المقدمة
الحمد لله الذي تفرد بالعظمة والوحدانية والجلال والكبرياء لا إله إلا هو وحده لا شريك له ولا ولد له ولا صاحبة له , وأشهد أن محمد عبد الله ورسوله بلغ الرسالة وأدى الأمانة ونصح الأمة جَميعاً فنشهد أنه بلغ ما أتاه المولى سبحانه وتعالى ...
وبعد ,
لكل رسول من رسل الله أعداء كما الله عز وجل " وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ " وهؤلاء الشياطين يروجون حول رسل الله الافتراءات والادعاءات ليشككوا فيهم ويبعدوا عن الحق عن البشر ولذلك وبمقتضى رحمة الله على البشر وجب على كل رسول بتشريع أن يقوم هذا النبي بنشر دين الله وجميع الأنبياء نشروا توحيد رب السماء والأرض في قومهم الذين نزلوا إليهم , فالله عز وجل يقول ( إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ (1)
ويقول وتعالى : (وَقُل لِّلَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ وَالأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُواْ فَقَدِ اهْتَدَواْ ) (2)
فلن يُقبل من البشر ديناً غير الإسلام لقوله تعالى : (وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ ) (3)
فهو دين إبراهيم ويعقوب فيقول الله تعالى: ( إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ* وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلاَ تَمُوتُنَّ إَلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ ) (4)
فلم يكن إبراهيم يهودياً ولا نصرانياً كما يقولون عنه ! ولكنه كان مسلماً لقول الله عز وجل : (مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلاَ نَصْرَانِيًّا وَلَكِن كَانَ حَنِيفًا مُّسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ) (5)
__________
(1) آل عمران:19
(2) آل عمران:20
(3) آل عمران:85
(4) البقرة:131-132
(5) آل عمران:67(1/1)
وقد وصى يعقوب أبناءه بالإسلام لقوله تعالى : (: أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاء إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِي قَالُواْ نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُون ) (1)
ويخبرنا الله عز وجل عن سحرة فرعون بأنهم مسلمون فيقول : (رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ ) (2)
وأخبر الله تعالى عن نوح عليه السلام : فَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُم مِّنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ) (3)
وأيضاً في خطاب موسى لقومه فيقول : (وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِن كُنتُمْ آمَنتُم بِاللّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّسْلِمِينَ ) (4)
وأخبر تعالى عن سليمان : (إِنَّهُ مِن سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ* أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ ) (5)
وأخبر عن عيسى : ( فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللّهِ آمَنَّا بِاللّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ ) (6)
فدين الإسلام هو دين كل الأنبياء فلا ينبغي علينا أن نقول أديان الأنبياء ولكن دين واحد ألا وهو دين الإسلام العظيم , فعلى كل رسول أن ينشر التوحيد ..
ولكن قد يعترض طريق دعوة التوحيد ويحاول إبعاد البشر عنها وفي هذا الوقت ومع هؤلاء يحق للرسول أن يبدأ في الدفاع عن رسالته مع العلم أن الأمر لا يكون بالاعتداء على الغير فيقول الله تعالى :
__________
(1) البقرة 133 .
(2) الأعراف:126
(3) يونس:72
(4) يونس 84
(5) النمل:30-31
(6) آل عمران:52(1/2)
(وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبِّ الْمُعْتَدِينَ ) (1)
وأيضاً : (وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَن صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَن تَعْتَدُواْ وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ) (2)
ولذلك فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم أرسل للملوك رسائل لدعوتهم للإسلام فعندما يقول لهم " أسلم تِسلم " فمعناه أسلم تسلم من عذاب النار ولذلك يقول " يؤتيك الله أجرك مرتين " فلم ينشر الإسلام بالسيف كما يدعون افتراءا عليه ولكن نشر لأنه دين التوحيد والحق والصدق ... بالإضافة أنه دين كل الأنبياء .
معاذ عليان
كل حروب رسول الله كانت دفاعية
لقد بلغ عدد الغزوات التي قادها الرسول صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم 28 غزوة، كان من ضمنها 9 غزوات دار فيها قتال , وهناك 19 غزوة حققت أهدافها دون قتال بسبب فرار الأعداء , ومن ضمن هذه الغزوات خرج الرسول صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم في 7 غزوات على علم مسبقاً بأن العدو فيها قد دبر عدواناً على المسلمين.
استمرت الغزوات 8 سنوات (من 2 هجري إلى 9 هجري) , و السنة الثانية للهجرة حدث أكبر عدد من الغزوات حيث بلغت 8 غزوات , وبلغت عدد البعوث والسرايا 38 ما بين بعثة و سرية , وها هي الغزوات موضحة بالشكل التالي :
وكل هذه الغزوات لم تكن إلا دفاعاً عن النفس , والأسباب التي جَعلت المسلمين يدافعون عن أنفسهم هم كالآتي :
? الاضطهاد
__________
(1) البقرة 190
(2) المائدة 2(1/3)
اضطهاد أهل مكة للمسلمين في أوائل الدعوة الإسلامية فكان اضطهاداً قاسياً تعرض له رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين أيضاً ويشهد بذلك الكثير من المؤرخين والقرآن الكريم أيضاً لهذا الاضطهاد بصورة واضحة وجلية ولعل من شدة عذاب هؤلاء فقد أعلنوا الكفر بألسنتهم ولكنهم في الحقيقة متمسكين بالإيمان في قلوبهم , فيقول الله تعالى :
(مَن كَفَرَ بِاللّهِ مِن بَعْدِ إيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ اللّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ) (1)
ومنهم من أفلتوا منهم مهاجرين , فتركوا أموالهم وأهليهم وكل ما لهم في أيدي مضطهديهم وفضلوا هذا عن الكفر بعد الإيمان ولو كان في الظاهر , ولقد تكلم الله تعالى عنهم فيقول :
(وَالَّذِينَ هَاجَرُواْ فِي اللّهِ مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُواْ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ , الَّذِينَ صَبَرُواْ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ) (2)
فالله عز وجل تكلم عنهم في عدة مواضع في القرآن الكريم ..
بالإضافة ما تعرض له الرسول صلى الله عليه وسلم فقد تعرض للكثير من الاضطهادات والإهانات فمنعوه من تأدية الصلاة وبصقهم وحثوهم التراب عليه وجرهم إياه من رقبته إلى خارج الكعبة بعد أن ربطوا شال عمامته حول عنقه وقبل كل هذا عرضوا عليه صلى الله عليه وسلم المال والجاه ولكنه تمسك برسالته وقال:
(يا عم ! و الله لو وضعوا الشمس في يميني ، و القمر في يساري ، على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره الله أو أهلك فيه ما تركته)
فتحمل النبي صلى الله عليه وسلم كل هذا ودعاهم إلى توحيد رب السماء والأرض بعيداً عن عبادة الأصنام والأحجار وبعد كل هذا هاجروا هروباً من العذاب والاضطهاد .
__________
(1) النحل 106
(2) النحل 41-42(1/4)
وبدأت الغزوات التي كان هدفها الأول والأخير هو الدفاع النفس سواء ما كان قبل غزوة بدر الكُبرى أو ما بعدها إلى غزوة تبوك , ولعل الأمر يستلزم بنا أن نشير إلى أمر هام في القرآن الكريم وفي السنة الطاهرة ألا وهو أن الإسلام بصورة عامة لا يوجد فيه مادة القتل ! فالقرآن الكريم كاملاً لا يوجد فيه كلمة أقتلوا أو أقتل أو أقتلوهم إلا في آيتين فقط وكلايهما أنزلهما الله في الحرب ومن الطبيعي أن يكون الحرب فيه قتل للعدو وإلا قتلنا ! والقارئ للكتاب المقدس سيجد فيه الدفاع بنفس الطريقة بل وأكثر بكثير فبكل دومية وكل قسوة نجد الأمر بالقتل وإهارب المسالمين وقبل أن نسرد بعض هذه النصوص ننقل لكم ما قاله الأب متى المسكين وهو أحد آباء الكنيسة الأرثوذكسية فهو راهب قبطي عاش يفسر في الكتاب المقدس وله العديد من التفسيرات له فيقول (1) :
( حينئذاً بدأت بعد ذلك " حروب الرب " التي أكمل بها وعده لموسى بإمتلاك الأرض وكان دموية بأقسى ما يمكن التعبير . ومهما حاول المؤرخون والعلماء أعطاء المبررات والأعذار أو الإدعاء بأنها كانت حرب دفاع فلا يمكن أن يجيزها الضمير ولا يمكن أن يبررها العقل بحسب موازين إيماننا ولكننا نقول إن إسرائيل تصرفت بأكثر مما أوصى بها الله .. )
وتكلم أيضاً عن يشوع ابن نون خادم موسى فيقول (2) :
__________
(1) تاريخ إسرائل من واقع نصوص التوراة والأسفار وكتب ما بين العهدين للأب متى المسكين صفحة53 .
(2) تاريخ إسرائل من واقع نصوص التوراة والأسفار وكتب ما بين العهدين للأب متى المسكين صفحة53 .(1/5)
( لقد أجتمع عليه كل ملوك مقاطعات الجنوب الكنعانيين المتمرنين في الحرب بأعداد وأدوات رهيبة , فكسرهم جميعاً وبدد شملهم وأستولى على مدنهم الواحدة تلوى الأخرى . ثم أجتمع عليه كل مبلوك الشمال من كنعانيين وغير الكنعانيين ولم يأخذوا بعبرة إنكسار الجنوب ولكن لم يرهب يشوع كثرتهم ولا شراستهم , وباغتهم كالأقوى وحطمهم وشردهم وقتل خمسة ملوك دفعة واحدة وأستولى على كل البلاد يشوع 3/7 :
(فقال الرب ليشوع: «اليوم أبتدئ أعظمك في أعين جميع إسرائيل ليعلموا أني كما كنت مع موسى أكون معك.) ... ) أ.هـ. ...
ولذلك يتضح لنا بأن الإسلام لم يأتي بجديد عندما أمر الله عز وجل فيه بأن يدافعون عن أنفسهم !! ولذلك سوف نوضح الأمر ببعض من الإختصار كالآتي :
1- الحرب في الإسلام دفاعية عكس ما في المسيحية فهي هجومية .
2- الحرب في الإسلام كانت ضد الجيوش وليست على المسالمين عكس المسيحية .
3- الإسلام حرم قتل الأطفال والنساء والشيوخ عكس المسيحية .
4- إلتزام المسلمين بالعهود مع غير المسلمين عكس المسيحية تماماً .
5- عدم التعدى بالتعذيب بالحرق والنشر في الحروب .
6- الجزية في الإسلام وإعفاء الكثير من دفعها .
7- الغنائم هل محللة للمسلمين وهل إبتدعوها المسلمين ؟!
8- إنتشار المسيحية بالإكراه وإنتشار الاسلام بتوحيده وسماحته وتشريعه .
نوضحها ببعض من التفصيل كالآتي :
الحرب في الإسلام دفاعية عكس ما في المسيحية !!
القارئ للقرآن الكريم يجد أن آياته بها الطابع الدفاعي وليس الهجومي على أعداءه , فيقول الله تعالى في أول آية أنزلها في السماح بالقتال :(1/6)
(أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ , الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ) (1)
ومن هذه الآية الكريمة أراد الله عز وجل أن يوضح للبشرية كلها أن هؤلاء الذين أخرجوا من ديارهم وشردت أولادهم ونُهبت أموالهم بأن لهم الحق في الدفاع عن أنفسهم ولا يوجد هدف أسمى من الدفاع عن النفس , وأيضاً يقول الله تعالى :
(وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبِّ الْمُعْتَدِينَ) (2)
والقارئ لهذه الآية الكريمة يجد أن القتال في الإسلام ماهو إلا رداً على قتال الأخرين لهم , وأقرأ معي إن شئت قول الله تعالى :
(فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآخِرَةِ وَمَن يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَيُقْتَلْ أَو يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً وَمَا لَكُمْ لاَ تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ وَلِيّاً وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ نَصِيراً) (3)
ويقول الله تعالى :
__________
(1) الحج39-40
(2) البقرة 190
(3) النساء 74-75(1/7)
(فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ لاَ تُكَلَّفُ إِلاَّ نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللّهُ أَن يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَاللّهُ أَشَدُّ بَأْساً وَأَشَدُّ تَنكِيلاً) (1)
فالحرب في الإسلام دفاعاً عن المستضعفين من الرجال والنساء والولدان وقد تكون الحرب لها أهداف أخرى مثلاً التصدى للدعاة ومنهم عن نشر دعوة الإسلام بالقوة أو غير ذلك ..
فمثلاً عندما نقض أهل مكة صلح الحديبية وأعتدوا على بني خزاعة حلفاء النبي صلى الله عليه وسلم حين ذلك دخل النبي مكة فاتحاً لترجع الحقوق إلى أهلها دون إراقة دماء ودون الإعتداء عليهم وهم الذين أضطهدوهم وشردوهم وأخرجوهم من ديارهم , ولأن النبي لم يأتي إلا رحمة للعالمين فقد أعاد الحقوق إلى أهلها دون التعدى عليهم , فمن هذا الذي يدعي أن الإسلام قد أنتشر بحد السيف ؟ أما في المسيحية فالأمر عكس ذلك بل إن إله المسيحية لم يترك قاعدة لأي حرب فأصبحت الحروب هجومية شرسة بالدرجة الأولى , وكما أشرنا بأن متى المسكين نفسه يقول : (2) (فلا يمكن أن يجيزها الضمير ولا يمكن أن يبررها العقل بحسب موازين إيماننا ولكننا نقول إن إسرائيل تصرفت بأكثر مما أوصى بها الله )
فيقول كاتب سفر يشوع الإصحاح 10 الأعداد من 40 إلى 43 :
(فضرب يشوع كل أرض الجبل والجنوب والسهل والسفوح وكل ملوكها. لم يبق شاردا, بل حرم كل نسمة كما أمر الرب إله إسرائيل. , فضربهم يشوع من قادش برنيع إلى غزة وجميع أرض جوشن إلى جبعون. , وأخذ يشوع جميع أولئك الملوك وأرضهم دفعة واحدة, لأن الرب إله إسرائيل حارب عن إسرائيل. , ثم رجع يشوع وجميع إسرائيل معه إلى المحلة إلى الجلجال. )
فالإله يأمر بقتل كل نسمة ولا يترك منهم شيئاً حي !!
__________
(1) النساء 84 .
(2) تاريخ إسرائل من واقع نصوص التوراة والأسفار وكتب ما بين العهدين للأب متى المسكين صفحة53 .(1/8)
ونقرأ الآن في الكتاب المقدس للرب وهو يأمر موسي بعدم الشفقة على أعدائك عند النصر عليهم في سفر التثنية الإصحاح 7 العدد 1 – 5 :
(متى أتى بك الرب إلهك إلى الأرض التي أنت داخل إليها لتمتلكها وطرد شعوبا كثيرة من أمامك: الحثيين والجرجاشيين والأموريين والكنعانيين والفرزيين والحويين واليبوسيين سبع شعوب أكثر وأعظم من , ودفعهم الرب إلهك أمامك وضربتهم فإنك تحرمهم. لا تقطع لهم عهدا ولا تشفق عليهم , ولا تصاهرهم. ابنتك لا تعط لابنه وابنته لا تأخذ لابنك , لأنه يرد ابنك من ورائي فيعبد آلهة أخرى فيحمى غضب الرب عليكم ويهلككم سريعا. , ولكن هكذا تفعلون بهم: تهدمون مذابحهم وتكسرون أنصابهم وتقطعون سواريهم وتحرقون تماثيلهم بالنار , )
الأمر صعب أن نقرأ مثل هذا الكلام في كتاب يدعي أتباعه أنه كتاب يدعو للمحبة والرحمة , هذه الأوامر لم تصدر أبداً من الإسلام العظيم لأن الإسلام لم يكن هدفه حرب الآخرين بل كل هدفه حماية أتباعه وحرية العقيدة كل هدفه أن يحمي المسلمين من الذين يعتدون عليهم .
بل قد أطُلق علي هذه الحروب في الكتاب المقدس " حروب الرب " الإسم المحبب لدي أتباع الكتاب المقدس فكما ذُكر في الكتاب المقدس:
(واصفح عن ذنب أمتك لأن الرب يصنع لسيدي بيتا أمينا, لأن سيدي يحارب حروب الرب, ولم يوجد فيك شر كل أيامك. ) سفر صموئيل الأول 25 / 28.
بل إن إله النصارى قد وعد بني إسرائيل لو إلتزموا بالشريعة بأن كل مكان تدوسه بطون أقدامهم تكون لهم لكي يرثوا الأرض كلها لهم فيقول :(1/9)
(لأنه إذا حفظتم جميع هذه الوصايا التي أنا أوصيكم بها لتعملوها لتحبوا الرب إلهكم وتسلكوا في جميع طرقه وتلتصقوا به , يطرد الرب جميع هؤلاء الشعوب من أمامكم فترثون شعوبا أكبر وأعظم منكم. , كل مكان تدوسه بطون أقدامكم يكون لكم. من البرية ولبنان. من نهر الفرات إلى البحر الغربي يكون تخمكم. لا يقف إنسان في وجهكم. الرب إلهكم يجعل خشيتكم ورعبكم على كل الأرض التي تدوسونها كما كلمكم. ) سفر التثنية 11 / 22 – 25 .
وأحب أن أذكر هنا قول إلريك زوينجلي وهو أحد الإصلاحيين المسيحيين والذي قاد جيوش البروتستانت ضد الكنيسة الكاثوليكية للدفاع عن أنفسهم فيقول (1) :
( نحن لا نريد أن نسفك دم أحد , ولكننا نريد أن نقص أجنحة حكومة الصقور , فإن تجنبنا المواجهة فإن حق الإنجيل وحياة الرب لن تكون في أمان في وسطنا , ويجب أن نتكل على الله وحده , ولكن عندما تكون لدينا قضية عادلة يجب أن نعرف أيضاً كيف ندافع عنها , ونظير يشوع وجدعون نسفك الدماء في سبيل وطننا وإلهنا .. )
وقد قال أيضاً إلريك زوينجلي (2) : ( إن الحرب العادلة ليست ضد كلمة الله ..)
وأنا أجد أيضاً أن الحرب العادلة والذي يكون فيها الدفاع عن النفس والدين , فلا يوجد مسيحي يترك زوجته تُغتصب بل سيقتل من يعتدي عليها ولن يسكت على حق زوجته فما بالك بحق الدين ؟ الذي وجب الدفاع عنه لبقاءه .
__________
(1) كتاب مختصر تاريخ الكنيسة – للمؤرخ المسيحي أندرو ملر – صفحة 555 , 556 .
(2) كتاب مختصر تاريخ الكنيسة – للمؤرخ المسيحي أندرو ملر – صفحة 559 .(1/10)
هكذا كانت المسيحية تأمر بالقتل قبل مجيء يسوع وهكذا كانت الدعوة وإحتلال الأراضي واستعباد أهلها لو لم يكن حرقهم وقتلهم وإبادتهم وحتى بعد مجيء يسوع وإنتشار المسيحية, وسنتكلم عن وصف هذه الحروب لنعرف ما يحدث بداخلها من تعديات بكل المقاييس , لكي نعرف الفرق بين حروب الإسلام وحروب المسيحية لنعرف الفرق بين ما يدعوا للبناء وما يدعوا للهدم , لكي نعرف الفرق بين الحرب الدفاعية والحرب الهجومية والتدميرية والآن لنري هل الحرب الإسلامية كانت ضدد مدنيين أم محاربين .
وأحب أن أقول كلمة العلامة أوريجانوس وهو يتكلم عن الحرب الدفاعية فيقول (1) :
(يوجد في شعب الله أشخاص هم جنود الرب ( أنظر 1تي 2/3-4 ) , الذين لا يرتبكون بأمور الحياة . هؤلاء هم الذين يمشون في الحرب ويقاومون الأمم المعادية والأرواح الشريرة لباقي الشعب وكذلك العاجزين الذين يمنعهم السن أو الجنس أو الضعف . هم يدافعون بالصلاة والصوم والبر والرحمة واللطف والعفة .. )
الحرب في الإسلام كانت ضد الجيوش وليست على المسالمين
لم تكن الحرب في الإسلام للإستكبار في الأرض والإعتداء على الآخرين ولكن هذه الحرب في الإسلام كانت لوقف الإعتداء ولأنها لوقف الإعتداء كانت ضد جيوش المعتدين على المسلمين ولم تكن الحرب أبداً ضد المدنيين أما الحرب في المسيحية فكانت ضد المدنيين والأطفال والنساء وقتلهم وإبادتهم جميعاً ولكن عندما نقرأ الآيات القرآنية الكريمة نجد الحق سبحانه وتعالى يقول :
(وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبِّ الْمُعْتَدِينَ ) سورة البقرة 190.
الحرب في الإسلام كما نرى أمر الله تعالى تكون ضد الذين يقاتلونكم ويعتدون عليكم فقط وليس على المسالمين أو المدنيين
__________
(1) عظات أوريجانوس على سفر العدد – للعلامة أوريجانوس صفحة 182 .(1/11)
بل القاريء للتاريخ الإسلام وسيرة النبي صلى الله عليه وسلم يجده لم يحارب مدنيين مسالمين ولكنه حارب جيوش جاءت لتعتدي على النبي صلى الله عليه وسلم وحارب منهم أيضاً من لا يلتزم بعهد المسلمين فمثلاً غزوة بدر لم تكن ضد نساء وأطفال أو مدنيين مسالمين بل كانت ضد جيش المشركين الذي جاء أصلاً للإعتداء على المسلمين , فمثلاً عند فتح مكة المكرمة عندما نقض المشركين العهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يتهجم النبي صلى الله عليه وسلم على مشركي مكة ولا على بيوتهم ولم ينتقم منهم بما فعلوه فيهم بل ذهب أبي سفيان وصرخ بأعلى صوته : يا معشر قريش هذا محمد فيما لا قِبل لكم به , فمن دخل دار أبي سفيان فهو آمن , قالوا : قاتلك الله وما تغنى عنك دارك ؟ قال : ومن أغلق بابه فهو آمن ومن دخل المسجد الحرام فهو آمن , فأسرع الناس إلى بيوتهم وإلى المسجد الحرام . (1)
والقارئ لسيرة الحبيب صلى الله عليه وسلم يجد أنه سأل قريش : يا معشر قريش ما ترون أني فاعل بكم ؟ . قالوا : خير أخٍ كريم وإبن أخِ كريم قال النبي صلى الله عليه وسلم لا تثريب عليكم اليوم أذهبووا فأنتم الطلقاء .. (2)
هكذا كانت معاملة المدنيين المجردين من الأسلحة ولكن العكس تماماً في النصرانية فكانت الحرب فيها ما هي إلا تهجم على المدنيين والنساء والأطفال والشيوخ حتى الحيوانات والشجر , فكان هدفها تنجيس البيوت بالدماء !
ففي سفر يشوع 11/10-15 :
(ثم رجع يشوع في ذلك الوقت وأخذ حاصور وضرب ملكها بالسيف, لأن حاصور كانت قبلا رأس جميع تلك الممالك , وضربوا كل نفس بها بحد السيف. حرموهم. ولم تبق نسمة. وأحرق حاصور بالنار, فأخذ يشوع كل مدن أولئك الملوك وجميع ملوكها وضربهم بحد السيف. حرمهم كما أمر موسى عبد الرب.
__________
(1) مختصر الرحيق المختوم صفحة 223 .
(2) مختصر الرحيق المختوم صفحة 224 .(1/12)
غير أن المدن القائمة على تلالها لم يحرقها إسرائيل, ما عدا حاصور وحدها أحرقها يشوع , وكل غنيمة تلك المدن والبهائم نهبها بنو إسرائيل لأنفسهم. وأما الرجال فضربوهم جميعا بحد السيف حتى أبادوهم. لم يبقوا نسمة , كما أمر الرب موسى عبده هكذا أمر موسى يشوع, وهكذا فعل يشوع. لم يهمل شيئا من كل ما أمر به الرب موسى. )
ويقول القمص تادرس يعقوب ملطي في تفسيره للإصحاح السادس :
(ألعلك تعي عظمة هذا الجيش المعادي لك، والذي يتقدم نحوك في أعماق قلبك؟ هؤلاء هم أعداؤنا الذين يجب أن نذبحهم في المعركة الأولى، ونطمسهم في التراب في الخط الأول، إن كنا قادرين أن نهدم أسوارهم ونستأصلهم ولا تبقى منهم نسمة (يش 11: 14)، ولا يبقى منهم فرد واحد يستريح فينا ويحيا من جديد ويبرز في أفكارنا. بهذا يعطينا يسوع الراحة العظمى: "يجلسون كل واحد تحت كرمته وتحت تينته ولا يكون من يرعب أمناء إسرائيل" (في 4: 4) )
ويقول في تفسيره للنص :
(لقد كان الأمر الإلهي هو إبادة الشر تمامًا، فلا يُترك له أثر حتى لا يعود فيملك على القلب ثاينة، ها هو الأمر الذي أطاعه يشوع، إذ قيل "لأنه كان من قبل الرب أن يشدد قلوبهم (الملوك) حتى يلاقوا إسرائيل للمحاربة، فُيحرموا، فلا تكون عليهم رأفة بل يُبادون كما أمر الرب موسى" [20]. يقول العلامة أوريجانوس: [لم يقل أن يشوع قد أمسك بواحد أثناء الحرب وترك الآخر، لكنه أمسك بالكل، أي أخذهم وقتلهم جميعًا، لأن الرب يسوع طهرنا من كل أنواع الخطايا وهدم جميعها. لقد كنا قبلاً في الحقيقية جميعنا "أغبياء، غير طائعين، ضالين، مستعبدين لشهوات ولذات مختلفة، عائشين في الخبث والحسد، ممقوتين، مبغضين بعضنا بعضًا" (تي 3: 3)، أي كانت فينا كل أنواع الخطايا التي توجد في الإنسان قبل الإيمان، لكن يشوع قتل كل الذين خرجوا للرب )(1/13)
فالحرب كانت للجميع ! وليست لشخص واحد أو للمحاربين ولكن كانت للجميع .. والغريب جداً أن القارئ للنص يجد أن سبب قتل هؤلاء وذبحهم وإبادتهم (لأن حاصور كانت قبلا رأس جميع تلك الممالك ) !! هذا هو سبب القتل وهذا ما يخالف تماماً حقيقة القتال في الإسلام .. وهذا يذكرنا بقول إله إسرائيل ( لأنك شعب مقدس للرب إلهك وقد اختارك الرب لتكون له شعبا خاصا فوق جميع الشعوب الذين على وجه الأرض. ) التثنية 14/2 .
ويقول أيضاً في التثنية 20/16 :
(وأما مدن هؤلاء الشعوب التي يعطيك الرب إلهك نصيبا فلا تستبق منها نسمة ما , بل تحرمها تحريما: الحثيين والأموريين والكنعانيين والفرزيين والحويين واليبوسيين كما أمرك الرب إلهك , )
هكذا الحرب عند إله المسيحية !! عكس الحرب في الإسلام , لم يقتصر الأمر في المسيحية على المعاديين أو المحاربيين ولكن أشتمل أيضاً ضد المسالمين والمدنيين ..
أهداف الحرب في المسيحية هي أن لا يكون غير إسرائيل على رأس البلاد وكل ما هو أفضل منها يجب تدميره وتحطيمه أما في الإسلام كانت الحروب دفاعاً عن النَفس ولو عاش المسلمون بدون حرب على الإسلام لم يكن بين المسلمين وغيرهم عداء ! ولكن في المسيحية يجب إبادة كل ماهو أفضل منهم !!
ولا يعتقد أحد بأن هذه الحرب قبل المسيح بل هذا ما تبنته الكنائس في عصور مختلفة فالكنائس الكاثوليكية والبروتستانتية وقفت أمام كنائس الموحدين بالقتل والدمار فيقول المؤرخ المسيحي جون لوريمر في كلامهِ عن كنائس الموحدين (1) :
( ولكنها أضطهدت بقسوة من كل من الكاثوليك والبروتستانت ولم تُكتب لها الحياة وقم تميز إثنان من الموحدين بأنهما أخر رجال الإنجليز الذين أعدموا حرقاً بتهمة الهرطقة سنة 1916م . )
ويقول المصلح مارتن لوثر :
__________
(1) تاريخ الكنيسة لجون لوريمر الجزء الخامس صفحة 60 .(1/14)
( في الثورة أنا ذبحت كل الفلاحين , دمهم جميعاً على رأسي لكني أحول الأمر إلى الله ربنا الذي أمرني أن أتفوه بذلك . ) (1)
فالأمر لا يقتصر على اليهود أو العهد القديم ولكن هذه أمور مُشرعة لكل من يؤمن بهذا الكتاب الدَموي وأتذكر كلمة قالها الرئيس الأمريكي ( من ليس معي فهو علي ّ ) ففي الحقيقة ليست هذه الكلمة للرئيس الأمريكي جورج بوش ولكنها ليسوع الذي يؤمن به النصارى كإله معبود !! (2)
الإسلام حرم قتل الأطفال والنساء والشيوخ عكس المسيحية
لم تكن الحرب في الإسلام كما تكلمنا سابقاً ضد الأطفال ولا ضد النساء ولا الشيوخ وإنما كانت لوقف الإعتداءات ولذلك فلن تجد أمراً من الإسلام بقتل جميع الأطفال ولكن على العكس تجد ما يحرم علينا قتل الأطفال وقتل النساء والشيوخ المسالمين , المدنيين فالنبي صلى الله عليه وسلم قد حرم علينا قتل الأطفال والنساء وحرم علينا الغدر والتمثيل بالميت ولا قتل الرهبان في كنائسهم , فعن بريدة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول : ( اغزوا في سبيل الله قاتلوا من كفر بالله اغزوا ولا تغلوا ولا تغدروا ولا تمثلوا ولا تقتلوا الوليد ولا أصحاب الصوامع ) (3)
ولا ننسي أيضاً قول سيدنا أبي بكر خليفة النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال لأسامة بن زيد و جنده: ( لا تخونوا و لا تغدروا و لا تغلوا و لا تمثلوا ، و لا تقتلوا طفلاً و لا شيخاً كبيراً و لا امرأة ، و لا تعزقوا نخلاً و لا تحرقوه ، و لا تقطعوا شجرة مثمرة ، و لا تذبحوا شاة و لا بقرة و لا بعيراً إلا للأكل.و إذا مررتم بقوم فرغوا أنفسهم في الصوامع فدعوهم و ما فرغوا أنفسهم له .. )
__________
(1) تاريخ الكنيسة لجون لوريمر الجزء الرابع صفحة 154 .
(2) لوقا 11/23 .
(3) رواه الإمام أحمد « 5/352 » .. من تفسير ابن كثير(1/15)
فهكذا كان الإسلام الذي حرم علينا قتل هذا الوليد أو الشيخ الكبير أو المرأة ولا تقطيع الأشجار ولا الغدر ولا التمثيل وغيرها من مكارم الأخلاق التي تدل على عظمة هذا الدين والتي توضح أن الحرب في الإسلام هي للدفاع عن النفس ولم تكن أبداً للدمار والتخريب , ولكن الأمر عكس ذلك تماماً فقد أمر إله المسيحية بإبادة الوثنيين وأولاد الوثنيين ونساءهم وشيوخهم ورجالهم وبيوتهم وبيوت عبادتهم وتنجيس مدينتهم وملأها بالدماء والإرهاب , قتل وحرق ودمار التي لا تُبقي حي يتنفس على وجه الأرض حتى الأشجار والحيوانات فننظر الآن نظرة بسيطة حول نصوص التي تأمر بقتل الأطفال والنساء وغيرهم فهاهو يشوع عبد الرب وبأمر الرب فيدخل مدينة ليحرقها بأكملها ما عدا راحاب الزانية :
(وحرموا كل ما في المدينة من رجل وامرأة, من طفل وشيخ حتى البقر والغنم والحمير بحد السيف , وقال يشوع للرجلين اللذين تجسسا الأرض: ادخلا بيت المرأة الزانية وأخرجا من هناك المرأة وكل ما لها كما حلفتما لها , فدخل الجاسوسان وأخرجا راحاب وأباها وأمها وإخوتها وكل ما لها, وكل عشائرها وتركاهم خارج محلة إسرائيل , وأحرقوا المدينة بالنار مع كل ما بها. إنما الفضة والذهب وآنية النحاس والحديد جعلوها في خزانة بيت الرب .. )
سفر يشوع 6 / 21 – 24 .
هكذا أمر إله المسيحية والأمر لا يقتصر فقط على يشوع بل إن رب الجنود قد أمر كل أنبيائه وأتباعه بهذا الدمار والقتل :
(فالآن اذهب واضرب عماليق وحرموا كل ما له ولا تعف عنهم بل اقتل رجلا وامرأة, طفلا ورضيعا, بقرا وغنما, جملا وحمارا.) سفر صموئيل الأول 15/3.
وحتى عندما جاء القمص تادرس يعقوب ملطي ليفسر هذا النص فقال :(1/16)
(رمز عماليق لعدو الخير الذي يقف في طريق صعودنا من هذا العالم إلى كنعان السماوية ليعوقنا عن التمتع بالحياة الأبدية، وكان تحريمه رمزًا لنزع كل أثر للخطية فينا، خطايا النفس (كل رجل) والجسد (كل امرأة)، كل فكر مهما كان مبتدئًا (كل طفل ورضيع) الخ... )
إنها المسيحية التي أمرت بقتل كل ما هو مخالف للعقيدة ,والتي أمرت بقتل النساء وحتى الأطفال الذين لا يعرفون الحق من الباطل , هكذا كانوا يقُتلون ويذبحون وهم مسالمين مدنيين لم يفعلوا أي ذنب ولا معصية في حياتهم .
وأيضاً عندما وجه إله الحرب ( إله المسيحية ) كلاماً لشعبه فأمرهم بقتل النساء والأطفال والرجال والشيوخ والتدمير لنقرأ على صفحات الكتاب المقدس هذا الأمر فيقول إله المسيحية :
(وقال له: اعبر في وسط المدينة أورشليم, وسم سمة على جباه الرجال الذين يئنون ويتنهدون على كل الرجاسات المصنوعة في وسطها , وقال لأولئك في سمعي: اعبروا في المدينة وراءه واضربوا. لا تشفق أعينكم ولا تعفوا. الشيخ والشاب والعذراء والطفل والنساء. اقتلوا للهلاك. ولا تقربوا من إنسان عليه السمة, وابتدئوا من مقدسي. فابتدأوا بالرجال الشيوخ الذين أمام البيت , وقال لهم: نجسوا البيت, واملأوا الدور قتلى. اخرجوا. فخرجوا وقتلوا في المدينة .. )
سفر حزقيال 9 / 4 – 7
هذا الأمر بالإبادة لأنهم عبدوا غير الله لم يكن موجوداً في الإسلام فقد أمر الإسلام بالقتال لحرب المعتدي فقط وصده ولم يُشرع لإكراه البشر على دين الله ويعلق التفسير التطبيقي للكتاب المقدس على هذا الأمر فيقول (1) :
__________
(1) التفسير التطبيقي – لجنة من العلماء واللاهوتيين صفحة 1612.(1/17)
( بكل وقاحة شجع القادة الروحيون ( الشيوخ ) المعتقدات الوثنية وتبعهم الشعب وتركوا الله فالقادة الروحيون على الأخص سيعطون حساباً أمام الله لأنه تم الوثوق بهم لمهمة تعليم الحق أنظر يع 3/1 فعندما يحرفون الحق فبمقدورهم تضليل أناس كثيرين بعيداً عن الله بل يتسببون في سقوط أمة بأكلمها . فليس من المستغرب إذاً عندما شرع الله بمحاكمة الأمة أن بدأ بالهيكل ثم إتجه خارجاً أنظر 1 بط 4/17. كم هو محزن أنهم علموا الأكاذيب في داخل هيكل الله حيث كان من المفترض أن يعلموا حق الله ..)
هكذا كانت معاملة المخالف والذي يعمل عكس ما أمر الرب أن يتم قتله وقتل أولاده ونساءه وأهله , والمحزن ان يسوع حسب الكتاب المقدس استخدم نفس الأسلوب فقد دخل الهيكل ووجد أناس يبيعون ويشترون فقام عليهم بالسوط ( الكرباج ) وطردهم خارج الهيكل جميعاً ففي إنجيل يوحنا 2 / 14 – 16 :
(ووجد في الهيكل الذين كانوا يبيعون بقرا وغنما وحماما، والصيارف جلوسا , فصنع سوطا من حبال وطرد الجميع من الهيكل، الغنم والبقر، وكب دراهم الصيارف وقلب موائدهم , وقال لباعة الحمام: ارفعوا هذه من ههنا! لا تجعلوا بيت أبي بيت تجارة !. )
الحقيقة أن النصوص التي تدعوا لقتل الأطفال والنساء والشيوخ والتدمير والتنجيس كثيرة فلا يسعنا المجال لسردها كلها ولكن فقط أخذنا بعض الأمثلة للتوضيح .
هكذا رأي إله المسيحية وهكذا إتبعه المسيحيين على مر التاريخ فعندما نعرف أن المصلح إلريك زوينجلي البروتستانتي قام بتحويل أديرة الراهبات إلى مستشفيات بعد طردهم لأنه قد وجدها مخالفة للتعاليم المسيحية فيقول جون لوريمر (1) :
( أرُغم الأسقف الكاثوليكي على المغادرة . الراهبات والرهبان بدأوا الإرتحال وصودرت الأديرة , وتحول دير للراهبات إلى مستشفي .. )
__________
(1) كتاب تاريخ الكنيسة – للمؤرخ المسيحي جون لوريمر – الجزء الرابع صفحة 179 .(1/18)
هكذا أمر المسيحية كل شيء بالسيف لا توجد نصيحة ولا يوجد أمر إلا بالسيف حتى الأطفال لم يرحمهم إله المسيحية من هذا التعدي عليهم وقتلهم وحرقهم وأمهاتهم وكل هذا دون سبب , الأمر الذي يرفضه الإسلام فقد حرم الإسلام قتل الأطفال والنساء والشيوخ وهذا التدمير الذي لا يفيد وأحب أن أختم هنا بكلمة من القرآن الكريم فيقول الحق سبحانه وتعالى :
(وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللّهُ إِلاَّ بِالحَقِّ وَمَن قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً فَلاَ يُسْرِف فِّي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُوراً ) سورة الإسراء 33 .
إلتزام المسلمين بالعهود مع غير المسلمين عكس المسيحية
لم يلتزم أحد على مر التاريخ بعهده إلا المسلمين وليس هذا أمر من أنفسهم بل هو أمر الله تعالى للمسلمين بأن يلتزموا بالعهود ويردون الأمانات إلى أهلها فهو أمر الله سبحانه وتعالى للمسلمين فيقول الحق سبحانه وتعالى :
(وَأَوْفُواْ بِعَهْدِ اللّهِ إِذَا عَاهَدتُّمْ وَلاَ تَنقُضُواْ الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ ) سورة النحل 91 .
ويقول أيضاً الحق سبحانه وتعالى :
(وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُواْ بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً ) سورة الإسراء 34.
بل إن الحق سبحانه وتعالى قد إمتدح الراعون لأمانتهم فقال :
(وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ .) سورة المعارج 32.
ويقول أيضاً الله سبحانه وتعالى :
(وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِن قَبْلُ لَا يُوَلُّونَ الْأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْؤُولاً ) سورة الأحزاب 15.(1/19)
ولو سردت أصول المعاهدات في الإسلام من الكتاب والسنة لن أنتهى منها , أما في المسيحية فالأمر عكس ذلك تماماً حيث أن الإله في المسيحية لا يُحب أصلاً أن يُعطي أتباعه عهداً مع غير المؤمنين ! فلقد أمر إله الكتاب المقدس لأتباعه بأنه سيعطيهم الأرض ويستعبدوا أهلها بل وحرم عليهم عمل عهود مع غير المؤمنين ..
فيقول إله الكتاب المقدس في سفر الخروج 34/ 11-14 : (1)
(فاعمل بما أنا آمرك به اليوم. هاأنا أطرد من أمامكم الأموريين والكنعانيين والحثيين والفرزيين والحويين واليبوسيين. , لا تعاهدوا سكان الأرض التي أنتم سائرون إليها، لئلا يكون ذلك شركا لكم، بل اهدموا مذابحهم وحطموا أصنامهم، واقطعوا غاباتهم المقدسة لآلهتهم , لا تسجدوا لإله آخر لأني أنا الرب إله غيور .. )
ويقول القمص تادرس يعقوب في تفسيره لهذا النص :
(إذا يقطع الرب عهدًا مع الشعب بعد سقوطه في عبادة الأوثان قدم لهما شرطين أساسيين: أ. شرط سلبي: هو تحطيم الخطية بكل صورها، إذ يقول "إحترز من أن تقطع عهدًا مع سكان الأرض التي أنت آت إليها لئلا يصيروا فخًا في وسطك، بل تهدمون مذبحهم وتكسرون أنصابهم وتقطعون سواريهم، فإنك لا تسجد لإله آخر، لأن الرب إسمه غيور. إله غيور هو...". وكما قلنا قبلاً لم يكن ممكنًا للشعب أن يميز بين الخطية والخطاة، فإبادة كل ما يتعلق بالخطاة كان رمزًا لإبادة الخطية في حياتنا.)
فيجب على اليهودي والمسيحي وكل من يؤمن بهذا الكتاب الدموي أن يقتل كل ما يخص الخاطئ , فالتعبير دقيق الأمر لا ينحصر على الخاطئ فقط بل كل ما يخصه !! أولاده نساءه وكل ما يتعلق حيوانات وغيره ! يجب إبادته ..
__________
(1) الترجمة العربية المشتركة , تم تغيير الألفاظ بترجمة الفانديك لتخفيف حدة ما يأمر به الإله !!(1/20)
هذا الفارق بين الإسلام العظيم والمسيحية واليهودية , فأين هذا الدمار والهلاك من قول عمر بن الخطاب خليفة رسول الله وأمير المؤمنين (1) :
( أوصي الخليفة من بعدي بأهل الزمة خيراً , وأن يوفي لهم بعهدهم , وأن يقاتل من ورآئهم , وأن لا يكلفهم فوق طاقتهم .. )
بالإضافة إلى أن الأمر في عدم وجود عهد في الكتاب المقدس بين المؤمنين وغير المؤمنين يعود هذا لأمر الرب فيقول بأن سُكان الأرض جَميعاً سيخضعون لكم ويكونوا عبيداً لَكم فيقول سفر العدد 33/55-56 :
(وإن لم تطردوا سكان تلك الأرض من وجهكم، كان من تبقون منهم كإبرة في عيونكم كمهامز في جوانبكم، وهم يضايقونكم في الأرض التي تقيمون فيها., فيكون أني كما نويت أن أصنع بهم أصنع بكم .) (2)
فكل الأرض مملوكة لمؤمني الكتاب المقدس فإله الكتاب المقدس يذكرهم دائماً (اسألني فأعطيك الأمم ميراثا لك وأقاصي الأرض ملكا لك , تحطمهم بقضيب من حديد. مثل إناء خزاف تكسرهم. )مزمور2/8-9 !!
هذا هو وعد إله الكتاب المقدس لهم , وأنا أعلم أن النصارى لا يقرأون كتابهم فلو قرأ كل نصراني كتابه لتيقن له أن الحرب في الإسلام في منتهى الشرف والأمانة والرفق ..
عدم التعدى بالتعذيب بالحرق والنشر في الحروب
في الحقيقة أن الإسلام هو الدين الوحيد الذي حَرم الحرق بالنار والتعذيب للغير على خلاف تام مع المسيحية أو من يؤمن بالكتاب المقدس !!
ففي الإسلام نهى الله عز وجل عن العذاب عموماً فيقول الله صلى الله عليه وسلم (3) :
( إن الله يعذب الذين يعذبون الناس في الدنيا )
ويقول أيضاً صلى الله عليه وسلم (4) :
( صنفان من أهل النار لم أرهما . قوم معهم سياط كأذناب البقر يضربون بها الناس)
ويقول أيضاً (5) :
__________
(1) كتاب أهل الذمة في الاسلام صفحة 158 .
(2) الترجمة الكاثوليكية .
(3) صحيح مسلم برقم 2613
(4) رواه مسلم برقم 2128 .
(5) إسناده صحيح رجاله ثقات : السلسلة الصحيحة للألباني رقم 1442(1/21)
(أشد الناس عذابا عند الله يوم القيامة أشدهم عذابا للناس في الدنيا)
ويقول أيضا خطيباً في الناس (1) :
(قال : ( فإن دماءكم ، وأموالكم ، وأعراضكم ، وأبشاركم ، عليكم حرام ، كحرمة يومكم هذا ، في شهركم هذا ، في بلدكم هذا ، ألا هل بلغت)
ويقول أيضاً مخاطباً أبي ذر (2) :
(يا أبا ذر ! إنك امرؤ فيك جاهلية ، فقال : إنهم إخوانكم ، فضلكم الله عليهم ، فمن لم يلائمكم فبيعوه ، ولا تعذبوا خلق الله)
ويقول أيضاً عن ضرب المملوك (3) :
(من ضرب مملوكه سوطا ظلما اقتص منه يوم القيامة)
بالإضافة إلى عدم الإكراه على شئ فيقول رسول الله صلى الله عليه وسلم (4) :
(إن الله تجاوز عن أمتي : الخطأ ، والنسيان ، وما استكرهوا عليه .)
ويقول رسول الله أيضاً بخصوص الحرق بالنار والتعذيب بها (5) :
(لا تعذبوا بعذاب الله) أي النار ..
هذه تعاليم الإسلام وهذا هو ما يخص الإسلام فقد حرم على كل مسلم أن يعذب أي مخلوق , ولكن المسيحية تأمر بعكس ذلك فالمسيحية هي الدين الوحيد الذي أمر بنشر البشر وحرقهم والمسيحية هي الدين الوحيد الذي أمر بالتمثيل بالأعداء ورجمهم حتى بعد الموت , وهذا إن دل فيدل على الحقد الذي دُفن بداخل كل من يؤمن بالكتاب المقدس .
فهاهو هو يشوع عبد الرب الذي قام بإبادة أريحا وعندما أبادها علقوا جثة ملك عاي على خشبة إلى وقت المساء وعند غروب الشمس يشوع فأنزلوا جثته عن الخشبة وأقاموا عليها رجمة حجارة عظيمة فيقول الكتاب المقدس :
__________
(1) رواه البخاري 7078 .
(2) صحيح : صحيح الترغيب للألباني برقم 2282 .
(3) صحيح : صحيح الترغيب للألباني 3607 .
(4) صحيح بتعدد طرقه : تخريج مشكاة المصابيح للألباني برقم 6248 .
(5) صحيح : صحيح الجامع للألباني برقم 7367.(1/22)
(وأحرق يشوع عاي وجعلها تلا أبديا خرابا إلى هذا اليوم , وملك عاي علقه على الخشبة إلى وقت المساء. وعند غروب الشمس أمر يشوع فأنزلوا جثته عن الخشبة وطرحوها عند مدخل باب المدينة, وأقاموا عليها رجمة حجارة عظيمة إلى هذا اليوم. ) سفر يشوع 8 / 28-29 .
بل إن الأمر أبشع من ذلك في الكتاب المقدس وبأمر الإله أن داود ذهب إلى ربة وحاربها وليس هذا فقط بل أتي بهذا الشعب ونشرهم بمناشير ونوارج حديد :
(فجمع داود كل الشعب وذهب إلى ربة وحاربها وأخذها , وأخذ تاج ملكهم عن رأسه ووزنه وزنة من الذهب مع حجر كريم، وكان على رأس داود. وأخرج غنيمة المدينة كثيرة جدا , وأخرج الشعب الذي فيها ووضعهم تحت مناشير ونوارج حديد وفؤوس حديد وأمرهم في أتون الآجر، وهكذا صنع بجميع مدن بني عمون. ثم رجع داود وجميع الشعب إلى أورشليم. )
سفر صموئيل الثاني 12/29 - 31
ويعلق القمص تادرس يعقوب ملطي على هذا النص متجاهلاً نشر الشعب فيقول:
(عاد الكاتب إلى خبر الحرب مع بني عمون الذي بدأه في (11: 1)، حيث هزم يوآب ربّة عاصمة بني عمون. أرسل إلى داود الملك ليأتي ويدخل المدينة حتى تُحسب النصرة لداود وتنسب إليه المدينة كغالب ومنتصر. بالفعل خرج داود وحاربها وأخذ تاج ملكها الذي يزن وزنة ذهب (حوالي 28 رطلاً) مع حجر كريم. لبسه داود، وذلك بأن أمسكه اثنان من العظماء ورفعاه على رأسه بعض الوقت علامة تسلطه على مملكة بني عمون. تمتع داود بغنائم كثيرة بعد أن قتل شعب المدينة. )
وأيضاً نجد أن المسيحية قد أمرت بتخريب الأماكن وحرقها فيقول:
(تخربون جميع الأماكن حيث عبدت الأمم التي ترثونها آلهتها على الجبال الشامخة وعلى التلال وتحت كل شجرة خضراء , وتهدمون مذابحهم وتكسرون أنصابهم وتحرقون سواريهم بالنار وتقطعون تماثيل آلهتهم وتمحون اسمهم من ذلك المكان.)(1/23)
وغيرها الكثير من النصوص التي تثبت أن الرب قد أمر بالدمار والخراب والحرق والنشر والتعذيب والتمثيل مما يخالف تماماً المنهج الإسلامي الذي كان هدفه هو الدفاع عن النفس ولم يكن هدفه التمثيل او التعذيب بل جاء رحمة للعالمين ..
الجزية في الإسلام وإعفاء الكثير من دفعها
قبل الكلام عن الجزية في الإسلام لابد أن نوضح أمر هام جداً وهي أن أول كتاب وضع الجزية وفرضها على الناس هو الكتاب المقدس سواء بعهده القديم أو الجديد وسنضع الآن بعض هذه النصوص أمامنا لتتأكد من حقيقة كلامي هذا :
(فلم يطردوا الكنعانيين الساكنين في جازر. فسكن الكنعانيون في وسط أفرايم إلى هذا اليوم, وكانوا عبيدا تحت الجزية .. ) سفر يشوع 16 / 10 .
بل إن داود النبي في إعتقاد النصارى قد أخذ الجزية وفرضها ففي سفر صموئيل الثاني 8 / 1-2 يقول :
(وبعد ذلك تغلب داود على الفلسطيين وأذلهم، وأخذ السلطة من أيديهم , تغلب على الموآبيين ومدد أسراهم على الأرض وقاسهم بالحبل. فقتل منهم ثلثين وأبقى على الثلث، وصار الموآبيون عبيدا له يؤدون الجزية. ) الترجمة العربية المشتركة.
وهذا الذي يمدحه الرب فيقول :
(لان داود عمل ما هو مستقيم في عيني الرب ولم يحد عن شيء مما اوصاه به كل ايام حياته الا في قضية اوريا الحثّي .. ) سفر الملوك الأول 15/ 5
ويتكلم محررو دائرة المعارف الكتاب عن الجزية في عهد داود فيقولون (1) :
(وفي عصر داود، امتلات الخزانة العامة نتيجة لسلسلة انتصاراته المستمرة في الحروب ( 2 صم 8 : 2 و 7 و 8 ) ولم تعد هناك شكوى من زيادة الجزية على الشعب. واذا كان الغرض من التعداد الذي اجراه داود، متعلقا بالجزية، لفهمنا سر ضربة الرب للشعب، وان كان الامر يحوطه الغموض ( 2 صم 24 : 2 ــ 4 ). وقد اعتاد داود ان يقدس الغنائم للرب، فامتلات خزانة الهيكل ( 2 صم 8 : 11 و 12 ).
__________
(1) دائرة المعارف الكتابية – نخبة من العلماء واللاهوتيين الجزء الثاني صفحة 540.(1/24)
وأيضاً يوضح لنا الكتاب المقدس أن نفتالي لم يطرد سكان بيت شمس وفرض الجزية عليهم ففي سفر القضاة 1 / 28 ويقول :
(ونفتالي لم يطرد سكان بيت شمس ولا سكان بيت عناة, بل سكن في وسط الكنعانيين سكان الأرض. فكان سكان بيت شمس وبيت عناة تحت الجزية لهم. )
بل الأمر أكثر من ذلك بل إن إله المسيحية قد أمر موسي أن يستعبد الشعوب ففي سفر التثنية 20 / 10 فيقول :
(وإذا اقتربتم من مدينة لتحاربوها فاعرضوا عليها السلم أولا ، فإذا استسلمت وفتحت لكم أبوابها، فجميع سكانها يكونون لكم تحت الجزية ويخدمونكم , وإن لم تسالمكم، بل حاربتكم فحاصرتموها , فأسلمها الرب إلهكم إلى أيديكم، فاضربوا كل ذكر فيها بحد السيف , وأما النساء والأطفال والبهائم وجميع ما في المدينة من غنيمة، فاغنموها لأنفسكم وتمتعوا بغنيمة أعدائكم التي أعطاكم الرب إلهكم .. )
وهكذا كان العهد القديم يأمر بالجزية وبأمر من الرب إله موسي وإله يسوع بل وقد أمر به العهد الجديد وأمر بإعطاءه فعندما سألوه عن دفع الجزية فقال :
(فلما جاءوا قالوا له: يا معلم، نعلم أنك صادق ولا تبالي بأحد، لأنك لا تنظر إلى وجوه الناس، بل بالحق تعلم طريق الله. أيجوز أن تعطى جزية لقيصر أم لا؟ نعطي أم لا نعطي؟ ...... فأجاب يسوع وقال لهم: أعطوا ما لقيصر لقيصر وما لله لله. فتعجبوا منه. ) مرقس 12/ 14 , 17 .
ويقول العلامة أوريجانوس (1) : ( في هذا المبدأ الإلهي أنه يليق بنا أن نقدم للجسد (قيصر) جزيته أي ضرورياته، أما لله فنهبه نفوسنا مقدسة بالكامل.)
بل إن المسيح قد دفع الجزية للوثنيين ففي إنجيل متي 17 / 24 – 27 :
__________
(1) من تفسيرات وتأملات الآباء الآولين- الإنجيل بحسب مرقس- للقمص تادرس يعقوب ملطي صفحة 213.(1/25)
(ولما جاءوا إلى كفرناحوم تقدم الذين يأخذون الدرهمين إلى بطرس وقالوا: أما يوفي معلمكم الدرهمين؟ , قال: بلى. فلما دخل البيت سبقه يسوع قائلا: ماذا تظن يا سمعان؟ ممن يأخذ ملوك الأرض الجباية أو الجزية ، أمن بنيهم أم من الأجانب؟ , قال له بطرس: من الأجانب. قال له يسوع: فإذا البنون أحرار , ولكن لئلا نعثرهم، اذهب إلى البحر وألق صنارة ، والسمكة التي تطلع أولا خذها ، ومتى فتحت فاها تجد إستارا ، فخذه وأعطهم عني وعنك..)
ويعلق القمص تادرس يعقوب على هذه القصة قائلاً (1) :
(خضع السيّد المسيح مع تلاميذه لإيفاء الجباية أو الجزية، ليؤكّد مبدأ هامًا في حياتنا الإيمانيّة: أن انتماءنا السماوي يهبنا طاعة وخضوعًا لملوك العالم أو الرؤساء، فنلتزم بتقديم واجباتنا الوطنيّة. فالمسيحي وهو يحمل السيّد المسيح ملكًا سماويًا داخل قلبه، إنّما يحمل روح الوداعة والخضوع في حب للوطن وطاعة )
ويعلق القديس كيرلس الكبير على هذه القصة قائلاً (2) :
(إذ صار الابن الوحيد كلمة الله مثلْنا، وحمل قياس الطبيعة البشريّة انحنى لنير العبوديّة، فدفع بإرادته لجامع الجزية اليهودي الدرهمين حسب ناموس موسى، لكن هذا لم يمنع سِمة المجد الذي فيه. وكأن خضوعنا لكل نظام بروح الرضا والفرح لا يعني إلا مشاركة للسيّد المسيح في خضوعه لننعم معه بمشاركته مجده الداخلي. )
وفي التفسير الحديث أيضاً ذُكر نفس هذا الكلام فقال (3) :
( فالمقصود هو معرفة أن يسوع دفع الضريبة على نحو ما . وقد تركنا النص لنستنتج أن يسوع دفع الجزية بأية طريقة . لكن القصة تقدم لنا صورة عن استعداد يسوع للإمتثال لتقاليد المجتمع الذي ينتمي إليه .. )
__________
(1) من تفسير وتأملات الآباء الآولين- الإنجيل بحسب متي - للقمص تادرس يعقوب ملطي صفحة 384.
(2) من تفسير وتأملات الآباء الآولين- الإنجيل بحسب متي - للقمص تادرس يعقوب ملطي صفحة 385.
(3) التفسير الحديث للكتاب المقدس – إنجيل متي – صفحة 298 .(1/26)
وهذا يسوع يعتبر أن الجزية هذه هي حق الحكام وحق الله ويعتبرها بحسب الناموس حق على كل مسيحي وغير مسيحي , فلماذا إذاً يعترض البعض من النصارى على موضوع الجزية وكأن الإسلام قد إبتدعها أو أتي بشيء جديد لم يوجد في كتابهم ؟
وهاهو بولس رسول المسيحية الأول والذي يعتبره البعض أعظم موسي يأمر المسيحيين بدفع الجزية فيقول في رسالة رومية 13 / 5-7 :
(لذلك يلزم أن يخضع له ليس بسبب الغضب فقط بل أيضا بسبب الضمير , فإنكم لأجل هذا توفون الجزية أيضا إذ هم خدام الله مواظبون على ذلك بعينه , فأعطوا الجميع حقوقهم: الجزية لمن له الجزية. الجباية لمن له الجباية. والخوف لمن له الخوف. والإكرام لمن له الإكرام..)
يعلق القدّيس يوحنا الذهبي الفم ويقول (1) : ( أن الرسول قد حوّل ما يراه الكثيرون ثقلاً إلى راحة، فإن كان الشخص ملتزم بدفع الجزية إنما هذا لصالحه، لأن الحكام "هم خدام الله مواظبون على ذلك بعينه"، يسهرون مجاهدين من أجل سلام البلد من الأعداء ومن أجل مقاومة الأشرار كاللصوص والقتلة. فحياتهم مملوءة أتعابًا وسهر. بينما تدفع أنت الجزية لتعيش في سلام يُحرم منه الحكام أنفسهم. هذا ما دفع الرسول بولس أن يوصينا لا بالخضوع للحكام فحسب وإنما بالصلاة من أجلهم لكي نقضي حياة هادئة مطمئنة )
ويعلق القمص تادرس يعقوب ملطي على هذا النص قائلاً (2) :
(هذا وإن كلمة "أعطوا" هنا في الأصل اليوناني تعني "ردّوا"، فما نقدمه من جزية أو تكريم للحكام ليس هبة منّا، وإنما هو إيفاء لدين علينا، هم يسهرون ويجاهدون ليستريح الكل في طمأنينة ... هذا والجزية هنا يقصد بها ما يأخذه الحاكم على النفوس والعقارات، أمّا الجباية فيأخذها على التجارة)
__________
(1) من تفسير وتأملات الآباء الآولين- الرسالة إلى رومية - للقمص تادرس يعقوب ملطي صفحة 265.
(2) من تفسير وتأملات الآباء الآولين- الرسالة إلى رومية - للقمص تادرس يعقوب ملطي صفحة 266.(1/27)
ويعلق محررو دائرة المعارف الكتاب عن الجزية فيقولون (1) :
(وقد خصصت هذه الجزية في العصور اللاحقة لخدمة الهيكل، وكان اليهود يدفعونها وهم بعيدون عن الهيكل في ايام الشتات. ويحدثنا يوسيفوس في تاريخه عن المبالغ الضخمة التي دخلت خزانة الهيكل من هذا المصدر، وقد استمر تحصيلها حتى زمن الرب يسوع المسيح ( مت 17 : 24 ). ومما هو جدير بالملاحظة ان الرب يسوع دفع هذه الجزية باجراء معجزة من اعظم المعجزات، فكان باعتباره مؤسس ورئيس الهيكل الجديد، غير خاضع للجزية، الا انه لئلا يعثرهم دفع الدرهمين. )
وقد قام مجموعة من كهنة وخدام كنيسة مار مرقس الأرثوذكسية بتفسير هذا النص فقالوا (2) :
( إن كان المسيحي يخضع للرئاسات في كل شيء بما لا يتعارض مع وصايا الله فبديهي أن هذا يعني الخضوع في الأمور البسيطة مثل دفع الجزية أي الضرائب لأنها تؤدي خدمات عامة للمجتمع ..)
كل لابد أن يأخذ حقه , ويجب أن نقدم الإحترام لكل ذي مركز بتقدير ومخافة وليس عن رياء أو وصولية , فنخاف من الشر ولا نفعله خوفاً من عقوبته , وكذلك نكرم ذوي المراكز في الدولة بالإكرام المعتاد لهذه الرتب , فنؤكد موافقتنا وخضوعنا لنظام المجتمع المفيد في ضبط كل شيء ...)
وأحب أيضاً أن أخذ رأي علماء المسيحية في الجزية فيقول محرروا دائرة المعارف الكتابية :
__________
(1) دائرة المعارف الكتابية – نخبة من العلماء واللاهوتيين الجزء الثاني صفحة 540.
(2) الموسوعة الكنسية لتفسير العهد الجديد – شرح لكل آية – مجموعة من كهنة وخدام كنيسة مار مرقس بمصر الجديدة – الجزء الثالث صفحة 361 , 392 .(1/28)
(ولما كانت الثروات في القديم ملكا مشتركا بين العشيرة او القبيلة كلها، فلم تكن ثمة ضرورة لفرض الضرائب عليها. ولكن ظهور الملكية الفردية، استلزم فرض الضريبة ـ او الجزية ـ على بعض الممتلكات من اجل الصالح العام، الامر الذي يمثل اساس نظام فرض الضرائب او الجزية. . . وبتقدم المدنية وما صاحبها من استقرار وزراعة منتظمة ونظم سياسية مستقرة ممثلة فى الحاكم، تطلب ذلك بالقطع فرض الضرائب المنتظمة. ونجد عبر التاريخ انه كلما زاد تعقد الادارة الحكومية، ازداد معها عبء الضرائب المفروضة على الشعب. وفي الحقيقة ارتبط تاريخ فرض الضرائب بتاريخ المدنية. )
هذه هي الجزية من منظور مسيحي وهكذا اعتبر يسوع وبولس والمسيحية أن الجزية ليست فرضاً على أهلها فقط بل هي حق الحاكم , والسؤال الذي يسأله الجميع ما الفرق بين الجزية في المسيحية وبين الإسلام العظيم وأكون سعيداً أن أبشركم بأن الإسلام قد حدد من يدفع الجزية فالأطفال لا يدفعون الجزية وليس هذا فقط بل إن النساء لا يدفعون الجزية وليس الأمر كذلك وأيضاً الشيوخ لا يدفعون الجزية إذاً فالذي يدفع الجزية في الإسلام هو المحارب فقط أو المقاتل وهو المعتدي ..
قال الإمام القرطبي (1) : ( قال علماؤنا رحمة الله عليهم : والذي دل عليه القرآن أن الجزية تؤخذ من الرجال المقاتلين , لأنه تعالى قال : " قاتلوا الذين " إلى قوله : " حتى يعطوا الجزية " فيقتضي ذلك وجوبها على من يقاتل . ويدل على أنه ليس على العبد وإن كان مقاتلا , لأنه لا مال له , ولأنه تعالى قال : " حتى يعطوا " . ولا يقال لمن لا يملك حتى يعطي . وهذا إجماع من العلماء على أن الجزية إنما توضع على جماجم الرجال الأحرار البالغين , وهم الذين يقاتلون دون النساء والذرية والعبيد والمجانين المغلوبين على عقولهم والشيخ الفاني .)
__________
(1) الجامع لأحكام القرآن (8/72).(1/29)
وليس هذا فقط بل إن هذه الجزية ستكون مقابل أن المسلم يحمي هذه البلاد فالأمر ما هو إلا مصلحة عامة كما في كل الأديان , بل إن أبي عبيدة عامر بن الجراح قد أرجع أموال الجزية لأهل الشام لأن الجيش المسلم في هذه المعركة لم يقدر على حماية الذميين فأرجع لهم أموالهم لأن هذا كان عهداً بين المسلمين والذميين .
فيقول احمد محمد جمال أستاذ التفسير في جامعة أم القرى (1) :
(أن الجزية تؤخذ في مقابل حماية الدولة الإسلامية لأموال هؤلاء الذميين وأنفسهم ولا أدل على ذلك من رد أبي عبيدة عامر بن الجراح لأهل الشام جزيتهم وخراجهم عندما بلغه أن الروم قد جمعوا للمسلمين ، فهو وجنده لا يستطيعون حماية هؤلاء الذميين . لأنهم سيتفرغون لقتال الروم . وجاء في كتابه لهم : (( إنما رددنا لكم أموالكم لأنه قد بلغنا ما جمع الروم لنا من الجموع ، و إنكم قد اشترطتم علينا أن نمنعكم ، وإنا لا نقدر على ذلك ، وقد رددنا لكم ما أخذنا منكم ونحن لكم على الشرط وما كتبنا بيننا إن نصرنا الله )
وتقول الأستاذة فوقية إبراهيم الشربيني في هذه الآية الكريمة سورة التوبة 29:
( ولأنهم سينعمون بالأمن الذي يوفره الجنود المؤمنون لهم فعليهم أن يدفعوا ثمن هذا الأمن جزية لمن ترك الدنيا وقصر عمره على الدفاع مقاتلاً عن دين الله وأمن المؤمنين .. ) (2)
فالجزية هي عقد يُبرم بين المسلمين وغير المسلمين ( القادرين فقط ) ولم يُلزم الإسلام الفقير على دفع الجزية بل إن عمر بن الخطاب قد أعطى رجل عجوز فقير غير مسلم من بيت مال المسلمين ..
__________
(1) كتاب الخراج ، لأبي يوسف .. وأيضاً قرآن الكريم كتاب أحكمت آياته تأليف احمد محمد جمال - دار إحياء العلوم بيروت
(2) تيسير التفسير – الأستاذة فوقية إبراهيم الشربيني – المجلد الأول صفحة 674 .(1/30)
بل إن الإسلام قد فرض الجزية على القادر فقط وكانت جزية قليلة جداً بالنسبة لما يدفعه المسلمون من زكاة وكانت هذه الجزية لخدمة الصالح العام مثلها مثل الضرائب التي يدفعها الناس الآن .
والانبا يؤانس يوضح لنا أيضاً أن الجزية كانت دينارين فقط وأن ثلاثة أرباع المسيحيين كانوا معفيين منها وهذا هو رابط التسجيل (1) .
ولكن أيضاً كما قلنا فالأمر مختلف قليلاً في المسيحية التي فرضت الجزية على القادر وغير القادر حتى اشتكي الناس من كثرتها فجماعة اسرائيل طلبوا من رحبعام ابنه أن يخفف من النير الثقيل الذي جعله سليمان عليهم ففي سفر الملوك الأول 12/3-4 و9و10 :
(وأرسلوا فدعوه. أتى يربعام وكل جماعة إسرائيل وقالوا لرحبعام: إن أباك قسى نيرنا وأما أنت فخفف الآن من عبودية أبيك القاسية ومن نيره الثقيل الذي جعله علينا فنخدمك.... وقال لهم: بماذا تشيرون أنتم فنرد جوابا على هذا الشعب الذين قالوا لي: خفف من النير الذي جعله علينا أبوك , فقال الأحداث الذين نشأوا معه: هكذا تقول لهذا الشعب الذين قالوا لك إن أباك ثقل نيرنا وأما أنت فخفف من نيرنا: إن خنصري أغلظ من وسط أبي. )
أما في الإسلام فلا يستعبدوهم ولا يذلوهم بل المعاملة الحسنة والرحمة , هذه هي الجزية في الإسلام وهذه هي الجزية في الكتاب المقدس وللعاقل الحُكم العادل ..
الغنائم هل محللة للمسلمين وهل إبتدعوها المسلمين
جاء الإسلام بشريعة كاملة متكاملة فالأمر الذي يتصوره البعض أن الإسلام قد أبتدع الغنائم ولكن هذا بالطبع خطأ لأن الغنائم من الثوابت في الحروب , فهي ثابتة في كل حرب في أي مكان على الأرض , والغنائم في الحروب فلا يجوز لمسلم أن يتحكم أو يغتنم أموال وممتلكات غير المسلم إلا في الحرب , وبما أن الأمر غير مُبتدع في الإسلام فيجب علينا أن ننظر في الكتاب المقدس بعهديه لنرى هل الأمر موجودا عندهم أم لا ..
__________
(1) http://www.youtube.com/watch?v=ThhNGQaY0hY(1/31)
ففي الكتاب المقدس أخذ إبراهيم من كدر لعومر وحلفائه غنائم بمباركة الرب وأعطى عُشرها لملكي صادق فيقول كاتب سفر التكوين المجهول14/18-20 :
(وملكي صادق ملك شاليم أخرج خبزا وخمرا. وكان كاهنا لله العلي. وباركه وقال: مبارك أبرام من الله العلي مالك السماوات والأرض ومبارك الله العلي الذي أسلم أعداءك في يدك. فأعطاه عشرا من كل شيء. )
ويقول الأرشيدياكون نجيب جرجس في تفسيره (1) :
(وتقديراً لكهنوت ملكي صادق أعطاه إبرام العُشر من كل ما جلبه من الغنائم وهذا يدل على أن تقديم العشور قديم العهد ... )
أما في التفسير التطبيقي فيقول (2) :
(أعطى أبرام عشر الغنائم لملكي صادق. فحتى في بعض الديانات الوثنية، كان أمرا تقليديا أن يعطي الواحد عشر "مكاسبه" للآلهة. وقد نفذ أبرام هذا التقليد المقبول. لكنه رفض أن يأخذ شيئا من ملك سدوم. ومع أن هذه الغنائم الضخمة كانت ستضاعف ما يقدمه لله من عشور، لكنه رفض لأسباب أهم، فهو ... )
فهذا هو إبراهيم كان يأخذ غنائم حرب , بل إن المسيح قد دعا اليهود إلى إتباع أعمال إبراهيم ودعاهم للعمل بأعماله فيقول يسوع لليهود :
(اجابوا وقالوا له ابونا هو ابراهيم.قال لهم يسوع لو كنتم اولاد ابراهيم لكنتم تعملون اعمال ابراهيم ) يوحنا 8/ 39
ويقول المفسر هلال أمين موسي معلقاً على هذا النص (3) :
( كانت أعمال إبراهيم أعمال الإيمان والطاعة , الإيمان بالله والطاعة لكلمته . لم يحاول إبراهيم قتل أي إنسان وكان يعمل طبقاً للحق الذي يسمعه من السماء , نفس الحق الذي كان الرب يسوع يتكلم به .. )
__________
(1) تفسير الكتاب المقدس – سفر التكوين – للإرشيدياكون نجيب جرجس صفحة 157 .
(2) التفسير التطبيقي للكتاب المقدس – نخبة من العلماء واللاهوتيين – صفحة39 .
(3) تفسير إنجيل يوحنا – جمع وتقديم هلال آمين موسي صفحة 172.(1/32)
ويقول المفسر بنيامين بنكرتن في تفسيره لهذا النص (1) :
( فأجابهم الرب: أن ليست لهم نسبة حقيقية لإبراهيم لأنهم لو كانوا منتسبين إليهِ حقيقةً لكانوا يتمثلون بقدوتهِ، ولكن هيهات الفرق بينهم وبينهُ لأنهم حنقوا على المسيح لأنهُ كلَّمهم بالحق من الله، وأما إبراهيم فكان يقبل الحق كما أُعلن لهُ وسلك بموجبهِ )
فإذا كان إبراهيم قد أخذ غنائم ووافقه وأقره يسوع إله النصارى فمن من النصارى ينكر الغنائم ؟ وإبراهيم أيضاً الذي قال عليه بولس أبو المؤمنين (الرسالة إلى رومية 17:4-22 ) .
