الترمذي 1/135 كتاب الصلاة، باب ما جاء في كراهية أن يأخذ المؤذن على الأذان أجرا ولفظه عند مسلم "آخر ما عهد إليَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أممت قوما فأخف بهم الصلاة".(8/31)
وعلى من تقدم من قومك وأم الناس بأضعفهم"(1).
__________
(1) جعله إمام قومه في الصلاة والأمر بتخفيف الصلاة هذا الجزء ثابت في صحيح مسلم من حديث عثمان بن أبي العاص نفسه".
صحيح مسلم 1/341 - 342 كتاب الصلاة، باب أمر الأئمة بتخفيف الصلاة في تمام، وكذا عند أحمد في مسنده 4/21-22 و216-217-218 وابن إسحاق كما في سيرة ابن هشام 2/541، وأبو داود في سننه 2/234 كتاب الصلاة، باب أخذ الأجر على التأذين". والنسائي في سننه 2/20 كتاب الآذان، باب اتخاذ المؤذن الذي لا يأخذ على أذانه أجرا". ابن ماجه في سننه 1/316 كتاب الإقامة، باب من أم قوما فليخفف". وأبو داود الطيالسي: "كما في منحة المعبود 1/132 والطبراني في معجمه الكبير،و عند أبي داود والترمذي والنسائي وأحمد والطبراني "واتخذ مؤذناً لا يأخذ على آذانه أجراً". وقال الترمذي بعد إخراجه: "حديث عثمان حديث حسن صحيح".
والعمل على هذا عند أهل العلم: "كرهوا أن يأخذ المؤذن على الأذان أجرا، واستحب للمؤذن أن يحتسب في أذانه".
وقد اختلف العلماء في أخذ المؤذن أجرا، والذي رجحه الشوكاني: "أن الأجرة إنما تحرم إذا كانت مشروطة، لا إذا أعطيها بغير مسألة (نيل الأوطار 2/65-66 وتحفة الأحوذي 1/618-620، وعون المعبود 2/235).(8/32)
فخرجت حتى قدمت عليه مرة أخرى، فقلت يا رسول الله اشتكيت بعدك، فقال: "ضع يدك اليمنى على المكان الذي تشتكي وقل أعوذ بعزة الله وقدرته من شر ما أجد سبع مرات"(1) ففعلت فشفاني الله عز وجل(2)".
قال الهيثمي: "رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح، غير حكيم ابن حكيم بن عباد فقد وثق(3)".
حديث عبد الرحمن بن علقمة الثقفي عند النسائي و أبي داود الطيالسي و هذا سياقه عند النسائي: "
226- أخبرنا هناد(4) بن السري قال: "حدثنا أبو بكر(5)
__________
(1) هذا الجزء من الحديث جاء ما يؤيده عند مسلم في صحيحه 4/1728 كتاب السلام، باب استحباب وضع يده على موضع الألم مع الدعاء من طريق نافع بن جبير بن مطعم عن عثمان بن أبي العاص الثقفي أنه شكا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وجعا يجده في جسده منذ أسلم، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ضع يدك على الذي تألم من جسدك، وقل: "أعوذ بالله وقدرته من شر ما أجد وأحاذر".
(2) المعجم الكبير للطبراني 9/33 و34، و37، و38، و39-41، و47، و48، و53". وقد عزا المحقق حمدي عبد المجيد السلفي تخريج حديث رقم (8340) إلى حديث (8338) وهو خطأ".
(3) مجمع الزوائد9/371".
(4) هناد بن السري أبو السري الكوفي، ثقة".(التقريب 2/321).
(5) أبو بكر بن عياش - بتحتانية ومعجمة - ابن سالم الأسدي، الكوفي المقرئ، الحناط - بمهملة ونون - مشهور بكنيته، اختلف في اسمه". ثقة عابد إلا أنه لما كبر ساء حفظه وكتابه صحيح من السابعة، (ت 194) وقيل قبل ذلك بسنة أو سنتين أخرج له البخاري و الأربعة ومسلم في المقدمة، وقد سقطت علامة البخاري من التقريب الطبعة المصرية".
(التقريب 2/399 وتهذيب التهذيب 12/34 وهدي الساري ص 455، وميزان الاعتدال (4/499).(8/33)
بن عياش عن يحيى(1) بن هانئ عن أبي حذيفة(2) عن عبد الملك(3) بن محمد بن بشير بن عبد الرحمن(4)
__________
(1) يحيى بن هانئ بن عروة بن قعاص المرادي الكوفي أبو داود، ثقة من الخامسة، وروايته عن ابن مسعود مرسلة". د ت س (التقريب 2/359 وتهذيب التهذيب 11/293 والتاريخ الكبير للبخاري 8/309 والمزي في الأطراف 7/204 والجرح والتعديل لابن أبي حاتم 9/195 والمعرفة والتاريخ للفسوي 3/238 كلهم قالوا: "يحيى بن هانئ وكذا في مسند الطيالسي، ووقع في سنن النسائي يحيى بن أبي هانئ".
فلعل لفظة "أبي" مقحمة من النساخ".
(2) أبو حذيفة، غير منسوب،شيخ ليحيى بن هانئ بن عروة مجهول من السادسة، ويقال اسمه عبد الله بن محمد الكوفي /س (التقريب 2/410 وفي تهذيب التهذيب 12/69 روى عن عبد الملك بن نسير الكوفي، عن عبد الرحمن بن علقمة الثقفي في قدوم وفد ثقيف، وعنه يحيى بن هانئ بن عروة المرادي".
(3) عبد الملك بن محمد بن بشير - ضبط ابن ماكولا بشيرا بالنون والسين المهملة - الكوفي، روى عنه عبد الرحمن بن علقمة الثقفي في وفد ثقيف، وعنه أبو حذيفة مجهول من السادسة وقال البخاري: "لم يتبن لي سماع بعضهم من بعض".
روى له النسائي هذا الحديث الواحد وقد اختلف فيه".
قال ابن عدي: "ليس له إلا الشيء اليسير (التقريب 1/522 وتهذيب التهذيب 6/419، والتاريخ الكبير 5/431 وميزان الاعتدال 2/663) وقال عبد الملك بن محمد لا يعرف ما روي عنه سوى أبي حذيفة عبد الله".
(4) عبد الرحمن بن علقمة ويقال ابن أبي علقمة الثقفي مختلف في صحبته، روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أن وفد ثقيف قدموا عليه ومعهم هدية، وقيل رواه عن عبد الرحمن بن أبي عقيل عن النبي صلى الله عليه وسلم".
وروى أيضا عن عبد الله بن مسعود وعنه أبو صخرة جامع بن شداد المحاربي وعبد الملك بن محمد بن بشير الكوفي، وعون بن أبي جحيفة، وفرق ابن أبي حاتم: "بين عبد الرحمن بن علقمة الرواي حديث وفد ثقيف، وبين عبد الرحمن بن علقمة الراوي عن ابن مسعود".
فقال عن الأول روى عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقال عن الثاني عبد الرحمن بن علقمة الثقفي ويقال ابن أبي علقمة روى عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلا، وروى عن ابن مسعود وعبد الرحمن بن أبي عقيل وجعل كل واحد منهما يروي عنه جامع بن شداد وعبد الملك ابن محمد بن بشير، فالله أعلم".
غير أنه جعل حديث وفد ثقيف من رواية عبد الرحمن بن علقمة، وكذا عمل البخاري".
والحاصل أن عبد الرحمن راوي حديث وفد ثقيف اختلف في صحبته، فقال الخطيب ذكره غير واحد في الصحابة".
وقال ابن عبد البر: "في سماعه عن النبي صلى الله عليه وسلم نظر، وقد ذكره جماعة في الصحابة ولا يصح له صحبة". (انظر: "التقريب 1/492 وتهذيب التهذيب 6/233 والجرح و التعديل لابن أبي حاتم 5/248-273 والاستيعاب لابن عبد البر 2/416- 418 وأسد الغابة 3/476-477 والإصابة 2/412 وتاريخ البخاري 5/250".
وقد وقع في منحة المعبود "عن عبد الملك بن علقمة أبي علقمة الثقفي" والصواب "عن عبد الملك عن عبد الرحمن بن علقمة" أو ابن أبي علقمة". ووقع في ميزان الاعتدال 2/663". عن عبد الملك بن محمد بن بشير "عن عبد الرحمن عن علقمة". وفي الإصابة 2/411 أخرج ابن منده من طريق عون بن أبي جحيفة عن عبد الرحمن عن علقمة "والصواب" عن عبد الرحمن بن علقمة".(8/34)
بن علقمة الثقفي، قال: "قدم وفد ثقيف على رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعهم هدية، فقال: "أهدية أم صدقة؟(1) فإن كانت هدية فإنما يبتغى بها وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقضاء الحاجة، وإن كانت صدقة فإنما يبتغى بها وجه الله عز وجل".
قالوا: "لا، بل هدية، فقبلها منهم وقعد معهم يسائلهم ويسائلونه(2) حتى صلى الظهر مع العصر(3)".
والحديث رواه أبو داود الطيالسي عن أبي بكر بن عياش قال حدثنا يحيى بن هانئ به(4)".
قال ابن حجر: "ورواه أيضا إسحاق بن راهويه ويحيى(5) الحِمَّاني في مسنديهما من طريق أبي حذيفة عن عبد الملك(6) بن محمد بن بشير عن عبد الرحمن بن علقمة قال: "قدم وفد ثقيف على النبي صلى الله عليه وسلم". الحديث.
وأخرجه أبو داود الطيالسي في مسنده من هذا الوجه.
وذكره البخاري من طريق أبي حذيفة المذكور(7)".اهـ.
والحديث ضعيف؛ لما يأتي:
أ- جهالة أبي حذيفة وشيخه عبد الملك بن محمد".
__________
(1) وعند أبي داود الطيالسي "فقال: "أصدقة أم هدية؟".
(2) عند أبي داود الطيالسي "فسألوه فما زالوا يسألونه حتى ما صلوا الظهر إلا مع العصر".
(3) سنن النسائي 6/236 كتاب العمري".
(4) منحة المعبود 1/126-127".
(5) يحيى بن عبد الحميد بن بشمين - بفتح الموحدة وسكون المعجمة - الحماني - بكسر المهملة وتشديد الميم، الكوفي، حافظ إلاّ أنهم اتهموه بسرقة الحديث، من صغار التاسعة (ت228)/م ع ويقال: "إنه أول من صنف المسند في الكوفة (التقريب 2/352 وتهذيب التهذيب 11/243 وميزان الاعتدال 4/392).
(6) وقع في الإصابة "من طريق أبي حذيفة عبد الملك بن محمد بن بشير" وهو خطأ". والصواب من طريق أبي حذيفة عن عبد الملك".
(7) الإصابة 2/412". وانظر: "التاريخ الكبير للبخاري 5/250-252".(8/35)
ب- في سماع عبد الملك بن محمد من عبد الرحمن بن علقمة نظر، فقد قال البخاري: "عبد الملك بن محمّد بن بشير عن عبد الرحمن ابن علقمة عن النبي صلى الله عليه وسلم، حديثه في الكوفيين، ولم يتبين سماع بعضهم من بعض"(1)".
ج- الاختلاف في صحبة عبد الرحمن بن علقمة، وإذا لم تثبت صحبته فيكون الحديث منقطعا".
قال المزي: "حديث قدوم وفد ثقيف على النبي صلى الله عليه وسلم، رواه النسائي في العُمْرَى عن هناد بن السري، عن أبي بكر بن عياش، عن يحيى بن هانئ ابن عروة عن أبي حذيفة عن عبد الملك بن محمد بن بشير، عن عبد الرحمن بن علقمة به".
رواه جماعة عن أبي بكر بن عياش هكذا، ولم يسموا "أبا حذيفة" ورواه أحمد بن يونس عن زهير بن معاوية عن يزيد أبي خالد الأسدي، عن عون بن أبي جحيفة، عن عبد الرحمن بن علقمة، عن عبد الرحمن بن أبي عقيل عن النبي صلى الله عليه وسلم(2)".
ما رواه ابن ماجه من حديث عطية بن سفيان وهذا سياقه:
__________
(1) المصدر السابق 5/531".
(2) تحفة الأشراف 7/204 حديث (9707) وحديث أحمد بن يونس في المعرفة والتاريخ للفسوي 1/288، وانظر الإصابة 2/411".(8/36)
227- حدثنا محمد(1) بن يحيى ثنا أحمد(2) بن خالد الوهبي، ثنا محمد بن إسحاق عن عيسى بن عبد الله بن مالك، عن عطية(3) بن سفيان بن عبد الله بن ربيعة، قال: "ثنا وفدنا الذين قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، بإسلام ثقيف، قال: "وقدموا عليه في رمضان، فضرب عليهم قبة في المسجد فلما أسلموا صاموا ما بقي عليهم من الشهر"(4)".
في الزوائد: "في إسناد محمد بن إسحاق، وهو مدلس، وقد رواه بالعنعنة عن عيسى بن عبد الله، قال ابن المديني: "وتفرد بالرواية عنه". وقال: "عيسى ابن عبد لله مجهول(5)".
قلت: "في سيرة ابن هشام و الروض الأنف نحو هذا الحديث وقد صرح فيه ابن إسحاق بالتحديث وهذا سياقه:
__________
(1) محمد بن يحيى بن عبد الله بن خالد بن فارس بن ذؤيب الذهلي، النيسابوري ثقة حافظ جليل، من الحادية عشرة (ت 258) على الصحيح /خ ع". (التقريب 2/217 وتهذيب التهذيب 9/511).
(2) أبو سعيد الكندي صدوق، تقدم في حديث (32).
(3) عطية بن سفيان بن عبد الله بن ربيعةالثقفي، صدوق، من الثالثة وهم من عده صحابياً /ق (التقريب 2/24 والإصابة 3/167 و2/502) وفي تهذيب التهذيب 7/226 قال: "ذكره الطبراني في الصحابة لأن في روايته عن عطية بن سفيان قال قدم وفد ثقيف، هكذا وقع عنده مرسلاً، لم يقل عن وفد ثقيف فظنه الطبراني صحابيا فذكره في المعجم، وتبعه أبو نعيم وذكره في المعرفة، وقال: "فيه نظر". اهـ". (والحديث في المعجم الكبير للطبراني 17/169 ومجمع الزوائد 2/28).
ووقع في معجم الطبراني "عن عطية بن سفيان عن عبد الله" والصواب "عن عطية ابن سفيان بن عبد الله". فلظفة (ابن) حرفت إلى (عن).
(4) سنن ابن ماجه 1/559 كتاب الصيام، باب فيمن أسلم في شهر رمضان".
(5) انظر تهذيب التهذيب 8/217 والتقريب 2/99".
وقال عيسى بن عبد الله بن مالك الدار وهو مالك بن عياض العمري مولاهم، وقال بعضهم: "عبد الله بن عيسى بن مالك وهو وهم". التقريب 2/99".(8/37)
حدثني عيسى(1) بن عبد الله عن عطية بن سفيان بن ربيعة عن بعض وفدهم قال: "كان بلال يأتينا - حين أسلمنا وصمنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ما بقي من رمضان - بفطرنا وسحورنا من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فيأتينا وإنا لنقول: "إنا لنرى الفجر قد طلع، فيقول: "قد تركت رسول الله صلى الله عليه وسلم يتسحر، لتأخير السحور، ويأتينا بفطرنا(2) وإنا لنقول: "ما نرى الشمس كلها ذهبت بعد(3)، فيقول: "ما جئتكم حتى أكل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (4)
__________
(1) وقع في سيرة ابن هشام والروض ألأنف: "حدثني عيسى بن عبد الله بن عطية بن سفيان بن ربيعة الثقفي، فقوله: "عيسى بن عبد الله (بن عطية) خطأ والصواب: "عيسى بن عبد الله عن عطية، فحرف (عن) إلى (بن) فصار الاسمان اسما واحدا".
(2) قال ابن هشام "بفطورنا و سحورنا".
(3) تعجيل الفطر وتأخير السحور، ثابت في الصحيحين من حديث سهل بن سعد الساعدي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا يزال الناس بخير ما عجلوا الفطر".
ومن حديث زيد بن ثابت قال: "تسحرنا مع النبي صلى الله عليه وسلم ثم قام إلى لصلاة، قلت، كم كان بين الأذان و السحور؟ قال: "قدر خمسين آية صحيح البخاري 3/26 كتاب الصيام، باب كم قدر بين السحور وصلاة الفجر و33 باب تعجيل الإفطار".
وصحيح مسلم 2/771 كتاب الصيام، باب فضل السحور وتأكيد استحبابه واستحباب تأخيره وتعجيل الفطر".
(4) وعند الوقدي "وكان بلال يأتيهم بفطرهم، ويخيل إليهم أن الشمس لم تغب، فيقولون: "ما هذا من رسول الله إلا استبار لنا، ينظر كيف إسلامنا، فيقولون: "يا بلال، ما غابت الشمس بعد، فيقول بلال: "ما جئتكم حتى أفطر رسول الله صلى الله عليه وسلم (مغازي الواقدي 3/968).
والاستبار: "الامتحان والاختبار ليعلم حقيقة الشيء (النهاية 2/333).(8/38)
ثم يضع يده في الجفنة فيلتقم منها"(1)".
قال ابن حجر: "اختلف في هذا الحديث على ابن إسحاق اختلافا كثيرا فقال يونس بن بكير في زيادات المغازي، حدثني إسماعيل بن إبراهيم الأنصاري حدثني عبد الكريم حدثني علقمة بن سفيان، قال: "كنت في الوفد من ثقيف فضربت لنا قبة فكان بلال يأتينا بفطرنا من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم". الحديث، وكذا أخرجه البغوي والطبراني من طريق يونس بن بكير(2)".
وقال الطبراني: "تفرد به إسماعيل، وليس كما قال، فقد رواه البزار من رواية الضحاك بن عثمان عن عبد الكريم فقال: "عن علقمة بن سهيل الثقفي، وقال: "لا نعلم له غيره(3)".
ورواه ابن إسحاق، فقال ابن عبد البر: "اضطربوا فيه". ثم عقب ابن حجر على هذا بقوله: "قلت: "ورواه زياد البكائي عن ابن إسحاق عن عيسى عن عبد الله عن علقمة بن سفيان".
ورواه إبراهيم بن مختار عن ابن إسحاق عن عيسى عن سفيان(4) ابن عطية فقلبه".
وقال أحمد بن خالد الذهبي عن ابن إسحاق عن عيسى عن عطية حدثنا وفدنا، أخرجه ابن ماجه، ورواية أحمد بن خالد أشبه بالصواب، فإن عطية بن سفيان تابعي معروف، ولم أقف في شيء من طرقه على تسمية والد سفيان".
__________
(1) سيرة ابن هشام 2/540-541 والروض الأنف 7/335 والبداية والنهاية 5/32، وشرح المواهب 4/8".
(2) روى هذا الحديث في الأوسط فإني لم أجده في المعجم الكبير والصغير والذي وجدته في المعجم الكبير من غير طريق يونس بن بكير".
وقد قال الهيثمي بعد إيراد هذا الحديث رواه الطبراني: "في الأوسط والكبير بنحوه، (وانظر سياق حديث الطبراني في الكبير ص 487 تعليقة (2).
(3) انظر رواية البزار 1/466-467 من كشف الأستار.
(4) يعني هو عطية بن سفيان، فجعله سفيان بن عطية.(8/39)
وقد نسبه ابن مندة وغيره فقالوا: "علقمة بن سفيان بن عبد الله بن ربيعة الثقفي، وهذا هو نسب عطية التابعي: "ثم قال ابن حجر قلت: "قول الضحاك بن عثمان: "علقمة بن سهيل، أولى من قول إسماعيل: "علقمة بن سفيان، فإن علقمة في رواية ابن إسحاق محرف من عطية، بخلاف رواية عبد الكريم(1)". إهـ".
والحاصل أن ابن حجر رجح رواية أحمد بن خالد الذهبي وهي رواية ابن ماجه وفيها عيسى بن عبد الله مقبول".
والحديث أورده الهيثمي ثم قال: "رواه البزار والطبراني في الأوسط والكبير بنحوه، إلا أنه قال: "علقمة بن سفيان عن عبد الكريم عن علقمة، ولم أجد من اسمه عبد الكريم، وقد سمع من صحابي وبقية رجاله ثقات(2)".
وهذه والأحاديث المتعلقة بقدوم وفد ثقيف وموقفهم من الإسلام، فيها الصحيح والحسن والضعيف كما مر ذلك مفصلا، وقد بقي علينا مما يتعلق بثقيف "هدم اللات" وكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم فيما يتعلق بيد "وج" وعضاهه، وفيما يأتي بيان ذلك:
(هدم اللات)
__________
(1) الإصابة 2/502 و3/167 وتهذيب التهذيب 7/226 وأسد الغابة 4/43-44.
(2) مجمع الزوائد 3/152 والمعجم الكبير للطبراني 17/169".
وهذا سياق الحديث في المعجم الكبير: "حدثنا أبو زرعة عبد الرحمن بن عمرو الدمشقي، حدثنا أحمد بن خالد الوهبي حدثنا محمد بن إسحاق عن عيسى بن عبد الله بن مالك عن عطية بن سفيان بن عبد الله قال: "قدم وفد من ثقيف على رسول الله صلى الله عليه وسلم في رمضان فضرب لهم قبة في المسجد فلما أسلموا صاموا معه".
قال الهيثمي في مجمع الزوائد 2/28 رواه الطبراني في الكبير وفيه محمد بن إسحاق وهو مدلس وقد عنعنه".
وقد وقع في المعجم الكبير للطبراني "عن عطية بن سفيان عن عبد الله" والصواب "عن عطية بن سفيان بن عبد الله"، بإسقاط "عن" بين سفيان وعبد الله، انظر حاشية ص 484 تعليقة (5) ما قاله ابن حجر حول حديث الطبراني هذا".(8/40)
قال ابن إسحاق: "فلما فرغوا من أمرهم، وتوجهوا إلى بلادهم راجعين بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم معهم أبا سفيان بن حرب، والمغيرة بن شعبة في هدم الطاغية فخرجا مع القوم(1)
__________
(1) قال الزرقاني: "كذا عند ابن إسحاق وغيره أن أبا سفيان والمغيرة ذهبا مع الوفد".
وفي رواية أنهم تأخروا عنهم أياما حتى قدموا، وأن الوفد لما قدموا تلقاهم ثقيف فقصدوا اللات ونزلوا عندها فسألوهم ماذا جئتم به، فقالوا: "أتينا رجلاً فظاً غليظاً قد ظهر بالسيف وداخ له العرب قد عرض علينا أمورا شدادا: "هدم اللات، فقالت ثقيف: "والله لا نقبل هذا أبدا، فقال الوفد: "أصلحوا السلاح وتهيئوا للقتال فمكثوا يومين أو ثلاثة، ثم ألقى الله في قلوبهم الرعب فقالوا: "والله مالنا به من طاقة فارجعوا فأعطوه ما سأل، فقال الوفد: "فإنا قاضيناه وشرطنا ما أردنا، ووجدناه أتقى الناس، وأوفاهم وأرحمهم وأصدقهم، وقد بورك لنا ولكم في مسيرنا إليه، فاقبلوا عافية الله".
فقالت ثقيف: "فلم كتمتمونا هذا الحديث؟".
فقالوا: "أردنا أن ننزع من قلوبكم نخوة الشيطان - أي الكبر والعظمة - فأسلموا مكانهم ومكثوا أياما ثم قدم رسل النبي صلى الله عليه وسلم لهدم اللات". فإن صح هذا فيحتمل أنهم خرجوا من المدينة مصاحبين للوفد، ثم أخروهم في مكان لكي يستألف الوفد قومهم قبل قدومهما حتى لا يكون نزاع (شرح المواهب 4/9).
قلت: "والقول بأن أبا سفيان والمغيرة لم يخرجا مع الوفد هو قول موسى بن عقبة والواقدي".
وعند موسى بن عقبة أيضا: "فقال كنانة بن عبد ياليل: "أنا أعلم الناس بثقيف فاكتموهم القضية وخوّفوهم بالحرب والقتال، وأخبروهم أن محمداً سألنا أموراً أبيناها عليه، سألنا أن نهدم اللات" الخ".
وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر على الوفد الذي قدم لهدم اللات خالد بن الوليد".
وعند الواقدي: "أن الذي قال: "أنا أعلم الناس بثقيف خوفوهم الحرب". هو عبد ياليل". وأن الوفد استأذن من النبي صلى الله عليه وسلم أن ينالوا من الرسول صلى الله عليه وسلم حتى يتمكنوا من إسلام قومهم فرخص لهم". (زاد المعاد 3/597 والبداية والنهاية 5/33 ومغازي الواقدي 3/969).(8/41)
، حتى إذا قدموا الطائف أراد المغيرة بن شعبة أن يقدم أبا سفيان، فأبى ذلك أبو سفيان عليه، وقال: "ادخل أنت على قومك، وأقام أبو سفيان بما له بذي الهدم(1)، فلما دخل المغيرة بن شعبة، علاها يضربها بالمعول(2)، وقام قومه دونه - بنو متعب - خشية أن يرمى أو يصاب كما أصيب عروة، وخرج نساء ثقيف حسرا(3) يبكين عليها و يقلن:
__________
(1) كذا "بذي الهدم".
وقال الزرقاني: "بذي الهرم" بالهاء والراء وهو محل بالطائف (شرح المواهب 4/9) وكذا في البداية و النهاية لابن كثير 5/33".
(2) المعول: "بكسر الميم وإسكان المهملة وفتح الواو: "الفأس العظيمة يقطع بها الصخر، والجمع معاول (مختار الصحاح ص 463).
(3) حسر: "بضم الحاء وفتح السين المشددة وراء مهملات: "أي متكشفات". وعند موسى ابن عقبة "وقد استكفت ثقيف رجالها ونساءها والصبيان حتى خرج العواتق من الحجال، ولا يرى عامة ثقيف أنها مهدومة، ويظنون أنها ممتنعة، فقام المغيرة بن شعبة فأخذ الكرزين - يعني المعول - وقال لأصحابه: "والله لأضحكنكم من ثقيف، فضرب بالكرزين ثم سقط يركض برجله، فارتج أهل الطائف بصيحة واحدة وفرحوا وقالوا أبعد الله المغيرة قتلته الربة وقالوا لأولئك من شاء منكم فليقترب، فقام المغيرة فقال: "والله يا معشر ثقيف إنما هي لكاع حجارة ومدر، فاقبلوا عافية الله فاعبدوه، ثم إنه ضرب الباب فكسره، ثم علا سورها وعلا الرجال معه فما زالوا يهدمونها حجراً حجرا حتى سووها بالأرض وجعل سادنها يقول: "ليغضبن الأساس فليخسفن بهم، فلما سمع المغيرة قال لخالد: "دعني أحفر أساسها فحفروه حتى أخرجوا ترابها وجمعوا ماءها وبناءها، وبهتت عند ذلك ثقيف، ثم رجعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقسم أموالها من يومه وحمدوا الله على اعتزاز دينه ونصرة رسوله: "(البداية والنهاية 5/33-34، وشرح المواهب 4/9).(8/42)
لتبكين دفاع ... أسلمها الرضاع(1)
لم يحسنوا المصاع
قال ابن إسحاق: "ويقول أبو سفيان - والمغيرة يضربها بالفأس: "وآهالك آهالك(2) فلما هدمها المغيرة، وأخذ مالها وحليها(3) أرسل إلى أبي سفيان وحليها مجموعة ومالها من الذهب و الجزع(4)، وقد كان أبو مليح بن عروة وقارب بن الأسود قدما على رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل وفد ثقيف، حين قتل عروة، يريدان فراق ثقيف وأن لا يجامعاهم على شيء أبدا فأسلما، فقال لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم توليا ما شئتما؟ فقالا: "نتولى الله ورسوله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وخالكما أبا سفيان بن حرب"، فقالا: "وخالنا أبا سفيان بن حرب".
__________
(1) سميت "دفاع" لأنها كانت تدفع عنهم، وتنفع وتضر على زعمهم "والرضاع" الئام، و"المصاع": "المضاربة بالسيوف، (القاموس المحيط 3/21 و30 و85).
(2) آهالك: "كلمة تقال في معنى التأسف والتحزن (مختار الصحاح ص 34).
(3) حليها: "بضم الحاء وكسر اللام والياء المشددة، جمع حلى بفتح فسكون، عطف خاص على عام (شرح المواهب 4/9).
(4) الجَزْع والجِزْع: "الخرز اليماني الصيني، فيه سواد وبياض تشبه به الأعين (القاموس المحيط 3/12).(8/43)
فلما أسلم أهل الطائف ووجه رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا سفيان والمغيرة إلى هدم الطاغية، سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو مليح بن عروة أن يقضي عن أبيه عروة دينا كان عليه من مال الطاغية(1)، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نعم، فقال له قارب بن الأسود: "وعن الأسود يا رسول الله، فاقضه - وعروة والأسود أخوان لأب وأم - فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الأسود مات مشركا، فقال قارب لرسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا رسول الله، لكن تصل مسلما ذا قرابة، يعني نفسه، إنما الدين علي، وإنما أن الذي أطلب به، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا سفيان أن يقضي دين عروة والأسود من مال الطاغية، فلما جمع المغيرة مالها، قال لأبي سفيان إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أمرك أن تقضي عن عروة والأسود دينهما فقضى عنهما"(2)".
(كتاب الرسول صلى الله عليه وسلم لثقيف).
قال ابن إسحاق: "وكان كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي كتب لهم:
228- بسم الله الرحمن الرحيم: "من محمد النبي، رسول الله، إلى المؤمنين: "عن عضاه(3)
__________
(1) عند ابن سعد فقال أبو مليح: "يا رسول الله إن أبي قتل وعليه دين مائتا مثقال ذهب فإن رأيت أن تقضيه من حلي الربة، يعني اللات، فعلت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نعم" فقال قارب بن الأسود: "يا رسول الله وعن الأسود بن مسعود أبي فإنه ترك دينا مثقال دين عروة، فاقضه عنه من مال الطاغية".
(2) سيرة ابن هشام 2/ 541-542 والروض ألأنف 7/336-337 وتاريخ الطبري 3/99-100 وأسد الغابة 4/375-376 و6/299 والبداية و النهاية 5/32-34 والإصابة 3/219 و4/184 ومغازي الواقدي 3/969-973 والطبقات الكبرى لابن سعد 5/504-505".
(3) عضاه: "بمهملة مكسورة ومعجمة و آخرها هاء، لا تاء - كل شجر ذي شوك "ووج" بفتح الواو وشد الجيم واد بالطائف، وغلط من قال بأنه بلد في الطائف، أي حصن من حصون الطائف".
وسميت "وجا" بوج بن عبد الحق من العمالقة و قيل من خزاعة".
(معجم البلدان 5/361 والقاموس المحيط 1/211 وشرح المواهب 4/9 و10 وفي المجاز بين اليمامة والحجاز ص: "264، و265 قال: "أما أودية الطائف فمن أبرزها وأنبهها ذكرا وادي "وج" وكانت المدينة تسمى باسمه قديما حتى أطيف حولها بسور فسميت الطائف، على ما جاء في الأخبار من تحصن ثقيف بمدينتهم حينما زاحمهم العرب على بلادهم". إ هـ".
وانظر: "معجم المعالم الجغرافية للبلادي ص 331 وفي مسند أحمد 6/409 و الحميدي 1/160 من طريق عمر بن عبد العزيز الأموي قال: "زعمت المرأة الصالحة خولة بنت حكيم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج محتضنا أحد ابني ابنته وهو يقول: "والله إنكم لتجبنون وتبخلون و أنكم لمن ريحان الله عز وجل وأن آخر وطأة وطئها الله بوج".
وقال سفيان - ابن عيينة - مرة "إنكم لتبخلون وإنكم لتجبنون" لفظ أحمد، والحديث أخرجه الترمذي في سننه3/ 212 كتاب البر والصلة باب ما جاء في حب الوالد لولده "دون قوله عليه السلام" وإن آخر وطأة وطئها الله بوج".
وقال حديث ابن عيينة عن إبراهيم بن ميسرة، لا نعرفه إلا من حديثه، ولا نعرف لعمر بن عبد العزيز سماعا من خولة".
قلت: "وفيه أيضا محمد بن أبي سويد "مجهول" كما في التقريب 2/168، وعند أحمد أيضا في مسنده 4/172 من طريق سعيد بن أبي راشد عن يعلى بن مرة العامري الثقفي "أنه جاء حسن وحسين يستبقان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فضمهما إليه، وقال: "إن الولد مبخلة مجبنة وأن آخر وطأة وطئها الرحمن عز وجل بوج" وفيه سعيد بن راشد "مقبول" كما في التقريب 1/295 وفسر وج بالطائف، والوطأة بالغزاة وكانت غزوة الطائف آخر غزوات رسول الله صلى الله عليه وسلم (تحفة الأحوذي 6/36-38 الفتج الرباني 19/44) ورواه ابن ماجه (2/ 1209)، كتاب الأدب". باب بر الوالد والإحسان إلى البنات من طريق سعيد بن أبي راشد بقصة الولد فقط".(8/44)
وج وصيده لا يعضد، من وجد يفعل شيئا من ذلك فإنه يجلد وتنزع ثيابه، فإن تعدى ذلك فإنه يؤخذ فيبلغ به إلى النبي محمد، وإن هذا أمر النبي محمّد صلى الله عليه وسلم، وكتب خالد بن سعيد: "بأمر الرسول محمّد بن عبد الله، فلا يتعداه أحد، فيظلم نفسه فيما أمر به محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم"(1)".
هكذا ذكر ابن إسحاق بدون إسناد".
وقد جاء في "وج" أيضا حديث عروة بن الزبير عن أبيه عند أبي داود وأحمد والحميدي والبيهقي وهذا سياقه عند أبي داود:
229- حدثنا حامد(2) بن يحيى أخبرنا عبد الله(3) بن الحارث عن محمد(4) بن عبد الله بن إنسان الطائفي عن أبيه(5) عن عروة بن الزبير عن الزبير قال: "لما أقبلنا(6) مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من لية(7)
__________
(1) سيرة ابن هشام 2/542-543 والروض الأنف 7/337، وزاد المعاد 3/501 والبداية والنهاية 5/34 وشرح المواهب 4/9-10).
(2) حامد بن يحيى بن هانئ البلخي، أبو عبد الله، نزيل طرسوس، ثقة حافظ من العاشرة (ت 242)/د (التقريب 1/146 وتهذيب التهذيب 2/169).
(3) عبد الله بن الحارث بن عبد الملك المخزومي، أبو محمد المكي، ثقة، من الثامنة / م ع (التقريب 2/175 وتهذيب التهذيب 9/248).
(4) محمد بن عبد الله بن إنسان الثقفي الطائفي، لين الحديث من السادسة / د (التقريب 2/175 وتهذيب التهذيب 9/248).
(5) عبد الله بن إنسان الثقفي، لين الحديث من السادسة /د (التقريب 1/402 وتهذيب التهذيب 5/149).
(6) وعند أحمد والحميدي والبيهقي: "قال": "أقبلنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم".
(7) لية: "بتشديد الياء وكسر اللام، من نواحي الطائف، مر به رسول الله صلى الله عليه وسلم حين انصرافه من حنين يريد الطائف (معجم البلدان 5/30) انظر ص 282".
وفي المجاز بين اليمامة والحجاز ص 243و253و255و266 قال: "لية واد أعلاه لثقيف وأسفله لنصر، وتمتاز منطقة "لية" بجودة الرمان".(8/45)
حتى إذا كنا عند السدرة(1) وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم في طرق قرن(2) الأسود حذوها(3)، فاستقبل نخبا(4)
__________
(1) السدرة: "شجرة النبق، وفي معجم البلدان 5/275-276 قال: "مر رسول الله صلى الله عليه وسلم من طريق يقال لها الضيقة ثم خرج منها على نخب حتى نزل تحت سدرة يقال لها الصادرة".
(2) القرن: "بفتح القاف وسكون الراء جبل صغير في الحجاز بقرب الطائف".
(3) حذوها: "أي مقابل السدرة (عون المعبود 6/11).
(4) نخب: "بالفتح ثم الكسر ثم باء موحدة، واد بالطائف".
وقال الأخفش: "نخب بفتحتين واد بأرض هذيل، وقيل: "واد بالطائف على ساعة (معجم البلدان 5/275 والقاموس المحيط 1/130) وفي المجاز بين اليمامة والحجاز 265-266 قال: "(نخب) واد من أودية الطائف ينحدر شرقا بميل إلى الشمال جاعلا وادي "لية" وحمى "سيسد" يساره، وأعلاه "خشب" و"أم العراد" ويسيل فيه شعاب السداد الجنوبية، والردف و شعاب الحليفة الشمالية وينتظم قرى ومزارع إلى أن يفضي إلى ركبة".(8/46)
ببصره(1) مرة واديه(2)، ووقف حتى اتقف(3) الناس كلهم، ثم قال: "إن صيد وج وعضاهه حرم محرم الله، وذلك قبل(4) نزوله الطائف وحصاره لثقيف"(5)".
والحديث أخرجه أحمد و الحميدي كلاهما عن عبد الله بن الحارث ابن عبد الملك حدثني محمد بن عبد الله بن إنسان الطائفي عن أبيه به(6)".
وأخرجه البيهقي من طريق الحميدي(7)".
والحديث فيه علتان:
الأولى: "محمد بن عبد الله بن إنسان وأبوه عبد الله بن إنسان، فقد ساق البخاري هذا الحديث في ترجمة محمد بن إنسان، ثن قال: "ولم يتابع عليه".
وقال في ترجمة والده "عبد الله بن إنسان عن عروة بن الزبير عن أبيه"، روى عنه ابنه محمد "لم يصح حديثه"(8)".
__________
(1) ببصره: "متعلق استقبل النبي صلى الله عليه وسلم نخبا ببصره و عينه".
(2) وقال مرة واديه: "أي وقال الراوي مرة أخرى (واديه) أي استقبل وادي الطائف وهو نخب، ووقف النبي صلى الله عليه وسلم (عون المعبود 6/12).
(3) اتقف: "مطاوع وقف، أي حتى وقفوا، يقال: "وقفته فوق واتقف، وأصله أوتقف على وزن افتعل، من الوقوف، فقلبت الواو ياء لسكونها وكسر ما قبلها ثم قلبت الياء تاء وأدغمت في تاء الافتعال، مثل وصفته فاتصف، ووعدته فاتعد". (النهاية 5/ 216 وجامع الأصول 9/354 ولسان العرب 11/279).
(4) قوله: "وذلك نزوله الطائف".".". الخ" قال في عون المعبود 6/13: "ليس من قول أبي داود المؤلف ولا شيخه حامد بن يحيى، لأن أحمد بن حنبل أخرجه من طريق عبد الله بن الحارث وفيه هذه الجملة أيضا، فيشبه أن يكون هذا القول ما دون الزبير بن العوام الصحابي".
قلت: "وكذلك أخرج الحميدي عن عبد الله بن الحارث وفيه الجملة المذكورة".
(5) سنن أبي داود 1/468 كتاب المناسك". تحت باب في مال - الكعبة".
(6) مسند أحمد 1/165، ومسند الحميدي1/34".
(7) السنن الكبرى 5/200
(8) التاريخ الكبير 1/140و 5/45".(8/47)
وقال أبو حاتم: "محمد بن عبد الله بن إنسان ليس بالقوي، وفي حديثه نظر ولم يذكر في عبد الله جرحا ولا تعديلا(1)".
وقد لينهما ابن حجر كما تقدم(2).
الثانية: "الانقطاع بين عروة وأبيه، فقد قال ابن قيم الجوزية: "في سماع عروة من أبيه نظر، وإن كان قد رآه"(3).
وقال الدارقطني: "لا يصح سماعه من أبيه"(4).
وهي علة قادحة تمنع صحة الحديث بمفردها، كيف وقد انضم إليها ضعف محمد بن إنسان وأبيه".
والخلاصة: "أنه ورد في "وج" حديثان:
الأول: "ما ذكره ابن إسحاق وهو بدون إسناد".
الثاني: "حديث عروة عن أبيه، وقد سمعت ما فيه".
ومن هنا اختلف العلماء في "وج" هل هو حرم أم لا، فذهب جمهور العلماء إلى أنه ليس بحرم، وأن الحديث الوارد فيه ضعيف لا تقوم بمثله حجة، تفرد به عبد الله بن إنسان وهو ضعيف ولا متابع له".
قال الخطابي: "ولست أعلم لتحريمه وجها إلا أن يكون ذلك التحريم إنما كان في وقت معلوم وفي مدة محصورة ثم نسخ، ويدل على ذلك قوله "وذلك قبل نزوله الطائف وحصاره ثقيفا، ثم عاد الأمر إلى الإباحة كسائر بلاد الحل، ومعلوم أن عسكر رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا نزلوا بحضرة الطائف وحصروا أهلها ارتفقوا بما نالته أيديهم من شجر وصيد ومرفق، فدل ذلك على أنها حل مباح، وليس يحضرني في هذا وجه غير ما ذكرته"(5).اهـ
قال في عون المعبود: "وفي ثبوت هذا القول أي كون تحريم "وج" قبل نزول الطائف نظر، لأن محمد بن إسحاق ذكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب لثقيف كتابا وفيه "تحريم صيد وج وعضاهه وكان ذلك بعد وقعة الطائف وبعد إسلام أهلها"(6)". اهـ".
وقد صحح الشافعي حديث الباب وعمل بمقتضاه".
__________
(1) الجرح والتعديل 5/8 و7/294".
(2) انظر حديث (229).
(3) زاد المعاد 3/508".
(4) تهذيب التهذيب 7/185".
(5) جامع الأصول 9/353-354 والنهاية 5/154-155". وعون المعبود 6/13".
(6) المصدر السابق 6/13-14".(8/48)
فقد أورد الذهبي الحديث في ترجمة عبد الله بن إنسان، ثم قال: "صحح الشافعي حديثه واعتمده(1)".
قلت: "وصححه الساعاتي(2)".
وقال ابن حجر: "سكت عليه أبو داود، وحسنه المنذري(3)".
وسكت عليه عبد الحق(4)، فتعقبه ابن القطان(5) بما نقل عن البخاري أنه لم يصح وكذا قال الأزدي(6)". ا هـ(7)".
وقال ابن تيمية - في أثناء كلامه عن الحرم المكي والمدني: "وليس في الدنيا حرم لا بيت المقدس ولا غيره، إلا هذان الحرمان، ولا يسمى غيرهما حرما كما يسمي الجهال، فيقولون: "حرم المقدس، حرم الخليل فإن هذين وغيرهما ليسا بحرم باتفاق المسلمين، والحرم المجمع عليه حرم مكة".
وأما المدينة فلها حرم أيضا عند الجمهور، كما استفاضت بذلك الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم ولم يتنازع المسلمون في حرم ثالث: "إلا في "وج" وهو واد بالطائف، وهو عند بعضهم حرم، وعند الجمهور ليس بحرم"(8)".
وقال محمد الأمين الشنقيطي: "اعلم أن جماهير العلماء على إباحة صيد "وج" وقطع شجره".
__________
(1) ميزان الاعتدال 2/393".
(2) الفتح الرباني 23/300".
(3) هو عبد العظيم بن عبد القوي بن عبد الله بن سلامة بن سعد الحافظ الكبير الإمام الثبت شيخ الإسلام زكي الدين أبو محمد المنذري الشافعي ثم المصري، له مختصر صحيح مسلم (581-656). (الذهبي: "تذكرة الحفاظ 4/1436-1438).
(4) تقدمت ترجمته في حديث (127).
(5) هو أبو الحسن علي بن محمد الفاسي تقدمت ترجمته في حديث (63).
(6) هو الحافظ العلامة أبو الفتح محمد بن الحسين الأزدي الموصلي، نزيل بغداد له مصنف كبير في الضعفاء، وهو قوي النفس في الجرح، وهاه جماعة بلا مستند طائل (ت 374هـ) (الذهبي: "تذكرة الحفاظ 3/976).
(7) التلخيص الحبير 2/280".
(8) مجموع فتاوى ابن تيمية 26/117-118".(8/49)
وقال الشافعي رحمه الله تعالى: "أكره صيد وج، وحمله المحققون من أصحابه على كراهة التحريم، واختلفوا فيه على قول بحرمته، هل فيه جزاء كحرم المدينة، أو لا شيء فيه؟ ولكن يؤدب قاتله، وعليه أكثر الشافعية، ثم قال: "وحجة من قال بحرمة صيد "وج" ما رواه أبو داود".
وأحمد والبخاري في التاريخ، عن الزبير بن العوام - رضي الله عنه -".
"أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "صيد وج محرم" الحديث".
ثم ذكر ما قاله البخاري والذهبي وابن حجر في هذا الحديث، ثم قال: "فإذا عرفت هذا ظهر لك أن حجة الجمهور في إباحة صيد وج، وشجره كون الحديث لم يثبت، والأصل براءة الذمة(1)".
وبهذا يكون صيد وج وشجره حلالا، لعدم نهوض الدليل الدال على المنع من ذلك".
وخير ما نختم به هذا المبحث أن نذكر بعضا من الأحكام الفقهية التي ذكرها العلامة ابن قيم الجوزية فقال:
__________
(1) أضواء البيان 2/167 وانظر: "عون المعبود 6/12-15 وشرح المواهب 4/10".(8/50)
وفي قصة هذا الوفد من الفقه أن الرجل من أهل الحرب إذا غدر بقومه وأخذ أموالهم، ثم قدم مسلما، لم يتعرض له الإمام، ولا لما أخذه من المال ولا يضمن ما أتلفه قبل مجيئه من نفس ولا مال، كما لم يتعرض النبي صلى الله عليه وسلم لما أخذ المغيرة من أموال الثقفيّين، ولا ضمن أتلفه عليهم، وقال "أما الإسلام فأقبل، أما المال فلست منه في شيء(1)، ومنها جواز إنزال المشرك في المسجد(2)، ولا سيما إذا كان يرجو إسلامه، وتمكينه من سماع القرآن، ومشاهدة أهل الإسلام وعبادتهم".
ومنها: "حسن سياسة الوفد، وتلطفهم حتى تمكنوا من إبلاغ ثقيف ما قدموا به فتصوروا لهم بصورة المنكر لما يكرهونه الموافق لهم فيما يهوونه حتى ركنوا إليهم واطمانوا فلما علموا أنه ليس لهم بد من الدخول في دعوة الإسلام أذعنوا، فأعلمهم الوفد أنهم بذلك قد جاؤوهم ولو فاجؤوهم به من أول وهلة لما أقروا به، ولا أذعنوا، وهذا من أحسن الدعوة وتمام التبليغ، ولا يتأتي إلا مع ألباء الناس وعقلائهم".
ومنها: "أن المستحق لإمرة القوم وإمامتهم أفضلهم وأعلمهم بكتاب الله وأفقههم في دينه".
__________
(1) أصل القصة المغيرة هذه في صحيح البخاري 3/170 كتاب الشروط، باب الشروط في الجهاد والمصالحة مع أهل الحرب وكتابة الشروط، وقد تقدم ص 465 تعليقاته (5).
(2) في صحيح البخاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث خيلا قبل نجد، فجاءت برجل من بني حنيفة يقال له ثمامة بن أثال، فربطوه بسارية من سواري المسجد". الحديث 1/83 كتاب الصلاة باب الاغتسال إذا أسلم وربط الأسير أيضا في المسجد".(8/51)
ومنها: "هدم مواضع الشرك التي تتخذ بيتا للطواغيت، وهدمها أحب إلى الله ورسوله، وانفع للإسلام و المسلمين من هدم الحانات والمواخير(1)، وهكذا حال المشاهد المبينة على القبور التي تعبد من دون الله، ويشرك بأربابها مع الله لا يحل إبقاؤها في الإسلام، ويجب هدمها، ولا يصح وقفها، ولا الوقف عليها، وللإمام أن يقطعها وأوقافها لجند الإسلام، ويستعين بها على مصالح المسلمين، وكذلك ما فيها من الآلات، والمتاع والنذور التي تساق إليها".
يضاهى بها الهدايا التي تساق إلى البيت الحرام، للإمام أخذها كلها وصرفها في مصالح المسلمين، كما أخذ النبي صلى الله عليه وسلم أموال بيوت هذه الطواغيت، وصرفها في مصالح الإسلام، وكان يفعل عندها ما يفعل عند هذه المشاهد، سواء من النذور لها، والتبرك بها، و التمسح بها، وتقبيلها و استلامها، هذا كان شرك القوم بها، ولم يكونوا يعتقدون أنها خلقت السماوات والأرض، بل كان شركهم بها كشرك أهل الشرك من أرباب المشاهد بعينه".
ومنها: "استحباب اتخاذ المساجد مكان بيوت الطواغيت، فيعبد الله وحده، لا يشرك به شيء في الأمكنة التي كان يشرك به فيها(2) وهكذا الواجب في مثل هذه المشاهد أن تهدم، وتجعل مساجد إن احتاج إليها المسلمون وإلا أقطعها الإمام هي وأوقافها للمقاتلة وغيرهم".
__________
(1) الحانوت: "دكان الخمار، ومحل التجارة وجمعه حوانيت، والحانة البيت الذي يباع فيه الخمر وهو الحانوت أيضا ويجمع على حانات". والمواخر والمواخير: "مجمع أهل الفسق والفساد". (المصباح المنير 1/190-191والقاموس المحيط 1/146 والمعجم الوسيط 1/201، و2/857).
(2) تقدم في الحاشية ص 466 تعليقة (1) حديث عثمان بن أبي العاص الثقفي، في أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم له أن يجعل مسجد الطائف حيث كانت طاغيتهم".(8/52)
ومنها: "أن العبد إذا تعوذ بالله من الشيطان الرجيم، وتفل عن يساره، ولم يضره ذلك، ولا يقطع صلاته(1)، بل هذا من تمامها وكمالها(2)".
__________
(1) الحديث الوارد في هذا في صحيح مسلم وقد تقدم في حاشية ص 481 تعليقة (3).
(2) زاد المعاد 3/600-602".(8/53)
الباب الثالث: في بيان أبرز الأحكام المستنبطة من غزوة حنين
عقدت هذا الباب لبيان بعض الأحكام الفقهية التي تضمنتها هذه الغزوة وأحكامها كثيرة متشعبة".
وبما أن بحثي خاص بالناحية الحديثية والتاريخية، فقد رأيت أن أجتزئ بذكر الأحكام البارزة مع الإيجاز في تناولها، ولا شك أن بيان تواريخ التشريعات يخدم الناحية الفقهية والأصولية، كما يخدم الناحية التاريخية، فالتاريخ لهذه التشريعات يعرف الناسخ والمنسوخ عند التعارض، كما تتبين الظروف والملابسات التي أحاطت بالتشريع مما يفيد في معرفة علل الأحكام".
الحكم الأول: جواز وطء المسبية بعد الاستبراء
لقد كان وطء السبايا بملك اليمين معلوما لدى الصحابة - رضي الله عنهم - لكثرة حروبهم وأخذ الأسرى من المشركين، وإنما التبس عليهم الأمر في غزوة حنين حيث أن المسبيات ذوات أزواج في قومهن وبعضهم معروف لدى الصحابة - رضوان الله عليهم -، فذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فنَزلت الآية من سورة النساء بإباحة ذلك".
وهذا هو ما دل عليه حديث أبي سعيد الخدري عند مسلم وغيره". وهذا سياقه عند مسلم:(9/1)
230- حدثنا عبيد الله بن عمر بن ميسرة القواريري حدثنا يزيد ابن زريع حدثنا سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن صالح(1) أبي الخليل عن أبي علقمة(2) الهاشمي عن أبي سعيد الخدرس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم ـ، يوم حنين بعث جيشا إلى أوطاس(3) فلقوا عدوا، فقاتلوهم، فظهروا عليهم(4) وأصابوا لهم سبايا(5) فكأن ناسا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم تحرجوا(6) من غشيانهن من أجل أزواجهن من المشركين(7)
__________
(1) هو صالح بن أبي مريم الضبعي - بضم المعجمة وفتح الموحدة - أبو الخليل البصري".
(2) أبو علقمة الفارسي المصري مولى بني هاشم، ويقال حليف الأنصار كان على قضاء إفريقية".
(3) عند أبي داود "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث يوم حنين بعثا إلى أوطاس وعند الطبري "بعث يوم حنين سرية فأصابوا حيا من أحياء العرب يوم أوطاس". وعند البيهقي "بعث سرية يوم حنين فأصابوا جيشا من العرب يوم أوطاس".
(4) عند البيهقي "فقاتلوهم وهزموهم".
(5) سبايا: "جمع سبية، وهي المرأة تسبى، أي تؤسر، فعلية بمعنى مفعولة". (جامع الأصول 8/120 والنهاية 2/340).
(6) تحرجوا من غشيانهن: "أي خافوا الحرج، وهو الإثم، من غشيانهن أي من وطئهن من أجل أنهن زوجات، والمزوجة لا تحل لغير زوجها، فأنزل الله إباحتهن بقوله تعالى: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلاّ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ}، [سورة النساء، من الآية: "24]". (شرح النووي على صحيح مسلم 3/637).
(7) وعند أحمد "أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أصابوا سبايا يوم أوطاس لهن أزواج من أهل الشرك فكان أناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كفوا وتأثموا من غشيانهن قال: "فنَزلت هذه الآية: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلاّ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ}، [سورة النساء، من الآية: "24]".
وعند الترمذي وأبي يعلى "عن أبي سعيد الخدري قال: "أصبنا سبايا يوم أوطاس ولهن أزواج في قومهن، فذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فنَزلت: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلاّ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ}، [سورة النساء، من الآية: "24]، إلى. وعند أبي بعلى "عن أبي سعيد قال: "أصبنا سبايا يوم أوطاس لهن أزواج فكرهنا أن نقع عليهن فسألنا النبي صلى الله عليه وسلم فنَزلت (المحصنات" الخ".
وعند الطبري والواحدي "عن أبي سعيد قال: "لما سبى رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل أوطاس قلنا يا رسول الله: "كيف نقع على نساء قد عرفنا أنسابهم وأزواجهن؟
قال: "فنَزلت هذه الآية: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلاّ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ}، [سورة النساء، من الآية: "24]".(9/2)
، فأنزل الله عز وجل في ذلك:
{وَالْمُحْصَنَاتُ(1) مِنَ النِّسَاءِ إِلاّ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ}، [سورة النساء، من الآية: "24].
أي فهن لكم حلال إذا انقضت عدتهن".
وحدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ومحمد بن المثنى وابن بشار(2) قالوا: "حدثنا عبد الأعلى(3) عن سعيد(4) عن قتادة عن أبي الخليل، أن أبا علقمة الهاشمي حدث أن أبا سعيد الخدري حدثهم، أن نبي الله صلى الله عليه وسلم بعث يوم حنين سرية، بمعنى حديث يزيد بن زريع، غير أنه قال: "إلا ما ملكت أيمانكم منهن فحلال لكم، ولم يذكر: "إذا انقضت عدتهن".
__________
(1) قال النووي "والمراد بالمحصنات هنا: "المزوجات، ومعناه: "والمزوجات حرام على غير أزواجهن إلا ما ملكتم بالسبي، فإنه ينفسخ نكاح زوجها الكافر، وتحل لكم إذا انقضى استبراؤها".
والمراد بقوله: "إذا انقضت عدتهن أي استبراؤهن، وهي بوضع الحمل عن الحامل، وبحيضة من الحائل، كما جاءت به الأحاديث الصحيحة (شرح النووي على صحيح مسلم 3/637).
وقال المباركفوري "والمحصنات" بفتح الصاد باتفاق القراء، وهو معطوف على "أمهاتكم" أي حرمت عليكم المحصنات، أي ذوات الأزواج لأنهن أحصن فروجهن بالتزويج، "إلا ما ملكت أيمانكم" أي ما أخذتم من أزواج الكفار بالسبي وزوجها في دار الحرب لوقوع الفرقة بتباين الدارين، فتحل للغانم بملك اليمين بعد الاستبراء (تحفة الأحوذي 8/370و4/282 وعون المعبود 6/191).
وهكذا رجح ابن كثير بأن المراد (بالمحصنات) هنا المزوجات وان المزوجة لا تحل بملك اليمين، ثم قال فإن في حديث أبي سعيد الخدري أن الآية نزلت في ذلك (تفسير بن كثير 1/473).
وقال ابن القيم "وهو الصحيح" (زاد المعاد 5/131، وانظر أضواء البيان للشنقيطي 1/280-281).
(2) هو محمد بن بشار بن عثمان العبدي أبو بكر، بندار".
(3) هو عبد الأعلى بن عبد الأعلى البصري السامي (تهذيب التهذيب 6/96).
(4) هو ابن أبي عروبة".(9/3)
وحدّثنيه يحيى(1)بن حبيب الحارثي حدثنا خالد(2) (يعني ابن الحارث) حدثنا شعبة عن قتادة بهذا الإسناد، نحوه".
وحدثنيه يحيى بن حبيب الحارثي حدثنا خالد بن الحارث حدثنا شعبة عن قتادة عن أبي الخليل عن أبي سعيد قال: "أصابوا سبايا يوم أوطاس لهن أزواج فتخوفوا فأنزلت هذه الآية: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلاّ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ}، [سورة النساء، من الآية: "24].
وحدثني يحيى بن حبيب حدثنا خالد (يعني ابن الحارث) حدثنا سعيد عن قتادة، بهذا الإسناد، نحوه(3)".
والحديث فيه قتادة وهو مدلس وقد عنعن ولكن في الطريق الثانية روى عنه شعبة، ويحمل حديث شعبة عن قتادة على السماع جزما(4)".
وقد تابعه عثمان البتى عند الترمذي وأبي يعلى والطبري والواحدي في شيخه أبي الخليل.
والحديث رواه أبو داود والنسائي وأحمد والطبري والبيهقي والواحدي". الجميع من طريق سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن صالح أبي خليل عن أبي علقمة الهاشمي عن أبي سعيد الخدري به(5).
__________
(1) هو يحيى بن حبيب بن عربي الحارثي أبو زكريا البصري (تهذيب التهذيب 11/195).
(2) خالد بن الحارث بن عبيد بن سليم الهجيمي أبو عثمان البصري (تهذيب التهذيب 3/82).
(3) صحيح مسلم 2/1079-1080 كتاب الرضاع، باب جواز وطء المسبية بعد الاستبراء وإن كان لها زوج انفسخ نكاحها بالسبي وتحفة الأشراف للمزي 3/498 حديث 4434).
(4) انظر: "فتح المغيث 1/176-177".
(5) أبو داود: "(السنن 1/497 كتاب النكاح، باب في وطء السبايا، والنسائي: "السنن 6/91 كتاب النكاح، باب تأويل قول الله عز وجل {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلاّ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ}، وأحمد: "المسند 3/84، والطبري: "جامع البيان 5/2 والبيهقي: "السنن الكبرى 9/124، والواحدي: "أسباب النزول ص 99).(9/4)
ورواه الترمذي وأبو يعلى كلاهما من طريق هشيم بن بشير أخبرنا عثمان(1) البتي عن أبي الخليل عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - به(2)".
فأسقط "أبا علقمة الهاشمي". ثم قال الترمذي: "هذا حديث حسن".
وهكذا رواه الثوري عن عثمان البتي عن أبي الخليل عن أبي سعيد".
وأبو الخليل اسمه صالح بن أبي مريم".
وروى همام(3) هذا الحديث عن قتادة عن صالح أبي الخليل، عن أبي علقمة الهاشمي عن أبي سعيد، عن النبي صلى الله عليه وسلم، حدثنا بذلك عبد(4) بن حميد أخبرنا حبان(5) بن هلال أخبرنا همام، هكذا قال الترمذي في كتاب النكاح، وفي كتاب التفسير ساق طريق هشيم بن بشير الخالية من ذكر "أبي علقمة".
ثم قال: "وهكذا روى الثوري عن عثمان البتي عن أبي الخليل، عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه".
__________
(1) عثمان بن مسلم البتي - بفتح الموحدة، وتشديد المثناة- أبو عمرو البصري، صدوق، عابوا عليه الإفتاء بالرأي، من الخامسة (ت 143)/ع (التقريب 2/14وتهذيب التهذيب 7/153 وميزان الاعتدال 3/59 والخلاصة للخزرجي 2/221).
(2) الترمذي: "(السنن 2/300 كتاب النكاح، باب ما جاء في الرجل يسبي الأمة ولها زوج، هل يحل له وطؤها؟، وأبو يعلى: "المسند 2/139أ رقم 302).
(3) همام بن يحيى بن دينار العوذي-بفتح المهملة وسكون الواو وكسر المعجمة البصري، ثقة: "ربما وهم، من السابعة (ت 164أو 165)/ع(التقريب 2/321 وتهذيب التهذيب 11/67-70).
(4) عبد بن حميد بن نصر الكسي-بمهملة - وجاء أيضا بالمعجمة - أبو محمد قيل اسمه عبد الحميد، وبذلك جزم ابن حبان وغير واحد، ثقة، حافظ، من الحادية عشرة (ت249)/خت م ت (التقريب1/259 وتهذيب التهذيب 6/455 والخلاصة للخزرجي 2/188).
(5) حبان - بالفتح ثم موحدة- ابن هلال، أبو حبيب البصري، ثقة ثبت من التاسعة (ت 216)/ع (التقريب 1/146 وتهذيب التهذيب 2/170).(9/5)
وليس في الحديث عن "أبي علقمة" ولا أعلم أن أحداً ذكر أبا علقمة في الحديث إلا ما ذكر "همام عن قتادة"(1).اهـ.
قلت: "حديث الثوري المشار إليه:
أخرجه الطبري وأبو يعلى والواحدي من طريق أبي يعلى(2).
وكذا روى الطبراي والواقدي من طريق أشعث(3) بن سوار عن عثمان البتي عن أبي الخليل عن أبي سعيد الخدري(4)".
وأخرجه الطبري أيضا من طريق معمر عن قتادة عن أبي الخليل عن أبي سعيد الخدري قال: "نزلت في يوم أوطاس، أصاب المسلمون سبايا لهن أزواج في الشرك، فقال: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلاّ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ}، [سورة النساء، من الآية: 24].
يقول: "إلا ما أفاء الله عليكم، قال: "فاستحللنا بها فروجهن".
وحديث همام بن يحيى أخرجه الترمذي نفسه في التفسير(5)، وأبو يعلى في مسنده(6)".
والحاصل أن سفيان الثوري وأشعث بن سوار وهشيم بن بشير رووا هذا الحديث عن عثمان البتي عن أبي الخليل عن أبي سعيد الخدري بإسقاط "أبي علقمة".
وقد وافق عثمان البتي على هذا قتادة عند مسلم من طريق شعبة وعند الطبري من طريق معمر كلاهما عن قتادة عن أبي الخليل عن أبي سعيد الخدري بإسقاط "أبي علقمة" بين الخليل وأبي سعيد".
__________
(1) السنن 4/302 كتاب التفسير، تفسير سورة النساء).
(2) تفسير الطبري 5/2 ومسند أبي يعلى: "2/131أ رقم 302 وأسباب النزول للواحدي ص 98).
(3) أشعث بن سَوّار الكوفي الكندي النجار، الأفرق، الأثرم، صاحب التوابيت، قاضي البصرة، وهو قاضي الأهواز مولى ثقيف، ضعيف من السادسة بخ س ق متابعة (التقريب 1/79 وتهذيب التهذيب 1/532-534، وميزان الاعتدال 1/263-265) وقد تابعه سفيان الثوري عند أبي يعلى والطبري، وهشيم بن بشير عند الترمذي وأبي يعلى".
(4) تفسير الطبري 5/2، وأسباب النزول للواحدي ص 98-99).
(5) 4/301-302 تفسير سورة النساء).
(6) 2/148 ب برقم 302).(9/6)
ورواه همام بن يحيى وسعيد بن أبي عروبة وشعبة الجميع عن قتادة عن أبي الخليل عن أبي علقمة الهاشمي عن أبي سعيد الخدري".
فقد تابع هماما "في ذكر أبي علقمة" سعيد بن أبي عروبة زشعبة كما هو عند مسلم و غيره".
وليس كما قال الترمذي - رحمه الله - بأن هماما وحده هو الذي ذكر "أبا علقمة" في هذا الحديث(1)، بل تابعه عليه اثنان وهما شعبة وسعيد بن أبي عروبة(2)".
قال النووي في أثناء شرحه للحديث: "قوله: "حدثنا يزيد بن زريع حدثنا سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن صالح أبي الخليل عن أبي علقمة الهاشمي عن أبي سعيد الخدري".
وفي الطريق الثاني: "عن عبد الأعلى عن سعيد عن قتادة عن أبي الخليل عن أبي علقمة عن أبي سعيد الخدري".
وفي الطريق الآخر عن شعبة عن قتادة عن أبي الخليل عن أبي سعيد الخدري من غير ذكر أبي علقمة".
هكذا هو في جميع نسخ بلادنا، وكذا ذكره أبو علي الغساني(3)
__________
(1) انظر: "(تفسير ابن كثير 1/473 وتحفة الأحوذي 8/371).
(2) انظر: "(تفسير ابن كثير 1/473).
(3) هو الحافظ الإمام الثبت محدث الأندلس أبو علي الحسين بن محمد بن أحمد الجياني الأندلسي، الغساني، كان من جهابذة الحفاظ البصراء، بصيرا بالعربية واللغة والشعر والأنساب، صنف في ذلك كله ورحل الناس إليه وعولوا في النقل عليه وتصدر بجامع قرطبة وأخذ عنه الأعلام،جمع كتابا في رجال الصحيحين سماه: "تقيد المهمل وتمييز المشكل" (427-498هـ).
(تذكرة الحفاظ للذهبي 4/1233-1235).(9/7)
عن رواية الجلودي(1) وابن ماهان(2)".
قال: "وكذا ذكره أبو مسعود(3) الدمشقي، قال: "ووقع في نسخة ابن الحذاء(4) بإثبات "أبي علقمة" بين أبي خليل و أبي سعيد".
قال الغساني: "ولا أدري ما صوابه".
وقال القاضي عياض: "قال غير الغساني إثبات أبي علقمة هو الصواب".
ثم قال النووي: "قلت ويحتمل أن إثباته وحذفه كلاهما صواب، ويكون أبو الخليل سمع بالوجهين، فرواه تارة كذا، وتارة كذا، وقد سبق في أول الكتاب بيان أمثال هذا(5)".
حديث أبي سعيد الخدري أيضا عند أبي داود وأحمد وغيرهما وهذا سياقه عند أبي داود قال: "
__________
(1) هو أبو أحمد محمد بن عيسى بن محمد بن عبد الرحمن الجلودي - بفتح الجيم - الزاهد النيسابوري، كان زاهدا ورعا، سمع أبا بكر بن خزيمة وإبراهيم بن محمد بن سفيان الفقيه، وهو راوي كتاب صحيح مسلم عن إبراهيم بن محمد بن سفيان، وكل من حدث به عن إبراهيم بن محمد سوى الجلودي فهو غير ثقة، مات سنة 385 هـ (اللباب في تهذيب الأنساب لأبن الأثير 1/287-288 ومقدمة النووي على شرح مسلم 1/4، و6/7 وقال: "الجلودي: "بضم الجيم بلا خلاف".
(2) هو أبو العلاء عبد الوهاب عيسى بن عبد الرحمن بن ماهان الفارسي البغدادي، نزيل القاهرة والمتوفى بها سنة (387هـ) (ذيل تاريخ بغداد لابن النجار 1/375-378 رقم الترجمة (223).
(3) هو إبراهيم بن محمد بن عبيد أبو مسعود الدمشقي الحافظ، مصنف كتاب الأطراف على الصحيحين، وأحد من برز في هذا العلم كان صدوقا دينا ورعا فهما له عناية بالصحيحين (مات سنة 401هـ). (تذكرة الحفاظ للذهبي 3/168-170هـ). (ومقدمة تحفة الأحوذي للمباركفوري 1/76).
(4) هو القاضي أبو عبد الله محمد بن يحيى بن أحمد بن أحمد بن الحذاء التميمي الإمام الفقيه المحدث الحافظ له كتاب التعريف برجال الموطّأ، وكتاب الخطيب والخطباء وغير ذلك (347-316هـ) (شجرة النور الزكية في طبقات المالكية ص 112).
(5) شرح النووي على صحيح مسلم 3/636-637".(9/8)
231- حدثنا عمرو(1) بن عون أنبأنا شريك(2) عن قيس(3) بن وهب عن أبي الوداك(4) عن أبي سعيد الخدري، ورفعه أنه قال في سبايا أوطاس(5): "لا توطأ(6)
__________
(1) عمرو بن عون بن أوس الواسطي، أبو عثمان البزارالبصري، ثقة ثبت من العاشرة، (ت225) /ع (التقريب 2/76 وتهذيب التهذيب 8/86)
(2) هو ابن عبد الله القاضي، صدوق يخطئ كثيرا تقدم في حديث (26).
(3) قيس بن وهب الهمداني الكوفي، ثقة من الخامسة /م د ق (التقريب 2/130)، وفي تهذيب التهذيب (8/405)، م ق د ت وهو الصواب فقد ذكر المباركفوري قيس بن وهب في رجال الترمذي (2/35).
(4) هو جبر بن نوف - بفتح النون وآخره فاء - الهمداني - بسكون الميم - البكالي - بكسر الموحدة وتخفيف الكاف - أبو الوداك - بفتح الواو وتشديد الدال وآخره كاف، كوفي صدوق يهم، من الرابعة / م د ت س ق (التقريب 1/125 وتهذيب التهذيب 2/60). وقال الذهبي في: "(ميزان الاعتدال 4/584): "صدوق مشهور ضعفه ابن حزم".
(5) عند البيهقي "عن أبي سعيد الخدري قال: "أصبنا سايا يوم أوطاس فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا توطأ حامل حتى تضع حملها ولا غير حامل حتى تحيض حيضة".
وعند الدارقطني: "لا يطأ رجل حاملا حتى تضع حملها ولا غير ذات حمل حتى تحيض حيضة"، وعند أحمد "عن أبي سعيد قال: "قال النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة أوطاس لا توطأ الحبلى حتى تضع، ولا غير ذات حمل حتى تحيض حيضة"، وعنده أيضا "أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "في سبي أوطاس: "لا يقع على حامل حتى تضع، وغير حامل حتى تحيض حيضة".
(6) قوله: "لا توطأ حامل حتى تضع الخ) قال صاحب العون المعبود: "هو خبر بمعنى النهي، أي لا تجامعوا مسبية حاملاً حتى تضع حملها، ولا حائلا ذات أقراء حتى تحيض حيضة كاملة، ولو ملكها وهي حائض لا تعتد بتلك الحيضة حتى تستبرئ بحيضة مستأنفة، وإن كانت لا تحيض لصغرها أو كبرها، فاستبراؤها يحصل بشهر واحد أو بثلاثة أشهر، فيه قولان للعلماء أصحها الأول".
وفيه دليل على أن استحداث الملك يوجب الاستبراء، وبظاهره قال الأئمة الأربعة (عون المعبود 6/194).(9/9)
حامل حتى تضع ولا غير ذات حمل حتى تحيض حيضة"(1).
والحديث رواه الدارمي والدارقطني والحاكم والبيهقي الجميع من طريق شريك بن عبد الله به(2)".
وقال الحكام: "صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه وسكت عنه الذهبي".
والحديث مداره على شريك بن عبد الله القاضي، وقد قال فيه ابن حجر: "صدوق يخطئ كثيرا، تغير حفظه منذ ولي القضاء بالكوفة"(3)".
وقد صحح هذا الحديث الحاكم و سكت عنه الذهبي".
وقال عنه ابن حجر: "إسناده حسن(4)".
وتبعه الشوكاني(5).
وللحديث شواهد يرتقي بها إلى درجة الصحيح لغيره وهي: "ما رواه ابن أبي شيبة في "مصنفه" من مرسل الشعبي وهذا سياقه:
__________
(1) سنن أبي داود 1/497 كتاب النكاح، باب في وطئ السبايا". وتحفة الأشراف 3/339 حديث 3990).
(2) أحمد: "المسند: "(3/28، و62، و87، والدارمي: "السنن 2/92 كتاب النكاح باب في استبراء الأمة، والدارقطني: "السنن 4/112). والحاكم: "المستدرك 2/195، البيهقي: "السنن الكبرى 7/449 و 9/124).
(3) التقريب 1/351).
(4) التلخيص الحبير 1/171-172).
(5) نيل الأوطار6/343).(9/10)
232- حدثنا أبو خالد(1) الأحمر عن داود(2) قال: "قلت للشعبي(3) إن أبا موسى(4) نهى يوم تستر(5) أن لا توطأ الحبلى، ولا يشارك المشركون في أولادهم فإن الماء يزيد في الولد، هو شيء قاله برأيه، أو رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم؟ فقال: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أوطاس أن توطأ حامل حتى تضه أو حائل(6) حتى تستبرأ"(7)".
ورواه عبد الرزاق عن سفيان الثوري عن زكريا(8) عن الشعبي قال: "أصاب المسلمون نساء يوم أوطاس، فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن لا يقعوا على حامل حتى تضع ولا غير حامل حتى تحيض حيضة"(9).
قال الألباني: "إسناده مرسل صحيح، فهو شاهد(10)
__________
(1) هو سليمان بن حيان الأزدي، أبو خالد الأحمر الكوفي صدوق يخطئ من الثامنة (ت 190) أو قبلها /ع (التقريب 1/323 وتهذيب التهذيب 4/181، ورمز له الذهبي ب (صح) إشارة أنه ثقة (ميزان الاعتدال 2/200).
(2) داود بن أبي هند القشيري، مولاهم، أبو بكر، أو أبو محمد، البصري ثقة متقن، كان يهم بآخره، من الخامسة (ت 140) وقيل قبلها /خت م عم (التقريب 1/235 وتهذيب التهذيب 3/204 و 4/181).
(3) هو عامر بن شراحيل الشعبي ثقة فقيه فاضل مشهور (تقدم في حديث (147).
(4) هو عبد الله بن قيس أبو موسى الأشعري صحابي جليل فاضل".
(5) تستر: "بالضم ثم السكون، وفتح التاء الأخرى، وراء، أعظم مدينة بخوزستان، وكان فتحها في عهد عمر بن الخطاب بقيادة أبي موسى الأشعري رضي الله عنه (ياقوت: "معجم البلدان 2/29، و30 وابن الأثير: "اللباب 1/216).
(6) الحائل: "غير الحامل (النهاية لابن الأثير 1/463).
(7) نصب الراية للزيلعي 4/252".
(8) زكريا بن أبي زائدة، أبو يحيى الكوفي ثقة وكان يدلس، من السادسة/ ع (التقريب 1/261، وتهذيب التهذيب 3/329).
(9) المصنف 7/227".
(10) الشاهد: "هو الخبر المشارك للفرد لفظا ومعنى أو معنى فقط مع الاختلاف في الصحابي، وقال بعضهم: "الشاهد ما حصل معنى سواء اتحد الصحابي أو اختلف".
والمتابعة: "هي الخبر المشارك للفرد لفظا اتحد الصحابي أو اختلف وقد يطلق كل من المتابعة والشاهد على الآخر؟ (تقريب النووي ص 155 مع تدريب الرواي، وتدريب الراوي ص 155 وأطيب المنح لعبد المحسن العباد وعبد الكريم مراد ص 20-21).(9/11)
قوي للحديث(1)".
233- ما رواه عبد الرزاق أيضا عن معمر عن عمرو(2) بن مسلم عن طاوس(3) قال: "أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم مناديا في بعض مغازيه: "لا يقعن رجل على حامل، ولا حائل حتى تحيض"(4)".
حديث روفيع عند أبي داود وأحمد وغيرهما وهذا سياقه عند أحمد:
__________
(1) إرواء الغليل 1/200".
(2) عمرو بن مسلم الجندي - بفتح الجيم والنون - اليماني، صدوق له أوهام، من السادسة / عخ م د ت س (التقريب 2/79 وتهذيب التهذيب 8/104-105 وقال الذهبي في ميزان الاعتدال 3/79 صالح الحديث).
(3) طاوس بن كيسان اليماني، أبو عبد الرحمن الحميري، ثقة فقيه فاضل من الثالثة (ت 106) وقيل بعد ذلك /ع (التقريب 1/377 وتهذيب التهذيب 5/8).
(4) المصنف 7/226-227".(9/12)
234- حدثنا يعقوب(1) قال حدثنا أبي(2) عن ابن إسحاق(3) قال: "حدثني يزيد(4) بن حبيب عن أبي مرزوق(5) مولى تجيب(6) عن حنش(7) الصنعاني قال: "غزونا مع روفيع(8) بن ثابت الأنصاري قرية من قرى المغرب يقال لها "جربة"(9) فقام فينا خطيبا(10)
__________
(1) يعقوب بن إبراهيم بن سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف الزهري أبو يوسف، المدني نزيل بغداد، ثقة فاضل، من صغار التاسعة (ت 208) / ع (التقريب 2/374 وتهذيب التهذيب 11/380).
(2) هو إبراهيم بن سعد أبو إسحاق المدني الزهري، نزيل بغداد ثقة حجة تكلم فيه بلا قادح، من الثامنة (ت 185) /ع (التقريب 1/35 وتهذيب التهذيب 1/121).
(3) هو محمد بن إسحاق بن يسار "صدوق" تقدم في حديث (1).
(4) يزيد بن أبي حبيب واسمه سويد الأزدي مولاهم، أبو رجاء ثقة تقدم في حديث (33).
(5) أبو مرزوق التجيبي - بضم المثناة وكسر الجيم - مولاهم المصري بالميم - نزيل برقة، اسمه حبيب بن شهيد على الأشهر، ثقة من الخامسة (ت 159) / د ق (التقريب 2/470-471، تهذيب التهذيب 12/228).
(6) عند أحمد "وتجيب) بطن من كندة".
(7) حنش بن عبد الله، يقال بن علي بن عمرو السبائي - بفتح المهملة والموحدة بعدها همزة - أبو رشد بن الصنعاني، نزيل إفريقية، ثقة، من الثالثة (ت 100) م عم (التقريب 1/205، تهذيب التهذيب 3/57-58) ووقع في الإصابة 3/206 "حبيش" وهو خطأ".
(8) رويفع - بالفاء - ابن ثابت بن السكن بن عدي بن حارثة الأنصاري المدني، صحابي،) سكن مصر، وولي إمرة برقة ومات بها سنة 56 / بخ د ت س (التقريب 1/254).
(9) جربة) قال ياقوت: "هي بالفتح ثم السكون والباء الموحدة الخفيفة، وقد روى فيها أيضا بكسر الجيم قرية بالمغرب ثم أورد حديث رويفع هذا (معجم البلدان 2/118)، وقال ابن الأثير في: "(اللباب 1/269)، "بفتح الجيم والراء" وقد فتحت في عهد معاوية بن أبي سفيان، بقيادة فضالة بن عبيد بن نافذ الأنصاري سنة (49) (تاريخ الطبري 5/232).
(10) وعند أحمد أيضا: "عن رويفع بن ثابت الأنصاري قال: "كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم حين افتتح حنينا فقام فينا خطيبا" الخ، وعند الطبراني "عن حنش قال: "شهدت مع رويفع بن ثابت حين فتح جربة، فلما فتحها قام فينا خطيبا فقال: "لا أقول لكم إلا ما قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين".(9/13)
فقال: "أيها الناس إني لأقول فيكم(1) إلا ما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول فينا يوم حنين، فقال: "لا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر يسقي ماءه زرع غيره(2) يعني - إتيان الحبالى من السبايا - وأن يصيب(3) امرأة ثيبا من السبي حتى يستبرئها - يعني إذا اشتراها - وأن يبيع مغنماً حتى يقسم(4) وأن يركب دابة من فيء المسلمين حتى إذا أعجفها(5)
__________
(1) وعند أبي داود والبيهقي "أما إني لا أقول لكم".
(2) قوله: "أن يسقي ماءه زرع غيره).
قال الساعاتي: "هو كناية عن وطأ الحامل، والمراد بالماء هنا "المني" وبالزرع: "ولد الغير (الفتح الرباني 14/105).
(3) قال الخطابي: "شبه صلى الله عليه وسلم الولد إذا علق بالرحم بالزرع إذا نبت ورسخ في الأرض، وفيه كراهية وطء الحبالى إذا كان الحبل من غير الواطئ".
وقال ابن قيم الجوزية: "إذا وطئ الرجل الحامل صار في الحمل جزء منه فإن الوطء يزيد في تخلقه".
ثم نقل عن الإمام أحمد أنه قال: "الوطء يزيد في سمع الولد و بصره".
ثم قال ابن القيم: "وقد صرح النبي صلى الله عليه وسلم بهذا المعنى في قوله: "لا يحل لرجل أن يسقي ماءه زرع غيره" ومعلوم أن الماء الذي يسقى به الزرع يزيد فيه، ويتكون الزرع منه، وقد شبه وطء الحامل بساقي الزرع الماء، وقد جعل الله تبارك وتعالى محلّ الوطء حرثاً وشبّه النبيّ صلى الله عليه وسلم الحمل بالزرع ووطء الحامل بسقي الزرق". (تهذيب سنن أبي داود:6/193، مع عون المعبود (والتبيان في أقسام القرآن ص 222-224).
وعند أبي داود والبيهقي "أن يقع على امرأة من السبي حتى يستبرئها".
(4) أن يبيع مغنماً: "أي شيئا من الغنيمة حتى يقسم بين الغانمين ويخرج منه الخمس (عون المعبود 6/195).
(5) أعجفها: "أضعفها وأهزلها (النهاية 3/186).
وفي عون المعبود: "قال في الفتح: "وقد اتفقوا على جواز ركوب دوابهم - يعني أهل الحرب - ولبس ثيابهم، واستعمال سلاحهم حال الحرب، ورد ذلك بعد انقضاء الحرب".
وشرط الأوزاعي فيه إذن الإمام، وعليه أن يرد كلما فرغت حاجته ولا يستعمله في غير الحرب، ولا ينتظر برده انقضاء الحرب لئلا يعرضه للهلاك". قال: "وحجته حديث رويفع المذكور". (عون المعبود 7/376).(9/14)
ردها فيه، وأن يلبس ثوبا من فيء المسلمين حتى إذا أخلقه(1) رده فيه"(2).
والحديث رواه أبو داود عن النفيلي(3) عن محمد(4) بن سلمة عن محمد بن إسحاق حدثني يزيد بن أبي حبيب". الخ".
ثم قال: "حدثنا سعيد(5) بن منصور حدثنا أبو معاوية(6) عن ابن إسحاق بهذا الحديث قال: "حتى يستبرئها بحيضة" زاد فيه: "بحيضة" وهو وهم من أبي معاوية(7)".
وهو صحيح في حديث أبي سعيد".
ثم قال: "قال أبو داود: "الحيضة ليست بمحفوظة" وهو وهم من أبي معاوية(8)".
ورواه الطبراني من طريق إبراهيم بن سعد عن محمد بن إسحاق عن يزيد بن أبي حبيب به(9)". دون ذكر السبايا".
ورواه البيهقي من طريق يونس(10) بن بكير عن محمد بن إسحاق، ومن طريق أبي داود عن النفيلي عن محمد بن سلمة عن محمد بن إسحاق، ثم ساق حديث محمد بن إسحاق الوارد فيه أن خطبة رويفع كانت يوم "حنين".
__________
(1) أخلقه: "بالقاف أي أبلاه". (مختار الصحاح ص 187)
(2) مسند أحمد: "4/108).
(3) هو عبد الله بن محمد بن علي بن نفيل "ثقة حافظ" تقدم".
(4) هو الباهلي الحراني ثقة تقدم في حديث (32).
(5) سعيد بن منصور أبو عثمان الخراساني صاحب السنن"ثقة"تقدم في حديث(146).
(6) أبو معاوية الضرير محمد بن خازم"ثقة"أحفظ الناس لحديث الأعمش تقدم حديث(146).
(7) المعنى أن لفظ "حيضة" ليست بمحفوظة في حديث رويفع بن ثابت، وإنما فيه مجرد الاستبراء بدون قيد "بحيضة" وزيادتها وهم من أبي معاوية".
ولفظ "الحيضة" صحيح في حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - "بلفظ: "لا توطأ حامل حتى تضع ولا غير ذات حمل حتى تحيض حيضة" تقدم في ص 507 (عون المعبود 6/195-196).
(8) سنن أبي داود 1/497-498 كتاب النكاح باب وطء السبايا و 2/61 كتاب الجهاد، باب في الرجل ينتفع من الغنيمة بشيء).
(9) المعجم الكبير 5/15).
(10) هو ابن واصل الشيباني "صدوق يخطئ" تقدم".(9/15)
ثم قال: "وفي رواية ابن بكير قال: "غزونا مع أبي(1) رويفع الأنصاري، فذكره وقال: "يوم "خيبر" وزاد أن يصيب امرأة من السبي ثيبة".
والصحيح رواية محمد بن سلمة(2)".
والحديث رواه الدارمي والطبراني وأحمد(3) بن خالد الوهبي ثنا محمد بن إسحاق عن يزيد بن أبي حبيب به(4)".
