بسم الله الرحمن الرحيم
أنزله الله وأسبحه، وأسأله التوفيق وأستمنحه. حامداً له تعالى بأسمائه، على جلائل آلائه ودقائق نعمائه. حمداً تتعطر مجاري الأنفاس بنفحةٍ من نفحاتهِ، وتتدفق بحار الأفكار برشحة من رشحاته.
وأصل ذلك ما دمت أنطق بكلام بصلات صلاة وأتم سلام، على من أبدع منشئ الوجود إنشاءه على أحسن فطرة وأجملها، ونظم به عقد الدين بعد نثره فدعا لأتم ملة وأكملها. الذي أوتي جوامع الكلم، ولم ينطق عن الهوى، فاقتفى أثره عصابة ما ضل أحد منهم باتباعه ولا غوى.
المبعوث في زمن هتفت فيه مصاقع العرب على منابر البلاغة، وقيدت شوارد المعاني في الأسماع بسلاسل الذهب فلم يبلغ أحد بلاغه. فأبطل سحرها المبين، متمسكاً بحبل الله المتين، وجاءها بالعقد الذي تحل به الزمان العاطل، والحق الذي لا يأتيه من بين يديه ولا من خلفه الباطل.
والروض الذي تتفجر عيونُ البلاغة عن أصول معانيه، وتتدفق مياه البراعة عن فصول مبانيه. ونزه أسماعها في حديقة حميت بشوكة الإعجاز فلم تلمس ورودها أيادي إياد ولا أنامل الحجاز.
فلله وبالله ذلك المفحم المعجز، الذي أعيى على الواصف المطنب والموجز. لا برحت الصلوات الناميات في كل أوان، تحيي مرقده الشريف ما تعاقب الملوان.
ثم أحيي آله الكرام، وأصحابه ذوي الاحترام، بما يناسب رتبتهم السامية، من هذه التحية الزكية النامية، وعيلهم رحمة الله وبركاته.
وبعد: فإني من منذ ألقيت الألواح، وميزت بين الصباح والمصباح. جعلتُ الأدب لناظري ملمحا، واتخذته لفكري من بين المعارف مطمحا. وكنتُ أعده لصحائف الشمائل عنواناً، وأرتب لبيت قصيده في بدائع المآثر ديواناً. وأشيم من آفاقه بوارق السحر، وأشم من أردانه روائح الشحر. فأرتشف منه ما هو أشف من الماء في زجاجه، وأشتف ما هو ألذ من الرحيق في مزاجه.
وأنا من الابتهاج به كما التقى الغدير بالزهرة، ومن التملي به كما تقابلت الثريا بالزهرة. فطالما وردت منه ما صفى من الأمواه، وبسطت حجري لالتقاط درره من الأفواه. وعكف طرفي في محاريب دفاتره، ورشف يراعي ماء الحياة من ظلمات محابره.
هذا وغصن شبابي غض وريق، وتحايا مدامي عض وريق. وأنا أجري في طلق الصبا طلق الصبا، وأذهب في نيل البغية مذهباً مذهباً. فكم ليلة نادمت فيها الأمانين ووفى لي في جنحها بالضمان زماني. فتناولت أحاديث كالأرياق، نظمتها كالعقود تلوح من الأزياق. وذلك في مسقط رأسي ومشتعل ذؤابة نبراسي. خطة السرور والفرح، وحلة القدح والقدح. ومنى الأماني، ومغنى الأغاني. وقبلة القبول، وشملة الشمول. البلدة الفيحاء دمشق، الطيبعة العرف والنشق.
لا زال خفاق النسيم يلعب بعذبات واديها، وهطال السحاب يراوح دمنها ويغاديها. وحيى الله أعزاها الذين بهم التقيت ونجوم أفقها الذين بصحبتهم ارتقيت أديبهم يهز له الأدب هيف معاطفه، وأريبهم يمد به الندى بساط عواطفه.
يرمون عند هدر الشقاشق في حدق البيان ويصيبون بالكلم الرواشق غرض التبيان. ويتنافسون من السحر في المناظم، وما يتصرفون فيه إلا على ذائقة الأعظم. من بدائع لو عثر عليها سحرة من موسى لتابوا، وروائع لو اطلع عليها المصورون لدلوا عن نهجهم وأنابوا.
وما منهم إلا من بطش فيما انتحى بباع بسيط، ولم يزل عن موقف الصواب مقدار فسيط. وكان بقي للشعر خصاصة فاستظهروا على سدها، وأنشوطة استنهضوا هممهم لشدها. صنيعهم صير الزمان من تقصيره في وجل، وأظنه أطلع الورد في خد الربيع إشارة لما عنده من الخجل.
فوسقت في بحارهم السفائن، واستخرجت من محاسنهم الدفائن. واجتنيت من ثمرات خواطرهم كل يانع مستطاب، وحشوت صدفة أذني من تلك اللآلئ الرطاب.
وملأت السمع منهم كلماً ... يحسد القلب عليه الأذنا
لكني لم أقض من رؤيتهم مطمعا، حتى غربواهم وشمس الفضل معاً.
فعاينت الوجود دونهم كالنهار بلا شمس، وعاينت الأمر ولا هم كالراحة بلا خمس.
وفقدت بهم الوطر الذي شايعته، والأمل الذي على الوفاء والرعى للذمم بايعته.
فلم ألبث حتى كرهت الثوى وتحركت عزيمتي لداعي النوى.
أنضيت لجهة الروم العزم، وأدخلت على حرف العلة عامل الجزم.
فعل أمرئ جد جده، وما رأيه إلا في مفخر يستجده فإن في الانتقال تنويهاً لخامل الأقدار، ولولاه لم يكس البدر حلة الأبدار.(1/1)
وكذا الدر ضائع الحسن في البح ... ر فإن بان عنه راق جمالا
ومياه البحار ملح فمهما ... حملتها السحاب عدن زلالا
فدخلت أمهات بلادها دور الخلافة، واستقريت آخراً بقسطنطينيتها، لا زالت مصونة من كل آفة.
والدولة إذ ذا بالكلمة الغالبة تنطق، والدنيا تتوشح بتلك الحماية وتنتطق.
والأيام مقسطة، والأنام منبسطة.
والزمان كله نهار، والمنابت طراً أزهار.
وملك الزمان السلطان محمد، ختم الله بتأمينه مذ صافحت آفاقها أسرة جبينه.
حدثت عن الحياة الخضرة جنباتها، واستحال زمرداً وزبرجداً نباتها.
والأفئدة بطاعته تدين، وقد تهنى بمانه الدنيا والدين.
ورأيت أستاذي الشيخ محمد بن لطف الله الذي توجهت بكليتي إليه، وأوقفت أملي مذ أنا يافع عليه.
وهو مقصد الواصف والمادح، وملج لسان الناطق والصادح. وقد استوفى من الصدارة تمام العزة، وأوفى شرفه على كل الأعزة. وكان للأدب ممن تلافى ذماه، وروى ببشره ظماه. فأصبحت حسنات الدهر به موفورة، وسيآته بوجوده مغفورة. ونفضت لديه علائق الترحال، ورفرفت عليه آمال الرجال. من كل من اتخذ الأدب مفخراً يرغم به أنوف المفاخرين، والثناء الجميل مدخراً، وهو لسان صدق في الآخرين. فحاسيتهم بحضرته كؤوس مودة أصفى من الماء، وتلقيت منهم كل نادرة تفضح نجم السماء.
ثم لما قضى الله موت الأستاذ برد الله حفرته، ونور بنور الغفران غرته. قضاء منه سبق في بريته، وسوى فيله بين آدم وذريته. رأيت الدهر قد عاندني في الديار والأحباب وكساني المشيب قبل أن أعرف مقدار حق الشباب. وقد ولتني الثلاثون أذنابها، وصبت على المصائب ذنابها. وغاب هلال الصبا في مغاربه، وألقيت حبل الصبا على غاربه. بعد ما كان ذرعي عن هموم الأثر خالياً، وحالي ببرد العيش حالياً. فرميت الشام بعزمة المنتاب، وقد رضيت من الغنيمة بالإياب. فحليتها في عصر ذهب رواؤه، وفرغ من المعارف إناؤه. وعضد الأدب هيض، وثمده بعد هنيئة غيض. حتى تقلصت ذيول ظلاله، وبكت عيون المنى على أطلاله. والناس إما ساكت ألفاً، أو ناطق خلفاً. ولزمت كسر البيت، وسكنت سكون الميث. متكفكفاً بما في يدي، ومستدفعاً ليومي وغدي. وأنا في الدنيا الموصوفة بالنضارة، من جملة النظارة. أرمقها يمنة ويسرة، فلا أرى إلا هماً وحسرة. ولا أراني إلا كاسفً معنى، وكأنني لفظ بلا معنى. فرمان فرحي أقصر من التفات الحبيب، وتلفتي للسراء تلفت المريض للطبيب. في أوقات أثقل من الحديث المعاد، وأطول من عمر الانتظار لوقت الميعاد. لا سمير لي أوانه ولا جليس عندي أجانسه. سوى أوراق مزقتها الريح، وفرقت شملها التباريح. التقطتها كل واحدة من بقعة، وجمعتها من كل رق رقعة. أكثر ما فيها أشعار لأهل العصر، الذين ضاق عن الإحاطة بمفاخرهم نطاق الحصر. ممن رأيته فكانت رؤيته لعيني جلا، أو سمعت به فكانت أخباره لمسمعي حلي. وكان كتاب الريحانة للشهاب، الذي أغني عن الشمس والقمر، وأطلع الكلام ألذ من طيب المدام والسمر. وناهيك بمن استخدم الألفاظ حتى قيل: إنها له ملك، ونظمها في أجياد الطروس كأنها جواهر لها كل سطر من سطورها سلك.
لم يزل من عهد صبايَ، قبل نوم سيارة شمولي وصباي. أمنية رجائي الحائم، وبغية قلبي الهائم. وشمامتي التي أشتم ومسلاتي متى أهتم. وزمزمة لساني، وعقيلة استحساني.
حتى أود لو كانت أعضاي كلها نواظر تبصره، بحيث لا تمل لحظاً، وخواطر تتذكره، على ألا تسأم حفظاً، وألسنة تكرره، بشرط ألا تقنع لفظاً.
فخطر لي أن أقدح في تذييله زندي، وآتى في محاكاته بما اجتمع من تلك الأشعار عندي. وقصدي بذلك إشغال الفكر، لا الانضمم إلى من فاز بألى الذكر. وإلا، فمن أنا حتى يقال، أو إذا عثرت عثرة تقال. سما إذا قرنت بمن جاريته في ميدان الكلام، أو ضممت إلى من باريته وأنا لست له باري أقلام. وإني لو تطاولت إلى الفلك، وتناولت عن الملك. واتخذت الدراري عقوداً، وزهر المجرة لفظاً منقوداً. ما بلغت مكانه، ولا أمكنت من أمر البراعة إمكانه.
فأقدمت سائلاً من الله أن يجعله سهلاً، وأنا أستغفر لتطلعي لما لست له أهلا. وسدت أعياناً بيضت بهم وجه الطروس، وأحييت لهم أبيات أشعار كادت تشارف الدروس. من كل لفظ أرق من نفحة الزهر الروض للناشق، وأحسن موقعاً من تبسم المعشوق في وجه العاشق.(1/2)
وأتيت فيهم بفصول تشهد لهم بالتفضيل، وتقضي بأن كل وصف فيهم فضول، بالإجمال والتفصيل.
وإني محاسب لقلبي إذا مال، وللساني إذا قال. لا أمدح إلا ممدوحاً، ولا أقدح إلا مقدوحاً. ولا يستفزني رعد كل سحابة، ولا يستخفني طنين كل ذبابة. ورقمت من الكلام المصرع، والإنشاء السلس المرصع. ما استنبطته من ذوات الصدر، وألمعت به كالقمر ليلة البدر. فقراً ابتدعتها وسجعتها، ومعاني آدابٍ اخترعتها وألمعتها. تطرزها الأقلام، وترقم بها أردية الكلام. ولم أودع إلا ما حسن إيداعه، ولطف مساغه وإبداعه. وأقنع من القول بطرفه، وأستجلب منه بدائع طرفه. إذ لا فخر للاقط، تناول كل ساقط. ولا فضل لمتخير، هو في لم شعث ما يأتي به متحير.
فكم من بيت إذا أخذ الإذن على الأذن تتجرعه ولا تكاد تسيغه، وكم من معنى إذا حاول ناظمه لم يتأت له كيف يصوغه.
وكنت عزمت على ألا أترجم أحداً ممن ترجمه، ثم عدلت؛ لأني رأيت ألسنة النقاد عن زيف بعض تراجمه مترجمة.
فإنه وإن نوه بحزب، إلا أنه قصر في الإطراء بشعارهم، وإن أطنب في آخرين؛ إلا أنه لم يذكر عيون أشارهم.
على أنه نور الله مزاره، ومحى من صحيفته يوم العرض أوزاره أغفل من القوم حزباً نقايا، وكأنه أومأ إلى قولهم: في الزوايا خبايا.
فذكرت من أغفله ذكراً شافياً، وأعدت مما فوته قدراً كافيا. ومن نظر بعين الإنصاف، واتصف من المعدلة بأحسن الأوصاف. علم بأني أتيت بما يرضى في الجملة، ولم يقصر كل التقصير في الحملة.
فإن من أحسن قبلي وقبل كلامه، وقل في مثل هذا الغرض ملامه، إنما أحسن والدنيا شابة، وريح القبول هابة. والأيام مساعفة، والأوقات مساعدة. والسعود قائمة، والنحوس نائمة.
وأنا قد وجدت في زمان هرمت فيه البلغة، وفترت الدعوة وكسدت السلعة، وبطلت الصنعة.
وأعظم شيء في الوجود تمنعاً ... نتاج مرام من عقيم زمان
وقد رتبت الكتاب على ثمانية أبواب: الباب الأول: في محاسن شعراء دمشق ونواحيها.
الباب الثاني: في نوادر أدباء حلب.
الباب الثالث: في نوابغ بلغاء الروم.
الباب الرابع: في ظرائف ظرفاء العراق والبحرين.
الباب الخامس: في لطائف لطفاء اليمن.
الباب السادس: في عجائب نبغاء الحجاز.
الباب السابع: في غرائب نبهاء مصر.
الباب الثامن: في تحائف أذكياء المغرب.
وسميته نفحة الريحانة، ورشحة طلاء الحانة. والله سبحانه موفقي لما أردته، ومسدي فيما أوردته.
ولما شارفت فيه التمام، ووقفت في التبييض على طرف الثمام. نظرت فرأيت بقي علي من أشعار أهل الحجاز واليمن حصة يسيرة، كانت علي في التحصيل عسيرة. فحين من الله علي، وله المنة، والمنحة التي لا يشوبها كدر المحنة. بالحج والمجاورة في بيته المحترم، وبسمت لي من أهله ثغور الفضل والكرم. حصلت على ضالتي التي أنشد، ووفقت إلى من يوصل إليها ويرشد. ورأيت ثمة ممن لم أسمع بهم قوماً دعوا الأمل فلباهم، وتصرفوا بالأدب وأهله من منذ عقدت عليهم حباهم. من كل إمام شاب رأس المصابيح وما رأت له عديلاً، وخطيب تقوس ظهر المحاريب وما وجدت له بديلاً. وحكيم يبرأ به الزمان من مرضه، وشاعر يجري حياة النفوس في غرضه. هم نشاط الدهر وشبابه، وخالصة المجد ولبابه.
كأن الله قد أوحى إلى البلاغة أن تجري بمرادهم، وعهد إلى البراعة أن تكون ثنى أبرادهم.
فهبت لي منهم أنفاس ندية، وتنفست أسحارهم بروائح ندية. فكانت أعطر من نشر الخزامى، وأرق من أنفاس النعامى.
فتناولت من أشعارهم ما نمقته وشياً مذهباً بذكرهم، وفتقته مسكاً أذفراً بشكرهم. وراسلوني بكل حسنة تستدعي عشر أمثالها، فقابلتهم كأنني المرآة ألقى كل صورة بمثلها. وأنا ورب الكعبة أ؛ بهم ديناً وجبلة، وأتخذهم حرماً لأماني وقبلة.
وأشكرهم شكر الروض للسما، وأثني عليهم من الأرض إلى السما. ولما برزت الإرادة الإلهية بمفارقتي البيت والمقام، وبعدي عن ذلك المحل الذي خيم الرضا فيه وأقام. عزمت على الرحلة إلى القاهرة، لأسبر ذلك الجمع، وأطابق ما بين العيان والسمع. فمنعني حكم القضا، الذي لا يقابل إلا بالرضا. فوجهت وجهي نحو بلادين ونزعت إلى ما تركته من طريفي وتلادي. أستهدي طرف الآثار لأودعها كتاب التحائف، وأخط نونات المنى بأيدي العيس في تلك الصحائف.(1/3)
فلما ألقيت بدمشق عصا الترحال، وحليت في ساحتها عقدة الرحال. عمدت إلى مجموعي الذي انتحيت، وطلقي الذي إليه تنحيت. فصممت إلى الأصل ما تلقيته، وأثبت ما اخترته من الأشار وانتقيته. وحبب إلي الانعزال عن الناس، فلم أخالطهم في وحشة ولا إيناس.
إلى أن ورد إلى دمشق الأستاذ زين العابدين البكري، وللحياة عطفة بشة، وللجذل نعمة هشة. للهضب رجاح احتبائه، وللنور المقدس جوهر حوبائه. فاستخرجني من مطمورة المنزل، وصيرني عن الهم في معزل. وأطلق أملي وكان معقولاً، وأعاد خاطري بعد الصدأ مصقولا.
ففتقت في أوقاته مبسماً، واغتنمت للعمر الهني موسما. ورأيت بشراً يطرد وصيلا، وإقبالاً يتعاقب بكرة وأصيلا.
وكان أشار إلي بالرحلة معه حين أن هم الرجعة، فتخلفت لعائق خلفني لولوعي، وخلى بين الغرام وضلوعي. ذاك ولوع للمجد لا لنجد، وغرام للعليا لا للأفيا. فلولا النفائس لم يحفل بالأدراج، ولولا الكواكبُ لم تحفظ الأبراج. ولا اتخذ الغمد لولا الحسام، ولولا الأرواح لم تؤلف الأجسام. فبقيت موزع الفكر، مقسم الأناة بين التصور والذكر. على أني وإن تباعدت المدائن، فأنا بولائه وصدق مودته دائن. وإن لم تنظمنا الركاب المسئدة، فقد انتظمت منا على المودة الأفئدة. وهذه علاقة تستجد كلما تتلى، لأنها ليست لغرض يبلى. بل علقته لأخلاقه لا لأعلاقه، وتعلقت بآدابه لا بأهدابه. وصرت أود لو طرت إليه كل مطار، وكنت معه على آمالٍ وأوطار. فبينما أنا أنتظر لقربه طريقاً، وأطلب للوصول إليه فريقاً رفيقاً. إذ قدم الشام المولى الهمام الأعظم عبد الباقي المعروف بعارف، قاضياً بمصر، وهو من إذا كنت أذكره أميل كغصن البانة الناعم النضر، وإذا ما رحت أشكره، أروح كأني قد خلقت من الشكر.
وأجد نسيمه إذا تنسمته، كالمسك يفتق بالندى ويعطر، وأجتلي منه كلما توسمته خلقاً كزاهي الروض بل هو أعطر. من ابتسمت به الأيام وكانت عابسة، وأورقت غصون المنى بعد ما كانت يابسة. وأنار به وجه المان، وأخذ الأنام من الدهر توقيع الأمان. فإنه أمده الله بتوفيقه، وسدد سهام رأيه بتفويقه. نفرد بجمع الكمالات فلا يشرك، وتوحد في استيعاب المعلومات فلا يدرك. فمطلب الثناء فيه هين، ومركب الإطراء فيه لين. وإن من النعمة على المثني عيله، أنه لا يحذر أن تنسب نقيصة الكذب إليه. ولا ينتهي إلى محل في ثنائه، إلا وجد له عوناً في أثنائه. ومن سعادة جده، وبلوغه في الحظ نهاية حده، أنه إذا دعا له لم يجد عنه متخلفاً، وبل يرى كل راء وسامع إليه متحلفاً.
فلما ترويت من ماء بشره، ونعمت ولله الحمد بتقبيل عشره. أنهضني القيام بذمته، إلى أن أكون في خدمته. فصحبته مصاحباً به المنى والأمل، وخدمته فكساني شرف الشمس في برج الحمل. ولما حللنا القاهرة أنزلني في حماه، وأحلني حيث تدفق سيب رحماه.
وتوافق مع الأستاذ - مد الله في جاهه، وجمل النوع الإنساني بحياة أشباهه - على ترويج حظي، وفتحا بنظرهما إلى الأمنية لحظي. وخصاني من برهما الممتدة أطنابه، بما يعجز عنه إسهاب القول وإطنابه. ففتقا لساني بأمداحهما، ووزناني فرجحت سائر مداحهما.
وأنا الآن في ظل رعايتهما مصاحب الراحة والدعة وأينما حللت نزلت على الرحب والسعة. فلهذا صفا فكري في هذه الأيام من الشوائب، وأمنت بعون الله وصمة النوائب. وشرعت بأمرهما في نسخ ما سودته أولاً وثانياً، ولم أكن لعنان عزمي ثانياً. وأنا سائل من واهب الآمال، أن يبيض وجهي يوم عرض الأعمال. ومن هنا أشرع فيما عمدت إليه، فأقول مفوضاً أمري إلى الله ومتكلاً عليه:
الجزء الأول
الباب الأول
في ذكر محاسن شعراء دمشق
الشام ونواحيها لا زالت طيبة العرار والبشام
وهي كما علمت من عهد أن دخلتها العرب، موطن كل أدب، لك فيه الأرب. وقد أنجبت في كل وقتٍ وأوان، بقادةٍ كل كلمةٍ منهم بديوان. حتى أرانا الله بقاياهم، وأطلعنا على خبايا زواياهم.
فهم أئمة الفضل المتوجون بتيجان اللطافة والملاحة، وهم مطمح أنظار الأمل، فما غيرهم قيد العيون اللماحة.
بهم تفضل أهل البلاد، وتصعد إلى أفق الثريا، وبهم يمس بستان الفكر بعد ظمائه ريًّا.(1/4)
فلا غرو أن قام بهم شعار الأدب وثبت، وغرس في قلوبهم شجر المحبة فسقي ذلك الغرس بمائها فنبت. وكللت حياض طروسهم الزاهية بجواهر كلامهم وكمالهم، وزينت بعقيان الدر من منطقهم المترجم عن حقائق أحوالهم وأقوالهم.
فمنهم: أبو بكر بن منصور العمري قدمت هذا الشيخ رعايةً لاسمه، مع أني أعلم أن له القيام على حد الأدب ورسمه. فهو الذي خاض في لججه أتم الخوض، وتفنن في أقسامه تفنن الأزهار في سرحة الروض.
إن نشط لمغازلة الغزلان فموصوف بظرف أبي عبادة، أو انتسب لنسيب قدود الغانيات فأين منه ابن ميادة. وإن انتدب لوصف الحميا والكاس، أنسى ذكر خمريات أبي نواس. وإن رثى عم مراثي أبي تمام، وأملى نياحة الفرخ على الحمام.
فهو أعوم في بحور الشعر من ابن قادوس، واصلح إذ جد وهزل من ابن حجاج وابن عبد القدوس. له فكرة في النظم صافية، ما عوقت له قط قافية. فإذا أملى من نظمه قطعةً واختالها من روض الجنان مقتطعة، لم ينته له إسراع، ولم يجف له في يده براع.
وليس بتزويق اللسان وصوغه ... ولكنه ما خالط اللحم والدما
وقد حلب الدهر أشطره، وملأ كتاب عمره أسطره. وحادث أحداثه، وبذ كهوله وأحداثه.
وأخبرني والدي، قال: رأيته ولحيته أنقى من الفضة، وأيام حياته قاربت أن تصير منفضة. ومع أن السنين لاكت قواه، لم يزل مع الركب اليمانين هواه.
ومضى زمنٌ وأدباء الشام به يحتفلون، ويحكم بينهم فيما هم مختلفون. وبلغني أنه كان يحضر السوق، وهو من كسب يمينه على جانبٍ من الوثوق عاملاً بالأثر: " لو كنت تاجراً لاتجرت بالطيب إن فاتني ربحه ما فاتني ريحه ".
فانظر إلى ما ساقه كساد سوقه، وضيعة حقوقه. على أن له في سوقه الفضلاء أسوة، وكأنه استعار منهم لأشعاره كسوة.
هاتان الفقرتان للباخرزي، احتجتهما، ففي هذا المحل أدرجتهما.
قال: وهم؛ نصر بن أحمد الخبزرزي، وأبو الفرج الوأواء الدمشقي، والسري الرفاء الموصلي.
قلت: وهم الذين إذا تليت آياتهم المنسوقة، كان من تقدمهم من الأدباء عندهم سوقة.
أما نصر، فكان يصنع خبز الأرز بالبصرة وتجتمع الأدباء بحانوته.
وأما أبو الفرج فقد كان يسعى بالفواكه رائحاً وغادياً، ويتغنى عليها منادياً.
وأما السري، فقد كان يطرز الخلق، ويرفأ الخرق ويصف تلك العبرة، ويزعم أنه يسترزق الإبرة.
وكيف ما كان فالحرفة لا تخلو من حرفة، والصنعة لا تنجو من صرعة، والبضاعة لا تسلم من إضاعة، والمتاع ليس لأهله به استمتاع.
وأخبرت أنه كان سموحاً بما ملك، متخلياً عن الإمساك أيةً سلك. يضم يديه على النقدين، فلا يمسي إلا وهو منها صفر اليدين. وقضى عمره في بلهنيةٍ هنيةٍ، أغصان عيشها ما زالت جنية. لم يغادره بؤس، ولم يكدره يومٌ عبوس. بين رياضٍ مهزات نبتها ريانة، وغياضٍ أساجيع أطيارها مرنانة.
وقد وقفت من أشعاره الغضة التحف، ما به ديباجة كتاب اللطائف والبدائع تحف. فأوردت منه ما يهز له الشيخ عطف غلام، ولا يدرى أسحرٌ هو أم كلام.
فمنه قوله:
لو تم لي في الحب سعدي ... يا حب ما أخلفت وعدي
لكن مقادير القضا ... ء كأنها حكمت ببعدي
أو حظُّ كلِّ متيمٍ ... من حظه يرمَى بطرد
يا غائباً في القلب من ... نيران فقدك أيَّ وقدِ
ما كنت أدري قبل بع ... دك أن سهم جفاك يُردي
صدِيَت لرؤيتك العيو ... ن علام ترميها بصدِّ
يا سيدي إن كان لي ... ذنبٌ فقل أخطأت عبدي
ما خنت عهدك في المحب ... ة كيف حتى خنت عهدي
كلا ولا أفشيت سرَّ ... هواك والأسرار عندي
ولهي بحبِّك لم يزل ... ولهي ووجدي فيك وجدي
أرضى بأن أفنَى وتب ... قى أنت يا مولاي بعدي
أخفيت حبك في الفؤا ... د فخطه دمعي بخدِّي
وعدا على جسمي النحو ... لُ فعاد للأسقام يُعدي
محن الهوى جمعت عليَّ ... فلست أحصيها بِعَدِّ
فالسُّقم يشهد والدمو ... ع بوحدتي في العشق وحدي
يا بدر سل عني السُّها ... إن السُّها أدرى بسهدي(1/5)
وابعث رسول الطيف يس ... مع ما أعيد له وأبدي
آهاً على زمنٍ مضى ... لو كان قولي آه يجدي
أيام وصلٍ منك لم ... تقطع ولم توصل بردِّ
والشمل يجمعنا على ... حبٍّ يودُّ بصدق ودِّ
وأضمُّ منك معاطفاً ... بردت جوى وجدي ببردِ
وتميل إذ تهوي إلى ... نحوي وجيدك فوق زندي
وتقول عجباً هل يرى ... مثلي وأهل الحسن جندي
والشمس والبدر المني ... ر سناه جاريتي وعبدي
والغصن يقصف قدُّه ... إن قاس قامته بقدِّي
ومنحتني منك الوصا ... ل تبرعاً وهجرت صدي
فجعلت وجهك حضرتي ... وحديث راح لماكَ وردي
وعلمت لما بان رو ... ضُ الوجه أن الخدِّ وردي
وشهدت لما ذقت طع ... م الريق أن الثغر شهدي
والفرق يشرق صبحه ... في ليل فرعٍ منه جعد
فأطعت فيك صبابتي ... وعصيت لوَّامي وزهدي
وقضيت أوطاري وقد ... غفل الرقيب فنلت قصدي
والخصر أتهمني بأني ... بتُّ في أكناف نجدِ
والردف زاد وقد تكف ... ل منةً منه برفدي
أحبب بتلك ليالياً ... قد أشرقت ببدور سعدي
فسقا معاهد للصبا ... صوب العهاد بكلِّ عهدِ
وسرت بها روح الصَّبا ... سحراً فأوحيت ميت بعدي
وقوله من قصيدة مستهلها:
إن خلعنا على العذار العذارا ... لم يكن ذاك في المحبة عارا
منها:
بأبي من جآذر التُّرك ظبياً ... ترك الأُسدَ في هواه أُسارى
بابليُّ اللِّحاظ منها ترى النَّا ... س سكارى وما هم بسكارى
قمرٌ فوق بانةٍ يتجلى ... لا خسوفاً يخشى ولا إهصارا
تخذ الطَّرف منهلاً عند مس ... راه ولكن تبوأ القلب دارا
قد علمنا أن القدود غصونٌ ... فلماذا أقلت الأقمارا
وعهدنا البدور في الليل تسري ... كيف حتَّى غدت تسير نهارا
وعجبنا لوجنةٍ تشبه النا ... ر ضراماً وتنبت الجلَّنارا
يا لها وجنةٌ حكت جنة الحس ... ن ومنها الفؤاد آنس نارا
ومنها:
قدِّم الرَّاح يا نديمي لعلِّي ... أعقر الهم إن شربت العقارا
وأجِل كاساتها عليَّ وزمزم ... باسم من صير العقول حيارى
قهوةٌ مثل دمعة العين في الكا ... س صفاءً فالليل زاد اعتكارا
وأدرها إذا النجوم تجلت ... وشهدنا من زهرها الأنوارا
وكأنَّ السماء روضة حسنٍ ... أطلعت في مقامنا أزهارا
والثُّريا كأنها في الدُّجى غي ... دٌ تلَّفعن بالشُّعور عذارا
وكأن الهلال يحكي وقد لا ... ح من الغرب زورقاً أو سوارا
فاسقني من يديك حتَّى ترى الفج ... ر عن الصُّبح قد أماط الإزارا
وصل الليل بالنهار فإن ال ... عيش أهناه ما يكون جهارا
في رياضٍ حكى بها الزَّهر والور ... د النَّضيران فضَّةً ونُضارا
وكأن الأقاح فيها ثغورٌ ... عن غوالي الجُمان تبدي افترارا
وحكى النَّهر مَعصماً وسواراً ... يتلوَّى وأرقماً سيَّارا
فاترع الكأس لا عدمتك صرفاً ... فعلى الصِّرف نصرف الأعمارا
ثم زد ما استطعت حتى تراني ... قد خلعت الوقار والبيقارا
واعتقد أنها حرامٌ ووزرٌ ... لا توافق يهودها والنَّصارى
واسأل العفو فالكريم رحيمٌ ... قابل التوب يغفر الأوزارا
وله في الغزل:
سيِّدي مذ غبت عن نظري ... لم أفق من خمرة الكدر(1/6)
أحسب الصُّبح العشا أبداً ... فنهاري أوَّل السَّحر
لم تمل روحي إلى وطنٍ ... لا ولا قلبي إلى وَطَرِ
سل نجوم الأفق عن قلقي ... فعسى تنبيك بالخبر
لا وعينٍ فيك راقدةٍ ... لم تذق عيني سوى السَّهرِ
أيُّها البدر الذي حجبوا ... نوره الوضَّاحَ عن بصري
لو ترى حالي بكيت على ... قلبي المسجون في سقَرِ
كدت أخفى من ضنَى جسدي ... عن عيون الجنِّ والبشر
للشعراء في وصف نحول العشاق مبالغات غالبها محمولٌ على الإغراق، ومن أبلغها قول أبي بكر الخالدي:
مهدَّدٌ خانه التفريق في أمله ... أضناه سيِّده ظلماً بمرتحله
فرقَّ حتى لو أنَّ الدَّهر قاد له ... حيناً لما أبصرته مقلتا أجله
وأعجب منه قول أبي الطيب:
ولو قلمٌ ألقيت في شقِّ رأسه ... من السُّقم ما غيَّرت من خطِّ كاتب
وغريب قول التمار الواسطي:
قد كان لي فيما مضى خاتمٌّ ... واليوم لو شئت تمنطقت به
وذبت حتى صرت لو زجَّ بي ... في مقلة النَّائم لم ينتبه
وقول المظفر بن كيغلغ:
عبدك أمرضته فعده ... أتلفته إن لم تكن ترده
ذاب فلو فتَّشت عليه ... كفَّك في الفرش لم تجده
وقول أبي الفضل بن العميد:
لو أنَّ ما أبقيت من جسدي قذًّى ... في العين لم يمنع من الإغفاء
وللعمري:
يا من يفوِّق لحظه ... سهماً بسحر الهدب راشَهْ
أفديك ما ريمُ الصَّري ... مِ فذاك ينسب للوحاشَهْ
يرعى من الأرض الحشي ... ش وأنت مرعاك الحشاشَهْ
أجاد في التنظير، وأربى على قول الآخر:
يرعى القلوب وترتعي ال ... غزلان بروقه وشيحه
والبروقة: شجيرة تخضر إذا رأت السحاب؛ وذلك قولهم: " أشكر من بروقة ".
وعلى هذا المعنى حمل قول أبي الطيب:
أغِذاءُ ذا الرَّشاءِ الأغنِّ الشِّيحُ
بعد قوله:
جللاً كما بي فَليكُ التَّبريحُ
يقول: ليكن تبريح الهوى عظيماً مثل ما حل بي، أتظنون أن من فعل بي يغتذي الشِّيحَ؛ ما غذاؤه إلا قلوب العشاق! وبه يتناسب شطرا البيت.
وله غلام بحنكه طابعٌ تمَّت به محاسنه، وكأنما هاروت ساكنه:
غصن بانٍ بدر دجًى ... يتجلَّى من أعالي فلكه
قد حمى برد اللَّمى من ثغره ... طابع الحسن الذي في حنكه
نصبت ألحاظه لي شركاً ... جلَّ من أوقعني في شركه
قوله: قد حمى إلخ يحتمل أن حمايته من جهة أنه كالخاتم، ختم به على برد اللَّمى، ويحتمل أن يكون حماه لكونه كالحفرة في طريق من يريد رشف لماه، فيخاف من الوقوع؛ وهذا تخيُّلٌ حسن.
وأحسن منه قولي:
وطابعه جبٌّ يُرَى ألف يوسفٍ ... به واقعاً من قبل رشفة ريقه
والطابع كالخاتم: في الأصل ما يطبع به، ولم أر إطلاقه على النقرة المعهودة، وإنما اسمها في اللغة: نونَة.
قال ابن الأثير في نهايته: وفي حديث عثمان رضي الله عنه، أنه رأى صبيَّاً مليحاً، فقال: دسموا نونته؛ كي لا تصيبه العين. أي سودوها، وهي النقرة التي تكون في الذقن.
وقد استعمل صاحبنا الأديب البارع إبراهيم بن محمد السفرجلاني النُّونة، وأجاد في تشبيهها جداً، من أبيات أنشدنيها من لفظه، وبيت النُّونة منها قوله:
وإن أشبه التُّفَّاح خدِّيَ حمرةً ... فلي نونةٌ تحكي مناط عروقه
والأبيات هي هذه:
بروحي ساقٍ قد جلا تحت فرعه ... جبيناً كبدر التِّمِّ عند شروقه
سقاني بنجلاويه كأساً من الهوى ... فأسكرني أضعاف سكر رحيقه
وقال افترع بِكرَ المعاني تغزُّلاً ... فلي منظرٌ يهديك نحو طريقه
فوجهي مثل الرَّوض إذ باكر الحيا ... جَنيَّ أقاحيه وغضَّ شقيقه
وإن أشبه التفاح....إلخ.
ثم أنشدني المذكور معنًّى اخترعه في تسويدها، وذلك قوله:
خافوا من العين ترميه بنظرتها ... فقلت ميلوا إلى تسويد نونته(1/7)
قالوا نسوِّدها بالطِّيب قلت لهم ... الطِّيب من غيره أحرى بجونته
وكنت أظن أن وصف الطابع ليس بالموجود في شعر المتقدمين، حتى رأيته في شعر فخر الدولة أبي المعالي، من شعراء الخريدة، حيث قال في غلام اسمه يوسف:
أيا قمراً جار في حسنه ... على عاشقيه ولم ينصفِ
سمعنا بيوسف في جبِّه ... ولم نسمع الجبَّ في يوسفِ
ثم رأيت الخفاجي ذكر في كتابه شفاء الغليل: جبُّ يوسف مولَّد، معناه نقرة الذقن. وأنشد البيتين.
ثم قال: ويقال له خاتم الحسن.
وأما النقرة التي تكون في الخدين عند التبسم، فقد استعملها كشاجم في أبياته المشهورة، وهي:
هذا الذي سجد القضيب لقدِّه ... صنمٌ لعابد فتنةٍ لاهوت
في ناظريه إذا تبسَّم ضاحكاً ... سحرٌ وجوهر خدِّه ياقوت
حفر التبسُّم فيهما جُبَّين في ... ذيَّاك هاروتٌّ وذا ماروت
وأما اسمها فقد رأيت المقري ذكر في تاريخه ناقلاً عن ابن عليم، أنه قال في شرحه لأدب الكتاب لابن قتيبة: أغربت جاريةٌ لمجاهد العامري، أهداها إلى عباد - قلت: وهي العبادية، وكانت كاتبةً شاعرة - على علماء إشبيلية، بالنُّقرة التي تظهر في أذقان بعض الأحداث، وتعتري بعضهم في الخدين عند الضحك، فأما التي في الذقن فهي النونة، وأما التي في الخدين عند الضحك فهي الفحصة، فما كان في ذلك الوقت في إشبيلية من عرف منهما واحدة.
وللعمري في دخان التبغ:
مذ أحرقت نار الصَّبابة مهجتي ... وأتى العذول يسلُّ عضب لسانه
بادرت بالغليون تمويهاً له ... وسترت عنه دخانها بدخانه
ومثله للحرفوشي:
لعمرك لم أهو الدُّخان ولم أمل ... إليه لألقى نشأةً وتطرُّبا
ولكنني أخفي به عن مجالسي ... دخان فؤادٍ بالغرام تلهَّبا
وقريبٌ منه قول الفتح بن النحاس:
وأرى التَّولُّع بالدُّخان وشربه ... عوناً لكامن لوعة الأحشاء
فأديم ذلك خوف إظهار العدى ... فأشيبه بتنفُّس الصعداء
وله في تشبيه الثلج:
انظر إلى الروض الأريض وحسنه ... وموائس الأغصان مثل الخرَّدِ
والثلج فوق الصُّفر من أوراقه ... شبَّهته تشبيه غير مفنَّدِ
ببرادةٍ من فضَّةٍ مبثوثةٍ ... فوق الصَّحائف من نضار العسجدِ
ولي في هذا المعنى من مقصورة:
والثَّلج كالقطن أجاد ندفه ... قوس السَّحاب فوق حلَّة الرُّبى
كأنَّه برادة الأفلاك من ... كثرة دورها بقبَّة السَّما
وله في وصف جواد:
ربَّ طرفٍ من العتاق كريمٍ ... يسبق البرق حالة الإيماض
لو جرى والجنوب في الجوِّ تسري ... علَّم الرِّيح كيف قطع الأراضي
أو سرى مع دعاء آصَفَ بالعر ... ش لكان البشير بالأغراض
وله مثله:
طرفٌّ يفوت الطَّرف في لمحاته ... سبقاً ويهزأ بالظَّليم النَّافر
بالبرق يظفر إن أراد لحاقه ... والبرق ليس إذا أراد بظافر
وكأنه آلى ولم يك حانثاً ... أن لا يمسَّ الأرض منه بحافر
وهذا من قول خلف الأحمر في صفة جواد:
وكأنما جهدت قوائمه ... أن لا تمسَّ الأرض أربعة
وزاد عليه شمس الدولة بن عبدان في قوله:
أبت الحوافر أن يمسَّ بها الثَّرى ... فكأنَّه في جريه ومتعلِّق
وهذا الباب مما بالغت فيه الشعراء كل المبالغة، فمن ذلك قول ابن نباتة السعدي:
لا تعلق الألحاظ من أعطافه ... إلا إذا كفكفت من غلوائه
وقول ابن حمديس الصقلي:
يجري فلمع البرق في آثاره ... من كثرة الكبوات غير مفيق
ويكاد يخرج سرعةً من ظلِّه ... لو كان يرغب في فراق رفيق
وقد جمع ابن حجاج في مرثية فرس له فأوعى، ودعا فرسان البلاغة فأجابته طوعاً، حيث قال:
قال له البرق وقالت له الرِّ ... يح جميعاً وهما ما هما
أأنت تجري معنا قال لا ... إن شئت أضحكتكما منكما(1/8)
هذا ارتداد الطَّرف قد فتُّه ... إلى المدى سبقاً فمن أنتما
وقلت على أسلوبهم في المقصورة:
وفدفدٍ طويته بضامرٍ ... يسابق البرق ويسبق القضا
يقبض رامي سهمه عنانه ... خشية أن يصيبه من القفا
وأجرى جواد كان للعرب أعوج، الذي يضرب به المثل، وهو فحل كريم، كان لبني هلال بن عامر، وأنه قيل لصاحبه: ما رأيت من شدة عدوه؟ فقال: ضللت في باديةٍ وأنا راكبه، فرأيت سرباً من القطا يقصد الماء، فتبعته وأنا أغض من لجامه، حتى توافينا الماء دفعة واحدة.
وهذا أغرب شيءٍ يكون؛ فإن القطا شديدة الطيران، وإذا قصد الماء اشتد طيرانه أكثر من غير الماء. وأغرب من ذلك قوله: كنت أغض من لجامه، ولولا ذلك كان يسبق القطا، وهذه مبالغة عظيمة.
وإنما قيل له أعوج؛ لأنه كان صغيراً، وقد جاءتهم غارة فهربوا منها، وطرحوه في خرج، وحملوه لعدم قدرته على متابعتهم لصغره، فاعوج ظهره من ذلك، فقيل له: أعوج.
وللعمري، ويخرج منه اسم نعمان:
لله ما عاينت من روضةٍ ... غنَّاء قد قرَّت بها عيني
حوتان لم يختلفا صورةً ... حفَّا بماءٍ سال من عيني
وله في اسم كريم:
أهواه حلو الدلال ألمى ... قد لذَّ في عشقه العناء
ريقته للرحيق تعزى ... وكم بها للظما دواء
وله في اسم ولي الدين:
ليالٍ بُعَيْد التنائي دنت ... ولانت ولي عزَّ إصلاحها
وعين العدى سكِّرت بالعمى ... وعزَّ ضياها ومفتاحها
ونقل له عن باقي، شاعر الروم، ومميزها بين السادة القروم. أنه نظم أبياتاً تغزل فيها بصبي صبيح، كما هو تهوى الأنفس مليٌّ مليح. فلما وعاها الغلام استبدعها، واستحفظها خزانة لبه واستودعها. وبلغ باقي، أنه قال: قبلتها، ولو ظفرت برجل قائلها قبلتها.
فقال باقي: إن كان نوى جميلاً لأجلي، فليقبل فمي لأنني به نظمتها، لا برجلي.
فنظم العمري هذه المقالة في قوله:
قال لمَّا وصفته ببديع ال ... حسن ظبيٌ يجلُّ عن وصف مثلي
مكِّن العبد أن يقبِّل رِجلاً ... لك كَيْما يجيز فضلاً بفضل
قلت أنصف فدتك روحي فإني ... بفمي قد نظمته لا برِجلي
ومن هذا قول بعضهم:
شافه كفِّي رَشَأٌ ... بقبلةٍ ما شفت
فقلت إذ قبَّلها ... يا ليت كفِّي شفتي
وللشاب مظريف:
ومقبِّلٍ كفِّي وددت بأنه ... أومى إلى شفتيَّ بالتَّقبيل
ولأبي منصور عبد العزيز بن طلحة بن لؤلؤ:
سألته قبلةً فبادر بالتَّق ... بيل مستبشراً إلى قدمي
فقلت مولاي لو أردت بها ... سرور قلبي جعلتها بفمي
فقال كلا للعبد منزلةٌ ... لزومها من حراسة النِّعم
إبراهيم بن محمد الأكرمي الصالحي شاعر الزمان، وشمامة الندمان. ومن إليه يصبو القلب ويحن، وبتذكره ينثني غصن البراعة ويرجحن. ففي أوصافه مشمٌّ للروح عبق، ولطف يروق به كأسه المصطبح والمغتبق. فروض وده غضٌّ، وعرضه الطاهر لا ينال منه ولا يغض.
ومدامة طبعه لم يهنها عصار، وشفوف فكره لم يحتمل منة قصار. مع ماله من أخلاقٍ أقطعها الروض أنفاسه، وشيمٍ ينافس فيها رغبةً ونفاسة.
وأدبٍ دار به رحيق البيان المعتق، وملأ الأكمام بزهر كمامه المفتق. ينشر منه ما هو أزكى من النشر في خلال النواسم، بل أحلى من الريق يترقرق من خلال المباسم.
ومضى عليه زمن يستفيد به العيش رغدا، ويستنجز اليوم ما يوعد به غدا. بين روض من خلقه خلق، ونسيم عرفه بشمائله علق.
جلاليب نشوته صفاق، وأردية شموله وصباه رقاق. لا ينتعش إلا بغرة رقراق الشباب الغرير، ولا يولع إلا بطرة الظل فوق وجه الغدير.
فهنالك بين الغصن والصبا، والقطر وزهر الربى. ولَّد آدابه التي هي عبارة عنها، وأطلع أشعاره التي يستعار الحسن منها.
وقد جمع شعره في ديوان سماه مقام إبراهيم، في الشعر النظيم. أكثره روضيات يغض عنها وشي الخميلة، وغزليات يتستر عندها نقش الغانية الجميلة. وخمريات صيغت مداماً فهي للمسامع مشروبة، وحكميات أبياتها أمثالٌ في الدنيا مضروبة.(1/9)
وها أنا أورد منها ما يفوح نفسه، حتى كأن الحبيب يتنفسه. ويعبق روحه، حتى كأن فوح الزهر فوحه.
قال في ديباجته: هذه نبذة من شعرٍ سمح به الخاطر على جموده، وتوقد به الفكر على خموده. وإن كنت في زمنٍ العاقل فيه خليقٌ بالصَّمت وإن أداه إلى المقت.
ذهب جلُّ الناس، وأين الزِّعنفة من الرأس.
لا يجاز فيه شاعرٌ، ولا يكرم أديبٌ ماهر.
غير أن حبَّ الأدب في الطِّباع، وهو داعٍ إلى الاتِّباع.
اتِّباعهم في التراكيب والبِنا، لا في الإجادة لعدم الغنا.
ذهبت الإفادةُ، فكيف بالإجادة.
ولعمري من لا يجيد في عصرنا معذور، وذنبه فيما أتاه مغفور.
إذ أُرتِج باب البواعث والَّدواعي، بانقراض أهل الكرم والمساعي.
جوائز الأُمرا، إجادة الشُّعرا.
ولذلك قلت بغير امْتِرا:
قالوا أجاد البحتريُّ ... كما أجاد أبو نواس
فأجبت كانوا في أنا ... سٍ هم ولسنا في أُناسِ
وإذا نظرت فما أجا ... د سوى المواهب في القياس
ومما جردته من ديوانه قوله من مقصورة مطلعها:
حيِّي الحيا معهدنا باللِّوى ... حيث هوى النَّفس وغيُّ الصِّبا
وجاده كلُّ هَطولٍ سرت ... تحدو به في الأفق ريح الصِّبا
ليلته حتى بدا صبحها ... فأقلعت ديمته فانجلى
وقد أشاع الخصب في أرضه ... فأصبحت تزهو بزهر الرُّبى
ومدَّ فيها حبراً وُشِّيت ... بالنَّبتِ قد كلِّل منها النَّدى
وغادر الغدران في ربعها ... تغصُّ بالعذب النَّمير الرَّوا
ولا جفا نجداً ولا حاجراً ... كلُّ هزيم الودق هامى الحيا
منازلاً واهاً لأيَّامها ... كانت مظنَّات الصِّبا والهوى
حيث الأماني طوع آمالنا ... والسَّعد عبدٌ طائعٌ والمنى
لله أيامٌ تقضَّت لنا ... بين ذرى الجزع وسفح اللوى
ما كان أهنأ عيشها ليته ... دام وليت العمر فيه انقضى
مرَّت كنجمٍ قد هوى ساقطاً ... لم يعتلقه الطَّرف حتى اختفى
يا هل معيدٌ لي عيشاً بها ... هيهات لا يرجع شيءٌ مضى
ليت ليالينا وأيامنا ... كانت لليلات ألالٍ فدا
ويلاه من سرعة تفريقنا ... وشَتِّ شمل الحيِّ بعد النَّوى
وآه من وقفة تشييعهم ... وقد شرقنا كلُّنا بالبكا
وسارت العيس بأحداجهم ... واستودعوا فيها بدور الدُّجى
من كلِّ هيفاء إذا ما بدت ... تختال أذرت بغصون النَّقا
خافقة القرطين رُعبوبةٍ ... رادِ الوشاحين أناةِ الخُطى
رخيمة الدَّلِّ إذا ما بدت ... تسحر باللَّحظ عقول النُّهى
ما ظبية البان على حسنها ... إذا تبَّدى جيدها والطُّلا
وظبيِ إنسٍ زارني طارقاً ... والبدر لا يبديه إلا الدُّجى
بات يعاطي الرَّاح من ثغره ... ممزوجةً بالعسل المجتنى
أشتمُّ من ريحان أصداغه ... وأجتني باللَّحظ ورد الحيا
وأجتلي غصن قوامٍ له ... أهيَف يحكي بانة المنحنى
لهفي على عيش التَّصابي ويا ... آهة قلبي لزمان الصِّبا
حيث الشَّباب الرَّوق يُغري بنا ... حفل الظِّبا الغرِّ وسرب المها
كانت عروس الدَّهر أيامنا ... طارت بها العنقاء نحو السَّما
ومن ربيعياته قوله:
انظر إلى فصل الربي ... ع كأنَّه فصل الشَّباب
والزَّهر مثل خلائق ال ... أصحاب من زهر الصِّحاب
وغصون بانات اللِّوى ... كمعاطف الهيف الرِّطاب
والورد أشبه بالخدو ... د من الشِّفاه على الشَّراب
أوَ ما ترى حدق الحدا ... ئق كيف تغمز للتَّصابي
وأصابع المنثور مس ... رعةً تشير إلى الرِّقاب(1/10)
وأكفَّ أوراق الغصو ... ن تظلُّ تدعو بالمتاب
فاعكف على روضاته ... فالورد دان إلى الذَّهاب
متمتِّعاً بنعيمه ... من قبل بينٍ وانتياب
فجميع ما فوق التُّرا ... ب من التُّراب إلى التُّراب
ومن خمرياته قوله:
ونديمٍ نبَّهت ليلاً فهبَّا ... وهو سكراً يميل شرقاً وغربا
قال لبيك قلت هات اسقنيها ... فتردَّى وقال طوعاً وحبَّا
فسقاني ثلاثةً وتحسَّى ... بعض كأسٍ فردَّها وأكبَّا
قلت أفديك من نديمٍ مطيعٍ ... لو رأى طاقةً بها ما تأبَّى
ثم بن وسَّدته وعدت إلى الشُّر ... ب وحيداً فما استلذَّيت شربا
إن طيب المدام بين النَّدامى ... وسرور النُّدمان فيمن أحبَّا
لو رأوا لذَّةً بدون شريبٍ ... لم يُسَمُّوا فيها ندامى وشِربا
وله أيضاً:
بحياتي يا بدر أو بحياتك ... لا تقل لا يا قبح لا من لغاتك
قم بنا نغنم الوصال وروحي ... في سبيل الهوى وفي مرضاتك
قم فلا غير كون شكٍّ يقيناً ... من صفاتي بين الورى وصفاتك
يا فَدَتك النُّفوس فيما التَّواني ... ما ترى البسط عزَّ في أوقاتك
هاتها بكرة النَّهار فطيب الرَّ ... اح قبل الضُّحى وقبل صلاتك
ثم هجِّد بنا نقيل قليلاً ... عند غمز الصَّهباء عود قناتك
ثم عد للشَّراب تفديك نفسي ... واسقنيها واشرب معي بحياتك
إن كلَّ الحياة كأسٌ مدارٌ ... ونديمٌ وشادنٌ من سقاتك
فاغتنم فرصة الزَّمان فقد قي ... ل أخو اللَّذَّة الجسور الفاتك
لا تؤخِّر يوماً غداة سرورٍ ... لعشيٍّ وفته قبل فواتك
إنَّما هذه الحياة كحلمٍ ... طارقٍ تستلذُّه في سباتك
وله من قصيدة مطلعها:
يا ليت شعري والمنى بعد ... ما حال سكَّانك يا نجد
وكيف دعدٌ بعد أيَّامنا ... تبقى لنا دون النِّسا دعد
هل أخفرت من عهدنا في الهوى ... بعد النَّوى أم عهدها العهد
لا غرو أن قد غيَّرتها النَّوى ... فربَّما غيَّرك البعد
لله يا نجد الظِّباء التي ... قيَّدها فيك لنا الودُّ
حيث الهوى الرَّيق لنا خادمٌ ... لم يأل جهداً والمنى عبد
وربعك الرَّحب لنا جنَّةٌ ... لو أنها دام بها الخلد
والنَّبت جمٌّ ترتعيه حمًى ... والماء لا مستكدرٌ رغد
في غمرة القصف لريق الصِّبا ... نروح في العيش كما نغدوا
حيِّي الحيا ذاك الزمان الذي ... مرَّ به من عيشنا الرَّغد
أيَّام أسعى ومها حاجرٍ ... يلفُّني من وصلها برد
لا راقبٌ عيناً ولا مفكرٌ ... في الوصل أن يعقبه الصَّدُّ
في فتيةٍ مثل نجوم الدُّجى ... كأنهم قد نظموا عقدُ
من كل ظبيٍ قضفٌ قدُّه ... لا البان يحكيه ولا الرَّندُ
جذلان راوي الرِّدف ظامي الحشا ... يضيع ما بينهما النَّدُّ
يزهي على ريم الفلا جيده ... ويزدهي بدر السَّما الخدُّ
واهاً له من زمنٍ سالفٍ ... وألف آهٍ لك يا نجد
ومنزلٍ أخلق من نسجه ... كرُّ السَّوافي فيه والشَّدُّ
عهدي به برداً قشيب السَّدى ... فارتدَّ وهو الرَّيطة الجرد
محت يد الأنواء آياته ... إلا بقايا أسطرٍ تبدو
أعجم من معربه شكله ... إن حال عقلاً قبله بعد
حتَّى اضلاَّ فيه علمي به ... إذ بدِّلت من هضبه الوهد(1/11)
وقفت عِيسي فيه مستعبراً ... أقول آهاً تَعِسَ البعد
إلى هنا بعد ليالٍ خلت ... معدودةٍ قد بلغ الحدُّ
هب أن سكانك قد أجفلت ... عنك فأين الغور والنجد
لم يبق إلا طللٌ شاخصٌ ... كالوشم محَّى جُلَّه الرَّند
وله:
هاتها تفديك روحي قهوةً ... أدركت عاداً وأيَّام لُبد
واسقني واشرب ولا تذكر لنا ... خبر النَّاس ولا سعر البلد
إن للعالم ربًّا إن يشأ ... صلح العالم أو شاء فسد
وله:
اسقنيها قبل ارتفاع النَّهار ... إنَّ طيب المدام في الإبكارِ
هي بكرٌ فاشرب ويومك بكرٌ ... لم تشبه الأنام بالأكدارِ
الصَّبوح الصبوحَ في جدِّه الي ... وم فإنَّ الصَّبوح روح العقارِ
يا فَدَتك النفوس وهي قليلٌ ... من نديم سهل الطِّباع مدارِ
هاتها ضحوة النَّهار شمولاً ... مثل شمس النَّهار وسط النَّهارِ
قهوةً مثل مقلة الدِّيك صهبا ... ءَ كنار الكليم ليست بنارِ
ذات عصرٍ أدناه عهد أنو ... شروان ليست بمزَّةٍ مُصطارِ
لطَّفتها كرُّ السنين فلم تب ... قِ سوى لمحةٍ من الأنوارِ
فتراءت كالشَّمس غبَّ سماءٍ ... تجتلى بين حمرةٍ واصفرارِ
لست تخشى من لطفها بعد سكرٍ ... من صداعٍ بادٍ ولا من خمارِ
في رياضٍ تزهي بباكورِ وردٍ ... وأقاح وسوسنٍ وبهارِ
ذات أرضٍ موشيةٍ بربيعٍ ... ذهَّبت وشيها يد الأزهارِ
يستفيق المخمور إن مرَّ فيها ... من هواءٍ صافٍ وماءٍ جارِ
هذا مأخوذ من قول الوأواء الدمشقي:
سقى الله ليلاً إذ زار طيفه ... فأفنيته حتى الصَّباح عناقا
بطيب نسيمٍ فيه يستجلب الكرى ... فلو رقد المخمور فيه أفاقا
وفي الثاني ما يوهم التناقض: والوأواء أخذه من قول الفتح بن خاقان، في وصف جاريةٍ له، وهو ما نقل ابن حمدون، قال: كان الفتح بن خاقان يأنس بي، فقال لي مرة: شعرت يا أبا عبد الله أني انصرفت البارحة من مجلس أمير المؤمنين، فلما دخلت منزلي استقبلتني فلانة، فلم أتمالك أن قبلتها، فوجدت فيما بين شفتيها هواءً لو رقد المخمور فيه لصحا.
ومنه في الغزل قول شرف الدين القابوسي:
قابلني ليلة قبَّلته ... ظبيٌّ من الشمس غدا أملحا
طيب نسيم بين أسنانه ... لو رقد المخمور فيه صحا
تتمة الأبيات:
قم بنا يا نديم يفديك مالي ... من تلادٍ وطارفٍ وعقارِ
نقطع الدهر كلَّ يومٍ بزقٍّ ... وغزالٍ ساقٍ وكأسٍ مدارِ
آن طيب الزَّمان واعتدل الجوُّ ... وصار الضُّحاء كالأسحارِ
وأتاك الرَّبيع يضحك عجباً ... وهو من نسج نوره في إزارِ
يا نديمي أفديك فيما التَّواني ... ما ترى البسط ابن اللَّيالي القصارِ
فاسقنيها واشرب على زهرة الرَّو ... ضِ وسجع القمري وشدو الهزارِ
وتغنَّم صفو الزَّمان وروق ال ... عمر من قبل ضيعة الأعمارِ
لا تبالي إذا سكرت بوزرٍ ... إن مولاك غافر الأوزارِ
وله من قصيدة مطلعها:
نقض الجرح وكان اندملا ... وامتلا القلب وقد كان خلا
عاده داء الهوى من بعد ما ... راح وقد أفرق عنه وسلا
ماله تزعجه زفرته ... كلَّما استاف صباً أو شمألا
وإذا شام بروقاً لمعت ... غلب الدَّمع الحيا فانهملا
ومتى أبصر بدراً طالعاً ... ظنَّه عنه الذي قد أفلا
عاش في أرغد عيش برهةً ... مستريحاً راق حالاً وحلا
ليس يدري الهمَّ حتى أن رأى ... ليته لم ير تلك المقلا(1/12)
فعلت فيه بطرفٍ لو رمى ... حجراً صلداً به لانفعلا
كيف لا يجرح قلبي طرفه ... وإذا السَّيف تحرَّى قتلا
والذي يصبو لأحداق المها ... لم يمت إلا بها منجدلا
لائم الصَّبِّ على الحب الذي ... سيف لحظيه يبيح الأجلا
خلِّ عنك اللوم بالله فقد ... سبق السَّيف إليه العذلا
ويح قلبي من هوى ذي صلفٍ ... ظالم في حكمه لو عدلا
ما له حمَّله ما لم يطق ... أتراه ظنَّ قلبي جبلا
قال يستطرد بي ما حاله ... صار للعشَّاق فينا مثلا
أيُّها المعرض لا عن زلَّةٍ ... أدلالاً كان ذا أم مللا
بأبي الرِّيم الذي من طرفه ... سرق الظَّبي الكحيل الكحلا
غصن البان الذي في قدِّه ... سلب الليِّن القنا والأسلا
يا خليليَّ بلا أمرٍ سلا ... عن فؤادي بعده ما فعلا
أمقيمٌ بعده يصحبه ... أم دعاه للردى فامتثلا
وله من أخرى مطلعها:
درَّ لها خلف الغمام هاطلاً ... فجادها من رامةٍ منازلا
منازلاً كان المنى منادماً ... فيها وصرف الدَّهر عنها غافلا
نسبح في غمرته ولم نكن ... نزايل الرَّوضات والخمائلا
لا نستفيق من خمار لذَّةٍ ... نتبع أبكار الهوى الأصائلا
جنان أنسٍ فارقتها عنوةً ... نفوسنا واجدةً ثواكلا
واهاً لها وآهةً لو بقيت ... أو دام ربع اللَّهو منها آهلا
ومنها:
كان الشباب الرَّوق فيها وبها ... قضَّيت أيَّام الصِّبا الأوائلا
حيث الحمى مسرح أسراب المها ... وحيث كنت مرحاً مغازلا
كلَّ غزالٍ آنسٍ لحاظه ... للعاشقين لم تزل قواتلا
تصمي إذا ما قصدت بأسهمٍ ... نصالها لا تخطئ المقاتلا
قضيب بانٍ قضفٌ على نقاً ... فوقها ترقب بدراً كاملا
ما بانة الجزع على نظرتها ... إذا ثنى منه قواماً عادلا
ومن غزلياته قوله:
مهلاً فقد أسرعت في مقتلي ... إن كان لا بد فلا تعجلِ
أنجزت إتلافي بلا علَّةٍ ... الله في حمل دمي المثقلِ
لم تبق لي فيك سوى مهجةٍ ... بالله في استدراكها أجملِ
إن كنت لا بدَّ جوًى قاتلي ... فاستخر الله ولا تفعلِ
رفقاً بما أبقيت من مدنفٍ ... ليس له دونك من معقلِ
يكاد من رقَّته جسمه ... يسيل من مدمعه المسبلِ
ما لك في إتلافه طائلٌ ... فارعَ له عهداً ولا تهملِ
كم من قتيلٍ في سبيل الهوى ... مثلي بلا ذنبٍ جنى فابتلي
أول مقتول جوًى لم أكن ... قاتله جارَ ولم يعدلِ
يا مانعي الصَّبر وطيب الكرى ... عن حالتي بعدك لا تسألِ
قد صرت من عشقك حيران لا ... أعلم ماذا بي ولم أجهلِ
أغصُّ من دمعي حفاظاً لما ... فارقته من ريقك السلسلِ
ومنها:
أفديك بالنَّفس وما دونها ... ما قيمة الأرواح أن تقبلِ
يا غصناً مال إلى طبعه ... من دلَّ جفنيك على مقتلي
ورامياً أعجب من أنَّه ... أصاب في الرَّمي ولم يمهلِ
رمى فأصمى مهجتي سهمه ... فكان مثل القدر المرسلِ
يا ويح قلبي من هوى ظالمٍ ... يأخذ بالذَّنب ولم يعملِ
أستغفر الله إليه وإن ... لم أقل القول ولم أفعلِ
يا أعدل الناس على ظلمه ... ويا أحقَّ النَّاس من مُبطلِ
وجدت تعذيبك مستعذباً ... فاهجر إذا شئت وإلا صلِ
وله:
ويومٍ فاخِتيِّ الجوِّ رطبٍ ... يكاد من الغضارة أن يسيلا(1/13)
نعمت به وندماني أديبٌ ... وقورٌ في تعاطيه الشمولا
قطعنا صبحه والظُّهر شرباً ... وجاوزنا العشيَّة والأصيلا
لدى روضٍ عميم النَّبت يزهي ... بأزهارٍ نمت عرضاً وطولا
يدور به سوار النَّهر طوراً ... كما يتعانق الخلُّ الخليلا
وساقينا رخيم الدَّلِّ يسبي ... إذا ما ردَّد الطرف الكحيلا
وله من قصيدة، أولها:
تألَّق يقدم ركب النعامى ... شروداً أبى سرعةً أن يشاما
خفيَّاً كنبض ذراع المريض ... ولمح ثغور الحسان ابتساما
كأنَّ السَّما ريطةٌ رحِّلت ... وذهِّب من طرفيها الغماما
بدا والدُّجى فحمةٌ كاللَّهيب ... له شررٌ بالدراري ترامى
فهيَّج للقلب أشواقه ... ونبه لوعته ثم ناما
سرى موهناً فاستطار الفؤاد ... إلى ما تذكَّر منه وهاما
تذكَّر أيامه بالغميم ... فحنَّ وما كنَّ إلا مناما
أثار له من جواه القديم ... وقلَّده الوجد طوقاً لزاما
تحرَّشه فسباه جوًى ... وجرَّده فقضاه غراما
ومذ خاله الطرف سقط الزِّناد ... أمال إلى القلب منه الضراما
لقد كان في راحةٍ قبله ... فجرَّ إلى عاتقيه حساما
وقد كان من قبله داؤه ... دفيناً فهيَّج منه السقاما
أيا برق كم ذا تعنِّي الحشا ... أعمداً تروم أذاه على ما
إلى مَ تمثل نجداً له ... فيهفو وهيهات نجدٌ إلى ما
تقول وأسباب هذا الغرام ... ضروبٌ تحيِّر فيه الأناما
أمن كبدي سيفه مصلتٌ ... فيبدي الوجيب إلى أن يشاما
لعمرك ما ذاك لكنَّما ... تذكَّر نجداً وأيام راما
منازل كان المنى خادماً ... بها والزمان لدينا غلاما
فآهاً لأيامها لو تدوم ... وآهاً لحلميَ لو كان داما
نشدتك والودُّ يا صاحبي ... يراه الفتى الحرُّ ديناً لزاما
أعرني إن كان طرفٌ يعار ... فإنسان عيني بدمعي عاما
يرى لي فؤادي وراء الرِّكاب ... أسارَ وإلا لعجزٍ أقاما
فمن يوم بتنا على غرَّبٍ ... نشيعهم وأشالوا الخياما
أضلَّيته بين بان الكثيب ... وما ثمَّ إلا ظباه قياما
خف الله يا ظبيات النَّقا ... أما في دمي تحملين الأثاما
رعى الله منكنَّ ظبياً أغر ... أحلَّ بجسمي داءً عقاما
أغار عليه اعتناق الصَّبا ... وأحسد رشف لماه البشاما
إذا ما بدى في الدُّجى خده ... أحال الدُّجى من ضياه عياما
يبيت على غرَّةٍ لاهياً ... إذا بتُّ أجرع فيه الحماما
وليلة زار على شحطه ... تحاشى الضِّيا فتوارى الظَّلاما
سرى والدُّجى عاكفٌ راجلاً ... حذار المطيَّة تبدي البغاما
فوافى على عجلٍ مضجعي ... ومن دونه بطن فلجٍ وراما
فبتُّ أعانق منه القضيب ... وأرقب منه الهلال التماما
وأشتمُّ من خدِّه وردةً ... وأرشف من شفتيه المداما
وودَّع لو كان ذاك الوداع ... وسار فودَّع جفني المناما
ومن مشهور شعره خمريته هذه:
هاتها هات نصطبح يا نديم ... قد تناهت خطوبنا والهموم
ليس ينفي الهموم مثل شمولٍ ... كم حساها فأبرأته سقيم
هي شمسٌ والهمُّ ليلٌ وليس الل ... يل والشَّمس في الوجود يدوم
علَّنا نقطع الزمان سكارى ... لا نبالي بما جرى يا نديم
فلنا أسوةٌ بهذي البرايا ... كيف نخشى البلاء وهو عميم
إنما الأمر للإله تعالى ... وهو برٌّ بالعالمين رحيم(1/14)
خلِّ عنَّا ذكر ابن سيفا ومعنٍ ... إنما يطلب الغريمَ الغريمُ
ما لنا والحروب نحن أناسٌ ... ما لنا طاقةٌ بشيءٍ يضيم
همُّنا شربنا الطِّلا وهوانا ... من قديمٍ هذا الشَّراب القديمُ
اترك النَّاس في يصير ويجري ... ويجيبوا ويقعدوا ويقيموا
واسقنيها واشرب ثلاثاً ثلاثاً ... هكذا حكمها وأنت حكيمُ
لا تصل بالصَّبوح غير غبوقٍ ... وتجنَّب في شربها من يلوم
إنَّ كلَّ الحياة كأسٌ مدارٌ ... ونديمٌ حلوٌ وساقٍ كريمُ
وابن سيفا هو الأمير يوسف ذلك الذي بلغ السُّها بجده، وكان أخا السيف في لألائه ومضاء حده.
من أسرة طلعوا كأنابيب القنا نسقاً، وفاحوا كأزاهير الرياض عبقاً.
فإن غابوا عن العيان تراءوا مشاعل في السرى، وإن ظهروا رأت النواظر بهم الثريا في الثرى. ما منهم إلا جواد شهدت بسبقه ميادينه، وأديبٌ حب الأدب شرعته ودينه.
وكانوا ولاة طرابلس الشام وحكامها، وبقائم سيفهم تولوا صيانتها وإحكامها.
حتى وقع بين كبيرهم هذا وبين الأمير فخر الدين بن معن، ذاك الغادر الذي قتل الراعي وساق الظعن.
فجرت بينهما حروبٌ لم يحصل أحدٌ منهما على وطر، وبقي الأمر بينهما مدة في تناكر مفضٍ إلى خطر.
ثم خرج في أثناء ذلك ابن جانبولاذ الذي جاهد في الخلاف وجاهر، وكاشف بالانحراف على السلطنة وكاشر.
فانضم إليه ابن معن وحزبه، الذين تدرعوا جلود الحيات، وأقاموا آلات حربهم مقام أنمل التحيات.
وكان من أمر الله أن الأمير يوسف جهز عليهم، ووصل بجموعه التي يقدر أن يغل بها جيش المصائب إليهم.
وهممه معلقة بالأثير، محلقة على فلك التدبير. غير أن يد القدر فوق التقدير، وما يصنع المرء إذا وقع في البير. فلما تقابل الجيشان تمت على ابن سيفا الهزيمة وانحلت منه تلك العزيمة. وفر من ذلك المكان إلى دمشق، فأقام بها مختفياً أياماً، وهو من وساوس وهمه لم يطعم مناماً. فقصدوه متتبعين زلة قدمه، وطالبين بسيف الاعتداء سفك دمه. فدخل بينهم أهل دمشق وأطفأوا تلك النائرة، وأخمدوا ببرد الصلح تلك الفتنة الثائرة.
بمال حملوه إلى القوم، وسلموا به من المحذور واللوم. وانقلب ابن سيفا إلى وطنه، وهو شاكٌّ من ضيق عطنه. وتبدل تبسمه ذاك بالقطوب، ونال القلوب كمد خطبه الذي لا كالخطوب. ومن ثم حالت بدولة بيته الأحوال، ولم تطل أيامهم حتى أذنت شمسها بالزوال. فعلى ما تضمنهم من تلك الأريحية، أزكى السلام من الله تعالى والتحية. وهذه الجملة وقعت في الأثنا فكانت باعثةً على ما هو طلبتي من الثنا.
وأرجع إلى ما أنا بصدده أمدني الله بمدده.
ومن شعر الأكرمي قوله في خمريته:
كم جلونا في ليلة الفطر والأض ... حى على قاسيون بكر الدنان
وشربنا في ليلة النصف من شع ... بان صرفاً وفي دجى رمضان
ونهار الخميس عصراً وفي الجم ... عة قبل الصلاة بعد الأذان
وسقانا ظبيٌ غريرٌ وغنت ... ظبيةٌ تستبيك بالألحان
وسبحنا في غمرة اللهو والقص ... ف على طاعة الهوى والأماني
ولعمري لقد سئمنا من الغيِّ ... وعفنا من كثرة العصيان
لم ندع مدَّة الصِّبا للتصابي ... من طريقٍ مهجورةٍ أو مكان
قد أطعنا غيَّ الشَّباب بجهلٍ ... فاعفُ عنَّا يا واسع الغفران
ومن مقاطيعه قوله:
ربَّ رامٍ عن مثل حاجبه ... بمثل ألحاظه لمغرمهِ
سمَّى بغيري مفوِّقاً ودمي ... فرحت وحدي صريع أسهمه
وقوله:
قلت إذ لام في العذار عذولي ... وهو في الخدِّ للهوى عنوانُ
إنَّ ورد الرِّياض أحسن ما ... كان إذ دار حوله الريحانُ
وقوله في دولاب الماء:
ودولابٍ يئنُّ أنين صبٍّ ... كئيب نازح الأهلين مضنى
تذكَّر عهده بالرَّوض غصناً ... ومحنة قطعه فبكى وأنَّا
وما يدري أترديدٌ لمعنًى ... شجاه أم حنين جوى المعنَّى
وقوله معمياً باسم يوسف:
وشادنٍ كالقضيب عطفاً ... أطال في صبِّه عناهُ(1/15)
يكاد عضب اللحاظ منه ... بغير ريبٍ يفري حشاهُ
القاضي إسماعيل بن عبد الحق الحجازي هذا القاضي قضي له بالأدب الوافر، من منذ طلع في مهده طلوع البدر السافر. فعرف رشده قبل أوانه، وهكذا الكتاب يدرى من عنوانه.
وأبوه في الصنعة من الفحول السبق، له في الريحانة ذكر أطيب من المسك وأعبق.
وهو فاح فوحته، وجاء جيئته، وراح روحته. وحذا في الغراميات حذوه، فلم يبق من نار وجده ولا جذوة. فهو مخمر الطينة بالفضل المحض، مجبول الفطرة على الأدب الغض. مجده فوق الامتداح، وزنده يضيء قبل الاقتداح.
ولقد برز كل التبريز، وما كل قاضٍ قاضي تبريز. فجاء بأفانين من غزلياته، تهزأ برونق الصدغ في لباته.
وأطرب بألحانه، ولا إطراب الخمر بحانه. وله أغانٍ تكاد بلا مضارب تجاوبها الأوتار، ولم يبق قلبٌ أدرك مغناها إلا وثار.
وكانت أريحيات غرامه تستفزه، وصبوبات مدامه تستهزه. فلا يزال هائماً بغزال، ولا يريم من عشق ريم. وشعره الذي تعلق به قلوب الأهوا، يعرب عن حاله إعراب الدمع عن مكتوم سر الهوى. وهو سائرٌ مدون، والجوهر المثمن منه أدون.
فدونك ما هو ألطف من العتاب، بين الصحاب، وأوقع من الرواح، ممزوجاً بماء السحاب.
فمنه قوله:
لو أن بالعذَّال ما بي ... ما عنَّفوني بالتَّصابي
كلا ولو ذاقوا الهوى ... مثلي لما ملكوا خطابي
ويلاه من بعد المزا ... رِ فإنه شرُّ العقابِ
قسماً بخلوات الحبي ... ب وطيب وقفات العتابِ
وتذلُّلي يوم النَّوى ... لمنيع ذيَّاك الجنابِ
وبوقفتي أشكو هوا ... ي له بألفاظٍ عذابِ
أبكي وأسرق أدمعي ... خوف العواذل في ثيابي
ما للمحبِّ أشدُّ من ... نار التَّباعد من عذابِ
بأبي غزالٌ ليِّن ال ... أعطاف معسول الرُّضابِ
ميَّاس غصن قوامه ... يزري ببانات الرَّوابي
ريَّان من ماء الصِّبا ... سكران من خمر الشَّبابِ
جعل التَّجافي دأبه ... وجعلته وهواه دابي
قال العواذل عندما ... أبصرن بالأشواق ما بي
قد كنت من أهل الفصا ... حة لا تحول عن الصَّوابِ
فأجبتهم والقلب من ... نار الصَّبابة في التهابِ
الحبُّ قد أعيى فصي ... ح القول عن ردِّ الجوابِ
وتراه إن حضر الحبي ... ب لديه يأخذ في اضطراب
وقوله:
أجرني من صدودك بعد وعدك ... وخلِّص مهجتي من نار بعدكْ
وخصِّصني برقٍّ دون عتقٍ ... لأدعى بين أقوامي بعبدكْ
وقصِّر طول ليلات التنائي ... وما لاقيت من أيَّام صدِّكْ
ومعصية العذول ومن نهاني ... ضلالاً في الهوى عن حفظ ودِّكْ
وأنفاسٍ أصعِّدها إذا ما ... ذكرتك والدَّياجي مثل جعدكْ
لأنت لديَّ مجتمع الأماني ... وأكثر ما وددت بقاء ودِّكْ
وقد عبث الهوى بغصون قلبي ... كما عبث الدَّلال بغصن قدِّكْ
وقوله:
ولمَّا حدا الحادون بالبين والنَّوى ... وشبَّ لنار الاشتياق وقودُ
ولم يبق لي من منجدٍ غير زفرةٍ ... ودمعٍ وأشواقٍ عليَّ تزيدُ
طلبت من القلب اصطباراً فقال لي ... وللشَّوق عندي مبدئٌ ومعيدُ
لقد كنت صبًّا والدِّيار قريبةٌ ... فكيف وعهد الدَّار عنك بعيدُ
وقوله:
وربَّ عتابٍ بيننا جرَّه الهوى ... شهيٍّ بألفاظٍ أرقَّ من السِّحرِ
وأحلى من الماء الزُّلال على الظَّما ... وألطف من مرِّ النَّسيم إذا يسري
عتابٌ سرقناه على غفلة النَّوى ... وقد طرفت أيدي الهوى أعين الدَّهرِ
وقد أخذتنا نشوةٌ من حديثه ... كأنَّا تعاطينا سلافاً من الخمرِ
ورحنا بحالٍ ترتضيها نفوسنا ... وها أنا بين الصَّحو ما زلت والسُّكرِ
وقوله:(1/16)
أيا قمراً من وجهه طلعة البدر ... ويا رشأً من لحظه صنعة السِّحرِ
حكيت القنا والبيض لحظاً وقامةً ... فمن أجل ذا أرتاح للبيض والسُّمرِ
وحقَّك لولا البدر يحكيك طلعةً ... لما طمحت عيني إلى رؤية البدرِ
ولو لم يكن للخمر في فيك نسبةٌ ... لما كنت أصبو عند ذكراه للخمرِ
ولولاك في قصر المصلَّى وحاجرٍ ... لما شاقني ذكر المصلَّى ولا القصرِ
فيا نازحاً عن مقلتي وهو حاضرٌ ... بقلبي لقد أفرطت في الصَّدِّ والهجرِ
ويا فاتكاً عيناه قد طلًتا دمي ... وأسلمتا قلبي إلى نوب الدَّهرِ
ترفق بدمعٍ طرفه فيك مطلقٌ ... وقلبٍ من الأشواق في أوثق الأسرِ
وقوله:
قلبي من الأشواق لاهف ... والدَّمع من عينيَّ ذارفْ
أبكي ودمعي لم يدع ... أحداً بحالي غير عارفْ
ولقد أقول لمن يرا ... ني في طريق الذُّلِّ واقفْ
لولا المحبَّة يا رفيقي ... لم يكن قلبي لعاطفْ
كلاَّ ولا أبصرتني ... للسقم والبلوى محالفْ
أرعى النُّجوم ولي فؤا ... دٌ من دواعي البين خائفْ
أصبو إذا علنَّى على ... أعلى غصون الدَّوح هاتفْ
ويشوقني برقٌ بدا ... من جانب الأحباب خاطفْ
فَوَحَقَّ أغصان القدو ... د ولين هاتيك المعاطفْ
وصباح مُبيَصِّ الجبي ... ن وليل مسودِّ السوالفْ
ولواحظٍ فتَّاكةٍ ... في جفنها هاروت عاكفْ
ومرشفٍ عسَّالةٍ ... يا حبَّذا تلك المراشفْ
ورقيق هاتيك الخصو ... ر وتحتها ثقل الرَّوادفْ
ومواقف الذُّلِّ التي ... عرَّفني ذلَّ المواقفْ
أشكو الغرام وأرتجي ... من متلفي حسن العواطفْ
ما حلت عنك وليس يص ... رفني عن الأشواق صارفْ
وإذا أسأت فإنَّها ... عندي تعدُّ من اللَّطائفْ
فسقى الإله زماننا ... ورعى ليالينا السَّوالفْ
أيام كنت لعاذلي ... وللائمي فيها أخالفْ
وقوله:
ورُبَّت ليلةٍ قد زار فيها ... خيالٌ في الدُّجى منه طروقُ
وبات تشوُّقي يدنيه منِّي ... ويبعده من القلب الخفوقُ
فلا أروى الحشا منه اعتناقٌ ... ولا بلَّ الجوى لي منه ريقُ
وقوله مضمِّناً:
أرَّقتني الأشجان والأشواق ... وبسهم النَّوى رماني الفراقُ
ونما الشَّوق في فؤادي فضاقت ... فيك عن وصف ما بي الأوراقُ
ثم أنشدت داعياً ولدمعي ... فيك من لوعة الفراق انطلاقُ
جمع الله شمل كلِّ محبٍّ ... وبدا بي لأنني مشتاقُ
وقوله:
يا مولعاً بصدودي ... أفنى الجفا مستهامكْ
أعرضت عنِّي دلالاً ... لمَّا عرفت مقامكْ
ضيَّعتني بالتَّجافي ... لمَّا حفظت ذمامكْ
فلو شهدت سهادي ... وهبت جفني منامكْ
فعاذلي مذ رآني ... رثى لحالي ولامكْ
يكفيك لحظك سيفاً ... فلا تجرِّد حسامكْ
طوبى لبدر الدَّياجي ... لو ترتضيه غلامكْ
ويا سعادة غصنٍ ... يحكي اعتدالاً قوامكْ
جلَّ الذي يا حبيبي ... في ذا المقام أقامكْ
إلى متى يا فؤادي ... يذكي هواهم ضرامكْ
ويا عذولي إلى كم ... تطيل فيهم ملامكْ
قد كلَّ بالعذل قلبي ... وملَّ سمعي مرامكْ
وقوله:
ولي قلبٌ أليمٌ من ... صدودك دائم الضَّرمِ
بودَّي لو أقطِّعه ... فإنَّ وجوده عدمي
ولكنَّ قطعي العضو ال ... أليمَ يزيد في ألمي
وقوله، يصف ليلة مضت له في روضة أريضة، وساعفته بها آمالٌ من الوصال عريضة:(1/17)
لله ليلة أنسٍ قد ظفرت بها ... قضَّيتها سهراً أحلى من الوسنِ
قد بتُّها وعيون الدَّهر غافلةٌ ... عنِّي ولم أخش فيها حادث الزَّمنِ
في روضةٍ رحبة الأكناف عاطرة ال ... أنفاس قد جلِّيت في منظرٍ حسنِ
والوُرقُ في دوحها باتت تطارحني ... شجواً لِما عَلِمتْ في الحبِّ من شجني
فتارةً فرط أشواقي يرنِّحها ... وتارةً طول مبكاها يرنِّحني
وبات ظبيٌ تناجينا لواحظه ... بين الورى هي كانت منشأ الفتنِ
تُعزى الشُّمول إلى معنى شمائله ... والَّلاذُ يشبه منه رقَّة البدنِ
بتنا كغصنين في روضٍ يرنِّحنا ... ريح الصَّبا فَحَنا غصنٌ على غصنِ
وبات عندي شكٌّ في معانقتي ... إياه حتى حسبت اللُّطف صاحبني
يا ليلةً منه أرضاني الزَّمان بها ... عنه على أنَّه ما زال يسخطني
ومن مقاطيعه قوله:
كلَّما حدَّثت قلبي سلوةٌ ... عن هواهم قال لي لا يمكنُ
وإذا ذكَّرته أنَّهم ... قد أساءوا قال لا بل أحسنوا
وقوله:
قد وقفنا بعد التَّفرق يوماً ... في مكانٍ فدَّيته من مكانِ
نتشاكى لكنْ بغير كلامٍ ... نتحاكى لكنْ بغير لسانِ
يوسف أبي الفتح إمام الأئمة، ومن ألقت إليه مقاليد الحظوة الأزمَّة. فتميز على أترابه وأخدانه، تميُّز سميَّه على إخوانه.
وذلك أنه من منذ ناست عذبة ذؤابته، وأومضت للمتفرِّس مخيلة نجابته.
تطلَّع في أعلا المصلَّى كأنما ... تطلَّع في محراب داودَ يوسفُ
فرقي منبر المسجد الجامع خطيباً، وملأه مسكاً فلم يدر أضمَّ خطيباً، أم ضَمِّخَ طيباً.
وأتى بما يقرط الأسماع لؤلؤاً، ويملأ الأفواه طيباً والمحافل تلألؤاً. فطار صيته في الآفاق، ووقع على تفرُّده في أسلوبه الاتفاق.
حتى تطلبه السلطان فصيَّره إمامه، وتوجه من التقدمة بتلك العمامة. فقامت الأماني خلفه صفوفاً، واستوعب من المعالي أنواعاً وصنوفاً. وما زال من حين خروجه، يتنقَّل تنقُّل القمر في بروجه. إلى أن صار ثالث القمرين، وفاز برتبة قضاء العسكرين.
وكان مع ما أعطيه من الرتبة التي لا تنال إلا بالتمني، والحرمة التي ترمى لنيلها المطايا بالتعَّني. لم يبرح يحن إلى مواطن إيناسه، ويرتاح إلى مراتع غزلان صريمه وكناسه.
هذا، وله الفضل الذي تليت سور أوصافه، وجليت صور اتسامه بالتفوُّق واتصافه.
والتصانيف التي ما جعلت الأقلام ساجدةً إلا لمّا رأت محاريب قرطاسها، وما سميت خرساء إلا قبل أن ينفث في روعها روائع أنفاسها.
وأما الأدب فهو إمامه الذي به يقتدى، وسابقه الذي بذكره يبتدى.
وله الشعر الذي اقتبس ألفاظه من ذوات الأطواق، واختلس معانيه من حنين العشاق تكابد الأشواق. يطرب من لم يكن يطرب، ويكاد لفظه من العذوبة يشرب.
وها أنا أورد منه ما تتباهى به حروف الرقاع، ويلذ في السمع لذة الغناء من كل شكلٍ حسنٍ على الإيقاع.
فمنه قوله من قصيدة أولها:
هذا الحمى أين الرَّفيق المنجد ... قد يمَّم الخيف الفريق المنجدُ
بانوا فلا داري بجلَّق بعدهم ... داري ولا عيشي لديها أرغدُ
وعلى الأكلَّة فتيةٌ لعبت بهم ... راح السُّرى والعيس فيهم تسجدُ
يتهافتون على الرِّحال كأنهم ... قضبٌ على كثب النقا تتأوَّدُ
واهاً على وادي منًى والهفتي ... لو لهفتي تجدي وآهي تسعدُ
كانت عروس الدهر أياماً لنا ... فيه ثلاثٌ ليتها لي عوَّدُ
عهدي به مغنى الهوى تستامه ... عينٌ مسهَّدةٌ وقلبٌ مكمدُ
ما باله بعد الثلاثة أقفرت ... منه معالمه وأقوى المعهدُ
يا هل لليلاتٍ بجمعٍ عودةٌ ... أم هل إلى جمع المعرَّف موعدُ
جسمي بأكناف الشآم مخيِّمٌ ... وهواي بالرَّكب اليماني مصعدُ
تالله هاتيك الليالي أسأرت ... في مهجتي ناراً تقوم وتقعدُ(1/18)
وكأنَّ مرمى كلِّ موقع جمرةٍ ... في القلب والأحشاء منِّي موقدُ
لله أيامي بجرعاء الحمى ... والدهر مصقول الحواشي أملدُ
أيام ظلُّ الدهر غير مقلَّصٍ ... عنِّي وعيشي طاب فيه الموردُ
في حيث ريحان الشَّبيبة باسقٌ ... والخيف مغنًى للحسان وموعدُ
إذ منتداه مراد كلِّ خريدةٍ ... يصبو إليها الخاشعون العبَّدُ
مرَّت كسقط الزَّند أعقب جمرةً ... في القلب يذكيها الغرام ويوقدُ
مالي إذا برقٌ تألَّق بالحمى ... أودى بمهجتي المقيم المقعدُ
وإذا نسمت رويحةً من طيبةٍ ... جعلت زفيري بالحشا يتوقدُ
وإذا نسيم الروض هبَّ تبادرت ... وفق الصبابة أدمعٌ تتردَّدُ
ومتى ظفرت من الزمان بناصرٍ ... أخذت تفنِّده عليَّ الحسَّدُ
وقوله من أخرى، أولها:
سقى أثَلاثٍ بالعذيب نمير ... له من أفاويق الغمام سميرُ
سحابٌ تزجيه الرياح وراءه ... نسيمٌ له المسك الفتيق عبيرُ
ولا برحت تسدي يد القطر فوقها ... من النور موشيَّ السَّدى وتنيرُ
وخلنا دراري الأفق فيه تساقطت ... وآن لها أن النجوم تغورُ
عهدنا بها غصن الشَّبيبة باسقاً ... يرفُّ رفيف البان وهو نضيرُ
كأنَّ أزاهير الشَّقيق بدوحها ... خدودٌ ونور الأقحوان ثغورُ
كأنَّ نديَّ النرجس الغضِّ فوقها ... عيون الغواني مسَّهنَّ فتورُ
كأن غصون البان تندى غضارةً ... معاطف غيدٍ حشوهنَّ خمورُ
سقتها دموعي بل سقاها على البلى ... ملِثٌّ من الأنواء وهو غزيرُ
فآه لها كم لذةٍ تحت ظلِّها ... نعمنا بها حيث الكؤوس تدورُ
ولهفي على عيشٍ بجوِّ سُويقةٍ ... تولي وعيش الغانيات قصيرُ
وواهاً لأيامٍ بشرقيِّ ضارجٍ ... تقضَّت عشايا تحتها وبكورُ
فمرَّت ولم تعقب سوى جمرة الأسى ... يشبُّ لها تحت الضلوع سعيرُ
خليليَّ مالي إن تألق بارقٌ ... يكاد فؤادي كالشَّرار يطيرُ
وإن خطرت من سفح نجدٍ نسيمةٌ ... فلي أنَّةٌ تحت الدُّجى وزفيرُ
وإن ذكرت أيام رامة أنثني ... وفي القلب من فرط الغرام هجيرُ
ألا يا نسيم الريح من بطن لعلعٍ ... تحدَّث فقلبي بالغرام أسيرُ
ويا برق نجدٍ هات عن أيمن الحمى ... حديثاً ففي بثِّ الغرام سرورُ
هل الجيرة الغادون من جنبِ حاجرٍ ... أناخوا لوى الجرعاء وهو مطيرُ
وهل أثلاث الجِزع يندى ظلالها ... وأرض الحمى فيْنانُ وهو مطيرُ
وهل هاجعات البان نبَّه خوطها ... هبوب نسيمٍ هبَّ وهو عطيرُ
وهل درست من بطن فجٍّ مسارحٌ ... ومحَّت جنوبٌ رسمها ودبورُ
فما بنت غصنٍ فوق أفنان إلفها ... وإلفي خليطٌ منجدٌ ومغيرُ
تراها إذا وُرق العشايا ترنَّمت ... تهيِّج من داء الهوى وتثيرُ
تذكِّرني وهناً أفانين سجعها ... ليالي زرودٍ والمحبُّ ذكورُ
بأبرح مني أن تقول بثينةٌ ... لقد ضربت لي بالعقيق خدورُ
عذيريَ في هذا الهوى من مؤَنِّبٍ ... وهيهات في هذا الغرام عذيرُ
يلوم فؤادي في هواه أما درى ... بأن فؤاد العاشقين صبورُ
يقول عجيبٌ منك أنت مجرِّبٌ ... فكيف وأني يعتريك غرورُ
فقلت له خفِّض عَدَتكَ صبابتي ... فكلُّ معنًّى يهتدي ويثورُ(1/19)
سأركب من شوس القوافي شِمِلَّةً ... تسير في النعماء حيث تسيرُ
أقامت بسفح الصَّالحيَّة برهةً ... وحشو حشاها لوعةٌ وزفيرُ
بها من هواء الغوطتين نسيمةٌ ... ومن عذب ماء النَّيربين غديرُ
إذا هبطت من ربع جِلِّقَ منزلاً ... وقد نام حادٍ واستقال مثيرُ
أمرنا بها طوع القياد توجهت ... ركائبها وهو المراد تزورُ
تزور فتًى من آل منجك ماجداً ... على كل من يدعى الأمير أميرُ
وقوله من أخرى، مبتدؤها:
تذكَّر من أكناف رامة مربعاً ... ومغنًى به غصن الشبيبة أينعا
فبات على جمر الغضا يستفزُّه ... غرامٌ فيذري الدمع أربعَ أربعا
كئيباً لليلات الغميم متيَّماً ... معنًّى بأيام الحجون مولَّعا
يخالف بين الراحتين على الحشا ... ويلوي على القلب الضُّلوع توجُّعا
فمن صبواتٍ تستفزُّ فؤاده ... ومن زفراتٍ أضرمت فيه أضلعا
ألا في سبيل الحبِّ مهجة عاشقٍ ... تولَّع فيه الحبُّ حتى تولعا
وعينٌ أبت بعد الأحبة سَحَّها ... وفاءً بحقِّ الربع أن تتقشَّعا
سقى الله من وادي منًى كل ليلةٍ ... هي العمر كانت والشباب المودَّعا
ويا جادَ أياماً بها قد تَصرَّمت ... ثلاثاً ومن لي أن أراهنَّ أربعا
وحيَّى مقامي بالمقام وأربعاً ... لدى عرفاتٍ يا سقاهنَّ أربُعا
فلله ما أبهى بمكَّة مشعراً ... ولله ما أحلى لزمزم مشرعا
ألا ورعى دهراً تقضَّى بجلِّقٍ ... ولولا الهوى ما قلت يوماً لها رعى
ويا عاقب الله الغرام بمثله ... لكي يعذر العشاق فيمن تولَّعا
خليليَّ مالي كلما لاح بارقٌ ... تكاد حصاة القلب أن تتصدَّعا
وإن نسمت من قاسيون رويحةٌ ... أجد أدمعاً مني تساجل أدمعا
وحتَّى مَ قلبي يستطيع إذا شدا ... حمام اللِّوى بالرَّقمتين ورجَّعا
وكم ذا أقاسي سورة البين والأسى ... ولا يرحم العذَّال منِّي توجُّعا
ألا هكذا فعل الغرام بأهله ... ومن بات في صنع الهوى ما تصنَّعا
عذيرِيَ من هذا الزمان وأهله ... ومن لي بمن يصغي لشكواي مسمعا
يخوِّفني منه العدوُّ قطيعةً ... ويظهر لي منه الصديق تفجُّعا
ولم يدر أني للقضاء مفوِّضٌ ... وما كان قلبي للقضاء ليجزعا
وقوله من أخرى، راجع بها أحمد بن شاهين:
حيَّتكِ يا دار الهوى بالأبرقِ ... وطفاء من نوء السِّماك المغدقِ
وغدت تفتِّق في نواحيك الصَّبا ... أرجاً يغصُّ رُباكِ مهما يعبقِ
وتكفَّلت أيدي الرَّبيع بمطرَفٍ ... لتراك تخلعه وبردٍ مونقِ
حتى ترى منك المغاني جنةً ... من سندسٍ تزهي ومن إستبرقِ
كم لذَّةٍ في جبهتيك خلسَتُها ... وهناً وعين الدهر لمَّا ترمقِ
واهاً لها إن كان فرطُ تأوُّهي ... يجدي على شحط النَّوى وتحرُّقي
لله أيامي بجوِّ سويقةٍ ... سلفت بمصطبحٍ ولذَّةِ مغبقِ
أيام ريحان الشَّبيبة باسقٌ ... يندي وماء هواي غير مرنَّقِ
في حيث ظلُّ اللهو ضافٍ والنَّقا ... مهوًى لجارحةٍ وقلبٍ شيِّقِ
إذ منتداه مراد كل خريدةٍ ... بسوى خيالات الهوى لم تعلقِِ
رودٌ يرنحها الغرام فتنثني ... سكرى كخوط نقاً تأود مورقِ
كم ليلةٍ بتنا بأكناف اللوى ... نلهو بذات الحجل ذات القرطقِ
بتنا على الوادي يراودنا الهوى ... طوعاً وغير الطرف لمَّا يفسقِ(1/20)
وكواكب الجوزاء ترنو حسرةً ... لنظام مجلسنا بطرفٍ محدقِ
والبدر في أفق السماء كزورقٍ ... صافي الُّلجين على رداءٍ أزرقِ
وكأنما نجم الثُّريا إذ بدا ... كفُّ الخريدة ضمَّ لم يتفرقِ
بانت وما بدَلت النَّوى ... ونأت وما حلَّت عقود تفرقي
يا ميُّ حتى مَ الدموع تشي بنا ... وإلى مَ في مضناك لم تترفَّقي
يا ميُّ أنفقت الغرام على النوى ... إلا هواك ذخرت لما أنفقِ
ما آن أن تتذكرين عهودنا ... وليالياً سلفت بجو الأبرقِ
ما آن أن ترعى عشيَّات الحمى ... ومواسماً مرت بغوطة جلِّقِ
الله يا لمياء في قلب امرئٍ ... لم يألُ ما عنَّ ادِّكارك يخفقِ
الله يا هيفاء في ذي عبرةٍ ... طفقت متى في الفكر خلتِ ترقرقِ
هذا أما وهواك وهو أليَّتي ... بأعزَّ من قسمٍ وأكرم موثقِ
لم تستمل طرفي رعابيب الحمى ... كلا ولا أبصر سواك فأعشقِ
ناجزت كل أخي غرامٍ فارعوى ... أهل الهوى عنِّي ولست بمملقِ
وكتمت سرَّ هواك وهو ذخيرتي ... عند اللقاء وربما أن نلتقي
يا ربع جلِّقَ لا أغِبَّك عارضٌ ... يهمي عليك بكل أسحم مبرقِ
وسرت تصافح من مغانيك الصبا ... ملمومةً فيها هواي ومعشقي
فيها مسامرتي ومعظم صبوتي ... فيها معاقرتي وفرط تشوُّقي
وله يصف وادي التل: أحد متنزهات دمشق، البلدة التي صورت بها الجنان، وأضحى وقفاً على القلب والجنان. وهو وادٍ مربع النبات، ومسرحٌ مخضر الجنبات.
زهرةٌ وأختها، وشجرةٌ وبنتها. وجرية ماءٍ ورنة صادح، ونشاط واصفٍ وروحة مادح.
إلى رياضٍ كبرود الخمصانة الرود، وحياضٍ كورود الثغر البرود.
وكان مضى له به عهدٌ فارقه وهو عليه واجد، مع فتية صدقٍ هم والحظ المرافق شيءٌ واحد.
أقمنا بوادي التل نستجلب البسطا ... بحيث دنا منا السرور وما شطَّا
وجئنا لروضٍ فتَّقت نسماته ... روائح يبعثن الألوَّة والقسطا
وقد ضربت أفنان أغصانه لنا ... ستائر إذ مدت خمائله بسْطا
يباري به الورق الهزار كراهبٍ ... يحاكي بعبرانيِّ ألفاظه القبطا
ويعطف ما بين الغصون نسيمه ... كما اجتمع الإلفان من بعد ما شطَّا
وتملي أحاديث الغرام لحوظُها ... فترويه لكن ربما نسيت شرطا
جلسنا على الرَّضراض فيه هنيئةً ... وقد نظمت كالدُّرِّ حصباؤُّه سمطا
به من لجين الماء ينساب جدولٌ ... تجعِّده أيدي النسيم إذا انحطَّا
حكى مستقيم الخطِّ عند انسيابه ... فنقَّط منه الوجه زهر الرُّبى نقطا
سقى الله دهراً مرَّ في ظله لقد ... أصاب بما أولى وإن طال ما أخطا
وحيَّ على رغم النَّوى كل ليلةٍ ... تقضَّت به لا بالغوَير وذي الأرطا
ليالي لا ريحانة العمر صوَّحت ... ولا وجدت في أرضها الجدب والقحطا
صحبت بها مثل الكواكب فتيةً ... أحاديثهم في مسمعي لم تزل قرطا
يفضُّون مختوم الصبابة والهوى ... ويرعون حب القلب لا البان والخمطا
إذا نثروا من جوهر اللفظ لؤلؤاً ... أودُّ ولو بالسَّمع ألقطه لقطا
يديرون من كأس الحديث سلافةً ... وربَّما تحكي الأحاديث إسفنطا
ومن نتفه قوله:
يا من هواه بقلبي ليس يبرح من ... بين الترائب ترب الشوق والأسفِ
أليَّةً بليالينا التي سلفت ... وبالغرام وإن أدَّى إلى تلفي
وبالدموع التي أجريتها غدراً ... ومدمعٍ فيك لم يطعم كرى ذرفِ
لأنت أنت على ما فيك حبُّك في ... جوانحي كامنٌ كالدرِّ في الصدفِ(1/21)
وكتب إلى صدر الشام وعالمها، ومن به قامت دعائم معالمها عبد الرحمن العمادي المفتي:
رحمة العلم والفتاوى عليه ... وصلاة الأقلام في الأوراق
وقوله:
القلب أصدق شاهدٍ ... عدلٍ على صدق المحبه
ومن القلوب إلى القلو ... ب مواردٌ للحب عذبه
طوبى لمن يسقى بكا ... س رحيقها المختوم شربه
فراجعه بقوله:
الحبُّ أظهر من إقا ... مة شاهدٍ بين الأحبه
ومحبةٌ برهانها ... عينٌ العيان تعدُّ حبَّه
وإذا ارتضى المولى بفت ... وى القلب فليستفت قلبه
ومن شعره ما قاله عاقداً فيه حديث: أحبب حبيبك هونامَّا فعسى أن يكون بغيضك يومامَّا، وأبغض بغيضك هونامَّا فعسى أن يكون حبيبك يومامَّا:
بين المحبة والتباغض برزخٌ ... فيه بقاء الود بين الناسِ
بخلاف أقصى الحب أو أقصى الذي ... هو ضدُّه من كل قلبٍ قاسي
فمآل كلٍّ منهما ندمٌ على ... تفريطه ندماً بغير قياسِ
ومن مقاطيعه قوله:
إذا ما أزمع الأحباب ظعناً ... وثار لدى الوداع حنين وجدي
فقل لهم بعبرة ذي ولوعٍ ... تمتَّع من شميم عرار نجدِ
تتمته:
فما بعد العشيَّة من عرار
قال أبو هلال في كتاب المعاني: الألوان، يعني من النساء، تعتريها بالعشية صفرةٌ مستحسنة، كما قال:
. . . وصف ... راء العشيَّة كالعراره
قال الشهاب: أقول: العرار زهر بري أصفر، ومن هنا يفهم معنى قوله:
فما بعد العشيَّة من عرار
وقوله مضمناً:
إن هبَّ ريح التنائي ... بين الرفاق عصوفا
فقل حشاشة نفسٍ ... وقل خلقت ألوفا
يريد بيت المتنبي:
حشاشة نفسٍ ودَّعت يوم ودَّعوا ... فلم أدر أيَّ الظاعنين أشيِّعُ
وبيته الآخر:
خلقت ألوفاً لو رجعت إلى الصِّبا ... لفارقت شيبي موجع القلب باكيا
وقوله:
إن رحَّل القوم عنا ... ركابهم ظاعنينا
فقل لهم بانكسارٍ ... يا من يعزُّ علينا
تتمته:
..........أن نفارقهم ... وجداننا كل شيءٍ بعدكم عدمُ
وقوله:
أحببتها هيفاء يزري قدُّها ... بالغصن رنَّحه النسيم وحرَّكا
مرت فضاع المسك من أردانها ... فوددْتُ بالأردان أن أتمسَّكا
وقوله:
يا ويح قلبي من هوى شادنٍ ... يجرحه اللَّحظ بتكراره
أدنو فتغدو وردتا خدِّه ... بنفسجاً يزهو بنواره
وقوله:
أفٍّ لدُنيا لم تزل ... عن وجه ذلٍّ سافره
تعميرها مستلزمٌ ... تخريب دار الآخره
فصل
ذكرت فيه مما في الأصل أربعة من الرجال، وصفهم حليٌ تتغاير فيه ربات الحجال.
تحث بهم عزمها القلوص النواجي، وتستفيد منهم سحرها العيون السواجي وإني لا آمن من أن يقال: كرروا على الأسماع، والمكرر مملول بالإجماع.
ومن العادات، ترك المعادات. فخبر الحبيب يطيب على الإعادة، وسجع الحمام إذا تردد أطرب بحسب العادة. ومن يمل من الأنفاس ترديداً، ويسأم من رشفات الثغور تعديداً. على أني مقتف أثر الباخرزي في دميته، حيث أعاد ذكر بعض من ذكر الثعالبي في يتيمته. وقال: لولا تكرار الكؤوس، لما استقر الإطراب في النفوس، ولا استقلت صبابة على الرؤوس، والحياة على حسن مساقها وطيب مذاقها، إذا جاوزت النفس الأول معادة، وحبها لكل من الحيوانات عادة، حتى إنها لا تمل إذا كررت عليها، ولا تكره إذا ردت إليها.
والشرط إني لا أذكر من شعرهم السامي، وزهرهم الذي نبت في الروض الشامي. إلا ما لم يصل إليه، وما ذكره منه لا أحاشره عليه.
والحكمة هي الضالة فأين وجدت أخذت، وحيث ما سمجت نبذت.
وما بعثني على ذكرهم، إلا التلذذ بحمدهم وشكرهم. وإني لأحسب إن طالت لعهدهم السنون، أن تتعلق بمحاسنهم خطاطيف الظنون. وعلى كل حال فحقهم علي أوجب، وزيادة إلمامي بنخبهم لا تنكر ولا تحجب.
فمنهم: أبو الطيب الغزِّي أوحد البلغاء العظام، وأجل من تفوه بالنثار والنظام.(1/22)
جاء أمةً وحده في الافتنان، وامتطى جواد البراعة فأجراه طلق العنان. فهو في النباهة آية، لم تفته من مطالبه غاية. فكل خاطرٍ ينفد إلا خاطره، وكل سحابٍ يضن إلا سحابٌ يسح من فكره ماطره. ومكانته في السؤدد عالية، وساعة قربه ليست بالعمر غالية. تحلى بالزهد، وبذل في التخلي الجهد.
وشعره حجة متصابٍ وفتنة متناسك، إذا سمعه المشغوف لم يبق فيه إلا رمقٌ بلذاته متماسك. قالت الأصداف: الفخر لألفاظه الغر، فلذلك حشا الدهر في فمها الدر.
إذا ابتدأ معنًى أبرزه كهلال العيد، وأوقعه موقع فصل الخطاب وبيت القصيد.
وإن استعاره صيره خلقاً جديداً، وجعله كليله في الفكر جديدا.
وأقام دعامته إن خفي رسماً، وأعطاه روحاً إذا كان جسماً.
وأنا ممن ألهج به ابتهاجاً وزهواً، ولي بمحاسنه شغف المتيم بمن يهوى. تحركني إليها دواعي الوجد، فأولع بها ولوع ابن الدمينة بصبا نجد. وقد جئتك منها بما يملأ المسامع التذاذاً، ويجعل القلوب من الوجد جذاذا.
قال في الغزل:
رشأٌ تمكَّن من فؤاد التَّائه ... في قفر حُبِّيه وفي بيدائهِ
أسدٌ يجول بحلية الحسن التي ... فيها الأسود تكون من أُسرائهِ
ملكٌ ترى رمحَ القوم وقوس حا ... جبه وسيفَ اللَّحظ من نظرائهِ
قمرٌ تراءى نحو مرآة السَّما ... ءِ وفيه أثَّر بدره بإزائهِ
أترى أرى نفسي مفكَّهةً به ... ليلاً يحنُّ إليَّ في ظلمائهِ
فلكم تطاول نأيه عنِّي وذق ... تُ به عناً لا ذقت طعم عنائهِ
في ليلةٍ تلقى الكئيب مفكراً ... ممَّا به يرعى نجوم سمائهِ
لولا غزير الدَّمع أحرقه الحشا ... لولاه أصبح مغرقاً ببكائهِ
أمعنِّفي دع عنك تعنيفي فلي ... س يطيعني سمعي على إصغائهِ
لم يصغِ للتَّعنيف مسمع والهٍ ... رسخ الهوى والوجد في سودائهِ
يا صاحبيَّ سلاه هل من عودةٍ ... بزمان أنسٍ تمَّ لي بلقائهِ
أم هل وصالٌ أرتجيه منه أو ... وعدٌ فأبقى في انتظارِ وفائهِ
أم هل أسامر طيفه من بعد أن ... قاسيتُ فرطَ نفورِهِ وإبائِهِ
فهواه داءٌ ضمن قلبي لا يزو ... لُ وما لقلبي مَخلصٌ من دائهِ
فأنا المقيم على المحبَّة والوَلا ... وأنا الذي في الرِّقِّ من خُدَمائهِ
وله من قصيدةٍ كلها درر وغرر:
أما آن من نجم الشُّجون غروبُ ... وحتَّى متى ريح الفتون تنوبُ
تكلِّفني من بعد سلوان صَبوتي ... شَمالٌ تُعنِّي مهجتي وجنوبُ
سهرتُ لها نائي المضاجع فانبرى ... لها بين أحناءِ الضُّلوع لهيبُ
إذا ركدت ريحٌ وقرَّ نسيمها ... أبى منه إلاَّ أن يعود هبوبُ
وفي الصَّدر بدرٌ فيه لم تحظَ أعينٌ ... ولا صوَّرته للنُّفوسِ قلوبُ
محيَّاه روضٌ ناضرٌ في نثيرِهِ ... نظائم منها باهرٌ وعجيبُ
قناةٌ عليها للشُّموس مطالعٌ ... ومركزها دون الإزارِ كثيبُ
بعيدُ مناطِ القُرطِ سحرٌ لحاظُه ... ذَهوبٌ بألبابِ الرِّجال لعوبُ
بديع التَّثنِّي للهواء وللهوى ... نسيمٌ يباري لطفه ونسيبُ
يجول وِشاحٌ أو تَغصَّ دمالجٌ ... إذا لاح في بردٍ وماس قضيبُ
يُرى منه في ريمٍ مهاةٌ وضيغمٌ ... ويعرض في الأخلاء منه مهيبُ
يشوب الرِّضا بالصَّدِّ والوصل بالقِلى ... وما هو إلاَّ مسقمٌ وطبيبُ
تمنُّعُ إطماعٍ وإطماعُ مانعٍ ... ودرٌّ ودَلٌّ رائقٌ وخلوبُ
دعاني إلى الرُّجعى على حين غفلةٍ ... من الحسن والأهواءُ منه تريبُ
دعا سائري من كلِّ عضوٍ وكلَّما ... دعا منه داعيهِ أجابَ مجيبُ(1/23)
لُسِبْتُ من الصُّدغ الجنيِّ بعقربٍ ... له بين ورد الوجنتين دبيبُ
لئن عاد لي عيد اللَّواعج غرَّةً ... فإن فؤادي للغرامِ نسيبُ
وعنوانُ حالي لو رأى بثَّ بعضهِ ... شُحوبٌ ومن دون الشُّحوبِ وجِيبُ
لحا الله قلبي كم تنازعه الرَّدى ... لحاظٌ لها في صفحتيه نُدوبُ
يلَذُّ الهوى لا دَرَّ دَرُّ أبي الهوى ... وحسبك منه زفرةٌ ونحيبُ
أُدرِّجُ أنفاسي مخافة كاشحٍ ... وأُطرق كيما لا يقال مريبُ
أدين بكتمان الهوى فيذيعُهُ ... فؤادٌ وطرفٌ خافقٌ وسكوبُ
وقالوا غَوِيٌّ لا يتوب وآثمٌ ... وما علموا حوباً فكيف نتوبُ
بحسب التَّوافي من عفافي زاجرٌ ... ومن صونه عمَّا يريب قريبُ
أُجلُّك أن أُبدي هواك علالةً ... ولكن لسان العاشقين خطيبُ
وله من قصيدة، أولها:
نَهْنِه دوالح جفنك المقروح ... وأرحْ طلائح قلبك المجروحِ
ودع الهوى طلق العنان لأهله ... وارْبَأْ بنفسك عن رباه الفيحِ
فلرُبَّما ضاق الفضاءُ بأهله ... ولربَّما سُدَّت مهافي الرِّيحِ
كم ذا تبيتُ مسهَّداً ترعى السُّها ... متململاً من لاعج التبريحِ
كم ذا تصُدُّ عن النَّصيح عمايةً ... وترى وليَّ النُّصح غير نصيحِ
وممنِّعِ كابن الغزالة دونه ... غابا حمًى من ذبَّلٍ وصفيحِ
لم يعتلق مضناه منه بزورةٍ ... تشفي ولا فتكه بمريحِ
لو شئت لا شئت المعادَ إلى الهوى ... لرأيتني بالروح غير شحيحِ
ورأيت آرام الصَّريمِ سوانحاً ... في مجلسي وصوادراً في سوحِي
ورأيتني ضمَّت على متنسِّكٍ ... متعفِّفٍ حين اللقاء كشوحي
وله من أخرى، مستهلها:
وفتًى يرفُّ بمثل ثوب نضارِ ... وعثاعثٍ ترتجُّ تحت إزارِ
أمَّا محيَّاه الوسيم فإنه ... منح القلوب ومطمح الأنظارِ
شفعت ذوائبه الدُّجى وجبينه ... بهر الهلال عشيَّة الإفطارِ
يرنو بأكحل كالجراز فيا له ... من أسودٍ ذي أبيضٍ بتارِ
تبدو له أسد العرين ظواهراً ... فيعيدها أخفى من الأسرارِ
صنمٌ تخرُّ له البطارق سجُّداً ... ليجيرهم فيهيلهم في النَّارِ
إن قلت بدرٌ رابني بسفوره ... أو قلت ريمٌ راعني بنفارِ
لو أنكرت منِّي هواه جوارحي ... فشحوب جسماني به إقراري
لم أنسه واللَّيل بحرٌ مزبدٌ ... بنجومه وأديمه من قارِ
وإذا به وافى يفوح كأنَّما ... زرَّت غلائله على عطَّارِ
صدع الدُّجنَّة فارياً ديجورها ... عن بدر تمٍّ مشرق الأنوارِ
وافتَّر يبسم عن ثنايا وامضٍ ... بلآلئٍ نسق النَّظام صغارِ
قلت: صغر الأسنان ممدوح، قال ابن النبيه:
ولم أرَ قبل مبسمه ... صغير الجوهر المثمنِ
واعتذر عن كبرها القائل:
يفتَّرُّ عن مثل نظم الدُّرِّ أتقنه ... بحسن تأليفه في النَّظم متقنهُ
عابوا كبار ثناياه فقلت لهم ... الدُّرُّ أكبره في العين أثمنهُ
تتمة الأبيات:
علَّت بخرطومٍ كميتٍ سلسلٍ ... لا مزَّةٍ كلا ولا مصطارِ
روح بلا جسمٍ ولكن جوهرٌ ... متصدِّفٌ بالقار والفخَّارِ
لو عبَّ ساقيها دجًى في كأسها ... لرأيت بدراً لسَّ شمس نهارِ
حمراء تحسبها عقيقة بارقٍ ... إن لم تكنها فهي جذوة نارِ
مسكيَّةٌ فكأنها دم شادنٍ ... يحتَّل من كاساتها في قارِ
منها في المديح:(1/24)
وهَّابُ أذوادِ المطافل يكتفي ... بسقوبها بل واهب الأخطارِ
ينسي أحاديث المكارم إنه ... ملغي الوعود ومهدر الأعذارِ
يطفو السَّخاء على أسرَّته كما ... يطفو الفرنْد على الصقيل العاري
ما زال في طلب العلا حتَّى انبرى ... كهلاً فأدرك خمسة الأشبارِ
في بردتيه أبو دؤاد لجاره ... ولمن يناويه أبو الأذعارِ
مولاي يا كهف الأفاضل والنُّهى ... ويمين بيت الله ذي الأستارِ
إنَّي لأُكبر منك هيبة ضيغمٍ ... وأجلُّها مني عن الإكبارِ
سأقول فيك الشِّعر يقطر حسنه ... أو يستمدُّ السِّحر من أشعاري
يزري بوشيِ الرَّوض نمَّق نوره ... كفُّ النَّسيم وراحة الأمطارِ
وله من أخرى، مطلعها:
أمؤنِّبي في الحبِّ لا متواني ... ما أنت من ولهي ومن سلواني
لا تسقني ماء الملام فإنَّما ... عيناي من ماء الهوى عينانِ
وله بجانحتيَّ صون حديثه ... دينٌ وشأني مخبرٌ عن شاني
لولا ضرامٌ شبَّ بين جوانحي ... لغرقتُ من غربيَّ بالطُوفانِ
رفقاً فلا غير المنية والجوى ... هو أوَّلٌ وهي المحلُّ الثاني
ليت الذي فهقت كؤوس جفونه ... أنهى بهنَّ إليك ما سقَّاني
إنَّ المذرَّبةَ الظُّبي ولحاظه ... أنَّى اتَّجهتُ من الهوى سيَّانِ
لله من أجفان جؤذرِ كلَّةٍ ... يرعى الحشا بدلاً عن الحوذانِ
يطفو النَّعيم على غرارة وجهه ... فترفُّ منه شقائق النُّعمانِ
متوضِّح القسمات يبرح خالباً ... منِّي جناني جاذباً بعناني
وبغيضةٌ سبل الغرام إليَّ ما ... لم يعتسفها ضلَّة الهجرانِ
وسبيَّةٍ من خمر عانة مزَّة ... نظم المزاج بها عقود جمانِ
قتلت بصوبٍ من صبير غمامةٍ ... لمعت بمثل مصابح الرُّهبانِ
ومنها في المديح:
فرعٌ تمكَّن من نصابٍ دونه ... أخذُ الكميِّ بمنكبي ثهلانِ
يقظٌ بأعقاب الأمور كأنَّما ... يدلي بجاسوسٍ إلى الكتمانِ
لا تطَّبيهِ مدامةٌ تجلى على ... عزف القيان ورنَّة العيدانِ
عمَّت فضائله وذاع نوالهُ ... كالشَّمس لا تخفى بكلِّ مكانِ
منها:
واستجلِها عذراء عُلَّ رضابُها ... حمراء تهزأ بالنجيع القاني
شُجَّت بذي خصرٍ يبدِّد فوقها ... حبَيَاً يجول كأعين النِّينانِ
النينان: جمع نونٍ، وهو الحوت. قيل هو جمعٌ غير معروف.
وقد كان سيبويه لحن بشار بن برد، في قوله في صفة السفينة:
تلاعب نينان البحور ورُبَّما ... رأيت نفوس القوم من جريها تجري
فغيره بشار بتيار البحور وقد قال أبو الطيب يصف خيلاً:
فهنَّ مع السيدان في البرِّ عسَّلٌ ... وهنَّ مع النينان في البحر عوَّمُ
قلت: وأبو الطيب، له في اللغة النظر الصيِّب، وهو ممن يميز الخبيث من الطيب. ومن نتفه ومقاطيعه قوله:
عاطيته حلب العصير ولا سوى ... زهر النُّجوم تجاه زهر المجلسِ
انظر إليه كأنَّه متبرمٌ ... مما تغازله عيون النَّرجسِ
وكأنَّ صفحة خدِّه ياقوتةٌ ... وكأنَّ عارضه خميلة سندسِ
هذا على أسلوب قول ابن هانئ الأندلسي:
خالسته نظراً وكان مورَّداً ... فاحمرَّ حتى كاد أن يتلهَّبا
انظر إليه كأنَّه متنصِّلٌ ... بجفونه ولقد يكون المذنبا
وكأنَّ صفحة خدِّه وعذاره ... تفَّاحةٌ رميت لتقتل عقربا
وله:
صادفته متبذِّلاً بصحابه ... يوماً فأقصر عنهم في منزلِ
وتركته نهب الرِّعاع وإنَّه ... أشهى إليَّ من الرَّحيق السلسلِ
وله:
لقد علقْتَ يا فؤادي ... بالحسين ذي الوسنْ(1/25)
فإن ظمئْتَ فارشِفن ... ريق الحسين والحسنْ
وله:
ناسَقني الوصْل فهنَّيتهُ ... ميقات موسى فات بالصَّدِّ
لا بدَّ من بينٍ على غرَّةٍ ... ما أنت إلا زمن الوردِ
وله:
لنا نفوسٌ إذا هي انصدعت ... بلمح طرفٍ تقوم ساعتها
عزَّت فعاشت بفقرها رغداً ... وفي اعتزال الأنام راحتها
وله:
نضارة أهل الكيفِ ظلٌّ من اكتسى ... به نحو شهرٍ ظلَّ في النَّاس عاريا
على وجه ميٍّ مسحةٌ من ملاحةٍ ... تزول ويبقى الخزيُ من بعد باديا
وله:
أعدَّ لهمِّه أوراق كيفٍ ... تمدُّ من السرور عليه فيئا
كألسنة الشموع تضيء لكن ... تذيب نفوسها شيئاً فشيئا
أحمد بن شاهين عين الزمان ويمينه، لو حلف ليأتين بمثله حنثت يمينه.
فهو شخصٌ كله جود، وما من فضلٍ إلا في ذاته موجود.
موارد كرمه سائغة، وملابس نعمه سابغة.
مورق عيدان العلا رطبها ... أبلج وجه العرف بسَّامهُ
مع شيمةٍ لو أنَّها في الماء ما تغير، وهمةٍ لو أنَّها للنَّجم ما تغور. وأيادٍ روائحٌ غوادي، كنسيم الرياض غبَّ الغوادي.
فللمزنِ فيض بنانه، وللروض حسن افتنانه. وله فكرٌ إذا اتقد تلهب منه اللهب، وخلقٌ إذا انتقد تبهرج عنده الذهب.
وكان في مبدإه من الجند على طريقة والده، حتى بلغ فنزع بنفسه إلى مجدٍ أغناه مطرفه عن تالده. وحبب إليه أنواع المعارف، فاعتاض عن حمر المضارب بسود المراعف.
كما قال:
صبوت إلى حبِّ الفضائل بعدما ... تقلَّدت خطِّيًّا وصلت بمخذمِ
ومارست من بعد القناة يراعةً ... كأبيض مصقول العوارض لهذمِ
وصار مدادي من سواد محاجري ... وقد كان محمرًّا يسيل كعندمِ
فجاء من التحائف التي بيضت وجوه القراطيس، وجذبت المحاسن إلى صوبها جذب المغناطيس. بما أطلع قدود المها محفوفةً بالولائد، ولآلي الثغور كأنَّها على العقد قد نظمها للقلائد. إلى نظامٍ مثل السوالف زمَّت بالشعور، وأداءٍ كدرر البحور علِّقت في النحور. وشعره وإنشاؤه إذا رآهما الأديب، قال: ليس للبلاغة إلا ذان، يلجان السمع إلى القلب بلا أذانٍ ولا استئذان. أحاطت ببدائعه حواشي الإجادة، إحاطة الحلل بالقدود، وتوشت رياض روائعه بالملاحة توشية العذار بورد الخدود.
فكل ما كتبه أوفاه به لسانه، لا سبيل لأن يجحد حسنه وينكر استحسانه. ومضى عليه زمن وهو في عيشٍ رفيه، والعز ناظر وهو نورٌ فيه.
حتى أسن فوقف الدهر في تعهده دون حقوقه، وخرج إلى ما كان يهيؤه له من بره إلى عقوقه. وأخر مطالبه تأخير الغريم، لدين الكريم.
وبدله عن النشاط المقيم، بالحظ العقيم.
وللزمان حال لا إلى بقا، وصفوٌ لا يبقى على نقا.
فسلوة الأيام موعدها الحشر، ولكتابها منتهًى هو النشر.
ثم عاجله الحِمام، فسقى تربه هطَّال الغمام.
وما جاده الغيثُ عن غُلَّةٍ ... ولكن ليبكي النَّدى بالنَّدى
وقيل فيه:
قلت لما قضى ابن شاهين نحباً ... وهو مولًى كلٌّ يشير إليهِ
رحم الله سيِّداً وعزيزاً ... بكت الأرض والسَّماء عليه
فمما اخترته من آثاره، وألمعت به من نظامه ونثاره. رسالة ألمع على الأسلوب البديع، وجرى فيها على أسلوب البديع.
كتب بها إلى شيخه الحسن البوريني، يتعهد بها مطالعته، ويسأل مراجعته. عقب مهاجرة وقعت بينهما، واقتضت بينهما: أعز الله الشيخ الذي سكن من الجوارح أشرفها، وسلك من طرق الجفا أوعرها وأسرفها.
وبالغ في العقوبة وزاد، واستغرق أوقات الوداد بالبعد والعناد.
وارتكب مركباً من الخليقة صعباً، وقطع جميع الطرق إلا طريق الوفا وثباً.
واستعار أذناً ليستوعي بها المثالب، وعيناً ينظر بها المصائب.
ويداً يبطش بها من كل صاحب ومصاحب، ورجلاً يسعى بها إلى الأباعد دون الأقارب.
ووجهاً يتصرف في أسرَّته، كتصرُّف الملك الجائر في رعيته.
ويفعل بمحبيه، ما لا يفعل الدَّهر ببنيه.
لا تظهر الطلاقة في وجهه إلا ريثما يخلطها بإعراض، ولا ينبسط هنيئةً من الزَّمان إلا وهو وشيك انقباض.
يبدو لطفه لمعاً ثم ينقطع، ويحلو ماؤه جرعاً ثم يمتنع.(1/26)
فلا يدوم له سرور الهنا، إلا بما هو من حمانا يحلُّه، وبما هو من أعراضنا يستحلُّه.
فيا ليت شعري، أيُّ مصونٍ من سرِّك أذعته، أو مفروضٍ في الخدمة رفضته، أو واجبٌ في الزِّيادة أهملته.
وهل كنت إلا كما قيل: ضيفٌ أهداه بلدٌ شاسع، وأدَّاه أملٌ واسع.
وحداه عقلٌ، وإن قلَّ. وهداه رأيٌ، وإن ضلَّ.
ثم ما أبعدت صحبةٌ إلا أدنت مهانة، ولا زادت حرقةٌ إلا نقصت صيانة. ولا تضاعفت ذمة، إلا تراجعت منزلة.
ولم تزل الغصة بنا حتى صار الوابل رذاذاً، والتشوق المفرط معاذا.
وصار حسن ذلك الالتفات ازوراراً، وطويل ذلك السلام اختصاراً.
وكان المهلب يقول: عجبت لمن يشتري العبيد بماله، كيف لا يملك الأحرار بمعروفه.
وفي الحديث: البشاشة خيرٌ من القرى.
وفي المثل: اليوم العبوس، خيرٌ من الوجه العبوس.
ومن كلامهم: الحوادث الممضة مكسبةٌ لحظوظٍ جزيلة، منها: ثواب مدخر، وتطهير من ذنب، وتنبيه من غفلة، وتعريفٌ بقدر النعمة.
وقد شاهدت فيها خامساً؛ وهو صون ماء الوجه عن الذل والهوان.
مولاي يا من له في كلِّ جارحةٍ ... لسان شكرٍ يؤدي بعض ما وجبا
ما هذه الكراهة من فتًى خفيف الجسد والروح، ثقيل الرأس بالعقل، غضيض الجفن بالحيا، طلق الوجه، عف اللسان، رحب الصدر، باسط الكف بالجود، طويل الباع بالإحسان، صافي القلب، سليم الفطرة، محني الضلوع على الأسى، مطوي الجوانح بالهوى، قصير الخطى عن الأذى.
فما محاسن شيءٍ كله حسن
ما فيه لَوٌّ ولا ليتٌّ تنقِّصه ... وإنَّما أدركته حرفة الأدبِ
على أنني والحمد لله لم أكن ... مذاداً مع الحرمان منك ولا شربُ
ولكنني أبردت صدري بنهلةٍ ... من الفضل غُصَّت دون موردها الشَّربُ
وذلك لأني أطلعت التردد إليك، وعولت أمري في طلبي عليك.
ووردت من أنهار فضلك كل معين، وكنت لي في طلبي وأملي خير معين.
والنعمة لا تجحد، والحسنة لا تكفر.
والشمس لا يمكن سترها بحجاب، والبدر لا يخفى ضوؤه وإن كان تحت السحاب.
والكذب شيمة المنافقين، ألا لعنة الله على الكاذبين.
وأنا ما قلت ذلك إلا رائياً أن لا طيب إلا ما اختلط بترابك، وأن لا سعد إلا ما خيم ببابك.
وأن لا ربيع إلا في بقعتك، وأن لا أنس إلا بطلعتك.
وأن لا فرح إلا بقربك، وأن لا ترح إلا ببعدك، وأن لا نشاط إلا بحبك، وأن لا علم إلا ما استفيد منك، وأن لا فضل إلا ما أخذ عنك، وأن لا دليل إلا ما جيء به معزوًّا إليك، وأن لا سند إلا ما أخذ من فيك، ومحالٌ عليك.
لعلمي بأنك البدر الكامل، والفرد الذي ليس له معادل ولا مماثل.
هذا، مع مغالاتي فيك، ومنافستي عليك، ومناظرتي بك، وانتمائي بالفضيلة التامة إليك.
وإنشادي مستمسكاً بحبل ودادك، ومتمسكاً بترب مهادك.
ومعتقداً أن رضاك ثوابٌ، وغضبك عقاب. ورغبتك إحسان، ورهبتك خسران.
وإعراضك جحيم، والتفاتك نعيم. ومثلك لا مثل يضاهيك.
إن غضب تجمل، وإن تأذى ولو بوهمٍ تحمل.
وإن جاء فاسقٌ بنباءٍ تبصر واستفسر، وإن ثبت لديه شيءٌ ولو دعاء اغتفر واستهتر.
فهاتِ قل لي يا من مكانته ... في القلب قد حلَّها بمفرده
أي جوابٍ لمن يسأل عن حلمك، واستفسر عن ثمرة علمك. فإن الحلم، ثمرة العلم. وهو دالٌّ عليه، كدلالة النور على الثمر، والهالة على القمر. وقد وجد كماله فيك، وظهرت ثمرته عليك، وتذللت قطوفه دانيةً إليك.
وأعود فأقول: بعض هذا الجفا يا مولاي يكفي، وجزءٌ من هذا الإعراض يجزي. وفي قليلٍ من صدودك انتقام كثير، وفي يسيرٍ من هجرك إسرافٌ وتبذير. وفي أدنى ما بلغني عنك كافٍ ومقنع، وفي أقل ما رأيته منك للقلب مؤلم وموجع. وفي المثل: من يسمع يخل، ومن يكثر يمل. وأظن أن الداعي إلى مهاجرتي نميمةٌ جاء بها فاسق، ونبأ افتراه كاشح.
ومع ذلك لو ارتكبت جريرةً لما استحقيت من القطيعة المهلكة أعظم مما رأيته وقاسيته، ولو اكتسبت كبيرةً لما استوجبت من العقوبة المنهكة بعض ما عاينته وعانيته. ولو أشركت، والعياذ بالله تعالى، لمحت ذنبي التوبة والاستغفار، ولو كفرت، معاذ الله، لغطت على كفري الندامة والاعتذار.(1/27)
ولما أحتمل أن يسمى كبيرة، ويدعى ولو على المجاز جريرة. وهب أنني يا مولاي لا أؤاخذك بأغراضك وإعراضك، ولا أعاتبك بإسرافك وإخلاقك، ولا أقابلك بإخلافك وأخلاقك. ولا أواجهك بانقيادك وعدم انتقادك، ولا أعارضك بإعراضك، وعدم اعتراضك. ولا أطالبك بتألبك، وعدم تألمك، ولا أحاسبك بما حرمتنيه من عطفك، ولا أصادرك وإن سؤتني بما تثنيه من عطفك.
أفي حكم المروءة أن تبعد من يقاربك، وتطرد من يصاحبك. وتطرح من يهابك ولا يملُّك، وتسمح بقطيعة من يجلُّك ولا يخلُّك.
ومن أمثالهم: أهل الحفائظ أهل الحفاظ. والحفائظ تحلل الأحقاد، فأين من سيدي الحفيظة المأمولة لتحلِّل ما عنده وما استقصاه، وتهدم ما شاده الواشي وما بناه.
والعين تعرف من عيني محدِّثها ... إن كان من حزبها أو من أعاديها
وقد باغتني مقالةٌ من بعضها في القلب جروحٌ. فليت شعري، وهل ليت بنافعة، متى كان جرحاً، حتى صار قرحاً.
ومتى قدح الزند حتى اضطرم هذا الوقد.
ومتى تكاثف القطر وهمى، حتى اجتمع هذا البحر وطمى ومتى طنَّت الحصا، حتى بلغ مداها عنان السَّما.
وبالجملة فقد شاركت الليال، في تقلب الأحوال. ووافقت الأيام، في اصطناعها اللثام.
هلاَّ ألهمت أن ترد بعقلٍ وتصدَّر بتميز، " وما ذلك على الله بعزيز ".
ولولا أنك أعنتها ونصرتها، وآزرتها وظاهرتها. لردَّت على أعقابها ناكصة، ورجعت على أدبارها خائبة. ولأمنت مكرها، واجتنبت إصرها.
ولكنها جمرة ليل، وأثمر ثمارٍ لا سيل. وبناءٌ على شفا، وعلَّةٌ قريبة الشِّفا.
وقد ثبت أن العقوبة للمسيء، والحرمان للمجرم، والخذلان للمعتدي، والقصاص للمذنب، والمؤاخذة للجاني. وأنا أبيض وجه العهد، واضح حجة الود، مصاحب التوفيق، بريء الساحة، مجانب الهفوات. ولو أنني علمت أنه أمرٌ بيت بليل، لجازيت الصانع كيلاً بكيل، ولكني سأريه ناجذي وأتجلد، وأري الشامتين أني لريب الدَّهر لا أتضعضع.
ولعمرك ما علمت أن صريح الرأي في التحول عنك مطلوب، ولا تحققت أن المجاز في كل تركيب من الألفاظ العرفية متداول مرغوب. لأتبصر أن قول القائل مثلاً: اذهب الأعمى. أن يكون عبارةً عن طرد المخاطب ضمناً، وقد تقرر أن المخاطب يدخل في عموم كلامه لا أن المخاطب يدخل فيما خوطب به. ولو علمت قبل ما عدت بعد.
لست أشكو من امتناعك عنِّي ... يا منى النَّفس حيث عزَّ الإيابُ
سوء حظِّي أنالني منك هذا ... فعلى الحظِّ لا عليك العتابُ
وأحرى بقول القائل:
إذا لم تكن حاجاتنا في نفوسهم ... فليس بمغنٍ عنك عقد الرتائمِ
حلفت ولم أترك لنفسك ريبةً ... وليس وراء الله للمرء مطلبُ
إني لا قابلت إحسانك بكفر، ولا أسأت أدباً فيما صنعته في خدمتك بأن أتبعه بمنّ. ولك عندي اليد البيضاء التي لا أقبضها عن الدعاء لك، والأخرى التي لا أبسطها بالدعاء عليك.
وها أنا أشكو إليك، جعلني الله فداك، ما لا يمكن الإيضاح به، ولا الصراحة عنه، ولا التوصل بالاستيفاء، ولا التسلط بالاستحضار عليه، ولا التجمل بالإغضاء، ولا البيان لما فيه، ولا التمحل له.
وربما ذكرت البعض منه، وقلت: لعلِّي كنت شائماً سراباً، أو مستمطراً جهاماً، أو رائياً خلَّباً، أو وارداً حيث لا مراد، أو مستعيناً حيث لا معين، أو مستغيثاً حيث لا مغيث، أو مستجيراً حيث لا مجار، أو مستميحاً حيث لا سماح، ولك المثل الأعلى.
لا تعجبوا ضربي له من دونه ... مثلاً شروداً في النَّدى والباسِ
فالله قد ضرب الأقلَّ لنوره ... مثلاً من المشكاة والنِّبراسِ
ولو كان رمحاً واحداً لاتقيته ... ولكنه رمحٌ وثانٍ وثالثُ
فهل كنت كالمقتدي بناقضة الغزل، أو كالمستصحب سراةً لملمَّةٍ فإذا عم عزل. أو كراضٍ من الغنيمة بالإياب، ومن المركب بالتعليق، أو كراجع بخفِّي حنين.
هذا، وأنا أقول: لن تضر الحوار وطأة أمِّه. بيد أنه يقال، فيما تقدم ومضى من المدد الخوال:
فقسا ليزدجروا ومن يكُ حازماً ... فليقسُ أحياناً على من يرحمُ
ومثلي من تهفو به نشوة الصِّبا ... ومثلك من يعفو ومالك من مثلٍ(1/28)
وإني لينهاني نهاي عن التي ... أشاد بها الواشي ويعقلني عقلي
وما أنا بالمهدي إلى السؤدد الخنا ... ولا بالمسيء القول في الحسن الفعل
فهات جواباً عنك ترضي به العلى ... إذا سألتني بعد ألسنة الحفلِ
فبين الرِّضا والسُّخط ظنِّي واقفٌ ... وقوف الهوى بين القطيعة والوصلِ
ولو تيسرت لي مخاطبتك مشافهةً لكان لي معك ذوقٌ من الكلام، لكن لما عزَّت المشافهة، استغنيت بالمكاتبة والمراسلة، قائلاً:
لك الحمد أما من نحبُّ فلا نرى ... وننظر من لا نشتهي فلك الحمدُ
ولعمري إن ليلي عليك ليل السليم، ونهاري دونك نهار الأليم. وفكري قد صدئَ لعدم مطارحتك، وطرفي قد قذي لندرة مشاهدتك. وقلبي لعزة رضاك واجبٌ مضطرب، وصدري لعلة مؤانستك حرج ضيِّق، وفمي لبعد مصاحبتك واجمٌ ساكت، وصادف حجاي عارضٌ وعين، فغلبني الدمع بسلاسل من عسجد ولجين:
أما والذي أبكى وأضحك والذي ... أمات وأحيا والذي أمره الأمرُ
لقد صديت مرآة الخيال، وقذي طرفٌ طال ما سهر الليال. وتزلزل محلُّ سيدي من قلبي، أطال له البقاء، ومنحه سوابغ النعم والارتقاء.
رفقاً بمنزلك الذي تحتلُّه ... يا من يخرِّب بيته بيديهِ
وضاق وسع الفضا، وسكت مصقع الخطبا. وجنَّ صاحي القوم، وبكت مقلةٌ يعزُّ عليها النوم.
إذا الليل أضواني بسطت يد الهوى ... وأذللت دمعاً من خلائقه الكبرُ
معلِّلتي بالوعد والموت دونه ... إذا متُّ عطشانا فلا نزل القطرُ
أما تتقي الله في واقفٍ أمامك، مستغفرٍ تائب. وأرق ما يعرض على المولى قول القائل:
سلي تعلمي إن كنت غير عليمةٍ ... بأن ليس في حبِّي لغيرك مطمعُ
فأنَّ لي القلب الذي ليس خالياً ... من الوجد والجفن الذي ليس يهجعُ
فوالله ما أنفكُّ أذكر موضعي ... لديك ولا أنفك نحوك أنزعُ
وبالجملة:
أُعيذها نظراتٍ منك صادقةً ... أن تحسب الشحم فيمن شحمه ورمُ
وهاك هدية الوقت، وعفو الساعة، وفيض البديهة. ومسارقة القلم، ومسابقة اليد للفم. وجمرات الحدَّة، وثمرات المودَّة. ومهاداة الخاطر للناظر، ومباراة الطَّبع للسَّمع، ومجاذبة الجنان للبيان. وها هو جواد البلاغة علك الشَّكيم، حابس العنان، لم يأخذ طلقه، ولم يستوف مضماره.
وهذا هو النهض فما بالك بالركض، وقد آلى لا يعرق عرق التنبيه ما لم يسمع بتصهالهِ، ويرعد بقرع نعاله. ويوصل ممتطيه غايةً لا تدرك، وغارةً بالرياح الهوج لا تنهك. ومع ذلك لو نظمت النثر كالدرر، وأتيت به رائقاً كنسيم السَّحر، وموشياً كألوان الزهر، وما كنت إلا كمهدي التمر إلى هجر، والفصاحة لأهل الوبر.
وآخر ما أقول إن ودي موقوفٌ عليك، وحبيس سبيلك، وتحت رهنك. فمتى عاودته، وجدته سائغ المعبر، غضَّ المنظر، جنيَّ المخبر. يندى بشاشةً، ويقطر حسناً، ويفوح عنبراً، ويثمر لطفاً. فإن فعلت ذلك فهو حسن، وإن عدت فالعود أحمد. وإن كان الأمر كما يقال: لا ولا. فالغبن مشترك. والله يتولى السرائر، ويعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور. وإن راسلتك بما زاد أو نقص فهو منك، وبسببك والسلام.
وله من كتاب كتبه، وهو بجبل الشوف، إلى بعض خواصِّه، جواباً عن كتاب كتبه إليه، يطلب بعض طرائف الجبل: وإني أراك تُهدي ولا تستهدي، وتضلُّ في رأيك ولا تستهدي.
وكأنك تلوِّح بطرائف هذه الجبال، وليس فيها سوى العُقاب والوبال، عدد ما فيها من الحجارة والرمال.
وما ظنِّي إلا أنَّك تسبَّبت إلى استهداء طرائف المقال، وتقنَّعت عن جرِّ الأثقال، بالقيراط من الجواهر والمثقال.
وإلا فأنت أعلم بالحال، وما فيها من ضروب المحال، والاختلال، والاعتلال، والاضمحلال، والابتذال.
ولقد قرأت في أخبار بعض الأخيار؛ أن بعض الأدبار الأُرباء، كتب إلى بعض الأمراء النُّجباء. يستهديه من طرائف خراسان، ويلوِّح بالإحسان من فضل ذلك الإنسان.
فكتب إليه ذلك الأمير العريض الجاه، سقا الله ثراه، ورضي عنه وأرضاه: أما بعد، فقد وصل كتابك، معرِّضاً بطرائف هذه الناحية، وقد بعثت إليك بعدل صابونٍ لتغسل عني طمعك، والسلام.(1/29)
قلت: وفي هذه الحكاية تسليةٌ للشيخ الذي رضاه قريب الغاية، وتلافيه لا يحتاج لشدة عناية، لوجود الكفاية. لأنه ربما يكتفي في الهدية، ببلغةٍ حامدية أو أحمدية. فيغسل طمعه رطل صابون، ويدفع عطشه وعد الكمون، وهو حرٌّ قانعٌ بالدُّون.
وله من رسالة كتب بها إلى أبي العباس أحمد المقري، ذلك الإمام اللوذعي العبقري، يذكر فيها موت ولدٍ له صغير: لا أوحش الله مولانا الأستاذ مما سيعرض على سمعه من عُجَري وبُجَري، ومن حديثي وغريب سمري. وهو أن الله سبحانه وله الحمد، قد جعل رونق معاشي، وريحانة فؤادي من غير تنفيس مهلةٍ ذخر معادي، ومشرد رقادي.
وقد مات للحجاج ولد، وكان بيضة البلد. فصعد متن المنبر، وحمد الله وشكر وأكثر.
ثم قال ويده على كبده، من حرِّ ما يجدِهِ: الحمد لله الذي يقتل أولادنا ونحمده.
ونظر أبو الحارث، وكان مشوه الخلق في المرآة، فقال: الحمد لله الذي لا يحمد على المكروه سواه. وها أنا يا سيدي، أحمد الله سبحانه، وقد فقدت جزء نفسي، وفلذَة كبدي، وشطر روحي، ونور عيني. وما أسفي إلا على ما سمَّاه الشيخ باسمه، ووسمه بوسمه. وأرَّخ مولده، وحمد مصدره ومورده. وقد عراني بسببه الذُّهول، وأنا في سنِّ الكهول. ولولا ذاك لما أغفلت خدمة سيِّدي إلى الآن، من رسالةٍ أستجلب بها شرفاً طارفاً، كما استفدت في الفوز بخدمته مفخراً سالفاً.
وله من رسالة إلى بعض حواشيه، يعاتبه على نقيصةٍ قذف بها بحر واشيه: اعلم، أصلحك الله، أن خبر السوء ينمو ويربو، ويبلغ متراكماً متضاعفاً، ويصل متواتراً مترادفاً. ثم إنه في السرعة يقطع مسافة سنةٍ في جمعة، وذلك أنَّ الشرَّ أغلب في الطباع، والهوى كما يعلم به القاضي شفيعٌ مطاع.
والنَّفس أقرب إلى العقوق، ولإضاعة الحقوق. والعقرب، إلى الشرِّ أميل. والأفعوان، بعيد من مراتب الإحسان.
ومن وزن الميزان في غير ميزانه، عوقب بنقصانه، وعدم رجحانه. ولعمري لولا أن الخبر يحتمل سامرين، ويتردَّد بين شفتين. لأوجعت القاضي عتباً، ونهبت أديمه نهباً، وأخذت كلَّ سفينةٍ غصباً. كأنَّ القاضي سمع قولهم:
إذا أنت لم تنفع فضُرَّ فإنَّما ... يراد الفتى كيما يُضَرُّ وينفعُ
فعمل بمعناه، وتمسك بفحواه، ونسي أُولاه وأُخراه.
قال الصاحب لأبي سعد الرُّستمي حين جفاه:
فلعلَّ تيماً أن تُلاقي خطَّةً ... فتروم نصراً من بني العوَّامِ
القاضي، وإن كان يحتاج إلى ما هو أوضح في العتاب، من هذا الخطاب. تقريباً لفهمه، وتوضيحاً لعلمه. ولكن هو كما قال أبو الطيب:
وكلمةٍ في طريقٍ خفتُ أُعربها ... فتهتدي لي ولم أقدر على المحنِ
وإنما نهجت على سَنَني في البلاغة، وسبيلي في الخطابة والكتابة. وهو أصلحه الله تعالى على سَنَنِه في الجفا، وقلِّة الوفا، ووقوفه من الصِّدق في الصَّداقة على شفا، وحسبي الله تعالى وكفى.
وكان بينه وبين أبي الطَّيِّب الغزِّي مودَّة ومصافاة، ثم أعقبها مقاطعة ومجافاة. فكتب إليه هذه الاعتذارية النابغة، وهي كما تراها تهزأ باعتذارات النَّابغة. ومطلعها:
ألمَّت أيادي الخطب سائمة العتب ... على أنها العُتبَى تكون لذي الحبِّ
يقول فيها:
لأية حال يا ابن خيرِ أرومةٍ ... أُذاذد عن العذب الزُّلال بلا شربِ
وأشرب صاب الدَّمع يطفو أجاجُه ... لبُعدك والأعداءُ واردةُ العذبِ
منها:
فيا ليت شعري والأماني تعلُّلٌ ... وروض المنى ينبيك عن وابلٍ رطبِ
متى أردِ الإسعاف في منهل الرِّضا ... وأعتاض عن نزر المودَّة بالسَّكبِ
وقد كنت آتي في السَّلام تتابعاً ... فلم صرت أرضى في الزِّيارة بالغَبِّ
ولو أنَّني واقعت عمداً جريرةً ... لما كان بدعاً منك داعية السَّبِّ
ولكنني والله أعلم لم أكن ... لأقطع أوصال المحبَّة كالإربِ
ولم أستثر حرب الفجار ولم أُطع ... مسيلمةً إذ رام آلفة الحجبِ
ولم أعتقد أن الخلافة فلتةٌ ... بعهد أبي بكرٍ ولا كان من دأبي
ولم أرم فاروق العدالة غيبةً ... وقد طلبت منه النَّجيبة بالكذبِ(1/30)
ولم أكُ نجواً للخوارج إذ بغوا ... على قتل عثمان بسطوةِ ذي شُطبِ
ولم أكُ سلماً لابن ملجم إذ سطا ... لحربِ عليٍّ والهوان لذي الحربِ
ولم أكُ في قتل الحسينِ مجرِّداً ... لصِمامتي أو أن يذاد عن الشُّربِ
ولم أختلق بِدعاً وحسبك داعياً ... إذا كان عرض المرء منثلم الغربِ
وهبْ أنَّني مارستُ ذلك كلَّه ... فحسبي من الإعراض يا أملي حسبي
وقد وقفت من هذا النمط على اعتذارية، توسل بها أبو جعفر المري في تربة المهدي، عند عبد المؤمن سلطان الأندلس، بعد أن نكبه، وهي هذه: تالله لو أحاطت بي كلُّ خطيئةٍ، ولم تنفكَّ نفسي عن الخيرات بطيئة. حتى سخرت بمن في الوجود، وأنفت لآدم من السُّجود.
وقلت: إنه لم يُوحَ في الفُلك لنوح. وبريت لقدارٍ نبلاً، وبرمت لحطب نار الخليلِ حبلاً. وحططت عن يونس شجرة اليقطين، وأوقدت مع هامان على الطِّين. وقبضت قبضةً من أثر الرَّسول فنبذتها، وافتريت على العذراء البتول فقذفتها. وذممت كلَّ قرشي، وأكرمت لأجل وحشيٍّ كلَّ حبشي.
وقلت أن بيعة الثَّقيفة، لا توجب إمامة الخليفة. وشحذت شفرة غلام المغيرة بن شعبة، واعتقلت من حصار الدَّار وقتل أشمطها بشعبة.
وغادرت الوجه من الهامة خضيباً، وناولت من قرع سنِّ الحسين قضيباً. ثم أتيت حضرة المعصوم لائذاً، وبقبر الإمام المهديِّ عائذاً.
لآن لمقالتي أن تسمع، وتغفر لي هذه الخطيئات أجمع.
فعفواً أمير المؤمنين فإنَّنا ... نُقلُّ قلوباً هدَّها الخفقانُ
وكتب إلى الأمير محمد بن منجك يسلِّيه وقد احترقت يده وقدمه، بنارٍ اعتلقت بمطبخه ليلة عيد الفطر، وقد أجاد وأحسن كلّ الإحسان:
قالوا يد المنجكيِّ ذو الرُّتَبِ ... آلمها النار قلت من عَجَبِ
يمينه ديمةٌ ونائلها ... بحرٌ فكيف اختشت من اللَّهبِ
تضرُّه النار وهو مطفئها ... والنار ليست تضرُّ بالسُّحبِ
وإنَّما قام وهو محتفلٌ ... كعادةٍ منه تنتمي لأبِ
تبغي قِرى الضَّيف في إثارتها ... وذاك دأب الكرام في العربِ
فقبَّلتْ كفَّه لما له نظرتْ ... من هِمَّةٍ للقِرى مع النَّصبِ
أو قد رأت مكرمات راحته ... عمَّت جميع الأنام بالنَّشَبِ
فبادَرَتْه لتجتدي نشباً ... منه فساءت مواطن الطَّلبِ
وضرَّ أقدامها ولو عقلتْ ... لقَبَّلَتْها بغاية الأدبِ
لكن بحمد الإله ما شُغلت ... عن مسِّها لليراع والقُضُبِ
انظر إلى وجوده وقد طلبتْ ... من كفِّه قبلةً فلم تخبِ
جُودٌ يروح الجمادُ يطلبه ... ما شِيمَ كلاَّ في سالف الحقبِ
ومن نتفه قوله:
نَصَل الشَّباب وما نصُلتُ عن الهوى ... وبدا المشيب وفيَّ فضلُ تصابي
وغدوتُ أعترضُ الدِّيار مُسلِّماً ... يوماً فلم تسمح بردِّ جوابِ
فكأنَّها وكأنَّني في رسمها ... أعشى يحدِّق في سطور كتابِ
وقوله:
إني أبُثُّك حبًّا ... حُبًّا يرى السِّلم حربا
ويغصبُ القلبَ غصبا ... وينهب الصبر نهبا
يا من كوى ألف قلبٍ ... سامح من النار قلبا
وقوله:
يا عدوًّا قد ظلمنا ... هُ بتلقيب الحبيبِ
وغريب الطَّبع فينا ... وهو في زيِّ قريبِ
ما قليلٌ أنت لكن ... منك قد ضلَّ نصيبي
وقوله:
لاحظته فتغيَّرت ... لحظاته غضباً لحربي
فاستلَّ من أجفانه ... سيفاً وأغمده بقلبي
يا من رأى في دهره ... قلباً غدا غمداً لعضبِ
وقوله:
يا شقيق الظَّبيِ لحظاً ... والرَّشا في لفتاتكْ
فتَّ غصن البان قدًّا ... والنَّقا في خطراتكْ
لست هاروت ولكن ... سحره من حركاتكْ
عظَّم الله بصبري ... أجر ماضي لحظاتكْ(1/31)
أنا والله قتيلٌ ... هالكٌ من نظراتكْ
جرحت قلبي وهذا ... شاهدي في وجناتكْ
أنا أستبقي حياتي ... لتُقَضَّى في حياتكْ
كيف تعصيك حياةٌ ... هي من بعض هباتكْ
آه من ضعف غرامي ... وتقوِّي عزماتكْ
آه من طول عنائي ... وتداني خطراتكْ
وله من قصيدة، مطلعها:
ذا ودادي وهل ترى لودادي ... حافظاً في الأنام مثل فؤادي
كلَّما رحتُ أستميح حبيباً ... ودَّه جاد لي بضدِّ مرادي
فكأنَّ الأنام أضحوا فلاناً ... وفلانٌ هو الذي لي يعادي
كلَّما رمت قربه أخذت بي ... شيمةٌ منه تقتضيه بعادي
مثل صبري إذا تلقَّى هواهُ ... كان ذا رائحاً وذلك غادي
إن تمادى بنا جفاهُ قليلاً ... فانتظر للأساة والعٌوَّادِ
عجباً من نواك وهو طريفٌ ... كيف لم يرع حقِّ قرب تلادي
أخلفَتْك الشؤون عجزاً فجادت ... بالسَّواري أكبادنا والغوادي
ليس عندي من الدُّموع سوى ما ... وهبتْهُ عصارة الأكبادِ
كان طول القناة ودُّك عندي ... فانبرى من جفاك عرض النِّجادِ
لا تلمني على هواك فإنَّا ... قد أتينا معاً على ميعادِ
صادف القلب خالياً فاحتواه ... مطمئِنَّاً وكان بالمرصادِ
معنى البيتين ينظر إلى قول الآخر:
أتاني هواهُ قبل أن أعرف الهوى ... فصادف قلباً خالياً فتمكَّناَ
نقل عن أبي بكر الأصبهاني أنه عابه، فقال: كل من صادف مكاناً خالياً تمكَّن فيه، والمستحسن أن يعرفه من دونه.
أقول: هذا كلام من لم يذق حلاوة المعاني؛ فإنَّ الشاعر قصد أن غرامه قائمٌ، لم يسبقه غيره، فإنه متمكِّن في قلبه لا يزول، وما قصد معنًى آخر، كما قيل:
أتاني هواه والهوى قد أحاط بي ... ليجمل بيت القلب للحبِّ منزلا
فصيَّرته وقفاً عليه ولم يجد ... إليه سبيلاً غيره فتحوَّلا
تتمة الأبيات الأولى:
كان لي منك لحظةٌ أصطفيها ... فغدا لحظها كسيف الأعادي
كنت أخشى غِرارها وهي سلمٌ ... كيف إذ جرِّدت من الأغمادِ
عملت للوشاة فينا سيوفٌ ... عجباً رحن وهي غير حدادِ
لست مستسعداً حبيباً تجنَّى ... لي ذنباً وصدَّ عن إسعادي
آه من وصلك البعيد التَّداني ... آه من هجرك الكثير التَّمادي
لا ابتلاني الإله بعدك حتى ... يلبس الخدُّ منك ثوب الحدادِ
ويرى الورد كالبنفسج لوناً ... منك والأقحوان غير نوادي
إذ عرى نرجس العيون ذبولٌ ... وغدا الغصن ليس بالميَّادِ
ذاك نوحي عليك وهو زمانٌ ... منصفٌ للهوى من الأضدادِ
ومن نتفه قوله:
علَّمتني الذُّلَّ حتى صرت آلفه ... وما التذَّلُّلُ خلق الباز والأسدِ
يا من أهان فؤادي من محبته ... أعزَّك الله فارحمني ولا تزدِ
قد صرت طوع يد الأشواق مكتئباً ... من بعد ما كانت الأشواق طوع يدي
وقوله:
وأذكرني قدَّ القناة قوامه ... وهزَّني الشَّوق اهتزاز المهنَّدِ
وأزعجني حتى ظننت وسادتي ... عليَّ وقد أمست كقطعة جلمدِ
ألا إنَّني يا شوق بالله عائذٌ ... ومستشفعٌ من فتنتي بمحمدِ
وله من قصيدة، أولها:
لحى الله أوقاتي وضاعف من صبري ... على مرِّها مرَّ السَّحاب بالقطرِ
تحاربني الأيام حتى كأنَّني ... تطالبني عن كلِّ من مات بالوترِ
الوتر: الذَّحل، وهو الثأر.
قال يونس: أهل العالية يقولون: الوتر، يعني بالكسر: في العدد، وفي الذحل، بالفتح.
عددت أويقاتي ولاحظتُ طيبها ... فأجودها ما مرَّ في الحلم من دهري
إذا رحتُ أحصيها لأعلم يسرها ... عدمت حياتي والمصير إلى عسرِ(1/32)
متى ما اعتبرتَ العمر ما كان صافياً ... تجد رجلاً قد عاش عمراً بلا عمرِ
هذا معنًى غريب، وأظنه تناوله من قول الحتاتي، وهو:
عمرُ الفتى قالوا زمان الرِّضا ... بصفوة الأحباب في اليسرِ
صدَّقت ما قالوه كي يُقبلوا ... فينظروا شيخاً بلا عمرِ
وأصله قول الأمير أسامة بن منقذ:
قالوا نهاهُ الأربعون عن الصِّبا ... وأخو المشيب يجور ثمَّتَ يهتدي
كم حار في ليل الشباب فدلَّه ... صبح المشيب على الطَّريق الأقصدِ
وإذا عددت سنيَّ ثم نقصتها ... زمن الهموم فتلك ساعة مولدي
قال العماد الأصفهاني: تعجب من مقاصد هذه الكلم، وتعرض لموارد هذه الحكم واقض العجب كل العجب من غرارة هذا الأدب، ولولا أن المداد أفضل ما رقم به صحائف الكتب، لحررت هذه الأبيات بماء الذهب، فهذا أبلغ من قول أبي فراس الحمداني:
ما العمر ما طالت به الدُّهور ... العمر ما تمَّ به السُّرور
فالفضل للمتقدم في ابتكار المعنى، وللمتأخر في المبالغة.
العود أحمد:
وها أنا في طيِّ الليالي معدِّدٌ ... كواكبه من حيث لا حاسبٌ يدري
كأنِّي في همِّي مدى الليل راكبٌ ... على فلك نائي المدى أبداً يسري
أروح مجدًّا مصعداً وعزيمتي ... إلى اللَّوح كي أقرا به سورة اليسرِ
وأحفظها من جبهةٍ شمْتُ نورها ... على بعدها قدرُ الكواكب والبدرِ
وله:
عجبت للشمس إذ حلَّت مؤثِّرةً ... في جبهةٍ لم أخلها قطُّ في البشرِ
وإنما الجبهة الغرَّاء منزلةٌ ... مختصَّةٌ في ذرى الأفلاك بالقمرِ
ما كنت أحسب أن الشمس تعشقه ... حتى تبيَّنتُ منها حدَّة النَّظرِ
وله:
انظر لأوراق الربيع وقد بدت ... محمرَّةً في صفرة الأشجارِ
وكأنَّها لما تبدَّت بينها ... شفقٌ تبدَّى في سماء نُضارِ
وله:
قد أُحبُّ الرَّبيع لِلَّهو فيه ... بلطيف الهواء والأزهارِ
ثم فصلُ الخريفِ عنديَ أحلى ... لاجتنائي فيه لذيذ الثِّمارِ
ومن غزلياته قوله:
ومعذِّرٍ خفيت خطوطُ عِذاره ... فبدت لطالب وصله أعذارهُ
قد لاح تحت ورودِه ريحانةٌ ... وبدا خفيًّا للعيون غبارهُ
يبدو فتقطر بالدِّما أقطارُه ... دلاًّ ويخطو بالخُطى خطَّارهُ
رقَّت شمائله ورقَّ كلامُه ... وتعبَّدت أوطارنا أوطارهُ
فشككْتُ بين مؤنَّثٍ ومذكَّرٍ ... فيه فأنْبَا باليقين عذارُهُ
من هذا، بل أجود منه قول تقيِّ الدين الفارسكوري:
توهَّمتُه شمساً وكان يريبني ... نسيم الصَّبا منه ومن طبعها الحَرُّ
فلمَّا دجى ليل العِذارِ ولم يغب ... علمتُ وزالت شبهتي أنه البدرُ
وله:
وما زالت تخبِّرُني المعالي ... سراراً لا أطيق له جهارا
فإن أظفرْ به فأنا حَرِيٌّ ... وإلا فالمقدَّر لا يُجارى
وحيَّاه غلامٌ بوردةٍ، فقال:
انظر إلى وردةٍ حيَّى بها رشأٌ ... نشوان وافى من الغلمان كالحورِ
كأنَّها شفتاه حين جاء بها ... مضمومةً إذ بدت أو طرفُ مخمورِ
في التشبيه الأول شمةٌ من قول الشريف الرضي:
كم وردةٍ تحكي بسبق الورد ... طليعةً تشرَّعت من جندِ
قد ضمَّها في الغصن فرط البرد ... ضمَّ فمٍ لقبلةٍ من بُعْدِ
ولابن الرومي:
وردٌ تفتَّح ثم ارتدَّ مجتمعاً ... كما تجمَّعت الأفواه للقُبَلِ
ومن تضامين ابن تميم الفائقة:
سبقتْ إليك من الحدائق وردةٌ ... وأتتك قبل أوانها تطفيلا
طمعتْ بلثمك إذ رأتك فجمَّعت ... فمها إليك كطالبٍ تقبيلا
وأصله قول المتنبي في راكب فرس:
ويُغيرني جذب الزِّمام لقلبها ... فمها إليك كطالبٍ تقبيلا
وله عاقداً لحكمة تؤثر:(1/33)
إذا أقبلت دنياك يوماً على امرئٍ ... كسَته ولم يشعر محاسن غيرهِ
وإن أدبرتْ سلبتْ محاسن نفسه ... وكُسى شروراً عن ملابس خيرهِ
وله:
كلُّ الحوائج تنقضي ... فاعجب لفرقِ قضائها
فالأُسد تفترس المها ... وتعيثُ في أعضائها
والنَّمل عظمٌ واحدٌ ... منها يفي برضائها
وله من النوع الذي يسمى بالاكتفاء:
إنَّ احتفال المرء بالمرء لا ... أحبُّه إلا مع الاكتفا
مبالغات النَّاس مذمومةٌ ... فاسلك سبيل القصد في الاحتفا
فيها التزامٌ عجيب، لم ينظم مثله، وهو أن يكون اللفظ المكتفي به بمعنى اللفظ المكتفي منه؛ فإن الاحتفاء والاحتفال بمعنى الاعتناء؛ فيكون على هذا الاكتفاء وعدمه على حدٍّ سواء، إذ لو قطع النظر عن لفظ الاحتفال لأغنى عنه لفظ الاحتفاء، مع تسمية النوع فيهما.
وله:
أضمُّ على قلبي يديَّ تشوُّقاً ... وألوي حيازيمي عليك تحرُّقاً
تساوى حضوري في هواك وغيبتي ... ومن عجبٍ شوقٌ لدى البعد واللِّقا
رعى الله قلبي حيث كان فإنَّه ... غدا بحبال الشَّمس منك معلَّقا
ومن رباعياته قوله:
أبكيك ولو بقدر شوقي أبكي ... أوردت محاجري حياضَ الهُلكِ
لو قال لي الغرام ممَّن تشكو ... بأساً وأساً لقلت منكي منكي
وله:
أيُّ ذنبٍ ليَ قل لي ... غير حظٍّ منك قلِّ
أتراني منك أصبح ... تُ برأيِ مستقلِّ
لك نفسي أيها ال ... جاني فخذ جهد المقلِّ
وله:
أيُّها الجاني المدلُّ ... لك نفسي وتقلُّ
طال تعذيبك قلبي ... فعذابي لا يحلُّ
أنت في حلٍّ فبادر ... بدمٍ ليس يحلُّ
وله من قصيدة، مطلعها:
عذراً لطيشك إن السنَّ مقتبل ... فليس ينفع في أشواقك العذلُ
سبعٌ وعشرون لو مرَّت على جبلٍ ... لراح يختال منها ذلك الجبلُ
قضَّيت فيها شباباً لو تطلَّبه ... رضوان في الخلد أعيتْ قصده الحيلُ
نظيمةٌ كعقود الدرِّ في نسقٍ ... فلو حوتها عقودٌ زانها العطلُ
نشوان أطفح من خمر الشَّباب ولا ... كنشوة الخمر يشكو فعلها الثَّملُ
من حيث عندي فكاهاتٌ ألذُّ بها ... راحي الرُّضاب وتفاحي هي القبلُ
أعانق الغصن في أكمامه قمرٌ ... وألثم البدر في أعطافه كسلُ
لو حلَّت الشَّمس يوماً في محلَّتنا ... لراح يندبها من شجوه الحملُ
أو قابل البدر عندي من أسامره ... لمسه دونه التَّشوير والخجل
أيام لم أحتمل للصبر عاقبةً ... ولم أقل ليت جفني راح ينهملُ
مرَّت فلا صفوُها في العيش ذو رنقٍ ... يوماً ولا ظلُّها في الأمن منتقلُ
تلهو السِّنون بها في أمرهنَّ كما ... يلهو بقلب الفتى في يومه الأملُ
وله الميمية التي أبانت عن شغف، كاد يفضي به إلى التلف، وغرامٍ رمي منه بكلف الكلف. وسبب ذلك صدُّ حبيبٍ لم يدع فيه للتَّحمل محلاً، وأذهل لبَّه فتركه بمقتضيات الحب مخلاً، وهي هذه:
حكَّمتهم في فؤادي حسبما رسموا ... فليتهم حكموا بالعدل إذ حكموا
أو ليتنا قد صبرنا مذعنين لهم ... أو ليتهم إذ تولوا أمرنا رحموا
جاروا ولو علموا أني لحكمهم ... طوع القياد لما جاروا ولا ظلموا
ضنُّوا بصحبتهم عنا ولو علموا ... صدق المحبة منَّا خلتهم ندموا
هم عرَّضونا لبلواهم بقربهم ... حتى إذا ما رأوا إقبالنا سئموا
كنَّا بنينا لهم في القلب منزلةً ... علياء حتى إذا ما شيِّدت هدموا
ظنُّوا بنا غير ما تطوي سرائرنا ... والله يأبى الذي ظنُّوه والكرمُ
ما أبعد العيب والنقصان من شرفي ... أنا الثُّريَّا وذانِ الشَّيبُ والهرمُ(1/34)
رأيتهم لم يمَلُّوا خلَّتين لهم ... وبئْستِ الخلَّتان الغدر والسَّأمُ
رحلت عنهم ولي في كلِّ جارحةٍ ... منِّي لسانٌ عليهم يشتكي وفمُ
وإن ترحَّلت عن قومٍ وقد قدروا ... أن لا تفارقهم فالرَّاحلون همُ
يا نازحين عراهم من تذكُّرنا ... عارٍ فلا مسَّكم من بعد ذا ألمُ
جنيتم ثمَّ رحتم عابثين وهل ... في العدل أن يعتب الجاني ويجترمُ
كنتم ولا عيب فيكم غير أنَّكم ... قد شاب ماءكم للشاربين دمُ
عجبتُ منكم وفي أخلاقكم عجبٌ ... كيف استوى فيكم المخدوم والخدمُ
سلبتم النَّفع حتَّى ظنَّ طالبكم ... أنَّ الذي قد تولَّى كبركم صنمُ
غدرتم ووفينا في محبَّتكم ... إنَّ الوفاء لدى أهل النُّهى ذممُ
قد كنت يوسف إذ بعتم كإخوته ... بالبخس مني فتًى تغلو به القيمُ
لا ذنب فيما أحلتم للوشاة وهل ... للخصم ذنبٌ إذا لم ينصف الحكمُ
إن كان يجمعنا حبٌّ لفرقتكم ... فليت أنَّا بقدر الحبِّ نقتسمُ
هل في القضية ممن لست أنسبهم ... أنِّي على حبِّكم بالصِّدق متَّهمُ
إن كان حبُّ الفتى ذنبٌ يعدا له ... إني إذاً أنا بالبغضاء متَّسمُ
زعمتم أنَّنا نهوى شمائلكم ... وإنَّما تعشق الأخلاق والشِّيمُ
أيُّ الفريقين أوفى عندكم نفرٌ ... هَوَوْا وما كتموا أم معشرٌ كتموا
لم تفرقوا ما البزاة الشُّهب عندكم ... وقد أحاطتكم الغربان والرَّخمُ
وما انتفاع أخي الدنيا بناظره ... إذا استوت عنده الأنوار والظلمُ
فرَّطتم في عقود الودِّ فاغتنموا ... تفريطكم إنه ما ليس ينتظمُ
جمحتم اليوم عن طرق الوفاء فلا ... جذب الأزمَّةِ يثنيكم ولا اللُّجمُ
رحتم تغضُّون منِّي دون أسرتكم ... حتى كأنيَ في أجفانكم سقمُ
بيني وبينكم بهماء مظلمةٌ ... من غدركم لم تجبْها الأينقُ الرُّسمُ
جهلتم قدر معروفي ومعرفتي ... وسوف يبلغ شأوه النَّدمُ
أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي ... وأسمعت كلماتي من به صممُ
أبدو فيخضع من بالسُّوء يذكرني ... كأنَّني فوق أعناق العدى علمُ
صفحت عنكم فلا أنِّي قبلت لكم ... عذراً ولكنَّ نفسي دأبها الشَّممُ
فادعوا بأبنائكم حتى نباهلكم ... أو لا فإنا لها الإنصاف نحتكمُ
أرخصتم سعر شعري في مديحكم ... فراح يهجوكم القرطاس والقلمُ
أنام ملء عيوني لا أعاتبكم ... وتسهر السُّمر من أجلي وتختصمُ
جنايةٌ أرْشُها وصمٌ لكم أبداً ... وشرُّ ما يكسب الإنسان ما يصمُ
من لي بأن تفقهوا أن الأنام بكم ... نصفان مستهزئٌ والنِّصف منتقمُ
ما كان أخلقنا منكم بتكرمةٍ ... لو أن فعلكم من فعلنا أممُ
هجرتم وهجرنا منصفين وفي ... فعل النُّهى دون أفعال الورى حكمُ
ضاق الكِناس عليكم يا ظباءُ بنا ... وليس للأُسد إلا الغاب والأجمُ
ما لي وآرامكم حتى أخالطها ... وفي التَّقرب ما تدنو به التُّهمُ
فارقتكم لا فؤادي راح مضطرماً ... شوقاً ولا العين في أجفانها ديمُ
سلوا تنبِّيكم حالي وما صنعتْ ... من بعد فرقتكم في صدريَ الهممُ
وكيف أصبح قلبي في تقلُّبه ... والعين كيف كراها راح يزدَّحمُ
يدٌ علينا لواشينا فلا عثرتْ ... ولا سعتْ لتجافينا به القدمُ
قد هان في بصري ما كنت أبصره ... كأنَّما يقظتي في وصلكم حلمُ(1/35)
وكنت أبكي على حظِّي بكم زمناً ... فصرت أعجب من حظِّي وأبتسمُ
وصرت أندبكم لا أنَّني أسِفٌ ... لكن لأعلم قومي أنَّكم رِممُ
طلبتُ صحبتكم حتى وجدتكم ... إذا احتفلْت بكم سيَّان والعدمُ
ورحت والصَّبر لم تثلم جوانبه ... وعدت والقلب مني باردٌ شَبِمُ
إني وما ضمَّ قلبي من سلوِّكمُ ... أليةً ليس عندي غيرها قسمُ
قد اغتنمتم بعادي عن مجالسكم ... وليس قربكم في النَّاس يغتنمُ
وكنت أزعم أن البيت بيتكم ... وأنَّ عرضكم دون الورى حرمُ
وأنَّني عبدكم حتى رأيت لكم ... عبداً يسيء بمولاه وينهزمُ
ما كان لي أن أُرى في الرِّق مشتركا ... مع عبد سوءٍ به الأحرار تُهتَضَمُ
عميتم عن محبيكم فسيء بكم ... وتلك عاقبة القوم الذي عموا
سحرت ذا الدُّرَّ حتى صغته كلماً ... لا تحسبوا أنه ما بينكم كلِمُ
لو لم تكن رقَّة الألفاظ تخدعكم ... لقلتم إنها المصقولة الخذِمُ
فلا رعى الله من لم يرع صحبتنا ... ولا رعى مرتعاً سامت به النَّعمُ
وله:
ربَّ يومٍ جاء يوحي بأمرٍ ... فيه شيطانه إلى شيطاني
من سرارٍ بين اللَّحاظ وروحي ... أتقنت علم سحره العينانِ
وأفاضا من الهوى في حديثٍ ... ليس من جنس ما يعي الملكانِ
ثم زنداي وشَّحاه وشاحاً ... ما لزنَّاره بذاك يدانِ
فاغتدينا من العناق اتِّحاداً ... مثل جسمٍ قد حلَّه روحانِ
وله:
لمَّا رأيت العيش من ثمر الصِّبا ... وعلمت أنَّ العفو حظُّ الجاني
أدركت ما سوَّلتُهُ شبيبتي ... وفعلتُ ما لا ظنَّه شيطاني
وله:
ولقد صحبتُ العزَّ مذ أنا يافعٌ ... فهو الشَّباب على الشبابِ أتاني
ولو اعترى بعد الشباب لسرَّني ... فالعزُّ مكتهلاً شبابٌ ثاني
وله:
قد أظماني الغرام مما فيَّا ... هيَّا بفضول دمعِ كاسي هيَّا
لا تلحظنِّي عروس بختي أنَفاً ... حتى ولو انتقشتُ كلي كيَّا
الأمير منجك بن محمد المنجكي هذا الأمير، سقى عهده مفاض الديم، وحيى الرضوان منه تلك الشيم. إن لم يكن ثاني أبي فراس في الشعر وحده، فهو مع ذلك ثاني ابن طيٍّ الذي تجاوز في الكرم حده. فهما إن ابتدآ الأمرين في الوجود، فهو الذي انتهى به الفضل والجود. وأحسن ما في الطاووس الذنب، وفي الخمر معنًى ليس في العنب.
هذا، وكل ناطقٍ بلسان، وعارفٍ بحسنٍ واستحسان. مجمعٌ على فضله الذي اقتضى لذكره التخليد، فالعالم عرفه بعلمه، والجاهل قال بالتقليد. وهو منذ لاح هلاله في أوجه، وأبوه بين حزب الإقبال وفوجه. يفدى بالشموس والأقمار، ويمد بالأنفس والأعمار. وإن لم يكن في قبة السما، فهو في بحبوحة القُنَّة الشَّما. يباهي بسؤددٍ اتصلت أصوله اتصال الشآبيب، وتناسبت فروعه تناسب الرماح كعوباً على كعوب، وأنابيب على أنابيب. وعزٍّ له ذروةٌ تفضي إلى روضٍ بالسَّماح يجود، فكم لجباه العفاة لديه من مجال سجودٍ من مجالس جود. حتى قعد مقعد والده، واحتوى من رياشه على طريفه وتالده.
هنالك سلك من البذل ما سلك، وسخا والسخيُّ جوده بما ملك. فأعرضت عنه الأيام إعراض النسيم عن الروضة الغنَّاء، وتخلت عنه تخلي العقد عن عنق الحسناء.
وإذا الجواد يبيت من ... جور الزمَّان على وسادِ
كالعين تفرح غيرها ... وتظلُّ لابسة الحدادِ(1/36)
وقد أدركته وسبجه بدِّل بعاجه، وسمهريُّ قدِّه رمي باعوجاجه. وكان بينه وبين أبي محبة ومودة، ومجالس اجتماعاتٍ لمذاكرة الأدب معدة. فكنت أجني من مطارحتها بدائع مائسات الأعطاف، وأقطف روائع مستعذبات الجنى والقطاف. ولقد رأيت من فضله ما لم أر قبل ولا بعد، وطالما حصلت منه على أمانيَّ في هذا الشأن من غير وعد. فمن لفظٍ إذا سمعته قلت كأنَّ العرب استخلفته على لسانها، ومعنًى إذا تخيلته قلت: هذا للبراعة إنسان عينها وعين إنسانها. إلى محاضرةٍ إذا تحرَّى في أسلوبها الرَّشيق، تهمُّ ببسط الحجر لالتقاط درها النسيق. وأما حديث لين العريكة، ودماثة السليقة، فلم ير من يشبهه في الخلق والخليقة. بأدبٍ ضافي الذليل مطرز الكم، وشعرٍ يكاد يحيي الجماد وينطق البكم.
وها أنا أورد من أشعاره ما تزهو به القراطيس على صفحات الخدود المحشاة بالسوالف، ويغني عن لذة السلاف السلسل تذهَّبت به الليالي السوالف.
فمن ذلك قوله من قصيدة، مطلعها:
يعدُّ عليَّ أنفاسي ذَنوبا ... إذا ما قلت أفديه حبيبا
وأبعد ما يكون الودُّ منه ... إذا ما بات من أملي قريبا
حبيبٌ كلَّما يلقاه صبٌّ ... يصير عليه من يهوى رقيبا
سقاه الحسن ماء الدلِّ حتى ... من الكافور أنبته قضيبا
يعاف منازل العشاق كبراً ... ولو فرشت مسالكها قلوبا
فلو حمل النَّسيم إليه مني ... سلاماً راح يمنعه الهبوبا
أغار على الجفا منه لغيري ... فليت جفاه لي أضحى نصيبا
وأعشق أعين الرُّقباء فيه ... ولو مُلئت عيونهم عيوبا
لقد أخذ الهوى بزمام قلبي ... وصيَّر دمع أجفاني صبيبا
وما أمَّلتُ في أهلي نصيراً ... فكيف الآن أطلبه غريبا
وأقصد أن يعيد رُوا شبابي ... زمانٌ غادر الولدان شيبا
وما خفيت عليَّ النَّاس حتى ... أروم اليوم من رخمٍ حليبا
إذا ظنَّ الشَّباب خشيت منه ... لفقد مساعدي يلفى مجيبا
وهب أنِّي حكيتُ الشاة ضعفاً ... فما لي أحسب السنَّور ذيبا
منها في المديح:
لئن سعدتْ ولو في النَّوم عيني ... برؤياه لتلك العين طوبى
وإن ضنَّ السَّحاب فلا أبالي ... وفيض نداه قد أضحى سكوبا
إذا تليت مآثره بأرضٍ ... غدا الفلك المُدار بها طروبا
وقوله:
نوروز لا كنت قلبي فيك مكروبُ ... الشَّمس طالعةٌ والبدر محجوبُ
أرى الحسان وما لي بينهم حسنٌ ... ما كلُّ من نظرتْهُ العين محبوبُ
صفر الفؤاد من الأفراح ممتلئٌ ... بالحزن قلبي وفيض الدَّمع مسكوبُ
أبغي القيام وسوء الحظِّ يقعدني ... من عاند القدر المحتوم مغلوبُ
وقوله:
حبيبٌ حماه الملك تحت قبابه ... يكاد يذيب الروح فرط احتجابه
تدير على سمعي الأماني حديثهُ ... فتسكر أفكاري بذكر رُضابهِ
يعيد تراب الأرض مسكاً وعنبراً ... إذا قبَّلتْ للشُّكر فضل ثيابه
يكلِّمني باللَّحظ عن أخذ مهجتي ... فيسبق تسليمي بردِّ جوابهِ
وقوله:
ما شرَّف الروض في نزاهته ... إلا وستر الغمام ينسحبُ
كأنَّه البدر عند رؤيته ... لا شكَّ شمس النَّهار تحتجبُ
وقوله:
تحجَّب عني الطَّيف حتى كأنَّه ... تخيَّل إنساني عليه رقيبا
وقد كان يغشى قبل ما احتبك الهوى ... فظنَّ خيالي للنحول قريبا
وقوله:
عِدْ وماطل فقد رضيت به ... منك وإن كان بالجفا آيبْ
صدق وعود الحسان أجمعها ... فدًى للذَّات وعدك الكاذبْ
وقوله:
ألا لا تبكِ حادثة افتراقٍ ... ولا تفرح بلذَّات الإيابِ
فما الدُّنيا وما ضمَّته إلا ... كخطِّ منَجِّمٍ فوق التُّرابِ
وقوله:
الموت أطيب ما يجتنى ... إن شطَّت الدارُ وطال الحجابْ(1/37)
لا يدخل النَّار أسير الهوى ... إذ لا يرى الجنَّة أهلُ العذاب
معنى هذا البيت مضطرب، وقد سئلت عنه فأجبت: بأنه معرب من بيت بالتركية لفضولي، ومعناه: أن نار العشق التي يعذَّب بها العاشق في الدنيا هي نار الآخرة عندها جنَّةٌ، فإذا دخلها العاشق، والمفروض من أهل العذاب، يعني في العشق، لا يدخل النار الأُخرويَّة؛ لأنها بالنسبة إليه جنة.
وقوله:
مهلاً فحبُّك بي أراه عابثاً ... وأظنُّه للرُّوح منِّي وارثا
من ذا الذي ألوى بعهدك في الهوى ... حتى انثنيت عن المودَّة ناكثا
جرَّبت فيك الحادثات فلم أجد ... مثل الرَّقيب إذا خلونا حادثا
يا مشبِهَ الآرامِ ألا أنَّها ... خُلقت لنا عيناه سحراً نافثا
قد راح بالقمرين طرفي هازئاً ... لمَّا رأى في بُردتيكَ الثَّالثا
أقول: ما تصورت أن الثاء تهون هذا الهوان، ولا تذعن هذا الإذعان، ولا تنقاد للكلِم إلا أن يكون كلمة المعان. فهذا السحر البياني إن لم يكن السحر المبين، وهذا المعجز الباهر، وأنا أول المؤمنين.
وله من قصيدة، مستهلها:
كبدٌ من سنان لحظك جرحَى ... وعيونٌ تُردِّدُ الدَّمع سَحَّا
وحنينٌ إلى الدِّيار ووجدٌ ... يستفزُّ النُّهى وشوقٌ ألَحَّا
يا ابن وُدِّي تفديك من كلِّ سوءٍ ... مهجٌ فيك ليس تقبل نصحا
قم بنا نشرب المدامة بكراً ... حيث رقَّ الهوى ونسكنُ صَرْحا
في رياضٍ كأنَّما هي خَدَّا ... كَ بهاءً وطيب صدغك نَفْحا
مطلعاً من ضياء وجهك والفر ... ع ظلاماً يغشى العيون وصبحا
سكرَ الكأسُ إذ سكِرْتُ بعيني ... كَ فكان المُدامُ منِّي أصْحى
هذا بيتٌ تقلقل مبناه، فلهذا لم يفهم معناه، وسكر الكأس بظهور لازم السُّكر وهو الميل عليه، وإن صح أن المدام بمعنى المديم، فهو المعنى الذي يرجع إليه.
وله:
زمن الربيع مطِيَّة الأفراح ... ومُعدِّل الأرواح في الأشباحِ
زمنٌ به لولا اشتباك فواقعٍ ... طارت حُمَيَّانا من الأقداحِ
أخذه من قول ابن المعتز:
كادت تطيرُ وقد طِرْنا بها فرحاً ... لولا الشّباكُ التي صيغَت من الحَبَبِ
ولأبي الحسن علي بن الحسن الأندلسي:
والماءُ يحذر منها أن تطيرَ فقد ... صاغ الحَبابُ عليها صيغة الشَّبَكِ
وله:
حمائم الدَّوح ما هذي التَّغاريد ... عن باعثٍ هي أم لي منكِ تقليدُ
نوْحِي ونوْحك جنْح الليل متَّفقٌ ... والمشْغِلان لنا وردٌ وتوريدُ
إن كان يغنيك أصوات الصَّفير فلي ... قلبٌ يعلَّلُه في الحبِّ تفنيدُ
تعجَّبت نار قلبي من تجلُّده ... ومن جفوني شكا دمعٌ وتسهيدُ
والحزن باقٍ على ما كنت أعهده ... وإن تكرَّر عيدٌ بعده عيدُ
جريح بيضِ الظُّبا تُرجى سلامته ... إلا الذي جرَحتْهُ الأعينُ السودُ
لي بالظَّعائن نهَّابُ العقول رَشاً ... قوامه بانةٌ والقلب جلمودُ
لو مرَّت الريح تَروي عن ئؤابتِه ... لم يبق من عهد عادٍ ثَمَّ ملحودُ
لكنَّما منعتْها من مواطنه ... مهابةٌ تتحاماها الصناديدُ
من البشانِقةِ الغُرِّ الذين لهم ... لواءٌ حسنٌ على الأقمار معقودُ
نحن المسيئون إن جاروا وإن عدلوا ... وما يرون حميداً فهو محمودُ
والذُّلُّ أشرف عزٍّ في محبَّتهم ... وشَرْيُ هجرهم أرىٌ وقِنديدٌ
لا تصحبَنْ غير حرٍّ إن ظفرت به ... وما سواه إذا جرَّبت تنكيدُ
ومن بدائعه قوله:
ومذ كشف الفَصَّاد عن زنده رأى ... محاسن ألْهَتْهُ فضَلَّ عن الرُّشدِ
فقطَّب من أهوى وأبصر مغضَباً ... وأوقع ظلَّ الجفن منه على الزَّندِ(1/38)
وأطلعَ نور الأُرجوان وحبَّذا ... من الياسمين الأُرجوان على الوردِ
وهذا معنى ترجمه من الفارسية، وقد ظفرتُ في العربية بما يقاربه، وقائله أبو الحسن الجرجاني:
يا ليت عيني تحمَّلت ألمَك ... وليت نفسي تقسَّمت سَقَمكْ
وليت كفَّ الطبيب إذ فصَدتْ ... عرقك أجرتْ من ناظريَّ دمكْ
أعَرْته صبغ وجنتيك كما ... تُعيره إن لثمتَ من لثمك
طرفك أمضى من حدِّ مبضعه ... فالحظْ به العِرق واربَحَنْ ألَمَكْ
وللأمير:
شمس الضُّحى وأهِلَّة الأعيادِ ... لضياء وجهك أحسد الحسَّادِ
وإذا شدا بك مطربٌ في مجلسٍ ... رقصتْ لك الأرواح في الأجسادِ
جرَّدت من سحر الجفون صوارماً ... فأبت سوى الأكبادِ من أغمادِ
مسحَ المنى من زور طيفك راحةٌ ... من بعد ما غسل البكاء رقادي
ما كنت أفتقد الشَّباب لو أنَّني ... عُوِّضت عنك بنشأةِ الميعادِ
وله:
لا تهمل الكأس حين يملأها ... من هو في الحسن واحدٌ فردُ
طينته عنبرٌ وخامرها ال ... مسكُ والياسمين والوردُ
وله:
تَخِذَ الجور والجناية عادهْ ... وانتهاب النُّفوس قبل الولادهْ
لا تضعْ سهم مقلتيه فؤادي ... ضمن تلك السِّهام ألف شهادهْ
وله:
قد زارني وكأنَّه ريحانةٌ ... يهتزُّ من تحت القِباءِ الأخضرِ
فظننْت منه ضمن كلِّ سلامةٍ ... من طيبه شمَّامةٌ من عنبرِ
ولِكنْزِ مبسمه دنوْتُ فخلته ... ياقوتةً مُلئت بأنفس جوهرِ
فهصرته هصر النَّسيم أراكةً ... متلطِّفاً حتى كأن لم يشعرِ
متعانقين على فراش صِيانةٍ ... مُتحذِّرين من الصَّباح المسفرِ
وله:
لم تمل بي عن العفافِ العُقارُ ... أعشق الغِيد والوقار الوقارُ
أنظم الشعر ما حييت وإنَّي ... لابنُ بيتٍ تُهدى له الأشعارُ
يتحلَّى بيَ الزَّمان تحلِّي ال ... غصن لمَّا يزينه النُّوارُ
صقلتني يد التَّجارب حتى ... صحَّ عزمي وطاب من الغِرارُ
ومكاني من الفخارِ مكانٌ ... حَسَدتْه الشُّموس والأقمارُ
وقوله:
إن للَّيل بقايا عنبرٍ ... في قميص الصُّبح منها أثرُ
بادرت أيدي الصَّبا تلبسُه ... فبدا عند الرِّياض الخبرُ
انظره مع قول البهاء زهير:
رعى الله ليلة وصلٍ مضتْ ... وما خالط الصَّفو فيها الكدرْ
خلوْنا وما بيننا ثالثٌ ... فأصبح عند النَّسيم الخبرْ
وله:
ألا هاتِ اسقني كاساً فكاسَا ... وحيِّ بها ثلاثاً بل سداسا
فإني في احْتساها لا أعاصي ... رشاً تَخِذَ الحشا منَّي كناسا
حبيبٌ كلما ألقاه يُغضي ... فلو أهديته آساً لآسى
يريك إذا بدا قمراً منيراً ... وعطفاً إن ثنى عِطفاً وماسا
ويبسم ثغره عن أُقحوانٍ ... ويجلو خدُّه ورداً وآسا
خلعت عذار نُسكي في هواه ... وما راقبت في حبَّيه ناسا
فأحلى الحبِّ ما كان افتضاحاً ... وأشهى الوصل ما كان اختلاسا
وله:
يا بني العشق ليس نُحسب أحيا ... أو بموتى نعدُّ تحت الأراضي
تارةً نألف الحياة وطوراً ... نتغنَّى بذكر طيب الرِّياضِ
نحن ما بين صحَّةٍ وسقامٍ ... كجفون الدُّمى الصِّحاح المراضِ
وله:
ومهفهفٍ لولا عقارب صدغه ... لتناهبت وجناته الألحاظُ
طارحته ذكر الهوى وعواذلي ... لا راقدون ولا هم أيقاظُ
نبدي الحديث ولا حديث كأنما ... عبراتنا ما بيننا ألفاظُ
وله:
وزارني طيفه وهناً فأرقَّني ... كبارقٍ بخلال الوَدقِ قد لمعا(1/39)
فما وحقِّك عن ودٍّ زيارته ... لكن ليزجرَ طرفي والرُّقاد معا
وله:
رَيحانتي روض المحاسن ما الذي ... بلِّغتماه من العذول اللاغي
حتى توارت وردتا خدَّيكما ... عن ناظري ببنفسج الأصداغِ
وله، وهو معنًى أبدع فيه كل الإبداع، وأتى به كالبدر خرج من تحت الشعاع:
نبَّهته ودواعي الأنس داعيةٌ ... إلى الطِّلا وبشير الصُّبح قد هتفا
فقام من نومه وسْنان تحسبه ... بدراً تقطَّع عنه الغيم فانكشفا
وقال هات وخذها وانتهز فُرصاً ... فما ترى لزمانٍ ينقضي خلفا
وله:
يا غزالاً يُقلُّ مسكاً فتيقا ... في فمٍ يُخجل المدام الرَّحيقا
قد سقاك الجمال ماء نعيمٍ ... مُنبت منك في الخدود شقيقا
لا تذرني تفديك روحي وحيداً ... أشتكي غربةً تسيء الصَّديقا
أنا أسعى وفي سلاسل صدغي ... ك فؤادي فارحم أسيراً طليقا
جرحتْ مقلتاك قلبي لهذا ... درُّ دمعي قد استحال عقيقا
لو ذكرْنا لماك عند حضور الرَّا ... حِ باتت فلم تجد مستفيقا
بك أرواحنا تسرُّ وترتا ... حْ فتختارك الرَّفيق الرَّفيقا
الصَّبوحَ الصًّبوحَ قبل مشيبِ ال ... حظِّ منَّا أو الغبوق الغبوقا
نجتني زهرة الشَّباب ونلهوا ... حيث نلقى الأشواق روضاً أنيقا
بين وعد آمالنا ووعيدٍ ... منك نستنظر الكذوب الصَّدوقا
وله:
أفديه من قمرٍ أطواره شغلت ... قلبي وعقلي بتغريبٍ وتشريقِ
من السَّليم وقد أحنى حواجبه ... وطرفه بين تسديدٍ وتفويقِ
وله:
تلوح لنا بالرُّوم من كلِّ جانبٍ ... وجوهٌ تُعيد الصُّبح والليلُ حالكُ
أنظمأ في دارٍ تفيض بحورها ... وتَشْرَقُ فيها بالجمال المسالكُ
وله:
لا تغتَرِر بشبابك الغضِّ الذي ... أيَّامه قمرٌ يلوح ويأفلُ
ودع اتِّباع النَّفس عنك فإنما ... حُبُّ الجمالِ الصَّبرُ عنه أجملُ
نَعَم العيون الفاتكاتُ قواتلٌ ... لكنَّ سهام الله منها أقتلُ
وله:
مولَّهٌ بك لا تجدي وسائله ... ولا من الدَّمع جاريه وسائلهُ
عزيز صبرٍ أذلَّ الحبُّ مهجته ... وعنَّفته على الشكوى قبائلهُ
عامٌ نأى عنك فيه مكرهاً فعلى ... أسحاره أبداً تبكي أصائلهُ
والكاس مذ بنتَ عنها تشتكي ظمأً ... والرَّوض من حزنٍ جفَّت خمائلهُ
كلَّفت حملَ نواك اليوم قلب فتًى ... أرقُّ من نسمة الوادي أصائلهُ
وله:
قد زار من كنت قبل زورته ... أراه لكن بمقلة الأملِ
بتنا ضجيعين والعناق له ... ثوبٌ علينا قد زرَّ بالقبلِ
ومن رباعياته قوله:
ما مرَّ تذكُّر الكرى في بالي ... إلا دفعته راحة البلبالِ
أشفقت من الجفون لمساً يؤذي ... أقدام خيالك العزيز الغالي
مثله للبابي وفيه زيادة:
أردُّ الكرى إذ زار خفيةَ نظرةٍ ... إليه فتدمي رقةً خدَّه القاني
وأسهر خوفاً أن يمرَّ خياله ... بعيني فتؤذى أخمصاه بأجفاني
وأصله قول الوقشي:
إذا ظنَّ وكراً مقلتي طائر الكرى ... رأى هدبها فارتاع خوف الحبائلِ
ويقاربه قول الصلاح الصفدي:
أيا وحشتا في ليلِ شوقي لنوركم ... ويا فرحتا لو كان في النَّوم يطرقُ
وهيهات لو زار الخيال منعته ... مخافة أن تجري دموعي فيغرقُ
وللأمير منجك:
انظر إلى فحمٍ كأنَّ لهيبه ... لمعُ الأسنَّة في مثار القسطلِ
وكأنَّه والنَّار في أحشائهِ ... صدر الحسود ونعمة المتفضِّلِ
هذا التشبيه تناوله من قول عبد الجليل المرسي في وصف فرنٍ:
ربَّ فرنٍ رأيته يتلظَّى ... وربيعٌ مخالطي وعقيدي(1/40)
قال صفهُ فقلت صدر حسودٍ ... خالطته مكارم المحسودِ
ولابن مجير الأندلسي، وقد حضر مع عدوٍّ له، جاحد لما فعله معه من الخير، وأمامهما زجاجةٌ سوداء فيها خمر، فقال له الحسود المذكور: إن كنت شاعراً فقل في هذه. فقال ارتجالاً:
سأشكو إلى النُّدمان أمر زجاجةٍ ... تردَّت بثوبٍ حالك اللون أسحمِ
تصبُّ بها شمس المدامة بيننا ... فتغرب في جنحٍ من اللَّيل مظلمِ
وتجحد أنوار الحميَّا بلونها ... كقلب حسودٍ جاحدٍ يدَ منعمِ
وقد أحسن القاضي التنوخي، في تشبيه النار، حيث قال:
فاهتف بنارٍ إلى فحمٍ كأنَّهما ... في العين ظلمٌ وإنصافٌ قد اتَّفقا
وللأمير، وهو من بدائعه:
لو لم يكن راعها فكرٌ تصوَّرها ... من والهٍ وثنتها مقلة الأملِ
ما قابلت نصف بدرٍ بابن ليلته ... وألقت الزُّهرَ فوق الشَّمس من خجلِ
قلت: هذان البيتان درَّان أو وردتان.
ومن خمرياته التي تصير الزاهد ضجيع دسكرةٍ وحان، وتنوب عن لذَّة السَّماع ومطربات الألحان:
أدر المدامة يا نديمي ... حمراء كالخدِّ اللَّطيمِ
تسري بأرواح النَّهى ... كالبرءِ في الجسم السَّقيمِ
وأقم إذا جنَّ الدُّجى ... متردياً ظلَّ الكرومِ
فالجوُّ راق كأنَّما ... صقلته أنفاس النسيمِ
وتبدَّدت زهر النجو ... مِ تبدُّدَ العقد النَّظيمِ
قم هاتها واستجلِها ... من كفِّ ذي شجوٍ رخيمِ
بدرٍ يريك محاسناً ... يسبي بها عقل الحليمِ
إن ماسَ يزري بالقنا ... وإذا رنا فبكلِّ ريمِ
في روضةٍ نسجت بها ... أيدي الصَّبا حبر الجميمِ
الجميم: مجتمع من البهمى، أي النبت.
ضحكت بها الأزهار لم ... اأن بكى جفنُ الغيومِ
كم ليلةٍ قضَّيتها ... في ظلِّها الصَّافي الأديمِ
متذكِّراً عهد الدُّمى ... متناسياً ذكر الرسومِ
نشوان من خمر الصِّبا ... جذلان بالأنس المقيمِ
حيث الشَّبيبة غضَّةٌ ... والوقت مقتبل النَّعيمِ
قلت: وقد اشتهر له في المدامة والنديم، وما يسلي عن لطف الحديث وصفو القديم. مع أنه ما عاقر عقاراً، ولا وهب لمجلس راعٍ وقاراً.
هذا ما سمعته من فيه، ولم ينقل عنه، فيما أعلم، شيءٌ ينافيه.
ومما يستجاد له قوله:
منعتْك رؤية كاشحٍ ... من أن تَمُرَّ مسلِّما
إن تخشَ من نظرٍ إليَّ ... شِمِ الهلال تكرُّما
فلعلَّ لحظي يلتقي ... وهناً ولحظك في السَّما
أصله قول بعضهم:
إلى الطَّائر النَّسر انظري كلَّ ليلةٍ ... فإنِّي إليه بالعشيَّة ناظرُ
عسى يلتقي طرفي وطرفك عنده ... فنشكو جميعاً ما تجنُّ الضَّمائرُ
ولابن المعتز منه:
ألست أرى النَّجم الذي هو طالعٌ ... عليكِ فهذا للمحبِّين نافعُ
عسى يلتقي في الأفق لحظي ولحظها ... فيجتمعا إذ ليس في الأرضِ جامعُ
ولبعض شعراء الخريدة:
وأنظر البدر مرتاحاً لرؤيتهِ ... لعلَّ طرف الذي أهواه ينظرهُ
ومن صنائعه قوله:
عدَّتُ المجد يراعٌ وحسام ... وثمار الشُّكر تجنيها الكرامُ
أعذب الأشياء في ممنوعها ... وبإعراض الدُّمى يحلو الغرامٌ
من يبت سهران في كسب العلا ... حرِّم الغمض عليه والمنامُ
قلت: هذه النبذة لم أر لها مثالاً، كلما قيد كلمتها الخطُّ سيَّرها اللفظ أمثالا: وله:
أغار إذا وصفْتُك من لساني ... ومن قلمي عليكَ ومن بناني
لئن منعتْك قومي عن حديثي ... فكم باتت تساجلك الأماني
وإن حجبوك عن نظري فإنِّي ... أراك بعين فكري من مكاني
وإن تكُ نارُ صدِّك لي تلظَّى ... فمنك أشمُّ رائحة الجنانِ(1/41)
وإن شَرَّقْت أو غرَّبْت عنِّي ... فما لك منزلٌ إلا جناني
سقَى الأثلاثِ من يَبرينَ دمعي ... وحيَّا العهد هاتيك المغاني
معاهد كم جنيتُ العيش غضًّا ... بها زمناً ولم أعهد بِجاني
أروح بها أجرُّ الذَّيل تيهاً ... وأُسقى الرَّاح من راح التَّهاني
ليالٍ كلُّها سَحَرٌ ودهرٌ ... فؤادي منه يرتع في أمانِ
فغالطني الزَّمان وقال كهلٌ ... وأيَّام الصِّبا في العنفوانِ
أقَبل الأربعين أُصيب شيباً ... فما عذر المشيب وقد دهاني
طوت أيدي الحوادث بسط لَهوي ... وألوت من مواطنه عِناني
وله:
نفسٌ تعلَّلُ بالأماني ... لا بالقِيان ولا بالقَناني
ومدامعٌ مسفوحةٌ ... بين المعاهد والمغاني
وأبيت مضموم اليدي ... نِ على التَّرائب والجَنَانِ
أشكو الصَّبابةَ للصَّبا ... بةِ بالمدامع لا اللِّسانِ
وأقول إذ هتفت بنا ... وَرقاً شجاها ما شجاني
يا وُرْقُ ما هذا النُّوا ... ح فبعض ما عندي كفاني
غادرْتُ بين الغوطتي ... نِ بمنزلي السَّامي المكانِ
أُمًّا لها كبدٌ عليَّ ... مذابةٌ مما دهاني
تستخبرُ الرُّكبان عن ... حالي وتندبُ كلَّ آنِ
فعسى الذي أبلى يُعي ... نُ ويلتقي ناءٍ بدانِ
وله:
قم هاتها فانتهابُ العيش مُغتنمٌ ... من كفِّ مُعتدلٍ في خير إبَّانِ
حيث الرياضُ اكتستْ من سندسٍ حُللاً ... وتوِّجتْ بيواقيتٍ وعِقيانِ
والمسك في الفلك العُلويِّ إذ رَتَعتْ ... غزالةُ الأفقِ والكافور سيَّانِ
وله:
وحبيبٍ مكلَّلٍ بعيونِ ... جعلتْ طوقة اللَّيالي يميني
يتشكَّى من البضاضةِ حتَّى ... لو جعلنا الفراشَ من ياسمينِ
قوله: مكلل بعيون: استعمال لطيف، أول من استعمله بشَّار بن برد، في قوله:
ومُكلَّلاتٍ بالعيونِ ... طَرقْننا ورجَعْنَ مُلسا
وقيل في معناه: إنَّهن لحسنهن تعلو الأبصار إلى وجوههن ورؤوسهن، كأن لهنَّ إكليلاً من العيون.
ومن أبياته الفذَّة قوله:
صادفْتُه فتناولتْ لَحَظاتهُ ... عقلي وأعرض نافراً متجنِّبا
وقوله:
وابتسَمَ الورد فكادت له ... تُمزِّق الرَّاحُ قميص الزُّجاجِ
وقوله:
بعض الذَّوات هي النَّعيم لمبصرٍ ... والبعض منها في الجفون قُروحُ
وقوله:
إن كتبي إليه صحف الأماني ... وبها الرُّسْلُ بيننا الأرواحُ
وقوله:
متوَّجُ الرَّاح بالإبريقِ ذو قُرطٍ ... مثل الهلال له الجوزاءُ زنَّارُ
وقوله:
طيرٌ أعار الغصن جُنكاً رُكِّبتْ ... أوتاره من فِضَّةِ الأمطارِ
وقوله:
إذا أمسك المرآةَ ينظرُ وجهه ... فظاهرها بدرٌ وباطنها شمسُ
وقوله:
ومُدامي ذكر الحبيبِ ونقْلي ... قُبَلُ الظَّنِّ من شفاه المحالِ
وقوله:
ثقيلُ روحٍ يزورُ في زمنٍ ... لو زار فيه الحبيبُ ما قُبلا
وقوله:
الجسم يبرأ بالعلاجِ سَقامُه ... وشِفا النُّفوس صداقةُ الخِلاَّنِ
وقوله:
بعض الحسانِ تراه عند مالكه ... كأنَّه العيد في أيَّامِ كانونِ
وقوله:
أحببتُ من أجله من كان يشبهُه ... حتى حكيت بجسمي سُقْمَ جَفنيهِ
عبد اللطيف المنقاري ماجدٌ استوفى شرف الأرومة، واستعلق مزيَّة النسبة المرومة. فما بات إلا بتكميل النفس وجده وكلفه؛ لأنه أتى الفضل وهو لعمري لا يتكلفه.
فهو معروفٌ بأصله وفصله، ومشهورٌ له بنبله وفضله. له المقام الأحظى، والمعارف التي ملأت سمعاً ولحظا. وهو من منذ حلت عنه تمائمه، ونيطت عليه عمائمه. مخطوب الحظوة عند الأنام، حالٌّ من الالتفات في الذروة والسَّنام. تارةً يفيد منًى وتارةً يستفيد ثناً:(1/42)
تُروى محاسنُ لفظه وكأنَّها ... دُرَرٌ وآراءٌ كمثلِ دَراري
ومآثرٌ قد خلِّدت فكأنَّها ... غُررٌ وعزمٌ مثل حدِّ غَرارِ
إلى أن فجع به المجد الأثيل، وفقد من الدنيا فقيد المثيل. وله أدبٌ نقده نضّ، ومقطعه غضّ. أخذت كلمه بمجامع القلوب، وملك قلمه الغاية من حسن الأسلوب. وقد أثبت له ما تستهديه بُرداً مُوشَّى، وتستجليه خداً بالقلم الرِّيحانيِّ محشَّى.
فمنه قوله، من قصيدةٍ، أولها:
بين حَنايا ضلوعي اللَّهبُ ... ومن جفوني اسْتهلَّتِ السُّحُبُ
وفي فؤادي غليلُ منتزِحٍ ... يعاف إلا الدِّيار تقْتربُ
يا بأبي اليوم شادنٌ غَنِجٌ ... يعبث بالقلب وهو ملتهبُ
يسنَحُ لكن بصفحتي رشأٍ ... والقدُّ إن ماد دونه القُضُبُ
صُفر وشاحٍ يزينه هيفٌ ... ليس كخودٍ يزينها القلب
إن لاح في الحيِّ بدر طلْعته ... فالشمس في الأُفق منه تحتجبُ
أشْنبُ لم تحكِ برق مبسمهِ ... يا برق إلا وفاتَكَ الشَّنَبُ
يطفو على الثَّغر مي مُقبَّله ... حبابُ ظلْمٍ وحبَّذا الحبَبُ
كأنَّه لؤلؤٌ تُبدِّده ... أيدي عذارى أفضى بها اللَّعبُ
ما مرَّ في الحلى وهو مُؤتلِقٌ ... إلا ازدهى الحلى ثغره الشَّنبُ
يعطو بجيدٍ كقرطه قلقٍ ... والقلب ما جال منه مضطربُ
وسانحاتٍ نفثن في عقد ال ... ألبابِ سحراً ودونه العطبُ
به اختلسْنَ الفؤاد من كثبٍ ... واقتاد جسمي السًّقامُ والوصبُ
تجرح منهنَّ مهجتي مقلٌ ... يفعلن ما ليس تفعل القُضُبُ
ظعنَّ والقلب في ركائبهم ... يخفق والجسم للضَّنَى نهبُ
من فوق خِلبي وضعتُ صاحَ يدي ... فلم أجده وصدَّه لهبُ
لمَّا تيقَّنتُ أن دوحتهم ... ليس لها ما حَييت منقلَبُ
أبليتُ صبراً لم يبلِه أحدٌ ... واقتسمتني مآربُ شعبُ
منهن لي ذات دُملَجٍ سلبت ... عقلي وعادت تقول ما السَّببُ
هذا على أسلوب قول مهيار:
قتلتني وانثنت تسأل بي ... أيُّها الناس لمن هذا القتيلُ
يصبو جنوناً ويدَّعي سفهاً ... أنِّي له دون ذا الورى طلبُ
وليس عندي علمٌ بصبوته ... ولا تعهدتُ أنَّه وصِبُ
لو كان فيما يقوله شغفاً ... صدقٌ عراه لعشقِنا النَّصبُ
فقلت لو شئت يا منايا لما ... سألت عني وأنت لي أربُ
إنَّ نحولِي وعبرتي معاً ... بعد أنيني لشاهدٌ عجبُ
أشكوك لو كان منصفٌ حكمٌ ... يقضي غراماً وليس يحتسب
لكنني الآن قد رجعت ولا ... يرجع مثلي متيَّمٌ سلبُ
يا قلب عجْ من حِمى مكائدِهم ... واترك مقاماً به لك التَّعبُ
كم ذا تقاسي مصاب جفوتهم ... وأنت والدَّهر كله حرِبُ
وكم تعاني بحبِّها ولهاً ... عهدكم لن تقلَّه كتبُ
فخلِّ دعداً وذِكر معهدِها ... وعد عنها وأنت مجتنِبُ
وغضَّ طرفاً عن كلِّ غانيةٍ ... واترك غزال الصَّريمِ ينتحبُ
إن عنده جاز أن يصارِمني ... فالعيد عندِي بمذهبي يجِبُ
ولا تسمَّع للحنِ شاديةٍ ... ولو إلى اللَّحنِ هزَّك الطَّربُ
وجِدَّ واترك منًى خدِعت بها ... فالهزل داءٌ دواؤه الهربُ
وله من قصيدة أرسلها إلى ديار بكرٍ، يتشوق بها إلى دمشق، ويذكر منتزهاتها. ومطلعها:
سقى دار سعدى من دمشق غمامُ ... وحيَّى بقاعَ الغوطتين سلامُ
وجاد هضاب الصَّالحيَّةِ صيِبُ ... له في رياض النَّيربين ركامُ
منها:
ذكرت الحمى والدَّار ذكرى طريدةٍ ... تذاد كظمآنٍ سلاه أوامُ(1/43)
فنحتُ على تلك الرُّبوعِ تشوقاً ... كما ناح من فقدِ الحميمِ حمامُ
أيا صاحبي نجواي يوم ترحَّلوا ... وحزن الفلا ما بيننا وأكامُ
نشدْتكما بالودِّ هل جاد بعدنا ... دِمشق بأجفاني القِراح غمامُ
وهل عذبات البانِ فيها موائسٌ ... وزهر الرُّبى هل أبرزته كِمامُ
وهل أعشب الرَّوض الدِّمشقيُّ غِبَّنا ... وهل هبَّ في الوادي السعيدِ بشامُ
وهل ربوة الأنس التي شاع ذكرها ... تجول بها الأنهارُ وهي جِمامُ
وهل شرف الأعلى مطلٌّ وقعره ... على المرجةِ الخضراءِ فيه كرامُ
وهل ظلُّ ذاك الدَّوحِ ضافٍ وغصنه ... وريقٌ وبدر الحيِّ فيه يقامُ
وهل ظبياتٌ في ضميرٍ سوانِحٌ ... وعين المها هل قادهنَّ زمامُ
ضمير: مصغر: قرية دمشق.
وهل أمويُّ العلمِ والدين جامعٌ ... شعائِره والذِّكر فيه يقامُ
وهل قاسيونٌ قلبه متفطِّرٌ ... وفيه الرجال الأربعون صِيامُ
ألا ليت شعري هل أعود لِجلِّقٍ ... وهل لي بوادي النيربين مقامُ
وهل أرِدنْ ماء الجزيرة راتِعاً ... بمقصفها والحظُّ فيهِ مرامُ
سلامٌ على تلك المغانِي وأهلِها ... وإن ريش لي من نأيهنَّ سِهامُ
لقد جمعت فيها محاسِن أصبحت ... لدرجي فخارِ الشامِ وهي خِتامُ
بلادٌ بها الحصباء درٌّ وتربها ... عبيرٌ وأنفاس الشَّمال مدامُ
وغرَّتِها أضحت بجبهة روضِها ... تضيء فخلخال الغدير لِزامُ
تنائيت عنها فالفؤاد مشتَّتٌ ... ووعر الفيافي بيننا ورَغامُ
لقد كدت أقضي من بعادي تشوُّقاً ... أليها وجسمي قد عراه سَقامُ
وله:
لهفي على زمنٍ قضَّيته جذِلاً ... مسربلاً ببرودِ العزِّ والنِعمِ
مضى كأن لم يكن ذاك الزَّمان أتى ... حتى كأني به في غفلةِ الحلمِ
ما أسأرتْ لي لياليه التي سلفت ... بلذَّةِ العيشِ إلا زفرة النَّدمِ
محمد بن يوسف الكريمي أقول فيه لا متأثِّماً، ولست من خجلٍ متلثِّماً: إنه أبرع من سبك لفظاً مع معنى، وأرقُّ من أراد أن يشعر فغنى. وهو من رقة العشرة، يكاد يدخل في القشرة. ومن خفة الروح، مع الذرِّ في الهواء يروح. ومضى عليه زمنٌ لا يعرف الصحو، ولا يفرق بين الإثبات والمحو.
وهو في قيد الرق، يجمع بين العود والزِق. هذا، وعهده يرف ماءه، ويشفُّ عن النضرة ماؤه. وتتألق غرَّته، وتشرق أسرَّته. والعيش كما يدريه، على ما يطيب يجريه. حتى فلَّ الدهر شبا شبيبته، ومحا من لوح الوجود محاسن جبهته. هناك ألجمه الشَّيب بلجامه، فنكَّب لا يلوي على كاسه وِجامِه. وقد وقفت بخطه على أشعارٍ له ألذَّ من ماء القراح، وأطيب من النسيم حفَّت به لذَّات الروح والراح.
فذكرت منها ما ينوب عن الريقين: الروض، والصَّبا، ويغني عن الرائقين: الرِّيق، والصَّهبا. فمن ذلك قوله من قصيدة، مستهلها:
في فؤادي من الخدودِ لهيبُ ... جنَّةٌ طاب لي بها التَّعذيبُ
صحوتي من هوى الحِسانِ خمارٌ ... وشبابٌ بلا تصابٍ مشيبُ
داوني باللِّحاظِ فالحبُّ فينا ... دار بلوى بها السَّقام طبيبُ
لفؤادي من لحظةِ السُّخطِ سهمٌ ... هي من قسمةِ الهوى لي نصيبُ
كلُّ قلبٍ له الصَّبابة داءٌ ... ألف الدَّاء فالحكيم رقيبُ
مِحنة الحبِّ عندنا دار بلوى ... فلها من قلوبِنا أيُّوبُ
هكذا حاكم الهوى فلديهِ ... من ذنوبٍ لنا تعدُّ القلوبُ
لو بدا للوجودِ يوسفُ حسنٍ ... ضمَّه من قلوبنا يعقوبُ
لا تلمني سداً فمدمن خمرِ ال ... حبِّ في ملَّةِ الهوى لا يتوبُ
في لِحاظِ الظباءِ آية سحرٍ ... قد تلاها على العقول الحبيبُ(1/44)
رشأٌ أخجل البدور إذا ما ... شوَّشت خاطر الفؤادِ الجنوبُ
ما رأينا من قبلِ وجهك أن قد ... حمل البدر في الزَّمانِ قضيبُ
قاتلي في الهوى اللِّحاظُ وهذا ... شاهد الخدِّ من دمي مخضوبُ
قد رماني بأسهمِ الجورِ عمداً ... وسوى القلبِ سهمه لا يصيبُ
ليت أنَّا لم يخلق الحبُّ فينا ... ليت أو لم يكن فؤادٌ طروبُ
يا أخا الوجدِ هل رأيت قتيلاً ... وهو ظلماً بنفسهِ مطلوبُ
هذا من قول المتنبي:
وأنا الذي اجتلبَ المنيَّةَ طرفهُ ... فمن المطالبُ والقتيل القاتلُ
وهو أخذه من قول دعبل:
يا ليت شعري كيف يومكما ... يا صاحبيَّ إذا دمِي سفكا
لا تأخذا بظلامتي أحداً ... قلبي وطرفي في دمي اشتركا
وقد أخذه أبو الحسن الكسروي فحسَّنه، حيث قال من أبيات:
أنا القتيلُ وطرفي قاتلي ودمي ... ما بين قلبي ومن علِّقته هدرُ
يا لقلبٍ أطعته وعصاني ... فهو إلا إلى الهوى لا يجيبُ
خبِّري يا صبا رياض التَّصابي ... فبذِكرِ الهوى فؤادي يطيبُ
عرف القلب فيك رائحة الحبِّ ... ويدري بسمِّهِ المسلوبُ
ساعدتني على النَّحيبِ حمامٌ ... حيث ما لي سوى صداها مجيبُ
أنا والوِرقُ في الطلولِ غريبا ... نِ ويستصحِبُ الغريبَ الغريبُ
غير أنِّي بِها رهين فؤادي ... وهي تأتي وحيث شاءت تؤوبُ
علِّم القلب منطِقَ الطَّير شجواً ... فله في فنونِهِ تهذيبُ
وله من أخرى، مطلعها:
فيك أمسَى وفيك بالوجدِ أضحى ... مستهامٌ لا يعرف الدَّهر نُصحا
يا غزالاً بوجدِهِ سِقم الصَّب ... رِ من القلب والهوى فيهِ صحَّا
أنت بالهجرِ قد أطلت الليالي ... ومنعت الخيال عنِّي شحَّا
وإذا زرتَ والزَّمان بخيلٌ ... لم أجِد للدُّجى وحقِّك جنحا
أرتجي بالعذارِ ليل وصالٍ ... فأرى تحته لوجهِك صبحا
يا قتيلاً بمذهبِ الحبِّ ظلماً ... دمه طلَّ وهو يطلب صلحا
شاهِدا قِتلتي فؤادي وطرفي ... وترى في كِلا الشهيدينِ جرحا
قاتلي شادِنٌ أعدَّ لقتلي ... بلحاظٍ عضباً بالقدِّ رمحا
يا لقلبٍ ما فيه يبرأ جرحٌ ... للتَّصابي إلا أرى فيهِ جرحا
ومريضِ اللِّحاظِ ساهمَ قلبي ... سقم طرفيهِ واستزدْت فشحَّا
علَّمتني جفونُه الوجدَ لما ... أن تلت للحَشا من السِّحرِ شرحا
عارضتني والوجدَ منها عيونٌ ... ما نبا العضبُ لو أعارته صفحا
وله يصف يوماً أطربه فيه الفرح، ونال فيه من اللذة ما اقترح. مع فتية مسامرتهم ألذ من الكأس إذا احتبك المجلس، وأوقعوا من المبلغ النقدِ إذا تملكه المفلس:
يا ربَّ يومٍ قطعته فرحَا ... في روضِ أنسٍ هزاره صدحَا
صفا بهِ العيش لي وجادَ بهِ ... دهرٌ وآمالُ مهجتي منَحا
مع فتيةٍ دام لي الفخارُ بهم ... ومعشرٍ صبحُ فضلهم وضحَا
من كلِّ ندبٍ شهاب فِكرتِه ... لو قابل البدرَ نوره افتضحَا
يومٌ كعهدِ الصِّبا لرقتِهِ ... نالَ بهِ القلب وفقَ ما اقترحَا
طالبت دهري بيومنا زمناً ... فالآن دهري بهِ لقد سمحَا
أذكرني طيبُ يومِنا زمناً ... كنت بريمِ الصريمِ مفتضحَا
أيَّام لا أسمع الملامَ ولا ... أصغي للاحٍ إذا صبوت لحَى
رشأٌ غدا يفضح الظِّباء بَهَاً ... بدرُ سناً طلعت الشُّموسِ محَا
عجِبت من فعلِ سهمِ مقلته ... أردَى عميدَ الهوى وما جرحَا
محجَّب الحسنِ شمسُ وجنتِهِ ... زان بَهَاها الحَيَا لمن لمحَا(1/45)
حديثُ وجدي هو القديم بهِ ... والحالُ حالي بهِ ومَا برِحَا
يا قلب للغيرِ لا تمل أبداً ... فما يداويكَ غير من جرحَا
وله من قصيدة، أولها:
من لقلبٍ ما بينَ سمرٍ وبيضِ ... من قوامٍ لدنٍ وطرفٍ مريضِ
ما لمن صادمَ الهوى من نصيرٍ ... فإليه إذا سطَا تفويضي
زارني في الدُّجى فكان كبدرِ التِّ ... مِّ قد لاحَ في الليالي البيضِ
شادنٌ لو يقابل الشَّمسَ والبد ... رَ لكانا في رتبةِ المستفيضِ
سلبَ العقلَ والفؤادَ وخلاَّ ... ني لهجرانهِ الطويلِ العريضِ
فنهاري نهارُ منتظرٍ في ... هِ وليلي لا ذقتَ ليل المريضِ
ومن أخرى، أولها:
جادَ من بعدِ بعدهِ بالتَّلاقي ... ودنا شائقٌ إلى مشتاقِ
رشأٌ طالَ ما أذابَ فؤادي ... بسعيرِ النَّوى وحرِّ الفراقِ
لم نزل نحسب الغرامَ مِزاحاً ... فرأينا مصارِعَ العشَّاقِ
كنت أشكو الجفا وأخشى صدوداً ... فرأيت البِعادَ مرَّ المذاقِ
كلُّ مرٍّ لدى المذاقِ مطاقٌ ... وأرى الصَّبرَ عنك غير مطاقِ
من لقلبٍ لم يُلفَى إلا جريحاً ... بسهامِ الجفونِ والأحداقِ
يا لهذا الفؤادِ لم ينجُ يوماً ... من وثاقٍ إلا غدا في وثاقِ
هكذا من له الصَّبابةُ داءٌ ... ليس يرجو النجاةَ مما يلاقي
وله:
على مَ تفتِكُ في العشَّاقِ بالمقلِ ... أما تخاف على الهنديِّ من فللِ
لقد أبحتَ دمي يا من كلِفتُ بهِ ... فأصبَحتْ كلماتي فيه كالمثلِ
يا من إذا ما لسهمِ اللَّحظِ أغرَضَ ... أيقنتُ وِجدانَ قومٍ من بني ثُعَلِ
بنو ثعل: قبيلة فيهم رماة، يضرب المثل بجودة رميهم.