بل إن موسي قد أمر بأخذ الغنيمة ففي سفر العدد 31 / 9-12 :
(وسبى بنو إسرائيل نساء مديان وأطفالهم ونهبوا جميع بهائمهم وجميع مواشيهم وكل أملاكهم. وأحرقوا جميع مدنهم بمساكنهم وجميع حصونهم بالنار. وأخذوا كل الغنيمة وكل النهب من الناس والبهائم . وأتوا إلى موسى وألعازار الكاهن وإلى جماعة بني إسرائيل بالسبي والنهب والغنيمة إلى المحلة إلى عربات موآب التي على أردن أريحا. فخرج موسى وألعازار الكاهن وكل رؤساء الجماعة لاستقبالهم إلى خارج المحلة...)
وبعدها قد أمرهم الرب بتقسم هذه الغنائم في سفر العدد 31/25-28 , فيقول :
( وقال الرب لموسى: أحص النهب المسبي من الناس والبهائم أنت وألعازار الكاهن ورؤوس آباء الجماعة. ونصف النهب بين الذين باشروا القتال الخارجين إلى الحرب وبين كل الجماعة. وارفع زكاة للرب. من رجال الحرب الخارجين إلى القتال واحدة. نفسا من كل خمس مئة من الناس والبقر والحمير والغنم.... )
يقول العلامة أوريجانوس معلقاً على هذا النص (2) :
(هكذا أيضًا بأمر الرب أقام بنو إسرائيل الحرب ضد المديانيين وجلبوا غنيمة هامة وزن ضخم من الذهب والفضة , و أشياء أخرى وعدد كبير من البهائم والأسرى ..)
__________
(1) تفسير الكتاب المقدس شرح إنجيل يوحنا- بنيامين بنكرتن في تفسير هذا النص يوحنا 8 / 39.
(2) عظات أوريجانوس على سفر العدد – صفحة 181 .(1/33)
ويقول القمص تادرس يعقوب معلقاً على هذا النص (1) :
(سبوا النساء وأطفالهن وجميع البهائم والمواشي وكل الممتلكات؛ كان ذلك عملاً رمزيًا للإنسان الغالب روحيًا فإنه يسبي الجسد "النساء" ليعمل لحساب الله في اتفاق مع النفس. أما الأطفال فيشيرون إلى الثمار، فعِوَض أن يكون الجسد بأعماله يخدم الشيطان يصير آلة برّ لله، مقدسًا وطاهرًا. أما البهائم وكل الممتلكات فتشير إلى الغرائز والطاقات... هذه التي كانت دنسة تصير مقدسة، وعِوَض أن تكون ثقلاً تصير معينًا لنا في عبادتنا لله. إيماننا لا يحمل عداوة ضد الجسد ولا ضد أحاسيسه أو عواطفه أو أعماله أو طاقاته ومواهبه، إنما يحمل تحولاً جذريًا له بكل ممتلكاته وأعماله للعمل لحساب مملكة المسيح.)
ويقول مجموعة كهنة وخدام كنيسة مارمرقس بمصر الجديدة (2) :
( بعد نهاية الحرب , حرق رجال إسرائيل كل مدن المديانيين بجميع المنازل ولكنهم أبقوا على النساء والأطفال الصغار والحيوانات كلها لأنفسهم ورجعوا بكل ما حصلوا عليه إلى مكان استقرار باقي الشعب عند شرق الأردن ... وأيضًا أعطى أمرًا باستخراج القرابين للرب : للذين ذهبوا للحرب رأس غنم على خمسمائة , والذين جلسوا في المعسكر واحد على خمسين , هذا هو مضمون القصة .)
وناموس موسي هو الذي قال فيه كاتب رسالة العبرانيين المجهول :
(من خالف ناموس موسى فعلى شاهدين او ثلاثة شهود يموت بدون رأفة ) رسالة العبرانين 10/28 .
وهو الذي قال فيه يسوع إله النصارى في إنجيل متي 5 / 17-18 :
(لا تظنوا اني جئت لانقض الناموس او الانبياء.ما جئت لانقض بل لاكمّل , فاني الحق اقول لكم الى ان تزول السماء والارض لا يزول حرف واحد او نقطة واحدة من الناموس حتى يكون الكل )
__________
(1) من تفسير وتأملات الآباء الأولين – سفر العدد – القمص تادرس يعقوب ملطي .
(2) الموسوعة الكنسية لتفسير العهد القديم شرح لكل آية – مجموعة من كهنة وخدام كنيسة مار مرقس – الجزء الثالث صفحة 266 .(1/34)
فلا يوجد أي نصراني يعارض شريعة أو ناموس موسي الذي فرضها على النصارى , فإذا كانت الغنائم من فرائض موسي فهل يعترض أحد النصارى عليها ؟
بل إن إله المسيحية قد أمر شعبه عند الدخول لشعب هناك أمران , الأمر الأول طلب العهد وإن صالحوك فإستعبدهم لخدمتك , وإن قاتلوك فاقتل الرجال وخذ أي شيء غنيمة لك النساء والأطفال والأموال وكل شيء في سفر التثنية 20 / 10-15 , فيقول :
(حين تقرب من مدينة لتحاربها استدعها للصلح , فإن أجابتك إلى الصلح وفتحت لك فكل الشعب الموجود فيها يكون لك للتسخير ويستعبد لك , وإن لم تسالمك بل عملت معك حربا فحاصرها , وإذا دفعها الرب إلهك إلى يدك فاضرب جميع ذكورها بحد السيف , وأما النساء والأطفال والبهائم وكل ما في المدينة كل غنيمتها فتغتنمها لنفسك وتأكل غنيمة أعدائك التي أعطاك الرب إلهك , هكذا تفعل بجميع المدن البعيدة منك جدا التي ليست من مدن هؤلاء الأمم هنا ... )
هذا النص والذي يدعوا إلى قمة الذل والإستعباد لكل من خالف العقيدة وكل من خالف أفكار اليهود فيستعبدوه وإن اعترض فاقتلوه وخذوا أهله غنائم لكم , ولكن هذه العنصرية غير موجودة في الإسلام العظيم لم تكن الحرب في الاسلام هدفها إبادة المخالف أو إستعبادهم ولكن هدفها حرب المعادي والمتهجم على الإسلام العظيم ولنر الآن أقوال علماء المسيحية في هذه النصوص المريبة ..
فيقول القمص تادرس يعقوب ملطي معلقاً على هذا النص (1) :
__________
(1) من تفسير وتأملات الآباء الأولين – سفر التثنية – القمص تادرس يعقوب ملطي صفحة407.(1/35)
(بالنسبة للأمم البعيدة يرسل إليهم لإقامة عهود سلام، فإن قبلوا يقومون بخدمة الله وشعبه (10-15) . لا يجوز لهم أن ينزلوا في معركة مع الجيران ما لم يقدِّموا أولاً إعلانًا عامًا، فيه يطلبون الصلح ... من لا يقبل هذه الشروط لا يبقون في مدينتهم كائنًا حيًا متى كانت من الأمم السبع، أمَّا إذا كانت من المدن المجاورة فيقتل الرجال ويستبقى النساء والأطفال مع الحيوانات وكل غنائمها. أمَّا سبب التمييز فهو ألا يترك أي أثر في وسط الشعب للعبادة الوثنيَّة...)
بل إن يشوع عبد الرب قام أيضاً بأخذ الغنائم للرب كما أمره الرب فقد ذُكر في الكتاب المقدس سفر يشوع 6/19 :
( وكل الفضة والذهب وآنية النحاس والحديد تكون قدسًا للرب وتدخل في خزانة الرب )
بل وأيضاً يشوع عندما دخل عاي أخذ كل غنائمها له ولشعبه بأمر الرب في سفر يشوع 8 / 2 :
(فتفعل بعاي وملكها كما فعلت بأريحا وملكها. غير أن غنيمتها وبهائمها تنهبونها لنفوسكم. اجعل كمينا للمدينة من ورائها .. )
ويعلق التفسير التطبيقي على هذا النص فيقول (1) :
(ماذا سمح الله لبني إسرائيل بالاحتفاظ بالغنائم هذه المرة؟ كانت شرائع بني إسرائيل فيما يتعلق بالغنائم تغطي موقفين : (1) المدن التي مثل أريحا تحت "تحريم" من الله (دينونته على الوثنية) لا يمكن أن تؤخذ غنائمها، إذ كان يجب أن يحتفظ شعب الله بقداسته منفصلا عن كل تأثير للوثنية. (2) كان توزيع الغنائم من المدن التي ليست تحت "التحريم" أمرا عاديا في الحروب، فكان ذلك يمد الجيش والأمة بالأطعمة وقطعان المواشي، والأسلحة التي يحتاجون إليها في وقت الحرب. لم تكن عاي تحت "التحريم". وكان الجيش المنتصر في حاجة إلى الطعام والمعدات. وحيث أنه لم تكن تدفع مرتبات للجنود، كانت الغنائم جزءا من الحوافز والمكافآت للذهاب للحرب.)
__________
(1) 64 التفسير التطبيقي للكتاب المقدس – نخبة من العلماء والمفسرين صفحة 439.(1/36)
بل إن داود أيضاً أخذ الغنائم في الحروب كما أمر الرب له ففي سفر صموئيل الأول 30/26 :
(ولما جاء داود إلى صقلغ أرسل من الغنيمة إلى شيوخ يهوذا إلى أصحابه قائلا: هذه لكم بركة من غنيمة أعداء الرب.)
وداود هذا الذي قال فيه الكتاب المقدس أنه عمل كل ما هو مستقيم فيقول :
(لان داود عمل ما هو مستقيم في عيني الرب ولم يحد عن شيء مما اوصاه به كل ايام حياته الا في قضية اوريا الحثّي ) سفر الملوك الأول 15/5 .
وأيضاً داود كانت له الخزائن والغنائم والجيوش ! التي كانت تحارب بإسم الرب فيقول كاتب سفر الأخبار الأول المجهول26/26-27 :
(شلوميث هذا وإخوته كانوا على جميع خزائن الأقداس التي قدسها داود الملك ورؤوس الآباء ورؤساء الألوف والمئات ورؤساء الجيش. من الحروب ومن الغنائم قدسوا لتشديد بيت الرب.)
ويقول القمص تادرس يعقوب ملطي في تفسيره لهذا النص (1) :
(كانت هناك خزائن للأشياء التي قُدّست من الحروب والغنائم (عدد 27) كعرفان وشكر على الحماية الإلهية، فإبراهيم قدّم لملشيصادق عُشرًا من رأس الغنائم (عب 7: 4)، وفي أيام موسى كان رجال الحرب عند عودتهم منتصرين يقدّمون من غنائمهم قربانًا للرب (عدد 31: 50)، وبعد ذلك تم إحياء هذه العادة المبرورة وليس فقط صموئيل وداود بل أيضًا أبنير ويوآب قدّسوا من غنائمهم لتشديد بيت الرب (عدد 28)، ففي أعمال البر والخير يتوقع الله منا الكثير مما يًغْدقه علينا، فالنجاح العظيم يدعو لرد يتناسب معه، فعندما ننظر إلى مقتنياتنا نرى الأشياء المريحة وربما الأشياء الفخمة والفاخرة ولكن أين الأشياء التي تقدّست؟ .)
__________
(1) من تفسير وتأملات الآباء الأولين – سفر الأخبار الأيام الأول – في تفسيره لسفر الأخبار الأول 26/26-27.(1/37)
هذه هي أوامر الإله في المسيحية للأنبياء وهكذا أقرها ووافق عليها العهد الجديد حين مجد هؤلاء ومجد أفعالهم بل والمسيح نفسه يمجد هؤلاء الأنبياء . فكيف يعترض أحد على الغنائم في الحروب الإسلامية والتي هي قاعدة حربية أسسها الكتاب المقدس ولا أحد يعترض عليها في كتابهم ؟.
إنتشار المسيحية بالإكراه وإنتشار الاسلام بتوحيده وسماحته وتشريعه
أعداء الحق دائماً يحاربونه (1) والغريب أن النصارى يتهمون الإسلام بما فيهم ! فتجد كتاب النصارى ( الكتاب المقدس ) يأمر بكل صور الإرهاب ولكنهم يتهمون الإسلام بالإرهاب !
__________
(1) ننصح بالإستماع لهذا الفيلم http://www.youtube.com/watch?v=6fp29Nr29vw(1/38)
وفي الحقيقة الإسلام إنتشر بدون عوامل التبشير المتوفرة لدى النصارى , والناظر للتاريخ يجد أن النصرانية لم تنتشر إلا بإستخدام السيف والقتل والدماء .. أما الإسلام فقط إنتشر لأنه الدين الخق دين الله عز وجل الذي أسطفاه للبشر ولذلك يختاره كل عاقل فيدعوا له حتى الكفار حتى أن الرئيس الروسي ديمتري ميدفيديف يدعوا لفتح قناة لنشر تعاليم الإسلام ! (1) , ويعلن الدكتور القس إكرام لمعي مدير الكلية الإنجيلية بدخول الكثير من الأقباط للإسلام !! (2) , هذا المَجمع المقدس يُعلن دخول مئات النصارى إلى الإسلام ويشهرون إسلامهم في الأزهر الشريف بالإضافة إلى تناقص عدد النصارى في مصر وسوف يؤدي ذلك إلى الإنقراض وهذا على لسان الأنبا باخوميوس مطران البحيرة والأنبا تاوضروس الأسقف العام لمطرانية البحيرة والأنبا دانيال والأنبا موسى الأسقف العام وسكرتير البابا شنودة ! (3) , بالإضافة إلى إعلان الكثير من مشاهير العالم إسلامهم فيعلن إسلامه بطل العالم في لعبة السنوكر ( روني أوسوليفان ) ويؤكد أن الإسلام أسرع الأديان إنتشاراً (4) , وأسلمت الأخت روبا قعوار ومعروف عن عائلة قعوار بالأردن أن رجالها ونسائها مبشرين بالأردن , وسوف نكتب كتاباً فيه قصة إسلامها إن شاء الله عز وجل (5) وأسلم الكثير كرئيس الإتحاد العالمي للبرمجو اللغوية وإسمه وايت سمول (6) وها هو الحاخام الأمريكي جوزيف كوهين الذي أسلم وأصبح معروفاً بإسم يوسف خطاب (7)
__________
(1) http://www.almesryoon.com/ShowDetails.asp?NewID=69327&Page=13
(2) كتاب الوجه الأخر للكنيسة للدكتور القس إكرام لمعي صفحة 251 - دار الثقافة .
(3) http://eld3wah.net/play.php?catsmktba=527
(4) http://news.bbc.co.uk/hi/arabic/sport/newsid_3157000/3157256.stm
(5) http://www.almesryoon.com/ShowDetails.asp?NewID=42969&Page=13
(6) http://www.youtube.com/watch?v=AsnR3IH_o8c
(7) http://www.jews-for-allah..org/(1/39)
وعمدة مدينة مايكن في ولاية جورجيا الأمريكية يعلن إسلامه على مشهد ملايين من أتباع كل أديان العالم بل تردد (1) وتعلن ألمانيا بإرتفاع عدد المسلمين الجدد بنسبة ثلاثة عشر ضعفاً !! (2) وهذا ما سبب للحكومة الألمانية مخاوف شديدة (3) , بالإضافة إلى إسلام ألف فرنسى كل عام (4) بل إن التليفزيون الأمريكي أقر بأن كل عام يدخل الإسلام عشرين ألف أمريكي ! (5) هذا في الدول الغربية , أما في الدول الإسلامية فالكثير يدخل الإسلام مقتنعاً فرحاً بما آتاه الله بعد بحثه عن دين الله الحق (6) , ويدافع عن الإسلام أيضاً أعداء الإسلام وها هو الكاتب اليهودي يوري افنري يكتب مقالاً بإسم " سيف محمد" ليرد على ما أدعاه بابا الفاتيكان (7) وبعد مواجة علماء المسلمين بالنصارى يدخل الإسلام الكثير وأمامنا إسلام مائة وأربعة وأربعين (144) نصرانياً ومنهم ثلاث قساوسة بعد مناظرة والحمد لله (8) ومنهم من يحرق نفسه خوفاً من إنشار الإسلام !! (9) , وخاف المعاندين على خرافهم من دخولهم للإسلام العظيم وقاموا بعمل أفلام وتقارير حتى يحذروا من نشر الإسلام في دول الغرب !! (10)
__________
(1) http://www.youtube.com/watch?v=YbUSsyxf6vI&feature=related
(2) http://www.almesryoon.com/ShowDetails.asp?NewID=54430&Page=13
(3) http://www.aljazeera.net/NR/exeres/4D20BBF8-F69D-41EC-AE83-ADD9EC32DEB7.htm
(4) http://www.alzoa.com/docView.php?con=41&docID=46240
(5) http://www.youtube.com/watch?v=XQdXlqSDoxo&feature=related
(6) http://www.almesryoon.com/ShowDetails.asp?NewID=46138&Page=13
(7) http://www.55a.net/firas/arabic/?page=show_det&id=1697&select_page=17
(8) http://www.almesryoon.com/ShowDetails.asp?NewID=42969&Page=13
(9) http://www.alarabiya.net/Articles/2006/11/02/28751.htm
(10) http://www.youtube..com/watch?v=9a2pokVTBpM(1/40)
حتى أن وزارة الخاريجية الأميريكية تُصدر كتاباً عن حياة مسلمي أمريكا ! ولكن النصارى المتطرفون كالعادة إعترضوا على ذلك لأن هذا فيه نَشرا للإسلام (1) وذلك خوفاً من إنتشار الإسلام لأن كما أعلنت القنوات الفضائية والمتخصصون بأن مئات اليهود يتحولون للإسلام كل عام (2) فبدأوا يحاربون الإسلام بالإرهاب والقتل والفتن كما إعترفوا هم بأنفسهم !! (3)
__________
(1) http://www.almesryoon.com/ShowDetails.asp?NewID=64548&Page=13
(2) http://aljazeera.net/NR/exeres/029208D3-51EE-4EA8-98BE-F909B5F2F96C.htm
(3) http://www.youtube.com/watch?v=c5dt-WREldg&feature=related(1/41)
ولذلك تتراجع أعداد اليهود والنصارى في الولايات المُتحدة الأمريكية بإحصائيات غريبة ! (1) وتعلن إذاعة ( bbc ) أن الإسلام هو أكثر الأديان إنتشاراً في العالم (2) بل باعوا الكنائس وتحولت بفضل الله علينا إلى مساجد يتعبد فيها المسلمين (3) بل وتم عرض عشرة كنائس في كونهاجن للبيع ويعلق أسقف دانماركي ويقول ( إن لم تستعمل الكنيسة للعبادة فالأحرى أن تتحول إلى إسطبل ) خوفاً من تحولها لمسجد !! (4) وبعد أن قاموا بسب الإسلام في هولندا وإلصاق ما فيهم في الإسلام إفتراءاً وبهتاناً ولكن الله عز وجل نَصر دينه بأعداء الإسلام فدخل الإسلام الكثير في هولندا بل ونفذت المصاحف الإلكترونية في مكتبات هولندا (5) , بل وتعلنها صراحة وزارة الدفاع الأمريكية بأن الإسلام هو أكثر الأديان إنتشاراً في عام 2001 (6)
(Islam is Fastest Growing Religion in United States)
__________
(1) http://www.almesryoon.com/ShowDetails.asp?NewID=61213&Page=13
(2) http://news.bbc.co.uk/2/shared/spl/hi/middle_east/03/islam_around_the_world/html/default.stm and http://www.cnn.com/WORLD/9704/14/egypt.islam/
(3) http://www.almesryoon.com/ShowDetails.asp?NewID=42742
(4) http://www.almesryoon.com/ShowDetails.asp?NewID=46417&Page=13
(5) http://www.alarabiya.net/articles/2008/03/30/47623.html
(6) http://www.defendamerica.mil/articles/a100501b.html(1/42)
بل وتؤكد وزارة الدفاع الأمريكية أن الإسلام عدد أتباعه في العالم ( عام 2001) 1.3بليون مسلم , وهذا بالطبع من حوالي عشر سنوات يفرق الآن في عدد المسلمين وفي سرعة إنتشار الإسلام ويعلن أيضاً سفير المبعوث الخاص بوزارة الخارجية بـ"روسيا"، وممثل رئيس العلاقات مع المنظمات الإسلامية للمؤتمرات "فينيامين بوبوف" - أنه خلال الخمسين عامًا القادمة سوف يصبح الإسلام هو الدين السائد بين الروس. !! (1)
وهذا كله لأن الإسلام هو دين الحق حتى أن الفاتيكان وهو رأس الكاثوليك في العالم أجمع يدعوا البنوك الغربية إلى تطبيق القواعد المالية الإسلامية لمواجهة الأزمة العالمية (2) وتغلب عداد المسلمين على الكاثوليك وهم أكثر الطوائف المسيحية في العالم كما أكد الفاتيكان (3)
فالإسلام ينتشر بين الإغنياء والطبقات العليا وبين الفقراء والطبقات الأقل إنتشر بين العالم وغيره إنتشر في الشرق والغرب بالله عليكَ هل يعقل أن نقول بأن الإسلام إنتشر بالسيف !! أي سيفا هذا ؟ عليّ أن أقول كلمة لكل عاقل يستخدم عقله ولو قليلاً هل يعقل أن يكون الإسلام إنتشر بالسيف ؟
فآيات القرآن توضح دائماً أن الإسلام دين الحرية من أراد أن يدخل فيه فيدخل ومن أراد أن لا يدخل فيه لا يدخل .. فيقول الله تعالى :
? (لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدمِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ لاَ انفِصَامَ لَهَا وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) (4)
__________
(1) http://www.almesryoon.com/ShowDetails.asp?NewID=71865&Page=13
(2) http://www.youtube.com/watch?v=-GsdxJJ3mo8
(3) http://www.timesonline.co.uk/tol/news/world/article3653800.ece
(4) البقرة 256 .(1/43)
? (لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَلأنفُسِكُمْ وَمَا تُنفِقُونَ إِلاَّ ابْتِغَاء وَجْهِ اللّهِ وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ) (1)
? ( إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ ) (2)
? ( لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَلأنفُسِكُمْ وَمَا تُنفِقُونَ إِلاَّ ابْتِغَاء وَجْهِ اللّهِ وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ ) (3)
بالإضافة إلى أن دعوة الإسلام كانت بناءاً على الحكمة والموعظة الحسنة فيقول الله عز وجل :
? (ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ( النحل125 .
? (إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ , لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ ) (4)
آيات كثيرة في كتاب الله عز وجل تؤكد وتصرح بحرية الإعتقاد ولا إكراه على غير المسلم حتى يكون مسلما , ولو قرأ القارئ في سيرة رسول الله وفي سيرة أصحاب رسول الله سنجد الحب والدفاع عن الإسلام بكل ما يملكون ولا أعتقد أن العاقل يقول بأنهم غُصبوا على الإسلام وهم يدافعون عنهم !! وها هم أصحاب رسول الله في غزوة بدر الكُبرى وهم في المجلس الإستشاري (5) :
__________
(1) البقرة 272.
(2) القصص 56.
(3) البقرة272 .
(4) الغاشية 21-22 .
(5) مختصر الرحيق المختوم صفحة 139-140 .(1/44)
( أما رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد علم بخروج أهل مكة , وهو في الطريق , فأستشار المسلمين , فقام أبو بكر فتكلم وأحسن قم قام عمر فتكلم وأحسن , قم قام المقداد فقال والله يا رسول الله لا نقول كما قالت بنو إسرائل لموسى " فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ " ولكن نقاتل عن يمينك وعن يسارك ومن بين يديك (1) ومن خلفك فأشرق وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم وسر بذلك .
ثم قال : أشيروا علي أيها المسلمون ! فقام سعد بن معاذ رئيس الأنصار وقال : كأنك تعرض بنا يا رسول الله ! فوالذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك , ما تخلف منا رجل واحد . وما نكره أن تلقى بنا عدونا غداً . إنا لصبر في الحرب , صدق في اللقاء , ولعل الله أن يريك منا ما تقر به عينك , فسر بنا على بركة الله , وقال فيما قال : والذي بعثك بالحق لو ضربت أكبادها إلى برك الغماد لاتبعناك . فسر رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال سيروا وأبشروا فإن الله تعالى قد وعدني إحدى الطائفتين . والله لكأني أنظر إلى مصارع القوم . ) أ.هـ.
__________
(1) تطلق كلمة بين يديك للأمام أو ما يسبق وقد أشتهر هذا التعبير عند العرب وفي اللغة العربية وذلك أيضاً في قوله تعالى " لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ" فصلت 42 , فمعنى بين يديك جاء هنا بمعنى ما سبق ولذلك عندما يقول الله تعالى " نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنزَلَ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ " آل عمران3 , فمعناها أي أن رسول الله جاء بالقرآن وهو مصدق لما سبقه من الكتب وليس كما يقول البعض .(1/45)
هل من يتكلم هذا ضُغط عليه حتى يكون مسلما ! لا يعقل أن يكون من يتكلم هذا غُصب عليه الإسلام كما يدعون .. فهؤلاء أسلموا حُباً في دين الله الإسلام وإقتناعاً به وأبسط دليل على ذلك دفاعهم عنه وحبهم له وموتهم من أجله .
وعكس ذلك تماماً في المَسيحية فنجد السيف والإرهاب والإكراه والحروب ضد من لا يريد الدخول في المسيحية !!
كيف إنتشرت المسيحية ؟
لابد أن نعترف بالحق جميعاً ولكي أكون صادقاً فإن المسيحيين في بداية أمرهم تعرضوا للقتل والإهانة والذبح وكل أنواع التعذيب وهذا الذي تسبب في ضياع الكتاب المقدس من أيدي المسيحيين حتى قُتل المسيحيين الحق فهاهم أتباع وتلاميذ المسيح فهذا قُتل وهذا صُلب وهكذا كل أتباع المسيح وحتى الذين آمنوا ولم يروا التلاميذ تم قتلهم وذبحهم وتعذيبهم وإستمرت المسيحية هكذا قرون طويلة , تم حرق الكتب المقدسة وحرق كتابات الاباء وضياع النسخ الأصلية للكتاب المقدس , ومات أتباع المسيح الحق من التلاميذ والحواريين , حتى بدأ المسيحيين في القرن الثالث يخضعون للإمبراطورية الوثنية وبدأ قسطنطين الوثني يساعد المسيحيين ودخل المسيحية ومن هنا أقول بدأ إنتشار المسيحية الوثنية التي رسمها قسطنطين , فمن هو قسطنطين الذي نشر المسيحية بحد السيف ؟
قسطنطين ونشر المسيحية بحد السيف
قسطنطين الذي قال عنه القمص مرقس داود (1) :
( في تاريخ المسيحية برزت شخصيات كثيرة لعبت أدواراً رئيسية في الكنيسة . وهذه هي سيرة أحد هؤلاء الأشخاص . ويكفي القول هنا أن الكاتب هو نفس يوسابيوس مؤلف كتاب تاريخ الكنيسة والذي يعتبر في نظر جميع المؤرخين أنه هو أبو التاريخ الكنسي .. )
بل وإن الكنيسة المصرية الأرثوذكسية تتشفع به وتصلي له ,
__________
(1) كتاب حياة قسطنطين العظيم – تأليف يوسابيوس القيصري – تعريب القمص مرقس داود , مقدمة الكتاب .(1/46)
قسطنطين قد ادعي أنه رأي المسيح في رؤيا ممسكا ًبصليب فيقول يوسابيوس القيصري (1) :
( كيف ظهر له في نومه مسيح الله وأمره بان يستعمل في حروبه علماً مصنوعاً على شكل صليب ,, وعلاوة على هذا قال خامرته الشكوك في داخله في معني هذه الرؤيا وبينما هو يتأمل ويفكر في فحواها أقبل الليل فجأة , ثم ظهر له في نومه مسيح الله بنفس العلامة التي رآها في السماء .)
ويوسابيوس أيضاً ينقل لنا تاريخ هذا الرجل وفتوحاته وامتلاكه للعالم بإسم الصليب فيقول (2) :
( على ان امبراطورنا بدأ ملكه في السن التي مات فيها المقدوني , ومع ذلك عاش ضعف عمره وملك ثلاثة أضعاف مدة ملكه وإذ أعطي جيشه التعليمات ليكونوا لطفاء ورحماء في حدود التقوي سار بجنوده حتى البريطانيين والأمم التي تسكن على حدود المحيط الغربي . وأخضع كذلك كل مملكة السكيثيين , وبالرغم من أنها في أقصي الشمال , وبالرغم أنها كانت مقسمة إلى قبائل متوحشة لا عدد لها وامتدت فتوحاته حتى إلى البليميين والإثيوبيين في أقصي حدود الجنوب ولم يخطر بباله أن امتلاك الممالك الشرقية أمر لا يستحق عنايته , وبالإيجاز ان ضياء نوره المقدس ذاع على أقصاء كل العالم حتى إلى حدود الهند البعيدة , والشعوب القيمة في أبعد أطراف المسكونة.. )
هذا قسطنطين الذي تبع أوامر الكتاب المقدس وإعتبر أن كل مخالف لفكره يستحق القتل ويكون ضده , وهذا بناءاَ على قول يسوع ( من ليس معي فهو علي .. ) إنجيل لوقا 9 : 50.
__________
(1) كتاب حياة قسطنطين العظيم – تأليف يوسابيوس القيصري – تعريب القمص مرقس داود – ك 1 ف 29 , صفحة 33 .
(2) كتاب حياة قسطنطين العظيم – تأليف يوسابيوس القيصري – تعريب القمص مرقس داود – ك 1 ف 8 , صفحة 13,14 .(1/47)
هكذا كان قسطنطين يحارب بل إن قسطنطين هذا الملك التي تصلي له الكنيسة الأرثوذكسية وتعتبره من العظماء مثل موسي كان يغصب الناس على الصلاة للمسيح مع إنهم وثنيين فيقول يوسابيوس القيصري (1) :
( كيف أمر حتى جنوده الوثنيين ليصلوا في يوم الرب :
أما عن الذين كانوا لا يزالون وقتئذ بعيدين عن الإيمان الإلهي فقد أصدر أمراً ثانياً متضمناً بانهم يجب أن يظهروا يوم الرب في ساحة قرب المدينة وإذا ما أعطيت اشارة معينة قدموا لله بنفس واحدة صلاة تعلموها من قبل . وقد نصحهم بانهم يجب أن لا يتكلوا على رماحهم أو اسلحتهم أو قواتهم البدنية , بل يجب أن يعترفوا بالله العلي كمانح لكل خير , .... وكانت نص الصلاة هي :
ينعترف بأنك الإله الواحد ونعترف بأنك انت ملكنا , ونلتمس معونتك , بنعمتك أنتصرنا , وبك نحن أقوي من أعدائنا . نقدم لك الشكر من أجل نعمك الماضية , ونتكل عليك من أجل البركات المستقبلية . نتضرع إليك ونتوسل طويلاً أن تحفظ لنا إمبراطورنا قسطنطين وأنجاله الأتقياء سالمين منتصرين ..)
بل وأيضاً قد غصب على أعدائه أن يحفروا علامة الصليب على دروعهم (2) :
( وأمر بحفر علامة صليب المخلص على دروع جنوده :
وليس ذلك فقط لكنه أمر أيضاً بحفر علامة الإنتصار المباركة على نفس دروع جنوده , وأمر بأن تتقدم راية الصليب فقط قواته المحاربة في مسيرها , لا التماثيل الذهبية كما كان متبعاً من قبل ...)
حتى أن هذا الرجل كان هو الحاكم وله السلطة في إصدار القرارات في المجامع مهما كان عدد المعارضين فيعلق المؤرخ المسيحي جون لوريمر عن أحداث مجمع نيقية فيقول (3) :
__________
(1) كتاب حياة قسطنطين العظيم – تأليف يوسابيوس القيصري – تعريب القمص مرقس داود – ك 4 ف 19.20 , صفحة 199 , 200
(2) كتاب حياة قسطنطين العظيم – تأليف يوسابيوس القيصري – تعريب القمص مرقس داود – ك 4 ف 21 , صفحة 200 .
(3) كتاب تاريخ الكنيسة – المؤرخ المسيحي جون لوريمر – صفحة 46 .(1/48)
(ومن ثم فقد أراد أن يتحكم في سياسة الكنيسة فيما يختص بصحة المعتقد والهرطقة . ومع أنه نفسه لم يدعي أنه على دراية متميزة وفريدة في الأمور اللاهوتية , وأذعن لحكم الأساقفة إلا أن نفوذ قسطنطين هو الذي حسم القرار الأخير .. )
هذا فقط مجرد مثال عن كيفية إنتشار المسيحية في هذه القرون وليس فقط هذه القرون بل إستمرت المسيحية تنتشر بفرض الرأي وحتى ولو وصل الأمر إلى السيف والحرمان والتهديد وغيرها من الأساليب التي تفرض العقيدة على أناس يرفضون الإعتقاد بها ..
فمثلاً ثيئودوريت القورشي الذي رفض أن يوافق على قرار حرمان نسطور ولكن بالإكراه والضغط عليه وافق على هذا فيقول القمص تادرس يعقوب ملطي (1) :
( حُب ثيئودوريت وإخلاصه لنسطور قاده لأن يعتبر أن ما يعنيه نسطور هو بذاته ما يعنيه هو نفسه .... أثارت آراء ثيئودوريت الكريستولوجية كثيراً من الجدل . ويُجمع كثير من الدارسين على أنه تبني آراء نسطور حتى 435 – 436 م , ومن المحتمل حتى مجمع خلقيدونية . وتخلي عن تلك الأفكار على الأقل بعد 451م.
في مجمع خلقيدونية في عام 451م . قوبل في البداية بمعارضة شديدة .
ثم نوقشت قضيته في جلسة خاصة وأصر الآباء المجتمعون على أن ينطق بالحرمان ضد نسطور .. فإضطر أخيراً وعلى مضض أن ينصاع لأمرهم وأعلن :
محروم نسطور وكل من لا يعترف أن العذراء القديسة مريم هي والدة الإله , وكل من يقسم الإبن الوحيد المولود الوحيد إلى اثنين . وبناء على ذلك فقد أعُيد رسمياً إلى كرسيه الأسقفي ....)
فكان هكذا يتم فرض الرأي على المخالفين لفكرهم ويكرهونهم على إعتناق فكر أو مذهب أو الموافقة على مذهب مخالف لهم , وهذا مخالف تماماً لصريح القرآن الكريم وموافق تماماً لما في الكتاب المقدس !!
__________
(1) نظرة شاملة لعلم الباترولوجي – القمص تادرس يعقوب ملطي – صفحة 152 , 153 .(1/49)
والتاريخ لا ينسي أبداً القديس آريوس الذي صرح بإيمانه بأن المسيح نبي ورسول ومخلوق وليس إله وبالطبع تم حرق كتبه بل وقتل أتباعه فيقول المؤرخ المسيحي جون لوريمر (1) :
( مع ان قسطنطين الذي لم تكن المسائل اللاهوتية واضحة أمامه مطلقاً قد إقتنع برأي يوسابيوس أسقف نيكوميديا حول إعادة النظر في أفكار أريوس إلا أنه لم يهتم بأريوس مطلقاً حتى سنة 332م كان يكتب هكذا " إذا اكتشفت رسالة كاتبها أريوس فليكن مصيرها النار .. حتى لا يترك أي ذكري له مهما كانت .. وإذا قُبض على أي شخص يخفي كتاباً لأريوس ولا يظهره ويحرقه على الفور , فعقابه الموت , وتنفذ فيه العقوبة فور ثبوت الجريمة " . )
وإستمر المسيحيين في قتل وإرهاب كل مخالف لهم في الرأي , ولا أحد ينسي ما فعله الكاثوليك في أخوانهم البروتستانت حتى أنهم كانوا يعتبروهم مهرطقين فكانت الكنيسة تعتقد أن كل إصلاحي لابد من قتله فيقول أندرو ملِر (2) :
( وفي عام 1400م اصبح حرق الهراطقة قانوناً دستورياً في إنجلترا جاء فيه " في مكان عام مرتفع أمام عيون الشعب يحرق الهرطوقي العديم الإصلاح حياً " وسرعان ما أخذ الأساقفة والإكليروس يبدأون عملهم ... )
هذه ليست الحقيقة كاملة وإنما أمثلة فقط مما قام به النصارى على مر التاريخ بنشر النصرانية بالإكراه والإرهاب والقتل والسيف !! والحق أقول لكم أن كلمة لا إكراه في الدين هي قاعدة إسلامية راسخة ليس لها أي وجود في النصرانية وعكسها تماماً في المسيحية ..
وبعد هذه المقدمة المبسطة سوف نقرأ معاً ما حدث في بعض الغزوات التي دار بين أهل الحق والباطل قتالا , وهل حقاً كانت دفاعاً أم كانت هجوماً !!
غزوة بدر الكبرى
__________
(1) كتاب تاريخ الكنيسة –المؤرخ المسيحي جون لوريمر – الجزء الثالث , صفحة 50 .
(2) كتاب مختصر تاريخ الكنيسة – للؤرخ المسيحي أندرو ملِر صفحة 395 .(1/50)
هذه الغزوة بنت التصور الإسلامي لعوامل النصر والهزيمة بطريقة عملية واقعية، وقررت أن النصر ليس بالعدد ولا بالعدة، وإنما بمقدار الاتصال بالله الذي لا يقف أمامه قوة العباد، ليوقن المسلمون في عصورهم المختلفة أنهم يملكون في كل زمان ومكان القدرة للتغلب على أعدائهم مهما كانوا هم من القلة وعدوهم من الكثرة، شريطة أن تتحقق فيهم عوامل النصر الحقيقية. وهي أعظم غزوات الإسلام فضلاً وشرفًا لأنها أول غزوة كان لها أثرها في إظهار قوة الإسلام، فكانت بدء الطريق ونقطة الانطلاق في انتشار الإسلام.
تاريخ الغزوة
في السابع عشر من رمضان للسنة 2 هـ .
سبب الغزوة
أن عيراً لقريش أفلتت من النبي - صلى الله عليه وسلم - في ذهابها من مكة إلى الشام ، ولما قرب رجوعها من الشام إلى مكة بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - طلحة بن عبيد الله وسعيد بن زيد إلى الشمال ، ليقوما باكتشاف خبرها ، فوصلا إلى الحوراء ومكثا حتى مر بهما أبو سفيان بالعير ، فأسرعا إلى المدينة ، وأخبرا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالخبر . وهذه العير تحمل ثروات طائلة من أهل مكة ، ألف بعير موقرة بالأموال لا تقل عن خمسين ألف دينار ذهبي ، ولم يكن معها من الحرس إلا نحو أربعين رجلاً , فهي فرصة ذهبية وضربة عسكرية واقتصادية قوية لو فقدها المشركين , ثم ندب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أصحابه للخروج وقال لهم: «هذه عير قريش فيها أموالهم فاخرجوا إليها لعل الله ينفلكموها» (1) ، فخف بعضهم وثقل بعضهم ، وذلك أنهم لم يظنوا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يلقى حربا .
__________
(1) ابن هشام السيرة (2/61) بسند صحيح إلى ابن عباس رضي الله عنهما.(1/51)
فهذه الغزوة لم يقصد فيها النبي القتال وإنما كان قصده عير قريش, وكانت الحالة بين المسلمين وكفار مكة حالة حرب، وفي حالة الحرب تكون أموال العدو ودماؤهم مباحة، فكيف إذا علمنا أن جزءًا من هذه الأموال الموجودة في القوافل القرشية كانت للمهاجرين المسلمين من أهل مكة قد استولى عليها المشركون ظلمًا وعدوانًا (1) .
قوة الجيش الإسلامي وتوزيع القيادات :
استعد للخروج مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ثلاثمائة وبضعة عشر رجلاً ( 313 أو 314 أو 317 رجلاً) ، و82 أو 83 أو 86 من المهاجرين ، و 61 من الأوس و 170 من الخزرج !! وقارن هذا العدد مع عدد المشركين فلم يكون الأمر بالنسبة لرسول الله الله لنشر القوة وإنما كان دفاعاً عن النفس , ولم يحتفلوا لهذا الخروج احتفالاً بليغاً ، ولا اتخذوا أهبتهم كاملة ، فلم يكن معهم إلا فرسان ، فرس للزبير بن العوام ، وفرس للمقداد بن الأسود الكندي ، وكان معهم سبعون بعيراً ليعتقب الرجلان والثلاثة على بعير واحد ، وكان رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وعليّ ومرثد بن أبي مرثد يعتقبون بعيراً واحداً. واستخلف على المدينة وعلى الصلاة ابن أم مكتوم ، فلما كان بالروحاء ردّ أبا لبابة بن عبد المنذر واستعمله على المدينة .
ودفع لواء القيادة العامة إلى مصعب بن عمير القرشي العبدري ، وكان هذا اللواء أبيض .
وقسم جيشه إلى كتيبتين :
- كتيبة المهاجرين ، وأعطي علمها علي بن أبي طالب .
- كتيبة الأنصار ، وأعطى علمها سعد بن معاذ .
وجعل على قيادة الميمنة الزبير بن العوام ، وعلى الميسرة المقداد بن عمرو _ وكانا هما الفارسين الوحيدين في الجيش كما أسلفنا _ وجعل على الساقة قيس بن أبي صعصعة ، وظلت القيادة العامة في يده - صلى الله عليه وسلم - كقائد أعلى للجيش .
__________
(1) انظر: حديث القرآن عن غزوات الرسول، د. محمد آل عابد (1/43).(1/52)
كما نلاحظ قوة المسلمين في بدر لا تمثل القدرة العسكرية القصوى للدولة الإسلامية، ذلك أنهم إنما خرجوا لاعتراض قافلة واحتوائها، ولم يكونوا يعلمون أنهم سوف يواجهون قوات قريش وأحلافها مجتمعة للحرب، والتي بلغ تعدادها ألفًا (1) معهم مائتا فرس يقودونها إلى جانب جمالهم، ومعهم القيان يضربون بالدفوف، ويغنين بهجاء النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه (2) ، في حين كما قلنا لم يكن مع القوات الإسلامية من الخيل إلا فرسان، وكان معهم سبعون بعيرًا يتعاقبون ركوبها (3) .
سير المعركة :
سار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في هذا الجيش غير المتأهب ، فخرج من نقب المدينة ، ومضى على الطريق الرئيسي المؤدي إلى مكة ، حتى بلغ بئر الروحاء ولما ارتحل منها ، ترك طريق مكة بيسار وانحرف ذات اليمين على النازية ( يريد بدراً ) فسلك في ناحية منها ، حتى جذع وادياً يقال له رحقان ، بين النازية وبين مضيق الصفراء ، ثم مر على المضيق ، ثم انصب منه حتى قرب من الصفراء وهنالك بعث بسيس بن عمر الجهني وعدي بن أبي الزغباء الجهني إلى بدر يتجسسان له أخبار العير .
النذير في مكة :
__________
(1) مسلم، بشرح النووي (12/84). ... (*) البداية والنهاية (3/260).
(3) المسند (1/411)، مجمع الزوائد (6/69)، جوامع السير، ص108.(1/53)
وأما خبر العير فإن أبا سفيان وهو المسؤول عنها كان على غاية من الحيطة والحذر ، فقد كان يعلم أن طريق مكة محفوف بالأخطار ، وكان يتحسس الأخبار ، ويسأل من لقي من الركبان ، ولم يلبث أن نقلت إليه استخباراته بأن محمدا ً - صلى الله عليه وسلم - قد استنفر أصحابه ليوقع بالعير وحينئذ استأجر أبو سفيان ضمضم بن عمرو الغفاري إلى مكة ، مستصرخاً لقريش بالنفير إلى عيرهم ليمنعوه من محمد - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه . وخرج ضمضم سريعاً حتى أتى مكة ، فصرخ ببطن الوادي واقفا على بعيره ، وقد جدع أنفه وحول رحله وشق قميصه ، وهو يقول : يا معشر قريش اللطيمة ، اللطيمة ، أموالكم مع أبي سفيان قد عرض لها محمد في أصحابه ، لا أرى أن تدركوها ، الغوث الغوث .
أهل مكة يتجهزون للغزو :
فتحفز الناس سراعاً ، وقالوا : أيظن محمد وأصحابه أن تكون كعير ابن الحضرمي ؟ كلا ، والله ليعلمن غير ذلك ، فكانوا بين رجلين ، إما خارج ، وإما باعث مكانه رجلاً وأوعبوا في الخروج فلم يتخلف من أشرافهم أحد سوى أبي لهب ، فإنه عوض عنه رجلاً كان له عليه دين ، وحشدوا من حولهم من قبائل العرب ، ولم يتخلف عنهم أحد من بطون قريش إلا بني عدي ، فلم يخرج منهم أحد .
قوام الجيش المكي :
وكان قوام هذا الجيش نحو ألف وثلاثمائة مقاتل في بداية سيره ، وكان معه مائة فرس وستمائة درع وجمال كثيرة لا يعرف عددها بالضبط ، وكان قائده العام أبا جهل بن هشام ، وكان القائمون بتموينه تسعة رجال من أشراف قريش ، فكانوا ينحرون يوما تسعاً ويوماً عشراً من الإبل .
مشكلة قبائل بني بكر :(1/54)
ولما أجمع هذا الجيش على المسير ، ذكرت قريش ما كان بينها وبين بني بكر من العداوة والحرب ، فخافوا أن تضربهم هذه القبائل من الخلف ، فيكونوا بين نارين ، فكاد ذلك يثنيهم ، ولكن حينئذ تبدى لهم إبليس في صورة سراقة بن مالك بن جعشم المدلجي _ سيد بني كنانة _ فقال لهم : أنا لكم جار من أن تأتيكم كنانة من خلفكم بشيء تكرهونه .
جيش مكة يتحرك :
وحينئذ خرجوا من ديارهم ، كما قال الله : "{ بَطَراً وَرِئَاء النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَاللّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ }الأنفال 47وأقبلوا كما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "بحدهم وحديدهم ، يحادون الله ويحادون رسوله "وقال تعالى {وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ }القلم25 وعلى حمية وغضب وحنق على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه ، لا جتراء هؤلاء على قوافلهم . تحركوا بسرعة فائقة نحو الشمال في اتجاه بدر ، وسلكوا في طريقهم وادي عسفان ، ثم قديد ، ثم الجحفة ، وهناك تلقوا رسالة جديدة من أبي سفيان يقول لهم فيها : إنكم إنما خرجتم لتحرزوا عيركم ورجالكم وأموالكم ، وقد نجاها الله فارجعوا .
العير تفلت :
وكان من قصة أبي سفيان أنه كان يسير على الطريق الرئيسي ولكنه لم يزل حذراً متيقظاً ، وضاعف حركاته الاستكشافية ، ولما اقترب من بدر تقدم عيره ، حتى لقي مجدي بن عمرو ، وسأله عن جيش المدينة ، فقال : ما رأيت أحداً أنكره ، إلا أني قد رأيت راكبين قد أناخا إلى هذا التل ، ثم استقيا في شن لهما ، ثم انطلقا ، فبادر أبو سفيان إلى مناخهما ، فأخذ من أبعار بعيرهما ، ففته ، فإذا فيه النوى ، فقال : هذا والله علائف يثرب ، فرجع إلى عيره سريعاً ، وضرب وجهها محولاً اتجاهها نحو الساحل غرباً ، تاركاً الطريق الرئيسي الذي يمر ببدر على اليسار . وبهذا نجا بالقافلة من الوقوع في قبضة جيش المدينة ، وأرسل رسالته إلى جيش مكة التي تلقاها في الجحفة .(1/55)
هم الجيش المكي بالرجوع ووقوع الانشقاق فيه:
ولما تلقى هذه الرسالة جيش مكة هم بالرجوع ، ولكن قام طاغية قريش أبو جهل في كبرياء وغطرسة قائلاً : والله لا نرجع حتى نرد بدراً ، فنقيم بها ثلاثاً فننحر الجزور ، ونطعم الطعام ، ونسقي الخمر ، وتعزف لنا القيان ، وتسمع بنا العرب وبمسيرنا وجمعنا ، فلا يزالون يهابوننا أبداً ولكن على رغم أبي جهل أشار الأخنس بن شريق بالرجوع فعصوه ، فرجع هو وبنو زهرة _وكان حليفاً لهم ورئيساً عليهم في هذا النفير _ فلم يشهد بدراً زهري واحد ، وكانوا حوالي ثلاثمائة رجل واغتبطت بنوزهرة بعد رأي الأخنس بن شريق ، فلم يزل فيهم مطاعاً معظماً . ...
وأرادت بنو هاشم الرجوع ، فاشتد عليهم أبو جهل ، وقال : لا تفارقنا هذه العصابة حتى نرجع . فسار بالجيش مكة وقوامه ألف مقاتل بعد رجوع بني زهرة _ وهو يقصد بدراً _ فواصل سيره حتى نزل قريباً من بدر ، وراء كثيب يقع بالعدوة القصوى على حدود وادي بدر .
حراجة موقف الجيش الإسلامي :(1/56)
أما استخبارات جيش المدينة فقد نقلت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو لا يزال في الطريق بوادي ذفران _ خبر العير والنفير ، وتأكد لديه بعد التدبر في تلك الأخبار أنه لم يبق مجال للاجتناب عن لقاء دام ، وأنه لا بد من إقدام يبنى على الشجاعة والبسالة ، والجراءة ، والجسارة فمما لا شك فيه أنه لو ترك جيش مكة يجوس خلال تلك المنطقة يكون ذلك تدعيماً لمكانة قريش العسكرية ، وامتداداً لسلطانها السياسي ، وإضعافاً لكلمة المسلمين وتوهيناً لها ، بل ربما تبقى الحركة الإسلامية بعد ذلك جسداً لا روح فيه ، ويجرؤ على الشر كل من فيه حقد أو غيظ على الإسلام في هذه المنطقة . وبعد هذا كله فهل يكون هناك أحد يضمن للمسلمين أن يمنع جيش مكة عن مواصلة سيره نحو المدينة ، حتى ينقل المعركة إلى أسوارها ، ويغزو المسلمين في عقر دارهم . كلا ، فلو حدث من جيش المدينة نكول ما لكان له أسوأ الأثر على هيبة المسلمين وسمعتهم . ...
المجلس الاستشاري :(1/57)
الاستشارة من أسباب النصر فالنبي - صلى الله عليه وسلم - لم ينفرد بقرار من نفسه بل عقد مجلساً عسكرياً استشارياً أعلى ، أشار فيه إلى الوضع الراهن ، وتبادل فيه الرأي مع عامة جيشه ، وقادته ، وحينئذ تزعزع قلوب فريق من الناس ، وخافوا اللقاء الدامي ، وهم الذين قال الله فيهم {كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِن بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ * يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنظُرُونَ }الأنفال5, 6 .. وأما قادة الجيش ، فقام أبو بكر الصديق فقال وأحسن ، ثم قام عمر بن الخطاب فقال وأحسن ، ثم قام المقداد بن عمرو فقال : (( يا رسول الله ، امض لما أراك الله فنحن معك ، والله لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى : { فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ } المائدة : 24 ، ، ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون ، فو الذي بعثك بالحق لو سرت بنا إلى برك الغماد لجالدنا معك من دونه حتى تبلغه )) , فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خيراً ودعا له به . ((أصل القصة رواها البخاري، كتاب التفسير))
وهؤلاء القادة الثلاثة كانوا من المهاجرين ، وهم أقلية في الجيش ، فأحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يعرف رأي الأنصار ، لأنهم كانوا يمثلون أغلبية الجيش ولأن ثقل المعركة سيدور على كواهلهم ، مع أن نصوص العقبة لم تكن تلزمهم بالقتال خارج ديارهم ، فقال بعد سماع كلام هؤلاء القادة الثلاثة : (( أشيروا علي أيها الناس )) وإنما يريد الأنصار ، وفطن إلى ذلك قائد الأنصار وحامل لوائهم سعد بن معاذ ، فقال : والله لكأنك تريدنا يا رسول الله ؟ قال : أجل(1/58)
قال : (( فقد آمنا بك ، فصدقناك ، وشهدنا أن ما جئت به هو الحق ، وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا على السمع والطاعة ، فامض يا رسول الله لما أردت فوالذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك ، ما تخلف منا رجل واحد ، وما نكره أن تلقى بنا عدواً غداً ، إنا لصبر في الحرب ، صدق في اللقاء ، ولعل الله يريك منا ما تقر به عينك ، فسر بنا على بركة الله ))
وفي رواية أن سعد بن معاذ قال لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - : لعلك تخشى أن تكون الأنصار ترى حقاً عليها أن لا تنصرك إلا في ديارهم ، وإني أقول عن الأنصار وأجيب عنهم ، فاظعن حيث شئت ، وصل حبل من شئت ، واقطع حبل من شئت ، وخذ من أموالنا ما شئت ، وأعطنا ما شئت ، وما أخذت منا كان أحب إلينا مما تركت ، وما أمرت فيه من أمر فأمرنا تبع لأمرك ، فو الله لئن سرت حتى تبلغ البرك من غمدان لنسيرن معك ، و والله لئن استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك . فسر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقول سعد ، ونشطه ذلك ، ثم قال : سيروا وأبشروا ، فإن الله تعالى قد وعدني إحدى الطائفتين : والله لكأني الآن أنظر إلى مصارع القوم .
الجيش الإسلامي يواصل سيره :
ثم ارتحل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من ذفران ، فسلك على ثنايا يقال لها الأصافر ، ثم انحط منها إلى بلد يقال له الدية ، وترك الحنان بيمين _ وهو كثيب عظيم كالجبل _ ثم نزل قريباً من بدر .
الرسول - صلى الله عليه وسلم - يقوم بعملية الاستكشاف :(1/59)
وهناك قام بنفسه بعملية الاستكشاف مع رفيقه في الغار أبي بكر الصديق رضي الله عنه ، وبينما هما يتجولان حول معسكر مكة ، إذا هما بشيخ من العرب ، فسأله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن قريش وعن محمد وأصحابه _ سأل عن الجيشين زيادة في التكتم _ ولكن الشيخ قال : لا أخبركما حتى تخبراني ممن أنتما ؟ فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : إذا أخبرتنا أخبرناك ، قال : أو ذاك بذلك ؟ قال : نعم .قال الشيخ : فإنه بلغني أن محمداً وأصحابه خرجوا يوم كذا وكذا ، فإن كان صدق الذي أخبرني فهو اليوم بمكان كذا وكذا _ للمكان الذي به جيش المدينة _ وبلغني أن قريشاً خرجوا يوم كذا وكذا ، فإن كان صدق الذي أخبرني فهم اليوم بمكان كذا وكذا _ للمكان الذي به جيش مكة .ولما فرغ من خبره قال : ممن أنتما ؟ فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نحن من ماء ، ثم انصرف عنه وبقي الشيخ يتفوه ، من ماء ؟ أمن ماء العراق ؟
الحصول على أهم المعلومات عن الجيش المكي :(1/60)
وفي مساء ذلك اليوم بعث استخباراته من جديد ، ليبحث عن أخبار العدو ، وقام لهذه العملية ثلاثة من قادة المهاجرين ، علي بن أبي طالب والزبير بن العوام وسعد بن أبي وقاص في نفر من أصحابه ، ذهبوا إلى ماء بدر ، فوجدوا غلامين يستقيان لجيش مكة ، فألقوا عليهما القبض وجاءوا بهما إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وهو في الصلاة ، فاستخبرهما القوم ، فقالا : نحن سقاة قريش بعثونا نسقيهم من الماء ، فكره القوم ورجوا أن يكونا لأبي سفيان _ لا تزال في نفوسهم بقايا أمل في الاستيلاء على القافلة _ فضربوهما موجعاً ، حتى اضطر الغلامان أن يقولا : نحن لأبي سفيان ،فتركوهما . ولما فرغ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الصلاة قال لهم كالعاتب : إذ صدقاكم ضربتموهما وإذا كذباكم تركتموهما ، صدقا والله ، إنهما لقريش . ثم خاطب الغلامين قائلاً : أخبراني عن قريش ، قالا: هم وراء هذا الكثيب الذي ترى بالعدوة القصوى ، فقال لهما : كم القوم ؟ قالا : كثير . قال : ما عدتهم ؟ قالا : لا ندري ، قال : كم ينحرون كل يوم ؟ قالا : يوماً تسعاً ويوماً عشراً ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : القوم فيما بين التسعمائة إلى الألف ، ثم قال لهما : فمن فيهم من أشراف قريش ؟ قالا : عتبة وشيبة ابنا ربيعة ، وأبو البخترى بن هشام ، وحكيم بن حزام ، ونوفل بن خويلد ، والحارث بن عامر ، وطعيمة بن عدي ، والنضر بن الحارث وزمعة بن الأسود وأبو جهل بن هشام ، وأمية بن خلف في رجال سمياهم . فأقبل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على الناس ، فقال : هذه مكة قد ألقت إليكم أفلاذ كبدها .
نزول المطر :(1/61)
فمن المنن التي منَّ الله بها على عباده المؤمنين يوم بدر أنه أنزل عليهم النعاس والمطر، وذلك قبل أن يلتحموا مع أعدائهم, قال تعالى: {إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِّنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُم مِّن السَّمَاء مَاء لِّيُطَهِّرَكُم بِهِ وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الأَقْدَامَ }الأنفال11 قال القرطبي: (وكان هذا النعاس في الليلة التي كان القتال من غدها, فكان النوم عجيبًا مع ما كان بين أيديهم من الأمر المهم، وكأن الله ربط جأشهم).
وعن علي - رضي الله عنه - قال: ما كان فينا فارس يوم بدر غير المقداد على فرس أبلق، ولقد رأيتنا وما فينا إلا نائم، إلا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تحت شجرة يصلي ويبكي حتى أصبح.
وفي امتنان الله عليهم بالنوم في هذه الليلة وجهان:
أولهما: أن قوَّاهم بالاستراحة على القتال من الغد.
الثاني: أن أمَّنهم بزوال الرعب من قلوبهم كما يقال: «الأمن مُنيم، والخوف مُسْهِر» (1) .
وبين سبحانه وتعالى أنه أكرم المؤمنين بإنزال المطر عليهم في وقت لم يكن المعتاد فيه نزول الأمطار, وذلك فضلاً منه وكرمًا، وإسناد هذا الإنزال إلى الله للتنبيه على أنه أكرمهم به.
__________
(1) انظر: تفسير القرطبي (7/327). ...(1/62)
وقوله تعالى: ( وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ ) فقد روى ابن جرير عن ابن عباس قال: نزل النبي - صلى الله عليه وسلم - يعني حين سار إلى بدر- والمسلمون بينهم وبين الماء رملة دعصة- أي كثير مجتمعة- فأصاب المسلمين ضعف شديد، وألقى الشيطان في قلوبهم الغيظ، فوسوس بينهم تزعمون أنكم أولياء الله وفيكم رسوله وقد غلبكم المشركون على الماء، وأنتم تصلون مجنبين، فأمطر الله عليكم مطرًا شديدًا، فشرب المسلمون وتطهروا، وأذهب الله عنهم رجز الشيطان، وثبت الرمل حين أصابه المطر، ومشي الناس عليه والدواب فساروا إلى القوم (1) . فقد بين سبحانه أنه أنزل على عباده المؤمنين المطر قبل المعركة فتطهروا به حسيًّا ومعنويًّا إذ ربط الله به على قلوبهم وثبت به أقدامهم، وذلك أن الناظر في منطقة بدر يجد في المنطقة رمالا متحركة لا زالت حتى اليوم ومن العسير المشي عليها، ولها غبار كبير، فلما نزلت الأمطار تماسكت تلك الرمال وسهل السير عليها، وانطفأ غبارها, وكل ذلك كان نعمة من الله على عباده (2) .
خلاصة : كان هذا المطر على المشركين وابلاً شديداً منعهم من التقدم ، وكان على المسلمين طلا طهرهم به ، وأذهب عنهم رجس الشيطان ، ووطأ به الأرض ، وصلب به الرمل ، وثبت الأقدام ، ومهد به المنزل ، وربط به على قلوبهم .
الجيش الإسلامي يسبق إلى أهم المراكز العسكرية : ...
__________
(1) انظر: تفسير الطبري (9/195).
(2) انظر: حديث القرآن عن غزوات الرسول (1/91).(1/63)
وتحرك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بجيشه ، ليسبق المشركين إلى ماء بدر ، ويحول بينهم وبين الاستيلاء عليه ، فنزل عشاء أدنى ماء من مياه بدر ، وهنا قام الحباب بن المنذر كخبير عسكري وقال : يا رسول الله ، أرأيت هذا المنزل ، أمنزلاً أنزلكه الله ، ليس لنا أن نتقدمه ولا نتأخر عنه ؟ أم هو الرأي والحرب والمكيدة ؟ قال : بل هو الرأي والحرب والمكيدة ، قال : يا رسول الله ، فإن هذا ليس بمنزل ، فانهض بالناس حتى نأتي أدنى ماء من القوم _ قريش _ فننزله وتغور _ أي نخرب _ ما وراءه من القلب ، ثم نبني عليه حوضاً ، فنملأه ماء ، ثم نقاتل القوم ، فنشرب ولا يشربون ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : لقد أشرت بالرأي . فنهض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالجيش ، حتى أتى أقرب ماء من العدو ، فنزل عليه شطر الليل ، ثم صنعوا الحياض ، وغوَّروا ما عداها من القلب .
بناء عريش القيادة ( المقر ) :
وبعد أن تم نزول المسلمين على الماء اقترح سعد بن معاذ على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يبني المسلمون مقراً لقيادته ، استعداداً للطوارئ ، وتقديراً للهزيمة قبل النصر ، حيث قال : (( يا نبي الله ألا نبني لك عريشاً تكون فيه ، ونعد عندك ركائبك ، ثم نلقي عدونا ، فإن أعزنا الله وأظهرنا على عدونا كان ذلك ما أحببنا ، وإن كانت الأخرى جلست على ركائبك ، فلحقت بمن وراءنا من قومنا فقد تخلف عنك أقوام يا نبي الله ما نحن بأشد لك حباً منهم ، ولو ظنوا أنك تلقى حرباً ما تخلفوا عنك يمنعك الله بهم ، يناصحونك ، ويجاهدون معك )) فأثنى عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خيراً ، ودعا له بخير ، وبنى المسلمون عريشاً على تل مرتفع يقع في الشمال الشرقي لميدان القتال ، ويشرف على ساحة المعركة . كما تم انتخاب فرقة من شباب الأنصار بقيادة سعد بن معاذ ، يحرسون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حول مقر قيادته .
تعبئة الجيش وقضاء الليل :(1/64)
عبأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جيشه ، ومشى في موضع المعركة ، وجعل يشير بيده : هذا مصرع فلان غداً إن شاء الله ، وهذا مصرع فلان غداً إن شاء الله .رواه مسلم (2873)
ثم بات رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي إلى جذع شجرة هنالك ، وبات المسلمون ليلهم هادئ الأنفاس منير الآفاق ، غمرت الثقة قلوبهم ، وأخذوا من الراحة قسطهم ، يأملون أن يروا بشائر ربهم بعيونهم صباحاً {إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِّنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُم مِّن السَّمَاء مَاء لِّيُطَهِّرَكُم بِهِ وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الأَقْدَامَ }الأنفال11
كانت هذه الليلة ليلة الجمعة ، السابع عشر من رمضان في السنة الثانية من الهجرة ، وكان خروجه في 8 أو 12 من نفس الشهر .
الخطة المحكمة للرسول - صلى الله عليه وسلم - في المعركة :
حيث ابتكر الرسول - صلى الله عليه وسلم - في قتاله مع المشركين يوم بدر أسلوبًا جديدًا في مقاتلة أعداء الله تعالى، لم يكن معروفًا من قبل حتى قاتل - صلى الله عليه وسلم - بنظام الصفوف (1) , وهذا الأسلوب أشار إليه القرآن الكريم في قوله تعالى: { إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَّرْصُوصٌ } الصف: 4
وصفة هذا الأسلوب: أن يكون المقاتلون على هيئة صفوف الصلاة, وتقل هذه الصفوف أو تكثر تبعًا لقلة المقاتلين أو كثرتهم. وتكون الصفوف الأولى من أصحاب الرماح لصد هجمات الفرسان, وتكون الصفوف التي خلفها من أصحاب النبال، لتسديدها من المهاجمين على الأعداء .
الجيش المكي في عرصة القتال ووقوع الانشقاق فيه :
__________
(1) انظر: القيادة العسكرية، د. محمد الرشيد ص401.(1/65)
أما قريش ، فقضت ليلتها هذه في معسكرها بالعدوة القصوى ، ولما أصبحت أقبلت في كتائبها ، ونزلت من الكثيب إلى وادي بدر ، وأقبل نفر منهم إلى حوض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : دعوهم فما شرب أحد منهم يومئذ إلا قتل ، سوى حكيم بن حزام ، فإنه لم يقتل ، وأسلم بعد ذلك ، وحسن إسلامه ، وكان إذا اجتهد في اليمين قال : لا والذي نجاني من يوم بدر ، فلما اطمأنت قريش بعث عمير بن وهب الجمحي ، للتعرف على مدى قوة جيش المدينة ، فدار عمير بفرسه حول العسكر ، ثم رجع إليهم فقال : ثلاثمائة رجل ، يزيدون قليلاً أو ينقصون ، ولكن أمهلوني حتى أنظر أللقوم كمين أو مدد ؟ فضرب في الوادي حتى أبعد ، فلم ير شيئاً فرجع إليهم فقال : ولكني قد رأيت يا معشر قريش البلايا تحمل المنايا ، نواضح يثرب تحمل الموت الناقع ، قوم ليس معهم منعة ولا ملجأ إلا سيوفهم ، والله ما أرى أن يقتل رجل منهم حتى يقتل رجلاً منكم ، فإذا أصابوا منكم أعدادكم ، فما خير العيش بعد ذلك ، فروا رأيكم .
وحينئذ قامت معارضة أخرى ضد أبي جهل _ المصمم على المعركة _ تدعوا إلى العودة بالجيش إلى مكة دونما قتال ، فقد مشى حكيم بن حزام في الناس ، وأتى عتبة بن ربيعة فقال : يا أبا الوليد إنك كبير قريش ، وسيدها والمطاع فيها ، فهل لك إلى خير تذكر به إلى آخر الدهر ؟ قال : وما ذاك يا حكيم ؟ قال : ترجع بالناس ، وتحمل أمر حليفك عمرو بن الحضرمي _ المقتول في سرية نخلة _ فقال : عتبة : قد فعلت ، أنت ضامن علي بذلك ، إنما هو حليفي فعلي عقله ديته وما أصيب من ماله .ثم قال عتبة لحكيم بن حزام ، فأت ابن الحنظلية _ أبا جهل ، والحنظلية أمه _ فإني لا أخشى أن يشجر أمر الناس غيره .(1/66)
ثم قام عتبة بن ربيعة خطيباً فقال : يا معشر قريش ، إنكم والله ما تصنعون بأن تلقوا محمداً وأصحابه شيئاً ، والله لئن أصبتموه لا يزال ينظر في وجه رجل يكره النظر إليه ، قتل ابن عمه أو ابن خاله أو رجلاً من عشيرته ، فارجعوا وخلوا بن محمد وبين سائر العرب ، فإن أصابوه فذاك الذي أردتم ، وإن كان غير ذلك ألفاكم ولم تعرضوا منه ما تريدون . ...
وانطلق حكيم بن حزام إلى أبي جهل _ وهو يهيئ درعاً له _ قال يا أبا الحكم إن عتبة أرسلني إليك بكذا وكذا ، فقال أبو جهل : انتفخ والله سحره حين رأى محمداً وأصحابه ، كلا ، والله لا نرجع حتى يحكم الله بيننا وبين محمد ، وما بعتبة ما قال ، ولكنه رأى أن محمداً وأصحابه أكلة جزور ، وفيهم ابنه _ وهو أبو حذيفة بن عتبة كان قد أسلم قديماً وهاجر _ فتخوفكم عليه .
ولما بلغ قول أبي جهل : (( انتفخ والله سحره )) قال عتبة : سيعلم من انتفخ سحره ، أنا أم هو؟ وتعجل أبو جهل مخافة أن تقوى هذه المعارضة ، فبعث على إثر هذه المحاورة إلى عامر بن الحضرمي _ أخي عمرو بن الحضرمي المقتول في سرية عبد الله بن جحش _ فقال : هذا حليفك ( أي عتبة ) يريد أن يرجع بالناس ، وقد رأيت ثأرك بعينك ، فقم فانشد خفرتك ، ومقتل أخيك ، فقام عامر ، فكشف عن استه ، وصرخ : واعمراه واعمراه فحمي القوم ، وحقب أمرهم ، واستوثقوا على ما هم عليه من الشر وأفسد على الناس الرأي الذي دعاهم إليه عتبة . وهكذا تغلب الطيش على الحكمة وذهبت هذه المعارضة دون جدوى .
الجيشان يتراءان :
ولما طلع المشركون ، وترآى الجمعان قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "اللهم هذه قريش قد أقبلت بخيلائها وفخرها ، تحادك وتكذب رسولك ، اللهم فنصرك الذي وعدتني ، اللهم أحنهم الغداة ". البداية والنهاية (5/83) بهذ االلفظ وأصل القصة رواها البخاري(3953)(1/67)
وقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ورأى عتبة بن ربيعة في القوم على جمل له أحمر _ إن يكن في أحد من القوم خير فعند صاحب الجمل الأحمر ، إن يطيعوه يرشدوا .
وعدل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صفوف المسلمين ، وبينما هو يعدلها وقع أمر عجيب ، فقد كان في يده قدح يعدل به ، وكان سواد بن غزية مستنصلاً من الصف ، فطعن في بطنه بالقدح وقال : " استو يا سواد " ، فقال سواد : يا رسول الله أوجعتني فأقدني ، فكشف عن بطنه ، وقال : استقد ، فاعتنقه سواد ، وقبل بطنه ، فقال : ما حملك على هذا يا سواد ؟ قال : يا رسول الله قد حضر ما ترى ، فأردت أن يكون آخر العهد بك أن يمس جلدي جلدك . فدعا له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بخير . السلسلة الصحيحة - الصفحة أو الرقم: 6/808
ولما تم تعديل الصفوف أصدر أوامره إلى جيشه بأن لا يبدأوا القتال حتى يتلقوا منه الأوامر الأخيرة ، ثم أدلى إليهم بتوجيه خاص في أمر الحرب فقال : " إذا أكثبوكم _ يعني كثروكم _ فارموهم ، واستبقوا نبلكم_ رواه البخاري 3985 ، ثم رجع إلى العريش هو وأبو بكر خاصة ، وقام سعد بن معاذ بكتيبة الحراسة على باب العريش .
أما المشركون فقد استفتح أبو جهل في ذلك اليوم فقال : اللهم أقطعنا للرحم وآتانا بما لا نعرفه ، فأحنه الغداة ، اللهم أينا كان أحب إليك وأرضى عندك فانصره اليوم ، وفي ذلك أنزل الله قوله تعالى : {إِن تَسْتَفْتِحُواْ فَقَدْ جَاءكُمُ الْفَتْحُ وَإِن تَنتَهُواْ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَإِن تَعُودُواْ نَعُدْ وَلَن تُغْنِيَ عَنكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئاً وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ }الأنفال19
ساعة الصفر وأول وقود المعركة :(1/68)
وكان أول وقود المعركة الأسود بن عبد الأسد المخزومي _ وكان رجلاً شرساً سيء الخلق _ خرج قائلاً : أعاهد الله لأشربن من حوضهم ، أو لأهدمنه ، أو لأموتن دونه . فلما خرج إليه حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه ، قلما التقيا ضربه حمزة ، فأطن قدمه بنصف ساقه وهو دون الحوض ، فوقع على ظهره تشخب رجله دماً نحو أصحابه ثم حبا إلى الحوض حتى اقتحم فيه ، يريد أن تبر يمينه ولكن حمزة ثنى عليه بضربة أخرى أتت عليه وهو داخل الحوض .