وابن سعد من طريق عبد الله بن المبارك عن ابن إسحاق عن يزيد ابن أبي حبيب عن فلان(5) الجيشاني أو قال عن أبي مرزوق مولى تجيب عن حنش عن رويفع به(6)".
__________
(1) لعل لفظ "أبي" خطأ لأنني لم أجد في ترجمته أن كنيته أبو رويفع".
(2) السنن الكبرى 7/449).
(3) أحمد بن خالد الوهبي "صدوق" تقدم في حديث (32).
(4) سنن الدارمي 2/145، كتاب السير، باب في استبراء الأمة، والطبراني المعجم الكبير5/14).
(5) هكذا عند ابن سعد "عن فلان الجيشاني أو قال عن أبي مرزوق" وكل الطرق التي وقفت عليها فإن يزيد بن أبي حبيب يروي عن أبي مرزوق مباشرة، ولم أجد ترجمة فلان هذا، إلا إذا كان أبو مرزوق يقال له الجيشاني فالله أعلم".
(6) الطبقات الكبرى 2/114-115)، وقال: "عن رويفع بن ثابت البلوي وهو خطأ فإن رويفع بن ثابت البلوي ليس له رواية في الكتب الستة ولذا لم يورده ابن حجر في التقريب وهذا الحديث من رواية رويفع بن ثابت الأنصاري، وقد ذكر رويفع البلوي في (4/354)، من الطبقات).
وفي الإصابة (1/522): "رويفع بن ثابت البلوي، غير رويفع بن ثابت الأنصاري قاله ابن فتحون".(9/16)
وابن حبان من طريق ربيعة(1) بن سليم التجيبي عن حنش بن عبد الله الشيباني(2) عن رويفع به". الجميع بلفظ "يوم خيبر"(3) دون ذكر السبايا".
ورواه الطبراني من طريق ربيعة بن أبي سليم أنه سمع حنشا الصنعاني يحدث عن رويفع به(4)".
وأحمد من طريق الحارث(5) بن يزيد عن حنش الصنعاني عن رويفع به(6)".
وابن الجارود من طريق أبي مرزوق التجيبي عن حنش الصنعاني عن رويفع به(7)".
والترمذي من طريق ربيعة(8) عن سليم عن بسر(9) بن عبيد الله عن رويفع بن ثابت به". بدون تقييد بغزوة خيبر أو حنين".
__________
(1) ربيعة بن سليم بن أبي سليم أو ابن سليمان التجيبي مولاهم أبو عبد الرحمن، ويقال أبو مرزوق، المصري، مقبول من السابعة /ت (التقريب 1/246 وفي تهذيب التهذيب 3/255) ذكره ابن حبان في الثقات، له في الترمذي حديث واحد في النهي عن سقي مائه زرع غيره وقد ذكر الألباني في إرواء الغليل (7/213)، بأن ربيعة بن سليم هو أبو مرزوق التجيبي وهو خطأ فإن أبا مرزوق اسمه جبير بن شهيد كما في (التقريب 2/470-471).
(2) كذا وقع عند ابن حبان "الشيباني" بالشين المعجمة و المثناة التحتانية، والذي في التقريب والتهذيب بالسين المهملة و الباء الموحدة".
(3) موارد الظمآن ص 403).
(4) المعجم الكبير 5/15).
(5) الحارث بن يزيد الحضرمي، أبو عبد الكريم المصري، ثقة ثبت عابد، من الرابعة (ت 130) / م د س ق (التقريب 1/145 وتهذيب التهذيب 2/163).
(6) المسند 4/108و109).
(7) المنتقى ص 244).
(8) يقال فيه ربيعة بن سليم، وربيعة بن أبي سليم انظر ترجمته ص (512).
(9) بسر بن عبيد الله الحضرمي الشامي "ثقة حافظ" من الرابعة / ع (التقريب 1/97 وتهذيب التهذيب 1/438) وقد وقع في التقريب بسر "بن عبد الله" وفي تهذيب التهذيب 3/255 والإصابة 1/522 "بشر" بالشين المعجمة و الصواب بالسين المهملة كما ذكره ابن حجر في التقريب وتهذيب التهذيب في باب "السين المهملة" وانظر: "(الخلاصة للخزرجي 1/122).(9/17)
ثم قال الترمذي: "هذا حديث حسن".
وقد روي من غير وجه عن وريفع بن ثابت".
والعمل على هذا عند أهل العلم، لا يرون للرجل، إذا اشترى جارية وهي حامل، أن يطأها حتى تضع(1)". وفي الباب عن ابن عباس(2) وأبي الدرداء(3)
__________
(1) سنن الترمذي 2/299 كتاب النكاح، باب الرجل يشتري الجارية وهي حامل".
(2) حديث ابن عباس أخرجه النسائي في سننه (7/264 كتاب البيوع، باب بيع المغنم قبل أن تقسم من طريق مجاهد عن ابن عباس).
والدار قطني في سننه 3/257 من طريق عكرمة عن ابن عباس، والحاكم في (المستدرك 2/137)، من طريق مجاهد عن ابن عباس، وقال: "هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي وسياقه عنده "عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم خيبر عن بيع المغانم حتى تقسم وعن الحبالى أن يوطأن حتى يضعن ما في بطونهن، وقال: "أتسقي زرع غيرك؟
وعن أكل لحوم الحمر الإنسية وعن لحم كل ذي ناب من السباع".
(3) أبو الدرداء هو عويمر بن زيد بن قيس الأنصاري وحديثه أخرجه مسلم في صحيحه (2/1065-1066 كتاب النكاح، باب تحريم وطء الحامل المسيبة "وأبو داود في سننه 1/497 كتاب النكاح باب وطء السبايا، وأبو داود الطيالسي منحة المعبود 1/239، وأحمد في مسنده 5/195).
وسياق الحديث عند مسلم عن أبي الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أتى بأمرأة مجح على باب فسطاط فقال: "لعله يريد أن يلم بها" فقالوا: "نعم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لقد هممت أن ألعنه لعنا يدخل معه قبره كيف يورثه وهو لا يحل له؟ كيف يستخدمه وهو لا يحل له؟" (والمجح هي الحامل التي قربت على ولادتها).(9/18)
والعرباض(1) بن سارية، وأبي سعيد(2)".
وحديث رويفع قد حسنه الترمذي كما تقدم(3)".
حديث أبي هريرة رضي الله عنه عند الطبراني من طريق:
235- بقية بن الوليد عن إسماعيل بن عياش عن الحجاج بن أرطاة عن داود بن أبي هند عن الشعبي عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى في وقعة أوطاس أن يقع الرجل على الحامل حتى تضع" ثم قال الطبراني:
لم يروه عن داود بن أبي هند إلا الحجاج، تفرد به إسماعيل بن عياش ولا رواه عن إسماعيل إلا بقية(4)".
قال الهيثمي: "رواه الطبراني في الصغير والأوسط وفيه بقية(5) والحجاج(6) بن أرطاة وكلاهما مدلس(7)
__________
(1) حديث العرباض أخرجه الترمذي في سننه: "(3/18 كتاب الصيد، باب ما جاء في كراهية أكل المصبورة و63 كتاب السير باب ما جاء في كراهية وطء الحبالى من السبايا، وأحمد في مسنده 4/127 والحاكم في المستدرك 2/135)، الجميع من طريق أم حبيبة بنت العرباض بن سارية عن أبيها".
وقال الحاكم: "صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي".
ومال الألباني إلى قول الترمذي بتضعيف هذا الحديث قال لأن أم حبيبة بنت العرباض "لم يرو عنها غير واحد، ولم يوثقها أحد لكن لا بأس بهذا الطريق في الشواهد" (إرواء الغليل 1/201).
(2) حديث أبي سعيد تقدم برقم (231).
(3) تقدم برقم (234).
(4) المعجم الصغير 1/95).
(5) بقية بن الوليد قال عنه ابن حجر في التقريب 1/105 "صدوق كثير التدليس عن الضعفاء".
(6) قال عنه ابن حجرفي التقريب 1/152: "صدوق كثير الخطأ والتدليس".
(7) مجمع الزوائد 5/4 والتلخيص الحبير لابن حجر 1/172).
وقد جاء في حديث جابر بن عبد الله بإسناد صحيح عند الطيالسي كما في منحة المعبود 1/139 أن رسول الله صلى الله عليه وسلم "نهى أن توطأ الحبالى من السبي".
وعن علي رضي الله عنه عند ابن أبي شيبة في مصنفه قال نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن توطأ الحامل حتى تضع،أو الحائل حتى تستبرأ بحيضة وقال ابن حجر:في التلخيص الحبير1/172 لكن في إسناده ضعف وانقطاع".وانظر نصب الراية للزيلعي4/252-253".(9/19)
".
وقد ذهب الألباني إلى أن حديث أبي سعيد الخدري صحيح بمجموع هذه الطرق(1)".
وهذه الأحاديث تدل على جواز وطء السبايا بوضع الحمل من ذوات الأحمال وبحيضة من غير ذوات الأحمال، وعلى أنه لا يجوز الوطء قبل الاستبراء، وفي أثناء الحمل". وتدل أيضا على أن النكاح الأول يبطل بوقوع السبي، سواء سبيت المرأة وحدها أم مع زوجها، سواء كانت المسبية كتابية أم غير كتابية، كما هو الظاهر من هذه الأحاديث".
ثم إن جمهور العلماء على إباحة وطء الأمة الكتابية بملك يمين، لعموم قوله تعالى: {إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ}، [سورة المؤمنون، من الآية: "6]، ولجواز نكاح حرائرهم فيحل التسري بالإماء منهم، وأما إن كانت الأمة المملوكة مجوسية أو عابدة وثن ممن لا يحل نكاح حرائرهم، فجمهور العلماء على منع وطئها بملك يمين حتى تسلم".
قال النووي: "واعلم أن مذهب الشافعي ومن قال بقوله من العلماء أن المسبية من عبدة الأوثان وغيرهم من الكفار الذين لا كتاب لهم، لا يحل وطؤها بملك اليمين حتى تسلم، فما دامت على دينها فهي محرمة".
وهؤلاء المسبيات كن من مشركي العرب(2) عبد الأوثان، فيؤول هذا الحديث(3) وشبهه على أنهن أسلمن، وهذا التأويل لا بد منه والله أعلم"(4)". أهـ".
__________
(1) إرواء الغليل 1/200-201 و7/213 وصحيح الجامع الصغير 1/317).
(2) يريد سبي أوطاس".
(3) يريد حديث أبي سعيد الخدري المتقدم برقم (230).
(4) شرح النووي على صحيح مسلم (3/637-638 والروض الأنف للسهيلي 7/281-282 وأضواء البيان للشنقيطي 1/286).(9/20)
وأورد الشنقيطي نحو هذا ثم قال: "قال مقيده عفا الله عنه: "الذي يظهر من جهة الدليل - والله تعالى أعلم - جواز وطء الأمة بملك اليمين وإن كانت عابدة وثن أو مجوسية، لأن أكثر السبايا في عصره صلى الله عليه وسلم من كفارالعرب وهم عبدة أوثان، ولم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه حرم وطأهن بالملك لكفرهن، ولو كان حراما لبينه، بل قال صلى الله عليه وسلم: "لا توطأ حامل حتى تضع، ولا غير ذات حمل حتى تحيض حيضة" ولم يقل حتى يسلمن ولو كان ذلك شرطا لقاله".
"وقد اخذ الصحابة السبايا فارس وهم مجوس، ولم ينقل أنهم اجتنبوهن حتى أسلمن"(1).
وقد رد ابن القيم على القائلين باشتراط الإسلام، فإنه أورد حديث أبي سعيد الخدري الوارد في سبايا أوطاس ثم قال: "ودل هذا القضاء النبوي على جواز وطء الإماء الوثنيات بملك اليمين، فإن سبايا أوطاس لم يكن كتابيات، ولم يشترط رسول الله صلى الله عليه وسلم في وطئهن إسلامهن، ولم يجعل المانع منه إلا الاستبراء فقط، وتأخير البيان عن وقت الحاجة ممتنع مع أنهم حديثو عهد بالإسلام حتى خفي عليهم حكم هذه المسألة وحصول الإسلام من جميع السبايا وكانوا عدة آلاف بحيث لم يتخلف منهم عن الإسلام جارية واحدة مما يعلم أنه في غاية البعد، فإنهن لم يكرهن على الإسلام، ولم يكن لهن من البصيرة والرغبة والمحبة في لإسلام ما تقتضي مبادرتهن إليه جميعا، فمقتضى السنة، وعمل الصحابة في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعده جواز وطء المملوكات على أي دين كن، وهذا مذهب طاوس وغيره".
ومما يدل على عدم اشتراط إسلامهن، ما روى الترمذي في "جامعه" عن عرباض بن سارية، أن النبي صلى الله عليه وسلم حرم وطء السبايا حتى يضعن ما في بطونهن"(2)".
فجعل للتحريم غاية واحدة وهي وضع الحمل، ولو كان متوقفا على الإسلام لكان بيانه أهم من بيان الاستبراء".
__________
(1) أضواء البيان 1/286).
(2) تقدم تخريج الحديث في ص 514 تعليقة (2).(9/21)
وفي (السنن) و (المسند) "لا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يقع على امرأة من السبي حتى يستبرئها"(1)".
ولم يقل: "حتى تسلم، ولأحمد: "من كان يؤمن بالله و اليوم الآخر فلا ينكحن شيئا من السبايا حتى تحيض"(2)".
ولم يقل: "تسلم".
وفي (السنن) "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في سبايا أوطاس: "لا توطأ حامل حتى تضع، ولا غير حامل حتى تحيض حيضة واحدة".
"ولم يقل: "وتسلم، فلم يجيء عنه اشتراط إسلام المسبية في موضع واحد البتة"(3)".
وقال في أثناء الكلام على سبايا بنى المصطلق في وقوع جويرية أم المؤمنين في سهم ثابت بن قيس وهي من صريح العرب، ولم يكونوا يتوقفون في وطء سبايا العرب على الإسلام، بل كانوا يطؤونهن بعد الاستبراء، وأباح الله لهم ذلك، ولم يشترط الإسلام، بل قال تعالى: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلاَّ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ}، [النساء، من الآية: "24]. فأباح وطء ملك اليمين، وإن كانت محصنة إذا انقضت عدتها بالاستبراء".
وقال له سلمة بن الأكوع، لما استوهبه الجارية الفزارية من السبي: "والله يا رسول الله: "لقد أعجبتني، وما كشفت لها ثوبا"(4) ولو كان وطؤها حراما قبل الإسلام عندهم، لم يكن لهذا القول معنى، ولم تكن قد أسلمت، لأنه قد فدى بها ناسا من المسلمين بمكة، والمسلم لا يفادى به، وبالجملة فلا نعرف في أثر واحد قط اشتراط الإسلام منهم قولا أو فعلا في وطء المسبية، فالصواب الذي كان عليه هديه وهدي أصحابه استرقاق العرب، ووطء إمائهن المسبيات بملك اليمين من غير اشتراط الإسلام"(5)". إهـ".
__________
(1) انظر حديث (234).
(2) الحديث في مسند أحمد 4/109 من حديث رويفع بلفظ: "ولا ينكح ثيبا من السبي حتى تحيض".
(3) زاد المعاد 5/131-133 وانظر حديث (231).
(4) أخرجه مسلم في صحيحه: "(3/1375)، كتاب الجهاد والسير، باب في التنفيل وفداء المسلمين بالأسارى".
(5) زاد المعاد 3/113-114).(9/22)
وهذا الذي ذهب إليه ابن القيم واضح في غاية الوضوح، وقد رجحه الشوكاني أيضا(1)".
ومما اختلفوا فيه، في هذا الباب:
1- هل جواز وطء المسبية وانفساخ نكاحها من زوجها الكافر، مشروط بسبيها وحدها، أو ذلك يحصل ولو سبيت مع زوجها؟
ذهب الشافعي إلى العموم فقد نقل عنه البيهقي قوله: "سبى رسول الله صلى الله عليه وسلم سبي أوطاس وسبي بني المصطلق وأسر من رجال هؤلاء وهؤلاء، وقسم السبي فأمر أن لا توطأ حامل حتى تضع، ولا حائل حتى تحيض ولم يسأل عن ذات زوج ولا غيرها، ولا هل سبي زوج مع امرأته ولا غيره"(2).إهـ.
ورجح هذا ابن القيم ورد على القائلين بخلافه(3).
وقال الخطابي(4) في "المعالم" في الحديث(5) بيان أن الزوجين إذا سبيا معا فقد وقعت الفرقة بينهما كما لو سبى أحدهما دون الآخر، وإلى هذا ذهب مالك والشافعي وأبو ثور(6)".
واحتجوا بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قسم السبي وأمر أن لا توطأ حامل حتى تضع ولا حائل حتى تحيض، ولم يسأل عن ذات زوج وغيرها، ولا عمن كانت سبيت منهن مع الزوج أو وحدها، فدل على أن الحكم في ذلك واحد".
وقال أبو حنيفة: "إذا سبيا جميعا فهما على نكاحهما(7)". إهـ.
وقال ابن قدامة: "وإذا سبي المتزوج من الكفار لم يخل من ثلاثة أحوال:
__________
(1) نيل الأوطار 6/347 وتحفة الأحوذي 8/370).
(2) السنن الكبرى للبيهقي 9/124 وانظر الأم للشافعي 4/184).
(3) زاد المعاد 5/131، وانظر أضواء البيان للشنقيطي1/283).
(4) هو الإمام العلامة المفيد المحدث الرحال أبو سليمان حمد بن محمد بن إبراهيم".
(5) يريد حديث أبي سعيد الخدري المتقدم برقم (230).
(6) هو إبراهيم بن خالد بن أبي اليمان الكلبي، أبو ثور الفقيه، صاحب الشافعي، ثقة (التقريب 1/35).
(7) عون المعبود 6/191-192).(9/23)
أحدها: "أن يسبي الزوجان معا فلا ينفسخ نكاحهما وبهذا قال أبو حنفية والأوزاعي. وقال مالك والثوري والليث والشافعي وأبو ثور ينفسخ نكاحهما لقوله تعالى: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلاَّ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ}، [النساء، من الآية: "24]، والمحصنات المتزوجات "إلا ما ملكت أيمانكم" بالسبي، قال أبو سعيد الخدري: "نزلت هذه الآية في سبي أوطاس، وقال ابن عباس: "إلا ذوات الأزواج من المسبيات، ولأنه استولى على محل حق الكافر فزال ملكه كما لو سباها وحدها".
الحال الثاني: "أن تسبي المرأة وحدها فينفسخ النكاح بلا خلاف علمناه، والآية دالة عليه، وقد روى أبو سعيد الخدري، قال: "أصبنا سبايا يوم أوطاس ولهن أزواج في قومهن فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فنَزلت: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلاَّ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ}، [النساء، من الآية: "24].
إلا أن أبا حنيفة قال: "إذا سبيت المرأة وحدها ثم سبى زوجها بعدها بيوم لم ينفسخ النكاح".
الحال الثالث: "سبي الرجل وحده فلا ينفسخ النكاح لأنه لا نص فيه ولا القياس يقتضيه، وقد سبى النبي صلى الله عليه وسلم سبعين من الكفار يوم بدر فمن على بعضهم وفادى بعضا فلم يحكم عليهم بفسخ أنكحتهم(1)". إهـ".
فأنت ترى أن القائلين بعدم فسخ النكاح فيما إذا سبيا معا، هم أبو حنيفة وأحمد والأوزاعي، وقد مال صاحب المغني إلى هذا ودافع عنه".
والظاهر في هذا أن الصواب ما ذهب إليه الشافعي ومالك وغيرهما لما سبق بيانه والله أعلم".
__________
(1) المغني 8/427 باختصار وتصرف، والإنصاف 4/135-136).(9/24)
2- هل بيع الأمة يكون طلاقا لها من زوجها أخذا بعموم قوله تعالى: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلاَّ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ}، [النساء، من الآية: "24]. ذهب جماعة من العلماء إلى الأخذ بعموم الآية ورأوا أن بيع الأمة طلاق لها من زوجها(1)".
قال ابن كثير: "وقد خالفهم الجمهور قديما وحديثا، فرأوا أن بيع الأمة ليس طلاقا لها، لأن المشتري نائب عن البائع، والبائع كان قد أخرج عن ملكه هذه المنفعة(2)، وباعها مسلوبة عنها، واعتمدوا في ذلك على حديث بريرة(3) المخرج في الصحيحين وغيرهما فإن عائشة اشترتها واعتقتها ولم ينفسخ نكاحها من زوجها مغيث، بل خيرها رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الفسخ والبقاء، فاختارت الفسخ، فلو كان بيع الأمة طلاقها كما قال هؤلاء، ما خيرها النبي صلى الله عليه وسلم، فلما خيرها دل على بقاء النكاح وأن المراد من الآية المسبيات فقط"(4)".
وقال الشنقيطي: "وهو التحقيق في هذه المسألة"(5). إهـ.
قلت: "وهو الظاهر المتبادر من النصوص، والله أعلم".
__________
(1) ممن قال بهذا من الصحابة رضوان الله عليهم: "عبد الله بن مسعود، وعبد الله بن عباس، وجابر بن عبد الله، وأبي بن كعب، وأنس بن مالك ومن التابعين: "إبراهيم النخعي، والحسن البصري، وسعيد بن المسيب". انظر: "(جامع البيان للطبري 5/2-4، وتفسير ابن كثير: "1/473-474).
(2) حيث زوجها لغيره".
(3) حديث بريرة في صحيح البخاري (7/42 كتاب الطلاق، باب شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم في زوج بريرة وصحيح مسلم 2/1143 كتاب العتق، باب إنما الولاء لمن أعتق).
(4) تفسير ابن كثير 1/473-474، والبداية و النهاية له 4/339-340).
(5) أضواء البيان 1/282).(9/25)
الحكم الثاني: وقوع العزل في أوطاس
العزل هو نزع الذكر بعد الإيلاج لينْزل خارج الفرج، وكان الصحابة يفعلون ذلك مع الإماء خشية أن تحمل الأمة فيمتنع بيعها لأنها تصير بذلك أم ولد(1)".
وقد جاء في هذا ما رواه الطّحاوي من حديث أبي سعيد الخدري وهذا سياقه:
236- قال: "حدثنا نصر(2) بن مرزوق قال ثنا الخصيب(3)
__________
(1) انظر: "(هدي الساري ص: "156، والمصباح المنير للفيومي 2/485).
(2) نصر بن مرزوق أبو الفتح المصري، روى عن الخصيب بن ناصح وغيره". قال ابن أبي حاتم: "كتبنا عنه، وهو "صدوق" (الجرح والتعديل 8/472).
(3) الخصيب - بفتح أوّله وكسر المهملة - ابن ناصح الحارثي البصري، نزيل مصر صدوق يخطئ من التاسعة (ت 208)، وقيل: "(207هـ)، / سي (التقريب 1/223)، وقال: "أبو زرعة: "ما به بأس إن شاء الله، وذكره ابن حبان في الثقات".
وقال: "ربما أخطأ (تهذيب التهذيب 3/143، والجرح والتعديل لابن أبي حاتم 3/397 والخلاصة 1/289-290).(10/1)
وقال ثنا وهيب(1) عن موسى(2) بن عقبة عن محمد(3) بن يحيى بن حبان عن ابن محيريز(4) عن أبي سعيد(5) الخدري أنهم أصابوا سبايا يوم أوطاس، فأرادوا أن يستمعوا منهن ولا تحملهن، فسألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال: "لا عليكم أن لا تفعلوا، فإن الله عز وجل قد كتب من هو خالق إلى يوم القيامة"(6)".
وما رواه أحمد وأبو يعلى من حديث أبي سعيد الخدري أيضاً وهذا سياق أحمد قال:
__________
(1) وهيب - بالتصغير - ابن خالد بن عجلان، الباهلي مولاهم أبو بكر البصري، ثقة ثبت، لكنه تغير قليلاً بآخره من السابعة (ت165) وقيل بعدها/ ع (التقريب 2/339 وتهذيب التهذيب 11/169).
(2) موسى بن عقبة بن أبي عياش، ثقة فقيه إمام في المغازي تقدم في حديث 52".
(3) محمد بن يحيى بن حبان - بفتح المهملة وتشديد الموحدة - ابن منقذ الأنصاري المدني، ثقة فقيه، من الرابعة (ت 121) /ع (التقريب 1/216، وتهذيب التهذيب 6/507).
(4) هو عبد الله بن محيريز - بالمهملة وراء آخره زاي مصغرا - ابن جنادة بن وهب الجمحي - بضم الجيم وفتح الميم بعدها مهملة المكي، كان يتيماً في حجر أبي محذورة بمكة، ثم نزل بيت المقدس ثقة عابد، من الثالثة (ت 99) وقيل بعدها / ع (التقريب 1/ 449، وتهذيب التهذيب 6/32).
(5) أبو سعيد الخدري هو سعد بن مالك بن سنان بن عبيد الأنصاري له ولأبيه صحبة، استصغر في أحد، ثم شهد ما بعدها (التقريب 1/289).
(6) شرح معاني الآثار 3/33).(10/2)
237- ثنا أبو نعيم(1) حدثنا يونس(2) حدثني أبو الوداك(3) جبر بن نوف قال: "حدثني أبو سعيد قال: "أصبنا سباياً يوم حنين، فكنا نعزل عنهن نلتمس أن نفاديهن من أهلهن، فقال بعضنا لبعض: "تفعلون هذا وفيكم رسول الله صلى الله عليه وسلم ائتوه فسلوه، فأتيناه أو ذكرنا ذلك له، فقال: "ما من كل ماء يكون الولد إذا قضى الله أمراً كان". الحديث(4).
والحديث روى عن أبي سعيد من طريقين:
الأولى: "فيها الخصيب وهو "صدوق يخطئ".
والثانية: "فيها أبو الوداك وهو "صدوق يهم"(5)".
والحديث بطريقه يعتضد ويرتقي إلى درجة الحسن لغيره(6)، وهو يدل على أن السؤال عن العزل وقع في غزوة أوطاس، وفي الصحيحين وغيرهما من طريق ابن محيريز عن أبي سعيد الخدري، أن ذلك كان في غزوة بني المصطلق وهي متقدمة على غزوة حنين". وسياق الحديث:
__________
(1) هو الفضل بن دكين - مصغرا - الكوفي واسم دكين عمر بن حماد بن زهير، التيمي مولاهم، الأحول، أبو نعيم الملائي - بضم الميم - مشهور بكنيته ثقة ثبت، من التاسعة (ت 218) وقيل (219) وهو من كبار شيوخ البخاري / ع (التقريب 2/110 وتهذيب التهذيب 8/270 والمغني لابن طاهر الهندي ص 31).
(2) يونس بن إسحاق السبيعي، أبو إسرائيل الكوفي، صدوق يهم قليلا من الخامسة (ت 152) على الصحيح /ز م ع (التقريب 2/384 وتهذيب التهذيب 11/433). وختم الذهبي ترجمته بقوله: "صدوق ما به بأس" (ميزان الاعتدال 4/483).
(3) أبو الوداك صدوق يهم تقدم في حديث (231).
(4) أحمد: "(المسند 3/82). وأبو يعلى: "(المسند 2/132 برقم 302).
(5) انظر: "(التقريب 1/125).
(6) في (أطيب المنح لعبد المحسن العباد وعبد الكريم مراد ص 16). الحسن لغيره هو الخبر المتوقف عن قبوله كرواية المستور ونحوه إذا توبع بمثله أو أقوى منه.(10/3)
238- عن أبي سعيد قال: "خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة بني المصطلق فأصبنا سبيا من سبي العرب، فاشتهينا النساء، واشتدت علينا العزبة، وأحببنا العزل، فأردنا أن نعزل وقلنا نعزل ورسول الله صلى الله عليه وسلم بين أظهرنا قبل أن نسأله، فسألناه عن ذلك فقال: "ما عليكم أن لا تفعلوا، ما من نسمة كائنة إلى يوم القيامة إلا وهي كائنة" لفظ البخاري(1).
ولعل السؤال عن هذه المسألة حصل في الغزوتين معا، ولا مانع من ذلك خاصة إذا عرفنا أن كثيراً ممن حضرواً غزوة حنين لم يكونوا موجودين في غزوة بني المصطلق، مما يدل على خفاء مثل هذا الحكم على بعض منهم فلا يستبعد أن يسأل عن هذا الحكم في غزوة أوطاس أيضاً".
والحديث يدل على جواز العزل وعلى أنه لا يمنع شيئاً أراده الله وقدره من إيجاد ولد وعدمه".
239- وفي حديث جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما - أن رجلاً أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "إن لي جارية هي خادمنا وسانيتنا وأنا أطوف عليها وأنا أكره أن تحمل، فقال: "اعزل عنها إن شئت فإنه سيأتيها ما قدر لها".
فلبث الرجل ثم أتاه فقال: "إن الجارية قد حبلت، فقال: "قد أخبرتك أنه سيأتيها ما قدر لها"(2).
والخلاف في حكم العزل بين العلماء مشهور وقد تناولت هذه المسالة في غزوة بني المصطلق بأوسع من هذا(3)".
الحكم الثالث: في مسألة المتعة
المتعة في اللغة الانتفاع(4).
__________
(1) صحيح البخاري 3/129 كتاب العتق، باب من ملك من العرب رقيقا و5/96 كتاب المغازي، باب غزوة بني المصطلق من خزاعة و8/104 كتاب القدر، باب وكان أمر الله قدرا مقدورا، وصحيح مسلم 2/1061-1065)، كتاب النكاح باب حكم العزل".
(2) صحيح مسلم 2/1064 كتاب النكاح باب حكم العزل، سنن أبي داود 1/501 كتاب النكاح، باب العزل واللفظ لمسلم).
(3) ص 331).
(4) النهاية لابن الأثير 4/292، هدي الساري لابن حجر ص 185).(10/4)
وفي الاصطلاح: "هي نكاح مؤقت إلى أجل مسمى، لا توارث فيه و لا طلاق، ينفسخ بانتهاء أجله".
وكان هذا النكاح مباحا في أوّل الإسلام ثم حرم في فتح مكة تحريما مؤبداً(1)".
وأطلق فتح مكة على أوطاس لاتصال الغزوتين ووقوعهما في سفرة واحدة، لأن عزوة أوطاس ناشئة عن فتح مكة(2)".
وقد جاء في إباحة المتعة عام أوطاس ما رواه مسلم وأحمد والدارقطني والبيهقي وأبو الفتح نصر بن إبراهيم المقدسي من طريق الدارقطني الجميع من طريق:
240- أبي العميس(3) عن إياس بن سلمة عن أبيه(4)، قال: "رخص رسول الله صلى الله عليه وسلم عام أوطاس في المتعة ثلاثا، ثم نهى عنها" لفظ مسلم(5)".
ولفظ أحمد: "وخص رسول الله صلى الله عليه وسلم في متعة النساء عام أوطاس ثلاثة أيام ثم نهى عنها"(6)".
قال النووي: "قوله "رخص رسول الله صلى الله عليه وسلم عام أوطاس في المتعة ثلاثاً ثم نهى عنها" هذا تصريح بأنها أبيحت يوم فتح مكة، وهو ويوم أوطاس شيء واحد".
__________
(1) شرح النووي على صحيح مسلم3/554وانظر نكاح المتعة للأهدل ص61-62).
(2) السنن الكبرى للبيهقي 7/204).
(3) هو عتبة بن عبد الله أبو العميس - بمهملتين مصغرا - الهذلي المسعودي الكوفي (التقريب 2/4، تهذيب التهذيب 7/97).
(4) هو سلمة بن الأكوع أبو مسلم وأبو إياس صحابي جليل".
(5) صحيح مسلم 2/1023 كتاب النكاح، باب نكاح المتعة).
(6) مسند أحمد 4/55 والدارقطني: "السنن 3/258 والبيهقي: "السنن الكبرى 7/204، وأبو الفتح المقدسي تحريم نكاح المتعة ص 111).(10/5)
وقال أيضاً: "والصواب المختار أن التحريم والإباحة كانا مرتين، وكانت حلالا قبل خيبر، ثم حرمت يوم خيبر، ثم أبيحت يوم فتح مكة وهو يوم أوطاس، لاتصالهما، ثم حرمت بعد ثلاثة أيام مؤبدا إلى يوم القيامة، واستمر التحريم"(1).إهـ. ثم نقل عن القاضي عياض قوله: "واتفق العلماء على أن هذه المتعة كانت نكاحا إلى أجل لا ميراث فيها، وفراقها يحصل بانقضاء الأجل من غير طلاق".
ووقع الإجماع بعد ذلك على تحريمها من جميع العلماء إلا الروافض". وكان ابن عباس - رضي الله عنه - يقول: "بإباحتها، ورُوِيَ عنه أنه رجع عنه".
قال: "وأجمعوا على أنه متى وقع نكاح المتعة الآن حكم ببطلانه سواء كان قبل الدخول أو بعده إلا ما سبق عن زفر!(2)".
__________
(1) شرح النووي على صحيح مسلم 3/553 و556 وفتح الباري 9/169، و170، وانظر السنن الكبرى للبيهقي 7/204 ورسالة الأهدل ص 162-166).
(2) شرح النووي على صحيح مسلم 3/552و553و554 وفتح الباري 9/173-174 ونيل الأوطار 6/154-156).
وقد نقل ابن قدامة في المغني 6/644 عن زفر "صحة النكاح وبطلان الشرط".
ونقل بن حجر: "عن أبي الفتح الأزدي أنه قال: "زفر غير مرضي المذهب والرأي إهـ، وهذا القول من الأزدي فيه نظر وإن كان قول زفر بصحة نكاح المتعة الآن مردود، إلا أن الإطلاق بأن زفر غير مرضي المذهب والرأي فيه نظر وذلك لأن الرجل قد وصف بالعبادة والعلم والصدق، وإن كان قد غلب عليه القول برأي أبي حنيفة ومن ثم ضعف في الحديث (وفيات الأعيان لابن خلكان 2/317-319، وميزان الاعتدال للذهبي 2/71 واللسان لابن حجر 2/476).(10/6)
وفي المسألة خلاف طويل في وقت تحريم المتعة وإباحتها، وهل تكررت الإباحة والتحريم أولاً، وهل يوجد من يقول بها سوى الشيعة أو لا، هذا ليس من مقصودنا في هذا المقام وإنما المقصود هنا هو توجيه حديث سلمة بن الأكوع، الوارد فيه أن المتعة أحلت يوم أوطاس، وقد ظهر من أقوال العلماء أن المراد بذلك يوم فتح مكة، وأطلق ذلك على أوطاس لاتصال الغزوتين".
وقد تقدم حديث ابن عباس وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج إلى حنين في رمضان والناس مختلفون فصائم ومفطر(1) والمعروف عند العلماء أن خروجه صلى الله عليه وسلم إلى غزوة حنين كان في شهر شوال، وأن خروجه في رمضان إنما كان في غزوة الفتح وبهذا القدر أكتفي في توجيه حديث سلمة بن الأكوع وهو أنّ صحيح في ذلك أن المتعة حرمت في فتح مكة بعد إباحتها ثلاثة أيام، وأطلق ذلك على عام أوطاس لوقوعها عقب الفتح مباشرة(2)".
الحكم الرابع: منع المخنثين من الدخول على النساء الأجنبيات
__________
(1) تقدم الحديث برقم (31) وتوجيه ابن حجر له".
(2) وقد أوجزت القول في حكم المتعة لكثرة الدراسات القديمة والحديثة المتصلة بهذا الموضوع ومن خير من استوعب أحكام المتعة من المعاصرين فضيلة الشيخ محمد عبد الرحمن الأهدل في رسالة الماجستير بعنوتن مرويات نكاح المتعة".(10/7)
جاءت الشريعة الإسلامية بالمحافظة على الأعراض وسدت كل المنافذ التي يخشى منها على أعراض المجتمع الإسلامي، ومن ذلك حماية الأسرة المسلمة من دخول بعض الرجال الذين أطلق عليهم في عرف السلف المخنثون، وهم من خلق متخلقا بأخلاق النساء وزيهن وكلامهن وحركاتهن من غير تكلف، ولا إربة له في النساء أصلا، وهذا الضرب من الرجال شاذ في تكوينه، غير أن هذا الشذوذ خلقي جبلي فيه ولذلك كان بعض هؤلاء يدخلون على النساء بلا إنكار عليهم في ذلك ولكن لما بدر من بعضهم وصف النساء وتحديق النظر في مفاتن المرأة ومحاسنها حظر عليهم الشرع الإسلامي الدخول على النساء منعا للفتنة وسدا للذريعة وفي هذا الحكم وردت الأحاديث الآتية:
ما رواه البخاري ومسلم وغيرهما من حديث أم سلمة وهذا سياقه عند البخاري:
241- قال: "حدثنا الحميدي(1) سمع سفيان حدثنا هشام عن أبيه عن زينب ابنة أبي سلمة عن أمها أم سلمة - رضي الله عنها -: "دخل عليّ(2) النبي - صلى الله عليه وسلم - وعندي مخنث(3)
__________
(1) الحميدي: "هو أبو بكر عبد الله بن الزبير صاحب المسند، سفيان: "هو ابن عيينة وهشام: "هو ابن عروة بن الزبير، وأم سلمة هي: "أم المؤمنين هند بنت أبي أمية".
قال ابن حجر: "وفي هذا الإسناد لطيفة: "رجل عن أبيه وهما تابعيان، وامرأة عن أمها وهما صحابيتان". (فتح الباري 8/44).
(2) وعند البخاري أيضاً "عن زينب ابنة أم سلمة عن أم سلمة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان عندها وفي البيت مخنث".
وعند أيضا وعند مسلم "عن زينب عن أم سلمة أن مخنثا كان عندها ورسول الله صلى الله عليه وسلم في البيت".
وعند أبي يعلى "عن زينب عن أم سلمة قالت: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم جالسا في بيت أم سلمة وعنده مخنث جالس".
(3) المخنث: "بكسر النون وفتحها هو الذي يشبه النساء في أخلاقه وكلامه و حركاته، ويطلق عليه مخنث سواء فعل الفاحشة أو لم يفعل، قال النووي: "قال العلماء: "المخنث ضربان:
أحدهما: "من خلق كذلك ولم يتكلف التخلق بأخلاق النساء وزيهن وكلامهن وحركاتهن، بل هو خلقة خلقه الله عليها، فهذا لا ذم عليه ولا عتب ولا إثم ولا عقوبة؛ لأنه معذور لا صنع له في ذلك، ولهذا لم ينكر النبي صلى الله عليه وسلم أولا دخوله على النساء ولا خلقه الذي هو عليه حين كان من أصل خلقته، وإنما أنكر عليه بعد ذلك معرفته لأوصاف النساء، ولم ينكر صفته و كونه مخنثا".
الضرب الثاني: "من المخنث: "هو من لم يكن له ذلك خلقة، بل يتكلف أخلاق النساء وحركاتهن وهيئاتهن و كلامهن، ويتزي بزيهن، فهذا هو المذموم الذي جاء في الأحاديث الصحيحة لعنه، وهو بمعنى الحديث الآخر "لعن الله المتشبهات من النساء بالرجال والمتشبهين بالنساء من الرجال" وأما الضرب الأول فليس بملعون، ولو كان ملعونا لما أقره أولاً". والله أعلم".إهـ (شرح النووي على صحيح مسلم 5/25و26) وانظر تحفة الأحوذي 8/70).
وقال ابن كثير: "المراد بالمخنث في عرف السلف الذي لا همة له في النساء وليس المراد به الذي يؤتى، إذ لو كان كذلك لوجب قتله حتما كما دل عليه الحديث، وكما قتله أبو بكر الصديق - رضي الله عنه -" (البداية والنهاية 4/349، والروض الأنف 7/274 وفتاوى ابن تيمية 15/308-309).
ونقل ابن حجر نحو قول النووي وقال:و أما ما كان ذلك من أصل خلقته فإنما يؤمر بتكلف تركه والإدمان على ذلك بالتدرج، فإن لم يفعل وتمادى دخله الذم، ولا سيما إذا بدا منه ما يدل على الرضا به، وأخذ هذا واضح من لفظ المتشبهين، وأما إطلاق من أطلق كالنووي وأن المخنث الخلقي لا يتجه إليه اللوم فمحمول على ما إذا لم يقدر على ترك التثني والتكسّر في المشي والكلام بعد تعاطيه المعالجة لترك ذلك، وإلا متى كان ترك ذلك ممكنا ولو بالتدرج فتركه بغير عذر لحقه اللوم".(فتح الباري 9/334-335و 10/332-333).(10/8)
فسمعته(1) يقول لعبد الله(2)
__________
(1) وعند ابن ماجه "عن أم سلمة أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل عليها فسمع محنثا وهو يقول لعبد الله بن أبي أمية" الخ".
وعند الحميدي "عن أم سلمة قالت: "دخل عليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وعندي مخنث فسمعه يقول لعبد الله بن أبي أمية" الخ".
(2) وعند البخاري أيضا "فقال لعبد الله أخي أم سلمة". هكذا صرح في حديث أم سلمة أن القول الصادر من هذا المخنث كان لعبد الله بن أبي أمية أخي أم سلمة".
قال ابن حجر: "وروى المستغفري من مرسل محمد بن المنكدر أن النبي صلى الله عليه وسلم نفى هيتا في كلمتين تكلم بهما من أمر النساء، قال لعبد الرحمن بن أبي بكر: "إذا افتتحتم الطائف غدا فعليكم بابنة غيلان"، فذكر نحو حديث الباب وزاد "اشتد غضب الله على قوم رغبوا عن خلق الله وتشبهوا بالنساء"، ثم قال ابن حجر: "فيحمل على تعدد القول منه لكل منهما: "لأخي عائشة ولأخي أم سلمة".
والعجب أنه لم يقدر أن المرأة الموصوفة حصلت لواحد منهما؛ لأن الطائف لم يفتح حينئذ، وقتل عبد الله بن أبي أمية في حال الحصار، ولما أسلم غيلان بن سلمة وأسلمت بنته بادية تزوجها عبد الرحمن بن عوف".
ثم قال: "وذكر ابن إسحاق في المغازي أن اسم المخنث في حديث الباب ماتع وهو بمثناة وقيل بنون فروى عن محمد بن إبراهيم التيمي قال: "كان مع النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة الطائف مولى لخالته فاختة بنت عمرو بن عائذ مخنث يقال له ماتع يدخل على نساء النبي صلى الله عليه وسلم، ويكون في بيته لا يرى رسول الله أنه يفطن لشيء من أمر النساء مما يفطن له الرجال ولا أن له إربة في ذلك فسمعه يقول لخالد بن الوليد: "يا خالد إن افتتحتم الطائف، فلا تنفلتن منك بادية بنت غيلان بن سلمة، فإنها تقبل بأربع وتدبر بثمان" الحديث…
وذكر البارودي في "الصحابة" من طريق إبراهيم بن مهاجر عن أبي بكر بن حفص أن عائشة قالت لمخنث كان بالمدينة يقال له أنة - بفتح الهزة وتشديد النون - ألا تدلنا على امرأة نخطبها على عبد الرحمن بن أبي بكر؟
قال: "بلى، فوصف امرأة تقبل بأربع و تدبر بثمان".
قال ابن حجر: "والراجح أن اسم المذكور في حديث الباب هيت، ولا يمتنع أن يتوارد في الوصف المذكور (فتح الباري 9/334-335).(10/9)
بن أبي أمية: "يا عبد الله أرأيت إن فتح الله عليكم الطائف فعليك بابنة غيلان فإنها تقبل بأربع وتدبر بثمان(1)
__________
(1) وعند أبي داود وابن ماجه: "عن أم سلمة أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل عليها وعندها مخنث وهو يقول لعبد الله أخيها: "إن يفتح الله الطائف غدا دللتك على امرأة تقبل بأربع وتدبر بثمان، فقال صلى الله عليه وسلم: "أخرجوهم من بيوتكم" ولفظ ابن ماجه "فسمع مخنثا وهو يقول الخ".
وعنده أيضاً فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "أخرجوه من بيوتكم" وقوله (تقبل بأربع وتدبر بثمان فسره البخاري في الحديث بقوله: "قال أبو عبد الله: "تقبل بأربع و تدبر بثمان: "يعني أربع عكن بطنها، فهي تقبل بهن، وقوله تدبر بثمان: "يعني أطراف هذه العكن الأربع لأنها محيطة بالجنين حتى لحقت، وإنما قال بثمان ولم يقل بثمانية وواحد الأطراف وهو ذكر، لأنه لم يقل بثمانية أطراف".
وقال ابن كثير في (البداية النهاية 4/349): "ومعنى قوله تقبل بأربع وتدبر بثمان يعني بذلك عكن بطنها فإنها تكون أربعاً إذا أقبلت ثم تصير كل واحد اثنتين إذا أدبرت" وانظر: "(شرح النووي على صحيح مسلم 5/25).
وقال ابن حجر: "قال الخطابي: "يريد أن لها في بطنها أربع عكن، فإذا أقبلت رؤيت مواضعها بارزة متكسراً، بعضها على بعض، وإذا أدبرت كانت أطراف هذه العكن الأربع عند منقطع جنبيها ثمانية".
قال ابن حجر: "وحاصله أنه وصفها بأنها مملوءة البدن بحيث يكون لبطنها عكن وذلك لا يكون إلا للسمينة من النساء، وجرت عادة الرجال غالبا في الرغبة فيمن تكون بتلك الصفة، وهذه المرأة هي بادية بنت غيلان".
قال ابن حجر: "واختلف في ضبط بادية فالأكثر بموحدة، ثم تحتانية، وقيل: "بنون بدل التحتانية، حكاه أبو نعيم، ولبادية ذكر في المغازي"، ذكر ابن إسحاق أن خولة بنت حكيم قالت للنبي صلى الله عليه وسلم: "إن فتح الله عليك الطائف أعطني حليّ بادية بنت غيلان". وكانت من أحلى نساء ثقيف، وغيلان هو ابن سلمة وهو الذي أسلم وتحته عشر نسوة فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يختار أربعا، وكان من رؤساء ثقيف وعاش إلى أواخر خلافة عمر - رضي الله عنه ـ".
(فتح الباري 9/335 وانظر سيرة هشام 2/484 والورض الأنف 7/271).(10/10)
، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا يدخلن عليكن".
قال ابن عيينة وقال ابن جريج(1): "المخنث هيت(2)".
حدثنا محمود(3) حدّثنا أبو سلمة عن هشام بهذا وزاد: "فحاصر الطائف يومئذ".
والحديث رواه البخاري أيضا من طريق عبدة(4) عن هشام به".
ومن طريق زهير(5)حدثنا هشام بن عروة به(6)".
ورواه مسلم وأبو داود وابن ماجه الجميع من طريق وكيع عن هشام بن عروة به(7)".
ورواه مسلم أيضا وإسحاق بن راهويه وأبو يعلى كلهم من طريق جرير بن عبد الحميد عن هشام به(8)".
__________
(1) قال ابن حجر: "هو موصول بالإسناد الأول (فتح الباري 8/44).
(2) هيت: "بكسر الهاء وسكون التحتانية بعدها مثناة، قال ابن حجر: "وضبطه بعضهم بفتح أوله، وأما درستويه فضبطه بنون ثم موحدة - هنب - وزعم أن الأوّل تصحيف، قال: "والهنب الأحمق".
وتقدم في تعليقة (3) ص 526 أن الراجح أن اسم المذكور في حديث الباب "هيت" وقال ابن كثير: "وهذا هو المشهور (البداية والنهاية 4/349) وفتح الباري 8/44 و9/334، وقال النووي في شرح مسلم (5/25) وهو المحفوظ".
(3) محمود: "هو ابن آدم المروزي، وأبو أسامة: "هو حماد بن أسامة".
(4) عبدة: "هو ابن سليمان الكلابي، أبو محمد الكوفي".
(5) زهير: "هو ابن معاوية بن خديج أبو خيثمة الكوفي (تهذيب التهذيب 3/351 و10/3).
(6) البخاري 5/128 كتاب المغازي، باب غزوة الطائف 7/33 كتاب النكاح، باب ما ينهى من دخول المتشبهين بالنساء على المرأة، 7/137 كتاب اللباس، باب إخراج المتشبهين بالنساء من البيوت).
(7) مسلم: "(الصحيح 4/1715 كتاب السلام، باب منع المخنثين من دخول على النساء الأجانب، أبو داود: "السنن 2/580 كتاب الادب، باب الحكم في المخنثين، وابن ماجه السنن 1/613 كتاب النكاح، باب في المخنثين).
(8) مسلم: "(الصحيح 4/1715 وإسحاق بن راهويه المسند ص 233 أرقم 380، وأبو يعلى: "المسند 6/635 أ رقم 306).(10/11)
ورواه مسلم أيضاً، وأحمد كلاهما من طريق أبي معاوية محمد بن خازم عن هشام به(1)".
ورواه مسلم أيضا من طريق عبد الله بن نمير حدثنا هشام به(2)".
ورواه الحميدي عن سفيان بن عيينة قال ثنا هشام به(3)". ومن طريقه أخرجه البيهقي(4)".
ورواه البيهقي أيضا من طريق يونس بن بكير عن هشام به(5)".
ورواه مالك عن هشام بن عروة عن أبيه مرسلا(6)".
قال الكاندهلوي: "هكذا رواه جمهور الرواة عن مالك مرسلا".
ورواه سعيد(7)بن أبي مريم عن مالك عن هشام عن أبيه عن أم سلمة، أخرجه ابن عبد البر وقال: "الصواب ما في الموطأ(8)".
ولم يسمعه عروة عن أم سلمة، وإنما رواه عن بنتها زينب عن أمها أم سلمة".
وأخرجه البخاري ومسلم وغيرهما من طرق عن هشام عن أبيه عن زينب بنت أم سلمة عن أمها أم سلمة، كذلك قال ابن عيينة وأبو معاوية عن هشام".
ثم قال الكاندهلوي: "قال الحافظ: "هكذا قال أكثر أصحاب هشام وهو المحفوظ".
وأخرج البخاري في اللباس من طريق زهير عن هشام أن عروة أخبره أن زينب بنت أم سلمة أخبرته أن أم سلمة أخبرتها(9)".
وخالفهم حماد بن سلمة عن هشام فقال عن أبيه عن عمر(10)بن أبي سلمة".
وقال معمر عن هشام عن أبيه عن عائشة".
__________
(1) مسلم: "الصحيح 4/1715 وأحمد: "المسند 6/290).
(2) مسلم: "الصحيح 4/1715).
(3) المسند: "1/142).
(4) البيهقي: "السنن الكبرى 8/223-224).
(5) البيهقي: "السنن الكبرى 8/223-224).
(6) الموطأ2/767كتاب الوصية،باب ما جاء في المؤنث من الرجال ومن أحق بالولد).
(7) هو سعيد بن الحكم بن محمد بن سالم المعروف بابن أبي مريم".
(8) يعني كونه عن عروة مرسلا". وانظر: "التقصّي، لابن عبد البر ص 197-198 الحديث رقم (668).
(9) انظر: "(تخريج الحديث في ص: "528).
(10) عمر بن أبي سلمة أمه أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم ووقع في فتح الباري وأوجز المسالك "عمرو" والصواب ما أثبتناه".(10/12)
وأرسله مالك فلم يذكر فوق عروة أحداً(1)".إهـ".
ما رواه مسلم وأبو داود وغيرهما من حديث عائشة وهذا سياقه عند مسلم قال:
242- وحدثنا عبد بن حميد أخبرنا عبد الرزاق عن معمر عن الزهري عن عروة عن عائشة قالت: "كان(2) يدخل على أزواج النبي صلى الله عليه وسلم مخنث فكانوا يعدونه من غير أولى الإربة(3)، قال: "فدخل النبي صلى الله عليه وسلم يوما وهو عند بعض نسائه(4)، وهو ينعت امرأة قال: "إذا أقبلت أقبلت بأربع، وإذا أدبرت أدبرت بثمان، فقال: "النبي صلى الله عليه وسلم: "ألا أرى هذا يعرف(5) ما هاهنا لا يدخلن عليكن". قالت: "فحجبوه(6)".
والحديث رواه أبو داود وأحمد والبيهقي الجميع من طريق معمر عن زهري عن عروة به(7)".
ورواه أبو داود أيضا من طريق معمر عن الزهري وهشام بن عروة عن عروة به(8)".
__________
(1) أوجز المسالك 12/353 وفتح الباري 9/333-334".
(2) وعند أحمد والبيهقي "كان رجل يدخل على أزواج النبي صلى الله عليه وسلم مخنث وكانوا يعدونه من غير أولي الإربة".
(3) الإربة: "بكسر أوله وسكون الراء: "الحاجة، والمراد بها هنا: "حاجة النكاح وغير أولي الإربة: "عرفه العلماء بتعاريف خلاصتها: "أنه هو الذي يهمه بطنه دون فرجه ولا هم له ولا حاجة به إلى النساء، ولا تشتهيه النساء، (جامع البيان للطبري 18/121-123، والسنن الكبرى للبيهقي 7/196).
(4) قال ابن حجر: "وعرف من حديث الباب تسمية المرأة وأنها أم سلمة (فتح الباري 9/334) ويعني بحديث الباب حديث أم سلمة المتقدم برقم (241).
(5) وعند أبي داود وأحمد والبيهقي "فقال: "ألا أرى هذا يعلم ما ههنا لا يدخلن عليكن هذا وحجبوه".
(6) صحيح مسلم: "4/1716 كتاب السلام، باب منع المخنث من الدخول على النساء الأجانب).
(7) أبو داود: "السنن 2/383-384 كتاب اللباس، باب في قوله (غير أولي الإربة) ولم يسق لفظه، وأحمد: "المسند 6/152، والبيهقي السنن الكبرى 7/96".
(8) أبو داود: "السنن 2/383".(10/13)
ورواه أبو داود أيضا من طريق يونس(1) عن الزهري عن عروة عن عائشة بهذا الحديث: "وزاد(2): "وأخرجه فكان بالبيداء يدخل كل جمعة يستطعم".
__________
(1) هو يونس بن يزيد الأيلي، ثقة تقدم في حديث (63).
(2) زاد: "أي يونس في روايته وأخرجه أي أخرج النبي صلى الله عليه وسلم المخنث، فكان بالبيداء - بالمد القفر وكل صحراء فهي بيداء كأنها تبيد سالكها أي تكاد تهلكه (عون المعبود 11/167-168).
قال النووي: "والمحفوظ أنه هيت، قال العلماء: "وإخراجه كان لثلاثة معان:
أحدها: "المعنى المذكور في الحديث أنه كان يظن من غير أولى الإربة وكان من أولى الإربة ويتكتم بذلك".
والثاني: "وصفه النساء ومحاسنهن وعوراتهن بحضرة الرجال، وقد نهى أن تصف المرأةُ المرأةَ لزوجها فكيف إذا وصفها الرجل للرجل؟
والثالث: "أنه ظهر له منه أنه كان يطلع من النساء وأجسامهن وعوراتهن على ما لا يطلع عليه كثير من النساء فكيف الرجل، لا سيما على ما جاء في غير مسلم أنه وصفها حتى وصف ما بين رجليها أي فرجها وحواليه، (شرح النووي على صحيح مسلم 5/25).
وقال ابن حجر: "قال المهلب: "إنما حجبه عن الدخول إلى النساء لما سمعه يصف المرأة بهذه الصفة التي تهيج قلوب الرجال فمنعه لئلا يصف الأزواج للناس فيسقط معنى الحجاب" اهـ".
وقد ذكر ابن الكلبي: "بعد قوله وتدبر بثمان فقال: "بثغر كالأقحوان، إن قعدت تثنت، وتكلمت تغنت، وبين رجليها مثل الإناء المكفوء".
وزاد المديني من طريق يزيد بن رومان عن عروة مرسلا في هذه القصة: "أسفلها كثيب وأعلاها عسيب" ثم قال ابن حجر: "وفي سياق الحديث ما يشعر بأنه حجبه لذاته أيضا لقوله: "ألا أرى هذا يعرف ما ههنا" ولقوله: "وكانوا يعدونه من غير أولى الإربة" فلما ذكر الوصف المذكور دل على أنه من أولى الإربة، فنفاه لذلك (فتح الباري 9/335-336). والروض الأنف 7/272".(10/14)
ومن طريق الأوزاعي في هذه القصة "فقيل يا رسول الله إنه إذا يموت من الجوع، فأذن له أن يدخل في كل جمعة مرتين فيسأل ثم يرجع"(1) وإسناده صحيح(2)".
والحديث يدل على منع المخنثين من الدخول على النساء، وفيه نفي أهل المعاصي والفساد من البلاد تأديباً لهم وتنكيلاً بهم".
قال النووي: "في الحديث منع المخنث من الدخول على النساء، ومنعهن من الظهور عليه، وبيان أن له حكم الرجال الفحول الراغبين في النساء في هذا المعنى".
وكذا حكم الخصي والمجبوب ذكره، وأما دخول المخنث أولا على أمهات المؤمنين فقد بين سببه في هذا الحديث، بأنهم كانوا يعتقدونه من غير أولى الإربة وأنه مباح دخوله عليهن، فلما سمع منه هذا الكلام علم أنه من أولي الإربة فمنعه صلى الله عليه وسلم الدخول"(3)اهـ".
وقال ابن حجر: "ويستفاد من الحديث حجب النساء عمن يفطن لمحاسنهن، وهذا الحديث أصل في إبعاد من يستراب به أمر من الأمور…
وفيه أيضا تعزير من يتشبه بالنساء بالإخراج من البيوت والنفي إذا تعين ذلك طريقا لردعه".
وظاهر الأمر وجوب ذلك، وتشبه النساء بالرجال والرجال بالنساء من قاصد مختار حرام اتفاقا"(4).اهـ.
وقد جاء - لعن المخنثين والأمر بإخراجهم من البيوت ونفيهم عن البلاد - في حديث عبد الله بن عباس عند البخاري وأبي داود وغيرهما وهذا سياقه عند البخاري قال:
__________
(1) سنن أبي داود2/383-384كتاب اللباس،باب في قوله تعالى:(غير أولي الإربة).
(2) إرواء الغليل 6/205).
(3) شرح النووي على صحيح مسلم 5/25).
(4) فتح الباري 9/336 وعون المعبود 11/166-167 و168".(10/15)
243- حدثنا معاذ بن فضالة حدثنا هشام(1) عن يحيى عن عكرمة عن ابن عباس قال: "لعن النبي صلى الله عليه وسلم المخنثين من الرجال والمترجلات(2) من النساء وقال: "أخرجوهم من بيوتكم، قال: "فأخرج النبي صلى الله عليه وسلم فلانا، وأخرج عمر(3) فلانا"(4).
والحديث رواه أبو داود والنسائي وأحمد والدارمي الجميع من طريق هشام الدستوائي عن يحيى بن أبي كثير عن عكرمة به(5)".
ورواه عبد الرزاق عن معمر عن يحيى بن أبي كثير وأيوب(6) كلاهما عن عكرمة به".
وساق منه إلى قوله: "والمترجلات من النساء"(7).
__________
(1) هشام: "هو الدستوائي: "ويحيى: "هو ابن أبي كثير (فتح الباري 10/333).
(2) المترجلات من النساء: "أي المتشبهات بهم زيا وهيئة ومشية ورفع صوت ونحوها لا رأيا وعلما،فإن التشبه بهم محمود(عون المعبود13/277 وتحفة الأحوذي8/70).
(3) وعند الدارمي "وأخرج عمر فلانا أو فلانة" قال أبو محمد - هو الدارمي نفسه - فأشك". وفي المتن الذي شرح عليه ابن حجر "فأخرج النبي صلى الله عليه وسلم فلانا وأخرج عمر فلانة" بدون شك، ثم قال ابن حجر: "كذا في رواية أبي ذر "فلانة" بالتأنيث، وكذا وقع في "شرح ابن بطال" وللباقين "فلانا" بالتذكير، وكذا عند أحمد (فتح الباري 10/333و334).
(4) البخاري: "الصحيح 7/137 كتاب اللباس، باب إخراج المتشبهين بالنساء من البيوت و8/142 كتاب الحدود باب نفي أهل المعاصي والمخنثين".
(5) أبو داود: "السنن 2/581 كتاب الأدب، باب الحكم في المخنثين، النسائي: "السنن الكبرى في عشرة النساء من طريق بشر بن المفضل، والنضر بن شميل، وعبد الصمد ابن عبد الوارث، ووهب بن جرير، وأبي داود الطيالسي، خمستهم عن هشام نحوه".
(تحفة الأشراف للمزي5/173حديث (6240)، وأحمد:المسند1/225، و226، و227،والدارمي:السنن2/192كتاب الاستئذان،باب لعن المخنثين والمترجلات).
(6) أيوب: "هو ابن أبي تميمة السختياني".
(7) مصنف عبد الرزاق 11/242".(10/16)
ورواه الترمذي من هذه الطريق(1)".
ورواه النسائي أيضا من طريق الأوزاعي عن يحيى بن أبي كثير عن عكرمة به".
ولفظه:"أن النبي صلى الله عليه وسلم أخرج مخنثا وأن عمر أخرج فلانا وفلاناً"(2).
ورواه عبد الرزاق أيضا عن معمر عن يحيى بن أبي كثير عن عكرمة به".
ولفظه: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أخرجوا المخنثين من بيوتكم".
قال: "وأخرج النبي صلى الله عليه وسلم مخنثا وأخرج عمر مخنثا"(3).
ورواه أيضا عن معمر عن أيوب عن عكرمة قال: "أمر النبي صلى الله عليه وسلم برجل من المخنثين فأخرج عن المدينة، وأمر أبو بكر برجل منهم فأخرج أيضا"(4).
قال ابن حجر: "وفي هذه الأحاديث مشروعية إخراج من يحصل به التأذي للناس عن مكانه إلى أن يرجع عن ذلك أو يتوب"(5)".
ثم قال ابن حجر: "وقد أخرج الطبراني وتمام(6) الرازي في "فوائده" من حديث واثلة بن الأسقع مثل حديث ابن عباس هذا بتمامه، وقال فيه: "وأخرج النبي صلى الله عليه وسلم أنجشة"(7)
__________
(1) السنن 4/194 كتاب الأدب، باب ما جاء في المتشبهات بالرجال من النساء).
(2) السنن الكبرى في عشرة النساء (تحفة الأشراف للمزي 5/173 حديث 6240".
(3) المصنف 11/242".
(4) المصنف 11/243 وهو مرسل".
(5) فتح الباري 10/334 والإصابة 1/67".
(6) تمام بن محمد بن عبد الله بن جعفر الإمام الحافظ محدث الشام أبو القاسم الرازي ثم الدمشقي، قال أبو علي الأهوازي: "ما رأيت مثله في معناه، كان عالما بالحديث ومعرفة الرجال، وقال أبو بكر الحداد: "ما لقينا مثله في الحفظ و الخير، له كتاب (فوائد في الحديث) (330-414هـ).
(تذكرة الحفاظ للذهبي 3/1056 ومعجم المؤلفين لكحالة 3/93).
(7) أنجشة - بفتح الهمزة وسكون النون وفتح الجيم بعدها شين معجمة ثم هاء تأنيث - ويقال فيه: "أنجش على الترخيم، كان حبشيا يكنى أبا مارية".
(فتح الباري 10/334 و 544، والإصابة 1/67-68) وحديثه هذا المشار إليه أورده الهيثمي في مجمع الزوائد 8/103-104، ولفظه: "عن واثلة قال: "لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم المخنثين من الرجال والمترجلات من النساء، وقال: "أخرجوهم من بيوتكم، فأخرج النبي صلى الله عليه وسلم أنجشة وأخرج عمر فلانا" ثم قال: "رواه الطبراني وفيه حماد مولى بني أمية". اهـ".
وحماد قال فيه الذهبي: "قال الأزدي: "متروك، وأورد الحديث المذكور ابن حجر وقال: "رواه الطبراني بإسناد لين (ميزان الاعتدال 1/602 ولسان الميزان 2/355، والإصابة 1/67-68).(10/17)
وهو العبد الأسود الذي كان يحدو(1) بالنساء".
وذكر في كتاب النكاح عند شرحه لحديث أم سلمة "أن النبي صلى الله عليه وسلم نفى عن المدينة ثلاثة من المخثنتين وهم: "ماتع" و"هيث" نفاهما إلى الحمى(2)، و "أنة" نفاه إلى حمراء الأسد(3)".
__________
(1) الحداء: "بضم أوله والمد مهموز هو ضرب من الغناء تساق به الإبل (هدي الساري لابن حجر ص 103).
(2) الحمى: "لعله حمى النقيع بالنون وهو الذي حماه رسول لله صلى الله عليه وسلم ثم عمر بن الخطاب من بعده كما سيأتي في حديث رقم (250) ص 544 تعليقة (7).
والنقيع موقع قرب المدينة وهو من ديار مزينة يبعد عن المدينة بعشرين فرسخا". (معجم البلدان لياقوت 5/299و301).
وقال عاتق بن غيث البلادي: "النقيع: "فعيل من النقع وهو واد فحل من أودية الحجاز، يقع جنوب المدينة، يسيل من الحرار التي يسيل منها وادي الفرع ثم يتجه شمالا جاعلا جبال قدس على يساره، ويأخذ كل مياهها الشرقية وهو الذي حماه رسول الله صلى الله عليه وسلم للخيل، يسمى الوادي النقيع إلى أن يقبل على بئر الماشي (38) كيلا جنوب المدينة، ثم يسمى عقيق الحسا، إلى ذي الحليفة، ثم عقيق المدينة حتى يدفع في إضم في مجمع الأسيال".
ثم قال: "فأول النقيع ممّا يلي المدينة يبعد عنها قرابة (40) كيلا جنوبا، على طريق الفرع، وأقصاه على قرابة (120) كيلا قرب الفرع". (معجم المعالم الجغرافية في السيرة النبوية ص 319-320).
(3) حمراء الأسد: "قال عاتق البلادي: "حمراء الأسد: "جبل أحمر جنوب المدينة على (20) كيلا، إذا خرجت من ذي الحليفة تؤم مكة رأيت حمراء الأسد جنوبا، ليس بينك وبينها من الأعلام سوى حمراء نمل القريبة من الطريق، وتقع حمراء الأسد على الضفة اليسرى لعقيق الحسا على الطريق إلى المدينة إلى الفرع". (معجم معالم الجغرافية ص 105-106).(10/18)
وأما الذين نفاهم عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -". فذركر ابن حجر أيضا أنه وقف على "كتاب المغربين" لأبي الحسن(1)المدايني من طريق الوليد بن سعيد قال: "سمع عمر قوما يقولون أبو ذؤيب(2) أحسن أهل المدينة، فدعا به، فقال: "أنت لعمري، فأخرج عن المدينة، فقال: "إن كنت تخرجني فإلى البصرة حيث أخرجت يا عمر نصر بن حجاج".
وساق قصة جعدة(3)السلمى وأنه كان يخرج مع النساء إلى البقيع ويتحدث إليهن حتى كتب بعض الغزاة إلى عمر يشكو ذلك فأخرج".
وكذا أخرج أمية بن يزيد الأسدي، ومولى مزينة كانا يحتكران الطعام بالمدينة، فأخرجهما عمر".
ثم ذكر عدة قصص لمبهم ومعين، فيمكن التفسير في هذه القصة ببعض هؤلاء"(4). إهـ.
والحديث قال ابن بطال: "استدل به على أن المراد بالمخنثين المتشبهون بالنساء لا من يؤتى، فإن ذلك حده الرجم، ومن وجب رجمه لا ينفى".
قال ابن حجر: "وتعقب بأن حده مختلف فيه، والأكثر أن حكمه حكم الزاني فإن ثبت عليه جلد ونفي، لأنه لا يتصور فيه الإحصان، وإن كان يتشبه فقط نفي فقط".
وقيل إن في الترجمة(5) إشارة إلى ضعف القول الصائر إلى رجم الفاعل والمفعول به وأن هذا الحديث الصحيح لم يأت فيه إلا النفي".
ثم قال: "وفي هذا نظر لأنه لم يثبت عن أحد ممن أخرجهم النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يؤتى".
__________
(1) هو علي بن محمد أبو الحسن المدايني الأخباري، ثقة تقدم في حديث 0 36).
(2) انظر قصته هو ونصر بن حجاج بن علاط في الطبقات ابن سعد الكبرى 3/285 إلا أنه قال: "أبو ذئب" ولعله صغر فقيل أبو ذؤيب". انظر الإصابة 3/579".
(3) انظر قصته في طبقات ابن سعد 3/285-286 والإصابة 1/261، وفتاوى ابن تيمية 15/313 و32/251-252".
(4) فتح الباري 9/334 و12/159-160 وانظر حاشية ص 526 تعليقة (3).
(5) يعني ترجمة البخاري بقوله "باب نفي أهل المعاصي والمخنثين" انظر: "ص: "532 تعليقة (2).(10/19)
244- وقد أخرج أبو داود من طريق أبي هاشم عن أبي هريرة "أن رسول لله صلى الله عليه وسلم أتي بمخنث قد خضب يديه ورجليه فقال: "ما بال هذا؟ قيل يتشبه بالنساء، فأمر به فنفى إلى النقيع"(1) يعني بالنون(2).
وقال ابن تيمية: "وقد ذكر الشافعي وأحمد أن التغريب جاء في السنة في موضعين:
أحدهما: "في الزاني الذي لم يحصن "جلد مائة وتغريب عام".
الثاني: "نفى المخنثين". فيما روته أم سلمة ثم ساق الحديث وفيه "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أخرجوهم من بيوتكم"(3)".
ومجموع ما مضى من الأحاديث يؤخذ منه الحفاظ على أعراض المسلمين وصيانتها وعدم التساهل في ذلك، خاصة فيمن يستراب في أمره وإن كان يظن إنه لا ريبة فيه، لأن الواجب في مثل ذلك الأخذ بالأحوط، وأمر المخنث من هذا الباب".
وفي الأحاديث أيضا التشديد على من يتشبه بالنساء من الرجال ومن يتشبه بالنساء بالرجال".
__________
(1) الحديث في سنن أبي داود 2/580 كتاب الأدب، باب الحكم في المخنثين من طريق أبي اليسار القرشي عن أبي هاشم عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم أتي بمخنث قد خضب يديه ورجليه بالحناء فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "ما بال هذا؟ فقيل يا رسول الله يتشبه بالنساء فأمر به فنفي إلى النقيع قالوا: "يا رسول الله، ألا نقتله؟ قال: "إني نهيت عن قتل المصلين".
قال أبو أسامة - أحد رواة الحديث -: "والنقيع ناحية عن المدينة وليس بالبقيع".
والحديث فيه أبو اليسار القرشي، قال أبو حاتم: "مجهول"، وقال أبو هاشم الدوسي ابن عمّ أبي هريرة". قال ابن القطان: "مجهول الحال" (التقريب 2/483 و490 وتهذيب التهذيب 12/261، و281).
(2) فتح الباري 12/159-160".
(3) فتاوى ابن تيمية 5/308".(10/20)
ولا يبعد أن يكون المتشبه بالنساء المسمى مخنثا إنما تشبه بهن لغاية في نفسه، إما بوصفهن للأجانب، وإما لأنه يود الاقتراب منهن لغرض آخر، ولهذا منعت الشريعة مثل هذا من الدخول على النساء، ويستفاد من الأحاديث أيضا إخراج من تعم به الفتنة كما فعل عمر بن الخطاب رضي الله عنه بنصر بن حجاج وأبي ذؤيب وجعدة السلمى صيانة للمجتمع عن الفتن وانتشار الرذائل".
الحكم الخامس: في النهي عن قتل النساء والضعفاء ومن في حكمهم
من محاسن الإسلام أنه دين الرحمة والعدالة، ومن أبرز ما يؤكد هذه الحقيقة موقفه من الضعفاء والنساء والأطفال في حال النّزال والقتال والتقاء الصفين، لأن هؤلاء المستضعفين ليسوا أهل شوكة ولا مكيدة في الحرب، ولا ذنب لهم في الغالب فيما جره عليهم أهلوهم الكفرة من الصد عن سبيل الله ومحاربة الإسلام، فلا يجوز قتلهم ولا التنكيل بهم، إلا إذا كان الشيخ الهرم محاربا للمسلمين برأيه أو بأي وسيلة تمكنه، أو حاولت المرأة قتل أحد من المسلمين فيجوز قتلها دفاعا عن النفس، وأما الطفل فلا يتصور منه ذلك فهذا النمط من الرحمة والعطف في الحروب والمعارك الشديدة لا مثيل له في أي مبدأ من المبادئ قديما وحديثا، تاريخ الحروب البشرية شاهد صدق بذلك".
ولقد أكد رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا المبدأ وجعله من أهم التوصيات التي يجب أن يجعلها كل أمير جيش أو سرية نصب عينيه، فقد روى مسلم في صحيحه من حديث بريدة بن الحصيب رضي الله عنه قال: "(10/21)
245- كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أمر أميرا على جيش أو سرية أوصاه في خاصته بتقوى الله ومن معه من المسلمين خيرا، ثم قال: "اغزوا باسم الله في سبيل الله قاتلوا من كفر بالله، اغزوا ولا تغلوا ولا تغدروا، ولا تمثلوا ولا تقتلوا وليدا" الحديث(1).
والشاهد من الحديث قوله "ولا تقتلوا وليدا" وهو نهي والنهي يقتضي التحريم، فيحرم قتل الصبيان والنساء والشيوخ والرهبان، الذين ليس من شأنهم أن يقاتلوا".
وهكذا امتازت الحروب الإسلامية بهذا المبدأ، فلا يقتل إلا من يتأتى منه القتال، أما الذين لا يد لهم في القتال ولا قدرة عليه، فالشريعة الإسلامية تنهى عن قتلهم وترويعهم، وقد جاءت جملة صالحة من الأحاديث في هذا الأمر منها: "ما رواه عبد الرزاق عن سفيان الثوري عن أبي فزارة(2) عن عبد الرحمن(3) بن أبي عمرة قال: "مر النبي صلى الله عليه وسلم يوم حنين بامرأة مقتولة، فقال: "ألم أنه عن هذا؟".
فقال رجل: "أردفتها فأرادت أن تقتلني، فقتلتها، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بدفنها"(4)".
قال ابن حجر: "ورواه ابن أبي شيبة من طريق عبد الرحمن بن أبي عمرة الأنصاري". وهو مرسل"(5)". قلت: "رجاله ثقات، رجال الصحيح".
__________
(1) صحيح مسلم 3/1357 كتاب الجهاد والسير، باب تأمير الأمير على البعوث ووصيته إياهم بآداب الغزو وغيرها، وقد ساق البيهقي جملة من النصوص بعدة أسانيد فيها النهي عن قتل الرهبان والشيوخ والمرضى والصبيان والنساء والوصفاء والعسفاء". (السنن الكبرى 9/89-91).
(2) هو راشد بن كيسان العبس، الكوفي، ثقة".
(3) عبد الرحمن بن أبي عمرة الأنصاري".
(4) مصنف عبد الرزاق 5/201 وتقدم الحديث برقم (103) مع تراجم رواته".
(5) التلخيص الحبير 4/102".(10/22)
246- ما رواه أبو داود في مراسيله عن موسى(1) بن إسماعيل عن وهيب(2) عن أيوب(3) عن عكرمة(4) أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى امرأة مقتولة بالطائف فقال: "ألم أنه عن قتل النساء؟ من صاحب هذه المرأة المقتولة؟".
فقال رجل من القوم: "أنا يا رسول الله، أردفتها فأرادت أن تصرعني فتقتلني، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن توارى"(5).
والحديث مرسل ورجاله ثقات رجال الصحيح".
قال ابن حجر: "ووصله الطبراني في الكبير من حديث مقسم عن ابن عباس وفيه الحجاج بن أرطأة(6)".
قلت: "ورواه أحمد أيضا".
إلا أن لفظ الطبراني "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - مر بامرأة يوم الخندق مقتولة" الحديث(7)".
ما رواه أحمد والبيهقي وغيرهما من حديث الأسود بن سريع وهذا سياقه عند أحمد:
__________
(1) هو المنقري أبو سلمة التبوذكي "ثقة ثبت" تقدم في حديث (91).
(2) وهيب: "هو ابن خالد "ثقة ثبت" تقدم في حديث (236).
(3) أيوب: "هو ابن أبي تميمة السختياني - بفتح المهملة بعدها معجمة، ثم مثناة ثم تحتانية وبعد الألف نون - أبو بكر البصري ثقة ثبت حجة من كبار الفقهاء العباد من الخامسة (ت 131) / ع". (التقريب 1/89 وتهذيب التهذيب 1/397).
(4) عكرمة بن عبد الله مولى ابن عباس "ثقة ثبت"، تقدم في حديث (67)
(5) كتاب المراسيل لأبي داود ص 36-37 والسنن الكبرى للبيهقي 9/82".
(6) التلخيص الحبير 4/102، والحديث في المعجم الكبير للطبراني 11/388 وفيه الحجاج بن أرطأة وهو مدلس وقد عنعن".
(7) مسند أحمد 1/256 وانظر مجمع الزوائد 5/316".(10/23)
247- ثنا يونس(1) ثنا أبان(2) عن قتادة(3) عن الحسن(4) عن الأسود(5) بن سريع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث سرية يوم حنين، فقاتلوا المشركين فأفضى بهم القتل إلى الذرية فلما جاؤوا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما حملكم إلى قتل الذرية؟ قالوا: "يا رسول الله إنما كانوا أولاد المشركين، قال: "أو هل خياركم إلا أولاد المشركين، والذي نفس محمد بيده ما من نسمة تولد إلا على الفطرة(6) حتى يعرب عنها لسانها"(7).
__________
(1) يونس بن محمد بن مسلم البغدادي، أبو محمد المؤدب، ثقة ثبت، من صغار التاسعة (ت 207)/ع (التقريب 2/386 وتهذيب التهذيب11/447).
(2) أبان بن يزيد العطار البصري، أبو يزيد "ثقة له أفراد" تقدم في حديث (9).
(3) قتادة بن دعامة بن قتادة السدوسي، أبو الخطاب البصري، ثقة ثبت، تقدم في حديث (48)، وقتادة قد وصفه النسائي وغيره بالتدليس كما في طبقات المدلسين لابن حجر ص 31 وقد عنعن، ولكن تابعه يونس بن عبيد والسري بن يحيى ومبارك بن فضالة، الجميع في شيخه الحسن، كما سيأتي ص 539".
(4) الحسن هو البصري "ثقة فاضل فقيه" وكان يرسل كثيرا و يدلس، وتقدم في حديث (156) وقد صرح بالتحديث عند النسائي والحاكم كما سيأتي ص 539".
وقد وقع عند أحمد في المسند 4/24 عن السري بن يحيى قال ثنا الحسن بن الأسود ابن سريع، ولفظ "ابن" خطأ والصواب "ثنا الحسن عن الأسود بن سريع".
(5) الأسود بن سريع - بفتح السين - التميمي السعدي، صحابي نزل البصرة، ومات بها في أيام الجمل، وقيل سنة 42/بخ قد س". (التقريب 1/76 وتهذيب التهذيب 1/338).
(6) قوله: "تولد إلا على الفطرة" المعنى أنها تولد على نوع من الجبلة والطبع المتهيء لقبول الدين، فلوة ترك المولود لاستمر على لزومها ولم يفارقها إلى غيرها، وإنما يعدل لآفة من يعدل عن آفات البشر والتقليد، وقوله "حتى يعرب عنها لسانها" يعني يبين ويوضح". (النهاية 3/200و 457) والفتح الرباني 14/65".
(7) مسند أحمد 3/435".(10/24)
والحديث رواه الحاكم من طريق يونس بن محمد بن المؤدب ثنا أبان بن يزيد عن قتادة عن الحسن عن الأسود بن سريع، إلا أنه قال: "بعث سرية يوم خيبر، بدل يوم حنين"(1)".
ورواه البيهقي من طريق الحاكم هذه فقال: "يوم حنين"(2) مثل رواية أحمد مما يقوي وقوع تصحيف في المستدرك الحاكم".
وقد جاء بدون تقييد عند النسائي وأحمد والدارمي والطبراني والحاكم والبيهقي الجميع من طريق يونس(3) بن عبيد عن الحسن عن الأسود بن سريع به(4)".
وكذا عند أحمد والطبراني وابن حبان كلهم كمن طريق السري(5) ابن يحيى أبي الهيثم ثنا الحسن عن الأسود بن سريع به(6)".
ورواه الطبراني أيضا من طريق مبارك(7) بن فضالة عن الحسن عن الأسود بن سريع به(8)".
وقد صرح الحسن بالتحديث عن الأسود عند النسائي والحاكم(9)".
__________
(1) المستدرك 2/123".
(2) السنن الكبرى 9/130".
(3) يونس بن عبيد بن دينار العبدي، أبو عبيد البصري، ثقة ثبت فاضل ورع، من الخامسة(ت139)/ع (التقريب 2/385 وتهذيب التهذيب 11/442).
(4) النسائي: "السنن الكبرى، في السير، (تحفة الأشراف 1/70 حديث "146"). وأحمد: "المسند3/435". والدارمي: "السنن 2/141-142كتاب السير، باب النهي عن قتل النساء والصبيان". والطبراني: "المعجم الكبير1/260". والحاكم: "المستدرك 2/123". والبيهقي: "السنن الكبرى 9/77".
(5) السري بن يحيى بن إياس بن حرملة الشيباني البصري، ثقة، أخطأ الأزدي في تضعيفه، من السابعة (ت 167) /بخ س". (التقريب 1/285 وتهذيب التهذيب 3/460-461)، وميزان الاعتدال 2/118).
(6) أحمد: "المسند 4/24". والطبراني: "المعجم الكبير 1/259-260". وابن حبان: "موارد الظمآن ص 399".
(7) مبارك بن فضالة - بفتح الفاء وتخفيف المعجمة - أبو فضالة البصري، صدوق يدلس ويسوي، من السادسة (ت 167) على الصحيح". /خت د ت ق". (التقريب 2/227 وتهذيب التهذيب 10/28).
(8) المعجم الكبير 1/259".
(9) انظر تحفة الأشراف 1/70 والمستدرك 2/123".(10/25)
والخلاصة: "أن الحديث جاء من طريق قتادة عن الحسن عن الأسود بن سريع به عند أحمد والبيهقي بلفظ "يوم حنين".
ورواه الحاكم من طريق قتادة هذه فقال "يوم خيبر" وجاء من طريق يونس بن عبيد السري بن يحيى ومبارك بن فضالة كلهم عن الحسن عن الأسود بن سريع به(1)".
بدون "تقيد" قال الساعاتي: "والأظهر في هذه الرواية أن الواقعة وفي غزوة حنين(2)".
والحديث قال الحاكم صحيح على شرط الشيسخين ولم يخرجاه ووافقه الذهبي(3)".
قال الألباني: "وهو كما قالا فقد صرح الحسن، وهو البصري بالتحديث عند النسائي وهو رواية للحاكم(4)".
وأورده الهيثمي ثم قال: "رواه أحمد بأسانيد، والطبراني في الكبير والأوسط، وبعض أسانيد أحمد رجاله رجال الصحيح(5)".
248- ما رواه ابن إسحاق قال: "حدثني بعض أصحابنا: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر يومئذ بامرأة وقد قتلها خالد بن الوليد والناس متقصفون(6) عليها فقال: "ما هذا؟" فقالوا: "امرأة قتلها خالد بن الوليد، فقال: "رسول الله صلى الله عليه وسلم لبعض من معه: "أدرك خالدا، فقل له: "إن رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهاك أن تقتل وليدا أو امرأة أو عسيفا"(7)".
والحديث فيه إبهام وإرسال".
__________
(1) الفتح الرباني 14/65".
(2) الفتح الرباني 14/65".
(3) المستدرك 2/123".
(4) إرواء الغليل 5/35 و36".
(5) مجمع الزوائد 5/316 وانظر الفتح الرباني 14/65".
(6) متقصفون: "أي مزدحمون عليها". (النهاية 4/73).
(7) سيرة ابن هشام 2/457-458 والروض الأنف 7/182".
والعسيف: "الأجير، جمعه عسفاء". (النهاية 3/236).(10/26)
249- وأورده ابن كثير ثم قال: "هكذا رواه ابن إسحاق منقطعا، وقد قال الإمام أحمد: "ثنا أبو عامر عبد الملك بن عمرو ثنا المغيرة(1) بن عبد الرحمن عن أبي الزناد(2) حدثني المرقع(3) بن صيفي عن جده رباح(4) بن ربيع أخي(5) حنظلة الكاتب أنه أخبره أنه خرج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة غزاها وعلى مقدمته خالد بن الوليد، فمر رباح وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على امرأة مقتولة مما أصابت المقدمة، فقفوا ينظرون إليها ويتعجبون من خلقها حتى لحقهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "ما كانت هذه لتقاتل" فقال لأحدهم "ألحق خالدا فقل له لا يقتلن ذرية ولا عسيفا"(6)".
وكذلك رواه أبو داود والنسائي وابن ماجه من حديث المرقع بن صيفي به نحوه(7). إهـ.