قال امرؤُ القيس:
ربَّ رامٍ من بني ثعَلٍ ... مخرجٍ كفَّيهِ من سترِهْ
فهو لا يخطي رميَّته ... ما لم لا عدَّ من نفرِهْ
يقال في الدعاء على الإنسان: لا عدَّ من نفره، ويراد به التعجب.
شمائلٌ لكَ عاطتني الشَّمولَ فمَا ... برِحت بين سكرانٍ إلى ثملِ
آهاً على زمنٍ كان الرَّقيبُ بهِ ... صِفرَ الأكفِّ من التَّعنيفِ والعذَلِ
هلاَّ تُعيدُ زماناً كنت طَوعَ يدي ... فيه وصدريَ ملآنٌ من الأملِ
وله:
لحَى الله فِعلَ الغانياتِ إذا دهتْ ... فؤاداً لأبناء الصَّبابةِ أو عقْلا
ولا سلِّطتْ يوماً على قلبِ عاشقٍ ... عيونٌ ترى في ظلم عاشِقها عدلا
يُرينك عينَ الودِّ والوجدِ نظرةً ... ويُخرجنَ جِدَّ الوجدِ للقلبِ والهزَلا
فحتى إذا شبهت بنارِ جوانحٍ ... وأيقن بالمطروحِ من أرسلَ النَّبْلا
غدرنَ فلا يرعين للصَّبِّ ذمَّةً ... وأغضينَ عنه في الهوى الأعينَ النُّجْلا
نوافر منها لم تفزْ شِقوةً سوى ... بوعدٍ رأينا في جوانبه المَطْلا
وله من قصيدة، مستهلها:
تُرجَّى الأماني ل أماني المتيَّمِ ... وترقا دموعٌ غيرُ أدمعِ مغرمِ
بذا بيننا يقضي الغرامُ كما بنا ... لحكمِ الهوى في الحبِّ من متظلِّمِ
متى لم يصبْ لذَّاتِها طالبٌ أتى ... بقلبٍ سليمٍ أم بطرفٍ مُهوِّمِ
بحيثُ أبثُّ الوجدَ ليلةَ لم يكنْ ... لديَّ سوى زهر النُّجوم بمحرَمِ
أُعدَّد فيها كوكباً بعد كوكبٍ ... وأرقبُ فيها أنجماً إثر أنجمِ
فلم يك غير الطَّرفِ لي من مسامرٍ ... ولم أرَ غير الدَّمعِ لي من مترجِمِ
عدِمنا الهوى يُردي العميدَ ولم يصلْ ... بعضبٍ سوى لحظِ الحسانِ وأسهمِ
حَوينا قلوباً من دعاها لراحةٍ ... عصَته ولبَّت من دعاها لمؤلمِ(1/46)
أضلَّت فلم تسكن بصدر مُتيَّمٍ ... إذا لم يلوَّع من وُشاةٍ ولُوَّمِ
وريمٍ أبى إلا نِفاراً فمذ رأى ... على الصَّيْدِ صيَّاداً غدا غير مقدِمِ
يلاحظني والسِّحر ملءُ جفونِه ... يقود إليه القلبَ قودَ مسلِّمِ
يرنِّحهُ سكرُ الدَّلالِ فينثني ... كما عطفتْ غصناً صباً في تنسُّمِ
فإن زار وهناً والأماني تَعِلَّةٌ ... ترى البدر وافى فوق غصنٍ منعَّمِ
بخدٍ سقاهُ وابل الخزِّ والحيا ... سلافةَ خمرٍ أو عصارةَ عَنْدَمِ
ومن غزلياته وغرره قوله، من نبوية مطلعها:
نأى والأماني الكاذباتُ به تدنو ... بديعُ جمالٍ من محاسنه الحسنُ
هو البدرُ لا تنكر عليه بعادَهُ ... تراه قريباً والبِعادُ له شأنُ
أطال عليَّ الهجرَ حتى لطولِه ... تعلَّم منه هجرَ صاحبه الجفنُ
وعرَّفني الأحزانَ حتى ألفتُها ... فمن أجله عندي السُّرورُ هو الحزنُ
رشاً طلعت شمسُ البَها من جبينِه ... وماسَ بها من قدِّه غصنٌ لدنُ
فديتك ما هذا التنائي فلستُ من ... يُطيق بأن تشتاقك العينُ والأذنُ
بَعُدتَ ولكن لا عن القلبِ والرَّجا ... إذا لم يَشُبْهُ الياسُ كان له المنُّ
أظنُّك تدنو والليالي ضنينةٌ ... بقربِك لكن ربَّما صدق الظَّنُّ
فيا مسرفاً في هجره أنت يوسفٌ ... إذا غاب فالدُّنيا ليعقوبِه سِجنُ
سقى الله عهدً للشَّبيبةِ ماضياً ... ولا برحَتْ تنْهَلُّ في رَبعِها المُزْنُ
وحيِّي ربوعَ اللَّهوِ والوجدِ والصِّبا ... سحابُ رضاً أنواؤها اللُّطفُ واليمنُ
معاهدُ وجدٍ باكرتْ روضَها الصَّبا ... فصافحَ إذ مرتْ به الغصنَ الغصنُ
قطفتُ بها اللَّذَّاتِ مع كلِّ شادنٍ ... سقامِي بعينيه إذا ما ايرْنوُ
له في البَها تُعْزى المحاسنُ كلُّها ... كما لرسولِ اللهِ كلٌّ بها يعنُو
ومن مقاطيعه ونتفه، قوله:
وكنت أقولُ إنكَ في فؤادي ... لو أنَّ القلبَ بعدك كان عندي
سِوى عن ناظرِي ما غبتَ يوماً ... فذكرُكَ غالبَ الأوقاتِ وِردي
وقوله:
هل ترجعُ أيامي بنادِي الوادي ... تالله فقد عدَدْتُها أعيادي
أيامَ يضمُّ شملنا مُنتزهٌ ... بالغوطةِ لا فقدتُ ذاكَ النَّادِي
وقوله:
ما جاءَ الليلُ أو أضاءَ الفجرُ ... إلا وذكرتُ عيشنا يا بدرُ
لهفي لزمانٍ عِيشةٌ راضيةٌ ... قد منَّ بها على يديكَ الدَّهرُ
وقوله:
ومُعذرٍ صفحاتُ وجنتهِ ... كالشمسِ في حلَكٍ من الدَّمسِ
حيَّى فخلتُ الشمسَ قد طلعت ... ليلاً لِما شاهدتُ من أُنْسي
فعجبتُ من شمسٍ بدتْ لِدُجًى ... وبقيتُ فيه مُراجعاً نفسي
فغدا يقولُ أذاك من عجبٍ ... أعجب لهذا الأمرِ بالعكسِ
فانظر لمعجزةِ العِذارِ بدا ... في وجنتي كاللَّيلِ في الشمسِ
ومما ينسب إليه قوله:
ومَهاةٍ قد راعتِ العودَ حتى ... عاد بعد الجِماحِ وهو ذليلُ
خاف من عَرْ أُذنِه إذ عصاها ... فلهذا كما تقولُ يقولُ
نحوه للحسن بن يونس:
غيداءُ تأمرُ عودَها فيطيعُها ... أبدَّ ويتبعها اتِّباعَ ودودِ
فكأنما الصَّوتانِ حين تمازَجا ... ماءُ الغمام وابنةُ العنقودِ
ولكشاجم:
جاءتْ بعودٍ تناغيهِ فيتبعُها ... فانظر بدائعَ ما تأْتي به الشَّجرُ
فما يزالُ عليه أو بهِ طربٌ ... يَهيجُه الأعجمانِ الطَّيرُ والوترُ
وليوسف بن عمران الحلبي:
يستوقفُ الأطيارَ حسنُ غِنائها ... إن ردَّدتْ ألحانَها ترديدا
وتظنُّ صوتَ العودِ صوتَ غنائها ... وغِناءَها أبداً تظنُّ العودا(1/47)
وقوله مضمِّناً:
يا من يدُ الرحمنِ قد خطَّت على ... صفحات خدَّيهِ السَّنيَّةِ لامَا
قد تمَّ حسنُكَ بالعِذارِ فمن رأى ... بدراً يكون له الكسوفُ تماما
البيت لأبي فرج بم هندو، وقبله:
خلعَ العِذارُ على عِذارِك خِلعةً ... خلعت قلوبَ العاشقينَ غراما
قد تمَّ، وهو معنًى، كم حام على تضمُّنه مُعَنَّى.
وللباخرزي فيما يقاربه:
وجهٌ حكى الوصلَ طيباً زانهُ صُدُغٌ ... كأنَّه الهجرُ فوقَ الوصلِ علَّقهُ
وقد رأيتُ أعاجيبَ الزَّمانِ وما ... رأيتُ وصلاً يكون الهجرُ رونقهُ
أخوه أكمل قرين أخيه ونده، فأحدهما السيف والآخر فرنده.
وكانا إذا اجتمعا تقابل البدر والثريا، وتطارح الشمول الرائق والرَّويَّةِ الرَّيَّا فتسابق بهما الكميت في ميدان الدِّنان، فمن رآهما قال ما شاء في طليقي عنان.
وإذا أخذا في معاطاةِ الأسمارْ، فما مشابهةُ الأماني في بلهنية الأعمار. ومحمد، إن كان أكبرُ سنًّا، فأكمل أرهف منه مسنًّا. إلا أنه اعتراه طرفٌ من الجنون، فصيَّره ثالث خالد والجنون. وله من جنونه أفانين، عدَّ بها من عقلاء المجانين.
وقد وقفتُ من شعره على كلمٍ يوسى به الكلم، ويعد من الظلم قياسها إلى الظلم.
فمن ذلك قوله في وصف حديقة زهر، يخترقها من اللجين الذائب نهر. إذا خمشته يد الصَّبا، تتوهمه زرداً مذهبا.
وفيه دولابٌ يشجي الصَّبَّ بنحيبه، كأنه محبٌّ وقد رمي بفقد حبيبه:
وحديقةٍ ينسابُ بين غصونها ... نهرٌ يُرى كالفضَّةِ البيضاءِ
قد ألبَستْه يدُ الجنائبِ والصَّبا ... زرداً كنبتِ الرَّوضةِ الغنَّاءِ
دولابُه بحنينهِ كمذكِّرٍ ... عهدَ الصِّبا ومعاهد السَّرَّاءِ
أبداً يدورُ على الأحبةِ باكياً ... بمدامعٍ تربو على الأنواءِ
ناحَ الحمامُ قِدماً فهو في ... ترجيعهِ موفٍ قديمَ إِخاءِ
ومن بدائع قوله:
بهَوًى سرتْ من سالفيْ ... ك إلى فؤادي في لهيبِ
فأتت بأطيبَ ما يسرُّ ... ذوِي الهوَى في طيِّ طِيبِ
إلا رحِمْتَ شبابَ ذي ... قلبٍ عليلٍ بالوجيبِ
فحنَوْتَ من كرمٍ علي ... هِ كميلةِ الغصنِ الرَّطيبِ
وقوله:
ولائمٍ قد لامَني في الطِّلا ... وترْكها والنَّهيِ عن شربها
فقلتُ تلحانِيَ جهلاً أمَا ... كفى طلوعُ الشمسِ مِن غربهَا
الغرب: دَنُّ الخمر، وبه تمت التورية.
وأصله قول أبي القاسم بن طلحة، في مغربي:
أيتها النفسُ إليهِ اذهبي ... فحبُّهُ المشهورُ من مذْهبي
مُفضَّضُ الثَّغرِ له شامةٌ ... من عنبرٍ في خدِّهِ المُذْهبِ
آيَسَنِي التَّوبةَ من عشقِهِ ... طلوعُه شمساً من المغربِ
وللشهاب الخفاجي:
كمْ قهقَهَ الإبريقُ إذ قيلَ تابْ ... وابتسمَ الكأسُ بثغرِ الحبابْ
والرَّاحُ شمسٌ قد تبدَّتْ لهُ ... من مغربِ الدَّنِّ فكيف المتابْ
للهِ أيَّامٌ مضتْ سرعَةً ... كهجعةٍ من ذي جوًى واكتئابْ
ليلاتُها قمرٌ وأيَّامها ... كأنَّها أعيادُ عصرِ الشَّبابْ
واغتبق يوماً بمحلٍّ كان يتخذه مفترش ندوته، ومتوسد صبوته. ومضطجع اطمئنانه، ومدار كأسه ودنانه. وهو في ينع الشباب، ورواء الأحباب. عندما اقترن بالليل نهاره، وامتزج بالبنفسج بهاره. وقد أحضر من آلات أُنسهِ، وأظهر من نوع ذلك وجنسه. ما يروق النَّاظر، ويصقل الخاطر.
فكتب يستدعي له صديقاً، كان يتخذه في ذلك العهد رفيقاً:
بادِر أُخَيَّ إلى الغبوقِ براحةٍ ... تنفي همومَ الصَّبِّ حين يصبُّها
حمراءَ رصَّعها الحبابُ كأنَّها ... شفقُ السَّماءِ تجولُ فيه شُهْبُها(1/48)
بادر أخي، أطال الله بقاك، وقهر من يعاديك ويشناك. إلى تعاطي راحةٍ حاكى مزاجك مزاجها لطفاً، وزاد عليها بهاءً وأدباً وظرفاً. إذا أخذها الساقي وصب، ذهب عمَّن كان بين الشرب والصب. لا سيما إذا كانت حمراء كاللجين، مرصعةً بجواهر الحبب أو ممزوجةً بين بيْن. فالمأمول من الأخ المبادرة، ليفوز منه أخوه بأحسن مسامرة ومحاورة.
وفي ذيل الاستدعاء:
يا من رِضاهُ جنَّةٌ كمُلتْ ... والسُّخطُ داءٌ منكرٌ ضَنْكُ
زُرْ روضَنا كالغيثِ أكسبَه ... عِطراً فزيْنٌ بالتُّقى النسكُ
ماسَ الشَّقيق لنا على قُضُبٍ ... خضرٍ كسِمطٍ زانَه السِّلكُ
وكأنَّه والقضْبُ تحمله ... أقداحُ ياقوتٍ به مسكُ
ومن غزلياته قوله:
بهَوًى جَدَّ بقلبي ... طامعاً في لَفتاتِكْ
وفؤادٍ ضلَّ في ... حصرِ قليلٍ من صفاتِكْ
وفؤادٍ لم يُمتَّعْ ... حظوةً من خطواتِكْ
غافلاً عن ذنبِه إذ ... هو من بعضِ هِباتكْ
يا غزالاً خاطرَ القلْ ... بَ برؤْيا خطراتِكْ
آهِ ما أعجزنِي عن ... حملِ ماضي عزماتِكْ
بالحِمى ترتعُ والأُسْ ... دُ ثَوَتْ في عَرَصاتِكْ
كيفَ يرجوكَ فؤادٌ ... والحِمى بعضُ حُماتِكْ
بأبي حبَّاتُ مسكٍ ... نُقِّلتْ من وجناتِكْ
بل سويداءْ قلوبٍ ... أُحرقتْ في جمراتِك
أتُرى يا دهرُ هل في ... لحظةٍ من لَحَظاتِكْ
يغفلُ الواشونَ كي أح ... سبُها من حسَناتِكْ
ومن رباعياته قوله:
حَيَّى وسقى الحَيا الرُّبى والسَّفْحا ... من غاديةٍ تشبه دمعي سَفحا
والله وما ذكرتُ عيشي بِهِما ... إلا وضرَبتُ عن سواهُمْ صَفحا
وقوله:
لا أنْظُر للسَّماءِ فافْهَمْ عُذري ... قد ضاق برؤيا قمرٍ بها صدري
في صورةِ من أهوى وفي حاجِبِه ... ما يُغني عن هلالها والبدرِ
أهل العربية فرَّقوا بين الرُّؤيا والرُّؤية، فكن مستيقظاً في نظائره؛ فإنها كثيرة في أشعار المتأخرين.
ومن بدائعه قوله في مُعَذَّرٍ عنِم الحسنُ روضَ خده النَّضر، وتلاقى في جانبيه موسى مع الخضر:
يا حسنَ حمرةِ خدٍّ زادَ بهجتَهُ ... لونُ العِذار الذي حارتْ به الفِكَرُ
كأنَّ موسى كليمَ اللهِ أنسَه ... حيناً وجرَّ عليه ذيلهُ الخَضِرُ
نقله من قول ابن سعيد، صاحب المرقص والمطرب، في نارَنْجة نصفها أخضر والآخر أحمر:
وبنتُ أيكٍ دنا من لثمِها قُزَحٌ ... فصار في خدِّها من لثمِهِ أثَرُ
يبدو بعينيك منها منظرٌ عجَبٌ ... زبرجدٌ ونُضارٌ صاغَه المطرُ
كأنَّ موسى نبيَّ الله أقْبسَها ... ناراً وجرَّ عليها ذيله الخَضِرُ
وقد ألمع ابن سعيد بمأخذه من حيث لم يشعر؛ حيث قال في مكان آخر، من مرقصه: لما رحلت إلى دمشق وأبصرتها، فتنني منظرها، وأكثرت القول فيها، إلى أن وقع لي من قصيدةٍ:
في جِلِّقٍ نزلوا حيث النَّعيمُ غدا ... مُطوَّلاً وهو في الآفاقِ مُختصَرُ
القُضْبُ راقصةٌ والطَّيرُ صادحةٌ ... والنَّشرُ مرتفعٌ والماءُ منحدرُ
وقد تجلَّتْ من اللَّذَّاتِ أوجهُها ... لكنَّها بظلالِ الدَّوحِ تستترُ
وكلُّ وادٍ به موسى يفجِّره ... وكلُّ نهرٍ على حافاتِه الخَضِرُ
ولابن فضل الله:
للشامِ فضلٌ باهرٌ ... بعيشِها الرَّغدِ النَّضِرْ
في كلِّ روضٍ يلتقي ... ماءُ الحياة والخَضِرْ
ومن رباعياته قوله:
إمَّا يَمنٌ أهلُ الهوى أو قيسُ ... ليسوا مثْلي وإن تباهوا ليسوا
لو أنصَفني حاكمهُم في بُرَحِي ... ما قيسَ بمن عنه تلاهَوا قيسُ
وكتب إليه أخوه ملغِزاً:
يا أكملاً يستكملُ الظَّرفا ... يا فاضلاً والفضلُ لا يَخفى(1/49)
ويا شقيقي من فَخاري به ... ومن غدا لي في الورى طَرفا
أكملُ منه إن أصِفه فلي ... أرجَع من أوصافه الوَصفا
قل لي عن وصفٍ حُروفٌ له ... أربعةٌ ما نقصتْ حرفَا
إذا وصفتَ الشَّحصَ يوماً به ... فعينه في دبرِه تُلفَى
ولم يزلْ يصحبُ كُلاَّبةً ... بها يجيد القبضَ لا الصَّرفَا
ثانيهِ نصفْ العُشرِ من ثالثٍ ... وكلُّه لم يبلغِ الألفا
ينقص عنها بل عن بعضِها ... ولم تكمِّل ناقصاً حلفا
موصوفُه نصفانِ فانظرْ له ... نصفاً ولا تنظرْ له نِصفا
ثانيهِ مع ثالثهِ فعلُه ... متى يُشاجِر عِرسَه عُنْفا
يُظهِر في أفعاله خفَّةً ... وهو لِثقلٍ لم يغبْ طرْفَا
كالبومِ شُؤمٌ وهو إلفٌ لنا ... فهل رأيتُم بومةً إلفا
أجِبْ وعن ذا الوصفِ أوضحْ لنا ... لا ذقتَ للدَّهرِ إذاً صَرْفا
فأجابه ملغزاً أيضاً:
جاءتْ فزادتْ روضنا عرْفا ... بل قلَّدتْ آذانَنا شُنْفا
وأطفأتْ من كبدِي لوعةً ... ولم تكنْ من غيرها تُطفا
وهيَّجتْ شوقي إلى ماجدٍ ... لم أكُ أبغي غيره إلفا
أعِني شقيقي من أرى بُعدَه ... للدَّهرِ ذنباً لم يكدْ يُعفى
ذو كرمٍ لو شامه حاتمٌ ... عضَّ على أنملهِ لَهفا
رَبُّ المعانِي والقوافِي التي ... كالُّرِّ إذ ترصِفه رصفَا
كانت كعذبِ الماءِ عند الصَّفَا ... أو كلَمًى أرشِفه رشفا
أو كوصالٍ من حبيبٍ وقد ... أكثَر في ميعادِه الخُلفا
مُضيِّعٍ أرعاهُ بين الورى ... وشيمةُ الأحبابِ لا تخفَى
أبيتُ أُملي من غرامِي له ... كتُبْاً ومن إِعراضِه صُحْفا
يُدير من ألحاظِه أكؤساً ... حمَّلها أجفانَه الوَطفا
تسقِيه راحاً مُزِجتْ من دِما ... عيني وتسقيني الهوَى صِرفا
سائلةً عن ساعدٍ لم يزلْ ... كعطفةِ الأصداغِ مُلتفَّا
أو كسِوارٍ ضاق عن عبلةٍ ... أو كهلالٍ كاد أن يخْفَى
لكن إذا مدَّت إلى مرقدٍ ... كقامةِ الحبِّ إذ تُلفَى
لا زلتَ تعطيها وأمثالَها ... من راحةٍ كالدِّيمةِ الوَطفا
وبعدُ ما وصفٌ له أحرفٌ ... أربعةٌ لم تستزد حَرفا
أوَّلُه سبعُ لعشرٍ حوى ... ثانيهِ لا زلتَ له حِلفا
إن تُسقِط المفردَ يعدْ ... جمعاً وهذا عنكَ لا يخفَى
وفعْل أمرٍ تمَّ فعلاً لمن ... نارُ غرامِي فيه لا تُطفا
إن تقلبِ الثالثَ مع رابعٍ ... يكنْ لموصوفٍ به وصفَا
ثانيهِ مع ثالِثه وصفُه ... إذ اعتراه النَّومُ أو أغفى
أَبِنهُ لي لا زلت في عِزَّةٍ ... لم تغضِ عما رمتَه طرفا
والدَّهرُ عبدٌ لك أو قائدٌ ... يُجيبُ من عادَيته طِرفا
ومن شعره قوله:
أُسلِّي فؤادي بادِّكاركَ طامعاً ... بصبري وأين الصَّبرُ من قلبِ عاشقِ
وألوِي ضُلوعي كي أُسَكِّن روعةً ... ومالي بقلبٍ ساكنِ الجسم خافقِ
أُؤمِّل عذباً من رُضابَك بارداً ... لإخمادِ جمرٍ بين جنبيَّ حارِقِ
فأذكرُ من عذبِ اللَّمى مع لمعِهِ ... أحاديثَ جِيران العُذَيْبِ وبارِقِ
ففي الصبْح صبرٌ إن أكن غير ناظِرٍ ... إليه دليلاً إن يكن غيرَ طارقِ
فويلِي من جسمٍ طريحٍ من الهوى ... وإِنسانِ عينٍ بالمدامعِ شارِقِ
محمد بن علي، المعروف بالحريري الحرفوشي هو في المعارف نسيج وحده، والآداب طلاع ثنايا نجده.(1/50)
عاش حيناً في حانوت ينسج حللاً ويوشيها، ويطرز متون القراطيس بحبر أقلامه ويحشيها.
ولديه تنشد ضوالُّ اللغة والإعراب، وتقف الآراء حيرى في محاسنه بين الإعجاب والإغراب.
فشدت نحوه المطايا، وأشرقت فضائله كبيض العطايا.
وشفت ظروفه حروف مباينه، فنمَّت عن سلافة لطافة معاينه.
كما نمَّ الزُّجاج على الصَّهبا، والنسيم عن شذا الربى. ومع أنه شيخ الوقار، له كلماتٌ يعصر منها العقار. فمن جاراه في طرف الرقَّة، بعدت عليه الشُّقَّة.
وكانت لديه مقاصد، يلوح منها للمنى مراصد. أيام عيشه بالمرة مؤتلف، والحظُّ غادٍ إليه ومختلف. حتى أغري الدهر بشمله ففرقَّه، وأضري ببرد ائتلافه فمزَّقه.
بسبب غرضٍ نقم عليه، وكاد يسوق الحتف إليه. فخرج مع البازي إلى بلاد العجم، وثمَّت طلع كوكب إقباله ونجم.
ودعاه الشاه عباس للرئاسة فأجاب، واراه من كمال التقرب الأفق المنجاب.
فأقام والأهواء إليه منساقة، إلى أن دعاه داعي الحتف إلى اللَّحد فأجابه وساقه.
وقد أوردت له من شعره الذي يباهي الدِّيباج الخسرواني، ما يستعير اللُّطف منه الراح الأرجواني. فمن ذلك قوله معمياً باسم مراد:
إذا خيِّرتُ بين الثَّغ ... رِ والصَّهباء من حبِّي
أقدِّم ثغر من أهوى ... على ما دار بالقلبِ
وقوله:
صبَّر الرحمن صبًّا ... ذاق هجران حبيبهْ
وحماهُ برد وصلٍ ... منه مطفٍ للهيبهْ
فلعمري ليس يدري ال ... هجرَ إلا من رمي بهْ
وقوله:
أنا والله لا أبالي وإن ذمَّ ... وإن أكثر الجهول السِّبابا
أنا كالشمس في الأنام مقامي ... معتلٍ لا ترى عليه حجابا
أدبي مفخري وفخري علومي ... لا أراه النِّجار والأسبابا
وقوله:
ترومُ وُلاة الجوْر نصراً على العدى ... وهيهات يلقى النَّصر غير مصيبِ
وكيف يروم النَّصر من كان خلفه ... سهام دعاءٍ عن قسيِّ قلوبِ
هذا معنًى تداولته الشعراء، والحسن منه قول ابن نباتة المصري:
ألا رُبِّ ذي ظلمٍ كمنْتُ لحربه ... فأوقعه المقدور أيَّ وقوعِ
وما كان لي إلا سهام تركُّعٍ ... وداعيةٌ لا تُتَّقى بدروعِ
وهيهات أن ينجو الظَّلوم وخلفه ... سهام دعاءٍ من قسيِّ ركوعِ
مُريَّشةٌ بالهدب من جفن ساهرٍ ... مُنَصَّلةٌ أطرافها بدموعِ
ومن المنشآت المبتدعة: المحارب إذا شيِّع بالدعاء له فقد أنجد بمدد بل أمداد، وحفظ ظهره بجندٍ بل أجناد. وإذا شيِّع بالدعاء عليه، فقد خرج خلفه كمينٌ لا يقوى له فيلقاه، ولا يراه فيتوقَّاه. ولن يغلب عسكرٌ واحدٌ عسكرين من الدعاء والأعداء، ولن يسلم من أعوز ظهره مجنُّ الضُّعفاء، ولن ينصر في الأرض من حورب من السماء.
ومن نتفه قوله في إفرنجي:
بروحيَ ظبيٌ فاترُ الطَّرف أحورٌ ... رنا فرمى قلبي بسهم من الغنجِ
أبت مهجتي الإشراكَ فيه وقد غدا ... يرى شرعة التَّثليثِ واضحة النَّهجِ
فيا قوم هل فيكم معينٌ على الأسى ... وهل من طريقٍ من قطيعته تنجي
فقد سامني في الحبِّ مالا أطيقه ... وأوقعني من زاخرِ الصَّدِّ في لجِّي
وبرَّح بي حتى لقد رقَّ عذَّلي ... وما حال من أضحى بقبضةِ إفرنجي
وكتب إلى صديقٍ له تمرض بالحمَّى:
أنا مذ قيل لي بأنَّك تشكو ... ضُرَّ حمَّاكَ زاد بي التَّبريحُ
أنت روحِي وكيف يُلفى سليماً ... جسدٌ لم تصحَّ فيه الرُّوحُ
وله:
إن أصبح الوغدُ يعلو فوق منزِلتي ... من غير ما سببٍ يقضي بترجيحِ
فالنَّقع يعلو على بيضِ الكماة كما ... علا الدُّخانُ علي النِّيران مع ريحِ
أخذه من قول الآخر:
إن يقعدُ فوقي لغيرِ نزاهةٍ ... وعلوِّ مرتبةٍ وعزِّ مكانِ
فالنَّارُ يعلوها الدُّخانُ وربَّما ... يعلو الغبارُ عمائمَ الفرسانُ
وله:(1/51)
أشكو إلى الله لا أشكو إلى أحدٍ ... ما نابنِي من صديقٍ يدَّعي الرَشَدا
صافيته من ضميري وُدَّ ذي مِقتٍ ... فاعتضتُ عنه بمذقٍ باللِّساِن غدا
فعدتُ من بعدِه والدَّهرُ ذو عجبٍ ... لا أصطفي في الورى لي صاحباً أبدا
وله في الشيخ محمد الجواد الكاظمي:
جرَى في حلبةِ العلياءِ شوطاً ... بسعيٍ ما عدا سننَ السوادِ
ففاتَ السابقينَ إلى المعالي ... وما هذا بِبدعٍ من جوادي
وله في إثبات التَّشوق، وحزن التفرق؛ وفيه التفريع، من أنواع البديع:
وما ظبيةٌ قد بانَ عنها وليدها ... فضاقتْ بها الغبراءْ ذرعاً وبيدُها
وهامتْ بما لاقته من حرِّ وجدِها ... وراحتْ فلا تدري إلى أينَ عودُها
تجوب الفيافي في الهجيرِ فلا ترى ... أنيساً بها يبدو سِوى من يعيدُها
بأحزنَ منِّي حين سارَت مطيُّ من ... أحبُّ وروحي في يديهِ وجودُها
وله:
يقولون في الغليونِ أفرطْتَ رغبةً ... وليسَ بشيءٍ تقتنيهِ وتختارُ
فقلتُ لهم ما ذاكَ إلا لأنه ... مضاهيَّ لا تنفكُّ في قلبه النارُ
ومن غزلياته قوله:
روحي الفداءُ لشادنٍ ... ذي نفرةٍ من زيِّ آنسْ
سلبَ الجفونَ رقادها ... وأثارَ في القلبِ الوساوسْ
وأعارَ من سقمِ اللِّحاظِ ... لجسمي المضنى الوساوسْ
ويلايَ من جورِ القوا ... مِ إذا بدا كالغصنِ مائسْ
وإذا رنا فالبيضُ تش ... بهُ فعلَ هاتيكَ النَّواعسْ
يا لائماً يرجو سلوَّ ... فتًى له جلبتْ هواجسْ
خفِّض عليكَ فإنني ... مُغرًى لثوبِ السقمِ لابسْ
أنَّى سلوُّ متيَّمٍ ... من روحِه في الحبِّ آيسْ
يجد الملامَ ألذَّ من ... صدِّ الذي بالوصلِ شامسْ
لهفي على زمنٍ لنا ... يُهدي المناسبَ والمُجانسْ
أيَّام كنت وغصن ودِّ ... ي أخضرٌ والصَّدُّ يابسْ
ومناهل اللَّذَّاتِ صا ... فٍ وردها مع كلِّ كانسْ
والدَّهر طلقٌ والشَّبي ... بة غضَّةٌ والرَّبع آنسْ
والرَّاح دارَ فلا تسلْ ... ما حلَّ في تلك المجالسْ
وله بعد ما بعد عن أوطانه، متذكراً عهد منشئهِ وقطانه:
فؤادُ المعنَّى بالتَّباعد مودعُ ... بحيِّ الذي يهوى فلوموه أو دعوا
ففي قلبهِ من لاعِجِ الوجدِ شاغلٌ ... وليس له في العيشِ بالبعدِ مطمعُ
يودُّ بأن يقضي ولم يقضِ ساعةً ... له بالنَّوى لو كان ذلك ينفعُ
وما باختيارٍ منه أصبحَ نازِحاً ... وماذا الذي فيما قضى البينُ يصنعُ
سأشكو من البينِ المفرق بيننا ... إلى الله علَّ الله للشملِ يجمعُ
فجسمي نحيلٌ مذ نأى من أودُّهُ ... وعيني لطولِ البعدِ لم تكُ تهجعُ
فلو عادَني العوَّادُ لم يهدهم إلى ... مكاني سوى ما من أنيني يسمعُ
ولو عادَ من أهوى لعادتْ به القُوى ... لجسمٍ بأثوابِ الضنى يتلفَّعُ
فيا ليتَ شعري هل أراهُ ولو كرًى ... وهل ذلك الماضي من العيشِ يرجِعُ
وهل علم الأحبابُ أنِّي مفارقٌ ... حشاشةَ نفسٍ ودَّعت يومَ ودَّعوا
وهل هم على العهدِ القديمِ الذي أنا ... عليه مقيمٌ أم لذلك ضيعوا
وله:
لا بِدعَ أن أضحى الجهولُ يدَّعي ... مكانتي ويدَّعي الترفُّعا
فالشمسُ أعلى مفخراً وقد غدا ... من فوقِها كيوانُ أعلى مطلعَا
ومن قول ابن رشيق:
بحيثُ يهونُ المرءُ يكرمُ ضدُّهُ ... وحيث هبوطُ الشمس يشرقُ كيوانُ
وله:
رعى الله أوقاتاً بها كنتُ أجهلُ ال ... فراقَ وأياماً بها أُنكِر الجفَا(1/52)
تقضَّتْ كلمحِ العينِ أو زور طارقٍ ... أتى مسرِعاً أو بارِقٍ في الدُّجى خفا
وأبدِلتُ منها فرقةً وتشتتاً ... وبعداً وهجراً دائماً وتأسُّفا
فيا ربِّي أنعِم باللقاءِ لمدنفٍ ... وإلا فكنْ بالحتفِ يا ربِّ مسعِفا
وله:
حباني الوجدَ والحُرقا ... وأودعَ مقلتي الأرقَا
وروَّع بالجفا قلباً ... بغيرِ هواهُ ما علقَا
رنا بصوارمٍ خذمٍ ... تسمَّت بيننا حدقا
حمى أوردَ وجنتِه ... بأسودِ خاله ووقى
ولاحَ بواضحٍ أضحى ... لهُ شمس الضُّحى شفقَا
له خصرٌ بألحاظِ ال ... ورى ما زال منتطِقا
تعارض المتنبي في هذا المعنى مع السري الرفَّاء. فبيت المتنبي قوله:
وخصرٍ تثبتُ الأحداقُ فيهِ ... كأنَّ عليه من حَدَقٍ نِطاقَا
وبيت السري قوله:
أحاطتْ عيونُ العاشقينَ بخصرِه ... فهنَّ له دون النِّطاقِ نِطاقَا
وكثيرٌ يظنون أن المتنبي هو المخترع لهذا المعنى، ولا يدرون أنه لعلي بن يحيى، من أبيات تغنَّى بها:
وجهٌ كأنَّ البدرَ ليلةَ تِمِّهِ ... منه استعارَ النورَ والإشراقا
وأرى عليه حديقةً أضحى لها ... حدقي وأحداقُ الأنامِ نِطاقَا
ونقل الشهاب الخفاجي إلى العذار، مضمِّناً مصراع أبي الطيب، وأجاد:
عِذارٌ خَطَّ في الوجناتِ خطًّا ... حوى كلَّ الأنامِ به وفاقَا
ترى الأبصارَ شاخصةً إليه ... وماءَ الحسنِ في خدَّيهِ راقَا
تصوَّرتْ العيونُ به فأمسى ... كأنَّ عليه من حدقٍ نِطاقا
تتمة القصيدة:
فياللهِ من بدرٍ ... غدا قلبي لهُ أُفقا
ألا يا حبَّذا زمنٌ ... حظيتُ به ونِلتُ لِقا
زمانٌ لم أجِد فيه ... لشملِ الوصلِ مفتَرَقا
أهيمُ بسالفٍ حَلَكٍ ... وأهوى واضِحا يققَا
تولَّى مسرعا عنقاً ... ومرَّ كطارِقٍ طرقَا
وطبعُ الدَّهرِ لا يبقى ... على حالٍ وإن رفقَا
فكن خلواً به فرداً ... وسرْ في الأرضِ منطلِقا
وكن جلداً إذا ما الدَّه ... رُ أبدى مشرباً رنْقا
وله من قصيدة، أولها:
يا ليتَها إذ لم تجُد بوِصالِ ... سمحتْ بوعدٍ أو بطيفِ خيالِ
جنحتْ لما رقشَ الوُشاةُ ونمَّقوا ... من أنَّني سالٍ ولستُ بسالِ
ومدامِعي لولا زفيري ولم يكدْ ... ينجو الورى من سحِّها المتوالي
ونحولُ جسمٍ واحتمالُ مكارهٍ ... وسهادُ جفني وادِّكارُ ليالي
فإلى مَ أظمأُ في الورى ومواردِي ... فيه سربٌ أو لموعُ الآلِ
ولِم اختياري عن فؤادِي كلَّ من ... ألقى وقلبي عند ذاتِ الخالِ
أخذه، ولم يحسن الأخذ من قول الباخرزي:
قالت وقد فتَّشتُ عنها كلَّ من ... لاقيتهُ من حاضرٍ أو بادي
أنا في فؤادِك فارمِ طرفَكَ نحوهُ ... ترَني فقلتُ لها وأين فؤادِي
هيفاءُ رنَّحها الدَّلالُ فأخجلتْ ... هِيفَ الغصونِ بقدِّها الميَّالِ
في خدِّها الوردُ الجنِيُّ وثغرُها ... يحوِي لذيذَ الشُّهدِ والجِريالِ
حجبتْ محيَّاها الجميلَ ببُرْقُعٍ ... كرقيقِ غَيمٍ فوقَ بدرِ كمالِ
ونضتْ من الأجفانِ بيضَ صوارمٍ ... فغزَتْ بهنَّ ولم تنادِ نزالِ
وتنزَّه يوماً في روضٍ افترَّت بواسمه، وتعطَّرتْ نواسمه. وتفتَّحت أزهاره، ونطق بلبله وهزاره.
فقال يصفه:
ومكانِ أُنسٍ قد حوى من لُطفِه ... مِن كلِّ وصفٍ رائقٍ مُستحسنِ
فالرِّيحُ تعبثُ في الغصونِ تمايساً ... والطَّير تشدو باختلاف الألسنِ
فكأنَّه الفردوسُ أحرَز صفوَه ... أملُ النُّفوسِ ومُستلذُّ الأعينِ
وله في الغزل:(1/53)
مَن لي بهيفاءَ أذكتْ من تباعدها ... في القلبِ ناراً ولم تسمحْ لمُضناهَا
واهاً لها من فتاةٍ إن رنتْ فعلتْ ... ما ليس يفعله الهِنديُّ عيناها
ومن جيِّده قوله في الخال:
قال لي من غدا إمامَ أولِي الفضْ ... لِ ورَبَّ المباحثِ الفلسفيهْ
إنَّ عندي بُرهانَ حقٍّ على نفْ ... يِ الهيولى والصُّرةِ الجِسميهْ
قلت ما هو فقالَ شامةُ حبِّي ... قد غدتْ وهي نقطةٌ جوهريهْ
قلت: هذا جارٍ على رأي المتكلمين في الرد على الحكماء، من أن إثبات النقطة يستلزم نفي الهيولى والصورة، وقد حاول محاولةً عجيبة.
ومثل هذا الاستعمال - أعني استعمال ألفاظ أهل الكلام والهندسة والنحو - مما قال فيه ابن سنان الخفاجي: ينبغي أن لا يستعمل في الكلام المنظوم والمنثور.
قال: لأن الإنسان إذا خاض في علمٍ، وتكلم في صناعةٍ، وجب عليه أن يستعمل ألفاظ أهل ذلك العلم وأصحاب تلك الصناعة. ثم مثَّل ذلك بقول أبي تمَّام:
مَودَّةٌ ذهبٌ أثمارُها شَبَهٌ ... وهِمَّةٌ جوهرٌ معروفها عرَضُ
قال ابن الأثير، في المثل السائر: وهذا الذي أنكره هو عين المعروف في هذه الصناعة:
إنَّ الذي تكرهون منه ... هو الذي يشتهيه قلبي
فقوله: إن الإنسان إلى آخره، مسلَّمٌ إليه، ولكنه شذَّ عنه أن صناعة المنظوم والمنثور مستمدةً من كل علمٍ وطلِّ صناعةٍ؛ لأنها موضوعة على الخوض في كل معنى، وهذا لا ضابط له يضبطه، ولا حاصر يحصره.
وقال ابن المعتز، في كتاب البديع: مما يعاب على الشعراء استعمال ألفاظ الحكماء، كالكيمياء، والسَّيمياء، والهَيولَى.
ولعله كان معيباً في الصدر الأول، لأنه لو يُؤلف استعماله، وعلى أمثالنا لا يعاب؛ لشيوعه، بعد نقل كتب اليونان إلينا؛ فإن اللفظ قد يعدُّ فصيحاً عند قومٍ دون آخرين.
ألا ترى أن أبا هلال قال في كتابه الصناعتين: الوحشيُّ يعاب على القروِي دون البدوي، الذي هو لغته؛ لأنه معروفٌ عندهم. وهذا مما أطلقه أرباب المعاني فاحفظه.
يوسف البديعي
أديب للبديع من القول منسوب، وواحدٌ بألفٍ من البديع محسوب. أطلع الكتاب باسقاً، ووافى به درًّا متناسقاً. وكان خرج من دمشق وعوده طري، وشرابه سائغ مري. لم تتقشَّع غمامته، ولم تذبل كمامته. وعلى قدر جماله، رزق حظًّا من كماله.
فدخل الشهباء وناسها أولئك الناس، يومئذٍ توددٌ وإيناس. فتبسمت له خلائقهم عن شفاه الصباح، وكأنما هي الرياض باح بسرها نفس الصباح.
وحسن في أعينهم حسن الحور، ووقع من قلوبهم وقع الوطر. وما برح أمره يروق ويحسن، حتى خطبته القلوب وهتفت به الألسن.
فصدح بشعره مترنِّماً في ناديهم، ونال بهم مغانم من أياديهم. وجلب لهم درَّ الكلام، فحلب منهم دَرَّ الكرام.
ولما وافاهم ابن الحسام متوشِّحاً بالقضاء، وخليفةً للسيف في المَضاء. وله البسالة التي تقتنص شوارد المعالي وتفترس، في الأريحية التي يحتمي بها الأمل من الخطوب ويحترس.
ووزنه بميزان الاختبار، فألفاه حريٍّا بالاعتبار. فنوَّه به، واعتنى بأدبه.
وولِيَ الشام فصحبه ملتحفاً بالخطوة، وواقفاً من تقربه بتلك الربوة. ودخل بعدها الروم لخدمته، وتقلب دهراً في خصائص نعمته.
وباسمه ألَّف من كتبه ما ألَّف، وجارى في حومة السبق من تقدَّمه فما تخلَّف. وهو في الأدب ممن ملك البيان عناناً. وهصر من فنونه المتنوعة أفناناً. إن نثر فالدُّرُّ المنثور انفصم نظامه، أو نظم فما اللؤلؤ المشهور نسَّقه نظَّامُه. وله في الفوائد الفرائد، ما تنتقيه لأوساط القلائد الخرائد.
وقد رأيت جملة من بدائعه فتنزَّهت في حدائق ذات بهجةٍ، ورويت ظمآن سمعي من فوائده، وموارده العذبة اللَّهجة.
وها أنا أورد له ما يغازل الجفون الوسن، وتأبى محاسنه إلا أن تذكِّر بيوسف الحسن. فمن ذلك قوله:
رويداً هو الوجدُ الذي جلَّ فادحُه ... وقد بعدتْ ممَّن أُحبُّ مطاوحُهْ
هوًى تاهتِ الأفكارُ في كنهِ ذاتِه ... ومتنُ غرامٍ عنه يعجزُ شارحُهْ
أقيكَ الرَّدى هل أنت بالقربِ منجِدٌ ... أخا دَنَفٍ لاحت عليه لوائحُهْ(1/54)
مُعنًّى رثتْ أعداؤُه لنحولِهِ ... ورقَّ له ممَّا يقاسيه كاشحُهْ
وليس له خِدنٌ يعينُ على الأسى ... يطارِحُه شجوَ الهوى ويطارحُهْ
يحاوِل كتمانَ الهوى وجفونُه ال ... قريحةُ تُبدِي ما أكنَّتْ جوانحُهْ
خُطوبٌ أصابتْه لو أنَّ ببعضها ... جَنيناً دَرَى في المهدِ شابتْ مسائحُهْ
رمتْهُ يدُ الأيَّامِ عمداً بنأيِهم ... وضاقتْ عليه بالتَّجَنِّي فسائحُهْ
خليليَّ حُثَّا أينُقَ الرَّكبِ بي ولا ... تقولا من الإدلاجِ كلَّتْ طلائحُهْ
وعُوجا على الرَّكبِ الذي قد جهِلتُما ... معالِمهُ تَهديكُماهُ روائحُهْ
مَحلٌّ إِليه كلُّ قلوبٍ مشوَّقٌ ... وتستوقِفُ الأحداقَ حسناً أباطحُهْ
يظن به من جازَه حلَّ معبداً ... إذا صدحتْ فوق الغصونِ صوادحُهْ
سقاهُ وحيَّاهُ الغمامُ بوابلٍ ... تباكِره أوداقهُ وتراوحُهْ
به تَرَيَا من لو بدا البدر في الدُّجى ... وأسفرَ في ديجوره فهو فاضحُهْ
جميلاً يعيرُ الشمسَ من نورِ وجهِهِ ... وتُسبى به من كلِّ حيٍّ ملائحُهْ
جبيناً تهابُ الأُسْدُ سورةَ وجههِ ... ويخشاهُ من في الدِّرعِ تُخشى صفائحُهْ
يصدُّ معنَّاهُ نهاراً وربَّما ... يوافيهِ ليلاً طيفُه فيصالحُهْ
له مقلَتا ريمٍ وما شامَ غيرهُ ... جَوارحها إلا وذابتْ جوارحُهْ
إذا أوعدَ الهجرانَ وفَّى وعيدَهُ ... وإن وعد المشتاقَ فهو يمازحُهْ
وإن لامَني فيه عَذولي جهالةٍ ... وقد طلَّ من دمعي على الخدِّ سافحُهْ
فلي عنه شغلٌ بامتِداحي مهذَّباً ... تُزيِّنُ أبكارَ المعاني مدائحُهْ
وقوله من قصيدة، مطلعها:
هل للمتيَّمِ من نصيرِ ... ومضامِ وجدٍ من مجيرِ
أو مسعفٍ لطليقِ دم ... عٍ وهو ذو لبٍّ أسيرِ
دَنِفٌ يبيتُ وبين أح ... شاهُ له نارُ السَّعيرِ
لم يلقَ إلا الشَّوقَ وال ... وجدَ المُبرِّحِ من سميرِ
ويرومُ إخفاءَ الهوى ... والحبِّ من بعدِ الظَّهورِ
أنَّى وأدمعه جرتْ ... في وجنتَيْه كالنُّهورِ
يرعى نجومَ الليلِ شو ... قاً منه للظَّبيِ الغريرِ
رَشَأٌ كخطوطٍ في كثي ... بٍ تحتَ بدرٍ مستنيرِ
يرنو فتفعل بالعقو ... لِ لِحاظُه فعلَ الخمورِ
فتنتْ ملاحةُ وجههِ ال ... وضَّاحِ ربَّات الخدورِ
يستوقفُ الأحداقَ إذ ... يبدو بمنظرِه النَّضيرِ
مهما نسيتُ فلست أنْ ... سى ما مضى لي بالغويرِ
إذ زارَ بعد إطالةِ ال ... هِجرانِ في ليلٍ قصيرِ
ووفى بلا وعدٍ وكم ... وعدٌ يشابُ له بزورِ
أحْيَى بزورته وقد ... تلِفتْ به روحُ المزورِ
وأدار أكؤسه على الَّ ... سكرانِ من لحظِ المديرِ
راحٌ يذكِّرنا بها ... عهد الخوَرْنَقِ والسَّديرِ
شمسٌ لها إشارقُها ... وقتَ الهجيرِ بلا هجيرِ
ضمنتْ وأوفتْ أنَّها ... تنفي الهُمومَ من الصُّدورِ
وتعيدُ أوقاتَ السُّرو ... رِ بغير أوقاتِ السُّرورِ
فوحقِّ ساحرِ مقلتي ... هِ في العشايا والبُكورِ
إلا بمدحِ المصطفى ال ... منعوتِ بالحسبِ الخطيرِ
مولًى خزائنُ علمِه ... في صدرِه لا في الصُّدورِ
فاقَ الأوائل بالعلا ... والفضلِ في الزمن الأخيرِ
إن نمَّقتْ كفَّاه طر ... ساً خيلَ كالرَّوضِ المطيرِ(1/55)
تعساً لمن جاراه فه ... وَبغيرِ شكٍّ في غرورِ
لم يدرِ أنَّ صفاتِه ... في النَّاسِ عزَّتْ عن نظيرِ
لو كان ذا عقلٍ لَمَا ... قاسَ الجداولَ بالبحورِ
وكان بينه وبين السيد موسى الرَّام حمداني مراجعات، فكتب بعض الظرفاء عن لسانه إلى السيد قصيدةً شهيرة، كالشمس وقت الظهيرة، واقتضى الأمر عدم إخباره بذلك، فراجعه عنها بقوله:
يا دَير سمعان ذكَّرتني ... رسومكَ الدُّرَّسُ الدَّريسا
أودتْ بسكَّانكَ اللَّيالي ... ولم تدعْ منهم أنيسا
فلا أغَبَّتْك غادياتٌ ... ولا عدتْ ربعكَ الدَّريسا
والناسُ مثل الرُّسومِ إلا ... إذا جنوا فاخراً نفِيسا
فكتب إليه البديعي هذه القصيدة:
ليس إلا بالقرب ما بك يوسى ... من جوًى دونه يُذيبُ النُّفوسا
قد سقتْك الأيامُ خمرةَ وجدٍ ... وأدارت من البِعادِ كؤوسا
بعَّدت عنك من تحبُّ وهذا الدَّ ... هرُ يولي الفتى نعيماً وبوسا
أين أوقاتُك التي كنت فيها ... لم تبِتْ من رِضا حبيبٍ يَؤوسا
حيث يسقيكَ خَنْدريساً حبيبٌ ... ريقُه العذب يزدري الخَندرِيسا
ذو قوامٍ ما ماس في الرَّوضِ إلا ... علَّم الغصنَ قَدُّه أن يميسا
طالما زار في الدُّجى وثُريَّ ... اه تحاكي في المغرب الإنكيسا
غلساً خوفَ لائمٍ والذي يكْ ... تمُ وصلاً يحاول التغليسا
فسقى عهدَه بجِلِّقَ عهد الدَّ ... معِ من مقلتي وربعاً أنيسا
بلدةٌ ما ذكرتها قطُّ إلا ... حرَّك الشوقُ من غرامي رسيسا
واستهلَّت مدامعي كالغوادِي ... وغدا القلب من جَواه وطيسا
منذ فارقتُ أهلها لم يطبْ لي ... صفوُ عيشٍ يحبو نديماً سَؤوسا
منها:
من أناسٍ ذكوا أصولاً وكانوا ... من أناسٍ نموا وطابوا غُروسا
نصروا دين ربِّهم بمواضٍ ... كم أذلَّتْ جحافِلاً وخميسا
تقف النَّاسُ هيبةً ووَقاراً ... بحِماهم إذا رأوهمْ جلوسا
أذْهب الله عنهم الرِّجسَ والفح ... شاءَ دون الأنامِ والتَّدليسا
وبعد أن رأى هذه القصيدة المنحولة، أخذه ما أقامه وأقعده، وملكه ما أزعجه وأكمده.
ولم يبقى أحدٌ إلا زاره واشتكى، وزأر وبكى. فكتب إليه معتذراً:
ما لموسى الشَّريف أصبحَ يبدي ... بعد ذاك الإقبالِ هجري وصدِّي
ما كفى أنه أراد لي الكيْ ... دَ مراراً ولم ينل غير وجدِ
زار دار النَّقيب ذي الفضلِ من أو ... صافَه الغرُّ ليس تُحصى بعدِّ
ذي المعالي والمكرمات حجازي ... من غدا في الأنامِ من غيرِ نِدِّ
سيدٌّ جوده لو اقتسمته النَّا ... سُ طرًّا لم تلق طالبَ رِفدِ
الجليل الشَّهيرُ بابن قضيب ال ... بان لا زال للورى بدر َسعدِ
واشتكى عنده وذمَّ ولكن ... ذَمُّ مثلي من مثله ليس يجدي
شاتماً ملء فيهِ في معرض الهز ... لِ ووالله لم يرم غير جدِّ
مُسبلاً دمعهُ كأنَّ حبيباً ... بعد قربٍ رماهُ منه ببعدِ
مبدياً من حرارة القهرِ ما لو ... حلَّت الكونَ لم يكن كُنهَ بردِ
وبدا مغرماً كأن بشَتمي ... آدميٌّ غدا بصورةِ قردِ
والذي أوجبَ التَّخاصم أني ... كنت قدْماً منحته صفوَ وُدِّي
ثمَّ كلَّت قريحتي عن مديحٍ ... فاستعارت له حديقة حمدِ
ورآها من بعد حولٍ وشهري ... ن بدرجٍ قد كان من قبلُ عندي
فبدا منه ما بدا وسقاني ... وتحسَّى من أكؤسِ الذمِّ وِردي
وعلى كلِّ حالةٍ سيِّدُ الأح ... كامِ أرجو وما سواه تَعدِّ(1/56)
ولما دار هذا القول، وهدر القوم هدر الشول.
كتب السيد أحمد بن النقيب يداعب البديعي بهذه الأبيات، المخصوصة هنا بالإثبات. وهي قوله:
مولايَ يوسفُ إن يقولوا سارِقٌ ... للشِّعر فاحذر أن تضيق وتضجَرا
هذا نبيُّ الله يوسفُ قيل قد ... سرق الصُّواعَ وكان قولاً مُفترَى
لك من فرائدِكَ الشَّواردِ شاهدٌ ... عدلٌ يردُّ الخصمَ عنك محيَّرا
فإذا تناشدها العداةُ وأبصَروا ... من حسنِها ما لم يكنْ متستِّرا
ذَهلوا عن الأيدِي ولكن قطَّعوا ... أكبادَهُنَّ تلَهُّفاً وتحسُّرا
وللبديعي يودع ابن الحسام، حين فارق الشام، بعد انفصاله عن قضائها، وتوجه إلى مركز عِزَّه، ويعتذر إليه عن تخلُّفه عنه:
أُحاشيهِ عن ذِكرى حديث وداعِه ... وأُكبِرُه عن بثِّه وسماعهِ
وما كان صبري عند وَشْك النَّوى على ال ... جوى غير صبرِ الموتِ عند نزاعِهِ
ونحنُ بأُفقِ الشَّامِ في خدمةِ الذي ... يضيقُ الفضا عن صدرهِ واتِّساعهِ
أجَلُّ حماة الدِّنِ وابنُ حسامهِ ... وحامي حِمى أركانِهِ وقطاعِهِ
عشِيَّة توديع المآثرِ والعُلى ... وكلُّ فخارٍ للورَى في رِباعِهِ
وما سرتُ عن وادي دِمشقَ ولم يسرْ ... وسُؤدُدُه في مُدْنِهِ وضياعِهِ
سوى أنَّني لا أرتضِي أن أرى بهِ ... سواهُ على أعيانهِ ورِعاعهِ
فأيُّ فؤادٍ بعد يومَ رحيلهِ ... غدا سالماً من وجدِه وانصداعِهِ
قيا أيُّها السَّارِي عن الشَّامِ بعدَما ... ثوى عدلُهُ في قاعهِ وبقاعهِ
ويا قادماً بل راحلاً عن بلادِنا ... وفي كلِّ أرضٍ نيِّرٌ من شعاعِهِ
فلا تنسَ عبداً نازِحاً شاع ذِكرُه ... إلى بابِكَ السَّامي علا بانْقطاعِهِ
ومن كانَ للأُسْدِ الضَّواري انتماؤُه ... له غُنْيةُ في دهرِه عن ضياعِهِ
وأنت الذي نوَّهتُ من قبلُ باسمِه ... وأبقيْتُ ذِكراً خالداً باصطِناعِهِ
وله من قصيدة، يمدح بها النَّجم الحلفاوي، مطلعها:
أتى زائراً وهْناً ولم يخشَ عاذِلاً ... ونورُ ذُكاءِ الأُفقِ سار مراحِلا
وجادَ بما لو رُمْته من خالهِ ... لكانَ لما أوْلى من الوصلِ باخِلا
حبيبٌ لو أنَّ البدرَ أصبحَ حائزاً ... ضِياءَ مُحيَّاهُ لما زال كامِلا
رشيقٌ كخطوط الخيزرانِ ما انثنَى ... وما مالَ إلا وانثنَى القلبُ مائِلا
يحرِّك بالأعطافِ أجنحةَ الهوى ... إذا حَرَّكَتْ من فوقهِنَّ الغلائِلا
فبِتُّ أعاطيهِ سلافَ مُدامةٍ ... ترُدُّ الدَّياجي من سناهُ أصائِلا
إذا بزَغتْ من راحتيهِ بدا من السَّ ... رورِ لنا ما كان مِن قبلُ آفِلا
إلى أن نضَا ثوبَ الشَّبابِ الدُّجى وقد ... غدتْ زُهرُه إلا قليلاً أوافِلا
وذو الرَّعثاتِ الحمرِ هبَّ كأنَّما ... عليه ضِياءٌ شامَ مَناضِلا
الرَّعثات: جمع رعثة، ورعثة الدِّيك عثْنونُه.
قال الشاعر:
من صوتِ ذي رَعَثاتٍ ساكِن الدارِ
فكبَّر مولاهُ وهلَّلَ إذ رأى ... هزيعَ الدُّجى الزِّنجيِّ أدْبر راحِلا
وقام بجيشٍ من ذويه كأنَّه ... وإياهم كِسرى يحثُّ القبائِلا
على قضُبِ العقيانِ يمشي مجلبباً ... جلابيبَ مثل الروضِ ما زالَ حافِلا
فسرْنا إلى نادٍ رحيبٍ سماؤهُ ... تريكَ بدوراً مشرقاتٍ كوامِلا
إلى منزلٍ للأُنسِ فيهِ منازلٌ ... بهنَّ غدا حسناً يفوقُ المنازِلا
حكى دنِفاً أحشاؤُه قد تضرَّمتْ ... بنارِ الأسى لو كان يشكو البلابِلا(1/57)
به يبذُل الحسنَ المصونَ لمن بهِ ... وفي غيرهِ لو كان ما كانَ باذِلا
ترى جدرَه كالعاشقينَ من الجوى ... غداةَ النَّوى تُبدي دموعاً هواطِلا
لقد شادَه نجمُ الهِدايةِ واحدُ ال ... أفاضِلُ في الشَّهباءِ طولاً ونائِلا
منها في المديح:
وكم نمَّقتْ أفكارُه غلسَ الدُّجى ... رياضاً سقاها الفضلُ طلاًّ ووابِلا
حدائقُ لم يكسُ الهجيرُ نظيرها ... ذبولاً وقد تلقى الرِياضَ ذوابِلا
عرائِسُ تلقاها بضافِي ثيابِها ... فإن لاحَ ما فيهنَّ قلتَ ثواكِلا
تُجيبكَ عمَّا رمْتَ وهي صوامتٌ ... ومن ذا رأى خرسا تُجيب المُسائِلا
بدائِع فكرٍ للأواخِر وطَّدتْ ... محاسِن ذِكرٍ تستقلُّ الأوائِلا
ألمَّ في هذه القطعة بقول السري الرفاء، في وصف الكتب:
عندِي إذا ما الرَّوضُ أصبحَ ذابِلا ... تحفٌ أغضُّ من الرياضِ شمائِلا
خُرسٌ يحدِّثُ آخرٌ عن أولٍ ... بعجائِبٍ سلفتْ وكنَّ أوائِلا
سُقيتْ بأطرافِ اليراعِ ظهورها ... وبطونُها طلاَّ أجمَّ ووابِلا
وتُريكَ ما قد فاتَ من دهرٍ مضى ... حتى تراهُ بعينِ فكرِكَ ماثِلا
وله في الشيب:
يقولُ ليَ الشَّيبُ وقد راعني ... منه سنًا قد أبادَني الوسَنا
إلى مَ لا ترعوي ألستَ ترى ... قد لبستْ كلُّ شعرةٍ كفنا
وله فيه أيضاً:
وسائِلةٍ حالي وقد ودَّع الصِّبا ... ولاحتْ نجومُ الشَّيبِ في الرأسِ تُزهرُ
وما حالُ من يغدو ومن فوق رأسِهِ ... مدى عمرِه لا زالتْ البيضُ تشهرُ
محمد بن نور الدين الشهير بابن الدرا هو لمشامِّ الأرواح شمامة، وكأنَّه زهرةٌ تفتحت عن كمامة. بزع في أفق دمشق وبها برع. وما أتحققه إلا في بحبوحة الترف ترعرع.
فمرة يتشبه بالبدر إذا أقمر، وتارةً يتمثَّل بالغصن إذا أثمر.
وهو في لطف الشمائل، بمثابة نور الخمائل. ترقرق عليه ماء القبول، فنظم ما هو أرقُّ من نسيم القبول.
وشعره يكاد من كثرة مائه يتقطر، ويكاد القلب من غرامياته يتفطر. ولأجل أنَّه من أشعار الصِّبا، وهي كما قيل التمر باللِّبا. رق رقة دين الفاسق، وشقَّ عليه قلبه العاشق.
وأنا من منذ ولعت بالشعر، وساومت منه من سوق الرقيق كلَّ غالي السِّعر.
شغِفٌ به وبشعرِه ... شغفَ المحبِّ بمن يحبْ
أتفكه بيانع ثمره، وأعدُّه من ليلي ومن سمرِه. وقد أتيتُ منه بما أسأل في وجنة الدهر غرةً ماء الحسن فيها مترقرق، وحسبك من شعرٍ إذا ما غنَّى به النبت الهشيمُ يورق.
فمنه قوله في قصيدةٍ، مطلعها:
ساقٍ أغنُّ وروضةٌ غنَّاءُ ... ومُدامَ كرخِيَّةٌ صهباءُ
يسعى بها طوراً ويجلس تارةً ... فيديرُها من لحظِه الإيماءُ
رشأٌ تجاذبتِ المحاسنُ خلقهُ ... حتى لودَّتْ أنَّها أعضاءُ
خطَّار قامتِه الرطيبةِ ما انثنَى ... إلا استلذَّتْ فتكةَ الأحشاءْ
وشموسُ طلعتِ حسنِه مذ أسفرتُ ... حمدتْ أُفولَ عقولِها العقلاءُ
في جنحِ طرَّتهِ وصبحُ جبينِه ... نعمَ الصَّاحُ وحبَّذَ الإمساءُ
أفديهِ إن أخذَ الطِّلا منهُ وقد ... دعتِ الكرَى أجفانُه الوطفاءُ
يحبوكَ من تحفِ الحديثِ لطائِفاً ... هي عنديَ الأكوابُ والنُّدماءُ
منها:
حتى إذا أذكى الحياءُ بخدِّهِ ... لهباً بهِ تتلهَّبُ الأحشاءُ
واحمرَّ قلبُ عقاربِ الصُّدغينِ وان ... هلَّتْ بلؤلؤِ عقدِها الجوزاءُ
فوقفتُ أحيرَ من مناطِق خصرِه ... متوسِّلاً ودعائِي استصحاءُ
فانزاحتِ الجوزاءُ نحوَ غروبِها ... وبدا لشمسِ جبينِه لألاءُ
ورنا إليَّ ملاطِفاً بعتابِه ... ويزينُه أدبٌ له وحياءُ
منها:(1/58)
فوحقِّ إفحامِي بما أملاهُ لي ... ولأنَّني تعنو ليَ الفصحاءُ
لم أعدو ما أسدَتهُ لي حسناتُه ... أنَّى وكلِّي في هواه وفاءُ
لا بل عليَّ من العفافِ وصونِه ... وعلوِّ منصبِ حسنِه رقباءُ
ما ثمَّ غير تلاثمٍ وتعانقٍ ... ويديَّ مفرشُ جيدِه وغطاءُ
وفمي على فه وأشكوهُ الظَّما ... ظمأٌ جناه لقلبيَ الإرواءُ
حتى إذا أفضتْ أفاويهُ الصَّبا ... وأتتْ تكلِّلُ ذيلها الأنداءُ
وبدا الكرى يسطو على إحساسِه ... ورقى إلى أجفانِه الإغفاءُ
عطسَ الصَّباحُ فهبَّ يمسح نعسةً ... لم يشفِها من مقلتيهِ لقاءُ
قلت: قال المرزوقي في شرح الفصيح: عطِس: فاجأ من غير إرادة، ومصدره العطس، والعُطاس الاسم، جعل كالأدواء. يقال: أرغم الله معطِسه. وعطِس الصبح والفجر، على التشبيه.
قلت: كما في قول ابن الوردي:
قلتُ لهُ والدُّجَى مولٍّ ... ونحنُ في الأنسِ والتَّلاقِي
قد عطِس الصُّبحُ يا حبيبي ... فلا تشمِّتْهُ بالفراقِ
ومثله عطاس الدهر، كما في قول الغزي:
كم من بكورٍ إلى فخرٍ ومنقبةٍ ... جعلتَهُ لعطاسِ الدَّهرِ تشميتا
وله من أبيات، أولها:
عطفتُ على ودِّ الهوَى وولاتِه ... وأخلصتُ أسراري لحفظِ إخائِهِ
وما ذاك إلا أن حبانِي بشادنٍ ... يقطِّعُ أكبادَ الجفا بوفائهِ
رخيمُ معانِي الدلِّ أدمثُ من رُوا ... نعيمِ خدودِ الغانياتِ ومائهِ
سقيمُ حواشِي الطرفِ والخصرِ عزَّ أن ... يلوحَ لرأيِ العينِ بندُ قبائهِ
غلامٌ كأنَّ الله ألبسَ خدَّهُ ... لِثامَ ورودٍ مذهباً بحيائهِ
وأودعَ جفنيهِ من السِّحرِ صارماً ... تلوحُ المنايا منهُ عندَ انتضائهِ
فكم من فؤادٍ في وطيسِ غرامهِ ... جريحٍ بهِ مخضوبةٍ بدمائهِ
وللحسنِ بل لله بانة قدِّهِ ... إذا عبثتْ فيها طلا خيلائِهِ
يصوِّبها نحوي فيوهمنِي المنَى ... أداءَ سلامٍ خصَّني بأدائِهِ
وما هو إلا أن تحقَّقَ أنَّ لي ... بقية روحٍ سلَّها باثْنائهِ
إلى اله أشكو أرقمَاً فوقَ جيدهِ ... يجوسُ خلالَ الفكرِ حال اختفائهِ
ومهما بدَا من وكرِه وهو يلتَوي ... لوى كلَّ عضوٍ مستهاماً بدائهِ
وله من قصيدة في الغزل، مستهلها:
إليكَ شقيقي في الصَّبابةِ أندبُ ... أواناً به كنَّا نلذُّ ونطربُ
أوانَ امتطينا فوقَ زهوٍ مضمَّراً ... له قصباتُ السَّبقِ أيانَ يلعبُ
حملْنا على جيشِ الهمومِ فلم ندعْ ... به منه إلا ما يوارِيه مهربُ
ولا رمحَ إلا من قوامٍ مهفهفٍ ... ولا سهمَ إلا ما أراشتْهُ أهدبُ
ولا مرهفٌ من غير ساجٍ مدعَّجٍ ... ولا درعَ إلا ثوبُ حسنٍ مذهَّبُ
نصِرنا به مذ منَّ بالوصلِ شادنٌ ... صدوقُ الأمانِي في ترجِّيهِ يكذبُ
رقيقُ حواشي الحسنِ لولا مهابةٌ ... له كادَ بالألحاظِ حاشاهُ ينهبُ
لطلعتِه في كلِّ قلبٍ مشارِقٌ ... وللعقلِ منها حين تشرقُ مغرِبُ
خبيرٌ بأحكامِ الهوَى فجميع ما ... ينمِّقهُ الواشي لديهِ مكذَّبُ
وإذ كانَ مجبولَ الخلالِ على الوفَا ... خليلكَ فاللاَّحِي عليهِ معذَّبُ
وله مضمِّناً بيت المهيار:
فتنتُ بهِ والصُّبحُ من فرقِ شعرِه ... بدَا ولشمسِ الرَّاحِ فيها غروبُ
فكدتُ لِما شاهدتُ لولا طُلوعُها ... بمشرقِ أفقِ الخدِّ منه أذوبُ
ولولا طلوعُ الشمسِ بعد غروبِها ... هوتْ معها الأرواحُ حين تغيبُ
وله مضمِّناً:
لقد علقتُ ببدرٍ زانهُ حورُ ... في مقلتيهِ بهِ يسطو على المهجِ(1/59)
وأهلهُ لم تزلْ تغريهِ في تلفي ... وكلَّما زادَ تيهاً زاد بِي وهجِي
فليصنعوا كلَّما شاءوا لأنفسِهِم ... همْ أهلُ بدرٍ فلا يخشونَ من حرجِ
تذكرت هنا قول أيمن بن محمد السعدي، من موشَّح أودع فيه هذا البيت:
لولا هواكَ المرادُ ... ما كنتُ ممنْ يُصادُ
ولا شجانِي البعادُ ... يا بدرُ أهلُكَ جادوا
غلِطتُ جاروا وزادَا ... لكنَّهم بكَ سادُوا
فليفعلوا ما أرادوا ... فإنَّهم أهلُ بدرُ
ومن مبدعاته قوله:
ليس إلى الكيمياءِ منتسِباً ... من باتَ من حرِّ نارِها موهَجْ
حتى استحالتْ أجزاؤها ذهبَاً ... بل من يعيد العقيقَ فيروزجْ
قلت: لله درُّه، ما أبدع درَّهُ! وقد أخذ هذا المعنى شيخنا عبد الغني النابلسي، فقال:
قولوا لأهلِ الكيميا إن تدَّعوا ... جعلَ اللُّجينِ كما زعمتُمْ عسجدَا
بالله هل في وُسعكمْ أن تصبِغوا ... حجر العقيقِ فتجعلوهُ زبرجدَا
وللإشبيلي ما يقارب هذا في نار:
لابنه الزَّندِ في الكوانين جمرٌ ... كالدَّراري في اللَّيلة الظَّلماءِ
خبِّروني عنها ولا تكذبوني ... أسِواها يكونُ للكيمياءِ
سبكتْ فحمُها صفائحَ درٍّ ... رصَّعتها بالفضَّة البيضاء
وله خمسة أبيات، كالخمسة السيارات، يخرج من أوائلها اسم عثمان، وهي:
على كلِّ عضوٍ فيَّ دارت لحاظهُ ... كؤوس غرامٍ قد مُلئن من السِّحرِ
ثملْتُ بها وجداً ولم أصح صبوةً ... فها أنا بين الصَّحو حيرانُ والسُّكرِ
معاذ الهوى أن يُرتجى من يدِ الهوى ... خلاصي وأن يُقضى بغيرِ الهوى عمري
أإن كان لي عن مذهب الحبِّ مذهبٌ ... فلا برحت روحي تعذَّبُ بالهجرِ
نعمتُ بهذا العيش والموت دونهُ ... إذا كان يرضيه ولو كنتُ في أسرِ
وله من رائية ملئت بنوافث السحر، وغازلت عيون المها بين الرصافة والجسر:
أما وظبا الألحاظِ أرْهفها السِّحرُ ... وجال فرنداً في جوانبها الخمرُ
فصالت بفتكٍ جاوز الحدَّ حدُّها ... على أنَّها مرضى وأجفانها فترُ
وزانةِ قدٍّ ثقَّفتْها يد الصِّبا ... ولم يُثنها إلا من الصَّلف السُّكرُ
فجارت على الأحشاء فتكاً وإنها ... لعادلةٌ بل لا يُلمُّ بها وزرُ
وعهدٍ بأيدي الوصل كان لنا به ... مبايعةٌ حيَّ مرابعه القطرُ
وحقِّ مواثيق الهوى بين أهله ... وعذب إشاراتٍ لهم دونها السِّحرُ
لقد وضحتْ للحسن في التُّرك آيةٌ ... على من عداهم مثل ما ابتسم الفجرُ
فكم فيهم من كل أحورَ إن رنا ... أصاب فؤاد النُّسك يتبعه الصَّبرُ
له حركاتُ الظَّبي يمرح عابثاً ... ويمشي الهوينى ثمَّ يدركهُ النَّفرُ
وذي طرَّةٍ من فوق صلتٍ كأنها ... حواشي الدُّجى قد عنَّ من تحتها البدرُ
تبدِّدها منه الرُّعونة غافلاً ... ولكن على تبديدها جُمع الشَّرُّ
وخصرٍ ولكن لا مسمَّى لكنْهه ... مناطقه حيرى وما تحتها مرُّ
يُناجي معانيه الدَّفين من الهوى ... فينهضُ من بعد الممات له نشرُ
تعلَّقتهُ من بعد ما اندمل الحشا ... ولم يبق نَهيٌ للغرام ولا أمرُ
فيا ويح هذا القلب كم طعن الهوى ... ويعلم أن الحلوَ منه هو المرُّ
فياربِّ إما لجَّ في غُلوائه ... فصبِّره للبلوى فقد برَّح الضرُّ
وجمعته مع مليحٍ ليلة، يشتهي الفلك في شبهها نيله.
والمجلس بتزاحم الرقباء شرق، وكلٌّ منهم من فرط غرامه صبٌّ أرق.
فلاحت من المليح إيماءة مفتقد، أعقبتها وجلةٌ من ناظرٍ منتقد.
فلم يتمالك الشيخ أن صوب النظر، حتى كاد يفضي به إلى الأمر المنتظر.(1/60)
فلما استشعر الغلام عطف عطفة مشفق، وأراه في ضمن إغضائه موعد مرفق.
مشيراً للكتمان تارةً بانطباق جفنٍ ملئ سحراً، وآونةً بإظهار ثنايا أبانت فوق ياقوت الشفاه درًّا. فقال:
قلتُ له والهوى بيننا ... يطوف بالكأس الهنيِّ المري
اكفف حسامَ اللَّحظِ عن مهجةٍ ... ذابت لريَّا ريقكَ السُّكري
فأغمد الهنديَّ من جفنه ... ورصَّع الياقوت بالجوهرِ
وله، ويخرج منه اسم بكري بطريق التعمية:
لوى واوَ صدْغٍ خاله الخال عقرباً ... أصاب بها كبدي الصَّديع ولا يدري
ولا بدَّ من رشفٍ يبلُّ غصونها ... فما شفَّ قلبي غيرُ منع لمى الثَّغرِ
طريقة حله، أن الواو بالحساب الهندي بستة، وترسم هكذا 6وأراد بليها قلبها، فتصير هكذا 2، وهذا رسم الاثنين؛ وله الباء.
وأراد بقوله كبدي ولا بد، الكاف والياء؛ ورشفٍ يبل غصونها الراء، وبالتنصيص عليه بقوله: فما شفَّ.
وكون العمل في البيت الأول دون الثاني، أو الآخر، أو فيهما، مما يعاب عند أهل هذا الفن.
لك الله دعني من حديثك إنَّه ... متى غبت تشقى من سواه المسامعُ
وصنْ رونقَ الوجه البديع جماله ... فإن لحْت حاضت في الجفون المدامع
المعنى: أنك إذا لحت سالت العيون دماً، لشدة شغفها بك، ففيه استعارة تبعية أو مكنية.
شبه المدامع بالنساء، والمرأة إذا اشتدت شهوتها وأفرطت سال حيضها.
وأصله قول المتنبي:
خفِ الله واستُر ذا الجمال ببرقعٍفإن لحتَ حاضت في الخدود العواتق. والعواتق: هي الشَّوابُّ من النساء.
وله:
لحاظٌ كأن الله أودع جفنها ... حياةً لأرباب الهوى وهلاكا
إذا فوَّقت سهماً يخطُّ دم الحشا ... على نصله أهلاً جعلت فداكا
وله:
رأت نمل عارضه مقلتي ... تحوم على الثغر من غير نهلِ
فسالتْ دماً ثم قالت لنا ... ذَبحْت كراي على بيت نملِ
وله:
وقد زعموا أن القلوب بحبَّةٍ ... تصاد وقالوا إنها حبَّة الخالِ
ولكنَّه قد صاد قلبي بحبِّه ... بلا حبَّةٍ ربُّ الولا صاحب الخالِ
وله:
ويح قلبي من ظالمٍ لم يبال ... بذَهاب النفوس تحت النِّعالِ
ما بدا للعيون إلا رأته ... مرهفاتٍ وأسهماً وعوالي
لا ترم وصله فقد قطعت بي ... ضُ سرار الجبين رأس الوصالِ
تناوله من قول الأمير المنجكي:
ألا دعني وشأني يا ابن ودي ... ومحوي كلَّ شخصٍ من خيالي
أيقصد من أسرَّته سيوفٌ ... طبعن لضرب أعناق السُّؤالِ
ولي من أبيات:
أمواج إحسانٍ أسرَّة وجهه ... لصديقه وسيوف بأسٍ للعدى
وله:
وكنت أصون الدَّمع عن أن أذيله ... إلى أن دنا يوم التَّرحُّل لا كانا
فقلَّدتها يوم الوداع بلؤلؤٍ ... أحالته أنفاس التَّحرُّق مرجانا
وله:
ألزمت نفسي الصَّوم عن شادنٍ ... كالبدر يستوعبه النَّاظرون
آليت لا أفطر إلا على ... وجه هلالٍ ما رأته العيون
وله:
وحقُّ هوى مصافحةِ المنايا ... أخفُّ عليَّ منه باليدينِ
إذا فكَّرتُ فيه لمست رأسي ... كأني موقنٌ بهجوم حيني
أصل هذا قول أبي نواس في الأمين بن الرشيد:
إنِّي لصبٌّ ولا أقول بمن ... أخاف من لا يخاف من أحدِ
إذا تفكَّرت في هواي له ... ألمس رأسي هل طار عن جسدي
وهذا النوع من البديع سماه المبرد في الكامل والتبريزي في شرح ديوان أبي تمام الإيماء.
وهو إما إيماءٌ إلى تشبيه، كقوله:
جاءوا بمذقٍ هل رأيت الذِّئب قط
أو إلى غيره.
قال الشهاب في كتابه الطراز: وكنت قبل هذا سميته طيف الخيال، وهو أن ترسم في لوح فكرك معنًى صوَّرته يد الخيال، فتصبه في قالب التحقيق، وترمز إليه بجعل روادفه وآثاره محسوسة ادِّعاءً، كما أن ما يلقى إلى المتخيلة في المنام يرى ذلك، ولا يلزم من ابتنائه على الكناية والتشبيه أن يعد منهما، لأمرٍ ما يدريه من له خبرةٌ بالبديع.(1/61)
وفي كتاب الإشارة لابن عبد السلام، من المجاز تنزيل المتوهم منزلة المحقق، كقوله: تغرب في عينٍ حَمِئَةٍ، أي في حسبان رائيها.
ومثله من الشعر قول أبي نواس. وأنشد البيتين.
وللمتنبي في منهزم:
ولكنَّه ولَّى وللطَّعنِ سورةً ... إذا ذكرتها نفسه لمس الجنبا
المنازي:
تروع حصاهُ حاليةَ العَذارى ... فتلمس جانبَ العِقدِ النَّظيمِ
المنجكي في وصف خط:
لو شامَ ذو الخالِ نقط أحرفهِ ... لراح باليدِ لامسَ الخدِّ
ولشهاب:
للهِ نهرٌ صفا فأبصرَ من ... يقوم في جنبِ شطِّه سمكه
يمدُّ كفًّا له ليأخذها ... يظنُّ نسجَ الصَّبا لها شبكه
وهو مأخوذ من قول عمر المحَّار:
انظر إلى النَّهرِ في تطرُّدِه ... وصفوهِ قد وشَى على السمكِ
توهَّم الرِّيح صفوهُ فغدا ... للنَّسجِ فوق الغديرِ كالشبكِ
قلت: ثم رأيت الشهاب ذكر بيت أبي نواس في آخر الريحانة، وقال: لقد تلطَّف وأغرب في قوله أمسُّ رأسي؛ لجعله ما يترقبه واقعاً به، حتى فتش عن رأسه، وجسها بيده، ليعلم هل قطعت أم لا.
وهذا كقول المنازي. وأنشد البيت. وفيه التعبير عن المقال بالفعال، كقوله:
ويشتمُ بالأفعالِ قبل التكلمِ
ومثله قول ابن رشيق:
قبَّلني محتشِماً شادنٌ ... أحوجُ ما كنت لتقبيلِهِ
أومأَ إذ حيَّا بنا رنْجةً ... عرفتُ منها كنهَ تأويلِهِ
لما تطيَّرتُ بمعكوسها ... ضمَّت بناناً نحو تقبيلِهِ
قال: وهذا لم أر من ذكره، وهو مما استخرجته، وسميته نطق الأفعال. انتهى.
ولابن الدَّرَّا مذيِّلاً بيتي الحتاتي، اللذين أعار بهما ساحة الشرفين صفحه، وساق بهما إلى الورد العالي نفحه.
ومما قاله:
بصبا المرجةِ المبلَّلِ ذيلُه ... علِّلِ القلبَ علَّ يبردُ ويلهْ
وادَّكرْ يومنا بيومي حبيبٍ ... سلفا والسُّلاف تركض خيلهْ
ونديمٍ رقَّت حواشيه لطفاً ... وبحكم الهوى تحجَّب نيلهْ
سمهريِّ القوامِ ما ماسَ تيهاً ... أو دلالاً إلا وأتلفَ ميلهْ
ذي محيًّا كالبدرِ في جنحِ ليلٍ ... باختلاسِ العقولِ قد جنَّ ليلهْ
جئت من تحتِ ذيلهِ مستجيراً ... والتَّجنِّي عليَّ يسحب ذيلهْ
قلت يا من في حلبةِ الحسنِ قد حا ... زَ السَّبق حيث الجمال تركض خيلهْ
الأمان الأمان من حربِ إعرا ... ضِكَ عن مغرمٍ تراكم ويلهْ
ومن مجنونه المستغرب، قوله:
لنا صاحبٌ مغرًى بعونِ ذوي الهوى ... يشاركهم في وجدِهم والتَّولُّهِ
إذا عزَّ أن يلقى محبًّا رقى على الشَّ ... واهقِ يستقري دخان التَّأوُّهِ
وله في المنزلة المعروفة بالوجه، في طريق الحاج المصري:
شكا أهلُ وجهٍ قلَّة الماء بأرضهم ... وأنَّ الحيا شحَّت عليهم سماؤُهُ
فقلت لهم قولاً لهم فيه سلوةٌ ... إذا قلَّ ماء الوجهِ قلَّ حياؤُهُ
المصراع الأخير مضمنُ من قول القيراطي في هذا المحل:
أقول وقد جِئنا إلى الوجهِ جمعنا ... عطاشاً وكلٌّ خاب فيهِ رجاؤُهُ
إذا قلَّ ماءُ الوجهِ قلَّ حياؤهُ ... ولا خير في وجهٍ إذا قلَّ ماؤُهُ
قلت: ووجه الهجو للوجه، بسبب قلة مائه هو الوجه.
وللقطب المكي في مدحه:
أقولُ ووادي الوجهِ سال من الحيا ... وقد طابَ فيهِ للحجيجِ مقامُ
على ذلك الوجهِ المليحِ تحيَّةٌ ... مباركةٌ من ربِّنا وسلامُ
وللقيراطي فيه:
أتيتُ إلى الحجازِ فقلتُ لمَّا ... تبدَّى وجههُ لي وارتويتُ
وكم في الأرضِ من وجهٍ مليحٍ ... ولكن مثلُ وجهكَ ما رأيتُ
وهذا قد ظهرت فيه الوجهة، واندفعت عنه الشبهة. وبهذا تعلم مذهب العرب، وأهل الأدب، في مدح الشيء وذمه، كما فعل الحريري في الدِّينار.(1/62)
وقد ألف الثعالبي، وابن رشيق في ذلك. قال ابن رشيق: أكثر ما تجري هذه المحامد والمذام على جهة المسامحة، لا من باب المشاححة؛ وإلا فالشيء لا يوافق ضده، فيكون الحسن قبيحاً والقبيح حسناً في حالٍ واحدة لمعنى واحد، لكن لكل شيءٍ كما ذكر الجاحظ مساوٍ ومحاسن، كما فعل عمرو بن الأهتم بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد استشهده الزبرقان ابن بدر على ما ادعاه من الشرف في قومه.
قال عمرو: أجل يا رسول الله، إنه مانع حوزته، مطاعٌ في أدنيه، شديد العارضة.
فقال الزبرقان: أما والله لقد علم أكثر مما قال، ولكن حسدني وشرفي.
قال عمرو: أما وقد قال ما قال، فوالله ما علمته إلا ضيق العطن، زمر المروءة، لئيم الخال، حديث الغنى.
فرأى الكراهة في عين النبي صلى الله عليه وسلم لما اختلف قوله، فقال: يا رسول الله، رضيت فقلت أحسن ما علمت، وغضبت فقلت أقبح ما علمت، وما كذبت في الأولى ولا قد صدقت في الثانية.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " إن من البيان لسحراً، وإنَّ من الشعر لحكمةً ".
ولقد أحسن ابن الرومي، حيث قال:
في زخرفِ القولِ تزيينٌ لباطلهِ ... والحقُّ قد يعتريهِ بعضُ تغييرِ
تقولُ هذا مجاجُ النَّحلِ تمدحهُ ... وأن تعبْ قلتَ ذا قيءُ الزَّنابيرِ
مدحاً وذمًّا وما جاوزتَ حدَّهما ... سحرُ البيانِ يُري الظلماءَ في النُّورِ
عبد الباقي بن أحمد، المعروف بابن السَّمَّان زهرة النَّاظر المتنشِّق، وزهرة المجتلِي المتعشِّق.
مسَحتْ خلالُ قذى العيون؛ فما رأته إلا وهي نقيَّة الجفون. تتستَّر الملاحةُ في غلائله، وتتقطَّر الرَّجاجةُ من شمائله.
يَعشقُه من كمالِه غَدُهُ ... ويكثِر الوجدَ نحوه الأمسُ
وله طبع كالروض صقلت يد الصَّبا ديباجة وجهه الوسيم، تتلَّقى النُّفوس من قبوله تلقِّي المخمور برد النَّسيم.
غرائب حديثه نُزه العقول ونجع الأسماع، يتجاوز بها غاياتٍ لم تختلج في خواطر الأطماع. وشعره يفعل بالألباب فعل بنات الدِّنان، وما السحر سحر مِراض الأجفان، ولكنَّما هو سحر البيان. وذكر مبدأ أمره، ومطلع قصيدة عمره. أنه تعاطى الاشتغال وخط غداره ما بَقَل، ثم خرج إلى مصر وروضه على أول ما ينزه المقل. ثم تتابعت عليه الرحل يميناً وشمالاً، وهو يترقى في المعارف استيلاءً واشتمالاً. ولم يبق بلدةً إلا جنى ثمرها، واستفاد وقائعها وسمرها. ولا رئيس إلا فاز بنعمه، وحصل على غرائب قسمه.
حتى وصل إلى مجلس السلطان في خاتمة المطاف، فأقام برهةً في مبراتٍ وألطاف. وقد خطبته الحظوة، وما قصرت له الخطوة. ولحظته السعادة بأبصارها، وتواردت لحفايته بأنصارها.
ثم كثر فيه المخلط واللاغي، واشرأبت النفوس إلى ما في طبائعها من التباغي.
فأبعد بعد ذلك التقريب، وأوشك أن يجفوه البعيد والقريب. وجربه الدهر بالأقدار، تجربة الياقوت بالنار.
ثم أعطي مدرسةً بدار الخلافة، فطاوعه البخت بعدما أراد خلافه. واستقر الأمل لديه، استقرار الطِّرس في يديه. ولما كنت بأدرنة وردها فلقيته برهةً، لا أعدها من عمري إلا نزهة.
وكنت من الاغتراب، في نهاية الوحشة والاضطراب. فأنست به بعد التوحش، وأنسيت مورداً أرواني من التعطش. ولما كان مقامه بها كنغبة طائرٍ على وجل، لاهتمامه بالعود إلى مقره على عجل.
لم أستتمَّ عناقهُ للقائهِ ... حتى ابتدأت عناقهُ لوداعهِ
فكتبت إليه عند الوداع، رقعةً محكمة الإبداع. وهي:
إمامك التَّوفيق والرُّشدُ ... وخدنك التَّأييدُ والسعدُ
وكلَّما حلَّيت في منزلٍ ... قابلك الإقبالُ والجدُّ
مولاي من ذكره أنيسي، في وحشتي وغربتي، وخيال لطفه جليسي، في وحدتي وكربتي.
أنت الكرى مؤنساً طرفي وبعضهمُ ... مثل القذى مانعاً طرفي من الوسنِ
لا زالت مقاليد السعادة طوع يديك، ومرقاة السيادة مشغوفة بلثم قدميك. والعمر المديد، والطالع السعيد.
هذا حشو ثيابك، وذا خادم ركابك.
فارحلْ لك البشرى فأيمنِ طالعٍ ... وعلى السلامة والسَّيادة فانزلِ(1/63)
يشهد الله أنني من منذ شدَّت الركاب، وأزفَ البين بفراق الأحباب. صرت مقسَّماً بين نفسٍ مقيمةٍ بكربها، وروحٍ رهينةٍ في ركابها. على أن النَّفس وإن أقعدها الدهر قسراً، لم تقعد عنك ساعةً فكراً. ولا غبت إلا على عيون الإقبال في إغماضها، وعلى نفوس الآمال في انقباضها. حيث رماني الزمان، بسهام الحرمان.
وإنَّ من أعظمِ البلوَى أخا لسَنٍ ... يبيتُ ضيفاً لعجمٍ في الورَى خُرَسِ
والى الله أرفع قصتي، وأبتهل إليه في دفع غصَّتي.
عسَى اللهُ إنَّ الله ليس بغافلٍ ... ولا بدَّ من يسرٍ إذا ما انتهى العسرُ
فاسأله سبحانه أن ييسر نيل المنى، ويزيل عنَّا هذا العنا.
ويطفئ نار الجوى، على رغم أنف النوى. لنكفر سيئة أليم الفراق، بحسن نعيم التلاق.
إن عادَ شملي بمن أهواهُ مجتمعاً ... لا أعتِبُ الدَّهرَ يوماً بالذي صنعَا
ثم قدمت إلى القسطنطينية فأْتَلفت به ائتلاف روح، بجسد بالٍ مطروح. وامتزجت معه امتزاج، راحٍ بماءٍ قراح. ومضت لي معه أوقاتٌ عددتها من حسنات الزمان، وجعلتها تاريخ الأماني والأمان.
والأوقات لا تتفاضل بالذات، ولكن أوقات اللَّذَّات لذَّات. أتمتع من لفظه بائتلاف العقود، ومن مغناه بسلاف العنقود. حتى تولاه مولاه بعفوه ورضوانه، وقضى بتفريق شمل أخدانِه وإخوانِه. فأضحى كالظَّن المرجمِ، وخبره كاللفظ المرخَّمِ.
وقد فقدت به الوطر في نضرته، والعيش الذي يشفُّ عن نبي الرَّبيع في خضرته. وكان أعارني من فوائده صدراً وافياً، وأهدى إليَّ من فرائده قدراً كافياً. فعدمت من فضل ربيعها وورداً، وبقيت يعدها كالسَّيف فرداً.
فمما أخذته عنه من أشعاره التي أخذت بأطراف الحسن، وإذا تليتْ على محزونٍ سرتْ عن فؤاده الحزن، قوله من قصيدة، مستهلها:
يشوِّقنَا للدَّارِ ذِكرُ الحبائبِ ... وينطقنا بالحمدِ فيضُ المواهبِ
وإنَّا لقومٌ لا نرى الحبَّ سبَّتاً ... إذا ما رأتهُ سبَّتاً آل غالبِ
ولا نرهبُ الأقدارَ إلا إذا رمتْ ... سهامَ المنايا من قسيِّ الحواجبِ
ولا نعذلُ الأحبابَ في الصَّدِّ والجفا ... ولا نرتجي سلمَ العدوِّ المحاربِ
إذا كانَ قلبُ المرءِ ليسَ يطيعُه ... فأجدرُ بالعصيانِ قلبُ الأجانِبِ
وليلٍ كقلبِ السَّامريِّ وظلِّهِ ... كوكبُه لا تهتدي للمغاربِ
قطعتُ وأصحابي سُكارى من الكَرى ... وقد ضمَّنا والزُّهرَ ثوبُ الغياهبِ
على ضامرٍ كالسَّهمِ سيراً ورقةً ... فأبعدُ مطلوبٍ وأقربُ طالبِ
أحاول سبقَ الشُّهبِ في كلِّ حالةٍ ... يداوِي بنعماهِ جروحَ النَّوائبِ
دفعنا بجدواهُ الخطوبَ وجودِه ... وقد يدفعُ الدِّرياقُ سمَّ العقاربِ
همامٌ أتى في مجدِهِ وصفاتِه ... وأفكارِه دونَ الورى بالعجائبِ
ومولًى يكادُ البحرُ يشبه جودَه ... ولكنَّه كالشُّهدِ عذبُ المشاربِ
به تفخرُ الأيَّامُ والمجدُ والعُلا ... إذا افتخرتْ أمثالُه بالمراتبِ
وتخشى نهاياتُ العواقبِ رأيهُ ... إذا خافَ أهلُ الرأيِ سوءَ العواقبِ
وعلاَّمةٌ لو كانَ من قبلِ مالكٍ ... لما اختلفتْ أقوالُ أهلِ المذاهبِ
بفكرٍ دقيقِ الفكرِ في كلِّ مشكلٍ ... من الأمرِ كالسَّيفِ الرقيقِ المضاربِ
بعثتُ إليه بالقوافي كأنَّها ... مقانبُ شكرٍ تهتدي بمقانبِ
ولولا صروفُ الدَّهرِ أهديتُ ضِعفها ... مرصَّعةً بالنَّيِّراتِ الثَّواقبِ
ولكنَّها جهدُ المقلِّ وحملةُ ال ... جبانِ على ضعفٍ ونارُ الحباحبِ
فسامِح وعامِل بالتي أنتَ أهلهُ ... فعفوك عندي من أجلِّ المطالبِ
وقوله من أخرى يمتدح بها أخا الوزير الفاضل، وهو بتكريت:
بالنَّفسِ يسمحُ من أرادَ نفيسا ... والحبُّ أولُ ما يكونُ رسيسَا(1/64)
وأطارَ عنِّي النَّومَ طيفٌ طارقٌ ... قطع القِفارَ وجاوزَ القاموسا
أفلحْتَ كيفَ وصلتَ لِلْوَنَدِيكِ من ... أقصَى البلادِ وجئتَها جاسوسا
أم كيف خلَّفتَ الشَّآمَ وأهلَهُ ... وتركتَ وادِي النيْيرَبِ المأنوسا
أرضٌ إذا سرَّحتْ طرفكَ خِلتها ... روضاً يقِلُّ على الغصونِ شموسا
أن كانَ غيَّرها الزمانُ فإنَّني ... أمسيتُ منِّي قبلها مأيوسا
والحبُّ أمرٌ حارَ فيهِ أٌلُو النُّهى ... وأضَل بقراطاً وجالينوسا
كالدَّهرِ يلعبُ ما يشاءُ بأهلِه ... يضعُ الرئيسَ ويرفعُ المرؤوسا
لا سامحَ الله النَّوى من كافرٍ ... عبدٍ ولا رحِمَ الرَّحيمُ العيسا
ومهامةٍ قفرٍ يضِلُّ بها القطا ... ويرى الدَّليلُ بسهلِها التَّغليسا
للجِنِّ في أقدارِها زجلٌ فلا ... تلقى بها إنساً وليس أنيسا
العرب إذا وصفت المكان بالبعد جعلته مساكن الجن، كقول الأخطل:
ملاعبُ جِنَّانٍ كأنَّ تُرابها ... إذا اطَّرَدَتْ فيها الرِّياحُ مُغَربَلُ
وقول ذي الرُّمَّة:
للجِنِّ باللَّيلِ في حافاتِها زجلٌ ... كما تجاوَبَ يومَ الرِّيحِ عَيْشومُ
وهو نبت، أو شجر.
سايرتُ فيهِ النَّيِّراتِ بسابقٍ ... يحكِي المهاةَ ويشبهُ الطَّاووسا
كالبرقِ مَرًّا والغَمامِ تأوُّباً ... والمِسكِ نفحاً والنَّقا ملموسا
يُلقي الصَّواعقَ من حوافِرِه إذا ... وَطِئَ الجنادلَ حين لاتَ وطيسا
نشوانُ كالبرجِ المشَيَّدِ فوقه ... بطلٌ يجرُّ من المهابِ خميسا
متقلِّدٍ زُرقَ النِّصالِ كأنَّما ... خُلِقتْ لتردِي الضَّارياتِ نُفوسا
نهبتْ من الأعمارِ ما بقيتْ به ... وتجرَّعتْ ماءَ الحِمامِ بَئيسا
ترمي بها حَنْيَ الضُّلوعِ قواضِبٌ ... كحواجبِ الغيدِ الخرائدِ شوسا
لو خالها الكُسَعِيُّ سحرة ليلةٍ ... ذمَّ الحريصَ وأحمدَ التَّعريسا
أو صادمتْ صمَّ الجبالِ تصدَّعتْ ... وبنتْ لكلِّ حديدةٍ ناووسا
وتسابقُ الأقدارَ منها أسهمٌ ... تَفرِي الرُّجومَ ويرهب القابوسا
من حاذقٍ أو طارقٍ أم حاذمٍ ... أو زاهقٍ لا يقبلُ التَّلبيسا
فكأنَّها أقلامُ أفضلِ من مشى ... فوق الثَّرى وحوى الفخارَ رئيسا
فَرعُ المعالي خيرُ من بلغَ السُّهى ... مجداً وسامى في العلا إدريسا
والفارسُ الكرَّارُ مغوارُ الوغى ... ومعيدُ سعدِ المشركين نُحوسا
بالفضلِ أكدَّ ما الأوائلُ أسَّسوا ... وأفادنا التَّأكيدَ والتَّأسيسا
ندعو بسطوتِه الزَّمانَ فيرعوي ... فرقاً ونطرد باسمِه إبليسا
ونخطُّ أحرفهُ الكريمةَ رقيَةً ... لشفاءِ ما أعيَى أرسطاليسا
يردِي الحسامَ بجسمِ من أردى بهَ ... ويردُّ مبتسم الكُماةِ عبوسا
قد أنطقَ الإسلامَ صامتُ سيفِه ... بعد السُّكوتِ وأخرسَ الناقوسا
يا من ثملتُ على السَّماعِ بحبِّه ... وقرأتُ فيهِ من الغرامِ دُروسا
أنا من علمتَ وِدادهُ وجهِلتَهُ ... وسيصحبنَّ لدى عُلاكَ جليسا
أغرقته بالجودِ قبل ورودِه ... ثقةً ومثلكَ لا يكون خسيسا
لا زلتَ صدراً للصُّدورِ مقدَّماً ... أبداً بحفظِ إلههِ محروسا
في عزِّ داودٍ ودولة يوسفٍ ... وعلا سليمانٍ ورفقةِ عيسى
وقال يمدح الوزير الفاضل، وهو بتكريت، وكان دخوله إليها لأجل مدحه:
أخفُّ النَّوى ما سهَّلتهُ الرَّسائِلُ ... وأحلى الهوى ما كدَّرتهُ العواذلُ
ولا ملحَ في عيشٍ إذا لم يكن له ... حبيبٌ يجافي تارةً ويوصِلُ(1/65)
ولا خيرَ فيمن حوَّلَ البعدُ قلبه ... ولا في ودادٍ غيَّرتهُ العوامِلُ
وقفنا على الأطلالِ واللَّيلُ شائبٌ ... وأعناقنا فوق المطايا موائِلُ
ولما رآها الدَّمعُ والَّدمعُ حائرٌ ... أناخَ وحيَّا تربها وهو راجِلُ
هذا من قول أبي الطيب:
ولما رأينا رسمَ من لم يدعْ لنا ... فؤاداً لعرفانِ الرُّسومِ ولا لبَّا
نزلنا عن الأكوارِ نمشي كرامةً ... لمن بانَ عنهُ أن نامَّ به رَكبا
قال ابن بسَّام في الذَّخيرة: أول من بكى الربعة ووقف واستوقف الملك الضَّليل، حيث يقول:
قِفا نبكِ من ذكرى حبيبٍ ومنزلِ
ثم جاء أبو الطيب فنزل، وترجَّل، ومشى في آثار الدِّيار، حيث يقول:
نزلْنا عن الأكوارِ نمشي كرامةً
البيت، وما قبله.
ثم جاء أبو العلاء المعري فلم يقنع بهذه الكرامة حتى خشع وسجد، حيث قال:
تحيةُ كِسرى في الملوكِ وتُبَّعٍ ... لربعِك لا أرضى تحيةَ أربُعِ
وليس بنا حبُّ الدِّيارِ وإنَّما ... لنا بها والسُّكانِ شغلٌ وشاغلُ
هذا من قول الآخر:
أحبُّ الحِمى من أجلِ من سكنَ الحِمى ... ومن أجل أهليها تحبُّ المنازِلُ
وقوله:
وما حبُّ الدِّيارِ شغفنَ قلبي ... ولكن حبُّ من سكنَ الدِّيارا
خلِقنا وحفظُ الودِّ منا سجيَّةٌ ... وحسنُ الوفا طبعٌ ونعمَ الشَّمائلُ
ونفغرُ عوراءَ الحسودِ وإن جنَى ... ونعلم أنَّ الخصمَ ما شاءَ قائِلُ
يعيِّرني قومٌ بقومي ومحْتِدِي ... كما عِيبَ بالعضبِ الصَّقيلِ الحمائلُ
أجلْ حسدونِي حيثُ فضِّلتُ دونهمْ ... وكم حُسِدتْ في النَّاسِ قبلي الأفاضلُ
وما الفخْر بالأجسامِ والمالِ والعُلى ... ولكن بأنواعِ الكمالِ التَّفاضُلُ
ومن يكُ أعمى القلبِ يلزم بقولِه ... كما يحذرُ الأعمى العصا إذ يقاتِلُ
وما يصنع الإنسانُ يوماً بنورهِ ... إذا عادلتْ فيه النُّجوم الجنادِلُ
وفيمَ نضيعُ العمرَ في غيرِ طائلٍ ... إذا ما استوى في النَّاسِ قسٌّ وباقلُ
وأصعبُ ما حاولتَ تثقيفُ أعوجٍ ... وأثقلُ شيءٍ جاهلٌ متعاقلُ
إذا جاءَ نقَّادُ الرِّجالِ من الوغى ... تميَّز عن أهلِ الكمالِ الأراذلُ
عنيتُ الوزير ابن الوزيرِ الذي به ... تذلُّ وتعنو للشَّعوبِ القبائلُ
جوادٌ إذا استوهبْتهُ السَّيفَ في الوغى ... وأنت له خصمٌ فإنَّك نائل
هذا من قول أبي الطيب المتنبي:
كريمٌ متى استوهِبْتَ ما أنت راكبٌ ... وقد لقحَتْ حربٌ فإنَّك نازلُ
وأصله خبرٌ عن حاتم الطائي، أنه بارز عامر بن الطفيل، وقد رمح عامراً، فخافه، فقال له: لأُبخِّلَّنكَ.
قال: بماذا؟ قال: ادفع إليَّ رمحك أقاتلك به.
فرمى إليه برمحه، ورجع مولِّياً. وقال بشار ما ينظر إلى هذا المعنى:
لو كانَ لي سيفٌ غداةَ الوغى ... طبتُ بهِ نفساً لأعدائِي
وأحسن ما قيل فيه قول البحتري:
ماضٍ على عزمِه في الجودِ لو وهب الشَّ ... بابَ يوم لقاءِ البيضِ ما ندِما
أبو إسحاق الغزِّي:
متيَّمٌ بالذي لو قالَ سائِلهُ ... هبْ لي جميعَ كرَى عينيكَ لم ينمِ
إليه مصيرُ الأمجدينِ وإنَّما ... تصبُّ إلى البحرِ المحيطِ الجداولُ
وهذا أيضاً من قول أبي الطيب:
أرى كلَّ ذي مُلكٍ إليك مصيرُهُ ... كأنَّك بحرٌ والملوكُ جداولُ
وهو أخذه من قول ابن المعتز:
ملكٌ تواضعتِ الملوكُ لعزِّهِ ... قَسراً وفاضَ على الجداولِ بحرُهُ
ويهتزُّ قلبُ الأرضِ خوفاً إذا مشى ... فتحسبُ أنَّ الرُّعب فيه زلازِلُ
له نعمٌ تُفتِي المديح وهمَّةٌ ... لها كلُّ قدرٍ شامخٍ متضائِلُ
يُيَممهُ الجبَّارُ والكبرُ بُرده ... فتلقاه في أعتابه وهو راجلُ(1/66)
أتى مُشركي قصرٍ وكانوا جراءةً ... يظنُّون أن الحصنَ للقوم حائلُ
وسارَ بجيشٍ آصفيٍّ عرمرمٍ ... هو البدرُ فيهم والنجومُ الجحافلُ
فما وجدوا إلا الأمانَ وسيلةً ... إلى عفوِ من تخشى علاه الوسائلُ
ولا ملجأ من سيفه غيرُ سيفه ... وكلُّ نصيرٍ غيره فهوَ خاذلُ
فجاد عليهمْ بالنُّفوسِ تفضُّلاً ... وعفواً ولم يخط العَطا منه سائلُ
وعاد بتأييدٍ وعزٍّ ودولةٍ ... لها فوق فرقِ الفرقدين منازلُ
يموج به البحرُ الخضمُّ تفاخراً ... وتحسدُ أعلامَ الجواري الرَّواحلُ
أفصَّ ختامِ المُلكِ والخاتمُ الذي ... أتانا بما لم تستطعهُ الأوائلُ
فلو كان بدراً لم يلحْ قطُّ كوكبٌ ... ولو كان بحراً لم يحدِّدهُ ساحلُ
إليكَ عقوداً يكسفُ الشَّمسَ نورها ... وتخجلُ بدرَ الأفقِ والبدر كاملُ
أتتك تجرُّ الذيلَ تيهاً ورفعةً ... بأنك ممدوحٌ وأني قائلُ
وهاتيك أبياتٌ لها فتفطَّرت ... وأنت لها بالبرِّ والجودِ واصلُ
وهذا معنًى حسن، وقد اختلسه من قول السيد محمد العرضي، وهو الفاتح لهذا الباب:
هابَ القريضُ مديحهُ ... فانشقَّ أنصافاً سطورهْ
وتبعه البابي، في وصف قصيدة فقال:
أوهمتها مدح السِّوى ... فتميزتْ بالغيظِ وهْما
تتمة القصيدة:
ومثلكَ من لا يظهرُ المدحُ قدرهُ ... ولكنَّ من لم يشكرِ الفضلَ جاهلُ
ألم ترَ أنَّ الروضَ يثني على الحيا ... بنشرٍ إذا ما باكرتهُ الحواملُ
فكيفَ بمن أحييته، ولسانهُ ... صقيلُ الشَّبا والجود بالحمدِ كافلُ
سأوليك مدحاً ينقضي الدهرُ دونه ... تسيرُ به رُكباننا والقوافلُ
وأصدحُ بالحمد الذي أنت أهله ... كما صدحتْ فوق الغصون البلابلُ
ألا كلُّ مجدٍ غيرُ مجدك عاطلٌ ... وكلُّ مديح لم يكن فيك عاطلُ
وله لامية عارض بها امرأ القيس، الذي انتسب إليه حسن السبك، وبشعره ترنمت ورق البلاغة، وذاك أشهر من قفا نبك.
ومطلعها:
توكل على الرحمن حقَّ التوكُّلِ
وهي طويلةٌ جداً، وقد ذكرتها في تاريخي، ولا إفادة في الإعادة.
واتفق بيني وبينه مراجعات، أقطعها جانبه الظرف، وتردت كالنسيم بين الروضتين طيبة الشميم والعرف.
اكتفيت بذكرها في التاريخ، كما وقع غليه الاختيار؛ لأنها من قسم الخبر، والتاريخ موضوعه الأخبار.
وذكرت عنده يوماً بعض الموالي ممن أكاذيبه في قلب الأماني قروح، ووعده كخلَّب برقٍ يلوح.
وكنت ممن اغتر بزخارفه، وطمع في عارفةٍ من عوارفه.
فنشد ضالةً له في ذمة مطلِه، وأنشد ما قاله في مخيلة وعد مثله:
ولا تركننَّ إلى غادةٍ ... ولو خادعتكَ بزورِ المحالِ
ففتكُ الظُّبا دون فتكِ الظِّبا ... وعهدُ الغواني كعهد الموالي
ولعمري لقد أنصف، في الذي وصف.
وحكم حكماً يشهد به العيان، وليس بعد العيان، حاجةٌ إلى البيان.
ولما ولي المدرسة المعروفة بزال باشا، وهي آخر ما وليه من المدارس. وهشت له الأماني، وتاهت به التهاني.
وظن أنه سالمته الخطوب، وجلت عن وجه رجائه القطوب. ولم يدر أن القدر عليه بالمرصد، ويد المنون تخترمه دون المقصد.
نظم قصيدةً مطلعها:
ألم ترَ أنَّ الهمَّ زال بزَالا ... وأحسنَ آمالاً لنا ومآلا
فلما رأيته لم أشك في استحكام الفال؛ وألقي في روعي الطيرة من لفظة زال. وفارقته عشيَّة يوم أردِّد الفكر، وأجدِّد في ليلتي ذلك الذكر.
حتى جفا جنبيَّ الضجعة، وجانب جفنيَّ الرقدة والهجعة. فما انشق الفجر عن حبيب الظلام، حتى أتاني مخبرٌ بأنه يعالج الحمام.
فبادرت إليه فوجدته أخذه الشرق، وهو يلفظ آخر الرمق. ونفسه الباقي، قد بلغ التراقي. ثم قضى نحبه، ولقي ربه.
فالله يستثمره عائدة الأخرى آجلاً، كما استنجزه فائدة الأولى عاجلاً.
وقد قلت أرثيه من قصيدةٍ، مطلعها:(1/67)
كلُّ حيٍّ على البسيطةِ فانِ ... غيرَ وجهِ المهيمن الرحمن
إلى أن قلت فيها:
أين روحُ الزمان من كنتُ حي ... ناً وإيَّاه نخلتيْ حلوانِ
نخلتا حلوان يضرب بهما المثل في طول الصحبة.
وكان المهدي خرج إلى أكناف حلوان متصيداً، فانتهى إلى نخلتي حلوان، فنزل تحتهما وقعد للشرب، فغناه المغنِّي:
أيا نخلتيْ حُلوان بالشِّعبِ إنَّما ... أشَذَّ كما عن نخْل جوخَى شقاكُما
إذا نحنُ جاوزنا الثنيَّة لم نزَل ... على وجلٍ من سيرِنا أو نراكما
فهمَّ بقطعهما، فكتب إليه أبوه المنصور: مه يا بني، واحذر أن تكون ذلك النحس الذي ذكره الشاعر في خطابهما، حيث قال:
واعلما إن علِمتُما أنَّ نحساً ... سوفَ يلقاكُما فتفترِقانِ
تتمة المرثية:
كان فينا كالوردِ في وجناتِ ال ... غيدِ والسِّحرِ في عيونِ الحسانِ
عاجلَ الدَّهرُ نيِّر الفضلِ الكس ... فِ وبدرَ الكمالِ بالنُّقصانِ
رجع الجوهر النَّفيسُ إلى الأص ... لِ وأضحى مقرُّه في الجنانِ
ليتَ شعرِي وليس يُجدي أعن عم ... دٍ رمتْهُ الخطوبُ أم نسيانِ
كيف دكَّيتَ أيها الخطبُ رضوى ... ونقلْتَ الهِضاب من ثهلانِ
منها:
يا صديقي تركْتني لهمومٍ ... ينقضي قبلها زمانُ الزَّمانِ
لست أرضى عليك حكم لبيدٍ ... مذهبي في الوفاءِ حكمُ ابن هاني
عيلَ صبرِي وإنَّما أتأسَّى ... بعمومِ المصابِ في الأعيانِ
أسعدُ الصَّاحبينِ من ماتَ من قب ... لُ وأبقى الصَّديقَ للأحزانِ
إنَّما هذه مراحِلُ تطوى ... والبرايا تُساقُ كالرُّكبانِ
ومردي بحكم لبيد قوله:
إلى الحملِ ثم اسمُ السَّلامِ عليكما ... ومن يبكِ حولاً كاملاً فقد اعتذرْ
وبحكم ابن هانئ:
سأبكي عليهِ مدةَ العمرِ إنَّني ... رأيتُ لبيداً في الوفاءِ مقصِّرا
عبد الحي بن أبي بكر، المعروف بطرَّز الرِّيحان أديب طرزه تطريز الرقاع بوشي تحبيراته، وفنه تحلية جيد الكلام بجواهر تعبيراته. تنتهي إليه محاسن الألفاظ، وترنو معانيه عن غمزات الألحاظ.
وله من الشعر، ما يسخر بالسحر. فلو كان لسواه في حيز الإمكان، استحقَّ أن يصلب عليه الملكان. إلى ظرف ريحانه يرف، وطبع هواه يشف. ومحاضرة مع الراح تتفق، ولا تفترق. وتأتلف، ولا تختلف.
إلا أنه كان عليه للهوى وثبات، لا يرجى له فيها قرارٌ وثبات.
فإذا عارضته رأيت غمرات بواعث طافحة، وجمرات لواعج لافحة. وهموماً على جوانح جوانح، وآلاماً منها في جوارح جوارح.
وكنت عاشرته لأستمطر ديمته، وأختبر في هذا المعرض شيمته. وكان عفَّ عن الصبوة ونسك، وكفَّ عن الشَّهوات وأمسك. ولم يبق فيه إلا بقية، تخلَّت على بيضاء نقية.
فرأيته مغلوب سورة طباعه، وقد استولت النَّفرة على طرف انطباعه. إلمامه فلتة غبي، وإغبانه فترة نبي.
فكنت معه على أحسن فطرة، لم تلحقني في هواه فترة. واختلست منه أوقاتاً كلمة شارق، وخطفة سارق. ونقر العصافير، خوف النواطير. وأنا من منذ فقدته لم أرَ عنه بدلاً، وأعطافي مملوءةٌ به ترنُّماً وجذلاً.
وكان في آخره حج ورجع رفيق زهدٍ وإنابة، فلم يلبث حتى دعاه الدَّاعي الذي لا بدَّ له من إجابة. فيا له من حجٍ وعمرة، ختم بطابع النقاء عمره. والحمد لله الذي أحسن له الاختيار، فقبضه إليه قبض الأخيار.
وقد أوردت من أشعاره التي هي فروع أماليه، ما يحرِّك الجمادات إذا ما تحرك تاليه.
فمن ذلك قوله في الغزل:
خلِّياني ولوعتي ونحيبي ... ليسَ إلا صابٍ بدمعٍ صبيبِ
وابكِياني فإنَّ من جرحَ اللَّح ... ظُ قتيلٌ وما له من طبيبِ
أيُّ صبٍّ سمعتما علِقته ... أعينُ الغيدِ فهو غيرُ سليبِ
بأبي معرِضٌ ألوف نفارٍ ... ذو اختلاقٍ نفنُّناً للذُّنوبِ
فِعله كلُّه حبائِل فتكٍ ... قد أعدَّت لصيدِ كلِّ القلوبِ(1/68)
تتحرَّى مقاتلَ الصَّبِ عينا ... هُ برشقِ النِّبالِ في التَّصويبِ
ذو وقارٍ أهابه أن أحيِّ ... يهِ إذا ما بدا بلفظِ حبيبي
فهو لم أدرِ جاهلٌ خبرَ حالي ... أم يُريني تجاهلاً كمرِيبِ
أبداً دأبه ودأبيَ هذا ... كلانا في الحالِ غيرُ مصيبِ
ليته لو أقرَّ قلبي على الحبِّ ... بلا ريبةٍ ووجهٍ قطوبِ
وإذا شاء بعد ذاكَ تَجنَّى ... لذَّةُ الحبِّ غصَّة التَّعذيبِ
ما يبالي من استهلَّ عليه ... من سماءِ الغرامِ غيثَ اللَّغوبِ
جابَ كلَّ البلادِ يحسبُ أنَّ ال ... حظَّ شيءٌ يُعطى لكلِّ غريبِ
وأنشدني قوله في الغزل:
سقتْكَ الغرُّ يا عهدَ الشَّبيبه ... ترنِّح منك أغصاناً عسيبهْ
وإلا فالنَّواقعُ من جفونِي ... وإن يكُ لا رواءَ ولا عذوبهْ
فكم لي في ظلالِك من مقيلٍ ... حسوتُ به الهوى كأساً وكوبهْ
بكلِّ نديِّ جسمٍ كنتُ أظمي النَّ ... واظِر عنه خشيةَ أن تُذيبهْ
كأنَّ بكلِّ عضوٍ منه بدراً ... منيراً أو مدبِّجَةً خصيبهْ
وكلِّ مرنَّحِ الأعطافِ يخطو ... فيكْتسبُ الصَّبا منه هبوبهْ
إذا ما رامَ يبعثُ بي دلالاً ... يقطِّبُ والرِّضا يمحو قطوبهْ
فمن لكَ بالسَّلامةِ إن تثنَّى ... وهزَّ قناة عطفيهِ الرَّطيبهْ
وأبلجَ مستديرِ الشَّكلِ أبدتْ ... به الأصداغُ أشكالاً عجيبهْ
يُريكَ بسيمياءِ الحسنِ روضاً ... حذاراً منه أن تصلى لهيبهْ
وفاحمَ طرَّةٍ شكراً لأي ... دي الرُّعونةِ كم بها أمستْ لعوبهْ
تبدِّدُها كذوبِ المسكِ طوراً ... على غصنٍ تجسَّد من رطوبهْ
وطوراً يظهرُ الشربوشُ منها ... كأطرافِ البنانِ غدتْ خضيبهْ
وآونةٍ يُري منها زباناً ... يلوح وكم به كبدٌ سليبهْ
فأنَّى يطرقُ السُّلوان قلباً ... حمتْه جيوشُ خضراءِ الكتيبهْ
ولا كنواعسٍ أرشقنَ قلبي ... صوائبَ غادرتْه أخا مصيبهْ
شهرْنا ظُباً وقلنا ألا صبورٌ ... فكانتْ مهجتي أولى مجيبهْ
لحاها الله أيُّ عناً تلقَّتْ ... تقمَّص منه جثماني شُحوبهْ
ولم أكُ ألحَها إلا اضطِّراراً ... فلم تكُ بالذي فعلتْ معيبهْ
هي الأحداق ما مستْكَ إلا ... وفزْتَ من الشَّهادةِ بالمثوبهْ
جرى قلمُ القضاءِ لنا بهذا ... ولا يعدو امرؤٌ أبداً نصيبهْ
ومن أهاجيه، التي هي من قسم أفاعيه، قوله في هجاء غلام يباهي بتيهه، ويتلاعب في العالم بتمويهه. فإذا فطن بهوى مغرم، صيَّره هدفاً لكل مغرم.
وكان يرافقه، ولا يوافقه. ويقاربه، لكن يواربه. وهو مغضٍ على قذً، مقيمٌ على أذً. حتى بالغ في هجره، فبلغ نهاية هجره. واتفق للشيخ مجلسٌ رآه فيه يلعب بالنرد، فتعرف إليه، فعامله بالإعراض والرد، فقال:
أنكرتني ذاتُ السِّوارِ الصَّموتِ ... عجباً ما لعرفتي من ثبوتِ
لا بلِ الغانياتُ يعددنَ من أم ... سكَ من وصلهنَّ حيًّا كميتِ
ومريدٌ من الغواني وفاءً ... متدلِّن بشعرةِ العنكبوتِ
لا رعى اللهُ مهجةً علقتْ ... هنَّ ولا أسعِفتْ بفضلِ القوتِ
خفرتْ هندُ ذمَّتي واستعاضتْ ... من صدوحِ الرِّياضِ بالعفريتِ
لست أنسى يومي بمجتمعِ اللَّ ... هوِ وفكري فيها يُجيد نعوتي
إذ بدتْ في غلالةِ التِّيهِ والعج ... بِ وبُردِ الجلال والجبروتِ
تتهادى في السِّربِ حتى إذا ما ... وصلتْ حوزتي أرتنيَ موتي(1/69)
بتغاضٍ مع التفاتٍ إلى الدُّو ... نِ ومقتٍ ولست بالممقوتِ
ويحها لم تحيِّني بين جمعي ... لو تحيِّي قلنا لها حيِّيتِ
وتلاهت بالنَّردِ في ذلك المج ... لسِ خوفَ اتِّهامها بالسُّكوتِ
ثمَّ ولَّتْ وخلَّفتني أعض ال ... كفَّ مستدركَ القضا بعد فوتِ
هندُ قلِّي من التَّجني فلسنا ... من يراضيه فضلةٌ من فتيتِ
لستِ لاثنين أو ثلاثٍ فنأسى ... أن تخصِّي بعضاً وبعضاً تفوتي
أنتِ وقفٌ على العبادِ ومن يط ... معُ في الوقفِ واجبُ التَّبكيتِ
أتظنِّين أنَّ لي بكِ شغلاً ... ليَ قلبي إن شئتِ ذا أو أبيتِ
إنَّني عفْتُ بيتَ حسنك مأهو ... لاً فأنى وما به غيرُ بيتِ
ليس عندي بعد احتقارِكِ قدري ... لكِ كفؤٌ غير الطَّلاقِ الثَّبوتِ
لا أسوفاً على جمالِك إن بدِّ ... لَ قبْحاً ومرَّ طعم الشتيتِ
غير أنِّي أسفْتُ أن ضاعَ شعري ... فيكِ لكنْ ما باختياري حبيتِ
إذ بلائي بمبتلاكِ دعا الفك ... رَ لأن شادَ فيكِ بعض بيوتِ
آهِ من صحبة العبادِ وآهاً ... لزمانٍ يمرُّ في تشتيتِ
صدقَ القائلُ السَّلامة في الصَّم ... تِ كذا الحسنُ في لزوم البيتِ
طالَ ما قد جررتُ ذيل التَّصابي ... وتناسيتُ غصَّة التفويتِ
لا يظنَّنَ عاقلٌ بيَ ميلاً ... لمليحٍ مؤانسٍ أو مقوتِ
رفضتْ نفسيَ الهوى خيفةَ الذُّ ... لِ وأن تبتلى برقِّ فليتِ
وهجرتُ المُدامَ ممَّا يؤدِّي ... لافتضاح القؤولِ والسِّكِّيتِ
واختلاطٍ بغير مرضيِّ عقلٍ ... وانطراحٍ مع قربِ ذي تنكيتِ
فإذا ما ادَّكرتُ أيامَ لهوي ... قلت أيامَ صبوتي لا سقيتِ
لذَّة الحرِّ في اكتسابِ المعالي ... لاافتراشِ الدُّمى وحسوِ الكميتِ
وله في الغزل:
قاتِلي أنت لا محالَ فأحسِن ... قِتلة الصَّبِّ سيِّدي بحياتِكْ
أنت في الحلِّ من دمي فأثِبني ... عنه تعجيل جنَّتي وجناتِكْ
هبكَ أظمأتَ ناظِري فاروِ سمعي ... بكؤوسِ العتابِ من لفظاتِكْ
إنَّ حُبِّيكَ قيَّد الفكر حتى ... عزَّ لو رمتُ وصفَ غيرِ صِفاتِكْ
أيُّ ذنبٍ جنيتُه يوجِب الهج ... رَ ويُجدي الحِرمان من حسناتِكْ
بحياةِ العيونِ جدْ لصريعٍ ... ما رمى قلبَه سِوى لحظاتِكْ
لا بغيرِ الحديثِ يا حاليَ اللَّف ... ظِ ومُرِّ المذاقِ في نَفَراتِكُ
أن لحظَيْكَ عذَّباني ولكن ... ثغرُكَ الجوهريُّ أعذبُ فاتِكْ
ما لجفنيكَ في الخلايقِ تُعزى ... أوَفي الحسنِ وحَّدوا غيرَ ذاتِكْ
حُسنُكَ الفرد مثل ما فيكَ عشقِي ... فارْعَ لي نسبتِي لبعضِ سِماتِكْ
من تجنِّيكَ ما برحتُ طريحاً ... ومُصابي من جفنِكَ المتهاتِكْ
خلِّني يا عذولُ إن بسمعي ... صمماً لا أعِي إلى فشْراتِكْ
أنا من جادَ بالسُّلوّ لمن لا ... مَ وبالنَّومِ للعيونِ الفواتِكْ
أنا من قالَ للعذولِ مليَّاً ... انجُ عنَّا فما لنا في بناتِكْ
يا عيوناً خامرنَ قلبيَ رِفقاً ... لست أصحو ما عشتُ من سكراتِكْ
ليَ قلبٌ يروي حديثَ سَقامِي ... وصحيحَ الغرامِ عن كسراتِكْ
فإلى كم تلك الأماني الكذو ... بات تعنِّي الأطماعَ في ترَّهاتِكْ
كن كما شئتَ إنَّ قلبيَ جلدٌ ... لركوبِ الأخطارِ في مرضاتِكْ
حلَّه الحبُّ وهو خلوٌ وتكلي ... فكَ ما لا تطيق نزعُ جِهاتِكْ(1/70)
ومن غرره البديعة قصيدته الحائية، التي مدح بها آل البيت، وتخلَّص فيها لمدح بعض الأمراء. ومستهلها:
مهبَّ الصَّبا حيَّتكَ غرٌّ طوافِحُ ... سوافِر بالفيضِ العميمِ سوافِحُ
تتوِّجُ منك الهضْبَ تاجاً كأنَّما ... حبتْهُ بأنواعِ النُّقوشِ القرائحُ
فإنَّ الصَّبا فوجٌ لها عند من صبا ... أيادٍ كما شاء الغرامُ وضائحُ
تفتِّحُ أقفالَ القلوبِ كأنَّما ... سراها لأسرارِ القلوبِ مفاتحُ
وتعبثُ بالأشواقِ تبعثُ ميتها ... فما هي للأرواحِ إلا مراوحُ
تقدُّ قميصَ السُّحبِ عن منكبِ الفضا ... سحيراً فتقضي وهيَ نعمَ المصابحُ
مؤدِّيةً أسرارَ عرفٍ تعرَّفت ... لأهليه في ذاك الأداءِ مصالحُ
قريبةُ عهدٍ من مواطن جيرةٍ ... مواطئهم في الرَّقمتينِ الجوارحُ
لذلك أرجو أن تهبَّ ندِيَّةً ... معطَّرةَ الأردانِ مما تصافِحُ
على أن واديها المقدَّسَ في غنًى ... عن الطِّيبِ مما طيَّبتهُ الضرائِحُ
مشاهِدُ فيها من دمِ الشهداءِ ما ... يطلُّ منهُ نافجَ المسكِ نافِحُ
معاهدُ لم يحْفظ بها عهدَ أهلِها ... عصابةُ سوءٍ قد كستْها المفاضِحُ
تعدوْا حدود اللهِ في آلِ أحمدٍ ... فآلوا بخزيٍ ليس عنه مسامِحُ
ولم يكُ إلا لعنةَ اللهِ كسبُهم ... بصفةِ خسرٍ خابَ فيها المرابِحُ
ليحرِز سبَّاقُ السَّعادةِ شأْوها ... ويُمحض للأشقى الشَّقا والفضائِحُ
قضاءٌ له حكمُ الإرادةِ واضِعٌ ... به جفَّتِ الأقلامُ والأمرُ واضِحُ
ألا عدِّ عمَّا يصدعُ القلبَ ذكرُه ... ويُذكِي تباريحَ الأسَى منه بارِحُ
وإنِّي وإن موَّهتُ عنه فإنَّني ... حليفُ جَوًى مما تجنُّ الجوانِحُ
ولكن لنا فيمن مضى أسوةُ الهوى ... إذا ما ورَى زندٌ من الوجدِ قادِحُ
سقى صيِّبُ الرِّضوانِ أرضاً بنورِها ... تنير على صاحِي السَّماءِ الصَّحاصِحُ
مراقِدُ مثوى العلمِ والحلمِ والحيا ... وكلِّ حميدٍ ما اهتدتْهُ المدائِحُ
رياضُ الرِّضى مغنى الغنى منتدى النَّدى ... جنانُ الجناحيثُ المنى والمنائِحُ
يميناً بهم لولا ممرُّ الصَّبا على ... مضاجِعهم ما طابَ منها المصافِحُ
هم السَّادة الطُّهرُ الذينَ بحبِّهمْ ... أدينُ إلهي يومَ يربحُ رابِحُ
وهم عمدتِي في كلِّ كربٍ وعدَّتي ... إذا ما غزى صبرِي الزَّمانُ المكافِحُ
ولي من سَنا آثارِهم كلَّما دجى ... عليَّ ظلامُ الموبِقاتِ مصابِحُ
وحاشا جنابَ الأكرمِين يضيعُ من ... لأعتابِهم قد طوَّحتهُ الطَّوائِحُ
وإنِّي لمن والاهمُ لمحاسِنٌ ... وإنِّي لمن عاداهمُ لمقابِحُ
ولستُ بمن وافاهمُ المدحَ حقَّه ... وعذري وقد قصَّرتُ فيهِ لواضِحُ
وإني لفكرٌ أعْقمتْهُ همومهُ ... وأصمتْهُ أصداءُ الزَّمانِ الفوادِحُ
يقومُ مقاماً تخرسُ الفصَحاءُ عنْ ... عُلاهُ فكيفَ الأخرسُ المتفاضِحُ
ولكنَّني أرجو المفازَ ولو بأن ... يُشاعَ مجازاً أنَّني الآلَ مادِحُ
وحسبِي حُبٌّ للنبيِّ وآلهِ ... ومن قد أحبُّوهُ ولستُ أُكاشِحُ
وممَّا اقتضاني حبَّهم حُبُّ ذي علاً ... يطارِحُني ذِكراهمُ وأطارِحُ
محبُّ حبيبي موطنٌ لمحبَّتي ... وإنِّي لهُ خلٌّ صدوقٌ مناصِحُ(1/71)
هو الأروعُ اللَّيثُ الذي حشو ثوبِه ... وقارٌ تغُضُّ الطَّرف عنه الملائِحُ
همامٌ يعيدُ الهمَّ رؤيةُ وجهِهِ ... وليلٌ لوحدانيةِ اللهِ راجِحُ
أغرُّ يُريك النُّجحَ مهما لحظتَهُ ... أساريرُ منها كوكبُ السَّعدِ لائِحُ
إذا سمعتْ أذنٌ بأوصافِ مجدِهِ ... تقولُ غلوٌّ بالِغٌ وتسامِحُ
وحتَّى إذا ما عانيتْ منه سبَّحتْ ... وقالت نعم في قدرةِ اللهِ صالِحُ
رأيتُ علاهُ فامتلأتُ مهابةً ... ومن يلقَ ليثاً فهو لا غَرْو جامِحُ
وقد ظلتُ لمْ أسطِع جواباً وأنَّ لي ... لعضبُ لسانٍ تتَّقيهِ الجوارِحُ
كأنَّ مِدادي حينَ أرقمُ مدحَهُ ... غوالِي الغوانِي والرَّويَّ الرَّوائِحُ
عجِبتُ لأقلامِي سعتْ في مديحِه ... على رأسِها جرياً بما هو سانِحُ
وقد طالَ ما استنْهضْتُها لِمُلمَّةٍ ... فأعيتْ طِلابي وهي ثكلَى بوارِحُ
ولا غروَ أن تسعَى لمخدومِها الذي ... جميعُ مساعِيها لديهِ نواجِحُ
فديتُكَ يا ابن الأكرمينَ ومن بهِ ... خُزاعةُ لم يرجَع عليها مراجِحُ
حنَانيْكَ إذ كانَ الجيوشُ تهابُ من ... لقائِكَ فاغذُر عاجِزاً يتكادَحُ
وأيُّ لسانٍ لا يَكَلُّ حديدُهُ ... لدَى ذَرِبٍ ينبو لديهِ الصَّفائحُ
على أنَّني للشِّعر كنت محارباً ... ولم ألقَ فيما بيننا من يُصالِحُ
وقد كنتُ أبوابَ القريضِ غلقْتُها ... إلى أن أتتْها من يديكَ الفواتِحُ
ومن لم يكن في مثلِ مجدِك شاعِراً ... عصَتْهُ القوافِي واعتصتْهُ الفرائِحُ
ولستُ بمن يختارُ لُبثاً بغيرِ ما ... مُقامِكَ لولا أفرُخٌ تتصادَحُ
تُسائِلُ عنِّي من يروحُ وتغتدي ... سُؤالَ شجِيٍّ دمعُهُ يتسافَحُ
وأنت خبيرٌ أنَّ تلك علاقةٌ ... تسُدُّ على الوحشِ الفضا وهو سارِحُ
ولو كان لي من فارِه الفحلِ مركبٌ ... أُغادي به مغناكمُ وأُراوِحُ
لما قعدتْ بي عن حماكِم عزيمةٌ ... ولا اطَّرحتْني من سِواكَ مطارِحُ
ولي نفسُ حرٍّ تأنفُ الذُّلَّ لو أتَى ... لها بقرابِ الأرضِ مما يشاحِحُ
تألَّفتَها باللُّطفِ حتَّى تألَّفتْ ... وحنَّت إليكم والدِّيارُ نوازِحُ
وحتَّى إذا وافتْك وافتْ مهذَّباً ... يُعيدُ رواءَ الدَّهرِ والدَّهرُ كالِحُ
حليماً لدى البأساءِ قُطبَ رحى الوغى ... رزينَ الحجا لا يزدَهيهِ ممازِحُ
بصيرٌ بتدبيرِ الخُطوبِ كأنَّما ... ذكاهُ بأعقابِ الأمورِ يصارِحُ
له منطقٌ يستنزِنُ العُصمَ في الرِّضا ... وفي الباسِ رُسلٌ للمنايا فواضِحُ
فطبْ عمر الثَّاني بسرتِكَ التي ... بها كلُّ محزونٍ من الجورِ فارِحُ
إليكَ أتتْ رعبوبَةُ الحسنِ غادةٌ ... لها من بديعِ المكرُماتِ وشائحُ
وبلقيسُ حسنٍ في منصَّةِ عرشِها ... بلابلُ أفنانِ الفنونِ صوادِحُ
شهودٌ بأنِّي في البلاغةِ واحدٌ ... كانتْ علاً كلٌّ بمعناه طافِحُ
عسى هزَّةٌ أريحيَّتكَ التي ... تناشدَها الرُّكبانُ غادٍ وارئِحُ
تعلِّم من جاراكَ في حلبةِ العلى ... تلقِّيَ وفدِ الفضلِ أنَّى يُصافِحُ
ودُمْ وابقَ واسلمْ غصنَ مجدٍ يهزُّه ... أغاريدُ مُدَّاحِ العُلى والمدائِحُ
ومن غزلياته الرقيقة، التي هي الخمر على الحقيقة، قوله من قصيدة، مطلعها:(1/72)
لحظاتٌ لا تحامِي القَوَدا ... قد تناهبنَّ الحَشا والكبِدا
منها:
يا لِحاظاً نستلذُّ فتْكها ... لا عدِمنا عضبك المجرَّدا
دونكِ الصَّبرَ احطمي جنودَهُ ... واجعلي شملَ السُّلوِّ بددَا
وامنعي ورداً ووِرْداً للحَيا ... والحياةِ ما انجنى أو وردا
يا مهزَّ الغصنِ من عِطفيهِ ملْ ... واعتدلْ لم تلقَ من قال اعتدى
يا مناطَ القُرطِ من نغنُغِهِ ... قد تركتَ الظَّبيَ يجري في الكُدى
كيف للظَّبيِ بفرعٍ فاحمٍ ... زانَ بالتَّصفيفِ جيداً أجيَدا
مذ غدا المِحرابُ من حاجِبه ... قبلةً خرَّتْ جُفوني سجَّدا
هكذا الحُبُّ وعِزُّ شأْنِهِ ... صنعَةَ اللهِ تعالى مُوجِدا
مالِكي بالحسنِ والحُسنَى احتكِمْ ... حقَّ أن تُضحِي لمِثلي سَيِّدا
إنَّ من كنتَ له مولًى فقدْ ... عاشَ يا مولايَ عيشَ السُّعَدَا
صبَّحَ اللهُ بكلِّ الخيرِ منْ ... كان مرآكَ لعينيهِ ابتدَا
أنت رُوحي فإذا ما غبتَ عنْ ... ناظِري فارقَ روحِي الجَسدَا
وله يودع بعض إخوانه:
حيَّاكَ عهدَ الحبيبِ عهدُ ... أوطفُ جفنِ السَّحابِ وِرْدُ
بعدَك ما جفَّ من جفوني ... دمعٌ ولم يجْفُهنَّ سُهْدُ
كأنَّما كان للَّيالي ... دُيونُ بينٍ وحانَ وعدُ
يا ليتَ مذ فرَضتْ بِعاداً ... سَنَّتْ وَداعاً غداة تبدُو
أستودِعُ الله من جَفاني ... ضَرورةً وهوَ لي يَوَدُّ
سارَ بقلبي حماهُ ربِّي ... ولم يقُل كيف بعدُ تغدُو
حداهُ أنَّى انتحَى فلاحٌ ... وقادَهُ للنَّجاحِ رُشدُ
وما عليهِ بِذاكَ عتبٌ ... إرادةُ الله لا تُرَدُّ
وله في الغزل:
ما الذي أوجبَ صدَّكْ ... ولِما أخلفتَ وعدكْ
ألِشُغْلٍ دُنيويٍّ ... أم عذابِي كانَ قصدكْ
أم دلالٍ أم تجنٍّ ... أم قرينُ السُّوءِ صَدَّكْ
وعلى أيَّةٍ حالٍ ... أسعدَ الغُفرانُ جدَّكْ
بالذي ولاَّكَ رِقِّي ... سيِّدي لا تنسَ عبدَكْ
أنا في قُربٍ وبُعدٍ ... حافظٌ تالله عهدكْ
وفؤادِي حيثُما منْ ... تَ وأيمُ الله عِندَك
لطفُكَ المعهودُ خَلاَّ ... نِي أسيراً لكَ وحدَكْ
هل من الإنصافِ إقصا ... ءُ الذي ينظِمُ قصدَكْ
حاشَ ألطافَكَ من أنْ ... تمنعَ الظَّمآنَ وِردَكْ
أنا من شادَ كما شا ... ءَ التُّقى والصَّونُ وُدَّكْ
كم خلَوْنا والمروءا ... تُ وَشَتْ بُردِي وبُردكْ
وعفافُ الذَّيلِ قد طوَّ ... قَ جِيدَ الصَّبِّ زِندَكْ
هكذا نحنُ فظُنَّ ال ... خيرَ يا سائلُ جُهدَكْ
أنا من يتْبَع غيَّ ال ... حبِّ فاتبعْ أنت رُشدَكْ
وله:
إليك يا ابن أبي عنِّي نصيحةَ من ... يدُ التَّجاربِ قامتْ عنه بالأودِ
إيَّاك صحبةَ غير الجنْسِ ما بشَرٌ ... يقوَى لأنْ يجْمَع الضِّدَّينِ في جسدِ
وله:
حيِّي وجهاً إذا سفرْ ... أخجلَ الشمسَ والقمرْ
ومُحيًّا له الحيا ... وخدوداً لها الخفَرْ
وقدوداً إذا انثنتْ ... ظَلتُ أثني على القدرْ
ومهاً في جفونِها ... عالِمُ السِّحرِ قد مهرْ
يستفزُّ الحِجابِلا ... حاجَةٍ لِسوى النَّظرْ
وظِباءً ظِباؤها ... ليس تُبقي ولا تَذَرْ
غازلتْني بغزوِها ... ثمَّ ولَّتْ على الأثرْ
ودَّعتني وأودَعتْ ... جفنِيَ النَّوحَ والسَّهرْ
وتباكتْ وقدْ بكي ... تُ وعند الهوى الخبرْ(1/73)
ساجياتِ الجُفونِ لا ... تتَّخِذنَ البُكا سُتُرْ
لستُ فيكُنَّ لابِساً ... من غرامي على غِررْ
ليس مَن دمعُهُ حَياً ... مثلَ من دمعُه حَذَرْ
أينَ دمعُ الدَّلالِ من ... عَبرةِ الهمِّ والعِبرْ
غيَّرَ الكُحلُ لونَ ذا ... واستحالتْ بذا الغِيَرْ
ليسَ من قلبُهُ قسَا ... كالَّذي قلبُه انفطرْ
ليس من باتَ هاجِعاً ... مثل من نَومَه هَجَرْ
ومن الفرشِ والوَسا ... ئدِ يُسْتثبتُ الخَبَرْ
وله:
أطالتْ وقالتْ من تصبَّرَ يظفرُ ... فديتُكِ لكن مدَّةُ العمرِ تقصرُ
ففي كلِّ قُطرٍ غُربةٌ وتستُّتٌ ... وفي كلِّ عصرٍ حُرقةٌ وتحسُّرُ
يخيَّل لي في كلِّ قفراءَ أنَّما ... بها الآلُ أشراكُ الهوانِ فأُقصِرُ
أهجِّرُ منها حيثُ تستعِرُ الحصا ... وتصخبُ حِرباءُ الهجيرِ وتزفِرُ
وحتَّى إذا شمسُ الأصيلِ تقنَّعتْ ... حِداداً على فقدِ النَّهار أُشمِّرُ
فاختَبِطُ الظَّلماءَ أحسبُ أنَّها ... مسافةُ خطٍّ بالخُطى تتقصَّرُ
ولو أنَّ لي فيك التِفافَ مودَّةٍ ... لما كنتُ أطوِي في البلادِ وأنشُرُ
وله:
الأهمَّ الأهمَّ إن كانَ لا بدَّ ... فإنَّ الزَّمانَ فينا قصيرُ
لا تُضِعْ فرصةَ الحياةِ فما لل ... عمرِ حيثُ انتهى مداهُ مُعِيرُ
وله:
ألا قلْ لمن أبدى اعتذاراً وقد أبى ... زِيارتنَا والرَّيبُ في ذلك العُذرِ
عليك أمانُ الله ما دمتَ عندَنا ... من القتلِ والتَّشليحِ ثمَّ فلا أدري
وله:
إذا كان فقرُ المرءِ يُزري كمالَهُ ... فتنفِرُ منه الأصدقاءُ بلا عذرِ
فيا ضيعةَ الحُسنى ويا خيبةَ الرَّجا ... ويا موتَ زرْ إنَّ الحياةَ على خُسرِ
وله:
أسفٌ يردَّدُ بالنفسِ ... ومدامِعٌ لا تُحتبسْ
وصبابةٌ من وقدِها ... نارُ الجوانِحِ تُقتبسْ
شوقاً إلى من بعدُهمْ ... لم يبقِ لي إلا نفسْ
وشتاتُ شملِي عنهمُ ... قد سلَّ روحي واختلسْ
صبراً لدهرٍ ما ابتسمْ ... تُ تجلُّداً إلا عبسْ
وله، ويخرج منه اسم إبراهيم بطريق التعمية:
إنَّ رقيباً صدَّ من نعشقهُ ... عنَّا وآذانا بلا تحاشِي
راحَ بِلا عاقبةٍ محمودةٍ ... إذ حال بين الماءِ والعِطاشِ
وله:
تولَّى زمانِي بالتَّلاعبِ وانقضى ... وحبل شبابي بالمشيبِ تنقَّضا
أُراقِبُ لمحاً من سهيلِ مطالبي ... وأرصدُ برقاً من أمانيَّ أومَضَا
يخيَّلُ لي أنَّ الدُّجى وجهُ باخِلٍ ... وكفَّ الثُّريَّا للسُّؤالِ تعرَّضا
فآنفُ من نيلِ الغِنى بمذلَّةٍ ... وألوي عِنانَ القصدِ عنه مفوِّضا
وأعيَ طِلابي من زمانيَ صاحِباً ... يكون لحالي بالوفاءِ منهِّضا
فأيْقنتُ أنَّ الخلَّ أفقدُ ثالثٍ ... مع الغولِ والعنقاءِ في قولِ من مضى
وقد صحَّ عندي أنَّما الخلُّ خلَّةٌ ... أرومُ لها سدَّ الكفافِ مع الرِضا
إذا قطع الإنسانُ أطماعَ نفسِه ... من النَّاس كان اليأسُ أهنا معوِّضا
هناك يكونُ المرءُ بالله مقبِلاً ... على شأنِه ما إن يكلُّ له مضا
فذاك الَّذي بالعقلِ صحَّ اتِّصافُه ... ومن لا فلا والله بالِغ ما قضى
وله:
قبل التغزِّلِ مني فيه كان له ... بعض التفاتٍ إلى حالي وقد مُنِعا
أمنتُ فيه من الأغيارِ فانتدبتْ ... للمنعِ بنتُ لساني ليت لو قطعَا
يا ربِّ حتَّى أنا ساعٍ على تلفي ... ما ذاك إلا لسوءِ الحظِّ قد وُضعا
وله:
أيُّها الغاصبُ قلبي ... خلِّه منك وديعهْ(1/74)
لا تكنْ ضامنَ في الغص ... بِ بإتلافِ القطيعهْ
وله، وقد أجاد:
يا بعيدَ الغورِ من خص ... رٍ عفا لولا المعاطِفْ
وبعيدَ القرطِ من مَع ... قِدْ أطرافِ المطارِفْ
أعمودُ الصُّبح ما أطْ ... لَعْتَ من طوقِ المناشفْ
أم بدا معصمُ كفِّ ال ... برقِ للأبصارِ خاطفْ
أم طلا ظبيٍ مراعٍ ... مسرعِ اللَّفتاتِ واجفْ
يا قضيباً من لجينِ اللُّ ... طفِ نامٍ في حقائفْ
بات يُسْقى صَيِّبَ الدُّ ... لِّ فأضحى وهو وارفْ
إن عَرى من حُلَلِ ال ... خَزِّ اكتسى حُللَ اللطائفْ
دارَ هِميانكَ هَيْما ... ناً لأخبارِ المراشفْ
ولقد طالَ المدى فان ... عَمْ بإرسالِ السَّوالفْ
قلت: هذا شعر أبهى من إرسال السوالف، وأشهر من ذكر الليالي السوالف.
وله إلى معذرٍ طرزت حاشيتا خديه بالقلم الريحاني، وغرزت صحيفتا وجنتيه بالطراز السبحاني:
هذا طرازُ الملكِ يحلو ... وله لواءَ الحسنِ يعلو
فنواطقُ الأرواحِ آ ... ياتِ الصَّبابةِ فيه تتلو
نسخَ العُذارُ بخطِّهِ ... عذرَ السلوِّ فكيف نسلو
عجباً لجمرٍ منه يصْلى ال ... قلبَ دبَّ عليه نملُ
ولِعقربٍ من عنبرٍ ... حامتْ على وردٍ يُطِلُّ
ولِحُمرةٍ فيها تولَّ ... دَ من حظوظِ الصَّبِّ شكلُ
وحِقاقِ ياقوتٍ علي ... هِ من الزُّمرُّدِ صيغَ قُفلُ
إنَّ الجمالَ الصَّرفَ مع ... نًى عن تعلُّقه يجلُّ
أستغفرُ الله العظي ... مَ توهُّمُ الأفكارِ شغلُ
هذي طلاسِمُ قدرةٍ ... لِلُجينِ كنزٍ فيه لَعْلُ
بل ظلُّ أهدابٍ شخصْ ... نَ وفي مرائي الحسنِ صقلُ
فغدا صفاءُ أديمِها ... لخيالِ ذاك الظِّلِّ يجلو
وله في الغزل:
ملْ فإنِّي لميلكَ المُستميلِ ... متلَقٍ على مَراحِ القبولِ
وعجيبٌ ميلُ الغصونِ إلى نح ... وِ مهبِّ الهوى بغيرِ مميلِ
لكنِ الميلُ بانجذابِ هوى النَّفْ ... سِ أبيُّ الزَّوالِ والتَّحويل
حبَّذا ميلةٌ خلستْ بها القلْ ... بَ اختلاسَ الشَّمولِ حُرَّ العقولِ
معطفٌ عاطِفٌ وجيدٌ مجادٌ ... والتفتٌ يسبِي بطرفٍ كحيلِ
وطُلاً واضحٌ ولفظٌ خلوبٌ ... ينفثُ السِّحرَ في خلالِ المقُولِ
وبروحي إذا تغاضبتْ والمبْ ... سمُ يفْترُّ عطفٍ ومنعةٌ في نكُولِ
هكذا هكذا تبارَك من أوْ ... دَعَ في ذا الجمالِ كلَّ جميلِ
وله:
بِروحي الذي أشقى العيونَ ارتِقابهُ ... وأخرجَ عن حدِّ التَّعادلِ أحوالي
تمثِّلُه الأشواقُ لي فإذا أرى ... مليحاً على بعدٍ تظنَّاه بَلْبالي
فاقصِدْهُ قصدَ العِطاش توهَّمتْ ... شراباً فمذ دانته إذ هو بالآلِ
فصرت بحالٍ لو أراهُ حقيقةً ... نكِرتُ على عيني وكذَّبتُ آمالي
وله بتهنئة بختان:
الغصنُ يُحذَمُ باقتِضابِ فواضلٍ ... منه لينمو في الرِّياضِ ويَحمِلا
وكذاك أقلامُ الكمالِ لِبريِها ... تعنو لها سمرُ الرِّماحِ تمثُّلا
والشَّمعُ لا يزهو ويُزهِرُ نورُها ... حتَّى تَقُصَّ من الذُّبالةِ مُرسَلا
تناول هذا من قول محمد بن قاسم الحلبي، من تهنئته بختانٍ، يقول فيها:
هو الشَّمعُ إن قُطَّ لا غروَ أن ... أنارتْ به حالكاتُ اللَّيالي
وظُفرٌ بتقليمهِ لا يزالُ ... أكفُّ المكارمِ منه حوالِ
وتشميرُ ذيلٍ لدى الاستِباقِ ... لنيلِ الأماني وكسْبِ المعالي
وما لليراعِ إذا لم يقطَّ ... فضلٌ يُعَدُّ على كلِّ حالِ(1/75)
ومن بعد بريِ الغصونِ ازدهتْ ... عليها أسِنَّةُ سمرِ العوالي
وإن كان سبقه في البعض ابن فضل الله، في ختان النَّاصر:
لم يروِّعْ له الختانُ جَناناً ... مذ أصابَ الحديدُ منه حديدا
مثلما تنقصُ المصابيحُ بالقطِّ ... فتزدادُ في الضِّياءِ وقودا
وكذلك الصنوبري في قوله:
أرى طُهراً سيثمِرُ بعدُ عرساً ... كما قد تثمِر الطَّربَ المُدامهْ
وما قلمٌ بمغنٍ عنكَ إلا ... إذا ما أُلقِيَتَ عنه القُلامهْ
ومن الفصول المطربة في هذا الباب، فصلٌ للقاضي الفاضل: الحمد لله الذي أطلعه بثنيات الكمال، وبلَّغه غايات الجمال، ويسَّره لدرجات الجلال، ونقَّله تنقُّل الهلال، وشذَّبه تشذيب الأغصان، وهذَّبه تهذيب الشُّجعان، وأجرى فيه سُنةً سن لها الحديد، فنقصه للزيادة، واستخلصه للزيادة، ودربه للاصطبار، وأدَّبه للانتصار، وألقى عنه فضلةً في اطراحِها الفضيلة، وقطع عنه علقةً حقُّ مثلها ألا تكون بمثله موصولة.
فلم يزل التَّقليمُ منوِّهاً بالأغصان، ومنبِّهاً للثَّمر الوسنان، ومبشِّراً بالنَّماء، وميسِّراً للنَّشوِ والانتشاء.
ولطرز الريحان مضمِّناً بيت الأمير المنجكي:
عجبتُ من طالِعِ المحبِّ ومن ... سرعةِ إكذابِ بأسهِ الأملا
إن زارهُ من يحبُّ عن غلطٍ ... أتاهُ كابوسُ يقظةٍ عجِلا
كأنَّه طارقُ المنونِ فلا ... حيلةَ في دفعهِ إذا نزَلا
أو الغريمُ الملِحُّ في زمنِ ال ... عُسرِ أو الدَّاءُ صادفَ الأجَلا
ثقيلُ روحٍ يزورُ في زمنٍ ... لو زار فيه الحبيبُ ما قُبِلا
يقول إيهٍ وقدْ وجمتُ ومَن ... ينطقُ أو من يطيقُ محتمِلا
يسألُ ما تشتكي فقلتُ لهُ ... داءٌ عرانِي فقال لا وصَلا
فقلتُ آمينَ يا مجيبُ أزِلْ ... ما نشتكيهِ فإن يدمْ قَتَلا
يا ليتَ لو أنَّه استُجيبَ لنا ... دعوتنا تلك والمكانُ خَلا
لم يحُلْ بل ضاعَ وقتُنا هَدَرَاً ... وملَّ منَّا الحبيبُ وارتحلا
وله، متغزِّلاً:
أبُنَيَّ لا أُعدِمتُ فضلكْ ... وأدامَ لي مولايَ ظِلَّكْ
يا جامِعاً شملَ البَها ... لا فرَّقَ الرَّحمنُ شملكْ
أفدِيكَ لم ترَ في الهوى ... مثلِي ولا أبصرتُ مِثلكْ
حاشَا طِباعكَ والوفا ... من أن تَمَلَّ وأن أمَلَّكْ
وكُفِيتَ نزْغاتِ الوُشا ... ةِ وجلَّ قدرُكْ أن تُزِلَّكْ
كم ذي جمالٍ باهرٍ ... لم أرضهُ ليديرَ نعلكْ
ومُمَنَّعٍ في الحسنِ لي ... سَ إلى وصالٍ منه مسلكْ
أمسَى يعرِّضُ نفسهُ ... ليحلَّ من قلبي محلَّكْ
هيهاتَ ما للرُّوحِ من ... بدلٍ ولو أوسعتَ بذلكْ
ها أنت روحي ليسَ بُدٌّ ... منكَ دعْ من شاءَ يهلكْ
بحياةِ ما بيني وبي ... نكْ لا تُضِعْ يا خِلُّ خِلَّكْ
أسفي على زمنٍ يضي ... عُ ولم أُشاكِل فيه شكلكْ
عيناكَ قد نصبتْ على ... كنزِ المحاسنِ منكَ مهلكْ
فبحقِّها لا ترمِ من ... لحظاتِها لِسواي نبلكْ
إنِّي أغارُ إذا بغي ... رِ حشاشتي أغمدَتْ نصلكْ
يفديكَ كلِّي لا تملْ ... لمماذِقٍ في الودِّ كُلَّكْ
وانظر بعينِ العدلِ تع ... لمْ من هداكَ ومن أضلَّكْ
ومن اجتلاكَ لأجلِ لذَّ ... ةِ مشتهاهُ ومن أجلَّكْ
قسماً بِمعناك الذي ... منِّي تملَّكَ ما تملَّكْ
لولاك لم أكُ قائِلاً ... شعراً قلاهُ القلبُ قبلكْ
فكِّر بكاساتِ الخطو ... بِ لعلَّ تطمعُ أن يُعِلَّكْ(1/76)
إنِّي وأحوالُ الشَّبا ... بِ تحوَّلتْ والدَّلُّ دَلَّكْ
لكنَّ ميلي للجما ... لِ طبيعةٌ والطَّبعُ أملكْ
ويصوغُ مجهودُ القري ... حةِ ما حِسابُ الشَّوقِ فذلكْ
إن رمتَ إرجاعَ الفوا ... ئتِ قال ضيقُ الوقتِ من لكْ
فأقولُ للقلبِ اقتنِعْ ... بالطَّلِّ لستَ تطولُ وبلكْ
وأبيكَ لو أمليكَ بع ... ضَ أليمِ ما أخفي أُملَّكْ
لكنَّني أجزتُ خي ... فةَ أن تقولَ أطلتَ فضلكْ
وبسطتُ عذري في هوا ... كَ عساكَ تقبلُه وعلَّكْ
وله هذه القصيدة في الغزل، وهي أشهر شعره:
نفسٌ أمانيها تعلِّلها ... تُعلِّلها تارةً وتُنهلها
ولوعةٌ في الضلُّوعِ أصعبُ ما ... يُذيبُ صلدَ الحجار أسهلها
غداةَ بانوا فلا وربِّك ما ... ظننتُني في الرِّكاب أُثقلها
رفقاً بها حاديَ المطيِّ ففي ... خلبِ فؤادي تدوسُ أرجلها
وفي سبيل الغرام ليَ كبدٌ ... تبيتُ أيدي النَّوى تململها
تعلةٌ للمنونِ قائدةٌ ... آخرُها كاذبٌ وأوَّلها
أساورُ النَّجمَ أبتغي قصراً ... لليلتي والجوى يُطوِّلها
وليتَ ساجي اللِّحاظِ يرحمُ من ... يبيتُ من أجلهِ يدمِّلها
الله في ذمَّةٍ أضعتَ وفي ... حشاشةٍ ملَّها معلِّلها
أما وجفنيكَ والفتورِ وما ... أورثَ جسمي ضنًى مذبَّلها
وأسهمٍ قد أراشها حورٌ ... تقصدُ حبَّ القلوبِ أنصلها
لمهجتي في هواك تكبرُ أن ... يصدَّها ما يقولُ عذَّلها
إلى ما تقضي وفي الحشا حرقٌ ... لا تستطيعُ الجبالُ تحْملها
صبابةٌ إن أردتُ أجملها ... لديكَ ذلُّ الهوى يُفصِّلها
أوجمُ تالله مذ أراك فقد ... أعجزُ عن كلمةٍ أحصِّلها
ومنطقي فيك عن فصاحتِه ... يعودُ سحبانُ وهو باقلُها
وهذه حالةُ الكئيبِ ولوْ ... جحدتَها ما أظنُّ أجهلها
تركتَني واستعضْتَ عنِّي من ... أخفُّ ألفاظِه أثاقِلُها
أعدَمني الله في الهوى فِئةً ... ثناكَ عن وُصلتي تقوُّلُها
هم أشربُوا طبعك القساوةَ هلْ ... تراكَ يوماً لِلُّطفِ تُبدِلُها
أما عرفتَ العفافَ من دَنِفٍ ... مداخِلُ السُّوءِ ليس يدخلُها
يأنفُ بالطَّبعِ كلَّ فاحشةٍ ... مذاهِبُ الشَّرعِ ليس تَقبلُها
غُذي لِبانَ الهوى على صِغرٍ ... فهو لأهلِ الشُّجونِ موئلُها
إن راحَ يحكي صبابةً خضعتْ ... لهُ القوافِي ودان مُشكِلُها
يعلِّمُ النَّوحَ كلَّ ساجعةٍ ... فهو صدى دَوحِها وبُلبُلُّها
ويحَ قلوبِ المتيَّمينَ إذا ... تصرَّمتْ في الهوى حبائلُها
أفديكَ يا قاتلِي بلا سببٍ ... قتلةَ مُضناكَ من يحلِّلُها
أصبحتُ شيخَ الغرامِ فيك ويا ... رِوايةً أدمُعي تسلسِلُها
وفيكَ حلوَ الشبابِ مرَّ ولمْ ... أفُزْ بأمنيةٍ أُؤَمِّلُها
وفيكَ لَعمرُ الهوى رِضاكَ فإن ... عزَّ فيها خيبةً أنازِلُها
تالله لو شاهدتْ عيونُكَ ما ... ألقاهُ سحَّتْ وجادَ وابِلُها
عساكَ تحنو لِمن مطامِعُه ... عليكَ دونَ الورى معوَّلُها
وكمْ ليالٍ سهِرْتُهُنَّ ولي ... رامِحُها سامرٌ وأعزلُها
ومِفرَشي وسطَ كلِّ مسْبِعةٍ ... قتادُها والوِسادُ قنقَلُها
وليسَ إلا هواكَ يؤنِسُني ... بصورةٍ منكَ لي يُمثِّلُها(1/77)
أما كفا يا ظَلومُ ما فعلتْ ... غَزاةُ جفنيكَ لي وغُزَّلُها
ولستُ أشكوكَ بل يَلَذّ لمن ... تولَّهتْ نفسُه تذلُّلُها
فأنت عندي ولو هدرتَ دمي ... خَير ولاةِ الورى وأعدَلُها
وإن توارتْ شموسُ حُسنِكَ عن ... نواظِري فالفؤادُ عاقِلُها
وإن تناءتْ ركائِبي ودنتْ ... رسائِلي فالرِّياحُ تنقُلُها
فاسلم ولا تكترثْ بحُرقةِ ذي ... نفسٍ أمانيها تعلِّلُها
وله:
هو الحبُّ أبحاثُهُ مشكلُهُ ... وكم نظرٍ ضلَّ في مسألَهْ
ومن يستدِّلُّ بغيرِ العفافِ ... على طرقِ الحبِّ لن يوصلَهْ
وما القلبُ قلبي إن عاقهُ ... معيقٌ عن الحبِّ أو أشغلَهْ
ولا العمرُ عمرٌ إذا لم يكنْ ... به الوجدُ آخِرهُ أوَّلَهْ
سقى الله ريعانَ صبوِي بما ... يرنِّحُ منه غصونَ الولَهْ
وأكثرَ في كلامِ الحسودِ ... وخيَّبهُ في الذي أمَّلَهْ
يُعيبُ الصَّبابةَ من لا يرى الصَّ ... بابَة والنُّسكَ غير البلَهْ
ولا عيبَ في الحبِّ إلا نحا ... فةُ الطَّبعِ والرِّقَّةُ الحاصلَهْ
ومن كانَ عن ذاكَ في معزِلٍ ... فغيرُ ملومٍ إذا أهملَهْ
وحسبُ المباشِرِ أمراً من ال ... فضيحةِ فيه بأن يجهلَهْ
ألا حدَّدَ الله نَبلَ الزما ... نِ ولله راميهِ ما أنبلَهْ
كحيلُ العيونِ مثيرُ الفتونِ ... دليلُ المَنونِ إلى المقتلَه
وله:
ملكتمْ زمامَ الرُّوحِ ثم قضيتُم ... برحلةِ جسمي فاسمحوا بِخالِكمْ
عقلتُمْ عُرَى عقلي وقلتم تجاهُلاً ... كأنَّ به جذباً نعمْ بحبالِكُمْ
وله:
عَنِّي إليكمْ بني هذا الزَّمانِ فقد ... عاهدتُ قلبي أن لا رامَ وُدُّكُمُ
أباحكُم بيتَ ودٍّ كان تصدِيةً ... صلاتُكم عندَه فالآنَ صدَّكُمُ
وله، ويخرج منه اسم عمر، وعمرو، بطريق التعمية:
بدْر كستْ شمسُ الطُّلا وجهَهُ ... حُسناً وأغفى جفنهُ وابتسمْ
فقلتُ نبِّهْ عمراً واعتلِق ... منه نطاقَ الخصرِ عقداً ونَمْ
قوله: نبِّه عمراً ونمْ هذا كالمثل.
قال ابن مكرم في مختصر الأغاني في ترجمة بشار: كان أبو الوزير مولى عبد القيس من عمال الخرج، وكان عفيفاً بخيلاً، فسأل عمر بن العلاء، وكان جواداً شجاعاً، في رجلٍ، فوهب له مائة ألف درهم.
فدخل أبو الوزير على المهدي، فقال: يا أمير المؤمنين، إن عمر بن العلاء خائن.
قال: ومن أين علمت بذلك؟ قال: كلَّمتُه في رجلٍ كان أقصى أملِه ألف درهم، فوهب له مائة ألف درهم.
فضحك المهدي، وقال: كلاكما عمل على شاكلته، أما سمعت قول بشارٍ فيه:
إذا دَهمتْكَ عِظامُ الأمورِ ... فنبِّه لها عمراً ثمَّ نمْ
فتًى لا يبيتُ على دِمنَةٍ ... ولا يشربُ الماءَ ألا بدَمْ
وقول أبي العتاهية:
إنَّ المطايا تشتكيكَ لأنَّها ... قطعتْ إليكَ سباسِباً ورِمالا
فإذا وردنَ بنا وردنَ خفائِفاً ... وإذا صدرنَ بنا صدرنَ ثِقالا
أوَليس هو الذي يقول أبو العتاهية فيه:
يا ابنَ العلاءِ ويا ابنَ القرْمِ مِرداسِ ... إني لأُطريكَ في أهلي وجُلاَّسي
حتى إذا قيلَ ما أعطاكَ من نشبٍ ... أُلفيتُ من عظمِ ما أوليْتَ كالنَّاسي
ثم قال: من اجتمعت ألسن النَّاس على مدحه، كان حقيقاً أن يصدِّقَها بفعله. انتهى.
وله يمتدح الأستاذ محمد بن زين العابدين البكري، بمصر:
بعثتْ له الذِّكرى شجنْ ... فصبا وحنَّ إلى الوطنْ
دنِفٌ إذا ابتسمَ الخَلِيُّ ... غشاهُ تعبيسُ الحَزَنْ
قلقُ الرَّكائبِ ما استقرَّ ... به النَّوى إلا ظَعَنْ
والبينُ أصعبُ ما يرا ... هُ أخو الشَّدائدِ والمِحَنْ(1/78)
من مبلِغٍ تلكَ المرا ... بِعِ والمراتِعِ والدِّمنْ
أشواقِي اللاَّتي زحَمْ ... نَ الرُّوحَ في مثوى البدَنْ
في ذِمَّةِ اللهِ الَّذي ... نَ هم فروضِي والسُّنَنْ
بي منهمُ الرَّشأُ الغَضي ... ضُ الطَّرفِ نهَّابُ الوسَنْ
متناسِقُ الألحاظِ أيًّا ... ما لحظتَ به فَتَنْ
مُلَحٌ تعلِّمُ عاشِقي ... هِ به التَّغزُّلَ والفَنَنْ
فكأنَّها من روضِ مَدْ ... حِ أبي بكرٍ فنَنْ
الضَّاربينَ على الفخا ... رِ سُرادِقاً من كلِّ فَنّْ
السَّادةِ البيضِ المآ ... ثِر في العُلا غُرَرِ الزَّمَنْ
ومقلِّدي أعناقَ هـ ... ذا الخلقِ أطواقَ المِنَنْ
بوراثةٍ نبويَّةٍ ... كُلاًّ أتتهُ على سنَنْ
حتَّى استقلَّ بها الإما ... مُ ابنُ الإمام المؤتَمَنْ
قطبُ العلومِ محمدٌ ... ذو الخلق والخلقِ الحسَنْ
منَّاحُ كلِّ نفيسةٍ ... في الفضلِ ليسَ لها ثمَنْ
عن فيضِ وهبٍ جلَّ عن ... كسبِ التَّفهُّم والفِطنْ
طلعتْ بأُفقِ فؤادِهِ ... شمسُ الغرامِ فلمْ يرِنْ
وغدتْ معرِفهُ تطو ... فُ على العقولِ ببنتِ دَنّ
وكذلكَ السِّرُّ المصو ... نُ فويْحَ من فيهِ طعَنْ
يا سيِّدي ولئِن قبِل ... تَ تعبُّدي فلأفخَرَنْ
عطفاً على قلبِي الكسِي ... رِ بنظرةٍ فلأَجبرَنْ
إنِّي أنحتُ مطيَّتي ... بمضيفِ مجدِكَ فاقبلَنْ
مولايَ دعوةُ موثَقٍ ... بيدِ القطِعةِ مُرتهَنْ
متصبِّرٍ والصَّبرُ أو ... لى ما تداوَى المُمتحَنْ
لكِن يعايَر بالجِرا ... حِ مفرِّطٌ ألْقى المِجَنْ
ومدِيحِ علياكُمْ بني الصِّ ... دِّيقِ جُنَّةُ ذي الشجَنْ
وبحبِّكمْ تُشفَى القلو ... بُ وتنجلي ظُلَمُ الشِّحَنْ
هذا هو الفخرُ العليُّ ... وما سِواهُ فممتَهَنْ
من جاءَ يفخرُ عندكُمْ ... قولوا لهُ أنتَ ابنُ منْ
يا سادةَ النَّاسِ الذي ... نَ من استعانَ بهم يُعَنْ
قسماً بكم لولا هوا ... كُمْ في الجوانِحِ قدْ سكَنْ
لم ينتجِ الفكرُ العَقي ... مُ من القريحَةِ ما اسْتجَنْ
فالفضلُ في إيجادِهِ ... لكُمُ وإن يقبلْ أُهَنْ
وشعاريَ التَّقصيرُ ل ... كنِّي قدمتُ بحسنِ ظنْ
أبمدحَتي أوفيكمُ ... حقَّ الولا هيهاتَ أنْ
لكنَّني أبقى تُمَحَّ ... ضُ زلَّتي فلعلَّ أنْ
غوثاهُ يا أهل الحفا ... ظِ العونَ في ضيقِ العطنْ
إن لم ألذْ بجنابكمْ ... أخطأتُ والله المَظنْ
وإذا سعدتُ بنظرةٍ ... منكمْ كفتني عنْ وعَنْ
نهجُ الهدايةِ حبُّكمْ ... من زاغَ عنه قدِ افتتنْ
فعليكمُ سُحبُ الرِّضا ... ما ضنَّ مشتاقٌ وأنّ
وعلى ضريحٍ ضمَّ جدَّ ... كمُ شآبيبُ المِننْ
ما الصبحُ جاءَ بنورهِ ... والليل بالظَّلْماء جنّ
وله من قصيدة:
عاطياني علالةَ الأشجانِ ... بكؤوسِ الذِّكرى وروضِ الأماني
بأبي أنتما عسى ينفَح الشَّو ... قُ رسيساً جنَّتْ مطاوي الجنانِ
أوليس العجيبُ والغبنُ عيشُ ال ... مرءِ عيشَ المشيبِ في العنفوانِ
ما اعتذارُ الفؤادِ للغيدِ والشَّي ... بُ ينادي عليه بالحرمانِ
حقُّ من يركض الجديدانِ فيه ... أن يُرى فيهما طليقَ العنانِ(1/79)
وله مجيباً لمن عاب عليه كتمان الحب، وأثر الشهوة، وقال بأن كتم الحب من الجبن:
ليسَ جُبناً كوني أموِّهُ في الحبِّ ... واُخفي وأستشين البيانا
غيرَ أني أُجلُّ مالكَ رقِّي ... أنَّ مثلي يشدو به إعلانا
فإذا ما فخرتُ أفخرُ بالصَّب ... رِ وألفى لسرِّهِ صوَّانا
وإذا ما شكوتُ فلتكُ شكوا ... يَ إليه عساهُ أن يتدانى
فشُجاع الهوى الجسورُ على جرْ ... حِ مُباريه صارماً وسنانا
لا الذي إن تشكَّه بادرةُ الط ... رفِ تراهُ يقرعُ الأسنانا
أنا من قسَّم الفؤادَ فأعطى ... منه كُلاًّ كما يليقُ مكانا
ومراحُ الغزالِ فيه مصونٌ ... عن سواهُ وحقُّه أن يصانا
وله
لا تتركِ الجدَّ في جمع الكمالِ لأنْ ... بارتْ تجارةُ سوق العقلِ في الزَّمنِ
لا بد أن ترغمَ الجُهَّال حاجتهمْ ... إلى كمالكَ أن يرضوكَ في الثَّمنِ
وحسْبكَ الله إن لم تلقَ مشترياً ... عن الغبيِّ بعَرفِ العُرفِ أنت غني
وله:
نفسي لتؤْثرُ أن تفنى بمحنتهمْ ... لأنَّها لسوَى الأحبابِ لم تكنِ
المرءُ يُرجى لضرٍّ أو لمنفعةٍ ... وما خُلقتُ لغيرِ الحبِّ والشَّجنِ
وله:
لا تقطعنَّ مودَّةً فلربَّما ... تحتاجُ من أَقْصيتهُ تُدنيهِ
فالسِّلكُ بعد القطعُ يمكنُ وصلهُ ... لكنَّ عقدةَ وصلهِ تزريهِ
هذا كثير في الشعر، من قول أبي الفتح المالكي:
من لي بردِّ معاشرٍ ... كثروا عليَّ فأكثروا
صادقتهمْ وأرى الخرو ... جَ عن الصداقةِ يعسرُ
كالخطِّ يسهلُ في الطُّرو ... سِ ومَحوُه يتعذَّرُ
وإذا أردتَ كشطْتهُ ... لكنَّ ذاك يؤثِّرُ
وقوله أيضاً:
ويمكنُ وصلُ الحبلِ من بعدِ قطعهِ ... ولكنَّهُ يبقى به أثرُ الرَّبطِ
وللشهاب الخفاجي، من فصل: أنت وإن وصلت بعد القطع حبل المودة، فقد يبقى من أثر ذلك في القلب عقدة.
وله:
يا واصلينَ حبالاً ... كانت لشدِّ المودَّهْ
لا تقطعوها ببعدٍ ... قد غيَّرَ الناسُ عهدهْ
فإن تقولوا وصلْنا ... من بعد ذا القطع شَدَّهْ
يبقى وحقِّكَ فيها ... من ذلك الوصل عُقدهْ
وله:
وكم لي في طرازِ العمرِ شطحٌ ... به انقلبَ الزَّمانُ فعاد شحطا
ونسخةُ لوعةٍ صحَّتْ بقلبي ... فلم ينظر بها الواشونَ كشطا
إبراهيم بن عبد الرحمن السؤالاتي وافر الحظ من البراعة، صائب اللحظ في زخرفة اليراعة.
اكتسب الأدب بكده وجده، وانتهى من القوافي والفقه إلى أقصى حده.
وكان وبعارضه ريحانةٌ شرقت بماء شبابه، ومزجته وجداً وصبابةً بقلوب أحبابه.
وضع عقله في يد الهوى، وتطوح معه في كل مهوى.
فأقام حيناً وله إلى التصابي لجاجة، وما حلي يمينه في مواسم العيش إلا زجاجة.
وله في غضون ذلك موشحات وشحت كل جمع، وشنفت بجواهر كلماتها كل سمع.
ثم تعاورته نوائب جلت فكادت تتجلى، وتوالت عليه مصائب تولت فما أوشكت تتولى.
وانقلبت به المحاسنة، إلى المخاشنة.
وتبدَّلت المجاملة، إلى المحاملة.
فاقلع عن تلك الهنات، ومحا كثيراً من سيِّئاته بحسنات، ولزم الفقه متجِّراً في مسائله، وكان لتحصيل أمانيه من أعظم وسائله.
وقد صحبته والأيام أمالت قناته، وأمر المرض المؤلم مِجنَّاته، فاستحالت صفته، وتقلصت شفته.
لكنها وإن ذبلت خمائله، فلم تزل غضةً شمائله.
وإن تفرَّقت ديمه، فما برحت ملائمة شيمه.
فكنت أتمتع من منادمته الحلوة، بلطائف لها في كل قلبٍ خلوة.
وأخذت عنه من أشعاره ما يبهر الشمس في الشروق، ويتمشَّى تمشِّي الرَّاح السَّلسل في العروق.
وها أنا ذا أورد منه ما يطري ويطرب، ويجعله زاده كل مشرِّقٍ ومغرِّب. فمن ذلك قوله يمدح المولى عارف، المذكور في ديباجة الكتاب:
جَذبَتْ محاسنُك القلوبا ... حتى غدوتَ لها الحبيبا(1/80)
وطلعتَ من أُفقِ العُلا ... بدراً لخُرَّدِهِ خطيبا
ونفثتَ روحاً في النُّفو ... سِ فكنتَ لها الطَّبيبا
وغدا بقُطرِ نداك روْ ... ضُ الفضلِ مُخْضَلاً خصيبا
وكسوتَ من حُللِ الرَّبي ... عِ جِنانه برداً قشيبا
فحدائِقُ الآدابِ من ... كَ تنفَّستْ مِسكاً وطيبا
وتجاذبتْ فيها نسا ... ئِمُ لطفِك الغصنَ الرَّطيبا
وغدا يُناغي فوقه ال ... قمريُّ بلبلها الطَّروبا
وأدرتَ من سلسالِها ... ما بيننا كأساً وكوبا
وأبحتَ خِلاَّنَ السُّرو ... رِ من العُلا الصَّدرَ الرحيبا
يا فاضِلاً أنسى العِما ... دَ بديعه وسما الخصيبا
وجلا على الأسماعِ من ... أبكارِه عرُباً كعوبا
من للثُّغورِ من الحسا ... نِ عن المحابرِ أن تنوبا
وخدودهنَّ تكونُ قِر ... طاساً لراحتِهِ رقيبا
وقدودُهنَّ يراعةٌ ... من لمسِ أُنملهِ قريبا
ونواظرُ الأحداقِ أن ... فاساً إذا أنشى نسيبا
مولايَ يا ربَّ الكما ... لِ ومن غدا الشَّهمَ الأريبا
يا عارِفَ الوقتَ الذي ... تَخِذَ الفخارَ له نصيبا
أبديتَ بالسِّحرِ الحلا ... لِ من البيانِ لنا العجيبا
وتلوتَ من آياتِ فض ... لِكَ ما بهرتَ به اللَّبيبا
وأعدتَ للدَّاعي الوجو ... دَ وكنتَ سائِله مجيبا
فشموسُه بكَ أشرقتْ ... من بعدِ أن دنتِ الغروبا
وبعثتَ من فضحَ الرَّبي ... عَ من البديعِ لنا ضروبا
أشهى إلى الظمْآنِ من ... فضفاضِ كوثرِهِ ضُروبا
وأرقُّ من مرِّ النَّسي ... مِ على خمائلِه هبوبا
فطفقتُ يلثمُ مسمعي ... لِكؤوسِها ثغراً شنيبا
وتقولُ في جنَّاتٍ اسْ ... طُرُ طِرسِها عينايَ طوبى
لا زلتَ ترقى في الفضا ... ئِلِ والعُلا الشَّرفا الحَسيبا
وبقيتَ تهدي للنُّفو ... سِ نفائِساً تجلو الكُروبا
ومن غزلياته، قوله:
حتَّى مَ تُعرِض عن محِبكْ ... وتصدُّني عن طيبِ قربِكْ
إن دامَ هذا الهجرُ أق ... ضِي بالمحبَّةِ إي وربِّكْ
يا أيُّها التيَّاه في ... زهوِ الصِّبا رفقاً بصبِّكْ
ما كنتُ بالسَّالي هوا ... كَ ولسْتُ بالتَّالي لعتبِكْ
تجنِي عليَّ وتجتنِي ... ظُلمي وتأخذُني بذنبِكْ
شرَّقْتني بالدَّمعِ مذْ ... غرَّبتْ عني تحتَ حجبِكْ
أأبيتُ إلى فُرُشِ الضَّنى ... وتبيتُ ملتهِياً بسربِكْ
يا منيةِ القلبِ الأما ... نَ فلستُ من أكفاءِ حربِكْ
وقوله:
لا تلمنِي أنا الألوفُ وقدْ ... مِتُّ غراماً من فقدِ إِلفٍ رقيبِ
هكذا في الرَّقيبِ حالي فقل لي ... كيفَ حالي وقدْ جفاني حبيبي
وقوله، وهو مما قاله بديهاً:
همُّ المعيشةِ حالَ ما ... بيني وبينَ حبائِبي
ولربَّما نهضتْ إلى ... نيلِ العلوِّ مراتِبي
فيفوقُني همُّ المعي ... شةِ عن جميعِ مطالبِي
فكأنَّني الدُّولابُ أص ... عدُ للهبوطِ بجانبِي
لو كلِّفَ السَّيفُ المعا ... شَ نبا بكفِّ الضَّاربِ
وله في الغزل:
إنَّ الغزالَ الذي في طرفِهِ حوَرٌ ... في مِرشفيهِ سُلافُ الرَّاحِ والحبَبُ
حارتْ لرؤيتِهِ الأبصارُ حينَ بدا ... غصنُ الجمالِ حلاهُ اللُّطفُ والأدبُ
ما مالَ من هيَفٍ ميَّالُ قامتِه ... إلا عليهِ فؤادُ الصَّبِّ يضطَربُ(1/81)
دارتْ إليه قلوبُ العالمينَ فما ... قلبٌ لغيرِ هواهُ اليومَ ينقلِبُ
وله:
تقمَّصَ ثوبَ اللاَّذِ من فوقِ لؤلؤٌ ... ورصَّعَ بالدُّرِّ الجمانَ بديدا
وألْبسنِي مِرطَ النُّحولِ مخلَّقاً ... وأعدمني بردَ الشَّبابِ جديدا
غزالُ كِناسٍ لو رأتْهُ من السَّما ... كوكِبُها خرَّتْ إليهِ سُجودا
وله:
رِياضٌ سقتْها سحبُ جدواكَ لا ذوتْ ... ولا برِحتْ بالفضلِ معشِبةً خضرا
ولا برِحتْ رسلُ المحامِدِ والثَّنا ... إليكَ مدى الأيَّامِ واردةً تترى
وله:
تصبَّرْ ففي اللأواءِ قدْ يُحمدُ الصَّبرُ ... ولولا صرفُ الدَّهرِ لم يعرفِ الحرُّ
وإنَّ الذي أبلى هوَ العونُ فانتدِبْ ... جميلَ الرِضا يبقى لكَ الذِّكرُ والأجرُ
وثقْ بالَّذي أعطى ولا تكُ جازعاً ... فليسَ بحزمٍ أن يروِّعكَ الضُّرُّ
فلا نِعمٌ تبقى ولا نِقمٌ ولا ... يدومُ كِلا الحالينِ عسرٌ ولا يسرُ
تقلُّبُ هذا الدَّهرِ ليسَ بدائمٍ ... لديهِ معَ الأيامِ حلوٌ ولا مرُّ
وله:
حتَّى مَ يا ظبيَ النَّقا ... عنِّي تُحجَّبُ في كِناسكْ
لا تنأَ عن عيني وته ... جرني قلًى من دونِ ناسكْ
أنا عبدُ رقِّكَ أرتجي ... كَ وأختشِي سطواتِ باسِكْ
لا تبغِ بالإعراضِ قتْ ... لي واسقِني بحياةِ راسِكْ
وله:
وحياتهِ وحياتِه ... إنِّي لرؤيتِهِ كَلِفْ
صنمٌ لبستُ الغيَّ في ... هِ وقلتُ للرُّشْدِ انصرِفْ
حسنٌ وإن كانَ المُس ... يءَ لمن بعشقتِه تلِفْ
ما استحسنتْ عيني سِوى ... حسنٍ ولا قلبي ألِفْ
وكتب إلى بعض الأعيان، يمدحه:
أهديْتني وأجزْتني وبررْتني ... وشملْتني بالبرِّ والألطافِ
ولئِنْ بشكرِكَ راحَ لفظِي كاسِياً ... نعماكَ كاسِيةٌ بها أعطافِي
لا بِدعَ إنْ أسديتَ معروفاً فذا ... لكَ من عوائِدِ سنَّةِ الأسلافِ
ومدح بعض الكبار بقصيدة، فانتقصه، فكتب إليه:
مدحْتُكَ لا رغبةً في نداكَ ... وإنْ ملَّكَتْهُ الورَى رِقَّها
ولا رهبةً من سَطاكَ الَّذي ... أذاقَ الأعادِيا ما ذاقَهَا
ولكنْ لمعنًى تراهُ الكِرامُ ... وذاكَ لأقضي العُلا حقَّها
ومما أنشده لنفسه قوله:
على مَ الصُّدودُ ولا ذنبَ لي ... وفيمَ التَّجنِّي وصبرِي بَلِي
بمن أوْدعَ السِّحرَ في مقلتيْكَ ... وحكَّمَ لحْظيْكَ في مقتلِي
دَعِ الصَّدَّ وارفُقْ بمن قلبُه ... على حرِّ نارِ الغَضا ينْقلِي
إلى اللهِ أشكو أليمَ الجوَى ... وقلباً بحرِّ الجوَى ممتلِي
لحى اللهُ قلبي الظَّلومَ الَّذي ... عن النُّصحِ ما انفكَّ من معزِلِ
كليمُ الصَّبابةِ لا ينتهي ... عنِ الوجدِ في الرشأ الأكحلِ
رثى ليَ في الحبِّ من لامَني ... ورقَّ الحسودُ وما رقَّ لي
يميناً بهِ حبَّهُ ما سلوتُ ... ولا مِلتُ عنهُ إلى عُذَّلي
مليحٌ أبى اللهُ إلا هواهُ ... على رُغمِ أنفِ البليدِ الخلِي
ومن غرامياته قوله:
يا هل ترى لو نظرَ ال ... غادونَ حالِي رحِموا
أو علِموا ما صنعوا ... بي من أسايَ ندِموا
يا منْ لوجدِي عَمَروا ... والصَّبرَ منِّي هدموا
تاللهِ من بعدِكُمُ ... كلُّ وجودٍ عَدَمُ
وله مضمناً:
واصَلتُ ودَّكَ بالوَفا فقطعْتني ... ورفعتُ ذِكراكَ في الوَرى فوضعْتني
وزعمتُ أنَّكَ ذو غنًى فأضعتني ... أبعينِ مُفتقرٍ إليكَ نظرتني
وهذا المصراع من مقطوع يروى للمتنبي، ولم يوجد في ديوانه، وبعده:
.... ... فأهنتَنِي وقذفْتني من حالِقِ(1/82)
لستَ الملومَ أنا الملومُ لأنَّني ... أنزلتُ آمالِي بغيرِ الخالِقِ
وله:
عشِقَ المعشوقُ ظبْياً مثلهُ ... واعتراهُ في هواهُ ولَهُ
كانَ معشوقاً فأمسى عاشِقاً ... فقضى الحبُّ عليهِ ولَهُ
وله:
بي أغيدٌ تشخصُ الأبصارُ حينَ بدَا ... في طلعةٍ جَلَّ من بالحسنِ عدَّلها
كأنَّما الحسنُ لمَّا زانَ صورتَهُ ... قدْ قال للحسنِ كنْ وجهاً فكانَ لهَا
ورأيت بخطه، وقد نسبه إلى نفسه:
في أزرقِ الملبوسِ مرَّ مُعذِّبي ... متمايِلاً كالغُصنِ في خيْلائِهِ
ورقى دُخَانُ التَّبْغِ غشَّى وجههُ ... من فيهِ مثلَ الغيْمِ يومَ شِتاتِهِ
وكأنَّهُ لمَّا بدا من شرقِهِ ... بدرٌ تبدَّى في أديمِ سمائِهِ
سترَ الجمالَ عن العُيونِ مخَافَةً ... أن لا تكونَ النَّاسُ من قُتَلائِهِ
مثله لبعضهم:
ولمَّا بدَا في أزرَقٍ من قِبائِهِ ... يَتِيهُ لِفرطِ الحُسنِ في خُيَلائِهِ
خلعتُ عِذارِي ثمَّ صِحْتُ عواذِلي ... قِفوا وانظُروا بدرَ الدُّجى في سَمائِهِ
قلت: وفي لون السماء للأدباء اختيارات، وذلك بحسب حالاتٍ واعتبارات،؛ فبعضهم يصفه بالزُّرقة، كما وقع لهذين الشاعرين، وقد تبعا أبا عثمان الناجم في قوله، وقد رأى جارية وعليها ثوبٌ أزرق:
ما تعدَّتْ قَبُولُ حين تحلَّتّ ... شِبهَ زِيٍّ لوجهِها ذِي البَهاءِ
لبِستْ أزرقاً فجاءتْ بوجهٍ ... يُشبِهُ البدرَ في أديمِ السَّماءِ
وهذا مذهب القدماء، وزرقته عارضةٌ من شعاع الشمس، وهو مائل إلى البياض، كما أن العرق الأبيض إذا جرى فيه الدَّم رُئِيَ لازوردياً، فتولَّدَ من اللونين لونٌ آخر.
وبعضهم من أهل الآثار يجعله أخضر؛ لحديث: ما أظلَّتِ الخضراءُ ولا أقلَّتِ الغبراءُ أصدقَ من أبي ذَرٍّ.
وبعضهم يجعله لازورديًّا؛ كما قال أبو حفص بن برد، في غلام بدا له في ثوبٍ لازورديٍّ:
لمَّا بدَا في لازورْ ... دِيِّ الحريرِ وقد بهَرْ
أكبرتُ من فَرطِ الجما ... لِ وقلتُ ما هذا بَشَرْ
فأجابني لا تُنْكِرَنْ ... ثوبَ السَّماءِ على القمرْ
وبعضهم يجعله بنفسجيًّا، كما قال ابن المعتز في غلام عليه ديباج حرميّ:
وبنفسجِيّ اللَّونِ قتْ ... لُ مُحِبِّهِ من رائِه
الآن صِرْتَ البدرَ إذ ... أُلبسْتَ لونَ سمائِه
أبو بكر العصفوري باهر السمت في النظم والنثر، طائر الصيت في الآفاق بقادمتي النسر.
للمعاني الأبكار مخترع، ولبنات الأفكار مفترع.
وكان خرج من عشه وهو صغير السن، لكنه إذا قدح زنده بالبراعة يرن.
ومن أمثالهم: الديك الفصيح، من البيضة يصيح.
فحلَّ بمصر وأفياء الكرم مساقطه، وحبُّ القلوب ملاقطه.
وأقام يصدح في سرحة المجد، ويفصح في ناديها بلسان الوجد.
وتنصب حبالة الولا، فتقتنصه أشراك العُلى، ولا تضمه إلا أقفاص النُّبلا.
وقد أبدى من أشعاره التي تطرب ترنُّماً ولحنا، وإذا تليت في محفلٍ تضم عليها الجوانح وتحنى.
ما هو لصدور البزاة ينسب، ومن أرقاب الحمام في البذرقة يحسب.
وثمة ألفاظ استعار الروض منها أصناف الملح، وخطوطٌ كأنما فيها لمن يبصر من ريش الطواويس لمح.
وله موشحاتٌ إذا أنشدت كأنما أدار الكأس مديرها، وجاوب المثانيَ والمثالث بَمُّها وزئيرها.
وأغانٍ لم تتنحنح بأمثالها الحناجر، ولم تتقلب لأشباهها الخناصر والبناصر.
وكنت أتمنى لقياه، لأتملى بطلعة محياه.
فصادته قبل وصولي إلى مصر خطاطيف المنون، فعرَّس بفِناء الفنا، وخلَّد عرائس الفنون.
وهذه قطعة من تحائف خاطره، تستدل منها على غائبه بحاضره.
فمنها مقصورته التي بها امتدح الأستاذ محمد البكري.
ومطلعها:
عيذتْ بك الدُّنيا وعيدَ لكَ الهنا ... واعتدتِ الحِسنى وعُدَّ لك المُنى
عجباً لمن نظرَ الهلالَ وما رأى ... أن الهلالَ إذا بدوتَ له بدا(1/83)
شغفاً بطلعتك التي قسماتُها ... مهما تبدَّتْ تنكسِفْ شمسُ الضُّحى
وبغرَّةٍ قمريَّةٍ في طرَّةٍ ... سَبَجيَّةٍ كالبدر في غسقِ الدجى
ما البدرُ ما الشَّمسُ المنيرةُ ما الضُّحى ... ما الظبيُ ما الرشأُ الشُّويدنُ ما الطَّلا
غسقٌ على شفقٍ على قمرٍ على ... فننٍ على دِعصٍ على قدٍّ علا
مثل الغزالةِ في السماءِ وفي الفلا ... فَهُما وأنتَ إذا اعتبرتَ سوا سوا
أرأيتَ راتعةَ الفلا أرأيتَ آ ... لِفةَ العَرا أرأيت شاردة المها
وبصبح وجهٍ إن تبسَّم ثغرهُ ... يبدو الصباحُ ويحمدُ القوم السُّرى
يا قاتلي من غيرِ ما ذنبٍ ألا ... تدنو فتبصرَ ما لقيتُ من النَّوى
قلبي تمزَّقَ فيكَ كلَّ ممزَّقٍ ... أسمعتَ ما قالوه في أيدي سبا
ألِفَ الضَّنى جسمي فلو فارقْته ... لفنيتُ من أسفٍ على فقدِ الضَّنى
وتعوَّدتْ عيني السُّهادَ فلو غفتْ ... لرأت خيالَ السُّهدِ في سنَةِ الكَرى
وألِفتُ سمعَ العذلِ حتَّى لو صغتْ ... أذني لغيرِ العذلِ شقَّيْتُ القبا
وعلمتُ أنَّ الصَّبرَ مرٌّ طعمهُ ... لكنني عانيتهُ حلوَ الجنى
ونعمتُ بالضِّدَّينِ حتى استقطرتْ ... عينايَ ماءَ الدَّمعِ من جمرِ الغضا
وسهامُ جفنكَ بعدما ريَّشتها ... بغِشا الكُلى وسقيتها بدمِ الحشا
هيهاتَ تحسِنُ نزعها من بعدما ... نبتتْ وأطلعَ غصنها ثمر الهوى
ووحقِّ أشواقي لوجهكَ إنَّ لي ... زفراتِ وجدٍ لا أروم لها انقِضا
وجوًى تودُّ حشاشتي لو أنَّه ... كان انطفا ويسوؤها مهما انطفا
وشفاءُ سقمي في لماكَ وليتهُ ... يشفي غليلي بردُ ذيَّاكَ اللَّمى
ويزيدني قربي إليك حرارةً ... كالنُّوقِ في البيداءِ يقتلُها الظَّما
يا سلًّم الله المحبة إنها ... نعشتْ فؤاداً سلَّمتهُ إلى الجوى
يا قاتلي وأنا الفداءُ لقاتلٍ ... أبداً بغير حديثهِ لا يُشتفى
العينُ بعدكَ ما غفتْ والطَّرفُ بع ... دكَ ما سها والدَّمعُ بعدك ما رقا
لله جفنٌ تحت وعدِكَ ساهرٌ ... أملاً يشوبُ المرسلاتِ بهل أتى
حافظْ على صِدقِ العهودِ فإنه ... مما يدلُّ على المودَّةِ والصَّفا
أتشكُّ أن الصدقَ ينفع أهلَه ... أولستَ تعرف غيرَ صحبِ المصطفى
ويستحسن له قوله:
في الاشتقاقِ وفي التَّدبيجِ قد نظموا ... بيتاً له من بديع الحُسنِ لألاءُ
الحُسنُ أحمرُ والتَّحسين أصفر والْ ... إحسانُ أخضر والحسناءُ بيضاءُ
وقوله:
ليس بِدعاً عتابُ خيرِ البرايا ... إنما يعتِب الحبيبُ الحبيبا
بل عجيبٌ تقديمُه العفوَ قبل العَ ... تْبِ حِرصاً عليه أن يسْتريبا
أصل هذا ما ذكره أصحاب السِّير، أن أبا بكر الصديق، رضي الله عنه، دخل على النبي صلى الله عليه وسلم، وهو ميت مسجًّى، فكشف عن وجهه الشريف، وقبل بين عينيه، وقال: فديتُ من أقسم الله بتراب قدمه، فقال: " لا أقسم بهذا البلد، وأنت حلٌّ بهذا البلد "، فديت من قدم الله له العفو قبل العتب، فقال: " عفى الله عنك لم أذنت لهم ".
ومن موشحاته التي أحكم فيها المناسبة والصنعة، قوله:
أخمِدْ بريقِكَ ما أذكيتَ من وهَجِ ... فما تركتَ فؤاداً فيك غير شجِ
وارحم حشاشةَ صبٍّ فيك قد قُتِلتْ ... ما بينَ معتركِ الأحداقِ والمهجِ
وعلِّلِ القلبَ بالتَّمنِّي ... أو فاقتُلِ الصبَّ بالتَّجنِّي(1/84)
أنا القتيلُ بلا إثمٍ ولا حرجِ ... ولمْ أقلْ جزعاً يا أزمةُ انفرِجي
دَوْر
قضتْ بإحراقِ روحي فتنةُ النَّظرِ ... وألَّف الحبُّ بين الجفنِ والسهرِ
فأثَّرتْ تلك في الأحشاءِ فاشتعلتْ ... ومعظَمُ النار من مُستصغَر الشررِ
فخلِّ لومي وخلَّ عَتبي ... فالعينُ عيني والقلبُ قلبي
وهل رأيتَ مُحِبًّا بالغرامِ هُجِي ... لا خيرَ في الحبِّ إن أبقى على المُهَجِ
دَوْر
السحرُ في اللَّحظِ أم هذا هو الحوَر ... والوردُ في الخدِّ أم هذا هو الخَفَرْ
لم يكفِ وجنتِك الحمراءَ ما فعلتْ ... حتى غدتْ بدمِ العشَّاقِ تفتخِرُ
لكنني مقسِمٌ بِدلِّكْ ... بذُلِّ مِثلي لعزِّ مثلِكْ
من كحَّل المُقلةَ السوداءَ بالدَّعَجِ ... وخضَّبَ الوجنةَ الحمراءَ بالضَّرجِ
دَوْر
أجؤْذُرٌ أنت يا إنسانُ أم ملكُ ... يا مشرِقاً بمُحيَّا وجههِ الفلكُ
وصائِدي بخدودٍ نارُها اشتعلتْ ... والخالُ حبَّتُها والعارِضُ الشَّرَكُ
الثَّغرُ والشَّعرُ والمحيَّا ... البدرُ واللَّيلُ والثُّرَيَّا
فإن ضلِلْتُ بداجِي شَعرِه السَّبَجِ ... أهْدى لعيني الهوى صبحٌ من البَلَجِ
دَوْر
امْنُنْ عليَّ بوصلٍ منكَ يا سكنِي ... أو جُدْ بوعدِي وكاتبنِي به وَمِنِ
ألا ترى رُقعةَ الأستاذ قد وصلتْ ... فقلَّدَتْني أطواقاً من المِنَنِ
كأنَّه إذ رأى التِياعِي ... لِكُتْبِهِ وهو ذو اطِّلاعِ
أهدى إليَّ سُحَيْراً أطيبَ الأرَجِ ... في كلِّ معنًى لطيفٍ رائقٍ بَهِجِ
دَوْر
يا واحداً لا أرى في النَّاسِ ثانيَهُ ... وأوحداً لم نجِدْ في الدَّهرِ شانِيَهُ
محبَّتي فيكَ لا واللهِ ما ابْتُذِلتْ ... وبيتُ حبِّكَ لم أُخرِبْ مبانيَهُ
وإنَّني يا شقيق روحي ... ويا غَبوقِي ويا صَبوحِي
أوفى محِبٍّ بما يُرضيكَ مبْتهِجِ ... وخاطِري أين كنَّا غيرُ مُنزعِجِ
وهذا الأسلوب تقدَّمه فيه جماعةٌ، وزاد بعضهم التلفيق في كل القطعة بين شعر غيره.
وهذا موشحه:
أجابَ دمعي وما الدَّاعي سوى طَلَلِ ... وظل يسْفَح بينَ العُذرِ والعَذَلِ
يا ساكنِي السفحِ كم عينٌ بكم سفَحتْ ... مِلءَ الزمانِ ومِلءَ السهلِ والجبلِ
قلبٌ مُعَنًى ومدمعٌ صَبّ ... يجُرُّ أذيالَه ويسْحبْ
يشكو إلى القلبِ ما فيه من العِلَلِ ... والقلبُ يسحبُ أذيالاً من الوَجَلِ
فالمصراعان الأولان، والرابع للمتنبي.
والثالث لابن النَّبيه.
والخامس للشريف الرَّضي.
والسادس لابن اللَّبَّانة.
والأخيران لابن سناءِ المُلك.
دَوْر
لِتُهْنَ عينٌ غدتْ بالدمعِ في لُجَجِ ... وكلُّ جفنٍ إلى الإغفاءِ لم يَعُجِ
ومهجةٌ فيك للأشجانِ قد صَلُحتْ ... لا خيرَ في الحبِّ إن أبقى على المُهَجِ
لم تُبقِ لي في الهوى ملاذَا ... يا ليتني مِتُّ قبلَ هذا
تركتَنِي اصحبُ الدنيا بلا أمَلِ ... فما أقول لشيءٍ ليت ذلك لي
الأول للعز الموصلي.
والثاني، والرابع لابن الفارض.
والثالث لابن النَّبيه.
والخامس لابن الخراط.
والسادس لابن نباتة.
والأخيران للمتنبي.
دَوْر
ما جال بعدكِ لَحظِي في سنا القمرِ ... فإن ذلك ذنبٌ غيرُ مغتفَرِ
لي همَّةٌ لِدَنِيٍّ قَطُّ ما طمحتْ ... لمَّا تواضعَ أقوامٌ على غَرَرِ
وأيَّما كنتَ كنتُ عبدَكْ ... فإن قلبي أقامَ عندكْ
على بقاءِ دعاوٍ للهوى قِبَلي ... وأنتَ تعلمُ أنِّي بالغرامِ مَلِي
الأول لابن زيدون.
والثاني، والرابع لأبي العلاء.(1/85)
والثالث لابن نباتة.
والخامس، والسدس للبهاء زهير.
والسابع للقرافي.
والثامن لابن الجوزي.
دَوْر
بما بِعطْفيْكَ من تيهٍ ومن صَلَفِ ... تلافَ مُضناكَ قد أشفى على التَّلَفِ
فالموتُ إن عضَّتِ الأجفانُ أو فُتِحتْ ... يا أكحلَ الطَّرفِ أو يا أزرق الطَّرفِ
لِسائلِ الدَّمعِ صِرتُ ناهِرْ ... وسِرْتَ والقدُّ منكَ خاطِر
تدري الطَّعينَ وصدرُ الرُّمحِ لم يَصِلِ ... ما خاب من سأل الحاجاتِ بالأسَلِ
الأولان، والرابع لابن الوردي.
والثالث لابن نباتة.
والاثنان من موشح.
والآخران للشريف.
ومن مشهور شعر العصفوري قوله، في غلام يلعب بتفاحة:
بتفاحةٍ في الخدِّ وكَّل لحظَهُ ... ليحفظَها من ناظِري أن يؤُودَهَا
سها فهوتْ من خدِّه فهو دائِماً ... يُردِّدُها في كفِّه ليُعيدها
وقد سبقه إلى هذا أبو تمَّام غالب الحجَّام، في قوله:
عاينتُه وبخدِّه تفاحةٌ ... قدْ ألبِسَتْ من وجنتيهِ بُرْدَهَا
يرمِي بِها في وجهِهِ ويظنُّها ... من خدِّه سقطتْ فيبغِي ردَّهَا
وقوله في وصف جدول ماء:
لنا جدولٌ صَقَلَتْه الشَّمالُ ... كما صقلَ القَيْنُ صافي الأثَرْ
جرى ذهباً في أوانِ الأصِيل ... كما قدْ جَرى فِضَّةً في السَّحَرْ
وقوله في فوَّارة ماء:
وفوَّارةٍ للماء تحسَبْ أنَّها ... قضيبُ لُجَين فوقه عِقدُ جوهرِ
تُقابِلُها شمسُ الأصيلِ فتغْتدِي ... أناظيم شَذْرٍ خيطُه سِلكُ مرمَرِ
وتعطفُها ريحُ الشَّمالِ كأنَّها ... قوام رَدَاحٍ في قِباءٍ مُعصفَرِ
ومن موشَّحاته قوله:
أيها المُمتنع الأوْ ... صافِ عن إدراكِ مُدْرِكْ
أفلا يُمكنُ أن تجْ ... علني هِميانَ خَصرِكْ
يومَ أحظَى بِتلاقيكْ
وبكاساتِي أُساقِيكْ
وبأشواقِي أُلاقيكْ
مَرتِعي بين تراقِيْ ... كَ ورُمَّاناتِ صدرِكْ
أجتَني سوسَنَ صُدغَيْ ... كَ ونوَّارةَ ثغرِكْ
فحياتِي يوْمَ ألقاكْ
يومَ أستنشِق رَيَّاكْ
وتعاطِيني حُمَيَّاكْ
وأرى شمسَ محيَّا ... كَ بدَتْ في ليلِ شَعرِكْ
فهنا أنظِمُ دُرَّ اللَّ ... ثْمِ في لبَّاتِ نَحْرِكْ
أهصرُ العِطفَ وأضْمُمْ
وأُفدِّيكَ وألثِمْ
آخِذاً بالجيبِ والْكُمْ
وأجيلُ الخمسَ من يُمنا ... يَ في جَونةِ عِطرِكْ
وأهُزُّ الغُصُنَ المُثْ ... مِرْ من أعطافِ هصرِكْ
وله في القهوة:
سوداءُ مثلُ المسكِ لا كالنِّقْسِ ... وجامُها الأصفرُ مثلُ الوَرْسِ
جالبةٌ للأنسِ بعد الأنسِ ... حلَّتْ حُلول زُحلٍ في الشَّمسِ
وله في شريف تعذَّر:
طلعَ العذارُ بِخدِّ أهيفَ سيِّدٍ ... أحسِنْ بخضرةِ نبتِهِ ورِياشِهِ
فمن الحياءِ تخالُه متلثِّماً ... أبداً بأول طيَّةٍ من شاشِهِ
وله في حامل شمعة:
وافَى وفي راحتهِ شمعه ... لها على وجنتِه لمعَهْ
فخلتُه البدرَ وفي كفِّه ... بهرامُ والمنزِلَةُ الهنعَهْ
وله:
له لسانٌ مُفرِط كذِبُهْ ... كأنَّه مِقوَلُ صوَّاغْ
ووجهُه أقبحُ ما في الورَى ... كأنَّه راحةُ صبَّاغْ
راحة صبَّاغ: يضرب مثلاً لما يستقبح، ويشبه به ما لا يستنظف.
وله:
له كلَّ حينٍ على معتفيهِ ... إذا أمَّهُ نعمةٌ سابِغهْ
كأنَّ يداً ملَّكتْهُ الرِّقابا ... يدُ الباهليِّ على النَّابِغهْ
وله من قصيدة، مستهلها:
أُغاِلُ منه الجَفنَ أكحلَ أوْطفَا ... وأهصِر منه القَدَّ أسمرَ أهيفا
وأقطِف منه وردةَ الخدِّ غضَّةً ... وأرشِف منه خمرةَ الثغرِ قرقَفَا
ويعجِبني أنِّي أُقبِّل لحظَهُ ... ولم أرَ قبلي من يقبِّل مُرهفَا(1/86)
أُفدِّيه معسولاً قوتَ قلبي تطفُّلاً ... وألتاذُ بالأقدامِ منه تلطُّفَا
بِسورِ عقيقٍ صان لؤلؤَ ثغرِه ... ومدَّ عليهِ بالزَّبرجَدِ رفرفَا
أقام عليه حَيَّةَ الشَّعر حارساً ... وزرفْنَهُ بالصُّدغِ كنزاً مكلَّفَا
أُعدِّد أشجاني إليه إذا صحا ... وأُسهِر أجفاني عليه إذا غفَا
وأُوقظه أن لا يسوءَ مِزاجُه ... فأحسَب أني قد هززتُ مُثقَّفا
نظرتٌ إليه نظرةً فتلهَّفتْ ... عليه حشاً لا تستطيعُ تلَهُّفَا
فصعَّد ما لو قابل الدمعَ ما طفَا ... وقطَّر ما لو سامتَ الوجدَ لانْطفَا
فقِستُ بدُرِّ الدَّمعِ لُؤلؤَ تغرِه ... فلم أدرِ أيًّا كان أصفَى وأصلفَا
ولم أرَ بدراً قبلَه ظلَّ كاملاً ... ولا شمسَ حُسنٍ قبله لن تُّكسَّفا
وله وهو مما يُستعذَب:
سألته في ثغرِه قبلةً ... فقال ما أبردَ هذا السُّؤالْ
ما مرَّ غلا وحلا وصلُهُ ... لو كانَ من يسمحُ لي بالوِصالْ
عطَّلني من وصلِه بالجفَا ... والحمدُ لله على كلِّ حالْ
ابن نباتة المصري:
حَلُّوا بعقدِ الحسنِ أجيادهمْ ... وحاوَلوا صبرِيَ حتَّى استحالْ
فآهِ من عاطلِ صبرٍ مضَى ... والحمدُ لله على كلِّ حالْ
وله في ساقي قهوة:
ساقٍ يفوقُ السُّقاةَ كلَّهمُ ... بالأدبِ السَّابريِّ والحِكمهْ
يبيتُ يسقيكَ من لطافتهِ ... في جامدِ النُّورِ ذائبَ الظُّلمةْ
وله من قصيدة مدح بها ابن الحسام المفتي، وكلها غرر؛ فلذا أثبتُّها برمتها:
نِظامُ سلوك القطْر في إبَرِ المُزْنِ ... تخيطُ قميصَ النَّهرِ من ورقِ الغصنِ
وقدحُ زنادِ الرَّعدِ في راحةِ الصَّبا ... يؤجِّجُ نارَ البرقِ في فحمةِ الدَّجنِ
ورشفُ رُضابِ الطَّلِّ من أكؤسِ الرُّبَى ... يُرنِّحُ عِطفَ الغصنِ لا قرقفُ الدَّنِّ
وتزريرُ حبيبِ الشَّمسِ يؤذنُ بالحيا ... لما قامَ غصنُ البانِ منحسِرَ الرُّدنِ
وخطُّ عِذارِ النَّهرِ أشكلَ رسمُهُ ... فأعربتِ الورقاءُ عنهُ بلا لَحنِ
وتنكيسُ رأس الغصنِ في الرَّوضِ مشعرٌ ... بإصغائهِ مستملياً كلما تعني
وتقطيبُ ثغرِ الزَّهرِ يضحكُ بالندى ... كما ضحكتْ تلكَ الطيورُ بلا سنِّي
وقد نُصبتْ للنَّوءِ في الجوِّ خيمةٌ ... تكنَّفتِ الأقطارَ من ناصعِ القطنِ
وهبْ صباً أحيتْ مواتاُ من الربى ... كأن هبَّ إسرافيلُ ينفخُ في القرنِ
إذا سلَّ سيفُ البرقِ من جفنِ مزنةٍ ... أسالَ دموعَ القطرِ من ذلك الجفنِ
ودونَ عُقاب الجوِّ إن عنَّ ضوءُهُ ... أطار غرابَ اللَّيلِ عن سحبٍ دكنِ
تخالُ عنانَ اللَّوحِ بحراً ملجَّجاً ... على متنه تلكَ السَّحائبُ كالسُّفنِ
وللنَّوءِ قوسٌ أوترِ الجوَّ متنهُ ... نبالَ سناً ريشتْ بأجنحةِ المزنِ
موشَّى الحنايا دبَّجتهُ شياتهُ ... كما دبَّجَ الطَّاووس قادمهُ المحني
كان قد أتى فصلُ الرَّبيع تخالهُ ... أصالةَ معنًى رامهُ رائقُ الذِّهنِ
كأن قد تهادى الغصنُ في عذباتهِ ... كما اهتزَّ تحتَ الخزِّ قامةُ ذي حسنِ
وإلا كما اهتزَّتْ يراعةُ سيِّدي ... بما أثمرتْ بالمنِّ والأمنِ واليمنِ
عمادُ ذوي الفُتيا وعصمةُ أهلها ... وحصنهمُ أكرمْ بذلك من حصنِ
له السُّمعةُ الحسناءُ في المدنِ والقرى ... ومعدلةُ القسطاسِ في الإنسِ والجنِّ
إذا ظنَّ منه الرفدَ يوماً مؤمِّلٌ ... أبا كرماً أن يبدل الظَّنِّ بالظَّنِّ
جزاني جزاهُ الله خيرَ جزائهِ ... وبوَّأهُ قصوى مكارمهِ عنِّي(1/87)
وعلمني نظمَ الأناشيدِ فضلهُ ... وقد كانَ شعري قبلُ أبردَ من صِنِّ
وإنِّي مهما غبتُ عنه لمجهدٌ ... بإمداحِ ما تحوي مناقبهُ ذهني
أواصِل ذِكراهُ مساءً وغدوةً ... وشكرُ الَّذي أسدى إليَّ من المنِّ
مثابتهُ أمني ومثواهُ كعبتِي ... وفي بابِه حجِّي وعقونُهُ رُكنِي
ومن أنا يستدعِيهِ بالكُتبِ مثلُهُ ... أجلْ هذه واللهِ فاتِحةُ اليُمنِ
أطعْتُ ولكنِّي اشتغلْتُ وأينَ لي ... ويقبُحُ من مثلِي أطعْتُ ولكنِّي
وهل أنا إلا عبدُهُ القِنُّ أقتضِي ... جميع الَّذي يقتضِيهِ في عبدِه القِنِّ
وقد جِئتُه من بعدِ لأيٍ مهنِّياً ... به رمضانَ العامِ تهنَئةَ المُثنِي
أزُفُّ إلى عليائِه كلَّ غادةٍ ... تجوسُ حِمى الآذانِ منه بلا إذنِ
تقيهِ من البأساءِ في الدِّينِ والعُلا ... وفي النَّفسِ والأهلينَ والمالِ والإبنِ
دُعاءٌ إذا ظُنَّ القبولُ فإنَّني ... أحقِّقُ أنَّ اللهَ يقبلُهُ منِّي
ومن إنشائه ما كتبه لبعض الأدباء بدمشق، جواباً عن كتاب: المحبة وما أدراكْ، والعلاقة وياما هناكْ.
إلطافٌ كله ألطاف، وإتحافٌ فضله غير خافْ، وقطافٌ جناها لطافٌ، ونطاف تمرِع المرابع والمصطاف.
تطلق من لسان الألكن، وتغلق مقول المصقعْ الألسنْ.
وتلين العريكة، وتهين ذي الأريكة الوريكة.
وتذهب بذي الطِّباع السَّليمة، إلى طمأنينةٍ خليقة وسلالةٍ شكيمة.
والحُبُّ أوَّلُ ما يكونُ لجاجَةً ... فإذا تمكَّنَ صارَ شغلاً شاغِلا
شمسٌ لها مطلعان، وسهمٌ له موقعان، وجهةٌ لها قبلتان، وقضيَّةٌ لها نتيجتان، عقدُها لازمٌ من الطَّرفين.
والمجد روضه مريع، ودهره ربيع.
ورده صاف، أشتى أو صافْ.
ليله كلُّه سحرْ، وغسقه جميعه قمرْ.
عيشه عيش السلاطينْ، وطيشه طيش الشياطينْ.
وأنينه أنين الشَّاكين الباكين، وحنينه حنين المتباكين المساكينْ.
ليس لمسكينِ الهوَى راحِمٌ ... ولا لمقتولِ الهوَى من يدِي
وهو والملك سوا، لولا النَّوى.
وهو والعروش سيَّان، لولا اللَّيانْ.
ينقضي دهره في أين وأنَّى، وكيف وعسى، وحتى ومتى، ولو ولولا، وأيَّان وبينا.
وبينا تفِي بالوعدِ أهلكُ إنَّ لي ... فؤاداً عَجولاً والوِصالُ على مهلِ
وقته هنَا، بتساويف المُنى.
ويومه عيدٌ، بأمانِيِّ المواعيد.
إن برقتْ بارقة، ظنَّها وارِقة.
أو خفقتْ خافقة، خالِها صادِقة.
وإن صبَّ صبا، مالَ وصبَا.
وإن ساجعٌ عنَّ حنَّ، وإن عنَّى مغنٍ اهتزَّ وارجحَنْ.
كمَا انتفضَ العُصفورُ بلَّلهُ القطرُ
ويلمِّه، ما أهمِّهْ.
ويا عولةَ أبيهِ، ما أكثر تغابيهِ.
يرقبُ سهيلا في اللَّيل، ويعثر للويل بالذَّيل.
يأخذ الوصال بالمثاقيل، ويعطي درَّ دمعه بالمكيل.
وهو إذا جاد باكي العيون، مجنونٌ كالجواد المعيون.
مشغوفٌ، كالبعير المأنوف.
إن تهدَّد هاد، وإن ردَّ أراد، ومتى قيد انقاد، وأيَّا ما ارتدَّ راد وارتاد.
فلا معين فيه إلا به، ولا مفرَّ منه إلا إليه.
وكيما تكون تطبُّعاً أو طِباعاً، تكون نظراً أو سماعاً.
فالنَّظرية، دارتُها قمريَّة.
والسَّماعيَّة، دائِرتها طَماعيَّة.
ومن لي بأن ينقلب السَّمعُ نظراً، كما تحوَّل الخُبرُ خبراً.
وقد ورد أعزَّك الله كتابك البعيد الوصف، البديع الرصف.
ففضضتُ صدفةً وثيقةً عن درٍّ مكنون، وحظيتُ منه أبكارَ عرائس منتقبةً كالجوهر المصون.
وشفيت الغليل من ميماتِ ثغوره، وصاداتِ عيونه.
وسرَّحتُ طِرفَ طَرفي في رياضه، وأوردتُ عقيلة عقلي في زلال حياضه.
وجست خلاله، وتفيأتُ ظلاله، وأكثرت إكرامه وإجلاله.
حتى لاحت لي غرَّة الدُّرة، وشمت مخِيلة الخميلة، ولمعت بارقة الشَّارقة.
فيا لك من درٍّ يكال ويتَّزن، ومن حسن ألفاظٍ يزان ولا يزن.
فحفظ الله من نظَّم سلكه وأحسن تألفه، وأبقى ملكته التي وطَّدت في الآداب ملكه، ورحم من خلفه.(1/88)
وقد تطَّفل المحب بهذه العجالة على جنابه، فليغضِ عليه طرف حلمه، وليجرِ في التَّرسُّل على سننه ورسمه.
السيد أحمد بن علي الصَّفُّوري حسيبٌ طرَّز كمَّ الأحساب، ونسيبٌ باهت بنسبته الأنساب.
محلُّه سرُّ المطلوب، وقرارة محبَّته حبَّة القلوب.
من سراةٍ أنوفهم شم، ووجوههم غر، وعزَّتهم قعساء، ونسبهم حر.
لهم القدر الأغلى، وشرفهم الشَّرف الأعلى.
وهو ممن تأثَّل مجده في بحبوحة ذلك الشَّرف، وتبوَّأ من السِّيادة أسنى الغرف.
مرتويةً أفياؤه بماء النبوَّة، متأرِّجةً أرجاؤه بعبير الفتوَّة.
مع مهارةٍ في العلوم، ومحاضرةٍ مستفزةٍ للحلوم.
وأخلاقٍ صقلها الكرم الوضَّاح، وطبيعةٍ شغف بها الكمال الفضَّاح.
وله أدبٌ تردَّى بالبراعة وتوشَّح، وشعرٌ استعدَّ للقبول التامِّ وترشَّح.
فمنه قوله:
أيا ربِّ قد مكَّنتَ في القلوبِ حبَّهُ ... وحكَّمتهُ في الصبِّ بالقولِ والفعلِ
وألهمتهُ الإعراضَ عنِّي ولم تدعْ ... لقلبيَ صبراً عنه في الهجرِ والوصلِ
فألهمهُ إحساناً إليَّ فليس لي ... سوى لُطفكَ المعهودِ إن لم تكنْ تُسلي
وإلا فسوِّ الحبَّ بيني وبينهُ ... فإنَّك يا مولايَ توصفُ بالعدلِ
وهذا أسلوب لطيف، وهو نقل أسلوب من الكلام إلى آخر تظرُّفاً، كاستعماله في الغزل ما عهد وروده في الدعاء والمناجاة.
كقول صدر الدين بن الوكيل:
يا ربِّ جَفني قد جفاهُ هجوعهُ ... والوجدُ يعصي مهجتي ويطيعهُ
يا ربِّ قلبي قد تصدَّعَ بالهوى ... فإلى متى هذا البعادُ يروعهُ
يا ربِّ بدرُ الحيِّ غابَ عن الحمى ... فمتى أراهُ وفي القبابِ طلوعهُ
يا ربِّ في الأظعانِ سارَ فؤادهُ ... يا ليته لو كان سار جميعهُ
يا ربِّ لا أدعُ البكا في حبِّهمْ ... من بعدهمْ جهدُ المقلِّ دموعهُ
يا ربِّ عذِّبْ في الهوى من ساءني ... بمقالهِ أحلى الهوى ممنوعهُ
يا ربِّ هذا بينه وبعادهُ ... فمتى يكونُ إيابهُ ورجوعهُ
ومثله استعمال الغزل على طراز الأوامر السُّلطانيَّة، كقول الشاب الظريف:
أعزَّ الله أنصارَ العيونِ ... وخلَّدَ مُلكَ هاتيكَ الجفونِ
وأسبغَ ظلَّ ذاكَ الشَّعرِ يوماً ... على قدٍّ به هيفُ الغصونِ
وللسيد أحمد، كما رأيته بخطه:
إذا أنتَ لم تقربْ يناجيكَ خاطري ... وإن تدنُ منِّي فالجوارحُ أعينُ
لأنَّكَ مطلوبي على كلِّ حالةٍ ... وإن أكُ مختاراً فرؤياكَ أحسنُ
ورأى حكمةً تؤثر عن الإمام محمد بن الحنفية، وهي: ليس بحكيمٍ من لم يعاشر بالمعروف من لم يجد من معاشرته بداً، حتى يجعل الله له فرجاً، ومن الضيق مخرجاً.