المبارزة :
وكان هذا أول قتل أشعل نار المعركة ، فقد خرج بعده ثلاثة من خيرة فرسان قريش كانوا من عائلة واحدة ، وهم عتبة وأخوه شيبة ابنا ربيعة ، والوليد بن عتبة ، فلما انفصلوا من الصف طلبوا المبارزة فخرج إليهم ثلاثة من شباب الأنصار ، عوف ومعوذ ابنا الحارث _ وأمهما عفراء _ وعبد الله بن رواحه ، فقالوا : من أنتم ؟ قالوا : رهط من الأنصار . قالوا : أكفاء كرام ، مالنا بكم حاجة ، وإنما نريد بني عمنا ، ثم نادى مناديهم : يا محمد ، أخرج إلينا أكفاءنا من قومنا ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : قم يا عبيدة بن الحارث ، وقم يا حمزة ، وقم يا علي ، فلما قاموا ودنوا منهم ، قالوا : من أنتم ؟ فأخبروهم ، فقالوا : أنتم أكفاء كرام ، فبارز عبيدة _ وكان أسن القوم _ عتبة بن ربيعة ، وبارز حمزة شيبة ، وبارز علي الوليد ، فأما حمزة وعلي فلم يمهلا قرنيهما أن قتلاهما ، وأما عبيدة فاختلف بينه وبين قرنه ضربتان ، فأثخن كل واحد منهما صاحبه ، ثم كر علي وحمزة على عتبة فقتلاه واحتملا عبيدة ، وقد قطعت رجله ، فلم يزل صمتاً حتى مات بالصفراء بعد أربعة أو خمسة أيام من وقعة بدر ، حينما كان المسلمون في طريقهم إلى المدينة . وكان علي يقسم بالله أن هذه الآية نزلت فيهم : "هذان خصمان اختصموا في ربهم " ...
أصل القصة رواها البخاري (4374/4375)
الهجوم العام :(1/69)
وكانت نهاية هذه المبارزة بداية سيئة بالنسبة إلى المشركين ، فقدوا ثلاثة من خيرة فرسانهم وقادتهم دفعة واحدة ، فاستشاطوا غضباً ، وكروا على المسلمين كرة رجل واحد . ...
وأما المسلمون فبعد أن استنصروا ربهم ، واستغاثوه ، وأخلصوا له ، وتضرعوا إليه تلقوا هجمات المشركين المتوالية ، وهم مرابطون في مواقعهم ، واقفون موقف الدفاع ، وقد ألحقوا بالمشركين خسائر فادحة ، وهم يقولون : أحد أحد .
الرسول - صلى الله عليه وسلم - يناشد ربه :
وأما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فكان منذ رجوعه بعد تعديل الصفوف يناشد ربه ما وعده من النصر ، ويقول : "اللهم أنجز لي ما وعدتني ، اللهم إني أنشدك عهدك ووعدك ". حتى إذا حمي الوطيس واستدارت رحى الحرب بشدة ، واحتدم القتال ، وبلغت المعركة قمتها ، قال : "اللهم إن تهلك هذه العصابة اليوم لا تعبد ، اللهم إن شئت لم تعبد بعد اليوم أبداً ". وبالغ في الابتهال حتى سقط رداؤه عن منكبيه ، فرده عليه الصديق ، وقال : حسبك يا رسول الله ، ألححت على ربك .رواه مسلم (1763)
وأوحى الله إلى ملائكته حيث قال تعالى : {أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُواْ الرَّعْبَ }الأنفال12 , وأوحى إلى رسوله بقوله تعالى : { أَنِّي مُمِدُّكُم بِأَلْفٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُرْدِفِينَ }الأنفال9 أي ردف لكم ، أو يردف بعضهم بعضاً إرسالاً ، لا يأتون دفعة واحدة .
نزول الملائكة :(1/70)
وأغفى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إغفاءة واحدة ، ثم رفع رأسه فقال : أبشر يا أبا بكر هذا جبريل على ثناياه النقع ( أي الغبار ) , وعن عبد الله بن ثعلبة بن صعير: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "أبشر يا أبا بكر ، أتاك نصر الله هذا جبريل آخذ بعنان فرسه يقوده ، على ثناياه النقع " فقه السيرة - الصفحة أو الرقم: 227 , ثم خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من باب العريش ، وهو يثب في الدرع ويقول : {سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ }القمر45 ثم أخذ حفنة من الحصباء ، فاستقبل بها قريشاً وقال : شاهت الوجوه ، ورمى بها في وجوههم ، فما من المشركين أحد إلا أصاب عينه ومنخريه وفمه من تلك القبضة ، وفي ذلك أنزل الله : { وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللّهَ رَمَى }الأنفال17 , وها نحن نلحظ أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أخذ بالأسباب المادية والمعنوية وتوكل على الله .
الهجوم المضاد :
وحينئذ أصدر إلى جيشه أوامره الأخيرة بالهجمة المضادة فقال : "شدوا "، وحرضهم على القتال ، قائلاً : "والذي نفس محمد بيده لا يقاتلهم اليوم رجل فيقتل صابراً محتسباً مقبلاً غير مدبر إلا أدخله الله الجنة "وقال وهو يحضهم على القتال : "قوموا إلى جنة عرضها السماوات والأرض "، ( وحينئذ ) قال العمير بن الحمام : بخ بخ ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ما يحملك على قولك : بخ بخ ؟ قال : لا ، والله يا رسول الله إلا رجاء أن أكون من أهلها ، قال : فإنك من أهلها . فأخرج تمرات من قرنه ، فجعل يأكل منهن ، ثم قال : لئن أنا حييت حتى آكل تمراتي هذه إنها لحياة طويلة ، فرمى بما كان معه من التمر ، ثم قاتلهم حتى قتل .رواه مسلم (1901)(1/71)
وحين أصدر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الأمر بالهجوم المضاد كانت حدة هجمات العدو قد ذهبت ، وفتر حماسه ، فكان لهذه الخطة الحكيمة أثر كبير في تعزيز موقف المسلمين ، فإنهم حينما تلقوا أمر الشد والهجوم _ وقد كان نشاطهم الحربي على شبابه _ قاموا بهجوم كاسح مرير ، فجعلوا يقلبون الصفوف ، ويقطعون الأعناق ، وزادهم نشاطاً وحدة أن رأوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يثب في الدرع في جزم وصراحة {سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ }القمر45 , فقاتل المسلمون أشد القتال ، ونصرتهم الملائكة .
ففي رواية ابن سعد عن عكرمة قال : كان يومئذ يندر رأس الرجل لا يدري من ضربه ، وتندر يد الرجل لا يدري من ضربها ، وقال ابن عباس : بينما رجل من المسلمين يشتد في إثر رجل من المشركين أمامه إذ سمع ضربة بالسوط فوقه ، وصوت الفارس يقول : أقدم حيزوم فنظر إلى المشرك أمامه ، فجاء الأنصاري فحدث بذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فقال : صدقت ذلك من مدد السماء الثالثة . قال أبو داود المازني : إني لأتبع رجلاً من المشركين لأضربه إذ وقع رأسه قبل أن يصل إليه سيفي ، فعرفت أنه قد قتله غيري .رواه مسلم (1763) .
وجاء رجل من الأنصار للعباس بن عبد المطلب أسيراً ، فقال العباس : إن هذا والله ما أسرني ، لقد أسرني رجل أجلح من أحسن الناس وجهاً على فرس أبلق ، وما أراه في القوم ، فقال الأنصاري : أنا أسرته يا رسول الله ، فقال : أسكت فقد أيدك الله بملك كريم . ...
أخرجه الهيثمي في مجمع الزوائد (6/78 وقال : رواه أحمد والبزار رجال أحمد جال الصحيح غيرحارثة بن مضرب وهو ثقة .
إبليس يخذل أتباعه وينسحب من القتال :(1/72)
إن الشيطان دائما بالمرصاد للإنسان يزين له المعصية حتى إذا وقع فيها تركه وتبرأ منه . ففي هذه الغزوة رأى إبليس ـ وكان قد جاء في صورة سراقة بن مالك بن جُعْشُم المدلجي ، ولم يكن فارقهم منذ ذلك الوقت . فلما رأى ما يفعل الملائكة بالمشركين فر ونكص على عقبيه ، وتشبث به الحارث بن هشام ـ وهو يظنه سراقة ـ فوكز في صدر الحارث فألقاه ، ثم خرج هاربًا . وقال له المشركون : إلى أين يا سراقة ؟ ألم تكن قلت : إنك جار لنا، لا تفارقنا ؟ فقال : {وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لاَ غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَّكُمْ فَلَمَّا تَرَاءتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِّنكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لاَ تَرَوْنَ إِنِّيَ أَخَافُ اللّهَ وَاللّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ }الأنفال48 ، ثم فر حتى ألقى نفسه في البحر .
صمود أبي جهل :
أما الطاغية الأكبر أبو جهل ، فإنه لما رأى أول أمارات الاضطراب في صفوفه حاول أن يصمد في وجه هذا السيل ، فجعل يشجع جيشه ويقول لهم في شراسة ومكابرة : لا يهزمنكم خذلان سراقة إياكم ، فإنه كان على ميعاد من محمد ، ولا يهولنكم قتل عتبة وشيبة والوليد ، فإنهم قد عجلوا ، فواللات والعزى لا نرجع حتى نقرنهم بالحبال ، ولا ألفين رجلاً منكم قتل منهم رجلاً، ولكن خذوهم أخذًا حتى نعرفهم بسوء صنيعهم .
ولكن سرعان ما تبدت له حقيقة هذه الغطرسة ، فما لبث إلا قليلاً حتى أخذت الصفوف تتصدع أمام تيارات هجوم المسلمين . نعم ، بقى حوله عصابة من المشركين ضربت حوله سياجًا من السيوف ، وغابات من الرماح ، ولكن عاصفة هجوم المسلمين بددت هذا السياج ، وأقلعت هذه الغابات ، وحينئذ ظهر هذا الطاغية ، ورآه المسلمون يجول على فرسه ، وكان الموت ينتظر أن يشرب من دمه بأيدي غلامين أنصاريين .
مصرع أبي جهل : ...(1/73)
عن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه قال : بينا أنا واقف في الصف يوم بدر ، فنظرت عن يميني وعن شمالي ، فإذا أنا بغلامين من الأنصار ، حديثة أسنانهما ، تمنيت أن أكون بين أضلع منهما ، فغمزني أحدهما فقال : يا عم هل تعرف أبا جهل ؟ قلت : نعم ، ما حاجتك إليه يا ابن أخي ؟ قال : أخبرت أنه يسب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والذي نفسي بيده ، لئن رأيته لا يفارق سوادي سواده حتى يموت الأعجل منا ، فتعجبت لذلك ، فغمزني الآخر ، فقال لي مثلها ، فلم أنشب أن نظرت إلى أبي جهل يجول في الناس ، قلت : ألا ، إن هذا صاحبكما الذي سألتماني ، فابتدراه بسيفهما ، فضرباه حتى قتلاه ، ثم انصرفا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبراه ، فقال : أيكما قتله . قال كل واحد منهما : أنا قتلته ، فقال : هل مسحتما سيفيكما ؟ قالا : لا ، فنظر في السيفين ، فقال : كلاكما قتله ، سلبه لمعاذ بن عمرو بن الجموح . وكانا معاذ بن عفراء ومعاذ بن عمرو بن الجموح . ( صحيح البخاري - الصفحة أو الرقم: 3141 )(1/74)
وقال ابن إسحاق : قال معاذ بن عمرو بن الجموح : سمعت القوم، وأبو جهل في مثل الحَرَجَة ـ والحرجة : الشجر الملتف، أو شجرة من الأشجار لا يوصل إليها، شبه رماح المشركين وسيوفهم التي كانت حول أبي جهل لحفظه بهذه الشجرة ـ وهم يقولون : أبو الحكم لا يخلص إليه، قال : فلما سمعتها جعلته من شاني فصمدت نحوه، فلما أمكنني حملت عليه، فضربته ضربة أطَنَّتْ قدمه ـ أطارتها ـ بنصف ساقه، فوالله ما شبهتها حين طاحت إلا بالنواة تَطِيحُ من تحت مِرْضِخَة النوى حين يضرب بها . قال : وضربني ابنه عكرمة على عاتقي فطرح يدي، فتعلقت بجلدة من جنبي، وأجهضني القتال عنه، فلقد قاتلت عَامَّةَ يومي وإني لأسحبها خلفي، فلما آذتني وضعت عليها قدمي، ثم تَمَطَّيْتُ بها عليها حتى طرحتها، ثم مر بأبي جهل ـ وهو عَقِيرٌ ـ مُعَوِّذ ابن عفراء فضربه حتى أثبته، فتركه وبه رَمَق، وقاتل معوذ حتى قتل .
ولما انتهت المعركة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( من ينظر ما صنع أبو جهل ؟ ) فتفرق الناس في طلبه، فوجده عبد الله بن مسعود رضي الله عنه وبه آخر رمق، فوضع رجله على عنقه وأخذ لحيته ليحتز رأسه، وقال : هل أخزاك الله يا عدو الله ؟ قال : وبماذا أخزاني ؟ أأعمد من رجل قتلتموه ؟ أو هل فوق رجل قتلتموه ؟ وقال : فلو غير أكَّار قتلنى، ثم قال : أخبرني لمن الدائرة اليوم ؟ قال : لله ورسوله، ثم قال لابن مسعود ـ وكان قد وضع رجله على عنقه : لقد ارتقيت مرتقى صعبًا يا رُوَيْعِىَ الغنم، وكان ابن مسعود من رعاة الغنم في مكة . ...(1/75)
وبعد أن دار بينهما هذا الكلام احتز ابن مسعود رأسه، وجاء به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال : يا رسول الله، هذا رأس عدو الله أبي جهل، فقال : ( الله الذي لا إله إلا هو ؟ ) فرددها ثلاثًا، ثم قال : ( الله أكبر، الحمد لله الذي صدق وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده، انطلق أرنيه ) ، فانطلقنا فأريته إياه، فقال : ( هذا فرعون هذه الأمة ) .
من روائع الإيمان في هذه المعركة :
لقد أسلفنا نموذجين رائعين من عمير بن الحمام وعوف بن الحارث ـ ابن عفراء ـ وقد تجلت في هذه المعركة مناظر رائعة تبرز فيها قوة العقيدة وثبات المبدأ، ففي هذه المعركة التقى الآباء بالأبناء، والإخوة بالإخوة، خالفت بينهما المبادئ ففصلت بينهما السيوف، والتقى المقهور بقاهره فشفي منه غيظه .
1 ـ روى ابن إسحاق عن ابن عباس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لأصحابه : " إني قد عرفت أن رجالاً من بني هاشم وغيرهم قد أخرجوا كرهًا، لا حاجة لهم بقتالنا، فمن لقى أحدًا من بني هاشم فلا يقتله، ومن لقي أبا البَخْتَرِيّ بن هشام فلا يقتله، ومن لقى العباس بن عبد المطلب فلا يقتله، فإنه إنما أخرج مستكرهًا " ، فقال أبو حذيفة بن عتبة : أنقتل آباءنا وأبناءنا وإخواننا وعشيرتنا ونترك العباس، والله لئن لقيته لألحمنه ـ أو لألجمنه ـ بالسيف ، فبلغت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فقال لعمر بن الخطاب : " يا أبا حفص ، أيضرب وجه عم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالسيف " ، فقال عمر : يا رسول الله ، دعني فلأضرب عنقه بالسيف ، فوالله لقد نافق . ...
فكان أبو حذيفة يقول : ما أنا بآمن من تلك الكلمة التي قلت يومئذ ، ولا أزال منها خائفًا إلا أن تكفرها عنى الشهادة . فقتل يوم اليمامة شهيدًا .(1/76)
2 ـ وكان النهي عن قتل أبي البختري ، لأنه كان أكف القوم عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو بمكة ، وكان لا يؤذيه ، ولا يبلغ عنه شيء يكرهه ، وكان ممن قام في نقض صحيفة مقاطعة بني هاشم وبني المطلب . ولكن أبا البختري قتل على رغم هذا كله، وذلك أن المُجَذَّر بن زياد الْبَلَوِىّ لقيه في المعركة ومعه زميل له ، يقاتلان سويًا ، فقال المجذر : يا أبا البخترى إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد نهانا عن قتلك ، فقال : وزميلي ؟ فقال المجذر : لا والله ما نحن بتاركي زميلك ، فقال : والله إذن لأموتن أنا وهو جميعًا ، ثم اقتتلا ، فاضطر المجذر إلى قتله .
3 ـ كان عبد الرحمن بن عوف وأمية بن خلف صديقين في الجاهلية بمكة ، فلما كان يوم بدر مر به عبد الرحمن ، وهو واقف مع ابنه على بن أمية ، آخذًا بيده ، ومع عبد الرحمن أدراع قد استلبها ، وهو يحملها ، فلما رآه قال : هل لك في ؟ فأنا خير من هذه الأدراع التي معك ، ما رأيت كاليوم قط ، أما لكم حاجة في اللبن ؟ ـ يريد أن من أسرني افتديت منه بإبل كثيرة اللبن ـ فطرح عبد الرحمن الأدراع ، وأخذهما يمشى بهما ، قال عبد الرحمن : قال لي أمية بن خلف ، وأنا بينه وبين ابنه : من الرجل منكم المعلم بريشة النعامة في صدره ؟ قلت : ذاك حمزة بن عبد المطلب، قال : ذاك الذي فعل بنا الأفاعيل .(1/77)
قال عبد الرحمن : فوالله إني لأقودهما إذ رآه بلال معي ـ وكان أمية هو الذي يعذب بلالاً بمكة ـ فقال بلال : رأس الكفر أمية بن خلف ، لا نجوت إن نجا . قلت : أي بلال ، أسيري . قال : لا نجوت إن نجا . قلت : أتسمع يا بن السوداء . قال : لا نجوت إن نجا . ثم صرخ بأعلى صوته : يا أنصار الله، رأس الكفر أمية بن خلف، لا نجوت إن نجا . قال : فأحاطوا بنا حتى جعلونا في مثل الْمَسَكَة، وأنا أذب عنه، قال : فأخلف رجل السيف، فضرب رجل ابنه فوقع، وصاح أمية صيحة ما سمعت مثلها قط، فقلت : انج بنفسك، ولا نجاء بك، فوالله ما أغني عنك شيئًا . قال : فَهَبَرُوهُمَا بأسيافهم حتى فرغوا منهما، فكان عبد الرحمن يقول : يرحم الله بلالاً، ذهبت أدراعي، وفجعني بأسيري . وفي زاد المعاد أن عبد الرحمن بن عوف قال لأمية : ابرك ، فبرك ، فألقى نفسه عليه ، فضربوه بالسيوف من تحته حتى قتلوه ، وأصاب بعض السيف رجل عبد الرحمن بن عوف .
وروى البخاري عن عبد الرحمن بن عوف قال : كاتبت أمية بن خلف كتابًا بأن يحفظني في صاغيتي ـ أي خاصتي ومالي ـ بمكة، وأحفظه في صاغيته بالمدينة ، فلما كان يوم بدر خرجت إلى جبل لأحرزه حين نام الناس، فأبصره بلال، فخرج حتى وقف على مجلس الأنصار فقال : أمية بن خلف، لا نجوت إن نجا أمية، فخرج معه فريق من الأنصار في آثارنا، فلما خشيت أن يلحقونا خلفت لهم ابنه ليشغلهم، فقتلوه، ثم أبوا حتى يتبعونا، وكان رجلاً ثقيلاً، فلما أدركونا قلت له : ابرك، فبرك، فألقيت عليه نفسي لأمنعه، فتخللوه بالسيوف من تحتي حتى قتلوه، وأصاب أحدهم رجلي بسيفه . وكان عبد الرحمن يرينا ذلك الأثر في ظهر قدمه .(1/78)
4 ـ وقتل عمر بن الخطاب رضي الله عنه يومئذ خاله العاص بن هشام بن المغيرة، ولم يلتفت إلى قرابته منه، ولكن حين رجع إلى المدينة قال للعباس عم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وهو في الأسر : يا عباس أسلم، فوالله أن تسلم أحب إلى من أن يسلم الخطاب، وما ذاك إلا لما رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعجبه إسلامك.
5 ـ ونادى أبو بكر الصديق رضي الله عنه ابنه عبد الرحمن ـ وهو يومئذ مع المشركين ـ فقال : أين مالي يا خبيث ؟ فقال عبد الرحمن :
لَمْ يَبْقَ غَيْرُ شَكَّةٍ ويَعْبُوب وصَارِمٍ يَقْتُلُ ضُلاَّل الشِّيَبْ
6 ـ ولما وضع القوم أيديهم يأسرون، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - في العريش ، وسعد بن معاذ قائم على بابه يحرسه متوشحًا سيفه ، رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في وجه سعد بن معاذ الكراهية لما يصنع الناس، فقال له : والله لكأنك يا سعد تكره ما يصنع القوم ؟ قال : أجل والله يا رسول الله ، كانت أول وقعة أوقعها الله بأهل الشرك، فكان الإثخان في القتل بأهل الشرك أحب إلىّ من استبقاء الرجال
7ـ وانقطع يومئذ سيف عُكَّاشَة بن مِحْصَن الأسدي ، فأتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأعطاه جِذْلاً من حطب ، فقال : ( قاتل بهذا يا عكاشة ) ، فلما أخذه من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هزه ، فعاد سيفًا في يده طويل القامة ، شديد المتن، أبيض الحديدة ، فقاتل به حتى فتح الله تعالى للمسلمين ، وكان ذلك السيف يسمى العَوْن ، ثم لم يزل عنده يشهد به المشاهد ، حتى قتل في حروب الردة وهو عنده . رواه ابن إسحاق في سيرته.
8 ـ وبعد انتهاء المعركة مر مصعب بن عمير العبدري بأخيه أبي عزيز بن عمير الذي خاض المعركة ضد المسلمين ، مر به وأحد الأنصار يشد يده ، فقال مصعب للأنصاري : شد يديك به ، فإن أمه ذات متاع ، لعلها تفديه منك ، فقال أبو عزيز لأخيه مصعب : أهذه وصاتك بي ؟ فقال مصعب : إنه ـ أي الأنصاري ـ أخي دونك .(1/79)
9 ـ ولما أمر بإلقاء جيف المشركين في القَلِيب، وأخذ عتبة بن ربيعة فسحب إلى القليب، نظر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في وجه ابنه أبي حذيفة ، فإذا هو كئيب قد تغير، فقال : ( يا أبا حذيفة، لعلك قد دخلك من شأن أبيك شيء ؟ ) فقال : لا والله ، يا رسول الله ، ما شككت في أبي ولا مصرعه ، ولكنني كنت أعرف من أبي رأيًا وحلمًا وفضلاً ، فكنت أرجو أن يهديه ذلك إلى الإسلام ، فلما رأيت ما أصابه ، وذكرت ما مات عليه من الكفر بعد الذي كنت أرجو له أحزنني ذلك . فدعا له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بخير، وقال له خيرًا .
نتيجة الغزوة :
انتهت الغزوة بهزيمة ساحقة بالنسبة للمشركين، وبفتح مبين بالنسبة للمسلمين، وقد استشهد من المسلمين في هذه المعركة أربعة عشر رجلًا، ستة من المهاجرين وثمانية من الأنصار . ...
أما المشركون فقد لحقتهم خسائر فادحة، قتل منهم سبعون، وأسر سبعون . وعامتهم القادة والزعماء والصناديد . ...
مخاطبة النبي - صلى الله عليه وسلم - لأهل قليب ( القتلى ) : ...
فبعدما انقضت الحرب أقبل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى وقف على القتلى فقال : «بئس عشيرة النبي كنتم لنبيكم، كذبتموني وصدقني الناس، وخذلتموني ونصرني الناس، وأخرجتموني وآواني الناس» (1) . ثم أمر بهم، فسحبوا إلى قليب من قلب بدر .
__________
(1) زاد المعاد (3/187).(1/80)
وعن أنس بن مالك : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ترك قتلى بدر ثلاثا . ثم أتاهم فقام عليهم فناداهم فقال " يا أبا جهل بن هشام ! يا أمية بن خلف ! يا عتبة بن ربيعة ! يا شيبة بن ربيعة ! أليس قد وجدتم ما وعد ربكم حقا ؟ فإني قد وجدت ما وعدني ربي حقا " فسمع عمر قول النبي - صلى الله عليه وسلم - . فقال : يا رسول الله ! كيف يسمعوا وأنى يجيبوا وقد جيفوا ؟ قال " والذي نفسي بيده ! ما أنتم بأسمع لما أقول منهم . ولكنهم لا يقدرون أن يجيبوا " ثم أمر بهم فسحبوا . فألقوا في قليب بدر . صحيح مسلم - الصفحة أو الرقم: 2874
إن مناداة الرسول - صلى الله عليه وسلم - لقتلى قريش بينت أمرًا عظيمًا، وهو أنهم بدَأوا حياة جديدة، هي حياة البرزخ الخاصة، وهم فيها يسمعون كلام الأحياء، غير أنهم لا يجيبون ولا يتكلمون، والإيمان بهذه الحياة من عقائد المسلمين، ونعيم القبر وعذابه ثابتان في صحيح الأحاديث، حتى إنه - صلى الله عليه وسلم - مر بقبرين وقال: «إنهما يعذبان وما يعذبان في كبير» (1) , وذكر أن سبب تعذيبهما النم بين الناس، وعدم الاستنزاه من البول (2) . ولا بد من التسليم بهذه الحقائق الغيبية، بعد أن تحدث عنها الصادق المصدوق، وقطع بها القرآن الكريم في تعذيب آل فرعون, قال تعالى: {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ }غافر46 , وأما الشهداء فقد قال الله تعالى فيهم: {وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ }آل عمران169.
مكة تتلقى أنباء الهزيمة :
__________
(1) رواه البخاري رقم 218.
(2) انظر: صور وعبر من الجهاد النبوي في المدينة، د. محمد فوزي فضل الله، ص64.(1/81)
فر المشركون من ساحة بدر في صورة غير منظمة؛ تبعثروا في الوديان والشعاب، واتجهوا صوب مكة مذعورين، لا يدرون كيف يدخلونها خجلًا .
قال ابن إسحاق : وكان أول من قدم بمصاب قريش الحَيْسُمَان بن عبد الله الخزاعى، فقالوا : ما وراءك ؟ قال : قتل عتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة وأبو الحكم بن هشام وأمية بن خلف، في رجال من الزعماء سماهم . فلما أخذ يعد أشراف قريش قال صفوان بن أمية وهو قاعد في الحِجْر : والله إن يعقل هذا، فاسألوه عنى . قالوا : ما فعل صفوان بن أمية ؟ قال : ها هو ذا جالس في الحجر، وقد والله رأيت أباه وأخاه حين قتلا .
وقال أبو رافع ـ مولى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : كنت غلامًا للعباس وكان الإسلام قد دخلنا أهلَ البيت، فأسلم العباس، وأسلمت أم الفضل، وأسلمت، وكان العباس يكتم إسلامه، وكان أبو لهب قد تخلف عن بدر، فلما جاءه الخبر كبته الله وأخزاه، ووجدنا في أنفسنا قوة وعزًا، وكنت رجلًا ضعيفًا أعمل الأقداح، أنحتها في حجرة زمزم، فوالله إني لجالس فيها أنحت أقداحى وعندى أم الفضل جالسة، وقد سرنا ما جاءنا من الخبر، إذ أقبل أبو لهب يجر رجليه بشر حتى جلس على طُنُب الحجرة، فكان ظهره إلى ظهرى، فبينما هو جالس إذ قال الناس : هذا أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب قد قدم، فقال له أبو لهب : هلم إلىَّ، فعندك لعمرى الخبر، قال : فجلس إليه،والناس قيام عليه . فقال : يابن أخي، أخبرني كيف كان أمر الناس ؟ قال : ما هو إلا أن لقينا القوم فمنحناهم أكتافنا، يقتلوننا كيف شاءوا، ويأسروننا كيف شاءوا وايم الله مع ذلك ما لمت الناس، لَقِينَا رجال بيض على خيل بُلْق بين السماء والأرض، والله ما تُلِيق شيئًا، ولا يقوم لها شيء .(1/82)
قال أبو رافع : فرفعت طنب الحجرة بيدى، ثم قلت : تلك والله الملائكة . قال : فرفع أبو لهب يده، فضرب بها وجهي ضربة شديدة، فثاورته، فاحتملنى فضرب بى الأرض، ثم برك علىّ يضربني، وكنت رجلًا ضعيفًا فقامت أم الفضل إلى عمود من عُمُد الحجرة فأخذته، فضربته به ضربة فَلَعَتْ في رأسه شجة منكرة، وقالت : استضعفته أن غاب عنه سيده، فقام موليًا ذليلًا، فوالله ما عاش إلا سبع ليال حتى رماه الله بالعدسة [ وهي قرحة تتشاءم بها العرب ] فقتلته، فتركه بنوه، وبقى ثلاثة أيام لا تقرب جنازته، ولا يحاول دفنه، فلما خافوا السبة في تركه حفروا له، ثم دفعوه بعود في حفرته، وقذفوه بالحجارة من بعيد حتى واروه . ...
هكذا تلقت مكة أنباء الهزيمة الساحقة في ميدان بدر، وقد أثر ذلك فيهم أثرًا سيئًا جدًا، حتى منعوا النياحة على القتلى؛ لئلا يشمت بهم المسلمون . ...
المدينة تتلقى أنباء النصر : ...
ولما تم الفتح للمسلمين أرسل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بشيرين إلى أهل المدينة؛ ليعجل لهم البشرى، أرسل عبد الله بن رواحة بشيرًا إلى أهل العالية، وأرسل زيد بن حارثة بشيرًا إلى أهل السافلة . ...
وكان اليهود والمنافقون قد أرجفوا في المدينة بإشاعة الدعايات الكاذبة، حتى إنهم أشاعوا خبر مقتل النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ولما رأي أحد المنافقين زيد بن حارثة راكبًا القَصْوَاء ـ ناقة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ـ قال : لقد قتل محمد، وهذه ناقته نعرفها، وهذا زيد لا يدري ما يقول من الرعب، وجاء فَلاّ ...
فلما بلغ الرسولان أحاط بهما المسلمون، وأخذوا يسمعون منهما الخبر، حتى تأكد لديهم فتح المسلمين، فَعَمَّت البهجة والسرور، واهتزت أرجاء المدينة تهليلًا وتكبيرًا، وتقدم رءوس المسلمين ـ الذين كانوا بالمدينة ـ إلى طريق بدر، ليهنئوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بهذا الفتح المبين .
الجيش النبوي يتحرك نحو المدينة :(1/83)
أقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ببدر بعد انتهاء المعركة ثلاثة أيام ، وقبل رحيله من مكان المعركة وقع خلاف بين الجيش حول الغنائم ، ولما اشتد هذا الخلاف أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأن يرد الجميع ما بأيديهم ، ففعلوا، ثم نزل الوحى بحل هذه المشكلة .
عن عبادة بن الصامت قال : خرجنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - فشهدت معه بدرًا ، فالتقى الناس فهزم الله العدو ، فانطلقت طائفة في آثارهم يطاردون ويقتلون ، وأكبت طائفة على المغنم يحرزونه ويجمعونه ، وأحدقت طائفة برسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، لا يصيب العدو منه غِرَّة ، حتى إذا كان الليل ، وفاء الناس بعضهم إلى بعض ، قال الذين جمعوا الغنائم : نحن حويناها ، وليس لأحد فيها نصيب ، وقال الذين خرجوا في طلب العدو : لستم أحق بها منا ، نحن نحينا منها العدو وهزمناه ، وقال الذين أحدقوا برسول الله - صلى الله عليه وسلم - : خفنا أن يصيب العدو منه غرة ، فاشتغلنا به، فأنزل الله : {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنفَالِ قُلِ الأَنفَالُ لِلّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُواْ اللّهَ وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ }الأنفال1 . فقسمها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين المسلمين (1) .
وبعد أن أقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ببدر ثلاثة أيام تحرك بجيشه نحو المدينة ومعه الأسارى من المشركين ، واحتمل معه النفل الذي أصيب من المشركين ، وجعل عليه عبد الله بن كعب ، فلما خرج من مَضِيق الصفراء نزل على كَثِيب بين المضيق وبين النَّازِيَة ، وقسم هنالك الغنائم على المسلمين على السواء بعد أن أخذ منها الخمس .
__________
(1) صحيح : فقة السيرة للألباني 234 .(1/84)
وعندما وصل إلى الصفراء أمر بقتل النضر بن الحارث ـ وكان هو حامل لواء المشركين يوم بدر ، وكان من أكابر مجرمي قريش ، ومن أشد الناس كيدًا للإسلام وإيذاء لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ـ فضرب عنقه علي بن أبي طالب . ولما وصل إلى عِرْق الظُّبْيَةِ أمر بقتل عُقْبَة بن أبي مُعَيْط ـ فهو كان يؤذي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فهو الذي ألقى سَلا جَزُور على ظهر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو في الصلاة ، وهو الذي خنقه بردائه وكاد يقتله ، لولا اعتراض أبي بكر رضي الله عنه ـ فلما أمر بقتله قال : من للصِّبْيَةِ يا محمد ؟ قال : ( النار ) . فقتله عاصم ابن ثابت الأنصارى ، ويقال : علي بن أبي طالب . وكان قتل هذين الطاغيتين واجبًا نظرًا إلى سوابقهما ، فلم يكونا من الأسارى فحسب ، بل كانا من مجرمى الحرب بالاصطلاح الحديث .
وفود التهنئة :
ولما وصل - صلى الله عليه وسلم - إلى الرَّوْحَاء لقيه رءوس المسلمين ـ الذين كانوا قد خرجوا للتهنئة والاستقبال حين سمعوا بشارة الفتح من الرسولين ـ يهنئونه بالفتح . وحينئذ قال لهم سَلَمَة بن سلامة : ما الذي تهنئوننا به ؟ فوالله إن لَقِينا إلا عجائز صُلْعًا كالْبُدْن المعُقَّلَةِ، فنحرناها، فتغير وجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ثم قال : ( يا بن أخي، أولئك الملأ ) أخرجه الهيثمي في المجمع (10/26) وقال : رواه الطبراني وفيه حسين السلولي ولم أعرفه وبقية رجاله ثقات .
وقال أسيد بن حضير : يا رسول الله، الحمد لله الذي أظفرك، وأقر عينك، والله يا رسول الله ما كان تخلفي عن بدر وأنا أظن أنك تلقى عدوًا، ولكن ظننت أنها عير، ولو ظننت أنه عدو ما تخلفت، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( صدقت ) . ...(1/85)
ثم دخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة مظفرًا منصورًا قد خافه كل عدو له بالمدينة وحولها، فأسلم بشر كثير من أهل المدينة، وحينئذ دخل عبد الله بن أبي وأصحابه في الإسلام ظاهرًا . ...
وقدم الأسارى بعد بلوغه المدينة بيوم، فقسمهم على أصحابه، وأوصى بهم خيرًا . فكان الصحابة يأكلون التمر، ويقدمون لأسرائهم الخبز، عملًا بوصية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .
الإسلام والأسرى :(1/86)
ولما بلغ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة استشار أصحابه في الأسارى، فقال أبو بكر : يا رسول الله، هؤلاء بنو العم والعَشِيرة والإخوان، وإني أرى أن تأخذ منهم الفدية، فيكون ما أخذناه قوة لنا على الكفار، وعسى أن يهديهم الله، فيكونوا لنا عضدًا . فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( ما ترى يابن الخطاب ؟ ) قال : قلت : والله ما أرى ما رأى أبو بكر، ولكن أرى أن تمكننى من فلان ـ قريب لعمر ـ فأضرب عنقه، وتمكن عليًا من عَقِيل بن أبي طالب فيضرب عنقه، وتمكن حمزة من فلان أخيه فيضرب عنقه، حتى يعلم الله أنه ليست في قلوبنا هوادة للمشركين . وهؤلاء صناديدهم وأئمتهم وقادتهم . فهوى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما قال أبو بكر، ولم يهو ما قلت ( أي لم يوافق على ما قاله ابن الخطاب )، وأخذ منهم الفداء : فلما كان من الغد قال عمر : فغدوت إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر وهما يبكيان، فقلت : يا رسول الله، أخبرني ماذا يبكيك أنت وصاحبك ؟ فإن وجدت بكاء بكيت، وإن لم أجد بكاء تباكيت لبكائكما، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( أبكى للذي عرض على أصحابك من أخذهم الفداء، فقد عرض علىّ عذابهم أدنى من هذه الشجرة ) ـ شجرة قريبة . وأنزل الله تعالى : {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ * لَّوْلاَ كِتَابٌ مِّنَ اللّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ }الأنفال67 , 68 ... رواه مسلم 1763(1/87)
والكتاب الذي سبق من الله قيل : هو قوله تعالى : { فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاء } محمد : 4 ففيه الإذن بأخذ الفدية من الأسارى؛ ولذلك لم يعذبوا، وإنما نزل العتاب لأنهم أسروا الكفار قبل أن يثخنوا في الأرض، وقيل : بل الآية المذكورة نزلت فيما بعد، وإنما الكتاب الذي سبق من الله هو ما كان في علم الله من إحلال الغنائم لهذه الأمة، أو من المغفرة والرحمة لأهل بدر . ...
وحيث إن الأمر كان قد استقر على رأي الصديق فقد أخذ منهم الفداء، وكان الفداء من أربعة آلاف درهم إلى ثلاثة آلاف درهم إلى ألف درهم، وكان أهل مكة يكتبون، وأهل المدينة لا يكتبون، فمن لم يكن عنده فداء دفع إليه عشرة غلمان من غلمان المدينة يعلمهم، فإذا حذقوا فهو فداء .... وفي هذا تأكيد على دعوة الإسلام للعلم .
ومنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على عدة من الأسارى فأطلقهم بغير فداء، منهم : المطلب ابن حَنْطَب، وصَيْفي بن أبي رفاعة، وأبو عزة الجُمَحِى، وهو الذي قتله أسيرا في أحد .
ومنّ على خَتَنِه أبي العاص بشرط أن يخلى سبيل زينب، وكانت قد بعثت في فدائه بمال بعثت فيه بقلادة لها كانت عند خديجة، أدخلتها بها على أبي العاص، فلما رآها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رق لها رقة شديدة، واستأذن أصحابه في إطلاق أبي العاص ففعلوه، واشترط رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على أبي العاص أن يخلى سبيل زينب، فخلاها فهاجرت، وبعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - زيد بن حارثة ورجلًا من الأنصار، فقال : ( كونا ببطن يَأجَج حتى تمر بكما زينب فتصحباها ) ، فخرجا حتى رجعا بها .
وكان في الأسرى سهيل بن عمرو، وكان خطيبًا مِصْقَعًا، فقال عمر : يا رسول الله، انزع ثنيتي سهيل بن عمرو يَدْلَعْ لسَانُه، فلا يقوم خطيبًا عليك في موطن أبدًا، بيد أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رفض هذا الطلب؛ احترازًا عن المُثْلَةِ، وعن بطش الله يوم القيامة .(1/88)
- وخرج سعد بن النعمان معتمرًا فحبسه أبو سفيان، وكان ابنه عمرو بن أبي سفيان في الأسرى، فبعثوا به إلى أبي سفيان فخلى سبيل سعد .
فالنبي - صلى الله عليه وسلم - أوصى بالأسرى خيراً , وهي تحقيق لقوله تعالى : {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً }الإنسان8 , فهذا أبو عزيز بن عمير أخو مصعب بن عمير يحدثنا عما رأى قال: كنت في الأسرى يوم بدر، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «استوصوا بالأسارى خيرًا»، وكنت في نفر من الأنصار, فكانوا إذا قدموا غداءهم وعشاءهم أكلوا التمر، وأطعموني البُرَّ لوصية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (1) .
- ومن رحمة هذا الدين أن أمر الإسلام بفك الأسرى من أيدي أعدائهم، فإذا وقع أسير في يد العدو فيجب على المسلمين أن يبذلوا كل مجهود لتخليص أسيرهم إما بالقتال، فإن عجز المسلمون عن القتال، وجب عليهم الفداء بالمال، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فكوا العاني -يعني الأسير- وأطعموا الجائع، وعودوا المريض» أخرجه البخاري (3046)
القرآن يتحدث حول المعركة :
وحول موضوع هذه المعركة نزلت سورة الأنفال، وهذه السورة تعليق إلهي ـ إن صح هذا التعبير ـ على هذه المعركة، يختلف كثيرًا عن التعاليق التي ينطق بها الملوك والقواد بعد الفتح .
إن الله تعالى لفت أنظار المسلمين ـ أولًا ـ إلى بعض التقصيرات الأخلاقية التي كانت قد بقيت فيهم، وصدر بعضها منهم؛ ليسعوا في تحلية نفوسهم بأرفع مراتب الكمال، وفي تزكيتها عن هذه التقصيرات .
ثم ثَنَّى بما كان في هذا الفتح من تأييد الله وعونه ونصره بالغيب للمسلمين . ذكر لهم ذلك لئلا يغتروا بشجاعتهم وبسالتهم، فتتسور نفوسهم الغطرسة والكبرياء، بل ليتوكلوا على الله، ويطيعوه ويطيعوا رسوله عليه الصلاة والسلام .
__________
(1) مجمع الزوائد (6/89 ) وإسناده حسن.(1/89)
ثم بين لهم الأهداف والأغراض النبيلة التي خاض الرسول - صلى الله عليه وسلم - لأجلها هذه المعركة الدامية الرهيبة، ودلهم على الصفات والأخلاق التي تتسبب في الفتوح في المعارك .
ثم خاطب المشركين والمنافقين واليهود وأسارى المعركة، ووعظهم موعظة بليغة، تهديهم إلى الاستسلام للحق والالتزام به .
ثم خاطب المسلمين حول موضوع الغنائم، وقنن لهم مبادئ وأسس هذه المسألة .
ثم بين وشرع لهم من قوانين الحرب والسلم ما كانت الحاجة تمس إليها بعد دخول الدعوة الإسلامية في هذه المرحلة، حتى تمتاز حروب المسلمين عن حروب أهل الجاهلية، ويتفوق المسلمون في الأخلاق والقيم والمثل، ويتأكد للدنيا أن الإسلام ليس مجرد وجهة نظر، بل هو دين يثقف أهله عمليًا على الأسس والمبادئ التي يدعو إليها .
ثم قرر بنودًا من قوانين الدولة الإسلامية التي تقيم الفرق بين المسلمين الذين يسكنون داخل حدودها، والذين يسكنون خارجها .
وفي السنة الثانية من الهجرة فرض صيام رمضان، وفرضت زكاة الفطر، وبينت أنصبة الزكاة الأخرى، وكانت فريضة زكاة الفطر وتفصيل أنصبة الزكاة الأخرى تخفيفًا لكثير من الأوزار التي كان يعانيها عدد كبير من المهاجرين اللاجئين الذين كانوا فقراء لا يستطيعون ضربًا في الأرض .(1/90)
ومن أحسن المواقع وأروع الصدقات أن أول عيد تعيد به المسلمون في حياتهم هو العيد الذي وقع في شوال سنة 2 هـ، إثر الفتح المبين الذي حصل لهم في غزوة بدر . فما أروع هذا العيد السعيد الذي جاء به الله بعد أن تَوَّجَ هامتهم بتاج الفتح والعز، وما أروق منظر تلك الصلاة التي صلوها بعد أن خرجوا من بيوتهم يرفعون أصواتهم بالتكبير والتوحيد والتحميد، وقد فاضت قلوبهم رغبة إلى الله، وحنينًا إلى رحمته ورضوانه بعد ما أولاهم به من النعم،وأيدهم به من النصر، وقد ذكرهم بذلك قائلًا : { وَاذْكُرُواْ إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ مُّسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُم بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } الأنفال : 26
غزوة بني سُلَيم بالكُدْر
أول ما نقلت استخبارات المدينة إلى النبي صلى الله عليه وسلم بعد بدر أن بني سليم وبني غَطَفَان تحشد قواتها لغزو المدينة، فباغتهم النبي صلى الله عليه وسلم في مائتي راكب في عقر دراهم، وبلغ إلى منازلهم في موضع يقال له : الكُدْر (1) . ففر بنو سليم، وتركوا في الوادي خمسمائة بعير استولي عليها جيش المدينة، وقسمها رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد إخراج الخمس فأصاب كل رجل بعيرين، وأصاب غلاما يقال له : ( يسار ) فأعتقه .
وأقام النبي صلى الله عليه وسلم في ديارهم ثلاثة أيام، ثم رجع إلى المدينة .
وكانت هذه الغزوة في شوال سنة 2 هـ بعد الرجوع من بدر بسبعة أيام، أوفي المحرم للنصف منه، واستخلف في هذه الغزوة على المدينة سِبَاع بن عُرْفُطَة . وقيل : ابن أم مكتوم . (2)
__________
(1) ) الكدر , بالضم فالسكون : طير في لونها كدرة , وهو ماء من مياه بني سليم يقع في نجد على الطريق التجارية الشرقية الحيوية بين مكة والشام .
(2) ) زاد المعاد (2/90) , ابن هشام (2/43 , 44) , مختصر سيرة الرسول للشيخ عبد الله النجدي (ص236)(1/91)
مؤامرة لاغتيال النبي صلى الله عليه وسلم ومعجزة من رب العالمين تبارك وتعالى .
كان من أثر هزيمة المشركين في وقعة بدر أن استشاطوا غضباً، وجعلت مكة تغلي كالمِرْجَل ضد النبي صلى الله عليه وسلم، حتى تآمر بطلان من أبطالها أن يقضوا على مبدأ هذا الخلاف والشقاق ومثار هذا الذل والهوان في زعمهم، وهو النبي صلى الله عليه وسلم . ...
جلس عمير بن وهب الجمحي مع صفوان بن أمية في الحِجْر بعد وقعة بدر بيسير ـ وكان عمير من شياطين قريش ممن كان يؤذي النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه وهم بمكة ـ وكان ابنه وهب بن عمير في أساري بدر، فذكر أصحاب القَلِيب ومصابهم، فقال صفوان : والله إن في العيش بعدهم خير .
قال له عمير : صدقت والله، أما والله لولا دَيْن على ليس له عندي قضاء، وعيال أخشي عليهم الضَّيْعةَ بعدي لركبتُ إلى محمد حتى أقتله، فإن لي قِبَلَهُمْ عِلَّةً، ابني أسير في أيديهم .
فاغتنمها صفوان وقال : على دينك، أنا أقضيه عنك، وعيالك مع عيإلى، أواسيهم ما بقوا، لا يسعني شيء ويعجز عنهم .
فقال له عمير : فاكتم عني شأني وشأنك . قال : أفعل .(1/92)
ثم أمر عمير بسيفه فشُحِذَ له وسُمَّ، ثم انطلق حتى قدم به المدينة، فبينما هو على باب المسجد ينيخ راحلته رآه عمر بن الخطاب ـ وهو في نفر من المسلمين يتحدثون ما أكرمهم الله به يوم بدر ـ فقال عمر : هذا الكلب عدو الله عمير ما جاء إلا لشر . ثم دخل على النبي صلى الله عليه وسلم، فقال : يا نبي الله، هذا عدو الله عمير قد جاء متوشحاً سيفه، قال : ( فأدخله علي ) ، فأقبل إلى عمير فلَبَّبَهُ بحَمَالة سيفه، وقال لرجال من الأنصار : ادخلوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاجلسوا عنده واحذروا عليه من هذا الخبيث، فإنه غير مأمون، ثم دخل به، فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ وعمر آخذ بحمالة سيفه في عنقه ـ قال : ( أرسله يا عمر، ادن يا عمير ) ، فدنا وقال : أنْعِمُوا صباحاً، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( قد أكرمنا الله بتحية خير من تحيتك يا عمير، بالسلام تحية أهل الجنة ) .
ثم قال : ( ما جاء بك يا عمير ؟ ) قال : جئت لهذا الأسير الذي في أيديكم، فأحسنوا فيه .
قال : ( فما بال السيف في عنقك ؟ ) قال : قبحها الله من سيوف، وهل أغنت عنا شيئاً ؟
قال : ( اصدقني، ما الذي جئت له ؟ ) قال : ما جئت إلا لذلك .
قال : ( بل قعدتَ أنت وصفوان بن أمية في الحِجْر، فذكرتما أصحاب القليب من قريش، ثم قلت : لولا دين علي وعيال عندي لخرجت حتى أقتل محمداً، فتحمل صفوان بدينك وعيالك على أن تقتلني، والله حائل بينك وبين ذلك ) .
قال عمير : أشهد أنك رسول الله، قد كنا يا رسول الله نكذبك بما كنت تأتينا به من خبر السماء، وما ينزل عليك من الوحي، وهذا أمر لم يحضره إلا أنا وصفوان، فوالله إني لأعلم ما أتاك به إلا الله، فالحمد لله الذي هداني للإسلام، وساقني هذا المساق، ثم تشهد شهادة الحق . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( فقهوا أخاكم في دينه، وأقرئوه القرآن، وأطلقوا له أسيره ) .(1/93)
وأما صفوان فكان يقول : أبشروا بوقعة تأتيكم الآن في أيام تنسيكم وقعة بدر . وكان يسأل الركبان عن عمير، حتى أخبره راكب عن إسلامه فحلف صفوان ألا يكلمه أبدًا، ولا ينفعه بنفع أبدا .
ورجع عمير إلى مكة وأقام بها يدعو إلى الإسلام، فأسلم على يديه ناس كثير (1) .
غزوة بني قينقاع
قدمنا بنود المعاهدة التي عقدها رسول الله صلى الله عليه وسلم مع اليهود، وقد كان حريصاً كل الحرص على تنفيذ ما جاء في هذه المعاهدة، وفعلاً لم يأت من المسلمين ما يخالف حرفاً واحداً من نصوصها . ولكن اليهود الذين ملأوا تاريخهم بالغدر والخيانة ونكث العهود، لم يلبثوا أن تمشوا مع طبائعهم القديمة، وأخذوا في طريق الدس والمؤامرة والتحريش وإثارة القلق والاضطراب في صفوف المسلمين . وهاك مثلاً من ذلك :
نموذج من مكيدة اليهود
__________
(1) ابن هشام (1/661 , 662 , 663)(1/94)
قال ابن إسحاق : مر شاس بن قيس ـ وكان شيخاً [ يهودياً ] قد عسا (1) ، عظيم الكفر، شديد الضغن على المسلمين، شديد الحسد لهم ـ على نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأوس والخزرج في مجلس قد جمعهم، يتحدثون فيه، فغاظه ما رأي من ألفتهم وجماعتهم وصلاح ذات بينهم على الإسلام، بعد الذي كان بينهم من العداوة في الجاهلية، فقال : قد اجتمع ملأ بني قَيْلَةَ بهذه البلاد، لا والله ما لنا معهم إذا اجتمع ملؤهم بها من قرار، فأمر فتي شاباً من يهود كان معه، فقال : اعمد إليهم، فاجلس معهم، ثم اذكر يوم بُعَاث وما كان من قبله، وأنشدهم بعض ما كانوا تقاولوا فيه من الأشعار، ففعل، فتكلم القوم عند ذلك، وتنازعوا وتفاخروا حتى تواثب رجلان من الحيين على الركب فتقاولا، ثم قال أحدهما لصاحبه : إن شئتم رددناها الآن جَذَعَة ـ يعني الاستعداد لإحياء الحرب الأهلية التي كانت بينهم ـ وغضب الفريقان جميعاً، وقالوا : قد فعلنا، موعدكم الظاهرة ـ والظاهرة : الحَرَّة ـ السلاح السلاح، فخرجوا إليها [ وكادت تنشب الحرب ] .
فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فخرج إليهم فيمن معه من أصحابه المهاجرين حتى جاءهم فقال : ( يا معشر المسلمين، الله الله، أبدعوي الجاهلية وأنا بين أظهركم بعد أن هداكم الله للإسلام، وأكرمكم به، وقطع به عنكم أمر الجاهلية، واستنقذكم به من الكفر وألف بين قلوبكم )
فعرف القوم أنها نزغة من الشيطان، وكيد من عدوهم، فبكوا، وعانق الرجال من الأوس والخزرج بعضهم بعضاً، ثم انصرفوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سامعين مطيعين، قد أطفأ الله عنهم كيد عدو الله شاس بن قيس . (2)
__________
(1) ) عسا الشيخ : كبر .
(2) ) ابن هشام (1/555_556)(1/95)
هذا نموذج مما كان اليهود يفعلونه ويحاولونه من إثارة القلاقل والفتن في المسلمين، وإقامة العراقيل في سبيل الدعوة الإسلامية، وقد كانت لهم خطط شتي في هذا السبيل . فكانوا يبثون الدعايات الكاذبة، ويؤمنون وجه النهار، ثم يكفرون آخره؛ ليزرعوا بذور الشك في قلوب الضعفاء، وكانوا يضيقون سبل المعيشة على من آمن إن كان لهم به ارتباط مإلى، فإن كان لهم عليه يتقاضونه صباح مساء، وإن كان له عليهم يأكلونه بالباطل، ويمتنعون عن أدائه وكانوا يقولون : إنما كان علينا قرضك حينما كنت على دين آبائك، فأما إذ صبوت فليس لك علينا من سبيل . (1)
كانوا يفعلون كل ذلك قبل بدر على رغم المعاهدة التي عقدوها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه يصبرون على كل ذلك؛ حرصاً على رشدهم، وعلى بسط الأمن والسلام في المنطقة .
بنو قَينُقَاع ينقضون العهد
لكنهم لما رأوا أن الله قد نصر المؤمنين نصراً مؤزراً في ميدان بدر، وأنهم قد صارت لهم عزة وشوكة وهيبة في قلوب القاصي والداني . تميزت قدر غيظهم، وكاشفوا بالشر والعداوة، وجاهروا بالبغي والأذي .
وكان أعظمهم حقداً وأكبرهم شراً كعب بن الأشرف ـ وسيأتي ذكره ـ كما أن شر طائفة من طوائفهم الثلاث هم يهود بني قينقاع، كانوا يسكنون داخل المدينة ـ في حي باسمهم ـ وكانوا صاغة وحدادين وصناع الظروف والأواني، ولأجل هذه الحرف كانت قد توفرت لكل رجل منهم آلات الحرب، وكان عدد المقاتلين فيهم سبعمائة، وكانوا أشجع يهود المدينة، وكانوا أول من نكث العهد والميثاق من اليهود .
فلما فتح الله للمسلمين في بدر اشتد طغيانهم، وتوسعوا في تحرشاتهم واستفزازاتهم، فكانوا يثيرون الشغب، ويتعرضون بالسخرية، ويواجهون بالأذي كل من ورد سوقهم من المسلمين حتى أخذوا يتعرضون بنسائهم .
__________
(1) ) ذكر المفسرون نماذج لفعلاتهم هذه في تفسير سورة آل عمران وغيرها .(1/96)
وعندما تفاقم أمرهم واشتد بغيهم، جمعهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوعظهم ودعاهم إلى الرشد والهدي، وحذرهم مغبة البغي والعدوان، ولكنهم ازدادوا في شرهم وغطرستهم .
روي أبو داود وغيره، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : لما أصاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قريشاً يوم بدر، وقدم المدينة جمع اليهود في سوق بني قينقاع . فقال : ( يا معشر يهود، أسلموا قبل أن يصيبكم مثل ما أصاب قريشاً ) . قالوا : يا محمد، لا يغرنك من نفسك أنك قتلت نفراً من قريش كانوا أغماراً لا يعرفون القتال، إنك لو قاتلتنا لعرفت أنا نحن الناس، وأنك لم تلق مثلنا، فأنزل الله تعالى : { قُل لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُم مِّثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَن يَشَاء إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لَّأُوْلِي الأَبْصَارِ } [ آل عمران 12، 13 ] . (1)
كان في معني ما أجاب به بنو قينقاع هو الإعلان السافر عن الحرب، ولكن كظم النبي صلى الله عليه وسلم غيظه، وصبر المسلمون، وأخذوا ينتظرون ما تتمخض عنه الليإلى والأيام . ...
وازداد اليهود ـ من بني قينقاع ـ جراءة، فقلما لبثوا أن أثاروا في المدينة قلقاً واضطراباً، وسعوا إلى حتفهم بظلفهم، وسدوا على أنفسهم أبواب الحياة .
__________
(1) ) سنن أبي داوود مع عون المعبود (3/115) , ابن هشام (1/552)(1/97)
روي ابن هشام عن أبي عون : أن امرأة من العرب قدمت بجَلَبٍ لها، فباعته في سوق بني قينقاع، وجلست إلى صائغ، فجعلوا يريدونها على كشف وجهها، فأبت، فَعَمَد الصائغ إلى طرف ثوبها فعقده إلى ظهرها ـ وهي غافلة ـ فلما قامت انكشفت سوأتها فضحكوا بها فصاحت، فوثب رجل من المسلمين على الصائغ فقتله ـ وكان يهودياً ـ فشدت اليهود على المسلم فقتلوه، فاستصرخ أهل المسلم المسلمين على اليهود، فوقع الشر بينهم وبين بني قينقاع . (1)
الحصار ثم التسليم ثم الجلاء
وحينئذ عِيلَ صبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاستخلف على المدينة أبا لُبَابة بن عبد المنذر، وأعطي لواء المسلمين حمزة بن عبد المطلب، وسار بجنود الله إلى بني قينقاع، ولما رأوه تحصنوا في حصونهم، فحاصرهم أشد الحصار، وكان ذلك يوم السبت للنصف من شوال سنة 2 هـ، ودام الحصار خمس عشرة ليلة إلى هلال ذي القعدة، وقذف الله في قلوبهم الرعب ـ فهو إذا أرادوا خذلان قوم وهزيمتهم أنزله عليهم وقذفه في قلوبهم ـ فنزلوا على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم في رقابهم وأموالهم ونسائهم وذريتهم، فأمر بهم فكتفوا .
وحينئذ قام عبد الله بن أبي بن سلول بدور نفاقه، فألح على رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يصدر عنهم العفو، فقال : يا محمد، أحسن في موإلى ـ وكان بنو قينقاع حلفاء الخزرج ـ فأبطأ عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فكرر ابن أبي مقالته فأعرض عنه، فأدخل يده في جيب درعه، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( أرسلني ) ، وغضب حتى رأوا لوجهه ظُللاً ، ثم قال : ( ويحك، أرسلني ) . ولكن المنافق مضى على إصراره وقال : لا والله لا أرسلك حتى تحسن في موالى أربعمائة حاسر وثلاثمائة دارع قد منعوني من الأحمر والأسود، تحصدهم في غداة واحدة ؟ إني والله امرؤ أخشي الدوائر .
__________
(1) ) ابن هشام (2/47 , 48)(1/98)
وعامل رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا المنافق ـ الذي لم يكن مضي على إظهار إسلامه إلا نحو شهر واحد فحسب ـ عامله بالحسنى . فوهبهم له، وأمرهم أن يخرجوا من المدينة ولا يجاوروه بها، فخرجوا إلى أذْرُعَات الشام، فقل أن لبثوا فيها حتى هلك أكثرهم . ...
وقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم أموالهم، فأخذ منها ثلاث قِسِي ودرعين وثلاثة أسياف وثلاثة رماح، وخمس غنائمهم، وكان الذي تولي جمع الغنائم محمد بن مسلمة . (1) ...
غزوة السَّوِيق
بينما كان صفوان بن أمية واليهود والمنافقون يقومون بمؤامراتهم وعملياتهم، كان أبو سفيان يفكر في عمل قليل المغارم ظاهر الأثر، يتعجل به؛ ليحفظ مكانة قومه، ويبرز ما لديهم من قوة، وكان قد نذر ألا يمس رأسه ماء من جنابة حتى يغزو محمداً، فخرج في مائتي راكب ليبِرَّ يمينه، حتى نزل بصدْر قَناة إلى جبل يقال له : ثَيبٌ، من المدينة على بَرِيد أو نحوه، ولكنه لم يجرؤ على مهاجمة المدينة جهاراً، فقام بعمل هو أشبه بأعمال القرصنة، فإنه دخل في ضواحي المدينة في الليل مستخفياً تحت جنح الظلام، فأتي حيي بن أخطب، فاستفتح بابه، فأبي وخاف، فانصرف إلى سَلاَّم بن مِشْكَم سيد بنِي النضير، وصاحب كنزهم إذ ذاك، فاستأذن عليه فأذن، فَقَرَاه وسقاه الخمر، وبَطَن له من خبر الناس، ثم خرج أبو سفيان في عقب ليلته حتى أتي أصحابه، فبعث مفرزة منهم، فأغارت على ناحية من المدينة يقال لها : [ العُرَيض ] ، فقطعوا وأحرقوا هناك أصْْوَارًا من النخل، ووجدوا رجلاً من الأنصار وحليفاً له في حرث لهما فقتلوهما، وفروا راجعين إلى مكة .
__________
(1) ) زاد المعاد (2/91,71) , ابن هشام (2/49,48,47)(1/99)
وبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم الخبر، فسارع لمطاردة أبي سفيان وأصحابه، ولكنهم فروا ببالغ السرعة، وطرحوا سويقاً كثيراً من أزوادهم وتمويناتهم، يتخففون به، فتمكنوا من الإفلات، وبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى قَرْقَرَةِِ الكُدْر، ثم انصرف راجعاً . وحمل المسلمون ما طرحه الكفار من سويقهم، وسموا هذه المناوشة بغزوة السويق . وقد وقعت في ذي الحجة سنة 2 هـ بعد بدر بشهرين، واستعمل على المدينة في هذه الغزوة أبا لبابة بن عبد المنذر . (1)
غزوة ذي أمر
وهي أكبر حملة عسكرية قادها رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل معركة أحد، قادها في المحرم سنة 3 هـ .
وسببها أن استخبارات المدينة نقلت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن جمعاً كبيراً من بني ثعلبة ومحارب تجمعوا، يريدون الإغارة على أطراف المدينة، فندب رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين، وخرج في أربعمائة وخمسين مقاتلاً ما بين راكب وراجل، واستخلف على المدينة عثمان بن عفان .
وفي أثناء الطريق قبضوا على رجل يقال له : جُبَار من بني ثعلبة، فأدخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدعاه إلى الإسلام فأسلم، فضمه إلى بلال، وصار دليلاً لجيش المسلمين إلى أرض العدو .
وتفرق الأعداء في رءوس الجبال حين سمعوا بقدوم جيش المدينة . أما النبي صلى الله عليه وسلم فقد وصل بجيشه إلى مكان تجمعهم، وهو الماء المسمي [ بذي أمر ] فأقام هناك صفراً كله ـ من سنة 3 هـ ـ أو قريباً من ذلك، ليشعر الأعراب بقوة المسلمين، ويستولي عليهم الرعب والرهبة، ثم رجح إلى المدينة . (2)
غزوة بُحْران
__________
(1) ) زاد المعاد (2/91,90) , ابن هشام (2/45,44) .
(2) ) ابن هشام (2/46) , زاد المعاد (2/91) , ويذكرون أن محاولة اغتيال النبي صلى الله عليه وسلم من قبل دعثور أو غورث المحاربي كانت في هذه الغزوة . والصحيح أنها في غير هذه الغزوة انظر صحيح البخاري (2/593) .(1/100)
وهي دورية قتال كبيرة، قوامها ثلاثمائة مقاتل، قادها الرسول صلى الله عليه وسلم في شهر ربيع الآخر سنة 3 هـ إلى أرض يقال لها : بحران ـ وهي مَعْدِن بالحجاز من ناحية الفُرْع ـ فأقام بها شهر ربيع الآخر ثم جمادى الأولى ـ من السنة الثالثة من الهجرة ـ ثم رجع إلى المدينة، ولم يلق حرباً . (1)
غزوة أُحد .
هي الغزوة التي أنزل الله على إثرها آيات تتلى إلى يوم الدين، فنزلت ثمان وخمسون آية من سورة آل عمران، تتحدث عن هذه الغزوة، ابتدأت بذكر أول مرحلة من مراحل الإعداد للمعركة في قوله تعالى: {وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ }آل عمران121، وانتهت بالتعليق الجامع على نتائج المعركة، والحكم التي أرادها الله منها فقال سبحانه : {مَّا كَانَ اللّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّىَ يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللّهَ يَجْتَبِي مِن رُّسُلِهِ مَن يَشَاءُ فَآمِنُواْ بِاللّهِ وَرُسُلِهِ وَإِن تُؤْمِنُواْ وَتَتَّقُواْ فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ }آل عمران179
تاريخ الغزوة :
وقعت غزوة أُحد في شوال سنة 3هـ .
سبب الغزوة :
__________
(1) ) ابن هشام (2/51.50) وزاد المعاد (2/91) , واختلفت المصادر في تعيين سبب هذه الغزوة فقيل ك إن إستخبارات المدينة نقلت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن بني سليم يحشدون قوات كبيرة لغزو المدينة وأطرافها , وقيل : بل خرج يريد قتال , وهذا الثاني هو الذي ذكره ابن هشام واختاره ابن القيم – حتى لم يذكر الأول رأساً – وهو الموجه , وذلك لأن ديار بني سليم لم تكن بناحية الفرع , وإنما هي في نجد بعيدة عن ناحية الفرع .(1/101)
كانت مكة تحترق غيظاً على المسلمين مما أصابها في معركة بدر من مأساة الهزيمة وقتل الصناديد والأشراف، وكانت تجيش فيها نزعات الانتقام وأخذ الثأر، حتى إن قريشاً كانوا قد منعوا البكاء على قتلاهم في بدر، ومنعوا من الاستعجال في فداء الأساري حتى لا يتفطن المسلمون مدي مأساتهم وحزنهم .
وعلى أثر غزوة بدر اتفقت قريش على أن تقوم بحرب شاملة ضد المسلمين تشفي غيظها وتروي غلة حقدها، وأخذت في الاستعداد للخوض في مثل هذه المعركة .
وكان عكرمة بن أبي جهل، وصفوان بن أمية، وأبو سفيان بن حرب، وعبد الله بن أبي ربيعة أكثر زعماء قريش نشاطاً وتحمساً لخوض المعركة .
وأول ما فعلوه بهذا الصدد أنهم احتجزوا العير التي كان قد نجا بها أبو سفيان، والتي كانت سبباً لمعركة بدر، وقالوا للذين كانت فيها أموالهم : يا معشر قريش، إن محمداً قد وَتَرَكُم وقتل خياركم، فأعينونا بهذا المال على حربه ؛ لعلنا أن ندرك منه ثأراً، فأجابوا لذلك، فباعوها، وكانت ألف بعير، والمال خمسين ألف دينار، وفي ذلك أنزل الله تعالي : { إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّواْ عَن سَبِيلِ اللهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ } الأنفال36
ثم فتحوا باب التطوع لكل من أحب المساهمة في غزو المسلمين من الأحابيش وكنانة وأهل تهامة، وأخذوا لذلك أنواعا من طرق التحريض، حتى إن صفوان بن أمية أغري أبا عزة الشاعر ـ الذي كان قد أسر في بدر، فَمَنَّ عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأطلق سراحه بغير فدية، وأخذ منه العهد بألا يقوم ضده ـ أغراه على أن يقوم بتحريض القبائل ضد المسلمين، وعاهده أنه إن رجع عن الغزوة حياً يغنيه، وإلا يكفل بناته، فقام أبو عزة بتحريض القبائل بأشعاره التي كانت تذكي حفائظهم، كما اختاروا شاعراً آخر ـ مُسَافع بن عبد مناف الجمحي ـ لنفس المهمة .(1/102)
وكان أبو سفيان أشد تأليباً على المسلمين بعدما رجع من غزوة السَّوِيق خائباً لم ينل ما في نفسه، بل أضاع مقدارًا كبيراً من تمويناته في هذه الغزوة .
قوام جيش قريش وقيادته :
ولما استدارت السنة كانت مكة قد استكملت عدتها، واجتمع إليها من المشركين ثلاثة آلاف مقاتل من قريش والحلفاء والأحابيش، ورأي قادة قريش أن يستصحبوا معهم النساء حتى يكون ذلك أبلغ في استماتة الرجال دون أن تصاب حرماتهم وأعراضهم، وكان عدد هذه النسوة خمس عشرة امرأة . وكان سلاح النقليات في هذا الجيش ثلاثة آلاف بعير، ومن سلاح الفرسان مائتا فرس ، جنبوها طول الطريق، وكان من سلاح الوقاية سبعمائة درع . وكانت القيادة العامة إلى أبي سفيان بن حرب، وقيادة الفرسان إلى خالد بن الوليد يعاونه عكرمة بن أبي جهل . أما اللواء فكان إلى بني عبد الدار .
جيش مكة يتحرك :
تحرك الجيش المكي بعد هذا الإعداد التام نحو المدينة، وكانت التارات القديمة والغيظ الكامن يشعل البغضاء في القلوب، ويشف عما سوف يقع من قتال مرير .
الاستخبارات النبوية تكشف حركة العدو :
وكان العباس بن عبد المطلب يرقب حركات قريش واستعداداتها العسكرية، فلما تحرك هذا الجيش بعث العباس رسالة مستعجلة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ضمنها جميع تفاصيل الجيش .
وأسرع رسول العباس بإبلاغ الرسالة، وجد في السير حتى إنه قطع الطريق بين مكة والمدينة ـ التي تبلغ مسافتها إلى نحو خمسمائة كيلو متر ـ في ثلاثة أيام، وسلم الرسالة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو في مسجد قباء . ... قرأ الرسالة على النبي - صلى الله عليه وسلم - أبي بن كعب، فأمره بالكتمان، وعاد مسرعاً إلى المدينة، وتبادل الرأي مع قادة المهاجرين والأنصار .
استعداد المسلمين للطوارئ :(1/103)
وظلت المدينة في حالة استنفار عام لا يفارق رجالها السلاح حتى وهم في الصلاة، استعداداً للطوارئ . وقامت مفرزة من الأنصار ـ فيهم سعد بن معاذ، وأسيد بن حضير، وسعد بن عبادة ـ بحراسة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فكانوا يبيتون على بابه وعليهم السلاح . وقامت على مداخل المدينة وأنقابها مفرزات تحرسها ؛ خوفا من أن يؤخذوا على غرة . وقامت دوريات من المسلمين ـ لاكتشاف تحركات العدو ـ تتجول حول الطرق التي يحتمل أن يسلكها المشركون للإغارة على المسلمين .
الجيش المكي إلى أسوار المدينة :
وتابع جيش مكة سيره على الطريق الغربية الرئيسية المعتادة، ولما وصل إلى الأبْوَاء اقترحت هند بنت عتبة ـ زوج أبي سفيان ـ بنبش قبر أم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، بَيدَ أن قادة الجيش رفضوا هذا الطلب،وحذروا من العواقب الوخيمة التي تلحقهم لو فتحو هذا الباب .
ثم واصل جيش مكة سيره حتى اقترب من المدينة، فسلك وادي العَقيق، ثم انحرف منه إلى ذات اليمين حتى نزل قريباً بجبل أحد، في مكان يقال له : عَينَيْن، في بطن السَّبْخَة من قناة على شفير الوادي ـ الذي يقع شمإلى المدينة بجنب أحد، فعسكر هناك يوم الجمعة السادس من شهر شوال سنة ثلاث من الهجرة .