__________
(1) المغيرة بن عبد الرحمن بن عبد الله بن خالد بن حزام - بمهملة وزاي - المدني لقبه قصي، ثقة له غرائب، من السابعة". /ع". (التقريب 2/269-270 وتهذيب التهذيب 10/266).
(2) عبد الله بن ذكوان القرشي، المدني المعروف بأبي الزناد، ثقة فقيه من الخامسة، (ت130). وقيل بعدها"./ع". (التقريب 1/413 وتهذيب التهذيب 6/203).
(3) المرقع - بضم أوله وفتح ثانيه وكسر القاف المشددة- ابن صيفي- بمهملة وقيل ابن عبد الله بن صيفي التميمي الحنظلي، صدوق، من الثالثة". /د س ق". (التقريب 2/238 وتهذيب التهذيب 10/88).
(4) رباح - بتخفيف الموحدة - ابن الربيع بن صيفي التميمي، أخو حنظلة التميمي، ويقال فيه "رياح" بالمثناة وهو قول الأكثر". / د س ق". (التقريب 1/242و 245 وتهذيب التهذيب 3/233 والإصابة 1/501).
(5) وقع في البداية والنهاية "أخي بني حنظلة" والظاهر أن لفظ "بنى" خطا فإن الحديث عند أحمد وغيره بلفظ "أخي حنظلة".
(6) الحديث في مسند أحمد 3/488".
(7) البداية والنهاية 4/337".(10/27)
وقال الزرقاني: "روى الواقدي أن سعد بن عبادة جعل يصيح يومئذ(1) بالخزرج ثلاثاً وأسيد بن حضير بالأوس ثلاثا فثابوا(2)من كل ناحية كأنهم النحل تأوي إلى يعسوبها(3)".
قال أهل المغازي فحنق(4) المسلمون على المشركين فقتلوهم حتى أسرع القتل في ذراري المشكرين فبلغه ذلك صلى الله عليه وسلم فقال: "ما بال أقوام بلغ بهم القتل حتى بلغ الذرية ألا لا تقتل الذرية ثلاثا".
فقال أسيد: "يا رسول الله أليس إنما هم أولاد المشركين؟ فقال صلى الله عليه وسلم: "أو ليس خياركم أولاد المشركين؟ كل نسمة تولد على الفطرة حتى يعرب عنها لسانها فأبواها يهودانها أو ينصرانها".
ثم أورد حديث رباح بن الربيع وقال: "رواه أحمد وأبو داود(5)".
قلت: "حديث رباح: "رواه النسائي وابن ماجه وأحمد والطحاوي والطبراني وابن حبان والبيهقي الجميع من طريق المغيرة بن عبد الرحمن قال: "حدثنا أبو الزناد عن المرقع بن صيفي عن جده رباح بن الربيع به(6)".
ورواه الطبراني من طريق عبد الله بن وهب عن عبد الرحمن بن أبي الزناد عن أبيه عن المرقع به".
__________
(1) يومئذ يعني يوم حنين".
(2) فثابوا: "أي رجعوا وأخذوا في قتل المشركين (النهاية 1/226).
(3) يعسوبها: "قال ابن الأثير: "اليعسوب السيد والرئيسي والمقدم". وأصله فحل النحل". (المصدر السابق3/234).
(4) الحنق: "الحقد والغيظ". (المصدر السابق 1/451).
(5) شرح المواهب اللدنية 3/21 وانظر مغازي الواقدي 3/904-905".
(6) النسائي: "السنن الكبرى في السير (تحفة الأشراف 3/166 حديث "3600") وابن ماجه: "السنن 2/948 كتاب الجهاد، باب الغارة والبيات وقتل النساء والصبيان". وأحمد: "المسند 3/488". والطحاوي:شرح معاني الآثار3/221 و122". والطبراني: "المعجم الكبير 5/70". وابن حبان: "موارد الظمآن ص 398". والبيهقي: "السنن الكبرى 9/91".(10/28)
ورواه أبو داود والنسائي والطبراني كلهم من طريق عمر(1) بن المرقع قال حدثني أبي عن جده رباح بن الربيع به".
والبيهقي من طريق أبي داود(2)".
ورواه الحاكم من طريق إسماعيل بن أويس ثنا عبد الرحمن(3) بن أبي الزناد عن أبيه قال: "حدّثني المرقع بن صيفي عن جده رباح بن الربيع(4) به".
ورواه الطبراني أيضاً من طريق موسى بن عقبة، قال: "حدثني المرقع ابن صيفي عن جده رباح بن الربيع به(5)".
ورواه النسائي وابن ماجه وأحمد والطحاوي وابن حبان الجميع من طريق سفيان الثوري عن أبي الزناد فقال فيه عن المرقع بن صيفي عن حنظلة(6) الكاتب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم(7)".
__________
(1) عمر بن المرقع - بقاف ثقيلة مكسورة - ابن صيفي - بفتح المهملة بعدها تحتانية ساكنة ثم فاء مكسورة ثم تحتانية - التميمي الكوفي، صدوق من السابعة / د س". (التقريب 2/63، وتهذيب التهذيب 7/497) ووقع في عون المعبود 7/329 "عمرو" والصواب عمر بضم أوله، قاله ابن حجر في التقريب 2/78 وتهذيب التهذيب 8/102".
(2) أبو داود: "السنن 2/49 كتاب الجهاد، باب في قتل النساء". والنسائي: "السنن الكبرى، في السير (تحفة الأشراف 3/86 حديث "3449"). والطبراني: "المعجم الكبير 5/71". البيهقي: "السنن الكبرى 9/82".
(3) عبد الرحمن بن أبي الزناد، عبد الله بن ذكوان، المدني، مولى قريش صدوق تغير حفظه لما قدم بغداد، وكان فقيها، من السابعة، ولى خراج المدينة، فحمد (ت 174)./خت م عم".(التقريب1/479-480، و486 وتهذيب التهذيب 6/170-173 و207).
(4) الطبراني: "المعجم الكبير 5/70". الحاكام: "المستدرك 2/122".
(5) المعجم الكبير 5/71".
(6) حنظلة بن الربيع بن صيفي التميمي، يعرف بحنظلة الكاتب، تقدم حديث (163).
(7) النسائي: "السنن الكبرى (تحفة الأشراف 3/86). وابن ماجه: "السنن 2/948 كتاب الجهاد". أحمد: "المسند 4/178". والطحاوي: "شرح معاني الآثار 3/222، وابن حبان: "موارد الظمآن ص 398".(10/29)
والحاصل أن المغيرة بن عبد الرحمن روى هذا الحديث عن أبي الزناد فقال: "عن المرقع بن صيفي عن جده رباح بن الربيع".
وتابع أبا الزناد في ذلك عمر بن المرقع وموسى بن عقبة وعبد الله ابن وهب".
ورواه سفيان الثوري عن أبي الزناد فقال عن المرقع بن صيفي عن حنظلة الكاتب".
وقد خطئ الثوري في ذلك لأن الحديث حديث رباح بن الربيع لا حديث حنظلة".
ولذا فقد ساق ابن ماجه حديث سفيان الثوري عن أبي الزناد عن المرقع بن صيفي عن حنظلة الكاتب".
ثم أتبعه بحديث المغيرة بن عبد الرحمن، عن أبي الزناد عن المرقع عن جده رباح بن الربيع".
ثم قال: "قال أبو بكر(1) بن أبي شيبة: "يخطئ الثوري فيه". إهـ".
والحديث قال فيه الحاكم: "صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي(2)".
قال الألباني: "حسبه أن يكون حسنا، فإن المرقع بن صيفي …لم يوثقه غير ابن حبان، لكن روى عنه جماعة من الثقات".
وقال الحافظ في "التقريب": "صدوق"(3)".
والحديث ليس نصا صريحا في أن قصة هذه المرأة المقتولة كانت في غزوة حنين، إنما فيه أن رباح بن الربيع كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزاة وأن مقدمة الجيش أصابت امرأة، فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى خالد بن الوليد يأمره بأن لا يقتل ذرية ولا عسيفا".
وفي لفظ: "فبعث إلى خالد بن الوليد ينهاه عن قتل النساء والولدان".
وفي لفظ: "ثم اتبع رسول الله صلى الله عليه وسلم خالدا أن لا يقتل امرأة ولا عسيفا"(4).
ويمكن أن تفسر هذه الغزوة الواردة في حديث رباح بن الربيع، بغزوة حنين كما جاء ذلك صريحا عند ابن إسحاق والواقدي، بحصول مثل هذه القصة لخالد بن الوليد في غزوة حنين(5)".
__________
(1) أبو بكر بن أبي شيبة: "هو عبد الله بن محمد".
(2) المستدرك: "2/122".
(3) إرواء الغليل 5/35". انظر التقريب 2/238 وتهذيب التهذيب 10/88".
(4) شرح معاني الآثار 3/221و 222".
(5) انظر سيرة ابن هشام 2/457-458، ومغازي الواقدي 3/912، وانظر حديث رقم (248).(10/30)
وقد يلحظ هذا أيضا من صنيع ابن كثير والزرقاني، حيث أوردا حديث رباح بن الربيع في غزوة حنين عند إيرادهما لحديث ابن إسحاق المصرح فيه بقصة خالد بن الوليد مع المرأة المقتولة في غزوة حنين، فكأنهما يشران إلى أن الغزوة المبهة في حديث رباح هي غزوة حنين كما جاء ذلك عند ابن إسحاق الواقدي".
وقد جزم ابن حجر بذلك(1)".
ما رواه ابن حبان من حديث الصعب بن جثامة الليثي وهذا سياقه:
250- أخبرنا جعفر(2) بن أحمد بن سنان القطان بواسط حدثنا العباس(3) بن محمد بن حاتم حدثنا محمد(4) بن عبيد حدثنا محمد(5) بن عمرو عن الزهري عن عبيد الله عن ابن عباس عن الصعب بن جثامة قال: "سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا حمى إلا لله ولرسوله" وسألته عن أولاد المشركين أنقتلهم معهم؟ قال: "نعم فإنهم منهم، ثم نهى عن قتلهم يوم حنين"(6).
__________
(1) انظر ص 545".
(2) قال الذهبي: "جعفر بن أحمد بن سنان بن أسد الحافظ الثقة ابن الحافظ أبي جعفر القطان الواسطي (ت سنة 307هـ). (تذكرة الحفاظ 2/752". انظر مقدمة موارد الظمآن لمحمد عبد الرزاق حمزة ص (9).
(3) العباس بن محمد بن حاتم بن واقد أبو الفضل الدوري البغدادي، خوارزمي الأصل، ثقة، حافظ من الحادية عشرة (ت271). /عم (التقريب 1/399 وتهذيب التهذيب5/129".تاريخ بغداد12/144-146". تذكرة الحفاظ للذهبي2/579).
(4) محمد بن عبيد بن أبي أمية الطنافسي الكوفي، الأحدب ثقة يحفظ، من الحادية عشرة (ت 204)/ع (التقريب2/188وتهذيب التهذيب9/327 وتاريخ بغداد2/365 وتذكرة الحفاظ للذهبي 1/333". وتهذيب الكمال للمزي 7/619-626).
(5) محمد بن عمرو بن علقمة بن وقاص اللثي المدني، صدوق له أوهام، من السادسة (ت 145) على الصحيح"./ع (التقريب 2/192 وتهذيب التهذيب 9/375 وتهذيب الكمال 7/619-626).
وقال عنه الذهبي في ميزان الاعتدال 3/673: "شيخ مشهور، حسن الحديث، أخرج له الشيخان متابعة".
(6) موارد الظمآن ص 399".(10/31)
قال الهيثمي: "قلت: "هو في الصحيح(1) غير النهي عن قتل الذرية".
قال ابن حجر: "هذه الزيادة(2) مدرجة في حديث الصعب، وذلك بين في سنن أبي داود فإنه قال في آخره: "قال سفيان(3) قال الزهري: "ثم نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك عن قتل النساء والصبيان"(4)".
ويؤكد كون النهي في غزوة حنين حديث رباح بن الربيع وفيه "فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأحدهم: "الحق خالدا فقل لا تقتل ذرية ولا عسيفا"(5)".
وخالد بن الوليد أول مشاهده مع النبي صلى الله عليه وسلم غزوة الفتح وفي ذلك العام كانت غزوة حنين".
ثم أورد مرسل عكرمة المتقدم عند أبي داود(6)".
فابن حجر رحمه الله يرى أن حديث رباح بن الربيع كان في غزوة حنين كما هو واضح من كلامه".
وهذه الأحاديث تدل على النهي عن قتل الشيوخ والأطفال والنساء والأجراء الذين لا قدرة لهم على القتال ولا يد لهم فيه".
__________
(1) الحديث في صحيح البخاري 3/98 كتاب المساقاة، باب لا حمى إلا لله ولرسوله "من طريق ابن شهاب عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أن الصعب بن جثمامة قال: "إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا حمى إلا لله ولرسوله" وتمام الحديث: "وقال: "بلغنا أن النبي صلى الله عليه وسلم حمى النقيع، وأن عمر حمى الشرف والربذة".
قال ابن حجر: "قوله وقال بلغنا"، القائل هو ابن شهاب وهو موصول بالإسناد إليه، وهو مرسل أو معضل". (فتح الباري 5/45).إهـ".
وهذا النقيع غير نقيع الخضمات (انظر معجم البلدان 5/301).
(2) يعني زيادة "ثم نهى عن قتلهم يوم حنين".
(3) سفيان: "هو ابن عيينة (تهذيب التهذيب 4/118و 1/64).
(4) الحديث في سنن أبي داود 2/50 كتاب الجهاد، باب في قتل النساء".
(5) الحديث تقدم برقم (249).
(6) فتح الباري 6/147-148 وانظر مرسل عكرمة حديث (246).(10/32)
قال ابن حجر: "واتفق الجميع - كما نقل ابن بطال وغيره - على منع القصد إلى قتل النساء والولدان، أما النساء فلضعفهن، وأما الولدان فلقصورهم عن فعل الكفر، ولما في استبقائهم جميعا من الانتفاع بهم، إما بالرق، أو الفداء فيمن يجوز أن يفادى به"(1).إهـ.
وهذا النهي خاص بما إذا لم يباشر هؤلاء القتال مع الكفار أو كان فيهم ذو رأي، أو تترس بهم العدو بحيث لا يمكن انفصالهم عنه، ففي هذه الحالات يجوز قتلهم وهو قول جمهور العلماء، واستدلوا على ذلك بأدلة منها: "
1- قوله صلى الله عليه وسلم "ما كانت هذه لتقاتل"(2) فإن مفهومه أنها لو قاتلت لجاز قتلها".
2- قوله صلى الله عليه وسلم عندما رأى امراة مقتولة "من صاحب هذه المرأة المقتولة؟ فقال رجل منهم: "أنا يا رسول الله أردفتها فأرادت أن تقتلني فقتلتها" فلم ينكر عليه قتلها(3)".
3- حصاره صلى الله عليه وسلم لأهل الطائف ورميهم بالمنجنيق مع علمه صلى الله عليه وسلم أن فيهم الأطفال والنساء وغير ذلك".
__________
(1) فتح الباري 6/148".
(2) انظر حديث رقم (249).
قال الباجي: "قوله (ما كانت هذه لتقاتل) إنكار رسول الله صلى الله عليه وسلم يحتمل أنه علم من حال تلك المرأة أنها لم تقاتل، ويحتمل أن يكون حمل أمرها على المعهود من حال النساء في بعدهن عن القتال".
ثم قال: "فيحتمل أن النهي عن قتل النساء والصبيان، لأنهم لا يقاتلون، ويحتمل أنهن من الأمور التي يستعان بها على العدو وينتفع بها دون مخافة منهن، فأما إن قاتلوا، فإنهم يقتلون؛ لأن العلة التي منعت من قتلهن هي عدم القتال منهن، فإذا وجد منهن وجدت علة إباحة قتلهن، لأن الحاجة داعية إلى دفع مضرتهن وإزالة منعهن الموجود في الرجال". (أوجز المسالك إلى موطأ مالك للكندهلوي 8/223 نقلا عن الباجي).
(3) انظر الحديث ص (537).(10/33)
4- ما ورد في حديث الصعب بن جثامة الليثي قال: "سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الذراري من المشركين يبيتون فيصيبون من نسائهم وذراريهم فقال: "هم منهم"(1).
5- قتل دريد بن الصمة وهو شيخ فان ولم ينكر رسول الله صلى الله عليه وسلم على قاتله لما كان لدريد من المشورة والرأي في قومه(2)".
وبهذه الأدلة وغيرها أخذ جمهور العلماء".
وذهب مالك والأوزاعي إلى أنه لا يجوز قتل النساء والصبيان بحال من الاحوال حتى لو تترس أهل الحرب بالنساء والصبيان أو تحصنوا بحصن أو سفينة وجعلوا معهم النساء والصبيان لم يجز رميهم ولا تحريقهم"(3)".
ودليل هذا المذهب عموم الاحاديث الوارد فيها النهي عن قتل النساء والصبيان(4)".
والراجح في هذه المسألة قول الجمهور وذلك للجمع بين الأحاديث ومتى أمكن الجمع فالمصير إليه أولى للعمل بجميع الأحاديث".
__________
(1) البخاري: "الصحيح 4/48 كتاب الجهاد، باب أهل الدار يبيتون فيصاب الولدان والذراري". ومسلم: "الصحيح 3/1364-1365 كتاب الجهاد والسير، باب جواز قتل النساء والصبيان في البيات من غير تعمد".
(2) انظر شرح معاني الآثار للطحاوي 3/224".
(3) انظر فتح الباري 6/147-148".
(4) ومنها أيضا ما رواه البخاري ومسلم من حديث ابن عمر قال: "وجدت امرأة مقتولة في بعض مغازي الرسول صلى الله عليه وسلم،فنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قتل النساء والصبيان"، وفي لفظ"فأنكر رسول اللهصلى الله عليه وسلم قتل النساء والصبيان".(البخاري4/49كتاب الجهاد، باب قتل الصبيان في الحرب، وباب قتل النساء في الحرب".ومسلم:3/1364 كتاب الجهاد والسير، باب تحريم قتل النساء والصبيان في الحرب).(10/34)
فقد ساق الطحاوي الروايات الواردة فيها النهي عن قتل النساء والصبيان ثم قال: "قال أبو جعفر: "فذهب قوم إلى أنه لا يجوز قتل النساء والولدان في دار الحرب على أي حال، وأنه لا يحل أن يقصد إلى قتل غيرهم، إذا كان لا يؤمن في ذلك تلفهم، من ذلك أن أهل الحرب إذا تترسوا بصبيانهم، فكان المسلمون لا يستطيعون رميهم إلا بإصابة صبيانهم، فحرام عليهم رميهم في قول هؤلاء". وكذلك إن تحصنوا بحصن وجعلوا فيه الولدان، فحرام علينا رمي ذلك الحصن عليهم إذا كنا نخاف من ذلك إصابة صبيانهم ونسائهم، واحتجوا بالآثار، التي روينها في صدر هذا الباب، ووافقهم آخرون على صحة هذه الآثار، وعلى تواترها، وقالوا: "وقع النهي في ذلك إلى القصد إلى قتل النساء والولدان فأما على طلب قتل غيرهم ممن لا يوصل إلى ذلك منه إلا بتلف صبيانهم ونسائهم، فلا بأس بذلك".
ثم ساق حديث الصعب بن جثامة قال: "سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أهل الدار من المشركين يبيتون ليلا، فيصاب من نسائهم و صبيانهم فقال: "هم منهم".
ثم قال: "قال أبو جعفر: "فلما لم ينههم رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الغارة، وقد كانوا يصيبون فيها الولدان والنساء الذين يحرم القصد إلى قتلهم، دل ذلك أن ما أباح في هذه الآثار، لمعنى غير المعنى الذي من أجله حظر ما حظر في الآثار الأول، وأنّ ما حظر في الآثار الأول هو القصد إلى قتل النساء والولدان، والذي أباح هو القصد إلى المشركين، وإن كان في ذلك تلف غيرهم، ممن لا يحل القصد إلى تلفه، حتى تصح هذه الآثار المروية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا تتضاد".(10/35)
وقد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالغرة على العدو، وأغار على الآخرين في آثار عدد، قد ذكرناها في (باب الدعاء قبل القتال)(1)ولم يمنعه من ذلك ما يحيط به، علمنا أنه قد كان يعلم أنه لا يؤمن من تلف الولدان والنساء في ذلك ولكنه أباح ذلك لهم، لأن قصدهم كان إلى غير تلفهم، ثم قال:
فهذا يوافق المعنى الذي ذكرت مما في حديث الصعب، والنظر يدل على ذلك أيضا"(2).
وقال السهيلي: "قوله صلى الله عليه وسلم "أدرك خالدا، فقل له: "إن رسول الله ينهاك أن تقتل وليدا أو امرأة أو عسيفا".
وهذا منتزع من كتاب الله تعالى". لأنه يقول: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ} [سورة البقرة: "190](3)، فاقتضى دليل الخطاب ألا تقتل المرأة إلا أن تقاتل".
وقد أخطأ من قاس مسألة المرتدة على هذه المسألة، فإن المرتدة لا تسترق ولا تسبى كما تسبى نساء الحرب وذراريهم، فتكون مالا للمسلمين، فنهى عن قتلهن لذلك(4)".
__________
(1) انظر شرح معاني الآثار 3/206 وما بعدها".
(2) شرح معني الآثار 3/220 و221، و222، و223". انظر: "شرح النووي على صحيح مسلم 4/242-243".
والسنن الكبرى للبيهقي 9/78". وفتح الباري 6/147-148". وسبل السلام للصنعاني 4/49-50 ونيل الأوطار، للشوكاني 7/261-262". والفتح الرباني للساعاتي 14/62-63". عون المعبود 7/329-330". وتحفة الأحوذي 5/190-191". وأوجز المسالك 8/223-224". وفتاوى ابن تيمية 28/354".
(3) سورة البقرة: "آية 190". وتمامها: {وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ}.
(4) الروض الأنف 7/215-216. والظاهر من قول السهيلي - رحمه الله - إن المرأة إذا قاتلت قتلت وأما إذا لم تباشر القتال فلا يجوز قتلها. بخلاف المرتدة فيجب قتلها مطلقا.(10/36)
وخلاصة ما تقدم من الأحاديث والآثار وأقوال أهل العلم أن من سمو تعاليم الإسلام ومحاسنه العظيمة رعايته للضعفاء والعجزة والنساء والولدان في المعارك الضارية التي تدور رحاها بين جند الله من المسلمين، وبين أعداء الله من الكافرين، ممل يؤكد لكل منصف عظمة هذا الدين وشمول تعاليمه وعالمية رسالته التي أساسها الرحمة والشفقة والهداية {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ}، [سورة الأنبياء الآية: 107]، وإن قوما يبذلون مهجهم وأرواحهم في سبيل نصرة الحق ورفع رايته وإعلاء كلمته يلزمهم أن يضعوا هذه التعاليم الرحيمة نصب أعينهم خاصة في معترك النزال والتحام القتال، فقد يغفل الجندي المسلم وهو في غمرة المنازلة وشدة المجالدة عن هذه الإرشادات النبوية وهذه الرحمة الخاصة في وقت يفترض فيه الشدة والقسوة والغلظة {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ}، [سورة التوبة، الآية: 123]. {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ}،[سورة التوبة، من الآية: 73، وسورة التحريم، الآية: 9].(10/37)
في هذا الظرف العصيب والموقف الرهيب لا تغيب العدالة الإسلامية التي من مقتضياتها وضع الشدة في موضعها ووضع الرحمة في موضعها اللائق بها، ومن هنا يبادر الرسول صلى الله عليه وسلم بإرسال رسله إلى قواده أن يلتزموا بهذه المبادئ السامية التي شرع الجهاد في أصله لإقرارها وتثبيتها بلا تَشَفّ ولا إجحاف، وأول ما يوجه الجنود المسلمون إليه ويذكرون به هو الغزو باسم الله وفي سبيل الله والتحلي بحلية التقوى التي لا تفارق حس المجاهد المسلم ولا ينبغي أن تفرقه، وإذا كانت هذه هي الصفات الأساسية للغزو الإسلامي الراشد فلا عجب أن نجد التنصيص الصريح على منع قتل من لا شوكة له في الحرب من ضعفاء ونساء وأطفال وشيوخ ونحوهم، ولا يتأتى تطبيق هذه المعاني الرفيعة المفعمة(1) بالرحمة والإنسانية في أسمى معانيها إلا للجنود المؤمنين بالله رباً وبالإسلام دينا وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبيا ورسولا، أما من عاداهم من الكفار وضعفاء اليقين فلا أحسبهم أهلا لتطبيق ذلك وما أخالهم يخطر في أذهانهم".
__________
(1) المفعمة: "الممتلئة". (القموس المحيط 4/160).(10/38)
الحكم السادس: العذر الذي يبيح ترك حضور صلاة الجماعة
من أهداف التشريع الإسلامي رفع الحرج و المشقة في الدين، كما قال الله تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ}،[سورة الحج، من الآية: 78]، وقال تعالى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا}، [سورة البقرة، من الآية: 286].
والصلاة أهم ركن في الإسلام بعد الشهادتين وأداؤها في جماعة هو المطلوب من كل مسلم على وجه الوجوب كما هو ظاهر النصوص، ولكن قد تحول دون أداء الصلاة في جماعة أعذار تبيح ترك حضور الجماعة، وهذا من سماحة الإسلام وتيسيره. ومن هذه الأعذار المطر والدحض والبرد الشديد ونحو ذلك.
وفي هذه الغزوة وردت أحاديث في هذا الأمر وسأوردها على النحو الآتي:
ما رواه أبو داود والنسائي وغيرهما من حديث أبي المليح عن أبيه وهذا سياقه عند النسائي:(11/1)
251- قال: "أخبرنا محمد(1) بن المثنى قال: "حدثنا محمد(2)بن جعفر قال: "حدثنا شعبة عن قتادة(3) عن أبي المليح(4) عن أبيه(5): "قال: "كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بحنين(6) فأصابنا مطر، فنادى منادي(7)
__________
(1) محمد بن المثنى: "هو العنزي البصري "ثقة ثبت" تقدم في حديث (126).
(2) محمد بن جعفر المدني البصري، غندر-بضم-فسكون ففتح-ثقة صحيح الكتاب،من التاسعة(ت193أو194)./ع(التقريب2/151،تهذيب التهذيب9/96-98).
(3) قتادة ههنا عنعن وهو مدلس، ولكن الراوي عنه شبة بن الحجاج وحديث شعبة عن قتادة محمول على السماع جزما". (فتح المغيث للسخاوي 1/176-177) وقد صرح بالتحديث أيضا عند أحمد وتابعه عامر بن عبيدة الباهلي عند الطبراني والبيهقي انظر ص (552).
(4) أبو المليح - بفتح الميم - ابن أسامة بن عمير، اختلف في اسمه واسم أبيه- الهذلي، ثقة من الثالثة (ت 98 وقيل 108 وقيل بعد ذلك). /ع (التقريب 2/476 وتهذيب التهذيب 12/246، والمغني لمحمد بن طاهر الهندي ص 74).
(5) هو أسامة بن عمير بن عامر بن أقيشر - بمضمومة ففتح قاف وسكون تحتية وكسر شين معجمة، وبراء - الهذلي البصري والد أبي المليح، صحابي، تفرد ولده عنه"./عم". (التقريب1/53 وتهذيب التهذيب1/210 وأسد الغابة 1/82، والإصابة 1/31-32، والمغني لمحمد بن طاهر الهندي ص: "6). وقد وقع في الاستيعاب 1/59-60 مع الإصابة، والتقريب الطبعة المصرية أقيش" بدون راء".
(6) وعند أبي داود: "أن يوم حنين كان يوم مطر، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم مناديه أن الصلاة في الرحال" وعند أحمد: "أن يوم حنين كان مطيراً" وعنده أيضاً: "أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال يوم حنين في يوم مطير الصلاة في الرحال" وعند ابن خزيمة: "أصابتنا السماء مع النبي صلى الله عليه وسلم يوم حنين فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "الصلاة في الرحال".
(7) جاء عند الطبراني أن هذا المنادي هو بلال ولفظ الحديث "عن أبي المليح عن أبيه قال: "غزوت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فخرجنا إلى حنين" الحديث وفيه: "فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بلالا فنادى في الناس: "إن الصلاة في الرحال" ووقع عند أبي داود وأحمد والطبراني: "أن ذلك كان يوم جمعة"، وقد ترجم أبو داود بقوله: "باب الجمعة في اليوم المطير"، قال محمد شمس الحق العظيم آبادي: "واعلم أنه في الاستدلال بهذه الرواية على ترجمة الباب نظر، لأن الراوي لم يبين أن النداء المذكور كان لصلاة الجمعة، نعم كانت هذه الواقعة يوم الجمعة فيحتمل أن هذا الأمر كان لصلاة الجمعة، وكذا يحتمل أن يكون لغيرها من الصلاة، وإن تعين احتمال يوم الجمعة فهذه واقعة سفر لا يستدل بها على الحضر".(عون المعبود 3/388).(11/2)
رسول الله صلى الله عليه وسلم أن صلوا(1) في رحالكم"(2).
والحديث رواه أحمد وابن سعد كلاهما من طريق شعبة عن قتادة عن أبي المليح به(3).
ورواه أبو داود وأحمد كلاهما من طريق همام(4) أخبرنا قتادة أن أبا المليح أخبره به(5).
ورواه أحمد أيضاً من طريق أبان(6) ثنا قتادة وأبو المليح به.
ومن طريق سعيد(7) عن قتادة عن أبي المليح به(8).
__________
(1) الأمر هنا أمر إباحة بدليل ما جاء عند الطبراني والبيهقي في بعض ألفاظ هذا الحديث "عن أبي المليح عن أبيه قال: "شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حنينا فأصابنا بغش - يعني مطراً - فنادى منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم "من شاء أن يصلي في رحله فليصل".
وبوب على هذا الحديث ابن خزيمة بقوله: "باب إباحة الصلاة في الرحال وترك الجماعة في اليوم المطير في السفر". (صحيح ابن خزيمة 3/80).
وفي حديث جابر بن عبد الله - رضي الله عنه - عنهما قال: "خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر فمطرنا، فقال: "ليصل من شاء منكم في رحله" (صحيح مسلم 1/484-485 كتاب صلاة المسافرين، باب الصلاة في الرحال في المطر) والرحال: "المنازل والمساكن سواء كنت من حجر ومدر وخشب أو من شعر وصوف ووبر وغيرها، واحدها رحل". (النهاية 2/209 وشرح النووي على صحيح مسلم 2/348).
(2) سنن النسائي 2/86 كتاب الإمامة، باب العذر في ترك الجماعة".
(3) مسند أحمد 5/74، 75 وطبقات ابن سعد الكبرى 2/157".
(4) همام: "هو ابن يحيى بن دينار الأزدي العوذي "ثقة" تقدم في حديث (230).
(5) سنن أبي داود 1/244 كتاب الصلاة، باب الجمعة في اليوم المطير". ومسند أحمد 5/74، 75".
(6) أبان: "هو ابن يزيد العطار "ثقة" له أفراد تقدم في حديث (9).
(7) سعيد: "هو ابن أبي عروبة مهران اليشكري "ثقة حافظ" تقدم في حديث (48).
(8) مسند أحمد 5/74، 75".(11/3)
ورواه ابن خزيمة من طريق شعبة وسعيد بن أبي عروبة، وهمام بن يحيى كلهم عن قتادة عن أبي المليح به(1).
ورواه الطبراني من طريق هؤلاء الثلاثة و"حماد بن سلمة" كلهم عن قتادة عن أبي المليح به إلا أنه لم يذكر "يوم حنين"(2).
ورواه ابن سعد والطبراني كلاهما من طريق سعيد(3) بن زربي قال حدثنا أبو المليح عن أبيه به(4).
ورواه الطبراني أيضاً والبيهقي من طريق عامر(5) بن عبيدة الباهلي عن أبي المليح به(6).
والحديث صحيح(7).
وقد رواه شعبة بن الحجاج وهمام بن يحيى وأبان بن يزيد وسعيد ابن أبي عروبة كلهم عن قتادة عن أبي المليح، بلفظ "يوم حنين".
وتابع قتادة في ذلك عامر بن عبيدة الباهلي، وسعيد(8) بن زربي كلاهما عن أبي المليح.
__________
(1) صحيح ابن خزيمة 3/80-81".
(2) المعجم الكبير1/155".
(3) سعيد بن زربي - بفتح الزاي وسكون الراء بعدها موحدة مكسورة - الخزاعي البصري العباداني، أبو عبيدة، أو أبو معاوية، منكر الحديث من السابعة". / ت". (التقريب 1/295 وتهذيب التهذيب 4/28، وميزان الاعتدال 2/136).
(4) طبقات بن سعد الكبرى 7/44 والمعجم الكبير للطبراني 1/156".
(5) عامر بن عبيدة الباهلي البصري القاضي بها ثقة من الرابعة"./خت". (التقريب 1/389، وتهذيب التهذيب 5/79).
(6) المعجم الكبير 1/156 والبيهقي: "السنن الكبرى 3/71 إلا أنه لم يقل "يوم حنين".
(7) انظر فتح الباري 2/113".
(8) غير أن سعيد بن زربي منكر الحديث فوجوده كعدمه".(11/4)
والحديث رواه أحمد عن وكيع بن الجراح ثنا سفيان(1) بن حبيب عن خالد الحذاء(2) عنأبي قلابة(3) عن أبي المليح عن أبيه(4).
__________
(1) سفيان بن حبيب البصري البزار، أبو محمد، وقيل غير ذلك، ثقة من التاسعة (ت 182، وقيل 186)/ بخ عم". (التقريب 1/310 وتهذيب التهذيب 4/107).
(2) خالد بن مهران أبو المنازل - بفتح الميم وقيل بضمها وكسر الزاي- البصري، الحذاء - بفتح المهملة وتشديد الذال المعجمة- قيل له ذلك لأنه كان يجلس عند الحذائين، وقيل لأنه كان يقول احذ على هذا النحو، ثقة يرسل، من الخامسة". وقد عاب عليه بعضهم دخوله في عمل السلطان".
وأشار حماد بن زيد إلى أن حفظه تغير لما قدم من الشام (ت 142 أو 141)./ع". (التقريب 1/219 وتهذيب التهذيب 3/120-122).
(3) أبو قلابة الجرمي البصري عبد الله بن زيد بن عمرو أو عامر، ثقة فاضل كثير الإرسال، قال العجلي: "فيه نصب يسير، من الثالثة مات بالشام هاربا من القضاء (سنة 104وقيل بعدها)/ع (التقريب1/417 وتهذيب التهذيب5/224-226).
(4) مسند أحمد 5/74).(11/5)
ورواه أبو داود وابن خزيمة والحاكم والبيهقي كلهم من طريق نصر(1) بن علي الجهضمي ثنا سفيان بن حبيب عن خالد الحذاء عن أبي قلابة عن أبي المليح عن أبيه أنه شهد النبي صلى الله عليه وسلم زمن الحديبية في يوم الجمعة وأصابهم مطر لم يبتل أسفل نعالهم(2) فأمرهم النبيّ صلى الله عليه وسلم أن يصلوا في رحالهم(3).
إلا أن أبا داود قال حدثنا نصر بن علي قال سفيان خبرنا(4) عن خالد الحذاء". بالبناء للمجهول".
__________
(1) نصر بن علي بن صهبان الأزدي الجهضمي أبو عمرو البصري الصغير، ثبت، طلب للقضاء فامتنع، من العاشرة (ت 250) أو بعدها". /ع". (التقريب 2/300 وتهذيب التهذيب 10/430).
(2) قال الساعاتي: "هو كناية عن قلة المطر وخفته، فيستفاد منه أن المطر عذر و إن كان خفيفا". (الفتح الرباني 5/187).
(3) أبو داود: "السنن 1/244 كتاب الصلاة، باب الجمعة في اليوم المطير، وصحيح بن خزيمة 3/179، والمستدرك 1/293 وقال: "صحيح الإسناد ولم يخرجاه وأقره الذهبي". والبيهقي: "السنن الكبرى 3/186".
(4) قال محمد شمس الحق: "قال سفيان خبرنا" بصيغة المجهول من التفعيل، والمخبر لسفيان بن حبيب لم يعرف، ثم أورد حديث ابن ماجه". (عون المعبود 3/387).
وقال الدكتور محمد مصطفى الأعظمي: "إسناده صحيح، وأخرجه جماعة، وصححه الحاكم والذهبي من هذا الوجه، وكلّهم قالوا: "ثنا سفيان بن حبيب عن خالد الحذاء، غير أبي داود، فإنه قال: "حدثنا نصر بن علي قال: "سفيان بن حبيب خبرنا عن خالد الحذاء، فمن قرأها "خبرنا" مبنيا للمجهول أعله بالانقطاع، وليس كذلك لرواية الجماعة". وهي مخرجة في "صحيح أبي داود (999) للألباني". (التعليق على صحيح ابن خزيمة 3/179).(11/6)
ورواه ابن ماجه وابن خزيمة، والطبراني كلهم من طريق إسماعيل(1) ابن إبراهيم ثنا خالد الحذاء عن قلابة عن أبي المليح به(2)".
إلا أن ابن ماجه قال: "عن خالد الحذاء عن أبي المليح" بإسقاط "أبي قلابة".
ورواه ابن حبان من طريق خالد(3) بن عبد الله الواسطي عن خالد الحذاء عن أبي قلابة عن أبي المليح به(4)".
والبيهقي من طريق عبد الوهاب بن عطاء أنبأنا خالد عن أبي المليح به(5)".
قال محمد شمس الحق: "وقد اختلف على أبي المليح في هذا الحديث فقال قتادة عنه إنّ القصة وقعت في حنين".
وقال خالد الحذاء عنه: "إنها وقعت زمن الحديبية"(6).
قلت: "وقد جاء ذلك عن قتادة أيضاً وهو ما رواه ابن حبان بإسناد صحيح من طريق شعبة عن قتادة عن أبي المليح عن أبيه قال: "كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم زمن الحديبية فأصابتنا سماء لم تبل أسافل نعالنا، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم مناديه "أن صلوا في رحالكم"(7).
ويجمع بينهما بأن القصة تعددت، ولا مانع من وقوع مثل هذا في الحديبية وفي غزوة حنين(8) ومما يؤيد وقوعه في حنين:
ما رواه أحمد وابن سعد من حديث سمرة بن جندب وهذا سياق أحمد:
__________
(1) إسماعيل بن إبراهيم بن مقسم الأسدي مولاهم، أبو بشر البصري المعروف بابن علية، "ثقة حافظ" من الثامنة، (ت: "193)./ع (التقريب 1/65-66 وتهذيب التهذيب 1/275 و6/2 و10/ 384).
(2) سنن ابن ماجه 1/302 كتاب إقامة الصلاة، باب الجامعة في الليلة المطيرة، وصحيح ابن خزيمة 3/80 والمعجم الكبير للطبراني 1/156".
(3) خالد بن عبد الله بن عبد الرحمن بن يزيد الطحان الواسطي، المزني مولاهم، ثقة ثبت من الثامنة (ت 182)./ ع (التقريب1/215، وتهذيب التهذيب3/100).
(4) صحيح ابن حبان 3/397ترتيب الأمير علاء الدين الفارسي وموارد الظمآن ص123".
(5) السنن الكبرى 3/71".
(6) عون المعبود 3/387".
(7) صحيح ابن حبان 3/399 وموارد الظمآن ص 123".
(8) انظر: "الفتح الرباني 5/188".(11/7)
252- قال حدثنا بهز(1) ثنا أبان(2) ثنا قتادة عن الحسن(3) عن سمرة(4) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال يوم حنين في يوم مطير: "الصلاة في الرحال".
ورواه أيضاً من طريق همام بن يحيى، وهشام الدستوائي كلاهما عن قتادة عن الحسن عن سمرة بن جندب به(5)".
ورواه ابن سعد من طريق همام بن يحيى أخبرنا قتادة عن الحسن عن سمرة به(6)".
والحديث فيه قتادة والحسن وهما مدلسان وقد عنعناه ولكن يؤيده حديث أبي المليح عن أبيه".
والحديثان يدلان على جواز قول "المؤذن" الصلاة في الرحال في الأذان، في حال المطر والليلة الباردة ونحو ذلك".
وعلى أن هذا الكلام ونحوه يجوز في الأذان لمن يحتاج إليه".
كما يدلان على جواز ترك حضور الجماعة في مثل هذا ونحوه(7)".
ومما تجدر الإشارة إليه هو هل هذا القول الصادر من المؤذن يكون في نفس الأذان أم بعد الانتهاء منه؟
اختلف العلماء نظرا لاختلاف الأحاديث الواردة في ذلك".
253- فقد ورد في حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يأمر مؤذنا يؤذن ثم يقول على إثره: "ألا صلوا في رحالكم في الليلة الباردة أو(8)
__________
(1) بهز هو ابن أسد العمي أبو الأسود البصري "ثقة ثبت" تقدم في حديث (91).
(2) أبان: "هو ابن يزيد العطار "ثقة" له أفراد، تقدم في حديث 09).
(3) الحسن: "هو البصري "ثقة فاضل فقيه" يرسل كثيرا ويدلس تقدم في حديث (156). وفي سماع الحسن من سمرة لغير حديث العقيقة خلاف معلوم".
(4) سمرة بن جندب بن هلال الفزاري، حليف الأنصار، صحابي مشهور له أحاديث، (ت بالبصرة سنة 58). / ع". (التقريب 1/333، تهذيب التهذيب 4/236).
(5) مسند أحمد 5/8، و13، و15، و19، و22، و74".
(6) الطبقات الكبرى 2/156".
(7) انظر: "فتح الباري 2/99 وكتاب الأم للشافعي 1/76".
(8) قوله: "في الليلة الباردة أو المطيرة".
قال ابن حجر: "أو" للتنويع لا للشك، وفي صحيح أبي عوانة "ليلة باردة أو ذات مطر أو ذات رياح" ثم قال ابن حجر: "ودل ذلك على أن كلا من الثلاثة عذر في التأخير عن الجماعة".
ونقل ابن بطال فيه الإجماع". لكن المعروف عند الشافعية أن الريح عذر في الليل فقط، وظاهر الحديث اختصاص الثلاثة بالليل". لكن في السنن من طريق ابن إسحاق عن نافع في هذا الحديث "في الليلة المطيرة والغداة القرة" وفيها بإسناد صحيح من حديث أبي المليح عن أبيه "أنهم مطروا يوما فرخص لهم" ثم قال: "ولم أر في شيء من الأحاديث الترخيص بعذر الريح في النهار صريحة لكن القياس يقتضي الحاقة".وقد نقله ابن الرفعة وجها".(فتح الباري 2/113).(11/8)
المطيرة(1) في السفر(2)(3)".
وفي لفظ عنه أنه نادى بالصلاة في ليلة ذات برد وريح ومطر، فقال في آخر ندائه: "ألا صلوا في رحالكم ألا صلوا في رحالكم".
ثم قال: "إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يأمر المؤذن، إذا كانت ليلة باردة أو ذات مطر في السفر أن يقول: "ألا صلوا في رحالكم"(4).
254- وفي حديث ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال لمؤذنه في يوم مطير: "إذا قلت: "أشهد أن لا إله إلا الله أشهد أنّ محمداً رسول الله، فلا تقل حي على الصلاة، قل: "صلوا في بيوتكم"(5).
فحديث ابن عمر صريح في أن القول المذكور بعد الفراغ من الأذان وحديث ابن عباس صريح في أنه في نفس الأذان".
__________
(1) وقوله أيضا: "في الليلة الباردة أو المطيرة".
قال الكرماني: "فعلية بمعنى فاعلة وإسناد المطر إليها مجاز، ولا يقال إنها بمعنى مفعولة - أي ممطور فيها - لوجود الهاء في قوله "مطيرة" إذ لا يصح ممطورة فيها". (فتح الباري 2/113).
(2) قوله:"في السفر"قال ابن حجر:ظاهره اختصاص ذلك بالسفر،ورواية مالك عن نافع الآتية مطلقة،وبها أخذ الجمهور،لكن قاعدةحمل المطلق على المقيد تقتضي أن يختص ذلك بالمسافر مطلقاً،ويلحق به من تلحقه مشقة في الحضر دون من لا تلحقه".(فتح الباري2/113)وانظر رواية مالك عن نافع في صحيح البخاري1/112كتاب الأذان، باب الرخصة في المطر والعلة أن يصلي في رحله".
(3) صحيح البخاري1/107 كتاب الأذان باب الأذان للمسافرين إذا كانوا جماعة، وقول المؤذن: "الصلاة في الرحال في الليلة الباردة أو المطيرة".
(4) صحيح مسلم 1/484 كتاب صلاة المسافرين، باب الصلاة في الرحال في المطر".
(5) البخاري: "الصحيح 1/106 كتاب الأذان، باب الكلام في الأذان، 112 فيه باب هل يصلي الإمام بمن حضر، وهل يخطب يوم الجمعة في المطر، و2/6 كتاب الجمعة، باب الرخصة إن لم يحضر الجمعة في المطر". ومسلم: "الصحيح 1/458 كتاب صلاة المسافرين، باب الصلاة في الرحال في المطر واللفظ له".(11/9)
قال النووي: "في حديث ابن عباس أن يقول: "ألا تصلوا في رحالكم" في نفس الأذان".
وفي حديث ابن عمر أنه قال في آخر ندائه".
والأمران جائزان نص عليهما الشافعي - رحمه الله تعالى - في الأم في كتاب الأذان".
وتابعه جمهور أصحابنا في ذلك، فيجوز بعد الأذان وفي أثنائه لثبوت السنة فيهما".
لكن قوله بعده أحسن ليبقى نظم الأذان على وضعه، ومن أصحابنا من قال: "لا يقوله إلا بعد الفراغ، وهذا ضعيف مخالف لصريح حديث ابن عباس رضي الله عنهما، ثم قال: "ولا منافاة بينه وبين حديث ابن عمر رضي الله عنهما لأن هذا جرى في وقت وذلك في وقت وكلاهما صحيح"(1)".
وقال ابن حجر: "وقال القرطبي(2): "لما ذكر رواية مسلم بلفظ "يقول في آخر ندائه".
قال: "ويحتمل أن يكون المراد في آخره قبيل الفراغ منه، جمعا بينه وبين حديث ابن عباس".
ثم قال ابن حجر: "وقد قدمنا في "باب الكلام في الأذان" عن ابن خزيمة أنه حمل حديث ابن عباس على ظاهره وأن ذلك يقال بدلا من الحيعلة(3) نظرا إلى المعنى، لأن المعنى "حي على الصلاة" هلموا إليها، ومعنى "الصلاة في الرحال" تأخروا عن المجيء، ولا يناسب إيراد اللفظين معا لأن أحدهما نقيض الآخر".
__________
(1) شرح النووي على صحيح مسلم 2/348 وانظر الأم للشافعي 1/76".
(2) هو أبو العباس أحمد بن عمر بن إبراهيم القرطبي الأنصاري، المحدث العلامة (578-656هـ) وكتابه يسمى "المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم". وتذكرة الحفاظ للذهبي 4/1438 وشجرة النور الزكية في طبقات المالكية لمحمد بن محمد مخلوف ص 194 ومعجم المؤلفين لكحالة2/27).
وقد وقع في مقدمة تحفة الأحوذي للمباركفوري 1/158: "أن وفاة القرطبي (665) وهو خطأ".
(3) يعني: "حذف حي على الصلاة الخ وجعل بدلا منها "صلوا في رحالكم".(11/10)
ثم عقب ابن حجر على هذا بقوله: "ويمكن الجمع بينهما، ولا يلزم منه ما ذكر بأن يكون معنى "الصلاة في الرحال" رخصة لمن أراد أن يترخص، ومعنى هلموا إلى الصلاة ندب لمن أراد أن يستكمل الفضيلة ولو تحمل المشقة".
ويؤيد ذلك حديث جابر عند مسلم قال: "خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر فمطرنا، فقال: "ليصل من شاء منكم في رحله"(1).
ولعل ما ذهب إليه ابن حجر من الجمع بين الأحاديث أولى، للعمل بجميع الأحاديث، لأنه إذا أمكن الجمع بين الأحاديث بحمل كل على محمل صحيح تعين المصير إليه".
الحكم السابع: تعليم أبي محذورة الأذان
الأذان: لغة الإعلام، قال تعالى: {وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الأَكْبَرِ}، [التوبة، من الآية: 3].
وشرعا: "هو الإعلام بدخول وقت الصلاة بألفاظ مخصوصة(2)".
حكمه: "ذهب جمهور العلماء إلى أنّه من السنن المؤكدة، وذهب الأوزاعي(3) وداود(4) وابن المنذر(5) إلى وجوبه مطلقا".
وقال ابن حجر: "وهو ظاهر قول مالك في الموطّأ(6)".
وحكي عن محمد بن الحسن". وقيل: "واجب في الجمعة فقط، وقيل فرض كفاية".
__________
(1) فتح الباري 2/ 98 و 113، وانظر صحيح ابن خزيمة 3/12 حيث قال: "باب أمر الإمام المؤذن بحذف حي على الصلاة، والأمر بالصلاة في البيوت بدله".
وحديث جابر المشار إليه عند مسلم، تقدم في ص 551 تعليقة (3).
(2) النهاية لابن الأثير 1/34 وشرح النووي على صحيح مسلم 2/3 وفتح الباري 2/77 ونيل الأوطار 2/35، والمغني لابن قدامة 1/402".
(3) هو عبد الرحمن بن عمرو تقدم في حديث (135).
(4) هو داود بن علي الحافظ الفقيه المجتهد أبو سليمان الاصبهاني، إمام الظاهرية (200-270هـ). (تذكرة الحفاظ للذهبي 2/572-573).
(5) هو محمد بن إبراهيم بن المنذر". تقدم في حديث (56).
(6) الموطّأ 1/77".(11/11)
ثم قال ابن حجر: "ومنشأ الاختلاف أن مبدأ الأذان لما كان عن مشورة أوقعها النبي صلى الله عليه وسلم بين أصحابه حتى استقر برؤيا بعضهم فأقره كان ذلك بالمندوبات أشبه، ثم لما واظب على تقريره ولم ينقل أنه تركه ولا أمر بتركه ولا رخص في تركه، كان ذلك بالواجبات أشبه(1)".
وأما ابتداء مشروعية الأذان فكان في السنة الأولى من الهجرة على ما جاء في حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أنه قال:
255- كان المسلمون حين قدموا المدينة يجتمعون فيتحينون(2) الصلوات وليس ينادي بها أحد فتكلموا يوما في ذلك، فقال بعضهم اتخذوا ناقوسا(3) مثل ناقوس النصارى، وقال بعضهم قرنا(4) مثل قرن اليهود".
فقال عمر: "أولا تبعثون رجلا ينادي بالصلاة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا بلال قم فناد(5) بالصلاة"(6).
__________
(1) فتح الباري 2/79،80 نيل الأوطار 2/36 وكذلك جاء الاختلاف في وجوب الإقامة وعدمه".
(2) فيتحينون: "بحاء مهملة بعدها مثناة تحتانية ثم نون، أي يقدرون أحيانها وليأتوا إليها، والحين الوقت من الزمن". (فتح الباري 2/80).
(3) الناقوس: "هو خشبة طويلة تضرب بخشبة أصغر منها، والنصارى يعلمون بها أوقات صلاتهم". (النهاية 5/106).
(4) القرن: "هو البوق الذي ينفخ فيه و يزمر".
قال ابن حجر: "والبوق و القرن معروفان: "والمراد أنه ينفخ فيه فيجتمعون عند سماع صوته، وهو من شعار اليهود ويسمى أيضا "الشبور" بالشين المعجمة المفتوحة والموحدة المضمونة الثقيلة". (فتح الباري 2/81 ولسان العرب 6/60 و11/333 والقاموس المحيط 2/55 و3/215).
(5) قال ابن حجر: "كان اللفظ الذي ينادي به بلال للصلاة قوله "الصلاة جامعة" أخرجه ابن سعد في الطبقات من مراسيل سعيد بن المسيب". (فتح الباري 2/82، وطبقات ابن سعد 1/246).
(6) البخاري: "1/104 كتاب الأذان، باب بدء الأذان، ومسلم 1/285 كتاب الصلاة، باب بدء الأذان، واللفظ له".(11/12)
قال ابن حجر: "وحديث ابن عمر المذكور في هذا الباب ظاهر في أن الأذان إنما شرع بعد الهجرة، فإنه نفى النداء بالصلاة قبل ذلك مطلقا".
ثم قال: "وقد جزم ابن المنذر بأنه صلى الله عليه وسلم كان يصلي بغير أذان منذ فرضت الصلاة بمكة إلى أن هاجر إلى المدينة وإلى أن وقع التشاور في ذلك على ما في حديث عبد الله بن عمر ثم في حديث عبد الله بن زيد(1)".
وقال ابن خزيمة: "باب ذكر الدليل على أن بدء الأذان إنما كان بعد هجرة النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، وأن صلاته بمكة إنما كانت من غير نداء لها ولا إقامة".
ثم قال: "قال أبو بكر: "في خبر عبد الله بن زيد(2): "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قدم المدينة إنما يجتمع الناس إليه للصلاة بحين مواقيتها بغير دعوة"(3).
وقد رويت أحاديث تدل على أن الأذان شرع بمكة قبل الهجرة قال ابن حجر: "والحق أنه لا يصح شيء من هذه الأحاديث"(4)".
وأما سبب تعليم أبي محذورة الأذان فقد قصه هو بنفسه فيما رواه النسائي وابن ماجه وغيرهما وهذا سياق النسائي:
__________
(1) فتح الباري 2/78و79 وانظر تخريج حديث عبد الله بن عمر برقم (255).
(2) عبد الله بن زيد بن عبد ربه بن ثعلبة الأنصاري الخزرجي، صاحب الأذان".
(3) صحيح ابن خزيمة 1/189-190 و191-193 وانظر سيرة ابن هشام 1/508".
(4) فتح الباري 2/77 و78، و79 ونيل الأوطار 2/35".(11/13)
256- أخبرنا إبراهيم(1) بن الحسن ويوسف(2) بن سعيد، واللفظ له، قال: "حدثنا حجاج(3) عن ابن جريج(4) قال: "حدثني عبد العزيز(5) بن أبي محذورة أن عبد الله(6) بن محيريز أخبره، وكان يتيما في حجر أبي محذورة(7) حتى(8) جهزه إلى الشام، قال: "قلت لأبي محذورة(9)
__________
(1) إبراهيم بن الحسن بن الهيثم الخثعمي، أبو إسحاق المصيصي المقسمي - بكسر الميم - ثقة من الحادية عشرة"./ د س فق". (التقريب 1/34 وتهذيب التهذيب 1/114).
(2) يوسف بن سعيد بن مسلم - بفتح اللام المشددة - المصيصي، ثقة حافظ من الحادية عشرة (ت 271 وقيل قبل ذلك). /س". (التقريب 2/381 وتهذيب التهذيب 11/414).
(3) حجاج بن محمد المصيصي الأعور، أبو محمد الترمذي الأصل، نزل بغداد ثم المصيصة، ثقة ثبت، لكنه اختلط في آخر عمر، لما قدم بغداد قبل موته من التاسعة، (ت206). /ع". (التقريب 1/154 وتهذيب التهذيب 2/205). وفي تهذيب التهذيب هو أثبت أصحاب ابن جريج".
(4) ابن جريج هو عبد الملك بن عبد العزيز "ثقة فقيه مدلس" تقدم وقد صرح هنا بالتحديث".
(5) عبد العزيز بن عبد الملك بن أبي محذورة، الجمحي المكي، المؤذن، مقبول، من السادسة". /عم". (التقريب 1/510 وتهذيب التهذيب 6/347) وقال: "ذكره ابن حبان في الثقات". ولم يذكر فيه البخاري ولا ابن حاتم جرحا و لا تعديلا، غير أن البخاري قال: "سمع عبد الله بن محيريز (تاريخ البخاري 6/18 والجرح والتعديل لابن أبي حاتم 5/388 وتاعبه مكحول انظر ص 894".
(6) عبد الله بن محيريز تقدم في حديث (236).
(7) أبو محذورة الجمحي المكي مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم صحابي مشهور اختلف في اسمه واسم أبيه". / بخ م عم". مات أبو محذورة بمكة سنة 59 وقيل 79". (التقريب 2/469 وتهذيب التهذيب (12/222 والإصابة 4/176 والاستيعاب 4/177 مع الإصابة, وأسد الغابة 1/177 و2/456 و6/278).
(8) عند الشافعي وابن ماجه وابن حبان"حين" وهي أظهر في المعنى".
(9) وعند ابن ماجة والشافعي والبيهقي"فقلت لأبي محذورة:أي عم"وعند أحمد"يا عم".(11/14)
: "إني خارج إلى الشام وأخشى(1) أن أسأل عن تأذينك فأخبرني أن أبا محذورة قال له: "خرجت في نفر(2) فكنا ببعض طريق حنين مقفل(3) رسول الله صلى الله عليه وسلم من حنين(4) فلقينا رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض الطريق, فأذن مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالصلاة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ,فسمعنا صوت المؤذن ونحن عنه متنكبون(5), فظللنا(6) نحكيه(7) ونهزأ به, فسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم الصوت(8)".
__________
(1) وعند ابن ماجة وابن حبان: "وإني أسألك عن تأذينك"
(2) النفر: "هو اسم جمع يقع على جماعة من الرجال خاصة ما بين الثلاثة إلى العشرة , ولا واحد له من لفظه". (النهاية 5/93).
(3) وعند أحمد والشافعي والبيهقي: "فقفل".
(4) وعند البلاذري قال: "حدثني هدية بن خالد, ثنا همام عن ابن جريج أن النبي صلى الله عليه وسلم علم أبا محذورة الأذان بالجعرانة ثم قسم غنائم حنين ثم جعله مؤذنا في المسجد الحرام". (أنساب الأشراف ص527).
(5) متنكبون: "أي معرضون".(النهاية 5/112).و وقع عند الشافعي "متكئون".
(6) وعند ابن ماجة "فصرخنا نحكيه و نهزأ به".
وعند أحمد والشافعي واليبيهقي: "فصرخنا نحكيه ونستهزئ به".
(7) نحكيه:أي نفعل مثل فعله, يقال حكاه وحاكاه, إذا فعل مثل فعله". (النهاية 1/421, ومختار الصحاح ص148).
(8) وعند ابن حبان: "فسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم الصوت , فقال: "أيكم يعرف هذا الذي أسمع الصوت؟ قال فجئ بنا فوقفنا بين يديه".(11/15)
فأرسل إلينا(1) حتى وقفنا بين يديه, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أيكم الذي سمعت صوته قد ارتفع؟ فأشار القوم(2) إلي وصدقوا, فأرسلهم كلهم وحبسني, فقال: قم فأذن بالصلاة, فقمت(3) فألقى علي رسول الله صلى الله عليه وسلم التأذين هو بنفسه قال: "قل: "الله أكبر الله أكبر، الله أكبر،الله أكبر,(4) أشهد أن لا إله إلا الله, أشهد أن لا إله إلا الله, أشهد أن محمدا رسول الله, أشهد أن محمدا رسول الله". ثم قال: "ارجع فامدد صوتك(5) ,ثم قال: "قل أشهد أن لا إله إلا الله, أشهد أن لا إله إلا الله, أشهد أن محمدا رسول الله, أشهد أن محمدا رسول الله، حي على الصلاة, حي على الصلاة, حي على الفلاح, حي على الفلاح, الله أكبر, الله أكبر, لا إله إلا لله".
ثم دعاني حين قضيت التأذين فأعطاني صرة فيها شيء من فضة(6)
__________
(1) وعند ابن ماجة: "فأرسل إلينا قوما فأقعدونا بين يديه".
(2) وعند الشافعي وأحمد والبيهقي: "فأشار القوم كلهم إلي".
(3) وعند ابن ماجة والشافعي والبيهقي: "فقمت ولا شيء أكره إلي من رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا مما يأمرني به فقمت بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فألقى رسول الله صلى الله عليه وسلم التأذين الخ".
(4) وعند أحمد في هذا الحديث: "التكبير مرتين فقط".
(5) وعندأحمد والبيهقي"فامدد من صوتك"وعند ابن ماجة: "ثم قال لي ارفع من صوتك" وهذا ما يسمى بالترجيع وهو العود إلى الشهادتين مرتين برفع الصوت بعد قولهما مرتين بخفض الصوت". وسيأتي خلاف العلماء في ذلك, ص(568).
(6) وعند ابن ماجة: "فأعطاني صرة فيها شيء من فضة, ثم وضع يده على ناصية أبي محذورة ثم أمرها على وجهه, ثم على ثدييه, ثم على كبده, ثم بلغت يد رسول الله صلى الله عليه وسلم سرة أبي محذورة ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بارك الله لك و بارك عليك" و نحو هذا عند أحمد والشافعي وابن حبان و الطبراني والبيهقي".(11/16)
فقلت يا رسول الله, مرني(1) بالتاذين بمكة, فقال: "قد أمرتك به".
فقدمت على عتاب بن أسيد عامل رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة فأذنت معه بالصلاة(2) عن أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم(3)".
والحديث رواه أبو داود وابن ماجة والشافعي وأحمد و ابن حبان والطبراني كلهم من طريق ابن جريج به(4)".
ورواه الدارقطني والبيهقي والبغوي الجميع من طريق الشافعي(5)".
ورواه الترمذي من طريق إبراهيم بن عبد العزيز مختصرا وهذا سياقه:
__________
(1) وعند ابن ماجة والشافغي وأحمد وابن حبان والبيهقي فقلت: "يا رسول الله أمرتني بالتأذين بمكة؟ قال: "نعم قد أمرتك" فذهب كل شيء كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم من كراهية, وعاد ذلك كله محبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقدمت على عتاب بن أسيد عامل رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة الخ".
(2) وعند ابن حبان: "فكنت أأذن بمكة عن أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم".
(3) سنن النسائي 2/5 كتاب الأذان، باب كيف الأذان؟
(4) أبو داود: "السنن 1/118 كتاب الصلاة، باب كيف الأذان، مختصراً".
وابن ماجه: "السنن 1/234-235 كتاب الأذان، باب الترجيع في الأذان".
والشافعي: "الأم 1/73، وأحمد: "المسند 3/409".
والطبراني: "المعجم الكبير 7/204-205". وابن حبان: "صحيح ابن حبان 3/141".
والحديث رواه من عدا أبا داود مطولا".
وزاد ابن ماجه والشافعي وأحمد وابن حبان والبيهقي في هذا الحديث".
قال ابن جريج: "وأخبرني بذلك من أدركت من آل أبي محذورة على نحو ما أخبرني ابن محيريز "لفظ البيهقي والباقون بمعناه".
وزاد الشافعي أيضا: "وأدركت إبراهيم بن عبد العزيز بن عبد الملك بن أبي محذورة يؤذن كما حكى ابن محيريز".
وسمعته يحدث عن أبيه عن ابن محيريز عن أبي محذورة عن النبي صلى الله عليه وسلم معنى ما حكى ابن جريج".
(5) الدارقطني: "السنن 2/233، والبيهقي: "السنن الكبرى 1/393 و419، البغوي: "شرح السنة 2/259-262".(11/17)
قال: "حدثنا بشر بن معاذ البصري حدثنا إبراهيم(1) بن عبد العزيز ابن عبد الملك بن أبي محذورة قال: "أخبرني أبي(2) وجدي(3) جميعا عن أبي محذورة(4) أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقعده وألقى عليه الأذان حرفا حرفا".
قال إبراهيم: "مثل أذاننا".
قال بشر: "فقلت له: "أعد عليّ فوصف الأذان بالترجيع".
قال أبو عيسى: "حديث أبي محذورة في الأذان حديث صحيح، وقد روي عنه من غير وجه".
وعليه العمل بمكة، وهو قول الشافعي(5)".
والحديث فيه أن عدد ألفاظ الأذان خمس عشرة كلمة مع تربيع التكبير في أوله، بدون ترجيع، ومع الترجيع تكون ألفاظ الأذان تسع عشرة كلمة.
ورواه أبو داود وابن حبان والطبراني والبيهقي الجميع من طريق محمد(6) بن عبد الملك بن أبي محذورة عن أبيه عن جده قال: "قلت: "يا رسول الله علمني سنة الأذان، قال: "فمسح مقدم رأسي وقال: "تقول: "الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، ثم ساق ألفاظ الأذان تسع عشرة كلمة مع الترجيع، ولم يذكر الإقامة".
__________
(1) قال عنه ابن حجر في التقريب 1/39: "صدوق يخطئ" وفي تهذيب التهذيب 1/141: "وثقه ابن حبان وضعفه آخرون".
(2) هو عبد العزيز بن عبد الملك بن أبي محذورة الجمحي "مقبول" تقدم في الحديث (256).
(3) هو عبد الملك بن أبي محذورة الجمحي "مقبول" انظرك التقريب 1/522 وتهذيب التهذيب 6/418".
(4) اختلف في اسمه واسم أبيه تقدم في حديث (256).
(5) سنن الترمذي 1/123 كتاب الصلاة، باب ما جاء في الترجيع في الأذان".
(6) محمد بن عبد الملك بن أبي محذورة المكي، الجمحي المؤذن "مقبول" من السابعة". / د". (التقريب 2/186 وتهذيب التهذيب 9/317).(11/18)
وزاد في آخره: "فإن كانت صلاة الصبح قلت: "الصلاة خير من النوم الصلاة خير من النوم، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله"(1).
ومن طريق أبي داود أخرجه البغوي(2)".
ورواه أبو داود أيضاً والطبراني كلاهما من طريق إبراهيم(3) بن إسماعيل بن عبد الملك بن أبي محذورة قال: "سمعت جدي عبد الملك بن أبي محذورة يذكر أنه سمع أبا محذورة يقول: "ألقى علي رسول الله صلى الله عليه وسلم الأذان حرفاً حرفاً، ثم ساق ألفاظ الأذان مع الترجيع "تسع عشرة كلمة" ولم يذكر الإقماة أيضا".
وفي آخره قال: "وكان يقول في الفجر: "الصلاة خير من النوم"(4).
ورواه الطبراني والدارقطني والبيهقي الجميع من طريق عبدالرزاق(5).
وأبو داود من طريق أبي عاصم النبيل(6) وعبد الرزاق كلاهما عن ابن جريج قال أخبرني عثمان(7) بن السائب أخبرني أبي(8) وأم عبد الملك(9) ابن أبي محذورة عن أبي محذورة عن النبي صلى الله عليه وسلم نحو حديث محمد بن عبد الملك بن أبي محذورة، وإبراهيم بن إسماعيل(10)".
__________
(1) سنن أبي داود1/119كتاب الصلاة،باب كيف الأذان".وابن حبان:صحيح ابن حبان 3/144، والطبراني:المعجم الكبير 7/207، والبيهقي: "السنن الكبرى1/394".
(2) شرح السنة 2/263".
(3) إبراهيم بن إسماعيل "مجهول" وضعفه الأزدي من السابعة". /د". (التقريب 1/32 وتهذيب التهذيب 1/105).
(4) سنن أبي داود 1/119 كتاب الصلاة، باب كيف الأذان، واللفظ له، والمعجم الكبير للطبراني 7/205-206".
(5) المعجم الكبير للطبراني 7/206 وسنن الدارقطني 1/1235 والسنن الكبرى للبيهقي 1/393-394".
(6) هو الضحاك بن مخلد".
(7) عثمان بن السائب الجمحي المكي مولى أبي محذورة "مقبول".(التقريب2/9 وتهذيب التهذيب 7/117).
(8) هو السائب الجمحي المكي "مقبول".(التقريب2/622وتهذيب التهذيب3/451).
(9) أم عبد الملك زوج أبي محذورة "مقبولة" (التقريب 2/622 وتهذيب التهذيب 12/483).
(10) سنن أبي داود 1/117".(11/19)
ومن طريق أبي داود أخرجه البيهقي(1)".
ورواه النسائي والدارقطني كلاهما من طريق حجاج بن محمد عن ابن جريج قال: "أخبرني عثمان بن السائب به".
ومن طريق الدارقطني أخرجه البيهقي".
ولفظه عند النسائي: "قال: "لما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من حنين خرجت عاشر عشرة(2) من أهل مكة نطلبهم فسمعناهم يؤذنون بالصلاة فقمنا نؤذن نستهزئ بهم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قد سمعت في هؤلاء تأذين إنسان حسن الصوت فأرسل إلينا فأذنا رجل رجل، وكنت آخرهم فقال حين أذنت تعال، فأجلسني بين يديه، فمسح على ناصيتي(3) وبرك علي ثلاث مرات، ثم قال: "اذهب فأذن عند البيت الحرام" قلت: "كيف يا رسول الله؟ فعلمني كما تؤذنون الآن بها: "الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أنّ محمداً رسول الله، أشهد أنّ محمداً رسول الله، حي على الصلاة حي على الصلاة، حي على الفلاح حي على الفلاح، الصلاة خير من النوم الصلاة خير من النوم في الأولى من الصبح".
قال: "وعلمني الإقامة مرتين: "ثم ساق ألفاظ الإقامة".
__________
(1) السنن الكبرى 1/422، والحديث في مصنف عبد الرزاق 1/457-459".
(2) عاشر عشرة: "أي واحد من عشرة".
قال ابن هشام في شرح قطر الندى ص 311 عند كلامه على العدد: "الثانية: "أن يضاف العدد إلى ما هو مشتق منه فتقول: "ثاني اثنين، وثالث ثلاثة، ورابع أربعة ومعناه واحد من اثنين، وواحد من ثلاثة، وواحد من أربعة، قال الله تعالى: {إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ}، [سورة التوبة، من الآية: "40]". وقال تعالى: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ}، [المائدة، من الآية: "73]".
(3) وعند عبد الرزاق وأبي داود والبيهقي: "قال فكان: "أبو محذورة لا يجز ناصيته ولا يفرقها، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم مسح عليها".(11/20)
وفي آخر الحديث قال: "قال ابن جريج: "أخبرني عثمان هذا الخبر كله عن أبيه وعن أم عبد الملك بن أبي محذورة أنهما سمعا ذلك من أبي محذورة"(1)".
ورواه أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه وأحمد وابن الجارود والدارمي وابن خزيمة وابن حبان والطبراني والدارقطني والبيهقي الجميع من طريق عامر الأحول(2)".
حدثني مكحول حدثه أن عبد الله بن محيريز حدثه أن أبا محذورة، حدثه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم علمه الأذان تسع عشرة كلمة، والإقامة سبع عشرة كلمة"(3).
ثم ساق ألفاظ الأذان مع الترجيع، والإقامة مثنى مثنى".
ورواه مسلم من طريق عامر الأحول به(4)".
فذكر الأذان مثنى مثنى مع الترجيع الشهادتين".
فكان عدد ألفاظ الأذان مع الترجيع سبع عشرة كلمة مع تثنية التكبير في أوله وترجيع الشهادتين".
__________
(1) سنن النسائي 2/7 كتاب الأذان في السفر، وسنن الدارقطني1/234". والسنن الكبرى للبيهقي 1/418".
(2) هو عامر بن عبد الواحد الأحول البصري".
(3) أبو داود: "السنن 1/118 كتاب الصلاة، باب كيف الأذان". والترمكذي: "السنن 1/124 كتاب الصلاة، باب ما جاء في الترجيع في الأذان".
والنسائي: "السنن 2/5 كتاب الأذان، باب كم الأذان، وباب كيف الأذان". وابن ماجه: "السنن 1/235 كتاب الأذان، باب الترجيع في الأذان". وأحمد: "المسند 6/401". وابن الجارود: "المنتقى ص 64". والدارمي: "1/216 السنن كتاب الصلاة، باب الترجيع في الأذان". وابن خزيمة: "الصحيح 1/195". وابن حبان: "صحيح ابن حبان 3/143 وموارد الظمآن ص 95". والطبراني: "المعجم الكبير 7/204، والدارقطني: "السنن 1/237 و238، والبيهقي: "السنن الكبرى 1/392 و416-417".
(4) صحيح مسلم: "1/287 كتاب الصلاة، باب صفة الأذان".(11/21)
والحديث رواه عن أبي محذورة - رضي الله عنه - جماعة من التابعين بصور مختلفة روى إحداها مسلم في صحيحه وقد صحح الحديث الترمذي، وقال ابن خزيمة: "خبر أبي(1) محذورة ثابت صحيح من جهة النقل"(2). إهـ.
وقد اشتمل الحديث على الصور الآتية:
أ- ترجيع الشهادتين ن في الأذان".
ب- التكبير في أول الأذان أربع مرات، وأن عدد ألفاظ الأذان خمس عشرة كلمة، بدون ترجيع، وتسع عشرة كلمة مع الترجيع.
ج- التكبير في أوّل الأذان مرتين فقط مع الترجيع الشهادتين، بحيث يصبح عدد ألفاظ الأذان ثلاث عشرة كلمة بدون ترجيع، وسبع عشرة كلمة مع الترجيع(3).
د- تثنية ألفاظ الإقامة سوى كلمة التوحيد في آخرها، بحيث يصبح عدد ألفاظ الإقامة خمس عشرة كلمة(4)".
هـ- الصورة السابقة مع تربيع التكبير في أولها فتكون ألفاظها سبع عشرة كلمة(5)".
و- إفراد الإقامة سوى كلمتي التكبير وقد قامت الصلاة، فيكون عدد ألفاظها إحدى عشرة كلمة(6)".
ز- التثويب في أذان الفجر، وهو قول المؤذن بعد الحيعلة "الصلاة خير من النوم".
هكذا وردت هذه الصور في حديث أبي محذورة رضي الله عنه".
وسأعطي نبذة عن كل فقرة من هذه الفقرات ناقلا في ذلك بعض ما قاله علماؤنا في هذا باختصار، فأقول:
أ- الترجيع:
__________
(1) في الأصل: "ابن أبي محذورة ولعل كلمة (0 ابن" خطأ".
(2) صحيح ابن خزيمة 1/196".
(3) صحيح مسلم 1/287 كتاب الصلاة، باب صفة الأذان".
(4) تقدم الحديث الوارد في ذلك ص (566).
(5) سنن أبي داود 1/118 كتاب الصلاة، باب كيف الأذان". وانظر تخريج الحديث ص (567).
(6) الحديث الوارد بذلك عند الدارقطني 1/236-238 والسنن الكبرى للبيهقي 1/114 وقال ابن حجر: "ورى الدارقطني وحسنه في حديث لأبي محذورة "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره أن يقيم واحدة واحدة". (فتح الباري 2/84).(11/22)
قال النووي: "وفي هذا الحديث حجة بينة ودلالة واضحة لمذهب مالك والشافعي وأحمد وجمهور العلماء أن الترجيع(1) في الأذان ثابت مشروع، وهو العود إلى الشهادتين مرتين برفع الصوت بعد قولهما مرتين بخفض الصوت، وقال أبو حنيفة والكوفيون: "لا يشرع الترجيع عملا بحديث عبد الله بن زيد فإنه ليس فيه ترجيع، ثم قال النووي: "وحجة الجمهور هذا الحديث الصحيح، والزيادة مقدمة مع أن حديث أبي محذورة هذا متأخرا عن حديث عبد الله بن زيد، فإن حديث أبي محذورة سنة ثمان من الهجرة بعد حنين، وحديث عبد الله بن زيد في أول الأمر".
وانضم إلى هذا كله عمل أهل مكة والمدينة وسائر الأمصار".
ثم قال: "وذهب جماعة من المحدثين وغيرهم إلى التخيير بين فعل الترجيع وتركه والصواب إثباته(2)". إهـ.
وبهذا يعلم أن الترجيع زيادة ثابتة في حديث أبي محذورة عند مسلم وغيره وأن القائلين بمشروعيته هم جمهور العلماء ومنهم مالك والشافعي وأحمد".
__________
(1) قال النووي: "واختلف أصحابنا في الترجيع هل هو ركن لا يصح الأذان إلا به؟ أم هو سنة ليس ركنا حتى لو تركه صح الأذان مع فوات كمال الفضيلة؟ على وجهين والأصح عندهم أنه سنة". (شرح النووي على صحيح مسلم 2/8).
(2) شرح النووي على صحيح مسلم 2/8".(11/23)
وأن القائلين بعدم مشروعيته هم الأحناف وقد حاول الطحاوي رد هذه الزيادة، فقال: "بعد أن ساق حديث أبي محذورة المشتمل على زيادة الترجيع "فهذا عبد الله بن زيد، لم يذكر في حديثه الترجيع، فقد خالف أبا محذورة في الترجيع في الأذان، فاحتمل أن يكون الترجيع الذي حكاه أبو محذورة إنما كان لأن أبا محذورة لم يمد بذلك صوته، على ما أراد النبي صلى الله عليه وسلم منه فقال له النبي صلى الله عليه وسلم "ارجع وامدد صوتك"(1) هكذا اللفظ في الحديث فلما احتمل ذلك، وجب النظر، لنستخرج به من القولين قولا صحيحا، فرأينا ما سوى ما اختلف فيه من الشهادتين، أن (لا إله إلا الله، وأنّ محمداً رسول الله) لا ترجيع فيه".
فالنظر على ذلك أن يكون ما اختلفوا فيه من ذلك، معطوفاً على ما أجمعوا عليه، ويكون إجماعهم، أن لا ترجيع في سائر الأذان غير الشهادة يقضي على اختلافهم في الترجيع في الشهادة وهذا الذي وصفنا وما بيناه من نفي الترجيع، قول أبي حنيفة، وأبي يوسف ومحمد - رحمهم الله تعالى - "(2). إهـ.
فقد علل الطحاوي لرد زيادة الترجيع الوارد في حديث أبي محذورة بتعليلين:
1- احتمال أن أبا محذورة لم يكن يمد بذلك صوته على ما أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم بمد صوته".
2- بأن هذا لم يرد في حديث عبد الله بن زيد".
__________
(1) انظر ص 563".
(2) شرح معاني الآثار 1/130و131و132".(11/24)
وردّ الأوّل: "بأن في سنن أبي داود عن أبي محذورة قال: "قلت: "يا رسول الله علمني سنة الأذان قال: "فمسح مقدم رأسي، قال: "تقول: "الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، ترفع بها صوتك، ثم تقول: "أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمداً رسول الله، أشهد أن محمد رسول الله، تخفض بها صوتك، ثم ترجع صوتك بالشهادة: "أشهد أن لا إله إلاّ الله، أشهد أن لا إله إلاّ الله، أشهد أنّ محمّداً رسول الله، أشهد أنّ محمّداً رسول الله"، الحديث(1).
وردّ الثاني: "بان الطحاوي نفسه قد قبل زيادة التثويب الواردة في حديث أبي محذورة دون حديث عبد الله بن زيد".
فقد قال: "كره قوم أن يقال في أذان الصبح (الصلاة خير من النوم)".
واحتجوا في ذلك بحديث عبد الله بن زيد في الأذان الذي أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم تعليمه إياه بلالاً".
وخالفهم في ذلك آخرون، فاستحبوا أن يقال: "ذلك في التأذين للصبح بعد الفلاح".
وكان من الحجة لهم في ذلك أنه و إن لم يكن ذلك في حديث عبد الله بن زيد, فقد علمه رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا محذورة بعد ذلك و أمره أن يجعله في الأذان للصبح".
فلما علمه رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا محذورة كان ذلك زيادة على ما في حديث عبد الله بن زيد, فوجب استعمالها (2)".
وقد ردّ عليه المباركفوري - رحمه الله - بقوله: "فكذلك يقال إن الترجيع، وإن لم يكن في حديث عبد الله بن زيد، فقد علمه رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا محذورة بعد ذلك، فلما علمه رسول الله أبا محذورة كان ذلك زيادة على ما في حديث عبد الله بن زيد فوجب استعماله"(3)".
__________
(1) سنن أبي داود 1/117 كتاب الصلاة، باب كيف الأذان ويؤيد هذا أيضا قوله في الحديث الآخر: "علمني النبي صلى الله عليه وسلم الأذان تسع عشرة كلمة والإقامة سبع عشرة كلمة" انظر ص (567).
(2) شرح معاني الآثار 1/136 و137".
(3) تحفة الأحوذي 1/475-569".(11/25)
وقال الشوكاني: "وذهب الشافعي ومالك وأحمد وجمهور العلماء - كما قال النووي - إلى الترجيع في الأذان ثابت لحديث أبي محذورة، وهو حديث صحيح مشتمل على زيادة غير منافية فيجب قبولها"(1).
ب و جـ- التكبير في أول الأذان أربع مرات، ومرتين فقط:
قال النووي عند شرحه لحديث أبا محذورة "هكذا وقع هذا الحديث في صحيح مسلم في أكثر الأصول" في أوله "الله أكبر مرتين فقط".
ووقع في غير مسلم الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، أربع مرات، قال القاضي عياض - رحمه الله ـ: "ووقع في بعض طرق الفارسي(2) في صحيح مسلم أربع مرات، وكذلك اختلف في حديث عبد الله بن زيد في التثنية والتربيع، والمشهور فيه التربيع، وبالتربيع قال الشافعي وأبو حنيفة وأحمد وجمهور العلماء".
وبالتثنية قال مالك: "واحتج بهذا الحديث وبأنه عمل أهل المدينة وهم أعرف بالسنن".
واحتج الجمهور بأن الزيادة من الثقة مقبولة، وبأن التربيع عمل أهل مكة وهي مجمع المسلمين في المواسم وغيرها ولم ينكر ذلك أحد من الصحابة وغيرهم"(3)".إهـ".
__________
(1) نيل الأوطار 2/42".
(2) هو أبو الحسين عبد الغفار بن محمد الفارسي ,الفسوي ثم النيسابوري التاجر كان سماعه صحيح مسلم من الجلودي سنة (365) وكان الفارسي ثقة صالحا صائنا محفوظا من الدين والدنيا,كان مشهورا برواية صحيح مسلم, سمع من أئمة الدنيا من الغرباء والطارئين وأهل بلده (ت448)(مقدمة النووي على شرح صحيح مسلم 1/6).
(3) شرح النووي على صحيح مسلم 2/8".(11/26)
وقال الزيلعي: "وقال أبو عمر بن عبد البر: "وقد اختلفت الروايات عن أبي محذورة، إذ علمه رسول الله صلى الله عليه وسلم الأذان بمكة عام حنين، فروي عنه فيه تربيع التكبير في أوله, وروي عنه بتثنيته ,والتربيع فيه من رواية الثقات الحفاظ, وهي زيادة يجب قبولها, والعمل عندهم بمكة في آل أبي محذورة بذلك إلى زماننا, وهو في حديث عبد الله بن زيد في قصة المنام ,و به قال أبو حنيفة والشافعي وأحمد"(1)".
وقال الشوكاني: "والحق أن روايات التربيع أرجح لاشتمالها على الزيادة وهي مقبولة لعدم منافاتها وصحة مخرجها"(2)".
وقد عرفت أن عمدة القائلين بتثنية التكبير في أوّل الأذان هو حديث مسلم هذا".
وقال عياض بأنه وقع في بعض طرق الفارسي في صحيح مسلم الله أكبر في أول الأذان أربع مرات(3)".
وقال ابن حجر: "قال ابن القطان(4): "الصحيح في هذا التربيع التكبير وبه يصح كون الأذان تسع عشرة كلمة".
وقد يقع في بعض روايات مسلم بتربيع التكبير، وهي التي ينبغي أن تعد في الصحيح". إهـ".
ثم قال ابن حجر: "وقد رواه البيهقي من طريق إسحاق بن إبراهيم عن معاذ بن هشام بسنده، وفيه تربيع التكبير، وقال بعده: "رواه مسلم بن الحجاج، في الصحيح عن إسحاق بن إبراهيم عن معاذ بن هشام، وكذلك أخرجه أبو عوانة في "مستخرجه" من طريق علي بن المدني عن معاذ بن هشام(5)".
وأما كون التثنية عمل أهل المدينة وهم أعرف بالسنن، فيرد عليه بكون التربيع عمل أهل مكة وهي محط رحال العلماء والوافدين إليها في المواسم وغيرها من كل قطر بما فيهم أهل المدينة".
ولم ينكر ذلك أحد من الصحابة وغيرهم(6)".
__________
(1) نصب الراية1/258".
(2) نيل الأوطار 2/41-42".
(3) شرح النووي على صحيح مسلم 2/8".
(4) هو أبو الحسن علي بن محمد بن القطان الفاسي تقدم في حديث (63).
(5) التلخيص الحبير 1/196-197 والسنن الكبرى للبيهقي 1/392-393، ونيل الأوطار 2/49 وعون المعبود 2/182".
(6) شرح النووي على صحيح مسلم 2/8".(11/27)
وبهذا يعلم أن تربيع التكبير في أول الأذان هو الراجح".
د، هـ- التكبير في أول الإقامة أربع مرات، ومرتين مع تثنية بقية الألفاظ سوى كلمة التوحيد:
جاء التكبير في أول الإقامة: "أربع مرات مع تثنية بقية ألفاظ الإقامة في حديث أبي محذورة من طريق عامر الأحول عن مكحول عن عبد الله ابن محيريز عن أبي محذورة وقد تقدم الحديث(1)".