فنظمها في قوله:
إذا أنت لم تقدرْ على تركِ عشرةٍ ... لذي شوكةٍ فانصحْ وعاملهُ بالرِّفقِ
ولا تضجرنْ من ضيقِ ما قد لقيتهُ ... عسى فرجٌ يأتيكَ من خالقِ الخلْقِ
وكتب إلى صديقٍ له يعتذر عن وعدٍ لم يوفِّه:
أيا من فضلهُ والجودُ سارا ... مسيرَ النَّيِّرينِ بلا معارضْ
وعدتكَ سيِّدي والوعدُ دينٌ ... ولكن ما سلمتُ من العوارضْ
السيد محمد بن علي، المعروف بالقدسي فرعٌ من شجرةٍ طيِّبة المنابت، ثبت أصلها وزاحمت أغصانها الثَّوابت، تسامت بنسبة النُّبوَّة معاليها، واخضرَّت بماء الرسالة أعاليها.
فكأنما كُسيت من سندس الجنَّات، فشفَّت عنها مرآة الزَّمان بأحسن الحسنات.
وهذا السيد وإن قاربت رحلته من السنين المائة، فذكره مخلَّدٌ في ألسنة الجيل بعد الجيل والفئة بعد الفئة.
تتحاسد على رقة طبعه الطِّباع، كما تتحاسد على رباعه المقدَّسة الرِّباع.
فروض فضله ممرِع خصيب، وله في الأدب الغضِّ أوفى حظٍّ ونصيب.
إلا أنه في آخره غلبت عليه سوداؤه، فبلغ من نفسه ما كان يتوقَّع أن يبلغه أعداؤه.
فمن شعره، قوله في هجاء الشمس بن المنقار، لما تعصَّب على الداودي، ومنعه التحديث:
منعْتَ ابن داوُدَ الحديثَ بجلِّقٍ ... وما مثلهُ في الشَّامِ والله من قارِ(1/89)
وتزعُمُ حصرَ العلمِ فيكَ بجلِّقٍ ... فتنقرُ أهلَ العلمِ فيها بمنقارِ
سيأتيكَ من ربِّي بلاءٌ وفي غدٍ ... ستلقى بوجهٍ يا ابن منقارَ من قارِ
وحكى البوريني أنه صحبه إلى منين، في يوم أديمه مطرزٌ، ونديمه في مجلس أنسه معزز.
فحلوا في روضٍ نسام، يضحك عن زهرٍ بسام.
أصائله متوافقة مع أسحاره، وشمسه لا ترى إلا من فرج أشجاره.
بين ماءٍ يتدفق، وهواءٍ عن المسك يتقتَّق.
وبينهم حديثٌ أحلى من الشهد في الفم، وألذُّ من قبل الغيد عند الضَّم.
فلما دنا وقت الظِّهيرة، ولفح حرُّ الهجيرة.
انفرد السيد في مكان، ليأخذ من القيلولة حظًّا بقدر الإمكان.
فخاطبه البوريني:
بحقِّكَ خلِّي لا تُضعْ فرصةَ المنى ... وبادرْ إلى هذا الغديرِ المسلسلِ
وإن لم تجد زهرَ الرِّياضِ فإنَّنا ... نريكَ زهوراً من كلامٍ مرتَّلِ
فنشط من ذلك المقيل، نشاط مالك إلى أخيه عقيل.
ثم كتب في وصف المجلس بيتين:
على غديرٍ جلسنا في مفاوضةٍ ... ودوحهُ قامَ من سوقٍ على ساقِ
فخلتُ أغصانَ ذاك الدَّوحِ باكيةً ... تريدُ تكتُب ما نُملي بأوراقِ
فخاطبه البوريني:
جلسنا بروضٍ فيه زهرانِ أُسقيا ... بماءِ افتكارٍ والمياهِ الدَّوافقِ
فمن زهرٍ يُبديه روضُ كلامنا ... ومن زهرٍ يبديه روضُ الحدائقِ
ولما رجعوا من منين، مروا على التل، فأقاموا بها يومهم يروون الأبصار من روضة المبتل، ثم فارقوها، فكتب السيد إلى البوريني يداعبه:
أيا روضةَ الآدابِ والفضلِ والحجا ... ومن فاقَ في جمعِ الكمالِ على الكلِّ
تُرى هل يعودُ الدَّهرُ يوماً بجمعنا ... فنرقى كما شاءَ الفؤادُ على التَّلِّ
فراجعه بقوله:
أيا سيِّدَ الساداتِ يا من بنانهُ ... تضيفُ الورى بالجودِ في زمن المحلِ
إذا ساعدَ الحظُّ السَّعيدُ فإنَّنا ... نطلُّ على الوادي ونرقى على التَّلِّ
وكان بدمشق خطيبٌ يعرف بابن يونس، أعرج أعوج، كما قال الفاضل: قامت العصا بيده مكان رجله، وقلَّت أعواد الأغصان من أجله.
وكان متَّهماً في الاعتقاد، لا يزال يرميه سهم الانتقاد.
وكان من جهله يتعرَّض للفتيا، ويعدُّ نفسه أثقب القوم رأيا.
فكتب يوماً على حكمٍ لقاضٍ: إنه باطل، ومن حلْي الحقيقة عاطل.
فأحضره القاضي في مجلسٍ غاص، جمع بين عالمٍ وخاص.
ثم أفسد ما قاله، وما أهمله من التِّعزيز ولا أقاله.
فكتب بعض القوم فيه رسالة أوسع فيها المقال، وقرَّظ عليها علماء ذلك العصر، ومنهم السيد فقال: وقفت على هذه الرسالة، التي سارت بسيرتها الرُّكبان، وتناقلها أكابر الفضلاء في هذا الزمان.
فوجدتها غريبة المثال، معربةً عن قائلها بأن لسان الحال أفصح من لسان المقال.
قد تضمَّنت ما انطوى عليه هذا الغمر من القبائح، وما انتشر منه في هذا العمر القصير من الفضائح.
فإنه قد مشى على غير الاستقامة، حسًّا ومعنًى، وأنشد قول القائل في ذلك المعنى:
من يستقمْ يُحرمْ مناهُ ومن يزغْ ... يختصُّ بالإسعافِ والتَّمكينِ
انظرْ إلى الألفِ استقامَ ففاتهُ ... عجمٌ وفازَ به اعوجاج النُّونِ
تصدَّر للفتيا مع أنه أجهل من توما الحكيم، وأنصفه حمار ابن حجيج فركبه في الليل البهيم.
قد فتح فاه بجهله، وصدَّر فتياه بقوله: الحمد لله سبحانه، والشكر له تعالى شانه.
ولم يميز في السَّجعتين بين الفاعل والمفعول، فكأنه اشتغل بباب البدل مع حبه فحصل له هذا الذُّهول.
لأنه رأى في كتب النُّحاة المهذَّبة، أن الفاعل على ما أسند إليه فعله، فظنَّه بهذه المرتبة.
ولو سئل لأبرز من ضميره هذا الخاطر، وحلف بأبي حمزة أن هذا هو الظَّاهر.
لا يستوي معربٌ فينا وذو لحنٍ ... هل تستوي البغلةُ العرجاءُ والفرسُ
وطالما عرج على درج المنبر، وجعل أمرده أمامه، ولولا النَّقيَّة لجعله إمامه.
وما تلفَّت على المنبر يميناً وشمالاً، إلا ليقتنص ظبياً أو يصيد غزالا.
وإذا ترنَّم وأظهر الخشوع، واهتزَّ لغير طربٍ وأجرى الدُّموع.(1/90)
فلأجل مليح رآه عند المحراب، ولم يستطع أن يشافهه بالخطاب.
أو ليخدع بعض الحضَّار، من الأتقياء الأخيار.
فأنشدتُه ارتجالاً، وأنفاسي تتصعَّد، ومهجتي بنار الكمد تتوقد:
أفاضلَ جلَّقٍ أين العلومُ ... وأين الدِّين مات فلا يقومُ
يُجاهركمْ خطيبكمُ بفسقٍ ... ويُفتي فيكمُ توما الحكيمُ
وما أراه ارتقى هذه المكانة، إلا بالرشوة والتزوير والخيانة.
وما كفاه أخذه التَّدريس بالتدليس، وخوضه في الفتن التي فاق فيها على إبليس.
حتى دخل على العلماء من غير باب، وردَّ أقوالهم بغير صواب.
تراهُ مُعدًّا للخلافِ كأنَّهُ ... بردٍّ على أهلِ الصَّوابِ موكَّلُ
فيا أيها المجتري، والغمر المفتري.
أراك قد سوَّل لك زعمك الفاسد، وصوَّر لك فكرك الكاسد.
أن الله قبض العلماء ولم يبق منهم أحد، واتخذ الناس رؤساء جهَّالاً في كل بلد.
فتضلَّ الناس كما ضللت وتعدَّيت، وتنفق بضاعتك الكاسدة بقولك أفتيت.
قولوا لأعرجَ جاهلٍ مُتكبِّرٍ ... قد جاءَ يطلبُ رفعةً وتقدُّما
دعْ ما ترومُ فإنَّ حظَّكَ عندنا ... تحت الحضيضِ ولو عرجتَ إلى السَّما
كلا، إن أمرك مما يدل على جهلك المركَّب، وعدم فهمك الذي هو من ذاك أعجب.
إنك ترى دمشق مشحونةً بالأفاضل، الذين ليس لهم في الدهر من مماثل.
وهم مشغولون بالعلوم وتحريرها، وتنقيح المسائل وتقريرها.
وأنت تغالط بنفسك، وتدخلها مع غير أبناء جنسك.
وتترفَّع على من لا يرتضيك لتقبيل رجله، ولا يراك أهلاً لخدمة نعله.
دع الفخر فلست من فرسان هذا الميدان، ولا أنت ممن أحرز قصب السبق يوم الرهان.
وما لك شيخٌ في العلوم والتدريس، سوى أبي مرة اللَّعين إبليس.
فما زلت تسلك في مسالكه، وتقع في مهاوي مهالكه.
حتى أنشد لسان حالك، في قبيح سيرتك وخبث أفعالك:
وكنتُ فتًى في جندِ إبليسَ فارتقى ... بي الحالُ حتى صارَ إبليسُ من جندي
فلو عشتُ يوماً كنتُ أحسنُ بَعدهُ ... طرائقَ فسقٍ ليس يحسنها بعدي
ولما تبيَّن أمرك طردك حضرة المولى وأقصاك، وحجب سمعه عن تُرَّهاتك وما أدناك.
فتضاعف له الدُّعاء من سائر الورى، وترادف له الشُّكر من أهل المدائن والقرى.
فالله يمدُّ أطناب دولته السَّعيدة، ويديم صولته الشَّديدة.
بمحمدٍ وآله، ومن سلك على منواله.
حفيده السيد محمد بن علي هو الحفيد السيِّد، صاحب القريض الجيد.
له الطلاقة الهادرة، والبداهة الغريبة النَّادرة.
أدركته وقد شاخ، لكن جمر عزمه ما باخ.
ورماه وهن العظم، بكلال الخاطر عن النَّظم.
إلا أن له في مصادمة الشدائد قوَّةً نفسيَّة، هي أحرى بأن تُمدَّها قوَّةٌ قُدسيَّة.
فهو في حلِّه وترحاله، وخصبه من الآمال وإمحاله.
لا يقرُّ له قرار، ولا ينجلي له سرار.
كأنَّ له عزماً لا يرى بدًّا من إمضائه، ودَيناً في ذمَّة الأيام لا ينثني عن اقتضائه.
وربَّما نال في بعض الوثبات، ما يجدِّد العزائم والرَّغبات.
حتى جاء من العمر على أوفاه، واقتصَّ من مداه الطَّويل واستوفاه.
وقد أثبتُّ من شعره ما كسا أعطافه بروداً مُخضرَّة، وصيَّره في الإشراق للشمس ضرَّة.
فمن ذلك قوله في قصيدة، مطلعها:
يا نسمةً نَسمتْ حبيبي ... وتمسَّكتْ منهُ بطيبِ
وغدا يُحرِّكُ لُطفها ... أعطافَ باناتِ الكثيبِ
تمشي وتسحبُ ذَيلها ... قبل العيونِ على القلوبِ
إن جُزتِ وادي جِلَّقٍ ... وحللْتِ بالرَّوضِ الرَّحيبِ
ونظرتِ أقمارَ الحمى ... ومررتِ بالظَّبيِ الرَّبيبِ
ورأيتِ من لفتاتهِ ... ما منهُ أشجانُ الكثيبِ
وصدفتِ مُتلفَ مهجتي ... يزورُّ باللحظِ الغضوبِ
يرمي سهامَ لحاظهِ ... فترى النُدوبَ على النُّدوبِ
يرنو فلا يُخطي الحشا ... ويلاهُ من سهمٍ مصيبِ
أو جزتِ أرضَ النَّيرب ... ينِ مع الصَّباحِ أو المغيبِ
ودخلتِ جامعها الشَّري ... فَ مُقامَ أرباب القلوبِ(1/91)
ورأيتِ بالشَّرفينِ ما ... يدعو المحبَّ إلى الحبيبِ
وسمعتِ بُلبلها ينادِ ... ينا بحيَّ على الطروبِ
ونظرتِ وَرقاها تجسُّ ... العودَ بالكف الخضيبِ
أو ضعتِ بالمرجِ النَّض ... يرِ قفي القليلَ وعرِّضي بي
واقري التَّحيَّة أهلهُ ... عنِّي وبالتَّذكارِ نوبي
واستنطقي بالدُّفِّ ثمَّ ... الجُنكِ أنواع الضُّروبِ
ثم الثمي الخلخالَ في ... شوقِ الغصونِ مع الكعوبِ
فسقى دمشقَ وما حوتْ ... من أنهرٍ مثلُ الضَّريبِ
فلبانياس ورقمهِ ... نقشٌ على كفِّ رطيبِ
وببَردهِ بردى يزي ... لُ لجينهُ صدأ القلوبِ
قنواتها برحيقها ال ... مختومِ فضيِّ الصَّبيبِ
ويخور ثوراها فير ... وي الحرثَ من تلك الشُّعوبِ
كم وجنةٍ من عقربا ... فيها بدا أخفى دبيبِ
ويزيدُ دمعي إن ذكر ... تُ يزيدَ سحًّا بالنُّقوبِ
ما جئتِ داعيةَ الهوى ... إلا وداراني رقيبي
وإذا ذكرتِ مقاسمَ اللَّ ... ذَّاتِ لا تنسيْ نصيبي
يا نفسُ مالي إن ذكر ... تُ سوى دمشقٍ لا تُجيبي
أصفَتْك خالص ودِّها ... وحمتكِ من مسِّ اللَّغوبِ
ومن مقاطيعه قوله:
جذبتُ بمغناطيسِ لحْظيّ خالهُ ... فصارَ لجفني ناظراً وعلاجا
ومذْ خفتُ من عينِ المُراقبِ أنبتتْ ... دموعُ زفيري للجفونِ سياجا
وله من قصيدة، أولها:
أما آنَ أن تُقضى لقلبي وعودهُ ... ويورقُ من غصنِ الأحبَّةِ عودهُ
فقد شفَّهُ داءٌ من الصَّدِّ مُتلفٌ ... وليس له غيرُ الضَّنى من يعودهُ
وما حال مشتاقٍ تناءتْ ديارهُ ... وأحبابهُ مُضنى الفؤادِ عميدهُ
يراقبُ من دورِ النَّسيمِ إرادةً ... فإن جاءهُ يذكي الجوى ويزيدهُ
حكى النَّجمَ بين السُّحبِ يبدو ويختفي ... إذا سال أجفاناً وثار وقودهُ
ولو كان يسعى للزَّمانِ ممكَّناً ... لسارَ ولكن أثقلتهُ قيودهُ
ومن أخرى:
سلوا الجُؤْذُرَ الفتَّاك بالمُقلةِ المرضى ... أبا للَّحظِ أم بالقدِّ أحرمني الغمضا
فإن كان غيري حبُّه شابه سوى ... فإنِّي امرؤٌ حبِّي له لم يزل محضا
أرى حبَّ غيري سنَّةً ومحبَّتي ... يقيناً على هجرانهِ لم تزل فرضا
لقد طال بي ليلُ الصَّبابة والمنى ... فهل لي من وصلٍ به مهجتي ترضى
وبي ساخطٌ أمَّا هواهُ فمالكٌ ... من المهجةِ المقروحةِ الكُلَّ والبعضا
وله من أخرى، مستهلها:
سواكَ بقلبيَ لم يحلُلِ ... وغيرُ مديحكَ لم يحلُ لي
وغيركَ عند انعقادِ الأمورِ ... إذا اشتدَّتِ الحالُ لم يحللِ
قصدتكَ سعياً على ضامرٍ ... حكاني نحولا ولم ينحُلِ
يكادُ يسابقُ برقَ السَّما ... ولولا وجودُك لم يعجلِ
وجرَّدتُ من خاطري صاحباً ... لشكوى الزَّمانِ وما تمَّ لي
أعاطيهِ كأسَ الهوى مُترعاً ... شكاةً فألقاهُ لم يملَ لي
وصحبٍ بجلَّقَ خلَّفْتهمْ ... سواهمْ بقلبيَ لم ينزلِ
وخضتُ بدمعيَ مذ فارقوا ... وبالصدِّ منزلُ قلبي بلي
فقلتُ لجاري عُيوني قفا ... لذكرى حبيبٍ مع المنزلِ
وفتَّانةٍ سمتُها وُصلةً ... فأصْمَتْ بناظرها مقلتي
بقدٍّ تُرنِّحهُ ذابلاً ... وخدٍّ به الوردُ لم يذبلِ
مهاةٌ من الحورِ في ثغرها ... رحيقٌ من الرَّائقِ السَّلسلِ
لخَتمِ الجمالِ به شامةٌ ... تهيجُ البلابلَ كالبلبلِ(1/92)
تحرَّشَ طرفي بألحاظها ... وكان من العشقِ في معزلِ
فآبتْ بمُهجتهِ للحمى ... أسيرَ ظبا طرفها الأكحلِ
وقدَّت شراكَ دُجى شَعرها ... فصادتْ لطائرِ دمعي ولي
وله من أخرى، أولها:
من سامعٌ لشكايةِ المظلومِ ... من يومِ أصمتهُ ظباءُ الرُّومِ
هذا بلفتته وذا بعيونه ... يرنو وذاك بخَصره المهضومِ
من حين صرَمني بصارم لحظهِ ... ورعى فؤادي مثل ظبي صريمِ
أُنسيتُ أهوائي وعفتُ لذائذي ... وبه غرامي كان صاحِ غريمي
منها:
لولا حلاواتُ الوعودِ وصدقُها ... ما سرَّ موسى موعدُ التَّكليمِ
والشُّهبُ لا يأتي الكمالُ لبدرِها ... إلا بُعيدَ النقصِ للتَّتميمِ
والسُّمرُ لا تُخطى إذا ما ثقِّفتْ ... بيديْ خبيرٍ بالصِّعادِ عليمِ
والمرءُ لا عارٌ عليه إذا تحا ... ربتْ الجدودُ وخُطَّةُ التَّعظيمِ
محمد الجوخي نبيه نبيل، ما إلى استيفاء صفاته سبيل.
له الحيا المنهل، والمحيَّا المستهلّ.
والبشرة النَّيِّرة، والأفعال الخيِّرة.
وهو مع انتعاشه، وسلامة أسباب معاشه.
بعيد الهمِّ في توفير الهمَّة، مستعملٌ للأهمِّ في الأمور المهمَّة.
مدُّه بلا جزر، وفضله غير نزر.
لم يؤت جمعه من قلَّة، إلا أن شعره دون قُلَّة.
فمنه قوله، وكتب به في صدر رسالة لبعض أحبابه:
وما شوقُ ظمآنِ الفؤادِ رمتْ به ... صروفُ اللَّيالي في ملمَّعةٍ قفرِ
شكى من لظى نارين ضُمَّتْ عليهما ... أضالِعُه نارَ الهجيرِ مع الهجرِ
يُروِّي غليلَ الأرضِ من فيضِ دمعه ... وليس له جهدٌ إلى غللِ الصَّدرِ
إلى عارضٍ من مزنةٍ عطفتْ به ... نسيمُ صبا الأحباب من حيثُ لا يدري
بأبرحَ من شوقي لرؤيتك التي ... أعدُّ لَعمري أنها لذَّةُ العُمرِ
ولده أبو اللُّطف ماجد تكوَّن عنصره من معدن اللُّطف، وغازلت عيون أشعاره الجفون الوطف.
رَبا مَقضِيَّ الأرب، معانق الحظوة والطرب.
تزهو به أربعٌ وأدواح، وتنثر على مراده أنفسٌ وأرواح.
إلا أنه احتضر وهو صغير السن فتِيُّه، واهتُصر وهو رطب الغصن طريُّه.
وله شعرٌ من ماء الشباب مرتوي، إلا أنه كبا كورةِ الثِّمار، منها فجٌّ، ومنها مستوي.
فمنه قوله:
بعيشكمُ أهلَ الصَّبابة والصِّبا ... أقلْباً رأيتمْ مثل قلبي مُعذَّبا
فلم أرَ لي في محنةِ الحبِّ مُنجداً ... ولم أستطعْ من فيضِ دمعي تحجُّبا
وقد صرتُ من حرِّ الفراقِ بحيثُ لو ... يشاهدُ حالي كلُّ واشٍ تعجَّبا
فيا ليت من أهواهُ في الليلِ زائري ... فمثلي معنًّى صار في حبِّه هبا
سألتُ الذي قد قدَّر البُعدَ بيننا ... سيجمعنا يوماً يكونُ له نبا
وقوله:
قلبٌ تقلَّبَ في قليبِ محبَّةٍ ... حتى القرارِ ولم يقرَّ وجيبهُ
متردِّدٌ بين المنيَّةِ والمنى ... متودد خلاَّ حلا تعذيبهُ
لم يبرَ من حُبٍّ برى أعضاءهُ ... إذ عَمَّ غَمَّ هو الصَّبا وصبيبهُ
حاكى معينُ العينِ عيناً إذ جرى ... وعقيبَ ذا وادي العقيق يُجيبهُ
بل رامَ أن لو ريمُ رامةَ زارهُ ... ضيفاً يزورُ الطَّيفَ يطْفَ لهيبهُ
وأصابَ لمَّا أن صبا الأوصابِ صُبَّ ... تْ فوقه ورمى أصابَ مصيبهُ
أنفاسهُ نبراسهُ في ليلهِ ... أو هلَّ هجرٌ ما علاه مشيبهُ
قد شابَ فوْداهُ وشبَّ فؤادهُ ... مذ طال حين شبا بهِ تشبيبهُ
من بعدِ بُعدٍ يصطلي في نارهِ ... لم يسلُ أصلاً لو سلاهُ حبيبهُ
وكتب إليه محمد الحادي الصَّيداوي، يطلب منه شدًّا:
يا أبا اللُّطفِ إنَّ لُطفكمْ ... ليس يُحصى بكثرةِ العدِّ
شُدَّ وسطي بما ترى كرماً ... ولا تُماطل فكثرةُ الشَّدِّ(1/93)
فسيَّر له ما طلب، وكتب معه:
مقصدُ ذا العبد من تفضُّلكمْ ... من غيرِ مَنٍّ قبولُ ذا الشَّدِّ
قد سدتَ فضلاً وشدتَ كلَّ علاً ... وقد شدَدتَ القلوبَ بالودِّ
تاج الدين بن أحمد المحاسني هو لمفرق الرِّياسة تاج، ولراية السماحة عقيلة نتاج.
رحل مراراً إلى القاهرة مهاجراً، واعتمدها في طلب العلم تاجراً.
ليجتهد في جمعه وكسبه اجتهاد مغترب، ويملأ من بضائعه ونفائسه وعاءٍ غير سرب.
فما رجع حتى خوَّله الله كمال محاسنه ومحاسن كماله، وأمدَّ جمال رونقه ورونق جماله.
فأقام له الذِّكر المستطاب، والثَّناء الذي ملأ الوطاب.
وهو في الأدب وأنواعه، جامعٌ لإبداعه وإيداعه.
وله كلماتٌ تنشئ الزَّخارف، وتتعلَّم منها النَّقد الصَّيارف.
وقد أوردت من شعره، ما يغالي في سعره.
فمنه ما كتبه في صدر رسالةٍ من مصر إلى ابنه محمد:
أبداً إليكَ تشوُّقي يتزايدُ ... ولديكَ من صدقِ المحبَّةِ شاهدُ
وأليَّةً إنَّ البعادَ لمتلفي ... إن دامَ ما يُبدي النَّوى وأكابدُ
كم ذا أعلِّلُ حرَّ قلبي بالمنى ... فيعيدهُ من طولِ نَأيكَ عائدُ
جار الزَّمانُ عليَّ في أحكامهِ ... ولطالما شكتِ الزَّمانَ أساودُ
فيه نقد، إذ الأساود جمع أسود، وهو العظيم من الحيَّات، وليست من عظم القدر بمثابة أن يُلتفت إلى شكايتها من الزمان، وكأنه ظنَّ أن الأساود جمع أسد، وليس كذلك.
والدهرُ حاولَ أن يصدِّع شملنا ... فامتدَّ منهُ للتَّفرُّقِ ساعدُ
يا ليت شعري هل يرقُّ وطالما ... ألفيْته لأُلِي الكمال يعاندُ
أشكوكَ للمولى الذي ألطافهُ ... تُزري الخطوبَ إذا أتتْ وتساعدُ
وله:
يا أحبَّايَ والمحبُّ ذكورٌ ... هل لأيامِ وصلِنا من رجوعِ
وترى العينُ منكمُ جمعَ شملٍ ... مثلما كان حالةَ التَّوديعِ
وأهدى إلى بعض العلماء سجادة، وكتب معها:
مولاي قد أهديتُ سجَّادةً ... هديةٌ من بعضِ إنعامكمْ
فلتقبلوها إذ مُرادي بأن ... تنوبَ في تقبيلِ أقدامكمْ
مثله للشهاب، وقد أهدى منديلاً:
بعثتُ إليك يا أقصى الأماني ... بمنديلٍ فإن يُقبلْ لديكا
فليس بضاعةً تُهدى ولكن ... بعثتُ به يُقبِّلُ لي يديكا
ولابن نباتة، وقد أهدى سجادة:
إنَّ سَجَّادتي الحقيقة قدراً ... لم يفُتها في بابكَ التَّعظيمُ
شرُفَتْ إذ سعتْ إليكَ وأمستْ ... وعليها الصَّلاةُ والتَّسليمُ
وقال بمصر، يتشوَّق إلى دمشق:
منذُ فارقتُ جِلِّقاً ورُباها ... لم يزُر مقلتي لذيذُ كراها
وبسكانها الأحبَّةِ عندي ... فرطُ شوقٍ يكادُ لا يتناهى
فسقى الله ربعها كُلَّ غيثٍ ... وحمى الله أهلها وحماها
ولهذا الرئيس أبناء كأسنان المشط في التساوي، إذا عُدّت محاسن غيرهم فهي بالنِّسبة إليهم مساوي.
ذكرت منهم كوكبين لاحا في سمائه، وبلَّغهم الله شهرة الكمال، مُعوَّذين بأسمائه.
ولده عبد الرحيم هو من أولاده الكبير، الفائح ثناه بالعنبر والعبير.
نشأ في حجره، وشذا بين سحر القول وفجره.
فهو شابٌّ تدفَّق شؤبوبُ براعته، وتفتَّق عن زهر الربيع روض يراعته.
فأمطر وما استبرق، وأثمر وما استورق.
فللَّه، ما أتمَّ شمائله، وأنمَّ بأنوار المحاسن خمائله.
بحظٍّ من الكمال وافر، ووجهٍ من الجمال سافر.
إلى همَّةٍ أنارت مطلعه، وضمَّت على الشَّغف بالأدب أضلعه.
لكنه لم يلمحه الناظر، حتى قصف قصفة الغصن الناضر.
وقد رأيت له شعراً في صحف الإحسان وثبت، وبلغني أنه أطلعه ونبت، ووجهه قد همَّ أن ينبت أو نبت.
فأثبتُّ منه ما تستحسنه استحسان خطِّ العذار، وتستطيبه استطابة مناجاة محبَّين بعتب واعتذار.
فمنه قوله في الغزل:
ملَّتِ العذَّالُ عن عذلي وما ... ملّ جفناكِ من الفتك بقلبي
لو رآكِ النَّاسُ بالعينِ التي ... أنا رائيك بها ما ازداد كربي(1/94)
واستراح القلبُ من عذلهمُ ... إنَّ طول العذلِ داءٌ للمحبِّ
بل ولو كان بهم مثلُ الذي ... بفؤادي لم يمتْ شخصٌ بنَحبِ
ويستحسن له قوله:
تطاولتِ الخمرُ اختباراً لِعقْلنا ... فقالتْ لنا إنِّي كجفنيهِ أُسكرُ
فبادرها الإنكارُ منَّا لقولها ... على أنَّنا والله بالحقِّ نُنكرُ
فرقَّتَ لَنعفو واستحتْ فلأجل ذا ... نرى وجهها يبدو لنا وهو أحمرُ
على ذكر استحياء الخمر، تذكرت لطيفة، وهي: أن بعض الظرفاء كان يشرب الخمر سرًّا، وكان والده يمنعه، وما زال أبوه يترصده إلى أن لقيه يوماً، ومعه زجاجة خمر، فقال: ما هذا؟ قال: لبن.
قال: اللَّبن أبيض، وهذا أحمر! قال: صدقتَ، لما رآك خجِل واحمرّ، وقبَّح الله من لا يستحي. فخجل، وانصرف، وخلاَّه.
وقوله:
أسيرُ وقلبِي عندكُم لستُ عالِماً ... بما فيه هاتِيكَ اللَّواحِظُ تَصنعُ
وما زِلتُ مشتاقاً لِطيْفِ خيالِكم ... وإِنِّي من الدُّنيا بذلكَ أقنعُ
وقوله:
قالَ العذولُ دَعِ الذي في حُبِّهِ ... عيناكَ قدْ سمحتْ بدمعٍ هامِعِ
فأجبتُه إن كنتَ لستَ بناظِرٍ ... هذا الغزالَ فلستُ منك بسامِعِ
وقوله:
لي فؤادٌ على المودَّةِ باقِ ... لم يزِغْ عن تذكُّرِ الميثاقِ
غيرَ أنَّ البُعادَ جارَ عليه ... فبراهُ ولم يدَعْ منه باقي
وجفونٌ جفَتْ لذيذ كراهة ... واسْتفاضتْ بمدمعٍ غيداقِ
كلَّما طالَ عهدُها طالَ منها ... مدمعٌ يرتَقي وليسَ براقِ
إنَّ درًّا أودعتموهُ بأُذني ... درَّ مذْ بنتُمُ من الآماقِ
وهذا معنًى مشهور. وله:
يا من نأى متجبِّراً يا جاني ... صيَّرتني متحيِّراً في شانِي
هلاَّ وقدْ أبعدْتني وقلَيتَني ... أرسلتَ طيفكَ في الكرَى يلقانِي
أمْطرتَ منِّي عَبرةً هي عِبرةٌ ... فضحتَ هوًى متستِّراً بجنانِي
هذه الأبيات فيها التوشيح.
قال ابن الأثير في المثل السائر: وهو أن يبنيَ الشاعر أبياته على بحرين مختلفين، فإذا وقف من البيت على القافية الأولى كان شعراً مستقيماً، من بحرٍ آخر، على عروض، وصار ما يضاف إلى القافية الأولى للبيت كالوشاح.
وكذلك يجري الأمرُ في الفقرتين من الكلام المنثور، فإن كل فقرة منها تصاغ من سجعتين، وهذا لا يكاد يستعمل إلا قليلاً، وليس من الحسن في شيء، واستعماله في الشعر أحسن منه في الكلام المنثور. انتهى.
وتسميته له بالتوشيح مخالف لما عليه أصحاب البديعيات؛ فإنهم يسمُّونه التَّشريع، إلا ابن أبي الإصبع؛ فإنه سنَّاه الالتزام، وأراد بذلك مطابقة التَّورية للمسمى. والاصطلاح لا مشاحَّة فيه.
ولده محمد الخطيب لوذعيٌّ فضائله لا تتناهى، وبمحاسنه تتجمل الأوقات وتتباهى.
إذا قام على منبر المسجد الجامع، تمنَّت الجوارح أن تكون كلُّها مسامع.
وهو لكلِّ عينٍ تراه حبيب، ولسان الدَّهر بمحاسنه خطيب.
تنشر في كل وادٍ مدائحه، كما تشكر في كلِّ نادٍ منائحه.
وتهتزُّ أعواد المنابر باسمهِ ... فهلْ ذَكِّرتْ أيَّامها وهي أغصانُ
فضائل الدنيا في ذاته محصورة، وأسباب العليا في جنابه مقصورة.
وله آثار أقلامٌ كأنَّها في محاريب رقِّه المنشور، قناديل ليلٍ قيِّدتْ بسلاسل السطور.
أدركتُه وسور محاسنه تتلى، وصور فضائله في مرايا المحامد تجلى.
ثم أدركه الأجل، فوضِع على الأعواد، ووُدِّع من القلب بالسُّويداء ومنه النَّاظرُ بالسَّواد.
فاستوحش الجامع لبعده، وتبدَّلت معالمه من بعده.
حتى اشتعلت مصابيحه بنار مصابه، وتقوَّس لفرقة ذاك الصَّدر ظهر محرابه.
وقد ذكرت من شعره ما ينفح عن زهر معانيه، وينبعث في حسن الأسلوب عن غرض معانيه.
فمن ذلك قوله من نبويَّةٍ، مطلعها:
تذكَّر من أسماءَ ربعاً ومعهدا ... فعنَّ له وجدٌ أقامَ وأقعدا
وأطْلقَ من عينيهِ سُحبَ مدامِعٍ ... حكتْ فوق خدَّيهِ الجُمانَ المنضَّدا(1/95)
بعيدٌ عن الأحبابِ دانٍ بقلبهِ ... يهيمُ إذا ما ساجعُ الدَّوحِ غرَّدا
متى وعدتْ آمالُه الوصْلَ مرةً ... ألمَّ بِها داعِي المِطالِ ففنَّدَا
أمَا وهوًى بينَ الجوارحِ كامنٍ ... به الصَّبُّ مجدودٌ وإن كانَ ذا جدَا
لئِنْ زارني طيفُ الأحبَّةِ مرةً ... وأوطأْتُه خدًّا ووسدْتُه يدَا
غفرتُ ذُنوبَ الدَّهرِ من بعدِ ما سطَا ... وسالمْتُ صِلَّ الدَّهرِ من بعدِ ما عدَا
وعدتُ إلى رُشدِي بمدحِي محمَّداً ... نبيَّ الهُدى والعوْدُ ما زالَ أحمدا
وقوله:
وتنفُّسِي الصُّعداءَ ليسَ شِكايةً ... ممَّا قضتْهُ سوابِقُ الأفكارِ
لكن بقلبِي جُملةٌ تفصيلُها ... صعبٌ لدى العُقلاءِ والأحرارِ
فجعلتُ موضِع كلِّ ذلك أنَّةً ... ضمِنتْ مُرادِي من عطاءِ البارِي
ومن ملحه موشَّحه الذي عارض به موشح بنت العرندس الشيعي، ومطلعه:
أهواهُ مُهفهفاً من الولدانِ ... ساجِي الحدقِ
قدْ فرَّ من الجِنانِ من رضوانِ ... تحت الغسَقِ
من ريقته سكرتُ لا من راحِي
كمْ جدَّدَ لي رحيقُها أفراحِي
كمْ أسكرنِي بخمرِها يا صاحِ
كمْ أرَّقنِي بطرفِه الوسنانِ ... حتَّى الفلقِ
لو عاملَه بعدلِه ذا الجانِ ... أطفَا حُرقي
من باهرِ حسنهِ يغارُ القمرُ
في روْضِ جمالِهِ يحارُ النَّظرُ
قدْ عزَّ لديّ إن بدَا المصطبَرُ
ما اهتزَّ يميل ميلةَ الأغصانِ ... للمعتَنِقِ
إلاَّ وأتاحَ للمحبِّ العانِي ... كلَّ القلقِ
يا ويحَ محِبِّه إذا ما خطرَا
كالبدرِ يلوحُ في الدَّياجِي سَحَرا
إن أقضِ ولمْ يقضِ لقلبي وطَرَا
فالويلُ إذاً لمغرمٍ ولهانِ ... في الحُبِّ شَقِي
قدْ حمِّل في العِشقِ من الهِجرانِ ... ما لمْ يطِقِ
القدُّ رشيقٌ مثلَ خوطِ البانِ
واللَّحظُ كسيفِ الهندِ في الأجفانِ
والخالُ شقيقُ المِسكِ في الألْوانِ
والخدُّ مورَّدٌ أسيلٌ قانِي ... شِبهُ الشَّفقِ
والعارِضُ قدْ سُلسِلَ كالرَّيحانِ ... للوردِ يقِي
يا عاذلُ لو أبْصرتَ من أهواهُ
ناديتَ تباركَ الذي سوَّاهُ
قد أحسنَ خلقهُ وقدْ نمَّاهُ
إذْ كمَّله وخصَّ بالنُّقصانِ ... بدرَ الأُفقِ
قدْ أفرَغهُ في قالبِ الإحسانِ ... زاكِي الخُلُقِ
الصَّبرُ على لُقياهُ مثلُ الصَّبرِ
والقلبُ غدا من هجرِهِ في جمْرِ
ما ألْطفهُ في وصلِهِ والهجْرِ
لم ألقَ له في حسنِهِ من ثانِي ... حُلوِ المَلَقِ
ما واصلَ بعدَ بُعدِه أجفانِي ... غيرُ الأرقِ
ومطلع الموشح الذي عرضه، هو هذا:
ما رنَّحتِ الصَّبا غصونَ البانِ ... بين الورَقِ
إلاَّ وشجَا الهوى فؤادي العاني ... نارَ الحُرقِ
ما هبَّ صبالنحوك القلبُ صبالاقى وصبا
يا بدرَ سماسما على بدرِ سماللناسِ سَبا
صِلني فعسىتنالُ منِّي ذَهباعقلي ذهبا
والقلبُ منِّي موقدُ النِّيرانِ ... نامي القلقِ
والناظرُ قد أسال من أجفاني ... ماءَ الغَدقِ
وللمحاسني من قصيدة:
أيا مربعاً عهدي به وهو آهلُ ... سقاكَ من الغيثِ المُلثِّ هواطلُ
لكَ الله من رَبعٍ تفيَّأتُ ظلَّهُ ... وواصلني فيه الحسانُ العواطلُ
ألفتُ به نشوانَ من خمرةِ الصِّبا ... تفوق الصَّبا في اللُّطفِ منه الشمائلُ(1/96)
إذا ما تثنَّى فهو غصنٌ وإن بدا ... له تسجدُ الأقمارُ وهي كواملُ
أغنُّ غضيضَ الطَّرفِ يرنو فأنثَني ... وفي القلبِ من تلكَ اللِّحاظِ ذوابلُ
أقام بقلبي منه حبٌّ مبرِّحٌ ... وما القلبُ إلا للغرامِ منازلُ
وخضتُ بحارَ العشقِ حيرانَ تائهاً ... وما لبحارِ العشقِ ويلاه ساحلُ
وما كنتُ أدري يا ابنةَ القومِ ما الهوى ... وهل يعرفُ الإنسانُ مالا ينازلُ
رضيتُ بأن أقضي قتيلَ يدِ الهوى ... إذا كان يُرضي الحبَّ ما أنا فاعلُ
رعى الله أياماً تقضَّتْ بحاجرٍ ... إذ العيشُ غضٌّ والحبيبُ مواصلُ
زمانٌ به غصنُ الشَّبيبةِ يانعٌ ... يرفُّ وطرفُ الدهرِ وسْنانُ غافلُ
وحيَّى على رغمِ الوُشاةِ ليالِياً ... أطعتُ الهوى لمَّا عَصَاني العواذِلُ
ليالِيَ لا ريحانةُ العِشقِ صوَّحَتْ ... ولا رنَّقتْ عن واردِيه المناهِلُ
أيا برقُ سلْ عن زَفرَتِي ساكِنَ الغضَا ... ويا غيثُ سلْ عن مدمعِي وهو سائِلُ
ويا بانةَ الوادِي تشفَّعتُ بالصَّبا ... لديكِ هل الرَّكبُ اليمانيُّ قافِلُ
ويا ظبياتِ القاعِ لولاكِ لمْ أبتْ ... وفي القلبِ من هُجرِ الوُشاةِ شواغِلُ
ويا نسمةَ الأحبابِ هل فيكِ نفحةٌ ... يحيَّى بها صبٌّ شجتْهُ بلابِلُ
تُرى يسمحُ الدَّهرُ الخَؤونُ بأوبةٍ ... وأُمنِيَّتي منْهُ غرورٌ وباطِلُ
فمَا كانَ منهُ صادِقاً كان كاذِباً ... وما كانَ منهُ مخْصِباً فهوَ ماحِلُ
لحَى اللهُ دهْراً أثقَلَتْني صُروفُه ... يُذيبُ الرَّواسِي بعضُ ما أنا حامِلُ
فيا دهْرُ قدْ برَّحْتني وتركْتني ... تراميْنَ بي منكَ الضُّحى والأصائِلُ
وأشْمتَّ بالأعداءَ حتَّى تيقَّنوا ... بأنِّي لا عونٌ لديَّ يحاوِلُ
وهلْ أختَشِي دهْراً وبدرُ مآرِبي ... بدَا وهْو مذْ يمَّمتُ أحمدَ كامِلُ
وله:
قسماً بالعفافِ في الحبِّ عمَّا ... يُغضِبُ اللهَ من كِلا الطَّرفينِ
لمْ يُغيِّر ما بيننا البُعدُ إلا ... أنَّ طيبَ الرُّقادِ فارقَ عينِي
أحمد بن محمد، المعروف بابن المنقار هو من عرف بكرم الشيمة، من منذ تنصَّل من المشيمة.
فجاء كما شاءت الظنون، متحقِّقاً بجميع الفنون.
وأعاد رسماً من بيته دثر، ونظم شملاً كان قد انتثر.
وما استعار مجدا، ولا أضافَ إلى جدِّه جدَّا.
ثم دخل الروم، فحظِي من الأمانيِّ بما يروم.
متفيِّئاً من النشوة وارفها، وملتحفاً من الصَّبوة مطارفها.
فأذهلته لذة لدَدِه، عما كان بصدده.
وعبثتْ به السوداء من عيون ظباها، والضُّعفاء من الجفون التي سقيت بماء السِّحر ظُباها.
فآل أمره إلى جنون أضرَّ عقله، واقتضى إلى وطنه الأصليِّ نقله.
فحلَّه وجيدُه مطوَّق بطوق، وهو محمولٌ على أدهم لا يجهده سوقٌ ولا شوق.
وبقيَ على تلك الحالة، وقد غيَّر الدَّهر سمته وأحاله.
إلى أن فارق دنياه، وخلص من قيد الحياة.
وقرأت بخط البوريني، أنه زاره، وحيَّا بفم الوجد مزاره.
وهو في تلك السلسلة، وأحاديث حاله عنه مسلسلة.
وهو يظنُّ أن ماء رويَّته جمد، وشرر ذكائه بالكلِّية خمد.
فلما لمحه، لم يدع ملحه.
قال: فأومأ إلى حالته، وأودعني بيتي الوداعي، ثم خلاَّني أجيب سائل دمعي وأنا الدَّاعي.
والبيتان هما:
إذا رأيْتَ عارِضاً مُسلسَلاً ... في وجنةٍ كجنَّةٍ يا عاذِلي
فاعلمْ يقيناً أنَّنا من أمَّةٍ ... تُقادُ للجَنَّةِ بالسَّلاسِلِ
وهذه نبذة من شعره أيام إفاقته، وهو يتَّخِذ شهب السَّماء من رفاقته.
فمن ذلك قوله من قصيدة:(1/97)
أتَى ينْثَنِي كاللُّدنِ بلْ قدُّهُ أسْمى ... غزالٌ بفعلِ الجِفنِ يُلهِيكَ عنْ أسمَا
فريدُ جمالٍ جامعُ اللُّطفِ جُؤْذُرٌ ... أمينُ كمالٍ أهْيَفٌ أحْورٌ ألْمَى
إذا ما بدَا أو ماسَ تِيهاً وإن رنَا ... ترى البدرَ منهُ والمُثَقَفَ والسَّهمَا
له مقلةٌ سيَّافةٌ غِمدُها الحشا ... ونبَّالةٌ قلبي لأسهُمِها مَرمَى
تجسَّم من لطفٍ وظرْفٍ أما ترَى ... تَغيُّره لمَّا تخيَّلْتَه وَهْما
هذا من قول بعضهم:
نظرتُ إليهِ نظرةً فتحيَّرتْ ... بدائِعُ فكرِي في بَديعِ صِفاتِهِ
فأوْحى إليه الطَّرفُ أنِّي أُحِبُّهُ ... فأثَّرَ ذاك الوهمُ في وجناتِهِ
وأبلغ منه قول النَّظَّام:
توهَّمه طرفِي فآلَمَ خَدَّهُ ... فصارَ مكانَ الوهمِ من نَظرِي أثْرُ
ومرَّ بفكرِي خاطِراً فجرَحْتُهُ ... ولمْ أرَ خلقاً قطُّ يجرحُه الفِكْرُ
ولخالد الكاتب:
لوْ لحظَتْهُ العيونُ مُدمِنَةً ... لذابَ من رِقَّةٍ فلم يجدِ
وللمنقاري من قصيدة، مطلعها:
قلْبي بِنيرانِ المحَبَّةِ مُصطَلِمْ ... خوفَ الفِراقِ لمن به حالِي عُلِمْ
منها:
يا ويحَهُ من جَوْرِ ظَبْيٍ أهيَفٍ ... سُلطانِ حُسْنٍ منه صبٌّ ما سَلِمْ
قد حجَّبَتْهُ من الأسِنَّةِ مُقلةٌ ... غزلَتْ فحاكَتْ للورَى ثوبَ السَّقَمْ
جيدُ الغزالةِ منه إلاَّ أنَّها ... لمْ تحكِهِ نوراً إذا هو قد بَسَمْ
فيه استخدام، وقد يقع كثيراً في لفظ الغزالة بهذين المعنيين.
وانتقد بما قاله الصفدي في شرح لاميَّة العجم: إنه لم يسمع إلا بمعنى الشمس في أول النهار إلى الارتفاع، وأما في مؤنث الغزال فلا يقال غزال، بل ظبية.
وقد غلَّطوا الحريري في قوله: فلما ذرَّ قرنُ الغزالة طمر طُمور الغزالة.
وقالوا: لم تقل العرب الغزالة إلا للشمس، فإذا أرادوا تأنيث الغزال، قالوا: الظَّبية.
وقد ردَّ هذا الدماميني في حاشيته، وأورد له شواهد.
واعتمده الشِّهاب الخفاجي في شفاء الغليل، حيث قال: غزالة مؤنث الغزال، واسمٌ للشمس مطلقاً، أو في وقت شروقها.
قال التبريزي: سمِّيت بذلك لأنها تطلع في غزالة النهار، أي أوَّله.
وقال المعرِّي: سمِّيت بها، لأنها تمدُّ الشُّعاع ما هو كالغزْل، فهي مشدَّدة في الأصل، خُفِّفَتْ.
وقال فيه:
الرَّدْنُ والغَزْل للغوانِي ... خُلقانِ عُدَّا من الجزالَهْ
والشَّمسُ غَزَّالةٌ ولكنْ ... خُفِّفَتْ الزَّايُ في الغزالهْ
عبد اللطيف الجابي هذا الأديب تميَّز بنفسه، وتخيَّر من جنسه.
فزاحم الكواكب بالمناكب، وقد نسجت دهراً على اسمه العناكب.
وظهر كاسياً من مطمورة الخفا، وما كان خلاَّه في القبر إلا الحفا.
وعزم لا يتخلَّى ولا يستريح، ولا يسكن إلى راحةٍ بل يقلع كل ريح.
فاتحاً عينيه إلى كلِّ مطلب بأقدام هائمٍ مستبق، كأنه صورةٌ ممثَّلةٌ ناظرها الدَّهر غير منطبق.
فهو من القوم الذين أنفقوا عمرهم تملُّقاً وتجملاًّ، واصطلحوا على أن سمُّوا تجرُّع السَّمِّ تحمُّلاً.
وكان له في النَّظم أوفر نصيب، إلا أنه يخطئ تارةً وتارةً يصيب.
وقد رأيت أشعاره في سفينةٍ عامَ في بحرها وهام، وأودعها من خطِّ الملائكة ما لا يفهم إلا بمَلَك الإلهام.
فلم يقع اختياري إلا على أبياتٍ تأنَّقتُ في استخراجِها، وهاهي كما نُظِمت اللآلي في أدراجها:
ما كانَ يخطُرُ قطُّ في أوْهامي ... أنَّ الأُسُودَ مصائِدُ الآرامِ
مما ينبغي أن ينبَّه عليه ما ذكره المبَرِّد في كامله أن الآرام مهموزُ ما بعد الرَّاء واحدُها رِئم، مثل بئر وآبار، فإذا لم تهمز فهي الأعلام، واحدها أرم، وهي العلامات في الطَّريق.
قِفْ حيثُ فوَّقَتِ اللِّحاظُ سِهامَها ... وانظُر لِمرمِيٍّ هناكَ ورامِ
وسَلِ الأمانَ فكم خَلِيٍّ فارغٍ ... أمسى قتيلَ محبَّةٍ وغَرامِ(1/98)
للهِ ما بالقلبِ والأحشاءِ منْ ... حُزْنٍ وما بالجسمِ من أسْقامِ
ومدامِعٌ تَهْمي فيَحرِقُ لَذْعُها ... خدِّي ومن يقوَى لِلذْعِ هوامِ
وبمُهْجَتِي البدرُ الَّذي وجَنَاتُه ... وعِذارُه كالوردِ والنَّمامِ
القاتل الآلاف من عشَّاقِهِ ... عمْداً بلا حرج ولا آثامِ
إنْ لم يكنْ بمحدَّدٍ ومُثَقَّلٍ ... فبِسحرِ ألفاظٍ وسِحرِ كلامِ
باللَّحظِ منه غَنِيتُ عن زَهرٍ وعن ... خمرٍ فمِنه نرْجِسي ومُدامي
في خَدِّهِ لامٌ تجُرُّ إلى الهوى ... فالقلبُ مجرورٌ بتلكَ اللاَّمِ
ظَبْيٌ من الأتراكِ مُرعاهُ الحَشَا ... والمورِدُ العذبُ العزِيزُ الهَامي
عرَفَ المُرادَ من الدُّموعِ فلم يزلْ ... يَرنو لِعاشقِهِ بِطرْفٍ ظامِي
محمود المجتهد مجتهد المذهب الكلامِيّ، يقوِّم منه ما اختل، ويصحِّح من تراكيبه التي دخلها الجهل المركَّب ما اعتل.
بسانٍ ينقِّي الكُلف، إلا أنه كلِف بتلك الكُلف.
وهو في تقييده وضبطه، وحلِّه لتشبُّك الغرض وربطه.
في حدٍّ لا يأتي عليه تحديد، ولا يعبِّر عنه لسانٌ حديد.
وله حديثٌ يُزري عذوبةً بالرُّضاب، وتحلُّمٌ يستخفُّ راسية الهِضاب.
فلذا هو بطيبِ العشرة مذكور، وبألسنة الظُّرفاء محمودٌ ومشكور.
والرَّغبات إليه نازعة، وعلى معاشرته متنازعة.
تستدعي إيثاره وإدناه، وتملأُ بماء النَّعيم إناه.
وهو لا يؤثر الرَّجعة، إلا إذا اسْتَمرَعَ النُّجعة.
وإذا حضر ارتمى قبل الاقتداح شرارُه، وفرَى قبلَ الانتضاء غُرارُه.
ولا يقرع منادمه على فراقه سنَّ النَّدم، حتى يمتلئَ طرباً من الفرقِ إلى القدم.
وقد رأيت له أشعاراً، أكثرها في ذمِّ الزَّمان، وقد رماه في مطالبه بسهام الحرمان.
فمنه قوله:
ألِفَ الزَّمانُ مساءتِي وبِعادي ... ورمَى بسهمِ البَيْنِ عينَ فُؤادِي
فألِفتُ ما ألِفَ الزَّمانُ وما أرَى ... إلا تنغُّصَ عيشتِي وكَسادِي
والذُّلُّ في أبوابِ من لا يرْعوِي ... حال الفقير وسُؤْدد الأوْغادِ
وقوله معارضاً أبيات الحريري، في المقامة الثامنة والأربعين، وهي:
عِشْ بالخِداعِ فأنتَ في ... دهرٍ بَنوهُ كأُسدِ بيشَهْ
وأدِرْ قناةَ المَكرِ حتَّى ... تستَدِيرَ رحَى المعيشَهْ
وصِدِ النُّسورَ فإن تعذَّ ... رَ صيدُها فاقنع بريشَهْ
واجنِ الثِّمارَ فان تَفُتْ ... كَ فَرَضِّ نفسكَ بالحَشيشَهْ
وأرِحْ فُؤادكَ إنْ نبَا ... دهرٌ من الفِكَر المُطيشَهْ
فتَغايرُ الأحداثِ يُؤ ... ذِنُ باسْتِحالةِ كلِّ عِيشَهْ
وأبياته هي هذه:
قال الدِّمشقيُّ الذي ... كَرُّ النَّوائبِ حَصَّ ريشَهْ
كيفَ الخِداعُ ودهرُنا ... أبناهُ صادوا أُسْدَ بيشَهْ
وقناة مكري ى تدو ... رُ فتسْتديرَ رَحى المُعيشَهْ
والطَّيرُ في أفقِ السَّما ... ءِ فكيفَ أبلغُ منهُ ريشَهْ
ورِياضُ آمالِي جفَاها الْ ... خِصْبُ حتَّى لا حشِيشَهْ
ومَعيشتِي ضَنْكاءُ في ... بلَدِي استحالَتْ كلُّ عِيشَهْ
وله:
ومن البليَّة أن ترَى ما لا يُرى ... وترومَ بذلَ المجدِ من غيرِ المَلِي
وتبيعَ مخزونَ العلومِ لجاهلٍ ... وتجودَ بالعلياءِ عند الأرذَلِ
وتزين من درِّ الخطابِ فرائِداً ... قد شِنتَها بِخطابِ من لمْ يعقِلِ
أُوَّاهُ من نكدِ الزَّمانِ وجَوْرِهِ ... وترفُّع الأنذالِ والمُتسَّفِلِ
ومن الرَّزيَّةِ لا ترَى من مُنْصِفٍ ... أوْ مُسْعِفٍ إلا وبالأهوَا مَلِي
وَالَهْفَ قلبي من زمانٍ شأنُهُ ... رَمْيُ الأفاضلِ بالعناءِ المُعْضَلِ
وتعزُّزِ الوغدِ اللَّئيمِ أخِي الأذَى ... وتذلُّلِ العزِّ الكريمِ المأمَلِ(1/99)
فاضَ اللِّئامُ وغاضَ كلُّ مُمَنَّعٍ ... وسطَا بِسطوِ البأسِ كلُّ مُجَهَّلِ
وتوزَّعتْ نُوَبُ النَّوائبِ وانثنَى ... فيها الكِرامُ بِذِلَّةٍ وتملمُلِ
وارتاحَ منها كلُّ خَبٍّ جاحدٍ ... وبها رَقَى العلياء كلُّ مُعلِّلِ
محمد بن تقيِّ الدين الزُّهيرِيِّ زهرة الأدب ونزهته، وخلسة الحظِّ ونهزته.
ومن تخمَّرت طينته بماء اللَّباقة، فأفرغن جِسماً في قالب اللَّياقة.
أدركته وقدُّه من الهرم يرتعش، لكن بمنادمته الرُّوح تنتعش.
وسمعتهم يقولون: إنه في ريعان غضارته، كان محسود الغصن الفَيْنان في نضارته.
ثم مَحَا سِنُّه محاسِنه، ولكن يعزُّ على ذي لسَنٍ أن يلاسِنه.
وعهدت أبي بوَّأهُ الله دار رضوانه، يميِّزه بالفضل عن أخدانه وإخوانه.
ويقول: هو تامُّ في آلته، لو أن قلبه متماسكٌ متمالكٌ، كاملٌ في حالته، إلا أن مدد صبرِه متفانٌ متهالك.
وقد رأيت له شعراً قذف به بحر طبعه، فذكرت منه ما يدلُّ على فضله دلالة الماء على صفاء نبعه.
فمنه قوله:
إذا زرتَ الصَّديقَ الشَّهرَ يوماً ... يرى إكرامَ مثواكَ الثَّوابا
وإن كرَّرته يوماً فيوماً ... ولم تحُزِ السَّلامَ ولا الخِطابَا
فإنَّكَ أُبْتَ للطَّاغي مآباً ... جزاءً لا عطاءَ ولا حِسابَا
وقوله:
صدِيقُكَ إن تزُرهُ بِصدقِ وُدٍّ ... فقلٍّلْ من زِيارتِكَ الزِّيارهْ
فزُرْ غَبًّا إذاً تزدادُ حُبًّا ... وخفِّفْ فالزِّيارة قيل غارَهْ
هذا الباب، مما حرَّض فيه أولو الألباب، والحديث المذكور فيه دستور العمل بين الأحباب.
وفي عقده جمعٌ كثير، في نظِيم لهم ونثِير.
فمن ذلك:
إذا شئتَ أنْ تُقْلَى فزُرْ متواتِراً ... وإن شئتَ أن تزدادَ حبًّا فزُرْ غَبَّا
ومنه: الزيارة زيادةٌ في الصَّداقة، وقلتها أمانٌ من الملالة، وكثرتها سببٌ للقطيعة، وكلُّ كثير عدوُّ الطَّبيعة، وما أحسنَ ما قال صاحِب الشَّريعة: " زُّرْ غَبًّا تزدد حُبًّا ".
ومن هذا الباب قول الآخر:
عليكَ بإقلالِ الزِّيارة إنَّها ... إذا كثُرتْ كانتْ إلى الهجرِ مسلَكَا
فإني رأيتُ القَطْر يسأَمُ دائِماً ... ويُسأَلُ بالأيدِي إذا هوَ أمسَكَا
وقوله:
أقلِل زِيارَتك الصَّدي ... قَ تكون كالثَّوبِ استجَدَّهْ
إنَّ الصَّديق يُمِلُّهُ ... أن لا يزال يراك عنْدَهْ
وقول أبي تمَّام:
وطولُ مُقامِ المرءِ في الحيِّ مُخلِقٌ ... لِديباجَتَيْهِ فاغترب تتجدَّدِ
فإنِّي رأيتُ الشَّمسَ زِيدتْ محَبَّةً ... على النَّاسِ إذ ليستْ عليهم بسرمَدِ
وكان للبهاء السنجاري صاحبٌ، وكان بينهما مودةً أكيدة، واجتماع كثير، ثم جرى في بعض الأيام عتاب، وانقطع ذلك الصاحب عنه، فسيَّر إليه يطلبه؛ لانقطاعه، فكتب إليه بيتي الحريري، اللَّذين في المُقامة الخامسة عشرة:
لا تزُرْ من تُحِبُّ في كلِّ شهرٍ ... غيرَ يومٍ ولا تزِدْهُ عليهِ
فاجتلاءُ الهِلالِ في الشَّهرِ يومٍ ... ثمَّ لا تنظُرُ العيونُ إليهِ
فكتب إليه البهاء من نظمه:
إذا حقَّقتَ من خِلٍّ وِدادا ... فزُرهُ ولا تخف منه مَلالا
وكُّن كالشَّمسِ تطلُع كلَّ يومٍ ... ولا تكُ في زيارتِهِ هِلالا
قلت: هذا قليل، والكثير يدعو في الزِّيارة إلى التَّقليل.
وللزُّهيري:
ألا رُبَّ من تحنو عليه تلطُّفاً ... ويُعجبكَ القولُ الذي منه صادرُ
وإن تختبرْ منه طويَّته إذاً ... وناشدْتها ساءتكَ منه الضَّمائرُ
فلا تغتررْ في لينِ قولٍ وتأمننْ ... إذا لم تطب منه لديكَ المخابرُ
فما الصِّلُّ إلا ليِّنُ اللَّمسِ ظاهراً ... وباطنُه سمٌّ ومنه التَّحاذرُ
ألمَّ في هذه الأبيات بقول عبد الحق الحجازي:
ألا رُبَّ من تحنو عليه ولو ترى ... طويَّتهُ ساءتكَ منه الضَّمائرُ(1/100)
فلا تأمنن خلاًّ ولا تغتررْ به ... إذا لم تطب منه لديكَ المخابرُ
وقوله: فما الصِّلُّ إلا من قول بعض البلغاء، الدنيا كالحية ليِّنٌ مسُّها، قاتلٌ سمُّها.
ومن فصول الصاحب: مسُّ السيف ليِّن، ولكن حدُّه خشن، ومسُّ الحية ليِّنٌ ونابها أخشن.
ومن نوادر ابن الجزَري، قوله من قصيدة:
ولئنْ خبرْتَ بني الزَّمانِ وخِسَّةُ ال ... آباءِ تُنتجُ خِسَّة الأبناءِ
إيَّاكَ تركنُ منهمُ لمماذقٍ ... يُبدي الوفاءَ ولاتَ حين وفاءِ
وتجنَّبنْ من لينِ ملمسِ عطفه ... فالعضبُ يصدأُ متنهُ بالماءِ
وللحصري في هذا المعنى:
كم من خليلٍ عندي شهدهُ ... حتى بلوتُ المرَّ من أخلاقهِ
كالملحِ يُحسبُ سكَّراً في لونهِ ... ومجسِّه ويحولُ عندَ مذاقهِ
وللزُّهيري:
يا من تلبَّس في الفخارِ بلُبسهِ ... والجهلُ منه مركَّبٌ من لُبسهِ
الفضلُ عند المرءِ يكسيه سناً ... وسناؤه يكسيه رونقَ حسنهِ
لا تزدري برثيتِ خلقة ثوبهِ ... عند التنفُّسِ في الكلام لنفسهِ
من كان من نوعِ الكمالِ مُكمَّلاً ... نال الغنى من فضلهِ مع جنسهِ
وله:
يا من إليَّ قد وشى ... بنقلِ سوءٍ ولغا
مذمَّتي سمعتُها ... من الذي قد بلَّغا
في المثل: مبلِّغ السوء كباغيه.
وقيل أيضاً: " ما غاظك إلا من بلغك "، " وسبَّك من بلَّغك السَّبَّا " و " المبلِّغ أحد الشَّاتمين ".
وراوية الهجاء أحد الهاجين، والسامع للغيبة أحد المغتابين.
وله:
إنَّما القاضي لمُستثقلٌ ... في اللفظِ يا صاحِ مع المعنى
يظهرُ فيه النَّصبُ من جرِّه ... وحظُّه في السم كالمعنى
أورد هذين البيتين في شرحه على لامية ابن الوردي، عند قوله:
إنَّ للنَّقصِ والاستثقالِ في ... لفظةِ القاضي لَوَعظاً ومثلْ
أمين الدين بن هلال الصالحي أحد الشُّهود العدول، لكنه عن الخير من العدول.
فهو إن لم يكن في دين الصابي، فقد نزع بسلبه الأعراض منزع المتصابِي.
فكم حرٍّ مدحه ثم ثلبه، وكم عرضٍ كساه ثم سلبه.
فهو شاعرٌ تنمُّ أفكاره عن أسرار العيوب، وكاتب يرشحُ بمداد قلمه ذنوب الذُّنوب.
إلا أنَّ كلِمه وقلمه لم يرميا قطُّ بكلال أو ملال، وإذا كتب أو أنشأ أراك يد ابن هلال، تنقل عن فم ابن هلال.
فمن أهاجيه قوله في بعض الأدباء:
يخوضُ بعِرضٍ من غدا عارَ دهرِهِ ... ومن هو أدنَى من سجاحٍ وأكذَبُ
ومن أقعدتْهُ همَّةُ المجدِ والعُلا ... وطارتْ بهِ للخِزيِ عنقاءُ مُغرِبُ
ومن كانَ في عهدِ الحداثةِ ناقةً ... يُقادُ إلى أردَى الأنامِ ويُركبُ
وقدْ كانَ قصدِي أن أبيِّنَ وصفهُ ... ولكن إهمالُ القبائِحِ أنسَبُ
ومما ينسب إليه من المجون الذي يزري بسلافة الزَّرجون، أنه دخل على الرئيس أبي السُّعود بن الكاتب، فأنشده بديهاً:
يا من بهِ رقَّ شِعري ... وجالَ في الفِكرِ وصفُهْ
قدْ مزَّقَ الدَّهرُ شاشي ... والقصدُ شاشٌ ألفُّهْ
من هذا، وهو أحسن ما سمعت في طلب حلَّةٍ قول الشِّهاب:
حالِي يستنجِزُ الأماني ... ويطرُدُ الخُلفَ من وعودِهْ
وحلَّتي كلُّها عيونٌ ... ترنُو إلى مجدِهِ وجودِهَ
وكان بينه وبين عبد الحق الحجازي عهودٌ موثَّقة، ومودِّة كمائمها عن أذكى من الزَّهر غِبَّ القطر معتَّقة.
ثم انقطع أمين الدين، فكتب إليه يستعطفه:
طالَتِ الأشواقُ وازدادَ العَنا ... وتمادَى الهجرُ فيما بينَنَا
فامنحوا القُربَ محِبًّا مخلِصاً ... فلعلَّ القُربَ يشفي ما بِنا
ليسَ في هذا عليكُم كلفةٌ ... إنَّما نطلبُ شيئاً هيِّنَا
فراجعه بقوله:
أنا في البعدِ وفي القربِ أنا ... ليسَ في الحالينِ لي عنكُم غِنى
أفضلُ الأشياءِ عندِي حبُّكم ... وهو في وَسْطِ فؤادِي مكِّنَا(1/101)
لكنِ الأيَّامَ أشكوها لكُم ... جوْرُها قد أورَثَ الجِسمَ الضَّنى
وكان هو أحد الشُّهود بالمحكمة الكبرى، فنظر يوماً إلى قضاتها وشهودها وهو منهم، ثم قال:
قالت لنا الكُبرى أمَا ... آنَ لكُم ما توعدونْ
قضاتُنا أربعةٌ ... لكنَّهم لا يعلمونْ
شهودُنا عِدَّتهمْ ... تسعةُ رهطٍ يُفسِدونْ
والكتخُدا والتَّرجُمَا ... نُ في الجَّحيمِ خالِدونْ
وله يهجو عنَّه ولي الدين:
إذا رأيتَ وليَّ الدِّينِ مفتكِراً ... منكِّساً رأسهُ إنسانُه ساهِي
فذاكَ من أجلِ دُنيا لا لآخرةٍ ... خوفاً من الفقرِ لا خوفاً من اللهِ
عبد الكريم الطاراني كاتب قسمة، ومن اتخذ المعيشة من الموت قسمه.
وما بالك بمن يجوب فناء كلِّ حي، ويتمنى فناء كلِّ حي.
فهو طير الشُّوم، والتطير به فرخ التَّطير بالبوم.
وله نزعاتٌ في الخُلق والخَلق، هي قذًى في العين، وشجاً في الحلق.
ينعجن بطينة الإساءة، وتعمُّ في العالم منه المساءة.
فمه ممزوجٌ بصابْ، وقلمه ساطورٌ في يد قصَّاب.
فلهذا رُميَ برفضه، ومقِتَ باعتزاله ونقضه.
وهو شيخٌ من بقايا أول الزَّمان، يعدُّ فرخاً عنده نثر لقمان.
أكل الدَّهر عليه وشرب، لكن وعاه من الآداب غير سرِبْ.
وله شعرٌ ليس له في الكثرة منتَهى، إلا أنَّه أبردُ من أمردٍ لا يُشتهى.
فممَّا وصلني من مرغوبه، قوله:
أشكو إلى اللهِ من زمانٍ ... قدْ ماتَ فيهِ ذوو الصِّلاتِ
وكلُّ من كانَ ذا وفاءٍ ... مضَى إلى اللهِ بالوفاةِ
وقوله، في تضمين مثل مشهور:
هذه الدُّنيا بلاءٌ وعنَا ... وهمومٌ تُسقِمُ الجِسمَ الصَّحيحْ
أيُّ شيءٍ يبتغي منها الفَتَى ... وهي دارٌ ما عليها مُسْتريحْ
ومثله لبعضهم:
كلَّما أشكو صباباتِ الهَوَى ... لم أصادِف غيرَ ذي قلبٍ جريحْ
يشتكِي لي مثلَما أشكو لهُ ... يا لعُمرِي ما عليها مُسْتريحْ
قلت: طابُ الرَّاحة في الدُّنيا محال، وتلك دعوى دليلها على جميع الورى محال.
وقد أعي على الأخباريِّين والنَّقلة، أن يجدوا مستريحاً إلا من لا عقل له.
قال رشيد الدين الوطواط، في أمثاله: أنا أقول: من لا عقل له في المستراح موضع النَّجاسة.
ونظمه الشِّهاب في قوله:
ما يبتَغي من دهرِهِ عاقلٌ ... وما يرجِّي منهُ أهلُ الصَّلاحْ
ورزقُ دُنيانا لجهَّالِها ... وجنَّةُ الخُلدِ لبلهٍ مِراحْ
من لا لهُ عقلٌ ولا فطنةٌ ... في المثلِ المشهورِ قالوا اسْتراحْ
وإنَّما الدُّنيا لهُم منزِلٌ ... من لا لهُ عقلٌ بهِ مسْتراحْ
وقوله: وجنَّة الخلد لبلهٍ مِراح إشارة إلى الحديث، " أكثر أهل الجنَّة البُلُهْ " يريد: الأكياس في أمر الآخرة، البله في أمر الدنيا.
ويقولون في بقر الجنة: البله؛ لأنَّها لا ترمح ولا تنطح، ولضدِّهِ: بقر سقر.
وللطبراني، ويخرج منه اسم عمر بطريق التَّعمية:
أفدِي غزالاً بقلبِي ... ما زال يرشُق نبلا
وعنه ما مالَ يوماً ... للغيرِ حاشَا وكلاَّ
وعزَّ صبرِيَ لمَّا ... بالعينِ مرَّ محلَّى
وقعد إلى جانبه غلامٌ، والقمر في ليل التَّمام، فقال له: انظر البدر أمامك. فقال له: أمامِي على أيِّ حالة. فخجل لما قاله.
فأنشده بديهاً:
وذي قوامٍ رشيقٍ ... دنَا لبدرِ التَّمامِ
فقالَ والثَّغرُ منهُ ... حالٍ بحسنِ ابْتِسامِ
غدا أمامَكَ بدرٌ ... فقلتَ بدرِي أمامِي
وكتب إلى الإمام يوسف الفتحي، وقد وعده بعود:
مولايَ كمالَ بهجةِ الأيَّامِ ... قدْ أخجلَ جودُكَ الرَّبابَ الهامِي
أنعُمْ لمُحِبِّكَ الكريمِ عجلاً ... بالعودِ تفُزْ بِبَثِّ شكرِي النَّامِي
فبعث إليه بحصَّة منه، وراجعه بقوله:
يا جوهرةً يتيمةً بالشَّام ... سفَّهَتْ بها مقالةُ النَّظَّامِ(1/102)
قسمتُكَ في بقيَّةِ العودِ على ... أن ليسَ لكُم في الفضلِ من قسَّامِ
وقوله:
لا تجزعنَّ إذا نابَتْكَ نائِبةٌ ... فسوفَ تُلقَى قريرَ العينِ جزْلانَا
فالبدرُ بعد محاقِ الجِرمِ تبصرُهُ ... قدْ اكْتسى النورَ بالتَّكميل وازدانَا
وهو من قول ابن السَّاعاتي:
لا تجزعنَّ لأمرٍ سوفَ تُدرِكُهُ ... فليس في كلِّ حينٍ ينجحُ الأملُ
والبدرُ في كلِّ شهرٍ لا لمنْقَصَةٍ ... به يصيرُ هِلالاً ثم يكتملُ
محمد بن زين العابدين الجوهري هو من جوهرٍ منتقى، وما فوق مرقاته مرتقى.
وآباؤه بتجارة الجوهر مشهورون، وبكلِّ ثناءٍ في الألسنة مذكورون.
وهو لك يكن يحترف بالصِّناعة، أو يتَّجر بهذه البضاعة.
بل كان مستغنياً عن جواهر الأحجار بجواهر الكلام، ومكتفياً عن جامد العسجد والنُّضار بالذَّائب من رشحات الدُّوِيّ والأقلام.
وله أشعار نثر في أرض الذَّهب جُمانها، وأطلع من سِلك السُّطور ياقوتَها وبهرمانَها.
فمما ينسب من صِحاحِها للجوهري، ويروى من تهذيب مفرداتها عن الأزهري قوله:
باكِر رياضَ النَّيربين وماسِها ... وانظُر إلى الأزهارِ في أجناسِها
ما بينَ زنْبقَها الأنيق ووردِها ... وبديعِ نرجِسِها الغَضيضَ وآسِهَا
وترنُّمِ الأطيارِ فوقَ غُصونِها ... تروِي لطيفَ اللَّحنِ عن عبَّاسِهَا
جمعتْ كعانِي اللُّطفِ في ألحانِها ... وبيانِ منطِقها وحُسنِ جِناسِهَا
تُغنيكَ عن صوتِ المثَانِي عنْدمَا ... تشدو بِرَوْنقِها على جلاَّسِهَا
فترَى الغُصونَ لِما بِها من نشوةٍ ... تهوِي إليكَ من السُّرورِ براسِهَا
طافَ الغديرُ بِها فأثمَرَ فرْعُها ... وغدا يُخَبِّرُنا بأصلِ غِراسِهَا
وسرَتْ بها ريحُ الصَّبَا فتأرَّجَتْ ... جُلَساؤها بالطِّيبِ من أنفاسِهَا
فانهضْ نَدِيمي نصطَبِحُ في ظِلِّها ... ودَعِ المناصِبَ في الزَّمانِ لِناسِهَا
وأجِلْ لِحاظَ العينِ في أرجائِها ... واجْلِ القلوبَ الصُّدْيَ من وسواسِهَا
واسْتخلِ باللَّذاتِ بين رِياضِها ... واسْتَجْلِ بِكراً أُفرِغَتْ في كاسِهَا
عذراءُ واقَعَها المِزاجُ فأنْتَجَتْ ... أطفالَ دُرٍّ لم تُشَنْ بِنِفاسِهَا
شمسٌ تُريكَ سَناً إذا ما أُغرِبتْ ... في فيكَ أوْلتكَ القُوَى بِشماسِهَا
تَذَرُ الذَّليلَ عَزِيزَ قومٍ في الورَى ... بلطيفِ مَسْراها وشدَّةِ باسِهَا
من كفِّ مُعتدِلِ القوامِ إذا مشَى ... بينَ الغُصونِ قضَى على ميَّاسِهَا
أو ماسَ في أهلِ البَهَا ضُرِبَتْ له ... أخماسُها بالقهرِ في أسداسِهَا
ما جيدُ غِزلانِ الصَّريمِ إذا انْثَنَى ... وإذا رَنَا ما لحظُ ريمِ كِناسِهَا
للعينِ فيه تَفَكُّهٌ لكنْ إذا ... بصُرتْ بِه غابتْ جميعُ حواسِهَا
قمْ يا حبيبي لا برِحْتَ مُمَتَّعاً ... داوِ القلوبَ من السِّقامِ وآسِهَا
واسْمحْ وآنِسْ باللِّقا يا منْيَتِي ... ما زالتِ الأيَّامُ في إينَاسِهَا
وقوله:
بالَّذي أودَعَ لحظيْ ... كَ حبيبَ القلبِ حَتْفَا
وسقَانِي منْهُما ... كأساً سريعَ السُّكرِ صِرفَا
وحَبَا خَدَّكَ ورداً ... وحَبَا شكْلَك ظرْفَا
جُدْ على صَبٍّ كئِيبٍ ... ذِي أُوارٍ ليسَ يُطفَا
ولمحمد الحرفوشي من هذا الأسلوب:
بالَّذي أنشاكَ فردَا ... وكسَا خَدَّيكَ وردَا
والَّذي أعطاكَ حُسْناً ... فاتَ أهلَ الحُسنِ حَدَّا
والَّذي أوْلَى فُؤادِي ... مِنكَ إعراضاً وصَدَّا
صِلْ مُعَنًى فيكَ يقضِي اللِّ ... يْلَ تسهيداً ووَجدَا(1/103)
وهذا على أسلوب أبيات عبد المحسن الصُّوري المشهورة، وهي:
بالَّذي ألهَمَ تَعْذِي ... بِي ثناياكَ العِذابَا
والَّذي ألبَسَ خَدَّيْ ... كَ مِن الوردِ نِقابَا
والَّذي صَيَّرَ حَظِّي ... منكَ هجراً واجتِنابَا
يا غَزَالاً صادَ باللَّحْ ... ظِ فُؤادِي فأَصابَا
ما الَّذي قالَتْهُ عَيْنَا ... كَ لقلبي فأجابَا
محمد بن حسين، المعروف بابن عين الملك، بالقاق لعوبٌ بأطراف الكلام، مُفوِّقٌ لسهام الأقلام.
يستفيد من القطا فضل هداية، وهو في اللوم أضلُّ من ابن داية.
زيُّه غريب، وكلُّه أسود غربيب.
أوحش حالاً من الليل، وأكثر انفراداً من سهيل.
طالما جاب السَّباسب أردية، وخاض النَّوائب أودية.
متنقِّلاً من بقعة إلى بقعة، وطائراً من رقعة إلى رقعة.
حتى حصَّ جناحه الكبر، ووقف من سوء بخته على يقين الخبر.
هناك كرّ على وكر عشيرته وحاميته، ومعشَّش قاذفته بهُجرها وراميته.
وقد رأيته وشعره شاب، لكن شِعرَه ما شاب، وهو في الشِّعر نصيب الوقت، وحاله حاله في الإقصاء والمقت.
ومناظيمه لا تخلو من ألفاظٍ عذاب، إلا أهاجيه فإنها سوط عذاب.
وقد بلغني أشياء منها، عارضتْني لكثرة فحشها فأعرضت عنها.
وأما غيرها من لوامعه فما أوردته أوردته، وإذا استهجنتُ شيئاً إليه رددته.
فإني كفوَّارة الماء، لا أقبل إلا السَّيَّال الرقيق، وغيري كالمنخل، يمسك النُّخالة ويخرج الدقيق.
فمن شعره قوله في دولاب ماء:
ودولابِ روضٍ قد شجانا أنينُه ... وحرَّك منَّا لوعةً ضِمنَها حبُّ
ولكنَّه في بحرِ عشقٍ جهالةٍ ... يدورُ على قلبٍ وليس له قلبُ
وقوله، من قصيدة مطلعها:
سقى الخُزامَى باللَّوى والأقاحْ ... من عارضٍ أبلجَ سجْلِ النَّواحْ
حتَّى تراها وهي مُخضلَّةٌ ... تغصُّ ريَّا بالزُّلالِ القُراحْ
معاهدٌ للأنسِ كانت وهلْ ... لي وقفةٌ بين جنوبِ البطاحْ
أيَّام في قوسِ الصِّبا مَنزعٌ ... وللملاهي غدوة لا رواحْ
والظَّبيةُ الأدماءُ لي منيةٌ ... وحبَّذا مرضى العيون الصحاحْ
لم أنس يومَ الطَّلحِ إذ ودَّعتْ ... وأدمتِ القلبَ بغير الجراحْ
يا وقفةً لم يُبقِ فيها النَّوى ... إلا ظنوناً ليس فيها نجاحْ
يا قلبُ حدْ بي عن طريقِ الهوى ... ففي مناجاةِ المعالي ارتياحْ
قالرَّاحُ والراحةُ ذلُّ الفتى ... والعزُّ في شربِ ضريب اللِّقاحْ
القاضي إبراهيم الغزَّالي فتى مداعبةٍ ومجون، طبعه بالخلاعة معجون.
إذا تكلم ببنت شفة، تعدُّ من غيره سفه.
لا يستفزُّه قيلٌ ولا قال، وكل عثرةٍ منه تقال.
وله جامعيَّة بنانٍ وبيان، وهو فيها سفينة نوحٍ أو جامع سفيان.
إلا أنه كان في شعره متخلِّفاً، وعن أهل طبقته متخلفاً.
لأنه ينبو عن السهل القريب، ولا يستعمل إلا المتنافر الغريب.
وربما ندرت له أبياتٌ في مرام، فكانت كرميةٍ من غير رام.
أستغفر الله، نعم هو في هجائه، مجيدٌ ولو بازدراء حجائه، لعوبٌ حتى بيأسه ورجائه.
يطلع هزله جدًّا، ويرهف حديدته حدًّا.
فمما استخرجته من حلوه وحامضه، وصرَّحت فيه بأمر واضحه وغامضه. قوله:
يا من ملكوا جوانحي مع لبِّي ... ما اعتدتُ شكايةً فحالي يُنبي
لا زلتُ مشاهداً بحالي تلفاً ... إن كان سواكمْ ثوى في قلبي
ومن أهاجيه، قوله في إسماعيل بن جمال الدين الجُرشي:
بالله قلْ لغليظِ الطَّبعِ عنِّيَ ما ... أنكرتَه من فلانٍ كي ترى عجبا
فلم تجد غير أنِّي لم أنِكهُ لما ... قد عفتهُ منه قدماً كان ذا سببا
ولو أجشِّمه أيْري وأمنحهُ ... إياهُ ما عدَّ لي ذنباً وما رقبا
لكنَّني الآن أكوي قرحَ فقحتهِ ... بنارِ أيري وأرقى عنده الرُّتبا
أكلِّفُ النَّفس تغييراً لمذهبها ... قبلي كثيرٌ لهذا الأمرِ قد ذهبا(1/104)
لا سامحَ الله مأبوناً يكلِّفني ... لغيرِ طبعي ويبغي غاسقاً وقبا
وله في والد إسماعيل المذكور، وكان مؤذِّناً يؤذي الآذان:
إنَّ الجمالَ الجُرشي ... مثلُ المغنِّي القُرشي
يَودُّ من يسمعهُ ... لو ابتلي بالطَّرشِ
المغني القُرشي معروف بقبح الصوت، وفيه يقول المُهلَّبي:
إذا غنَّانيَ القُرشي ... دعوتُ الله بالطَّرشِ
وإن أبصرتُ طلعتهُ ... فوالَهفي على العمشِ
ولابن العميد فيه:
إذا غنَّانيَ القُرشي يوماً ... وعنَّاني برؤيتهِ وضربِهْ
وددتُ لو أنَّ أذني مثل عيني ... هناكَ وأنَّ عيني مثلُ قلبهْ
الشيء بالشيء يذكر، والمناسبة حقُّها لا ينكر.
ذكرت هنا فصلاً قلته في مغنٍّ بارد النغمة: جمعني وفلاناً المغني مجلسٌ فاستقريَّت مكرهاً، وسمعت ورأيت مكرها. فقلت: قبَّحه الله من مغنٍّ سماع صوته غمٌّ، كيف ولفظ غم في نغمه مدغم؟ فإذا أدَّى آذى، وإذا غنى عنَّى.
لا مرحباً بمغنٍّ ... طوى المسرَّةَ عنَّا
قال النَّدامى جميعاً ... لما تغنَّى تعنَّى
يا ليته ما تغنَّى ... يا ليته مات عنَّا
فما أحقُّه بقول بعض الكبراء، وقد غنى مغنٍّ فقيل له: كيف ترى؟
ويحسبُ النُّدمانُ في حلقهِ ... دجاجةً يخنقها ثعلبُ
وقيل لآخر ما قيل لهذا، فقال:
وكأنَّ جُرذانَ المحلَّةِ كلَّها ... في حلقه يقرضنَ خبزاً يابسا
غير أني اختبرته اختبار عارفٍ أريب، فرأيته في صنعة الضَّرب ماله ضريب.
فضربه أوقع من الضريب والضرب، وإن كان غناه كالضرب على الركب.
فبالجملة يستحقُّ على ضربه غناه، ويستوجب ضربه على غناه.
فمن ابتليَ به فلا يدعه يفتح فاه، إلا وهو نازلٌ بالصَّفع على قفاه.
وللغزَّالي، والبيت الأخير مضمَّن:
أضحى التصبُّرُ حبله مقطوعا ... لمَّا رأيتُ معذِّبي ممنوعا
وحديث وجدي مُسنداً ومُعنعناً ... أمسى لديه معلَّلاً موضوعا
وفقدتُ قلبي عنده وأظنُّه ... لبليَّتي قد ساء فيه صنيعا
فغدوتُ أنشدُ واللَّهيبُ بمهجتي ... والبينُ جرَّعني الأسى تجريعا
بالله يا أهلَ الهوى وبحقِّه ... لا زال قدرُكم به مرفوعا
قولوا لمن سلبَ الفؤادَ مصحَّحاً ... يمنُنْ عليَّ بردِّه مصدوعا
وله من الرباعيات:
القلبُ إلى سواكمُ ما مالا ... والدَّمعُ لغيرِ بعدكمْ ما سالا
إن كان حسودنا أتاكمْ ووشى ... بالله بِلُطفكمْ دعوا ما قالا
القاضي عمر الدُّويكي هو في الفلك، منوِّر الحلك.
بمرأى يشفُّ أحسن الشُّفوف، حلية لحيته كالقطن المندوف.
وقد أُلبست المهابة إهابه، فلو رآه الأسد الوارد في غابه لهابه.
وقد كحلتني الأيام بطلعته، فوقفت على صبغته وصفته.
ورأيت شخصاً مروَّق الشِّيم، تنفح أخلاقه عن الزَّهر بعد الدِّيَم.
وله أشعار نظمها دراريَّ في أسلاك، وأطلع منها كواكب سابحةً في أفلاك.
فمنها قوله من قصيدةٍ، مطلعها:
جازتْ عليَّ تهزُّ في أردانِ ... هيفاءَ رمحُ قوامها أرداني
تُركيَّة الألحاظِ لمَّا أن رنتْ ... نحوي بصارمِ ناعسٍ أصماني
غرْثى الوشاحِ ترنَّحتْ أعطافُها ... من ذا الذي عن حُبها ينهاني
في خدِّها الورديِّ نارٌ أضرمتْ ... فعجبتُ للجنَّاتِ في النِّيرانِ
لما انثنتْ تختالُ في حللِ البَها ... سجدتْ لقامتها غصونُ البانِ
جارتْ على ضَعفي بعادلِ قدِّها ... عجباً فهل ضدَّانِ يجتمعانِ
لولا جعيدَ الشَّعرِ مع فرقٍ لها ... ما كان لي ليلٌ وصبحٌ ثانِي
قسماً بطلعتها ولفتةِ جِيدها ... وبثغرها وبقدِّها الرَّيانِ
وبنونِ حاجبها وروضةِ خدِّها ... وبلطفها وبحسنها الفتَّانِ
لم أنسَها لما أتتْ بملابسٍ ... قد طرِّزتْ بمحاسنِ الإحسانِ(1/105)
وافتْ وثوبُ اللَّيلِ أسبل سترهُ ... حتى غدا كالثَّوبِ للعريانِ
هذا التشبيه عارٍ من لطف المعنى، وما أحقُّه أن يشبَّه بتشبيه الماء بالماء.
فضَممتُها ورشفتُ بردَ الثَّغرِ كي ... أُطفي بذلك حرقةَ الأشجانِ
باتتْ تعاطيني كؤوسَ حديثها ... وتُشَنِّفُ الأسماعَ بالألحانِ
بتنا على رغمِ الحسودِ بغبطةٍ ... وبفرحةٍ ومسرَّةٍ وأمانِ
حتَّى دنا الفجرُ المنيرُ فراعني ... شيبٌ برأسِ اللَّيلِ نحوي دانِ
قلت: هذا شعر دعاني إلى إيراده صدق العهد، والعناية بالود الذي هو خلقي من حين لفظني المهد.
أبو بكر، المعروف بغصين البان ما لقِّب بالغصين إلا لنضرة نمائه، ورقَّة طبعه الذي يكاد يقطر من كثرة مائه.
وهو المعنيُّ بكثرة الموشَّحات، التي يتغنَّى بها في كل حضرة، والمطلع منها ما يستغني به مشاهدة الشكل الحسن عن الماء والخضرة.
وليس يحضرني من شعره إلا ما تراه، وتتمايل به طرباً كالغصن يتمايل للصَّبا عند مسراه.
فمن ذلك قوله، ويخرج منه اسم داود بطريق التعمية:
رنا فأثبتَ سهماً من لواحِظهِ ... في مُهجتي ذو قوامٍ يافعٍ نضرِ
وراحَ يسحبُ ذيلَ العجبِ مُلتفتاً ... في تيههِ ومضى والقلبُ في خطرِ
وقوله في اسم رمضان:
وشادنٍ من بني الأتراكِ مُعتدلٍ ... وافى وفِي وجههِ خالٌ لمن رَمقا
له عِذارٌ بنارِ الخدِّ مُمتزِجٌ ... قد هِمتُ فيه ولا عارٌ لمن عشِقا
عمر بن محمد، المعروف بابن الصُّغَيِّر خليفة أبي بكر العمري وحليفه، وزميله في التَّعارض بالقريض وأليفه.
ومن اغترف من محلِّ غرفه، وهبّ عاطر الأنفاس بعرفه.
والنَّسيم يطيب إذا مرَّ بروضٍ أنضر، ومن صحب العطار لا يخلو من أن يتعطَّر.
وهو في الشعر مكثر مجيد، ومحلِّي نحرٍ للأدب وجيد.
إلا أنه أعربت محاسنه عن ناطقٍ مُعرِب، وطارت بأغلب أشعاره عنقاء مُغرب.
فمما بلغني من شعره. قوله معمِّياً باسم خالد:
مذْ رقَّ ماءٌ للجمالِ بوجنةٍ ... كالوردِ في الأغصانِ كلَّلهُ النَّدى
وتمثَّلتْ أهدابنا فيه فظنُّ ... وهُ والعذارَ ولا عذارَ به بدا
وهذا المعنى متداول من قول بعضهم:
أعِدْ نظراً فما في الخدِّ نبتٌ ... حماهُ الله من ريبِ المنونِ
ولكن رقَّ ماءُ الحسنِ حتَّى ... أراكَ خيالَ أهدابِ الجفونِ
وزاد الأمير المنجكي، وأحسن في قوله:
لمَّا صفتْ مرآةُ وجهكَ أيقنتْ ... أهوايَ أنِّي عُدتُ فيه خَيالا
فحسبتُ أهدابي بخدِّكَ عارضاً ... وظننتُ إنساني بخدِّكَ خَالا
وللمترجم، ويخرج منه اسم علوان:
فديتُ حبيباً زارني بعد صدِّه ... ومن ريقهَ واللَّحظِِ حيَّى بقرْقَفِ
سقاني ثلاثاً يا خليلي وإنَّها ... شفاءٌ لذي سُقمٍ وراحةُ مُدنفِ
وله، ويخرج منه اسم سليمان:
رأى عاذلي مُنيتي ري في ... إزارٍ فحيَّد عن نَهجها
وقد لام في مثلِ عشقي لها ... وما شاهدَ الخالَ في وجهها
ومما نسبه البديعي إليه، وأظنُّه مغصوباً عليه، قوله:
أفدي الذي دخلَ الحمَّامَ مُتَّزراُ ... بأسودٍ وبليلِ الشَّعرِ مُلتحفا
دقُّوا بطاساتهمْ لمَّا رأوهُ بدا ... توهُّماً أنَّ بدرَ التمِّ قد كُسفا
وهذا تخيل حسن، أجاد فيه وأحسن.
وأصله ما اشتهر في بلاد العجم أن القمر إذا خسف يضربون على النُّحاس، حتى يرتفع الصَّوت زاعمين بذلك أنه يكون سبباً لجلاء الخسوف، وظهور الضوء، هكذا قاله بعض الأدباء.
والذي ثبت في أصله ما نقله غير واحدٍ، أن هُلاكو ملك التتار، لما قبض على النصير الطوسي، وأمر بقتله لإخباره ببعض المغيَّبات.
فقال له النَّصير: في الليلة الفلانية في الوقت الفلاني يخسف القمر.
فقال هُلاكو: احبسوه، إن صدق أطلقناه وأحسنَّا إليه، وإن كذب قتلناه.
فحبس إلى الليلة المذكورة، فخسف القمر خسوفاً بالغاً.
واتفق أن هُلاكو غلب عليه السُّكر تلك الليلة، فنام، ولم يجسر أحد على إنباهه.(1/106)
فقيل للنصير ذلك. فقال: إن لم ير القمر بعينيه، وإلا فأصبح مقتولاً لا محالة.
وفكر ساعةً، ثم قال للمغل: دقُّوا على الطاسات، وإلا يذهب قمركم إلى يوم القيامة.
فشرع كلُّ واحدٍ يدقُّ على طاسته، فعظمت الغوغاء، فانتبه هُلاكو بهذه الحيلة، ورأى القمر قد خسف، فصدقه، وبقي ذلك إلى يومنا.
ومن اللطائف أن أديباً من العجم، وقد خفي عني اسمه واستعجم.
كان صحبته أميرٌ كبير، في روضٍ يتفتَّق عن عبير.
وبه بركة ما، أصفى من ريقة ألمى.
يحفُّها طائفةٌ من الغلمان، هذبت باللطف طباعها، وتركت بحكم صورها الجميلة في الأجسام الصقيلة انطباعها.
وفيهم فتًى زائد الاشتهار، كالبدر إلا أنه يبقى على ضوء النهار.
فحيَّاهما بجامه، ووقف يثير شَجوَها برقَّته وانسجامه.
والبركة قد انعكست فيها تلك الصور الظَّواهر، فتخالها نجوماً وهو بينها القمر الزاهر.
فخامرت الأديب من خياله سورة، وتخيل أن البدر يهديه نوره.
ففطن الأمير للأمر الذي وضح، وحرك الماء بقضيبٍ فانمحى الخيال الذي فضح.
فدقَّ ذلك الأديب على طاسٍ حتى روى غلَّة الصدر، فسأله الأمير عن سرِّ ذلك، فقال: هذه عادتنا إذا خسف البدر.
وأبدع من ذلك وأطرب، ما حكاه العمري شيخ الأدب.
أنه كان بدمشق في بيت قهوة، مُقيماً لرسم حظٍّ ونشوة.
وإلى جانبه أديبٌ يأنس الفكر بآدابه، ويتعلق الظَّرف بأهدابه.
وبينهما حديثٌ يفاوح زهر الربى، ويطارح نغم حمام الأيك مطرباً.
إذا ببدرٍ حسن فارق فلكه، وسقط لا يدري أيَّ مسلكٍ سلكه.
حتى إذا دنا منهما وقف واستوقف، واختلس الألباب جذباً إليه وما توقف.
فطفقا يسرحان في محاسنه المعابي ويجيلان الألفاظ، وبحكم الهوى يمدان الأيدي ويشيران بالألحاظ.
فما رددا وجهاً ولا عطفا، ولا جنيا ورداً بالَّلحظ ولا قطفا.
حتى غشيهما شخصٌ مهول المنظر في ذاته، إذا رأى الطَّرف شخصه، أحال الله بينه وبين لذَّاته.
فحال بينهما وبين ذلك البدر التمام، وحجبه عنهما كما يحجب البدر الغمام.
فقال ذلك النديم: هذا خسوف عسى الله يُؤذن بزواله، ونسأله أن يدفع عنا عقبى مصائبه وأهواله.
ثم نظر إلى ذلك الشخص وقد كشف رأسه، فإذا هو أقرع كأنما رأسه طاسه.
فقال العمري: الآن تم التخيُّل من كل جهة.
ثم أخذ القلم، وكتب على البديهة.
حبس البدرُ أقرعٌ عن عيوني ... فغدا الطَّرفُ خاسئاً مطروفا
فتناولتُ رأسهُ لِصفاعٍ ... بنعالي، وصنتُ عنه الكُفوفا
قال لي اللاَّئمونَ كُفَّ فنا ... ديتُ دعوني وأقصروا التعنيفا
عادةُ البدرِ ينجلي ليلةَ ال ... خسفِ بدقِّ النُّحاس دقاًّ عنيفا
وتراءيتْ طاسةٌ فجعلتُ الصَّ ... فعَ دقاًّ فكان عذراً لطيفا
أحمد بن محمد الصفدي، إمام الدَّرويشيَّة صفد، وإن كانت صدف هذه الدُّرة، فقد طلعت في جهة دمشق منها غرة، وأحسن بها من غرة.
وبالتنقل ترتقي ذوات الأصداف إلى الأعناق، ويعلو تراب الأحجار إلى نور الأحداق.
وهذا الأديب ممن صحبته دهراً، واختبرت خلائقه سرأ وجهراً.
فلم أر مثله رجلاً مأمون الصحبة، ميمون النفس والمحبة.
حلمه هضبةٌ لا تستخفُّها الخدع، وعلمه علامةٌ لا تستفزُّها البدع.
إن هززته لمكرمة ارجحنَّ، أو ذكَّرته بحسن عهدٍ حنّ.
فكنت أتوارد معه على مفاكهة إذا جليت فما الرَّاح والتُّفاح، وإذا ذكرت فما ريحان الأصداغ إذا فاح.
وهو من مكثري شعراء العصر ومجيديهم، وإن لم يكن من مكثريهم بالعوائد ومجتديهم.
ليس لأحدٍ منهم عشر شعره، إلا أنه منفقٌ منه على قدر سعره.
وقد أطلعني على ديوانه المنتخب، الذي ضمنه نخب النخب.
فجردت منه ما يعبق عبقة المسك الفتيت، ويفوه عن ثغرٍ ألمى معسول الرُّضاب شتيب.
فمنه قوله، في الغزل:
راح يثني عِطفه مرحا ... أيُّ صبٍّ من هواه صحا
مفردٌ في الحسنِ ليس له ... من شبيهٍ فاق شمسَ ضُحى
ينجلي في ليلِ طُرَّته ... منه مسكُ الخال قد نفحا
خدَّه وردٌ ومقلتُه ... نرجسٌ يسقي النُّهى قدحَا
مهجتي في حبِّه تَلِفتْ ... واصطباري في الهوى نزحا(1/107)
ما رأينا مثله قمراً ... بالبَها يختال متَّشِحا
قام يسقي الراح من يده ... ضاحكاً مستبشراً فرِحا
لو له بدرُ السما لمَحا ... في ليالي تِمِّه لمحا
كلما أشكو له ترحاً ... في هواه زادني ترحا
هذه روحي به ذهبتْ ... صَبوةً والدمعُ قد سفَحَا
وعيونِي النومُ حارَبَهَا ... بعد هِجرانٍ وما اصْطلحَا
واتَّفق له بعد ما أسنّ، أنه خلع الرَّسن، وأزاح عن جفنه الوسن.
فعشق غلاماً يدعى بربَاح هام به هيمان الوليد، وثبت ثبات الحجر الصَّليد.
فشاع فيه تولُّهُه، وما أقْصر حبُّه عن تنزُّهُه.
وقد علم أن الإذاعة، أول طبقات الإضاعة.
ولما ثار عدوه، ولم يصف رواحه وغدوُّه.
أقلع عن صبوته، واحتبى من التخلٍّي بحبوته.
واتَّخذ الفراغ سميرا، ولم يشف للسَّلوة ضميرا.
فما قاله في أيام لهوه، يتشاغل به عن فراغه وسهوه:
راق وقتُ نعِمْتَ صباحَا ... فأدِر لي من خمرِ عينيك راحَا
عاطِنيها سُلافةً من حديثٍ ... تُطرِب السمعَ في الرِّياض انْشِراحَا
وأعِد لي حديثَ كلِّ حديثٍ ... ذاك لا شكَّ يُنعش الأرواحَا
صاحِ طابَ الزَّمانُ فاجْنِ جنَى الْور ... دِ من الشَّادِن الأغنٍّ مِزاحَا
واترُكِ الشغلَ واشتغلْ بحبيبٍ ... علَّ تلقى من الزَّمان رَباحَا
وكتبت إليه أيام ارتباطه، ونشاطه بالصَّبوة واغتباطه.
وقد شلني ما شغله، ورأيت الرَّأي في أن أنصاع له: مولاي الأعلى، وسندِي الأغلى.
قد رُميت بسهمٍ أنت به مُصاب، وشربتُ بكأسٍ أنت بها متجرِّع صاب.
ولم أدرِ كيف فرَّطت، ولا في أي حتفٍ تورَّطت.
غير أن المقدور كائن، والحين لا شكَّ حائن.
وسبب ذلك لمحة، أعقبت محنةً في محنة.
من قمرٍ بزغ من فلك المربَّع، لم يزد على العشر غير أربع.
لو نظرَ الوجهَ منه منهزِمٌ ... يتبعُه ألفُ فارسٍ وقفَا
شدَّ بند نطاقه، فحلَّ عزائم عشَّاقه.
يحسد القلب طرفه إذا لمحه بناظره، ويكاتم سرَّه حتى ليَصونه عن أن يمُرَّ بخاطره.
وإذا أهدى السلام لسليمه، ولَّى بلبِّه عن تسليمه.
فعندما لمحته، استلمحته.
وأنشدت:
ولم أنسَ لا أُنسِيتَ وقْفةَ حائرٍ ... نشدْتُ بها ما ضلَّ من شارِد الحبِّ
رميتُ بعيني رَميةً سمحتْ به ... فلم أثنِها إلا ومجروحُها قلبِي
سجيَّةُ خاطِر، في التعرُّض مخاطِر.
ولم أعرف له مكانا، ولا ظننتُ له إمكانا.
حتى لقيتُه عندك مائلا، ولبدر أُفقِك مماثلا.
فقلت ههنا تسكَب العبرات، وتُنال على ما يُرضي الربَّ المبرَّات.
ووعدتَ باجتماع ثانيا، ولم أعهدكَ في أمري وانِيا.
فقلت عسى يلاحظ سعد، فيستنجز وعد.
ويعدِل زمان، فيُؤخذ أمان.
وقد زادت العلَّة، ولم تنفع الغُلَّة.
فما بالك تمطِل مع الغنى، وتُحوِج طامع، ومرائي راءٍ، ومُستمَع سامِع.
أيحنُّ سيِّدي من فرطة لسان، ومذمَّة إنسان.
وهو المشهود بديانته، المحامي على عفَّته وصيانته.
وإن تورَّط متورِّط، ورمى بنفسه مفرِّط.
فيوشك أن ترميه جهنم بشرارها، وأن ترجمه الملائكة بأحجارها.
وأما أنا فلي معك حالٌ ما حال، وطُروق السُّلُوِّ إليه أمرٌ محال.
فأنا حافظ ولائك، الشاكر لآلائك.
فتجدني حيث تنجدني، وتعهدني على أبَرِّ ما تعتقدني.
ومن غزلياته التي جرَّدتها من شعره، قوله من قصيدة، أولها.
تذكَّر للأحباب رَبْعاً ومعهدَا ... أسيرُ غرامٍ قد أقام وأقعدَا
واطلق سُحْبَ الدمع من مُقلةٍ غدتْ ... قريحةَ جَفنٍ دمعُها تنضَّدَا
أيرجو حياةً بعد بُعدِ أحبَّةٍ ... وأنَّى بها والهجرُ أورده الرَّدَى
يهيم اشتياقاً للحبيب فلا يرى ... سوى من أطالَ اللَّومَ فيه وفنَّدَا
أما رحمةٌ للمستهامِ من الذي ... عَذابي بع عذبٌ وقتْلي تعمَّدَا
غزالٌ غزَا قلبي بنُبلِ لِحاظِه ... وأضرم أحشائي بهجرٍ توقَّدَا(1/108)
نأى والأماني طامعاتٌ لقُربِه ... ولم ألقَ يوماً للأمانيِّ منْجِدَا
أطالَ سَقامِي بالفؤادِ صُدودُه ... ومقلتُه ترمي الجريح مدَى المَدَى
جميلُ المحيَّا يُخجِل البدرَ وجهُه ... وبالحسنِ ما بين الأنامِ تفرَّدَا
يُّحجِّب عني الطيفَ كيمَا يزورني ... وكيف يزور الطَّيفُ شخصاً مُسَهَّدَا
رعى اللهُ هاتيكَ اللطافةَ والبَهَا ... وحيَّى محيَّا جيشَ صبرِيَ شرَّدَا
رشاً صاد بالأصداغِ قلبَ متيَّمٍ ... وأورده بحرَ الهوان وأجْهَدَا
فمن مُسعِدي ممن هواه بمُهْجتي ... ألمَّ وأبْدَى الفتْكَ فيَّ إذ بدَا
بديعُ صفاتِ الحسنِ أحورُ طرفُه ... يُرينا إذا ما صال سيفاً مُهنَّدَا
بروحيَ أفدِي من أنا اليوم عبدُه ... وأنَّى لروحي أن تكون له الفِدَا
وقوله من أخرى، أولها:
أمِطِ اللِّثامَ عن الجبينِ المُزهرِ ... واسْفُرْ عن الوجهِ الأغرِّ المُقْمِرِ
وامْنحْ عيوني نظرةً أحيَى بها ... فلقد فقدتُ تجلُّدِي وتصبُّرِي
عجباً لقلبي كم يُقاسِي ذِلَّةً ... والذلُّ لَذَّ له بغير تضجُّرِ
وعلى مَ هذا الجسم يحمل للأذى ... وغدَا نحيلاً لا يُرى بالمنظرِ
حسُنتْ شمائلُك الجميلةُ كلُّها ... وبدا لعيني منك ما لم يُنْكَرِ
سرقتْ غصونُ البانِ منك تمايلاً ... فلذاكَ قد قُطِعتْ وحُقَّ لِمُفترِي
يا فائق الحورِ الحسان بوجهِه ... وجمالِ عُرَّتِه المَصونِ المُبهِرِ
قسماً بوجهك وهو شمسٌ أشرقتْ ... وبما بفيكَ من الرُّضابِ المُسكِرِ
لا حلْتُ عن مُرِّ الهوى ما دمتَ في ... قَيدِ الحياةِ ولو بُعثْتُ لمحْشرِ
وقوله من أخرى، مستهلها:
صاد قلبي بلحظهِ قمرُ ... في محيَّاه حارتِ الفكرُ
غصنُ بانٍ يزينه مَيسٌ ... ما لِذي الُّلبِّ عنه مصطبرُ
إن تثنَّى بلين قامته ... خِلْتَ منَّا القلوبَ تنفطرُ
ذو دلالٍ يُريك منطقه اللِّي ... نَ لكنَّ قلبه حجرُ
يتهادى بتيهِ مشيتهِ ... رافِلاً بالجمال يستترُ
بهجةٌ تُدهشُ المحبَّ عن التِّي ... هِ فيها ويحجبُ البصرُ
ظبْيُ إنسٍ لثغره أرجٌ ... طيِّبُ النَّشرِ عرفهُ عَطِرُ
فوَّق السهمَ من لواحظه ... لفؤادي فأمرهُ خطرُ
لا حياةٌ لعاشقيه ولا ... جبرُ قلبٍ لديه ينتظرُ
تنقضي مدَّةُ الحياةِ ولا ... لمحبِّيه ينقضي وطرُ
ملكٌ جائرٌ بدولته ... قد سطا من جفونه الحذرُ
سمهريُّ القوامِ ذو غَيَدٍ ... أدعجُ اللحظِ زانه الحوَرُ
فائقُ الحسنِ لا نظير له ... ورد خدَّيه باهرٌ نضرُ
ذو جمالٍ يجلُّ عن شَبَهٍ ... في معانيه يرتع النظرُ
كلُّ وقتٍ أذوب فيه جوًى ... آهِ ذاك القضاءُ والقدرُ
ليت شعري أراه يُنعشنِي ... بلقاهُ ويحسن السَّمرُ
وكتب إليَّ وأنا بالروم، في صدر رسالة قوله:
من لصبٍّ أودى به الإحتراقُ ... وبأحشائه أضرَّ الفِراقُ
جعلته يدُ الغرامِ أسيراً ... دمعُه من عيونه دفَّاقُ
يا لقومي قد صاد قلبي غزالٌ ... من بني التُّركِ بندُه خفَّاقُ
سمهريُّ القوامِ فاترُ لحظٍ ... أيُّ قلبٍ إليه ليس يساقُ
قام يسطو بمقلةٍ في البرايا ... والبرايا لحسنه عشَّاقُ
حبُّه حلَّ في الفؤاد كحبِّي ... لكريمٍ نواله دفَّاقُ
سيدٌ ساد بالكمال قديماً ... ليس تُحصى صفاته الأوراقُ
عالمٌ فاضلٌ إمامٌ همامٌ ... بحرُ علمٍ جادت له الأخلاقُ(1/109)
واحدُ الدهرِ في المعالي فريدٌ ... ماجدٌ في مقالهِ مصداقُ
إن قلبي ومهجتي وفؤادي ... وجميعي لذاته أشواقُ
دام في المجدِ راقياً لمعالٍ ... ما تعالت شمسٌ لها إشراقُ
فكتبت إليه جواباً، وصدَّرته بقولي:
كيف تُنبي عن شوقيَ الأوراقُ ... وهي مثلي جميعها أشواقُ
ضاق عن حصر ما نلاقي نطاقُ ال ... وُسعِ فيمن فراقه لا يطاقُ
روضُ فضلٍ ألفاظه زاهراتٌ ... بعثتْ طيبَ عرفها الأخلاقُ
فسقى عهدَ ودِّه الخصيبَ رق ... راقُ الغوادي ودمعي الدفَّاقُ
حيث كنَّا وللزمانِ انعطافٌ ... وائتلافٌ ما بيننا واعتلاقُ
وبدورٍ كواملٍ ليس إلا ... في الخصورِ الرِّقاقِ منها محاقُ
أشرقتني بالدمعِ مذ غرَّبتني ... لا لأمرٍ بل شأنها الإشراقُ
يا رفيقي ولا أقول رفيقي ... لسِوى من طباعُه الإرفاقُ
كن نصيري على البعادِ فحسبي ... منه مالا تقوى له العشَّاقُ
فلأنتَ المعينُ إن عنَّ خطبٌ ... وإليك الحديثُ منه يساقُ
وابقَ واسلمْ ما حنَّ إلفٌ لإلفٍ ... ودنا نحوَ حبِّه مشتاقُ
وكنت وأنا بالروم وردَها، فأنشدته قصيدة مدحت بها الشريف أحمد بن زيد، مطلعها:
يجوبُ الأرضَ من طلب الكمالا ... ومن صحب القَنا بلغ السُّؤالا
فعارضها بقصيدة في مدح الشريف المذكور، وأنشدنيها، فلم يعلق في خاطري منها إلا قوله، في غزلها:
تسربَل من مهابتِه جلالا ... وأشرق وجهُه الباهي جمالا
وأصبح رافلاً في لا زوردٍ ... يتيه على محبِّيه دلالا
وماس بقامة غصناً رطيباً ... وأرسل من لواحظهِ نبالا
رقيقُ الخصر ذو طرفٍ كحيلٍ ... لعمرُ أبيك يأبى الإكتحالا
جَنيُّ الورد في خدَّيه أضحى ... وحارسُه النَّجاشي صار خالا
ترقرق فيه ماءُ الحسن حتى ... ترى ناسُوتَه ماءً زُلالا
وأنشدني قوله:
إذا عانقتُ من أهواهُ يوماً ... وكان القصدُ تقبيلاً بفيهِ
ملكتُ عنانَ نفسي عن هواها ... وإن تكُ كلَّ وقتٍ تشتهيهِ
ولما مات، قلت أرثيه:
لهفي على الصَّفديِّ فردُ الدهرِ من ... لعُلاه كفُّ المكرُمات تشيرُ
طودُ الفضائلِ دكَّه حكم القضا ... فالأرضُ من أقصى التُّخوم تمورُ
فانظر تجد عجباً وقد ساروا به ... جبلاً غدا فوق الرجالِ يسيرُ
هذا المعنى مما تداولته الشعراء، ولكن لم يقصدوا ما قصدته من الإشارة لعظم الجثة فإنَّ قصدهم ليس إلا التوصيف بالحلم.
فمنهم المتنبي في قوله:
ما كنتُ آمل قبل نعشِكَ أن أرى ... رضوَى على أيدي الرجال يسيرُ
وابن المعتز في قوله:
قد ذهب الناسُ ومات الكمالْ ... وصاح صرفُ الدهر أين الرِّجالْ
هذا أبو العباس في نعشه ... قوموا انظروا كيف تسيرُ الجبالْ
وأصله قول النابغة الذبياني:
يقولون حصنٌ ثم تأبَى نفوسُهم ... فكيف بحصنٍ والجبالٌ جنوحُ
وقد أبدع الشهاب في قوله:
قيامةٌ قامتْ بموتِ الذي ... بِموتِه ماتَ النَّدى والكمالْ
فإن شَككْتُم فانظروا نعشَه ... وشاهدوا كيف تسير الجبالْ
زين الدين بن أحمد البُصرَوِي هو لِذات الأدب زين، وبه ينجلي عن القلب كلُّ رَين.
وكان صحيبي من منذ سنين، ولا أعدُّه في العِشرة إلا من المحسنين.
مثابتُه عندي مثابَة الروض العاطر، ومحلُّه من وُدِّي محلُّ القلب والخاطر.
أذكره فأرتاح ارتياحة القضُب المُلْد، وأتذكَّره فأشتاق إلى النعيم وجنَّة الخلد.
وهو من لُطف الذات، وشفوف الخِصال المستلذَّات.
ممن تتحاسد عليه الأسماع والعيون، ويُشترى يوم وصلِه بنومِ الجفون.
وقد فقدتُه أولاً فقْدَ غُربة، ثم غيَّبتْه الغُربة غيبة تُربة.(1/110)
فانقطعتْ عني بموته إمدادات المواد والمَوات، وهيهات هيهات أن يُتدارك ذلك الفوات.
فرحم الله تلك الروح اللطيفة، ولا برحت سحائب الغفران بقبره مُطيفة.
فممَّا بلغني من شعره، ما كتبه إلى شيخنا المرحوم إبراهيم الخِياري المدني، وقد أهدى إليه فُسْتقا:
لما تركتُ القلبَ عندكُم ... وغدوتُ مشغوفاً بكم صَبَّا
وخشِيتُ أن تخفَى مكانتُه ... صيَّرتُ ما يُهْدَى لكم قلبَا
فأجابه بقوله:
لما علِمتَ القلبَ عندكُم ... أهديتَ لي من لُطفِك القلبَا
أكْرِم به من زائرٍ وافَى ... أطْفَا اللَّهيبَ ورنَّح الصَّبَّا
ومنزع البصروي ما كتبه جدِّي العلامة القاضي مُحب الدين، إلى الأستاذ محمد البكري، وقد أهداه شيئاً من قلب الفستق:
لما تملَّك قلبي حبُّكم فغدا ... مُجرِّداً منه قلباً رقَّ واستَعْرا
حرَّرتُه فغدا طوعاً لخدمتِكمْ ... مُحرَّراً خادماً وافاك مُعتذِرَا
فعامِلوه بِجَبْرِ حيث جاءكُم ... مجرَّداً بمزيدِ الحبِّ منكسِرَا
يقبِّل اليد الشريفة، ويلثم الراحة اللطيفة.
ويُنهي إلى الحضرة عظَّم الله شأنها، وصانها عمَّا شانها.
أنه أهديَ ما يناسب إهداؤه لأرباب القلوب، ويلائم إرساله لأصحاب الغيوب.
فقدَّم العبدُ رجلاً وأخَّر أخرى، في أن يُهديَ لجنابكم الشريف منه قَدْرا.
علماً بأنه شيءٌ حقير، لا يوازي مقامكم الخطير، وقد توارى بالحجاب، حيث وافاكم وهو حسير.
وما مَثَل من يُهدي مثلَه إلى ذلك الجَناب، إلا كالبحر يُمطِره السَّحاب.
ثم إنه تهجَّم بإهداء هذا القدر اليسير، فإن وقع في حيِّز القبول انجبَر القلب الكسير.
وكتب البصروي إلى الخياري أيضاً:
يا نسيماً من ربوةِ الشام سارِ ... عُجْ على طَيْبَةٍ أجلِّ الديار
وتحمَّل منِّي سلامَ مَشوقٍ ... لحبيب المهيمنِ المختارِ
ولأصحابِه الكِرامِ أُولِي المجْ ... دِ خصوصاً أمينهِ في الغارِ
ولِقوْمٍ قد خيَّموا في ذَراهُ ... قد حباهُم مولاهُم بالجِوارِ
سِيَّما الأروَعُ المهذَّب من حا ... زَ كمالاً ما إن له من مُجارِ
فرْعُ دَوْحِ العُلى وأصلُ المعالي ... نَجْلُ شيخِ الورى الأجَلَّ الخِيارِي
زُرْهُ تُبصِر لديه كلَّ جليلٍ ... من علومٍ ورائقِ الأشعارِ
وحديثٍ ألذَّ من نظرةِ المعْ ... شوقِ وافَى في غفْلةِ السُّمَّارِ
وسجايَا كَنكْهِ المِسْك والنَّد ... م ووردِ الرياض غِبَّ القِطارِ
وكتب إليه أيضاً في صدر كتاب:
يُقبِّلُ الأرضَ حَماها الذي ... ألْثَمها أفواهَ أهلِ العُلى
عبدٌ إذا كاتبْتَه ثانيا ... يزْداد رِقًّا لكم أَوْ وَلا
هكذا نسبهما إليه الخياري في رحلته، وهما للبدر الغزِّي، تمثَّل بهما، وقد راجعه عنهما بقوله:
يا أيُّها المولى الذي ربُّه ... خَوَّله من مَنِّه الأفضَلا
كاتبْتَ عبداً ذا وفاءٍ لكمْ ... ما اختارَ تحريراً ولا أمَّلا
أقرَّ بالرِّقِّ لكم أوَّلاً ... والآن إذْ كاتبْته بالوَلا
وأنشدني من لفظه لنفسه، ويخرج منه اسم سليم، بطريق التَّعمية:
ولائِمٍ لامَ على ... ترْكِي طِلاً كالعندَمِ
فقلتُ حسبِي قهوةٌ ... لي في الثَّنايا والفَمِ
وقد تعارض مع بعض المتأخِّرين في هذا العمل، في قوله:
إذا عدم السَّاقي الشَّرابَ ولم يجدْ ... شرباً به قلبِي يطيبُ ويطرَبُ
فبيت ثناياهُ ومبسَمِهِنَّ لي ... شرابٌ من القَطرِ المُذابِ وأعذَبُ
وخاطبته في بعض قدماته من سفر:
قُدومُك زينَ الدين يا خيرَ قادِمٍ ... به ابْتهَج النادِي وضاءتْ قِبابُهُ
فلا موطِنٌ إلا احْتوتْه مسرَّةٌ ... ولا كَمَدٌ إلا وأُغلِق بابُهُ
أحمد بن يحيى الأكرمي الصالحي سيخٌ هرِم، يحدِّث عن سيل العَرِم.(1/111)
مناجاته كلُّها سكَّرٌ وأرْي، وفكاهاته ملؤها شبع ورِيّ.
وقد عبثت به يد اللأْواء، فصيَّرته طوع مقتضيات الأهواء.
فحاله أضيق من فم الحبيب، وأشدُّ غصَّةً من يأس الطبيب.
إلا أنه وإن أرهقه الدهر بصرفه، ونبَا به كأنه سهادٌ في طَرفه.
فصفحته يُغشي العيون ائتلاقُها، وشيمته ما غير المكارم اعتلاقها.
وله شعر جاش به خاطره، فجاء كزهر الرياض فاح عاطره.
فمنه قوله:
ثنيْتُ عِنانيَ من فتيةٍ ... يرونَ من العارِ علْمي وكُتْبي
وكانُوا صِحابِي على زَعْمهمْ ... وكلُّهم قد تهيَّا لحرْبِي
فأعرضتُ عنهم لهم قالِيا ... ولم آلُ جُهداً بشتمٍ وسَبِّ
وإذْ ذاكَ لو هتفوا بي هَلُمَّ ... لما كنتُ يا صاحِ ممَّن يُلَبِّي
وقوله:
لأقول لأهيفٍ أضْحى بقلبي ... مُقيماً باختيارٍ وانْقيادِ
أيَا حُلوَ اللَّمى واصِل مُحِبًّا ... ولا تقصِد مُحِبَّك بالبعادِ
وبرِّدْ غُلَّتي بالوصلِ إني ... أخاف عليك من حَرِّ الفؤادِ
وقوله:
سقياً لموقفِنا العشيَّةَ بالحِمَى ... نشكو الغرام ولفظُنا الألحاظُ
وعواذلي لما تشابَه أمرُنا ... هجَعوا أسًى لكنهم أيْقاظُ
فكأنَّنا المعنى المُرادُ لطافةً ... وكأنَّهم في ضِمْنِها ألفاظُ
وله من قصيدة، مطلعها:
لك لا لغيرِك في البريَّة أعشقُ ... يا مَن به ثوبُ الحشَا يتمزَّقُ
يا مخجلَ القمرِ المنيرِ وفاضح الظَّ ... بي الغريرِ لك الجمالُ المشرقُ
إني أضعتُ جميعَ عمري رغبةً ... في أن يرى لي من ودادك مَوثقُ
يا من به أضحى فؤادي راتعاً ... في روضةٍ بجمالهِ تتنمَّقُ
وغدا لساني ناطقاً في حبِّه ... بمدائحٍ تعلو ومدحٌ يشرقُ
يا عاذلي في غير حبِّك مطمعٌ ... كلاَّ ولا قلب يميلُ فيعشقُ
أُمسي وأصبحُ في هواك بمقلةٍ ... تندى وقلبٍ من جلالك يخفقُ
بالله يا فردَ الورى في حسنه ... ارحم فريدَ هواك فهو الأليقُ
وتلافَ قبل تلافهِ فلقد غدا ... في نزعِ ثوبِ الإصطبارِ يفتِّقُ
واسألْ مضاجعةَ الضَّنى ورفيقه ... أعنى النحول ترى الهوى وتصدِّقُ
ومن مقاطيعه قوله:
وقالوا الذي تهواه أصبح هاجراً ... وقد كان قدماً واهباً لنوالهِ
فقلتُ لهم ماذا يضرُّ لأنني ... شغلتُ به عن هجرِه ووصالهِ
قوله: شغلت مضمَّن من قول بعضهم:
وقائلةٍ أنفقتَ عمرَك مسرفاً ... على مسرفٍ في تيهه ودلالهِ
فقلتُ لها كفِّي عن اللوم إنني ... شُغلتُ به عن هجره ووصالهِ
فصل
ذكرت فيه طائفةً تتلو تلك، من الشعراء الذين كل منهم لزينة الحياة درَّة سلك.
قد جمعني وإياهم الزمان والمكان، وأراهم خلفوا من دخل في خبر كان، على أبدع ما في الإمكان.
وهب الله لهم أعماراً بقدر ما يرضيهم، ولا أعدمني التمتُّع بآدابهم على تنائي أراضيهم.
وكفانا ما نرجع إليه من تجازي النِّيَّات، إنه العالم بالخفيات، والمطَّلع على ما تتكافى به الطويَّات.
عبد الرحمن بن إبراهيم الموصلِي هو في الميدان سابقٌ طلقٌ عنانه، وكأنما حُشِر الصَّواب بين بيانه وبنانه.
من ملأٍ رتعوا بأنضر خميلة، وبذلوا ما شاء السَّماح من عارفةٍ جميلة.
مكانه في السُّراة ذروة التَّمام، وليديه في الجود آثار الغمام.
لا يتبوأ إلا ظلَّ الكرامة الأندَى، ولا يبيتُ إلا حيث المحلَّق والنَّدى.
وقد متَّعني الدَّهر برهةً بحضرته، فتقلَّبت معه في بهجة العيش ونضرته.
وسمعتُ لفظاً غذاء الرُّوح، وشاهدتُ خلقا فيض الملائكة والروح.
إلى تثبُّتٍ يستخِفُّ الجبال الرَّواسي، وانعطافٍ يلين القلوب القواسي.
وأنا من ذلك العهد لا أفتر عن تذكُّره بخاطري، وأتمثَّل شخصه في ضميري حتى كأنَّه حاضري.
وله أشعارٌ كلَّها نكت للمتملِّي، وملح للذيق المسْتحلي.
وفيه نخبٌ للفتَّاك، وسُبحٌ للنُّساك.(1/112)
يقول ما يشاء فتستحسنه، وتريد الطير تحكيه فلا تحسنه.
وقد أثبتُّ له ما يسترقص الجمادات طربا، ويترك في كلِّ قلبٍ مضطرَبا.
فمنه قوله:
عجزَ الرُّفاةُ عن الحجى ورِقائِه ... وكذا الأُساةُ عن الهوَى ودوائِهِ
ثكلتْهم الأعشابُ ويحَ كِبادِهم ... لم يعلموا ما حلَّ في سودائِهِ
حلوا المراكِب والغرائِم واتركوا ... كلاًّ يروحُ مزمَّلاً ببلائِهِ
أبَنِي الصَّبابة والهوَى من بعدِنا ... إنِّي لكم هيهات من زرقائِهِ
ليس الهوَى بسفاهةٍ من كالحٍ ... فدعُوا الغرامَ ومنتدَى عدوائِهِ
إنَّ الصِّيانةَ واللَّطافةَ والحيَا ... علمٌ عليه يدلُّ من أسمائِهِ
فهي الأمانةُ أنبأتْ عن فضلِ من ... فتقَ العبيرَ وخصَّه بردائِهِ
وقوله من أبيات:
لئِن كنتُ أسعَى كلَّ حينٍ إليكُمُ ... وتعكسُني الآمالُ عن حبكُم غصبَا
فلِي أسوةٌ بالنجمِ للشرقِ سِيرُه ... مدَى الدهرِ والأفلاكُ تنجو به الغربَا
هذا من قول الأرَّجاني.
أنحوكُمُ ويردُّ وجهِي القهقَرِي ... عنكُم فسيْري مثل سير الكوكبِ
فالقصدُ نحو المقصدِ الأقصَى لكُم ... والسيرُ رأى العينِ نحو المغرِبِ
وقوله:
سلبُوا الغصونَ معاطِفاً وقُدودا ... وتقاسموا وردَ الرياضِ خُدودا
طعنُوا القلوبَ بما تلاشى دونه ... طُعْنُ الرماحِ وسدَّدُوا تسديدا
فتنُوا الورى بلواحِظٍ وتجاوزوا ... بالفتكِ من نهبِ العقولِ حدودا
وتقاسموا أن لا يُراعوا ذِمةً ... لمتيَّمٍ أو يحفظون عهودا
تركوا الحُلِيَّ شهامةً واسْتبدلوا ... حُللَ المحاسنِ والبهاءِ ورودَا
فغدَوا بها مستعبدين أُلِي النُّهى ... مما يشيقَك طارِفاً وتليدَا
نظمُوا الثَّنايا في المباسِمِ لؤلؤاً ... تحت الزُّمرُّدِ والعقيقِ عقودَا
تَخِذوا البنفسج في الشَّقيق عوارضاً ... والياسَمين معاصِماً وزُنودَا
بدَلوا الخُصورَ من الخناصِر رِقَّةً ... واسْتبدلوا حُقَقَ اللُّجين نُهودَا
فهُم الملُوك الصائلون على الورَى ... وهُم الظِّباءُ القائدون أسودَا
نظروا إلى الجوْزاءِ دون محَلِّهمْ ... فعدَوا على هامِ السِّماكِ قُعودَا
من كلِّ من جعل الدجى فرعاً له ... والبدرَ وجهاً والصباحَ الجِيدَا
رَيَّان من ماء النعيمِ إذا بدَا ... خرَّتْ له زُهرُ النجومِ سجودَا
كالماء جسما غيرَ أن فؤادَه ... أضحى على أهلِ الهوَى جُلمودَا
تزدادُ من فرطِ الحياءِ خدودُه ... عند اسْتماع تأوُّهي توْريدَا
لو أبصرَ النُّصاحُ فائقَ وجهِه ... عذَلُوا العَذولَ وحاربوا النَّفنِيدَا
أو لو رآه راهبٌ من بيعةٍ ... ألقى الصليبَ ولازم التَّوحيدَا
كم ذا تُذكِّرني العقيقَ خدودُه ... والطَّرف حاجِرَ والعِذارُ زَرُودَا
وإذا بدَا مُتلفِّتاً من عُجبِه ... بالجِيد أذكرني طُلاه الغِيدَا
ما الظَّبيُ أحسنَ لفتَةً من جِيدِه ... عند النِّفارِ وإن أقامَ شهودَا
يحْمِي اللَّمى والخدُّ عقربُ صُدغِه ... عن واردٍ أو من يروم وُرودَا
قد رقَّ منه الخصْر حتى خِلتُه ... عند اهْتِزاز قوامِه مفْقودَا
ما خُلْقُه إلا النَّسيمُ إذا سرَى ... بين الرياضِ وإن طالَ صُدودَا
قلت: لولا أن قصدي استجلاب الثناء لهذا الأديب، لضننت بهذه الأبيات خوفاً من أن لا يراعى حقها عند أهل التأديب.
ولَوَدَدْتُ لو علِّقت في جبهة الأسد الكاسر، أو ضُمَّت للنيِّرات في الفلك العاشر.(1/113)
وقد عارض بها الأبيات المشهورة، المنسوبة إلى محمد الشهير بعبد الله، وهي هذه:
غصَبُوا الصباحَ فقسَّموه خُدودا ... وتناهبُوا قُضُبَ الأراكِ قدودَا
وتظافروا بظفائرٍ أبْدتْ لنا ... ضوءَ النهارِ بليلها معقودَا
صاغوا الثغورَ من الأقاحِ وبينها ... ماءُ الحياةِ قد اغْتدى مورودَا
ورأَوْا حصى الياقوتِ دون نحورِهم ... فتقلَّدوا شُهْبَ النجوم عُقودَا
واسْتودعوا حدَقَ المها أجفانهمْ ... فَسموْا بهنَّ ضَراغِماً وأسودَا
لم يكفِهم حدُّ الأسِنَّة والقنَا ... حتى اسْتعاروا أعيُناً ونُهودَا
رُوِي مسنداً إلى أبي عمر بن شامل المالقي قال: لقيت يوماً الشيخ الخطير أبا محمد بن علي المالقي، وكان رجلاً مجاب الدعوة فقال لي: أنشدني.
فأنشدته الأبيات المنسوبات إلى محمد الشهير بعبد الله، وهي هذه المذكورة.
قال: فلما أتممتُها صاح الشيخ، وأُغمَى عليه، وتصبَّب عرقاً، ثم أفاق بعد ساعة، وقال: يا بني، اعذرني، فشيئان يقهراني، ولا أتملَّك عندهما نفسي: النظر إلى الوجه الحسن، والشعر المطبوع.
وبيت النهود مما يكثر السؤال عنه، وقد رأيت في شعر ابن عمار الأندلسي بما هو مثله. وهو:
كُفَّ هذا النَّهدَ عنِّي ... فبقلبي منه جُرْحُ
وهو في صدرِك نهدٌ ... وهو في صدري رُمْحُ
وأنا لم أدرك وجهه، ثم رأيت في شعر ابن خلوف ما بيَّنه بعض البيان، في قوله:
وقُدودٍ كأنَّهنَّ رِماحٌ ... قد علَتْها أسِنَّةٌ من نهودِ
وأنشدني الموصلي لنفسه قوله:
هم يحسَبون دموعَ العينِ مذ عطَفوا ... هي الدموعُ التي يوم النَّدى تَرِدُ
وإنما هي نصلٌ حلَّ في كبِدي ... من نَبْل جَفنٍ ولم يشعُر به أحَدُ
فانْحلَّ ماءً أمْسَى يُقَطِّره ... من اللهيبِ دموعاً ذلك الكبِدُ
ومن غزلياته الرقيقة، التي هي السحرُ في الحقيقة، قوله:
أما وبياضِ الدرِّ من ذلك الثغرِ ... وما فيه من خمرٍ وناهِيكَ من خمرِ
أماناً وما بالطرفِ من كلِّ صارمٍ ... يجول بأجفانٍ مُلِئن من السحرِ
يصول به في الناسِ ألطفُ شادِنٍ ... بقلبٍ على العشَّاقِ أقسَى من الصَّخرِ
أسال عِذاراً فوق خدٍّ كأنه ... سلاسلُ مسكٍ في صِحافٍ من التِّبرِ
وإلا فنملٌ دبَّ فوق شقائقٍ ... مبلَّلُ أطرافِ الأناملِ بالحِبرِ
بعيدُ مناطِ القرطِ أشهَى لمُعسرٍ ... إذا ماسَ تِيهاً بالدلالِ من اليُسرِ
وأحلَى من الماءِ الزُّلالِ على الظَّما ... وأوقعُ معنًى في النفوسِ من النصرِ
يكادُ من القمصانِ لولا وِشاحه ... إذا فكَّتِ الأزارارُ من لطفِه يجرِي
فكم ثمَّ دون الجِيدِ منه مآرِبٌ ... من الخَصرِ تدعو العاشقين إلى النَّحرِ
فمذ خبَّروني أن كوكبَ خدِّه ... يُقارنه المرِّيخُ أحسستُ بالشَّرِّ
ركبتُ هواه بُكرَةَ العمرِ راكِباً ... مطايا شبابي وارتياحي مع الفجرِ
فأشفقتُ منه في الظَّهيرة راجِلاً ... يُرِيني نجومَ الأُفقِ في ظُلمةِ الهجرِ
متى قلتُ هذا الصُّدغُ أبدَى عقارِباً ... وإن رمتُ أجنِي الوردَ أحماه بالجمرِ
أحماه مثل حماه، إلا أنه يقال فيما امتنع وتُنودِر، كما هنا.
وإن مِلتُ نحو الثغرِ قالتْ عيونُه ... يَزيدكَ هذا الخمرُ سكراً على سُكرِ
قريبُ مرام النَّفس لطفاً وإنه ... لأعلَى منالاً في الأنامِ من البدرِ
ترقَّى به شعرِي فعزَّ منالُه ... وأمسَى كعقدِ الدُّرِّ يزهو على الصَّدرِ
لئِن جادتِ الأيامُ يوماً بوصلِه ... يميناً فإني قد صفحتُ عن الدهرِ
قوله: وإلا فنملٌ إلخ، من قول الوزير المغربي:
أوحَى لوجنتِه العِذارُ فما ... أبقَى على ورَعي ولا نُسكِي(1/114)
وكأن نملاً قد دببنَ بها ... غُمِستْ أكارِعهنَّ في مِسكِ
ثم رأيت ما هو عين المأخذ في قول العز البغدادي:
كأن عِذارَيهْ اللَّذين تراسَلا ... هلالان من مسكٍ وبينهما بدرُ
مُنمْنمَةٌ فوق الخدودِ كأنها ... مشَى فوقها نملٌ بأرجلِه حِبْرُ
وقد ضمَّن هذا المصراع بعينه، في أبياته المشهورة، حيث قال:
أنَبتُ عِذارٍ أم شائقُ روضةٍ ... مشى فوقها نملٌ بأرجلِه حِبرُ
أم العنبرُ المفْتوتُ من فوق وجنةٍ ... أسالتْه نار الخدِّ فانْبهمَ الأمرُ
فحيَّى عِذاراً أذهل الصبُّ مذ بَدَا ... وإن ضلَّ فيه العقلُ واختلطَ الفكرُ
يتيهُ به لدْنُ القَوامِ مهفْهَفٌ ... له في اختلاسِ العقلِ من حُسنِه عُذْرُ
هِلالٌ إذا ما قلت أمسى جَبينه ... صدقْتَ ولكن دون طلعتِه البدرُ
تعلَّم منه الظبيُ لفتةَ جِيدِه ... ومن طرفِه الوسْنانِ يُسْتنبَط السحرُ
متى صافحتْ سمْعي رقائقُ لفظِه ... ترى كلَّ عضوٍ داخلَهُ السكرُ
يُمازج ألفاظَ البلاغة صوتُه ... فيبدو لنا دُرًّا وفي ضِمنه خمرُ
وتشكو ارتجاجَ القُرطِ صفحةُ جِيدِه ... كما بات يشكو من غدائرِه الخصرُ
يخبِّر عن كأسِ المَنونِ بصَدِّه ... ويقْتلني منه إذا هجَر الهجرُ
به غزَلي أضحى وفيه مدائِحي ... ومنِّي لمعنى حسنِه النظمُ والنثرُ
وقوله: يكاد من القمصان لولا وشاحه، من قول بعضهم:
أخْشى الْتماسَ يديْه من ترَفٍ به ... وأظنُّه لولا الغلائِلَ سالا
خالد الكاتب:
قد صاد قلبِي وصار يملكهُ ... فكيف أسلُو وكيف أترُكُهُ
رطيبُ جسمٍ كالماءِ تحسَبه ... يسلُك في القلبِ منه مسْلَكُهُ
يكاد يجري من القميصِ من النِّ ... عمةِ لولا القميصُ يُمسِكُهُ
وقوله: فأشفقت منه إلخ، العرب تصف اليوم الشديد بظهور النجم فيه.
قال أبو صخر الهُذليّ:
إنِّي أرَى والطرف في سَيْرِي ... وَضَحَ النهارِ وعالِيَ النَّجمِ
وقد تصرف فيه المتأخِّرون وتظرَّفوا، كابن لؤلؤ في قوله:
أمولايَ أشكو إليك الخُمارْ ... وما فعلتْ بي كؤوسُ العُقارْ
وجوْرَ السُّقاةِ التي لم تزلْ ... يُريني الكواكب وسْطَ النهارْ
ولمجير الدين بن تميم:
بأبي أهيَفَ تبدَّى وحَيَّى ... بابتسامٍ عدِمتُ منه اصطبارِي
فأراني بوجْهه ومُحيَّا ... هُ نجوماً أُطْلعْنَ وَسْط النهارِ
ولقد أبدع وأغرب الشهاب الخفاجي، في قوله من قصيدة نبويَّة:
أتى يومَ بدرٍ وهو بدرٌ تَحُفُّه ... نجومُ سماءٍ أطْلعتْها كتائبُهْ
فمذ برزوا في النَّقعِ شاهدَتِ العدى ... بهم يومَ بُؤْسٍ لا تغيبُ كواكبُهْ
وللمترجم معارضاً أبيات الشاب الظَّريف، في قوله:
يا أحكمَ الناسِ أسيافاً وأسْبقهُمْ ... في مهجةِ الصبِّ فتكا دونه الأجَلُ
وأنورَ الوجهِ في الدَّيْجورِ من قمرٍ ... تحت الأكاليلِ مسبولٌ ومُنْسدِلُ
ما السحرُ ألْعبَ في الألبابِ من حَدَقٍ ... دار الشُّمول به من طُرفِك الكَحِلُ
كلا ولا البرقُ للأبصار أخطفُ من ... شقائقِ الخدِّ إن وافَى بك الخجلُ
من نظمِ ثغْرك وهو الدرُّ مبتسِمٌ ... خمرٌ يزيدك فيه الشُّهدُ والعسلُ
في فترة الحسنِ من لَحْظَيْك هل فتكتْ ... بواترُ الطرفِ أم من قدِّك الأسَلُ
ومذْ تمادتْ بنا الآجالُ واختلفتْ ... عقائدُ القوم مَن للحبِّ قد جهلُوا
لو يدرِ ما الصحُو مذ بانتْ ركائبكُمْ ... صريعُ جَفنٍ لأرباب الهوى ثَمِلُ
أستودعُ الله قلباً سار مرتحِلاً ... بالخُرَّدِ الغيدِ ماذا السهلُ والجبلُ
وأبيات الظَّريف هي هذه:(1/115)
يا أقتلَ الناسِ ألحاظاً وأعذبَهُمْ ... رِيقاً متى كان فيك الصَّابُ والعسَلُ
في صحنِ خدِّك وهي الشمس طالعةً ... وردٌ يَزيدك فيه الرَّاحُ والخجلُ
إيمانُ حبِّك في قلبي تُجدِّده ... من خدِّك الكُتْبُ أو من لحظِك الرُّسُلُ
لو اطَّلعتَ على قلبي وجدْتَ به ... من فعلِ عينيك جرحاً ليس ينْدمِلُ
وله:
أُسامِر عِشقاً من خلائِقه القتلُ ... وحيداً ولا عهدٌ هناك ولا مطلُ
وأُصبِحُ ظمآناً وقد عقَر الظَّما ... فؤادِي ولا وَبْلٌ هناك ولا طَلُّ
وكم أخصبتْ سُحبَ الأماني مطامعي ... مَجازاً ويرميها من الوابلِ المَحْلُ
ورُبَّ عذولٍ فيه أشقَى مسامعِي ... بعذْلٍ فيالله ما صنَع العذْلُ
أقول له والطرفُ يقذف مهجتِي ... دموعاً لها من كل ناحيةٍ هَطْلُ
وبي من غرامٍ لو تجسَّم بعضُه ... ومرَّ بأهل الأرضِ لافْتتَن الكُلُّ
ترقَّى إلى قلبي بكلِّ دقيقةٍ ... جميعُ هوَى العشَّاق وانْقطع الحبلُ
السيد محمد الحصري نسيبٌ تناسب فيه المدح والنسيب، وحسيبٌ ما مثله في كرم الطباع حسيب.
له همَّةٌ سابغة المطارف، وسيادةٌ موصولةُ التَّالد بالطَّارف.
مُروَّق الأخلاق صافيها، مشمول الشمائل ضافيها.
تكاد ترى وجهك في خصاله، ولا تُغبن إذا اشتريت بنوم العيون يوم وصاله.
وله أدبٌ يطَّرد اطِّراد الغدير حفَّت به خضر الوشائع، وحديثٌ كأنه جنى النحل ممزوجاً بماء الوقائع.
وبيني وبينه وِدٌّ صميم، طيِّب العرف والشَّميم.
أستدعي الأمل لِلُقياه ولو في الأحلام، وأما اجتماعاتي معه فأكثرها تحية الرؤية والسلام.
وقد وقفت له على شعرٍ قليل، فأثبتُّ منه ما هو لرأسِ المجد إكليل.
فمنه قوله من قصيدة عارض بها قصيدة أبي الحسن علي الحصري، التي مطلعها:
يا ليلُ الصبُّ متى غَدَهُ ... أقيامُ الساعةِ موعدُهُ
ومطلع قصيدته:
صبٌّ بالهجرِ تُهدِّدُه ... قد ذاب جوًى من يُنجِدهُ
والسُّقم بَراهُ وأنحلَه ... فلِذا ملَّتْهُ عُوَّدُهُ
سهرانُ الطرفِ له رقّتْ ... في الليل نجومٌ تُسهدُهُ
وغدا يشكو من فرطِ جوًى ... يا ليلُ الصبُّ متى غَدُهُ
حتى مَ بزَورٍ تُوعده ... أقيامُ الساعةِ موعدُهُ
يهواهُ الصَّبُ فيشغلُه ... أسَفٌ للبيْن يردِّدُهُ
قمرٌ في القلبِ منازلُه ... فعجيبٌ منه تباعدُهُ
ريحانُ العارضِ فيه حوَى ... خطًّا ياقوتُ مجوِّدُهُ
في الحسنِ فريدٌ بل ملكٌ ... فتعالَى الخالقُ موجِدُهُ
طِفلٌ لحديث السحرِ غدَا ... عن بابل طرفٍ يُسنِدُهُ
رَشأٌ اللَّيثُ بمُقلتِه ... يسطو للغاب يُقيِّدُهُ
يرنو للحظِ فيحسبه ... للقتل دعاهُ مهنَّدُهُ
بالله أُعيذُك يا أملِي ... من قتلِ شجٍ تتعمَّدُهُ
وارْفُقْ بالقلبِ فإنَّ به ... جمراً قد زاد توقُّدُهُ
واسمحْ بالغمضِ لعل بأنْ ... في النومِ خيالُك يُسعِدُهُ
في قيْدِك قد أمسَى دَنِفاً ... هلاَّ في ذاك تُخلِّدُهُ
وله من قصيدة مطلعها:
خفقتْ على قلبي بنودُه ... رَشأ يعذِّبني صُدودُهْ
ساجِي اللَّواحظِ أغْيَدٌ ... كالبدرِ يسْبي الظَّبيَ جِيدُهْ
غصنُ النَّقا لما رآ ... هُ هوَى فكان لذا سجودُهْ
إن ماس في حُلَل البهَا ... تزهو لطلعتِه برودُهْ
لا غَرْوَ أن فاقَ الملا ... حَ فإنَّها طُرًّا جنودُهْ
فاللَّحظُ يُطمع بالوعو ... دِ ولفظُه يبدو وعيدُهْ
نصبت حبائِلُ أدمعي ... شركاً له فعسى يُصيدُهْ
فاصْطاد روحِي بعد ما ... قد أوثقت قلبِي قيودُهْ(1/116)
كيف النَّجاةُ وسهمُ نا ... ظرِه بأحشائِي نَفودُهْ
يا فاتِكاً بعيونِهِ ... في مُهجتي وأنا شَهيدُهْ
رِفقاً بحالِ متيَّمٍ ... للنجمِ ناظرُه رَصودُهْ
واسْمح له في غَمْضةٍ ... فلعلَّ لو طيفٌ يُعودُهْ
ما ضرَّ لو ناديتَ مَن ... في الحبِّ لا تُنسى عهودُهْ
فاللومُ ليس منقِّصاً ... وجداً تحكَّم بل يَزيدُهْ
وله من أخرى، مستهلُّها:
فؤادٌ من الهِجران فيك مروَّعُ ... وقلبٌ من الأشواقِ والصدِّ موجَعُ
ومقلةُ عينٍ كُحِّلت بنجِيعِها ... وفاضت على الخدَّين منهن أدمُعُ
فمن لي بِكتمان المحبَّةَ بعدما ... أذاعتْ دموعي سرَّ ما كنتُ أُودِعُ
أبيتُ وفي قلبي من الشَّوقِ لاعِجٌ ... وأغْدو وقَدْحُ الشوقِ في الصدرِ يلمَعُ
فلا الوجدُ إن بانَ الأحبَّةُ مُقلِعٌ ... ولا الصبرُ إن دام التفرُّقُ ينفَعُ
ففتِّشْ خليلي عن فؤادِي أوَّلاً ... أهلْ فيه للوجدِ المبرِّحِ موضِعُ
لك اللهُ هل يُرْجَى شفائِي من الهوَى ... وهل بعد هذا للتواصُلِ مَطْمَعُ
ومن أخرى مستهلُّها:
يا أخا لبدرِ طلعةً وجبينَا ... ونظيرَ الغصون قدًّا ولِينَا
مَن لنَا أن تَمُنَّ بالوصلِ يا مَن ... قد جعلتَ الصدودَ في الحبِّ دِينَا
قد ضلَلْنا بليلِ فرعِك حتى ... ضاء صبحُ الجبين منه هُدِينَا
نحن من مؤمنيِك في الحبِّ صِرنَا ... فأغمِد السيفَ عن قتالِك فِينَا
ليس نخشَى حَدَّ الظُّبا من أُسودٍ ... بل ونخشَى من الظِّباء العيونَا
وكفانا يا مُنيَةَ القلبِ أنَّا ... من سَقامٍ ومن نحولٍ خَفِينَا
لو لقيتُ الحِمامَ ما كان يُدعَى ... بعظيمٍ ممَّا به قد لقِينَا
فالأمانَ الأمانَ من طولِ إعرا ... ضِك عمَّن في الحبِّ أمسَى رهينَا
والمحالُ المحالُ أنِّي أسْلو ... ك وأُذْني تُصغِي إلى العاذلينَا
كيف أسْلو والوجدُ عندي عظيمٌ ... والهوى في الضُّلوعِ أمسَى دَفِينَا
عبد الرحمن التاجي الخطيب البعلي أديبٌ سامي القدْر، متوقد كالقمر ليلة البدر.
حسن المحاضرة بالأشْيا، وارف الظِّلال والأفْيا.
يجري على طرف لسانه، ما ينطق الدهر باستحسانه.
وهو أخٌ لك فيه الغرض، جوهر أخلاقه لا يشوبه عرض.
وفيه لوْذَعِيّة تُحبِّبه، وبشاشة تزلِفه وتقرِّبه.
وبيني وبينه صحبة ألحمتْها الآداب وسدَّتها، ومودَّة ربطتْها موافقة القلبين وشدَّتها.
وهو اليوم طلق الشِّعر ثلاثا، ونقض غزله أنْكاثا.
وتخلَّص لعلمٍ ينفعه في الحال والمآل، ويجدِّد له في الله كلَّ آنٍ ما تعوَّده من أماني وآمال.
وقد أثبتُّ له من أوائل شعره كلَّ بديع الوصف، زارٍ على الجوهر في الشفافية والرَّصف. فمن ذلك قوله من قصيدة، مطلعها:
تذكَّرتُ أيام الصبابةِ والصِّبا ... وعيشاً مضَى ما كان أحْلَى وأطْيبَا
زماناً به كانت يدُ الدهرِ برهةً ... تُقمِّصني ثوبَ السعادةِ مُذْهَبَا
سقى الله ذاك الشَّعبَ غيثَ مَدامِعي ... إذا الغيثُ يوماً عن مَغانيه قطَّبَا
مغانٍ بها كان ائْتلافُ مسرَّتي ... وإقبالُ عيشي بالمسرةِ أخْصَبَا
منازلُ فيها للبدورِ مطالعٌ ... على أن فيها للسحائِبِ مَسْحَبَا
أقمتُ بها بين البشاشةِ والقِرَى ... وإن شئتَ قُل بين الأحبَّة والحِبَا
وكم سيق من نُعْمَى إليَّ ونعمةٍ ... وكم قيل لي أهلاً وسهلاً ومرحبَا
أبيتُ أجُرُّ الذيلَ تِيهاً ورفعةً ... ولا أرْتضي غير السِّماكيْن مضرِبَا
منها:
وليلةِ سعدٍ ما سعِدتُ بمثلها ... مدى الدهرِى في تلك المعاطرِ والرُّبَى(1/117)
أعانِقُ للآمالِ قدًّا مهفْهَفاً ... وألثِمُ ثغراً للأمانيِّ أشنَبَا
فذاك زمانٌ كلُّ عيشٍ به رِضًى ... وكلُّ نسيمٍ هبَّ من صَبْوتي صَبَا
وكنتُ أرى أن الزمانَ مُساعدي ... فشِمتُ به برقَ الأمانيِّ خُلَّبَا
فبَيْنا تراني باسمَ الثغرِ ضاحكا ... إذا بي أعَضُّ الرَّاحتين تلهُّبَا
وأنشدني لنفسه قوله من قصيدة، أولها:
بأبي أهيفٌ كظبيٍ غريرِ ... صال فينا بسيفِ لحظٍ شهيرِ
ألف الصَّدَّ والنِّفارَ ولالا ... ما عهدناه بالألوفِ النَّفورِ
أسرتني لحاظُه النُّجلُ عمداً ... يا لَثارَ المتيَّمِ المهجورِ
أي ذنبٍ جنيتُ في الحبِّ حتى ... صرتُ في العاشقين دون نصيرِ
عاذلي تركُك الملامةَ أحرى ... لو تحرَّيتَ كنت فيه عذيري
لو تراه وقد أدار عذاراً ... مثل وشيِ الطِّراز فوق الحريرِ
لعلمتَ الغرام إن كنت خِلْواً ... وعذرتَ العميد عُذرَ بصيرِ
أو رشفتَ الزُّلال من ريقِ فيهِ ... رُحتَ منه بسكرةِ المخمورِ
زار في غفلةِ الرَّقيب فأحيَى ... ميتَ هجرٍ بسعيه المشكورِ
أوضح الفرقَ واستكنَّ بفرعٍ ... فأرانا الصَّباح في الدَّيجورِ
بات سُكري منه بكأسِ حديثٍ ... طيبُ أنفاسه لها كالعبيرِ
ريقُه العذبُ لي مدامٌ ونقلي ... لثمُ خدٍّ بوجهه المستنيرِ
ثم وسَّدتُه اليمين وبتنا ... في نعيميْ مسرَّةٍ وحُبورِ
ليلةٌ بالعفاف سرَّ بها الده ... رُ فكانت كغرَّةٍ في الدُّهورِ
بدرُها رام أن ينِمَّ فأرجع ... ناه منَّا بنفثةِ المصدورِ
هذه نفثة مصدور، تصدَّت لتصدية مرايا البدور.
ونجومُ السماءِ منظومةُ السِّم ... طِ كنظم الجُمان فوق النحورِ
وسهيلٌ يلوح طوراً فطوراً ... يتحامى كخائفٍ مذعورِ
والثريَّا قد آذنت بانقضاءِ ال ... ليل تُومي لنا بكفِّ مشيرِ
شاهين بن فتح الله إنسان طرف الفضل ومقلة مآقيه، وفارع هضبة البيان وراقي مراقيه.
زرَّت على الفضل أطواقه، وما اهتاجت إلا للكمال أشواقه.
وهو من لطف الطبع أرقُّ من الصهباء في روق الصِّبا، ومن سلامة الناحية أطوع من قدود القُضب لراحة الصَّبا.
وإلى ما حواه من فكاهة يتسلى بها المهموم، ومحادثةٍ يجعلها النديم عوض المشروب والمشموم.
وشعرٍ كحلْي الخَود حواشيه تأتلف، ونثر كوَشيِ الروض رقومه تختلف.
ولما حللت القاهرة، أتحفتني الأيام بطلعته الزاهرة.
فنعتَني بِرَّه عفواً، وسقاني كأس وداده صفواً.
فقرَّت برؤيته عيناي، وأغناني بودِّه عن أهلي ومغناي.
فأنا وإياه بصدق العشرة نتَّسم، وبقدر الحب وحقِّ هواه نقتسم.
وقد أهدى إلي قصيدة أتحفني بها، وهي قوله:
خليليَّ ما أحلى الوصالَ بلا هجرِ ... وما منه أشهى للمحبين بالحصرِ
نعمتُ به دهراً برَيعان نشأتي ... وذلك من أحظى الحِبَى ليد الدهرِ
وبي أغيدٌ حلوُ الشمائلِ وجهُه ... يري البدرَ حسناً وهو في صورة البدرِ
أحاديثُه كالشُّهدِ تحلو فكاهةً ... إذا ما احتساها السمعُ أغنتْ عن الخمرِ
يُشعشِع فحواها ليَ الكأسُ لذَّةً ... بنكهةٍ أزكى ما يكون من العطرِ
كأن نسيمَ الروض بات يعلُّه ... فأهدى لنا من طيبِه طيِّبَ النشرِ
فكرِّر بذكر الكأسِ لي دَرّ دَرُّه ... تعلَّة قلبٍ من جوى الحب في جمرِ
وإن يحكِ ريحَ الحب لطفاً فعاطني ... وإن لم يسوِّغه الغناءُ على السكرِ
فيا بأبِي منه الدلالُ معشَّقاً ... ويا حسنَ ذاك المعطفِ اللَّيِّن الهصرِ(1/118)
رنا بقوامٍ كالقضيبِ ومُقلةٍ ... يجول بهُدبيها غرارٌ من السحرِ
وماس وقد حار الوشاحُ بخصره ... رَشاً لم يُطق حملَ الوشاحِ على الخصرِ
إليه تَوالاني هواه فمذْ رأى ... ولوعِي به غطَّى التَّعارفَ بالنُّكرِ
وأغفى وقد ولَّى الغرامَ مقاتِلي ... وولَّى ولم يعبأ بلومٍ ولا عذرِ
فقلتُ وقد ضاقتْ عليَّ وسائلي ... أراجِعُه الطُّولَى بفكِّ عَنا أسري
حنانيك لا تسمع مقالا لكاشحٍ ... بتنميقِه يُغوِي لمن بالجفا يُغري
على أنني رُحماك لا أحملُ الجفا ... وقد نفِدت مني الذخائرُ من صبري
وجسميَ منهوكٌ ولبِّيَ ذاهلٌ ... وقلبي أسيرٌ آهِ في قبضة الهجرِ
وعنِّي نأى زهوُ الشباب وليتَه ... يعود ويثني لي الأعنَّة بالبشرِ
وهبْ أنني أثني إلى الودِّ عَزمةً ... فأين زمانُ اليسرِ من زمن العسرِ
فيا سائلي أين الزمانُ وطيبُه ... ألا فاسألِ الأيامَ تنبيك بالخُبرِ
لقد عوَّضتني الشِّيبَ عنه وإنه ... يقال وقارٌ لو يقال بلا وقرِ
فمن بعده لم يصفُ عيشي ولم أمِلْ ... إلى لذةٍ هيهات تهتِف في الفكرِ
وجانبتُ أنحاء القريضِ وسوحَه ... بحيث أرى في سوقِه النَّضَّ كالغَرِّ
وحتى استماعي للقريضِ سئمتُه ... كأن سيمَ سعرُ الشعرِ في الوزن بالشَّعرِ
وأوحشت الآداب عني فخلتُها ... كمعنًى لمغنًى لاح كالآلِ في قفرِ
فحرَّك طبعي بعد ما كان جامداً ... على ما امتطاه من كلالٍ ومن فترِ
وآنس من طورِ المعالي مُخاطباً ... تجلَّى بأنواع المعاني على فكري
مشيراً إلى مولًى سجايا كماله ... تهلُّ سحاباً بالفضلِ والبرِّ
ويُدعى بحقٍّ بالأمين وإسمُه ... محمدُ من نسلِ الكرام بلا نُكرِ
ألا وهو مولانا المحبِّيّ إنه ... رقيق حواشي الطبع ضخم ذُرى الفخرِ
ومن فتيةٍ سادوا وشادوا إلى العلى ... دعائمَ مجدٍ نوَّرت عملَ الفجرِ
وهم في سماء السُّؤدد الشامخ الذُّرى ... سراةٌ سرَوْا حدًّا له النجمُ لا يسرِي
وإنك يا مولايَ جاوزتَ حدَّهم ... إلى مفخرٍ فوق السَّماكين والنَّسرِ
وحزتَ مجالا في المعارفِ واسعاً ... وعلماً غزيراً جلَّ مع سعةِ الصدرِ
وتهذيبَ أخلاقٍ وحسبُك نسبةً ... إلى الشرفِ المُدلي إلى المصطفى الطُّهرِ
فاًن تبدو شمسُ الأُفق قلتُ بأنَّها ... مُحيَّاك لا أغْلو وأنت بها تُزرِي
وشِعرُك أحلى في النفوسِ من المُنَى ... وأفْعَلُ بالألبابِ من قرقَفٍ بِكْرِ
وقد نِلتُ يا مولايَ أسْنَى مآثِرٍ ... تجِلُّ عن التَّعداد في الفضل بالحَصرِ
فمنها التآليفُ الحِسان التي غدتْ ... بما قد حوتْ كالدُّررِّ في لبَّةِ الدهرِ
وناهِيك بالتاريخ فضْلاً فإنه ... حَرِيٌّ بكتبِ التِّبرِ فضلاً عن الحِبرِ
لما قد حوَى أبحاثَ علمٍ أنيقةً ... تُميطُ شحوب الشكِّ كاليُسرِ للعسرِ
وتقريرَ أفهامٍ بديعٌ بيانُها ... معانِيه أسرارَ البلاغة تسْتقْرِي
وتحريرَ منقولٍ وضبطَ وقائِعٍ ... يحقِّق منها ما اسْتُريبَ من الأمرِ
كتابٌ لأهل الفضلِ زُخْرُفُ روضةٍ ... يُسيمون منها في معانٍ كما الزَّهرِ(1/119)
نَهجْتَ به في الفضلِ أبهجَ منهجٍ ... تدوم به حيًّا إلى الحشرِ والنشرِ
به ذِكرُ من يسْتوجبُ الذِّكرَ في الورَى ... وإحياءُ موْتى للفضائلِ بالذِكرِ
به يُهتدَى للغابرين ومَن مضَى ... كما يعتدِي السَّارون بالأنجُمِ الزُّهرِ
كأنَّ مزايا ذكْرِهم في طُروسِه ... متى تُتْلَ جناتٌ جداولُها تجرِي
لك الفضلُ فيما صُغْتَ من دُرِّ لفظِه ... نسيقَ معانٍ خِلْنَ ضرباً من السحرِ
فجازاك ربُّ العالَمينِ بفضْلِه ... جزاءً يُنيل الأجرَ مع رِفعةِ القَدْرِ
وأنت وأيمُ اللهِ مُفردُ عصرِنا ... وحامِي حِمَى الآداب في النظمِ والنثرِ
تتيه بك الأيَّامُ قلَّدتَ عُطْلَها ... وقلَّدت منها الجِيدَ من فضلِك الوَفْرِ
ومنك جَلاها من سَنا البرقِ شارقٌ ... وصَاكَ بها من عرفِك العنبرُ الشِّحرِي
وهاك أيا مولاي منِّي مدائِحاً ... سهِرتُ بها والنجمُ يسبِرُ من فكرِي
وما هي إلاَّ الروضُ حيَّاك عَرْفُه ... وقد باكرَتْه نَوْءُ فضلِك بالقَطرِ
ومع ذاك لم أقدُرك حقَّك مِدحةً ... ولكنه جُهدُ الأناشيدِ من شعرِي
وإن يكُ قد حازَ انْطِباعاً فإنه ... لمكتسِبَنْه من خلائِقك الغُرِّ
أُقِرُّ بعجْزِي ليس شعرِي مُكافِياً ... فَصاحَتَك العظمى ولو صِيغ من تِبْرِ
على أنه ما اسطعْتُه وأعوذ من ... مَلامةِ تَقصيرِي بعفوِك عن وِزْرِي
فكتبت إليه عنها جواباً، لا يزال سمعي يرشف من راح أدبه أكوابا:
ألا ليت شعرِي والمُنى لَذَّةُ العمرِ ... متى يرجع الطيرُ القديم إلى الوِكرِ
نعم في مِطال الدهرِ لي وعدُ أوْبةٍ ... فمن لي بقلبٍ فيه يقْوى على الصبرِ
أهُمُّ بأمرِ الحزمِ لو أستطيعه ... وحكمُ القضا فيما يناقِضه يجْرِي
وما حيلةُ الظمآنِ والماءُ دونه ... حِجابٌ من البِيضِ الصَّوارمِ والسُّمْرِ
وفي ذِمَّة الأيامِ ما صنَع النَّوى ... بجسمِي وما تُبدِي المدامعُ من أمرِي
وعيشٍ كأخلاقِ الكِرام قطعْتُه ... وصَحبِي بسفحِ الصَّالحيَّة والجسرِ
يشِفُّ ضُحاه عن طُلاً من مُجرَّدٍ ... نقيٍّ وتفتُّر العشيَّةُ عن ثغرِ
وللطَّير تَهْدارٌ بأيكة روضةٍ ... إذا سكَت الشُّحرور جاوَبه القُمرِي
به من لُجَين الماءِ ينْساب جدولٌ ... ترقرَقَ في آصالِه ذائبُ التِّبْرِ
يهيِّمُنا في جنةِ الخلدِ وصفُه ... ويُملي علينا ما جهلنَا من السِّرِّ
ودارتْ بكاساتِ المُدام سُقاتُنا ... كما دارتِ الأفلاكُ بالأنْجُم الزُّهْرِ
وما أسْكرتْنا بعد صحوٍ وإنما ... أعادتْ لنا في الحب سكراً على سُكْرِ
وأغْيَدَ إمَّا قابلَ البدرَ وجهُه ... أرتْك به مرآتُه صورةَ البدرِ
إذا قراُوا والليلِ في وصفِ فرعِهِ ... قرأتُ لهم في معرِض الفرقِ والفجرِ
تجمَّع حسنُ الخَلق فيه بأسرِه ... ففرَّقَ ما للعاشقين من الصبرِ
بمُنْعطفٍ لولا العيونُ تحُوطه ... لضلَّ به الهمْيانُ عن دَورةِ الخصرِ
يكاد وِشاحاه يطيران خِفَّةً ... ولولاهما من رِقَّةٍ كاد أن يجرِي
وحُقِّ عقيقٍ من فمٍ شِبْهِ خاتَمٍ ... به ختم اللهُ الشِّفاه على دُرِّ
يصولُ بلحظٍ للمنايا مجرَّدٍ ... رهيبِ الشَّبَا يخْتال في طلبِ الشَّرِّ(1/120)
ترى مَن غدا في السِّحرِ أستاذَ طرفِهِ ... فهاروتُ لم يقدِر على ذلك السِّحرِ
يضيقُ وعاءُ الدهرِ عنه جلالةً ... ومن عجبٍ يحويه مع ضِيقِه صدرِي
وما احترتُ حتى اخترتُ حبِّيهِ مذهبي ... ومدحُ ابن فتحِ الله فردِ الورَى ذُخرِي
فتًى قد حمدتُ العيشَ مذ صحِبته ... وسافهتُ حظِّي من خلائقِهِ الغُرِّ
أحيِّي إذا حيَّيتُه الروضُ ناضِرا ... وأشتمُّ عرفَ النشقِ من زهرةِ النهرِ
رطيبُ مهزِّ الجودِ مورِقُ عوده ... وأبلجُ وجهِ العرفِ مستوضَحَ البشرِ
إذا ما سقَى غصنَ اليراعةِ نِقسُه ... جنينَا ثِمارَ الفضلِ في الورقِ النَّضرِ
له الشِّيمُ الشُّمُّ التي لا ينالُها ... فتًى علَّق الأذيالَ بالأنجُمِ الزهرِ
تُبارينَ أحداثَ الزمانِ فتنْبرِي ... كما انْتفضَ العصفورُ من صولة الصقرِ
فتًى يتسامَى بالتَّواضعِ جاهداً ... ويعجبُ من أهلِ المخيلةِ والكبرِ
عليه من المجدِ المؤثَّلِ حُلَّةٌ ... تجرُّ ذيولَ الأريحيَّةِ والفخرِ
وفيه خِصالٌ قَّصر الحمدُ دونها ... وأبلغُ شكرٍ يُستفادُ لها شكرِي
وإن أيادِيه ثنتْ وجهَ همَّتي ... إلى الخُلقِ الفضفاضِ والنَّائلِ الغمرِ
ولي فيه من صدقِ العناية لحظةٌ ... ترينِي ابْتسامَ الحظِّ عن شنَبِ الثَّغرِ
فشكراً لدهرٍ جادَ لي بلقائِهِ ... فنوَّه لي من حيث أدرِي ولا أدرِي
وسقياً لأرضٍ ألَّفتْنا وحضرةٍ ... بها ضمَّنا كالعقدِ أستاذُنا البكرِي
علوْنا على النِّسرين تحت جناحِه ... فنحنُ إلى ما فوقَ أفقيهُما نسرِي
وما زالَ يكسُونا شمائِل غضَّةً ... يقعْنَ مقامَ النُّورِ في المنبتِ النضرِ
نفدِّيه بالخمسِ الحواسِ وإنَّنا ... لنعقِد أن عدَّتْ عُلاه على العشرِ
فحيَّى على رغم الكواكِبِ غرَّةً ... يرينا سناها كيفَ شعشعةُ البدرِ
عليها من النُّورِ الإلهي مِسحةٌ ... بها تنْجلي الجُّلى ويُمحى دُجَى الإصرِ
أمولاي يا شاهينُ لا زلْت دائماً ... مجدًّا إلى قنصِ المفاخر بالبرِّ
فكم لك من صيْداتِ فضلٍ وسؤددٍ ... يُرَى دونها وقعُ المهنَّدةِ البُترِ
عرفْتُكَ من بين الأنامِ فلم أكنْ ... لغيرك أطْوِي الصدرَ إلا على نُكرِ
بعثْتَ إليَّ الرَّوحَ في لذَّةِ المُنى ... وطيبَ التَّهاني في بُلهْنِيَةِ العمرِ
فرائِد آدابٍ نظمْتَ عقودَها ... مُفضَّلة تمتاز في الطِّرس كالشَّذرِ
قوافٍ كأنفاسِ الخُزامَى صَقيلةٌ ... بريح النُّعامى تمترِي عَنْبر الشِّحرِ
فلا زلت تُهدِي مثلَها من قصائدٍ ... بها الشعرُ يبقى دهرَه نافِق السِّعرِ
ودُونكها عذراءَ لا عذرَ عندها ... لمن ليس يصْبو والهوى عنده عُذري
تمازَج معناها ورائِقُ لفظِها ... كما مزجوا ماءَ الغمامة والخمرِ
فإلاَّ تكُنْه أو يكُنْها فإنه ... وإيَّاها سِيَّانِ في سُرعة السكرِ
وسامحْ فخطبُ الدهر منِّي لم يدعْ ... مُعيناً على خطبٍ لقيتُ ولا فكرِي
ومثليَ إذ أهداك نظماً يُجيده ... كمُهدي الضِّيا للبدرِ والدُّرِّ للبحرِ
فأنا إذا صُغتُ القوافي أريْت من ... يُجاريك فيها صنعةً أنجُمَ الظُهرِ
بقِيت على الأيَّامِ خيرَ مؤمَّلٍ ... برأْيك أسْتعدي على نُوَبِ الدهرِ
ولي فيك مدحٌ ليس يهرَم نظمُهُ ... ولو صارت الأهرامُ كالعِهْنِ في مصرِ
وأنشدني من لفظه لنفسه، من قصيدة، مطلعها:(1/121)
أما والْتفاتِ الجِيد من مُشبِهِ الدُّمَى ... وثغرٍ حوَى دراً بدِيعا منظَّمَا
وأوْطفِ أجفانٍ من السحرِ كُحِّلتْ ... تغادر من قد غازَلْته متيَّمَا
تسوق المعَنَّى للصبابةِ والهوَى ... وكم من وَلوعٍ فات فيهنَّ مُغرَمَا
حليفَ جوًى طِّوْعَ الغرامِ تقودُه ... دواعي التَّصابي ناحلَ الجسمِ مُسقَمَا
مُبلبَل بالٍ في محبةِ أغيدٍ ... بديعِ جمالٍ كلَّ جورٍ تعلَّمَا
يطلُّ دمَ العشاق جَوْراً لأجل أن ... يضرِّج منه أبيض الخدِّ بالدمَا
رنا كالطُّلا والغصنِ قَدًّا وناظِراً ... يسدِّد سهماً والرُّديْنيِّ قُوِّمَا
وحاوَلَ أن يرمِي فؤادِي وما درَى ... بأنَّ فؤادِي لا يُبالي بما رَمَى
لأنَّيَ عن طُرْق الهوَى مِلتُ جانِبا ... وجانَبْتُ لهواً للتَّصابي ميمَّمَا
وهل بعد ما لاحَ الصباحُ بلمَّتي ... وفي ليلِ غيِّي فجرُ رشدِي تبسَّمَا
يروق بأنِّي يزدهِيني تعَشُّقٌ ... ومِلتُ لحبٍ والشبابُ تصرَّمَا
فآهاً لأيام الشَّبابِ ولم أزلْ ... على فقدِهِ ذا حُرقةٍ متألِّمَا
تبدَّلتُ عن طيب اغتنامِي لصحَّتي ... وعن لذَّتي فيها من السُّقمِ مَغْرمَا
وقاسيتُ ممَّا بي ألمَّ من الضَّنى ... ومن فادِحِ الخطبِ الذي جلَّ صِلْدِمَا
وأحمَدُ ربِّي حيث أبرأنِي الضَّنى ... وبي من أليمِ الكربِ نجيَّ وسلَّمَا
فما ظبيةٌ قد عاقها عن شُويْدنٍ ... لها شرَكٌ من صائدٍ فوقها ارْتمَى
وأقبل مسروراً إليها ورام أن ... يشُدَّ وثاقَيْها فأبصَر أرقمَا
يحاوله كاللَّيثِ من كلِّ وجهةٍ ... يصاوِله أيَّانَ سار ويَمَّمَا
فأُذعِر منه حيث أُرعِد خيفَةً ... وأفْلتها من خَشيةِ الصِّلِّ مُرغَمَا
فراحتْ كريحٍ في الفلا نحو سِربِها ... تُزيلُ غبارَ الموتِ عنها وعَنْدمَا
أتتْ خِشفَها أحْنتْ عليه بكلِّها ... وقد أرضعتْهُ بعد أن شفًّه الظَّمَا
بأفرحَ منِّي يوم بُرْئِي من الضَّنا ... وجئتُ إلى مولاي فيه مسلِّمَا
ومُتِّعتُ بعد اليأسِ منه بنظرةٍ ... له ظلْتُ فيها بالسرور منَعَّمَا
ولي معه مجالس نمتحن فيها الأفكار، ونزُفُّ عرائس الأدب الأبكار.
من محاضرات توصِّل الأنس إلى سواد القلب وصميمه، ومحاورات تُميط الهمَّ عن النفس وقد ألحَّ في تصميمه.
وأغلبها تجري في مجلس الأستاذ زين العابدين، منتدى روائع الطرائف، ومنتَمى بدائع الظرائف.
ومقصِد الأماني والأطماع، وصيقل النَّواظر والأسماع.
حيث شمل الفضل في انتظام، والحسن كلُّه مجتمعٌ جمع نظام.
وهو - أبقى الله مهجته، وحرس على الأيام بهجته - يقيد خطى الأبصار بالاقتصار عليه، ويأخذ بأزِمَّة القلوب بالانحياز إليه.
ونحن نرى لقاءه فائدةً نكتسبها، ومحبته قربةً عند الله نحتسبها.
فنفيض بإقباله فيض الأنهار، ويفوح ثناؤنا في ناديه فوحة الأزهار.
فما دار بيننا ذكر التَّصحيف فتعرَّفنا مزاياه، ثم انتهت بنا النَّوبة إلى نوعٍ قريب منه يعرف بالمُعاياة.
فقال المترجم شاهين: المتنبي.
فقلت له: تريد تبنا هنياً لمن يتب.
ثم قلت له: أتينا نتباهى بكلامك.
وأردت: أنت يا شاهين كلُّ أمل.
فقال الأستاذ وقد أحضر عنب: العنب ثقيلٌ أكلُه.
يريد: العشق بلاء كلُّه.
فقلت له: العين تقتل إن عَدَت.
وأردت: العشق بلاء يعذب.
وخاطبته بقولي: أبداً أبث ثناي نديّ أغلا نثر ينفث.
وأردت: يبقى زين العابدين أستاذنا.
وفيه مع التصحيف القلب، وهذا أصعب من الأول.
وذكروا منه: خيل مهلل أدهشتنا.
وتصحيفه مع قلبه، يؤدي إلى قولنا: أنت شهِد اللهُ مليح.(1/122)
والتصحيف كما ذكروا أن تصحِّف كلَّ حرفٍ بما يماثله، والثلاث السِّنات التي في السين والشين تُصحَّف بثلاث حروف مماثلتها، كالباء والتاء والثاء والنون والياء، وتصحَّف الكاف باللام. والأحرف التي لا تصحَّف أربعة، الألف، والميم، والهاء، والواو. وأول من صحَّف علي رضي الله عنه، في قوله:
كلُّ عِنَبٍ الكَرْمُ يُعطي ... هِ إلاَّ عنب الذِّئبِ
كل عيبٍ الكَرَمُ يُغطِّي ... هِ إلاَّ عيب الذنبِ
ذكره ابن هشام في موقد الأذهان، وموقظ الوسنان.
ومن التصاحيف الحسنة: نصَحت فخنتني: تصحيف حسن.
السمسم سرَقه عليٌّ وحياتِك: الشمس مشرقةٌ على وجَناتك.
المحتسب طرح سبايِك: المحب ينتظر حسناتك.
ومما وقع منه بديهة، أن المعتمد بن عبَّاد سايرَ ابن عمار وزيره، في بعض أرجاء إشبيليَّة، فلقيتهما امرأة ذات حسن مفرط، فكشفت عن وجهها وتكلَّمت بكلام لا يقتضيه الحياء، وكان ذلك بموضع الجبَّاسين الذين يصنعون الجبس، والجيَّارين الذين يصنعون الجير.
فالتفت المعتمد إلى موضع الجيَّارين، وقال: يا ابن عمار، الجيَّارين.
ففهم مراده، وقال في الحال: يا مولانا، والجبَّاسين.
فلم يفهم الحاضرون المراد، وتحيَّروا.
فقال له المعتمد: لا تبعها منهم إلا غالية.
وتفسيرها أن ابن عبَّاد صحَّف الحيا زَيْن بقوله: الجيَّارين، إشارة إلى أن تلك المرأة لو كان لها حياء، لازدانت.
فقال له: والجبَّاسين. وتصحيفه: والخَنَا شَيْن. أي: وهي وإن كانت جميلة بديعة الحسن، لكن الخَنَا شَيْن. وهذا شاذ لا يُلحق.
وذكر في اليتيمة أن قَسْورة بن محمد كان من أولع الناس بالتَّصحيفات، فقال له أبو أحمد بن أبي بكر الكاتب: إن أخرجت مُصحَّفاً أسألك عنه، وصلتك بمائة دينار.
فقال له: أرجو أن لا أقصر عن إخراجه.
فقال أبو أحمد: في تنور هينم حمد. فوقف حمار قسورة، وتبلد طبعه.
فقال له: إن رأى الشيخ أن يمهلني يوماً فعل.
فقال أمهلتك سنة. فحال الحول ولم يخرجه.
فقال له أبو أحمد: هو اسمك، قسورة بن محمد. فازداد خجله وأسفه. انتهى.
فانظر تبلد طبعه العراقي مع توقد ذلك الطبع الأندلسي، فمثل هذا مما يقضي لأهل الأندلس بكمال الفِطنة والتيقُّظ.
والمعجز الباهر لهم، ما حكاه بعضهم، أن ملكاً من ملوك طلب من وزيره أن يملِّكه ابنته، وكانت جميلة، فأبى، فحبسه ثم أطلقه بعد مدة، واستدناه إليه، وساءله عن حاله.
فقال: أندلسي.
يعني: أن ذُلِّيَ بيِّن.
فقال له: أندلسي.
يعني: أبذل شيء.
فقال: أندلسي.
يعني: ابذُل بيتي.
فقال له الملك: أندلسي.
يعني: أنذَلُ شيء.
فقال له: أندلسي.
يعني: أبذُل بنتي.
فقال الملك: أندلسي.
يعني: أُبدِل نيَّتي.
فقال: أندلسي.
يعني: ايدك ينبى.
ومثله في سرعة البديهة قول بلنْسي من أهل الأندلس، وقد سئل عن بلده، فقال: أربعة أشهر. يريد: ثلث سنة، وهو تصحيف بَلَنْسِية. انتهى.
وأما المعاياة، فقد ذكرت منها قولي: حسبك حسنك عزًّا غَزَّا قلوبنا فلوَيْنا الأعنَّة إلاَّ عَنْه.
وقد ذكروا منها ما وقَّع بعض الخلفاء إلى صاحب له، شكا الرعية من ظلمه: غرَّك عزُّك فصار قُصار ذلك ذلَّك فاخش فاحش فعلك فعلَّك تهدا بهذا.
ومنه: وقد وفد وصيف وصنَّف رجاله رجَّالة يريد يزيد الحائن الخائن الجائر الحائر فالتَقوا فالتَفُّوا فيالَ قِتالِ قَوْم قَوَّم حربهم حزبهم.
ومنه: يا بنيَّ نابني أمرٌ مجدود محذور، عليه علَّته تقرع تُفزع قلبي فلُبِّي والِهٌ وإله أحمدَ أحمدُ.
أخوه مصطفى طلع بدره تماما، وانسجم لفظه غَماما.
فأضاءت معاليه وأشرقت وأُغِصَّت حاسديه وأُشرقت.
ولقد لقيته بمكة جوار الرُّكن والحطيم، وهو مفحم قسٍّ وقيس بن الخطيم.
وأنفاسه ثمَّة طيبة النفح، وذكره المعنى من العقيق والسفح.
يراح إليه ويُغدى، وهو يتوسَّع ترفها وعيشا رغدا.
فكنت له مالكاً، وكان هو لي عقيلاً، أرتاد له معرسا فيهيئ لي مقيلا.
وكانت عشرتي معه فرشها المحامد، وخدمها الشاكر والحاسد.
شكراً يملأ سامعتي الغوْر والنَّجد، وحمداً يهزُّ عطفي السُّؤدد والمجد.
وذكر لي من حديث فراقه لمحلِّه، وتنكبه لشدِّ مطيَّته ورحله.
أنه كان في حجر خاله وهو دون التَّمييز، وقدَّر الله له المهاجرة فأصحبه في كنفه الحريز.(1/123)
ثم رحل في شبابه واغترب، ونقَّب في الحجاز واليمن للتَّحصيل واضطرب.
حتى استقرَّ بالحرم المكِّي فامتزج بقطانه، واشتغل بذخائر فضائلهم عن أهله وأوطانه.
وله عندهم منزلة به تليق، ومرتبة هو بها خليق.
وقد جمع تاريخاً سال فيه من طبعه معينه، وطلعت في قصور طروسِه أبكاره وعينه.
وكنت سمعت به ولم أظفر منه بالعيان، فلمَّا رأيته اتَّضح لي في حينه صدق البيان.
ورأيت جمعاً يجمع من دبَّ ودرج، حتى يقول من رآه: حدِّث عن البحر ولا حرج.
ما شِيت من ترتيب غريب، وتطريب من بنان أريب.
إلى جزالة مشربة بحلاوة، وسهولة متدفِّقة بطلاوة.
إذا قال لم يترك مقالاً لقائل، ونفسه فيه طويل إلا أنه لا يخلو من طائل.
وهو بسبب سعة اطِّلاعه، وشدة قيامه بالطريقة واضطلاعه.
لا يقتصر على ما ينبغي، ولا يمنع من الذكر المبتغي.
وبالجملة، فشكر الله عليه سعيه، وتولَّى بعض عناية حراسته ورعيه.
وكان أوقفني على مجاميع بخطِّه، فاقتطفت منها ما حلا وطاب، وملأت من بدائع ذخائرها النَّفسية الوِطاب.
فمما تناولته من شعره، قوله:
حدِّثا عن صبابَتي واصْطِبارِي ... وارْوِيا لوعَتي العذارِ
وخذا عنِّي الهوى فحديثي ... صحَّ فيه وسُلْسِلتْ أخباري
يا رفيقيَّ من زمان التَّصابي ... والتَّصابي مَظِنَّةُ الادِّكارِ
علِّلاني بالخَنْدريس لَعَلِّي ... أرشُق القلبَ بارْتشاف العُقارِ
واسْقِياني وروِّحاني برَوْحٍ ... كالعقيق المُذابِ وَسْط النُّضارِ
من يَدَيْ شادنٍ بنفسي أفْدي ... هِ مليحاً خلعتُ فيه عِذارِي
مائِسِ القدِّ أحمرِ الخدِّ أحْوى ... كاملِ الحسنِ أهيَفٍ مِعطارِ
إن تبدَّى في ظلمةِ الليل أبْدَى ... من سَناه لنا ضياءَ النَّهارِ
وإذا مارَنا بطرفٍ خفِيٍّ ... سلبتْ مُقلتاه منِّي قَرارِي
وإذا زارَني على غيرِ وعدٍ ... عبقتْ ريحُه إلى كلِّ دارِ
كم أُدارِي العَذولَ والوجدُ قاضٍ ... بافْتِضاحِي في حُبِّه واشْتِهارِي
ساحِرِي باللِّحاظِ ماذا عليه ... لو يُوافِي مُضْناه في الأسْحارِ
وكتبت إليه وقد توجَّه إلى الطائف، وتخلفت أنا بمكة:
ليس عندِي ما أرْتَجِي من زَمانِي ... غيرَ لُقياك يا أجلَّ الأمانِي
فعلى كل حالةٍ أنت قصدِي ... ومُنايَ وأنت نورُ عَيانِي
ى أرى العمرَ بعد بُعدِك إلا ... حَسَراتٍ قد أرْدفتْ أحزانِي
غيرَ أنِّي أعلِّل القلبَ والفكْ ... رَ بذكْرِي ثَناك في كلِّ آنِ
لا لأنِّي أنْساك أُكثِر ذكْرا ... كَ ولكن بذاك يجرِي لِسانِي
ثم دعاني الشوق إلى ذلك الوادي البهيج، والمتنزَّه الذي يأخذ على البصر بمنظره الرَّهيج.
فشمَّرت لقصده عن ساق الهمَّة، وجعلت رؤيته عندي من الأمور المهمَّة.
فخرجت من مكة وطرفي من الدمع بالقذى ملآن، إلا أني أذكر مياه ذلك الوادي فلا أبيتُ إلا بغُلَّة ظمآن.
وكان عرض لي في الطريق نفرةٌ من لصٍّ طائف، فكدت أن أصير أتْيَهَ من فقيد ثقيف بالطائف.
ثم سلَّم الله فحللت بطنَ وَجّ، ونزلت بوادٍ تزوره السَّرَّاء من كل فَجّ.
وكان مُناخي بالسَّلامة أجمل مواضعه وأبهاها، وأحبِّها إلى النفوس وأشهاها.
لإحلاله محلَّ النور من الإنسان، وإشرافه على فضاء يبعد فيه النَّظر إذا وقف للاستحسان.
ما بين غصون مُلتفَّة، ومياهٍ بجدرانه مُحتفَّة.
ونادٍ يفوح أرجُه، ووادٍ يلوح منعرجُه.
أتيتُه من بعد ما كاد الرَّدى ... يوردني مواردَ النَّدامهْ
فالحمدُ لله على رؤيتهِ ... والحمدُ لله على السلامهْ
ولقيت به المترجم وقد وطَّأ فيه للرفاهية مضجعاً، ومهَّد للعيش النَّضر مهجعاً.
وثمَّة جماعة من الأودَّاء أكسبهم الله محبة كل فؤاد، وزرع لهم المودة في ملأٍ به ألف واد.
فانحزت في غمارهم، وتمتعت حيناً بتحف أسمارهم.(1/124)
وأذكر يوماً مرَّ لي معهم في روض اخضرَّت أشجاره، وتنفَّست عن المسك أسماره.
مهزَّة نبته ريَّانة، وصبوات سحبه حنَّانة.
ماؤه يبوح صفاؤه بأسراره، وتلوح حصباه في قراره.
ونحن ننفض أعطافنا أريحيَّةٍ، ونتهادى رياحينه تحيَّة.
وبيننا حديث مستعذب، يهزُّ العطف اهتزاز العذب.
فقلت أصفه:
لله يومُ الطائفِ البهجِ الذي ... نِلنا به أسنى منًى وأماني
مع فتيةٍ غُرِّ الوجوه حديثُهم ... مسترقصٌ لمعاطف الأغصانِ
رأتِ انتظامَ كلامهم أزهارُه ... فتناثرتْ في ساحة البستانِ
وكذا الدَّراري لم يرُقها نظمها ... فرمتْ بأنفسها إلى الغُدرانِ
ولما فارقتهم وجئت إلى مكة على طريق كرى، وهو الذي يقول فيه شاعرهم:
عُجْ عن كرى فهو مزيجُ الكرى ... والنفسُ منه نفساً تخرجُ
وفي الهَدى ضد الهُدى مساكنٌ ... يوشك من يسلُكه يخرجُ
كتبت إلى المترجم: حالي بعد فراق أخي حالُ من فقد الروح، وأضحى منازع الجسم المطروح.
وشوقي شوق الظمآن، لماء الغُدران.
والساري في الظلام، لتبلُّج البدر التَّمام.
وأما حديث سفرتي التي أنكت، وأذكت حرَّ هجيرها فأبكت.
فمن حين ودَّعت، أودعت القلب ما أودعت.
لم تغلط بي راحةٌ إلا إلى الهَدى، ومنها بان عني الرشد وأخوه الهُدى.
فعلوت ذروةً أرتني نجوم السماء مظهرة، وهبطت نجوةً كشفت لي تخوم الأرض مظهرة.
فترجَّلت هيبة وذعرا، وسلكت مسلك ما رأيت مثله وعرا.
والرُّفقة كلٌّ منهم في واد، وبرؤيتهم قرناء احتاجوا إلى قوَّاد.
لكنَّ منهم من تاه وضلَّ، وأدركه الإعياء فسئم الحياة وملَّ.
ومنهم من أخذته الحيرة، واستولت عليه من أحلامه في كراه الظَّهيرة.
ومنهم، وهم الكثير، مؤتمون موجوعون، زمرتهم: " إن لله وإنا إليه راجعون ".
وأما أنا، فلو رأيتني وعصايَ لقوس قدِّي وتر، وقد جئت من كل نهزة للتَّهلكة على قدر.
وأيست من السَّلامة، وعدت على نفسي بالملامة.
رأيت شيخاً وقف على ثنيَّة الوداع، وسلَّم نفسه للحتف إمَّا بالطمأنينة أو بالخداع.
ولم يبق منِّي إلا نفسٌ خافت، وجسم من النصب هافت.
فما تخطَّت في التَّخطِّي لي قدم، إلا وأخطأت خطأ كلُّه ندم، وعثرت عثرةً غصَّانةً بدم.
حتى لطف الله تعالى بلطفه، وأولاني فريد رأفته وعطفه.
فرأيت المحطَّة وأحسبني بها حالما، وما تحقَّقت البقاء، علم الله، حتى وصلتها سالما.
فقعدت أنفض غبار الموت، وأتفقد قواي فأرى قد فات فيها الفوت.
سوى بقيةٍ لم أعدم بها فضل الأقوات، وأحسب لأجلها من أحياء الأموات.
فلم يستقر قرارنا حتى شدُّوا من ذلك المكان، فانْحلَّ من عقد عزمي ما كان في حيِّز الإمكان.
ثم رحَّلنا العِيس، على ذلك الرأي التَّعيس.
وسرنا إلى أن وصلنا إلى شداد، ونحن نطلب من الله تعالى أن يمدَّنا منه بأمداد.
فما نزلْنا حتَّى ركِبنا ... والحالُ باقٍ وفيه شدَّهْ
فوقفت ممتثلاً، وأنشدت قولي متمثِّلا:
شدُّوا فحلُّوا فؤادِي ... وكثرةُ الشَّدِّ تُرخِي
فنزلنا بعد ربع الليل عرفة، ورأى كلٌّ منا صاحبه وعرفه.
فوقفنا، وما توقَّفنا.
إلى أن هيَّأوا لنا مراحا، وما تقيَّدوا به إلا وهم يبغون سراحا.
فجلسنا بعضنا شاكٍ فقد أحبابه، والبعض الآخر شاكٍ من الحجارة وما أصابه.
وأنا بينهم ساكتٌ ألفا، وناطقٌ خلفا.
كيف وقد خلَّفت ما يورث الهذيان، وتأبى مواقعه أن يحوم حوله النِّسيان.
ثمَّ انْكفأنا انْكفاء الحَيا، ولسان الحال يقول: لا سقياً ليومنا ولا رعيا.
فما راعنا إلا المُكاري وحزبه ينادون: هيَّا فاركبوا، طلع الفجر.
فأبعدوا المدَى، وأزعجوا الصَّدى.
فنهضت من مرقدي نهضةً جفلة، وما أحسبني تنبَّهت من غفلة.
وركبت الليل البهيم، والشَّوق إلى الرقاد شوق الهيم.
وما برحنا في برحٍ وعنا، حتَّى وصلنا مع الشروق إلى مِنى.
فقلت لرفيقٍ لي انتخبته، ولمثل هذا الأمر انتجبته: هلمَّ فلنسترح ونرح، ونقيل في هذا المكان المنشرح.
فقلت وقال، وأقلت عثرة الدهر وأقال.
واطمأنَّ بنا الجلوس حصَّة، وأرحنا بها مضَّة وأزحنا غُصَّة.
وأخذنا جانباً من النوم، إلى أن نصَّفنا ذلك اليوم.(1/125)
ثم ركبنا الطريق، وفي القلب إلى الخريق أشدُّ الحريق.
فلم تكن إلا هنيئة وصلنا فيها الحرم الآمن، وبثثنا ما في الضَّمائر من الشوق الكامن.
وفارقت رفيقي وأنا على عهده الأمين، وذهب ذات الشِّمال وذهبت ذات اليمين.
وآليت لا تحرَّيت كرى ثانيا، ولا ألويت عنان عزمي لثنيته ثانيا.
ولو جعلت الجبال دكًّا، وأعطيت أرض الحجاز ملكاً.
وأنشدت:
إن كرى خصمُ حياتِي فلا ... رأيتهُ أخرَى ولو في كرَى
فراحتِي من يومِهِ أصبحتْ ... كواصِلٍ لِما رأتْني كرَى
وإن من أقطعِ روعاتِهِ ... لجُّ المكارِي في كِراما كرَى
وكتبت إليه من دمشق: أهدي من طيِّب التَّحايا، عدد فضائل سيِّدي السَّامية، ومن التَّحيَّات المقرونة بنشر المزايا، قدر أيادِيه الفائضة النَّامية.
وأما تشوُّقي للقائه، وتشوُّفي لتلقِّي الأخبار من تلقائه. فكما قلت:
شوقي لتلك اللُّقيا ... شوقُ الرُّبى للسُّقيَا
وحقِّ من ميَّزه ... بين الورَى للعليَا
مااعْتضتُ عنه بديلاً ... بكلِّ من في الدُّنيَا
وقلب سيدي شاهدٌ بودٍّ منِّي مرسل متَّصل، وحديث دعاءٌ مرفوع إلى القبول غير مقطوع ولا منفصل.
وغاية المسْئول، ونهاية المأمول، أن ييسِّر الله تعالى حالةً يعود بها الأنس إلى أحسن نضرته، ويعيد لنا تلك الأوقات السعيدة المسعودة بحضرته.
إبراهيم بن محمد السَّفرجلانِي أحسن المحاسن العصريَّة، وآدابه أذكى الرياحين الطَّريَّة.
نبغ نبغة الغصن النَّضير، فجاء بحمدِ الله عديم النَّظير.
فطلاقته لو خلِعت على الدهر ما ريعَ به فؤاد، وغُرَّتُه لو سالت بليل السَّليم ما بقيَ بها سواد.
صقل نوره قبل انشقاق الكمائم، وتطوَّق العلياء قبل أن يتطوَّق التَّمائم.
ومع ذلك فلا تُلفَى الدَّنِيَّة لديه، ولا تألف الفحشاءُ بُرْدَيه.
وهو يهتزُّ لكلِّ لُبانة، كأنه عِطف بانَهَ.
ويترنَّح غصناً رطيبا، ويهُبُّ عرفاً عطِراً وطِيبا.
وهو حليفي الذي ارتبطت معه على وُدٍّ مُؤثَّل، وأليفي الذي شخصه نأى أو دنا في عيني ممثَّل.
ما زلت في حبِّه متَّصل العلائق، وكلانا على المودَّة مُصفَّى الخلائق.
وأنا أوصَف لبدائعه، من الزُّجاج لودائعه.
وأكْلف ببنات فكرِه، من سَمَر الكرام بذكْرِه.
ولي في بقائه أملٌ أرجو من الله أن لا يفيته، وهذا دعاءٌ بظهر الغيب لو سكَتُّ كُفيتُه.
وقد تناولت من أشعاره ما يطيب استعذابه، وأثبتُّ منه ما يستدعي القلبَ إليه نِزاعه وانْجذابُه.
فمن ذلك قوله:
جُؤذُرٌ عن من ظِبا تيْماءِ ... ذو جفونٍ تصيدُ بالإيماءِ
ليِّنُ العِطْف كالقضيب ولكن ... قلبه مثل صخرةٍ صمَّاءِ
عرَبِيُّ النِّجار إن نسبوه ... نسبوه إلى ابنِ ماءِ السَّماءِ
مولعٌ بالجيادِ يختار منها ... ما يُجارِي سِربَ القطا للماءِ
عَمُّموه بشملةٍ فاجْتلينا ... منه بدراً يضيء في الظَّلماءِ
سَلَّ صمْصامَ لحظِه وتصدَّى ... في طريق الهوى لسفكِ الدماءِ
وقوله مضمِّناً:
لما غدتْ وجناتُه مرقومةً ... بعِذارِه وازْداد وَجْدُ مُحبِّهِ
نادى الشَّقيقُ بها زَبرْجَدَ صُدغِهِ ... يا صاحبي هذا العقيقُ فقِفْ بهِ
وكتب إلي، ويخرج منه اسم محمد بطريق التعمية:
مولاي هل تحظَى بقربِك مهجةٌ ... أطَلْتَ بنيرانِ البِعاد عذابَها
وهل لأُوامِ القلب يوجَد مخْمِدٌ ... فحبَّتَه حَرُّ الفؤاد أذابهَا
فأنشدته قولي، ويخرج منه اسم إبراهيم:
إذا أعوَز الرِّيُّ المُجِدُّ بهمَّةٍ ... ونازلَه كربٌ مُلِحٌّ وتبْريحُ
فذكرُك ماءٌ للسبيلِ ارْتوَى به ... صَداهُ وفيه الرَّاحُ للقلبِ والروحُ
وعمله كله فارسيّ، وإليه الإشارة بالرَّيّ البلدة المشهورة في العجم، والماء: آب، والسبيل: راه، وره، كما يقولون للقمر: ماه، ومه. وفيه صنعة باعتبار أن إبراهيم يُكتب بألف وبدونها، فلك الخيار فيه. والراح: مي، وقلبها: يم.
وسمع قولي، من أبيات:(1/126)
إذا فوَّقت سهمَ المنون جفونُه ... لقلبٍ سوى قلبي تمنَّيتُه قلبي
فجاءني يوماً وقد نظم هذا المعنى، وتصرف فيه تصرُّفات شتَّى.
فمنها ما أنشدنيه، وهو قوله:
وراشقٍ لم يطِشْ سهمٌ لمُقلته ... ولم أكنْ عن هواه قطُّ منصرفا
فكلما فوَّقت نَبلاً عرضتُ له ... كيلا يكونَ سوى قلبي له هدفا
ومنها قوله:
ريمٌ تصدَّى للرمايةِ لحظُه ... يُصمي القلوبَ ولا جُناحَ عليهِ
فإذا رمتْ سهما إليّ جفونُه ... جاراه قلبي في المسيرِ إليهِ
ومنها ما قاله مضمناً:
ومُثبِّتٍ سهمَ نجلاوَيهْ في كبدي ... كأنه الرِّيمُ يعطو نحو مرتِعهِ
يقول قلبي لسهمٍ قد رماه به ... أهلاً لما لم أكن أهلاً لموقعهِ
وأنشدني من لفظه لنفسه:
يا لؤلؤاً أصدافهُ الياقوتُ ... قلبي عليك صبابةً مفتوتُ
لقد ابتسمتَ فلاح منك لناظري ... سِمطٌ بكل ملاحةٍ منعوتُ
أحببْ به سمطاً تناسق درُّه ... فأتى بديعَ النظمِ وهو شتيتُ
يستوقفُ الأبصارَ باهرُ حسنهِ ... فالطَّرفُ في لألائه مبهوتُ
عجباً له درًّا على ما فيه من ... صِغرٍ له بين الجواهرِ صيتُ
عزَّ الوصولُ إليه يا قلبي فمُتْ ... كمداً فحارسُ كنزِه هاروتُ
قلت: هذا شعرٌ هاروتُ تلميذ إفادته، وشاعره فتحُ خزائن الجواهر في كفِّ إرادته. وأنشدني قوله:
خلِّ الذنوبَ ولا تهمَّ بفعلِها ... فأخو الذنوبِ طويلةٌ حسراتُهُ
واجْنح إلى التقوى فطُوبى لامرئٍ ... غلبتْ على آحادِهِ عشراتُهُ
وقوله:
حاذِر إذا وافيتَ جرعاءَ الحِمى ... ريماً هناك من الصِّبا في شرخِهِ
لا يخدعنَّك تحت عطفةِ صُدغِه ... خالٌ فذاك الخالُ حبَّةُ فخِّهِ
تصيَّده من قول بعضهم:
لا غرْوَ أن صادَ الفُؤاد بنظرةٍ ... ريمُ المهَا فله بذاكَ أشايِرُ
في خدِّهِ فخٌّ لعطْفةِ صُدغهِ ... الخالُ حبَّتُه وقلبي الطائِرُ
وأنشدني من لفظه لنفسه، ما هو منه في صيَّاد:
أفْديهِ صياَّداً تعوَّد في الهوَى ... أخذ القلوب بمكرِه وبكيدِه
كم صادَ قلباً طارَ نحو جمالِه ... والخالُ تحت الصدغِ آلةُ صيدِهِ
وأنشدني قوله:
أرسلَ فوق الجبينِ طرَّتهُ ... وفوَّق اللَّحظ سهمُه النَّافِذْ
فيا جريح الفؤادِ زِدْ سهراً ... فليلُه من نهارِه آخِذْ
وأنشدني قوله، معمِّياً في اسم حيدر:
رأى زيدٌ وعمرٌو وجه من قدْ ... أقام عِذاره في الحبِّ عذرِي
فنكَّس رأسهُ زيدٌ حياءاً ... وولَّى وهو يسحب ذيل عمرِو
أراد بتنكيس رأس زيد عدده الهندي، وذيل عمرو، هو الراء هنا؛ لأن القافية هنا دالَّة على الفرق بينه وبين عمر، وهم ذكروا أن الواو لا تثبت إلا للفرق.
وأنشدني قوله أيضاً:
ذكرتُ له يوماً بمجلِس أُنسِه ... أبا الدُّر ياقوتاً وأطنبتُ في الذِّكْرِ
فقالَ فذا وصفٌ يقومُ بمبسمِي ... فمبسميَ الياقوتُ وهو أبو الدُّرِّ
وقوله منه أيضاً:
يقولُ لي جِيدُه الفضِّيُّ حين زهَا ... بمسكِ خالٍ على ذاك البياضِ نقَطْ
كَنَوا أبا المسكِ كافوراً لقد غلِطُوا ... أنا أبو المسكِ كافورٌ بغير غلَطْ
وأنشدني قوله، وهو معنى أبرزه ولم يسبق إليه، فاستحقَّ به التبريز، وجاء به أنفس من الإبريز:
كفُّوا الملام ولا تعيبُوا زهرةً ... في وجْنتيهِ تلوحُ كالتَّطْريزِ
فالحسنُ لمَّا خطَّ سطر عِذارِه ... ألقَى عليهِ قُراضةَ الإبريزِ
وأنشدني هذه السِّينية السَّنية التي هي أشهى من الأمنيَّة، تفلَّتت من المنيَّة:
خلِّ طيَّ الفَلا لحادِي العيسِ ... وانْفِ همِّي بالقهوة الخندريسِ
طُفْ بها كي ترَى النواظِرُ فيها ... عسجداً ذاب في لُجيْنِ الكؤوسِ(1/127)
ولِتُرنِّحْ عِطفي برقَّة لفظٌ ... منه عوِّدتُ لقطَ درٍّ نفيسِ
في رياضٍ كأنَّما لبستْ من ... حوْكِ صنعاء أفخرَ الملبوسِ
قد تحلَّتْ من طلِّها بعقودٍ ... وتجلَّتْ في حلَّة الطَّاووسِ
وزكَا عرفُ طيبِها فحسِبْنا ... نفحةً قد سرتْ من الفردوسِ
وتغنَّى مُبهْرمُ الكفِّ فيها ... بغِناءٍ يشوق شجْوَ النفوسِ
قد أتيْنا مسلِّمين فردَّتْ ... هِيفُ باناتِها بِخفضِ الرُّؤوسِ
قمْ نجدِّد عهودنَا يا ابنَ أُنسِ ... في رُباها فأنت خيرُ أنيسِ
فأنا في هواك محزون قلبٍ ... بين شوق مقلَّبٍ ورَسيسِ
وامْنح العينَ أن ترَى منك يوماً ... حسْن وجهٍ يُخفي ضياء الشموسِ
سطوراً كالمِسكِ فوق طروسٍ ... من شقيقٍ أحببْ بها من طروسِ
وأمِطْ لي عن سِين تلك الثَّنايا ... فعساهَا تكون للتَّنفيسِ
وأنشدني قوله:
حتَّى مَ يا ظبيَ الكِناسِ ... أحنو عليك وأنت قاسِ
أغريتَ بي سُقم الجفو ... نِ فملَّ منِّي كلُّ آسِ
ونسيتَ عهداً لم أكنْ ... أبداً له وأبيك ناسِ
مولايَ لا تمتدَّ في ... هجرِي فقد عزَّ المُواسِي
مرْني فأمرك بالَّذي ... تهوَى على عيني وراسِي
هذي الرِّياض قد انْجلتْ ... في حلَّتي وردٍ وآسِ
فاجْلُ المُدام أبا الحسي ... نِ وحيِّني منها بكاسِ
واسْتنطق الوترَ الرَّخي ... مَ عن الفُؤادِ وما يُقاسِي
وأنشدني قوله:
يا صاحِبي عجْ بالمطيِّ على الحِمى ... فعسَى تلوح لناظِريَّ شموسُهُ
فهناك يسْتملِي ابن مقلةَ قصَّةً ... منِّي فيكتُب والخدودُ طُروسُهُ
وأريك شوقاً لا يقاسُ بغيرِه ... بتوقُّد الجمراتِ كنت تقيسُهُ
بان الخليطُ فلا تسلْ عن حالتِي ... ما حال من قد بان عنه أنيسُهُ
ودَّعتُه ورجعتُ عنه كأنَّني ... ذو نشوةٍ كارتْ عليه كؤوسُهُ
لم أنسَ إذْ غنَّى له الحادِي ضحًى ... وتراقصتْ تحت الهوادِجِ عِيسُهُ
ورمَى ابن عمِّ الظَبي لي بإشارةٍ ... أخذ الفؤاد بها فهاجَ رسيسُهُ
لا غرْوَ أن جذب الفؤاد بنظرةٍ ... فرنُوُّ نجلاويهِ مِغناطيسُهُ
وأنشدني لنفسه قوله:
رشق الفؤاد بأسهمٍ لم تُخطِه ... ريمٌ يشوق الريمَ مهوَى قرطِهِ
من ذا عذيرِي في هوَى متلاعبٍ ... قد راحَ يمزُج لي رِضاهُ بسخطِهِ
أعطيتُه قلبي وقلتُ يصونهُ ... فأضاعهُ يا ليتني لم أعطِهِ
وثناهُ عن محْضِ المودَّة رهطُه ... فعناءُ قلبي في الهوَى من رهطِهِ
وقد اشْترطْنا أن ندوم على الوفا ... ما كنتُ أحسبُه يخلُّ بشرطِهِ
كيف الخلاصُ ركبتُ بحراً من هوًى ... شوقاً إليه فشطَّ بي عن شطِّهِ
علِّقْتُه ريَّان من ماء الصِّبا ... كالروضِ أخضلهُ الغمامُ بنقطِهِ
غضَّ الشَّبابِ وهذه وجَناتُهُ ... قد كاد يقطُر ماؤها من فرطِهِ
يجلُو عليك صحائِفاً وردِيَّةً ... رقَم الجمالُ بها بدائِع خطِّهِ
وتُريك هاتيك المعاطِف بانةً ... تهتزُّ ليناً في مُنمنَمِ مرطِهِ
وتُخامِر الألباب منه فكاهةً ... تُلهِي حليفَ الكأسِ عن إسفنْطِهِ
لو بتَّ تسْتملِي لطائِفه التي ... ضاهتْ بروْنقِها جواهِر سمطِهِ
لدَهِشتُ إعجاباً بلؤلؤ لفظِه ... ومددتُ كفَّك طامِعاً في لقطِهِ
قلت: هذا الشعر من الأشعار الباسقة، ما مدَّت الأيدي لالتقاط مثل درره المتناسقة. وأنشدني قوله:(1/128)
يا زوْرَةً سمحَ الخيا ... لُ بها وبات مُعانِقِي
خاضَ الدُّجنَّةَ طارِقاً ... أكرِم به من طارِقِ
وأْتَمَّ ساحة عاشِقٍ ... في جُنحِ ليلٍ غاسِقِ
وأتَى يجدِّد بالصَّبا ... بةِ عهد صبٍّ وامِقِ
فجرتْ لطائِفُ بين مع ... شوقٍ هناك وعاشِقِ
وخِلالها قبلٌ تلذُّ ... ورشفُ ريقٍ رائِقِ
وسألتُ ذاك الرِّيمَ عن ... سببِ الصُّدود السَّابقِ
فانْهلَّ منه ما يُري ... كَ الطَّلَّ فوق شقائِقِ
وافْترَّ لي ياقوتُهُ ... عن لؤلؤٍ متناسِقِ
وصفَا هنالك موردٌ ... بين العُذيْبِ وبارِقِ
وأنشدني قوله:
أقول لقلبي وهو عند اضْطِرابِهِ ... وقاتِلهُ لم يمضِ لم تحسِن العِشقَا
فقال اضْطِرابي خشيةً من فراقِهِ ... وفيَّ حياةٌ ليس يحسُن أن تبقَى
وقوله معمِّياً باسم دلاور:
قد أبرزَها من باطِن الإبريقِ ... صهبَا تُحاكِي وجنةَ المعشوقِ
ما ضرَّ شُويْدِناً جَلا أكؤسَها ... لو دار بها ممزوجةً بالرِّيقِ
وقوله:
إن غَضَّ عن تلك العوارِض عاذِلي ... طرْفاً فقد أصبحتُ من عُشَّاقِهَا
وتجنُّب الأفعى الزُّمرُّدَ إنَّما ... هو غَيْرةٌ منه على أحداقِهَا
من خاصِّيَّة الزمرد أن الحيات إذا نظرتْ إليه سالت أعينها.
ومثله ما ذكروه في خواصِّ العقيق، أن التختُّم به يُبطِل السِّحر.
وللصَّفِيِّ الحلِّيّ:
قِيل أن العقيقَ قد يُبطل السِّحْ ... رِ بتختِيمِه لِسرٍّ حقيقِي
وأرى مُقلتيك تنفُثُ سِحْ ... راً وعلى فِيكَ خاتَمٌ من عقيقِ
ومن الخواص المذكورة للرِّيق، أنه يقتل العقرب.
قال أبو الصَّلت الإشبيليّ:
دبَّ العِذارُ بخدِّه ثم انْثنَى ... عن لثْمِ مبسِمه البرُودِ الأشنَبِ
لا غَرْوَ أن خَشِيَ الرَّدَى في لثمِهِ ... فالرِّيقُ سَمٌّ قاتلٌ للعقربِ
وأنشدني لنفسه قطعتين، ما أظنهما إلا من رياض الجِنان مقتَطَعتيْن. فالأولى هذه:
قد نضَى طرفُه الكحيلُ حُسامُه ... فاسْألِ الله يا فؤادِي السلامَهْ
فاتِكٌ قد سطَا بألحاظِ ريمٍ ... بلَّغتْهُ من القلوبِ مَرامَهْ
ناقصٌ للعهودِ ليس يُراعِي ... ذِمَّةً للَّذي يُراعِي ذِمامَهْ
قد تعشَّقتُه ربيعَ جمالٍ ... يملأ العينَ بهجةً ووَسامَهْ
شَطَّ عنِّي فليس لي مُذ تناءَى ... مُسعِدٌ في هواه إلا حَمامَهْ
ذكَّرتْنِي عصراً رقيقَ الحواشِي ... بالحِمى ظَلْتُ ناهباً أيَّامَهْ
ما تذكَّرتُ عيشَةُ الغَضَّ إلا ... هطلَتْ أدمعِي عليه نَدامَهْ
يا نسيماً من عنبَرِ الشِّحرِ أهْدَى ... طِيبَ أنفاسِه لنا شمَّامَهْ
إن تيَمَّمتَ ساحةَ الحيِّ وَشَّى ... ساحةَ الحيِّ دُرَّ دَرِّ الغمامَهْ
حيِّي عنِّي أقاحِ تلك الرَّوابِي ... ثم قبِّل ثُغورَه البسَّامَهْ
والْوِ عِطفَ القضيبِ نحو أخيهِ ... ليُطِيل اعْتناقَه والْتزامَهْ
واقتطِفْ من حدائق الحسنِ ورداً ... نقَّطتْ فوقه من المسكِ شَامَهْ
وارْتشِفْ من خِلال تلك الرَّوابي ... قاطِر الشُّهدِ خالطْتهُ مُدَامَهْ
واعْتنِق في مُنَمْنَمِ البُردِ خُوطاً ... رنَّحتْ خمرةُ الشَّبابِ قَوامَهْ
ولْتُلاعِب له ذُؤابةَ شَعْرٍ ... قد تدلَّتْ فقبَّلتْ أقْدامَهْ
وهذه الثانية:
يا وردةً من فوق بانَه ... سِحرُ المحبَّةِ من أبانَهْ
أخفيتُه عهدِي وقدْ ... غلْغلْتُ في قلبِي مكانَهْ
وكتمتُ أمرَ صَبابتِي ... وسدَلْتُ أسْتارَ الصِّيانَهْ(1/129)
ما كنتُ أحسبُ أن يكو ... ن الدمعُ يوماً تُرْجُمانَهْ
لولا وضوحُ الأمرِ ما ... أغْرَى بنا الواشِي لسانَهْ
ولَوَى عِنانكَ عن شَجٍ ... شوقاً إليك لَوَى عِنانَهْ
يا ظَبيةَ البانِ التي ... عند القلوبِ لها مكانَهْ
كُفِّي الصُّدودَ فلَيْتني ... من طولِ صَدِّي أُرْوَنانَهْ
يوم أروَنان، وليلة أروَنانة: من الحَرِّ والغَمّ. وقال القيسي: الأروَنان، الصوت.
قد أسْكرتني مُقلتَا ... كِ كن في الأجفانِ حَانَهْ
وكرَعْتِ في ماءِ الصِّبا ... ففَضحْتِ لينَ الخَيزرانَهْ
أجريْتُ ذكرَك بالحِمى ... وقد اجْتلَى طَرفِي جِنانَهْ
فلَوَى القضيبُ مَعاطِفاً ... نظَم النَّدَى فيها جُمانَهْ
واحْمرَّ خدُّ شَقيقِها ... وافْترَّ ثَغْرُ الأُقحوانَهْ
وأنشدني قوله:
أفدِي مليحاً يفوق البدرَ مُستتِرَا ... تحت القناعِ اسْتِتارَ العينِ بالغيْنِ
العين: الشمس. والغين: لغة في الغيم.
أنْشاه مُبدِعُه كالبدرِ مكتمِلاً ... حُسناً ووَقَّاه شَرَّ العينِ والغينِ
العين: النَّظرة، والغين: حجابٌ على القلب.
منِعتُ من ثغْره عينِ الحياةِ وكم ... قد رُدَّ قاصدُ هذي العينِ بالغينِ
العين: عين الحياة، والغين: العطش.
وراعَ قلبِي فمُذ حاولتُ منه وفاً ... أتى بتصْحيف تلك العينِ بالغينِ
الحرفان المعلولان.
وأنشدني قوله:
قال صِفْ فرْعِي الذي قد تدلَّى ... فوق خَدِّي أن كنتَ من واصِفيهِ
قلت ماذا أقول في وصفِ رَوْضٍ ... قد تدلَّتْ عَريشَةُ الحُسنِ فيهِ
وذكر لي في بعض محاضراته أنه رأى قول بعض الأندلسيِّين:
واللهِ لولا أن يُقال تغَيَّرا ... وصِّبا وإن كان التَّصابي أجْدرَا
لأعدت تُفَّاحَ الخدودِ بنفسَجاً ... لَثْماً وكافورَ التَّرائِبِ عنبَرا
وقول أبي جعفر محمد المختار من شعراء الدُّمية:
قلتُ هَبِي منكِ لنا قُبْلةً ... يا مُنيةَ النفسِ وياقوتَهَا
فأغْمضْت من عينهِا مُؤْخِراً ... ورصَّعت بالدُّرِّ ياقوتَهَا
وقول الأمير منجك:
لقد زارني من بعد حَوْلٍ مُودِّعاً ... وطوقُ الدجى قد صار في قبضةِ الفجرِ
فأخْجلتُه بالعتبِ حتى رأيتُه ... يُزيح الثُّريَّا بالهلالِ عن البدرِ
فنظم هذين البيتين يلمِّح إلى هذه المقاطع:
نظرَ البنفسجُ في الشَّقيقِ مؤثِّراً ... فارْتاعَ حتى انْهَلَّ ماءُ جمالِهِ
فغدا يرصِّعُ دُرُّه ياقوتَه ... ويُزيح أنجُمَ بدرِه بهلالِهِ
وأنشدني من لفظه لنفسه:
لا تكن وَيْكَ طامعاً في سلُوِّي ... فالهوى قد نَمَا أشَدَّ نُمُوِّ
شَفَّني ذلك الشُّويدِنُ حُبًّا ... ورمانِي بسهم ذاك الرُّنُوِّ
قمرٌ في ابْتِدائِه تمَّ حُسناً ... وسمَا في الكمال أيَّ سُمُوِّ
وقضيبٌ غضُّ النَّباتِ رطيبٌ ... عُلَّ من خمرةِ الشَّبابِ ورُوِّي
حُبُّه خطَّ في فؤادِي سطراً ... أمَدَ الدهرِ ليس بالمَمْحُوِّ
يمزُج الصَّدَّ بالوِصالِ دَلالاً ... فتَرى منه قسوةً في صُفُوِّ
وهواهُ ما زالَ يُورِي لهيباً ... بين جنبَيّ ماله من خُبُوِّ
يا سقى اللهُ عهدَنَا بليالٍ ... قد جنيْنا بها ثِمارُ الدُّنُوِّ
جمعتْ شملَنَا بِكأسِ سُلافٍ ... هي أصْفَى من دمعةِ المجفُوِّ
كلَّما قلتُ يا ابن وُدِّي خُذْها ... قال لي هاتِ يا عدُوَّ عدُوِّي
السيد عبد الباقي بن مُغَيْزِل من الزُّمرة الأولى من أخلاَّئي، ومن به أشرق في إبَّان رونقه وجه اجتلائي.
فاستهلَّيت أنا وإياه العيش بدريًّا، وهززت أغصن اللَّذات غصناً طريًّا.
في زمانٍ عيون سعوده روانٍ، والآمال فيه دوانٍ، ما بين بكرٍ وعوان.(1/130)
لم تبعد فيه أرضي عن أرضه، ولم نأل فيه من القيام بنفل الودِّ وفرضه.
ولم يتنسم أحدنا أخا، إلا هبَّ الآخر معه رَخا.
وهو ممن خلصت ذاته خلوص الذهب عن اللهب، وتميَّزت بما أحرزت من نسبٍ شريف وحسب، ونشب تليدٍ ومكتسب.
شمَّر في الطلب عن ساق، وأبدى بدائع ذا حسنٍ واتِّساق.
وله براعةٌ تعرب عن لسانٍ ذليق، وذهنٌ متوقِّدٌ يزيِّنه وجهٌ طليق.
وفضلٌ يستغني عن المدح، وشعرٌ يعلِّم الحمامة الصَّدح.