المجلس الاستشاري لأخذ خطة الدفاع :
ونقلت استخبارات المدينة أخبار جيش مكة خبراً بعد خبر حتى الخبر الأخير عن معسكره، وحينئذ عقد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مجلساً استشارياً عسكرياً أعلى ، تبادل فيه الرأي لاختيار الموقف، وأخبرهم عن رؤيا رآها، قال : ( إني قد رأيت والله خيراً، رأيت بقراً يذبح، ورأيت في ذُبَاب سيفي ثُلْماً، ورأيت أني أدخلت يدي في درع حصينة ) ، وتأوّل البقر بنفر من أصحابه يقتلون، وتأول الثلمة في سيفه برجل يصاب من أهل بيته، وتأول الدرع بالمدينة .(1/104)
ثم قدم رأيه إلى صحابته ألا يخرجوا من المدينة وأن يتحصنوا بها،فإن أقام المشركون بمعسكرهم أقاموا بِشَرِّ مُقَام وبغير جدوي، وإن دخلوا المدينة قاتلهم المسلمون على أفواه الأزقة، والنساء من فوق البيوت، وكان هذا هو الرأي . ووافقه على هذا الرأي عبد الله بن أبي بن سلول ـ رأس المنافقين ـ وكان قد حضر المجلس بصفته أحد زعماء الخزرج . ويبدو أن موافقته لهذا الرأي لم تكن لأجل أن هذا هو الموقف الصحيح من حيث الوجهة العسكرية، بل ليتمكن من التباعد عن القتال دون أن يعلم بذلك أحد، وشاء الله أن يفتضح هو وأصحابه ـ لأول مرة ـ أمام المسلمين وينكشف عنهم الغطاء الذي كان كفرهم ونفاقهم يكمن وراءه، ويتعرف المسلمون في أحرج ساعاتهم على تلك الأفاعي التي كانت تتحرك تحت ملابسهم وأكمامهم .
فقد بادر جماعة من فضلاء الصحابة ممن فاته الخروج يوم بدر ومن غيرهم، فأشاروا على النبي - صلى الله عليه وسلم - بالخروج، وألحوا عليه في ذلك حتى قال قائلهم : يا رسول الله،كنا نتمني هذا اليوم وندعو الله، فقد ساقه إلينا وقرب المسير، اخرج إلى أعدائنا، لا يرون أنا جَبُنَّا عنهم .
وكان في مقدمة هؤلاء المتحمسين حمزة بن عبد المطلب عم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ـ الذي كان قد أبلي أحسن بلاء في معركة بدر ـ فقد قال للنبي - صلى الله عليه وسلم - : والذي أنزل عليك الكتاب لا أطعم طعاماً حتى أجالدهم بسيفي خارج المدينة . (1)
وتنازل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن رأيه مراعاة لهؤلاء المتحمسين، واستقر الرأي على الخروج من المدينة، واللقاء في الميدان السافر .
تقسيم الجيش الإسلامي وخروجه إلى ساحة القتال :
__________
(1) ) السيرة الحبية (2/14)(1/105)
صلى النبي - صلى الله عليه وسلم - بالناس يوم الجمعة، فوعظهم وأمرهم بالجد والاجتهاد، وأخبر أن لهم النصر بما صبروا، وأمرهم بالتهيؤ لعدوهم، ففرح الناس بذلك . ثم صلى بالناس العصر، وقد حشدوا وحضر أهل العَوَإلى ، ثم دخل بيته، ومعه صاحباه أبو بكر وعمر، فعمماه وألبساه، فتدجج بسلاحه وظاهر بين درعين [ أي لبس درعا فوق درع ] وتقلد السيف، ثم خرج على الناس .
وكان الناس ينتظرون خروجه، وقد قال لهم سعد بن معاذ وأسيد بن حضير : استكرهتم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على الخروج فردوا الأمر إليه،فندموا جميعاً على ما صنعوا، فلما خرج قالوا له : يا رسول الله، ما كان لنا أن نخالفك فاصنع ما شئت، إن أحببت أن تمكث بالمدينة فافعل . فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( ما ينبغي لنبي إذا لبس لأْمَتَه ـ وهي الدرع ـ أن يضعها حتى يحكم الله بينه وبين عدوه ) (1)
وقسم النبي - صلى الله عليه وسلم - جيشه إلى ثلاث كتائب :
1 . كتيبة المهاجرين، وأعطي لواءها مصعب بن عمير العبدري .
2 . كتيبة الأوس من الأنصار، وأعطي لواءها أسيد بن حضير .
3 . كتيبة الخزرج من الأنصار، وأعطي لواءها الحُبَاب بن المنذر .
وكان الجيش متألفاً من ألف مقاتل فيهم مائة دارع، ولم يكن فيهم من الفرسان أحد ،واستعمل على المدينة ابن أم مكتوم على الصلاة بمن بقي في المدينة،وآذن بالرحيل، فتحرك الجيش نحو الشمال، وخرج السعدان أمام النبي - صلى الله عليه وسلم - يعدوان دارعين .
ولما جاوز ثنية الوداع رأي كتيبة حسنة التسليح منفردة عن سواد الجيش، فسأل عنها، فأخبر أنهم اليهود من حلفاء الخزرج يرغبون المساهمة في القتال ضد المشركين، فسأل : ( هل أسلموا ؟ ) فقالوا : لا، فأبى أن يستعين بأهل الكفر على أهل الشرك .
استعراض الجيش :
__________
(1) ) رواه أحمد والنسائي والحاكم وابن إسحاق .(1/106)
وعندما وصل إلى مقام يقال له : [ الشيخان ] استعرض جيشه، فرد من استصغره ولم يره مطيقاً للقتال، وكان منهم عبد الله بن عمر بن الخطاب وأسامة بن زيد، وأسيد بن ظُهَير، وزيد بن ثابت، وزيد بن أرقم، وعَرَابَة بن أوْس، وعمرو بن حزم، وأبو سعيد الخدري، وزيد بن حارثة الأنصاري، وسعد بن حَبَّة، ويذكر في هؤلاء البراء بن عازب، لكن حديثه في البخاري يدل على شهوده القتال ذلك اليوم .
وأجاز رافع بن خَدِيج، وسَمُرَة بن جُنْدَب على صغر سنهما، وذلك أن رافع بن خديج كان ماهراً في رماية النبل فأجازه، فقال سمرة : أنا أقوي من رافع،أنا أصرعه، فلما أخبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بذلك أمرهما أن يتصارعا أمامه فتصارعا، فصرع سمرة رافعاً، فأجازه أيضاً .
المبيت بين أحد والمدينة :
وفي هذا المكان أدركهم المساء، فصلى المغرب، ثم صلى العشاء، وبات هنالك، واختار خمسين رجلاً لحراسة المعسكر يتجولون حوله، وكان قائدهم محمد بن مسلمة الأنصاري، بطل سرية كعب بن الأشرف، وتولي ذَكْوَان بن عبد قيس حراسة النبي - صلى الله عليه وسلم - خاصة .
تمرد عبد الله بن أُبي وأصحابه :
وقبل طلوع الفجر بقليل أدلج، حتى إذا كان بالشَّوْط صلى الفجر، وكان بمقربة جداً من العدو، فقد كان يراهم ويرونه، وهناك تمرد عبد الله بن أبي المنافق، فانسحب بنحو ثلث العسكر ـ ثلاثمائة مقاتل ـ قائلاً : ما ندري علام نقتل أنفسنا ؟ ومتظاهراً بالاحتجاج بأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - ترك رأيه وأطاع غيره .(1/107)
ولا شك أن سبب هذا الانعزال لم يكن هو ما أبداه هذا المنافق من رفض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رأيه، وإلا لم يكن لسيره مع الجيش النبوي إلى هذا المكان معني . ولو كان هذا هو السبب لا نعزل عن الجيش منذ بداية سيره، بل كان هدفه الرئيسي من هذا التمرد في ذلك الظرف الدقيق أن يحدث البلبلة والاضطراب في جيش المسلمين على مرأي ومسمع من عدوهم،حتى ينحاز عامة الجيش عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وتنهار معنويات من يبقي معه، بينما يتشجع العدو، وتعلو همته لرؤية هذا المنظر، فيكون ذلك أسرع إلى القضاء على النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه المخلصين، ويصحو بعد ذلك الجو لعودة الرياسة إلى هذا المنافق وأصحابه .
وكاد المنافق ينجح في تحقيق بعض ما كان يهدف إليه، فقد همت طائفتان ـ بنو حارثة من الأوس، وبنو سلمة من الخزرج ـ أن تفشلا، ولكن الله تولاهما، فثبتتا بعدما سري فيهما الاضطراب، وهمتا بالرجوع والانسحاب، وعنهما يقول الله تعالي : {إِذْ هَمَّت طَّآئِفَتَانِ مِنكُمْ أَن تَفْشَلاَ وَاللّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ }آل عمران122
وحاول عبد الله بن حَرَام ـ والد جابر بن عبد الله ـ تذكير هؤلاء المنافقين بواجبهم في هذا الظرف الدقيق، فتبعهم وهو يوبخهم ويحضهم على الرجوع، ويقول : تعالوا قاتلوا في سبيل الله أو ادفعوا، قالوا : لو نعلم أنكم تقاتلون لم نرجع، فرجع عنهم عبد الله بن حرام قائلاً : أبعدكم الله أعداء الله، فسيغني الله عنكم نبيه .(1/108)
وفي هؤلاء المنافقين يقول الله تعالى : {وَلْيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُواْ وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ قَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَوِ ادْفَعُواْ قَالُواْ لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً لاَّتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ }آل عمران167
سير بقية الجيش الإسلامي إلى أحد :
وبعد هذا التمرد والانسحاب قام النبي - صلى الله عليه وسلم - ببقية الجيش ـ وهم سبعمائة مقاتل ـ ليواصل سيره نحو العدو، وكان معسكر المشركين يحول بينه وبين أحد في مناطق كثيرة، فقال : ( من رجل يخرج بنا على القوم من كَثَبٍ ـ أي من قريب ـ من طريق لا يمر بنا عليهم ؟ ) .
فقال أبو خَيثَمةَ : أنا يارسول الله، ثم اختار طريقاً قصيراً إلى أحد يمر بحَرَّةِ بني حارثة وبمزارعهم، تاركاً جيش المشركين إلى الغرب .
ومر الجيش في هذا الطريق بحائط مِرْبَع بن قَيظِي ـ وكان منافقاً ضرير البصر ـ فلما أحس بالجيش قام يحثو التراب في وجوه المسلمين، ويقول : لا أحل لك أن تدخل حائطي إن كنت رسول الله . فابتدره القوم ليقتلوه، فقال - صلى الله عليه وسلم - : ( لا تقتلوه، فهذا الأعْمَى أعمى القلب أعمى البصر ) .
ونفذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى نزل الشعب من جبل أحد في عدوة الوادي، فعسكر بجيشه مستقبلاً المدينة، وجاعلا ظهره إلى هضاب جبل أحد، وعلى هذا صار جيش العدو فاصلاً بين المسلمين وبين المدينة .
خطة الدفاع :(1/109)
وهناك عبأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جيشه، وهيأهم صفوفاً للقتال، فاختار منهم فصيلة من الرماة الماهرين، قوامها خمسون مقاتلاً، وأعطي قيادتها لعبد الله بن جبير بن النعمان الأنصاري الأوسي البدري، وأمرهم بالتمركز على جبل يقع على الضفة الشمالية من وادي قناة ـ وعرف فيما بعد بجبل الرماة ـ جنوب شرق معسكر المسلمين، على بعد حوالى مائة وخمسين متراً من مقر الجيش الإسلامي .
والهدف من ذلك هو ما أبداه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في كلماته التي ألقاها إلى هؤلاء الرماة، فقد قال لقائدهم : ( انضح الخيل عنا بالنبل، لا يأتونا من خلفنا، إن كانت لنا أو علينا فاثبت مكانك، لا نؤتين من قبلك ) وقال للرماة : ( احموا ظهورنا، فإن رأيتمونا نقتل فلا تنصرونا، وإن رأيتمونا قد غنمنا فلا تشركونا ) ، وفي صحيح البخاري 3039 , أنه قال : ( إن رأيتمونا تخطفنا الطير فلا تبرحوا مكانكم هذا حتى أرسل إليكم، وإن رأيتمونا هزمنا القوم ووطأناهم فلا تبرحوا حتى أرسل إليكم ) .
بتعين هذه الفصيلة في الجبل مع هذه الأوامر العسكرية الشديدة سد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الثلمة الوحيدة التي كان يمكن لفرسان المشركين أن يتسللوا من ورائها إلى صفوف المسلمين، ويقوموا بحركات الالتفاف وعملية التطويق .
أما بقية الجيش فجعل على الميمنة المنذر بن عمرو، وجعل على الميسرة الزبير بن العوام، يسانده المقداد بن الأسود، وكان إلى الزبير مهمة الصمود في وجه فرسان خالد بن الوليد،وجعل في مقدمة الصفوف نخبة ممتازة من شجعان المسلمين ورجالاتهم المشهورين بالنجدة والبسالة، والذين يوزنون بالآلاف .(1/110)
ولقد كانت خطة حكيمة ودقيقة جداً، تتجلي فيها عبقرية قيادة النبي - صلى الله عليه وسلم - لعسكرية، وأنه لا يمكن لأي قائد مهما تقدمت كفاءته أن يضع خطة أدق وأحكم من هذا؛ فقد احتل أفضل موضع من ميدان المعركة، مع أنه نزل فيه بعد العدو، فإنه حمي ظهره ويمينه بارتفاعات الجبل، وحمي ميسرته وظهره ـ حين يحتدم القتال ـ بسد الثلمة الوحيدة التي كانت توجد في جانب الجيش الإسلامي، واختار لمعسكره موضعاً مرتفعاً يحتمي به ـ إذا نزلت الهزيمة بالمسلمين ـ ولا يلتجئ إلى الفرار، حتى يتعرض للوقوع في قبضة الأعداء المطاردين وأسرهم، ويلحق مع ذلك خسائر فادحة بأعدائه إن أرادوا احتلال معسكره وتقدموا إليه،وألجأ أعداءه إلى قبول موضع منخفض يصعب عليهم جداً أن يحصلوا على شيء من فوائد الفتح إن كانت الغلبة لهم، ويصعب عليهم الإفلات من المسلمين المطاردين إن كانت الغلبة للمسلمين، كما أنه عوض النقص العددي في رجاله باختيار نخبة ممتازة من أصحابه الشجعان البارزين .
وهكذا تمت تعبئة الجيش النبوي صباح يوم السبت السابع من شهر شوال سنة 3هـ .
الرسول - صلى الله عليه وسلم - ينفث روح البسالة في الجيش :
ونهى الرسول - صلى الله عليه وسلم - الناس عن الأخذ في القتال حتى يأمرهم، وظاهر بين درعين، وحرض أصحابه على القتال، وحضهم على المصابرة والجلاد عند اللقاء، وأخذ ينفث روح الحماسة والبسالة في أصحابه حتى جرد سيفاً باتراً ونادي أصحابه : ( من يأخذ هذا السيف بحقه ؟ ) ، فقام إليه رجال ليأخذوه ـ منهم على بن أبي طالب، والزبير بن العوام، وعمر بن الخطاب ـ حتى قام إليه أبو دُجَانة سِمَاك بن خَرَشَة وهو معروةف بالشجاعة ، فقال : وما حقه يا رسول الله ؟ قال : ( أن تضرب به وجوه العدو حتى ينحني ) . قال : أنا آخذه بحقه يا رسول الله، فأعطاه إياه .
تعبئة الجيش المكي :(1/111)
أما المشركون فعبأوا جيشهم حسب نظام الصفوف، فكانت القيادة العامة إلى أبي سفيان صخر بن حرب الذي تمركز في قلب الجيش، وجعلوا على الميمنة خالد بن الوليد ـ وكان إذ ذاك مشركاً ـ وعلى الميسرة عكرمة بن أبي جهل، وعلى المشاة صفوان ابن أمية، وعلى رماة النبل عبد الله بن أبي ربيعة .
أما اللواء فكان إلى مفرزة من بني عبد الدار، وقد كان ذلك منصبهم منذ أن اقتسمت بنو عبد مناف المناصب التي ورثوها من قصي بن كلاب ـ كما أسلفنا في أوائل الكتاب ـ وكان لا يمكن لأحد أن ينازعهم في ذلك؛ تقيداً بالتقاليد التي ورثوها كابراً عن كابر، بيد أن القائد العام ـ أبا سفيان ـ ذكرهم بما أصاب قريشاً يوم بدر حين أسر حامل لوائهم النضر بن الحارث، وقال لهم ـ ليستفز غضبهم ويثير حميتهم : يا بني عبد الدار، قد وليتم لواءنا يوم بدر فأصابنا ما قد رأيتم، وإنما يؤتي الناس من قبل راياتهم، وإذا زالت زالوا، فإما أن تكفونا لواءنا، وإما أن تخلوا بيننا وبينه فنكفيكموه .
ونجح أبو سفيان في هدفه، فقد غضب بنو عبد الدار لقول أبي سفيان أشد الغضب، وهموا به وتواعدوه وقالوا له : نحن نسلم إليك لواءنا ؟ ستعلم غداً إذا التقينا كيف نصنع . وقد ثبتوا عند احتدام المعركة حتى أبيدوا عن بكرة أبيهم .
مناورات سياسية من قبل قريش :
وقبيل نشوب المعركة حاولت قريش إيقاع الفرقة والنزاع داخل صفوف المسلمين . فقد أرسل أبو سفيان إلى الأنصار يقول لهم : خلوا بيننا وبين ابن عمنا فننصرف عنكم، ، فلا حاجة لنا إلى قتالكم . ولكن أين هذه المحاولة أمام الإيمان الذي لا تقوم له الجبال، فقد رد عليه الأنصار رداً عنيفاً، وأسمعوه ما يكره .(1/112)
واقتربت ساعة الصفر، وتدانت الفئتان، فقامت قريش بمحاولة أخري لنفس الغرض، فقد خرج إلى الأنصار عميل خائن يسمي أبا عامر الفاسق ـ واسمه عبد عمرو ابن صَيفِي، وكان يسمي الراهب، فسماه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الفاسق، وكان رأس الأوس في الجاهلية، فلما جاء الإسلام شَرِق به، وجاهر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالعداوة، فخرج من المدينة وذهب إلى قريش يؤلبهم على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ويحضهم على قتاله، ووعدهم بأن قومه إذا رأوه أطاعوه، ومالوا معه ـ فكان أول من خرج إلى المسلمين في الأحابيش وعُبْدَان أهل مكة . فنادي قومه وتعرف عليهم، وقال : يا معشر الأوس، أنا أبو عامر . فقالوا : لا أنعم الله بك عيناً يا فاسق . فقال : لقد أصاب قومي بعدي شر . ـ ولما بدأ القتال قاتلهم قتالاً شديداً وراضخهم بالحجارة .
وهكذا فشلت قريش في محاولتها الثانية للتفريق بين صفوف أهل الإيمان . ويدل عملهم هذا على ما كان يسيطر عليهم من خوف المسلمين وهيبتهم، مع كثرتهم وتفوقهم في العدد والعدة .
جهود نسوة قريش في التحميس :
قامت نسوة قريش بنصيبهن من المشاركة في المعركة، تقودهن هند بنت عتبة زوجة أبي سفيان، فكن يتجولن في الصفوف، ويضربن بالدفوف؛ يستنهضن الرجال، ويحرضن على القتال، ويثرن حفائظ الأبطال، ويحركن مشاعر أهل الطعان والضراب والنضال.
ثقل المعركة :(1/113)
تقارب الجمعان وتدانت الفئتان، وآنت مرحلة القتال، وكان أول وقود المعركة حامل لواء المشركين طلحة بن أبي طلحة العبدري، وكان من أشجع فرسان قريش، يسميه المسلمون كبش الكتيبة . خرج وهو راكب على جمل يدعو إلى المبارزة، فأحجم عنه الناس لفرط شجاعته، ولكن تقدم إليه الزبير ولم يمهله، بل وثب إليه وثبة الليث حتى صار معه على جمله، ثم اقتحم به الأرض فألقاه عنه وذبحه بسيفه . ورأي النبي - صلى الله عليه وسلم - هذا الصراع الرائع فكبر، وكبر المسلمون وأثنى على الزبير، وقال في حقه : ( إن لكل نبي حوارياً، وحواري الزبير ) صحيح البخاري
ثم اندلعت نيران المعركة، واشتد القتال بين الفريقين في كل نقطة من نقاط الميدان، وكان ثقل المعركة يدور حول لواء المشركين، فقد تعاقب بنو عبد الدار لحمل اللواء بعد قتل قائدهم طلحة بن أبي طلحة، فحمله أخوه أبو شيبة عثمان بن أبي طلحة، فحمل عليه حمزة بن عبد المطلب فضربه على عاتقه ضربة بترت يده مع كتفه، حتى وصلت إلى سرته، فبانت رئته . ثم رفع اللواء أبو سعد بن أبي طلحة، فرماه سعد بن أبي وقاص بسهم أصاب حنجرته، فأُدْلِعَ لسانُهُ ومات لحينه . وقيل : بل خرج أبو سعد يدعو إلى البراز، فتقدم إليه على بن أبي طالب، فاختلفا ضربتين، فضربه على فقتله . ثم رفع اللواء مُسَافع بن طلحة بن أبي طلحة، فرماه عاصم بن ثابت بن أبي الأفْلَح بسهم فقتله، فحمل اللواء بعده أخوه كِلاَب بن طلحة بن أبي طلحة، فانقض عليه الزبير بن العوام وقاتله حتى قتله، ثم حمل اللواء أخوهما الجُلاَس بن طلحة بن أبي طلحة، فطعنه طلحة بن عبيد الله طعنة قضت على حياته . وقيل : بل رماه عاصم بن ثابت بن أبي الأفلح بسهم فقضي عليه .(1/114)
هؤلاء ستة نفر من بيت واحد، بيت أبي طلحة عبد الله بن عثمان بن عبد الدار، قتلوا جميعاً حول لواء المشركين، ثم حمله من بني عبد الدار أرطاة بن شُرَحْبِيل، فقتله على بن أبي طالب، وقيل : حمزة بن عبد المطلب، ثم حمله شُرَيح بن قارظ فقتله قُزْمَان ـ وكان منافقاً قاتل مع المسلمين حمية، لا عن الإسلام ـ ثم حمله أبو زيد عمرو بن عبد مناف العبدري، فقتله قزمان أيضاً، ثم حمله ولد لشرحبيل بن هاشم العبدري فقتله قزمان أيضاً .
فهؤلاء عشرة من بني عبد الدار ـ من حمله اللواء ـ أبيدوا عن آخرهم، ولم يبق منهم أحد يحمل اللواء . فتقدم غلام لهم حبشي ـ اسمه صُؤَاب ـ فحمل اللواء، وأبدي من صنوف الشجاعة والثبات ما فاق به مواليه من حملة اللواء الذين قتلوا قبله، فقد قاتل حتى قطعت يداه، فبرك على اللواء بصدره وعنقه؛ لئلا يسقط، حتى قتل وهو يقول : اللهم هل أعزرت ؟ يعني هل أعذرت ؟ .
وبعد أن قتل هذا الغلام ـ صُؤاب ـ سقط اللواء على الأرض، ولم يبق أحد يحمله، فبقي ساقطاً .
مصرع أسد الله حمزة بن عبد المطلب :
يقول قاتل حمزة وحْشِي بن حرب : كنت غلاماً لجبير بن مُطْعِم، وكان عمه طُعَيمَة بن عدي قد أصيب يوم بدر، فلما سارت قريش إلى أحد قال لي جبير : إنك إن قتلت حمزة عم محمد بعمي فأنت عتيق . قال : فخرجت مع الناس ـ وكنت رجلاً حبشياً أقذف بالحربة قذف الحبشة، قلما أخطئ بها شيئاً ـ فلما التقي الناس خرجت أنظر حمزة وأتبصره، حتى رأيته في عرض الناس مثل الجمل الأوْرَق، يهُدُّ الناس هدّا ما يقوم له شيء . فوالله إني لأتهيأ له أريده، فأستتر منه بشجرة أو حجر ليدنو مني إذ تقدمني إليه سِبَاع بن عبد العزي، فلما رآه حمزة قال له : هلم إلى يابن مُقَطِّعَة البُظُور ـ وكانت أمه ختانة ـ قال : فضربه ضربة كأنما أخطأ رأسه . ...(1/115)
قال : وهززت حربتي حتى إذا رضيت منها دفعتها إليه، فوقعت في ثُنَّتِه ـ أحشائه ـ حتى خرجت من بين رجليه، وذهب لينوء نحوي فَغُلِبَ، وتركته وإياها حتى مات، ثم أتيته فأخذت حربتي، ثم رجعت إلى العسكر فقعدت فيه، ولم يكن لي بغيره حاجة، وإنما قتلته لأعتق، فلما قدمت مكة عتقت .
السيطرة على الموقف :
وبرغم هذه الخسارة الفادحة التي لحقت المسلمين بقتل أسد الله وأسد رسوله حمزة بن عبد المطلب، ظل المسلمون مسيطرين على الموقف كله . فقد قاتل يومئذ أبو بكر، وعمر بن الخطاب، وعلى بن أبي طالب، والزبير بن العوام، ومصعب بن عمير، وطلحة بن عبيد الله، وعبد الله بن جحش، وسعد بن معاذ، وسعد بن عبادة، وسعد بن الربيع، وأنس بن النضر وأمثالهم قتالاً فَلَّ عزائم المشركين، وفتَّ في أعضادهم .
الهزيمة تنزل بالمشركين :
هكذا دارت رحي الحرب الزَّبُون، وظل الجيش الإسلامي الصغير مسيطرًا على الموقف كله حتى خارت عزائم أبطال المشركين، وأخذت صفوفهم تتبدد عن اليمين والشمال والأمام والخلف، كأن ثلاثة آلاف مشرك يواجهون ثلاثين ألف مسلم لا بضع مئات قلائل، وظهر المسلمون في أعلى صور الشجاعة واليقين .
وبعد أن بذلت قريش أقصى جهدها لسد هجوم المسلمين أحست بالعجز والخور، وانكسرت همتها ـ حتى لم يجترئ أحد منها أن يدنو من لوائها الذي سقط بعد مقتل صُؤاب فيحمله ليدور حوله القتال ـ فأخذت في الانسحاب، ولجأت إلى الفرار، ونسيت ما كانت تتحدث به في نفوسها من أخذ الثأر والوتر والانتقام، وإعادة العز والمجد والوقار .
قال ابن إسحاق : ثم أنزل الله نصره على المسلمين، وصدقهم وعده، فحسوهم بالسيوف حتى كشفوهم عن المعسكر، وكانت الهزيمة لاشك فيها .
غلطة الرماة الفظيعة :(1/116)
وبينما كان الجيش الإسلامي الصغير يسجل مرة أخري نصراً ساحقاً على أهل مكة لم يكن أقل روعة من النصر الذي اكتسبه يوم بدر، وقعت من أغلبية فصيلة الرماة غلطة فظيعة قلبت الوضع تماماً، وأدت إلى إلحاق الخسائر الفادحة بالمسلمين، وكادت تكون سبباً في مقتل النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وقد تركت أسوأ أثر على سمعتهم، وعلى الهيبة التي كانوا يتمتعون بها بعد بدر . ...
لقد أسلفنا نصوص الأوامر الشديدة التي أصدرها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى هؤلاء الرماة، بلزومهم موقفهم من الجبل في كل حال من النصر أو الهزيمة، ولكن على رغم هذه الأوامر المشددة لما رأي هؤلاء الرماة أن المسلمين ينتهبون غنائم العدو غلبت عليهم أثارة من حب الدنيا، فقال بعضهم لبعض : الغنيمة، الغنيمة، ظهر أصحابكم، فما تنتظرون ؟ ...
أما قائدهم عبد الله بن جبير، فقد ذكرهم أوامر الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، وقال : أنسيتم ما قال لكم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؟ ولكن الأغلبية الساحقة لم تلق لهذا التذكير بالاً، وقالت : والله لنأتين الناس فلنصيبن من الغنيمة . ثم غادر أربعون رجلاً أو أكثر هؤلاء الرماة مواقعهم من الجبل، والتحقوا بسَوَاد الجيش ليشاركوه في جمع الغنائم . وهكذا خلت ظهور المسلمين، ولم يبق فيها إلا ابن جبير وتسعة أو أقل من أصحابه والتزموا مواقفهم مصممين على البقاء حتى يؤذن لهم أو يبادوا . ...
قل هو من عند أنفسكم :
{أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ }آل عمران165(1/117)
لقد نزلت هذه الآية الكريمة لكي تُشخّص الداء وتقّوم حال الجماعة المسلمة بعد مخالفة الرماة أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ونزولهم لأخذ الغنائم وترك الجبل للمشركين كي يقلبوا النتائج ويحولوا سير المعركة لصالحهم , وقد كان النصر حليف المسلمين , كيف لا وقد رأى بعض الصحابة خلاخيل نساء المشركين وهن يهربن من هول المعركة .
عندها قال ابن مسعود - رضي الله عنه - قولته المشهورة : ما كنت أظن أن أحد من أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - يريد الدنيا حتى نزل قول الله عز وجل " { مِنْكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُم مَّن يُرِيدُ الآَخِرَةَ }
- إن المتأمل في هذه الآية يجد الصراحة والوضوح في تحديد الخطأ الذي وقعت فيه الأمة الإسلامية بدون مجاملة أو تعميم " قل هو من عند أنفسكم " .
- إنها الغنائم التي طالما حذر منها الحبيب - صلى الله عليه وسلم - , إنها الغنائم حينما تقفز على قائمة الأولويات والمهمات في حياة الدعاة والمصلحين فكذلك تنقلب قائمة النتائج والانتصارات .
- واليوم إذا أرادت الأمة الإسلامية وعلى رأسها الدعاة والمصلحون الانتصار والتمكين فلا بد من تحديد الخلل بصراحة ووضوح ثم العمل الجاد على الإصلاح والتغيير لا المراوغة والتبرير.
خالد بن الوليد ينتهز الفرصة ويطوق الجيش الإسلامي :(1/118)
وانتهز خالد بن الوليد هذه الفرصة الذهبية، فكرَّ بسرعة خاطفة إلى جبل الرماة ليدور من خلفه إلى مؤخرة الجيش الإسلامي، فلم يلبث أن أباد عبد الله بن جبير وأصحابه إلا البعض الذين لحقوا بالمسلمين، ثم انقض على المسلمين من خلفهم، وصاح فرسانه صيحة عرف بها المشركون المنهزمون بالتطور الجديد فانقلبوا على المسلمين، وأسرعت امرأة منهم ـ وهي عمرة بنت علقمة الحارثية ـ فرفعت لواء المشركين المطروح على التراب، فالتف حوله المشركون ولاثوا به، وتنادي بعضهم بعضاً، حتى اجتمعوا على المسلمين، وثبتوا للقتال، وأحيط المسلمون من الأمام والخلف، ووقعوا بين شِقَّي الرحي .
كيفية معالجة الأخطاء :
ترفق القرآن الكريم وهو يعقب على ما أصاب المسلمين في أحد على عكس ما نزل في بدر من آيات، فكان أسلوب القرآن الكريم في محاسبة المنتصر على أخطائه أشد من حساب المنكسر, فقال في غزوة بدر: مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ{67} لَّوْلاَ كِتَابٌ مِّنَ اللّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ{68}الأنفال
وقال في أحد: {وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُم بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَعَصَيْتُم مِّن بَعْدِ مَا أَرَاكُم مَّا تُحِبُّونَ مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنكُمْ وَاللّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ }آل عمران152
وفي هذا حكمة عملية وتربية قرآنية يحسن أن يلتزمها أهل التربية والقائمون على التوجيه.
موقف الرسول الباسل إزاء عمل التطويق :(1/119)
وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حينئذ في مفرزة صغيرة ـ تسعة نفر من أصحابه ـ في مؤخرة المسلمين ، كان يرقب مجالدة المسلمين ومطاردتهم المشركين؛ إذ بوغت بفرسان خالد مباغتة كاملة، فكان أمامه طريقان : إما أن ينجو ـ بالسرعة ـ بنفسه وبأصحابه التسعة إلى ملجأ مأمون، ويترك جيشه المطوق إلى مصيره المقدور، وإما أن يخاطر بنفسه فيدعو أصحابه ليجمعهم حوله، ويتخذ بهم جبهة قوية يشق بها الطريق لجيشه المطوق إلى هضاب أحد . ...
وهناك تجلت عبقرية الرسول - صلى الله عليه وسلم - وشجاعته المنقطعة النظير، فقد رفع صوته ينادي أصحابه : ( إلي عباد الله ) ، وهو يعرف أن المشركين سوف يسمعون صوته قبل أن يسمعه المسلمون، ولكنه ناداهم ودعاهم مخاطراً بنفسه في هذا الظرف الدقيق .
وفعلاً فقد علم به المشركون فخلصوا إليه، قبل أن يصل إليه المسلمون .
تبدد المسلمين في الموقف :
أما المسلمون فلما وقعوا في التطويق طار صواب طائفة منهم، فلم تكن تهمها إلا أنفسها، فقد أخذت طريق الفرار، وتركت ساحة القتال، وهي لا تدري ماذا وراءها ؟ وفر من هذه الطائفة بعضهم إلى المدينة حتى دخلها، وانطلق بعضهم إلى ما فوق الجبل . ورجعت طائفة أخري فاختلطت بالمشركين، والتبس العسكران فلم يتميزا، فوقع القتل في المسلمين بعضهم من بعض . روي البخاري عن عائشة قالت : لما كان يوم أحد هزم المشركون هزيمة بينة، فصاح إبليس : أي عباد الله أخراكم ـ أي احترزوا من ورائكم ـ فرجعت أولاهم فاجتلدت هي وأخراهم، فبصر حذيفة، فإذا هو بأبيه اليمان، فقال : أي عباد الله أبي أبي . قالت : فوالله ما احتجزوا عنه حتى قتلوه، فقال حذيفة : يغفر الله لكم . قال عروة : فوالله ما زالت في حذيفة بقية خير حتى لحق بالله .(1/120)
وهذه الطائفة حدث داخل صفوفها ارتباك شديد، وعمتها الفوضي، وتاه منها الكثيرون؛لا يدرون أين يتوجهون، وبينما هم كذلك إذ سمعوا صائحاً يصيح : إن محمداً قد قتل، فطارت بقية صوابهم، وانهارت الروح المعنوية أو كادت تنهار في نفوس كثير من أفرادها، فتوقف من توقف منهم عن القتال، وألقي بأسلحته مستكيناً، وفكر آخرون في الاتصال بعبد الله بن أبي ـ رأس المنافقين ـ ليأخذ لهم الأمان من أبي سفيان . ومر بهؤلاء أنس بن النضر، وقد ألقوا ما بأيديهم فقال : ما تنتظرون ؟ فقالوا : قتل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ما تصنعون بالحياة بعده ؟ قوموا فموتوا على ما مات عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ثم قال : اللهم إني أعتذر إليك مما صنع هؤلاء، يعني المسلمين، وأبرأ إليك مما صنع هؤلاء، يعني المشركين، ثم تقدم فلقيه سعد بن معاذ، فقال : أين يا أبا عمر ؟ فقال أنس : واها لريح الجنة يا سعد، إني أجده دون أحد، ثم مضي فقاتل القوم حتى قتل، فما عرف حتى عرفته أخته ـ بعد نهاية المعركة ـ ببنانه، وبه بضع وثمانون ما بين طعنة برمح، وضربة بسيف، ورمية بسهم . ...
ونادى ثابت بن الدَحْدَاح قومه فقال : يا معشر الأنصار، إن كان محمد قد قتل، فإن الله حي لا يموت، قاتلوا على دينكم، فإن الله مظفركم وناصركم . فنهض إليه نفر من الأنصار، فحمل بهم على كتيبة فرسان خالد فما زال يقاتلهم حتى قتله خالد بالرمح، وقتل أصحابه . ...
ومر رجل من المهاجرين برجل من الأنصار، وهو يتَشَحَّطُ في دمه، فقال : يا فلان، أشعرت أن محمداً قد قتل ؟ فقال الأنصاري : إن كان محمد قد قتل فقد بَلَّغ، فقاتلوا عن دينكم . ...(1/121)
وبمثل هذا الاستبسال والتشجيع عادت إلى جنود المسلمين روحهم المعنوية، ورجع إليهم رشدهم وصوابهم، فعدلوا عن فكرة الاستسلام أو الاتصال بابن أبي، وأخذوا سلاحهم، يهاجمون تيارات المشركين، وهم يحاولون شق الطريق إلى مقر القيادة، وقد بلغهم أن خبر مقتل النبي - صلى الله عليه وسلم - كذب مُخْتَلَق، فزادهم ذلك قوة على قوتهم، فنجحوا في الإفلات عن التطويق، وفي التجمع حول مركز منيع، بعد أن باشروا القتال المرير، وجالدوا بضراوة بالغة . ...
وكانت هناك طائفة ثالثة لم يكن يهمهم إلا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . فقد كرت هذه الطائفة إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وعمل التطويق فى بدايته، وفى مقدمة هؤلاء أبو بكر الصديق، وعمر بن الخطاب، وعلي بن أبي طالب وغيرهم ـ رضي الله عنهم ـ كانوا فى مقدمة المقاتلين، فلما أحسوا بالخطر على ذاته الشريفة ـ عليه الصلاة والسلام والتحية ـ صاروا فى مقدمة المدافعين . ...
احتدام القتال حول رسول الله :
وبينما كانت تلك الطوائف تتلقي أواصر التطويق، وتطحن بين شِقَّي رَحَي المشركين، كان العراك محتدماً حول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وقد ذكرنا أن المشركين لما بدءوا عمل التطويق لم يكن مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا تسعة نفر، فلما نادي المسلمين : ( هلموا إلي، أنا رسول الله ) ، سمع صوته المشركون وعرفوه، فكروا إليه وهاجموه، ومالوا إليه بثقلهم قبل أن يرجع إليه أحد من جيش المسلمين، فجري بين المشركين وبين هؤلاء النفر التسعة من الصحابة عراك عنيف ظهرت فيه نوادر الحب والتفاني والبسالة والبطولة .(1/122)
روى مسلم عن أنس بن مالك أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أفرد يوم أحد في سبعة من الأنصار ورجلين من قريش، فلما رهقوه قال : ( من يردهم عنا وله الجنة ؟ أو هو رفيقي في الجنة ؟ ) فتقدم رجل من الأنصار فقاتل حتى قتل ثم رهقوه أيضاً فقال : ( من يردهم عنا وله الجنة، أو هو رفيقي في الجنة ؟ ) فتقدم رجل من الأنصار فقاتل حتى قتل، فلم يزل كذلك حتى قتل السبعة، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لصاحبيه ـ أي القرشيين : ( ما أنصفنا أصحابنا ) صحيح مسلم 1789
وكان آخر هؤلاء السبعة هو عمارة بن يزيد بن السَّكَن، قاتل حتى أثبتته الجراحة فسقط .
أحرج ساعة في حياة الرسول - صلى الله عليه وسلم - :(1/123)
وبعد سقوط ابن السكن بقي الرسول في القرشيين فقط، ففي الصحيحين عن أبي عثمان قال : لم يبق مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في بعض تلك الأيام التي يقاتل فيهن غير طلحة ابن عبيد الله وسعد بن أبي وقاص وكانت أحرج ساعة بالنسبة إلى حياة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وفرصة ذهبية بالنسبة إلى المشركين، ولم يتوان المشركون في انتهاز تلك الفرصة، فقد ركزوا حملتهم على النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وطمعوا في القضاء عليه، رماه عتبة بن أبي وقاص بالحجارة فوقع لشقه، وأصيبت رباعيته اليمنى السفلى، وكُلِمَتْ شفته السفلي، وتقدم إليه عبد الله بن شهاب الزهري فَشَجَّه في جبهته، وجاء فارس عنيد هو عبد الله بن قَمِئَة، فضرب على عاتقه بالسيف ضربة عنيفة شكا لأجلها أكثر من شهر إلا أنه لم يتمكن من هتك الدرعين، ثم ضرب على وجنته - صلى الله عليه وسلم - ضربة أخري عنيفة كالأولي حتى دخلت حلقتان من حلق المِغْفَر في وجْنَتِه، وقال : خذها وأنا ابن قمئة . فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يمسح الدم عن وجهة : ( أقمأك الله ) .وفي الصحيح أنه - صلى الله عليه وسلم - كسرت رَبَاعِيَته، وشُجَّ في رأسه، فجعل يَسْلُتُ الدم عنه ويقول : ( كيف يفلح قوم شجوا وجه نبيهم، وكسروا رباعيته، وهو يدعوهم إلى الله ) ، فأنزل الله عز وجل : {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذَّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ }آل عمران128 ...(1/124)
وفي صحيح مسلم أنه قال : ( رب اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون ) ولا شك أن المشركين كانوا يهدفون القضاء على حياة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا أن القرشيين سعد بن أبي وقاص وطلحة بن عبيد الله قاما ببطولة نادرة، وقاتلا ببسالة منقطعة النظير، حتى لم يتركا ـ وهما اثنان فحسب ـ سبيلا ً إلى نجاح المشركين في هدفهم، وكانا من أمهر رماة العرب فتناضلا حتى أجهضا مفرزة المشركين عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . ففي صحيح البخاري4063 , عن قيس بن أبي حازم قال : رأيت يد طلحة شلاء، وقى بها النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد .
وفي صحيح الجامع 5962 , أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال فيه يومئذ : من أحب أن ينظر إلى شهيد يمشي على وجه الأرض فلينظر إلى طلحة بن عبد الله .
الملائكة في أحد :
وفي ذلك الظرف الدقيق والساعة الحرجة أنزل الله نصره بالغيب، ففي صحيح مسلم 2306 , عن سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه - قال : رأيت عن يمين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعن شماله ، يوم أحد ، رجلين عليهما ثياب بياض . ما رأيتهما قبل ولا بعد . يعني جبريل وميكائيل عليهما السلام . وهذا خاص بالدفاع عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ؛ لأن الله تكفل بعصمته من الناس، ولم يصح أن الملائكة قاتلت في أحد سوى هذا القتال، ذلك لأن الله تعالى وعدهم أن يمدهم؛ وجعل وعده معلقًا على ثلاثة أمور: الصبر والتقوى وإتيان الأعداء من فورهم، ولم تتحقق هذه الأمور فلم يحصل الإمداد (1) ,, قال تعالى: إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَن يَكْفِيكُمْ أَن يُمِدَّكُمْ رَبُّكُم بِثَلاَثَةِ آلاَفٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُنزَلِينَ{124} بَلَى إِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ وَيَأْتُوكُم مِّن فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُم بِخَمْسَةِ آلافٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُسَوِّمِينَ{125}آل عمران
__________
(1) انظر: السيرة النبوية الصحيحة (2/391).(1/125)
بداية تجمع الصحابة حول الرسول - صلى الله عليه وسلم - :
وقعت هذه كلها بسرعة هائلة في لحظات خاطفة، وإلا فالمصطفون الأخيار من صحابته - صلى الله عليه وسلم - ـ الذين كانوا في مقدمة صفوف المسلمين عند القتال ـ لم يكادوا يرون تغير الموقف، أو يسمعوا صوته - صلى الله عليه وسلم - حتى أسرعوا إليه ؛ لئلا يصل إليه شيء يكرهونه، إلا أنهم وصلوا وقد لقي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما لقي من الجراحات ـ وستة من الأنصار قد قتلوا والسابع قد أثبتته الجراحات، وسعد وطلحة يكافحان أشد الكفاح ـ فلما وصلوا أقاموا حوله سياجاً من أجسادهم وسلاحهم، وبالغوا في وقايته من ضربات العدو، ورد هجماته . وكان أول من رجع إليه هو ثانيه في الغار أبو بكر الصديق رضي الله عنه .
وخلال هذه اللحظات الحرجة اجتمع حول النبي - صلى الله عليه وسلم - عصابة من أبطال المسلمين منهم أبو دُجَانة، ومصعب بن عمير، وعلى بن أبي طالب ، وسهل بن حنيف، ومالك بن سنان والد أبي سعيد الخدري، وأم عمارة نُسَيْبة بنت كعب المازنية، وقتادة ابن النعمان، وعمر بن الخطاب، وحاطب بن أبي بلتعة، وأبو طلحة .
إشاعة مقتل النبي - صلى الله عليه وسلم - وأثره على المعركة :
ولم يمض على هذا الصياح دقائق، حتى شاع خبر مقتل النبي - صلى الله عليه وسلم - في المشركين والمسلمين . وهذا هو الظرف الدقيق الذي خارت فيه عزائم كثير من الصحابة المطوقين، الذين لم يكونوا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وانهارت معنوياتهم، حتى وقع داخل صفوفهم ارتباك شديد، وعمتها الفوضي والاضطراب، إلا أن هذه الصيحة خففت بعض التخفيف من مضاعفة هجمات المشركين ؛ لظنهم أنهم نجحوا في غاية مرامهم، فاشتغل الكثير منهم بتمثيل قتلي المسلمين .
الرسول - صلى الله عليه وسلم - يواصل المعركة وينقذ الموقف :(1/126)
أدرك النبي - صلى الله عليه وسلم - أن الأمور لن تعود إلى نصابها إلا بكسر هذا الطوق المحكم الذي ضربه المشركون ، فصعد إلى الجبل ومعه ثُلّة من خيرة أصحابه ، واستبسلوا في الدفاع عنه ، وخلّد التاريخ قتال أبي طلحة رضي الله عنه حتى شُلّت يمينه وأثخنته الجراح ، ووقفة نسيبة بنت كعب رضي الله عنها وهي ترمي بالقوس تدافع عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وتصدّي سعد بن أبي وقّاص للذود عنه ورميه للمشركين بالنبال ، وحماية أبي دجانة للنبي - صلى الله عليه وسلم - حيث جعل نفسه ترساً له عليه الصلاة والسلام حتى تكاثرت السهام على ظهره .
ومضى النبي - صلى الله عليه وسلم - ومن معه من أصحابه يشقّون الطريق نحو المشركين ، فأبصره كعب بن مالك رضي الله عنه فنادى بأعلى صوته : " يا معشر المسلمين ، أبشروا فهذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فأسكته النبي - صلى الله عليه وسلم - لئلا يتفطّن إليه المشركون ، لكن الخبر كان قد وصل إلى المسلمين ، فعاد إليهم صوابهم ، وارتفعت معنويّاتهم ، لتعود المعركة أشدّ ضراوة من قبل ، وأثناء هذا القتال المرير كان المسلمون يأخذهم النعاس أمنة من الله، كما تحدث عنه القرآن . قال أبو طلحة : كنت فيمن تغشاه النعاس يوم أحد حتى سقط سيفي من يدي مراراً، يسقط وآخذه ويسقط وآخذه ... ولقد أقبل أبي بن خلف على فرس له هاتفاً بأعلى صوته : " أين محمد ؟ لا نجوت إن نجا " ، فهبّ إليه قومٌ ليقتلوه ، لكن النبي - صلى الله عليه وسلم - منعهم من ذلك ، ولما اقترب منه طعنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ترقوته ، فاحتقن الدم فيه ، وجعل يصيح ويقول : قتلني والله محمد ، فقال له المشركون : ما بك من بأس ، فقال : " والله لو كان الذي بي بأهل ذي المجاز لماتوا أجمعين " ، فلم يلبث قليلاً حتى مات .... وبمثل هذه البسالة فشلت عبقرية خالد أمام عبقرية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .
تشويه الشهداء :(1/127)
وكان هذا آخر هجوم قام به المشركون ضد النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ولما لم يكونوا يعرفون من مصيره شيئاً ـ بل كانوا على شبه اليقين من قتله ـ رجعوا إلى مقرهم، وأخذوا يتهيأون للرجوع إلى مكة، واشتغل من اشتغل منهم ـ وكذا اشتغلت نساؤهم ـ بقتلي المسلمين، يمثلون بهم، ويقطعون الآذان والأنوف والفروج، ويبقرون البطون . وبقرت هند بنت عتبة كبد حمزة فلاكتها، فلم تستطع أن تسيغها فلفظتها، واتخذت من الآذان والأنوف خَدَماً ـ خلاخيل ـ وقلائد .
التثبت من موقف المشركين :
بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على بن أبي طالب، فقال : ( اخرج في آثار القوم فانظر ماذا يصنعون ؟ وما يريدون ؟ فإن كانوا قد جَنَبُوا الخيل، وامْتَطُوا الإبل، فإنهم يريدون مكة، وإن كانوا قد ركبوا الخيل وساقوا الإبل فإنهم يريدون المدينة . والذي نفسي بيده، لئن أرادوها لأسيرن إليهم فيها، ثم لأناجزنهم ) . قال على : فخرجت في آثارهم أنظر ماذا يصنعون، فجنبوا الخيل وامتطوا الإبل، ووَجَّهُوا إلى مكة . ... سبحان الله وما ذلك إلا من فطنة النبي وذكاؤه وعدم تعجله .
مفاجآت عند تفقد القتلى والجرحى :(1/128)
- فرغ الناس لتفقد القتلي والجرحي بعد منصرف قريش . قال زيد بن ثابت : بعثني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم أحد أطلب سعد بن الربيع . فقال لي : ( إن رأيته فأقرئه مني السلام، وقل له : يقول لك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : كيف تجدك ؟ ) قال : فجعلت أطوف بين القتلي، فأتيته وهو بآخر رمق، فيه سبعون ضربة ؛ ما بين طعنة برمح، وضربة بسيف، ورمية بسهم، فقلت : يا سعد، إن رسول الله يقرأ عليك السلام، ويقول لك : أخبرني كيف تجدك ؟ فقال : وعلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - السلام، قل له، يا رسول الله، أجد ريح الجنة، وقل لقومي الأنصار : لا عذر لكم عند الله إن خلص إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وفيكم عين تطرف، وفاضت نفسه من وقته (1) .
- ووجدوا في الجرحي الأُصَيرِِم ـ عمرو بن ثابت ـ وبه رمق يسير، وكانوا من قبل يعرضون عليه الإسلام فيأباه، فقالوا : إن هذا الأصيرم ما جاء به ؟ لقد تركناه وإنه لمنكر لهذا الأمر، ثم سألوه : ما الذي جاء بك، أحَدَبٌ على قومك، أم رغبة في الإسلام ؟ فقال : بل رغبة في الإسلام، آمنت بالله ورسوله، ثم قاتلت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى أصابني ما ترون، ومات من وقته، فذكروه لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فقال : ( هو من أهل الجنة ) . قال أبو هريرة : ولم يُصَلِّ لله صلاة قط . (2)
سبحان الله ... وهل الأصيرم أجبره أحد على الاسلام ؟!!!
__________
(1) زاد المعاد ( 2/96)
(2) نفس المصدر (2/94) , وابن هشام (2/90)(1/129)
- ووجدوا في الجرحي قُزْمَان ـ وكان قد قاتل قتال الأبطال ؛ قتل وحده سبعة أو ثمانية من المشركين ـ وجدوه قد أثبتته الجراحة، فاحتملوه إلى دار بني ظَفَر، وبشره المسلمون فقال : والله إن قاتلت إلا عن أحساب قومي، ولولا ذلك ما قاتلت، فلما اشتد به الجراح نحر نفسه . وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول ـ إذا ذكر له : ( إنه من أهل النار ) (1) ـ وهذا هو مصير المقاتلين في سبيل الوطنية أو في أي سبيل سوي إعلاء كلمة الله، وإن قاتلوا تحت لواء الإسلام، بل وفي جيش الرسول والصحابة .
- وعلى عكس من هذا كان في القتلي رجل من يهود بني ثعلبة، قال لقومه : يا معشر يهود، والله لقد علمتم أن نصر محمد عليكم حق . قالوا : إن اليوم يوم السبت . قال : لا سبت لكم . فأخذ سيفه وعدته، وقال : إن أصبت فمإلى لمحمد . يصنع فيه ما شاء، ثم غدا فقاتل حتى قتل . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( مُخَيرِيق خير يهود ) (2)
سبحان الله العظيم وهذا رجل يهودي ... هل سيأتي أحد ويقول بأن الإسلام انتشر بالسيف !!!
جمع الشهداء ودفنهم :
وأشرف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على الشهداء فقال : ( أنا شهيد على هؤلاء، إنه ما من جريح يُجْرَح في الله إلا والله يبعثه يوم القيامة، يَدْمَي جُرْحُه، اللون لون الدم، والريح ريح المِسْك ) (3)
__________
(1) ) زاد المعاد ( 2/97 , 98 ) , وابن هشام ( 2/88 )
(2) ) ابن هشام ( 2/88 , 89 )
(3) ) ابن هشام ( 2/98)(1/130)
وكان أناس من الصحابة قد نقلوا قتلاهم إلى المدينة فأمر أن يردوهم، فيدفنوهم في مضاجعهم وألا يغسلوا، وأن يدفنوا كما هم بثيابهم بعد نزع الحديد والجلود . وكان يدفن الاثنين والثلاثة في القبر الواحد، ويجمع بين الرجلين في ثوب واحد، ويقول : ( أيهم أكثر أَخْذًا للقرآن ؟ ) فإذا أشاروا إلى الرجل قدمه في اللحد، وقال : ( أنا شهيد على هؤلاء يوم القيامة ) . ودفن عبد الله بن عمرو بن حرام وعمرو بن الجموح في قبر واحد لما كان بينهما من المحبة . (1)
وفقدوا نعش حنظلة، فتفقدوه فوجدوه في ناحية فوق الأرض يقطر منه الماء، فأخبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أصحابه أن الملائكة تغسله، ثم قال : ( سلوا أهله ما شأنه ؟ ) فسألوا امرأته، فأخبرتهم الخبر . ومن هنا سمي حنظلة : غسيل الملائكة (2)
ولما رأى ما بحمزة ـ عمه وأخيه من الرضاعة ـ اشتد حزنه، وجاءت عمته صفية تريد أن تنظر أخاها حمزة، فأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ابنها الزبير أن يصرفها، لا تري ما بأخيها، فقالت : ولم ؟ وقد بلغني أن قد مُثِّلَ بأخي، وذلك في الله، فما أرضانا بما كان من ذلك، لأحتسبن ولأصبرن إن شاء الله، فأتته فنظرت إليه، فصلت عليه ـ دعت له ـ واسترجعت واستغفرت له . ثم أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بدفنه مع عبد الله بن جحش ـ وكان ابن أخته، وأخاه من الرضاعة .
قال ابن مسعود : ما رأينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - باكياً قط أشد من بكائه على حمزة بن عبد المطلب . وضعه في القبلة، ثم وقف على جنازته وانتحب حتى نَشَع من البكاء ـ والنشع : الشهيق . ... فمنظر الشهداء كان مريعاً جداً يفتت الأكباد .
الرسول - صلى الله عليه وسلم - يثني على ربه عز وجل ويدعوه :
__________
(1) ) زاد المعاد (2/98) , وصحيح البخاري (2/584)
(2) ) زاد المعاد (2/94)(1/131)
لما كان يوم أحد ، وانكفأ المشركون ، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - استووا حتى أثني على ربي عز و جل اللهم لك الحمد كله ، اللهم لا قابض لما بسطت ، و لا مقرب لما باعدت ، و لا مباعد لما قربت ، و لا معطي لما منعت ، و لا مانع لما أعطيت أسألك ابسط علينا من بركاتك و رحمتك و فضلك و رزقك ، اللهم إني أسألك النعيم المقيم الذي لا يحول و لا يزول اللهم إني أسألك النعيم يوم العيلة ، و الأمن يوم الحرب ، اللهم عائذا بك من سوء ما أعطينا ، و شر ما منعت منا اللهم حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا ، وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان واجعلنا من الراشدين اللهم توفنا مسلمين ، و أحينا مسلمين و ألحقنا بالصالحين ، غير خزايا ، و لا مفتونين اللهم قاتل الكفرة الذين يصدون عن سبيلك ، و يكذبون رسلك ، و اجعل عليهم رجزك و عذابك قاتل الكفرة الذين أوتوا الكتاب ، إله الحق (1) .
نتيجة الغزوة :
اتفقت جل الروايات على أن قتلي المسلمين كانوا سبعين، وكانت الأغلبية الساحقة من الأنصار؛ فقد قتل منهم خمسة وستون رجلاً، واحد وأربعون من الخزرج، وأربعة وعشرون من الأوس، وقتل رجل من اليهود . وأما شهداء المهاجرين فكانوا أربعة فقط .
وأما قتلي المشركين فقد ذكر ابن إسحاق أنهم اثنان وعشرون قتيلاً، ولكن الإحصاء الدقيق ـ بعد تعميق النظر في جميع تفاصيل المعركة التي ذكرها أهل المغازي والسير، والتي تتضمن ذكر قتلي المشركين في مختلف مراحل القتال ـ يفيد أن عدد قتلي المشركين سبعة وثلاثون، لا اثنان وعشرون، والله أعلم .
الحكم والغايات المحمودة في هذه الغزوة :
- تعريف المسلمين سوء عاقبة المعصية، وشؤم ارتكاب النهي؛ لما وقع من ترك الرماة موقفهم الذي أمرهم الرسول - صلى الله عليه وسلم - ألا يبرحوا منه .
__________
(1) صحيح : صحيح الأدب المفرد للألباني رقم 538 .(1/132)
- عادة الرسل أن تبتلي وتكون لها العاقبة، والحكمة في ذلك أنهم لو انتصروا دائماً دخل في المؤمنين من ليس منهم، ولم يتميز الصادق من غيره، ولو انكسروا دائماً لم يحصل المقصود من البعثة، فاقتضت الحكمة الجمع بين الأمرين لتمييز الصادق من الكاذب، وذلك أن نفاق المنافقين كان مخفياً عن المسلمين، فلما جرت هذه القصة، وأظهر أهل النفاق ما أظهروه من الفعل والقول عاد التلويح تصريحاً، وعرف المسلمون أن لهم عدواً في دورهم، فاستعدوا لهم وتحرزوا منهم .
- تأخير النصر في بعض المواطن هضماً للنفس، وكسراً لشماختها، فلما ابتلي المؤمنون صبروا، وجزع المنافقون .
- الله هيأ لعباده المؤمنين منازل في دار كرامته لا تبلغها أعمالهم، فقيض لهم أسباب الابتلاء والمحن ليصلوا إليها . ومنها أن الشهادة من أعلى مراتب الأولياء فساقها إليهم .
- أراد الله إهلاك أعدائه، فقيض لهم الأسباب التي يستوجبون بها ذلك من كفرهم وبغيهم وطغيانهم في أذى أوليائه ، فمحص بذلك ذنوب المؤمنين، ومحق بذلك الكافرين .
غزوة حمراء الأسد
غزوة حمراء الأسد ليست بحدثاً مستقلاً عن غزوة أحد ، ولكنّها امتدادٌ طبيعيٌّ وصفحةٌ أخيرةٌ للمواجهة التي تمّت بين قريشٍ وحلفائها من جهة ، وبين المسلمين من جهة أخرى .
سبب الغزوة :
مطاردة قريش ومنعها من العودة للقضاء على المسلمين بالمدينة بخاصة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - خاف أن يقوم المشركين بغزو المدينة مرة ثانية وذلك لأنهم لم يستفيدوا شيئنا من النصرة والغلبة التي كسبوها في ساحة القتال , وكذلك سبب آخر وهو ورفع الروح المعنوية للصحابة حيث أن خروج النبي - صلى الله عليه وسلم - بجيشٍ مُثقل بالجراح هو خير رسالة للأعداء بأن المسلمين لا زالوا أعزّة قادرين على المواجهة ، وأن جراحهم وآلامهم لا يمكن أن تعوقهم عن مواصلة الجهاد والقتال ، وأنّ فرح المشركين بالنصر الذي أحرزوه لن يدوم طويلاً .
تاريخ الغزوة :(1/133)
ليلة الأحد الثامن من شهر شوال سنة 3 هـ
ملاقاة العدو :
قال أهل المغازي ما حاصله : إن النبي - صلى الله عليه وسلم - نادي في الناس، وندبهم إلى المسير إلى لقاء العدو ـ وذلك صباح الغد من معركة أحد، أي يوم الأحد الثامن من شهر شوال سنة 3 هـ ـ وقال : ( لا يخرج معنا إلا من شهد القتال ) ، فقال له عبد الله بن أبي : أركب معك ؟ قال : ( لا ) ، واستجاب له المسلمون على ما بهم من الجرح الشديد، والخوف المزيد، وقالوا : سمعاً وطاعة .
كما قال تعالى : {الَّذِينَ اسْتَجَابُواْ لِلّهِ وَالرَّسُولِ مِن بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُواْ مِنْهُمْ وَاتَّقَواْ أَجْرٌ عَظِيمٌ }آل عمران172
ولقد استأذنه جابر بن عبد الله، وقال : يا رسول الله، إني أحب ألا تشهد مشهداً إلا كنت معك، وإنما خلفني أبي على بناته فائذن لي أسير معك، فأذن له . وسار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والمسلمون معه حتى بلغوا حمراء الأسد، على بعد ثمانية أميال من المدينة، فعسكروا هناك .
وهناك أقبل مَعْبَد بن أبي معبد الخزاعي إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأسلم ـ ويقال : بل كان على شركه، ولكنه كان ناصحاً لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما كان بين خزاعة وبني هاشم من الحلف ـ فقال : يا محمد، أما والله لقد عز علينا ما أصابك في أصحابك، ولوددنا أن الله عافاك . فأمره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يلحق أبا سفيان فَيُخَذِّلَه .(1/134)
ولم يكن ما خافه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من تفكير المشركين في العودة إلى المدينة إلا حقاً، فإنهم لما نزلوا بالروحاء على بعد ستة وثلاثين ميلاً من المدينة تلاوموا فيما بينهم، قال بعضهم لبعض : لم تصنعوا شيئاً، أصبتم شوكتهم وحدهم، ثم تركتموهم، وقد بقي منهم رءوس يجمعون لكم، فارجعوا حتى نستأصل شأفتهم . ويبدو أن هذا الرأي جاء سطحياً ممن لم يكن يقدر قوة الفريقين ومعنوياتهم تقديراً صحيحاً ؛ ولذلك خالفهم زعيم مسئول [ صفوان بن أمية ] قائلاً : يا قوم، لاتفعلوا فإني أخاف أن يجمع عليكم من تخلف من الخروج ـ أي من المسلمين في غزوة أحد ـ فارجعوا والدولة لكم، فإني لا آمن إن رجعتم أن تكون الدولة عليكم . إلا أن هذا الرأي رفض أمام رأي الأغلبية الساحقة، وأجمع جيش مكة على المسير نحو المدينة . ولكن قبل أن يتحرك أبو سفيان بجيشه من مقره لحقه معبد بن أبي معبد الخزاعي ولم يكن يعرف أبو سفيان بإسلامه، فقال : ما وراءك يا معبد ؟ فقال معبد ـ وقد شن عليه حرب أعصاب دعائية عنيفة : محمد قد خرج في أصحابه، يطلبكم في جمع لم أر مثله قط، يتحرقون عليكم تحرقاً، قد اجتمع معه من كان تخلف عنه في يومكم، وندموا على ما ضيعوا، فيهم من الحنق عليكم شيء لم أر مثله قط .
قال أبو سفيان : ويحك، ما تقول ؟ قال : والله ما أري أن ترتحل حتى تري نواصي الخيل ـ أو ـ حتى يطلع أول الجيش من وراء هذه الأكمة . فقال أبو سفيان : والله لقد أجمعنا الكرة عليهم لنستأصلهم . قال : فلا تفعل، فإني ناصح .(1/135)
وحينئذ انهارت عزائم الجيش المكي وأخذه الفزع والرعب، فلم ير العافية إلا في مواصلة الانسحاب والرجوع إلى مكة، بيد أن أبا سفيان قام بحرب أعصاب دعائية ضد الجيش الإسلامي، لعله ينجح في كف هذا الجيش عن مواصلة المطاردة، وطبعاً فهو ينجح في تجنب لقائه . فقد مر به ركب من عبد القيس يريد المدينة، فقال : هل أنتم مبلغون عني محمداً رسالة، وأوقر لكم راحلتكم هذه زبيبًا بعكاظ إذا أتيتم إلى مكة ؟ قالوا : نعم . قال : فأبلغوا محمداً أنا قد أجمعنا الكرة ؛ لنستأصله ونستأصل أصحابه .
فمر الركب برسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، وهم بحمراء الأسد، فأخبرهم بالذي قال له أبو سفيان، وقالوا : { إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ } ـ أي زاد المسلمين قولهم ذلك ـ { إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ فَانقَلَبُواْ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُواْ رِضْوَانَ اللهِ وَاللهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ } [ آل عمران : 173، 174 ] .
ولقد أقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بحمراء الأسد بعد مقدمه يوم الأحد ـ الاثنين والثلاثاء والأربعاء ـ 9، 10، 11 شوال سنة 3 هـ ثم رجع إلى المدينة، وأخذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قبل الرجوع إلى المدينة أبا عَزَّة الجمحي ـ وهو الذي كان أطلقه الرسول - صلى الله عليه وسلم - عندما كان أسيراً يوم بدر بغير فداء رحمةً ببناته ولفقره ، واشترط عليه ألا يقف ضد المسلمين ، فلم يحترم الرجل العهد ، وقاتل مع المشركين في أحد ، فلما وقف بين يدي النبي - صلى الله عليه وسلم - رجاه أن يُعفو عنه ، لكن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر بقتله ... ولقد صدق النبي - صلى الله عليه وسلم - بذلك لأنه كما قال (لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين ) صحيح البخاري 7779(1/136)
كما حكم بالإعدام في جاسوس من جواسيس مكة، وهو معاوية بن المغيرة بن أبي العاص جد عبد الملك بن مروان لأمه ؛ وذلك أنه لما رجع المشركون يوم أحد جاء معاوية هذا إلى ابن عمه عثمان بن عفان رضي الله عنه فاستأمن له عثمان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فأمنه على أنه إن وجد بعد ثلاث قتله . فلما خلت المدينة من الجيش الإسلامي أقام فيها أكثر من ثلاث يتجسس لحساب قريش، فلما رجع الجيش خرج معاوية هارباً، فأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - زيد بن حارثة وعمار بن ياسر، فتعقباه حتى قتلاه . (1)
هذه الغزوة كانت امتداد كما قلنا لغزوة أُحد ، ولطالما بحث الباحثون حول مصير غزوة أُحد، هل كانت هزيمة أم لا ؟ والذي لا يشك فيه أن التفوق العسكري في الصفحة الثانية من القتال كان للمشركين، وأنهم كانوا مسيطرين على ساحة القتال، وأن خسارة الأرواح والنفوس كانت في جانب المسلمين أكثر وأفدح، وأن طائفة من المؤمنين انهزمت قطعاً، وأن دفة القتال جرت لصالح الجيش المكي، لكن هناك أمور تمنعنا أن نعبر عن كل ذلك بالنصر والفتح . ...
__________
(1) ) أخذنا تفصيل غزوة أحد , وحمراء الأسد من ابن هشام (2/60 إلى 129) , وزاد المعاد (2/91 إلى 108) , وفتح الباري (7/345 إلى 377) مع صحيح البخاري , ومختصر سيرة الرسول للشيخ عبد الله النجدي ( من ص 242 إلى 257)(1/137)
فمما لا شك فيه أن الجيش المكي لم يستطع احتلال معسكر المسلمين، وأن المقدار الكبير من الجيش المدني لم يلتجئ إلى الفرار ـ مع الارتباك الشديد والفوضي العامة ـ بل قاوم بالبسالة حتى تجمع حول مقر قيادته، وأن كفته لم تسقط إلى حد أن يطارده الجيش المكي، وأن أحداً من جيش المدينة لم يقع في أسر الكفار، وأن الكفار لم يحصلوا على شيء من غنائم المسلمين، وأن الكفار لم يقوموا إلى الصفحة الثالثة من القتال مع أن جيش المسلمين لم يزل في معسكره، وأنهم لم يقيموا بساحة القتال يوماً أو يومين أو ثلاثة أيام ـ كما هو دأب الفاتحين في ذلك الزمان ـ بل سارعوا إلى الانسحاب وترك ساحة القتال قبل أن يتركها المسلمون، ولم يجترئوا على الدخول في المدينة لنهب الذراري والأموال، مع أنها على بعد عدة خطوات فحسب، وكانت مفتوحة وخالية تماماً .
كل ذلك يؤكد لنا أن ما حصل لقريش لم يكن أكثر من أنهم وجدوا فرصة نجحوا فيها بإلحاق الخسائر الفادحة بالمسلمين، مع الفشل فيما كانوا يهدفون إليه من إبادة الجيش الإسلامي بعد عمل التطويق ـ وكثيراً ما يلقي الفاتحون بمثل هذه الخسائر التي نالها المسلمون ـ أما أن ذلك كان نصراً وفتحاً فكلا وحاشا . بل يؤكد لنا تعجيل أبي سفيان في الانسحاب والانصراف أنه كان يخاف على جيشه المعرة والهزيمة لو جرت صفحة ثالثة من القتال، ويزداد ذلك تأكداً حين ننظر إلى موقف أبي سفيان من غزوة حمراء الأسد .
النهاية :(1/138)
عاد النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة منتصراً ، واستطاع أن يحقّق أهدافه التي رسمها دون خسائر تُذكر ، وصدق الله القائل : {فَانقَلَبُواْ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُواْ رِضْوَانَ اللّهِ وَاللّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ }آل عمران174... أي فرجعوا من "حمراء الأسد" إلى "المدينة" بنعمة من الله بالثواب الجزيل وبفضل منه بالمنزلة العالية, وقد ازدادوا إيمانًا ويقينًا, وأذلوا أعداء الله, وفازوا بالسلامة من القتل والقتال, واتبعوا رضوان الله بطاعتهم له ولرسوله. والله ذو فضل عظيم عليهم وعلى غيرهم.
خلاصة :
هذه الغزوة إنما كانت حرباً غير منفصلة، أخذ كل فريق بقسطه ونصيبه من النجاح والخسارة، ثم حاد كل منها عن القتال من غير أن يفر عن ساحة القتال ويترك مقره لاحتلال العدو، وهذا هو معني الحرب غير المنفصلة . وإلى هذا يشير قوله تعالى : { وَلاَ تَهِنُواْ فِي ابْتِغَاء الْقَوْمِ إِن تَكُونُواْ تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللهِ مَا لاَ يَرْجُونَ } النساء : 104 ، فقد شبه أحد العسكرين بالآخر في التألم وإيقاع الألم، مما يفيد أن الموقفين كانا متماثلين، وأن الفريقين رجعا وكل غير غالب .
غزوة بني النضير
قد أسلفنا أن اليهود كانوا يتحرقون على الإسلام والمسلمين إلا أنهم لم يكونوا أصحاب حرب وضرب، بل كانوا أصحاب دس ومؤامرة، فكانوا يجاهرون بالحقد والعداوة، ويختارون أنواعاً من الحيل ؛ لإيقاع الإيذاء بالمسلمين دون أن يقوموا للقتال مع ما كان بينهم وبين المسلمين من عهود ومواثيق، وأنهم بعد وقعة بني قينقاع وقتل كعب بن الأشرف خافوا على أنفسهم فاستكانوا والتزموا الهدوء والسكوت .(1/139)
ولكنهم بعد وقعة أحد تجرأوا، فكاشفوا بالعداوة والغدر، وأخذوا يتصلون بالمنافقين وبالمشركين من أهل مكة سراً، ويعملون لصالحهم ضد المسلمين . (1)
وصبر النبي صلى الله عليه وسلم حتى ازدادوا جرأة وجسارة بعد وقعة الرَّجِيع وبئر مَعُونة، حتى قاموا بمؤامرة تهدف القضاء على النبي صلى الله عليه وسلم .
وبيان ذلك : أنه صلى الله عليه وسلم خرج إليهم في نفر من أصحابه، وكلمهم أن يعينوه في دية الكلابيين اللذين قتلهما عمرو بن أمية الضَّمْرِي ـ وكان ذلك يجب عليهم حسب بنود المعاهدة ـ فقالوا : نفعل يا أبا القاسم، اجلس ها هنا حتى نقضي حاجتك . فجلس إلى جنب جدار من بيوتهم ينتظر وفاءهم بما وعدوا، وجلس معه أبو بكر وعمر وعلى وطائفة من أصحابه . ...