وجاء تثنية ألفاظ الإقامة سوى كلمة التوحيد من طريق ابن جريج أخبرني عثمان بن السائب أخبرني أبي وأم عبد الملك عن أبي محذورة، وقد تقدم أيضا(2)".
و- إفراد الإقامة سوى كلمتي التكبير، وقد قامت الصلاة:
ورد إفراد الإقامة عند الدارقطني والبيهقي كلاهما من طريق إبراهيم بن عبد العزيز بن عبد الملك بن أبي محذورة قال: "سمعت أبي وجدي يحدثان عن أبي محذورة أنه كان يؤذن للنبي صلى الله عليه وسلم فيفرد الإقامة، إلا أنه يقول: "قد قامت الصلاة، قد قامت الصلاة(3)".
ورواه البيهقي - أيضا - من طريق حجاج بن محمد قال: "قال ابن جريج: "أخبرني عثمان بن السائب أخبرني أبي وأم عبد الملك بن أبي محذورة عن أبي محذورة قال: "لما خرج النبي صلى الله عليه وسلم إلى حنين، فذكر الحديث، وقال في التكبير في صدر الأذان أربعا".
قال: "وعلمني الإقامة مرتين: "الله أكبر، الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله أشهد أن محمداً رسول الله، حي على الصلاة، حي على الفلاح، قد قامت الصلاة، قد قامت الصلاة، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله".
__________
(1) انظر تخريجه في ص (567) وراجع سنن الدارقطني 1/234-235".
(2) انظر تخريجه في ص (566).
(3) سنن الدارقطني1/236 و237 و238والسنن الكبرى للبيهقي1/414 واللفظ له".(11/28)
ثم قال البيهقي فذكر الإقامة مفردة كما ترى وصار قوله مرتين عائدا إلى كلمة الإقامة، وعلى ذلك تدل أيضا رواية عبد الرزاق(1) عن ابن جريج حدثني عثمان بن السائب مولاهم عن أبيه الشيخ مولى أبي محذورة، وعن أم عبد الملك بن أبي محذورة أنهما سمعا ذلك من أبي محذورة فذكر الحديث نحو حديث حجاج وقال في آخره إذا أقمت فقلها مرتين قد قامت الصلاة، قد قامت الصلاة أسمعت؟
وزاد فكان أبو محذورة لا يجز ناصيته ولا يفرقها لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم مسح عليها(2)".
والخلاصة أن المشهور من المذاهب جماهير العلماء هو إفراد الإقامة وأن عدد ألفاظها إحدى عشرة كلمة وبذلك تظاهرت النصوص".
قال النووي: "واختلف العلماء في لفظ "الإقامة" فالمشهور من مذهبنا الذي تظاهرت عليه نصوص الشافعي رضي الله عنه، وبه قال أحمد وجمهور العلماء أن الإقامة إحدى عشرة كلمة، الله أكبر، الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمّداً رسول الله، حيّ على الصلاة، حيّ على الفلاح، قد قامت الصلاة، قد قامت الصلاة، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلاّ الله".
وقال الخطابي: "مذهب جمهور العلماء والذي جرى به العمل في الحرمين والحجاز والشام واليمن ومصر والمغرب إلى أقصى بلاد الإسلام أن الإقامة فرادى".
ثم قال رحمه الله: "ومذهب عامة العلماء أنه يكرر قوله: "قد قامت الصلاة، قد قامت الصلاة، إلا مالكا فإن المشهور عنه أنه لا يكررها(3)".
__________
(1) في المصنف 1/457-459".
(2) السنن الكبرى للبيهقي 1/418 وهذا الحديث رواه البيهقي من طريق الدارقطي، بإفراد الإقامة، لكن الحديث عند الدارقطني بهذا السند الذي رواه البيهقي وفيه: "تثنية الإقامة في جميع ألفاظها سوى كلمة التوحيد"، ولذلك فقد رد على البيهقي في ذلك صاحب الجوهر النقي بأن الحديث عند الدارقطني بتثنية الإقامة". (انظر سنن الدارقطني 1/234 والجوهر النقي 1/418-419).
(3) شرح النووي على صحيح مسلم 2/6".(11/29)
وقال الشوكاني: "قال ابن سيد الناس(1): "وقد ذهب إلى القول بأن الإقامة إحدى عشرة كلمة: "عمر بن الخطاب وابنه، وأنس بن مالك، والحسن البصري، والزهري والأوزاعي(2) وأحمد وأبو ثور(3) ويحيى بن يحيى(4) وداود وابن المنذر(5)".
وقال البيهقي: "ممن قال بإفراد الإقامة أيضا: "سعيد بن المسيب وعروة بن الزبير وابن سرين وعمر بن عبد العزيز".
وقال البغوي: "وهو قول أكثر العلماء(6)". إهـ".
قلت: " من أدلة هذا المذهب حديث أنس بن مالك - رضي الله عنه -:
257- قال: "أمر بلال أن يشفع الأذان ويوتر الإقامة(7)".
258- وحديث عبد الله بن زيد بن عبد ربه وفيه: "أن عدد الإقامة إحدى عشرة كلمة".
رواه أبو داود وأحمد والترمذي مختصراً".
__________
(1) هو أبو الفتح محمد بن محمد بن سيد الناس اليعمري الأندلسي الأصل المصري الشيخ العلامة الحافظ الأديب البارع، صاحب التصانيف (681-734هـ). (تذكرة الحفاظ للذهبي 4/1503 وطبقات الشافعية الكبرى لتاج الدين أبي نصر عبد الوهاب السبكي 9/268-272 ومعجم المؤلفين لكحالة 11/269).
(2) هو عبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي تقدم في حديث (135).
(3) هو إبراهيم بن خالد بن أبي اليمان الكلبي أبو ثور تقدم في حديث (235).
(4) لعله يحيى بن يحيى الليثي مولاهم القرطبي أبو محمد فقيه قليل الحديث". (التقريب 2/360).
(5) هو أبو بكر محمد بن إبراهيم تقدم في حديث 56).
(6) نيل الأوطار 2/46 وانظر شرح السنة للبغوي 2/255".
(7) البخاري: "الصحيح 1/104 كتاب الأذان، باب الأذان مثنى مثنى".
ومسلم: "الصحيح 1/286 كتاب الصلاة، باب الأمر بشفع الأذان وإيتار الإقامة".
وأبو داود: "السنن 1/121 كتاب الصلاة، باب في الإقامة".
والترمذي: "السنن 1/124 كتاب الصلاة، باب ما جاء في إفراد الإقامة".
والنسائي: "السنن 2/4 كتاب الأذان، باب تثنية الأذان".
وابن ماجه: "السنن 1/241 كتاب الأذان، باب في إفراد الإقامة".(11/30)
وقال الترمذي: "حديث عبد الله بن زيد حديث حسن صحيح(1)".
وقال أبو حنيفة: "الإقامة سبع عشرة كلمة فيثنيها كلها".
قال النووي: "وهذا المذهب شاذ(2)".
وقال الشوكاني: "وذهبت الحنفية والهادوية والثوري وابن المبارك وأهل الكوفة إلى أن ألفاظ الإقامة". مثل الأذان عندهم مع زيادة قد قامت الصلاة مرتين، واستدلوا بما في رواية عبد الله بن زيد عند الترمذي، وأبي داود، بلفظ: "كان أذان رسول الله صلى الله عليه وسلم شفعاً شفعاً في الأذان والإقامة".
وروي معنى ذلك عن بلال".
وقد أعلها العلماء".
غير أن الشوكاني: "دافع عنها وأيدها بحديث أبي محذورة الوارد فيه "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم علمه الأذان تسع عشرة كلمة والإقامة سبع عشرة كلمة"(3) قال: "وهو حديث صححه الترمذي وغيره". فيكون ناسخا لحديث "أمر بلال أن يشفع الأذان ويوتر الإقامة" لتأخره عن حديث بلال، لأن أبا محذورة من مسلمة الفتح، وبلالاً أمر بإفراد الإقامة أول ما شرع الأذان".
ثم قال: "وإذا عرفت هذا تبين لك أن أحاديث تثنية الإقامة صالحة للاحتجاج كما أسلفناه".
وأحاديث إفراد الإقامة وإن كانت أصح منها لكثرة طرقها وكونها في الصحيحين، ولكن أحاديث التثنية مشتملة على الزيادة، فالمصير إليها لازم لا سيما مع تأخر تاريخ بعضها كما عرفناك(4)". إهـ".
فقد تبين من هذا أن أحاديث إفراد الإقامة أصح وأكثر وأن القائلين بها هم جماهير العلماء، وقد قيل للإمام أحمد بن حنبل:
أليس حديث أبي محذورة بعد حديث عبد الله بن زيد، لأن حديث أبي محذورة بعد فتح مكة، قال: "أليس قد رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة فأقر بلالاً على أذان عبد الله بن زيد".
__________
(1) أبو داود: "السنن 1/116 كتاب الصلاة، باب كيف الأذان".
وأحمد: "المسند 4/42-43 والترمذي: "السنن 1/122 كتاب الصلاة، باب ما جاء في بدء الأذان".
(2) شرح النووي على صحيح مسلم 2/6".
(3) انظر: "ص 567".
(4) نيل الأوطار 2/46".(11/31)
قال الشوكاني: "ولكن هذا متوقف على نقل صحيح أن بلالاً أذن بعد رجوع النبي صلى الله عليه وسلم المدينة وأفرد الإقامة، ومجرد قول أحمد بن حنبل لا يكفي، فإن ثبت ذلك، كان دليلاً لمذهب من قال بجواز الكلّ ويتعين المصير إليهما؛ لأن فعل كل واحد من الأمرين عقب الآخر مشعر بجواز الجميع لا بالنسخ"(1)".
وأقول لعل الأسلم في ذلك هو القول بجواز الكل ما دام أن الجميع قد ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد جعله ابن خزيمة وابن حبان من الاختلاف المباح(2)".
وقال ابن عبد البر: "ذهب أحمد بن حنبل و إسحاق بن راهويه وداود بن علي، ومحمد بن جرير الطبري إلى إجازة القول بكل ما روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك وحملوه على الإباحة والتخيير، قالوا: "كل ذلك جائز لأنه قد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم جميع ذلك وعمل به أصحابه، فمن شاء قال:الله أكبر أربعا في أول الأذان، ومن شاء ثنى الإقامة, ومن شاء أفرد،إلا قوله:"قد قامت الصلاة"فإن ذلك مرتان على كل حال(3)".إهـ.
وأشار ابن قيم الجوزي أيضا إلى أن هذا ونحوه من الخلاف المباح الذي لا يعنف فيه من فعله , ولا من تركه(4).
ز- التثويب في أذان الفجر وهو قول المؤذن في أذان الفجر بعد الحيعلتين: "الصلاة خير من النوم, الصلاة خير من النوم"(5).
وقد ورد التثويب في حديث أبي محذورة من طريق محمد بن عبد المالك بن أبي محذورة عن أبيه عن جده قال: "يا رسول الله علِّمني سنة الأذان، قال: "فمسح على رأسي، وقال: "تقول: "الله أكبر، الخ". ثم ساق ألفاظ الأذان".
__________
(1) نيل الأوطار 2/48".
(2) صحيح ابن خزيمة 1/194 و صحيح ابن حبان 3/143".
(3) نيل الأوطار 2/47".
(4) زاد المعاد 1/275, أثناء كلامه على خلاف العلماء في دعاء القنوت".
(5) هل هذا القول في الأذان الأول أو في الأذان الثاني خلاف بين العلماء".(11/32)
وفي آخر الحديث قال: "فإن كانت صلاة الصبح قلت: "الصلاة خير من النوم، الصلاة خير من النوم، الله أكبر ,الله أكبر,لا إله إلا الله".
ومن طريق إبراهيم بن إسماعيل ابن عبد الملك بن أبي محذورة،قال: "سمعت جدي عبد الملك بن أبي محذورة يذكر أنه سمع أبا محذورة به".
ومن طريق ابن جريج قال: "أخبرني عثمان بن السائب به(1)".
وقد روي التثويب - أيضاً - من حديث بلال عند الترمذي وابن ماجة وأحمد, بإسناد فيه انقطاع(2)".
ومن حديث عبد الله بن عمر عند الدارقطني والبيهقي والطبراني(3)".
قال ابن حجر: "وسنده حسن(4)".
ومن حديث أنس بن مالك(5) عند ابن خزيمة والدارقطني والبيهقي، قال: "من السنة إذا قال المؤذن في أذان الفجر: "حي على الفلاح، قال: "الصلاة خير من النوم، الصلاة خير من النوم، مرتين، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله"(6).
قال الشوكاني: "قال ابن سيد الناس اليعمري: "وهذا إسناد صحيح".
وفي الباب عائشة عند ابن حبان".
وعن نعيم النحام عند البيهقي(7)".
قال الشوكاني: "وقد ذهب إلى القول بشرعية التثويب: "عمر بن الخطاب وابنه وأنس والحسن البصري وابن سيرين والزهري ومالك والثوري وأحمد وإسحاق، وأبو ثور وداود وأصحاب الشافعي، وهو رأي الشافعي في القديم".
ومكروه عنده في الجديد، وهو مروي عن أبي حنيفة".
__________
(1) انظر ص565و566 وسنن الدارقطني 1/237 و238".
(2) سنن الترمذي 1/127كتاب الصلاة". باب ما جاء في التثويب في صلاة الفجر وسنن ابن ماجة /237كتاب الأذان, باب السنة في الأذان, ومسند أحمد6/14".
(3) سنن الدارقطني 1/243، والسنن الكبرى للبيهقي 1/423".
(4) التلخيص الحبير 1/201".
(5) قال ابن حجر في التلخيص الحبير 1/201 وصححه ابن السكن".
(6) صحيح ابن خزيمة1/202وسنن الدارقطني1/243والسنن الكبرى للبيهقي1/423".
(7) نيل الأوطار2/43 والحديث في السنن الكبرى للبيهقي1/423، وانظر: "مجمع الزوائد للهيثمي 1/330".(11/33)
ثم قال: "واختلفوا في محله فالمشهور أنه في صلاة الصبح فقط".
ثم نقل عن بعض العلماء بأنه سنة في جميع الصلوات، وعن بعضهم أنه يستحب في أذان العشاء".
ثم قال: "والأحاديث لم ترد بإثباته إلا في صلاة الصبح لا في غيرها، فالواجب الاقتصار على ذلك، والجزم بأن فعله في غيرها بدعة كما صرح بذلك ابن عمر وغيره(1)".
ثم قال: "وذهبت العترة(2) والشافعي في أحد قوليه إلى أن التثويب بدعة".
قال في البحر(3): "أحدثه عمر بن الخطاب، فقال ابنه: "هذه بدعة".
وعن عليّ - رضي الله عنه - حين سمعه: "قال: "لا تزيدوا في الأذان ما ليس منه".
ثم قال بعد أن ذكر حديث أبي محذورة وبلال الوارد فيهما لفظ التثويب".
قلنا: "لو كان لما أنكره علي وابن عمر، وطاوس، سلمنا فأمرنا به إشعارا في حال لا شرعا جمعا بين الآثار، انتهى قول صاحب البحر".
وقد رد عليه الشوكاني: "بقوله: "وأقول قد عرفت مما سلف رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم والأمر به على جهة العموم من دون تخصيص بوقت دون وقت، وابن عمر لم ينكر مطلق التثويب بل أنكره في صلاة الظهر".
ورواية الإنكار عن عليّ - رضي الله عنه - بعد صحتها لا تقدح في مروي غيره لأن المثبت أولى ومن علم حجة على من لا يعلم، والتثويب ثابتة فالقول بها لازم"(4)".
__________
(1) حديث ابن عمر عند أبي داود من طريق مجاهد قال: "كنت مع ابن عمر فثوب رجل في الظهر أو العصر قال: "أخرج بنا فإن هذه بدعة". (سنن أبي داود 2/241 كتاب الصلاة، باب في التثويب).
(2) العترة: "- بكسر أوّله - المراد به هنا قرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم (المصباح المنير 2/464).
(3) البحر الزخار الجامع لمذاهب الأمصار،لمؤلفه:الإمام المهدي أحمد بن يحيى بن المرتضى ولد سنة (775) وتوفي سنة: "840).(البدر الطالع للشوكاني:1/122-126).
(4) نيل الأوطار 2/43 وشرح معاني الآثار للطحاوي 1/136-137، وشرح السنة للبغوي 2/264-267، وتحفة الاوذي للمباركفوري 1/592-595".(11/34)
وخلاصة القول أن الأمر بالتثويب في صلاة الفجر، ورد في أحاديث كثيرة منها الصحيح والحسن والضعيف" وهي زيادة ثابتة فيتعين قبولها".(11/35)
الباب الأول: في الحديث عن غزوة حنين
وتحته الفصول الآتية:
الفصل الأول: في مقدّمات غزوة حنين.
الفصل الثاني: في المسيرة إلى حنين.
الفصل الثالث: في وصف المعركة.
الفصل الرابع: ما أسفرت عنه معركة حنين من ضحايا وغنائم.
الفصل الأوّل: في مقدمات الغزوة
وفيه مبحثان:
المبحث الأوّل: سبب الغزوة.
المبحث الثّاني: الاستعداد للمعركة.
المبحث الأول: سبب الغزوة
بعد فتح مكة والقضاء على أعظم قوة للشرك في الجزيرة العربية لم يبق أمام المسلمين إلا قبائل هوازن وثقيف المتاخمة لمكة المكرمة، وقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مصمما على مطاردة فلول الوثنية والإجهاز على معاقل الشرك في جزيرة العرب التي لا يجتمع فيها دينان، وقد ترامت أنباء فتح مكة في أنحاء الجزيرة العربية وخاصة في ديار هوازن وثقيف القريبة من مكة، وما أن سمعت قبائل هوازن بهذا الفتح الإسلامي الكبير حتى تداعت فيما بينها تتدارس هذا الحدث الجلل وترصد تحركاته نحوها، فكانت النتيجة أنها عزمت أن تهاجم المسلمين قبل أن يهاجموها، فأعدت عدتها وحشدت قواها المادية والبشرية، وقد جاء التصريح بحقيقة ما كانوا يبيتون للمسلمين من كيد في الروايات الآتية:
23- ما رواه الحاكم قال: حدثنا أبوالعباس(1)
__________
(1) هو محمد بن يعقوب بن يوسف بن معقل بن سنان الأموي مولاهم النيسابوري المعروف بالأصم، الإمام المفيد الثقة المحدث المشرق. قال الحاكم: كان محدث عصره بلا مدافعة.
وقال أيضا: حدث (76) سنة، ولم يختلف في صدقه وسماعه (ت 346). (الذهبي: تذكرة الحفاظ 3/860- 864).(12/1)
محمد بن يعقوب، ثنا أحمد(1) ابن عبد الجبار، ثنا يونس(2)
__________
(1) أحمد بن عبد الجبار بن محمد العطاردي - بضم العين المهملة والطاء الخفيفة - أبو عمرو الكوفي، ضعيف، وسماعه للسيرة صحيح، من العاشرة، لم يثبت أن أبا داود أخرج له (ت 272) /د (التقريب 1/19، وتهذيب التهذيب 1/51- 52).
(2) يونس بن بكير بن واصل الشيباني، أبو بكر الجمال الكوفي، صدوق يخطئ، من التاسعة (ت 199) /خت م د ت ز ق. (ابن حجر: التقريب 2/384). وفي (تهذيب التهذيب 11/434- 436)، وصفه بقوله: يونس بن بكير بن واصل الشيباني الجمال الكوفي الحافظ، ثم ساق كلام العلماء فيه والذين وثقوه أكثر ممن ضعفه.
وقال الذهبي في (تذكرة الحفاظ 1/326)، :يونس بن بكير بن واصل الحافظ العالم المؤرخ أبو بكر الشيباني الكوفي الجمال صاحب المغازي، ثم ذكر جماعة ممن روى عنهم ورووا عنه، ثم قال: قال ابن معين: كان صدوقا، وقال أبو حاتم: محله الصدق، وسئل عنه أبو زرعة: أي شيء ينكر عليه؟ فقال: أما الحديث فلا أعلمه، ثم نقل تضعيفه عن أبي داود، وذكر أن ابن عدي ساق له عدة أحاديث غرائب، ثم قال في ختام ترجمته: روى له مسلم متابعة واستشهد به البخاري. (انظر: ميزان الاعتدال 4/477- 478، وتذكرة الحفاظ 1/326، وسير أعلام النبلاء 9/245- 248).(12/2)
بن بكير، عن ابن(1) إسحاق قال: حدثني عاصم(2) بن عمر بن قتادة، عن عبد الرحمن(3) بن جابر، عن أبيه جابر ابن عبد الله - رضي الله عنهما - ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سار إلى حنين لما فرغ من فتح مكة، جمع مالك بن عوف النصري من بني نصر وجشم ومن سعد بن بكر وأوزاع من بني هلال وناسا من بني عمرو(4) بن عامر بن عوف بن عامر وأوزعت معهم الأحلاف من ثقيف وبنو مالك ثم سار بهم إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وسار مع الأموال والنساء والأبناء، فلما سمع بهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعث عبد الله(5) بن أبي حدرد الأسلمي فقال: اذهب فادخل في القوم حتى تعلم لنا من علمهم فدخل فمكث فيهم يوماً أو يومين ثم أقبل فأخبره الخبر، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لعمر بن الخطاب: ألا تسمع ما يقول ابن أبي الحدرد؟
__________
(1) محمد بن إسحاق بن يسار، أبو بكر المطلبي، صدوق يدلس. تقدم في حديث (1).
(2) عاصم بن عمر بن قتادة بن النعمان الأوسي الأنصاري، أبو عمر المدني، ثقة، عالم بالمغازي، من الرابعة (ت بعد 120) /ع (التقريب 1/385).
(3) عبد الرحمن بن جابر بن عبد الله الأنصاري، أبو عتيق المدني، ثقة، لم يصب ابن سعد في تضعيفه، من الثالثة /ع (التقريب 1/475).
(4) وقع هنا عند الحاكم: (وناسا من بني عمرو بن عاصم بن عوف بن عامر) وهو خطأ مطبعي، والصواب ما أثبتناه.
(5) وقع كذلك هنا: (عبد الرحمن بن أبي الحدرد) وهو خطأ أيضا وقد وقع على الصواب عند الحاكم نفسه في 3/572.(12/3)
فقال عمر: كذب ابن أبي الحدرد، فقال ابن أبي الحدرد: إنّ كذبتني فربما كذبت من هو خير مني، فقال عمر يا رسول الله ألا تسمع ما يقول ابن أبي الحدرد؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "قد كنت يا عمر ضالا فهداك الله - عز وجل –" ، ثم بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى صفوان بن أمية فسأله أدرعا مائة وما يصلحها من عدتها، فقال: أغصبا يا محمد؟ قال بل عارية مضمونة حتى نؤديها إليك، ثم خرج رسول الله سائراً.
ثم قال الحاكم: صحيح(1) الإسناد ولم يخرجاه. ووافقه الذهبي(2).
والحديث من هذه الطريق أورده البيهقي في السنن الكبرى مختصرا، وأورده في الدلائل مطولا(3).
وأورد ابن إسحاق القصة بدون إسناد كما قال ابن كثير(4).
وكان هذا هو السبب الرئيسي لخروج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى حنين لغزو هذه القبائل المحتشدة قبل أن يداهموا المسلمين في مكة المكرمة، ولقد سارع الرسول - صلى الله عليه وسلم في رسم - الخطة اللازمة لملاقاة هذا العدو، بعد دراسة حال العدو العسكرية، ومعرفة عدته المادية.
المبحث الثاني: الاستعداد للمعركة
__________
(1) اعترض الألباني على تصحيح الحاكم لهذا لحديث، وموافقة الذهبي له، وقال: هو حسن فقط للكلام المعروف في ابن إسحاق، والمتقرر أنه حسن الحديث إذا صرح بالتحديث كما في هذا الحديث.
(سلسلة الأحاديث الصحيحة 2/209 تحت حديث رقم (631). ودفاع عن الحديث النبوي والسيرة في الرد على البوطي ص82، وانظر: فتح الباري 4/32).
(2) الحاكم: المستدرك 3/48- 49.
(3) السنن الكبرى 6/89، دلائل النبوة 2/42 ب-أ).
(4) البداية والنهاية4/324، وانظر: سيرة ابن هشام 2/439-440، والطبري: تاريخ الرسل والملوك 3/72- 73).(12/4)
إن الاستعداد والتأهب لملاقاة العدو والأخذ بالأسباب المادية أمر لازم، وسبب من أسباب النصر، وهو لا ينافي التوكل، إذ إن المسلم يؤمن إيمانا جازما بأن النصر من عند الله - عز وجل - ، وهو في نفس الوقت يؤمن بأنه مأمور بالأخذ بالأسباب، وأخذ الحيطة، والتدابير اللازمة ضد عدوه، وقد أمر الله عز وجل بذلك في قوله تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ}. [سورة لأنفال، الآية: 60].
ومن هذا المنطلق فقد روى الترمذي من حديث الزبير بن العوام.
24- قال: كان على النبى - صلى الله عليه وسلم - درعان يوم أحد، فنهض إلى الصخرة(1) فلم يستطع، فأقعد طلحة تحته، فصعد النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى استوى على الصخرة فقال: سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: "أوجب طلحة". ثم قال: هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث محمد ابن إسحاق.
وفي الباب عن صفوان بن أمية، والسائب بن يزيد(2).
وأعاد الحديث في كتاب المناقب بسنده ومتنه وقال: حسن صحيح غريب(3).
قلت: الحديث عنعنه ابن إسحاق وهو مدلس ولكنه قد صرح بالتحديث عند الحاكم، ومن طريقه رواه البيهقي، ثم قال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي(4).
__________
(1) إلى الصخرة: أي صخرة كانت هناك يستوي عليها وينظر إلى الكفار، ويشرف على المؤمنين. (تحفة الأحوذي 5/341).
(2) السنن 3/119 أبواب الجهاد (باب ما جاء في الدرع).
(3) 5/307 باب مناقب طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه.
(4) الحاكم: المستدرك 3/25، والبيهقي: السنن الكبرى 9/46.(12/5)
25- وحديث السائب(1) بن يزيد أخرجه أبو داود عن يزيد(2) أن خصيفة عن السائب، عن رجل(3) قد سماه، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ظاهر يوم أحد بين درعين، أو لبس درعين(4). وأخرجه الترمذي في الشمائل(5).
والحديث سكت عنه المنذري(6)، وفيه إبهام وهو قوله عن رجل.
وأخرجه ابن ماجه: فقال: عن السائب بن يزيد إن شاء الله تعالى: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم أحد خذ درعين، كأنه ظاهر بينهما(7). وهو عند أحمد أيضا فحدث به يزيد بن خصيفة، عن السائب بن يزيد، مرة بالاستثناء، ومرة بدون استثناء(8).
__________
(1) السائب بن يزيد بن سعيد بن ثمامة الكندي، وقيل في نسبه غير ذلك. يعرف بابن أخت النمر - بفتح فكسر - صحابي صغير، له أحاديث قليلة، وحج به في حجة الوداع، وهو ابن سبع سنين، وولاه عمر سوق المدينة (ت 91) وقيل قبل ذلك، وهو آخر من مات بالمدينة من الصحابة. /ع. (ابن حجر: التقريب 1/283).
(2) يزيد بن عبد الله بن خصيفة - بمعجمة وصاد مهملة وفاء مصغرا - ابن عبد الله ابن يزيد الكندي، المدني، وقد ينسب لجده، ثقة من الخامس. /ع. (المصدر السابق 2/367).
(3) قوله: عن رجل (عند البيهقي: عن رجل من بني تيم، عن طلحة بن عبيد الله). (السنن الكبرى 9/46).
(4) أبو داود: (السنن 2/30)، كتاب الجهاد (باب في لبس الدروع).
(5) انظر: (الأطراف للمزي 3/263)، حديث (3805)، والإتحافات الربانية بشرح الشمائل المحمدية لأحمد عبد الجواد الدومي ص150.
(6) محمد شمس الحق العظيم آبادي: (عون المعبود 7/253).
(7) ابن ماجه: (السنن 2/938)، وقال البوصيري في الزوائد: إسناده صحيح على شرط البخاري، وقع هذا الحديث في سنن ابن ماجه من طريق هشام بن سوار، والصواب هشام بن عمار، فإن هشام بن سوار ليس من رجال التقريب.
(8) أحمد: (المسند 3/449).(12/6)
قال المباركفوري في أثناء شرحه للحديث: قوله: كان على النبي - صلى الله عليه وسلم - درعان "أي مبالغة في قوله تعالى: {خُذُوا حِذْرَكُمْ}، [سورة النساء، من الآية :71].وقوله: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} [سورة الأنفال،من الآية:60]. فإنها تشمل الدرع، وإن فسرها النبي - صلى الله عليه وسلم - بأقوى أفرادها حيث قال: ألا إن القوة الرمي، ثم قال: قال القاري(1): وفيه إشارة إلى جواز المبالغة في أسباب المجاهدة وأنه لا ينافي التوكل والتسليم بالأمور الواقعة المقدرة"(2).
ومن هنا فإن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لما أراد الخروج إلى حنين لملاقاة جموع هوازن أرسل إلى صفوان بن أمية يطلب منه دروعا ليلقى فيها عدوه، كما تقدم ذلك من حديث جابر بن عبد الله(3).
وقد جاء أيضا من حديث صفوان بن أمية نفسه عند أبي داود وغيره وهذا سياقه عند أبي داود:
__________
(1) هو الشيخ ملا علي القاري بن سلطان بن محمد الهروي الحنفي، الجامع للعلوم النقلية والعقلية، والمتضلع من السنة النبوية، أحد جماهير الأعلام ومشاهير أولي الحفظ والأفهام، توفي سنة (1014هـ). (الشوكاني: البدر الطالع 1/445- 446، وكحالة: معجم المؤلفين 7/100- 101).
(2) تحفة الأحوذي 5/341، وانظر: زاد المعاد لابن قيم الجوزية 3/480، وشرح المواهب اللدنية للزرقاني 3/10).
(3) تقدم الحديث برقم (23) وهو حديث حسن.(12/7)
26- قال: حدثنا الحسن(1) بن محمَّد، وسلمة(2) بن شبيب، قالا: أخبرنا يزيد(3) بن هارون، أخبرنا شريك(4)، عن عبد العزيز(5) بن رفيع، عن أمية(6) ابن صفوان بن أمية، عن أبيه(7): أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - استعار منه أدرعا يوم حنين، فقال: أغصبا يا محمد؟ فقال: "لا، بل عارية مضمونة".
__________
(1) الحسن بن محمد بن الصباح - بفتح المهملة وتشديد الموحدة - الزعفراني - بفتح الزاي وسكون العين المهملة - أبو علي البغدادي صاحب الشافعي، ثقة من العاشرة (ت260) أو قبلها بسنة./خ عم. (ابن حجر: التقريب1/170، وتهذيب التهذيب 2/318).
(2) سلمة بن شبيب المسمعي - بكسر الميم الأولى وفتح الميم الثانية - النيسابوري، نزيل مكة، ثقة من كبار الحادية عشرة (ت بضع وأربعين بعد المائتين) /م عم. (التقريب 1/316، وتهذيب التهذيب 4/146).
(3) يزيد بن هارون بن زاذان السلمي، مولاهم، أبو خالد الواسطي، ثقة متقن عابد،من التاسعة(ت206)/ع.(التقريب2/372،وتهذيب التهذيب11/366)
(4) شريك بن عبد الله النخعي الكوفي، القاضي بواسط، ثم الكوفة، أبو عبد الله، صدوق يخطئ كثيرا، تغير حفظه منذ ولي القضاء بالكوفة، وكان عادلا فاضلا، عابدا شديدا على أهل البدع، من الثامنة (ت 177 أو 178) /خت م عم. (التقريب 1/351، وتهذيب التهذيب4/333- 337). وقال الذهبي في (تذكرة الحفاظ1/232):وحديث شريك من أقسام الحسن.
(5) عبد العزيز بن رفيع - بفاء مصغرا - الأسدي، أبو عبد الملك، المكي نزيل الكوفة، ثقة من الرابعة (ت 103) وقيل بعدها. /ع. (التقريب 1/509، تهذيب التهذيب 6/337).
(6) أمية بن صفوان بن أمية بن خلف الجمحي، المكي، مقبول من الرابعة. /بخ د ت س. (التقريب 1/83، وتهذيب التهذيب 1/371).
(7) صفوان بن أمية بن خلف الجمحي القرشي المكي، صحابي من المؤلفة، مات أيام قتل عثمان بن عفان، وقيل: سنة 41، وقيل: 42 في أوائل خلافة معاوية. /خت م عم. (التقريب 1/367، وتهذيب التهذيب 3/424- 425).(12/8)
قال أبو داود: هذه رواية يزيد ببغداد، وفي روايته بواسط تغير على غير هذا(1).
والحديث أخرجه النسائي، وأحمد، والدارقطني، والحاكم، ومن طريقه أخرجه البيهقي، الجميع من طريق يزيد بن هارون، عن شريك بن عبد الله، عن عبد العزيز بن رفيع به(2).
ثم قال الحاكم: وله شاهد من حديث عبد الله بن عباس:
27- أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - استعار من صفوان بن أمية أدرعا وسنانا في غزوة حنين، فقال: يا رسول الله: "أعارية مؤداة"؟
ثم قال: هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه(3). وسكت عنه الذهبي.
والحديث فيه شريك بن عبد الله القاضي، وقد وصف بأنه صدوق يخطئ كثيرا، وقد خالفه:
__________
(1) أبو داود: السنن 2/265 كتاب البيوع (باب في تضمين العارية).
(2) النسائي: السنن الكبرى كما في تحفة الأشراف للمزي 4/190 حديث (4945). وأحمد: (المسند 3/400- 401، 6/465). و(الدارقطني: السنن 3/39). و(الحاكم: المستدرك 2/47). و(البيهقي: السنن الكبرى 6/88).
(3) المستدرك 2/47، من طريق الحاكم أخرجه البيهقي 6/88. وأخرجه أيضا الدارقطني في سننه 3/38. وفيه: إسحاق بن عبد الواحد القرشي، قال الذهبي في ميزان الاعتدال 1/194- 195: واه).(12/9)
1- جرير(1) بن عبد الحميد بن قرط، فرواه عن عبد العزيز بن رفيع بلفظ:"عن أناس من آل عبد الله بن صفوان أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال:يا صفوان هل عندك من سلاح؟ قال: عارية أم غصبا؟" قال: "لا، بل عارية"، فأعاره ما بين الثلاثين إلى الأربعين(2) درعا"(3).
2- أبو الأحوص(4)، عن عبد العزيز بن رفيع، عن عطاء(5)، عن ناس من آل صفوان بن أمية نحوه(6).
__________
(1) جرير بن عبد الحميد بن قرط - بضم القاف وسكون الراء بعدها طاء مهملة - الضبي الكوفي نزيل الري وقاضيها، ثقة صحيح الكتاب. قيل: كان في آخر عمره يهم من حفظه (ت 188). /ع. (ابن حجر: التقريب 1/127، وتهذيب التهذيب 2/75).
(2) قال المنذري: فيه جهالة وإرسال. (انظر: عون المعبود 9/477).
(3) أبو داود:السنن2/265 كتاب البيوع، باب في تضمين العارية. والدارقطني: السنن 3/40، والبيهقي: السنن الكبرى 6/89).
(4) هو سلام بن سليم الحنفي مولاهم أبو الأحوص الكوفي/ ثقة متقن، من السابعة (ت179)./ع. (التقريب 1/342، وتهذيب التهذيب 4/282).
(5) عطاء بن أبي رباح - بفتح الراء الموحدة - واسم أبي رباح: أسلم القرشي مولاهم، المكي، ثقة فقيه فاضل لكنه كثير الإرسال، من الثالثة (ت114)على المشهور، وقيل: إنه تغير بآخره، ولم يكن ذلك منه./ع. (التقريب 2/22، وتهذيب التهذيب 7/199).
(6) أبو داود: السنن 2/266 كتاب البيوع، باب في تضمين العارية. والدارقطني: السنن 3/40، والبيهقي: السنن الكبرى 6/89.(12/10)
3- ورواه قيس(1) بن الربيع، عن عبد العزيز بن الرفيع، عن ابن أبي مليكة(2)، عن امية بن صفوان عن أبيه(3).
فأدخل (ابن أبي مليكة) بين عبد العزيز وأمية بن صفوان.
قال الألباني والحديث مضطرب الإسناد، لكن له شاهدان:
الأول: عن جابر بن عبد الله "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعث إلى صفوان بن أمية فسأله أدراعا مائة درع وما يصلحها". الحديث(4).
الثاني: من رواية جعفر(5) بن محمد، عن أبيه(6): أن صفوان بن أمية أعار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سلاحا هي ثمانون درعا، فقال له: أعارية مضمونة أم غصبا؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "بل عارية مضمونة".
أخرجه البيهقي(7) وقال: وبعض هذه الأخبار، وإن كان مرسلا، فإنه يقوى بشواهده مع ما تقدم من الموصول.
ثم قال الألباني: وبالجملة فالحديث صحيح بمجموع هذه الطرق الثلاث(8).
قلت:
__________
(1) قيس بن الربيع الأسدي، أبو محمد الكوفي، صدوق، تغير لما كبر، أدخل عليه ابنه ما ليس من حديثه فحدث به، من السابعة (ت سنة بضع وستين بعد المائة). /د ت ق. (التقريب 2/128، وتهذيب التهذيب 8/391).
(2) هو: عبد الله بن عبيد الله بن عبد الله بن أبي مليكة - بالتصغير- التيمي، المدني، أدرك ثلاثين من الصحابة، ثقة فقيه، من الثالثة(ت 117)./ع. (التقريب 1/431، وتهذيب التهذيب 5/306- 307).
(3) الدارقطني: السنن 3/40، والبيهقي: السنن الكبرى 6/89).
(4) تقدم برقم (23) وهو حديث حسن.
(5) جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب الهاشمي، أبو عبد الله المعروف بالصادق، صدوق فقيه، إمام، من السادسة (ت 148)./بخ م عم. (التقريب 1/132، وتهذيب التهذيب 2/103)
(6) أبوه هو: أبو جعفر الباقر، ثقة فاضل. تقدم في حديث (19).
(7) السنن الكبرى6/89-90،وأخرجه الطبري في تاريخ الرسل والملوك3/73).
(8) إرواء الغليل 5/344- 346). ويعني بالطرق الثلاث: طريق شريك، وطريق جابر، وطريق جعفر بن محمد عن أبيه.(12/11)
28- وروى البيهقي من مرسل الزهري أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أرسل إلى صفوان بن أمية في أداة ذكرت له عنده فسأله إياها فقال صفوان: أين الأمان، أتأخذها غصبا؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "إن شئت أن تمسك أداتك فامسكها وإن أعرتنيها فهي ضامنة علي حتى نؤديه إليك". والحديث مطول في قصة حرب حنين(1).
وجاء في هذا المعنى ما رواه ابن ماجه، وأحمد، والنسائي، والبخاري في التاريخ من حديث عبد الله بن أبي ربيعة، وهذا سياقه عند ابن ماجه:
__________
(1) السنن لكبرى 7/19).(12/12)
29- قال: حدثنا أبو بكر(1) بن أبي شيبة، ثنا وكيع(2)، ثنا إسماعيل(3) بن إبراهيم بن عبد الله بن أبي ربيعة المخزومي، عن أبيه(4) عن جده(5): أن النبي - صلى الله عليه وسلم - استلف منه حين غزا حنينا ثلاثين أو أربعين ألفا(6)، فلما قدم قضاها إياه(7)، ثم قال له النبي - صلى الله عليه وسلم - : "بارك الله لك في أهلك ومالك، إنما جزاء السلف الوفاء والحمد"(8)
__________
(1) هو: عبد الله بن محمد بن أبي شيبة الواسطي الأصل، أبو بكر الكوفي، ثقة حافظ، صاحب تصانيف، من العاشرة (ت235)/خ م د س ق. (التقريب 1/245، وتهذيب التهذيب 6/2- 4).
(2) وكيع بن الجراح بن مليح - بفتح الميم، وكسر اللام وحاء مهملة - الرؤاسي - بضم الراء وهمزة ثم مهملة - أبو سفيان الكوفي، ثقة حافظ عابد، من كبار التاسعة (ت196)/ع. (التقريب 2/33، وتهذيب التهذيب 11/123، والمغني لابن طاهر الهندي ص74).
(3) إسماعيل بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عبد الله بن أبي ربيعة المخزومي، (مقبول) من السادسة/س ق.(التقريب1/65وانظر تهذيب التهذيب1/272وتعجيل المنفعة ص14).
(4) هو إبراهيم بن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي ربيعة المخزومي، (مقبول) من الثالثة/خ س ق. (المصدر السابق 1/38).
(5) هو جد إبراهيم، وهو عبد الرحمن بن أبي ربيعة، واسم أبي ربيعة: عمرو بن المغيرة ابن عبد الله بن عمر بن مخزوم، أبو عبد الرحمن المكي، صحابي، مات ليالي قتل عثمان بن عفان، وهو والد عمر بن أبي ربيعة الشاعر/ س ق. (المصدر السابق 1/414، وتهذيب التهذيب 5/208).
(6) عند النسائي:"أربعين ألفا"بدون شك.وعند البخاري:استلفه مالا بضعة عشر ألفا.
(7) عند النسائي: فجاءه مال فدفعه إليّ وقال: "بارك الله لك في أهلك ومالك، إنما جزاء السلف الحمد والأداء"، وعند البخاري: "إنما جزاء السلف الحمد والوفاء".
(8) والحديث يدل أيضا على حسن المعاملة في القضاء وهو من الآداب السامية التي حث الدين الإسلامي عليها، لحديث "إن خيركم أو من خيركم أحاسنكم قضاء". رواه ابن ماجة في سننه 2/809 كتاب الصدقات.(12/13)
(1).
والحديث أورده النسائي من طريق سفيان الثوري، عن إسماعيل بن إبراهيم ولم يذكر فيه (حين غزا حنينا).
والحديث فيه:
إسماعيل بن إبراهيم وقد وصفه ابن حجر بقوله: (مقبول).
و(المقبول) عنده هو من ليس له من الحديث إلاَّ القليل، ولم يثبت فيه ما يترك حديثه من أجله(2).
وإسماعيل قد وثقه أبو داود، وابن حبان، وعلى خذا فيكون ثقة ولعل ابن حجر نظر على قول أبي حاتم فيه (شيخ)(3).
إبراهيم بن عبد الرحمن (قد وصفه ابن حجر أيضا بقوله "مقبول" وفي تهذيب التهذيب ذكر بأن ابن حبان وثقه، وابن قطان الفاسي قال فيه: "لا يعرف"، وإبراهيم قد أخرج له البخاري في الصحيح، ولذا فقد مال ابن حجر في هدي الساري(4) إلى رد قول ابن قطان، فقال: روى عنه جماعة ووثقه ابن حبان، وله في الصحيح حديث واحد في كتاب الأطعمة في دعائه - صلى الله عليه وسلم - في تمر جابر بن عبد الله بالبركة(5).
وقد كان الشيخ أبو الحسن(6) المقدسي يقول في الرجل الذي يخرج عنه في الصحيح: هذا اجتاز القنطرة، يعني بذلك أنه لا يلتفت إلى ما قيل فيه.
__________
(1) ابن ماجة: السنن 2/809 كتاب الصدقات، باب حسن القضاء. وأحمد: في المسند 4/36، والنسائي: السنن - المجتبى - 7/276 كتاب البيوع، باب الاستقراض، والبخاري: في التاريخ الكبير 5/9- 10.
(2) انظر: (التقريب 1/5).
(3) انظر: (تهذيب التهذيب 1/272).
(4) هدي الساري ص388، وانظر: تهذيب التهذيب 1/138- 139).
(5) البخاري: (الصحيح 7/69)، كتاب الأطعمة، باب الرطب والتمر.
(6) هو علي بن الفضل بن علي بن حاتم بن حسن بن جعفر الحافظ العلامة المفتي، شرف الدين أبو الحسن، ابن القاضي الأنجب أبي المكارم المقدسي ثم المالكي، سمع صحيح البخاري من القاضي أبي عبيد نعمة بن زيادة الله الغفاري، عن عيسى بن أبي ذر الهروي، وسمع من الحافظ السلفي فأكثر عنه، وانقطع إليه وتخرج به، ولد سنة (544) توفي سنة (611). (الذهبي: تذكرة الحفاظ 4/1390- 1392).(12/14)
قال أبو الفتح(1) القشيري في مختصره: وهكذا نعتقد، وبه نقول، ولا نخرج عنه إلا بحجة ظاهرة، وبيان شاف يزيد في غلبة الظن على المعنى الذي قدمناه من اتفاق الناس بعد الشيخين على تسمية كتابيهما بالصحيحين، ومن لوازم ذلك تعديل رواتهما.
وقد ردَّ ابن حجر أيضا بنحو هذا(2).
وابن قطان الفاسي قد قال عن الجماعة لا يعرفون مع أنهم معروفون عند غيره، وقد ردَّ الذهبي في صنيعه هذا، وذكر أمثلة لذلك(3).
ج- الانقطاع:
فقد قال البخاري: إبراهيم لا أدري سمع من أبيه أم لا.
وقال ابن عبد البر: يقولون لم يرو عن عبد الله بن أبي ربيعة غير إبراهيم – يعني ابن ابنه -(4).
والذي ظهر لي ان الحديث فيه انقطاع بين "إبراهيم بن عبد الرحمن" وبين جده "عبد الله بن ربيعة" وأنّ "عبد الرحمن" والد إبراهيم ليس من رجال السند، إذ لو كان من رجال السند لوجدت ترجمته في "التقريب" و"تهذيب التهذيب" ولم أجد ترجمته أيضا في التاريخ الكبير للبخاري، ولا في الجرح والتعديل لابن أبي حاتم.
كما أنني لم أجد في ترجمة "عبد الله بن أبي ربيعة" أن ابنه عبد الرحمن ممّن روى عنه.
ولا في ترجمة "إبراهيم" أنه روى عن أبيه "عبد الرحمن".
__________
(1) هو: محمد بن علي بن وهب بن مطيع بن دقيق العيد القشيري، المنفلوطي الصعيدي، المالكي ثم الشافعي، الإمام الفقيه المجتهد المحدث الحافظ العلامة شيخ الإسلام تقي الدين أبو الفتح، صاحب التصانيف منها: العدة شرح العمدة، وكتاب (الإلمام) وله كتاب في علوم الحديث، ولد سنة(625) بقرب ينبع من الحجاز، وتوفي سنة (702) هـ. (الذهبي: تذكرة الحفاظ 4/1481- 1483).
(2) ابن حجر: هدي الساري ص384).
(3) الذهبي: ميزان الاعتدال 1/556 و3/426).
(4) ابن حجر: الإصابة 2/305، وتهذيب التهذيب 5/208، والتاريخ الكبير للبخاري 5/9- 10، والاستيعاب 2/299).(12/15)
وبهذا يكون الراوي عن "عبد الله بن أبي ربيعة" هو "إبراهيم بن ابنه"، وهو لم يدرك جده، وذلك أن عبد الله بن أبي ربيعة مات ليالي قتل عثمان بن عفان، وأن أم إبراهيم(1) تزوجت بأبيه "عبد الرحمن" بعد يوم الجمل، فتكون ولادة إبراهيم بعد وفاة جده بمدة، فيكون الحديث منقطعا.
وهذه الأحاديث تدل دلالة واضحة على أنه يجب على المسلم أن يأخذ حذره، وأن يتأهب لملاقاة عدوه ويؤيدها قوله تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ}. [سورة الأنفال، من الآية: 60].
وقد ذكر بن عبد البر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - استقرض من حويطب بن عبد العزى أربعين ألف درهم، وأن نوفل بن الحارث بن عبد المطلب بن هاشم أعان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم حنين بثلاثة آلاف رمح فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "كأني أنظر إلى رماحك يا أبا الحارث تقصف أصلاب المشركين"(2).
__________
(1) هي أم كلثوم بنت أبي بكر الصديق وكانت قبل عبد الرحمن تحت طلحة بن عبيد الله فقتل يوم الجمل. (الطبقات الكبرى لابن سعد8/462). وفي موطأ مالك 2/752 كتاب الأقضية، باب ما لا يجوز من النحل "ومات أبو بكر وأم كلثوم حمل في بطن أمها".
(2) الاستيعاب 1/385، 3/537، وأسد الغابة 2/75، 5/369، والإصابة 1/364، والسيرة الحلبية لبرهان الدين الحلبي 3/63).(12/16)
الحكم الثامن: إقامة الحدّ في دار الحرب
الحد في اللغة: "المنع والفصل بين الشيئين، فكأن حدود الشرع فصلت بين الحلال والحرام".
وفي الشرع: "هي عقوبة مقدرة شرعا في معصية لتمنع من الوقوع في مثلها(1)".
وفي هذه الغزوة التي نحن بصدد الحديث عنها جيء برجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قد سكر فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم من كان عنده فضربوه بما كان في أيديهم وحَثَا صلى الله عليه وسلم عليه التراب، ردعا له جزاء ما ارتكب وتطهيرا له مما علق به من دنس المعصية".
وقد ورد في هذا ما رواه أبو داود والنسائي وأحمد والطحاوي وغيرهم وهذا سياقه عند الطحاوي:
__________
(1) النهاية1/352 والقاموس المحيط1/286، والإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف لأبي الحسن المرداوي10/150، وتيسير العلام لعبد الله بن عبد الرحمن آل بسام 2/334 والفقه على المذاهب الأربعة5/7، 8، 48".(13/1)
259- حدّثنا عليّ(1) بن شيبة قال حدّثناروح(2) بن عبادة قال ثنا أسامة(3) بن زيد قال: "حدثني ابن شهاب قال: "حدثني عبد الرحمن(4) بن أزهر الزهري قال: "رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين يتخلل الناس - أي يدخل بينهم - يسأل(5)
__________
(1) علي بن شيبة بن الصلت بن عصفور أبو الحسن السدوسي مولاهم، وهو أخو يعقوب بن شيبة، بصري سكن بغداد ثم انتقل إلى مصر فسكنها وحدث بها عن قبيصة بن عقبة ويحيى بن يحيى النيسابوري، والحسن بن موسى الأشيب وغيرهم، ورى عنه عبد العزيز بن أحمد الغافقي وغيره من المصريّين أحاديث مستقيمة (ت 272).(تاريخ بغداد للخطيب البغدادي11/436وشرح معاني الآثار1/27و35).
(2) هو ابن العلاء أبو محمد البصري "ثقة فاضل" تقدم في حديث 0 142).
(3) أسامة بن زيد الليثي مولاهم، أو زيد المدني "صدوق يهم". (التقريب 1/53 وتهذيب التهذيب 1/208-210).
(4) عبد الرحمن بن أزهر الزهري صحابي صغير تقدم في حديث (114).
(5) وسبب السؤال عن منزل خالد بينه ما رواه عبد الرزاق والحميدي وأحمد وأبو عوانة الجميع من طريق معمر عن الزهري عن عبد الرحمن بن أزهر قال: "جرح خالد بن الوليد يوم حنين فمربي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا غلام وهو يقول من يدل على رحل خالد بن الوليد؟ فخرجت أسعى بين يدي رسول الله وأنا أقول: "من يدل على رحل خالد بن الوليد؟ حتى أتاه رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مستند إلى رحل قد أصابته جراحة فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم عنده، ودعا له". قال: "وأرى فيه: "ونفث عليه" لفظ الحميدي".
والقائل: "وأرى فيه: "ونفث عليه" هو الزهري فعند أحمد وأبي عوانة: "قال الزهري: "وحسبت أنه قال: "ونفث فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم".
(مصنف عبد الرزاق 5/380-381 ومسند الحميدي 2/398 ومسند أحمد 4/88 و350-351 ومسند أبي عوانة 4/203).(13/2)
عن منزل خالد بن الوليد، فأتي بسكران فأمر من كان عنده فضربوه بما كان في أيديهم، ثم حثا عليه التراب - أي: "رمى بيده عليه التراب - ثم أتي أبو بكر بسكران فتوخّي(1) الذي كان من ضربهم عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فضربه أربعين"(2).
والحديث رواه أبو داود عن الحسن(3) بن علي أخبرنا عثمان(4). ابن عمر أخبرنا أسامة بن زيد عن الزهري عن عبد الرحمن بن أزهر قال: "رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم غداة(5)
__________
(1) "تَوَخَّي": "أي قصد يقال: "توخيت الشيء أتوخاه توخيا، إذا قصدت إليه وتعمدت فعله، وتحريت فيه". (النهاية 5/164-165).
(2) شرح معاني الآثار 3/156).
(3) هو الحلواني "ثقة حافظ" التقريب 1/168".
(4) عثمان بن عمر بن فارس العبدي بصري أصله من بخاري، ثقة، قيل: "كان يحيى بن سعيد لا يرضاه، من التاسعة (ت209). /ع". (التقريب 2/13 وتهذيب التهذيب 7/142 وقد وقع في التقريب الطبعة المصرية أن وفاته سنة (290) وهو خطأ".
(5) قوله: "غداة الفتح"، قال ابن حجر: "وقع عند ابن أبي حاتم عن عبد الرحمن بن أزهر أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم وهو غلام عام الفتح بمكة يسأل عن منزل خالد بن الوليد فأتى بشارب قد سكر فأمرهم أن يضربوه" إهـ".
ثم قال: "وقوله: "مكة، وهم منه، والذي في سياق الحديث بحنين وهو المحفوظ". (الإصابة 2/389-390، والجرح والتعديل 5/208).(13/3)
الفتح - وأنا غلام شاب - يتخلل الناس يسأل عن منزل خالد بن الوليد فأتي بشارب فأمرهم فضربوه بما في أيديهم، فمنهم من ضربه بالسوط، ومنهم من ضربه بعصا، ومنهم من ضربه بنعله، وحثا رسول الله صلى الله عليه وسلم التراب، فلما كان أبو بكر أُتي بشاربٍ فسألهم عن ضرب النبيّ صلى الله عليه وسلم الذي ضرب فحزروه، فضرب أبو بكر أربعين، فلما كان عمر كتب إليه خالد بن الوليد أن الناس قد انهمكوا في الشرب وتحاقروا الحدّ والعقوبة قال: "هم عندك فسلهم - وعنده المهاجرون الأولون - فسألهم فأجمعوا على أن يضرب ثمانين".
قال وقال علي: "إن الرجل إذا شرب افترى فأرى أن يجعله كحد الفرية"(1)".
ورواه عمر بن شيبة عن عثمان بن عمر به(2)".
ورواه أحمد عن عثمان بن عمر ثنا أسامة بن زيد به إلى قوله: "وحثا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم التراب"(3)".
ورواه النسائي والحاكم من طريق صفوان(4) بن عيسى أنبأنا أسامة ابن زيد عن الزهري قال: "حدثني عبد الرحمن بن أزهر - رضي اله عنه - قال: "رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين وهو يتخلل الناس يسأل عن منزل خالد بن الوليد فأتي بسكران فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم من كان عنده أن يضربوه بما كان في أيديهم، قال: "وحثا رسول الله صلى الله عليه وسلم التراب في وجهه".
__________
(1) سنن أبي داود 2/475 كتاب الحدود، باب إذا تتابع في شرب الخمر". والفرية المراد بها هنا: "رَمْيُ الغير بالزنى".
(2) تاريخ المدينة 2/731".
(3) المسند 4/350".
(4) صفوان بن عيسى الزهري، أبو محمد البصري القسام، ثقة، من الخامسة (ت 200هـ) وقيل قبلها بقليل أو بعدها". / خت م عم". (التقريب 1/368 وتهذيب التهذيب 4/429-430).(13/4)
قال: "ثم أُتِيَ أبو بكر رضي الله عنه بسكران فَتَوَخَّى الذي كان من ضربهم يومئذ فضرب أربعين وضرب عمر - رضي الله عنه - أربعين"(1)".
ورواه البيهقي من طريق روح بن عبادة ثنا أسامة بن زيد عن ابن شهاب، حدثني عبد الرحمن بن أزهر الزهري - رضي الله عنه - قال: "رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين يتخلل الناس يسأل عن منزل خالد بن الوليد وأُتِىَ بسكران، فأمر من كان عنده فضربوه بما كان في أيديهم وحثا رسول الله صلى الله عليه وسلم عليه من التراب"(2).
ورواه أحمد عن زيد(3) بن الحباب ثنا أسامة بن زيد عن الزهري به إلى قوله: "بما كان في أيديهم"(4).
__________
(1) السنن الكبرى للنسائي كما في تحفة الأشراف للمزي 7/191-192 حديث (9685)، الحاكم: " المستدرك 4/374-375".
(2) السنن الكبرى للبيهقي 9/103".
(3) زيد بن الحباب - بضم المهملة وموحدتين - أبو الحسين العكلي - بضم المهملة وسكون الكاف - أصله من خراسان، وكان بالكوفة، ورحل في الحديث فأكثر منه، وهو صدوق يخطئ في حديث الثوري، من التاسعة (ت 2039 / م عم". (التقريب 1/273 وتهذيب التهذيب 3/402-403، وقد رمز له الذهبي في ميزان الاعتدال 2/100 بصح إشارة إلى أنه ثقة".
(4) مسند أحمد 4/350".(13/5)
ورواه أبو داود والطحاوي من طريق ابن وهب قال أخبرني أسامة ابن زيد الليثي عن ابن شهاب حدثه عن عبد الرحمن بن أزهر، قال: "كأني أنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الآن وهو في الرحال يلتمس رحل خالد بن الوليد يوم حنين فبينما هو كذلك، أتي برجل قد شرب الخمر، فقال للناس "اضربوه" فمنهم من ضربه بالنعال، ومنهم من ضربه بالعصا، ومنهم من ضربه بالميتخة (1) - يريد الجريدة الرطبة - ثم أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ترابا من الأرض فرمى به في وجهه"(2).
ورواه النسائي من طريق صالح (3) بن كيسان عن الزهري بلفظ "أن عبد الرحمن بن أزهر كان يحدث أنه حضر رسول الله صلى الله عليه وسلم" الحديث(4).
ورواه الشافعي عن معمر بن راشد عن الزهري عن عبد الرحمن ابن أزهر قال: "رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم عام حنين سأل عن رحل خالد بن الوليد فجريت بين يديه أسأل عن رحل خالد بن الوليد حتى أتاه جريحاً وأُتي النبي صلى الله عليه وسلم بشارب فقال: "اضربوه" فضربوه بالأيدي والنعال وأطراف الثياب وحثوا عليه من التراب، ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم بكتوه فبكتوه ثم أرسله".
__________
(1) الميتخة: "بكسر الميم وسكون التحتية وبعدها مثناة فوقية ثم خاء معجمة- اختلف في ضبطها على أوجه هذا أحدها، فسرها ابن وهب في الحديث بالجريدة الرطبة". (النهاية 4/291-292 وعون المعبود 12/194-195).
(2) سنن أبي داود 2/474-475 كتاب الحدود، باب إذا تتابع في شرب الخمر، والطحاوي: "شرح معاني الآثار 3/155-156 واللفظ له".
(3) صالح بن كيسان المدني، أبو محمد، أو أبو الحارث، مؤدب ولد عمر بن عبد العزيز ثقة ثبت فقيه، من الرابعة (ت بعد سنة 130 أو بعد الأربعين). / ع". (التقريب 1/362 وتهذيب التهذيب 4/399).
(4) تحفة الأشراف 7/192 عن سنن النسائي الكبرى في الحدود حديث (9685).(13/6)
قال فلما كان أبو بكر - رضي الله عنه - سأل من حضر ذلك المضروب فقومه أربعين فضرب أبو بكر في الخمر أربعين حياته ثم عمر - رضي الله عنه - حتّى تتابع الناس في الخمر فاستشار فضربه ثمانين"(1)".
والخلاصة؛ أن أسامة بن زيد اللّيثي روى هذا الحديث عن الزهري بلفظ "حدثني عبد الرحمن بن أزهر" ورواه صالح بن كيسان ومعمر بن راشد ويونس(2) بن يزيد الأيلي كلّهم عن الزهري فلم يصرحوا في روايتهم بتحديث عبد الرحمن بن أزهر للزهري".
وصرّح بالتحديث من بين أصحاب الزهري أسامة بن زيد اللّيثي، وهو: "صدوق يهم"، وخالفه عقيل(3) بن خالد فوسط بين الزهري وبين عبد الرحمن بن أزهر: "عبد الله بن عبد الرحمن بن أزهر".
قال ابن حاتم سألت أبي (4) وأبا زرعة(5) عن حديث رواه أسامة ابن زيد عن عبد الرحمن بن أزهر قال: "رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأل عن خالد بن الوليد وأنا غلام شاب وأُتي بشارب وأمرهم فضربوه فمنهم من ضربه بنعله، وذكرت لهما الحديث".
فقالا: "لم يسمع الزهري هذا الحديث من عبد الرحمن بن أزهر، يدخل بينهما عبد الله (6) بن عبد الرحمن بن أزهر".
قلت لهما: "من يدخل بينهما ابن عبد الرحمن بن أزهر؟
قالا: "عقيل بن خالد (7)".
قلت: "رواية عقيل بن خالد المشار إليها أخْرَجَها أبو داود والنسائي والطبراني والدارقطني، الجميع من طريق ابن السرح وهذا سياقه عند أبي داود:
__________
(1) مسند الشافعي 6/230-231 مع الأم، وتاريخ البخاري 5/240".
(2) رواية يونس عند أبي عوانة في مسنده 4/203".
(3) عقيل ثقة ثبت، تقدم في حديث (63).
(4) هو محمد بن إدريس بن المنذر الحنظلي تقدم في حديث (74).
(5) هو عبيد الله بن عبد الكريم تقدم في حديث (74).
(6) عبد الله بن عبد الرحمن بن أزهر الزهري، المدني مقبول من الثالثة"./ د". (التقريب1/427 وتهذيب التهذيب 5/290 وقال: "ذكره ابن حبان في الثقات).
(7) علل الحديث 1/446-447 وانظر التلخيص الحبير 4/75".(13/7)
حدثنا ابن السرح(1) قال: "وجدت(2) في كتاب خالي عبد الرحمن(3) ابن عبد الحميد عن عقيل أن ابن شهاب أخبره أن عبد الله بن عبد الرحمن ابن أزهر أخبره عن أبيه قال: "أُتِيَ رسول الله صلى الله عليه وسلم بشارب وهو بحنين(4) فحثا في وجهه التراب، ثم أمر أصحابه فضربوه بنعالهم وما كان في أيديهم حتى قال لهم: "ارفعوا فرفعوا".
__________
(1) أحمد بن عمرو بن عبد الله بن عمرو بن السرح - بمهملات - أبو الطاهر المصري المصري، ثقة من العاشرة (ت 255)./م د س ق". (التقريب 1/23 وتهذيب التهذيب 1/64).
(2) عند الدارقطني "قرأت" والوجادة: "مصدر وجد مولد غير مسموع من العرب وهي أن يقف على أحاديث بخط راويها غير المعاصر له، أو المعاصر ولم يلقه، أو لقيه ولم يسمع منه أو سمع منه ولكن لا يروي الواجد تلك الأحاديث الخاصة عنه بسماع ولا إجازة، فله أن يقول: "وجدت أو قرأت بخط فلان"... إلخ".
وهذا النوع من باب المنقطع وفيه شوب اتصال، بقوله: "وجدت بخط فلان".
(تدريب الراوي ص 281-282 وقد قال ابن حجر في تهذيب التهذيب 6/219 بأن ابن السرح روى عن خاله سماعا ووجادة).
(3) عبد الرحمن بن عبد الحميد بن سالم المهري - بفتح الميم وسكون الهاء- أبو رجاء المصري، المكفوف، ثقة من التاسعة (ت192)./د س". (التقريب 1/489 وتهذيب التهذيب 6/219).
(4) عند الطبراني: "وهو بخيبر" وهو خطأ وقد أورده الهيثمي في مجمع الزوائد 6/278-279 بلفظ "وهو بحنين" والحديث عند أبي داود والنسائي والدارقطني من طريق ابن السرح بلفظ "وهو بحنين".(13/8)
فتوفى رسول الله صلى الله عليه وسلم(1)، ثم جلد أبو بكر في الخمر أربعين ثم جلد عمر أربعين صدراً من إمارته ثم جلد ثمانين في آخر خلافته، ثم جلد عثمان الحدين كليهما ثمانين وأربعين، ثم أثبت معاوية الحد ثمانين"(2)".
إلا أن الطبراني جعل هذا الحديث من مسند أزهر والد عبدالرحمن".
قال ابن حجر: "أورد الطبراني في ترجمة أزهر(3) هذا عن أحمد بن محمّد بن نافع الطحان عن أحمد بن عمرو بن السرح قال وجدت في كتاب خالي عن ابن شهاب عن عبد الرحمن بن أزهر عن أبيه "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أُتِىَ بشارب وهو بحنين" الحديث".
__________
(1) عند الدارقطني "فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وتلك السنة ثم جلد أبو بكر الخ" وعند الطبراني: "فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وتلك سنته".
(2) سنن أبي داود 2/475 كتاب الحدود، باب إذا تتابع في شرب الخمر". وسنن النسائي الكبرى في الحدود كما في تحفة الأشراف للمزي 7/191 حديث: "96858". والمعجم الكبير للطبراني 1/317". وسنن الدارقطني 3/158".
(3) هو أزهر بن عبد عوف بن عبد بن الحارث بن زهرة بن كلاب القرشي الزهري عم عبد الرحمن بن عوف، ووالد عبد الرحمن بن أزهر". (الإصابة 1/29-30).(13/9)
وهذا وهم من الطبراني أو من شيخه فقد أخرجه أبو داود والنسائي عن ابن السرح بهذا الإسناد عن الزهري عن عبد الله بن عبد الرحمن بن أزهر عن أبيه، فالحديث من مسند ابن أزهر وهكذا رواه صالح(1) بن كيسان عن الزهري، عن عبد الرحمن بن أزهر نفسه لم يقل عن أبيه، وكذا رواه أبو سلمة(2) بن عبد الرحمن ومحمد(3) بن إبراهيم التيمي عن عبد الرحمن بن أزهر نفسه"(4)".إهـ".
قلت: "رواية أبي سلمة ومحمد بن إبراهيم التيمي أخرجها النسائي والدارقطني عنهما عن الزهري عن عبد الرحمن بن أزهر قال: "أتي النبي صلى الله عليه وسلم بشارب يوم حنين، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للناس: "قوموا إليه، فقام الناس إليه فضربوه بنعالهم".
وأخرجها الدارقطني أيضاً عن الزهري عن عبد الرحمن (5)".
وقد تبين مما تقدم أن الزهري لم يسمع هذا الحديث من عبدالرحمن بن أزهر وإنما سمعه من عبد الله بن عبد الرحمن بن أزهر عن أبيه، وعبد الله بن عبد الرحمن بن أزهر".
قال عنه ابن حجر في التقريب "مقبول" (6).
والحديث رواه أبو سلمة بن عبد الرحمن ومحمد بن إبراهيم التيمي كلاهما عن عبد الرحمن بن أزهر".
__________
(1) تقدمت رواية صالح ص (583).
(2) أبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف الزهري، المدني قيل اسمه عبد الله، وقيل إسماعيل، ثقة مكثر، من الثالثة (ت 194) وكان مولده سنة بضع و عشرين". /ع". (التقريب 2/430 وتهذيب التهذيب 12/115-118).
(3) محمد بن إبراهيم بن الحارث بن خالد التيمي، أبو عبد الله، المدني، ثقة له أفراد، من الرابعة(ت120).على الصحيح"./ ع". (التقريب2/140وتهذيب التهذيب9/5-7".
(4) الإصابة 1/29-30، والمعجم الكبير للطبراني 1/317".
(5) تحفة الأشراف 7/192 عن سنن النسائي الكبرى في الحدود". وسنن الدارقطني 3/157-158".
(6) انظر: "حاشية ص (584) تعليقة (6).(13/10)
وقد ذكر ابن أبي حاتم وابن عبد البر وابن الأثير بأنهما رويا عن عبد الرحمن بن أزهر، وروايتهما عند النسائي والدارقطني (1)".
فيحتمل أنهما سمعا منه مباشرة، ويحتمل أنهما رويا عنه بواسطة، والواسطة محتملة أن تكون "عبد الله بن عبد الرحمن" ويحتمل أن يكون غيره".
وقد ذكر ابن حجر نقلا عن ابن مندة بأن وفاة عبد الرحمن بن أزهر كانت في الحرة، ووقعة الحرة كانت سنة أربع وستين(2)".
كما ذكر بأن ولادة أبي سلمة بن عبد الرحمن كانت سنة بضع وعشرين(3) والبضع من ثلاث إلى تسع(4)، فإذا أخذنا بآخر إطلاقاته فتكون ولادة أبي سلمة سنة تسع وعشرين، فيكون عمره عند وفاة عبدالرحمن بن أزهر خمسا وثلاثين سنة (5)".
وكلاهما مدنيان فيحتمل احتمالا قويا سماعه من عبد الرحمن بن أزهر ولو ثبت هذا فيكون السند متصلا ورجاله ثقات وعندها يكون الحديث صحيحاً".
والحديث جاء في معناه حديث عبادة بن الصامت - رضي الله عنه - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى بهم في غزاة إلى بعير من المغنم الحديث وفيه: "وجاهدوا الناس في الله القريب و البعيد، ولا تبالوا في الله لومة لا ئم، وأقيموا حدود الله في الحضر و السفر"(6).
قال الشوكاني: "وحديث عبادة بن الصامت أخرج أوله الطبراني في الأوسط و الكبير".
قال في مجمع الزوائد: "وأسانيد أحمد وغيره ثقات".
ثم قال الشوكاني: "ويشهد لصحة هذا الحديث عمومات الكتاب والسنة وإطلاقاتهما لعدم الفرق فيها بين القريب والبعيد والمقيم والمسافر"(7)". اهـ".
والحديثان يدلان على إقامة الحدود في دار الحرب، وبذلك قال مالك و الشافعي و أبو ثور و ابن المنذر".
__________
(1) الجرح والتعديل لأبن أبي حاتم 5/208-209 والاستيعاب 2/406 وأسد الغابة 3/424-426".
(2) انظر: "البداية والنهاية لابن كثير 8/246".
(3) الإصابة: "2/389-390".
(4) النهاية: "1/133".
(5) بطرح 29 من 64".
(6) سياتي تخريجه في بيان تحريم الغلول برقم (289) ص 669".
(7) نيل الأوطار 7/145".(13/11)
قال الشافعي: "وإذا أصاب الرجل حدا وهو محاصر للعدو أقيم عليه الحد ولا يمنعنا الخوف عليه من اللحوق بالمشركين أن نقيم عليه حد الله عز وجل فلو فعلنا توقيا أن يغضب ما أقمنا الحد عليه أبداً؛ لأنه يمكنه من كل موضع أن يلحق بدار الحرب، والعلة أن يلحق بدار الحرب، فيعطل عنه الحد إبطالا لحكم الله عز وجل ثم حكم رسول اله صلى الله عليه وسلم بعلة جهالة وغيا".
قد أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم الحد بالمدينة والشرك قريب منها وفيها شرك كثير موادعون وضرب الشارب بحنين والشرك قريب منه (1)".
وقد قَيَّد الشافعي إقامة الحد من قبل أمير الجيش فيما إذا وَلِيَ ذلك من قبل الإمام، فإن لم يول ذلك فعلى الشهود الذين يشهدون على الحد أنّ يأتوا بالمشهود عليه إلى الإمام والي ذلك ببلاد الحرب أو ببلاد السلام".
ثم قال - رحمه الله - تعالى: "ولا فرق بين دار الحرب ودار السلام فيما أوجب الله على خلقه من الحدود لأن الله عز وجل يقول: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا}،[سورة المائدة، من الآية:38]. {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ}،[سورة النور، من الآية: 2].
وسن رسول الله صلى الله عليه وسلم على الزاني الثيب الرجم وحد القاذف ثمانين جلدة لم يستثن من كان في بلاد الإسلام ولا في بلاد الكفر، ولم يضع عن أهله شيئا من فرائضه ولم يبح لهم شيئا مما حرم عليهم ببلاد الكفر ما هو إلا ما قلنا فهو موافق للتنزيل والسنة وهو مما يعقله المسلمون ويجتمعون عليه أن الحلال في دار الإسلام حلال في بلاد الكفر والحرام في بلاد الإسلام حرام في بلاد الكفر فمن أصاب حراما فقد حده الله على ما شاء منه ولا تضع عنه بلاد الكفر شيئاً".
__________
(1) الأم للشافعي 4/199-200 والسنن الكبرى للبيهقي 9/103، وتكملة المجموع لمحمد حسين العقبي 18/120، والمدونة الكبرى لمالك6/291".(13/12)
أو أن يقول قائل إن الحدود بالأمصار وإلى عمال الأمصار فمن أصاب حدا ببادية من بلاد الإسلام فالحد ساقط عنه، وهذا مما لم أعلم مسلما يقوله، ومن أصاب حدا في المصر ولا والي للمصر يوم يصيب الحد كان للوالي الذي يلي بعد ما أصاب أن يقيم الحد، فكذلك عامل الجيش إن ولى الحد أقامه، وإن لم يول الحد فأول من يليه يقيمه وكذلك هو الحكم والقطع ببلاد الحرب و غير القطع سواء (1)".
وذهب الإمام أحمد والأوزاعي وإسحاق إلى أن من ارتكب حدا ببلاد الحرب لا يقام عليه الحد من قبل الإمام ولا نائبه حتى يخرج من دار الحرب فيقام عليه".
260- واستدلوا بحديث بسر(2) بن أرطأة قال: "سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا تقطع الأيدي في السفر".
وفي لفظ: "لا تقطع الأيدي في الغزو"(3).
وقد اختلف العلماء في بسر بن أرطأة هل له صحبة أوّلاً، قال ابن عبد البر: "يقال إنه لم يسمع من النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قبض وهو صغير، هذا قول الواقدي وابن معين وأحمد وغيرهم".
وقالوا: "خرف في آخر عمره".
__________
(1) الأم 7/322-323".
(2) بسر بن أرطأة ويقال ابن أبي أرطأة واسمه عمير بن عويمر بن عمران القرشي العامري، نزيل الشام، من صغار الصحابة (ت 86). / د ت س". (التقريب 1/96 وتهذيب التهذيب 1/435).
(3) سنن أبي داود 2/453 كتاب الحدود، باب السارق يسرق في الغزو أيقطع؟". وسنن الترمذي 3/5 كتاب الحدود، باب ما جاء أن لا يقطع الأيدي في الغزو". وسنن النسائي 8/84 كتاب السارق، باب القطع في السفر". ومسند أحمد 4/181". والدارمي 2/150 كتاب السير، باب في أن لا يقطع الأيدي في الغزو". والطبراني: "المعجم الكبير 2/19". والسنن الكبرى للبيهقي 9/104".(13/13)
وأما أهل الشام: "فيقولون إنه سمع من النبي صلى الله عليه وسلم إلى أن قال: "ولبسر ابن أرطأة حديثان هذا أحدهما والثاني: "في الدعاء أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: "اللهم أحسن عاقبتنا في الأمور كلها وأجرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة"(1).
وكان يحيى بن معين يقول: "لا تصح له صحبة وكان يقول فيه رجل سوء"(2) إهـ".
وقال المنذري: "وكان يحيى بن معين لا يحسن الثناء عليه، وهذا يدل على أنه عنده لا صحبة له، وغمزه الدارقطني"(3)".أهـ".
وقال الزيلعي: "قال البيهقي في "المعرفة" أهل المدينة ينكرون سماع بسر بن أرطأة من النبي صلى الله عليه وسلم، فكان يحيى بن معين يقول: "بسر بن أرطأة رجل سوء".
قال البيهقي: "وذلك لما اشتهر من سوء فعله في قتال أهل الحرة".
وقال ابن سعد في "الطبقات"(4) قال الواقدي: "بسر بن أرطأة أدرك النبي صلى الله عليه وسلم صغيرا ولم يسمع منه شيئا، وقال غيره إنه سمع منه".
__________
(1) الحديث رواه أحمد في المسند 4/181، وابن حبان كما في موارد الظمآن ص 601، والطبراني في المعجم الكبير 2/19".
(2) الاستيعاب 1/154 و155 و156 مع الإصابة".
(3) عون المعبود 12/83، وتحفة الأحوذي 5/12".
(4) انظر: "الطبقات الكبرى لابن سعد 7/409 وانظر تهذيب التهذيب 1/435-436 ونقل عن ابن عدي "أنه قال مشكوك في صحبته ولا أعرف له إلا هذين الحديثين".(13/14)
ثم قال الزيلعي: "واستدل البيهقي للشافعي في إقامة الحدود بدار الحرب بإطلاق الآيات الواردة في حد الزاني، وقطع السارق، وجلد القاذف، وبما أخرجه أبو داود في "المراسيل(1) عن مكحول(2) عن عبادة ابن الصامت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أقيموا حدود الله في السفر والحضر، على القريب والبعيد ولا تبالوا في الله لومة لائم". ورويناه بإسناد موصول في السنن(3)".
وحديث بسر قال فيه الترمذي: "حديث غريب"، ثم قال: "والعمل على هذا عند بعض أهل العلم منهم الأوزاعي، لا يرون أن يقام الحد في الغزو وبحضرة العدو مخافة أن يلحق من يقام عليه الحد بالعدو، فإذا خرج الإمام من أرض الحرب ورجع إلى دار السلام أقام الحد على من أصابه". كذلك قال الأوزاعي(4). إهـ.
261- واستدلوا أيضاً بما روى عن الأحوص بن حكيم عن أبيه أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كتب إلى الناس أن لا يجلدن أمير جيش ولا سرية ولا رجلاً من المسلمين حداً، وهو غاز حتى يقطع الدرب قافلا لئلا تلحقه حمية الشيطان فيلحق بالكفار"(5)".
وفيه الأحوص ضعيف الحفظ، وأبوه حكيم بن عمير، صدوق يهم(6)".
وقد تابع الأحوص ثور بن يزيد وهو ثقة عند البيهقي ولكن الحديث فيه إبهام".
ورى أيضاً نحو هذا الحديث عن مكحول عن زيد بن ثابت، وفيه إبهام أيضا ومكحول قال الشافعي لم ير زيد بن ثابت (7)".
__________
(1) كتاب المراسيل ص 26".
(2) مكحول هو الشامي ولم يسمع من عبادة كما في تهذيب التهذيب 10/292".
(3) نصب الراية 3/344". والسنن الكبرى للبيهقي 9/104".
(4) سنن الترمذي 3/5 كتاب الحدود، باب ما جاء أن لا يقطع الأيدي في الغزو".
(5) المغني لابن قدامة 8/473-474 وتاريخ الخلفاء للسيوطي ص 140".
(6) التقريب 1/49 و194".
(7) الأم للشافعي7/322والسنن الكبرى للبيهقي9/105ونصب الراية3/343-344".(13/15)
وروى البوصيري(1) من طريق حسان بن زاهر أن حصين بن حدير أخبره أنه سمع عمر بن الخطاب يقول: "لا تقطع اليد في الغزو ولا عام سنة"(2).
وحسان بن زاهر وحصين بن حدير، ذكرهما ابن أبي حاتم والبخاري ولم يذكرا فيهما جرحا ولا تعديلاً(3)".
والخلاصة أن الأحاديث في هذا كلها لا تخلو من ضعف".
وقال أبو حنيفة: "لا حد ولا قصاص في دار الحرب ولا إذا رجع إلا إذا غزا من له ولاية الإقامة بنفسه كالخليفة وأمير المصر يقيم الحد على مرتكبيه لأنه تحت يده،بخلاف أمير العسكر والسرية لأنه لم تفوض إليهما الإقامة، ولا تقام الحدود بعد الرجوع إلى بلاد الإسلام؛ لأنه عندما ارتكب الحد في دار الحرب لم يكن للإمام عليه قدرة، فلم تنعقد موجبة، فلا ينقلب موجبة بعد الخروج من دار الحرب".
واستدل الأحناف على هذا بما استدل به الحنابلة من أنه لا تقام الحدود في دار الحرب، إلا أن الحنابلة أوجبوا إقامة الحد بعد الرجوع إلى بلاد المسلمين والأحناف عمموا عدم إقامة الحد في السفر والحضر(4)".
والذي يظهر في هذا هو وجوب إقامة الحد على مرتكبيه في أي زمان ومكان لأن النصوص الواردة في ذلك عامة وصحيحة فلا يترك الحد مخافة أن يلحق من أقيم عليه الحد بالمشركين لأن احتمال لحقوقه بالمشركين لا يكون مبررا في إسقاط الحد عمن ارتكبه".
__________
(1) البوصيري: "هو أحمد بن أبي بكر بن إسماعيل البوصيري الشافعي القاهري شهاب الدين أبو العباس محدث (762-840). (كحالة؛ معجم المؤلفين 1/175).
(2) إتحاف الخيرة المهرة بزوائد المسانيد العشرة مجلد 2/جزء 3ص 144 أ رقم 237".
(3) الجرح والتعديل لابن أبي حاتم2/192،و236".والتاريخ الكبير للبخاري3/ و33".
(4) الهداية للمرغيناني 2/102-103 ونصب الراية للزيلعي 3/343-344".(13/16)
قال الشافعي: "فإن لحق بالمشركين من أقيم عليه الحد، فهو أشقى له، ومن ترك الحد خوف أن يلحق المحدود ببلاد المشركين، تركه في سواحل المسلمين ومسالحهم التي تتصل ببلاد الحرب"(1)".
هذا هو الواجب على المسلمين عملا بقوله صلى الله عليه وسلم "أقيموا حدود الله في السفر والحضر على القريب والبعيد ولا تبالوا في الله لومة لائم".
لكن يمكن أن يقال إن أمير الجيش في دار الحرب إذا خشي مفسدة كبيرة تترتب على إقامة الحد على ذي شوكة في أفراد الجيش فإن الأمر يرجع حينئذ إلى اجتهاده فلا بأس أن يؤخر عنه الحد إلى الحضر نظرا لهذه المصلحة الراجحة، وَالحَدُّ سيقام على مرتكبيه بكلّ حال وأكثر ما فيه تأخير الحدّ لمصلحة راجحة، إما من حاجة المسلمين إليه أو من خوف ارتداده ولحقوه بالكفار، وتأخير الحد لعارض أمر وردت به الشريعة، كما يؤخر عن الحامل والمرضع، وعن وقت الحر والبرد والمرض، فهذا تأخير لمصلحة المحدود، فتأخيره لمصلحة الإسلام أولى"(2)".
وأما ما قاله الأحناف من سقوط الحد مطلقا في السفر والحضر فهذا غير وجيه لأن فيه تضيعا لحدود الله، بتعليلات واهية".
الحكم التاسع: الاستعانة بالمشركين
مر بنا حديث جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما - وفيه قال: "ثم بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى صفوان بن أمية فسأله أدرعا مائة وما يصلحها من عدتها"، فقال: "أغصبا يا محمد؟ قال: "بل عارية مضمونة حتى نؤديها إليك(3)".
وحديث صفوان بن أمية - رضي الله عنه - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استعار منه أدرعا يوم حنين، فقال: "أغصبا يا محمد؟ فقال: "لا، بل عارية مضمونة"(4).
__________
(1) الأم للشافعي7/322-323و4/199-200والسنن الكبرى للبيهقي9/104-105".
(2) انظر إعلام الموقعين لابن قيم الجوزية 3/5-8".
(3) تقدم برقم (23). وإسناده حسن".
(4) تقدم تخريجه برقم (26) وهو صحيح بمجموع طرقه".(13/17)
وفي حديث الهجرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استأجر عبد الله(1) بن أريقط يدله على الطريق أثناء الهجرة وكان عبد الله مشركا(2)".
وهذه الأحاديث الدالة على جواز الاستعانة بالمشركين جاء ما ظاهره معارضا لها وهو ما رواه مسلم - رحمه الله - من حديث عائشة - رضي الله عنها - قالت:
262- خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل بدر فلما كان بحرة الوبرة (3)
__________
(1) عبد الله بن أريقط - بضم الهمزة وفتح الراء وسكون الياء وكسر القاف وطاء مهملة- ويقال: "أريقد - بالدال المهملة بدل الطاء- ويقال: "أريق - بقاف - بصيغة التصغير -، الليثي ثم الدؤلي، دليل النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر لما هاجرا إلى المدينة".
قال ابن حجر: "لن أر من ذكره في الصحابة، إلا الذهبي في التجريد وقد جزم عبد الغني المقدسسي في السيرة له بأنه لم يعرف له إسلام وتبعه النووي في تهذيب الأسماء واللغات". (الإصابة 2/274 وكتاب المغني لابن طاهر الهندي ص 4).