قد استخرجت له ما هو كالروض المعطار، تضحك ثغور نواره عن بكاء الأمطار. فمنه قوله، وأنشدنيه من لفظه:
أوَّاه من ذلك الخِشف الذي سنحَا ... من أكسَبْ المستهام المُبتلى بُرَحا
لم أنسَ إذ مرَّ مُختالاً بقُرطَقِهِ ... من دونه ذلك القدِّ الذي رجحَا
يزور لحظاً بطرفٍ زانَه حَوَرٌ ... فكم طريحٍ على فرشِ الضَّنى طرحَا
وكم دواعِي الهوَى من كلِّ جارحةٍ ... تستخبِر القلبَ عنَّا أيَّةً جَنَحَا
وبعث إلي بهذه الأبيات، وكان وافاني يوماً لم يجدني في بيتي:
يا ماجِداً حازَ السِّيادة يافِعا ... وغدا بأثوابِ البراعة يرتدِي
من مُذكري عهدَ الشَّبيبة والصِّبا ... والعيشَ مع وصل الحسانِ الخرَّدِ
كم مرةٍ قد جئتُ نحوَ حِماكُمُ ... كي أن أفوز برؤية الوجهِ النَّدِي
فلِسوءِ حظِّي لم تجدكُم مقلتِي ... فرجعتُ من ذاك الحمى صِفرَ اليَدِ
فكتبت إليه:
مولاي من دون الأنامِ وسيِّدي ... بلَّغتنِي بالسَّعيِ أسنَى سُؤدُدِ
قد جئتنِي والبيتُ مني مُقفِرِ ... من سوءِ حظِّي في الزَّمان الأنكَدِ
هي عادةُ الأيَّام أرجو صاحِباً ... فيصدُّه قدرٌ عليَّ بمرصَدِ
وإذا أبيْتُ فتًى وعِفتُ دُنُوُّه ... ألفيْته نفَسِي يروح ويغْتدِي
وأنشدني من لفظه لنفسه:
كلما رُمتُ خلاصاً من هوَى ... ظَبْيِ إنسٍ حَبَّةَ القلبِ ملَكْ
قال لي حُسنُ هَواه كم له ... من شَجٍ مثلك مُلقًى في الفلَكْ
وأنشدني قوله:
قلتُ إذا جاءَ صاحبِي ... يشْتكي حُرقةَ النَّوَى
كيف شَكواك إننا ... كلُّنا في الهوَى سَوَا
وهذا المصراع قد أكثر الناس من تضمينه، وأشهر تضامينه قول بعضهم:
قُل لمن جاءَ يشْتكِي ... باهتمامٍ من الهوَى
لا تَفُهْ بالذي جرَى ... كلُّنا في الهوَى سَوَا
وأنشدني قوله في أرمد:
لا تحسَبوا حُمرةً في مُقلتِي رمَداً ... قد مسَّها بل لأمرٍ زاد في سقَمِي
فإنها نظرتْ شَزْراً لوجنةِ مَن ... هواه حلَّ فؤادِي فاكْتستْ بدَمِ
منه قول يوسف العمراني:
لا تنكروا رمَدِي وقد أبصرتُ مَن ... أهْوى ومن هو شمسُ حسنٍ باهرِ
فالشمسُ مهما إن أطْلت لنحوِها ... نظراً تؤثِّر ضعفَ طرفِ الناظِرِ
ولقد أطلتُ إلى احمِرارِ خدودِه ... نظرِي فعكسُ خيالِها في ناظِرِي
وقوله:
رمدتْ جفوني عندما فارقتُ مَن ... قد كان كُحلاً في نواظِر عبدِهِ
وسرقتُ حمرةَ ناظرِي وسَقامَه ... عند النَّوَى في مُقلتيْهِ وخدِّه
وأنشدني قوله:
أقول لفتَّاكِ اللَّواحظِ أهْيفٍ ... يصيد لِحبَّات القلوب من الهُدْبِ
وصُحْبتُه شخصٌ بَذِيٌّ مُذَمَّمٌ ... يسوء بمَرآه العيون مع القلبِ
حبيبيَ ما هذا القرِينُ فقال لي ... ولا بدَّ للصَّيادِ من صُحبةِ الكلبِ
وكأنه وقف على ما ذكره المقريزي من أنه ثار بمصر في بعض الأحايين ريحٌ شديدة، سقط منها حجرٌ من بعض عضائِد جامع الحاكم، فقلب الحجر، فوُجد عليه هذه الأبيات، وهو لغزٌ عجيب، رقيق لفظه:
إن الذي أسررتُ مكنونَ اسمِهِ ... وكتمتُه كيْما أفوزَ بوصلِهِ
مالٌ له جذرٌ تساوَى في الهِجَا ... طرفاه يُضرب بعضه في مثلِهِ
فيصير ذاك المالَ إلاَّ أنه ... في النصف منه تُصاب أحرُفُ كُلِّهِ(1/131)
وإذا نطقتَ بربعه من كلِّ ما ... من بعد أوَّله نطقتَ بكلُّهِ
لا نَقْطَ فيه إذا تكامل عَدُّه ... فيصير منقوطاً بجُملةِ شكْلِهِ
فحلَّه بقوله:
قد كان هذا اللُّغزُ يُصدِي فكرتِي ... لكن بحمدِ الله فزتُ بحلِّهِ
تالله نظمُ الذِّكرِ يخرُج منه ما ... عنه أشار مُبيِّناً لمحَلِّهِ
مالٌ أتَى من ضربِ سِتٍّ بعضُه ... في سِتَّةٍ وهي المُراد بمثلِهِ
فيصير منه النصفُ لكن مذ غدا ... مُتساوِي الطرْفين عاد ككُلِّهِ
والنطقُ منه برُبعِهِ أي ثالثٍ ... من بعد أوَّله وثانٍ يُجْلِهِ
لا نقْطَ في لفظِ الحروف وإنَّما ... عينُ المسَمَّى أنبأتْ عن شكلِهِ
في عِقدِ حالِيَةِ العذارَى إن ترُمْ ... إيضاحَ معنًى شاهدٍ عن أصلِهِ
وأنشدته يوماً قولي معمِّياً باسم موفَّق:
من وُلاةِ الجمالِ سلطانُ حسنٍ ... حكَّمته القلوبُ فازْداد عُجْبُهْ
حدَّ للقلبِ مذ سمَا حدَّ سِرٍّ ... نازِلٍ في حَشاهُ ما راق حِبُّهْ
فحلَّه وحلاَّه، فقلت أخاطبه:
مولاي يا حلاَّلَ كلِّ مُشكِلٍ ... بفهمِه ورأيهِ السَّدِيدِ
أفْديك مذْ حلَّيت ما عمَّيتُهُ ... حلَّيت قلبِي وفمِي وجِيدِي
فقال هذا يشبه قول العفيف التِّلمساني:
قد قلتُ لمَّا أراد شَدًّا ... بخصْرِهِ يا مهفهَفَ القَدّ
حلَّيتَ قلبي وعِقد صبرِي ... وعاطلَ الخَصرِ منك بالشَّدّ
وطال ما جال في خلَدي، من أيِّ نوعٍ هذا من أنواع البديع، فقلت له: قد ذكر البدر الدَّماميني، في حاشيته، على شرح لاميَّة العجم: أنه من نوع الاستخدام.
وأنشد منه قول ابن نباتة:
رشفْتُها في مكان خلوتِها ... وجيِّد الحسنِ ثَمَّ قد جُمعَا
حلَّتْ مذاقاً ومشرباً وفَماً ... والجِيدَ والشعرَ والصفاتِ معَا
وفيه استعمال كلمةٍ واحدة على ستِّ معان.
وقدَّم أن مثل هذا لم ينصُّوا عليه في الاستخدام. انتهى.
وكتبت إليه أستدعيه إلى منتزه بالشَّرف الأعلى، في يوم شرف الشمس: سيدي، النفس خضراء والربيع أخضر، وأنا شريف وأنت شريف، فما علينا أن نهجر المألف والمربع، ونجمع بين هذه الفصول الأربع.
في زمنٍ تعتدل فيه الطِّباع، وتقف عليه الخواطر والأسماع.
فانهض لنكون إلفين، ولك الأعلى من الشرفين.
في يومٍ حلَّ به شرفُ الشمس، واعتدلت الحواسُّ الخمس.
فهناك أنشدك باللسان، مع موافقة الجوارح والجنان:
لِم لا أتيهُ في العُلى ... على جميعِ السَّلفِ
والسيدُ الشريفُ قد ... شرَّفني في الشَّرفِ
أحمد بن عبد الله العطار، المعروف بابن جدي سمحٌ سهل، لكل ثناءٍ أهل، كأنما بينه وبين القلوب نسب، أو بينه وبين الحياة سبب.
بمحاضرة أشهى من ريق المحبوب، ومحاولة أصفى من ريِّق الشُّؤبوب.
وعلى الجملة فما هو إلا تحفة قادم، وأطروفة منادم.
وعودة صحةٍ لمريض، واصطباح عيش في روضة أريض.
وبيني وبينه أخوة أواخيها مشدودة، وأبواب التمويهات عنها مسدودة.
ما زلنا في خلسةً للودِّ ونُهزة، وأريحيةٍ للحظِّ وهزَّة.
من حين رضعنا للتَّآلف ذلك الدر، وجرينا فيه على حكم عالم الذَّر.
والله يصوننا في بقية العمر عن الغير، كما صاننا عن الشَّوائبِ فيما مضى وغبر.
فمن أريج عاطره، الذي نفح به روض خاطِره. قوله مضمِّناً:
وبَليتِي ساجِي اللِّحاظِ قوامه ... غُصْنٌ على دِعصٍ تُثنِّيه الصَّبا
يهتزُّ لِيناً حين يخطُر مائساً ... جذلانِ من مرحِ الشَّبيبة والصِّبا
بدرٌ تقمَّص بالملاحةِ والبَها ... فغدا إلى كلِّ القلوبِ مُحبَّبا
سلَّتْ لواحِظُه علينا مرْهفاً ... ما كان إلا في القلوبِ مُجرَّبا
يخشى على وردِ الخدودِ لِلافحٍ ... فغدا بريْحان العِذارِ مُنقَّبا
ساوَمتُه وَصْلا فحدَّق لحظَهُ ... مُتبرِّماً نَحْوي وألوَى مُغضَبا(1/132)
فكأنَّ صفحة خدِّه وعِذارَه ... تُفَّاحةٌ رُمِيتْ لتقتُلَ عقربا
وأنشدني من لفظه لنفسه:
ولمَّا رأيتُ الفضلَ في النَّاسِ ضائعاً ... وأكثَرُ منه ضيْعةً فيهمُ الحرُّ
بخِلتُ بِشعري حيث لم أرَ في الورى ... فتًى إن رأى شِعراً يحرِّكه الشِّعرُ
ورحتُ بنفسٍ لم يُرِق ماءَ وجهِها ... سؤالٌ حَداه العسرُ واقْتادَه اليُسْرُ
وأنشدني أيضاً من لفظه لنفسه، قوله من قصيدة طويلة، مطلعها:
عتَبِي على الدَّهرِ عَتْبٌ ليس يسمعُه ... إذْ بالهوى والنَّوى قلبي يروِّعهُ
بانُوا فأصبحتُ أشكو بعد ما رحَلوا ... لِلبيْن ما بي يدُ التَّفريق تجْمعُهُ
شكْوى يكاد لها صُمُّ الصَّفا جَزَعاً ... كما تصدَّع قلبي منه يَصدعُهُ
منها:
بي من رسِيسِ الهوَى داءٌ يُصانِعُني ... طولَ الزَّمان إلى ما الحب يصنعُهُ
وأنثَنِي من لَظى الأشواقِ في حُرَقٍ ... إذا وميضُ الدُّجى يبدو تلَمُّعهُ
لم ألقَ يومَ النَّوى إلا حَشاً قَلِقاً ... ومدمعاً بِأتيِّ الدمعِ يشفعُهُ
يا صاحِ أين ليالينا التي سلفتْ ... مرَّتْ سِراعاً وطيبُ العيش أسرعُهُ
فاعجبْ لنارِ ضُلوعي كلما خمدَتْ ... أشَبَّها من غُروبِ الجفْنِ أدمعُهُ
وباتَ يُذكِي ضِرامي صادحٌ غَرِدٌ ... في النَّيربَيْنِ بتَرْنامٍ يُرجِّعُهُ
يا وُرقُ مهلاً أذَا التَّرجاُع من فرحٍ ... بارَّوض أم فَقْدِ إلفٍ عزَّ مرجعُهُ
وأنشدني من لفظه لنفسه، قوله:
أفي كلِّ يومٍ بالنَّوى تتروَّعُ ... ومن حادثاتِ الدَّهرِ يُشجِيك موقِعُ
وتشْقى برسمٍ قد ترَسَّمه البِلَى ... وتَسقِي ثَراه كلُّ نَكباءَ زَعْزَعُ
وتندبُ أطلالاً تعفَّتْ رسومُها ... وتشكو لرَبْعٍ أعجَمٍ ليس يسمعُ
وتُسبِل تَهْتانَ المدامعِ هاطلاً ... على قفرةٍ من دِيمةٍ ليس تُقْلِعُ
وتُصبح هيما بين قفرٍ تجوسُه ... وتُمسي وَلهاناً وأنت مروَّعُ
وترمِي بطَرفيْكَ الهِضابَ عشِيَّةً ... أفي كلِّ هضْبٍ للأَحبَّة مَطْلَعُ
وقائلةٍ فيما الوقوفُ وقد خلا ... من القومِ مُصطافٌ يرُوق ومربَعُ
فقلتُ لها أذرِي للدموعَ وهكذا ... أخو الشوقِ من فرطِ الصَّبابةِ يصنعُ
وما كنتُ أدري قبل وَشْك رحيلِهمْ ... بأنِّي إذا بانُوا عن الجِزْع أجزَعُ
ولا أنَّ أنفاسي يُصعِّدها الجوَى ... إذا لاح برقٌ في الدُّجُنَّةِ يلمَعُ
فرُحْتُ ودمعُ العينِ تجري غُروبُه ... على الخَدِّ منِّي والحمائمُ تسجعُ
تنوح بِشطِّ الوادِيين ولِي حَشا ... إذا ما انبرَى تَرنامُها يتصدَّعُ
فلا كبدِي تهْدا ولا الشوقُ مُقصِرٌ ... ولا لوعتي تخبو ولا العينُ تهجعُ
وقد رحَلوا عن أيمُنِ الجِزْع غُدوةً ... فلم يبق في قُربِ التَّزوارُ مطمَعُ
وأنشدني أيضاً من لفظه لنفسه قوله:
ومُعطَّفِ الأصداغِ يخْتلِس النُّهى ... أبدَى التَّشاغُلَ عن مُحِبٍّ والِهِ
يُبدِي تلفُّتَ شادنٍ ويُديرُ لَحْ ... ظَىْ جُؤذُرٍ والبدرُ جزءُ جمالِهِ
تِمثالُ شكلِ الحسنِ لا بل إنَّما ... الحسنُ مطبوعٌ على تِمثالِهِ
وكنت أنشدته قولي:
ولمَّا أدار الشمسَ بدرٌ لأنجُمٍ ... بأُفقِ الهنا بين الهلاليْن في الغَسَقْ
عجبْتُ له يُبدِي لنا البدرَ طالعاً ... وما غاب عنَّا بعدُ جِيدِه الشَّفَقْ
فنظم هذا المعنى، وأنشدنيه من لفظه:
وساقٍ مَيودِ القَدِّ أحْورَ أوْطفٍ ... إذا لم يُمِتْ بالصدِّ يقتلُ بالحَدَقْ
يُرينا بأُفقِ الكأسِ شمساً توسَّطتْ ... هلالين يمْحو نورُها أيةَ الغسَقْ(1/133)
ومذ همَّ يَحسوها ترفَّع جِيدُه ... فبَان لنا صبحٌ وما غَرب الشَّفَقْ
وكتبت إليه أستدعيه إلى روض: طلع علينا هذا اليوم في نضارته، يكاد صحوه يمطر من غضارته.
فلقينا زهره، ونظمنا نثره.
في روضٍ وُشِّيَ بخسْرَوانيّ الدِّيباج، وغُشِّيَ بما يربو على أصناف الجواهر في الابتهاج.
فمن نورٍ مُدَرْهمُه بَهِج، وزهرٍ مُدنره رَهِج.
يُضاحِك دُرَّه مُرجانه، ويعبق بصائِك المسك أردانهُ.
وللنَّسيم فيه اعتلالُ إشفاق، إذا ما رقد المخمور فيه أفاق.
والرَّوضُ رطبُ الثَّرى طيِّب المَقِيل، وليس فيه غير رِدفِ الساقي ثقيل.
ولم نعدم نَدامَى بألفاظٍ عِذاب، كأنها قَنْد مُذاب.
معرفتهم بأغصان القُدود، وتُفَّاح الخدود.
لا بالنِّصول الحِداد، والقِسِيِّ الشِّداد.
ولديهم من الفُكاهة، ولُطف البداهة.
ما إذا جُلِيَ فما الرَّاح والتُّفاح، وما ريحان الأصداغ إذا فاح.
وإن شاءوا ألحقوها بحِكَمٍ مَتْلُوَّة، وأخبارٍ في صحف الإحسان مَجْلُوَّة.
وعندنا لحنٌ يُثير الشَّجَن، ويبعث من الشوقِ ما أجَنّ.
وحبيبٌ قرب من عهد الصِّقال خدُّه، فلم يجفَّ ريحانه ولم يذوِ وردُه.
يزلُّ عن خدِّه الذَّرُّ فلا يعلق، ويمشي عليه النملُ فيزلق.
وقد تمنَّينا فلم نجدْ غيرَك أُمنِية، ولا مثل آدابِك غَضَّة جنيَّة.
وعلمنا أنه ليس للأُنس مع غيبك بهجة، ولا للعيش دون لقاك مُهجة.
فبالله إلا ما أنجَحْتَ الأوطار، وفتحتَ بمذاكرتك عن جَونة العطَّار.
ولك الثَّناء الذي يتجمَّل به الدهر، ويتفتَّق ريَّاه عن الروضِ فاح فيه أريجُ الزَّهْر.
السيد سليمان، المعروف بالحموي الكاتب حرفته الدواة والقلم، ولديه البراعة تُلْقَى أعِنَّةُ السَّلم.
وله طبع سبكتْ تِبرهُ الأيام، وصقلتْ حديد ذهنِه من صَدإِ الأوهام.
بوجهٍ فيه الفلاح يتوسَّم، كأنه دُرٌّ يوقِده ثغرٌ تبسَّم.
وقد أوقفني من شعره على مُلح غضَّةِ الشُّفوف، فجرَّدتْ منها كلَّ بيتٍ كأنَّ الحسنَ عليه موقوف.
فمن ذلك قوله في الغزل:
قم يا نديمي نُباكِر القَدحا ... أما ترى الصبح زَنْدَه قدَحا
والجوُّ صافي الأدِيم من كدَرٍ ... صَفْوَ امرِئ في وِدادِه نصَحا
وقام من فوق أيكةٍ غَرِدٌ ... يُذْكرنا بالصَّبُوح إذ صدحَا
وقد أهاجتْ لنا الصَّبا شَجَناً ... بنشرِها العنبرِيِّ إذ نفَحَا
فحركتْ ساكنَ الفؤاد وما ... أسْأرَه الوجدُ فيه والبُرَحا
والدهْر أبْدى الرِّضا وجادَ لنا ... بفرصة والرقيبُ قد نَزَحا
فانهَض لنقضِي من الصِّبا وطَراً ... في غَفلةِ اللائمينَ والنُّصَحا
وعاطِني قرْقفاً معتَّقةً ... صهباءَ تنفِي الهمومَ والتَّرحَا
من كفِّ ظبْيٍ كأنما غفِلتْ ... أعين رِضوانَ عنه مذ سَرَحا
أحورُ أحْوَى أغَنُّ ذو هيفٍ ... فداؤُه كلُّ من عليه لَحَى
قد أبدعَ اللهُ خلقَه فأتى ... مُتَّزِراً بالجمال مُتَّشِحا
رقَّتْ حواشِي طباعِه فحكتْ ... رِقَّةَ ألفاظ من حَوى المُلحَا
ومنه ما بعث به اليَّ في غرض له:
أنعِم صباحاً سيِّدي ... يا ذا العُلى والسُّؤدُدِ
يا ابنَ الموالي الأكرمي ... نَ فداك كلُّ مُسوَّدِ
يا ماجداً وطئَ السُّها ... واحتلَّ فَرْق الفَرقَدِ
بفضائلٍ ومآثرٍ ... ومفاخرٍ لم تُجحَدِ
وشواردٍ كعقُود دُرٍّ ... فُصِلتْ بزَبرجَدِ
فاقت برَونقها نِظا ... مَ البحتريِّ وأحمدِ
وبديعِ نثرٍ قد حكَى ... ديباجةَ الروضِ النَّدِي
تابتْ لهُ حَبُّ القُلو ... بِ عن المدادِ الأسودِ
يا أيُّها المولَى الأمي ... نُ ونجلُ أكرمِ أمجدِ
أنتَ الذي يُرجَى لد ... فعِ خُطوبِ دهرٍ مُعتدِ
العبدُ قدْ عبثتْ بهِ ... أيدِي الزمانِ الأنكدِ(1/134)
وحوادثٍ ضيَّقْنَ في ... عينيهِ رَحْبَ الفَدْفَدِ
والصبرُ ليسَ بممكِنٍ ... والحظُّ ليس بمُسعِدِ
مولايَ هل من عطفةٍ ... ممزوجةٍ بتَودُّدِ
أو نظرةٍ تُدْنِي الفقي ... رَ من الجَنابِ الأسعدِ
تاللهِ لم أقصِد سِوا ... كَ وهل سواكَ بمقصدِ
فبِحرمَةِ الآدابِ كُنْ ... من جَوْرِ دهري مُسعِدي
لا زلتَ مقصوداً على ... رَغْمِ الحسودِ الأنْكَدِ
وأنشدني من لفظه لنفسه، قوله:
يا أيُّها الملِكُ الباهي بطلعتهِ ... ومَن لعهدِ وِدادِي في الهوى نبَذا
أفسدتَ قلبيَ لمَّا أن نزلْتَ به ... فقال لي هكذا المُلوكَ إذا
وهذا فيه الاقتباس مع الاكتفاء.
ولبعض المتقدمين عن عصرنا:
مليكةَ الحُسنِ جُودِي باللِّقا كرمَا ... لمُغرَمٍ قلبه ذاب فيكِ إِذا
أفسدت قلبي فقالتْ تلك عادتُنا ... قد قال سبحانَه إنَّ الملوكَ إِذا
وأنشدني من لفظه لنفسه، قوله من قصيدة، مطلعها:
قد نبَّهتْنا صَوادِحُ القمْرِي ... لمَّا تراءتْ طلائعُ الفجرِ
وفاح من نَسْمة الصَّبا عَبِقٌ ... يفُوق رَيَّاهُ عنْبَر الشِّحرِ
والروضُ يخْتال في مُصبَّغَةٍ ... تجُرُّ أذْيالَها على النَّهرِ
وسرورُه كالقيانِ إذ خطرتْ ... لِرقصِها في مآزِرٍ خُضرِ
هذا مسبوق إليه في قول ابن طاهر الخبَّاز:
والسَّروُ فيها كعَذارَى غدتْ ... ترقُص في أردِيةٍ خُضْرِ
والطَّلُّ في أعينِ الزُّهورِ حكى ... أدمُعَ صَبٍّ أحسَّ بالشرِّ
والجوُّ قد راقَ والمُدامةُ قد ... رقَّتْ كطبعِ النديمِ أو شِعرِي
ودارَ من فوقِ وجهِها حَبَبٌ ... يُخجِل مَرآه ناصِعَ الدُّرِّ
فانْهضْ فَدَتْك النفوسُ مُبتكِراً ... وهاتِها قبل ضيعة العُمرِ
صهباءَ تنفي همومَ ذي تَرَحٍ ... إن برزَتْ كالعروسِ من خِدْرِ
طيِّبةَ النَّشرِ في الكؤوسِ وهل ... بعد عَروسٍ يكون من عِطْرِ
يُديرها أهيفَ القَوامِ رَشاً ... مُخْتَصَر الخَصرِ بدائعَ السِّحرِ
يسْقي قليلَ المُدامِ عن ثقةٍ ... منه بما في الجفونِ من خمرِ
وأنشدته يوماً قولي:
بُروحِيَ من وجهُه آيةٌ ... تدلُّ على خلقهِ المُنْقَنِ
أُحاول في صُدغِه لحظةً ... فتمنعني زحمةُ الأعيُنِ
فأنشدني في معارضة بديهاً:
كلَّما رمتُ نَظرةً والْتماحاً ... لعِذارٍ على الخدودِ أدارَهْ
لم يجِدْ ناظِري إليه طريقاً ... لازدِحام اللواحِظ النَّظَّارَهْ
وأنشدني من لفظه لنفسه:
لا تحسبُوا أن رَيْحانَ العِذارِ بدَا ... بوجنةٍ صاغَها الرحمنُ وابتَدَعا
وإنما طوقُه السَّمُّورُ قابلَها ... فشكلُه في حواشِيها قد انْطَبعَا
مثله للشهاب الخفاجي:
وظبيٍ من السَّمُّورِ أُلبِس فروةً ... ومال كما هزَّت صباً سُحرةً سَروَا
وإلا عيونُ الناسِ من دَهشةٍ به ... تُخايلُ أهْداباً فتحسَبُه فَرْوَا
وأنشدني من لفظه لنفسه:
نبِّه الصَّحبَ لارتِشافِ سُلافِ ... وأدِرها بين النُّدامى الظِّرافِ
وامسحِ الطَّرفَ من فتورِ نُعاسٍ ... بذُيول الصَّبا الرِّقاقِ اللِّطافِ
يا فَدَتْكَ النفوسُ دَاوِ بصرفِ الرِّ ... احِ روحاً تعرَّضتْ للتلافِ
واسقِنيها من كفِّ ظبيٍ غريرٍ ... لَيِّنِ المُلتوى قليلِ الخلافِ
مُخطَفِ الخصرِ يختفي البندُ منه ... بين طيِّ الأعكانِ والأردافِ
في رياضٍ حُفَّتْ بِسروٍ نضيرٍ ... كجوارٍ ميَّالةِ الأعطافِ
باكَرَتْها غُرُّ السحابِ بصوبٍ ... دائِم السَّحِّ هاطلٍ مِذرافِ(1/135)
خدمتْ زُهرُها النجومَ فأبدَتْ ... شكْلها في غديرِها الشَّفَّافِ
وقرأت له يوماً الديباجة التي عملتها لديوان شعري، ومنها قولي في معرض غزل: كأنَّ خاله بين الحاجبين، هنديٌّ يلعب بسيفين، أو جارح يختطف الجوارح بجناحين.
فأعجبه ما قلته وراقه، وألقى عليه أوراقه، وجاءني بعد أيام وقد نظم هذا في مقطوع، وأنشدنيه، وهو:
كأنما الخالُ بين الحاجبيْن فتًى ... يرمِي بقوسيْن أو يسطو بسيفينِ
أو طائرٍ جارحٍ أهوَى على شَرَفٍ ... ليخطِف القلبَ منِّي بالجناحينِ
ونظمت وأنا بالقاهرة قصيدة،، وصفت بها بركة الأزبكية، وتخلَّصت إلى مدح بِركةٍ خطَّها الأستاذ زين العابدين، لا برح المجد ينطق بلسانه، والجود يشكر موارد إحسانه.
فلما وصلت إلى دمشق، وقف عليها المترجم، فكتب إليَّ قصيدةً على وزنها ورَوِيِّها، وصدرها بإنشاءٍ من نسج قلمهِ.
فأما قصيدتي، فهذه:
يا حبَّذا خُضرُ الخما ... ئلِ في رياضِ الأزبكيهْ
وخُفوقُ أرديةِ النَّسي ... مِ سرى ببقْعتِها النَّديَّهْ
أرضٌ تكنَّفَها الحدا ... ئقُ والرياضُ الأريَضِيهْ
وتعطَّرتْ أرجاؤُها ... بالرَّائِحاتِ المَنْدَليَّهْ
فوَّاحةٌ بِشذا العَبي ... رِ وعابقاتٌ عنبريَّهْ
وترنَّمتْ أطيارُها ... سَحَراً بأصواتٍ شجيَّهْ
وإذا تأمَّلتَ القُصو ... رَ بها عرفتَ بها المَزِيَّهْ
ومُنحتْ ما تختارُ من ... طُرفِ المُراداتِ البهيَّهْ
ومُنِيتَ ما تهواه من ... تلك الوجوه الأصبَحِيَّهْ
وتمايلتْ شوقاً لطلْ ... عتك القدودُ السَّمهَرِيَّهْ
وقصَرتَ كلَّ هوًى على ... خَصرِ الخُصورِ الخاتِميَّهْ
وخلُصتَ من سهمِ العُيو ... ن وأنت يا قلبي الرَّميَّهْ
من كلِّ مرهوبِ الشَّبا ... في لحظِه رُسْلُ المَنِيَّهْ
وإذا أشارَ ملاطِفاً ... ويلاهُ من تلك البلِيَّهْ
يدعو النفوس إلى التَّلا ... فِ وليس يدري ما القضِيَّهْ
وعلى تَلَفُّتِ جيدهِ ... كم حار مُرتادُ التَّقِيَّهْ
ونَصيبُه في الحسنِ حيْ ... ث الشمسُ غُرَّتُه المُضِيَّهْ
فاختَر هنالك مَربَعاً ... تُكفي به كلَّ البليَّهْ
وتُقيمُ موفورَ المُنى ... وتحُفُّك المِنَنُ الحَفِيَّهْ
في ظلِّ زين العابدي ... ن الشَّهمِ أستاذ البرِيَّهْ
مولًى أناخَ المجدُ في ... أعقابِه البيضِ النَّقِيَّهْ
وتشرَّفتْ بجنابِه ... شرفُ القرومِ المولويَّهْ
فالفضل فضلُ فتًى له الْ ... أنعامُ والحُسنى سجيَّهْ
والفخرُ شِنْشِنَةٌ له ... ولقد أراها أخزميَّهْ
والحِلمُ وصفٌ قصَّرتْ ... عنه السَّجايا الأحنفِيَّهْ
والجُود كلُّ الجودِ في ... شِيَمٍ غذتْه حاتِميَّهْ
ضاهى بمقعدِه السُّها ... فغَدتْ منازلَه العليَّهْ
وجرى القضاءُ بوَفقِ ما ... يرجوه من حُسنِ الطَّويَّهْ
مولاي حيَّى الله وجْ ... هك بالتَّحياتِ الزكيَّهْ
ورعاك ما دام الدوا ... مُ بعيشةِ العمرِ الهنيَّهْ
أنا من عرفتَ بأنه ... منسوبُ سُدَّتِك السنيَّهْ
وإليك لي حقُّ انتما ... ءِ فاجرِ حقَّ المالكيَّهْ
وأقِل عِثاري إن سقَطْ ... تُ لضعفِ حالي في الهويَّهْ
فأنا الذي خطَّيتُ رَحْ ... لي في حِماك حِمَى الحمِيَّهْ
وأرحتُ من تعبِ الحيا ... ةِ هناك جسمي والمطِيَّهْ
ما لي براحٌ ما برحْ ... تُ وكان في عمرِي بقيَّهْ(1/136)
ما الكدُّ في دارِي لا ولا ... أرضِ القِلاع الأعصميَّهْ
كلاَّ ولا لي ما حيي ... تُ بجِلَّقٍ والرومِ نِيَّهْ
إلا جِوارُكِ مُنيتي ... حيث الهباتُ الأريَحيَّهْ
حيث الأخِلاَّءٌ الكِرا ... مُ ذوو الفُكاهاتِ الجنيَّهْ
من كل وضَّاحِ الصَّبي ... حةِ وهو بسَّامُ العَشِيَّهْ
لا زلتَ تخدمُكَ الأفا ... ضلُ والسَّراةُ اللَّوذعيَّهْ
وإليكَها مختارةً ... من جِلَّقِ الشامِ الزَّهيَّهْ
غنَّاءَ حاليةَ المُقلَّ ... دِ بالعقودِ الجوهريَّهْ
غُذِّيتْ أوانَ شبابِها ... بشَميمِ سفحِ الصَّالحيَّهْ
وتروَّحت بالشِّيحِ والْ ... قَيصومِ من تربٍ زكيَّهْ
وكسَا معاطِفها الدَّلا ... لُ حُلى الجمالِ السُّندسيَّهْ
تُوليكَ من طرَفَ المقو ... لِ نفائِسَ الدُّرِّ السنيَّهْ
وتبثُّ مدحَك في الورى ... بصفاتِك الغُرِّ الرضِيَّهْ
فاهنأْ بها وبمثلِها ... من خالِص الطُّرَفِ الطَّريَّهْ
وبقِيتَ ما بقيَ البقا ... ءُ وأنت ميزانُ البريَّهْ
تَحبوكَ في أمرِ المُنى ... ألطافُ مولاك الخفيَّهْ
وهذا ما كتبه إليَّ من إنشائه، ويتلوه قصيدته: إن أشرفَ ما نمَّقه قلم، وأتحفَ ما نَمنَمه رقم.
وأبهجَ ما تزيَّن به طِرس، وأبدع ما جرى به نِقس.
سلامٌ أضوعُ من شميم الكِبا، وألطفُ من نسيم الصَّبا.
وأعطرُ من أرَج أزهار الرياض، وأسحر من تغازل الأجفان المِراض.
وأثنِيةٌ لا يُحصى عدُّها، وأدعيةٌ لا ينقطع مددُها.
أُهدي ذلك إلى جناب من لا أسمِّيه؛ لجلالته، ولا أكنِّيه؛ وقدره المُعتلي عن ذلك يُغنيهِ.
حرس الله ذاته العليَّة، وجمَّل الوجود بصفاتِه السَّنيَّة.
وبعد، فإن تفضَّل المولى بالسؤال، عن كيفيَّة الحال.
فالعبد لله الحمد ذي المِنن الوافية، في بحبوحة الصحة والعافية.
غير أن الشوق، شبَّ عمرُه عن الطَّوق.
يسَّر الله الاجتماع بكم إنه وَلِيُّ التيسير، " وهو على جمعِهم إذا يشاءُ قدير ".
والذي يعرِضه هذا الدَّاعي، أن المولى حين أشرق في فلك مصر بدرُه الكامل، وغاب عن أُفق شامنا الذي هم للمحاسِن شامِل.
لم يزل العبدُ لألم البين مكابد القلق والضَّجر، متطلِّعاً لأخباركم السارَّة حتى ظفر منها بأبلغ أثر.
وذلك قصيدتكم الرافلة في الحلل البهيَّة، المتضمِّنة لمدح الأستاذ ووصف بركة الأزبكيَّة.
التي سجد لبلاغة نظامها من هو أبلغ من الوليد، والفريدة التي كلُّ بيتٍ منها بألف قصيد.
لا برحتْ جواهر ألفاظ مولانا قلائد لذوي التَّحقيق، وعرائسُ أبكار أفكارِه محلاَّةً بمدائح آلِ الصِّدِّيق.
فعند ذلك توسَّلت إلى الله تعالى بسيِّد الكونين، أنه كما سرَّني برؤية الأثر أن يُقِرَّ الأعين بالعين.
وتصدَّيتُ لعرض أشواقي التي خرجت على حدِّ الحَصر، بأن أعارضها بقصيدةٍ أهديها لأوحد العصر.
لتكون لأثر الشوق قافية، فأشبهتْها ولكن وزناً وقافية.
ومن يقوى لمعارضة البحر الكامل، وأين الثُّريَّا من يدِ المتناول.
وهاهي واصلةٌ إليك، وقادمةٌ عليك.
وصل الله لك أسباب نتائج الأمل، متلفِّعةً بأسمالِها، تعثر في ذيلها من الخجل.
فتلقَّها بالبِشر والقبول، وأنزِلها منك بأحسن منزول.
وأسبل عليها من حلل إحسانك سِترا، لأنك من أهل البيت وصاحب البيت أدرى.
والقصيدة هي هذه:
أسَقيطُ طَلٍّ جال في ... زُهر الرياض السُّندسيَّهْ
أم ثغرُ المبا ... سِمِ ذي الثَّنايا اللُّؤلؤيَّهْ
أم وحيُ حوراءِ اللَّوا ... حِظ أم عقودٌ جوهريَّهْ
أم نسمةٌ شِحرِيَّةٌ ... نفحَتْ فجاءتْ عنبريَّهْ
أم روضةٌ غنَّاءُ يا ... نِعةٌ أزاهِرها زهيَّهْ
أم ذاك نفثُ السِّحرِ من ... مولاي أرسلَه هدِيَّهْ(1/137)
أعني الأمينَ أمينَ كنْ ... زِ الفضلِ بسَّامَ العشِيَّهْ
حاوِي الفصاحةِ والبلا ... غةِ والصفاتِ الألمعيَّهْ
ساد الورى بشمائلٍ ... عنوانُها النفسُ الزَّكيَّهْ
فَرعٌ زَكيٌّ أصلُه ... خيرُ الخلائقِ والبريَّهْ
يا مجلياً بكر المعا ... ني الغرِّ بالكَلِمِ الجليَّهْ
للهِ دَرُّ عقيلةٍ ... ألبَسْتها الحُللَ السنيَّهْ
وبعثتَها تروِي أحا ... ديثَ الكرامِ الأريحيَّهْ
من ذا يُساجِلكَ النِّظا ... مَ وأنت سحَّاحُ السجيَّهْ
أدبٌ كأزهارِ الرُّبى ... سُقيتْ بأخلاقٍ رَوِيَّهْ
وشواردٌ سارتْ بها الرُّ ... كبانُ للمدنِ القصيَّهْ
غُرَرٌ كأنَّ روِيَّها ... دُرُّ الثُّغورِ الألْعسِيَّهْ
كادتْ لرِقَّتِها تسي ... لُ فترتوِي كبِدٌ صدِيَّهْ
يا سيِّداً كم راضَ لي ... في النَّظم قافيةً عصِيَّهْ
يا أوحدَ العصرِ الذي ... حاز الهِباتِ الحاتميَّهْ
أوَمَا كفى بِفراقِ طلْ ... عتِكَ البهيَّهْ لي بليَّهْ
حتى نسيتَ عهودَ ودِّ ... ي بعد إخلاصِ الطَّويَّهْ
ثم انثنيتَ فهِجتَ لي ... شجَناً بذكْر الأزبكيَّهْ
وسلوتَ عن وادي دِمش ... قَ وما حوى والصالحِيَّهْ
ذاتِ المنارةِ والجوا ... سِقِ والرِّياضِ الأريَضِيَّهْ
والنَّيربين الأفيحَيْ ... نِ بها وغوطَتِها البهيَّهْ
والسَّبعةِ الأنهار تجْ ... ري في البِقاع الأقْدسِيَّهْ
والوُرْقِ يُبدِي لحنُها ... بالجُنْكِ أصواتاً شجِيَّهْ
وعليلِ مسْكِيِّ الصَّبا ... يهْفو بأنفاسٍ نَدِيَّهْ
والمرجةِ الخضراءِ إذْ ... فُرِشتْ ببسْطٍ عبقريَّهْ
ومسارِحِ الآرامِ في ... أرجائِها وقتَ العشيَّهْ
من كلِّ أغيدَ مُشرقٍ ... أبْهى من الشمسِ المُضِيَّهْ
يفترُّ عن شنَبٍ أغرَّ ... حوَى صِحاحَ الجوهريَّهْ
وجَناتُه الياقوتُ وال ... خِيلانُ أضحتْ عبقريَّهْ
ولِحاظُه فعلتْ بنا ... أضعافَ فعلِ المشرَفِيَّهْ
عن بابلٍ أخذتْ فنو ... نَ السحرِ فهي البابليَّهْ
يرنو فيرمِي أسهُماً ... منها وحاجبُه الحَنِيَّهْ
يُصمِي ولا يدري بأنَّ ... فؤادَ مُضناهُ الرَّمِيَّهْ
لدنُ المعاطفِ قَدُّه ... قدُّ الرِّماحِ السَّمهريَّهْ
نشوانُ من خمرِ الدَّلا ... لِ سُقِيَ بكاساتٍ رَوِيَّهْ
فكأنَّه ملِكٌ وأل ... بابُ الأنامِ له رعِيَّهْ
هذي محاسِنُ جِلَّقَ ال ... فيحاءِ تَفْديك البريَّهْ
أُنموذجاً منها وصفْ ... تُ وانت أدري بالبقية
فبأي عذر ملت عن ... رؤيا الشَّهيَّهْ
حيَّى الإله جمالَ وَجْ ... هِكِ بالرضا أسنَى يحيَّهْ
مولايَ هل من نظرةٍ ... صِدقُ الوِدادِ لها مزِيَّهْ
فلواعِجُ الأشواق في الْ ... أحشاءِ جمرتُها ذكِيَّهْ
أنا عبدُكَ الخِلُّ الوَفِيُّ ... وليس حالاتي خفِيَّهْ
فاسلمْ فديتُكَ حيث كُنْ ... تَ ودُمْ بعيشتِك الرخِيَّهْ
وإليكهَا رُعبوبَةً ... تُنبيك عن حُسنِ الطَّوِيَّهْ
حموِيَّةً شاميَّةً ... وافتْ بفاكهةٍ جنِيَّهْ(1/138)
فاسبِلْ عليها من جمي ... لِ السترِ أرديةً نقِيَّهْ
لا زلتَ ممدوحَ الصَّفا ... تِ الغُرِّ محمودَ السَّجِيَّهْ
ما غرَّدتْ وُرْقُ الحما ... ئِمِ في الرِّياضِ السندسيَّهْ
ولما وردت عليَّ وكنت مقيماً ببولاق، وأنا حليف أخلاقٍ أخلاق.
وذلك لفقد الأنيس، حتى اليعافيرُ والعِيس.
لا أرى ردِيفاً إلا من القافية، ولا أطلبُ صديقاً إلا من العافية.
ولا ذقتُ إلا ماءَ عيني مشربا، ولا نِلتُ إلا لحمَ كفِّي مطعَما.
وقد عرفتُ شأني وزماني، وخلعتُ من عنقي رِبْقةَ الأماني.
لا تزعجني المهمَّة، إلى استعمال الهمَّة، وأنا ناظرٌ إلى نفسي بالذنبِ والتُّهمة.
فقد اجترمتُ الخطايا، وركبتُ الأجرامَ رواحِلَ ومطايا.
وفارقتُ العيون الصِّحاح، والألفاظَ الفِصاح.
والرِّياضَ النَّواسِم، والثغورَ البواسِم.
والمواطن التي عرفتُ بافتراع الأحاسنِ ناسَها، وألقيتُ بها أزِمَّةَ الآداب تروق أنواعها وأجناسَها.
فكتبت إليه وضرورتي مشروحة، ودعوى التَّحامُل عن كتفي مطروحة.
وأستوهب الله رحمةً تجعل عِناني في يد التوفيق، وتصرِف عَياني عن هذه الوحدة إلى الفريق الرَّفيق.
وصل كتابك فاتَّفقتِ القلوب على تفضيله، واختلفت الألسنةُ في تمثيله.
فمِن مدَّعٍ أنه رُقْيةُ الوصل، وريقة النحل.
ومنتحلٍ أنه دُرَّةُ النَّحر، ولؤلؤةُ البحر.
وقائلٍ هو السُّكَّرُ المعقود، وسلافُ العنقود.
فأمَّا أنا فتركت التشبيه، وقلت ماله مقيل ولا شبيه.
بَنَتِ البلاغةُ سماءَ بيانه، وحُشر الحسن بين قلم منشيه وبنانِه.
فعين الله على هذه الألفاظ الغر، التي يحسدها على اتساقها الياقوت والدُّر.
وقد عرفتني من خبر سلامتك ما رجوت له الدوام، ودعوت له بالحفظ من حوادث الأيام.
وكان سرى خيالك فشوَّق، واستطار برقك فأرَّق.
فأجفان الإخلاص ناظرةٌ إليك، ويد القبول مسلِّمةٌ عليك.
وأما القصيدة التي هي دُرَّة التقاصير، وربيبة تلك المقاصير.
فقد وردت مؤكدة لك المحبَّة في القلوب، والرغبة في الودِّ المطلوب.
وفطنت بتلك النِّيَّة، وما أظنُّها كانت عن رَوِيَّة.
فهي كدعوة السائل، إنَّما تجري لتأكيد الوسائل.
كيف ومحلُّها منطَمِسٌ بغبار الأغيار، وحق لمن رأى غُبار بولاق أن يشكو صدأَ الأكدار.
ولعل السيِّد نظر إلى بيت العيون والرَّميَّة، فعلم أن النفس من مخالستِها أبِيَّة.
فلو قاصراتُ الطرفِ أقبلْنَ كالمهَا ... وقَبَّلْنَ رأسِي ما قبلتُ مَزارَها
نعم القلوب بعيون الشام علق، إلى أن يصير إلى ما منه خُلق.
فأما وحَدَقِها المراض، وسهامِها التي تتمنَّاها الأغراض.
ورُنوِّها ولو لحظةً فإن لها حقَّا، وتلَفُّتِها ولو غلطةً فإنِّي عبدُها رقَّا.
إني مذ ودَّعتُ بها حلاوةُ الرِّضا، ودَّعتُ العيشَ المُرتضى، وبتُّ على جمرِ الغضا، وحدِّ السيف المُنتضى.
وأنا الآن بحكم الزمان، مستودعٌ دار الهوان.
أضحك للبؤس، وأبَشُّ للوجه العبوس.
وأتصفَّح وجوهاً لا أرجوها، وأريد أمدحُها والمروءة تهجوها.
أكثرهم شيخٌ يتفتَّى، ويبرز في أطوارٍ شتَّى.
يأكل ما تأكل الناس، ويخالفهم في المشرب واللِّباس.
له وجهٌ لا يشِف، وعينٌ لا ترِف.
إذا تكلَّم، كَلَم، وإذا بَشَّ، أدهش وأوحش.
كلامه في الرِّضا، مثلُ هزَّات الفضا.
خلق الله ذاته عبرةً للنَّوائب.
وثمَّ من رُّزِق فلتةً، ورُمِق بغتة.
عمر غناه قصير، وهو بطريق اللُّؤمِ بصير.
فإذا رأيت رثاثة حاله ونعمته لديه، يوشك أن تدَّعي غضب الله عليها وعليه.
وقد مقتُّ به الأيام وتصاريفها، وسئمت الحياة وتكاليفها.
ولو جهلت أن الحِذق، لا يزيد الرِّزق.
لعذرت نفسي في الرحل أشدُّه، والحبل أمدُّه.
ولكني أعلم هذا وأعمل ضدَّه، وأسير سيراً ينكِر المرء فيه جهده.
وإلا فمن أخذني بالمطار، في هذه الأقطار.
حتى تركني أنازل المحن، وأعتب هذا الزَّمن.
وأقول: قد بليت فيه، بأيَّامٍ كأيَّام رمضان وليالٍ كلياليه.
تلك كظلِّ الرُّمح، وهذه تهويمة الصُّبح.
وكلاهما تارةً بنار الجحيم يلتهِب، وآونةً بفيحِه للحارِّ الغريزي ينتهِب.
قد أخلاَّ بالعادة، وجاوزا المألوف بزيادة.(1/139)
وحشوهما ذباب يبرح ويسنح، وبعدم مبالاة خلطائه لا يهفُّ للبراح ولا يجنح.
وبرغوثٌ كنقطة دغل، أو سويداء دخل.
يدرك بطعنٍ مؤلم، ويستحلُّ دم كلِّ مسلم.
وبعوضٌ يطيل الألم، ولا يفنى حتى يرتوي من شرب دم.
وبقٌّ خارجٌ عما يعهد، يلحُّ في الوصول إلى العظم ويجهد.
ووراء ذلك ضجيج، ولا ضجيج الحجيج.
وزحام يبلَى به الشخص من السَّحر في الطريق، حتى يقول: ما هذه القيامة على الرِّيق.
وأمَّا حديث قلَّة الأدب فمن هنا يُؤثر، والأقلُّ منهم تابعٌ للأكثر.
وكيف يُرجى منهم حجاب، ومكان الحياء منهم خراب.
إلى غير ذلك من قبائح تركتُها حذراً من تلويث الكتاب، وفضائح لا يُلبس عليها ثياب.
هذا وأنا أحمد الله الذي لا يحمد على المكروه سواه، ولا يعرف قدر نعمته إلا من عالج بلواه.
فلولا العلَّة لم تحمد الصحة، ولولا التَّرحة لم تطلب الفرحة.
فأنا فارقتُ الجنة تعلمة آدم أبي، واستبدلتُ نقيضها بطرفٍ نافرٍ وقلبٍ أبي.
وخضتُ غمار المهالك والرَّدى، ونظرتُ إلى الآخرة وأنا في الدنيا.
وتعوَّضتُ عن تلك الوجوه بهذه الوجوه، واختلفتْ حالي فأنا متناقض معهم في كل ما أرجوه.
فما أشبهني بكحلٍ في عين أعمى، ومصباحٍ عند أكمَه، ونغمةِ عودٍ عند أصمّ، وخاتمٍ في أُصبع أشلّ.
ودرَّةٍ في رأس قروي، وسُبحةٍ في يد بدوي.
وسيفٍ في قبضة جبان، ومصراع تضمين في شعر ابن غزلان، أو أبي الغزلان.
وإنِّي إلى مواضع إيناسي، ومراتع غزلان صريمي وكِناسي.
أحنُّ من حمامةٍ لفرخْ، وأورى شوقاً من عفار ومرخْ.
وأنا مقدم على أدوات التوسُّل، متوسِّل بصاحب الشفاعة في التَّوصُّل.
فعسى أرى وقت التَّلفُّت، ولا علِقتْ لي بعدها لحظةٌ بالتلفُّت.
وإن نبذوا بعدي الحَصاة، فلا أب لهم إن لم يكنِسوا العَرَصات.
فإن عمدوا إلى أن يوقِدوا في أثري النَّار، فليسرعوا إلى أن يثيروا في قفاي الغبار.
وضَراعتي إلى السميعِ المُجيب، أن يجعل ذلك أقرب من كلِّ قريب.
والسلام.
محي الدين السلطي شيخ الصَّنعة ووليدُها، والمتوفِّر له طريفها من الفنون وتليدها.
وابن بَجْدَتها في القريض، وأخو جملتها في النفس الطويل العريض، وأبو عذرتها في التَّصريح بالأغراض والتَّعريض.
رأس بالاستحقاق الآن، وسهَّل طرق الفنون وألان.
وهو شاعر لا يطمح في لحاقه مجاريه، ولا يُحثى التُّراب إلا في وجه مُباريه.
وقد ناهز الثمانين، وسما على العرانين.
فلو رآه ابن سبعين لما تجاوز حدَّه، أو الثمانين لاستنجد بهمَّة جدِّه.
وهو أعصف القوم ريحا، وأكثرهم عن البيان تصريحا.
قلبه قليبٌ واسع، وغوره بعيدٌ شاسع.
لا يقرطِس غرضاً إلا أصماه، ولا يفوِّق سهماً إلا أصاب مرماه.
وقد صحِبته مدةً فتمتَّعت بآدابه، ورأيت التحوُّل في كلِّ فنٍّ من دابه.
وتناولت من أشعاره تحفاً بادية الإغراب، وطُرفاً أترابها في اتِّفاق الصنعة تحت التراب.
فدونك منها ما لا يحتاج حسنه إلى إثبات، كالدُّرِّ يكفيه من حسنه نحورٌ ولبَّات.
فمن ذلك قوله من مقصورة، مستهلَّها:
قوامُه واللَّحظُ منه يُفتَنى ... مُمَنَّعٌ بين الرِّماح والظُّبَى
من جفنة كسرى استبيح اسمه ... وللنجاشي الحكم في الخال مضى
في حرَكاتِ قدِّه يستحسن الضَّ ... مُّ ومن أجفانِهِ الكسر ارتوى
وثغرُه قالوا العُذَيْبُ قلتُ من ... ذاكَ يُشامُ البرقُ منه أوْمَضَا
منها:
من لم يذُقْ حُلوَ الهوى ومُرهُ ... لم يدرِ ما بين الضَّلالِ والهُدَى
يا صاحِ أعْنى غيرَ صاحٍ من هوًى ... إن جُزتَ سلعاً منه سلْ عن ذي نَبَا
أخَيَّم الأحبابُ أم قد ظعَنوا ... فهاكَ آثارُ المَطِيِّ في طَوَى
وكنت طلبت منه شيئاً من أشعاره، لأثبته في كتابي هذا، فوعد وسوَّف.
فكتبت إليه:
أمولايَ مُحيِي رسومَ الأدبْ ... ومن حاز فيه أجَلَّ الرُّتبْ
لكَ اللهُ من مُبدِعٍ في الصنِيعِ ... إذا فاه يَمجبُ منه العجَبْ
فشِعرُك تطرب منه المُدامُ ... ونثرُك يرقُص منه الحبَبْ
وأنت الحياةُ لجسمِ العُلى ... وللفضلِ رونقُهُ المكتسَبْ(1/140)
ولولا وجودُك ما شاقنِي ... كلامٌ يروق وذاتٌ تُحَبْ
وعدْتَ بإرسال بعضِ القَريضِ ... فأنجِزْ لأبلُغَ منك الأرَبْ
فهذا الربيعُ أتى قائلاً ... خذُوا طرَباً في أوانِ الطرَبْ
فأرسل إليَّ قطعاً من شعره، وكتب معها: مولاي، وصلت الغادة التي بسماعها عربدت الأفكار، وسكرت مذ شامت أسطرَها ولا سُكر بمُصطار.
فيا لها من غرِّيدةٍ غرَّدت فصدحَ من سماعها الحمام، وحمامةٍ ورقاء فعلت بنا كما تفعل الرُّوح بالأجسام.
سجدت بين يديها البلغاءُ والفصحا، حتى سكر بخمرها المعنوي من لا يشرب وبها صحَا، فهي الدواء للجهَّال والدَّوا، ومعناها المرويُّ والفخر لمن لها روَى.
داوت بكلامها الكُلوم، وسارت في مراتبها منازلُ النجوم.
أشرقت في آفاق الأفكار وضاءت، وشرَّقت القاصدين عن الوصول بأدمُعِها ففاضت.
برزت من كِنِّ حاصل الكمال جوهرةً فريدة، فشهدت بنو الفجر منها وتنهَّدت بدرِّها أبكار الأفكار فهي بها سعيدة.
بانت فيها لبانات الأغراض، ميَّادةً يؤْتَمُّ بجوها وتُلغى الأعراض.
بائية اكتسبت بصائرُنا صحة الإيضاح في المعاني، ببديع بيانها السَّامي على من يُعاني.
تتجلَّى كأنَّها ذكاء نوراً فتكفُّ عن إدراكها العيون، فهي معلومة الذَّات بالصفات مجهولة الكُنه كما قال الفاضلون.
خطفت بأشعَّة أنوارها من ظنَّ السَّراب شرابا، وسلبت وكست فتلك عقولاً وهذه أسبابا.
فيالها من فاصلةٍ كبرى، وخافضة عن بعدها لخدمتها وِزرا.
هذا وقد قلَّدتُها عنُق دهري فطال، ووطئت ممشاها بالعيون وطأة إدلال.
فقال كمالها ارفع رَاسا، وتجلَّى جمالاً فأحيَى أنفاسا.
فهي السائدة على سُؤدد السيادة، وكأنها لِمُرسلها حُسنى وزيادة.
وقد ضاق وُسع هذا الدَّاعي عن هذا المدى، لكنه لحثالة حاله وقلَّة رأس ماله، قام منشدا:
صدوحةُ روضِ اللَّهى والطربْ ... ومَغنى الفِصاح وكِنُّ الأدبْ
غريدةُ بيتِ ولاءِ الولِيِّ ... نتيجةُ فخرِ لُغاتِ العربْ
عن الرَّاح تُغني بحسوِ العقولِ ... فما الخمرُ وصفاً وبِنتُ العِنبْ
بدتْ في خِمارِ اللَّهى تنثنِي ... فعربَدَ منها الحِجى واضطرَبْ
ولمَّا اسْتقرَّت براح الخَديم ... أراح مُناه وزيحَ النَّصبْ
كأنّ أمينَ الوفا قد وفَا ... يُخاصِم دهراً حليفَ العَتبْ
فأبْرز حِلماً وحُكماً له ... فهل يُستطاعُ سِوى ما كتَبْ
أجَبنا نجيباً سمَا عصرُه ... بما قال أمراً وما قد طلبْ
فهاك رُوَى عاجزٍ عن مدَى ... وَفاك وعن شأوِ أهلِ الحسَبْ
وهذا ما بعث به.
فمن ذلك قوله من قصيدة: هذا المفرد في الغزل استجدتُه فأفردته، وهو:
وجهٌ إذا قابلَ شمس الضُّحى ... والبدرَ ليلاً فات وقتُ الصَّلاهْ
وقوله:
ومختَضرٍ أرْثَتْه منِّي ضمائرٌ ... على ظنِّها لم تدرِ في أمرِها السَّببْ
فكان كما أرويه حقًّا بلا مِرا ... إلى رحمةِ الله الرحيم هو الأدبْ
أرثيتُ لفلان، إذا رفقتَ له. ورثى الميِّت بالشعر، وربما قالوا أرثأته بالشعر، ويعد من غلط البصريين. وأما أرثيتُه، فلم أره.
ومن ذلك قوله:
بي غادةٌ تُملِي الجوَى ... من شرحِ أسوا مِحنتي
ناظرتُها من خاطري ... فأنا الذي وهي التِي
فيه إيداع لبيت ابن لؤلؤ الذهبي، وهو:
فأنا الذي أُملِي الجَوى من خاطِري ... وهي التي تُملي من الأوراقِ
ومن ذلك قوله، من قصيدة، مطلعها:
إنَّ أصْلدَ الزِّناد في الأيادي ... ما أصْلدتْ قرائحُ الأكبادِ
أورتْ زنائدِي فنوناً قصَّرتْ ... عن نعتِها اللَّهى من الأمجادِ
من كلِّ معنًى بالبديع شأوُه ... له رَقَى على بيانِ الشادِي
معناه في لطافةِ التركيب والْ ... معنَى كلُطفِ الرُّوحِ في الأجسادِ
برَعتُ فيها فاليراعُ خادِمي ... والطِّرس ملكِي والرُّوى أجنادي(1/141)
سامرتُ فيما فُهْتُ روحي في الدجى ... فآنستنِي مثلَ صوتِ الحادِي
لله ما نجبُ اليعاسيبِ انتشَتْ ... من الحُداة في رُوى إنشادِي
تَعيفُ بالمفازِ وِردَ الماء من ... مساغِ نظمِي مُرتل التَّحادي
تَميلُ في مسْرَى سُراها جُفَّلاً ... تبْغِي الحُداة لا حلى المزادِ
منها:
يا بُرَحاً زادتْ بنا أنواؤُه ... زَوْد الغديرِ عن رِوَى الصَّوادِي
جرَّعتني بعد الأُصيحابِ الأسَى ... فذُقتُ منه وَصْمةَ النِّكادِ
هلاَّ رحمت مُّغرَماً صَبًّا رقَتْ ... دموعُه مَرافِي الوِسادِ
يسخرُ منه كل خِلوٍ من هوًى ... يُشفق فيه مُغرَم الوِدادِ
فالخِلوُ ممنوعُ الرِّضا وضِدُّه ... عن حاله مُنَّعُ السَّدادِ
أمَّمْتُ ناساً لقَباً وما هم ... بأهلِ وُدٍّ يقصدون بادِي
فعدتُ عودَ نادِمٍ وهكذا ... من أمَّ غيرَ مثلِه في نادِي
فلا رجعْتَ يا أخا الوُدِّ كما ... رجعتُ في عوْدِي وفي تَردادِي
سئمْتُ مني فالورى أحقُّ من ... يُسأمُ منه أبدَ الآبادِ
ومن ذلك قوله، من قصيدة، مستهلُّها:
إذا ما دعانِي للهوَى المحكَمِ العُذري ... عِذارُ الذي أهوَى فماذا ترى عُذرِي
وهل غيرُ ربِّ الآسِ صُدْغاً ونُكهةً ... لداءِ كُلومٍ في الحشاءِ إلى الحشْرِ
عدِمتُ شفا وُردِ المراشِفِ حُلوِهِ ... إذا لم أكنْ أقوَى الخلائقِ للصبرِ
وقوله من أخرى:
طيفَ الكرى حُيِّيتَ من زائرِ ... منحْتَ بُرْءَ الداءِ من هاجِري
ما كان أحلَى سِنَةَ الغمْضِ في ... ليلٍ سَطا في ظُلمِهِ كافرِ
ليلٍ كأنَّ الغمضَ فيه سرَى ... ضَلَّ الهُدى فإنْقادَ كالحائِرِ
وقوله:
إن سُقم الجفون اسْقم جَفنِي ... وولاني من السَّقامِ فُتورا
ربِّ فاشْفِ السَّقامَ منهم بكسْرٍ ... فَهَواهُمْ أضَلَّ خْلقاً كثيرا
وقوله:
دَعْ فؤادِي عليك يذهب حَسْرَهْ ... أوْ فيَكفيه منك في العمرِ نظرهْ
ما صَنِيعي وفيك عادَ مآلِي ... عودةً كالسَّرابِ في أرضِ قَفْرهْ
فصل
عقدتُه لجماعة من العلماء الأجلاَّء، يهتدِي بمصابيح علومهم الأضِلاَّء.
ممن فضله واضحٌ مبيَّن، والتبرُّك بذكره فرضٌ متعيَّن.
فهم وإن كانت آثارهم العليَّة غنيةً عن الوصف والإطالة، فلقد أتوا بأشياء من الشعر هي في الجملة خيرٌ من البطالة. فمنهم: نجمُ الدِّين الغزِّي النجم الأرضي، وابن البدر المضيء، وجدُّه الرَّضيُّ المرْضِيّ.
ثلاثة في نسق، طلعوا فأناروا الغسق.
وقدمهم في النَّباهة، أعلى من قدمهم في الوجاهة.
فمن يساميهم، وإلى الكواكب مراميهم.
وهم في القديم والحديث، أئمة التفسير والحديث.
لم يبرحِ المجدُ يسمُو ذاهباً بهِمُ ... حتَّى أزاح الثُّريا وهو ما قنَعَا
والنَّجم انعقدت العَشرةُ عليه، وسعتْ وفودُ العناية مسرعةً إليه.
فَ " والنَّجمِ إذا هوى، ما ضلَّ صاحبكم وما غوَى " لهو الذي به يقتدِي المقتدِي، وبسمته يهتدي المهتدي.
هو النجم يَهدِي جميعَ الورى ... فمن دونه البدرُ والشمسَ دونْ
وقد صار في الفضلِ حيثُ انْتهوا ... وحيث انْتحوا فبِهِ يقْتدون
إذا ظُلمَةُ الغَيّ ألْوتْ بهم ... أضاء فبالنجمِ هم يهْتدونْ
وله دعاءٌ مستجاب؛ وخواطر ليس بينها وبين الله حجاب.
فلو حذِّر به المنهمك في غوايته لأمسك، أو خوطِب به المتهالك في عِصيانه أناب وتنسَّك.
شغل بالإفادة أيامه ولياليه، ونظم على جِيد الأيام فرائده ولآليه.
وتأليفاته كاثرت رمل النَّقا، وأربت على الجواهر في الرَّونق والنَّقا.
مع مالَه من كرمٍ يُخجل الأجواد، وسخاءٍ أضحت عوارفه كالأطواق في الأجياد.(1/142)
لم تُرْو في التَّواريخ كأحاديثه الحِسان، ولم تسطَّر كآثاره في صحائف الأزمان بالحسن والإحسان.
وله شعر كقدره ثمين، إلا أنه كالياسمين.
فيُكتب لشَرفه، لا لكثرة طُرفِه.
فمن ذلك هذه الزَّائيَّة، عارض بها قطب مكَّة الذي عليه المَدار، وقمر أُفقها الذي يأبى غيرَ الإبدار.
وقصيدته هي هذه:
سبحان من للوجودِ أبرَزْ ... رَشاً بحُكم الهوى تعزَّزْ
زادَ على الرِّيمِ في دلالٍ ... وعن جميع المهَا تميَّزْ
أحْوى وللظَّرفِ ليس منه ... أحْوى ولا للبَهاءِ أحوَزْ
لقد كساهُ الجمالُ ثوباً ... بألطف اللطفِ قد تطرَّزْ
رنَا بِطرفٍ جآذِرِيٍّ ... كأنه للوصال ألغَزْ
وَعداً ولكن بلا نهارٍ ... يا حبَّذا الوعدُ لو تنجَّزْ
بعثتُ باثنينِ من خُضُوعِي ... وثالثٍ بعد ذَيْنِ عَزَّزْ
أرجو وِصالاً منه بِعِزٍّ ... من عَزَّ من وصلِه فقد بَزّ
فما رثَى لي ولا وفَا لي ... وقد قسَا قلبُه ولزَّزْ
وعَفَّ إلا عن قتلِ مثلِي ... فإنَّه عنه ما تحرَّزْ
قوله: من عَزَّ بَزَّ. مثل، معناه: من غلب سلب.
قال المفضَّل: أول من قال ذلك رجلٌ من طي، يقال له: جابر بن رألان، أحد بني ثُعل.
وكان من حديثه أنه خرج ومعه صاحبان له؛ حتى إذا كانوا بظهر الحيرة، وكان للمنذر بن ماء السماء يومٌ يركب فيه، فلا يلْقى أحداً إلا قتله، فلقَى في ذلك اليوم جابراً وصاحبيه، فأخذتهم الخيل بالثوَيَّة، فأُتِيَ بهم المنذر، فقال: اقترعوا، فأيُّكم قرع خلَّيتُ سبيله، وقتلتُ الباقين.
فاقترعوا، فقرعهم جابر بن رألان. فخلَّى سبيله، وقتل صاحبيه.
فلما رآهما يقادان ليقتلا، قال: من عَزَّ بَزَّ. فأرسلها مثلاً.
وقصيدة القطب مطلعها:
أقْبل كالغصنِ حين يهْتزّ ... في حُللٍ دون لُطفها الْخزّ
وهي مذكورة في الريحانة.
وذكر الشهاب معها قصيدةً له عارضها بها، ومطلعها:
من علَّم الغصنَ حين يهْتزّ ... ميلَ قُدودٍ تميلُ في الخَزّ
وللنَّجم:
أخوكَ في الإسلامِ يُجديك في ... علمٍ ورأيٍ منه أو أنْسِ
كأن قد احْتجْتَ إلى نفعِه ... وإذ به قد صار في الرَّمْسِ
أصْبحتَ أسَّافاً على صاحبٍ ... قد كنتَ تأسَى منه بالأمْسِ
ما أحوجَ المرءَ إلى خِلِّه ... وأحوجَ الجنسَ إلى الجنْسِ
ويلاه من عصرٍ رأينا به ... على افتقادِ الكُمَّلِ الخمْسِ
لسنا نرى ممَّن مضَى واحداً ... ولو بلغْنا مطلَعَ الشمْسِ
هذا معنًى موجود في الأثر، وذلك ما أخرجه أبو نعيم في الحلية، عن سليمان بن موسى الأشدق، قال: أخوك في الإسلام إن استشرته في دينك وجدت عنده علما، وإن استشرته في دنياك وجدتَ عنده رأياً، ما لك وله، وإن فارقك فلم تجد منه خلَفَا.
وسليمان هذا كان من أكابر السَّلف.
قال الزُّهري: إن مكحولاً يأتينا، وسليمان بن موسى - يعني لسماع الحديث - وأيمُ الله إن سليمان لأحفظُ الرجُلين. أخرجه في الحلية أيضاً.
ومن هذا ما نقله الشعراوي في طبقاته عن أبي المواهب الشَّاذلي، أنه كان يقول: أهل الخصوصية مزهود فيهم أيام حياتهم، متأسَّف عليهم بعد مماتهم، وهناك يعرف الناس قدرهم، حين لم يجدوا عند غيرهم ما كانوا يجدونه عندهم.
وقد قيل في المعنى:
ترى الفتى يُنكِر فضلَ الفتى ... ما دامَ حيًّا فإذا ما ذهبْ
لَجَّ به الحِرصُ على نُكتةٍ ... يكتُبها عنه بماء الذهبْ
ومن مقاطيعه قوله:
تواضَعْ تكُنْ كالنجم لاح لناظرٍ ... على صفحاتِ الماءِ وهو رفيعُ
ولا تكُ كالدُّخَّانِ يعلو بنفسِه ... إلى طبقاتِ الجوِّ وهو وضيعُ
وقوله:
لا تكرَهنَّ حسوداً ... يُجديك نشرَ الفضيلهْ
كم من حسودٍ مُفيدٍ ... ما لم تَفِدهُ الفضيلهْ
ومثله لوالده البدر:
الحمدُ للهِ على فضلِهِ ... إذ صيَّرَ الحاسدَ لي يخْدِمُ(1/143)
يجْهدُ في رَفع مقامِي وفي ... نشرِ علومِي وهْو لا يعلمُ
ومثله لابن الوردي:
سبحانَ من سخَّر لي حاسِدِي ... يُحْدِث لي في غَيبتي ذِكرَا
لا أكرَه الغِيبةَ من حاسدٍ ... يُفيدني الشُّهرةَ والأجْرَا
ولأبي حيَّان:
عِداتي لهم فضلٌ عليَّ ومِنَّةٌ ... فلا أذْهَب الرحمن عنِّي الأعاديا
هم بحثُوا عنْ زَلَّتي فاجتنبْتُها ... وهم نافسُوني فاكْتسبْتُ المعالِيا
الشيخ أيُّوب الخَلوَتِي الوليُّ العارف، ذو المعارف والعوارف.
أحد الراسخين في العلم الإلهي، والكاشفين عن أسرار الحقائق كما هي.
حلَّ من جفن الشكر في سواده، وتبوأ من صدر الإحسان في فؤاده.
فمحامده تملأ المجامع والمسامع، ومناقبه تنير المطالع وتبعث المطامع.
وعلمه تُقبل أمواج البحر بين يديه، وحلمه يطيش شيخ الجبال أبو قبيس لديه.
إلى ما حوى من منظرٍ صبيح، يستنطق الأفواه بالتَّسبيح.
وسخاءٍ لو ركِّب في الطبائع لم يوجد شحيح في نوع الإنسان، وزهدٍ لو كان رقيةً للصبابة لم يبق جريحٌ من حدق الحسان.
وأما رقَّة طبعه فكلما ذكرت تنزَّهت في بحبوحة النعيم الخواطر، واشتقَّت من أنفاس الهجير بين الروض والنهر بمراوح النسيم العواطر.
مع تلطُّفٍ بلغ الغاية في الكمال، وسلامةٍ لم يبق معها فتنةٌ إلا فتنةٍ بجمال.
فهو بالهداية محلَّى، وقد رفع الله في العلياء محلا.
وله من الأخبار ما يُملي التَّواريخ المخلَّدة، ومن الأشعار ما يملأ الكتب المجلَّدة.
فمن شعره قوله من قصيدة، يذكر فيها ليلةً مضت في روض عنبري النَّفح، ويتشوق إليها تشوُّق الشريف لليلة السَّفح.
وليلتنَا على قاسون لمَّا ... خرجْنا من منازِلنا ذهابَا
وسِرنَا والغزالُ لنا دليلٌ ... ووجه غزالةِ الأفلاكِ غابَا
لقصرِ أبي البقَا شرف اعتلاءً ... وطابَ لنا منازِلُه رحابَا
حططْنا فيه أحمالاً ثقالاً ... عن الظهرِ الذي قد صارَ قابَا
ومن فضلِ المُدام لقد حظِينَا ... بشمَّاسٍ يُديرُ لنا الشَّرابَا
بمدرعَةٍ تخال سوادَ عينِي ... لِتمثالٍ لها حاكِي قُنابَا
وغنَّى والظَّلامُ لنا رضيعٌ ... وقمْتُ وكان رأسُ الليلِ شابَا
ونادَى بالأذانِ فقلتُ أهلاً ... بذاك وكنتُ أول من أجابَا
لأنَّ الصُبحَ أشهرَ سيف حربٍ ... وجُنح اللَّيل كان له قِرابَا
وله:
انْظُر إلى السِّحرِ يجري في لواحِظِه ... وانْظر إلى دعَجٍ في طرفِه السَّاجِي
وانْظر إلى شعراتٍ فوق وجنتِهِ ... كأنَّما هنَّ نملٌ دبَّ في عاجِ
أحسن منه قول بعضهم:
كأن عارِضه والشَّعر عارَضَه ... آثارُ نملٍ بدتْ في صفحة العاجِ
توحَّلتْ في لطيمِ المِسكِ أرجُلُها ... فعدْنا راجِعةً من غير مِنهاجِ
وله:
الهجوُ أقبح ما يكون إذا بدَى ... وإذا اسْتجنَّ ففي الفؤادِ قبيحُ
فلِذاك لا يرضاه إلا جاهِلٌ ... إنَّ الجهول بما يقول جَريحُ
وله:
وليلةٍ بِتُّ فيها لا أرَى غِيَراً ... مع شادِنٍ وجهه قد أخجلَ القمرَا
نادمْتُه قال هاتِ الكأسَ قلتُ له ... جلَّ الذي لافتِضاحِي فيك قد سترَا
وقمتُ أرشفُ من ريقِ المُدامِ ومن ... مُدامِ ريقٍ وأقْضِي في الهوَى وطَرَا
ولفَّنا الشوقُ في ثوبيْ تُقًى وهوًى ... وطال بالوصلِ لي والليلُ قد قصُرَا
وله:
وليلتنَا بالأمسِ كانتْ عجيبةً ... وفينَا غزالٌ أدْعَجُ الطَّرفِ أحوَرُ
سألتُ إلهي أن نعود لمِثلِها ... بعَوْد التَّجلِّي قيل لا يتكرَّرُ
وقوله:
وقد لامنِي عاذِلي في الحُبِّ قلت له ... حُبِّي شِفائِي كما أنَّ السِّوى مرضِي
قد قال قبليَ شخصٌ لست أعرِفهُ ... لكنه قد قضى من شعرِهِ غرضِي
لكلِّ شيءٍ إذا فارقْتهُ عِوَضٌ ... وليس لله إن فارقتَ من عِوَضِ(1/144)
فاصْبِر عليه تنلْ بالصَّبر وصلته ... فالمرِّ فيه حلا والحكمُ فيه قُضِي
الحكم لله وهو العدلُ فارْضَ به ... ما يغلِب الدهرَ إلا من بذاك رضِي
في الأمثال: في الله عوض من كل فائت. قائله عمر بن عبد العزيز. ورأى أبو جعفر المعدني مكتوباً على جدار:
لكلِّ شيءٍ فقدتهُ عِوَضٌ ... وما لِفقدِ الحبيبِ من عِوَضِ
فأجازه بقوله:
وليس في الدهرِ من شدائِدِه ... أشدُّ من فاقةٍ على مرَضِ
وقوله: ما يغلب الدهر ... إلخ، منه.
لكلِّ شيءٍ مُدَّةٌ وتنقضِي ... ما غلبَ الأيَّام إلا من رَضِي
ومما ينسب إليه:
قد لامنِي الخلقُ في عِشقِ الجمالِ ولم ... يدرُو مُرادِيَ فيه آهِ لو عرفُوا
وصلتُ منه إلى الإطلاق ثمَّ سرَى ... سِرِّي إلى قيد حسنٍ عنده وقفُوا
وله تخميس الأبيات المنسوبة إلى العارف بالله تعالى أحمد الرفاعي:
أفوه إذا يشدُوا الأنامَ بشُكرِكُم ... وأكتم سرِّي لا أبوح بسرِّكُمْ
أحبَّتنا من طيبِ نشأةِ خمرِكُم ... إذا جنَّ ليلِي هام قلبِي بذِكرِكُمْ
أنوح كما ناحَ الحمامُ المطَّوقُ
عسَى ولعلَّ الدهرَ يأتي بهم عسَى ... لأشهدهُم عند الصباحِ وفي المسَا
فقلبِيَ من فقدِ الأحبَّةِ قد قسَا ... وفوقي سحابٌ يمطِر الهمَّ والأسَى
وتحتِي بِحارٌ في الهوَى تتدفَّقُ
إذا فاح من نجدٍ بقلبِي عبيرُها ... فلا عجبٌ إن قلتُ إني سميرُهَا
وإن خمدتْ نارِي فوجدِي يُثيرُها ... سلُو أمَّ عمرٍو كيف باتَ أسيرُهَا
تفكُّ الأسارَى دونه وهو موثَقُ
وفي تلفِ الأرواحِ كم لي إباحةٌ ... وفي منزلِ العشَّاقِ كم لي سياحةٌ
فيا ويحَ صَبٍّ أثْخنتْهُ جِراحةٌ ... فلا هو مقتولٌ ففي القتلِ راحةٌ
ولا هو مأسورٌ يفكُّ فيطْلقُ
وشعره كثير، ويكفي من الدلالة ما أبان الطرق، ومن القلادة ما أحاط بالعنق.
ومن فصوله القصار، الجارية مجرى الأمثال والحكم، قوله: لا يترك الوسائط، من لم يصر من البسائط.
من صدقت سريرته، انفتحت بصيرته.
طرق الله لا تحصى للإكثار، وأقربها إليه الذِّلُّ والانكسار.
الخول يذهب الحجب، والشهرة تورث العجب.
من لم يكمل عقله، لا يمكن نقله.
في القرن العاشر، احذر أن تعاشر.
في القرن العاشر من القرون، تسيء بالصالحين الظنون.
المحبَّة تصحيح النسب، وثمرة المكتسب.
الأخ من يعرف حال أخيه، في حياته وبعد ما يواريه.
إذا انفسدت أحوال الشَّريعة، فأشراط الساعة سريعة.
وله فروع بسقت في دوحة بستانه، وتروَّت بصبيب الأنواء من صوب هتَّانه.
أشرق مجدهم إشراق الشمس، وقاموا لذات الفضل مقام الحواس الخمس. فمنهم: محمد الكبير الذي لا يفي بوصفه التَّعبير.
قام بعد أبيه خليفة، واتَّخذ الزهد سميره وحليفه.
فكأنه لم يمت من خلفه، ولا غاب عن أهله من استخلفه.
فهو البقيَّة الصالحة وقد ذهب الكرام، والذَّات الفالحة اللائقة بالإكرام.
إلا أنه لم يطل عمره، ولا خلص من الوهن نهيه وأمره.
فمات ودفن عند أبيه ومربيه، فلا زالت رحمة الله تحييه وتحبيه.
ومن المعلوم أن المورد واحد، وسيان فيه ولدٌ ووالد.
وهو معدودٌ من رجال الطريق، ومنخرط في سلك ذلك الفريق.
وله فضلٌ ومجد، وأخلاق تحكي صبا نجد.
مع تبتُّلٍ وركون، وإنابةٍ إلى الله في حركةٍ وسكون.
وبالجملة فمقداره عظيم، ولكنه يقلُّ من النثر والنَّظيم.
ولم يحضرني من شعره، إلا قوله:
يا صاح إن الشِّعر يُزري بذي ال ... الحسنِ وإن كان بهيّ الجمالْ
أما ترى الأنفُسَ من شَعرةٍ ... تعافُ للماءِ الفراتِ الزُّلالْ
وهذا معنى تداولته الشعراء، والسابق إليه أبو إسحاق الغزِّي، في قوله:
يقولون ماءُ الحسنِ تحتَ عِذاره ... على الحالةِ الأولى وذاك غُرورُ
ألسنا نعافُ الشُّربَ من أجلِ شعرةٍ ... إذا وقعتْ في الماءِ وهو نميرُ
ثم خلَفه أبو السعود واسطة عقدهم المقتنى، وغصن روضتهم المجتنى.(1/145)
وعبير ذكرهم المردَّد، ولسان حالهم المجدَّد.
يروقك مجتلاه، ومحلُّه يهزأ بالبدر معتلاه.
كرم فرعاً وأصلا، وشرف جنساً وفصلا.
وله فضلٌ أضحى تاجاً لرأس المناقب، وأدبٌ تتوقَّد به نجوم الليل الثَّواقب.
وبيني وبينه موالاة محققة، وعهود موثَّقة، وثناءٌ كمائمه عن أذكى من الزَّهر غِبَّ القطر مفتَّقة.
ورأيت له أشعاراً في الذروة من الانطباع ثاوية، لها في كلِّ قلبٍ بلطف موقعها خلوةٌ في زاوية.
وقد أثبتُّ منها قصيدةً شطَّر بها سينيَّة ابن الفارض، فناصفها شطر الحسن، كما تناصف حسن الخدِّ بالعارض. وهي هذه:
قفْ بالديارِ وحيِّي الأربُعَ الدُّرُسَا ... مخاطِباً لرَسيسِ الشوقِ مُقتبِسَا
واسْترجِع القولَ يا ذا الرَّأيِ مُختبِراً ... ونادِها فعساها أن تُجيبَ عسَى
وإن أجنَّك ليلٌ من توحُّشِها ... فلا تكنْ آيِساً لا كان من أيِسَا
خذْ من زِنادِ الجوَى ناراً مُشعْشعةً ... فاشْعلْ من الشوقِ في ظَلمائِها قبَسَا
يا هل درَى النَّفَرُ الغادُون عن كَلِفٍ ... موَلَّهٍ هائمٍ كاسَ الغرامِ حَسَا
تَراه مستصْحِبَ الأفكارِ ذا حُرَقٍ ... يبيتُ جُنحَ الليالي يرقُب الغلَسَا
فإن بكَى في قِفارٍ خِلتَها لُجَجاً ... ما شامَها ناظِرٌ إلاَّ همَى وجَسَا
وإن خبَتْ نارُه هاجَ الغرامُ بهِ ... وإن تنفَّس عادتْ كلُّها يَبَسَا
فذو المحاسنِ لا تُحصَى محاسنُه ... إذا رآه عَذولٌ حاسدٌ خَنَسَا
ومن أبَيْت فلا فَقْد لوَحشتِهِ ... وبارعُ الأُنسِ أعْدَمْ بهِ أنُسَا
قد زارني والدجَى يرْبَدُّ من حَنَقٍ ... وحُسنُ إشراقِه بالشُهْبِ قد حُرِسَا
فالزُّهر تَرمُقُه عُجْباً برونَقِهِ ... والزَّهرُ يبْسَم عن وجهِ الدُّجَى عَبَسَا
وابْتزَّ قلبيَ قَسراً قلتُ مظْلمَةً ... فحسبِيَ اللهُ ممَّن قد جنَا وقَسَا
حيَّرْتني فأنا المُحتارُ وا أسفِي ... يا حاكمَ الحبِّ هذا القلب لمْ حُبِسَا
زرعتُ باللَّحظِ ورْداً فوق وَجنتِه ... فأثمرتْ منه لي في ناظِرَيهِ أسَى
إن رمتُ أقطفُ منه عِطرَ رائِحةٍ ... حقٍّا لِطرفيَ أن يجنِي الذي غرَسَا
وإن أبَى فالأقاحِي منه لي عِوَضٌ ... أوْردْتُه القلبَ حيث الحبُّ فيه رَسَا
جعلتُه رأس مالِي مذْ ربحتُ به ... مَن عُوِّض الثَّغرَ عن درٍّ فما بُخِسَا
إن صال صِلُّ عِذارَيْه فلا حَرَجٌ ... أن عادَ منه صحيحُ الجسم مُنتكسَا
فهذه سُنَّةٌ للعِشقِ واجبةٌ ... أن يَجْنِ لسعاً وأنِّي أجْتنِي لَعَسَا
كم باتَ طَوعَ يدِي والوصلُ يجمعُنا ... لم يخْطُر السُّوءُ في قلبِي ولا هَجَسَا
وزادنِي عِفَّةً إذْ كان ذا ثِقةٍ ... في بُردتيْه التُّقى لا يعرف الدَّنسَا
تلك الليالي التي أعددْتُ من عُمُري ... يا ليْتها بقِيتْ والدهرُ ما نُكِسَا
ويا سقَى الله أيَّماً لنا سلَفتْ ... مع الأحِبَّةِ كانت كلُّها عُرسَا
لم يحلُ للعينِ شيءٌ بعد فُرْقتهم ... وما صَبَا دونها صَبُّ الجَوَى ونَسَا
ولا شمَمْتُ نسيماً أستلِذُّ به ... والقلبُ مذ آنسَ التَّذكار ما أنِسَا
يا جنَّةً فارَقَتْها النفسُ مُكرهَةً ... أبْقِي لصَبِّك في نيلِ المنَى نفَسَا
وحَقِّ مُوثَقِ عهدٍ لا انْفِكاكَ له ... لولا التَّآسِي بدار الخُلدِ مِتُّ أسَى
أحمد بن محمد الهمنداري الحلبي المفتي اتَّخذ الثُّريَّا مصعدا، وورد المجرَّة مقعدا.
ثم طلع شنباً فكان في ثغر الشام، وهبَّ نسيماً فحرَّك طرباً أغصان البشام.(1/146)
واستقرَّ بروضها الزاهر، استقرار الغمض في الجفن الساهر.
فقيَّد الأعين بصفاته، كما عقل الأفكار بلحظه والتفاته.
وهو نسيج وحده استيلاءً على الفضل واشتمالا، ووحيد نسجه إبداعاً لتحائف المقول واعتماله.
يتحلَّى بخلق لو كان للروض ما ذبل في الشتاء نوره، وفكرٍ لا يُدرك غوره.
وحلم ما شيب بوهم، وتثبُّتٍ لم يخفَّ له وزن.
يصعب إغضابه ويسهل استرضاؤه، ويفيض إقباله ولا يتوقع إغضاؤه.
ويقرب الزمن في عطفه، ولا يتراخى المدى إلى لطفه.
وهناك أدبٌ بسلسل الرقَّة يتدفَّق، وطبعٍ عن زهر الرياض يتفتَّق.
فإذا تفوَّه بسطت الحجور لالتقاط لآليه، وإذا أملى ترك الملأ إملاء أماليه.
وهو أحد من حضرتُ عنده، واقْتدحتُ في الاستفادة زنده.
وكان هو وأبي عقيدي صحبة، وأليفي مودَّة ومحبَّة.
وبينهما لحمةٌ ليست سدَى، واتِّفاق ليس إلا ببرد فضل وندى.
وكان أبي يقول فيه: لم أر مثله كثرة إناءة، وتجنُّب بذاءة وإساءة.
وتناسب ذاتٍ ونعت، وتوافق سجيَّةٍ وسمت.
تروق أنوار خلاله، وأدبه تتنَّفس الرياض في خلاله.
وقد أوردتُ له من شعره الرَّقيق، ما هو أعذب من ريق الندى في ثغور الشَّقيق.
فمن ذلك قوله من قصيدة مطلعها:
دون رشفِ اللِّمى وضَمِّ النُهودِ ... طَعَناتُ المثقَّفِ الأُملودِ
واقْتِحام المَنونِ أجدرُ إنْ ... أعقبَ وصلاً بحال كل لَمِيدِ
مُهَجُ العاشقين منذ قديمٍ ... خلُصتْ للبلاءِ والتَّنكيدِ
من لقلبي بأغْيدٍ قصَم القلْ ... بَ بعَضبٍ من اللِّحاظِ حديدِ
ألِفَ النُّفرةَ التي تعقِل العَقْ ... لَ وتُذري الدموعَ فوق الخُدودِ
وكتب إلى والدي:
حيَّتْك فضلَ اللهِ دِي ... مةُ سُؤدُدٍ نشأتْ بمجدِكْ
وعلَتْك أنوارُ السَّعا ... دةِ فاغتنمْ إشراقَ سعْدِكْ
وكذا الفضائِلُ والفوا ... ضِلُ والمكارمُ حَشْوُ بُردِكْ
أما القريضُ ونسجُه ... فلأنتَ فيه نسيجُ وحْدِكْ
بك جِلَّقٌ فخَرتْ كما ... بأبيك قد فَخَرتْ وجَدِّكْ
مولايَ فكرِي قاصِرٌ ... عن أن يُحيط بكُنْهِ حَدِّكْ
فاعْذُرْ ودُمْ بمَسرَّةٍ ... تبقَى على الدُّنيا كوُدِّكْ
فراجعه بقوله:
هل زهرُ روضٍ أم زَوا ... هرُ أنجُمٍ أو دُرُّ عِقدِكْ
أم روضةٌ قد فاح من ... رَيَّا رُباها عَرْفُ نَدِّكْ
أم ذي بدورٌ أشرقتْ ... في حيِّنا من أُفقِ سَعْدِكْ
يا مُفردَ العصرِ الذي ... لم تسمحِ الشَّهْبا بنِدِّكْ
أنت الذي افْتخرتْ بفضْ ... لِك أهلُها من عصرِ مهْدِكْ
ولك المعارفُ والعوا ... رِفُ واللَّطائفُ قَدْحُ زَنْدِكْ
أرسلتَ نحويَ غادةً ... ألفاظُها شهِدتْ بشُهْدِكْ
حيَّتْ فأحْيتْ مُغْرماً ... قد كان منتظِراً لوعْدِكْ
وإليك منِّي روضةً ... بالوُدِّ ذاكِيةً بحمْدِكْ
وافتْ على ظمَأٍ بها ... تبغِي الوُرودَ لِعذْبِ وِرْدِكْ
فاقْبل بفضلِك عُذرَ من ... يرعَى الوفَا بوَثيقِ عهْدِكْ
ودعاه الخطيب المحاسني إلى داره، وقمر سعدِه إذ ذاك في إبدراه.
فلما طابق خبر المجلس مخْبَرَه، وأطلق فيه عوده وعنبره. أنشد بديهاً:
قد حلَلْنا بمنزلٍ فاق حُسناً ... وبهاءً وحازَ لُطفاً عجيبا
ضاعَ مِسكاً وكيف يُنكَر هذا ... منذ ضَمَّ الخطيبَ ضُمِّخَ طِيبا
وقد تناول هذا الجِناس من قول بعضهم:
مُلِئَ المنبرُ مسكاً ... مذْ به قمتَ خطيبَا
أتُرى ضَمَّ خطيباً ... منك أم ضُمِّخَ طِيبَا
وأنشدني من لفظه لنفسه معنًى ما زلت أحَمِّق به فكري، وأتمنَّى لو كان لي بكلِّ شعري، وهو هذا:
مذ رأى الوردُ على أغصانِه ... خَدَّ من أهواه في الروضِ الأنِيقْ
صار مُغمًى فلطِيف الطَّلِّ قدْ ... رُشَّ في وَجنتيه كي يستفيقْ(1/147)
وقلت أمدحه:
يدُ ابنُ أحمدٍ وفضلُ أحمدِ ... تُعلِّم الناس طريق الرَّشَدِ
لولاه أصبح الوجودُ عاطلاً ... ولم يَبِنْ في الدهرِ طيبُ المَحْتِدِ
مُفتِي دمشقَ الحَبْرُ من صفاتُه ... ألذُّ من وصلِ الحسانِ الخُرَّدِ
مَن عنده اللَّذةُ إدراكُ المَنى ... وأنكَرُ الأصواتِ صوتُ مَعْبَدِ
لا يعلم الهزلَ ولا يحبُّه ... ولا يميلُ طبعُه إلى الدَّدِ
تُسهرِهُ الأفكارُ في مفاخرٍ ... يُبْدعها أو مَكْرُماتٍ يبتَدِي
ينظِم منثوراتِها فهي على ... جِيدِ العُلى كاللُّؤلؤِ المُنَضَّدِ
مذْ حلَّ في بلدتِنا رِكابُه ... هدِيَ به من لم يكنْ بالمهْتَدِي
وأصلحَ الناسَ صلاحُ سِرِّه ... فليس من حدٍّ بها أو قَوَدِ
يا جِلَّقَ الشامِ سَقاكِ عارِضٌ ... من فضله يُمْطِر صَوْب العسْجَدِ
ما أنتِ إلا في البِقاعِ مثلُه ... في العُلَماءِ أوْحدٌ لأوحَدِ
ما شرَّف الدِيارَ غيرُ أهلِها ... أحِلْيَةُ العيونِ غيرُ الإثْمِدِ
ما مصرُ إلا حيث حلَّ يوسفٌ ... لا نسَبٌ بين امرِئٍ ومعهَدِ
إن صدقَ الظَّنُّ فقُرْبُ رُتبةٍ ... من رُتبةٍ كبلدٍ من بلَدِ
أنْجب فينا غُصنَ فضلٍ مُثْمِراً ... بالمعلوات والنَّدى والسُّؤدُدِ
تشابَه الغُصنُ وروضُه وقدْ ... يظهر في الوالدِ سِرُّ الولَدِ
حكاه في عفَّتِه وفضلِه ... والشِّبْلُ في المخْبرِ مثل الأسدِ
لا برِحَا في عِزَّةٍ دائمةٍ ... لا تنْقضي ما بقِيَا للأبدِ
فإن في بُقْياهما صَوْنَ العُلى ... عن أن تُمَسَّ بيدٍ لأحَدِ
إبراهيم بن منصور الفتَّال شيخ الشيوخ ومعترفهم، وبحر العلماء ومغترفهم.
أما العلم فمنه وإليه، ومعوَّل أرباب فنونه عليه.
وأما الأدب فله فيه التَّبريز، وإذا كان غيره فيه الشِّيةُ فهو الذهب الإبريز.
وله المنطق الذي يسحر العقول، والفكر الذي يصدأ عنه الفِرندُ المصقول.
مع حديثٍ لا يُمل، ومنظرٍ يملأ عيني من تأمل.
تتنافس في مجلسه دررٌ لوامع وحِلًى جِياد، فلا تعلَّق فيه إلا أقراطٌ بآذان وقلائدٌ بأجياد.
وطبعه يعير سحره عيون الحور، ويفضح بعقود آثاره دُرر البجور.
تبتسم الفضائل عن آثاره، وتتفتَّح ثغورها بلوامع إيثاره.
وقد ألقى الله عليه منه محبَّة، جلبت إليه مسْرَى القبول ومهبَّه.
فلا تزال الأعين تحدِّق إلى محيَّاه، والألسن تدعو بانفساح مَحْياه.
وراحته مخدومةٌ بالقُبل، وعيشه أنضر من الربيع المقتبل.
تودُّ كؤوس الراح في أفراحها، لو تعوَّضت بلحظة أُنسِه عن راحِها.
وإذا ذُكر فالقلوب على ثنائه ذات اتِّفاق، وخبرُ فضلِه إذا تُلىَ سَمَر القوادِم وحديث الرِّفاق.
وما أنا في ترنُّمي بذكره، وتعطُّري بحمده وشكره.
إلا النسيم على الحديقة بريَّاه، والصبح بشَّر بالشمس ضوءُ مُحيَّاه.
ولي فيه ما لم يقُلْ شاعرٌ ... وما لم يَسِرْ قمرٌ حيث سارَا
وهُنَّ إذا سرنَ من مِقوَلي ... وثَبنَ الجبالَ وخُضنَ البحارا
فإنه الذي ضربت بحضرته أطناب عمري، وأنفقت على فائدته أيام دهري.
وتروَّيت من المعرفة بروائع كلامه، وملأت سمعي درُّ الأصداف من آثار أقلامه.
وكان ينوِّه بي ويشيع أدبي، وبالجملة فكان لي مكان أبي.
فأنا من حين فقدته فقدت كهفا آوى إليه، وسنداً أُعوِّل في المآرب عليه.
فحُقَّ لفؤادي أن يستعر بوقده، ولدمعي أن يسيل دماً على فقده.
وأسأل الله أن يزلفه من رحمته ويدنيه، ويقطفه زهر رضوانه ويجنيه.
فمما تناولته من نظمه، قوله في مديح صاحب الشَّفاعة، صلى الله عليه وسلم:
كلُّنا سيِّدي إليك نؤوبُ ... ما لنا لا نعي اللِّقا ونتوبُ
إنَّ عمرَ الشبابِ ولَّى وأبقى ... ما جناه فيه وذاك الذُّنوبُ
فإلى كم هذا التَّواني وقد جا ... ءَ نذيرُ الحِمام وهو المَشيبُ(1/148)
ما أحسن قول ابن نباتة: جاء النذير العُريان وهو الشَّيب، وابيضَّ بردُه فظهر فيه دنس العيب.
وآذن صبحته بالتَّفريق، ونُشرت بين السَّواد صفحته فعلم أنها ورقة طريق.
والنَّذير العريان: زُنير، بالنون، بن عمرو الخثعمي.
كان ناكحاً لامرأة من بني زُبيد العريان، فأرادت زبيد أن تغزو خثعم، فحرسه أربعة نفر منهم، وطرحوا عليه ثوباً، فصادف غِرَّةً فحاضرهم بعد أن رمى ثيابه، وكان من أجود الناس شدًّا.
وقال في ذلك:
أنا المنذرُ العُريانُ ينبذُ ثوبَه ... لك الصدقُ لم ينبذ لك الثوبَ كاذبُ
ندَّعي الحبَّ فِرْيةً إنما ال ... حبُّ حريٌّ بأن يطاعَ الحبيبُ
ليس هذا دأبُ المحبِّين لكن ... قد نحاه مشتَّتٌ محجوبُ
إن أعداءَنا توالتْ علينا ... نفسُنا والهوى وعقلٌ مريبُ
كيف يرجو الخلاصَ منهم مُعنًّى ... في عَماه مكبَّلٌ مجبوبُ
من نرجِّي لدفعِ داءٍ عضالٍ ... غيرَ خيرِ الورى وذاك الطبيبُ
سيِّدُ المرسلين خيرُ نبيٍّ ... شافعُ الخلقِ يوم تُتلى العيوبُ
مبدأُ الكونِ ختمُ كلِّ نبيٍّ ... قد حباه الحِبا قريبٌ مجيبُ
علَّه أن يقول في الحشرِ عنِّي ... إنَّ هذا لجاهِنا منسوبُ
وله عندنا ودادٌ قديمٌ ... وعلينا يومَ النِّدا محسوبُ
من لهذا الحقيرِ غيرَ نصيرٍ ... أو شفيعٍ دعاؤُه يستجيبُ
أنا عونٌ له ويكفيه عوناً ... من سواي ولي فِناءٌ رحيبُ
يا نبيَّ الهدى وغوثَ البرايا ... ووحيداً وليس في ذا عجيبُ
خصَّك الله بالمراحمِ جمعاً ... من يعي ذاك عاقلٌ ولبيبُ
كلُّ فضلٍ مِصباحه أنت حقًّا ... إنَّ هذا في المكرمات غريبُ
كلُّ من لم يرَ افتراضَ هواكم ... فهو في النارِ حقُّه التَّعذيبُ
وأنشدني من لفظه لنفسه:
ما نلتُ شيئاً إذا كنتُ المُقصِّر في ... تحصيلِ أسبابِ توفيقي وإسعادي
إلا ضَياعَ نجاتي وهي نافعتي ... يا ربِّ هبْ ليَ يوم الحشرِ إنجادي
وله:
إن كان ذنبي في الشدائدِ مُوقِعي ... وبه لقد لاقيتُ ما أنا فيهِ
فالعفوُ منك يزيلُ ذاكَ تكرُّماً ... كالشمسِ إن أتتِ الدُّجى تجليهِ
ولما دُفِن في تربته أنشدتُ:
يا تربةً قد غاضَ بحرُ النَّدى ... فيها وبدرُ التِّمِّ عند التَّمامْ
ما هيَ إلا حُقَّةٌ أُودِعتْ ... من طيِّبِ العنصرِ مسكَ الختامْ
رمضان بن موسى العُطيفي فاضلٌ حظُّه من المعرفة وافر، ووجه أمانيه طلقٌ سافر.
ما زال من الحال في أعذبها شرعة، ومن الحظوة في أسوغها جرعة.
وكان مرفوع الحجاب، منزوع رداء الإعجاب.
وله في الخُلق والخَلق من الرِّضوان رضوان، وفي النَّثر والنظم من المرجان مرجان.
وأما عهده فهو بالصِّدق محلَّى، وودُّه يبلي الجديدان ولا يبلى.
لا أقول إنه أصفى من الماء فقد يشرق به الإنسان، ولا أضوأ من قمر السماء فقد يدركه النُّقصان.
وكنت وصبائي عاطر النَّفحة، لدنُ الغصن ناضر الصَّفحة.
حضرت دروسه في العربيَّة، وأخذت عنه أشياء من الفنون الأدبيَّة.
ثم وقفت له على بدائع من آثاره بهيَّة الإلماع، فأثبتُّ منها ما هو عبق الأفواه وحَلْيُ الأسماع.
فمن ذلك قوله من قطعة، كتب بها لبعض الأدباء، جواباً عن لغز، كتبه إليه في قرنفل: يا من زيَّن سماء الدُّنيا بزهر النُّجوم، وزيَّن الأرض بزهرها المنثور والمنظوم.
نحمدُك على ما أبدعت حكمتك في هذه الأعصار، من زاهي الأزهار.
ونصلِّي ونسلِّم على نبيِّك المختار، وآله الأخيار، ما اختلف الليل والنهار، عدد تنوُّع البهار.
أما بعد: فإن رقيق الكلام، ورشيق النِّظام.
مما يسحر الألباب، وينسج ما بين الأحباب.
ولا بدع فقد قال سيد الأنام، عليه أفضل الصلاة وأتمُّ السلام:(1/149)
" إنَّ من البيان سحراً، وإنَّ من الشِّعر حكمةً ".
هذا، وقد أخذ رائق كلامكم، وفائق نظامكم.
بهذا الصبِّ أخذ الأحباب الأرواح، ولعب به ولا كالتعاب الرَّاح.
كيف لا، وقد كسيَ حلل البهاء والجمال، وانتظم ولا كانتظام اللآل.
رقَّ فاسترقَّ الأحرار، وحليَ فتحلَّى به أهل الشِّعار.
وراق معناه، فأشرق مغناه.
وحسن مساقه، فحلا مذاقه.
وفاح أرج القرنفل من رياضه، وهبَّت نسمات الجنان من غياضه.
فلله درُّك ودرُّ ما ألغزت، وما أحسن ما بعَّدت وقرَّبت، فقد أبدعت فأعبدت، وأغربت فأرغبت. لغز كالغزل، في نشر طيِّه حلل.
من طوَّل في مدحه فقد قصَّر، وما عسى أن يمدح البحر والجوهر.
ولكن نعتذر إليكم من هذه الشَّقشقات التي أوردناها على سبيل البديه، وكلٌّ ينفق مما عنده ويبديه.
وحين ملت طرباً من ميل تلك اللامات، قلت هذه الأبيات:
أتاني نظامٌ منك يُزري بحسنِه ... قفا نبكِ من ذكرَ حبيبٍ ومنزلِ
وأشْممني منه أريجاً كأنه ... نسيمُ الصَّبا جاءت بريَّا القرنفُلِ
فيا واحدَ الدنيا وليس مُدافعٌ ... ويا من غدا مدحي له مع تغزُّلي
بعثتَ لنا عقداً ثميناً فلو رأى ... جواهره النَّظَّامُ ولَّى بمعزلِ
ولو أن رآه امرؤُ القيسِ لم يقُل ... ألا أيُّها الليلُ الطويلُ ألا انْجلِي
فمن يكُ نظَّاماً فمثلُك فليكُنْ ... فصاحة ألفاظٍ بمعنًى مكمَّلِ
رقيقٌ لطيفٌ رائقٌ متحبِّبٌ ... إلى كلِّ نفسٍ وهو في العينِ كالحِلِي
يفوحُ عبير المسكِ من طيِّ نشرِه ... فكيف وقدْ ألْغزتهُ في القرَنْفلِ
فلا زِلت تَحبونا بكلِّ فضيلةٍ ... ولا زلتَ تُحيينا بعلمٍ مفضَّلِ
ولا زلتَ للدنيا إماماً وسيِّداً ... وعلمكَ يُروى للحديثِ المسلسَلِ
وله، جواباً عن سؤالٍ دفع إليه في تحقيق معنى البيتين المشهورين، وهما:
عيناه قد شهدَتْ بأنِّي مُخطئٌ ... وأتتْ بخطِّ عِذارِه تذكارَا
يا حاكِم الحبِّ اتَّئدْ في قتلتِي ... فالخطُّ زورٌ والشُهودُ سُكارَى
تأملت البيتين المشتملين، على خط العِذار وشهادة المقلتين. فلم يظهر لي في الخطأ صواب، وقد بذلت طاقتي فلم يفتح لي الباب.
ولم أسمع من الأشياخ الثقاة الأحبار، ولا من الشبان والرواة للأخبار.
من نقد هذا النقد، الذي هو أحلى من القند.
فتحقَّقت أن مبديه من أولي الألباب، القادرين على الإتيان بكل عجب عجاب.
وأن فكرته تتَّقد كالزُّهر في الدجى، فتوضَّح السبل لأهل الحِجا.
وأنه المتصرف في الدقائق كيف شاء، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء:
يا من كساهُ الله أردِية العُلى ... وحباه عطرَ ثنائِها المتضوِّعِ
وإذا نظرتُ إلى محاسِنِ وجهِه ال ... مسعودِ قلتُ لمقلتِي فيها ارْتعِي
وإذا قرينَ الأذنَ شهدُ كلامِهِ ... قلتُ اسمعِي وتمتَّعي وارْعي وعِي
وكأنَّما يُوحَى إلى خطراتِهِ ... في مطلعٍ أو مخلصٍ أو مقطَعِ
لك في المحاسنِ معجزاتٌ جمَّةٌ ... أبداً لغيرِك في الورَى لم تُجمعِ
بحران بحرٌ من البلاغةِ شابه ... شعرُ الوليدِ وحسنُ لفظ الأصمعِي
شكراً فكم من فقرةٍ لك كالغِنَى ... وافَى الكريمَ بعيد فقرٍ مدقِعِ
وإذا تفتَّق نور شِعركَ ناضِراً ... فالحُسنُ بين مرصَّعٍ ومصرَّعِ
أرْجلتَ فرسانَ قلبي ورُضْتَ فر ... سان البديعِ وأنت أفْرسُ مُبدِعِ
ونقشْتَ في فَصِّي الزمانِ بدائِعاً ... تُزري بآثارِ الرَّبيعِ المُمْرِعِ
وحويْتَ ما تُكْنى به طرًّا فلم ... تترُكْ لغيرك فيه بعضَ المَطْمَعِ
غير أن هذا العبد بعد البعد عن المقام، ألمَّ به بعض إلمام.
وهو أنَّ خطأ هذا المحب إذ قاد نفسه لحتفِه في هوى هذا الحبيب البعيد المنال، القريب الوَبال، بحُسن الدلال، كما قال من قال، وأحسن في المقال:(1/150)
علمتُ أن العيونَ السُّودَ قاتلتِي ... وأنَّ عاشِقها لا زال مقْتولا
وقد تعشَّقْتها طفلاً على خطَاءٍ ... لِيقضيَ اللهُ أمراً كان مفْعولا
فكأن هذا الحبيب طلب هذا المحب لمجلس قاضي الهوى، وديوان أهلِ الجوَى.
وادَّعى عليه، وأحضر حجَّته وشاهديه.
وقرَّر في دعواه، بحضرة هذا الصَّبِّ الذي يهواه.
أنه قد وقع في إقدامه لمحبَّتي على خطأٍ لا صواب، كيف لا وهو لا يذوق الأرْيَ إلا بعد الشَّبع من الصَّاب.
ولا يمكنه القرب إلا بعد البعد الطويل، ولا الوصل إلا بعد فراقِه لكلِّ خليل.
وهذا خطبٌ جليل، صاحبه إن لم يمت فهو أبداً عليل.
يكابد الأشجان في الليل والنهار، وبعد ذلك إمَّا إلى جنَّةٍ وإمَّا إلى نار.
وقلَّ محبٌ يحصل على حبيبه إلا بعد هذه الأهوال، وإنفاق الرُّوح فضلاً عن الأموال.
فلا يكن العارف كالرافض، لما قال ابن الفارض:
هو الحبُّ فاسْلم بالحشَا ما الهوى سهلُ ... فما اخْتاره مُضْنًى به وله عقلُ
وعِشْ خالِياً فالحبُّ راحتُه عَناً ... فأوَّله سُقْمٌ وآخرهُ قتْلُ
هذا كلام سلطان العشاق، المقطوع بمعرفته المحبَّة على الإطلاق.
فعند ذلك نظر القاضي لهذا العاشق ولاطفه خِطابا، وسأل سؤاله فلم يُحرِ جوابا.
فكان كما قيل، في حقِّ العاشق الذليل:
وكم من حديثٍ قد خبأناه لِلِّقا ... فلما التقيْنا صِرتُ أبكَمَ أخرسَا
فلما أراد القاضي الحكم عليه، بما أبدى لديه.
قال ربُّ الجمال في الحال، الغيرِ حالّ: وهاك أيها القاضي شاهدين، عدلينْ.
مبعدين للرِّيَبِ، مقرِّبين للأرَب.
وأبدى من سحر العيون، ما يهتك السِّرَّ المَصون:
عيونٌ عن السحرِ المُبين تُبينُ ... لها عند تحريكِ الجفونِ سكونُ
إذا أبصرتْ قلباً خلِيًّا عن الهوَى ... تقولُ له كُنْ عاشِقاً فيكونُ
ثم قال: حكمتُ بهذه الحجج، التي ليس لك منها فرَج.
فعند ذلك قال المحب، وقد اشتعل ناراً: أيها القاضي: " الخط زور والشهود سُكارى " فكان هذا الجرح عين التَّعديل، وتقويةً للدَّليل.
إذا ثبت هذا فلا شك ولا ريب أن العاقل لا يرمي بنفسه في هذه المهاوي، وإن رمى فهو قطعاً لا شكَّ هاوِي.
وكيف يخاصم من بعضه لبعضه شاهد، وبعضه حجَّةٌ تقطع كلَّ خصمٍ معاند.
فهذا خطأٌ لا صواب، عند أولي الألباب.
فإن قيل: كيف يصحُّ أن يشهد البعض على البعض؟.
قلت: هذا له نظيرٌ بما سيقع يوم العرض.
كما أخبر رب العالمين، في كتابه المبين. وهو قوله تعالى: " يوم تشهدُ عليهم ألسِنتُهُمْ وأيديهِم وأرجُلُهُم ".
إلى أنه فرَّق ما بين الدَّارين، لعظم أحد الهولين.
وهذا لا يخفى على الفطن العارف الحاذِق، الذي هو لطعم المعارف ذائِق.
وقد جاء ذلك كثيراً في أشعارهم، وقُرِّر في قصصهم وأخبارهم.
كما قال أبو حفص المُطَّوِّعي، من شعراء اليتيمة:
أيا منيةَ المشتاقِ فيم تركتَنِي ... كَئيباً بلا عقلٍ قتيلاً بلا عَقْلِ
فإن كنتَ أنْكرتَ الذي بي من الهوَى ... أقمْتُ به من أدمُعي شاهدَِيْ عَدْلِ
وقال الآخر:
وعندي شهودٌ للصَّبابةِ والأسَى ... يُزكُّون دعوايَ إذا جئتُ أدَّعِي
سقامِي وتسْهيدِي وشوقِي وأنَّتِي ... ووجدي وأشْجاني وحُزني وأدمُعِي
وقال آخر:
إن كنتَ تُنكِر حالي في الغرامِ وما ... ألْقى وأنِّيَ في دعوايَ متَّهَمُ
فالليلُ والوَيلُ والتَّسهيدُ يشهدُ لي ... والحزنُ والدمعُ والأشواقُ والسَّقمُ
فإن قيل: لم اختصَّ البعض بالعينين، ولم يأتِ باليدين والرِّجلين؟ قلنا: خَصَّ العينين؛ لما فيهما من الحسن الزائد، وكثرة الفوائد.
لأن أحسن ما في الإنسان وجهه الجامع لجميع المنافع، وأحسن ما فيه العينان من غير منازع. قال:
وأحسنُ ما في الوجوهِ العيونُ ... وأشبهُ شيءٍ بها النَّرجِسُ
فكانا ألْيَقَ بالمقام، عند الخاصِّ والعام.
فإن قلتَ: لم خصَّ الحِجَّة بالعِذار، الشَّبيه بالليل الماحي لضياء النهار؟ والحجة يطلب فيها الانارة والظهور لا الظلام ولا الستور(1/151)
قلت: لأمرين؛ يظهران كالعين للعين. أحدهما عقلي، والآخر نقلي.
أما العقليُّ؛ فإن العِذار يشبه حروف الخطِّ المكتوب، فكأن إتيانه حجَّةً ألْيقَ بالمطلوب.
وأما النقلي؛ فإن العِذار خاصُّ بهذه الدار لأنه لا يوجد في الأخرى، فكان بهذه الخصيصة أحرى.
كما قال بعض الناس، ناظِماً ما قال أبو نواس:
قال الإمامُ أبو نواسٍ وهو في ... شعرِ الخلاعةِ والمجونِ يقلَّدُ
يا أمَّةً تهوى العِذارَ تمتَّعوا ... من لذَّةٍ في الخلدِ ليستْ توجدُ
وقد طغى القلم، بما يعقب السَّأم. والسلام.
القاضي حسين بن محمود العدوي الصَّالحي هو للدهرِ حسنةٌ تكفِّر ما جنى، وللزَّهر خميلةٌ فيها ظلٌّ وجنى.
توقَّد في الأدب ذهنه، وشاخ ولم يعرض فكره وهنه.
وهو من أصدقاء أبي الذين كان يميِّزهم بالتَّقريب، ويستحسن ما يأتون به من النادر الغريب.
وقد لزمته في عهده أدبِّجُ بتقريراته مهارِق الطروس، وأعطَّر بنفحات تحريراته رياض الأدب الرَّيَّانة الغروس.
وتناولتُ من أشعاره ما لو كان للروضِ ما ذوتْ أوراقه، أو في البدر ما فارقه إشراقه. فمن ذلك قوله:
أرى كلَّ إنسانٍ يرى أنَّ حينهُ ... من الخطبِ خالٍ إن ذاك لمغرورُ
وكيف وأصل البنيةِ الماءُ والثَّرى ... وسوفَ إلى تُربِ القبورِ يصيرُ
فلا تعْتبنْ خِلاًّ إذا جار أو جفَا ... فأنت وربِّ العالمين كدورُ
فإن جنحتْ منك الظُّنونُ لحادثٍ ... فميلُك للتَّوحيد يا صاحِ مبرورُ
فإنَّ بقاء العزِّ في وحدةِ الفتَى ... كما أنَّ إكثار التَّردُّدِ محذورُ
وما مذهبي أنِّي ملولٌ لرفقتِي ... ولكنَّ مسلوب الكفاءةِ معذورُ
لقد أصاب في هذا لبَّ الصَّواب، وإن كان تناوله من قبله ابن الجدِّ الأندلسيّ:
وإنِّي لصبٌّ للتَّلاقي وإنَّما ... يصدُّ رِكابي عن معاهدِكَ العسرُ
أذوبُ حياءً من زِيارةِ صاحبٍ ... إذا لم يساعدْنِي على برِّه الوفْرُ
ولي من قطعة: وإني بحكم الزمان، أستحي من زيارة الإخوان.
حذراً من التَّقصير، وعدم ظهور المعاذير.
فالعين بصيرة، واليد قصيرة.
ويا لهفي على عمر الكرام، يمضي بخيبة المرام.
فلا يقدَّر لهم في كلِّ وقتٍ إسداء نعمة، ولا استدفاع نقمة.
ولا مكافأة ذي منَّة، ولا مداواة أخي محنة.
تتمة الأبيات:
أجلْ إنَّ أبناءَ الزمانِ تفاوتتْ ... فمنهم خبيرٌ بالأمورِ ونِحْريرُ
وبالجملة التَّحقيق فالأنْسُ موحِشٌ ... وعمَّا سوى الخلاَّقِ شغلك مدحورُ
فيا ربِّ جدْ بالعفوِ والصفحِ والرِّضا ... ففعلِيَ مذمومٌ وفعلُكْ مشكورُ
وله:
وليلٍ أدرْنا فضل قاسون بيننا ... فكادتْ قلوبُ السامعينَ تطيرُ
فلو ندرِ إلا الفجرَ صارَ دليلَنا ... إلى سفحِهِ والسفحُ فيه نفيرُ
وفينا هداةٌ للطَّريق وقادةٌ ... لهم كلُّ فضلٍ في الورَى وصُدورُ
فسِرْنا فلا والله لم ندرِ ما الذي ... قطعناه بعد المشي كيفَ يصيرُ
فلمَّا وصلْنا المُسْتغاثَ أغاثَنا ... به الغيثُ حتَّى غوثُنا لمطِيرُ
فزرْنا وكلٌّ نالَ ما كان ناوِياً ... وفزْنا بوقتٍ حسنُه لشهيرُ
ومنه ركِبنا الجوَّ حتَّى كأنَّنا ... نجومُ سماءٍ والسحابُ ثبيرُ
إلى أن هبطْنا قبَّة الفلك التي ... تسمَّى بنصرٍ مذ أعانَ نصيرُ
رأيْنا بِها عِقدَ الثُّريَّا معلَّقاً ... وعين الدَّرارِي النَّيِّراتِ تُشيرُ
فلن نرَ بُرجاً قبلها حلَّ منزِلاً ... يسيرُ إليه الناسُ وهو يسيرُ
وأعجبُ شيءٍ أن تراها مُقيمةً ... وتمشِي كما يمشِي الفتَى وتغورُ
وأعجبُ من هذا تراهَا عقيمةً ... تُربِّي بناتَ النَّعشِ وهي سريرُ
وعدْنا فحيَّانا حيَا فضل سحبِها ... بريحٍ له وقعُ الغمامِ صريرُ(1/152)
إلى أن رمتْنا بعد عالِي مكانِنا ... على مُغْرٍ فيها المُقامُ غرورُ
وجئْنا حِمانا مطمئِنِّين أنفساً ... على أن مرقى المكرُمات عسيرُ
ودخل على شيخنا إبراهيم الخياري المدني، حين قدم الشام زائراً، أثر انقطاعٍ ربَّما أوجب تهاجرا.
فقابله معتذراً، وأنشده معنًى مبتكراً. وهو:
وما عاقنِي عن لثمِ أذيالِ فضلِكُم ... سوى أنَّ عيني مذْ فارقتُكم رمَدَا
فعاتبتُها حتَّى كأنِّي حبيبُها ... فأبدتْ كلاماً كانَ قلبي له غِمدَا
وقالتْ لقد كحَّلتُ طرفِي بظرفِهِ ... فأفْتحُها سهواً وأُغمضُها عمدَا
فخاطبه الخياري بقوله:
أيا فاضِلا أبدَى لنَا في نِظامِهِ ... لطيفَ اعتِذارٍ سكَّنَ الشوقَ والوجدَا
وأشفَى بِلُقياه مريضَ بِعادِهِ ... وقدْ كانَ أشفَى للبِعادِ وما أودَى
فصان إلهُ العرشِ مُقلتهُ التي ... ترَى كلَّ معنًى دقَّ عن فهمِها جِدَا
لئنْ كُحِّلتْ بالظرفِ قد أسكرت بِما ... أدارتْهُ من مقلوبِ أحداقِها شُهْدَا
فإن ترَنِي أشتاقُ خمرةَ قرقَفٍ ... فأطلبُها سهْواً وأترُكُها عمدَا
عبد القادر بن عبد الهادي العُمري ممَّن سابق في ميدان البراعة حتى أحرز مداها، ودأب في تحصيل المعارف إلى أن وجد على نار فكرته هُداها.
فإذا قدح بالظَّنِّ أثقب، وإذا ولَّد بالرجاء أنجب.
يعرف النِّقاية فينتقيها، ولا يمرُّ بالنُّفاية التي ينتفيها.
ويطالع ما وراء العواقب، بمرايا من التجارب الثَّواقب.
فلا تبيت فكرته بهم مرتبطةً، حتى تصبح بحلِّ عقدتها مغتبطة.
مع إحاطة بأنواع من الفنون، لا تحوم حولها الأوهام والظُّنون.
وتآليفه ألَّفت بين التَّناسق والتَّوافق، وجمعت حسن التَّطابق والتَّوافق.
وله من الشعر ما ينيل المطلوب، ويمتزج لطفه مع أجزاء القلوب.
وهو أحد أشياخي الذين قلبي بودهم معتلق، ولسان ثنائي بفضلهم منطلق.
تروَّيت حيناً بمائه، واستمطرت الوبل من جانب سمائه.
وكان أنشدني كثيراً من أشعاره الحسان، أنسيتها منذ زمان، وقبَّح الله النِّسيان.
ثمَّ ظفرت له بأشياء اقتطفت أناسيَّ عيونها، وجئت بمحاسن أبكارها وعونها.
فمنها قوله من قصيدة:
خطرتْ تميسُ كخطوطِ بانٍ مُزهرِ ... لا الشمسُ منها والبدورُ بأنورِ
عربيَّةُ الألفاظِ أعربَ لفظُها ... عن سحر موردها وطيبِ المصدرِ
هي كاسُ خمرٍ للعقول يديرها ... كفُّ البلاغةِ في خلالِ الأسطرِ
وجرَتْ من الأسماع جرْيَ مدامةٍ ... مُزجت برائقِ ريقِ ظبيٍ أحورِ
وتكادُ من فرطِ البلاغةِ قد تلتْ ... في سورةِ الإخلاصِ ذكرَ الكوثرِ
واللفظُ يُنبئنا وحسنُ مذاقِها ... بالموردِ العذبِ الهنيِّ السُّكَّري
عجباً لهاتيكَ الفصاحة إنها ... حوتِ الفصيح من الصِّحاح الجوهري
نُظمتْ قوافي للعقولِ تخالُها ... نظمَ اللآلي في نحورِ البكَّرِ
فكأننِّي وكأنَّها عند اللِّقا ... خلاَّنِ قد جُمعا بروضٍ مُزهرِ
أو زورةٌ منَّ الحبيبُ بها على ... معشُوقه أو لثمُ بدرٍ مُسفرِ
وقوله من أخرى، أولها:
هذا الغزالُ فإنِّي منه في شُغلِ ... وصارَ وجدي به ضرباً من المثلِ
وغازلتنيَ منه العينُ فانبعثتْ ... منِّي معاني صحيحِ الشَّوقِ والغزلِ
بدرٌ فما البدرُ إلا من تكوُّنِه ... لكنَّه فاقه بالحليِ والخجلِ
فقدُّه خوطُ بانٍ قد أمال به ... لطفُ النَّسيمِ إلى وصلي فلم يملِ
وطرفه الغنجُ الوسنانُ أودعَهُ ... داعي الهوى حوراً لكن مع الكحلِ
وآسُه فوق ورد الخدِّ تحسَبه ... وشياً من النَّمل أو نوعاً من الرَّملِ
والخالُ يدعو إلى رَيحانِ عارضه ... أهلَ الغرامِ على خوفٍ من المُقلِ(1/153)
وقُرطُه خافقٌ كالقلبِ من قلقٍ ... مقبِّلاً جِيدَه في زيِّ مُشتغلِ
يفترُّ عن لُؤلُؤٍ في الثغرِ مُنتظمٍ ... نَظْمَ الدَّراري بأجيادِ الدُّمى العُطلُ
وريقُه الخمرُ عندي قد أبان به ... نصًّا فحلَّ مُدامُ الثغرِ كالعسلِ
نصُّ كلِّ شيءٍ مُنتهاه، فنصُّ الرِّيق: منتهاه في اللَّطف. وبذلك تتم التَّورية في النَّص.
وكاسُنا الثغرُ قد راق المدامُ به ... وعلَّه مَنهلاً منه على عَللِ
نجني الحبابَ فلا ندري الجنَى أبدا ... بغير رشفِ رُضابِ الثغرِ والقُبلِ
في كلِّ حينٍ أُلاقي من مَضاربه ... سيفاً من اللَّحظِ أو طعناً من الأسلِ
ولي بعوثُ هوًى ما زلتُ أُرسلُها ... منِّي إليه ولم تظفرْ على أملِ
ولم تنلْ رُسلي إلا مُباعدةً ... من المزارِ وإلا لسعةَ العذلِ
يا عمرَك الله لا تسألْ وكُن فطناً ... وعن مصارعِ أربابِ الهوى فَسلِ
ابن عمِّه عبد الجليل بن محمد هو كابن عمِّه، مختصٌّ من المدح بأعمِّه.
اشتهر من صغره نبلُه، وأصاب الغرض مذ فوَّق نبله.
ففيه ما شئت من فضلٍ شروق، وأدبٍ يصفِّق عارضه ويروق.
ونفسٍ كريمة الشَّمائل، وفكرةٍ توشَّى بحبرها الخمائل.
وله شعر إذا استجليته استحليته، وإذا لمحته استملحته.
يفيض فيه فيضاً، وأراه يحسن النثر أيضاً.
إلا أنه لم يمهله الدهرُ حتى يبلغ المدى، فاعتُبط وشبابه يانعٌ بسقيط النَّدى.
ولم يبلغني من آثاره إلا قدرٌ قليل، والقليل منه على الكثير دليل.
فمن ذلك قوله في الخال:
خالُ الحبيب بدَا في الخَدِّ مبْتهِجاً ... والقلب من شغفٍ للخالِ قد جنحَا
قد عمَّه الحُسن يا من خالهُ حسنٌ ... والعمُّ في خدمةٍ للخالِ ما برِحَا
وقوله في العِذار:
نسجَ الفضلُ عليه ... حلَّةً تنمو وَقارَا
في المحَيَّا حين حلَّتْ ... رقم الحسنُ عِذارَا
وقوله، وفيه اقتباس، وتورية، واكتفاء:
يا لقومِي من غزالٍ ... خَنِثِ الأعطافِ ألمَى
إذ تلى سورةَ حسنٍ ... وجهُه والحسنُ عَمَّا
سألُوا عن مُحكَمِ الأو ... صافِ فيه قال عَمَّا
وقوله:
يا خالِّه لمَّا بدا ... في عرشِ خدٍّ واسْتوَى
أوْحَى لصُدْغٍ أيةً ... تدعُو كراماً للهوَى
أصله للحاجِرِي:
لك خالٌ فوقَ عرْ ... شِ عقيقٍ قد اسْتوَى
بَعث الصُّدغَ مُرْسَلاً ... يأمرُ الناسَ بالهوَى
ولبعضهم:
غدا خالُه ربَّ الجمالِ لأنه ... على عرشِ خدٍّ فوق كُرسيِّه اسْتوَى
وأرسل بالألحاظِ رُسْلاً أعِزَّةٍ ... على فترةٍ يدعو الأنامَ إلى الهوَى
وله كلمات من فصول، قال فيها: لا تزالُ في رِبقةِ الأماني، مادمت في ساحةِ المباني.
البقاءُ مرآةُ التَّجلِّي، والفناءُ منهل التَّخلِّي، والجمعُ منصَّة التَّحلِّي.
والرُّكون للغير، قطيعةٌ في السَّير.
الزهدُ في الظَّاهر، رغبةٌ في المظاهر.
إتقانُ الحواسّ، وظيفة الإفلاس.
ورُؤيةُ الإيناس، مَظِنَّةُ الوسواس.
وحركة الشوق، عصا السَّوق.
وأبوه في الزهد قُدوة، عروةُ متمسِّك منه بعروة.
وقد شملني دعاه وهو للقبضة مناهِز، وما بين دُعائه وحظيرةِ القُدس حاجِز.
وقد مُلِئتْ صحيفة حسناته، واسْتراح صاحبُ شِماله من كتابه سيِّآتِه.
وأسلافهم ما زالوا حِلًى في جِيد الزمن العاطل، إلى أن ينتهوا إلى جدِّهم الفاروق بين الحقِّ والباطل.
رضي الله عنه وعن بقيَّة الأصحاب، وأعمل محبَّته ومحبَّتهم في قلوبنا على الاستصحاب.
عثمان بن محمود، المعروف بالقطَّان فتى الفضل وكهله، وشيخه الذي يقال فيه هذا أهله.
أطلع الله في جبينه غُرَّ السنا، فثنى إليه من البصائر أعنَّة الثنَا.
مأمون المغيب والمحضر، ميمون النَّقيبة والمنظر.
فهو كالشمس في حالتيها يبدو نورها، فينفع ظهورها.
وتحتجب أرجاؤها، فيتوقع ارتجاؤها.(1/154)
فعلى كلِّ حالٍ هو إنسان، كلُّه إحسان، وكلُّ عضوٍ في مدحه لِسان.
به الفتوَّة يسهل صعبها، ويلتثم شعبها.
وهو في صدق وفائه، ليس أحدٌ من أكفائه.
وقد اتَّحدْت به من منذ عرفت الاتِّحاد، فما رأيته مال عن طريق المودَّة ولا حاد.
وله علي حقُّ مشيخةٍ أنا من بحرها أغترف، وبألطافها الدائمة أعترف.
وكثيراً ما أرد وِرده، وأقتطف ريحانه وورده.
فأنتشق رائحة الجِنان، وأتعشَّق رائِحة الجَنان.
بمحاضرةٍ تهزُّ المعاطف اهتزاز الغصون، ورونقِ لفظٍ لم يدع قيمة للدُّرِّ المصون.
إذا شاهدتْه العيون تقرّ، وإذا ذوكِرت به نوب الأيَّام تفِرّ.
في زمنٍ انفصمت من أعلامه تلك العقود، ولم يبقَ فيه إلا هو آخر العنقود.
فإن شئت قلْ: جعله الله خلفاً عن سلف، وإن أردت قلْ: أبقاه الله عوضاً عن تلف.
فممَّا أخذتُه عنه من شِعره الذي قاله في عنفوانه، وجاء به كسقيطِ الطَّلِّ على ورد الروض وأقحوانه. قوله من قصيدة:
بأبي من مُهجَتِي جرحَا ... وإليه الشوقُ ما برحَا
دأبهُ حربِي وسفكُ دمِي ... ليتهُ بالسلمِ لوْ سمحَا
غصنُ بانٍ مُثمِرٌ قمراً ... يتهادَى قدُّهُ مرَحَا
مذْ تثنَّى غصنُ قامتِهِ ... عندَليبُ الوجدِ قد صدَحَا
أي خمرٍ أدارَ ناظِرُه ... ما سقَى عقْلاً فمنه صحَا
إن رآنِي باكِياً حزناً ... ظلَّ عُجباً ضاحِكاً فرحَا
إن يكنْ حزنِي يُسرُّ به ... فأنا أهوَى به البُرَحَا
وعذولِي جاءَ ينصحُني ... قلتُ يا منْ لامنِي ولَحَا
ضلَّ عقلِي والفؤادُ معا ... ليس لي وعْيٌ لمن نصحَا
جدْ وجدِي عادِمٌ جلَدِي ... غاض صبرِي والهوَى طَفحَا
لم يزلْ طرفِي يسِحُّ دماً ... إذ به طيرُ الكرَى ذبِحَا
هذا معنى متداول، منه قول الشِّهاب الخفاجي:
ولو لم يكنْ ذابِحاً للكرَى ... لما سالَ من مقلتيَّ النَّجيعُ
آهِ واشوقاهُ مِتُّ أسًى ... هل دُنُوٌّ للذي نزحَا
إن شدتْ ورقاءُ في فنَنٍ ... شدوُها زندَ الجوَى قدَحَا
وإذا ما شامَ طرفَ الشَّ ... امِ طرفِي للدِّما سفحَا
يا سقى وادي دِمشقَ حياً ... طاب مغتبقاً ومصطبَحَا
وكتبت إليه من مصر: سيِّدي الذي له دعائي وثنائي، وإلى نحوه انعطافي وانثنائي.
لا عدمت الآمال توجَّهها إليه، وكما أتمَّ الله النعمة به فأتمَّها عليه.
أُنهي إليه دعاءً يتباهى به يراع ومِهرق، وثناءً يجعلُ طيبُه فوق سالفٍ ومفرق.
متمسِّكاً من الودِّ بحبلٍ وثيق، ومن العهد بما يتعطَّر بها النَّشر الفتيق.
ومتذكِّراً عيشاً استجليتُ سناه، واستحليت ثناه.
وإنِّي أتلهَّب على طول نواه، وحرِّ جواه.
وقد وسمتَ بإقبالك أياميَ الغُفل، وفتحتَ بمذاكرتكَ عن خِزانة قلبي القُفل.
إلى أن صرف الدهر بحدثانه، وحكم على ما هو شأنه بعدوانه.
وأعاد عليَّ العين أثرا، والخُبرَ خَبَرا.
واللقاءَ توهُّما، والمناسمة توسُّما.
فتذكُّري لأيَّامك التي لم أنسَ عهدها، تركني لا أنتفع بأيام الناس بعدها.
وإنِّي لا أرتاح إلا بذكر فضائلك، ولا أستأنس إلا بكرم شمائلك.
أمزج بها الضَّحايا فتتبسَّم، وأستدعي بها صبا القبول فتتنسَّم.
ولولا اشْتعالُ النارِ في جذوةِ الغَضَا ... لما كان يدرِي المرءُ ما نفحَةُ النَّدِّ
وأما الأشواقُ فإن القلبَ مستقرُّها ومستودعها، ومحلُّها ومجتمعها.
وهو عند مولاي فليسأل به خبيرا، وأما الأثنية فإنها على ألسنة الرُّكبان فلينشر بها حبيرَا.
وإلى مثلك يتقرب بإخلاص الوِداد، ومن فضلك تُجتنى ثمرة حسن الاعتقاد.
فسلامي على هاتيك الشَّمائل، سلامُ النَّدى على ورقِ الخمائل.
وتحيَّتي لتلك الحضرة، تحيَّةُ النسيم للماء والخضرة.
وأما دِمشقُ فشوقي إليها شوق البلبل إلى الورد، وامرؤ القيس إلى الأبلق الفرِد.
وأنا مهدٍ تسليماتي إلى كلِّ يابِس من دوحِها وأخضر، ومتبرِّج من ثمراتها في قِباء رواءٍ أنضر.
وأشتاق عهدها والعمرُ ربيعٌ نضر، والرَّوض جرَّ عليه ذيله الخضر:(1/155)
وما أنسَ أيَّامهَا والصِّبا ... أرَنُّ يجرُّ ذيولَ الجذَلْ
ومسًّ رقيقُ رداءِ النَّسيمِ ... على عاتقِ الرَّوض بعض البلَلْ
إذا الدهرُ مَيْتُ النَّوى واللِّحا ... ظُ عنَّا وأحداثُه تُعتقَلْ
وذنبِي فيه أميرُ الذُّنوبِ ... ودولتُه فوق تلك الدُّوَلْ
وأرجع فأقول:
إنَّ حبِّي دِمشقَ إن عدَّ ذَنْباً ... فذنُوبي أجلُّ من طاعاتِي
فمدحي لها لا ينقطع إلى أن تنقطع المدائح، وأثْنِيتي عليها لا تمَلُّ ولو ملَّت التغريدَ الحمائمُ الصَّوادِح.
وأنا مؤمِّلٌ أوْبةً تَسُرّ، فيمتَّع الناظر بتلك الوجوه الغُرّ، والمناظر الزُّهر.
وأُنشِد بلسان المقال، إذا استقامت الحال:
إنَّ ذنوبَ الدهرِ معْفورةٌ ... إن كان لُقياك لها عُذرَا
والسلام.
وهنا وقف الفكر، عن سرد من قصدتُه من العلماء بالذِّكر.
وأجنح إلى قول ابن بسَّام: إن شعر العلماء ليس فيه بارقةٌ تُشام.
لأنها بَيِّنة التكلُّف، ظاهرةُ النُّبُوّ عن الرِّقَّة والتخلُّف.
قلت: وعلَّةُ ذلك اشتغال أفكارهم بما يُعَنِّي، والشعر وإن سَمّوه ترويحَ الخاطر، لكنَّه مما لا يُثمر فائدةً ولا يُغنِي وشتَّان بين من تعاطاه في الشَّهر مرَّة، وبين من أنفقَ في تعاطيه عمرَه.
وقد استثنى ابن بسَّام شعر خلَف الأحمر، وقُطْرُبا. أمَّا خلَف فلقوله في صِفة جواد:
وكأنَّما جهِدتْ قوائمهُ ... أن لا تَمسَّ الأرضَ أرْبَعُهُ
وأمَّا قطرُبا فلقوله:
أن كنتَ لستَ معي فالذِكرُ منك معِي ... ترعاكَ عينِي وإن غُيِّبْتَ عن نظرِي
فالعينُ تُبصِرُ من تهوَى وتفقِدهُ ... وناظرُ القلبِ لا يخلُو من النَّظرِ
وأنا أستثني شيخَنا المهمنداري، المقطوع الشَّقيق، الحقيق بغاية الإطراء عند التَّحقيق.
ورأيتُ الشِّهاب قد نفى الاستثناء واسْتند فيه إلى الإذعان، وجعل حُسنَ بعضِ أشعارِهم من قبيل دعوةِ البخيل وحملةِ الجبان.
وأنا أقول: إنه عالمٌ، وكثيرٌ من أشعارِه عن الزَّيفِ سالِمٌ.
فهو يناقض نفسه بنفسه، إلا أن يتمحَّض لوصفِ الشَّاعريَّة بما تراءى له في حدْسِه.
الجزء الثاني
بسم الله الرحمن الرحيم
بقية الباب الأول
في محاسن شعراء دمشق ونواحيها
فصل ذكرت فيه مشاهير البيوت
التي هي في أفق دمشق كالثوابت واضحة الثبوت فمنهم: بيت حمزة زبدة آل البيت، ونقاوة ذلك العنصر لبرأ من اللوِّ واللَّيت.
آل رسول الله ونعم الآل، والموارد الصادقة إذا كذبت الآل.
وسراة لؤي بن غالب، وملتقى النور بين الزهراء وعلى بن أبي طالب.
وهو بيت شيدت دعائمه، وسمت فيه سعود الفلك ونعائمه.
عصابُة فضل أخصب الدهرُ منهمُ ... فأصبح مُخَضرّاً وقد كان مُغْبرَّا
تكاد يَدِي تَنْدَي إذا مالمستُه ... وتُنبِتُ في أطْرافها ورقاً خَضْرا
لهم المجد السابق، وبهم يضىء الحسب الباسق.
ما ولدوا غير نجيب، ولا دعوا إلا كان الدهر أول مجيب.
وقد رأيت أبياتاً ذكرها صاحب دمية القصر، لم أر من تتنزل عليه إلاَّ هم بأداة الحصر.
وهي:
سقى آلَ حمزةَ صَوْبُ الحيا ... فهم في حساب العُلى الحاصِلُ
هم الزَّائدون هم الفاضلون ... وغيرُهُم الزائد الفاضلُ
لسانِي عن حالهم سائلٌ ... ودمعي على إثْرهم سائلُ
إذا كنتُ في ظِلِّهم قائلاً ... فإنّي بفضلهمُ قائلُ
فمنهم:
السيد محمد بن السيد كمال الدين
الشريف الرضي بنقابته وكفايته، والسامي عليه برعاية التفنن وحفايته.
فهو البحر الذي لا يدرك شاطئه، والرئيس الذي تقبل بشفاه الأجفان مواطئه.
نصب شباك الأفكار فاقتنص ما به كمال نوع الإنسان، ووفر الله له دواعي الحظ فجمع بين عجائب الحسن وغرائب الإحسان.
فاستدارت منطقة المجد حول مركز سيادته، واستنارت كواكب المعالي الزاهرات بأضواء سعادته.
فكانت له الفردوس حضرة، ونعيم خلدها يرف عليه نضرة.
وأناته من رجاح رضوى، وقسماته من البدر أضوا.(1/156)
وله في علو الهمة محكم الذكر، وفي درك المهمة الفكرة الثابتة والعزمة البكر.
فهناك تتوقى الأيام حذرة، وتأتيه الليالي مما لم تجن معتذرة.
ولو أن هارُوتَ البيانِ يزورُه ... بلا فتنةٍ للناس علَّمه السحرَا
وفضلاء الوقت لا تفارق جمعه، والأمداح من كل فمٍ تقرظ سمعه.
ومجلسه إما علم ينيله، أو بحث يجيله.
أو شعر يفترعه، أو بكر معنىً يخترعه.
وأخصاؤه من الذين يعرفون القول ويتهافتون عليه، يودون أن مسامعهم وأبصارهم لم تصرف إلا إليه.
ربيع مَعالٍ بالفضائل مُخْصِبٌ ... لذلك بردُ الآلِ في حَيِّهِ اخْضَرَّا
وفي بَحْر أنْسابٍ إذا غاص غائصٌ ... فليس بِرَاءٍ مثلَ جوهرِه دُرَّا
وله من شريف الكلام، ما تتشرف به الأقلام.
فمن ذلك قوله في الغزل:
أملٌ ليس ينْقضى في تمَنِّى ... نظْرةٍ تُسْتعادُ عند الْتِفَاتِكْ
ليس أرْضاك مُسْرفاً في تجنِّي ... كَ بحالٍ والحسنُ بعضُ صِفاتِكْ
لك في كل مهجةٍ راضَها ال ... حُبُّ هوىً يُسْتطاب في مَرْضاتِكْ
بقَوامٍ يُمْلي علىَّ إذا ما ... لَ حديثَ الرِّماحِ في لَفَتاتِكْ
ومُحيّاً يُرِى ضئيلَ نُحولِي ... لعذُولي والصبح للسِّتر هاتِكْ
وسَنا مَبْسَمٍ إلى الرُّشد يهدى ... هائما ضلَّ في دُجَى مُرْسَلاتِكْ
يا بديعاً تحكي الرياض سَجايا ... هُ أقِلْ مُهْجتى شَبا لَحظاتِكْ
أنا مَن لايُحِيله فَرْطُ إعْرا ... ضِك عن مَذْهب الوَلَا وحَياتِكْ
وعلى مقلتى رقيبٌ من الوجْ ... دِ أرى في لِقاه بهجةَ ذاتِكْ
حَسْبُ قلبٍ وناظر يتمنَّا ... كَ بأن لايرَى سوى حسناتِكْ
مُلَح تسلِب النُّهَي ومَزَايَا ... أيها يُستطاع واللّحْظُ فاتِكْ
ومن مقاطيعه قوله:
بين تثنِّيك واعتدالِكْ ... مكائدٌ تقطع المَهالِكْ
ودن ألْحاظِك المَواضِي ... مصائدٌ كم بهنَّ هالكْ
ومن معمياته قوله، ويخرج منه اسم جمال:
وشادِنٍ أسْفَر عن وجهِه ... فأشْرق الكونُ به واستْنارْ
وقد رَنا نحوي بألْحاظِه ... وسهُمها فاق فَدار العذارْ
وقوله، ويخرج منه اسم خضر:
سطَا بلَحْظٍ مُثْخِنٍ في الحَشا ... ظَبْيٌ جيوشُ الحسن أنصارُهْ
وكيف لا يُثخن قلبي سَطا ... سَفْك دم العشاق مِعْشارُهْ
وقوله، ويخرج منه اسم مهدي:
أهْواه كالغصنِ لَيِّناً بَهِجاً ... تلطَّف في سَلْب مهجتي خُدَعُهْ
مُعنِّفي فيه لا تكن خشِناً ... مَن ذا بقلبي مكانه أضَعُهْ
وقوله، ويخرج منه اسم شعبان:
قد أثَّرتْ شمسُ النهار بوجه مَن ... أرْبَى عل قمرِ السماءِ إذا اتَّسَقْ
ورقى العِذارُ على صحيفةِ خدِّه ... لمَّا بدا من تحته ذاك الشَّفَقْ
وقوله، يخرج منه اسم حسن:
دَعِ الجهلَ والْزم ساحة المجدِ واطَّرِحْ ... عُلُوقاً بأسْباب الزمان المماطِلِ
فهل يُرْتَجَى دهرٌ يُفوهُ بلا فمٍ ... بخَفْضِ أعاليه ورفْع الأسافلِ
وقوله، ويخرج منه اسم علي:
بِرُوحي أَنيسٌ نرى طَرْفَه ... مَخائلَ وصلٍ لِسلْبِ النُّهىَ
يُقارب خَطْو تلافٍ نأَى ... وبالقلبِ يلهو ولا مُنْتهَى
وله فصول قصار، كل فصل منها تقصار.
فمنها: حسن السيرة، خيرٌ من كثرة العشيرة.
كمال الوجاهة، أن يصون المرء عرضه وجاهه.
رونق المقال، أن يطابق مقتضى الحال.
كثرة المرا، تحل وثيق العرى.
صنائع المعروف، تقى مصارف الصروف.
تقارب الخطى، تحفظك من الخطا.
متابعة الهوى، تحيدك عن حد الاستوا.
من رفق في الطلب، علق بالأرب.
من ساهم من دونه، اتهم بالرعونة.
من تخلق بالأناة، تمنطق بمناطق النجاة.
من فوض أمره لمولاه، أمن مما يحذره ويخشاه.
وكان يوماً في روضٍ فينان، اخضرت فيه خمائل وأفنان.
وهو منشرح الصدر، وندماؤه حوله كالنجوم أحاطت بالبدر.(1/157)
وصرف الدهر عنه مصروف، وطرفه دون تطرف ساحته مطروف.
يترنح في الخطوة يمينا وشمالا، ويقتطف من الحظ أماني وآمالا.
والروض يحييه بمباسم زهره، ويرفع إليه رفع الحمد ببنان قضبه الناشئة عن معصم نهره.
وهو يجلو من أبكاره، وعرائس أفكاره.
ما هو أمتع من بواكير الرياحين، وأوقع في الأسماع من مطربات التلاحين.
فقرئ بحضرته أبياتٌ غنت بها نعم الجارية بين يدي المأمون، وهي:
ولقد أخذْتُم من فؤادِي أُنْسَهُ ... لا شَلَّ ربي كفَّ ذاك الْآخذِ
وزعمتِ أنِّي ظالمٌ فهجرْتني ... ورميْتِ في قلبي بسهمٍ نافذِ
ونعَم هجرْتُكِ فاغْفري وتجاوزي ... هذا مقامُ المستجيرِ العائذِ
هذا مقامُ فتىً أضَرَّ به الهوى ... قَرِحِ الجفون بحُسْن وجهك لائذِ
فأنشد مضمناً لهذا المصراع قوله:
نقَل العَذُول بأنني أفْشَيْتُ ما ... أخْفَى الحِفاظ من الغرام الواقذِ
هَبْني اقترفْتُ لما افْترى فاغْفرْهُ لي ... هذا مَقامُ المستجير العائذِ
فلم يبق أحدٌ ممن تضمنه المجلس إلا وبدا وبده، وشدا وشده.
فمنهم ولده السيد عبد الرحمن، قال مرتجلا:
نبَذ العهودَ مُغاضِبي فألمَّ بي ... في صورةِ الإشْفاق طَيْفُ النّابذِ
فسألْتُه أن لا يفوه بما جرَى ... فيُحيله عنِّي بقولٍ نافذِ
فمَضى ونَمَّ عليَّ فيما قلتُه ... فأتى يهدِّدني بسيفٍ شاحذِ
رُحْماك قد صدق الخيالُ وإنما ... هذا مقام المستجير العائذِ
ثم تلاه تلوه السيد عبد الكريم، فقال:
هَبْ قادني الغرامُ فما الذي ... ألْجاكَ تعْذِيبي بهَجْرٍ واقذِ
أضَراعتي أم ما افترتْه عَواذِلي ... عنِّي إليك من الكلام النافذِ
رُحْماك بي لا تَرْعَ غيرَ مودَّتي ... وحِفاظَ وُدِّي لا تكنْ بالنَّابذِ
فلديْكَ منكَ بكَ اسْتعذْت وإنه ... هذا مقام المستجير العائذِ
ثم اقتفى أثره شقيقهما السيد إبراهيم، فقال:
نظَرتْ لواحُظه فأقْصدتِ الحشَا ... منِّى بسهمٍ في الحُشاشِة نافذِ
مافَوَّقتْ إلا وقلتُ لسهمِها ... هذا مقام المستجير العائذِ
وقال الفاضل عبد الغني النابلسي، حفظه الله تعالى:
لاحَظْتُ خالاً تحت صفحِة خدِّه ... مُتوارياً خْلف اللَّهيبِ النافذِ
فسألْتُه ماذا الَمقامُ فقال لي ... هذا مقام المستجيرِ العائذِ
وقال الفاضل عبد القادر بن عبد الهادي:
وافَى الحبيبُ بغير وعدٍ زائراً ... يرْنو بطرفٍ بالمَجامع آخذِ
أرْبَي بُسكْرِ هوىً وسكرِ مُدامةٍ ... حتى إذا سُدَّتْ عليَّ مَنافذِي
ناديْتهُ حسْبي فدَيْتُك زائراً ... هذا مقام المستجير العائذِ
وقال العالم الشيخ عبد الحي العكري:
أنْزلتُ آمالي بوادٍ مُخْصِبٍ ... وحِمىً مَنِيع نعم كهفُ الَّلائذِ
فلذاك ناداني يَقِينى مُعْلِناً ... هذا مقام المستجير العائذِ
وقال الأديب زين الدين البصروي:
وأغَنَّ فتَّاكِ اللَّواحظِ أدْعجٍ ... يرْمى بنَبْلٍ في القلوبِ نوافذِ
نادَتْه أفْلاذِي وقد فتكتْ بها ... هذا مقام المستجير العائذِ
وقال البارع عبد الرحمن البعلي:
ولقد وقْفتُ على الطُّلولِ عشِيَّة التَّ ... وديع يوم البَيْن وَقْفةَ لائذِ
فاسْتْعَبرتْ عيْنايَ لمَّا بان مَن ... أوْهَى بفُرقته جميعَ مآخذِي
لام العَذُول وقد رآني وَالِهاً ... فأجبْتُه خفِّضْ عليك مُنابذِي
لَوْ راعَك البَيْن المُشِتُّ عذَرْتني ... هذا مقام المستجير العائذِ
وقال الألمعي إبراهيم بن محمد السفرجلاني:
يا آلَ بَيتِ المصطفى شِعْرِى حَلاَ ... فيكم وطابتْ بالمديح لَذائذِي
وافيْتُكم أبْغِي حِماكم منشداً ... هذا مقام المستجير العائذِ
وقال الكامل محمد الذهبي:(1/158)
يا مَن إذا جاريْتُه في مَسْلَكٍ ... ألفيْتُه قد سَدَّ طُرْق مَنافذِي
أهْوِنْ بمُضْناك الذي حيَّرْتَه ... هذا مقام المستجيرِ العائذِ
ثم طلب من الأمير المنجكي تضمينه، فقال:
بِسوَى حِماكُم لا تَراني مُقْلةٌ ... يا مَن لهم وُدِّى المؤكد لائذِي
فإذا وقفتُ ببابكم مُتذلِّلاً ... هذا مقام المستجير العائذِ
واتصل ذلك بالأديب الباهر الطريقة، عبد الرحمن الموصلي، فقال:
عاهدْتُه أن لا يميلَ وقد رأى ... نَبْذَ العهودِ فدَيْتهُ من نابِذِ
رَدَّ الصباحَ لناظِرَيَّ بهجْرِه ... ليْلاً وسدَّد بالصُّدود منافذِي
ناديْتُه واليأسُ أمْسى ضاحكاً ... وأناملُ الآمالِ تحت نواجذِي
رِفْقاً بقلبٍ لا يميلُ لغيركمْ ... هذا مقام المستجير العائذِ
قلت: والأبيات المتقدمة ذكرها ابن خلكان.
وقال: إن المأمون استعاد الصوت من نعم ثلاث مرات، وكان بحضرة اليزيدي، فقال: يا يزيدي، أيكون شيءٌ أحسن مما نحن فيه؟.
قلت: نعم، يا أمير المؤمنين.
فقال: وما هو؟ قلت: الشكر لمن خولك هذا الإنعام العظيم الجليل.
فقال: أحسنت، وصدقت.
ووصلني، وأمر بمائة ألف درهم يتصدق بها، فكأني أنظر إلى البدر وقد أخرجت، والمال يفرق.
أخوه السيد حسين
إذا كان ذاك الرضي فهذا المرتضى، وكلٌ منهما الحسام المجرد والسيف المنتضى.
فهما في السيادة ربيبان، يتضاءل لديهما الأقعسان.
اشتركا في البراعة اشتراك الشمول، وفاحا فوحة الزهر وهبا هبوب الشمول.
فكأن يد القادر الفتاح، شقتهما من شقي التفاح.
ينظر الأدب منهما عن مقلتين، ويتردد الأفاضل بينهما تردد النسمات بين روضتين.
وهذا وإن عاجله الحمام، فاستسر قبل التمام.
إلا أنه أهتصر الأمل لدنا، وتبوأ من قرارة العيش عدنا.
وقد ألان له الدهر معطفاً، وأجناه ما شاء من الأماني مقطفا.
وناله قبيل موته حالٌ سنية الخلال، وسيادةٌ وريفة الظلال.
فلم يقم داعي الهنا بإقباله حتى قام ناعى الأمنية، ولا انتقد دينار عمره على محك الانتقاد حتى عولج بصرف المنية.
فروح الله بروحه في الجنان، وعامله بمحض الفضل والامتنان.
وقد أثبت من شعره ما استوفى أقسام النضارة، واستكمل فصاحة البداوة وهو من لب الحضارة.
فمنه قوله من قصيدته، مستهلها:
لك اللهُ هل بَرْقُ الرُّبوع يلوحُ ... وهل بان من ليلِ البِعادِ نُزوحُ
وكم يا ترى يْسطُو عليَّ بأدْهَمٍ ... وأشْهبُ طِرْفِ الصُّبح عنه جَمُوحُ
أُراقِبُ نَجْماً ضلَّ مَسْلَك غَربِه ... وطَرْفِىَ هامٍ والفؤادُ جريحُ
يبيتُ يناجيني الحمَام بسجْعِه ... ويروى حديثَ السُّقْمِ وهْوَ صحيحُ
أطارحُه وجْدِى ويشْكو من الجَوىَ ... وكلُّ مَشُوقٍ بالغرام يبوحُ
يُنوح ولا يدْرِي البِعادَ وفَرْخُه ... لديْه قريبٌ والزمانُ سَمُوحُ
على غُصْنِه المَيَّادِ أصبح شادياً ... ونَشْر الصَّبا يَغْدو له ويروحُ
بِرَوْض بكتْه الغادياتُ فأضحكتْ ... ثُغورَ أقاحٍ بالعبِير تفوحُ
أَقول له والوجدُ يمطِر مقْلتِي ... وقلبيَ في نارِ الغرام طريحُ
ألا يا حَمامَ الأيْك إلْفُك حاضرٌ ... وغصنُك مَيَّادٌ ففِيم تنوحُ
ألا يا حمامَ الأيْك تعدُوكَ حالُ مَن ... بأحْشاه من حرِّ البِعادِ قُروحُ
مُغادِرُ أفْراخِي صغاراً وليس لي ... جَناحٌ ولم يهبُبْ بفُلْكِيَ رِيحُ
فأيْن من النَّائِي عن الإلْفِ حاضرٌ ... وأين من الباكي النَّحُوبِ صَدوحُ
فهل يا ترى من مُنْقذٍ أو مساعدٍ ... يخلِّص مِن أيْدي النَّوى ويُريحُ
وقوله، من أخرى:
مَعاذَ الهوى أن الصَّرِيعَ به يصْحُو ... ليعقِلَ ما يُمْلي على سَمْعِه النُّصْحُ
وكيف تُرجَّى منه يوماً إفاقةٌ ... وزَنْدُ الهوى في عقْله دَأْبُهُ القَدْحُ(1/159)
دعِ القلبَ يشقى في طريقِ ضلالةٍ ... ففي رأْيه أن الوصولَ بها نُجْحُ
تؤمِّل آمالاً مدى العمرِ دونها ... كأن مَطايا النائبات به جَمْحُ
يُكتِّمُ أسْرارَ الغرامِ فؤادُه ... ويفْضحُه من مُزْنِ مُقْلتِه السَّحُّ
لقد ألفِتْ عيْناه أن تنفح الدِّما ... وتلك دِمَا لُبٍّ به أُحْكِم الجرحُ
يَعاف الكرَى منه المحاجرَ كارهاً ... نُزولَ جراحٍ جُرْحُها شأْنه الرَّشْحُ
له في انْتظارِ الطَّيْف جَفْنٌ مُؤرَّقٌ ... تَعوَّده من شدَّةِ الأرَقِ القَرْحُ
ولم يدْرِ أن الطيفَ يحْذَر أن يُرَى ... نزيلَ بيوتٍ دأْبُ أبوابها الفتحُ
غدا دهرُه بالهجرِ ليلاً جميُعه ... وحسْبُك دهرٌ بالنَّوى كلُّه جُنْحُ
كأن نجوم الأفْق فيه تنصَّرتْ ... فليس لغْير الشَّرْق وِجْهتُها تنْحُو
كأن الثُريَّا والنسور تخاصمَتْ ... وظَلاَّ على جِدٍّ يُجانُبه المَزْحُ
كأن به الشُّهْبَ الثواقبَ تنْبَرِي ... مَراسِيلَ ذاتِ البيْن يُرْجى بها الصلحُ
كأنَّ به خَيْطَ المَجرَّة جدولٌ ... تَوارَدَه الجْيشانِ وازْدحم النَّزْحُ
كأن ظلامَ الليلِ في الجوِّ عِثْيَرٌ ... تغَشّى صفوفَ الجيشِ من جَوْنِهِ فتْحُ
كأن به العَيُّوقَ مَلْكُ مُبجَّلٌ ... كأن اخْضرارَ الفجر في أُفْقِه صَرْحُ
وقوله من أخرى، مستهلها:
خَفِّضْ عليك أخا الظِّباءِ الغِيدِ ... وارْحَمْ مدامعَ جَفْنِيَ المَسْهودِ
كم ذا أُعلِّل بالأمانِي تارةً ... قلبي وطوْراً بانْتظار وعُودِ
ولَكَمْ أبِيتُ بليلةِ المْلسُوعِ في ... أذني سميعٌ في التفات رَصِيدِ
ليلة الملسوع، كناية عن السّهر المؤلم.
ومن اللطائف: دواء الملسوع الصّياح إلى الصباح.
والملسوع اسم مفعول، من لسعته الحيّة أو العقرب.
وأول من استعمل هذه الكناية الشّريف الرّضيّ، في قوله:
أتبِيتُ رَيَّانَ الجفونِ من الكرىَ ... وأَبِيتَ منك بَلْيلةِ المْلسُوعِ
ومن نوادر البيت، أن تبيت مضموم التاء، وهو للمخاطب، وأبيت مفتوح التاء وهو للمتكلم، والخطاب في الأول مستفاد من تاء المضارعة، والتّكلّم في الثاني مستفاد من الهمزة، وأن الأول مرفوع؛ لحلوله محلّ الإسم، والثاني منصوب بأن مضمرة بعد واو المصاحبة.
يامُسرِفا في هجَرِه لمتيَّمٍ ... هجَرتْ محاجِرُه لذيذَ هُجودِ
أهْوِنْ برغبتك القِلَى والجَهْد في ... تعْذيبِ شِلْوِ فؤادِيَ المفْؤُوِد
الشّلو: العضو، وفي الحديث: ائتني بشلوها الايمن.
والشّلو: شلو الإنسان، وهو جسده بعد بلاه، وكلاهما هنا محتمل.
لم يُبْقِ هَجْرُك فِيَّ قلباً خافقاً ... لسرُورِ وعدٍ أو لحزنِ وَعيدِ
وغدوتُ من فِعْل السَّقام كأنني ... أوْهامُ فكْرٍ في خيالِ بليدِ
أدْنَيْتَني حتى ملكْتَ حُشاشِتي ... وتركْتَني وَقْفاً على التَّنْكِيدِ
وله من أخرى، أولها:
عجبتُ لقلبي ما يُكِنّ من الوَجْدِ ... ونارِ جَوًى لاتفْتُر الدهرَ عن وَقْدِ
سقى مَعْهدي والرَّبْعَ من أرضِ جِلَّقٍ ... أسَحُّ غمامَىْ أدْمُعِي والحَيَا الرَّغْدِ
أُرِيدُ الحَيَا فالدمعَ أحْذَرُ إنَّه ... يُحرِّم منها ماءَها الطَّيِّبَ الوِرْدِ
من قول مهيار:
بكيْتُ على الوادِي فحرَّمْتُ ماءَه ... وكيف يَحِلُّ الماءُ أكثرُه دَمُ
منها:
وناعِسِ طرفٍ بات يمزُج راحَه ... برِيقَتِه مَزْجَ الضمائرِ بالوُدِّ
يُنادمني والسكرَ يخْفِضُ صوتَه ... كهَيْنمَةٍ بالروضِ مِن نَسْمِة الرَّنْدِ
منها:
سَقاه غَمامُ الحسنِ صَوْبَ عِهادِه ... فأثْمَر بدراً قد تنوَّر بالوَرْدِ(1/160)
قلت: هذا شعر تجاوز في اللطف الحد، يحمر له خجلاً ود الربي وورد الخد.
ومن أحاسنه التي عطلت الياقوت والدر، ومن يصبو بمحاسنه فقد بان له العذر، قوله:
إلى م تَرى ذا العهدِ يُتْلِفُه الغَدْرُ ... وحتَّى م وعدٌ دون إنْجازِه الحَشْرُ
أبِيتُ ولي قلبٌ على جَمْرةِ الغضَا ... وأعْباء أحزاني على مُهْجتي وِقْرُ
وقد ضلَّ أُنْسُ الأفْقِ مَسْلَك غَرْبِه ... بِحِنْدِسِ ليلٍ ليس يْعُقبه فَجْرُ
وباتتْ تُناجيني بشَجْو حمامةٌ ... لها تحت ذيلِ الليلِ في شأْنها هَدْرُ
تنُوح علىالغصن الرطيب فينْثِني ... طَرُوبا كمَن مالتْ بأعْطافِه الخَمْرُ
أَنَاشِدةٌ تشدو على فَنَنِ الرُّبَى ... مُفارِقةً إلْفاً وقد خانها الصبرُ
أراك مُنَدَّاة الجناحِ فخبِّري ... أَدَمْعي الذي نَدَّاه وَهْناً أم القَطْرُ
منها في الحماسة:
وإنِّي صبورٌ عند كل مُلِمَّةٍ ... يشِيبُ لها فَوْدٌ ويَحْدَوْدَبُ الظهرُ
ولا ارْتاع لي قلبٌ لخطْبٍ إذا غدا ... علىَّ له الإبْرامُ والنَّهْىُ والأمرُ
فلا خَيْر في قلبٍ أبَتْ أن تُذِيبَه ... خطوبٌ فلولا السَّبْكُ ما عُرِف التِّبْرُ
وقد زادني جَوْرُ الزمان تأرُّجاً ... كما زاد نَشْرَ المسك في سَحْقِه الفِهْرُ
هذا من قول سعيد بن هاشم الخالدي:
تَزِيدُني قسوة الأيَّامِ طِيبَ ثَناً ... كأنَّني المسكُ بين الفِهْرِ والحجَرِ
والفهر: الحجر الذي يسحق عليه.
وإن لاح لي فوق السِّما كَيْن مَطْلَبٌ ... فلا المُرتَقى صعبٌ عليَّ ولا وَعْرُ
ولستُ بِهَيَّابٍ ليوْمِ كريهةٍ ... وقد صافحتْ فيه المُهَنَّدَةُ البُتْرُ
فإن خانني دهرِي فما خانني الحِجَا ... وإن خذَلتْني الصَّحْبُ لم يخْذُل الصبرُ
ولا أشْتكِي خطباً يُشدِّد وَطْأةً ... عليَّ فلولا العسرُ ما خُلِق اليسرُ
منها:
ولستُ الذي يُمْضِي الليالي أمانياً ... يضِيع سُدًى في شأْنها الوقتُ والفكرُ
ولا أكره الخطْبَ المُلِمَّ فرُبما ... أتى النفعُ من حالٍ تراءَى به الضُّرُّ
وللهِ ألْطافٌ يدِقُّ خفاؤها ... فكم خِيفَ أمرٌ كان في ضِمْنه النصرُ
وكم عمَّني بالفضل والنِّعَمِ التي ... يقِلُّ عليها منِّيَ الحمدُ والشكرُ
إذا رُمْتُ أُحْصى وصْفَها بِبيانها ... فهيْهات يُحْصَى الرَّملُ أو يُحْصر القَطْرُ
وله من أخرى، مطلعها:
أراني الزمانُ فِعَالاً خسيساَ ... وخطْباً يبدِّل نُعْماه بُوساَ
منها:
ومُذ أسْكرتْني صُروفُ الزمانِ ... نسِيتُ بها الكأسَ والخَنْدَرِيساَ
وألْزمتُ نفسيَ حالَ الخمولِ ... وعِفْتُ المُنى وهجرتُ الجليساَ
فقد يمكثُ السيفُ في غِمْدِه ... مَصوناً ويسْتوطنُ اللَّيْثُ خِيساَ
ومنها في المديح:
بعزْمٍ تراه إذا ما بدا ... بُمعِضلِ أمرٍ يَفُلُّ الخَمِيساَ
ولا يَملِك القلبَ منه الرَّدَاحُ ... ولو أشْبه الوجهُ منها الشموساَ
ولو تكُ لو لم تَمِسْ ما اهْتدتْ ... غصونُ الرِّياض إِلى أن تميساَ
وله من أخرى، مستهلها:
خَفِّض عليك أخا الظِّباء الرُّتَّعِ ... أنت الشريكُ بما رميْتَ به معِي
أرسلتَ من أجفان لَحْظِكَ أسهُماً ... مذ فُوِّقَتْ لم تُخْطِ قلبَ مُرَّوعِ
قد ظلَّ موقعَها الفؤادُ وإِنَّني ... لم ألق غَيْرَك ثَمَّ في ذا الموضعِ
كَلِفٌ بحبَّاتِ القلوبِ كأنما ... تبْغِي الوقوفَ على الضَّمير المُودَع
يا من غدا يسْطُو عليَّ بهجْرِه ... أوَما رحمتَ نَحيِبَ صَبٍّ مُولَعِ
شيْئان تنْصدعُ الجوانحُ منهما ... تغْريدُ ساجعةٍ وأنَّةٌ مُوجَعِ(1/161)
كم رُمْتُ أخْفى عن سواك صَبابتي ... وبها ينُمُّ علىَّ شاهدُ أدْمُعِي
يهفْو لِغَيٍّ فيك قلبي ثم لا ... يُصغى لغِشٍّ الرَّشاد مُقَنَّعِ
قل للعَذُول عليك يتْرك غِشَّه ... بالنُّصْح لي فلذاك أُذْنِي لا تَعِي
لم تُحْفِ قَطُّ بشاشةٌ لُؤْمَ الفتى ... فالطبعُ يفضح حالَةَ المتطبِّعِ
إن المَلامَ وحقِّ وجهك في الهوى ... ما زاد غيرَ توَلُّهي وتوَلُّعِي
قد زاد فيك تألُّفِي بتألُّمِي ... وتفكُّري فيه انتهى لتمتُّعِي
الأبيات الثلاثة الأول، هي بعينها ثلاثة المهيار:
أوْدِعْ فؤادي حُرَقاً أو دَعِ ... ذاتُك تُؤذَى أنتَ في أضْلعِي
أمْسِك سهامَ اللحظِ أو فارْمِها ... أنتَ بما ترْمِي مصابٌ مَعِي
موقُعها القلبُ وأنت الذي ... مَسْكنُه في ذلك الموضعِ
ومن مقطعاته قوله:
إذا منَعتْ سُحْبُ العواذلِ وجهَه ... وحجَّب عني نورَه وهْو ساطعُ
فمن نارِ أحْشائيِ تصاعد بَرْقُها ... وهاطلُها ما أمْطرتْه المدامعُ
وله في الغزل:
عجبْتُ لحُسادِي عليك وليْتهم ... دَرَوا أننَّي من نْقضِك العهدَ في ضَنْكِ
مضى ظنُّهم في مَيْنِ وعدِك صحةً ... وحقق إنْجازاً عَرِيّاً عن الشِّرْكِ
فبَيْن وعيدٍ صادقٍ لا تَحيِدهُ ... ووعدٍ كَذُوبٍ ليس يُؤذن بالشَّكِّ
غدَوْتُ ولي حالٌ كما تشْتهي العِدَا ... وسُحْبُ دموعي أنْبتَتْ كَلَأَ الهَتْكِ
فللِه مَن أخلصتُ دهرِيَ وُدَّه ... وعذَّبني بالغدْر والهجرِ والفَتْكِ
وقوله، في شخص اسمه موسى:
يناديك يا موسى فؤادٌ تكثَّرتْ ... عليه وُشاةٌ في هَواكَ خُصومُ
وليس عجيباً أن تَوَلَّه في الهوى ... وأنت له بْين الأنام كليمُ
وله في غرض:
كم ذا تظَلُّ مُؤرَّقَ الأجفانِ ... ما عشْتَ وثَّاباً لنَيْلِ أمانِي
فبكلِّ وادٍ أنت رائدُ مطلبٍ ... وبَكلِّ نادٍ أنت ناشدُ شانِ
تَرِدُ الخطوبَ لَمِوردٍ هاعَتْ به ... أُسْد الفَلا مذعورةَ الأعْيانِ
لا تهتْدي فيه القَطا لورودها ... إلا بورْدِ الضَّيْغمِ الظَّمآنِ
وكأنما رِيشُ النواهض حولَه ... وَقْعُ النِّبال عقِيب يوم طِعانِ
وترى المَطايا عُوِّضتْ من طائِها ... نُونا لمُقْتَحِمٍ له ومُدانِ
فأتْيته والأُسْد تُوجِس خِيفةً ... فيه مفارِقة ثباتَ جَنانِ
وحَشَا خطوبٍ قد شققْتُ ضميرهَا ... بيدٍ تدُقُّ عَواِلَي المُرَّانِ
وغدوتَ تعْتسفُ الفَلا وتجوبُها ... لمطالبٍ قد زُيِّنتْ وأمانِي
وفَرَيْتَ وَفْر ظلامها بصوارمٍ ... وصلتْ عُرَى الإصْباح باللَّمعانِ
وركبت متنْ مَهاِمهٍ متوخّياً ... دارَ العُلى فوصلتها بأمانِ
وبذلْت شَرْخَ العمرِ وهْو نفِيسُه ... في سُوقِ رَغْبات الهوى النَّفساَني
قسماً بأيامِ الشباب وطِيبِها ... وبنظمِ شَمْلٍ شَتَّه الحَدَثانِ
وبأنَّةِ القلبِ الصريعِ إذا نأَى ... عنه الأليفُ وأقْفرتْه مَغَانِي
لَأشَدُّ ما يْلَقى أمرُؤٌ في دهرِه ... شيئان صدقُ قِلىً وبُعْد مُدانِي
وله مضمنا بيت الأرجاني مرتجلا:
لستُ أنْسَى ليالياً قد تقضَّتْ ... بوصالٍ وطِيبِ عْيشٍ بمغْنَى
كم قضَينا بها لُبانَة أُنْسٍ ... وظفِرْنا بكلِّ ما نتمنَّى
حيثُ غُصْنُ الشبابِ رَيَّانُ من ما ... ءِ صِباه في الهوى يتثَّنى
قد أتتْ بغتةً وولَّتْ سِراعاً ... كطُروقِ الخيال مُذْ زَار وَهْنَا
أترى هل تعود بالتَّدانِي ... ومُحالٌ جَمْعِي بها أو تُثنَّى(1/162)
غيَر أني أعلِّلُ النفسَ عنها ... بالأماني الكِذابَ وَهْماً ووَهْنَاَ
أتمنَّى تلك الليالي المُنِيرا ... تِ وجهدُ المُحبِّ أنْ يتمنَّى
وله يخاطب مليحا مرض:
يا من تَعالاه السَّقا ... مُ لقد حكيْتَ بذاك جَفْنَكْ
إذ صار يا بدَر السَّما ... ءِ مُضاعِفاً ذا الضعفُ حُسْنَكْ
لم ينتقِصْ بالسُّقْمِ حُسْ ... نُكَ سيِّدي والّلهِ إنَّكْ
يشير إلى قول ابن سناء الملك في مليح شفه السقام:
أشْبَهْتَ جسمِي نحولاً ... فهل تعشَّقْتَ حسنَكْ
وكان حَفْنُك مُضنيً ... فصرتَ كلك جَفْنَكْ
وزادَك السُّقْمُ حسناً ... واللهِ إنَّك إنَّكْ
وللسيد محمد ثلاثة أبناء، كثلاثة هقعة الجوزاء، وإن أربوا عليها في السنا والسناء:
السيد عبد الرحمن
هو في السن يكبرهم، وفي الأخذ بأطراف الشعر يكثرهم.
ومكانه منهم الأخطر الأنفس، وصبح الفضل عن ابتهاجه يتنفس وذاته شغلٌ للحب الواجد، وشأن القلوب في محبته القلب الواحد.
قطف الكلام لما نور، ورتب محاسن البديع في درر كلماته وطور.
وقد فجعت به بنو الآداب في ميعة شبابه، وفقدت منه سيداً ألم بخالصة الأدب ولبابه.
فلا عذر للدمع إن لم يساجل عليه المزن، ولا للنفس إن لم تعاشر في مصابه الحزن.
وأرجو الله سبحانه، أن يمنحه روحه وروحانه.
وكنت صحبته أياماً، نبهت فيها حظوظاً نياما.
فما زلت أتروح نسيم لطفه وأنتشقه، واوقول فيه ما يقول المفتون فيمن يعشقه.
وكان أتحفني من أشعاره بطرق تروى تنقل، وبمثلها يجلى القلب من صداه ويصقل.
وها أنا ذا أورد منها ما نلتزمه، ونترك عنك درر البحور، فإن بها زينة الصدور، وتلك بها زينة النحور.
وكل ما أذكر له إما تشبيه زهراً وزهر، أو وصف روض يطل على نهر.
وهو ممن أغرى بهذين النوعين، فأتى منهما بجمل متكاثرة، ونظم فيها بدعاً أضحت لها عقود الترائب متناثرة.
وذلك إما لميلٍ غريزي في فطرته، أو لأن دمشق متروح فكرته.
وحسبك من طبعٍ لو كان للسحب صيرت الزمان فصل الربيع، وفكرةٍ لو كانت للنجوم السيارة جرين سعداً أكبر في التربيع.
ويكفيك من متروح تنفتح العين منه على بهجةٍ ونضارة، ومسرحٍ ينجلي القلب منه بجدة وغضارة.
فمن ذلك مقامته الربيعية، كتبها للأمير حمزة الدفتري، بدمشق، وقد احتوت على معظم تشبيهات الزهور.
وهي:
إلى روضةِ الآداب رَيْحانة النَّدِّ ... تَحايا حِفاظٍ حرَّكتْها يدُ الوُدِّ
فجأتْ كأنفاسِ الرَّياح تسحَّبتْ ... على رَشَحاتِ الطَّلِّ من وَجْنة الوردِ
هذا، وقد عن للخاطر يا سيدي أن يزف إليك بوادره، ويجلي عليك نوادره.
إذ لا بد للنفوس أن تمرح، وللنوادر أن تستباح وتستملح.
وقد أشعرت أني دفعت إلى المناجاة الفكر الفاتر، عند قلة المحادثة والمناظر.
فخطابني في ابتكار النخب، وأغراني بافتراع أبكار الأدب.
وقال: ما تقول في دعابة تقلص ذيل الوقار، وتزرى بأكؤس العقار.
فقلت: إيه، يا نبيه، ثم لزمت الإصاخة لتلقيه.
فسلك بي طريقاً من الواهمة، كأنما أعده لهذه المنادمة.
فأفضى إلى روض مندي، كأنما تجلل بالنعيم وتردى.
وقدر فرشت ملاءة النور، على ميادنيه، وحرشت أيدي النسيم بين رياحينه.
يخترقه نهرٌ كأنما يسيل من درة، أو ترقرق من عبرة.
وعليه درةٌ من الفواقع منظوم، وبسماطيه وشيءٌ من الأزاهر مرقوم.
فمن نرجس نعته الفتور، ووردٍ كأنما انتزع من أوجه الحور.
وأقاحٍ كأنه ثغر الحبيب بلا مر، وقصور من العسجد السبيك مشرفة الذرى.
وياسمين كأنه أثل الأبكار، أو صلبان من الفضة صغار.
وبنفسج كأنه العوارض الطريرة، أو رصة القرط في سالفه مهمومةٍ غريرة.
وشقيقٍ كأنه أقداح العقيق، قد رسب بقرارتها مسكٌ فتيق.
وآذريون كأنهن مداهن عسجد، على سواعد زبرجد.
قد ضمخت أوساطها بغالية، وسماوتها من ذاك خالية.
وسوسان كبياض السوالف، أو جياد الوصائف.
وترنجان كأنها وشمٌ على زنود، أو بساط سندسٍ ممدود.
ومردقوش كأنما مفروقة آذان خرد، ومجموعة صرحٌ من الزمرد ممرد.
وريحان يعده النديم ليوم الفراغ، ويحكيه الحبيب بسلاسل الأصداغ.(1/163)
وقرنفل كأنما توقد بالجمر، وانعقد من الخمر.
على مكاحل خضرٍ معشوقة، وساوعد صفرٍ ممشوقة.
وسنبلٍ لازوردي الأديم، عنبري الشميم.
تخاله بأكف الولائد، كأنه شنوف علقت إلى مراود.
وبادورد، تسمى برائحة العنبر والورد.
كأنه هالة البدر في القياس، أوشمسة تفككت من الألماس.
والطير جذلان مبتهج، بين فاردٍ ومزدوج.
قد صدح ومرح، وغنى بكل مقترح.
فمن عندليب قد أخذ من الغرام بنصيب، وحرك نوازع المحب للحبيب.
كأنما رقش بحوة اللعس، أو قدٌ طوق من أديم الغلس.
ومن شحرور، قد أعلن بالسرور، وترنم خلف الستور.
ثم برز لمناغاة كل أوراق صدوح، كأنه راهب في مسوح.
وقد صيغت من الأبنوس قوائمه، وصبغت بعصارة المرجان ملاثمه.
ومن مطوق قد حن إلى إلفه وتشوق، وترسل بالأغاريد وتتوق.
ومن قمريٍ راح يقهقه بترجيعه، ويحكى إبريق المدام عند سفك نجيعه.
ومن ساجعةٍ، ذات غصة متراجعة.
معشوقة التفويف، معلمة الرمل والخفيف.
يندى بمرتحل الرذاذ عاتقها، وفي أحشائها زفرةٌ من الشوق لا تفارقها.
ومن ساق حر، كأنما اكتحل بنار الجوانح، وبزر على منصة المناوح لكل مطارح.
جَوارٍ على قُضْبِ الأراكِ تناوَحتْ ... وما هي إلا للقلوبِ جوارحُ
وإذا بولدان كأنهن شوارد آرام، أو بدور تمام، يتطلعن من فروج الغمام.
من كل ذي طرف منهوك النظر، بادي الفتور والحور.
بمحياً وسيمٍ يندى بمائة، قد أطلع فيه النعيم آية روائه.
وجيدٍ معشوق الغيد، على قوامٍ رهيف التثني والميد.
كأنه الغصن يمرح في برده، والصبح ينساخ نوره من طوقه وعقده.
قد رفعوا سجوف التكلف، وهصورا بأغصان التألف.
وعلى يد كل واحد كأس مدام، وإبريقٌ منزوع الفدام.
وهما يتعاقران السلاف على روض وغدير، وسماع بمٍ وزير.
حتى مرج الدوح بهم واضطرب، وجرت الأكواب على الخبب.
فبينا أنا متعجب من هذه الآثار العبقرية، ومتأمل في هذه المحاسن الربيعية.
وإذا بالفكر قد رفع الحجاب منشداً، وإلى وجه الطرب مرشداً.
فقال:
إليك نزعَةُ آدابٍ يرِفُّ بها ... طيرُ الفصاحِة إيناساً وتطْريبَاً
لا تعجَلِ اللَّوْمَ فيها واسْتشِفَّ لها ... معنىً يرِفُّ وينْدَى بَيْننا طِيبَاً
وربَّما أفصحتْ من بعد عُجْمتِها ... وعاد تَرْجيعُها مَدْحاً وتشبِيباَ
فعادَ سَمْعُك مِئناسَ القريضِ بها ... فليس يأْلُوك إبْداعاً وتهْذيباَ
فحيث ما جُلْتَ تلْقَى روضةً أُنُفاً ... منا ومسكاً على الأرْجاءِ مَنْهوبَا
ومُتْرَفاً لم يزل بالدَّلِّ مُنْتطِقاً ... بالطَّرْفِ مُتَّشِحاً بالحسن مَعْصوبَا
ومن حبيث لا روضةٌ عند العَيانِ ترى ... فيها ولا مُسْمِعا يشْدُو ولا كُوباَ
وإنما هو تَمْويهٌ على نَسَقٍ ... تخالُه شارباً للذهنِ مشروبا
الشِّعر ضربٌ من التَّصوير قد سلَكتْ ... فيه القرائحُ تدْريجاً وترْتيباَ
فالروضُ روضُ السَّجايا طاب منْبَتُها ... والزهرُ زَهْرُ الثَّنا نُهْديه مَرغوباَ
والكأسُ كأسُ الوداد المحْضِ مُرتَشَفاً ... والحسنُ حسنُ الوفَا تلقاه محبوباَ
والطيرُ طيرُ بيانٍ ظلَّ مُغْترداً ... طُوبَى لمن بات يقْرِى سمعَه طوبَى
والسجعُ طِيبُ حديثٍ ظلَّ جوهرُه ... بين الأخلَّاء منْثوراً وموْهوباَ
وتلك أوصافُ مَن طابتْ مَكاسِرُه ... ومن غدا جوهراً للفضلِ منْخوباَ
أعْنِي به حمزةَ الرَّاقي إلى شَرَفٍ ... يرى به كوكب الجوْزاءِ مَجْنوبا
من راح مُنْتدِباً للفضل يجمعُه ... والعُرْفُ يصنَعه بدءا وتسَبيباَ
والمَكْرُمات غدَتْ في طبعِه خلُقاً ... ونِحْلَةُ الودِّ دَأْباً منه مَدْؤُوباَ
إليك يا مَوْئل الآدابِ غانيةً ... تُهْدِى ثناءً كأنفاس الرُّبَى طِيبَا
رَفِّهْ بعَيْشِك سمعَ الوُدِّ منك بها ... وأولها بجميلِ القولِ ترحيباَ(1/164)
وقوله في تشبيه الياسمين: أو صلبان إلخ، من قول ابن قرناص:
انْظُر إلى خَيْمةٍ وقد نُصِبَتْ ... خضراءَ عند الصَّباح مُبيضَّهْ
كأنها قُبَّةٌ لِراهبةٍ ... وقد كستْها صُلْبانُ من فِضَّهْ
ومن التشابيه في البنفسج قوله:
بَنَفْسَجٌ بذَكِىِّ المسك مخْصوصُ ... كخَدِّ أغْيَد بالتخْميشِ مقروصُ
وقال آخر: بنفسج كآثار العض، في البدن الغض.
وقوله: وشقيق، كأنه أقداح العقيق إلخ، هذا نقل فيه تشبيه الآذريونة من بيت قيل فيها، وهو:
وحَوْل آذَرْيُونةٍ فوق أُذْنِه ... ككأِس عقيقٍ في قرارتِه مِسْكُ
وضمير حول يرجع إلى المحبوب.
والآذريون: نور أصفر، معرب آذركون، أي لون النار، والعرب كانت تجعله خلف أذنها تيمناً.
وأصله أن أردشير ابن بابك، كان يوماً بقصره، فرآه فأعجبه، ونزل لأخذه فسقط قصره، فتيمن به.
وهو نور خريفي، يمد ويقصر.
قاله الشهاب، في شفاء الغليل.
وقال غيره: وهو ورد مدور له أوراق حمر، في وسطه سواد، له نتوء وارتفاع، فيشبه بكأس عقيق كالأول، وقد يكون أصفر، وعليه قوله الآخر: وآذريون كأنهن مداهن عسجد، على سواعد زبرجد، إلخ.
وهذا حلٌ لأبيات لابن المعتز:
سَقْياً لروضاتٍ لنا ... من كلِّ نَوْرٍ حالِيَهْ
عيونُ آذَرْيُونِها ... للشَّمس فيها كالِيَهْ
مداهِنٌ من ذهبٍ ... فيها بقَايا غالِيَهْ
والمداهن جمع مدهن.
قال الجوهري: المدهن، بالضم لا غير: قارورة الدهن، وهو أحد ما جاء على مفعل، مما يستعمل من الأدوات، والجمع المداهن.
ومعنى كلاءة عيون الآذريون للشمس، أنها تستقبلها وتدور معها حيث دارت.
وقوله: سنبل لازوردي الأديم، قد استعمل هذا التشبيه في مقطوع له مشهور، يقول فيه:
أصبْح السُّنْبُلُ الجَنِىُّ لديْنا ... فوق سُوقٍ فيها النَّدَى يتردَّدْ
كشُنوفٍ لُطْفنَ من لازَوَرْدٍ ... عُلِّقتْ في مَراوِدٍ من زَبَرْجَدْ
وله في السنبل أيضاً:
وسُنْبُلٍ وافَى على سُوقِه ... غِبَّ الحَيَا في زُرْقةٍ لا تُحَدّ
مَكْفوفِة الحافاتِ زَهْراتُه ... مَذْرُوبة الأوراق في كلِّ يَدْ
كأنما تَعْقِيف أطرافها ... مَحاجِنٌ صيِغتْ من الَّلازَوَرْدْ
وله أيضاً فيه:
يا حُسنَه من سُنْبُلٍ ناصعٍ ... يْبدو لنا في قائمٍ أخْضرِ
كأنَّه من حَوْلِ زَهْراتِهِ ... زَرَافِنٌ صُفَّتْ من العَنْبَرِ
ومن تشابيهه النادرة، قوله في الورد:
وأقْبل الوردُ من بُرْعُومه خَجِلاً ... يُبْدِي لنا فوق رَيَّا نَشْره العَبِقِ
دراهماً من يواقيتٍ على قُضُبٍ ... تراكمتْ تحت دِينارٍ عل طَبَقِ
وقد أحاطتْ لِرقْصِ الدَّسْتبَنْد بها ... من الزَّبَرْجَد حِيتانٌ من الوَرِقِ
البُرعُوم، والبُرْعُم، والبُرعُمة والبُرعُومة، بضمهن: زهرة الشجرة قبل أن تنفتح.
ورقص الدستبند: معروف للعجم، يأخذ بعضهم بيد بعض، يقال له الفنزج، بفتح الفاء.
ولقد أتى بأبدع ما يستعذب ويستغرب.
ومنزعه في هذا ما في كتاب ازدهار الأزهار للشقاشقي، حيث أنشد فيه:
وقد فتح الوردُ جُنْبُذاً بَهِجاً ... يكاد منه الدينارُ ينْسبِكُ
عقِيقُ أوراقِها على ذهبٍ ... يحْمله من زَبَرْجَدٍ سَمَكُ
قال: لم أسمع في زر الورد الأخضر، الحاوي للزهر الأحمر، أبدع من هذا التشبيه، بل لم أسمع فيه شيئاً البتة غيره، وهو من بدائع التشبيهات، ورائع التوجيهات، التي يطرب عليها الأديب، ويهتز لها العاقل الأريب.
وقد أغار عليه الأمير طاهر، فقال:
انْظُر إلى الورد الجَنِيِّ ... كأنه الخَدُّ المُورَّدْ
من حوِله وَرَقٌ كحي ... تانٍ خُلِقْنَ من الزَّبَرْجَدْ
وما يستبدع ويستظرف، قوله في تشبيه المضعف:
ونَرْجِسُ الروضِ قد حَيَّ بمُضْعفِه ... في أصفرٍ فاقعٍ مع أبْيَض يَقَقِ
كأنه وهْو في قُضْبٍ مُنعَّمةٍ ... يُلْقى النسيمُ عليها نفسَ مُعتِنقِ(1/165)
أمْشاطُ دُرٍّ من الإبْريزِ في جُمَمٍ ... جَعْدٍ فما بين مجموع ومُفْترِقِ
الجم: جمع جمة، وهي من الإنسان مجتمع شعر ناصيته.
وقوله في تشبيه الياسمين:
وأطْلع الياسَمينُ الغَضُّ حين بَدا ... دُرَّاً يفُوح بنَشْرٍ منه مُنْفَتِقِ
كرَوْبَجاتٍ صغارٍ سال في لُمَعٍ ... من أُفْقِها ذائبُ الياقوتِ في الشَّفَقِ
وقوله في الزهر المعروف بالعنبر بوى، ومعناه رائحة العنبر:
وذِي قامةٍ في الزَّهْر تْندَى غَضارةً ... بَدَا فَاخِتىَّ اللونِ من عَنْبَرِ الشِّحْرِ
له جمٌ زُغْبٌ تفكَّك حولها ... من الزَّهْر إفْرِيزٌ كأجربة العِطْرِ
تكوَّن لطفاً فوق زِرِّ زَبَرْجَدٍ ... تكتَّب بالألْماسِ سَطْراً على سطرِ
وقوله في الأبيض منه:
وذي هالة في الزهر أبْيَضَ ناصعٍ ... تكوَّن للنَّاشِي من العنْبَرِ الوردِ
يرُوقُك هُدَّابٌ به راح أشْيَباً ... تدنَّر في زِرٍّ كبارزِة الهنْدِ
أحاطتْ به للزهرِ في زِيِّ دارهِ ... ظُروفٌ من الكافورِ مبْتُوتة الزَّنْدِ
وقوله في الزهر المعروف بحلقة المحبوب:
وزهرٍ كأمْثال الشُّنوفِ لَطافةً ... تَد؟ َاخَلَ من أجزائِه البعضُ في البعضُ
لقد أحْكَمت إبْرامها المُزْنُ خِلْقةً ... لدَيْنَا وأعطْته أماناً من النقضِ
ونلقت عنه، قال: أنشدني العلامة نسيج وحده المرحوم أبو العباس أحمد المقري المغربي، في كتابه أزهار الرياض في أخبار عياض في جملة ما أورده من شعر ابن زمرك الأندلسي، في كتاب ذكر أنه من تآليف بعض سلاطين تلمسان بني الأحمر، وهو حفيد ابن الأحمر المخلوع، سلطان الأندلس، الذي كتب إليه ابن زمرك المذكور، بعد ابن الخطيب.
قال: وهو سفر ضخم، سماه بالبقية والمدرك من شعر ابن زمرك ليس فيه إلا نظمه فقط.
فقال: ومن وصفه في زهر القرنفل الصعب الاجتنا بجبل الفتح، وقد وقع له مولانا الغنى بالله بذلك، فارتجل قطعاً.
منها:
أتَوْني بنُوَّارٍ يرُوق نَضارةً ... كخَدِّ الذي أهْوَى وطِيبِ تنفُّسِهْ
وجاَءوا به من شاهِقٍ مُتمنِّعٍ ... تمَنُّعَ ذاك الظَّبْيِ في ظل مَكْنِسهْ
رعى اللهُ منه عاشقاً مُتقنِّعاً ... بزَهْرٍ حكى في الحُسْن خدِّ مُؤَنِّسِهْ
وإن هبَّ خفَّاقُ النَّسيم بنفْحةٍ ... حكى عَرْفَه طِيباً قَضى بتأنُّسِهْ
قال: وكنت من إعمال الفكر في عدة تماثيل، أصف فيها ما تكون من هذا الزهر على حالة تحشر لها النفس بتحريك نازع الاقتدار، ويصرف عنها الخاطر إكباراً لأن أكون فاتح هذا الباب من غير وطئةٍ ثابتةٍ في اسمه ومنتهاه، حتى رأيت في ذكر معزاه ما ترى، فقلت فيه عدة مقاطيع.
منها:
وجَنِيٍّ من القَرَنْفُل يُبْدِي ... لك عَرْفاً من نَشْرِه بابْتسامِ
فوق سُوقٍ كأنها من أبارِ ... يقِ الحُميَّا مَساكِبٌ المُدامِ
وسَّدَتْ فوقها السُّقاةُ خدوداً ... دامياتٍ منها مكان الفِدامِ
ومنها:
قم بنا يا نديمُ فالطيرُ غرَّدْ ... لمُدامٍ كؤُوسُه تتوقدْ
فلديْنا قَرَنْفُلٌ قد نَماهُ ... جبلُ الفتْحِ نشْره قد تصعَّدْ
بين سُوقٍ عُوجٍ الرِّقاب لِطافٍ ... شَعرات من لِينها تتجعَّدْ
ومنها:
أهْدَى لنا الروضُ من قَرَنْفُلِهِ ... عبيرَ مسْكٍ لديْه مَفْتوتِ
كأنما سُوقُه وما حمَلتْ ... من حسنِ زَهْرٍ بالطِّيب منْعوتِ
صَوالجُ من زَبَرْجَدٍ خرَطتْ ... لها الغوادِي كُراتِ ياقوتِ
ومنها:
أرى زهْرَ القَرَنْفُل قد جَلتْهُ ... قُدودٌ تَرْجَحِنُّ به قيامُ
أخاَل لَوَ اُنَّها أعْناقُ طيْرٍ ... نهضْن به لقلتُ هي النَّعامُ
توقَّد زَهْرُه جَمْراً لديْنا ... وتلك لها من الجْمرِ الْتِقامُ
ومنها في الأبيض منه من أبيات:(1/166)
ما ترى ناصِعَ القَرَنْفُل وافَى ... بتَحايَا الشَّميمِ بين الزُّهورِ
قُضُبٌ من زَبَرْجَدٍ حاملاتٌ ... قِطعاً فُكِّكتْ من الكافورِ
هذا ما وجدته منقولاً عنه.
ورأيت في أشعار بعض المتأخرين ممن تقدم تشبيه هذا الزهر.
فممن استعمله ممن أدركته أبو مفلح البيلوني الحلبي، في مقصورة له، حيث قال:
قَرَنْفُل الرَّوضِ شِفاهٌ ضمَّها ... لُعْساً لكي يلثَم ناشقاً دنَا
واستعمله قبله الكمال محمد بن أبي اللطف المقدسي، المتوفى سنة ثلاث وثلاثين وألف في قوله:
حكى القَرَنْفُل مُحْمَرّاً على قُضُبٍ ... خُضْرٍ لها صار بالتَّفْضِيل منْعوتَا
كفّاً على مِعْصَمٍ نَقْشٌ به خَضْرٌ ... غَدا له كافر العُذَّال مَبْهوتَا
أبْدَتْه خَوْدٌ وقد ضَمَّت أنامِلَها ... كأساً تُشعّر لُطْفاً صِيغَ ياقوتَا
والذي حاز في تشبيهه قصب السبق، فيما أعلم، الشهاب بن خلوف الأندلسي، أحد المشاهير المجيدين، حيث قال، من قصيدة:
وللْقرَنْفُل راحاتٌ مُخضَّبةٌ ... على مَعاصِرَ خُضْرٍ فتْنِة الرَّائي
كأنْجُمٍ من عقيقٍ في ذُرَا فلكٍ ... من الزُّجاج أرَتْ أشْطان لَأْلَاءِ
وكان السيد المترجم ما أنشأ هذه المقاطيع التي تقدمت اشتهر أمرها، فحذا حذوه في بابها جماعةٌ، من أدباء الشام، ونظموا فيه تشابيه متنوعة.
فمنهم الأمير منجك، حيث قال:
قَرْنْفُلُنا العطريُّ لوناً كأنه ... رُءُوسُ العذارَى ضُمِّختْ بعبيرِ
مداهنُ ياقوت بأعلى زَبَرْجَدٍ ... لقد أُحكمتْ صُنْعاً بأمْرِ قديرِ
ومنهم شيخنا المهمنداري المفتى، حيث قال:
قَرَنْفُلٌ في الرياضِ هيْئتُه ... تَحْكي وقد مَدَّ للسحابِ يَدَا
فَوَّارة من زبَرْجَدٍ فتَقتْ ... ففار منها العقيقُ وانْجَمدَا
وقال أيضاً:
هذا الْقَرَنْفُل قد بدَا ... في لونِه الْقانِي تَجَمَّدْ
فكأن مَرْآهُ الأنِي ... قَ لدَى الرياضِ إذا تَنَهَّدْ
قِطَعُ العقيقِ تناثرتْ ... فتخطَّفتْه يدُ الزَّبَرْجَدْ
ومنهم شيخنا عبد الغني النابلسي، في قوله:
كأن قَرْنْفُلاً في الروضِ يَسْبى ... شذَا رَيَّاه مُنتشِقَ الأنُوفِ
سواعِدُ من زَبَرْجَدَ قائماتٌ ... بلا بدَنٍ مُخضَّبُة الكفوفِ
وقوله:
قم ياندِيمي لداعِي الَّلهْوِ مْنشرِحاً ... فقد ترنَّمتِ الورْقاءُ في الورقِ
وانظُرْ إلى حسنِ باقاتِ القَرَنْفُل ما ... بْين الرُّبَى نفَحتْ كالمَنْدَلِ العَبِقِ
أطْفَى النسيمُ لهِيباً من مشاعِلها ... في ظُلَّةِ الروضِ حتى جمرُهنَّ بَقِى
وقوله:
بين الحدائقِ أعْطافُ القَرَنفْلُ في ... زهْرٍ بريحِ الصَّبا الزَّاكِي وتمْثيلِ
مثلُ العرائسِ في خُضْرِ الملابسِ قد ... لاثَتْ على وجْهِها حُمْرَ المناديلِ
وقوله في الأبيض منه:
هيَّا بنا فالطيرُ صاحَ مُغرِّداً ... ما إن يُقاس لدى الورَى بمُغَرِّدِ
والروضُ مَدَّ من القَرَنْفُل للنَّدَى ... كاساتِ دُرٍّ في زُنوِدِ زَبَرْجَدِ
وقوله في الأبيض المشرب بحمرة:
وزهرِ قَرَنْفَلٍ في الروض يحْكي ... قصورَ دمٍ على صفحات ماءِ
رأى وجَناتِ من أهْوَى فأغْضَى ... فبان بوجْهِه أثَرُ الحياءِ
وقد تطفلت أنا على عادتي، فقلت:
وافى القَرَنْفُلُ مُعجباً ... فينا بمنْظرِه الأنِيقْ
يُبْدِي زُنُودَ زَبَرْجَدٍ ... حملَت تُروساً من عَقِيقْ
هذا ما وصلني من التشبيهات التي نظمت فيه، وإن ظفرت بشيء ألحقته.
عوداً على بدء.
ومن روضياته قوله:
قادني للرُّبَى مَرُوح العِنانِ ... نَفْحُ رَوْحِ النسيمِ في الرَّيْحانِ
واهْتزازُ الأوْراقِ في القُضُبِ الهِي ... يفِ أرتنْي في ساحةِ البستانِ(1/167)
طُرَرَ الغِيدِ قد رقصْنَ بها عنْ ... د اجْتلاء الطّلا على العِيدانِ
وقوله:
كأنما شجَرات الدَّوْحِ في خُلَعٍ ... تنْدَى فيبلغ أقْصَى الحسن مَبْلُغها
أرْواح دُرٍّ تبِيتُ المُزْن في بشرٍ ... من الزُّمُرُّد بالأنْواءِ تُفْرِغُها
ماجَتْ بمُدْرَجة الأنفْاس واطَّرَدتْ ... كأنما حولهَا أيدٍ تُدَغْدِغهَا
وقوله:
والنهر يصْدَا بهاتيك الظِّلال كما ... يصْدَامن الغِمْدِ حدٌ الصارمِ الذَّكَرِ
والزهرُ يفْرِش في شطَّيه ما رقمَتْ ... فيها السحائبُ من رَيطٍ ومن حِبَرِ
رَبِيعةُ الوَشْىِ لا ينْفكُّ زِبْرِجُها ... يجْلو لنا من حُلاها أحْسنَ الصُّورِ
الزبرج بالكسر: الزينة من وشى أو جوهر، أو نحو ذلك.
ويقال: الزبرج: الذهب، والزبرج: السحاب الرقيق فيه حمرة.
وله:
بادِرْ بعيْشك فالنعيمُ مُخَيِّمٌ ... ومُلاءةُ البستانِ في تفْويفِ
والطيرُ مْغتِردٌ عليه يشُوقُه ... جِيدٌ بأعْناق الغصون الهِيفِ
تُصْغى له أُذْنُ الطَّروبِ فيْنثنى ... والشوقُ مِلْءُ فؤادِيَ المْشغوفِ
وله:
ومجلسٍ حفَّتِ الغصونُ بنا ... فيه ووجهُ الرياضِ مُبْتهِجُ
كأن أوراقَها يرِفُّ بها ... فوق النَّدامَى نسيُمها الأرِجُ
خُضْرٌ من الأُرْزِ لا تزال بها ... مناكبُ الرَّاقصات تَخْتلِجُ
وله في روض ألقت الأشجار ظلالها عليه، فالشمس من فروجها عيونٌ ناظرةٌ إليه:
وبطنٍ من الوادي حَلَلْنا مَسِيلَهُ ... خلالَ غصونٍ عاكفاتٍ على الشَّرْبِ
تُنَقِّط منه الشمسُ في مِسْكَة الثَّرى ... مَدَبَّ عِذارِ الظلِّ في وَجْنةِ التُّرْبِ
بخيِلانِ كافورِ الشُّعاع كأنما ... أبتْ غير جلْدِ النَّمر يُفرَش بالسُّحْبِ
رأيت بخطه عقيب هذا: قلت: وما كنت أحسبني زوحمت في هذا المعنى، ولا سبقت لهذا المغنى، حتى وقع إلى حال مطالعتي لتتمة اليتيمة من قول السيد أبي البركات العلوى، في الأشجار والقمر، ما صورته:
ألا صرِّفْ لنا خمراً ... فنفسُ الصَّبِّ مَدْهوشَهْ
على أدْواحِ رَيْحانٍ ... بماءِ الطَّلِّ مَرْشوشَهْ
كأن الأرضَ من حُسْنٍ ... بجِلْدِ النمرِ مفْروشَهْ
فعجبت من مواردتي إياه في اشتراك الخواطر، مع اقتران المناسبة بين الشمس المنيرة والقمر الزاهر.
ثم وقع إلىّ ومن أناشيد صاحب الذخيرة للتهامى أيضاً ماصورته في تشبيه الثريا:
وللثُّريا ركُودٌ فوق أرْحُلِنا ... كأنها قطعةٌ من فَرْوة النمرِ
قلت: وقد نزع في هذا المعنى البديع قول عبد المحسن الصورى، من أناشيد الثعالبي، وهو:
فاسْقنِيها مَلْأى فقد فضح الَّلْي ... لَ هلالٌ كأنه فِتْر زَنْدِ
والثُّرَيَّا خَفَّاقةٌ بجناحِ الْ ... غَرْبِ تهْوى كأنها رأسُ فَهْدِ
وتشبيه وقوع الشعاع قد أكثر فيه الشعراء القول.
فمنه قول المعوج الشاعر:
كأن شعاعَ الشَّمْسِ في كُلِّ غُدْوة ... على ورَقِ الأشجار أوَّل طالعِ
دَنانيرُ في كَفّ الأشَلِّ يضمُّها ... لقبْضٍ تهَوَّتْ في فُروجِ الأصابعِ
وهو مأخوذ من قول المتنبي:
وألْقَى الشرقُ منها في ثِيابِي ... دنانير تفِرُّ من البَنانِ
وأخذه القاضي الفاضل، فقال:
والشمسُ من بين الأرائِك قد حكتْ ... سيفاً صَقِيلاً في يَدٍ رَعْشاءِ
وللنامي:
سماء غصونٍ تحجُب الشمسَ أن تُرَى ... على الأرضِ إلَّا مثلَ نَثْرِ الدراهمِ
ومما يضاهي هذا قول الصلاح الصفدي في القمر:
كأنما الأغْصانُ في دَوحِها ... يلُوح لي منها سنا البدرِ
تِرْسٌ من التِّبْرِ غدا لامعاً ... يقِيسُه أسْوَدُ بالشِّبْرِ
وقوله:
وكأنَّما الأغصانُ يثْنِيها الصَّبا ... والبدرُ في خَلَلٍ يلُوح ويُحْجَبُ(1/168)
حسناءُ قد عامَتْ وأرْخَتْ شعرَها ... في لُجَّةٍ والمَوْجُ فيها يلْعَبُ
وقوله:
كأنما الأغْصانُ لمَّا انْثنَتْ ... أمام بَدْرِ التّمِّ في غَيْهبِهْ
بنتُ مَليكٍ خلْف شُبَّاكِها ... تفَرَّجتْ منه على مَوْكِبهْ
وللسيد في الغزل:
ولما تفاوضْنا الحديثَ عشِيَّةً ... ومالتْ بعِطْفيْه المُدامةُ فاسْتغْفَى
وضعتُ له كفِّي فوسَّد نَغْنُغاً ... تناهتْ به مائِيَّةُ الحُسْنِ فاستكْفَى
وكنتُ أُراعيه بلحْظِى تسَرُّقاً ... فمَّلكْتُ طَرْفِي منه من بعْدِ ما أغفَى
وله:
قد لوى جِيدَه حَياءً وحيَّى ... بكؤُوسِ المُدامِ كأْساَ فكأْساَ
ففَضضْتُ اليدين عن يانع الزه ... رِ لمعنىّ أجِدْ لي فيه أُنْسَا
نُغْنُغٌ في نَصاعةِ الزهرِ مَرْآ ... هُ لعيني وكالحريرِة مَسَّا
وله:
قُمْ وسَقِّ المُدامَ كُوباً فكُوبَا ... فخطيبُ الرِّياضِ أضْحَى طَرُوبَا
والنَّواويرُ في الأكِمَّةِ تُجْليِ ... حَبَباً من لُجيْنِها مقْلوبَا
غيرَ أن الرياحَ قد مزَّقتْ عنْ ... د اعْتِناقِ الغصونِ منها الجيُوبَا
وله:
توسَّمْتُه لما تكامل حسنُه ... وقد رقْرقتْ فيه الشَّبِيبةُ ماءَها
فخلْتُ بأن الحَوْلَ حان رَبيعُه ... وأن الرِّياضَ الحَزْنَ أبْدتْ رُواءَها
فنفَّسْتُ عن طير الجوى بتأَوُّهي ... وأرْسلتُ عيني بالدموعِ وراءَهاَ
وله:
نبَّهْتُه سَحَراً والكأسُ فوق يدي ... والعودُ مصْطخِبُ الأوتار يُجْليِه
فرفَّع الجيدَ عن كفِّي وقد فتَرتْ ... أطْرافُه وأنا أُدْنِيه من فيهِ
كما ترفَّع غصنُ الْيان مُنْتصِباً ... حالاً فحالاً إذا ما رُحْتَ تْثنِيهِ
وله:
وأهْيفَ مغْنوجِ اللَّواحظِ مُتْرفٍ ... رَهِيفِ التَّثَنِّي ناهَز العشْرَ في السِّنِّ
دَعاني إلى باكُورةِ الحسْنِ صَغرُه ... ولم أرَ شيْئاً مثلَ باكورِة الحُسْنِ
وله في راقص:
وأهْيفَ مهْضومِ الحشَا كاد رقْصُه ... يُحكِّم فينا السِّحْرَ من كلِّ جانبِ
يسيلُ به نَقْلُ الخُطَا فترُدُّه ... رَجاجةُ أعْكانٍ له ومَسارِبِ
ومما أنشدنيه من لفظه لنفسه هذه الأبيات، أحسن فيها المراجعة كل الإحسان:
وجليسٍ مَنَّيْتُه طَرَف الأُنْ ... سِ وذكَّرتُه قديمَ العهودِ
قلتُ كيف النَّديمُ قال يُحَيَّى ... ويُفدَّي بأنْفُسٍ وجُدودِ
قلتُ كيف المُدامُ قال مع الرَّيْ ... حانِ حيَّ بنَرْجِسٍ وورودِ
قلت والنَّقْل قال تقْبِيل خَدٍّ ... من حبيبٍ ورشْفُ ثَغْرٍ بَرُودِ
قلتُ والطِّيب قال طَشٌّ من الما ... وَرْدِ يُزْجِي سحابَ نَدٍّ وعُودِ
قلت كيف القِيانُ قال إلَيْهنَّ ... انْقيادُ الأوتارِ عند النَّشِيدِ
قلت كيف الغِناءُ قال تظرَّفْ ... ت ولم يْعدُ فيه بيتَ القصيدِ
أشْتهِى في الغناءِ بَحَّةَ حَلْقٍ ... ناعمِ الصوتِ مُتْعَبٍ مَكْدودِ
كأنِينِ المُحبِّ أنْحلَه البَيْ ... نُ فضَاهَى به أنينَ العُودِ
ومن تشابيهه النجومية، قوله من قصيدة، مستهلها:
لعَيْنيْكَ في الأحشاءِ ما نفَث السحرُ ... وللحبِّ في الألبابِ ما فعَل الخمرُ
منها:
كأن المُنَى ماءٌ كأنِّىَ ناهلٌ ... كأن الفَيافي البِيدَ ما بيْنَنا جِسْرُ
كأن الثَّرى أُفْقٌ كأن مَطِيَّتي ... هلالٌ كأن السَّيْرَ غايُته الحشْرُ
كأن نَجاشِيَّ الظلاِم مُتيَّمٌ ... كأنِّى مُلْقًي في ضمائرِه سِرُّ
منها:
ولم يبْقَ لي إلا تَعِلَّة مُعْدِمٍ ... يجاذِبُها من كلِّ ناحيةٍ ذِكْرُ(1/169)
ليالٍ بَراها القصْرُ حتى كأنما ... تكنَّفَها من كلِّ ناحيةٍ فجرُ
كأن دُجاها في أدِيمِ نهارِها ... عَصِيم مُدادٍ كاد يجْحدُه السِّفْرُ
كأن به الجوازءَ عِقْدُ لآلىءٍ ... تطوَّقَه من صَدْرِ زنْجيَّةٍ نَحْرُ
كأن الثريَّا في اختلافِ نُجومِها ... بوادرُ آمالٍ يُحاولُها الحرُّ
كأن السُّها معْنًى دقيقٌ فيخْتِفي ... ويبْدو جِهاراً إن تراجَعه الفكْرُ
توارد في هذا التشبيه من البابي الحلبي، في قوله:
كأن السُّهَا معنًى يجولُ بفكْرةٍ ... فآوِنةً يخْفَي وآونةً يبْدُو
ابن هانىء:
كأن سُهاها عاشقٌ بين عُوَّدٍ ... فآونةً يَبْدو وآونةً يخْفَى
ابن خفاجة:
كأن السُّها إنسانُ عينٍ غَريقةٍ ... من الدمعِ يبْدو كلما ذرَفَتْ ذَرْفَا
حازم:
كأن السُّها قد دَقَّ من فَرْطِ شوقِه ... إليْها كما قد دقَّق الكاتبُ النَّقْطَا
ابن جاندار:
كأن السُّها ذوُ صَبْوةٍ غالَه النَّوى ... فأنْحَله والبَيْنُ للصَّبِّ يُنْحِلُ
وله:
كأنَ بني نَعْشٍ سَفِينٌ تخالفَتْ ... عواصفُها وَهْناً فشتَّتها البحرُ
كأن سُهَيْلاً حين صَوَّب آفِلاً ... فُؤادُ مُحِبٍّ راح يُرْجِفه الهجرُ
ابن هانىء:
كأن سُهَيْلاً في مَطالع أُفْقِه ... مُفارِقُ إلْفٍ لم يجدْ بعده إلْفَا
ابن خفاجة:
كأن سُهَيْلاً فارسٌ عايَنَ الوغَي ... ففَرَّ ولم يشْهَد طِراداً ولا زَحْفا
حازم:
كأن سُهَيْلاً إذْ تناءتْ وأنْجدَتْ ... غدا يائساً منها فأتْهَم وانْحَطَّا
وله:
كأن به الشِّعْرَي الغُمَيْصَاَء خَلفَه ... شقيقته الخَنْساء يقدُمها صَخْرُ
كأن امْتدادَ الأُفْقِ فوق نُجومه ... قَساطِلُ حَرْبٍ زَغْفُ فرسانِها نَضْرُ
كأن عمودَ الصبحِ تحت هلاِله ... لتزْكيةٍ من تحت مِنْطقِه خَصْرُ
وله معميات في غايات الإتقان.
فمنها قوله، في اسم محمد:
رُبَّ ظبيٍ مُقَرْطَقٍ قد تبدَّى ... خلْتُ بدراً من فوقِه قد تلالاَ
لاح في الثَغْرِ جوهرٌ من ثنايَا ... هُ فأبْدى في الخَدِّ خالاً بِلالاَ
وقوله في هانىء:
حين بان الخَلِيطُ وازْدادَ وجْدِي ... قلتُ والدمعُ في الخدود يَسيلُ
يا رسوِلي إليه رُوحِيَ خُذْها ... مُنْجداً إثْرَهُ بها يا رسولُ
وقوله في سليمان:
لقد سقاني الحبيبُ كأساً ... لم أرْوِ منها ورُمْتُ أخرَى
فقال خُذْ ما بَقِي بكأْسي ... سُؤْرا وأحسِنْ بذاك سُؤْرَا
فعندما جاد لي بما في ... أواخِر الكأْسِ مُتُّ سُكْرَا
وقوله في رمضان:
في يَدِ الارْتهانِ عَيْني تملَّتْ ... بعد عَشْرٍ بطَيْفِ من قد تولَّتْ
مُذ أغارتْ وأنْجَدتْ بفؤادِي ... من رهينٍ لحيثما هي حلَّتْ
وقوله في صالح:
لم أَنْسَه وَسْنانَ يأسِر طرفُه ... عَرَضاً إذا ترك القلوبَ أسارىَ
صاد القلوبَ بطَرْفِه وقَوامِه ... من بعد ما قد حلَّ فيه ودارَا
وقوله في عبد اللطيف:
يالَساقٍ ناشِرٍ لْلأدبِ ... دار مَعْ طَيِّ بِساطِ الأرَبِ
لابسٍ من نَشْرِ ما دار به ... ثوبَ عَرْفٍ هزَّني للطَّرَبِ
وقوله في علي:
غَيْم رفيعٌ لم يكَدْ ... يبْدو لشمسِ الأُفْقِ حاجِبْ
فغَدا يُقِلُّ الشمسَ لِي ... نُ قَوامِه من غير حاجِبْ
وقوله في سليم:
ورْقاءُ قلبيَ قد أضحتْ مُرفْرِفةً ... على قَوامِك يا مَن طرفُه عَجَمِي
وإنها هبَطتْ منه على غُصُنٍ ... فغُضَّ طَرْفَك وارْسلْه إلى القدَمِ
وهذا في غاية المنعة، فلهذا تعرضت إلى حله، فأقول:(1/170)
أرادها من أنها بعمل التحليل وهي بستة، وبالعجمية شش، فإذا هبطت سارت سينا والغض الألف، وهي يك، ولها اللام بالعدد الحسابي من أبجد، وغض مرادفه كف، وهي بمائة، فإذا هبطت، لها الياء والميم من الغاية.
السيد عبد الكريم
هو منهم بيت القصيد، وواسطة عقد المجد النضيد.
تجسَّم من شرف محض، وكرم لا يحتاج خيره إلى خضٍ ومخض.
إلى ما حاز من أشتات الكمال، والمعالي المربية على الآمال.
وهو بعد أبيه النقيب، ومحله فوق المعلى والرقيب.
فمهما ترقى البدر فقاصرٌ عن مراقيه، والبحر لو عذب لكان بعض سواقيه.
وله مع النباهة روح الفضل وجسمه، ومن بشر أساريره ينهض أثر المجد ورسمه.
وبيني وبينه ودٌ مورث في الأعقاب، وحب خالد ما دامت الأحقاب.
ولي في كل لحظٍ منه أملٌ ينشيه ويعيده، وفي مرأى وجهه نوروز إذا مضى أقبل عيده.
وإذا أردت مدحه أرسلت نفسي وما تجود، فلا تنتهي عند وصفٍ من أوصافه إلا وتقول أحسن الموجود.
وأنا أرجو الله تعالى في كل ما يشاؤه، وأسأل له ما هو ما يدوم به ممتلئاً رشاؤه.
ولقد أوردت له من نفثاته السحرية، ونسماته الشحرية.
ما هو أحسن من نور تفتحه الصبا، وأوقع من خلسة الوصل في عهد الصبا.