وخلا اليهود بعضهم إلى بعض، وسول لهم الشيطان الشقاء الذي كتب عليهم، فتآمروا بقتله صلى الله عليه وسلم، وقالوا : أيكم يأخذ هذه الرحي، ويصعد فيلقيها على رأسه يشدخه بها ؟ . . . فقال أشقاهم عمرو بن جحاش : أنا . فقال لهم سَلاَّم بن مِشْكَم : لا تفعلوا، فوالله ليخبرن بما هممتم به، وإنه لنقض للعهد الذي بيننا وبينه . ولكنهم عزموا على تنفيذ خطتهم . ...
ونزل جبريل من عند رب العالمين على رسوله صلى الله عليه وسلم يعلمه بما هموا به، فنهض مسرعاً وتوجه إلى المدينة، ولحقه أصحابه فقالوا : نهضت ولم نشعر بك، فأخبرهم بما هَمَّتْ به يهود .
__________
(1) ) يؤخذ ذلك مما رواه أبو داود في باب خبر النضير (3/116 , 117) " عون المعبود شرح سنن أبي داوود "(1/140)
وما لبث رسول الله صلى الله عليه وسلم أن بعث محمد بن مسلمة إلى بني النضير يقول لهم : ( اخرجوا من المدينة ولا تساكنوني بها، وقد أجلتكم عشراً، فمن وجدت بعد ذلك بها ضربت عنقه ) . ولم يجد يهود مناصاً من الخروج، فأقاموا أياماً يتجهزون للرحيل، بيد أن رئيس المنافقين ـ عبد الله بن أبي ـ بعث إليهم أن اثبتوا وتَمَنَّعُوا، ولا تخرجوا من دياركم، فإن معي ألفين يدخلون معكم حصنكم، فيموتون دونكم { لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلَا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِن قُوتِلْتُمْ لَنَنصُرَنَّكُمْ } [ الحشر : 11 ] وتنصركم قريظة وحلفاؤكم من غطفان . ...
وهناك عادت لليهود ثقتهم، واستقر رأيهم على المناوأة، وطمع رئيسهم حيي بن أخطب فيما قاله رأس المنافقين، فبعث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : إنا لا نخرج من ديارنا، فاصنع ما بدا لك .
ولا شك أن الموقف كان حرجاً بالنسبة للمسلمين، فإن اشتباكهم بخصومهم في هذه الفترة المحرجة من تاريخهم لم يكن مأمون العواقب، وقد رأوا كَلَب العرب عليهم وفتكهم الشنيع ببعوثهم، ثم إن يهود بني النضير كانوا على درجة من القوة تجعل استسلامهم بعيد الاحتمال، وتجعل فرض القتال معهم محفوفاً بالمكاره، إلا أن الحال التي جدت بعد مأساة بئر معونة وما قبلها زادت حساسية المسلمين بجرائم الاغتيال والغدر التي أخذوا يتعرضون لها جماعات وأفراداً، وضاعفت نقمتهم على مقترفيها، ومن ثم قرروا أن يقاتلوا بني النضير ـ بعد همهم باغتيال الرسول صلى الله عليه وسلم ـ مهما تكن النتائج .
فلما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم جواب حيي بن أخطب كبر وكبر أصحابه، ثم نهض لمناجزة القوم، فاستعمل على المدينة ابن أم مكتوم، وسار إليهم، وعلى بن أبي طالب يحمل اللواء، فلما انتهي إليهم فرض عليهم الحصار .(1/141)
والتجأ بنو النضير إلى حصونهم، فأقاموا عليها يرمون بالنبل والحجارة، وكانت نخيلهم وبساتينهم عوناً لهم في ذلك، فأمر بقطعها وتحريقها، وفي ذلك يقول حسان :
وهان على سَرَاةِ بني لُؤي ** حريق بالبُوَيْرَةِ مستطير
[ البويرة : اسم لنخل بني النضير ] وفي ذلك أنزل الله تعالى : { مَا قَطَعْتُم مِّن لِّينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللهِ } [ الحشر : 5 ] .
واعتزلتهم قريظة، وخانهم عبد الله بن أبي وحلفاؤهم من غطفان، فلم يحاول أحد أن يسوق لهم خيراً، أو يدفع عنهم شراً، ولهذا شبه سبحانه وتعإلى قصتهم، وجعل مثلهم : { كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِّنكَ } [ الحشر : 16 ]
ولم يطل الحصار ـ فقد دام ست ليال فقط، وقيل : خمس عشرة ليلة ـ حتى قذف الله في قلوبهم الرعب، فاندحروا وتهيأوا للاستسلام ولإلقاء السلاح، فأرسلوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم : نحن نخرج عن المدينة . فأنزلهم على أن يخرجوا عنها بنفوسهم وذراريهم، وأن لهم ما حملت الإبل إلا السلاح .
فنزلوا على ذلك، وخربوا بيوتهم بأيديهم، ليحملوا الأبواب والشبابيك، بل حتى حمل بعضهم الأوتاد وجذوع السقف، ثم حملوا النساء والصبيان، وتحملوا على ستمائة بعير، فترحل أكثرهم وأكابرهم كحيي بن أخطب وسلاَّم بن أبي الحُقَيق إلى خيبر، وذهبت طائفة منهم إلى الشام، وأسلم منهم رجلان فقط : يامِينُ بن عمرو وأبو سعد بن وهب، فأحرزا أموالهما . ...
وقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم سلاح بني النضير، واستولي على أرضهم وديارهم وأموالهم، فوجد من السلاح خمسين درعاً وخمسين بيضة، وثلاثمائة وأربعين سيفاً . ...(1/142)
وكانت أموال بني النضير وأرضهم وديارهم خالصة لرسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ يضعها حيث يشاء، ولم يخَمِّسْها لأن الله أفاءها عليه، ولم يوجِف المسلمون عليها بِخَيلٍ ولا رِكاب، فقسمها بين المهاجرين الأولين خاصة، إلا أنه أعطي أبا دُجَانة وسهل بن حُنَيف الأنصاريين لفقرهما . وكان ينفق منها على أهله نفقة سنة، ثم يجعل ما بقي في السلاح والكُرَاع عدة في سبيل الله . ...
كانت غزوة بني النضير في ربيع الأول سنة 4 من الهجرة، أغسطس 625م، وأنزل الله في هذه الغزوة سورة الحشر بأكملها، فوصف طرد اليهود، وفضح مسلك المنافقين، وبين أحكام الفيء، وأثني على المهاجرين والأنصار، وبين جواز القطع والحرق في أرض العدو للمصالح الحربية، وأن ذلك ليس من الفساد في الأرض، وأوصي المؤمنين بالتزام التقوي والاستعداد للآخرة، ثم ختمها بالثناء على نفسه وبيان أسمائه وصفاته .
وكان ابن عباس يقول عن سورة الحشر : قل : سورة النضير . (1)
__________
(1) ) ابن هشام (2/190 , 191 , 192) , زاد المعاد (2/71 , 110) , صحصح البخاري (2/574 , 575)(1/143)
هذه خلاصة ما رواه ابن إسحاق وعامة أهل السير حول هذه الغزوة . وقد روي أبو داود وعبد الرزاق وغيرهما سبباً آخر حول هذه الغزوة، وهو أنه لما كانت وقعة بدر فكتبت كفار قريش بعد وقعة بدر إلى اليهود : إنكم أهل الحلقة والحصون، وإنكم لتقاتلن صاحبنا أو لنفعلن كذا وكذا، ولا يحول بيننا وبين خَدَم نسائكم شيء ـ وهو الخلاخيل ـ فلما بلغ كتابهم اليهود أجمعت بنو النضير على الغدر، فأرسلوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم : اخرج إلينا في ثلاثين رجلاً من أصحابك، ولنخرج في ثلاثين حبراً، حتى نلتقي في مكان كذا، نَصَفٌ بيننا وبينكم، فيسمعوا منك، فإن صدقوك وآمنوا بك آمنا كلنا، فخرج النبي صلى الله عليه وسلم في ثلاثين من أصحابه، وخرج إليه ثلاثون حبراً من يهود، حتى إذا برزوا في براز من الأرض قال بعض اليهود لبعض : كيف تخلصون إليه ومعه ثلاثون رجلاً من أصحابه، كلهم يحب أن يموت قبله، فأرسلوا إليه : كيف تفهم ونفهم ونحن ستون رجلاً ؟ اخرج في ثلاثة من أصحابك ويخرج إليك ثلاثة من علمائنا، فليسمعوا منك، فإن آمنوا بك آمنا كلنا وصدقناك، فخرج النبي صلى الله عليه وسلم في ثلاثة نفر من أصحابه واشتملوا [ أي اليهود ] على الخناجر، وأرادوا الفتك برسول الله صلى الله عليه وسلم، فأرسلت امرأة ناصحة من بني النضير إلى بني أخيها، وهو رجل مسلم من الأنصار، فأخبرته خبر ما أرادت بنو النضير من الغدر برسول الله صلى الله عليه وسلم، فأقبل أخوها سريعاً حتى أدرك النبي صلى الله عليه وسلم، فساره بخبرهم قبل أن يصل النبي صلى الله عليه وسلم إليهم، فرجع النبي صلى الله عليه وسلم، فلما كان من الغد غدا عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالكتائب فحاصرهم، وقال لهم : ( إنكم لاتأمنون عندي إلا بعهد تعاهدوني عليه ) ، فأبوا أن يعطوه عهداً، فقاتلهم يومهم ذلك هو والمسلمون، ثم غدا الغد على بني قريظة بالخيل والكتائب، وترك بني النضير، ودعاهم إلى أن يعاهدوه،(1/144)
فعاهدوه، فانصرف عنهم، وغدا إلى بني النضير بالكتائب، فقاتلهم حتى نزلوا على الجلاء، وعلى أن لهم ما أقلت الإبل إلا الحَلْقة ـ والحلْقة : السلاح ـ فجاءت بنو النضير واحتملوا ما أقلت إبل من أمتعتهم وأبواب بيوتهم وخشبها، فكانوا يخربون بيوتهم فيهدمونها، فيحملون ما وافقهم من خشبها، وكان جلاؤهم ذلك أول حشر الناس إلى الشام .
غزوة ذات الرِّقَاع
ولما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من كسر جناحين قويين من أجنحة الأحزاب الثلاثة تفرغ تمامًا للالتفات إلى الجناح الثالث، أي إلى الأعراب القساة الضاربين في فيافي نجد، والذين ما زالوا يقومون بأعمال النهب والسلب بين آونة وأخري .
ولما كان هؤلاء البدو لا تجمعهم بلدة أو مدينة، ولم يكونوا يقطنون الحصون والقلاع، كانت الصعوبة في فرض السيطرة عليهم وإخماد نار شرهم تمامًا تزداد بكثير عما كانت بالنسبة إلى أهل مكة وخيبر ؛ ولذلك لم تكن تجدي فيهم إلا حملات التأديب والإرهاب، وقام المسلمون بمثل هذه الحملات مرة بعد أخري .
ولفرض الشوكة ـ أو لاجتماع البدو الذين كانوا يتحشدون للإغارة على أطراف المدينة ـ قام رسول الله صلى الله عليه وسلم بحملة تأديبية عرفت بغزوة ذات الرقاع .
وعامة أهل المغازي يذكرون هذه الغزوة في السنة الرابعة، ولكن حضور أبي موسي الأشعري وأبي هريرة رضي الله عنهما في هذه الغزوة يدل على وقوعها بعد خيبر، والأغلب أنها وقعت في شهر ربيع الأول سنة 7 هـ .(1/145)
وملخص ما ذكره أهل السير حول هذه الغزوة : أن النبي صلى الله عليه وسلم سمع باجتماع بني أنمار أو بني ثعلبة وبني مُحَارِب من غطفان، فأسرع بالخروج إليهم في أربعمائة أو سبعمائة من أصحابه، واستعمل على المدينة أبا ذر أو عثمان بن عفان رضي الله عنهما، وسار فتوغل في بلادهم حتى وصل إلى موضع يقال له : نخل، على بعد يومين من المدينة، ولقي جمعاً من غطفان، فتقاربوا وأخاف بعضهم بعضاً ولم يكن بينهم قتال، إلا أنه صلي بهم يومئذ صلاة الخوف . وفي رواية البخاري : وأقيمت الصلاة فصلي بطائفة ركعتين، ثم تأخروا، وصلي بالطائفة الأخري ركعتين، وكان للنبي صلى الله عليه وسلم أربع، وللقوم ركعتان .
وفي البخاري عن أبي موسي الأشعري رضي الله عنهم قال : خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن ستة نفر بيننا بعير نعتقبه، فنقبت أقدامنا، ونقبت قدماي، وسقطت أظفاري، فكنا نلف على أرجلنا الخرق، فسميت ذات الرقاع، لما كنا نعصب الخرق على أرجلنا . (1)
وفيه عن جابر : كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم بذات الرقاع، فإذا أتينا على شجرة ظليلة تركناها للنبي صلى الله عليه وسلم، فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم فتفرق الناس في العضاة، يستظلون بالشجر، ونزل رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت شجرة فعلق بها سيفه . قال جابر : فنمنا نومة، فجاء رجل من المشركين : فاخترط سيف رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال : أتخافني ؟ قال : ( لا ) ، قال : فمن يمنعك مني ؟ قال : ( الله ) . قال جابر : فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعونا، فجئنا، فإذا عنده أعرابي جالس . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إن هذا اخترط سيفي وأنا نائم، فاستيقظت وهو في يده صَلْتًا . فقال لي : من يمنعك مني ؟ قلت : الله، فها هو ذا جالس ) ، ثم لم يعاتبه رسول الله صلى الله عليه وسلم .
__________
(1) ) صحيح البخاري باب غزوة ذات الرقاع (2/592) , وصحيح مسلم باب غزوة ذات الرقاع (2/118)(1/146)
وفي رواية أبي عوانة : فسقط السيف من يده، فأخذه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال : ( من يمنعك مني ؟ ) قال : كن خير آخذ، قال : ( تشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله ؟ ) قال الأعرابي : أعاهدك على ألا أقاتلك، ولا أكون مع قوم يقاتلونك، قال : فخلي سبيله، فجاء إلى قومه، فقال : جئتكم من عند خير الناس . (1)
وفي رواية البخاري : قال مسدد عن أبي عوانة عن أبي بشر : اسم الرجل غَوْرَث ابن الحارث (2) . قال ابن حجر : ووقع عند الواقدي في سبب هذه القصة : أن اسم الأعرابي دُعْثُور، وأنه أسلم، لكن ظاهر كلامه أنهما قصتان في غزوتين . والله أعلم . (3)
وفي مرجعهم من هذه الغزوة سبوا امرأة من المشركين، فنذر زوجها ألا يرجع حتى يهريق دماً في أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، فجاء ليلاً، وقد أرصد رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلين رَبِيئة (4) للمسلمين من العدو، وهما عباد بن بشر وعمار بن ياسر، فضرب عباداً، وهو قائم يصلي، بسهم فنزعه، ولم يبطل صلاته، حتى رشقه بثلاثة أسهم، فلم ينصرف منها حتى سلم، فأيقظ صاحبه، فقال : سبحان الله ! هلا نبهتني، فقال : إني كنت في سورة فكرهت أن أقطعها . (5)
__________
(1) ) مختصر سيرة الرسول للشيخ عبد الله النجدي (ص 264) , وانظر فتح الباري (7/416)
(2) ) صحيح البخاري (2/593)
(3) ) فتح الباري (7/428)
(4) ) ربيئة : الشخص المخصص للمراقبة
(5) ) زاد المعاد (2/112) , وانظر لتفصيل مباحث هذه الغزوة ابن هشام (2/203 إلى 209) , زاد المعاد (2/110 , 111 , 112) , فتح الباري (7/417 إلى 428)(1/147)
كان لهذه الغزوة أثر في قذف الرعب في قلوب الأعراب القساة، وإذا نظرنا إلى تفاصيل السرايا بعدالغزوة نري أن هذه القبائل من غطفان لم تجترئ أن ترفع رأسها بعد هذه الغزوة، بل استكانت شيئاً فشيئاً حتى استسلمت، بل وأسلمت، حتى نري عدة قبائل من هذه الأعراب تقوم مع المسلمين في فتح مكة، وتغزو حُنَيْناً، وتأخذ من غنائمها، ويبعث إليها المصدقون فتعطي صدقاتها بعد الرجوع من غزوة الفتح، فبهذا تم كسر الأجنحة الثلاثة التي كانت ممثلة في الأحزاب، وساد المنطقة الأمن والسلام، واستطاع المسلمون بعد ذلك أن يسدوا بسهولة كل خلل وثلمة حدثت في بعض المناطق من بعض القبائل، بل بعد هذه الغزوة بدأت التمهيدات لفتوح البلدان والممالك الكبيرة ؛ لأن الظروف في داخل البلاد كانت قد تطورت لصالح الإسلام والمسلمين .
وبعد الرجوع من هذه الغزوة أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى شوال سنة 7 هـ .
وبعث في خلال ذلك عدة سرايا . وهاك بعض تفصيلها :
1 ـ سرية غالب بن عبد الله الليثي إلى بني المُلَوَّح بُقدَيْد، في صفر أو ربيع الأول سنة 7 هـ . كان بنو الملوح قد قتلوا أصحاب بشير بن سُوَيْد، فبعثت هذه السرية لأخذ الثأر، فشنوا الغارة في الليل فقتلوا من قتلوا، وساقوا النعم، وطاردهم جيش كبير من العدو، حتى إذا قرب من المسلمين نزل مطر، فجاء سيل عظيم حال بين الفريقين . ونجح المسلمون في بقية الانسحاب .
2 ـ سرية حِسْمَي، في جمادي الثانية سنة 7 هـ، وقد مضي ذكرها في مكاتبة الملوك .
3 ـ سرية عمر بن الخطاب إلى تُرَبَة، في شعبان سنة 7 هـ، ومعه ثلاثون رجلاً . كانوا يسيرون الليل ويستخفون في النهار، وأتي الخبر إلى هوازن فهربوا، وجاء عمر إلى محالهم فلم يلق أحداً، فانصرف راجعاً إلى المدينة .(1/148)
4 ـ سرية بشير بن سعد الأنصاري إلى بني مرة بناحية فَدَك، في شعبان سنة 7هـ في ثلاثين رجلاً . خرج إليهم واستاق الشاء والنعم، ثم رجع فأدركه الطلب عند الليل، فرموهم بالنبل حتى فني نبل بشير وأصحابه، فقتلوا جميعاً إلا بشير، فإنه ارْتُثَّ إلى فدك، فأقام عند يهود حتى برأت جراحه، فرجع إلى المدينة .
5 ـ سرية غالب بن عبد الله الليثي، في رمضان سنة 7 هـ إلى بني عُوَال وبني عبد ابن ثعلبة بالمَيْفَعَة، وقيل إلى الحُرَقَات من جُهَيْنَة، في مائة وثلاثين رجلاً، فهجموا عليهم جميعاً، وقتلوا من أشرف لهم، واستاقوا نعما وشاء، وفي هذه السرية قتل أسامةُ بن زيد نَهِيكَ بن مِرْدَاس بعد أن قال : لا إله إلا الله، فلما قدموا وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم، كبر عليه وقال : ( أقتلته بعد ما قال : لا إله إلا الله ؟ ) فقال : إنما قالها متعوذاً قال : ( فهلا شققت عن قلبه فتعلم أصادق هو أم كاذب ؟ ) .
6 ـ سرية عبد الله بن رواحة إلى خيبر، في شوال سنة 7 هـ في ثلاثين راكبًا . وذلك أن أسِير أو بشير بن زارم كان يجمع غطفان لغزو المسلمين، فأخرجوا أسيرًا في ثلاثين من أصحابه، وأطمعوه أن الرسول صلى الله عليه وسلم يستعمله على خيبر، فلما كانوا بقَرْقَرَة نِيَار وقع بين الفريقين سوء ظن أفضي إلى قتل أسير وأصحابه الثلاثين . ذكر الواقدي هذه السرية في شوال سنة ست قبل خيبر بأشهر .
7 ـ سرية بشير بن سعد الأنصاري إلى يمن وجَبار [ بالفتح، أرض لغطفان، وقيل : لفَزَارَة وعُذْرَة ] ، في شوال سنة 7 هـ في ثلاثمائة من المسلمين، للقاء جمع كبير تجمعوا للإغارة على أطراف المدينة، فساروا الليل وكمنوا النهار، فلما بلغهم مسير بشير هربوا، وأصاب بشير نعما كثيرة، وأسر رجلين، فقدم بهما المدينة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلما .(1/149)
8 ـ سرية أبي حَدْرَد الأسلمي إلى الغابة، ذكرها ابن القيم في سرايا السنة السابعة قبل عمرة القضاء، وملخصها : أن رجلا من جُشَم بن معاوية أقبل في عدد كبير إلى الغابة، يريد أن يجمع قيسًا على محاربة المسلمين . فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا حدرد مع رجلين ليأتوا منه بخبر وعلم، فوصلوا إلى القوم مع غروب الشمس، فكمن أبو حدرد في ناحية، وصاحباه في ناحية أخري، وأبطأ على القوم راعيهم حتى ذهبت فحمة العشاء، فقام رئيس القوم وحده، فلما مر بأبي حدرد رماه بسهم في فؤاده فسقط ولم يتكلم، فاحتز أبو حدرد رأسه، وشد في ناحية العسكر، وكبر، وكبر صاحباه وشدا، فما كان من القوم إلا الفرار، واستاق المسلمون الثلاثة الكثير من الإبل والغنم . (1)
غزوة بدر الثانية أو الآخرة
ولما خضد المسلمون شوكة الأعراب، وكفوا شرهم، أخذوا يتجهزون لملاقاة عدوهم الأكبر، فقد استدار العام وحضر الموعد المضروب مع قريش ـ في غزوة أحد ـ وحق لمحمد صلى الله عليه وسلم وصحبه أن يخرجوا ؛ ليواجهوا أبا سفيان وقومه، وأن يديروا رحى الحرب كرة أخرى حتى يستقر الأمر لأهدي الفريقين وأجدرهما بالبقاء . (2)
ففي شعبان سنة 4هـ يناير سنة 626م خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم لموعده في ألف وخمسمائة، وكانت الخيل عشرة أفراس، وحمل لواءه على بن أبي طالب، واستخلف على المدينة عبد الله بن رواحة، وانتهي إلى بدر، فأقام بها ينتظر المشركين .
__________
(1) ) زاد المعاد (2/149 , 150) وانظر لتفصيل هذه السرايا رحمة للعالمين (2/229 , 230 , 231) زاد المعاد (2/148 , 149 , 150) , تلقيح فهوم أهل الأثر مع حواشيها (ص31) , ومختصر سيرة الرسول للشيخ عبد الله النجدي (ص322 , 323 , 324)
(2) ) كلمة لمحمد الغزالي في فقه السيرة (ص315) .(1/150)
وأما أبو سفيان فخرج في ألفين من مشركي مكة، ومعهم خمسون فرساً، حتى انتهي إلى مَرِّ الظَّهْرَان على بعد مرحلة من مكة فنزل بمَجَنَّة ـ ماء في تلك الناحية .
خرج أبو سفيان من مكة متثاقلاً يفكر في عقبي القتال مع المسلمين، وقد أخذه الرعب، واستولت على مشاعره الهيبة، فلما نزل بمر الظهران خار عزمه، فاحتال للرجوع، وقال لأصحابه : يا معشر قريش، إنه لا يصلحكم إلا عام خصب ترعون فيه الشجر، وتشربون فيه اللبن، وإن عامكم هذا عام جدب، وإني راجع فارجعوا .
ويبدو أن الخوف والهيبة كانت مستولية على مشاعر الجيش أيضاً، فقد رجع الناس ولم يبدوا أي معارضة لهذا الرأي، ولا أي إصرار وإلحاح على مواصلة السير للقاء المسلمين .
وأما المسلمون فأقاموا ببدر ثمانية أيام ينتظرون العدو، وباعوا ما معهم من التجارة فربحوا بدرهم درهمين، ثم رجعوا إلى المدينة وقد انتقل زمام المفاجأة إلى أيديهم، وتوطدت هيبتهم في النفوس، وسادوا على الموقف .
وتعرف هذه الغزوة ببدر الموعد، وبدر الثانية، وبدر الآخرة، وبدر الصغرى. (1)
غزوة دُوَمة الجندل
عاد رسول الله صلى الله عليه وسلم من بدر، وقد ساد المنطقة الأمن والسلام، واطمأنت دولته، فتفرغ للتوجه إلى أقصي حدود العرب حتى تصير السيطرة للمسلمين على الموقف، ويعترف بذلك الموالون والمعادون .
مكث بعد بدر الصغري في المدينة ستة أشهر، ثم جاءت إليه الأخبار بأن القبائل حول دومة الجندل ـ قريباً من الشام ـ تقطع الطريق هناك، وتنهب ما يمر بها وأنها قد حشدت جمعاً كبيرا تريد أن تهاجم المدينة، فاستعمل رسول الله صلى الله عليه وسلم على المدينة سِبَاع ابن عُرْفُطَة الغفاري، وخرج في ألف من المسلمين لخمس ليال بقين من ربيع الأول سنة 5هـ، وأخذ رجلاً من بني عُذْرَة دليلاً للطريق يقال له : مذكور .
__________
(1) انظر لتفصيل هذه الغزوة ابن هشام (2/209 , 210) , زاد المعاد (2/112) .(1/151)
خرج يسير الليل ويكمن النهار حتى يفاجئ أعداءهم وهم غارون، فلما دنا منهم إذا هم مغربون، فهجم على ما شيتهم ورعائهم، فأصاب من أصاب، وهرب من هرب .
وأما أهل دومة الجندل ففروا في كل وجه، فلما نزل المسلمون بساحتهم لم يجدوا أحداً، وأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم أياماً، وبث السرايا وفرق الجيوش، فلم يصب منهم أحداً، ثم رجع إلى المدينة، ووادع في تلك الغزوة عيينة بن حصن . ودُومة بالضم : موضع معروف بمشارف الشام بينها وبين دمشق خمس ليال، وبُعْدُها من المدينة خمس عشرة ليلة . ...
بهذه الإجراءات السريعة الحاسمة، وبهذه الخطط الحكيمة الحازمة نجح النبي صلى الله عليه وسلم في بسط الأمن، وتنفيذ السلام في المنطقة، والسيطرة على الموقف، وتحويل مجري الأيام لصالح المسلمين، وتخفيف المتاعب الداخلية والخارجية التي كانت قد توالت عليهم وأحاطت بهم من كل جانب، فقد سكت المنافقون واستكانوا، وتم إجلاء قبيلة من اليهود، وبقيت الأخري تظاهر بإيفاء حق الجوار، وبإيفاء العهود والمواثيق، واستكانت البدو والأعراب، وحادت قريش عن مهاجمة المسلمين، ووجد المسلمون فرصة لنشر الإسلام وتبليغ رسالات رب العالمين .
غزوة بني المُصطلق أو غزوة المريسيع
( في شعبان 6 هـ )
وهذه الغزوة وإن لم تكن طويلة الذيل، عريضة الأطراف من حيث الوجهة العسكرية، إلا أنها وقعت فيها وقائع أحدثت البلبلة والاضطراب في المجتمع الإسلامي، وتمخضت عن افتضاح المنافقين، والتشريعات التعزيرية التي أعطت المجتمع الإسلامي صورة خاصة من النبل والكرامة وطهارة النفوس . ونسرد الغزوة أولاً، ثم نذكر تلك الوقائع .(1/152)
كانت هذه الغزوة في شعبان سنة ست من الهجرة على أصح الأقوال . (1)
وسببها أنه بلغه صلى الله عليه وسلم أن رئيس بني المصطلق الحارث بن أبي ضِرَار سار في قومه ومن قدر عليه من العرب يريدون حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبعث بُرَيْدَة بن الحصيب الأسلمي لتحقيق الخبر، فأتاهم، ولقي الحارث بن أبي ضرار وكلمه، ورجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره الخبر .
وبعد أن تأكد لديه صلى الله عليه وسلم صحة الخبر ندب الصحابة، وأسرع في الخروج، وكان خروجه لليلتين خلتا من شعبان، وخرج معه جماعة من المنافقين لم يخرجوا في غزاة قبلها، واستعمل على المدينة زيد بن حارثة، وقيل : أبا ذر، وقيل : نُمَيْلَة بن عبد الله الليثي، وكان الحارث بن أبي ضرار قد وجه عينًا ؛ ليأتيه بخبر الجيش الإسلامي، فألقي المسلمون عليه القبض وقتلوه .
__________
(1) ) والدليل على ذلك ما ثبت في حديث الإفك من أن القضية كانت بعد ما أنزل الحجاب , وآية الحجاب نزلت في شأن زينب , زينب إذ ذاك كانت تحته , فإنه صلى الهل عليه وسلم سألها عن عائشة فقالت : أحمي سمعي وبصري , قالت عائشة : وهي التي كانت تساميني من أزواح النبي صلى الله عليه وسلم , وأما ما وقع في حديث الإفك من أن سعد بن معاذ وسعد بن عبادة تنازعا في أصحاب الإفك , ومعلوم أن سعد بن معاذ مات عقب غزوة بني قريظة , فالظاهر أن هذا وهم الرواي , فقد روي إبن اسحاق حديث الإفك عن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة عن عائشة , فلم يذكر فيه سعد بن معاذ بل ذكر أسيد بن حضير , قال أبو محمد بن حزم : وهذا هو الصحيح الذي لا شك فيه , وذكر سعد بن معاذ وهم ( وانظر زاد المعاد 2/115) والعجب = من محمد الغزالي أنه نسب إلى ابن القيم أنه يعتبر هذه الغزوة من حوادث السنة الخامسة (فقه السيرة ص 223) مع أن كلامه في الهدي (2/115) يأبى عن ذلك .(1/153)
ولما بلغ الحارث بن أبي ضرار ومن معه مسير رسول الله صلى الله عليه وسلم وقتله عينه، خافوا خوفاً شديداً وتفرق عنهم من كان معهم من العرب، وانتهي رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المُرَيْسِيع ـ بالضم فالفتح مصغراً، اسم لماء من مياههم في ناحية قُدَيْد إلى الساحل ـ فتهيأوا للقتال . وَصَفَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه، وراية المهاجرين مع أبي بكر الصديق، وراية الأنصار مع سعد بن عبادة، فتراموا بالنبل ساعة، ثم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فحملوا حملة رجل واحد، فكانت النصرة وانهزم المشركون، وقتل من قتل، وسبى رسول الله صلى الله عليه وسلم النساء والذراري والنعم والشاء، ولم يقتل من المسلمين إلا رجل واحد، قتله رجل من الأنصار ظناً منه أنه من العدو .
كذا قال أهل المغازي والسير، قال ابن القيم : هو وَهْم، فإنه لم يكن بينهم قتال، وإنما أغار عليهم على الماء فسبي ذراريهم وأموالهم، كما في الصحيح أغار رسول صلى الله عليه وسلم على بني المصطلق وهم غارون، وذكر الحديث (1) انتهي .
وكان من جملة السبي : جُوَيْرِيَة بنت الحارث سيد القوم، وقعت في سهم ثابت ابن قيس، فكاتبها، فأدي عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم وتزوجها، فأعتق المسلمون بسبب هذا التزويج مائة أهل بيت من بني المصطلق قد أسلموا، وقالوا : أصهار رسول الله صلى الله عليه وسلم . (2)
وأما الوقائع التي حدثت في هذه الغزوة، فلأجل أن مبعثها كان هو رأس النفاق عبد الله بن أبي وأصحابه، نري أن نورد أولاً شيئاً من أفعالهم في المجتمع الإسلامي .
دور المنافقين قبل غزوة بني المصطلق
__________
(1) ) وانظر صحيح البخاري كتاب العتق (1/345) , وانظر أيضا فتح الباري (7/341) .
(2) ) زاد المعاد (2/112 , 113) , ابن هشام (2/289 , 290 , 294 , 295) .(1/154)
قدمنا مراراً أن عبد الله بن أبي كان يَحْنَقُ على الإسلام والمسلمين، ولاسيما على رسول الله صلى الله عليه وسلم حَنَقًا شديداً ؛ لأن الأوس والخزرج كانوا قد اتفقوا على سيادته، وكانوا ينظمون له الخَرَزَ ليتوجوه إذ دخل فيهم الإسلام، فصرفهم عن ابن أبي، فكان يري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الذي استلبه ملكه .
وقد ظهر حنقه هذا وتحرقه منذ بداية الهجرة قبل أن يتظاهر بالإسلام، وبعد أن تظاهر به . ركب رسول الله صلى الله عليه وسلم مرة على حمار ليعود سعد بن عبادة، فمر بمجلس فيه عبد الله بن أبي فخَمَّرَ ابن أبي أنفه، وقال : لا تُغَبِّرُوا علينا . ولما تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم على المجلس القرآن، قال : اجلس في بيتك، ولا تغشنا في مجلسنا (1)
وهذا قبل أن يتظاهر بالإسلام، ولما تظاهر به بعد بدر لم يزل إلا عدوًا لله ولرسوله وللمؤمنين، ولم يكن يفكر إلا في تشتيت المجتمع الإسلامي وتوهين كلمة الإسلام . وكان يوإلى أعداءه، وقد تدخل في أمر بني قينقاع كما ذكرنا، وكذلك جاء في غزوة أحد من الشر والغدر والتفريق بين المسلمين، وإثارة الارتباك والفوضي في صفوفهم بما مضي .
__________
(1) ) ابن هشام (1/584,587) , صحيح البخاري (2/924) , وصحيح مسلم (2/9) .(1/155)
وكان من شدة مكر هذا المنافق وخداعه بالمؤمنين أنه كان بعد التظاهر بالإسلام، يقوم كل جمعة حين يجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم للخطبة، فيقول : هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أظهركم، أكرمكم الله وأعزكم به، فانصروه وعزروه، واسمعوا له وأطيعوا، ثم يجلس، فيقوم رسول الله صلى الله عليه وسلم ويخطب . وكان من وقاحة هذا المنافق أنه قام في يوم الجمعة التي بعد أحد ـ مع ما ارتكبه من الشر والغدر الشنيع ـ قام ليقول ما كان يقوله من قبل، فأخذ المسلمون بثيابه من نواحيه، وقالوا له : اجلس أي عدو الله، لست لذلك بأهل وقد صنعت ما صنعت، فخرج يتخطي رقاب الناس، وهو يقول : والله لكأنما قلت بُجْرًا أن قمت أشدد أمره، فلقيه رجل من الأنصار بباب المسجد . . . فقال : ويلك، ارجع يستغفر لك رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال : والله ما أبتغي أن يستغفر لي . (1)
وكانت له اتصالات ببني النضير يؤامر معهم ضد المسلمين حتى قال لهم : { لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلَا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِن قُوتِلْتُمْ لَنَنصُرَنَّكُمْ } [ الحشر : 11 ] .
وكذلك فعل هو وأصحابه في غزوة الأحزاب من إثارة القلق والاضطراب وإلقاء الرعب والدهشة في قلوب المؤمنين ما قصه الله تعالى في سورة الأحزاب : { وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ مَّا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا } إلى قوله : { يَحْسَبُونَ الْأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِن يَأْتِ الْأَحْزَابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُم بَادُونَ فِي الْأَعْرَابِ يَسْأَلُونَ عَنْ أَنبَائِكُمْ وَلَوْ كَانُوا فِيكُم مَّا قَاتَلُوا إِلَّا قَلِيلًا } [ الأحزاب : 12: 20 ] .
__________
(1) ) ابن هشام (2/105) .(1/156)
بيد أن جميع أعداء الإسلام من اليهود والمنافقين والمشركين كانوا يعرفون جيداً أن سبب غلبة الإسلام ليس هو التفوق المادي وكثرة السلاح والجيوش والعدد، وإنما السبب هي القيم والأخلاق والمثل التي يتمتع بها المجتمع الإسلامي وكل من يمت بصلة إلى هذا الدين، وكانوا يعرفون أن منبع هذا الفيض إنما هو رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي هو المثل الأعلى ـ إلى حد الإعجاز ـ لهذه القيم، كما عرفوا بعد إدارة دفة الحروب طيلة خمس سنين، أن القضاء على هذا الدين وأهله لا يمكن عن طريق استخدام السلاح، فقرروا أن يشنوا حرباً دعائية واسعة ضد الدين من ناحية الأخلاق والتقاليد، وأن يجعلوا شخصية الرسول صلى الله عليه وسلم أول هدف لهذه الدعاية الكاذبة الخاطئة . ولما كان المنافقون هم الطابور الخامس في صفوف المسلمين، ولكونهم سكان المدينة، كان يمكن لهم الاتصال بالمسلمين واستفزاز مشاعرهم كل حين . تحمل فريضة الدعاية هؤلاء المنافقون، وعلى رأسهم ابن أبي .
وقد ظهرت خطتهم هذه جلية حينما تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم بأم المؤمنين زينب بنت جحش، بعد أن طلقها زيد بن حارثة، فقد كان من تقاليد العرب أنهم كانوا يعتبرون المتبني مثل الابن الصلبي، فكانوا يعتقدون حرمة حليلة المتبني على الرجل الذي تبناه، فلما تزوج النبي صلى الله عليه وسلم بزينب وجد المنافقون ثُلْمَتَيْن ـ حسب زعمهم ـ لإثارة المشاغب ضد النبي صلى الله عليه وسلم .
الأولى : أن زوجته هذه كانت زوجة خامسة، والقرآن لم يكن أذن في الزواج بأكثر من أربع نسوة، فكيف صح له هذا الزواج ؟(1/157)
الثانية : أن زينب كانت زوجة ابنه ـ مُتَبَنَّاه ـ فالزواج بها من أكبر الكبائر، حسب تقاليد العرب . وأكثروا من الدعاية في هذا السبيل، واختلقوا قصصاً وأساطير، قالوا : إن محمداً رآها بغتة، فتأثر بحسنها وشغفته حباً، وعلقت بقلبه، وعلم بذلك ابنه زيد فخلي سبيلها لمحمد، وقد نشروا هذه الدعاية المختلقة نشراً بقيت آثاره في كتب التفسير والحديث إلى هذا الزمان، وقد أثرت تلك الدعاية أثراً قوياً في صفوف الضعفاء حتى نزل القرآن بالآيات البينات فيها شفاء لما في الصدور، وينبئ عن سعة نشر هذه الدعاية أن الله استفتح سورة الأحزاب بقوله : { يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًاَ } [ الأحزاب : 1 ] .
وهذه إشارات عابرة، وصور مصغرة لما اقترفه المنافقون قبل غزوة بني المصطلق، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يكابد كل ذلك بالصبر واللين والتلطف، وكان عامة المسلمين يحترزون عن شرهم، أو يتحملونه بالصبر ؛ إذ كانوا قد عرفوهم بافتضاحهم مرة بعد أخري حسب قوله تعالى : { أَوَلاَ يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَّرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لاَ يَتُوبُونَ وَلاَ هُمْ يَذَّكَّرُونَ } [ التوبة : 126 ] .
دور المنافقين في غزوة بني المصطلق
ولما كانت غزوة بني المصطلق وخرج فيها المنافقون مثلوا قوله تعالى : { لَوْ خَرَجُواْ فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً ولأَوْضَعُواْ خِلاَلَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ } [ التوبة : 47 ] فقد وجدوا متنفسين للتنفس بالشر، فأثاروا الارتباك الشديد في صفوف المسلمين، والدعاية الشنيعة ضد النبي صلى الله عليه وسلم، وهاك بعض التفصيل عنها :
1 ـ قول المنافقين : [ لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل ](1/158)
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الفراغ من الغزوة مقيماً على المُرَيْسِيع، ووردت واردة الناس، ومع عمر بن الخطاب أجير يقال له : جَهْجَاه الغفاري، فازدحم هو وسِنَان بن وَبَر الجهني على الماء فاقتتلا، فصرخ الجهني : يا معشر الأنصار، وصرخ جهجاه : يا معشر المهاجرين، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( أبدعوي الجاهلية وأنا بين أظهركم ؟ دعوها فإنها مُنْتِنَة ) ، وبلغ ذلك عبد الله بن أبي بن سلول فغضب ـ وعنده رهط من قومه، فيهم زيد بن أرقم غلام حدث ـ وقال : أو قد فعلوها، قد نافرونا وكاثرونا في بلادنا، والله ما نحن وهم إلا كما قال الأول : سَمِّنْ كَلْبَكَ يَأكُلْكَ، أما والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل، ثم أقبل على من حضره فقال لهم : هذا ما فعلتم بأنفسكم، أحللتموهم بلادكم، وقاسمتموهم أموالكم، أما والله لو أمسكتم عنهم ما بأيديكم لتحولوا إلى غير داركم .
فأخبر زيد بن أرقم عمه بالخبر، فأخبر عمه رسول الله صلى الله عليه وسلم وعنده عمر، فقال عمر : مُرْ عَبَّاد بن بشر فليقتله . فقال : ( فكيف يا عمر إذا تحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه ؟ لا ولكن أَذِّنْ بالرحيل ) ، وذلك في ساعة لم يكن يرتحل فيها، فارتحل الناس، فلقيه أسيد بن حضير فحياه، وقال : لقد رحت في ساعة منكرة ؟ فقال له : ( أو ما بلغك ما قال صاحبكم ؟ ) يريد ابن أبي، فقال : وما قال ؟ قال : ( زعم أنه إن رجع إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل ) ، قال : فأنت يا رسول الله، تخرجه منها إن شئت، هو والله الذليل وأنت العزيز، ثم قال : يا رسول الله، ارفق به، فوالله لقد جاءنا الله بك، وإن قومه لينظمون له الخَرَز ليتوجوه، فإنه يري أنك استلبته ملكاً .
ثم مشي بالناس يومهم ذلك حتى أمسي، وليلتهم حتى أصبح، وصَدْر يومهم ذلك حتى آذتهم الشمس، ثم نزل بالناس، فلم يلبثوا أن وجدوا مَسَّ الأرض فوقعوا نياماً . فعل ذلك ليشغل الناس عن الحديث .(1/159)
أما ابن أبي فلما علم أن زيد بن أرقم بلغ الخبر جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحلف بالله ما قلت ما قال، ولا تكلمت به، فقال من حضر من الأنصار : يا رسول الله عسي أن يكون الغلام قد أوهم في حديثه، ولم يحفظ ما قال الرجل . فصدقه، قال زيد : فأصابني هَمٌّ لم يصبني مثله قط، فجلست في بيتي، فأنزل الله : { إِذَا جَاءكَ الْمُنَافِقُونَ } إلى قوله : { هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا تُنفِقُوا عَلَى مَنْ عِندَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنفَضُّوا } إلى { لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ } [ المنافقون : 1 ـ 8 ] ، فأرسل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرأها علي . ثم قال : ( إن الله قد صدقك ) . (1)
وكان ابن هذا المنافق ـ وهو عبد الله بن عبد الله بن أبي ـ رجلاً صالحاً من الصحابة الأخيار، فتبرأ من أبيه، ووقف له على باب المدينة، واستل سيفه، فلما جاء ابن أبي قال له : والله لا تجوز من هاهنا حتى يأذن لك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنه العزيز وأنت الذليل، فلما جاء النبي صلى الله عليه وسلم أذن له فخلي سبيله، وكان قد قال عبد الله ابن عبد الله بن أبي : يا رسول الله، إن أردت قتله فمرني بذلك، فأنا والله أحمل إليك رأسه . (2)
2 ـ حديث الإفك
__________
(1) ) انظر صحيح البخاري (1/499 , 2/727 , 729) , وابن هشام (2/290 , 291 , 292 ) .
(2) ) نفس المصدر الأخير , ومختصر السيرة للشيخ عبد الله النجدي (ص277) .(1/160)
وفي هذه الغزوة كانت قصة الإفك، وملخصها : أن عائشة رضي الله عنها كانت قد خرج بها رسول الله صلى الله عليه وسلم معه في هذه الغزوة بقرعة أصابتها، وكانت تلك عادته مع نسائه، فلما رجعوا من الغزوة نزلوا في بعض المنازل، فخرجت عائشة لحاجتها، ففقدت عقداً لأختها كانت أعارتها إياه، فرجعت تلتمسه في الموضع الذي فقدته فيه في وقتها، فجاء النفر الذين كانوا يرحلون هَوْدَجَها فظنوها فيه فحملوا الهودج، ولا ينكرون خِفَّتَه؛ لأنها رضي الله عنها كانت فَتِيَّةَ السن لم يَغْشَهَا اللحم الذي كان يثقلها، وأيضاً فإن النفر لما تساعدوا على حمل الهودج لم ينكروا خفته، ولو كان الذي حمله واحداً أو اثنين لم يخف عليهما الحال، فرجعت عائشة إلى منازلهم، وقد أصابت العقد، فإذا ليس به داع ولا مجيب، فقعدت في المنزل، وظنت أنهم سيفقدونها فيرجعون في طلبها، والله غالب على أمره، يدبر الأمر من فوق عرشه كما يشاء، فغلبتها عيناها، فنامت، فلم تستيقظ إلا بقول صفوان بن المُعَطَّل : إنا لله وإنا إليه راجعون، زوجة رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ وكان صفوان قد عَرَس في أخريات الجيش ؛ لأنه كان كثير النوم، فلما رآها عرفها، وكان يراها قبل نزول الحجاب، فاسترجع وأناخ راحلته، فقربها إليها، فركبتها، وما كلمها كلمة واحدة، ولم تسمع منه إلا استرجاعه، ثم سار بها يقودها، حتى قدم بها، وقد نزل الجيش في نحر الظهيرة، فلما رأي ذلك الناس تكلم كل منهم بشاكلته، وما يليق به، ووجد الخبيث عدو الله ابن أبي متنفساً، فتنفس من كرب النفاق والحسد الذي بين ضلوعه، فجعل يستحكي الإفك، ويستوشيه، ويشيعه، ويذيعه، ويجمعه ويفرقه، وكان أصحابه يتقربون به إليه، فلما قدموا المدينة أفاض أهل الإفك في الحديث، ورسول الله صلى الله عليه وسلم ساكت لايتكلم، ثم استشار أصحابه ـ لما استلبث الوحي طويلاً ـ في فراقها، فأشار عليه علي رضي الله عنه أن يفارقها، ويأخذ غيرها، تلويحاً(1/161)
لاتصريحاً، وأشار عليه أسامة وغيره بإمساكها، وألا يلتفت إلى كلام الأعداء . فقام على المنبر يستعذر من عبد الله ابن أبي، فأظهر أسيد بن حضير سيد الأوس رغبته في قتله فأخذت سعد بن عبادة ـ سيد الخزرج، وهي قبيلة ابن أبي ـ الحمية القبلية، فجري بينهما كلام تثاور له الحيان، فخفضهم رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى سكتوا وسكت .
أما عائشة فلما رجعت مرضت شهراً، وهي لاتعلم عن حديث الإفك شيئاً، سوي أنها كانت لا تعرف من رسول الله صلى الله عليه وسلم اللطف الذي كانت تعرفه حين تشتكي، فلما نَقِهَتْ خرجت مع أم مِسْطَح إلى البَرَاز ليلاً، فعثرت أم مسطح في مِرْطِها، فدعت على ابنها، فاستنكرت ذلك عائشة منها، فأخبرتها الخبر، فرجعت عائشة واستأذنت رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ لتأتي أبويها وتستيقن الخبر، ثم أتتهما بعد الإذن حتى عرفت جلية الأمر، فجعلت تبكي، فبكت ليلتين ويوماً، لم تكن تكتحل بنوم، ولا يرقأ لها دمع، حتى ظنت أن البكاء فالق كبدها، وجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك، فتشهد وقال : ( أما بعد يا عائشة، فإنه قد بلغني عنك كذا وكذا، فإن كنت بريئة فسيبرئك الله، وإن كنت ألممت بذنب فاستغفري الله وتوبي إليه، فإن العبد إذا اعترف بذنبه، ثم تاب إلى الله تاب الله عليه ) .
وحينئذ قَلَص دمعها، وقالت لكل من أبويها أن يجيبا، فلم يدريا ما يقولان . فقالت : والله لقد علمت لقد سمعتم هذا الحديث حتى استقر في أنفسكم، وصدقتم به، فلئن قلت لكم : إني بريئة ـ والله يعلم أني بريئة ـ لا تصدقونني بذلك، ولئن اعترفت لكم بأمر ـ والله يعلم أني منه بريئة ـ لتُصَدِّقنِّي، والله ما أجد لي ولكم مثلاً إلا قول أبي يوسف، قال : { فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ } [ يوسف : 18 ] .(1/162)
ثم تحولت واضطجعت، ونزل الوحي ساعته، فَسُرِّي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يضحك . فكانت أول كلمة تكلم بها : ( يا عائشة، أما الله فقد برأك ) ، فقالت لها أمها : قومي إليه . . فقالت عائشة ـ إدلالاً ببراءة ساحتها، وثقة بمحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ والله لا أقوم إليه، ولا أحمد إلا الله .
والذي أنزله الله بشأن الإفك هو قوله تعالي : { إِنَّ الَّذِينَ جَاؤُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِّنكُمْ . . . } [ النور : 11: 20 ] . العشر الآيات .
وجُلِد من أهل الإفك مِسْطَح بن أثاثة، وحسان بن ثابت، وحَمْنَة بنت جحش، جلدوا ثمانين ثمانين، ولم يُحَدّ الخبيث عبد الله بن أبي مع أنه رأس أهل الإفك، والذي تولي كبره ؛ إما لأن الحدود تخفيف لأهلها، وقد وعده الله بالعذاب العظيم في الآخرة، وإما للمصلحة التي ترك لأجلها قتله . (1)
وهكذا وبعد شهر أقشعت سحابة الشك والارتياب والقلق والاضطراب عن جو المدينة، وافتضح رأس المنافقين افتضاحاً لم يستطع أن يرفع رأسه بعد ذلك، قال ابن إسحاق : وجعل بعد ذلك إذا أحدث الحدث كان قومه هم الذين يعاتبونه ويأخذونه ويعنفونه . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمر : ( كيف ترى يا عمر ؟ أما والله لوقتلته يوم قلت لي : اقتله، لأرعدت له آنف، ولو أمرتها اليوم بقتله لقتلته ) . قال عمر : قد والله علمتُ، لأمْر رسول الله صلى الله عليه وسلم أعظم بركة من أمري . (2)
غزوة الأحزاب ( الخندق )
__________
(1) ) صحيح البخاري (1/364 , 2/696 , 697 , 698) , زاد المعاد (2/113 , 114 , 115 ) , وابن هشام (2/297 إلى 307 ) .
(2) ) ابن هشام (2/293) .(1/163)
عاد الأمن والسلام، وهدأت الجزيرة العربية بعد الحروب والبعوث التي استغرقت أكثر من سنة كاملة، إلا أن اليهود ـ الذين كانوا قد ذاقوا ألواناً من الذلة والهوان نتيجة غدرهم وخيانتهم ومؤامراتهم ودسائسهم ـ لم يفيقوا من غيهم، ولم يستكينوا، ولم يتعظوا بما أصابهم من نتيجة الغدر والتآمر . فهم بعد نفيهم إلى خيبر ظلوا ينتظرون ما يحل بالمسلمين من خلال المناوشات التي كانت قائمة بين المسلمين والوثنيين، ولما تحول مجري الأيام لصالح المسلمين، وتمخضت الأيام والليالي عن بسط نفوذهم، وتوطد سلطانهم ـ تحرق هؤلاء اليهود أي تحرق .
وشرعوا في التآمر من جديد على المسلمين، وأخذوا يعدون العدة، لتصويب ضربة إلى المسلمين تكون قاتلة لا حياة بعدها . ولما لم يكونوا يجدون في أنفسهم جرأة على قتال المسلمين مباشرة، خططوا لهذا الغرض خطة رهيبة .
خرج عشرون رجلاً من زعماء اليهود وسادات بني النضير إلى قريش بمكة، يحرضونهم على غزو الرسول صلى الله عليه وسلم، ويوالونهم عليه، ووعدوهم من أنفسهم بالنصر لهم، فأجابتهم قريش، وكانت قريش قد أخلفت موعدها في الخروج إلى بدر، فرأت في ذلك إنقاذا لسمعتها والبر بكلمتها .
ثم خرج هذا الوفد إلى غَطَفَان، فدعاهم إلى ما دعا إليه قريشاً فاستجابوا لذلك، ثم طاف الوفد في قبائل العرب يدعوهم إلى ذلك فاستجاب له من استجاب، وهكذا نجح ساسة اليهود وقادتهم في تأليب أحزاب الكفر على النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين .
وعلى إثر ذلك خرجت من الجنوب قريش وكنانة وحلفاؤهم من أهل تهامة ـ وقائدهم أبو سفيان ـ في أربعة آلاف، ووافاهم بنو سليم بمَرِّ الظَّهْرَان، وخرجت من الشرق قبائل غطفان : بنو فَزَارة، يقودهم عُيينَة بن حِصْن، وبنو مُرَّة، يقودهم الحارث بن عوف، وبنو أشجع، يقودهم مِسْعَر بن رُحَيلَةِ، كما خرجت بنو أسد وغيرها .
واتجهت هذه الأحزاب وتحركت نحو المدينة على ميعاد كانت قد تعاقدت عليه .(1/164)
وبعد أيام تجمع حول المدينة جيش عَرَمْرَم يبلغ عدده عشرة آلاف مقاتل، جيش ربما يزيد عدده على جميع من في المدينة من النساء والصبيان والشباب والشيوخ .
ولو بلغت هذه الأحزاب والمحزبة والجنود المجندة إلى أسوار المدينة بغتة لكانت أعظم خطراً على كيان المسلمين مما يقاس، وربما تبلغ إلى استئصال الشأفة وإبادة الخضراء، ولكن قيادة المدينة كانت قيادة متيقظة، لم تزل واضعة أناملها على العروق النابضة، تتجسس الظروف، وتقدر ما يتمخض عن مجراها، فلم تكد تتحرك هذه الجيوش عن مواضعها حتى نقلت استخبارات المدينة إلى قيادتها فيها بهذا الزحف الخطير .
وسارع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عقد مجلس استشاري أعلي، تناول فيه موضوع خطة الدفاع عن كيان المدينة، وبعد مناقشات جرت بين القادة وأهل الشوري اتفقوا على قرار قدمه الصحابي النبيل سلمان الفارسي ضي الله عنه .
قال سلمان : يا رسول الله، إنا كنا بأرض فارس إذا حوصرنا خَنْدَقْنَا علينا . وكانت خطة حكيمة لم تكن تعرفها العرب قبل ذلك .
وأسرع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى تنفيذ هذه الحظة، فوكل إلى كل عشرة رجال أن يحفروا من الخندق أربعين ذراعاً، وقام المسلمون بجد ونشاط يحفرون الخندق، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يحثهم ويساهمهم في عملهم هذا . ففي البخاري عن سهل بن سعد، قال : كنا مع رسول الله في الخندق، وهم يحفرون، ونحن ننقل التراب على أكتادنا (1) ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( اللهم لا عَيشَ إلا عيشُ الآخرة، فاغفر للمهاجرين والأنصار ) . (2) ...
وعن أنس : خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الخندق فإذا المهاجرين والأنصار يحفرون في غداة باردة، فلم يكن لهم عبيد يعملون ذلك لهم، فلما رأي ما بهم من النصب والجوع قال :
__________
(1) ) أكتادنا : بالمثناة جمع كتد وهو ما بين الكاهل إلى الظهر .
(2) ) صحيح البخاري باب غزوة الخندق (2/588) .(1/165)
اللهم إن العيش عيش الآخرة ** فاغفر للأنصار والمهاجرة
فقالوا مجيبين له :
نحن الذين بايعوا محمداً ** على الجهاد ما بقينا أبداً (1)
وفيه عن البراء بن عازب قال : رأيته صلى الله عليه وسلم ينقل من تراب الخندق حتى واري عني الغبار جلدة بطنه، وكان كثير الشعر، فسمعته يرتجز بكلمات ابن رواحة، وهو ينقل من التراب ويقول :
اللهم لولا أنت ما اهتدينا ** ولا تصدقنا ولا صلينا
فأنزلن سكينة علينا ** وثبت الأقدام إن لاقينا
إن الألى رغبوا علينا ** وإن أرادوا فتنة أبينا
قال : ثم يمد بها صوته بآخرها، وفي رواية :
إن الألى قد بغوا علينا ** وإن أرادوا فتنة أبينا (2)
كان المسلمون يعملون بهذا النشاط وهم يقاسون من شدة الجوع ما يفتت الأكباد، قال أنس : كان أهل الخندق يؤتون بملء كفي من الشعير، فيصنع لهم بإهَالَةٍ سنخة (3) توضع بين يدي القوم، والقوم جياع، وهي بشعة في الحلق ولها ريح .
وقال أبو طلحة : شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الجوع، فرفعنا عن بطوننا عن حجر حجر، فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم عن حجرين . (4)
وبهذه المناسبة وقعت أثناء حفر الخندق آيات من أعلام النبوة، رأي جابر بن عبد الله في النبي صلى الله عليه وسلم خمصاً شديدًا فذبح بهيمة، وطحنت امرأته صاعاً من شعير، ثم التمس من رسول الله صلى الله عليه وسلم سراً أن يأتي في نفر من أصحابه، فقام النبي صلى الله عليه وسلم بجميع أهل الخندق، وهم ألف، فأكلوا من ذلك الطعام وشبعوا، وبقيت بُرْمَة اللحم تغط به كما هي، وبقي العجين يخبز كما هو . (5)
__________
(1) ) نفس المصدر .
(2) ) نفس المصدر (2/589) .
(3) ) نفس المصدر (2/589) . والإهالة : الدهن الذي يؤتدم به سواء كان زيتاً أو سمناً أو شحماً .. سنحة : أي تغير طعمها ولونها من قدمها .
(4) ) رواه الترمذي مشكاة المصابيح (2/448) .
(5) ) روى ذلك البخاري (2/588 , 589 ) .(1/166)
وجاءت أخت النعمان بن بشير بحَفْنَة من تمر إلى الخندق ليتغدي به أبوه وخاله، فمرت برسول الله صلى الله عليه وسلم، فطلب منها التمر، وبدده فوق ثوب، ثم دعا أهل الخندق، فجعلوا يأكلون منه وجعل التمر يزيد، حتى صدر أهل الخندق عنه، وإنه يسقط من أطراف الثواب . (1) ...
وأعظم من هذين ما رواه البخاري عن جابر قال : إنا يوم خندق نحفر، فعرضت كُدْية شديدة، فجاءوا النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا : هذه كدية عرضت في الخندق . فقال : ( أنا نازل ) ، ثم قام وبطنه معصوب بحجر ـ ولبثنا ثلاثة لا نذوق ذواقاً ـ فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم المِعْوَل، فضرب فعاد كثيباً أهْيل أو أهْيم (2) ، أي صار رملاً لا يتماسك .
وقال البراء : لما كان يوم الخندق عرضت لنا في بعض الخندق صخرة لا تأخذ منها المعاول، فاشتكينا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاءة وأخذ المعول فقال : ( بسم الله ) ، ثم ضرب ضربة، وقال : ( الله أكبر، أعطيت مفاتيح الشام، والله إني لأنظر قصورها الحمر الساعة ) ، ثم ضرب الثانية فقطع آخر، فقال : ( الله أكبر، أعطيت فارس، والله إني لأبصر قصر المدائن الأبيض الآن ) ، ثم ضرب الثالثة، فقال : ( بسم الله ) ، فقطع بقية الحجر، فقال : ( الله أكبر، أعطيت مفاتيح اليمن، والله إني لأبصر أبواب صنعاء من مكاني ) . (3)
وروي ابن إسحاق مثل ذلك عن سلمان الفارسي رضي الله عنه . (4)
ولما كانت المدينة تحيط بها الحرات والجبال وبساتين من النخيل من كل جانب سوي الشمال، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يعلم أن زحف مثل هذا الجيش الكبير، ومهاجمته المدينة لا يمكن إلا من جهة الشمال، اتخذ الخندق في هذا الجانب .
__________
(1) ) ابن هشام (2/218) .
(2) ) صحيح البخاري (2/588) .
(3) ) سنن النسائي (2/56) , وأحمد في مسنده واللفظ ليس للنسائي , وفيه عن رجل من الصحابة .
(4) ) ابن هشام (2/219) .(1/167)
وواصل المسلمون عملهم في حفره، فكانوا يحفرونه طول النهار، ويرجعون إلى أهليهم في المساء، حتى تكامل الخندق حسب الخطة المنشودة، قبل أن يصل الجيش الوثني العرمرم إلى أسوار المدينة . (1)
وأقبلت قريش في أربعة آلاف، حتى نزلت بمجتمع الأسيال من رُومَة بين الجُرْف وزَغَابَة، وأقبلت غَطَفَان ومن تبعهم من أهل نجد في ستة آلاف حتى نزلوا بذَنَبِ نَقْمَي إلى جانب أحد . ... { وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا } [ الأحزاب : 22 ] .
وأما المنافقون وضعفاء النفوس فقد تزعزعت قلوبهم لرؤية هذا الجيش { وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ مَّا وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا } [ الأحزاب : 12 ] .
وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثلاثة آلاف من المسلمين، فجعلوا ظهورهم إلى جبل سَلْع فتحصنوا به، والخندق بينهم وبين الكفار . وكان شعارهم : [ حم لا ينصرون ] ، واستحلف على المدينة ابن أم مكتوم، وأمر بالنساء والذراري فجعلوا في آطام المدينة . ...
ولما أراد المشركون مهاجمة المسلمين واقتحام المدينة، وجدوا خندقاً عريضاً يحول بينهم وبينها، فالتجأوا إلى فرض الحصار على المسلمين، بينما لم يكونوا مستعدين له حين خرجوا من ديارهم، إذ كانت هذه الخطة ـ كما قالوا ـ مكيدة ما عرفتها العرب، فلم يكونوا أدخلوها في حسابهم رأساً .
وأخذ المشركون يدورون حول الخندق غضاباً، يتحسسون نقطة ضعيفة ؛ لينحدروا منها، وأخذ المسلمون يتطلعون إلى جولات المشركين، يرشقونهم بالنبل، حتى لا يجترئوا على الاقتراب منه، ولا يستطيعوا أن يقتحموه، أو يهيلوا عليه التراب، ليبنوا به طريقاً يمكنهم من العبور . ...
__________
(1) ) نفس المصدر (3/330 , 331) .(1/168)
وكره فوارس من قريش أن يقفوا حول الخندق من غير جدوي في ترقب نتائج الحصار، فإن ذلك لم يكن من شيمهم، فخرجت منها جماعة فيها عمرو بن عبد وُدّ وعكرمة بن أبي جهل وضرار بن الخطاب وغيرهم، فتيمموا مكاناً ضيقاً من الخندق فاقتحموه، وجالت بهم خيلهم في السَّبْخة بين الخندق وسَلْع، وخرج على بن أبي طالب في نفر من المسلمين حتى أخذوا عليهم الثغرة التي أقحموا منها خيلهم، ودعا عمرو إلى المبارزة، فانتدب له على بن أبي طالب، وقال كلمة حمي لأجلها ـ وكان من شجعان المشركين وأبطالهم ـ فاقتحم عن فرسه فعقره وضرب وجهه، ثم أقبل على علي، فتجاولا وتصاولا حتى قتله علي رضي الله عنه، وانهزم الباقون حتى اقتحموا الخندق هاربين، وقد بلغ بهم الرعب إلى أن ترك عكرمة رمحه وهو منهزم عن عمرو .
وقد حاول المشركون في بعض الأيام محاولة بليغة لاقتحام الخندق، أو لبناء الطرق فيها، ولكن المسلمين كافحوا مكافحة مجيدة، ورشقوهم بالنبل، وناضلوهم أشد النضال حتى فشل المشركون في محاولتهم .
ولأجل الاشتغال بمثل هذه المكافحة الشديدة فات بعض الصلوات عن رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين، ففي الصحيحين عن جابر رضي الله عنه : أن عمر بن الخطاب جاء يوم الخندق، فجعل يسب كفار قريش . فقال : يا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ما كدت أن أصلي حتى كادت الشمس أن تغرب، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( وأنا والله ما صليتها ) ، فنزلنا مع النبي صلى الله عليه وسلم بُطْحَان، فتوضأ للصلاة، وتوضأنا لها، فصلى العصر بعد ما غربت الشمس، ثم صلي بعدها المغرب .
وقد استاء رسول الله صلى الله عليه وسلم لفوات هذه الصلاة حتى دعا على المشركين، ففي البخاري عن على عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال يوم الخندق : ( ملأ الله عليهم بيوتهم وقبورهم ناراً، كما شغلونا عن الصلاة الوسطي حتى غابت الشمس ) . (1)
__________
(1) ) نفس المصدر .(1/169)
وفي مسند أحمد والشافعي أنهم حبسوه عن صلاة الظهر والعصر والمغرب والعشاء فصلاهن جميعاً . قال النووي : وطريق الجمع بين هذه الروايات أن وقعة الخندق بقيت أياماً فكان هذا في بعض الأيام، وهذا في بعضها . انتهي . (1)
ومن هنا يؤخذ أن محاولة العبور من المشركين، والمكافحة المتواصلة من المسلمين، دامت أياماً، إلا أن الخندق لما كان حائلاً بين الجيشين لم يجر بينهما قتال مباشر أو حرب دامية، بل اقتصروا على المراماة والمناضلة .
وفي هذه المراماة قتل رجال من الجيشين، يعدون على الأصابع : ستة من المسلمين، وعشرة من المشركين، بينما كان قتل واحد أو اثنين منهم بالسيف .
وفي هذه المراماة رمي سعد بن معاذ رضي الله عنه بسهم فقطع منه الأكْحَل، رماه رجل من قريش يقال له : حَبَّان بن العَرِقَة، فدعا سعد : اللهم إنك تعلم أنه ليس أحد أحب إلى أن أجاهدهم فيك من قوم كذبوا رسولك وأخرجوه، اللهم فإني أظن أنك قد وضعت الحرب بيننا وبينهم، فإن كان بقي من حرب قريش شيء فأبقني لهم حتى أجاهدهم فيك، وإن كنت وضعت الحرب فافجرها واجعل موتتي فيها (2) . وقال في آخر دعائه : ولا تمتني حتى تقر عيني من بني قريظة . (3) ...
__________
(1) ) مختصر سيرة الرسول للشخ عبد الله النجدي (ص287) , وشرح مسلم للنووي (1/227) .
(2) ) صحيح البخاري (3/591) .
(3) ) ابن هشام (3/337 ) .(1/170)
وبينما كان المسلمون يواجهون هذه الشدائد على جبهة المعركة كانت أفاعي الدس والتآمر تتقلب في جحورها، تريد إيصال السم داخل أجسادهم : انطلق كبير مجرمي بني النضير حيي بن أخطب إلى ديار بني قريظة فأتي كعب بن أسد القرظي ـ سيد بني قريظة وصاحب عقدهم وعهدهم، وكان قد عاقد رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن ينصره إذا أصابته حرب، كما تقدم ـ فضرب عليه حيي الباب فأغلقه كعب دونه، فما زال يكلمه حتى فتح له بابه، فقال حيي : إني قد جئتك يا كعب بعز الدهر وببحر طَامٍ، جئتك بقريش على قادتها وسادتها، حتى أنزلتهم بمجمع الأسيال من رُومَة، وبغطفان على قادتها وسادتها، حتى أنزلتهم بذَنَب نَقْمَي إلى جانب أحد، قد عاهدوني وعاقدوني على ألا يبرحوا حتى نستأصل محمداً ومن معه .
فقال له كعب : جئتني والله بذُلِّ الدهر وبجَهَامٍ قد هَرَاق ماؤه، فهو يرْعِد ويبْرِق، ليس فيه شيء . ويحك يا حيي فدعني وما أنا عليه، فإني لم أر من محمد إلا صدقا ووفاء .
فلم يزل حيي بكعب يفْتِلُه في الذِّرْوَة والغَارِب، حتى سمح له على أن أعطاه عهداً من الله وميثاقاً : لئن رجعت قريش وغطفان، ولم يصيبوا محمداً أن أدخل معك في حصنك، حتى يصيبني ما أصابك، فنقض كعب بن أسد عهده، وبرئ مما كان بينه وبين المسلمين، ودخل مع المشركين في المحاربة ضد المسلمين . (1)
__________
(1) ) ابن هشام (2/221,220) .(1/171)
وفعلاً قامت يهود بني قريظة بعمليات الحرب . قال ابن إسحاق : كانت صفية بنت عبد المطلب في فارع حصن حسان بن ثابت، وكان حسان فيه مع النساء والصبيان، قالت صفية : فمر بنا رجل من يهود، فجعل يطيف بالحصن، وقد حاربت بنو قريظة وقطعت ما بينها وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم، وليس بيننا وبينهم أحد يدفع عنا، ورسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون في غور عدوهم، لا يستطيعون أن ينصرفوا عنهم إن أتانا آت، قالت : فقلت : يا حسان، إن هذا اليهودي كما تري يطيف بالحصن، وإني والله ما آمنه أن يدل على عورتنا مَنْ وراءنا مِنْ يهود، وقد شغل عنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فانزل إليه فاقتله .
قال : والله لقد عرفت ما أنا بصاحب هذا، قالت : فاحتجزت ( أي شدت وسطها ) ثم أخذت عموداً، ثم نزلت من الحصن إليه، فضربته بالعمود حتى قتلته، ثم رجعت إلى الحصن وقلت : يا حسان، انزل إليه فاسلبه، فإنه لم يمنعني من سبله إلا أنه رجل، قال : ما لي بسلبه من حاجة . (1) ...
وقد كان لهذا الفعل المجيد من عمة الرسول صلى الله عليه وسلم أثر عميق في حفظ ذراري المسلمين ونسائهم، ويبدو أن اليهود ظنوا أن هذه الآطام والحصون في منعة من الجيش الإسلامي ـ مع أنها كانت خالية عنهم تماماً ـ فلم يجترئوا مرة ثانية للقيام بمثل هذا العمل، إلا أنهم أخذوا يمدون الغزاة الوثنيين بالمؤن، كدليل عملي على انضمامهم إليهم ضد المسلمين، حتى أخذ المسلمون من مؤنهم عشرين جملاً .
__________
(1) ) ابن هشام (2/228) يحمل هذا الحديث على أن حساناً كان جباناً , وقد دفع هذا بعض العلماء وأنكره , وذلك لأن الحديث منقطع الإسناد , ول صح لهجى به حسان , وإن صح الحديث فربما كان حسان معتلاً في ذلك اليوم , وهذا أولى ما تأول .(1/172)
وانتهي الخبر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وإلى المسلمين فبادر إلى تحقيقه، حتى يستجلي موقف قريظة، فيواجهه بما يجب من الوجهة العسكرية، وبعث لتحقيق الخبر السعدين؛ سعد بن معاذ وسعد بن عبادة، وعبد الله بن رواحة وخَوَّات بن جبير، وقال : ( انطلقوا حتى تنظروا أحق ما بلغنا عن هؤلاء القوم أم لا ؟ فإن كان حقاً فالحنوا لي لحناً أعرفه، ولا تَفُتُّوا في أعضاد الناس، وإن كانوا على الوفاء فاجهروا به للناس ) . فلما دنوا منهم وجدوهم على أخبث ما يكون، فقد جاهروهم بالسب والعداوة، ونالوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم . ...
وقالوا : من رسول الله ؟ لا عهد بيننا وبين محمد، ولا عقد . فانصرفوا عنهم، فلما أقبلوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم لحنوا له، وقالوا : عَضَل وقَارَة ؛ أي إنهم على غدر كغدر عضل وقارة بأصحاب الرَّجِيع .