(2) رواه ابن إسحاق عمن لا يتهم عن عروة عن عائشة أم المؤمنين". (انظر سيرة ابن هشام 1/484-485، والبداية والنهاية لابن كثير 3/178).
(3) قال ياقوت: "حرة الوبرة: "بثلاث فتحات مضبوطة في كتاب مسلم، وقد سكن بعضهم الباء، وهي على ثلاثة أميال من المدينة". (معجم البلدان 2/250).
وقال النووي: "هكذا ضبطناه بفتح الباء، وكذا نقله القاضي عن جميع رواة مسلم، قال: "وضبطه بعضهم بإسكانها، وهو موضع على نحو أربعة أميال من المدينة". (شرح النووي على صحيح مسلم 4/479).
وعلى تحديد ياقوت لحرة الوبرة، تكون بينها و بين المدينة (5) كيلومتر، لأن الميل يساوي 2/3 1كم". (انظر:تيسير العلام لعبد الله بن عبد الرحمن آل بسام 1/501، وغزوة بني المصطلق ص (56).(13/18)
، أدركه رجل قد كان يذكر منه جرأة ونجدة(1)، ففرح أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حين رأوه، فلما أدركه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم جئت لأتبعك وأصيب معك، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "تؤمن بالله ورسوله" قال: "لا قال: "فارجع فلن أستعين بمشرك".
قالت: "ثُمَّ مضى حتّى إذا كنا(2) بالشجرة(3) أدركه لرجل فقال له كما قال أول مرة، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم كما قال أول مرة، قال: "فارجع فلن أستعين بمشرك"، قال: "ثم رجع فأدركه بالبيداء، فقال له كما قال أول مرة، "تؤمن بالله ورسوله؟" قال: "نعم، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فانطلق"(4).
ومن هنا اختلف العلماء في جواز الاستعانة بالمشركين نظرا لاختلاف الأحاديث الواردة في ذلك".
قال النووي: "أثناء شرحه لحديث مسلم قوله "فارجع فلن أستعين بمشرك".
وقد جاء في الحديث الآخر"أن النبي صلى الله عليه وسلم استعان بصفوان بن أمية".
فأخذ طائفة من العلماء بالحديث الأوّل(5) على إطلاقه".
__________
(1) الجرأة:الإقدام على الشيء والنجدة الشجاعة وشدةالبأس".(النهاية1/253،و5/18).
(2) قوله: "حتى إذا كنا بالشجرة"، قال النووي: "هكذا هو في النسخ: "حتى إذا كنا"، فيحتمل أن عائشة كانت مع المودعين، فرأت ذلك ويحتمل أنها أرادت بقولها: "كنا" كان المسلمون". (شرح النووي على صحيح مسلم 4/479).
(3) الشجرة: "هي شجرة ذي الحليفة لأن مسجدها يسمى مسجد الشجرة بدليل ذكر البيداء بعد ذلك، والبيداء بعد ذي الحليفة مباشرة وفيها الآن معهد المعلمين ومركز التلفون اللاسلكي". (انظر: "المدينة بين الماضي والحاضر للعياشي ص 451، و470، وكتاب المناسك للحربي ص 425).
(4) صحيح مسلم3/1449كتاب الجهاد والسير،باب كراهة الاستعانة في الغزو بكافر".
(5) يريد حديث مسلم".(13/19)
وقال الشافعي وآخرون: "إن كان الكافر حسن الرأي في المسلمين، ودعت الحاجة إلى الاستعانة به استعان به، وإلا فيكره، وحمل الحديثين على هذين الحالين"(1)".
وقال الشافعي: "ورد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رد مشركا أو مشركين في غزاة بدر وأبى أن يستعين إلا بمسلم، ثم استعان بعد بدر(2) بسنتين بغزاة خيبر بعدد اليهود بني قينقاع كانوا أشداء واستعان صلى الله عليه وسلم في غزاة حنين سنة ثمان بصفوان بن أمية وهو مشرك، فالرد الأول إن كان لأن له الخيار أن يستعين بمشرك(3) أو يرده كما يكون له رد المسلم من معنى يخافه منه أو لشدة به فليس واحد من الحديثين مخالفا للآخر، وإن كان رده لأنه لم ير أن يستعين بمشرك فقد نسخه ما بعده من استعانته بمشركين، فلا بأس أن يستعان بالمشركين على قتال المشركين إذا خرجوا طوعا ويرضخ(4) لهم ولا يسهم لهم"(5)".
وقال البيهقي: "باب ما جاء في الاستعانة بالمشركين". ثم ساق حديث مسلم".
ثم قال: "قال الشافعي: "لعله رده رجاء إسلامه وذلك واسع للإمام، وقد غزا بيهود بني قينقاع بعد بدر وشهد صفوان بن أمية حنينا بعد الفتح وصفوان مشرك".
ثم قال البيهقي: "أما شهود صفوان بن أمية معه حنينا وصفوان مشرك فإنه معروف بين أهل المغازي".
__________
(1) شرح النووي على صحيح مسلم 4/479".
(2) يريد بدر الموعد فإنها كانت بعد أحد وكانت في شهر شعبان سنة أربع من الهجرة، وبهذا يتجه كون خيبر بعدها بسنتين لأن غزوة خيبر كانت في السنة السادسة على قول بعض العلماء". (انظر: "البداية والنهاية لابن كثير 4/93-4و181". وفتح الباري 5/278 و7/393 و464).
(3) في الأصل "بمسلم"، ولعل ما أثبته هو الصواب بدليل ما بعده".
(4) الرضخ: "هو العطية القليلة، بمعنى أنهم يعطون شيئا من الغنيمة ولا يسهم مثل سهام المقاتلين المسلمين". (النهاية 2/228).
(5) الأم4/177وانظر:الاعتبار في الناسخ والمنسوخ من الآثار للحازمي ص218-220).(13/20)
وأما غزوه بيهود قينقاع فإني لم أجد إلا من حديث الحسن(1) بن عمارة - وهو ضعيف - عن الحكم(2) عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "استعان رسول الله صلى الله عليه وسلم بيهود قينقاع فرضخ لهم ولم يسهم لهم"(3)".
وقال ابن قدامة: "فصل: "ـ ولا يستعان بمشرك وبهذا قال ابن المنذر(4) والجوزجاني(5) وجماعة من أهل العلم".
وعن أحمد ما يدل على جواز الاستعانة به وكلام الخرقي(6) يدل عليه أيضا عند الحاجة وهو مذهب الشافعي لخبر"….صفوان بن أمية".
ويشترط أن يكون من يستعان به حسن الرأي في المسلمين، فإن كان غير مأمون عليهم لم يجز الاستعانة به".
لأننا إذا منعنا الاستعانة بمن لا يؤمن من المسلمين مثل المخذل والمرجف فالكافر أولى".
ثم قال: "ووجه الأول ما روت عائشة قالت خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بدر ثم ساق الحديث المتقدم عند مسلم(7)".
والخلاصة أن مذهب الشافعية والحنابلة والأحناف جواز الاستعانة بالمشركين بشرطين:
الأول: "الحاجة إليهم".
والثاني: "الوثوق من جهتهم".
واستدلوا بفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد استعان بعبد الله بن أريقط في الهجرة ليدله على الطريق".
__________
(1) هو: "الحسن بن عمارة البجلي مولاهم، أبو محمد الكوفي، قاضي بغداد، متروك، من السابعة (ت 153)./ خت ت ق". (التقريب 1/169 وتهذيب التهذيب 2/304 والسنن الكبرى للبيهقي 9/53).
(2) الحكم: "هو ابن عتيبة".
(3) السنن الكبرى 9/37، و53".
(4) ابن المنذر: "هو محمد بن إبراهيم، تقدم".
(5) الجوزجاني: "هو أبو إسحاق إبراهيم بن يعقوب بن إسحاق، مات سنة 256 أو 259". (تذكرة الحفاظ للذهبي 2/549).
(6) هو عمر بن الحسين بن عبد الله أبو القاسم الخرقي صاحب المختصر في الفروع الفقه الحنبلي وله مصنفات عدة أودعها بغداد وسافر فاحترقت كتبه ولم تكن قد انتشرت (مات بدمشق سنة 334هـ). (تاريخ بغداد 11/234-235، والبداية والنهاية لابن كثير 11/214، معجم المؤلفين لكحالة 7/282-283".
(7) المغني 8/414".(13/21)
كما ستعان بصفوان بن أمية في غزوة حنين وقد مر بيان ذلك(1)".
وردوا على أدلة المانعين بأنها منسوخة بفعله صلى الله عليه وسلم وعمله، أو على أن ذلك محمول على عدم الحاجة إليهم، أو على عدم الوثوق بهم، وبذلك يحصل الجمع بين أدلة المنع وأدلة الجواز".
وقال ابن حجر: "والأقرب أن الاستعانة بالمشركين كانت ممنوعة ثم رخص فيها وعليه نص الشافعي"(2)".
وقال القرطبي: "تجوز الاستعانة بالمشرك إذا كان حكم الإسلام هو الغالب وإنما تكره الاستعانة بهم إذا كان حكم الشرك هو الظاهر، وهو قول أحمد والشافعي وأبي حنيفة"(3)".
وقال ابن قيم الجوزية - في أثناء كلامه على الأحكام المستنبطة من غزوة الحديبية - ومنها: "أن الاستعانة بالمشرك المأمون في الجهاد جائز عند الحاجة، لأن عينه الخزاعي(4) كان كافرا إذا ذاك، وفيه من المصلحة أنه أقرب إلى اختلاطه بالعدو، وأخذه أخبارهم"(5)".
وهو قول بعض المعاصرين(6)".
وخلاصة المسألة أن الاستعانة بالمشركين جائزة بشروط وقرائن تحتف بها فإذا اختل شرط من الشروط ولم يؤمن جانب المشرك المستعان به لم تجز الاستعانة".
__________
(1) في حديث 23و26و27".
(2) التلخيص الحبير 4/100-101 وانظر: "زاد المعاد لابن قيم 3/479 وسبل السلام للصنعاني 4/49-50 وروائع البيان للصابوني 1/402".
(3) الجامع لأحكام القرآن 8/99-100 وانظر: "الهداية للمرغيناني 2/147، وأوجز المسالك إلى موطّأ مالك 9/424و425".
(4) هو بسر بن سفيان الخزاعي الكعبي". (الإصابة 1/149).
(5) زاد المعاد 3/301و479". وصحيح البخاري 5/104-105 كتاب المغازي، باب غزوة الحديبية".
(6) هما: "الأستاذ محمد أبو زهرة في كتابه خاتم النبيين ص 858". والدكتور محمد سعيد البوطي فقه السيرة ص 234و392".(13/22)
وإذا لم تكن هناك حاجة ملحة فلا يجوز الاستعانة، والاستعانة تكون إما بخبرته العسكرية وإما بأخذ معلومات تفيد المسلمين إن دعت الحاجة إلى ذلك، وقاعدة الإسلام في هذا الباب أن الحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها أخذها وأن الحرب خدعة، فلا بد من توافر أسباب وانتفاء موانع للاستفادة من الخبرات الكافرة، حتى لا يقع المسلمون في شرك المخادعة ومكايد العدو، والأمر واسع في ذلك، كما أنه راجع إلى اجتهاد الإمام وأهل الحل والعقد في الأمة الإسلامية".(13/23)
الحكم العاشر: العارية من حيث الضمان وعدمه
العارية: "بتشديد التحتية وتخفيفها، ويقال عارة، وهي مأخذوة من عار الفرس إذا ذهب، لأن العارية تذهب من يد المعير".
وهي في الشرع: "عبارة عن تمليك المنافع بغير عوض(1)".
وجاء في هذا:
حديث جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما - وفيه "ثم بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى صفوان بن أمية فسأله أدراعا مائة درع، وما يصلحها من عدتها، فقال: "أغصبا يا محمد؟ قال: "بل عارية مضمونة حتى نؤديها إليك"(2).
حديث ابن عباس - رضي الله عنهما - أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم استعار من صفوان بن أمية أدراعاً وسنانا في غزوة حنين". فقال: "يا رسول الله أعارية مؤداة؟ قال: "عارية مؤداة"(3).
263- حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: "استعار رسول الله صلى الله عليه وسلم من صفوان بن أمية سلاحا، فقال صفوان: "أمؤداة يا رسول الله ؟ قال: "نعم"(4).
وفي بعض ألفاظ حديث صفوان بن أمية أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استعار منه يوم حنين أدراعا فقال: "أغصبا يا محمد؟ قال: "بل عارية مضمونة" قال: "فضاع بعضها فعرض عليه رسول الله أن يضمنها له، قال: "أنا اليوم في الإسلام أرغب". وفي لفظ "إنا قد فقدنا من أدراعك أدراعا فهل نغرم لك؟ قال: "لا يا رسول الله، لأن في قلبي اليوم ما لم يكن يومئذ".
قال أبو داود: "وكان أعاره قبل أن يسلم، ثم أسلم"(5).
ومن خلال هذه النصوص وغيرها اختلف العلماء في ضمان العارية وعدمه".
ومنشأ الخلاف من قوله "عارية مضمونة".
__________
(1) القاموس المحيط 2/97، وكتاب المغني لابن قدامة 5/220، وكتاب الهداية للمرغيناني 3/220، وفتح الباري 5/241، كفاية الأخيار لتقي الدين الحسيني 1/180، وحاشية الدسوقي 3/433".
(2) تقدم برقم (23).
(3) تقدم برقم (27).
(4) سنن الدارقطني 3/38".
(5) تقدم تخريج الحديث برقم (26).(14/1)
قال ابن قيم الجوزية: "وفيها(1) أن رسول الله صلى الله عليه وسلم شرط لصفوان في العارية الضمان، فقال: "عارية مضمونة".
فهل هذا إخبار عن شرعه في العارية، ووصف لها بوصف شرعه الله فيها، وأن حكمها الضمان كما يضمن المغصوب، أو إخبار عن ضمانها بالأداء بعينها ومعناه: "أني ضامن لك تأديتها، أنها لا تذهب، بل أردها إليك بعينها؟ هذا مما اختلف فيه الفقهاء".
فقال الشافعي وأحمد بالأول: "وأنها مضمونة بالتلف"(2).
وقال أبو حنيفة ومالك بالثاني: "وأنها مضمونة بالرد على تفصيل في مذهب مالك وهو أن العين إن كانت مما لا يغاب عليه(3)، كالحيوان والعقار، لم تضمن بالتلف إلا أن يظهر كذبه، وإن كانت مما يغاب عليه كالحلي ونحوه، ضمنت بالتلف".
إلا أن يأتي ببينة تشهد على التلف".
وسر مذهبه أن العارية أمانة غير مضمونة - كما قال أبو حنيفة - إلا أنه لا يقبل قوله فيما يخالف الظاهر، فلذلك فرق بين ما يغاب عليه، وما لا يغاب عليه".
ومأخذ المسألة أن قوله صلى الله عليه وسلم لصفوان بن أمية: "بل عارية مضمونة" هل أراد به أنها مضمونة بالرد أو بالتلف؟
__________
(1) أي في غزوة حنين من الأحكام".
(2) يعني إذا تلف في غير الاستعمال المأذون فيه،ضمنها المستعير وإن لم يفرط".(انظر:كفاية الأخيار1/181والفقه على المذاهب الأربعة لعبد الرحمن الجزيري3/286 و288).
(3) يعني الذي لا يمكن إخفاؤه وستره عن الأعين في العادة كالعقار والحيوان". والذي يغاب عليه: "الذي يمكن اخفاؤه في صندوق أو دولاب، كالثياب، والحلي فهذا يضمنه المستعير دون الأوّل". (الفقه على المذاهب الأربعة 3/285-286 والشرح الكبير لأبي البركات أحمد الدردير 3/436 على هامش حاشية الدسوقي".
وقال الشوكاني: "واستدل من فرق بين الحيوان وغيره بحديث صفوان، ولا يخفى أن دلالته على أن غير الحيوان مضمون لا يستفاد منها أن حكم الحيوان بخلافه". (نيل الأوطار 5/334).(14/2)
أي أضمنها إن تلفت، أو أضمن لك ردها، وهو يحتمل الأمرين، وهو في ضمان الرد أظهر لثلاثة أوجه:
أحدها: "أن في اللفظ الآخر: "بل عارية مؤداة" فهذا يبين أن قوله "مضمونة" المراد به: "المضمونة بالأداء".
الثّاني: "إنه لم يسأله عن تلفها، وإنما سأله هل تأخذها مني أخذ غصب تحول بيني وبينها؟ فقال: "لا، بل أخذ عارية أؤديها إليك".
ولو كان سأله عن تلفها وقال: "أخاف أن تذهب، لناسب أن يقول: "أنا ضامن لها إن تلفت".
الثالث: "أنه جعل الضمان صفة لها نفسها، ولو كان ضمان تلف، لكان الضمان لبدلها، فلما وقع الضمان على ذاتها، دل على أنه ضمان أداء".
ثم قال: "فإن قيل: "ففي القصة أن بعض الدروع ضاع، فعرض عليه النبي صلى الله عليه وسلم أن يضمنها، فقال: "أنا اليوم في الإسلام أرغب".
قيل: "هل عرض عليه أمرا واجبا أو أمرا جائزا مستحبا الأولى فعله، وهو من مكارم الأخلاق والشيم، ومن محاسن الشريعة؟
وقد يترجح الثاني بأنه عرض عليه الضمان، ولو كان الضمان واجبا، لم يعرضه عليه، بل كان يفي له به".
ويقول: "هذا حقك، كما لو كان الذاهب بعينه موجودا فإنه لم يكن ليعرض عليه رده فتأمله"(1)". إهـ".
فابن القيم رحمه الله تعالى يرى أن العارية مضمونة بذاتها، لقوله: "صلى الله عليه وسلم "بل عارية مضمونة" وأنها إذا تلفت فلا ضمان عندئذ".
وذهب الصنعاني: "إلى أن العارية تضمن إذا شرط صاحبها الضمان لقوله: "صلى الله عليه وسلم "عارية مضمونة"(2)".
وذهب جمهور العلماء ومنهم الشافعي وأحمد إلى أن العارية إذا استعملت في غير المأذون فيه فتلفت وجب ضمانها بمثلها إن كانت من ذوات الأمثال، وبقيمتها يوم تلفها إن لم تكن من ذوات الأمثال، واستدلوا بالأحاديث المتقدمة وما في معناها".
__________
(1) زاد المعاد 3/481-483 والإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف 6/112".
(2) سبل السلام 3/67-69".(14/3)
قال الشافعي: "العارية كلها مضمونة الدواب والرقيق والثياب لا فرق بين شيء منها، فمن استعار شيئا فتلف في يده بفعله أو بغير فعله فهو ضامن له، والأشياء لا تخلو أن تكون مضمونة أو غير مضمونة، فما كان منها مضموناً مثل الغصب وما أشبهه فسواء ما ظهر منها هلاكه وما خفي فهو مضمون على الغاصب والمستسلف جنيا فيه أو لم يجينا، أو غير مضمونة مثل الوديعة فسواء ما ظهر هلاكه وما خفي فالقول فيها قول المستودع مع يمينه"(1)".
وقال ابن قدامة: "ويجب رد العارية إن كانت باقية بغير خلاف، ويجب ضمانها إذا كانت تالفة تعدى فيها المستعير أو لم يتعد، روى ذلك ابن عباس وأبو هريرة (2)".
وإليه ذهب عطاء(3) والشافعي وإسحاق".
لقول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث صفوان "بل عارية مضمونة".
264- وروى الحسن(4) عن سمرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "على اليد ما أخذت حتى تؤديه"(5)
__________
(1) الأم 3/217-218 ومختصر المزني 3/32 مع الأم، وسنن الترمذي 2/369 وكفاية الأخيار لتقي الدين الحسيني 1/180-182".
(2) أثرهما في الأم 3/218". قال الشافعي: "وقد قال أبو هريرة وابن عباس رضي الله عنهما إن العارية مضمونة". وكان قول أبي هريرة في بعير استعير فتلف انه مضمون".
(3) عطاء: "هو ابن أبي رباح، وإسحاق: "هو ابن راهويه".
(4) الحسن: "هو البصري، وسمرة: "هو ابن جندب، صحابي جليل".
(5) رواه أبو داود في سننه 2/265 كتاب البيوع، باب في تضمين العارية".
والنسائي في السنن الكبرى كما في تحفة الأشراف 4/66 حديث 4584".
والترمذي في سننه 2/368 كتاب البيوع، باب ما جاء أن العارية مؤداة". وقال: "هذا حديث حسن صحيح". وابن ماجه في سننه 2/802 كتاب الصدقات، باب العارية". والدارمي 2/178 كتاب البيوع، باب في العارية مؤداة". وأحمد في المسند 5/8و12و13". والحاكم: "المستدرك 2/47". والبيهقي: "السنن الكبرى 6/90و95". الجميع من طريق قتادة عن الحسن عن سمرة بن جندب". قال ابن حجر في التلخيص الحبير 3/53: "والحسن مختلف في سماعه من سمرة، وزاد فيه أكثرهم ثم نسي الحسن فقال: "هو أمينك لا ضمان عليه".
قال الشوكاني: "واستدل من قال بالضمان بحديث سمرة، وبقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا}، [سورة النساء، من الآية: 58]. ولا يخفى أن الأمر بتأدية الأمانة لا يستلزم ضمانها إذا تلفت". (نيل الأوطار 5/334).(14/4)
.
ولأنه أخذ ملك غيره لنفع نفسه منفردا بنفعه من غير استحقاق، ولا إذن في الإتلاف فكان مضمونا كالغاصب، والمأخوذ على وجه السوم(1)".
وقال علاء الدين المرداوي: "قال الحارثي(2): "نص الإمام أحمد رحمه الله على ضمان العارية، وإن لم يتعد فيها كثير متكرر جداً من جماعات، وقف على رواية اثنين وعشرين رجلاً وذكرها (3)".
وذهب مالك وأبو حنيفة والحسن البصري والنخعي والشعبي وعمر بن عبد العزيز والثوري الأوزاعي وابن شبرمة(4) إلى أن العرية أمانة لا يجب ضمانها إلا بالتعدي".
265- لما روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ليس على المستعير غير المغل(5) ضمان ولا على المستودع غير المغل ضمان"(6).
ولأنه قبضها بإذن مالكها فكانت أمانة كالوديعة".
__________
(1) المغني 5/220-224".
(2) هو مسعود بن أحمد العراقي المصري الحنبلي (652-711) (تذكرة الحفاظ للذهبي 4/1495).
(3) الإنصاف 6/112، و113 وفتح الباري 5/241 ونيل الأوطار 5/334 وسبل السلام 3/67".
(4) هو عبد الله بن شبرمة الكوفي القاضي (ت 144). (التقريب 1/422).
(5) المغل: "بضم الميم ثم الغين المعجمة، مأخوذ من الإغلال وهو الخيانة، والمعنى: "ليس على المستعير غير المغل ضمان الخ (أي إذا لم يخن في العارية والوديعة فلا ضمان عليه) وقيل: "المغل ها هنا: "المستغل، وأراد به القابض لأنه بالقبض يكون مستغلا والأول الوجه: "يعني أولى". (النهاية 3/381، سبل السلام للصنعاني 3/67).
(6) رواه الدارقطني في سننه 3/41 والبيهقي في السنن الكبرى 6/91". وقالا: "الصحيح وقفه على شريح القاضي".
وأما المرفوع ففيه عمرو بن عبد الجبار السنجاري عن عمه عبيدة بن حسان العنبري السنجاوي وهما ضعيفان".
وقال أبو حتبان: "عبيدة بن حسان، منكر الحديث". (الجرح و التعديل 6/92).
وقال ابن حبان: "عبيدة يروي الموضوعات عن الثقات". (انظر: "كتاب المجروحين 2/189 وميزان الاعتدال 3/26 و271).(14/5)
266- قالوا: وقول النبي صلى الله عليه وسلم "العارية مؤداة"(1) يدل على أنها أمانة، لقول الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا}، [سورة النساء، من الآية: 58](2).
وأجيب عن حديث عمرو بن شعيب بأنه ضعيف، وأن الصحيح أنه من قول شريح القاضي.
وحديث "العارية مؤداة" صحيح إلا أنه قد ورد في حديث جابر ابن عبد الله وابن عباس وصفون بن أمية "بل عارية مضمونة"(3).
وأما الآية فإنها عامة للعارية وغيرها، وحديث التضمين خاص، والخاص مقدم على العام".
وأيضا فإن العارية تخالف الوديعة، لأن الوديعة الذي يستفيد منها هو المودع، والعارية ييستفيد منها المستعير، فإذا تلفت وجب ضمانها(4)".
والذي يبدو في هذه المٍسألة هو قول بضمان العارية حفظا لأموال الناس من الضياع، والتساهل في حفظها، لأن الأصل أن من أخذ شيئا من أموال الناس وجب عليه رده بعينه أو بقيمته إذا تلف إلا ما خصه الدليل من ذلك".
الحكم الحادي عشر: قضاء الرسول في شأن محلم بن جثامة
كان من شأن محلم بن جثامة الليثي أنه خرج مع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في سرية مكونة من ثمانية نفر إلى بطن إضم وكان قائد السرية أبو قتادة بن ربعي(5)، فلما وصلوا إلى بطن إضم(6)
__________
(1) رواه ابن ماجه في سننه 2/802 كتاب الصدقات، باب العارية من حديث أنس بن مالك ولفظه: "العارية مؤداة والمنيحة مردودة" وهو صحيح من زوائد ابن ماجه".
(2) الهداية للمرغيناني 3/220، والمغني لابن قدامة 5/221، وفتح الباري 5/241، وسبل السلام 3/67-68، ونيل الأوطار 5/334".
(3) تقدم حديث جابر برقم "23"، وحديث ابن عباس برقم (27) وحديث صفوان برقم (26).
(4) بداية المجتهد لابن رشد 2/314".
(5) في سيرة ابن هشام أن قائد هذه السرية هو عبد الله بن أبي حدرد".
(6) إضم: "بكسر الهمزة وفتح الضاد المعجمة، وآخره ميم".
قال عاتق بن غيث البلادي: "هو وادي المدينة إذا اجتمعت أوديتها الثلاثة - بطحان وقناة والعقيق - بين أحد والشرثاء يسمى الوادي "الخيل" إلى أن يتجاوز كتانة وهي كتانة غيقة، فيسمى الوادي "وادي الحمض" إلى أن يصب في البحر بين الوجه وأم لج، هذه أسماؤه اليوم، أما اسمه قديما، فكان يسمى إضما منذ اجتماع تلك الروافد إلى أن يصب في البحر".(معجم المعالم الجغرافية ص 29).(14/6)
مر بهم عامر بن الأضبط الأشجعي فسلم عليهم بتحية الإسلام فأمسكوا عن قتله وعدا عليه محلم ابن جثامة فقتله لإحن كانت بينهم في الجاهلية، وأخذ ما معه".
ولما كانت غزوة حنين اختصم في شأنهما عيينة بن حصين والأقرع بن حابس فعيينة يطالب بدم عامر بن الأضبط، والأقرع يدافع عن محلم بن جثامة وارتفعت الأصوات أمام رسول الله صلى الله عليه وسلم فقضا فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم بالدية(1)". يوضح هذا ما رواه أبو داود وغيره وهذا سياق أبي داود قال:
267- حدثنا موسى(2) بن إسماعيل أخبرنا حماد(3) قال: "أخبرنا محمد(4) - يعني ابن إسحاق - فحدثني محمد(5) بن جعفر بن الزبير قال سمعت زياد(6)
__________
(1) مغازي الواقدي 2/796-797 وسيرة ابن هشام 2/626".
وذكر الواقدي أن هذه السرية كانت عند خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم لفتح مكة ليظن الناس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد تلك الناحية". (وانظر الطبقات الكبرى لابن سعد 2/133).
(2) هو المنقري التبوذكي "ثقة ثبت" تقدم في حديث (91).
(3) حماد: "هو ابن سلمة "ثقة عابد" تقدم في حديث (36).
(4) محمد بن إسحاق بن يسار، صاحب السيرة "صدوق" تقدم في حديث (1).
(5) محمد بن جعفر بن الزبير بن العوام الأسدي، المدني ثقة من السادسة (ت بضع عشرة بعد المائة). /". (التقريب 2/150 وتهذيب التهذيب 9/39).
(6) زياد بن سعد بن ضميرة، ويقال: "زياد بن ضميرة بن سعد، ويقال: "زياد بن ضمرة، ويقال: "زيد بن ضميرة السلمي ويقال: "الأسلمي الحجازي". رجح المزي: "زياد بن سعد بن ضميرة".
روى عن أبيه وجده، ويقال: "عن أبيه وعمه، وكانا شهدا حنينا قصة محلم بن جثامة، وعنه محمد بن جعفر بن الزبير وقيل: "عن محمد بن جعفر عن زياد بن ضميرة عن عروة بن الزبير عن أبيه".
ذكره ابن حبان في الثقات في أتباع التابعين فقال: "زياد بن ضميرة بن سعد ويقال ابن ضميرة يروي عن الحجازيين، روى عن أهل بلده". (تهذيب التهذيب 3/369 وتحفة الأشراف للمزي 3/272 وقال في التقريب 1/268: "مقبول" من الرابعة". /د ق". وقال الذهبي: "فيه جهالة". (ميزان الاعتدال 2/89).(14/7)
بن ضميرة الضمري".
ح- وأخبرنا وهب(1) بن بيان وأحمد(2) بن سعيد الهمداني قالا أخبرنا ابن وهب(3) أخبرني عبد الرحمن(4) بن أبي الزناد عن عبد الرحمن(5) ابن الحارث عن محمد بن جعفر أنه سمع زياد بن ضميرة السلمي".
وهذا حديث وهب وهو أتم يحدث عروة بن الزبير عن أبيه(6) قال موسى: "وجده(7)
__________
(1) وهب بن بيان الواسطي، أبو عبد الله، نزيل مصر، ثقة عابد، من العاشرة (ت 246). /د س". (التقريب 2/337 وتهذيب التهذيب 11/160).
(2) هو أبو جعفر المصري صاحب ابن وهب "صدوق" تقدم في حديث (127).
(3) هو عبد الله بن وهب بن مسلم القرشي مولاهم، أبو محمد المصري، الفقيه، ثقة حافظ عابد، من التاسعة (ت 197). /ع". (التقريب 1/460 وتهذيب التهذيب 6/71-74).
(4) هو ابن عبد الله بن ذكوان "صدوق تغير حفظه لما قدم بغداد" تقدم".
(5) هو ابن عبد الله بن عياش "صدوق له أوهام". (التقريب 1/476).
(6) عن أبيه: "هو سعد بن ضمرة بن سعد بن سفيان بن مالك بن حبيب بن زغب بن مالك بن خفاف بن امرئ القيس بن بهثة بن سليم السلمي وقيل الأسلمي، وقيل فيه: "سعد بن ضميرة الضمري حجازي شهد حنينا له عند أبي داود حديث في قصة محلم بن جثامة بإسناد حسن".(الإصابة2/29 وأسد الغابة2/355 والاستيعاب 2/53 مع الإصابة).
(7) وجده: "بكسر الدال أي أن زياد بن سعد يحدث عروة عن أبيه سعد وعن جده ضميرة بن سعد السلمي، وقيل ضمرة بن ربيعة، "فعروة" مفعول به "ليحدث". (الإصابة 2/212 وأسد الغابة 3/59-60 وعون المعبود 12/218 ووقع في سيرة ابن هشام".
قال ابن إسحاق: "حدثني محمد بن جعفر بن الزبير قال: "سمعت زياد بن ضميرة بن سعد السلمي يحدث عن عروة بن الزبير عن أبيه عن جده وكانا شهدا حنينا".
وعند البلاذري من طريق ابن إسحاق: "سمعت زياد بن ضميرة يحدّث عن عروة بن الزبير عن أبيه، وجدّه جميعاً". وهذا يوهم أن الحديث عن العوام، وهو لم يدرك البعثة". والحديث من طريق ابن إسحاق هذه من مسند سعد بن ضميرة عن أبيه ضميرة، كما هو عند أحمد وابن ماجه، وهو كذلك في الأطراف للمزي 3/271، 4/204 حديث 3824 و 4975 وذخائر المواريث 1/227 حديث 2048".(14/8)
وكانا شهدا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حنينا(1) ثم رجعنا إلى حديث وهب "أن محلم(2) بن جثامة الليثي قتل رجلاً(3) من أشجع في الإسلام وذلك أول غير(4) قضى به(5) رسول الله صلى الله عليه وسلم فتكلم عيينة(6)
__________
(1) وعند ابن إسحاق: "وكانا شهدا حنينا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: "صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الظهر ثم عمد إلى ظل شجرة فجلس تحتها، وهو بحنين". وعند ابن ماجه وأحمد: "قالا: "صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الظهر الخ".
(2) محلم - بضم الميم وفتح الحاء المهملة وكسر اللام المشددة ثم الميم - ابن جثامة- بفتح الجيم وتشديد المثلثة فألف فميم فتاء تأنيث - ابن قيس بن ربيعة بن عبد الله بن يعمر الشداخ بن عوف بن كعب بن عامر بن ليث بن بكر بن عبد مناة بن كنانة الكناني الليثي، أخو الصعب بن جثامة". (الاستيعاب 3/496وأسد الغابة 5/76-77 والإصابة 3/369 وشرح المواهب 2/285، ووقع في تاريخ الخميس والسيرة الحلبية "محكم بن جثامة" بالكاف ولعله خطأ مطبعي".
(3) جاء تسمية هذا الرجل عند ابن إسحاق وغيره بأنه "عامر بن الأظبط الأشجعي" كما سيأتي في حديث (268).
(4) غير:بكسر الغين المعجمة وفتح المثناة التحتيةوراء:الدية،كما فسرت في آخر الحديث".
قال ابن الأثير: "الغير: "جمع الغيرة، وهي الدية، وجمع الغير: "أغيار، وقيل: "الغيرة: "الدية؛ وجمعها أغيار، مثل ضلع وأضلاع، وغيره إذا أعطاه الدية، وأصلها من المغايرة وهي المبادلة، لأنها بدل من القتل".(النهاية3/400وعون المعبود12/218).
(5) قضى به: "أي بالغير، الذي هو الدية".
(6) في زاد المعاد 3/367 "ولما كان عام خيبر، جاء عيينة بن بدر يطلب بدم عامر بن الأضبط الأشجعي"، الخ".
فقوله: "عام خيبر" خطأ، والصواب عام حنين".(14/9)
في قتل الأشجعي؛لأنه(1) من غطفان، وتكلم الأقرع بن حابس دون محلم؛لأنه(2)
__________
(1) لأنه: "أي الأشجعي وهو عامر بن الأضبط، وذلك أن أشجع هو: "ابن ريث بن غطفان بن سعد بن قيس عيلان، وعيينة هو: "ابن حصن بن حذيفة بن بدر بن عمرو بن جوبة بن لوذان بن ثعلبة بن عدي بن فزارة بن ذيبان بن بغيض بن ريث بن غطفان بن قيس بن عيلان الفزاري، فعيينة وعامر بن الأضبط يجتمعان في ريث بن غطفان". (اللباب في تهذيب الأنساب 1/64 وأسد الغابة 4/331 كلاهما لابن الأثير، وعون المعبود 12/218-219).
(2) لأنه: "أي محلم بن جثامة من خندف، والاقرع بن حابس أيضا من خندف، وخندف، امرأة إلياس بن مضر واسمها ليلى بنت حلوان فغلبت نسبة أولادها من إلياس إليها".
فالأقرع بن حابس ينتمي إلى تميم بن مرة بن أد بن طابخة بن إلياس بن مضر ومحلم ابن جثامة ينتمي إلى ليث بن بكر بن عبد مناة بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر، فالأقرع ومحلم "يجتمعان في خندف" زوج إلياس بن مضر، فهما من أولاد إلياس (أسد الغابة 1/128 و5/76-77، واللباب 1/223 و3/112 وعون المعبود 12/219، وغزوة بني المصطلق ص 49 وعند ابن إسحاق: "فقام إليه الأقرع بن حابس وعيينة بن حصن بن حذيفة بن بدر، يختصمان في عامر بن الأضبط الأشجعي، عيينة يطلب بدم عامر، وهو يومئذ رئيس غطفان، والأقرع بن حابس يدفع عن محملم لمكانه من خندف". (سير ة ابن هشام 2/627". انظر: "فتح الباري 13/418).(14/10)
من خندف، فارتفعت الأصوات وكثرت الخصومة واللغط(1)، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا عيينة ألا تقبل الغير، فقال عيينة: "لا والله حتى أدخل على نسائه من الحرب والحزن ما أدخل على نسائي"(2).
قال: "ثم ارتفعت الأصوات وكثرت الخصومة واللغط، فقال رسول الله: "يا عيينة ألا تقبل الغير؟ فقال: "عيينة مثل ذلك أيضاً".
إلى أن قام(3) رجل من بني ليث يقال له مكيتل(4)
__________
(1) اللغط: "بفتحتين: "صوت وضجة لا يفهمن معناها". (النهاية 4/257 وعون المعبود 12/219).
(2) وعند ابن إسحاق "فتداولا الخصومة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن نسمع، فسمعنا عيينة ابن حصن وهو يقول: "والله يا رسول الله لا أدعه حتى أذيق نساءه من الخرقة مثل ما أذاق نسائي ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "بل تأخذون الدية خمسين في سفرنا هذا، وخمسين إذا رجعنا وهو يأبى عليه". وعند البلاذري: "والله لا أدعه حتى أذيق نساءه من الحزن ما أذاق نساءنا".
(3) وعند أحمد: "إذ قام رجل من بني ليث يقال له مكيتل قصير مجموع". وعند البلاذري: "وهو قصير مجمع".
(4) مكتيل: "بمثناة مصغراً، وقيل: "مكيثر بكسر الثاء المثلثة وآخره راء". (الإصابة 3/457 وأسد الغابة 5/259).
ورواية "مكيثر" عند ابن إسحاق كما في سيرة ابن هشام 2/627".
قال ابن حجر: "وفي رواية ابن هشام عن زياد البكائي "مكيثر".
وذكر ابن الأثير أيضا هذه القصة: "لمطر الليثي"، وقال: "أخرجه أبو موسى". ثم قال: "وقد رواه محمد بن جعفر بن الزبير عن زياد بن ضميرة عن أبيه، وسمى هذا الرجل "مكيتلا". "أسد الغابة 5/186". وقال ابن حجر في الإصابة 3/424: "مطر الليثي" في "مكيتل" فلعل "مكيتلا" لقب واسمه مطر".(14/11)
عليه شكة(1) وفي يده(2) درقة فقال: "يا رسول الله إني لم أجد(3) لما فعل هذا في غرة(4) الإسلام مثلاً إلاّ غنماً(5) وردت فرمي أولها فنفر آخرها، أسنناليوم(6)
__________
(1) الشكة: "بكسر الشين المعجمة، السلاح". (النهاية 2/495).
(2) وفي يده درقة أي في يد مكيتل والدرقة: "محركة الحجفة، وهي الترس من جلود بلا خشب ولا عقب".(النهاية1/345، واللسان10/383، والقاموس المحيط 3/126).
(3) وعند ابن إسحاق: "فقال: "والله يا رسول الله ما وجدت لهذا القتيل شبها في غرة الإسلام، إلا كغنم وردت فرميت أولاها فنفر آخرها".
(4) غرة الإسلام: "أوله وغرة كل شيء أوله". (النهاية 3/354).
(5) إلا غنماً وردت) على الماء للشرب، (فرمي) بصيغة المجهول، أي بالنبل أو الحجارة لقتلها أو طردها، (أولها) أي الغنم، (فنفر آخرها) أي بقية الغنم لخوف القتل، فكذلك ينبغي أن تقتل هذا الأوّل حتى تكون قتله عظة وعبرة للآخرين". (عون المعبود 12/220).
(6) أسنن اليوم) صيغة أمر من سن سنة من باب نصر، (وغير غدا) صيغة أمر من التغير، وهذا مثل ثان ضربه لترك القتل، كما أن الأوّل ضربه للقتل ولذلك ترك العطف".
قال ابن الأثير: "اسنن اليوم وغير غدا: "معناه أن مثل محلم في قتله الرجل وطلبه أن لا يقتص منه وتؤخذ منه الدية، والوقت أوّل الإسلام وصدره كمثل هذه الغنم النافرة، يعني إن جرى الأمر مع أولياء القتيل على ما يريد محلم ثبط الناس عن الدخول في الإسلام معرفتهم أن القود يغير بالدية، والعرب خصوصاً وهم الحراص على درك الأوتار وفيهم الأنفة من قبول الديات، ثم حث رسول الله صلى الله عليه وسلم على الإقادة منه بقوله: "اسنن اليوم وغير غدا" يريد إن لن تقتص منه غيرت سنتك، ولكنه أخرج الكلام على الوجه الذي يهيج المخاطب ويحثه على الإقدام والجرأة على المطلوب منه".
وقال أيضاً: "(اسنن اليوم وغير غداً) أي: "اعمل بسنتك التي سننتها في القصاص ثم بعد ذلك إذا شئت أن تغير فغير: "أي تغير ما سننت وقيل تغير: "من أخذ الغير، وهي الدية". 0 النهاية 2/410و 3/400-401، عون المعبود 12/220-221).(14/12)
وغير غدا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خمسون في فورنا(1) هذا، وخمسون إذا رجعنا إلى المدينة(2)، وذلك(3) في بعض أسفاره".
ومحلم رجل طويل آدم(4) وهو في طرف الناس، فلم يزالوا(5)
__________
(1) وعند ابن إسحاق وأحمد:"في سفرنا هذا".وعند ابن ماجه والبلاذري:"في سفرنا".
(2) وعند ابن إسحاق وابن ماجه والبلاذري وأحمد: "فقبلوا الدية". وعند أحمد وابن إسحاق والبلاذري: "فقبلوا الدية ثم قالوا: "أين صاحبكم هذا، يستغفر له رسول الله صلى الله عليه وسلم فقام رجل آدم ضرب طويل، عليه حلة له، قد كان تهيأ للقتل فيها، حتى جلس بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له: "ما اسمك؟ قال: "أنا محلم بن جثامة".
(3) وذلك: "أي القتل والقصة، أما القتل فكان في سرية إضم كما سيأتي في حديث عبد الله بن أبي حدرد، وقد تقدمت الإشارة إلى هذا في ص 604".
وأما المطالبة بهذا القتيل فكانت في غزوة حنين كما هو عند ابن هشام وأحمد والبلاذري".
(4) الأدمة في الناس: "السمرة الشديدة، وعند ابن إسحاق: "ضرب طويل" والضرب خفيف اللحم". 0 النهاية 1/32و3/78).
(5) فلم يزالوا: "أي معاونون لمحلم (حتى تخلص) بفتح الخاء وشدة اللام بصيغة الماضي، أي: "نجا من القتل، وذلك بقبول الدية". (عون المعبود 12/221).
وقال ابن إسحاق: "وأخبرنا سالم أبو النضر أنه حدث: "أنّ عيينة بن حصن وقيسا حين قال الأقرع بن حابس وخلا بهم، يا معشر قيس، منعتم رسول الله صلى الله عليه وسلم قتيلا يستصلح به الناس، أفأمنتم أن يلعنكم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيلعنكم الله بلعنته، أو أن يغضب عليكم بغضبه؟ والله الذي نفس الأقرع بيده، لتسلمنه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فليصنعن فيه ما أراد، أو لآتين بخمسين رجلا من بني تميم يشهدون بالله كلهم، لقتل صاحبكم كافرا، ما صلى قط، فلأطلن دمه، فلما سمعوا ذلك قبلوا الدية". (سيرة ابن هشام 2/628، والروض الأنف 7/490).
قال ابن كثير في البداية والنهاية 4/225: "وهذا الحديث منقطع معضل".(14/13)
حتى تخلص فجلس بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وعيناه تدمعان، فقال: "يا رسول الله إني قد فعلت الذي بلغك وإني أتوب إلى الله، فاستغفر الله لي يا رسول الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أقتلته بسلاحك في غرة الإسلام(1)، اللهم لا تغفر لمحلم بصوت عال(2)".
زاد أبو سلمة (3): "فقام وإنه ليتلقى دموعه بطرف ردائه".
قال ابن إسحاق:فزعم قومه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استغفر له بعد ذلك".
قال أبو داود: "قال النضر(4) بن شميل: "الغير الدية(5)".
__________
(1) وعند الزرقاني: "أقتلته بعدما قال أني مسلم، قال: "إنما قالها متعوذاً، قال: "أفلا شققت على قلبه لتعلم أصادق هو أم كاذب؟ قال: "وهل قلبه إلا مضغة من لحم، قال صلى الله عليه وسلم: "إنما كان ينبئ عنه لسانه"، وفي رواية "فقال صلى الله عليه وسلم: "لا ما في قلبه تعلم ولا لسانه صدقت". (شرح المواهب 2/286، والسيرة الحلبية3/207).
(2) وعند ابن إسحاق: "قال: "فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده، ثم قال: "اللهم لا تغفر لمحلم بن جثامة ثلاثا". قال: "فقام وهو يتلقى دمعه بفضل ردائه قال: "فأما نحن فنقول فيما بيننا: "إنا لنرجوا أن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم قد استغفر له، وأمّا ما ظهر من رسول الله صلى الله عليه وسلم فهذا".
وعند أحمد: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اللهم لا تغفر لمحلم لا تغفر لمحلم ثلاث مرات فقام من بين يديه، وهو يتلقى دمعه بفضل ردائه، فأما نحن بيننا: "فنقول قد استغفر له، ولكنه أظهر ما أظهر ليدع الناس بعضهم من بعض".
والقائل: "أما نحن الخ هو زياد بن ضميرة الضمري عن أبيه عن جده، كما هو عند البلاذري".
(3) أبو سلمة: "هو حماد بن سلمة".
(4) النضر بن شميل المازري النحوي "ثقة ثبت". (التقريب 2/301).
(5) سنن أبي داود 2/479-480 كتاب الديات، باب الإمام يأمر بالعفو في الدم".(14/14)
والحديث رواه أحمد من طريق ابن إسحاق "حدثني محمد بن جعفر قال: "سمعت زياد بن ضميرة بن سعد السلمي يحدث عروة بن الزبير عن أبيه ضمرة وعن جده"(1)".
وروى بعضه ابن ماجه من طريق ابن إسحاق حدثني محمد بن جعفر به إلا أنه قال: "عن زيد(2) بن ضمرة حدثني أبي وعمي(3)".
قال ابن كثير: "والصواب كما رواه ابن إسحاق عن محمد بن جعفر عن زياد بن سعد بن ضمرة عن أبيه وعن جده".
وهكذا رواه ابو داود من طريق ابن وهب عن عبد الرحمن بن أبي الزناد عن عبد الرحمن بن الحارث عن محمد بن جعفر عن زياد بن سعد ابن ضميرة عن أبيه وجده بنحوه(4)".إهـ.
والحديث في سيرة ابن هشام عن ابن إسحاق حدثني محمد بن جعفر بن الزبير قال: "سمعت زياد بن ضميرة بن سعد السلمي يحدث عن عروة بن الزبير عن أبيه وجده(5)".
وكذا رواه عن ابن إسحاق البلاذري(6)".
وكذا رواه الطبراني من طريق ابن الزناد حدثني عبد الرحمن بن الحارث عن محمد بن جعفر بن الزبير أنه سمع زياد بن سعد بن ضميرة السلمي يحدث عن عروة بن الزبير عن أبيه(7)".
وقد أشار ابن حجر إلى هذا في ترجمة زياد كما تقدم(8)".
وأورده الزرقاني عن ابن إسحاق فقال عن عروة عن أبيه عن جده(9)".
وقد صوب ابن كثير رواية ابن إسحاق عن محمد بن جعفر عن زياد بن سعد بن ضميرة أنه حدث عروة بن الزبير عن أبيه وعن جده وهي رواية أحمد وأبي داود".
والحديث فيه "زياد بن سعد بن ضميرة" وصفه ابن حجر في التقريب بقوله "مقبول".
__________
(1) المسند 5/112و6/10".
(2) تقدم في حديث رقم (267): "أن المزي رجح "زياد بن سعد بن ضميرة".
(3) سنن ابن ماجه 2/876 كتاب الديات، باب من قتل عمدا فرضوا بالدية".
(4) البداية والنهاية 4/225".
(5) سيرة ابن هشام 2/627 والروض الأنف 7/488-489".
(6) أنساب الأشراف ص 385".
(7) المعجم الكبير 6/51-52 ووقع عنده: "عن ابن أبي زياد) والصواب: "ابن أبي الزناد".
(8) في حديث (267) ص 604-605".
(9) شرح المواهب اللدنية 2/286 و287).(14/15)
وقال الذهبي: "فيه جهالة".
وقد قال ابن حجر عن هذا الحديث: "بأنه بإسناد حسن"(1)".
ولعل ذلك لما له من الشواهد الآتية:
268- ما رواه ابن إسحاق ومن طريقه رواه أحمد وابن شبة والطبري والبلاذري والسياق لابن إسحاق قال: "حدثني يزيد(2) بن عبد الله ابن قسيط عن القعقاع(3) بن عبد الله بن أبي حدرد عن أبيه عبد الله ابن أبي حدرد، قال: "بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى إضم في نفر من المسلمين، فيهم أبو قتادة(4) الحارث بن ربعي ومحلم بن جثامة بن قيس، فخرجنا(5)
__________
(1) الإصابة 2/29".
(2) يزيد بن عبد الله بن قسيط - بقاف ومهملتين مصغرا - ابن أسامة الليثي، أبو عبد الله المدني الأعرج، ثقة من الرابعة (ت 122). /ع". (التقريب 2/267 وتهذيب التهذيب 11/342).
(3) اختلف في صحبته وقد ذكره ابن حجر في القسم الرابع من الإصابة ومال إلى أنه لا صحبة له، وإنما الصحبة لأبيه". (الإصابة 3/280).
ووقع عند البلاذري: "عن يزيد بن عبد الله بن قسيط عن أبي القعاقاع بن عبد الملك ابن أبي حدرد"، وعند الطبري: "عن أبي القعاقاع بن عبد اللله بن أبي حدرد"، والذي في سيرة ابن هشام والروض الأنف ومسند أحمد والاستيعاب وأسد الغابة والإصابة: "القعقاع بن عبد الله بن أبي حدرد". انظر تعجيل المنفعة لابن حجر ص 227 وهو الأصح وأنه يروي عن أبيه مباشرة".
(4) أبو قتادة الأنصاري".
(5) عند أحمد والطبري: "فخرجت في نفر من المسلمين فيهم أبو قتادة الحارث بن ربعي ومحلم بن جثامة بن قيس الليثي فخرجنا الخ".
وعند ابن سعد أن هذه السرية كانت في أول شهر رمضان سنة ثمان من مهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قالوا لما هم رسول الله صلى الله عليه وسلم بغزو أهل مكة بعث أبا قتادة بن ربعي في ثمانية نفر سرية بطن إضم وهي فيما بين ذي خشب وذي المروة، وبينها وبين المدينة ثلاثة برد". (الطبقات ابن سعد 2/133).(14/16)
حتى كنا ببطن إضم(1)، مر بنا عامر(2) بن الأضبط الأشجعي علىقعود(3) له، ومعه متيع(4) له، ووطب من لبن(5)، قال: "فلما مر بنا سلم علينا بتحية الإسلام، فأمسكنا عنه، وحمل عليه محلم بن جثامة، فقتله لشيء كان بينه وبينه، وأخذ بعيره، وأخذ متيعه".
__________
(1) وقال ابن سعد بأنه "بين ذي الخشب وذي المروة" وذو خشب: "بضم المعجمتين وبموحدة واد على ليلة من المدينة، له ذكر كثير في الحديث والمغازي".
وذي المروة بلفظ أخت الصفا من أعمال المدينة، على ثمانية برد منها وكانت تقع في مجتمع وادي إضم بوادي الجزل من الغرب، ووادي العيص من القبلة، وقد درست قبل القرن العشر وقامت على أنقاضها أم زرب، قرية تابعة للعلا، (التعليق على كتاب المناسك للحربي ص 413، و656).
(2) قال الزرقاني: "عامر بن الأضبط - بفتح الهمزة وسكون الضاد المعجمة وفتح الموحدة ثم طاء مهملة- الأشجعي المعدودة في الصحابة والذي ينبغي كما قال البرهان: "- عده في التابعين لأنه أسلم ولم يلق النبي مسلما وقد ذكره صاحب الإصابة في القسم الأول تسليما لمن قبله ثم أورده في القسم الثالث وهو فيمن أدرك الجاهلية والإسلام ولم يثبت أنهم اجتمعوا بالنبي صلى الله عليه وسلم ولا رأوه سواء أسلموا في حياته أم لا".
(شرح المواهب 2/285 وانظر: "الإصابة 1/5-6 و2/247-248 و3/85 و369، وأسد الغابة 3/117).
(3) قعود له: "قال ابن الأثير: "القعود من الدواب: "ما يقتعده الرجل للركوب والحمل، ولا يكون إلا ذكرا". وقيل القعود: "ذكر والأنثى قعودة، والقعود من الأبل: "ما أمكن أن يركب، وأداناه أن يكون له سنتان، ثم هو قعود إلى أن يثني فيدخل في السنة السادسة ثم هو جمل". (النهاية 4/87).
(4) متيع: "تصغير متاع".
(5) وطب من لبن: "الوطب بسكون الطاء المهملة الزق الذي يكون فيه السمن واللبن وهو جلد الجذع فما فوقه، وجمعه أوطاب ووطاب". (المصدر السابق 5/203).(14/17)
قال: "فلما قدمنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبرناه الخبر، نزل فينا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً تَبْتَغُونَ(1) عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا}(2)
__________
(1) قوله: {تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا}، [سورة النساء، من الآية: 94]. قال الزرقاني: "ولا ينافي قوله: "فقتله لشيء كان بينه وبينه" قوله تعالى: {تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا}، [سورة النساء، من الآية: 94]؛ لأن الحقد من عرضها المبتغى مع أنه أخذ متاعه وبعيره أيضا". (شرح المواهب 2/286).
(2) وتمامها: {فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً}.وقد ساقها أحمد في روايته عن ابن إسحاق كاملة".
وساق ابن سعد منها إلى قوله: {مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ} ثم قال: "فمضوا ولم يلحقوا جمعا فانصرفوا حتى انتهوا إلى ذي خشب فبلغهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد توجه إلى مكة فلحقوه بالسقيا". (الطبقات الكبرى 2/133).
قال الزرقاني: "وما ذكر من أنهم لحقوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بألفي سقيا فأخبروه الخبر وأنه قال لمحلم: "أقتلته بعدما قال آمنت الخ، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا على محلم بعدم المغفرة وأنه مات بعد سابعة من لقي المصطفى صلى الله عليه وسلم بالسقيا، فإن بين هذا القول، وبين ما ذكره ابن إسحاق من أن الخصومة في شأن محلم والدعا عليه وموته كان في حنين بون بعيد، ثم قال الزرقاني: "لكن يحتمل الجمع بأنه اجتمع به السقيا حين عادوا من السرية ثم ساروا معه في الفتح حتى غزا حنينا ثم اختصم عنده عيينة والأقرع، فلما قبلوا الدية جاءوا بمحلم ليستغفر له فقال: "اللهم لا تغفر له" الخ فمات بعد سبع، فحفظ بعض الرواة مالم يحفظ الآخر ويؤيد ذلك أنه لم يقع في حديث ابن حدرد ولا ابن عمر تعيين المحل الذي أتوا به فيه، ووقع ذلك في حديث عروة بن الزبير عن أبويه بأنه في حنين فوجب قبوله لأنه زيادة ثقة". (شرح المواهب 2/286-287).(14/18)
إلى آخر الآية[سورة النساء الآية: 94].
قال ابن هشام: "قرأ أبو عمرو(1) بن العلاء: {وَلاَ تَقُولُوا لِمَن أُلْقِيَ إِلَيْكُمُ السَّلاَمَ لَسْتَ مُؤْمِناً}(2) لهذاالحديث(3)".
والحديث رواه أحمد والبلاذري كلاهما من طريق إبراهيم بن سعد عن ابن إسحاق به(4)".
إلا أن البلاذري قال: "عن أبي القعقاع بن عبد الملك بن أبي حدرد عن أبيه".
ورواه ابن شبة من طريق حماد بن سلمة عن ابن إسحاق به(5)".
__________
(1) أبو عمرو العلاء بن عمار بن العريان التميمي المازني النحوي البصري أحد الأئمة القراء السبعة وأحد علماء العربية، ثقة من الخامسة (ت 154). / خت قد فق". (التقريب 2/454، وتهذيب التهذيب 12/178-180).
(2) معنى الآية {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمِنُوا إِذَا ضَرَبْتُم فِي سَبِيلِ الله} سافرتم في الجهاد في سبيل الله {فَتَثَبَّتُوا} من التبين وهو التأمل، وفي قراءة {فَتَثَبَّتُوا} بالمثلثة من التثبت، {وَلاَ تَقُولُوا لِمَن أُلْقِيَ إِلَيْكُمُ السَّلاَمَ لَسْتَ مُؤْمِناً} بألف ودونها "السلم" أي التحية أو الانقياد يقول كلمة الشهادة التي هي إمارة على الإسلام {لَسْتَ مُؤْمِناً} وإنما قلت تقية وتعوذا من القتل، { تَبْتَغُونَ } تطلبون بذلك { عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا } متاعها من الغنيمة، { فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ } تغنيكم عن قتل مثله لما له، { كذلك كنتم من قبل} تعصم دماؤكم وأموالكم بمجرد قولكم الشهادة { مَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُم } بالاشتهار بالإيمان والاستقامة { فَتَبَيَّنُوا } أن تقتلوا مؤمنا وافعلوا بالداخل في الإسلام كما فعل بكم { إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً } فيجازيكم به". (تفسير الجلالين ص 77 وفتح القدير للشوكاني 1/501).
(3) سيرة ابن هشام 2/626-627، والروض الأنف 7/487-488".
(4) مسند أحمد 6/11 وأنساب الأشراف للبلاذري 384-385".
(5) تاريخ المدينة 2/445-446".(14/19)
ورواه الطبري في تفسيره وتاريخه من طريق سلمة بن الفضل الأبرش عن ابن إسحاق به".
إلا أنه قال في التاريخ: "عن أبي القعقاع بن عبد الله بن أبي حدرد الأسلمي".
وقال بعضهم: "عن ابن القعاع عن أبيه، عن عبد الله بن أبي حدرد(1)".
والحديث أورده الهيثمي ثم قال: "رواه أحمد والطبراني ورجاله ثقات(2)".
__________
(1) جامع البيان 5/222-223 وتاريخ الرسل والملوك 3/35-36".
وقد تقدم في الحديث (268) أن الصواب في هذا أنه القعقاع بن عبد الله بن أبي حدرد،وأنه يروي عن أبيه عبد الله بن أبي حدرد بدون واسطة".(انظر:ص 610).
(2) مجمع الزوائد 7/8 وانظر المعجم الكبير للطبراني 6/52".(14/20)
269- ما رواه الطبري حدثنا ابن وكيع(1) قال: "ثنا جرير(2) عن محمد بن إسحاق عن نافع(3) أن ابن عمر(4) قال: "بعث النبي صلى الله عليه وسلم محلم بن جثامة مبعثا، فلقيهم عامر بن الأضبط، فحياهم بتحية الإسلام، وكانت بينهم إحنة(5) في الجاهلية، فرماه محلم بسهم فقتله، فجاء الخبر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فتكلم فيه عيينة والأقرع، فقال الأقرع: "يا رسول الله سن اليوم و غير غدا، فقال عيينة: "لا والله حتى تذوق نساؤه من الثكل(6) ما ذاق نسائي، فجاء محلم في بردين، فجلس بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ليستغفر له، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "لا غفر الله لك" فقام وهو يتلقى دموعه برديه، فما مضت سابعة حتى مات ودفنوه فلفظته(7) الأرض فجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فذكروا ذلك له، فقال: "إن الأرض تقبل من هو شر من صاحبكم ولكن الله عز وجل أراد
__________
(1) هو سفيان بن وكيع بن الجرح أبو محمد الرؤاسي الكوفي، كان صدوقا، إلا أنه ابتلي بِوَرّاقه، فأدخل عليه ما ليس من حديثه، فنصح ولم يقبل فسقط حديثه، من العاشرة (ت247). /ت ق". (التقريب 1/312 وتهذيب التهذيب 4/123).
(2) جرير: "هو ابن عبد الحميد بن قرط "ثقة" تقدم في حديث (26).
(3) نافع، أبو عبد الله المدني،مولى ابن عمر، ثقة ثبت فقيه، مشهور من الثالثة (ت117). أو بعد ذلك". /ع". (التقريب 2/296 وتهذيب التهذيب 10/412).
(4) هو عبد الله بن عمر بن الخطاب العدوي، أبو عبد الرحمن ولد بعد المبعث بيسير واستصغر يوم أحد، وهو ابن أربع عشرة سنة، وهو أحد المكثرين من الصحابة وأحد العبادلة، وكان من أشد الناس اتباعا للأثر (ت73) في آخرها أو أوّل التي تليها". /ع". (التقريب 1/435 وتهذيب التهذيب 5/326).
(5) إحنة: "بكسر الهمزة: "الحقد وجمعها إحن وإحنات". (النهاية 1/27).
(6) الثكل: "قال في النهاية (1)/217: "الثكل: "فقد الولد".
(7) فلفظته الأرض: "أي ألقته ورمته على وجهها". (النهاية 4/260).(14/21)
أن يعظكم".
ثم طرحوه بين صدفي(1) جبل، وألقوا عليه من الحجارة، ونزلت {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا}،[سورة النساء، من الآية: "94]. الآية(2)".
والحديث فيه سفيان بن وكيع وقد قال عنه ابن حجر بأنه "نصح فلم يقبل فسقط حديثه".
وفيه ابن إسحاق وهو مدلس وقد عنعن.
__________
(1) صدفي الجبل: "قال ابن الأثير: "الصدف بفتحتين وضمتين: "كل بناء عظيم مرتفع، تشبيها بصدف الجبل وهو ما قابلك من جانبه (النهاية 3/17).
(2) جامع البيان 5/222 والحديث أورده ابن كثير في تفسيره 1/539 عن ابن جرير فقال عن (أبي إسحاق) والصواب عن ابن إسحاق وقال في الحديث: "سر اليوم وغر غدا" والحديث عند ابن جرير الطبري وغيره "سن اليوم وغير غدا".
وروى أيضا في البداية والنهاية4/225 عن ابن جرير الطبري أيضاً فقال: "ابن جرير حدثنا "وكيع" وهو خطأ والصواب ابن وكيع كما هو عند الطبري وأيضا فإن الطبري لم يدرك وكيعا فإن وفاة وكيع سنة (197) وكانت ولادة الطبري سنة (224).
(انظر تذكرة الحفاظ للذهبي 1/309 و2/711).(14/22)
270- ما رواه الطبراني حدثنا أبو يزيد(1) القراطيسي ثنا سعيد(2) ابن أبي مريم ثنا ابن أبي الزناد حدثني عبد الرحمن بن الحارث عن الحسن(3) بن أبي الحسن قال: "لما مات(4) دفنه قومه فلفظته الأرض ثلاث مرات فألقوه بين ضواحي(5) جبل وربوا عليه بالحجارة فأكلته السباع".
قال ابن أبي الزناد: "بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أخبر أن الأرض لفظته قال: "أما إنّ الأرض تقبل من هو شر منه ولكن الله أراد أن يريكم عظم الدم عنده"(6).
ورواه الواقدي فقال: "حدثني عبد الرحمن بن أبي الزناد عن عبد الرحمن بن الحارث عن الحسن البصري قال: "لما مات محلم بن جثامة دفنه قومه فلفظته الأرض ثم دفنوه فلفظته الأرض فطرحوه بين صخرتين فأكلته السباع(7)".
وأورده الهيثمي ثم قال: "رواه الطبراني وإسناده منقطع(8)".
والحديث رواه ابن إسحاق فقال: "حدثني من لا أتهم عن الحسن البصري قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين جلس بين يديه: "أمنته بالله ثم قتلته!
__________
(1) هو يوسف بن يزيد بن كامل القراطيسي، أبو يزيد، مولى بني أمية، ثقة من الحادية عشرة (ت287) ويقال إنه عاش مائة سنة". /س". (التقريب 2/383 وتهذيب التهذيب 11/429).
(2) سعيد بن الحكم بن محمد بن سالم بن أبي مريم الجمحي بالولاء، أو محمد المصري، ثقة ثبت فقيه، من كبار العاشرة، (ت224). / ع". (التقريب 1/293 وتهذيب التهذيب 4/17-18).
(3) هو البصري".
(4) أي محلم بن جثامة".
(5) لعله بالصاد المهملة، وصواحي الجبل جانبه وما يقبل من وجهه القائم". (النهاية 1/58 والقاموس المحيط 1/235).
(6) المعجم الكبير 6/52".
(7) مغازي الواقدي 3/921".
(8) مجمع الزوائد 7/294".(14/23)
ثم قال له المقالة التي قال، قال: "والله مامكث محلم بن جثامة إلا سبعا حتى مات فلفظته الأرض –والذي نفس الحسن بيده- الأرض، ثم عادوا له، فلفظته الأرض ثم عادوا فلفظته، فلما غلب قومه عمدوا إلى صدين(1) فسطحوه(2) بينهما، ثم رضموا(3) عليه الحجارة حتى واروه".
قال: "فبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم شأنه، فقال: "والله إن الأرض لتطابق(4) على من هو شر منه، ولكن الله أراد أن يعظكم في حرم(5) مابينكم بما أراكم منه"(6).
والحديث مرسل، والمرسل من قسم الحديث الضعيف عند جماهير المحدثين وكثير من الفقهاء وأصحاب الأصول(7)".
والأحاديث بمجموعها تدل على أن هذه القصة حصلت لمحلم بن جثامة الليثي في قتله عامر بن الأضبط الأشجعي بعد أن ظهر منه ما يدل على أنه مسلم وأنه نزل في ذلك قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا}،[سورة النساء، من الآية: 94]. الآية".
وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا على محلم فمات فدفن فألقته الأرض على ظهرها، فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك فقال: "إن الأرض لتقبل من هو شر منه ولكن الله أراد أن يعظكم في حرم ما بينكم بما أراكم منه".
__________
(1) صدين: "الصد: "بضم الصاد وفتحها: "الجبل وناحية الوادي".
(2) فسطحوه: "أضجعوه بينهما".
(3) رضموا عليه: "الرضم ويحرك وكتاب صخور عظام يرضم بعضها فوق بعض في البناء، والمعنى ألقوا عليه عليه من الحجارة حتى ستروه وغطوه". (القاموس المحيط 1/228، 306 و4/120).
(4) لتطابق: "بتشديد الطاء: "أي تضم وتغطي". (المصدر السابق 3/256).
(5) حرم: "أي يريد الله أن يعلمكم حرمة ما بينكم وأن المسلم لا يجوز انتهاك حرمته لأنه معتصم بالإسلام ممتنع بحرمته ممن أراده أو أراد ماله". (النهاية 1/372 والقاموس المحيط 4/95).
(6) سيرة ابن هشام 2/628 والروض الأنف 7/490، وأنساب الأشراف للبلاذري ص 386".
(7) انظر تدريب الراوي ص 189".(14/24)
وقد أورد ابن عبد البر هذه الأحاديث في ترجمة محلم بن جثامة، ثم قال: "وقد قيل إن هذا ليس محلم بن جثامة، فإن محلم بن جثامة نزل حمص بآخره ومات بها في إمارة ابن الزبير(1)".
والاختلاف في المراد بهذه الآية كثير مضطرب فيه جدا.
قيل نزلت في المقداد، وقيل نزلت في أسامة بن زيد، وقيل نزلت في محلم بن جثامة.
وقال ابن عباس نزلت في سرية ولم يسم أحدا، وقيل نزلت في غالب الليثي وقيل نزلت في رجل من بني ليث يقال له فليت كان على سرية وقيل نزلت في أبي الدرداء، وهذا اضطراب شديد جداً، ومعلوم أن قتله كان خطأ لا عمدا لأن قاتله لم يصدقه في قوله". والله أعلم(2).
وذكر ابن حجر بعضا ممن قيل إن الآية نزلت بسببه، ومنهم محلم بن جثامة ثم قال: "ولا مانع أن تنزل الآية في الأمرين معا(3)".
وقال الزرقاني: "يحتمل تعدد القصة وتكرير نزول الآية (4)".
وقال القرطبي: "واختلف في تعين القاتل والمقتول في هذه النازلة فالذي عليه الأكثر وهو في سير ابن إسحاق ومصنف أبي داود والاستيعاب لابن عبد البر أن القاتل محلم بن جثامة، والمقتول عامر بن الأضبط". فدعا عليه السلام على محلم فما عاش بعد ذلك إلا سبعا ثم دفن فلم تقلبه الأرض ثم دفن فلم تقبله ثم دفن ثالثة فلم تقبله، فلما رأوا أن الأرض لا تقبله ألقوه في بعض تلك الشعاب".
وقال عليه السلام: "إن الأرض لتقبل من هو شر منه".
__________
(1) وقال البلاذري من جعل هذه القصة لمحلم بن جثامة وأنه هو الذي مات في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولفظته الأرض، قال: "إن الذي مات بحمص: "هو الصعب بن جثامة، أخو محلم".
(2) الاستيعاب 3/486-498 مع الإصابة، وانظر هذه الأقوال في سبب نزول الآية: "جامع البيان للطبري 5/222-226 وتفسير ابن كثير 1/538-540 والدر المنثور للسيوطي 2/199-201". وفتح القدير للشوكاني 3/502".
(3) فتح الباري 8/258-259".
(4) شرح المواهب 2/286".(14/25)
وقال الحسن: "أم إنها تحبس من هو شر منه ولكنه وعظ القوم ألا يعودوا".
ثم ذكر بيقة الأقوال فيمن قيل إن الآية نزلت بسببه أيضا ثم قال: "ولا خلاف أن الذي لفظته الأرض حين مات هو محلم الذي ذكرناه، ولعل هذه الأحوال جرت في زمان متقارب فنزلت الآية في الجميع(1)".إهـ".
وقال أحمد مصطفى المراغي: "ولا مانع من تعدد الوقائع قبل نزول الآية وأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرؤها على أصحاب كل واقعة فيرون أنهم سبب نزولها(2)".
وقد ذكر أصحاب المغازي والسير أن القاتل في سرية إضم هو محلم بن جثامة وأن المقتول هو عامر بن الأضبط وأنه نزل بسبب ذلك قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا}، الآية".
وأن عيينة بن حصن والأقرع بن حابس اختصما في شأنهما أمام رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة حنين (3)". ويستفاد من هذه القصة عظم شأن دماء المسلمين وأن الأصل فيمن أظهر الإسلام أنه مسلم يحرم دمه وماله، وأن قاتله بعد إظهاره إسلامه ارتكب كبيرة عظيمة".
ويؤخذ من الأحاديث درء الحدود بالشبهات حيث حكم الرسول الله صلى الله عليه وسلم بالدية ولم يقتل القاتل".
__________
(1) الجامع لأحكام القرآن 5/336-338".
(2) تفسير المراغي 5/126".
(3) سيرة ابن هشام 2/626-629 والروض الأنف 7/487-491، ومغازي الواقدي 2/796-797و3/919-921،والطبقات الكبرى لابن سعد2/123 و4/282، وتاريخ خليفة ص 85، وتاريخ الرسل والملوك للطبري 3/35-36، والكامل لابن الأثير2/158، وأسد الغابة له2/355 و3/59-60 و5/76-77 و186 و259، والشفا للقاضي عياض 1/329، وزاد المعاد 3/366-367، والبداية والنهاية 4/224-226، وتاريخ الخميس للديار بكري 2/76، والمواهب اللدنية للقسطلاني 1/147-148، وشرح المواهب للزرقاني 2/285-287، والسير الحلبية لبرهان الدين الحلبي 3/206-208".(14/26)
وفي لفظ الأرض له بعد دفنه الزجر والتهديد والعظة ما يجعل دماء المسلمين من أعظم المحرمات التي لا يجوز التساهل فيها كما قال صلى الله عليه وسلم "ولكن الله أراد أن يعظكم ويريكم عظم الدم عنده".(14/27)
الحكم الثاني عشر: في بيان نذر الكافر وما يفعل فيه إذا أسلم
جاء في هذا الحكم عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أنه نذر في الجاهلية أن يعتكف في المسجد الحرام".
ولما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوة الطائف ونزل الجعرانة وقسم بها غنائم هوزان، سأل عمر بن الخطاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نذره في الجاهلية، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أوف بنذرك".
وقد ورد هذا الحديث من مسند عمر بن الخطاب، ومن مسند ابنه عبد الله بن عمر أيضا".
أما وروده من مسند عمر بن الخطاب فأخرجه:
271 أ- البخاري من رواية إسماعيل(1) بن عبد الله عن أخيه(2) عن سليمان(3) عن عبيد الله بن عمر عن نافع عن عبد الله بن عمر عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه ـ، أنه قال: "يا رسول الله إني نذرت في الجاهلية(4)
__________
(1) هو ابن أويس أبو عبد الله بن أبي أويس الأصبحي".
(2) هو عبد الحميد بن عبد الله أبو بكر بن أبي أويس".
(3) هو ابن بلال التيمي".
(4) قوله: "إني نذرت في الجاهلية":
قال ابن حجر: "زاد حفص بن غياث عن عبيد الله عند مسلم "فلما أسلمت سألت" وفيه رد على من زعم أن المراد بالجاهلية ما قبل فتح مكة، وأنه إنما نذر في الإسلام، وأصرح من ذلك ما أخرجه الدارقطني من طريق سعيد بن بشير عن عبيد الله بلفظ "نذر عمر أن يعتكف في الشرك" فأوضح ابن حجر: "أن المراد بالجاهلية في الحديث قبل إسلام عمر لأن جاهلية كل أحد بحسبه، وليس ما قبل فتح مكة، ولا زمن فترة النبوة، وهو ما قبل بعثة نبينا صلى الله عليه وسلم، لأن ذلك يتوقف على نقل، وقد تقدم أن عمر نذر قبل أن يسلم، وبين البعثة وإسلامه مدة". (انظر فتح الباري 4/274 و11/582، وشرح معاني الآثار للطحاوي 3/133 وسنن الدارقطني 2/201).(15/1)
أن أعتكف ليلة في المسجد الحرام فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "أوف بنذرك" فاعتكف(1) ليلة(2)".
ب - ورواه أحمد وأبو داود والترمذي الجميع من طريق يحيى بن سعيد القطان عن عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر عن عمر قال: "يا رسول الله إني كنت نذرت أن أعتكف ليلة في المسجد الحرام في الجاهلية، قال: "أوف بنذرك"(3) لفظ الترمذي".
وقال الترمذي: "حسن صحيح".
__________
(1) عند الدارقطي 2/199 من طريق محمد بن فليح بن سليمان عن عبيد الله بن عمر فاعتكف عمر ليلة" وقال: "إسناد ثابت".
(2) صحيح البخاري 3/44-45 كتاب الاعتكاف، باب من لم ير عليه إذا اعتكف صوما".
قال ابن حجر:في الحديث رد على من قال: "أقل الاعتكاف عشرة أيام أو أكثر من يوم، وقد تقدم نقله في أول الاعتكاف،وتظهر فائدة الخلاف فيمن نذر اعتكافا مبهما".
وقال في أول الاعتكاف: "واتفقوا على أنه لا حد لأكثره واختلفوا في أقله فمن شرط فيه الصيام قال أقله يوم، ومنهم من قال يصح مع شرط الصيام في دون اليوم حكاه ابن قدامة".
وعن مالك يشترط عشرة أيام، وعنه يوم أو يومان".
ومن لم يشترط الصوم، قالوا أقله ما يطلق عليه اسم لبث ولا يشترط القعود، وقيل يكفي المرور مع النية كوقوف عرفة.
وروى عبد الرزاق عن يعلى بن أمية الصحابي قال: "إني لأمكث في المسجد الساعة وما أمكث إلا لأعتكف". (فتح الباري 4/272 و275، ومصنف عبد الرزاق 4/346).
(3) مسند أحمد 1/37و2/20 وسنن أبي داود 2/217 كتاب الأيمان والنذور، باب من نذر في الجاهلية ثم أدرك الإسلام، ورواه عن أحمد بن حنبل ثنا يحيى بن سعيد القطان".(15/2)
ج- ورواه النسائي وابن ماجه كلاهما عن إسحاق(1) بن موسى الخطمي ثنا سفيان بن عيينة عن أيوب(2) عن نافع عن ابن عمر عن عمر أنه كان عليه نذر ليلة في الجاهلية يعتكفها فسأل النبي صلى الله عليه وسلم "فأمره أن يعتكف" لفظ ابن ماجه(3)".
د- ورواه ابن ماجه والدارمي والطحاوي كلهم من طريق حفص(4) بن غياث عن عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر عن عمر ابن الخطاب قال: "نذرت نذراً في الجاهلية، فسألت النبي صلى الله عليه وسلم بعدما أسلمت، فأمرني أن أُوفي بنذري"(5) لفظ ابن ماجه".
ولفظ الدارمي "عن عمر قال قلت: "يا رسول الله إني نذرت نذرا في الجاهلية، ثم جاء الإسلام، قال: "أوف بنذك".
ولفظ الطحاوي: "عن عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر أراه(6) عن عمر - رضي الله عنه -، قال: "قلت يا رسول الله إني نذرت في الجاهلية نذرا، وقد جاء الله بالإسلام، فقال: "ف بنذرك".
وأما ورود الحديث من مسند عبد الله بن عمر فأخرجه البخاري: "حدثنا مسدد(7)
__________
(1) هو أبو موسى المدني قاضي نيسابور "ثقة متقن" من العاشرة، (ت244). /م ت س ق". (التقريب 1/61، وتهذيب التهذيب 1/251).
(2) أيوب: "هو السختياني".
(3) سنن النسائي 7/20 كتاب الأيمان والنذور، باب إذا نذر ثمّ أسلم قبل أن يفي.
وسنن ابن ماجه 1/563 كتاب الصيام، باب في اعتكاف يوم أو ليلة.
(4) حفص بن غياث بن طلق.
(5) سنن ابن ماجه 1/687 كتاب الكفارات، باب الوفاء بالنذر". وسنن الدارمي 2/104 كتاب النذور والأيمان، باب الوفاء بالنذر". وشرح معاني الآثار للطحاوي 3/133". وانظر ذخائر المواريث 3/60 حديث (5853) وتحفة الأشراف للمزي 8/65-67 حديث (10550).
(6) أراه بضم الهمزة: "أي أظنه".
(7) قوله: "حدثنا مسدد حدثنا يحيى بن سعيد":
قال ابن حجر: "وهو القطان، كذا رواه مسدد من مسند ابن عمر، ووافقه المقدمي وغيره عند مسلم وغيره، وخالفهم يعقوب بن إبراهيم عن يحيى فقال "عن ابن عمر عن عمر" أخرجه النسائي، وكذا أخرجه أبو داود عن أحمد لكنه في المسند كما قال مسدد، (يعني من مسند ابن عمر) فاختلف فيه على عبيد الله بن عمر عن نافع وعلى أيوب عن نافع". (فتح الباري 4/274).
ورواية يعقوب بن إبراهيم أخرجها النسائي في السنن الكبرى كما في تحفة الأشراف 8/65 حديث (10550) والحديث عند أحمد "من مسند عمر" وليس كما قال الحافظ ابن حجر بأنه عند أحمد كما قال مسدد، يعني أنه من مسند ابن عمر، انظر ص (619)، والحديث رواه ابن خزيمة في صحيحه 3/351 عن محمد بن بشار حدثنا يحيى مثل رواية مسدد، يعني فجعله من مسند ابن عمر.(15/3)
حدثنا يحيى بن سعيد عن عبيد الله أخبرني نافع عن ابن عمر - رضي الله عنهما -: "أن عمر سأل النبي صلى الله عليه وسلم قال: "كنت نذرت في الجاهلية أن أعتكف ليلة في المسجد الحرام، قال: "أوف بنذرك".
ورواه عن محمد بن مقاتل أبي الحسن، أخبرنا عبد الله(1) أخبرنا عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر أَنَّ عمر، قال:يا رسول الله إني نذرت في الجاهلية أن أعتكف ليلة في المسجد الحرام، قال:"أوف بنذرك".
ثُمَّ قال البخاري - أيضاً -: "حدّثنا أبو النعمان(2) حدثنا حماد بن زيد عن أيوب عن نافع أن عمر قال(3):يا رسول الله(4)".
ح- وحدثني محمد بن مقاتل أخبرنا عبد الله أخبرنا معمر، عن أيوب عن نافع عن ابن عمر - رضي الله عنه - قال: "لما قفلنا من حنين سأل عمر النبي صلى الله عليه وسلم عن نذر كان نذره في الجاهلية اعتكاف، فأمره بوفائه".
وقال بعضهم:حماد(5) عن أيوب عن نافع عن ابن عمر عن النبيصلى الله عليه وسلم".
__________
(1) هو ابن المبارك".
(2) أبو النعمان: "هو محمد بن الفضل السدوسي، المعروف "بعارم".
(3) قوله: "عن نافع أن عمر قال: "يا رسول الله"، قال ابن حجر: "هكذا ذكره البخاري مرسلا مختصرا، ثم عقبه برواية معمر عن أيوب عن نافع عن ابن عمر موصولا تاما".
وإنما أورد طريق حماد بن زيد المرسلة للإشارة إلى أن روايته مرجوحة لأن جماعة من أصحاب شيخه أيوب خالفوه فوصلوه بل بعض أصحاب حماد بن زيد رواه عنه موصولا كما أشار إليه البخاري".أيضا هنا-يعني قوله-وقال بعضهم:حماد عن أيوب عن نافع الخ".(فتح الباري8/35-36).وقد تقدم مزيد لهذا في حديث (212).
(4) تقدم حديث برقم (212).
(5) حماد: "قال ابن حجر: "هو حماد بن زيد ,فإنه ذكر عقبه رواية حماد بن سلمة وهي مخالفة لسياقه". (فتح الباري 8/35).(15/4)
ورواه أيضا عن عبيد بن إسماعيل حدثنا أبو أسامة(1) عن عبيد الله عن نافع عن ابن عمر أن عمر - رضي الله عنه - نذر في الجاهلية أن يعتكف في المسجد الحرام - قال: "أراه(2) قال ليلة - فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أوف بنذرك"(3).
ورواه مسلم عن محمد بن أبي بكر المقدمي ومحمد بن المثنى وزهير ابن حرب واللفظ لزهير" حدثنا يحيى "وهو ابن سعيد القطان" عن عبيد الله قال: أخبرني نافع عن ابن عمر أن عمر قال: " يا رسول الله صلى الله عليه وسلم إني نذرت في الجاهلية أن أعتكف ليلة في المسجد الحرام قال: "فأوف بنذرك".
ورواه من طريق أبي أسامة.
ومن طريق عبد الوهاب الثقفي.
ومن طريق حفص بن غياث.
ومن طريق شعبة كلهم عن عبيد الله عن نافع عن ابن عمر.
وقال حفص من بينهم عن عمر بهذا الحديث.
أما أبو أسامة والثقفي ففي حديثهما اعتكاف ليلة.
وأما في حديث شعبة فقال: "جعل عليه يوما يعتكفه". وليس في حديث حفص ذكر يوم ولا ليلة.
__________
(1) هو حماد بن أسامة أبو أسامة الكوفي".
(2) قوله: "قال أراه" بضم أوله أي أظنه, والقائل ذلك هو عبيد شيخ البخاري أو البخاري نفسه,فقد رواه الإسماعيلي وغيره من طريق أخرى عن أبي أسامة بغير شك". (فتح الباري 4/284).
(3) صحيح البخاري 3/42-43كتاب الاعتكاف, باب الاعتكاف ليلا. و3/44 باب من لم ير عليه صوما إذا اعتكف, و45باب إذا نذر في الجاهلية أن يعتكف ثم أسلم, و4/74 كتاب فرض الخمس ,باب ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يعطي المؤلفة قلوبهم وغيرهم من الخمس ونحوه, و8/120 كتاب الإيمان والنذور, باب إذا نذر أو حلف أن لا يكلم إنسانا في الجاهلية ثم أسلم". وتقدم الحديث برقم (212) وأخرجه البغوي من طريق البخاري عن مسدد عن يحيى القطان". (شرح السنة 6/402).(15/5)
ورواه من طريق حماد(1) بن زيد حدثنا أيوب عن نافع قال ذكر عند ابن عمر عمرة رسول الله صلى الله عليه وسلم من الجعرانة فقال: "لم يعتمر منها(2), قال: وكان عمر نذر اعتكاف ليلة في الجاهلية(3)".
ورواه الدارقطني من طريق يحيى بن سعيد القطان عن عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر: "أن عمر نذر أن يعتكف ليلة في المسجد الحرام في الجاهلية فسأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال:"أوف بنذرك" هذا إسناد صحيح.