فمن ذلك قوله:
لقد دعانا إلى الرُّبي الطَّرَبُ ... فأجبناه حسْبَما يَجِبُ
واستبقَنْا والشوقُ يجذِبُنا ... كأن أشْواقَنا لنا نُجُبُ
وشَمْلُنا والحظوظُ تُسِعدنا ... مُجتِمعٌ سِلْكُ عِقْدنا الأدبُ
فحَلْلنا منها بمُرتَبَعٍ ... وهو للرَّائين مُنْتخبُ
وقد حبانا الربيعُ مقْتِبلاً ... بمزاياه والمُنَى نُخَبُ
فالروضُ مُخْضلَّةٌ ملابسُه ... تجمَّع الحسنُ فيه والأرَبُ
وقد تناغَتْ به بَلابُله ... فمنهمُ فاقِدٌ ومصطحِبُ
وموكبُ الزَّهْرِ في حدائقِه ... مُنْتَزه بالعيونِ مُنْتهَبُ
تُظِلُّ مَغْناه وهْو مُزدهِرٌ ... قِبابُ نَور كأنها سحُبُ
يُنْعشنا العَرْفُ من شَمِيمِهما ... ومثل هذا العبيرِ يُكتسَبُ
والْمَرْجُ رَحْبُ الفِناء مُصْطحِبٌ ... عليه ذَيْلُ النسيمِ مُنْسحبُ
تخاُله من زَبَرْجَد نَضِرٍ ... بحراً غدا بالنسيمِ يضْطربُ
يشوقُنا حسنُه ومنظرُه ... يَسُرُّنا حيث زانَه الخصبُ
ولا نْسكابِ المياهِ حسنُ صَدًى ... يرقُص عند اسْتماعِه الحَبَبُ
فمُذ نَعِمْنا بذا وذاك وقد ... تكنَّفتْنا بفَيْئها القُضُبُ
أخصَب رَبْعُ المنى وطاب به ال ... عيْشُ لنا واسْتفزَّنا الطَّربُ
فعاد للوجْدِ مُدْنَفٌ طَرِباً ... وهكذا مُدنَفُ الهوى طَرِبُ
ومال وَفْقَ الهوى وحُقَّ له ... ذلك إذْ ليس ما به لَعِبُ
وراح يُمْلِي غرامَه ولَهاً ... في غَزْلِ رَقٍّ صَوْغُة عَجَبُ
ومن يكن بالغرامِ مُمتَحَناً ... ولا غَرْوَ بالشوقِ قلبُه يَجِبُ
يا بأبِي مُتْرَفٌ ألِفْتُ به ال ... وَجْدَ وما غير مِحْنَتِي السَّببُ
أطعْتُ فيه الهوى ومَعْدِنُه ... بمِغْنَطِيسِ الجمال مُنْجذِبُ
جمالُه فتنةٌ لذِي نُسُكٍ ... مُهذَّبٍ زان حُسْنَه الأدبُ
تمازجَ اللطفُ والعفافُ به ... كذا لَمَي الثَّغْر منه والشَّنَبُ
بَدْرٌ مُحيَّاه ما به كَلَفٌ ... برَوْنَق الحسنِ راح ينْحجِبُ
وقَدُّه السَّمْهَرِيُّ من مَرَحٍ ... ما اهْتزَّ إلَّا ازْدَهتْ به القضُبُ
وما بطَرْفٍ رَنَا لوامِقِهِ ... إلا وسهمُ اللِّحاظ مُنْتشِبُ
شَهِيُّ لفَظٍ تكاد رقَّتُه ... تسْتِرقُ الَّلبَّ وهْو مُحْتجِبُ(1/171)
مَنطقُه مُسْكِر لمستمعٍ ... وسُكْرُنا من سماعِه طَرَبُ
قد مُنِحتْ بالجمال صورتُه ... وقد مُنِحْتُ الهوى ولا عَتبُ
أوْسَعَنِي فيه حبه وَلَهاً ... وليس إلا هواه لي أرَبُ
وقد أبي غيرَ مُهجِتي سكَناً ... وهْي له مَرْتَعٌ ومُنْقلَبُ
فلا خَلاَ من هواه لي خَلَدٌ ... وذاك بيْني وبينه نسَبُ
وقوله:
لا وصدق انْتِما المُحبِّ الودودِ ... لغرامٍ سما به للسُّعودِ
ونُزولِ الحِمَى وقد طال نَأْيٌ ... باشْتياقٍ نما من المَعْمودِ
وارْتِضاعٍ لما جلَتْها أكَفٌّ ... خضَبتْها دِما ابنةِ العنقودِ
وارْتشافِ اللَّمَى ولَثْم الخدودِ ... واعْتناقِ الدُّمَى ذواتِ النُّهودِ
ما الهوى بي كما يظُنُّ جَهولٌ ... بل غرامى بما عليه شُهودي
وقوله:
لستُ إلا كَلاًّ على إشْفاقِكْ ... فبرُحْماك جُزْ على أخْلاقِكْ
وأعِدْ نظرةَ الحنان ليَهْدَا ... رَوْعُ من لم يزل على مِيثاقِكْ
وارْعَ وُدّاً رضِيتُه منه حاشَا ... نَبْذُ وُدٍّ أتى على مِصْداقِكْ
إن قلباً حلَلْتَه عَرَضٌ أنْ ... تَ به جوهرٌ على إطْلاقِكْ
كيف يرضَى دون التَّمَلِّي بلُقْيَا ... كَ محبٌّ إقالةً من وَثاقِكْ
وقوله أيضاً في الغزل:
امْنَحِ الطرفَ منك طَلْقَ العِنانِ ... لاجْتلاء الورود في الأغصانِ
والثَمنْ باللِّحاظ منه خدوداً ... صِبْغُها من صنائع الرحمنِ
واغتنمْ طِيبَ وقْته فلَعَمْرِي ... إنَّه غُرَّةٌ بوجهِ الزمانِ
فانتهِزْ فيه فرصَةً لأمانِي ... كَ وحسْبُ الشَّجْيّْ نَيْل الأمانِي
حيث وجهُ الزمان طَلْقٌ ورَيْعا ... ن التَّصابِي إقْبالُه مُتدانِي
وبحيث المُنى يَسُرُّك منها ... ما تدانتْ قِطافُه للْبَنانِ
واصْطحِبْ للنّدام كلَّ مُجيدٍ ... لقِصار الفصولِ ذات المعانِي
ألْمَعِيٍّ حُلْوْ الحديث يُجاري ... ك بما تشْتهِيهِ ذي تِبْيانِ
واصْطَفِ للغناء كلَّ طَروبٍ ... ناعمِ الصوتِ مُتْقِن الألحانِ
يُوسِع السمعَ شَدْوُه طَرباً والْ ... قلبَ شَجواً بأنَّةِ الألحانِ
واغْنَ يا صاحِ قبل فَوْتِك واسْتجْ ... لِ عَرُوساً بمُطْرباتِ الأغانِي
واحْتسِيها عذراءَ كاساً فكاساَ ... يتلاَلاَ حَبابُها كالجُمانِ
يتَهادى بها إليك غَرِيرٌ ... خَنِثُ اللَّحْظِ فاترُ الأجْفانِ
لَيِّن العِطْفِ يسْتَبيك إذا ما ... قام يخْتالُ مثلَ خُوطِ الْبانِ
يُشْبه النَّوْرَ منه رَوْنَقُ وجهٍ ... وترى الخدَّ منه كالأُرْجُوانِ
واجتنِ للْمَشامِّ من يانِع الزَّ ... هرِ صنوفاً من روضِك الفَيْنانِ
واطْلقِ العودَ في المَجامِرِ والنُّدْ ... مانَ حَيِّ بماءِ وردِ القِنانِ
فلَعَمْري هذا هو العيشُ فاغْنَمْ ... فسِوى اللهِ كلُّ شيءٍ فانِ
وكتبت إليه أمدحه بقولي:
كتمتُ هواه لو يُفِيد التَّكَتُّمُ ... وكيف ودمعُ العين عنه يُتَرْجِمُ
لك اللهُ قلبي كم تُقاسي لَواعِجاً ... لها في الحشَا نارٌ من العشْق تُضْرَمُ
بُلِيتُ بقاسٍ لا يزال يُذِيقني ... من الصَّدِّ ما لم يلْقَه قبلُ مغرمُ
فسلَّمتُ قلبي طائعاً غيرَ أنني ... أُؤخِّر رجلاً في الهوى وأقدِّمُ
وما كنْت أدري أن للعشقِ فتنةً ... وأن اجْتنابَ الشرِّ للحُرِّ أسْلمُ
فلما رأى وجْدي عليه تغيَّرتْ ... خلائقُه ثم انْثنى يتحكَّمُ(1/172)
وصَدَّ وجازاني على الوُدِّ بالقِلَى ... وأعْرض عني وهْو بالحال يعلَمُ
وبَدَّل مِيثاقي وأضْحى مُجانباً ... يمُرُّ فيَثْني عِطْفَه لا يسلِّمُ
وأَغْدق دمعي وهْو ماءٌ مُمنَّعٌ ... وحَلَّلَ قتْلي وهْو أمرٌ محرَّمُ
عفا اللهُ عنه من بخيلٍ بقُرْبِه ... وسامحه من ظالمٍ ليس يرحمُ
أُقضِّي به عمري مع اليأسِ والمُنى ... ولي من عَذُولي كلَّ وقتٍ مُهيِّمُ
أبِيتُ أُعاني الوجدَ ليلة لم أكُنْ ... بغيْرِ ثَنا فَرْدِ الورى أترنَّمُ
عَنيتُ النقيبَ السيد السَّنَد الذي ... غدا مثلَ بسم الله فهْو مُقدَّمُ
وحيدٌ له الأفْضال طبعٌ وشِيمةٌ ... وفيه انْتهى جودُ الورى والتَّكرُّمُ
إذا كان نُور الشمس لازِمَ جِرْمِها ... فطلعتُه الزهراءُ نُورٌ مجسَّمٌ
ونادِيه روضٌ بالفضائل مُزهِرٌ ... لسانِيَ فيه البَلْبُلُ المترنِّمُ
تُعطِّر هّبَّاتِ النسيمِ خِلالهُ ... فليْست بعَرْفٍ غيرِها تتنسَّمُ
ويفْترُّ عن لأْلاءِ بِشْرٍ كأنه ... مُقبَّلٍ شَادٍ ألْعَسٍ يتبسَّمُ
أمولايَ أنت الناسُ يا فوق فَوْقهم ... لأنَّك للطلاب رزقٌ مقسَّمُ
هواك بقلبي ليس يبْرَح لحْظَةً ... به أبْتدِي الودَّ الصحيحَ وأخْتِمُ
ولي في عُلاك الباهر المجْدِ في الورى ... عقودُ كلامٍ بالثناء تُنظَّمُ
قَوافٍ إذا ما أُنشِدتْ بين أسرةٍ ... فقُسٌّ لديْها بالفصاحة أبْكمُ
وما هي إلا الزّاهراتُ فلو بدتْ ... لقامتْ مقام الزُّهْرِ والليلُ مظلِمُ
تمتَّع بها من مادحٍ ليس يرْتجِي ... من الدهرِ شيئاً غيرَ أنَّك تسلَمُ
وحسبُك شُكْرِي ما بقيتُ على المدى ... وقلبي وأعْضائي تصدِّق والفَمُ
فكتب إلي مراجعا بقصيدة على رويها، وكنت مريضا، وهي:
حسْبُ المُنى حيث الحوادثُ نُوَّمُ ... وحواسدِي وعواذِلي واللُّوَّمُ
وافْتنِيَ الحسناءُ في دَاجِي ذَوا ... ئبِها وللأشْواقِ فيَّ مُخيَّمُ
عذراءُ وافَتْ وهي تخْترق الضِّيا ... من وجهِها مُذْ لاح فيه تبَسُّمُ
فتعطَّرت منها الرُّبوعُ وفاض في ... أنْحائها منها السَّنا يتنَسَّمُ
ولَطالَما راقبْتُ من وَلَهِي بها ... طَيْفاً يُلِمُّ بزَوْرة تُتغنَّمُ
ومن اغْتذى ضَرْعَ الهوى هل عَيْنُه ... يوماً بتَهْويمِ الكرَى تتنعَّمُ
كَلاَّ إِذا الأحْشاء خامَرَها الهوى ... قِدْماً فلاَعِجُه بها متضرِّمُ
وافتْ فحُقَّ ليَ الهناءَ بها كما ال ... واشون حُقَّ لهم بذاك توغُّمُ
فغدوتُ ذا طَرَبٍ قريرَ العين سِلْ ... كُ الشَّمْلِ بالاحباب لي مُتنظِّمُ
لا بِدْعَ أن أزْهُو إذاً وأجُرُّ ذَيْ ... لَ العُجْبِ تِيهاً والهوى أتهكَّمُ
وأمِيدَ نَشْواناً بكأسِ حديثها ... وثناءِ ناظِم عِقْدها أترنَّمُ
لِم لا أكنْ بثَنائِه مُترنِّماً ... وهو الأمينُ وبالمُنى المتكرِّمُ
الأرْيَحِيُّ المَكرُمات ومن حوَى ... حسنَ الحُلا فيها غدا يتوسَّمُ
رَبُّ الفصاحةِ والنباهةِ مَن غدا ... وله من الفضل الجسيمِ تجسُّمُ
ما اللطفُ في النَّسَمات إِلا من كَرِي ... مِ خِلالِه وبعَرْفها تتنسَّمُ
تخِذَ التَّطوُّل بالمكارِم عادةً ... فكأنه كِلفٌ بذاك مُتيَّمُ
لا غَرْوُ أن ملأتْ محامدُه المسا ... مِعَ واسْتلذَّ سماعَها المترنِّمُ
يافرعَ أبناءِ الكرام ومَن لهم ... في كل مجدٍ رُتبةٌ وتقدُّمُ(1/173)
بُشْراك ما أُوتِيتَ من أجْرٍ بما ... عاينْتَ من وَصَبٍ عِدَاك يُيِّممُ
فتهَنَّ مأجوراً ومسروراً بعا ... فيةٍ أتتْك فلا عدَتْك تعمّمُ
وعَدَتْك أسْقامٌ عَنَتْك وللعِدَى ال ... عادِين وافتْ بينهم تتقسَّمُ
وبِقيتَ في ظلِّ التَّهانِي سالماً ... والعيشُ مُخَضرّاً لديْك مُخِّيمُ
وإِليْكَها قُسِّيَّةً ألفاظُها ... كالدُّرِّ في سِلْكِ الثناء تُنظَّمُ
جادت بها منِّي قريحةُ مُوقِنٍ ... بجُمودها إِذ جاء منك مُهيِّمُ
فاعذُر وكن بثنائها متمتِّعاً ... حسَب المُنَى حيث الحوادثُ نُوَّمُ
فكتبت إليه معتذراً عن مراجعته بقصيدة: لعارض المرض، وما أقول إلا كما قال الديباجي: كلامي في خطابه مماثل لانعكاس الناظر، ورد الفوارة ماء الغمام الماطر:
ليس فَمي فيك يبلغ الشكرَا ... من بعد ما قد ملأْتَهُ دُرَّا
بعثْتَ لأي بالحياة في كَلِمٍ ... يزيد في العمر لطُفها عُمْرَا
من كل لفظٍ في اللفظِ أحسَبُه ... ينفُث هاروتُ منه لي سِحرَا
لم تصْطنِع جَبْرَك القلوبَ لمن ... يدعوك إِلاَّ وتقْتني أجْرَا
يا من هو الروضُ في خلائقِه ... يَعْبَق من نَسْمةِ النَّدَى نَشْرا
شَوْقى لتقْبِيل راحتْيك لقد ... جاوزَ حتى لم يُبْقِ لي صَبْرَا
لكنَّ عُذْرى إليك مُتَّضِحٌ ... فاقبَلْ حَماك الإله لي عُذْرَا
فبعث إلي بهذه الأبيات:
أيُّها المُوسِعُ المنى بِشْرَا ... دُمْتَ تْستنِطق اللَّهَي شُكْرَا
ودام ثغرُ الوِاداد يْبَسم من ... بِشْر مُحيَّاك لافِظاً دُرَّاً
وحبَّذا منك ذا لآملهِ ... فْهو لَعَمْري ينافِس الشِّحْرَا
لقد منحت المُحِبَّ منك بما ... أثْلَج منه الفؤادَ والصدرَا
مِن كل لفظٍ في اللطفِ أحْسَبُه ... ينفُث هاروتُ منه لي سِحْرَا
فدُمْ لنا روضةً نُسَرُّ بها ... ومِن رُباها نسْتنشِق العِطْرَا
وفيك ما دامتْ لنا الُمَنى أَمَمٌ ... إن نْلتُها كان لي بها البُشْرَى
وكتب إلي يستدعيني إلى منتزه:
أنعم اللهُ للْجناب صَباحَهْ ... وبإسْعادِه أراش جناحَهْ
وحَبانَا حَسْبَ المُنى بأمالي ... هـ وآدابِ فضْله المستباحَهْ
وأقرَّ العيونَ منَّا بما مِن ... غَضِّ آدابهِ أجاد اقْتراحَهْ
يا أمينَ الكمال وابنَ ذوي الفضْ ... لِ وخِدْنَ العُلى ورَبَّ الفصاحَهْ
لا عدِمْتُ الوفاءَ منك بأوفى ... صِدْقِ عهد يُجدِي إلىَّ نجاحَهْ
فأجِبْ داعياً إلى منزلِ القصْ ... ف صباحاً لكي ننال رَباحَهْ
مُسْعِداً حظَّه ببِشْرٍ ولُطفٍ ... بهما الصدرُ راح يلْقَى انْشِراحَهْ
وابْقَ سَلْماً خَدِيمُك السَّعْدُ ما أسْ ... عَد خِلُّ إلى خليلٍ صباحَهْ
فخطابته مرتجلاً:
أسعد اللهُ من تكون صباحَهُ ... فمُحيَّاك للصباحِ صَباحَهْ
بأبي أنت وأمي رائِشاً لجناحي ... في زمانٍ عدمْتُ فيه نجاحَهْ
كان قِدْماً جوادُ حَظِّي جَمُوحاً ... فلأنْتَ الذي أزَحْتَ جِماحَهْ
قد أتْتني أبياتُك الغُرُّ تخْتا ... لُ وقد أُوِتيَتْ جميعَ الملاحَهْ
مُبْدَعاتٍ لا يبرحُ الطرفُ عنها ... فهْى قَيْدُ النَّواظر اللَّمَّاحَهْ
كلُّ لفظٍ منها كوُسْطَى نِظامٍ ... زَيَّن العقْدُ منه جِيد الفصاحَهْ
قد دعتْني إلى اغْتنام عُهودٍ ... أنا منها في غِبْطةٍ وارْتياحَهْ
ألْفُ سَمْعٍ وطاعةٍ ولك الأمْ ... رُ الذي ما برحْتُ أرجو نجاحَهْ(1/174)
وابْقَ واسْلَمْ على المَدى لمُحِبٍّ ... لك يدْعُو غُدُوَّه ورواحَهْ
وعزم يوماً على التنزه في حديقة اتخذها مألف نشاطه، ومحل أنسه وانبساطه. فكتب إلى يستدعيني:
نتفدَّاك مُسْتماحَ الوِدادِ ... ثابتاً في حِفاظِه كودادِي
مُستباح الجَنى وطَلْقَ المُحيَّا ... ذا جَنَانٍ رَحْبٍ وبِشْرٍ بادِى
يا كريماً خصالهُ تجْذب الآ ... مال طبعاً لفضلِه المستفادِ
إثْمِدٌ للعيون بِشرُ مُحيَّا ... ك فكن مُفْضِلاً بذاك مُهادِي
وأجبْ مسعداً بلُقْياك داعٍ ... شَفَّه الشوقُ فهْو بالمِرْصادِ
وابْقَ سَلْماً ممتَّعا بأما ... نِيكَ على رَغْم مَعْطِسِ الحُسَّادِ
ما تداعَتْ إلى التَّدانِي أمَانٍ ... من مَشوقٍ أشواقُه في ازْديادِ
ولما قدمت من الحج كتب إلي، فأهدى لي البدر من بيت شرفه، والعيش في نضرة ترفه:
بُشْرَى بمَقْدَمِ خيرٍ منك مسعودِ ... أهْدَى لنا رَوْحَ أُنْسٍ منك معهودِ
أعاد أُنْسَ تدانينا وأسْعَدنا ... بعد التَّباعد حيناً في ذُرَا الجُودِ
فلْيَهْنِ معشرَ أحْبابٍ وحُقَّ لهم ... بأن يُهَنَّوا ببشرٍ منك مشهودِ
كما يحقُّ هَناءٌ للْجَناب بما ... رَوِيت من زَمْزم المُشْفِى لمقْصودِ
بُشْراك بشراك ما بُلِّغت من نِعَمٍ ... وما نعِمْتَ به من فضلِ مَعْبودِ
مُخَيِّمٌ بمِنًي حيث المُنى أَمَمٌ ... قريرُ عينٍ بموجودٍ وموعودِ
ُمتمِّماً بطَوافٍ نُسْكَ حَجِّك مَقْ ... رُوناً بحسْنِ قَبولٍ غيرِ مردودِ
مُيَمِّما سيِّدا مَن زاره وجبتْ ... له الشفاعةُ حقّاً غير مَجْحودِ
عليه أفضلُ ماصلَّى الأنامُ على ... جنَابِه مِن صلاةٍ عِدْلَ معدودِ
تُتْلى بأوْفى سلامٍ والرضا أبداً ... يَنْدَى على آلهِ والصحبِ بالجودِ
مُثْنٍ عِنانَك فوراً نحو طَيْبتِه ... عَوْدا لأحمد إذ هُو أحمدُ العودِ
فمن تطيَّب من دَارِيِّ تُرْبتِه ... يَشْتَمُّ ما عاش عَرْفَ المسكِ والعودِ
واُبْشِر بَحْمدك في الأخرى سُراك غَداً ... فما السُّرَى عند صُبْحٍ غير محمودِ
ودُمْ حَلِيفَ مَسَّراتٍ خَدِينَ تُقيً ... في ظلِّ سعدٍ نَدِىِّ العيشِ مَمْدودِ
واعْذُر أخاك بما أبْدتْ قريحتُه ... من رَوْح أُنْسِك لا من مثل جَلْمُودِ
واعْذُر تأخُّر خَجْلَي دون موعدها ... فما القضاءُ بمنْكورٍ ومجْحُودِ
فلا برحْتَ نعبمَ البْالِ مقتنِصاً ... بِيضَ الأمانِي بسَعْدٍ غير مورودِ
وردت علينا سنة من سني يوسف لم تدع للأنس وقتاً، ولم تبعث إلا إساءة ومقتا.
فأقبل الربيع وولى، ولم ندر أجاء أو لا.
وقد طمست آثار المسرات، عند ما قامت نوائب المضرات.
فذكرت أوقاتي معه، حيث مآربي به مجتمعة.
تشرف بحلاه، وتبتهج بعلاه.
وكان وعدني بإرسال بعض قطع، من نظمه المبتدع.
فكتبت إليه: رقعتي إلى الحضرة الشريفة صدرت عن ذهنٍ كليل، وحدٍ فليل، وقلقٍ كثير، وتصبر قليل.
وخاطر منقبض، وأسًى في الصدر معترض.
كيف والأنس تقلص ذيله، وأظلم دون الأمل نهاره وليله.
وهيض عضده، وغيض ثمده.
فليبك عليه الباكي، وليبث ما يجده من فقده الشاكي.
فهذا الورد كما جاء راح، وما تعطر به مجلس راح.
فهو لذلك شق جيبه بل قلبه حزنا، واستعبر حتى فقدت دموعه، فاستنجد للبكاء طلاً ومزنا.
وغطى رأسه بأكمامه، خجلان من سماجة أيامه.
وكان يقال له: اختشى ألم القطع فاحتسى الزعفران، وأما الآن فقد احتساه ليغيب حواسه عن آلام الزمان.
بل سمع بالنار تتسعر لاستقطاره، فناشد بأن يجعل بقبض روحه وألا يعذب باستنظاره.
وما زال يستجير من جور الدهر الخؤون، إلى أن رق له النسيم وحنت عليه الغصون.
فهذا حال الورد وهو زهر، فكيف حال صبٍ يدري مواقع الدهر.(1/175)
تذكرك عهوده الماضية، أيام كان بخدمتك في العيشة الراضية.
وأنت تغنيه بنضارة لفظك عن الورود المتنوعة، وبفنون حفظك عن الطرف المتجمعة.
فأي عيشٍ له بعدها يطيب، ولا روضٍ صباه مخصب ولا غصنه رطيب.
فإن رأيت ولك الرأي أن تتلافى في بعض رمق، فلتهدلي الحياة من أشعارك الغضة في طبق.
لأستبدل بها من صدأ لهم صقالا، وأفرج بها عن فكرتي ارتباطا واعتقالا.
فتعود كهولتي صبا، وتهب ريحي صبا.
فعندها أقول للأمل: دع الأيام تكن غضابا، إذا ما اجتنيت من هذه المشافهة رضابا.
فمهما مننت، تطولت وأحسنت.
فالوقت إساءةٌ أنت إحسانه، وناظر ليس إلا أنت إنسانه.
فالله يبقيك ما انهشت بك أساريره، وقامت بك عن ذنوبه معاذيره.
فراجعني بقوله: سيدي الأمين، ومؤيدي في كل حين.
حرس الله تعالى من الغير حصن جهاتك، ومن الكدر صفو أوقاتك.
وتولى حفظ ملكي ذاتك، وصون مضافاتك من كل فاتك.
وشرح منك وبك الصدور، وأنعم منك وبك البال وحباك السرور.
لا زلت تحيى بروح تلافيك التياحي، وتحبي بريح تلافيك ارتياحي.
فلقد وايم الله أوليت من صنيعك منه بما أمليت، فكأنما بلساني نطقت وعما أعربه جناني أعربت.
فصديقك في الحال قد واساك، ورفيقك في المجال قد ساواك.
غير أنه وجم عن بث أحزانه، من تقلب وقته وانقلاب عيانه.
يقول إيهِ وقد وجَمْتُ ومَن ... يَنْطق أو من يُطِيق مُحْتِملاَ
كيف وقد تقلص من الوقت ذيل أنسه، وصار من المقت يحسد يومه لأمسه.
واعتاض مستامٌ جميل عوائده، بصفقة الخسران من فوائده.
فهاك الود زاد فيه برهة وجلا، وعاد سرعةً نادماً خجلاً.
فحق له ما به قد وصفته، بل وإن لم يعد لمثلها لكنت أنصفته.
هذو وهو زائر مجتاز، فما حال من هو لمواقع دهره الظلوم مجاز.
تعرض مجتازا فكان مذكرا ... بعهد اللوى والشيء بالشيء يذكر
فياله من مذكر مصيب، قد حبانا من مآثره بأوفى نصيب.
حيث ذكر الفطنة السليمة، بسوابق عوائدها الكريمة.
فجاءت جريا على العادة، بما استوجب منى الشكر وزيادة.
فعند ذلك تنفست نفس المصدور، وهنالك نشطت كما نشط المخمور.
وامتثلت الطلب، حيث كان عين الأدب.
واستدعيت القريحة الخامدة، واستنطقت الفكرة الجامدة.
فأبدت هذا القول، حيث علمت بأن العذر عندكم مقبول:
أرْغدُ العيش ما وفَاك زمانُهْ ... وتواخَاك يا أُخَيَّ أمانُهْ
وصفا مَشْرب التأنُس واستدْ ... عتْك للقصف والهنا إخْوانُهْ
وتدانتْ به الأماني وأزْرت ... بالثُّريَّا في نَسْقِها نُدمانُهْ
وتداعَى من المحبِّ حنينٌ ... وتدانَى من الحبيب جَنَانُهْ
فغَدْوا والمُنى لهم أمَمٌ يحْ ... سنُ كلٌّ شكراً لمنْ ذا امْتنانُهْ
هكذا العمرُ يُستفاد وحقّاً ... يُستجاد احْتسابُه وبيانُهْ
با حبا الّله بالأحبَّة مَغْنىً ... فَيَّأَتْ غصنَ روضِه أفْنانُهْ
هو للقصْف منزلٌ مستطابٌ ... طال ما ضمَّ شمْلَنا فَيْنانُهْ
جاور السفح فاكْتسى عاطرَ النَّ ... فح فأضْحى ذاكِيَ الشَّذى رَيْحانُهْ
فرَعَى اللهُ سالفَ العهد منه ... حيث لي بالسعودِ كان اقْترانُهْ
وأمانينا تبادرنا مُسْتبقا ... تٍ والعيشُ طَلْقٌ عِنانُهْ
وأماليك تُستفاد وآدا ... بُك روضٌ يشُوقنا عُنْوانُهْ
حيث كانتْ تَنْدَى أراكةُ حظِّي ... من نَدى لفظِك الشهىِّ وِزانُهْ
فسقى الّلهُ بالحيا ذلك السَّ ... فحَ وحيىَّ عهودَه رِضْوانُهْ
وحبانا منها بأحمدِ عَوْدٍ ... وأرني بك المُنى إحْسانُهْ
السيد إبراهيم
صغيرهم الذي هو فذلكة حسابهم، والجامع الكبير لما تشعب من بحر أنسابهم.
وله الاطلاع الذي يخفى عنده صيت ابن السمعاني ويعدم ابن العديم، والرواية التي يشفع حديثها قديم الفضل فالحديث يشهد بفضله القديم.
وقد طلع من هذا الفلك بدراً تستمد منه البدور، وحل من المجد صدراً تنشرح برؤيته الصدور.(1/176)
وعنى بالرحلة من عهد ريعانه، فسطع نور فضله بين إشراق الأمل ولمعانه.
وهو أينما حل حلا، وحيثما جل جلا.
والقلوب على حبة متوافقة، وأخبار فضله مع نسمات القبول مترافقة.
وكنت لقيته بالروم أول ما حليتها، فسريت كربتي في تلك الغربة بلقائه وجليتها.
ونْسِيتُ ذنبَ الدهر لما رأيتهُ ... ودهرٌ به ألْقاه ليس له ذنْبُ
وهو الآن بدمشق مقيم، بين رَوْح وريحان وجنة نعيم.
تحيته فيها سلام، وآخر دعواه إجلال واحترام.
رغبته إلى التوسع في المعلومات ممتدة، ونفسه باقتناء محامد المعلوات مشتدة.
وله في الأدب بسطه وباع، وشعر متحلٍ برونق وانطباع.
فما رويته من نظمه الذي أتحفني بإملائه، وجلا عن مرآة فكري صداها باجتلائه. قوله من قصيدة يذكر فيها نسبه ويفتخر:
غيري الذي يْستام ربْحَ تَدانِ ... بمذلَّةٍ هي صفْقة الخُسْرانِ
ومن الردَى أن أرْتضى بمذلةٍ ... وخلائقي تسمو على كِيوانِ
وأُضيعُ حقِّي والشهامة شِيَمةٌ ... متَّتْ إلىَّ من النَّبِي العدنانِ
الهاشمِيِّ محمدٍ مَن قد رقَى السَّ ... بْعَ الطِّبَاقَ وخُصَّ بالقرآنِ
وبابنِ عمِّ المصطفى نَسبي سماَ ... أعْنى عليًّا سيدَ الشجعانِ
وبَفرْعه سِبْطِ النَّبِي مجْدى نمَا ... أعنى حسيناً سيدَ الشبانِ
وبزَيْن عُبَّاد الإلهِ وباقرٍ ... وبصادقٍ فخْرى على الأْقرانِ
وكذا بإسماعيلَ ثم محمدٍ ... وكذا بإسماعيل وهْو الثانِي
وبأحمدٍ ثم الحسينِ وفَرْعِه الس ... امِي نقيبِ دمشقٍ الحَرَّانِي
أعْنِى به إسْماعيلَ ثم بفرعِه ... أعنى الحسينَ العارفَ الرَّبانِي
ثم الشجاعِ علىَّ من حاز التُّقى ... وبناصرِ الدين الرفيعِ الشانِ
ومحمد النَّسَّابِة الشهمِ الذَّكِى ... وبحْمزٍة ذي الفضل والعرفانِ
وبذي التُّقى الحسنِ البهىِّ وفَرْعِه ... أعنى عليّاً قدوةَ الأعيانِ
وبحافظِ العصرِ الهُمام محمدِ الْ ... مدْعُو بشمسِ الدين ذي الإتقانِ
وعلىِ نقيبِ دمشقَ مُسنِد عصرِه ... وبأحمدَ السَّامي بحُسْن بَيانِ
وبحمزةٍ ذي الفضل والتأْليف في ... علم الحديثِ وحافظِ القرآنِ
ومحمدِ المدعُو كمالَ الدين مَن ... رحلتْ له الطلابُ من بَغْدانِ
مفتىِّ دارِ العدل ثم مُحِّققِ الْ ... عصِر الحسينِ وفارس المْيدانِ
أعنى محمداً النَّقيِبَ بجلِّقٍ ... ومحمدٍ وهو الكمالُ الثانِي
أعنى نقِيبَ دمشقَ جدى مَن سماَ ... بنصيحةٍ لله في الإعْلانِ
وبوالدي الحَبْرِ الهمام محمدٍ ... من فاق في تحْقيقِه الجُرْجانِي
وهو النقيبُ بجِلِّقٍ أيضاً ولِى ... عِزٌّ بَموْلى عزِّه أسْمانِي
مولاي مَن عزَّ الذليلُ ببابِه السَّ ... امِي مُفيضُ الفضلِ والإحسانِ
مفتى الأنامِ محمدٌ مَن قد رقَى ... بذُراهُ فخراً مذهبَ النُّعمانِ
فردُ الزمانِ وواحدُ العصر الذي ... وافتْ له الفتْوى ولا مِن ثانِ
واللهُ حقَّق ما رجوْتُ بفضلِه ... فالعزُّ عزِّى والزمانُ زماني
واللهَ أرجو أن يديمَ له البقاَ ... ويقِيه من شرِّ الزمان الجانِي
ومحاسن هؤلاء الاخوان، لم يتمتع بمثلها أوان، وأدبهم كنبت الأرض ألوان: فلنصرف عنان الإطاله، ونسلم على السيادة الطاهرة الأصالة.
ولى من فصول الكلام، قصيدة في مدح آل رسول الله عليه الصلاة والسلام.
وكان سبب إنشائها ذكرى لهؤلاء العصابة وفي ظنى أني قدحت فيها زندالإصابة.
فعن لي أن أذكرها هنا لهذا السبب، وأنا متوسل إليهم بفضل النسب.
والقصيدة هي هذه:
ما ضَرَّه لو كان عَلَّل بالمَنى ... فلقد رضيتُ ولَذَّ لي فيه العَنَا(1/177)
اليأسُ أقْتل ما يكو لذى الهوى ... فعسى نُداوَى بالمنى ولعلَّنَا
بل ما عليه لو سَخَا بخياله ... فيزورَ في بعض الليالي مَوهِنَا
زُرْ يا خيالُ ودعْ مراقبةَ العِدى ... فلَك الأمانُ لقد تساويْنا ضَنَى
ولقد خفِيتُ عليك فاطلبْ مَضْجعي ... فوسادتي تَهْدِيك أنِّى هاهنَا
أوْلَا فمُرْني أن أزور كزَوْرتي ... والدارُ بالجَرْعاء جامعةٌ لنَا
قل للذي نزل الغَضَا مُتباعِداً ... عنِّي وكان له فؤادي مسكناَ
هذا الغَضا قلبي وسَفْحُ محَاجِري ... يجرى العقِيقُ وذي ضُلوعي مُنْحنَي
ولقد عنَيتُ رشاً تخِذْتُ تولُّعي ... فيه إلى صدقِ الوفاء تديُّنَا
بدرٌ إذا شبَّهتُ باهرَ حسنِه ... بالبدرِ كان الوجهُ منه أحسنَا
نَشْوان من خمرِ الشَّبِيبة والصِّبا ... لحَظاتُه شَرَكُ العقول إذا رَنَا
إن مرَّ بالأغصان خَرَّتْ رُكَّعاً ... لقَوامه أو بالقَنا فضَح القنَا
ما أبْدع الرحمنُ طلْعةَ وجهِه ... إلا ليُودِعها الجمالَ المُمْكِنَا
جسدٌ يسيلُ لطافةً كالماءِ من ... تَرَفٍ أرَقَّ من الحرير وألْيَنَا
ستَر الجمالُ خُدودَه بعوارض ... قتَل النفوسَ بها وأحيْىَ الأعيُنَا
والشمسُ يمنعها اجْتلاها أن تُرَى ... فإذا اكْتستْ غيماً رقيقاً أمْكنَا
نادمْتُه والراحُ يعطِف عِطْفَه ... كالغصنِ يعطِفه النسيمُ إذا انْثنَى
متألِّفَيْن على الصَّبابة والهوى ... مُتَسرْبِليْن ردا الأمانةِ والمنَى
حيث الزمانُ كما نحبُّ وخُلْقُه ... سهلٌ وليس كأهْلِه مُتلوِّنَا
حتى تغيَّر عن حقيقةِ حاله ... وبطبْعِه أعْدَتْه أولاد الزِّنَا
وعفتْ رسوم الودِّ وانْقَشع النَّدَى ... فالعيشُ قَفْرُ الرَّبْعِ مُغْبَرُّ الفِنَا
والدهرُ قد عمَّتْ مواقعُ خَطْبِه ... من لم يكن يجْنِى الذنوبَ ومَن جَنَى
كلٌّ على مِقْدارِه أخْطارُه ... فأحقُّهم بالمجدِ أكثرُهم عَنَا
ما ماسَ في بُرْدِ المعالي ناعماً ... إلا الذي لبِس العَجاجَ الأدْكَنَا
رُوحِي فِدَا نفَرٍ بصبْرهمُ على ... نُوَب النوائبِ أحْرزوا فضلَ الثَّنَا
بلغتْ بهم عَلْياؤُهم رتباً غدا ... منها السناءُ مُفرَّعاً وكذا السَّنَا
وإذا دعا داعٍ بياخَيْرَ الورى ... كلٌّ يقول مرادُ ذا الداعِي أنَا
وإذا العُلَى علِقتْ بغير حبالِهمْ ... رُمِيتْ وحاشاها بمشْنُوِّ الثنَا
لا تقدرُ الفصحاءُ تحصُر فضلَهم ... لو أن ذَرَّ النملِ كانت ألْسُنَا
طالُوا السِّماكَ فمن أراد لَحاقَهمُ ... أوْمَتْ مَساعِيه اليه قِفْ هُنَا
لم تنتج الزَّهْراءُ إلا أزْهراً ... وشرافة الحسنيْن إلاَّ مُحْسِنَا
يا سادتي يا آلَ أحمدَ مدحُكمْ ... فرضاً يَراه مَنُ تسَمَّى مؤمِنَا
أنا قد حُسِبتُ عليكمُ في نِسْبةٍ ... شَرُفتْ وتلك أجلُّ فخرٍ يُقْتَنَى
لا تمْنعوا عنِّي عِنايةَ فضْلِكمْ ... فأنا الفقيرُ وأنتمُ أهلُ الغِنَى
بيت العماد بيت فضل وكرم، دمشق بهم من عهد ذات العماد إِرَم.
بمثل رتبتهم يشمخ الغر النتقاعس، وبمثل طلاقتهم يتنبه الحظ المتناعس، وفي ذلك المجد فليتنافس المتنافس.
فضلهم على الكرام، فضل الحلال على الحرام.
ولهم من المزية على أهل الكمال، مزية الصبا على الجنوب واليمين على الشمال.
هم القومُ حازوا صِفاتِ العُلى ... بحسْن الطباعِ ولطفِ الشِّيَمْ(1/178)
ودُنْياهمُ طلْعةُ المجْتَلِي ... ودهرُهمُ واضحُ المُبْتَسمْ
ومن حقِّهم شكرُ آلائهمْ ... ومن حقِّ شانيهمُ أن يُذَمّ
شهاب الدين بن عبد الرحمن
" والشمس وضحاها. والقمر إذا تلاها "، " والليل إذا يغشاها ".
لهو جواد استبق فحاز السق، وانطلق فأبعد الطلق.
وشهاب تألق، وشهمٌ قنص وما حلق.
تبلغ حتى لم يبق مطمعا، ولاح فأرى الشمس والبدر معا.
وهو في عيشٍ موافق وزمن معين، وروضة منىً طلة وماءٍ معين.
والجود لا يعطى إلا ببنانه، والدهر لا يسطو إلا بجنانه.
إلا أنه تصرفت به في آخره الأعمال، فقبض على فترة من الآمال.
وله المآثر الغر، يزينها خطٌ أغلى قيمةً من الدر.
فإذا دجا ليل قلمه، وطلعت فيه شهب كلمه.
لم يقعد له بها شيطان مقعدا، إلا وجد له شهاباً رصدا.
فأسرارها مصونة عن كل خاطف، مطوية بأيدي الصون عن كل قاطف.
وقد وقفت من آثاره على قطع، كأنما الحسن منها مقتطع.
فأثبت منها ما هو سلوة المتعني، وشهدة المتمعني.
ونزهة المتلفظ، وكفاية المتحفظ.
فمنها قوله في الغزل:
برُوحيَ فتَّانٌ بلحْظيه قاتلٌ ... يُرِينا المنايا الحمرَ بالأعْين النُّجْلِ
يميل بقَدٍّ أخْجل الغصنَ والقَنا ... يَجِدُّ على قتل المحبّين بالهَزْلِ
عجبتُ لهذا الحبِّ تُرْضي فعالُه ... وإن هو بعد العزِّ بدّل بالذلِّ
وقوله في دير مران:
أيادَيْر مُرَّانَ سقاكَ غمامُ ... تروح وتَغْدُو غِبَّهُنَّ سلامُ
وحيَّاك من دَيْرٍ وحيَّى معاهداً ... بمَغْناك ما ناح الزمانَ حَمامُ
وقفتُ على رَسْمٍ به راح دارساً ... وقد فاح من عَرْف الرياض خُزامُ
فقلتُ ولي في رَسِيسُ صَبابةٍ ... وفي القلب منِّي لوعةٌ وغرامُ
كأن لم يكن بين الحَجُونِ إلى الصَّفا ... أنِيسٌ ولم تُهْرَقْ هناك مُدامُ
والبيت مضمن، وأصله:
كأن لم يكن بين الحَجُونِ إلى الصَّفا ... أنِيسٌ ولم يسمُرْ بمكَّة سامرُ
بلى نحن كنا أهْلَها فأبادَنا ... صُروفُ الليالي والجدودُ العواثِرُ
ودير مران معروف بدمشق، بالقرب من الربوة.
وقد تداولت ذكره النبغا، وحسبك من وصفه ما حكاه الثعالبي عن الببغا.
وهو دير قديم، مترنح ساقٍ ونديم.
دير أطل فوق وادٍ نضر، يرضع طفل نوره ثُدِيَّ المطر.
إلا أن الدهر عفى صورة رسمه، ومحا محاسن هيئةٍ كانت روحاً لجسمه.
وكانت به مقاصير كأنها مقاصير جَنة، فأصبحت الآن وهي ملاعب جِنة.
فقد عميت أخبار قطانه، ودثرت آثار أوطانه.
من وهى بنائه، وسكن الحوادث بفنائه.
وقفتْ عليه السُّحْبُ وَقْفةَ راحمٍ ... فبَكتْ له بعيونِها وقلوبِها
وهو أحد الديارات المذكورة في الشعر القديم.
قال فيه الخليع:
يا دَيْرَ مُرَّانَ لا عُرِّيتُ من سكَنٍ ... قد هجْتَ لي شَجَناً يا ديرَ مُرَّانَا
سَقْياً ورَعْيا لمُرَانٍ وساكنِه ... يا حبَّذا قاطنٌ بالديْر مَن كانَا
حُثّض المُدامَ فإنَّ الكأسَ مُتْرعةً ... مما يهِيجُ دواعِي الشوقِ أحْيانا
وحيت أنساق الكلام إلى الديارات، فلنذكر مشاهيرها على طريق الاختصار؛ فإن لها تعلقاً بما نحن فيه.
فمنها: دير القائم الأقصى، على شاطئ الفرات، بطريق الرقة.
يقول فيه هاشم بن محمد الخزاعي:
بدَيْر القائم الآقْصَى ... غزالٌ شادِنٌ أحْوَى
بَرَى حبِّي له جسمي ... ولا يدْرِي بما ألْقَى
وأُخفي حبَّه جُهْدِي ... ولا والّلهِ لا يخْفَى
ومنها: دير زكا؛ موضعان.
قال أبو الفرج: دير زكا بالرها.
وقال الخالدي والشابشتي: دير زكا من ناحية البليخ.
قال الرشيد:
غزال مَرابُعه بالبليخِ ... إلى ديْر زَكَّا فجسرِ الخَربْ
ومنها: دير عبدون، وهو بظاهر المطيرة، ببغداد.
يقول فيه ابن المعتز:(1/179)
سقى المَطِيرةَ ذاتَ الظلِّ والشجرِ ... ودَيْر عَبْدون هطَّالٌ من المطرِ
وقال ياقوت، في المشترك: دير عبدون موضعان: أحدهما بسر من رأى، إلى جانب المطيرة، من نواحي بغداد، سمي بعبدون أخي صاعد بن مخلد، وزير المعتمد على الله، كان كثير التردد إليه والمقام به.
ودير عبدون قرب جزيرة ابن عمر، يليهما دجلة، وقد خرب، وكان من منتزهات الجزيرة.
والمطيرة، كسفينة: قرية بنواحي سر من رأى، والصواب المطرية، لأنه بناها مطر بن فزارة الخارجي.
ومنها: دير مارت مريم، وهو دير قديم من ديارات، الشام الأولية.
يقول فيه ابن هرمز:
نعمَ المحلُّ لمن يسْعَى للَذَّتهِ ... دَيرٌ لمريمَ فوق الظهرِ معمورُ
ظِلّ ظليلٌ وماء غيرُ ذِي أسَنٍ ... وقاصراتٌ كأمْثال الدُّمَى حُورُ
وزاد في " المشترك " ثانياً بنواحي الحيرة، من بناء آل المنذر بين الخورنق والسدير.
وثالثاً، قال الشابشتي: دير أتريب بمصر، يقال له دير مارت مريم.
ومنها: دير مرجرجس، كان بالمزرفة بينه وبين بغداد أربعة فراسخ، وكان من منتزهات بغداد.
وآخر بين بلد وجزيرة ابن عمر، على ثلاثة فراسخ من بلد، على جبل يظهر للرائي من فراسخ عدة.
ومنها: دير العذارى، وهو بسر من رأى.
يقول فيه جحظة البرمكي:
ألا هل إلى دَيْر العَذَارَى ونظْرةٍ ... إلى مَن به قبل المماتِ سبيلُ
وقا ياقوت: دير العذارى ثلاثة مواضع؛ أحدها بين أرض الموصل وبين باجرما من أعمال الرقة، وهو دير قديم، كان به نساء مترهبات، وبذلك سمي.
ودير العذاراى بقرب سر من رأى.
ودير العذارى، موضع بظاهر حلب، فيه أكثر بساتينها.
ومنها: دير سمعان؛ أربعة مواضع.
وسمعان هو شمعون الصفا، من الحواريين، وله ديرة كثيرة.
والذي اشتهر هذه.
أحدها في غوطة دمشق، وفيه دفن عمر بن عبد العزيز في الصحيح من الأخبار، ولا يعرف الآن.
ودير سمعان، من نواحي أنطاكية، دير كبير كالمدينة.
ودير سمعان، قرب المعرة، يقال: فيه قبر عمر بن عبد العزيز. والأول أصح.
ودير سمعان، من نواحي حلب، بين جبل بني عليم والجبل الأعلى.
ومنها: دير هند؛ موضعان، وهما بالحيرة، يقال لأحدهما دير هند الكبرى. والآخر دير هند الصغرى.
فأما هند الكبرى فهي بنت الحارث بن عمرو، آكل المرار، وهي أم عمرو بن هند، بنته بظاهر الحيرة، وترهبت به.
وأما هند الصغرى فهي بنت النعمان بن المنذر، المعروفة بالحرقة، صاحبة القصتين مع خالد بن الوليد والمغيرة بن شعبة.
ومن شعر المترجم، ما كتبه لبعض أحبابه، في صدر رسالة:
سلامٌ على من في الفؤادِ وِدادُه ... وإن غاب عن طَرْفي فما غاب عن قلبي
وإنِّي وإن غبتمْ وبِنْتُم عن الحمَى ... فحبِّي لكم يزداد في البعد والقربِ
وكتب إلى والدي، في صدر رسالة أرسلها إليه، وهو بالروم، تتضمن عتاباً، وكان عزل عن الفتيا:
أمولايَ فضلَ الّلهِ دام لك الفضلُ ... ودمتَ به تزْهو وأنت له أهلُ
يبعِّد مني القلب ما عجَّ لَغْوُه ... بجِلِّق حتى مَجَّهُ العقْلُ والنَّقْلُ
فلا تغْضَبنْ إن الشِّهابَ لَواثِقٌ ... برُكْن عمادٍ شَادَهُ المجدُ والفضلُ
وأنت لأدْرَى بي وداداً وخُلَّةً ... وأنْ لَيْس يلْوِي القلبَ عن حُبِّكمْ عَذْلُ
فقلْبِيَ قلبِي مثلُ ما قد عهِدْتَه ... وقلبُك فيما أدَّعِي شاهدٌ عَدْلُ
فكتب والدي، رحمه الله تعالى، إليه: ورد علي كتاب، ذلك الجناب.
لا زالت شهب الآفاق هدايةً لأصفيائه، ورجوماً لشياطين أعدائه.
فاستدعى شكري وحمدي، واستفرغ في الثناء على مرسله عهدي، واستخلص في الصفا ما عندي.
فكأنما استمليت معانيه مما عندي، واشتملت على حقائق دقائق قصدي.
فرتع ناظري منه في روضٍ أريض، وحظيت من الانتعاش بوروده بما يحظى به المريض، لو لقي بيمينه منشور العمر الطويل العريض، بعد ما حال الجريض، دون القريض.
وإني وإن بلغت غاية الاجتهاد، في أداء بعض ما يوجب الخلوص والاتحاد، من نشر طيب الثناء في كل ناد، ورفع لواء الولا على رؤوس الأشهاد.(1/180)
وربما انعكس ذلك إلى المسامع، لكن على كل خير مانع.
فقد تجري الرياح، بما لا تشتهي الملاح.
فإن تكُ قد عُزلْتَ فلا عجيبٌ ... ضياءُ الشمس يمْحوهُ الظلامُ
ويعز علي أن أنظر إلى ذلك الصدر، وقد جلس فيه غير ذلك البدر.
وإني لأستحي لعيني أن أفتحها على الصغير، وقد جلس مجلس الكبير.
فإني لذلك ضيق ساحة الصدر، قريب غور الصبر.
كثير المباراة، قليل المداراة.
فما أسرع الأيام على الكريم فيما يضره، وعلى اللئيم فيما يسره.
فترفع كل وغد خسيس، وتخفض كل حرٍ نفيس.
وكالبحر يسفل فيه الجواهر اللطيفة، وتطفو فوقه الجيفة.
وكالميزان يدفع من الكفة ما يميل إلى الخفة ويخفض ما يفي بالرجحان، ويبعد من النقصان.
لولا الحظُوظُ التي في عقلِها بَلَهٌ ... لما علاَ الشمسَ بَهْرامٌ ولا زُحَلُ
ولا بدع، فهي علامة، على قيام القيامة.
وهذا الخروج، مقدمة يأجوج ومأجوج.
يا ضَيْعةَ الأعمارِ في طلبِ العلى ... بالعلمِ والنَّسب الذي بالشِّينِ
ولا غرو، فهي للدهر شيمةٌ مألوفة، وسجية في الكرام معروفة.
على أن المنصب بصاحبه، والمركب براكبه.
فالصغير منه بالكبير كبير، والكبير منه بالصغير صغير.
أنت الكبيرُ الذي لا العزْلُ ينْقُصُه ... قدراً ولا المنصب العالي يُشرِّفُهُ
ووقفت له على تحريرة كتبها على بيت المتنبي:
وكذا الكريمُ إذا أقام ببلدةٍ ... سال النُّضارُ بها وقام الماءُ
قال فيها: المفهوم من كلام الواحدي، أنه اختار كون قوله " وقام الماء " معطوفاً على الجزاء، أعني " سال "؛ فيكون داخلا تحت الشرط؛ ليتم التشبيه في خرق العادة في كلا الأمرين، ويظهر وجه الاتصال في البيتين كما قرره.
ولا شك أن المعطوف على الجزاء جزاء، فيحتاج حينئذ إلى بيان وجه لزوم الجزاء للشرط وتسببه عنه.
والذي يظهر في وجهه، أن معنى " قام الماء " أن الماء جمد تحيراً وخجلا واستعظاما؛ لما رأى عظيم سخائه، وشاهد عميم جوده وعطائه.
وقد صرح بتفسير ذلك في البيت الذي بعده حتى صار جلياً، بحيث يصلح أن يكون استئنافياً بيانياً، أعني قوله:
جَمد القطار ولو رأتْه كما رأى ... بُهِتتْ فلم تتَبَجَّسِ الأنْواءُ
إذ الضمير في قوله: " كما رأى " يعود إلى القطار.
والمراد بالقطار، هو الماء المذكور في البيت الذي قبله، كما لا يخفى، وإلا لم تظهر المناسبة والاتصال.
هذا ما خطر بالبال.
وأما ما استفدناه من تجويز كون الواو للحال، فذلك الوجه الوجيه، تنحسم به مادة الإشكال، والله سبحانه أعلم بحقيقة الحال.
ومن عجيب الاتفاق أنه وقع ما هو قريب من هذا الاستشهاد في تفسير بيت عويص، عرض من هذه القصيدة على سبيل الاستطراد، وهو قوله:
لا تكثُر الأموات كثرة قِلَّة ... إلا إذا شقِيتْ بك الأحياءُ
محصل ما حكاه الواحدي، من كلام ابن جني، في تفسير البيت، أنه على حذف مضاف، تقديره " شقيت بفقدك ".
والمعنى، أنه لا تصير الأموات أكثر من الأحياء إلا إذا مت.
واستبعد الواحدي أن أحداً يخاطب ممدوحه بمثل هذا.
ومحصل ما ذكره الواحدي، في معنى البيت، أنه أراد بالأموات القتلى، وتقدير المضاف المحذوف شقيت بفضلك وقتلك إياهم.
والمعنى، إذا غضبت على الأحياء، زادت الأموات بمن ينقصهم قتلك من الأحياء.
وفي كل من الوجهين تعسف لا يخفى، ولكن يشهد لقول ابن جني حكاية أبي عمر السلمي، قال: عدت أبا علي الأوراجي ممدوح المتنبي، في علته التي مات فيها بمصر، فأنشدني قوله فيه: " لا تكثر الأموات " إلخ، ثم لم يزل يكرره ويبكي حتى مات.
وروى السلمي في حكايته: " فجعت " مكان " شقيت ".
ويشهد لقول الواحدي، البيت الذي بعده، فإنه مناسب للمعنى الذي ذكره.
ثم يساعد الأول، معاني الأبيات التي قبله، من وصف عموم كرمه وإحسانه للناس، فناسب أنهم يشقون بفقده، ويكادون يموتون من بعده. فليتأمل.
وقال الواحدي، في تفسير قوله: " كثرة قلة "، أي: كثرة في الأموات تحصل عن قلة الأحياء.
ولا يخفى ما في هذا المعنى من كثرة السماجة، وقلة الجدوى، وتحصيل الحاصل، من غير دليل يدل على أن كثرة الأموات مضافة إلى قلة غيرهم.(1/181)
ولو أريد بالقلة العدم، كما هو شائع واقع في الكلام الفصيح، لكان أقرب، إذ كثرة الأموات في الحقيقة عدمٌ محض، وصح ذلك على كل من قولي ابن جني والواحدي.
ولو أريد بالقلة الإقلال، وقلة الجدوى، كما يقال: مات فلان من القلة، أي الفقر، بمعنى أنهم ماتوا من الإقلال حين انقطعت عنهم مكارمه، لأمكن أيضاً.
وهذا الوجه إنما يجري على قول ابن جني، ولا بعد في ذلك، إذ الظاهر أن خطاب الممدوح بمثل ذلك لم يكن مستهجنا عند المتقدمين؛ لظهور حقيقة تيقن الموت، ألا ترى إلى قول أبي نواس، في آخر قصيدته التي قالها في تهنئة جعفر البرمكي:
سلامٌ على الدنيا إذا ما فُقِدتمُ ... بَنِي بَرْمَكٍ من رائحين وغادِ
وقوله:
إنما الدنيا حُمَيدٌ ... وأياديه الجسامُ
فإذا ولَّى حُمَيدٌ ... فعلى الدنيا السلامُ
لا سيما إذا كان الممدوح من الأعيان، ولم يكن بذي سلطان. انتهى.
أخوه إبراهيم
هذا الجناب الأفضل، والمحل الأمرع الأخضل.
مكان القول فيه ذو سعة، والألسنة كلها على مدحه مجتمعة.
فمن يتقدم فليقل ما شاء في وصف شمائله، وحق على المدح أن يتباهى بمخائل خمائله.
وحسبك من امرئٍ لم تر له ذاماً ولا شانيا، ولا ذاكرا يعلم الله أن له في الفضل ثانيا.
فقد جمع إلى كرم أصله، أعظم مزية من باهر فضله.
فقضى الحق الواجب عليه، واستدعى حيازة التفضيل بالحجة إليه.
فالدر ينثر من يديه وفيه، والخير مجموعٌ لديه وفيه.
وهو ريان من كل فن، سمح من غير تبجحٍ ومن.
مجلسه يأرج أرج الزهر، وسماحه يفيض فيض النهر.
وعينه في اكتساب المحامد ممنوعة السنات، وصحيفة وجهه كلها قربات وحسنات.
وهو وحيد الدهر في الأدب وفريده، وألمعيه الذي وفى البلاغة كل ما تريده.
ببنان قد قبض على أزمة البيان، ولسان قد امتطى صهوة الإحسان.
وله من النظم بدع جلائل، إلا أنها في العدد قلائل.
والنجوم أجلها أعلاها، والمعادن أقلها أغلاها.
فمن شعره قوله.
إن يكن زاد في الحسانِ جمالٌ ... أكَّد الحسن فيهمُ تأكيدَا
فلقد أسَّس العذارُ بخدَّي ... مُنْيَتِي رَوْنقاً ولطفا مَزِيدَا
وهْو عَمْرِي لا شك أزْهَى وأبهى ... حيْثُما قد أفاد معنىً جديداً
وقوله:
يا مليحاً قد حاز كلَّ الجمالِ ... وحبِيباَ تفْديه رُوحي ومالِي
كلما زدْتُ في هواك غراماً ... قلَّ صبْري وزاد فيك انْتحالِي
آهِ من حسنِ مَبْسمٍ لك كالدُّ ... رِّ ولحظٍ يَرْوِي عن الغزَّالِي
جُدْ لعبدٍ غدا قتيلَ عيونٍ ... قد رمْته لحاظُها بِنبالِ
لك خَصُرٌ قد صار مثلي نحيلاً ... حمَّلته الأرْدافُ ثُقْلَ الجبالِ
لك وجْه قد أخجل الشمسَ نوراً ... لك جِيدٌ قد فاق جِيدَ الغزالِ
لك قدٌّ كالرمح يهْتزُّ تِيهاً ... قد رماني بأسْمَرٍ عسَّالِ
فترفَقْ بعبدِ رِقٍّ عميدٍ ... قد غدا في هواك رَقَّ الخلالِ
نحلتْه الأسقامُ شوقاً ووجداً ... فغدا جسمُه من السُّقمِ بالِي
كلّ ما مَرَّ شَرْحُه بعضُ حالي ... وهو عندي إن كان يُرْضيك حالِي
وقوله من قصيدة، أولها:
ما رياضٌ حِيكتْ بأيْدِي الغمامِ ... باكَرَتْها بصَوْب مُزْنٍ هامِي
عَلَّها وابلُ الحيَا بعد نَهْلٍ ... فأماطت عن ثَغْرها البَسَّامِ
وتحلَّت بنُورِ نَوْرٍ نضيرٍ ... من عَرارٍ ونرجِسٍ وبَشامِ
فعليلُ النسيم مِنها إذا هبَّ ... كَفيلٌ بصحةِ الأجسامِ
فهْي نوراً كبهجة الشمس حسناً ... وهْيَ لطفاً كالبُرْء للأسقامِ
كمُحيَّا الأستاذ مولاي يحيى ... دام يَحْيا على مدى الأيَّامِ
وكتب إلى والدي، وهما بدار الخلافة، قوله:
إليك أخي نصيحةَ ذي اخْتبارِ ... له حزمٌ وزَنْدٌ فيه وارِي
إذا جار الزمانُ وكلُّ دهرٍ ... على أحرارِه في الجَوْر جارِي(1/182)
وأكْسَبك اغْتراباً وانتزاحاً ... فكُن متغرِّبا في أسْكدارِ
ترى فيه ظباءً سانحاتٍ ... بألحاظٍ يَصِدْنَ بها الضَّوارِي
وطوراً تلتقي غصناً رطيباً ... علاه حَدِيقة من جُلَّنارِ
فقَضِّ العمرَ فيها في سرورٍ ... وصِلْ ليلَ التَّواصُلِ بالنهارِ
وخَلِّ الأهْلَ عنك وقلْ سلامٌ ... على الأوطانِ منِّي والديارِ
فراجعه بقوله:
أتتْك نصيحة من ربِّ فضلٍ ... إمامٍ في الفضائل والفخارِ
له في كل علمٍ طِيبُ مَجْنىً ... وفضلٌ زَانه كَرَمُ النِّجارِ
ونظمٌ يُعْجِز البلغاءَ لفظاً ... ونثرٌ كاللآلي والدراري
يقول وقولُه لا شكَّ صدقٌ ... عليك إذا اغْتربتَ بأسْكدارِ
نعم هي جَنَّةٌ حُفَّتْ بحُورٍ ... ووِلدانٍ حَلَتْ شمسَ النهارِ
ولكن لم أجدْ فيها خليلاً ... يُعِين أخا الغرامِ على اصْطبارِ
يساعدني على كَلَفِي بريمٍ ... يُعذِّب عاشِقيه بالنِّفارِ
له لحظٌ يصولُ به دلالاً ... فيفْتِنُ رَبَّ نُسْكٍ ذا وقارِ
وقدٌّ إن تثنَّى فهْو غُصنٌ ... يُحرِّك من هوى نائِي الديارِ
فمالي والقَرار بها وأنَّى ... يطيبُ ليَ القرارُ بلا قرَارِ
قضاءٌ من إلهي ليسَ يجْري ... على قدرِ الإرادة باخْتيارِي
وطلب من والدي تأليفه " الرحلة الرومية "، فبعثه إليه، وكتب معه:
تبسَّم عن ثغْرِ الأقاحِي لِثامُها ... وغنَّتْ على الأفْنان صُبْحاً حمامُها
وغرَّدتِ الأطيارُ من بهجةِ الرُّبَى ... فمالتْ لها الأغضانُ وهْو سلامُها
وحيَّتْ بخَدٍّ كالشقيق مُورَّدٍ ... ورقَّةِ خَصْر لان منه قَوامُها
فأحْيَتْ عليلاً طال وقتُ انْتظارِه ... ووافتْ فَوافَى بالصباح ابْتسامُها
تقلَّدت الزُّهْرَ الدَّرارِي كأن من ... ثنايَ على ربِّ المعالي نظامُها
هُمامٌ أطاعتْه يَراعُ بَراعة ... يُراعُ مُعادِيها ويُرْعَى ذِمامُها
فحضْرتُه العَلْيا إذا انْحطَّ قدْرها ... غدا فوق فِرْقِ الفَرْقَديْن مَقامُها
وهابِنْتُ فكرٍ قد أتتْ نحو بابِكمْ ... بغير يديْكم لم يُفَضَّ خِتامُها
وصُحْبتُها منِّي الدعاءُ ورحْلتي ... تُشرَّف بالأنْظار وهْو مَرامُها
وها هي قد جاءتْك تشْكو من الظَّما ... بأدْنى ابْتسامٍ منك يُرْوَى أَوامُها
فما القلبُ يصفُو إذ تزيد همومُه ... ولا الشمسَ تَبْدو إذ يُحيط غَمامُها
فلا زلْتَ تبْقى كلما رنَّحَ الصَّبا ... غصوناً وقد غنَّى عليها حَمامُها
مدَى الدهرِ ما أهْدَى لبِيبٌ رسالةً ... لرَوْضة فضلٍ فاح منها بَشَامُها
فأجابه بقوله:
أروضةُ زهرٍ جاد سَحًّا غَمامُها ... فأهْدَى لنا نَشْرَ العبير خُزامُها
أم الرَّاحُ في الأقْداحِ لاحتْ فأسْكرتْ ... فؤادي ولمَّا فُضَّ منها خِتامُها
تطوف بها ذاتُ الوشاح خَرِيدةٌ ... يروقُك مَرْآها ويحلو كلامُها
مريضةُ أجفانِ اللِّحاظ سليمةٌ ... وما صحةُ الأجْفان إلاَّ سَقامُها
مُثقَّلةُ الأرْدافِ خَفَّ وِشاحُها ... مُرنَّحةُ الأعطافِ لَدْنٌ قَوامُها
مُضمَّنَةٌ من ذِي وفاءٍ قَصيدةً ... بليغةَ ألفاظٍ بديعٌ نِظامُها
أخي فِطْنةٍ رقَّتْ وراقتْ عذوبةً ... فلله منها لُطْفُها وانْسجامُها
أطاعتْه أبْكارُ المعاني وعُونُها ... بفضلٍ فأضْحَى في يديْه زِمامُها
وذلك فضلُ الّله يُؤتيه مَن يشا ... ويمْنحه نفساً عزيزاً مَرامُها(1/183)
تُحاول منِّي أن أرُدَّ جوابَها ... وفِكْرتيَ اسْتولى عليها قَتامُها
وقد لعبتْ أيْدي المشيب، بمَفْرقِي ... وتوَّجَنِي دُرًّا يسوءُ انْتظامُها
رعى الّلهُ أيامَ الشبابِ وعهدَه ... وأوقاتَ أُنْسٍ ليت عمريَ عامُها
وحيَّى لُيَيْلاتٍ مضتْ وتصرَّمتْ ... لياليَ أُنْسٍ كان صُبحاً ظلامُها
يغازلني فيها أغُّن مهَفْهَفٌ ... لواحظُه وسْطَ الفؤاد سهامُها
وبِتُّ يُعاطيني كؤوسَ حديثهِ ... فلله من خمْرٍ حلالٍ حَرامُها
وطوراً يُحيِّيني بوردةِ خدِّه ... وآونةً من خمر فيه مُدامُها
فرِيقتُه نَفْسُ الشَّمولِ وثغْرُه ... حَبابٌ لها يطْفو ومن فيه جَامُها
وقد عِفْتُ أبيات القريضِ ونظْمَه ... وقُوِّض من بين الفؤاد خيامُها
ولكن بحمْد الله جادتْ قريحتي ... وما خلتُ يوماً أن تجود جَهامها
فدونكَها يا ابن الكرامِ بديعةً ... تؤُمُّ ذَرَى نادِيك يُهْدَى سلامُها
ودُمْ وابْق ما أنْشأ بليغٌ قصيدةً ... تضوَّعَ مِسْكاً بالثَّناء خِتامُها
فضل الله بن شهاب الدين
الفضل التام له منه جله، والحسن للناس بعضه وله كله.
والزيادة من فضل الله لا تنتهي، والنعم لديه منها ما يشتهي
وقد ولد في طالع عنه الإقبال يترجم، فكاد يقضي له بالسعد من لم يكن ينجم.
والحر تكفيه عن تنجيم وتقويم، تسنحة خُلُق وخَلْق له في أحسن تقويم.
فاقترن باليمن باستهلاله، حتى كأن نونه خطت من هلاله.
فودت الجوزاء لو كانت قلادة تراقيه، والزهرة لو غدت عوض ذؤابته التي تراقيه.
ونشأ في نعمة تتملى اقتبالا، وكرامةٍ تسبغ سربالا.
ووقاية الله تحفظه، وعيون الألطاف تحفه وتلحظه.
حتى جمع أريحية الشباب، ونجابة الكهول، وحل من الفضل المحل السامي والمربع المأهول.
وتقدم إلى دقائق العلوم فتغلغل في شعابها، وتميز على نظرائه بحل رموزها وتسهيل صعابها.
وهذه دعوةٌ شاهدها من كان مثلي برياً من الريب، ولست أخبر عن الموتى ولا أستشهد الغيب.
وقد بلغني من بدائع فكره المتلهب الوقد، وروائع شعره الخالي من التكلف والنقد.
ما تتناثر على مذهباته الدرر، وتتكاثر على محاسنه الغرر.
فمن ذلك قوله:
مُذْ مال خرَّتْ له الأغصانُ ساجدةً ... خُوط به من رحيق الثغرِ إسْكارُ
حَطَّ اللِّثام فغاب البدرُ من خَجَلٍ ... وقد بدا في الدُّجَى للصبح إسْفارُ
أضحى كجسمى منه الخَصْر ليس يُرَى ... ومَنْطقَتْه من العشاق أبْصارُ
وِشاحُه مثلُ قلبي خافقٌ أبداً ... ولَحْظُه الفاتك الفتَّانُ سَحَّارُ
كأنَّما شعرُه في خالِ وجْنتِه ... دخانُ قطعةِ نَدٍّ تحتها نارُ
قلت هذه القطعة قطعة عمادية، والقول بأنها تماثل نزعة عنادية.
ولابن سناء الملك فيما يشبه هذا التشبيه، وإن لم يكن منه:
سمراءُ قد أزرتْ بكلِّ أسمرٍ ... بلَوْنها ولِينها وقَدِّهَا
أنفاسُها دخانُ نَدِّ خالِها ... وريقُها من ماء وردِ خدِّهَا
وأقرب منه قول السيد محمد العرضي:
على وجَناتِه خالٌ عليه ... تبدَّتْ شعرةٌ زادتْه لطفَا
كقطعةِ عنْبرٍ من فوق نارٍ ... بدَا منها دخانٌ طاب عَرْفَا
ومثله للسيد باكير بن النقيب:
في خدِّه القانِي المضَرَّجِ شامةٌ ... قد زِيد بالشَّعرات باهرُ شأنِهَا
كلهِيبِ جمْرٍ تحت قطعةِ عنبرٍ ... قد أُوقِدتْ فبدا ذَكِيُّ دُخانِهَا
وله:
ومُدير لنا المُدام بكأسٍ ... مثل عِقْدٍ حَبابُه منْظومُ
هو بدرٌ وفي اليمين هلالٌ ... فيه شمسٌ وقد علتْها النجومُ
من دنَا دَنَّه يشمُّ عبيراً ... من شَذاه رحيقُه مختومُ
حَيِّ يا صاحِ بالفلاح عليها ... واصْطحِبْها تنْفكُّ عنك الهمومُ(1/184)
ودعِ العمرَ ينْقضي بالتَّصابِي ... وكذاك الوُشاةَ دعْهُم يلومُوا
قوله: هو بدر، إلى آخر البيت، قد أحسن فيه، لكن تشبيه الكأس بالهلال محل نظر، والمتعارف تشبيهه بالبدر، كما في قول ابن الفارض:
لها البدرُ كأسٌ وهي شمسٌ يُديرُها ... هلاللٌ وكم يبدو إذا مُزِجتْ نَجْمُ
إلا أن يكون قصد الزورق، فإنه شبه به الهلال، كما في قول ابن المعتز:
وانْظُرْ إليه كزورقٍ من فضةٍ ... قد أثْقلتْه حمولةٌ من عَنْبَرِ
فعكس التشبيه.
ويمكن أن يقال: إنه شبهه بالهلال، بالنظر إلى هيئته، إذا أمسكه الساقي، كما يفعل الأعاجم في مناولة إناء المشروب؛ وذلك أنهم يقبضون بالإبهام والمسبحة على الإناء من فوق، فينستر نصف الكأس بالأصبعين، ويبقى النصف ظاهراً كهيئة الهلال. انتهى.
وله:
ذَممْتُ النَّوَى من قبلُ منِّي جهالةً ... ولم أدْرِ أن البَيْنَ أصلُ شفائِي
فحِبِّيَ لمَّا حازه البعد حازَني ... سَقامٌ فأخْفانِي عن الرُّقباءِ
وصرتُ إذا شاء الزيارةَ زُرْتُه ... ولم ترَني عينٌ لفَرْطِ خَفائِي
أخذه من قول كشاجم:
ومازال يَبْرِي أعْظُمَ الجسم حبُّها ... وينْقُصها حتى لَطُفْنَ عن النَّقْصِ
فقد ذُبْتُ حتى صرتُ إن أنا زرتُها ... أمِنْتُ عليها أن يَرى أهلُها شخصِي
وله:
أطار الهوى مِن جمر خدَّيْه جَذْوةً ... فأصْلَى بها قلبي الذي ضم أضْلُعِي
وصعَّده مِنْ بعد ماقو قد أذاقَهُ ... وقطَّرِهُ من مقلتي دَرَّ أدْمُعِي
أحسن منه قول ابن النبيه:
تعلّمتُ علمَ الكيمياء بحبِّه ... غزالٌ بجسمي ما بعيْنيه من سُقْمِ
فصعَّدتُ أنفاسي وقطَّرتُ أدْمُعي ... فصحَّ من التَّقْطير تصغيرةُ الجسمِ
وللشهاب الخفاجي:
في بُكائِي راحةٌ من شجَنِي ... بعد يأْسٍ من أمانٍ يُطمعُ
فكأن الحزنَ من نار الجوَى ... ذاب حتى اسْتقْطَرتْه الأدْمُعُ
وله:
أيا شاهراً سيْفاً يُشابه لحْظَه ... يصُول به ضَرْباً وموقعُه القلبُ
دعِ السيفَ وانظر نحْو مَنْ رُمْتَ قتْلَه ... فعيْناك كلٌّ منهما صارمٌ عَضْبُ
وله:
دَائِيَ الحبُّ والأماني طبيبي ... والنَّوى والفِراقُ من عُوَّادِي
ودوائي ذكرُ اللِّوَى وسَميري ... ضَيْفُ طيفٍ مُوكَّل بسُهادِي
وله:
بِي ظَبْيُ إنْسٍ لاح في قُرْطُقٍ ... قد فضح الدُّرَّ سنَا ثغْرِه
ما فيه من عيْبٍ سوى أنه ... أشْبَهَ جسمِي بِضنَى خَصْرِه
وله:
تحجَّب البدرُ من غَيْمِ الصدودِ وفي ... ليلٍ من الهجرِ عن مأسورِ ألْفاظِه
ومرَّ يبخلُ حتى بالسلام ترى ... مِنْ خَوْفهِ لَقْط سمعي دُرّ ألْفاظِه
وله:
كأنَّ مَبْدَأَ نَبْت الشَّاربَيْن وقد ... بدا على شفَةٍ شطَّتْ عن الدَّنِفِ
زُبانَيَا عقْرَبَيْ صُدْغَيْه قد حمَتَا ... رحيقَ ريِّقهِ عن رشْفِ مُرْتشِفِ
وله:
فديْتُك رَابني الإعراضُ عنِّي ... ولم أعرفْ له سببتاً وحقِّكْ
سوى أنِّي المقيمُ على وِدادِي ... وأنِّي يا حبيبي عبدُ رِقِّكْ
وله:
إذا زارني ليلاً مَخافةَ عاذلٍ ... وأسْفر وجْهاً صار صبحاً بغُرَّتِهْ
وإن زارني صُبْحاً وأرْخى غدائراً ... على الوجهِ صار الصبحُ ليلاً بطُرَّتِهْ
وله:
وبدرٍ حكَتْه الشمسُ عند شروقِها ... إذا غرُبتْ في فِيه والليلُ سابلُ
إذا ما تثنَّى قَدُّه وَسْطَ روضةٍ ... تخِرُّ له الهِيفُ الغصونُ الموائلُ
وله:
لمَّا غدا جِيدُك الحالي بعِقْدِك من ... قلائدٍ وعقودٍ عاطلَ الْخالِ
دمِي تقلَّده ظلْماً ألسْتَ ترى ... نَقْطاً عليه دمى سَمُّوه بالْخالِ
وله:
ودَّعَني مَن نواهُ أوْدَعنِي ... شَوْقاً يزيد الفؤادَ نِيرانَا(1/185)
وقال لي والبكاءُ يغلُبه ... ياليت يومَ الفِراق لا كانا
؟ علي بن إبراهيم
هو الآن في الحضرة الخضرة، متعين في نظرائه بالمعالي النضرة.
فيكاد يشير إليه، من يغمض عينيه.
ومن أراد أن يكون السعد من خدمه، فليضع قدمه مكان قدمه.
فالإقبال كأنما خلق لأجله، واليمن في مواطئه بخيله ورجله.
وهناك جدٌ لو كان بظبة صارمٍ ما نبا غراره، وبشرٌ لو سال بصفحة البدر ما خيف سراره.
وأنا إذا جئت أصفه، ولا أقدر أني أنصفه.
قلت: أعلى الله مكانه، وشيد في أفق النباهة أركانه.
فما زال الأمن يواصل هدوه، والجذل يصاحب رواحه وغدوه.
وله السلامة التي يهنأ بها ويحيى، والدنيا التي لم تزل غضة العهد طلقة المحيا.
وله عندي وراء ذلك ثناءٌ بريءٌ من الكلف، وامتداحً لو ناله البدر لانجلى عنه الكلف.
وهو في الفضل كأبيه وجده، وإذا قيس بهما فقد انتهى لأقصى حده.
وأما أدبه فقد حل من البراعة مكاناً عالياً، وهمى ودقه على ربى الإجادة وسماً وولياً.
فإذا جال يراعه، ملأ القرطاس بلاغةً وبراعة.
وإذا وشى الصحائف من حبائر بديهته وإملائه، فكأنما أفاض عليها من أنواره ولألائه.
وقد أثبت له ما يبهج الأدب ويزينه، وإذا وزن به الشعر رجحت موازينه.
فمنه قوله، فيما كتبه إلى الأستاذ زين العابدين الصديقي، يستدعيه لدمشق:
قد أُلْبِس الروضُ أنواعاً من الحِبَرِ ... وتُوِّج الغصنُ إكْليلاً من الزَّهَرِ
ومدَّت الأرضُ وسطَ الروضِ حاشيةً ... من الزُّمُرُّدِ في مُسْتَنْزَهٍ نَضِرِ
وقام كلُّ خطيبٍ في الرياضِ شَدَا ... بلحْنِ مَعْبَد وقْعَ النَّايِ والوترِ
وفاح نَشْرُ عَبيرٍ في دمشقَ غدا ... يغني بطِيبِ شَذا من عَنْبَرٍ عَطِرِ
كأن عطرَ غَوانٍ قد ضَمَخْنَ به ... أتتْ به من نُحورٍ نَسْمةُ السَّحَرِ
وراقبتْ فُرْصةَ الإغْفاءِ فانْغَلَستْ ... كالسحرِ بين مقر الجَفْنِ والشَّعَرِ
فاستبْضعتْ كلَّ لُطْفٍ مَعْ لَطافتِها ... واستصْبحتْ كلَّ عَرْفٍ طَيِّب الأثرِ
فقُمْتُ أنْشَق رَيَّاها وقلتُ لها ... جُودِي عليَّ فإني لاتَ مُصْطَبَرِي
وخبِّريني أهذا العَرْفُ منْشأُه ... عن طِيبِ مَخْبرِ أم عن طَيِّب الخبرِ
قالت أعندك من هذا النَّباءِ أما ... كفاك رَوْنَقُ هذا العام من خَبَر
فالشامُ شامِيَّةٌ والأرضُ نامِيةٌ ... والسحبُ هامِيةٌ بالطَّلِّ والمطرِ
من أجلِ أنَّ إمام الوقتِ أعْنِ به ... زَيْنَ الأنامِ وكهْفَ البدوِ والحضَرِ
ذاك الهُمامُ الذي بالمجدِ قد بهرَتْ ... آياتُ مَحْتَدِه السامي على الزُّهُرِ
وابنُ الإمام الذي ما مثلُه أحدٌ ... إذْ كان في الغارِ ثاني سيِّد البشرِ
يرومُ جِلِّقَ قَصْداً أن يشرِّفَها ... بالبشْرِ منه فتُضْحِي نُزهةَ النَّظرِ
فقلتُ أهلاً بما أدَّيْتِ مِن نَبَأٍ ... أوْدعْتِ في السمع منه أنْضرَ الدُّرَرِ
وصِرتُ ألثَمُ فَاها فرحةً وهوىً ... ومَنْطِقاً وِرْدُهُ أحْلَى من الصَّدَرِ
فأنْجِزِ الوعدَ لُطْفاً منك سيِّدَنا ... فالشامُ إن جُزْتَ صِينتْ عن يَدِ الغَيرِ
فأعْيُن الزهرِ وَسْطَ الروضِ شاخصةٌ ... لكي اراك فتحْظَى منك بالبَصرِ
ومن بدائعه قوله:
عزَّ هذا العزيزُ في سُلْطانِهْ ... ومضى والمِطالُ أكبرُ شانِهْ
وأرانا من سحْرِ عينيْه هارو ... تَ وماروتَ من شَبا أجْفانِهْ
فاسْتمال القلوبَ نحو مُحَيّاً ... كان سَلْبُ القلوبِ من بُرهانِهْ
وحَبانا من جُلِّ ما نتمنَّى ... من شَذَا وَرْدِه ومن رَيِحانِهْ
وأرانا بَرْقَ الثَّنايا اخْتلاساً ... خَوْفَ واشٍ وحاسدٍ يَريانِهْ
ورأيتُ الفِدامَ في فِيه لمَّا ... لاح فِرْقُ اللَّميَ وضوءُ جُمانِهْ(1/186)
فشهدتُ المُدامَ في الكونِ طُرّاً ... من لَماهُ والسكرَ في لَمَعانِهْ
وضروبَ الجمالِ قد جُمِّعتْ في ... هِ وفي شكلهِ وفي ألْوانِهْ
قَدُّه كالقضيبِ من فوق رِدْفٍ ... ذِي اهْتزازٍ يمِيسُ في أعكانِهْ
تحت وجهٍ كالروضِ أوْدَع فيه ... كلَّ معنىً يرُوق في إبَّانِهْ
خدُّه كالشَّقِيقِ في اللونِ والصِّبْ ... غُ كآسِ الرِّياضِ في عُنْفُوانِهْ
تحته جِيدُه الذي حَلَّ فيه ... خاله مُخْتَفٍ لجُلِّ مكانِهْ
فافْتَتَنَّا بقامةٍ وبجِيدٍ ... وسبَانا زُمُرُّدِي هِمْيانِهْ
طَرَّ عقلي بُطرَّةٍ شكْل سِينٍ ... بيديْه قد طرَّها وبَنانِهْ
وقوله:
وكأنما المصباحُ وَسْطَ حديقةٍ ... مَحْفوفةٍ بالورد والنَّسْرِينِ
بدرٌ بدا تحت السحابِ أحاطَهُ ... قُزَحٌ بقوْسٍ مُحْكَمِ التَّنْوينِ
أو غادةٌ قد أُلْبِست لبهائِها ... حُلَلَ الجمال بديعةَ التَّلْوينِ
أو شادِنٌ قد خُطّ تحت جبِينهِ ... بالطُّرَّةِ الدَّعْجاء شَكْلُ السِّينِ
وقوله:
باكِر صَبُوحَك مِن فيه مُشَعْشَعةً ... تُضِيء إن رُشِفتْ منه كمِصباحِ
بيْضاءَ مثلُ نهارِ الوصلِ رُؤْيتُها ... وحالةَ الوصْلِ تُكْسَى لونَ تُفَّاحِ
لأن مَنْبِتَ دُرِّ الثَّغْرِ حَانتُها ... ودَنَّها مِن عقيقِ اللونِ وَضَّاحِ
وعاذلٍ قال ما في الرَّاحِ مَعْتَبةٌ ... فاسْتغْن عنها بكاساتٍ وأقْداحِ
فقلت يا جاهلاً في الحبِّ معرفتي ... إليك عنِّي فلا أُصْغِي إلى اللاَّحِي
لا أشربُ الرَّاحَ إلا من مُقُبَلِ مَن ... تقْبيلُ مَبْسمِه أشْهى من الرَّاحِ
وله في العذار:
ما كنتُ أحسَب قبْل نَبْت عِذارِه ... أن العِذارَ لِحُسْنه تأكيدُ
حتى بدَا في خدِّه مُتجعِّداً ... كفِتَيتِ مِسْكٍ لا يلينُ جديدُ
فكأنَّ مُحَمرَّ الخدودِ شقائقٌ ... عن لَثْمِ أفْواهِ الأنامِ تَحيدُ
وكأنَّ مُعوَجَّ العِذار بصُدغِه ... شَرَكٌ لحَبَّاتِ القلوبِ يصيدُ
وله، في البيت الأخير استخدام:
وعاذلٍ قال عَقْربٌ لدَغتْ ... أحْمَدَ نَوْعِ الجمالِ سَيِّدَهُ
قلتُ عجيبٌ لها ما رهِبتْ ... عقربَ صُدْغٍ رأت مُمدَّدَهُ
قالوا رأتْه وأنت تخبره ... ذاك لِلَسْعِ القلوب أرْصَدَهُ
فقلتُ إذْ بَانَ عقربٌ بكمُ ... لما أتتْه رأَتْ تأوُّدَهُ
خافَتْ على قلبها يمزِّقُه ... فزَحْزحَتْه وقبَّلتْ يَدَهُ
وكتبت إليه أستأذنه في التنزه أياماً بقصره، الذي أحاطت به السراء إحاطة النطاق بخصره: سيدي وسندي، أنقذ الله على يديك الخواطر من همومها، وجلى عنها بحسن توجهك غياهب غمومها.
الزمن وما أدراك، لم يبق فيه إدراك.
من نكبات لولا طيش وصالها لاتصلت اتصال الشؤبوب، وصدمات لولا تكسر نصالها لكانت كالرمح أنبوباً على أنبوب.
ولكن ثم نفوسٌ من الفكر طائشة، لا تحسبها إلا من ناهل الحمام عائشة.
فهي تستدعي بعض مألوفاها عن روية، طامعةً في حسوة من الأماني إما قذية أو روية.
وذلك لدفع صائل، لا لتوقع طائل.
وإلا فكلنا يعرف زمانه، ويعلم أن النهوض فيه زمانة.
وقد طلبنا فلم نجد غير قصرك البهي من النوازل مفراً، ولا مثل ساحته للأمن من الغوائل مقراً.
إذ هو القصرالذي أقرت له القصور بالقصور، ولبست منه الشعرى العبور ثوب الغيور.
فعسى ما عز على العيان من لقياك، نستنشق فيه من مواطئك عرف رياك.
فإن أذنت فمثلك منزه عن التغاضي، ومثلنا موله بالتقاضي.
ولك الفضل الذي إذا كشر الدهر عن نابه، تكشف الحوادث عنا به.
والثناء على سجيتك ثناء الروض المونق، على الغدير المغدق.
والسلام على خلقك العاطر، سلام النسيم على الغصن الناضر.(1/187)
وبقِيتَ في يومٍ أغَرَّ مُبشِّرٍ ... بسعادةٍ غَرَّاءَ تطلعُ في غدِ
لتُقيمَ كلَّ مُؤَوَّدٍ وتُنِيم كُلَّ ... مُسَهَّدٍ وتضمَّ كلَّ مُبَدَّدِ
بيت النابلسي هذا البيت لي فيه نسب، مدلٍ ورب البيت بنشب.
وجدي من قبل الأمهات كبيره إسماعيل ذلك الإمام، والفائق في الإضاءة على البدر التمام.
شيخ التوفيق، وأحق من يدعى بالبر الشفيق.
أحله الله دار القرار، وبوأه منازل الأبرار.
؟؟؟؟ حفيده إسماعيل
سميه وليه، سقاه من الرضا وسميه ووليه.
غرة وجه الدهر، والقمر نصف الشهر.
جرى ففات، واستغرق الصفات.
وأربى على الأكفاء وبرز، وأعلم حلة الفضل وطرز.
فقصر في حلب اليراعة مجاريه، واستشعر فوت الطلب مباريه.
وحاشيته على الدر أقر لها ابن عزمي بانحلال عزمه، واعترف الواني بأنه وانٍ عن لحاقها لعدم حزمه.
فإذا أعمل لسانه وفمه، وأخذ دواته وقلمه.
تجارى يراعه وطبعه، وحدث عن البحر العباب نبعه.
فأبدى خاطره الشمس من الطروس، وأطلع فكره النقا ونفائس الذخائر في سوق العروس.
وتحائفه في الأدب جواهر أصداف، وزواهر أسداف.
أوردت منها دراً يلفظه البحر، فيزين به من المعلومات الغر والصدر والنحر.
فمن ذلك قوله، وكتبه في صدر رسالة لبعض أحبابه:
إن طلبتُمْ أُبْدِي لكم شرحَ حالِي ... فهو أمرٌ يَكلُّ عنه مَقالي
لا تقولوا مُسافرٌ بل مقيمٌ ... كلُّ يومٍ سرورُه في كمالِ
ثم ما قد أصابنَا من رفيقٍ ... وعزيزٍ ومنْبعِ الأفْضالِ
فهْو أمرٌ عجزتُ إذ رُمْتُ أُحْصِى ... منه حالاًفكيف بالأحْوالِ
غير أني قصدتُ من رَقْم هذا ... فهْمَكم حالنا على الإجْمالِ
وكتب أيضاً إلى بعض إخوانه:
إذا قيل أيُّ إمامٍ هُمام ... بليغٍ لقد فاق للْفاضِلِ
غزيرِ النَّوال عزيزِ المثالِ ... شريفِ الخصال وذِي النائلِ
وحَبْرِ الأنامِ وبحرِ الكرامِ ... لخيرٍ يُرام بلا سائلِ
كريمِ الأُصول ومُحْيِي القَبُولِ ... وفضلاً يصولُ على الجاهلِ
أشار إليك جميعُ الأنامِ ... إشارةَ غَرْقَى إلى الساحلِ
أصله ما قاله في كتاب العقد، لابن عبد ربه: أنه وقف بعض الشعراء على عبد الله بن طاهر، فانشده:
إذا قيلَ أيُّ فتىً تعلمون ... أهَشَّ إلى الباسِ والنائِلِ
وأضربَ للْهامِ يومَ الوغَى ... وأطْعمَ في الزمنِ المَاحلِ
أشار إليك جميعُ الأنامِ ... إشارة غَرْقَى إلى الساحلِ
ومن شعره قوله:
لَوَى وجهَه عنِّي على زَعْمِ أنني ... أُداهنُه من أجْلِ أمرٍ أُحاوِلُهْ
فقلتُ له خفِّضْ عليه فإنني ... تكلَّفْتُ هذا الأمرَ ممَّن أُخالِلُهْ
وقوله:
ولو لم يكنْ علْمِي بأنك فاعلُ ... من الخيرِ أضعافَ الذي أنا قائلُ
لما بسطت كفي إليك وسيلةً ... ولا وصلت مني إليك الرسائل
وله هذه الرباعية:
قد أقسم لي لمَّا اعْترانِي الوَلَهُ ... أن يعطِف لي لكنَّه أوَّلَهُ
لا يسمحُ بالوِصال إلا غلَطاً ... في النادرِ والنادرُ لا حكمَ لَهُ
ولده عبد الغني
الورد الروي، والنهج السوي.
خلقه الله للفضل أهلاً، وأشرق به العدى طفلاً وكهلاً.
فترشح للعلى، وتوشح بتلك الحلا.
وما انفصل عن طله الوبل، وكما تعرفه البراعة من بعد تعرفه من قبل.
بحر علم لا يدرك غوره، وفلك فضل على قطب الرجاء دوره.
ولم يقنع بالمجاز عن الحقيقة، حتى تبوأ البحبوحة من تلك الحديقة.
ولديه من المعلومات ما يشق على القلم حشره، ويتعسر على الكلم نشره.
وتآليفه تكاثر السحب المواطر، حشوها فوائد عقلة الأفكار وقيد الخواطر.
وله أشعار أغلبها في الزهد، إلا أنهافي الحلاوة بمثابة الشهد.
وهو ممن نحوت إلى كعبته، ورميت نشاب البراعة من جعبته.
ومضى لي في صحبته حين، لم أنشف به إلا شمامات ورياحين.(1/188)
أسارع إليه مسارعة موفٍ لا مقرض، وأتعرض إلى خدمته تعرض مقبل لا معرض.
فأستجلى أحاسن المحاسن، وتنقاد لي بدائعه ذلل المراسن.
وقد انقبض حيناً عن الناس، وعد الوحشة من الإيناس.
وانعكف على دواوينه، وكلف بالعلم وأفانينه.
ثم نبه جفنه بعض انتباهة، فطار في أفق الشام بين نزاهة ونباهة.
وسافر ذكره للركبان زادا، كما أقام فضله للوارد عتادا.
وقد ورد القاهرة وأنابها أماطل الشوق وهو غريم، وأطلب فيض الدمع وهو كريم.
فتألفت معه في مجلس الأستاذ زين العابدين لا زالت مطارح أعماله سعيدة، ومطامح آماله قريبة والأكدار عنها بعيدة.
كما تألف الأرى مع القند، ونيطت الكف إلى الزند.
ورويت غلل الشوق من تلك الراح، بما لم يكن في قدره الماء القراح.
وكتبت إليه لما دخل القاهرة:
أهلاً بمولىً للثناءِ أهلُ ... يَفْدِيه منى القومُ والأهلُ
من جَلَّ عن مَثَلٍ ومَن مِثْلُه ... هيهات أن يُلْفَى له مِثْلُ
فضلُ البرايا فيه مُسْتجْمِعٌ ... فكلُّه إن تختبرْ فضلُ
إن ذكرتْ آياتِه فتيةٌ ... راح فَمُ الدهرِ لها يتْلُو
كم طال شوقي وغرامي له ... والدهرُ من عاداته المَطْلُ
حتى قضى اللهُ لنا باللِّقا ... فتمَّ لي من قُرْبِه السُّؤْلُ
وكان لي في فضلِ عِرْفانِه ... عن كل شغلٍ في الورى شُغْلُ
مولاي الذي سار في بروج الفضل مسير الشمس، وقامت فضائله في جسم العالم مقام الحواس الخمس.
لازال في السكون والحركة، موافق اليمن والبركة.
يفرح به كل فطر ينازله، كأنه البدر والدنيا منازله.
ومن شايعه مسعودٌ يومه وغده، وله من العيش أهناه وأرغده.
كتبت هذه الخدمة ولي قلبٌ على شوقك يتقلب، وكما عهدته انقلب إلى غيرك ولو يكون له ألف لولب.
كيف وأنا شعبةٌ من دوحتك، وغصنٌ من سرحتك.
بل نبتٌ سقته أياديك، وزهرٌ تفتح بما أفاضته غواديك.
وكنت قبل أن يسود الدهر منشود عذارى، ويكلفني وقد رأى كلالي إلى بسط أعذاري.
ومشرب العيش لم يخش غصة لومٍ يشرق بها من مسمع الصب ناهله، ومورد الأنس قد صفا عذبه ولكن تكدر من خوف الوشاة مناهله.
وشرف الشام بك شرف الجثمان بالروح، وانتعاشها بأنفاسك انتعاش الغصن بالنسيم المروح.
أستغنى بطرفك عن الثلاث المذهبات، وأستكفى بتحائفك التي علقتها بأذن سمعي عن السبع المذهبات.
إلى ما تناولته من دقائق حقائق، يحمر لها خجلاً في روض مذهب النعمان الشقائق.
وقد ربطت بك جملتي فما أعد سواك وكيف لا، وإني ما أتيت إلا فريضة وآتى جميع الناس إلا تنفلا.
ونظمت من مدحك في جيد الدهر قلائد، يقول البحر من أين أخذ مثل هذه الفوائد.
وكنت أتمنى أساهمك العمر وأشاطرك، على شرط ألا أتصور ما ينفر خاطرك.
فأبى الدهر إلا تشتيتي عنك في البلاد، ولولا هنيئة لقائك لقلت جرعني صاب الفرقة من ساعة الميلاد.
لكني أحمد الله تعالى على أن تداركني مدة غيبتك، بحضور معنىً من شخصك يسليني في الجملة عن رؤيتك.
ثم أردف ذلك ولو بعد تراخٍ في المدة، باجتماع كان النعمة الغير المترقبة والفرج بعد الشدة.
حيث يحمد المغدى والمراح، ولو اقترح على الزمان مطلبٌ كان هو الاقتراح.
فأمتعني الله فيه بمقدمك، وأسعدني بأغلى موطئ قدمك.
فسقيا لوقتٍ جمع بيننا، ورعيا لدهرٍ أزاح بيننا.
ولله بلدٌ موطن منى، وطلاعة أقمار سنا.
ومترنح نعيمٍ وحظٍ، ومتمتع قلب ولحظ.
وأحسبها الآن نافست بفضل الكمال، وكمال الفضل، وستصدر بالأماني والآمال، موفاة بالثناء الجزل، والقول الفصل.
ولها عندي على هذا الجميل ثناء الروض على الغمام، والزهر على الأكمام، والساري على القمر التمام.
ولئِن نَسِيتُ جميلَ مصرٍ بعدها ... طولَ الزمان فلا بلغتُ الشَّامَا
ثم فارق مصر موفر الآمال، ودخل الحجاز مختوماً له بصالح الأعمال.
فالله سبحانه وتعالى يقرن التوفيق بسكونه وحركته، وينهضنا إلى ما عرفناه من يمنه وبركته.
وقد اخترت من شعره الرائع التطريز، ونثره الخالص الإبريز.
ما يروق كما راقت ناجمة الحباب، ويشوق كما تشوق أحاديث الأحباب.
فمن قوله في الغزل:(1/189)
دَبَّ العِذارُ بخَدِّه فتضرَّجا ... رَشاٌ أبان على الشقِيق بَنَفْسجَا
وأمالَه سكرُ الدلالِ فعرْبَدتْ ... لَحظاتُه هيْهات ما أحدٌ نَجَا
رَخْصُ البنانِ أغَنُّ أوْطفُ أحْورٌ ... كالبدر أبْهى من رأيتُ وأبْهجَا
لم يكْفِه دَعَجُ العيون مَلاحةً ... حتى تشَرْبَشَ بالبَها وتتوَّجَا
وتفضَّضتْ وجَناتُه وتذهَّبتْ ... والحسنُ دَمَّج سالِفيْه ودبَّجَا
يختالُ كالغصنِ الرَّطِيب بمَعطِفٍ ... لَدْنٍ أرانا السَّمْهَرِيّ مُعوَّجاَ
ويظَلُّ يكسِر مُقْلتيْه تدلُّلاً ... أين النجاةُ لعاشقٍ أين النَّجَا
ومُعَرْبدِ اللَّحظاتِ حُسْنَه ... فتقيَّدتْ بشُهوده مُقَلُ الرَّجَا
صَلْتُ الجبين بَدَا كبدرٍ زاهرٍ ... يا صاحبَيّ قِفا هنا وتفرَّجاَ
قد ذاب قلبي في هواه صَبابةً ... وبحُسْنه لكَمِينِ شوقى هَيَّجَا
وفنَى اصْطبارِي في الهوى وتجلُّدِى ... والدمُع أمْطر في الجفون وأثْلَجَا
يا أيها القمرُ الذي القمرُ الذي ... من صُدْغِه مَن صُدغُه ليلٌ سجَا
حتَّى مَ يلْحاني عليك سَفاهةً ... مَن ليس يَدرِى ما الهوى وَتبَهْرجَا
جُدْ الوِصال فإنَّ لي بك مَدْخَلاً ... لم يُبْقِ لي عن حُسْنِ وجهك مَخْرَجَا
مَن لي بمن فضَح البدورَ مَلاحةً ... وبطَرْفِه فتن الغزالَ الأدْعَجَا
فاضتْ مياهُ الحسْن في أعطافِه ... والجسمُ أزْبَد فوق رِدْفٍ مَوَّجَا
وقوله:
يا قَدَّه ما أرْشقَكْ ... يا خَدَّه ما أشْرقَكْ
وأنتَ يا ناظرهَ ... جلَّ الذي قد خلقَكْ
تُرسل نحوي أسْهُماً ... هل كان قلبي دَرَقكْ
يا أيها العاذلُ في ... هواه ماذا أطْرَقكْ
أفْحَشْتَ في لَوْمِك لي ... أكْثرتَ فينا حَنَقَكْ
تحُوم حول حُسْنِه ... ما تخْتشِى أن يحرقَكْ
بالّله قِفْ يا أمَليِ ... إنَّ فؤادي علِقَكْ
ومِلْ أيا مَعطِفَه ... سبحان من قد مَشَقَكْ
لكَم أُنادِي الدمعَ يا ... دمعِي أقفْ مُغْرَوْرَقَكْ
وأُنْذِرُ القلبَ الهوى ... يا قلبُ هذا سرقَكْ
صَبْرِي قضَى وما قضَى ... منك المُنَى مَن عشِقَكْ
دعْ عنك ذا الهجرَ وجُدْ ... بحقِّ مَن قد خلقَكْ
وقوله:
يا قمراً يُزْرِى بشمس الفلَكْ ... كلُّ جمالٍ وبَهاء فلَكْ
ملكْتَ قلبي فترفَّقْ به ... ما أنت في حسنِك إلا مَلَكْ
الّلهَ اللهَ بنا يا رَشَا ... فإن قلبي في الهوى قد سلَكْ
أرسلْتَ لي طَيْفَك تحت الدُّجَى ... يا طَيْفُ حيَّي الّلهُ مَن أرْسلَكْ
مَولايَ ما ذنْبي إليك اتَّئِدْ ... في قْتلتي مِقْدار أن أسألَكْ
إن كنت لي أضمرتَ غَدْراً بلا ... ذنبٍ وحقِّ الله ما حلَّ لَكُ
أعطِفْ علينا وترفَّقْ بنا ... وافعلْ جميلاً بالذي جَّمَلكْ
قد ذُبْتَ يا قلبي عليه جَوًى ... وَيْحك يا قلبُ أما قلتُ لَكْ
وأنت يا ناظر عَيْني اتَّئِدْ ... إيَّاك أن تهْلِك فيمَن هلَكْ
ومن نتفه قوله:
وروضٍ بَدا فيه الشقيقُ مقَهْقِهاً ... يُشاكلُه خدُّ الحبيب المُورَّدُ
فقل له المعشوقُ يوما وقد سرَتْ ... عليه الصَّبا حتَّى غدا يتَبَغْدَدُ
سرقْتَ خُدودِي ثم زَوَّرْتَ شامَتِي ... وما ذاك إلا أن قَلْبَك أسْوَدُ
وقوله في بركة ماء:
وبركةٍ تذْهَل العقولُ بها ... تَحارُ في بعض وصْفِها الفِكَرُ(1/190)
كأنها مُقْلةٌ مُحدِّقةٌ ... عَبْرَي من الوجد نالَها السهرُ
تبكي وما فارقتْ لها وطناً ... يوماً ولا فات أهْلَها وطَرُ
يا حُسْن أُنْبُوبها لِصحّنِه ... والماءُ يعلو به وينُحدرُ
كصَوْلَجانٍ من فضةٍ سُبِكتْ ... فواقعُ الماء تحتها أُكَرُ
والبيتان الأخيران مضمنان.
ووقع لابن ظافر، أنه دخل في أصحاب له يعودون صاحباً لهم، وبين يديه بركةٌ رق ماؤها، وصحت سماؤها.
وقد رص تحت دساتير نارنج فضح الحضار، وملأ بالمحاسن عيون النظار، فكأنما رفعت صوالج فضة على كراتٍ من النضار.
فأشار الحاضرون إلى وصفها، فقال:
أبْدعْتَ يا ابنَ هلال في فَسْقِيَّةٍ ... جاءتْ محاسنُها بما لم يُعْهَدِ
عجباً لأمْواهِ الدَّساتيِر التي ... فاضتْ على نارَنْجَها المتوقِّدِ
فكأنَّهنَّ صوالجٌ من فضةٍ ... رُفعتْ لضَرْبِ كراةِ خالصِ عَسْجَدِ
وله:
كتب الجمالُ بطِرْسِ وَجْنتِه لنا ... سطراً به مُحِيَ الجمالُ المشرِقُ
فكأنما ذا أمْرُ سلطانِ البَهَا ... وَافَى لَمن يهْوَى ومن هو يعشقُ
تَقْرَا العيونُ على القلوبِ رسُومَه ... ياقومَنا خرَج الوِطاقُ تفرَّقُوا
وله:
وصديقةٍ وافَيْتُها مُتنزِّها ... ورءُوس نَرْجِسِها طوارِقُ حُرَّكُ
والأقْحُوانُ يظلُّ يركع بالصبَّا ... فكأنما هو عابدٌ متنسِّكُ
فجلستُ بينهما كأني سُخْرةٌ ... هذاك يْغمِز وذا هذا يضحكُ
ومن مقطعاته قوله:
خاطبتُ مَعْسول الرُّضابِ وقلت هل ... من رَشْفةٍ تشفِى الحشَا بشفائِها
فأجابَنِي والثغرُ منه باسمٌ ... ما كلُّ بارِقَةٍ تجودُ بمائِها
ومن رباعياته قوله:
خُذْ حِذْرَك من عيونه يا قلبُ ... لَمَّا يَرْنُو فإن هذا حَرْبُ
والعشقُ على النفوسِ سهلٌ صعبُ ... لا يعرف كيف الحالُ إلا الرَّبُّ
وله:
لا تحسَبُوا شامةً في خدِّه طُبِعتْ ... هاتيك حَبَّةُ قلبٍ زادَه حُبَّاً
فدَبَّ ينْقُلها نملُ العذارِ له ... والنملُ من شأنِه أن ينْقُل الحَبَّا
أخذه من قول بعضهم:
عوارضُه تسْبى العقولَ بحُسْنِها ... وتنقُل حبَّاتِ القلوب نمِالُها
وأنشدني السيد سليمان الحموي، من لفظه لنفسه في هذا المعنى، وقد أحسن:
وأَغْيَدٍ أفْرط في تِيهِهِ ... حتى رأينا منه شيئاً عُجابْ
فأطْلَع اللهُ له عارِضاً ... أمْطر خدَّيْه ألِيمَ العذابْ
كأنْملٍ في التشْبيِه لكنه ... نملٌ بدا ينُقل حبَّ الشبابْ
وله:
يا قلبُ صَبْراً في هوَى ... من لم تَرُعْه صَبْوُتكْ
وأنت يا ناظرَه ... إنْ هي إلَّا فِتْنَتُكْ
وله:
وذي خَدٍّ تعلَّق فيه قلبي ... فأحرق خدُّه قلبي بنارِ
وخافَ على الجمال يفِرُّ منه ... فقيَّده بسِلْسِلة العِذارِ
أحسن منه قول ابن سعيد الغرناطي، في الخال:
كأن خالاً لاح في خدِّه ... للعين في سِلْسِلةٍ من عِذَارْ
أُسَيْوِرٌ يخْدِم في جَنَّةٍ ... قَيَّده مولاه خوفَ الفِرارْ
ومن قوله: وخاف على الجمال إلخ، تذكرت قول أحمد بن شاهين، في مناقضته:
مذ نبَت العارضُ في خدِّه ... بُدِّلت الحمرةُ بالاصْفرارْ
كأنما العارضُ لمَّا بدا ... قد صار للحسنِ جَناحاً فطارْ
وبلغه أنه عيب عليه استعمال التكرار في شعره، فقال:
أعِيبَ تَكْرارُ لفظِ نظْمى ... والنظمُ من ذاك ما تضّرَّرْ
وأطْربُ النَّغْمِة المَثانِي ... وأحسنُ السُّكَّر المُكرَّرْ
وله:
قد أبحْتُ الخدودَ منه ودادِي ... فَرَمتْني الخدودُ في نارِ يَاسِي
وبَقِى ذلك العذارُ حَماه اللَّ ... هُ حتى انتصفتُ من وَسْواسِي(1/191)
صدق الناسُ ليس للوردِ وُدٌّ ... إنما الوُدُّ كلُّه لْلآسِ
نسبته عدم الود بسبب قلة مكثه، ونسبة الود للآس بسبب دوام لبثه.
وهذا مستعمل في الأشعار كثيراً، كقول ابن زيدون:
لا يكُنْ وُدُّكَ وَرْداً ... إنَّ وُدِّي لك آسُ
وله:
شبَّهْتُه بالغُصْنِ بين الرُّبَى ... ووجهه بالزَّهْرِ مُنْفضَّا
فأصبح الغصنُ له مُطْرِقاً ... والزهرُ من فَرْطِ الحيَا غَضَّا
ولو في زهر البلسان:
وأشجارِ بَلَسانٍ بها لعب الصَّبا ... فبهْجَتُها بين الحدائِق مُفْرِطَهْ
كأن بياض الزَّهر فوق غُصونِها ... كُفوفُ لُجَيْنٍ بالنُّضارِ مُنقَّطهْ
وله:
لمَّا تكاملَ حسنُه وجمالُه ... وزهَى كغصنٍ بالدَّلالِ رشيقِ
نزل العذارُ على الخدود كأنه ... طَلُّ الزَّبَرْجَدِ في رياضِ عَقِيقِ
وله:
شكا لي نسِيمُ الروضِ ضَعْفاً أجَبْتُه ... وقلبي بأثْقالِ الغرامِ كلِيلُ
أعَلَّك غصنٌ عَلنَّي صَدُّ مثْلِه ... إذاً فكِلانَا يا نسيمُ عَلِيلُ
وله مضمنا:
أدار علينا الكأسَ ظَبْيٌ مُهَفْهَفٌ ... قطعْنا الدُّجى وَصْلاً به نتنعَّمُ
وغنَّى عن النَّايِ الرّخِيمِ مُشبِّباً ... فنحن سكوتٌ والهوى يتكلَّمُ
مثله للشهاب الخفاجي:
لنا مجلسٌ فيه من اللهوِ مُطْربٌ ... وآدَابُنا ما بينه تترنَّمُ
ونايٌ يُناجِينا بأسْرارِ ربِّنا ... ونحن سكوتٌ والهوى يتكلمُ
وله في أرمد:
يا قومِ لا تحسَبوا في عينِه رمداً ... لقَد ألمَّ بنا من قولكمْ ألَمُ
ماذا سوى أنه مذ رام يْقُتلني ... رَنَا إلىَّ فأغْضى والسيوفُ دَمُ
مثله للصلاح الصفدي:
أيْقظْتُه من كَراه بعد ما رمَدت ... عيْناه لا مَسَّها من بعدها ألَمُ
قد زُرْتُه وسيوفُ الهند مُغْمدةٌ ... وقد نظرتُ إليه والسيوفُ دَمُ
وله، في مليح اسمه عثمان، وفي يده شمعة:
بأَبِي مليحٌ لاح يحملُ شمعةٌ ... في كفِّه ليلاً فَراقَ لعيْنِي
لمَّا بدا وأضاءَ نورُ جمالِه ... قلت انْظروا عثمانَ ذا النُّورَيْنِ
ولابن المعتز في مثله، بيده شمعتان:
وافَى إلىَّ بشْمعتْين ووجهُه ... بضِيائِه يزْهُو على القمريْنِ
نادَيْتُه ما الإِسمُ يا كلَّ المُنَى ... فأجابَنِي: عثمان ذو النورَيْنِ
وكان السيد عبد الرحمن بن النقيب أطلعه على دعابة لبعض الأندلسيِّين، فعمل على أسلوبها مقامةً وهى هذه:
وأنا الذي أهْدَى أقلَّ بَهارِهِ ... حُسْناً لأحسنِ روضةٍ مِئْنافِ
إن أحْلَى ما تمزَج به كؤوسَ المودَّة، وأعْطَر ما تستْنِشقه مَشامُّ الخواطر المستعِدَّة.
خبرٌ له الطَّربُ مُبتدا، وحديث ترويه عن القريحة مُسْنَدا.
وذلك حين اسْتُفزَّت هوامِدُ السرور، وتغنَّى في دَوْحة الأنس كلُّ بُلبل وشُحْرور.
وتنبَّهتْ ذات الجناِح بسُحْرةٍ ... في الوادييْن فنبَّهتْ أشواقِي
وأنا الذي أُمْلِي الهوَى من خاطرِي ... وهي التي تُمْلِى من الأوراقِ
حتى خرجت أسوق مطايا الأسى، لأبيع كافورة الصبح وأشترى عنبر المسا.
والصبحُ قد أهْدَى لنا كافورَهُ ... لمَّا اسْتردَّ الليلُ منَّا العنْبَرَا
قاصداً ادِّراعَ حلل اللهو، إلى حومة الطرب والزهو.
ومتحرشاً بأذيال البكور والأصائل، ومعتبراً بقول القائل:
باكِرْ إلى اللذاتِ واركبْ لها ... سوابقَ اللهوِ ذوات المراحْ
من قبل أن ترْشِفَ شمسُ الضُّحَى ... ريِقَ الغَوَادي من ثُغور الأقاح
فبينما أنا كذلك وإذا بشقِيق شفِيق، ورفيقٍ هو بي في سائر الأمور رفيق.
فأقبل على إقبال الكرام، وقد لمعت بالبشر صفحات وجهه بعد أن حيا بالسلام.
تشربُه الرَّاح وهو يشربُها ... يطربُ من حسنِ وجهِه الطَّربُ(1/192)
فسألتُه في المُسايرة والمُنادمة وحَثَثْتُه على المسامرة والمكالمة.
فأسفر وجهه عن شموس الفرح، ونال ابتهالا وابتهاجاً بنسمات المسرة والمرح.
وقال: مرحبا بقولك المسوع، ورأيك الذي اتفقت عليه الجموع.
لِدَواعِي الهوى وحكمِ الخلاعَةْ ... ألفْ سمعٍ لا للوقارِ وطاعَهْ
فسرنا حتى أتينا منتزها رحب الأكناف، متناسق النعوت والأوصاف.
نسيِمُه يعثر في ذَيْلِه ... وزهرُه يضحكُ في كُمِّهِ
فوجدناه ذا ظل ظليل، وماءٍ أعذب من السلسبيل.
أشجاره ثابتة، وأغصانه نابتة.
نَهْرُه مسرعٌ جرى وتمشَّتْ ... في رُباهُ الصَّبا قليلاً قليلاَ
تصدح حمائمه وتسرح نسائمه، وتنفح كمائمه.
ولي من الوُرْق في أوْراِقها طَرَبٌ ... كأنَّهن على العِيدانِ قَيْناتُ
فصعدنا منه إلى قصر مشيد، متزخرف الجوانب بألوان الأطلية وأنواع الشيد.
فيه الغرف الرفيعة ذات التزيين، والمقاصير المصنوعة لقاصرات الطرف عين.
وإيوان يقول لمن يراه ... على قَدْرِي وفوق الكُلِّ أُشْرِفْ
ألم ترَ أن طيرَ العِزِّ أضحى ... يحُوم بساحَتِي وعلىَّ رَفْرَفْ
وقد طلت شبابيكه على تلك الأرجاء المونقة، والجداول المتدفقة.
وأرضه مفروشة بأفخر الوشى والديباج، وقد أطلقت فيه مباخر الطيب فزاد في الابتهاج.
حوَى عجباً لم يحْوِه قطٌّ مجلسٌ ... على أنه في الحسنِ أُعْجوبةُ الدهرِ
فجلست أنا وصاحبي على تلك الأريكة الممنوعة، والفرش المرفوعة.
نتناشد الأشعار، ونتشبث بأذيال الأفكار.
وحديثه السحرُ الحلالُ لَوَ أنَّه ... لم يجْنِ قتلَ المسلمِ المتحرِّز
إن طال لمُ يمْلَلْ وإن هي أوْجزَتْ ... وَدَّ المحدَّثُ أنها لم تُوجزِ
ولم نزل رافلين في غلائل المسرة، ومتنعمين بلطائف الأنس على أوج هاتيك الأسرة.
حتى عدنا وقد شمرت لمغيبها الذيل، واصفر وجهها خوفاً من هجمة عساكر الليل.
الشمسُ هاربةٌ للغَرْبِ دارِعةٌ ... بالنَّبْل مصفَرَّةٌ من هَجْمة الغَسَقِ
وقد ظهر الهلال في حمرة الشفق، كحاجب الشائب أو زورق الورق.
لا تظنَّ الظلام قد أخذ الشَّمْ ... سَ وأعطى النهار هذا الهلالاَ
إنما الشرقُ أقْرضَ الغربَ دِينا ... راً فأعْطاه رَهْنَه خَلْخالاَ
وبينا أنا راجعٌ مع صاحبي في أخريات الطريق، وإذا برفيقٍ لي وهون على الحقيقة رفيق.
فاعترضني وقال لي: أين كنت، ومن أين توجهت.
فقلت له: كنت مع صاحبي، الذي هو هذا اليوم مصاحبي.
في منتزه، وهو فضاء الأرض، ذات الطول والعرض.
وصدَقْتُه في كل ما حاولْتُه ... مما تقدَّم في الكلامِ الأوَّلِ
وغيم ذلك الفضا هو الظل الظليل، وغيثه المنهمر هو الأعذب من السلسبيل.
وأشجاره هي حبال الأمطار، وحمائمه الصادحة أصوات الرعد في جوانب الأقطار.
وكمائمه حب البرد، ونسائمه المعلومة فيما ورد.
وما ذلك القصر الموصوف، سوى جبتي هذه وثوبي هذا الصوف.
والشبابيك جيوبه، وأطواقه، ولا عجب أن نفحت فيه مباخر الطيب فإنها قراطيسه وأوراقه.
وبالقياس على هذا تأويل ما بقي من العبارات السابقة، والإشارات المتلاحقة.
وبذلك انتهى الكلام، وتم ما قصدناه من الدعابة والسلام.
والدعابة التي أطلعه عليها هي هذه:
لابُدّ للنفس أحياناً إذا سئمتْ ... أن تسْتريحَ إلى الآدابِ والمُلَحِ
فَخُضْ بها من أحاديث النِّدام إذا ... أعْيَتْ مذاهبُها في كلِّ مُقْتَرَحِ
وهاهنا نزعة يختلف إليها النديم، ويعتلق بها الطبع السليم.
وذلك أني طفت الجنان، وبلوت الفروع والأغصان.
فلم أر مثل نبعة، في خير بقعة.
حسنة البزة، يانعة الهزة.
دوحها مغنٍ، وطيرها مرن.
يُطارحني من بينهن ابنُ أيكَةٍ ... هتوفُ الضُّحى بعد العشيَّةِ مِرْنانُ
أُجاذبُه هُدْبَ الغرامِ وفي الحشاَ ... نَزُوعٌ إلى ذكْرِ الأحبَّة حَنَّانُ
فأسمعني خطابه، وفرغ لي وطابه.
فقلت: ما هذا الفنن، وعلى م هذا الشجن.
فقال: أما الفنن فمنصة، وأما الشجن فعن غصة.
فتلكأت عنه تلكأ الشاك، وقلت: ومن وشاك.(1/193)
فقال لبست ملاءة الربيع، وكتمت الغرام لو أستطيع.
فقلت: لأمرٍ ما خطبتك الغيد، وأعارتك حلى الجيد.
فقال: بل موهت النحول، وأخفيت عنوان الذبول.
وأما ما أحاط بالمقلد فوثاق، وقد تظرف من طبع أغلال الهوى على قوالب الإطباق.
فلما نعمت بمطارحته، ونهمت بمفاكهته.
سايرته بأرسانه، وقاولته بلسانه.
وقلت: إيه، فيما نحن فيه.
غصن نضير، ووادٍ عطير.
روضة حزن، ونسيمه لدن.
وماؤه صاف، ونديمه وصاف.
فزدني من ندامك، وأصخ لترنامك.
ففي أي الحالتين تفيض، فلا بعدك معبد ولا دونك غريض. فقهقه ورجع، ثم أنشد فأسمع:
خُذْ بنا في محاسنِ الأوصافِ ... فهي نَقْلٌ ما بين أيدي الظَّرافِ
وانْتخبْ للنِّدامِ كلَّ حديثٍ ... من قِصارِ الفصول ذاني القطاف
يتمنَّى الجليسُ عمرَ مُعاذٍ ... لتلِّقى مُعادِه الشفَّافِ
واقْتحمْ لُجَّةَ القَرِيضِ بفكْرٍ ... يْنتقى الدُّرَ في حَشَا الأصْدافِ
وتنقَّلْ من الدُّعابَةِ للْجِدِّ ... وخَيِّمْ حيث المعاني الِّلطافِ
فلما أتى بنقل قريضه، وألمع إلي بتعريضه.
ناب إلى أن أمتخض الفكر، وأكشف قناع البكر.
فأبْرزْتُها عذراءَ في زِيِّ غادةٍ ... تُزَفُّ على وجِه الدُّعابِة والهزْلِ
وما ثَمَّ إلَّا نَبْعةُ الشعرِ نَبْعةٌ ... يَرنِ ُّبها طيرُ الفصاحِة والنَّبْلِ
بيت الفرفور بيتٌ فضله موفور، وذنب الزمان بأهله مغفور.
وقد خرج منه جماعة أجلاً، فضلهم أبهر من النجوم السيارة وأجلى، فمنهم:
أحمد بن ولي الدين
الأديب الأريب، واحد الخبرة والتجريب.
نظم الشهب في الكتب، ورفع النقب عن أسرار الحقب.
وهو من كل المشارب شارب، ومن كل المسارب سارب.
فطوراً له طورٌ لجِدّ مُدافعٍ ... ووْقتاً له سَمْتٌ لهزْلٍ مُجانبُ
ولله منه جانبٌ لا يُضِيعُه ... ولَّلْهو منه والخلاعِة جانبُ
واتفق أن ضرب الدهر على صماخيه بصمام من الصمم، فزاده ثقل تلك الحاسة خفة تنشط الرمم.
فما برح يشرب صرف الهنا من أدنانه، ويهصر غصن المنى في أفنانه.
حتى أثرت في ذوائبه أفاويف الشيب، ودعاه الداعي الذي لا يعترض إجابته الريب.
وهو شاعر لشعره حظٌّ من الحسن، كأنما تغازله الجفون الوسن.
أثبت له ما يهيج الطرب، ويحلو في الأفاوه كما يحلو الضرب.
فمن ذلك قوله في مراجعة العمادي المفتى، وقد كتب إليه قصيدةً، لم أر منها إلا قوله:
مَن لي بظَبْيٍ كُحِّلتْ ... أجفانُه بالسَّقمِ
يفترُّ عن ثغرِ بدَا ... عذْبَ الثنايا شَبِمِ
أجْرى دموعي في الهوى ... كمُغدِقات الدِّيَمِ
وسَلَّ سيفَ لَحْظِه ... وهزَّ قَدَّ لَهْذَمِ
واخْتال في ثَوْب الصِّبا ... يْسحب كلَّ مُعْلَمِ
مصائبٌ ما جُمِّعتْ ... إلا لقْتل المغرمِ
يا قاتلَ اللهُ الهوى ... بدَّل دمعي بالدمِ
فكم له في خَلَدِي ... سرائِرٌ لم تُعلَمِ
وهذا ما رأيته في جوابه:
دُرٌّ سَمتْ في القِيَم ... وسُمِّيت بالكَلِمِ
أم روضةٌ دامتْ عليْ ... ها هاطلاتُ الدِّيَمِ
فلاح منها نُورُ ثَغْ ... رِ نَوْرِها المبتسِمِ
أم غادةٌ قلبي كَلِي ... مُ لَحْظِها المكلَّمِ
من بَيْضها وسُمْرِها ... في الطِّرْش قَتْلُ المغرَمِ
حيَّتْ فأحْيت بالِّلقا ... قلبا إليها قد ظَمِى
لِمْ لا ومُهْديها كري ... مٌ لكرامٍ ينْتمِي
ألْفاظُه كالسحرِ إلَّا ... أنها لم تحرُمِ
مُهذَّب أخلاقُه ... بحُسْن تلك الشِّيَمِ
كنَشْرِ روضٍ قد سرَى ... غِبَّ حَياً مُنسجِمِ
وكان بينه وبين أحمد بن شاهين صحبة وردها شرع لا ينسخ، وعهدها عقد لا يفسخ.
وكلاهما من أول مرباه، كالغصن يترنح في رباه.(1/194)
متعاكفان على تعاطف وائتلاف، ومتعارفان على تهارج واختلاف.
فعلقا فتى ألحم بينهما بسحره الألفة، وأماط فيما بينهما حجاب الكلفة.
وبقيا سنين متلازمين تلازم الدليل بالمدلول، والعلة بالمعلول.
ومتصلين أتصال الأرواح بالأشباح، والمساء بالصباح.
حتى اكتسى خد الفتى بالعذار، وطلع الشيب في عوارضهما متهماً بالإنذار.
هناك تيقظ الفرفوري من سناته، وعدى عما كان فيه هناته.
وكتب إلى الشاهيني:
ولَّما أن بدا شَيبٌ بفَوْدِى ... خلُصتُ من الصبابِة باحْتيالِ
وصرَّفتُ المحبة كيف شاءتْ ... كأن الحبَّ لم يخطُر ببالِي
فأحسنُ ما يقال بأن قلبي ... سلَا يسلُو سلُوًّا فهْو سالِي
فكتب إليه قصيدة هز بها إلى رعى حقوقه، واستدفاع عقوقه.
وموافقته فيما إليه جنح، متيمنا بما إليه طير رشاده سنح.
سيما وقد تبين الرشد من الغي، وصار النشر إلى الطي.
والقصيدة المذكورة، ومن أحاسن أشعاره المشهورة.
إلا أنها طويلةٌ جداً، فاقتصرت من وابلها على الطل، واكتفيت عن أكثرها بالأقل.
ومطلعها:
أقصيدتي مُورِي بجَهْدك مُورِى ... وتيمَّمي خِدْنَ العُلى الفُرْفُورِي
يا ألْفَ مولايَ ولستُ بقائِلٍ ... غيرَ الصوابِ لصاحبي وسميرِي
مالي أراك مُفرِّطاً في صُحْبتي ... فكأنني عِقْد بكفِّ صغيرِ
خفِّض عليك فلستَ أوَّلَ قاذفٍ ... من جوِّ شاهِقَةٍ لجوْف شَفِيرِ
أوَ قد زعمتَ بأنني مُتهالكٌ ... في إثْرِ روض ليس بالمَمْطورِ
ما الروضُ فيما قد حويْتَ مُحتَّمٌ ... كّلا ولا للغْيرِ فضلُ خَضِيرِ
هيَ دِمْنةُ خضراءُ لم يأنَسْ بها ... رِيم وليس سَرابُها بعَبيرِ
أنَّي تقول ولا أَخالُك قائلا ... العَيْرُ عَيْرِى والنَّفِيرُ نفيرِي
صدقتْ بناتُ الفكر فيما ألَّفتْ ... إن العَباءةَ عندكم كحَبِيرِ
ما للفِراسةِ لم تُصدَّق فيكمُ ... والألْمَعيَّةِ لم تُعَنْ بنَصِيرِ
ومنها، وهو محل الشاهد:
فوَ حقِّ سَلْوتِيَ التي قد أصبحتْ ... بَرْداً على كبدي لكل عَسِيرِ
هذا فؤادي مِلْءُ صدري حُزْنُه ... وافَى بِجَفْن في السُّلُوِّ قريرِ
ومَناكِبى أمْسَتْ تلائم مضْجعي ... ثم ارْعَويتُ فما استعنْتُ زفيرِي
وغدوتُ أضحك مِلْءَ فِيَّ تعجبُّباً ... حين استمَرَّ على البِعاد مَرِيرِي
وتصافحتْ يُمْنايَ باليَسَر التي ... قد كانتا في غِلِّ خيرِ خبيرِ
وتبدَّلتْ عيْنَايَ أحسن مَنظراً ... وهي الصحائفُ في دُجًى وبكُورِ
لّلِه أنتَ وما صنعتَ فإنما ... أنْقذْتني من هُوَّةٍ وسعيرِ
وكذاك ينْجُو ذو الصداقِة في الهوى ... وكذا بذنْبٍ ينْثنِي مغْفورِ
ولده عبد الوهاب
المفتى بحَقّ، والسامي على رُتبةٍ هو بها أحَقّ.
فقيهُ المذهب النُّعْمانِي، ومن توفَّرتْ له في الشهرة الأمانِي فأُشير إليه بالجلال، وأُثْنِىَ عليه بكرم الخلال.
لم يزل يصل في الجد الليلة باليوم، ويعتاض في الاشتغال السهر من النوم.
وينفق من الزاد، فيخزن في الفؤاد.
والعلم كما عرفت بعيد المرام، لا يرى في المنام، ولا يورث عن الآباء والأعمام.
حتى بلغ مبلغا يقصر عنه أمل المتطلع، وحل محلاً تنقطع دونه رغبة المتطمع.
ونزل من القلوب بمنْزلةٍ هي المُصافة بين الماء والرَّاح، وأوْرد العيونَ الرياضَ وأورد القرائحَ القَراح.
فللنَّواظِر فيه مَرْتَع، وللخواطر منه مُتمتَّع.
وله الأيادي البيض، والطول الطويل العريض.
بارَتْ يداه السُّحْبَ فارْتجعتْ ... عنها ووابلُ وَدْقها وَشَلُ
فالرعْد في أحْشائِها قَلِقٌ ... والبرقُ في حافاتها خَجِلُ
ثم ولى الإفتاء فأديت أمانةٌ إلى أهلها، وجاءته النعم تترى ولكن على مهلها.
فلم يلبث تضمنه ضريحه، وسفت عليه ريحه.(1/195)
فلا زالت السحائب الحوامل، تضع مشهد قبره كل طلٍ ووابل.
وله شعر ليس مثله عليه بمستنكر، فالإتيان به غير مستكثر.
فمنه قوله:
قد يُلْبِس الشعرَ شوقى تارةً حُلَلاً ... كوشْىِ صَنْعَاء يزهو فوق حَسْناءِ
وتارةً ليس شَمْلِي فيه مجتمِعاً ... فيْعتريه فتورٌ عند إلْقائِي
وقوله:
دَعِ الحبَّ إن الحبَّ للعقلِ سالبُ ... وعِشْ خالياً فالحب فيه النَّوائبُ
فلا يصْلُحَنْ إلَّا لمْثلى فإنني ... فتىً دون نَعْليْه السُّها والكواكبُ
فمَن كان مثْلي كان بالحبِّ لائقاً ... وإلَّا فصَبٌّ بالصبابِة لاعبُ
وقوله:
إن غبْتَ عن ناظرِي يا مَن كلِفتُ به ... فما أراك عَقِيبَ الآن في عمرِي
لأنّ عيْنيَ تجرى بعد فُرْقِتكمْ ... دماً ويتْبعُه ما طُلَّ من بَصَرِي
وقوله في الرباعيات:
وللهِ وحقِّ مُحكماَتِ السُّوَر ... ما غبْتَ عن الفؤادِ بل عن بَصَرِي
من منذ غَدوْتُ في هواكم دَنِفاً ... أيامُ نَواكَ لم تكنْ من عمري
وكتب إلى جدي محب الله:
يا مَن أياديِه سحابٌ ممطِرُ ... ولديْه حاتمُ في السَّخا لا يذكَرُ
وعليه من سِيمَا الكرام دلالةٌ ... وشواهدٌ تبدُو عليه وتظهرُ
طوَّقْتني من راحَتْيك بمِنَّةٍ ... أضْحتْ على طُول الليالي تُنشَرُ
لم أقْضِ حقَّ ثَنائها لو أن لي ... في كلِّ جارحةٍ لساناً يشكرُ
وله:
أنا واللهِ ما الجفاءُ غرامي ... لا ولاه الهجرُ والصدودُ مَرامِي
ولئِنْ غبتُ عنكمُ ففؤادِي ... مثلُ ما تْعهدون بل هو نامِي
وله:
للهِ بدرٌ قد حكى بخدودِه ... وردَ الرُّبى وشقائقَ النُّعمانِ
وبِثْغره زهرَ الأقاحِ مُنضَّدٍ ... وبِقدِّه المَيَّاسِ غصنَ الْبانِ
وبطِيبِه طِيبَ الرياض ونَشْرَها ... وبِصُدغه لْلآسِ والرَّيْحانِ
وإذا محاسنُه بدَتْ لعيونِنا ... تُجْلَى فلا تحتاجُ للبُستانِ
هذا فيه سماتٌ من قول جحظة البرمكي:
خِلْتُه في المُعصْفَرات القَوانِي ... وردةً في شقائقِ النُّعمانِ
أنتِ تُفَّاحتي وفيك مع التُّفَّا ... حِ رُمَّانتانِ في غُصْنِ بَانِ
لا أرى في سِواكِ ما فيكِ من طِي ... بٍ ومن بهجةٍ ومن رَيْحانِ
وإذا كنتِ لي وفيك الذي في ... كِ فما حاجتي إلى البستانِ
بيت القاري من البيوت التي تقلد فخرها جيد الدهر، واكتسب النسيم بعرف ثراها أرج الزهر.
مدائحهم كصحائف المحسنين بياضاً ونقا، وذكراهم كعهد الموقنين وفاءً وتقى، فمنهم:
عمر بن محمد
علم فضل وإنصاف، وشرف نعوت وأوصاف.
افتخر به الآباء والبنون، وتجملت بفضائله الشهور والسنون.
شهرته من العلم شهرة القمر ليلة بدره، ومحله من الكمال حيث يستمد كل ذي قدرٍ قدره.
عمر الله به دار ابن عامر، وجاد نافع نواله فهو لمستنجد عاصم ولمجتديه غارم.
وبالجود تحوز المدح الأفاضل، كما أن الرياض تصدح فيها البلابل.
تحلت بفضائله للعلوم نحور، وتجلت له منها ولدان وحور.
سطور سبح نظمت لآليها من الدر النثير، إذا رأتها الأنام اشتغلت بالتسبيح والتكبير.
وله أدب توشعت بصنعة السحب وشائعه، وبلغ كلا الخافقين مشهوره وشائعه.
وهو في القريض قليل الكلام، إلا أن كلامه يكتب لتشريف الصحف والأقلام. فمن شعره قوله:
لولا ثلاثٌ هُنَّ أقْصى المُرادْ ... ما اخْترتُ أن أبْقى بدتار النَّفادْ
نهذيبُ نفْسِي بالعلوم التي ... بها لقد نِلْتُ جميعَ المُرادْ
وطاعةٌ أرجو بإخْلاصها ... نُوراً به تُشرقُ أرضُ الفؤادْ
كذاك عِرْفانُ الإلهِ الذ ... لأجْلِه كان وجودُ العبادْ
فأسألُ الرحمنَ بالمُصطفى ... وآلِه التَّوفيقَ فهْوَ الجَوادْ(1/196)
هذه الثلاثيات نظم فيها كثير من المتقدمين والمتأخرين.
فمنهم ابن صابر القيسي، قال:
لولا ثلاثٌ هُنَّ واللهِ منْ ... أكبرِ آمالي من الدنيَا
حجٌّ لبيْتِ اللهِ أرجُو به ... أن يقبلَ النِّيَّةَ والسَّعْيَا
والعلمُ تحصيلاً ونشْراً إذا ... روَيْتُ أوسعْتُ الورى رأْيَا
وأهلُ وُدٍّ أسألُ اللهَ أن ... يُمتْع بالبُقْيا إلى اللُّقْيَا
ما كنتُ أخشْىَ الموتَ أنَّى أتى ... بل لم أكنْ ألْتذُّ بالمَحْيا
ومثله لأبي حيان:
أما إنه لولا ثلاثٌ أُحبُّها ... تمنَّيْتُ أنى لا أُعَدُّ من الأحْيَا
فمنها رجائي أو أفوزَ بتوْبةٍ ... تُكفِّر لي ذَنْبا وتُنْجِح لي سَعْيَا
ومنهُنَّ صَوْنُ النفسِ عن كل جاهلٍ ... لئيمٍ فلا أمْشِي إلى بابه مَشْيَا
ومنهنَّ أخْذِي بالحديث إذا الورَى ... نَسَوْا سُنَّةَ المختارِ واتَّبعوا الرأْيَا
أأتْرك نصًّا للرسولِ وأقْتدي ... بشخصٍ لقد بُدِّلتُ بالرَّشَدِ الغَيَّا
وكتب مقرظا على نظم:
تأمَّلتُ ذا النظمِ البديعِ وما حَوَتْ ... معانِيه من حسنِ الصياغةِ والسَّبْكِ
فشاهدتُ رَوْضاً بالفضائلِ مُزهِراً ... وعاينْتُ دُرّاً قد تنظَّم في سِلْكِ
حفيده محمد بن علي
وهو من بحره خليج، ولروضه عرف وأريج.
بأنواره تحاسن الأقمار، وبأمداحه تعطر الأندية والأسمار.
فهو شربٌ سائغٌ بلا كدر، وسمرٌ ممتع بلا سهر.
وصحةٌ في نعمةٍ عقيب مرض، وفرحة رامٍ أصيب بسهمه غرض.
وله شعر كالزلال النمير، إذا صافح الأسماع تبسم له القلب والضمير.
فمنه قوله:
خِلْتُ العيونَ الرَّامياتِ بأسهمٍ ... يَجْرَحْنَ قلباً بالبِعادِ مُعذَّبَا
فاُعْجَبْ لِلَحْظٍ قاتلٍ عُشَّاقَه ... في حالتَيْه إذا مضَى وإذا نَبَا
وهذا معنى جيد جداً، وهو ينظر من طرفٍ إلى قول ابن الرومي:
نظَرتْ فأقْصدتِ الفؤادَ بسهمِها ... ثم انْثنَتْ عنه فكاد يهِيمُ
وَبْلايَ إن نَظرتْ وإن هي أعْرضتْ ... وَقْعُ السهاِم ونَزْعهُنَّ أليمُ
وقد لطف الخفاجي، وأجاد كل الإجادة في قوله:
سِهامُ جُفونِه أعْرضْنَ عنِّي ... فأسْرعَ فَتْكُها ونَما جَواهَا
فيالَكِ أسْهُما تُصْمِى الرَّمايَا ... إذا قصَدتْ إلى شيءٍ سِواهَا
حسين بن محمد
فرع طاب منه جنىً ومهتصر، فلو طلبت الحياة لوجدته من صباحته يعتصر.
خلقه الله نورا مصوراً، وأطلع غصن كماله غضاً منوراً.
بوجه يتبعه التهليل والتكبير عند شروقه، وحسن أداء يشر به السمع فتدب نشوة الحميا في عروقه.
في كل نادٍ منه روضُ نمَاءِ ... وبكل خدٍّ منه جدولُ ماءِ
ووجه المشرق الجمال، يصف ما فيه من أنواع الكمال.
وقد عشق الأدب وزهرة حسنه في أول ما انفتقت عنها الكمامة، فما ناهز العشرين إلا وتسامت لوائح فكره من أن تساجلها الغمامة.
فهنالك ما تشاء من نوادر مرتصفة، وآثار بأحسن القول متصفة إن خط فنقش العيد، على معاصم الحسان الغيد.
وإن لفظ فجوهر العقود، وعصير الخمر من العنقود.
إلا أنه لم تلمحه النقل، حتى اختار الملأ الأعلى فانتقل.
فقامت النواعي يند بن بدرا في أول كماله خسف، ويبكين غصناً في ابتداء نضرته قصف.
فحيَّتْ تُرابا ضَمَّه سُحْبُ رحمةٍ ... ليخْضلَّ روضٌ جسُمه فيه موضعُ
فمما اخترته من شعره قوله:
أفْديه ظبياً بالشراب مُولَّعاً ... يترشَّف الأقْداحَ وهْو الأكْيسُ
فكأنه البدرُ المنير إذا بدَا ... من نُور طْلعته أضاء المجلسُ
وقوله مضمنا:
بالله سَلْ طَرْفَيِ السهرانَ هل هجَعا ... وما به الوجدُ والتْبريح قد صنَعَا
قد حدَّث الناسُ عن مُضنَى الهوى دَنِفاً ... وما أصابُوا ولكن شنَّعوا شَنَعَا
يا ابنَ الكراِم ألا تدنْو فتبْصرَ ما ... قد حدَّثوك فما راءٍ كمن سمِعاَ(1/197)
هذا البيت مما أكثر تضمينه قديما وحديثا، ولا أدري لمن هو، وفيه عكس التشبيه: إذ ليس السامع أرقى حالا من الرائي، وبه يتم غرض الشاعر الذي استدل لأجله.
ومن شعره قوله:
زار وَهْنا مُرنَّحَ الأعْطافِ ... بعد أن كان مائلاً للْخلافِ
كم على صُدْغِه ورَاٍح لَماهُ ... رُحْتُ سكرانَ سالِفٍ وسُلافِ
صَدَّ ظُلما ولم يكن ليَ ذنْبٌ ... غيرُ دمعٍ أذاع ما هو خافِ
أيها العاذِل الجَهولُ تأمَّلْ ... في مُحيَّاه ثم قُلْ بخِلافِ
ومما رأيته منسوبا إليه، ولا أتحققه:
أُنادي إذا نام الهَجِيع تأسُّفاً ... وقلبيَ من بين الضلوعِ كَلِيمُ
هنيئاً لطَرْفٍ فيك لا يعرِف الكرَى ... وتَبّاً لقلبٍ ليس فيك يَهِيمُ
ومن رباعياته قوله:
إن جُزْتَ بحيِّ مُنْيتي حيِّيهِ ... واُخْبِرْهُ من المحبِّ ما يُرْضيهِ
إن زار فقد حَيِيتُ في زَوْرِته ... أو صَدَّ فإن مُهْجتِي تَفْدِيهِ
بيت المحبي بيت أبي وجدي، ومنبت عرق محتدى ومجدي.
ارتضعت دره واغتذيت، وإلى فضله انتسبت واعتزيت.
والمجد ما افتخرت به العرب من القدم.
وإنِّي من العرب الأقْدمين ... وقد مات من قبْل خَلْقِي الكَرَمْ
وفي كرَم العِرْق بالمَنْبِت الطيِّب، عَوْن على أثْمار تروّتْ بالعارض الصيب.
فأنا إذا افتخرت هزتني أريحية الطرب، ونافست بآباء تملكني عند ذكرهم حمية العرب.
أولئك آبائي فجْئني بمثلِهمْ ... إذا جمعتْنا يا جريرُ المَجامِعُ
فأول من سكن منهم الشام، وشام من بارق إقبالها ما شام:
القاضي محب الدين
فضاهى بغزارة علومه أنهارها، وأخجل بمنثوره ومنظومه أزهارها.
بماذا أصفه وأحليه، وأي منقبة من الجلالة أوليه وأطراف القلم بنعوته لا تحيط، حتى ينزح بمناقير العصافير البحر المحيط.
إمام أئمة الفنون، المستخرج من بحار البلاغة درها المكنون.
فكان بالشام علمها الذي يهتدي به المهتدى، ومقتفاها الذي يقتدي به المقتدى.
فتدانت به القلوب المتباعدة، وتلاقت الآمال المتواعدة.
فما ولدت أرحام الأرض من حفال الأزهار والنبات، التي أرضعتها الخضراء بدر أخلاف الأمطار وهي في حجر الصبا وحضانة النسمات.
ألطف من شمائله التي عطرت أردان الصبا، وأعادت للقلب نشوة الصبا فصبا.
ولم يزل يحلى الليالي العواطل، وتدين لسقيه السحب الهواطل.
ويبدع في آثاره صدورا وأعجازا، ويطلع رسائله مملوءةً بلاغة وإعجازا.
حتى رداه الردى، وعداه الحمام من ذلك المدى.
فأنار الله مثواه، وجعل الجنة مأواه.
فخلفه ثلاثة فتيان ألف المجد بينهم، فإن قلت أين الحسن فانظر أيهم.
فالأوسط من مرض الشعر في عافية، لكنه قعد على طريق القافية.
وأما الكبير، وهو:
عبد اللطيف
فعظيم الأرومة، ورونق المزية المرومة.
أنبت خطيها وشيجه، وقوم أغصانها تخريجه.
يفترع الهضاب ببعد همة، ويصيب الأغراض بمسدد سهمه.
أصيل الرأي والحجزم، مليُّ التدبير والعزم.
ضاعف الله لهة نعما يتقبلها، ما زال يوفى على ماضيها مستقبلها.
بهمة ترى الدنيا هبات مقسومة، ونقطة من نقط الدائرة موهومة.
وفكرٍ يغرف منبحر، وعنده يصغر عمرو بن بحر.
فوصفه واسع المجال، ومثله قليلٌ في الرجال.
أسس وبنى، وعطف أعنة المدح وثنى.
وله أشعار كما اتسقت اللآلي، وسفرت وجوه حسان عن ضوئها المتلالي.
أتيت منهال بما تكتب بدائعه على الأحداق، وتتنافس كلمه الأطواق في الأعناق.
فمنه قوله من قصيدة مستهلها:
هي الدار حيَّ عهدَها مدمعِي الجارِي ... عفَتْ غير سُحْمٍ ماثلاتٍ وأحْجارِ
رسومٌ مَحاها كلُّ سافٍ وهاطلٍ ... فهُنَّ كجسمي أو غوامضِ أسرارِي
أقمْنا حَيارَي سائرين فلم نجدْ ... مُجِيباً سوى دمعٍ مع البَيْنِ مِدْرارِ
ولا عجبٌ لو أصبح الدمعُ حائراً ... كقلبِك في تلك المعاهد يا جارِي
معاهدُ لا أدري أمِن طِيبِ تُربْها ... نسيمُ الصبَّاحيَّتْ أم العنْبَرُ الدَّارِي(1/198)
وقفْنا بها حتى لِطُول وُقوفنا ... تخيَّلتُ أنَّا قد خُلِقْنا من الدَّارِ
أذَلْنا مَصُونات الدموع برَبْعها ... ولمَّا نَجِدْ من سَكْبنا الدمعَ من زَارِ
خلَتْ بعد ما كانت مَناخاً لراكبٍ ... ومَلعَبَ أتْرابٍ ومَجْمعَ سُمَّارِ
ومَرْتعَ غزْلانٍ ترى الصِّيد صَيْدَها ... فقُل في غزالٍ يْصرعُ الأسَدَ الضارِي
وعصرِ تَصاب قد فُجعتُ بفَقْدِه ... وماضي شبابٍ رحتُ من حَلْيِه عارِي
لِئن قصُرتْ أيامُه فلَشدّ ما ... تولَّت وأبْقت طولَ بَثِّ وتَذْكارِ
ألا في أمانِ الله عصرٌ لفَقْدِه ... من العيش والَّلذاتِ قلَّمتُ أظفْارِي
وقلتُ لِداعِي الغيِّ نَكِّبْ فطالَما ... لغير رِضَى الرحمن أشْغلتُ أفكارِي
وقوله، من قصيدة أخرى، يمتدح بها أستاذه محمد بن محمد بن إلياس، المعروف بابن جوي، مفتي السلطنة:
عوَّضتَ معروفاً عن الياَسِ ... يا خادماً باب ابن إلْياِس
فاصْغَ لما أشرحُ من حالةٍ ... أسمُو بها ما بين أجناسِي
خدمتُ مفتى العصر وهْو الحَيَا ... فلم يدَع بِرِّى وإيناسِي
وصرتُ في خدمتِه ناعماً ... في نعمةٍ تُسدَى بلا باِس
لا اعرف الهمَّ ولا أشتِكي ... خَطْباُ بَلَى قلبي بوَسْواِس
فسَيْبُه سيلٌ إذا رُمتَه ... ومجدُه كالشامخ الراسِي
إن كسَر الدهرُ فؤادَ امْرئٍ ... تراه بالجَبْرِ هو الآسِي
إن رُمْتَ تدْري بالنَّدَى سَحَّةُ ... فصَوْبُه مَعْ مَرِّ أنفاسِي
أما ترى رِقَّةَ مدْحي له ... تُغْنيك عن دَنٍّ وعن طاِس
قد أمر الفتحُ بأمرِ عُلًى ... أجبْتُه طوعاً على راسِي
قل لبنِي الدنيَا ألا هكذا ... فليصنْعِ الناسُ مع الناِس
البيت الأخير مضمن، من ثلاثة أبيات للفتح بن أبي حصينة.
ولها قصة، وذلك ما ذكر أنه امتدح نصر بن صالح بحلب، فقال له: تمن.
فقال له: أتمنى أن أكون أميراً بحلب.
فجعله أميراً، وخوطب بالأمير وقربه نصر، وصار يحضر في مجلسه في جمل الأمراء.
ثم وهبه أرضاً بحلب، قبلي حمام الواساني، فعمرها دارا، وزخرفها، وقرنصها، وأتم بناءها، وكمل زخارفها، ونقش على دائر الدرابزين قوله:
دارٌ بنيْناها وعشْنا بها ... في نعمةٍ من آلِ مِرْداسِ
قومٌ مَحَوْا بُؤْسي ولم يتركوا ... علىَّ للأيام من باِس
قل لبني الدنيا ألا هكذا ... فليصْنع الناسُ مع الناسِ
فلما انتهى العمل بالدار عمل دعوة وأحضر نصر بن صالح.
فما أكل الطعام، ورأى الدار، وحسنها، وحسن بنائها ونقوشها، وقرأ الأبيات؛ فقال: يا أمير المؤنين، كم خسرت على هذه؟ فقال: والله يا مولانا ما للملوك علم، بل هذا الرجل ولى عمارتها.
فلما حضر المعمار، قال له: كم لحقكم غرامة على هذا البناء؟ فقال له المعمار: غرمنا عليها ألفي دينار مصرية.
فأحضر من ساعته ألفي دينار مصرية، وثوب أطلس، وعمامةً مذهبةً، وحصاناً أبلق، بطوق ذهب، وسرج ذهب، ودفع ذلك إلى الأمير الفتح، وقال له:
قُلْ لبني الدنيا ألا هكذا ... فليصْنع الناس مع الناس
وقد ضمن هذا البيت القاضي شهاب الدين بن حجر، في مدح البدر الدماميني، فأحسن جدا حيث قال:
نسيتُ أن أمدح بدرَ العُلَى ... فلم يدعْ بِرِّى وإيناسِي
قُل لبني الدنيا ألا هكذا ... فلْيصنعِ الناسُ مع الناسِ
وله يصف منتزها في الروم، بالقرب من أق بابا:
حللت بالرُّوم دَوْحا هاج أشْجاني ... حَنَى علىَّ بخيْراتٍ وإحسانِ
حوَى مع الأُنْس ما يُسلِى اللبيبَ به ... عن ادِّكارِ شَآمٍ أو خُراسانِ
مَجامرُ الزَّهر في أرجائه نفَحْت ... والوُرْق قد صدَحتْ فيه بأفْنانِ(1/199)
أشجارُه بسَقتْ أغصانُه ات؟ َّسقتْ ... خِيامَ ظِلٍّ ولكن ذاتُ أفْنانِ
والسَّرْوُ تخْتال في أزْهَى ملابسها ... كأنها الغِيدُ في قَدٍّ ومَيلانِ
ُتمِليها الريحُ إذْ تثَنْى معاَطَفها ... فتنهبُ الُّلبَّ من أحشاءِ وَلْهانِ
وقد رأى بَصَرِى من حسنِ رَوْنقِه ... أضْعافَ ما وصَفُوا في شِعب بَوَّانِ
فدَام يسْقيه في الأسْحار فَيْضُ نَدَى ... وصَوْبُ غيثٍ غزيرِ الهطْلِ هَتَّانِ
؟ أخوه محب الله
هذا أصغرهم الذي أنار الحلك، والسعد الأكبر بين كواكب هذا الفلك.
وهو جدي الذي وصل خيره إلي، وفرض الله تعالى حقه على.
فأنا القائم بآثاره، وأحمد الله على ما خصني به من إيثاره.
صاحب النسب الوضاح، المتقلد تلك المفاخر والأوضاح.
بنور وجهه على خيط الظلام بخيطه، ومحاسنٍ مجدٍ بهرن بما كسينه من حبر المديح وريطه.
أهله الله لعظيم ما استوفاه، وهيأ له الاستقلال بما استكفاه.
فأطلق عنان الاعتنا، وتفنن في غرائب الاقتنا.
فلم تضق له ساحة، ولا قصرت له راحة.
والمجد يرشفه رضابه، والشرف يرقيه هضابه.
في حوزة محوطة، وسعادة بالأماني منوطة.
وبه الكفاية في الخطب إذا عم، والملم إذا ألم.
إلا أنه لم تطل مدته، ولم تتوسع في متصرفاتها عدته.
فقبض في سن الكهولة، واسوحشت لفقده المنازل المأهولة.
فالله يحله في فسيح الرضوان ورحبه، ويجعل الرحمات المتواليات من حزبه وصحبه.
وله نظم أثير، ودرٌ نثير.
أثبت منها ما أحكم نسقاً ورصفا، وتناهى في الحسن تحليةً ووصفا.
فمن ذلك وقله:
أفْديك يا مَن حاز قلبي ... مُستأثراً بجميعِ لُبِّي
قُل لي بحقِّ أبيك مَن ... أغْراك في تَلَفِي وسَلْبِي
هل كان من ذنبٍ فإنِّي ... تائبٌ منه لربِّي
أو عن دَلالٍ فالذي ... تخْتارُه حظُّ المحبِّ
وله:
في سبيلِ الغرامِ قلبي مُعَنىَّ ... أثْخنَتْه نُجْلُ العيونِ جِراحَا
قيَّدتْه فليس يرجو خَلاصاً ... مِن هواها ولا يرُوم برَاحَا
يشْتكى حُرْقة التَّباعُد حتى ... علَّم الوُرْق في الرِّياض النُّواحَا
وإذا ما أراد كَتْمَ هَواه ... زادَه دَمْعُ ناظِريْه افْتضاحَا
وقوله:
تظنُّ العِدى والظَّنُّ مُرْدٍ ومتْلفُ ... بأَنّيَ أخْشَى من عظيمٍ وأفْرَقُ
وهيهات بل عفْو وحِلم وعفَّةٌ ... وما كنْت من شيءٍ سوى العارِ أُشفِقُ
ويبْغون أن أُعْطِي قِياداً ودونه ... تسيلُ دماءٌ من رجال وتُهْرَقُ
وكتب لبعض أحبابه: لو وصفت أشواقي لأعربت عن حصر، ماء البيان في إحصائه حصر، وطول الباع في البراعة عند استقصائه قصر.
ولتكلفت ما ليس في الوسع والطاقة، ولاعترفت مع الوجد والغنى في البلاغة بالعدم والفاقة.
ولأقررت مع القدرة بالعجز، ولنبا غرب عضبي وإن كان لدن المهز.
ولست أشرح وجداً لا يشرح، وحنيناً مبرحاً لا يبرح.
ولا أصف دمعا يكف ولا يقف، ولا مقلةً تجافت عن الكرى ولا تجف.
ولا أعرب عن شوق بنار الصبابة يتلهب، وقلبٍ على فراش الضنى يتقلب.
وكيف لي بعد ما لا يعد، وقد غلب الوجد.
وغاض الجلد، وقاض الكمد.
وخلب الخلب وسلب، وتغلب الوجد على القلب فغلب.
وجفا الجفن الكرى فما كرّ، وخانه الصبر فما ثبت ولا استقرّ.
ولو أغرقت في البيان لخضت في غماره، وغرقت في تياره، وعثرت في مضماره وكبوت ونبوت، وضللت وزللت.
لكني حين عجزت أوجزت، ولما قصرت اقتصرت.
فأضربت عن ضروبه، وأعرضت عن عروضه.
واكتفيت عن ذكر كله، بإبداء بعضه.
وأشفقت على الكتاب من الاحتراق، إذا درجته على نيران الأشواق، وطويته على لواقح الفراق.
محمد بن عبد اللطيف الشهير بالخلوتي
هذا الفرع نتيجة ذلك الأصل، فلهذا هو في حدة الذكاء أمضى من النصل.
تحقق بالعلم الحديث والقديم، وتصرف في طريقه الواضح القويم.
وزهد زهد ابن أدهم، ورغب عن أن يقبض على درهم.(1/200)
فتنازعته الحظوة بين الأماني والأمان، ولم تدع له أيامه مقترحاً على الزمان.
وكان له أخ أكبر منه، إلا أنه في ناحية، ولا أرى ذاك إلا الشمس المنكسفة وهذا الشمس الضاحية.
وله في المحاضرة محاسن غلبت على الأقمار التمائم، فهي زهر لها المحاسن بروج وزهرات لها القلوب كمائم.
فأين حل فالمحل به أنيس، وهو إذا فارقه عليه حبيس.
وله شعر أزهى من الزهر، وأبهى من الحباب على النهر.
فمنه قوله:
ذا ربعُ دَعْدٍ بالأجارِع فارْبَعِ ... إن كنت مَن يرعى حقوقَ الأرْبُعِ
لي مقلةٌ تسقِى الطلولَ ومَسْمَعٌ ... يدعو حمائمَهنَّ قُولِي أسمعِ
فأنا المُجيبُ لهنَّ عن شجْنٍ وهُنَّ ... سَجعْن عن طربٍ وفَرْطِ توجُّعِ
ما الصادحُ الجَذْلانُ مثل النَّادبِ الْ ... وَلْهانِ ذا دَاعٍ وذلك مُدَّعِ
ولقد حبسْتُ على الديار ركائبي ... والركبُ بين مُودِّعٍ ومُودَّعِ
وكلاهما يرضى بأن يقْضِى أسىً ... ويكونَ غيرَ مُشيِّع ومُشيَّعِ
فلكم جَرعْنا الوجدَ مُرّاً طعُمه ... لما تَزايلْنا غداةَ الأجْرعِ
هي وقفةٌ في الدار لا بَلَّتْ صَدَى ... قلبي ولا أرقْيتُ فيها أدْمُعِي
ماذا الذي يُجْديك نَدْبُ معاهدٍ ... أسَدتْ بها هُوج الرياح الأرْبَعِ
سكانُها نقضوا العهودَ وضيَّعوا ... يا حافظاً للعهد غيرَ مُضيِّعِ
فاشْمَخْ بأنْفِكَ عن أُناسٍ خلَّفوا ... ما أوْعدوك وحبلَ وُدِّهمُ دعِ
واشكرْ لأغْربةٍ نعَبْن بِبَيْنهِم ... من أسودٍ يدعو الزَّيالَ وأبْقعِ
واصدِف عن البرْق اللَّمُوع بأرضهمْ ... وارقُدْ قريرَ الجَفْنِ غيرَ مُروَّعِ
من شاقه ريحُ الشَّمالِ فإنني ... لم أُعْطه وجهاً ولم أتطلَّعِ
لاساعَد الرحمنُ قلباً ذاكراً ... أيامَ مَن خان العهودَ ولا رُعِى
الناسُ بين مُجاهرٍ لك في الأذى ... ومُوارِبٍ تْغلى ضمائُره فَعِ
أغفلتَ رأيَهم ورُمْتَ رشادَهم ... أنت الملومُ فذُقْ أذاهم واجْرَعِ
قابلتَ جهلَهم بحِلْمٍ واسعٍ ... قل للفَوادحِ عند ذلك توسَّعِي
الفَتْكُ عينُ الرأيِ في تدْبيرهم ... لو لم تكنْ لله لم تتورَّعِ
خُلِقوا من الشرِّ الصريحِ وصُوِّرا ... شَرَّ الورى سكنوا بشرِّ الموضعِ
ما للزمانِ جرى على عاداتِه ... في رِفعةِ الأدْنى وخفضِ الأرْفعِ
وبنُوه قد جُبِلوا على أفعالِه ... فالحر بْينهم بحالٍ أشنعِ
دهرٌ قضى أن لا يطيبَ لماجدٍ ... قُل للَّيالي ما بدا لكِ فاصْنعِي
فاعْرِض عن الدهرِ الخؤونِ وأهلِه ... وافْرَغْ إلى ربِّ البرايا وارْجعِ
وقوله من أخرى، كتب بها إلى محمد الكريمي:
نراجع إلى الفضلِ أهلَ الكلامْ ... ونأخذُ عن كلِّ حَبْرٍ هُمامْ
ونسألُ مِن ساحِة الأكرمين ... ونخضعُ للمجد لا للأنامْ
فنتْبع من رفعتْه النفوسُ ... ونترُك من قدَّمتْه اللئامْ
فأختارُ طوراً زوايا الخمولِ ... وطوراً أحبُّ الأمورَ العظامْ
تراني على كلِّ حالٍ أُرَى ... أسيَر الهوى ومليكَ الغرامْ
وما جرعَةُ الحب إلا المَنونُ ... وما لوعةُ الهجرِ إلا الهُيامْ
وما راحةُ العشقِ إلا العَنا ... ولا صحةُ الصَّبِّ إلا السَّقامْ
ولي حَسرةٌ بعد أخرى لها ... زفيرٌ ولي له انْحسامْ
يُذيب الحشا ويُثيِر الشُّجونَ ... بنارٍ غدا وَقْدُها كالضِّرامْ
وهل للهوى غيرُ مَن ذاقه ... فَنشكْو له مُرّ سَمْع المَلامْ(1/201)
ولاكلُّ مَن غاص بحرَ الهوى ... حوَى مِن جواهِره باغْتنامْ
ولاكلُّ مَن قد سما للعلومِ ... يقرِّر مُشكِلَها عن إمامْ
فذاك هو الن؟ َّدْبُ بدرُ العلومِ ... ولم يزل نورُه في التَّمامْ
كخِلِّى الكَرِيمىِّ مَن فضلُه ... تلفَّعه يافعاً باهْتمامْ
مُهذَّبُ أخلاقِ أهل الوفا ... حفيظٌ لعهدِ التقى والذِّمامْ
؟ السيد أبو الأمداد فضل الله بن محب الله
والدي الذي هو سبب حياتي الفانية، تتبعها حياتي الباقية.
فإني من صلبه خرجت، وعليه تخرجت.
ولا أعد من الفضل، ما كثر لدي أو قل، إلا منه ابتداؤه، وإليه انتهاؤه.
وكنت أطوع له من قلمه لكلمه، وأوفق من بنانه لبيانه.
ما ملت عن نهجه ولا تنحيت، من حين دبيت إلى حين التحيت.
أرجو على يديه حسن التحلي، والاطلاع على أسرار التجلي.
حتي أسعد في آخرتي ودنياي، وأفوز بالحسنى في مماتي ومحياي.
وكان هو حريصاً على فائدة يلقيها على، وعائدة يجر نفعها إلىّ.
حتى خصَّني بتعليم ما تفرد به من صنعة الإنشاء، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.
وأنا فيما ذكرته واصف نفسي، وأما وصفه فمما لا يقوم باستيفائه يرسى ولا نقسى.
إن قلت: فاضل، فقد ساواه في الفضل من سواه، أوقلت: ماجد، فقد شاركه في المجد من عداه، وهو تعداه.
وأنا لا أرضى له إلا التوحد، ولا أقبل له إلا التفرد.
فإنه من منذ وجد، إلى أن فقد.
لم يزل ربيب نعمة، غذى حشمة.
والجاه في زمن أبيه، يخشى من أنفته وتأبيه.
والأمداد فضل الله، لأبي الأمداد فضل الله.
وله عزمة تلين قسوة الدهر الأبي، ويتلى حديثها كما يتلى الحديث عن النبي.
إلى بشر يترقرق ماؤه في غرته، وينفتق نور الشرف بين أسرته.
وله كلماتٌ كحديث الصديق، أو عتيق الرحيق، يجمع لذة حلو الحديث إلى نشوة المر العتيق.
بخطٍ ينطق من غير لسان، ويفصح من غير بيان.
وشعرٌ إذا رأيته، رويته.
ونثرٌ تحفظه، حين تلحظه.
وله تآليف ضربت من الإجادة بسهم، وأقر لها أهل البلاغة من كل شهم.
هي لعقد الفضل واسطة النظام، ولمطلع المجد بيت القصيد وحسن الختام.
فمن شعره قوله، من قصيدة مطلعها:
حديثُ غرامي في هواك صحيحُ ... وقلبي كأقْوال الوُشاة جريحُ
وشوقي إلى لُقياك شوقُ حمامةٍ ... لها فوق أفْنان الغصون صُدوحُ
فتندُبُ أطْلالا لها ومعاهداً ... وتظهِر أشْجانا لها وتصيحُ
فلا مؤنسٌ في الدار لي غير صوتها ... إذا هاج وَجْدي والدموع تسيحُ
كلانا غريبٌ يشْتكى الهجرَ والنَّوَى ... فيبكي على إلفٍ له وينُوحُ
فقلبي وجَفْني ذا يذوبُ صَبابةً ... حَزِيناً وهذا بالدموع قَرِيحُ
ومُهجةِ صَبٍّ مُستَهامٍ مُتيَّمٍ ... بها صار من داء الغرامِ قُروحُ
أهِيمُ غراماً حين أذكُر جِلَّقاً ... ودمعي بسفْح القاسِيُونِ سَفوحُ
ولو كان طَرْفي في يدَىَّ عِنانُه ... سعيْتُ ولكن مُناى جَمُوحُ
وقوله من أخرى، مستهلها:
رعى اللهُ أيام الشَّبِيبة من عَصْرِ ... وهزَّ نسيمُ العيش رَيْحانةَ العمرِ
وحّيَّ بِقاعاً تُنبت الحسنَ تُرْبُها ... وتُبْدِي لنا الأقمارَ من فلَك الخِدْرِ
حَلْلتُ بها والدهرُ أبيضُ مُقِبلٌ ... وعَيْشِى مقيم في خمائله الخُضْرِ
تُحيط بَي الغِيدُ الحسانُ أوانِساً ... كما اشْتبكَتْ زُهْر النجوكم على البدرِ
هذا نقل منق قول ابن خفاجة في النسيب:
غَزاليَّةُ الألْحاظِ رِيميَّةُ الطُّلَى ... مُداميَّةُ الألْمَى حَبابَّيةُ الثغرِ
تَرنَّح في موشِيَّةٍ ذهبَّيةٍ ... كم اشتبكتْ زُهْرُ النجومِ على البدْرِ
وفي المقامة الحلوانية: وقد أحاطت به أخلاط الزمر، وإحاطة الهالة بالقمر، والأكمام بالثمر.
وله من أخرى مستهلها:
طيفٌ يُمِّثله الغرامُ بفكْرِه ... ورَجاً يَحارُ بطَيِّه وبنَشْرِهِ
منها في الغزل:(1/202)
وبمُهْجتي نَشْوانُ من خمرِ الصِّبا ... لعبتْ بنا قَهْراً سُلافةُ خمْرِهِ
يرْنُو إلىَّ بساحرٍ من طَرْفِهِ ... عنه روَى هاروتُ قصةَ سِحْرِهِ
بدرٌ تكامَل في المحاسِن خَلْقُهُ ... لمَّا غدا منه المَحاقُ بخَصْرِهِ
هذا معنى أرق من خصر مليح، وفيه مع هذه المقابلة تنشيط وتمليح.
وأظنه رأى بيت المطَّوِّعيِّ فاستجاد معناه، وشيد بوصف الكمال مغناه.
وبيت المطَّوِّعيِّ:
قضيبٌ ولكنْ مَبْسمُ النَّورِ ثغرُه ... وبدرٌ ولكن المَحاقَ بخَصْرِهِ
ولقد مر بي أبيات في هذا المعنى لابن مخلد، لعبت بي لَعِبَ الشمول، بحُرِّ العقول.
وهي:
لعبتْ به نُجْلُ المَحاجِرْ ... لَعِبَ الخناجرِ بالحَناجِرْ
بأبي رواقدُ في سُوَيْ ... داءِ القلوبِ وفي النَّواظرْ
هُنَّ البدورُ ولا مَحا ... قَ لهُنَّ إلا في الخواطِرْ
تتمة الأبيات من القصيدة:
قد بات يسْقينا مُدامة ثَغْرِهِ ... وتُضيءُ مجلَسنا لآلئُ دُرِّهِ
طَرْفي بجنَّة حسنِه مُتنعِّمٌ ... والقلبُ في نارِ الجحيم بهَجْرِهِ
قد لامَني فيه العذولُ جَهالةً ... لم يَدْرِ ما صَحْوُ الهوى من سُكْرِهِ
بَحْرُ المحبَّة ليس يبلُغ غَوْرَه ... لم يُلْفِ ساحلَ بَرِّه من بحرِهِ
يا قلبُ رِفْقاً كم تُحمِّلني الأسى ... أوَ مَا ترى جَوْرَ الزمانِ بِحُرِّهِ
مَهْلا لقد حمَّلتني عِبْئاً لقد ... أعْيَى الجبالَ الشُّمَّ شَمَّةُ نَزْرِهِ
وألِفْتُ صَرْفَ الدهر حتى إنه ... سيِاَّنِ عندي عُسْره مع يُسْرِهِ
وما أحاسن محاسنه قوله:
ومَصُونٍ عليه غَيْرةُ حُسْنٍ ... حجَبْته عن أعْيُن الأوهامِ
حبُّه في القلوبِ سِرٌّ خَفِيٌّ ... كخَفاءِ الأرْواحِ في الأجسامِ
ملِكٌ لم يدَعْ من الحسنِ شَيَّا ... لِسواهُ بَراه في الأحْلامِ
وقوله:
ألا يابنَ الأُلَى سادُوا أراك تفوقُهمْ ... وتبلغُ إن شاء الله الإلهُ العُلَى حَتْمَا
فأنت هلالٌ والهلالُ نمُوُّه ... دليلٌ له أن يْغتدِى قمراً تِمَّا
هذا من قول الآخر:
إن الهلالَ إذا رأيتَ نُمُوَّه ... أيْقْنتَ أن سيصيرُ بدراً كاملاَ
قلت: عامة أهل الأدب وغيرهم أن نجاح الأمور وسعادتها، ونحوستها وخيبتها، بأوائلها.
وفي أمثال العامة: " ليلة العيد من العصر ما تخفى ".
" والليلة المضيَّه تبان من عشيَّة ".
" واليوم المبارك من أوله يبين ".
ويقولن: " لو أراد يسعدني أيش كان يقعدني ".
كما قيل:
إذا بلغ الفتى عشرين عاماً ... ولكم يفْخَر فليس له افْتخارُ
وقال:
وإذا الفتى مرَّتْ له في عمرِه ... خمسونُ عاماً للتُّقى لا يجْنحُ
عكَفتْ عليه المُخْزِياتُ فما لَهُ ... مُتحوَّلٌ عنها ولا مُتزحْزَحُ
وإذا رآى إبْليسُ غُرَّةَ وجهِه ... حَيَّى وقال فَدَيْتُ مَن لا يُفِلحُ
والمنجمون على خلافه، فإنهم يقولون: هذا بحسب الطالع، فقد يكون في أول العمر، وقد يكون في أوسطه، وفي آخره.
وكذا في الشرع، قد يولد المرء مؤمناً أو كافراً في أول أمره، وفي أوسطه، وآخره، ثم يعرض له خلافه.
وما ذهبوا إليه أوهام. انتهى باختصار.
ومن كتاب اللآلي قال الشهاب: قلت: الواهم ابن أخت خالته، فإن الأول في وادٍ وهذا في آخر، بعيد عنه بمراحل، لأن الجمهور أرادوا أن الله خلق في كل أحدٍ استعداداً للسعد وغيره، تظهر علاماته عليه في أول أمره.
كما قال:
في المهدِ ينطِق عن سعادِة جَدِّه ... أثرُ النَّجابِة ساطعُ البُرهانِ
وأما برُوزه من القوَّة، فقد يُسرِع وقد يُبْطِى، كما لا يخفى.
وله:
أنا ما بين زُمْرِة الأقْرانِ ... خَصَّ حَظّي الزمانُ باِلحرْمانِ
فالعُلالاتُ لي سحائبُ يبْدُو ... بَرْقُها خُلَّباً مكانَ الأمانِي
هذا من قول بعضهم: برقٌ خلَّب، وعلالات للنفس وخدعٌ لها.(1/203)
قال كعب:
فلا يُغرَّنْكَ ما منَّتْ وما وعدتْ ... إن الأمانِيَّ والأحلامَ تضْليلُ
وقد استحسنوا قول بعض الحكماء: الأماني أحلام المستيقظ.
ونظمه القاضي محمد بن هبة الله الحسيني الأندلسي، فقال:
كم ضيَّعتْ منك المُنَى حاصلاً ... كان من الواجبِ أن يُحفْظاَ
فإن تعلَّلتَ بأطْماعِها ... فإنَّما تحلُم مُستْيِقظَا
ومن النوادر:
أحاديثُ نفسٍ كاذباتٌ وما لَها ... فوائدُ إلا أن تسُرَّ الفتى العانِي
وأكثرُ ما تُمْليه يظهُر ضِدُّه ... فكلُّ أمانِي القلبِ أحْلامُ يَقْظانِ
وأحسن منه:
إنما هذه الحياةُ مَنامٌ ... والأمانيُّ حُلمٌ بها المرءُ صَبُّ
فلهذا تأْني على العَكْسِ ممَّا ... كرِه الناسُ دائماً وأحَبُّوا
وشعره كثير مجموع في ديوان، والطرس يستدل على ما فيه من العنوان.
ومن منشآته، التي أعدها من بدائع مقولاته.
ما كتبه على لسان فرسٍ إلى مفتٍ بالروم، وجرى فيها على طريقة الوهراني، في رقعته التي كتبها على لسان بغلته، وعلَّقها في عنقها، وسيبها في دار الأمير عز الدين موسك.
فأما رقعة أبي، رحمه الله تعالى، فهي: الهمام المقدام في حلبة الرهان، والإمام المصلى به يقتدى المجلى والثاني في ميدان البيان.
غرة جبهة دهم الليالي، من شهب أيامه ربيع الفخار والمعالي.
جعل الله مجمل سعادته غنياً عن الإفصاح، وجياد أوصافه الحسنة متباريةً في ميدان المداح.
بجاه سيدنا محمد الذي علا على البراق، وتشرفت به الآفاق.
أنهى إلى عالي حضرته، بعد تقبيل سامي سدته.
أنه لا يخفى ما ورد على النبي النبيه، أهدى الله إليه صلاته وسلامه،: " الخيل معقودٌ في نواصيها الخير إلى يوم القيامة ".
وإنني تلك الفرس الأصيلة الطرفين، والحجر العريقة الجانبين.
فأبى من العتاق المعنقية، وأمي من الصَّافنات الجياد السقلاوية.
نشأت بأراضي الشام، وشممت ذلك العرار والبشام.
وقد كان شرفني المولى بالرُّكوب، وأملت منه المطلوب.
وفزت بالمراد، وسبقت الجياد.
وتقدمت الحياشية أمامي، وحملت الغاشية قدامي.
ومشيت بالأدب والوقار، ولم يصدر مني عثار ولا نفار.
وقد طرق سمعي أن المولى صار فارس الميدان، وسابق يوم الرهان.
وامتطي الصدارة صهوة الإقبال، وسحب له جنيب العز والإجلال.
وملك زمام الأمور، وشد حزام العزم في مصالح الجمهور.
فحصل لي كمال السرور والنشاط، وكدت أن أفك نفسي من الرباط.
وأجد في المسير، إلى تهنئة جنابة الخطير.
لكن أقعدتني الأيام عن ذلك، ومنعتني عن سلوك هذه المسالك.
لما حل بي من مواصلة الصيام، والركوع والسجود عند القيام.
وتقدمني في المسير الرفيق، الذي اجتمعت أنا وإياه في طريق.
إن العوائقَ عُقْنَ عنك ركائبي ... فلهُنَّ من طربٍ إليك هَدِيلُ
وكان بلغني أنه ركض في ميدان حضرتك بعض اللئام، ووضع قديم قوله حيث شاء من الملام.
ونسبني إلى البطر والجموح، وسلوك طريقٍ من قلة الأدب مطروح.
وأن البحر على تعكر، والورد الصافي تكدر.
فوالله ليس لما قيل، أصلٌ أصيل.
وكنت أود أن أتوصل إلى بره، وأكرع من فائض بحره.
وأورد موارد إحسانه، وأفوز بلطفه وامتنانه.
فلا خير في حبٍ لا يحمل أقذاؤه، ولا يشرب على الكدر ماؤه.
وقد علم أن البهائم لا تعلم شعر أبي تمام، ولا تعرف شعر أبي الطيب الهمام.
ولا تطرب الخيل، إلا بسماع الكيل.
والعلاف، لا يعرف مسائل الخلاف.
وصاحبي وإن كان هو الأصيل العريق، كلنه مقتر للضيف في العليق.
كثير الشعر قليل الشعير، ينشد بلسان التقصير:
ومالي صنعةٌ إلا القوافي ... وشعرٌ لا يباع ولا يعار
فالشعير أبعد من الشعرى العبور، ولا وصول إليه ولا عبور.
فالبطن ضامر لا يشد عليه حزام، والفم خالٍ ليس فيه إلا اللجام.
وقد بليت بعد الهزال بالخرس، وأصبحت كما قيل: الجل خيرٌ من الفرس.
وغيري ممن ليس له أصل ولا فصل، ولا أدب عنده ولا فضل.
يرتع في رياض الإنعام، ويجهل أنه من الأنعام.
حمارٌ يسيَّبُ في روضةٍ ... وطِرْفٌ بلا عَلَفٍ يُربَطُ(1/204)
فإن أنْعَم المولى بحَلِّ وَثاقي من يد الحِرمان، وأحلَّني من ربيع فضلهِ في رَبْوة الإحسان.
فأكرُم الخيل أشدُّها حَنِيناً إلى وطنه، وأعتق الإبل أكثرها نزاعا غلى عطنه.
فليهتز فرص الاقتدار، ويغتنم التجاوز عن عثرات الأحرار.
فالدابة تضرب على النفار، لا على العثار.
فليس لي سواه أعول عليه، وأرفع قصتي إليه.
وهيْهات أن يُثْنَى إلى غيرِ بابِه ... عِنانُ المطايا أو يُشَدَّ حِزامُ
وهذه رقعة الوهرانيّ، وهي من لطائف نزعاته، ومحاسن مخترعاته: المملوكة ريحانة بغلة الوهرانيّ، تقبل الأرض بين يدي الأمير عز الدين، حسام أمير المؤمنين.
نجاه الله من حر السعير، وعظم بداره قوافل العير.
ورزقه من التِّبن والشَّعير، وسق مائة ألف بعير.
واستجاب فيه أدعية الجمّ الغفير، ومن الخيل والبغال والحمير.
وتنهى إليه ما تقاسيه من مواصلة الصيام، والتعب في الليل والدوابُّ نيام.
قد أشرفت مملوكته على التَّلف، وصاحبها لا يحمل الكلف، ولا يوقن بالخلف، ولا يقول بالعلف.
وإنما يحلّ به البلاء العظيم، في وقت حاجتي إلى القضيم.
والشَّعير في بيته مثل المسك والعبير، والأطريفل الكبير.
أقلُّ في الأمانة من النصارى الأقباط، والعقل في رأس قاضي سنباط.
فشعيره أبعد من الشِّعرى العبور، ولا وصول إليه ولا عبور.
وقرطه أعزُّ من قرطي مارية، لا يخرجه صدقةً ولا هبةً ولا عارية.
والتِّبن، أحبُّ إليه من الابن.
والجلبَّان، أعز عنده من دهن البان.
والقضيم، بمنزلة الدُّرِّ النَّظيم.
والفصَّة، أجلُّ من سبائك الفضَّة.
والفول، دونه ألف باب مقفول.
وما يهون عليه يعلف الدوابّ، إلا بفنون الآداب، والفقه الُّلباب، والسؤال والجواب، وما عند الله من الثواب.
ومن المعلوم أن الدوابَّ لا توصف بالحلوم، ولا تعيش بسماع العلوم.
ولا تطرب إلى شعر أبي تمَّام، ولا تعرف الحارث بن همام.
ولا سيما البغال، التي تستعمل في جميع الأشغال.
مسكبة قصيل، أحب إليها من كتاب التَّحصيل.
وقفَّة دريس، أشهى إليها من فقه محمد بن إدريس.
ولو أكل البغل كتاب المقامات، لمات.
ولم لم يجد كتاب الرَّضاع، لضاع.
ولو قيل له: أنت هالك، لم يأكل موطأ مالك.
وكذلك الجمل، لا يتغذَّى بشرح أبيات الجمل.
ووقوفه في الكلا، أحبُّ إليه من شعر أبي العلا.
وليس عنده طيِّب، شعر أبي الطيِّب.
وأما الخيل، فلا تطرب إلا إلى استماع الكيل، وإن أكلت كتاب الذيل، ماتت بالنهار قبل الليل، والويل لها ثم الوبل.
ولا تستغنى الأكاديش، عن أكل الحشيش، بكل ما في الحماسة من شعر أبي الخريش.
وإذا أطعمت الحمار، شعر ابن عمَّار، حلَّ به الدمار.
وأصبح منفوخاً كالطبل، على باب الإسطبل.
وبعد هذا كله فقد راح صاحبها إلى العلاف، وعرض عليه مسائل الخلاف، وطلب من بيته عشر قفاف، فقام إلى رأسه بالخفاف.
فخاطبه بالتقصير، وفسَّر له آية العير، وطلب منه قفَّة شعير، فحمل على عياله ألف بعير.
فانصرف الشيخ منكسر القلب، مغتاظاً من الثَّلب، وهو أخسُّ من ابن بنت الكلب.
فالتفت إلى المسكينة، وقد سلبه الغيظ ثوب السكينة.
وقال لها: إن شئت أن تكدِّي فكدِّي، لاذقت شعيرة ما دمت عندي.
فبقت المملوكة حائرة، لا قائمة ولا سائرة.
فقال لها العلاف: لا تجزعي من خياله، ولا تلتفتي إلى سباله.
ولا تنظري إلى نفقته، ولا يكن عندك أخسّ من عنفقته.
هذا الأمير عز الدين، سيف المجاهدين.
أندى من الغمام، وأمضى من الحسام، وأبهى من البدر ليلة التمام.
لا يرد سائلاً، ولا يخيِّب آملاً.
فلما سمعت المملوكة الكلام، جذبت اللجام، ورفست الغلام، وقطعت الزمام، وشققت الزِّحام، حتى طرحت خدها على الأقدام، ورأيك العالي والسلام.
وله من رسالة كتبها إلى منصور الطبيب الغزواني، يشكو إليه علة لزمته، وبرداً وقع في ذلك العام، خارجاً عن معتاد الشام.
أنا أصبحتُ لا أُطيق حَراكاً ... كيف أصبحت أنت يا منصورُ
قد طالت العلَّة، وطابت العزلة.
فليس في الحركة، هذا الآن بركة.
والانقطاع، أربح متاع، والاجتماع جالب الصُّداع.
والاختلاط، محرّك الأخلاط.
والوحشة استنئناس، وأجمع للحواس.
فهو زمان السكوت، وملازمة البيوت، وأوان القناعة بالقوت، وذلك قوت من لا يموت.(1/205)
والحر حرٌ، وإن مسه الضر.
فوطؤه خفيف، وضالته رغيف.
لزوم البيت أروح في زمانٍ ... عدمنا فيه فائدة البروز
فلا السلطان يرفع من محلى ... ولست على الرعية بالعزيز
ولست بواجدٍ حراً كريماً ... أكون لديه في حرزٍ حريز.
وإني لأشكو من تسحب هذا السحاب، وتسلط هذا الرَّباب.
وام أر قط والله كالعام، الكثير الإنعام.
الذي من تورط فيه غرق، ومن تنشط فيه عام.
سحابٌ مجنون، يصم الآذان برعده، وبرقه يغشى العيون.
وغمامٌ شديد الإيلام، كأن صوبه صوب ملام، أو عرق حمام.
ومطرٌ كأفواه القرب، وصوت رعدٍ يميت الطرب.
حتى كأن صوته صوت عذاب، أو سطوة ليوثٍ غضاب.
أو أنه مهجور مرتاب، من تصرم أسباب وداد الأحباب.
أو كأنه نعرة فيل، أو نفخة إسرافيل.
أو شق السماء بشدةٍ فانشقت، " وأذنت لربها وحقت ".
ولمع برقٌ خفاق جلاب، مشرق كالشمس إلا أنه شديد الاضطراب، سريع الاحتجاب، لمّاع، دفّاع، يختار دونه لمع السراب، ومنع الشراب.
حتى قال قائلنا: ليت بذي الغمام جهام، وليت ذا البرق المتألق خلب وسيفه المسلول الصارم كهام.
وليته كان كاذب المخيلة، وليت لقحة نوئه هذا شحيحةٌ بخيلة.
ولم أر حال هذا السحاب الغيداق، إلا كحال مولهٍ مشتاق، شديد الأشواق. وكاف الآماق.
مشتعل الزفرات، متقاطر العبرات.
فسبحان من أرسل مدارا، وجعل القطار في هذه الأقطار بحارا.
ألا يرى كيف من الله سبحانه بالوقوف، على السقوف.
وبالثبوت، على البيوت.
ولم يعلم هل هذا السحاب، أصبح يجود لسقياً رحمةٍ أم سقيا عذاب.
وأما الثلوج فإنها شيبت نواصي الجبال، مع شدة الاحتمال، فما الظن بنواصي الرجال، مع تزاحم الأهوال، وتراكم الأثقال.
اللهم إنا نستعيذ بك أن تقلب الأعيان، فتجعلها سبب الموتان، في الحيوان، أو أن تعيد الطوفان، في آخر الزمان، وبالله المستعان، وعليه التكلان.
وأبق له عبدٌ وهو بالقاهرة، فكتب إلى دمشق، يخبر بإباقته: وأما ياقوت الممقوت، سوَّد الله وجهه، وعامله بالنكال أيما توجه.
قد أبق في هذه الأيام، كما هو دأب جنس الخسيس الخبيث فما عليه ملام.
واللومُ للحرِّ مقيمٌ رادعٌ ... والعبد لا يردعُه إلا العصَا
ولما بلغنا ذهابه من اليم، تباشرنا بزوال الهم.
وأنشدنا:
إلى حيثُ ألْقَتْ رَحْلَها أمُّ قَشْعَم
ولو طلب منا الإجازة أجزناه، والمكاتبة كاتبناه ودبرناه، وعن خدمتنا أبعدناه.
ولو أدرناه تطلبناه، وبما يليق عاملناه.
وإذا رأيتَ العبدَ يهرُب ثم لم ... يُطْلَب فمولى العبدِ منه هاربُ
ولو لم يكن لي في هذه السَّفرة من الربح الذي ليس به خفا، إلا ذهاب هذه الغمة السوداء لكفي.
وفي الحديث الشريف: " اطلبوا الخير عند حسان الوجوه "، ومن أمثالهم: " قبح اللكع ومن يرجوه ".
وقد كنَّا قديماً نسمع، أن الخادم بمنزلة النَّعل يلبس ويخلع.
والعبد لو كانت ذؤابة رأسه ذهبا، لكان رصاصةً رجلاه.
ومن أبق عن الخدمة، فقد يعد بعده نعمة، وقربه نقمة.
فقد يفر المهر من عليقه، ويطير الفراش إلى حريقه.
فما كل شجرة تحلو لذائقها، ولا كل دار ترحب بطارقها.
ومن أبق عن مولاها مغاضباً، وجانب إحسانه الذي لم يكن له مجانباً.
يجد من مفارقة معاهد الإحسان، ما يجده من مفارقة معاهد الأوطان.
ويكون ذنب عقابه فيه، وكم عبدٍ أبق من مواليه.
وقد روى مرفوعا عن سيد الأمة: " أيما عبدٍ أبق فقد برئت منه الذمة ".
وبالجملة فقد حصل لنا بذهابه غاية المسارّ، و:
إذا ذهب الحمارُ بأم عمرٍو ... فلا رجعتْ ولا رجع الحمار
وله يصف فتى: حسنه يملأ القلوب والصدور، وليس البدر إلا أن فيه حسنا تلاشت في دقائقه البدور.
ريمٌ من الروم، خادم مخدوم.
قد كساه الزمان ملابس جماله، ووهبه الأوان محاسن كماله.
بديعُ جمالٍ كل ما زاد ناظرِي ... به نَظَراً زادتْ محاسُنه حسناَ
جرى فيه ماء النعيم والهيف، وتحكم فيه تيه الحسن والصلف.
باهٍ بقده، زاهٍ بوردى خده.
ألصق بالقلب، من علائق الحب.
كلَّما لاح وجُهه بمكانٍ ... كثُرتْ زحمةُ العيون عليهِ
ذو قدٍ مياد ميال، بيدي المَلال والدَّلال.(1/206)
يتمايل من خمر الصبا، تمايل الغصن إذا أمالته الصبا.
ويتصرف مع القلوب، كتصرف السحاب مع الجنوب.
فهو ألطف من نسيم الشمال، على أديم الماء الزلال.
كأن حديثَه خُلَسُ التَّشاكِي ... مع الأحْباب أو قُبَلُ الوَداعِ
قد حل بالشام، فازدهرت به ازدهار الخد بالوشام.
وغردت أطيارها، وتمايلت طرباً أشجارها.
وتدانت ولا تدانى المحبين، وتعانقت ولا تعانق العاشقين.
وأحداق الحدائق باهت في رياض جماله، والأغصان تاهت في لين قده، واعتداله.
أسفر فرأيت البدر طالعا من أطواقه، وأقبل بحلة كأنما صبغت من دم عشاقه.
فالشمس طالعة من أزراره، والبدر من مشارق أنواره.
له مبسم لو تبسم في الليل صير الظلام نهارا، ولو استعار الراح منه الحبب لقال:
شغل الحلى أهله أن يعارا
شكل ظهر في طريق الحسن بالبياض، وصحح حديثه الحسن أجفان المراض.
أوقد ناري، وأمات اصطباري.
وكم في الناس من حسَنٍ ولكن ... عليه لِشقْوتي وقع اخْتيارِي
فكلف به بعض سكانها، وهام فيه بعض أعيانها.
وقد تزايد فيه الغرام، ومن يعشق يلذ له الغرام.
وقد هاجت بلابل بلباله، وقصد أن يرفع لحضرته بعض خصاله، في عرض حاله.
فاللحظ، يعرب عن اللفظ.
فما كانت إلا نظرة، أعقبت حسرة.
أتعبت الخاطر، وسرت الناظر.
وقد قيل: إن الحسن عليه زكاةٌ كزكاة المال، وليست زكاته عند علماء المحبة إلا عبارةً عن الوصال.
ولما دعاه داعي الهوى أخذ يبدي له الالتفات، ويريه الصد تارات.
قد جرى بينهما في ميدان الصحبة بدهم الليالي والأيام، طراد خيل اللهو في حلبة المحبة والغرام.
وهو قانع منه بالقليل، راضٍ بالنظر إلى وجهه الجميل.
ومضت معه أوقاتٌ من مواسم العمر محسوبة، والسُّعود إلى طوالعها منسوبة.
حيث الزمان ربيع، والروض مريع.
والنسيم عليل، والوقت سحر وأصيل.
ألطف من عدة الحبيب، وألذ من غفلة الرقيب.
وما تفْضُل الأوقاتُ أخرى لِذاتِها ... ولكنَّ أوقاتَ الحسانِ حِسانُ
فقد كانت أطيب من نيل المراد، ولكنها أقصر من ساعات الأعياد.
فلو كان دهري عقداً لكانت واسطته، أو كان عمري جيداً لكانت قلادته.
فهيهات أن تنسى، وعسى أن تعود عسى، ربما أحسن الزمان وإن كان قد أسا.
هذا، فبينما هما على هذا الحال، قد أرغد عيش وأنعم بال.
إذ دنت شمس النوى بالطلوع، وفضح التطبع شيمة المطبوع.
وحارَبِني فيه رَيْبُ الزمانِ ... كأن الزمانَ له عاشقُ
فعلمت من مقدار الفراق ما كنت جهلته، ووجدت من شخصه ما كنت ضللته.
وقد أظهر دمعي ما أضمرته، وأبان من وجدي ما أخفيته.
عجباً لقلبي يوم رَاعَنِيَ النوى ... ودَنَا التفرُّق كيف لا يتفطَّرُ
أكفكف بالأكف الدموع، وأطوى على نار الغضا الضلوع.
وقد جزعت ساعة وداعه، حتى خفت على تفطر كبدي بانصداعه.
وما خلق الفراق، إلا لتعذيب قلوب العشاق.
فتكلم الحب عن لساني، وبرح الشوق بكتماني.
لو كنتُ أعلم أن آخرَ عهْدِه ... يومُ الفِراقِ فعلتُ ما لم أفْعَلِ
كأن قائل ذلك كان حاضرا معنا، أو كأنه قال ذلك لنا.
وقد انثنيت بجسم ناحل، أو بت من صبري على مراحل.
ما إن تركتُ وَداعَه عن جَفْوةٍ ... لكن جزِعتُ لبَيْنِه وفِراقِهِ
وما خلوت ساعة مذ تفارقنا من نفسٍ تتقيَّد له الأضلع، وذكرٍ تفيض له الأدمع.
وتشكي الفراق، وتذكر أيام التَّلاق.
وسهَّل التوديعَ يوم النوى ... ما كان قد وعَّرْه الهجْرُ
فالنظر إلى عين الشمس أسهل علىّ وأهون على عيني من أن أنظر إلى ذلك الصدر، وقد خلا من ذلك البدر.
كفى حزَناً بالهائمِ الصَّبِّ أن يرى ... منازلَ مَن يهوَى مُعطَّلة قَفْرَا
ما أعول إلا على العويل لو كان يغنى، ولا أستنصر غير الوجد لو كان يجدي.
والله سبحانه يقدر التلاق، ويضمُّ مشتاقاً إلى مشتاق.
فكم من حبيبين، فرق بينهما البين.
وأليفين، عادا بعد الفراق للوصل حليفين.
وقد يجمعُ الله الشّتيتْين بَعْدما ... يظْنان كلَّ الظنِّ أن لا تلاقِيَا
وهنا أنهيت الكلام على هذه العصبة، وختمت بهم عصابة أحرزوا في مجال القصبة.(1/207)
وقد عنَّ لي أن أذكر قصيدة جعلتها لجبهة دمشق إكليلاً، ووصفت بها من محاسنها روضا أريضاً وظلاً ظليلا.
فلتكن منوهة بمحل فضائل هذا الجمع، وخاتمةً لأوصافهم التي هي آخر ما يقرع السمع.
والقصيدة هي قولي:
سقَى دمشقَ موطنَ الأوطارِ ... دمعي وصَوْبُ العارِض الزَّخَّارِ
حتى يُرَوِّيا بها كلَّ رُبًى ... تصوَّرت في صُورةِ الأنوارِ
يسافرُ الطَّرْف بها إلى مَدى ... يُغنِى بها الخُبْرُ عن الأخبارِ
وباكرتْ نَيْرَبَها نُسَيْمةٌ ... عابقةٌ في رَوْضِهِ المِعْطارِ
من قبل أن تصْدَى بأنْفاسِ الورى ... بَلِيلةُ الأذْيالِ في الأسْحارِ
فنبَّهتْ أطْفالَ نبْتٍ نُوَّماً ... ترضعُ ثَدْي الدِّيمةِ المِعْطارِ
وللرِّياض طِيبُ أنفاسٍ بها ... تُهدِى الثناءَ الجَمَّ للأمْطارِ
يتلُو خطيبُها بصوتٍ شاكرٍ ... مِدْحتَه في منبرِ الأشجارِ
وينثُر الزَّهر فينظم الندى ... يا حسنَ ذاك النظمِ والنَّثارِ
لَوَى القضيبَ ثم جِيداً غَنِمَتْ ... تقْبيلَه مباسمُ الأنوارِ
والماءُ في خَريرِه مُنهمِكٌ ... والطيرُ عاكطفٌ على التَّهْدارِ
إن ردَّه اللحنُ انْثنتْ غصونُها ... تسمعُ منه رَنَّةَ الأوتارِ
وربما انْحنتْ لتَقْرا أسطراً ... في النهرِ خَطَّها النسيمُ السَّارِي
والنَّورُ قد فتَّح عن أكْمامِه ... وفكَّكَ الوردُ عن الأزْرارِ
والرَّبوةُ الغنَّاء حَناها الصَّبا ... فنفَحتْ عن جَوْنِة العطَّارِ
أُعِيذ بالسَّبْعِ المَثانِي دَوْحَها ... على احْتواءِ السَّبْعَةِ الأنهارِ
ودَبْرُ مُرَّان القديم لا عدَتْ ... سُحْبُ الحَيا ما فيه من آثارِ
فيه حديث البَبَّغا وعهدُه ... حَلْىٌ لِجِيدِ سالفِ الأعْصارِ
والمَرْجةُ الفيْحاءُ والوادِي الذي ... مَنْظرُه الباهِي جلاَ الأبْصارِ
معاهدٌ فيها النَّدامي أغْصُنٌ ... مُثْمرةٌ فواكَه الأسْمارِ
من كلِّ وَضَّاح الجبِينِ مُسْفرٍ ... عن طلعةٍ تهْزَأُ بالأقمارِ
فالنجمُ سارٍ طالباً لقيته ... لذاك قد لُقِّب بالسَّيَّارِ
وشاب حُزْناً طَرفُه وما رأى ... شبيهَهُ في الفلَك الدَّوارِ
يعرَق وجهُ الكأس بالحَباب إن ... فَاه وخدُّ الرَّوْضِ بالقُطارِ
مُنْتِقبٌ بالورد من خَجْلتِه ... جُوداً ومُرْتَدٍ حُلَى الوقارِ
وكلُّ مختارِ المعاني حسنُه ... قَيْدُ النُّهَى وعُقْلُه الأفكارِ
تلميذُه هاروتُ يروِى فَنَّه ... عن لفظِه عن طَرْفِه السَّحَّارِ
أهدتْ لي السُّقْمَ عيونهُ لذا ... وهبتُها النوَم عن اضْطرارِ
خَطَّ الجمالُ فوق طِرْسِ خدِّه ... سطراً برأسِ القلم الغُبارِي
أرَى على وَجْنِته دائرةً ... حَرّرها الجمالُ بالبركارِ
فالخْالُ في كُرسِيِّها قد استوى ... كمركزٍ لذلك المِدْرارِ
قد كاد موجُ رِدْفِه يُغرقُه ... لولا اعْتلاقُ الخَصْر بالزُّنَّارِ
وكاد أن يسيل لولا أنه ... جاذبه تشبُّثُ الإزارِ
أذكُر عهدَه فمتن تأوُّهِى ... فحمُ الدجى مُحترقٌ بالنارِ
وإن تقَلَّقْتُ لماضِي عهدِه ... فإنَّ عُذْري سيدُ الأعذارِ
ولي إلى الجامعِ شوقٌ والهٌ ... لا يفترُ الدهرَ عن التَّذْكارِ
للهِ أقوامٌ به أعزَّةٌ ... من خُلَّصِ الأخيار والأبرارِ(1/208)
في جُنْحِ لَيْلاتِهم أذْكارُهم ... تعرفُها بلابلُ الأسحارِ
كم دعوةٍ في المَحْلِ أضحتْ لهمُ ... تفْرِي جفونَ السُّحْبِ باسْتِعْبارِ
فارقتُهم لاعن رضًى وإنما ... عِنانُ عزْمِي في يد الأقْدارِ
نَشوانُ خمرِ السُّهدِ طَرْفي نومُه ... أغْرقه البكاءُ في تَيَّارِ
وما بكائي غيرَ رَشِّ أدمُعٍ ... يُوقِظ من نَوْمتِه اصْطبارِي
لعلَّ من لُطْفِ الإله مَدَداً ... يُوصِلني بهم إلى ديارِي
فأكْسِبُ الفوزَ بفضْلِ قُرْبِهمْ ... فربَّما يُجَرُّ بالجِوارِ
لا زال رَيْحانُ تحيَّاتي لهمْ ... يرِفُّ في روضِ الثَّنا المِعطارِ
واللطفُ ما زال يُحيِّي أرضَهمْ ... تحيةَ النسيمِ للأزْهارِ
وهذه فصول جعلتها لشعراء خطة الشام من وجوه قطانها، المنيخين في أعطانها، المقيمين بأوطانها.
ابتدأت منها بأهل المسجد الأقصى، وانتهيت إلى أهل حماة على الوجه المستقصى.
فصل
في شعراء القدس التي كانت قبلة القبل، وروضة الشرف التي أنبتت غصون الكرامة مثمرة بالقبل وناهيك بتربة عجنت بماء الوحي، وتوفر لقصدها الوخد والوخى.
وأهلها أصحاب الذوات القدسية، والبلاغة القسية.
والآراء السديدة، والنفوس الشديدة.
عصابةٌ في رءوسِ المجدِ إن ذُكِروا ... يفُوح مسكُ ثَناءِ البدوِ والحَضَرِ
ليت المَكارمَ لم تعشَقْ شمائَلهمْ ... فلِلْكمالِ رقيبٌ عائِنُ النَّظَرِ
فمن مشاهير بيوتها: بيت العلمي سلسلته لا يستقل بذكرها قلم، ولا يقطع علمٌ من وصفها إلا ويبدو علم.
ما منهم إلا من شد مئزره للأمر، وروى ظمأ الآمال بنائله الغمر.
عفُّ الإزار، خفيفٌ من الأوزار.
ازدادت به قبيله وعشيره، وظهرت فيه مخائل الرشد وتباشيره.
وأشهرهم:
محمد بن عمر الصوفي
إن كان أسرتُه بين الورَى علَما ... فإنه علَم في ذلك العلَمِ
ملك التصرف في التصوف، وأبدع التفرع في التعرف.
وطريقته في القوم، مبرأة من المحذور واللوم.
تحلى في إماطة الشبه بالاتقاء، وترقى في ذروة المعارف حدَّ الارتقاء.
وهو على وادئع الأسرار مأمونٌ ثقة، والقلوب كلها على جلالته متَّفقة.
ففمه قفل إجابة، ويده مفتاح إجابة.
وكلماته تدل على تمكنه في علم الأخيار، وتعرف أن نظره بمرآه الخيال مجلاة من غبار الأغيار.
ولم يبلغني من شعره إلا تائية ابن حبيب، ومطلعها:
بسم الإله ابْتدائي في مُهمَّاتِي ... فذاك حِصْنيَ في كلِّ المُلِمَّاتِ
بيت أبي اللطف ثنيَّة العلم والفتوة، وهضبة الحلم والمروة.
ما منهم إلا من حذا برياسة، وتروَّى من نفاسة وكياسة.
وأضاء بدراً وشمسا، وأفاض عشراً وخمسا:
ألطافُهم لا تزال سابغةً ... سائغةً حُجِبتْ عن الرَّنْقِ
تطيبُ آثارُهم لأنَّهُمُ ... من طَيِّب العُودِ طيِّب الوَرقِ
وأقربهم عهداً:
على بن جار الله
أحد أمجادهم، ومتقاد نجادهم.
فاتهم فضلا وكرما، وأضحى لزوار المكارم مناخا وحرما.
لا يرتجع وفد الآمال عن ساحته، ولا يزول لقب الندى عن راحته.
وهو رئيس الحرم ومفتيه، وملتمس الفضل ومؤتيه.
وله القدر العلي، والفضل الجلي، وكلماته على صدور الغانيات من الحلي.
إلا أنه فسيح مدى الافتنان، ممدود حبال الامتنان.
لم يزل في شعاب الفتاك يتوغل، وفي طريق الانتهاك يتغلغل.
وطفر آخراً طفرة النظام، فتفرقت آراؤه في أمورٍ أعيت على الانتظام.
وكان أمير غزة ابن رضوان ممن كثرت عليه عيونه، وساءت فيه ظنونه.
فاحتال عليه، في استدناه إليه.
حتى إذا حصل على تلك الأغراض، فتك فيه على غرة فتكة البراض.
وذهب كأمس الذَّاهب، والدهر هكذا واهب ناهب.
فالله يسهم له مع أهل الثواب، ويلهمه عند السؤال الجواب.
وقد أثبت له من أشعاره ما تود الشمس سناه، والنسيم اللَّدن رقة معناه.
فمنه قوله، من قصيدة مطلعها:(1/209)
خليلىَّ هذا الدهرُ دانتْ عجائُبه ... فطَمِّن فؤادا إن نشَبْنَ مخالُبهْ
ولا تْعتَبنَهْ إن تأخَّر ذو حِجاً ... فذا الدهرُ لم يُحْرِز سِباقاً مُعاتُبهْ
سكِرتُ بهذا الدهرِ لا من عُقارِه ... ولكن لمِا أبْدتْه عندي عجائُبهْ
فما مُحرِم الإنسان إلا علومُه ... وما ذائِقُوه السَّمَّ إلا أقاربُهْ
وهذا فيه إماء إلى قول ابن العميد:
آحِ الرجالَ من الأبَا ... عدِ والأقاربَ لا تُقارِبْ
إنَّ الأقاربَ كالعقا ... ربِ بل أضرُّ من العقاربْ
وفي المثل: ظلم الأقارب أشد مضضا من وقع السيف وقيل: إنما أخشى سيل تلعتي.
والتلعة: مسيل الوادي، من السند إلى بطن الوادي.
ومعنى المثل، إنما أخاف شر أقاربي، ويضر به من يخاف أن يؤتى من مأمنه، ومن جهة خاصته وأقربائه.
وأما قولهم في مثل آخر: ما أقوم بسيل تلعتك.
فمعناه: ما أطيق هجاك وشتمك الذي تشتمني به، ولا أثبت له.
ولبعضهم:
جانِبْ إذا أرْشدت أهْلَ القُدس من ... أباعدٍ تودّ أو أقاربِ
فالقُدسُ طَسْتُ ذهبٍ لكنَّه ... ممتلئٌ يُقال بالعقاربِ
وله من قصيدة مستهلها:
عِدْ فمُضْناك يُعادْ ... وابْقَ فالفَانِي يُعادْ
وتلافَى مُهجةً أتْ ... لَفها منك البِعادْ
واُبْقِ أحْشاءَ لها ... منك جُرحِ وضِمادْ
أوْ فعوِّضْنيَ طَيْ ... فاً منك قد أعْيَى السُّهَادْ
مِحْنتي فيك وهِجْرا ... نُك قَدْحٌ وزِنادْ
قاتِلي والقتلُ لي ... في جَدَدِ الحبِّ مُرادْ
كلُّ صَبٍّ لايَرَى الْ ... هَتْكَ تعدَّاه الرَّشادْ
كدَّر العشقُ لنا ... من صفاءٍ وصِفادْ
سَلْوتي عزَّتْ فهل ... شَيْمُ عزيزٍ لا يُرادْ
صادَني لَحْظُك يا ... أهْيفُ والأُسْدُ تُصادْ
كنتُ قبل العشقِ لا ... يجذِبُ آمالي عِنادْ
مُمْتطٍ صهوةَ أفْ ... راحٍ وللدهرِ انقِيادْ
لفظَتْني شَفَةُ الدَّ ... هرِ فخافْتني البلادْ
وكذا بما يمضُغ الْ ... أبْخَرُ تعْفوه الجِيادْ
سامَنِي الدهرُ فآ ... مالِيَ عكسٌ واطِّرادْ
يتمنَّى وَصلَ إرْ ... غامي ومثلى لا يُكادْ
لا تضِق يا قلبُ فالإع ... سارُ لليُسرى نِجادْ
وتروَّ الصبرَ لا يحْ ... سُنُ بالفحل حِدادْ
إن تبرَّاني فِناءُ الْ ... خانِ بتْنا في الوِهادْ
ليَ من قومي وقوْ ... لي ركنُ عزٍّ واعتمادْ
نحن آلَ اللطف أقْ ... وامٌ أساورةٌ شِدادْ
حَلْيُنا اليقْظةُ إذْ مَا الْ ... غيرُ خَلَّاهُ الرُّقادْ
كلَّ عصرٍ حضرةُ القدْ ... سِ لنا منهما عمادْ
شيخُنا الفاروق في قِرْ ... طاسِ إنْشاها المدادْ
عُمرُ الليث إذا صَا ... لَ وإن طال جَوادْ
هاديءُ الخُلْق إذا ما ... عن طريق الحقِّ حادْ
كعبةُ الطائفِ والرَّا ... جي وللعافِين زادْ
من نُشورٍ غيثُ نُع ... ماهُ ونادِيه مَعادْ
جمرةُ الكونِ ولكن ... ليس يعلوها رَمادْ
وأخو المجدِ أبو اللطْ ... فِ سَما الحمدِ المُرادْ
مُدرِك الغَاية إن آ ... يسَ في السبقِ الجوادْ
وله من أخرى يمتدح بها الأمير حسين، أمير غزة:
احْفظ فؤادَك يا مُفدَّى ... نارُ الهوى تمْتار جدّا(1/210)
هذا سهامُك في الحشا ... حَمْرا شَواكلُها ومَرْدَا
إن شئْتها أبدَيْتها ... من مُقلتي دمعاً وسُهدَا
نعَم اهْتزازُ قَوامِك ال ... مَعْسولِ لار يختار رَدَّا
فاعْمِلْه في حركاتِه ... إن رمتَ أن لا تُبْقِ فردَا
أمُعذِّبي بئس الهوى ... إن لم يكن قرباً وبُعدَا
فامنَحْ فؤاديَ نظرةً ... إن شئت للتعَّذيب مَدَّا
نِعْم الشهادةُ مُنجِداً ... لو سوَّغتْ للوصلِ شُهدَا
لو أن فْعلك للزما ... نِ ردَدْتَه كَلأًً ووَرْدَا
فلَكمْ أتى بمبرِّحٍ ... منه اصْطبارِي كان سَدَّا
ولَكم أبان مَخالباً ... خَلَّيْنَ للأهدابِ نِدَّا
يا جاعلاً أحْداقَنا ... قُرطاً ومِنطَقة وغمدَا
شخَصت لناظرِك المُكحَّ ... لِ أنفُسٌ صيداً وأُسْدَا
في موقفٍ يدَعُ النفو ... سَ ذوائباً والدمعَ جَمْدَا
ويقسِّم الأكْباد حسْب الْ ... وَصفِ سَوْسانا ووردَا
فكأنَّ سيفَ حسين يُو ... ضِح للورى حَدّاً وحدَّا
ويُرى لكلِّ مُنابذٍ ... إفْرِنْدَه بالرَّقْم حَدَّا
فكأنما إدريسُ أوْ ... دعَ فيه ما أخْفى وأبْدى
بطلٌ يُشير لمْثِله ... نَفْعا وللمُجْدين رِفْدَا
السابقُ الشُّمَّ الأُنُو ... فَ أباً وأبْناءً وجَدَّا
حامِي قِبابِ المجد ما ... بذلُوا لها شرفاً ومجدَا
أمظلِّلَ الأبْطالِ عِقْ ... باناً وكاسِى الفقر وُجْدَا
أيْسَرْتَ غُرَّةَ غَزَّةٍ ... ومنحْتَها للفخْرِ عِقْدَا
حتَّى سبَتْ بِنظامِها ... عجَما وأتْراكا وهندَا
تِيهاً أغَزَّةُ إنما ... أرْباك عِزٌّ ليس يَصْدَا
وله من أخرى، أولها:
مِن دياجِي البعد هل للقربِ وَمْضُ ... أم بمِضْمارِ التهاني ثَمَّ رَكْضُ
لا أُمَنِّي النفس ما لي والمُنى ... عاقَني من أدْهم الأيام رَكْضُ
كان تَسْالي مُخِلاَّ بالعَطا ... يومَ لا نَأْيٌ دنا والعيشُ غَضُّ
يومَ كان الشَّرْبُ سَمْعا وأنا ... بُلْبُلٌ ثمّ سَما والكلُّ أرضُ
صاحِ عاطِيني ولا تسألْ لما ... جَفنُ كأسِي وجفوني لا تُغَضُّ
إن تقلْ جُرحُ زماني كاتمٌ ... منهمُ في القلب جُرْحٌ لا يَمَضُّ
عَلِق القلبُ بلَحْظٍ إن رنا ... قاتلٌ أو كَفَّ ظنَّ الكفَّ غَمْضُ
مَن مُجِيري من هوى مَن لُبْثُه ... في عَرِين القلب زَفْراتٌ ورَبْضُ
كنت لا أعرفُ تمْزيق الكرَى ... فأراني كيف عَضْبَ الجَفْن ينْضُو
ورأى طُيْغان قلبي فرَنا ... ليُريه شُهُب الطاغِي تقُضُّ
فتناسيْتُ بلَمْعٍ بَرْقِه ... مذ بدا لي منه بَسْطٌ ثم قَبْضُ
قال لي والصَّحْو ما خامرَه ... واستملَّى قَدّه طولٌ وعرضُ
هل تخمَّرتُ بنُور طُرَّتي ... أم جفون الشَّعر دَانَاهُنَّ غَمْضُ
قلتُ شَبْي من سعيرٍ مُهْجتي ... أبْرزَتْه زفراتُ القلب ومْضُ
أو سِنانٌ طاعنٌ قلبَ الصَّفَا ... أو شهابٌ إذ لحَتْمِ العيشِ فَضُّ
ودموعي ماءُ قلبي نارُه ... أخرجتْها من قُرُوحِ الجَفْنِ بَضُّ
قال لي والغصنُ يثْنيه الهوى ... قد أتى من سائل الأجْفان عَرْضُ
فارْجِعِ الدمعَ لتطْفى نارَه ... حيث لي في منزل الأشواقِ عَرْضُ
حِلْيةُ العاشق قربٌ وقِلَى ... أيُّ وجدٍ لفؤادٍ لا يُرَضُّ(1/211)
قلت: هذا شعر مقداره خطير، إلا أنه فطير.
حافظ الدين العجمي
فارس مجال، ورب روية وارتجال.
تؤخذ الفصاحة عن لفظه، وتستملى فنون البلاغة من حفظه.
وله حظٌ من الأدب عظيم، واختصاص بنثير ونظيم.
إلا أن شعره أمل الكثرة، وهي كما عرفت متواخيةٌ مع العثرة.
وكان نبا به من حداثته وطنه، وضاق ببعض الحوادث عطنه.
فطار كل مطار، ولم يعرج على أوطانٍ واوطار.
ومع أنه يراقبه من الجلالة حافظ، وهو له في كل شؤونه مطالع ملاحظ.
كان كلفاً بالغلمان، معنىً بهم في كل زمان.
وعشق بدمشق فتى اتخذه للخدمة، واهم به هيمان ذي الرمة.
وتحمل فيه أنواع المشاق، وشهد حتى مصارع العشاق.
وشرب بالفتى، ولم يقل السلو متى.
وكان قد فضح النهار ليله، وأفعم الهرم في لهاته سيله.
فمضغته أفواه التشنيع، وعضته أضراس الندامة على هذا الصنيع.
ثم خرج عنه الفتى مجانباً، وخلاه هو وكمده جانباً.
واتفق له أنه كان في جمعٍ من الأعيان، ممن يضيق عن وصف تيقظهم نطاق البيان.
إذ سقط الفتى سقوط الندى، وحل حلول الأمل في ذلك المنتدى.
فلم يتمالك الشيخ أن وقع مغشياً عليه، وفمه على ظاهر قدميه.
فاغتنم تلك الفرصة، وأطفا بتقبيلها تلك الغصة.
والفتى يظهر امتناعه، والحيا حط عليه قناعه.
حتى زايل مكان زلة القدم، هناك قرع الشيخ سن الندم.
وشرع يطلب العفو، وينسب ما وقع منه إلى الغفو.
ثم لم يقر به القرار، دون أن عزم على الفرار.
وخرج إلى الروم حامل أثقال، وهو بريد ترحل وانتقال.
وانتهى أمره إلى أن صار قاضياً بصوفيه، وبها انتقل من ظل العافية، إلى ظل الرحمة الوافرة الوافية.
وقد أثبت من شعره ماله في إصابة شاكلة الصواب اشتهار، فإنه إن كان حاطب ليل فأنا في انتخاب أحاسنه قاطف نهار.
فمن ذلك قوله:
رأى ما حلَّ من فَرْط الْتهابِي ... ومن مَيْل الجفون إلى انْتهابِي
فمال إلى انْعطاف العِطْف نحوِي ... وأحْيَى القلب من رَشْف الرُّضابِ
وقام لنشْر بُرْدِ الوصل يطوِي ... بأيدي اللُّطف أردِيَة العِتابِ
غزالٌ كالغزالة قد غَزانِي ... بأجْفانٍ أصابتْ كلَّ صَابِي
صَبا قلبي إليه فكلُّ صَبٍّ ... سليمُ الطبع مأسورُ التَّصابِي
جرحتُ بنظْرتي خَدَّيْه وَهْما ... فقابلَني بأنْواع العقابِ
أرى تعْذيبَه للقلبِ عَذْباً ... لأُسْقَى من مَراشفِه العِذابِ
متى حسَر النِّقابَ عن المُحيَّا ... سَبَى العقلا ويسْبِي في النِّقابِ
بكأسِ الثغرِ منه عِقْدُ دُرٍّ ... تكلّل مثلَ حَبَّات الحَبابِ
إذا أتْبعتُه في المشْيِ طَرْفِي ... فلا أدْري الضلالَ من الصوابِ
أدار على صباحِ الجِيد شعراً ... كلَيْلٍ جَلَّ حسنا عن خِضابِ
وسَيَّبه على الأرْدافِ يسْعَى ... كأفْعى في الْتِفاتٍ وانْسيابِ
قسا قلْباً ولكن لاَن عِطْفاً ... أما هذا مِن العَجَب العُجابِ
قضى بالقتْل للعشَّاق قطعاً ... بحُكْمٍ منه قَطْعِيِّ الجوابِ
وذلك حين أدْمَوْا منه خَدَّاً ... بنَظْرتهم له خلفَ الحجابِ
ولم يُقِمِ الشهادةَ حالَ قتْلٍ ... لكيْ يحتاج فيها للنِّصابِ
يُصيب إذا رمى في القلبِ سهماً ... وكم بالْجَفْن منه مِن مُصابِ
قد اسْتلَب النُّهَى باللطفِ منِّي ... وبالَغ في فُنون الإسْتلابِ
فنارُ القلب منِّي في الْتهابٍ ... وطَرْفي الصَّبُّ منه في انْصبابِ
وقوله في الغزل:
أيامَن يُحيِّي الحسنَ منه بدورُ ... وقد جذبتْه للخُدورِ بدورُ
أراك تجُوز الحيَّ بالقلب خائفاً ... رقيباً ومِن شأن المحبِّ يزورُ
أمالَك أن تَثْنِي العِنانَ لحَيِّ من ... يُزار فمحبوبُ القلوبِ مَزُورُ
فكن مُصْيغاً سمعاً فإن لسانَه ... يقول لأرْباب المحبَّةِ زُورُوا(1/212)
إذا زرتَ أحْياء الأحبَّة زُرْهُم ... وإلاَّ فدَعْواك المحبَّةَ زُورُ
وقوله:
وأهْيَفٍ زارني والليلُ مُعتكِرٌ ... فأشْرقتْ من سَنا لأْلائِهِ دورُ
قالت عقاربُ صُدْغَيْه ندُور على ... لَسْعِ الحشا قلتُ ها كُنَّ الحشَا دُورُوا
وهذا في باب التورية مستظرف.
ومثلع قول بعضهم:
هَويْتُ غصناً لأطْيارِ القلوب على ... قَوامِه في رياض الوجدِ تغْرِيدُ
قالتْ لَواحظُه إنا نَسُودُ على ... بِيض الظُّبا قلتُ أنتم أعينٌ سُودُوا
وقوله من قصيدة، مطلعها:
هو الوجدُ في روضِ القلوب مَنازلُهْ ... يترجمُ عنه أين حَلَّ مُنازِلُهْ
وأين خَلِيُّ السرِّ من عارف الهوى ... فَذَا عالمٌ فيه وذلك جاهلُهْ
ولولا الهوى ما مال قلبٌ إلى الهوى ... ولا غرّدت من فوق غصنٍ بَلابلُهْ
فهل حافظ فيه حديثاً مُعَنْعَناً ... يُسائلني عنه وعنه أسائلُهْ
فمالي وللأطلالِ لا طال ظِلُّها ... أُناشدُها عمَّن ترُوح رواحلُهْ
ومالي وذِكْرِى للمَشِيبِ سَفاهة ... وقد فعل التَّشْبيبُ ماهو فاعلُهْ
ومالِي وللبَيْداءِ أقْطع مَتْنَها ... على ظهرِ يَعْبوبٍ تناءتْ مَراحلُهْ
ومالي ورَسْمِ الدارِ والرسمُ قد عفَى ... وماذا عسى يوماً يُجاب مُسائلُهْ
ومالي ووصفِ الشيبِ لا بان صَحْبُه ... ولا ظهرتْ في العارِضَيْنِ مَخائلُهْ
ولا انْفكَّ طِرْفُ اللهوِ يجرِي على الصَّفا ... بمِضْمار شوقٍ لا تكِلّ جحافلُهْ
ولا قصُرتُ يوماً خُطاه ولا انْثنتْ ... قوائمُه في السَّبْق عمَّا تُحاولُهْ
ولا زِلْتُ في ليل الشَّبيبةِ والصِّبا ... تُضيءُ علينا بالسرورِ مَشاعلُهْ
ولا عُطِّلتْ أوقاتُ صَفْوٍ ولا خلَتْ ... من الأُنْسِ ساحاتُ الهوى ومنازلُهْ
وما زال غصنُ العمرِ بالعِزِّ مُورِقاً ... ومَنْشؤُهُ صافِي المَناهلِ آهلُهْ
ولا برحت في الدهر مرآةُ عيْشِنا ... صَقِيلةَ وجهٍ لا تراه نوازِلُهْ
ولا هجرَتْ ذاتُ السِّوارِ مُتيَّماً ... يقابلُها يوم اللقا وتقابلُهْ
ولا صَدَّ خالي العارِضيْن ولا ثَنَى ... ولا مال عنِّي مائلُ القَدِّ مائلُهْ
غزالٌ متى ما رُمْتُ أُفْهِمُه الجوَى ... يغازلُني من جَفْنِه وأغازلُهْ
منها:
عواملُه في القلب قَدٌّ وحاجبٌ ... وجَفْنٌ وكم في الخلْقِ صالَتْ عوامِلُهْ
فذلك رُمْحٌ والحواجبُ قَوْسُه ... وذلك سيفٌ قد حَمَتْه حواملُهْ
به صِرْتُ أوْهَى من خيالٍ إذا سَرَى ... لذلك جسمى زائدُ السُّقْمِ ناحِلُهْ
ورأى بدار الخلافة سربا من الظّباء الغيد، قد اعتلوا النّواعير في أيام العيد.
فدارت تلك الأفلاك، بهاتيك النجوم الممثّلة بالأملاك.
فقال يصفهم:
ما شاهدتْ مُقلتي في غُرْبتي حسَناً ... إلاَّ بُدورا بدارِ الرُّومِ قد سُلِبُوا
كأن نَاعورةً دارتْ بهم طَرَباً ... قلبي فهم كيف ماشاءُوا به انْقلبُوا
وقال أيضاً:
ويومِ عيدٍ كساه الأُنسُ حُلَّتَهُ ... كم من جميلٍ به في صُورةِ المَلَكِ
بُدورُ تِمٍّ بأُفْق الحسنِ قد طلَعوا ... فزال ما كان في الأكْوان من حَلَكِ
كأنهم في نَواعيرٍ تدُورُ بهم ... نجومُ أُفْقِ السَّما في دَارَةِ الفلَكِ
ووقفت على ديوان جمعه لنفسه، وكتب على ظهره من نظمه، قوله:
ستفنى الليالي واللآلِي بحالِها ... وما هي إلا النظمُ من حافظ الوُدِّ
فإن عشتُ أنْعشْتُ الزمانَ وإن أمُتْ ... فلى شاهدٌ بالنظمِ والنثرِ من بعدِي
مرعيّ بن يوسف الكرميّ(1/213)
مقدّم في العلوم الشرعية، غير متأخر في العلوم الأدبية المرعية.
فهو من الفضل في منتهاه، ومن الأدب في محل سهاه.
وله جودة إتقان، وتمسّك بالهدى وإيقان.
مع زهد يحول بين القلوب ولذّاتها، وتبتّل لا يرغب في العبادة إلا لذاتها.
نقيٌّ مما يصديء مرآة نهاه، فما صبا لظبيٍ ولا اعتلق بمهاة.
يهيم في صلاحٍ وسداد، إذا هامت الشعراء في كلّ واد.
وهو أوحد من ألّف وصنّف، وأعظم من قرّظ وشنّف.
وله أشعار ومنشآت جلا أفقها، وجلّى طرفها وطرقها، وأطلع من تحت غصون الأقلام كالرياض ورقها.
فمن شعره قوله:
لما رأيتُك مقبلاً متبسِّما ... والحسنُ عمّك والبَها والسُّؤدَدُ
والمِسكُ خالُك فاح عطراً نَشْرُه ... والوردُ خدُّك جمرُه يتوقَّدُ
قلت ارْتجالا بيتَ شعرٍ مفرداً ... أنت المرادُ وفي المحاسنِ مُفْرَدُ
ياواحداً في حُسْنِه وجمالِه ... إنِّي وحقِّك في هواك مُوحِّدُ
وقوله:
أيامَن حَلا لي ثغرُه ورحيقُه ... رُوَيْدَك إن القلبَ زاد حريقُهُ
ويامن تجلَّى بالدَّلالِ ومَلَّنِي ... ومِن لَحْظِه سَيْف يلوح بريقُهُ
ويامن حَكاه الغصنُ وهْو وَرِيقُه ... ووردٌ وشُهد وَجْنتاه ورِيقُهُ
تُعلِّق آمالي بذاك وتنْثنِي ... وهل ينْثني عمَّن يحبُّ مَشُوقُهُ
وصيَّرتَ لي ذنباً ولم أكُ مُذنباً ... وحمَّلتني بالهجرِ مالا أُطِيقُهُ
صبرتُ ومُرُّ الصبر فتَّتَ مُهجتي ... وإن كنتَ في شكٍٍّ فسَلْ من يذوقُهُ
وقوله:
مُذ غاب عن عيني وأعرض عامداً ... مَن كنت أهواه تغيَّر حالِي
وأتى العذولُ مُوبِّخاً ومعاتِباً ... مامَن يُقاسِي مثلَ من هو خالِي
ومن أمثالهم في هذا الباب: الراكب لا يعرف حال الماشي.
والشبعان يفتّ للجوعان فتًّا بطيًّا.
من نام لا يشعر بشجو الأرق.
وله:
برُوحِي مَن لي في لِقاه وَلائمُ ... وكم في هواه لي عذولٌ ولائمُ
على وَجْنتيْه ورْدتان وخالُه ... كمسكٍ لطيفِ الوصف والثغرُ باسمُ
ذوائبُه ليلٌ وطلعةُ وجهِه ... نهارٌ تبدَّى والثنايا كمائمُ
بديعُ التثنِّي مرسِلٌ فوق خدِّه ... عِذاراً هوى العُذْرِى لديه مُلازمُ
ومِن عجَبٍ أنِّي حفظتُ وِدادَه ... وذلك عندي في المحبةِ لازمُ
وبيْني وبين الوصل منه تَبايُنٌ ... وبيني وبين الفصْل منه تلازُمُ
وله:
ليت في الدهر لو حظِيتُ بيومٍ ... فيه أخْلو من الهوى والغرامِ
خالِيَ القلبِ من تَبارِيحِ وجدٍ ... وصدودٍ وحرقةٍ وهيامِ
كي يُراحَ الفؤادُ من طولِ شوقٍ ... قد سَقاه الهوى بكأسِ الحِمامِ
ومن منشآته
فصل في معاتبةٍ بتصديق الوشاة
المولى يعلم أن الواشي لا يخلو من أحد أمرين؛ إمّا أن يكون محبا ودوداً، أو عدوًّا حسودا.
فإن كان الأول فيستحيل أن يقصد المحبّ لحبيبه ضررا، ويحمّله من الإثم وزرا.
وإن كان الثاني فمعلوم أنه يجتهد في أذيّته بكل طريق، ويحرص أن يغري عليه كلّ عدو وصديق.
فصل في معاتبة
الصديق لفظ على الألسنة موجود، ومعناه في الحقيقة مفقود.
فهو كالكبريت الأحمر، يذكر ولا يبصر.
أو كالعنقاء والغول، لفظ يوجد بلا مدلول.
وما أحسن قول القائل:
صادُ الصديق وكافُ الكِيمِياءِ معاً ... لا يُوجَدان فدَعْ عن نفسِك الطَّمَعَا
وقول الآخر:
لما رأيتُ بني الزمانِ وما بهم ... خِلٌّ وَفِيٌّ للصداقةِ أصْطفى
أيْقنتُ أن المستحيلَ ثلاثةٌ ... الغُول والعنْقاء والخِلّ الوَفِي
وسئل بعض الحكماء عن الصديق فقال: اسم لامعنى له.
وهذه شيم غالب أبناء هذا الزمان، من الأخلاّء والإخوان.
فمثلهم كمثل العرض لا يبقى زمانين، ويستحيل في أسرع من طرفة عين.
أو كلمع السّراب، المستحيل فيه الشراب.
أو كالخيال الذي يبدو في المنام، وهو في الحقيقة أضغاث أحلام.(1/214)
ومن كان بهذه الصّفة، فلا ينبغي الوثوق به، ولا التأسّف على فقده، ولا التألم على فرقته، ولا الحزن على غيبته.
فصل في تهنئه بفتح:
بعد تهنئة بتأييد عزائمه، وسفك دماء العدي على ألسنة صوارمه.
ظهرت في سماء السّعد مطالعه، وشرفت أقلامٌ سطّرت بها وقائعه.