وعلى رغم محاولتهم إخفاء الحقيقة تفطن الناس لجلية الأمر، فتجسد أمامهم خطر رهيب . ...
وقد كان أحرج موقف يقفه المسلمون، فلم يكن يحول بينهم وبين قريظة شيء يمنعهم من ضربهم من الخلف، بينما كان أمامهم جيش عرمرم لم يكونوا يستطيعون الانصراف عنه، وكانت ذراريهم ونساؤهم بمقربة من هؤلاء الغادرين في غير منعة وحفظ، وصاروا كما قال الله تعالي : { وَإِذْ زَاغَتْ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللهِ الظُّنُونَا هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا } [ الأحزاب : 10، 11 ](1/173)
ونجم النفاق من بعض المنافقين حتى قال : كان محمد يعدنا أن نأكل كنوز كسري وقيصر، وأحدنا اليوم لا يأمن على نفسه أن يذهب إلى الغائط . وحتى قال بعض آخر في ملأ من رجال قومه : إن بيوتنا عورة من العدو، فائذن لنا أن نخرج، فنرجع إلى دارنا فإنها خارج المدينة . وحتى همت بنو سلمة بالفشل، وفي هؤلاء أنزل الله تعالي : { وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ مَّا وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا وَإِذْ قَالَت طَّائِفَةٌ مِّنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِّنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِن يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا } [ الأحزاب : 12، 13 ] .(1/174)
أما رسول الله صلى الله عليه وسلم فتقنع بثوبه حين أتاه غَدْر قريظة، فاضطجع ومكث طويلاً حتى اشتد على الناس البلاء، ثم نهض مبشراً يقول : ( الله أكبر، أبشروا يا معشر المسلمين بفتح الله ونصره ) ، ثم أخذ يخطط لمجابهة الظرف الراهن، وكجزء من هذه الخطة كان يبعث الحرس إلى المدينة؛ لئلا يؤتي الذراري والنساء على غرة، ولكن كان لابد من إقدام حاسم، يفضي إلى تخاذل الأحزاب، وتحقيقاً لهذا الهدف أراد أن يصالح عُيينَة بن حصن والحارث بن عوف رئيسي غطفان على ثلث ثمار المدينة، حتى ينصرفا بقومهما، ويخلو المسلمون لإلحاق الهزيمة الساحقة العاجلة بقريش التي اختبروا مدي قوتها وبأسها مراراً، وجرت المراودة على ذلك، فاستشار السعدين في ذلك، فقالا : يا رسول الله، إن كان الله أمرك بهذا فسمعاً وطاعة، وإن كان شيء تصنعه لنا فلا حاجة لنا فيه، لقد كنا نحن وهؤلاء القوم على الشرك بالله وعبادة الأوثان، وهم لا يطمعون أن يأكلوا منها ثمرة إلا قِرًي أو بيعاً، فحين أكرمنا الله بالإسلام وهدانا له وأعزنا بك نعطيهم أموالنا ؟ والله لا نعطيهم إلا السيف، فَصَوَّبَ رأيهما وقال : ( إنما هو شيء أصنعه لكم لما رأيت العرب قد رمتكم عن قوس واحدة ) .(1/175)
ثم إن الله عز وجل ـ وله الحمد ـ صنع أمراً من عنده خذل به العدو وهزم جموعهم، وفَلَّ حدهم، فكان مما هيأ من ذلك أن رجلاً من غطفان يقال له : نعيم بن مسعود بن عامر الأشجعي رضي الله عنه جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله، إني قد أسلمت، وإن قومي لم يعلموا بإسلامي، فمرني ما شئت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إنما أنت رجل واحد، فَخذِّلْ عنا ما استطعت، فإن الحرب خدعة ) ، فذهب من فوره إلى بني قريظة ـ وكان عشيراً لهم في الجاهلية ـ فدخل عليهم وقال : قد عرفتم ودي إياكم، وخاصة ما بيني وبينكم، قالوا : صدقت . قال : فإن قريشاً ليسوا مثلكم، البلد بلدكم، فيه أموالكم وأبناؤكم ونساؤكم، لا تقدرون أن تتحولوا منه إلى غيره، وإن قريشاً وغطفان قد جاءوا لحرب محمد وأصحابه، وقد ظاهرتموهم عليه، وبلدهم وأموالهم ونساؤهم بغيره، فإن أصابوا فرصة انتهزوها، وإلا لحقوا ببلادهم وتركوكم ومحمداً فانتقم منكم، قالوا : فما العمل يا نعيم ؟ قال : لا تقاتلوا معهم حتى يعطوكم رهائن . قالوا : لقد أشرت بالرأي .
ثم مضي نعيم على وجهه إلى قريش وقال لهم : تعلمون ودي لكم ونصحي لكم ؟ قالوا : نعم، قال : إن يهود قد ندموا على ما كان منهم من نقض عهد محمد وأصحابه، وإنهم قد راسلوه أنهم يأخذون منكم رهائن يدفعونها إليه، ثم يوالونه عليكم، فإن سألوكم رهائن فلا تعطوهم، ثم ذهب إلى غطفان، فقال لهم مثل ذلك .(1/176)
فلما كانت ليلة السبت من شوال ـ سنة 5هـ ـ بعثوا إلى يهود : أنا لسنا بأرض مقام، وقد هلك الكُرَاع والخف ، فانهضوا بنا حتى نناجز محمداً، فأرسل إليهم اليهود أن اليوم يوم السبت، وقد علمتم ما أصاب من قبلنا حين أحدثوا فيه، ومع هذا فإنا لا نقاتل معكم حتى تبعثوا إلينا رهائن، فلما جاءتهم رسلهم بذلك قالت قريش وغطفان : صدقكم والله نعيم، فبعثوا إلى يهود إنا والله لا نرسل إليكم أحداً، فاخرجوا معنا حتى نناجز محمداً، فقالت قريظة : صدقكم والله نعيم . فتخاذل الفريقان، ودبت الفرقة بين صفوفهم، وخارت عزائمهم .
وكان المسلمون يدعون الله تعإلى : ( اللهم استر عوراتنا وآمن روعاتنا ) ، ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلم على الأحزاب، فقال : ( اللهم منزل الكتاب، سريع الحساب، اهزم الأحزاب، اللهم اهزمهم وزلزلهم ) . (1)
وقد سمع الله دعاء رسوله والمسلمين، فبعد أن دبت الفرقة في صفوف المشركين وسري بينهم التخاذل أرسل الله عليهم جنداً من الريح فجعلت تقوض خيامهم، ولا تدع لهم قِدْرًا إلا كفأتها، ولا طُنُبًا إلا قلعته، ولا يقر لهم قرار، وأرسل جنداً من الملائكة يزلزلونهم، ويلقون في قلوبهم الرعب والخوف .
وأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم في تلك الليلة الباردة القارسة حذيفة بن اليمان يأتيه بخبرهم، فوجدهم على هذه الحالة، وقد تهيأوا للرحيل، فرجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخبره برحيل القوم، فأصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد رد الله عدوه بغيظهم لم ينالوا خيراً وكفاه الله قتالهم، فصدق وعده، وأعز جنده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده، فرجع إلى المدينة .
__________
(1) ) صحيح البخاري كتاب الجهاد (1/411) , وكتاب المغازي (2/590)(1/177)
وكانت غزوة الخندق سنة خمس من الهجرة في شوال على أصح القولين، وأقام المشركون محاصرين رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين شهراً أو نحو شهر . ويبدو بعد الجمع بين المصادر أن بداية فرض الحصار كانت في شوال ونهايته في ذي القعدة، وعند ابن سعد أن انصراف رسول الله صلى الله عليه وسلم من الخندق كان يوم الأربعاء لسبع بقين من ذي القعدة . ...
إن معركة الأحزاب لم تكن معركة خسائر، بل كانت معركة أعصاب، لم يجر فيها قتال مرير، إلا أنها كانت من أحسم المعارك في تاريخ الإسلام، تمخضت عن تخاذل المشركين، وأفادت أن أية قوة من قوات العرب لا تستطيع استئصال القوة الصغيرة التي تنمو في المدينة ؛ لأن العرب لم تكن تستطيع أن تأتي بجمع أقوي مما أتت به في الأحزاب، ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أجلي الله الأحزاب : ( الآن نغزوهم، ولا يغزونا، نحن نسير إليهم ) (1)
غزوة بني قريظة
وفي اليوم الذي رجع فيه رسول الله إلى المدينة، جاءه جبريل عند الظهر، وهو يغتسل في بيت أم سلمة، فقال : أو قد وضعت السلاح ؟ فإن الملائكة لم تضع أسلحتهم، وما رجعت الآن إلا من طلب القوم، فانهض بمن معك إلى بني قريظة، فإني سائر أمامك أزلزل بهم حصونهم، وأقذف في قلوبهم الرعب، فسار جبريل في موكبه من الملائكة .
وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم مؤذناً فأذن في الناس : من كان سامعاً مطيعاً فلا يصَلِّينَّ العصر إلا ببني قريظة، واستعمل على المدينة ابن أم مكتوم، وأعطي الراية على بن أبي طالب، وقدّمه إلى بني قريظة، فسار على حتى إذا دنا من حصونهم سمع منها مقالة قبيحة لرسول الله صلى الله عليه وسلم .
__________
(1) ) صحيح البخاري (2/590) .(1/178)
وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في موكبه من المهاجرين والأنصار، حتى نزل على بئر من آبار قريظة يقال لها : بئر أنَّا . وبادر المسلمون إلى امتثال أمره، ونهضوا من فورهم، وتحركوا نحو قريظة، وأدركتهم العصر في الطريق فقال بعضهم : لا نصليها إلا في بني قريظة كما أمرنا، حتى إن رجالاً منهم صلوا العصر بعد العشاء الآخرة، وقال بعضهم : لم يرد منا ذلك، وإنما أراد سرعة الخروج، فصلوها في الطريق، فلم يعنف واحدة من الطائفتين .
هكذا تحرك الجيش الإسلامي نحو بني قريظة أرسالاً حتى تلاحقوا بالنبي صلى الله عليه وسلم، وهم ثلاثة آلاف، والخيل ثلاثون فرساً، فنازلوا حصون بني قريظة، وفرضوا عليهم الحصار .
ولما اشتد عليهم الحصار عرض عليهم رئيسهم كعب بن أسد ثلاث خصال : إما أن يسلموا ويدخلوا مع محمد صلى الله عليه وسلم في دينه، فيأمنوا على دمائهم وأموالهم وأبنائهم ونسائهم ـ وقد قال لهم : والله، لقد تبين لكم أنه لنبي مرسل، وأنه الذي تجدونه في كتابكم ـ وإما أن يقتلوا ذراريهم ونساءهم بأيديهم، ويخرجوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم بالسيوف مُصْلِِتِين، يناجزونه حتى يظفروا بهم، أو يقتلوا عن آخرهم، وإما أن يهجموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، ويكبسوهم يوم السبت ؛ لأنهم قد أمنوا أن يقاتلوهم فيه، فأبوا أن يجيبوه إلى واحدة من هذه الخصال الثلاث، وحينئذ قال سيدهم كعب بن أسد ـ في انزعاج وغضب : ما بات رجل منكم منذ ولدته أمه ليلة واحدة من الدهر حازماً .(1/179)
ولم يبق لقريظة بعد رد هذه الخصال الثلاث إلا أن ينزلوا على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكنهم أرادوا أن يتصلوا ببعض حلفائهم من المسلمين، لعلهم يتعرفون ماذا سيحل بهم إذا نزلوا على حكمه، فبعثوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أرسل إلينا أبا لُبَابة نستشيره، وكان حليفاً لهم، وكانت أمواله وولده في منطقتهم، فلما رأوه قام إليه الرجال، وجَهَشَ النساء والصبيان يبكون في وجهه، فَرَقَّ لهم، وقالوا : يا أبا لبابة، أتري أن ننزل على حكم محمد ؟ قال : نعم ؛ وأشار بيده إلى حلقه، يقول : إنه الذبح، ثم علم من فوره أنه خان الله ورسوله فمضي على وجهه، ولم يرجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أتي المسجد النبوي بالمدينة، فربط نفسه بسارية المسجد، وحلف ألا يحله إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده، وأنه لا يدخل أرض بني قريظة أبداً . فلما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم خبره ـ وكان قد استبطأه ـ قال : ( أما إنه لو جاءني لاستغفرت له، أما إذ قد فعل ما فعل فما أنا بالذي أطلقه من مكانه حتى يتوب الله عليه ) .
وبرغم ما أشار إليه أبو لبابة قررت قريظة النزول على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولقد كان باستطاعة اليهود أن يتحملوا الحصار الطويل ؛ لتوفر المواد الغذائية والمياه والآبار ومناعة الحصون؛ ولأن المسلمين كانوا يقاسون البرد القارس والجوع الشديد وهم في العراء، مع شدة التعب الذي اعتراهم ؛ لمواصلة الأعمال الحربية من قبل بداية معركة الأحزاب، إلا أن حرب قريظة كانت حرب أعصاب، فقد قذف الله في قلوبهم الرعب، وأخذت معنوياتهم تنهار، وبلغ هذا الانهيار إلى نهايته أن تقدم علي بن أبي طالب والزبير بن العوام، وصاح علي : يا كتيبة الإيمان، والله لأذوقن ما ذاق حمزة أو لأفتحن حصنهم .(1/180)
وحينئذ بادروا إلى النزول على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم باعتقال الرجال، فوضعت القيود في أيديهم تحت إشراف محمد بن مسلمة الأنصاري، وجعلت النساء والذراري بمعزل عن الرجال في ناحية، وقامت الأوس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا : يا رسول الله، قد فعلت في بني قينقاع ما قد علمت، وهم حلفاء إخواننا الخزرج، وهؤلاء موالينا، فأحسن فيهم، فقال : ( ألا ترضون أن يحكم فيهم رجل منكم ؟ ) قالوا : بلي . قال : ( فذاك إلى سعد بن معاذ ) . قالوا : قد رضينا .
فأرسل إلى سعد بن معاذ، وكان في المدينة لم يخرج معهم للجرح الذي كان قد أصاب أكْحُلَه في معركة الأحزاب . فأُركب حماراً، وجاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجعلوا يقولون، وهم كَنَفَيْهِ : يا سعد، أجمل في مواليك، فأحسن فيهم، فإن رسول الله قد حكمك لتحسن فيهم، وهو ساكت لا يرجع إليهم شيئاً، فلما أكثروا عليه قال : لقد آن لسعد ألا تأخذه في الله لومة لائم، فلما سمعوا ذلك منه رجع بعضهم إلى المدينة فنعي إليهم القوم .
ولما انتهى سعد إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال للصحابة : ( قوموا إلى سيدكم ) ، فلما أنزلوه قالوا : يا سعد، إن هؤلاء قد نزلوا على حكمك . قال : وحكمي نافذ عليهم ؟ قالوا : نعم . قال : وعلى المسلمين ؟ قالوا : نعم، قال : وعلى من هاهنا ؟ وأعرض بوجهه وأشار إلى ناحية رسول الله صلى الله عليه وسلم إجلالاً له وتعظيمًا . قال : ( نعم، وعلي ) . قال : فإني أحكم فيهم أن يقتل الرجال، وتسبي الذرية، وتقسم الأموال، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبع سموات ) .(1/181)
وكان حكم سعد في غاية العدل والإنصاف، فإن بني قريظة، بالإضافة إلى ما ارتكبوا من الغدر الشنيع، كانوا قد جمعوا لإبادة المسلمين ألفاً وخمسمائة سيف، وألفين من الرماح، وثلاثمائة درع، وخمسمائة ترس، وحَجَفَة ، حصل عليها المسلمون بعد فتح ديارهم .
وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فحبست بنو قريظة في دار بنت الحارث امرأة من بني النجار، وحفرت لهم خنادق في سوق المدينة، ثم أمر بهم، فجعل يذهب بهم إلى الخنادق أرسالاً أرسالاً، وتضرب في تلك الخنادق أعناقهم . فقال من كان بعد في الحبس لرئيسهم كعب بن أسد : ما تراه يصنع بنا ؟ فقال : أفي كل موطن لا تعقلون ؟ أما ترون الداعي لا ينزع ؟ والذاهب منكم لا يرجع ؟ هو والله القتل ـ وكانوا ما بين الستمائة إلى السبعمائة، فضربت أعناقهم .
وهكذا تم استئصال أفاعي الغدر والخيانة، الذين كانوا قد نقضوا الميثاق المؤكد، وعاونوا الأحزاب على إبادة المسلمين في أحرج ساعة كانوا يمرون بها في حياتهم، وكانوا قد صاروا بعملهم هذا من أكابر مجرمي الحروب الذين يستحقون المحاكمة والإعدام .
وقتل مع هؤلاء شيطان بني النضير، وأحد أكابر مجرمي معركة الأحزاب حيي بن أخطب والد صفية أم المؤمنين رضي الله عنها كان قد دخل مع بني قريظة في حصنهم حين رجعت عنهم قريش وغطفان ؛ وفاء لكعب بن أسد بما كان عاهده عليه حينما جاء يثيره على الغدر والخيانة أيام غزوة الأحزاب، فلما أتي به ـ وعليه حُلَّة قد شقها من كل ناحية بقدر أنملة لئلا يُسْلَبَها ـ مجموعة يداه إلى عنقه بحبل، قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم : أما والله ما لمت نفسي في معاداتك، ولكن من يُغالب الله يُغْلَب . ثم قال : أيها الناس، لا بأس بأمر الله، كتاب وقَدَر ومَلْحَمَة كتبها الله على بني إسرائيل، ثم جلس، فضربت عنقه .
وقتل من نسائهم امرأة واحدة كانت قد طرحت الرحى على خَلاَّد بن سُوَيْد فقتلته، فقتلت لأجل ذلك .(1/182)
وكان قد أمر رسول الله بقتل من أنْبَتَ، وترك من لم ينبت، فكان ممن لم ينبت عطية القُرَظِي، فترك حياً فأسلم، وله صحبة .
واستوهب ثابت بن قيس، الزبير بن باطا وأهله وماله ـ وكانت للزبير يد عند ثابت ـ فوهبهم له رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له ثابت بن قيس : قد وهبك رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ، ووهب لي مالك وأهلك فهم لك . فقال الزبير بعد أن علم بمقتل قومه : سألتك بيدي عندك يا ثابت إلا ألحقتني بالأحبة، فضرب عنقه، وألحقه بالأحبة من اليهود، واستحيا ثابت من ولد الزبير بن باطا عبد الرحمن بن الزبير، فأسلم وله صحبة .
واستوهبت أم المنذر سلمي بنت قيس النجارية رفاعة بن سموأل القرظي، فوهبه لها فاستحيته، فأسلم وله صحبة .
وأسلم منهم تلك الليلة نفر قبل النزول، فحقنوا دماءهم وأموالهم وذراريهم .
وخرج تلك الليلة عمرو بن سعدي ـ وكان رجلاً لم يدخل مع بني قريظة في غدرهم برسول الله صلى الله عليه وسلم ـ فرآه محمد بن مسلمة قائد الحرس النبوي، فخلي سبيله حين عرفه، فلم يعلم أين ذهب .
وقسم رسول الله صلى الله عليه وسلم أموال بني قريظة بعد أن أخرج منها الخمس، فأسهم للفارس ثلاثة أسهم؛ سهمان للفرس وسهم للفارس، وأسهم للراجل سهماً واحداً، وبعث من السبايا إلى نجد تحت إشراف سعد بن زيد الأنصاري فابتاع بها خيلاً وسلاحاً .
واصطفى رسول الله صلى الله عليه وسلم لنفسه من نسائهم رَيْحَانة بنت عمرو بن خُنَافة، فكانت عنده حتى توفي عنها وهي في ملكه، هذا ما قاله ابن إسحاق (1) . وقال الكلبي : إنه صلى الله عليه وسلم أعتقها، وتزوجها سنة 6 هـ، وماتت مرجعه من حجة الوداع، فدفنها بالبقيع . (2)
__________
(1) ) انظر ابن هشام (2/245)
(2) ) تلقيح فهوم أهل الأثر (ص12)(1/183)
ولما تم أمر قريظة أجيبت دعوة العبد الصالح سعد بن معاذ رضي الله عنه ـ التي قدمنا ذكرها في غزوة الأحزاب ـ وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد ضرب له خيمة في المسجد ليعوده من قريب، فلما تم أمر قريظة انتقضت جراحته . قالت عائشة : فانفجرت من لَبَّتِهِ فلم يَرُعْهُمْ ـ وفي المسجد خيمة من بني غفار ـ إلا والدم يسيل إليهم، فقالوا : يا أهل الخيمة، ما هذا الذي يأتينا من قبلكم، فإذا سعد يغذو جرحه دماً، فمات منها . (1)
وفي الصحيحين عن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( اهتز عرش الرحمن لموت سعد بن معاذ ) (2) . وصحح الترمذي من حديث أنس قال : لما حملت جنازة سعد بن معاذ قال المنافقون : ما أخف جنازته، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إن الملائكة كانت تحمله ) (3)
قتل في حصار بني قريظة رجل واحد من المسلمين، وهو خلاد بن سُوَيْد الذي طرحت عليه الرحى امرأة من قريظة . ومات في الحصار أبو سِنان بن مِحْصَن أخو عُكَّاشَة .
وأما أبو لُبابة، فأقام مرتبطاً بالجذع ست ليال، تأتيه امرأته في وقت كل صلاة فتحله للصلاة، ثم يعود فيرتبط بالجذع، ثم نزلت توبته على رسول الله صلى الله عليه وسلم سَحَرًا وهو في بيت أم سلمة، فقامت على باب حجرتها، وقالت : يا أبا لبابة، أبشر فقد تاب الله عليك، فثار الناس ليطلقوه، فأبي أن يطلقه أحد إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما مر النبي صلى الله عليه وسلم خارجاً إلى صلاة الصبح أطلقه .
__________
(1) ) صحيح البخاري (2/591)
(2) ) صحيح البخاري (1/536) , وصحيح مسلم (2/294) , وجامع الترمذي (2/225)
(3) ) جامع الترمذي (2/225)(1/184)
وقعت هذه الغزوة في ذي القعدة سنة 5 هـ، ودام الحصار خمساً وعشرين ليلة . (1)
وأنزل الله تعالى في غزوة الأحزاب وبني قريظة آيات من سورة الأحزاب، ذكر فيها أهم جزئيات الوقعة، وبين حال المؤمنين والمنافقين، ثم تخذيل الأحزاب، ونتائج الغدر من أهل الكتاب .
غزوة بني لَحْيَان
بنو لحيان هم الذين كانوا قد غدروا بعشرة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بالرَّجِيع، وتسببوا في إعدامهم، ولكن لما كانت ديارهم متوغلة في الحجاز إلى حدود مكة . والتارات الشديدة قائمة بين المسلمين وقريش والأعراب، لم يكن يري رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يتوغل في البلاد بمقربة من العدو الأكبر، فلما تخاذلت الأحزاب، واستوهنت عزائمهم، واستكانوا للظروف الراهنة إلى حد ما، رأي أن الوقت قد آن لأن يأخذ من بني لحيان ثأر أصحابه المقتولين بالرجيع، فخرج إليهم في ربيع الأول أو جمادي الأولي سنة 6 هـ في مائتين من أصحابه، واستخلف على المدينة ابن أم مكتوم، وأظهر أنه يريد الشام، ثم أسرع السير حتى انتهي إلى بطن غُرَان ـ واد بين أمَجَ وعُسْفَان ـ حيث كان مصاب أصحابه، فترحم عليهم ودعا لهم، وسمعت به بنو لحيان فهربوا في رءوس الجبال، فلم يقدر منهم على أحد، فأقام يومين بأرضهم، وبعث السرايا، فلم يقدروا عليهم، فسار إلى عسفان، فبعث عشرة فوارس إلى كُرَاع الغَمِيم لتسمع به قريش، ثم رجع إلى المدينة . وكانت غيبته عنها أربع عشرة ليلة .
- غزوة الغابة أو غزوة ذي قَرَد :
هذه الغزوة حركة مطاردة ضد فصيلة من بني فَزَارة قامت بعمل القرصنة في لِقَاحِ رسول الله صلى الله عليه وسلم .
__________
(1) ) ابن هشام (2/237 , 238) , وانظر لتفصيل هذه الغزوة ابن هشام (2/233) إلى (273) وصحيح البخاري (2/590 , 591) , زاد المعاد (2/72 , 73 , 74 ) , مختصر سيرة الرسول للشيخ عبد الله النجدي (ص287 , 288 , 289 , 290)(1/185)
وهي أول غزوة غزاها رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الحديبية، وقبل خيبر . ذكر البخاري في ترجمة باب أنها كانت قبل خيبر بثلاث، وروي ذلك مسلم مسنداً من حديث سلمة ابن الأكوع . وذكر الجمهور من أهل المغازي أنها كانت قبل الحديبية، وما في الصحيح أصح مما ذكره أهل المغازي . (1)
وخلاصة الروايات عن سلمة بن الأكوع بطل هذه الغزوة أنه قال : بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بظهره مع غلامه رَبَاح، وأنا معه بفرس أبي طلحة، فلما أصبحنا إذا عبد الرحمن الفزاري قد أغار على الظهر، فاستاقه أجمع، وقتل راعيه، فقلت : يا رباح، خذ هذا الفرس فأبلغه أبا طلحة، وأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قمت على أكَمَة، واستتقبلت المدينة، فناديت ثلاثاً : يا صباحاه، ثم خرجت في آثار القوم أرميهم بالنبل وأرتجز، أقول :
[ خُذْها ] أنا ابنُ الأكْوَع ** واليومُ يومُ الرُّضّع
__________
(1) ) انظر صحيح البخاري باب غزوة ذات قرد (2/603) , وصحيح مسلم باب غزوة ذي قرد وغيرها (2/113 , 114 , 115) , وفتح الباري (7/460 , 461 , 463) , زاد المعاد (2/120) .(1/186)
فو الله ما زلت أرميهم وأعقر بهم، فإذا رجع إلى فارس جلست في أصل الشجر، ثم رميته فتعفرت به، حتى إذا دخلوا في تضايق الجبل علوته، فجعلت أرديهم بالحجارة، فما زلت كذلك أتبعهم حتى ما خلق الله تعالى من بعير من ظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا خلفته وراء ظهري، وخلوا بيني وبينه، ثم اتبعتهم أرميهم، حتى ألقوا أكثر من ثلاثين بردة، وثلاثين رمحاً يستخفون، ولا يطرحون شيئاً إلا جعلت عليه آراماً من الحجارة، يعرفها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه . حتى أتوا متضايقاً من ثَنِيَّةٍ، فجلسوا يتغدون، وجلست على رأس قَرْن، فصعد إلى منهم أربعة في الجبل، قلت : هل تعرفونني ؟ أنا سلمة بن الأكوع، لا أطلب رجلاً منكم إلا أدركته، ولا يطلبني فيدركني، فرجعوا . فما برحت مكاني حتى رأيت فوارس رسول الله صلى الله عليه وسلم يتخللون الشجر، فإذا أولهم أخرم، وعلى أثره أبو قتادة، وعلى أثره المقداد بن الأسود، فالتقي عبد الرحمن وأخرم، فعقر بعبد الرحمن فرسه، وطعنه عبد الرحمن فقتله، وتحول على فرسه، ولحق أبو قتادة بعبد الرحمن فطعنه فقتله، وولي القوم مدبرين، فتبعتهم أعدو على رجلي، حتى يعدلوا قبل غروب الشمس إلى شعب فيه ماء يقال له : ذو قَرَد، ليشربوا منه، وهم عطاش، فأجليتهم عنه، فما ذاقوا قطرة منه، ولحقني رسول الله صلى الله عليه وسلم والخيل عشاء، فقلت : يا رسول الله، إن القوم عطاش، فلو بعثتني في مائة رجل استنقذت ما عندهم من السَّرْح، وأخذت بأعناق القوم، فقال : ( يا بن الأكوع . ملكت فأسجح ) (1) ، ثم قال : ( إنهم ليقرون الآن في غطفان ) .
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( خير فرساننا اليوم أبو قتادة، وخير رجالتنا سلمة ) . وأعطاني سهمين، سهم الراجل وسهم الفارس، وأردفني وراءه على العَضْبَاء راجعين إلى المدينة .
__________
(1) ) أسجع : أي سهل والمعنى قدرت فاعف .(1/187)
استعمل رسول الله صلى الله عليه وسلم على المدينة في هذه الغزوة ابن أم مكتوم، وعقد اللواء للمقداد بن عمرو . (1)
وقعة الحديبية
في ذي القعدة 6 هـ
سبب عمرة الحديبية
ولما تطورت الظروف في الجزيزة العربية إلى حد كبير لصالح المسلمين، أخذت طلائع الفتح الأعظم ونجاح الدعوة الإسلامية تبدو شيئاً فشيئاً، وبدأت التمهيدات لإقرار حق المسلمين في أداء عبادتهم في المسجد الحرام، الذي كان قد صد عنه المشركون منذ ستة أعوام .
أري رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام، وهو بالمدينة، أنه دخل هو وأصحابه المسجد الحرام، وأخذ مفتاح الكعبة، وطافوا واعتمروا، وحلق بعضهم وقصر بعضهم، فأخبر بذلك أصحابه ففرحوا، وحسبوا أنهم داخلو مكة عامهم ذلك، وأخبر أصحابه أنه معتمر فتجهزوا للسفر .
استنفار المسلمين
واستنفر العرب ومن حوله من أهل البوادي ليخرجوا معه، فأبطأ كثير من الأعراب، أما هو فغسل ثيابه، وركب ناقته القَصْواء، واستخلف على المدينة ابن أم مكتوم أو نُمَيْلَة الليثي . وخرج منها يوم الإثنين غرة ذي القعدة سنة 6 هـ، ومعه زوجته أم سلمة، في ألف وأربعمائة، ويقال : ألف وخمسمائة، ولم يخرج معه بسلاح، إلا سلاح المسافر : السيوف في القُرُب .
المسلمون يتحركون إلى مكة
__________
(1) ) انظر المصدرين السابقين , واد المعاد ( 2/120) .(1/188)
وتحرك في اتجاه مكة، فلما كان بذي الحُلَيْفَة قَلَّد الهدي وأشْعَرَه، وأحرم بالعمرة؛ ليأمن الناس من حربه، وبعث بين يديه عيناً له من خزاعة يخبره عن قريش، حتى إذا كان قريباً من عُسْفَان أتاه عينه، فقال : إني تركت كعب بن لؤي قد جمعوا لك الأحابيش ، وجمعوا لك جموعاً، وهم مقاتلوك وصادوك عن البيت، واستشار النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه، وقال : ( أترون نميل إلى ذراري هؤلاء الذين أعانوهم فنصيبهم ؟ فإن قعدوا قعدوا موتورين محزونين، وإن نجوا يكن عنق قطعها الله، أم تريدون أن نؤم هذا البيت فمن صدنا عنه قاتلناه ؟ ) فقال أبو بكر : الله ورسوله أعلم، إنما جئنا معتمرين، ولم نجئ لقتال أحد، ولكن من حال بيننا وبين البيت قاتلناه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( فروحوا ) ، فراحوا .
محاولة قريش صد المسلمين عن البيت
وكانت قريش لما سمعت بخروج النبي صلى الله عليه وسلم عقدت مجلساً استشارياً قررت فيه صد المسلمين عن البيت كيفما يمكن، فبعد أن أعرض رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الأحابيش، نقل إليه رجل من بني كعب أن قريشاً نازلة بذي طُوَي، وأن مائتي فارس في قيادة خالد بن الوليد مرابطة بكُرَاع الغَمِيم في الطريق الرئيسي الذي يوصل إلى مكة . وقد حاول خالد صد المسلمين، فقام بفرسانه إزاءهم يتراءي الجيشان . ورأي خالد المسلمين في صلاة الظهر يركعون ويسجدون، فقال : لقد كانوا على غرة، لو كنا حملنا عليهم لأصبنا منهم، ثم قرر أن يميل على المسلمين ـ وهم في صلاة العصر ـ ميلة واحدة، ولكن الله أنزل حكم صلاة الخوف، ففاتت الفرصة خالداً .
تبديل الطريق ومحاولة اجتناب اللقاء الدامي(1/189)
وأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم طريقاً وَعْرًا بين شعاب، وسلك بهم ذات اليمين بين ظهري الحَمْض في طريق تخرجه على ثنية المُرَار مهبط الحديبية من أسفل مكة، وترك الطريق الرئيسي الذي يفضي إلى الحرم ماراً بالتنعيم، تركه إلى اليسار، فلما رأي خالد قَتَرَة الجيش الإسلامي قد خالفوا عن طريقه انطلق يركض نذيراً لقريش .
وسار رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا كان بثنية المرار بركت راحلته، فقال الناس : حَلْ حَلْ، فألَحَّتْ ، فقالوا : خلأت القصواء، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( ما خلأت القصواء، وما ذاك لها بخلق، ولكن حبسها حابس الفيل ) ، ثم قال : ( والذي نفسي بيده لا يسألوني خطة يعظمون فيها حرمات الله إلا أعطيتهم إياها ) ، ثم زجرها فوثبت به، فعدل حتى نزل بأقصي الحديبية، على ثَمَد (1) قليل الماء، إنما يتبرضه (2) الناس تبرضاً، فلم يلبث أن نزحوه . فشكوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم العطش، فانتزع سهماً من كنانته، ثم أمرهم أن يجعلوه فيه، فوالله ما زال يجيش لهم بالري حتى صدروا .
بُدَيْل يتوسط بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وقريش
__________
(1) ) ثمد : حوض
(2) ) يتبرض : يأخذ منه القليل(1/190)
ولما اطمأن رسول الله صلى الله عليه وسلم جاء بديل بن وَرْقَاء الخزاعي في نفر من خزاعة، وكانت خزاعة عَيْبَة (1) نُصْح لرسول الله صلى الله عليه وسلم من أهل تُهَامَة، فقال : إني تركت كعب ابن لؤي، نزلوا أعداد مياه الحديبية، معهم العُوذ المطَافِيل (2) ، وهم مقاتلوك وصادَوك عن البيت . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إنا لم نجئ لقتال أحد، ولكنا جئنا معتمرين، وإن قريشاً قد نهكتهم الحرب وأضرت بهم، فإن شاءوا ماددتهم، ويخلوا بيني وبين الناس، وإن شاءوا أن يدخلوا فيما دخل فيه الناس فعلوا، وإلا فقد جَمُّوا ، وإن هم أبوا إلا القتال فوالذي نفسي بيده لأقاتلنهم على أمري هذا حتى تنفرد سالفتي، أو لينفذن الله أمره ) .
قال بديل : سأبلغهم ما تقول، فانطلق حتى أتي قريشاً، فقال : إني قد جئتكم من عند هذا الرجل، وسمعته يقول قولا، فإن شئتم عرضته عليكم .
فقال سفهاؤهم : لا حاجة لنا أن تحدثنا عنه بشيء . وقال ذوو الرأي منهم : هات ما سمعته . قال : سمعته يقول كذا وكذا، فبعثت قريش مِكْرَز بن حفص، فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : هذا رجل غادر، فلما جاء وتكلم قال له مثل ما قال لبديل وأصحابه، فرجع إلى قريش وأخبرهم .
رسل قريش
ثم قال رجل من كنانة ـ اسمه الحُلَيْس بن علقمة : دعوني آته . فقالوا : ائته، فلما أشرف على النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( هذا فلان، وهو من قوم يعظمون البدن، فابعثوها ) ، فبعثوها له، واستقبله القوم يلبون، فلما رأي ذلك . قال : سبحان الله ما ينبغي لهؤلاء أن يصدوا عن البيت، فرجع إلى أصحابه، فقال : رأيت البدن قد قلدت وأشعرت، وما أري أن يصدوا، وجري بينه وبين قريش كلام أحفظه .
__________
(1) ) عيبة نصح الرجل : موضع سره
(2) ) استعار العوذ المطافيل للنساء مع أولادهن , والعوذ : الإبل حديثة النتاج , والمطافيل : التي معها أولادها .(1/191)
فقال عروة بن مسعود الثقفي : إن هذا قد عرض عليكم خطة رُشْد فاقبلوها، ودعوني آته، فأتاه، فجعل يكلمه، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم نحواً من قوله لبديل . فقال له عروة عند ذلك : أي محمد أرأيت لو استأصلت قومك، هل سمعت بأحد من العرب اجتاح أهله قبلك، وإن تكن الأخري فوالله إني لا أري وجوها، وإني أري أوباشا من الناس خليقاً أن يفروا ويدعوك، قال له أبو بكر : امصص بَظْر اللات، أنحن نفر عنه ؟ قال : من ذا ؟ قالوا : أبو بكر، قال : أما والذي نفسي بيده لولا يد كانت عندي لم أجْزِكَ بها لأجبتك . وجعل يكلم النبي صلى الله عليه وسلم، وكلما كلمه أخذ بلحيته، والمغيرة بن شعبة عند رأس النبي صلى الله عليه وسلم، ومعه السيف وعليه المِغْفَرُ، فكلما أهوي عروة إلى لحية النبي صلى الله عليه وسلم ضرب يده بنعل السيف، وقال : أخر يدك عن لحية رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرفع عروة رأسه، وقال : من ذا ؟ قالوا : المغيرة بن شعبة، فقال : أي عُذَر، أو لستُ أسعي في غَدْرَتِك ؟ وكان المغيرة صَحِبَ قوماً في الجاهلية فقتلهم وأخذ أموالهم، ثم جاء فأسلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( أما الإسلام فأقبلُ، وأما المال فلست منه في شيء ) ( وكان المغيرة ابن أخي عروة ) .
ثم إن عروة جعل يرمق أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وتعظيمهم له، فرجع إلى أصحابه، فقال : أي قوم، والله لقد وفدت على الملوك، على قيصر وكسري والنجاشي، والله ما رأيت ملكاً يعظمه أصحابه ما يعظم أصحاب محمد محمداً، والله إن تَنَخَّمَ نخامة إلا وقعت في كف رجل منهم، فدلك بها وجهه وجلده، وإذا أمرهم ابتدروا أمره، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه، وإذا تكلم خفضوا أصواتهم عنده، وما يُحِدُّون إليه النظر تعظيماً له، وقد عرض عليكم خطة رُشْدٍ فاقبلوها .
هو الذي كف أيديهم عنكم(1/192)
ولما رأي شباب قريش الطائشون، الطامحون إلى الحرب، رغبة زعمائهم في الصلح فكروا في خطة تحول بينهم وبين الصلح، فقرروا أن يخرجوا ليلاً، ويتسللوا إلى معسكر المسلمين، ويحدثوا أحداثاً تشعل نار الحرب، وفعلاً قد قاموا بتنفيذ هذا القرار، فقد خرج سبعون أو ثمانون منهم ليلاً فهبطوا من جبل التنعيم، وحاولوا التسلل إلى معسكر المسلمين، غير أن محمد بن مسلمة قائد الحرس اعتقلهم جميعاً .
ورغبة في الصلح أطلق سراحهم النبي صلى الله عليه وسلم وعفا عنهم، وفي ذلك أنزل الله : { وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُم بِبَطْنِ مَكَّةَ مِن بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ } [ الفتح : 24 ]
عثمان بن عفان سفيراً إلى قريش
وحينئذ أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبعث سفيراً يؤكد لدي قريش موقفه وهدفه من هذا السفر، فدعا عمر بن الخطاب ليرسله إليهم، فاعتذر قائلاً : يا رسول الله، ليس لي أحد بمكة من بني عدي بن كعب يغضب لي إن أوذيت، فأرسل عثمان بن عفان، فإن عشيرته بها، وإنه مبلغ ما أردت، فدعاه، وأرسله إلى قريش، وقال : أخبرهم أنا لم نأت لقتال، وإنما جئنا عماراً، وادعهم إلى الإسلام، وأمره أن يأتي رجالاً بمكة مؤمنين، ونساء مؤمنات، فيبشرهم بالفتح، ويخبرهم أن الله عز وجل مظهر دينه بمكة، حتى لا يستخفي فيها أحد بالإيمان .
فانطلق عثمان حتى مر على قريش بِبَلْدَح، فقالوا : أين تريد ؟ فقال : بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم بكذا وكذا، قالوا : قد سمعنا ما تقول، فانفذ لحاجتك، وقام إليه أبان ابن سعيد بن العاص، فرحب به ثم أسرج فرسه، فحمل عثمان على الفرس، وأجاره وأردفه حتى جاء مكة، وبلغ الرسالة إلى زعماء قريش، فلما فرغ عرضوا عليه أن يطوف بالبيت، فرفض هذا العرض، وأبي أن يطوف حتى يطوف رسول الله صلى الله عليه وسلم .
إشاعة مقتل عثمان وبيعة الرضوان(1/193)
واحتبسته قريش عندها ـ ولعلهم أرادوا أن يتشاوروا فيما بينهم في الوضع الراهن، ويبرموا أمرهم، ثم يردوا عثمان بجواب ما جاء به من الرسالة ـ وطال الاحتباس، فشاع بين المسلمين أن عثمان قتل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لما بلغته الإشاعة : ( لا نبرح حتى نناجز القوم ) ، ثم دعا أصحابه إلى البيعة، فثاروا إليه يبايعونه على ألا يفروا، وبايعته جماعة على الموت، وأول من بايعه أبو سنان الأسدي، وبايعه سلمة بن الأكوع على الموت ثلاث مرات، في أول الناس ووسطهم وآخرهم، وأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيد نفسه وقال : ( هذه عن عثمان ) . ولما تمت البيعة جاء عثمان فبايعه، ولم يتخلف عن هذه البيعة إلا رجل من المنافقين يقال له : جَدُّ بن قَيْس .
أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه البيعة تحت شجرة، وكان عمر آخذا بيده، ومَعْقِل بن يَسَار آخذا بغصن الشجرة يرفعه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذه هي بيعة الرضوان التي أنزل الله فيها : { لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ } الآية [ الفتح : 18 ]
إبرام الصلح وبنوده
وعرفت قريش ضيق الموقف، فأسرعت إلى بعث سُهَيْل بن عمرو لعقد الصلح، وأكدت له ألا يكون في الصلح إلا أن يرجع عنا عامه هذا، لا تتحدث العرب عنا أنه دخلها علينا عنوة أبداً، فأتاه سهيل بن عمرو، فلما رآه قال : ( قد سهل لكم أمركم ) ، أراد القوم الصلح حين بعثوا هذا الرجل، فجاء سهيل فتكلم طويلاً، ثم اتفقا على قواعد الصلح، وهي هذه :
1 . الرسول صلى الله عليه وسلم يرجع من عامه، فلا يدخل مكة، وإذا كان العام القابل دخلها المسلمون فأقاموا بها ثلاثاً، معهم سلاح الراكب، السيوف في القُرُب، ولا يتعرض لهم بأي نوع من أنواع التعرض .
2 . وضع الحرب بين الطرفين عشر سنين، يأمن فيها الناس، ويكف بعضهم عن بعض .(1/194)
3 . من أحب أن يدخل في عقد محمد وعهده دخل فيه، ومن أحب أن يدخل في عقد قريش وعهدهم دخل فيه، وتعتبر القبيلة التي تنضم إلى أي الفريقين جزءاً من ذلك الفريق، فأي عدوان تتعرض له أي من هذه القبائل يعتبر عدواناً على ذلك الفريق .
4 . من أتي محمداً من قريش من غير إذن وليه ـ أي هارباً منهم ـ رده عليهم، ومن جاء قريشاً ممن مع محمد ـ أي هارباً منه ـ لم يرد عليه .
ثم دعا علياً ليكتب الكتاب، فأملي عليه : ( بسم الله الرحمن الرحيم ) فقال سهيل : أما الرحمن فوالله لا ندري ما هو ؟ ولكن اكتب : باسمك اللّهم . فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك . ثم أملي : ( هذا ما صالح عليه محمد رسول الله ) فقال سهيل : لو نعلم أنك رسول الله ما صددناك عن البيت، ولا قاتلناك، ولكن اكتب : محمد بن عبد الله فقال : ( إني رسول الله وإن كذبتموني ) ، وأمر علياً أن يكتب : محمد بن عبد الله، ويمحو لفظ رسول الله، فأبي على أن يمحو هذا اللفظ . فمحاه صلى الله عليه وسلم بيده، ثم تمت كتابة الصحيفة، ولما تم الصلح دخلت خزاعة في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ وكانوا حليف بني هاشم منذ عهد عبد المطلب، كما قدمنا في أوائل الكتاب، فكان دخولهم في هذا العهد تأكيداً لذلك الحلف القديم ـ ودخلت بنو بكر في عهد قريش .
رد أبي جندل
وبينما الكتاب يكتب إذ جاء أبو جَنْدَل بن سهيل يَرْسُفُ في قيوده، قد خرج من أسفل مكة حتى رمي بنفسه بين ظهور المسلمين، فقال سهيل : هذا أول ما أقاضيك عليه على أن ترده فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( إنا لم نقض الكتاب بعد ) .(1/195)
فقال : فوالله إذا لا أقاضيك على شيء أبداً . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( فأجزه لي ) . قال : ما أنا بمجيزه لك . قال : ( بلى فافعل ) ، قال : ما أنا بفاعل . وقد ضرب سهيل أبا جندل في وجهه، وأخذ بتلابيبه وجره ؛ ليرده إلى المشركين، وجعل أبو جندل يصرخ بأعلى صوته : يا معشر المسلمين، أأرد إلى المشركين يفتنوني في ديني ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( يا أبا جندل، اصبر واحتسب، فإن الله جاعل لك ولمن معك من المستضعفين فرجاً ومخرجا، إنا قد عقدنا بيننا وبين القوم صلحاً، وأعطيناهم على ذلك، وأعطونا عهد الله فلا نغدر بهم ) .
فوثب عمر بن الخطاب رضي الله عنه مع أبي جندل يمشي إلى جنبه ويقول : اصبر يا أبا جندل، فإنما هم المشركون، وإنما دم أحدهم دم كلب، ويدني قائم السيف منه، يقول عمر : رجوت أن يأخذ السيف فيضرب به أباه، فضن الرجل بأبيه، ونفذت القضية .
النَّحْر والحَلْق للحِلِّ عن العمرة
ولما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من قضية الكتاب قال : ( قوموا فانحروا ) ، فوالله ما قام منهم أحد حتى قال ثلاث مرات، فلما لم يقم منهم أحد قام فدخل على أم سلمة، فذكر لها ما لقي من الناس، فقالت : يا رسول الله، أتحب ذلك ؟ اخرج، ثم لا تكلم أحداً كلمة حتى تنحر بدنك، وتدعو حالقك فيحلقك، فقام فخرج فلم يكلم أحداً منهم حتى فعل ذلك، نحر بُدْنَه، ودعا حالقه فحلقه، فلما رأي الناس ذلك قاموا فنحروا، وجعل بعضهم يحلق بعضاً، حتى كاد بعضهم يقتل بعضاً غماً، وكانوا نحروا البدنة عن سبعة، والبقرة عن سبعة، ونحر رسول الله صلى الله عليه وسلم جملاً كان لأبي جهل، كان في أنفه بُرَةٌ من فضة، ليغيظ به المشركين، ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلم للمحلقين ثلاثاً بالمغفرة وللمقصرين مرة . وفي هذا السفر أنزل الله فدية الأذي لمن حلق رأسه، بالصيام، أو الصدقة، أو النسك، في شأن كعب بن عُجْرَة .
الإباء عن رد المهاجرات(1/196)
ثم جاء نسوة مؤمنات فسأل أولياؤهن أن يردهن عليهم بالعهد الذي تم في الحديبية، فرفض طلبهم هذا ؛ بدليل أن الكلمة التي كتبت في المعاهدة بصدد هذا البند هي : ( وعلى أنه لا يأتيك منا رجل، وإن كان على دينك إلا رددته علينا ) (1) ، فلم تدخل النساء في العقد رأساً . وأنزل الله في ذلك : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ } ، حتى بلغ { بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ } [ الممتحنة : 10 ] فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يمتحنهن بقوله تعالى : { إِذَا جَاءكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَن لَّا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا . . . } إلخ [ الممتحنة : 12 ] ، فمن أقرت بهذه الشروط قال لها : ( قد بايعتك ) ، ثم لم يكن يردهن .
وطلق المسلمون زوجاتهم الكافرات بهذا الحكم . فطلق عمر يومئذ امرأتين كانتا له في الشرك، تزوج بإحداهما معاوية، وبالأخري صفوان بن أمية .
ماذا يتمخض عن بنود المعاهدة
__________
(1) ) صحيح البخاري (1/380)(1/197)
هذا هو صلح الحديبية، ومن سبر أغوار بنوده مع خلفياته لا يشك أنه فتح عظيم للمسلمين، فقريش لم تكن تعترف بالمسلمين أي اعتراف، بل كانت تهدف استئصال شأفتهم، وتنتظر أن تشهد يوماً ما نهايتهم، وكانت تحاول بأقصي قوتها الحيلولة بين الدعوة الإسلامية وبين الناس، بصفتها ممثلة الزعامة الدينية والصدارة الدنيوية في جزيرة العرب، ومجرد الجنوح إلى الصلح اعتراف بقوة المسلمين، وأن قريشاً لا تقدر على مقاومتهم، ثم البند الثالث يدل بفحواه على أن قريشاً نسيت صدارتها الدنيوية وزعامتها الدينية، وأنها لاتهمها الآن إلا نفسها، أما سائر الناس وبقية جزيرة العرب فلو دخلت في الإسلام بأجمعها، فلايهم ذلك قريشاً، ولا تتدخل في ذلك بأي نوع من أنواع التدخل . أليس هذا فشلاً ذريعاً بالنسبة إلى قريش ؟ وفتحا مبيناً بالنسبة إلى المسلمين ؟ إن الحروب الدامية التي جرت بين المسلمين وبين أعدائهم لم تكن أهدافها ـ بالنسبة إلى المسلمين ـ مصادرة الأموال وإبادة الأرواح، وإفناء الناس، أو إكراه العدو على اعتناق الإسلام، وإنما كان الهدف الوحيد الذي يهدفه المسلمون من هذه الحروب هو الحرية الكاملة للناس في العقيدة والدين { فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُر} [ الكهف : 29 ] . لا يحول بينهم وبين ما يريدون أي قوة من القوات، وقدحصل هذا الهدف بجميع أجزائه ولوازمه، وبطريق ربما لا يحصل بمثله في الحروب مع الفتح المبين، وقد كسب المسلمون لأجل هذه الحرية نجاحاً كبيراً في الدعوة، فبينما كان عدد المسلمين لا يزيد على ثلاثة آلاف قبل الهدنة صار عدد الجيش الإسلامي في سنتين عند فتح مكة عشرة آلاف .(1/198)
أما البند الثاني فهو جزء ثان لهذا الفتح المبين، فالمسلمون لم يكونوا بادئين بالحروب، وإنما بدأتها قريش، يقول الله تعالى : { وَهُم بَدَؤُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ } [ التوبة : 13 ] ، أما المسلمون فلم يكن المقصود من دورياتهم العسكرية إلا أن تفيق قريش عن غطرستها وصدها عن سبيل الله، وتعمل معهم بالمساواة، كل من الفريقين يعمل على شاكلته، فالعقد بوضع الحرب عشر سنين حد لهذه الغطرسة والصد، ودليل على فشل من بدأ بالحرب وعلى ضعفه وانهياره .
أما البند الأول فهو حد لصد قريش عن المسجد الحرام، فهو أيضاً فشل لقريش، وليس فيه ما يشفي قريشاً سوي أنها نجحت في الصد لذلك العام الواحد فقط .
أعطت قريش هذه الخلال الثلاث للمسلمين، وحصلت بإزائها خلة واحدة فقط، وهي ما في البند الرابع، ولكن تلك الخلة تافهة جداً، ليس فيها شيء يضر بالمسلمين، فمعلوم أن المسلم ما دام مسلماً لا يفر عن الله ورسوله، وعن مدينة الإسلام، ولا يفر إلا إذا ارتد عن الإسلام ظاهراً أو باطناً، فإذا ارتد فلا حاجة إليه للمسلمين، وانفصاله من المجتمع الإسلامي خير من بقائه فيه، وهذا الذي أشار إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله : ( إنه من ذهب منا إليهم فأبعده الله ) (1) وأما من أسلم من أهل مكة فهو وإن لم يبق للجوئه إلى المدينة سبيل لكن أرض الله واسعة، ألم تكن الحبشة واسعة للمسلمين حينما لم يكن يعرف أهل المدينة عن الإسلام شيئاً ؟ وهذا الذي أشار إليه النبي بقوله : ( ومن جاءنا منهم سيجعل الله له فرجاً ومخرجاً ) . (2)
__________
(1) ) صحيح مسلم باب صلح الحديبية (2/105)
(2) ) نفس المصدر .(1/199)
والأخذ بمثل هذا الاحتفاظ، وإن كان مظهر الاعتزاز لقريش، لكنه في الحقيقة ينبئ عن شدة انزعاج قريش وهلعهم وخَوَرِهم، وعن شدة خوفهم على كيانهم الوثني، وكأنهم كانوا قد أحسوا أن كيانهم اليوم على شفا جُرُف هار لا بد له من الأخذ بمثل هذا الاحتفاظ . وما سمح به النبي صلى الله عليه وسلم من أنه لا يسترد من فرّ إلى قريش من المسلمين، فليس هذا إلا دليلاً على أنه يعتمد على تثبيت كيانه وقوته كمال الاعتماد، ولا يخاف عليه من مثل هذا الشرط .
حزن المسلمين ومناقشة عمر النبي صلى الله عليه وسلم
هذه هي حقيقة بنود هذا الصلح، لكن هناك ظاهرتان عمت لأجلهما المسلمين كآبة وحزن شديد .
الأولي : أنه كان قد أخبرهم أنا سنأتي البيت فنطوف به، فما له يرجع ولم يطف به ؟
الثانية : أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى الحق، والله وعد إظهار دينه، فما له قبل ضغط قريش، وأعطي الدَّنِيَّةَ في الصلح ؟
كانت هاتان الظاهرتان مثار الريب والشكوك والوساوس والظنون، وصارت مشاعر المسلمين لأجلهما جريحة، بحيث غلب الهم والحزن على التفكير في عواقب بنود الصلح . ولعل أعظمهم حزناً كان عمر بن الخطاب، فقد جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال : يا رسول الله، ألسنا على حق وهم على باطل ؟ قال : ( بلى ) . قال : أليس قتلانا في الجنة وقتلاهم في النار ؟ قال : ( بلي ) . قال : ففيم نعطي الدنية في ديننا، ونرجع ولما يحكم الله بيننا وبينهم ؟ قال : ( يا ابن الخطاب، إني رسول الله ولست أعصيه، وهو ناصري ولن يضيعني أبداً ) . قال : أوليس كنت تحدثنا أنا سنأتي البيت فنطوف به ؟ قال : ( بلي، فأخبرتك أنا نأتيه العام ؟ ) قال : لا . قال : ( فإنك آتيه ومطوف به ) .
ثم انطلق عمر متغيظا فأتي أبا بكر، فقال له كما قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ورد عليه أبو بكر، كما رد عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم سواء، وزاد : فاستمسك بغَرْزِه حتى تموت، فوالله إنه لعلى الحق .(1/200)
ثم نزلت : { إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا . . . } إلخ [ سورة الفتح : 1 ] ، فأرسل رسول الله إلى عمر فأقرأه إياه . فقال : يا رسول الله، أو فتح هو ؟ قال : ( نعم ) . فطابت نفسه ورجع .
ثم ندم عمر على ما فرط منه ندماً شديداً، قال عمر : فعملت لذلك أعمالاً، مازلت أتصدق وأصوم وأصلي وأعتق من الذي صنعت يومئذ، مخافة كلامي الذي تكلمت به، حتى رجوت أن يكون خيراً . (1)
انحلت أزمة المستضعفين
ولما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، واطمأن بها، انفلت رجل من المسلمين، ممن كان يعذب في مكة، وهو أبو بَصِير، رجل من ثقيف حليف لقريش، فأرسلوا في طلبه رجلين، وقالوا للنبي صلى الله عليه وسلم : العهد الذي جعلت لنا . فدفعه النبي صلى الله عليه وسلم إلى الرجلين، فخرجا به حتى بلغا ذا الحُلَيْفَة، فنزلوا يأكلون من تمر لهم، فقال أبو بصير لأحد الرجلين : والله إني لأري سيفك هذا يا فلان جيداً، فاستله الآخر فقال : أجل، والله إنه لجيد، لقد جَرَّبْتُ به ثم جَرَّبْتُ . فقال أبو بصير : أرني أنظر إليه، فأمكنه منه، فضربه حتى برد .
__________
(1) ) انظر لتفصيل هذه الغزوة والهدنة , فتح الباري (7/439 إلى 458) , صحيح البخاري (1/378 , 379 , 380 , 381 , 2/598 , 600 , 717 ) , صحيح مسلم (2/104 , 105 , 106) , ابن هشام (2/308 إلى 322) زاد المعاد (2/122 , 123 , 124 , 125 , 126 , 127) , مختصر سيرة الرسول للشيخ عبد الله النجدي (ص 207 إلى 305) , تاريخ عمر بن الخطاب لابن الجوزي (ص39 , 40)(1/201)
وفر الآخر حتى أتي المدينة، فدخل المسجد يعدو، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين رآه : ( لقد رأى هذا ذعراً ) ، فلما انتهي إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال : قُتِل صاحبي، وإني لمقتول، فجاء أبو بصير وقال : يا نبي الله، قد والله أوْفَي الله ذمتك، قد رددتني إليهم، ثم أنجاني الله منهم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( ويل أمه، مِسْعَر حَرْبٍ لو كان له أحد ) ، فلما سمع ذلك عرف أنه سيرده إليهم، فخرج حتى أتي سِيفَ البحر، وينفلت منهم أبو جندل بن سهيل، فلحق بأبي بصير، فجعل لا يخرج من قريش رجل قد أسلم إلا لحق بأبي بصير، حتى اجتمعت منهم عصابة . فو الله ما يسمعون بعير خرجت لقريش إلى الشام إلا اعترضوا لها، فقتلوهم وأخذوا أموالهم . فأرسلت قريش إلى النبي صلى الله عليه وسلم تناشده الله والرحم لما أرسل، فمن أتاه فهو آمن، فأرسل النبي صلى الله عليه وسلم إليهم، فقدموا عليه المدينة . (1)
إسلام أبطال من قريش
وفي سنة 7 من الهجرة بعد هذا الصلح أسلم عمرو بن العاص وخالد بن الوليد وعثمان بن طلحة، ولما حضروا عند النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( إن مكة قد ألقت إلينا أفلاذ كبدها ) (2)
غزوة خيبر ووادي القُرى
( في محرم سنة 7 هـ )
كانت خيبر مدينة كبيرة ذات حصون ومزارع على بعد ثمانين ميلا من المدينة في جهة الشمال، وهي الآن قرية في مناخها بعض الوخامة .
سبب الغزوة
__________
(1) ) المصادر السابقة .
(2) ) اختلفوا كثيراً في تعيين السنة التي أسلم فيها هؤلاء الصحابة , وعامة كتب أسماء الرجال تصرح أنها سنة ثمان , ولكن قصة إسلام عمرو بن العاص عند النجاشي معروفة , وأسلم خالد وعثمان بن طلحة حين رجع عمرو بن العاص من الحبشة فإنه بعد الرجوع قصد المدينة فلقياه في الطريق , وحضر الثلاثة عند النبي صلى الله عليه وسلم وأسلموا وهذا يقتضي أنهم أسلموا في أوائل سنة سبع . والله أعلم .(1/202)
ولما اطمأن رسول الله صلى الله عليه وسلم من أقوي أجنحة الأحزاب الثلاثة، وهو قريش، وأمن منه تماماً بعد صلح الحديبية أراد أن يحاسب الجناحين الباقيين ـ اليهود وقبائل نجد ـ حتى يتم الأمن والسلام، ويسود الهدوء في المنطقة، ويفرغ المسلمون من الصراع الدامي المتواصل إلى تبليغ رسالة الله والدعوة إليه .
ولما كانت خيبر هي وكرة الدس والتآمر ومركز الاستفزازات العسكرية، ومعدن التحرشات وإثارة الحروب، كانت هي الجديرة بالتفات المسلمين أولا .
أما كون خيبر بهذه الصفة، فلا ننسي أن أهل خيبر هم الذين حزبوا الأحزاب ضد المسلمين، وأثاروا بني قريظة على الغدر والخيانة، ثم أخذوا في الاتصالات بالمنافقين ـ الطابور الخامس في المجتمع الإسلامي ـ وبغطفان وأعراب البادية ـ الجناح الثالث من الأحزاب ـ وكانوا هم أنفسهم يتهيأون للقتال، فألقوا المسلمين بإجراءاتهم هذه في محن متوصلة، حتى وضعوا خطة لاغتيال النبي صلى الله عليه وسلم، وإزاء ذلك اضطر المسلمون إلى بعوث متواصلة، وإلى الفتك برأس هؤلاء المتآمرين، مثل سلام بن أبي الحُقَيْق، وأسِير بن زارم، ولكن الواجب على المسلمين إزاء هؤلاء اليهود كان أكبر من ذلك، وإنما أبطأوا في القيام بهذا الواجب ؛ لأن قوة أكبر وأقوي وألد وأعند منهم ـ وهي قريش ـ كانت مجابهة للمسلمين، فلما انتهت هذه المجابهة صفا الجو لمحاسبة هؤلاء المجرمين، واقترب لهم يوم الحساب .
الخروج إلى خيبر
قال ابن إسحاق : أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة حين رجع من الحديبية ذا الحجة وبعض المحرم، ثم خرج في بقية المحرم إلى خيبر .
قال المفسرون : إن خيبر كانت وعدا وعدها الله تعالى بقوله : { وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ } [ الفتح : 20 ] يعني صلح الحديبية، وبالمغانم الكثيرة خيبر .
عدد الجيش الإسلامي(1/203)
ولما كان المنافقون وضعفاء الإيمان تخلفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة الحديبية أمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم فيهم قائلاً : { سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَن يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللَّهِ قُل لَّن تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِن قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا بَلْ كَانُوا لَا يَفْقَهُونَ إِلَّا قَلِيلًا } [ الفتح : 15 ] .
فلما أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم الخروج إلى خيبر أعلن ألا يخرج معه إلا راغب في الجهاد، فلم يخرج إلا أصحاب الشجرة وهم ألف وأربعمائة .
واستعمل على المدينة سِبَاع بن عُرْفُطَةَ الغفاري، وقال ابن إسحاق : نُمَيْلَة بن عبد الله الليثي، والأول أصح عند المحققين . (1)
وبعد خروجه صلى الله عليه وسلم قدم أبو هريرة المدينة مسلماً، فوافي سباع بن عرفطة في صلاة الصبح، فلما فرغ من صلاته أتي سباعا فزوده، حتى قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكلم المسلمين فأشركوه وأصحابه في سهمانهم .
اتصال المنافقين باليهود
وقد قام المنافقون يعملون لليهود، فقد أرسل رأس المنافقين عبد الله بن أبي إلى يهود خيبر : إن محمداً قصد قصدكم، وتوجه إليكم، فخذوا حذركم، ولا تخافوا منه فإن عددكم وعدتكم كثيرة، وقوم محمد شرذمة قليلون، عزّل، لا سلاح معهم إلا قليل، فلما علم ذلك أهل خيبر، أرسلوا كنانة بن أبي الحقيق وهَوْذَة بن قيس إلى غطفان يستمدونهم ؛ لأنهم كانوا حلفاء يهود خيبر، ومظاهرين لهم على المسلمين، وشرطوا لهم نصف ثمار خيبر إن هم غلبوا المسلمين .
الطريق إلى خيبر
__________
(1) ) انظر فتح الباري (7/465) , زاد المعاد (2/133)(1/204)
وسلك رسول صلى الله عليه وسلم في اتجاهه نحو خيبر جبل عصر ـ بالكسر، وقيل : بالتحريك ـ ثم على الصهباء، ثم نزل على واد يقال له : الرجيع، وكان بينه وبين غطفان مسيرة يوم وليلة، فتهيأت غطفان وتوجهوا إلى خيبر، لإمداد اليهود، فلما كانوا ببعض الطريق سمعوا من خلفهم حساً ولغطاً، فظنوا أن المسلمين أغاروا على أهاليهم وأموالهم فرجعوا، وخلوا بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين خيبر .
ثم دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم الدليلين اللذين كانا يسلكان بالجيش ـ وكان اسم أحدهما : حُسَيْل ـ ليدلاه على الطريق الأحسن، حتى يدخل خيبر من جهة الشمال ـ أي جهة الشام ـ فيحول بين اليهود وبين طريق فرارهم إلى الشام، كما يحول بينهم وبين غطفان .
قال أحدهما : أنا أدلك يا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأقبل حتى انتهي إلى مفرق الطرق المتعددة وقال : يا رسول الله، هذه طرق يمكن الوصول من كل منها إلى المقصد، فأمر أن يسمها له واحداً واحداً . قال : اسم واحد منها حزن، فأبي النبي صلى الله عليه وسلم من سلوكه، قال : اسم الآخر شاش، فامتنع منه أيضاً، وقال : اسم الآخر حاطب، فامتنع منه أيضاً، قال حسيل : فما بقي إلا واحد . قال عمر : ما اسمه ؟ قال : مَرْحَب، فاختار النبي صلى الله عليه وسلم سلوكه .
بعض ما وقع في الطريق
1 ـ عن سلمة بن الأكوع قال : خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم إلى خيبر فسرنا ليلاً، فقال رجل من القوم لعامر : يا عامر، ألا تسمعنا من هنيهاتك ؟ ـ وكان عامر رجلاً شاعراً ـ فنزل يحدو بالقوم، يقول :
اللهم لولا أنت ما اهتدينا ** ولا تَصدَّقْنا ولا صَلَّينا
فاغفر فِدَاءً لك ما اقْتَفَيْنا ** وَثبِّت الأقدام إن لاقينا
وألْقِينْ سكينة علينا ** إنا إذا صِيحَ بنا أبينا
وبالصياح عَوَّلُوا علينا **(1/205)
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( من هذا السائق ) قالوا : عامر بن الأكوع، قال : ( يرحمه الله ) : قال رجل من القوم : وجبت يا نبي الله، لولا أمتعتنا به . (1)
وكانوا يعرفون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يستغفر لإنسان يخصه إلا استشهد (2) ، وقد وقع ذلك في حرب خيبر .
2 ـ وبالصهباء من أدني خيبر صلي النبي صلى الله عليه وسلم العصر، ثم دعا بالأزواد، فلم يؤت إلا بالسَّوِيق، فأمر به فثري، فأكل وأكل الناس، ثم قام إلى المغرب، فمضمض، ومضمض الناس، ثم صلي ولم يتوضأ (3) ، ثم صلي العشاء . (4)
3 ـ ولما دنا من خيبر وأشرف عليها قال : ( قفوا ) ، فوقف الجيش، فقال : ( اللهم رب السموات السبع وما أظللن، ورب الأرضين السبع وما أقللن، ورب الشياطين وما أضللن، ورب الرياح وما أذرين، فإنا نسألك خير هذه القرية، وخير أهلها، وخير ما فيها، ونعوذ بك من شر هذه القرية، وشر أهلها، وشر ما فيها، أقدموا، بسم الله ) . (5)
الجيش الإسلامي إلى أسوار خيبر
وبات المسلمون الليلة الأخيرة التي بدأ في صباحها القتال قريبًا من خيبر، ولا تشعر بهم اليهود، وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أتي قومًا بليل لم يقربهم حتى يصبح، فلما أصبح صلي الفجر بغَلَس، وركب المسلمون، فخرج أهل خيبر بمساحيهم ومكاتلهم، ولا يشعرون، بل خرجوا لأرضهم، فلما رأوا الجيش قالوا : محمد، والله محمد والخَمِيس ، ثم رجعوا هاربين إلى مدينتهم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( الله أكبر، خربت خيبر، الله أكبر، خربت خيبر، إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين ) (6)
حصون خيبر
وكانت خيبر منقسمة إلى شطرين، شطر فيها خمسة حصون :
__________
(1) ) صحيح البخاري باب غزوة خيبر (2/603) , صحيح مسلم باب غزوة ذي قرد وغيرها (2/115)
(2) ) نفس المصدر الأخير .
(3) ) صحيح البخاري (2/603)
(4) ) مغازي الواقدي (2/603)
(5) ) ابن هشام (2/329)
(6) ) صحيح البخاري باب غزوة خيبر (2/603 , 604)(1/206)
1 ـ حصن ناعم . 2 ـ حصن الصَّعْب بن معاذ .
3 ـ حصن قلعة الزبير . 4 ـ حصن أبي .
5 ـ حصن النِّزَار .
والحصون الثلاثة الأولي منها كانت تقع في منطقة يقال لها : ( النطاة ) وأما الحصنان الآخران فيقعان في منطقة تسمي بالشَّقِّ .
أما الشطر الثاني، ويعرف بالكتيبة، ففيه ثلاثة حصون فقط :
1 ـ حصن القَمُوص [ وكان حصن بني أبي الحقيق من بني النضير ] .
2 ـ حصن الوَطِيح .
3 ـ حصن السُّلالم .
وفي خيبر حصون وقلاع غير هذه الثمانية، إلا أنها كانت صغيرة، لا تبلغ إلى درجة هذه القلاع في مناعتها وقوتها .
والقتال المرير إنما دار في الشطر الأول منها، أما الشطر الثاني فحصونها الثلاثة مع كثرة المحاربين فيها سلمت دونما قتال .
معسكر الجيش الإسلامي
وتقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى اختار لمعسكره منزلاً، فأتاه حُبَاب بن المنذر، فقال : يا رسول الله، أرأيت هذا المنزل أنزلكه الله، أم هو الرأي في الحرب ؟ قال : ( بل هو الرأي ) فقال : يا رسول الله، إن هذا المنزل قريب جدًا من حصن نَطَاة، وجميع مقاتلي خيبر فيها، وهم يدرون أحوالنا، ونحن لا ندري أحوالهم، وسهامهم تصل إلينا، وسهامنا لا تصل إليهم، ولا نأمن من بياتهم، وأيضًا هذا بين النخلات، ومكان غائر، وأرض وخيمة، لو أمرت بمكان خال عن هذه المفاسد نتخذه معسكرًا، قال صلى الله عليه وسلم : ( الرأي ما أشرت ) ، ثم تحول إلى مكان آخر .
التهيؤ للقتال وبشارة الفتح(1/207)
ولما كانت ليلة الدخول ـ وقيل : بل بعد عدة محاولات ومحاربات ـ قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( لأعطين الراية غدًا رجلاً يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله، [ يفتح الله على يديه ] ) فلما أصبح الناس غدوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، كلهم يرجو أن يعطاها، فقال : ( أين علي بن أبي طالب ؟ ) فقالوا : يا رسول الله، هو يشتكي عينيه (1) ، قال : ( فأرسلوا إليه ) ، فأتي به فبصق رسول الله صلى الله عليه وسلم في عينيه، ودعا له، فبرئ، كأن لم يكن به وجع، فأعطاه الراية، فقال : يا رسول الله، أقاتلهم حتى يكونوا مثلنا، قال : ( انفذ على رسلك، حتى تنزل بساحتهم، ثم ادعهم إلى الإسلام، وأخبرهم بما يجب عليهم من حق الله فيه، فوالله، لأن يهدي الله بك رجلا واحدًا خير لك من أن يكون لك حمر النعم ) . (2)
بدء المعركة وفتح حصن ناعم
أما اليهود فإنهم لما رأوا الجيش وفروا إلى مدينتهم تحصنوا في حصونهم، وكان من الطبيعي أن يستعدوا للقتال .
وأول حصن هاجمه المسلمون من حصونهم الثمانية هو حصن ناعم .
وكان خط الدفاع الأول لليهود لمكانه الاستراتيجي، وكان هذا الحصن هو حصن مرحب البطل اليهودي الذي كان يعد بالألف .