ورواه من طريق محمد بن فليح بن سليمان، عن عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر: "أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - كان نذر في الجاهلية أن يعتكف ليلة في المسجد الحرام، فلما كان الإسلام سأل عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له:"أوف بنذرك فاعتكف عمر ليلة".إسناد ثابت(4).
__________
(1) وكذا رواه ابن خزيمة من طريق حماد بن زيد عن أيوب عن نافع وتقدم برقم (212).
(2) سيأتي الجواب عن نفي ابن عمر عمرة رسول الله صلى الله عليه وسلم من الجعرانة في مبحث عمرة رسول الله صلى الله عليه وسلم من الجعرانة في ص 719".
(3) صحيح مسلم 3/1277-1278 كتاب الأيمان، باب نذر الكافر وما يفعل فيه إذا أسلم وانظر تحفة الإشراف 6/66-67 و127 و141 و158، و176 حديث (7521 و7828، و7916 و8039 و 8157، وتقدم الحديث برقم (212).
(4) سنن الدارقطني2/198-199).(15/6)
ورواه النسائي والحميدي وابن خزيمة كلهم من طريق سفيان بن عيينة عن أيوب عن نافع عن ابن عمر قال: "كان على عمر نذر في اعتكاف ليلة في المسجد الحرام فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك فأمره أن يعتكف"(1).
وهذه الأحاديث الماضية جاء فيها أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه "اعتكف ليلة".
وقد جاء أيضا في الأحاديث الآتية أنه اعتكف يوما "وهو:
أ- ما رواه البخاري من طريق حماد بن زيد عن أيوب عن نافع أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: "يا رسول الله إنه كان علي اعتكاف يوم في الجاهلية, فأمره أن يفي به(2)".
ب- ما رواه مسلم والطحاوي والبيهقي كلهم من طريق جريج ابن حازم أن أيوب حدثه أن نافعا حدثه أن عبد الله بن عمر حدثه أن عمر ابن الخطاب سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بالجعرانة بعد أن رجع من الطائف, فقال: "يا رسول الله إني نذرت في الجاهلية أن أعتكف يوما في المسجد الحرام ,فكيف ترى؟ قال "اذهب فاعتكف يوما" الحديث(3). لفظ مسلم.
__________
(1) سنن النسائي 7/20 كتاب الأيمان والنذور، بابا إذا نذر ثم أسلم قبل أن يفي واللفظ له، ومسند الحميدي 2/304، وصحيح ابن خزيمة 3/347 وزاد: "وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد وهب له جارية من سبي حنينا، فبينا هو معتكف في المسجد إذ دخل الناس يكبرون فقال: "ما هذا؟ قالوا: "رسول الله صلى الله عليه وسلم أرسل سبي حنين، قال: "فأرسلوا تلك الجارية".
(2) صحيح البخاري 4/74، كتاب فرض الخمس، باب ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يعطي المؤلفة قلوبهم وغيرهم من الخمس ونحوه".
(3) صحيح مسلم 3/1277 كتاب الأيمان، باب نذر الكافر وما يفعل فيه إذا أسلم". وشرح معاني الآثار للطحاوي 3/133". والسنن الكبرى للبيهقي 6/338".(15/7)
ج- ورواه أحمد ومسلم كلاهما من طريق معمر عن أيوب عن نافع عن ابن عمر قال:لما قفل النبي صلى الله عليه وسلم من حنين سأل عمر عن نذر كان نذره في الجاهلية اعتكاف يوم, فأمره به(1) لفظ أحمد".
د- ورواه مسلم أيضا من طريق حجاج بن المنهال حدثنا حماد عن أيوب ومن طريق عبد الأعلى عن محمد بن إسحاق كلاهما عن نافع عن ابن عمر بهذا الحديث(2) في النذر وفي حديثهما جميعا:اعتكاف يوم(3).
هـ- ورواه أحمد ومسلم والنسائي كلهم من طريق شعبة عن عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر: "أن عمر كان قد جعل عليه يوماً يعتكفه في الجاهلية فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فأمره أن يعتكف"لفظ أحمد(4).
وجاء بدون تقييد بيوم ولا ليلة:
1- عند أحمد من طريق حماد بن سلمة.
والبخاري(5) من طريق معمر كلاهما عن أيوب عن نافع عن ابن عمر أن عمر - رضي الله عنه - سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجعرانة فقال: "إني كنت نذرت في الجاهلية أن أعتكف في المسجد الحرام"(6) لفظ أحمد.
__________
(1) مسند أحمد 2/35 وصحيح مسلم 3/1278 كتاب الأيمان، باب نذر الكافر و ما يفعل فيه إذا أسلم، وتقدم الحديث برقم(212).
(2) يشير إلى حديث حماد بن سلمة عن أيوب عن نافع قال: "ذكر عند ابن عمر عمرة رسول الله صلى الله عليه وسلم من الجعرانة".
قوله: "وفي حديثهما": "يريد ابن إسحاق وأيوب".
(3) صحيح مسلم 3/1278 كتاب الأيمان باب نذر الكافر وما يفعل فيه إذا أسلم.
(4) مسند أحمد 2/82 وسنن النسائي 7/20 كتاب الأيمان والنذور، باب إذا نذر ثم أسلم قبل أن يفي، وتقدم حديث مسلم ص (621).
(5) انظر: "حديث البخاري في ص (621).
(6) المسند 2/153 والحديث رواه أحمد عن عبد الصمد وعفان كليهما عن حماد بن سلمة وتقدم الحديث برقم (212).(15/8)
2- ورواه مسلم من طريق حفص بن غياث(1)، والبيقهي من طريق سفيان(2) كليهما عن عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما: قال: "قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه نذرت أن أعتكف في المسجد الحرام فلما أسلمت سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فقال: "أوف بنذرك"(3) لفظ البيهقي.
وقد جاء أيضاً في الحديث عن عمر قال: "نذرت نذرا في الجاهلية فسألت النبي صلى الله عليه وسلم بعدما أسلمت، فأمرني أن أوفي بنذري" بدون ذكر اعتكاف وقد تقدم(4)".
وقد تبيّن مما تقدم أن الحديث ورد بلفظ "اعتكاف ليلة" وبلفظ "اعتكاف يوم"، وقد أجاب العلماء عن هذا بجوابين:
الأوّل: "الجمع بين الحديثين وهو ما أجاب به ابن خزيمة وغيره، فإنه بعد أن ساق الحديث الوارد فيه "لفظ ليلة".
قال: وقال بعض الرواة: "في خبر نافع عن ابن عمر عن عمر قال: "إني نذرت أن أعتكف يوماً، فإن ثبتت هذه اللفظة، فهذا من الجنس الذي أعلمت أن العرب قد تقول يوما(5) بليلته، وتقول ليلة تريد بيومها، وقد ثبتت الحجة في كتاب الله عز وجل في هذا(6)". إهـ.
__________
(1) تقدم حديث مسلم في ص: "( ).
(2) تقدم حديث مسلم ص (621)
(3) سفيان: "هنا الظاهر أنه الثوري، لأن البيهقي روى هذا الحديث من طريق يزيد بن أبي حكيم الكناني عن سفيان، وفي ترجمة يزيد ذكر أن شيخه سفيان الثوري". (انظر تهذيب التهذيب 11/319).
(4) في ص (619).
(5) نحو قوله تعالى: {قَالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلاَّ رَمْزاً}، [سورة آل عمران، من الآية: 41]، أي: "بلياليها".
ونحو: {قَالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلاَّ رَمْزاً}، [سورة آل عمران، من الآية: 41]، أي: "بأيامها". (انظر: "تفسير الجلالين ص 46، و254).
(6) صحيح ابن خزيمة 3/347-348.(15/9)
وقال ابن حجر: "وقد جمع ابن حبان وغيره بين الروايتين بأن عمر نذر اعتكاف يوم وليلة، فمن أطلق ليلة أراد بيومها ومن أطلق يوماً أراد بليلته(1)". إهـ.
وأجاب النووي عن ذكر (اليوم) باحتمال أن عمر سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن اعتكاف ليلة، وسأله عن اعتكاف يوم، فأمره بالوفاء بما نذر، فحصل منه صحة اعتكاف الليل وحده(2)".
الثاني: "الترجيح: "وهو ما أجاب به البيهقي وغيره، فقد ساق البيهقي الحديث من طريق عبدان أنبأ عبد الله بن المبارك عن عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر أن عمر قال: "يا رسول الله إني نذرت في الجاهلية أن اعتكف ليلة في المسجد الحرام".
ثم قال: "رواه البخاري في الصحيح عن محمد بن مقاتل عن عبد الله ابن المبارك".
وكذلك رواه سليمان بن بلال ويحيى بن سعيد القطان وأبو أسامة وعبد الوهاب الثقفي عن عبيد الله، قالوا فيه: "ليلة".
وكذلك قاله حماد(3) بن زيد عن أيوب عن نافع عن ابن عمر(4).
وقال جرير بن حازم ومعمر عن أيوب "يوم" بدل "ليلة" وكذلك رواه شعبة عن عبيد الله".
ورواية الجماعة عن عبيد الله أولى، وحماد بن زيد أعرف بأيوب من غيره(5)".إهـ.
وقال ابن حجر: "ورواية من روى "يوما" "شاذة" وقد وقع في رواية سليمان بن بلال "فاعتكف ليلة"(6) فدل على أنه لم يزد على نذره شيئا وأن الاعتكاف لا صوم فيه، وأنه لا يشترط له حد معين(7)".
ويؤخذ من قصة عمر بن الخطاب مسألتان:
__________
(1) فتح الباري 4/274 وتحفة الأحوذي 5/142 وعون المعبود 9/155.
(2) شرح النووي على صحيح مسلم 4/205".
(3) ورواه حماد بن زيد عن أيوب أيضاً بلفظ: "اعتكاف يوم"، وكذلك رواه حماد بن سلمة ومحمد بن إسحاق عن أيوب". (انظر: "ص 623).
(4) وكذلك رواه ابن عيينة عن أيوب عن نافع عن ابن عمر بلفظ "اعتكاف ليلة". (انظر ص 619 و622).
(5) السنن الكبرى للبيهقي 4/318".
(6) انظر حديث رقم 271".
(7) فتح الباري 4/274".(15/10)
الأولى: "إذا نذر الكافر ثم أسلم هل يجب عليه الوفاء بما نذر، أو أن ذلك من باب الاستحباب".
الثانية: "هل الصيام شرط لصحة الاعتكاف أو أن الاعتكاف يصح بدون صوم". خلاف بين العلماء في ذلك".
المسألة الأولى:
قال النووي: "اختلف العلماء في صحة نذر الكافر، فقال مالك وأبو حنفية وسائر الكوفيين وجمهور أصحابنا: "لا يصح".
وقال المغيرة(1) المخزومي وأبو ثور والبخاري وابن جرير وبعض أصحابنا:
يصح وحجتهم ظاهر حديث عمر".
وأجاب الأولون عنه بأنه محمول على الاستحباب، أي يستحب لك أن تفعل الآن مثل ذلك الذي نذرته في الجاهلية(2)".
وساق الطحاوي حديث عمر الوارد فيه "أوف بنذرك" ثم قال: "قال أبو جعفر: "فذهب قوم إلى أن الرجل إذا أوجب على نفسه في حال شركه، من اعتكاف أو صدقة أو شيء مما يوجبه المسلمون لله، ثم أسلم - أن ذلك واجب عليه واحتجوا في ذلك بهذه الآثار".
وخالفهم في ذلك آخرون فقالوا: "لا يجب عليه من ذلك شيء واحتجوا في ذلك بما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم ساق حديث عائشة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم:
272- "من نذر أن يعصي الله فلا يعصه"(3).
273- وحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده "إنما النذر ما ابتغى به وجه الله".
ثم قال: "قالوا: "فلما كانت النذور إنما تجب إذا كانت مما يتقرب به إلى الله تعالى، ولا تجب إذا كانت معاصي الله وكان الكافر إذا قال: "لله عليّ صيام"، أو قال: "لله عليّ اعتكاف" فهو لو فعل ذلك، لم يكن به متقربا إلى الله وهو في وقت ما أوجبه، إنما قصد به إلى ربه الذي يعبده من دون الله وذلك معصية".
فدخل ذلك في قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا نذر في معصية".
__________
(1) المغيرة بن سلمة المخزومي، أبو هشام البصري، ثقة ثبت، من صغار التاسعة (ت 200). / خت م د س ق (التقريب 2/269 وتهذيب التهذيب 10/261).
(2) شرح النووي على صحيح مسلم 4/204".
(3) هذا الحديث في صحيح البخاري وقد خرجته في ص 635 تعليقة (3).(15/11)
وقد يجوز أيضا أن يكون قول رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمر "ف بنذرك" ليس من طريق أن ذلك كان واجبا عليه ولكن أنه قد كان سمح في حال ما نذره أن يفعله، فهو في معصية الله عز وجل، فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يفعله الآن، على أنه طاعة لله عز وجل".
فكان ما أمره به، خلاف ما إذا كان أوجبه هو على نفسه".
وهذا قول أبي حنيفة، وأبي يوسف ومحمد - رحمهم الله تعالى -(1)".إهـ.
وقال البغوي عند شرحه لحديث عمر: "في هذا الحديث دليل على أن من نذر في حال كفره بما يجوز نذره في الإسلام، صحّ نذره ويجب عليه الوفاء به بعد الإسلام"(2).
وقال الصنعاني: "دل الحديث على أنه يجب على الكافر الوفاء بما نذر به إذا أسلم وإليه ذهب البخاري وابن جرير وجماعة من الشافعية لهذا الحديث وذهب الجماهير إلى أنه لا ينعقد النذر من الكافر، قال الطحاوي: "لا يصح منه التقرب بالعبادة، قال: "ولكنه يحتمل أن النبي صلى الله عليه وسلم فهم من عمر أنه سمح بفعل ما كان نذر فأمره به لأن فعله طاعة، وليس هو ما كان نذر به في الجاهلية".
وذهب بعض المالكية إلى أنه صلى الله عليه وسلم إنما أمر به استحبابا، وإن كان التزمه في حال لا ينعقد فيها.
ثم عقب الصنعاني على هذا بقوله: "ولا يخفى أن القول الأوّل(3) أوفق بالحديث والتأويل تعسف(4)".
وقال الشوكاني: "وفي حديث عمر دليل على أنه يجب الوفاء بالنذر من الكافر متى أسلم، وقد ذهب إلى هذا بعض أصحاب الشافعي".
وعند الجمهور لا ينعقد النذر من الكافر، وحديث عمر حجة عليهم".
وقد أجابوا عنه بأن النبي صلى الله عليه وسلم لما عرف أن عمر قد تبرع بفعل ذلك أذن له به لأن الاعتكاف طاعة".
__________
(1) شرح معاني الآثار 3/133-134".
(2) شرح السنة 6/402 كتاب الصوم، باب من نذر اعتكاف ليلة".
(3) يريد وجوب الوفاء بما نذره الكافر (2) سبل السلام 4/115".
(4) سبل السلام (4/115).(15/12)
ثم قال: "ولا يخفى ما في هذا الجواب من مخالفة الصواب، وأجاب بعضهم بأنه صلى الله عليه وسلم أمره بالوفاء استحبابا لا وجوبا".
ثم قال: "ويرد بأن هذا الجواب لا يصلح لمن ادعى عدم الانعقاد(1)".
وقال ابن حزم: "مسألة ومن نذر في حال كفره طاعة لله عز وجل ثم أسلم لزمه الوفاء به"...
274- ثم ساق حديث حكيم بن حزم أنه قال: "أي رسول الله أرأيت أمورا كنت اتحنث(2) بها في الجاهلية من صدقة، أو عتاقة، أو صلة رحم، أفيها أجر؟
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أسلمت على ما أسلفت من خير"(3).
ثم ساق حديث عمر بن الخطاب من طريق حفص بن غياث عن عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر عن عمر قال: "نذرت نذرا في الجاهلية ثم أسلمت فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمرني أن أوفى بنذري".
ثم قال: "فهذا حكم لا يسع أحدا الخروج عنه(4)".إهـ.
وأما المسالة الثانية؛ فإن حديث عمر الصحيح ليس فيه ذكر للصوم وإنما فيه أن عمر نذر أن يعتكف ليلة في الجاهلية، والليل ليس محلا للصوم، نعم ورد في بعض ألفاظ هذا الحديث أن عمر بن الخطاب نذر اعتكاف يوم، ولكنه ليس فيه ذكر الصوم، وقد روى الأمر بالصوم في حديث عمر ولكنه ضعيف".
قال ابن حجر: "وقد ورد الأمر بالصوم في رواية عمرو بن دينار عن ابن عمر صريحا لكن إسنادها ضعيف".
__________
(1) نيل الأوطار 8/258، والدراري المضيئة 2/154-157، وتحفة الأحوذي 5/142، عون المعبود 9/155".
(2) أتحنث بها: "أي أتعبد وأتقرب بها إلى الله". (النهاية 1/449).
(3) الحديث في صحيح البخاري 2/97 كتاب الزكاة، باب من تصدق في الشرك ثم أسلم. وصحيح مسلم 1/113-114 كتاب الأيمان، باب بيان حكم عمل الكافر إذا أسلم بعده.
وقال النّووي: "وذهب ابن بطال وغيره من المحقّقين إلى أنّّ الحديث على ظاهره، وأنه إذا أسلم الكافر ومات على الإسلام يثاب على ما فعله من الخير في حال الكفر". (شرح النووي على صحيح مسلم 1/327).
(4) المحلى 8/371-373".(15/13)
وقد زاد فيها: "أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: "اعتكف وصم" أخرجه أبو داود والنسائي من طريق عبد الله بن بديل(1) وهو ضعيف".
وذكر ابن عدي والدارقطني أنه تفرد بذلك عن عمرو بن دينار، ورواية من روى "يوماً" شاذة، وقد وقع في رواية سليمان بن بلال "فاَعْتَكَف ليلة" فدل على أنه لم يزد على نذره شيئا وأن الاعتكاف لا صوم فيه وأنه لا يشترط له حد معين(2).
قلت: "الحديث المشار إليه عند أبي داود والنسائي أخرجه أيضا أبو داود الطيالسي وأبو يعلى والدارقطني والبيهقي كلهم من طريق عبد الله ابن بديل عن عمرو بن دينار".
275- عن ابن عمر أن عمر - رضي الله عنه - جعل عليه أن يعتكف في الجاهلية ليلة أو يوما عند الكعبة، فسأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "اعتكف وصم" لفظ أبي داود(3)".
قال الدارقطني: "تفرد به ابن بديل عن عمرو، وهو ضعيف الحديث سمعت أبا بكر النيسابوري(4) يقول: "هذا حديث منكر، لأنّ الثقات من أصحاب عمرو بن دينار لم يذكروه، منهم ابن جريج وابن عيينة وحماد ابن سلمة وحماد بن زيد وغيرهم، وابن بديل ضعيف الحديث".
__________
(1) قال عنه ابن حجر في التقريب 1/403: "عبد الله بن بديل بن ورقاء الخزاعي ويقال الليثي المكي، صدوق يخطئ".
(2) فتح الباري 4/274".
(3) سنن أبي داود 1/576 كتاب الصيام، باب المعتكف يعود المريض". وسنن النسائي الكبرى في الاعتكاف (تحفة الأشراف للمزي 6/19 حديث 7354). ومسند الطيالسي 1/247-248 منحة المعبود". ومسند أبي يعلى 5/516 برقم 305". وسنن الدارقطني 2/200". والسنن الكبرى للبيهقي 4/316-317".
(4) أبو بكر النيسابوري هو محمد بن إسحاق بن خزيمة، صاحب الصحيح، قال عنه الذهبي: "الحافظ الكبير، إمام الأئمة، شيخ الإسلام (223-311هـ). (تذكرة الحفاظ 2/720-731).(15/14)
276- ثم ساق الدارقطني أيضاً حديثاً آخر من طريق سعيد(1) ابن بشير عن عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر أنّ عمر نذر أن يعتكف في الشرك ويصوم، فسأل النبي صلى الله عليه وسلم بعد إسلامه، قال: "أوف بنذرك"، ثم قال: "وهذا إسناد حسن تفرد بهذا اللفظ سعيد بن بشير عن عبيد الله(2)".
وقال البيهقي: "ذكر نذر الصوم مع الاعتكاف غريب تفرد به سعيد بن بشير عن عبيد الله(3)".
وأرود ابن حجر قول البيهقي هذا ثم قال: "وقال عبد الحق(4): "تفرد به سعيد بن بشير وهو مختلف فيه".
وضعف ابن الجوزي(5) في "التحقيق" هذا الحديث من أجله(6)".
277- وروى الحاكم من حديث عبد الله بن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ليس على المعتكف صيام إلا أن يجعله على نفسه"(7).
ثم قال: "هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ولفقهاء الكوفة في ضد هذا حديثان أذكرهما وإن كانا لا يقاومان هذا الخبر في عدالة الرواة ثم ساق الحديث الأول من طريق عبد الله بن بديل عن عمرو بن دينار عن عبد الله بن عمر أن عمر نذر في الجاهلية أن يعتكف يوما فسأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "اعتكف وصم".
__________
(1) قال ابن عنه حجر: "سعيد بن بشير الأزدي مولاهم، أبو عبد الرحمن أو أبو سلمة الشامي،أصله من البصرة، أو واسط،ضعيف من الثامنة".(ت 168أو169). /عم". (التقريب1/292 وتهذيب التهذيب4/8-10 وميزان الاعتدال2/128-130).
(2) سنن الدارقطني 2/201".
(3) السنن الكبرى 4/317".
(4) هو عبد الحق بن عبد الرحمن أبو محمد الأزدي الأشبيلي تقدم في ص 272".
(5) هو عبد الرحمن بن علي، تقدم".
(6) التلخيص الحبير 2/218".
(7) هذا الحديث رجح الدارقطني والبيهقي وفقه على ابن عباس".
قال البيهقي: "الصحيح موقوف، ورفعه وهم".
قلت: "اختلفت الروايات عن ابن عباس فورد عنه القول بوجوب الصوم وورد عنه القول بعدم الصوم". (انظر سنن الدارقطني 2/199، والسنن الكبرى للبيهقي 4/317-319).(15/15)
278- وساق الحديث الثاني من طريق سويد(1) بن عبد العزيز ثنا سفيان(2) بن حسين عن الزهري عن عروة عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا اعتكاف إلا بصوم" ثم قال: "لم يحتج الشيخان بسفيان بن حسين وعبد الله(3) بن بديل".
وسكت عنه الذهبي(4)".
وقال الدارقطني: "تفرد بهذا الحديث سويد عن سفيان بن حسين(5)".
وقال البيهقي: "وهذا وهم من سفيان بن حسين أو من سويد بن عبد العزيز وسويد بن عبد العزيز الدمشقي ضعيف بمرة لا يقبل منه ما تفرد به".
ثم ساق بسنده من طريق عطاء عن عائشة رضي الله عنها - موقوفا عليها- قالت: "من اعتكف فعليه الصيام"(6).
وروى أبو داود من طريق عبد الرحمن(7) بن إسحاق عن الزهري عن عروة عن عائشة أنها قالت: "السنة على المعتكف أن لا يعود مريضا، ولا يشهد جنازة ولا يمس امرأة ولا يباشرها، ولا يخرج لحاجة إلا لما لابد منه، ولا اعتكاف إلا بصوم، ولا اعتكاف إلا في مسجد جامع".
قال أبو داود: "غير عبدالرحمن بن إسحاق لا يقول فيه،قالت:السنة".
قال أبو داود: "جعله قول عائشة(8)".
__________
(1) قال عنه ابن حجر في التقريب 1/340: "لين الحديث". وساق الذهبي أقوال العلماء فيه ثم قال: "قلت: "بل هو واه جدا". (ميزان الاعتدال 2/251-252).
(2) سفيان بن حسين بن حسن، أبو محمد، أو الحسن الواسطي، ثقة في غير الزهري باتفاقهم، تقدم".
(3) وقع في المستدرك "عبد الله بن يزيد" وهو خطأ".
(4) المستدرك 1/439-440".
(5) السنن 2/199-200".
(6) السنن الكبرى للبيهقي 4/317".
(7) عبد الرحمن بن إسحاق بن عبد الله بن الحارث بن كنانة المدني نزيل البصرة، ويقال له: "عباد بن إسحاق، صدوق، رمى بالقدر، من السادسة". /خت بخ م عم". (التقريب 1/472 وتهذيب التهذيب 6/137).
(8) سنن أبي داود 1/575-576 كتاب الصيام، باب المعتكف يعود المريض".(15/16)
وقال الدارقطني: "يقال: "إن قوله: "وأن السنة للمعتكف إلى آخره"، ليس من قول النبي صلى الله عليه وسلم، وأنه من كلام الزهري، ومن أدرجه في الحديث فقد وهم(1)".
ورواه البيهقي من طريق عقيل عن ابن شهاب، وفي آخره قال: "قال الشيخ قد ذهب كثير من الحفاظ إلى أن هذا الكلام من قول من دون عائشة وأن من أدرجه في الحديث وهم فيه، فقد رواه سفيان الثوري عن هشام بن عروة عن عروة قال: "المعتكف لا يشهد جنازة ولا يعود مريضا ولا يجيب دعوة، ولا اعتكاف إلا بصيام ولا اعتكاف إلا في مسجد جامع(2)".
وقال الشوكاني: "من ادعى أن الصوم شرط لصحة الاعتكاف فالدليل عليه لأنه أثبت شرطا متنازعا فيه".
والوقوف في موقف المنع، والقيام في مقام عدم التسليم يكفي من لم يقل بالشرطية ولم يصح في اشتراطه شيء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما قيل إنه مرفوع لم يصح".
وما كان موقوفا على بعض الصحابة فلا حجة فيه، فإن تبرع من لم يقل بالشرطية بالدليل فله أن يقول:
279- صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصحيحين وغيرهما "أنه اعتكف في غير رمضان"(3)
__________
(1) السنن 2/201 وانظر فتح الباري 4/273".
(2) السنن الكبرى للبيهقي 4/320-321 و315و317".
(3) يشير إلى حديث عائشة رضي الله عنها "أن النبي صلى الله عليه وسلم أراد أن يعتكف فلما انصرف إلى المكان الذي أراد أن يعتكف إذا أخبية: "خباء عائشة وخباء حفصة، وخباء زينب، فقال آلبرّ تقولن بهن؟ ثم انصرف فلم يعتكف حتى اعتكف عشرا من شوال". أخرجه البخاري 3/43، و44، و45، كتاب الاعتكاف، باب اعتكاف النساء، وباب الأخبية في المسجد، وباب الاعتكاف في شوال، وباب من أراد أن يعتكف ثم بدا له أن يخرج.
ورواه مسلم 2/831 كتاب الاعتكاف، باب متى يدخل من أراد الاعتكاف في معتكفه.
وأبو داود 1/573-574 كتاب الصوم، باب الاعتكاف.
والنسائي 2/35 كتاب المساجد، باب ضرب الخباء في المساجد.
وابن ماجه1/563 كتاب الصيام، باب ما جاء فيمن يبتدي الاعتكاف وقضاء الاعتكاف.(15/17)
".
وثبت في الصحيحين وغيرهما "أن عمر بن الخطاب قال: "يا رسول الله إني نذرت في الجاهلية أن أعتكف ليلة في المسجد الحرام فقال صلى الله عليه وسلم: "أوف بنذرك"، ولم يرو من وجه صحيح يصح العمل به أنه صلى الله عليه وسلم صام أيام اعتكافه في شوال ولا صحّ أنه أمر عمر بالصوم.
وأما ما أخرجه أبو داود عن عائشة أنها قالت: "السنة على المعتكف ألا يعود مريضا ولا يشهد جنازة ولا يمس امرأة ولا يباشرها ولا يخرج لحاجة إلا لما لا بد له منه، ولا اعتكاف إلا بصوم ولا اعتكاف إلا في مسجد جامع".
فقد أخرجه في الموطأ(1) والنسائي(2) وليست فيه: "قالت: "السنة" وجزم الدارقطني بأن القدر المرفوع من حديث عائشة قولها: "لا يخرج"(3) وما عداه ممن دونها". وكذلك قال البيهقي كما ذكره ابن كثير في الإرشاد(4)".
وأما ما أخرجه الحاكم عن ابن عباس مرفوعا وقال: "صحيح على شرط مسلم: "أنه لا اعتكاف إلا بصوم" فقد صحح الدارقطني والبيهقي وابن حجر أنه موقوف على ابن عباس، وأيضا فقد أخرج الحاكم عن ابن عباس مرفوعا وصححه أنه صلى الله عليه وسلم قال: "ليس على المعتكف صيام" ورجح الدارقطني والبيهقي وقفه على ابن عباس، فتعارضت الرواية عن ابن عباس كما ترى ولاحجة في قوله(5)".
__________
(1) انظر الحديث في موطّأ مالك 1/312 كتاب الاعتكاف، باب ذكر الاعتكاف".
(2) النسائي 1/121 كتاب الطهارة، باب غسل الحائض رأس زوجها". وانظر تحفة الأشراف 12/78و117 (حديث 16602و16746).
(3) يعني "لا يخرج إلا لما بد منه". (انظر فتح الباري 4/273).
(4) انظر: "ص (631).
(5) السيل الجرار 2/134-135".(15/18)
وقال في نيل الأوطار: "وقد استدل بعض القائلين(1) بأن الصوم شرط في الاعتكاف بقوله تعالى: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ}[سورة البقرة، من الآية: "187].
قال: "فذكر الاعتكاف عقب الصوم".
وتعقب بأنه ليس فيها ما يدل على تلازمهما، وإلاّ لزم ألا صوم إلا باعتكاف ولا قائل به(2)".
وقال ابن حزم: "مسألة: "وليس الصوم من شروط الاعتكاف، لكن إن شاء المعتكف صام وإن شاء لم يصم".
ثم ساق الأدلة على ذلك وعلى أنه ليس على المعتكف صيام إلا أن يوجبه على نفسه".
ورد على القائلين بوجوب الصيام على المعتكف(3)".
إذا علم هذا فقد نقل النووي أن القائلين بصحة الاعتكاف بدون صوم هم الشافعي والحسن البصري وأبو ثور وداود وابن المنذر، وهو أصح الروايتين عن أحمد".
وقال ابن المنذر: "وهو مروي عن علي وابن مسعود".
__________
(1) هذا قول بعض المالكية كما صرح بذلك ابن حجر، وقد روى مالك في الموطأ أنه بلغه أن القاسم بن محمد ونافعا مولى عبد الله بن عمر قالا: "لا اعتكاف إلا بصيام، بقول الله تبارك و تعالى في كتابه: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ}، [سورة البقرة، من الآية: 187]، فإنما ذكر الله الاعتكاف مع الصيام".
قال مالك: "وعلى ذلك الأمر عندنا،أنه لا اعتكاف إلا بصيام".(الموطّأ1/315 كتاب الاعتكاف، باب ما لا يجوز الاعتكاف إلا به".وانظر فتح الباري4/274-275).
(2) نيل الأوطار 4/300-301.
(3) المحلى 5/167-169.(15/19)
وقال ابن عمر وابن عباس وعائشة وعروة بن الزبير والزهري ومالك والأوزاعي والثوري وأبو حنيفة وإسحاق وأحمد في رواية عنهما: "لا يصح إلا بصوم، وهو قول أكثر العلماء(1)".
وأقول قد تشعبت أقوال العلماء في اشتراط الصوم لصحة الاعتكاف أو عدم اشتراطه، وكذلك في حكم الكافر إذا أسلم وقد ألزم نفسه بطاعة لله عز وجل في حال كفره فهل يجب عليه الوفاء بما التزم أوّلاً".
اختلفت أنظار العلماء في ذلك وتباينت آراؤهم، وكل قد أدلى بحجته ووجهة نظره، وأقوالهم وأدلتهم مبسوطة في كتب الفروع، وقد لخصت ما قاله العلماء في ذلك وتبين لي من خلال سوق النصوص أن الظاهر في هذا هو جواز الاعتكاف بدون صوم وأن الصوم ليس شرطا لصحة الاعتكاف، كما ظهر لي كذلك كما ظهر لي كذلك وجوب الوفاء بما التزم به الكافر في حال كفره من طاعة، وهذا هو الذي تؤيّده النصوص وحديث عمر بن الخطاب صريح في هذا(2)".
ومما ينبغي التنبيه عليه قوله صلى الله عليه وسلم لحكيم بن حزام "أسلمت على ما أسلفت من خير".
فهذا من محاسن دين الإسلام، وإن الرسول صلى الله عليه وسلم بعث ليتمم مكارم الأخلاق، وقد قال صلى الله عليه وسلم:
__________
(1) شرح النووي على صحيح مسلم 4/205-206.
(2) انظر شرح معاني الآثار للطحاوي3/133-134، وشرح السنة للبغوي6/402-403. والمغني لابن قدامة 3/185-187 و8/677، و9/3". والهداية لبرهان الدين المرغيناني1/132،والمحلى لابن حزم5/268-274و8/371-373". وشرح النووي على صحيح مسلم 4/204-206. وفتح الباري 4/274-275 و284 و11/582-583. وكشاف القناع للبهوتي 2/406. وسبل السلام للصنعاني 2/175، 4/115. ونيل الاوطار للشوكاني 4/300 و8/258. والسيل الجرار 2/134".والدراري المضيئة2/30و154و157 له.وتحفة الأحوذي للمباركفوري 5/141-143. وعون المعبود لشمس الحق العظيم آبادي 7/144 و151-152 و9/154. وأوجز المسالك إلى موطأ مالك للكندهلوي 5/215-218.(15/20)
280- "خياركم في الجاهلية خياركم في الإسلام إذا فقهوا"(1).
والإسلام لا يهدم الفضائل السابقة عليه وإنما يشجعها وينميها، ومن هنا قال صلى الله عليه وسلم لعمر بن الخطاب: "أوف بنذرك".
ومن قال بأن هذا النذر من عمر نذر معصية فقد أبعد النجعة لأن الرسول صلى الله عليه وسلم يستحيل أن يأمر بالوفاء بنذر معصية، وهو القائل "من نذر أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصيه"(2).
ومن قال من العلماء بأن الوفاء من الكافر بنذره بعد إسلامه مستحب لا واجب، فهذا قريب، لكنه خلاف ظاهر النص كما سبق. والله أعلم.
__________
(1) صحيح البخاري 4/117-118 كتاب أحاديث الأنبياء، باب أم كنتم شهداء إ‘ذ حضر يعقوب الموت الخ.
وصحيح مسلم 4/1846-1847 كتاب الفضائل، باب من فضائل يوسف عليه السلام من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -.
(2) صحيح البخاري 8/119-120 كتاب الأيمان و النذور، باب النذر في الطاعة، و120 باب النذر فيما لا يملك والنذر في معصية من حديث عائشة رضي الله عنها، تقدم برقم (272).(15/21)
الحكم الثالث عشر: استحقاق القاتل سلب القاتل
السلب: "بالتحريك هو ما على القتيل ومعه من سلاح وثياب ودابة وغيرها(1)".
وقد ورد في هذا الحكم الأحاديث الآتية:
أ- حديث أبي قتادة عند البخاري ومسلم وغيرهما وهذا سياقه عند البخاري:
قال: "حدثنا عبد الله بن يوسف أخبرنا مالك عن يحيى(2) بن سعيد عن عمر بن كثير بن أفلح عن أبي محمد مولى أبي قتادة عن أبي قتادة قال: "خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم عام حنين، فلما التقينا كانت للمسلمين جولة، فرأيت رجلا من المشركين قد علا رجلا من المسلمين، فضربته من ورائه على حبل عاتقه بالسيف فقطعت الدرع، وأقبل علي فضمني ضمة وجدت منا ريح الموت ثم أدركه الموت فأرسلني، فلحقت عمر فقلت: "ما بال الناس؟ قال: "أمر الله عز وجل، ثم رجعوا(3)
__________
(1) انظر ص (659).
(2) يحيى بن سعيد: "هو الأنصاري تقدم التعريف برجال الإسناد في حديث (62).
(3) وعندي البخاري أيضا من طريق الليث: "ثم تراجع الناس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من أقام بينة على قتيل قتله فله سلبه، فقمت لألتمس بينة على قتيلي، فلم أر أحداً يشهد لي، فجلست، ثم بدا لي فذكرت أمره لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رجل من جلسائه: "سلاح هذا القتيل الذي يذكر عندي، فأرضه منه، فقال أبو بكر: "كلا لا يعطيه أصبيغ من قريش، ويدع أسداً من أسد الله يقاتل عن الله ورسوله".
قال: "فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فأداه إلي، فاشتريت منه خرافا، فكان أوّل مال تأثلته في الإسلام".(16/1)
، وجلس النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "من قتل قتيلا له عليه بينة فله سلبه(1)، فقلت: "من يشهد لي؟ ثم جلست فقال النبي صلى الله عليه وسلم مثله".
قال: "ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم مثله، فقمت فقلت: "من يشهد لي، ثم جلست، قال ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم مثله، فقمت، فقال: "مالك يا أبا قتادة؟ فأخبرته(2)
__________
(1) وعند ابن إسحاق: "فلما وضعت الحرب أوزارها وفرغنا من القوم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من قتل قتيلا فله سلبه، فقلت: "يا رسول الله، والله لقد قتلت قتيلا ذا سلب، فأجهضني عنه القتال، فما أدري من استلبه؟ فقال رجل من أهل مكة: "صدق يا رسول الله، وسلب ذلك القتيل عندي، فأرضه عني من سلبه، فقال أبو بكر الصديق رضي اله عنه: "لا والله لا يرضيه منه، تعمد إلى أسد من أسد الله، يقاتل عن دين الله تقاسمه سلبه أردد عليه سلبه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "صدق أردد عليه سلب قتيله، قال أبو قتادة: "فأخذته منه، فبعته فاشتريت بثمنه مخرفا، فإنه لأول مال اعتقدته". (سيرة ابن هشام 2/448).
(2) وعند أبي عوانة: "فنهضت ثم جلست، فقال: "مالك يا أبا قتادة؟ فحدثته الذي كان من أمري وأنه ليست لي بينة، فقال رجل من القوم: "أنا سلبت هذا الرجل الذي يقول فأرضه يا رسول الله من سلبه". فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أبو بكر: "لا ترضه من سلبه أيعمد أحدكم إلى سلب رجل قتله أسد من آساد الله يقاتل عن الله وعن رسوله فتأخذه ثم تقول: "أرضه يا رسول الله منه؟ لعمري لا ترضه منه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "صدق، فأعطه سلبه فأخذت سلبه فاشتريت به مخرطا - أو مخرفا - فإنه أول مال اتخذته من ذلك السلب".
وعند البخاري أيضا ومالك وأبي داود: "فاقتصصت عليه القصة".
وعند الواقدي: "فقام عبد الله بن أنيس فشهد لي، ثم لقيت الأسود بن الخزاعي فشهد لي، وإذا صاحبي الذي أخذ السلب لا ينكر أني قتلته - وقد قصصت على النبي صلى الله عليه وسلم القصة- فقال: "يا رسول الله سلب ذلك القتيل عندي فأرضه مني".الخ (مغازي الواقدي 3/908).(16/2)
، فقال رجل: "صدق، وسلبه عندي، فأرضه مني، فقال أبو بكر: "لا ها الله(1) إذا لا يعمد إلى أسد من أسد الله يقاتل عن الله ورسوله صلى الله عليه وسلم فيعطيك سلبه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "صدق فأعطه، فأعطانيه(2)
__________
(1) قوله: "لا ها الله إذا".
قال ابن حجر: "هكذا ضبطناه في الأصول المعتمدة من الصحيحين وغيرهما بهذه الأحرف "لا ها الله إذا" فأما (لا ها الله) فقال الجوهري: "(ها) للتنبيه وقد يقسم بها يقال: "لا ها الله ما فعلت كذا".
قال ابن مالك: "فيه شاهد على جواز الاستغناء عن واو القسم بحرف التنبيه، قالك ولا يكون ذلك إلا مع الله أي لم يسمع لا ها الرحمن كما سمع لا والرحمن". وفي النطق بها أربعة أوجه:
أحدها: "(ها الله) باللام بعد الهاء بغير إظهار شيء من الألفين".
ثانيهما: "مثله لكن بإظهار ألف واحدة بغير همز، كقولهم التقت حلقتا البطان".
ثالثها: "ثبوت الألفين بهمزة قطع".
رابعها: "بحذف الألف وثبوت همزة القطع، انتهى كلام ابن مالك".
ثم قال ابن حجر: "والمشهور في الرواية من هذه الأوجه الثالث ثم الأول".
وأما (إذا) فقد أطال ابن حجر أيضاً القول في توجيهها، وذكر أن هذا اللفظ ورد عن عدة من الصحابة ثم قال في نهاية كلامه والذي يظهر من تقدير الكلام بعد أن تقرر أن "إذا" حرف جواب وجزاء أنه كأنه قال: "إذاً والله أقول لك نعم، وكذا في النفي كأنه أجابه بقوله: "إذاً والله لا نعطيك، إذاً والله لا أشترط، إذاً والله لا ألبس، وأخر حرف الجواب في الأمثلة كلها". (فتح الباري 8/37-40).
(2) وعند الواقدي: "قال أبو قتادة: "فأعطانيه، فقال لي حاطب بن أبي بلتعة يا أبا قتادة، أتبيع السلاح؟ فبعته منه بسبع أواق، فأتيت المدينة فاشتريت به مخرفاً في بني سلمة يقال له الرّديني، فإنه لأول مال لي نلته في الإسلام، فلم نزل نعيش منه إلى يومنا هذا". (مغازي الواقدي 3/909).
وعند أحمد في مسنده 5/307 عن إسحاق بن عيسى بن نجيح أبي يعقوب بن الطباع، ثنا عبد الله بن لهيعة عن عبيد الله بن أبي جعفر المصري عن عبد الرحمن بن هرمز الأعرج عن أبي قتادة الأنصاري أنه قتل رجلا من الكفار فنفله رسول الله صلى الله عليه وسلم سلبه ودرعه فباعه بخمس أواق".
قال الألباني: "وابن لهيعة سيء الحفظ، فلا يحتج بزيادته، ثم رأيت الحديث عند الطحاوي من طريق عبد الله بن المبارك عن ابن لهيعة، وحديثه عنه صحيح". (إرواء الغليل 5/53 وانظر شرح معاني الآثار 3/227).(16/3)
، فابتعت(1) به مخرفاً في بني سلمة، فإنه لأول مال تأثلته في الإسلام(2)".
وهذا الحديث رواه عن يحيى بن سعيد الأنصاري مالك بن أنس وسفيان بن عيينة وهشيم بن بشير والليث بن سعد".
ووقع في حديث الليث وحده، فقال أبو بكر: "كلا لا يعطه أصبيغ(3)
__________
(1) قوله: "فابتعت به مخرفاً"، ابتعت اشتريت، والمخرف: "بفتح الميم والراء ويجوز كسر الراء أي بستانا، وسمى بذلك لأنه يخترف منه الثمر أي يجتني". وأما بكسر الميم فهو اسم الآلة التي يخترف بها".
وفي رواية "خرافا" وهو بكسر أوله وهو الثمر الذي يخترف أي يجتنى وأطلق على البستان مجازا فكأنه قال بستان خراف".
وقوله: "في بني سلمة" بكسر اللام هم بطن من الأنصار وهم قوم أبي قتادة".
وقوله: "تأثلته" بمثناة ثم مثلثة أي أصلته، وأثلة كل شيء أصله".
وفي رواية ابن إسحاق "أول مال أعتقدته" أي جعلته عقدة، والأصل فيه من العقد لأن من ملك شيئا عقد عليه". (فتح الباري 8/40-41 وانظر سيرة ابن هشام 2/448-449 وشرح النووي على صحيح مسلم 4/353 وجامع الأصول لابن الأثير 8/402-403).
(2) تقدم تخريج الحديث برقم (62).
(3) قوله: "أصبيغ" قال ابن حجر: "هو بمهملة ثم معجمة عند القابسي". وبمعجمة ثم مهملة عند أبي ذر".
وقال ابن التين: "وصفه بالضعف والمهانة، والأصبيغ نوع من الطير، أو شبهه بنبات ضعيف، يقال له الصبغاء إذا طلع من الأرض يكون أول ما يلي الشمس منه أصفر، ذكر ذلك الخطابي".
وعلى هذه الرواية القابسي".
وعلى الثاني تصغير الضبع على غير قياس، كأنه لما عظم أبا قتادة بأنه أسد صغر خصمه وشبهه بالضبع لضعف افتراسه وما يوصف به من العجز".
وقال ابن مالك: "أضيبع بمعجمة وعين مهملة تصغير أضبع ويكنى به عن الضعف".
(فتح الباري 8/41 وشرح النووي على صحيح مسلم 4/353-354 وجامع الأصول لابن الأثير 8/403).(16/4)
من قريش ويدع أسد من أسد الله يقاتل عن الله ورسوله، فقام رسول الله فأداه إلى، فاشترت منه خرافا، فكان أوّل مال تأثلته في الإسلام(1)".
ب- حديث أنس بن مالك عند أبي داود الطيالسي وأحمد وأبي داود وغيرهم وهذا سياقه عند أبي داود الطيالسي:
قال: "حماد بن سلمة عن إسحاق(2) بن عبد الله بن أنس قال: "جاءت هوزان يوم حنين تكثر على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالنساء والصبيان والإبل والغنم فانهزم المسلمون يومئذ فجعل يقول: "يا معشر المهاجرين والأنصار إني عبد الله ورسوله، يا معشر المسلمين إليّ أنا عبد الله ورسوله، فهزم المشركون من غير أن يطعن برمح أو يرمي بسهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ: "من قتل مسلما فله سلبه، فقتل أبو طلحة يومئذ عشرين رجلا وأخذ أسلابهم". قال أبو قتادة: "إني حملت على رجل فضربته على حبل العاتق فأجهضت عنه وعليه درع فانظر من أخذها فقال رجل: "أنا أخذتها يا رسول الله، فأعطينيها وأرضه منها، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يسأل شيئا إلا أعطاه أو يسكت، فقال عمر(3)
__________
(1) وانظر ص 636 تعليقة (3).
(2) إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة".
(3) قوله: "في هذا الحديث فقال عمر الخ".
وقد تقدم في حديث أبي قتادة في الصحيحين: "أن القائل أبو بكر الصديق - رضي الله عنه -". انظر: "حديث رقم (62).
قال ابن كثير: "وقول عمر في هذا مستغرب والمشهور أن ذلك أبو بكر الصديق".
وقال في موضع آخر: "وقع من رواية نافع أبي غالب عن أنس أن القائل لذلك عمر ابن الخطاب فلعله قاله متابعة لأبي بكر الصديق ومساعدة وموافقة له، أو قد اشتبه على الراوي والله أعلم". (البداية و النهاية 4/327 و329).
وقوله: "من رواية نافع أبي غالب" خطأ".
والصواب: "من رواية إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة عن أنس كما هو عند ابن كثير نفسه".
وقال ابن حجر تنبيه: "وقع في حديث أنس أن الذي خاطب النبي صلى الله عليه وسلم بذلك عمر أخرجه احمد من طريق حماد بن سلمة عن إسحاق بن أبي طلحة عنه،"...وهذا الإسناد قد أخرج به مسلم بعض هذا الحديث وكذلك أبو داود، لكن الراجح أن الذي قال ذلك أبو بكر كما رواه أبو قتادة وهو صاحب القصة فهو أتقن لما وقع فيها من غيره، ويحتمل الجمع بأن يكون عمر أيضا قال ذلك تقوية لقول أبي بكر". (فتح الباري 8/40 وأوجز المسالك 8/301).(16/5)
: "لا والله لا يفيئها الله على أسد من أسده، ثم يعطيكها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "صدق عمر"(1).
قال: "ورأى أبو طلحة مع أم سليم خنجرا فقال: "ما تصنعين بهذا؟ قالت: "أريد إن دنا أحد من المشركين أن أبعج بطنه، فذكر ذلك أبو طلحة لرسول الله صلى الله عليه وسلم فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال: "يا أم سليم إن الله قد كفى وأحسن".
قالت: "يا رسول الله اقتل من بعدنا من الطلقاء الذين انهزموا بك"(2).
جـ حديث سلمة بن الأكوع عند مسلم وأحمد وأبي داود وغيرهم وهذا سياقه عند مسلم قال:
__________
(1) وعند ابن أبي شيبة وأحمد والبيهقي "فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال: "صدق عمر".
(2) ما بين القوسين من مسند أحمد، و أما في مسند الطيالسي فجاءت هذه الجملة هكذا "فقالت: "يا رسول الله فأقتل هؤلاء ينهزموا بك". قال الساعاتي: "قال مصححو الكتاب هذه الجملة كلها مصحفة فليحرر".
ثم قال الساعاتي: "قلت: "جاء هذا الحديث في مسند أحمد وفيه قال: "وكانت أم سليم معها خنجر فقال أبو طلحة: "ما هذا معك؟ قالت: "اتخذته إن دنا مني بعض المشركين أن أبعج به بطنه، فقال أبو طلحة يا رسول الله ألا تسمع ما تقول أم سليم؟ قالت: "يا رسول الله اقتل من بعدنا من الطلقاء الذين انهزموا بك، قال: "إن الله قد كفانا وأحسن يا أم سليم". (مسند أحمد 3/190ومنحة المعبود والتعليق المحمود على منحة المعبود 2/109). وتقدم الحديث برقم (47) و(60) انظر ص 116-117 و149".(16/6)
حدثنا زهير بن حرب حدثنا عمر بن يونس الحنفي حدثنا حدثنا عكرمة بن عمار حدثني إياس بن سلمة، حدّثني أبي سلمة بن الأكوع، قال: "غزونا(1) مع رسول الله صلى الله عليه وسلم هوزان، فبينا نحن نتضحى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ جاء رجل على جمل أحمر فأناخه، ثم انتزع طلقاً(2) من حقبة فقيد به الجمل، ثم تقدم يتغدى مع القوم، وجعل ينظر، وفينا ضعفة ورقة في الظهر وبعضنا مشاة، إذ خرج(3) يشتد فأتى جمله فأطلق قيده ثم أناخه وقعد عليه فأثاره، فاشتد به الجمل، فاتبعه رجل على ناقة ورقاء".
__________
(1) وعند أحمد وأبي داود و ابن أبي شيبة (قال: "غزوت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم هوزان، قال فبينما نحن نتضحى وعامتنا مشاة وفينا ضعفة إذ جاء رجل الخ".
(2) وعند أحمد "فانتزع شيئاً من حقب البعير فقيد به البعير، ثم جاء يمشي حتى قعد معنا يتغدى قال: "فنظر في القوم فإذا ظهرهم فيه قلة وأكثرهم مشاة".
وعند أحمد أيضاً". "فبينما نحن نتضحى وعامتنا مشاة، فينا ضعفة، إذ جاء رجل على جمل أحمر فانتزع طلقا على حقبه فقيد به جمله رجل شاب ثم جاء يتغدى مع القوم".
(3) وعند أبي داود: "فلما رأى ضعفتهم ورقة ظهرهم خرج يعدو إلى جمله فأطلقه ثم أناخه فقعد عليه ثم خرج يركضه واتبعه رجل من أسلم على ناقة ورقاء هي أمثل ظهر القوم".
وعند أحمد: "فلما نظر إلى القوم خرج يعدو، قال فأتى بعيره فقعد عليه، قال: "فخرج يركضه، وهو طليعة للكفار فاتبعه رجل منا من أسلم على ناقة له ورقاء، قال إياس: "قال أبى فاتبعته أعدو على رجلي"
وعند ابن أبي شيبة وأحمد:"وتبعه رجل من أسلم من صحابة النبي صلى الله عليه وسلم على ناقة ورقاء".(16/7)
قال سلمة: "وخرجت(1)، أشتد فكنت عند ورك الناقة ثم تقدمت حتى كنت عند ورك الجمل ثم تقدمت حتى أخذت بخطام الجمل(2) فأنخته، فلما وضع ركبته في الأرض اخترطت(3) سيفي فضربت رأس الرجل فندر ثم جئت بالجمل أقوده عليه رحله وسلاحه(4)، فاستقبلني رسول الله صلى الله عليه وسلم والناس معه فقال: "من قتل الرجل؟" قالوا: "ابن الأكوع، قال: "له سلبه (5) أجمع" (6).
__________
(1) وعند أبي داود: "فخرجت أعدو فأدركته و رأس الناقة عند ورك الجمل، وكنت عند ورك الناقة ثم تقدمت حتى كنت عند ورك الجمل، ثم تقدمت حتى أخذت بخطام الجمل الخ".
(2) وعند أحمد "حتى أخذت بخطام الجمل فقلت له أخ فلما وضع الجمل ركبته إلى الأرض اخترطت سيفي فضربت رأسه".
وعند أبي عوانة "فأخذت بخطام الجمل فقلت: "أخ ! أخ فما عدا أن وضع ركبته إلى الأرض فأضرب رأس الطليعة فندر".
(3) اخترط سيفه: "أي سله وأخرجه من غمده". وقوله: "فندر" أي طار عن بدنه وسقط على الأرض". (النهاية لابن الاثير 2/23و5/35 وجامع البيان 8/399).
(4) وعند أبي داود: "فجئت براحلته وما عليها أقودها فاستقبلني رسول الله صلى الله عليه وسلم في الناس مقبلا فقال: "من قتل الرجل؟". وعند أبي عوانة: "ثم جئت بالجمل ورحله وأداته وسيفه أقوده".
(5) وعند أبي عوانة: "له السلب كله". وعند البيهقي: "له السلب أجمع". وعند ابن أبي شيبة: "فنفله سلبه"
(6) صحيح مسلم 3/1374-1375 كتاب الجهاد و السير، باب استحقاق القاتل سلب القتيل.(16/8)
والحديث أخرجه أحمد وابن أبي شيبة وأبو داود وأبو عوانة والطبراني والبيهقي الجميع من طريق عكرمة بن عمار به (1)".
281- حديث سلمة بن الأكوع أيضا عند البخاري و أبي داود وغيرهما وهذا سياقه عند البخاري قال: "حدثنا أبو نعيم(2) حدثنا أبو العميس(3) عن إياس بن سلمة بن الأكوع عن أبيه قال: "أتى النبي صلى الله عليه وسلم عين من المشركين(4) - وهو في سفر - فجلس عند أصحابه يتحدث ثم انفتل(5) فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - "اطلبوه واقتلوه(6)
__________
(1) مسند أحمد 4/46، و49، و51، وتاريخ ابن أبي شيبة ص 94 أ، وكنز العمال 10/354-355، ومنتخب كنز العمال 4/168 مع (مسند أحمد)، وسنن أبي داود 2/45-46، كتاب الجهاد ن باب في الجاسوس المستأمن، ومسند أبي عوانة 4/119، و120، و124، والمعجم الكبير للطبراني 7/17، والسنن الكبرى للبيهقي 6/307". وتقدم هذا الحديث برقم (102).
(2) أبو نعيم هو الفضل بن دكين".
(3) أبو العميس: "بمهملتين مصغرا هو عتبة بن عبد الله بن عتبة بن مسعود الهذلي المسعودي الكوفي".
(4) وعند أحمد: "جاء عين للمشركين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم".
قال ابن حجر: "لم أقف على اسمه ووقع في رواية عكرمة ابن عمار عن إياس، عند مسلم أن ذلك كان في غزوة هوزان، ثم قال: "وسمي الجاسوس عيناً؛ لأن جل عمله بعينه، أو لشدة اهتمامه بالرؤية واستغراقه فيها كأن جميع بدنه صار عينا". (فتح الباري 6/168).
(5) وعند النسائي وأحمد وأبي عوانة من طريق جعفر بن عون عن أبي العميس "فلما طعم انسل". وفي رواية عكرمة بن عمار عند مسلم "فقيد الجمل ثم تقدم يتغدى مع القوم وجعل ينظر، وفينا ضعفة ورقة في الظهر إذ خرج يشتد".
(فتح الباري 6/168).
(6) قوله: "اطلبوه واقتلوه"، قال ابن حجر: "زاد أبو نعيم في المستخرج من طريق يحيى الحماني عن أبي العميس "أدركوه فإنه عين".
وزاد أبو داود عن الحسن بن علي عن أبي نعيم فيه "فسبقتهم إليه فقتلته". (فتح الباري 6/169).
قلت: "وعند أحمد و أبي عوانة"من طريق جعفر بن عون عن أبي عميس فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بالرجل اقتلوه فابتدره القوم وكان أبي يسبق الفرس شداً فسبقهم إليه فأخذ بخطام ناقته ثم قتله".(16/9)
، فقتلته،فنفله(1) سلبه"(2).
والحديث رواه أبو داود عن الحسن بن علي الحلواني حدثنا أو نعيم قال حدثنا أبو العميس به(3)".
ورواه النسائي عن أحمد بن سليمان أبو الحسين الجزري عن جعفر بن عون عن أبي العميس(4)".
__________
(1) قوله: "فنفله سلبه"، قال ابن حجر: "كذا فيه، وفيه، التفات من ضمير المتكلم إلى الغيبة، وكان السياق يقتضي أن يقول فنفلني، وهي رواية أبي داود وزاد هو ومسلم من طريق عكرمة بن عمار "فاتبعه رجل من أسلم على ناقة ورقاء، فخرجت أعدو حتى أخذت بخطام الجمل فأنخته فلما وضع ركبته بالأرض اخترطت سيفي، فأضرب رأسه فندر، فجئت براحلته وما عليها أقودها فاستقبلني رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "من قتل الرجل؟ قالوا: "ابن الأكوع قال: "له أسلبه أجمع".
وترجم عليه النسائي "قتل عيون المشركين". وقد ظهر من رواية عكرمة بن عمار الباعث على قتله وأنه اطلع على عورة المسلمين وبادر ليعلم أصحابه فيغتنموا غرتهم، وكان في قتله مصلحة للمسلمين".
قال النووي: "فيه قتل الجاسوس الحربي الكافر وهو باتفاق". وأما المعاهد و الذمي فقال مالك و الأوزاعي: "ينتقض عهده بذلك". وعند الشافعية خلاف أما لو شرط عليه ذلك في عهده فينتقض اتفاقا". (فتح الباري 6/169 وانظر شرح النووي على صحيح مسلم 4/359).
(2) صحيح البخاري4/55 كتاب الجهاد، باب الحربي إذا دخل دار الإسلام بغير أمان".
(3) سنن أبي داود 2/45، كتاب: "الجهاد، باب في الجاسوس المستأمن".
(4) السنن الكبرى، تحفة الاشراف 4/37 (4514).
وهذا الحديث أفرده البيهقي وكذا المزي في الأطراف والنابلسي في الذخائر عن الحديث المروي عن سلمة ابن الأكوع من طريق عكرمة بن عمار عن إياس بن سلمة عن سلمة ابن الأكوع".(انظر السنن الكبرى 6/307، 9/147، والأطراف للمزي 4/37 (حديث 4514) وذخائر المواريث 2/244 حديث 2195).(16/10)
ورواه أحمد وأبو عوانة كلاهما من طريق جعفر بن عون قال حدثنا أبو عميس به(1)".
ورواه أبو عوانة والطحاوي والطبراني والبيهقي كلهم من طريق أبي نعيم الفضل بن دكين قال حدثنا أبو العميس به(2)".
هـ- حديث سلمة بن الأكوع أيضا عند ابن ماجة وأحمد وهذا سياقه عند ابن ماجة قال:حدثنا علي(3) بن محمد ثنا وكيع ثنا أبو العميس وعكرمة بن عمار عن إياس بن سلمة بن الأكوع عن أبيه قال: "بارزت رجلا فقتلته فنفلني رسول الله صلى الله عليه وسلم سلبه"(4).
وفي الزوائد: "إسناده صحيح ورجاله ثقات(5)".
ورواه أحمد عن وكيع ثنا أبو عميس به(6)".
__________
(1) مسند أحمد 4/50 ومسند أبي عوانة 4/123".
(2) المصدر السابق 4/122 وشرح معاني الآثار للطحاوي 3/227 والمعجم الكبير للطبراني 7/29 والسنن الكبرى للبيهقي 6/307 و9/147".
(3) علي بن محمد يحتمل أن يكون هو الطنافسي, وهو ثقة, ويحتمل أن يكون ابن أبي الخصيب القرشي الكوفي وهو "صدوق ربما أخطأ" فإن كل واحد منهما شيخه وكيع وتلميذه ابن ماجة(انظر تهذيب التهذيب 7/378و379 والتقريب 2/43) وعلى كل حال فإن الحديث صحيح فقد رواه أحمد عن وكيع ثنا أبو عميس الخ".
(4) سنن أبن ماجة 2/946 كتاب الجهاد , باب المبارزة والسلب".
(5) هذا الحديث أفرده أيضا المزي في الأطراف 4/41 (حديث 4529) فنسبه لابن ماجة وحده".
وقال الألباني في إرواء الغليل 5/55 وأورده البوصيري في (زوائد سنن ابن ماجة) وقال:"هذه إسناد صحيح رجاله ثقات" واسم أبي العميس عتبة بن عبد الله"، فخفي عليه أنه على شرط كل من الشيخين, وأنهما أخرجاه بأتم منه, ولو لا ذلك لما أورده".
(6) مسند أحمد 4/45(16/11)
وهذه الأحاديث تدل بظاهرها على أن من قتل كافرا له عليه بينة استحق سلبه, سواء أ كان ذلك السلب قليلا أم كثيرا , وسواء أذن الإمام أو لم يأذن, كما تدل على أن السلب من أصل الغنيمة وعلى أنه لا يخمس, هذا هو الظاهر من هذه النصوص(1)".
وقد اختلف العلماء من هذا الحكم في مسائل أقتصر على أهمها:
الأولى: "هل القاتل يستحق سلب القتيل سواء أذن أمير الجيش أم لم يأذن وبهذا قال جمهور العلماء".
قال النووي: "عند شرحه لحديث أبي قتادة:
اختلف العلماء في معنى هذا الحديث, فقال الشافعي والأوزاعي والليث والثوري(2) وأبو ثور وأحمد وإسحاق وابن جرير وغيرهم: "يستحق القاتل سلب القتيل في جميع الحروب سواء قال أمير الجيش قبل ذلك:من قتل قتيلا فله سلبه أم لم يقل ذلك قالوا وهذه فتوى من النبي صلى الله عليه وسلم و إخبار عن حكم الشرع فلا يتوقف على أحد(3)".
وبوب البخاري بقوله: "باب من لم يخمس الأسلاب, ومن قتل قتيلا فله سلبه من غير أن يخمس, وحكم الإمام فيه".
ثم ساق تحت هذا الباب حديث أبي قتادة وفيه "فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم من قتل قتيلا له عليه بينة فله سلبه"(4)".
قال ابن حجر: "وإلى ما تضمنته الترجمة ذهب الجمهور, وهو أن القاتل يستحق السلب سواء قال أمير الجيش قبل ذلك من قتل قتيلا فله سلبه أو لم يقل ذلك, وهو ظاهر حديث أبي قتادة".
وقالوا: "إنه فتوى من النبي صلى الله عليه وسلم وإخبار عن الحكم الشرعي(5)".اهـ
__________
(1) انظر: "زاد المعاد لابن قيم الجوزية 3/100و494 و5/72".
(2) في المغني لابن قدامة 8/392 وأضواء البيان للشنقيطي 2/390 , أن الثوري معدود مع القائلين بأن القاتل لا يستحق السلب إلا أن يقول الإمام ذلك , وهو كذلك عند القرطبي في الجامع لأحكام القرآن 8/5".
(3) شرح النووي على صحيح مسلم 4/351 والجامع لأحكام القرآن للقرطبي 8/5 وزاد: "ابن المنذر وأبا عبيد".
(4) صحيح البخاري 4/73 كتاب فرض الخمس".
(5) فتح الباري 6/247(16/12)
وساق أبو عبيد حديث أبي قتادة ثم قال: "قال أبو عبيد:فقد تبين لنا أن النبي صلى الله عليه وسلم حكم لأبي قتادة بالسلب ,من غير أن يكون نفله إياه قبل ذلك, ألا ترى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما قال: "قال بعد قتل أبي قتادة صاحبه, فهذا عندنا بين واضح:أن السلب مقضي به للقاتل بسنة ماضية من رسول الله صلى الله عليه وسلم, جعله له الإمام قبل ذلك أم لم يجعله له(1)".اهـ.
وقال الخرقي: "ومن قتل منا أحداً منهم مقبلاً(2) على القتال فله سلبه غير مخموس، قال ذلك الإمام أو لم يقل".
قال ابن قدامة: "في هذه المسألة فصول ستة:
أحدها: "أن القاتل يستحق السلب في الجملة ولا نعلم فيه خلافا، والأصل فيه قول النبي صلى الله عليه وسلم "من قتل كافرا فله سلبه".
ثم أورد حديث أبي قتادة، حديث أنس بن مالك(3)، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوم حنين: "من قتل قتيلا فله سلبه" قال: "فقتل أبو طلحة يومئذ عشرين رجلا فاخذ أسلابهم".
__________
(1) كتاب الأموال ص: "437-438".
(2) قال محمد الأمين الشنقيطي: "والحق أنه لا يشترط في ذاك أن يكون القتل في مبارزة، ولا يكون الكافر المقتول مقبلا".
أما الدليل على عدم اشتراط كونه قتله مقبلا إليه: "فحديث سلمة بن الأكوع ثم أورد حديث سلمة في قصة قتل عين المشركين وفيه "قال سلمة: "فاتَّبعه رجل من أسلم على ناقة ورقاء، قال سلمة: "وخرجت أشتد فكنت عند ورك الناقة، ثم تقدمت حتى كنت عند ورك الجمل، ثم تقدمت حتى أخذت بخطام الجمل فأنخته، فلما وضع ركبته على الأرض اخترطت سيفي، فضربت به رأس الرجل فندر". الحديث ثم قال: "وهو صريح في عدم اشتراط المبارزة، وعدم اشتراط قتله مقبلا، لا مدبراً كما ترى وكذلك حديث أبي قتادة يدل على عدم اشتراط المبارزة أيضاً". (أضواء البيان 2/388 وانظر سياق حديث أبي قتادة ص 636 وحديث سلمة ص 640-642، وانظر حديث (281).
(3) انظر حديث أبي قتادة ص 636 وحديث أنس ص 639".(16/13)
وقال أيضاً الفصل السادس: "أن القاتل يستحق السلب قال ذلك الإمام أو لم يقل، وبه قال الأوزاعي والليث والشافعي وإسحاق وأبو ثور(1)".
وقال محمد الأمين الشنقيطي: "واحتج من قال: "باستحقاق القاتل سلب المقتول مطلقا بعموم الأدلة لأن النبي صلى الله عليه وسلم، صرح بان من قتل قتيلا فله سلبه، ولم يخصص بشيء، والعبرة بعموم الألفاظ لا بخصوص الأسباب، كما علم في الأصول(2)".
وقال الصنعاني: "عند شرحه لحديث عوف بن مالك الأشجعي أن النبي صلى الله عليه وسلم "قضى بالسلب للقاتل"(3).
قال: "فيه دليل على أن السلب الذي يؤخذ من العدو الكافر يستحقه قاتله سواء قال الإمام قبل القتال: "من قتل قتيلا فله سلبه أو لا، وسواء كان القاتل مقبلا أو منهزما، وسواء كان ممن يستحق السهم في المغنم أو لا(4)، إذ قوله "قضى بالسلب للقاتل" حكم مطلق غير مقيد بشيء من الأشياء".
قال الشافعي: "وقد حفظ هذا الحكم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في مواطن كثيرة:
منها يوم بدر، فإنه صلى الله عليه وسلم حكم بسلب أبي جهل(5) لمعاذ بن الجموح لما كان هو المؤثر في قتل أبي جهل وكذا في قتل حاطب بن أبي بلتعة لرجل يوم أحد أعطاه سلبه (6)".
والأحاديث في هذا الحكم كثيرة:
__________
(1) المغني 8/386-387و 392".
(2) أضواء البيان 2/390".
(3) الحديث رواه مسلم وأبو داود وأحمد".انظر حديث رقم(283)،وص653-655".
(4) كالمرأة و الصبي والعبد".
(5) انظر: "الحديث رقم (282).
(6) رواه الحاكم من حديث أنس بن مالك ومن طريقه أخرجه البيهقي، وفيه "أن المقتول عتبة بن أبي وقاص وأن حاطب قتله وأخذ رأسه وسلبه وفرسه وجاء بها إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم سلبه ودعا له". (المستدرك 3/300-301 والسنن الكبرى 6/308).(16/14)
وقوله صلى الله عليه وسلم في يوم حنين "من قتل قتيلا فله سلبه" بعد القتال لا ينافي هذا بل هو مقرر للحكم السابق، فإن هذا كان معلوما عند الصحابة من قبل حنين، ولذا قال عبد الله بن جحش(1): "اللهم ارزقني رجلا شديدا إلى قوله: "أقتله وآخذ سلبه"(2).إهـ.
وقال أبو حنيفة ومالك ومَن تابعهما لا يستحق القاتل سلب القتيل بمجرد القتل، بل هو لجميع الغانمين كسائر الغنيمة إلا أن يقول الإمام من قتل قتيلا فله سلبه".
إلا أنه عند مالك يكون قول الإمام من قتل قتيلا فله سلبه بعد انقضاء الحرب لأنه جعل السلب من جملة الأنفال".
__________
(1) الحديث رواه البيهقي من طريق إسحاق بن سعد بن أبي وقاص قال: "حدثني أبي أن عبد الله بن جحش قال يوم أحد ألا تأتي ندعو الله فخلوا في ناحية فدعا سعد قال: "يا رب إذا لقينا القوم غدا فلقني رجلاً شديداً بأسه شديداً حرده فأقاتله فيك ويقاتلني ثم ارزقني عليه الظفر حتى أقتله وآخذ سلبه فأمن عبد الله بن جحش ثم قال: "اللهم ارزقني غداً رجلاً شديداً حرده شديداً بأسه أقاتله فيك ويقاتلني ثم يأخذني فيجدع أنفي فإذا لقيتك غداً". قلت: "يا عبد الله فيم جدع أنفك وأذنك؟". فأقول فيك وفي رسولك صلى الله عليه وسلم فتقول صدقت".، قال سعد بن أبي وقاص: "يا بني كانت دعوة عبد الله بن جحش خيرا من دعوتي لقد رأيته آخر النهار وإن أذنه وأنفه معلقتان في خيط". (السنن الكبرى 6/307-308) وقال ابن حجر في الفتح 6/248: "روه الحاكم و البيهقي من حديث سعد بن أبي وقاص بإسناد صحيح".
(2) سبل السلام 4/52-53".(16/15)
ويكره للإمام أن يقول ذلك قبل انقضاء القتال لأنه يؤدي ذلك إلى صرف نيات المجاهدين لقتال الدنيا، ويجوز بعد القدرة على العدو لأنه لا محذور فيه عندئذ (1)".
واستدل الحنفية والمالكية بأدلة منها:
- حديث أبي قتادة الوارد فيه "من قتل قتيلا له عليه بينة فله سلبه"(2) قالوا: "وقد دفع رسول الله صلى الله عليه وسلم السلب لأبي قتادة، وغير بينة ولا يمين ولو كان يستحق السلب بمجرد القتل لطولب بالبينة على أنه قتله".
282- حديث عبد الرحمن بن عوف المتفق عليه في قصة قتل معاذ بن عمرو بن الجموح ومعاذ بن عفراء الأنصاريين لأبي جهل يوم بدر، فإن فيه ثم انصرفا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبراه، فقال: "أيكما قتله؟".
فقال كل واحد منها: "أنا قتلته، فقال: "هل مسحتما سيفيكما؟ قالا: "لا، فنظر في السيفين، فقال: "كلاكما قتله" وقضى بسلبه لمعاذ بن عمرو بن الجموح"(3).
قالوا: "فتصريحه صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث المتفق عليه، بأن كليهما قتله، ثم تخصيص أحدهما بسلبه، دون الآخر، صريح في أن القاتل لا يستحق السلب، إلا بقول الإمام: "أنه له، إذ لو كان استحقاقه له بمجرد القتل لما كان لمنع معاذ بن العفراء وجه، مع النبي صلى الله عليه وسلم صرح بأنه قتله مع معاذ بن عمرو، ولجعله بينهما بالسوية لاشتراكهما في قتله".
- حديث عوف بن مالك الأشجعي عند أحمد ومسلم وأبي داود وهذا سياقه عند مسلم:
__________
(1) حاشية الدسوقي 2/190-191 وأوجز المسالك إلى موطأ مالك 8/285، والهداية لبرهان الدين المرغيناني 2/149 وشرح معاني الآثار3/227، والمغني لابن قدامة 8/392 وشرح النووي على صحيح مسلم 4/351، وزاد المعاد 3/489 وفتح الباري 6/247 والمحلى لابن حزم 7/547 وأضواء البيان للشنقيطي 2/390".
(2) الحديث تقدم في ص 636".
(3) البخاري: "الصحيح 4/73 كتاب فرض الخمس، باب من لم يخمس الأسلاب الخ". ومسلم:الصحيح3/1372كتاب الجهاد والسير،باب استحقاق القاتل سلب القتيل".(16/16)
283- عن عوف بن مالك قال: "قتل رجل من حمير رجلا من العدو فأراد سلبه فمنعه خالد بن الوليد وكان واليا عليهم، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره، فقال لخالد "ما منعك أن تعطيه سلبه؟". قال: "استكثرته يا رسول الله! قال: "ادفعه إليه" فمر خالد بن بعوف فجر بردائه(1) ثم قال: "هل أنجزت لك ما ذكرت لك من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فسمعه رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستغضب(2)، فقال: "لا تعطه يا خالد لا تعطه يا خالد! هل أنتم تاركون لي أمرائي" الحديث.
وفي رواية عند مسلم أيضا عن عوف بن مالك الأشجعي قال: "خرجت مع من خرج مع زيد بن حارثة، في غزوة مؤتة، ورافقني مددي(3) من اليمن وساق الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحوه غير أنه قال في الحديث: "قال عوف: "فقلت: "يا خالد أما علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى بالسلب للقاتل؟ قال: "بلى، ولكني استكثرته(4)".
قالوا: "فقول النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث الصحيح: "لا تعطه يا خالد" دليل على أنه لم يستحق السلب بمجرد القتل، إذ لو استحقه به، لما منعه منه النبي صلى الله عليه وسلم".
__________
(1) فجر بردائه: "أي جذب عوف برداء خالد وتكلم عليه لمنعه من السلب".
(2) فاستغضب: "بالبناء للمجهول: "أي صار رسول الله صلى الله عليه وسلم مغضبا".
(3) مددى: "يعني رجلا من المدد الذين جاؤا يمدون مؤتة ويساعدونهم".
(4) صحيح مسلم 3/1373-1374 كتاب الجهاد والسير، باب استحقاق القاتل سلب القتيل، وانظر تخريج الحديث عند أبي داود وأحمد ص 653-655".(16/17)
284- ما واه ابن أبي شيبة قال: "حدثنا أبو الأحوص(1) عن الأسود(2) بن قيس عن شبر(3) بن علقمة قال: "بارزت رجلا يوم القادسية، فقتلته، وأخذت سلبه فأتيت به سعداً فخطب سعد أصحابه ثم قال: "هذا سلب شبر بن علقمة فهو خير من أثنى عشر ألف درهم، وإنا قد نفلناه إياه" قالوا: "فلو كان السلب للقاتل قضاء من النبي صلى الله عليه وسلم، لما أضاف الأمراء ذلك التنفيل إلى أنفسهم باجتهادهم ولأخذه القاتل دون أمرهم".
285- ما ذكره مالك في الموطأ قال: "لم يبلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من قتل قتيلا فله سلبه" إلا يوم حنين(4).
__________
(1) أبو الأحوص: "هو سلام بن سليم الحنفي مولاهم الكوفي "ثقة متقن" تقدم في حديث (27).
(2) الأسود بن قيس العبدي، ويقال العجلي الكوفي، يكنى أبا قيس، ثقة من الرابعة". /ع". (التقريب 1/76 وتهذيب التهذيب 1/341).
(3) شبر بن علقمة العبدي الكوفي. ذكره ابن حجر في الإصابة 1/163 في القسم الثالث من حرف الشين وقال: "له إدراك وشهد القادسية له رواية عن ابن مسعود، ثم أورد له هذا الحديث من طريق الأسود بن قيس وقال: "رواه عبد الرزاق وابن أبي شيبة".
ووقع في أضواء البيان الشنقيطي 2/392: "بشر بن علقمة" بتقديم الموحدة على المعجمة وهو خطأ، وكذا وقع في المحلى لابن حزم 3/545".
(4) موطّأ مالك 2/455 كتاب الجهاد، باب ما جاء في السلب في النفل". وانظر : "هذه الأدلة في شرح معاني الآثار للطحاوي 3/227 والمغني لابن قدامة 8/393، والجامع لأحكام القرآن للقرطبي 8/6-7، ونصب الراية للزيلعي 3/431-434، وفتح الباري لابن حجر6/247-248، وأضواء البيان للشنقيطي 2/390-393، والمحلى لابن حزم 3/547-553، والأم 4/67-68".(16/18)
هذا أهم ما استدل به المالكية والحنفية على ما ذهبوا إليه من أن القاتل لا يستحق سلب قتيله إلا إذا قال الإمام قبل القتال من قتل قتيلا فله سلبه(1).
ورد القائلون - باستحقاق السلب للقاتل مطلقا- على هذه الأدلة بما يأتي:
أ- حديث أبي قتادة، أجاب عنه ابن قدامة بقوله: "وأما أبو قتادة؛ فإن خصمه اعترف له به وصدقه فجرى مجرى البينة ولأن السلب مأخوذ من الغنيمة بغير تقدير الإمام واجتهاده فلم يفتقر إلى شرطه كالسهم(2)".
وأجاب القرطبي عنه بقوله: "سمعت شيخنا عبد العظيم المنذري يقول: "إنما أعطى النبي صلى الله عليه وسلم أبا قتادة سلب قتيله بشهادة الأسود(3) بن خزاعى وعبد الله(4) بن أنيس، وعلى هذا يندفع النزاع، ويزول الإشكال ويطرد الحكم(5)".إهـ.
ب- حديث عبد الرحمن بن عوف في قصة قتل أبي جهل".
__________
(1) إلا أن هذا القول عند مالك رحمه الله يكون بعد انقضاء الحرب، كما تقدم في ص 647".
(2) المغني 8/393و396".
(3) الأسود بن خزاعى الأسلمي حليف بني سلمة من الأنصار".
قال ابن حجر: "ذكره موسى بن عقبة عن الزهري فيمن قتل ابن أبي الحقيق، وسماه ابن إسحاق: "خزاعي بن الأسود وكذلك معمر عن الزهري، وذكر الواقدي أنه شهد لأبي قتادة بسلب قتيله يوم حنين". (الإصابة 1/42-43).
(4) عبد الله بن أنيس الجهني أبو يحيى المدني حليف بني سلمة من الأنصار بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى خالد بن نبيح الهذلي فقتله". (الإصابة 1/42-43 و2/278-279 ومغازي الواقدي 3/908).
(5) الجامع لأحكام القرآن 8/9 وقال: "وأما المالكية؛ فيخرج على قولهم أنه لا يحتاج الإمام فيه إلى بينة، لأنه من الإمام ابتداء عطية فإن شرط الشهادة كان له، وإن لم يشترط جاز أن يعطيه من غير شهادة، وانظر:أضواء البيان للشنقيطي2/397".(16/19)
قال الزيلعي: "أجاب عنه البيهقي في "المعرفة" بقوله: "وهذا حجة لهم فيه، فإن غنيمة بدر كانت للنبي صلى الله عليه وسلم بنص الكتاب يعطي منها من يشاء، وقد قسم لجماعة لم يشهدوا، ثم نزلت الآية في الغنيمة بعد بدر، وقضى - عليه السلام - بالسلب للقاتل، واستقر الأمر على ذلك، ويجوز أن يكون أحدهما أثخنه، والثاني جرحه بعد، فقضى بسلبه للأوّل(1)".إهـ".
وأجاب ابن حزم بقوله: "قال: "أبو محمد: "ولا حجة لهم في هذا كله، وأين يوم بدر من يوم حنين وبينهما أعوام؟ وما نزل حكم الغنائم إلا بعد يوم بدر فكيف يكون السلب للقاتل(2)".
وقال ابن حجر: "أجاب الجمهور عن هذا الحديث بأن في سياق دلالة على أن السلب يستحقه من أثخن في القتل ولو شاركه غيره في الضرب أو الطعن".
قال المهلب(3): "نظره صلى الله عليه وسلم في السيفين واستلاله لهما هو ليرى ما بلغ الدم من سيفيهما ومقدار العمق دخولهما في جسم المقتول ليحكم بالسلب لمن كان في ذلك أبلغ، ولذلك سألهما أولا هل مسحتما سيفيكما أم لا؟ لأنهما لو مسحاهما لما تبين المراد من ذلك وإنما قال: "كلاكما قتله" وإن كان أحدهما هو الذي أثخنه ليطيب نفس الآخر".
__________
(1) نصب الراية 3/432".
(2) المحلى 7/550".
(3) هو القاضي أبو القاسم المهلب بن أحمد بن أبي صفرة التميمي الفقيه الحافظ المحدث العالم المتفنن، شرح البخاري واختصره اختصارا مشهورا وله تعليق على البخاري حسن، (مات سنة 435أو 436). (شجرة النور الزكية في طبقات المالكية ص 114 ومقدمة البخاري 1/127).(16/20)
وقال الإسماعيلي (1): "أقول إن الأنصاريين ضرباه فأثخناه(2) وبلغا به المبلغ الذي يعلم معه أنه لا يجوز بقاؤه على تلك الحال إلا قدر ما يطفأ، وقد دل قوله: "كلاكما قتله" على أن كلا منهما وصل إلى قطع الحشوة(3) إبانتها أو بما يعلم أن عمل كل من سيفيهما كعمل الآخر، غير أن أحدهما سبق بالضرب فصار في حكم المثبت لجراحه حتى وقعت به ضربة الثاني فاشتركا في االقتل، إلا أن أحدهما قتله وهو ممتنع والآخر قتله وهو مثبت فلذلك قضى بالسلب للسابق إلى إثخانه(4)".
جـ وأما حديث عوف بن مالك الأشجعي في قصته مع خالد بن الوليد، فأجاب الخطابي عنه بقوله: "إنما منع عليه السلام خالدا في الثانية أن يرد على عوف سلبه زجرا لعوف، لئلا يتجرأ الناس على الأئمة، لأن خالدا كان مجتهدا في صنعه، لما رأى فيه من المصلحة، فأمضى عليه السلام اجتهاده، واليسير من الضرر يحتمل الكثير من النفع، قال: "ويشبه أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم قد عوض المددى من الخمس الذي هو له وترضى خالدا بالنصح له والتسليم الحكم له في السلب (5)".
وأجاب عنه ابن حزم بقوله:
قال أبو محمد: "لا حجة لهم في هذا، بل هو حجة عليهم لوجوه:
أوّلها: "أن فيه نصا جليا أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى بالسلب للقاتل وهذا قولنا".
وثانيها: "أنه عليه السلام أمر خالدا بالرد عليه".
__________
(1) هو الإمام الحافظ الثبت شيخ الإسلام أبو بكر أحمد بن إبراهيم بن إسماعيل الإسماعيلي الجرجاني، له تخريج على صحيح البخاري، ولد عام 277 ومات سنة 371هـ". (تذكرة الحفاظ للذهبي 3/947-951).
(2) أثخناه: "أي أثقلاه بالجراح". (النهاية 1/208).
(3) الحشوة: "بالضم والكسر: "الأمعاء". (المصدر السابق 1/392).
(4) فتح الباري 6/248 وشرح النووي على صحيح مسلم 4/355".
(5) الاعتبار في الناسخ والمنسوخ من الآثار للحازمي ص225 ونصب الراية للزيلعي 3/432".(16/21)
وثالثها: "أن في نصه أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما أمره بأن لا يرد عليه، لأنه علم أن القاتل صاحب السلب أعطاه بطيب نفس ولم يطلب خالدا به، وأن عوفاً يتكلم فيما لا حق له فيه وهذا هو نص الخبر".
ورابعها: "أنه لو كان كما يوهمون لما كان لهم فيه حجة، لأن يوم حنين الذي قال فيه عليه السلام "من قتل كافرا فله سلبه" كان بعد يوم مؤتة(1) بلا خلاف". ويوم حنين كان بعد فتح مكة"...فيوم حنين حكمه ناسخ لما تقدم لو كان خلافه(2)".
د- وأما حديث شبر بن علقمة وقول سعد بن أبي وقاص إنا قد نفلناه إياه فأجاب عنه ابن قدامة بقوله: "أما خبر شبر فإنما أنفذ له سعد ما قضى له به رسول الله صلى الله عليه وسلم وسماه نفلا لأنه في الحقيقة نفل لأنه زيادة على سهمه(3)".
هـ- وأما قول مالك: "بم يبلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من قتل قتيلا فله سلبه إلا يوم حنين".