فهو الفتح، الذي قضى على دم العدى بالسّفك ودموعهم بالسّفح، وتلت لديه آيات التهاني: " إذا جاء نصر الله والفتح ".
وسيوفه وإن كانت باكية دماً فقواضبها بهذا الفتح ضاحكة، وجنوده منصورة كيف لا! ومن أنصاره الملائكة.
فصل في الحثّ على المواعيد
مثله من يتبع قوله بفعله، ويأنف من تكرير عطائه بمطله.
فإن مرارة المطل تذهب حلاوة الإعطا، وتكرير الطلب يشرب ماء الحيا.
والمرجوّ تحقيق رجاء العبد بالإنجاز، وتبليغه ما أمّله وأمّ له إن جاز.
فصل في شكوى حال غريب
وينهى أن غين الغربة قد أوقعته في هاء الهواء، وكاف الكربة رمته في ألف الأشجان.
وأصبح صاد صبره مفقودا، ونون نواله مطرودا.
فعسى لحظةٌ منك تخلّصه من غين غوائل الدهر، وتنقذه من قاف القهر.
فصل في مخاطبة محدّث
سلامٌ يتّصل به سند المحبّة والشوق، ويتسلسل معه حديث الغرام والتوق.
وقد صحّت من الضّعف آثاره، وحسنت من طريق المحبّة أخباره.
من عنعنت بالسّند العالي أحاديث كماله، من غير إبهام ولا انقطاع ولا إنكار لمسانيد فضله وأفضاله.
فصل في مخاطبة منطقيّ
سلامٌ تنطبق كلّيّاته وجزؤيّاته على قضايا الأشواق، وتنتهج مقاماته من الأشكال ما يعجز عن وصف خاصّة الرّسم والحدّ من الاشتياق.
فصل في مخاطبة نحويّ
سلامٌ تبرز ضمائرالشوق من توضيح مسالك معانيه، وتظهر عوامل الغرام من معربات مبانيه.
يهديه محبٌّ انتصبت محبته على التمييز، وارتفعت مودّته بماضي عهدكم لأنه يرى أن العهد عزيز.
محبٌّ مبتدأ أحواله لايعرب عنه الخبر، وأفعال أشواقه لا يحكيها إلاّ من له خبر.
بشير الخليلي أديب بلطف الطبع مذكور، وفضله غير مجحود ولا منكور.
له ذهن يكشف الغامض، ويسبق البارق والوامض.
ومذهبه ينشره الأدب ويبسطه، وطبعه يمرح به الزَّهر وينشطه.
أقرَّ عين الخليل بالعروض، واتخذ نقد القريض في ذمَّته من الفروض.
وهو ممن نظمت كلماته نظم اللآل، إلا أنه غرَّته مطامعه في المدائح غرة الآل.
يتكثَّر من العدة، ويتقلل من الجدة.
فما أخصب له وادٍ ولا نما، فكأنه العروض بحرٌ بلا ما.
وأنا لم أقف من شعره إلى على قصيدة لاميَّة، راجع بها الإمام خير الدين الرملي عن قصيدة على وزنها.
مطلعها:
ما كان مَرْمَى فؤادي حيث هُيِّءَ لِي ... فيه البناءُ بهنْدٍ بعد مُرْتَحَلِي
وقصيدته هي قوله:
صَوْبٌ من الغيثِ وافَى زائدَ الهَطَلِ ... أحْيَى رُبَي القُدس بعد الجَدْب والمَحَلِ
أم شمسُ فضلٍ ترقَّتْ في مطالِعها ... أوْجَ الفَخارِ فحلَّتْ ذِروةَ الحَمَلِ
أم بدرُ أُفْقِ المعالي قد تنقَّل في ... برُوجِه وكمالُ البدر في النَّقَلِ
لا بل هو الجامعُ العَرْفَ الذي ملكتْ ... أوصافُه الغُرُّ رَحْبَ السهلِ والجبلِ
أراد ربُّك في تحْريكِه حِكَماً ... وربَّما صحَّت الأجسامُ بالعِلَلِ
فزيَّن المسجدَ الأقْصى بحِلْيته ... وشَوَّه الرَّملةَ الرَّمْلاء بالعَطَلِ
فاهتزَّ من طَرَبٍ هذا لزَوْرته ... وارتجَّ من حَرَبٍ هذا لمُرتَحَلِ
فكم على الساحل البَحْرِيّ من حَزَنٍ ... وكم عل المسجد القُدسِيّ من جَذَلِ
وكيف لا وهو خيرٌ إن أقام على ... أرضٍ تسامتْ وإن يرحَلْ فلا تَسَلِ
تجمَّعتْ فيه أوصافُ الكمال كما ... تجمَّعتْ قِسَمُ التَّفْصيل والجُمَلِ
أحْيَي الدُّروسَ وقد أحْفَى الدُّروسُ بها ... وجاد وابِلُها الظمآنَ بالنَّهَلِ
معالمٌ لو رأى الرَّازِي حقائقَها ... لَبات بالرّيِّ يشْكو أبْرَحَ الغُلَلِ(1/215)
يجوُدِ كفٍّ لو الطائُّي شاهدَه ... لقال لا ناقتي فيها ولا جمليِ
ومنطقٍ يترُك الألْبابَ حائرةً ... والكاملَ العقْل مثلَ الشاربِ الثَّمِلِ
كم أنْشَدتْ لذوِي الفتوى براعتُه ... أصالةُ الرأيِ صانْتني عن الخَطَلِ
قَّلدت جيِدَ أهالي القدسِ عِقْدَ ثَنَا ... من دُرِّ ألفاظِك الخالي عن الخَلَلِ
قصيدةً مالها مِثْلٌ يُناظرُها ... سارتْ بلاغتُها في الكونِ كاَلَمَثَلِ
لو أنْصفُوا لم يكن موجودُهم بَدَلاً ... عنها وهل ليتيمِ الدُّرِّ من بَدَلِ
مِن أعْجب الأمرِ تقْريظي لها هذَراً ... ولو سترتُ عَوارِى كَان أصلحَ ليِ
فما نِظاميَ لّمَّا أن يُقاسَ بها ... إلا نظيرُ قياسِ الشمسِ مَعْ زُحَلِ
لكنْ رأيتُ انْتظاري مع قُصورِ يدِي ... في سِلْكِ مَدْحِكُم عفْواً من الزَّلَلِ
فرُمْتُه فأتَى يسعَى على عَجَلٍ ... فاعجَبْ له من بَسيطٍ جاء في رَمَلِ
ولَذَّالي وصفُك الزَّاهِي فأذْهلني ... عن البَداءةِ بالتَّشْبيبِ والغَزَلِ
أنا البشيرُ وكلُّ اسمٍ لصاحبِه ... منه نصيبٌ بِنُجْحِ القَصْدِ والأملِ
فدُمْ فما زلتَ نُوراً يُستضاءُ به ... إلى الهدى وبعَوْنِ الله لم تزَلِ
تحْمِى حِمَى مِلَّةِ الإسلامِ أشْرف مَن ... نال الفَخارَ من الأمْلاكِ والرُّسُلِ
صلَّى عليه إلهي دائَماً أبداً ... والآلِ والصحبِ أهلِ العلم والعملِ
ما أُنْشدت فاسْتمالتْ عقلَ صاحبِها ... ما كَان مَرْمَى فؤادِي حيثُ هِّيءَ لِي
أدباء الرملة
خير الدين بن أحمد الحنفي
بقية السلف، وخير الخلف.
ذاته كاسمه، والفضل كله برسمه.
وعلمه كلمة إجماع، ومدحه عطر أفواه وحلى أسماع.
فهو في الفقه عالم الشرع، ومحرر الأصل والفرع.
وعلم الشهرة المنشور، إلى يوم البعث والنشور.
وأما في الفرائض فله السهم والنصيب، وإذا اقتسمت فريضة الشكر فله الحظ والتعصيب.
إلى علوم غيرها أخذ جلَّ خيرها، وسار فيها سيرةً اقتدى الجهابذة بسيرها فهو من منذ حلَّ في الكون، مدده التوفيق والعون.
رمقته عين العناية، فدلت عليه كلمة الفضل بالصريح والكناية.
فسمت هممه، وكرمت ذممه، وانتعشت به من الفضل رممه.
وشغله علمٌ يفيده، وفخرٌ يشيده.
ورياسةٌ يتفيَّأ وارفها، وطهارةٌ يلتحف مطارفها.
إلى وقار ترزن به الأرض، ومقدارٍ له النافلة من الحظوة والفرض.
فطار صيته في الأقطار، وتغنَّى به راكب الفلك وحادي القطار.
وصرفت الأعنَّة إلى التماس خيره، وطارت القلوب بجناح العزيمة تيمُّناً بطيره.
وكلن على اعتنائه بعلوم الشريعة، واختصاصه منها بالمرتبة الرفيعة.
يعني بالآداب فيصيرها رونقا متسقا، وينظم لآلى نكاتها في أسلاك الإجادة نسقا ويقول الشعر في المرتبة العالية، ولا يختار من الثناء إلا القيم الغالية.
وقد أوقفني صاحبنا إبراهيم بن عبد العزيز الجينيني على ديوان نظمه، فجردت منه أشياء حظها الإصابة ونصيبها، وسهم الانتقاد لا يصيبها.
فمن مطوَّلاتها قوله في الغزل:
أمِن ذِكْر جارٍ بذات السَّلَمْ ... أرقت دموعا جرَت كالعَنَمْ
وأم هاجتِ الرِّيحُ من جانبٍ ... به شادنٌ أهْيَفٌ قد ألَمّ
أتحسَب أن الهوى مُخْتفٍ ... ودمُعك منه جرى وانْسَجَمْ
عجبتُ لخَصْرٍ له ناحِلٍ ... على حَمْل رِدْفَيْه أنَّى الْتأمْ
إذا ما رَنا باهْتزازٍ فقد ... ربَا عنده هَيَجانُ الألمْ
فلا عجبٌ إن نأَى مُعرِضا ... لأن الظّبا لم تزلْ فيه لمْ
وأُدْعَى فصيحاً لدَى عتْرتي ... وأُدْعَى لديْه بِداءِ البَكَمْ
ترفَّق بقلبٍ غدا في يديْكَ ... رقيقاً وفَوِّق بتلك الشِّيَمْ
وضاهيْتُ خَصْرا له ناحلاً ... ولازَمَني في هواه السَّقَمْ(1/216)
فذُبْ يا فؤادي بنارِ الجوَى ... فكم ذا نهيْتُك عن ذا فلَمْ
أما آن أن يْنقضي ذا القِلَى ... وما آن منك أوَانُ الكرَمْ
وكتب إليه بشير الخليلي، يسأله عن بيتين للمتنبي، بقوله:
أيا مَن غدا في البَرايا فريدا ... وفي العلم رُكْنا مَنِيعاً مَشِيدا
ومَن صار قُسُّ الذَّكا باقِلاً ... لديْه وأضْحى لَبيدٌ بَليِدَا
يقول أبو الطيِّب المُجتَبى ... وأعنى الإمامَ المجيدَ المُجِيدَا
طلبْنا رِضاه بتَرْك الذي ... رَضِينا له فتركْنا السجودَا
ومنها له آخر بعده ... وجدْناه صعبا لدينا عَنِيدَا
كأن نَوالَك بعضُ القضاءِ ... فما نُعْطَ منه نَجِدْه جُدودَا
فأوضِح لنا وجه معناهما ... بقيتَ على الدهر صَدْرا مُفيدَا
ولا زلتَ تُوضِح للمشكلا ... تِ ما نظَم الناظمون القَصِيدَا
فأجابه بقوله:
رِضاهُ السجودَ لممدوحِه ... وممدوحُه ليس يرضى السجودَا
ومعنى السجودِ الخضوعُ كما ... أتى لغةً مستفيضا وُرودَا
فمن حُسْن أخلاق ممدوحِه ... خضوعَ الأنام له لن يُريدَا
وعِزُّ مَقام له مقتضٍ ... يكون الخضوعُ وجوبا أكيدَا
ولكن أرى تركَه للرِّضا ... به لابذاك صوابا سديدَا
وبيتُ النوالِ جديرٌ بأن ... تميل إليه فؤادا وفودَا
فمعْنى الجُدود الحُظوظ التي ... تسيءُ بُخوتا ويَعني السُّعودَا
فما يُعْطَ ليس بحقٍّ له ... ولكن يراه اعتقاداً جُدودَا
وإن القضاءَ لكل الورى ... على مقتَضى تلك فضلاً وجُودَا
وقبل العطاءِ بلا مُوجبٍ ... هو الفضلُ إن تَبْغِ منه الورُودَا
فشابَهَ نفسَ القضا فعلُه ... وهذا بليغٌ فخُذْه مُفِيدَا
وله من قصيدة مدح بها مفتى الروم يحيى بن زكريا:
أقَرِيحتي لَمن الخطابُ تنهبَّنِي ... وتثبَّتي في القول لا تتبلَّهِي
هو للذي الأكابدُ تُضرَب نحوه ... من كل فَجٍّ تْنتهي إذ تْنتِهي
وبه استوى صُلْبُ الشريعة قائما ... في كلِّ إقْليم وصُقْع فْهىَ هِي
مهلاً رُويداً رائدَ الروم اتَّئِدْ ... وبِه بِه لك إذْ تراهُ بِه بِه
واحملْ ثَنائي إنَّ وَهْني عاقنِي ... عن أن أكون أبا المَضا بتوجُّهِي
مع أنني مع ذاك لا أدعُ الذي ... يُرْضِى الإلهَ وفيه عينُ تفكُّهِي
فحديثُه المَرْوِىُّ فيه وإن نأَى ... ما أكْتفِي ما أشْتفِي ما أشتهِي
قوله: فهي هي، أي عين الشريعة.
وهذا الأسلوب، إما يختلف فيه الضمير فيرجع الثاني إلى المذكور سابقا كما هنا، وإما أن يعاد بعينه.
قال الشريشي: الأسباط إخوة يوسف عليه السلام، وهم وهم.
أي، وهم أنبياء لم يتغيروا عن مراتبهم.
ويقال: هو هو أي كما عهدته لم يتغير، انتهى.
وقوله: فحديثه إلخ، في هذا البيت أسلوب لطيف، وهو أن تذكر لفظاً بعده ألفاظ يتعلق كل منها به، مع اختلاف المعنى، فالتقدير فيه: ما أكتفى فيه، ما أشتفى فيه، ما أشتهى فيه، وهو من البدائع.
والأصل فيه قول الصاحب ابن مطروح:
لا أرْعَوِى لا أنْثني لا أنتهِي ... عن حبِّه فْليَهْذِ فيه من هَذَى
ومن مقتطعاته قوله في تشبيه الزنبق الذي يوجد في ساحل البحر الشامي، ونواره أبيض، قطعة واحدة ليس متفرقا:
وزَنْبَقةٍ قد أشبهتْ كأسَ فضةٍ ... برأسِ قضِيب من زُمُرُّدةٍ عَجَبْ
سُداسِيُّ شكلٍ كلُّ زاويةٍ به ... على رأسِها الأعلى هلالٌ من الذهبْ
وقوله متغزلاً في الخال:
بالخدِّ منه شَقِيقٌ جلَّ واضِعُهُ ... أعْيَى الورى فيه شاماتٌ بحُمْرتِهِ(1/217)
أقولُ هذا ولا عِيٌّ ولا عجَبٌ ... قلبُ الشَّقِيق الذي في وسْط وَجْنِتِه
هذا معنى استعمله الشعراء كثيرا، ومن أجوده قول الحاجري:
لا تُنكروا الخالَ الذي في خدِّه ... كلُّ الشَّقِيق بُنقطةٍ سوداءِ
وقوله في العذار:
عندما جَدَّ بالحبيبِ عِذارٌ ... أظهرتْ لَاُمه لفَتْكِ البَرِيَّهْ
قالتِ الناسُ عند ذلك فيه ... قمرٌ تلك لاَمُه القمَريَّهْ
وله:
مُهَفْهفُ القَدِّ مذ كَوانِي ... بحُمْرةِ الخدِّ منه في الحَيّ
فقلتُ بي أنت دَاوِنِي قا ... ل آخرُ الطبِّ عندنا الْكَىّ
وقوله:
مَن شارَك الإنسانَ في اْسِمهِ ... فحقُّه قطعاً عليه وَجَبْ
لذاك مَن سُمِّىَ مِن خلقِه ... محمداً فاز بهذا السَّبَبْ
ولقد أجاد الأبوصيرىّ، حيث قال:
فإنَّ لي ذمَّةً منه بتسْميتي ... محمَّداً وهْو أوْفَى الخلقِ بالذِّمَةِ
وسمع قول القائل:
مُحِبُّك يرعَى هواك فهلْ ... تعود لَيالٍ بضدِّ الأمَلْ
فمنْقُوطها قد بدا نَحْسُه ... ومُهمَلُها فهو سعدٌ حصَلْ
فقال منشئاً:
من الشهرِ حاذِرْ ثالثا ثم خامساً ... وثالثَ عَشْرٍ ثم سادسَ عَشْرِهِ
كذا واحدٌ من بعد عشرين رابعٌ ... يليها وتالِيه تنَلْ مَحْضَ يُسْرِهِ
وكتب إلى آل العماد بدمشق، في صدر رسالة:
أيا مَن عَجَّ من لَغَبٍ ... فلم تظهرْ له نِيَّهْ
نصَحْتُك فاعتمِدْ أبداً ... مُراجعةَ العِماديَّهْ
فراجعوه بقولهم:
أمولايَ خيرَ الدين يا شيخَ عصرِنا ... ومَن فيه لا زلتَ الزمانَ اعتمادُنَا
فأنت عمادُ الدين بالحقِّ قائماً ... فشَاد إلهي مِن دُعاكَ عِمادَنَا
فكتب إليهم:
يا ربّ خيرُ الدين يدعو ضارعَا ... مُتذلَّلاً لك خاضعاً مُتواضعَا
بِصفَا فؤادٍ للعِمادِ وآلِه ... فهمُ الكرام سوابقاً وتوابِعاَ
فكتبوا إليه:
سألت إلهي خاضعاً متواضعَا ... ولا شكَّ مَن يجدعوه يلْقاه سامعَا
بقاءَك خيرَ الدين للناسِ عُمدةً ... ومكثَك يا مولايَ في الأرض نافعاً
وفيهم يقول أيضاً:
يا مَنْ هُم أعمِدةٌ ... كلُّ عمادٍ وحدَهُ
إن نزلتْ نائبةٌ ... بنا قصَدْنا قَصْدَهُ
والجينينىّ المذكور، هو ببركاته اعتد، وبأسباب فوائده اشتد.
فتقلَّد به من الأدب ما تقلد، وبقي له ما دام ذكره وتخلد.
وهو الآن غرة الزمن البهيم، تكلف الألباب بخصاله الحميدة وتهيم.
كما قلت فيه:
لابن عبد العزيز إبراهيمَا ... خُصَلٌ كم بهِنَّ أبْرَاهِيمَا
أدبٌ يُخجِل الرياضَ ولفظٌ ... هِمْتُ فيه وحُقَّ لي أن أهِيمَا
وكمالٌ يهْفو له كل فهمٍ ... طبْع منه يطلب التَّفهيمَا
رأيُه الصبحُ والصباحُ إذا لا ... ح جَلا بالضِّياءِ ليلاً بَهِيمَا
نجم الدين بن خير الدين
هو من حين نجم، تهلَّل عارضة وانسجم ولم يرض بالأرض دارا، فاتَّخذ ما فوق فلك الأفلاك مدارا.
حتى النجومُ عدَت تقول تعجُّباً ... جاوزْتنا شرفاً فأين تُريدُ
فأجابهنَّ أُمِرتُ أن أرْقى العُلى ... ما دام لي في الارتقاء مَزِيدُ
حتى تَرَينْي والسماءُ قواعدِي ... والشمسُ أرضٌ لي وأنتِ صَعِيدُ
أطلعه الله الطلوع المطهر، وألبسه أثواب النباهة العلم المشهر.
فقام على ميعة شبابه مقام أبيه في حوزته، وراز الأمر بتوفيق الله مثل روزته.
وبنى مثل ما بنى، ومالوى يداً عن مكرمةٍ ولا ثنى.
تلافى أبوه العُلَى بالعُلى ... فبثَّ نَداه ووالَى جَداهْ
فلمَّا مضى وقضى نَحْبَه ... تلافى تَلافِى المَعالي أبَاهْ
وكان بيني وبينه مودة على الغيب، مأمونة بعون الله من الشائبة والريب.
وكنت لا أفكر في مستحسن سواه إلا أعرضت دونه، ولا أرجو لقاء غائبٍ إلا رجوت أن يكونه.(1/218)
فلما مررت على الرملة عند رحلتي إلى القاهرة، كان أول طالعٍ علىّ من آفاقها الزاهرة.
ففاتحته بهذين البيتين:
لقد كنتَ في قلبي ولم يحصلِ الِّلقا ... وأنت به أحْلَى من المَبْسمِ العَذْبِ
فقرَّتْ بحمدِ الله عيني بنظْرةٍ ... فلم أرَ أحْلَى منك في العينِ والقلبِ
وكان في صحبته أمين الدين القدسي وأبو الهدى الرملي، وهما ماهما، جاد صوب فضلهما وهمى.
وبينه وبينهما مصافاة تقتضي حقا يوفى، وفرضاً يؤدى، ووصفاً يصفى.
فقلت أخاطب أمين الدين:
يا أميناً ذاتُه دُرٌّ ثمينُ ... أنت للعلْياء عينٌ ويمينُ
إن وُدّاً صادثاً أوْدَعْتنِي ... أنا عنه عُمْرَ دهري لا أَمِينُ
حاضراً أحْبُوك أصْناف الثَّنا ... وعلى غَيْبك أني لا أمِين
وقلت في أبي الهدى:
هَداني النجمُ إلى مِدْحَةِ مَن ... تلفَّع المجدَ وبالفضلِ ارْتدَى
وكيف لا يُهْدَى إلى الرشادِ مَن ... دليلُه النجمُ إلى أبي الهُدَى
وهو الآن في تلك الخطة رئيس الحقل، وإمام الفرض فيها والنفل.
زند مجده قادح، وما فيه طاعنٍ ولا قادح.
فالله يجعل نتائج حياته، تابعةً لأحسن مقدماته.
وكان صدر بيني وبينه محاورات، بأرق معان وألطف عبارات.
تلاحظ بها أقمارُ المنى فتشرق، وتنظر إلى أكناف الحمى فتراها بصيبها تورق.
فمما كتبته إليه هذه النونية:
رُدُّوا المسرَّة والكرى لجُفوني ... وهو القرارُ لقلبيَ المحزونِ
لم أدْرِ قبل هواكمُ أن النوَى ... يُبْدِي من الأشْجان كلَّ دَفِينِ
أو أن سلطانَ المحبِة يقتضِي ... أن الأسودَ تبيتُ أسْرَى العينِ
أما النفوسُ فلم يدَعْ منها الجوَى ... إلَّا بَقايا زَفْرةٍ وأنينِ
لما رآني الطيْفُ رَقَّ ترحُّما ... وبكى على بلُؤلُؤٍ مَكْنوِنِ
وسرى وأيْقَن أنه لو زارني ... أُخرى لأخطأني فلا يعْدُونِي
آهٍ وهل يشْفِى العليل تأوُّهٌ ... شوقاً لعهدٍ بالوفاء قَمِينِ
أيَّامَ يحْدُني الصِّبا ويسُوقني ... قسراً إلى الَّلذاتِ غير غَبِينِ
لا أخْتشِى مَسَّ الحوادث آمِنا ... وأخو النُّهى مَن بات غيرَ أمينِ
والآن أبْكي إن أُصِبتُ بنعمةٍ ... قبل الزَّوالِ لفطْنتي ويقينِي
ولقد سبَرْتُ بني الزمان فلم أجدْ ... خِلّاً إذا أرْضيْتُه يُرضيني
فتركْت مَن كنت الضَّنينَ عليه مِن ... فَرْط الهوى وأراه غيرَ ضَنِينِ
وغدَوْتُ فيهم كالحُسام مُجرَّداً ... من غِمْدِه فرداً بغَيْر مُعِينِ
نَاءٍ عن اللذاتِ إن بَخِل الحَيَا ... أغنيتها عنه بغيْثِ جُفونِي
لا أرْتضي شمس النهارِ قرينةً ... وأعاف ظِّلى أن يكون قَرينِي
أسْتصغرُ العظماءَ حيث وجدتُهمْ ... وأرى مقاتل والثُّريَّا دُونِي
ليس احْتقاري للأنام تهاوُنا ... بهمُ ولا خطر الورى بظنُونِي
لكن أعُدُّ من البهائِم مَن خَلَا ... عن فضلِ فردِ العصر نجمِ الدِّينِ
مَولى سواه هلالُ شَكٍّ في العلى ... وجَنابُه المحروس شمسُ يقينِ
قد كوَّن الرحمنُ جوهرَ ذاتِه ... لُيرِى العبادَ عجائب التَّكْوينِ
وأظنُّه من فَرْط طاعتِه أتى ... للكونِ بعد الكاف قبل النونِ
بحرٌ بِحارُ الأرض تغرَق في نَدَى ... كَفَّيْه لستَ تُحيطُه بسَفِينِ
لا يبلُغ المِكْثارُ عُشْرَ صِفاتِه ... لو حُفَّ بالتأييد من جِبْرِينِ
هو نجْل خير الدين شيخ العصر من ... غنِيتْ مآثرُه عن التَّدْوينِ
فسقَى ضريحاً ضَمَّه صَوبُ الحيَا ... يهْمِى عليه من الرِّضا بهَتُونِ(1/219)
أمعلِّمَ الشعراءِ وصفَ ذوى العُلى ... فتراه يهْدِيهم إلى المَضْمونِ
أنا مَن عرفتَ وِدادَه وجهلْتَه ... ولوسف تغنَم منه خيرَ خَدِينِ
فبقيتَ في حفظِ الإله ممتَّعا ... بالعِزِّ والإسْعاف والتَّمكِينِ
فُعلاكَ فخرٌ للزمان وأهلِه ... وبَقاك أكبرُ نعمةٍ للدِّينِ
ولذاك لم أنْطِق بمدْحِك داعياً ... إلا أجاب الناسُ بالتَّأْمينِ
فكتب إلىّ جوابها رسالةً، وشحها من نفائس أنفاسه نثراً وشعراً، ولم يهد النجم في مطالع البدائع إلا النثرة والشعرى:
أهلاً بطيْفٍ من حبيبٍ زارَا ... أهدى حياةً شافهتْ أوْطارَا
أفدِيه من طيفٍ ألَمَّ بمضجِعي ... فأثار في أحشاءِ قلبيَ نارَا
شوقا إلى خِلٍّ تذكُّرُ عهدِه ... لم يُبْقِ في قلبي الخَفُوقِ قَرارَا
أصْبُوا إليه إذا تألَّق بارِقٌ ... وأحِنُّ إن رَكْبٌ إليه سارَا
وإذا ترنَّم صادحٌ في أيْكِةً ... من نحْوِه اختطف الفؤادَ وطارَا
إن أبهى ما أفصح به اليراع بيد أنه رضيع ثدي المحابر، وأسمى ما خطب به القلم وهو على منابر الدفاتر.
سلامٌ أحلى من رحيق الأفواه لدي الصباح، وهيامٌ أجلى عن عقيق الشفاه من الصباح، وأعبق من عبير ورد الخدود والتفاح، وأنشق من عبير شقيقها وقد فاح، وأنسق من المزن في فم الأقاح.
وبث أشواق يقف لسان القلم عن إحصائها، وتجف أفواه المحابر عن إرادة استقصائها.
إلى من أجمع أهل الفضل على توحده في الدهر، واتفق أهل الحل والعقد على تفرده بالفخر.
وظهرت معاليه ظهور الشمس في الإشراق، وعمت أضواء إفادته عموم ضياء البدر في الآفاق.
وهيهات تخفى في الظلام مشاعل، أو تستر على الأيام هذه الفضائل.
وقد هَّبت الشَّمال بنشرها، وسارت الركبان بذكرها.
لا برحت أنوارها مشرقةً على الأنام، وآثارها جلاءً لقلوب الإخوان من غصص الأيام.
وقد وردت القصيدة التي هي شرف الزمان، وفخر البراعة والبيان.
فلا زالت أيادي مولانا مشكورةً مقبولة، ومَبرَّاته وصلاته واصلةً موصولة.
ولا برحت الأسماع تتحلَّى بدره الثمين، آمين آمين، وبالنبيَّ الأمين.
فكتب إليه بهذه القصيدة، وهي:
أما المَشُوق فلا يُطيق قَرارَا ... وأراه يْقضِى عمرَه تَذْكارَا
يُصْيِبِه مُعترِض البُروقِ إذا هفَا ... فيُحِسُّ منها في الحُشاشةِ نارَا
وَجْدٌ لقد قصُرتْ مُناه على الظِّبَا ... أتَرُوم منه على الهوى إقْصارَا
وأبِيك ما اخْترتُ السُّلُوَّ ولو جَفَا ... مَن كنت أهواه وشَطَّ مَزارَا
بأبِي من النَّفَر القواتَلِ جُؤْذُرٌ ... تركَ الأسودَ بناظريْه أَسارَى
رَقَم الجمالُ على صحيفِة خدِّه ... سطراً فظنَّتْه الوُشاة عِذارَا
يرْنُو بأكحلَ مُرْسِل من لَحْظِه ... لِمَنَّية المُضنَى شَباً بَتَّارَا
يا مُهلِك العشاقِ مهلاً في شَجٍ ... تَخِذَ التَّهتُّك في هواك شِعارَا
لولاك لم يَهْوَ الحسانَ ولم يكنْ ... ممَّن يَذلُّ لغيرِك اسْتكبارَا
لم أنْسَ عهدك والزمانُ بحالِه ... والعيشُ يمنْحُه المُنَى ما اخْتارَا
أيامَ نأخذُها كُمَيْتاً سَلْسَلاً ... لا مُرَّةً كلاّ ولا مُصْطارَا
في روضةٍ فُرِشتُ بِساطاً أطْلَعتْ ... نُوَّاره عَوْضَ النِّثارِ نِثارَا
غَنَّاء نَمْنَمَها الربيعُ فأظهرتْ ... حِكَماً لنا قد أبدعتْ أسرارَا
طابتْ فكادتْ أن تُشابِه خُلْق مَن ... ساد الأنام فضائلاً وفَخارَا
مولايَ نجمُ الدين أفضلُ ماجدٍ ... قد طاب فَرْعاً حيث طاب نِجارَا
شَهْمٌ إذا بَخِل الغمامُ أفاض مِن ... كفَّيْه بحرا بالعَطا زَخَّارَا
لو صادفتْ صُمَّ الصخورِ رَذاذةٌ ... منه لأنْبَتها الربيع بَهارَا(1/220)
طَلْقُ المُحيَّا لو يلُوح شُعاعُه ... في وَجْه حظِّي لحظةً لأنارَا
أهْدَى إلىَّ رسالةً في ضِمْنها ... أهْدَى إلىَّ العمرَ والأوَطارَا
من كلِّ لفظٍ شائقٍ يبدو به ... معنًى يُدير على العقول عُقارَا
لا زلتَ تُوليني وِدادَك مُنْعِما ... وبقيتَ تعلُو في الورى مقدارَا
وإليك روض قد تفتَّح زهرُه ... فصدحتُ في عالي ذُراه هَزارَا
من كل قافيةٍ غدَتْ من حسنِها ... نَجْما كذاتِك في العلى سَيَّارَا
كالرَّاح تلعب بالعقول وإن تَشا ... كالسحرِ في حَدَقِ الحسان تَوَارَى
واُعْذُر إذا أخَّرتُ فيك مدائحي ... فلأنتَ ممَّن يقْبل الأعذارَا
لولاك ما نَظَّمتُ عِقداً دُرُّه ... ينْحلُّ فيه عَسْجَداً ونُضارَا
فالسُّقمُ قد أفْنى رُواءَ قريحتي ... بَغْياً كأن له عليها ثَارَا
أنا مَن عرفتَ مَحَلَّه من وُدِّه ... وسيْغتدى لثَرَى نِعالِك جاَرَا
واسلمْ لنا ولسُؤْدَدٍ أصبحتَ في ... سامِي حِماه تُزيِّن الأقْطارَا
وكتب إلى من تواليد طبعه المطبوع، قوله:
أحِبَّايَ إن شَطَّ الحبيبُ عن الحِبِّ ... وفارقَه يحْتاج طِبّاً على طِبِّ
فإن غابَ عن عيْني خيالُ أحبَّتِي ... فحبُّهمُ اسْتولَى على حَبَّةِ القلبِ
وما عندكم من شِدَّة الشوقِ فهْو في ... فؤاديَ فاسألْ إن شككْتَ عن الركبِ
أتاح إلهي قُربَكم ولِقاكمُ ... ليْلتئِمَ الشَّمْلُ المشتَّت بالقُرْبِ
فذاك اخْتياري ثم قصْدي وبُغْيتي ... ألا إنَّما الدنيا اجتماعُك بالحِبِّ
فلا خيرَ في عيشٍ بغير أفاضلٍ ... ولا خيرَ فيمن مالَه صاحبٌ يُنْبِى
فعنديَ طِيبُ العيش صُحبةُ عالِمٍ ... بصحْبتِه يَنْزاح عن خاطري كربِى
فيا أخلصَ الإخوانِ قد جاء منكمُ ... رشاقةُ قولٍ رائقٍ رَيِّقٍ يَسْبِى
لقد كنتُ في ضِيقٍ وهمٍّ وكرْبةٍ ... فلما أتى المكتوبُ طار به لُبِّى
ففَاح لنا من نَشْرِه طِيبُ عَنْبَرٍ ... به انْتعشتْ رُوحي وجسمِي مع القلبِ
أدباء صفد وصيدا
أحمد الخالدي الصفدي
هو من الفضل في ثنية، لا تتعداها إلى غيرها أمنية.
معشوق الشيم، فائض فيض الديم.
وآباؤه لهم ذكر بالجميل خالد، ومجدٌ تناولوه ولداً عن والد.
وهو قد جمع ما فيهم من المناقب، وأربى في توقد ذكائه على النجوم الثواقب.
وله تآليف فائقة، وأشعارٌ رائقة.
فمما أستحسن من شعره، قوله في تخميس الهمزية:
كنتَ نُوراً وكان ثَمّ عَماءُ ... ونبِيّاً وليس طينٌ وماءُ
فإذا كان من عُلاك العَلاءُ ... كيف تَرْقَى رُقِيَّك الأنبياءُ
يا سماءً ما طاولتْها سماءُ
وله من قصيدة طويلة، مطلعها:
مَن لي بهَيْفاءَ لا أسْطِيعُ سُلوانَا ... عنها وفي دمعِ عيني عَيْن سُلْوانَا
أجَلْ ومن حبِّها قد هْمِتُ ذا قَلَقٍ ... فسَلْ حنيناً وسلْ بدراً وسل آنَا
وقد حوتْ رقَّةً منها شهدتُ فلم ... أقدرْ على النفسِ لولا لطُفها جانَا
مذا أقبلتْ ناهزتْني في مُداعبةٍ ... فصرتُ منها عليلَ القلب حَيْرانَا
حسن الدّرزيّ العيلبونيّ
القول في عقيدته مُتشعِّب، والأمر في تبْرئته وعدمِها متصَعِّب.
وأنا لا أشكُّ في إيمانه، وأعتقد فيه ما يعتقده أهل زمانه.
وأقول إذا وصفت شانه: إن إطلاق الدّرزيّ عليه مما شانه.
كيف وتوبة هذا الحزب ردّها الشرع، والحاكم بقبولها مخالف لأمر الله في الأصل والفرع.
وقد جمعني وإيّاه القضاء والقدر، في أوقات كنت لاأعرف فيها الغمّ والكدر.
فرأيت رجلا ذا لسان فصيح، جارياً من هواه في ميدان لهوٍ فسيح.
لايصدّ إذا صمّم، ولا يردّ عما يمّم.
وهو يغالي في شعره، ويتشكّى كساد سعره.(1/221)
ويزعم قوم أنه يتنسّك في ملئه فتكا، ويتهتّك في وحدته هتكا.
ويحبط في الأعمال ويتبر، وهو يهلّل ويكبّر.
ويحسّن ويقبّح، وهو يستغفر ويسبّح.
وكنت عزمت على أن لاأطري له ذكرا، وأخلص من أن آتي شيئاً نكراً.
ثم عنّ لي الإتيان به، لمكان فضله وأدبه.
ولم أقصد بذكر هذه العيوب، التي يعلم حقيقتها علاّم الغيوب.
بغض شخصٍ فات، واقتفته يد الآفات.
وحاشا الله أن أكون ممّن يصدر ذلك من فيه، ولكن عملاً بما سمعته من الناس فيه.
والله يحبوه منه لطفاً خفيًّا، وينيله عفوًا يكون به حفيًّا.
فمن شعره، وهو معنى لطيف:
حكى دخاناً سَما من فوق وَجْنَةِ من ... قد مَصَّ غلْيونَه إذ هزَّه الطربُ
غيمٌ على بدرِ تِمٍّ قد تقطَّع من ... أيْدي النسيمِ فولَّى وهْو ينسحبُ
فقلتُ والنارُ في قلبي لها لهبٌ ... لقد حكيْتَ ولكن فاتَك الشَّنَبُ
والبيت الثاني، منه قولي:
ما كان إعطاؤُه الغلْيونَ عن مَلَلٍ ... منَّا وحاشا بهذا قَطُّ ماعُرِفَا
لكن أراد يُرِينا من بدائِعه ... بدرًا تقطَّع عنه الغيمُ فانْكشفَا
وكتب إلى عليّ بن بجع البعليّ، وكان أعاره مجموعا، فردّه عليه:
أرسلتَ مَجْموعي وقد أمْسكتَ ما ... هو قلبيَ الموْدُوع بين ضلوعِي
فبكيتُ من شَوْقِي إليه مَدامعاً ... حمرا وليْست غير صِرْفِ نَجِيعِي
فجرتْ على هذي البطاقةِ أحْرُفاً ... مجموعُها يُومِي بِسلْب جميعِي
تذكرت بالبيت الأول، ما يروى أن بعض الأدباء استعار من آخر مجموعا، ومطله به، ثم اجتمعا في مجلس بعد تراخ، فقال المستعير: إنّي متشوّق إليك، وقلبي عندك.
فقال الآخر: وأنا متشوّق إليك، ومجموعي عندك.
محمد بن محي الدين المعروف بالحادي الصّيداويّ
هو مع قلة أنداده، واحدٌ في تهيئة مواد القبول وإعداده.
فاختلف إليه السعى رائحاً وغاديا، وأطرب بذكره الثناء شاديا وحاديا.
إلا أنه ترامى في بحبوحة التصلّف، وتكلّف والعلى لاتنال بالتكلّف.
ففوّقت إليه سهامها لواحظ الظنون، وقدماً قيل أرض صيدا تنبت العيون.
وهو صاحب فكر حديد، وأدبٍ وافر مديد.
فاضلٌ ملء إهابه، عارفٌ بإيجاز الأدب وإسهابه.
وله كتاب ألحان الحادي، في المراجع والمبادي.
استحسنت من شعره فيه قطعة، رأيتها في مفازة وحدها منقطعة.
وهي قولي من قصيدة:
إذا أنكرتْ دعوَى المحبِّ شهودُهُ ... فحسبِيَ أنِّي في الغرامِ شهيدُهُ
فلله شَوْقٌ لا يقَرُّ قَرارهُ ... من البُعدِ حتى مالَه من يعودُه
وقد مَلَّه عُوّادُه وهُو مُدنَفٌ ... حليفُ جَوًى صَبُّ الفؤادِ عَمِيدُهُ
رعى اللهُ أياماً تقضَّت بقُربهمْ ... ومَن لي بذاك القُرب مَن ذا يُعِيدُهُ
أيا عاذِلي عمَّن نَعيمِيَ وَعْدُهُ ... ونارُ جحيمي بُعدُه ووعيدُهُ
ولم يتعطَّف بالوِصال لمُغْرمٍ ... وقد طال منه هَجرُه وصُدودُهُ
فهذا مَلامِي مَسْمَعِي لايريدُه ... وهذا غرامي لاأزال أرُودُهُ
وإن كادَني دهرِي بجَوْر زَمانِه ... تخلَّصْتُ منه بالذي عَمّ جُودُهُ
قولي: وقدماً قيل: أرض صيدا تنبت العيون، إشارة إلى قول ابن الساعاتي، وقد هرب غلام، فأمر أن يمرّ في نرجس صيدا:
للهِ صَيْداءُ مِن بلادٍ ... لم تُبْقِ عندي هَمًّا دَفِينَا
نَرْجِسُها حِليةُ الفَيافِي ... قد طبَّق السهلَ والحُزونَا
وكيف ينْجُو بها هَزِيمٌ ... وأرضُها تُنبتُ العيونَا
ومما يهزني إلى الطرب فصلٌ لابن شاهين، في وصف صيدا، قال فيه: وأما صيدا، فإنها بين البلاد أسد البيدا.
وما أدري كيف يذمها بعض الناس، وأهلها يعوّذونها من شرّ الوسواس الخنّاس.
ولعمري إنها بلدة لولا حرارة مائها وهوائها، وبرودة أوضاعها وأبنائها.
لكانت جنّة المأوى، في الدنيا والآخرى.
اللهم إنا نسألك الإنصاف، ونعوذ بك من التعصّب والاعتساف.(1/222)
وكيف يشتم الإنسان بلدةً إذا جلب إليها الماء يكتسب حرارة، وإذا استجلب إليها العذب السائغ ينقلب إلى عفوصة ومرارة.
وهي كما قال أبو الحسن الباخرزيّ، في مدح محاسن الرّيّ، ولطف هوائها ومائها:
صادفتُ فيها كلَّ شَيْءٍ جائزاً ... أقْصى حدودِ البردِ غيرَ الماءِ
وكيف لا يمدح الماء الحار، وهو الذي يجلب المسارّ، ويدفع المضارّ.
وينفع في الحمّام، للاغتسال والاستحمام، ويحلّل الأورام، وإن شئت فقل يجلب البرسام، والسلام.
شعراء جبل عاملة
حسين بن عبد الصمد الحارثيّ
هو في الإشراق مستمدّ الشمس، وله مزيّة اليوم على الأمس.
نبيه المقدار والمكانة، متحلٍّ بالتصلّف والاستكانة.
ركض في ميدان الطلب مطايا الأشواق، وضرب آباطها بعصا المشارب والأذواق.
حاديه أمله، ودليله عمله، والراحلة عمله.
وهو في الإسآد والإعناق، مهدي تحف القبول لجواهر الأعناق.
حطّ رحله ببلاد فارس، فطابت بها منه مجانٍ ومغارس.
ووجد مشربا عذبا من الشّاه فورد، وقصّرت النّظراء عن مداه فانفرد.
بطبعٍ ألطف من نسيم السّحر، يمسح عن عيون الأكمام ويعانق قدود الشّجر وأدبٍ يجري في ميدانه طلق العنان، ويمضي في معركته ماضي الظّبة والسّنان.
ولم يزل يتردّد من بلدةٍ إلى أخرى، وتتعاقب عليه مراتب لم تجد أحقّ منه ولا أحرى.
حتى اخترمه الأجل، ومضى لما عند الله عزّ وجلّ.
وقد أثبتّ من نظمه ما يزري ائتلافه بلؤلؤ العقود، ومن نثره مايزين نقده النقود.
فمن ذلك قوله:
فاح نَشْرُ الصَّبا وصاح الديكْ ... وانْثنى البانُ يشتكي التحريكْ
قُم بنا نجْتلى مُشَعْشَعةً ... تاه من وجْدِه بها النَّسِّيكْ
لو رآها المجوسُ عاكفةً ... وَحَّدُوها وجانبوا التَّشْريكْ
إن تَسِرْ نحونا تُسَرَّ وإن ... مِتَّ في السيْر دوننا نُحْييكَ
وهو أول من اخترع هذا الوزن والقافية، واقتفى أثره ابنه البهاء، في قوله:
يا نَدِيمِي بمُهجتي أفْديكْ ... قُمْ وهاتِ الكؤُوسَ من هاتِيكْ
ثم تداول الأدباء هذا الوزن والقافية، ولولا خوف الملل لذكرت من ذلك الجملة الكافية.
ومن شعره قوله:
ما شمَمْتُ الوردَ إلا ... زادني شوقاً إليكَ
وإذا ما مال غصنٌ ... خِلتُه يحنُو عليكَ
لستَ تدري مالذي قد ... حلَّ بي من مُقْلَتيْكَ
إن يكنْ جسمي تناءَى ... فالحشَا باقٍ لديْكَ
كلُّ حسنٍ في البرايا ... هو منسوبٌ إليكَ
رُشِق القلبُ بسهمٍ ... قوسُه من حاجبيْكَ
إن ذاتي وذَواتي ... يامُنائي في يديكَ
آهِ لو أُسْقَى لأُشفَى ... خمرةً من شفتيْكَ
ورأى قول الوزير أبي الفضل الدّارِمِيّ:
أنْبت ورداً ناضِراً ناظرِي ... في وجْنتِه كالقمرِ الطالعِ
فلِمْ منعتُمْ شَفتي لَثْمهُ ... والحقُّ أن الزرعَ للزَّراعِ
فكتب:
لأنَّ أهلَ الحبِّ في حَيِّنا ... عبيدُنا في شرعنا الواسعِ
والعبدُ لا مِلْكَ له عندنا ... فزرعُه للسيد المانعِ
وقد أجاب عنه بعض المغاربة بقوله:
سلَّمتُ أن الحكمَ ما قلتمُ ... وهو الذي نُصَّ عن الشارعِ
فكيف تبْغي شَفَةٌ قَطْفَه ... وغيرُها المدعوُّ بالزارعِ
ورده الحافظ أبو عبد الله التنيسي التلمساني:
في ذا الذي قد قلتُمُ مَبْحَثٌ ... إذْ فيه إبهامٌ على السَّامعِ
سلمتُمُ الحكمَ له مطلقاً ... وغيرُ ذا نُصَّ عن الشارعِ
يعني أنه يلزم على قول المحب أن يباح له النظر مطلقاً، والشرع خلافه.
وأجاب بعض أئمتنا الحنفية بقوله:
لأن أهل الحب في حكمنا
البيتين اللذين أجاب بهما المترجم.
وهو جواب حسن.
ولبعض المعاربة، مخاطبا أبا الفضل المذكور:
قل لأبي الفضل الوزير الذي ... باهَى به مَغربنا الشرقُ
غرسْتَ ظلماً وأردت الجَنَى ... وما لعِرْقٍ ظالمٍ حَقُّ(1/223)
قلت قوله: " وما لعرق ظالم حق "، هذا بعض حديث رواه الترمذي، وحسَّنه، في باب إحياء الموات: " من أحيى أرضاً ميتةً فهي له، وليس لعرق ظالمٍ حقٌ ".
روى بالإضافة والتنوين.
والعرق: البناء، والأشجار، والبئر، والنهر. انتهى.
وكتب إلى ولده البهاء، هذا اللغز، وهو أغرب الألغاز وأصعبها: أيها الولد المؤيد بالإعزاز، الموفق في حل المعميات والألغاز.
أخبرني عن اسم آخر أوله آخر الحروف، وآخر ثانيه بهذا الاسم معروف.
قلباً آخريه يتوافقان، وقلباً أوليه متعانقان.
لولا ثالثه لصار الاسم حرفا، ولولا ثانيه لصار الفعل ظرفاً.
ولولا رأسه لصارت الرجل من النَّجاسات، ولولا رابعه لما يتحقق رابع القياسات.
بعضه قاتل، وبعضه الآخر نصف قاتل.
طرفا أوله فعل أمر بحرفين، وطرفا ثانيه ما نهيت عن قوله للأبوين.
وإن نقص ربعه من ربعه بقي ربعه، وإن زيد ربعه على ربعه حصل ربعه.
صدره علامة قلب العاشق، وثانيه علامة الرقيب المنافق.
ولولا ربعه لم تتميز القبلية عن القابلية، ولم تفترق المعاني عن علة الفاعلية.
بعضه يمين، والبعض في اليسار كمين.
وبطرف آخره يبدئ المقام، وبطرفه الآخر ينتهي الكلام.
فأجابه: يا سيدي وأبي وأستاذي، ومن إليه في العلوم استنادي.
هذا اسم رباعي الأعضا، ثلاثي الأجزا.
اثنا عشري الأصول، عديم الحرف المفصول.
من الأسماء معدود، وإلى الأفعال مردود.
لولا ثلث أوله لصار السخيف بالكرم موصوفا، ولكان كل فقير بسواد الوجه معروفا.
ولولا رابعه لاتحدت الماهية بالوجود، ولم يتميز الحاسد عن المحسود.
ولو عدم ثانيه لم يكن جمع الثمر ثمارا، ولصارت قرية بالري حمارا.
ولو عدم ربعه لم يكن القلب في الجسد، وتبدَّلت السكينة بالغل والحسد.
ولصارت الهرة بعض الأزهار، ولم تتميز الحنطة عن بعض الثمار.
أوله بالعراق وآخره بالشام، وبثلثا ربعه يتم الإيمان والإسلام.
وبثلث ثالثه يبتدئ السؤال، وبثاني ثانيه ينتهي القيل والقال.
وقد شرح السيد محمد المعروف بكبريت ألفاظ السؤال والجواب، وتكفل بهما فأصاب شاكلة الصواب.
قال في شرح ألفاظ السؤال: هي في اسم قاسم.
قوله: آخر أوله، أول الاسم قاف، وآخره بالنظر إلى بسطه مسمى الفاء، وهو آخر حروف الحلق، كما ترى، وآخر ثانيه وهو الألف كذلك الفاء، وهو موصوف بهذا الوصف، أنه هو هو.
قوله: قلبا آخريه، وهما السين والميم، يتوافقان لأن حقيقتهما الياء، وقلبا أوليه وهما الألف واللام من قاف، ولا حرفان متعانقان، لولا ثالثه " وهي مسمى السين لصار الاسم حرف عطف وهي أم، أي بعد حذف السين من الاسم.
ولولا ثانيه، وهو الألف لصارت الرجل القدم من النجاسات.
ولولا ربعه وهو الميم، لم يتحقق القياس التمثيلي، وهو رابع القياسات.
بعضه قاتل، وهو سمّ، وبعضه، وهو: قا نصف قاتل.
طرفا أوله، وهما القاف والفاء أمر بحرفين، وطرفا ثانيه الذي هو ألف أف.
قوله: وإن نقص ربعه، الذي هو السين من ربعه، الذي هو القاف، بقي ربعه، وهو الميم، لأن الباقي بعد طرح ستين من مائة وأربعون.
وإن زيد ربعه عكس القضية.
قوله: " صدره علامة قول العاشق "، أي ثاني حروفه، وهو الألف، والمراد منه جوهر لفظه، وهو فعلٌ من الألفة، ولم يزل قلب العاشق يألف قلب المعشوق، وكذا الرقيب المنافق.
قوله: لولا ربعه، الذي هو الألف، لم تتميز القبلية من القابلية "، لأن به الفرق في هذين اللفظين، ومثله الفعلية والمفعولية.
قوله: بعضه يمين، يعني الميم، لأنه يقال: م الله، في أيمن الله، أو المراد: ما عدا القاف، وهو اسم، وبعضه، وهو السين في لفظ اليسار كامن.
قوله: وبطرف آخره، الأول أو الآخر يبتدئ المقام، بل ويختم، وبطرف آخره كذلك ينتهي الكلام، لأن الميم نهاية لفظ الكلام.
وزهذا شرح ألفاظ الجواب: قوله: رباعي الأعضاء، أي حروف قاسم أربعة.
ثلاثي الأجزاء، أي جملته تنقسم ثلاثة، من غير عكس.
اثنا عشري الأصول، لأن كل حرف يشتمل على ثلاثة أحرف.
قوله: عديم الحرف المفصول؛ لأنه مركب من حرفين فحرفين.
وهو معدود من الأسماء، لأنه اسم وضع لمسمى بعينه، ومردود إلى الأفعال، باعتبار أنه مشتق من القسم.(1/224)
قوله: لولا ثلث أوله، الذي هو القاف، والمراد الفاء " لصار لفظ السخيف " بعد حذف الفاء: سخى، والسخى موصوف بالكرم.
قوله: وإذ حذف الفاء من لفظ فقير، بقي قير، وهو أسود الظاهر والباطن.
قوله: ولولا رابعه الذي هو الميم لا تحدث الماهية بالموجود، لأن وجود الشيء هيئته، فكأنه قال: لاتحدث الهيئة بالماهية.
وفيه تسامح، لأن المراد من الميم مسماها، وهو مفرد، فكيف يطلق على المركب من الميم والألف.
ويمكن أن يقال: تعدد المراد في هذا الباب كثير، وهو أدخل في الإلغاز.
قوله: ولم يتميز الحاسد عن المحسود، كالأول؛ لأنه لا فرق بين المحسود والحاسد في أصل المعنى.
قوله: لو عدم ثانيه الذي هو الألف، من لفظ الثمار، بقي ثمر، فلم يبق الجمع.
وقوله: قرية بالري، أي وهي خار، وإذا لم تكن الألف فيه بقي: خر. وهو بالفارسية اسم الحمار.
قوله: ولو عدم ربعه، الذي هو السين لم يكن ذلك الربع قلب الجسد، لسقوطه، وتبدلت السكينة، فكانت كينة، من قوله تعالى: " فما استكانوا ".
وفي الصحاح: " وبات فلانٌ بكينة سوءٍ بالكسر، أي بحالة سوء ".
والاستكانة: الخضوع.
قوله: الهرة، المراد منه سنَّور، بعمل الترادف، وإذّا لم تكن فيه السين كان نوراً.
قوله: الحنطة، المراد منه: سلت، على التسامح.
قوله: أوله بالعراق، يعني القاف، في لفظ العراق، وآخره، وهو الميم في لفظ الشام.
قوله: وثلثا ربعه، وهما السين والنون، ومن بسط الرابع وهو السين، يتم به الإيمان، لأنه تم بالنون، والإسلام؛ لأن تمامه بالسين، ولا يلزم أن يكون آخراً.
قوله: وثلث ثالثه، الذي هو السين، وهو المراد من بسطه يبتديء السؤال حقيقةً، كما ترى، وبثاني ثانيه، وهو اللام من الألف، ينتهي القيل والقال.
ولده بهاء الدين
الذي استرق النهى، وأشرق بدراً في فلك الازدها.
الهمام الفذ البذ، من تطرب بذكره الأسماع وتلتذ.
تحلى من الفوائد العلمية بما تحلى، واشتهر اشتهار الصبح إذا تجلى.
وازدانت به الدنيا ازديان العاطل بالحلى، والمشكل بالجلى.
والمفرق بالتاج، والمقدمة بالإنتاج.
وحصل بينه وبين الفضل في الاتحاد التساوي، فأنتج مطلبه من الشكل الأول هذا اللازم المساوي.
وأنا أذكر لك خبره على جليته فاعتمد عليه، ولعلك تلغى مالفقه الشهاب من ذكر حاله ولا تجنح إليه.
وذلك أنه كان بالشام تكون خلقته، وبها بان رشده وأحسبه من حين لفته قابلته في خرقته.
ثم انتقل به أبوه إلى قزوين وهلاله آخذٌ في تدويره، وذهنه في مبادى ملاحظته للدقائق وتصويره.
فاستكمل ثمة فضائل المعجبة، وصير عندها فضائل الأول كالمتحجبة.
ولما طنت حصاته في العراق، وتجاوزت فيه المدائح من الغلو إلى الإغراق.
استدعاه الشاه فصير رئيس العلماء في تخت ملكه، وحلى جيد ممكلته منه بجوهر عقد كل جهابذته شذراتٌ في سلكه.
ثم رغب في الفقر والسياحة، واستهبَّ من مهابِّ القبول رياحه.
فطلع طلوع الشارد، يرد البلاد كالطيف الوارد.
وهو بقتري المسالك، ويقتفر المهالك، ويعاني الممالك.
فحج البيت الحرام، ودخل مصر أم الأهرام.
ثم ورد دمشق فنم عليه فضله كما نم ريح الورد على الورد، ومنه ظهر بحلب الشهباء كما ظهر العلم الفرد.
فلم يمكنه إلا أن شد للعجم نطاق التسيار، ولما وصلها حط بها رحل الاختيار، فصنف وألف، وأبدع حد الإبداع وما تكلف.
وابتسمت به دولة الشاه عباس، وأماطت أقواله فيها حنادس الشبه والالتباس.
مع عزم ينفلق دونه الصخر الأصم، وحلم يقصر عنه الطود الأشم.
ورأيٍ عليه المعول، وفكرٍ هو المعقول الأول.
وهناك ما شئت من رفة الألفاظ، ولطافة معانٍ تتعلم منها السحر غمزاتٌ وألحاظ.
وتفنن في العبارات يتحير له اللاحظ، وغرائب آدابٍ تكلُّ في استخراج دقائقها عيون الجاحظ.
إذا طلعت أغصان أقلامه في رياض أدبه الجنية الغروس، سجدت لها الأقلام سجدة الشكر في محاريب الطروس.
فأقلام إفادته لا تنسب بإعياءٍ قط، وصحائف مجده لم تشن من حسودٍ بنقط.
وهو في اللسانين فارسٌ بطل، فالعربي من بعده تعجم والفارسي بطل.
وله من عقائل اللسانين كل فاتنة الطرف، استوفت في مدى البلاغة اللطف والظرف.
فمن بدائعه قوله:(1/225)
وأهْيفِ القّدِّ لَدنِ العِطْفِ معتدلٍ ... بالطَّرْف والظَّرْف لا ينفكُّ قَتَّالَا
إن جال أهْدى لنا الآجالَ ناظِرُهُ ... أو صال قطَّع بالهِجْران أوْصالَا
وإن نظرتُ إلى مرآة وَجْنتِه ... حسبتُ إنسانَ عيني فوقها خَالَا
كأن عارِضَه بالمِسك عارَضنِي ... أو ليلَ طُرَّتِه في خَدِّه سالَا
أو طاف من نورِ خَدَّيْه على بصَرِى ... فخَطَّ بالليلِ فوق الصبح أشْكالَا
وكتب إلى والده وهو بالهراة، في سنة تسع وسبعين وتسعمائة:
يا ساكني أرضَ الهَراةِ أما كفَى ... هذا الفِراقُ بلَى وحقِّ المصطَفى
عودُوا عليَّ فرَبْعُ صبرِي قد عفَا ... والجَفْن من بعد التَّباعُد ماغفَا
وخيالكم في بالِي ... والقلبُ في بَلْبالِ
إن أقبلتْ من نحْوِكم ريحُ الصَّبا ... قلنا لها أهلاً وسهلاً مَرحبَا
وإليكمُ قْلب المتيَّم قد صَبا ... وفِراقكم للروح منه قد سبَا
والقلبُ ليس بخالِي ... من حبِّ ذات الخالِ
يا حَّبذَا رَبْعُ الحِمَى من مَرْبَعِ ... فغزالُه شَبَّ الغَضا في أضُلعِي
لم أنْسَه يوم الفراقِ مُودِّعي ... بمَدامعٍ تجرى وقلبٍ مُوجَع
والصبُّ ليس بِسالِ ... عن ثَغْرِه السَّلْسالِ
وله، وهي من غرره:
خِّلياني ولَوْعتي وغرامي ... يا خليليَّ واذْهبا بسَلامِ
قد دعاه الهوى فلبَّاه قلبي ... فدَعاني ولا تُطِيلا مَلامِي
إن مَن ذاقَ نَشْوَة الحبِّ يوماً ... لا يُبالي بكثْرة الُّلوَّامِ
خامَرتْ خمرةُ المحَّبة قلبي ... وجرَت في مفاصِلي وعظامِي
فعلى العلمِ والوقار صلاةٌ ... وعلى العقل ألفُ ألفِ سلامِ
هل سبيلٌ إلى وقوفي بوادي الْ ... جِزْعِ يا صاحبيَّ أو إلْمامِي
أيها السائرُ المُلِحُّ إذ ما ... جئتَ نَجْداً فعُجْ بوادي الخُزامِ
وتجاوَزْ عن ذِي المَجازِ وعرِّج ... عادِلاً عن يمين ذاك المَقامِ
وإذا ما بلغتَ حُزْوَى فبلِّغْ ... جِيرةَ الحَيِّ يا أُخَيَّ سلامِي
وانْشُدَنْ قلبيَ المُعَنَّى لديهمْ ... فلقد ضاع بين تلك الخيامِ
وإذا ما رَثَوْا لحالِي فسَلْهمْ ... أن يمُنُّوا ولو بطيْفِ مَنامِ
يا نُزولاً بذِي الأراكِ إلى كمْ ... تنْقضي في فِراقكمْ أعوامِي
ما سرَتْ نَسْمةٌ ولا ناح في الدَّوْ ... حِ حَمامٌ إلا وحان حِمامِي
أين أيامنا بشَرْقِّي نَجْدٍ ... يارعاها الإلهُ من أيامِ
حيثُ غُصْن الشبابِ غضٌّ ورَوضُ ال ... عَيشِ قد طرَّزتْه أيدِي الغَمامِ
وزَماني مُساعدٌ وأيادِي الْ ... لَهْوِ نحو المُنى تجرُّ زِمامِي
أيها المُرتقِى ذُرَا المجد فرداً ... والمُرجَّى للْفادحاتِ العِظامِ
يا حليفَ النَّدى الذي جُمِّعت في ... هِ مَزايا تفرَّقتْ في الأنامِ
نِلْتَ في ذِوْرِة الفَخارِ مَحَلاًّ ... عَسِرَ المُرتقَى عزيزَ المَرامِ
نسَبٌ طاهرٌ ومجدٌ أثِيلٌ ... وفَخارٌ عالٍ وفضلٌ سامِي
قد قَرَنَّا مَقالكم بمقالٍ ... وشفَعْنا كلامَكم بكَلامِ
ونظَمْنا لها مع الدُّرِّ في سِمْ ... طٍ وقُلنا العبيرُ مثلُ الرَّغامِ
لم أكُنْ مُقْدِماً على ذا ولكنْ ... كان طَوْعاً لأمْرِكم إقْدامِي
عَمْرَك اللهُ يا ندِيمَي أنْشِدْ ... جارَتا كيف تُحسنين مَلامِي
وله:
أسحرُ بابِلَ في جَفْنْيكِ أم سَقَمِى ... أم السيوفُ لقْتل العُرْب والعجمِ(1/226)
والخالُ مَركَزُ دَوْرٍ للِعذار بدا ... أم ذاك نَضْحُ عِثارِ الخَطِّ بالقلَمِ
أم حَّبةٌ وُضِعَتْ كيمْا تصيدَ بها ... حَبَّ القلوبِ فصادتْ كلَّ مُلتِئمِ
أم الفَراشُ هوَى طيرُ الفؤادِ على ... نارٍ بخَدِّك حتى صار كالفحمِ
قوله: والخال، البيت، من قول الرَّاميني الإستراباذيّ:
هل نضَحتْ أقلامُ خَطِّ العِذارْ ... في مَشْقِها فالخالُ نَضْحُ العِثارْ
أم اسْتدارَ الخدُّ لمَّا غَدَتْ ... نُقطُته مَركزَ ذاكَ المَدارْ
قوله: أم حبة، هذا كثير، وقد تقدم في ترجمة السَّفرجلانيّ.
وقوله: أم الفراش، هذا من قول عون الدين العجمي، وفيه زيادة:
لهيبُ الخدِّ حين بدا لعْيني ... هوَى قلبي عليه كالفَراشِ
فأحْرقه فصار عليه خالاً ... وها أثُر الدُّخان على الحَواشِي
وله يرثى والده، وقد توفي بالمصلى من قرى البحرين، لثمان خلون من شهر ربيع الأول، سنة أربع وثمانين وتسعمائة، عن ست وستين سنة وشهرين وسبعة أيام:
قفْ بالطُّلولِ وسَلْها أين سَلْماهَا ... ورَوِّ مِن جُرَع الأجْفان جَرْعاهَا
وردِّد الطَّرف في أطرافِ ساحتِها ... وأرِّجِ الوصلَ من أرْواحِ أرْجاهَا
فإن يَفُتْك من الأطْلالِ مَخْبرُها ... فلا يفوتَنْكَ مَرْآها ورَيَّاها
رُبوعُ فضلٍ يُضاهِي التِّبْرَ تُربتُها ... ودارُ أُنْسٍ يُحاكي الدُّرَّ حَصْباهَا
عدا على جِيرةٍ حَلُّوا بسَاحتِها ... صَرْفُ الزمانِ فأبْلاهم وأبْلاهَا
بدورُتِمٍّ غمامُ الموتِ جَلَّلها ... شموسُ فضلٍ سحابُ التُّرْبِ غَشَّاهَا
فالمجدُ يبكي عليها جازِعاً أسِفاً ... والدِّين يْندُبها والفضلُ ينْعاهَا
يا حَبَّذا أزْمُنٌ في ظلِّهم سلَفتْ ... ما كان أقصرَها عُمْراً وأحْلاهَا
أوقاتُ أُنْسٍ قضيْناها فما ذُكِرتْ ... إلا وقطَّع قلبَ الصَّبِّ ذِكْراهَا
باجِيرةً هجَروا واستوْطنُوا هَجَراً ... واهاً لقلبِ المُعنَّى بعدكم وَاهَا
رَعْياً لِلَيْلاتِ وَصْلٍ بالحِمَى سلَفتْ ... سَقْياً لأيَّامنا بالخَيْفِ سُقياهَا
لفَقْدكم شُقَّ جَيْبُ المجدِ وانْصدعتْ ... أركانُه وبكم ما كان أقْواهَا
وخَرَّ من شامخاتِ العلم أرْفعُها ... وانْهَدَّ من باذِخاتِ الفضلِ أرْساهَا
يا ثاوياً بالمُصَلَّى من قُرى هَجَرٍ ... كُسِيتَ من حُلَلِ الرِّضْوان أضْفاهَا
أقْمتَ يا بحرُ بالبحريْن فاجتمعتْ ... ثلاثةٌ كُنَّ أمثالاً وأشْباهَا
ثلاثةٌ أنت أنْدها وأغزرُها ... جُوداً وأعذبُها طعماً وأضْفاهَا
حَويْتَ من دُرَرِ العلْياءِ ما حَوَيا ... لكنَّ دُرَّك أعْلاها وأغْلاهَا
يا أعْظُما وَطِئتْ هامَ السُّها شرَفاً ... سَقاكِ من دِيَمِ الوَسْمِىّ أسْماهَا
ويا ضريحاً علَا فوق السِّماكِ عُلاً ... عليْك من صلَواتِ الله أزْكاهَا
فيك انْطَوى من شموسِ الفضلِ أضْوَءُها ... ومن مَعالمِ دينِ الله أسْناهَا
ومِن شوامِخِ أطْوادِ الفتوَّةِ أرْ ... ساها وأرفعُها قدراً وأبْهاهَا
فاسْحَبْ على الفَلَكِ الأعْلى ذيولَ عُلاً ... فقد حوَيْتَ من العَلْياءِ عَلْياهَا
عليك مِنّا صلاةُ اللهِ ما صدَحتْ ... على غصونِ أرَاكِ الدَّوْحِ وَرْقاهَا
ومن مقطعاته قوله:
لعينيْك فضلٌ كثيرٌ علىَّ ... وذاك لأنِّيَ يا قاتليِ
تعلَّمتُ من سحرِها فعقدتُ ... لسان الرَّقيبِ مع العاذلِ
وكتب من قزوين إلى والده، وهو بالهراة:
بقَزْويَن جسمِي وروحي ثوَتْ ... بأرضِ الهَراةِ وسُكانِهَا(1/227)
فهذا تغرَّب عن أهْلِه ... وتلك أقامتْ بأوْطانِهَا
وله:
إن هذا الموتَ يكرَهُه ... كلُّ من يمشِي على الغَبْرَا
وبعْين العقل لو نظروا ... لرأَوْه الراحةَ الكبرَى
اقتفى في هذا أثر ابن الرومي، في مدح الموت، حيث قال:
قد قلتُ إذ مدحوا الحياةَ وأسْرفوا ... في الموت ألفُ فضيلةٍ لا تعرَفُ
منها أمانُ لِقائِه بلقائِه ... وفِراقُ كلِّ مُعاندٍ لا ينْصِفُ
ومن رباعياته، ما كتبه لبعض أحبابه، وهو في المشهد الأقدس الرضوي:
يا رِيحُ إذا أتَيْت أرضَ الجمْعِ ... أعنِي طُوساً فقُل لأهلِ الرَّبْع
ما حَلَّ برَوْضةٍ بهائِيُّكمُ ... إلَّا وسقَى رياضَها بالدَّمْعِ
وكتب إلى بعض أحبابه بالنجف الأشرف:
يا رِيحُ إذا أتيتَ أرضَ النَّجَفِ ... فالْثمِ عَنِّي تُرابَها ثم قِفِ
واذْكُر خبَرِي لدى عُريب نزلوا ... وادِيَه وقُصَّ قصَّتي وانْصرفِ
وله:
يا عاذلُ كم تطيلُ في إتْعابي ... دَعْ لَوْمَك وانصرفْ كفانِي ما بِي
لا لَوْمَ إذا هِمْتُ من الشوقِ على ... قلبٍ ما ذاق فُرقةَ الأحْبابِ
وله:
يا بدرَ دُجىً بوَصْلِه أحْيانِي ... إذْ زار وكمْ بهجْره أفْنانِي
باللهِ عليك عِّجَلنْ سفْكَ دمى ... لا طاقة لي بليْلِة الهجرانِ
حسن بن زين الدين الشهيد
ركن محدٍ ركين، مكانه في ذروة الرياسة مكين.
رسا في في بحبوحة البسالة ورسسخ، ونسخ خطة الجهل بما خط ونسخ.
وهو من قومٍ تنوس ذوائبهم على هام الجبال، وتستمد الشموس من سناهم فلذا ترخى عند المغيب الحبال.
تقطع إليهم الوعور فتلفى بشوقهم صعيدا، وتستبعد لغيرهم السماوة ولا يرى السماء بقصدهم بعيدا.
وأبوه زين الدين ممن كان له صيتٌ يفلق الصخر، وتقدم فيما بينهم ينفلق عنه فجر الفخر.
إلا أن الأيام غالته بطوارقها، ونازلته برواعدها وبوارقها.
على جهد في قتله جهيد، حتى ألقى السمع وهو شهيد.
فخلفه ابنه حسن، ومن حديث فضله صحيحٌ حسن.
فقام مقام الوبل في البلد المحل، وكان أندى من الصبا وأشهى من جنى النحل.
يبتدر ويروى، وينقع بزلال أدبه ويروى.
ويمتع بأحاسن الأخبار، ويقطع منها جانب الاعتبار.
مع فكرةٍ ماؤه يسيح، وطبعٍ بستانه فسيح.
وله مؤلفات حسن فيها كل الإحسان، أجلها منتقى الجمان في الأحاديث الصحاح والحسان.
وأما شعره فلبنان منبت زهرة الفواح، ونسيمه الطلق راوي حديث نفحته للأرواح. وقد أثبت منها ما يردد محاسنه الدهر ويرويها، وينشر فضائله على كواهل الأدب ويطويها.
فمنه قوله:
فؤادِي ظاعنٌ إثْرَ النِّياقِ ... وجسمي قاطنٌ أرضَ العراقِ
ومن عجَبِ الزمانِ حياةُ شخصٍ ... ترحَّل بعضُه والبعض باقِ
وحلَّ السُّقْمُ في بدني وأمْسَى ... له ليلُ النَّوَى ليلَ المَحاقِ
وصَبْرِي راحلٌ عمَّا قليلٍ ... لشدة لَوْعتي ولَظَى اشْتياقِي
وفَرْطُ الوَجْدِ أصبح بي خليقاً ... ولمَّا يْنوِ في الدنيا فِراقِي
وتعبثُ نارُه في الرُّوح حسناً ... فيوشك أن تُبِّلغَها التراقِي
وأظْمأني النَّوى واراق دمعي ... ولا أُرْوَى ولا دمعي بِراقِ
وقيَّدني على حالٍ شديدٍ ... فما حِرْزُ الرُّقَي منه بِوَاقِ
أبَى اللهُ المهيمنُ أن تراني ... عيونُ الخلق محلولَ الوَثاقِ
أبِيتُ مَدى الزمانِ لنارِ وَجْدِي ... على جمرٍ يزيد به احْتراقِي
وما عيشُ امْرِئٍ في بحرِ غَمٍّ ... يُضاهِي كربُه كَرْبَ السِّياقِ
يوَدُّ من الزمان صفاءَ يومٍ ... يلُوذُ بظله مّما يُلاقِي
سقتْنِي نائباتُ الدهرِ كأساً ... مَرِيراً من أباريقِ الفِراقِ
ولم يخطُرْ ببالِي قبلَ هذا ... لفَرْطِ الجهل أن الدهرَ ساقِ(1/228)
وفاض الكأسُ بعد البَيْنِ حتى ... لَعَمْرِي قد جرَتْ منه سَواقِ
فليس لِداء ما ألْقَى دواءٌ ... يُؤمَّل نفُعه إلَّا التَّلاقِي
وقوله: وهو من أبدع ما هزَّ به الشوق، بعصا السوق.
يتشوق إلى محله، ويندب بعد ترحله عنه ومرتحله:
طولُ اغْترابِي بفَرْط الشوقِ أضْنانِي ... والبَيْنُ في غَمَراتِ الوَجْدِ ألْقانِي
يا بارِقاً من نواحِي الحيِّ عارَضنِي ... إليك عنِّي فقد هَيَّجْتَ أشْجانِي
فما رأيُتك في الآفاقِ مُعترِضاً ... إلا وذكَّرْتني أهلى وأوْطانِي
ولا سمعتُ شَجا الورْقاءِ نائحةً ... في الأيك إلا وشبَّتْ منه نيرانِي
كم ليلةٍ من ليالِ البَيْنِ بِتُّ بها ... أرْعَى النجومَ بطَرْفِي وهْي تَرْعانِي
كأن أيْدِي خُطوبِ الدهر منذ نأَوْا ... عن ناظرِي كحَّلَتْ بالسُّهْدِ أجْفانِي
ويا نسيماً سرَى من حَيِّهم سحراً ... في طَيِّه نَشْرُ ذاك الرَّنْدِ والْبانِ
أحْيَيْت مَيْتاً بأرْضِ الشام مُهجَتُه ... وي العراق له تَخْيِيلُ جُثمانِي
وكم حييتُ وكم قد مِتُّ من شَجَنٍٍ ... ما ذاك أوَّلُ إحياءٍ ولا الثاني
يالائمِي كم بهذا الَّلوْمِ تُزعِجني ... دَعْني فلَوْمُك قد واللهِ أغْرانِي
لا يسكُن الوجدُ مادام الشَّبابُ ولا ... تصْفُو المشاربُ ليِ إلَّا بلُبْنانِ
في رَبْعِ أُنْسِى الذي حلَّ الشبابُ به ... تَمائِمِي وبه صَحْبي وخِلانِي
كم قد عهدتُ بهاتيك المعاهدِ مِن ... إخْوانِ صِدْقٍ لَعَمْري أيُّ إخوانِ
وكم نقضَّتْ لنا بالحيِّ آونةٌ ... على الَمسرَّة في كَرْمٍ وبُستانِ
لم أدْرِ حالَ النَّوَى حتى علِقْتُ به ... فغَمْرتي من وقُوعِي قبل عِرْفانِ
حتَّى مَ دهري على ذَا الْهَوْنِ تُمسكني ... هلا جنَحتَ لتسْريحٍ بإحْسانِ
أقسمتُ لولا رجاءُ القرْبِ يُسعِفني ... فكلَّما مُتُّ بالأشواق أحْيانِي
لكدتُ أقْضِي بها نحْبِي ولا عجبٌ ... كم أهَلك الوجدُ من شِيبٍ وشُبّانِ
يا جِيرةَ الحيِّ قلبي بعدَ بُعدِكمُ ... في حَيْرةٍ بين أوْصاب وأحْزانِ
يمضي الزمانُ عليه وهو ملتزِمٌ ... بحبِّكمْ لم يُدنِّسْه بسُلوانِ
باقٍ على العهدِ راعٍ للذِّمامِ فما ... يُسوم عهدَكمُ يوماً بنِسيانِ
فإن بَراني سَقامِي أو نأَى رَشَدِي ... فلاعِجُ الشوقِ أوْهانِي وألْهانِي
وإن بكتْ مقلتي بعد الفِراقِ دَماً ... فمن تذكرِكم يا خيرَ جِيرانِ
سبطه زين الدين بن محمد
هو السبط، ذو البنان السبط، حازم الرأي في الحل والربط.
مجده نسق الحديث مع القديم، وحلاه تسوغ بها المدامة إذا تكررها النديم إلى ذاتٍ كاملةٍ مكملةٍ ونفسٍ بفعل الجميل مجملة.
ملازم كنٍ وعُزلة، متعاطٍ سهل العيش وجزله.
ثم سمت همته إلى أن طار عن أهله، وخرج يتتبَّع عجائب القطار على مهله.
يرتاد غير أرضه أرضا، ليقضى من أمر الرحلة سنة وفرضا.
حتى كان البيت الحرام آخر مطافه، انتقل إلى عفو الله وخفى ألطافه.
وقد رأيت له شعراً يتجلى في أبراد الإجادة، ويتحلى بالكلمات بالصقيلة المستجادة.
فأثبت منها ما ترقص بسماعه معاطف وذوائب، وتمسى قلوب العشاق من نار غرامه، وهي ذوائب.
فمن ذلك قوله، يشكو طول نواه، ويندب أوقاته بمحل ثواه:
سئمتْ لفَرْط تنُّقلِي البَيْداءُ ... وشكتْ لعِظْم ترحُّلي الأنْضاءُ
ما إن أُرى في الدهرِ غير مُوَدِّع ... خِلًّا وتوديعُ الخليل عَناءُ
أبْلَى النَّوى جلَدِي وأوْقد في الحشَا ... نِيرانَ وجدٍ مالها إطفاءُ
فقدتْ لطُول البَيْن عيني ماءَها ... فبكاؤُها بدل الدموع دماءُ(1/229)
فارقتُ أوطاني وأهلَ مودَّتي ... وحبائباً غِيداً لهنَّ وفاءُ
من كلِّ مائسةِ القَوامِ إذا بدتْ ... لجمالِ بهْجتها تغارُ ذُكاءُ
ما أسْفرتْ والليلُ مُرْخٍٍ سِتْره ... إلا تهتَّكُ دونها الظلماءُ
ترْمِى القلوبَ بأسهُمٍ تُصْمِى وما ... لجِراحهنَّ سوى الوِصالِ دواءُ
شمسٌ تَغارُ لها الشموسُ مُضيئةً ... ولها قلوبُ العاشقين سَماءُ
هيفاءُ تختلس العقولَ إذا رنَتْ ... فكأنما لَحَظاتُها الصَّهْباءُ
ومَعاشرٍ ما شاَنَ صدقَ وفائهمْ ... نقضُ العهودِ ولا الودادَ مِراءُ
ما كنتُ أحسبُ قبل يوم فِراقهمْ ... أن سوف يُقْضَى بعد ذاك بقاءُ
فسقَى رُبَي وادي دمشق وجادَها ... من هاطِل المزْنِ المُلِثِّ حَياءُ
فيها أُهَيْلُ مودَّتي وبتُرْبها ... لجَليلِ وجدي والسَّقامِ شِفاءُ
ورعى ليالِينا التي في ظِلِّها ... سلَفتْ ومُقْلةُ دهْرنا عَمْياءُ
أترى الزمان يعود لي بإيابها ... ويباح لي بعد البعاد لقاء
فإلى متى يا دهْر تصدَعُ بالنَّوَى ... أعْشارَ قلبٍ ما لهُنَّ قواءُ
وتسُومني فيك المُقامَ بذلَّةٍ ... ولِهمَّتي عمَّا تسُوم إباءُ
فأجابني لولا التَّغرب ما ارتقى ... رتبَ العلا من قبلك الآباءُ
فاصبرْ على مُرِّ الخطوب فإنما ... مِن دون كلِّ مسرَّةٍ ضَرَّاءُ
واترُكْ تذكُّرَك الشآمَ فإنما ... دون الشآمِ وأهلِها بَيْداءُ
وقوله من قصيدة في المدح، مستهلها:
شامَ بَرْقاً لاح بالأبْرَقِ وَهْنَا ... فصبَا شوقا إلى الجِزْعِ وحَنَّا
وجرى ذكْرُ أُثَيْلاتِ النَّقَا ... فشكا من لاعِجِ الشوقِ وأنَّا
دَنِفٌ قد عاقه صَرْفُ الرَّدَى ... وخُطوبُ الدهرِ عمَّا يتمَنَّى
شَفَّه الشوقُ إلى بَانِ اللِّوَى ... فغدا مُنْهمِلَ الدمع مُعَنَّى
أسلمتْهُ للرَّدَى أيْدِي الأسَى ... عندما أحْسنَ بالأيام ظَنَّا
طالما أمَّلَ إلمْاَم الكرَى ... طمَعا في زَوْرِة الطَّيْفِ وأنَّي
كلَّما جَنَّ الدجى حَنَّ إلى ... زمنِ الوصلِ فأبْدَى ما أجَنَّا
وإذا هبَّ نسيمٌ من رُبَى ... حاجِرٍ أهْدَى له سُقْما وحُزْنَا
يا عربيا بالحِمَى لولاكمُ ... ماصَبا قلبي إلى رَبْعٍ ومَغْنَى
كان لي صَبرٌ فأوْهاه النَّوى ... بعدَكم يا جِيرةَ الحيِّ وأفْنَى
قاتَلَ اللهُ النَّوى كم قرَّحتْ ... كبِداً من ألمِ الشوق وجَفْنَا
كدَّرتْ مَورِدَ لَذَّاتي وما ... تركتْ لي من جميل الصبرِ رُكْنَا
قطعت أفلاذ قلبي والحشا ... وكستني من جليل السقم وَهْنَا
فإلى كم أشْتكي جَوْرَ الهوى ... وأُقاسِي من هوى ليلى ولُبْنَى
قد صَحَا قلبيَ من سُكْرِ الهوى ... بعد ما أزْعجه السكرُ وعَنَّى
ونَهانِي عن هوى الغِيدِ النُّهىَ ... وحَباني الشَّيبُ إحساناً وحُسْناً
وتفرَّغْتُ إلى مَدحِ فتىً ... سُنَّةَ المعروفِ والأفْضالِ سَنَّا
السيد نور الدين بن أبي الحسن الحسيني
هو نورٌ للمجتلى القابس، وابتسامٌ في الزمان العابس.
سما قدره بين فضلاء الأنام، وحلَّ من الأدب بين الذورة والسنام.
وصيته في الحجاز أشهر من يوم بدر، وأنور من ليلة القدر.
مع نزاهة عن الدنيا، ورفعة نيطت بالثريا، ولهجةٍ ترقرق فيها ماء الحيا، فأحيي وحي.
وكرم طبعه مع حسن صمته، دليلٌ للرواة على حسن سمته.
فإذا حبا أنى توازن به الغيوث السواكب، وإذا احتبى هيهات أن تشبهه الجبال الرواسب.
وله فوائد قد تأنق فيها، وأشعارٌ أصبح جوهره سلك مقتفيها.(1/230)
وقد أثبت له ما يعجب إحسانه، ولا يجحد حسنه أو ينكر استحسانه.
فمنه قوله، من قصيدة طويلة في المدح، مطلعها:
لك الفخرُ بالعَلْيا لك السَّعُد راتبُ ... لك العزُّ والإقبال والنصر غالبُ
سمَوْتَ على قَبِّ السَّراحِين صائلاً ... فكلَّتْ بكفَّيْك القّنا والقواضبُ
وحُزْتَ رِهان السَّبق في حَلْبة العلى ... فأنت لها دون البريَّة صاحبُ
وجُلْتَ بحَوْماتِ الوغى جَوْل باسلٍ ... فرُدَّت على أعْقابهن الكتائبُ
فلا الدَّارعاتُ المُقتماتِ تكنُّها ... ملابُسها لما تَحِقُّ المضاربُ
ولا كثرةُ الأعداء تغنى جموعُها ... إذا لمعتْ منك النجومُ الثواقبُ
خُضِ الحَتْفَ لا تخشَ الورى واقْهرِ العدى ... فليس سوى الإقدام في الرأيِ صائبُ
وشمِّر ذيولَ الحزْمِ عن ساقِ عزْمِها ... فما ازدحمتْ إلا عليك المراتبُ
إذا صدَقت للناظرين دلائلٌ ... فدَعْ عنك ما تُبدِي الظنونُ الكواذبُ
بِبيضِ المَواضي يُدرِك المرءُ شأوَهُ ... وبالسُّمْر إن ضاقتْ تهون المصاعبُ
لِأسْلافك الغُرِّ الكرام قواعدٌ ... على مثلها تُبنَى العلى والمناصبُ
زكَوْتَ وحُزْتَ الفضل مجداً ومحتِدا ... فآباؤُك الصِّيد الكرام الأطايبُ
ومن يَزْكُ أصلاً في المعالي سمتْ به ... ذُرَا المجد وانْقادتْ إليه الرَّغائبُ
بَنُو عمِّكم لمَّا أضاءتْ مشارقٌ ... بكم أشرقتْ منهم علينا مغاربُ
وفيكم لنا بدرٌ من الغرب طالعٌ ... فلا غَرْو أن كانت لديه العجائبُ
هو الفخر مَدَّ الله في الأرض ظلَّه ... ولا زال تُجْلَى من سَناه الغياهِبُ
إلى حلبَ الشَّهباءِ منِّى بِشارةٌ ... تعطِّرها حتى تفوحَ الجاونبُ
إذا ما مضى من بعد عشرٍ ثلاثةٌ ... من الدَّوْر فيها تُستَتمُّ المآربُ
لقد حدَّثتْ عنها أولو العلم مثلَما ... جَرى وانْقضت تلك السِّنونَ الجوادِبُ
بدا سعدُها لمَّا علىٌّ بد بها ... وياطالما قد أُنحستْ وهْو غاربُ
وفَوْزُ عليٍّ بالعلى فوزُها به ... فكلٌ إلى كلٍّ مضافٌ مُناسبُ
كأنِّي بسيف الدولة الآن وارداً ... إليها يُلاقي ما جنْته الثَّعَالبُ
لقد جادَها صَوْبُ الحيا بعد مَحْلِها ... وشرَّفها مَن أحكمتْه التَّجارِبُ
كريمٌ إذا ما أمحلَ الغيْثُ أمطرتْ ... أيَادِيه جُوداً منهع تصفُو المشاربُ
أديب أرِيب لو تجسَّم لفظُه ... أصابتْه عِقْداً للنُّحور الكواعبُ
فيا أيها المنصورُ بُشْراك رتبة ... بها السعدُ حقا والسرورُ مُواظبُ
مدحْتكُمُ والمدحُ فيه تجارةٌ ... بها تُثمِر النُّعمَى وتْغلو المكاسبُ
إلى باب عَلْياكم شدَدْت رواحِلِي ... ويا طالما شُدَّت إليه الركائبُ
بها الفضلُ منشورٌ بها الجودُ وافرٌ ... بها فتحُ من سُدَّت عليه المَذاهبُ
وماذا عسى أن يبُلغ الوصفُ فيكمُ ... إلى غايةٍ هل يْنقُص البحرَ شاربُ
فلا زلتمُ في أكْملِ السعدِ والهنا ... مدَى الدهر ما مالتْ وماسَتْ ذوائبُ
وله يتغزل:
يا مَن مَضَوْا بفؤادي عندما رحلُوا ... من بعد ما في سُوَيْدا القلبِ قد نزلوا
جارُوا على مُهْجتي ظلما بلا سببٍ ... فليت شعرِي إلى مَن في الهوى عَدَلوا
وأطلقوا عَبْرتي من بعد بُعدهمُ ... والعْينُ أجفانها بالسُّهد قد كحَلُوا
يا من تعذَّب من تسْويفهم كبدي ... ما آنَ يوماً لقطْع الحبل أن تصِلوا
جادُوا على غيْرنا بالوَصْل مُتَّصِلاً ... وفي الزمان علينا مرَّةً بَخِلُوا(1/231)
كيف السبيلُ إلى من في هواه مضَى ... عُمْري وما صدَّني عن ذكرِه شُغُلُ
وَاحَيْرتي ضاع ما أولَيْتُ من زمنٍ ... إذْ خاب في وَصْل مَن أهواهمُ الأملُ
في أيِّ شَرْعٍ دماءُ العاشقين غدَتْ ... هَدْرَى وليس لها ثارٌ إذا قُتِلُوا
يالَلرِّجال من البِيض الرِّشاق أما ... كفاهمُ ما الذي بالناس قد فعلُوا
مَن مُنصِفي من غزَالٍ ماله شُغُلٌ ... عنِّي لا عاقثني عن حبِّه عملُ
نصبتُ أشْراك صَيْدي في مَراتعِه ... والصَّيد فنِّى ولي في طُرْقه حِيَلُ
فصاح بي صائحٌ خَفِّضْ عليك فقد ... صِيدَ الغزالُ الذي تْبغيه يا رجلُ
فصرتُ كالوا لِه السَّاهي وفارقني ... عقلي وضاق علىَّ الأرضُ والسُّبُلُ
وقْلت بالله قلب لي أين سارِبُه ... مَن صادَه علَّهم في السَّيْر ما عجِلُوا
فقال لي كيف تَلْقاهم وقد رحلُوا ... مِن وقتهم واستجدَّتْ سيْرَها الإبلُ
ولده السيد جمال الدين
هذا السيد كنت أسمع خبره مجملاً، ولا أرى لوصفه على غير الكمال محملا.
حتى عاشرت أخاه السيد علياً بمكة ففصل ذلك الإجمال، وعرفني أنه أوتي الغاية من وصف الكمال والجمال.
وأوقفني على ماله من النظم الرصين في اللفظ الرصيف، فتناولت منه ما هو أشهى من كأس الحميا طاف بها الساقي الوصيف.
وذكر لي أنه بعد ما أقام بالحرم المكي مدة، وأعد للتفرد في طريق المنادمة أحسن عدة.
دخل حيدر أباد بقصْد ملكها أبي الحسن، فنشط لملاقاته نشاط الجفن للوسن.
وأحله كنفا وسهلا، وأراه جيرةً للمدح أهلا.
فبقي في سرابيل إنعامه رافلا، ويبث مدائحه على رؤوس الأشهاد حافلا.
ثم طرأت على أبي الحسن طارئة دهياء دهما، وفجأته من تغلب أورنك زيب عليه فاجئة عمياء صما.
فتقلب في العجائب العقم، وتخامر في النوائب الدهم.
واقتطفت السيد جمال الدين في أثر ذلك المنية، دون أن ينال من مواهبه كل الأمنية.
فما وصل إلى قبضة الملمات، حتى حصل في غصة الممات.
وقد ذكرت له ما تعجبك طرائقه، ويبعث طربك شائقة ورائقه.
فمن ذلك قوله، من قصيدة مدح بها الإمام أحمد بن الحسن، أحد أئمة اليمن:
خليلىَّ عُودا فيا حّبذَا المَطْلُ ... إذا كان يُرجَى في عواقبه الوصلُ
خليلىّ عودا واسْعِداني فأنتما ... أحقُّ من الأهْلِين بل أنتما الأهلُ
فقد طال سَيْرِي واضْمحلَّت جوارحي ... وقد سئمتْ فَرْط السُّرَى العِيسُ والإبْلُ
فعادا وقالا صَحَّ ما بك من جَوًى ... وفي بهعض مالا قْيتَه شاهدٌ عَدْلُ
ولكنَّ طولَ السير ليس بضائر ... وغايُته كنزُ النَّدَى أحمدُ الشِّبْلُ
منها:
أبانتْ به الأيامُ كلَّ عجيبةٍ ... يسير بها الركبُ اليَمانِيُّ والقَفْلُ
فنيرانُ بأْسٍ في بحارِ مكارمٍ ... ومِن فِعْله وصلٌ وفي قوله فَصلُ
أرانا عيَاناً ضِعف أضْعاف سمعِنا ... وعن جوده قد صحَّ بالنظر النقلُ
منها:
أقول وقد طفتُ البلاد وأهلها ... بلَوْتُهمُ قولا يصدِّقه الفِعْلُ
إذا ما جرى ذكرُ البلاد وحسنِها ... فتلك فروعٌ والغِراسُ هي الأصلُ
وإن عُدَّ ذُو فضل ومجد مُؤثَّلٍ ... فأحمدُ من دون الأنام له الفضلُ
فلا غَرْوَ أن قصَّرتُ طولَ مدائحي ... ففي البعد قَصْرُ الفرضِ جاء به النَّقْلُ
إليك صَفِيَّ الدين مني خَريدةً فريدةَ ... حسنٍ لا يُصابُ لها مِثْلُ
وأعظمُ ما ترجو القبولَ فإنما ... قبولُ الثَّنا بابٌ يتمُّ به السُّؤْالُ
فحقِّقْ رجاها واْحِل عاطلَ جِيدها ... بما أنت يا نَجْل الكرام له أهلُ
ومن مقطعاته قوله معميا باسم رجب:
قلتُ مذ حلَّ منزلي وصفا لِي ... كأسُ وقْتي من شَوْب واشٍ مُريبِ(1/232)
حبَّذا منزلٌ به منتهى السُؤْ ... لِ غدا نازِلاً بغيرِ رقيبِ
وقوله باسم هشام:
سَقْياً لأيامِ لنا مع جِيرةٍ ... كانت إذا عزَّ النَّصيرُ مَلاذَا
مرَّت على عجَلٍ فلا واللهِ ما ... نظَر المتيَّمُ بعدها اسْتْلذاذَا
وقوله في اسمٍ سنان:
للهِ مجلسُ أُنْسٍ قد قضيتُ به ... يوماً يعادل عندي مدة العمرِ
تضاعَف الحسنُ فيه حين لاح لنا ... بدرُ الدجى من زوايا روضِهِ النَّضْرِ
وقوله في إسم ابراهيم:
ظبيٌ من التُّرْك قاسٍ رُحْتُ أسأله ... وصلاً فقال مُجيباً مُذْ بِهِ بَخِلاَ
صُنْ ماءَ وجهك عن ذلِّ السؤال تَجِد ... طريقَ عزٍّ ببحرِ المجد متَّصلاَ
أخوه السيد علي
لقيته وقدره كاسمه علي، وفضله من الأفق الحجازي واضح جلي.
وهو أديبٌ مجاله فسيح، وشاعر بديع الشعر فصيح.
يسحر ببيانه العقول، ويبهر الألباب بما يقول.
توخى سمت أخيه، فشدت به أواخيه.
فلكم تقلد منه درة فكر، فصيرها زينة إطراء وذكر.
حتى حكاه طبعا ووصفا، وجاراه إتقانا ورصفا.
فلئن كان الأول اختار لأشعاره الشعرى مرطا، فقد صير الثاني الثريا لآثاره قرطا.
وقد أثبت لها ما يروق ويشوق، ويغنى العاشق عن النظر في وجه المعشوق.
فمن ذلك قوله، من قصيدة، مستهلها:
ماستْ كخُوط الْبان قدَّا ... وزهَتْ بجِيد زان عِقدا
حسرتْ عن البدر التَّما ... مِ دُجى الِّلثامِ فهِمتُ وَجْدَا
وجلتْ لنا من ثَغْرِها ... دُرًّا وياقوتا وشُهْدَا
ونضَتْ عن البِلَّوْرِ بُرْ ... داً أكْسب الأحشاءَ بَرْدَا
هيفاءُكم من مغرمٍ ... في عشقِها قد مات صَدَّا
مشغوفةٌ بالخُلْف لم ... تحفظْ لذِي الميثاقِ عهدَا
مَلَّكتها رِقِّي على ... حُكْمِ الغرامِ وصرتُ عبدَا
عَذُب العذابُ بحيِّها ... والغَيُّ فيه أراه رُشْدَا
كم قد خصَمتُ مُعنِّفا ... في حبها وقهرتُ ضِدَّا
وجعلتُ بين مَسامِعي ... ومقالِة العُذَّالِ سَدَّا
حتى غدتْ عينُ الرَّقِي ... بِ ليأْسِه يا صاحِ رَمْدَا
ما الوردُ يُعجبني وقد ... قبَّلتُ من أسماءَ خَدَّا
كلَّا ولا الرُّمان يُشْ ... جِيني وقد ضمَّيْت نَهْدا
واهاً لزَنْدٍ منه أوْ ... رَتْ في الحَشا والقلبِ زَنْدَا
ولِمِعْصَم بَرَد السِّوا ... رُ عليه لما ازْدَدْتُ وَقْدَا
سَلْ لَحْظَها الوَسْنانَ كم ... قد أوْرثَ الأجفان سُهدَا
أوَ ما كفاه فلِمْ ترى ... بالسُّقْم جسمَ الصَّبِّ أعْدَى
وجَبينُها الفَتَّان كيْ ... ف لمُهجتي الأشجانَ أهْدَى
يا نظرةً قادتْ لقلْ ... بِي الوَجدَ ليس لها مَرَدَّا
أيحِلُّ في شرعِ الهوى ... أن تهجُرِين الصبَّ عَمْدَا
يا غادةً تْستلُّ من ... ألْحاظها عَضْبا فِرِنْدَا
عجَبا لطَرْفك وهْو سكْ ... رانٌ يقيمُ علىَّ حَدَّا
وقوله:
أيا قلبُ بُحْ مُسْتَشْهِراً بهوى دَعْدِ ... وخُضْ جاسِراً لُجَّ الصبابِة والوجدِ
ولا تَعْدِلَنْ عن حبها ولَوَانَّها ... صَلَتْك ينِيرانِ الصدودِ أو البُعْدِ
عليك بها عَذْاَرءَ مَعْسولةَ الَّلَمى ... مُعقْربةَ الصُّدْغيْن مْمشوقَة القَدِّ
مُدَمْلجةَ الساقْين مهْضمومةَ الحَشا ... مُورَّدةَ الخدَّيْن فاحمةَ الجَعْدِ
إذا ما غدتْ تخْتال في حُلَلِ البَها ... فيا خَجْلَة السُّمْر المُثقَّفة المُلْدِ
عجبتُ لجِسمٍ كالحرير مُنعَّمٍ ... يضُمُّ فُؤاداً قُدَّ من حجَر صَلْدِ(1/233)
لها اللهُ من رُعْبوبةٍ سفكتْ دمي ... بمُرْهَفِ ماضِي اللَّحْظ قْتلا على عَمْدِ
تعشَّقتُها أختَ المَهاةِ خَريدةً ... ثَوَى حبُّها في القلب مُذ كنتُ في المهدِ
فعَنِّى إليك اليومَ يا عاذلِي اتَّئِدْ ... أتحسَب أن النصحَ في حبِّها يُجْدِي
أتعذُلني في حبِّ دَعْدٍ جهالةً ... وتزعُم يا مغرورُ أنك في رُشْدِ
أيقبَل فيها اللومَ سمِعي وقد سرتْ ... محبَّتُها في الجسم بالعكْسِ والطَّرْدِ
وأُقْسِم بالمُسْوَدِّ من مِسْك خالِها ... وبالشَّفق المُحمرِّ من صفحةِ الخَدِّ
وبالمُقْلة النَّجْلاءِ والمَبْسم الذي ... تسَتَّر بالياقوت والمِرْشَفِ الشُّهْدِ
لَوَ أنَّك تشكو ما بقلبي عذَرْتني ... وما لُمْتَ لكن ليس عندك ما عندِي
وله من قصيدة، أولها:
صَبٌّ لأحلِ ظِباءِ حاجِرْ ... صَبَّ الدموعَ من المَحاجرْ
وغدا أسيراً عندما ... ملكَتْ جوارحَه الجآذِرْ
حكمتْ عليه الغانيا ... تُ وأمْرُهنَّ على النَّواظرْ
أن لا يزالَ مُعذَّبا ... وَلْهانَ طولَ الليلِ ساهرْ
من كلِّ هَيْفاءِ القَوا ... مِ تَمِيسُ في حُلَلٍ نواضِرْ
دقَّتْ حشاً فتمنْطقتْ ... فوق الغلائلِ بالأساوِرْ
خَوْدٌ بِعامِلِ قَدِّها ال ... عَسَّالِ كم كسَرتْ أكاسِرْ
عجَباً لمُرهَف لَحْظِها الْ ... وَسْنانِ يفتك وهْو فاترْ
عَذْارءُ تعْتذرُ البدُو ... رُ لها إذا رامتْ مُناظرْ
ما دَعْدُ ما ذاتُ الوِشا ... حِ وما سعادُ وما تَماضِرْ
إن أسْفَرْت عن مَنظرٍ ... زَاهٍ يفوق الشمسَ زاهِرْ
يا حبَّذا ذاك المُحَي ... يَا والمُكحلَّةِ السَّواحرْ
والمَبْسم العذبِ الشَّهِيِّ ... وما حَواه من الجواهرْ
وَاطُولَ شوقي لِلَّتِي ... قد أرسلتْ تلك الضَّفائرْ
مَّلكْتُها رِقِّي وسُلْ ... طانُ الغرامِ علىَّ جائرْ
وطفِقْتُ بالنْفسِ النَّفي ... سَةِ في محبَّتها أُتاجرْ
ومنحتُها رُوحِي على ... أنِّى أكون لها مُسامِرْ
فأبت وسوَّفتِ الِّلقا ... ءَ وأعْرضتْ كالظَّبْي نافِرْ
واستعجبَتْ منِّي وقا ... لتْ مَهْ برُوحِك لا تُخاطِرْ
هيْهاتَ لا تُطمِعْ فؤا ... دَك بالوِصالِ فلستَ قادرْ
فرجعتُ أعْثُر في ذُيُو ... لِ مَدامِعي والقلبُ حائرْ
وأَيِستُ من قُرْب الحبي ... بِ وصرتُ فيه كقَيْسِ عامِرْ
وله مشجِّرا:
الحسنُ لفظٌ وأنت معناهُ ... ومنتهى اللطفِ منك مَبْناهُ
بفاتِر اللحْظِ منك رِقَّ وصِلْ ... صَبًّا تصُبُّ الدموعَ عيْناهُ
رِفْقا فكُثْرُ الصدودِ أنْحَله ... جسماً وفَرْطُ البِعادِ أضْناهُ
أنت الذي حُزْتَ كلَّ مَنْقَبةٍ ... في الحسنِ أهلُ الهوى بها تاهُوا
هذا مُحيَّاك لاح بَدْرَ دُجًى ... والحقُّ ما الشمسُ غيرَ مَرْآهُ
يحِقُّ للقلبِ أن يهيمَ به ... وَجْداً وللمُسْتهامِ يَهْواهُ
مَن ذا يلومُ المحبَّ في رَشأٍ ... تفْتَرٌّ عن لُؤْلؤٍ ثَناياهُ
خِشْفٌ بِلينِ الكلامِ يسحرني ... كأن هاروتَ ساكنٌ فاَهُ
أفْدِيه ظَبياً أغَنَّ قد جُمِعتْ ... كلُّ المَسرَات في مُحَيَّاهُ
نَواه والهجرَ أوْهنَا جَلَدِي ... إي والذي لا إله إلَّا هُو
نجيب الدين بن محمد بن مكي
نجيب دعا الأماني فكان الكمال له أول مجيب، وتفرد على كثرة النظراء وليس ذلك بعجيب من نجيب.(1/234)
فإن الليالي مع أنها ولود بمثله لم تنجب، والدهر على أنه أبو العجب إلا أنه بأعجب منه لم يعجب.
كان مقيما بقرية جُبَع من جبل عاملة، يركض جدواد طبعه في ميدان الفضل ويهز عامله.
حتى طوى على طيِّ شقة الأرض، واستأذن من طرف الخضر في ذرع مساحتها من الطول والعرض.
فخرج يركض النَّجائب، ويتبع في سيره العجائب.
ويحن ويئن، وما له قلبٌ مطمئنّ.
وهم سالم المهجة مع مس الضر، معافى الحشاشة مع الفقر المرّ.
فلم يفده البعد عن أحبابه، إلا تبييض مسودّ شبابه.
فاعتاض عن السواد بالبياض، وبئس والله هذا الاعتياض.
ثم رجع إلى ووطنه شاكيا وعثاء السفر، ومنشداً عند خيبة المسعى وتخلف الظفر:
نجيبُ أبناء الزمان مَن به ... نَضارةُ الدهر ورَيْعانُ المنَى
طوَّف آفاقَ البلاد ليرى ... له نظيراً في الذَّكا فما رأَى
فعاد بعد طول عمر نَأْيه ... بصفْقة المغْبون يُبدي المشتكى
وأصبحتْ عينُ البلاد بعده ... لبُعده مملوءةً من القَذَى
ونظم رحلة تتلاشى عندها الرّحل، وأودعها من أبكار أشعاره ما ليس بالدَّخيل ولا المنتحل.
وهو في النظم مقدَّم غير مؤخَّر، وكأنا القلم لإطاعته مسخَّر.
وقد أوردت له ما تبتهج به الأزمان، وتتنادم عليه في مجالس أنسها النُّدمان.
فمنه قوله:
عِزَّة النفس وانقطاع النصيب ... أوجبا ذِلَّتي وهجر الحبيبِ
فتعوَّضت عن مَرامي وقصدي ... ببِعادي عنه وقربِ الرَّقيبِ
وانْقضى العمر في الأماني وما كنْ ... تُ إلى الله راجعاً من قريبِ
هو دائي إذا يشَا ودوائي ... فهْو ما زال عِلَّتي وطبيبي
وقوله يمدح السيد مبارك بن مطلب حاكم الحويزة:
يا سائلي عن أرَبي ... في سفرِي ومَطْلبي
لي مطلبٌ مبارك ... مُباركُ بنُ مطلبِ
نجلُ علىِّ المرتضَى ... سِبْطُ النبيِّ العربي
الطيِّب بن الطيبِ بْ ... نِ الطيب بن الطيبِ
أمانُ كلِّ خائفٍ ... غِياثُ كلِّ مُجدِبِ
مُنيلُ كلِّ نعمةٍ ... من فضةٍ وذهبِ
في فضلهِ وجودِه ... تسمُع كلَّ العجَبِ
الأسدُ الكاسر لا ... يخْشاه فَرْخُ الثعلبِ
كما السِّخالُ جملةً ... ترعى وجُرْدُ الأذْؤُبِ
والفُرْسُ والتُرْك له ... دانتْ وكلُّ العربِ
إذا حَللْتُ أرضَه ... نسيتُ أمي وأبِي
وأسرتي وولدي ... بنتاً يكون أو صبي
ومن يكنْ حَيْدرةٌ ... أباه والجدُّ النبي
فكلَّما تصفُه ... مِن دون أدنى الرُّتَبِ
وله من قصيدة، مطلعها:
ألا هل لُمضَني هجركم من يعودُه ... فيخضرُّ بعد الهجر بالعَوْد عُودُهُ
وهلاَّ وعدتُم إذ بَخِلتم بوصْلِه ... فقد تجبُر القلبَ الكسيرَ وعُودُهُ
وَتُحْيَ نفوسٌ صَوَّح الدهُر نَبْتَها ... وتُجنى رياحينُ الِّلقا ووُرودُهُ
فقد هجرتْه لذَّةُ النومِ بعدكم ... ومَشْرَب صافي الودِّ عَزَّ وُرودُهُ
دنَوْتم فأحيَيْتم قلوباً بوصلكمْ ... وقلبي بِحَرِّ النأْيِ مات وجودُهُ
بَخِلتُم على مُضناكمُ وهْو عبدكمْ ... وما حاتمٌ إن عُدَّ يوماً وَجُودُهُ
وكتب إلى الحريريّ الحرفوشيّ:
سعِدتَ بَلثْم كَفٍّ يا كتابي ... لمولىً عالم عَلَمٍ مُمَجَّدْ
فتًى في الفضل ليس له نظيرٌ ... عويصُ المشِكلات له تمهَّدْ
بني رَبْعَ العلى بعد انْهدامٍ ... وجدَّد ما وَهَى منه وشيَّدْ
له قلمٌ إذا ما جال يوماً ... فما الخَطِّىُّ والعَضْب المهنَّدْ
فخُصَّ من السلام مدَى الليالي ... بتسْليم جزيلٍ ليس ينْفَدْ
اغتناما للفرصة، وحذراً من فوت ما ليس في تركه مندوحة ولا رخصة.
وجَّهت هذه العجالة، معتمداً على الاختصار مضربا عن الإطالة.(1/235)
إلى من أشرقت شموس فضائله فأزاحت من الجهل ظلم الغياهب، وأنارت بدور فواضله فأخجلت نيَّرات الكواكب.
واستولى على مدائن الفضل وحصونه، فظفر من ذخائره وكنوزه بمصونه ومخزونه.
بوسيلة إرسال تسليمات يحيى ذكرها ميِّت النفوس، وتتزيَّن بتسطيرها متلحِّظات الطروس.
ومن بدائعه قوله:
ألا هل يُرى من عِلَّة الصدَّ نافعُ ... سوى الوصلِ أو من غُلَّة الوجد ناقعُ
وهل بعد شَتِّ الشَّمْل للجمعِ أوْبةٌ ... فتجمعنا من بعدُ تلك المجامعُ
سقى الله أياماً مضتْ في غضونها ... هصَرْنا غصونا ما أقَّلْته يانعُ
ولي طمعٌ في القربِ واللهُ قادرٌ ... وماذا عسى تُدْنِى البعيدَ المطامعُ
وفي كل حينٍ شارقُ الجَدِّ هابطٌ ... وغاربُ سوءِ الحظِّ في الناس طالعُ
ولي من أذَى من أرْتجيِه عظائمٌ ... مدَى الدهر عمَّا أصْطفيه قواطعُ
مضى العمرُ لا الدنيا حَظِيتُ بخْيرها ... ولا أنا عمَّا يُسخِط اللهَ راجعُ
وللهِ لا للناسِ شكْوايَ كلُّها ... من الدهرِ والأمرِ الذي هو واقعُ
تولَّى خِصام الحسنِ قَهْراً بنفسِه ... فليس له منه حُماةٌ تُدافعُ
ولا سِيَّما مَن ظَنَّه عن تخُّيلٍ ... نجيِباً فبالبْلوى إليه يُسارعُ
فغايةُ مَن يرجوه أوْحَد دهرِه ... به ترْكُهُ في حالِه وهو تابعُ
إذا كان ريحُ المسكِ يُنكَر ضائعاً ... بأرضٍ فذاك المسكُ لا شك ضائعُ
وقد يُترك المجروحَ في ترْكِ شَمِّهِ ... ففي البْين داءٌ ذلك الداءُ مانعُ
وللهِ صَبٌّ في الزمانِ تقدَّمتْ ... مَقالُته في مثل ما أنا والعٌ
ألا فاخْشَ ما يُرجَى وجَدُّك هابِطٌ ... ولا تخْشَ ما يُخشَى وجدُّك رافعُ
فلا نافعٌ إلَّا مع النَّحْسِ ضائرٌ ... ولا ضائرٌ إلَّا مع السعدِ نافعُ
وقوله:
يا من يُحاول ما أمَّلتَ بالحِيَلِ ... دَعْ ما تخالُ فهذا أولُ الخَلَلِ
واركبْ متُون خيولِ السَّبْقِ واسْرِ بها ... في جُنح ليلِ الهدى من غيرِ ما كسَلِ
وجانبِ الجِانبَ الأدْنَى فما ظفِرْت ... بالقُرب منه ذوو الآمالِ بالأمَلِ
واقطعْ رَجاك من الدنيا فما صدَقتْ ... في وعدِها أحداً من سالفِ الأزَلِ
وصِل حِبالَك بالحبلِ المَتين فما ... يُعِطى ويمنعُ إلا علَّةُ العِلَلِ
واسُلكْ سبيلَ رِضاهُ غيرَ مُتَّئدٍ ... فإنه لْلبرايا أوضحُ السُّبُلِ
وازْدَدْ على الهجر حُبّاً لا تَمَلّ فما ... في مِلَّةِ الحب آذى من أذَى المَلَلِ
وقوله على طريقة المهيار:
يميناً بهم صادقا لن يمينَا ... لقد خلَّفونا وساروا يمينَا
مقيماً على عْهدهم لا أحولُ ... ولو أنهم أصبحوا ظاعِنينَا
مَشُوقا إلى سْمعِ أوصافهمْ ... فأوصافُهم تُطرب السامعينَا
عيونٌ تفِيض لتَذْكارهم ... فتحْكِى إذا ما ذكرت العيونَا
وقلبي يحِنُّ لأخبارهمْ ... فتْلَقى له حين يُتْلَى حنِينَا
وعيشِىَ من بعدِهم لا يطيبُ ... على أيِّ حالٍ عسى أن يكونَا
ونَوْحِي ولو عِشْتُ ما عاش نُوحٌ ... يزيد على جملِة النَّائحيِنَا
وأعظمُ من بُعْدِهم حسرةً ... شَماتةُ من أصبحوا شامتيناَ
وقوله:
عزيزٌ علينا أن تهُون نفوسُنا ... لذلك بالصبرِ الجميل أهَنّاهَا
وكنَّا نرى أنْ لو أتانا مُفاجِياً ... مُعَزٍّ لها فيها بذلك هنَّاهَا
لنَرْعى نفوساً من نفوسٍ زكيَّةٍ ... بأرْواحنا لو تُفْتدَى لفديْناهَا
وقوله:
لي نفسٌ أشكو إلى الله منها ... هي أصلٌ لكلِّ ما أنا فيهِ(1/236)
فجميلُ الخِلال لا يرْتضينِي ... وقبيحُ الخلال لا أرْتضيهِ
فالبَرايا لذاك أو ذا جميعا ... لي خُصوم من عاقلٍ أو سفيِه
ومن مقطعاته قوله:
علَّةُ شيْبي قبل إبَّانِه ... هجرُ حبيبي في المقال الفَصيحْ
ويجعل العلَّةَ في هجْرِه ... شْيبى وفي ذلك دَوْرٌ صحيحْ
هذا الدور دار على الألسنة قديما حديثا، ومن مشهوره قول بعضهم:
مسألةُ الدَّوْرِ جَرَتْ ... بيني وبين من أُحِبّ
لولا مَشِيِبيَ ما جفا ... لولا جَفاه لم أشِبْ
ومثله لأبي العباس خطيب جامع دمشق:
مسائلُ دَوْرٍ شيْبُ رأسِي وهجرُها ... وكلٌّ على كلٍّ له سبَب يُنْبِي
فأُقْسِم لولا الهجر ما شاب مَفْرِقي ... وتُقسِم لولا الشَّيب ما كرهتْ قُرْبِي
وله:
واعجباً منَّا ومن حُبِّنا ... للْمال ما ذلك إلا بَوارْ
فآخِر الدرهمِ هَمٌّ يُرى ... وآخرُ الدنيا ولا شك نارْ
البيت الثاني من الأول:
النارُ آخرُ دينارٍ نطقْتَ به ... والهمُّ آخر هذا الدرهم الجارِي
والمرءُ ما دام مشْغوفاً بحبِّهما ... معذَّبُ القلب بين الهمِّ والنارِ
وله:
المرءُ لا يسلمَ من حاسدٍ ... أو شامتٍ في العسر واليُسرِ
فهو على الحالْين لا بدَِّ أن ... يْلحقه نوعٌ من الشرِّ
وله:؟ وإذا كانت الحياةُ إلى الموْ - تِ فقَصْرُ الآمالِ أوْلى وأحْرَى
فالخطايا تزْداد والعيشُ ضَنْكٌ ... فهْو أولَى لا شكَّ أُولى وأُخْرَى
وله:
كلُّ اُمريءٍ دون أمْرَ يْ ... نِ من الأنام مُقصِّرْ
إمَّا اْمرؤٌ متوكِّلٌ ... أو آخَرٌ متهوِّرْ
وله:
ما صفا الدهرُ لامريءٍ ... قَطُّ يوماً من البشَرْ
فإذا مَشْربٌ صفَا ... عانَد الدهرُ في أُخَرْ
وله:
مالي على هَجْرِك من طاقةٍ ... ولا إلى وَصْلِك من مَقْدرَهْ
لكنني ما بين هذا وذا ... فرَّطتُ في دُنيايَ والآخَرهْ
وله في السيد خلف بن مطلب، وأجاد في التورية:
إذا جرى ذكرُ ذي فضلٍ ومَكرُمةٍ ... ممَّن مضى قلتُ خَلُّوا ذكرَ من سلَفَا
الحمدُ لله أهلِ الحمد إنَّ لنا ... عن كلِّ ذي كَرَمٍ ممن مضَى خلَفَا
وله في مداد أحمر على ورق أصفر:
مَدمعي مثلُ مِدادي والورقْ ... لوْنه لَوْني ولكني أرَقّ
طلَّق النومُ جفوني فلذا ... عُوِّضتْ عنه بتزْوِيج الأرَقْ
ولبعضهم، وقد أعطى بعض الشعراء جائزة في كاغد أحمر:
جائزتي في كاغدٍ أح ... مرَ وارِدٍ عليْكْ
أُشْرِبَ بعضَ خجْلتي من ... قِلَّة المُهدَى إليْكْ
ويستظرف قول الحسن البورينيّ، وقد كتب يستدعى بعض خلانه بفرصاد لكونه لم يجد حبراً:
يا طرائرَ الْبان خُذ منِّي مكاتبةً ... ضَعْها لدى منْزِل الظَّبْيِ الذي سَنَحَا
هي الشكايةُ من داءِ الغرام وقد ... كتْبتُها بدمِ القلب الذي جرحَا
ولنجيب الدين:
جُبْتُ البلاد فما وجدْ ... تُ بها صديقاً صادقَا
يا قلبُ فاحذَرْ لا تكن ... منها بِخِلٍّ واثِقَا
وله:
هو الدهرُ ربُّ الجاهِ فيه أخو الفضلِ ... ولو أنه عارٍ من الدين والعقلِ
وربُّ الحِجى والفضلِ والعلمِ والتقى ... إذا ما خَلا منه فذاك أبو جهلِ
وقال في رحلته، عند ذكر أمير المؤمنين، كرَّم الله وجهه:
وقلتُ فيه بيت شعرٍ وَصْفا ... يحصُل منه أربعون ألْفَا
تلْحقها ثلاثةٌ مِئِينا ... كاملةً مضافةً عشرينَا
أبياتُ شِعْرٍ عدُّها كما ذُكِرْ ... والبيتُ هذا فتأمَّل واختبرْ
عليٌّ رَضِيٌّ بَهِيٌّ وَلِيُّ ... صَفِيٌّ وَفِيٌّ سَخِيٌّ عَلِيُّ
يشتمل هذا البيت على أربعين ألفاً وثلاثمائة وعشرين بيتاً.(1/237)
وبيان ذلك أن البيت ثمانية أجزاء يمكن أن تنطبق كل جزءٍ من أجزائه مع الآخر، فتنتقل كل كلمة ثمانية انتقالات.
فالجزآن الأولان على رضي يتصور فيهما صورتان؛ التقديم، والتأخير.
ثم خذ الجزء الثالث، فتحدث منه مع الأول ست صور؛ لأنه ثلاثة أحوال؛ تقدمه، وتوسطه، وتأخره، ولهما حالان، فاضرب أحواله في الحالين تكن ستة.
ثم خذ الجزء الرابع، وله أربعة أحوال، فاضربها في الستة التي لما قبله، تكن أربعة وعشرين.
ثم خذ الخامس، تجد له خمسة أحوال، فاضربها في الصور المتقدمة، وهي أربعة وعشرون، تكن مائة وعشرين.
ثم خذ السادس تجد له ستة أحوال، فاضربها في مائة وعشرين تكن سبعمائة وعشرين.
ثم خذ السابع، تجد له سبعة أحوال، فاضربها في سبعمائة وعشرين، تكن خمسة آلاف وأربعين.
ثم خذ الثامن، تجد له ثمانية أحوال، فاضربها في خمسة آلاف وأربعين، تكن أربعين ألفاً وثلاثمائة وعشرين بيتاً.
ومن فوائده فيها، عند ذكر الغيبة، قوله:
وجوَّزُوا الغِيبةَ في مواضعِ ... لكنها قليلةُ المواقعِ
كرَدْعِ شخصٍ يفعلُ القبائحَا ... أو كان للشَّاهدِ أيضاً جارحاً
أو وصْفِه بما به يمتازُ ... بفعلِه كي يحصُل احْترازُ
ففي الحديث الفاسقَ اذْكروهُ ... يعرفُه الناس فيحذروهُ
وكلُّ ذا مع عدَمِ التَّقَّيةِ ... والخوفِ من ذي الشِّيَمِ الرَّدِيَّةِ
ومما يستحسن له قوله:
مدَّت حبائلَها عيونُ العِينِ ... فاحفظَ فؤادَك يا نجِيبَ الدينِ
في هجْرِها الدنيا تضيعُ ووصْلُها ... فيه إذا وصَلتْ ضَياعُ الدينِ
وهو من قول الآخر:
يا قلبُ دَعْ عنك الهوى واسترحْ ... فلستَ فيه حامداً أمْرَا
أضعتَ دنياك بهجرٍ وإن ... نلْتَ وِصالاً ضاعتِ الأخرىَ
ومثله للبابي:
طريقَ القضا لا بل طريقَ جهنَّمٍ ... ركبتُ فأضحى حلوُ عيشي به مُرَّاً
أمانٍ بها دنيايَ ضاعتْ فلم أنَلْ ... علَى أنني إن نِلْتُها ضاعتِ الأخرَى
وله:
لك اللهُ من دهرٍ توالتْ صرُوفُه ... علينا فأوْلَى ضدَّ ما نتمنَّاهُ
فقرَّبنا ممَّن نَوَدُّ بِعادَه ... وأبْعدنا عمَّن نحبُّ ونهْواهُ
وهو من قول المتنبي:
أما تعلَط الأيامُ فيَّ بأن أَرى ... بغيضاً تُنائِي أو حبيباً تُقرِّبُ
محمد بن حسن بن علي
بن محمد، المعروف بالحر
أغر، له الكلم الغر، حر، له النظم الحر.
إنِّي أرى ألفاظَه الغُرَّا ... عطَّلتِ الياقوتَ والدُّرَّا
له الكلامُ الحرُّ وهْو الذي ... ألفاظُه تستعبدُ الحُرَّا
وهو أحد هدايا الجبل، وأجل من انعجن باللأدب وانجبل.
وله الشعر الذي جمل به الأدب وزانه، وزين مقاطيع الشعر وأوزانه.
أطلعه أرق من خصر أهيف يتلفت، وأشهى من مقبل شادنٍ عليه القلوب تتفتت.
وقد أثبت له منه ما يطرب بأناشيده المطربة المطرية، ويرقص الأعراف بأغاريده المغربة المغرية.
فمن ذلك قوله:
لاح وجهٌ من رَبْع ليلى جميلُ ... ورقابُ الرِّكاب والرَّكْبُ مِيلُ
بعد ما كاد أن يُلمَّ بنا اليأْ ... سُ فزاد الرجاءُ والتَّأميلُ
فظننَّا الحبيبَ لاح وقلنا ... ذلك ما تشتهي القلوبُ فمِيلُوا
ذلك السُّؤْلُ والهوى والاماني ... للبرايا والقصدُ والمأمولُ
حدِّثونا فذا حديثٌ صحيحٌ ... حسَنٌ مُجْمَلٌ رواه جميلُ
كل دَمع فرضٌ على كل عينٍ ... وعلى العِيسِ وخْدُها والذَّمِيلُ
ثم مِلْنا إلى ربيعٍ رَبُوعٍ ... نحوها أنفسُ الجمادِ تميل
وكأن السُّهادَ للقوم كُحْلٌ ... وكأن الطريق للنَّوْم مِيلُ
بِيَ نقْصٌ من الكمال ومنهم ... للمحبِّ التَّتْمِيمُ والتكميلُ
كل حيٍّ في ذلك الحيِّ نَشْوا ... نُ هوىً وهْو عاملٌ مَعْمولُ(1/238)
عمَّهم يا ابنَ عمِّ مِن ألَمِ الحبِّ ... عمومٌ من الهوى وشُمولُ
كل شخصٍ منهم بدا قلتُ هذا ... مُستمالٌ في الحب بل يَسْتميلُ
كل مَن مات في الهوى أكْسبوه ... شُهرةً ليس يعتريها خُمولُ
مَن رآهم في النوم أو يَقْظَةٍ ها ... مَ وأضْحى ودمعُه مَهمولُ
جنَّةٌ قد تجمَّعت في هَواها ... شهواتُ النفوس والمأمولُ
كم بتلك المَحاملِ اسْتأْسرُوا قلْ ... باً غدا وهْو في الحِمال حَمِيلُ
حَملوه وحمَّلوه البَلايا ... في الهوى فهْو حاملٌ محمولُ
بُعدوا بالحمُول عنَّا فلم تُبْ ... قِ احْتمالاً للقُرْب تلك الحُمولُ
وقوله، وهو من أجود شعره:
رأيتُ غريبَ الحسن قد حُفَّ بالقَنا ... فلاحتْ أماراتُ السعادةِ والشُّومِ
وكلَّمني غِيدُ الحِمى وحُماتُه ... بقْسمين مظنونٍ لدينا ومعلومِ
فيا قوم رفْقاً بالفتى وهو ضيفكُم ... وما ضيفُ أمثالِ الكرام بمحرومِ
ويا ابْنةَ عمِّ الحُورِ وابنةِ عمَّةِ الْ ... بدورِ أختَ النورِ بنتَ أخي الرِّيمِ
كلامُك كَلْمٌ للفؤادِ ولذةٌ ... فرفقاً بصبٍّ من كلامِكِ مكْلومِ
هذه الأبيات تستحق أن تكتب بالنور، على صحائف وجنات الحور.
لولا لفظة الشوم في ضربها، فكان الأحرى أن تعزل من دربها.
وله:
وغانيةٍ شكلِ العروس بوجهها ... يقيم عليه لَحْظُها كلَّ برهانِ
يبيِّن خَدَّاها لنا بإشارةٍ ... إلى رابعِ الأشْكال أوضحَ تِبيانِ
بسالِفِها معْ حاجِبَيْها بدتْ لنا ... براهينُ أشكال تُشير إلى الثانِي
وحاجبُها للحسنِ شكلٌ مُتمِّمٌ ... فياليْته مَقْرونُ حُسْنٍ بإحْسانِ
وأنشدني لنفسه، السيد محمد بن حيدر المكي، في مثل هذا التوجيه:
تبدَّى نقِيُّ الخدِّ يزْهو بحُمرةٍ ... مُقارنةٍ فيه البياضَ بإتْقانِ
فقلتُ انْبساطاً إذ غدا القبْضُ خارجاً ... فلذلك من أشْكالنا كلُّ لَحيانِي
وأكثر ما يتداول فيه هذه الأبيات:
تعلَّمتُ خطَّ الرملِ لما هجرتمُ ... لعلِّي أرى فيه دليلاً على الوصلِ
فأعجبني فيه بياضٌ وحمرةٌ ... رأيتُهما في وَجْنةٍ سلبتْ عقلِي
وقالوا طريقٌ قلت يا ربِّ للِّقا ... وقالا اجتماعٌ قلت ياربِّ للشَّملِ
وقد صرتُ فيكم مثلَ مجنون عامرٍ ... فلا تعجبوا أنِّي أخطُّ على الرملِ
ومن جيد شعره قوله:
فضلُ الفتى بالبذْلِ والإحسانِ ... والجُود خيرُ الوصفِ للإنسانِ
أوَليس إبراهيمُ لما أصبحتْ ... أموالُه وَقْفاً على الضِّيفانِ
حتى إذا أفْنى اللُّهَى أخَذ ابْنَه ... فسخاً به للذَّبْح والقُربانِ
ثم ابْتغى النُّمرود إحْراقاً له ... فسخاً بمُهْجته على النِّيرانِ
بالمالِ جاد وبابْنِه وبنفسِه ... وبقلبه للواحد الدَّيَّانِ
أضْحى خليلَ الله جلَّ جلالُه ... ناهِيك فضلاً خُلَّةُ الرحمنِ
صحَّ الحديثُ به فيالَكِ رُتبة ... تعلو بأَخْمَصِها على التِّيجانِ
أصل هذا حديث قدسي، رواه أبو الحسن المسعودي في أخبار الزمان.
قال: إن الله أوحى إلى إبراهيم عليه السلام: " إنك لما سلَّمت مالك لضيفان، وولدك للقربان، ونفسك للنيران، وقلبك للرحمن اتخذناك خليلا ".
وقوله:
قد كنتُ أستْنِشق من مَطْلكمْ ... عَرْفَ شَذَا خيْبَةِ آمالِي
فالآن قد بان بتصْريحكمْ ... أنِّى لنِيرانِ الجفا صالِي
إنِّي رأيت اليأسَ عِزّاً وفي ... كلِّ رجاءٍ نوعُ إذلالِ
رَجاؤكمْ غُلٌّ وها أنتمُ ... أطلقتمُ عنِّيَ أغْلالِي
والمالُ ظلٌّ هائلٌ زائلٌ ... لا دَرَّ دَرُّ الجامعِ المالِ(1/239)
في مذهب المجدِ ودِين العُلى ... سِيَّانِ إكْثاري وإقْلالِي
وقوله:
حجبوا عنِّيَ الحبيبَ وحالُوا ... دونه واستمرَّ ذاك الحجابُ
ضربُوا بيْننا بسُورٍ منيعٍ ... مُحكمٍ ما لذلك السورِ بابُ
باطنٌ فيه رحمةٌ لكِن الظاَّ ... هرُ لي منه نِقْمةٌ وعذابُ
ومن مقطعاته قوله:
قد ظننتُ النجاةَ والفوزَ في الحبِّ ... بأن ألْثِم الثَّنايا العِذابَا
فبِتَرْكي والاحْتياط وتْعوي ... لِي على الظنِّ ذقتُ هذا العذابَا
وقوله مورِّيا بلقبه:
قلتُ لما لَجأْتُ في هَجْوِ دهرٍ ... بذَل الجُهدَ في احتفاظِ الجَهُولِ
كيف لا أشتكِي صُروفَ زمانٍ ... ترك الحرَّ في زَوايا الخُمولِ
قلت: للشعراء المتقدمين أشعارٌ كثيرة، تتعلَّق بأسمائهم وألقابهم، من ذلك قول السراج الوراق:
بُنَيَّ اقْتدَى بالكتاب العزيزِ ... فزاد سروراً وزدتُ ابْتهاجَا
فما قال لي أُفُّ في عمرِه ... لكوْني أباً ولكوْني سِراجَا
والذي أكثر من هذا حد الإكثار الشهاب الخفاجيّ، فمن ذلك قوله:
قالوا نراك سقطْتَ من رُتَبٍ ... أترى الزمانَ بمثل ذا غلِطَا
قلتُ الشياطينُ اللئامُ عَلَوْاً ... ولذا الشهابُ من العُلى سقطَا
وله:
يراكمْ بعْين الشوقِ قلبي على النَّوَى ... فيحسدُه طَرْفٌ فتنْهلُّ أدمعِي
ويحسد قلبي مَسْمَعِي عند ذكْركمْ ... فتذْكُو حراراتُ الجوى بين أضْلَعِي
ومن معمَّياته قوله، في اسم علي:
اُفْدِيه وافِىَّ المحاسنِ بارِعاً ... يعْلو عن الإنْشادِ والإنْشاءِ
يا مِحْنتي فلقد تعرَّض لَحْظُه ... وعِذارُه من قبلها لشَقائِي
وقوله فيه أيضاً:
بفؤادي أفْدِي حبيبى وإن عَنَّي ... فؤادي بالوجْدِ والتعذيبِ
مِن مُحَيَّاه يلمع النورُ يامَن ... لام هلاَّ شاهدتَ نُورَ الحبيبِ
وقوله في اسم خالد:
أطْمَعني يومَ الِّلقاء في المُنى ... ثم انْثنى بالصدِّ والاجْتنابْ
ولاح في وجْنِته حمرةٌ ... حسِبْتُها ماءً فبانتْ سَرابْ
وقوله في اسم عثمان:
وظَبْيٍ صال في العشاقِ يسْطُو ... بألْحاظٍ أثارتْ نارَ حربِى
أصاب بعيْنه قلبي بسهمٍ ... هنالك بعدَها ودَّعتُ قلبِي
وقوله في اسم أحمد:
أفْدِيه فرداً مالَه من مُشْبِهِ ... يسْطو علىَّ بحُسْنِه وبعُجْيِهِ
داءُ السَّقامِ أضَرَّبي في حبِّه ... هل من مُجرَّدِ رأفَةٍ من قلبِهِ
وقوله في اسم عمر:
زار الحبيبُ وكان شَطَّ ... على النوَى منه المَزارْ
كَرْبٌ مَحتْه يدُ الِّلقا ... كالليل أعْقبَه النهارْ
وقوله في اسم عليّ:
لا تلُمْنِي إن هِمْتُ وَجْداً بمن ... فاق الورَى في جمالِه والكمالِ
جاء فَرْداً في كلِّ وَصْفٍ بديعٍ ... وترقَّى ففاق أَوْجَ المعالِي
وقوله في اسم حسن:
طال اشْتياقي إلى ظَبْيٍ فُتِنتُ به ... وزاد في حبِّه وَجْدى وبَلْبالِي
حبٌّ بلا آخرٍ ضِمْنَ الفؤادِ رَقَى ... وراح ينْهَى عن الإفْراطِ عُذَّالِي
وله أحجية في شراريف:
يا واحداً في فضَلِه يا من يُلا ... ذُ بظِّله عند اشْتباه الأجْوِبَهْ
بيِّنْ لنا أحجيةً قد أشكلتْ ... ما مثل قولي ابْتاع أرْضاً مُخْصِبَهْ
وله في بانياس:
يا مَن عُلُوُّ الورى لديْهِ ... في درجاتِ العلى هُبوطُ
أبِنْ جوابي فَدَتْك نفْسِي ... ما مثلُ قولي بدَا قُنوطُ
وله في برغال:
أيا مَن عَلَا فوق أوْجِ العُلى ... وفاق الأنامَ بفضلٍ مُبينْ
أبِنْ لي جوابي فأنت الإِما ... مُ ما مثلُ قولي طعامٌ ثمينْ
محمد بن علي بن محمود الحشريّ
شاعر ملء فيه، ومبرز في الفن لا يباري فيه.(1/240)
فللأقلام قصبات سبقٍ أخذها يوم الفخر لدى الرهان، فلم يعلق غباره بعيون الرَّائين ولم تلحق به خطرات الأذهان.
تشيم بارقة السحر من من نفثاته، وتشتم عابقة الشِّحر من تنفُّساته.
يملأ الآذان بجواهر كلامه اللوامع، فلذلك تضِيق عند اسْتماع نقده المسامع.
بألفاظ أحسن من فتور ألحاظ الغواني، ومعانٍ أوقع من ترجيع أصوات الأغاني.
لا تمل شعره الرقيق الخواطر، حتى تمل نسيم السحر الرياض العواطر.
إلى أدب كزهر البستان، متروٍ بالصَّبيب الهتَّان.
وأنا بشعره مفتون فتنة مسحور، ولي منه كلَّ آنٍ ابتهاج ولدانٍ حور.
وقد أثبت له ما يطيل خطي الحظ ويبعث الانشراح، ويمحو الهموم عن القلوب ويثبت الأفراح.
فمن ذلك قوله:
مَددْت إلى الطبيب يدي فولَّى ... يُروِّح راحتيْهِ من الصَّلاءِ
فقلتُ أصابني عينٌ فأهْوَى ... إلىَّ وقال لي أثرُ الهواءِ
وقوله:
شرِّقْ على حكم النَّوى أو غرِّبِ ... ما أنت أولُ ناشبٍ في مِخْلَبِ
في كل يومٍ أنت نَهْبُ محاسنٍ ... أو ذاهبٌ في إثْر برقٍ خُلَّبِ
متألِّق في الجوِّ بين مُشرِّقٍ ... غَصَّ الفَضاء به بوين مُغرِّبِ
يبكي ويضحك والرياضُ بواسمٌ ... ضَحِكَ المَشيب على العِذار الأشْيب
أزَعمتَ أن الذلَّ ضربةُ لازِبٍ ... فنشِبْتَ في مِخْلاب بازٍ أشْهبِ
لعبتْ بلُبِّك كيف شاء لها الهوى ... مُقَلٌ متى تجدِ الواظرَ تلعبِ
زعمتْ عُثَيْمةُ أن قلبَك قد صَبا ... من لي بقلبٍ مثل قلبك قُلَّبِ
قد كنت آمُل أن تموت صَبابتي ... حتى نظرتُ إليكِ يا ابْنَة يَعْرُبِ
فطربتُّ ما لم تطْربي ورغبتُ ما ... لم ترغبي ورهِبْتُ ما لم ترْهبي
ولقد دَلفْتُ إليهم في فِتْيةٍ ... ركبوا من الأخْطار أصْعبَ مَرْكَبِ
جعلوا العيونَ على القلوب طلِيعةً ... ورَمُوا القِفارَ بكل حَرفٍ ذِعْلِبِ
ترمي الفِجاجَ وقلبُها متصوِّبٌ ... في البِيد إثْرَ البارِقِ المُتصَوِّبِ
هو جاءُ ما نفَضت يداً من سَبْسَبِ ... إلا وقد غمَستْ يداً في سَبْسبِ
تسْرى وقلبُ البرق يخفِق غِيرَةً ... منها وعينُ الشمسِ لم تنتقَّب
تطفْوُ وترسْب في السَّراب كأنها ... فُلك يشقُّ عباب بحرٍ زَغْرَبِ
تفْلِى بنا في البِيد ناصيةَ الفَلا ... حتى دُفِعتُ إلى عقيلة رَبْربِ
وافتْك تخلِط نفسَها بلداتها ... والحسنُ يُظهِرها ظهورَ الكوكِب
كفريدِةٍ في غَيْهبٍ أو شادنٍ ... في رَبْربٍ أو فارس في موكِب
تمْشِى فتعثُر في فُضول ردائِها ... بحياءِ بكرٍ لا بنَشْطِة ثيِّبِ
وقوله:
أين من أَودعُوا هواهم بقلبي ... وصلَوْا نارَهم على كلِّ هَضْبِ
كلما فوَّقُوا إلى الرَّكْبِ سهماً ... طاش عن صاحِبي وحلَّ بجنْبي
يشتكي ما اشتكيتُ من لَوْعِة الْبَيْ ... نِ كلانا دَامِى فؤادٍ وقلبِ
وقوله:
للهِ ما فعلَ المشِي ... بُ على فراقِك في شبابِي
أقْذَى عيونَ الغانيا ... تِ وفَتَّ في عَضُد الصِّحابِ
ظُلَم كَسَفْنَ مطالبي ... وتَفلْنَ في وجهِ التَّصابي
غَبَّرْنَ في وجهِ النَّدِي ... مِ ورنَّقتْ صَفْوَ الشرابِ
اللهُ لي من أبْقَعٍ ... صبَغتْ حُلوكتُه ثيابي
أقْوَى وأبلغُ في القطِي ... عِة من دعاءٍ مستجابِ
وافاك في بُرْدِ الغُرا ... بِ نَعَى الصِّبا نَعْىَ الغُرابِ
ألْبستُه ثوبَ الشبا ... بِ فكان أكْذَبَ من سَرَابِ
وإذا خضَبْتُ بَياضَه ... ضَحِك المشِيبُ على خِضابِي(1/241)
وقوله:
كل شَمْلٍ وإن تجمَّع يوماً ... سوف يُمْنَى بفُرقةٍِ وشَتاتِ
لا ألومُ النَّوى فرُبَّ اجتماعٍ ... كان أدْنَى إلى نَوًى وثباتِ
مْثلما زِيدتِ السهامُ عُلوًّاً ... في صُدورِ العِدى بقُرِْبِ الرُّماةِ
وقوله:
باجْتلاءِ المُدامِ في الأقداحِ ... وبمرآةِ وجهِك الوَضَّاحِ
لا تذرْني على مَرارِة عيشِي ... أكْلَ وَاشٍِ ولا فريسةَ لاحِي
صاحِ كِلْني إلى المُدامِ ودَعْنِي ... والليالي تجوُل جَوْلَ القِداحِ
لا تخَفْ جَوْرَ حادثاتِ الليالي ... نحن في ذِمَّةِ الظُّبا والرِّماحِ
طَوْع أيْدِي الخُطوب رَهْن المَنايا ... تتخطَّى بها إلىَّ صِفاحِي
قلَّدتنْي من المَشِيب لجِاماً ... كفَّ رأْسِي شكيمُهُ عن جِماحِي
صاحِ إن الزَّمانَ أقصرُ عُمْراً ... من بكاءٍ بدِمْنةٍ ونُواحِ
رَقَّ عنا مَلاحِفُ الجوِّ فاسمحْ ... برقيقٍ من طَبْعك المُرتاحِ
يا مَلِيك المِلاحِ إنْ زماناً ... أنت فيه زمانُ رَوْحٍٍ ورَاحِ
طاب وقتُ الزمانِ فاشربْ عَساهُ ... يا صَباحِي يطيبُ وقْتَ الصَّباحِ
واسْقِنيها سُقِيتَ في فلَقِ الفَجْ ... رِ على نَغْمِة الطيورِ الفِصاحِ
وقوله:
خلعتْ ثوبَها على التُّفَّاحِ ... وترامتْ على خُدودِ الملاحِ
كلُّ رَيحْانةِ أرقَّ من الرَّا ... ح جَلاَ لِي شقِيقةَ الأرْواحِ
وَرْدةً فوق خَدِّه وقُروحاً ... بين جْنَبيَّ دامِياتِ الجراح
حَبَّذا مَيْعةُ الشبابِ وعيشٌ ... قد قطْعناه في ظِلال الرِّماحِ
زارني زَوْرةَ الخيالِ ووَلَّى ... في كَرَى النومِ مُزعَجاً بالصَّباحِ
لستُ أقْوَى على الجفونِ المَواضِي ... وَيْحَ نفسي من المِراضِ الصِّحاحِ
سامَح اللهُ من دَمِى وَجْنتيْهِ ... وعفَا عن بَنانِه الوَضَّاحِ
لا تُؤاخذْ جفونَه بفؤادي ... يا إلهي كلاهما غيرُ صاحِ
وقوله:
قُمْ هاتِها وضميرُ الليل منشرحُ ... والبدر في لُجَّة الظَّلْماء مسْتَبِحُ
عجِّل بها وحِجابُ الليل مُنسدِلٌ ... من قبْل يبدو لنا في وَكرِه الصُّبُحُ
واسْتضحكِ الدهر قد طال العُبوسُ به ... لا يضحك الدهر حتى يضحكَ القَدَحُ
فقام والسكرُ يعْطو في مفاصلِه ... يكاد يقطُر في أعطافِه المَرَحُ
يطوف والليلُ بالجَوْزاء مُنتطِقٌ ... بها علينا رَشاً بالحسن مُتّشِحُ
في أُسرةٍ كنجوم الليل زاهرةً ... لا يستخفُّهمُ في مَحْفَلٍ فرَحُ
ورُقْيَةٍ من عَذُول طار طائرُه ... لا الجِدُّ يَثْنيه عن لَوْمِى ولا المَزحُ
قاسمْتُه قِسْمةً ضِيزَى مواهبُها ... لِيَ الهَنا وله من دُونِيَ التَّرَحُ
وذي دَلالٍ كأنَّ اللهَ صوَّره ... من جوهرِ الحسن إلّا أنه شبَحُ
أسُوسُه وهو غضبانٌ وأبْسُطه ... والسكرُ يخْفِض من صَوْتي فينْشرحُ
بِتْنا على غِرَّةِ الواشي وغُرَّتِه ... أغْتاظ منه بلا غَيْظٍ ونصطلحُ
جعلتُ عَتْبِي إلى تقْبيله سبباً ... والسكرُ يفتح باباً ليس يْنفتحُ
حتى إذا صيَّرَتْه الراحُ طَوْعَ يدي ... صدَفتُ عن بعض ما يأْتي به النَّشَحُ
فما تبسَّم في وجه الصَّبا قدَحٌ ... حتى تنفَّس من جَيْب الدجى وَضَحُ
ودَّعْتُه وجَبِين الصبح مُنزِلقٌ ... وللظلام لسانٌ ليس يجْترحُ
ولا يطيبُ الهوى يوماً لُمْغتبِقٍ ... حتى يكون له في اليوم مُصْطَبحُ
وقوله:(1/242)
غادرْتموني للخُطوب درِيئةً ... تغْدو علىَّ صرُوفها وتروحُ
ما حركتْ قلبي الرياحُ إليكمُ ... إلا كما يتحرَّك المذبوحُ
وقوله:
وكنتُ إذا نزعْتُ إلى هَناتٍ ... جريْتُ مع الصِّبا طَلْقَ الرياحِ
فقلدني المَشيبُ على عِذارِى ... لجِاماً كَفَّ رأسِي عنِ جِماحِي
وقلتْ لعاذلي إِيه فإنِّي ... وهبتُ اليومَ سمعِي للَّواحِي
هو القدرُ المُتاحُ على الغواني ... فقلْ ما شئْتَ في القدر المُتاحِ
وما حُسْنُ العيون بلا بياضٍ ... وما ليلُ التَّمام بلا صباحِ
وما ضيفٌ أتاك بلا احْتشامٍ ... وأنتَ من الرحيلِ على جَناحِ
وقوله:
أيارِيحَ الصَّبا إن جئت نَجْداً ... فجدِّد بالظِّباء العِين عهداَ
فقد أرضَعْتني ثَدْيَ الأماني ... وشِبْتُ وما بلغتُ به أشُدَّا
وكم رَفَّتْ علىَّ طُوالَ ليلٍ ... ذوائبُ ذلك الرَّشَأ المُفدَّى
وما نَجْدٌ وأين ظباءُ نجدٍ ... سقى الرحمنُ ماءَ الحسن نجْدَا
وقوله من قصيدة، يمدح بها النظام ابن معصوم، يقول فيها:
وإن في الشَّعَرات البِيض لو علموا ... نُوراً لعيني ونُوَّراً على عُودِي
بِيضٌ وسُودٌ إذا ما استجْمَعا حَسُنَا ... حُسْنَ البياض على أحْداقِها السودِ
كم للزمانِ ولا أخْشَى بَوائِقَه ... من ضِنَّةٍ ولعْين المُلك من جُودِ
عَفُّ الشَّيِبة مَيْمون النَّقِيبة مَنْ ... صورُ الكتيبة مأمونُ المواعيدِ
أخلاقُ أحمدَ في تقْوى أبي حسَنٍ ... وحسنُ يوسف في مُلْك ابن داودِ
لا يحسُن الشعرُ إلا في مدائحِه ... كالدُّرِّ أحسن ما يبدو على الجِيدِ
وقوله:
أنتَ يا شُغْلَ المحبِّ الواجدِ ... قِبلُة الداعِي ووجهُ القاصدِ
فُتَّ آرامَ الفَلا حسناً فما ... قابلَتْ إلا بطَرْفٍ جامدِ
شأنُ قْلبينا إذا صحَّ الهوى ... يا حياتي شأنُ قلبٍ واحدِ
كثَّر الواشون فينا قولَهمْ ... ما عليْنا من مَقالِ الحاسدِ
لستُ أُصغِي لأراجِيف العِدى ... مَن يُغالي في الَمتاع الكاسدِ
وقوله:
زارني والبرقُ يرْمِى بالشَّرَرْ ... وعيوني شاخِصاتٌ في القمرْ
ذو دَلالٍ كلما مَرَّ حَلَا ... آهِ ما أحْلَى هواه وأمَرّ
بينما نحن على وَفْقِ الهوى ... نتَشاكَى سَلَّ قلبي ونَفَرْ
وانْثنَي يعدُو وأعْدُو خلفَه ... وهو يرْميني بأطْرافِ النظرْ
وَيْكَ يا شامِيُّ لا تطمعْ على ... ضَعْف عيْنَيْه بأحْداقِ الخَزَرْ
وقوله من قصيدة:
وقد جعلتْ نفسي تحِنُّ إلى الهوى ... حَلَا فيه عيشِي من بُثينة أو مَرَّا
وأرسلتُ قلبي نحو تَيْماءَ رائداً ... إلى الخَفِرات البِيض والشُّدن العَفْرِا
تعرَّف منها كلَّ لَمْياءَ خاذِلٍ ... هي الرَّيمُ لولا أن في طَرْفِها فَتَرا
من الظَّبياتِ الرُّودِ لو أنَّ حسنَها ... يكلِّمها أبدتْ على حسنِها كبِرَا
وآخَر إن عرَّفْتُه الشوقَ راعني ... بصَدٍّ كأني قد أبَنْتُ له وَتْرَاً
أُناشدُ فيه البدرَ والبدرُ غائرٌ ... وأسألُ عنه الرِّيمَ وهْو به مُغْرَى
فما ركِب البَيْداءَ لو لم يكن رَشاً ... ولا صدَع الدَّيْجورَ لو لم يكن بدرَا
لِحاظٌ كأن السحرَ فيها علامةٌ ... تُعِّلم هاروتَ الكهانةَ والسحرَا
وقَدٌّ هو الغصنُ الرَّطِيب كأنما ... كسَتْه تَلابيبُ الصِّبا ورَقاً خَضْرَا
رتَقْتُ على الواشِين فيها مَسامِعاً ... طريقُ الرَّدَى منها إلى كبدي وَعْرَا
أعاذِلتي واللومُ لؤمٌ أما تَرَىْ ... كأنَّ بها من كبل لائمةٍ وَقْرَا(1/243)
بِفِيك الثَّرَى ما أنت والنُّصحُ إنما ... رأيتُ بعيْنيك الخيانةَ والغَدْرَا
وما للصَّبا ياوَيْحَ نفِسي من الصَّبا ... تبِيتُ تُناجِي طولَ ليلتها البدرَا
تطارحُه والقولُ حقٌّ وباطلٌ ... أحاديثَ لا تُبْقِى لُمستوْدَعٍ سِرَّا
وتُلقِى على النَّمَّامِ فَضْلَ ردائها ... فيَعرفُ للأشْواقِ في طَيِّها نَشْرَا
يعانقها خوفَ النَّوَى ثم تنْثِني ... تمزِّق من غيْظٍ على قَدِّك الأُزْرَا
ألمَّا تَرَىْ باَنَ النَّقا كيف هذه ... تميلُ بِعطْفَيْها حُنُوّاً على الأخرَى
وكيف وَشَى غُصنٌ إلى غصُنٍ هوًى ... ومن رَشَأ يُوحِى إلى رَشأ ذِكْرَا
هما عذَلاني في الهوى غيرَ أنني ... عذَرْتُ الصَّبا لو تقْبلينَ لها عُذْرَا
هبِيها فدتْكِ النفسُ راحت تُسِرُّه ... إليه فقد أبْدَتْه وهْي به سَكْرَى
على أنها لو شايَعتْ كُثُبَ النَّقا ... وشِيحَ الخُزامَى إنما حملتْ عِطْرَا
وقوله من قصيدة:
اُعْفِياني من وَقْفةٍ في الديارِ ... تمْترِى دَرَّةَ الجفونِ الغِزارِ
ما انْتفاعِي بنَظْرة تطرِف العَيْ ... نَ بِتلك الطُّلولِ والآثارِ
ما ترى البارِقَ الذي صدَع الجوَّ ... سَناه على رسوِم الديارِ
خَطِفاتٌ كأنَّهن خيولٌ ... تجرحُ العينَ بالسيوف الهَوارِي
أذْكرتْني مَباسِماً وثغوراً ... حالياتٍ تغَصُّ بالأنْوارِ
وكؤوساً كأنما حنَّكُوها ... في صَباها برِيقِة الخَمَّارِ
خَلعتْ بيننا العِذارَ ووافتْ ... في قميصٍ مُفكَّك الأزْرارٍِ
لو رآها العَذُول صُمَّ صَداهُ ... قال لي ولْلَعجوزِ النَّوارِ
لا تَغرُوعا بِكْرَ الزمان بقَتْلٍ ... ذَوْبَ الُّلجَيْن غِشُّ النُّضارِ
في سَنا الشمسِ ما علمتَ غَناءٌ ... عن ضياءِ النجوم والأقمارِ
طال عمرُ الدجى علىَّ وعهدِي ... بالليالي قصيرةَ الأعْمارِ
ما احْتسيْتُ المُدامَ إلا وغَصَّتْ ... لَهَواتُ الدجى بضوءِ النهارِ
حَّبذا طَلْعةُ الربيع وأهْلاً ... بمَجالِي عرائس الأزهارِ
وزمانُ البَهارِ لو عاد فيه ... غشَيانُ الشبابِ عَوْد البَهارِ
ومَبِيتي إذا نَبَا بي مَبِيتي ... في ظلال العريشِ والنُّوُّارِ
كم تفيَّأْتُها فحَّنتْ علينا ... حَنَّةَ الأمَّهاتِ والأطْيارِ
مرحباً بالمَشِيب لولا زمانٌ ... غَضَّ منى وحطًّ من مقدارِي
لو وفَى لي الصِّبا ولو عُمْرَ حِينٍ ... يا زماني أخذتُ منك بثَارِي
وقوله:
حَيَّتْ فأحْيَتْ بالمُدام معاشراً ... حَضرُوا وما ألبابُهمَ بحُضورِ
في حّيِّهم صَرْعَى وما شهدوا الوغَى ... نَشْوَى وما مزَجُوا الهوى بخُمورِ
وقوله:
إيهٍ بذكْر معاهدٍ وأُناسِ ... طابتْ بذكْر حديثهم أنْفاسِي
أذْكرتني حيثُ الأحبَّةُ جِيرةٌ ... حالي بهم حالٍ وكأسِيَ كاسِ
هلَّا وقفتَ على منازلهم معي ... وبكيْت ناساً يالهم من ناسِ
قالت عُثَيْمة والخُطوبُ تنُوشُنى ... والشَّيْب يضحك من بكاءِ الآسي
شابتْ شَواتُكَ والزمانُ مُراهِقٌ ... والشيْبُ يا شامِيُّ تاجُ الراسِ
وقوله:
أما الطُّلولُ فإنها خُرسُ ... تبدُو لعينْيك ثم تْلتبسُ
يا مَرْبعاً عبَث البلاءُ به ... عهدي برَبْعِك وهْو مُكْتنَسُ
رقَمتْ عليه يدُ الصَّبا صحُفا ... تبدو لقارئها وتنْطمسُ
وقف الهوى والدمعُ منطِلقٌ ... في جَوِّه والقلبُ مُنحبِسُ(1/244)
للطيرِ جَرْسٌ في مَعالِمها ... فكأنما بحُلوقها جَرسُ
والوُرْقُ تخطُب في منابرِها ... فوق الغصونِ كأنها حُبُسُ
فارْشِفْ حصَاه فإنه شَنَبٌ ... والْثَمِ ثَراه فإنه لَعَسُ
كم ليلةٍ قضَّيْتها خُلَساً ... خوفَ العواذِل والهوى خُلَسُ
قصُرت عن الشكوى غَياهِبُها ... فكأنَّها من قَصْرها نَفَسُ
بْتنا وشَمْلُ الليل مجتمِعٌ ... ويدُ النوَى في شمْلنا تَطِسُ
في فتيةٍ رقَّت شمائُلهم ... فكأنها في أُفْقه شَمْسُ
بِيضُ الوجوه وجوهُهم سُرُجٌ ... تحت الدجى ومُدامُهم قَبَسُ
مالوا إلى الَّلذات من أَمَمٍ ... حتى إذا ضحك الطِّلَا عَبَسُوا
والبدرُ يرْفُل في غلائلِه ... بين النجوم وللدُّجَى عُرسُ
والماء بين مُصفِّقٍ طرباً ... فيه وآخر مُنْتَشٍ بَجْسُ
حتى إذا نطقتْ مَزاهِرُنا ... خرَس العذولُ وما به خَرَسُ
غاب الرَّقيبُ ونام حاسدُنا ... فوشَى علينا الطِّيبُ والنَّفَسُ
وقوله:
ما في التَّصابِي على مَن شاب من باَسِ ... أما ترى جَلْوَة الصَّهْباءِ في الكاسِ
الناسُ بالناِس والدنيا بأجمعِها ... في دَرَّةٍ تْعطف الساقِي على الحاسِي
يئسْتُ واليأسُ إحْدى الراحتيْن وكم ... جَلَوْتُ منِّى صدَى الأطماع بالْياِس
منها:
في كل غانيةٍ من أخْتِها بَدَلٌ ... إن لم تكن بنْتَ رأسٍ فابنه الراسِ
أودعتُ عقلي إلى الساقيِ فَبدَّدَه ... في كَسْر جَفْنَيْهِ أو في مَيْلِة الكاِس
لا أوْحَش اللهُ من غضبانَ أوْحشَني ... ما كان أبْطاهُ عن بِرِّي وإيناسِي
سلمتُ يوم النوى منه وأسلمني ... إلى عدُوَّيْن نَمَّامٍ ووَسْواِس
ذكَّرْتُه وهْولاَهٍ في محاسنِه ... عهودَ لا ذاكرٍ عهدي ولا ناسِ
ودَدْتُ أن بعتُه روحي بلا ثمنٍ ... لو كنت أضربُ أخماساً لأسْداسِ
يا وَيْح من أنتِ يالَمْياء بُغْيتُه ... ما كان أغْناه، عن فكرٍ ووَسْواسِ
قامتْ تغنِّى بشعرٍ وهْي حاليةٌ ... به ألا حبَّذا المكسُوُّ والكاسِي
تقول والسُّكرُ يطْويها وينشرُها ... أيُّ الشَّرابْين أحْلَى في فم الكاسِ
يا حبَّذا أنت يالَمْياءُ من سكنٍ ... وحبَّذا ساكنُ البَطْحاء من ناسِ
ما إن ذكرتُك إلا زاد بي طَرَبِي ... وطاب ريحُ الصَّبا من طِيب أنْفاسِي
ولا ذكرتُ الصَّبا إلا وذكَّرنِي ... لَيالياً أرْضعتْني دَرَّةَ الكاسِ
وجيرةً لعبتْ أيدي الزمانِ بهم ... أنكرتُ من بعدهم نفِسي وجُلاَّسِي
أيامَ أخْتالُ في ثَوْبَيْ بُلَهْنيةٍ ... ومَيْعةٍ من شبابٍ ناعمٍ عاسِ
عارٍ من العار حالٍ بالصِّبا كاِس ... كأنني والصِّبا في بُرْد أخماسِ
أنضيْتُ فيه مَطايا الجهل والباسِ ... عريتُ منه وما عَرَّيْتُ أفراسي
في صِبْيَةٍ كنجومٍ الليلِ أكياسِ ... كان أيامَهم أيامُ أعْراسِ
أسمُو إليهم سمُوَّ النومِ للرَّاسِ ... أدُبُّ فيهم دبيبَ السكرِ في الحاسِي
باتوا بمَيْثاءَ صَرْعَى لاحَراك بهم ... وإنما صرعتهم صَدمةُ الكاسِ
يا عاذلي أنت أوْلَى بي فخُذ ييدي ... فأنت أوقْعتني فيهم على راسِي
ويا حمامَ الِّلوَى هلا بكيْتَ معِي ... على زمانٍ تقضَّى أو على ناسِ
وقوله:
يا نسيمَ الصَّبا ويا عذْبَ الرَّي ... حانِ هُبِّي على وانتفضِي
خبِّرينِي عن الِّلوَى خَبراً ... إنَّ ذكرَ الرياضَ من غَرضِي
لأُقَصِّى من اللوى وَطَراً ... ليس يدري الوُشاة كيف قُضِى(1/245)
مالبرقٍ تِجاه كاظمةٍ ... لم تُضِي في العَقِيقِ أين تُضِي
لست أرْضَى بصاحبٍ بدلاً ... فاسْألا من صحبتُ كيف رضِى
صدَّقوا ليس عنهم عوضٌ ... وجميعُ الورى لهم عِوَضِي
وقوله من قصيدة:
أتراك تهفُو للبروق الُّلَّمعِ ... وتظن رَامَة كلَّ دارٍ بَلْقَع
لولا تذكُّر من ذكرْتَ برَامةٍ ... ما حَنَّ قلبي لِلِّوَى والأجْرَعِ
ريمٌ بأجْويِة العراق تركتْه ... قَلِقَ الوسادِ قريرَ عينِ المَضْجَعِ
في السِّرِّ من سعدٍ وسعدٌ هامةٌ ... رَعْناءُ لم تُصدَعْ ولم تتضَعْضعِ
منها:
قالتْ وقد طار المَشِيبُ بلُبِّها ... أنِشبْتَ في حَلْقِ الغراب الأبْقَعِ
وتلفَّتتْ والسحرُ رائدُ طَرْفِها ... نحوَ الديارِ بمُقلةٍ لم تخشَعِ
ولكَم بعثْتُ إلى الديارِ بالمتَربَّعِ ... فبكتْ ولولا الدارُ لم تتقشَّعِ
أمَّلتُ لو يتلَّوم الحادي وما ... أمَّلْتُ إلا أنْ أقول وتسمعي
وقوله:
لم أنْسَ لا أنسى خيالاً سرى ... يسترشدُ الشوقَ إلى مَضْجعِي
حسِبتُ بدرَ التِّمِّ قد زارني ... فبِتُّ لآ أقْفُو سِوى المطلَعِ
أسأل عنه الشوقَ لا يرْعوِى ... وأنشُد البَيْنَ به لو يَعِى
آليْتُ والدارُ لها حرمةٌ ... لا أسأل الدارَ وصبري مَعِي
كان دمي حَجْراً على حاجِرٍ ... فلِمْ أباحْته مَها الأجْرُعِ
عُلالَةً كان وُقوفي بها ... أبْغِي شِفَا القلب من المُوجِعِ
وقوله:
يالَهْفَ نفسي على شبابٍ ... أفنيتُ في عصرِه جَمِيعِي
كان شَفِيعي إلى الغواني ... فمنَ شفيعي إلى شَفِيعِي
إن الدَّرارِي على نَواها ... أدْنَى من الغادة الشَّمُوعِ
وقوله:
لا تجْزعِي يا بَانَة الأجْرَعِ ... حُوشيتِ من همِّي ومن ضَيْلَعِيِ
كأن قلبي بين شِقَّىْ عَصَا ... في حبِّ من شَقّوا عصا المَجْمَعِ
حلُّوا من القلب بوادي الغَضا ... ونارُهم في مُنْحنَي الأضْلُعِ
وقوله:
يا عَذُولي وما أظن عذولي ... يطمعُ اليوم في مَلامِي وقَذْعِي
هَبْك ثقَّلتَ بالمَلامةِ سَمْعي ... أخْتشِى اليوم أن تُثِّقل طبْعِي
وقوله:
أجِدَّكَ شايعْتَ الحَنِين المُرجَّعَا ... وغازلْتَ غِزْلانا على الخَيْف رُتَّعَا
وطالعْتَ أقماراً على وَجْرَةِ النَّقا ... وقد كنتُ أنْهَى العينَ أن تتطلَّعَا
ولم أرَ مثلَ الغِيدِ أعْصَى على الهوى ... ولا مثلَ قلبي للصبابةِ أطْوعَا
ومن شِيمَي والصبرُ مِنِّيَ شِيمةٌ ... متى رام أطْلالاً بعيْنٍ تدمَّعَا
وقورٌ على يأسِ الهوى ورجائِه ... فما أتحسَّى الهمَّ إلا تجرُّعَا
خِليَليّ حالِي كلما هبَّ بارِقٌ ... تكاد حَصاةُ القلب أن تتصدَّعَا
طوى الهجرُ أسبابَ الموَّدة بيننا ... فلم يَبْقَ في قَوْسِ التصبُّرِ مِنْزَعَا
إلى الله كم أُغْضِى الجفونَ على القَذَى ... وأطْوِى على القلب الضلوعَ توُّجعَا
ألا حبَّذا الطَّيْفُ الذي قصر الدجى ... وإن كان لا يلْقاك إلا مُودِّعَا
ألَمَّ كحَسْوِ الطيرِ صادَف مَنْهَلاً ... فأزْعجه داعي الصَّباحِ فأسرعَا
وناضْلتُه بالَّلْحظ حتى إذا رمَى ... بسطْتُ له حبلَ الهوى فتورَّعَا
قَسمتُ صَفَايا الوُدِّ بيني وبْينَه ... سواءً ولكنِّي حفظتُ وضيَّعَا
وحزَّتْ نِياطَ القلبِ أسبابُ نِيَّةٍ ... فلله قلبي ما أرَقَّ وأجْزَعَا
وقوله:
سرى والليلُ مَمْدودُ الرُّواقِ ... وساعى الفجر يحجِل في وَثاقِ(1/246)
خيالٌ من عُثَيْمة أو لُبَيْنَىَ ... أو الشَّماءِ أخْتِ بني البُراقِ
يُطِوِّف في الشَّآم وفي عراقٍ ... ويا بُعْدَ الشآمِ من العراقِ
أقول لها وقد خطَرتْ رِياحٌ ... من الزَّوْراءِ في حلل رِقاقِ
وقد برَد السِّوارُ على يديْها ... فأحْمَيْتُ القلائدَ بالعِناقِ
برد السوار، وبرد الحلى، يكنى به الشاعر عن الصباح.
في البديع:
قامت وقد بَرَد الحُلِىُّ ... تميِسُ في ثَنْى الوشاِح
ابن الزقاق:
بَرْدُ الحُلِىِّ تنافرت عَضُدِي وقد ... هبَّ الصباحُ ونامَتِ الجَوْزَاءُ
ابن حمديس:
وبتُّ أُحمِى بأنفاسِي حصَا دُرَرٍ ... بَبرْدِها في التَّلاقي تعرِف الفَلَقَا
وللشريف الرضي، رضى الله عنه، وهو مأخذ المترجم:
حتى إذا هبتْ ريا ... حُ الفجرِ تُؤذِن بالفِراقِ
برَد السِّوار لها فأحْ ... ميْتُ القلائدَ بالعِناقِ
وأحسن أبو الجوائز الواسطي في قوله:
كلما نَمَّ للفُضولِ سِوارٌ ... كذَّبْته قلائدٌ وعُقودُ
وبرد المضجع، وبرد الفراش، كناية عن الراحة والترفه، وعن زيادة القدرة، بحيث لا يقدر أحدٌ على إزعاجه، ويلزمه الشجاعة وعلو المقام.
قال:
أبيض بسَّام بَرُودٌ مَضْجَعُهْ
وأعْجَلنا النوَى حتى لَكِدْنا ... نُودِّع بعضَنا قبل التلاقِي
ولم يكُ غيرَ موقفِنا ونادَى ... مُنادِى الحيِّ حَيَّ على الفِراقِ
أثِيِبى فيَّ نَظْرةَ لا ضَنِينٍ ... بنائِله ولا تَرِفِ الخِناقِ
يرى شبحاً بلا ظِلٍّ ونفساً ... يُردِّدها التنفُّس في التَّراقِي
بناتُ الشوقِ تْفحَص في فؤادي ... وطِفْلُ الدمعِ يْعبَثُ بالمَآقِي
وأنت جعْلتني جَزْرَ الأعادِي ... ولو أحبَبْت ما أكلُوا عُراقِي
تُلوكنيَ الخُطوب على هُزالِي ... ويحلُو لي لها طعمُ الزُّعاقِ
ولو عقَل الزمانُ دَرَى بأنِّي ... على مَن رامَنِي مُرُّ المَذاقِ
ولم تتْركْ صُروف الدهرِ منِّي ... ومن عَضْبِي الجُرازِ سوى رَماقِ
أما والرَّاقصاتِ على لَآلٍ ... ومَن حُمِلوا على الكُومِ العِتاقِ
لقد أضْلَلْتُ في ليلِ التَّصابي ... فؤاداً غيرَ مشْدود الوَثاقِ
ألا ياصاحبَيْ نَجْوَاي سيرا ... فقد قعد الهوى بي عن رِفاقِي
قِفا عنِّي بأقْرْيَةِ الفِتاقِ ... فَواقاً أو أقلَّ من الفَواقِ
سقى اللهُ العراقَ وساكنِيهِ ... وجادَ مراتِعَ الشُّدْنِ الطِّلاقِ
إلى أهلِ العراقِ يحِنُّ قلبي ... فواشَوْقي إلى أهلِ العراقِ
وقوله:
أرأيتَ ما صنعتْ يدُ التَّفْريقِ ... أعلمتَ مَن قتلتْ بسَعْيِ النَّوقِ
رحلَ الخَلِيطُ وما قضيْتُ حقوقَهمْ ... بِمُنَى النفوسِ وما قضَيْنَ حُقوقِي
عِلُقوا بأذْيالِ الرياِح ووكَّلُوا ... لِلْبَيْن كلَّ مُعرِّجٍ بفريقِ
وغدوْتُ أصرفُ ناجِذَيَّ على النَّوَى ... وأغَصُّ من غَيْظ الوُشاة برِبقِي
هجروا وما صبَغَ الشبابُ عوارِضِي ... عَجْلان ما عِلقَ المشِيب بزِيقِي
فكأنني والشيبُ أقْربُ غايةٍ ... يومَ الفِراق شربْتُ من رَاوُوقِ
لا راق بعدهم الخيالُ لناظرِي ... إن حَنَّ قلبي بعدهم لرَحِيقِ
لعب الفِراقُ بنا فشرَّدَ من ييد ... رَيْحانتَّي صديقِتي وصديقِي
للهِ ليلنُنا وقد عِلقتْ يدي ... منه بعِطْفٍ كالقناةِ رشيقِ
عاطَيْتُه حَلب العصيرِ وصَدَّنا ... عن وجهِ حاجِبِنا يدُ التَّعويقِ
ما كان أسْرَع ما دحَتْه وإنما ... دُهِش السقاةُ به عن التَّرْويقِ(1/247)
أيقظْتُه والليلُ ينفُض صِبْغَه ... والسكرُ يخلِط شائقاً بمَشُوقِ
والنومُ يعبثُ بالجفونِ وكلَّما ... رقَّ النسيمُ قسَتْ قلوبُ النُّوقِ
والبرق يعثُر بالرِّحال وللصَّبا ... وقَفاتُ مُصْغٍ للحديث رَفيقِ
باتتْ تحرَّش والقَنا متبرِّمٌ ... بين الغصون وقَدِّه المْمشوقِ
فأجابني والسكرُ يُعجِمُ صَوْتَه ... والكأسُ تضحك للثَّنايا الرُّوقِ
لولا الرَّقيبُ هَرَقْتُ مَضْمضةَ الكرَى ... وغصَصتُ صافيةَ الدِّنانِ برِيقِي
ثم انْثنيْتُ وزَلْفُه بيد الصَّبا ... وشَمِيُمه في جَيْبِيَ المفْتوقِ
وقوله:
أرِقْت لبارِقٍ في جَوِّ رَاسِي ... جَرِضْتُ لصَوْبِ عارِضه برِيقِي
هدَتْه النَّائباتُ وأيُّ ضيفٍ ... هدَتْ يومَ الفِراق إلى فروقِي
رفعْتُ لي بجُنْحِ الليل نارِي ... فخاض الليلَ يعسِف في الطريق
ودَدْتُ ولو بضَرْبِ الْهامِ أنِّي ... رَعيْتُ له ولو بعضَ الحُقوقِ
وقوله:
رُبَّ ساقٍ غمَزْتُه فتغابَي ... ثم أوْمى بناظرٍ لا يُطاقُ
قال لي والخُمارُ يُرْعِد كَفَّيْ ... هِ ورُوحي على يديْه تُراقُ
أنتَ لا شك هالكٌ بجفنوني ... قلتُ زِدْني فإنها دِرْياقُ
فانْتضَى الكأسَ من يدَيَّ وأهْوَى ... نحو فِيه بالكأس وهْي دِهاقُ
قال لي هاكَها شَراباً طَهُوراً ... خلَّصتْها من حِنْثِها الأرْياقُ
وقوله:
آهِ يا غُصْنَ النَّقا ما أمْيَلَكْ ... جَلَّ يا غُصنَ النقا من عَدَّلَكْ
قد قضى لي بتَباريحِ الجوَى ... مَن قضى بالحبِّ لي والحسنِ لَكْ
أكل الحبُّ فؤادي بعدَما ... لَاك منِّي ما تمنَّى وعَلَكْ
هلك الشامِيُّ وَجْداً وأسًى ... ما يُبالي يا حياتي لو هلَكْ
قلَّ لي فِيك غارماً وجَوًى ... قلَّل اللهُ عَذُولا قَّلَلكْ
حكم اللهُ لفَوْدَيَّ على ... نُسْخة الشَّيْب وتسْويد الحَلَكْ
أتُراهم قد رأَوا أيَّ دمٍ ... هرَق الواشِي على تلك الفلكْ
يا غُرابَ البَيْن لا كنتَ ولا ... كان وَاشٍ دَبَّ فيهم وسلَكْ
أخذُوا منَّا وأعْطَوْا ما اشْتَهَوْا ... ما كذا يحكُم فينا من ملَكْ
جُرتَ في الحُكْم على أهلِ الهوزى ... لا تخَفْ فالأمرُ لِله ولَكْ
ليت شِعْرِي أمَلِيكٌ في الورَى ... أنتَ يا إنسانَ عَيْني أم مَلَكْ
حكَم الدهرُ علينا بالنَّوَى ... هكذا تفعلُ أدوارُ الفلَكُ
وقوله:
سيدي لا مِثْلَ مثُلكْ ... صُوِّر البدرُ بشكلِكْ
ما حَكاك البدرُ لكن ... رامَ يحكى شِسْعَ نَعِلكْ
إنما الحسْن قميصٌ ... هو قد حِيكَ لأجْلِكْ
خُلِق العشقُ لمْثلي ... وحلَا الحسنُ لمثلِكْ
وقوله:
آهِ من داءيْن بادٍ ودخيلِ ... وخَصِيميْن مَشِيبٍ وعَذُولِ
ما على مَن طال ليْلىِ بعدَهم ... لو أعانوني على ليلىِ الطويلِ
عاجلَ القلبُ إليهم ناظرِي ... ما أضرَّ الحسنَ بالقلبِ العَجُولِ
نادَمتْ منهم بَنانِي ناجِذِي ... واسْتشاط الوجدُ في إثْرِ الخمولِ
وبأكْناف المُصَلَّى غادةٌ ... سنَحتْ لي مَسْنَحَ الظبيِ الخَذُولِ
عرضتْ شرط المفَدَّى في مَهاً ... يتعثَّرْنَ بأطْرافِ الذيولِ
قد عرَفْنا وَقْفة الرَّكْبِ دُجًى ... في سنَا الجَوِّ وأنْفاسِ القَبُولِ
إذْ شفيعِي عند لَمْياءَ الصِّبا ... ورسولِي خُلْسةَ الَّلحْظِ الكليلِ(1/248)
نظَرتْ نحْوى ورَقْراقُ السَّنا ... يخطِف الأبْصارَ عن طَرْفٍ كحيلِ
حكم اللهُ لقْلبَيْنا على ... قَلقِ القُرْطِ ووَسْواسِ الحُجولِ
زاد شوقي يا حَماماتِ الِّلوَى ... علِّلِينا ببكاءٍ وعويلِ
أنا أوْلَى بنُواحٍ وبُكا ... لا بُليِتُنَّ بوجْدِي وغَليلِي
ليت شِعْري والأمانيِ ضَلَّةٌ ... هل صَبا نَجْدٍ إلى الغِيد رسولِي
يا صَبا نجد ومَن لي لو وعَتْ ... رَجْعَ قوْلي أو أصاختْ لِسئُولِي
أنْتِ أدْرَى يا هَناتِي بالجوَى ... خبِّريهم يالكِ الخيرُ وقُولِي
لو رأَى وجهَ سُلَيْمَى عاذلِي ... لتفارْقنا على وجهٍ جميلِ
بشَّرتْ سلمى عَذُولي بالنَّوَى ... آهِ مَّما أوْدعتْ سَمْعَ العَذُولِ
وقوله:
يا أخا البدرِ رَوْنقاً وسناءً ... وشقيق المَهَا وتِرْبَ الغزالَهْ
ساعَد الخيرُ يومَ بِعْتُك رُوحي ... لا وعينْيك لستُ أبْغِي إقالَهْ
يا عليلَ الجفون علَّلْتَ قلبي ... زاد عيْنيك عِلَّةً وذَبالَهْ
ما لِعْينِيَّ كلَّما عنَّ ذِكرا ... ك تداعتْ جفونُها الهَطَّالَهْ
جُنَّ طَرْفي مذ غاب عنه مُحيَّا ... كَ جُنونِي فلا تسَلْ ما جرَى لَهْ
كنتُ قبلَ الهوى ضَنِيناً بقلبي ... خدعَتْني لِحاظُك الخَتَّالَهْ
لك قَدُّ القَنا وثغُر الأقاحِي ... وجفونُ المَها وجِيدُ الغزالَهْ
مَن تناسَى بالرَّقْمتْين وِدادِي ... فبعْيني غصونُه المَيَّالَهْ
رُبَّ ليلٍ قصَرْتُه بغَريِرٍ ... حلَّ من عقد زُلْفه فأطالَهْ
مَن عَذِيري في حبِّ طَفْلٍ لَعُوبٍ ... عوَّدُوه سفْكَ الدِّما فحَلالَهْ
كلَّما صدَّ عن سوايَ دلالاً ... صَدَّ عنِّي تبرُّماً ومَلَالَهْ
لستُ أنْسَى يومَ الفِراق وقد أدْ ... ركَ من شمْلنا النوَى آمالَهْ
غصَب البَيْنُ من يدِي كلَّ غُصْنٍ ... سرَق الغصنُ لِينَه واعْتدالَهْ
فَرَّ نَشْوانَ من يدِي يتكَفَّى ... ثقَّل الوردُ غُصْنَه فأمالَهْ
لم تدعْ لَوْعةُ الجوى من حَشاهُ ... من حَصاةِ الفُؤادِ غيرَ ذُبالَهْ
يا لُواةَ الدُّيُون نَفْثةُ مَصْدو ... رٍ أذابتْ أنفاسُه أوْ صالَه
إن ذَوْبَ الجفونِ في أَثَرِ الغا ... دِينَ أوْلَى لناظرِي أوْلَى لَهْ
فلْيَلُمْني العذولُ ما شاء إنِّي ... لستُ لي في هوى الحسانِ وَلَالَهْ.
وقوله:
كِلينِي لهّمٍ لا ينامُ ونامِي ... فما الشامُ إن ضاقتْ علىَّ بشامِ
وما بي سوى أمٍّ رَءُومٍ وجِيرةٍ ... عِزازٍ علينا يا عُثَيْمُ كِرَامِ
وقد كنتُ قبل البَين جَلْداً على النَّوَى ... تطالبني نفسِي بكلِّ مَرامِ
لَصُوقاً بأكْباد الحسانِ مُحَبَّباً ... إلى الغِيد يَحْلُو لي لَهُنَّ كلامي
يقودُونني قَوْدَ الجَنِيب إلى الهَوى ... فما لي مَنْبوذٌ إلىَّ زِمامي
وفي الركْب مَدْلولُ اللِّحاظِ على الحشا ... يُدافِع عن أتْرَابِه ويُحامى
لقد كمَنتْ أمُّ المنايا بلَحْظه ... كمُونَ المنايا في شِفارِ حُسامِ
يُشايعُه من آل كسرى ضَراغِمٌ ... براثنُهم عند اللقاءِ دَوامي
يرُوحون والتِّيجانُ فوق رءُوسِهمْ ... ألا رُبَّ تِيجانٍ زَهَيْنَ بهِاَمِ
برزْتُ الهم والحتْفُ منِّى على شَفَا ... أرى الموتَ خلفي تارةً وأمامي
أُوارِبُ عن صَحْبي وأعلمُ أنَّني ... لَأوَّلُ مقتولٍ بأوَّلِ رامِ(1/249)
فناضَلْتُه والرَّكْبُ بين مُفوِّقٍ ... وآخَر مقْرُوحِ الجوانحِ دَامي
أصابتْ وكانت لا تُصِيبُ سِهامُه ... وطاشَتْ وكانت لا تَطِيشُ سِهامي
كذا الغيدُ يا عَثْماءُ إمَّا مُهاجِرٌ ... وإما خَتُولٌ لا يَفي بذِمامِ
وقوله:
لمن العِيسُ جُفَّلا كالنعامِ ... يترجَّحْن خِلْفةَ الآرامِ
يرْتقصْنَ الخُطى ارْتقاصَ بَناتِ الشَّ ... وقِ تحت الحشَى على الآكامِ
ووراءَ السُّجوف كلُّ أَناة الْ ... خَطْوِ حَيُّ الحياءِ مَيْتُ الكلامِ
كدُمَى العاجِ في المحاريب أو كالزَّ ... هرِ غِبَّ القِطار في الأكمامِ
قد تقنَّعْنَ في الشُّفوف كما قُنِّ ... عَ بدرُ الدجى بذيل الغمامِ
ما عهِدْنا الظِّباء ترفُل في الوَشْ ... ىِ ولا الوَحْشَ في البُرَى والخِزامِ
قُسِّم الحسْن بين قاصِرة الطَّ ... رفِ وأخرى مقصورةٍ في الخيامِ
منها:
كلُّ هَيْفاء حيث يُعتقَد الحبُّ ... سريع الخُطَى بطئ القيامِ
كلَّما أقْصدتْ فؤادَ كَمِىٍّ ... بسَمتْ لي عن مْثل حبِّ الغَمامِ
رفعتْ طَرْفها إلىَّ وقالتْ ... بأبي ما أرقَّ قلبَ الشامي
طالعتْ صاحبي ومالتْ إلى السِّرْ ... بِ بطَرْفٍ ولا كطرفَي دَامِي
وسَبْتنِي وما أبَحْتُ حِماها ... بَقوامٍ آهاً له من قَوامٍ
وعيونٍ أعاذَنا اللهُ منها ... لعبتْ بالعقول لعبَ المُدامِ
ورَسِيلٍ يُطيل ناشئةَ الَّلْي ... لِ وناهِيكُما بليْلِ التَّمامِ
ورمتْني وللمنَّية أسبا ... بٌ فلله ما أخفَّ سَقامي
فلْتطُل لَوْعتي عليك ووَجْدِي ... إن قلبي يصحُّ بالأسقامِ
يا نَدِيميَّ بالجَوَاء كِلانا ... لَهناتٍ حسَرتُ عنها لِثامي
أعْفياني من هَجْعة تملأُ العيْ ... نَ غُررواً بِطارقٍ في المَنامِ
زارني والهوى يُخيِّل للعيْ ... نِ سعادا والليلُ مُرْخَى الزِّمام
فوفَى لي بكلِّ ما تشْتهي النفْ ... سُ وولَّى والرَّكْبُ صَرْعَى غرَامِ
زارني في ذُرَا الشآمِ ودارِي ... بالمُنقَّى ودارُها بالرِّجامِ
طاف والليلُ مطبِق بعُراهُ ... يسْتقيل الكرَى من الإلْمامِ
قلتُ للطارِق الذي طرَق الجوَّ ... وشابتْ له فروع الظلام
كبُرتْ يا ظَلُومُ همةُ عيْنٍٍ ... طمعتْ أن تراك في الأحلامِ
وقوله:
رقَّتْ شمائلُه فقلتُ نسيمُ ... وزكَتْ خلائُقه فقلت شَمِيمُ
قصَر الكلامَ على المَلامِ وإنما ... لِلَّحْظِ في وجَناتِه تكْليمُ
شرِقتْ معاطفُه بأمْواه الصِّبا ... وجرى عليه بَضاضَةٌ ونعيمُ
قد كاد تشربُه العيونُ لَطافةً ... لكنَّ سيفَ لِحاظِه مسمومُ
وقوله:
رشَفتْ صُروف الدهر ماءَ نَضارتي ... عَجْلانَ ما أدْمى الفؤادَ وما رَمَى
إن الذي صبَغ الحياءُ بياضَه ... لم يدْرِ كيف غرِقْتُ من خجلٍ دَمَا
إن الذي فارقْتمُوه ولم يمُتْ ... يا عَزُّ كلن أعَقَّ منكِ وأظْلما
وقوله:
يا خليَليَّ دعاني والهوى ... إنني عبدُ الهوى لو تعلمانِ
عَرِّجا نقْضي لُباناتِ الهوى ... في ربوعٍ أقْفرتْ منذ زمانِ
مَربَعٌ أولع عيني بالبكا ... أمَر العينَ به ثم نَهاني
وقُصارَي الخِلِّ وجدٌ وبكا ... فابْكياني قبل أن لا تبكيانِي
يا عُريباً مُنْحناهم أضلُعي ... وغَضاهم نارُ شوقي في جَنانِي
سوَّدُوا ما بين عينى والفَضا ... ومحَوْا عنها سوادَ الدَّيْدَبانِ(1/250)
إن قلباً أنتمُ سُكانُه ... ضاع مني بين شِعْب والقَنانِ
وقوله من خمرية:
هاتِها هاتها سَبِيَّةَ حَوْلٍ ... قد توانتْ ولات حين توانِ
كسقِيط الندى على وجَنات ال ... وردِ أو كالدموع في الأجفانِ
في يدَىْ شادِنٍ رقيقِ الحواشِي ... فوق خدَّيْه وردةٌ كالدِّهانِ
هي في خدِّه سَبِيكُ نُضارٍ ... وبِفِيه عصارةُ العِقْيانِ
منها:
نسخَتْ سحرَ بابلٍ مُقْلتاه ... فتنبَّي في فَتْرَة الأجفانِ
أحسن منه قول التنيسي الأندلسي:
لولا تحدِّيه بآيِة سحرِهِ ... ما كنتُ ممتِثلاً شريعةَ أمرِهِ
رشأٌ أُصدِّقه وكاذبُ وعدِه ... يُبدي لعاشقه أدلَّة عُذْرِهِ
ظهرتْ نُبُوَّةُ حسِنه في فَتْرةٍ ... من جَفْنِه وضلالةٍ من شَعرِهِ
في رُبوع كأنهنَّ جِنانٌ ... عطفتْ حُورَها على الوِلْدانِ
ورياضٍ كأنهنَّ سماءٌ ... أطْلعتْ أنْجُماً من الأُقْحُوانِ
بين وُرْقٍ كأنهن قِيانٌ ... رُكِّبَتْ في حُلوقهنَّ مَثانِي
وغصونٍ كأنهنَّ نَشاوَى ... يترقَّصْنَ عن قُدود الغوانِي
وأقاحٍ كأنهنَّ ثُغورٌ ... يتبسَّمْنَ في وجوهِ الحسانِ
ونسيمُ الصَّبا يصِحُّ ويْعتَلُّ ... على بَرْدِه وحَرِّ جَنانِ
كلما غَنَّتِ البلابلُ فيها ... رقَّص الدمعُ بابلكا أجْفانِي
عطفَتْني على الرياضِ قُدودٌ ... خلعتْ لِينَها على الأغصانِ
يتلقَّانِيَ الأقاحُ بنَشْرٍ ... وغصونُ النَّقا علىَّ حَوانِ
منها:
أين قلبي لا أين إلَّا طلولاً ... أذْهبتْها الرياحُ منذ زمانِ
أذْكرتْني معادهاداً ورُبوعاً ... كاد يَدْمى لذِكْرهنَّ بَنانِي
حيث غُصْنِي من الشبابِ رَطِيبٌ ... وعيونُ المَها إلىَّ رَوانِي
أطرُد النومَ عن جفونٍ نَشاوَى ... بحديثٍ أرَقَّ من جُثْمانِي
وقَوافٍ لو سَاعد الجِدُّ نيِطتْ ... موضعَ الدُّرِّ من رِقاب الغوانِي
سائراتٌ بُيوتُهنَّ على الألْ ... سُنِ سَيْرَ الأمثالِ في البُلدانِ
قُصُدٌ كالفِرِنْدِ في صفَحات الدَّ ... هرِ أو كالشُّنوفِ في الآذانِ
عاصِياتٌ على الطباعِ ذَلُولٌ ... يُتغنَّى بهنَّ في الرُّكْبانِ
ساقَطتْ والندَى يَطُلُّ عليْنا ... من عُيونِ المَها حصَا المَرجانِ
وقوله:
لا يتَّهِمْنِي العاذلون على البُكا ... كم عَبْرةٍ مَوَّهْتُها ببنَانِي
يا مَن يفنِّدني على ابْنِة وائلٍ ... عنِّي إليك فغيرُ شانِك شانِي
آليْتُ لا فتَق العَذول مَسامِعي ... يوماً ولا خاط الكرَى أجفانِي
قالت عُثَيْمة قد كبِرتَ عن الصِّبا ... ما لْلِكبير وصَبْوةِ الشُّبَّانِ
ما الشَّيْبُ إلا كالقَذاةِ لناظرِي ... فقليلهُ وكثيرُه سِيَّانِ
سَلبتْ أساليبُ الصَّبابة من يدِي ... صَبْرِي واُغْرَتْ ناجِذِي ببنَانِي
وقوله:
إذا أبْصرتُ شخصَك قلتُ بدرٌ ... يلُوح وأنت إنسانُ العيونِ
جرى ماءُ الحياة بِفِيكَ حتى ... أمِنتُ عليك من رَيْب المَنونِ
وقوله:
هل في القضيَّةِ أن يُشايِعك العِدَى ... في ليلةٍ ناجيتُ فيك سُهاهَا
هَبْ أن للشامِيِّ فيها بالسُّهَا ... نَسَباً فأين همُ وبدرُ دُجاهَا
ليت التي بعثَتْ إلىَّ خَيالَها ... أذِنتْ لعيني أن تذُوق كَراهَا
وقوله:
طرقتْ تخطَّي رِقْبةَ الواشِين بي ... وعيونُهم مَطْروفةٌ بكرَاهَا
وأنا ومَوَّار اليديْن نلُوذ في ... سُجْفِ الخياِم كأننا طُنْباهَا(1/251)
قلت: هذا ما وصل من أشعاره إلى، والمنة لمن منحني به علي.
وقد قيل: من أحيي قلب صديق، بكلام رقيق، أمن من كل حريق، وسلم في كل مضيق.
ولو استزدت لزدت، وما قلت عسيت أو كدت.
حسين بن شههاب الدين
بن حسين بن محمد بن يحيى ابن جاندار البقاعي الكركي
باقعة البقاع، المخجل بغرره وجوه الرقاع.
طلعت محاسنه طلوع النجوم الزواهر، وسعدت تلك البقاع بآدابه المعجبة البواهر.
وإذا تأمَّلتَ البقاعَ وجدتَها ... تشْقَى كما تشقى الرجالُ وتسعَدُ
وهو وحيدٌ في كرم ضرائبه، متفرد بكثرة عجائبه وغرائبه.
تستوعب محفوظاته المقروء والمسموع، وتجمع معلوماته ما هو في الحقيقة منتهى الجموع.
وله أدب جزل، وجدٌ مقرون إلى هزل.
وأما نظمه فبابل منشأ كلامه، وما أنزل على الملكين في ضمن أقلامه.
وكان في أخريات أمره، حين لم يبق إلا قذىً في كأس عمره.
اشتغل بالطب فأتقن قواعده وأحكم، ولعب بالأرواح والأجسام كما شاء وتحكم.
ولكنه طاشت سهام رأيه عن أغراضها، وأصابت فما أخطأت النفوس في تخليصها من آلام أمراضها.
فكم عليلٍ دبَّ فيه علاجه ثم درج، فأنشد:
أنا القتيلُ بلا إثمٍ ولا حَرج
وتلاعبت به الظنون في مهاوى العربة، إلى أن دخل الهند وهو سفير الفقر والكربة.
فاستقبله النظام ابن معصوم ببريد كرمه، وأنزله حيث استرد شبابه بعد هرمه إلا أنه لم تظل مدته، حتى أخلقت بحادث الموت جدته.
وقد أوردت من محاسنه التي بهر اتقادها، وبعد عن مظان أولى النباهة انتقادها.
ما تستهدي منه شمالي الرُّبى آذنت لصحة الأجسام بالتكفل، ونسيم الصبا جاءت بعرف الصندل وريا القرنفل.
فمنه قوله، من قصيدة، مستهلها:
هو الحب لا يْبقَى على النَّأْيِ بارِحَا ... فصبراً وأنَّي يردعُ الصبرُ جامِحَا
حليفَ غرامٍ مُدْنَفٍ فتكتْ به ... جوارحُ ألْحاظٍ تُذيب الجوارحَا
وهل يُرْتجىَ بُرْءُ السليم الذي غدتْ ... عليه أماراتُ الهلاكِ روائحَا
أراقتْ دمي بالسَّفْح غرَّاءُ ناهدٌ ... على مثلِها أمستْ دموعي سوافِحَا
مضتْ غيرَ ما أبْقتْ من الوجدِ والأسَى ... ليالٍ بنا نلْنَا المُنَى والمنائحَا
برَغْمِي حلَلْت الدمعَ بين طلولُهم ... فلم أرَ مُرّاً يُرجِع القلبَ فارِحَا
خَلاَ مَلْعب أوْدَى بأرجائِه البِلىَ ... تُلاعُبه هُوجُ الرياض روائحَا
وعهدِي به بالأمْسِ للعينِ مألَفٌ ... فعُوِّضَ عنهنَّ ابنُ دَايةَ نائحِاَ
ابن داية: الغراب، وهو علم جنس ممنوع من الصرف، سمي به لأن أنثاه إذا طارت من بيضها حضنها الذكر فيكون كالداية للأنثى.
وكان جَلاءَ الناظريْن من القَذَى ... فأضحى يردُّ الطَّرف بالدمع سافحَا
فيا مُمْتطِى كَوْماءَ كالهِقَل جَسْرَةٍ ... عَرَنْدية تطوِى الرُّبَى والأباطِحَا
الكوماء: الناقة الطويلة السنام.
والهقل: الفتى من النعام.
والجسرة: الناقة القوية، ويقال هي: الجرية.
والعرندية: الناقة القوية.
إذا عاينَتْ عيْناك كُثْبانَ رَامةٍ ... وجازتْ بك الوَجْناءُ تلك الصَّحاصِحَا
أنِخَها برَبْعٍ يَنْفح الرِّيحُ رائحاً ... تجاهَك من رَيَّا شَذاه الرَّوائِحَا
وبلِّغ رعاك اللهُ من أُهَيْلَه ... سلاما كنَشْر المَنْدَل الرَّطْب نافحَا
وقل لهمُ خلَّفتُ بالشامِ مُدْنَفا ... صريعَ اشْتياقٍ نائِىَ الدارِ نازِحَا
يئنُّ ويشكُو بانْتحابٍ ولوعةٍ ... نَواكُم إذا أرْخَى الظلامُ المَسائحَا
عسى أَوْبةٌ تطفِى لهيب جوانحِي ... إذا كنتَ لي فيما تحملَّتَ ناصِحَا
فبِي ظمأٌ لو كان بالتُّرْبِ ما عدَتْ ... على صفحِة الأرض المِياهُ سوائحا
ولو أن أنْفاسِي أصاب سعيرُها ... رياحَ الغَضا ما كُنَّ يوماً لواقِحَا
فيا قلبُ صبراً إن يكُ الصبرُ نافعا ... فمن حارب الأيامَ لم يُلْفَ رابحا(1/252)
رُوَيْداً هي الأيامُ لا تَرْجُ سُقْهَما ... فما كان منها غادياً كان رائحَا
وما كان منها دانِياً كان نائياً ... وما كان سانحاً كان بارِحَا
وقوله من أخرى، أولها:
هو الحبُّ لأُقرْب يدوم ولا بُعْدُ ... وقد دقَّ معنًى أن يُحيِط به حَدُّ
يحَارُ أُولو الألباب في كُنْهِ ذاتِه ... فمِن جِدِّه هزلٌ ومن هزلهِ جِدُّ
لك اللهُ قلبي كم تُجِنُّ لواعِجاً ... يذوب لأدْنَى حَرِّها الحجر الصَّلْدُ
نصَحْتُك جُهْدِي لاقبلتَ نصيحتي ... فعدْلُ الهوى جَوْرٌ وحُرُّ الهوى عبدُ
لقد عالج الحبَّ المُحِبُّون قبلَنا ... فما نالَهم إلا القطيعةُ والصَّدُّ
فإن قال قومٌ إن في العشقِ لَذَّةً ... فما أنْصفوا هذا خلافُ الذي يْبدُو
نعيمٌ هو البَلْوَى ورِىٌّ هو الظَّما ... وذاك فَناءُ الجسم يجْلبه الوَجْدُ
على أنني جرَّبْتُه وبلَوْتُه ... إذا أنه كالصَّابِ ذِيفَ به الشُّهْدُ
وما قلتُ جهلاً بالغرام وإنما ... يُصدِّق قولي من له بالهوى عهدُ
وقوله من أخرى، أولها:
ما لاح بَرْقٌ برُبَي حاجِرِ ... إلَّا اسْتهلَّ الدمعُ من ناظرِي
ولا تذكَّرتُ عهودَ الحِمى ... وإلا وسار القلبُ عن سائرِي
أوَّاهُ كم أحمل جَوْرَ الهوى ... ما أشْبهَ الأولَ بالآخرِ
يا هل ترى يدْرِي نَؤُومُ الضحى ... بحالِ سَاهٍ في الدجى ساهرِ
تهُبُّ إن هبَّتْ يمانَّيةٌ ... أشْواقُه للرَّشأ النافرِ
يضربُ في الآفاقِ لا يأْتِلي ... في جَوْبِها كالمثلِ السائرِ
طوراً تِهامِيّاً وطوراً له ... شوقٌ إلى من حلَّ في الحائرِ
كأنَّ ممَّا رابَه قلبَه ... عُلِّق في قادِمَتَيْ طائرِ
أصل هذا المعنى لعروة بن حزام، قال:
كأنَّ قَطاةً عُلِّقتْ بجناحِها ... على كبدِي من شِدَّةِ الخفَقانِ
وقوله، من أخرى:
لك الخيرُ لا زيدٌ يدوم ولا عمرُو ... ولا ماءَ يبْقَى في الدِّنانِ ولا خمرُ
فبادِرْ إلى الَّلذَّاتِ غيرَ مُراقبٍ ... فمالك إن قَّصرتَ في نَيْلها عذرُ
فإن قيل في الشَّيبِ الوَقارُ لأهِله ... فذاك كلامٌ منه في مَسْمِعي وَقْرُ
وقالوا نَذِيرُ الشيبِ جاء كما ترى ... فقلتُ لهم هيهات أن تُغْنِىَ النُّذْرُ
لئِن كان رأسِي غيَّر الشيبُ لونَه ... فرِقَّة طبعي لا يغيِّرها الدهرُ
يقولون دَعْ عنك الغواني فإنما ... قُصاراك لَحْظُ العين والنَّظر الشَّزْرُ
وهل فيك للْغِيد الحسان بقيَّةٌ ... وقد ظهر المكنونُ وارتفع السِّتْرُ
وما للغواني وابنِ سبعين حِجَّةً ... وحِلمُ الهوى جهلٌ ومعروفُه نُكْرُ
فقلتُ دعوني والهوى ذلك الهوى ... وما العمرُ إلا العامُ واليومُ والشهرُ
نشأتُ أُحِبُّ الغِيدَ طفلا ويافِعا ... وكهلا ولو أَوفِى على المائة العُمْرُ
وهُنَّ وإن أعرضْنَ عني حَبائِبٌ ... لهُنَّ علىَّ الحكمُ والنَّهْىُ والأمرُ
أُحاشِيك بي منهنَّ مَن لو تعرَّضتْ ... لنَوْءِ الثُّريَّا لاسْتهلَّ لها القَطْرُ
ترقْرَق ماءُ الحسن في نارِ خدِّها ... فماءٌ ولا ماءٌ وجمرٌ ولا جمرُ
فيا بُعْد ما بين الحِسان وبينها ... لهُنَّ جميعاً شَطْرُه ولها الشطرُ
بَرَهْرَهَةٌ صِفْرُ الوِشاحِ إذا مشَتْ ... تجاذَب منها الرّدْفُ والعِطْف والخَصْرُ
من البِيض لم تْغِمس يداً في لَطِيمةٍ ... وقد ملأ الآفاقَ من طِيبها نَشْرُ(1/253)
تَخَرُّ لها زُهْر الكواكب سُجَّداً ... وتْعنُو لها الشمسُ المنيرةُ والبدرُ
تَخالُ بجَفنيها من النومِ لَوْثةً ... وتحسَبُها سكرَى وليس بها سُكرُ
وقالوا إلى هاروتَ يُنسَب سحرُها ... أبى اللهُ بل من لَحْظِها يُؤخَذ السحرُ
تخالَف حالي في الغراِم وحالُها ... لها مَحْضُ وُدِّي في الهوى وليَ الهجرُ
وقوله من أخرى، أولها:
أرَبْعَ الندى لا زال نجْمُك مشرِقَا ... وسَحَّ سحابُ العزِّ فيك وأغْدقَا
ولا برِحتْ فيك السُّعودُ سوانِحاً ... لتجمعَ من مكْنونها ما تفرَّقَا
سقاك رُضاب الغانيات إذا أبَتْ ... عيونُ الغوادِي فيك أن تَتَرقْرَقَا
لتْغدُو رُباك السامياتُ كأنما ... كستْها يدُ الأنْواءِ وَشْياً مُنَّمقا
إذا ما ذوَى نبْتُ الرِّياضِ فنَوْرُه ... نَضارتُه تبْقَى إذا الدهرُ أخْلَقَا
فكم قد نهَبْنا فيك أوقاتَ لَذَّةٍ ... رَقَمْنا بها في الدهر رَسْما مُحقَّقَا
يدير علينا اللهوُ في طَيِّ نَشْرِها ... كؤوسَ الصّبا لا البابِليَّ المُعتَّقَا
وقوله من أخرى، أولها:
أشمسُ الضحى لا بل مُحَيَّاك أجملُ ... وخُوط النَّقا لا بل قَوامُك أعْدل
سفَرْتِ لنا حيثُ النجومُ كأنها ... كواعبُ في سُود المطارِف ترفُلُ
وحيث الهزِيعُ الآبَنُوسِيُّ حالِكٌ ... كأن الدجى سِتْرٌ على الأرضِ مُسَبلُ
كأن غرابَ البَيْن قُصَّ جناحُه ... فليس له مَنْأَى ولا مُتحوَّلُ
كأن رياضاً من أقاحٍ ونَرْجِسٍ ... سقاهُنَّ من نهر المَجرَّةِ جدولُ
كأن الثريَّا إذا تَراءتْ لناظرِي ... وِشاحٌ على زَنْد الزَّمان مُفصَّلُ
كأن سُهَيْلاً والنجومُ تؤُمُّه ... نوافِرُ وُرْقٍ خِلْنَ قد لاح أجْدَلُ
كان السُّهَا ذو صَبْوةٍ غالَه النوى ... فأنْحلَه والبَيْن للصبِّ يُنْحِلُ
كأنَّا رأيْنا بالنَّعائمِ إذ بدَتْ ... نعائمَ تجْتابُ الفَلا وهْيَ هُمَّلُ
كأن السِّماكَيْن اسْتطارا لغارةٍ ... فهذا له رُمْحٌ وذلك أعْزَلُ
فلما بدا مَرْآك شابتْ فروعُه ... وقد كان مُسوَدَّ الغدائرِ ألْيَلُ
نزَحْت فلا غصنُ المَسرَّة يانِعٌ ... ولا الماءُ سَلْسال ولا الروضُ مُخضَلُ
كأنِّي غَداة البَيْن حاسِي سُلافةٍ ... إذا شُدَّ منه مَفْصِل هاضَ مَفصِلُ
تناولها صِرْفا ليحيَى فقرَّبتْ ... إليه الرَّدَى مما يُعلُّ وينْهَلُ
إذا رفعوه خَرَّ مُلْقًى كأنه ... نَقاً وكِلا أرجائه يتهيَّلُ
يُعاوده طوراً جنونٌ وتارةً ... لِما شربتْ من عقله الراحُ أخْيَلُ
وأنْكَى جوًى يْعتادني لَومُ لائمٍ ... وهل يَرْعوِى ذو جِنَّة ليس يعقلُ
أأسلُو وبي مالو يُلِمّ بيَذْبُلٍ ... لَدُكَّ لما لاقَى من الوجد يَذْبُلُ
يرمون قْتلى بالمَلام تعمُّداً ... وما أكثروا التأْنيبَ إلاَّ ليفعلُوا
لك الحكمُ يا دهري بما شئتَ فارْمِني ... أيجزعُ من حَرِّ الضِّرامِ السَّمَنْدَلُ
السمندل: طائر هندي.
قال بعضهم: هو ناريٌ يعيش في النار كما يعيش طائر الماء في الماء.
وقال آخرون: هو طائر إذا هرم دخل نار الأتون أو نارا جاحمة غيرها، فيمكث فيها ساعات فيعود شابا.
وإياه عنى البهراني بقوله:
وطائرٍ يسبح في جاحمٍ ... كماهرٍ يسبحُ في غَمْرِ
قال الجاحظ: وفي السمندل آية غريبة، وصنعة عجيبة، وداعية للتفكر، وسبب للتعجب، وذلك أنه يدخل في أتون النار فلا تحترق له ريشة.
لَعاً لِعثاري كيف لا أبلغ المنى ... وأُدرِك شأْواً نَيْلُه لا يُؤمَّلُ(1/254)
وقد شمِلتْني من أبي الجُود نظرةٌ ... فأشرق نجْمى بعدما كاد يأفُلُ
لَعاً: كلمة يدعى بها للعاثر، معناها الارتفاع.
قال ابن السيد: هي اسم فعل مبنى على السكون، والتنوين فيه علامة التنكير، كهو في صهٍ ومهٍ.
وقد بين القزاز الفعل الذي لعاً اسمه، فقال: يقال لعاك الله أي نعشك الله ورفعك، فلعا اسم لنعش، وتكتب بالألف، لأن لامها منقلبة عن واو.
وله من أخرى، أولها:
هل طالبٌ بدم القتيلِ ... بين المعاهد والطُّلولِ
سلَب الجمالُ فؤادَه ... ونأَى عن الصبرِ الجميلِ
عبثتْ به أيدي الهوَى ... فهوَى بوادِيه المَهولِ
قسَماً بأجْياد الظِّبا ... وتحيَّةِ الظبْيِ الكحيلِ
ما مِلتُ عن نَهْج الغرا ... مِ إلى مُلاحاةِ العَذُولِ
وَيْلاه كم أطْوِى الضلو ... عَ أسًى على الداء الدَّخِيلِ
ما آن أن تُقضَي لُبا ... ناتِي وأن يُشْفَى غليلِي
وبمُهجتِي ظَبْيٌ شما ... ئلُه أرقُّ من الشَّمُولِ
فَعْم المُخَلْخَل ساحرُ الَّل ... حظاتِ كالرشأ الخَدُولِ
الفعم: الملآن.
والمخلخل: موضع الخلخال من الساق، ومثله المسور موضع السوار من الذارع، والمقلد: موضع القلادة من العنق، والمقرَّط: موضع القرط من الأذن.
والخدول: الممتلئ الأعضاء الدقيق العظام.
يصْطاد أفئدةَ الورى ... بحبائلِ الشَّعْر الرَّسِيلِ
قمرٌ يجِلُّ عن المَحا ... قِ ضياؤُه وعن الأُفولِ
أرْتاعُ عمد نهوضِه ... جزَعاً على الخَصْرِ النحيلِ
أحسن منه قول: ديك الجن:
وتمايلتْ فضحكتُ من أرْدافِها ... عجَبا ولكنِّي بكيتُ لخَصْرِهَا
ومما يستجاد له قوله، من أبيات:
لمن طَلَلٌ عافِى الرُّبوع بذي الضَّالِ ... ذكرتُ به ما مَرَّ من عيشِيَ الخالِي
حبستُ به طَرْفي وأرسلتُ مُقلتِي ... وبُدِّلت إرْشادي لديه بإضْلالِي
أُسائله والدمعُ ينْهلُّ وَدْقُه ... غراماً فلم ينْجَع بكائي وتَسْآلِي
وله من قصيدة، مطلعها:
تلك الديارُ وهذه أعْلامُها ... فسَلِ المَدامع أن يجود سِجامُها
وأطلُب لها من طَرْفك السُّقْيا إذا ... أبَتِ الثُّريَّا أن يَصُوب غَمامُها
واُحْبِسْ بَعْقوتها المَطِىَّ مُسائلا ... في مَ اسْتباح دماءَنا آرامُها
فلعل سُعْدَى أن تُساعد باللقا ... وعسى سُلَيمى أن يزورَ سلامُها
للهِ مسرحُ لهوِها ومَراحُه ... ومِحُّلها حيث الهوى ومُقامُها
إذ كان بالبِيض الأوانِس جِيدُها ... حالٍ وظَلَّك أثْلُها وثُمامُها
ومَرادُ طَرْفك كلُّ من فضَح القَنا ... وجَلا الظلامَ جَبِينُها وقَوامُها
لو أنها عرَضتْ لِذمِّ كنيسةٍ ... سجدُوا وهانتْ عندهم أصْنامُها
أو خاطبَتْ مَيْتاً تقادَم عهدُه ... لأذاقَه طعمَ الحياة كلامُها
لَفَّاء هيفاءُ القَوام سِبَحْلَةٌ ... يُصْبِى الحليمَ جلوسُها وقيامُها
أثْرَتْ رَوادِفها وأمْلَق خَصرُها ... فتكاملتْ قَصْداً وتمَّ تمامُها
كيف التخلُّصُ من هوى فتَّاكةٍ ... يقْتاد آسادَ العَرِين غرامُها
رفع الجمالُ حِجابَها لكنها ... كالشمسِ أعْيَى الطالبين مَرامُها
يا قلبُ دَعْ ذكرَ الصبابِة للذي ... يحلُو بفِيه زُعافُها وسِمامُها
وله من أخرى، مستهلها:
ما صاح صاحِي الوُرْق في ألحانِه ... إلا وأذْكره بديعُ بيانِهِ
وإذا تنازَعه اللوائمُ في الهوى ... ذكر العَقِيقَ فسحَّ من أجْفانِهِ
كَلِفٌ إذا هبَّت به نَجْديَّةٌ ... يذْكو بها ماسَحَّ من أجفانِهِ(1/255)
مُغْرًى بذكْر العامريَّةِ مغرمٌ ... ظامٍ إلى عذبِ العُذَيْبِ وبانِهِ
يُخْفى جَوًى لوحلَّ يَذْبُلَ بعضُه ... دُكَّت هِضابُ الشمِّ من أركانِهِ
ويرُوم إغْضاء الجفونِ على القذَى ... فَرَقاً فيُعرب شأنُه عن شأنِهِ
يا لائمِي في حبِّ أهْيفَ لو بدا ... للبدرِ لم يَعْدُدْه من أقْرانِهِ
مُتمنِّع يرْنُو بناظرِ جُؤْذُرٍ ... وَيْلاىَ من وَسْنانِه وسِنانِهِ
أأُذاد عن مِضْمارِ حَلْبة حبِّه ... وأنا المُجلِّى وَيْك خيلَ رِهانِهِ
أتلومُ من أودَى بمُهْجته الهوى ... لا كان إن يَكُ هَمَّ في سُلْوانِهِ
حسْبي بما ألْقاه من ألمِ الجوى ... ما قد ترى والعمرُ في رَيْعانِهِ
لو أن بالفَلك المُحيط ذُبالةً ... من حُرْقتي ألْهتْه عن دَوَارنِهِ
أو حَلَّ وَجْدي بالكواكب لا نْبَرَى ... بَهْرامُها يشكو إلى كِيوانِهِ
أو غَال رَضْوَى بعضُ ما قد غالنِي ... لرأيَته كالعِهْنِ قبل أوانِهِ
أو كان يُسعِدني على قَدْرِ الهوى ... دمعي لَعَمَّ الأرضَ من طُوفانِهِ
ولقد سلكْتُ الحبَّ لا غِرّاً به ... وعرفتُ كُنْه خَفيِّه وعَيانِهِ
وعلمتُ إذ ذُقْت الغرامَ بأنني ... حاسٍ بكأْس جَميلِه وأبانِهِ
عبد اللطيف البهائي البعلي
فاضلٌ ملء أبراده، جم الفوائد في تحريره وإيراده.
أدبه غض، ومذهبه مبيض.
ولطف طبعه معتدل بين الإفراط والتفريط، وله نثر ونظم حَلَّيا الأجياد والآذان بالتنظيم والتقريط.
هو وإن كان بعليَّ الطينة، فهو دمشقيُّ المدينة.
وردها وعنفوانه زاه وشرخه، وفاقها وقد استمجد في البراعة عفاره ومرخه.
وبها كان تليين خشونته، وتسهيل صعوبته وحزونته.
إلا أنه نازل هماً ممضاً، وتسهيل أسفا للمضاجع مقضاً.
وكان مشارا إليه بالنباهة، مرموقاً أن يتنبَّه حظه بعض انتباهة.
ثم دخل الروم فأسرع البخت إلى إمداده، وتمنَّت سود الحدق لو كانت عوض مداده.
فبقى في ذلك الأفق وهو ملتاح، وكل قلب إلى تودده مرتاح.
ثم ترامى في وسع الفضا، فأصبح فيه كرةً لصولجان القضا.
وما زال حتى نال من حظه أتمه، واستوفى أجله المحتوم ثمة.
فطواه الدهر طي السجل، ومحا آثاره التي تسمو وتجل.
ولقد أوردت له من شعره ما يقضي بجودته المتخير، ويبهر حسنه الفكر فيغدو عليه كالواقف المتحير.
فمن ذلك قوله من فتحية للسلطان محمد، لما أرسل وزيره الفاضل ففتح إيوار، وزند الدولة إذا ذاك وار، وشخص تلاشيها متوار. ونافذ أمرها لمعصم الامتثال سوار.
فحلَّ في ناحيتها بجيشٍ ضاق بهم فضاؤها، وتضعضعت من رحبتهم أعضاؤها.
ودارت بينه وبين الكفار للحرب كؤوس، ترامت منهم بسببها نحو الهلك أنفسٌ ورءوس.
فحامت المنايا عليهم، وغدت ألسنة البيض تتلمَّظ عليهم.
فكأنهم هشيمٌ حصدته ظبا السيوف، وقضت ديون أنفسهم غرماء الحتوف.
ثم افتتح القلعة، وسهل تلك الصعوبة والمنعة.
وتواردت البشائر بأن الله وهب الظفر، وأحاق سوء العذاب بمن كفر.
فعمل البهائي قصيدته هذه وسيرها، وهي قصيدة معمورة ومطلعها:
بالفتح زاد الدِّينُ عزّاً واعْتِلاَ ... واللهُ أعْظَمَ مِنَّةً وتفضُّلاَ
بالنَّصر أنْجز وعدَه سبحانه ... أعزَّ جندَ المسلمين أُولى الوَلاَ
هبَّوا كما هبَّ النسيمُ إذا سرى ... يغْتصُّ عُرْضُ الأرض منهم والفَلاَ
في جَحْفلٍ ستروا البسيطةَ كثرةً ... لم تُلْفِ مثلَهم النواظرُ جَحْفلاَ
أرْبَوْا على التَّعداد حصراً واعتلَوْا ... من حيث لا أدرِي أواخرَهم ولاَ
فكأنَّ وجهَ الأرض حَلْقةُ خاتمٍ ... بهمُ وماءَ البحر قَطْرٌ أُسِبلاَ
ثبتُوا ثَباتَ الرَّاسياتِ تصبُّراً ... من يَلْتقيهمْ يَلْقَ منهم أجْبُلاَ
شاكي السِّلاحِ بكلِّ أبيضَ مِخْذَمٍ ... ما شِيَم إلا قد أصاب المقْتلاَ(1/256)
حتى إذا حَمِىَ الوَطِيس لدى الوغى ... لم تْلقَ إلا باسلاً مُستبْسِلاَ
أنِفتْ سيوفُهمُ الغُمودَ فلا ترى ... إلا صَقِيلاً في نَجِيعٍ أنْهلاَ
سالتْ به البَطْحاءُ حتى لا ترى ... طِرْفاً بغير دمِ الرَِّقاب مُحجَّلاَ
من كلِّ عِلْجٍ ذاهلٍ عن نفسِه ... إذ لا يرى مَنْأًى ولا مُتحوَّلاَ
مُلِىءَ اللعينُ مخافةً لمَّا رأَى ... في الحربِ شدَّتَهم وزاد تَزَلْزُلاَ
فغدا يُنادِى حسرةً وتأسُّفاً ... يا ويْلتاه العمرُ ضاع سَبَهْلَلاَ
من بعد ما قد شَبَّ نِيرانَ الوغَى ... بغُرورِه تَعْساً له ما أشْعلاَ
عدَّ الهزيمةَ والفِرارَ غنيمةً ... أنِفَ الإقامة خوف أن يُستأصَلاَ
أوَ ما يحقُّ له الفرارُ وقد رأى ... مالا يُطيقِ من الغُزاةِ تحمُّلاَ
جلَب الغُزاةُ بخيْلهم وبرَجْلهمْ ... جَلْباً عليهم ما أشدَّ وأقْتلاَ
فعُلوجُهم جَزْرُ الظُّبا ونساؤُهم ... أسْرَى تِئُّن تذلُّلا وتهوُّلاَ
تبكي عليهنَّ البَطارِقُ حسرةً ... كالوُرْقِ في جُنْح الدجى وتمَلْمُلاَ
وبقيَّةُ الأسياف منهم شذِّبوا ... أيْدي سَبَا تخِذُوا الهزيمة مَعْقِلاَ
ما ضَرَّهم لو سالُموا من قبلُ أو ... أدَّوْا كما شُرِع الخَراجُ تبَذُّلاَ
ما كان قيصرُ أو هِرَقْل وتُبَّعٌ ... أو سيفُ ذِي يَزَنٍ وكسرى أوَّلاَ
وهلُمَّ جَرًّا مثل أدْنى خادمٍ ... لخليفِة الله المعظَّم ذي العُلَى
ملكُ الورى أسَدُ الشَّرَى سامي الذُّرَى ... حامِي حِمَى الدينِ القويم المَوْئِلاَ
شمسُ المعالي ابن بَجْدَتها الذي ... قد حلَّ في أوْج السعادة واعْتلَى
ملكٌ علا في المجد أعْلَى رُتبةٍ ... أنِفتْ تكون له الثُّريَّا منزِلاَ
تعْنُوا ملوكُ الأرِض قاطبةً له ... أبداً وتسعَى خِيفةً وتذَلُّلاَ
تخْشى سطاهُ الأُسدُ في آجامِها ... فتذوبُ منه تضاؤُلاً وتغَلْغُلاً
قسَما بطَلْعته ألِيَّةَ صَادقٍ ... في حَلْفه بَرِّ اليمينِ إذا ائْتلَى
لم تسمحِ الأيامُ قطُّ بمثلِه ... ملِك تعمَّم بالتقى وتسَرْبَلاَ
لم يُحْصِ مادحُه جميلَ صفاتِه ... كلاَّ ولو أفْنَى القريضَ تسلسُلَا
لم يأْلُ جهداً في الجهاد ولم يزلْ ... يسعَى بإرسالِ الجيوش مُكمَّلَا
في نُصْرة الدين المُبين مجاهداً ... بَرّاً وبحراً للعساكر مُرسِلَا
عن حَوْمِة الإسلام ذَبَّ عِداتِه ... وأباد عُبّادَ الصليبِ وزَيَّلاَ
ما زال يْضرَع في الدعاءِ لربِّه ... سِرّاً وجَهْراً مُجْمِلاً ومفصِّلَا
مُتوجِّها بخُلوص قلبٍ صادقٍ ... فيما انْتحاه تضرُّعاً وتبُّتلَا
فأتْته بُشْرى التح وهو مُلفَّعٌ ... ثوبَ السعادة بالجلال مُسَرْبَلَا
مُسْتيقِناً بحُصوله ومؤمِّلا ... من ربِّه إتْمامَه متوكِّلَا
لا زال تأْتيه البشائرُ دائما ... أبداً وتخدمه المفاخرُ والعُلَى
وأدامه عَوْنا وغَوْثاً للورى ... وحَباه ربُّ العرشِ عمراً أطْولَا
بسَمِيِّه خيرِ الأنام محمدٍ ... والآلِ والصحبِ الكرام ذوِي الولَا
مالاح نجمٌ في السماء لناظرٍ ... وأضاء بدرٌ في الدجى وتهلَّلَا
وله في المدح:
إليك دون الورَى انْتَهى الكرمُ ... ومن أيادِيك تهْطِل النِّعَمُ(1/257)
لن يبُلغ المدحُ فيك غايَته ... بل دون مَعْناك تنفَدُ الكلِمُ
أنت الذي تُرتجَى مكارمُه ... وكم أناسٍ وجودُهم عَدَمُ
أنت الذي الدهرُ دون هِمَّتِه ... وفوق هامِ السَّما له قدمُ
مَن ذا يُضاهِيك هِمَّةً وعُلا ... وهل تَساوَى الأنوارُ والظُّلَمُ
طَوْدُ وَقار بالحِلْم مُشتِملٌ ... بحرُ نَوالٍ بالجود مُلتطِمُ
يُخجِل صَوْبَ الغمام نائلُه ... بل دون هَتَّان كفِّه الدِّيَمُ
أعْتابُه مَأمَنٌ لداخلِها ... من كلِّ هَوْلٍ كأنها حَرَمُ
وله أيضاً:
بأيِّ لسانٍ يحصُر العبدُ شكرَ من ... دَمِى من أيادِيه ولحمِى وأعْظُمِى
ومَن عشتُ دهَراً تحت أكْنافِ ظِلِّه ... أروح بأفْضالٍ وأغْدُو بأنْعُمِ
وفُزْت بعلمٍ منه عَزَّ اكْتسابُه ... وذاك لَعَمْرِي حسرةُ المتعلِّمِ
ينزِّهنِي في ظاهرِي وسَرائرِي ... بإرْشادِه عن كل رَيْبٍ ومأْثَمِ
ويمنْحني مَحْضَ النصيحِة جاهداً ... يُعلِّمني طُرْقَ العُلى والتَّكرُّمِ
ولولاه مَن عبدُ اللطيف ومَن له ... ومن يخدِم الأمْجادَ يشْرُفْ ويكرُمِ
وحسبِيَ من شكرِي اعْترافي بفضِله ... وتصديقُ قلبي والجوارِح والفمِ
وله أيضاً:
مَعاذَ الوَفا أن يُصبح العبدُ خاليَا ... عن الشكرِ للمولى الذي قد وفَا لِيَا
وأنْعمَ حتَّى لم يدعْ ليَ مَطلبَا ... وأنْكَى بما أسْدَى إلىَّ الأعاديَا
وكلُّ الذي أمَّلْتُه من نَوالِه ... حَظِيتُ به بل فوق ما كنتُ راجِيَا
وفرَّغ عن قلبي سوى حُبِّه الذي ... تمكَّن في قلبي وأنْعَم بالِيَا
فغايةُ سُؤْلِي في الزمان رِضاؤُه ... فأقْصى المُنى أن كان عنِّي رَاضيَا
ولي نفسُ حُرٍّ قد أبتْ غيرَ حُبِّه ... وحاشا لمْثلى أن يُرَى عنه سالِيَا
وقلبٌ إذا ما البرقُ أوْمَض مَوْهِنا ... قدحْتُ به زَنداً من الشوق وارِيَا
تحكَّم فيه حبُّه واشْتياقُه ... له الحكمُ فْليَقْصِ الذي كان قاضيَا
فلله عيشٌ مَرَّ لي بظِلالِه ... أجُرُّ به ذيلَ المآربِ ضافِيَا
أرُوح بأفْضالٍ وأغْدُو بأنْعُمٍ ... ويمْنحني وِرْدَ المحبَّة صافيَا
وفُزتُ بعلمٍ منه عزَّ اكْتسابُه ... وأصبحتُ من حَلْىِ الفضائل حالِيَا
إذا ما دجَى بحثٌ وأظلم مُشكلٌ ... أضاء بنور الفكر منه الدياجِيَا
يجول على نُجْبِ الذَّكاءِ بفكْرةٍ ... أَبَتْ في الذي تُبدِيه إلاَّ التَّناهِيَا
يُغادر قدماً ذا الذكاء دقيقُها ... ولا عجبٌ فالشمسُ تخفِى الدَّرارِيَا
يفُوق على البحر الَخِضمِّ بعلمِه ... ويرْجَح في الحِلم الجبالَ الرَّواسِيَا
يُسابق أجْنادَ الرياحِ إلى الندَى ... ويفضحُ جَدْوَى راحتْيه الغوادِيَا
نظمتُ له عِقْدَ المديح مُنضَّداً ... جعلتُ مكان الدُّرِّ فيه القوافيَا
فلا زال مَلْحوظاً بعينِ عِنايةٍ ... من الله في أَوْج المفاخر راقيَا
مدى الدهر مالاحت بُروق لناظر ... ودام على كرِّ الجديدين باقيا
حسن بن درويش الكاتب الطرابلسي
شاعر مادح، طير فصاحته صادح، وزند براعته قادح.