خرج علي بن أبي طالب رضي الله عنه بالمسلمين إلى هذا الحصن، ودعا اليهود إلى الإسلام، فرفضوا هذه الدعوة، وبرزوا إلى المسلمين ومعهم ملكهم مرحب، فلما خرج إلى ميدان القتال دعا إلى المبارزة، قال سلمة بن الأكوع : فلما أتينا خيبر خرج ملكهم مرحب يخطر بسيفه يقول :
قد عَلِمتْ خيبر أني مَرْحَب ** شَاكِي السلاح بطل مُجَرَّب
إذا الحروب أقبلتْ تَلَهَّب **
فبرز له عمي عامر فقال :
__________
(1) ) وكان لأجل هذه الشكوى تخلف في أول المسير , ثم لحق بالجيش .
(2) ) صحيح البخاري باب غزوة خيبر (2/505 , 606) , ويؤخذ من بعض الروايات أن إعطاء الراية لعلي كان بعد فشل عدة محاولات لفتح حصن من حصونهم . والراجح عند المحققين هو ما ذكرنا .(1/208)
قد علمت خيبر أني عامر ** شاكي السلاح بطل مُغَامِر
فاختلفا ضربتين، فوقع سيف مرحب في ترس عمي عامر، وذهب عامر يسفل له، وكان سيفه قصيرًا، فتناول به ساق اليهودي ليضربه، فيرجع ذُبَاب سيفه فأصاب عين ركبته فمات منه، وقال فيه النبي صلى الله عليه وسلم : ( إن له لأجرين ـ وجمع بين إصبعيه ـ إنه لجَاهِدٌ مُجَاهِد، قَلَّ عربي مَشَي بها مِثْلَه ) . (1)
ويبدو أن مرحبًا دعا بعد ذلك إلى البراز مرة أخري وجعل يرتجز بقوله :
قد علمت خيبر أني مرحب . . . إلخ، فبرز له على بن أبي طالب . قال سلمة ابن الأكوع : فقال علي :
أنا الذي سمتني أمي حَيْدَرَهْ ** كلَيْثِ غابات كَرِيه المَنْظَرَهْ
أُوفِيهم بالصَّاع كَيْل السَّنْدَرَهْ **
فضرب رأس مرحب فقتله، ثم كان الفتح على يديه . (2)
ولما دنا علي رضي الله عنه من حصونهم اطلع يهودي من رأس الحصن، وقال : من أنت ؟ فقال : أنا علي بن أبي طالب، فقال اليهودي : علوتم وما أنزل على موسى .
ثم خرج ياسر أخو مرحب، وهو يقول : من يبارز ؟ فبرز إليه الزبير، فقالت صفية أمه : يا رسول الله، يقتل ابني، قال : ( بل ابنك يقتله ) ، فقتله الزبير .
ودار القتال المرير حول حصن ناعم، قتل فيه عدة سراة من اليهود، انهارت لأجله مقاومة اليهود، وعجزوا عن صد هجوم المسلمين، ويؤخذ من المصادر أن هذا القتال دام أيامًا لاقي المسلمون فيها مقاومة شديدة، إلا أن اليهود يئسوا من مقاومة المسلمين، فتسللوا من هذا الحصن إلى حصن الصَّعْب، واقتحم المسلمون حصن ناعم .
فتح حصن الصعب بن معاذ
__________
(1) ) صحيح مسلم باب غزوة خيبر (2/122) , باب غزوة ذي قرد وغيرها (2/115) , صحيح البخاري باب غزوة خيبر (2/603)
(2) ) بين المصادر اختلاف كبير في الرجل الذي قتل مرحباً , وفي اليوم الذي قتل فيه , وفتح هذا الحصن . وبعض هذا الاختلاف موجود في سيلق روايات الصحيحين أيضاً , وهذا الترتيب أخذناه بعد ترجيح سياق رواية البخاري .(1/209)
وكان حصن الصعب الحصن الثاني من حيث القوة والمناعة بعد حصن ناعم، قام المسلمون بالهجوم عليه تحت قيادة الحباب بن المنذر الأنصاري، ففرضوا عليه الحصار ثلاثة أيام، وفي اليوم الثالث، دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم لفتح هذا الحصن دعوة خاصة .
روي ابن إسحاق أن بني سهم من أسلم أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا : لقد جهدنا، وما بأيدينا من شيء، فقال : ( اللهم إنك قد عرفت حالهم، وأن ليست بهم قوة، وأن ليس بيدي شيء أعطيهم إياه، فافتح عليهم أعظم حصونها عنهم غَنَاء، وأكثرها طعامًا ووَدَكًا ) . فغدا الناس ففتح الله عز وجل حصن الصعب بن معاذ، وما بخيبر حصن كان أكثر طعامًا وودكًا منه . (1)
ولما ندب النبي صلى الله عليه وسلم المسلمين بعد دعائه لمهاجمة هذا الحصن كان بنو أسلم هم المقاديم في المهاجمة، ودار البراز والقتال أمام الحصن، ثم فتح الحصن في ذلك اليوم قبل أن تغرب الشمس، ووجد فيه المسلمون بعض المنجنيقات والدبابات .
ولأجل هذه المجاعة الشديدة التي ورد ذكرها في رواية ابن إسحاق، كان رجال من الجيش قد ذبحوا الحمير، ونصبوا القدور على النيران، فلما علم رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك نهي عن لحوم الحمر الإنسية .
فتح قلعة الزبير
__________
(1) ) ابن هشام ملخصاً (2/332) والودك : دسم اللحم .(1/210)
وبعد فتح حصن ناعم والصعب تحول اليهود من كل حصون النَّطَاة إلى قلعة الزبير، وهو حصن منيع في رأس قُلَّةٍ ، لا تقدر عليه الخيل والرجال لصعوبته وامتناعه، ففرض عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم الحصار، وأقام محاصرًا ثلاثة أيام، فجاء رجل من اليهود، وقال : يا أبا القاسم، إنك لو أقمت شهرًا ما بالوا، إن لهم شرابًا وعيونًا تحت الأرض، يخرجون بالليل ويشربون منها، ثم يرجعون إلى قلعتهم فيمتنعون منك، فإن قطعت مشربهم عليهم أصحروا لك . فقطع ماءهم عليهم، فخرجوا فقاتلوا أشد القتال، قتل فيه نفر من المسلمين، وأصيب نحو العشرة من اليهود، وافتتحه رسول الله صلى الله عليه وسلم .
فتح قلعة أبي
وبعد فتح قلعة الزبير انتقل اليهود إلى قلعة أبي وتحصنوا فيه، وفرض المسلمون عليهم الحصار، وقام بطلان من اليهود واحد بعد الآخر بطلب المبارزة، وقد قتلهما أبطال المسلمين، وكان الذي قتل المبارز الثاني هو البطل المشهور أبو دُجَانة سِمَاك بن خَرَشَة الأنصاري صاحب العصابة الحمراء . وقد أسرع أبو دجانة بعد قتله إلى اقتحام القلعة، واقتحم معه الجيش الإسلامي، وجري قتال مرير ساعة داخل الحصن، ثم تسلل اليهود من القلعة، وتحولوا إلى حصن النزار آخر حصن في الشطر الأول .
فتح حصن النَّزَار
كان هذا الحصن أمنع حصون هذا الشطر، وكان اليهود على شبه اليقين بأن المسلمين لا يستطيعون اقتحام هذه القلعة، وإن بذلوا قصاري جهدهم في هذا السبيل، ولذلك أقاموا في هذه القلعة مع الذراري والنساء، بينما كانوا قد أخلوا منها القلاع الأربعة السابقة .
وفرض المسلمون على هذا الحصن أشد الحصار، وصاروا يضغطون عليهم بعنف، ولكون الحصن يقع على جبل مرتفع منيع لم يكونوا يجدون سبيلا للاقتحام فيه . أما اليهود فلم يجترئوا للخروج من الحصن، وللاشتباك مع قوات المسلمين، ولكنهم قاوموا المسلمين مقاومة عنيدة برشق النبال، وبإلقاء الحجارة .(1/211)
وعندما استعصى حصن النزار على قوات المسلمين، أمر النبي صلى الله عليه وسلم بنصب آلات المنجنيق، ويبدو أن المسلمين قذفوا به القذائف، فأوقعوا الخلل في جدران الحصن، واقتحموه، ودار قتال مرير في داخل الحصن انهزم أمامه اليهود هزيمة منكرة، وذلك لأنهم لم يتمكنوا من التسلل من هذا الحصن كما تسللوا من الحصون الأخري، بل فروا من هذا الحصن تاركين للمسلمين نساءهم وذراريهم .
وبعد فتح هذا الحصن المنيع تم فتح الشطر الأول من خيبر، وهي ناحية النَّطَاة والشَّقِّ، وكانت في هذه الناحية حصون صغيرة أخري إلا أن اليهود بمجرد فتح هذا الحصن المنيع أخلوا هذه الحصون، وهربوا إلى الشطر الثاني من بلدة خيبر .
فتح الشطر الثاني من خيبر
ولما أتم رسول الله صلى الله عليه وسلم فتح ناحية النطاة والشق، تحول إلى أهل الكتيبة التي بها حصن القَمُوص : حصن بني أبي الحُقَيْق من بني النضير، وحصن الوَطِيح والسُّلالم، وجاءهم كل فَلِّ كان انهزم من النطاة والشق، وتحصن هؤلاء أشد التحصن .
واختلف أهل المغازي هل جري هناك قتال في أي حصن من حصونها الثلاثة أم لا ؟ فسياق ابن إسحاق صريح في جريان القتال لفتح حصن القموص، بل يؤخذ من سياقه أن هذا الحصن تم فتحه بالقتال فقط من غير أن يجري هناك مفاوضة للاستسلام . (1)
أما الواقدي، فيصرح تمام التصريح أن قلاع هذا الشطر الثلاث إنما أخذت بعد المفاوضة، ويمكن أن تكون المفاوضة قد جرت لاستلام حصن القموص بعد إدارة القتال، وأما الحصنان الآخران فقد سلما إلى المسلمين دونما قتال .
ومهما كان، فلما أتي رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى هذه الناحية ـ الكتيبة ـ فرض على أهلها أشد الحصار، ودام الحصار أربعة عشر يومًا، واليهود لا يخرجون من حصونهم، حتى همّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينصب عليهم المنجنيق، فلما أيقنوا بالهلكة سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم الصلح .
المفاوضة
__________
(1) ) ابن هشام (2/331 , 336 , 337)(1/212)
وأرسل ابن أبي الحُقَيْق إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم : أنزل فأكلمك ؟ قال : ( نعم ) ، فنزل، وصالح على حقن دماء مَنْ في حصونهم من المقاتلة، وترك الذرية لهم، ويخرجون من خيبر وأرضها بذراريهم، ويخلون بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين ما كان لهم من مال وأرض، وعلى الصفراء والبيضاء ـ أي الذهب والفضة ـ والكُرَاع والْحَلْقَة إلا ثوبًا على ظهر إنسان (1) ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( وبرئت منكم ذمة الله وذمة رسوله إن كتمتموني شيئا ) ، فصالحوه على ذلك (2) ، وبعد هذه المصالحة تم تسليم الحصون إلى المسلمين، وبذلك تم فتح خيبر .
قتل ابني أبي الحقيق لنقض العهد
وعلى رغم هذه المعاهدة غيب ابنا أبي الحقيق مالا كثيرا، غيبا مَسْكًا فيه مال وحُلُي لحيي بن أخطب، كان احتمله معه إلى خيبر حين أجليت النضير .
قال ابن إسحاق : وأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بكِنَانة الربيع، وكان عنده كنز بني النضير، فسأله عنه، فجحد أن يكون يعرف مكانه، فأتي رجل من اليهود فقال : إني رأيت كنانة يطيف بهذه الخربة كل غداة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لكنانة : ( أرأيت إن وجدناه عندك أأقتلك ؟ ) قال : نعم، فأمر بالخربة، فحفرت، فأخرج منها بعض كنزهم، ثم سأله عما بقي، فأبي أن يؤديه . فدفعه إلى الزبير، وقال : عذبه حتى نستأصل ما عنده، فكان الزبير يقدح بزند في صدره حتى أشرف على نفسه، ثم دفعه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى محمد بن مسلمة، فضرب عنقه بمحمود بن مسلمة ـ وكان محمود قتل تحت جدار حصن ناعم، ألقي عليه الرحي، وهو يستظل بالجدار فمات ـ .
__________
(1) ) ولكن صرح في رواية أبي داود أنه عاهد على أن المسلمين يسمحون لليهود عند جلائهم عن خيبر أن يأخذوا من الأموال ما حملت ركابهم ( انظر سنن أبي داود , باب ما جاء في حكم أرض خيبر 2/76)
(2) ) زاد المعاد (2/136)(1/213)
وذكر ابن القيم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بقتل ابني أبي الحقيق، وكان الذي اعترف عليهما بإخفاء المال هو ابن عم كنانة .
وسبي رسول الله صلى الله عليه وسلم صفية بنت حيي بن أخطب، وكانت تحت كنانة بن أبي الحقيق، وكانت عروسًا حديثة عهد بالدخول .
قسمة الغنائم
وأراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجلي اليهود من خيبر، فقالوا : يا محمد، دعنا نكون في هذه الأرض، نصلحها، ونقوم عليها، فنحن أعلم بها منكم، ولم يكن لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولا لأصحابه غلمان يقومون عليها، وكانوا لا يفرغون حتى يقوموا عليها، فأعطاهم خيبر على أن لهم الشطر من كل زرع، ومن كل ثمر، ما بدا لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقرهم، وكان عبد الله بن رواحة يخرصه عليهم .
وقسم أرض خيبر على ستة وثلاثين سهمًا، جمع كل سهم مائة سهم، فكانت ثلاثة آلاف وستمائة سهم، فكان لرسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين النصف من ذلك وهو ألف وثمانمائة سهم، لرسول الله صلى الله عليه وسلم سهم كسهم أحد المسلمين، وعزل النصف الآخر، وهو ألف وثمانمائة سهم، لنوائبه وما يتنزل به من أمور المسلمين، وإنما قسمت على ألف وثمانمائة سهم لأنها كانت طعمة من الله لأهل الحديبية من شهد منهم ومن غاب، وكانوا ألفا وأربعمائة، وكان معهم مائتا فرس، لكل فرس سهمان، فقسمت على ألف وثمانمائة سهم، فصار للفارس ثلاثة أسهم، وللراجل سهم واحد . (1)
ويدل على كثرة مغانم خيبر ما رواه البخاري عن ابن عمر قال : ما شبعنا حتى فتحنا خيبر، وما رواه عن عائشة قالت : لما فتحت خيبر قلنا : الآن نشبع من التمر (2) ، ولما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة رد المهاجرون إلى الأنصار منائحهم التي كانوا منحوهم إياها من النخيل حين صار لهم بخيبر مال ونخيل . (3)
__________
(1) ) زاد المعاد (2/137 , 138)
(2) ) صحيح البخاري (2/609)
(3) ) زاد المعاد (2/148) , صحيح مسلم (2/96)(1/214)
قدوم جعفر بن أبي طالب والأشعريين
وفي هذه الغزوة قدم عليه ابن عمه جعفر بن أبي طالب وأصحابه، ومعهم الأشعريون أبو موسى وأصحابه .
قال أبو موسي : بلغنا مخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن باليمن، فخرجنا مهاجرين إليه ـ أنا وأخوان لي ـ في بضع وخمسين رجلاً من قومي، ركبنا سفينة، فألقتنا سفينتنا إلى النجاشي بالحبشة، فوافقنا جعفرًا وأصحابه عنده، فقال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثنا وأمرنا بالإقامة، فأقيموا معنا، فأقمنا معه حتى قدمنا فوافقنا رسول الله صلى الله عليه وسلم حين فتح خيبر، فأسهم لنا، وما قسم لأحد غاب عن فتح خيبر شيئا إلا لمن شهد معه، إلا لأصحاب سفينتنا مع جعفر وأصحابه، قسم لهم معهم . (1)
ولما قدم جعفر على النبي صلى الله عليه وسلم تلقاه وقَبَّلَ ما بين عينيه وقال : ( والله ما أدري بأيهما أفرح ؟ بفتح خيبر أم بقدوم جعفر ) . (2)
وكان قدوم هؤلاء على أثر بعث الرسول صلى الله عليه وسلم إلى النجاشي عمرو بن أمية الضمري يطلب توجيههم إليه، فأرسلهم النجاشي على مركبين، وكانوا ستة عشر رجلاً، معهم من بقي من نسائهم وأولادهم، وبقيتهم جاءوا إلى المدينة قبل ذلك . (3)
الزواج بصفية
__________
(1) ) صحيح البخاري (1/443) , وانظر أيضاً فتح الباري (7/484 , 485 , 486 , 487)
(2) ) زاد المعاد (2/139)
(3) ) محاضرات تاريخ الأمم الإسلامية للخضري (1/128)(1/215)
ذكرنا أن صفية جعلت في السبايا حين قتل زوجها كِنَانة بن أبي الحقيق لغدره، ولما جمع السبي جاء دحية بن خليفة الكلبي، فقال : يا نبي الله، أعطني جارية من السبي، فقال : اذهب فخذ جارية، فأخذ صفية بنت حيي، فجاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا نبي الله، أعطيت دحية صفية بنت حيي سيدة قريظة وبني النضير، لا تصلح إلا لك، قال : ( ادعوه بها ) . فجاء بها، فلما نظر إليها النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( خذ جارية من السبي غيرها ) ، وعرض عليها النبي صلى الله عليه وسلم الإسلام فأسلمت، فأعتقها وتزوجها، وجعل عتقها صداقها، حتى إذا كان بسد الصهباء راجعًا إلى المدينة حلت، فجهزتها له أم سليم، فأهدتها له من الليل، فأصبح عروسًا بها، وأولم عليها بحيس من التمر والسمن والسَّوِيق، وأقام عليها ثلاثة أيام في الطريق يبني بها . (1)
ورأى بوجهها خضرة، فقال : ( ما هذا ؟ ) قالت : يا رسول الله، رأيت قبل قدومك علينا كأن القمر زال من مكانه، وسقط في حجري، ولا والله ما أذكر من شأنك شيئا، فقصصتها على زوجي، فلطم وجهي . فقال : تمنين هذا الملك الذي بالمدينة . (2)
أمر الشاة المسمومة
ولما اطمأن رسول الله صلى الله عليه وسلم بخيبر بعد فتحها أهدت له زينب بنت الحارث، امرأة سَلاَّم بن مِشْكَم، شاة مَصْلِيَّةً، وقد سألت أي عضو أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فقيل لها : الذراع، فأكثرت فيها من السم، ثم سمت سائر الشاة، ثم جاءت بها، فلما وضعتها بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم تناول الذراع، فَلاَكَ منها مضغة فلم يسغها، ولفظها، ثم قال : ( إن هذا العظم ليخبرني أنه مسموم ) ، ثم دعا بها فاعترفت، فقال : ( ما حملك على ذلك ؟ ) قالت : قلت : إن كان ملكًا استرحت منه، وإن كان نبيًا فسيخبر، فتجاوز عنها .
__________
(1) ) صحيح البخاري (1/54 , 2/604 , 606) , زاد المعاد (2/137)
(2) ) نفس المصدر الأخير , وابن هشام (2/336)(1/216)
وكان معه بِشْر بن البراء بن مَعْرُور، أخذ منها أكلة فأساغها، فمات منها .
واختلفت الروايات في التجاوز عن المرأة وقتلها، وجمعوا بأنه تجاوز عنها أولا، فلما مات بشر قتلها قصاصا . (1)
قتلى الفريقين في معارك خيبر
وجملة من استشهد من المسلمين في معارك خيبر ستة عشر رجلاً، أربعة من قريش وواحد من أشْجَع، وواحد من أسْلَم، وواحد من أهل خيبر والباقون من الأنصار .
ويقال : إن شهداء المسلمين في هذه المعارك 81 رجلاً .
وذكر العلامة المنصورفوري 91 رجلاً، ثم قال : إني وجدت بعد التفحص 32 اسما، واحد منها في الطبري فقط، وواحد عند الواقدي فقط، وواحد مات لأجل أكل الشاة المسمومة، وواحد اختلفوا هل قتل في بدر أو خيبر، والصحيح أنه قتل في بدر . (2)
أما قتلي اليهود فعددهم ثلاثة وتسعون قتيلاً .
فَدَك
ولما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى خيبر، بعث مُحَيِّصَة بن مسعود إلى يهود فَدَك، ليدعوهم إلى الإسلام، فأبطأوا عليه، فلما فتح الله خيبر قذف الرعب في قلوبهم، فبعثوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يصالحونه على النصف من فدك بمثل ما عامل عليه أهل خيبر، فقبل ذلك منهم، فكانت فدك لرسول الله صلى الله عليه وسلم خالصة؛ لأنه لم يُوجِف عليه المسلمون بخيل ولا ركاب . (3)
وادي القُرَى
ولما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من خيبر، انصرف إلى وادي القري، وكان بها جماعة من اليهود، وانضاف إليهم جماعة من العرب .
__________
(1) ) انظر زاد المعاد (2/139 , 140) , فتح الباري (7/497) , وأصل القصة مروية في البخاري مطولاً ومختصراً ( 1/449 , 2/610 , 860 ) , وفي ابن هشام (2/337 , 338)
(2) ) رحمة للعالمين (2/268 , 269 , 270)
(3) ) ابن هشام (2/337 , 353)(1/217)
فلما نزلوا استقبلتهم يهود بالرمي، وهم على تعبئة، فقتل مِدْعَم ـ عَبْدٌ لرسول الله صلى الله عليه وسلم ـ فقال الناس : هنيئا له الجنة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( كلا، والذي نفسي بيده، إن الشَّمْلَة التي أخذها يوم خيبر من المغانم، لم تصبها المقاسم، لتشتعل عليه نارًا ) ، فلما سمع بذلك الناس جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم بشِرَاك أو شراكين، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( شراك من نار أو شراكان من نار ) . (1)
ثم عَبَّأ رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه للقتال، وصَفَّهم، ودفع لواءه إلى سعد بن عبادة، وراية إلى الحُبَاب بن المنذر، وراية إلى سهل بن حُنَيْف، وراية إلى عباد بن بشر، ثم دعاهم إلى الإسلام فأبوا، وبرز رجل منهم، فبرز إليه الزبير بن العوام فقتله، ثم برز آخر فقتله، ثم برز آخر فبرز إليه علي بن أبي طالب رضي الله عنه فقتله، حتى قتل منهم أحد عشر رجلاً، كلما قتل منهم رجل دعا من بقي إلى الإسلام .
وكانت الصلاة تحضر هذا اليوم، فيصلي بأصحابه، ثم يعود، فيدعوهم إلى الإسلام وإلى الله ورسوله، فقاتلهم حتى أمسوا، وغدا عليهم فلم ترتفع الشمس قيد رمح حتى أعطوا ما بأيديهم، وفتحها عنوة، وغَنَّمَهُ اللهُ أموالهم، وأصابوا أثاثا ومتاعًا كثيرًا .
وأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بوادي القري أربعة أيام . وقسم على أصحابه ما أصاب بها، وترك الأرض والنخل بأيدي اليهود، وعاملهم عليها (2) ـ كما عامل أهل خيبرـ .
تَيْمَاء
__________
(1) ) صحيح البخاري (2/608)
(2) ) زاد المعاد (2/146 , 147)(1/218)
ولما بلغ يهود تيماء خبر استسلام أهل خيبر ثم فَدَك ووادي القُرَي، لم يبدوا أي مقاومة ضد المسلمين، بل بعثوا من تلقاء أنفسهم يعرضون الصلح، فقبل ذلك منهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأقاموا بأموالهم (1) . وكتب لهم بذلك كتابا وهاك نصه : هذا كتاب محمد رسول الله لبني عاديا، أن لهم الذمة، وعليهم الجزية، ولا عداء ولا جلاء، الليل مد، والنهار شد، وكتب خالد بن سعيد . (2)
العودة إلى المدينة
ثم أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم في العودة إلى المدينة، وفي الطريق أشرف الناس على واد فرفعوا أصواتهم بالتكبير : ( الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله ) فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( أربعوا على أنفسكم، إنكم لا تدعون أصَمَّ ولا غائبا، إنكم تدعون سميعا قريبا ) . (3)
وفي مرجعه ذلك سار النبي صلى الله عليه وسلم ليلة، ثم نام في آخر الليل ببعض الطريق، وقال لبلال : ( اكلأ لنا الليل ) ، فغلبت بلالاً عيناه، وهو مستند إلى راحلته، فلم يستيقظ أحد، حتى ضربتهم الشمس، وأول من استيقظ بعد ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم خرج من ذلك الوادي، وتقدم، ثم صلي الفجر بالناس، وقيل : إن هذه القصة في غير هذا السفر . (4)
وبعد النظر في تفصيل معارك خيبر، يبدو أن رجوع النبي صلى الله عليه وسلم كان في أواخر صفر أو في ربيع الأول سنة 7 هـ .
عمرة القضاء
قال الحاكم : تواترت الأخبار أنه صلى الله عليه وسلم لما هَلَّ ذو القعدة أمر أصحابه أن يعتمروا قضاء عمرتهم، وألا يتخلف منهم أحد شهد الحديبية، فخرجوا إلا من استشهد، وخرج معه آخرون معتمرين، فكانت عدتهم ألفين سوي النساء والصبيان . ا هـ . (5)
__________
(1) ) نفس المصدر (2/147)
(2) ) ابن سعد
(3) ) صحيح البخاري (2/605)
(4) ) ابن هشام (2/340) , والقصة معروفة مروية في عامة كتب الحديث : وانظر زاد المعاد (2/147)
(5) ) فتح الباري (7/700) .(1/219)
واستخلف على المدينة عُوَيف بن الأضْبَط الدِّيلي، أو أبا رُهْم الغفاري، وساق ستين بدنة، وجعل عليها ناجية بن جُنْدُب الأسلمي، وأحرم للعمرة من ذي الحُلَيْفَة، ولبي، ولبي المسلمون معه، وخرج مستعداً بالسلاح والمقاتلة، خشية أن يقع من قريش غدر، فلما بلغ يَأجُج وضع الأداة كلها : الحَجَف والمِجَانّ والنَّبْل والرِّماح، وخلف عليها أوس بن خَوْلِي الأنصاري في مائتي رجل، ودخل بسلاح الراكب : السيوف في القُرُب . (1)
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم عند الدخول راكباً على ناقته القَصْواء، والمسلمون متوشحون السيوف، محدقون برسول الله صلى الله عليه وسلم يلبون .
وخرج المشركون إلى جبل قُعَيْقِعَان ـ الجبل الذي في شمال الكعبة ـ ليروا المسلمين، وقد قالوا فيما بينهم : إنه يقدم عليكم وفد وهنتهم حمي يثرب، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه أن يرملوا الأشواط الثلاثة، وأن يمشوا ما بين الركنين . ولم يمنعه أن يأمرهم أن يرملوا الأشواط كلها إلا الإبقاء عليهم، وإنما أمرهم بذلك ليري المشركين قوته (2) كما أمرهم بالاضطباع، أي أن يكشفوا المناكب اليمني، ويضعوا طرفي الرداء على اليسري .
ودخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة من الثنية التي تطلعه على الحَجُون ـ وقد صف المشركون ينظرون إليه ـ فلم يزل يلبي حتى استلم الركن بمِحْجَنِه، ثم طاف، وطاف المسلمون، وعبد الله بن رواحة بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم يرتجز متوشحاً بالسيف :
خلوا بني الكفار عن سبيله خلوا فكل الخير في رسوله
قد أنزل الرحمن في تنزيله في صحف تتلى على رسوله
يارب إني مؤمن بقيله إني رأيت الحق في قبوله
بأن خير القتل في سبيله اليوم نضربكم على تنزيله
__________
(1) ) نفس المصدر وزاد المعاد (2/151) .
(2) ) صحيح البخاري (1/218 , 2/610 , 611 ) , صحيح مسلم (1/412) .(1/220)
ضرباً يزيل الهام عن مقيله ويذهل الخليل عن خليله (1)
وفي حديث أنس فقال عمر : يا ابن رواحة، بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي حرم الله تقول الشعر ؟ فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : ( خَلِّ عنه يا عمر، فلهو أسرع فيهم من نضح النبل ) . (2)
ورَمَلَ رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون ثلاثة أشواط، فلما رآهم المشركون قالوا : هؤلاء الذين زعمتم أن الحمي قد وهنتهم، هؤلاء أجلد من كذا وكذا . (3)
ولما فرغ من الطواف سعي بين الصفا والمروة، فلما فرغ من السعي، وقد وقف الهدي عند المروة، قال : ( هذا المنحر، وكل فجاج مكة منحر ) ، فنحر عند المروة، وحلق هناك، وكذلك فعل المسلمون، ثم بعث ناساً إلى يَأْجُج، ليقيموا على السلاح، ويأتي الآخرون فيقضون نسكهم ففعلوا .
وأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة ثلاثاً، فلما أصبح من اليوم الرابع أتوا علياً فقالوا : قل لصاحبك : اخرج عنا فقد مضي الأجل، فخرج النبي صلى الله عليه وسلم، ونزل بسَرِف فأقام بها .
ولما أراد الخروج من مكة تبعتهم ابنة حمزة، تنادى، يا عم يا عم، فتناولها علي، واختصم فيها على وجعفر وزيد، فقضي النبي صلى الله عليه وسلم لجعفر ؛ لأن خالتها كانت تحته .
وفي هذه العمرة تزوج النبي صلى الله عليه وسلم بميمونة بنت الحارث العامرية، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل الدخول في مكة بعث جعفر بن أبي طالب بين يديه إلى ميمونة، فجعلت أمرها إلى العباس، وكانت أختها أم الفضل تحته، فزوجها إياه، فلما خرج من مكة خلف أبا رافع ليحمل ميمونة إليه حين يمشي، فبني بها بسرف . (4)
__________
(1) ) اضطربت الأشعار وترتيبها في الروايات فجمعنا بين شتيتها .
(2) ) رواه الترمذي , أبوب الاستئذان والأدب , باب ما جاء في إنشاد الشعر (2/107) .
(3) ) صحيح مسلم (1/412) .
(4) ) زاد المعاد (2/152) .(1/221)
وسميت هذه العمرة بعمرة القضاء ؛ إما لأنها كانت قضاء عن عمرة الحُدَيْبِيَة، أو لأنها وقعت حسب المقاضاة ـ أي المصالحة ـ التي وقعت في الحديبية، والوجه الثاني رجحه المحققون (1) ، وهذه العمرة تسمي بأربعة أسماء : القضاء، والقَضِيَّة، والقصاص، والصُّلح . (2)
وقد أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الرجوع من هذه العمرة عدة سرايا، وهي كما يلي :
1 ـ سرية ابن أبي العوجاء، في ذي الحجة سنة 7 هـ في خمسين رجلاً . بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بني سُلَيْم ؛ ليدعوهم إلى الإسلام، فقالوا : لا حاجة لنا إلى ما دعوتنا، ثم قاتلوا قتالاً شديداً . جرح فيه أبو العوجاء، وأسر رجلان من العدو .
2 ـ سرية غالب بن عبد الله إلى مصاب أصحاب بشير بن سعد بفَدَك، في صفر سنة 8 هـ . بعث في مائتي رجل، فأصابوا من العدو نعما، وقتلوا منهم قتلي .
3 ـ سرية ذات أطلح في ربيع الأول سنة 8 هـ . كانت بنو قُضَاعَة قد حشدت جموعاً كبيرة للإغارة على المسلمين، فبعث إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم كعب بن عمير الأنصاري في خمسة عشر رجلاً، فلقوا العدو، فدعوهم إلى الإسلام، فلم يستجيبوا لهم، وأرشقوهم بالنبل حتى استشهد كلهم إلا رجل واحد، فقد ارْتُثَّ من بين القتلى . (3)
4 ـ سرية ذات عِرْق إلى بني هوازن، في ربيع الأول سنة 8 هـ . كانت بنو هوازن قد أمدت الأعداء مرة بعد أخري فأرسل إليها شُجَاع بن وهب الأسدي في خمسة وعشرين رجلاً، فاستاقوا نَعَما من العدو، ولم يلقوا كيداً . (4)
فتح مكة
__________
(1) ) انظر زاد المعاد (1/172) , فتح الباري (7/500) .
(2) ) انظر نفس المصدر الأخير .
(3) ) رحمة للعالمين (2/231) .
(4) ) نفس المصدر وتلقيح فهوم أهل الأثر لابن الجوزي (ص33) حاشية .(1/222)
قال ابن القيم : هو الفتح الأعظم الذي أعز الله به دينه ورسوله وجنده وحزبه الأمين، واستنقذ به بلده وبيته الذي جعله هدي للعالمين، من أيدي الكفار والمشركين، وهو الفتح الذي استبشر به أهل السماء، وضربت أطناب عِزِّه على مناكب الجوزاء، ودخل الناس به في دين الله أفواجاً، وأشرق به وجه الأرض ضياء وابتهاجاً ا . هـ . (1)
سبب الغزوة :
قدمنا في وقعة الحديبية أن بنداً من بنود هذه المعاهدة يفيد أن من أحب أن يدخل في عقد محمد صلى الله عليه وسلم وعهده دخل فيه، ومن أحب أن يدخل في عقد قريش وعهدهم دخل فيه، وأن القبيلة التي تنضم إلى أي الفريقين تعتبر جزءاً من ذلك الفريق، فأي عدوان تتعرض له أي من تلك القبائل يعتبر عدواناً على ذلك الفريق .
وحسب هذا البند دخلت خُزَاعَة في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودخلت بنو بكر في عهد قريش، وصارت كل من القبيلتين في أمن من الأخري، وقد كانت بين القبيلتين عداوة وتوترات في الجاهلية، فلما جاء الإسلام، ووقعت هذه الهدنة، وأمن كل فريق من الآخر ـ اغتنمها بنو بكر، وأرادوا أن يصيبوا من خزاعة الثأر القديم، فخرج نَوْفَل بن معاوية الدِّيلي في جماعة من بني بكر في شهر شعبان سنة 8 هـ، فأغاروا على خزاعة ليلاً، وهم على ماء يقال له : [ الوَتِير ] فأصابوا منهم رجالاً، وتناوشوا واقتتلوا، وأعانت قريش بني بكر بالسلاح، وقاتل معهم رجال من قريش مستغلين ظلمة الليل، حتى حازوا خزاعة إلى الحرم، فلما انتهوا إليه قالت بنو بكر : يا نوفل، إنا قد دخلنا الحرم، إلهك إلهك، فقال كلمة عظيمة : لا إله اليوم يا بني بكر، أصيبوا ثأركم . فلعمري إنكم لتَسرِقُون في الحرم، أفلا تصيبون ثأركم فيه ؟
ولما دخلت خزاعة مكة لجأوا إلى دار بُدَيْل بن وَرْقَاء الخزاعي، وإلى دار مولي لهم يقال له : رافع .
__________
(1) ) زاد المعاد (2/160)(1/223)
وأسرع عمرو بن سالم الخزاعي، فخرج حتى قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، فوقف عليه، وهو جالس في المسجد بين ظهراني الناس فقال :
يا رب إني ناشد محمداً حلفنا وحلف أبيه الأتلدا (1)
قد كنتم ولدا وكنا والدا (2) ثمة أسلمنا ولم ننزع يدا
فانصر , هداك الله , نصراً أيدا وادع عباد الله يأتوا مددا
فيهم رسول الله قد تجردا أبيض مثل البدر , يسمو صعدا
إن سيم خسفاً وجهه تربدا في فيلق كالبحر يجري مزبدا
إن قريشاً أخلفوك الموعدا ونقضوا ميثاقك المؤكدا
وجعلوا لي في كذاء رصدا وزعموا أن لست أدعوا أحدا
وهم أذل , وأقل عددا هم بيتونا بالوتير هجدا
وقتلونا ركعاً وسجدا (3)
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( نصرت يا عمرو بن سالم ) ، ثم عرضت له سحابة من السماء، فقال : ( إن هذه السحابة لتستهل بنصر بني كعب ) .
ثم خرج بُدَيْل بن وَرْقَاء الخزاعي في نفر من خُزَاعَة، حتى قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، فأخبروه بمن أصيب منهم، وبمظاهرة قريش بني بكر عليهم، ثم رجعوا إلى مكة .
أبو سفيان يخرج إلى المدينة ليجدد الصلح
ولا شك أن ما فعلت قريش وحلفاؤها كان غدراً محضاً ونقضاً صريحاً للميثاق، لم يكن له أي مبرر، ولذلك سرعان ما أحست قريش بغدرها، وخافت وشعرت بعواقبه الوخيمة، فعقدت مجلساً استشارياً، وقررت أن تبعث قائدها أبا سفيان ممثلاً لها ليقوم بتجديد الصلح .
وقد أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه بما ستفعله قريش إزاء غدرتهم . قال : ( كأنكم بأبي سفيان قد جاءكم ليشد العَقْدَ، ويزيد في المدة ) .
__________
(1) ) الأتلد : القديم , يشر إلى الحلف الذي كان بين خزاعة وبين بني هاشم منذ عهد عبد المطلب .
(2) ) يشير إلى أم عبد مناف – وهي حبى زوجة قصي – كانت من خزاعة .
(3) ) يقول : قتلنا وقد أسلمنا .(1/224)
وخرج أبو سفيان ـ حسب ما قررته قريش ـ فلقي بديل بن ورقاء بعُسْفَان ـ وهو راجع من المدينة إلى مكة ـ فقال : من أين أقبلت يا بديل ؟ ـ وظن أنه أتي النبي صلى الله عليه وسلم ـ فقال : سرت في خزاعة في هذا الساحل وفي بطن هذا الوادي . قال : أو ما جئت محمداً ؟ قال : لا .
فلما راح بديل إلى مكة قال أبو سفيان : لئن كان جاء المدينة لقد علف بها النوي، فأتي مبرك راحلته، فأخذ من بعرها، ففته، فرأي فيها النوي، فقال : أحلف بالله لقد جاء بديل محمداً .
وقدم أبو سفيان المدينة، فدخل على ابنته أم حبيبة، فلما ذهب ليجلس على فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم طوته عنه، فقال : يا بنية، أرغبت بي عن هذا الفراش، أم رغبت به عني ؟ قالت : بل هو فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنت رجل مشرك نجس . فقال : والله لقد أصابك بعدي شر .
ثم خرج حتى أتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فكلمه، فلم يرد عليه شيئاً، ثم ذهب إلى أبي بكر فكلمه أن يكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال : ما أنا بفاعل . ثم أتي عمر بن الخطاب فكلمه، فقال : أأنا أشفع لكم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فوالله لو لم أجد إلا الذَّرَّ لجاهدتكم به، ثم جاء فدخل على على بن أبي طالب، وعنده فاطمة، وحسن، غلام يدب بين يديهما، فقال : يا علي، إنك أمس القوم بي رحماً، وإني قد جئت في حاجة، فلا أرجعن كما جئت خائباً، اشفع لي إلى محمد، فقال : ويحك يا أبا سفيان، لقد عزم رسول الله صلى الله عليه وسلم على أمر ما نستطيع أن نكلمه فيه . فالتفت إلى فاطمة، فقال : هل لك أن تأمري ابنك هذا فيجير بين الناس، فيكون سيد العرب إلى آخر الدهر ؟ قالت : والله ما يبلغ ابني ذاك أن يجير بين الناس، وما يجير أحد على رسول الله صلى الله عليه وسلم .(1/225)
وحيئذ أظلمت الدنيا أمام عيني أبي سفيان، فقال لعلى بن أبي طالب في هلع وانزعاج ويأس وقنوط : يا أبا الحسن، إني أري الأمور قد اشتدت علي، فانصحني، قال : والله ما أعلم لك شيئاً يغني عنك . ولكنك سيد بني كنانة، فقم فأجر بين الناس، ثم الْحَقْ بأرضك . قال : أو تري ذلك مغنياً عني شيئاً ؟ قال : لا والله ما أظنه، ولكني لم أجد لك غير ذلك . فقام أبو سفيان في المسجد، فقال : أيها الناس، إني قد أجرت بين الناس، ثم ركب بعيره، وانطلق .
ولما قدم على قريش، قالوا : ما وراءك ؟ قال : جئت محمداً فكلمته، فوالله ما رد على شيئاً، ثم جئت ابن أبي قحافة فلم أجد فيه خيراً، ثم جئت عمر بن الخطاب، فوجدته أدني العدو، ثم جئت علياً فوجدته ألين القوم، قد أشار على بشيء صنعته، فوالله ما أدري هل يغني عني شيئاً أم لا ؟ قالوا : وبم أمرك ؟ قال : أمرني أن أجير بين الناس، ففعلت، قالوا : فهل أجاز ذلك محمد ؟ قال : لا . قالوا : ويلك، إن زاد الرجل على أن لعب بك . قال : لا والله ما وجدت غير ذلك .
التهيؤ للغزوة ومحاولة الإخفاء
يؤخذ من رواية الطبراني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر عائشة ـ قبل أن يأتي إليه خبر نقض الميثاق بثلاثة أيام ـ أن تجهزه، ولا يعلم أحد، فدخل عليها أبو بكر، فقال : يابنية، ما هذا الجهاز ؟ قالت : والله ما أدري . فقال : والله ما هذا زمان غزو بني الأصفر، فأين يريد رسول الله ؟ قالت : والله لا علم لي، وفي صباح الثالثة جاء عمرو بن سالم الخزاعي في أربعين راكباً، وارتجز : يا رب إني ناشد محمداً . . . الأبيات . فعلم الناس بنقض الميثاق، وبعد عمرو جاء بديل، ثم أبو سفيان، وتأكد عند الناس الخبر، فأمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجهاز، وأعلمهم أنه سائر إلى مكة، وقال : ( اللّهم خذ العيون والأخبار عن قريش حتى نبغتها في بلادها ) .(1/226)
وزيادة في الإخفاء والتعمية بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية قوامها ثمانية رجال، تحت قيادة أبي قتادة بن رِبْعِي، إلى بطن إضَم، فيما بين ذي خَشَب وذي المروة، على ثلاثة بُرُد من المدينة، في أول شهر رمضان سنة 8 هـ ؛ ليظن الظان أنه صلى الله عليه وسلم يتوجه إلى تلك الناحية، ولتذهب بذلك الأخبار، وواصلت هذه السرية سيرها، حتى إذا وصلت حيثما أمرت بلغها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إلى مكة، فسارت إليه حتى لحقته . (1)
__________
(1) ) وهذه السرية لقيت عامر بن الأضبط , فسلم عليهم بتحية الإسلام , فقتله محلم بن جثامة لشيء كان بينهما , وأخذ بعيره ومتبعه , فأنزل الله : } وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلاَمَ لَسْتَ مُؤْمِناً { النساء 94 , وجاءوا بمحلم ليستغفر له رسول الله صلى الله عليه وسلم , فلما قام بين يديه قال : الهم لا تغفر لمحلم , وقالا ثلاثاً , فقام وإنه ليتقلى دموعه بطرف ثوبه , قال ابن اسحاق : وزعم أنه استغفر له بعد ذلك . انظر زاد المعاد (2/150) , وابن هشام (2/626 , 627 , 628)(1/227)
وكتب حاطب بن أبي بَلْتَعَة إلى قريش كتاباً يخبرهم بمسير رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم، ثم أعطاه امرأة، وجعل لها جُعْلاً على أن تبلغه قريشاً، فجعلته في قرون رأسها، ثم خرجت به، وأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم الخبر من السماء بما صنع حاطب، فبعث علياً والمقداد والزبير بن العوام وأبا مَرْثَد الغَنَوِي فقال : ( انطلقوا حتى تأتوا رَوْضَةَ خَاخ، فإن بها ظعينة معها كتاب إلى قريش ) ، فانطلقوا تعادي بهم خيلهم حتى وجدوا المرأة بذلك المكان، فاستنزلوها، وقالوا : معك كتاب ؟ فقالت : ما معي كتاب، ففتشوا رحلها فلم يجدوا شيئاً . فقال لها علي : أحلف بالله، ما كذب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا كذبنا، والله لتخرجن الكتاب أو لنجردنك . فلما رأت الجد منه قالت : أعرض، فأعرض، فحلت قرون رأسها، فاستخرجت الكتاب منها، فدفعته إليهم، فأتوا به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا فيه : ( من حاطب بن أبي بلتعة إلى قريش ) يخبرهم بمسير رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم حاطباً، فقال : ( ما هذا يا حطب ؟ ) فقال : لا تَعْجَلْ على يا رسول الله . والله إني لمؤمن بالله ورسوله، وما ارتددت ولا بدلت، ولكني كنت امرأ مُلْصَقًا في قريش ؛ لست من أنْفَسِهم، ولي فيهم أهل وعشيرة وولد، وليس لي فيهم قرابة يحمونهم، وكان من معك له قرابات يحمونهم، فأحببت إذ فاتني ذلك أن أتخذ عندهم يداً يحمون بها قرابتي . فقال عمر بن الخطاب : دعني يا رسول الله أضرب عنقه، فإنه قد خان الله ورسوله، وقد نافق، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إنه قد شهد بدراً، وما يدريك يا عمر لعل الله قد اطلع على أهل بدر فقال : اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم ) ، فذَرَفَتْ عينا عمر، وقال : الله ورسوله أعلم . (1)
__________
(1) ) انظر صحيح البخاري (1/422 , 2/612)(1/228)
وهكذا أخذ الله العيون، فلم يبلغ إلى قريش أي خبر من أخبار تجهز المسلمين وتهيئهم للزحف والقتال .
الجيش الإسلامي يتحرك نحو مكة
ولعشر خلون من شهر رمضان المبارك 8 هـ، غادر رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة متجهاً إلى مكة، في عشرة ألاف من الصحابة رضي الله عنهم، واستخلف على المدينة أبا رُهْم الغفاري .
ولما كان بالجُحْفَة ـ أو فوق ذلك ـ لقيه عمه العباس بن عبد المطلب، وكان قد خرج بأهله وعياله مسلماً مهاجراً، ثم لما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأبواء لقيه ابن عمه أبو سفيان ابن الحارث وابن عمته عبد الله بن أبي أمية، فأعرض عنهما، لما كان يلقاه منهما من شدة الأذي والهجو، فقالت له أم سلمة : لا يكن ابن عمك وابن عمتك أشقي الناس بك . وقال على لأبي سفيان بن الحارث : ائت رسول الله صلى الله عليه وسلم من قبل وجهه، فقل له ما قال إخوة يوسف ليوسف : { قَالُواْ تَاللّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللّهُ عَلَيْنَا وَإِن كُنَّا لَخَاطِئِينَ } [ يوسف : 91 ] ، فإنه لا يرضي أن يكون أحد أحسن منه قولاً . ففعل ذلك أبو سفيان، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : { قَالَ لاَ تَثْرَيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ } [ يوسف : 92 ] ، فأنشده أبو سفيان أبياتاً منها :
لعمرك إني حين أحمل راية لتغلب خيل اللات خيل محمد
لكالمدلج الحيران أظلم ليله فهذا أواني حين أهدى فأهتدي
هداني هاد غير نفسي ودلني على الله من طردته كل مطر(1/229)
فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم صدره وقال : ( أنتَ طَرَّدْتَنِي كل مُطَرَّد ؟ ) . (1)
الجيش الإسلامي ينزل بمَرِّ الظَّهْرَان
وواصل رسول الله صلى الله عليه وسلم سيره وهو صائم، والناس صيام، حتى بلغ الكُدَيْد ـ وهو ماء بين عُسْفَان وقُدَيْد ـ فأفطر، وأفطر الناس معه (2) . ثم واصل سيره حتى نزل بمر الظهران ـ وادي فاطمة ـ نزله عشاء، فأمر الجيش، فأوقدوا النيران، فأوقدت عشرة آلاف نار، وجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم على الحرس عمر بن الخطاب رضي الله عنه
أبو سفيان بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم
وركب العباس ـ بعد نزول المسلمين بمر الظهران ـ بغلة رسول الله صلى الله عليه وسلم البيضاء، وخرج يلتمس، لعله يجد بعض الحَطَّابة أو أحداً يخبر قريشاً ليخرجوا يستأمنون رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يدخلها .
وكان الله قد عمي الأخبار عن قريش، فهم على وَجَلٍ وترقب، وكان أبو سفيان يخرج يتجسس الأخبار، فكان قد خرج هو وحكيم بن حزام، وبديل بن ورقاء يتجسسون الأخبار .
قال العباس : والله إني لأسير عليها ـ أي على بغلة رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ إذ سمعت كلام أبي سفيان وبديل بن ورقاء، وهما يتراجعان، وأبو سفيان يقول : ما رأيت كالليلة نيراناً قط ولا عسكراً . قال : يقول بديل : هذه والله خزاعة، حَمَشَتْها الحرب، فيقول أبو سفيان : خزاعة أقل وأذل من أن تكون هذه نيرانها وعسكرها .
__________
(1) ) حسن إسلام أبي سفيان هذا بعد ذلك , ويقال : إنه ما رفع رأسه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم منذ أسلم حياء منه , وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحبه , وشهد له بالجنة , وقال : أرجو أن يكون خلفاً =من حمزة . ولما حضرته الوفاة قال : لا تبكوا علي , فوالله ما نطقت بخطيئة منذ أسلمت . زاد المعاد (2/162 , 163)
(2) ) صحيح البخاري (2/613)(1/230)
قال العباس : فعرفت صوته، فقلت : أبا حَنْظَلَة ؟ فعرف صوتي، فقال : أبا الفضل ؟ قلت : نعم . قال : مالك ؟ فداك أبي وأمي . قلت : هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم في الناس، واصباح قريش والله .
قال : فما الحيلة فداك أبي وأمي ؟ ، قلت : والله لئن ظفر بك ليضربن عنقك، فاركب في عجز هذه البغلة، حتى آتي بك رسول الله صلى الله عليه وسلم فأستأمنه لك، فركب خلفي، ورجع صاحباه .
قال : فجئت به، فكلما مررت به على نار من نيران المسلمين، قالوا : من هذا ؟ فإذا رأوا بغلة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا عليها قالوا : عم رسول الله صلى الله عليه وسلم على بغلته . حتى مررت بنار عمر بن الخطاب فقال : من هذا ؟ وقام إلى، فلما رأي أبا سفيان على عجز الدابة قال : أبو سفيان، عدو الله ؟ الحمد لله الذي أمكن منك بغير عقد ولا عهد، ثم خرج يشتد نحو رسول الله صلى الله عليه وسلم، وركضتُ البغلة فسبقت، فاقتحمت عن البغلة، فدخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودخل عليه عمر، فقال : يا رسول الله، هذا أبو سفيان فدعني أضرب عنقه، قال : قلت : يا رسول الله، إني قد أجرته، ثم جلست إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذت برأسه، فقلت : والله لا يناجيه الليلة أحد دوني، فلما أكثر عمر في شأنه قلت : مهلاً يا عمر، فوالله لو كان من رجال بني عدي بن كعب ما قلت مثل هذا، قال : مهلاً يا عباس، فوالله لإسلامك كان أحب إلى من إسلام الخطاب، لو أسلم، وما بي إلا أني قد عرفت أن إسلامك كان أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من إسلام الخطاب .(1/231)
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( اذهب به يا عباس إلى رحلك، فإذا أصبحت فأتني به ) ، فذهبت، فلما أصبحت غدوت به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما رآه قال : ( ويحك يا أبا سفيان، ألم يأن لك أن تعلم أن لا إله إلا الله ؟ ) قال : بأبي أنت وأمي، ما أحلمك وأكرمك وأوصلك ؟ لقد ظننت أن لو كان مع الله إله غيره لقد أغني عني شيئاً بعد .
قال : ( ويحك يا أبا سفيان، ألم يأن لك أن تعلم أني رسول الله ؟ ) ، قال : بأبي أنت وأمي، ما أحلمك وأكرمك وأوصلك : أما هذه فإن في النفس حتى الآن منها شيء . فقال له العباس : ويحك أسلم، واشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، قبل أن تضرب عنقك، فأسلم وشهد شهادة الحق .
قال العباس : يا رسول الله، إن أبا سفيان رجل يحب الفخر فاجعل له شيئاً . قال : ( نعم، من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن أغلق عليه بابه فهو آمن، ومن دخل المسجد الحرام فهو آمن ) .
الجيش الإسلامي يغادر مر الظهران إلى مكة(1/232)
وفي هذا الصباح ـ صباح يوم الثلاثاء للسابع عشر من شهر رمضان سنة 8 هـ ـ غادر رسول الله صلى الله عليه وسلم مر الظهران إلى مكة، وأمر العباس أن يحبس أبا سفيان بمضيق الوادي عند خَطْمِ الجبل (1) ، حتى تمر به جنود الله فيراها، ففعل، فمرت القبائل على راياتها، كلما مرت به قبيلة قال : يا عباس، من هذه ؟ فيقول ـ مثلا ـ سليم، فيقول : مإلى ولِسُلَيْم ؟ ثم تمر به القبيلة فيقول : يا عباس، من هؤلاء ؟ فيقول : مُزَيْنَة، فيقول : ما لي ولمزينة ؟ حتى نفذت القبائل، ما تمر به قبيلة إلا سأل العباس عنها، فإذا أخبره قال : مالي ولبني فلان ؟ حتى مر به رسول الله صلى الله عليه وسلم في كتيبته الخضراء، فيها المهاجرون والأنصار، لا يري منهم إلا الحَدَق من الحديد، قال : سبحان الله ! يا عباس، من هؤلاء ؟ قال : هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم في المهاجرين والأنصار، قال : ما لأحد بهؤلاء قِبَلٌ ولا طاقة . ثم قال : والله يا أبا الفضل، لقد أصبح مُلْكُ ابن أخيك اليوم عظيماً . قال العباس : يا أبا سفيان، إنها النبوة، قال : فنعم إذن .
وكانت راية الأنصار مع سعد بن عبادة، فلما مر بأبي سفيان قال له : اليوم يوم الملحمة، اليوم تُسْتَحَلُّ الحُرْمَة، اليوم أذل الله قريشاً . فلما حاذي رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا سفيان قال : يا رسول الله، ألم تسمع ما قال سعد ؟ قال : ( وما قال ؟ ) فقال : قال كذا وكذا . فقال عثمان وعبد الرحمن بن عوف : يا رسول الله، ما نأمن أن يكون له في قريش صولة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( بل اليوم يوم تُعَظَّم فيه الكعبة، اليوم يوم أعز الله فيه قريشاً ) ثم أرسل إلى سعد فنزع منه اللواء، ودفعه إلى ابنه قيس، ورأي أن اللواء لم يخرج عن سعد . وقيل : بل دفعه إلى الزبير .
قريش تباغت زحف الجيش الإسلامي
__________
(1) ) الخطم : الأنف , شيء يخرج من الجبل يضيق به الطريق .(1/233)
ولما مر رسول الله صلى الله عليه وسلم بأبي سفيان ومضي قال له العباس : النجاء إلى قومك . فأسرع أبو سفيان حتى دخل مكة، وصرخ بأعلى صوته : يا معشر قريش، هذا محمد، قد جاءكم فيما لا قبل لكم به . فمن دخل دار أبي سفيان فهو آمن . فقامت إليه زوجته هند بنت عتبة فأخذت بشاربه فقالت : اقتلوا الحَمِيت الدسم الأخمش الساقين، قُبِّحَ من طَلِيعَة قوم .
قال أبو سفيان : ويلكم، لاتغرنكم هذه من أنفسكم، فإنه قد جاءكم بما لا قبل لكم به، فمن دخل دار أبي سفيان فهو آمن . قالوا : قاتلك الله، وما تغني عنا دارك ؟ قال : ومن أغلق عليه بابه فهو آمن، ومن دخل المسجد فهو آمن . فتفرق الناس إلى دورهم وإلى المسجد، ووبشوا أوباشاً لهم، وقالوا : نقدم هؤلاء، فإن كان لقريش شيء كنا معهم، وإن أصيبوا أعطينا الذي سئلنا . فتجمع سفهاء قريش وأخِفَّاؤها مع عكرمة بن أبي جهل، وصفوان بن أمية، وسهيل بن عمرو بالخَنْدَمَة ليقاتلوا المسلمين . وكان فيهم رجل من بني بكر ـ حِمَاس بن قيس ـ كان يعد قبل ذلك سلاحاً، فقالت له امرأته : لماذا تعد ما أري ؟ قال : لمحمد وأصحابه . قالت : والله ما يقوم لمحمد وأصحابه شيء . قال : إني والله لأرجو أن أخدمك بعضهم، ثم قال :
إن يقبلوا اليوم فمالي عِلَّه ** هذا سلاح كامل وألَّه
وذو غِرَارَيْن سريع السَّلَّه ** (1)
فكان هذا الرجل فيمن اجتمعوا في الخندمة .
الجيش الإسلامي بذي طُوَى
__________
(1) ) عله : يقال عَل الرجل يعل من المرض , غرارين : حدين , السله : الانتشال والسحب .(1/234)
أما رسول الله صلى الله عليه وسلم فمضي حتى انتهي إلى ذي طوي ـ وكان يضع رأسه تواضعاً لله حين رأي ما أكرمه الله به من الفتح، حتى أن شعر لحيته ليكاد يمس واسطة الرحل ـ وهناك وزع جيشه، وكان خالد بن الوليد على المُجَنَّبَةِ اليمني ـ وفيها أسْلَمُ وسُلَيْم وغِفَار ومُزَيْنَة وجُهَيْنَة وقبائل من قبائل العرب ـ فأمره أن يدخل مكة من أسفلها، وقال : ( إن عرض لكم أحد من قريش فاحصدوهم حصداً، حتى توافوني على الصفا ) .
وكان الزبير بن العوام على المُجَنَّبَةِ اليسري، وكان معه راية رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمره أن يدخل مكة من أعلاها ـ من كَدَاء ـ وأن يغرز رايته بالحَجُون، ولا يبرح حتى يأتيه .
وكان أبو عبيدة على الرجالة والحُسَّر ـ وهم الذيم لاسلاح معهم ـ فأمره أن يأخذ بطن الوادي حتى ينصب لمكة بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم .
الجيش الإسلامي يدخل مكة
وتحركت كل كتيبة من الجيش الإسلامي على الطريق التي كلفت الدخول منها .
فأما خالد وأصحابه فلم يلقهم أحد من المشركين إلا أناموه . وقتل من أصحابه من المسلمين كُرْز بن جابر الفِهْرِي وخُنَيْس بن خالد بن ربيعة . كانا قد شذا عن الجيش، فسلكا طريقاً غير طريقه فقتلا جميعاً، وأما سفهاء قريش فلقيهم خالد وأصحابه بالخَنْدَمَة فناوشوهم شيئا من قتال، فأصابوا من المشركين اثني عشر رجلاً، فانهزم المشركون، وانهزم حِمَاس بن قيس ـ الذي كان يعد السلاح لقتال المسلمين ـ حتى دخل بيته، فقال لامرأته : أغلقي على بابي .
فقالت : وأين ما كنت تقول ؟ فقال :
إنك لو شهدت يوم الخندمة إذ فر صفوان وفي عكرمة
واستقبلتنا بالسيوف المسلمة يقطعن كل ساعد وجمجمة
ضرباً فلا يسمع إلا غمغمة لهم نهيت خلفنا وهمهمة (1)
لم تنطقي في اللوم أدنى كلمه
وأقبل خالد يجوس مكة حتى وافى رسول الله صلى الله عليه وسلم على الصفا .
__________
(1) ) النهيت والهمهمة : أصوات(1/235)
وأما الزبير فتقدم حتى نصب راية رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحَجُون عند مسجد الفتح، وضرب له هناك قبة، فلم يبرح حتى جاءه رسول الله صلى الله عليه وسلم .
الرسول صلى الله عليه وسلم يدخل المسجد الحرام ويطهره من الأصنام
ثم نهض رسول الله صلى الله عليه وسلم، والمهاجرون والأنصار بين يديه وخلفه وحوله، حتى دخل المسجد، فأقبل إلى الحجر الأسود، فاستلمه، ثم طاف بالبيت، وفي يده قوس، وحول البيت ثلاثمائة وستون صنما، فجعل يطعنها بالقوس، ويقول : { جَاء الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا } [ الإسراء : 81 ] ، { قُلْ جَاء الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ } [ سبأ : 49 ] والأصنام تتساقط على وجوهها .
وكان طوافه على راحلته، ولم يكن محرماً يومئذ، فاقتصر على الطواف، فلما أكمله دعا عثمان بن طلحة، فأخذ منه مفتاح الكعبة، فأمر بها ففتحت فدخلها، فرأي فيها الصور، ورأي فيها صورة إبراهيم، وإسماعيل ـ عليهما السلام ـ يستقسمان بالأزلام، فقال : ( قاتلهم الله، والله ما استقسما بها قط ) . ورأي في الكعبة حمامة من عيدان، فكسرها بيده، وأمر بالصور فمحيت .
الرسول صلى الله عليه وسلم يصلي في الكعبة ثم يخطب أمام قريش
ثم أغلق عليه الباب، وعلى أسامة وبلال، فاستقبل الجدار الذي يقابل الباب حتى إذا كان بينه وبينه ثلاثة أذرع وقف، وجعل عمودين عن يساره، وعموداً عن يمينه، وثلاثة أعمدة وراءه ـ وكان البيت يومئذ على ستة أعمدة ـ ثم صلي هناك . ثم دار في البيت، وكبر في نواحيه، ووحد الله، ثم فتح الباب، وقريش قد ملأت المسجد صفوفاً ينتظرون ماذا يصنع ؟ فأخذ بعضادتي الباب وهم تحته، فقال :(1/236)
( لا إله إلا الله وحده لا شريك له، صدق وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده، ألا كل مأثُرَة أو مال أو دم فهو تحت قدمي هاتين، إلا سِدَانَة البيت وسِقاية الحاج، ألاوقتيل الخطأ شبه العمد ـ السوط والعصا ـ ففيه الدية مغلظة، مائة من الإبل أربعون منها في بطونها أولاد .
يا معشر قريش إن الله قد أذهب عنكم نخوة الجاهلية وتعظمها بالآباء، الناس من آدم، وآدم من تراب ثم تلا هذه الآية : { يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير } .
لا تثريب عليكم اليوم
ثم قال : ( يا معشر قريش ما ترون أني فاعل بكم ؟ ) قالوا : خيرًا، أخ كريم وابن أخ كريم، قال : ( فإني أقول لكم كما قال يوسف لإخوته : { لاَ تَثْرَيبَ عَلَيْكُمُ } اذهبوا فأنتم الطلقاء ) .
مفتاح البيت إلى أهله
ثم جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد فقام إليه علي رضي الله عنه ومفتاح الكعبة في يده فقال : اجمع لنا الحجابة مع السقاية، صلى الله عليك ـ وفي رواية أن الذي قال ذلك هو العباس ـ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( أين عثمان بن طلحة ؟ ) . فدعي له، فقال له : ( هاك مفتاحك يا عثمان، اليوم يوم بر ووفاء ) ، وفي رواية ابن سعد في الطبقات أنه قال له حين دفع المفتاح إليه : ( خذوها خالدة تالدة، لا ينزعها منكم إلا ظالم، يا عثمان إن الله استأمنكم على بيته، فكلوا مما يصل إليكم من هذا البيت بالمعروف ) .
بلال يؤذن على الكعبة(1/237)
وحانت الصلاة، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بلالا أن يصعد فيؤذن على الكعبة، وأبو سفيان بن حرب، وعتاب بن أسيد، والحارث بن هشام جلوس بفناء الكعبة، فقال عتاب : لقد أكرم الله أسيدا ألا يكون سمع هذا، فيسمع منه ما يغيظه . فقال الحارث : أما والله لو أعلم أنه حق لاتبعته . فقال أبو سفيان : أما والله لا أقول شيئًا، لو تكلمت لأخبرت عني هذه الحصباء . فخرج عليهم النبي صلى الله عليه وسلم فقال لهم : ( لقد علمت الذي قلتم ) ثم ذكر ذلك لهم .
فقال الحارث وعتاب : نشهد أنك رسول الله، والله ما اطلع على هذا أحد كان معنا فنقول أخبرك .
صلاة الفتح أو صلاة الشكر
ودخل رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ دار أم هانئ بنت أبي طالب، فاغتسل وصلى ثماني ركعات في بيتها ـ وكان ضحى ـ فظنها من ظنها صلاة الضحى، وإنما هذه صلاة الفتح، وأجارت أم هانئ حموين لها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( قد أجرنا من أجرت يا أم هانئ ) ، وقد كان أخوها علي بن أبي طالب أراد أن يقتلهما، فأغلقت عليهما باب بيتها، وسألت النبي صلى الله عليه وسلم فقال لها ذلك .
إهدار دم رجال من أكابر المجرمين
وأهدر رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ دماء تسعة نفر من أكابر المجرمين، وأمر بقتلهم وإن وجدوا تحت أستار الكعبة، وهم عبد العزى بن خطل، وعبدالله بن سعد بن أبي سرح، وعكرمة بن أبي جهل، والحارث بن نفيل بن وهب، ومقيس بن صبابة، وهبار بن الأسود، وقينتان كانتا لابن الأخطل، كانت تغنيان بهجو النبي صلى الله عليه وسلم، وسارة مولاة لبعض بني عبد المطلب، وهي التي وجد معها كتاب حاطب .
فأما ابن أبي سرح فجاء به عثمان إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وشفع فيه، فحقن دمه، وقبل إسلامه بعد أن أمسك عنه رجاء أن يقوم إليه بعض الصحابة فيقتله، وكان قد أسلم قبل ذلك وهاجر، ثم ارتد ورجع إلى مكة .(1/238)
وأما عكرمة بن أبي جهل، ففر إلى اليمن، فاستأمنت له امرأته، فأمنه النبي صلى الله عليه وسلم فتبعته، فرجع معها وأسلم وحسن إسلامه .
وأما ابن خطل فكان متعلقًا بأستار الكعبة، فجاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأخبره، فقال : ( اقتله ) فقتله .
وأما مقيس بن صبابة فقتله نميلة بن عبدالله، وكان مقيس قد أسلم قبل ذلك، ثم عدا على رجل من الأنصار فقتله، ثم ارتد ولحق بالمشركين .
وأما الحارث فكان شديد الأذى لرسول الله بمكة، فقتله علي .
وأما هبار بن الأسود فهو الذي كان قد عرض لزينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم حين هاجرت، فنخس بها حتى سقطت على صخرة وأسقطت جنينها، ففر هبار يوم مكة ثم أسلم وحسن إسلامه .
وأما القينتان فقتلت إحداهما، واستؤمن للأخرى فأسلمت، كما استؤمن لسارة وأسلمت .
قال ابن حجر : وذكر أبو معشر فيمن أهدر دمه الحارث بن طلاطل الخزاعي، قتله على . وذكر الحاكم أيضاً ممن أهدر دمه كعب بن زهير، وقصته مشهورة، وقد جاء بعد ذلك وأسلم ومدح، ووحشي بن حرب، وهند بنت عتبة امرأه أبي سفيان، وقد أسلمت، وأرنب مولاه ابن خطل أيضاً قتلت، وأم سعد قتلت، فيما ذكر ابن إسحاق، فكملت العدة ثامنية رجال وست نسوة، ويحتمل أن تكون أرنب وأم سعد القينتان، أختلف في اسمهما أو باعتبار الكنية واللقب . (1)
إسلام صفوان بن أمية، وفضالة بن عمير
لم يكن صفوان ممن أهدر دمه، لكنه بصفته زعيماً كبيراً من زعماء قريش خاف على نفسه وفر، فاستأمن له عمير بن وهب الجمحي رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمنه، وأعطاه عمامته التي دخل بها مكة، فلحقة عمير وهو يريد أن يركب البحر من جدة إلى اليمن فرده، فقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم : اجعلني بالخيار شهرين . قال ( أنت بالخيار أربعة أشهر ) ثم أسلم صفوان، وقد كانت امرأته أسلمت قبله، فأقرهما على النكاح الأول .
__________
(1) ) فتح الباري (8/11 , 12)(1/239)
وكان فضالة رجلاً جريئا جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو في الطواف؛ ليقتله، فأخبر الرسول صلى الله عليه وسلم بما في نفسه فأسلم .
خطبة الرسول صلى الله عليه وسلم الثاني من الفتح :
ولما كان الغد من يوم الفتح قام رسول الله صلى الله عليه وسلم في الناس خطيباً، فحمد الله، وأثنى عليه، ومجده بما هو أهله، ثم قال : ( أيها الناس، إن الله حرم مكة يوم خلق السموات والأرض، فهي حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة، فلا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك فيها دماً، أو يعضد بها شجرة، فإن أحد ترخص لقتال رسول الله صلى الله عليه وسلم فقولوا : إن الله أذن لرسولة ولم يأذن لكم، وإنما حلت لي ساعة من نهار، وقد عادت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس، فليبلغ الشاهد الغائب ) .
وفي رواية : ( لا يعضد شوكه، ولا ينفر صيده ولا تلتقط ساقطته إلا من عرفها، ولا يختلى خلاه ) ، فقال العباس : يا رسول الله، إلا الإذخر، فإنه لقينهم وبيوتهم، فقال : ( إلا الإذخر ) .
وكانت خزاعة قتلت يومئذ رجلا من بنى ليث بقتيل لهم في الجاهلية، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذا الصدد : ( يا معشر خزاعة، ارفعو أيديكم عن القتل، فلقد كثر القتل إن نفع، ولقد قتلتم قتيالا لأدينه، فمن قتل بعد مقامي هذا فأهله بخير النظرين، إن شاءوا فدم قاتله، وإن شاءوا فعقله ) .
وفي رواية : فقام رجل من أهل اليمن يقال له : شاه فقال : اكتب لي يا رسول الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( اكتبو لأبي شاه ) (1)
تخوف الأنصار من بقاء الرسول صلى الله عليه وسلم في مكة
__________
(1) ) انظر لهذه الروايات صحيح البخاري (1/22 , 216 , 247 , 328 , 329 , 2-2/615 , 617) , وصحيح مسلم (1/437 , 438 , 439) , وابن هشام (2/415 , 416) , وأبو داود (1/276)(1/240)
ولما تم فتح مكة على الرسول صلى الله عليه وسلم - وهي بلده ووطنه ومولده - قال الأنصار فيما بينهم : أترون رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ فتح الله عليه أرضه وبلده أن يقيم بها - وهو يدعو على الصفا رافعاً يديه - فلما فرغ من دعائة قال : ( ماذا قلتم ؟ ) قالوا : لا شيء يا رسول الله، فلم يزل بهم حتى أخبروه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( معاذ الله، المحيا محياكم، والممات مماتكم ) .
أخذ البيعة
وحين فتح الله مكة على رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين، تبين لأهل مكة الحق، وعلموا أن لا سبيل إلى النجاح إلا الإسلام، فأذعنوا له، واجتمعوا للبيعة، فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم على الصفا يبايع الناس، وعمر بن الخطاب أسفل منه، يأخذ على الناس فبايعوه على السمع والطاعة فيما استطاعوا .
وفي المدارك (1) : روى أن النبي صلى الله عليه وسلم لما فرغ من بيعة الرجال أخذ في بيعة النساء، وهو على الصفا، وعمر قاعد أسفل منه، يبايعهن بأمره، ويبلغهن عنه، فجاءت هند بنت عتبة امرأة أبي سفيان متنكرة، خوفاً من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعرفها؛ لما صنعت بحمزة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( أبايعكن على ألا تشركن بالله شيئا ) ، فبايع عمر النساء على ألا يشركن بالله شيئا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( ولا تسرقن ) فقالت هند : إن أبا سفيان رجل شحيح، فإن أنا أصبت من ماله هنات ؟ فقال أبو سفيان : وما أصبت فهو لك حلال، فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم وعرفها، فقال : ( وإنك لهند ؟ ) قالت : نعم، فاعف عما سلف يا نبي الله، عفا الله عنك .