فأجاب عنه ابن حجر بقوله: "وأجاب الشافعي وغيره بأن ذلك حفظ عن النبي صلى الله عليه وسلم في مواطن:
منها: "يوم بدر,كما في قصة أبي جهل".
ومنها: "حديث حاطب بن أبي بلتعة في قتله رجلا يوم أحد فأعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم سلبه".
ومنها: "حديث عوف بن مالك في قصة قتل المددي رجلا من العدو".
ومنها: "قصة عبد الله بن جحش وسعد بن أبي وقاص في دعائهما يوم أحد وقول سعد: "اللهم ارزقني رجلا شديدا أقتله وآخذ سلبه, وغير ذلك من المواطن التي ورد فيها لفظ السلب قبل غزوة حنين".
__________
(1) كانت غزوة مؤتة في جمادى الأولى سنة ثمان من الهجرة". (سيرة ابن هشام 2/373).
(2) المحلى 7/549، ومعنى قوله (لو كان خلافه) يعني أنه لو سلم لهم بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم منع القاتل سلب قتيله، لكان ما قاله عليه السلام يوم حنين ناسخا لما كان في غزوة مؤتة".
(3) المغني 8/393".(16/22)
وأجاب ابن حجر أيضا بقوله:فإن أراد مالك أن ابتداء هذا الحكم كان يوم حنين فهو مردود، لكن على غير مالك ممن منعه فإن مالكا إنما نفى البلاغ, وقد ثبت في سنن أبي داود عن عوف بن مالك أنه قال لخالد بن الوليد في غزوة مؤتة: "إن النبي صلى الله عليه وسلم قضى بالسلب للقاتل" وكانت مؤتة قبل حنين بالاتفاق(1).اهـ.
وقال بن حزم: "وقال بعضهم: "لم يقل ذلك(2) رسول الله صلى الله عليه وسلم إلاّ يوم حنين".
قال أبو محمد: "فكان هذا عجبا, نعم, فهبك أنه لم يقله - عليه السلام - قط إلا مرة يومئذ، أو قاله قبل وبعد, أ ترى أنهم يجدون في أنفسهم حرجا مما قضى به مرة أو يرونه باطلا حتى يكرر القضاء به؟..".
فلا فرق بين ما قاله مرة, أو ألف ألف مرة, كله دين وكله حق, كله حكم الله تعالى, وكله لا يحل لأحد خلافه"(3).
المسألة الثانية: "من مسائل هذا الحكم:تخميس السلب, وفي هذه المسألة ثلاثة أقوال: "
القول الأول: "أن السلب لا يخمس قلَّ أم كثر".
قال ابن قدامة: "روي ذلك عن سعد بن أبي وقاص, وبه قال الشافعي وابن المنذر وابن جرير(4)".اهـ.
وقال النووي: "واختلفوا في تخميس السلب, وللشافعي فيه قولان:
الصحيح منها عند أصحابه, لا يخمس وهو ظاهر الأحاديث وبه قال:أحمد وابن جرير وابن المنذر وآخرون(5)".اهـ".
وقال أبو عبيد: "وفي النفل(6) الذي ينفله الإمام سنن أربع, لكل واحدة منهن موضع غير موضع الأخرى".
فإحداهن: "في النفل الذي لا خمس فيه".
والثانية: "في النفل الذي يكون من الغنيمة بعد إخراج الخمس".
والثالثة: "في النفل الذي يكون من الخمس نفسه".
__________
(1) فتح الباري 6/169 و247-248, والأم للشافعي 4/66/68 وسبل السلام للصنعاني 4/52-53 وانظر ص(646) وحديث (282)و(283).
(2) يعني (من قتل قتيلا فله سلبه).
(3) المحلى 7/547".
(4) المغني لابن قدامة 8/391".
(5) شرح النووي على صحيح مسلم 4/352".
(6) تقدم بيان النفل في ص 353".(16/23)
والرابعة: "في النفل من جملة الغنيمة قبل أن يخمس منها شيء".
فأما الذي لا خمس فيه فإنه السلب, وذلك أن ينفرد الرجل بقتل المشرك فيكون له سلبه مسلما من غير أن يخمس أو يشركه فيه أحد من أهل العسكر(1)".
وقال ابن حزم: "وكل من قتل قتيلا من المشركين فله سلبه قال ذلك الإمام أو لم يقله, كيف ما قتله صبراً, أو في القتال, ولا يخمس السلب قلّ أو كثر"(2).
وقال ابن قيم الجوزية:حكم النبي صلى الله عليه وسلم بالسلب كله للقاتل ولم يخمسه، ولم يحعله من الخمس, بل من أصل الغنيمة, وهذا حكمه وقضاؤه"(3)".اهـ.
وأدلة هذا القول الأحاديث المتقدمة مثل حديث أبي قتادة: "من قتل قتيلا له عليه بينة فله سلبه".
وحديث سلمة بن الأكوع في قتله طليعة المشركين,وقول الرسول صلى الله عليه وسلم من قتل الرجل فقالوا: "سلمة بن الأكوع, فقال صلى الله عليه وسلم: "له سلبه أجمع".
وحديث أنس بن مالك "أن أبا طلحة قتل عشرين رجلا يوم حنين و أخد أسلابهم"(4)".
وساق القرطبي في تفسيره حديث عوف بن مالك الذي رواه مسلم, ثم قال: "وأخرجه أبو بكر(5)
__________
(1) كتاب الأموال ص 430".
(2) المحلى 7/544
(3) زاد المعاد 5/72و3/493-494".
(4) تقدم هذه الأحاديث في ص 636-637 و640-642".
(5) هو الإمام الحافظ شيخ الفقهاء والمحدثين أبو بكر أحمد بن محمد بن أحمد بن غالب الخوارزمي البرقاني الشافعي شيخ بغداد, صنف التصانيف وخرج على الصحيحين, حدث عنه البيهقي والخطيب البغدادي وغيرهم".
قال الخطيب: "كان ثقة ورعاً ثبتا لم نر في شيوخنا أثبت منه,عارفا بالفقه له حظ من علم العربية كثير, صنف مسندا ضمنه ما اشتمل عليه صحيح البخاري ومسلم,ولد سنة 336 ومات ببغداد سنة425 هـ". (تذكرة الحفاظ للذهبي 3/1074-1076 وتاريخ بغداد 4/373-376).(16/24)
البرقاني بإسناده الذي أخرجه به مسلم, وزاد بيانا أن عوف بن مالك,قال: "إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن يخمس السلب"(1).
وروى الإمام أحمد فقال: "حدثنا أبو المغيرة(2) قال ثنا صفوان(3) بن عمرو قال: "حدثني عبد الرحمن(4) بن جبير بن نفير عن أبيه(5) عن عوف ابن مالك الأشجعي وخالد بن الوليد أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يخمس السلب".
ورواه من هذه الطريق أيضا مطولا".
ورواه أيضا عن الوليد بن مسلم قال حدثني صفوان بن عمرو به مطولا أيضا (6)".
وأخرجه أبو داود من طريق أحمد الأخيرة".
ومن طريق أبي داود أخرجه البيهقي (7)".
وأخرجه أبو داود أيضا مختصرا من طريق إسماعيل بن عياش عن صفوان بن عمرو عن عبد الرحمن بن جبير بن نفير عن أبيه عن عوف ن مالك الأشجعي وخالد بن الوليد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى بالسلب للقاتل ولم يخمس السلب"(8).
__________
(1) الجامع لأحكام القرآن 8/7-8, وأضواء البيان للشنقيطي 2/394-395".
(2) هو عبد القدوس بن الحجاج الخولاني, أبو المغيرة الحمصي, ثقة, من التاسعة (ت 212)./ع".(التقريب 1/515 وتهذيب التهذيب 6/369).
(3) صفوان بن عمرو بن هرم السكسكي, أبو عمرو الحمصي, ثقة من الخامسة (ت155أو بعدها).بخ م عم(التقريب1/368,وتهذيب التهذيب4/228-229).
(4) عبد الرحمن بن جبير بجيم وموحدة مصغرا ابن نفير بنون وفاء مصغرا الحضرمي الحمصي, ثقة من الرابعة (ت 118). بخ م عم".(التقريب 1/475 وتهذيب التهذيب 6/154 وقد سقط من تهذيب التهذيب علامة من أخرج له).
(5) هو جبير بن نفير بن مالك بن عامر الحضرمي, الحمصي, ثقة جليل, من الثانية مخضرم, ولأبيه صحبة فكأنه هو ما وفد إلا في عهد عمر(ت80 وقيل بعدها). بخ م". عم". (التقريب 1/126 وتهذيب التهذيب 2/64-65).
(6) المسند 6/26و27-28".
(7) السنن الكبرى 6/310".
(8) سنن أبي داود 2/65و66 كتاب الجهاد، باب في السلب لا يخمس".(16/25)
ورواه ابن الجارود من طريق أبي المغيرة قال ثنا صفوان بن عمرو به ولفظه "عن عوف بن مالك الأشجعي وخالد بن الوليد - رضي الله عنهما - أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يخمس السلب"(1).
رواه الطحاوي من طريق الوليد بن مسلم قال: "ثنا صفوان بن عمرو به ولفظه "عن عوف بن مالك الأشجعي قال: "قلت لخالد بن الوليد يوم مؤتة ألم تعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يخمس السلب؟ قال: "بلى"(2).
ورواه البيهقي أيضا من طريق الوليد بن مسلم عن صفوان بن عمرو به(3)".
ولمسلم من طريق الوليد بن مسلم حدثنا صفوان بن عمرو به بلفظ "قال عوف: "فقلت: "يا خالد ! أما علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى بالسلب للقاتل؟ قال: "بلى، ولكني استكثرته"(4).
والحديث صحيح وهو نص في أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يخمس السلب".
القول الثاني: "أن السلب يخمس مطلقاً".
قال ابن قدامة: "وهو قول ابن عباس والأوزاعي ومكحول(5)".
ونسبه النووي أيضا لمالك وقال: "وهو قول ضعيف للشافعي".
ثم قال: "وعن مالك رواية اختارها إسماعيل القاضي(6)
__________
(1) المنتقى ص 361".
(2) شرح معاني الآثار 3/226".
(3) السنن الكبرى 6/310 وانظر إرواء الغليل 5/55-57".
(4) تقدم الحديث برقم (283).
(5) المغني 8/391.
(6) هو أبو إسحاق إسماعيل بن إسحاق بن إسماعيل بن حماد بن زيد الأزدي مولاهم البصري، ثم البغدادي المالكي، الحافظ شيخ الإسلام صاحب التصانيف وشيخ مالكية العراق وعالمهم".
قال الخطيب: "كان عالما متقنا فقيها شرح مذهب مالك واحتج له، وصنف المسند، وصنف في علوم القرآن، وجمع حديث أيوب وحديث مالك".
قال الذهبي: "وصنف الموطأ، وصنف كتابا حافلا نحو مائتي جزء في الرد على محمد تبن الحسن لم يتمه،(ولد سنة 179 ومات سنة 282). (تذكرة الحفاظ للذهبي 2/625-626 وتاريخ بغداد 6/284).(16/26)
أن الإمام بالخيار إن شاء خمسه وإلا فلا(1)".
واستدل من قال بأن السلب يخمس بعموم قوله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ}[سورة الأنفال،من الآية:41].ولم يستثن شيئا".
ورد الجمهور على هذا الدليل بقوله صلى الله عليه وسلم "من قتل قتيلا فله سلبه" وبغير ذلك من الأحاديث القاضية بأن السلب للقاتل، وهي مخصصة لعموم الآية (2)".
القول الثالث: "أن السلب إن كان كثيرا خمس، وإلا فلا".
وهو قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه وإسحاق بن راهويه ودليل هذا القول هو ما رواه سعيد بن منصور في "سننه".
__________
(1) المغني لابن قدامة 8/390-391 وشرح النووي على صحيح مسلم 4/352 وفتح الباري 6/247 وأضواء البيان للشنقيطي 2/394و395، وزاد المعاد 3/494".
(2) المغني لابن قدامة 8/390-391 وشرح النووي على صحيح مسلم 4/352 وفتح الباري 6/247 وأضواء البيان الشنقيطي 2/394و395، وزاد المعاد 3/494".(16/27)
286- عن ابن سيرين(1) أن البراء بن مالك(2) بارز مرزبان(3) الزارة(4) بالبحرين، فطعنه فدق صلبه، وأخذسواريه(5) وسلبه، فلما صلى عمر الظهر، أتى أبا طلحة في داره، فقال: "إنا كنا لا نخمس السلب، وإن سلب البراء قد بلغ مالا وأنا خامسه فكان أوّل سلب خمس في الإسلام، سلب البراء، وبلغ ثلاثين ألفا"(6).
__________
(1) هو محمد بن سيرين الأنصاري، أبو بكر بن أبي عمرة البصري، ثقة ثبت عابد كبير القدر، كان لا يرى الرواية بالمعنى، من الثالثة (ت 110). /ع". (التقريب 2/169 وتهذيب التهذيب 9/214).
(2) البراء بن مالك بن النضر، الأنصاري، أخو أنس بن مالك لأبيه وأمه، وأمهما أم سليم، قال أبو حاتم: "أخوه لأبيه، كان شجاعا مقداما شهد المشاهد كلها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا بدرا، وهو الذي فتح حديقة مسيلمة التي تحصن فيها هو وجنده يوم اليمامة، واستشهد البراء يوم حصن تستر في خلافة عمر بن الخطاب سنة عشرين وقيل توفي سنة 23". (أسد الغابة 1/206 والإصابة 1/143 والاستيعاب 1/137 مع الإصابة).
(3) في القاموس المحيط1/73:والمرزبة كمرحلة رياسة الفرس وهو مرزبانهم بضم الزاي".
(4) الزارة: "بالزاي وفتح الراء المخففة، وقال أبو منصور: "عين الزارة بالبحرين معروفة، والزارة قرية كبيرة بها، ومنها مرزبان الزارة، وله ذكر في الفتوح، وفتحت الزارة في سنة 12هـ في أيام أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - وصولحوا".
قال أبو أحمد العسكري: "الخط والزارة والقطيف قرى بالبحرين وهجر".
(معجم البلدان لياقوت 3/126).
(5) السوار: "بكسر السين وضمها هو ما يتحلى به النساء في أيديهن". (النهاية 2/420 والقاموس 2/53 وهدي الساري مقدمة فتح الباري ص 135).
(6) المغني لابن قدامة 8/391-392 وزاد المعاد لابن قيم الجوزية 3/394".(16/28)
والحديث نسبه ابن حزم أيضاً لابن أبي شيبة قال: "حدثنا عبد الرحيم(1) بن سليمان عن هشام(2) بن حسان عن محمد بن سيرين عن أنس ابن مالك قال: "كان السلب لا يخمس وكان أول سلب خمس في الإسلام سلب البراء بن مالك، وكان قتل مرزبان الزارة وقطع منطقته وسواريه، فلما قدمن المدينة صلى عمر الصبح، ثم أتانا فقال: "السلام عليكم أثم أبو طلحة؟فقالوا: "نعم، فخرج إليه فقال عمر: "إنا كنا لا نخمس السلب وإن سلب البراء مال وغني خامسه، فدعا المقومين فقوموا ثلاثين ألفا، فأخذ منها ستة آلاف(3)".
والحديث أخرجه الطحاوي من طريق سفيان عن أيوب عن ابن سيرين عن أنس بن مالك به(4)".
ورواه البيهقي من طريق عبد الله بن المبارك عن هشام بن حسان عن محمد بن سيرين عن أنس بن مالك به".
ومن طريق حماد بن زيد عن أيوب عن محمد بن سيرين عن أنس ابن مالك به(5)". ورد هذا الحديث ابن قدامة بقوله: "ولنا ما روى عوف بن مالك وخالد بن الوليد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى بالسلب للقاتل ولم يخمس السلب".
وعموم الأخبار التي ذكرناها، وخبر عمر بن الخطاب حجة لنا فإنه قال: "إنا كنا لا نخمس، وقول الراوي كان أول سلب خمس في الإسلام، يعني أن النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر صدرا من خلافته لم يخمسوا سلبا واتباع ذلك أولى".
__________
(1) عبد الرحيم بن سليمان الكناني، أبو الطائي، أبو علي الأشل، المروزي نزيل الكوفة ثقة له تصانيف، من صغار الثامنة، (ت 187). /ع". (التقريب 1/504 وتهذيب التهذيب 6/306).
(2) هشام بن حسان الأزدي القردوسي - بضم القاف والدال- أبو عبد الله البصري، ثقة من أثبت الناس في ابن سيرين، في روايته عن الحسن وعطاء مقال، لأنه قيل كان يرسل عنهما، من السادسة (ت147-148). /ع". (التقريب2/318 وتهذيب التهذيب 11/34).
(3) المحلى لابن حزم 7/545-546".
(4) شرح معاني الآثار 3/229".
(5) السنن الكبرى 6/310-311، وانظر إرواء الغليل 5/57-58".(16/29)
قال الجوزجاني(1): "لا أظنه يجوز لأحد في شيء سبق فيه من الرسول صلى الله عليه وسلم شيء إلا اتباعه ولا حجة في قول أحد مع قول رسول الله صلى الله عليه وسلم(2)".
ثم قال ابن قدامة: "وما ذكرناه يصلح أن يخصص به عموم الآية".
وإذا ثبت هذا: "فإن السلب من أصل الغنيمة، وقال مالك: "هو من خمس الخمس".
ولنا: "أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى بالسلب للقاتل مطلقا ولم ينقل عنه أنه احتسب به من الخمس، ولأنه لو احتسب به من خمس الخمس احتيج إلى معرفة قيمته وقدره ولم ينقل ذلك، ولأن سببه لا يفتقر إلى اجتهاد الإمام فلم يكن من خمس الخمس كسهم الفارس والراجل (3)".إهـ.
وقال ابن قيم الجوزية: "قوله صلى الله عليه وسلم "من قتل قتيلا له عليه بينة فله سلبه" دليل على أن له سلبه كله غير مخمس، وقد صرح بهذا في قوله لسلمة بن الأكوع لما قتل قتيلا: "له سلبه أجمع".
وفي المسألة ثلاثة مذاهب، هذا أحدها.
والثاني: "أنه يخمس كالغنيمة، وهذا قول الأوزاعي وأهل الشام، وهو مذهب ابن عباس لدخوله في آية الغنيمة".
والثالث: "أن الإمام إن استكثره خمسه، وإن استقله لم يخمسه وهو قول إسحاق وفعله عمر بن الخطاب".
__________
(1) الجوزجاني: "هو إبراهيم بن يعقوب السعدي "ثقة حافظ".
(2) أقول إن ما عمله عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - من تخميس سلب البراء بن مالك يمكن القول به لأنه راعى فيه المصلحة العامة، وليس فيه مخالفة لما قاله الرسول صلى الله عليه وسلم ولم يكن خافيا على عمر رضي الله عنه، لأنه قال: "إنا كنا لا نخمس السلب وإن سلب البراء قد بلغ ما لا وأنا خامسه".
فعمر - رضي الله عنه - نظر هنا إلى كثرة هذا السلب، ورأى بفهمه الثاقب وفقهه العميق لمقاصد الشريعة أن فيه حقا لبيت مال المسلمين، فلو ذهب إلى هذا النظر إمام من أئمة المسلمين لكان له فيه سند وسلف من عمر - رضي الله عنه ـ". والله أعلم.
(3) المغني لابن قدامة 8/391-392 وأضواء البيان للشنقيطي 2/396".(16/30)
ثم أورد حديث ابن سيرين في قصة تخميس عمر بن الخطاب سلب البراء بن مالك".
ثم قال: "والأوّل: "أصح، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يخمس السلب وقال: "هو له أجمع، ومضت على ذلك سنته وسنة الصديق بعده، وما رآه عمر اجتهاد منه أداه إليه رأيه، ثم قال: "والحديث يدل على أنه من أصل الغنيمة فإن النبي صلى الله عليه وسلم قضى به للقاتل، ولم ينظر في قيمته، وقدره، واعتبار خروجه من خمس الخمس(1)".إهـ.
المسألة الثالثة: من مسائل هذا الحكم ما هو سلب؟
قال ابن قدامة: "السلب هو ما كان القتيل لابسا له من ثياب وعمامة وقلنسوة(2) ومنطقة(3) ودرع ومغفر وبيضة وتاج وأسورةوران(4) وخف بما في ذلك من حلية ونحو ذلك؛ لأن المفهوم من السلب اللباس، وكذلك السلاح من السيف والرمح والسكين ونحوه؛ لأنه يستعين به في قتاله فهو أولى بالأخذ من اللباس، وكذلك الدابة لأنه يستعين بها فهي كالسلاح وأبلغ منه، ولذلك استحق بها زيادة السهمان بخلاف السلاح، فأما المال الذي معه في كمراته وخريطته فليس بسلب؛ لأنه ليس من الملبوس ولا مما يستعين به الحرب، وكذلك رحله وأثاثه وما ليست يده عليه من ماله ليس من سلبه، وبهذا قال الأوزاعي ومكحول والشافعي".
__________
(1) زاد المعاد 3/493-494 و5/72".
(2) قلنسوة: "بفتح أوله وضم السين المفتوحة: "ما يوضع على الرأس". (القاموس المحيط 2/242، وهدي الساري مقدمة فتح الباري ص 175".
(3) منطقة: "بكسر أوله ما يشد به الرجل على وسطه".
المغفر: "كمنبر: "يلبس في الرأس تحت القلنسوة".
والبيضة: "من حديد تلبس في الرأس في الحرب". (القاموس المحيط 2/103و325و3/285 وهدي الساري ص 91).
(4) الران: "كالخف إلا أنه لا قدم له وهو أطول من الخلف". (القاموس 4/230).(16/31)
إلا أن الشافعي قال: "ما لا يحتاج إليه في الحرب كالتاج والسوار والطوق والهيمان(1) الذي للنفقة ليس من السلب في أحد القولين لأنه مما لا يستعان به في الحرب فأشبه المال الذي في خريطته".
ثم قال ابن قدامة أيضا: "وإذا ثبت هذا فإن الدابة وما عليها من سرجها ولجامها وتجفيفها(2) وحلية إن كانت عليها وجميع آلاتها من السلب لأنه تابع لها ويستعان به في الحرب".
وإنما يكون السلب إذا كان راكبا عليها، وإن كانت في منزله أو مع غيره أو منفلتة لم يكن من السلب كالسلاح الذي ليس معه وإن كان راكبا عليها فصرعه عنها أو أشعره عليها ثم قتله بعد نزوله عنها فهي من السلب، وهكذا قول الأوزاعي".
وإن كان ممسكا بعنانها غير راكب عليها فعن أحمد فيها روايتان:
إحداهما: "من السلب وهو قول الشافعي لأنه متمكن من القتال عليها فأشبهت سيفه أو رمحه في يده".
والثانية: "ليست من السلب وهو ظاهر كلام الخرقي(3) واختيار الخلال(4)؛ لأنه ليس براكب عليها فأشبه ما لو كانت مع غلامه(5)".
وقال برهان الدين المرغيناني: "والسلب ما على المقتول من ثيابه وسلاحه ومركبه، وكذا ما كان على مركبه من السرج والآلة، وكذا ما معه على الدابة من ماله في حقيبته أو على وسطه، وما عدا ذلك فليس بسلب(6)".
__________
(1) الهيمان: "بكسر شداد السراويل ووعاء الدراهم". (القاموس المحيط 4/404).
(2) التجفاف: "آلة للحرب يلبسه الفرس والإنسان ليقيه في الحرب". (القاموس المحيط 3/124).
(3) هو عمر بن الحسين أبو القاسم الخرقي تقدم في حديث (262).
(4) الخلال: "هو أحمد بن محمد بن هارون، أبو بكر المعروف بالخلال له التصانيف الدائرة،والكتب السائرة، من ذلك الجامع في الفقه الحنبلي والعلل والسنة والطبقات وغير ذلك، مات سنة 311هـ". (طبقات الحنابلة للقاضي أبي يعلى 2/12-15 وتذكرة الحفاظ للذهبي 3/785-786).
(5) المغني لابن قدامة 8/394و395-396 والأم للشافعي 4/67".
(6) الهداية 2/149".(16/32)
وقال الدسوقي: "والسلب هو ما اعتيد وجوده مع المقتول حال الحرب كدابته المركوبة له أو الممسوكة بيده أو يد غلامه للقتال وسرجه ودرعه وسلاحه ومنطقته وما فيها من حلي وثيابه التي عليه". لا سوار وصليب وعين ذهب أو فضة ودابة غير مركوبة ولا ممسوكة للقتال بل جنيب أمامه بيد غلامه للافتخار فلا يكون للقتال لأنها من غير المعتاد، وله المعتاد(1)".
وقال ابن حزم: "والسلب: "فرس المقتول وسرجه، ولجامه، وكل ما عليه من لباس، وحلية، ومهاميز(2)، وكل ما معه من سلاح، وكل ما معه من مال في نطاقه أو في يده، أو كيفما كان معه(3)".
وبعد عرض مذاهب العلماء فيما هو المراد بالسلب، فإن الظاهر في هذا هو ما ذهب إليه ابن حزم رحمه الله تعالى، لأن الأحاديث الواردة في ذلك عامة ولم تخصص شيئا دون شيء، ففي حديث أبي قتادة "من قتل قتيلا له عليه بينة فله سلبه".
وفي حديث سلمة بن الأكوع "من قتل الرجل قالوا: "سلمة بن الأكوع، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "له سلبه أجمع".
وفي لفظ: "فنفلني رسول الله صلى الله عليه وسلم سلبه".
وفي حديث أنس بن مالك: "أن أبا طلحة قتل عشرين رجلا يوم حنين وأخذ أسلابهم".
وهذه النصوص عامة كما ترى".
وفي حديث البراء بن مالك: "أنه بارز مرزبان الزارة بالبحرين، فطعنه فدق صلبه وأخذ سواريه وسلبه" الحديث".
وفيه أن عمر بن الخطاب خمسه وكان قد بلغ ثلاثين ألفا دفع بقيته إلى البراء(4)".
__________
(1) حاشية الدسوقي 2/191".
(2) المهاميز: "عصى، واحدتها مهمزة وهي عصا في رأسها حديدة ينخس بها الحمار، والمهمزة أيضا: "المقرعة". (لسان العرب 7/292، والقاموس المحيط 2/196).
(3) المحلى لابن حزم 7/546".
(4) تقدم الحديث برقم (286).(16/33)
وفي حديث عوف بن مالك الأشجعي في قصته قتل المددي لرجل من الروم وكان الرومي على فرس له عليه سرج مذهب وسلاح مذهب فجعل الرومي يفري بالمسلمين، فقعد له المددي خلف صخرة فمر به الرومي فعقرب فرسه فخر وعلاه فقتله وحاز فرسه وسلاحه، فلما فتح الله عز وجل للمسلمين بعث إليه خالد بن الوليد فأخذ من السلب".
قال عوف فأتيته فقلت: "يا خالد أما علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى بالسلب للقاتل؟
قال: "بلى، ولكنني استكثرته" الحديث(1).
المسألة الرابعة: من مسائل هذا الحكم من هو المقتول الذي يستحق قاتله أخذ سلبه.
قال ابن قدامة: "الفصل الرابع: "أنه إنما يستحق السلب بشروط:
أحدها: "أن يكون المقتول من المقاتلة الذين يجوز قتلهم فأما إن قتل امرأة أو صبيا أو شيخا فانيا أو ضعيف مهينا ونحوهم ممن لا يقاتل لم يستحق سلبه لا نعلم فيه خلافا، وإن كان أحد هؤلاء يقاتل استحق قاتله سلبه لأنه يجوز قتله، ومن قتل أسيرا له أو لغيره لم يستحق سلبه لذلك".
الثاني: "أن يكون المقتول فيه منفعة غير مثخن بالجراح، فإن كان مثخن بالجراح فليس لقاتله شيء من سلبه..".وإن قطع يدي رجل ورجليه وقتله آخر فالسلب للقاطع دون القاتل لأن القاطع هو الذي كفى المسلمين شره".
الثالث: "أن يقتله أو يثخنه بجراح تجعله في حكم المقتول (2)".
__________
(1) تقدم الحديث برقم (283). وانظر ص 653-655".).
(2) المغني 8/389-390 وقد اشترط بعض العلماء أن يكون القتل في مبارزة وأن يكون المقتول مقبلا غير مدبر، وقد تقدم في حاشية ص 645 قول الشنقيطي: "أن الحق في هذا انه لا يشترط شيء من ذلك".(16/34)
وقال القرطبي: "قال أبو العباس(1) بن سريج من أصحاب الشافعي ليس الحديث "من قتل قتيلا فله سلبه" على عمومه لإجماع العلماء على أن من قتل أسيرا أو امرأة أو شيخا أنه ليس له سلب واحد منهم".
وكذلك من ذفف على جريح، ومن قتل من قطعت يداه ورجلاه(2).إهـ.
وقال الأمين الشنقيطي: "ولا يستحق القاتل سلب المقتول، إلا أن يكون المقتول من المقاتلة الذي يجوز قتالهم، فأما إن قتل امرأة أو صبيا أو شيخا فانيا، أو ضعيفا مهينا، أو مثخنا بالجراح لم تبقى فيه منفعة، فليس له سلبه".
__________
(1) هو الإمام العلامة شيخ الإسلام القاضي أبوالعباس أحمد بن عمر بن سريج البغدادي قدوة الشافعية، (مات سنة 303هـ).(تذكرة الحفاظ للذهبي3/811-813).
(2) الجامع لأحكام القرآن 8/5-6".(16/35)
ثم قال: "ولا خلاف بين العلماء: "في أن من قتل صبيا أو امرأة أو شيخا فانيا لا يستحق سلبهم، إلا قولاً ضَعِيفاً جدا يروى عن أبي ثور، وابن المنذر، في استحقاق سلب المرأة، ثم قال: "والدليل على أن من قتل مثخن بالجراح لا يستحق سلبه، أن عبد الله بن مسعود، هو الذي ذفف على أبي جهل يوم بدر وحز رأسه(1)، وقد قضى النبي صلى الله عليه وسلم بسلبه لمعاذ بن عمرو بن الجموح الذي أثبته، ولم يعط ابن مسعود شيئا ثم قال: "وهذا هو الحق الذي جاء به الحديث المتفق عليه فلا يعارض بما رواه الإمام أحمد، وأبو داود عن ابن مسعود "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نفله سيف أبي جهل يوم بدر"(2)؛ لأنه من رواية ابنه أبي عبيدة ولم يسمع منه".
وكذلك المقدم للقتل صبرا لا يستحق قاتله سلبه، لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بقتل النضر بن الحارث العبدري، وعقبة بن أبي معيط الأموي صبرا يوم بدر، ولم يعطي من قتلهما شيئا من سلبهما".
واختلفوا فيمن أسر أسيرا: "هل يستحق سلبه إلحاقا للأسر بالقتل أو لا؟
والظاهر أنه لا يستحقه، لعدم الدليل فيجب استصحاب عموم: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ}، [سورة الأنفال، من الآية: 41]، الآية.
حتى يرد مخصص من كتاب أو سنة صحيحة، وقد أسر النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمون، أسارى بدر، وقتل بعضهم صبرا كما ذكرنا، ولم يعطي أحد من الذين أسروهم شيئا من أسلابهم، ولا من فدائهم بل جعل فداءهم غنيمة.
__________
(1) انظر: "الحديث في سيرة ابن هشام 1/633".
(2) انظر: "الحديث سنن أبي داود 2/66 كتاب الجهاد، باب من أجاز على جريح مثخن ينفل من سلبه، ومسند أحمد1/444، قال المنذري: "أبو عبيدة لم يسمع من أبيه(عون المعبود7/393)وقال ابن حجر في التقريب2/448أبو عبيدة بن عبدالله ابن مسعود،مشهور بكنيته والأشهر أن لا اسم له غيرها ويقال اسمه عامر،كوفي ثقة،من كبار الثالثة، والراجح أنه لا يصح سماعه من أبيه(ت بعد سنة80)./ عم".(16/36)
أما إذا قاتلت المرأة أو الصبي المسلمين: "فالظاهر أن لمن قتل أحدهما سلبه، لأنه حينئذ ممن يجوز قتله، فيدخل في عموم "من قتل قتيلا فله سلبه" الحديث، وبهذا جزم غير واحد". والعلم عند الله تعالى (1) إهـ.
وأقول: "اختلف العلماء في مسائل هذا الحكم كعادتهم في كثير من المسائل الفقهية والناظر في مسائل هذا الحكم بالذات يجد أن مسائله متداخلة غير متميز بعضها عن بعض، حتى يكاد الطالب يقف أمامها واجما لا يستطيع أن يخرج بنتيجة مرضية لتشابكها و تداخلها.
وقد حاولت إبراز بعض هذه الجوانب وترتيبها ترتيبا متناسبا وذلك بجعل كل مسألة على حدى مع ذكر القائلين بها والمخالفين لها ثم إيراد دليل كل قول مع مناقشة الأدلة، حتى تكون مسائل هذا الحكم قريبة التناول سهلة المأخذ.
وقد ظهر لي من خلال ذلك أن الظاهر في هذا القول باستحقاق القاتل سلب قتيله،سواء قال الإمام من قتل قتيلا فله سلبه أم لم يقل ذلك، وأن السلب هو كل ما على القتيل ومعه من ثياب وسلاح وحلية ودابة و غير ذلك، وأن هذا السلب للقاتل قل أو كثر بدون تخميس، وأنه من أصل الغنيمة".
وسواء أكان القتل مبارزة أم غير مبارزة، مقبلا أو مدبرا بشرط أن يقيم بنية على أنه قتله أو أثخنه بالجراح حتى جعله في حكم المقتول".
وهذا هو الذي تؤيده الأدلة الواردة في هذا الحكم". والله أعلم".
__________
(1) أضواء البيان 2/389-390".(16/37)
الحكم الرابع عشر: في بيان تحريم الغلول في الغنيمة
الغلول: "هو اعتداء بعض أفراد الجيش على أموال الغنيمة قبل قسمها وهو من كبائر الذنوب، ولا يقدم عليه إلا ضعيف الإيمان ضعيف النفس يحمله جشعه وسوء طبعه على هذه الخيانة العظيمة لإخوانه المجاهدين معه في سبيل الله ولعظيم خطر الغلول جاءت النصوص في الكتاب والسنة تحذر من الوقوع فيه وتبين أنه ذنب عظيم و جريمة أخلاقية فظيعة، قال تعالى: {وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ}[سورة آل عمران،الآية: 161].
قال الشوكاني: "قوله: { يَأْتِ بِمَا غَلَّ } أي يأت به حاملا له على ظهره كما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم فيفضحه بين الخلائق، وهذه الجملة تتضمن تأكيد تحريم الغلول و التنفير منه بأنه ذنب يختص فاعله بعقوبة على رؤوس الأشهاد يطلع عليها أهل المحشر، وهي مجيئه يوم القيامة بما غله حاملا له قبل أن يحاسب عليه و يعاقب عليه".
وقوله: {ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ}،[سورة البقرة، من الآية: 281]، أي تعطى جزاء ما كسبت وافيا من خير وشر، وهذه الآية تعم كل من كسب خيراً أو شراً، ويدخل تحتها الغال دخولاً أوليا لكون السياق فيه(1)".إهـ".
287- وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: "قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم فذكر الغلول(2)
__________
(1) فتح القدير 1/394".
(2) الغلول: "بضم المعجمة و اللام، الخيانة في المغنم".
قال ابن قتيبة: "سمي بذلك لأن آخذه يغله في متاعه، أي يخفيه فيه".
وقال أبو عبيد: "الغلول من المغنم خاصة، ولا نراه من الخيانة ولا من الحقد، ومما يبين ذلك أنه يقال من الخيانة: "أغل يغل، ومن الحقد: "غل يغل بالكسر، ومن الغلول غل يغل بالضم".(لسان العرب لابن منظرو14/13،وفتح الباري لابن حجر6/185).(17/1)
فعظمه وعظم أمره(1) ثم قال: "لا ألفين(2) أحدكم يجيء يوم القيامة، على رقبته بعير له رغاء(3)، يقول: "يا رسول الله! أغثني فأقول: "لا أملك لك شيئاً(4) قد أبلغتك لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة، على رقبته فرس له حمحمة(5)، فيقول يا رسول الله! أغثني فأقول: "لا أملك لك شيئا قد أبلغتك لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة، على رقبته شاة لها ثغاء(6)، يقول: "يا رسول الله! أغثني فأقول: "لا أملك لك شيئا قد أبلغتك، لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة، على رقبته نفس لها صياح(7)، فيقول يا رسول الله! أغثني، فأقول: "لا أملك شيئا قد أبلغتك، لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته رقاع(8)
__________
(1) قوله: "ذكر الغلول فعظمه وعظم أمره"، قال النووي: "هذا تصريح بغلظ تحريم الغلول، وأصل الغلول: "الخيانة مطلقاً، ثم غلب اختصاصه في الاستعمال بالخيانة في الغنيمة قال نفطويه: "سمي بذلك؛ لأن الأيدي مغلولة عنه، أي محبوسة، يقال: "غل غلولاً، وأغل إغلالاً". (شرح النووي على صحيح مسلم 4/495).
(2) قوله صلى الله عليه وسلم: "لا ألفين أحدكم إلخ"، (ألفين) بضم الهمزة و بالفاء المكسورة أي لا أجدن أحدكم على هذه الصفة، ومعناه لا تعمل عملا أجدكم بسببه على هذه الصفة". قال عياض: "وفي رواية العذري "لا ألفين" بفتح الهمزة والقاف وله وجه كنحو ما سبق لكن المشهور الأوّل". (شرح النووي على صحيح مسلم 4/495).
(3) رغاء: "الرغاء صوت الإبل". (النهاية لابن الأثير 2/240).
(4) قوله صلى الله عليه وسلم: "لا أملك لك شيئا"، قال النووي: "قال القاضي: "معناه من المغفرة والشفاعة إلا بإذن الله تعالى، قال: "ويكون ذلك أولاً غضباً عليهم لمخالفته ثم يشفع في جميع الموحدين بعد ذلك، كما سبق في كتاب الإيمان في شفاعات النبي صلى الله عليه وسلم". (شرح النووي على صحيح مسلم 4/495).
(5) حمحمة: "هو صوت الفرس دون الصهيل".
(6) ثغاء) هو صوت الغنم".
(7) صياح): "هو صوت الإنسان".
(8) رقاع) جمع رقعة والمراد بها هنا الثياب".(17/2)
تخفق(1)، فيقول: "يا رسول الله! أغثني، فأقول: "لا أملك شيئا، قد أبلغتك، لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته صامت(2)، فيقول: "يا رسول الله! أغثني فأقول: "لا أملك لك شيئا قد أبلغتك"(3)".
288- وفي حديث عبد الله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنهما - قال: "كان على ثقل(4) النبي صلى الله عليه وسلم رجل يقال له كركرة(5)، فمات، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هو في النار"(6). فذهبوا ينظرون إليه فوجدوا عباءة قد غلها (7)".
__________
(1) تخفق): "تضطرب".
(2) الصامت: "الصامت من المال: "الذهب و الفضة". (انظر: "النهاية في غريب الحديث 1/214-436 و2/251و3/52).
(3) البخاري: "الصحيح 4/59 كتاب الجهاد باب الغلول". ومسلم: "الصحيح 3/1461 كتاب الإمارة، باب غلظ تحريم الغلول و الرفض له".
(4) ثقل: "بمثلثة وقاف مفتوحتين: "العيال وما يثقل حمله من الأمتعة".(فتح الباري 6/187 والمصباح المنير 1/102-103).
(5) كركرة: "ذكر القاضي عياض أنه يقال: "بفتح الكافين و بكسرهما". ونقل البخاري: "الخلاف في كافه هل هي بالفتح أو بالكسر". وقال النووي: "إنما اختلفوا في كافه الأولى، وأما الثانية فمكسورة اتفاقا". وكركرة هذا هو: "مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم كان نوبيا أهداه له هوذة بن علي الحنفي، صاحب اليمامة، فاعتقه وذكر البلاذري: "انه مات في الرق قال ابن مندة: "له صحبة ولا تعرف له رواية، وقال الواقدي: "كان يمسك دابة النبي صلى الله عليه وسلم عند القتال يوم خيبر". (مشارق الأنوار للقاضي عياض 1/352 وفتح الباري 6/187-188 والإصابة 3/293، ومغازي الواقدي 2/681 والمغني لابن طاهر الهندي ص 66).
(6) قوله: "هو في النار"، أي: "يعذب على معصيته أو المراد هو في النار إن لم يعف الله عنه". (فتح الباري 6/188).
(7) البخاري: "الصحيح 4/59 كتاب الجهاد، باب القليل من الغلول".(17/3)
والأحاديث الوردة في النهي عن الغلول وعقوبة فاعله كثيرة جداً، وحسبنا في ذلك أن نقتصر على الأحاديث الواردة في غزوتنا هذه، وهي حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده الحديث طويل وفيه: "
ولما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من رد سبايا حنين إلى أهلها ركب، واتبعه الناس يقولون: "يا رسول الله أقسم علينا فيئنا من الإبل والغنم حتى ألجئوه إلى شجرة فاختطفت رداءه، فقال: "أدو علي ردائي أيها الناس، فوالله أن لو كان لكم بعدد شجر تهامة نعما لقسمته عليكم، ثم ما ألفيتموني بخيلا ولا جبانا ولا كذاباً ثم قام إلى جنب بعير، فأخذ وبرة(1)
__________
(1) والوبر: "محركة صوف الإبل والأرانب ونحوها وجمعه أوبار". (القاموس المحيط 2/151 والمصباح المنير 2/799).
وعند مالك: "ثم تناول من الأرض وبرة من بعير أو شيئا" وعند عبد الرزاق: "ثم رفع شعرات أو وبرة من بعيره", وعند بن أبي شيبة: "ثم تناول شعرة من بعير", وعند أحمد وأبي داود: "ثم دنا من بعير فأخذ وبرة من سنامه فجعلها بين أصابعه السبابة والوسطى ثم رفعها" وعند البيهقي "ثم أخذ وبرة من وبر سنام البعير فرفعها".(17/4)
من سنامه فجعلها بين أصبعيه، ثم رفعها، ثم قال: "أيها الناس, والله ما لي من فيئكم ولا هذه الوبرة(1) إلا الخمس(2), والخمس مردود عليكم, فأدوا الخياط(3) والمخيط, فإن الغلول يكون على أهله عاراً(4)
__________
(1) وعند أحمد: "يا أيها الناس ليس لي من هذا الفيء هؤلاء هذه إلا الخمس", وعند مالك وعبد الرزاق والطبراني والبيهقي: "ما لي مما أفاء الله عليكم ولا مثل هذه إلا الخمس", وعند النسائي: "إنه ليس لي من الفيء شيء ولا هذه إلا الخمس".
(2) الخمس: "بضم الميم وسكونها, وقد ضبط بالرفع والنصب, فالرفع على البدل، وهو الأفصح والنصب على الاستثناء, والمعنى (إلا الخمس) لي أتصرف فيه كيف أشاء أو أملكه أو أقسمه على الاختلاف في معناه".(أوجز المسالك إلى موطأ مالك 8/323). وقوله: "والخمس مردود عليكم" أي والخمس المذكور مع كونه لي "مردود عليكم" أيضا أي مصروف في مصالحكم".(مصدر السابق 8/322).
(3) قوله: "أدوا الخياط والمخيط".
الخياط: "ككتاب الخيط لوروده في حديث عبادة بن الصامت الآتي بلفظ: "أدوا الخيط والمخيط" والمخيط: "بزنة منبر: "الإبرة, وعند عبد الرزاق وأحمد والطبراني واللبيهقي: "ردوا الخياط والمخيط".
قال الخطابي: "فيه دليل على أن قليل ما يغنم و كثيره مقسوم بين من شهد الوقعة ليس لأحد أن يستبد منه بشيء وإن قل,إلا الطعام الذي قد وردت فيه الرخصة, وهذا قول الشافعي". (عون المعبود7/360، وانظر أوجز المسالك إلى موطأ مالك 8/322).
(4) قوله: "عارا ونارا وشنارا يوم القيامة" أي: "يلزم منه شين وسبة في الدنيا, (ونار) جهنم يوم القيامة".
(وشنارا) بفتح الشين المعجمة و النون الخفيفة فألف فراء, أي أقبح العيب والعار, قال ابن عبد البر: "الشنار لفظة جامعة لمعنى النار والعار, ومعناها الشين والنار,يوم القيامة, وقال أبو عبيدة: "الشنار العيب والعار (يوم القيامة) يريد أن الغلول شين وعار ومنقصة في الدنيا وعذاب ونار في الآخرة".
(أوجز المسالك إلى موطأ مالك8/323 والنهاية لابن الأثير 2/504 والمنتقى للباجي 3/199-200).(17/5)
وناراً وشناراً يوم القيامة, قال: "فجاء رجل من الأنصار بكبة(1) من خيوط شعر, فقال: "يا رسول الله, أخذت هذه الكبة أعمل بها برذعة(2) بعير لي دبر(3), فقال أما نصيْبِي (4) منها فلك, قال:أما إذا بلغت(5) هذا فلا حاجة لي بها ثم طرحها من يده"(6).
حديث عبادة بن الصامت - رضي الله عنه -, وقد ورد من أربع طرق:
أ- من طريق يعلى بن شداد عن عبادة عند ابن ماجة والفسوي وهذا سياقه عند ابن ماجة قال: "
__________
(1) الكبة: "بضم الكاف وتشديد الموحدة, أي قطعة مكبكبة من غزل شعر".(لسان العرب 2/190 وعون المعبود 7/360).
(2) برذعة:البرذعة الحلس الذي يلقى تحت الرحل, والجمع البراذع, وخص بعضهم به الحمار, وهي بالدال والذال, وفي القاموس: "وإهمال داله أكثر". (لسان العرب 9/355, والقاموس المحيط 3-4).
(3) دبر: "بالتحريك: "الجرح الذي يكون في ظهر البعير,يقال:دبر يدبر دبرا".(النهاية في غريب الحديث 2/97 والقاموس المحيط 1/26).
(4) وعند أبي داود والنسائي وأحمد "أما ما كان لي ولبني عبد المطلب فهو لك", وعند ابن الجارود "أما ما كان لي فهو لك".
(5) وعند أبي داود والنسائي وأحمد "أما إذا بلغت ما أرى فلا إرب لي فيها ونبذها".
(6) الحديث سياقه لابن إسحاق وقد تقدم برقم (130) وتحت رقم(180).
وعند الواقدي: "وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالغنائم تجمع, ونادى مناديه: "من كان يؤمن بالله وباليوم الآخر, فلا يغل,! وجعل الناس غنائمهم في موضع حتى استعمل رسول الله صلى الله عليه وسلم عليها,وكان عقيل بن أبي طالب دخل على زوجته وسيفه متلطخ دما, فقالت: إني قد علمت أنك قد قاتلت المشركين,فماذا أصبت من غنائمهم؟ قال: "هذه الإبرة تخيطين بها فدفعها إليها,وفيه فسمع منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من أصاب شيئا من المغنم فليرده فرجع عقيل فقال: "والله ما أرى إبرتك إلا قد ذهبت فألقاها في الغنائم".(مغازي الواقدي3/917-918وشرح المواهب للزرقاني3/36).(17/6)
289- حدّثنا عليّ(1) بن مُحمّد ثناأبو أسامة(2) عن أبي سنان عيسى بن سنان عن يعلى(3) بن شداد, عن عبادة بن الصامت قال: "صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين, إلى جنب بعير من المقاسم, ثم تناول شيئا من البعير, فأخذ منه قردة(4) - يعني وبرة - فجعل بين أصبعيه ثم قال: "يا أيها الناس إن هذا من غنائمكم، أدوا الخيط والمخيط, فما فوق ذلك, فما دون ذلك,فإن الغلول عار على أهله يوم القيامة وشنار ونار"(5).
والحديث من زوائد ابن ماجة.
قال البوصيري: "في إسناده عيسى(6)
__________
(1) علي بن محمد بن إسحاق الطنافسي - بفتح المهملة وتخفيف النون وبعد الألف فاء ثم مهملة - ثقة عابد، من العاشرة (ت 233 وقيل 235). /عس ق". (التقريب 2/43 وتهذيب التهذيب 7/378).
(2) هو حماد بن أسامة القرشي مولاهم، الكوفي، أبو أسامة مشهور بكنيته ثقة ثبت، ربما دلس، من كبار التاسعة (ت 201). / ع". (التقريب 1/195 وتهذيب التهذيب 3/2-3).
(3) يعلى بن شداد بن أوس الأنصاري، أبو ثابت المدني، صدوق، نزيل الشام، من الثالثة". /د ق". (المصدر السابق 2/378، و11/402).
(4) القرد: "محركة ما تمعط من الوبر والصوف أو نفايته والسعف سل خوصها، واحدته بهاء، هو أردأ ما يكون من الوبر والصوف". (النهاية لابن الأثير 4/37 والقاموس المحيط للفيروز آبادي 1/326).
(5) ابن ماجه: "السنن 2/950 كتاب الجهاد، باب الغلول".
والفسوي المعرفة و التاريخ 2/360-361".
(6) هو أبو سنان القسملي - بفتح القاف و سكون المهملة، وفتح الميم وتخفيف اللام - الفلسطيني نزيل البصرة".
قال عنه ابن حجر في التقريب: "(لين الحديث)./بخ قد ت ق". (التقريب 2/98 وتهذيب التهذيب 8/211-212 وتهذيب الكمال للمزي 6/540 وميزان الاعتدال 3/312، والكاشف 2/367 كلاهما للذهبي، والخلاصة للخزرجي 2/317). ووقع في التقريب الطبعة المصرية (س) بدل (ق) وهو خطأ".(17/7)
بن سنان، اختلف فيه كلام ابن معين قال: "لين لحديث و ليس بالقوي، وقيل: "ضعيف، و قيل: "لا بأس به، وذكره ابن حبان في الثقات، وباقي رجال الإسناد ثقات".إهـ.
ولكن الحديث له طرق أخرى عن عبادة يتقوى بها وهي:
ب- طريق أبي أمامة الباهلي عن عبادة عند أحمد وغيره وهذا سياق أحمد قال: "حدثنا معاوية(1)
__________
(1) معاوية بن عمرو بن المهلب الأزدي، المعنى - بفتح الميم و سكون المهملة و كسر النون- أبو عمرو البغدادي، ويعرف بابن الكرماني، ثقة من صغار التاسعة (ت214) على الصحيح"./ ع". (التقريب 2/240وتهذيب التهذيب 10/215 وتاريخ بغداد للخطيب البغدادي 13/197 والخلاصة للخزرجي 3/41).
ووقع عند ابن كثير في التفسير 2/283 في هذا الإسناد عن أحمد حدثنا (أبو معاوية بن عمر) بدل (معاوية بن عمرو) ولعله خطأ".(17/8)
بن عمرو ثنا أبو إسحاق(1) - يعني الفزاري - عن عبد الرحمن(2) ابن الحارث بن عياش عن سليمان(3) بن موسى عن مكحول(4) عن أبي سلام(5) عن أبي أمامة(6) الباهلي، عن عبادة ابن الصامت رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أدوا الخيط والمخيط وإياكم والغلول فإنه عار على أهله يوم القيامة".
وفي لفظ عن عبادة قال: "أخذ النبي صلى الله عليه وسلم وبرة من جنب بعير فقال: "أيها الناس إنه لا يحل لي مما أفاء الله عليكم قدر هذه إلا الخمس، والخمس مردود عليكم".
__________
(1) أبو إسحاق الفزاري هو إبراهيم بن محمد، ثقة حافظ، تقدم في حديث (135).
(2) صدوق له أوهام، تقدم في حديث (267). ووقع في إرواء الغليل 5/74 للألباني (عبد الرحمن بن عباس) بالسين المهملة و الباء الموحدة، وهو خطأ".
(3) سليمان بن موسى الأموي، مولاهم الدمشقي الأشدق، صدوق فقيه، في حديثه بعض لين وخلط قبل موته بقليل، من الخامسة". /م عم". (التقريب 1/331 وتهذيب التهذيب 4/226). وفي ميزان الاعتدال 2/225-226 قال الذهبي: "كان سليمان مقدما على أصحاب مكحول، ثم ذكر له بعض الأحاديث التي انتقد من أجلها، ثم قال: "قلت: "كان سليمان فقيه أهل الشام في وقته قبل الأوزاعي و هذه الغرائب التي تستنكر له، يجوز أن يكون حفظها".
(4) مكحول هو أبو عبد الله الشامي، ثقة فقيه كثير الإرسال تقدم في حديث (136).و سقط من أحد أسانيد أحمد 5/323 وكذا عند ابن كثير في التفسير 2/283".
(5) أبو سلام هو ممطور الأسود، ثقة يرسل، تقدم في حديث (50) ووقع عند ابن كثير في التفسير 2/283(أبي سلامة) وهو خطأ".
(6) أبو أمامة الباهلي تقدم في حديث (152). هو صدى ابن عجلان صحابي مشهور".(17/9)
وجاء بهذا الإسناد في قصة بدر(1).
وفيه: "قال عبادة: "وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أغار في أرض العدو نفل الربع، وإذا أقبل راجعاً وكلَّ الناس نفل الثلث، وكان يكره الأنفال، ويقول: "ليرد قوي المؤمنين على ضعيفهم". هكذا روى الإمام أحمد هذا الحديث عن عبادة مفرقا(2).
وكذا روى بعضه الدارمي مفرقا أيضاً(3).
__________
(1) وسياق الحديث: "قال عبادة: "خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم فشهدت معه بدرا فالتقى الناس فهزم الله تبارك و تعالى العدو، فانطلقت طائفة في آثارهم يهزمون ويقتلون، فأكبت طائفة على العسكر يحوزونه ويجمعونه، وأحدقت طائفة برسول الله صلى الله عليه وسلم لا يصيب العدو منه غرة، حتى إذا كان الليل وفاء الناس بعضهم إلى بعض قال الذين جمعوا الغنائم نحن حويناها وجمعناها فليس لأحد فيها نصيب، وقال الذين خرجوا في طلب العدو: "لستم بأحق بها منّا نحن نفينا عنها العدو وهزمناهم، وقال الذين أحدقوا برسول الله صلى الله عليه وسلم: "لستم بأحق بها منّا نحن أحدقنا برسول الله صلى الله عليه وسلم، وخفنا أن يصيب العدو منه غرة، واشتغلنا به، فنَزلت: {يَسْأَلونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [سورة الأنفال الآية: "1]، فقسمها رسول اله صلى الله عليه وسلم على فواق بين المسلمين، قال وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أغار الخ".
وروى الحاكم هذا القدر من الحديث من هذا الطريق وقال: "صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي". (مسند أحمد 5/323-324 ومستدرك الحاكم 2/135-136".).
(2) المسند 5/318-319-323-324).
(3) سنن الدارمي 2/147-148). كتاب السير، باب ما جاء في أن ينفل في البدأة الربع، وفي الرجعة الثلث، وباب في كراهية الأنفال، وباب ما جاء أنه قال: "أدو الخيط والمخيط".(17/10)
وروى البيهقي منه هذا الجزء الأخير(1).
ورواه ابن حبان في صحيحه مجموعاً في سياق واحد، مشتملا على قصة بدر.
وفيه "وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينفلهم إذا خرجوا بادئين الربع، وينفلهم إذا قفلوا الثلث".
وقال: "أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين وبرة من جنب بعير ثم قال: "يا أيها الناس، إنه لا يحل لي مما أفاء الله عليكم إلا الخمس، والخمس مردود عليكم، فأدوا الخيط والمخيط، وإياكم والغلول فإنه عار على أهله يوم القيامة، وعليكم بالجهاد في سبيل الله فإنه من أبواب الجنة يذهب الله به الهم والغم، قال: "وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكره الأنفال ويقول: "ليرد قوي(2) المؤمنين على ضعيفهم"(3).
__________
(1) السنن الكبرى 6/315".
(2) قوله: "ليرد قوي المؤمنين على ضعيفهم أي لا يفضل أحد من أقوياء المؤمنين مما أفاء الله عليهم لقوته على ضعيفهم لضعفه، ويستوون في ذلك". شرح معاني الآثار 3/241).
(3) موارد الظمآن ص 410، رواه من طريق إسماعيل بن جعفر حدثني محمد بن الحارث بن عياش بن أبي ربيعة عن سليمان بن موسى به، والظاهر أن قوله (محمد ابن الحارث) الخ خطأ مطبعي وذلك لما يأتي:
أولاً: "أن جميع طرق هذا الحديث عن عبد الرحمن بن الحارث بن عبد الله بن عياش بن أبي ربيعة عن سليمان بن موسى".
ثانياً: "لم أجد ترجمة (محمد هذا) ولم يذكر في تلاميذ سليمان بن موسى، و إنما المعروف بالرواية لهذا الحديث عن سليمان هو عبد الرحمن بن الحارث".
ثالثاً: "أورد ابن كثير هذا الحديث في التفسير 2/283-284 منسوبا لأحمد بن حنبل ثم قال: "ورواه ابن حبان في صحيحه والحاكم في مستدركه من حديث عبد الرحمن ابن الحارث، وقال الحاكم: "صحيح الإسناد ولم يخرجاه". (المستدرك 2/135-136- و3/49). فظهر من هذا أن ذكر محمد بن الحارث خطأ، وأن الصواب (عبد الرحمن بن الحارث).(17/11)
ورواه الطحاوي والحاكم كلاهما من طريق عبد الرحمن بن الحارث عن سليمان بن موسى الأشدق به، دون قصة بدر(1)".
ورواه النسائي والبيهقي كلاهما من طريق عبد الرحمن بن الحارث عن سليمان بن موسى به قوله: "أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين وبرة من جنب بعير فقال: "يا أيها الناس إنه لا يحل لي مما أفاء الله عليكم قدر هذه إلا الخمس، والخمس مردود عليكم"(2)".
جـ طريق ابن أبي مريم عن أبي سلام عن المقدام بن معد يكرب الكندي عند أحمد وهذا سياق الحديث:
__________
(1) الطحاوي: "شرح معاني الآثار 3/241 والحاكم المستدرك 3/49 ووقع في المستدرك عن أبي سلام الباهلي رضي الله عنه صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم عن عبادة بن الصامت، وصوابه: "عن أبي سلام عن أبي أمامة الباهلي صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم عن عبادة بن الصامت". وقد رواه الحاكم على الصواب في المستدرك 2/135-136".
وأيضا فإن أبا سلام ليس صحابياً ولا باهلياً".
(2) النسائي: "السنن 7/119 كتاب قسم الفيء". والبيهقي: "السنن الكبرى 6/303 و315".(17/12)
حدثنا أبو اليمان(1) وإسحاق(2) بن عيسى قالا ثنا إسماعيل(3) بن عياش عن أبي بكر(4) بن عبد الله بن أبي مريم عن أبي سلام, قال إسحاق(5): "- الأعرج - عن المقدام(6) بن معديكرب الكندي أنه جلس مع عبادة بن الصامت وأبي الدرداء(7) والحارث(8) بن معاوية الكندي فتذاكروا حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ,فقال أبو الدرداء لعبادة: "يا عبادة كلمات رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة كذا وكذا في شأن الأخماس فقال عبادة:قال إسحاق في حديثه: "إن رسول الله صلى الله عليه وسلم , صلى بهم في غزوهم إلى بعير من المقسم, فلما سلم قام رسول الله صلى الله عليه وسلم فتناول وبرة بين أنملته(9)
__________
(1) هو: "الحكم بن نافع البهراني- بفتح الموحدة وسكون الهاء - أبو اليمان الحمصي, مشهور بكنيته, ثقة ثبت, من العاشرة, (ت222)./ع".(التقريب 1/193 وتهذيب التهذيب2/441).
(2) إسحاق بن عيسى بن نجيح البغدادي, أبو يعقوب بن الطباع سكن أذنة, صدوق من التاسعة (ت114) وقيل بعدها بسنة"./م ت س ق". (المصدر السابق 1/60 و1/245).
(3) إسماعيل بن عياش بن سليم العنسي _بفتح العين وسكون النون_أبو عتبة الحمصي, صدوق في روايته عن أهل بلده,مخلط في غيرهم, من الثامنة (ت181أو182). /ي عم". (المصدر السابق 1/73 و1/321-326, وروايته هنا عن أهل بلده).
(4) هو الغسائي الشامي, وقد ينسب إلى جده, ضعيف, وكان قد سرق بيته فاختلط, من السابعة (ت156)./د ت ق". (المصدر السابق 2/398و12/28-30).
(5) أي: "قال إسحاق بن عيسى أن أبا سلام هو الأعرج".
(6) المقدام بن معد يكرب بن عمرو الكندي, صحابي مشهور نزل الشام (ت87) على الصحيح". /خ عم". (المصدر السابق 2/272 و10/287).
(7) أبو الدرداء: "هو عويمر بن عامر الأنصاري الخزرجي صحابي جليل".
(8) الحارث بن معاوية: "اختلف في صحبته ورجح ابن حجر أنه مخضرم أدرك زمن النبي صلى الله عليه وسلم, ووفد في خلافة عمر بن الخطاب". (الإصابة 1/290-291 وتعجيل المنفعة ص56).
(9) الأنملة: "بفتح الهمزة: "المفصل الأعلى الذي فيه الظفر من الأصبع والجمع أنامل وأنملات وهي رؤوس الأصابع".(لسان العرب 14/203).(17/13)
فقال: إن هذه من غنائمكم وإنه ليس لي فيها إلا نصيبي معكم, إلا الخمس, والخمس مردود عليكم, فأدوا الخيط والمخيط وأكبر من ذلك وأصغر ولا تغلوا فإن الغلول نار وعار على أصحابه في الدنيا والآخرة"(1) الحديث.
قال الألباني في إرواء الغليل: "هذا إسناد جيد في المتابعات أبو سلام الأعرج هو ممطور الحبشي الدمشقي وهو ثقة من رجال مسلم, وابن أبي مريم ضعيف لاختلاطه, لكن تابعه أبو يزيد غيلان, أخرجه الدولابي في "الكنى"(2) ثم قال:وأبو يزيد مقبول كما في "التقريب"(3) وساق سند الدولابي(4) في سلسلة الأحاديث الصحيحة,ثم قال: "وقع في إسناده في الأصل: "بياض بين كعب ومعد, ولعل الصواب: "المقدام بن معديكرب فقد أورد الحديث الحافظ في الإصابة وقال: "قال أبو نعيم: "رواه أبو سلام عن المقدام الكندي فقال: "الحارث بن معاوية الكندي".
والمقدام الكندي هو ابن معد يكرب وهو صحابي مشهور".
ثم ذكر الخلاف في صحبة الحارث وأشار إلى ترجيح ابن حجر بأنه مخضرم".
ثم قال: "وغيلان هو ابن أنس قال في "التقريب" مقبول"(5)".
__________
(1) أحمد: "المسند 5/316 و326 و330 وتمام الحديث: "وجاهدوا الناس في الله تبارك وتعالى, القريب والبعيد, ولا تبالوا في الله لومة لائم وأقيموا الحدود في الحضر والسفر, وجاهدوا في سبيل الله, فإن الجهاد باب من أبواب الجنة عظيم,ينجي الله - تبارك وتعالى - به من الغم والهم".
(2) انظر: كتاب الكنى 2/163 وإسناده: "أخبرني أحمد بن شعيب عن محمد بن وهب قال حدثنا محمد بن سلامة قال حدثني أبو عبد الرحيم قال:حدثني منصور الخولاني عن أبي يزيد غيلان الخ وفي إسناده البياض الذي ذكر الألباني".
(3) انظر: "التقريب 2/106
(4) الدولابي: "هو أبو بشر محمد بن أحمد بن حماد الأنصاري الرازي الوراق صاحب التصانيف الحافظ (324/310). (الذهبي: "تذكرة الحفاظ 2/759 ومعجم المؤلفين لكحالة 8/255).
(5) انظر التقريب 2/106".(17/14)
وبقية الرجال ثقات غير منصور الخولاني, فلم أجد له ترجمة(1)".اهـ".
قلت: "وهذا الحديث المشارإليه عند الدولابي أَخْرَجَهُ أيضاً الفسوي ومن طريقه أخرجه البيهقي وهذا سياقه عند الفسوي قال:حدثني منصور عن أبي يزيد غيلان مولى كنانة عن أبي سلام الحبشي عن المقدام بن معد كرب عن الحارث بن معاوية قال:حدثنا عبادة بن الصامت وعنده أبو الدرداء أن نبي الله صلى الله عليه وسلم صلى إلى بعير من المقاسم, فلما فرغ من صلاته أخذ منه قردة بين أصبعيه- وهي وبرة- فقال: "ألا إن هذا من غنائمكم وليس لي منه إلا الخمس والخمس مردود عليكم, فأدوا الخيط والمخيط وأصغر من ذلك وأكبر فإن الغلول عار على أهله في الدنيا والآخرة" الحديث(2).
د- طريق ربيعة بن ناجد عن عبادة عند عبد الله بن أحمد في زوائد المسند وهذا سياقه:
__________
(1) إرواء الغليل 5/114-115 وسلسلة الأحاديث الصحيحة 2/716-817 رقم (985).
(2) الفسوي:المعرفة والتاريخ2/359-360،والبيهقي:السنن الكبرى9/103-104".(17/15)
حدثني عبد الله (1) بن سالم الكوفي المفلوج، كان ثقة ثنا عبيدة (2) ابن الأسود عن القاسم(3) بن الوليد عن أبي صادق(4) عن ربيعة(5) بن ناجد عن عبادة بن الصامت أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأخذ الوبرة من جنب البعير من المغنم، فيقول: "مالي فيه إلا مثل ما لأحدكم منه، وإياكم والغلول، فإن الغلول خزي على صاحبه يوم القيامة أدو الخيط والمخيط وما فوق ذلك، وجاهدوا في سبيل الله تعالى القريب والبعيد" الحديث(6).
والخلاصة أن الحديث ورد من أربع طرق:
الأولى: "طريق يعلى بن شداد عند ابن ماجة والفسوي، وفيها (عيسى بن سنان) وهو ضعيف كما تقدم(7)".
الثانية: "طريق أبي أمامة الباهلي عن عبادة عند أحمد وغيره وقد حسنها الزرقاني(8)".
__________
(1) عبد الله بن سالم، أو ابن محمد بن سالم الزبيدي- بالضم - أبو محمد الكوفي القزاز المفلوج، ثقة، ربما خالف، من كبار الحادية عشرة (ت 235)./د عس ق". (التقريب 1/417 وتهذيب التهذيب 5/228).
(2) عبيدة - بضم أوله- ابن الأسود بن سعيد الهمداني الكوفي، صدوق، ربما دلس، من الثامنة"./د ت ق". (المصدر السابق 1/548 و7/86).
(3) القاسم بن الوليد الهمداني أبو عبد الرحمن الكوفي، القاضي، صدوق يغرب، من السابعة (ت141)./ ق". (التقريب 2/121 وفي تهذيب التهذيب 8/340: "نقل توثيقه عن ابن معين والعجلي وابن سعد، وذكره ابن حبان في الثقات، وقال يخطئ ويخالف).
(4) أبو صادق الأزدي الكوفي، صدوق، تقدم في حديث(140).
(5) ربيعة بن ناجد - بالنون و الجيم ثم مهملة- الأزدي الكوفي، يقال أخو أبي صادق الراوي عنه، ثقة من الثانية"./ص ق". (المصدر السابق 1/248، و3/263-264). وعلم له في التقريب ط".المصرية (س ق) والصواب (ص ق) كما في تهذيب التهذيب والخلاصة للخزرجي". 1/323).
(6) مسند أحمد 5/330".
(7) انظر: "حديث (289).
(8) انظر: "أوجز المسالك إلى موطأ مالك 8/320".(17/16)
وقال الألباني عن هذا الحديث في صحيح الجامع: "صحيح" وفي سلسلة الأحاديث الصحيحة، قال: "إسناده حسن رجاله كلهم ثقات، وفي عبد الرحمن بن الحارث وشيخه سليمان بن موسى الأشدق، كلام لا ينزل حديثهما عن رتبة الحسن، لا سيما وقد جاء الحديث من طرق".
وفي إرواء الغليل، قال: "الحديث سكت عليه الحاكم والذهبي، وإسناده حسن عندي وفي عبد الرحمن وسليمان كلام لا ينزل به حديثهما عن المرتبة التي ذكرنا"(1).
قلت: "وقد روى الحاكم هذا الحديث في موضع آخر بهذا الإسناد مقتصرا فيه على ما حصل من الصحابة من الاختلاف في غنائم بدر، ثم قال: "هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه(2)". ووافقه الذهبي".
الثالثة: "طريق ابن أبي مريم عند أحمد، و فيها (ابن أبي مريم) وهو ضعيف".
وقد تابعه غيلان بن أنس الكلبي أبو يزيد عند الدولابي والفسوي والبيهقي (وغيلان) قال عنه ابن حجر في التقريب "مقبول"(3)".
وفي الإسناد أيضا منصور الخولاني ولم أجد ترجمته".
الرابعة: "طريق ربيعة بن ماجد عند عبد الله بن أحمد في زوائد المسند وإسناده حسن".
وخلاصة القول أن النهي عن الغلول في غزوة حنين ورد من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده وإسناده حسن(4)".
ومن حديث عبادة بن الصامت وإسناده حسن على أقل تقدير".
وهذه الأحاديث تدل على تحريم الغلول وعلى عقوبة من يتعاطى ذلك، و أنه من الكبائر التي توبق صاحبها وتعرضه للمقت يوم القيامة".
__________
(1) صحيح الجامع 6/272 وسلسلة الأحاديث الصحيحة 2/716-817 حديث رقم (985). وإرواء الغليل 5/74".
(2) المستدرك 2/135-136".
(3) انظر: "التقريب 2/106
(4) وقال الألباني عنه (صحيح). (انظر صحيح الجامع الصغير 6/272-273). وذلك لكثرة طرقه و شواهده المتعددة". و انظر حديث عمرو بن شعيب ص 667".(17/17)
قال النووي: "أجمع المسلمون على تغليظ تحريم الغلول، وأنه من الكبائر وأجمعوا على أن على الغال رد ما غل، فإن تفرق الجيش وتعذر إيصال حق كل واحد إليه، ففه خلاف بين العلماء، قال الشافعي وطائفة: "يجب تسليمه إلى الإمام أو الحاكم كسائر الأموال الضائعة".
وقال ابن مسعود وابن عباس ومعاوية والحسن والزهري والأوزاعي ومالك والثوري والليث وأحمد والجمهور: "يدفع خمسه إلى الإمام ويتصدق بالباقي".
واختلفوا في صفة عقوبة الغال، فقال جمهور العلماء وأئمة الأمصار: "يعزر على حسب ما يراه الإمام ولا يحرق متاعه".
وهذا قول مالك والشافعي وأبي حنيفة ومن لا يحصى من الصحابة و التابعين ومن بعدهم".
وقال مكحول والحسن والأوزاعي(1): "يحرق رحله ومتاعه كله، قال الأوزاعي: "إلا سلاحه وثيابه التي عليه، وقال الحسن: "إلا الحيوان والمصحف (2)".
290- واحتجوا بحديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما في تحريق رحله(3)
__________
(1) مكحول: "هو أبو عبد الله الشامي، والحسن هو البصري، والأوزاعي هو عبد الرحمن بن عمرو".
(2) انظر أقوالهم في: "مصنف عبد الرزاق 5/246-247، وهو قول إسحاق بن راهويه ورواية عن أحمد ذكر ذلك الترمذي والباجي وابن حجر".
(3) الحديث رواه أبو داود في السنن 2/63كتاب الجهاد، باب في عقوبة الغال، والترمذي: "في السنن 3/11 كتاب الحدود، باب ما جاء في الغال ما يصنع به، وأحمد: "المسند 1/22، والدارمي: "السنن 2/149 كتاب السير، باب في عقوبة الغال، والحاكم: "المستدرك 2/127-128 ومن طريقه رواه البيهقي في السنن الكبرى 9/102-103".
الجميع من طريق صالح بن محمد بن زائدة قال: "دخلت مع مسلمة بن عبد الملك أرض الروم فأتى برجل قد غل، فسأل سالما عنه فقال: "سمعت أبي يحدث عن عمر ابن الخطاب رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا وجدتم الرجل قد غل فأحرقوا متاعه واضربوه" قال: "فوجدنا في متاعه مصحفا فَسُئِلَ سالم عنه فقال: "بعه وتصدق بثمنه" والحديث رجح أبو داود وقفه على سالم".
وقال الترمذي: "بعد إخراجه هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه والعمل عند بعض أهل العلم، وهو قول الأوزاعي وأحمد وإسحاق". وسألت محمداً - يعني البخاري - عن هذا الحديث فقال: "إنما روى هذا صالح بن محمد بن زائدة وهو أبو واقد الليثي وهو منكر الحديث".
قال محمد - يعني البخاري- وقد روي في غير حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم في الغال". ولم يأمر فيه بحرق متاعه".
وأورد الذهبي وابن حجر هذا الحديث في ترجمة صالح بن محمد ثم قالا:قال البخاري: "هذا الحديث باطل ليس له أصل، وصالح هذا لا يعتمد عيه".(ميزان الاعتدال 2/300 وتهذيب التهذيب 4/402 وفي التقريب 1/262) قال عنه "ضعيف".
وقال الدارقطني أنكروا هذا الحديث على صالح بن محمد قال: "وهذا ضعيف لم يتابع عليه ولا أصل لهذا الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم (عون المعبود 7/382). وقد قال الحاكم عن هذا الحديث". صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي، وبهذا تعلم عدم صحة هذا التصحيح وهذه الموافقة من الذهبي بعد أن عرفت بعض أقوال العلماء في (صالح بن محمد) راوي هذا الحديث، ومنهم الذهبي نفسه كما في ميزان الاعتدال".(17/18)
".
قال الجمهور: "وهذا حديث ضعيف لأنه مما انفرد به صالح بن محمد عن سالم و هو ضعيف".
قال الطحاوي: "ولو صح يحمل على أنه كان حين كانت العقوبة بالأموال كأخذ شطر المال من مانع الزكاة و ضالة الإبل، وسارق التمر وكل ذلك منسوخ (1)".إهـ.
وبوب البخاري بقوله (باب القليل من الغلول).
ثم قال: "ولم يذكر عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه حرق متاعه وهذا أصح".
ثم ساق حديث عبد الله بن عمرو المتقدم في قصة (كركرة) (2)".
قال ابن حجر: "قوله ولم يذكر عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه حرق متاعه يعني في حديثه الذي ساقه في الباب في قصة الذي غل العباءة".
وقوله: "وهذا أصح"، أشار إلى تضعيف ما روي عن عبد الله بن عمر في الأمر بحرق رحل الغال".
والإشارة بقوله (هذا) إلى الحديث الذي ساقه".
ثم قال ابن حجر: "والأمر بحرق رحل الغال، أخرجه أبو داود من طريق صالح بن محمد بن زائدة الليثي المدني أحد الضعفاء، قال: "دخلت مع مسلمة بن عبد الملك أرض الروم فأتى رجل قد غل فسأل سالما أي- ابن عبد الله بن عمر - عنه فقال: "سمعت أبي يحدث عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا وجدتم الرجل قد غل فأحرقوا متاعه"(3).
__________
(1) النووي: "شرح صحيح مسلم 4/496 وانظر فتح الباري 6/186-188 وفيض القدير للمناوي 6/451، والمنتقى للباجي 3/204".
(2) تقدم تخريج الحديث برقم (288).
(3) تقدم تخريجه برقم (290).(17/19)
ثم ساق من وجه آخر عن سالم موقوفا ثم قال أبو داود: "وهذا أصح(1)".
وقال البخاري في (التاريخ) يحتجون بهذا الحديث في إحراق رحل الغال، وهو باطل ليس له أصل وراويه لا يعتمد عليه، ثم قال ابن حجر: "وروى الترمذي عنه أيضاً أنه قال: "(صالح) منكر الحديث".
وقد جاء في غير حديث ذكر الغال وليس فيه الأمر بحرق متاعه(2)، ثم قال ابن حجر: "قلت وقد جاء من غير طريق صالح بن محمد".
291- أخرجه أبو داود أيضا من طريق زهير بن محمد عن عمرو ابن شعيب عن أبيه عن جده (3)".
__________
(1) وسياقه عند أبي داود: "حدثنا أبو صالح محبوب بن موسى الأنطاكي قال أنبأنا أبو إسحاق عن صالح بن محمد قال: "غزونا مع الوليد بن هشام ومعنا سالم بن عبد الله بن عمر، وعمر بن عبد العزيز فغل رجل متاعا فأمر الوليد بمتاعه فأحرق وطيف به ولم يعطه سهمه". قال أبو داود هذا أصح الحديثين (سنن أبي داود 2/63 كتاب الجهاد، باب في عقوبة الغال، قال في عون المعبود 7/383: "المعنى أن هذا الحديث الموقوف أصح من الحديث المرفوع الذي قبله". إهـ، والذي أمر الوليد بن هشام بحرق متاعه هو: "زياد بن سعد الملقب (زياد شعر) كما في سنن أبي داود".
(2) انظر سنن الترمذي 3/11 كتاب الحدود، باب ما جاء في الغال ما يصنع به، وانظر: "تاريخ البخاري الكبير 4/291 والتاريخ الصغير ص 171".
(3) وسياقه عند أبي داود 2/63: "حدثنا محمد بن عوف حدثنا موسى بن أيوب قال: "حدثنا الوليد بن مسلم حدثنا زهير بن محمد عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر حرقوا متاع الغال وضربوه".(17/20)
ثم أخرجه من وجه آخر عن زهير عن عمرو بن شعيب موقوفا عليه و هو الراجح(1)".
ثم قال ابن حجر: "وقد أخذ بظاهر هذا الحديث أحمد في رواية، وهو قول مكحول والأوزاعي".
وعن الحسن يحرق متاعه إلا الحيوان والمصحف".
وقال الطحاوي: "لو صح الحديث لاحتمل أن يكون حين كانت العقوبة بالمال(2)".إهـ.
ورجح ابن قيم الجوزية عدم النسخ وقال: "الصواب أن هذا من باب التعزير والعقوبات المالية الراجعة إلى اجتهاد الأئمة بحسب المصلحة، فإنه صلى الله عليه وسلم حرق وترك، وكذلك خلفاؤه من بعده(3)".
ونظير هذا قتل شارب الخمر في الثالثة أو الرابعة(4).
__________
(1) وسياقه قال أبو داود: "وحدثنا به الوليد بن عتبة وعبد الوهاب بن نجدة قالا حدثنا الوليد بن مسلم عن زهير بن محمد عن عمرو بن شعيب قوله". أهـ. وزهير بن محمد الراوي لهذا الحديث عن عمرو بن شعيب و عنه الوليد بن مسلم هو: "الخراساني نزيل مكة".
قال البيهقي: "ويقال إن زهيراً هذا مجهول و ليس بالمكي". (السنن الكبرى للبيهقي 9/102، وتهذيب التهذيب لابن حجر 3/350).
(2) فتح الباري 6/186-188".
(3) دليله حديث عمرو بن شعيب المتقدم برقم (291) وهو حديث ضعيف".
(4) أخرجه أو داود و الترمذي، وابن ماجة من حديث معاوية بن أبي سفيان.
وأبو داود والنسائي من حديث عبد الله بن عمر.
وأبو داود والنسائي والترمذي وابن ماجة من حديث أبي هريرة.
وأبو داود من حديث قبيصة بن ذؤيب". والترمذي من حديث جابر بن عبد الله. (سنن أبي داود 2/473-474 كتاب الحدود، باب إذا تتابع في شرب الخمر).
والترمذي: السنن 2/449-450 كتاب الحدود، باب ما جاء مَن شرب الخمر فاجلدوه فإن عاد في الرابعة فاقتلوه. والنسائي 8/281 كتاب الأشربة باب ذكر الروايات المغلظات في شرب الخمر.
وابن ماجة 2/859 كتاب الحدود، باب في شرب الخمر مرارا، وهو حديث صحيح وقد أخرجه غير هؤلاء.(17/21)
فليس بحد ولا منسوخ، وإنما هو تعزير يتعلق باجتهاد الإمام(1).إهـ.
ومال محمد الأمين الشنقيطي إلى اختيار ابن قيم الجوزية هذا، وقال: "وإنما قلنا: "إن هذا القول أرجح عندنا لأن الجمع واجب إذا أمكن وهو مقدم على الترجيح بين الأدلة كما علم في الأصول(2)".إهـ.
وهذا الترجيح الذي مال إليه ابن قيم الجوزية وتابعه الشنقيطي في العقوبة بالمال وجيه، غير أن الحديث الوارد في حرق متاع الغال بخصوصه لم يثبت(3)، وإنما يصار إلى الجمع بين الأدلة على هذا الوجه إذا كانت متكافئة في الصحة، ومادام الحديث في حرق متاع الغال لم يثبت فيكون الراجح في هذا قول جمهور العلماء و هو تعزير الغال بما يراه الإمام دون حرق المتاع، وذلك لأن في حرق المتاع مفسدة للمال الذي يمكن أن يستفيد منه المسلمون، خاصة أن الأحاديث الصحيحة الواردة عنه صلى الله عليه وسلم بعقوبة الغال، ليس فيها الأمر بحرق متاع الغال كما تقدم في حديث عبد الله ابن عمرو في قصة (كركرة) أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "هو في النار" ولم يأمر بحرق رحله(4).
292- وفي حديث زيد(5) بن خالد الجهني، بإسناد صحيح، قال: "تفي رجل من أشجع بخيبر(6) فقال النبي صلى الله عليه وسلم:
__________
(1) زاد المعاد 3/106 و108 و 109.
(2) أضواء البيان 2/407
(3) انظر: "السنن الكبرى للبيهقي 9/102-103".
(4) انظر: "الحديث رقم (288).
(5) زيد بن خالد الجهني المدني صحابي مشهور مات بالكوفة، سنة 68 أو 70 وله 85 سنة"./ع". (التقريب 1/274).
(6) وقع في الموطأ (يوم حنين) قال العلماء: "وهو وهم". (المنتقى للباجي 3/200).(17/22)
"صلوا على صاحبكم" فأنكر الناس ذلك و تغيرت له وجوههم، فلما رأى ذلك قال: "إن صاحبكم غل في سبيل الله"(1).
قال زيد: "فالتمسوا في متاعه، فإذا خرزات(2) من خرز يهود ما تساوي درهمين (3)".
ولم يأمر صلى الله عليه وسلم بحرق رحله".
قال الكندهلوي: "قوله: "فتغيرت وجوه الناس لذلك".
قال الباجي(4): "يحتمل أن يريد به وجه المؤمنين لامتناعه من الصلاة على من هو من جملتهم، ولا يعلمون له ذنباً انفرد به، فخافوا أن يكون المانع أمرا يشملهم فيهلكوا بذلك، ويحتمل أن يريد به قبيلة وطائفة تغيرت وجوههم لما يخصهم من أمره، ولما خافوا أن يكون ذلك المعنى شائع فيهم"(5)".
__________
(1) أخرجه أبو داود: "في السنن 2/62 كتاب الجهاد، باب في تعظيم الغلول". والنسائي: "السنن 4/52 كتاب الجنائز، باب الصلاة على من غل". وابن ماجه: "السنن 2/550كتاب الجهاد باب في الغلول، وموطأ مالك 2/458 كتاب الجهاد، باب ما جاء في الغلول". وأحمد: "المسند4/114 و5/192 والحاكم: "المستدرك 2/127-128". والبيهقي السنن الكبرى 9/101".
(2) الخرز بفتحتين الذي ينظم، والواحدة خرزة". (لسان العرب 7/221، ومختار الصحاح ص 172).
(3) قوله: "ما تساوي درهمين"، قال الكاندهلوي: "ليعلم لتفاهة قيمتها وأن أخذ هذا المقدار على تفاهته من جملة الكبائر التي تمنع من صلاة النبي صلى الله عليه وسلم".(أوجز المسالك 8/333).
(4) الباجي: "هو أبو الوليد سليمان بن خلف التجيبي، القرطبي، الذهبي المالكي، الحافظ العلامة صاحب الفنون، له مصنفات كثيرة من جملتها كتاب المعاني في شرح الموطأ عديم النظير". (وفيات الأعيان لابن خلكان 2/408-409 وتذكرة الحفاظ للذهبي 3/1178-1183 ومعجم المؤلفين لكحالة 4/261-262).
(5) انظر: "المنتقى شرح موطأ الإمام مالك للباجي 3/200".(17/23)
ثم قال الكاندهلوي: "قلت أو تغيرت وجوههم لأجل هذا الرجل خاصة لأنهم قد علموا من حاله أنه لا يمتنع من الصلاة إلا على لا ترضى حاله، وأنه قد علم أنه أحدث حدثا يمنعه من الصلاة".
فقال زيد: "إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن صاحبكم قد غل في سبيل الله" أي خان في الغنيمة، فبين المعنى الذي امتنع به عن الصلاة عليه".