ومنشٍ كاتب يجلو دمىً كواعب، بألباب الرجال لواعب.
خطه حسن كاسمه، وله القيام على رسم الأدب ووسمه.
فكأن مداده مركب من أجزاء القلوب، ففي كل قلبٍ من خطه شهوة تدعو إلى المطلوب.
وكان خرج من بلده حماة وهو كهل، ورحل بطرابلس بين كنف رحب، ومسرحٍ سهل.
فاسترجع بها شبابه، واستمطر وبله وربابه.
فزهت به أرجاؤها وباهت، وفخرت بها سكانها وتاهت.(1/258)
فعكف في نديها الخضر، يتقلب في العيش النضر.
ويأتي من النظم بما هو أعطر من السحيق، ومن النثر بما هو أبهر من در الحباب على خد الرحيق.
وقد أثبت له من شعره قصيدتين لكل منهما من الحسن علامة، فإحداهما كافية كافية والأخرى لامية عليها من النضار لامة.
فالأولى قوله، وقد مدح بها الامير منجك
مالِكتي تملَّكِي ... النفسُ لم تَملَّكِ
وهْيَ لك أطوعُ من ... رَعيَّةٍ للملِكِ
إن تأمرِي تُطِعْ وإن ... تدْعِي بهب تُلبِّكِ
لِم تسْترين طَلْعةً ... فيها حَلاَ تهتكُّيِ
مَهْلَكِ بي يا مَطْلبِي ... دونَك ألفُ مَهْلَكِ
فإن بعدْتِ تحْرِقِي ... وإن دنَوْتِ تفْتكيِ
وإن صبرتُ لم أُطِقْ ... وإن خضعتُ تزمُكيِ
وإن طرقتُ خِفْيةً ... أهلَكُ بين أهلِكِ
أين لِطيْر مهجتِي الْ ... خَلاصُ من ذا الشَّرَكِ
عيشُ الخَلِيِّ قد صفاَ ... يا قلبُ فاسْلُ واتْرُكِ
واقصِد بنا سبيلَ من ... راح خلِيّاً واسْلُكِ
ما مَن يبِيتُ شاكراً ... كمن يبيتُ يشْتكيِ
فاخْلَعْ على العشاقِ ثوْ ... بَ جسمِك المنْهتِكِ
وانتهزِ الفرصةَ قب ... ل فَوْتِها واستدْرِكِ
هذا الربيعُ مقبِلٌ ... يصحبُ آلَ بَرْمَكِ
يكسُو لأعطافِ الرُّبَى ... غلائلاً لم تُحَكِ
وحلَّ في نُحورِها ... عقودَ دُرِّ الحُبُكِ
حتى أنما بها ... مجلسُنا في الفَلَكِ
والنَّرْجِس اصطضفَّ وما ... أحسنَ صَفَّ الملِكِ
زَبَرْجَدٌ في فضةٍ ... في ذهبٍ لم يُسبَكِ
يرنُو بلَحْظِ عاشقٍ ... بمَدْمعِ الطَّلِّ بُكِي
والوردُ في سَكْرتِه ... على الغُصونِ مُتَّكيِ
تُمسك أذيالُ الصَّبا ... بكفِّه المُمَسَّكِ
كوَجْنةٍ العَذْراء إن ... قلت لها هَيْتُ لَكِ
والنّهر في يد النَّسِي ... م كالقبا المُفرَّكِ
من قول القيسراني في وصف غدير:
وإذا الصَّبا هبّتْ عليْ ... هِ أتاك في ثَوْبٍ مُفَرَّكْ
وللغصُون حولَه ... دلائلُ المُنْهمِكِ
ألقتْ شِباكَ الطَّلِّ فاصْ ... طادتْ خيالَ السَّمَكِ
والأقْحُوان ضاحِكٌ ... بمَبْسمٍ لم يضحكِ
والياسَمِينُ عَرْفه ال ... غَضُّ له عَرْفٌ زَكيِ
والطيرُ في مُغرِّدٍ ... ووَالِهٍ مُرتبِكِ
في روضةٍ كأنها ... وصف الأميرِ مَنْجَكِ
مَن حار في أوصافِه ... كلُّ لبيبٍ وذكيِ
بحرٌ وفيه بالثَّنا ... ألسُنُنا كالفُلكِ
ترى العيونُ عنده الْ ... بحارَ مثلَ البِرَكِ
له أكفٌّ مُسِّكتْ ... سُنَّة غيرِ مُمْسِكِ
تفْتك في أموالهِ ... فَتْكَ المَهَا في نسُكِ
وفكرُه أهْدَى لنا ... وَشْيَ بلادِ اليَزْبكِ
من كلِّ بيت يحْتوِي ... ابْنَةَ كسرؤى الملِكِ
مَشَتْ به لاهيةً ... عن عِقْدِها المُفكَّكِ
فالدُّرُّ مِلْءُ مسمَعِي ... منه ومِلءُ الحَنَكِ
ملكتَ رقِّي سيدي ... أفْدِيك من مُمَلَّكِ
أدركتَ كلَّ فائتٍ ... وفُتَّ كلَّ مُدْرَكِ
لك المعالِي وعلى الْ ... الفضلِ ضمانُ الدَّرَكِ
هذا من قول ابن النبيه:
واللهِ لا زلتُمْ ملوكَ الورى ... شرقاً وغرباً وعليَّ الضمانْ
وللهرمزي:(1/259)
ِبنحْسِ أعادِيك دار الفلَكْ ... وما دار يوماً بسعْدٍ فلَكْ
وإن هَمَّ دهرٌ بما لا أقول ... فنفْسِي الفِدا وعليَّ الدَّرَك
وهذه القصيدة الثانية، وهي في مدح الأمير أيضاً:
غُصنٌ أيْنعتْ قطُوفُ دَلالِهْ ... يجْتَنى الحبُّ من رياض جمالِهْ
ورَشاً في مَرابضِ الأسْد تحمِي ... هِ وتُدْعَى بعمِّه وبخالِهْ
فاتِكٌ يحْذَر الفؤادُ تمنِّي ... هِ ويخْشَى الضميرُ فكرَ وِصالِهْ
أوْقف السُّهدَ في طريق رقادِي ... غَيْرةً أن يزورني بخَيالِهْ
وترُدُّ العيونَ عنه عيونٌ ... قتلتْ مَن رآه قبل قتالِهْ
أعْجز الشمسَ وهي تنصُب في الأرْ ... ض حبَالاً وقوعُ صَيْدِ ظلالِهْ
بل على وَصْلِه يُحيل بوعْدٍ ... وأراه مُخادعاً بمِحالِهْ
كم كَسانِي بالوعدِ ثوبَ حياةٍ ... وغدا بالِياً بطُول مِطالِهْ
واحدُ الحسنِ من قبلُ لكن ... قد ترقَّى مُذ شِمْتُ نقطةَ خالِهْ
يريد أنه بالترقي صار عشرة جريا على أن الحسنة بعشر أمثالها.
وأفصح السيد محمد العرضي عنها، في قوله:
ألِفَ القَدِّ زانَها نُقطةُ الْخا ... لِ فصارتْ وواحدُ الحسنِ عَشْرَهْ
وفي شفاء الغليل للشهاب: حسنة بمعنى الشامة والخال، مولدة مشهورة.
قال:
بِخَدِّه شِمْتُ شامةً حُرِقتْ ... فقلتُ للقلبِ إذْ شكا شجَنَهْ
لا تشْتَكِي مِن نارِ مُهْجتي حُرَقاً ... فإنَّ في الخالِ أُسْوةٌ حسنَهْ
لِيَ هُزْءٌ إذا تنفَّس بالمِسْ ... كِ وهُزْءٌ إذا رناَ بغَزالِهْ
وأرى البدرَ عنده لا يُساوِي ... دِرهماً والهلالَ إحدَى نِعالِهْ
هاك من ظُفْرِه هلالاًوإن شِئْ ... تَ نجوماً هات من خَلْخالِهْ
واستلمْ من يمينِه الكأسَ شمساً ... مثلهعا من إنائِها في شمالِهْ
وتأمَّلْ إذا تبسَّم دُرَّاً ... وحَباباً طفَى على جِرْيالِهْ
ملِكٌ كلُّ مُهْجة من رَعايا ... هـ وكلُّ الغرامِ من عمَّالِهْ
أنا والناسُ من هواه ومن صُدْ ... غَيْه في سِجْنِه وفي أغْلالِهْ
يسترِقُّ القلوب بالحُسن لكن ... مَنْجَكٌ يسترِقها بكمالِهْ
هو بحرٌ تموَّج الفضلُ فيه ... وبدا الدُّرُّ من فصيح مَقالِهْ
وهْو غَيْثٌ مَن اسْتغاث يديْهِ ... أمْطرتْ بالغِنَى رُبَا آمالِهْ
وهْو للمجد دَوْحةٌ حيث أعْنا ... قُ رَجانا مُطوَّقاتُ نَوالِهْ
كلُّ أيامنا ربيعٌ بلُقْيا ... هُ ومن لُطْفه نسيمُ اعْتدالِهْ
كلُّ روضٍ فمُخصِبٌ بسجايا ... هُ وغصنٍ فمثمِرٌ بِخصالِهْ
لبِس الفخرَ فالمكارمُ في أطْ ... واقِه والعَفافُ في أذْيالِهْ
كلُّ وقتٍ بجُوده في يديه ... غارةٌ شَنَّها على أمْوالِهْ
لم يدعْ درهماً ولا ديناراً ... غيرَ شاكٍ نقُوشه عرض حالِهْ
فترى الدهرَ مُسْتجيشاً عليه ... وترى الدهرَ لا يمرُّ ببالِهْ
شغلته هِباتُه والمعالِي ... ما رِضاءُ الزمان من أشْغالِهْ
شِيَمٌ لم تكنْ لغيرِ أبيهِ ... وأخيه وأقْرباهُ وآلِهْ
أشرقتْ شمسُه وغابُوا نجوماً ... ونجومُ الباقين حول هلالِهْ
منه أبْقَى الزمان واسِطَة العِقْ ... دِ الذي بَدَّدتْه أيدي اغْتيالِهْ
هو دُرٌّ فمَن رآه يتيماً ... عرف الدهرَ ما جنَى بفِعالِهْ
يا مُعِيداً زمان آبائه الما ... ضِي بإقْبالِه إلى اسْتقبالِهْ
أنت للجودِ والفضائلِ ظلٌّ ... لا أرانا الإلهُ وقتَ زوالِهْ
وله في التضمين:(1/260)
قالت لنا قهوةُ العنقودِ حين رأتْ ... لقهوة البُنِّ قدراً في الأنام عَلِي
لئِن علانيَ مَن دوني فلا عجبٌ ... لي أُسْوةٌ بانْحطاطِ الشمسِ عن زُحَلِ
وقد سبقه ماماي الرومي، إلى هذا التضمين في قوله:
قد قالت القهوةُ الحمراءُ وافتخرتْ ... كم قد ملكتُ ملوكَ الأعصُرِ الأٌوَلِ
وقهوة القِدْرِ إن قَدْرَاً عليَّ علَتْ ... لي أُسْوةٌ بانْحطاطِ الشمسِ عن زُحَلِ
عبد الجليل بن محمد الطرابلسي
لقيته بمكة مجاور عزلةٍ وسكون، ومعاهد تبتلٍ إلى الله وركون.
وفيه سجايا لطاف، وانجذاب نحو القلوب وانعطاف.
وبيني وبينه مصافاة، أكدتها بالقاهرة مراعاة وموافاة.
وقد أنشدني أبياتاً من نتائج فكره، لم أر لاستحساني لها بداً من ذكره.
وهي:
متى خَفَقانُ قلبٍ يسْتكِنُّ ... وقلبُ حبِيبيَ القاسِي يحِنُّ
ويُنعم باللّقا كالبدرِ ليلاً ... ويبْسَم عن رِضاً لي منه سِنُّ
أقول له ألا يا أيُّها الْ ... غزالُ الأغْيَدُ الرَّشأُ الأغَنُّ
لقد أبلَيْتَ بالإعراضِ صَبّاً ... إذا لم تُولِه وُدّاً يُجَنُّ
إذا عرف الحبيبُ له وِدادِي ... فلذلك له إحْسانٌ ومَنُّ
رجب بن حجازي المعروف بالحريري الحمصي
هذا رجب، الذي فيه العجب، شاعر ذيق، إلا أن خلقه ضيق.
وعلى قدر ما توسع سعيا، حرم مبرةً ورعيا.
لبذاءة في لسانه، ووحشة ذهبت برونق إنسانه.
يتلذذ بالعيش الضنك، تلذذ الأجرب بالحك.
ولا يرى إلا على جناح طائر، فليس يقر له قرار إلا وله عزيمة سائر.
كأنه الخبر الشرود، أو الوحش المطرود.
وهو باقعة محاجاة، وبائقة مهاجاة.
يتلفت إلى الهجا، تلفت القلوب إلى الرجا.
وله في المجون فنون، عد فيها من أهل الأهواء والفتون.
وأما غيرها من الأشعار والأزجال، فهو فيها كثير التردي قليل المجال.
وقد أثبت له مالاً أراه مخلاً، بل تبوأ للإحسان منزلاً ومحلاً.
فمنه قوله، من قصيدة طويلة مستهلها:
أبَى القلبُ إلا غراماً ووجداً ... وطَرْفيَ إلا بُكاءً وسُهْدَا
فلم يبرحِ الصبَّ تبْريحُه ... ولا الدمعُ راق ولم يُطْفِ وَقْدَا
فلولا النَّوَى ما ألِفْتُ البكا ... ولا كان بالسُّقم جسمي تردَّى
ولا أُبْتُ أرعَى نجومَ الدجى ... ولا كان عني مَنامِي تَعدَّى
فأوَّاه صبري مضَى لم يعدْ ... وأما اشْتياقي فلم يُحْصَ عَدَّا
ومالي مُعِين سوى أدمعي ... وقلبٍ لصَدِّ الهوى ما تصدَّى
فلو بالكواكب ما بي هوَتْ ... وإلا على يَذْبُلٍ كان هَدَّا
تُذكِّرني ساجعاتُ الرياض ... حبيباً ورَبِعا رَبِيعاً ووُدَّا
وما كنتُ أنْسى ولكن تزيد ... وُلوعِيَ قُرْباً وصبريَ بُعْدَا
رعى الله رَبْعاً نعِمْنا به ... وعهداً ألِفْناه حيَّاه عهدَا
فما راقني غيرُه منزِلاً ... ولا طاب عيشا ولا راق وِرْدَا
فلله أيامُ ظَبْيِ اللِّوَى ... فما كان أحْلَى جَناها وأجْدَى
فيا مُنشدِي دِرْ مُدامَ الهوى ... ودَعْ ذكرَ هندٍ ودع ذكر سُعدَى
ومالي وما لِلْغواني فكم ... تناسيتُ منهنَّ صَدْراً ونَهْداً
وكرِّر حديثَك عن أغْيَدٍ ... هو الظبيُ والغصنُ لَحْظاً وقَدَّا
وكالبدر في سنه والسنا ... له ناظرٌ مرهف جاز حدَّا
فما رقَّ لي كالصَّفا قلبُه ... وقد لان عِطْفاً رقيقاً وخَدَّا
إذا قام يُقعده رِدْفُه ... فلولاه ما قلتُ حُيِّيتُ نَجْدَا
غزالٌ رَبَى في رُبَا جِلَّقٍ ... إذا مارناَ لَحْظُه صاد أُْسَدا
سقى اللهُ وادي دمشق الحَيَا ... ولا زال دَهْراً أَقاحاً ووَرْدَا
ترى نهرَاً ساكناً صارماً ... وإن هبَّ ريحٌ فقد هبَّ سردَا(1/261)
فلله مُزْجِي المطايا إذا ... قطعت الفيافي وَجِيفاً ووَخْدَا
إذا جئت جِلِّقَ وادي المُنى ... بها فاز من حَلَّ ضيْفاً ووَفْدَا
فسلِّم بُعَيد اسْتلام اليمينِ ... على من تسامَى مَقاماً وجْدَا
وقوله من أخرى، أولها:
هل عند ذاك الحبيبِ ما عندي ... من الهوى والحنين والوُدِّ
وهل على العهدِ من وثِقتُ به ... كما عهِدْنا بذلك العهدِ
وهل درَى ما أصاب مُغرَمَه ... وما لقِي من وقائعِ البُعْدِ
عدِمتُ صبْري والشوقُ لازمني ... لزومَ خالِ المليحِ في الخَدِّ
وروضةٍ قد حرستُها زمناً ... يا هل ترى كيف غصنُها بعدِي
ونَضْرةُ الورد بعدنا بقيتْ ... أم لا بقاءَ لدولةِ الوردِ
بِتْنا ولا ثالثٌ يراقبنا ... غيرَ ابنةِ الشُّهْد وابنةَ الرَّنْدِ
كصَعْدةٍ للظلام طاعنةٍ ... سِنانُها كوكبٌ لنا يَهْدِي
ومِن نعيمي بحُسن طلعتِه ... ظننتُ أني بجنَّةِ الخُلْدِ
ثمِلتُ من دُرِّ لفْظِه وحَلاَ ... لمَسْمعي كالسُّلاف والشُّهْدِ
إن قلْتُ مولايَ قال مبتسِماً ... لبَّيْك ماذا تُريد يا عَبْدِي
أشكو سهامَ الجفونِ لي قصَدتْ ... وكدتُ أقْضي بقولِ ذا قَصْدِي
كأن بالسحرِ خمرةً مُزِجتْ ... سُقِيتُ منها فغبتُ عن رُشْدِي
ما كان إلا كبارقٍ ومضَى ... صَفْوِي وجاء النهارُ بالضِّدِّ
فراع قلبي الصباحُ صارمُه ... ياليْته كان دام في الغِمْدِ
والدهرُ إن راق للأديب فعَن ... سَهْوٍ وجَلْبُ الهموم عن عَمْدِ
وقوله من أخرى، مطلعها:
لَعمرُك شرحُ أشواقي يطولُ ... وأشْجاني وأفكارِي تجُولُ
وعن صبرِي الجميلِ سألتُ قلبي ... فقال وأين يا هذا الجميلُ
وها أنا بعده مالي مُقامٌ ... وليس إلى تَلاقينا سبيلُ
وبي ظمَأٌ إلى وِرْدِ التَّلاقي ... ومن جَفْني دَماً دَمْعي يسيلُ
سُقِي زمنُ التَّداني حيث كُنَّا ... ولا كان الرَّقيبُ ولا العَذُولُ
وغصنُ الْبان أجْنِي منه ورداً ... بأحْداقِي وفي عقلي يمِيلُ
ويُسكرني بدُرٍّ من عقِيقٍ ... فتخجل من شَمائلهِ الشَّمُولُ
رقيقٌ لأن عِطْفا رَقَّ خَصْراً ... وجار عليَّ ناظرهُ الكحِيلُ
يذكِّرني البُروق له ابْتسامٌ ... ويُشْجِيني من الوُرْقِ الهَديلُ
وشِمْت البرقَ في الظلماء سيفاً ... على ضعف الكرى ماضٍ يصولُ
تُرى الأيام تنظِمنا بمصرٍ ... ويَحْظَى في بُثَينته جميلُ
تُرَى ما حالُ ذاك البدر بعدي ... أزاهٍ أم كما عنه يقولوا
وليلٍ زارني منه خيالٌ ... سُرِرت به وقد رَقَّ المَلولُ
فأرْشفني مُداما من أقاحٍ ... وجاد بوردِه الخدُّ الأسِيلُ
وقد أنكرتُ فيه بنتَ آسٍ ... فقلتُ الآسُ يَهْواه العليلُ
وعهدي فيه كالمرآة صافٍ ... صَقيلٍ كم به فُتِنتْ عقولُ
وكالروضِ النَّضير فقال هذا ... سِياجٌ قلتُ كيف لنا دخولُ
فقال الوردُ ليس له بقاءٌ ... وعهد الآسِ باقٍ لا يحُولُ
فقلت الآس بغيةُ أهل مصرٍ ... وراغِبُه بجِلِّقنا قليلُ
رفُقتُ فلم أجدْ للوصلِ أصْلاً ... وبان الروضُ والظلُّ الظليلُ
وكان له بمصر رفيق خليع، خطف لصٌ عمامته وشج رأسه، فكتب إليه يسليه:
إمامَ الفضل مَن حاز الكرامَهْ ... لرُزْئِك قال طَرْفي للكرَى مَهْ
أقام وقوعُك الأحزانَ عندي ... وقد شاهدتُ أهوالَ القيامَهْ(1/262)
فكيف وأنت لي خلٌّ أنيسٌ ... ومن دون الورى أهْوَى كلامَهْ
ليالينا بكُم سبقتْ تُحاكِي ... ليالٍ قد تقضَّت في تِهامَهْ
تُدير النظمَ ممزوجاً بنثْرٍ ... فتُسكرنا ولا صِرْف المُدامَهْ
يمينُ اللِّصِ لا كانتْ وشَلَّتْ ... وعن قُربٍ يُرَى من غير هامَهْ
على خطْف العمامة قد تعدَّى ... ولكن سوف تُدركه النَّدامَهْ
ويأكل لحمَه عَضّاً ويبْكي ... إذا ما الصبحُ قد أبدى ابْتسامَهْ
على شيءٍ إذا مارام بَيْعاً ... فأعْلَى قيمةً منه القُلامَهْ
ويقرَعُ سِنَّه أسَفاً وغَبْناً ... وليس يُفيده قطعُ السُّلامَهْ
ويُدْمِي رأسَه قهراً قِصاصاً ... كما أدْماك لَطْماً في الدِّعامَهْ
كرَامٍ رامَ أن يَرْمِي ظَلِيماً ... فطاش السهمُ لم يبلُغْ مَرامَهْ
وكان غلامُه بالقُرْب منه ... فأرْماه ولم يُصب النَّعامَهْ
فلا تأْسفْ على نسجٍ ضعيفٍ ... كبيْت العنكبوت بلا إقامَهْ
وحقِّك ليس تنفعُه بشيءٍ ... كما في الصيفِ لم تُجْدِ الغَمامَهْ
لقد طالت بحال النَّسْرِ عُمْراً ... وقد شهدتْ هَوازِنَ واليمامَهْ
مُخَضْرَمةٌ فلو نطقتْ لقالتْ ... شهدتُ مُهَلْهِلاً وأبا قُدامَهْ
كذا الرَّفَّا السَّرِيُّ صحبتُ دهراً ... قدِمتُ عيله بعد أبي دُلاَمَهْ
وكان مع الحريريِّ اتحادِي ... ولو لم يَقْضِ ألَّف بي مَقامَهْ
فصل في وصف عمامة
عمامة ولعت بها أيدي الزمان، ورفعت عنها من التمزيق الأمان.
كفؤاد عروة في الرقة، لو أحصيت نفقة رفوها زادت على مال الرقة.
ولطول تردادها إلى الرفا لو أفلتت لعرفت مكانه، وما جهلت دكانه، ولأمكنت من قطع المسافة إمكانه.
فكأن الأيامَ إذْ أُلْبِستْها ... نُسِجتْ فوق شَخْصِها العنكبوتُ
وللحريري معمىً في اسم أحمد:
أفْدِي المليحَ الذي أوصافُه كمُلتْ ... كالظَّبْيِ لمَّا رنا والبدرِ حين بدَا
في القلب أنزلْتُه لي راق مَبْسمُه ... والغُصن لما تَثَنَّى قدُّه سجَدَا
وله في اسم يوسف:
ومَليحِ عزيزِ حُسْنٍ بمصرٍ ... قَدَّ قلبي وزاد حزني وأكْمَدْ
خَدُّه الشمسُ لاح والصدغُ بالخا ... لِ حَماهُ حُسامُ جَفْنٍ مُجرَّدْ
وله في اسم رمضان:
وبدرِ كمالٍ لاح في حُلَلِ البَهَا ... تبسَّم عن دُرٍّ نَظِيمٍ وعن شُهْدِ
كخاتِم دُرٍّ ثَغْرُه وبلحْظِه ... حمَى حُسنَه والخالُ في صفحة الخدِّ
وله في اسم عثمان:
قد قلتُ يوماً للرَّشا ... سِرْ بي إلى روضِ الأزاهِرْ
فأجاب إن كان الرقي ... بُ هناك طِيبُ العيش نادِرْ
وله في اسم مصطفى:
يا عاذِلي في أغَرِّ الوجه دعْ عَذَلِي ... لأجْلِه قد ألفتُ الوَجْدَ والحُرَقَا
كم دُرتُ مِحْرابَه ظامي الفؤادِ كذا ... دُرْ أنت يا عاذِلي واعْذُر فَتىً عشِقَا
وله في حيدر:
سقَى ليلةً زار الحبيبُ وعندما ... أقام وعن قلبي المَشُوقِ نَفى هَمَّهْ
لثمتُ مكانَ العِقْدِ من غير حاجبٍ ... وقلتُ لقلبي قد كفَاك بها نِعْمَهْ
عبد النافع بن عمر الحموي ألمعيٌ مشهود له بقوة إدراكه، وفيه قابلية لاختصاصه ببعض العلوم واشتراكه.
بلسان أحد من السيف إذا تجرد من القراب، وفكرٍ إذا أراد البحر أن يحكيه في غوره وقع في الاضطراب.
وله أدب كالروض تفتقت نسماته، وشعرٍ كالصبح تألقت قسماته.
لكنه نكب عن المطبع الجزل، وذهب مذهب الهجو والهزل.
إلا في النادر فربما جد، ثم أخلق منه ما استجد.
وكان دخل طرابلس، وبنو سيفا في الوجود، والأمير محمد بينهم كالفضل بين البرامكة في الفضل والجود.(1/263)
منيل الأماني بلا منة الحقب، متهلل يضع الهناء موضع النقب.
وهو مقصد يتزود ذكره المسافر، ويعمل إلى لقائه الخف والحافر.
فحل عنده حلول النوم من الأحداق والمدام من الأقداح، وبقي عنده يتحفه بدر الأثنية ويجلب إليه غرر الأمداح.
حتى دهمتهم داهمة ابن جانبولاذ، وتضعضع منهم ركنٌ يحتمى به في الدهر ويلاذ.
عندها أقلع إلى أدلب فكأنما دعاه إليه الأجل، ومضى إلى الله تعالى على وجه السرعة والعجل.
وقد جئت من شعره بما هو أحلى في الأفواه من الشهد، وأشهى إلى العيون من النوم بعد السهد.
فمن ذلك قوله، من قصيدة:
أمُعذِّبي رِفْقاً بصَبٍّ مُغْرَمِ ... أضحى كمثل ابن السبيلِ الغارمِ
فلقد جعلت الدمعَ وَقْفاً جارياً ... يحْتار منه ذو البكاء الدائمِ
فاعجَب لدمعِي سائلاً متصدِّقاً ... واعجَبْ لواقِفة المُقيمِ الهائمِ
هل أنت راحمُ ما ترى يا مُتلفِي ... من حالتي أم أنت لستَ براحمِ
فلقد جرى ما قد كفى ولقد كفى ... ما قد جرى من مَدْمعِي المتلاطمِ
يا رُبَّ ليلٍ طائلٍ ما تحته ... من طائلٍ غير العَناءِ اللازمِ
مَدَّتْ به طُنْبُ الظلامِ فلا ترى ... إلاَّ نجوماً في سوادٍ فاحمِ
فكأنها عطْشَى فتشرب ما بدَا ... من فجْره شُرْبَ النَّزِيف الحائمِ
لو لم يكنْ فَرْعُ الحبيب مُشبَّها ... بسَوادِه لغدَوْتُ أبْلَغ شاتمِ
قاسيتُ فيه كلَّ هَوْلٍ هائلٍ ... وركبتُ منه كل مَتْنٍ قاتِمِ
حتى بدَا ضوءُ الصباح كأنه ... إشْراقُ وجهِ محمَّدِ بن القاسمِ
وقوله، وهو من بدائعه:
كأنَّ الدجَى ظَرْفٌ على الصبح مُوكَأٌ ... ولكن لطُول الامْتلا والبِلَى انْفَلقْ
فسال فغطَّى أنْجُماً ما تعلَّمتْ ... لقصْر المدى سَبْحاً فأدركها الغَرَقْ
قلت: لقد أجاد، وإن كان تناوله من قول ابن تميم:
انظُر إلى الصبح البديع وقد بدا ... يغْشَى الظلامَ بمائِه المتدفِّقِ
غرقت به زُهْرُ النجوم وإنما ... سلِم الهلالُ لأنه كالزورقِ
والضد أقرب خطوراً بالبال عند ذكر ضده.
تذكرت هنا قول أبي علي البصير، وفي الثاني نظر:
وجُفونُ عينِك قد نَثَرْنَ من البكا ... فوق المَدامعِ لُؤْلُؤاً وعَقِيقا
لو لم يكُن إنسانُ عينِك سابِحاً ... في بحرِ مُقْلتِه لمَات غريقَا
ولابن العطار في غرق الليل:
صبحٌ يلُوح وشخصُ الليل مُنْغمِسٌ ... فيه كما غَرِق الزِّنْجِيُّ في نَهَرِ
ومن أهاجي المترجم قوله في قاض بحماة:
من شَرِّ بيتٍ شرُّ قاضٍ أتى ... حماته يا قُبْحَ ما استحسنَتْ
أبُوه مُحْتالٌ دَنِيٌّ وكم ... في رأْسِه من دَوْحةٍ أغْصَنتْ
وأُمُّه مريم لكنها ... وعيشِكم ليس التي أحْصَنتْ
الأمير حسن بن محمد
المعروف بابن الأعوج
حاكم حماة صانها الله وحماها، ولا زالت حوامل المزن تحط أثقالها بحماها.
أميرٌ وابن أمير، وروض نضير، أنشأه ماءٌ نمير.
تلقى راية المجد بيمين عرابة، وما أتى أمراً قط وفيه غرابة.
وجَلا الإمارةَ في رَفيفِ نضارِة ... جلَتِ الدجى في حُلَّةِ الأنْوارِ
في حيثُ وَشَّح لبَّه بقِلادةٍ ... منها وحلَّى مِعْصَما بسِوارِ
فهو فارس ميدان اليراع والصفاح، وصاحب الرماح الخطية والأقلام الفصاح.
فالسيف من جملة خدمه، والقلم يقوم في خدمته على رأسه عوض قدمه.
يكتب فيجعل للأقلام حجة قاطعة على السيوف، وينتضي سيفه فيقول القلم مالي بارقة في ميدان هذا الحتوف.
وإن جرى أدهم قلمه في حومة البراعة فهو سباق الغايات، وإن غردت حمائم نفثاته على غصون أقلامه قيل جاء من الزمر ما غطى على النايات.
وهو جواد مبسوط الكف، ما أعرض يوماً عن مكرمة ولا كف.
فجوده يغني عن القطر إذا شم الغمام، ونعمه هي الأطواق والناس الحمام.(1/264)
وكان عصره كابتسام البرق إذا خفق، والصبح إذا تكشف عن الشفق.
لم يتعلق أرج الكرم بغير أثوابه، ولم يتعشق صب الثناء إلا تراب أبوابه.
وأهل الأدب يروحون إليه على وجد ويغدون على وجد، ويتنافسون على مدائح أخلاق خلقن من محض المجد.
وهو مع شغله بالمنصب، وتشتت فكره بغرض المتعصب.
لا يخلو من مطارحات تدل على ندماء مجلسه بإيرادها، ومناظيم يجلو بها عليهم الحور العين في أبرادها.
وشعره مثقف المباني، له اتحاد بالمثالث والمثاني.
أبرزت منه إلى العيان، ما هو ألذ من عزف القيان.
فمنه قوله من قصيدة يشتكي فيها من الزمان:
حاديَ العِيسِ سِرْ بغير ارْتيابِ ... ففؤادي قد حَنَّ للاغْترابِ
لا أُرِيد الأوطانَ والذلَّ فيها ... واضِعاً طوقَه بأعلى الرِّقابِ
ولو أنِّي قضَّيتُ فيها سروراً ... في شبابي لم أكتئِبْ لمُصابِي
بل تولَّتْ نَضَارةُ العمرِ منّي ... بين عَيْشٍ ضَنْكٍ وفَرْطِ اكْتئابِ
فالفرارَ الفرارَ من دار هُونٍ ... تركَتْني أشكو زمانَ الشبابِ
وإذا الضَّيْم ما أقام فأحْبِبْ ... بجيادٍ تمُرُّ مَرَّ السحابِ
لم يكن في مُقامِ ذَ اللُّبِّ فضلٌ ... قطَع السيفُ وهْو ضِمْنُ القِرابِ
أدرَك المسكُ بالتنقُّل شأْواً ... وهْو في أرضِه دُوَينُ الترابِ
فالفتى الشهمُ من إذا شام ضَيْماً ... لا يُبالِي بفُرْقة الأحبابِ
منها:
كيف مُكْثي ما بين أظْهُر قومٍ ... عهدُهم في ثَباتِه كسَرابِ
جارُهم إن غدا عزيزاً عليهمْ ... كان كالشَّاةِ في مَقِيلِ الذئابِ
هم إذا صادَرُوا أسودَ شَراءٍ ... وإذا حارَبوا فدون الكلابِ
كم أناسٍ من دارِهم أخرجوهمْ ... ليسُومُونهم بسوءِ العذابِ
إن فِرْعَوْن ثم نَمْرودَ كانا ... دونهم في اخْتراع سوءِ العذابِ
ومَساوِيهمُ التي مِثْلُ هذا ... عَدَدُ الرملِ والحصا والترابِ
ربِّ يا من أباد عَاداً وأوْدَى ... بثَمُودٍ ذوِي النفوسِ الصَّعابِ
لا تذَرْ منهمُ على الأرضِ شخْصاً ... إنهم جاحدون نَصَّ الكتابِ
وانتقِمْ مُسرِعاً وعجِّلْ عليهمْ ... ليس فينا صبرٌ ليوم الحسابِ
قوله: " قطع السيف " إلخ. من قول بعضهم: السيف لا يقطع في قرابه، والليث لا يفترس في غابه.
وقوله: " أدرك المسك "، من قولهم: المندل الرطب حطب في أوطانه، والمسك دمٌ في سرر غزلانه.
وله من قصيدة أخرى، أولها:
تبَّدتْ فأضْحى البدرُ في الأُفْق غائباً ... وشامَتْ فوَلَّى الظَبْيُ في البِيدِ هاربَا
رَبِيبةُ خِدْرٍ يحرس الحسنُ وجهَها ... بسهمِ لِحاظٍ يجعل يجعل القوسَ حاجِبَا
إذا ابْتسمتْ عن صُبْح ثَغْرٍ مُنوَّرٍ ... تُشاهد منها في النهار كواكبَا
وإن برزَتْ في أسْود الشَّعْرِ ضحْوةً ... رأيتَ الدجى للصبحِ أضحى مُصاحبَا
فما دَوْحةٌ سَقى النَّدَى نَسْجَ بُرْدِها ... وحاكتْ حِبالُ الشمس منه جَلائبَا
مُلوَّنةٌ من خَيْط ليلٍ وفجرِه ... مُنوَّعةُ الألْوانِ تُبْدِي العجائبَا
إذا سائلُ الغُدران حَنَّ صَداؤُه ... وطائرُها المَيْمون غنَّى مُجاوِبَا
بأبْهجَ منها حُلَّةً وطَراوةً ... وأخْصبَ مَرْعىً من حِماها وجانبَا
لها لا لِعَزّ حُقَّ وَصْفُ كُثَيِّرٍ ... وتَوْبة في ليْلَى أعادتْه كاذِبَا
صدق توبة ليلى مشهور، وأصله ما روي أنه لما شغف بها، واشتهر أمره وأمرها به، قال:
ولو أنَّ ليلى الأخْيَلِيَّةَ سلَّمتْ ... عليَّ ودوني جَنْدَلٌ وصفائحُ
لسلّمتُ تسلِيمَ البَشاشةِ أوزَقا ... إليها صَدىً من جانب القبر صَائحُ(1/265)
فيقال: إنها مرت على قبره، وهي راكبة على جمل، ومعها زوجها، فقال لها زوجها: هذا قبر الكذاب، سلمي عليه، حتى ننظر وعده.
فقالت له: خلِّه، فقد مات إلى رحمة الله تعالى.
فقال لها: لا بد من ذلك.
فسلمت عليه، فطار من جانب قبره طائرٌ، فهاج جملها، فوقعت اندقت عنقها، فدفنوها إلى جانبه.
أخرجه صاحب " الأغاني " عن المدائني.
وله في النسيب:
آهِ مَن لي بظَبْيةٍ فَتَّانَهْ ... وهْيَ تلْهو ومُهجتِي وَلْهانَهْ
ذاتُ ثَغْرٍ كأنه الُّلؤْلؤُ الرَّ ... طْبُ حكى كفَّها وحاكى بَنانَهْ
قولهم: " في اللؤلؤ الرطب " كناية عما فيه من ماء الرونق والبها، ونعمة البشرة وتمام النقا؛ لأن الرطوبة فصل مقدم لذات الماء، فهي تنوب عنه في الذكر، وليس يعني بالرطوبة فيه المعنى الذي هو نقيض اليبوسة.
قاله أبو الريحان في كتابه " الجماهر ".
وقوله: " حكى كفها وحاكى بنانه ".
المراد بمحاكاة كفها في تناسب أصابعه واستوائها، وبمحاكاته لبنانه في حمرتها؛ فيكون قصد تشبيهين: تشبيه أسنانها، وتشبيه شفتيها.
هذا ما يظهر من البيت.
هي في القَدِّ غصنُ بَانٍ ولكن ... مَن رأى النَّهْد قال ذي رُمَّانَهْ
يا عجيباً منها تظُن سُلُوّاً ... من فؤادي وتشْتكي سُلْوانَهْ
يا عجيباً أني أُرِيد رِضاها ... وهْيَ في حالةِ الرضا غَضْبانَهْ
لستُ أخْشَى بحبِّها من عَذُولٍ ... فدَعُوه فينا يُطِيل لسانَهْ
حاصلُ الأمْرِ أن يقول فلان ... طار صِيتاً بحبِّه لفُلانَهْ
أنا صَبٌّ بحبِّها مُستهامٌ ... ملَك الحبُّ سِرَّه وعَيانَهْ
لستُ أنْسَى لمَّا أتتْ ورَقِيبِي ... عينُه من يد الكرَى مَلآنَهْ
تتخطَّى العيونَ شرقاً وغربا ... ضمنَ عينٍ بشَرْقها غَربَانَهْ
ضِمْنَ ثوبٍ من التقى مُستعارٍ ... بعفافٍ قد طَيَّبتْ أرْدانَهْ
وقضيْنا الوِصَال رَشْفا وضَمّاً ... بقلوبٍ هَيْمانةٍ حَرَّانَهْ
وأراد الجُموحَ طِرْفُ التَّصابِي ... فلويْنا عما أراد عِنانَهْ
وملكْنا نفوسَنا برِضاها ... وزجَرْنا بعِفَّةٍ شيطانَهْ
فدعِ العاذلين ينْقُلْنَ عني ... آه مَن لي بظَبْيةٍ فَتَّانَهْ
وكان ليلة ألف مجلس راح، في موسم أفراح.
يحسد اتساقه الدر، وتتمنى إشراقه الزهر.
فلما محى عنبر الظلام كافور الصباح، نادى مؤذن القصف: حيَّ على الاصطباح.
وردت عليه رقعة من أحد أحبائه، الواقفين على سر حقيقة أنبائه.
ومكتوب فيها:
على الباب المعظَّم عَبْدُ رِقٍّ ... بأنواعِ الحِبا منكم يفُوزُ
يجُوز البابَ عن إذنٍ كريمٍ ... وإلاَّ فهْو شيءٌ لا يجوزُ
فلما قرأها تهلل كأنما منح بعمر معاد، أو حصل من حبيب مماطل على ميعاد.
ثم كتب إليه:
يحيط بعلْمكم أنَّا نَشاوَى ... وقد جُلِيتْ لنا بِكْرٌ عجوزُ
فإن جوَّزْتمُ ما نحن فيه ... وإلاَّ فهْو شيءٌ لا يجوزُ
وحكى بعض ندمائه، قال: دخلت عليه في مرض موته، فصادفت بريداً جاء بتقليد حماة، بعد عزل وقع له، فالتفت، وقال بصوت ضعيف: " قضي الأمر الذي فيه تستفتيان "، وحان من الحين المكتتب ما حان.
فدعوت له بامتداد الأجل، وسليته عن ذلك الاضطراب والوجل.
فرأيته قد تجمع، وبكى ملء جفونه وتوجع.
وقال: والله ما أبكى إلا من يسوءه الآن بعدي، وهو يتمنى الأوداء بعدي.
ثم أنشد:
لا يحسَب الإنسانُ بعد ذَهابِه ... مُكْثَ الأسَى في عِشْرةٍ وقَرِينِ
في الْحالِ يعْتاضُون عنه بغيرِه ... ويعود ربُّ الحزنِ غيرَ حزينِ
العَنْدلِيبُ الوردُ كان أمامَه ... لمَّا مضى غنَّى على النِّسْرِينِ
ثم فارقته، ففي تلك الليلة تولاه مولاه، وفارق دنياه.
فبكى عليه السيف والقلم، وانفجع فيه العِلْم والعَلَم.
الباب الثاني في نوادر الأدباء
بحلب الشهباء(1/266)
وهي البلدة الطيبة الماء والهوا، التي توافقت على حسن بنائها ولطف أبنائها الأهوا.
أحياها الله تحية تنحط بالخصب سيولها، وتجر باللطف على سرحة الرياض ذيولها.
فيها الترحيب مذخور للمقيم والظاعن، ولا محل فيها يلفى للقادح والطاعن ولها المرأى الذي يسافر فيه الطرف فيأخذ بحظه، ويستولي عليه الفرح حتى يخاف على قلبه ولحظه.
فبينا تحسب الأرض نضاراً تكتسي برد الضحى فتحسبها عسجدا، وبينا ترى جناتها أنبتت دراً إذا هي أطلعت زبرجدا.
وهناك الحصن الذي عانق السماك، يكاد أهله يقتطفون نرجس الكواكب من فلك الأفلاك.
يزُرّ عليه الجوُّ جَيْبَ غمامِه ... ويُلْبِسها من حَلْيهِ الأنْجُمَ الزُّهْرَا
وقد أحاط به الخندق إحاطة الهالة بالقمر، والسوار بالمعصم، وحوله الأبنية الشامخة تستنزل بحسن رونقها النسر المحلق والغراب الأعصم.
ولأهلها من عهد بني حمدان أمراء الكلام، وأجل من استعملت في مدائحهم الدوي واستخدمت الأقلام.
اعتلاق بالأدب وارتباط. وتفوق فيه يدعو إلى حسد واغتباط.
ولشعرهم في القوب مكانة، كأنما شيدوا بأهواء القلوب أركانه.
فصبوا على قوالب النجوم، وغرائب المنثور المنظوم.
وباهوا غرر الضحى والأصائل، بعجائب الأشعار والرسائل.
وقد ظهر منهم قريباً جماعةٌ تنازعوا الفضل في غايات مستبق، وكل منهم وإن اختلفت حاله فالقول في فضله متفق.
إذا عَنَّ ذِكْراهم فتَمْزيق مَلْبَسٍ ... يُرِيح بَناءَ الفكر من حَلَّة العُرى
بمِحْراب صدر القلب مُعتكِف به ... هواهُم تلا من ذكْرهم ما تيسَّرَا
فمنهم:
مصطفى بن عثمان البابي
اصطفيته مفتاح الباب؛ لكونه منسوباً إليه، وجعلت معرفة القشر من اللباب، متميزاً به، ومحالاً عليه.
وأحسب أني أتييت بأمرٍ معقول، وإذا أرسلت نفسي في وصفه ووصف بلده فأجدها تقول:
البلدةُ الشهباءُ مشحونةٌ ... بلُطْف أشعارٍ وآدابِ
ممنوعةٌ بالسُّور لا يُبْتغَى ... دخولُها إلا من البابِ
وهو شرفٌ لعصره ومفخر، وبحر يهتاج عبابه ويزخر.
تمادى في ميدان الشهباء طلقه، واستوفى الخصلة التي ناسب فيها خُلُقَه خَلْقُه.
وأصبح في الفضل وحيدا، ولم تجد عنه النباهة محيدا.
وناهيك بمحاسن قلدها، ومناقب أنبتها وخلدها.
إذا تليت في المجامع، اهتزت الأعطاف وتشنفت المسامع.
وهكذا النسمات إذا هبت في الأسحار، رفت لها أهداب النبات وطنت آذان الأشجار.
تروق بها الخمرة في الكاس، وتجلو رويحات السحر إذا صدتها البشر بالأنفاس.
إذا وصفت علاه عكفت طيور المعاني على أوكار الفكر، وإذا تليت حلاه تنبهت عيون الرياض من نسمات الآصال والبكر.
وشعره ملكه الحسن رقة، فكاد تشربه الأسماع لطفاً ورقة.
كلامٌ بلا مُدامٌ بل نِظامٌ ... من المَرْجانِ أو حَبِّ الغَمامِ
يروح كأنه رَوْحٌ ورَاحٌ ... ويجْرِي في العُروق وفي العظامِ
وقد وافيتك منه بما يغالى في مدحه، ويعلم منه وفور قسمه من الأدب وفوز قدحه.
فمنه قوله يتوسل:
هوتِ المشاعرُ والمدار ... كُ عن معارجِ كبريائِكْ
يا حيُّ يا قيُّوم قد ... بهرالعقولَ سَنا بَهائِكْ
أُثنِي عليك بما علمْ ... ت وأين عِلْمي من ثنائِكْ
مُتحجِّب في غَيْبك الْ ... أحْمَى منيعٌ في عَلائِكْ
فظهرْتَ بالآثار والْ ... أفعالِ بادٍ في جَلائِكْ
عجباً خَفاؤُك من ظهو ... رِكَ أم ظهورُك من خفائِكْ
ما الكون إلا ظلمةٌ ... قبَسَ الأشعَّة من ضيائِكْ
وجميعُ ما في الكون فا ... نٍ مُستمِدٌّ من بقائِكْ
بل كلُّ ما فيه فقي ... رٌ مُستمِيحٌ من عطائِكْ
ما في العوالمِ ذَرَّةٌ ... في جَنْبِ أرضِك أو سمائِكْ
إلاَّ ووِجْهتُها إليْ ... كَ بالافْتقارِ إلى غِنائِكْ
إني سألتُك بالذي ... جمَع القلوبَ على وَلائِكْ
نورِالوجود خُلاصةِ الْ ... كَوْنَيْن صفوةِ أوليائِكُ(1/267)
إلاَّ نظرتَ لمُستغِي ... ثٍ عائذٍ بك من بَلاَئِكْ
قذفتْ به من شاهقٍ ... أيدي امْتحانِك وابْتلائِكْ
ورمتْه من ظُلَم العنَا ... صرِ والطبائعِ في شَبائِكْ
وسطَتْ عليه لوازمُ الْ ... إمكانِ صَدّاً عن سنائِكْ
فإذا ارْعوَى أو كاد نا ... دتْهُ القيودُ إلى ورائِكْ
فالْطُفْ به فيما جرَى ... في طَيِّ عِلْمِك من قضائِكْ
وقوله من نبوية، مستهلها:
قضَى عجَبا من دهرِه المتعجِّبُ ... يجِدُّ اشْتعالا رأسُه وهْو يلعبُ
ألم يأْنِ أن يْقنِى الحياءَ مُؤنِّبُ ... بلى آن أن يْقنِى الحياءَ المؤنِّبُ
ومَن لم يدعْ شيْبُ المَفارِق غَيَّه ... فلائمُه باللومِ أحَرْىَ وأنْسَبُ
أبِنْ لي على ماذا حصُلتَ من الدُّنَا ... فقد ذُقْتَ منها ما يمُرُّ ويعذُبُ
أكان سِوى طَيْفٍ ألَمَّ وعارِضٍ ... جَهام وبَرْقٍ مخلِفِ النَّوْءِ خُلَّبُ
متَى أنت العَمْياء غَادٍ فرَائحٌ ... تُصعِّد في بَهْمائِها وتُصوِّبُ
تُبارىءُ بالعِصْيان من هو قادرٌ ... عليك وفي آلائه تتقلَّبُ
أحُدِّثتَ أن المرءَ في الأرضِ مُعجِزٌ ... لقد كذَبْتك النفسُ والنفسُ تكذِبُ
لقد لَزَّك التَّسْويفُ في مارِق على ... شَفا حُفْرةٍ سَرعانَ ما تتصوَّبُ
لَعَمْرُ المَنايا إنها لقريبةٌ ... على أنها من ساحةِ الشيبِ أقْرَبُ
وإنَّ مِراسَ الموت لا دَرَّ دَرُّه ... وإن كان صَعْبا فالذي بعدُ أصَعْبُ
تقلَّص ظلُّ العمر إلا صُبابةٌ ... ألآ فانْتبْها قبل ما أنت تُنْهَبُ
وبادِرْ فإن الوقتَ ضاق عن الوَنَى ... وصَمِّمْ فُسكِّيتُ الرِّهانِ المُذبْذَبُ
وخذ للقاء للَّهِ ما اسْتطعْتَ أُهْبةً ... فإن لقاءَ اللَّه ما عنه مَهْرَبُ
وإن ضِقْتَ ذَرْعاً من تعاظُم ما مضى ... فلا تنْسَ عفوَ الله فالعفُو أرْحَبُ
ولُذْ بجَناب الفاتحِ الخاتِم الذي ... به يطمئنُّ الخائفُ المترقِّبُ
هو العاقِبُ الماحِي الذي بزَغتْ به ... على الكون شمسٌ نورُها ليس يغرُبُ
تحُلُّ له الرُّسْل الكرامُ حِباهُمُ ... وإن ذُكِروا فهْو العُذَيْقِ المُرَجَّبُ
إذا الخَطْب أبْدَي ناجِذَيْه فنادِهِ ... تجدْ خيرَ جارٍ في المُلمَّاتِ يُنْدَبُ
وإِن لذَعْتك المُوبقاتُ فداوِها ... به فهْو تِرْياق السموم المُجرَّبُ
إليكَ رسولَ الله قد جاء ضارعاً ... أخو عَثْرةٍ يرجو الإقالةَ مُذنبُ
فبابُك بابُ اللهِ ما عنه مهرَبٌ ... وطالبُه من غير بابِك يُحجَبُ
فليس لنا من منحةٍ بتفَضُّلٍ ... من الله إلا عن مَساعِيك تُجلَبُ
ولا مَسَّنا من محنةٍ أو يَمسُّنا ... بكسبِ يَدٍ إلا بيُمْنك تذهبُ
منها:
إذا قمتَ في وَعْد المَقام فإِننا ... على ثقةٍ أن ليس فينا مُخيَّبُ
ألم يُرْضِك الرحمنُ في سورة الضحى ... وحاشاك أن ترضَى وفينا معذَّبِ
أترضَى مع الجاه الوجيهِ ضياعَنا ... ونحن إلى أعْتاب بابِك نُنسَبُ
أترضَى مع العِرْضِ العريضى بأن يُرى ... مَقامُك محوداً ونحن نُعذَّبُ
أتخذُل يا حامِي الذِّمار عصابةً ... بهَدْيِك دانتْ ما لها عنك مَذهبُ
دعوْتَ فلبَّينَاك سمعاً وطاعةً ... وحاشاك أن ندعوكَ ثم تُخيِّبُ
منها:
عليك صلاةُ الله تتْرَى مُسلِّما ... مع الآلِ والأصحابِ ما انْهَلَّ صَيِّبُ
صلاةٌ تُوازِى قدرَ ذاتِك رفعةً ... بتَبْليغها عنِّي إلى الله أرْغَبُ
وقوله من قصيدة في المدح، أولها:(1/268)
هو الفضلُ حتى لا تُعَدَّ المناقبُ ... بل العزمُ حتى تطلُبُنْك المَطالبُ
وما قدَر الإنسان إلا اقْتدارُه ... أجَلْ وعلى قدَرْ الرجال المراتبُ
منها:
وللمجدِ مثلُ الناس سُقْمٌ وصحةُ ... وفيه كما فيهم صَدُوقٌ وكاذبُ
منها:
ومن خسِر الرَّاحات يكتسِب العُلَى ... وبعضُ خَساراتِ الرجال مكاسبُ
فآب بما يُشجِى العِدى ويسرُّه ... فوائدُ قومٍ عند قوم مصائبُ
إليك إمامَ الفضلِ منا توجَّهتْ ... كتائبُ إلَّا أنَّهُنَّ مواكبُ
مَعانٍ تُعِير العِينَ سحرَ عيونِها ... وتسخرُ منها بالعقودِ التَّرائبُ
قد انْسَدلتْ فوق الطُّروسِ سطورُها ... كما انسدلتْ فوق الصدورِ الذَّوائبُ
لها من بَراحِ الشوقِ حادٍ وقائدٌ ... إليك ومن لُقْياك داعٍ وخاطبُ
ومن بدائعه قوله:
ليت شعري ما الذي سخَّر السَّمْ ... ع لصوت السنطير حتى أصَاخَا
ثم ماذا أشار به النَّا ... يُ لرَكْب الأرْواح حتى أناخَا
ثم ماذا الذي به اسْتشعر الحِسُّ ... بحَسِّ الأوْتارِ حتى تراخَى
ذاك سِرٌّ يذوقه من ترقَّى ... عن ذُرَا عالم الهيولي انْسلاخَا
وترقَّى به إلى قاب قَوْ ... سَيْن فألْقَى العصا ورام المُناخَا
وقوله من قصيدة، أولها:
أشاردٌ ياغزال أم واجدْ ... وعابثٌ في النفوس أو عائدْ
أعند عينيْك أنَّ أنفسَنا ... حَبْسٌ على سَيْل نَبْلها الصاردْ
بل كثرةُ العاشقين تُوهمه ... بأنَّ ماضي نفوسِهم عائدْ
مهلا أبا الحُسْن قد فُجِعت به ... واستبْق منَّا داعٍ له حامدْ
نحن بنو نَجْدة الهوى ولنا ... فيه فَخارُ الطَّرِيف والتَّالِدْ
وكم لما غارةٌ على ثَغَرٍ ... يصدُر عنها المُفتِّر الباردْ
تلك عهودٌ قد كان لا بَعُد ... تْ طَرْفُ الليالي عنَّا بها راقدْ
ماسَها الدهرُ عن تفرُّقنا ... بل ظنّنا لالْتئامِنا واحدْ
على هذا الالتئام والإتقان، تأمل قولي في الاتحاد عند العناق:
يا طِيبَ ليلٍ حيَّى وقد غفَلتْ ... عنا عيونٌ تظَلُّ ترمُقنَا
بِتْنا كرُوحيْن في حشَا جسَدٍ ... تحيَّر النوم كيف يطرُقنَا
ولعز الدين الضرير ما هو منه:
توهَّم واشِينا بليلِ مَزارِه ... فهَمَّ ليسْعى بيننا بالتباعُدِ
فعانقْتُه حتى اتحدنا تعانُقاً ... فلما أتانا ما رأى غيرَ واحدِ
ولخالد الكاتب:
كأنني عانقتُ رَيْحانةً ... تنفستْ في ليلِها البارِدِ
فلو ترانا في قميصِ الدُّجى ... حسِبْتَنا في جسدٍ واحدِ
ولأحمد بن أبي العصام:
ضمَمْتُه ضَمَّ مُفْرِط الضمِّ ... لا كأبٍ مُشفِق ولا أمِّ
ولم نزَلْ والظلامُ حارسُنا ... جسميْن مُستودَعيْن في جسمِ
ولابن سناء الملك:
وليلةَ بِتْنا بعد سُكْرِي وسُكرِهِ ... نَبذْتُ وِسادِي ثم وسَّدتُه يدِي
وبتْنا كجسمٍ واحد من عناقنا ... وكالحَرْفِ في لفظِ الكلام المُشدَّدِ
واعترض عليه بأن العروضيين يعدون المشدد بحرفين، فلو قال: في الخط، لحصل مطلوبه.
ليت درَى القانطون في حلبٍ ... حالي وما حالُ من لهم فاقِدْ
يرقُب وفد الشَّآمِ ذا قلَقٍ ... عسى يراهُم بناظرِ الوافِدْ
فارقتُ مَثْوايَ في رِضا زمن ... على ذوي الفضل لم يَزلْ واجِدْ
خرجتُ منه مع البُزاةِ عسى ... تصفُو الليالي ويصلُح الفاسدْ
يشير إلى قوله:
أذا أنْكرتْني بلدةٌ أو نكِرْتُها ... خرجتُ مع البازِي عليَّ سوادُ
ومن مديحها:
الحكَم العَدْلُ من عزائمُه ... قامتْ على الدهر فاكْتفى القاعدْ(1/269)
وأصبحتْ حَيْرةً حواسدُه ... كأنها العُمْيُ مالها قائدْ
هذا أحسن من قول المتنبي:
ما بالُ هذي النجوم حائرةً ... كأنها العُمْي مالها قائدْ
وهو أخذه من قول العباس بن الأحنف:
والنجمُ في كبد السماء كأنه ... أعْمَى تحيَّر ماله من قائدِ
رَبُّ القوافي التى لآلئُها ... توَدُّ لوقُلِّدت بها الناهِدْ
إذا تأمَّلْتَها وجدتَ فتىً ... شُهْبَ الدياجي بفكرِه صائِدْ
وقوله من أخرى، اولها:
هو الشوقُ حتى يستوى القربُ والبعدُ ... وصدقُ الوفا حتى كأن القِلَى وُدُّ
فلا رقَدتْ عينٌ يؤرِّقها هوىً ... ولا خمَدت نارٌ يسعّرها خَدُّ
ألا في سبيل الأعْيُن النُّجْل ما جرى ... بمُنْعرَج الجَرْعاء حيث انْطوى العهدُ
عشيَّةَ أدْناني وأقْصاهُم الهوى ... برَغْمِي وأرضاهُم وأسْخطنِي البعدُ
تذكّر عيشاً قد طوى نَشْرَه النوى ... وعُفْراً عفَى من سِرْبها الأجْرَعُ الفَرْدُ
خليلَىَّ نَجْدٌ تلك أم أنا حالمٌ ... لقد كذَبْتني العينُ ما هذه نجدُ
بلى هذه نجدٌ فأين ظِباؤُها ... أأحجبها عِزٌّ أأم اغْتالها فَقْدُ
وما صنعتْ من بعدنا تلكمُ الدُّمَى ... وكيف ذوَتْ هاتيكمُ القضُبُ المُلْدُ
كَأَنْ قد أضَلَّ البَيْنُ في عَرَصاتِها ... مُنىً أو عليها في فؤاد النوى حِقْدُ
لقد خلَدتْ ممَّا دَهاك جَهَنَّمٌ ... بأحْشائنا يا جنَّةً خانها الخُلْدُ
خليليَّ ماوُدَّا كُما وُدَّ مخلصٍ ... أما فيكما هَزْلٌ إذا لم يكن جِدُّ
أفوق سوادِ الليل تبغي نجومُه ... غشاء فلِم لم تصْحُ أعيُنها الرُّمْدُ
كأن تعالى اللهُ ذا البدرِ في السما ... مَلِيك مُطاعٌ والنجومُ له جُنْدُ
كأن سماء الليلِ روضٌ مُنمَّقٌ ... خمائلُه مِسْك أزاهِرُه نَدُّ
كأن الدجى والبرقَ والزُّهْرَ ناهدٌ ... من الزَّنْج يُزْهيها فيُضحكها العِقْدُ
كأن الثُّريَّا كفُّ نَقَّادٍ اسْتوى ... على نَطْع سَبجٍ فوقه نُثرَ العقدُ
كأن نجومَ الليلِ من حَيْرةٍ بها ... ركائبُ تسْرِي مالها في السُّرَى قَصْدُ
كأن وَمِيضَ البرقِ في حالِك الدجى ... صفاءٌ بقلبٍ قد توطَّنه الحِقْدُ
كأن الكرى سِرٌّ كأن الدجى حَشاً ... كأن المُنى طِفْل كأن الرَّجا مَهْدُ
كأن السُّهَا معنىً دقيقٌ بفِكْرةٍ ... فآونةً يخْفى وآونة يبْدُو
كأن الدجى والفجرُ يفتِق زِيقَه ... مواطنُ غَىٍّ قد أناخ بها الرُّشْدُ
كأن الصَّبا رُسْلُ الصباح إلى الرُّبَى ... بسِرٍّ أذاع الشِّيحُ خافِيه والرَّنْدُ
كأن طِلابِي المجدَ والدهرُ دونه ... ترقُّب طَيْفٍ حال من دونه السُّهْدُ
كأن يَراعى غائصٌ بحرَ ظُلْمةٍ ... فيُلفَظ لي من فِيه جوهرُه الفَرْدُ
كأن المعاني السانِحاتِ لخاطرِي ... كواعبُ زارتْ مالزَوْرتها وَعْدُ
منها في المديح:
حديقةُ فضلٍ لا يُصَوِّح نَبْتُها ... ونهرُ عطاءٍ ما لسائِله رَدُّ
ورِقَّةُ أخلاقٍ يَسيرُ بها الصَّبا ... وبأسٌ له ترْمِي فرائسَها الأُسْدُ
وقوله من أخرى، أولها:
سرى عائدا حيثُ الضَّنى راع عُوَّدِي ... سُرَى البَدْرِ طَيْفٌ بالدُّجُنَّةِ مُرتدِ
وما رَقَّ لو لم يَرْعَ حَيْني ولا سرَى ... على البُعد في ثوب الحدادِ لمَرقدِي
فأعجبَه شوقي إليه على النَّوى ... كذا كان حيث الشملُ لم يتبدَّدِ
وعاتبْتُه والظنُّ أيْأس طامعٍ ... فجاوبَني والقلبُ أطمعُ مجتدِ(1/270)
ولاطفْتُه حتى استملتُ فؤادَهُ ... فيالك سَعْداً بعضُه لِينُ جَلْمَدِ
وبِتُّ كأن الدهرَ ألْقى زِمامَه ... إليَّ وصافاني فأحْرزْتُ مَقْصِدِي
وحَكَّمني مِن جِيده وهْو عاطِلٌ ... فحَلاَّه دَمعي بالجُمان المُنضَّدِ
إلى أن نعَى بالبَيْن صُبْحٌ كأنه ... غرابُ النوى لكنه غيرُ أسوِد
من مديحها:
به دَرَّ ضَرْعُ المَكرُماتِ وثُقِّفتْ ... قَنا الفضلِ وانْهلَّتْ غوارِبُ للصَّدِى
يُساقِط من فِيه المعاني كأنها ... فرائدُ دُرٍّ في ترائبِ خُرَّدِ
ومن كلِّ سطرٍ فوق طِرْس كأنه ... عِذارٌ تدلَّى في عوارِض أمْرَدِ
ومن مقطعاته قوله مضمنا:
قلتُ لما أن بدَا في خدِّه ... زَرَدُ العارِض نَبْتاً وانْتضَدْ
أنَباتٌ لاح في خدَّيك أم ... نسجَ الرِّيحُ على الماء زَرَدْ
قلت: أجاد في هذا التضمين، ولطف في نقله.
وأصله ما قال صاحب بدائع البدائة: روى عن عبد الجبار بن حمديس الصقلي، قال: صنع عبد الجليل بن وهبون المرسى الشاعر لنا نزهة بوادي إشبيلية، فأقمنا فيه يومنا فلما دنت الشمس للغروب هب نسيمٌ ضعيف غضن وجه الماء، فقلت للجماعة: أجيزوا
حاكتِ الريحُ من الماءِ زَرَدْ
فأجازه كلٌ منهم بما تيسر له.
فقال لي أبو تمام غالب بن رباح الحجام: كيف قلت يا أبا محمد؟ فأعدت القسيم له.
فقال:
أيُّ دِرْعٍ لقتالٍ لو جمَدْ
ثم قال صاحب البدائع، بعد ما سبق: وقد نقله ابن حمديس إلى غير هذا الوصف فقال:
نثرَ الجوُّ على التُّرْبِ بَرَدْ ... أيُّ دُرٍّ لنُحورٍ لو جمَدْ
فتناقض المعنى بذكر البرد لو جمد، إذ ليس البرد إلا ما جمَّده البرد، اللهم إلا أن يريد بقوله: لو جمد لو دام جمده، فيصبح.
ومثل هذا قول المعتمد بن عبَّاد، يصف فوَّارة:
ولرُبما سلّت لنا من مائها ... سيفا وكان عن النواظر مُغْمَدَا
طبعتْ لُجَيْناً ثم زانت صَفْحَةً ... منه ولو جمَدتْ لكان مُهنَّدَا
وقد أخذ المقَّرى هذا المعنى، فقال يصف روضا:
لو دام هذا النَّبْتُ كان زَبَرْجَداً ... ولو جَمدتْ أنهارُه كُنَّ بَلُّورَا
وهذا المعنى مأخوذ من قول على التُّونسي الإياديّ، من قصيدته الطائية المشهورة:
ألُؤْلؤٌ قَطْرُ هذا الجوِّ أو نُقَطُ ... ما كان أحسنَه لو كان يُلْتقَطُ
والمعنى كثير للقدماء، قال ابن الرُّومي، من قطعة في العنب الرَّازقي:
لو أنه يبْقَى على الدهورِ ... قرَّط آذانَ الحسان الحُورِ
عوداً على بدء.
ووما يشبه ما حاوله في التَّضمين قول عزِّ الدين الموصلي:
كالزَّردِ المنظومِ أصْداغُه ... وخدُّه كالوردِ لمَّا وردْ
بالغْتُ في الَّلثْم وقبَّلتُه ... في الخَدّ تقْبيلاً يفُكُّ الزَّرَدْ
وللبابي في ذم من تعذَّر:
قد كسَا اللهُ صُبحَ خدَّيْه ليلاً ... وطَلى ذلك البياضَ سَوادَا
أصبحتْ ماءُ وَجْنتيْه سَراباً ... وغدَت جمرةُ الجمال رَمادَا
وله أيضاً:
نادى لوَ أن النِّدا يُجدِي ... قِفوا انْظروا ما أصاب خَدِّي
قد كان ورداً بغير شوكٍ ... فصار شوكاً بغير وردٍ
مثله لذي الوزارتين أبي الحسن بن الحاجّ:
أبا جعفرٍ مات فيك الكمالُ ... فأظهر خَدُّك لبْسَ الحدادِ
وقد كان يُنبِت وردَ الرياض ... فأصبح ينبتُ شَوْكَ القَتادِ
ولعرقلة الكلبيّ:
إذا ما الأمْرَدُ المصقول جاءتْ ... عوارضُه فنْقصٌ في ازْديادِ
وهل يَستحسنُ الإنسانُ روضاً ... إذا ما حلَّه شوكُ القَتادِ
ومن بدائعه قوله من قصيدة، قالها وهو بالرُّوم يتشوَّق إلى الباب:
تذكَّر بالْباب ظبياً غَرِيرَا ... وعيشَا رقيقَ الحواشِي نَضِيرَا
وعهداً تَرِفُّ أساريرُه ... قطفْنا به العيشَ غضًّا نضيرَا(1/271)
مَساحِبُ أذْيالِ لهوٍ بها ... لبِسْنا الشبابَ طرِيّاً طَرِيرَا
وفي سَفْح تَيْماءَ وادٍ أغَنُّ ... ثَراه تراه يفُتُّ العَبِيرَا
نسيماً عليلاً وظلاًّ ظليلاًَ ... وماءً نَميِرا وروضا مَطِيرَا
تُعانِق فيه الغصونُ الغصونَ ... ويلْطِم فيه الغديرُ الغديرَا
وللوُرْقِ صَدْحٌ بأفْنانِها ... كألْحانِ داود يَتْلو الزّبورَا
وأثَّر فَرْطُ اعْتلال النسي ... مِ في حركات الغصونِ فُتورَا
للرِّيح بالطيرِ فوق الغصو ... نِ عبَثٌ به يستخِفُّ الوَقُورَا
فبيْنا يكاد يمَسُّ الثرى ... بها إذْ يكاد يمَسُّ الأثِيرَا
وماءٌ يسِحُّ على وجهِه ... ويسرَح في كل وادٍ مُغِيرَا
فلولا تشبُّثُ حَصْبائِه ... به كاد من خِفَّة أن يطيرَا
إذا ما اسْتدار خلال الرياضِ ... تخال مَعاصِم ضَمَّت خُصورَا
وقوله في الغزل:
كأنما أوْقف اللهُ العيونَ على ... رُؤْيا محاسنِه لاصابَها ضَرَرُ
فلو بدَا من وَرا المرآةِ لانْحرفتْ ... عن أهلِها حيث دارتْ نحَوهُ الصُّوَرُ
وكثيرا ما يسأل عن معنى البيت الثاني، وأحسن ما يوجَّه به، أن قوله من ورا، أي من خلف المرآة، لانحرفت الصور حيث سارت محاسنه، لأن الأبصار وقفٌ على محاسنه، لأن البصار وقفٌ على محاسنه، والمراد من الصور المنحرفة الدّاخلة المرآة.
وإنما أفرد المرآة وجمع الصُّور، مع أن في المرآة صورة واحدة، لأن المرآة الواحدة يمكن أن يرسم فيها صورٌ كثيرة، على طريقة البدليَّة، ولا تتعدد المرآة.
والصُّور فاعل انحرفت، وفاعل سارت ضميرٌ راجع إلى محاسنه.
وله:
ولي نفسُ حرٍّ لا مُني تسْترقُّها ... ولا مَطَمعٌ نحو الهَوانِ يُدِيرُهَا
متى استكْبرتْ تصْغُرْ وإن هي صُغِّرتْ ... تساوَى لديها عبدُها وأميرُهَا
إذا لَمستْها كفُّ عِزٍّ تطامنَتْ ... وإن لَحَظتْها عينُ هُونٍ تُطيرُهَا
وله، وهي من غرره:
كاد يسعَى للتَّصابِي أوْسعَى ... وَيْحَه ما عفَّ حتى نَزَعَا
الصَّبا لاسامح اللهُ الصَّبا ... نبَّهتْ من غَيِّه ماهجَعَا
واستثارتْ من أقاصِي لُبِّه ... صَبْوةً كان رَثاها ونَعى
قد صَبا طَوْعَ هواه ما صَبا ... ورعَى شُهْبَ الدياجِي ما رعَىَ
هُجَنٌ ستَّرها ليلُ الصَّبا ... غَضَّ عنها صُبحَ فوْدٍ طلَعَا
وعِثارٍ قد أقلَّتْه النُّهَى ... فإن استأْنفت فيه لا لَعَا
زعَموا إن أسكتْتني ضِنَّةٌ ... بالقوافي أن طَبْعي رجَعا
وتناسَوْا ذلك النَّظْمَ الذي ... زاد في الرِّقة حتى انْقطعَا
والمعاني الَّلاي أنَّى أُنْشِدتْ ... تلْمَس العقدَ الغواني جزَعَا
غَرّهم منّي سكوتٌ كلُّه ... كلماتٌ تُسمِع الصُّمَّ الدُّعَا
وخُمود تحته جَزْلُ الغَضا ... وسكونٌ تحته الرِّيُّ سعَى
في حِرِ امِّ الشِّعر مالي وله ... خَلَّة سُدَّتْ وغَيٌّ أقْلعَا
قوله: زاد في الرقة نقله من قول ابن مليك، في الغزل:
لَيِّنُ الأعطافِ من خَصْرُه ... رَقَّ حتى كاد أن ينْقطعَا
وقوله: تلمس العقد الغواني، من قول المنازيّ:
ترُوع حَصاه حالِيَة العذارَى ... فتلْمسُ جانبَ العقْدِ النَّظيمِ
وله من قصيدة طويلة مستهلها:
حوَّلت عهدَ عيْشِه الأهوالُ ... واستحالتْ من وُدِّها الأحوالُ
سَلْ رُسوم الرُّبوع عنها وما يُجْ ... دي سؤالٌ عنه الجواب السؤالُ
قد وقفْنا نبكي الطولَ بها حتَّى ... بكتْنَا بدمعها الأطلالُ
وعجبنا لرَبْعها كيف أقْوَى ... مُطرقاً واسْتحال ذاك الجمالُ(1/272)
ساكنٌ في السكون منه اضْطرابٌ ... ساكتٌ في السكوت منه مَقالُ
صرَفتْ نَقْده صُروفُ الليالي ... واستخفَّتْ به الخطوبُ الثِّقالُ
عَهْدُنا في ذُراه يُستأنَس الأُنْ ... سُ وتُستَرْوَح الصَّبا والشَّمالُ
غادرَتْه الأغْيارُ تُستوحَش ال ... وَحْشَةُ فيه وتُوجَل الأوْجَالُ
يا أُثَيْلاتِ مَسْرحٍ أقبل الإدْ ... بارُ فيه وأدبر الإقْبالُ
باكَرتْكُنَّ عن عيون الغوادِي ... إن عَراكُنَّ من دموعي المَلالُ
طالما بات للجمال مَقِيلٌ ... في ذُاركُنَّ والعِثارِ مقالُ
وزمانٍ ما طال بالوصلِ حجتى ... قَّصرتْه أيامُ هَجْرٍ طِوالُ
أخْلقتْ جِدَّةُ النَّوى ذلك العهْ ... دَ ولبَّى داعي النعيم الخيالُ
أي ذنبٍ نُعاتب الدهرَ فيه ... وعتابُ الأيام داءٌ عُضالُ
أنا ما بين فُرقةٍ تجمع السُّقْ ... مَ وبُعْدٍ تدنُو به الآجالُ
وخُطوبٍ ألِفْتُها يستعيذُ الْ ... خوفُ منها وتَذعَر الأهْوالُ
وأمانٍ تُجاذب الدهرّ ذيلَ الْ ... حظِّ والدهرُ جاذبٌ جَدَّالُ
هِمَّةٌ أرَّقتْ جفونَ الأماني ... بوُعودٍ للدهر فيها مِطالُ
واشْتغالٍ فرَغْتُ فيه عن اللهْ ... وبأمرٍ للحظِّ عنه اشْتغالُ
أتمنَّى من الزمانِ وفاءً ... ووفاءُ الزمان أمرٌ مُحالُ
وله من أخرى، أولها:
أقَبُول تنَّفستْ أم قُبولُ ... أم شَمالٌ دارتْ بنا أم شَمُولُ
نشرتْ نَشْرها النَّدِىَّ كأنَّ ال ... أُفْق بُرْدٌ من الكِبَا مَبْلولُ
مَهَلاً يسْترِحْ سَنامُك من وَقْ ... رِ الشَّدِّ فالأناةُ أمرٌ جميلُ
واسْعِدينا بوَقْفِة نَسْمَةِ الشَّ ... آمِ فقد يرحُم العليلَ العليلُ
كيف خَّلْفت دارَ أنْسٍ ومن الأُنْ ... سْ فعَهْدي بالأُنس عهدٌ طويلُ
بوُجوه متى تبدَّتْ تبدَّى التَّ ... كبيرُ من حولِهنَّ والتَّهْليلُ
التكبير والتهليل للتعجُّب، مما استعمله المولَّدون.
قال المتنبيّ:
كبَّرتُ حول ديارهمْ لما بدَتْ ... تلك الشموسُ وليس فيه المشرِقُ
ووقع في مجلس أبي بكر بن زهر، أن بعض أدباء الأندلس كان عنده، فدخل فاضل من أهل خراسان عليهم، فأكرمه ابن زهر، وأجلَّه.
فقال الأندلسيّ: ما تقول في علماء الأندلس وأدبائهم وشعرائهم؟ فقال: كبَّرت.
فلم يفهم جوابه، واستبرده.
فلما فهم ابن زهر إنكاره، قال: قرأت شعر المتنبي؟ قال: نعم، وحفظته.
قال: أما سمعت قوله:...... وأنشد البيت، فعلى البيت، فعلى نفسك فلتكبِّر، ولفهمك اتِّهم وأنكر.
فخجل، واعتذر.
ومثله استعملوا الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، قال شيخ الشيوخ بحماة:
فمَن رأى ذلك الوِشا ... حَ الصَّائمَ صلَّى على مُحمَّدْ
ولبعضهم في وصف خط:
خطٌّ كما انْفتحتْ أزاهيرُ الرُّبَي ... مُتنَزَّه الألْبابِ قَيْدُ الأعْيُنِ
وبلاغةٌ مِلْءُ العيونِ مَلاحةً ... نال النبيُّ بها صلاةَ الألْسُنِ
وقد منعها النَّوويُّ في مثل هذا شرعاً.
قال: والوارد في مثله سبحان الله، كذا ذكره في أذكاره.
وقال الحليميّ: إنه جائز بلا كراهة.
وبَّينوا وجهه في فقههم.
وله من قصيدة، أولها:
عُوجا على رَسْمِ ذلك الطَّلَلِ ... نَقْضِي حقوقَ الليالِي الأُوَلِ
لعلَّ نَثنِى أعطافَه ثانيةً ... وقد ترجَّيْتُ غيرَ مُحتَمِلِ
فالدهرُ بأْبَي إبقاءَ مُغتنَمٍ ... فكيف يُرْجَى لرَدِّ مُرتحِلِ
لكلِّ ماضٍ من شِبْهِه بدَلٌ ... وما لعهْدِ الشبابِ من بدلِ
سقى لُوَيْلاتِنا بذي سَلَمٍ ... كلُّ مُلِثِّ الرَّبابِ مُنْهمِلِ(1/273)
معاهدٌ طال ما اقتطفتُ بها ... زَهْرَ الهنا من حدائقِ الجذَلِ
وأطْلَع السعدُ في مَعالِمها ... بَدْرَ المُنى في غياهِب الأمَلِ
حيث قُطوفُ اللَّذَّاتِ دانيةٌ ... ومَوْرِد اللهوِ مُغْدِقُ النَّهَلِ
نعثُر فيها بذَيْل لَذَّتِنا ... في هِضاب العِناق والقُبَلِ
بكلِّ مُستوْقِف العيون سَناً ... يدعُو فراغَ القلوبِ للشُّغُلِ
الشغل فيه أربع لغات: شُغْل، وشُغُل، وشَغْل وشَغَل.
أثْقَل أعْطافَه بخفَّته ... لُطْفُ التَّصابِي فخفَّ بالثِّقَلِ
وعُطِّلتْ من حَلْىِ النَّبات عِذَا ... راهُ فحلاَه الحسنُ بالعَطَلِ
إذا رمتْنا من قَوْسِ حاجبِه ... سهامُ جَفْنيْه مابَنُو ثُعَلِ
وارَحْمتا العاشقين قد دهَمَت ... همُ المَنايا في صورة المُقَلِ
وقد تفاءلْتُ من مَصارعِهمْ ... أنّ تَلافِى بالأعْيُنِ النُّجْلِ
أساً لقد جُرِّع الأسَى وهوًى ... أهْويْتُ من أجلِه على أجَلِي
فذا الذي حَجبَتْ محاسنُه ... عنَّا مَساوِى الصدودِ والنّقلِ
من كان عنِّي قبلَ النَّوَى صَلِفاً ... أبْعدُ مَسمِعي عن العَذَلِ
مازِدتُ عنه بُعداً بفُرقتِه ... لا وَاخَذ اللهُ البَيْنَ من قِبَلِي
منها في المدح:
أقام للفضل دولةً حسُنتْ ... والوصفُ بالفضل أفضلُ الدُّوَلِ
واسْتتَر الظلمُ من عدالتِه ... بين حُصون الظِّباء بالكَحَلِ
يا أبيضَ العدلِ ما تركتَ بها ... سوادَ ظُلْمٍ إلا من المُقَلش
واعتدلتْ حيث ما اسْتمرَّ بها ... لولا قدودُ الحسانِ ذُو مَيَلِ
ما كنتُ ادري من قبل رُؤْيتِه ... كيف انْحصار الأنامِ في رجلِ
حتى رأيتُ امْرَأً يقوم له الدَّ ... هْرُ على ساقِه من الوَجَلِ
إن ادَّعَى مبصرٌ له شبَها ... فاحكُم على ناظِريْه بالحَوَلِ
هذا في استعمالهم كثير، ومن أبلغه قولي في غلام أحول:
بنفْسِيَ من أخْلصتُ قلبي لأجْلِه ... فما اخترتُ عنه قَطُّ أن أتحوَّلاَ
بديعُ جمالٍ لا يرى طرفُ ناظرٍ ... نظيراً له حُسْنا ولو كان أحْوَلاَ
ومن قصائده، ميميّته التي أهداها شنبا لثغر الأدب الباسم، وبعثها روحا في مجارى القبول الناسم:
تلك الطُّلولُ طلولُ سَلْمَى ... فافضُض بها للدمعِ خَتْمَا
دِمَنٌ غرَستُ بها الهوى ... فجنيْتُه كَمَداً وسُقْمَا
وانشُد هنالك مُهْجةً ... بصرِيعة الأحْداق تُسْمَى
خلَّفْتُها يوم النوى ... لِسهامها غرَضاً ومَرْمَى
وأظنها لم يُبْقِ منْ ... ها حبُّ ذاك الظبِي رَسْمَا
صنمٌ كأن اللهَ صوَّ ... رَهُ من الأرْواح جسمَا
وكأنما مُزِج الصَّبا ... حتى تكوَّن منه بالْمَا
وجَناتُه رقَّتْ فكا ... دتْ من خيالِ الوهمِ تَدْمَى
وَصَفتْ معاطُفه فكا ... دبها الغلائلُ أن تنمَّى
نفِّسْ عليه يا نِطا ... قُ فقد كدَدْتَ الخَصْر ضَمَّا
واخفِفْ مُرورَك يا نسي ... مُ فقد خدَشْتَ الخدَّ لَثْمَا
إنِّي غضضْتُ الطَّرفَ خوْ ... فاً أن يُؤثِّر فيه حَتْمَا
نَشْوانُ من خمرِ الدَّلا ... لِ مُعشَّقُ الحركاتِ ألْمَى
عُوِّضتُ فيه عن هُدا ... يَ وصحَّتي غَيّاً وسُقْمَا
إن الذي قسَم الهوى ... جعل القنا لي منه قِسْمَا
لا واخَذ اللهُ الدُّمَى ... بدمِي فقد هدرَتْه ظُلْمَا
فإلى مَ يا ثَمِلَ الجفو ... نِ وفي مَ تجفْوني ومِمَّا(1/274)
قد تَاه سلطانُ العيو ... نِ على القلوب وجار حُكْمَا
تلك الصِّفاحُ البيضُ ل ... كنْ للْمَنايا السُّودِ تُنْمَى
فكأنما راشَتْ لها ... عزَماتُ نجمِ الدين سَهْمَا
نجمٌ غدا للحائري ... ن هُدىً وللأعْداء رَجْمَا
وله الأيادِي الغُرُّ تُرْ ... جِع أوْجُهَ الحسَّادِ دُهْمَا
لو حاربَتْه الشُّهْبُ لَانْ ... قضَّتْ لديْه ترُوم سَلِمْاَ
منها:
خُذْها إلأيك أبا القوا ... في لا أراها اللهُ يُتْمَا
قد أطْلعتْ من كلِّ مَعْن ... نىً في سمَا عَلْياك نَجْمَا
أوْهمْتُها مدحَ السِّوَى ... فتميَّزتْ بالغيظِ وَهْمَا
ومن مصوناته التي إذا اشتهرت اشتغل الناس بها عن كل منظوم، واحتفلوا بها احتفال بني تغلب بقصيدة عمرو بن كلثوم، هذه الميميّة:
عاد فانْقاد للهوى بذِماِم ... بعد ما ودَّع الصِّبا بسلاِم
نسْمةٌ من رُبا الغدير استفزَّتْ ... من أقاصي الحشَى دَواعي الغراِم
نشأتْ من منابِت الشِّيح والقَيْ ... صوِم تروِى عن رَنْدِه والخُزاِم
ذكَّرْته عهداً قديماً وكم نبَّ ... هَ ذكرُ العهودِ جَفْنَ الهُياِم
بوجوهٍ تجلّتْ صُوَر الأقْما ... رِ ترْنُو عن أعْيُن الآرامِ
كل قَدٍّ يكاد يعقِده اللِّي ... نُ وتَثْنيه خَطْرةُ الأوهامِ
وفم طيِّب المُقبَّل والنَّكْه ... هة يُبْدى عن مثل حَبِّ الغَمامِ
أبْلَجٌ واضحُ الدليل بأنَّ الْ ... جوهرَ الفردَ قابلُ الانْقسامِ
ولذيذُ الحديث يقطُر ظَرْفاً ... بتثنِّي جِيدٍ وهَزِّ قَوامِ
لكلا العاشقْين ينفُث سحراً ... شكلُ رُعْبوبةٍ وزِيُّ غلامِ
هذا البيت آخذٌ بطرفي الحسن، تتنبَّه له من غيرتها الجفون الوسن.
وقد ذكر الباخرزيُّ في مثله بيتا، وهو:
لمُذكَّر الخُطواتِ غيرِ مُؤنَّثٍ ... ومُؤنَّثِ الخلَواتِ غيرِ مذكَّرِ
ثم قال، في وصفه: " هذا بيت شعر، يستوي بيت تبر، ففيه، قلبٌ يقبله كل قلب ".
ومما يقارب هذا قول بعضهم:
هو تحت العَجاج ليثُ عَرِينٍ ... وهْو فوق الفِراشِ ظَبْيُ كِناسِ
زمن مَرَّ كلُّ عام كيومٍ ... قِصَراً جَرَّ كلَّ يومٍ كعامِ
هكذا كلُّ مَغْنمٍ فهو عينُ الْ ... غُرمِ والوجدُ زائدُ الإعدامِ
سترى إن أعارَك الدهرُ عيناً ... أن دَرَّ الأيامِ للأيامِ
جلَّ بارِي الأمورِ في صُورِ الأضْ ... دادِ أبْدَى اللذاتِ بالآلامِ
وجلا العزَّ في ملابِس ذُلٍّ ... وكسَا الذلَّ صورةَ الإعْظامِ
وأراك المخْدومَ ناعمَ بالٍ ... وهْو أشْقى الخدام بالخُدّامِ
حسبُك القَنع منصباً وكفى المَرْ ... ءَ نعيما مُطارَحات الكرامِ
هي أهْنَى مواردِ العيش لكنْ ... كدَّرْتها مَؤُونة الاحْتشامِ
من خشوعٍ ولات حين صَلاةٍ ... واحْتراسٍ ولات حين صِدامِ
حركاتٍ تجري على غير طبعٍ ... وقعودٍ مُعَّينٍ وقيامِ
وأشدُّ البلا على الرأسِ تُلْفَى ... عِمَّةٌ مثل ذِرْوةِ الأهرامِ
ولباسٌ يغرى النَّوائبَ بالأكْ ... نافِ ضافي الأذْيال والأكْمامِ
صاحِبَيَّ ابْغيا لنا خارجَ الْعا ... لَم داراً فبئْس دارُ الزِّحامِ
واصْدُقاني ألسْتُما بين ليلٍ ... ونهارٍ، مالي حليفُ ظلامِ
واسْتعيرا لمُقلتي هَجْعَةً عَلَّ ... مَنامي يعودُ لو في منامِ
من أُمور تَقْذِى العيونَ وأخرى ... تصْدَع السمعَ مثل وخْزِ السهامِ(1/275)
مَشْربٌ كلُّه قَذًى سوَّغتْه ... إلفُ هذا النفوِس بالأجسامِ
ما أرى موتَ مَن فقدْنا من الإخْ ... وانِ إلا لفَرْط شوقِ الحِمامِ
هلكُوا هِمَّةً وأدركنا الَّل ... هُ بحُمْقٍ عشْنا به في جَمامِ
مَن أراد العيش الهَنِىَّ فلا يُعْ ... مِلُ فكراً فالعيشُ عيش السَّوامِ
وَيْكَ حتى م نحن غَرْقَى بحور الشِّ ... عِر أسْرَى سلاسلِ الأرْقامِ
قد عكَفْنا على غَوايتِنا نَضْ ... ربُ منها في غاربٍ وسَنامِ
قد غنَيْنا عن الدُّروس بما تُم ... لِى علينا صحائفُ الأيامِ
من عِظاتٍ تُتْلى بغير لسان ... وسطورٍ خُطَّت بلا أقلامِ
أرْمُسٍ دارِساتِ عهدٍ وأخرى ... طامِساتِ الصُّوَى وأخرى قِدامِ
ولوَ أنَّ العيونَ زال غَشاها ... لرأتْ كلَّ أَخْمَصٍ فوق هامِ
بل وفي وردةٍ ألف خَدٍّ ... وقضيبٍ يميسُ ألفَ قَوامِ
فلَكٌ دائرٌ وما هو إلَّا ... أجَلٌ ساهرٌ لقومٍ نيامِ
كم قرون طَحَنَّ أيضاً وكم تطْ ... حنُ أرحاؤُهنَّ بالإعدامِ
وقوله: " ولو أن العيون "، إلى آخر البيتين، معنى دقيق، وفي رُباعيّات عمر الخيام بالفارسيّ من نوعه أشياء كثيرة.
ولي في ترجمة رباعية من رباعياته:
في الاعْتبار بمَن مضى من قبلنا ... عِبَرٌ وتلك هدايةُ المسترشدِ
فلكم طوتْ ترْباؤُنا أُمَماً وهل ... مَيْتٌ بغير ثَرائِها لم يُلْحَدِ
حتى كأن شَقِيقها دمُ أسرةٍ ... سفَكتْ دماءَهمُ عيونُ الخُرَّدِ
وبَنَفْسَجُ الروضِ النَّدِىِّ كأنه ... خِيلانُ وَجناتِ الخدودِ الوُرَّدِ
ومن هذا قول المنجكيّ:
وإذا تأمَّلت الثَّرى ألْفيْتَه ... غُرَرَ الملوكِ تُداسُ تحت الأرْجُلِ
وقول السيد عبد الرحمن بن النقيب:
كم ضَمت التّرباءُ خَلْقاً قبلَنا ... من آخِر يقْفو سبيلَ الأوَّلِ
حتى كأن أدِيمَها ممَّا حوَتْ ... حبَّاتُ أفئدةِ الملوك العُدَّلِ
والمشهور فيه قول أبي العلاء المعرِّيّ، من مرثيَّته الشائعة:
رُبَّ لَحْدٍ قد صار لحداً مراراً ... ضاحكٍ من تَزاحُم الأضدادِ
صَاحِ هذى قُبورنا تملأ الرُّحْ ... بَ فأين القبور من عَهد عادِ
خفِّفِ الوَطْءَ ما أظن أديم الْأ ... رضِ إلَّا من هذه الأجسادِ
وقد شاركه فيه مهيار، في قوله:
رُوَيداً بأخْفاف المَطِيِّ فإنما ... تُداسُ جِباهٌ في الثَّرَى وخدودُ
ومنزع هذا كله قول أبي الطيِّب:
ويدفنُ بعضُنا بعضا ويمشي ... أواخرُنا على هامِ الأوالىِ
يريد بالأوالى الأوائل، وهو كثير في كلامهم، قال امرؤ القيس:
وأمنع عِرْسِي أن يُزَنَّ بها الخالِي
أي الخائل.
عودا إلى ما نحن فيه.
وما أحسن ظنَّه بربه، حيث قال:
لا أُبالي إن قبضتُ على ... سُنَنِ الإسلامِ قَطُّ عَنَا
رحمةُ الله التي وسِعتْ ... كلَّ شيءٍ لا تضيقُ بنَا
وهنا أنهى ترجمته بموشَّح له يذكر فيه عين الذهب، ويندب عيشاً له فيها ذهب:
بِأبي وَا بِأبِي وا بِأبي ... جَرْعةٌ من ماء عينِ الذهبِ
يارعاهُ الّلهُ من وادٍ وسيمْ ... رَقَّ فيه الماءُ واعْتلَّ النسيمْ
تُعرف النَّضرةُ فيه والنعيمْ ... عيشُنا فيه رَخِىُّ الَّلَبَبِ
غفلتَ عنه عيونُ النُّوَبِ
حيث ما يمَّمْتَ روضٌ وغديرْ ... وإلى جانبه ظَبْيٌ غَرِيرْ
وفِراشٌ مُنْقَنُ الوَشْىِ وَثِيرْ ... كمُلَتْ فيه دواعِي الطَّرَبِ
يؤْخذ الصيدُ به عن كَثَبِ
ونديمٍ شَبَّ في حجرِ الدلالْ ... لو عصَرْتَ الظَّرْف من عِطْفْيه سالْ
قمرٌ ينظر عن عيْنَيْ غزالْ ... وإذا ساجْلَته بالأدبِ(1/276)
يملُأ الدلوَ لعَقْدِ الكَرَبِ
هذا من قول الفضل بن العباس بن عتبة بن أبي لهب، حيث يقول:
مَن يُساجِلْني يساجِلْ ماجداً ... يملأُ الدلوَ إلى عَقْدِ الكَرَبْ
والكرب: الحبل الذي يشدُّ في وسط العراقيّ ثم يثلَّث، ليكون هو الذي يملأ الماء فلا يعفن الحبل الكبير، وهو مثل يضرب لمن يبالغ فيما يلي من الأمر.
قم بنا تنشَقْ رُوَيحاتِ السَّحَرْ ... قبل أن تَصْدا بأنْفاس البشَرْ
هذه الوُرْق تغنَّت في الشَّجَرْ ... وتناجَتْ في رءُوسِ القُضُبِ
أن مَن ضيَّع ذا الوقتَ غَبِي
قوله: " قبل أن تصدا " إلخ. من قول ابن الرُّوميّ:
وغيرُ عجيب طِيبُ أنفاسِ روضةٍ ... مُنوَّرَةٍ باتتْ تُراحُ وتُمْطَرُ
كذلك أنفاسُ الرياضِ بسُحْرةٍ ... تطِيبُ وأنفاسُ الأنام تغَّيرُ
دَأْبُنَا شَمُّ ورودٍ وخدودْ ... وعناقٌ من غصونٍ أو قُدودْ
والهوى لَفُّ خصُورٍ بزُنودْ ... لذَّةٌ ما شابَها من أشَبِ
خلُصتْ من موُبِقات الرِّيَب
نفْخُ روحِ الرَّاح في جسم الزُّجاجْ ... إنها تُثْمِر عن فَيْض المِزاجْ
أيها السَّاقي فبادِرْ بالعِلاجْ ... رصِّعِ الشمسَ لنا بالشُّهُبِ
واسْكُبِ الفضَّة فوق الذَّهَبِ
السيد موسى الرَّامحمدانيّ
من صفوة آل أبي طالب، وسُراة لؤي بن غالب.
تقتبس من مشكاته أنوار الصلاح، وتطلب من جانب طوره أطوار الفلاح.
طلع من قريته قبل أن يبلغ أشدَّه، وقد ربط نطاق عزمه وشده.
ثم ورد حمى الشَّهباء الأزين، كما ورد موسى ماء مدين.
فوجد أمَّةً من الناس على مائها يسيغيون، كما وجد موسى على ماء مدين أمَّةً من الناس يسقون.
فشرب من زلاهم حتى ارتوى، وحدَّث عنهم بما سمع وروى.
ومن خوارقه أنه خرق بحر القريض في تراجع أمره، وذلك بعد ما تجاوز عدد الميقات من سنى عمره.
والشاعر يقول:
وماذا يبتغي الشعراءُ منِّى ... وقد جاوزْتُ حدَّ الأربعينَ
فأظهر تلك البيضا في صنعة الشعر، وسحر بالبداهة والمعهود أنه يبطل السحر.
فكان قلمه كعصا سميِّه ثعبان البيان، يتلقف ما تلقيه سحرة البلاغة بين اللسان والبنان.
إذا جاء موسى وألْقَى العصا ... فقد بطَل السحرُ والساحرُ
ثم حجب بصره وكفَّ، فأصبح لشرفه محمولا على الأكفّ.
وهو في الشعر يوازن شاعر معرَّة النُّعمان، لكنه منزَّه الفطرة عن معرَّة العميان.
فمن غرائبه قصيدةٌ، أرسلها إلى دمشق، لأحمد شاهين، ضمن كتاب ولم يذكر اسمه، وأرسله مع من يجهل حدَّه ورسمه.
والقصيدة مطلعها قوله:
بانُوا فحدِّثْ عن الأحبابِ يا طَلَلُ
ومن جملتها:
أنَّي توجَّهَتِ الأظغانُ أيْن سَرَوْا ... مَن في الهوادِج مغذا وارَتِ الكِلَلُ
عن يَمْنة الحيِّ أم عن يَسْرِه ظعَنوا ... أم شَمْألاً أو جَنُوبا سارت الإبلُ
بانُوا وفي العْين منهم منْظرٌ حسَنٌ ... وفي الفؤاد كلُومٌ ليس تنْدمِلُ
فلما وصل الكتاب إلى الشّاهينيّ، سألأ ناقله عن مرسله، فلم يزده على أنه رجل من أشراف حلب.
فأجابه الشاهينيّ بهذه الأبيات، وأرسلها مع ناقل الكتاب:
ومن عجَبٍ دون العجائب عاجِبِ ... كتابٌ أتانا ليس يُعْزَى لكاتبِ
كتابٌ كريمٌ حيث أُلْقَىِ بيْننا ... طربْنا وقلنا من أجلِّ مُكاتِبِ
وأذْكَرنا لما أتانا مُنكَّراً ... سليمانَ إذ لم نَحْظ منه بصاحبِ
وقلنا كريمٌ من كريمٍ وإنني ... لعِرفانِ مُنْشِيه لأطْلَبُ طالبِ
على أنه قبلاً سليمانُ لم يكنْ ... ليكتُب إلا واسْمُه غيرُ غائبِ
فراجعه بقصيدة طويلة، قال في آخرها:
إن ابن شاهينَ لا تُنْسى صَنِيعتُه ... لو أنها نصفُ بيتٍ خُطَّ بالشعرِ
أنا الكليمُ عَصاتِي غيرُ خافيةٍ ... إن شِمْتها انْبَجستْ عينٌ من الحجَرِ
عينٌ من المجد ترْمى جوانبها ... نَبْلَ القصيد فترمى الأُسْدَ بالذَّعَرِ(1/277)
ونِسْبتي في قُصَيٍّ نِسْبةٌ وسَطٌ ... أعني بها نِسْبة المبعوثِ من مُضَرِ
ولستُ ذاكراً اسماً في مُراسلةٍ ... يُهْدَى بها النَّزْرُ من تَمْرٍ إلى هَجَرِ
هَضْماً لنفسِيَ عن قول الفقير كذا ... وهكذا في فُصول الآيِ والسُّوَرِ
وصل كتابك فملأ العيون ضياء ونوراً، والقلب فرحة وسروراً.
لكن شممت من اختصار نظمه إشارةً خفيَّة، وتوسمَّت في أفانين نثره عبارةً جليّة وتأولت الإشارة: الحرُّ بالقليل يقنع، وتأملت العبارة بما فيه كفاية ومقنع.
مترجِّياً وصل حبال الودّ، متمنِّياً قطع أمراس الصَّدّ.
على أنا أهل بيت لا نؤثر على الحب مذهبا، ولا نرغب عن قنطار منه بقنطار ذهبا.
وإن تواضع لنا الرفيع فبفضله، أو ترفع علينا الوضيع فعلى مهله.
وإن رأى المولى إتحاف العبد بما يملأ الفم عذرا، ويحدث لعلي محله ثناءً وذكرا.
ويقطع لسان الملام، فذلك إليه والسلام.
فراجعه بقصيدة أولها.
ما روضةٌ دبَّجَتْها السُّحْبُ في السَّحَرِ ... فدبَّجتْها يدُ الأنْواءِ بالزَّهَرِ
ويستجاد منها قوله:
وقد عرفتُ اليدَ البيضا له كرماً ... أما العصى فهْي للعاصِي بلا نكُرِ
أفْدِي الكليمَ الذي قد قال مُنبسِطا ... هذه عصايَ ولم يضرِب سوى الحجَرِ
إن الكليمَ حديدٌ في جَلالتِه ... لا سِيمَّا نَبْلُ رامي الأُسْد بالذَّعَرِ
والمُنْتَمِي المعتليِ في أوجِ نِسْبته ... لمُودِع الحِلْمِ حدَّ الصارمِ الذَّكَرِ
يسمُو بجّدَّيْن جَدٌّ قد أناف به ... على الحُظوظ وَجدٌّ سيدُ البشرِ
وُجوهُنا ونَواصِينا وأعيُننا ... مبذولةٌ لِتُراب المصطفى العطِرِ
ثم الوَصِىِّ ونَجْلَيْه معاً وهما ... ريْحانتاه ومن يُنْمَي لذاك حَرِى
منها:
مِن واصلٍ جاءنا حُرُّ القَريض وما ... من هاجرٍ جاءنا تمْرٌ إلى هَجَرِ
وجاءنا الدُّرُّ محمولا على صَدَفٍ ... وجاءنا العطْرُ يُذْكِى نَفْحَة الزَّهَرِ
وزارنا الغيثُ وَكَّافا على جَدَدٍ ... وجاءنا البحرُ فيَّاضاً على النَّهَرِ
من كل قَافيةٍ غنَّاءَ مُطْرِبَةٍ ... والشُّهْدُ فيما أتاني شِيبَ بالبَصَرِ
فرُحْتُ من راحِها المخْتوم مُنتشِياً ... لكن سكِرت بها في وَصْمِة العَكَرِ
وشعرُك الكاسُ قد سَرَّتْ أوائلُه ... لكن أواخرُه لم تخْلُ من كَدَرِ
لا بل هو الشُّهْدُ لا يصْفُو لعاسِله ... وليس يخْلُو مُجاجُ النحلِ من إبَرِ
لا بل هو الجيشُ سرَّتْني طلائعهُ ... وساءني بطْشُه بالبيضِ والسُّمُرِ
غادَرْنَ في منزلي أشياءَ من جَدَلٍ ... مُوسَّدٍ بين خَدْشِ النَّابِ والظُّفُرِ
هذا وهذا وما في القلب غيرُ هوًى ... قد حلَّ مني محلَّ النُّور من نَظَرِي
لكنَّ للشِّعر أطواراً يلُوح بها ... ولحديث شُجونٌ ليس كالغِير
مالي وللشِّعر والسِّتُّون قد أخذَتْ ... منِّي مآخذَها من سَطْوة الكِبَرِ
ولما وردت هذه القصيدة، خاطبه السيد أحمد بن النقيب، بقوله:
سَقَيْتَ زُلالَ الشِّعر هِيماً من الظمَا ... بجِلِّق حتى عن مواردِه كَلُّوا
فجازُوك أن زَفُّوا إليك عقِيلةً ... كذلك قد جُوزِى سَمِيُّك من قبلُ
وكتب إليه السيد المذكور أيضاً جواب أبيات:
لموسى يدٌ بيضاءُ في الشِّعر مالَها ... إذا ذُكِرتْ في مَحْفَلِ القومِ منكِرُ
وكنتُ أراه يُبْطِل السحرَ ماله ... بأشْعاره يَسْبِى العقولَ ويسحَرُ
تشوَّقْتُه إذْ غاب عنِّيَ بُرْهةً ... وأوْحشني بالهجرِ والهجرُ يعسُرُ
فآنَسَنِي منه بعَذْراءَ طَفْلةٍ ... شبِيهة بدرِ التِّمّ بل هي أنْوَرُ
فكنتُ كأني حين زارتْ سمِيُّهُ ... وبنْتُ شعيبٍ إذ أتَتْ تتبخْتَرُ(1/278)
ولو أنني أمْهَرْتُها العمرَ كلَّه ... فما أنا في التَّحقيق إلا مُقصِّرُ
وكتب إليه أيضاً، يطلب مراجعته، بقوله:
قسماً بمن جعل الفضا ... ئلَ والمعالي حَشْوَ بُرْدِكْ
وحَباك منه قريحةً ... كعصا سَمِيِّك في أشُدِّكْ
أبطلْتَ سحرَ بني القَرِي ... ضِ بها فكنتَ نسيجَ وَحْدِكْ
وتلقَّفتْ ما يصنعو ... نَ فآمنوا رَغْماً بمجدِكْ
إن القوافي قد ملكْ ... ت زِمامَها بعُلُوِّ جَدِّكْ
واخترتَ كلَّ فريدةٍ ... منها تضيءُ بسِمْطِ عِقْدِكْ
وبلغْتَ منه ما ترُو ... مُ فلم يصلْ أحدٌ لِحَدِّكْ
فَلأنتَ في شَهْبائنا ... مَلِكَ القريضِ برَغْم ضِدِّكْ
فاسلمْ ولا رُميتْ بنو الْ ... آدابِ في حلَبٍ بفَقْدِكْ
فراجعه بقصيدة طويلة، منها قوله:
فوق الشِّدادِ تشرَّعتْ ... يا ابنَ النَّقيبِ قِبابُ مَجدِكْ
وأطاعك الشرفُ الرَّفي ... عُ فأنت فيه نسيجُ وَحْدِكْ
أتْعبتَ جَدَّ بني القَرِي ... ضِ فقصَّرُوا عن نَيْل جَدِّكْ
وغدوْتَ تَرْفُل في العلى ... تِيهاً وتُرغِم أنْفَ ضِدِّكْ
وحكى السيد يحيى الصادقي، أن السيد موسى انتحل شيئاً من شعره، فكتب إليه يداعبه:
أقسمتُ بالسحرِ الحلا ... لِ وحُرمةِ الأدب الخطيرِ
ومصارعِ العشَّاقِ في ... لَحَظاتِ ذا الظَّبْيِ الغَرِيرِ
ومجالسِ الأُنْس التي ... عُقِدتْ على عَقْدِ السرورِ
إن كان موسى ذُو الأيا ... دِي البِيض والأدب الغزيرِ
لم يُرجِع المغْصوب من ... شِعرِي وما أبْدَى ضميرِي
لَأُذيقُه مُرَّ العتا ... بِ لدى الكبيرِ مع الصغيرِ
بل والخِصامَ لدَى الهُما ... مِ رئيسِنا صدرِ الصُّدورِ
وأصُوغ من دُرِّ القوا ... في عِقْدَ لَوْمٍ مستنيرِ
يُنْسِي أُولى الألبابِ ما ... فعل الفَرزْدق مَعْ جريرِ
فأجابه بقصيدة طويلة، منها:
مالي وللقَنْصِ الصَّري ... حِ وهِمَّتي صقرُ الصُّقورِ
وعصايَ طوعُ يدي تلقَّ ... فُ كلَّ سحرٍ مُستطِير
إن أُلْقِها انْبجسَتْ عُيو ... نُ المجدِ من صُمِّ الصخورِ
وبها على الدُّرِّ الثمي ... نِ أغوصُ في لُجَج البحورِ
وليَ اليدُ البيْضاء بيْ ... نَ الجَمْع والجَمِّ الغَفِيرِ
أستغفرُ الرحمن من ... دَعْوَى تُدنِّس بالفُجورِ
هذى قوافِي الشِّعر حا ... ضرةٌ لدى المولى الكبيرِ
نَجْلِ الحُسام المستبدِّ ... برأْيه الليثِ الهَصُورِ
مَن شُرِّفت حلبٌ به ... وعلَتْ على هامِ النُّسُورِ
إن كان ما زَعمُوه حقّاً ... فهْو أدْرَى بالأُمورِ
وله من قصيدة:
وفوْقنا الأغصانُ مَعْكوفةً ... تحنُو علينا من جفاءِ الهَجِيرْ
كأنها الغِيدُ تعطَّفْنَ من ... بعد زمانٍ هَجرُه كالسعيرْ
أو خَيْمةٌ خضراءُ من سُنْدُسٍ ... مَحْبوكةُ الأطرافِ حَبْكَ الحريرْ
والروضُ قد هتَّك من حُسْنِه ... سَرائراً أخفيْتُها في الضميرْ
مذ غنَّتِ الوُرْقُ على مُلْدِه ... أغْنَتْ عن النَّايِ الرَّخِيم المُثيرْ
يا عَنْدَلِيْبَ الروضِ مهلاً فقد ... هيَّجْتَ أشجانَ المُعَنَّى الأسِيْر
تشْدُو وصوتُ النَّجْمِ يستوقف الْ ... أملاكَ والأفلاكُ فيها المُدِيرْ
والشمسُ من غُرَّتِه أشرقتْ ... والبدرُ من ذاك المُحَيَّا المُنِيرْ
ومن مقاطيعه قوله:
أشدُّ من الموت الزُّؤامِ مَرارةً ... وأصعبُ من قَيْد الهوانِ وحَبْسِهِ(1/279)
مُعاشرةُ الإنسانِ مَن لا يُطيعه ... وحَشْرُ الفتى مَعْ غيرِ أبناء جنسِهِ
ومن لطائفه: أنه ذكر بحضرته فتى إذا جرى في وصف الحسان تصريح، فإنما هو لحسنه البديع تلميح.
تعيذه من خجلات الغرام، لما ترمقه عيون الملام.
فشغف به على السماع، وأوقف على حبه الأطماع.
ومازال به هائماً، وفي بحار عشقه عائما.
تأخذه حيرة التذكر، وتملكه لهفة التفكر.
فأنشده يوماً بعض الأدباء أبيات أبي العز الضرير، وقصد لومه في حب ذاك الظبي الغرير.
وهي:
قالوا عشِقتَ وأنت أعْمَى ... ظَبْياً كحِيلَ الطَّرْفِ ألْمَى
وحُلاهُ ما عاينْتَها ... فنقُول قد شغَلتْك وَهْماَ
من أين أرْسَل للفؤا ... دِ وأنت لم تنظُرْه سَهْمَا
وخيالُهُ بك في المنا ... مِ فما أطافَ وما ألَمَّا
فأتم جوابها من حفظه:
فأجبتُ إنِّي موُسَوِيُّ ... العِشقِ إنْصاتاً وفهماَ
أهْوَى بجارحةِ السَّما ... عِ ولا أرى ذاتَ المُسَمَّى
أبو مفلح محمد بن فتح الله البيلوني
ماجد أفلح رائده، وجلت فوائده وفرائده.
صفحته البدر إلا أنه مشرق، وحديثه الروض إلا أنه مورق.
وهو بمكان من النباهة مكين، يطلع له من كل ناحية على جيش البلاغة كمين.
ومع وقاره الذي به يعرف، يبدو له النكات ما يستملح ويستظرف.
وبلغت به السن وهو جوّاب بلاد، ومنفقٌ من رياشه كل طريف وتلاد.
فجاءت أيامه في تقلبات تقتضيه، لكنها لم تخل في الحظ من فلتات تسترضيه.
تصقل الأصائل ديباجتها، وتشعشع البكر زجاجتها.
فكم شغف به المدح المحبَّر، وتشوَّق إليه الثناء المعطَّر.
حتى إذا قربت به النوى، وادَّنت به على إلمام من فضل الثَّوا.
طلع طلوع النجم في الآفاق، وهبّ هبوب النسيم على أخلاق الرفاق.
وحل من الجفون محل الوسن، ونزل من القلوب نزول الفأل الحسن.
وقد رأيته بدمشق ووالدي يوسعه رعيا ومبرة يوترنح باغتنام محاضرته جذلا ومسرة.
وصبح وجهه يومئذ لم يبق فيه أثر غيهب، وكميت صباه جرى فعاد وهو أشهب.
وتناولت بعد من أشعاره المتهدلة الأغصان، أشياء تقرطت بزهرات الحسن والإحسان.
فمنها قوله، من قصيدة مستهلها:
دُمْتَ يا مَرْبَع الأحبَّة تَنْدَى ... كاسياً بالزهور بُرْداً فبُرْدَا
ياله مربَعاً إذا جاده النَّو ... ءُ فساقِى الصَّبوحِ يقطِف وردَا
وإذا انْساب في جداولهِ الم ... اءُ حساماً جلَى النسيمُ الفِرِنْدَا
جَنَّةٌ والغصونُ في حُلَل الأزْ ... هارِ حُورٌ بها ترنّح قَدَّا
وتهادَى مَعاطِفُ الْبانِ سُكْراً ... كتهادِي العناق أخْذاً وردَّا
وتُديرُ الصَّبا كؤوسَ شذَا النَّوْ ... رِ على نَغْمة البلابلِ سَرْدَا
كيف جُزْتِ الطريقَ يوماً ومن خَو ... فِك دمعي بالسيلِ يسلُك سَدَّا
لو رعيتِ العهودَ أحسنتِ لكن ... قلَّما تحفظُ المليحةُ عهدَا
وقوله من أخرى، مستهلها:
وجهٌ يقابلني لكنه قمرُ ... في الليلِ يطلُع لكن ليلُه شَعَرُ
نظرتُه فسَطا في القلب ناظرُه ... ورُبَّ حَتْفٍ به قد أوقع النظرُ
لله ما صنعتْ بي وَجْنتاه ومَن ... للنَّار يقرُب لا ينفكُّ يسْتعِرُ
ظَبْيٌ سبَى اللبَّ إلا أنه ملَكٌ ... من الملائك لكن طبعُه بشَرُ
عُلِّقتُه بدويّاً راق منظرُه ... ورقَّ حتى استعارتْ دَلَّه أُخَرُ
للسحر من لفظه معنىً بقوَّتِه ... عن العقول صوابُ الرأيِ مستترُ
ما شاقَني قبلَ رُؤْيا وجهِه قمرٌ ... ولم يُشَم بعد رَيَّا نعلِه عَطِرُ
جمُّ المحاسن معسولُ الدَّلال له ال ... قَدُّ الذي خَصْرُه لا يُدرِك البصرُ
لا عيبَ فيه سوى أن المحاسنَ من ... دون الأنام جميعاً فيه تنْحصرُ
عن كأسِه خدَّه سَلْ يا نديمُ لكي ... يُنْبيك أن الحُمَيَّا منه تُعتصَرُ(1/280)
وانظرْ محاسنَهُ دَرَّاً كمَبسَمِه ... منه كدمعِك دُرُّ اللفظ ينتثرُ
منها:
عيْناه في القلب أغصانُ الهوى غُرِساَ ... ورُبَّ غَرْسٍ جَناه الصَّابُ والصَّبِرُ
أوْلَيْتُ للشوقِ قلباً ليس يرجع من ... هجرٍ أيرجعُ ماءٌ حيث ينْحدرُ
ومن مديحها قوله:
يكاد بدرُ الدُّجَى يُنْمَى لطلْعتِه ... لو كان يمشي على وجهِ الثرى القمرُ
قضى الإلهُ بأن يُفْدى بحاسدِه ... فما له حسَدٌ باق لو عُمُرُ
والدهرُ لو أنه نَاواه لانْقلصَتْ ... ظلالُه ورأينا الناسَ قد حُشِرُوا
له عزائمُ زان الحِلمُ سَطْوتَها ... ينْقَدُّ إن شامَها الصَّمْصامَةُ الذَّكَرُ
منها:
وافَيتُ باكِرَ لا أرجو سواهُ وما ... سواه ليس له نفعٌ ولا ضَرَرُ
وجئتُ سَبْسَبَ خَطْبٍ من مَناسِمِه ... بسيْل ذَوْب اصْطباري تملأُ الحُفَرُ
وأيْنُقِي حين أحْدُوها بمدْحك لا ... يكاد يلْحقها من سُرعةٍ نَظَرُ
كأنها ابْتلعتْ بِيدَ الفَلا وسرتْ ... في السُّحْبِ تقصِد حيث الغيثُ ينْهمرُ
فظَهْرهُنَّ حرامٌ إذْ بلَغْنَ إلى ... نادٍ يحِلُّ بمن قد حلَّه الوَطَرُ
منها:
وهذه مِدَحي في طَيِّ أسطُرها ... عَبِيرُ ذكرِك في الأقْطار يْنتشرُ
عذراءُ ترفُل في ثوبِ البلاغ لها ... من القوافي حُجولٌ صاغَها الخَفَرُ
ألفاظُها كصخورٍ في متانتِها ... وكلُّ لفظٍ به معناه مُنتقرُ
وله من قصيدة، أولها:
صَبابةُ لا اصْطبارَ يضمِرها ... ومهجةٌ لا خليلَ يعذُرُهَا
ودمعةٌ لا الزَّفيرُ يُنضِبها ... وزفرةٌ لا الدمُوع تُضمرُهَا
وعَشْقةٌ قد أبان أولُها ... أن هلاكَ المحبِّ آخرُهَا
فكل نارٍ وإن علَتْ خمَدتْ ... سوى التي وَجْنةٌ تُسِّعُرهَا
وَيْحَ جريحِ اللِّحاظ عِلَّتُه ... في الطبِّ حيث الطبيبُ خِنْجرُهَا
ثباتُ عينُ الحبيبِ ليَلته ... كالنجمِ لكن أبيتُ أسهَرُهَا
لولا الكرى قامت مُرنَّحةً ... لم تكُ أيدي الجفونِ تهْصُرُهَا
لي زَفْرةٌ لم أزلْ أُصعِّدُها ... ودمعةٌ لم أزلْ أُقطِّرُهَا
ما العشقُ إلا كالكِيمياءِ أنا ... دون جميعَ الأنام جابرُهَا
تبْسَم إن كُلِّمتْ مَشاكِلُها ... ودُرُّ دمعي غدا يُناظِرُهَا
هيفاءُ ما الغصنُ مثلَ قامتِها ... لكنَّ أعْطافَه أشايِرُهَا
أعشق من أجْلها الكَثِيبَ إذا ... يضمُّ أمثالَه مَآزِرُهَا
وأحسِد البدرَ في محبَّتها ... فغيرُه لا يكاد يْنظُرهَا
وألثَمُ المسكَ والعبيدَ عسى ... يكون مما فتَّتْ ظفائرُهَا
لله ما في الهوى أُعالجُ من ... لواعِجٍ في الهوى أُصابِرُهَا
يا حبَّذَا خُلْسةٌ ظفرتُ بها ... في غَفلةٍ للزمان أشكرُهَا
حيث لعْهدٍ غدتْ تمُدُّ يداً ... لم تدْرِ أسرارَها أساورُهَا
يسألها خاطرِي الوصالَ ولا ... يُجيب عنه إلَّا خواطرُهَا
ليت ليالي الوِصالِ لو رجعتْ ... أوْليت قلبي معي فيذكرُهَا
ومن مقاطيعه قوله:
لا تُلمْ من شكا الزمانَ وإن لم ... تَشْفِ شكْواه علَّةَ المَجْهودِ
إنما يُحوِج الكرامَ لشكْوَى ... شوقُ ما في طباعِهم من جُودِ
وهنا أذكر ثلاثة من بلغاء النثر والنظم، نسقهم الشِّهاب في مطالع خباياه نسق النظم.
فمنهم:
السيد محمد بن عمر العرضي
هو من ألقيت إليه في كرم الطبع أعنة السلم، فلولا توقد ذهنه لا خضر في يده القلم.(1/281)
مكانته من الشهرة حيث يستبين للمبصر النهار، وطبعه يتنفس عن المعاني تنفس الروض عن الأزهار.
وله عذب لفظٍ يلفظ الدرر الزواهر، وفي غير هذا العذب لا تتكون الجواهر.
نظم فيوزِّع على العقول سحراً، وينثر فيفرق على الأفواه دُرًّا فهو يذيب الشعر والشعر يذيبه، ويدعو القول والسحر يجيبه.
إذا خط في الطرس نم ببدائع الآثار، وأطرب حتى كأن قلمه مضرابٌ وسطوره أوتار. فيجيء من أبكار افكاره، بما يستعير الرحيق السلسل من فضل إسكاره.
وكان دخل الروم مقدراًَ أن المتاع بأرضه يسترخص، وأن المرء يبلغ مناه في أي وجه يشخص.
فلم يحصل على ما يستحقه وفور كماله، فقال يذكر ما لقيه من تخلف آماله: لما ضاقت رقاع بلادي، ونفدت حقيبة زادي.
فوقت سهام الاحتيال، وأجلت قداح الفال.
فكان معلاها السفر، سفينة النجاة والظفر.
طفقت أتوكأ على عصا التسيار، وأقتحم موارد القفار.
أفرى فلاةً يبعد دونها مسى النعى، وألطم خدود الأرض بأيدي المطى.
فكنت فتى قذفته رقة الحال على بريد النوى، واعتنقته الهمة العاقر وألقحت بعزمه لواقح المنى.
أساير عساكر النجوم والأفلاك، وقد ركز الليل رمح السماك.
فأنخت راحلتي بمخيم المجد، وقرارة ماء السعد.
كعبة الأفاضل إلا أنهم يحجون إليها كل آن، وسوق عكاظهم إلا أنها تنصب فيها مصاقع الروم لا مصاقع عدنان.
فلما ألقتني فيها أرجوحة المقادير، فإذا هي فلك العز ومطلع التدبير.
إلا أن حالي تقسمت فيها بين الاغتراب والاضطراب والاكتاساب أثلاثا، فما نزلت منها منازل إلا حسبتها علىَّ أجداثا.
وسقتني الدردى من أول دنها، وسوء العشرة باكورة فنها.
كل هذا وأنا أستلين مس خشونتها، وأسيغها على كدرتها.
وأقول: إذا لم تتمَّ الصدور فستتم العواقب.
وإن لم ترش القوادم فستريش الخاوفي والجوانب.
وكتب إلى حلب لبعض أودائه: وأيم الله لقد طال حديث الفراق واستطال على سلطانه، وقد قرأت كتابه فما سرني خاتمته، بقدر ماساءني عنوانه.
وكلما محت أنامل وشك الملتقى من أسطره سطرا، خطت أقلام ممليه عوضه عشرا.
وكلما استنهضت عزيمتي أقعدتها كلا كل التَّواني، وحالت بينها وبين مخدارت الأماني.
فإلى الهل عز وجل أرفع يد التضرع، وأذرى في ساحة الدعاء دموع التفجع والتوجع.
أن ينظم ذات البين، ويجدع بحد الاجدتماع مارن البين.
وكتب من تعزية بنقيب أشراف حلب: ما أيقنت أن قسطنطينية هي الجزيرة السودا حتى وقع لدىَّ طير هذا النعى الذي ما زال حامله يلطم خدود الأرض بأيدي المطى.
فياله من خبر حينٍ زاد في مرض القلوب، وشقَّ الأكباد قبل الجيوب.
وقرأت ما كتبته أقلام التفجع بأفواه الجفون، ونثرت عندها عقد شملي المصون.
حيث لم أدخر لسفر هذه الفرقة من زاد، ولا بلَّيت غليلها ببراد.
وأيم الله ما ذكرت لطائم أخلاقه الغر، وحلاوة منطقه الحر.
وقطفه نور الفضائل، وإهداءه باكورة المسائل.
وإحرازه قصب السبق، وثبوت قدمه على جادة الصدق.
وإيواءه لي في حواشي وده الخصيب، وإلباسي كل يوم رداءً لفقده القشيب.
إلا اتقدت عليه حراً، وتأبطت على الحمام شرا.
وأسأل الله تعالى أن يجعل وفاته خاتمة كتاب الرَّزايا، وقافية بيت البلايا.
وأن يقلم ظفر مصابه بأنامل الصبر، ويذيقكم عن مرارة صابه حلاوة الأجر.
ومن شعره في أيام اغترابه، يشتكى من كثرة اضطرابه:
أمَا لأسيرِ الروم فَكٌّ من الأسْرِ ... فقد ملكتْ آرامُها القلبَ بالأسْرِ
بها نثرُ شَمْلِي من ثغورٍٍ تنظَّمتْ ... فيالكَ من نَظْمٍ غدا داعيَ النَّثْرِ
ولا بِدْعَ في أرضِ الثغُورِ شتَاتُنا ... ومَن لي بَلثْمٍ سَدَّ ذَيَّالك الثَّغرِ
يُذكِّرنا رَوْعَ العذارَى بمنْزلٍ ... أجادَ المنازِي وَصْفَه غابرَ الدَّهرِ
إذا همستْ في شُكْرِ غيرِك ألْسُنٌ ... فأنت لك الأسفارُ تُعلِن بالشُّكْرِ
بقيتَ لك العلياءُ تُعْطِى قِيادَها ... بتلك اليدِ البيضاءِ والبِيضِ والسُّمْرِ
وله يتشوق إلى أحبابه، ويحن إلى معاهد صبوته وشبابه:
يا بريدَ الأشواق أوْجِفْ لدارٍ ... هي مُصْطاف لَوْعتي وشبابِي(1/282)
واختبرْ أُسرةً أراهم بكاسِي ... ما تذكَّرتُهم بطافي الحَبابِ
هل هواهم بنا كما قد عهدْنا ... أم قضى شخصُه بحُبِّ اغْترابِي
فمن اللهِ أسْتعيدُ لِقاهُم ... وله إن جفا الحميمُ احْتسابِي
فهْو عَوْنُ النَّائِي الغريبِ إذا ما ... عَضَّه حادثُ الزمان بنَابِ
وقال:
أحِنُّ إلى شَهْبائنا وقُوَيْقِها ... إذا انْساب منه بالنَّيارِب سَلْسالُ
وأظْمأُ حتى أرْتوِي منه بالَّلمَى ... وألْثَم أرْضاً دونها خَفَقَ الْآلُ
ولم تسْتِمْلني الرومُ شمسُ مُدامِها ... تُدار بكَفِّ البدرِ والمرءُ مَيَّالُ
فماءُ بلادي كان أنْجعَ مشرباً ... ولوأن ماءَ الرومِ صَهْباءُ جِرْيالُ
قويق نهر حلب، أكثر الشعراء من وصفه، فمن وصفه الخطيب أبو عبد الله محمد بن حرب، في قوله:
لقد طُفْتُ في الآفاقِ شرقاً ومغرِبا ... وقلَّبتُ طَرْفي بينها مُتقلّبا
فلم أرَ كالشَّهْباءِ في الأرض منزلاً ... ولا كقُوَيقٍ في المَشارب مَشْربا
وللصنوبري فيه:
قُوَيقٌ إذا شمَّ ريحَ الشِّتا ... ءِ أظهرَ تيهاً وكِبْراً عجيبَا
وناسَب دجْلةَ والنِّيلَ وال ... فُراتَ بهاءً وحسناً وطِيبَا
وإن أقبَل الصيفُ أبصرْتَه ... ذليلاً حقيراً حزينا كئيبَا
إذا ما الضفادعُ ناديْنَه ... قُوَيْقُ قُوَيْقُ أبَى أن يُجِيبَا
وتمْشِي الجرادةُ فيه فلا ... تكادُ قوائمها أن تغيبَا
وله فيه:
قُوَيْقٌ على الصفراء رُكِّب طبعُه ... رَباه بهذا شُهدُه وحدائقُهْ
فإن جَدَّ جِدُّ الصيفِ غادر جسمَه ... ضئيلاً ولكنَّ الشتاءَ يوافقُهْ
وله فيه، من قصيدة:
هو الماءُ إن يوصَفْ بكُنهِ صفاتِه ... فللْماء إغْضاءٌ لديه وإطْراقُ
ففي اللون بَلُّورٌ وفي اللَّمْعِ لُؤْلُؤٌ ... وفي الطِّيبِ قنْديدٌ وفي النَّفع دِرْياقُ
إذا عبثتْ أيْدي النسيم بوجْهِه ... وقد لاح وجهٌ منه أبيضُ بَرَّاقُ
فطوراً عليه منه دَرَق خفيفةٌ ... وطوراً عليه جَوْشَنٌ منه رَقْراقُ
وقد عابه قومٌ وكلهمُ له ... لى ما تعاطَوْه من العيْب عُشَّاقُ
وقالوا ألبس الصيفُ يُبْلى لِباسَه ... فقلتُ الفتى في الصيفِ يُقْنعه طَاقُ
وما الصبْح إلاّ آيِبٌ ثم غائبٌ ... تُوارِيه آفاقٌ وتُبديه آفاقُ
ولا البدرُ إلا زائدٌ ثم ناقِصٌ ... له في تَمام الشهرِ حَبْسٌ وإطلاقُ
ولو لم تَطاولْ غَيْبةُ الوردِ لم تَتُقْ ... إليه قلوبٌ تأئقاتٌ وأحداقُ
ولو دام في الحبِّ الوصالُ ولم يكنْ ... فِراقٌ ولا هجرٌ لما اشْتاق مشتاقُ
وفضْل الغنى لا يسْتبينُ لدَى الغِنَى ... إذا لم يكنْ في ذلك الفضلِ إمْلاقُ
قُوَيْقٌ رَسِيلُ الغيثِ بأتي وينْقضي ... ويأتي انْسياقاً تارةً ثم ينْساقُ
وللعرضي من مكاتبة:
هل من خليلٍ بشَهْبانَا نُخَالِلُهُ ... وهل غزالٌ إذا عُدْنا نُغازِلُهُ
عهدْتُها وشموسُ الرَّاحِ جاء بها ... بدرُ التَّمام وغصنُ الْبان حاملُهُ
إن ماسَ من وَلَهٍ وَاذُلَّ عاشقِه ... حتى م يفْنَى إذا ما اهْتزَّ عاملُهُ
تُرَى إذا ما قرعْنا باب ساحتِه ... يُولِي الجميلَ وإلاَّ خاب آملُهُ
وهل نَوَدُّ فتى شطَّتْ منازلُه ... ورَبْعُه قد خلا والبَيْن منازلُهُ
ما حِيلتي وطُروق البَيْن أقْلقني ... كأنَّ عيْشا مضى ما زال زائلُهُ
طال الفِراقُ فلا وافٍ يُراسِلنا ... على البِعاد ولا آتٍ نُسائلُهُ
وله:
هم القومُ إن بانُوا عن العينِ أوبانُوا ... بهم رَبْعُ قلبي آهلٌ حيث ما كانُوا(1/283)
أنقِّلهُم من منزلٍ بعد منزلٍ ... ولولا انْتضاءُ السيفِ أصْداه أجْفانُ
فطوْراً جعلتُ العينَ وادِي عقِيقهمْ ... إذا سال منها بالمَدامع طُوفانُ
وطوراً لهم قلبي الغَضَا ما تضرَّمت ... بتَذْكار عيشٍ لمْ يدُم ليَ نِيرانُ
لئن فات عيني منهمُ اليوم بَهْجةٌ ... فقد ملأتْ دارَ الأحاديث آذانُ
وكم من مُحِبٍّ لم يشاهدْحبيبَه ... كما تُعْشَق الجنَّاتُ روضٌ وأفْنانُ
أُؤَجِّج في الأحْشاء نارَ القِرَى عسى ... على ضوئِها تعْشُو من الطَّيْفِ ضِيفانُ
فرشْتُ له جَفْناً بطائفة الكرَى ... وأين الكرَى هيهات قَوْليَ بُهتانُ
فما الطيفُ إلا البدر والنومُ فكرتي ... فها أنا يقظانٌ وها أنا وَسْنانُ
أمولايَ يا هذا الصَّلاحي الذي به ... صَلاحُ وِدادٍ قد وهَى عنه ثَهْلانُ
لئن ظمئتْ عيين إلى مَنْهَلِ اللِّقا ... فقلبي برَيّاً ذكرِك اليومَ رَيَّانُ
ومن غرر قصادءئه في إبداء التشوق، قوله:
على أثَلات الوادِيَيْن سلامُ ... وبعضُ تَحايا الزائرين غَرامُ
تذكَّرتُ أيامي بها وأحبَّتي ... إذا العيشُ غَضٌّ والزمان غلامُ
وإلْمامتي بالحيِّ حيثُ تواجهَتْ ... قصورٌ وأكْنافُ الحمَى وخيامُ
أُلامُ على هِجْرانهم وهمُ المنَى ... وكيف يُقيمُ الحرُّ وهْو يُضامُ
همُ شرَعوا أنَّ الجفاءَ مُحلَّلٌ ... وهم حكموا أن الوفاءَ حرامُ
بقلبيَ رَوْحٌ منهمُ وضَمانةٌ ... وعنديَ بُرْءٌ منهم وسَقامُ
وأبْلحَ أمَّا وجهُه حين يُجْتَلي ... فشمسٌ واما كفُّه فغَمامُ
جرى طائري منه سَنِيحاً فعلَّني ... بدَرِّ أيادٍ مالهُنَّ فِطامُ
شَرَدْتُ عليه غيرَ جاحدِ نعمةٍ ... أُكلَّفُ خَسْفا بعده وأُسامُ
وقد يُسلَب الرأيُ الفتى وهْو حازمٌ ... وينْبُو غَرارُ السيفِ وهْو حسامُ
فقد وجد الواشون سُوقا ونفَّقوا ... بضائع زودى مالهُنَّ دَوامُ
وبعضُ كلام القائلين تزيُّدٌ ... وبعضُ قبول السامعين أَثامُ
فأصبح شَمْلُ الأُنْس وهْو مُبدَّدٌ ... لديه وحبلُ القُرْب وهْو زِمامُ
يُقَرِّب دوني من شَهِدتُ وغيَّبوا ... ويُوصِل قبلي من سهِرتُ ونامُوا
تزاوَر حتى ما يُرجَّى الْتفاتَهً ... وأعْرَض حتتى ما يَرُدُّ سلامُ
فلا عَطْفَ إلاَّ لَحْظَةٌ وتنكُّرٌ ... ولا رّدَّ إلا ضَجرةٌ وسَآمُ
فإن يكٌ رأيٌ زَلَّ أو قدَرٌ جرى ... بنازِلةٍ فيها عليَّ سلامُ
فواللهِ ما فرَّقتُ فيك جنايةً ... أُعابُ بها في جَحْفَلٍ وأُذامُ
ولا قَرَّ لي بعد التفرُّق مَضْجَعٌ ... ولا طابَ لي بعد الرَّحيلِ مُقامُ
ولا ليَ إلَّا في ولائك مَسْرَحٌ ... ولا ليَ إلَّا في هواك مَسَامُ
وإن أكُ قد فارقتُ دارَك طائعاً ... فللدهرِ في شَتِّ الجميع غَرامُ
فقَبْلِيَ ما خلَّى عليّاً شقيقُه ... وقرَّ بِه بعد العِراق شآمُ
حياءً فإن الصفحَ فيه مَغَبَّةٌ ... ومَعْذرةٌ إن الكرامَ كِرامُ
أَلِمْنا وأعْذرْتم فإن تبْلُغِ المَدَى ... من العَتْب نُعْذَر دونكم ونُلامُ
وأحسنتُم بَدْءًا فهلَّا أعدتمُ ... ففي العَوْد للفضلِ الجميل تَمامُ(1/284)
أُجِلُّك أن ألْقاك بالعُذْر صادقاً ... وبعض اعْتذار المُذْنبين خِصامُ
أتبْعُد حتى ليس في البُعد مَطْمَعُ ... وتُعْرِض حتى ما تكاد تُرامُ
وتنْسى حقوقي عند أوَّل زَلَّةٍ ... وأنت لأهل المَكْرُمات إمامُ
ألم ألْقَ فيك الأسْرَ وهْو مُبَرِّحٌ ... وألْتذُّ طعمَ الموت وهْو زُؤَامُ
وأخْطو سوادَ الليل وهْو جَحافلٌ ... وأرْعَى نجومَ الأُفْق وهْيَ سِهامُ
هو الذنبُ بين العفو والسيفِ فاحْتكمْ ... بما شئتَ لا يعلو بفضْلك ذَامُ
ولا تَبْلُني بالبُعد عنك فإنما ... حياتيَ إلَّا في ذَراك حِمامُ
إذا ما جَزْيتَ السُّوءَ بالسُّوءِ لم يكنْ ... لفضلِك بين الأكْرمين مَقامُ
أعِدْ نظراً في حالتِي تَلْقَ باطنا ... سَلِيماً وسِرِّى ما عليه قَتَامُ
فمثلُك لم تْغِلب عوائدُ سُخْطِه ... رِضاه ولم يْبعُد عليه مَرامُ
فلا تُنْكرَنْ فيما تسَخَّطتَ ساعةً ... فقد مَرَّ عامٌ في رِضاك وعامُ
وإن عَزَّ ما أرْجوه منك فإنني ... لينفعني تسْليمةٌ ولَمامُ
فلا تُشِعرَنِّي غِرَّة اليأْسِ إنما ... أمامي وراءٌ والوراءُ أمامُ
أترْضى لفضْلِي أن يضيعَ ذِمامُه ... ومثلُك لم يُحْقَر لديه ذِمامُ
ومن بدائعه قوله في قسطنطينية:
تأوَّب مُخْتبِطاً للكرَمْ ... خيالٌ ألَمَّ شكا من ألَمْ
ديارٌ يخِرُّ لديها الخليجُ ... وتنْسَى المحاسنَ فيها إرَمْ
تعَدَّى العواصمَ ثم الدُّروبَ ... وكم ضَال في ضَالِها والعَلْم
يؤُمُّ الجزيرةَ دارَ العلوم ... ودَسْتَ المُلوك ومَرْعَى الهِمَمْ
أُسائِلُه لِمْ قرعْتَ الثغورَ ... وقَرْعُ الثغورِ دليلُ النَّدَمْ
وأُنْموذَج من جِنان النعيمِ ... لقد عجَّل الله فيها النِّعَمْ
وعلق بها فتى من بني زرقا العمامة، بصير بأسباب التبريح بصر زرقاء اليمامة.
عقد على أدق من الوهم الزنار، وألقى قلب هذا الموحد من شغفه بالنار.
فملأ من خمرة وجده كؤوسا لم يدن منهاعكر اللوم، ولم يبق قدحٌ في عهده إلا تطفح سوى هلال شهر رمضان.
واستمر يعاني ولوعة، ويطوى على يدي الصبابة ضلوعه.
إلى أن هلك الغلام، فقرأه بعده على العشق السلام.
فمما قاله فيه، من قصيدة:
وعصرٍ بقُسطَنْطينيَّةٍ قد قطعتُه ... على وَفْق ما قد كان في النفس والصدرِ
يميني بها كراسةٌ أجْتَلى بها ... علوماً لقد زاوَلْتُها غابِرَ الدهرِ
أُحرِّر منها في الطُّروسِ بدائعاً ... فأملا صدورَ القوم في الوِرْد والصَّدرِ
وطَوْراً أُحَلِّى من زمانيَ عاطلاً ... بِعِقْد نِظامٍ صاغَه صائغُ الفِكْرِ
مَعانٍ إذا ما صُرَّ دُرَّ وَعَى لها ... تراه بِصُرَّ راح وهْو بلا دُرّ
أُضمِّنها سَلْوى الحزين ورُقْيةَ السَّ ... ليمِ ومأخوذٌ من اللِّحظ بالسِّحْرِ
وكفُّ شِمالي للشَّمُول يَنابِعٌ ... إذا احْتشَّها الساقي أذاعتْ له سِرِّى
من العبْقرييِّن الذين تحمَّلوا ... نَقَا كَلْكَلِ الزُّنَّارِ فوق وَهَي الخَصْرِ
إذا اعْتمَّ زرقاءَ اليمامةِ خِلْتَها ... سماءً بها قد لاح نُورسَنا البدرِ
وإن قام بين الشَّرْب خلْتَ قَوامَه ... قَنَا ألفٍ قامت على وسَط السَّطْرِ
وإن أَتْرَع الكاساتِ خلْتَ يمينَه ... لُجَيْنا تُحلِّيها مَقامعُ من تِبْرِ
وإن نظرتْه العينُ نظرةَ ذي الهوى ... سقاني بكأسِ العين خمراً على خمرِ(1/285)
وأدْجُو بليلٍ من ذوائبِ شعرِه ... فيا رَبِّ هل في لَثْمتي الثَّغْرَ من فُجْرِ
أفكِّر في يوم النوى ليلةَ اللِّقا ... فأذْرِى دماءَ العين من حيث لا أدْرِى
فأمْسَحُ في كافورةِ الجيد مُقْلتي ... عسى أنّ بالكافور دمعِيَ لا يجرِي
فما زال في ثَوْبِ الخلاعِة ظاهرِي ... وقلبي بذكْرِ الله يفتَرُّ عن دُرِّ
إلى أن قذفْتُ الشِّرْك عن صَفْو خاطرِي ... كما تُقذَف الأدْناسُ عن لُجُّةِ البحرِ
وقال فيه، بعد ما هلك:
ألا قُل لقُسْطْنطينيَّة الرُّوم إنني ... أُعادِي لقُسْطنطين اسْمَك والرَّسْمَا
لقد غيَّبْته في الثرى غير واجدٍ ... مُحِبًّا يُفاديه الحُشاشة والجِسْما
وقد تركتْني ساهرَ الطَّرْف بعده ... مُشتَّتَ شَمْلِ البالِ أرْتِقب النَّجْمَا
سأهجُر فيه خُلة الكأْسِ والهوى ... وأجْتنبُ اللَّذَاتِ أن عُدْن لي خَصْما
ولما خلص من هواه، وقفل من الروم إلى أرض مثواه.
محض أشعاره إلى التوسل والتشفع، وسمت همته إلى التنصل عن المدح والترفع.
فمما قاله في غضون ذلك، من نبوية:
ما زلتُ حَسَّاناً له ولبيْته ... ولصَخْرِ ذاك البيتِ كالخنْساءِ
أبْكي العقيقَ وساكنِيه وليْتني ... كنتُ المُخضَّب دونهم بدماءِ
وله، من مقصورة:
ومُذ نشرتْ صفحةُ البيد سُرَى ... رسمَتْ بالمنَسْمِ واواً للنَّوَى
وله:
قد ألِفْتُ لهموم لمَّا تجافتْ ... عن وِصالي الأفراحُ وازدَدْتُ كُرْبَهْ
فديارُ الهمومِ أوطانِيَ الغُرُّ ... ودارُ الأفراح لي دارُ غُرْبَهْ
وله:
لئن سلَبوني لُؤْلؤاً كنتُ صُنْتُه ... بأصْدافِ فكري لم يثقِّبْه ثاقبُهْ
وإن غلبتْني الأغنياء وطيَّشَتْ ... سِهامي وعيشى كان صَفْواً مشارِبُهْ
فللهِ قوسٌ لا يَطيشُ سهامُها ... ولله سيفٌ ليس تنْبُو مَضارِبُهْ
وله:
وجَنَّةٍ كالشقيق مِرآتُها اليومْ ... مَ صفَتْ من قَذاةِ عين الرَّقيبِ
خُضِّبتْ من دَم القلوب فما تُبْ ... صَرُ إلاَّ تعلَّقتْ بالقلوبِ
وله:
الصخرُ رقَّ لحالتي ياذا الفتى ... مذ صرتُ خنساءَ وقلبي قد عَتَا
يا أيها الرِّيمُ الذي ألْحاظُه ... سلَّتْ على العُشّاقِ سيفا مُصْلَتَا
كم ذا أُعانِي فيك أهْواءً وكمْ ... أصْلَى بنيرانِ الهوى وإلى متَى
الله أعلمُ لم أبُحْ بهواكمُ ... لكنما العينانِ فيما نَمَّتَا
أتُرَى زماناً مَرَّ حُلْواً بالحمى ... هو عائدٌ والعيشُ غضٌّ ثَمَّتَا
ما كان في ظنِّي الفِراقُ وإِنما ... قاضي الغرام عليَّ ذلك أثْبتَا
كم ليلةٍ للوصلِ قرَّبتِ الكرَى ... عطَس الصَّباحُ ولم أُجِبْه مُشِّمتَا
وعلى الذي نطَق الكتابُ بمدْحِه ... وأتى الخطابُ له بسُورةِ هل أتَى
منِّى صلاةٌ أجْتني نُوَّارَها ... من جَنَّةٍ عينايَ فيها نَمَّتَا
وله:
إنِ يغِب كلُّ صاحبٍ وصديقٍ ... والرَّزايا بساحتيك أنابَتْ
فاسْتمِدَّنَّ رَوْحَ رُوحِ نَبيٍّ ... إنَّ رُوح النبيِّ ما قطُّ غَابَتْ
وله، في موشم:
أفْدِى غزالاً تعرَّى من ملابسِه ... والجسمُ من ترَفٍ أضْحى كفَا لُوذَجْ
كأنَّه وطِرازُ الوشمِ دارَ به ... جسمٌ من الدُّرِّ فيه نَقْشُ فَيْرُوزَجْ
وله، في صائغ:
وشادِنٍ صائغ هام الفؤادُ به ... وحبُّه في سُوَيْدا القلب قد رسَخَا
ياليْتني كنتُ مِنْفاخاً على فَمِه ... حتى أُقِّبل فَاهُ كلما نفخَا
وله:
رَيْحانُ خدِّك ناسخٌ ... ما خَطَّ ياقوتُ الخدُودْ
وقَع الغبارُ بها كما ... وقَع الغبارُ على الورُودْ
وله في الدخان:(1/286)
كأن قُضْباننا وأرْؤُسَها ... تُشَبُّ نيرانُها من الوَقْدِ
سُمْرُ القَنا بالدِّما مُعَّممةً ... أو أنَّها مثلُ أغْصُنْ الوَرْدِ
وله في حامل قنديل:
وشادنٍ جاء والقِنْديلُ في يدِه ... ما بْيننا وظلامُ الليلِ مُعتكِرُ
كأنه فلَكٌ والماءُ فيه سمَا ... والنارُ شمسٌ به والحاملُ القمرُ
وله:
وقالوا تركْتَ الشعرَ فيمن تُحِبُّه ... ولم تخْترعْ معنىً قديماً ولا بِكْراَ
فقلت تجلَّى بعضُ أنْوارِ حُسْنِه ... على طُوِر أحْشائي فأحْرقتِ الفِكْرَا
وله:
طويتُ رُقْعة حالي عن شِكايتِها ... وقد سكنتُ زوايا الفَقْرِ والباسِ
وقد قطعتُ حِبالى عن رجَا بَشرٍ ... مُعوِّضاً بسهام الموتِ والياسِ
حِيناً يجود وأحْياناً تُبخِّلُه ... خلائقٌ أوْحشتْه غِبَّ إيناسِ
وقد لَجأْتُ إلى مَوْلًى أرَى ثقتي ... بفضْله نسخَتْ أحكامْ وَسْواسِي
هو النَّصِير لعبدٍ لا نَصِيَر له ... ترْميه بالهُون ظُلْما أعُينُ الناسِ
وله:
أسْتوْدعُ اللهَ بدراً لا أُودِّعُه ... كيْلا يَنمَّ إلى واشِيه أدَمُعُهُ
ولو بكى لم يكنْ ذاك البُكا أسَفاً ... إذ لم تدعْ بيَد التَّفريق أضلعُهُ
وإنَّما هو يسْقِى سيفَ ناظرِه ... كيْما يُعجِّل للمشتاقِ مَصْرعُهُ
أفْدِيه من راحلٍ أتْبعْتُه نفسا ... ومُقْلةً لم تزلْ دوني تُشيِّعُهُ
وامتدح بعض الأدباء بقوله:
أبداً أناضِلُ فيك أفْراسَ المُنى ... وأصونُ أوقاتي عن التَّفْريقِ
وأظنُّ أن الدهرَ ليس بمُوحشِى ... وبأنه ببنِيه خيرُ رَفُوقِ
لكنَّ للأيام حكماً جائراً ... أمْضَى شَباً من صارِم مطروقِ
يا صَيقْلَ الفكرِ الكليلِ ورَوْنَقْ الْ ... عمرِ القصيرِ وزَوْرةَ المعشوقِ
انْتَشْتنى من بعد عَوْمِى في الرَّدَى ... وتقُّلبِي والنارُ دون حريقِيِ
أُمْسِى كما يُمسِى السليمُ مُسهَّداً ... لا بالطَّليق أُرَى ولا المْوثُوقِ
شَوقى إليك وإن تقارب عهدُنا ... شوقىِ إلى عهدِ الشَّبابِ الرُّوقِ
وله أيضاً:
روضةٌ كالشباب شوقٌ ورُوقُ ... كم بها للنسيم ذيلٌ رقيقُ
ما سقاها السحابُ إلَّا وبَثَّ الشُّ ... كرَ عنها بَنَفْسَجٌ وشَقِيقُ
كلَّما انْحَلَّ للسحائب خيْطٌ ... عاد للروض منه نسجٌ أنِيقُ
نثرتْ عَسْجَد الأصيلِ عليها ... راحةُ الشمسِ يْعتريها خُفوقُ
كم ركَضْنا فيها بخَيل الملاهِي ... يوم ماشَتَّ للفريق فريقُ
وخطيبُ الأطْيار قام بسُوق الْ ... أُنْسِ يشْدو وعيشُنا مَرموقُ
ورياض الحِياضِ طاب وقد دَبَّ ... عِذارٌ من الظِّلال يَرُوقُ
ومن رباعيَّاته:
يا بدرَ مَلامةٍ له البدرُ شقيقْ ... القلبُ وحرمِة الهوى منك شقِيقْ
عهدي بجَنَى خَدِّك ورداً فلما ... قد عاد بلحْظِي ذلك الوردُ شقِيقْ
ومن بدائعه قوله:
تلك الثَّنايا وَاشقائي بها ... باتتْ تُريني عند لَثْمِي الطَّرِيقْ
تبدَّدتْ من غَيْرةٍ عندها ... سبُحْةُ دُرٍّ نُظِّمتْ من عَقِيقْ
من هذا قول العز البغدادي:
أشِّبه الثغرَ على خالِه ... تشْبيهَ من لا عنده شَكُّ
بسُبْحةٍ من جوهر أُودعتْ ... حُقَّ عقيقٍ خَتْمُه المِسْكُ
وله:
للهِ يا عصرَ الهوى والصِّبا ... ما كان أهْناكَ وأحْلاكَا
إذ فيك ليلَ الخَيْف رَيْحانهٌ ... أشَتمُّها في ظلِّ مَمْساكَا
تمسَّك الليلُ بأذْيالنا ... حتى حسبتُ الليلَ لَيْلاكَا(1/287)
وله في السيد أحمد بن النقيب:
من مبلِغٍ عني الشِّهابِي أحمدَا ... نجلَ النقيب الشامخ المتعالِي
لا تفخَرنَّ عليك بعدُ بقَّيةً ... من لم تنلْها لستَ بالمِفْضالِ
المرءُ يكرَع عن مَناهلِ خالِه ... وشرابُ آلَا كالسَّرابِ الْآلِ
للهِ قاضي عصرِك العَدْلِ الذي ... أعطاك خالاً ثم صاحبَ خالِ
فبقدْر ما تهْواه من ذِي الخال قد ... أُعْطيت عكسَ هَواك عند الخالِ
وله:
وحقِّك للا أن جُودَك ماطرٌ ... لما أخْصَبتْ بالبِشْرِ روضةُ آمالِي
وإنِّيَ عبدٌ وابنُ عبدٍ لديك في ... عُبوديَّتي قد فُزْت بالنَّسَب العالِي
وقد أقبَلَتْ نحوى الصروفُ بجيْشها ... فقابَلها شُجعانُ صبري وإقْلالِي
صروفٌ أمانيها المَنايا فلم تُرَعْ ... بصبرِي ولم ترجِعْ بعجْزي وإذْلالِي
فأدْرك بألْطافٍ بقيَّةَ مُهجةٍ ... أليفةِ بَلْبالٍ حليفةِ أهوالِ
فلى فيك ما يُحيْى ظنُونَ خُطورُها ... على البالِ يُحيى مَيْتَ عِزِّى وإقْبالِي
عسى عَطْفةٌ أنِّي أفوزُ بسَعْدِها ... ومِن فوق هام الفخرِ أسحبُ أذْيالِي
وله:
إن خالَ الحبيب ممَّا شَجانِي ... وعَنانِي به الأسَى والمَلالُ
قلتُ إذْ طاب نَكْهةً وسَواداً ... قُمْ أرحْنا بقُبلةٍ يا بِلالُ
وله:
خُلِقتُ مَلُولا لو يطول بيَ الصِّبا ... تلقَّيتُ شْيْبي ضاحكَ السِّنِّ باسمَا
ولو لم أُرَجِّ الموتَ في كل ساعةٍ ... لقضَّيتُ هذا العمرَ ثَكْلانَ واجِما
ولولا انْحطاطِي تارةً وترفُّعي ... لما طلبتْ نفْسي العلى والمَكارمَا
فمالي صديقٌ ترْتضيه صداقتي ... ولا لي عدوٌّ أتَّقيه المَظالمَا
فطوْراً جعلتُ الأصدقاءَ أعادِياً ... وطوراً عدوِّي أرْتضِيه مُسالمَا
ولا لي على حالٍ قَرارٌ ولا بَقَا ... وكيف وبي التَّبْديلُ أصبح قائمَا
منها:
أُشاهد هذا الخلقَ مثلَ سفينةٍ ... وسَفَّانُها المولى تبارَك دائمَا
فمن شاء يُنْجيه إلى ساحلِ البَقَا ... ومن شاء يُلْقيه فيصبحُ عائمَا
كذا قُرْعةُ الأقدار قد حكَمتْ به ج ... فلا تقترحْ شيئاً فما أنتَ قاسمَا
فمُتْ مَوْتةً بالإخْتيار وَجَرِّدَنْ ... ثيابَ السِّوى إن كنت بالله عالمَا
وكُن للقَضا كالمَيْتِ في يدِ غاسلٍ ... عساك من الأدْناسِ تظهر سالمَا
ولا تَقْفُ قُطَّاع الطريق إلى الهدى ... فتصبحَ في تِيِه الضلالةِ هائمَا
وله في أرمد:
ذاك الذي طَلَّتْ دمي عينُه ... وراح يُسَّمى أرمدَ الإسْمِ
لمَّا رآني لدَمِي ثائراً ... عَصَّبها بالمِطرَفِ المُعْلَمِ
قولُوا له يكشفُ عن عيْنه ... فإنَّ فيها نُقَطاً من دمِي
وله:
وجهُه كعبةُ حُسْنٍ ... ولَماه ماءُ زمزمْ
خِلْتُ ذاك الخالَ منه ... حجرَ الأسْود ِيُلْثَمْ
ورأيت بخطه: ومما نسجته في حلية من نسج عليه العنكبوت، من حليته الشريفة، وهو مثبوت:
اسمعْ حِلْية النبيِّ المُكنَّى ... من لَآلٍ فرائدٍ ذاتِ معنَى
أبيضُ اللون أنُفه كان أقْنَى ... ذو جبينٍ طَلْقٍ وأفْرَقُ سِنَّا
خافضُ الطَّرْفِ هيبةً وحياءً ... وله حاجبٌ أزَجُّ مُثنَّى
وكثيفُ الِّلحَى مُجمَّع شَعْرٍ ... أسودُ العين كاسِرٌ لك جَفْنَا
هُدْبُ عيْنيْه مثلُ أقْدام نَسْرٍ ... وله راحةٌ غدتْ وهْي تُثْنَى
مثل ما رَقَّ أُنْمُلا رَقَّ قلباً ... مثل ما طال أيْدِياً طال مَنَّا
يالَسطرٍ من فوق مُهْرَقِ صَدْرٍ ... من شُعورٍ كالخَزِّ لِيناً وحُسْنَا(1/288)
إن يسرْ سار جملةً كانْحطاطٍ ... من عُلُوٍّ يجوز رُكْنا فركنَا
كاملُ القَدِّ لم يُسايرْه قِرْنٌ ... في مَقامٍ إلَّا وقد طال قِرْناً
وإذا رام منطقَ القوْ ... لِ بثَغْرٍ فيُوزن اللفظَ وَزْنَا
دائمُ الفكرِ مظهرٌ لسرورٍ ... في مُحيَّاه وهْو يكتمُ حُزْنَا
فعليه الصلاةُ كلَّ مساءٍ ... وصباحٍ ما صيِغَ في القول مَعنَى
وله في شريف، يدعى بالحسن:
في دَعَةِ الله إن ظعْنت وخلَّفْ ... تُ شريفاً يا ليته ظَعَنَا
فرَّق بيني وبينه زمنٌ ... لَا يْنتُه وهْو لم يزل خشِنَا
لا أبصرتْ مُقلتي محاسنُه ... إن كنتُ أبصرتُ بعده حَسَنَا
وله مضمنا بيت الفرزدق، وقد نسخه عن معناه الأول، وجعله في الدخان:
وظبي غريرٍ بات عصْراً مؤانسِي ... وليس سِواه من جليسٍ ونُدْمانِ
فقد أصبح الغلْيونُ قائد جوهرٍ ... بِثغْرٍ له يحكى عقودَ جُمانِ
يقودُ ليَ الرِّيقَ البُرادَ الذي به ... غدتْ تنْطفِي لَوْعاتُ قلبي ونيِرانِي
وأُضْرِمه حيناً بنار حُشاشتي ... فللهِ من ضِدَّيْن يعْتلجانِ
وبتُّ أفدِّي الزَّادَ بينى يوبينه ... على ضوء نارٍ بيْننا ودُخانِ
ومن بدائعه قوله:
وَبْلاه من جيدٍ كماءِ الحياهْ ... حَفَّ به زِيقٌُ كشَطِّ الفُراهْ
كأنما أطْواقُه حولَه ... فَوَّارةٌ تُمطرُ ماءَ الحياهْ
وقوله في القهوة، مضمنا بيت المتنبي في مدح كافور:
برُوحِي غزالٌ راح يُتْرِع قهوةً ... براحتِه البيْضاءِ تحكْي الغواليَا
فقرَّتْ به عينٌ تُطالع وجْهَه ... وثَغْرُ ثَناياه نُظِمْنَ لَآليَا
فأحْبِبْ بها سوداءَ مِسْكيَّةَ الشَّذَا ... ولولا سوادُ المِسْك ما كان غاليَا
لقد نظَمْت شَمْلَ المُحبِّ بِحبِهِّ ... وأنْسَتْ بياضَ الماء مَن كان صَادِيَا
فجاءتْ بنا إنْسانَ عين زمانِه ... وخلَّتْ بياضاً خلفها ومآقِيَا
وقوله:
قيل لي كم ولِمْ تُرى تَتمادَى ... في الهوى والطريقُ وَعْرٌ قَصِيُّ
قلتُ ظنِّي بالله ظنٌّ جميلٌ ... وبخْير الأنام جَدِّى علىُّ
إن لله رحمةً تسَعُ الخَلْ ... قَ جميعا فمَن هو العُرْضِيُّ
فتح الله بن النحاس
أنا لا أجد عبارة تفي في حقه بالمدح، فأرسلت اليراع وما يأتي به على الفتح.
وناهيك بشاعر لم يطن مثل شعره في أذن الزمان، وساحرٍ إذا أشربت كلماته العقول استغنت عن الكؤوس والندمان.
سهام أفكاره تفك الزَّرد، وكنانة آرائه تجمع ما شت وشرد.
فهو للمعاني الباهرة مخترع، وآت منها بأشياء لم يكن بابها قرع.
وباب الفتح لم يغلق، وكم في خزائن الغيب من أشياء لم تخلق.
فسارت بأشعاره الصبا والقبول، وصادفت من الناس مواقع القبول.
كأنها نفس الرَّيحان المبتل، يمزجه بأنفاس النَّور نسيم الروض المعتل.
أسْرَى وأسْيَرُ في الآفاق من قَمرٍ ... ومن نسيمٍ ومن طيْفٍ ومن مَثَلِ
وقد اثبت من متخيات قصائده، وأدبه الذي علقت القلوب في مصائده.
ما لم يتغن بمثل خبره الحادي والملاح، ولم تزه بأحسن من وصفه قدود الحسان وخدود الملاح.
قال البديعي في وصفه، وذكر ابتداء أمره وإيراد لمع من نثره وشعره: نشأ في الشهباء ووجه نسخة البدر في إشراقه، يناجي العاذل عن عذر عشاقه.
وهناك ما شئت من منظر عجيب، ومنطق أريب.
كأن الجمال ملكه رقه، ولم ير غيره من استحقه.
وهو مع تفرده بالحسن، ولوع بالتجني وسوء الظن.
بصير بأسباب العتب، يبيت على سلم ويغدو على حرب.
كم متيمٍ في حبه رعى النجم فرقاً من الهجر، لو رعاه زهادةً لأدرك ليلة القدر.
بخيل بنزر الكلام، يضن حتى برد السلام، لا يطمع الدنف بمرضاته ولو في المنام.
وأبناء الغرام يومئذ يفدونه، ويرون كل حسن دونه.
ومُذ بدا العارضُ في خدِّه ... بُدِّلت الحمرةُ بالاصْفرارْ(1/289)
كأنما العارِضُ لمَّا بدا ... قد صار للحسن جناحاً فطارْ
ونسخت آية جماله، وكسفت آية هلاله، وحال ذلك البها عن حاله.
وصار ضياء محاسنه ظلاماً، وعقيان ملاحته رغاما.
لو فكَّر العاشقُ في مُنتهى ... حسنِ الذي يسْبيه لم يسْبِهِ
ولما بطل سحر هاروت أحداقه، وفكت الأفئدة من وثاقه.
عطف على محبيه يستمد ودادهم، ويستقى عهادهم.
وكان شأنه مع الجميع، شأن الفضل بن الربيع.
فاندرج في مقولة الكيف، وعلم أن المحاسن سحابة الصيف.
وأصبح عبير وحده، وصده من ريع بصده.
وجعل زي الزُّهاد شعاره، واتخذ من الشعر صداره.
حداداً على وفاة حسنه البهيج، وفوات جماله الأريج.
وما زال يرثى أيام أنسه، وينعى ما يتعاطاه من الكيف على نفسسه.
حتى ضاق نطاق حضيرته، ومل الإقامة بين عشيرته.
فأعطى عنانه ليد البعاد، وامتطى غارب الإتهام والإنجاد.
كأنَّ به ضِغنا على كلِّ جانبٍ ... من الأرض أو شوقاً إلى كلِّ جانبِ
إلى أن بلغه الله غاية المأمول، ووفقه بأن استوطن مدينة الرسول.
وأقام بجوار الشفيع، إلى أن غيبه بقاع البقيع.
وفي كثرة أسفاره يقول:
أنا التاركُ الأوطانَ والنازحُ الذي ... تتبَّع ركبَ العشقِ في زِيِّ قائفِ
وما زلتُ أطوِى نَفْنَفاً بعد نَفْنَفٍ ... كأنِّيَ مخلوقٌ لِطَيِّ النَّفانفِ
فلا تعذِلوني إن رأيتم كتابتي ... بكلِّ مكان حلَّه كلُّ طائفِ
لعل الذي بايَنْتُ عيشِى لبَيْنِه ... وأفْنيْتُ فيه تالِدِي ثم طارِفِي
تكلِّفه الأيامُ أرضاً حَلْلتُها ... ألا إنما الأيامُ طَوْقُ التكالُفِ
فيُملي عليه الدهرُ ما قد كتبتُه ... فيعطِف نحوي غصن تلك المعاطِف
ومن بدائعه قصيدة ينعى بها نفسه على أكل الأفيون، ويتأسف على ماضي حسنه:
مَن يُدخِل الأفيونَ بيت لَهاتِه ... فْلُيْلق بين يديْه نْقدَ حياتِهِ
وإذا سمعتم بامرئٍ شرِب الرَّدَى ... عَزُّوه بعد حياته بمماتِهِ
لو يا بُثَيْنُ رأيتِ صَبِّك قبل ما ال ... أفيون أنحْلَه وحلَّ بذاتِهِ
في مثل عمرِ البدر يرْتَع في ريا ... ضِ الزَّهْوِ مثل الظَّبْيِ في لَفَتاتِهِ
من فوق خدِّ الدهر يسحب ذيلَ ثو ... بِ مُناه أنَّى شاء وهْو مُواتِهِ
وتراه إن عبَث النسيم بقَدِّه ... يْنقدُّ شَرْوَى الغُصْنِ في حركاتِهِ
وإذا مشى تِيهاً على عُشَّاقه ... تتقطَّر الآجالُ من خَطَراتِهِ
يرْنُو فيفعلُ ما يشاء كأنما ... ملَكُ المَنَّية صال مِن لَحَظاتِهِ
لرأيتِ شخصَ الحسنِ في مِرآتِهِ ... ودفعْتِ بدرَ التِّمِّ عن عَتَباتِهِ
وقوله، من أخرى:
يا هذه إن أنتِ لم تدرِ الهوى ... تجْحديه ففي الهوى اسْتحْكامُ
وأبيكِ كنتُ أحَدَّ منك نواظراً ... وبكل قلبٍ من جَفايَ كِلامُ
والسحرُ إلَّا في لساني منطقٌ ... والحسنُ إلا في يدَيَّ خِتامُ
لَدْنَ القَوامِ مَصُونةً أعطافُه ... عن أن تَمُدَّ يداً له الأوْهامُ
مُتمنِّعا لا الوعد يُدْنِى وَصْلَه ... يوماً ولا لخيالِه إلْمامُ
حتى خلقْتِ السقمَ فيه بنظْرةِ ... ولقد يُلاقِى ظُلْمَه الظَّلَّامُ
وتنوَّعتْ أدْواؤه فبطرْفهِ ... شكلُ الرقيبِ وفي الصِّماخِ مَلامُ
ودخل دمشق فاتخذ الأمير منجك نديم مجلسه، ومطمح أماني ترنحه وتأنسه.
فتوافق الليل والسمر، واجتمع الشمس والقمر.
على السعد في هذا القرأن، والتنافس من أماجد الأقران.
فجالس الفتح به القعقاع، ولم يقل: الفضل للمتقدم. كما قال ابن الرقاع.
وله فيه قصائد منها داليته التي أولها:
نثر الربيعُ ذخائرَ النُّ ... وَّارِ من جَيْب الغوادِي
وكسا الرُّبى حَللا فَو ... اضلُها تُجرُّ على الوِهادِ(1/290)
وكأن أنْفاس الجِنا ... نِ تنفَّستْ عنها البوادِي
والزَّيْزَفُون يُفتُّ غا ... ليةً مُضمَّخةً بجادِى
يُلقِى بها للروض في ... وَرَق كأجنحة الجرادِ
هاج النفوسَ ولم يفُتْ ... هـ غُير تهْييجِ الجمادِ
والورد مخْضوبُ البَنا ... نِ مُضرَّج الوَجنات نادِى
نُصِبتْ له سُرُر الزَّبَرْ ... جَدِ والخيامُ بكل وادِي
حرسْته شوكةُ حسنِه ... من أن تُمَدَّ له الأيادِي
والعَنْدليبُ أمامه ... بفصِيح نَغْمته يُنادِي
مَن رام يعبَث بالخدو ... د فدونَها خَرْطُ القتادِ
وحَذارِ مخضوبَ البَنا ... ن إذا تمكَّن من فؤادِ
فامْسَحْ بأذْيال الصَّبا ... عن مُقْلتيْك صدَى الرقادِ
هل هذه بُكَر الرُّبَى ... أم هذه غُرَر الرشادِ
وانهضْ لكسْب جديد عُمْ ... رٍ من بُكور مُستفادِ
واقَنعْ بظِّلك أو بظلِّ ... الدَّوْحِ عن ظل العبادِ
ماراج من طلب المعي ... شةَ بين إخوان الكسادِ
لا يُعجبنَّك لِينُ من ... أبصرْتَه سهلَ القيادِ
وأبيك مالانتْ لغي ... رِ الطعنِ ألْسنةُ الصِّعادِ
لا تشتهي وجَعَ الفوا ... دِ مضى زمان الاتّحادِ
نفسِي الفِداءُ لمَنْجَك الْ ... مُسْتعِزِّ بالانْفرادِ
لا يُجْتنَني إلا بمجْ ... لس فضلِه ثَمَرُ الودادِ
مُتكثِّر بغنى الشَّما ... ئل لا بعاجلةِ النَّفادِ
شِيَمُ الجواد هي الغنى ... لاماحَوتْه يدُ الجوادِ
الدهر مْغلولُ اليديْ ... ن وذاك مَبْسوط الأيادِي
وله في أحمد بن شاهين، البائية التي أخذت من البلاغة أوفر الأنصباء والقسم، وأقسمت البراعة بقوافيها على أن مبدعها محكُّ الأدب ولا غرو فالباء من حروف القسم.
ومستهلها:
ألَذُّ الهوى ما طال فيه التجنُّبُ ... وأحْلاه ما فيه الأحِبَّاء تَعْتَبُ
يقول في مديحها:
يُمزِّق شَمْلَ المشكلاتِ لوقْتها ... إذا شِيَم مِن فِيه الحسامُ المُذَرَّبُ
توقَّد حتى ليس يْخبو ذكاؤُه ... وكاد وحاشَا فكرُه يتلهَّبُ
وبيت ختامها:
ولا بَرِح الحسَّادُ صَرْعَى وكلُّهم ... على مثلهم ما في قلبِه يتقلَّبُ
واتفق له مع الأدباء مجالس تؤثر، وعليها الأرواح تلقى وتنثر.
فمن ذلك مجلس في روض أورقت أشجاره، وتنَّفست عن المسك أسحاره.
غبَّ سحاب أقلع بعد هتونه، ودار دولابه يسقيه بجفونه.
توسدهم أنهاره معاصم فضية، وتنيمهم أفياؤه تحت ذوائب مرخية.
فقال:
وروضٍ أنيقٍ ضمَّنا منه مجلسٌ ... على نَوْره جَفنُ الدَّواليبِ ساكبُ
خَلا حسنه عن كل وَغْدٍ يَشِينه ... وما صَدَّنا لما أتْيناه حاجبُ
طَلعنا بدوراً في سَماه وبيننا ... جُمانُ حديثٍ هُنَّ فيه كواكبُ
وبِتْنا وأوراقُ الغصون غطاؤنا ... على فُرُشِ الأنهار والطيرُ نادِبُ
فنعم مكاناً مابه قطُّ قاطِنٌ ... وبْيتاً ولكن ماله الدهرَ صاحبُ
وهنا أذكر منتخبات من شعره، مرتبة على حروف المعجم.
فمنها قوله يخاطب العمادي، مفتى الشام، وقد رمدت عيناه:
فِدىً لعيِنك دون الناس عينائي ... وكلُّ عضو فِداه كلُّ أعْضائِي
نوَدُّ لو كان مُوْدُوعا بأنفِسنا ... ما تْشتكيه بعْينٍ منك رَمْداءِ
نَظَّارةٌ لكتابِ الله قد مُلئتْ ... خوفَ الوشاةِ بإشْفاق وإغْضاءِ
وأنتَ لا عن حجابٍ كنت ناظرَنا ... فارْفَع حجابَك وانظُر للأحبَّاءِ
وقوله من قصيدة، مستهلها:
عطَف الغصنُ الرطيبُ ... وتَلافانا الحبيبُ
أيُّ عضوٍ تسْرح الأبْ ... صارُ منه وتؤُوبُ(1/291)
فاتَّقِ اللهَ وغُضَّ الطَّ ... رفَ عنه لا يذوبُ
أبو تمام:
قد غَضَضْنا دونك الأبْ ... صارَ خوفاً أن تذُوبَا
وله:
ما لمسْناه ولكن ... كاد من لَحْظٍ يذوبُ
أيها العشَّاقُ مَحْ ... زونُ الهوى منِّي طَرُوبُ
كلَّ وقتٍ ليس تْن ... شَقُّ قلوبٌ وجُيوبُ
إنما يمْزَج بي في ... لُجَّة العشق لَعوبُ
وإذا بدَّ سُرورٌ ... وإذا نَدَّ نحيِبُ
والذي يهجر في الحبِّ ... للاحِيه نسيبُ
ما على مَن سَرَّه الْ ... وصلُ إذا غِيظ الرَّقيبُ
رَنَّةُ القوسِ لِرا ... مِيها وللغير النُّدوبُ
منها:
وإذا أمكنتِ الفُرْ ... صةُ أجْني وأتوبُ
في الهوى صَحَّ اجْتهادِي ... فأنا المُخْطِى المُصيبُ
من مديحها:
ضاحكُ الوجه وهل في ... طلعةِ القُطْب قُطوبُ
جنَّةُ الشمس لها فِي ... هِ شروقٌ وغروبُ
أيُّ قلبٍ حلَّ مني ... كلُّ أعْضايَ قلوبُ
ومن مختاره:
وجهُك صبح المُنى ولى زمنٌ ... آمُل إقْبالَه وأرْتقبُ
تُلْقِى المعاني إلىَّ زَهْرتَها ... فأجْتنيها والغيرُ يحْتطبُ
وكم بيوتٍ ملأْتُها حِكَماً ... وهُنَّ إن شئتَ خُرَّدٌ عُرُبُ
أسُوغ من جَرْعة الزُّلال على ال ... قلبِ وفي قلبِ حاسدي لَهبُ
منها:
دارُ اغْترابي التي عنِيت بها ... مصرُ ودارِي وحبَّذا حلَبُ
دارٌ تُمِيتُ الهمومَ نفْحتُها ... وتغْتذى من عبيرِها الكُثُبُ
لاقُرْبُها للكرام مَضْيعةٌ ... ولا حِماها للضَّيمِ مُنْقلَبُ
علىّ أن لا تنامَ لَوْعتُها ... بين ضلوعِي همومُها شُعَبُ
منها:
لا أقْبلُ الضَّيْم كيف أقْبله ... والمجدُ يأْباه فيَّ والحسَبُ
والشمسُ صَوْنا لضوءِ طَلْعتها ... خوفَ لَحاقِ الظلام تحْتجِبُ
يُظَن صَدْعِى لقَرْع نائِبةٍ ... وإنَّما من أحبّه النُّوَبُ
كأنني من زُجاجةِ جسَدٌ ... أحِبَّتي في انْكسارِه السببُ
وله في هذه القصيدة، وهي من بدائعه:
طَمِّنْ فؤادَك أيُّ حُرٍّ ... لم يُرَع بالخَطْب قلبُهْ
ودِع المَلام فداءُ مَن ... عالجْتَ بالتَّطمين طِبُّهْ
لا تُكثِرَنْ هلَّا فعْل ... تَ عليه فالفعَّال ربُّهْ
المرءُ يصعُب جَهدُه ... ويلين بالمقْدور صَعْبُهْ
لا تتَّهمْني فالمُؤا ... خَذُ في الزمان النَّذْلِ نَدْبُهْ
وأبيكَ من زمنِ التَّرعْ ... رُعِ لم يزلْ دأْبي ودأْبُهْ
ومن العجيبِ لدَى اللِّئا ... مِ عَطاؤُه ولدىَّ سَلْبُهْ
يا دهرُ مثلي لا يُقَلْ ... قَلُ عن سَنام المجدِ جَنْبُهْ
أنا لا أُبالي إن رمي ... ت وسبَّ عرضِي من أسبُّهْ
السيفُ يُرمَى بالفُلو ... لِ إذا فشَا في الصَّلْد ضَرْبُهْ
والعينُ يُديمها الذُّبا ... بُ ويُعجِز الآسادَ ذَبُّهْ
والتِّبرُ يعلوه التُّرا ... بُ ولا يضرُّ التِّبر تُرْبُهْ
وأبيك ما نُكِب اللبي ... بُ وفضلُه باقٍ ولُبُّهْ
هم يعرفون بأن نجْ ... مِي تحرِق الطاغين شُهْبُهْ
والصبرَ يُرْقيني إذا ... وثَب الزمان وعضَّ كلبُهْ
إن مَجَّنى قومٌ فإن ... الموتَ ليس يسُوغ شُرْبُهْ
أو قيل قد مَلُّوه فالْسَّ ... مُّ الزّعافُ يُمَلُّ قُرْبُه
أما المَلال فإنني ... عُوِّدتُه ممن أُحُّبهْ(1/292)
وإذا تكلَّف في الودا ... دِ أخو الودادِ فكيف غربُهْ
فاطْوِالبساط فالانْبِسا ... طُ قد انْطوى في الناس سِرْبُهْ
والشِّعر أخْلَف نَؤْوُه ... وتقشَّعتْ في الجوِّ سُحْبُهْ
ما زال تلفحُه سُمو ... مُ البُخْل حتى جَفَّ عُشْبُهْ
كم ترْتجِي صَنَماً سوا ... ءٌ فيه مِدْحتُه وثَلْبُهْ
مُستْنكَر الأكْتاف جَعْ ... دُ الكفِّ جَعْدُ الوجهِ صُلْبُهْ
أأُخَىَّ من يَكُ شاعراً ... فالخالقُ الرزاقُ حَسْبُهْ
والراسُ راسُ المالِ إن ... يسلَمْ فليس يِقلُّ كسْبُهْ
وكفى فَتى العِرفانِ خِلاَّ ... ناً فضائلُه وكُتْبُهْ
فعلى مَ ترغبُ في سَرا ... بٍ من شُخوص الْآلِ سِرْبُهْ
يتقلَّبون مع الزما ... نِ كأن حِزْب هواك حزْبُهْ
يشْقَى النجيبُ بهم ويُسْ ... لمُه إلى الأعداء صَحْبُهْ
وإذا جنَى فكأن سُ ... لطانَ الذنوبِ الدُّهْمِ ذَنْبُهْ
فوجوههم طَلَلٌ به ... يومَ الَّلحَى قد طال نَدْبُهْ
وأكفُّهم قَفْرٌ أُمِي ... تَ الخِصْبُ فيه وعاش جَدْبُهْ
ذهب اللذين يعيش مثْ ... لي بينهم ويموتُ كَرْبُهْ
وبَقى الذي تُضْنِى العُيو ... نَ حُلاه والأسماعَ كذْبُهْ
من كلِّ محْلولِ الوِكا ... ءِ مُثقَّف البِيضان ثُقْبُهْ
من كلِّ مَفِريِّ الأدي ... مِ بِصَعْدِة السِّرْوالِ عْقُبهْ
يمشي ويمسح من مَعا ... طِفه وكعبُ الشُّوم كَعْبُهْ
طُول بلا طَوْلٍ وأش ... هَى ما يُرَى للعين صَلْبُهْ
أأُخَيَّ مثلي ليس تُهْد ... دَى عن مَثار النَّقْع شُهْبُهْ
لا بُدَّ من شَرَرٍ يُعمُّ ... الجوَّ والأعدا مَصَبَّهْ
فارقُب خُفوقي إن سكنْ ... تُ فعاصفِي يُرْجَى مَهَبُّهْ
لا تنظُر الحسَّادُ حا ... لي إنما المنْظورُ غِبُّهْ
أوَ مادَرْوا أن الحسَا ... مَ يُفَلُّ ثم يُحَدُّ غَرْبُهْ
والبدرُ يُشرِق في المَطا ... لعِ بعدما أخْفاه غَرْبُهْ
والروضُ يذبُل ثم يُكْ ... سَى النَّوْرَ والأوراقَ قُضْبُهْ
والداءُ إن يوماً يشِفَّ ... فبالتَّداوِي يَشْفِ رَبُّهْ
والدهرُ إن يُوْمَن بغَفْ ... لٍ لذَّةً يفْجأْهُ خَطْبُهْ
لا يخدَعَنَّك سِلْمُه ... فوراء سِلمِ الدهرِ حَرْبُهْ
قلت: لله دره على ما أبدع من المعاني الغرائب، والألفاظ المزرية بدرر النحور والترائب.
ويعرف قدر الشاعر الفائق، بتنوع جولانه في الميدان المتضايق.
وله يصف بركة ماء:
انظُر البركةَ التي تتراءَى ... لِمُحيَّا الرياضِ كالمِرآةِ
تَرَ خدّاً مثلَ اللُّجَيْن تحلَّى ... بِعذارٍ من انْعكاسِ النَّباتِ
وهذه قطعة من حائيته التي سارت بها الركبان، وطارت شهرتها بخوافي النسور وقوادم العقبان:
بات ساجِي الطَّرْفِ والشوقُ يُلِحُّ ... والدجى إن يمْضِ جُنْحٌ يأْتِ جُنْحُ
وكأن الشرقَ بابٌ للدُّجى ... ماله خوفَ هجُوم الصبحِ فَتْحُ
يقْدَح النجمُ بعيني شرراً ... ولزنْد الشوقِ في الأحْشاءِ قَدْحُ
لا تسَلْ عن حال جَفْني والكرى ... لم يكنْ بيني وبين الدَّمْعِ صُلْحُ
منها:
كلُّ عَيْش ينْقضي مالم يكنْ ... مَعْ ملِيحٍ ما لذاك العيشِ مِلْحُ
من مديحها في خصماه:
وإذا قيل ابنُ فَرُّوخٍ أتى ... سقطُوا لو أنَّ ذاك القولَ مَزْحُ(1/293)
بطَلٌ لو شاء تمْزيقَ الدجى ... لأتاه من عمودِ الصبح رُمْحُ
كم سطورٍ بالقَنا يكتُبها ... وسطورٍ بلسانِ السيف يَمْحُو
كلُّ ما قد قيل في تَرْجِيحِه ... في النَّدَى أو في الوغَى فهْو الأصَحُّ
منها:
آهِ من جَوْر النَّوى لا سُقِيَتْ ... تُعْطِب الحُرَّ وما للحرِّ جُنْحُ
غُرْبةُ الأوطان أوْدتْ كبدي ... واعْتراني ألَمٌ منها وبَرْحُ
حَسَّنوا القولَ وقالوا غُربةٌ ... إنما الغُربةُ للأحْرار ذَبْحُ
فانتقِذْني واتخذني بُلْبُلا ... صَدْحُه بين يدَيْ عَلْياك مَدْحُ
بِقَوافٍ كَسَقِيط الطَّلِّ أو ... أنَّها من وَجَنات الغِيد رَشْحُ
ومما علق من مترنماته، وأغلق عليه باب مسلماته.
قوله:
قد نفدَتْ ذخائرُ الفؤادِ ... فكم أُرَبِّي الدمعَ للسُّهادِ
فُؤادُ من يُحبُّ مثلُ دمعِه ... ودمعُه مَظِنَّةُ النَّفادِ
إذا هدَى الليلُ فطفلُ مُقْلتي ... يبِيتُ بالنَّزيف غيرَ هادِ
ومن بكى من النوى فقد رأَى ... بعيْنه تقطُّع الأكْبادِ
تمايَلوا على الجِمال مَيْلةً ... فعلَّمُوها مِشْيةَ التَّهادِي
وما سمعتُ بالغصون قبلَهم ... مشتْ بها أكْثِبةُ البوادِى
فإن تجْد يَدِي على ترائِبي ... فلا تقُلْ لغَيْبة الفؤادِ
وإنما رفعتُها لأنها ... كانت لهم حمائلَ الأجْيادِ
حُمْرُ الخدود إن تغِبْ فشكلُها ... بناظريَّ داخلَ السوادِ
لأجْل ذا الدمعُ جَرى بِشوْقها ... فنظَّم الياقوت في نِجادِ
لا وأبى ومَن يقُل وأبى ... فقد تَلاَ أليَّةَ الأمْجادِ
ما عثَر الغَمْضُ بذيل ناظِري ... ولا انْثنتْ لطَيْفهم وِسادِي
وهَبْ رَشاشَ مقلتي حبائلاً ... فأين منها زَلَق الرُّقادِ
آهٍ آهَ إن تكنْ مِلْءَ فمي ... فإنها مَضْمضةُ الصَّوادِي
قد نفَض السمعُ كلامَ غيرهم ... كما نفضْتُ الصبر من مَزادِي
أعاذِلي وللهوى غَوايةٌ ... بِعْتُ بها كما ترى رَشادِي
ولِعتْ بي وشُعْلتي كمِينةٌ ... بقادحٍ يعبثُ في زِنادِي
دعِ الهوى يعبَثْ بي وإن تَشَا ... فعُدَّني من عذَباتِ وادِ
ما لحق الَّلومُ غبارَ عاشقٍ ... حَدا به من المَشِيب حادِي
أما ترى الأقاحَ حول لِمَّتِي ... حكى ابْتسامَ البرقِ في البوادي
بشَّرني طلُوعه بأنَّ لي ... صبحَ وِصالٍ لدُجى بِعادِي
ولم أقلْ مَناصِلٌ تجرَّدتْ ... وأُرْكِزت بجانبِ الأغْمادِ
كأن شِيبَ الشَعَرات ألْسُنٌ ... على ضَياع رَوْنقِي تُنادِي
لبْستُ ما أضاعني فأُسْوتي ... كأُسْوِة الجمرِة في الرَّمادِ
ومن رباعياته قوله:
لا تُبْدِ لمن تحبُّه ما أُبْدِي ... واصبرْ فعلَّ الصبرَ يوماً يُجدِي
إظْهار مَحَّبتي لمن أعشَقُه ... صارتْ سبباً لطُول عُمرِ الصَّدِّ
ومن بدائعه قوله:
تذكرتُ إذ مَرَّتْ بنا الغِيدُ بُكْرةً ... تلهُّبَ خالٍ في لَظَى خَدِّ أغْيَدِ
وردَّدْتُ طَرْفي ساعةً فرأيتُه ... فؤادي الذي قد ضاع في الحبِّ من يَدِي
وقوله، مضمنا في الدخان:
عكفتُ على شُرْبِ الدُّخان وفي الحشَا ... لهيبُ الجوَى فازْداد جَمْراً على جمرِ
فقلتُ أُداوِي نار قلبي بمْثلها ... كما يتداوى شاربُ الخمرِ بالخمرِ
وقوله:
زُرْ واُجْلِ لَمْسمعي كؤوسَ اللَّفْظِ ... واجعلْ كبدي غْمِداً لسيفِ اللَّحْظِ(1/294)
بل جُرْ واهجُر ولا تخَفْ مَظْلمِتي ... ما أورَدني البلاءَ إلا حَظِّي
وقوله مضمنا:
لا يدَّعِى قَمرٌ لوجهِك نِسْبةً ... فأخاف أن يسْوَدَّ وجهُ المُدَّعِى
فالشمسُ لو علمتْ بأنك دونها ... هبَطتْ إليك من المَحَلِّ الأرْفَعِ
قلت: هذا تضمين يليق أن يكتب بالتبر، فضلا عن الحبر.
ومن رباعياته قوله:
مولايَ بِقيتَ قد بَراني الأسفُ ... من ينُصِفني منك وهل أنْتصِفُ
مَن أسْعده الحظُّ فإني دَنِفٌ ... أشْقاه ولا شقِيتَ حَظٌّ دَنِفُ
وقوله:
مَن أرَّقني قد اسْتلَذَّ الأرَقا ... ويْلاي ومَن أعشقُه قد عشِقَا
من ينُقذني منه ومنَ يُنْقذُه ... أفْنى حُرَقاً فيه ويفْنى حُرَقَا
وقوله:
يار بِّ لا أقصِد بالشِّعر سواكْ ... والقصدُ يَردُّني إلى باب غِناكْ
يا مَن جعلتُ تُرابَه ناصِيتي ... قد صّوَّح نَبْتُها أغِثْني بنَداكْ
وقوله:
القلبُ لديْك وهْو عندي الغالِي ... لا تتركْه مَطِيَّةَ الإذلالِ
تَا للهِ لقد عجبتُ من أحْواالي ... يفنَى زمنِي بضيْعة الآمالِ
وقوله:
أصبحتُ ولَثْمُ أَخْمَصيْهِ أمليِ ... مع أنَّ له فماً شفاءَ العِلَلِ
لكنْ قدمٌ سعتْ به من تَلَفِي ... أعددْتُ لها جَوائزاً من قُبَلِي
وقوله:
أحسنُ ما يُهْدِيه أمْثالُنا ... من طَيْبةٍ من عند خيرِ الأنامْ
بعضُ تُمَيْراتٍ إذا أمْكنتْ ... إهداؤُها ثم الدُّعا والسلامْ
ومن محاسنه قوله، ومن قصيدة أولها:
طرقَتْ طَروق الطيفِ وَهْنَا ... مَيّالَةُ الأعْطاف حَسْنَا
مصْقولُة الخَدِّين مثل السيْ ... ف ألْحاظاً ومَتْنَا
أرْختْ وشاحاً فوق دِعْ ... صٍ فوق غصنٍ قد تَثنَّى
ومشتْ فشيَّعها عَبِي ... رُ الروضِ منْ هَنَّا وهَنّا
في حُلَّةٍ من جِنْس ما ... يكسُو الربيعُ الغصنَ دَكْنَا
الدَّلُّ ينبُتُ من مسا ... حِبِ ذيْلها والحسنُ يُجْنَى
تَمْشي فُرادَى ثم تمْ ... شِي خلْفَها الأرْدافُ مَثْنَى
حَوْراء إن سمَحتْ بكشِْف قِناعها ملَأتْك حُسْنَا
وإذا اشْتهتْ رجعت عليْ ... كَ فعاد ذاك الحسنُ حُزْنَا
لو خاطبتْ وَثَناً لَحَنَّ ... مع الجمودِ لها وأنَّا
طارحْتُها شكوَى النَّوى ... ولثمتُها أعْلى وأدْنَى
وعجبْت من وَلَهِي بها ... ولِهْتُ بها وَلهَ المُعنَّى
تركتْ يداً وفماً وجِي ... داً وابْتدتْ ذيلاً ورُدْنَا
وأقمت أنْصِب نحوها ... طَرْفاً ونحوْ البابِ أُذْنَا
أخْشَى يُحِسَّ بنا النَّسي ... مُ فيُخبر الروضَ الأغَنَّا
وبُولِّد الوَسْواس لي ... جَرْسُ الحُلِىِّ إذا أرَنَّا
فتقول مسكينُ المتَّي ... بالنسيمِ يسِىءُ ظَنَّا
طبْ يا فتى نفساً فقد ... نامَتْ عيونُ الحىِّ عنَّا
جرس الحلى: صوته، ويقال فيه وسواس قال الشاعر:
كم بين وَسْواسِ الحُلِىّ ... وبين وَسْواس الهمومِ
والوسوسة: مالا يفهم من الأصوات.
وهذا أسلوب متداول، ومنزعه خفق الحلى ورهجه، وذلك يخرج على قوالب من جنة الحلى ونمها وغير ذلك.
وقد يغير في الأطراف الفعمة، فيقال: إنها تغص الحلى، وتخرس وساوسها، وتحير الحلى.
وأحسن ما سمع فيه قول أبي كامل تميم بن المفرج:
وأطْرافاً يَحارُ الحَلْىُ فيها ... فليس يكاد يضطرِبُ اضْطرابَا
قال صاحب الدمية: قوله يحار الحلى فيها، لم أسمع به إلا في شعره، وقد أتى ببدع المستعار وبكره.
وقد أنهيت الكلام على شعره، وهنا أذكر جانبا من نثره.
فمنه قوله يعاتب:
غرستُ لكم في المدح ما اخْضَرَّ عودُه ... وألقتْ إليه الزُّهْرُ عِقْداً من الزَهْرِ(1/295)
وصارتْ عيون المشْفقين قلائداً ... عليه وعينُ الحِقْد تنظُر عن شَذْرِ
وقلتُ ستْنَدى بالثِّمارِ أنامِلي ... فما كان إلَّا أن قبضْتُ على جَمْرٍ
وعدتُ كما عاد المُسيءُ مُذمَّماً ... أغَصُّ بشكْرى وهْو يُحسَب من وِزْرِى
وما ساءَ حظّاً كالذي اجْتلب الهوى ... وأسْلَمه مَحْضُ الوِدادِ إلى الهجْرِ
إني لأعجب مني ومن تواضع الشيخ في مناجاته إياي وهو الطود الأشم، واتخاذه أذني صدفا لدرر عباراته وهو البحر الخضم.
واقتراحه علىَّ أن أبرز من خباء أبكار الشعر، ربيبة خدر، ونتيجة فكر.
تكون معجزة ابن الحسين، ومفحمة الخالديين.
تنطوي على مدح ما انتشر عن ألوية فضائل ذاته المعجز ألسن الواصفين وصفها، وتتضمن نشر ما نسم من طيب أذيال فواضل صفاته المعطر مشامَّ الناشقين عرفها.
وقيامي له على قدم الحد، أفرى فلوات السعي وأمتطي صهوات الجد.
أقتنص الشوارد، وأتناول الفراقد.
وأغوص على الغرر، من بنات الفكر.
إلا أن تكامل عقدها، وجاءت نسيج وحدها.
من مستفزات القلوب، تهادى أناة الخطو بكر عروب.
تجر على مهيار الديلمي ذيل دلالها، وتسكر الشريف الموسوي بجريالها.
لو رآها المخضرمون، لجاءوا إليها من كل حدب ينسلون.
وبعثت بها مع لطم الشكر، إلى جناب إمام العصر.
كيف حال الجريض دون القريض، وغاض زلال راحته وهو الغضيض، ولم سدَّ عني باب اعتنائه، ومحا ما كتب من إملائه.
حتى استهدفتني ألسنة الشامتين، وأحدقت إلى أعين العدى، وليس عندي منه ما يغض أجفانهم ولا قذى.
فياليت شعرى ما الذي أوجب هذا الصد، ولم لم يحسن القبول فليحسن الرد.
وليكن بدون قوله ما أصنع بالقصائد دونه وشعره، حتى اسود وجه آمالي ولم يبيض حجره.
بعدما خطفتني منه مخالب الظنون، ورجعت أقلب أكفي بصفقة المغبون.
أحاسب عن أوزار العباد، وأعاقب بجناية قوم عاد.
وعهدي بالشيخ جبلا آوى إليه، وحمى أحوم حوله، وعماداً أعتمد بعد الله عليه.
فما بال الجبل لم يأو، والحمى لم يحم والعماد لم يحو.
وما باله في مسراته وأنا في ليل الهموم، أتوقع تنفس صبحها، وأبتهل إلى الله تعالى في طلوع شمسها.
فعندما حلت أكف الابتهال عرى الدحى، ولاح من تنفس صبح الوصال أشعة شمس المنى.
حال بين طرفي وسناه قذاة البين، وأصبحت مصابا بعين.
أعوذ بالله من أن يلهى الشيخ عني زخرف المتمشدق، وتستميله أقاويل الدخيل وجنة المتملق.
والزخرف عتبة التلاشي، والتمشدق باب الهول.
فالأقاويل مطية الكذب، والدخيل قذال يد الرد، والتملق مزراب النفاق.
ولي في محبته الجنان الثابت، والقلب الصابر، وللسان الرطب، والفم الشاكر.
وله مني الوداد المحض، والقصائد الغر.
وله منه أنة المتوجع، ولوعة المصاب، وحرقة المهجور، وخشية المرتاب.
وما أراه من اقتفائه أثر الملتبس عليهم الأمر، في كسر زجاجة ودادي من زيد وعمرو.
ولا غرو قد يدمى الجبين إكليله، وتهجر الحسام قيونه.
وكثيراً ما يضل المدلج دليله، وتخطىء المؤمل ظنونه.
السيد أحمد بن محمد المعروف بابن النقيب
السيد المولى، من هو بكل ثناء أحق وأولى.
حل من الشرف في ذروته، وتحكم من الأدب في بحبوحته وعقوته.
وقد تمتعت الرياسة دهرا بعده النضر، وشرفت النقابة له عبقريها الحسان ورفرفها الخضر.
فألقت إليه السيادة أفلاذها، واتخذت السعادة طاعته عصمتها وملاذها.
فرفه لأهل الأدب هضابا، وأرشفهم إلى ظماء من ماء مكارمه رضابا.
فالفضائل ملء حقيبته، والآمال تستنتج بيمن نقيبته.
ومآثره بادية الأوضاح، ونعمه سائلة الغرر والأوضاح.
ومجلسه بأصناف المعارف حافل، وفمه بحل ما يعي الأفهام كافل.
وله القلم الذي يكاد من نداوة بنانه، يبيض وجه الطرس بتسويد النقوش من بجدائع بيانه.
فهناك جنان البلاغة لم يطمث أبكارها إنسٌ قبله ولا جان، وأشجار البراعة لم يقطف ثمارها عين ناظر ولا يد جان.
من كل لفظٍ مع معناه روح وجسد، إذا سمع الناس تركيبه خلقن له القلوب الحسد.
وقد ذكرت من كلامه الشريف، ولفظه العالي المنيف.
ما تجعله سيد الكلام، وتقطع عن المغالي في مدحه مادة الملام.
كقوله:(1/296)
حضرةٌ تقلدت أعناق الرجال بقلائد نعمها، وتدبجت رياض الآمال بهواطل سحب كرمها، وطافت أفهام الطلاب بكعبة حقائقها وعلومها، وسعت أفكار بني الآداب ما بين صفا منثورها، ومروة منظومها.
لا برحت الأيام باسمة الثغر بمعاليها، والانام حالية النحر بأياديها.
وكقوله: هو صدر الدنيا، وركن العليا، وواسطة عقد ورثة الأنبياء، وواحد هذا النوع الإنساني من الأحيا.
دعوَى لا يُداخل بنيتها وهم، ونتيجةٌ لا يشين مقدماتها عقم.
فإن من كان صدر بني هاشم، وشنب ثغر مجدهم الباسم، وهم وهم في الرفعة والمنعة، كأن أجل موجود، وأعظم من في الوجود.
وكقوله: قسما بمن جعل محاسن الدنيا في تلك الذات محصورة، وأسبابا العليا على ملازمة عتباتها مقصورة.
إن عقد عبوديتي لا تطاول إليه الأيام بفسخ، وعهد مودتي عهد لا تتوصل إليه الحوادث بنسخ.
وكيف يفسخ وصورته في الجنان مجلوة، أم كيف ينسخ وسورته على كل حين باللسان متلوة.
ولعمري مهما نسيت فإني لا أنسى أيامي في خدمتها، والتقاطي الدر من مذاكرتها.
وما كان بيننا من المصافاة التي أين منها مصافاة الماء مع الراح، وما يجري بيننا من المفاوضة التي هي في الحقيقة مفاوضة الورد والتفاح.
وعلى كل حال فلا عوض لنا عنها إلا ما تنقله الركبان من أخبار سلامتها، وما تودعة في صدفة آذاننان من جواهر آثار عدالتها.
لا جرم أنه كلما تعطرت مجالسنا بشيءٍ من ذلك، دعونا الله عز وجل هنالك.
بأن يزيد باع عدلها امتدادا، وشعاع فضلها سطوعا واشتداد.
وأن يبلغها أقصى ما تطمح إليه عينٌ طامحة، أو تجنح نحوه نفسٌ جانحة.
هذا والمتوقع من كرمها، كما هو المألوف من شيمها، ألا تخرجنا من ضميرها المنير، وأن تعدنا في جريدة من يلوذ بقماقها الخطير.
والله تعالى يبقى لنا تلك الحضرة، سامية الركاب، عالية القباب، في رفعة دونها قاب العقاب.
ومن شعره قوله، يخاطب بعض أحبابه:
رُوَيْدَك شأنُ الدهر أن يتغيَّرا ... وشِيمتُه إمَّا صفَا أن يُكدَّرَا
وعادتُه الشَّنْعاء في الناسِ أنه ... إذا جاء بالبُشْرى تحوَّل مُنذِرَا
فلا بُؤْسُه يبَقى وأمَّا نعيُمه ... فكالطَّيْف إذْ تلقْاه في سِنة الكَرَى.
فلا تَكُ مسروراً إذا كان مقبِلا ... ولا تكُ محزوناً إذا هو أدْبَرَا
فأيُّ دُجَى هَمٍّ دَهاك ولم تجدْ ... صَباحاً له بالبِشْرِ وافاك مُسْفِرَا
وقد هُزلتْ أيامُنا فلَوَ اُنَّها ... أتتْتنا بجِدٍّ كان للهزلِ مَصْدرَا
منها:
وليس يعيبُ البدرَ فُقْدانُ نُورِه ... إذا كان بعد الفَقْد يظهر مُقْمِرَا
وما جُعَلِيُّ إن جفَا الوردَ إذْ به ... أضَرَّ بداعٍ أن يُذَمَّ ويُهْجرَا
الجعل يتأذى برائحة الورد، وكذا المزكوم، والحسناء إذا ابتليت بذامٍ، فهي كالورد مع الجعل، وصاحب الزكام.
ومما يلحق بهذا أن الوزغة تكره رائحة الزعفران، وتهرب منه.
وعليه بنى البتار قوله في هجاء الغندلي، وقد وصل إلى بابه، فتحجب عنه:
تحجَّب الغُنْدَلِيُّ عنِّي ... فساءَ مِن فعلِه ضميرِي
يَنْفر من رُؤْيتي كأني ... مُضَّمخُ الجَيْب بالعبيرِ
وله من قصيدة، يخاطب بها أيضاً صديقا له:
تزُول الرَّواسِي عن مقَرِّ رسُومِها ... ووُدِّي على الأيام ليس يزولُ
ولستُ بمَن يُرضيه من أهل وُدِّه ... خَفِيُّ ودادٍ في الفؤادِ دخيلُ
إذا لم يكن في ظاهرِ المرءِ شاهدٌ ... على وُدِّه فالودُّ منه عليلُ
أأرْضَى بوُدٍّ في الفؤاد مُغيَّبٍ ... وليس إلى علم الغُيوبِ سبيلُ
وأقْبلُ عن هجري اعتذاراً مُزيَّفاً ... تمحَّلْتَه إنَّي إذا لَجُهولُ
لَعَمْرُك قد حرَّكتَ مَن كان ساكتاً ... وعلَّمتني بالعَتْب كيف أصُولُ
وله من قصيدة:
فياليتَ شِعْري هل لعمروٍ مَزِيَّةٌ ... إذا ازْداد واواً وهْو في رُتبة الذُّلِّ
وهل شَان بسمِ الله وهْي عزيزةٌ ... تمنُّعها في الخطِّ عن ألفِ الوصلِ(1/297)
ورُبَّ ازْديادٍ كان للهُلْك داعياً ... كما كان في نبْت الجناح رَدَى النَّمْلِ
وما هذه الأيام إلا عجائبٌ ... تشابَه ما تُبْدِي من الجِدِّ والهَزْلِ
وقد طمَستْ أفْكارَنا بصُروفِها ... وأشْغَلت الخِلَّ الألُوفَ عن الخِلِّ
قوله: وهو في رتبة الذل، يريد تمحضه للمضروبية في أمثلة المحاة، ومن هنا تعلم سر قولهم فيه: الاسم المظلوم، كما لا يخفى.
وكان الجاحظ يعني بذلك إلزاقهم به الواو، التي ليست من جنسه، ولا فيه دليل عليها، ولا إشارة إليها.
ويشهد له قول الشاعر:
أنما البَهْنَسِيّ خطبٌ جليلٌ ... لا خطيبٌ ولا جليلٌ بقَدْرِ
زِيدت الياءُ فيه ظُلْما وعُدْوَا ... ناً كواوٍ غدَتْ بآخر عَمْرِو
وقوله: ورب ازدياد، من قوله:
وإذا استوتْ للنَّمْلِ أجنحةٌ ... حتى يطيرَ فقد دَنا عَطَبُهْ
ومن غرره، قوله من قصيدة يرثى بها أخاً له مات، وأرسلها على أبي الوفا العرضي، يعزيه في آخرها عن ولدين له ماتا، ومطلعها:
رُزْءٌ ألَمَّ وحسرةٌ تتوالَى ... ومُصيبةٌ قد جَذَّتِ الآمالاَ
وجليلُ خَطْبٍ لو تكلَّف حملَه ... ثَهْلانُ ذو الهضَبات هَدَّ وزَالاَ
وفِراقُ إِلْف إن أردتُ تصبُّراً ... عنه أردتُ من الزمان مُحالاَ
وعيونُ عَيْنٍ ليس تفتُر دائما ... عن سَكْبِ رَقْراق الدموع سِجَالاَ
بُعداً لدهرٍ شأنُه أن لا يُرَى ... إلا خَؤُونا غادراً مُغْتالاَ
نَغترُّ فيه بالسلامة بُرْهةً ... ونرى المآلَ تمحُّقاً وزوالاَ
ويُعيرنا ثوبَ الشَّبيبة ثم لم ... يبْرَح به حتى يُرى أسْمالاَ
قُبِّحتَ يا وجهَ الزمان فلا أرى ... لك بعد أن فُقِد الجمال جَمالاَ
ذاك الذي قد كان قُرَّةَ ناظرِي ... وقَرارَ قلبي بل وأعظمَ حالاَ
قد كنتُ أرجو أن يُؤخَّر يومُه ... عني ويَحْمِل بعديَ الأثْقالاَ
ويذوقَ ما قد ذُقْتُه لِفراقِه ... ويُمارسَ الأهوال والأوْجالاَ
فتطاولتْ أيدي المنيَّةِ نحوه ... وبقِيتُ فرداً أنْدُب الأطْلالَا
كنَّا كغُصْنَيْ دَوْحةٍ قطَع الرَّدى ... منها الأغَضَّ الأرْطبَ المَيَّالاَ
أو كاليديْنِ لِذاتِ شخصٍ واحدٍ ... كان اليمينَ لها وكنتُ شِمالاَ
أسَفِي عليه شمسُ فضلٍ عُوجِلتْ ... بكُسوفِها وعمادُ مجدٍ مالَا
لا كان يوم حم فيه فراقنا ... فلقد أطال الحزن والبلبالا
فسقى ضريحاً حَلَّه صَوْبُ الحيَا ... في كل وقتٍ لا يغيبُ وِصالَا
منها:
هيهات مَن لي بالرِّثاء وفَقْدُه ... لم يُبْقِ فيَّ بقيَّةً ومَجالَا
أفْحمتني يارُزْءَه من بعد ما ... كنتُ الفصيحَ المِصْقَعَ القوَّالَا
مَن لي بطبعِ اللَّوْذَعِيِّ أبي الوفا ... ذاك الذي بالسحرِ جاء حلالَا
مولًى إذا وعظ الأنامَ رأيتَه ... يُلْقى على كل امرئٍ زِلْزالَا
بزواجرٍ لو أنه استقْصَى بها ... أهلَ الضلال لمَا رأيتَ ضلالَا
مولايَ يا صدرَ الزمانِ ومَن غدا ... لبَنيه غَوْثاً يُرتجَى وثِمالَا
ذِي نَفْثةُ المصدورِ قد سرَّحْتُها ... لِحِماك تشْكو بَثَّها إدْلالَا
إِنَّ المُصيبةَ ناسبَتْ ما بيننا ... إِذْ حوَّلت بحُلولها الأحْوالَا
فثكلتَ مَخدومَيْن كلٌّ منهما ... قد كان في أُفْق السُّعود هلالَا
لو أُمْهِلاً مَلَآ العيونَ محاسِناً ... وكذا القلوبَ مَهابةً وكمالَا
ولَكان هذا للمعالي ناظراً ... ولكان هذا في طُلاها خَالَا
خطفتْهما أيْدي المَنونِ وغادرتْ ... ماءَ العيونِ عليهما هَطَّالَا
فأجابه بقصيدة، منها:(1/298)
لهفِي على بدرٍ تكامَل حسنُه ... قد سار في فلَك الكمال هِلالاَ
أعْظِم به رُزْءًا أتاح مصائباً ... فَتّ القلوبَ ومزَّق الأوْصالاَ
ما كنْت أعلم قبل حَمْلِ سريرِه ... أن الرِّجال تُسَيِّر الأجْبالاَ
وعجبتُ للبحر المُحيط بحُفْرةٍ ... هل غاب حقاً وأوراك خيالاَ
يا دافِنِيه مِن الحياءِ تقنَّعوا ... غيَّبْتُم شمسَ الغَداةِ ضلالاَ
عهدِي الغمامُ حِجابُها مالي أرى ... أضْحى الحجابُ جنادلاً ورمالاَ
وكتب إليه في هذا الشأن:
خَطْبٌ يقرِّب دونه الآجالاَ ... ويمزِّق الأحشاء والأوْصالاَ
فدعِ الجفونَ تجود إن نضَبتْ سَحا ... ئبُ دمعِها الصافي دماً هَطَّالاَ
أفلَتْ ذُكاءُ الفضلِ من فَلك العلى ... ووهَى ثبِيرُ المكرُمات ومَالاَ
وذَوَتْ غصونُ رياضها وتصدَّعتْ ... أجْبالُها حتى بَقِينَ رمالاَ
فقدت أولى الألباب ذو المجد الذي ... عدموا بفقد حياته الإقبالا
فقدُو حليفَ الفضل مَن بكمالهِ ... وحِجاه كنَّا نضرب الأمثالاَ
مَن شاءٍ للعَلْياء يَسْعَ فإن من ... كانتْ له بالأمْسِ مِلْكاً زالاَ
منها:
أعزِزْ عليَّ بأن أرى ربَّ الفَصا ... حةِ والبلاغةِ لا يجيب سُؤالاَ
ما كنتُ أعلمُ قبل يومِ وفاتِه ... أن الكواكبَ تسكُن الأرْمالاَ
ما كنتُ أحسَب أن أرى من قبْله ... للشمسِ من بعدِ الزَّوالِ زوالاَ
منها:
صَبْراً على ما نالَنِي في يومِه ... كالصبرِ منه به على ما نالاَ
ملأَ القلوبَ من الأسى ولطالَما ... ملأَ العيون مَهابةً وجلالاَ
لولا أخوه أبو الفضائل أحمدٌ ... لرأيتَ أنْديةَ العُلَى أطْلالاَ
الكاملُ الفَطِنُ الذي عَزَماتُه ... إن صال تلْقاها ظُباً ونِصالاَ
منها:
ما رام بدرُ التِّمِّ مثلَ كمالِه ... إلا وصيَّره المَحاقُ هِلالاَ
مولايَ يا ابن الرَّاشدِين ومَن لهم ... شرفٌ على هامِ السِّماكِ تَعالَى
صبراً فإِن الدهرَ مِن عاداتِه ... يُدنِي النوى ويُحوِّل الأحْوالاَ
وقد اقتفى أثر الشريف الرضي الموسوي في قصيدته التى رثى بها الصاحب ابن عباد، وأولها:
أكذا المَنون تقْنطرُ الأبْطالاَ ... أكذا الزمانُ يُضَعْضِع الأجْبالاَ
قال وكان بالقرب من ضريحه عدة أشجار من العناب، فشاهدت يوماً أغصانها المخضرة، تزهو بثمارها المحمرة.
فأتبعت الحسرة بالحسرة، ولم أملك سوابق العبرة.
وجادت الطبيعة، بأبيات على البديهة.
وهي هذه:
وقائلةٍ والدمعُ في صَحْن خدِّها ... يَفِيضُ كهَطَّالٍ من السُّحْبِ قد هَمَى
أرى شجراً العُنَّاب في البُقْعة التي ... بها جدَثٌ ضمَّ الشريفَ المُعظَّماَ
لها خُضْرةُ المُرْتاح حتى كأنه ... على فقْده ما إن أحسَّ تألُّماَ
وأغصانُه فيها ثمارٌ كأنها ... بحُمرتها تُبْدي السرورَ تألماَ
ولو أنصفتْ كانت لعِظْمِ مُصابِه ... ذوَتْ واكْفهرَّتْ حَسْرةً وتندُّماَ
فقلتُ لها ما كان ذاك تهاوُناً ... بما نالَنا من رُزْئِه وتهضُّماَ
ولكنها لما وضعْنا بأصلهِ ... غديراً بأنْواع الفضائل مُفْعَماَ
بدَتْ خضرةٌ منه ترُوق وحُزْنُه ... كمِينٌ فلا تستْفْظعِيه توهُّماَ
وما احمرَّتِ الأثْمارُ إلا لأننا ... سقَيْناه دَمْعا كان أكثرُه دَمَا
ولما وقف عليها صلاح الدين الكوراني، قال أبياتا منها:
فيا شجرَ العُنَّاب مالك مُثمِرٌ ... سُروراً ولم تجزَعْ على سيِّد الحِمَى
على رَمْسِه أوْرَقتَ تهْتزُّ فَرْحةً ... وتُدْلِى إليه كلَّ غصن تَنَمْنَمَا(1/299)
أهذِي أَماراتُ المسرَّة قد بَدَتْ ... أم الحزنُ قد أبْكاك من دونه دَماَ
ومنها على لسان العناب:
نعم فَرْحتي أنَّى مُجاورُ سيدٍ ... نمَى حسبَا في عصرِه وتكرُّماَ
وحضرتُه روضٌ من الجنَّة التي ... زَهَتْ بضجِيعٍ كان بالعلْم مُغرَمَا
أتعْجبُ بي إذا كنتُ في جنبِ روضةٍ ... وحقِّيَ فيها أن أُقيم وألْزَمَا
كعادةِ أشْجارِ الرياض فإِنها ... تمكَّن فيها الأصلُ والفرْعُ قد نَمَا
وقد قيل في الأمْثال إذ كنتَ سامعاً ... خذِ الجارَ قبل الدارِ إن كنتَ مُسلِماَ
أمَا سار من درا الفَناء إلى البَقا ... وأبْقى ثَناءً بالجميل مُعظَّماَ
ومَن كان بعد الموت يُذكَر بالعُلَى ... فبالذِّكْر يَحيَى ثانياً حيث يمّماَ
فقلتُ له يهْنيك طِيبُ جِوارِه ... وحَيَّاك وَسْمِىُّ الغَمامِ إذا هَمَى
لتُسْقِط أثماراً على جَنْبِ قبرِه ... ليلْقُطها مَن زارَه وترحَّمَا
فواعجَباً حتى النَّبات زهَتْ به ... فحُقَّ لنا عن فضلِه أن نُترجِمَا
وله، يمدح المولى البهائي:
كشف الدهرُ عن وُجوه الأمانِي ... ومَحا السَيّئاتِ بالإحسانِ
وأرانا شمسَ العدالةِ تبدو ... في بُروجِ الجمال والعِرْفانِ
وحَبانا من آل سعدٍ بمولَى ... لا يُدانيهِ سعدُ تفْتازانِي
دُرَّةٌ رُكِّبت بتاجِ المعالِي ... غُرَّة أشْرقتْ بوجهِ الزمانِ
عالمٌ وهو عالَم يتراءَى ... للْبَرايا في صُورةِ الإنْسانِ
وهُمام مُهذَّبٌ قد تحلَّى ... بعقُول الكهولِ في العُنْفُوانِ
أخْمَد الظلمَ منه عدلٌ مُنيرٌ ... وكذا النورُ مُخْمِد النِّيرانِ
خُذ يمنِي إنَّ البراعَة منه ... فعلتْ ما يكِلُّ عنه اليَمانِي
إن شَهْباءَنا به قد أنارتْ ... وعلَتْ رُتْبةً على كِيوانِ
وتوالَتْ على بَنيها المَسرَّا ... تُ فهم يسْحَبون ذيلَ التَّهانِي
منها:
أنت معنىً لك الفضائلُ كاللَّفْ ... ظِ ورُوحٌ والمجدُ كالجُثْمانِ
أنت في المَكْرُمات فَضْلٌ ولكنْ ... لابن عبد العزيز في العدل ثانِي
ومنها، يعتذر عن هدية أهداها:
وهُدِيتَ اليسيرَ فأنْعَم وقابِلْ ... نَزْرَه بالقَبولِ والامْتنانِ
فلو أنَّ العَيُّوقَ والشمسَ والبدْ ... رَ مع الفَرْقَديْن في إمْكانِي
كنتُ أهديْتها وقدَّمْتُ عُذْراً ... ورأيتُ القُصور معْ ذاك شَانِي
ومما يسكر العقول في الاعتذار عن الهدية قول الشاهيني، ومن قصيدة كتبها إلى أبي العباس المقري، وأرسل له معها خمسين قرشا:
لو كان لي أمرُ الشبابِ خلْعتُه ... بُرْداً على عِطْفَيْك ذا أرْدانِ
لكنْ تعذَّر بَعْثُ أوَّل غايتي ... فبعثْتُ نحوَك غايةَ الإِمْكانِ
وللسيد أحمد من اعتذارية عن هدية أيضاً:
إلى قصَّر الداعي وأهْدى بلا ... رَوِيَّةٍ مُحْتَقرا نَزْرَا
مِنْ عمَل الصِّين قطاعا أتتْ ... لا تستحقُّ الوصْفَ والذِّكْرَا
فاعْذُر فقد أهدَى إليك الثَّنَا ... عِقْدا نظيماً يُخجِل البدرَا
ومن بدائعه قوله، وهو في غاية الجودة:
لِدَواةِ داعِيكم مِدادٌ شابَ من ... جَوْرِ اليَراعِ وقد رثَتْ لمُصابِهِ
فأتتْ تُؤمِّل جُودَكم وترُوم مِن ... إحْسانكم تجْديدَ شَرْخِ شبابِهِ
وقوله، في صدر رسالة:
أيها الفاضلُ الذي خصَّه الل ... هُ من الفضلِ والحِجَى بلُبابِهْ
إن شوقي إليكَ ليس بِشَوْقٍ ... يُمْكِن المرءَ شرحُه في كتابِهْ
وكتب إلى السيد محمد العرضي، قبل توجهه إلى الروم:(1/300)
ما زلتُ محسوداً على أيَّامكمْ ... حتى غدوْتُ ببُعْدكم مَرْحوماَ
ومن البليَّةِ قبلَ توْدِيعي لكم ... أصبحتُ رِزْقاً للنَّوى مقْسوماَ
فأجابه، وكان محموما:
وافَى الكتابُ وكنتُ قبلَ وُرودِه ... مِن خوَفْ ذِكْرِ فِراقكم مَحْمُوماَ
هذا ولِي أمرٌ بصَرْفةِ عَزْمِكم ... عنه فكيف إذا غدا محْتوماَ
وله:
إنَّ شَوْقي يجِلُّ عن أن يُؤدِّي ... بعضَ أوْصافِه لسانُ اليَرَاِع
وكان بحلب مفت صدره الدهر بجاه ومال، وعطف إليه الأفئدة وأمال.
وبعد انقراض بني البتروني الذي أبكى الدهر نعيهم، وذهب برونق الرياسة أحوذيهم وألمعيهم.
وقد طلعوا في سماء الغفران شهبا، وأمست أطلالهم بيد النوى نهبا.
وهكذا الدنيا لها التصدير أبنائها جنوح، وموت بعض الناس على بعض فتوح.
فأصبح مكان الدر صدفاً، وصير نفسه لسهام الاعتارض هدفا.
وكان له كاتب يعرف بابن ندى وهو يده ولسانه، وعليه تدور إساءته وإحسانه.
فقدم المفتى يوماً للصلاة على جنازة، فكبر عليها خمساً ظاناً جوازه.
وكان ذلك فغي جمع حافل، جمع بين عالٍ وسافل.
فقال فيه السيد أحمد:
ومُذْ مصطفى صلَّى صلاةَ جنازةٍ ... وكبَّر خمسا سدَّس الناس لَعْنَهُ
فقلتُ اعْذرُوه إنَّه قلد النَّدَى ... ومن قبلُ في الفتْيا لقد قلَّد ابْنَة
يشير بقوله قلد الندى إلى قول أبي تمام، في قصيدته التي رثى بها إدريس ابن بدر:
ولم أنْسَ سَعْيَ الجودِ خلفَ سَرِيرِه ... بأكْسفِ بالٍ يستقيمُ ويظْلَعُ
وتكبيرَه خَمْساً عليه مُعالِناً ... وإن كان تكبيرُ المُصلِّين أرْبَعُ
وما كنتُ أدرِي يعلمُ اللهُ قبلَها ... بأن النَّدَى في أهلِه يتشيَّعُ
ومما يناسب مع هذا، قول بعضهم في موسوس:
وباردِ النِّيَّةِ مَغْموسِها ... يُكرِّر الرِّعْدةَ والهِزَّهْ
مُكبِّراً سبْعين في مَرَّةٍ ... كأنما صَلَّى على حَمْزَهْ
يشير إلى أن النبي صلى الله عليه وسلم، صلى على عمه حمزة سبعين مرة، فكلما قدم علي ميت صلى عليه، وبه استدل على الصلاة على شهيد المعركة.