فقال : ( ولا يزنين ) . فقالت : أو تزني الحرة ؟
__________
(1) ) انظر مدارك التنزيل للنسفي تفسير آية البيعة .(1/241)
فقال : ( ولا يقتلن أولادهن ) . فقالت : ربيناهم صغارا، وقتلناهم كبارا، فأنتم وهم أعلم ـ وكان ابنها حنظلة بن أبي سفيان قد قتل يوم بدرـ فضحك عمر حتى استلقى فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم .
قال : ( ولا يأتين ببهتان ) فقالت : والله إن البهتان لأمر قبيح وما تأمرنا إلا بالرشد ومكارم الأخلاق .
فقال : ( ولا يعصينك في معروف ) فقالت : والله ما جلسنا مجلسنا هذا وفي أنفسنا أن نعصيك .
ولما رجعت جعلت تكسر صنمها وتقول : كنا منك في غرور .
وفي الصحيح : جاءت هند بنت عتبة فقالت : يا رسول الله ما كان على ظهر الأرض من أهل خباء أحب إلي أن يذلوا من أهل خبائك، ثم ما أصبح اليوم على ظهر الأرض أهل خباء أحب إلي أن يغزوا من أهل خبائك . قال : ( وأيضا، والذي نفسي بيده ) قالت : يا رسول ال،له إن أبا سفيان رجل مسيك فهل علي حرج أن أطعم من الذي له عيالنا ؟ قال : ( لا أره إلا بالمعروف ) .
إقامته صلى الله عليه وسلم بمكة وعمله فيها
وأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة تسعة عشر يومًا يجدد معالم الإسلام، ويرشد الناس إلى الهدى والتقى، وخلال هذه الآيام أمر أبا أسيد الخزاعي، فجدد أنصاب الحرم، وبث سراياه للدعوة إلى الإسلام، ولكسر الأوثان التي كانت حول مكة، فكسرت كلها، ونادى مناديه بمكة : من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يدع في بيته صنما إلا كسره .
السرايا والبعوث(1/242)
1ـ ولما اطمأن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الفتح بعث خالد بن الوليد إلى العزى لخمس ليال بقين من شهر رمضان ـ سنة 8 هـ ـ ليهدمها وكانت بنخلة، وكانت لقريش وجميع بني كنانة وهي أعظم أصنامهم . وكان سدنتها بني شيبان، فخرج إليها خالد في ثلاثين فارسًا حتى انتهى إليها، فهدمها . ولما رجع إليها سأله رسول الله صلى الله عليه وسلم ( هل رأيت شيئا ؟ ) قال : لا قال : ( فإنك لم تهدمها فارجع إليها فاهدمها ) فرجع خالد متغيظًا قد جرد سيفه فخرجت إليه امرأة عريانة سوداء ناشرة الرأس فجعل السادن يصيح بها، فضربها خالد فجزلها باثنتين، ثم رجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره، فقال : ( نعم، تلك العزى، وقد أيست أن تعبد في بلادكم أبدا ) .
2ـ ثم بعث عمرو بن العاص في نفس الشهر إلى سواع ليهدمه وهو صنم لهذيل برهاط، على قرابة 150 كيلوا مترا شمال شرقي مكة، فلما انتهى إليه عمرو قال له السادن : ما تريد ؟ قال : أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أهدمه قال : لا تقدر على ذلك قال : لم ؟ قال تمنع قال : حتى الآن أنت على الباطل ؟ ويحك فهل يسمع أو يبصر ؟ ثم دنا فكسره، وأمر أصحابه فهدموا بيت خزانته فلم يجدوا فيه شيئا، ثم قال للسادن : كيف رأيت ؟ قال : أسلمت لله .
3ـ وفي الشهر نفسه بعث سعد بن زيد بن الأشهلي في عشرين فارسًا إلى مناة وكانت بالمشلل عند قديد للأوس والخزرج وغسان وغيرهم، فلما انتهى سعد إليها قال له سادنها : ما تريد ؟ قال : هدم مناة، قال : أنت وذاك، فأقبل إليها سعد، وخرجت امرأة عريانة سوداء ثائرة الرأس، تدعو بالويل، وتضرب صدرها، فقال لها السادن : مناة دونك بعض عصاتك . فضربها سعد فقتلها، وأقبل إلى الصنم فهدمه وكسره، ولم يجدوا في خزانته شيئًا .(1/243)
4ـ ولما رجع خالد بن الوليد من هدم العزى بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم في شوال من نفس السنة ـ 8هـ ـ إلى بني جذيمة داعيا إلى الإسلام لا مقاتلا فخرج في ثلاثمائة وخمسين رجلا من المهاجرين والأنصار وبني سليم، فانتهى إليهم فدعاهم إلى الإسلام فلم يحسنوا أن يقولوا : أسلمنا، فجعلوا يقولون : صبأنا، صبأنا . فجعل خالد يقتلهم ويأسرهم ودفع إلى كل رجل ممن كان معه أسيرًا، فأمر يومًا أن يقتل كل رجل أسيره فأبى ابن عمر وأصحابه حتى قدموا على النبي صلى الله عليه وسلم، فذكروا له، فرفع صلى الله عليه وسلم يديه وقال : ( اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالدًا ) مرتين . (1)
وكانت بنو سليم هم الذين قتلوا أسراهم دون المهاجرين والأنصار وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عليًا فودى لهم قتلاهم وما ذهب منهم وكان بين خالد وعبد الرحمن بن عوف كلام وشر في ذلك فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم فقال : ( مهلا يا خالد، دع عنك أصحابي، فوالله لو كان أحد ذهبا، ثم أنفقته في سبيل الله ما أدركت غدوة رجل من أصحابي ولا روحته ) (2)
__________
(1) ) صحيح البخاري (1/450 , 2/622)
(2) ) أخذنا تفاصيل هذه الغزوة من ابن هشام (2/389 إلى 437) , وصحيح البخاري (1/كتاب الجهاد وكتاب المناسك و3/612 إلى 615 , 622) , فتح الباري (8/3 إلى 27) , وصحيح مسلم (1/437 , 438 , 439 , 2/102 , 103 , 130) , زاد المعاد (2/160 إلى 168) , ومختصر سيرة الرسول للشيخ عبد الله النجدي (ص322 إلى 351)(1/244)
تلك هي غزوة فتح مكة، وهي المعركة الفاصلة والفتح الأعظم الذي قضى على كيان الوثنية قضاء باتًا، ولم يترك لبقائها مجالا ولا مبررا في ربوع الجزيرة العربية، فقد كانت عامة القبائل تنتظر ماذا يتمخض عنه العراك والاصطدام الذي كان دائرًا بين المسلمين والوثنيين وكانت تلك القبائل تعرف جيدا أن الحرم لا يسيطر عليه إلا من كان على الحق وكان قد تأكد لديهم هذا الاعتقاد الجازم أي تأكد قبل نصف القرن حين قصد أصحاب الفيل هذا البيت فأهلكوا وجعلوا كعصف مأكول .
وكان صلح الحديبية مقدمة وتوطئة بين يدي هذا الفتح العظيم، أمن الناس به وكلم بعضهم بعضًا، وناظره في الإسلام، وتمكن من اختفى من المسلمين بمكة من إظهار دينه والدعوة إليه والمناظرة عليه، ودخل بسببه كثير في الإسلام، حتى إن عدد الجيش الإسلامي الذي لم يزد في الغزوات السالفة على ثلاث آلاف إذا هو يزخر في هذه الغزوة في عشرة آلاف .
وهذه الغزوة الفاصلة فتحت أعين الناس وأزالت عنها آخر الستور التي كانت تحول بينها وبين الإسلام وبهذا الفتح سيطر المسلمون على الموقف السياسي والديني كليهما معا في طول جزيرة العرب وعرضها، فقد انتقلت إليهم الصدارة الدينية والزعامة الدنيوية .
فالطور الذي كان قد بدأ بعد صلح الحديبية لصالح المسلمين قد تم وكمل بهذا الفتح المبين، وبدأ بعد ذلك طور آخر كان لصالح المسلمين تمامًا، وكان لهم فيه السيطرة على الموقف تمامًا . ولم يبق لأقوام العرب إلا أن يفدوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيعتنقوا الإسلام ويحملوا دعوته إلى العالم، وقد تم استعدادهم لذلك في سنتين آتيتين .
غزوة حنين(1/245)
ولما أجمع القائد العام ـ مالك بن عوف ـ المسير إلى حرب المسلمين، ساق مع الناس أموالهم ونساءهم وأبناءهم، فسار حتى نزل بأوْطَاس ـ وهو واد في دار هَوَازِن بالقرب من حُنَيْن، لكن وادي أوطاس غير وادي حنين، وحنين واد إلى جنب ذي المجَاز، بينه وبين مكة بضعة عشر ميلاً من جهة عرفات . (1)
مُجَرِّب الحروب يُغَلِّط رأي القائد
ولما نزل بأوطاس اجتمع إليه الناس، وفيهم دُرَيْدُ بن الصِّمَّةِ ـ وهو شيخ كبير، ليس فيه إلا رأيه ومعرفته بالحرب وكان شجاعاً مجرباً ـ قال دريد : بأي واد أنتم ؟ قالوا : بأوطاس، قال : نعم مَجَالُ الخيل، لا حَزْنٌ ضَرسٌ ، ولا سَهْلٌ دَهِس، مإلى أسمع رُغَاء البعير، ونُهَاق الحمير، وبُكَاء الصبي، وثُغَاء الشاء ؟ قالوا : ساق مالك بن عوف مع الناس نساءهم وأموالهم وأبناءهم، فدعا مالكاً وسأله عما حمله على ذلك، فقال : أردت أن أجعل خلف كل رجل أهله وماله ليقاتل عنهم، فقال : راعي ضأن واللّه، وهل يرد المنهزم شيء ؟ إنها إن كانت لك لم ينفعك إلا رجل بسيفه ورمحه، وإن كانت عليك فُضِحْتَ في أهلك ومالك، ثم سأل عن بعض البطون والرؤساء، ثم قال : يا مالك، إنك لم تصنع بتقديم بَيْضَة هوازن إلى نحور الخيل شيئاً، ارفعهم إلى ممتنع بلادهم وعلياء قومهم، ثم الْقَ الصُّبَاة على متون الخيل، فإن كانت لك لحق بك من وراءك، وإن كانت عليك ألفاك ذلك وقد أحرزتَ أهلك ومالك .
ولكن مالكاً ـ القائد العام ـ رفض هذا الطلب قائلاً : واللّه لا أفعل، إنك قد كبرت وكبر عقلك، واللّه لتطيعني هوازن أو لأتَّكِئَنَّ على هذا السيف حتى يخرج من ظهري، وكره أن يكون لدريد فيها ذكر أو رأي، فقالوا : أطعناك . فقال دريد : هذا يوم لم أشهده ولم يَفُتْنِي :
يا ليتني فيها جَذَعْ ** أخُبُّ فيها وأضَعْ
أقود وطْفَاءَ الزَّمَعْ ** كأنها شاة صَدَعْ
سلاح استكشاف العدو
__________
(1) ) انظر فتح الباري (8/27 , 42)(1/246)
وجاءت إلى مالك عيون كان قد بعثهم للاستكشاف عن المسلمين، جاءت هذه العيون وقد تفرقت أوصالهم، قال : ويلكم، ما شأنكم ؟ قالوا : رأينا رجالاً بيضا على خيل بُلْق، والله ما تماسكنا أن أصابنا ما تري .
سلاح استكشاف رسول اللّه صلى الله عليه وسلم
ونقلت الأخبار إلى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم بمسير العدو، فبعث أبا حَدْرَد الأسلمي، وأمره أن يدخل في الناس، فيقيم فيهم حتى يعلم علمهم، ثم يأتيه بخبرهم، ففعل .
الرسول صلى الله عليه وسلم يغادر مكة إلى حنين
وفي يوم السبت ـ السادس من شهر شوال سنة 8 هـ ـ غادر رسول اللّه صلى الله عليه وسلم مكةـ وكان ذلك اليوم التاسع عشر من يوم دخوله في مكة ـ خرج في اثني عشر ألفاً من المسلمين ؛ عشرة آلاف ممن كانوا خرجوا معه لفتح مكة، وألفان من أهل مكة . وأكثرهم حديثو عهد بالإسلام واستعار من صفوان بن أمية مائة درع بأداتها، واستعمل على مكة عَتَّاب بن أسيد .
ولما كان عشية جاء فارس، فقال : إني طلعت جبل كذا وكذا، فإذا أنا بهوازن على بكرة آبائهم بِظُعُنِهم ونَعَمِهم وشائهم اجتمعوا إلى حنين، فتبسم رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وقال : ( تلك غنيمة المسلمين غدًا إن شاء اللّه ) ، وتطوع للحراسة تلك الليلة أنس بن أبي مَرْثَد الغَنَوي . (1)
وفي طريقهم إلى حنين رأوا سِدْرَة عظيمة خضراء يقال لها : ذات أنْوَاط، كانت العرب تعلق عليها أسلحتهم، ويذبحون عندها ويعكفون، فقال بعض أهل الجيش لرسول اللّه صلى الله عليه وسلم : اجعل لنا ذات أنواط، كما لهم ذات أنواط . فقال : ( اللّه أكبر، قلتم والذي نفس محمد بيده كما قال قوم موسي : اجعل لنا إلها كما لهم آلهة، قال : إنكم قوم تجهلون، إنها السَّنَنُ، لتركبن سَنَنَ من كان قبلكم ) . (2)
وقد كان بعضهم قال نظراً إلى كثرة الجيش : لن نُغْلَبَ اليوم، وكان قد شق ذلك على رسول اللّه صلى الله عليه وسلم :
__________
(1) ) انظر سنن أبي داوود .
(2) ) روى ذلك الترمذي .(1/247)
الجيش الإسلامي يُباغَتْ بالرماة والمهاجمين
انتهي الجيش الإسلامي إلى حنين، الليلة التي بين الثلاثاء والأربعاء لعشر خلون من شوال، وكان مالك بن عوف قد سبقهم، فأدخل جيشه بالليل في ذلك الوادي، وفرق كُمَنَاءه في الطرق والمداخل والشعاب والأخباء والمضايق، وأصدر إليهم أمره بأن يرشقوا المسلمين أول ما طلعوا، ثم يشدوا شدة رجل واحد .
وبالسَّحَر عبأ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم جيشه، وعقد الألوية والرايات، وفرقها على الناس، وفي عَمَاية الصبح استقبل المسلمون وادي حنين، وشرعوا ينحدرون فيه، وهم لا يدرون بوجود كمناء العدو في مضايق هذا الوادي، فبينا هم ينحطون إذا تمطر عليهم النبال، وإذا كتائب العدو قد شدت عليهم شدة رجل واحد، فانشمر المسلمون راجعين، لا يلوي أحد على أحد، وكانت هزيمة منكرة، حتى قال أبو سفيان بن حرب، وهو حديث عهد بالإسلام : لا تنتهي هزيمتهم دون البحر ـ الأحمر ـ وصرخ جَبَلَةُ أو كَلَدَةُ بن الحَنْبَل : ألا بطل السِّحْر اليوم .
وانحاز رسول اللّه صلى الله عليه وسلم جهة اليمين وهو يقول : ( هَلُمُّوا إلى أيها الناس، أنا رسول الله، أنا محمد بن عبد اللّه ) ولم يبق معه في موقفه إلا عدد قليل من المهاجرين والأنصار . تسعة على قول ابن إسحاق، واثنا عشر على قول النووي، والصحيح ما رواه أحمد والحاكم في المستدرك من حديث ابن مسعود، قال : كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم يوم حنين، فولي عنه الناس وثبت معه ثمانون رجلاًمن المهاجرين والأنصار، فكنا على أقدامنا ولم نُوَلِّهم الدُّبُر، وروي الترمذي من حديث ابن عمر بإسناد حسن قال : لقد رأيتنا يوم حنين وإن الناس لمولين، وما مع رسول اللّه صلى الله عليه وسلممائة رجل .
وحينئذ ظهرت شجاعة النبي صلى الله عليه وسلم التي لا نظير لها، فقد طفق يركض بغلته قبل الكفار وهو يقول :
( أنا النبي لا كَذِبْ ** أنا ابن عبد المطلب )(1/248)
بيد أن أبا سفيان بن الحارث كان آخذا بلجام بغلته، والعباس بركابه، يكفانها ألا تسرع، ثم نزل رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فاستنصر ربه قائلاً : ( اللّهم أنزل نصرك ) .
رجوع المسلمين واحتدام المعركة
وأمر رسول اللّه صلى الله عليه وسلم عمه العباس ـ وكان جَهِيَر الصوت ـ أن ينادي الصحابة، قال العباس : فقلت بأعلى صوتي : أين أصحاب السَّمُرَة ؟ قال : فوالله لكأن عَطْفَتَهُم حين سمعوا صوتي عَطْفَة البقر على أولادها، فقالوا : يا لبيك، يا لبيك (1) . ويذهب الرجل ليثني بعيره فلا يقدر عليه، فيأخذ درعه، فيقذفها في عنقه، ويأخذ سيفه وترسه، ويقتحم عن بعيره، ويخلي سبيله، فيؤم الصوت، حتى إذا اجتمع إليه منهم مائة استقبلوا الناس واقتتلوا .
وصرفت الدعوة إلى الأنصار : يا معشر الأنصار، يا معشر الأنصار، ثم قصرت الدعوة في بني الحارث بن الخزرج، وتلاحقت كتائب المسلمين واحدة تلو الأخري كما كانوا تركوا الموقعة، وتجالد الفريقان مجالدة شديدة، ونظر رسول اللّه صلى الله عليه وسلم إلى ساحة القتال، وقد استحر واحتدم، فقال : ( الآن حَمِي الوَطِيسُ ) . ثم أخذ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قبضة من تراب الأرض، فرمي بها في وجوه القوم وقال : ( شاهت الوجوه ) ، فما خلق اللّه إنساناً إلا ملأعينيه تراباً من تلك القبضة، فلم يزل حَدُّهُم كَلِيلاً وأمرهم مُدْبِرًا .
انكسار حدة العدو وهزيمته الساحقة
وما هي إلا ساعات قلائل ـ بعد رمي القبضة ـ حتى انهزم العدو هزيمة منكرة، وقتل من ثَقِيف وحدهم نحو السبعين، وحاز المسلمون ما كان مع العدو من مال وسلاح وظُعُن .
__________
(1) ) صحيح مسلم (2/100)(1/249)
وهذا هو التطور الذي أشار إليه سبحانه وتعالى في قوله : { وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ ثُمَّ أَنَزلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنزَلَ جُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا وَعذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَذَلِكَ جَزَاء الْكَافِرِينَ } [ التوبة : 25، 26 ]
حركة المطاردة
ولما انهزم العدو صارت طائفة منهم إلى الطائف، وطائفة إلى نَخْلَة، وطائفة إلى أوْطاس، فأرسل النبي صلى الله عليه وسلم إلى أوطاس طائفة من المطاردين يقودهم أبو عامرالأشعري، فَتَنَاوَشَ الفريقان القتال قليلاً ، ثم انهزم جيش المشركين، وفي هذه المناوشة قتل القائد أبو عامر الأشعري .
وطاردت طائفة أخري من فرسان المسلمين فلول المشركين الذين سلكوا نخلة، فأدركت دُرَيْدَ بن الصِّمَّة فقتله ربيعة بن رُفَيْع .
وأما معظم فلول المشركين الذين لجأوا إلى الطائف، فتوجه إليهم رسول اللّه صلى الله عليه وسلم بنفسه بعد أن جمع الغنائم .
الغنائم
وكانت الغنائم : السبي ستة آلاف رأس، والإبل أربعة وعشرون ألفاً ، والغنم أكثر من أربعين ألف شاة، وأربعة آلاف أوقية فضة، أمر رسول اللّه صلى الله عليه وسلم بجمعها، ثم حبسها بالجِعْرَانَة، وجعل عليها مسعود بن عمرو الغفاري، ولم يقسمها حتى فرغ من غزوة الطائف .
وكانت في السبي الشيماء بنت الحارث السعدية ؛ أخت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم من الرضاعة، فلما جيء بها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم عرفت له نفسها، فعرفها بعلامة فأكرمها، وبسط لها رداءه، وأجلسها عليه، ثم منّ عليها، وردّها إلى قومها .
غزوة الطائف(1/250)
وهذه الغزوة في الحقيقة امتداد لغزوة حنين، وذلك أن معظم فلول هَوَازن وثَقِيف دخلوا الطائف مع القائد العام ـ مالك بن عوف النَّصْرِي ـ وتحصنوا بها، فسار إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد فراغه من حنين وجمع الغنائم بالجعرانة، في الشهر نفسه ـ شوال سنة 8 هـ .
وقدم خالد بن الوليد على مقدمته طليعة في ألف رجل، ثم سلك رسول اللهصلى الله عليه وسلم إلى الطائف، فمر في طريقه على نخلة اليمانية، ثم على قَرْنِ المنازل، ثم على لِيَّةَ، وكان هناك حصن لمالك بن عوف فأمر بهدمه، ثم واصل سيره حتى انتهي إلى الطائف فنزل قريباً من حصنه، وعسكر هناك، وفرض الحصار على أهل الحصن .
ودام الحصار مدة غير قليلة، ففي رواية أنس عند مسلم : أن مدة حصارهم كانت أربعين يوماً، وعند أهل السير خلاف في ذلك، فقيل : عشرين يوماً، وقيل : بضعة عشر، وقيل : ثمانية عشر، وقيل : خمسة عشر . (1)
ووقعت في هذه المدة مراماة، ومقاذفات، فالمسلمون أول ما فرضوا الحصار رماهم أهل الحصن رمياً شديداً، كأنه رِجْل جراد، حتى أصيب ناس من المسلمين بجراحة، وقتل منهم اثنا عشر رجلاً، واضطروا إلى الارتفاع عن معسكرهم إلى مسجد الطائف اليوم، فعسكروا هناك .
ونصب النبي صلى الله عليه وسلم المنجنيق على أهل الطائف، وقذف به القذائف، حتى وقعت شدخة في جدار الحصن، فدخل نفر من المسلمين تحت دبابة . (2)
ودخلوا بها إلى الجدار ليحرقوه، فأرسل عليهم العدو سكك الحديد محماة بالنار . فخرجوا من تحتها، فرموهم بالنبل وقتلوا منهم رجالاً .
__________
(1) ) فتح الباري (8/45) .
(2) ) لم تكن الدبابة كدبابتنا اليوم , وإنما كانت تصنع من الخشب , كان الناس يدخلون في جوفها ثم يدفعونها في أصل الحصن لينقبوه وهم في جوفها , أو ليدخلوا من النقبات .(1/251)
وأمر رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ـ كجزء من سياسة الحرب لإلجاء العدو إلى الاستسلام ـ أمر بقطع الأعناب وتحريقها، فقطعها المسلمون قطعاً ذريعاً، فسألته ثقيف أن يدعها للّه والرحم، فتركها للّه والرحم .
ونادى مناديه صلى الله عليه وسلم : أيما عبد نزل من الحصن وخرج إلينا فهو حر، فخرج إليهم ثلاثة وعشرون (1) رجلاً ، فيهم أبو بكرة ـ تسور حصن الطائف، وتدلي منه ببكرة مستديرة يستقى عليها، فكناه رسول اللّه صلى الله عليه وسلم [ أبا بكرة ] ـ فأعتقهم رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، ودفع كل رجل منهم إلى رجل من المسلمين يمونه، فشق ذلك على أهل الحصن مشقة شديدة .
ولما طال الحصار واستعصي الحصن، وأصيب المسلمون بما أصيب من رشق النبال وبسكك الحديد المحماة ـ وكان أهل الحصن قد أعدوا فيه ما يكفيهم لحصار سنة ـ استشار رسول اللّه صلى الله عليه وسلم نَوْفَل بن معاوية الدِّيلي فقال : هم ثعلب في جحر، إن أقمت عليه أخذته وإن تركته لم يضرك، وحينئذ عزم رسول اللّه صلى الله عليه وسلم على رفع الحصار والرحيل، فأمر عمر بن الخطاب فأذن في الناس، إنا قافلون غداً إن شاء اللّه، فثقل عليهم وقالوا : نذهب ولا نفتحه ؟ فقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : ( اغدوا على القتال ) ، فغدوا فأصابهم جراح، فقال : ( إنا قافلون غداً إن شاء اللّه ) فسروا بذلك وأذعنوا، وجعلوا يرحلون، ورسول اللّه صلى الله عليه وسلم يضحك .
ولما ارتحلوا واستقلوا قال : قولوا : ( آيبون تائبون عابدون، لربنا حامدون ) .
وقيل : يا رسول اللّه، ادع على ثقيف، فقال : ( اللّهم اهد ثقيفا، وائت بهم ) .
قسمة الغنائم بالجِعْرَانَة
__________
(1) ) صحيح البخاري (2/620) .(1/252)
ولما عاد رسول اللْه صلى الله عليه وسلم بعد رفع الحصار عن الطائف مكث بالجعرانة بضع عشرة ليلة لا يقسم الغنائم، ويتأني بها، يبتغي أن يقدم عليه وفد هوازن تائبين فيحرزوا ما فقدوا، ولكنه لم يجئه أحد، فبدأ بقسمة المال، ليسكت المتطلعين من رؤساء القبائل وأشراف مكة، فكان المؤلفة قلوبهم أول من أعطي وحظي بالأنصبة الجزلة .
أعطي أبا سفيان بن حرب أربعين أوقية ومائة من الإبل، فقال : ابني يزيد ؟ فأعطاه مثلها، فقال : ابني معاوية ؟ فأعطاه مثلها، وأعطي حكيم بن حزام مائة من الإبل، ثم سأله مائة أخري، فأعطاه إياها . وأعطي صفوان بن أمية مائة من الإبل، ثم مائة ثم مائة ـ كذا في الشفاء (1) ـ وأعطي الحارث بن الحارث بن كَلَدَة مائة من الإبل، وكذلك أعطي رجالا من رؤساء قريش وغيرها مائة مائة من الإبل وأعطي آخرين خمسين خمسين وأربعين أربعين، حتى شاع في الناس أن محمداً يعطي عطاءً، ما يخاف الفقر، فازدحمت عليه الأعراب يطلبون المال حتى اضطروه إلى شجرة، فانتزعت رداءه فقال : ( أيها الناس، ردوا علي ردائي، فو الذي نفسي بيده لو كان عندي عدد شجر تهامة نعماً لقسمته عليكم، ثم ما ألفيتموني بخيلاً ولا جباناً ولا كذاباً ) .
ثم قام إلى جنب بعيره فأخذ من سنامه وبرة، فجعلها بين إصبعه، ثم رفعها، فقال : ( أيها الناس، واللّه مالى من فيئكم ولا هذه الوبرة إلا الخمس، والخمس مردود عليكم ) .
وبعد إعطاء المؤلفة قلوبهم أمر رسول اللّه صلى الله عليه وسلم زيد بن ثابت بإحضار الغنائم والناس، ثم فرضها على الناس، فكانت سهامهم لكل رجل إما أربعاً من الإبل، وإما أربعين شاة، فإن كان فارساً أخذ اثني عشر بعيراً أو عشرين ومائة شاة .
الأنصار تَجِدُ على رسول اللّه صلى الله عليه وسلم
كانت هذه القسمة مبنية على سياسة حكيمة، لكنها لم تُفْهَم أول الأمر، فأُطْلِقتْ ألسنة شتي بالاعتراض .
__________
(1) ) الشفا بتعريف حقوق المصطفى للقاضي عياض (1/86) .(1/253)
روى ابن إسحاق عن أبي سعيد الخدري قال : لما أعطي رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ما أعطي من تلك العطايا في قريش وفي قبائل العرب، ولم يكن في الأنصار منها شيء، وَجَدَ هذا الحي من الأنصار في أنفسهم حتى كثرت فيهم القَالَةُ، حتى قال قائلهم : لقي واللّه رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قومه، فدخل عليه سعد بن عبادة فقال : يا رسول اللّه، إن هذا الحي من الأنصار قد وَجَدُوا عليك في أنفسهم لما صنعت في هذا الفيء الذي أصبت، قسمت في قومك، وأعطيت عطايا عظاماً في قبائل العرب، ولم يك في هذا الحي من الأنصار منها شيء . قال : ( فأين أنت من ذلك يا سعد ؟ ) قال : يا رسول اللّه، ما أنا إلا من قومي . قال : ( فاجمع لي قومك في هذه الحظيرة ) . فخرج سعد فجمع الأنصار في تلك الحظيرة، فجاء رجال من المهاجرين فتركهم فدخلوا . وجاء آخرون فردهم، فلما اجتمعوا له أتاه سعد فقال : لقد اجتمع لك هذا الحي من الأنصار، فأتاهم رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فحمد اللّه، وأثني عليه، ثم قال : ( يا معشر الأنصار، ما قَالَهٌ بلغتني عنكم، وَجِدَةٌ وجدتموها على في أنفسكم ؟ ألم آتكم ضلالاً فهداكم اللّه ؟ وعالة فأغناكم اللّه ؟ وأعداء فألف اللّه بين قلوبكم ؟ ) قالوا : بلي، اللّه ورسوله أمَنُّ وأفْضَلُ .
ثم قال : ( ألا تجيبوني يا معشر الأنصار ؟ ) قالوا : بماذا نجيبك يا رسول اللّه ؟ للّه ورسوله المن والفضل . قال : ( أما واللّه لو شئتم لقلتم، فصَدَقْتُمْ ولصُدِّقْتُمْ : أتيتنا مُكَذَّبًا فصدقناك، ومخذولاً فنصرناك، وطريداً فآويناك، وعائلاً فآسَيْنَاك ) .(1/254)
( أوَجَدْتُمْ يا معشر الأنصار في أنفسكم في لَعَاعَةٍ من الدنيا تَألفَّتُ بها قوماً ليُسْلِمُوا، ووَكَلْتُكم إلى إسلامكم ؟ ألا ترضون يا معشر الأنصار أن يذهب الناس بالشاة والبعير، وترجعوا برسول اللّه صلى الله عليه وسلم إلى رحالكم ؟ فوالذي نفس محمد بيده، لولا الهجرة لكنت امرأ من الأنصار، ولو سلك الناس شِعْبًا، وسلكت الأنصار شعباً لسلكت شعب الأنصار، اللّهم ارحم الأنصار، وأبناء الأنصار، وأبناء أبناء الأنصار ) .
فبكي القوم حتى أخْضَلُوا لِحَاهُم وقالوا : رضينا برسول اللّه صلى الله عليه وسلم قَسْمًا وحظاً، ثم انصرف رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، وتفرقوا . (1)
قدوم وفد هوازن
وبعد توزيع الغنائم أقبل وفد هوازن مسلماً، وهم أربعة عشر رجلاً ورأسهم زهير ابن صُرَد، وفيهم أبو بُرْقَان عم رسول اللّه صلى الله عليه وسلم من الرضاعة، فأسلموا وبايعوا ثم قالوا : يا رسول اللّه، إن فيمن أصبتم الأمهات والأخوات، والعمات والخالات، وهن مخازي الأقوام :
فامنن علينا رسول اللّه في كرم ** فإنك المرء نرجوه وننتظر
امنن على نسوة قد كنت ترضعها ** إذ فوك تملؤه من محضها الدرر
__________
(1) ) ابن هشام (2/499, 500) , وروى مثل ذلك البخاري (2/620 , 621) .(1/255)
وذلك في أبيات . فقال : ( إن معي من ترون، وإن أحب الحديث إلى أصدقه، فأبناؤكم ونساؤكم أحب إليكم أم أموالكم ؟ ) قالوا : ما كنا نعدل بالأحساب شيئاً . فقال : ( إذا صليت الغداة ـ أي صلاة الظهر ـ فقوموا فقولوا : إنا نستشفع برسول اللّه صلى الله عليه وسلم إلى المؤمنين، ونستشفع بالمؤمنين إلى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أن يرد إلينا سبينا ) ، فلما صلي الغداة قاموا فقالوا ذلك . فقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : ( أما ما كان لي ولبني عبد المطلب فهو لكم، وسأسأل لكم الناس ) ، فقال المهاجرون والأنصار : ما كان لنا فهو لرسول اللّه صلى الله عليه وسلم . فقال الأقْرَع بن حابس : أما أنا وبنو تميم فلا . وقال عُيَيْنَة بن حِصْن : أما أنا وبنو فَزَارَة فلا . وقال العباس بن مِرْدَاس : أما أنا وبنو سُلَيْم فلا . فقالت بنو سليم : ما كان لنا فهو لرسول اللّه صلى الله عليه وسلم . فقال العباس بن مرداس : وهنتموني .
فقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : ( إن هؤلاء القوم قد جاءوا مسلمين، وقد كنت استأنيت سَبْيَهُمْ، وقد خيرتهم فلم يعدلوا بالأبناء والنساء شيئاً، فمن كان عنده منهن شيء فطابت نفسه بأن يرده فسبيل ذلك، ومن أحب أن يستمسك بحقه فليرد عليهم، وله بكل فريضة ست فرائض من أول ما يفيء اللّه علينا ) ، فقال الناس : قد طيبنا لرسول اللّه صلى الله عليه وسلم . فقال : ( إنا لا نعرف من رضي منكم ممن لم يرض، فارجعوا حتى يرفع إلينا عُرَفَاؤكم أمركم ) ، فردوا عليهم نساءهم وأبناءهم، لم يتخلف منهم أحد غير عيينة بن حصن، فإنه أبي أن يرد عجوزاً صارت في يديه منهم، ثم ردها بعد ذلك، وكسا رسول اللّه صلى الله عليه وسلم السبي قبطية قبطية .
العمرة والانصراف إلى المدينة(1/256)
ولما فرغ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم من قسمة الغنائم في الجِعْرَانة أهلَّ معتمراً منها، فأدي العمرة، وانصرف بعد ذلك راجعاً إلى المدينة بعد أن ولي على مكة عَتَّاب بن أسيد، وكان رجوعه إلى المدينة ودخوله فيها لست ليال بقيت من ذي القعدة سنة 8 هـ .
قال محمد الغزالي : لله ما أفسح المدى الذي بين هذه الآونة الظافرة بعد أن توج الله هامته بالفتح المبين ، وبين مقدمه إلى هذا البلد النبيل منذ ثمانية أعوام .
لقد جاء مطارداً يبغي الأمان ، غريباً مستوحشاً ينشد الإيلاف والإيناس ، فأكرم أهله مثواه ، وآووه ونصروه ، واتبعوا النور الذي أنزل معه ، واستخفوا بعداوة الناس جميعاً من أجله ، وهاهو ذا بعد ثمانية أعوام يدخل المدينة المنورة التي استقبلته مهاجراً خائفاً ، لتستقبله مرة أخرى وقد دانت له مكة ، وألقت تحت قدميه كبرياءها وجاهليتها فأنهضها ، ليعزها بالإسلام وعفا عن خطيئاتها الأولى "إنه من يتقِ ويصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين ". (يوسف 90 ) (1)
غزوة تبوك
في رجب سنة 9هـ
إن غزوة فتح مكة كانت غزوة فاصلة بين الحق والباطل، لم يبق بعدها مجال للريبة والظن في رسالة محمد صلى الله عليه وسلم عند العرب، ولذلك انقلب المجري تماماً، ودخل الناس في دين اللّه أفواجاً ـ كما سيظهر ذلك مما نقدمه في فصل الوفود، ومن العدد الذي حضر في حجة الوداع ـ وانتهت المتاعب الداخلية، واستراح المسلمون لتعليم شرائع اللهّّ، وبث دعوة الإسلام .
سبب الغزوة
__________
(1) ) فقه السيرة(ص303) , وانظر لتفصيل هذه الغزوات – فتح مكة وحنين والطائف , وما وقع خلالها – زاد المعاد _ ج2 من ص 160 إلى 201) , وابن هشام ( ج2 من ص 389 إلى 501) , وصحيح البخاري أبواب غزوة الفتح وحنين وأوطاس والطائف وغيرها (ج2 من ص 612 إلى 622 ) , وفتح الباري ( ج8 من ص3 إلى 58 ) .(1/257)
إلا أنه كانت هناك قوة تعرضت للمسلمين من غير مبرر، وهي قوة الرومان ـ أكبر قوة عسكرية ظهرت على وجه الأرض في ذلك الزمان ـ وقد عرفنا فيما تقدم أن بداية هذا التعرض كانت بقتل سفير رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ـ الحارث بن عمير الأزدي ـ على يدي شُرَحْبِيل بن عمرو الغساني، حينما كان السفير يحمل رسالة النبي صلى الله عليه وسلم إلى عظيم بُصْرَي، وأن النبي صلى الله عليه وسلم أرسل بعد ذلك سرية زيد بن حارثة التي اصطدمت بالرومان اصطداماً عنيفاً في مؤتة، ولم تنجح في أخذ الثأر من أولئك الظالمين المتغطرسين، إلا أنها تركت أروع أثر في نفوس العرب، قريبهم وبعيدهم .
ولم يكن قيصر ليصرف نظره عما كان لمعركة مؤتة من الأثر الكبير لصالح المسلمين، وعما كان يطمح إليه بعد ذلك كثير من قبائل العرب من استقلالهم عن قيصر، ومواطأتهم للمسلمين، إن هذا كان خطراً يتقدم ويخطو إلى حدوده خطوة بعد خطوة، ويهدد الثغور الشامية التي تجاور العرب، فكان يري أن القضاء يجب على قوة المسلمين قبل أن تتجسد في صورة خطر عظيم لا يمكن القضاء عليها، وقبل أن تثير القلاقل والثورات في المناطق العربية المجاورة للرومان .
ونظراً إلى هذه المصالح، لم يقض قيصر بعد معركة مؤتة سنة كاملة حتى أخذ يهيئ الجيش من الرومان والعرب التابعة لهم من آل غسان وغيرهم، وبدأ يجهز لمعركة دامية فاصلة .
الأخبار العامة عن استعداد الرومان وغَسَّان(1/258)
وكانت الأنباء تترامي إلى المدينة بإعداد الرومان ؛ للقيام بغزوة حاسمة ضد المسلمين، حتى كان الخوف يتسورهم كل حين، لا يسمعون صوتاً غير معتاد إلا ويظنونه زحف الرومان . ويظهر ذلك جلياً مما وقع لعمر بن الخطاب، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم إلى من نسائه شهراً في هذه السنة ـ 9هـ ـ وكان هجرهن واعتزل عنهن في مشربة له ، ولم يفطن الصحابة إلى حقيقة الأمر في بدايته، فظنوا أن النبي صلى الله عليه وسلم طلقهن، فسري فيهم الهم والحزن والقلق . يقول عمر بن الخطاب ـ وهو يروي هذه القصة : وكان لي صاحب من الأنصار إذا غبت أتاني بالخبر، وإذا غاب كنت آتية أنا بالخبر ـ وكانا يسكنان في عوالى المدينة، يتناوبان إلى النبي صلى الله عليه وسلم ـ ونحن نتخوف ملكاً من ملوك غسان ذكر لنا أنه يريد أن يسير إلينا، فقد امتلأت صدورنا منه، فإذا صاحبي الأنصاري يدق الباب، فقال : افتح، افتح، فقلت : جاء الغساني ؟ فقال : بل أشد من ذلك، اعتزل رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أزواجه . . . الحديث . (1)
وفي لفظ آخر ـ أنه قال ـ : وكنا تحدثنا أن آل غسان تنعل النعال لغزونا، فنزل صاحبي يوم نَوْبَتِهِ، فرجع عشاء، فضرب بابي ضرباً شديداً وقال : أنائم هو ؟ ففزعت، فخرجت إليه، وقال : حدث أمر عظيم . فقلت : ما هو ؟ أجاءت غسان ؟ قال : لا بل أعظم منه وأطول، طلق رسول اللّه صلى الله عليه وسلم نساءه . . . الحديث . (2)
__________
(1) ) صحيح البخاري (2/730)
(2) ) نفس المصدر (1/334)(1/259)
وهذا يدل على خطورة الموقف، الذي كان يواجهه المسلمون بالنسبة إلى الرومان، ويزيد ذلك تأكداً ما فعله المنافقون حينما نقلت إلى المدينة أخبار إعداد الرومان، فبرغم ما رآه هؤلاء المنافقون من نجاح رسول اللّه صلى الله عليه وسلم في كل الميادين، وأنه لا يوجل من سلطان على ظهر الأرض، بل يذيب كل ما يعترض في طريقه من عوائق ـ برغم هذا كله ـ طفق هؤلاء المنافقون يأملون في تحقق ما كانوا يخفونه في صدورهم، وما كانوا يتربصونه من الشر بالإسلام وأهله . ونظراً إلى قرب تحقق آمالهم أنشأوا وكرة للدس والتآمر، في صورة مسجد، وهو مسجد الضِّرَار، أسسوه كفراً وتفريقاً بين المؤمنين وإرصاداً لمن حارب اللّه ورسوله، وعرضوا على رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أن يصلي فيه، وإنما مرامهم بذلك أن يخدعوا المؤمنين فلا يفطنوا ما يؤتي به في هذا المسجد من الدس والمؤامرة ضدهم، ولا يلتفتوا إلى من يرده ويصدر عنه، فيصير وكرة مأمونة لهؤلاء المنافقين ولرفقائهم في الخارج، ولكن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أخر الصلاة فيه ـ إلى قفوله من الغزوة ـ لشغله بالجهاز، ففشلوا في مرامهم وفضحهم اللّه، حتى قام الرسول صلى الله عليه وسلم بهدم المسجد بعد القفول من الغزو، بدل أن يصلي فيه .
الأخبار الخاصة عن استعداد الرومان وغسان
كانت هذه هي الأحوال والأخبار التي يواجهها ويتلقاها المسلمون، إذ بلغهم من الأنباط الذين قدموا بالزيت من الشام إلى المدينة أن هرقل قد هيأ جيشاً عرمرما قوامه أربعون ألف مقاتل، وأعطي قيادته لعظيم من عظماء الروم، وأنه أجلب معهم قبائل لَخْمٍ وجُذَامٍ وغيرهما من متنصرة العرب، وأن مقدمتهم بلغت إلى البلقاء، وبذلك تمثل أمام المسلمين خطر كبير .
زيادة خطورة الموقف(1/260)
والذي كان يزيد خطورة الموقف أن الزمان كان فصل القيظ الشديد، وكان الناس في عسرة وجدب من البلاء وقلة من الظهر، وكانت الثمار قد طابت، فكانوا يحبون المقام في ثمارهم وظلالهم، ويكرهون الشخوص على الحال من الزمان الذي هم فيه، ومع هذا كله كانت المسافة بعيدة، والطريق وعرة صعبة .
الرسول صلى الله عليه وسلم يقرر القيام بإقدام حاسم
ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم كان ينظر إلى الظروف والتطورات بنظر أدق وأحكم من هذا كله، إنه كان يري أنه لو تواني وتكاسل عن غزو الرومان في هذه الظروف الحاسمة، وترك الرومان لتجوس خلال المناطق التي كانت تحت سيطرة الإسلام ونفوذه، وتزحف إلى المدينة كان له أسوأ أثر على الدعوة الإسلامية وعلى سمعة المسلمين العسكرية، فالجاهلية التي تلفظ نفسها الأخير بعد ما لقيت من الضربة القاصمة في حنين ستحيا مرة أخري، والمنافقون الذين يتربصون الدوائر بالمسلمين، ويتصلون بملك الرومان بواسطة أبي عامر الفاسق سيبعجون بطون المسلمين بخناجرهم من الخلف، في حين تهجم الرومان بحملة ضارية ضد المسلمين من الأمام، وهكذا يخفق كثير من الجهود التي بذلها هو أصحابه في نشر الإسلام، وتذهب المكاسب التي حصلوا عليها بعد حروب دامية ودوريات عسكرية متتابعة متواصلة . . . تذهب هذه المكاسب بغير جدوي .
كان رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يعرف كل ذلك جيداً، ولذلك قرر القيام ـ مع ما كان فيه من العسرة والشدة ـ بغزوة فاصلة يخوضها المسلمون ضد الرومان في حدودهم، ولا يمهلونهم حتى يزحفوا إلى دار الإسلام .
الإعلان بالتهيؤ لقتال الرومان(1/261)
ولما قرر الرسول صلى الله عليه وسلم الموقف أعلن في الصحابة أن يتجهزوا للقتال، وبعث إلى القبائل من العرب وإلى أهل مكة يستنفرهم . وكان قل ما يريد غزوة يغزوها إلا وَرَّي بغيرها، ولكنه نظراً إلى خطورة الموقف وإلى شدة العسرة أعلن أنه يريد لقاء الرومان، وجلي للناس أمرهم ؛ ليتأهبوا أهبة كاملة، وحضهم على الجهاد، ونزلت قطعة من سورة براءة تثيرهم على الجلاد، وتحثهم على القتال، ورغبهم رسول اللّه صلى الله عليه وسلم في بذل الصدقات، وإنفاق كرائم الأموال في سبيل اللّه .
المسلمون يتسابقون إلى التجهز للغزو
ولم يكن من المسلمين أن سمعوا صوت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يدعو إلى قتال الروم إلا وتسابقوا إلى امتثاله، فقاموا يتجهزون للقتال بسرعة بالغة، وأخذت القبائل والبطون تهبط إلى المدينة من كل صوب وناحية، ولم يرض أحد من المسلمين أن يتخلف عن هذه الغزوة ـ إلا الذين في قلوبهم مرض وإلا ثلاثة نفر ـ حتى كان يجيء أهل الحاجة والفاقة يستحملون رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ؛ ليخرجوا إلى قتال الروم، فإذا قال لهم : { لاَ أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّواْ وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلاَّ يَجِدُواْ مَا يُنفِقُونَ } [ التوبة : 92 ] .
كما تسابق المسلمون في إنفاق الأموال وبذل الصدقات، كان عثمان بن عفان قد جهز عيراً للشام، مائتا بعير بأقتابها وأحلاسها، ومائتا أوقية، فتصدق بها، ثم تصدق بمائة بعير بأحلاسها وأقتابها، ثم جاء بألف دينار فنثرها في حجره صلى الله عليه وسلم، فكان رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يقلبها ويقول : ( ما ضَرَّ عثمان ما عمل بعد اليوم ) (1) ، ثم تصدق وتصدق حتى بلغ مقدار صدقته تسعمائة بعير ومائة فرس سوى النقود .
__________
(1) ) جامع الترمذي , مناقب عثمان بن عفان (2/211)(1/262)
وجاء عبد الرحمن بن عوف بمائتي أوقية فضة، وجاء أبو بكر بماله كلّه ولم يترك لأهله إلا اللّه ورسوله ـ وكانت أربعة آلاف درهم ـ وهو أول من جاء بصدقته . وجاء عمر بنصف ماله، وجاء العباس بمال كثير، وجاء طلحة وسعد بن عبادة ومحمد بن مسلمة، كلهم جاءوا بمال . وجاء عاصم بن عدي بتسعين وَسْقًا من التمر، وتتابع الناس بصدقاتهم قليلها وكثيرها، حتى كان منهم من أنفق مُدّا أو مدين لم يكن يستطيع غيرها . وبعثت النساء ما قدرن عليه من مَسَك ومعاضد وخلاخل وقُرْط وخواتم .
ولم يمسك أحد يده، ولم يبخل بماله إلا المنافقون { الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ } [ التوبة : 79 ] .
الجيش الإسلامي إلى تبوك
وهكذا تجهز الجيش، فاستعمل رسول اللّه صلى الله عليه وسلم على المدينة محمد بن مسلمة الأنصاري، وقيل : سِبَاع بن عُرْفُطَةَ، وخلف على أهله على بن أبي طالب، وأمره بالإقامة فيهم، وغَمَصَ عليه المنافقون، فخرج فلحق برسول الله صلى الله عليه وسلم، فرده إلى المدينة وقال : ( ألا ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسي، إلا أنه لا نبي بعدي ) .
وتحرك رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يوم الخميس نحو الشمال يريد تبوك، ولكن الجيش كان كبيراً ـ ثلاثون ألف مقاتل، لم يخرج المسلمون في مثل هذا الجمع الكبير قبله قط ـ فلم يستطع المسلمون مع ما بذلوه من الأموال أن يجهزوه تجهيزاً كاملاً، بل كانت في الجيش قلة شديدة بالنسبة إلى الزاد والمراكب، فكان ثمانية عشر رجلاً يعتقبون بعيراً واحداً، وربما أكلوا أوراق الأشجار حتى تورمت شفاههم، واضطروا إلى ذبح البعير ـ مع قلتها ـ ليشربوا ما في كرشه من الماء، ولذلك سمي هذا الجيش جيش العُسْرَةِ .(1/263)
ومر الجيش الإسلامي في طريقه إلى تبوك بالحِجْر ـ ديار ثمود الذين جابوا الصخر بالواد، أي وادي القُرَى ـ فاستقي الناس من بئرها، فلما راحوا قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : ( لا تشربوا من مائها ولا تتوضأوا منه للصلاة، وما كان من عجين عجنتموه فاعلفوه الإبل، ولا تأكلوا منه شيئاً ) ، وأمرهم أن يستقوا من البئر التي كانت تردها ناقة صالح رسول الله .
وفي الصحيحين عن ابن عمر قال : لما مر النبي صلى الله عليه وسلم بالحجر قال : ( لا تدخلوا مساكن الذين ظلموا أنفسهم أن يصيبكم ما أصابهم إلا أن تكونوا باكين ) ، ثم قَنعَ رأسه وأسرع بالسير حتى جاز الوادي . (1)
واشتدت في الطريق حاجة الجيش إلى الماء حتى شكوا إلى رسول اللّه، فدعا اللّه، فأرسل اللّه سحابة فأمطرت حتى ارتوي الناس، واحتملوا حاجاتهم من الماء .
ولما قرب من تبوك قال : ( إنكم ستأتون غداً إن شاء اللّه تعالى عين تبوك، وإنكم لن تأتوها حتى يَضْحَي النهار، فمن جاءها فلا يمس من مائها شيئاً حتى آتي ) ، قال معاذ : فجئنا وقد سبق إليها رجلان، والعين تَبِضُّ بشيء من مائها، فسألهما رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : ( هل مسستما من مائها شيئاً ؟ ) قالا : نعم . وقال لهما ما شاء اللّه أن يقول . ثم غرف من العين قليلاً قليلاً حتى اجتمع الْوَشَلُ ، ثم غسل رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فيه وجهه ويده، ثم أعاده فيها فجرت العين بماء كثير، فاستقي الناس، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( يوشك يا معاذ، إن طالت بك حياة أن تري ماهاهنا قد ملئ جناناً ) . (2)
__________
(1) ) صحيح البخاري , باب نزول النبي صلى الله عليه وسلم الحجر (2/637)
(2) ) رواه مسلم عن معاذ بن جبل (2/246)(1/264)
وفي الطريق أو لما بلغ تبوك ـ على اختلاف الروايات ـ قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : ( تهب عليكم الليلة ريح شديدة، فلا يقم أحد منكم، فمن كان له بعير فليشد عِقَالَه ) ، فهبت ريح شديدة، فقام رجل فحملته الريح حتى ألقته بجبلي طيئ . (1)
وكان دأب رسول اللّه صلى الله عليه وسلم في الطريق أنه كان يجمع بين الظهر والعصر، وبين المغرب والعشاء جمع التقديم وجمع التأخيركليهما .
الجيش الإسلامي بتبوك
نزل الجيش الإسلامي بتبوك، فعسكر هناك، وهو مستعد للقاء العدو، وقام رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فيهم خطيباً، فخطب خطبة بليغة، أتي بجوامع الكلم، وحض على خير الدنيا والآخرة، وحذر وأنذر، وبشر وأبشر، حتى رفع معنوياتهم، وجبر بها ما كان فيهم من النقص والخلل من حيث قلة الزاد والمادة والمؤنة . وأما الرومان وحلفاؤهم فلما سمعوا بزحف رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أخذهم الرعب، فلم يجترئوا على التقدم واللقاء، بل تفرقوا في البلاد في داخل حدودهم، فكان لذلك أحسن أثر بالنسبة إلى سمعة المسلمين العسكرية، في داخل الجزيرة وأرجائها النائية، وحصل بذلك المسلمون على مكاسب سياسية كبيرة خطيرة، لعلهم لم يكونوا يحصلون عليها لو وقع هناك اصطدام بين الجيشين .
__________
(1) ) نفس المصدر(1/265)
جاء يُحَنَّةُ بن رُؤْبَةَ صاحب أيْلَةَ، فصالح الرسول صلى الله عليه وسلم وأعطاه الجزية، وأتاه أهل جَرْبَاء وأهل أذْرُح، فأعطوه الجزية، وكتب لهم رسول اللّه صلى الله عليه وسلم كتاباً فهو عندهم، وصالحه أهل مِينَاء على ربع ثمارها، وكتب لصاحب أيلة : ( بسم اللّه الرحمن الرحيم، هذه أمنة من اللّه ومحمد النبي رسول اللّه ليحنة بن رؤبة وأهل أيلة، سفنهم وسياراتهم في البر والبحر لهم ذمة اللّه وذمة محمد النبي، ومن كان معه من أهل الشام وأهل البحر، فمن أحدث منهم حدثاً، فإنه لا يحول ماله دون نفسه، وإنه طيب لمن أخذه من الناس، وأنه لا يحل أن يمنعوا ماء يردونه، ولا طريقاً يريدونه من بر أو بحر ) .
وبعث رسول اللّه صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد إلى أُكَيْدِرِ دُومَة الجَنْدَل في أربعمائة وعشرين فارساً، وقال له : ( إنك ستجده يصيد البقر ) ، فأتاه خالد، فلما كان من حصنه بمنظر العين، خرجت بقرة، تحك بقرونها باب القصر، فخرج أكيدر لصيدها ـ وكانت ليلة مقمرة ـ فتلقاه خالد في خيله، فأخذه وجاء به إلى رسول اللّهصلى الله عليه وسلم، فحقن دمه، وصالحه على ألفي بعير، وثمانمائة رأس وأربعمائة درع، وأربعمائة رمح، وأقر بإعطاء الجزية، فقاضاه مع يُحَنَّة على قضية دُومَة وتبوك وأيْلَةَ وَتَيْماء .
وأيقنت القبائل التي كانت تعمل لحساب الرومان أن اعتمادها على سادتها الأقدمين قد فات أوانه، فانقلبت لصالح المسلمين، وهكذا توسعت حدود الدولة الإسلامية، حتى لاقت حدود الرومان مباشرة، وشهد عملاء الرومان نهايتهم إلى حد كبير .
الرجوع إلى المدينة(1/266)
ورجع الجيش الإسلامي من تبوك مظفرين منصورين، لم ينالوا كيداً، وكفي الله المؤمنين القتال، وفي الطريق عند عقبة حاول اثنا عشر رجلاً من المنافقين الفتك بالنبي صلى الله عليه وسلم، وذلك أنه حينما كان يمر بتلك العقبة كان معه عمار يقود بزمام ناقته، وحذيفة ابن اليمان يسوقها، وأخذ الناس ببطن الوادي، فانتهز أولئك المنافقون هذه الفرصة . فبينما رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وصاحباه يسيران إذ سمعوا وكزة القوم من ورائهم، قد غشوه وهم ملتثمون، فبعث حذيفة فضرب وجوه رواحلهم بمِحْجَن كان معه ، فأرعبهم اللّه، فأسرعوا في الفرار حتى لحقوا بالقوم، وأخبر رسول اللّه صلى الله عليه وسلم بأسمائهم، وبما هموا به، فلذلك كان حذيفة يسمي بصاحب سر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي ذلك يقول اللّه تعالي : { وَهَمُّواْ بِمَا لَمْ يَنَالُوا } [ التوبة : 74 ] .
ولما لاحت للنبي صلى الله عليه وسلم معالم المدينة من بعيد قال : ( هذه طَابَةُ، وهذا أحُدٌ، جبل يحبنا ونحبه ) ، وتسامع الناس بمقدمه، فخرج النساء والصبيان والولائد يقابلن الجيش بحفاوة بالغة ويقلن (1) :
طلع البدر علينا ** من ثنيات الوداع
وجب الشكر علينا ** ما دعا للع داع
وكانت عودته صلى الله عليه وسلم من تبوك ودخوله في المدينة في رجب سنة 9هـ ، واستغرقت هذه الغزوة خمسين يوماً، أقام منها عشرين يوماً في تبوك، والبواقي قضاها في الطريق جيئة وذهوبًا . وكانت هذه الغزوة آخر غزواته صلى الله عليه وسلم .
المُخَلَّفون
__________
(1) ) هذا رأي ابن القيم وقد مضى البحث عليه في ص 204(1/267)
وكانت هذه الغزوة ـ لظروفها الخاصة بها ـ اختباراً شديداً من اللّه، امتاز به المؤمنون من غيرهم، كما هي سنته تعالى في مثل هذه المواطن، حيث يقول : { مَّا كَانَ اللّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَآ أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّىَ يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ } [ آل عمران : 179 ] . فقد خرج لهذه الغزوة كل من كان مؤمناً صادقاً، حتى صار التخلف أمارة على نفاق الرجل، فكان الرجل إذا تخلف وذكروه لرسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال لهم : ( دعوه، فإن يكن فيه خير فسيلحقه اللّه بكم، وإن يكن غير ذلك فقد أراحكم منه ) ، فلم يتخلف إلا من حبسهم العذر، أو الذين كذبوا اللّه ورسوله من المنافقين، الذين قعدوا بعد أن استأذنوا للقعود كذباً، أو قعدوا ولم يستأذنوا رأسا . نعم كان هناك ثلاثة نفر من المؤمنين الصادقين تخلفوا من غير مبرر، وهم الذين أبلاهم اللّه، ثم تاب عليهم .
ولما دخل رسول اللّه صلى الله عليه وسلم المدينة بدأ بالمسجد، فصلي فيه ركعتين، ثم جلس للناس، فأما المنافقون ـ وهم بضعة وثمانون رجلاً (1) ـ فجاءوا يعتذرون بأنواع شتي من الأعذار، وطفقوا يحلفون له، فقبل منهم علانيتهم، وبايعهم، واستغفر لهم، ووكل سرائرهم إلى اللّه .
__________
(1) ) ذكر الواقدي أن هذا العدد كان من منافقي الأنصار , وأن المعذرين من الأعراب كانوا أيضاً اثنين وثمانين رجلاً من بني غفار وغيرهم , وأن عبد الله بن أبي ومن أطاعه من قومه كانوا من غير هؤلاء , وكانوا عدداً كبيراً ( انظر فتح الباري 8/119)(1/268)
وأما النفر الثلاثة من المؤمنين الصادقين ـ وهم كعب بن مالك، ومُرَارَة بن الربيع، وهلال بن أمية ـ فاختاروا الصدق، فأمر رسول اللّه صلى الله عليه وسلم الصحابة ألا يكلموا هؤلاء الثلاثة، وجرت ضد هؤلاء الثلاثة مقاطعة شديدة، وتغير لهم الناس، حتى تنكرت لهم الأرض، وضاقت عليهم بما رحبت، وضاقت عليهم أنفسهم، وبلغت بهم الشدة إلى أنهم بعد أن قضوا أربعين ليلة من بداية المقاطعة أمروا أن يعتزلوا نساءهم، حتى تمت على مقاطعتهم خمسون ليلة، ثم أنزل اللّه توبتهم : { وَعَلَى الثَّلاَثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُواْ حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّواْ أَن لاَّ مَلْجَأَ مِنَ اللّهِ إِلاَّ إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُواْ إِنَّ اللّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ } [ التوبة : 118 ] .
وفرح المسلمون، وفرح الثلاثة فرحاً لا يقاس مداه وغايته، فبشروا وأبشروا واستبشروا وأجازوا وتصدقوا، وكان أسعد يوم من أيام حياتهم .
وأما الذين حبسهم العذر فقد قال تعالى فيهم : { لَّيْسَ عَلَى الضُّعَفَاء وَلاَ عَلَى الْمَرْضَى وَلاَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُواْ لِلّهِ وَرَسُولِهِ } [ التوبة : 91 ] . وقال فيهم رسول اللّه حين دنا من المدينة : ( إن بالمدينة رجالاً ما سرتم مَسِيراً، ولا قطعتم وادياً إلا كانوا معكم، حبسهم العُذْرُ ) ، قالوا : يا رسول اللّه، وهم بالمدينة ؟ قال : ( وهم بالمدينة ) .
أثر الغزوة(1/269)
وكان لهذه الغزوة أعظم أثر في بسط نفوذ المسلمين وتقويته على جزيرة العرب، فقد تبين للناس أنه ليس لأي قوة من القوات أن تعيش في العرب سوي قوة الإسلام، وبطلت بقايا أمل وأمنية كانت تتحرك في قلوب بقايا الجاهليين والمنافقين الذين كانوا يتربصون الدوائر بالمسلمين، وكانوا قد عقدوا آمالهم بالرومان، فقد استكانوا بعد هذه الغزوة، واستسلموا للأمر الواقع، الذي لم يجدوا عنه محيداً ولا مناصاً .
ولذلك لم يبق للمنافقين أن يعاملهم المسلمون بالرفق واللين، وقد أمر اللّه بالتشديد عليهم، حتى نهي عن قبول صدقاتهم، وعن الصلاة عليهم، والاستغفار لهم والقيام على قبرهم، وأمر بهدم وكرة دسهم وتآمرهم التي بنوها باسم المسجد، وأنزل فيهم آيات افتضحوا بها افتضاحاً تاماً، لم يبق في معرفتهم بعدها أي خفاء، كأن الآيات قد نصت على أسمائهم لمن يسكن بالمدينة .
ويعرف مدي أثر هذه الغزوة من أن العرب وإن كانت قد أخذت في التوافد إلى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم بعد غزوة فتح مكة، بل وما قبلها، إلا أن تتابع الوفود وتكاثرها بلغ إلى القمة بعد هذه الغزوة . (1)
نزول القرآن حول موضوع الغزوة
نزلت آيات كثيرة من سورة براءة حول موضوع الغزوة، نزل بعضها قبل الخروج، وبعضها بعد الخروج ـ وهو في السفر ـ وبعض آخر منها بعد الرجوع إلى المدينة، وقد اشتملت على ذكر ظروف الغزوة، وفضح المنافقين، وفضل المجاهدين والمخلصين، وقبول التوبة من المؤمنين الصادقين، الخارجين منهم في الغزوة والمتخلفين، إلى غير ذلك من الأمور .
بعض الوقائع المهمة في هذه السنة
__________
(1) ) أخذنا تفاصيل هذه الغزوة من ابن هشام (2/515 إلى 537) , وزاد المعاد (3/2 إلى 13) وصحيح البخاري (2/633 , 634 , 635 , 636 , 637) و (1/252 , 414) وغيرها وصحيح مسلم مع شرحه للنووي (2/246) , وفتح الباري (8/110 إلى 126) ومختصر سيرة الرسول للشيخ عبد الله النجدي ( من ص 391 إلى 407)(1/270)
وفي هذه السنة وقعت عدة وقائع لها أهمية في التاريخ :
1 ـ بعد قدوم رسول اللّه صلى الله عليه وسلم من تبوك وقع اللعان بين عُوَيْمِر العَجْلاني وامرأته .
2 ـ رجمت المرأة الغامدية، التي جاءت فاعترفت على نفسها بالفاحشة، رجمت بعدما فطمت ابنها .
3 ـ توفي النجاشي أصْحَمَة، ملك الحبشة، في رجب، وصلي عليه رسول الله صلاة الغائب في المدينة .
4 ـ توفيت أم كلثوم بنت النبي صلى الله عليه وسلم في شعبان، فحزن عليها حزناً شديداً، وقال لعثمان : ( لو كانت عندي ثالثة لزوجتكها ) .
5 ـ مات رأس المنافقين عبد اللّه بن أبي بن سَلُول بعد مرجع رسول اللّه صلى الله عليه وسلم من تبوك، فاستغفر له رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، وصلي عليه بعد أن حاول عمر منعه عن الصلاة عليه، وقد نزل القرآن بعد ذلك بموافقة عمر .
وهذه الحقائق التي لا يُنكرها إلا جاحد فالغزوات في الإسلام ماكانت إلا دفاعا عن النفس ودفاعا عن حقوق الآخرين ممن يريدون الوصول إلى الله تبارك وتعالى ..
أهم المراجع الإسلامية
? القرآن الكريم .
? صحيحي البخاري ومسلم .
? كتب السنة كسنن الترمذي وسنن أبي داوود والنسائي ومُسند الإمام أحمد وغيرهم ...
? سيرة إبن هشام , دار الفجر .
? الرحيق المختوم , مختصر الرحيق المختوم لصفي الرحمن المباركفوري .
? سلسلة غزوات النبي المصطفى دروس وعبر لمؤلفها أمير بن محمد المدري .
? الجهاد في الإسلام للكاتب الهندي المسلم شراغ علي , ترجمة وتعليق الدكتور إبراهيم عوض , مكتبة زهراء الشرق .
? دراسات في السيرة النبوية وعصر الخلفاء الراشدين تأليف لجنة من أساتذة جامعة الأزهر .
? مختصر سيرة الرسول للشيخ عبد الله النجدي
? فتح الباري بشرح صحيح البخاري للإمام الحافظ إبن كثير حققها العلامة عبد العزيز ابن باز , محمد فؤاد عبد الباقي .
? زاد المعاد في هدي خير العباد لإبن القيم .
? شرح الإمام النووى لصحيح مسلم .(1/271)
? الشفا بتعريف حقوق المصطفى للقاضي عياض .
? مدارك التنزيل وحقائق التنزيل ؛ للنسفي .
? تفسير القرآن العظيم للحافظ ابن كثير .
? تيسير التفسير للأستاذة فوقية الشربيني .
? البداية والنهاية للحافظ ابن كثير .
المراجع المسيحية
? الكتاب المقدس ترجمة الفانديك وترجمات أخرى .
? تاريخ إسرائل من واقع نصوص التوراة والأسفار وكتب ما بين العهدين للأب متى المسكين
? كتاب مختصر تاريخ الكنيسة – للمؤرخ المسيحي أندرو ملر , دار الثقافة .
? عظات أوريجانوس على سفر العدد – للعلامة أوريجانوس .
? تاريخ الكنيسة لجون لوريمر الجزء الرابع
? تاريخ الكنيسة لجون لوريمر الجزء الخامس
? التفسير التطبيقي – لجنة من العلماء واللاهوتيين .
? دائرة المعارف الكتابية – نخبة من العلماء واللاهوتيين ( ثمان مجلدات ) .
? التفسير الحديث للكتاب المقدس - إنجيل متي – دار الثقافة .
? من تفسيرات وتأملات الآباء الآولين- الإنجيل بحسب مرقس- للقمص تادرس يعقوب ملطي .
? من تفسير وتأملات الآباء الآولين- الإنجيل بحسب متي - للقمص تادرس يعقوب ملطي .
? من تفسير وتأملات الآباء الآولين- الرسالة إلى رومية - للقمص تادرس يعقوب ملطي .
? من تفسير وتأملات الآباء الأولين – سفر العدد – القمص تادرس يعقوب ملطي .
? من تفسير وتأملات الآباء الأولين – سفر التثنية – القمص تادرس يعقوب ملطي .
? من تفسير وتأملات الآباء الأولين – سفر الأخبار الأيام الأول – القمص تادرس يعقوب ملطي .
? الموسوعة الكنسية لتفسير العهد الجديد – شرح لكل آية – مجموعة من كهنة وخدام كنيسة مار مرقس بمصر الجديدة ( عدة مجلدات ) .
? تفسير الكتاب المقدس – سفر التكوين – للإرشيدياكون نجيب جرجس .
? تفسير إنجيل يوحنا – جمع وتقديم هلال آمين موسي .
? تفسير الكتاب المقدس شرح إنجيل يوحنا- بنيامين بنكرتن .
? كتاب الوجه الأخر للكنيسة للدكتور القس إكرام لمعي , دار الثقافة .(1/272)
? كتاب حياة قسطنطين العظيم – تأليف يوسابيوس القيصري – تعريب القمص مرقس داود .
? نظرة شاملة لعلم الباترولوجي – القمص تادرس يعقوب ملطي – يُباع بمكتبة المحبة .
الخاتمة
رأينا فيما سبق إنتشار الإسلام والأدلة الصريحة التي لا تُرغِم شخصا على دخول الإسلام بالإضافة إلى إنتشار المسيحية وإله المسيحية وتعاليمه في الكتاب المقدس والتي طُبقت بكل عنف وكل دموية سواء على المسلمين في الحروب الصليبية أو على غيرهم فيما قبل ذلك , وهذا ما طرحناه وضعنا تلخيصاً للفارق بين الإسلام والمسيحية وإنتشار كل منهما ووضعنا بعد ذلك طرحاً لحوادث الغزوات التي حدثت وللقارئ المُحايد الحُكم ..
سبحانك الله وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت نستغفرك ونتوب إليك ..
معاذ عليان
فهرس الموضوع
المقدمة ------------------------------------------------------- 2
كل حروب رسول الله كانت دفاعية ----------------------------------------- 5
الحرب في الإسلام دفاعية عكس ما في المسيحية !! ---------------------------------- 9
الحرب في الإسلام كانت ضد الجيوش وليست على المسالمين ------------------------------ 14
الإسلام حرم قتل الأطفال والنساء والشيوخ عكس المسيحية ------------------------------ 19
إلتزام المسلمين بالعهود مع غير المسلمين عكس المسيحية --------------------------------- 23
عدم التعدى بالتعذيب بالحرق والنشر في الحروب ------------------------------------- 26
الجزية في الإسلام وإعفاء الكثير من دفعها ----------------------------------------- 29
الغنائم هل محللة للمسلمين وهل إبتدعوها المسلمين ------------------------------------- 38
إنتشار المسيحية بالإكراه وإنتشار الاسلام بتوحيده وسماحته وتشريعه -------------------------- 46
كيف إنتشرت المسيحية ؟ ----------------------------------------------- 53(1/273)
قسطنطين ونشر المسيحية بحد السيف ----------------------------------------- 53
غزوة بدر الكبرى ---------------------------------------------------- 59
غزوة بني سُلَيم بالكُدْر -------------------------------------------------- 99
غزوة بني قينقاع ----------------------------------------------------- 101
غزوة السَّوِيق ------------------------------------------------------- 107
غزوة ذي أمر ------------------------------------------------------ 108
غزوة بُحْران ------------------------------------------------------- 109
غزوة أُحد ------------------------------------------------------- 110
غزوة حمراء الأسد --------------------------------------------------- 144
غزوة بني النضير ---------------------------------------------------- 150
غزوة ذات الرِّقَاع ----------------------------------------------------- 156
غزوة بدر الثانية أو الآخرة ------------------------------------------------ 161
غزوة دُوَمة الجندل ---------------------------------------------------- 163
غزوة بني المُصطلق أو غزوة المريسيع ------------------------------------------- 164
غزوة الأحزاب ( الخندق ) ------------------------------------------------ 175
غزوة بني قريظة ----------------------------------------------------- 190
غزوة بني لَحْيَان -----------------------------------------------------197
غزوة الغابة أو غزوة ذي قَرَد ----------------------------------------------- 198
وقعة الحديبية ------------------------------------------------------ 200
غزوة خيبر ووادي القُرى ------------------------------------------------ 216
تَيْمَاء --------------------------------------------------------- 237(1/274)
فتح مكة -------------------------------------------------------- 242
غزوة حنين ------------------------------------------------------- 268
غزوة الطائف ----------------------------------------------------- 274
غزوة تبوك ------------------------------------------------------ 281
أهم المراجع الإسلامية -------------------------------------------------- 296
المراجع المسيحية ---------------------------------------------------- 297
الخاتمة --------------------------------------------------------- 299
فهرس الموضوعات --------------------------------------------------- 300(1/275)