ثم قال: "قال الشيخ(1) في البذل: "فلهذا قالت الفقهاء إذا مات الفاسق المصر على الفسق يجوز أن لا يصلي عليه الأئمة الذين يقتدى بهم، بل يأمرون الناس أن يصلوا عليه".
ثم قال الكاندهلوي: "قال الباجي: "وهذه سنة في امتناع الأئمة، وأهل الفضل من الصلاة على أهل الكبائر على وجه الردع والزجر على مثل فعلهم، وأمر غيره - عليه الصلاة و السلام - بالصلاة عليه دليل على أن لهم حكم الإيمان لا يخرجون عنه بما أحدثوه من المعصية وقد روى ابن سحنون(2) عن أبيه(3) عن مالك أنه قال: "لا بأس أن يُصُلَّى على من غل وذلك يحتمل وجهين:
أحدهما: "أن يريد به أن يصلي عليه غير الإمام".
__________
(1) هو خليل الدين أحمد السهارنفوري المتوفى سنة (1346هـ)و اسم كتابه (بذل المجهود في حل أبي داود).
(2) هو محمد بن عبد السلام بن سحنون بن سعيد التنوخي، القيرواني، المالكي أبو عبد الله، فقيه حافظ (202-256هـ).(معجم المؤلفين لكحالة 10/169).
(3) هو عبد السلام بن سعيد الملقب سحنون الفقيه المالكي، صاحب المدونة الكبرى في الفقه المالكي، (160-240هـ). (وفيات الأعيان لابن خلكان 3/180-182 ومعجم المؤلفين لكحالة 5/224).(17/24)
والثاني: "أن الإمام مخير إن شاء صلى، و إن شاء ترك وإن ما فعل النبي صلى الله عليه وسلم من الامتناع لم يكن على وجه المنع على الصلاة عليه وإنما كان ذلك لأنه رأى ذلك في ذلك الوقت أفضل، وأن رأى الصلاة في وقت تكون الصلاة أفضل أن يصلي". وقد قال صلى الله عليه وسلم في الصلاة على المنافقين إني خيرت(1) فاخترت(2)". إهـ".
وفي هذه الأحاديث تظهر عناية الإسلام بالحقوق العامة و تقديمها على المصلحة الخاصة، وذلك أن الغنائم حق مشاع لجميع أفراد الجيش لا يجوز لفرد منهم أن تغلبه مصلحة نفسه فيأخذ من هذا الحق المشاع لنفسه بحجة أن له حقاً فيها، ولذلك جاءت هذه النصوص تنذر بالويل والعذاب الأليم لمن يغل ويخون في الغنائم قبل أن تتميز الحقوق وتظهر بالقسمة العادلة حصة كل فرد من أفراد الجيش الإسلامي، ويتضح ذلك جليا في تشديد الرسول صلى الله عليه وسلم في أخذ الخيط والمخيط وما فوق ذلك وما دون ذلك فهو أعظم حماية للحقوق العامة وأجل صيانة لاحترام المصالح العامة للأمة، وفي نفس الوقت فإن حقوق الفرد لا تضيع فسوف تقسم هذه الغنائم ويأخذ كل فرد حقه كاملا غير منقوص، وهذه خصائص الدين الإسلامي العظيمة التي يجب فهمها وتطبيقها بالعلم والعدل".
__________
(1) يشير إلى ما أخرجه البخاري في صحيحه في قصة الصلاة على عبد الله بن أبي ابن سلول، و أن عمر قال: "يا رسول الله أتصلي عليه، وقد قال يوم كذا وكذا كذا وكذا أعدد عليه قوله، فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: "أخر عني يا عمر فلما أكثرت عليه قال: "إني خيرت فاخترت". الحديث".(انظر صحيح البخاري 2/84 كتاب الجنائز، باب ما يكره من الصلاة على المنافقين والاستغفار للمشركين).
(2) أوجز المسالك 8/332، والمنتقى شرح موطأ مالك للباجي 3/200".(17/25)
الحكم الخامس عشر: المؤلفة قلوبهم
مر بنا تعريف المؤلفة قلوبهم وأقسامهم ومقدار ما أخذ كل واحد منهم في غزوة حنين(1).
ومن المعلوم أن المؤلفة قلوبهم هم أحد الأصناف الثمانية الذين نصت عليه آية مصارف الزكاة وأنهم يأخذون من الزكاة كغيرهم من بقية الأصناف وقصدنا من هذا المبحث أمران:
الأمر الأوّل: "هل أعطيات المؤلفة قلوبهم في غزوة حنين كانت من صلب الغنيمة أو من الخمس, أو من خمس الخمس".
الأمر الثاني: "هل حكم المؤلفة باقي أو أن ذلك زال بقوة الإسلام وعزة أهله".
أما الأمر الأول, فإن ظاهر الأحاديث الواردة في غزوة حنين تدل على أن العطاء المذكور كان من صلب الغنيمة".
ومنها: "حديث أنس بن مالك - رضي الله عنه - أن ناساً من الأنصار قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم حين أفاء الله على رسوله صلى الله عليه وسلم من أموال هوازن ما أفاء, فطفق يعطي رجالا من قريش المائة من الإبل, فقالوا: "يغفر الله لرسول الله صلى الله عليه وسلم يعطي قريشا ويدعنا, وسيوفنا تقطر من دمائهم" الحديث.
وفي لفظ "لما فتحت مكة قسم الغنائم في قريش فقالت الأنصار: "إن هذا لهو العجب إن سيوفنا تقطر من دمائهم وإن غنائمنا ترد عليهم, فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فجمعهم فقال:ما الذي بلغني عنكم؟
قالوا: "هو الذي بلغك وكانوا لا يكذبون, قال: "أما ترضون أن يرجع الناس بالدنيا إلا بيوتهم وترجعون برسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بيوتكم؟" الحديث.
__________
(1) انظر ص (403).(18/1)
وفي لفظ "لما كان يوم حنين أقبلت هوازن, وغطفان وغيرهم بذراريهم ونعمهم ومع النبي صلى الله عليه وسلم عشرة آلاف ومعه من الطلقاء فأدبروا عنه حتى بقي وحده قال: "فنادى يومئذ نداءين لم يخلط بينهما شيئا قال: "فالتفت عن يمينه فقال: "يا معشر الأنصار, فقالوا: لبيك يا رسول الله أبشر نحن معك قال:ثم التفت عن يساره فقال: "يا معشر الأنصار, قالوا: "لبيك يا رسول الله أبشر نحن معك, قال: "وهو على بغلة بيضاء فنزل فقال:أنا عبد الله ورسوله فانهزم المشركون وأصاب رسول الله صلى الله عليه وسلم غنائم كثيرة فقسم في المهجرين والطلقاء ولم يعط الأنصار شيئا فقالت الأنصار:إذا كانت الشدة فنحن ندعى وتعطى الغنائم غيرنا, فبلغه ذلك فجمعهم في قبة فقال:يا معشر الأنصار ما حديث بلغني عنكم؟ فسكتوا, فقال: "يا معشر الأنصار أما ترضون أن يذهب الناس بالدنيا وتذهبون بمحمد تحوزونه إلى بيوتكم؟ قالوا: "بلى يا رسول الله رضينا" الحديث.
وفي لفظ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن قريشا حديث عهد بجاهلية ومصيبة وإني أردت أن أجبرهم وأتألفهم"(1)".
وفي حديث عبد الله بن زيد بن عاصم رضي الله عنه قال:لما أفاء الله على رسوله صلى الله عليه وسلم يوم حنين قسم في الناس في المؤلفة قلوبهم ولم يعط الأنصار شيئا, فكأنهم وجدوا إذ لم يصبهم ما أصاب الناس, فخطبهم فقال: "يا معشر الأنصار ألم أجدكم ضلالا فهداكم الله بي, الحديث وفيه "أ لا ترضون أن يذهب الناس بالشاة والبعير وتذهبون بالنبي صلى الله عليه وسلم إلى رحالكم؟"(2)".
__________
(1) انظر حديث رقم (30 و40 و46 و204).
(2) انظر حديث (205).(18/2)
فهذه الأحاديث وغيرها تدل بظاهرها على أن عطاء المؤلفة قلوبهم كان من صلب الغنيمة, إذ لو كان العطاء المذكور من الخمس أو من خمس الخمس, كما قال بعض العلماء(1), لما كان يحق للأنصار أن يتكلموا بما تكلموا به, ولما أقرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم على ذلك, ولما ترضاهم بما ترضاهم به, ولناسب أن يقول لهم إنما أعطيت من أعطيت مما لا حق لكم فيه, ولأن الخمس مخصوص بأصناف(2) وكذا خمس الخمس خاص برسول الله صلى الله عليه وسلم يدعه حيث شاء لا اعتراض عليه في ذلك.
فلما لم يحصل شيء من ذلك, بل الذي حصل هو استطابة نفوس الأنصار بقوله صلى الله عليه وسلم "أما ترضون أن يذهب الناس بالدنيا وتذهبون برسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بيوتكم" دلك ذلك على أن العطاء المذكور كان من صلب الغنيمة التي أحرزها الأنصار بسيوفهم ودمائهم, ولهم الحق فيها وقد أقرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم على ذلك, وعوضهم عنها نفسه صلى الله عليه وسلم تطيبا لنفوسهم.
قال ابن حجر: "عند شرحه لحديث عبد الله بن زيد: "قوله: "ولم يعط الأنصار شيئا"، ظاهر في أن العطية المذكورة كانت من جميع الغنيمة".
وقال القرطبي(3) في "المفهم" الإجراء على أصول الشريعة أن العطاء المذكور كان من الخمس , ومنه كان أكثر عطاياه, وقد قال في هذه الغزوة للأعرابي "ما لي مما أفاء الله عليكم إلا الخمس والخمس مردود فيكم".
__________
(1) وهذا قول مالك والشافعي كما سيأتي في ص (687-688).
(2) هم من سماهم الله في قوله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ}،[سورة الأنفال، من الآية: 41]. الآية 41من سورة الأنفال.
(3) هو أبو العباس: "أحمد بن عمر وهذا غير القرطبي المفسر".(18/3)
وعلى الأول فيكون ذلك مخصوصا بهذه الواقعة, وقد ذكر السبب في ذلك في رواية قتادة عن أنس في الباب حيث قال: "إن قريشاً حديث عهد بجاهلية ومصيبة, وإني أردت أن أجبرهم وأتألفهم".اهـ.
ثم عقب ابن حجر بقوله: "الأوّل هو المعتمد, والذي رجحه القرطبي جزم به الواقدي,ولكنه ليس بحجة إذا انفرد فكيف إذا خالف(1)".
ثم قال ابن حجر: "ويؤكد أن العطاء المذكور كان من صلب الغنيمة ما جاء في رواية هشام بن زيد عن أنس: "إذا كانت شديدة فنحن ندعى, ويعطي الغنيمة غيرنا".
وهذا ظاهر في أن العطاء كان من صلب الغنيمة بخلاف ما رجحه القرطبي(2)".اهـ.
وقال السهيلي: "وأما إعطاء رسول الله صلى الله عليه وسلم المؤلفة قلوبهم من غنائم حنين حتى تكلمت الأنصار في ذلك وكثرت منهم القالة", وقالت: "يعطي صناديد العرب ولا يعطينا, وأسيافنا تقطر من دمائم, فللعلماء في هذه المسألة ثلاثة أقوال:
أحدها: "أنه أعطاهم من خمس الخمس, وهذا القول مردود لأن خمس الخمس ملك له ولا كلام لأحد فيه".
__________
(1) وهو أيضا قول أبي عبيد".(انظر فتح الباري 8/49).
(2) فتح الباري 8/48-50 ومغازى الواقدي 3/947-948, كتاب الأموال لأبي عبيد، 444 و447 و451-452 وشرح المواهب اللدنية 3/39".(18/4)
القول الثاني: "أنه أعطاهم من رأس الغنيمة, وأن ذلك خصوص بالنبي صلى الله عليه وسلم لقوله تبارك وتعالى: {قُلِ الأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ}،[سورة الأنفال، من الآية: "1]. وهذا القول أيضا يرده ما تقدم من نسخ هذه الآية, وقد تقدم الكلام عليها في غزوة بدر(1), غير أن بعض العلماء احتج لهذا القول بأن الأنصار لما انهزموا يوم حنين فأيد الله رسوله وأمده بملائكته, فلم يرجعوا حتّى كان الفتح, رد الله تعالى أمر الغنائم إلى رسوله من أجل ذلك فلم يعطهم منها شيئا وقال لهم: "ألا ترضون يا معشر الأنصار أن يذهب الناس بالشاة والبعير, وترجعوا برسول الله صلى الله عليه وسلم إلى رحالكم, فطيب نفوسهم بذلك بعد ما فعل ما أمر به.
القول الثالث: "وهو الذي اختاره أبو عبيد أن إعطائهم كان من الخمس حيث يرى أن فيه مصلحة للمسلمين(2)".
وقال ابن قيم الجوزية: "وهذا العطاء الذي أعطاه النبي صلى الله عليه وسلم لقريش, والمؤلفة قلوبهم, هل هو من أصل الغنيمة أو من الخمس, أو من خمس الخمس؟
فقال الشافعي ومالك: "هو من خمس الخمس, وهو سهمه صلى الله عليه وسلم الذي جعله الله له من الخمس, وهو غير الصفي(3) وغير ما يصيبه من المغنم لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يستأذن الغانمين في تلك العطية, ولو كان العطاء من أصل الغنيمة, لاستأذنهم لأنهم ملكوها بحوزها والاستيلاء عليها، وليس من أصل الخمس، لأنه مقسوم على خمس، فهو إذا من خمس الخمس".
__________
(1) انظر: "الروض الألف 5/227
(2) الروض الألف 7/283".
(3) الصفي: "ما كان يأخذه ريئس الجيش ويختاره لنفسه من الغنيمة قبل القسمة ويقال له الصفية , والجمع الصفايا".
(النهاية لابن الأثير 3/40).(18/5)
وقد نصّ الإمام أحمد على أن النفل يكون من أربعة أخماس الغنيمة، وهذا العطاء هو من النفل، نفل النبي صلى الله عليه وسلم به رؤوس القبائل والعشائر لتألفهم به وقومهم على الإسلام، فهو أولى من تنفيل الثلث بعد الخمس، والربع بعضه(1)، لما فيه من تقوية الإسلام و شوكته وأهله، واستجلاب عدوه إليه، هكذا وقع سواء كما قال بعض هؤلاء(2) الذين نفلهم: "لقد أعطاني رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنه لأبغض الخلق إلي فما زال يعطيني حتى أنه لأحب الخلق إليّ" فما ظنك بعطاء قوى الإسلام وأهله، وأذل الكفر وحزبه، واستجلب به قلوب رؤوس القبائل والعشائر الذين إذا غضبوا، غضب لغضبهم أتباعهم، وإذا رضوا، رضوا لرضاهم، فإذا أسلم هؤلاء، لم يتخلف عنهم أحد من قومهم، فلله ما أعظم هذا العطاء وما أجداه وأنفعه للإسلام وأهله(3)".أهـ.
والحاصل أن للعلماء في إعطاء المؤلفة قلوبهم يوم حنين ثلاثة أقوال:
__________
(1) قوله: "فهو أولى بالجواز من تنفيل الثلث بعد الخمس والربع بعده"، معنى ذلكأن الإمام أو نائبه إذا دخل درا الحرب غازيا بعث سرية بين يديه تغير على العدو ويجعل لهم الربع بعد الخمس، فما قدمت به السرية من شيء أخرج خمسه ثم أعطى السرية ما جعل لهم وهو ربع الباقي ثم قسم ما بقي في الجيش والسرية معه، فإذا قفل راجعا بعث سرية تغير وجعل لهم الثلث بعد الخمس فما قدمت به السرية أخرج خمسه، ثم أعطى السيرة ثلث ما بقي ثم قسم باقيه في الجيش والسرية معه".(المغني لابن قدامة 8/379).
(2) هو صفوان بن أمية". انظر: "ص (691).
(3) زاد المعاد 3/484-485".(18/6)
القول الأول: "أنه من الخمس وبهذا قال الواقدي وابن سعد وأبو عبيد وابن حزم والحلبي ومال إلى هذا القول السهيلي، ورجحه القرطبي في (المفهم)(1)".
وهو اختيار القاضي عياض فقد نقل عنه النووي أثناء شرحه لحديث أنس بن مالك في إعطاء المؤلفة قوله: "ليس في هذا تصريح بأنه صلى الله عليه وسلم أعطاهم قبل إخراج الخمس، وأنه لم يحسب ما أعطاهم من الخمس، قال: "والمعروف في باقي الأحاديث أنه صلى الله عليه وسلم إنما أعطاهم من الخمس ففيه أن للإمام صرف الخمس وتفضيل الناس فيه على ما يراه وأن يعطي الواحد منه الكثير، وأنه يصرفه في مصالح المسلمين وله أن يعطي الغني منه لمصلحة (2)".أهـ.
وبوب البخاري بقوله: "باب ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يعطي المؤلفة قلوبهم و غيرهم من الخمس ونحوه، رواه عبد الله(3) بن زيد عن النبي صلى الله عليه وسلم".
ثم ساق تحت هذا الباب جملة أحاديث من ضمنها الأحاديث الواردة في قسمة الغنائم يوم حنين(4)".
وقال ابن حجر: "قال إسماعيل القاضي: "في إعطاء النبي صلى الله عليه وسلم للمؤلفة من الخمس دلالة على أن الخمس إلى الإمام يفعل فيه ما يرى من المصلحة".
__________
(1) انظر مغازي الواقدي 3/947-948". والطبقات الكبرى لابن سعد 2/153 وكتاب الأموال لأبي عبيد ص 444-447 و451-452، وجوامع السيرة لابن حزم ص 245 والسيرة الحلبية للبرهان الدين الحلبي 3/86 والروض الأنف للسهيلي 7/283".
(2) شرح النووي على صحيح مسلم 3/98".
(3) قال ابن حجر: "قوله: "رواه عبد الله بن زيد عن النبي صلى الله عليه وسلم"، يشير إلى حديثه الطويل في قصة حنين وسيأتي هناك موصولا مع الكلام عليه والغرض منه هنا قوله: "(لما أفاء الله على رسوله يوم حنين قسم في الناس في المؤلفة قلوبهم). الحديث (فتح الباري 6/252). وانظر الحديث برقم (205).
(4) صحيح البخاري 4/73 كتاب فرض الخمس".(18/7)
وقال الطبري: "استدل بهذه الأحاديث من زعم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعطي من أصل الغنيمة لغير المقاتلين، قال: "وهو قول مردود بدليل القرآن والآثار الثابتة".
ثم قال ابن حجر: "قيل ليس في الأحاديث الباب شيء صريح بالإعطاء من نفس الخمس(1)".
القول الثاني: "أن العطاء كان من خمس الخمس وهو قول مالك والشافعي وابن خلدون(2)".
القول الثالث: "أن العطاء المذكور كان من صلب الغنيمة وهو اختيار ابن تيمية وابن حجر(3)".
وعن الغمام أحمد أن النفل كان من أربعة أخماس الغنيمة(4)".
قال ابن قيم الجوزية: "وهذا العطاء هو من النفل(5)".
وظاهر الأحاديث الواردة في غزوة حنين أن العطاء المذكور كان من صلب الغنيمة وأن الأنصار لما تكلموا في ذلك حيث إنه لم يصبهم من الغنيمة جمعهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال لهم: "أما ترضون يا معشر الأنصار أن يرجع الناس بالشاة والبعير وترجعوا برسول الله صلى الله عليه وسلم إلى رحالكم" قالوا: "رضينا، فكان في ذلك تعويضا لهم عن الغنيمة التي لم ينالوا منها شيئاً".
__________
(1) فتح الباري 6/252 و8/49-50، وانظر: "شرح المواهب اللدنية للزرقاني 3/39".
(2) السنن الكبرى للبيهقي 6/338 وزاد المعاد لابن قيم الجوزية 3/484 وتاريخ ابن خلدون 2/48 وأوجز المسالك إلى موطأ مالك لكاندهلوي 8/251".
(3) الفتاوى لابن تيمية 17/493-495، وفتح الباري 8/49-50".
(4) كتاب المغني لابن قدامة 8/384-386، والإنصاف لعلي بن سليمان المرادي 4/170".
(5) زاد المعاد 3/484".(18/8)
قال محمد الأمين الشنقيطي: "اعلم أن جماهير علماء المسلمين على أن أربعة أخماس الغنيمة للغزاة الذين غنموها، وليس للإمام أن يجعل تلك الغنيمة لغيرهم، ويدل لهذا قوله تعالى: { غَنِمْتُمْ }(1) فهو يدل على أنها غنيمة لهم فلما قال: {فَأَنَّ لله خُمْسَهُ}، علمنا أن الأخماس الأربعة الباقية لهم لا لغيرهم فقوله: {فَأَنَّ لله خُمْسَهُ}، أي: "وللغانمين ما بقي". وهذا القول هو الحق الذي لا شك فيه، وحكى الإجماع عليه غير واحد من العلماء".
ثم قال: "وأما ما وقع في قصة حنين فالجواب عنه ظاهر، هو أن النبي صلى الله عليه وسلم استطاب نفوس الغزاة عن الغنيمة ليؤلف بها قلوب المؤلفة قلوبهم لأجل المصلحة العامة للإسلام والمسلمين، ويدل على ذلك أنه صلى الله عليه وسلم لما سمع أن بعض الأنصار قال: "يمنعنا ويعطي قريشا، وسيوفينا تقطر من دمائهم، جمعهم النبي صلى الله عليه وسلم وكلمهم كلامه المشهور البالغ في الحسن ومن جملته أنه قال لهم: "ألا ترضون يا معشر الأنصار أن يذهب الناس بالشاء والبعير وترجعون برسول الله صلى الله عليه وسلم إلى رحالكم". إلى آخر كلامه، فرضي القوم، وطابت نفوسهم، وقالوا: "رضينا برسول الله صلى الله عليه وسلم قسما وحظا، وهذا ثابت في الصحيح(2)".إهـ".
وأما الأمر الثاني: "وهو هل حكم المؤلفة قلوبهم باق أو أن ذلك منسوخ فقد ساق الترمذي حديث صفوان بن أمية قال: "أعطاني رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين وإنه لأبغض الخلق إلي فما زال يعطيني حتى إنه أحب الخلق إلي"(3).
__________
(1) يشير إلى قوله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ}، الآية.
(2) أضواء البيان 2/354و356-357 وانظر ص 362".
(3) تقدم تخريجه برقم (185).(18/9)
ثم قال: "وقد اختلف أهل العلم في إعطاء المؤلفة قلوبهم، فرأى أكثر أهل العلم أن لا يعطوا وقالوا إنما كانوا قوما على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان يتألفهم على الإسلام حتى أسلموا، ولم يروا أن يعطوا اليوم من الزكاة على مثل هذا المعنى".
وهو قول سفيان الثوري وأهل الكوفة وغيرهم، وبه يقول أحمد(1) وإسحاق".
وقال بعضهم: "من كان اليوم على مثل حال هؤلاء ورأى الإمام أن يتألفهم على الإسلام فأعطاهم جاز ذلك وهو قول الشافعي(2)".
وقال النووي في أثناء شرحه لحديث صفوان وما ورد في معناه: "وفي هذا مع ما بعده إعطاء المؤلفة، ولا خلاف في إعطاء مؤلفة المسلمين، لكن هل يعطون من الزكاة؟
فيه خلاف،والأصح عندنا أنهم يعطون من الزكاة ومن بيت المال".
والثاني: "لا يعطون من الزكاة، بل من بيت المال خاصة، وأما مؤلفة الكفار فلا يعطون من الزكاة، وفي إعطائهم من غيرها خلاف، الأصح عندنا لا يعطون، لأن الله تعالى قد أعز الإسلام عن التألف، بخلاف أول الأمر، ووقت قلة المسلمين(3)".إهـ".
والظاهر في هذا هو جواز إعطاء المؤلفة قلوبهم من الزكاة ومن غيرها سواء أكانوا مسلمين أم كافرين، لأن الله تعالى قال: {وَالمُؤَلَّفَةُ قُلُوبُهُم} والآية عامة وهي أصل في جواز إعطاء المؤلفة من الزكاة ولم تخصص مسلما من غيره، وهي محكمة غير منسوخة". وأما إعطاء مؤلفة الكفار من بيت المال من خمس الخمس أو نحوه فذلك زيادة لهم على إعطائهم من الزكاة".
__________
(1) هو قول مرجوح لأحمد، انظر ص (692).
(2) سنن الترمذي 2/88-89 كتاب الزكاة، باب ما جاء في إعطاء المؤلفة قلوبهم وقوله وهو قول الشافعي، يوضح قول الشافعي ما قاله النووي".
(3) شرح النووي على صحيح مسلم 5/169 وكفاية الأخيار لتقي الدين أبي بكر الحسيني 1/122-123".(18/10)
ومن المعلوم أن من أهداف التأليف استمالة القلوب إلى الإسلام أو تثبيتها عليه، أو كسب أنصار له، أو كف شر عن دعوته ودولته، فهو بهذا المعنى يحقق مصلحة عامة للمسلمين، ولا تهدر هذه المصلحة لأن من القواعد المقررة أنه متى وجدت المصلحة فثم شرع الله، وما كان كذلك فإن حكمه باق متى دعت الحاجة إليه.
قال ابن هبيرة: "اختلف العلماء في المؤلفة قلوبهم، هل بقي الآن لهم حكم؟"
فقال أحمد: "حكمهم باق لم ينسخ، ومتى وجد الإمام قوماً من المشركين فخاف الضرر بهم، وعلم أن في إسلامهم مصلحة، وجاز أن يتألفهم من مال الزكاة".
وعنه رواية أخرى أن حكمهم منسوخ(1)". إهـ.
وقال ابن قدامة: "وأحكام الأصناف الثمانية المنصوص عليهم في آية براءة(2)،كلها باقية،وبهذا قال الحسن والزهري،وأبو جعفر(3) محمد بن عليّ(4)".
وقال علاء الدين المرداوي: "الصحيح من المذهب أن حكم المؤلفة باق وعليه الأصحاب، وهو من المفردات(5)".
وقال أبو عبيد: "الآية محكمة، لا نعلم لها ناسخا من كتاب ولا سنة، فإذا كان قوم هذه حالهم، لا رغبة لهم في الإسلام، لما عندهم من العز والأنفة فرأى الإمام أن يرضخ لهم من الصدقة، فعل ذلك لخلال ثلاث:
إحداهن: "الأخذ بالكتاب والسنة".
والثانية: "البقيا على المسلمين".
__________
(1) الإفصاح 1/224".
(2) هي قوله تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ}، [سورة التوبة، من الآية: "60]".
(3) أبو جعفر الباقر محمد بن علي بن الحسين الهاشمي، عده النسائي وغيره في فقهاء التابعين بالمدينة". (تذكرة الحفاظ للذهبي 1/124-125) وقد تقدمت ترجمته في حديث (19).
(4) المغني 2/666".
(5) الإنصاف 3/228 وقوله: "من المفردات" يعني أن الإمام أحمد تفرد بالقول ببقاء حكم المؤلفة عن الأئمة الثلاثة".(18/11)
والثالثة: "أنه ليس بيائس منهم إن تمادى بهم الإسلام، أن يتفقهوه وتحسن فيه رغبتهم (1)".إهـ.
قلت: "وهذا هو الهدف الأساسي من التأليف هو ترغيب الناس في الدخول في هذا الدين الحنيف، ولقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعطي على الإسلام ما لايعطي على غيره، فقد جاء في حديث أنس بن مالك رضي الله عنه: قال: "ما سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم على الإسلام شيئا إلا أعطاه، قال: "فجاءه رجل فأعطاه غنما بين جبلين، فرجع إلى قومه، فقال: "يا قوم! أسلموا فإن محمدا يعطي عطاء من لا يخشى الفاقة".
وفي لفظ: "أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم غنما بين جبلين فأعطاه إياه فأتى قومه فقال: "أي قوم! فوالله! إن محمد ليعطي عطاء ما يخاف الفقر".
فقال أنس: "إن(2) كان الرجل ليسلم ما يريد إلا الدنيا، فما يسلم حتى يكون الإسلام أحب إليه من الدنياوما عليها"(3)".
وذهب الحنفية والشعبي ومالك والشافعي إلى أن هذا المصرف "المؤلفة قلوبهم" إنما كان في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في حال قلة عدد المسلمين وكثرة عدوهم، وأما بعد وفاته عليه الصلاة والسلام فإنهم لا يعطون من الزكاة شيئا لزوال العلة التي من أجلها كان إعطاؤهم وهي الحاجة إليهم، فقد أعز الله الإسلام وأهله، وأغنى عن تألفيهم، فلا يعطى مشرك تأليفا بحال من الأحوال.
__________
(1) كتاب الأموال ص 797".
(2) إن) هي المخففة من الثقيلة وإذا أهملت لزمتها اللام فارقة بينها وبين (إن) النافية وهي هنا مهملة لوجود اللام في جوابها "ليسلم". (شرح ابن عقيل 1/378).
(3) تقدم تخريجه برقم (194) وانظر حديث (197).(18/12)
ورأوا أن حكمهم منسوخ بإجماع الصحابة على ذلك، فإن أبا بكر وعمر رضي الله عنهما لم يعطيا المؤلفة قلوبهم شيئا من الصدقات، ولم ينكر عليها أحد من الصحابة فيكون إجماعا منهم (1).
ورد هذا ابن قدامة بقوله:
ولنا: "كتاب الله وسنة رسوله، فإن الله تعالى سمى المؤلفة في الأصناف الذين سمى الصدقة لهم والنبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله تعالى حكم فيها فجزأها ثمانية أجزاء"(2).
__________
(1) كتاب الإفصاح لابن هبيرة 1/224-225، المغني لابن قدامة 2/666، الهداية للمرغيناني1/112،والشرح الكبير لأحمد الدردير مع حاشية الدسوقي1/495، والأم للشافعي2/61،والمنتقى للباجي2/153،والمجموع للنووي6/210، وكفاية الأخيار لتقي الدين أبي بكر الحسيني 1/122، نصب الراية للزيلعي 2/394-395، نيل الأوطار للشوكاني 4/187 وفتح القدير له 2/373".
(2) هذا الحديث رواه أبو داود من حديث زياد بن الحارث الصدائي قال: "أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فبايعته، فذكر حديثا طويلا، قال: "فأتاه رجل فقال: "أعطني من الصدقة، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله تعالى لم يرض بحكم نبي ولا غيره في الصدقات حتى حكم فيها هو، فجزأها ثمانية أجزاء، فإن كنت من تلك الأجزاء أعطيتك حقك".
(سنن أبي داود 1/378-379 كتاب الزكاة، باب من يعطى من الصدقة وحد الغني) وفيه: "عبد الرحمن بن زياد بن أنعم الأفريقي" قال ابن حجر في التقريب 1/480: "ضعيف في حفظه، ووقع في ميزان الاعتدال للذهبي2/561 "عبد الله بن زياد".(18/13)
وكان يعطي المؤلفة كثيرا في أخبار مشهورة، ولم يزل كذلك حتى مات، ولا يجوز ترك كتاب الله وسنة رسوله إلا بنسخ والنسخ لا يثبت بالاحتمال، ثم إن النسخ، إنما يكون في حياة النبي صلى الله عليه وسلم لأن النسخ إنما يكون بنص، ولا يكون النسخ بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم وانقراض زمن الوحي، ثم إن القرآن لا ينسخ إلا بالقرآن، وليس في القرآن نسخ كذلك ولا في السنة، فكيف يترك الكتاب والسنة بمجرد الآراء والتحكم، أو بقول صحابي أو غيره؟
على أنهم لا يرون قول الصحابي حجة يترك بها قياس، فكيف يتركون به الكتاب والسنة؟
وقال الزهري: "لا أعلم شيئا نسخ حكم المؤلفة على أن ما ذكروه من المعنى لا خلاف بينه وبين الكتاب والسنة، فإن الغنى عنهم لا يوجب رفع حكمهم وإنما يمنع عطيتهم حال الغنى عنهم فمتى دعت الحاجة إلى إعطائهم أعطوا، فكذلك جميع الأصناف إذا عدم منهم صنف في بعض الزمان سقط حكمه في ذلك الزمان خاصة، فإذا وجد عاد حكمه، كذا هنا(1)".
وقال الطبري: "والصواب من القول في ذلك عندي: "أن الله جعل الصدقة في معنيين: "أحدهما سد خلة المسلمين، والآخر معونة الإسلام وتقويته، فما في معونة الإسلام وتقوية أسبابه، فإنه يعطاه الغني والفقير، لأنه لا يعطاه من يعطاه بالحاجة منه إليه، وإنما يعطاه معونة للدين، وذلك كما يعطى الذي يعطاه بالجهاد في سبيل الله، فإنه يعطى ذلك غنياً كان أو فقيرا للغزو لا لسد خلته، وكذلك المؤلفة قلوبهم يعطون ذلك وإن كانوا أغنياء، استصلاحاً بإعطائهم أمر الإسلام، وطلب تقويته وتأييده، وقد أعطى النبي صلى الله عليه وسلم من أعطى من المؤلفة قلوبهم، بعد أن فتح الله عليه الفتوح، وفشا الإسلام وعز أهله، فلا حاجة لمحتج بأن يقول:
__________
(1) المغني 2/666 وفتح القدير للشوكاني 2/373".(18/14)
لا يتألف اليوم على الإسلام أحد لامتناع أهله بكثرة العدد ممن أرادهم وقد أعطى النبي صلى الله عليه وسلم من أعطى منهم في الحال التي وصفت(1)".
وقال الفخر الرازي: "والصحيح أن حكم المؤلفة غير منسوخ، وأن للإمام أن يتألف قوما على هذا الوصف، ويدفع إليهم سهم المؤلفة، لأنه لا دليل على نسخه ألبتة(2)".
وقال ابن العربي المالكي: "والذي عندي أنه إن قوي الإسلام زالوا وإن احتيج إليهم أعطوا سهمهم، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يعطيهم".
وهذا بناء على أن العلة في إعطائهم هي حاجتنا إليهم، أما على القول بأن القصد من إعطائهم ترغيبهم في الإسلام، أو تثبيتهم عليه لإنقاذهم من عذاب الله تعالى فيعطون مطلقا (3)".
وقال الشوكاني: "والظاهر جواز التأليف عند الحاجة إليه، فإذا كان في زمن الإمام قوم لا يطيعونه إلا للدنيا ولا يقدر على إدخالهم تحت طاعته بالقسر والغلب فله أن يتألفهم ولا يكون لفشو الإسلام تأثير لأنه لم ينفع في خصوص هذه الواقعة (4)".إهـ".
وبهذا التقرير يعلم بأن حكم المؤلفة باق لم ينسخ فإن التأليف حكم باق في كتاب الله عز وجل، وقد جعلهم الله أحد الأصناف الثمانية الذين تصرف فيهم الزكاة، وجاءت بهذا السنة المتواترة القاطعةن والنسخ لم يثبت كما تقدم تقريره، وليس في منع أبي بكر وعمر - رضي الله عنهما - للمؤلفة ما يفيد النسخ، وغاية ما فيه أن ذلك لأجل عزة الإسلام ومنعته، فإذا دعت الحاجة إلى التأليف فالحكم باق والمصلحة تقتضيه، وهذا ما رجحه المحققون من العلماء كما سبق بيانه".
الحكم السادس عشر: بعض ما يجتنبه المحرم
__________
(1) جامع البيان 10/163
(2) تفسير الرازي 16/111
(3) أحكام القرآن 2/966 وتحفة الأحوذي 3/336".
(4) نيل الأوطار 4/187، والسيل الجرار 2/57-58".(18/15)
جاء في هذا الحكم ما رواه يعلى بن أمية أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم وهو بالجعرانة وعليه جبة وهو متضمخ بطيب فقال: "يا رسول الله كيف ترى في الرجل أحرم بعمرة في جبة بعدما تضمخ بالطيب؟ فقال صلى الله عليه وسلم: "أما الطيب الذي بك فاغسله ثلاث مرات، وأم الجبة فانزعها عنك، ثم اصنع في عمرتك، كما تصنع في حجك".والحديث رواه البخاري ومسلم وغيرهما وهذا سياقه عند البخاري:
293- قال: "حدثنا أبو نعيم(1) حدثنا همام حدثنا عطاء قال: "حدثني صفوان بن يعلى بن أمية - يعني - عن أبيه(2) أن رجلاً(3) أتى النبي صلى الله عليه وسلم وهو بالجعرانة، وعليه جبة، وعليه أثر الخلوق(4)
__________
(1) أبو نعيم: "هو الفضل بن دكين، وهمام: "هو ابن يحيى بن دينار الأزدي، وعطاء: "هو ابن أبي رباح".
(2) هو يعلى بن أمية بن أبي عبيدة بن همام التميمي، حليف قريش وهو يعلى بن منيه - بضم الميم وسكون النون بعدها تحتانية مفتوحة- وهي أمه، ويقال جدته، صحابي مشهور، مات سنة بضع وأربعين". /ع". (التقريب 2/277، وتهذيب التهذيب 11/399).
(3) وعند البخاري أيضا: "عن يعلى قال: "فبينا النبي صلى الله عليه وسلم بالجعرانة - وعليه ثوب قد أظل به معه ناس من أصحابه - إذ جاءه أعرابي عليه جبة متضمخ بطيب".
قال ابن حجر: "ولم أقف على اسمه لكن ذكر ابن فتحون في "الذيل" عن "تفسير الطرطوشي" أن اسمه عطاء بن منية، قال ابن فتحون: "إن ثبت ذلك فهو أخو يعلى ابن منية راوي الخبر، قال ابن حجر: "ويجوز أن يكون خطأ من اسم الراوي فإنه من رواية عطاء عن صفوان بن يعلى بن منية عن أبيه ومنهم من لم يذكر بين عطاء ويعلى أحدا".(فتح الباري 3/394، ونيل الاوطار 5/8).
(4) الخلوق: "بفتح الخاء المعجمة: "نوع من الطيب مركب فيه زعفران تغلب عليه الحمرة والصفرة". (النهاية 2/72، وشرح النووي على صحيح مسلم 3/249، وفتح الباري 3/393).
وعند مسلم: "جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو بالجعرانة عليه جبة وعليها خلوق - أو قال- أثر صفرة".(18/16)
- أو قال صفرة - فقال: "كيف تأمرني أن أصنع في عمرتي؟(1)".
فأنزل الله على النبي - صلى الله عليه وسلم - (2)، فستر بثوب،وودت(3) أني قد رأيت النبي صلى الله عليه وسلم وقد أنزل عليه الوحي، فقال عمر: "تعال، أيسرك(4)
__________
(1) وعند البخاري أيضا: "كيف ترى في رجل أحرم بعمرة وهو متضمخ بطيب؟ فسكت النبي صلى الله عليه وسلم فجاءه الوحي".
وعنده أيضا: "كيف ترى في رجل أحرم في جبة بعدما تضمخ بطيب؟ فنظر النبي صلى الله عليه وسلم ساعة فجاءه الوحي".
وعند مسلم: "فنظر إليه النبي صلى الله عليه وسلم ثم سكت فجاءه الوحي".
(2) قوله: "فأنزل الله على النبي صلى الله عليه وسلم"، قال ابن حجر: "لم أقف في شيء من الروايات على بيان المنَزل حينئذ من القرآن، وقد استدل به جماعة من العلماء على أن من الوحي ما لا يتلى، ولكن وقع عند الطبراني وابن ماجة وابن أبي حاتم من طريق أخرى أن المنزل عليه حينئذ قوله تعالى: {وَأَتِمُّوا الحَجَّ وَالعُمْرَةَ} ثم قال: "ووجه الدلالة منه على المطلوب عموم الأمر بالإتمام فإنه يتناول الهيئات والصفات".
وقال أيضا في مكان آخر: "ويستفاد منه أن المأمور به وهو الإتمام يستدعي وجوب اجتناب ما يقع في العمرة". (فتح الباري 3/394و614).
(3) وعند مسلم: "وكان يعلى يقول: "وددت أني أرى النبي صلى الله عليه وسلم وقد أنزل عليه الوحي".
وعند أحمد: "عن يعلى بن أمية أنه كان مع عمر في سفر وأنه طلب إلى عمر أن يريه النبي صلى الله عليه وسلم إذا نزل عليه الوحي، قال: "فبينما النبي صلى الله عليه وسلم في سفر وكان عليه ستر مستور من الشمس إذ أتاه رجل عليه جبة وعليه ردع من زعفران".
(4) وعند الحميدي: "عن يعلى بن أمية قال: "قلت لعمر بن الخطاب إني أشتهي أن أرى رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا نزل عليه الوحي قال: "فبينا أنا بالجعرانة إذ دعاني عمر فأتيت فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم مسجى ثوبا فكشف لي عمر وجهه فإذا هو محمر وجهه".
وعند مسلمك "وكان يعلى يقول: "وددت أني أرى النبي صلى الله عليه وسلم وقد نزل عليه الوحي".
وعنده أيضا: "أن يعلى كان يقول لعمر بن الخطاب رضي الله عنه: "ليتني أرى نبي الله صلى الله عليه وسلم حين ينزل عليه".
وعنده أيضا: "وكان عمر يستره إذا أنزل عليه الوحي، ويظله فقلت لعمر - رضي الله عنه ـ: "إني أحب إذا أنزل عليه الوحي، أن أدخل رأسي معه في الثوب، فلما أنزل عليه خمره عمر - رضي الله عنه - بالثوب فجئته فأدخلت رأسي معه في الثوب، فنظرت إليه".(18/17)
أن تنظر إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقد أنزل الله عليه الوحي؟ قلت: "نعم، فرفع طرف الثوب، فنظرت إليه له غطيط(1) - وأحسبه قال: "كغطيط البكر(2) - فلما سري(3) عنه قال: "أين السائل عن العمرة؟(4)
__________
(1) له غطيط: "الغطيط صوت النفس المتردد من النائم أو المغمى وسبب ذلك شدة ثقل الوحي". (فتح الباري 3/394 والمصباح المنير 2/538).
وعند البخاري ومسلم: "فأشار عمر بيده إلى يعلى بن أمية: "تعال فجاء يعلى فأدخل رأسه فإذا النبي صلى الله عليه وسلم محمر الوجه يغط كذلك ساعة ثم سري عنه".
قال ابن حجر: "وكان سبب إدخال يعلى رأسه عليه صلى الله عليه وسلم في تلك الحال أنه كان يحب لو رآه في حالة نزول الوحي". (فتح الباري 3/394).
(2) البكر: "هو بفتح الباء وهو الفتي من الإبل". (شرح النووي على صحيح مسلم 3/250، والمصباح المنير 1/75).
(3) سري عنه: "هو بضم السين وكسر الراء المشددة، أي أزيل ما به وكشف عنه شيئا بعد شيء". (شرح النووي 3/250 وفتح الباري 3/394 والنهاية 2/364).
(4) وعند مسلم: "فقال أين الذي سألني عن العمرة آنفا" فالتمس الرجل فجيء به فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أما الطيب الذي بك، فاغسله ثلاث مرات وأما الجبة، فأنزعها، ثم أصنع في عمرتك ما تصنع في حجك".
وعند البخاري: "أين الذي يسألني عن العمرة آنفا"؟
وعنده أيضاً: "من رواية أبي عاصم عن ابن جريج" فقال: "أين الذي سأل عن العمرة؟" فأتى برجل فقال: "أغسل الطيب ثلاث مرات، وانزع عنك الجبة واصنع في عمرتك كما تصنع في حجتك".
قلت لعطاء: "أراد الإنقاء حين أمره أن يغسل ثلاث مرات؟ قال: "نعم".
قال ابن حجر: "والقائل لعطاء: "هو ابن جريج وهو دال على أنه فهم من السياق أن قوله: "ثلاث مرات" من لفظ النبي صلى الله عليه وسلم، ويحتمل أن يكون من كلام الصحابي وأنه صلى الله عليه وسلم أعاد لفظة "اغسله" مرة ثم مرة على عادته أنه كان إذا تكلّم بكلمة اعادها ثلاثا لتفهم عنه، ونبه عليه عياض". (فتح الباري 3/395).
وقال النووي: قوله: "أما الطيب الذي بك فاغسله ثلاث مرات"، إنما أمر بالثلاث مبالغة في إزالة لونه وريحه، والواجب الإزالة، فإن حصلت بمرة كفت، ولم تجب الزيادة، ولعل الطيب الذي كان على هذا الرجل كثير، ويؤيده قوله: "متضمخ".
ثم قال: "قال القاضي: "ويحتمل أنه قال ثلاث مرات أغسله، فكرر القول ثلاثاً، والصواب ما يبق، والله أعلم". (شرح النووي على صحيح مسلم 3/252).(18/18)
".
اخلع عنك الجبة(1)، واغسل أثر الخلوق عنك، وأنق(2) الصفرة، واصنع(3)
__________
(1) الجبة: "ضرب من مقطعات الثياب تلبس، وجمعها جبب و جباب". 0 لسان العرب 1/242) وعند أبي داود "أخلع جبتك فخلعها من رأسه". وعنده أيضاً: "فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينزعها نزعا ويغتسل مرتين أو ثلاثا".
(2) قوله: "وأنق الصفرة"، قال ابن حجر: "بفتح الهمزة وسكون النون، ووقع للمستملي هنا بهمزة وصل ومثناة مشددة من التقوى، قال صاحب المطالع: "وهي أوجه وإن رجعا إلى معنى واحد".
ووقع لابن السكن "اغسل أثر الخلوق وأثر الصفرة" والأول هو المشهور". (فتح الباري3/614).
(3) وعند مسلم: "عن يعلى قال أتى النبي صلى الله عليه وسلم رجل وهو بالجعرانة وأنا عند النبي صلى الله عليه وسلم وعليه مقطعات" (يعني جبة) وهو متضمخ بالخلوق فقال إني أحرمت بعمرة وعلى هذا وأنا متضمخ بالخلوق". فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "ما كنت صانعاً في حجّك؟". قال: "أنزع عني هذه الثياب، وأغسل عني هذه الخلوق". فقال له النّبي صلى الله عليه وسلم: "ما كنت صانعا في حجك فاصنعه في عمرتك".
وعنده أيضا: فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "انزع عنك جبتك واغسل أثر الخلوق الذي بك، وافعل في عمرتك ما كنت فاعلا في حجك".
وعند النسائي: "أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم وقد أهل بعمرة وعليه مقطعات وهو متضمخ بخلوق فقال: "أهللت بعمرة فما أصنع؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "ما كنت صانعاً في حجك". قال: "كنت أتقي هذا وأغسله، فقال: "ما كنت صانعا في حجك فاصنعه في عمرتك".
وعنده وعند مسلم: "أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم وهو بالجعرانة وه ومصفر لحيته ورأسه وعليه جبة فقال: "يا رسول الله إني أحرمت بعمرة وأنا كما ترى فقال: "أنزع عنك الجبة وأغسل عنك الصفرة، وما كنت صانعا في حجك فاصنعه في عمرتك". وعند أحمد: "قال جاء أعرابي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليه جبة وعليه ردع من زعفران فقال يا رسول اله إني أحرمت فيما ترى والناس يسخرون مني وأطرق هنيهة، قال: "ثم دعاه، فقال: "اخلع عنك هذه الجبة واغسل عنك هذا الزعفران واصنع في عمرتك ما تصنع في حجك".(18/19)
في عمرتك كما تصنع فيحجك"(1).
والحديث رواه البخاري أيضا في كتاب جزاء الصيد عن أبي الوليد(2)حدثنا همام حدثناعطاء قال:حدثني صفوان بن يعلى عن أبيه به(3).
ورواه في كتاب المغازي عن يعقوب(4) بن إبراهيم حدثنا إسماعيل حدثنا ابن جريج قال أخبرني عطاء أن صفوان بن يعلى بن أمية أخبره، أن يعلى كان يقول: "ليتني أرى رسول الله صلى الله عليه وسلم حين ينزل عليه(5)".
وعلقه في كتاب الحج عن أبي عاصم فقال: "قال أبو عاصم(6) أخبرنا ابن جريج أخبرني عطاء أن صفوان بن يعلى أخبره به(7)".
ورواه في فضائل القرآن عن أبي نعيم حدثنا همام حدثنا عطاء".
__________
(1) صحيح البخاري 3/6 كتاب العمرة، باب يفعل في العمرة ما يفعل في الحج".
(2) أبو الوليد هو الطيالسي هشام بن عبد الملك".
(3) صحيح البخاري 3/15-16 باب إذا أحرم جاهلا وعليه قميص".
(4) يعقوب بن إبراهيم: "هو ابن كثير بن زيد بن أفلح، وإسماعيل: "هو ابن إبراهيم المعروف "بابن علية".
(5) صحيح البخاري 5/129 باب غزوة الطائف".
(6) أبو عاصم: "هو النبيل الضحاك بن مخلد".
قال ابن حجر:: "قوله: "قال أبو عاصم"، هو من شيوخ البخاري ولم أره عنه إلا بصيغة التعليق، وبذلك جزم الإسماعيلي، فقال: "ذكره عن أبي عاصم بلا خبر". وأبو نعيم: "فقال: "ذكره بلا رواية".
وحكى الكرماني أنه وقع في بعض النسخ "حدثنا محمد حدثنا أبو عاصم" ومحمد هو ابن معمر أو ابن بشار، ويحتمل أن يكون البخاري". (فتح الباري 3/393).
(7) صحيح البخاري 2/114-115 باب غسل الخلوق ثلاث مرات من الثياب".(18/20)
وعلقه عن مسدد فقال: "وقال مسدد(1) حدثنا يحيى عن ابن جريج قال أخبرني عطاء قال أخبرني صفوان بن يعلى بن أمية أن يعلى(2) كان يقول: "ليتني أرى رسول الله صلى الله عليه وسلم حين ينزل عليه الوحي". الحديث(3)".
__________
(1) مسدد من شيوخ البخاري، قال ابن حجر: "قوله: "وقال مسدد حدثنا يحيى في رواية أبي ذر "يحيى بن سعيد" وهو القطان، وهذا الحديث وقع لنا موصولا في رواية مسدد من رواية معاذ بن المثنى عنه كما بينته في "تغليق التعليق". (فتح الباري 9/10).
(2) قوله:"أن يعلى كان يقول الخ"، قال ابن حجر: "هذا صورته مرسل؛ لأن صفوان بن يعلى ما حضر القصة، وقد أورده في كتاب العمرة من كتاب الحج بالإسناد الآخر المذكور هنا عن أبي نعيم عن همام فقال فيه: "عن صفوان بن يعلى عن أبيه" فوضح أنه ساقه هنا على لفظ رواية ابن جريج". وقد أخرجه أبو نعيم من طريق محمد بن خلاد عن يحيى بن سعيد بنحو اللفظ الذي ساقه المصنف هنا". (فتح الباري 9/10).
(3) صحيح البخاري 6/150 باب نزل القرآن بلسان قريش والعرب، وقال ابن بطال: "مناسبة الحديث للترجمة أن الوحي كله متلوا كان أو غير متلو إنما نزل بلسان العرب، ولا يرد على هذا كونه صلى الله عليه وسلم بعث إلى الناس كافة عربا وعجما وغيرهم لأن اللسان الذي نزل عليه به الوحي عربي وهو يبلغه إلى طوائف العرب، وهم يترجمونه لغير العرب بألسنتهم". قال ابن حجر: "ولذا قال ابن المنير: "كان إدخال هذا الحديث في الباب الذي قبله أليق، لكن لعله قصد التنبيه على أن الوحي بالقرآن والسنة كان على صفة واحدة ولسان واحد". (فتح الباري 9/10 والباب المشار إليه في كلام بن النير هو: "باب كيف نزل الوحي).(18/21)
ورواه مسلم وأبو داود والبيهقي الجميع من طريق همام بن يحيى حدثنا عطاء بن أبي رباح عن صفوان بن يعلى به(1)".
ورواه أحمد ومسلم والنسائي والحميدي وابن خزيمة والبيهقي الجميع من طريق ابن جريج قال: "أخبرني عطاء أن صفوان بن يعلى بن أمية أخبره به(2)".
ورواه مسلم وأبو داود والنسائي والطحاوي والحازمي كلهم من طريق قيس بن سعد المكي يحدث عن عطاء عن صفوان بن يعلى بن أمية به(3)".
رواه مسلم أيضا من طرق رباح بن أبي معروف قال سمعت عطاء قال: "أخبرني صفوان بن يعلى به(4)".
__________
(1) صحيح مسلم 2/836و 838 كتاب الحج، باب ما يباح للمحرم بحج أو عمرة وما لا يباح وبيان تحريم الطيب عليه". وسنن أبي داود 1/422-423 كتاب المناسك، باب الرجل يحرم في ثيابه". والسنن الكبرى 5/56، 7/50 ودلائل النبوة 3/56 كلاهما للبيهقي".
(2) مسند أحمد 4/222". وصحيح مسلم 2/837 كتبا الحج، باب ما يباح للمحرم بحج أو عمرة وما لا يباح وبيان تحريم الطيب عليه". سنن النسائي 5/99-100 كتاب المناسك، باب الجبة في الإحرام". ومسند الحميدي 2/347، وصحيح ابن خزيمة 4/191-192". والسنن الكبرى للبيهقي 7/50".
(3) صحيح مسلم 2/837-838 كتاب الحج، باب ما يباح للمحرم بحج أو عمرة وما لا يباح وبيان تحريم الطيب عليه". وسنن أبي داود 1/423 كتاب المناسك، باب الرجل يحرم في ثيابه". وسنن النسائي 5/110 كتاب المناسك باب في الخلوق للمحرم". شرح معاني الآثار للطحاوي 2/126، والاعتبار للحازمي ص 148".
(4) صحيح مسلم 2/838 كتاب الحج، باب ما يباح للمحرم بحج أو عمرة الخ".(18/22)
ورواه مسلم أيضاً والحميدي والشافعي وأحمد والترمذي ابن خزيمة الجميع من طريق سفيان بن عيينة قال حدثنا عمرو بن دينار عن عطاء عن صفوان بن يعلى بن أمية به(1)".
ورواه البيهقي من طريق الشافعي(2)".
ورواه أبو داود من طريق هشيم(3) بن الحجاج عن عطاء عن صفوان بن يعلى به".
ومن طريق الليث بن سعد عن عطاء بن أبي رباح عن ابن يعلى ابن منية به (4)".
وأخرجه البيهقي من طريق أبي داود الثانية (5)".
ورواه الحازمي من طريق عبيد الله(6) بن أبي زياد عن عطاء بن أبي رباح عن صفوان بن يعلى بن أمية به(7).
ورواه مالك عن حميد بن قيس عن عطاء بن أبي رباح أن أعرابيا جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بحنين وعلى الأعرابي قميص الحديث(8)
__________
(1) المصدر السابق 2/836-837". مسند الحميدي 2/347، والأم للشافعي 2/130". ومسند أحمد 4/224، وسنن الترمذي 2/165 كتاب الحج، باب ما جاء في الذي يحرم وعليه قميص أو جبة". صحيح ابن خزيمة 4/194".
(2) السنن الكبرى 5/56".
(3) هشيم: "هو ابن بشير، والحجاج: "هو ابن أرطأة".
(4) سنن أبي داود 1/423 كتاب المناسك، باب الرجل يحرم في ثيابه، ويعلى بن منية: "هو يعلى بن أمية انظر ص (696).
(5) السنن الكبرى 5/57".
(6) عبيد الله بن أبي زياد القداح، أبو الحصين، المكي ليس بالقوي، من الخامسة (ت 150). /د ت س". (التقريب1/533 وتهذيب التهذيب7/14 والخلاصة للخزرجي 2/191، وفي ميزان الاعتدال 3/8 رمز لمن أخرج له ب (د ت ق).
وقال ابن حجر: "في التهذيب له عند (ق) حديث في الاسم الأعظم بعد أن علم لمن أخرج له بـ (د ت س).
والحديث عند ابن ماجه في 2/1267 كتاب الدعاء، باب اسم الله الأعظم، لكن وقع هناك "عبد الله" مكبرا، والصواب "عبيد الله" بالتصغير وبهذا يظهر أن الذي أخرج لعبيد الله هو أبو داود والترمذي (انظر مقدمة تحفة الأحوذي 2/88) وابن ماجة دون النسائي".
(7) الاعتبار ص 148".
(8) الموطأ 1/328 كتاب الحج، باب ما جاء في الطيب للمحرم".
قال الكاندهلوي: "هكذا مرسلا في الموطأ ووصله الشيخان وأبو داود والنسائي والترمذي من طرق عن عطاء عن صفوان بن يعلى بن أمية عن أبيه". (أوجز المسالك 6/204).(18/23)
.
والحديث رواه همام بن يحيى وعبد الملك بن جريج وقيس بن سعد وعبيد الله بن أبي زياد ورباح بن أبي معروف وعمرو بن دينار والليث بن سعد والحجاج بن أرطأة كلهم عن عطاء بن أبي رباح عن صفوان بن يعلى بن أمية عن أبيه يعلى بن أمية.
بذكر "صفوان" بين عطاء ويعلى.
ورواه أبو داود من طريق أبي بشر(1) عن عطاء عن يعلى بن أمية(2).
ورواه أحمد من طريق منصور(3) وعبد الملك(4) عن عطاء عن يعلى ابن أمية(5)".
ورواه الترمذي من طريق عبد الملك بن أبي سليمان عن عطاء عن يعلى بن أمية(6).
ورواه أبو داود الطيالسي من طريق قتادة عن عطاء عن يعلى بن أمية(7).
ومن طريق أبي داود الطيالسي أخرجه البيهقي(8).
فأبو بشر ومنصور وعبد الملك وقتادة رووا هذا الحديث عن عطاء عن يعلى بن أمية، بإسقاط "صفوان بن يعلى" بين عطاء ويعلى.
__________
(1) هو بيان بن بشر الأحمسي - بمهملتين - أبو بشر الكوفي، ثقة ثبت، من الخامسة". /ع". (التقريب 1/111 وتهذيب التهذيب 1/506).
(2) سنن أبي داود 1/423 كتاب المناسك، باب الرجل يحرم في ثيابه".
(3) منصور بن زاذان - بزاي وذال معجمة - الواسطي، أبو المغيرة الثقفي، ثقة ثبت عابد، من السادسة (ت 129). على الصحيح". /ع". (التقريب 2/275 وتهذيب التهذيب 10/306).
(4) عبد الملك بن أبي سليمان - واسمه ميسرة - العرزمي- بفتح المهملة وسكون الراء، وبالزاي المفتوحة- صدوق، له أوهام من الخامسة (ت 145). /خت م عم". (التقريب 1/519 وتهذيب التهذيب 6/396) وقد رمز له الذهبي بـ (صح) إشارة إلى أنه ثقة، وقال عنه: "أحد الثقات المشهورين، تكلم فيه شعبة لتفرده عن عطاء بخبر الشفعة للجار". (ميزان الاعتدال 2/656).
(5) المسند 4/224".
(6) سنن الترمذي:2/165كتاب الحج،باب ماجاء في الذي يحرم وعليه قميص أو جبة".
(7) منحة المعبود 1/212".
(8) السنن لكبرى 5/57".(18/24)
وقد ساق الترمذي الحديث من طريق عبد الملك فقال: "حدثنا قتيبة أخبرنا عبد الله بن إدريس عن عبد الملك بن أبي سليمان عن عطاء عن يعلى بن أمية قال: "رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم أعرابيا قد أحرم وعليه جبة فأمره أن ينزعها".
ثم قال: "حدثنا ابن أبي عمر(1) أخبرنا سفيان عن عمرو بن دينار عن عطاء عن صفوان بن يعلى عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه بمعناه".
قال أبو عيسى: "وهذا أصح(2) وفي الحديث قصة".
وهكذا روى قتادة الحجاج بن أرطأة وغير واحد عن عطاء عن يعلى بن أمية(3)".
والصحيح ما روى عمرو بن دينار وابن جريج(4) عن عطاء عن صفوان بن يعلى عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم (5)".
والحديث بجميع طرقه فيه أن السائل عن الإحرام غير يعلى بن أمية راوي الحديث وأن الرسول الله صلى الله عليه وسلم أمره بنزع الجبة وغسل الخلوق ولم يأمره بإحداث إحرام من جديد".
إلا ما جاء عند النسائي من حديث نوح بن حبيب وهذا سياقه:
__________
(1) هو محمد بن يحيى بن أبي عمر العدني، صدوق".
قلت: "تابعه الحميدي والشافعي وأحمد في شيخه ابن عيينة". (انظر ص 1088).
(2) قال المباركفوري: "قوله: "وهذا أصح" أي رواية ابن أبي عمر بزيادة صفوان بين عطاء ويعلى، أصح من رواية قتيبة بن سعيد".
(3) وقوله: "وهكذا روى قتادة والحجاج بن أرطأة وغير واحد عن عطاء عن يعلى بن أمية أي بعدم ذكر "صفوان" بين عطاء ويعلى". (تحفة الأحوذي 3/575).
(4) ورواية عمرو بن دينار عند مسلم والحميدي والشافعي وأحمد والترمذي وابن خزيمة". ورواية ابن جريج في الصحيحين وغيرهما". (انظر ص 699-700). وقد وافقهما همام بن يحيى، وقيس بن سعد، ورباح بن أبي معروف، والليث بن سعد، وعبيد الله بن أبي زياد، كلّهم رووا هذا الحديث عن عطاء، فذكروا: "صفوان"، بين عطاء ويعلى بن أمية". (انظر ص: "701).
(5) سنن الترمذي 2/165-166 كتاب الحج، باب ما جاء في الذي يحرم وعليه قميص أو جبة".(18/25)
أخبرنا نوح(1) بن حبيب القومسي قال حدثنا يحيى بن سعيد(2) قال: "حدثنا ابن جريج قال: "حدثني عطاء عن صفوان بن يعلى بن أمية، عن أبيه أنه قال: "ليتني أرى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ينزل عليه".
فبينا نحن بالجعرانة والنبي صلى الله عليه وسلم في قبة فأتاه الوحي، فأشار إلى عمر أن تعال.
فأدخلت رأسي القبة فأتاه رجل قد أحرم في جبة بعمرة مضمخ بطيب فقال: يا رسول الله، ما تقول في رجل قد أحرم في جبة، إذ أنزل عليه الوحي، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يغط(3) لذلك، فسري عنه فقال: "أين الرجل الذي سألني آنفا؟". فَأُتِيَ بالرجل فقال: "أما الجبة فاخلعها، وأما الطيب فاغسله ثم أحدث إحراما".
ثم قال النسائي: "قال أبو عبد الرحمن: "ثم أحدث إحراما" ما أعلم أحداً قاله غير نوح بن حبيب، ولا أحسبه محفوظاً(4)".
وأورد ابن حجر قول النسائي هذا".
ثم قال: "وقال البيهقي: "رواه جماعات غير نوح بن حبيب فلم يذكروها (5)، ولم يقبلها أهل العلم بالحديث من نوح بن حبيب(6)".
ووقع عند الطحاوي أن الذي أحرم وعليه جبة هو يعلى بن أمية راوي الحديث وهذا سياقه:
__________
(1) نوح بن حبيب القومسي - بضم القاف وسكون الواو آخره مهملة - البذشي- بفتح الموحدة بعدها المعجمة - أبو محمد، ثقة سني، من العاشرة (ت242)./ د س". (التقريب2/308 وتهذيب التهذيب10/481 والخلاصة للخزرجي3/101).
ووقع في التقريب الطبعة الهندية والمصرية "نوح بن أبي حبيب".
(2) يحيى بن سعيد: "هو القطان".
(3) يغط: "بفتح أوله وكسر المعجمة وتشديد الطاء المهملة أي ينفخ". (فتح الباري 3/394).
(4) سنن النسائي في 5/99-100 كتاب المناسك، باب الجبة في الإحرام".
(5) أي زيادة (0 ثم أحدث إحراما".
(6) التلخيص الحبير 2/273".(18/26)
حدثنا سليمان(1) قال: "ثنا عبد الرحمن(2) قال: "ثنا شعبة عن قتادة عن عطاء بن أبي رباح: "أن رجلا يقال له يعلى بن أمية أحرم وعليه جبة، فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينْزعها"(3).
قلت: "والحديث معضل".
والصحيح أن الذي أحرم في جبة غير يعلى بن أمية كما هو صريح الأحاديث المتقدمة عن يعلى في الصحيحين وغيرهما".
وقد أخذ العلماء من هذا الحديث المسائل الآتية:
المسألة الأولى: "أن السائل عن أحكام العمرة كان عارفا بأحكام الحج، ولذا قال له صلى الله عليه وسلم: "وما كنت صانعا في حجك فاصنع في عمرتك".
قال النووي: "وهذا الحديث ظاهر في أن هذا السائل كان عالماً بصفة الحج دون العمرة، فلهذا قال له صلى الله عليه وسلم: "اصنع في عمرتك ما أنت صانع في حجك"(4)".
وقال ابن حجر: "وهذا الحديث دال على أنه كان يعرف أعمال الحج قبل ذلك".
قال ابن العربي: "كأنهم كانوا في الجاهلية يخلعون الثياب ويجتنبون الطيب في الإحرام إذا حجوا، وكانوا يتساهلون في ذلك في العمرة، فأخبره النبي صلى الله عليه وسلم أن مجراهما واحد".
__________
(1) سليمان بن شعيب الكسائي المصري، ذكره ابن حجر في لسان الميزان 3/96 في ترجمة سليمان بن شعيب بن الليث بن سعد المصري، فقال: "فأما سليمان بن شعيب الكسائي المصري، فوثقه العقيلي وأصله من نيسابور يروي عن أسد بن موسى وخالد بن نزار ووهب بن جرير وعدة، روى عنه الطحاوي والحضائري وآخرون (ت 278).
(2) عبد الرحمن بن زياد الرصاصي، روى عن شعبة وغيره، وعنه الحميدي ودحيم ويوسف بن عدي وسعيد بن أسيد ويحيى بن سليمان وغيرهم، قال ابن أبي حاتم: "سألت أبي عنه فقال: "صدوق". (الجرح والتعديل 5/235).
(3) شرح معاني الآثار 2/139 وانظر نيل الأوطار للشوكاني 5/8".
(4) شرح النووي على صحيح مسلم 3/250، والمنتقى للباجي 2/202.(18/27)
وقال ابن المنير في "الحاشية" قوله "واصنع" معناه اترك لأن المراد بيان ما يجتنبه المحرم فيؤخذ منه فائدة حسنة وهي أن الترك فعل".
وأما قول ابن بطال أراد الأدعية وغيرها مما يشترك فيه الحج والعمرة ففيه نظر، لأن التروك مشتركة، بخلاف الأعمال فإن في الحج أشياء زائدة على العمرة كالوقوف وما بعده".
وقال الباجي: "المأمور به غير نزع الثوب وغسل الخلوق، لأنه صرح له بهما فلم يبق إلا الفدية(1)، قال ابن حجر: "كذا قال ولا وجه لهذا الحصر، بل الذي تبين من طريق أخرى أن المأمور به الغسل والنزع، وذلك عند مسلم والنسائي من طريق سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار عن عطاء في هذا الحديث أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم وقد أهل بعمرة وعليه مقطعات(2) - يعني جبة - وهو متضمخ بخلوق فقال: "أهللت بعمرة فما أصنع؟". فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "ما كنت صانعا في حجك؟". قال: "كنت أنزع عني هذه الثياب وأغسل عني هذا الخلوق، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "ما كنت صانعا في حجك فاصنعه في عمرتك"(3).
المسألة الثانية: "أن من تطيب أو ليس جاهلاً ناسياً لإحرامه فلا كفارة عليه".
قال البخاري: "باب إذا أحرم جاهلا وعليه قميص".
ثم قال: "قال عطاء: "إذا تطيب أو لبس جاهلاً أو ناسياً فلا كفارة عليه".
__________
(1) انظر: "المنتقى للباجي: "2/202.
(2) مقطعات: "هي بفتح الطاء المشددة وهي الثياب المخيطة، وأوضحه في الحديث بقوله "يعني جبة" ومتضمخ: "بالضاد والخاء المعجمتين، أي متلوث به مكثر منه". (شرح النووي على صحيح مسلم 3/251).
(3) فتح الباري 3/394-395، وعون المعبود 5/266، ونيل الأوطار 5/8-9 والحديث المشار إليه عند مسلم والنسائي، صحيح مسلم 2/836-837 كتاب الحج، باب ما يباح للمحرم بحج أو عمرة، وما لا يباح، بيان تحريم الطيب عليه". سنن النسائي 5/110 كتاب المناسك، باب في الخلوق للمحرم، مسند الحميدي 2/347 وانظر تعليقة (3) ص (698).(18/28)
ثم ساق في الباب حديث يعلى بن أمية من طريق عطاء(1)".
قال ابن حجر: "قوله باب إذا أحرم جاهلا وعليه قميص، أي هل يلزمه فدية أولا؟
وإنما لم يجزم بالحكم لأن حديث الباب لا تصريح فيه بإسقاط الفدية، ومن ثم استظهر المصنف للراجح بقول عطاء راوي الحديث كأنه يشير إلى أنه لو كانت الفدية واجبة لما خفيت عن عطاء وهو راوي الحديث".
وقال ابن بطال وغيره: "وجه الدلالة منه أنه لو لزمته الفدية لبينها صلى الله عليه وسلم لأن تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز".
وفرق مالك - فيمن تطيب أو لبس ناسيا - بين من بادر فنزع وغسل وبين من تمادى".
والشافعي أشد موافقة للحديث لأن السائل في حديث الباب كان غير عارف بالحكم وقد تمادى ومع ذلك لم يؤمر بالفدية".
وقول مالك فيه احتياط(2).
وقال النووي: "وفي الحديث أن من أصابه طيب ناسيا أو جاهلا ثم علم وجبت عليه المبادرة إلى إزالته، وفيه أن من أصابه في إحرامه طيب ناسيا أو جاهلا لا كفارة عليه".
وهذا مذهب الشافعي، وبه قال عطاء والثوري وإسحاق وداود.
وقال مالك وأبو حنيفة والمزني وأحمد في أصح الروايتين عنه: "عليه الفدية، لكن الصحيح من مذهب مالك أنه إنما تجب الفدية على المتطيب ناسيا أو جاهلا إذا طال لبثه عليه(3)".
وقال ابن حجر: "واستدل بالحديث على أن من أصابه طيب في إحرامه ناسيا أو جاهلا ثم علم فبادر إلى إزالته فلا كفارة عليه".
وقال مالك: "إن طال ذلك عليه لزمه".
وعن أبي حنيفة وأحمد في رواية يجب مطلقاً(4)".
وأجاب ابن المنير: "في "الحاشية" عن هذا الحديث بأن الوقت الذي أحرم فيه الرجل في الجبة كان قبل نزول الحكم ولهذا انتظر النبي صلى الله عليه وسلم الوحي".
__________
(1) صحيح البخاري 3/15-16 كتاب جزاء الصيد".
(2) فتح الباري 4/63 والأم للشافعي 2/130-131". وصحيح ابن خزيمة 4/191".
(3) شرح النووي على صحيح مسلم 3/250".
(4) فتح الباري 3/395 ونيل الاوطار للشوكاني 5/9 وعون المعبود 5/268".(18/29)
قال: "ولا خلاف أن التكاليف لا يتوجه على المكلف قبل نزول الحكم فلهذا لم يؤمر الرجل بفدية عما مضى".
بخلاف من لبس الآن جاهلا فإنه جهل حكما استقر وقصر في علم ما كان عليه أن يتعلمه لكونه مكلفا به وقد تمكن من تعلمه(1)".
المسألة الثالثة: "استحباب الطيب لمن أراد الإحرام وجواز استدامة".
قال ابن هبيرة: "اتفق العلماء على استحباب الطيب من أراد الإحرام إلا مالكا فإنه قال: "يكره للمحرم أن يتطيب قبل الإحرام بما بقي ريحه بعده(2)".
وقال ابن رشد: "أجمع العلماء على أن الطيب كله يحرم على المحرم بالحج والعمرة في حال إحرامه".
واختلفوا في جوازه للمحرم عند الإحرام قبل أن يحرم لما بقي من أثره عليه بعد الإحرام، فكرهه قوم وأجازه آخرون، وممن كرهه مالك، ورواه عن عمر بن الخطاب(3)، وهو قول عثمان وابن عمر وجماعة من التابعين".
وممن أجازه أبو حنيفة والشافعي والثوري وأحمد وداود، والحجة لمالك حديث يعلى بن أمية ثم ساق الحديث والشاهد منه "قول الرسول صلى الله عليه وسلم للسائل: "أما الطيب الذي بك فاغسله ثلاث مرات، وأما الجبة فانزعها".
ثم قال: "وعمدة الفريق الثاني ما رواه مالك عن عائشة أنها قالت: "كنت أطيب رسول الله صلى الله عليه وسلم لإحرامه قبل أن يحرم لحله قبل أن يطوف بالبيت(4)
__________
(1) فتح الباري 4/63".
(2) الإفصاح 1/270، والمنتقى للباجي 2/201".
(3) الحديث في الموطأ 1/329 كتاب الحج، باب ما جاء في الطيب في الحج ونص الحديث: "أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وجد ريح طيب وهو بالشجرة فقال: "ممن ريح هذا الطيب؟ فقال معاوية بن أبي سفيان: "مني يا أمير المؤمنين، فقال: "منك؟ لعمر الله، فقال معاوية: "إن أم حبيبة طيبتني يا أمير المؤمنين". فقال عمر: "عزمت عليك لترجعن فلتغسلنه".
وانظر: "الإجابة لإيراد ما استدركته عائشة على الصحابة للزركشي ص103-104".
(4) بداية المجتهد 1/328 وحديث عائشة في الموطأ 1/328 كتاب الحج، باب ما جاء في الطيب في الحج".
ورواه البخاري ومسلم في صحيحيهما كلاهما من طريق مالك انظر صحيح البخاري 2/115 كتاب الحج، باب الطيب عند الإحرام، صحيح مسلم 2/846 كتاب الحج، باب الطيب للمحرم عند الإحرام، وانظر: "أوجز المسالك إلى موطأ مالك للكاندهلوي 6/198".(18/30)
".
وقال ابن حجر: "واستدل بحديث يعلى على منع استدامة الطيب بعد الإحرام للأمر بغسل أثره من الثوب والبدن، وهو قول مالك ومحمد ابن الحسن".
وأجاب الجمهور بأن قصة يعلى كانت بالجعرانة كما ثبت في هذا الحديث، وهي سنة ثمان بلا خلاف، وقد ثبت عن عائشة - رضي الله عنها - قالت:
294- "طيبت رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي هاتين حين أحرم، ولحله حين أحل قبل أن يطوف، وبسطت يديها"(1).
وكان ذلك في حجة الوداع سنة عشر بلا خلاف، وإنما يؤخذ بالآخر فالآخر من الأمر، وبأن المأمور بغسله في قصة يعلى إنما هو الخلوق لا مطلق الطيب، فلعل علة الأمر فيه ما خالطه من الزعفران، وقد ثبت النهي عن تزعفر الرجل مطلقا محرما وغير محرم(2)".
295- وفي حديث ابن عمر: "ولا يلبس - أي المحرم - من الثياب شيئا مسه زعفران"(3).
296- وفي حديث ابن عباس(4) ولم ينه إلا عن الثياب المزعفرة"(5). إهـ.
__________
(1) الحديث في صحيح البخاري 2/115 كتاب الحج، باب الطيب عند الإحرام، و2/149 باب الطيب بعد رمي الجمار، و7/140-141 كتاب اللباس، باب تطييب المرأة زوجها بيديها، باب الطيب في الرأس واللحية، وباب الذريرة". وصحيح مسلم 2/846-850 كتاب الحج، باب طيب للمحرم عند الإحرام".
(2) الحديث في صحيح البخاري 7/131 كتاب اللباس، باب التزعفر للرجال".
(3) الحديث في صحيح البخاري2/115-116كتاب الحج، باب ما يلبس المحرم من الثياب، وصحيح مسلم 2/834-835 كتاب الحج، باب ما يباح للمحرم بحج أو عمرة، وما لا يباح، بيان تحريم الطيب عليه".
(4) حديث ابن عباس في صحيح البخاري 2/116 كتاب الحج، باب ما يلبس المحرم من الثياب والأردية والأزر ولفظه: "فلم ينه عن شيء من الأردية والأزر تلبس إلا المزعفرة التي تردع على الجلد".
(5) فتح الباري 3/395و396و398 وشرح معاني الآثار للطحاوي 2/126، والمغني لابن قدامة 3/273-274، وشرح النووي على صحيح مسلم 3/268".(18/31)
وقد استدل القائلون بكراهية التطيب للمحرم قبل إحرامه بأدلة أخرى، وقد أجاب عنها العلماء وبينوا بأنها لا تقوى على دفع الأحاديث الواردة بجواز التطيب لمن أراد الإحرام قبل إحرامه وذلك لصراحتها وصحتها وتأخرها(1).
ففي حديث عائشة الثابت في الصحيحين وغيرهما أنها قالت: "كنت أطيب رسول الله صلى الله عليه وسلم لإحرامه قبل أن يحرم ولحله قبل أن يطوف بالبيت".
وفي لفظ: قالت: "طيبت رسول الله بيدي بذريرة(2) في حجة الوادع للحل والإحرام".
وفي لفظ عنها عند النسائي قالت: "لقد رأيت وبيص الطيب في مفارق رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ثلاث"(3).
المسألة الرابعة: "أن المحرم إذا صار عليه مخيط ينزعه ولا يلزمه تمزيقه".
قال النووي: "قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث "واخلع عنك جبتك" دليل لمالك وأبي حنيفة والشافعي والجمهور أن المحرم إذا صار عليه مخيط ينزعه، ولا يلزمه شقه".
وقال الشعبي والنخعي: "لا يجوز نزعه لئلا يصير مغطيا رأسه، بل يلزمه شقة، وهذا مذهب ضعيف(4)".
__________
(1) أو المنهي عنه في حديث يعلى بن أمية هو الخلوق وهو حرام على الرجال في حال الإحرام وغيره".
(2) الذريرة: "بفتح الذال المعجمة وراءين بوزن عظيمة، نوع من الطيب مجموع من أخلاط".
وقيل: "وهي فتات القصب طيب: "يجاء به من الهند". (النهاية لابن الأثير 2/157، وشرح النووي على صحيح مسلم 3/270، وهدي الساري لابن حجر ص 118 وفتح الباري 10/381).
(3) سنن النسائي 5/108-109 كتاب المناسك، باب موضع الطيب". وانظر: "الأم للشافعي 2/130-131".
وشرح معاني الآثار للطحاوي 2/126-133، والمحلى لابن حزم7/85-99". وصحيح ابن خزيمة 4/192-194، والمغني لابن قدامة 3/273-274". وشرح النووي على صحيح مسلم 3/268". وفتح الباري لابن حجر 3/398-400 و585". نيل الأوطار للشوكاني 4/340-341 والسيل الجرار له 2/180-181". وانظر: "حديث (294).
(4) شرح النووي على صحيح مسلم 3/250".(18/32)
وقال الخرقي: "ومن أحرم وعليه قميص خلعه ولم يشقه"(1).
قال ابن قدامة: "هذا قول أكثر أهل العلم، وحكي عن الشعبي(2) والنخعي(3) وأبي قلابة(4) وأبي صالح ذكوان(5): "أنه يشق ثيابه لئلا يتغطى رأسه حين ينزع القميص منه".
ولنا: "ما روى يعلى بن أمية "أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله كيف ترى في رجل أحرم بعمرة في جبة بعدما تضمخ بطيب؟ فنظر إليه رسول الله ساعة ثم سكت، فجاءه الوحي فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "أنا الطيب الذي بك فاغسله، وأما الجبة فانزعها ثم اصنع في عمرتك ما تصنع في حجك".
ثم قال: "قال عطاء: "كنا قبل أن نسمع هذا الحديث نقول فيمن أحرم وعليه قميص أو جبة فليخرقها عنه، فلما بلغنا هذا الحديث أخذنا به، وتركنا ما كنا نفتي به قبل ذلك، لأن في شق الثوب إضاعة ماليته وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن إضاعة المال(6)".أهـ.
297- قلت: "وقد روى أبو داود الطيالسي والطحاوي كلاهما من طريق شعبة عن قتادة عن عطاء عن يعلى بن أمية "أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلا عليه جبة عليها أثر الخلوق أو صفرة، فقال: "اخلعها عنك واجعل في عمرتك ما تجعل في حجك".
قال قتادة: "فقلت لعطاء نسمع أن قال: "شقها، قال: "هذا فساد والله لا يحب الفساد(7)".
__________
(1) المختصر مع المغني 3/294".
(2) الشعبي: "هو عامر بن شراحيل "ثقة فقيه مشهور" تقدم".
(3) هو إبراهيم بن يزيد بن قيس بن الأسود النخعي، أبو عمران الكوفي، الفقيه ثقة، إلا أنه يرسل كثيرا، من الخامسة (ت 196)./ ع". (التقريب 1/46).
(4) أبو قلابة هو عبد الله بن زيد الجرمي، تقدم في حديث (251).
(5) هو: "ذكوان أبو صالح، السمان الزيات".
(6) المغني لابن قدامة 3/294، وفتح الباري لابن حجر 3/395".
(7) منحة المعبود 1/212 واللفظ له، وشرح معاني الآثار للطحاوي 2/139".(18/33)
298- وقال الشافعي: "أخبرنا سعيد(1) بن سالم عن ابن جريج عن عطاء أنه كان يقول: "من أحرم في قميص أو جبة فلينزعها نزعا ولا يشقها".
قال الشافعي: "والسنة كما قال عطاء لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر صاحب الجبة أن ينزعها ولم يأمره بشقها(2)".
وروى أبو داود من طريق عطاء عن صفوان بن يعلى بن أمية عن أبيه قصة السائل عن العمرة في الجعرانة، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم "اخلع جبتك، فخلعها من رأسه"(3)".
قال الخطابي: "في هذا الحديث من الفقه أن من أحرم وعليه ثياب مخيط من قميص وجبة ونحوهما لم يكن عليه تمزيقه وأنه إذا نزعه من رأسه لم يلزمه دم، وقد روى عن إبراهيم النخعي أنه قال: "يشقه". وعن الشعبي قال: "يمزق ثيابه". اهـ.
قال صاحب عون المعبود: "وهذا خلاف السنة لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمره بخلع الجبة وخلعها الرجل من رأسه فلم يوجب عليه غرمة، وقد نهى صلى الله عليه وسلم عن إضاعة المال، وتمزيق الثياب تضييع له، فهو غير جائز(4)".
__________
(1) سعيد بن سالم القداح، أبو عثمان المكي، أصله من خراسان أو الكوفة، صدوق يهم رمي بالإرجاء، وكان فقيها من كبار التاسعة (ت قبل 200). /د س". (التقريب 1/296 وتهذيب التهذيب 4/35).
(2) الأم 2/130 وصحيح ابن خزيمة 4/195".
(3) سنن أبي داود 1/423 كتاب المناسك، باب الرجل يحرم في ثيابه".
(4) عون المعبود 5/266".(18/34)
الحكم السابع عشر: عمرة الرسول صلى الله عليه وسلم من الجعرانة
بعد أن رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من حصار الطائف نزل الجعرانة وكان بها غنائم هوازن، فمكث بها بضع عشرة ليلة قسم خلالها الغنائم بين المقاتلين ثم أحرم منها بعمرة ثم توجه إلى مكة ولما فرغ من عمرته عاد إلى الجعرانة من ليلته ثم توجه منها إلى المدينة المنورة.
قال ابن إسحاق: "ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من الجعرانة(1) معتمرا، وأمر ببقايا الفيء فحبس بمجنة بناحية مر الظهران، فلما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من عمرته انصرف راجعا إلى المدينة، واستخلف عتاب بن أسيد على مكة، وخلف معاذ بن جبل، يفقه الناس في الدين، ويعلمهم القرآن، واتبع رسول الله صلى الله عليه وسلم ببقايا الفيء(2)".
ونقل ابن كثير قول ابن إسحاق هذا ثم قال: "الظاهر أنه عليه السلام إنما استبقى بعض المغنم ليتألف به من يلقاه من الأعراب فيما بين مكة والمدينة (3)".
وقد وردت في عمرة الجعرانة الأحاديث الآتية: "حديث أنس بن مالك عند البخاري ومسلم وغيرهما وهذا سياقه عند البخاري:
299- قال: "حدثنا هدبة(4)
__________
(1) قال السهيلي في الروض الأنف 7/279: "وقد ذكر أن المرأة التي نقضت غزلها من بعد قوة كانت تُلقب بالجعرانة، واسمها: "ريطة بنت سعد، وأن الموضع يسمى بها".
(2) سيرة ابن هشام 2/500 وتاريخ الطبري 3/94-95".
(3) البداية والنهاية 4/368".
(4) هدبة - بضم أوّله وسكون الدال، بعدها موحدة - ابن خالد بن الأسود القيسي، أبو خالد البصري- ويقال له: "هداب بالتثقيل وفتح أوله".
وهمام: "هو ابن يحيى".(19/1)