ولده السيد باكير
فرع من تلك الدوحة الباسقة، وعصماء من عقد محتدها التي تنظمت فرائده المتناسقة.
أنبت به ندى بيته الثناء في حدائق الأذهان، وأملت معاليه المعاني بأفصح لسان على الأذان.
رضع من در العلوم كهلا ووليدا، وحوى من أنواع المفاخر طارفاً وتليدا.
يجتلى ناظره روض الحظ ناضرا، ويجتلب رأيه المغربات فيجعل غائبها حاضرا.
وله منطق يعلم الأبكم براعة التلفظ، وحديث كقطع الروض قد سقطت فيه مؤنة التحفظ.
فهو في كلامه النفيس العالي، كأنما عناه بقوله الميكالي:
إن كلامَ ابن أحمد الحسنِى ... آسَى كِلامَ الهمومِ والحزَنِ
سحرٌ ولكن حكى الصَّبا سَحَراً ... في لُطْفِه غِبَّ عارِض هَتِنِ
وقد جرى في مجلس النجم الحلفاوي ذكر نجابته التي دلت عليه، دلالة النسيم على الحبيب إذا هب بعرف صدغيه.
فأثنى علي ثناء الزهر، على جدول النهر.
ووصف محتده وصف حسان، لآل غسان.
فرآ ليلةً في منامه أنه نظيم بيتين في نعته، ثم انتبه مع نومه فكتبهما من وقته.
وهما:
يا كيرُ فاق على الأقْران مرتِقياً ... أَوْجَ المعالي فلا خِدْنٌ يُدانيِه
والفرعُ إن أثْمرتْ أيدي الكرامِ به ... فالأصلُ من كوثرِ الأفْضال يَسْقِيِه
وقد أثبت له ما هو أصفى من ماء المفاصل، وألطف موقعاً من ضمة الحبيب المواصل.
فمنه قوله:
بك صَرحُ العَلاء سامٍ عِمادُهُ ... وكذاك الكمالُ وارٍ زنادُهْ
إن كلَّ الأنام من ناظرِ الد ... هرِ بياضُ وأنت منه سوادُهُ
قد غرقنا من فيْض فضلك في أمْ ... واج بحرٍ تتابعتْ أزْبادُهْ
وإذا الفكرُ لم يُحِطْ بمعا ... لِيكَ جميعا وخاب فيك اجْتهادُهْ
فاعْتذاري ببيْت نَدْبٍ هُمامٍ ... ما كبَا في مَيْدان فضلٍ جوادُهْ(1/301)
إن في الموجِ للغريق لعُذراً ... واضحاً أن يفوتَه تعْدادُهْ
وقوله، من قصيدة أولها:
تهلَّل وجه الفَضل والعدلِ بالبِشْرِ ... وأصبح شخصُ المجد مبتسمَ الثغرِ
فيالَك من مولىً به الشعرُ يزْدهِي ... إذا ما ازْدهتْ أهلُ المداح بالشعرِ
فريدُ لمعاالي لا يرى لك ثانياً ... من الناس إلا من غدا أحْولَ الفكرِ
معنى الأول مطروق، وأصله قول أبي تمام:
ولم أمدحْك تفْخيماً بِشعرِي ... ولكني مدحتُ بك المديحَا
وأبو تمام أخذه من قول حسان، في مدح النبي صلى الله عليه وسلم:
ما إن مدحتُ محمداً بمقالتي ... لكن مدحتُ مقالتي بمحمدِ
والبيت الثاني من قول بعضهم:
إنَّ من يُشرِك باللَّ ... هِ جَهولٌ بالمعانِي
أحْوَلُ الفكر لهذا ... ظن للواحد ثانِي
وله من قصيدة:
لاح الصَّبا كزُرقة الألْماسِ ... فلْتصطبِحْ ياقوتَ دُرِّ الكاسِ
من كفِّ أهيفَ صان وردَ خدودِه ... بسِياج خطٍّ قد بدا كالآسِ
كأن مَرآهُ البديعَ صيفحةٌ ... للحُسن جَدْولُها من الأنْفاسِ
في روضةٍ قد صاح فيها الديكُ إذْ ... عطَس الصباحُ مشمِّتا لعُطاسِ
ضحكتْ بها الأنوارُ لما ان بكى ... جَفنُ الغمام القاتمِ العَبَّاسِ
ورقَى بها الشُّحْرورُ أغصاناً غدتْ ... بتموُّج الأرْياح في وَسْواسِ
والوردُ تحمَده البلابلُ هُتَّفا ... من فوق غصنِ قَوامِه المَيَّاسِ
ويرى البَنفْسَجُ عُجْبَه فيعود من ... حسَدٍ لسطْوتِه ذليلَ الرَّاسِ
والطَّلُّ حلَّ بها كدمعِ مُتيَّمٍ ... لِمعاهدِ الأحبابِ ليس بناسِ
فتظنُّ ذَا ثغراً ولا عيناً وذا ... خَدّاً لغانيةٍ كظَبْيِ كِناسِ
واحْمرَّ خدُّ شقائقٍ مُخْضلَّةٍ ... حُمِيتْ بطَرف النرجِس النَّعَّاسِ
حسداً لخدِّ الطِّرس حين غدا له ... خَطُّ القريضِ بمدْح فضلِك كاسِ
وله من أخرى في المدح:
مولاي قُم نلتقطْ من لُؤلؤِ الحِكَمِ ... دقائقاً حُجِبت عن فِطْنة الفَهِمِ
في وصف روضٍ أنيقٍ راق منظرُه ... من الزَّبَرْجَد والياقوت مُنتظِمِ
أما ترى نفحةَ النِّسْرِين عابقةً ... والزَّعْفرانَ سقتْه السحبُ بالدِّيَمِ
والمِهْرجانَ أتى من جَحْفلٍ لَجِبٍ ... من الرياض فأهدى طيِّب النَّسَمِ
تقابلتْ فيه أحْداقٌ لنَرْجِسه ... تحكى فماً مال للتقبيل نحو فَمِ
والنهرَ عاوَد بعد الصدِّ مُنعطفاً ... يَبُّلُّ شوقَ نباتِ الغَوْرِ والأكَمِ
والوُرْقَ غنَّتْ على الأشجار من طربٍ ... مُجيبةً عَنْدَليبَ الدَّوْحِ في الظُّلَمِ
فالْهَجْ بِتَذْكار غِزْلانٍ لواحظُهمْ ... تركْنَ أهلَ الهوى في قبْضة السَّقَمِ
وأهْيفٍ من ظِباء الْحُور مُقلتُه ... عن قَوْس حاجبِه أوْدَتْ بكلِّ كَمِي
إن يهجُر الشاربُ الريَّانُ مَبسمَه ... فالعذبُ يُهجَر بالإفْراط في الشّبَمِ
في صُدْغه طبعتْ أهْدابُ ناظرِنا ... فظنَّه الصبُّ خطَّا غيرَ ملتئِمِ
أدار شمسَ المُحيَّا بدرُ راحتِه ... ممزوجةً برُضاب المَبْسَمِ الشَّبِمِ
من خمرةٍ عُصِرتْ بالبِشْر من قِدَمٍ ... جاءتْ تخبِّرنا عن سالِف الأُمَمِ
في روضةٍ ضحكتْ فيها أزاهرُها ... مُذْ جادَها وابلٌ يهْمِي بمُنْسجِمِ
وقام بُلْبُها يتلو محاسنَ مَن ... شهباؤُنا منه في أَمْنٍ من النِّقَمِ
صدرُ الموالي فريدُ العصر جَهْبَذُه ... ومَن به الناسُ مغمورون بالنِّعَمِ
كهفُ الأنام مَلاذُ الخلق أحمدُ مَن ... فاق الفحُول بفضلٍ غيرِ منكتِمِ(1/302)
مَن شرَّف البلدةَ الشهباءَ مَقدَمُه ... ففاخرتْ جُلًّ مُدْنِ العُرْب والعجمِ
أقام فيها عمادَ الشرع مجتهداً ... حتى روَتْ حسنَها للناس عن إِرَمِ
وله من أخرى:
هو في الفؤاد وشخصُه ناءٍ عن الْ ... ألحاظْ فهْو مسافرٌ ومُقيم
سحَر العقولَ بلَحْظِه فكانما ... في الجَفْنِ دُرُّ كلامك المنظومُ
يا أيها المولى الذي أحْيَى رُبو ... عَ الفضل والأفْضال وهْي رَميمُ
أعطيتَ دهرَك من خِلالك خُلَّةً ... فغدا كريم الفعلِ وهْو لئيمُ
وله، وتعزى لوالده:
صدرَ الوجودِ وعينَ هذا العالَمِ ... ومَلاذَ كل أخِي كمالٍ عالِمِ
إن لم تكن لذَوِي الفضائل منقِذاً ... من جَوْر دهرٍ في التحكُّم حاكم
فبمن نلُوذ من الزمانِ وبابَ من ... نَنْتاب غيْرَك في المُهِمِّ اللازمِ
فبِحقِّ مَن أعْطاك أرفعَ رتبةٍ ... أضحى لها هذا الزمانُ كخادمِ
وحَباك من سُلطاننا بمواهبٍ ... تركتْ حسودَك في الحضيضِ القاتِمِ
فإذا تتوَّج كنت دُرَّة تاجِه ... وإذا تختَّم كنت فصَّ الخاتمِ
إلاَّ نظرتَ بعين عطفِك نحوهم ... وتركتَ فيهم كلَّ لَوْمةِ لائمِ
ورَعيْتَ في داعِيك نِسْبته إلى ... خيرِ البريَّة من سُلالة هاشمِ
فالوقتُ عبدك طَوْعُ أمرك فاحْتكمْ ... فيما تشاءُ فأنت أعدل حاكمِ
فإذا تتوج، هذا تضمين، فإن البيت للمتنبي، من قصيدته التي أولها:
أنا منك بين فضائلٍ ومكارم
ومما يحسن له قواله في التشبيه:
ثلاثُ شاماتِه على نَمَطٍ ... في جانب الخدِّ وهْي مصفوفَهْ
كأنها أنجُم الذِّراع بدَتْ ... في جانب الشمسِ وهْي مكسوفهْ
وقد تناول هذا المعنى صاحبنا عبد الباقي بن السمان، في قوله:
وكأن خالَيْه اللَّذَيْن بخدِّه ... والشمسُ في وجَناتِه لم تغرُبِ
نَجْمان قد كسَفتهما شمسُ الضحى ... أو نُقطتا حِبْر بطِرْسٍ مُذْهَبِ
وأصل هذا المعنى لابن خفاجة الأندلسي، في قوله:
غازلْتُه من حبيبٍ وجهُه فلَقٌ ... فما عدا أن بدا في وجهِه شفَقُ
فارْتجَّ يعثُر في أذْيال خَجْلتِه ... غصنٌ بعِطْفيه من إسْتَبْرقٍ ورقُ
تخالُ خِيلانَه في نُورِ وَجْنتِه ... كواكباً في شُعاعِ الشمس تحْترقُ
؟؟ السيد عبد القادر بن قضيب البان
بحر معارف خضم، وطود فضائل أشم.
تأزر بالإحسان وارتدى، وراح في تكميل النفس واغتدى.
هذا وعهده بالشباب قريب، وحديثه ليس بمنكر ولا غريب.
ثم أطال التجول، وأكثر في البلاد التحول.
فدخل الحجاز واليمن، وأقام بها مدة بمنزلة فصل الربيع من الزمن.
ثم رجع إلى دياره، وألقى بها عصا تسياره.
فقعد مقعد السها، وعقل لديه النهى.
وتماسك عن الدنيا عفافا، والتف بالمعارف الإلهية التفافا.
مع شهرة كشهرة ضوء الصباح والمصباح، وطلعة يستفاد من لألائها نور الفلاح والرباح.
وهناك ما شئت من وقارٍ يطيش له ثبير، ومقدار يصغر لديه كل كبير.
إلى يدٍ تفرج إذا ضاق الإعدام، وقدمٍ تثبت إذا زلت الأقدام.
وله أشعار في الحقيقة تحرك السواكن، وتبعث الأشواق الكوامن.
اوردت منها ما إذا وصف رأيت الحسن مجتمعا، وإذا تلي أبصرت كل شيءٍ مستمعا.
فمنها قوله:
أرى للقلب نحوكُمُ انْجِذابَا ... لأسمعَ من خطابكُمُ خطابَا
فكم ليلٍ بقُرْبكمُ تقضَّى ... إلى سَحَرٍ سجوداً واقْترابَا
وكم من نشوةٍ وردتْ نهاراً ... فلا خطأ وَعيْتُ ولا صوابَا
وكم سَحَّتْ علينا من نَداكمْ ... غُيوثٌ لا تفارقُنا انْسكابَا
وكم نفَحاتِ أُنْسٍ أسكرتْنا ... بها حضر الصَّفا والقبضُ غابَا
توافقتِ القلوبُ على التَّدانِي ... فلم نشهدْ به منكم حجابَا(1/303)
لقد حاز الوليُّ بكل حالٍ ... من الرحمن فيضاً مُستطابَا
تراه بين أهل الأرضِ أضحى ... لِداعي الحبِّ أسرعَهم جوابَا
وغيرَ الله ليس له مُرادٌ ... وغيرَ حِماه لا يرجُو انْتسابَا
وقوله:
سقاني الحبُّ من خمر العَيانِ ... فتُهت بَسكْرتي بين الدِّنانِ
وقلتُ لِرُفْقتي رِفقاً بقلبي ... وخاطبتُ الحبيبَ بلا لسانِ
شربتُ لحبِّه خمراً سقاها ... لصَحْبي فانْتَشَى منها جَنانِي
شطَحْتُ بُشرْبها بين النُّدامىَ ... ورُشْدي ضاع مما قد دَهانِي
فأكْرمَني وتوَّجني بتاجٍ ... يقوم بسِرِّه قطبُ الزمانِ
وأمَّرني على الأقْطاب حتى ... سرَى أمري بهم في كلِّ شانِ
وأطْلعَني على سِرٍّ خَفِيٍّ ... وقال السَّترُ من سرِّ المعانِي
فهام أولو النُّهى من بعض سُكْري ... وغابْوا في الشُّهود عن المكانِ
مُرِيدي لا تخَفْ واشطَحْ بِسرِّي ... فقد أذِن الحبيبُ بما حَبانِي
وقوله:
نظرتُ إليك بعينِ الطلبْ ... ومنك إذاً طلبي والسبَبْ
رأيتُك في كل شيءٍ بدا ... وليس سِواك لعيني حَجَبْ
فأنت هو الظاهرُ المُرتجَى ... وأنت هو الباطنُ المُرتقَبْ
وأنت الوجودُ لأهل الشهودِ ... وأنت الذي كلَّ شيءٍ وَهَبْ
وعيني بعيْنَيْك قد أبصرتْ ... بعيْنك في كل تلك النِّسَبْ
ومن مقاطيعه قوله:
ولقد شكوتُك في الضمير إلى الهوى ... وعَتَبْتُ من حَنقٍ عليك تحنُّنَا
مَنَّيْت نفسي في هواك فلم أجدْ ... إلا المنيَّةَ عندما هجَم المُنَى
وقوله:
إذا امتدَّ كفٌّ للزمانِ بحاجةٍ ... فقُوَّتها من عادة الهِمَّة السُّفْلَى
ومن يَكُ يستغْنى عن الخلقِ جُملةً ... فيُغْنيهِ ربُّ الخلق من فضلِه الأعْلَى
وقوله:
إذا أسأْتَ فأحسِنْ ... واستغفرِ اللهَ تنجُو
وتُبْ على الفَوْر وارجعْ ... ورحمةَ الله فارجُو
ولده السيد محمد حجازي
هو في قلادة نسبهم واسطة، وصاحب أيادٍ بجميل النعم باسطة.
شهرته النزعة الحجازية، ولبس من حسن الحجى زيه.
وله أملٌ يقوم به مع الأيام ويقعد، ويدنو به طوراً وآونةً يبعد.
حتى رسخ رسوخ ثهلان، وكلف بالمعالي كما كلف بميَّة غيَّلان.
فجمع الله به شمل المكارم في قطره، وأحيى به الأرض الموات إذا ضن سحابها بقطره.
إلا أن فيه عجلةً تلزمه الحجة، وشراسةً تضييق عليه المحجة.
فإذا تكرد لا يرجى له صفو، وإن سخط لا ينتظر له عفو.
وأما القراءة فله منها ما تحصل، ولكن له شعر تدرج به إلى الوصف بالأدب وتوصل.
وقد أثبت له ما يروقك رواؤه، ويغينك عن ماء الغدران إرواؤه.
فمنه قوله، من قصيدة يمدح بها البهاء، لما كان قاضيا بحلب، أولها:
ألا منجِدٌ في أرض نجْد من الوجدِ ... فما عند أهْلِيها سوى لوعةٍ تُجْدِى
وقفتُ بها مستأنساً بظِبائها ... كما يأنَسُ الصبُّ المتيَّمُ بالوجدِ
أُسائلُ عمَّن حلَّ بالجِزْع والحمَى ... وأنشُد عمنَّ جاز بالأجْرَعِ الفَرْدِ
خليليَّ إن الصدرَ ضاق عن الجوَى ... فلا تعْجبا من طَفْرة النارِ بالزَّنْدِ
ففي الجسم من سُعْدَي جروحٌ من الأسَى ... وفي القلبِ من أجْفانها كلُّ ما يُعْدِى
بثَغْرٍ يزيدُ الوَقْدَ من خمرِة الَّلمَى ... وصُدْغٍ يُثير الوجدَ من جَمْرة الخدِّ
تُقرِّب لي بالَّلحْظ ما عَزَّ دَرْكُه ... وتنْفِر عمداً كي تُصاد على عَمْدِ
تَلاعَب في عقل الفُحول بطَرْفها ... مُلاعبةَ الأطْفالِ من غِرَّة المَهْد
رمتْ مهجتي أهدابُها عن تعمُّدٍ ... نِبالاً فزادتْ من توقُّدِها وَقْدِى(1/304)
دنَوْتُ إليها وهْي لم تدْرِ ما الهوى ... وما علمتْ ما حلَّ بي من هوى نَجْد
فقلتُ أما من رُضابِك رَشْفةٌ ... مُعَّللةٌ أرْوِي بها غُلةَ الوجدِ
وهل للتَّداني عِلَّةٌ أستمدُّها ... وأبذُل في إنْجاز وُصْلتِها جُهْدِي
فقالتْ أما يكْفيك وعدي تعِلَّةً ... لقْلبِك فاقْنَعْ يا أخا الوُدِّ بالوعدِ
ولا تَرْجُ مهما تقصد النفسُ نَيْلَه ... فإن الرَّزايا في مُتابعِة القصْدِ
ولا تستِمحْ من كلِّ خِدْنٍ وصاحبٍ ... إخاءً فقد يُفضى الإخاءُ إلى الزهدِ
فما كل إنسانٍ تَراه مُهذَّباً ... ولا كلُّ خِلِّ صادق الوعد والعهدِ
ولا كلُّ نجمٍ يُهتدَي بضيائِه ... ولا كلُّ ماءٍ طيِّب الطعمِ والوِرْدِ
ولا المسكُ في كل المَهاةِ مَحِلُّه ... ولا ريحُ ماءِ الوردِ من عاصرِ الوردِ
ولا فضلُ مولانا البهاءِ محمدٍ ... كفضلِ المَوالي السابقين على حَدِّ
قلت: هذه العلاقة النجدية، اقتضت أن تسمى القصيدة بالوجدية.
وله، من قصيدة أخرى، في مدح البهاء أيضاً، مطلعها:
قطبُ السماءِ هو الطريقُ الأقْصدُ ... دارتْ عليه نجومُه والفَرْقَدُ
والمُشْترِي والزُّهَرَةُ والزهراءُ في ... أَوْج السُّعودِ هبوطُها والَمصعَدُ
والشمسُ ما شرُفتْ على أقْرانها ... إلا بنِسْبته إليها العَسْجَدُ
واللهُ لا تحصَى شئونُ كمالِه ... فالويْل ثَمَّ على الذي لا يشهدُ
ولقد أتيتُ الدهرَ غيرَ مُغادرٍ ... في حالة منها أقومُ وأقعُدُ
فسألتُه مَن في الحمى فأجابني ... مُفتِي الأنام أبو البهاءِ محمدِ
قلت: ها هنا فائدة من المستخرجات بالإلهام، وهي أن كثيراً من الشعراء من يبني روى قصيدته على اسم ممدوحه، ولم يذكروا هذا في البديع، فينبغي أن يسمى ب " التمهيد "، ويذكر.
ومن مستحسناته، قوله في الخمرة ونشأتها:
لا تَرْضَ بالإضرارِ للناسِ ... إن رُمْتَ أن تنجو من الباسِ
وانظُر إلى الخمرِ وما أوقعتْ ... في شارِبيها بعد إيناسِ
لما رضَوا في دَوْسِها عُوقبوا ... بَضرْبةٍ منها على الرَّاسِ
هذا معنى تصرف فيه وبناه على العقاب، وقد استعمله القدماء وأحالوه على جور الشراب.
ولكل مشرب، إما عذب أو مستعذب.
ومن الثاني قول ابن الأثير من فصل في وصف الخمر: وقد عرف منها سنة الجور في أحكامها، ولولا ذلك لما استثأرت من الرءوس بجناية أقدامها.
وهو أخذه من قول القائل:
ذكرتْ حقائدَها الكريمةُ إذ غدتْ ... وَهْناً تُداسُ بأرْجل العصَّارِ
لا نتْ لهم حتى انتشَوْا فتحكَّمتْ ... فيهم فنادتْ فيهمُ بالتَّارِ
وعلى ذكر التار فأعجب لتار الإشبيلي الذي ينطق الأوتار، وهو قوله:
والخمر تعلمُ كيف تأخذُ ثأرَها ... إني أملتُ إناءَها فأمالنِي
ويعجبني في هذا السياق، قول بعد الأندلسيين الحذاق:
لاتعجَبنَّ لطالبٍ نال العُلَى ... كهلاً وأخْفَق في الزمانِ الأوَّلِ
كالخمرِ تحكُم في العقُول مُسِنَّةً ... وتُداس أوَّلَ عَصْرها بالأرجُلِ
السيد عبد الله بن محمد حجازي
السيد الصنديد، الفقيه الشبيه والنديد.
الشريف في نفسه فضلا عن أرومته، الحسيب في ذاته علاوة على جرثومته.
شرفٌ ليس بمدعي ولا منتحل، وحسب له رونق المشتري ومرتقى زحل.
إذا انتسب باهت به الأنساب، وإذا كتب أرى البدائع بيض الوجوه كريمة الأحساب.
إلى مكرمات يدرك أقاصيها، ومعلوات يعقد بالفلك نواصيها.
ألبس من الفضل أحسن لباس، وخلق من طينةٍ غير طينة الناس.
وهو محاسن وفنون، تتغاير عليها آذان وعيون.
بحر إذا نطق وطود إذا سكت، وكله من فرقه إلى قدمه تحف ونكت.
بفكر يفتح المقفل، وذهن يستدرك المغفل.
وآداب رطبةٍ لدى الهصر، ومعارف تأبى على العد والحصر.(1/305)
ولقد لقيته بالروم سنة سبع وثمانين، وأنا في أيام تلك الغربة راعى سنين.
ولي فؤاد إلى المخالطة شيق، وصدر يسع هم الدنيا وهو ضيق.
فنزلت منه بحيث ملتقى الصدر الرحب والمحيا الوسيم، وحليت بقلبه حلول المسرة وهببت في روض أخلاقه هبوب النسيم.
وكان لي من مجلسه نضرة الريحان، ونفحة الروض وطرب الألحان.
أشيم خضرة ترف في زهرة حسن، وأجتلي روضة في ناظر ونجوى في أذن.
وهو أناله الله من كرمه أفضل إنالة، لا يقترح على الأيام مطلبٌ إلا قال: أنا له.
إلا أن له حبائل تعتلقه، ومطامع لم تزل تعتلقه.
فعوادي الأايام عليه ملحة مكبة، وبواعث صفوها مريحة مغبة.
وهو من بعد الهمة، ووساوس الشدة المدلهمة.
في قسوة سدت عليه طريقاً ومنهجا، وآيسته من أن يلقى مفرجاً ومخرجا.
فأبي له التخيل، إلا التصنع والتحيل.
فدبر أمراً تحراه، ونسب فيه إلى أنه افتراه.
وكان سهوه فيه أكثر من تيقظه، ووقعه أقرب إليه من تحفظه.
فخرج متحسباً إلى مصر، وهو زميل همٍ مبرح وإصر.
ثم عدل الحقيقة عن المجاز، وتوجه إلى مثابة الحجاز.
فحج البيت الحرام وعاد، ودخل بلده وهو من توفر الحظ على ميعاد.
فلم يلبث حتى مد عنان النظر، وتدرج إلى حالٍ أفضت به للأمر المنتظر.
وسبب ذلك أنه وقع بحلب غلا، نهض به سعر الأشياء وعلا.
وكان حاكمهم العرفي سارع إليهم مدده، وتوفرت لعنايتهم أنصاره وعدده.
فانجذبت إليه قلوب الخاصة والعامة، وصاروا يحوطونه من سمة النقص بالكلمات التامة.
واتفق أن الحجازي دعاه ليلة إليه، فلما مضى عنده لم يستقر حتى حقت المنية عليه.
فنسبوه إلى أنه اقتدح في هلكه زنداً ورية، وسقاه الحمام كاساً روية.
ولما خرجوا بجنازته ليودعوه القبر، رأوا الحجازي أمامهم فلم يملكهم عن قتله الصبر.
وشغلوا عن الرثاء بطلب الثار، ولم يجدوا مثلها فرصةً تخمد هذا العيب المثار.
فرمته عن قوسها سهام القضاء الصوائب، وعضت منه إبهام الإبهام بنابها النوائب.
فبقي جسده على الأرض مطروحاً، كأن لم يكن في روض المعارف غصناً مرحاً.
وبلغت أمانيها من ذهابه الأغراض، ولله تعالى المشيئة فليس لنا اعتراض.
فأنا إذا أفكرت في صرعته، وأخذتني لوعة محنته وروعته.
ملكتني عبرة تترقرق، أكاد بمائها أشرق.
وأرغب إلى الباعث بعد الحمام، مادثر من هوامد الرمام.
أن يهبه رحمته وعفوه، ويعوضه عن كدر دنياه النعيم وصفوه.
وقد أثبت من أشعاره التي طلعت محاسنها سافرة المحيا، وسرت سرور الحبيب أحْيَي وحَيَّي.
ما حشوت حينا من دره الثمين مسمعي، فإذا تلوته بكيت فضائله فيبكي السامع معي.
فمنه قوله، من نبوية مستهلها:
أهلا بنَشْر من مَهَبِّ زَرُودِ ... أحْيَي فؤادَ العاشق المنْجودِ
وروى شذَى خبر العقيقِ ففجَّرتْ ... منه عيونَ الدمع فوق خدودِ
ونمَى فنمَّ لنا بأسرار الهوى ... من حيث منزلةُ الظباءِ الغِيدِ
تلك المعاهدُ جاءَها صَوْبُ الحيا ... وسرى النسيمُ بظلها المدودِ
فيها بواعثُ مُنْيتي ومنيَّتي ... وبوِرْدها ظمأِى وطِيبُ وُرودِى
إن تَنْأَ عن عيني بدورُ سمائِها ... فأنا المُقيم على رَسِيس عهودِى
كيف الخلاصُ ولي فؤادٌ مُوثَقٌ ... بالحب لا يُصغِي إلى التفنيدِ
تأوُّه لولا دموعي لم يكدْ ... ينْجو الورى من جَمْرها المَوقُودِ
هذا من قول الآخر:
لولا دموعَى لم يكدْ ... ينْجو الورى من نار قلبِي
وقول الآخر:
لولا الدموعُ وفَيْضُهنَّ لأحرقتْ ... أرضَ الوداعِ حرارةُ الأكبادِ
وأشبه به قول رباح:
نار يُغذِّيها السحابُ بمائِه ... فلذاك لم تكُ ترتمِي بشَرارِ
ولابن عبد ربه، من أبيات ربيعية:
والأرضُ في حُلَلٍ قد كاد يحرقُها ... توقُّد النَّوْر لولا ماءُها الجارِي
وقد قلبه الحرفوشيّ كما تقدم في قوله:
ومدامعي لولا زفيري لم يكدْ ... ينْجُو الورى من سَحِّها المُتَوالِي
داء تَعَوَّدَهُ فؤاد متيَّمٍ ... لم يلتحِفْ غيرَ الأسَى ببُرودِ(1/306)
كلا ولا كحَل الرُّقاد جفونَه ... أيلَدُّ من ألِفَ الهوى بهُجودِ
ما أعذب التعذيبَ في طُرْق الهوى ... إن لم تُشَب أسْقامُه بصدودِ
نفسِي الفداءُ لذي قَوامٍ ناضرٍ ... جعل الحِدادَ وسيلةَ التهديدِ
رَخْصٌ كجسم النُّور مهْضوم الحشَا ... لَدْن كخُوطِ البانةِ الأُمْلودِ
لبستْ غدائرُه الدجى وتقلَّدتْ ... لَبَّاتُها من زهْرها بعقودِ
عهدي به والليلُ منْفصِم العُرَى ... مُتوسِّد وَفْق المُنى بزُنودِ
والقلبُ يَظْمأُ من مَراشِف ثغرِه ... ظمأَ السكارَى بابْنة العنقودِ
بعث الشبابُ على ورود رُضابِه ... فأتى الفراقُ وحال دون وُرودِ
فجعلتُ زادِي بعده جَرْعَ الأسَى ... وأطلتُ فيه تَهائمي ونُجودِى
وغدوْت في شجَنٍ يُقْلقِل أضلُعي ... إن الشجونَ عَلامَة المَعْمودِ
ليت الذي منع التَّداني بيننا ... وقضى عليَّ بوَحْشة التعبيدِ
بُلْوِى فيُسعفني بتقْريب الخُطا ... ويفْكُّ من أسْر الفِراق قُيودِى
فأشِيمُ برقَ الوصل من قِبَل الحمَى ... وأشمُّ رَوْح الأُنْسِ غير بعيدِ
وأرى خيامَ أحبَّتي وقبابَها ... كالخَوْد تُجْلَى في عِرَاصِ البِيدِ
أرض يفُوح بتُرْبها أرَجُ النَّدى ... والمجدُ في نُوَّارِها المخْضودِ
هي مهبِط الوحىِ القديمِ ومَعِقلُ الدِّ ... ين القويمِ وموطنُ التوحيدِ
وكتب إلى الأمير منجك قصيدة طويلة، اكتفيت منها بالمقدار الذي كتبته، ومطلعها قوله:
سقى جِلِّقاً صَوْبُ السحابُ المزرَّدِ ... وباكَر من أفْيائها كلَّ معهدِ
وقَّلد أجْيادَ الرُّبى في عِراصِها ... يدُ الغيث عِقْدَى لُؤْلُؤ وَزَبْرَجِد
ولا زال خفَّاقُ النُّعامَى مُنبِّها ... عيونَ الخُزَامى بالخفيف المجسَّدِ
وغنَّتْ بها الأطيارُ من كل نَغْمة ... تُهيِّجْن ألْحان النديمِ ومَعْبَدِ
لقد هتَفتْ منها بوَجْدِي سواجِعٌ ... تَلَّفع أظْلالَ الغُصون وترْتدِى
تُنوح وتُشْجينا فنزْداد عَيْمةً ... سنعلم إن مِتْنا صدى أيّنا صَدِ
أشِيم بروقاً بالشَّآمِ مُثيرةً ... عقابِيلَ شوقٍ بالفؤاد المُشرَّدِ
وأسْتافُ نَشْراً كلَّما هبَّ ضائعاً ... تُحدِّث أنفاسَ الحبيب المُبعَِّد
فيْهتزُّ من رَيَّاه قلبي وينْثني ... ولولا اهْتزاز الغصن لم يتأوَّدِ
فَواحُرقتي إن لم أبلَّغْ نعيمَها ... ووافُرقني إن بِتُّ والبَيْن مُقعِدِى
ويومٍ بلَأْلاء الكؤوس مفضَّضٍ ... كستْه يدُ الصَّهْباء حُلَّةَ عَسْجَدِ
قضيتُ به حقَّ الهوى غير أنني ... متى أدْنُ منه اليوم يْنأَى ويبعُدِ
رعى اللهُ أيام الوصالِ فإنها ... ألذُّ من التَّهْويمِ في جَفْن أرْمَدِ
تقضَّتْ وضنَّ الدهرُ منها بنَهْلَةٍ ... تبُلُّ غليلَ السَّائق المتزوِّدِ
منها:
عسى تقذف البَيْداءُ نَضْوِى برحلةٍ ... تُنِّفس عن أسْرِ المَشُوق المُقيَّدِ
إلى بقعة زِينتْ بباقعِة الحجَى ... مُنِيل المعالي المَنْجَكِيِّ محمدِ
عريقِ بلاد الشام دُرَّةِ تاجها ... غَياثِ بني الآداب مَأْوَى المُطرَّدِ
منها:
أخا مَنْجَك يا أكملَ الناس فِطْنةً ... وأشرفَهم بْيتاً بغير تردُّدِ
صبغتَ العُلى بالمكرُماتِ فلم يَحِلْ ... وينكَر في الأعْراضِ غيرُ التجدُّدِ
أمولاىَ يا بدرَ المعالي وشمسَها ... ويا رحلةَ الآمالِ من غير موعدِ
لقد ذلِقتْ في وصف مجدِك ألْسُنٌ ... وعَجَّتْ به بالرُّكْبانُ في كلِّ مشْهدِ(1/307)
وأهدتْ لنا من بحر طبعِك لُؤْلُؤاً ... على الطِّرسِ حتى كاد يُلقَط باليدِ
منها:
فأسْلْفتُك الإعظامَ والودَّ مُوفِياً ... حقوقَ مَعاليك التي لم تُعدَّدِ
وقدَّمتُ من فكرِي إليك أَلُوكةً ... حَبَتْكَ بمْغبوطٍ من المدح سَرْمَدِ
تُخبِّر عمَّا في القلوب من الجوَى ... ويأْتِيك بالأخبارِ من لم تُزوِّدِ
فأوجِبْ لها حقاً وأنْعِم بمثلها ... وعِضْني بنظمٍ من عقودك يحُمدِ
أُروِّى بها من لاعج الشوق والنوى ... غليلَ فوادٍ بالصَّبابة مُكْمَدِ
منها:
فأنت لْجَفن الدهر سيفٌ وناظرٌ ... ولولاك لم يُبِصرْ ولم يتقلَّدِ
ثم أعقبها بقطعة من نثره، وهي: حامل لواء النظم والنثر، حامي بيضته عن الصدع والكسر.
محل استواء شمس الكرم، العاصر بمجده عنقود الثريا تحت القدم.
واسطة قلادة الفضائل وعقد نظامها، وبيت قصيدة الآداب ورونق كلامها.
جناب الأمير ابن الأمير، والعطر ابن العبير.
لا برحت ظلال معاليه ممتدة على مفارق الأيام، وظل حساده أقلص من جفون العاشق عن طيب المنام.
هذا ولو أوتى الداعي زكن إياس، واستضاء من محاضرة أبي الفرج بنبراس.
وملك براعة ابن العميد، وأحرز خطب ابن نباتة وبداهة عبد الحميد.
وأعطى بلاغة الصاحب ونوادر أبي القندين، ونال مقامات البديع ومفاوضات الخالديين.
وحاز محاورات الأحنف وفصاحة سحبان، وحوى منشآت القاضي الفاضل ومدائح حسان.
ورام أن يزخرف كلاما يناسب مقتضى المقام والحال، لفل حد القلم وضاق ذرع المجال.
وإن أحجم بقيت في النفس حاجة، وعصف على القلب ربح حسرة فهاجه.
فلذلك أقدم على الثانية سجياً، وأبدى لتلك الحضرة هديا.
فإن أكرم الأمير مثواها، فنظم من فرائد عوائده فحلاها.
وأجاب بما يروى غليل الفؤاد، ويخصب مراد المراد.
فذلك من مساعي فطرته المنجكية، ودواعي شيمته البرمكية.
فأجابه بهذه الأبيات:
أمولايَ من دون الأنام وسيِّدِي ... بمدحِك قد بلَّغْتني كلَّ سُؤْدَدِ
بعثتَ بأبياتٍ كأن عُقودَها ... مُنضَّدةٌ من لُؤْلؤٍ وزَبَرْجَدِ
أُمتِّع طَرْفي في طروسٍ كأنها ... مبادِى عِذارٍ فوق خَدٍّ مُورَّدِ
سطورٌ إذا مارمتُ قتْل حواسدِي ... أُجرِّد منها كلَّ عَضْبٍ مهنِّدِ
تكلفِّني ردَّ الجواد وإنني ... أبِيتُ بفكرٍ في الزمان مُشرَّدِ
وليس يُجيد الشعرَ منطقُ عاجزٍ ... ضئيل على فُرْش السُّهادِ مُوَسَّدِ
يمرُّ به العمرُ الطويل مُضيَّعاً ... على الكُرْهِ منه بين واشٍ وحُسَّدِ
فعذراً أخا العلْياءِ فُلَّتْ عزائمي ... وقد كنُت كالسيف الصَّقِيلِ المجرَّدِ
فإنك أهلُ الصفحِ والعفوِ والرِّضا ... وإنك من نَسْلِ النبيِّ محمدِ
أعَزُّ بني الدنيا وأشرفُ من سَمَا ... إلى الرتبِة العَلْيا بغير تردُّدِ
صغيرٌ إذا عُدَّت سِنِىُّ زمانِه ... كبيرٌ به أشياخُنا الغُرُّ تقتدِى
تملَّك رقَّ الحمدِ والشكرِ والثَّنا ... بكفٍّ على فعل الجميلِ مُعوَّدِ
فلا زال عيناً للزمان وأهلِه ... يجرِّر ذيلَ الفخرِ في كلِّ مَشْهَدِ
ومما طارحني به في بعض مطارحاته، أنه لما مر بدمشق قاصداً الحج، شغف بأحد أبناء سراتها، وكان من الأشراف، قال: ثم فارقته وتباكينا يوم التوديع، فكتبت إليه من الطريق مضمناً بيت البحترى:
يا آل بيتِ المصطَفى هل رحمةٌ ... لفؤاد مشبوبِ الجوانح نائرِ
ضلَّتْ نواظُره الرَّقادَ وما اهتدتْ ... ببَياض دمعٍ من سوادِ ضمائرِ
دمعٌ تعلَّق بالشَّؤونِ فساقَه ... زفراتُ بَرْحٍ من جوًى مُتخامِرِ
لو تنظرون إلى الشَّتيتِ وسِرْبُه ... يقْفو سُروبَ زواخرٍ وزوافرِ
لعذرْتموه وماله من عاذِلٍ ... وعذلْتموه وماله من عاذرِ(1/308)
واهاً لأيامٍ تقضَّتْ خُلْسةً ... في ظلِّ دَوْحٍ بالسيادةِ ناضرِ
دوحٌ عليه من النبيِّ محمدٍ ... وَضَحُ الصباحِ ونفْح روضٍ باكرِ
لم أنْسَه يومَ الوَداعِ وطَرْفُه ... يرنُو إلى شَعثِ النجيبِ الضَّامِرِ
وفعالُه تُبدِى نفاسةَ عِرْقِهِ ... في فضْل وجهٍ بالسماحةِ زاهرِ
حتى إذا جدَّتْ بنا ذُلَلُ النَّوى ... والعينُ تسْفح بالنَّجِيع المائرِ
سِرْنَا وعاوَد كالمقيم وربما ... كان المقيمُ عَلاقة للسائرِ
ومن بدائعه قوله:
ألا لا تسَلْ أيّ شيءٍ جرَى ... ومن قَرْح جَفْنِيَ ماذا جرَى
تعلَّمتُ من حبِّه الكيِميَا ... وصرتُ حكيماً به أكْبرا
سحَقْت فؤادي وأودعتُه ... بنارِ غرامٍ به أسْعَرَا
وصيَّرتُ عيني أنبيقةً ... وقطَّرْتُه ذهباً أحمرا
ألا هكذا يا أُخَيَّ الهوى ... كما كلَّ صيدٍ بجوف الفَرَا
وقوله:
لم يدْرِ من بالوصل مازَ جَفاكِ ... أن الرَّحِيقَ العذبَ مازَج فاكِ
قد كنتُ في دِين الغرام موحِّداً ... ومُوحَّداً من دون من يَهواكِ
حتى نصبْتِ الهُدْبَ منكِ حُبالة ... للعاشقين وعُقْلةَ النُّسَّاكِ
وأريْتنِي ناراً بخدِّك أُضرمتْ ... فوقعتُ في الأشْراكِ والإشْراكِ
وقوله:
رأسُ الشريف عليه سندسُ أخضرٍ ... عنوانُ ما في الخلدِ بعضُ حُلاهُ
سُقِيتْ بماء مكارمٍ أعْراقُه ... فاخْضرَّ من أصلٍ زكا أعْلاهُ
من قول الشهاب الخفاجي:
يقول على رأس الشريفِ علامةٌ ... ونورُ نبيِّ الله عن ذاك أغْنَاهُ
فقلتُ جرى ماءُ المكارمِ والندى ... وقد طاب مَجْراه لذا اخْضَرَّ أعْلاهُ
وله في مجدر:
يقولون من تهواه جُدِّر وجُهه ... فقلتُ لهم حاشاه من نَصَبٍ يُردِي
ولكن أشارُوا بالبَنان لحسنِه ... فأثَّر أطرافُ الأناملِ في الخدِّ
قلت: لله دره على ما أبدع: وقوله: جدر بالبناء للمفعول، تقول جدر الرجل، فهو مجدر.
وفي الأساس: مجدر ومجدور.
وأنكر الحريري في الدرة مجدراً، وعده من الوهم.
قال: لأنه داء يصيب الإنسان مرة في عمره، من غير أن يتكرر عليه، فلزم أن يبنى منه المثال على مفعول، ولا وجه لبنائه على مفعل الموضوع للتكثير.
ولا وجه لإنكاره، إذ ليس كل فعل للتكرير والتكثير، فقد يجيئ بمعنى فعل كثيراً، مع أن التكثير والتكرير محقق هنا باعتبار أفراد حباته، وهو في غاية الظهور.
والأفصح أن يقال جدري، بضم الجيم، واشتقاقه من الجدر وهو آثار الكي على عنق الحمار.
وقد أكثر الشعراء من وصف المجدر، ولم أر أحسن من قول أبي سعد الجويني:
بدتْ بثَراتُه فوق المُحيَّا ... كما نُثرتْ على الشمس الثُريَّا
كأن الخدَّ والبثَرات فيه ... حَبابٌ فوق كأسٍ من حُمَيَّا
وأنشدني الحجازي، قوله في وصف مجلس لبعض أحبائه، أطل على غدير فرشت أرضه بحصبائه:
حسَدتْ جَمْعنا النجومُ فألْقتْ ... نَفْسَها في مناقِع الغُدْرانِ
هذ بيتٌ ماله الحسن موازي، يساوي ألف بيت من جنس بيت المنازي.
وما أظن أن أحداً سبقه إلى هذا المعنى، ولا أن فكراً طرق هذا المغنى، غير أن في قطعة لابن حمديس بيتا يقاربه في المبنى، وهو:
كأن حُبابا رِيع تحت حَبابِه ... فأقبل يلقى نفسَه في غَدِيرِهِ
وأنشدني من لفظه لنفسه، قوله في قصيدة، في مدح الوزير الفاضل:
ولرُبَّ يومٍ قد تلفَّعتِ الضحَى ... منه بثوبَيْ قَسْطَلٍ وغَمامِ
حسرتْ قِناعَ النَّقْع عنه عُصبةٌ ... غُبْرُ الوجوه مُضيئةُ الأحْلامِ
مُتجرِّدين إلى الِّنزالِ كأنما ... يتجرَّدون لواجبِ الإحرامِ
لا يأنَسُون بغير أطْرافِ القَنا ... كالأُسْد تألَف مَرْبِض الآجامِ(1/309)
يْسرى بهم نَجْمان في ليلِ الوغَى ... رأىُ الوزير ورايةُ الإسلامِ
وكان أتحفني من أناشيده بطرف بدائع، هي في عهده الدهر من جملة مالي من ودائع.
ووقع في داره بالروم حريق، فتلف بعض أسباب رياشه، وذهب جل ما اتخذه من ذخائر معاشه.
فقلت أخاطبه:
فِدًى لك ما على الدنيا جميعَا ... فعِش في صِحَّةٍ وابْلِ الرُّبوعَا
لئن جزِع الأنامُ لَفْقد شيءٍ ... فلستَ لفَقْدك الدنيا جَزُوعَا
تعلَّمْنا الأناءَةَ منك حتى ... توطَّنَّا بها الشرفَ الرفيعَا
أفاض اللهُ جودَك في البرايا ... وأنبتَ من أياديك الربيعَا
وصوَّرك الميهمنُ من كمالٍ ... لنَعْلم صنع خالقِك البديعَا
فمُر واحكُم بما تختارُ فينا ... تَجِدْ كُلًّا با تهوَى مطيعَا
فلو كلَّفتَ يومَ الأمسِ عَوْداً ... لَخاض الليلَ واخْتار الرجوعا
ولو ناديتَ سهماً في هواءٍ ... لعاد القَهْقَري وأتى سريعَا
يضُمُّ البُرْدُ منك أخا فَخارٍ ... يبيتُ الليلَ لا يدري الهُجوعَا
وإنِّي مَن بجُودك قد ترقَّى ... وحلَّ من العُلى حصناً مَنِيعَا
خُلِقتُ على الوفاءِ لكمْ مقيماً ... وأوْفَى الناسِ من حفِظ الصنيعَا
وكتبت إليه من دمشق، بعد عودى من الروم إلى حلب، هذه القصيدة:
أرى النَّدْبَ مَن صافَي الزمانَ المحاربَا ... وأغْبَى الورى من بات للدهر عاتبَا
أتعتَبُ من لا يعقل العَتْبَ والوفا ... ولا هَمَّه شيءٌ فيخشَى العواقبَا
وإن ضَنَّ لم يسمَح بمثْقال ذَرَّةٍ ... ولم يُبْقِ موهوبا ولم يُبق واهبَا
ولا جَنَّةٌ تُغنِيك إن كان مانعاً ... ولا منزلٌ يُؤْويك إن كان طالبَا
أُحاوِل شَكْواه فألْقَى نوائباً ... تُهوِّن عندي منه تلك النوائبَا
ولن يسبِق الأقْدارَ من كان سابقاً ... ولن يغلبَ الأيامَ مَن كان غالبَا
ومَن صحِب الدنيا ولو عُمْرَ ساعةٍ ... رأَى من صُروف الدهر فيها العجائبَا
وقَفْرٍ كيوم الحْشر أو شُقَّة النوَى ... يُضِلُّ القَطا أعْملت فيه النجائبا
وليلٍ كقَلْبِ السامِرِيِّ قطعتُه ... إلى أن حكى بالفجر أسود شائبَا
وما كنتُ أرْضَى بالنوى غير أنني ... جديرٌ بأن لا أرْتِضى الذلّ صاحبَا
فنظَّمتُ من دُرِّ المعاني قلائداً ... جعلتُ قوافيها النجومُ الثواقبَا
وَيمَّمتُ أقْصَى الأرضِ في طلبِ العلى ... ولم أصْطحبْ إلا القَنا والقواضِبَا
فلاقيْتُ في الأسْفارِ كلَّ غريبةٍ ... ومن يغتربْ يلْقَ الأمورَ الغرائبَا
وخلَّفتُ مَن يرجُو من الأهلِ أوْبَتِي ... كما انْتظر القوم العطاشُ السحائبَا
وكم قائلٍ لا قرَّب اللهُ داره ... ومن يتمنَّى لو بلغتُ المطالبَا
فعُدْتُ على رغم الفريقْين سالماً ... ولم أقْضِ من حّق الفضائل واجبَا
وحسْبِي وجودُ ابن الحجازِيِّ نائلاً ... به لم أزلْ ألْقَى المُنَى والمآربَا
فتًى قد جهلتُ العُسْرَ منذ عرفُته ... ولَانتْ ليَ الأيامُ عِطْفاً وجانبَا
وأصبحَ يْلقاني العدوُّ مُسالماً ... وقد كاد يْلقاني الصديقُ مُحاربَا
منها:
فِراستُه تُغنيك عن ألفِ شاهدٍ ... تُرِيه من الأشياءِ ما كان غائبَا
وَقُورٌ كأن الطيرَ فوق جليسِهِ ... ترى الدهرَ منه خائفَ الدهرِ راهبَا
في قولهم: كأنما على رؤوسهم الطير توجيهان: أحدهما: أنهم لا يتحركون فصفتهم صفة من على رؤوسهم طائر يريد أن يصيده، فهو يخاف إن تحرك طيران الطير وذهابه.
والآخر، هو أن نبي الله سليمان عليه السلام، كان يجلس هو وأصحابه، ويقول للريح:(1/310)
أقلينا، وللطير: أظلينا، ويستشعر أصحابه السكون والسكوت؛ فشبهوا بجلساء سليمان الذين لا يتحركون، والطير تظلهم من فوق رؤوسهم.
ويقال للرجل الحليم إنه يساكن الطير، أي أن طائره لا ينفر من سكونه.
أخافَ سِباعَ الطير من سَوْطِ رأيه ... فكادتْ لفَرْطِ الخوف تُلقِى المخالبَا
ولو أدرك المجنونُ أيامَ حُكْمِه ... لأعرَض عن ليلَى وأصبح تائبَا
منها:
خبيرٌ بتحْقيق العلومِ مُدقِّقٌ ... إذا جال في بَحْثٍ أراك العجائبَا
وإن نثَرتْ يُمناه في الطِّرْس لُؤْلُؤاً ... كتبْنَا على تلك الَّلآلي مطالبَا
وذيلتها برسالة وهي: أقسم بمن جلت عظمته، وعلمت كلمته.
وسخر القلوب للمودة، وصقل بالمحبة الخواطر المستعدة.
إنني أشوق إلى لثم يد مولاي من الروض إلى الغمام، ومن الساري إلى تبلج القمر في الظلام.
وقد كانت حالتي هذه وأنا جاره، فكيف الآن وقد بعدت عني داره.
وليست غيبته عني إلا غيبة الروح، عن الجسد البالي المطروح.
ولا العيشة بعد فراقه الجاني، إلا كما قال البديع الهمذاني: عيشة الحوت في البر، والثلج في الحر.
وليس الشوق إليه بشوق، وإنما العظم الكسير، والنزع العسير، والسم يسرى ويسير، والنار تشوى وتطير.
ولا الصبر عنه بصبر، وإنما هو الصاب والمصاب، والكبد في يد القصاب، والنفس رهينة الأوصاب، والحين الحائن وأين يصاب.
وقد كتبت إلى مولاي هذه القصيدة، وأنا لا أحسبها من الإحسان بعيدة.
وهذا الكتاب، وقد أنفقت عليهما مدةً من العمر، وصرفت على تحريرهما حينا من الدهر.
وكتبتهما وأنا مستغرق في ذكرك، مشغولٌ بحمدك وشكرك.
ذاكرٌ عهدك، ومقامي عندك.
في أوقاتٍ ألذ من قبل الغيد، وأشهى من اجتلاء الخدود ذات التوريد.
حيثما العيش أخذ طلقه، واستوفى من الأماني حقه.
وأنت تقرط سمعي بفوائدك، وتملأ صدفة أذني بلآلي فرائدك.
من أدبٍ أغزر مادةً من الديم، وأنشط للقلب من بوادر النعم.
ولقد يعز علي أن ألفى بعيداَ عنك، متروك الذكر منك.
ولكن هو الدهر، وعلاجه الصبر.
فصبراً على الأيام في كلِّ حالةٍ ... فكم في ضميرِ الغيب سِرٌّ مُحجَّبُ
وربما تخالج في صدري لداعيةٍ اقتضته، ورعونةٍ لأجل التنافس تقاضته.
أن يشرفني بمكاتبة، ويؤهلني إلى مخاطبة.
جرياً على معروف المعروف، وطمعا في اغتنام كرمه الموصوف.
حتى أباهي بكلمه الزمان، وأجعلها حرز الأماني والأمان.
وأظنه يفعل ذلك متفضلاً، لا برح لكل إحسان مؤملا.
فكتب إلى جوابا.
نحن عِفْنا الشهباءَ شوقاً إليكم ... هل لديكم بالشَّامِ شوقاً إليْنَا
قد عجزْتُم عن أن تَرَوْنا لديكمْ ... وعجزْنا عن أن نراكم لَديْنَا
حفظ اللهُ عهدَ من حفِظ الْ ... عهدَ ووَفَّى به كما وَفَّيْنَا
اللهم جامع المحبين، ومعين القوى على ألم النوى وما جعل الله لرجلٍ من قلبين.
أسألك بما أودعته في سرائر المخلصين من أسرار المحبة، وأنبت في رياض صدورهم من المودة، هي التي كحبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة.
فارع فرع الشجرة المحببة وأصلها، وأفض عليها فواضلك التي كانوا أحق بها وأهلها.
واحفظ اللهم هاتيك الذات الزكية التي رؤيتها أجل الأماني، ونور تلك الصفات التي إذا تليت تلقتها الأسماع كما تتلقى آيات المثاني.
هذا وما الصب إلى الحبيب، والمريض إلى الطبيب.
بأشوق مني إلى تلقي خبره، واستماع ما يفتخر به الركبان من حسن أثره.
وماغرضي من عرض الأشواق، التي ضاقت عنها صدور الأوراق.
إلا تأكيدٌ لما يحيط به علمه المحترم وتشنيفٌ لمسامع اليراع بذكر صفاته التي تطرب فيترنم بألطف نغم.
ولقد كنت أتوقع زيارته لما قدم البلدة النجرا، فثنى عنان الإعراض وأجرى جواد الانبرا.
وما هكذا كنَّا لقد كان بيْنَنا ... معاملةٌ عن غير هذا الجفَا تُنْبي
هذا وضمير الأخ أنور من أن يستضئ بمصباح الاعتذار وأعلم بصدق المحبة في حالتي القرب والبعد والإعلان والإسرار.
وليس يندمل الجرح منا إلا بمرهم لقائه، ولا يشفى غليله إلا بري روائه.
فالرجاء أن يتلافى ما فرط بل أفرط من الإعراض، ويسمح بما نتوقعه منه بلا إغماض.(1/311)
هي الغايةُ القُصوى فإن فات نَيْلُها ... فكُلٌّ من الدنيا علىَّ حَرامُ
؟ السيد يحيى الصادقي
غرة في جبهة الفخر، ينفلق عنها لألاء الفجر.
أساريره على فرحة الحمد مشرفة، وصحيفتاه ما زالا يطلعان ورد المعرفة.
أحسن في هذه الحلبة السباق، وكان له في روضة الأدب الاصطباح والاغتباق.
ولذاته المحاسن أجمع، وبمثله لم يتمتع منظر ومسمع.
إلى ما حواه من مطارحةٍ معسولة، ومعاشرة من وسخ الرياء مغسولة.
مرآة طبعه عن أسرار المعاني تشف، وورد رويته عليه طيور القلوب ترف.
وله أشعار أسوغ من السلاف وألطف، وأدق من السحر يجول في لحظ شادنٍ أو طف.
تعد كلاما وهي تجتلى بين الندام، فيتسلى بها فؤادٌ ما تسليه المدام.
وقد أوردت من نادرها الغريب، ما يتحير من كيفية تخيله الفطن الأريب.
فمنه قوله:
ولم أشْربِ الخمرَ الحرام تعمُّداً ... ولكن دعتْينِه الضرورةُ فاعْلمِ
تخيَّل لي في كأسِه عند مَزْجِه ... بكفِّ الذي أهْواه هيئُة أرْقَمِ
فخِفْتُ عليه منه لَدْغة ضائرٍ ... فأوهمْتُه وَكْراً وأدخلتُه فمِي
وقوله في تشبيه النرجس:
انْظُر إلى النَّرْجِس لمَّا بدا ... معتدلَ القامِة كالصَّوْلَجانْ
كأنه كفُّ عُقابٍ هوَتْ ... فاختطفتْ تاج أنُوشِرَّوانْ
قلت هذا تشبيهُ، ماله شبيه، غير أنه شدد فيه راء شروان، وهو من غلط الخواص.
وهذا اللفظ فارسي معرَّب، تكلمت به العرب، وأصله نور شروان، ومعناه الأسد الجديد، وهو وصف لكسرى.
قال عدي ابن زيد:
أين كسرى كسرى الملوك أنُوشِرْ ... وانَ أم أين قَبلَه سابورُ
وقد يعتذر عن تشديده بما قاله في مثله العصام: وللعرب التصرف في ألفاظ العجم، ولهذا يقال: هو أعجمي فالعب به ماشئت.
وولاه بعض القضاة نيابة محكمة تعرف بالسيد خان، فكتب إليه:
أصبحتُ مع الشمسِ بُبْرجِ المِيزانْ ... إذ أنْزلِني الهمامُ بالسَّيِّد خانْ
لكن وعُلاكَ كلُّ مَن ناب يَخُنْ ... والعبد يعافُ كلمةَ السيِّد خانْ
وحكى لي شيخنا المهمنداري، مفتى الشام، أن الصادقي حضر مع جماعة من الأدباء، منهم البديعيّ، وعبد القادر الحمويّ، في مجلس السيد أحمد بن النقيب، في ليلة شاتية تكاد نارها تخمد، وأفكار القلوب فيها تجمد.
والمجلس قد احتبك، وأرميت لمصائد الأفهام الشَّبك.
وبينهم بدر ترمقه المقل، فتجرح منه مواضع القبل.
إذا تلهّبت نيران خدّيه تراءت بها جنات النعيم، يدور عليها عقرب صدغه الليلي فكم من سليمٍ منها في ليل السقيم.
فجيء بمنقل شُبّ ضرامه، كما شُبّ في كل قلب منهم غرامه.
فما حصل حتى بدِّدت ناره عن عثرة، وأصلي منها ذلك الحفل ألف جمرة.
فقال الصادقيّ فيه:
ضَمَّنا مجلسٌ لتاجِ الموالِي ... عالمِ العصر بِكْرِ هذا الزمانِ
غُرةُ الدهر أحمدٌ ذو الأيادِي ... وابنُ خيرِ الأنام من عَدْنانِ
بفَريدِ الحسان خَلْقاً وخُلْقاً ... عَنْدلِيبِ الإخوانِ نورِ المكانِ
فاشْتَهى كلُّنا زَفافَ عروسِ الْ ... حُسنِ تُجْلَى في لونِها الأُرْجُوانِ
فانْثنَى كالقضيبِ تفْديه نفْسِي ... عابثاً بالسِّياطِ والمُجَّانِ
فأصاب الكانُونُ سَوْطٌ فطار الْ ... جمرُ من وَقْعِه على الإخوانِ
فسألْنا ماذا فقال نِثَارُ الْ ... حبِّ جمرٌ لاَ جَمرةٌ من جُمانِ
واعْتراهُ الحيَا فأخْمدها مِن ... غير بُؤْسٍ بساعدٍ وبَنانِ
ففرِقْنا عليه منها فنَادَى ... وكذا النورُ مُخْمِد النِّيرانِ
وقال أيضاً:
لاَمُوا الذي حاز لُطفاً ... وبَهْجةً وجَلالَهْ
إذ بدَّد النارَ عمداً ... ليلاً وأبْدى الخَجالَهْ
وصاغ في البُسْطِ شُهْباً ... إذْ كان بدراً بِهالَهْ
وكفَّل الطَّفْيَ يُمْنا ... هُ تارةً وشِمالَهْ
كذلك الشمسُ تُدْنِي ... لكلِّ نَجْمٍ زَوالَهْ(1/312)
فقلتُ لا تعذِلُوه ... دَعُوه يُوضِحُ حالَهْ
بأنه بدرُ تِمٍّ ... حِيناً وحِيناً غَزالَه
وقال أيضاً:
أفْدِي الذي أبدى سَما حُسْنِه ... لنا شُموساً ثم أقْمارَا
فاسْترق القومُ بأبْصارِهمْ ... سَمْعا فعاد السمعُ إبْصارَا
فأرسل الشُّهْبَ عليهم من الكا ... نُونِ تَهْتاناً ومِدْرارَا
فظنَّه الجاهلُ مِن جهلِه ... بأنه قد بدَّد النارَا
وقال أيضاً:
أنْشدتُ من أهوَى وقد أخذ الهوَى ... بمَجامِعي واسْتحْوذَ اسْتحواذَا
كبدِي سلبْتَ صحيحةً فامْنُنْ على ... رمَقِي بها مَمْنونةً أفْلاذَا
فأشار للكانونِ فانْثالتْ على ال ... جُلاَّسِ جمراً وابِلاً ورَذاذَا
وبدا يُكَفْكِفُه حَياً ويقول لي ... مَن كان ذا لُبٍّ أيطلبُ هذَا
وقال السيد أحمد بن النقيب:
قد قلتُ إذ عثَر الذي ألْحاظُه ... فعلتْ بنا فِعْلَ الشَّمُولِ مُشَعْشَعَهْ
في مجلس بالنار فانْتثرتْ على ... بُسْطِي فجَلَّله الحياءُ وبَرْقَعَهْ
وأكبَّ يدفع عَبْثَها بأكُفِّه ... مُسْتعظِماً ذاك الصَّنِيعَ ومَوْقِعَهْ
جَمراتُ حُبِّك لو علمتَ بفعْلِها ... في القلبِ ما اسْتعظمتَ حَرْق الأمْتعَةْ
وقال أيضاً:
لا تَحسَبُوا النارَ التي ما بيْنَنا ... نُثِرت من الكانُونِ كان شَتاتُهَا
بل إنما ذاك الذي ألْحاظُه ... سلبتْ عقولَ أُولى النُّهَى فَتراتُهَا
لمَّا رأى عُشَّاقَه تُخْفِى الجوَى ... ولهيبَ نارٍ دَأْبُه زَفراتُهَا
وأراد يفْضحها أشار بكفِّه ... لقُلوبها فتناثرتْ جَمراتُهَا
وقال البديعيّ:
في الدُّجى زار مُنْعِماً مَن أَرانَا ... مَن رآه في حبِّه مظْلومَا
عثَرتْ رِجلُه فبدَّدتِ النَّا ... رَ فخِيلَتْ بلا سَماءٍ نُجومَا
واكْتستْ وَجْنتاهُ ثوبَ احْمِرارٍ ... فَرَقاً منه أن يكون مَلُومَا
قلتُ مولايَ هذه بعضُ نارٍ ... أنتَ أضْرمْتَها بقلبي قديمَا
ظهرتْ منه بعد ما قد أكنَّتْ ... هَا ضُلوعي إذا ما أراك رحيمَا
فانْثَنى ضاحكاً وقال إذا كا ... نتْ لَظَى الشوقِ ما لها لن تدُومَا
وقال عبد القادر الحمويّ:
إن الذي أخْجَل شمس الضحى ... في مجلسِ المولى الرفيع العمادْ
بدَّد ناراً كان للإْصْطِلا ... فانْبَثَّ كالياقوتِ بين الأيادْ
فانْصَاع يَزْوِي الجمرَ في أنْمُلٍ ... كالخَزِّ إن حاولْتَ منها انْعقادْ
وقال إذ رامَتْ بتأْجِيجِها ... تحكي سنَا خَدِّي ومنك الفؤادْ
نثرْتُها عمداً على بُسْطِ مَن ... أرْوَى ندَاه كلَّ غادٍ وصَادْ
السيد عطاء الله الصادقيّ
هو للذي قبله نسيب، يتناسب فيه مدح ونسيب.
صحيفة مجده للخير قابلة ... ونسخة محتده صحيحةٌ مقابلة.
إذا قال صدق، وإذا استمطر غدق.
تعاطى المسرة صرفا، واتخذ المجرة مدى والعيُّوق طرفا.
وله أدب مشعشع مروَّق، وشعرٌ به جيد الدهر مطوّق.
اثبتّ منه ما ينساغ انسياغ الريق، ويهزأ بدرر الثنايا في اللّمعان والبريق.
فمنه قوله:
أقسمتُ ما لا ح بَرْقٌ من ثَناياكِ ... إلاّ وسَحَّ سَحاباً طَرْفِيَ الباكِي
وما تغنَّتْ حَماماتٌ على فَنَنٍ ... إلاَّ وجاوَبها بالنَّوْح مُضْناكِ
يا فتنةً قابلتْ بالصَّدِّ وُدَّ فتًى ... ما مال في حبِّها يومًا لإشْراك
إن غبْتِ عن ناظِري ما غبتِ عن خَلَدِي ... وحيث كنتِ فإنَّ القلبَ مأْواكِ
أبِيتُ فيك أُراعِي النجمَ من قلَقٍ ... ما كنتُ أرْعَى نجومَ الأُفْقِ لَوْلاكِ(1/313)
وفيك لي قد حلا خَلْعُ الغِدارِ لما ... طربتُ عند سماعي وَصْفَ مَعْناكِ
يا شمسَ حُسْنٍ بليلِ الشَّعرِ طالعةٌ ... لطَلْعةُ البدرِ جزءٌ من مُحَيَّاكِ
كذاك الريمِ سهمٌ فيك من مُلَحٍ ... وللصَّباحِ نصيبٌ من ثَناياكِ
لم ألْتفتْ لسِواكِ غيرَ مَن بهرتْ ... علومُه كلَّ ذِي فضلٍ وإدْراكِ
أخي الفضائل مَنَّاحِ المسائلِ وهَّ ... ابِ الجزائِل أمْنِ الخائِف الشاكِي
مولًى بأعلَى أعالِي المجد رُتْبتُه ... أضحتْ بأوْجِ المعالي فوق أفْلاكِ
به لقد نُسِخَتْ أخبارُ من دَرَجوا ... من الأكارمِ من عُرْبٍ وأتْراكِ
إن سادَ كلَّ الورى فضلا فلا عجَبٌ ... فإنه فَرْعُ أصلٍ طاهرٍ زاكِى
مِن قادةٍ ورِثُوا العلياءَ كُلِّهمُ ... وأصبحوا للمعالي أيَّ أمْلاكِ
مامنهمُ غير نِحْرِيرٍ بمُصْطدَمِ الْ ... أبحاثِ يُلْقِى عليها أيَّ فَتَّاكِ
فبدَّد المالَ والأيامُ عابسةٌ ... روَتْ أياديه عن بِشْرٍ وضَحَّاكِ
بُعْداً لمَنْ رام يحْكيهمْ بفيْضِ نَدًى ... أيُشْبه الغيثُ إبراهيمَ ذا الزَّاكِي
يا مُفْردَ العصرِ في خَلْق وفي خُلُقِ ... وألطفَ الناس في فَهْمٍ وإدراكِ
حكاكَ فَيْضُ الحيا إذْ هلَّ منهمِلاً ... لدَى العطاءِ وليس الفضلُ للْحاكِي
بصَحْبِها سُفْنُ آمالٍ لديك سرَتْ ... فقال جودُك بسمِ الله مَجْراكِ
لا زلْتَ ترْقَى المعالي دائماً أبداً ... على البريَّةِ من إنْسٍ وَأمْلاكِ
ومن بدائعه قوله، وقد ولي قضاء الموصل:
ومُعَذَّرٍ حُلْوِ اللَّمَى قبَّلْتُه ... نظَراً إلى ذاك الجمالِ الأوَّلِ
وطلبتُ منه وَصْلَه فأجابني ... ولَّى زَمان تعطُّفِي وتدّلُّلِي
نضَبَتْ مِياهُ الحسنِ من خدِّي وقد ... ذهب الرُّوا من غصنِ قَدّى الأعْدلِ
قلتُ الحديقةُ ليست يكمُل حسنُها ... إلاَّ إذا حُفَّتْ بنبْتٍ مُبْقلِ
دَعْكَ اتَّبِعْ قولَ ابنَ مُنْقِذ طائعاً ... واعلمْ بأني صرتُ قاضِي الموصلِ
مراده بابن منقذ الأمير شرف الدولة أبو الفضل وقوله:
كتب العِذَارُ على صحيفةِ خدِّه ... سطراً يحيِّر ناظرَ المتأمِّلِ
بالغتُ في اسْتخْراجِه فوجدتُه ... لا أرىَ إلاَّ رأيُ أهلِ الموصلِ
ورأى أهل الموصل هو الميل إلى ذوي اللّحى وتنسب إليهم في هذا الباب مبالغات.
وفيهم يقول أبو الوليد بن الجنّان الكنانيّ، الشّاطبيّ، نزيل دمشق:
للهِ قوم يعشَقون ذوِي اللِّحَى ... لا يسألونَ عن السَّوادِ المُقبِلِ
وبمُهْجتي قومٌ وإنِّي منهمُ ... جُبِلوا على حُبِّ الطِّرازِ الأوَّلِ
قوله: الطراز الأول، يريد به العذار أوّل ما يبقل، وهو الذي يكنى عنه البلغاء بطراز الله.
قال الصاحب بن عبّاد:
رأيتُ عليًّا في كمالِ جمالِه ... فشاهدتُ منه الروضَ ثانِيَ مُزْنِهِ
ولما تبدَّى لي طِرازُ عِذّارِهِ ... رأيتُ طرازَ الله في ثوبِ حُسنِهِ
وللسيد عطاء الله:
رأيتُ بخدِّه الوَرْديِّ خالاً ... فتِيتُ المسك منه قد بدا لِي
غزالُ الإنسِ ما في ذاك بِدْعٌ ... فإن المسكَ بعضُ دمِ الغزالِ
وكتب إلى السيد باكير بن النّقيب، ملغزاً في اسم أحمد:
يابنَ مَن أكْسب الفضائلَ في شَهْ ... بائنا والعُلَى سَناءً وسَعْدَا
ما اسمُ شيءٍ حروفُه عددُ الأيا ... مِ إن رُمْتَه حسابًا وعَدَّا
وهو اسمٌ نَفَى المهيمنُ عنه ... في الكتابِ العزيز أن يُفدَّى
صدرُه حاجبٌ لمن كنت مِن خَدَّ ... يْهِ قبل الصدودِ أقطِفُ وَرْدَا(1/314)
ويلِيه شمسٌ فمِيقاتُ مَن في ... حالكاتِ الظلامِ آنَسَ رُشْدَا
وله أولُ الهدى كلَّ وقتٍ ... آخِرٌ إن يكُنْ بلفظكَ فَرْدَا
ومِن دُونه إذا صحَّفوه ... يسْتميل النفوسَ أنَّى تبدَّى
واقْلِب النصفَ منه تنْظُره عن ... كلِّ همامٍ يروِي علاءً ومجدَا
فأجِبِ عنه وابْقَ في ظلِّ عيشٍ ... كل مَدْحٍ إلى جَنابِك يُهْدَى
السيد محمد التقوى
التقوىُّ نسبة علوىّ، وهو طبيبٌ طبُّه نبويّ.
وله فكرة في تدبير الأشيا، تكاد ترد ضوء الشمس للأفيا.
فحكمته إشراقيّةٌ مفيضة، وبصيرته شفّافة مستريضة.
فلو عالج البروق لأزال خفقانها، أو الشمس عند الغروب لأذهب برقانها.
أو البدر لما وجد المحاق إليه سبيلا، أو النهار لكان له على خلاصه من الليل قبيلا.
فتفرّسه أوضح من النجوم لبطليموس، ورأيه إلى رأى جالينوس كالعاج عند الآبنوس.
فما سرى ذهنه في استدفاع مرضٍ يقتضيه، إلا وكانت الصحة ممتثلةً ما يأمر به وطوع ما يرتضيه.
فكأن فكرته تمازج من العليل جسماً وروحاً، فيظن من توفيقه الذي أوتيه أنه وحىٌ إليه يوحى.
وله من الكلام الذي تخالط أجزاء القلوب رقّته، وتغمض عن أوهام الأفكار دقّته.
مالو خوطب به الأخرس تكلّم، أو علّم به الطير فنون العبارات لتعلّم.
وقد أوردت له ما يتخذه لمرض الدهر علاجا، ويستضيء به فجر المعارف تعرّضا وانبلاجا.
فمنه قوله:
سرتْ والليلُ محلولُ الوِشاحِ ... ونَسْرُ الجوِّ مبلولُ الجناحِ
وعِقْدُ الزهرِ منتظمُ الدَّرارِي ... كثَغْرِ البِيض يبسَم عن أَقاحِ
وزاهِي الروضِ أسْفَر عن زهورٍ ... بها ظَمأٌ إلى ماءِ الصباحِ
كأن كواكبَ الظَّلْماءِ رُومٌ ... على دُهْمٍ تهُبُّ إلى الكفاحِ
إذا انْعكستْ أشِعتُها تَردَّتْ ... على صفحاتِ غُدرانِ البِطاحِ
تُحاول سَتْرَ مَسْراها بوَهْنٍ ... وقد أرِجتْ برَيَّاها النَّواحِي
فواعجَبا أتَخْفَى وهو بدرٌ ... وشمسٌ في الحضائرِ والضَّواحِي
أما علمتْ عَبِيرَ المسك منها ... ينِمُّ بها إلى واشٍ ولاَحِ
مُهَفْهَفَةٌ يَغَارُ البدرُ منها ... ويُخجِل قَدُّها هِيفَ الرماحِ
تمازَج حبُّها بدمي وروحِي ... مِزاجَ الرَّاحِ بالماء القَراحِ
فأصبح في المَلا طبْعي وخُلْقِي ... دَماً في الطبعِ عنه بلا بَراحِ
كأنَّ الله لم يخلُق فؤادي ... لغيرِ الوجدِ بالخُودِ الرَّدَاحِ
أحِنُّ إلى هَواها وهْو حَتْفِي ... كما حَنَّ السقيمُ إلى الصلاحِ
وأصْبُو والصبابةُ بَرَّحْتنِي ... وأنْحلتِ الجوارحَ بالبَراحِ
فلولا الطيرُ يمسِك من خيالي ... لطار من النُّحول مع الرِّياحِ
أبُثُّ لَطْرفها شكوَى غرامي ... وهل يشكو الجريحُ إلى السِّلاحِ
وأطمع أن يُزايلني هَواها ... وهل حَذَرٌ من المقدورِ ماحِ
فلا تأْوِ لكَسْرةِ ناظِريْها ... فكم أوْدَتْ بألْبابٍ صِحاحِ
أفِقْ يا قلبُ ليس الحبُّ سهلا ... فكم جِدٍّ تَولَّد من مِزاحِ
رُوَيْدَك كم تبِيتُ تَئنُّ وَجداً ... كما أنَّ الطعِينُ من الجراحِ
وقائلةٍ أرى نَجْما تبدَّى ... بليلِ عوارضٍ كالصبحِ ضَاحِ
أبَعْدَ الشَّيْب تمزَح بالتَّصابي ... وتَمْرح في بُرودِ الإفْتضاحِ
فما ماضِى الشَّبِيبة مُسْتَرَدٌّ ... ولا الخُسرانُ يسمحُ بالرَّباحِ
فدَعْ حبَّ الغوانِي فهْو غَيٌّ ... وتفْنِيدٌ يَحِيدُ عن الفلاحِ
وله من قصيدة يمتدح بها الوزير نصوح، ومستهلها:
حّيَّاك سَرْحةَ دارةِ الآرامِ ... وحَباكِ دِيمة مُزْنةٍ وغَمامِ
إلى أن قال فيها:
ذَاك النصوحُ أبو الوزارة مَن رَقَى ... فَلَكَ العُلى وعلا على بَهْرامِ
ومنها:(1/315)
تجْرِى الأمورُ بوَفْق ما يخْتارُه ... ويُطِيعه العاصِي بكلِّ مَرامِ
فكأنما الأقْدارُ طَوْعُ يمينِه ... بعد المُهيْمن في قَضا الأحكامِ
قُطْبٌ تدور عليه دولةُ أحمدٍ ... ملَك الدُّنَا بالحَلِّ والإبْرامِ
هابَتْه أنفاسُ النفوسِ بأسْرِها ... في الناس بعد العالِم العَلَّامِ
ولِبأْسِ شِدّته الأسودُ تشرَّدتْ ... وتستَّرتْ في الغابِ والآجامِ
منها:
يلْقَاك بالبِشرِ الذي مِن نَشْرِه ... ريحُ المنى يسْرِى بطِيب مَشامِ
بخَلائِقٍ تكْسو الرياضَ خلائقاً ... فتضِيعُ رَيَّا مَنْدَلٍ وخُزامِ
ويُرِيك من رِضْوان عَدْلٍ جَنَّةً ... فيها لحَرْبِ البَغْيِ أيُّ ضِرامٍ
منها:
يا أيها الطَّوْدُ العظيمُ وصاحبَ الطَّ ... وْلِ الجسيمِ وجَوْشَنَ الإسلامِ
أُلْبِسْتَ من حُلَل الصَّدارة خِلْعةً ... قنِع الأُلَى منها بطْيفِ مَنامِ
ما دار في فَلك المُديرِ مَدارهُ ... إلا لْخبلِكِ وَدَّ دَوْرَ حِزامِ
ما أوْ كبَتْ زُهْر الدجَى بكوَاكبٍ ... إلا لنَصْرِك في ألَدِّ خصامِ
إلى أن قال في آخرها:
كتبتْ مدائحُك الليالِي أسطُراً ... تبْقَى بقِيتَ على مدى الأيَّامِ
وله:
قد جدَّد الشوق الجديدَ خيالُكمْ ... بجوارِحي وضمائرِي وسَرائرِي
فإذا نظرتُ إلى الوجودِ رأيُتكمْ ... في كلِّ موجودٍ عَيانَ الخاطرِ
وله:
قد قَّسم الحبُّ جسمي في محبَّتكمْ ... حتى تجَزَّى بحيث الجسمُ ينْقسمُ
وما تصوَّرتُ مَوْجوداً ومنعدِماً ... إلا خيالكمُ الموجودُ والعدمُ
ما إن نَثرتُ دموعَ القطْرِ من حُرَقٍ ... إلا تحقَّقْتُكم في القَطْرِ ما زعمُوا
السيد أسعد بن البتروني
ريحانة جاذبتها أيدي الصبا، فلم تزل غضة المهز من عهد الصبا وحضرة عليها للجنان صور، تشف عن كحل في عيون الغيد وحور.
صافي الطبع كالزجاج في نقائه، منتظم العشرة كالسلك إذا انتقى جوهره وجيد في انتقائه.
وهو في الأدب جامع نوادر وشوارد، يزينها بجمال المشترى وظرف عطارد.
تعودت غصب العقول نكاته البديعة، كأن لها عند كل قلبٍ من قلوب الرجال وديعة.
وكنت وأنا بالروم نعمت بدنوه، ونسمت على نسمات مودته وحنوه.
في عهد أشهى للجفن من لذة هجوعه، وألذ من بشارة الشيخ بعوده لصباه ورجوعه.
وهو من أنه جاوز العشرة التي تسميها العرب دقاقة الرقاب، كثير التلفت لجمع شمل اللهو والارتقاب.
إلى أن اعترضه آخر أمره مرض، دام إلى أن انطوى عمره، وانقرض.
وأحسب أن الله أراد به تكفير سيئاته، وتمحيصه من فرطاتٍ سلبت كثيراً من حسناته.
وقد أوردت من شعره ما أحدقت به المحاسن إحداقا، ونبه لزهرات الروض أعيناً وأحداقا.
فمنه قوله، من قصيدة كتبها إلى السيد موسى الرامحمداني:
قد حلَّ أمرٌ عَجَبُ ... شَيْبٌ بفَوْدِي يلعبُ
نجومُه لا تغرُبُ ... فأينَ أين المهربُ
أرجو بقاءً معه ... ما أنا إلَّا أشْعَبُ
هذ الشبابُ قد مضى ... وبان منِّى الأطْيَبُ
هل عيشةٌ تصْفو لمن ... قد غاب عنه المُطرِبُ
دهرٌ أرانا عجَباً ... وكلُّ يومٍ رجبُ
أندُبُ أياماُ مضتْ ... فيها صَفا لى المشربُ
في حلَبٍ بسادةٍ ... قد خدَمتْهم رُتَبُ
من كلِّ سمحٍ ماجدٍ ... تخجَل منه السُّحبُ
أفْناهُم الموتُ الذي ... لكلِّ بِكْرٍ يخطُبُ
وما بها مِن بعدهمْ ... مَن للمعالي يُنسَبُ
سوى جَهولٍ سِفْلةٍ ... عن كلِّ فَضْلٍ يُحجَبُ
وهْو إذا أمَّلْتَه ... كلبٌ عَقُور كَلِبُ
أستغفرُ الله بها ... أستاذُنا المهذَّبُ
مُوسى الذي لفضْلِه ... مُدَّ رُواقٌ مُذْهَبُ(1/316)
حَلَّال كلِّ مُشكِلٍ ... وحاتمٌ إذ يهَبُ
وإن جرَى في حكمٍ ... تخالُ فينا يخطبُ
وقد حَوى مَعالياً ... تنْحطُّ عنها الشُّهبُ
مِن سادةٍ أحْسابُهمْ ... تنْطِق عنها الكتُبُ
مولايَ أشكُو غربةً ... طالتْ وعزَّ المطلبُ
وتحت أذْيالِ الدجى ... حامِلةٌ لا تُنْجِبُ
إلَّا بأولاد الزِّنى ... هذا لَعَمْري العجبُ
إليْكَها خَرِيدةً ... مَنالُها يُستصعَبُ
جآذرُ الرومِ لها ... تسجدُ أو تنَسَّبُ
وَاسْلمْ وَدُم في رفعةٍ ... للسَّعد فيها كوكبُ
ما حرَّكتْ مُتيمَّاً ... وَرْقاءُ حين تندُبُ
فراجعه يقوله:
ما الكونُ إلا عجَبُ ... فمنه لا يُستعجَبُ
أعمارُنا تُنتهَبُ ... يوماُ فيوماُ تذهبُ
ونحن نلهُو أبداً ... في غَفْلةٍ ونلعبُ
أوَّاهُ من يومٍ يجِي ... ءُ شمسُه لا تغرُبُ
صائلةٌ فيه المَنَى ... يا صولةً لا تغلَبُ
تخْطو على أرْواحِنا ... فأين أين المهربُ
تَبّاً لدُنْيانا التي ... لم يصْفُ فيها المشربُ
كم سيِّدٍ غرَّتْ به ... وَاراه لحدٌ أحْدبُ
للدُّودِ فيه مَرْتَعٌ ... وللهَوامِّ ملعبُ
والويلُ يومَ العَرْضِ إن ... لم ينْجُ منه المُذنبُ
ومن لَظَى نارٍ بها ... أجسادُنا تْلتهبُ
لا عملٌ يُرْجَى ولا ... غوثٌ إليه ينسَبُ
إلا الكريمُ ربُّنا ... ومن به نحْتسبُ
ثم الشفيعُ مَن إلى ... جَنابِه ننتسبُ
محمدٌ خيرُ الورَى ... مقصِدُنا والمطلبُ
الحكْمُ لله فَلّا ... يكون ما لا يكتُبُ
والخيرُ فيما اخْتارَه ... حَتمْاً علينا يجبُ
نَسْأَلُه يَبْقَى لنا ... سيدُنا المهذَّبُ
أسعدُ من ساد الورَى ... به وسادَ العربُ
جوهرةُ العِقْد الذي ... جوهرُه المنتخَبُ
نجلُ الأُلَى تجَّملتْ ... بهم قديماً حلَبُ
حِلْماً وعِلماًُ وتُقًى ... وحسبٌ ونسَبُ
يخجل من أخْلاقِه ... زَهرٌ سقتْه السُّحبُ
ومن جميلِ صُنْعِه ... له المعالي تخطُبُ
طَلْقُ المُحيَّا فكلُّه ... مُبجَّل مُحجَّبُ
ولُطْفُ أنْفاس الصَّبا ... إلى عُلاه يُنسَبُ
ومن إلى المجدِ يُجا ... رِيه فلا يُصوِّبُ
زِيد بَناناً كفُّه ... إذْ ضاق عمَّا يهَبُ
فسَيْبُ صَوْبِ جُودِه ... يخجل منه الصَّيِّبُ
لم يحْلُ خِلٌّ غيرُه ... مُودَّدٌ محبَّبُ
قلت: لم أر من وصف الإصبع الزائدة هذا الوصف البديع، وبعضهم جعلها علامة الحرص، حيث قال:
انظُر إليه لشدَّةِ الحرصِ ... زِيد بَناناً فزاد في النَّقْصِ
ومن هنا تعلم سر قولهم:
كم من زيادةٍ فيها نُقْصان فائدهْ ... كاليد تنُقصها الإصبعُ الزَّائدهْ
وكان الأستاذ أبو بكر الطبري، يقول: الزيادة تؤدي إلى النقصان، والمثل فيها جارٍ على كل لسان.
ولذلك قيل: صبوة العفيف، وسطوة الحليم، وضربة الجبان، وجواب السكيت، ونادرة المجنون، وشجاعة الخصي، وظرف الأعرابي.
ومن شعر السيد أسعد، قوله في الشيب:
أبَعْد الأربعين خِضابُ شَيْبٍ ... أرُوم به مُواصلةَ الغوانِي
وأرجو أن أكونَ به فَتِيّاً ... فهذا من أكاذيب الأمانِي
فَوا أسفِي على زمنٍ تقضَّى ... سَماعِي فيه قَهْقهةُ القَنانِي(1/317)
السيد حسين النبهاني
أديب بشرطه، الموجب لخموله وحطه.
فما نقص من حظه، زيد في حظه.
سروجي المذهب، ذاهب في التلون كل مذهب.
لا يهبط بلداً إلا أبدى أعجوبة محجوبة، وبنى دسته على حيلةٍ منصوبة، وجدة مغصوبة.
ثم يفارقه مفارقة لبد، ويقول: " لا أقسم بهذا البلد ".
وقد رأيته بالروم وجهه أغبر، وهمه من وعائه أكبر.
يظهر كل يوم في نمط، وحيثما سقط لقط.
وعاشر ممن أعرف فرقةً رفقة، أداه خلل حاله معهم إلى فرقة وحرقة.
وتلاعبت به الظنون في ذلك الفريق، تلاعب موج البحر المهتاج بالغريق.
وبقي أنقى من الراحة، شاكيا بلسان كمده مغداه ومراحه.
وفارقته وهو منغمر في تلك الأوحال، وتبريحه ما برح وحاله ما حال.
ثم بلغني أنه انتعش، فكانت نعشته النعشة الأخيرة، وأدركه أجله الذي نفى الحكيم تقديمه وتأخيره.
وهو بارع في النظام والنثار، إلا أنه يرمى في شعره بالإكثار.
ولكون الكثير مملول الطباع، لم أذكر منه إلا نزراً سهل الانطباع.
فمنه قوله، من قصيدة في المدح:
العلمُ والحلمُ والمعروفُ والجودُ ... وكلُّ وصفٍ حميدٍ فيك موجودُ
حويْتَ ذلك إرْثاً عن أبٍ فأبٍ ... كأنكمْ في رياض المجد عنقودُ
يا مَن بِسُؤْدِده أعداؤُه شهدتْ ... وكيف لا وهو مشهورٌ ومشهودُ
ففي العَطا تُغرِق الدنيا بأجمعِها ... وفي السَّطا تتوقَّاك الصَّنادِيدُ
حاشَاك تحرِم عبداً مات من ظَمأٍ ... ومَنْهلُ الجودِ من كفَّيْك مورودُ
لا سِيَّما أن لي حقَّ الجوارِ ولي ... في كلِّ آنٍ بمَدْحي فيك تغْريدُ
وما تقادَم عهدِي في الدُّعا لكمُ ... إلاَّ ويعقُبه في الحال تجْريدُ
ولم يجاوِرْ كريماً قطُّ ذو أملٍ ... إلاَّ غدا وهْو من نعْماه محسودُ
لكنَّ حالِيَ لم يعلمْ بها أحدٌ ... إذْ لا يُحيط بها رَسْمٌ وتحْديدُ
وأنشدني نادرة الوقت المولى عارف للنبهاني، يمدحه:
أنا في التَّباعُدِ والدُّنُوّ ... أرجو لمولانا العُلُوّ
أبداً تراني رافعاً ... كفِّي إلى ربٍّ عَفُوّ
أدْعوه في سرٍّ وجَهْ ... رٍ أن يُدِيمك في السُّمُوّ
فيما يُسَرُّ به الصدي ... قُ وما يُساء به العدُوّ
يا عارفاً هو للمعا ... رفِ بالعِشيِّ وبالغُدُوّ
بل للفضائلِ والفَوا ... ضلِ والفُتوَّة والمُرُوّ
مَن دَأْبُه بَثُّ المَكا ... رمِ والحفيظة والحُنُوّ
مَن سيفُه ثُكْلُ العِدا ... ةِ وسَيْبُه حُورٌ وحُوّ
وبذكْرِه طاب المدِي ... حُ أما تراهُ في زُهُوّ
مولايَ يا مَن فضلُه ... ما إن رأيتُ له كُفُوّ
هذِي العُجالة قد أتتْ ... كَ تعوذُ من طَرْف السُّلُوّ
وتَميسُ في حُلَل الفصا ... حةِ بالملاحةِ والدُّنُوّ
نطقتْ بما يحْوى الحشَا ... لا بالتقوُّل والغُلُوّ
وهيَ التي لو رامَها ... قُسٌّ رمَتْه بالنُّبُوّ
اسلَمْ ودُمْ تسمُو على ... شُمِّ الذُّرى أسْمَى السُّمُوّ
القاضي ناصر الدين الحلفاوي
حليف أدب وأرب، وأليف جذل وطرب.
ورونق روض ناضر، وتحفه جواب حاضر.
وقد طالت في الفضل باعه، وأشربت حب الأدب طباعه.
فذهب في مجاله عرضا وطولا، وأصبح فيه وهو صاحب يد طولى.
ترد أربابه عليه، ويرجعون في دعاويهم إليه.
فتعرب براعته عن فصل خطاب، وتسفر حكومته عن ثناء مستطاب.
وهو خالص من الشوب، طاهر العرض والثوب.
نقي الشيبة، ممتزج المباسطة بالهيبة.
توفي عن سن عالية، وحالته بالرفاهية حالية.
وقد أثبت من شعره ما سهل مساقه، وأحكم في الصنعة اتساقه.
فمنه قوله من سلسلة أولها:
يا معتدلَ القَدِّ هو لوعْدك إنْجازْ ... أو طيفُ خيال يُلِمُّ نحويَ إنْ جازْ(1/318)
ترنُو بلحاظٍ لهنَّ فعلُ مَواضٍ ... في القلبِ وتسطُو من القَوام بهزَّازْ
فالشوقُ غريمي والفكرُ فيه نَديمِي ... والدمعُ حَمِيمِي وفي اصْطباريَ إعْوازْ
لم تحْكِ مُحيَّاه فاحْتجبْ بغَمامٍ ... يا بدرُ فحِبِّي مدى الملاحةِ قد حازْ
يا عاذلاً هلاَّ تركْتني وغرامِي ... ما كنتُ لأُصغِي إلى نصيحةِ هَمَّازْ
يا من ملَك الحسنَ في الأنامِ جميعاً ... ما أسْعد صَبّاً بطِيبِ وصلِك لو فازْ
قلبِي بك لاَهٍ وعقْد صَبْرِيَ وَاهٍ ... إذْ وجهك زاهٍ وطرفُ لحظِك غمَّازْ
نظمتُ جُمَانَ البديع فيك عقوداً ... يا حُسْنَ نِظامٍ أتَى بأبْدع إبْرازْ
قسمتُ وجودِي لمَّا جمعتَ صدوداً ... والبَيْنَ فهل حلَّ ما صنعْتُ وجازْ
وقوله محاجياً:
يا كاملَ الفضْلِ في المعانٍي ... وللأحاحِي غدا يُعانِي
امْنُنْ بردِّ الجواب فضْلاً ... ما مثلُ قولي ألْمَى جَفانِي
محمد بن تاج الدين الكوراني
أديب لبيب، مليح التشبيه والتشبيب.
لحق من الأدب ما لم يلحق، وانفرد بأشياء كأنها لم تخلق.
وله المجد الطامح، إلى ما فوق الأعزل والرامح.
على انتهاضٍ بين أكفائه، وشهرة في تنبهة وإغفائه.
إلا أن عمر سروره قصير، والدهر بتفريق المجتمع بصير.
وقد أثبت له ما يقطر من ماء الظرف، وتتمتع به الروح قبل الطرف.
فمن ذلك قوله في الغزل:
طرقْتُ ديارَ الحيِّ والليلُ حالكٌ ... طُروقَ فتىً لا يخْتشِي الدهرَ من ضُرِّ
وخُضتُ بحارَ الموت والموتُ حائمٌ ... كحَوْمة نَسْرِ الأُفْق فيها على وَكْرِ
ودُستُ بِساطَ الأُجمِ عمداً وأسْدُها ... توقَّد منها الأعْيُن الحُمْر كالجمرِ
إلى أن أتيتُ الحيَّ نحو خِباءِ مَن ... أراشتْ فؤادِي من لواحظِها الفُتْرِِ
فلم ألْقَ إلا صَعْدةً سَمْهريَّةٍ ... عليها مُحيَّا منه يبدو سَنا البدرِ
عَرضتُ لها عُذْرِي وأظهرتُ ما حوَى ... جوَى مُهجتِي من مُحكماتِ هوى العُذْرِي
فرقَّتْ وراقتْ وانْثَنَتْ وتعطَّفتْ ... وحَيَّتْ فأحْيتْ مَيِّت الشوقِ والصبرِ
وجادتْ بجيدٍ للتَّداني وأرْشفتْ ... رُضاباً رَحِيقياً ينُوب عن الخمْرِ
وبِتْنا وقلبُ البرقِ يخْفِق غَيْرَةً ... علينا وعينُ النجمِ تنظُر عن شَذْرِ
البيت الأخير مضمن من رائية ابن خفاجة، وقبله:
ودون طُروقِ الحيِّ خَوْضةُ فَتْكةٍ ... مُوَرَّسَةِ السِّرْبالِ داميةِ الظُّفْرِ
تطلَّع من فَرْعٍ من النَّقْعِ أسودٍ ... وتُسْفِر عن خَدٍّ من السيفِ مُحْمَرِّ
فسِرْتُ وقلبُ البرقِ يخفِق غَيْرةً ... هناك وعينُ النجم تنْظر عن شَذْرِ
وله في معذر اصطبح الورد واغتبق بوجنتيه، وقلم الريحان مشقٌ فوق عارضيه:
بدَا بدْراً بآياتِ الكمالِ ... مليحٌ قد تفرَّد بالجمالِ
تخيَّل ناظِري في وجْنتيهِ ... مِثالاً كالعِذَارِ بلا مِثالِ
فقلتُ له وعِقْدُ الصبرِ منِّي ... لدَهْشة ناظِرِيَّ في انْحلالِ
عقيدةُ مطلبِي هل ذاك نَبْتٌ ... أَبِنْ لي قال حاشيةُ الخيالِ
قلت: هذه الحاشية، عليها خيال الخيالي على " الحاشية ".
وأول من عبر بهذه العبارة فيما أعلم ابن النبيه، في قوله:
كأن ذاك العِذَارَ حاشيةٌ ... خرَّجها كاتبٌ لنِسْيانِهْ
ثم تصرفت فيها الشعراء على حسب خيالاتهم، حتى جاء العسيلي المصري، فقال:
صحيفةُ الخدِّ التي ... للحُسْنِ فيها صُوَرُ
مُذ حُشِيتْ بعارضٍ ... لم يَبْقَ فيها نَظَرُ
ومن هنا انظر قولي، مع قول الكوراني، والعسيلي:
في حاشيةِ الكَمالِ من عارِضٍ ... دَوْرٌ وتسَلْسُل ولي فيه نَظَرْ
وقول الشهاب الخفاجي:(1/319)
أيا قمراً زانتْ طوالِعُ حُسْنِه ... حواشِي عِذارٍ يبْهَر اللُّبَّ والفِكَرْ
فما شَانَه دَوْرٌ به وتسَلْسُلٌ ... فكَم في حواشِيها لذِي فكْرةٍ نَظَرْ
وقد دار الدور، لقضية التسلسل والدور.
فاسمع فيه قول الظريف:
لِحاظُك أسيافٌ ذكُورٌ فما لَها ... كما زعمُوا مثلَ الأراملِ تغزِلُ
وما بالُ بُرهانِ العِذَارِمُسَلَّما ... ويلْزمُه دَوْرٌ وفيه تسَلْسُلُ
وأعجب منه قولي:
نظَرِي لصُدْغك بُغْيَتِي ... فعلى مَ تمنعنِي النَّظَرْ
والمنْعُ غيرُ مُوَجَّهٍ ... فيه المَقالُ قد اشْتَهَرْ
والدَّوْرُ إن صحِب التَّسَلْ ... سُلَ ليس يخْلُو من نَظَرْ
فكن في هذا ممن لا يرضى بالحواشي والأطراف، ويقنع من اللآلئ بمعرفة ما في الأصداف.
وللكوراني:
بدرٌ أدار على النجومِ برَاحةٍ ... شمساً فنَارتْ في كؤوسِ رحيقِهِ
شمسٌ إذا طلعَتْ كأن وَمِيضَها ... بَرْقٌ تلالا عند لَمْعِ بريقِهِ
يسْقِي وإن عزَّتْ عليه ورامَ أن ... يشْفِي لداءِ مُحِّبه وحريقِهِ
فيُديرُها من مُقْلتيْه وتارةً ... من وَجْنتيْه وتارةً من رِيقِهِ
ومن مقطعاته قوله:
مَليكُ جمالٍ أنْبت العزُّ خدَّه ... نباتاً له كلُّ المحاسنِ تُنسَبُ
فكرَّرتُ لَثْمَ الخدِّ منه لطِيبِه ... وكل مكانٍ يُنبتُ العِزَّ طيِّبُ
وقوله، مضمناً:
ومُعذَّرٍ لَدْنِ القَوامِ ووجهُه ... قمرٌ تقمَّصَ بالعِذارِ الأخْضَرِ
فُتِق العِذارُ بخدَّه فكأنما ... فُتِقتْ لكم رِيحُ الجِلادِ بعَنْبَرِ
وقوله:
عجبتُ لِمَا أبْداه وجهُ مُعذِّبي ... من الحسنِ كالسحرِ الحلال وأسْحَرُ
بوجْنتهِ ياقوتُ نارٍ توقَّدتْ ... عليها عِذارٌ كالزُّمُرُّدِ أخضرُ
وقوله:
ومُعذَّر فَتَك الأنامَ بحُسْنِه ... وسطَا بمُرْهَفِ لَحْظِه المُتنعسِ
جعل العِذارَ لشامِه مُتنكِّراً ... كيْلا يُحاط به لقتْلِ الأنْفُسِ
وقوله:
لمَّا تأمَّل بدرُ التِّمِّ عارضَه ... وقد بدا في مُحيَّا نورِه سَطَعَا
بدَا به غَيْرةً خَسْفٌ وشبَّهه ... كأنه في مُحيَّاه قد انْطبعَا
وقوله:
ومُهَفْهَفٍ كمُلتْ محاسنُ وجهِه ... من فوق غصنِ قَوامِه المُتمايلِ
وبدا طِرازُ عِذارِه فكأنَّه ... بَدْءُ الخسُوفِ ببَدْرِ تِمٍّ كاملِ
ولده أبو السعود
هو في الميلاد سليله، وفي البراعة مقدمه ودليله.
طلع طلوع الزهر من الكمامة، فتهادته أبناء عصره تهادي الشمامة.
ينشد الأدب من خصاله، كما ينشد الأنس من وصاله.
وله شعر أوقع في النفس من رجعة الشباب، وأسوغ من سلافة الكأس طفى عليها الحباب.
أثبت منه ما يقع موقع الماء من ذي الغلة، ويفرح فرح الشفاء لصاحب العلة. فمنه قوله، من قصيدة:
أجَلْ إنها الآرامُ شِيمتُها الغدْرُ ... فلا هجرُها ذَنْبٌ ولا وَصْلُها عُذْرُ
ففُز سالماً من فَرْطةِ الحبِّ واتَّعِظْ ... بحالِي فإن الحبَّ أيْسرُه عسرُ
وقد هاجَنِي في الأيْكِ صَدْحُ مُغرِّدٍ ... به حلَّتِ الأشجانُ وارْتحل الصبرُ
يُذكِّرني تلكَ الليالي التي مضتْ ... بلَذَّةِ عيْش لم يشُبْ حُلْوَهُ مُرُّ
سُقِيتِ ليالِي الوصلَ مُزْنَ غَمامةٍ ... فقد كان عيشِي في ذَراكِ هو العمرُ
فكم قد نعِمْنا فيكِ مَعْ كلِّ أغْيَدٍ ... رقيقِ الحواشِي دون مَبْسمِه الزَّهْرُ
لقد خَطَّ ياقوتُ الجمالِ بخدِّه ... جداولَ من مِسْكٍ صحيفتُها الدُّرُّ
منها:
وروضٍ بها جَرَّ الغَمامُ ذُيولَه ... فخرَّ له وَجْداً على رأسِه النهرُ
وقد أرْقدَ الأغصانَ تغْريدُ وُرْقِه ... وأضْحك ثغرَ الزَّهرِ لمَّا بكى القَطْرُ(1/320)
وضاع به نَشْرُ الخُزَامَى فعطَّرتْ ... نسيمَ الصَّبا منه ويا حبَّذا العِطْرُ
بدائعُ من حُسْن الربيعِ كأنَّها ... إذا ما بدتْ أوصافُ سيِّدنا الغُرُّ
ويستحسن له قوله:
كأنما الوجهُ والخالُ الكريمُ به ... مع العِذارِ الذي اسْوَدَّتْ غَدائرُهُ
بيتُ العتيقِ الذي في رُكْنِه حَجَرٌ ... قد أُسْبِلتْ من أعالِيه ستائرُهُ
أخذه من قول سيف الدين المشد:
يامَن عِذارُه وأصْداغُه ... حدائقٌ هِمْتُ بأزْهارِهَا
لو لم يكنْ خَدُّك لي كعبةً ... لَما تعلَّقتُ بأسْتارِهَا
إلا أنه زاد فيه تشبيه الخال بالحجر.
ولقد أجاد يوسف بن عمران، في قوله يصف أرمد:
حين خُبِّرتُ أن في الطَّرْفِ منه ... رمَداً زاد في ذُبولِ المَحاجِرْ
جئتُ كيْما أزورَ مِن وَجْه بَدْرِي ... كعبةَ الحسنِ تحت سُود السَّتائرْ
محمد بن أحمد الشيباني
ذو الرأي الأصيل، وواحد النجابة والتحصيل.
مساعيه منيفة شريفة، وخلائقه كأنها روضةٌ وريفة.
ترف النضرة فيه من كمامه، ويكرع الظمآن من آدابه في غمامه.
وأرَى رقيق المدحِ يخدم نَعْتَهُ ... فلَذاك أضْحَى كلُّ نَعْتٍ تَابِعَا
وقد أثبت له ما اتخذ النجوم الزهر من فريقه، وجاء ممتزجا بمدام الساقي وريقه.
فمنه قوله، من قصيدة أولها:
حتى مَ لَيْلِي بالتَّجنِّي ألْيلُ ... وإلى متى إدْبارُ صُبحى مُقبِلُ
ما لي أرى هذِي النجومَ تحيَّرتْ ... أَأَضَلَّتِ التَّسْيارَ أم لا تعقل
أم أسْكر الفلك الأصيل فأُقْعِدتْ ... عن سيْرِها أم بالبُروق تسَلسَلُ
يا قِبْلتي في حاجبَيْك نواظرِي ... آياتُ نُورٍ للصلاةِ تُرَتَّلُ
ما كان أحْسَن لو عطفْتِ ولم أقُلْ ... ما كان أقْبَح هَجْرُ مَن هو أجْملُ
قلبي الكِمامُ وأنتِ فيه الزَّهْرُ هل ... يُرضِيك بيتُك بالتجنِّي يُشْعَلُ
من مديحها:
فالدهرُ إن رقَم الأُلى في صفحةِ الْ ... أيامِ فهْو لها حسابٌ مُجْمَلُ
يا خيرَ من فاق الأُلى في عصرِه ... أنتَ الأخيرُ وفي الفضائل أوَّلُ
بك أن يهنَّى العبدُ فهْو حقيقةٌ ... ولك الهناءُ بها مجازٌ مُرْسَلُ
وقوله من أخرى مستهلها:
أما والهَوَى لو أوْضحَ العُذْرَ كاتمُهْ ... لأقْصرَ لاحِيه وأحْجَم لائمُهْ
ولو خبَّرُوا ظَبْيَ النّفارِ بحالتي ... لآنَس لكنْ مُسْهَر الجَفْن نائمُهْ
برُوحِي وأيُّ الرُّوحِ أبقى ليَ الهوَى ... غزالاً حلَتْ لِي في هواه عَلاقِمُهْ
رقيقُ الحَواشِي كادَ من لُطْفِ عِطْفِه ... يُمَنْطِقُه من رِقَّة الخَصْرِ خاتمُهْ
ترَاءَت لمِرآةِ الخدودِ جفونه ... فظَنّ نباتاً فوق خَدّيْه شائِمُهْ
كأن حسابَ الحسنِ كان مُفرَّقاً ... فجمَّعه في طِرْس خدّيْه راقِمُهْ
كما جمَّع الأفْضالَ والمجدَ والنَّدَى ... إمامُ الهدى مولَى الزمانِ وعالِمُهْ
منها:
فيا نَجْمَ أُفْقِ الفضلِ بل شمسَه التي ... أنار بها من غَيْهبِ الجهلِ قاتمُهْ
تهنَّ بعِيدِ النحرِ يا خيرَ ماجدٍ ... تهنَّتْ به أعْيادُه ومواسِمُهْ
ودونَك غَرَّاءَ القوافِي كأنها ... إذا أُنْشِدتْ رَوْضٌ تغنَّتْ حمائمُهْ
بها ما بجسْمِي من هوَى الغِيدِ رِقَّةً ... لذلك نمَّتْ بالذي أنا كاتِمُهْ
لك الخيرُ هل مُسْتَكثَرٌ شعرُ شاعرٍ ... أُنِيطتْ على نظمِ القريضِ تمائمُهْ
أراني إذا ما قلتُ شعراً تنكَّرتْ ... وُجوهٌ وعابَتْهُ عليَّ أعاجمُهْ
لئن جهِلوا نثْراً فإنِّي بَدِيعُه ... أو اسْتحسنوا نَظْما فإنِّي كشَاجِمُهْ(1/321)
فدُمْ وابْقَ واسلَمْ لابْن شيْبانَ مَلْجَأً ... تَشِيد من العلْياء ما الدهرُ هادِمُهْ
فقد مدَّتِ العَلْيا عليك ظلالَها ... وحيَّتْك من ثغْرِ الربيعِ مَباسِمُهْ
حسين بن مهنا
أديب فصيح المقال، مرهف طبعه غنيٌ عن الصقال.
اقتطف القول جنياً، وتناول كأسه سائغاً هنياً.
ولد بحلب، وتقلب في النعم أكرم منقلب.
وتكررت منه إلى دمشق الوفادة، فجلا بها عن صبح الإفادة والاستفادة.
واكتسب تلك الرقة التي تحسدها رقة الصبا، من امتزاجه بأبنائها امتزاج الماء الزلال بالصهبا.
فخطبته الحظوة، وما قصرت له الخطوة.
ودرجته الأيام والليالي، إلى أن صار بخطابة سليميتها المقدم وخلفه المصلي والتالي.
ثم أقلع إلى مسقط رأسه، ومنبت غراسه.
وبها تلاحق به الحمام، فكان من ترابها البداية وإليه التمام.
وقد أثبت له ما تتخذ سطوره ريحانا، وترجع ألفاظه ألحانا.
فمنه قوله:
أنُسيْمةً بالطَّلِّ تنْدَى ... باللهِ إن وافيْتِ نَجْدَا
فتجمَّلي للِقا الحبي ... بِ وشمِّري بالجِدِّ بُرْدَا
وتحمَّلي في طَيِّه النَّ ... شْرَ النَّدِيّ عدِمتِ نِدَّا
وتعهَّدي بَثَّ الهوى ... بل يَمِّمي في السَّيْرِ وَخْدَا
وإذا وصلتِ إلى الشآ ... مِ وفاح نادي الروضِ نَدَّا
أدِّي أَلُوكةَ مُغرمٍ ... ما خان للأحبابِ عهدَا
منها:
أوَّاه طِيبُ العيش أيْ ... ن بظلِّكم والصَّفْوُ نَدَّا
مرَّت لياليَ فيه مُرُّ ... السُّهْدِ قد ذُقْناه شُهْدَا
من يوم فارَق ناظرِي ... ذاك الجمالُ عدِمتُ رُشْدَا
وبقِيتُ في قومٍ رأَوا ... كلبَ الغَنِيِّ يفُوق أُسْدَا
عقلوا وما عقَلُوا فلِي ... عن حبِّهم مَسْرَى ومغْدَى
لذَوي المعالي والمعا ... رفِ والكمالِ أجِدُّ جِدَّا
فأحُوز منهم ما ينا ... ل به الفتى شرفا ورُشْدَا
لكنَّ أين العَنْدَلي ... بُ رقى من الأفْنان مُلْدَا
غنَّى له لما سقَى ... في دَوْرةِ الدُّولاب وجْدَا
فشدَا على ورد الريا ... ضِ فأحْرق الأحشاءَ وَقْدَا
ورأيتُ ذاتَ الطَّوقِ أبْ ... دتْ مثلما قد كان أبْدَى
أترى الزمانَ يُعيد لِي ... في عَوْدِ من أهْواه رِفْدَا
يا دهرُ خُذْ رُوحِي إذا ... بشَّرْتَني سَلَفاً ونَقْدَا
وقوله:
وحقِّ ليالٍ قد مضَيْنَ عفائفاً ... وحُرْمةِ أيامٍ مضتْ بصفَاءِ
لأنْتِ بسَوْداوَيْن قلبي وناظِري ... وذكرُك وِرْدِي بُكْرتي ومَسائِي
وإنِّي على العهدِ الذي كان بيننا ... مُقِيمٌ على وُدِّي وحُسْنِ وَفائِي
وقوله مضمنا:
فُتِنتُ بظَبْيٍ أهْيَفِ القَدِّ فاتنٍ ... بعينٍ لها عن قَوْسِ حاجِبه جَذْبُ
صبَوْتُ به لما رأيتُ جمالَه ... ومَن ذا يرى هذا الجمالَ ولا يصْبُو
وقوله:
كأنما الخالُ قُرْبَ الثغر مِن رَشَأٍ ... مُعذَّرٍ راشِقٍ سهماً من المُقَلِ
شُحْرورُ وردٍ أراد الوِرْدَ ثم أرى ... صِلاًّ يدور حَواليْه فلم يصِلِ
حام فيه على معنى الحرفوشي في قوله:
كأنما الخالُ فوق الثغرِ حين بدَا ... وقد غدَا فِتْنةَ الألْباب والمُقَلِ
هَزارُ أيْكٍ سعَى من روضةٍ أُنُفٍ ... لمَنْهَلٍ راجياً رَيّاً فلم يصِلِ
وله ملغزا في شعير:
ما اسمُ شيءٍ من النَّبات إذا ما ... زال حرفٌ منه غدا حيَوانَا
رُبْعه معدِناً تراه وشمساً ... وترى فيه جَهْرةً إنسانَا
وبتصْحِيف بعضِه فهْو نارٌ ... وتُروِّي من بعْضِه الظمآنَا
محمد بن عبد الرحمن
درة مغفلة، وخزانة مقفلة.
ولولا أني ظفرت باسمه عفوا، ووردت من منهل أدبه الفياض صفوا.(1/322)
لبقي محجوباً عن العيان، ونسجت عليه عناكب النسيان.
ورأيت فضله كمن في إهابه، وبراعته دثر رسمها به.
وهو مطبوع الطبع على النظم، إلا أنه إذا نظم جاء بالمخ والعظم.
وولعه بأوابد الكلام، كولعه بشوارد نفثات الأقلام.
ولا بد مع الرطب من سلاء النخل، ومع العسل من إبر النحل.
فقد أوردت له ما تحمده عليه، وتترك لأجل ممدوحه تفويق سهم الانتقاد إليه.
فمنه قوله من كافيّة:
خَلِّ العوانِسَ ذاتَ الخَبِّ والرَّتَكِ ... تسْرِي بنا بِبُجور الْآلِ كالفُلُكِ
تعْلُو الحزُون فلا فُلَّتْ مَناسِمُها ... ةلا يُغِبَّنَّها وِرْدٌ بمُشتركِ
ولا عَداها هَطُولُ المُزْنِ في فَيْفٍ ... ولا أُحِيدتْ من الحوماءِ في شَرَكِ
حتى تجُوبَ الفَيافِي والوِهادَ وتسْ ... تِقلَّ في مَرْبَعٍ بالبِرِّ مُحْتبِكِ
حيثُ المَلاذُ المُرجَّى المجْتَبى قِدماً ... المُصطَفى مُنقذُ العاصِي من الدَّرَكِ
حامِي حِمى الدِّين مَن شَأْواه قد رُفِعتْ ... على العُلَى حيث حُطَّت دُرَّةُ الفلَكِ
مَن قد سَما وسَما من فوق كل سَما ... حتى وطِي بشُسُوعٍ ربَّةَ الحُبُكِ
محمدٌ أحمدُ المحمودُ خيرُ فتىً ... له فَخارٌ عَلا بالفضل كلَّ ذَكِي
وقوله من أخرى:
أحسنُ من بَهْجة نَوْحِ الحمامْ ... وسجعِ وَرْقاءَ بمتْن البَشامْ
وصَدْحِ قُمْرِيٍّ شَجِيٍّ عَلَى ... خَمِيلةِ الضَّالِ وأثْلِ الخُزامْ
ومن صفِيرٍ صاتَه بُلْبُلٌ ... على قضيبٍ مائِدٍ وهْو سامْ
وشَدْوِ شُحْرورٍ فصيحِ اللُّحونِ ... مُعْتجمِ اللفظِ دَغِيمِ الكلامْ
ودَوْحةٍ قد أنْبتتْ زهرَها ... ترُوق للناظرِ في الانْتظامْ
وطَلِّ أنْداءَ بأوْراقِه ... تنْثُره فيه غَوادِي الغَمامْ
وأرْقمٍ تنْسِج أيدِي النَّسا ... ئمِ مَوْجا له كفِرِنْدِ الحُسامْ
وقَهْوةٍ حَلْبِ عصيرٍ غدَا ... يسعَى بها ساقٍ كبدرِ التَّمامْ
ومُطْربٍ قد شَدَّ أطْباقَه ... وحَرَّك العودَ وأبْدى النَّغامْ
ومن هوَى حسْناءَ رُعْبُوبةٍ ... قد كُحِّلتْ أجفانُها بالسَّقامْ
مليحةٍ تُخْجل غصنَ النَّقا ... وتَسلُب اللُّبَّ بِلِين الكلامْ
أحسنُ من هذا وذا كلِّه ... وكلِّ ذي حُسْن به يُسْتَهامْ
مَدْحُ النبيِّ المصطفى أحمدٍ ... مَن قد أتى رحمة للْأنامْ
محمد بن الشاه بندر
هو من حين تحيز، بنعمةٍ بأدواتها تميز.
تغاديه النشوة وتراوحه، وتناوحه أنفاس القصف وتفاوحه.
فنبغ ونجب، وقضى من حق التحصيل ما وجب.
وفتق ثناءً كالمسك صدراً ووردا، وتخلق بخلق كالماء الزلال عذبا وبردا.
فوجه أدبه شادخة غرره، وسلك نظمه متسقة درره.
وهذه قطعة من شعره، تعلم منها أنه أوتي الإصابة، واستحق أن ينوه به بين هذه العصابة.
وهي قوله:
ذَرِ الصدَّ إني لستُ أقوى على الصدِّ ... وعُدْ للذي عوَّدْتَني منك من وُدِّ
فِطامِيَ عن ثُدْيِ الوَلا مُتمنِّعٌ ... وطِفلُ نُزوعِي لا يُعلَّلأ بالمَهْدِ
حَنانَيْك ما هذا التجنِّي فإنني ... لفي نُكرٍ من مَزْج هَزْلِك بالجِدِّ
لئن يكُ شَطَّ الوَهْمُ عنِّي لهفْوةٍ ... فعَدِّ وعُدْ وابْشِر فغُفْرانُها عندِي
وحقِّك لم أحسَبْك قطُّ مُفارِقي ... ولم يكُ ظنِّي فيك خُلْفَك للوعْدِ
فكيف تُنائِي وَيْحَ غيرِك هاشماً ... حَباك بمَحْض الودِّ في القربِ والبعدِ
فوا لَهَفي لو كان يُغنى تلُّهفِي ... ووا أسَفِي إذ صرتُ أبْطأَ من فِنْدِ
فما هكذا عهْدي بفَقْدِك أُلْفَتِي ... أأحدَثْتُ أمْراً لم يكن منك في عَقْدِ(1/323)
لقد كنتَ لي حسَبَ اقْتراحِي ومُنْيَتي ... مُفْدّىً إذا اشكو وأنتَ الذي أفْدِي
مُجيباً بمطْلوبٍ مُلَبٍّ بدعوةٍ ... مُراع بمَرغوبٍ سريعا إلى رِفْدِي
فماذا عسى أنْكرتَ منِّي وما الذي ... أباحَك تعْذِيبي وقتْلي على عَمْدِ
أراك وقد خلَّفْتني ذا لَواعِجٍ ... من البَيْن ذا قلبٍ أشَدَّ من الصَّلْد
لمن صِرْتَ لا زَلَّت بك النَّعْلُ غادِياً ... حلِيفاً وذا أهلٍ وقد كنتَ لي وَحْدِي
فيا ناسياً للوُدِّ إنِّي ذاكرٌ ... ويا ناقضَ المِيثاق إنِّي على العهدِ
أبى اللهُ أن أرعَى ذِمامَك جاهداً ... وتُبْخسَني حقِّي وتُكثِر في جَهْدِي
فلا كان لي قلبٌ لغيرك جَانِحٌ ... ولا صحِبَتْني مُقلةٌ فيك لا تُنْدِي
فقدْتُك إبراهيمٌ فُقْدانَ آدمٍ ... على دَعَةٍ من أمرِه جنةَ الخلدِ
أُعلِّل قلْباً لا يحيل تعِلَّةً ... به عنك ذَا تَوْقٍ جزيلٍ وذا وَقْدِ
وأُنْشِد بيتاً سالفاً حسبَ لوعتي ... إذا هاج تَهْيامِي وقد فاتني قصْدِي
لعلَّ الذي أبْلَى بهجْرك يا فتى ... يردُّك لي يوماً على أحْسَنِ العهدِ
أقلِّبُ طَرْفي لا أراك فينْثَني ... بوابِلِ دمعٍ كالجُمان على خَدِّي
ودَدْتُك تدرِي ما الذي بِي من الجوَى ... عسى كنتَ تَرْثِي لي من الهمِّ والوجدِ
أما تذكُرَنْ ما دار بالوصلِ بيْننا ... أبارِيقَ لَذَّاتٍ ألذَّ من الشُّهْدِ
لأيَّةِ حالٍ قد تناسيْتَ خُلَّتِي ... وكيف اسْتجزْتَ الهجرَ والنَّكْثَ للعهدِ
سلامِي على اللَّذاتِ بعدك والهوَى ... وحلوِ التَّصابي والتَّشُّوقِ للمُرْدِ
فيا ليتَ شعرِي مَن تبدَّلْتَ بي ومَن ... غدا حاسدِي في القرب بالبَيْن تسْتعْدِي
فما أمُّ خِشْفٍ راعَها حبلُ صائدٍ ... فأذْهَلها عنه وغابتْ عن الرُّشدِ
تَحِنُّ فتسْتهْدِي الأسودِ لِغابِها ... فلا أثراً تلْقَى ولا هادِياً يهْدِي
بأفْجعَ منِّي حين فارقتُه ضُحىً ... حليفَ أُوارٍ لا أُعِيدُ ولا أُبْدِي
لئن كنتَ أخلفتَ العهودَ وخُنْتَ بالْ ... مَواثيقِ عن جهلٍ ومِلْتَ عن الرشدِ
فحبُّك في قلبي وذكرُك في فمِي ... وأنت بعيْني ما حَيِيتَ إلى اللَّحْدِ
قوله " أبطأ من فند " مثل.
وفند هذا مولى عائشة ابنة سعد بن أبي وقاص، وكان أحد المغنين المحسنين، وكان يجمع بين الرجال والنساء.
وله يقول ابن قيس الرقيات:
قل لفِنْدٍ يشَيِّع الأظْعانَا ... طال ما سَرَّ عيشَنا وكَفانَا
وكانت عائشة أرسلته يأتيها بنار، فوجد قوماً يخرجون إلى مصر، فخرج معهم، فأقام بها سنة، ثم قدم فأخذ ناراً، وجاء يعدو، فعثر وتبدد الجمر، فقال: تعست العجلة.
وفيه يقول الشاعر:
ما رأيْنا لِغُرابٍ مثَلا ... إذ بعثْناه يجِي بالمِشْمَلَهْ
غيرَ فِنْدٍ أرْسلوه قابساً ... فثَوَى حولاً وسبَّ العجَلَهْ
المشملة: كساء يجمع المقدحة وآلاتها.
وقالبعضهم المشملة، بفتح الميم، وهي مهب الشمال، يعني الجانب الذي بعث نوح عليه السلام إليه الغراب؛ ليأتيه بخبر الأرض أجفَّت أم لا، فاشتغل بجيفة رآها في طريقه، وفيه يقال: " أبطأ من غراب نوح ".
صالح بن قمر
هلال نجابته يعد بأقمار، وفيه وفي نباهته أحاديث وأسمار.
كتب وقيّد بخطه الكثير، ونظم ونثر فجاء بالدر النظيم واللؤلؤ النثير.
وقد أوردت له ما تستبدعه، وتحفظه في خزانة النفس وتستودعه.
فمنه قوله:
يا مقلةَ الحِبِّ مهلاً ... فقد أخذتِ بِثارِكْ
وأنتِ يا وجنتيْه ... لا تحْرقيني بنارِكْ
فقد كفاني لهيبٌ ... أصابني من شَرارِكْ(1/324)
هيهات أنْجُو سليماً ... من بعد خَطِّ عِذارِكْ
وخالُك الخال غالٍ ... لوقْعةٍ في نُضارِكْ
وثغرُك العذبُ فيه ... لنا غِنىً عن عُقارِكْ
وقَدُّك الغُصْنُ لكن ... لا يُجْتنَى من ثمارِكْ
أنت الذي ما رأيْنا ... في حُسنِه من مُشارِكْ
فارفُق بصَبٍّ عليلٍ ... أفْناه بُعْدُ مَزارِكْ
إلى متَى تتْرُكَنِّي ... أرْعَى نجومَ انْتظارِكْ
وكم على ليلِ ضَعْفِي ... تسْطُو بجَوْرِ نهارِكْ
إن كان يُرضيك قتْلي ... عَمْداً بحُسْن اخْتيارِكْ
فذَاك صَبٌّ عمِيدٌ ... في ساحةِ الذلِّ بارِكْ
ولم يزلْ في التَّصابِي ... بالصبرِ فيك يُعارِكْ
عسى يلُوح صَباح الرِّ ... ضَا له من ديارِكْ
وتشمل الصَّبَّ قُرْباً ... من بعد طولِ ازْورارِكْ
فجُدْ وسامحْ وواصِلْ ... واعطِفْ وعجِّل ودارِكْ
صالح بن نصر الله المعروف بابن سلوم
رئيس الأطباء للسلطان محمد ونديمه الذي صح به تركيب الزمان، ووفى له الأمل بالضمان.
تقدم في حلبة النبلاء بحلب، ودر له ضرع الأماني فحلب.
طالما وفى العيش حقه بمنادمة يهتز لها مرحاً عطف الشباب، وسقى السمع كأس محاورة ترقص السامعين رقص الحباب.
حتى تقضقض آبنوسه، وأشرف عناه وبوسه.
فأنف الإقامة في حيه وربعه، ودعاه إلى الرحلة حب الرياسة المركوز في طبعه.
فرحل إلى دار السلطنة العالية، وحل منها محل العافية من الأبدان العافية البالية.
واتفق إثر وصوله وصول خبره للسلطان فاستدناه، وصيره رئيس أطبائه وندمائه فبلغه من وفور الجاه ما يتمناه.
وتبدلت نحوسه سعودا، وأنجز له الدهر الضنين وعودا.
فأبرز من نفيس صنعته ما لم تتنفس به لهوات ابن النفيس، وشفى عليل صدور الملهوفين ولا بدع ف " الشفاء " للرئيس.
وبالجملة فجمل فضائله مما تقصر عن وصفه جمل العبارات، وإذا وقعت لذات الفضل إشارات فلذلك الرئيس تلك الإشارات.
وله في الأدب روايةٌ طال بها باعا، ودرايةٌ أبرأ بها من مرض الزمان قلوباً وطباعا.
ولم أقف له إلا على بيتين أجد معناهما، ولم تتمتع أذن سامعٍ بغيرهما في معناهما.
وهما قوله:
سقانيَ مَن أهوَى كلوْنِ خدودِه ... مُداماً تُرِي سرَّ القلوب مُذاعَا
ومُذ شبَّب الإبريقُ في كأسِ حانِنا ... أقامتْ دراويشُ الحَباب سَماعَا
مصطفى الزيباري
هو في هذه لحلبة، كالعقد النفيس في اللبة.
وله جامعية فنون تربو على الحصر، وفضائل لا يستطيع جحودها نبهاء العصر.
لكنه أتى الدهر وقد هرم ن فلم يترو زهير روضه بمثل ندى هرم.
فهو يشتكي زمناً بعيد الإحسان، لا يستجلبه ولا دعوة الغيد الحسان.
وينظم الشعر لا فاقة، ما له منها إفاقة.
بجدٍ أمضى من النصل، وهزلٍ أحلى من الوصل.
وقد ذكرت له ما يستلذ وصفه الوصاف، والقول له أنه غايةٌ في بابه من الإنصاف.
فمنه قوله، من قصيدة يمدح بها البهائي:
هي الشمسُ إن حيَّى بها الأوطَفُ البَدْرُ ... فخُذْها هنيئاً لا مَلامٌ ولا وِزْرُ
دهاقاً دَهاقاً غيرَ عانٍ فإنها ... إذا صافحتْ ذا عُسْرةٍ حَلَّه اليُسْرُ
ولا تخْشَ إمْلاقاً فإن حَبابَها ... فرائدُ ياقوت وذائبُها تِبْرُ
ولا تعتبرْ قولَ المُعيبين صَحْبَها ... فأَتْرابُها زُهْرٌ وأكوابُها زَهْرُ
وقُل لمدير الرَّاح سِرَّاً وجَهْرةً ... ألا فاسْقِنِي خَمْراً وقل لي هي الخمْرُ
ومكْسُولةِ الألْحاظ معْسولةِ اللَّمَى ... تَخال بها قَطْر النَّباتِ ولا قَطْرُ
لها لَحظاتٌ تسلُب اللُّبَّ والحجَى ... وما فارقتْ جَفْناً وهذا هو السحرُ
وجيدُ مَهاةٍ بل غزالٍ كأنه ... عَمُود لُجَيْنٍ فوقه بَزَغَ البدْرُ(1/325)
وليلٍ كبحرٍ خُضْتُ أمواجَ جُنْحِه ... على سابحٍ عن سَيْرِه قصَّر النَّسْرُ
أكَفْكِف أذْيالَ البوادِي تعسُّفاً ... ولا يرْعَوِي إن راعَه الضربُ والزَّجْرُ
كان أبا الفضلِ البهاءَ محمَّداً ... لنا حيث سِرْنا من صباحتِه فَجْرُ
وقوله من أخرى، مطلعها:
أأيَّتُهنَّ إذْ تبدو نَوارُ ... صَدُوف أم كَنُود أم نَوارُ
بعيشِك هل سمعتَ فما سمعْنا ... بآرامٍ وليس لها نِفارُ
برَزْنَ من الخدورِ مُحجَّباتٍ ... ومحمودٌ من البدرِ السِّرارُ
طَلعْنَ عليك ثم خَنَسْنَ عُجْباً ... كذلك تفعل الغُرُّ الجِوارُ
حَذارِ لواحظاً منهن دُعْجاً ... فمقْتول الهوى منها جُبارُ
وبِي منهنَّ أُمْلُودٌ رَدَاحٌ ... نأتْ عنِّي وقد شطَّ المَزارُ
لقد غدرت أُخَيَّ وغادرتْني ... وحيداً لا أزور ولا أزارُ
وأنشد له السيد عبد الله الحجازي، يهجو قرية أوارين:
ولو أن لي في كلِّ وقتٍ وساعةٍ ... بقريَة أوّارينَ ما أتمنَّاهُ
لقُلت خليليَّ ارْحلا بي عن التي ... تُكثِّر أوْصابِي فلا بارك اللَهُ
مصطفى بن محمد بن نجم الدين الحلفاوي
خطيب وابن خطيب، وعبير مستفاد من مسك وطيب.
تناول المجد كابراً عن كابر، واستفاده ما بين أسرة ومنابر.
وهو من قوم رقوا عن الدرج، وأمن مادحهم من الاعتراض والحرج.
لأياديهم فتحت بالثناء أفواه الأعلام ولأقدامهم طأطأت رؤوس المنابر والأقلام.
لم تزل النجابة فيهم نسقاً على نسق، وإذا لاحت وجوههم أضاءت بالليل وما وسق.
وأنا إذا أمسكت عن ذكرهم لساناً رطيباً، فقد قام اشتهارهم عني في الآفاق خطيباً.
وقد نبغ منهم هذا الندب كما شاءت العلى، فجاء متحلياً من الفضائل الغر بأفخر الحلى.
وقد عرف فيه الرشد، من حين وضع في اللفافة وشد.
إلا أنه اخترمه الأجل وغصنه يانع، وليس له عند التوسع في الملآثر مانع.
وقد أنشدني بعض الأدباء له بيتين، جئت بهما في هذا المحل مثبتين.
وهما قوله:
قالوا سَلاَ قلبُه عن حبِّهم وغدا ... مُفرَّغَ الفكرِ منهم خاليَ البالِ
قلتُ اثبِتُوا أن لي قلباً أعيشُ به ... ثم اثْبِتُوا أنه عن حبِّهم سالِي
وهذا معنى حسن، وقلت فيه من قطعة:
وظننتَ قلبي سالياً ... أتركْتَ لي قلباً فيسْلُو
وقلت أيضاً:
قال تسَلَّى وقد جفانِي ... ونام عن صَبْوتي وحُبِّي
صدقتَ بالقلبِ كنتُ أهوى ... ما حِيلتي إذ أخذتَ قلبِي
والأصل فيه قول بشار:
عَذِيرِي من العُذَّالِ إذ يعْذِلونني ... سَفَاهاً وما في العاذلين لبيبُ
يقولون لو عزَّيْتَ قلبَك لارْعَوَى ... فقلتُ وهل للعاشقين قلوبُ
ومثله لابن الوضاح المرسي:
يقولون سلِّ القلبَ بعد فِراقِهمْ ... فقلتُ وهل قلبٌ فيسْلو عن الحبِّ
وللعرجي ما هو منه ولا يبعد عنه:
وزعمتِ أن الدهر يُقْنِعني ... صبْراً عليك وأين لي صبرُ
وللبهاء زهير:
جعل الرُّقادَ لي يُواصل مَوعِداً ... من أين لي في حبِّه أن أرْقُدَا
وللبوريني:
يقولون في الصبحِ الدعاءُ مُؤثِّرٌ ... فقلتُ نعم لو كان ليلِي له صبحُ
وللشهاب الخفاجي:
يقولون لي لم تُبْقِ للصلحِ مَوْضِعاً ... وقد هجرُوا من غير ذَنْبٍ فمَن يُلْحَى
صدقْتُم وأنتُم للفؤادِ سلَبتُمُ ... وماليَ قلبٌ غيره يطلُب الصُّلْحَا
محمد بن محمد البخشي
من أفراد العلم الكبار، الحسان الآثار والأخبار.
وكان من سمو القدر، واتساع الصدر، ونببل الهمة، ورعى الذمة.
في حدٍ ما وراءه مطمع، ولا يتقرط بمثل خبره مسمع.
إلى تقوى باطنه معمور، وقناعة موطنه ببركاته مغمور.
وإيثار بما ملك، ووقارٍ يتبعه أنى سلك.
توازن به السحب الهواطل إذا حبا، ولا ترضى أن تشبهه الجبال الروازن إذا احبتى.(1/326)
صحبته بالروم فشاهدت ملكاً في صورة إنسان، مطبوعاً على الخير فما يشاب بشرٍ ولا يشان.
فما شرته محباً له محبة الصحابي للسنة، وفارقته فتلهفت عليه تلهف آدم على الجنة.
أنسى الأيام وأذكره، وأذك مكارمه فأشكره.
وهاجر آخر أمره إلى مكة، فكان بها سحاباً ماطراً، ونسيماُ إذا هب هب عاطراً.
فأقبل أكثر أهلها عليه، وسلموا زمام انقيادهم إليه.
ووردوا مشرع وفاقه، وانتظموا في سلك رفاقه.
ثم لم يلبث أن دعاه الكريم إلى داره، فتولاه عفوه بمنهله ومدراره.
وكان أملى علي من أشعاره قطعاً سهلة، ربما حفظتها لجودتها من أول وهلة.
فلم أعلقها في دفتر اعتماداً على الحفظ مني، ولم أدر أن الأيام وشواغلها تنفرها عني.
ثم وقفت له بمكة على قصيدة فتعلقت بها وجعلتها من المعلقات، وأنا من عهدها شغفٌ بترديدها حرصاً على تذكر تلك العلاقات.
والقصيدة هي هذه، قالها في مدح الشريف أحمد، وأخيه الشريف سعد ابني زيد، وهما بدار الخلافة:
خليليّ إيهٍ عن حديث صَبا نَجْدٍِ ... وإن حركت داءً قديماً من الوَجْدِ
فآهاً على ذاك النَّسِيم تأسُّفاً ... وآهٌ على آهٍ تروِّح أو تُجْدِي
عليلةُ أنْفاسٍ تُصِحُّ نفوسَنا ... مُعطَّرةُ الأرْدانِ بالشِّيح والرَّنْدِ
وهيهاتَ نجدٌ والعُذَيْب ودونَه ... مَهامهُ تغوى الكدر فيها عن الوِرْدِ
ومن كل شمَّاخِ الأهاضبِ خالَط السَّ ... حابَ يرومُ الشمسَ بالصدِّ والرَّدِّ
وتسْرِي الصَّبا منه فتُمسِي وبيننا ... من البَوْنِ ما لبين السَّماوةِ والسِّنْدِ
هذا في المبالغة وقول ابن عنين رفيقا عنان.
وقوله هو:
سامحتُ كُتْبَك في القطيعةِ عالِماً ... أن الصحيفةَ لم تجدْ من حاملِ
وعذَرتُ طَيْفَك في الوصولِ لانه ... يغْدو فيصبح دوننا بمَراحلِ
ولا أقول ما قال ابن بسام: لقد شنع وبشع أبو زيد في الكذب، حيث قال:
وشِمْتَ سيوفَك في جِلَّقٍ ... فشامتْ خُراسانُ منها الحيَا
وبعد وبدع مهلهل، حيث قال:
ولولا الريحُ أسمَعَ من بُحْجرٍ ... صليلُ البَيض تُقرَعُ بالذُّكورِ
لأن الصبا قد تتخلف لهبوب غيرها أيلاماً فبيت ابن عنين كذبه ولاضح، وللعذر فاضح.
والبيت الذي نحن فيه منشيه موصون بصدق المقال، ومنشده مستريحٌ من حمل الأثقال.
سقا اللهُ من نجدٍ هضاباً رياضُها ... تنفَّس عن أزْكى من العَنْبَرِ الوَرْدِ
وحيَّى الحَيا حَيّاً نعِمْنا بظلِّه ... بنَعْمان ما بين الشَّبِيية والرِّفدِ
نُغازِل غِزْلانا كوانِس في الحشَى ... أوانسَ في ألْحاظها مَقْنِصُ الأُسْدِ
تُحاكِي الجَوارِي الكُنَّسَ الزُّهْرَ بَهْجةً ... وتفضُلها في رفعةِ الشأن والسَّعدِ
حِجازيَّةُ الألْفاظِ عُذريَّة الهوى ... عراقيَّة الألْحاظ ورديَّة الخدِّ
بعيدةُ مَهْوَى القُرْطِ معسولةُ اللَّمَى ... مُرهَّفةُ الأجفانِ عَسَّالةُ القَدِّ
تَمِيسُ وقد أرْخَتْ ذوائبَ فَرْعِها ... فتخْطُر بين الْبَانِ والعلَم الفَرْدِ
وتعْطُو بجِيدٍ عطَّل الْحَليُ حسنَه ... كأن ظَبْيةٌ تعْطو إل رَيِّقِ المردِ
وكم ليلةٍ باتتْ يَداها حمائلِي ... وباتتْ يدي من جِيدها مَطْرَح العِقدِ
ندير سُلافاً من حديث حَبابِها ... على حين تَرْشافٍ ألَذَّ من الشُّهْدِ
ولمَّا تمطَّى الصبحُ يطلُب علْمنَا ... تكنَّفَنا ليلٌ من الشَّعَرِ الجَعْدِ
عفِيفيْن عمَّا لا يليق تكرُّما ... على كا بنا من شدةِ الشوقِ والوَجْدِ
وقد كاد يسعى الدهرُ في شَتِّ شَمْلِنا ... ولكن توارَى شفْعُنا عنه بالفَرْدِ
فأصبحتُ أشكو بَيْنَها وفِراقَها ... بشَطِّ النوى شكوَى الأسيرِ إلى القِدِّ(1/327)
وإنِّي قد استطْلعتُ دَرْكَ مطالبِي ... وتبْليغَ آمالِي وما نَدَّ عن حَدِّي
بطلْعة نَجْلَىْ دَوحةْ المجد غاربِ الْ ... مَعالي سَنامِ الفخر بل غُرَّةِ المجدِ
إمامِ المصلَّى والمُحصَّب والصَّفا ... وِراثة جَدٍّ عن نُمَيٍٍّ إلى جدِّ
أبي أحمد زيْن الصَّناديد في الوغَى ... بني حسَن الأُسدِ الكواسرةِ الحدِّ
بُزاةِ العلى الغُرِّ المَيامنةِ الأُلى ... سما قدرُهم يوم التفاخُر عن نِدِّ
غيوثٌ إذا أعطَوْا ليوثٌ إذا سطُوا ... مناقبُهم جلَّتْ عن الحدِّ والعَدِّ
فما أفَلتْ شمس لزيْد وقد بدا ... لنا من ضِياها شمسُ أحمدَ أو سعدِ
هما نَيّرا أوْج المَعالي وشَرَّفا ... بُروجَ قصورِ الروم في طالع السعدِ
ومُذْ رحَلا عن مكةٍ غاب أُنْسُها ... فكانا كنَصْل السيفِ غاب عن الغِمْدِ
منها:
جَواديْن في شَطِّ المَماجد جَلَّيا ... وحازا رِهانَ السَّبْقِ في حَنَق الضِّدِّ
يِراحاتهمْ إن ينبُت الجودفي العطَا ... فتلك بحورٌ تتَّقي الجَزْرَ بالمَدِّ
وإن أحْيتِ السحبُ النَّباتَ بمائها ... فكم أحْيَتِ الراحاتُ أنفسَ مُسْتجْدِي
رياضٌ لمُرتادٍ حصونٌ للَائذٍ ... رُجومٌ لمُستْعدٍ نجومٌ لمستهدِي
شمائلُ تهزُو بالشَّمائلِ لُطْفُها ... وعِطْف شَمُولِ الرَّاحِ هزَّتَه تُبْدِي
منها:
بنو هاشمٍ إن كنتَ تعرف هاشماً ... وما هاشمٌ إلا الأسِنَّةُ للمجدِ
بهم فخَرَتْ عَدْنانُ والعُرْبُ كلُّها ... ودانتْ لهم قَحْطانُ أهلُ القَنا الصُّلْدِ
فمِن مجدهم يُستَقْبَس المجدُ كلُّه ... ومن جُودِهم أهلُ المكارمِ تسْتجْدِي
هنِيئاً لأبْنا المصطفى الشرفُ الذي ... تسَامَى فلا يُحْصَى بعدٍّ ولا حَدِّ
بمِدْحتكم جاء الكتابُ فما عسى ... تقول الورى من بعد حم والحمدِ
وعُذْراً بني الزَّهْراءِ إنِّيَ ظامئٌ ... إلى المدحِ والأيامُ تُنْسِي عن الوِرْدِ
يوَدُّ لساني لو يُترجِمِ بعضَ ما ... لكم في فؤاد الصَّبِّ من صادقِ الوعدِ
وقد نضَبتْ منه القريحةُ نَضْبةً ... على حذَرٍ من حاذرٍ أحْذر الرَّيْدِ
كنَفْثةِ مَصدورٍ ولمحةِ عاشق ... تُسارِقه عينُ الرقيب على بُعْدِ
فإن أعْطَتِ الأيامُ بعضَ قيادِها ... رأيتُم له من مَدْحِكم أعْظمَ الوِرْدِ
إبراهيم بن أبي اليمن البتروني
صدر منشرح الصدر، موفية محاسنه على الشمس والبدر.
من أسرة نسقوا الفضائل ولا، وسحبوا من المعلوات مطارف وملا.
افتر لهم الزمان وابتسم، وارتسم بهم نقش المآثر واتسم.
كما تبسم ثغر زهرٍ عن شعاع، وترقرق جعد نهرٍ بظلٍ لماع.
وهذا الفاضل محله منهم محل العين الناظرة تصان عما يقذيها، واليد الباطشة تحفظ عما يؤذيها.
أوصافه لا تجاريه فيها أقدام الوطر، زنعوته لا تزاحمه عليها مناكب الخطر.
فهي مسلمةٌ إليه إذا نوزع من ادعاها، مقرة لديه إذا دوفع من استدعاها.
وله مآثر يفارق فرق الفرقدين قعيدها، إذا وطئت أقدامه الأرض ربت واهتز فيها صعيدها.
إلا أن الأيام عاندته في منصب قومه، وعوضته هم أمسه مضافاً إلى يومه.
وعارضه صادق المقدور، فراح من الدنيا بنفثة المصدور.
وقد رأيت له شعراً يدل على قدره الجليل، دلالة النسيم العليل، على الروض البليل.
فأثبت منه ما ألفيت، وبالدلالة عليه اكتفيت.
فمنه قوله من مكاتبة:
على فَرْطِ التشوُّق والبِعادِ ... وإخْلاصِ المحبَّةِ في العبادِ
فإني مُوقِرٌ غُرَرَ التَّحايا ... ومُهْديها إلى الشَّهْم الجوادِ
خليلي ذِي الخِلال بلا اخْتلالٍ ... وخِذْني ني الفضائِل والودادِ(1/328)
وصَفْوتِيَ المُصفَّى والمُوفِّى ... حقوقَ مودَّتي في كلِّ نادِ
منها:
وهل يصْفُو الزمانُ وقد بَراه ... إلهي غادراً من قبلِ عادِ
إذا ما فَارقتْ منه سهامٌ ... فلا تُخْطِي قواتلُها فؤادِي
فَبي من صَرْفه ما لو تراءَى ... لأوْدَى بالبَرايا والبوادِي
ألا قُل لي فَدَيِتُك هل أرى لي ... مُعِيناً في البلوغ إلى المُرادِ
رحِيبَ الصدرِ ذا صدقٍ ودينٍ ... لأجعلَه ادِّخارِي واعْتمادِي
وقوله من قصيدة:
جاءت اليك وقد أرتك قصورها ... عذراء شادت بالثناء قصورها
حسناءُ صاغ لها المَديحُ قلائداً ... حلَّت بها بين الحسانِ نحُورَها
باهتْ بفخْرك كلَّ مُمتدَحٍ وما ... تاهتْ وصَانتْ عن سواك نظيرَها
واستَمْطَتِ الجوزاءَ قدْراً حيث إن ... كنتَ المآلَ لها وكنتَ سميرَها
يا ايها الصرر الذي اقتعد العلى ... بمكارم اضحن الكمال سميرها
منها:
ورجعتَ منصوراً وعُدتَ بنعمةٍ ... قد نلْتَ من رب الورى مَوْفورَها
وحَظِيتَ بالأجرِ الجزيل وهذه ... نِعَم فكُن بالمَكْرُمات شَكُورَها
ويعجبني قوله في التخلص من قصيدة قالها في الأمير محمد بن سيفا:
ولقد شكوتُ له الهوى ليرِقَّ لي ... فنأَى عن المُضْنَى بقلبٍ جَلْمَدِ
وأبَى سوى رِقِّي فقلتُ له اتَّئِدْ ... إني رفيقٌ للأمير محمدِ
وله في الفتح بن النحاس، وكان يهواه:
مُهْلِكَ العشاق مَهْلاً ... فيك لي منك انْتقامُ
بشُعَيْرَاتٍ كمِسْكٍ ... هي للحسن خِتامُ
وله فيه، من أبيات:
بيني وبينك مدةٌ فإذا انقضَتْ ... كنتَ الجديرَ بأن تُعزَّى في الوَرى
منها:
رِفْقاً بقلبٍ أنت فيه ساكنٌ ... إن الحياةَ إذا قَضى لا تُشْتَرى
فارْدُدْ على طَرفي السُّهادَ لعله ... يلْقَى خيالاً منك في سِنةِ الكَرَى
واسْألْ عيوناً لا تمَلُّ من البكا ... عن حالتِي يُنبِيك دمعي ما جرَى
وله فيه، وقد عشق مليحاً اسمه موسى، فتجنى عليه:
كلُّ فِرْعونَ له موسى وذا ... في الهوى مُوساكَ يُولِيك النَّكَدْ
فكما أكْمدتَ من يَهْواك بالصَّ ... دِّ مُتْ صَدَّاً وذَقْ طعمَ الكمَدْ
أحمد بن محمد المعروف بابن المنلا
شارح مغنى اللبيب عالم الشهباء ومصنفها، ومقرط العلياء ومشنفها.
بتآليف وشح بيراعة براعتها صدور المهارق، وأتى فيها من معجزات البلاغة بالخوارق.
حاز بها في تلك الحلبة غاية الظهور، وفاز بقصب السبق فيما بين ذلك الجمهور.
وله عقود كلام لو تجسم لفظها لما رصعت إلا على التيجان، وتنزهت عن أن ترى أفرادها مواضع اللؤلؤ والمرجان.
تشتمل من رود القوافي، وخود الغزليات الصوافي.
على غرر كقطع الرياض غب القطر، وفقر أحسن من الغنى بعد الفقر.
فما يتبين في معاني بلاغته انحلال معاقد، ولا تلين قناة براعته لغمز ناقد.
فمن كلامه الدائر بين الرواة، المرتصف دراً أصدافه الأفواه.
هذه اقطعة من موشح أطلعها منيرة، وبعث بها الأشجان لنار الوجد المثيرة.
وقد عارض به موشح ابن سهل الذي يقول في مطلعه:
هل درَى ظبيُ الحِمَى أن قد حَمى ... قلبَ صَبٍّ حلَّه عن مَكْنَسِ
وهو من الموشح الموزون، الذي يتسلى به قلب المحزون:
رُبَّ رِيمٍ رام قلبي فرمَى ... فيه سهماً جاء عن غير قِسِي
من رى ظَبْياً أرانا أسْهُما ... من لحاظٍ كعيونِ النَّرجِسِ
يا نديمِي قُم صَفا وقتُ الهنا ... فامْلَ لي الكأسَ وعجِّل بالطِّلَا
وأدِرْها خمرةً تُولِي المُنَى ... فزَمان الأُنْسِ بالبشرِ حُلاَ
والحَيَا قد ألْبَس الروضَ الثَّنَا ... وعلى الدَّوْحِ من الزَّهْرِ حُلاَ(1/329)
وحكتْ بالأنْجُم الأرضَ السما ... إذ غدَت بالزُّهْرِ منها تكْتَسِى
وحَبا الأغصانَ طَرْزاً مُعْلَما ... حين ماماسَ بأبْهَى مَلبَسِ
دور
ما ترى يا صاحِ أغصانَ الرُّبى ... مائِلات القَدِّ من خمر السحابْ
رنَّحتْها سُحْرةً أيْدِي الصَّبا ... فصَبا القلبُ إليها باكْتئابْ
ومن الزَّهْر لها أغْلى قِبَا ... ومن الدَّوْح لها عالِي القِبابْ
نَقَّطتْها السُّحبُ دُرّاً مثلما ... كستِ الروضَ بثوْبٍ سُنْدُسِي
وشذا عَرْف نسيمٍ هَيْنَما ... وكذا يفعُل ذاكي النَّفَسِ
دور
ما لِلاحٍ مُذْ لحَى طاب الهوى ... في حبيبٍ وجهُه يحْكِي القمَرْ
لَذَّ لِي في حبِّه مُرُّ النوى ... وارْتكابُ الهَوْلِ يوماً إن خطَرْ
ما على مَن نجمُه فيه هوَى ... حبن ما صَدَّ دَلالا ونفَرْ
أحوريُّ اللحْظِ معسولُ اللَّمَى ... فاحِمُ الشعرِ شهيُّ اللَّعَسِ
ثَغْرُه ابدى لنا برقَ الحمى ... وأثِيثُ الشعرِ ثوبَ الغَلَسِ
دور
يالَه بدراً حَمى عنِّي الكرَى ... قدُّه والطَّرْفُ عَضْبٌ وأسَلْ
في دُجَى شعرٍ له بدرٌ سرَى ... وبشمسِ الوجه ليلٌ قد نَزَلْ
خَنِثٌ في جَفْنِه أُسْدُ الشَّرَى ... وعلى أعْطافِه لِينٌ ودَلّ
ساحرُ المُقْلةِ معشوقُ الدُّمَى ... قمرُ الأُفْق وظَبْيُ المَكْنَسِ
ذُو لِحاظٍ كم أراقتْ من دِماً ... وهي تُفْدَى بالجَوارِي الكُنَّسِ
ومن بدائعه قوله:
نازَع الخدَّ عِذارٌ دائرٌ ... فوق خالٍ مِسْكُه ثَمَّ عبِقْ
قائلاً للْخال هذا خادمِي ... ودليل أنه لَوْنِي سرَقْ
فانْتَضى الطرفُ له سيفَ القضا ... ثم نادَى كما الذي أبْدَى القلقِ
أيها النُّعمانُ في مذهبِكم ... حجةُ الخارجِ بالمِلك أحَقْ
وقوله:
وأسمرٍ من بني الأتْراكِ ذي غَنَجٍ ... يهُزُّ قدّاً كغُصن الْبان في هَيَفِ
كأنه حين يعْلُو سُورَ قلعتِه ... وينْثنى شَرفاً منه على الشَّرَفِ
غصنُ الصِّبا مزهِراًقد رنَّحتْه صَبا ... عليه بدرٌ بدا من دَارَةِ الشَّرَف
ومن تضامينه العجيبة، قوله في شخص عابه بانحسار شعر رأسه:
يَعِيبني أن شعرَ الرأسِ مُنْحسِرٌ ... منه فتىً قد عَرَى من حُلَّة الأدبِ
وليس ذلك إلا من ضِراِم هوىً ... سرَى إلى الرأس منه ساطِعُ اللهبِ
أقْصِر فدَيْتُك ذا داءٌ بمَبْعَرِه ... والعيبُ في الرأسِ دون العيبِ في الذَّنَبِ
وله في شريف يعرف بالمشهدي يدعي الشعر:
المَشْهَدِيُّ لِسانُه ... قد فّلَّ كلَّ مُهَنَّدِ
إن رام إنْشادَ القَرِي ... ضِ فقُل له يا سيدِي
يشير إلى قول القائل في ابن الشجري العلوي:
يا سيِّدي والذي يُعِيذك من ... نظْم القريضِ يصْدَا به الفكرُ
ما فيك من جَدِّك النبيِّ سوى ... أنك لا ينْبغي لك الشعرُ
وفي كتاب الكناية والتعريض للثعالبي: يقولون في فلان فضيلتان من فضائل النبي صلى الله عليه وسلم: إحداهما أنه أمي، والثانية أنه لا يقول الشعر، وهاتان الخصلتان من فضائل رسول الله صلى الله عليه وسلم وليستا من غيره بفضيلة.
وإذا كان الرجل متشاعراً غير شاعر، قالوا: فلانٌ نبيٌ في الشعر. يعهني أنه لا ينبغي له ذلك، وعلى هذا بنى مخلد الموصلي قوله:
يا نَِبَّي الله في الش ... عرِ وعيسى بنَ مريَمْ
أنتَ من أشْعرِ خلْ ... قِ الله مالمْ تتكلَّمْ
وله:
قالوا حبيبُك أمسى لا تكلِّمه ... ولا تميلُ لرُؤْيا وجهِه النَّضِرِ
فقلتُ أمرٌ دعاني نحو جَفْوتِه ... والحبُّ للقلبِ لا للِّفظِ والنَّظَرِ
وله:(1/330)
ادَّعَو أن خَصْره في انْتحال ... فلذا بان قَدُّه المَمْشوقُ
وأقاموا الدليلَ رِدْفاً ثقيلاً ... قلتُ مهلاً دليلُكمْ مَطْروقُ
وممن منشآته قوله من رسالة: يقبل الأرض معترفاً برق العبودية قرباً وبعداً، ومقراً بأن فراق تلك الحضرة الزاكية لم يبق له على مقاومة التصبر جهداً.
ارتكب مجاز التصبر ليفوز بحقيقة الاصطبار، واستعار لقلبه جناح الشوق فهو هو يود لو أنه نحوكم قد طار.
عجل عليه البين بدنو حينه، وسبك في بودقة خدوده خالص إبريز دمعة عينه.
وقطر بتصعيد أنفاسه لجين دموعه، ونفى بتأوهه وأنينه طير هجوعه.
بين أيادي من حلاه الله بأشرف المناقب، ورفع رتبته العلية على أعلى المراتب.
ونصب له لواء المجد، وخفض له جناح السعد.
المجزوم بأنه أوحد العصر والأوان، والمحكوم بقصر الفضل عليه من غير احتياج إلى حجة وبرهان.
من فتح لأبناء دهره أبواب التحقيق، وفاق أقرانه بحسن التنقيح والتدقيق.
وحل من مشكلات العلوم ما أعجز كل نحرير، وأبرز غواضم الدقائق على أطراف الثمام بأحسن تقرير.
فهو المسند إليه في باب العلم، والمشار إليه بأنه إمام الحلم.
وله من رسالة أخرى: انفتح له في فضل تصريف الأيام أبواب المزيد، وتسلطت عل أصوله أيدي العلل فعاين العذاب الشديد.
فحاله رق له أولو التمييز، ومتى ارتفعت زفراته بعامل التجني من يوسف الملاحة نادى أيها العزيز.
تناوب في إهلاكه ماضي طرفه وسمهري قده فقرأت باب تنازع العاملين، وتمادى موصول جفاه فأرسل سحاب الناظرين.
وأوقع الفؤاد في عروض الأسقام، وآذن بتقطيع الأوصال بسيوف الغرام.
محمد بن حسن الكواكبي
عنوان كتاب العلى، يكتب آخراً ويقرأ اولاً.
له يفرض الشكر ويحتم، وبه يبدأ الذكر ويختم.
فلهذه ختمت به باب أولى الفتوة والبسالة، كما ختمت بمحمد صلى الله عليه وسلم باب النبوة والرسالة.
فإنه من خلص نحلته، القائم بتأييد ملته.
ومن تقدمه بالنسبة إليه، كلهم في الفقه عيالٌ عليه.
فهم مقدمات لشكل الفضل الأول، وهي النتيجة التي عليها في القياس المعول.
فقد يتأخر الهاطل عن الرعد، والنائل عن الوعد.
ومراتب الأعداد، تترقى بتأخير رقمها وتزداد.
وتجيءُ فَذْلَكةُ الحسابِ أخيرةً ... لتكون جامعةَ العديد الأوْفرِ
ولا غرو فالكبير تتقدمه المواكب، والشمس بطلوعها تغيب الكواكب.
فهو النير الأعظم، وعصماء عقد النفاسة المنظم.
مزاياه تستغرق الألفاظ من النثير والنظيم، والذي قسم الحظوظ بين الناس حباه بالخلق العظيم.
وقد متعه الله بحوالسه وأعضائه، وأمته بني الدنيا بإيناسه وإغضائه.
فاقتعد الرتبة التي أرته إلى الفلك صاعدا، وصحب الهمة التي صيرته يتناول الكواكب قاعداً.
وأنا إذا أردت وصفه الذي بهر، وبدا كالصبح إذا اشتهر.
قلت في شأنه الباهر، ومحله الزاهي الزاهر:
ليت الكواكبَ تدْنُو لي فأنْظمِهَا ... عقودَ مدحٍ فلا أرضَى له كَلَمِي
وله من النظم الذي أبدعه فكره، واكسب صحائف الأيام فخر الأبد ذكره ما يسمو إلى الأسماع سمو حباب الماء، ويعمل في القلوب عمل الأفعال في الأسماء.
فمنه قوله مضمناَ بيتي المرسي:
حتَّى م في ليلِ الهمو ... مِ زِنادَ فكرِك تقْتدِحْ
قلبٌ تحرَّق بالأسَى ... ودموعُ عيْنٍ تنْسفِحْ
ارْفُق بنفسِك واعْتصِمْ ... بحِمَى المهيْمِنِ تنْشرحْ
اضْرَعْ له إن ضاق عن ... ك خِناقُ حالِك تنْفسِحْ
ما أَمَّ ساحةَ جُودِه ... ذُو مِحْنةٍ إلا منحْ
أو جاءَه ذو المُعْضِلا ... تِ بمُغْلَق إلا فتَحْ
فدعِ السِّوَى وانْهَجْ على النَّ ... هجِ القويمِ المُتَّضِحْ
واسمعْ مقالةَ ناصحٍ ... إن كنتَ ممَّن ينْتصِحْ
ما تمَّ إلا ما يُري ... د فدَعْ مُرادَك واطَّرِحْ
واتْرُكَ وَساوسَك التي ... شغلتْ فؤادَك تسْترَح
وله في الغزل:(1/331)
وَرْقاءُ من عهد الحبيب تُتَرْجمُ ... لِيَهْنِك إلفٌ بالغُوَيرِ مَخيِّمُ
لئِن تندُ بي إلْفاً وما شَطَّ حيُّه ... فإني على شَطِّ المَزارِ مُتيَّمُ
وهَبْ سَجْعك اللموزون باللحن معرِبٌ ... فدمعِيَ أوْفَى صامتٍ يتكلمُ
لكِ مثلٌ في العَنْدَلِيب وسَجْعِه ... ولي بالفَراشِ الشِّبْه والفَرْقُ يُعْلَمُ
وله:
يا أيها البدرُ المُنيرُ إذا بدَا ... وإذا رَنَا يا أيُّهذا الرِّيمُ
ومعلِّم الغصنِ الرَّطِيب تمايُلاً ... رق النسيمُ لها فصار يَهيمُ
كم ذا تُمَوِّه عن صَبابةِ عاشقٍ ... صَبٍّ على طولِ الصدودِ مقيمُ
فارْحَمْ ضَنا جسدِي وحسَن تَصَبُّرِي ... وارْعَ الجميلَ فما الجمالُ يدومُ
وله في ألكن:
فلا تعجبوا من لُكْنةٍ في لسانِه ... فمن حُلْوِ فِيه لا يفارقُه الشُّهدُ
وهذا المعنى أصله بالتركية، وكنت عربته قبل أن رأيت تعريبه.
وبيتي هو:
ما لُكنةٌ فيه تِشينُ وإنما ... تأبَى الحروفُ فِراق شُهْدِ لسانِهِ
ثم رأيت في ديوان الشهاب ما زاد عليه، وهو قوله:
بالله حدِّث عن تلَجْلُجِ نُطْقِه ... سُكْراً وأتْحِفْني بعذْبِ بَيانِهِ
الضِيقِ فِيه ليس يخرُج لفظُه ... أم لا يُريد فِراق عَذْبِ لسانِهِ
ومما يستعذب هنا قول ابن تميم:
عابُوا التَّلَجْلُجَ في لسانِ مُعذِّبي ... فأجبْتُهم للصَّبِّ فيه بَيانُ
إن الذي يُنْشِي الحديثَ لسانُه ... ولسانُه من ريقِه سَكْرانُ
ولهذا الأصل الطيب المغرس، فرعٌ لم يزل ولا يزال تتعرف فيه المعالي وتتفرس.
وهو أحمد القائم مقام أبيه في رتبته، والمفرع لأفانين البلاغة من سامي هضبته.
زاده الله تعالى فضلاً ونبلاً، وضاعف له الثناء بعداً كما ضاعفه قبلاً.
وذلك إن كان بقي مزيدٌ بعد التمام، على أنه لم يبق إلا الاستدامة كما قال أبو تمام:
نعمةُ اللهِ فيه لا أسألُ اللّ ... هَ إليه نُعْمَى سوى أن تدوما
ولو أنِّي سألتُ كنتُ كمن ... يسألُه وهْو قائمٌ أن يقُومَا
الجزء الثالث
الباب الثالث
في نوابغ بلغاء الروم
وهذا الباب فيه الغرض المروم؛ فإن دار خلافتها وإن تباين فيها اللسان، ففي أهلها حذق لا يعيقه مزية وجدت في نوع الإنسان.
فسبحان من جعل جبالها السبع بمنزلة الأفلاك، مطالع الأضوا ومغارب الأحلاك، ومغرد طيور جملة الأملاك، وسبب انتظام هذه الأسلاك.
فسما بها الفرع الباسق، والأصل الثابت، وطاب لعمري فيها المنبت والنابت.
كيف وهي حاضرة الدنيا، وواحدة المفردة والثنيا.
ومجمع أهل الفضل تنظمهم في سلك، وتنزههم فيما أنالها الله من ملك وملك.
وقد أمنت بحمد الله من الصائل، وحمدت فيها البكر والأصائل.
ولها الحظوة التامة، والمحاسن الخاصة إلى الخيرات العامة.
مع اللطافة المشربة بالغضارة، والطلاقة الممكنة من مفاصل النضارة.
فهي قيعة الظل الأبرد، وكناس الغيد الخرد.
ومهوى هوى الغيث الهاتن، ومأوى اللفظ الساحر واللحظ الفاتن.
وبها المباني الشم الأنوف، والقصور الجمة الحلي والشنوف.
رياضها وريقه أريضة، وأهويتها صحيحة مريضة.
ومرابعها مراتع النواظر، ومطالع المسرات النواضر.
تصبو النسمات إلى مسارحها الرحاب، وتبكي شوقاً إليها جفون السحاب.
ولعهدي بها إذا أخذت بدائع زخارفها، ونشرت طرائف مطارفها.
وقد ساقت إليها أرواح الجنائب، زقاق خمر السحائب.
فسقت مروجها مدام الطل، فنشأ على أزهارها حبابٌ كاللؤلؤ المنحل.
هناك رأيت كل شعب يحدث عن شعب بوان، وكل منظر يتجلى عن أشكال من الزهر وألوان.
بُسِطت فَوقه بُرودُ ربيعٍ ... عندما زاره وفودُ الشمائلْ
خُطَّ فيه كتابُ توحيد ربِّي ... نَقْطُه النَّورُ والمياهُ الجداولْ
فتلتْه طيورُه دارساتٍ ... وأعادتْه مُفْصِحات العنادِلْ
أغْنَتِ السمعَ عن مِراءِ جدالٍ ... رامياتٍ لنقْل حمْل الدلائلْ(1/332)
وأنا إذا بسطت فيها القول، وهدرت هدر الشول.
فغاية ما أقول: هي العروس المتبرجة، والروضة المتأرجة.
فصان الله جمالها وجلالها، ووقى من حر الهجير ببرد النعيم ظلالها.
ولا زالت قوافل العوائد الإلهية واصلةً إليها، ودامت دار إيمانٍ إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
ومع ما أعطاها الله من تحفٍ تحف بها وكرامة، فقد اجتنت أهلها أثمار الرحلة في ظل الإقامة.
فكلهم عصابة بارعة، وآراؤهم إلى الغوامض مسارعة.
بأنفس كريمة الشمائل والغرائب، وقرائح تقذف بحارها بدرر الغرائب.
وحرص على لقاء كل ذي علم، وتخلق بأخلاق كل ذي مروءة وحلم.
وقد خرج جماعةٌ من أعيانهم، زانوا الأدب وزينوه بحسن بيانهم.
أشعارهم بالألسنة الثلاثة حجة أهل اللسن، وفاضحة المذهبات الثلاث الماء والخضرة والوجه الحسن.
لو كنت أوفيهم حقهم الراتب، وأخلص من تبكيت المزدري والمعاتب.
لجعلت الطرس من صحيفة الخد، والقلم من ألف القد.
ثم كتبت وصفهم بالتبر، فضلاً عن الحبر.
ووهبت للناسخ، نفس ودي الراسخ.
وقلت فليكن الناقل، ممن لا يقذف صفحته إلا إلى الصاقل.
وقد ابتدأت الباب باثنين منهم، رويت حديث الثنا في محلهم عنهم.
وعقبتهم باثنين آخرين، رأيتهما بدمشق وقد بزغا كالقمرين.
ثم أذكر بعدهم من له شعرٌ عربي اطلعت عليه، ثم من له شعر تركي انتخبت من شعره مفردات عربتها ونسبتها إليه: شيخ محمد بن لطف الله بن زكريا بن بيرام أستاذي وملاذي، وعتادي وعياذي.
عين المعالي وإنسانها، وقلب المعارف ولسانها.
صحيفة مجده لم يجد نقط شكلها حسود، وأقلام مدحه ليس همها إلا ركوع وسجود.
أنديته مصب مزن الفضل، فهي ذات سقيط وندىً مخضل.
تبذل الأعمار في لقائه نقدها، وتنتطق الجوزاء في خدمته عقدها.
ومن حق هيبته عند ذوي الآداب، أن يعقدوا إذا لمحوه الحواجب بالأهداب.
أراد البحر أن يحاكي نداه، فقصر عنه ولم يدرك أدنى مداه.
فهو لذلك في اضطراب وأمواجه في التطام، وطفل النبت يغتذي بندى كفه فلا يخشى عليه منها إلا الفطام.
فلو استجارت أوراق الخريف، بظل حمى نداه الوريف.
لما سلبت برداً زهى للعيون وراق، وظلت شاكرةً فضل الربيع بلسان الأوراق.
إليه انتهت الرغائب، وحضر نداه الخضر وهو غائب.
وهو الذي دخلت الروم لأجله، وحصلت من لقاه على أعظم الأمل وأجله.
وهو إذ ذاك عن رتبة البدر متقاعد، ومع الشمس في الظهور رابعة النهار متواعد.
فشاهدت ملكاً في صورة إنسان، يملأ العين بالحسن والكف بالإحسان.
وله السعادة مهيأة، وبه الدنيا وأهاليها مهنأة.
فوردت بحراً من جوده نميرا، وارتقيت حيث أعد النجم سميرا.
وكم مجلسٍ بين يديه، قرأت فيه سورة الأدب لديه.
تنطقني فضائله بما أنظم فيه من الغرر، فأغدو كمن قلد البحر من فرائده بعقود الدرر.
ثم أفيض عنه فيض النهر، وأنصرف انصراف الصبا عن الزهر.
وقد آليت لا توقعت خيراً سوى خيره، ولا أملت الرغبة عن شق القلم لمدحه غيره.
وصفوي محميٌّ به عن الشوائب، وجسدي محرم على أنياب النوائب.
وكانت لي وراء رأيه مواعيد، كنت منها على نيلٍ قريب غير بعيد.
فعاق عنه موته الذي بدل السرور بالترح، وترك الحزن شامتاً بالفرح.
فدفن به كنزٌ كان في الزمان لقية، وتم به السرور لكل حي وكانت عندنا منه بقية.
فنعته الهمم، وماتت بموته أمم.
وما فُجِعت به الدنيا ولكن ... غدتْ بِفراقه الدنيا يتيمهْ
فعلى قبره من الرحمة الحافة، عدد أنفاس الخلائق كافة.
وقد أوردت له من آثاره التي جلت، وأسفرت عن شمس البلاغة حين تجلت.
ماهو في مقلة الأدب حور، وفي قلب الحسود خور.
فمن ذلك قوله:
يرمِي فيُوقع فتنةَ النَّظَرِ ... وتراه يسألني عن الخبرِ
نَزْهٌ خيالُ الفكر يُغضِبه ... فيكاد يمنعني من الفِكَرِ
ما شاهدتْ عيْنايَ طلعتَه ... إلا وأغْناها عن القمرِ
يُرْجَى من الفِتَن الخلاصُ إذا ... سلمتْ لواحظُه من الحَوَرِ
وقوله:
أترى الزمانَ يُعيد لي أُنْسِي ... ويردُّ بدرِي حاملاً شمسِي
فإذا تكرَّم رحتُ أشكرُه ... وتركتُ يومي عاتباً أمسِي
وقوله:
صافيْتُكم من عهدِ أن ... كنتمْ فما هذا الجفَا(1/333)
وبيْننا مودةٌ ... تعلِّم الآسَ الوفَا
وقوله:
يسْبِي العقولَ بلَحْظه فكأنما ... سُقِيتْ سيوفُ لِحاظِه بسُلافِ
سَيْفُّيهُ صاد القلوبَ بنَظْرةٍ ... من بين مثل قوادم الخَطَّافِ
السيفي: طائر من الجوارح يشبه الصقر.
ومن رباعياته قوله:
ناديتُ أحبَّتِي لأجل السَّلْوَى ... والدهرُ رسومَ رَبْعهم قد سَوَّى
بالنَّوْحة جُدْتُ في المغاني حتى ... قد ساعدني على بكائِي رَضْوَى
ولي فيه مدائح كثيرة، من جملتها قصيدة قلتها في ابتداء ورودي عليه.
ومستهلها:
دَنا الرَّكْب من حَيٍ تقادَم عهدُه ... وهَيَّج فيه القلبَ وجداً يُجِدُّه
دعتْه إلى الشكوَى معالمُ أُنْسِه ... ولكن أسرارَ الغرام تصُدُّهُ
بنفسِيَ مِن آرامِه كلّ شادِنٍ ... تملَّك مني حبَّةَ القلبِ وُدُّهُ
من الغِيد يرْنُو عن حُسامِ لَواحظٍ ... يقُدُّ قلوبَ الدَّارِعين فِرِنْدُهُ
أرُدُّ عيوني عنه خِيفةَ كاشحٍ ... وهل يمنع الصَّادِي عن الماء وِرْدُهُ
سقاني وقد حيَّى مُداماً تروَّقتْ ... إذا لم تكُن من كَرْمِه فهْيَ خَدُّهُ
سُلافاً تُعير الصبحَ في كَشْفِه لنا ... قِناعَ الدجى منها سَناً يسْتمدُّهُ
من مديحها:
يرِفُّ به غصنٌ من الحمدِ يانِعٌ ... ويعبَق من نَشر الثَّنا فيه نَدُّهُ
ولا تعثُر اللَّحظاتُ في باب مجدِه ... بغير مَنالٍ يقْدَح العزَّ زَنْدُهُ
أدَرَّ على الأيام سَيْباً ففجَّرتْ ... ينابِيعَ حتى الصخرُ أعْشَب صَلْدُهُ
ومنها هذه القصيدة، قلتها وقد ألبسني فروةً من فراه، وهي بعض ما نالني من قراه:
شأنُ المُوَلَّه أن يعيش مُتيَّما ... والحبُّ ما منع القَرارَ المُغرَمَا
هو ما علمتَ غرامُ صَبٍ دمعُه ... ما زال يُظهِر سِرَّه المتكتِّمَا
لو شاء من أضناه هجيره ... رد الحياة لجسمه منكرما
وإذا الصبابةُ خامَرتْ قلبَ امرىءٍ ... وجد الشِّفاءَ من الحبيب تنعُّمَا
ولَرُبَّ مُغْبَرِّ الأديمِ قطعتُه ... من فوق مُبْيَضِّ القوائمِ أدْهَمَا
لا تستطيع الشمسُ ترسم ظلَّه ... مهما مشَى سبَق القضاءَ المُبرَمَا
والليلُ بحر قد تدافَع مَوْجُه ... وترى الكواكبَ فيه تسْرِي عُوَّمَا
وكأن وجهَ الأُفْقِ تُنقَدُ فضةً ... والبدرَ تحسَبه عليه دِرْهَمَا
وكأنما المَرِّيخُ شعلة قابسٍ ... أو رأسُ نَصْلٍ خضَّبْته يدٌ دَمَا
أسْرِي وشخصُك لا يزال مُسامِري ... وأرى التصبُّر عنك مُرّاً عَلْقَمَا
يا آفةَ الأرواحِ ما ألْهاك عن ... دَنِفٍ لذكْرِ هواك يهوَى اللُّوَّمَا
من مديحها:
مولىً إذا ظلمَ الزمانُ فما يُرَى ... إلاَّ إلى عزَماته مُتظلِّمَا
جارَى الملوك إلى مقاماتِ العلى ... فتأخَّرُوا عنه وكان مُقدَّمَا
لو مَدَّ راحتَه لثَغْرِ مُقَبِّلٍ ... أنِف الثُّريَّا أن تكون له فَمَا
أو تنطق الدنيا بِمِدحةِ ماجدٍ ... نطَق الزمانُ بمدْحِه وتكلَّمَا
دعَواتُه تجلو الكروبَ وعَزمُه ... لو يلْتقيه الموتُ مات توهُّمَا
ولو اسْتجار به النهارُ من الدجى ... لم تبصرِ الأحداقُ شَيّاً مظلِمَا
منها:
ألْبَسْتني نِعَماً رأيتُ بها الدجى ... صبحاً وكنتُ أرى صباحِي مظلِمَا
ما عُذْرُ من شرَّفتَه بفضيلةٍ ... أن لا ينالَ بها السُّهَا والمِرْزَمَا
وإليْكها زهراءَ ذاتَ بلاغةٍ ... لو رامَها قُسٌّ لأصبح أبْكَمَا
من كل بيتٍ لو تجسَّم لفظُه ... لرأيتَه وَشْياً عليك مُنَمْنَمَا(1/334)
واسلَمْ لنَشْر فضيلةٍ معلومةٍ ... لوْلاك طال على المَلا أن تُعلَمَا
إن العُلَى بدأتْ بذكرِك مثْلَما ... آلتْ بغيرِك في الورى لن تُخْتَمَا
ومنها هذه الرائية، مدحته بها في أول فصل الربيع، وأولها:
باكِر الحانةَ والكأسُ تُدارُ ... فشبابُ العمر ثوبٌ مستَعارُ
هذه الأرضُ اكْتستْ أزهارَها ... ما على من يغْنَمِ اللذاتِ عارُ
وكأنَّ الروضَ وَشْيٌ فاخرٌ ... نَقْشُه آسٌ ووردٌ وبَهارُ
إن سَرتْ فيه نُسَيمات الصَّبا ... فضَح العنبرَ رَنْدٌ وعَرارُ
وكأنَّ المُزْنَ تِبْرٌ كنزُه ... دُرَّةٌ بيضاءُ والماءُ نُضارُ
فتَقتْ كفُّ الغوادِي جَيْبَها ... فالذي منها على الروضِ نِثارُ
يا رَفِيقَيَّ دعانِي والهوى ... إنما الصَّبْوةُ للصَّبِّ شِعارُ
كنتُ أُخفِي محنةً في خَلَدي ... لو يكنْ للقلب في العشقِ اختيارُ
من بيِتْ وَلْهانَ في حبِّ الظِّبا ... خانَه القلبُ وعزَّ الاصْطبارُ
يعذُب الهجرُ لمن يعرفُه ... وبمَطْل الغِيد يحلُو الانتظارُ
إنما نَشْوانُ أحْداقِ المَها ... صَحْوُه من سَكْرةِ العشق خُمارُ
يا سَقى موطِنَ لَهْوِي بالحمى ... أدْمُعِي إن شحَّتِ السحبُ الغِزارُ
كم ليالٍ فيه قد قضَّيْتُها ... ومن الأيامِ حلوٌ ومِرارُ
فانْقَضتْ أسرعَ من سهم القضا ... يا ابنَ وُدِّي ليس للعيشِ قَرارُ
وحبِيبٍ بات زَنْدِي طوقَه ... والمُنى ثالثُنا والأنسُ جارُ
قد نأَى لكنْ عن العينِ وكم ... نازحِ الدار له القلبُ ديارُ
أيُّ نفعٍ في اقترابِ الجسم إن ... بعُد القلبُ وما يُغنِي الجِوارُ
هكذا تفعل أحكامُ الهوى ... في بَنِي العشقِ وللدهرِ الخِيارُ
ينْقضي العمرُ ومالي مُسْعِفٌ ... ومن الضَّيْم مُصِيخٌ لا يُجارُ
هذه حالي وإن طال المدى ... واعْتبارُ الحالِ للمرءِ اختبارُ
غيرَ أن الحرصَ غَلاَّبُ النُّهىَ ... والمُنى منها اختيارٌ واضطرارُ
لا أذُمُّ الدهرَ حاشَى وله ... أنْعُمُ المولَى عن الذنبِ اعْتذارُ
كعبةِ الآمالِ والركنِ الذي ... للمنى فيه اسْتلامٌ واعْتمارُ
قد جَلا خَطْبَ الليالي عَزْمُه ... مثْلما يجلُو دُجَى الليلِ النهارُ
لو يكُنْ للبحر أدْنَى بِرِّه ... لم يلُحْ للعينِ بَرٌّ وقِفارُ
وحِماهُ مُلْتقَى عِيسِ المُنى ... لا سِواه للنَّدى مَأوىً وجارُ
روضُ فضلٍِ نجتَني إحسانَه ... وكذا تُجنَى من الروضِ الثِّمارُ
أيها الأستاذُ والمولى الذي ... غَرِقتْ في سَيْب كفَّيْه البحارُ
لك أُنْهِي نُوَباً من بعضِها ... يذْهَل اللبُّ وذو العقلِ يَحارُ
حَلَّ بي الشيْبُ فأفنَى رَوْنقِي ... وكذاك البدرُ يمْحوه السِّرارُ
فأغِثْني من كروبٍ في الحَشا ... حُرَقٌ منها وفي الطَّرْفِ انكسارُ
وتمتَّع بقوافٍ كَرُبىً ... ضاحَكَ النَّوْرِ عليها الجُلَّنارُ
بِدَعٌ قد أُشْرِبتْ ألفاظُها ... رِيقةَ المبْسَم والخمرَ العُقارُ
كخُدودِ الغِيد تحمْرُّ حَياً ... وإذا شئْتَ كما اخْضَرَّ العِذارُ
أنا حسَّان القوافي فإذا ... فُهْتُ طاب الشعرُ وارْتاح الفَخارُ
وإذا غنَّتك أطْيارُ الثنا ... فأنا من بينها وحدِي الهَزارُ
ليس لي مالٌ ولكن كَلِمِي ... عَسْجَدٌ تِبْرٌ وإلاّ فنُضارُ(1/335)
لم أقُلْ طالتْ وإطْنابُ الورَى ... في مَعاليك مدَى الدهرِ اخْتصارُ
فابْقَ أعْلَى الناسِ جاهاً ونَدىً ... وإلى مَجدِك بالعِزِّ يُشارُ
لك أهْنَى عِيشةٍ تخْتارها ... ولأَعْداك البلايَا والدَّمارُ
وقد اكتفيت بما أثبته عن الباقي، ورددت بعد هذه الخمرية القدح إلى الساقي.
عبد الباقي بن محمد الشهير بعارف بحرٌ وأنواع المعارف ماؤه، وبدر وأوج السعادة سماؤه.
لم ير نظيره في المحاسن النواضر، لأن محاسنه ملأت القلوب والنواظر.
له السبق الأشهر، ونطقه الياقوت والجوهر.
استولى على العلوم، وألحق المجهول منها بالمعلوم.
وأما الأدب وفنونه، فهو الذي تشير إليه عيونه.
فالنسب، إلى حفظه انتسب.
والأيام والدول، عنده منها خبر الأواخر والأول.
وأما الأخبار فهو ينسي التاريخ ومن ورخ، وله استقصاءٌ يعلم به الذي باض وفرخ.
وقد وفر الله له غاية الحظ في محاسن الخط، فخطه نتيجة ما أودع الباري من مقدمتي البرى والقط.
كلما دور القلم نور المقل، وحلى العقول وحل العقل.
وقد اعتنق الأشعار وألفها، كما اعتنقت لام الكتابة ألفها.
وجاء منها بفرائد تحسدها سبح الدر من الثنايا المنظمة في العقيق، وتغض من حيائها حدق النور وتحمر خدود الشقيق.
وكنت وأنا بالروم اجتمعت به مرات، وشاهدت طلعةً هي موسم أفراح ومسرات.
فلما ورد دمشق كانت رؤيتي له ثانية، وفيها تدلت على ثمرات إقباله متداينة.
وشديت للقاهرة في خدمته الرحل، وكنت معه بها في زمنٍ كزمن الفطحل.
في أوقاتٍ كلها برؤيته نعيم وطلاوة، أتلو بها أوصافه على القلم فيسجد لها سجدة تلاوة.
وأنا أعلق من نفسائه كل ذخيرة، وينسيني الليلة الأولى منه بالأخيرة.
وتسهر عيْني فيه والحَظُّ نائمٌ ... كأنِّيَ من خوفِ المَكارِه أحرسُهْ
ولقد أشتهى أن أحل كل جسم، ليكون لي من رؤية وجهه كل قسم.
وإذا رغب إلى الله راغبٌ، في تسهيل ما له من مطالب ورغائب.
فإني أرغب في التوسل بطول عمره، وارتقاء أمره.
إلى أن يعمل الاسم في الحرف، ويمتنع زيد من الصرف.
وحتى يشغل الجسم حيزين، ويحل في مكانين.
وقد أخذت من أشعاره التي جاوز الشعرى تراقيها، وكأنما نظم المحاسن عقد في تراقيها.
ما لو ضربت بيوتها بالحجاز، لأقرت لها العرب العاربة بالإعجاز.
قصائدُ إن تكنْ تُتْلَى على مَلأٍ ... صدورُها علمتْ منها قوافيهَا
ينْسى لها الراكبُ العَجْلانُ حاجتَه ... ويصبحُ الحاسدُ الغضْبانُ يرْوِيهَا
فمنها قصيدة نبوية، أولها:
متى هتفتْ بالجُنْحِ وُرْقُ الحمائمِ ... أنارتْ جوَى قلبٍ من الوجدِ هائمِ
سقَى اللهُ ساحاتِ العُذَيْبِ وبارِقٍ ... بكل هَمُولِ الوَدْقِ أوْطفَ ساجمِ
إذا بارِقٌ شِمْناه من نحو بارِقٍ ... تأجَّج نارٌ في الحشَا والحيَازِمِ
فها أنا مَطْوِيُّ الضلوعِ على الجوى ... إلى لَثْمِ هاتيك الرُّبَى والمَعالمِ
ألا أيها الحادِي ترفَّقْ بمُهْجتِي ... وباليَعْمَلات الدَّامِياتِ المَناسِمِ
أحِنُّ ادِّكاراً نحوَ مُنْعَرَج اللِّوَى ... وأصْبُو إلى سفْحِ النَّقَا فالأناعمِ
فيَسِّرْ إلهي أن أعفِّر جبهتي ... بساحاتِ هاتِيكَ الرُّبَى والمَعالمِ
ألم يَأْنِ يا مُعطِي المُنَى أن تحصَّلتْ ... مآرِبُ أصحابِ النفوسِ الأكارمِ
وهاج غرامِي نحوَ مكَّة حيثما ... تُشَّدُّ حِزامُ المُرسَلات الرَّواسمِ
وذلك أزْكى مَرْبعٍ صار مَنْشَأً ... لفخرِ البرايا خيرِ أولادِ آدمِ
ترى طَيْبةً قد صار مأوَى شفيعِنا ... حليفِ النَّدى فخرِ الجدودِ الأكارمِ
محمدٍ المبعوثِ بالبِرِّ والتقى ... وبَذْلِ نوالٍ واقْتناءِ مكارمِ
طرازِ رُواءِ الفضلِ من نَسْل يَعْرُبٍ ... وإنسانِ عين المجد من آل هاشمِ
شفيعِ ذوِي الآثامِ نِيطَتْ بحبِّه ... إزاحةُ آثامٍ وصفحُ جرائمِ(1/336)
ملائكةُ الرحمنِ أمستْ وأصبحتْ ... تطُوف ذُراها كالطيورِ الحوائمِ
وليس يُسامِي النجمُ سُدَّةَ بابِه ... فمن يعْتلي سقفَ السَّما بالسَّلالمِ
فمن يكُ يأوِيها فقد صار لائِذاً ... إلى مَعْقِلٍ للمستجيرِين عاصمِ
ولن تبلُغَ الأملاكُ في القُرْبِ شَأْوه ... وكيف الخوافِي تسْتَوِي بالقوادمِ
وفي ليلةِ الإسراءِ صار مُشرِّفاً ... بأخْمَصِه فوق السُّها والنَّعائمِ
وبعثتُه أضحتْ لكلِّ مُلِمَّةٍ ... كأيام ذي قارٍ لجار الأراقِمِ
ولولاه لم يُوجَد من الخلقِ واحدٌ ... هو السببُ الأقْصَى لخلقِ العوالمِ
بمِيلادِه غارتْ بُحَيرة سَاوةٍ ... وغِيضَت أوَاذِي سَيْحِها المتراكمِ
غَدا حِصْنُ من لم يتَّبِعْ لك دَارِساً ... ولم يتَّفق بَانٍ له غيرُ هادمِ
مَشاربُهم سَمٌّ ذُعافٌ ومالَهم ... مطاعمُ أشْهَى غير عَضِّ الأباهمِ
ألا يا رسولَ اللهِ جُدْ بشفاعةٍ ... عسى اللهُ أن يَمْتاح عفوَ جرائِمي
شفَيْتَ نفوساً حيث داويْتَ سُقْمها ... وسلَّلتَ منها مُرْدِيات السَّخائمِ
وسَيْبُك يا ذا الجودِ غيرُ مُمنَّعٍ ... لمُسْترفِدِ الجَدْوَى ببابِك قادِمِ
تركتَ ذوِي اللسَن المصاقعَ مُفْحِماً ... وإنَّك قد انْطقْتَ عُجْمَ البهائمِ
وكم مُفْلِقٍ أعجزتَه مُتحدِّياً ... بمُعجِز قرآنٍ إلى الحشر قائمِ
وهبْتَ جَرِيداً في الوغَى لعُكاشةٍ ... تحوَّل نَصْلاً من مَواضِي الصَّوارمِ
ووجهُ ابن مِلْحان غدَا إذْ مَسَحْتَه ... مُضيئاً كبَرْقٍ في خلال غمائمِ
وشَاءٌ لعبد القيْس في أُذْن سَخْلِها ... إلى اليوم قد أبْقيتَ بادي المياسِمِ
لعمري قد أصبحتُ مُغْرىً ببابِكَ الرَّ ... فيع مُعَنّىً مُذْ أُمِيطتْ عمائِمي
عليك سلامُ اللهِ ما سطع الضُّحَى ... وأوْمَض برقٌ في خلال غمائمِ
كذلك للصحب الكرام وآله ... ذوي عِزَّة قَعْساءَ جَمِّ المكارمِ
لهم في النَّوادِي فضلُ حِلْمٍ ومُكْنَةٍ ... وفي حَوْمةِ الهيْجاء عَدْوُ الضَّراغمِ
نجومُ هُدىً من يقْتديهم يفُزْ بما ... يرومُ اهْتداءً في ليالٍ فواحِمِ
وأنشدني من لفظه هذه القصيدة، مدح بها مفتي السلطنة:
أحْيَى رُبوعَ الأجْرَعَيْنِ لِزامَا ... مُزْنٌ سَقاها وابلاً ورِهامَا
ومتى يُرى البرقُ اللَّمُوعُ بذي الغَضا ... طار الفؤادُ لها شجىً وغَرامَا
وثَوى الربيعُ على ذُراها مُلْقِياً ... برَحِيب ساحتِها العصا فأقامَا
والريحُ إذْ هبَّتْ برَيَّا تُرْبِها ... أذْكَتْ من الوجدِ الصريحِ ضِرامَا
زَرَّتْ هَتُون السحبِ في حافاتِها الْ ... أزْرارَ ناشرةً بها أعْلامَا
لو ضَلَّه السَّارِي هدَاه نَحْوَ سا ... حتِها شَذَا أنْفاسِ نَشْرِ خُزَامَى
عهْدي بأيامٍ مَضَيْنَ برَبْعِها ... يا رِيحُ عنِّي بلِّغِيه سلامَا
أوقاتُ أُنْسٍ مثل إبْهام القَطا ... قد صِرْنَ من قِصَرِ المدى أحْلامَا
وبِمُنْحنَى وادِي الأراكِ حبيبةٌ ... قلبي بشَجْوِ غرامها قد هامَا
وبسُرَّةِ البَطْحاء مُرْتَبَعٌ غدا ... أضْنَى فؤادي صَبْوةً وهُيامَا
وبما ارْتدتْ بِرداءِ جَوْنِ سُفُورِها ... صارتْ على بشر المَوامِي شَامَا
شَغَفِي وتَهْيامِي تجدَّد كلّما ... شدُّوا على العِيسِ الأَمُونِ حِزَامَا
للنَّاسِ صيَّرها الإلهُ مَثابةً ... إذ حيثُ عَيَّن قبلةً إعْظامَا(1/337)
قُصَّادُها تَرْقَى على رُتَبِ العلى ... مهما تجُوب مَهامِهاً وأَكامَا
أصْبُو إلى تقْبيل هاتيك الثرى ... لأفُوز أن اسْتافَ ذاك رَغامَا
وإذا الحجيجُ توجَّهتْ نحو العُلَى ... أهْفُو إلى تلك الربوعِ غَرامَا
إن رُمْتَه نَيْلَ المُنَى مُسترفِداً ... خُذْ ما ترُوم فقد ظفِرتَ مَرامَا
فاطلُبْه ممَّن بالفضائل واللُّهَى ... لذَوِي الحِجَى والفضلِ صار إمامَا
مُفْتِي الورى ومُبِين أعلام الهدى ... أفْتَى الأنامَ وأوضحَ الأحْكامَا
ذو المجد إن أمْعَنْتَه ألْفَيْتَه ... وجدودَه الغُرَّ العظامَ كِرامَا
وبرأْيه المورُوثِ أعطَى راعياً ... للدولةِ العُظْمى به اسْتحْكامَا
أعْطَى بصائب فكرِه وبجُودِه ... لشَتِيت آمالِ العُفاةِ نِظامَا
وأزاح دَيْجورَ الحواديثِ بعد ما ... قد عَمَّ ساحاتِ الديارِ ظلامَا
وأراح مُذْ ساس الورَى فلأجْلِ ذا ... أضحت عيونُ الحادثاتِ نِيامَا
مَن فاز بِشْراً من أسِرَّة وجهِه ... بَرْقَ البشائرِ والتهَانِي شَامَا
ومَنِ اسْتضاءَ بنورِ غُرَّته اجْتلَى ... وجهَ السرورِ وقد أُمِيطَ لِثامَا
ولأجْل أن أغْلَى المعالِي قيمةً ... سوقُ المعالِي والمعارف قامَا
مَن كان مُنتمياً إلى أعْتابه ... أمسَى وأصبح للأنام إمامَا
أنت الذِي أعطيتَ جَدّاً ناعِشاً ... من يستغيثُك نال ما قد رامَا
آنافُ كلِّ مُخالفٍ أجْدَعْتها ... بشَبَا البراعةِ إذ سَللْتَ حُسامَا
وجوادُ فكرك فاق سَبَّاقَ النُّهَى ... خاض الطِّرادَ وما أثار قَتامَا
وسلكتَ في سُبُلِ المكارم مَسْلَكاً ... أعْيَى الوُلاةَ وأتعبَ الحُكَّامَا
من يتَّخِذْ مَثْوَى جنابِك قِبْلةً ... للناس أصبح أُسْوةً وإمامَا
سَبقتْ لِبابِك لي تَلِيدُ عُبودةٍ ... أنت الأحقُّ بأن تصون ذِمامَا
اللهَ أسألُ أن يُحلِّي دَائباً ... بوجودِك الأيامَ والأعوامَا
دُمْ في ذُرَا طَوْدِ السعادة والعلى ... تتسَنَّم الهضَباتِ والأعْلامَا
وأنشدني رائية خبية الفكر، والخريدة التي صانها الله صيانة البكر، وهي في مدح الوزير مصطفى، أخي الوزير الفاضل.
ومطلعهاك
دِراكُ المعالي بالمُهنَّدةِ البُتْرِ ... وَنيْلُ الأماني بالمُثقَّفة السُّمْرِ
ومَن يهتْصرْ لَدْنَ القنا باعْتقالِها ... جنَى يانعاً من دَوْحةِ النُّجْحِ والنصرِ
وهل بعد أن الحتْفَ ضربةُ لازبٍ ... لمن ينْثنِي ذُعْراً عن الزحفِ من عُذْرِ
ولو لم يكن بالْهالِع النَّدْلِ سُبَّةٌ ... كفى فيه خُسْراً سوءُ مُنْقلَبِ الكَرِّ
وما لم تُرِقْ لم يُورِق النُّجْحَ ناضراً ... نَجِيعُ الأعادي كالمُلِثِّ من القطْرِ
ومن يعْتنِقْ هِيفَ القَنا يسْلُ مُعرضاً ... عن الخَفِراتِ البِيض ناحِلةِ الخَصْرِ
ويسْتنتج الحَوْماتِ والبأْسِ من يكُن ... أبا عُذْر ما قد خاض من فتْنةٍ بِكْرِ
ومَن لم يخُضْ لُجَّ المَعارِك لم يكَدْ ... يفُوز بِعقْد النَّحْرِ من لُؤلؤٍ نَثْرِ
فها هو ذا الصدرُ الكريم الذي غدا ... عديمَ المُدانِي غيرَ مُشتَرك النّجْرِ
سَمِيُّ النبيِّ المصطفى الناشرُ اللُّهَى ... غزيرُ الندى شمسُ العلي الواسعُ البِرِّ
مُعزُّ أساسِ الدين مُحيِي رسُومهِ ... مُذِلُّ رقابِ المعتدين ذوِي الكفرِ
وناظمُ شمْل الدين للمال ناشرٌ ... يفوق الورَى في ذلك النظم والنثرِ(1/338)
تطاوَل للأحْرارِ حيث اسْترقَّهمْ ... بِفَكِّ عُناةٍ منهم عن يَدِ الأسْرِ
وصار له خَوْضُ الحروبِ سجِيَّةً ... ولم يكُ يسْطو في المعارِك بالبُتْرِ
رحيبٌ ذَاره أصبحت مُنْتدَى اللُّهَى ... وحَضْرتُه العَلْيا غدَتْ منتهى الفخرِ
حَرِي للورى أن يُفْرِشوه خُدودَهم ... يعُدُّونه زَهْواً من الشِّيَم الغُرِّ
له شاغلٌ بالبِيض عن أبْيَض الدُّمَى ... وبالسُّمْر يسْتغني عن الشُّدُنِ العُفْرِ
زَكَا خُلْقُه الَّزاهِي ورتبتُه اعْتلَتْ ... على أنْجُمِ الزَّهْرا بل الأنْجُمِ الزُّهْرِ
أزاح بمَاضِي الشَّفْرتيْن صفوفَهم ... كما حَكَّ سْطراً بعد ما حاك من سَطْرِ
وما قد أتى من صَيِّب النُّجْح عاجلاً ... مَخِيلةُ أن يزْداد من دِيَمٍ غُرِّ
وأنت الوزيرُ ابنُ الوزير أخو الندى ... وصدرُ الصدور الماجِدين ذوي القَدْرِ
أحاطتْ أياديك الكرامُ بحيثما ... يَضيقُ بما خَوَّلْتَ منطقةُ الشكرِ
رُواقُ المعالي في ذَراكَ مُطنِّبٌ ... بحيث غدَتْ أوتادُه مَرْقَبَ النَّسْرِ
بغزْوِك آضَ الشرعُ مُسْتوثِق العُرَى ... وأصبح حبلُ الدِّين مُستحْصِد الشَّزْرِ
ومن عَضْبِك البَتَّارِ ما برح العدى ... إذا أوْمَض البرقُ المُلِيحُ على ذُكْرِ
تركْتهمُ تحت السَّنابكِ في الوغى ... لَقَى بعد ما كانوا اعْتلَوا صَهْوة الكِبْرِ
ولاَذُوا حُصوناً قد ظفِرْتَ بفتْحها ... كما فزِع الطيرُ المَرُوعُ إلى الوَكْرِ
ومن يكُ يأوِي من جَنابِك مَلْجأً ... جَلا أوْجُهَ الآمال مُبتسِمَ البِشْرِ
أقلْنِي يُثبْك اللهُ ما قد تروُمُه ... وزادَك ما قد حُزْتَ من شرف القدرِ
أفاض لك النُّعْمَى وزادك بَسْطةً ... بما مَنَّ من نُجْحٍ عظيمٍ ومن نصرِ
وجازَى بما أعليْتَ من كلِماتِه ... فكنتَ مُقيلَ الدِّين والشرعِ من عَثْرِ
وإنِّي وأيْمُ اللهِ لم آلُ دَعوةً ... مُدِيمُ الثناءِ المَحْضِ في السرِّ والجهرِ
غدوتُ أخا عُرْىً وضُرٍ وفاقةٍ ... طَلِيحاً بأعْباءِ الخَصاصةِ والفقْرِ
وأضحى عدوِّي راثياً لي لأنني ... قويُّ الأسَى واهِي التجلُّد والصبرِ
وإني لِمَا بي من أسىً مُتجلِّدٌ ... ولكنَّ أحْزاني تنِمُّ عن سِرِّي
وإنِّي جديرٌ أن أُرَوَّي برَشْحةٍ ... أفَضْتَ بها من فيْضِ نائِلك الغَمْرِ
مُنايَ وسُؤْلِي أن أفوز بحِجَّةٍ ... وأسْرَحَ طَرْفِي بالحَجُونِ إلى الحِجْرِ
وفي في سماءِ الصدقِ صادقُ دعوةٍ ... عَلا في الدياجِي مثل مُنْبَلِج الفجرِ
أنِلْ وابْق واسلَمْ مُستماحاً ومَفْزَعاً ... لمُسْتنْجِدي الجَدْوَى ومُسترفِدي البِرِّ
ودُمْ ساحباً ذيلَ المكارم ساكباً ... سحابَ نوالٍ مُخْجِلٍ نائلَ البحرِ
سقى اللهُ مِن دَانِي الهيَادِبِ صَيِّبٍ ... حِماك الذي صارت مُناخاً لذي الفقرِ
وكتب إليه إبراهيم السؤالاتي، ملغزاً في ربيع، قوله، وقد أنشدنيه وجوابه من لفظه:
نكتةَ الدهرِ لَوْذَعِيَّ الزمانِ ... عارفَ الوقتِ ألْمَعِي الأوانِ
بدرَ أُفْقِ الكمال شمسَ المعالي ... رُوحَ جسمِ الجمال والعرفانِ
والمُجَلِّي طِرْفَ الفضائل والبَذْ ... لِ سَبُوقاً في حَلْبة الميْدانِ
والمحلى جيد الفصاحة بالفك ... ر عقوداً من لؤلؤ وجمان(1/339)
بيَراعٍ منه تُراعُ المَنايا ... ويُراعَى فيه ربيعُ الأمانِ
ما اسمُ شيءٍ طَلْقِ المُحيَّا نضيرٍ ... بشَذاه يُرِيحُ لُبَّ الجَنانِ
رُبعه خمسُ ربعه وتراه ... إسمَ شخصٍ وقطعةً من زمانِ
شَطْرُه مالكٌ ومقلوبُ باقِي ... هِ يُصيب الإنسانَ في الأحْيانِ
واقلبِ الاسمَ بعد طَرْحِك للصد ... رِ تراه عيْباً بدا للعَيانِ
وإذا ما قلبْتَ حاشيتيْه ... فعبيرٌ ينِمُّ عن رَيْحانِ
وإذا ما حذفتَ ثانيَ هذا ... فهْو رَكْبٌ يسيرُ في القِيعانِ
وانْتشِقْ من تصْحيِفه نَشْرَ شيءٍ ... هو طِيبُ الأرْواحِ والأبدانِ
نصفُه إن ردَدْتَه فهْو شخصٌ ... طائعٌ والديْه في كلِّ آنِ
وفَلاةٌ عريضةٌ وتعالى الل ... هـ ربِّي مُدبِّرُ الإنسانِ
وإذا ماحذفتَ ذا فهْو قوتٌ ... وغذاءٌ للجائعِ اللَّهْفانِ
وإذا ما صحَّفْتَه فوِعاءٌ ... لِغذاء الرضيعِ يا ذا البَيانِ
هاك مولايَ من عُبَيْدك لُغْزاً ... وابْقَ تسْمُو قدراً على كِيوانِ
ما سرَتْ نَسْمةُ الرياضِ صَباحاً ... في رُباها بلَيِلَة الأرْدانِ
وتغنَّتْ بسَجْعِ حَمْدك وُرْقٌ ... بفَصِيحِ التِّبْيانِ والألْحانِ
وهذا جوابه:
وردةٌ ذي أم مَبْسَمُ الأُقْحُوانِ ... جاد وَسْمِيّ عارضٍ هَتَّانِ
أم ثغورُ المِلاح ألْعَسُ أحْوَى ... أم خدودُ المِلاح حُمْرُ قَوانِي
أم جُمانٌ مُنضَّدٌ لوشاحِ الْ ... غِيدِ يُزْهِي مَعاقِدَ التِّيجانِ
أم سُلافُ الرُّضابِ عذْباً بَرُوداً ... بِتُّ منها كالْوالِهِ النَّشْوانِ
أم كؤوسٌ أدارها أهْيفُ القَدِّ ... هَضِيمُ الحشا خضيبُ البَنانِ
زهرةٌ زانَها السحابُ سُحَيْراً ... بدموعٍ غزيرةِ الهمَلانِ
تلك روضةٌ غَنَّاءُ فيها من الوُرْ ... قِ بكلِّ الأرْجاءِ سَجْعُ قِيانِ
نَفْثةُ السِّحْر أم رُقىً لِمُعنّىً ... فاترِ القلبِ ساهرِ الأجفانِ
كنتُ خِلْواً من الغرام فهزَّتْ ... نِي صَباباتُ هذه الألحانِ
حيث جاءتْ ألَذَّ من غَفَواتِ الْ ... فجرِ طِيباً لِجَفْنيَ السهرانِ
يا كريماً بعثتَ سِلْكَ عقودٍ ... فاضِحاتٍ قلائدَ العِقْيانِ
مُلْغِزٌ في اسمِ ما به الرَّبعُ زَاهٍ ... وهْو للدهرِ موسمُ العُنْفُوانِ
جئتَ للهِ يا ربيعَ المعالي ... بِمُوشّىً مُحيِّرِ الأذْهانِ
يا سَمِيّاً لمن به صِرْنَ بَرْداً ... وسَلاماً لَواعِجُ النِّيرانِ
فُقْتَ كلَّ الورى وصار مُقِرّاً ... لك بالفضل كلُّ قاصٍ ودَانِ
ما تعنَّتْ حمائمٌ ساجعاتٌ ... بهديلٍ أعالِيَ العِيدانِ
أجبت أطال الله بقاك، وأقول كما قال شيخ المعرة، حيث أنشد:
واقْتنِعْ بالرَّوِيِّ والوزنِ منِّي ... فهُمومي ثقيلةُ الأوزانِ
ومن بدائعه قوله:
ترى السَّرْوَ إذْ وافَى السحابُ بثَلْجِه ... وقلبي المُعنَّى بالهوى جِدُّ مَسْجُورِ
يشمِّر أذْيالاً كبِلْقِيس حيثما ... تبدَّتْ لها بُسْطُ الرُّبَى كالقواريرِ
قلت لو كان للسرو رجل أخرى إلى رجله، لكان تشميره الذيل حتى يسارع بتقبيل الأرض لأجله.
ومنه قول ابن زهر الحفيد، في زهر الكتان:
أهلاً بزَهر الَّلازَوَرْدِ ومرحبَا ... في روضةِ الكَتَّان تعطِفه الصَّبَا
لو كنتُ ذا جهلٍ لخِلْتُك لُجَّةً ... وكشفتُ عن ساقٍ كما فعلتْ سَبَا
وأنشدني من لفظه لنفسه:
تَوَقَّ الشُّحَّ عن نَشْر الأيادِي ... وأيْدِي الجود فابْسُطْها سَماحَا(1/340)
أيبْقَى العنكبوتُ بلا جناحٍ ... أعَدَّ الله للرزقِ الجناحَا
ولي أنا فيه من المدائح قصائد محررة، وبرودٌ خِطتْها من جَيِّد الثناء وهي بالقوافي مزررة.
فمنها قصيدة أهديتها له عند دخولنا القاهرة، مستهلها:
على رَسْمِها بالمُدَّعِي من مَآلفِ ... أقامتْ هَزِيماتُ الحيا المتضاعفِ
ونسختها اختص بها وحده، فلهذا لم أذكرها.
وكان له ولد طاهر النشأة وقورها، مبذول المكارم موفورها.
انتقل بمصر إلى عفو الله ورضوانه، وخلى القلوب تعالج لواعج أحزانه.
فكتبت إليه أسليه:
هو الرَّدَى للمرء بالمرصادِ ... والكونُ كلُّه إلى النَّفادِ
وهذه الدنيا التي نعرفُها ... ما هي إلا مَنْشأُ الأنْكادِ
أنكرتُها وأنكرتنْي وأنا ... إذْ ذاك ما وُضعتُ في المِهادِ
فلو أكُنْ أملكُ روحي في يدي ... أطلقْتُها من ساعة الميلادِ
مالي وإيَّاها وكلِّي ألْسُنٌ ... على فَواتِ عُمُرِي تُنادِي
ومن يمتْ أحْسَب يلْقَى راحةً ... ولا أقَلّ من أذَى الأضْدادِ
ويكتفي مع الورى في خَلطٍ ... مشَّقةً متاعبَ الجهادِ
وقد فقدتُ مَن مضَوا ومعهمْ ... راحلتِي من المُنَى وزادِي
وفيهمُ مَن لو يُفدَّى مَيْتُهُ ... فدَيْتُه بحَبَّةِ الفؤادِ
ومن إذا ذكرتُ عهدَ قُرْبِه ... ودَّعتُ عند ذكرِه رَشادِي
ومَن هواه لم يزلْ في خَلَدِي ... مُنَزَّلاً منزلةَ اعْتقادِي
ريحانةُ المجدِ التي بِعَرْفها ... تعطَّرتْ مَعاطِسُ الأمجادِ
قد نقَد الفضلَ صفاتُه التي ... حَلتْه نَقْد الحُسْنِ للجيادِ
وكان في عيْن الزمانِ نُورَها ... قد حلَّ منها داخلَ السَّوادِ
ومَن رآه في بُروجِ سَعْدِه ... فقد رأى أهِلَّةَ الأعيادِ
مضَى سعيداً والرِّضا زميلُه ... مُصاحبُ الإسْعافِ والإسعادِ
فكلُّ بُقْعةٍ به عاطرةٌ ... تنْفح نَشْرَها بكلِّ وادِ
فما على من شَمَّ مِسْكاً أذْفَراً ... من تُربِه مُضَمَّخَا بِجَادِي
لا زال في جنانِ عَدْنٍ ثاوياً ... يحْبُوه لطفُ المنْعم الجَوادِ
وباكرتْ مَضْجَعه من الرِّضا ... غُرٌّ يحثُّها الصَّبا غَوادِ
والله يقْضي لمُصابِ فَقْدِه ... بالصبرِ والجزاءِ في المَعادِ
ولا يزال عمرُه عُمْرَ الورى ... لا ينْقضي لأبَدِ الآبادِ
فهو الذي تُرشِدنا علومُه ... ورأيُه للخير خيرُ هادِ
وقلت وأنا برشيد في خدمته أودعه، وكان المرض أقعدني عن رفقته، لمشيئة الله وحكمته:
أفارقُ من أوَدُّ به التلاقِي ... وأخْتار الحِمامَ على الفِراقِ
وأذكر عهدَ لَيْلاتي المَواضِي ... فأنْدُبها بتَذْكارِ البَواقِي
ولو كانتْ دمشقُ ثَنَى عِنانِي ... ولا ألْقاك عِفْتُ بها اعْتلاقِي
فأنت إذا بعُدتَ فألْفُ بُعْدٍ ... لآمالي ولا بَرِح اشْتياقِ
ولولا الضَّعفُ ما اخترتُ التَّواني ... ولا سلَّمتُ للبلْوَى وَثاقِي
فعُذْراً إنني والحظُّ قِدْماً ... تعاهدْنا على عدَم الوِفاقِ
إذا ما رُمْتُ أمْراً فيه نُجْحِي ... يُعاكِسه ويجْهَد في شِقاقِي
فيا صبْري فديْتُك مِن مُطِيقٍ ... ويا بُؤْسي عدِمتُك من مُطاقِ
وأنت أيا مُنَى قصْدِي خبيرٌ ... بما ألْقَى وما أنا بعدُ لاَقِ
فلا تُهْمِل لعبْدك رَعْىَ وُدٍ ... ودُمْ طولَ الزمان وأنت باقِي
السيد عبد الله، المعروف بابن سعدى روضٌ متهدل الغصون، من شجرة السرو المصون.
لم يرق أفصح منه براعة بيان، ولم يشق أنقش منه يراعة بنان.(1/341)
فكفه توشي الأرض الزخارف، وتجر على وجه الرياض خضر الطارف.
وكان شديد العارضة في المعارضات، موفى العهد في المقارضات.
إلا أنه على جودة طبعه، وشفوفه في مادة نبعه.
زحلي الانتقال، والعثرة عنده لا تقال.
ينحرف من حيث يستقيم، ويعتل وشكل مادته عقيم.
ولهذا ابتلى في قضاه، بحكمٍ جرى على خلاف رضاه.
فجوزي باخترامه، في احترامه.
وقوبل باعتباطه، من اغتباطه.
فصعب عليه أمر العزلة وأشكل، إلى أن عقل أمانيه المطلقة وتوكل.
ثم حصل له إمدادٌ بالرجعة، فأحله فيما شاء من النجعة.
وأطلعت صفحته الصحو، ونشر بعد ذلك المحو.
ولما استقضى بمكة رأيته بالشام وهو يزدهي بالنسب الأوضح، ويتباهى بنبعةٍ فرعها في السماء ومغرسها سرة الأبطح.
وكان بينه وبين أبي حقوق، ما رميت قط بوصمة عقوق.
فاحتفل به احتفال الناس بالربيع إذا جَا، وهلال شوال إذا فاجا.
ثم جرى بينهما مخاطبات، وطرف مكاتبات.
ألذ من إغفاء الفجر، وأشهى من الوصل بعد الهجر.
ثم دخل الحجاز، فكان لوعد ارتحاله بها الإنجاز، وهكذا من كان في دار النقلة والمجاز.
فرحم الله انقطاعه إلى كرمه، والتجاه إلى رمه.
فمما دار بينه وبين أبي، ما كتبه إليه أبي:
يا ساكناً بشِغافِي ... وعن عيونِيَ خافِي
طوَّلتَ مدةَ هجرِي ... وبعضُه كان كافِي
كدَّرتَ بالبُعدِ عيِشي ... من بعد ما كان صافِي
لهفِي لطِيب ليالٍ ... مرَّتْ لنا بالتصافِي
حيث الشبابُ قَشِيبٌ ... والدهرُ فيه مُوافِي
وسالفٌ من زمانٍ ... تُدار فيه سُلافِي
من كفِّ رِيمٍ كغُصْنٍ ... يميلُ بالأعْطافِ
يزْهُو بورْديِّ خدٍ ... يُزْرِي بوَرْد القِطافِ
زمانُ لَهْوِي تقضَّى ... برَوضةٍ مِئْنافِ
تُسْقَى من السُّحبِ وَبْلاً ... بعارضٍ وَكَّافِ
يا دهرُ رِفْقاً بصَبٍ ... حتى متى ذا التجافِي
وعدْتني بالأماني ... فكُن بوعدِك وافِي
واسمحْ برؤيةِ مَوْلىً ... سليلِ عبدِ منافِ
منها:
مولايَ يا بحرَ فضلٍ ... طَامٍ من الجود طافِي
وفائزاً بقوافٍ ... أعيتْ لَعَمْرِي ابنَ قافِ
أنت الغنِيُّ بمَدْحي ... عن كثرةِ الأوصافِ
فلا تظنَّ بأنِّي ... لِسابقِ الوُدِّ جافِي
لو كنتُ أعلم أمرِي ... لكنَّ أمْرِيَ خافِي
لَكان سَعْيِي إليكمْ ... وفي حِماكم طَوافِي
فرَبْعُ غيرِك عندي ... مولايَ كألأعْرافِ
إن رُمْتَ تفْصيلَ حالِي ... من الزَّمانِ المُجافِي
ما إن تمنَّيتُ شيئاً ... إلا أتى بالخلافِ
من جَوْره ضاق صدري ... فسِحْتُ في الأريافِ
حتى حَللْتُ بمصرٍ ... من بَعْد قطْع الفيافِي
فلم أجِدْ ليَ فيها ... غيرَ الثلاثِ الأثافِي
فلا صديقٌ صَدُوقٌ ... ولا حبيبٌ يُوافِي
هذا زمانٌ عجيبٌ ... ما فيه خِلٌّ مُصافِي
والفضلُ قد صار ذَنْباً ... وللرَّواجِ مُنافِي
منها:
واعذُرْ بفضلِك فكرِي ... ضاقتْ عليه القوافِي
ودُمْ بسَعْدك تسْمُو ... عُلاً على الأسْلافِ
فأجابه بقصيدة طويلة، مستهلها:
يا خيرَ خِلٍ مُصافِي ... لازال وِرْدُك وافِي
أين الزمانُ الذي قد ... كُنَّا به في التَّصافِي
ما بيْننا غيرُ وُدٍ ... ما بيْننا من خِلافِ
طَوْراً نُرَى من رياض الْ ... علومِ في الاقتطافِ
وتارةً من بحار الْ ... قَرِيض في الاغْترافِ
كنَّا كمثلِ الثُّرِيَّا ... بصُحبةٍ وائْتلافِ
فصيَّرَتْنا بناتِ النَّ ... عْشِ الليالِي الجَوافِي(1/342)
بيننا نَرُود برَوْضٍ ... يوماً مع الأحْلافِ
وطيرُه في وِفاقٍ ... ولَحْنُها في اخْتلافِ
إذْ صاح منها غُدافٌ ... تَعْساً لذاك الغُدافِ
قد بَان كلٌّ عن الإلْ ... فِ وهْي ذاتُ الإَفِ
منها:
عسَى ليالٍ تقضَّتْ ... يعُدْنَ بالإسْعافِ
آهٍ عليها فآهٍ ... قد أسرعتْ في التَّجافِي
مضَتْ سريعاً وولَّتْ ... كمثلِ دُهْمٍ خِفافِ
مرَّتْ كخاطفِ بَرْقٍ ... وطِرْنَ كالخُطَّافِ
قد كُنَّ شَامَ زَمانِي ... كالشَّامِ في الأرْيافِ
دمشقُ أعْنِي ودامتْ ... مُخْضرَّةَ الأكْنافِ
شوقي لها كلَّ حينٍ ... يزْداد بالأضْعافِ
أصْبُو إلى بَرَداها ... بلَوْعةٍ والْتِهافِ
نسيمُها وهْو ذُو عِلَّ ... ةٍ لدائِيَ شافِي
أنهارُها لجيوشِ الْ ... همومِ كالأسْيافِ
بها حدائقُ فاقتْ ... في أحسنِ الأوْصافِ
تلك الحدائقُ تحكي ... صفاتِ خِدْنِي المُصافِي
منها:
يا مَن له كابْنِ بُرْدٍ ... بُرْدٌ من الفضلِ ضافِي
يا ظافراً بقوافٍ ... أعْيَتْ عُوَيْفَ القَوافِي
عويف القوافي، هو: عويف بن معاوية بن عقبة الفزاري.
من شعراء الدولة الأموية.
وإنما قيل له عويف القوافي لبيت قاله، وهو:
سأُكذِبُ مَن قد كان يزْعُم أنني ... إذا قلتُ قولاً لا أُجِيد القوافيَا
أتْحَفتنا بقرِيضٍ ... أحْسِنْ بذا الإتْحافِ
فَائِيَّة ما رأيْنا ... مِثْلاً لها في القوافِي
ما من سِنادٍ خَلِيلِي ... بها ومِن إصْرافِ
السناد: اسم لكل عيب يحدث للحروف والحركات قبل الروي.
والإصراف: اختلاف المجرى، وهو الحركة في الروي، بالفتحة والضمة.
وإذا كان بالضمة والكسرة فهو الإقواء.
وأما الإكفاء، فهو تقارب حرفي الروي في المخرج، كالنون مع الميم.
والإجازة هو بعدهما في المخرج، كالباء واللام.
زفَفتَ بِكْراً عَرُوباً ... إليَّ خيرَ زَفافِ
بِخَتْمِها بلَغتْني ... مَصونةً في السِّجافِ
عتبْتَ في تَرْكِ كُتْبِي ... إليكَ والعَتْبُ شافِي
لا تَعْذُلَنِّي فهذا ... حَوْبُ الزمانِ المُجافِي
وإن يكنْ ذاك ذَنْبِي ... فاصْفَحْ ومثلُك عافِي
ما أجملَ الصفحَ عن ذنْ ... بِ مجرمٍ ذي اعْترافِ
واللهِ ربِّي الذي لا ... تخْفَى عليه الخَوافِي
حُبِّيكَ في كلِّ حينٍ ... يكون في استحْصافِ
رأسٌ كقافٍ وإن كا ... ن بيْننا بُعْدُ قَافِ
لا زلْتَ ترْفُل عِزّاً ... وثوبُ قدْرِك ضَافِي
عبد اللطيف، المعروف بأنسي أعجوبة الأقطار والأمصار، وشرك العقول وقيد الأبصار.
وحسنة هذا النوع الإنسي، وعذر الزمن عن ذنب به أنسي.
اشتعلت بأسماره فحمة الليل، وجرى في روض أخباره نهر الصبح مثل السيل.
بحسن بيان يسحب ذيله على سحبان، ولطف تعبير يجر مطرفة على جرير وحسان.
وأحاديث هي مراوح النفوس من كد الفكر، ومصفاة القلوب إذا أبقت فيها الحوادث أثر العسكر.
ومناسبات هي نزهة مسارح الأخبار، وحظ جارحة السمع من منح الاعتبار.
أشهى من لذة النشوان، وقطع الرياض، جرى فيها ماء البيان، وسقتها مياه الحياض.
وله في الفنون يدٌ تتناول الشمس، وتشبر البسيطة بالبنان الخمس.
فلو أدركه الرازي لقيل له دونك إمامك، أو ابن أرفع رأس، لقيل له ارفع رأساً وانظر من أمامك.
أو لحقه ابن وحشية لقرب له المتنافر البعيد، أو خالدٌ الغيور لكفاه هم التقطير والتصعيد.
فلو وضعت صنجات النجوم من نيران السماء في كفه، لم توازن مناقبه الغر ونسبت إلى طيشٍ وخفة.(1/343)
له تدبير محتنكٍ مجرب، ورأى ممارس مشرق ومغرب.
ونظمه ونثره باللسانين، هذا يقصر عنه من السحاب دره، وذا يصغر عنه من السخاب دره.
فذا أصفى قطراً وديمة، وذا أوفى قدراً وقيمة.
وكان في آخر أمره تنبه حظه من نومته، وسيم من الإقبال التام بسومته.
فولي قضاء الشام، ونال رتبةً يتباهى بها العز والاحتشام.
وقد رأيته يوم دخوله، وزحمة الأعين تحول بين التملي ووجهه، فرأيت شيخاً إذا سار البدر في موكب نجومه، قيل قد غنينا عنه بتلهبه.
وقد أخلق العمر عمائم ثلاثاً في راسه، وأشعل للرحيل بهذه النعشة ذبالة نبراسه.
ولم يبق من كأس عمره إلا جرعة، وبريد المنية سائرٌ إليه في عجلة وسرعة.
فما حط أثقاله بهذا الفنا، حتى نزل دار البقا وترك دار الفنا.
فالله ينور له الحفيرة والتربة، وهو المسؤول أن يؤنس له الوحشة والغربة.
وهذا جانبٌ من نثره الفائق، ونظمه الرائق.
أتيت منه بالقليل من الكثير، فإن محاسنه تزيد على نجوم الفلك الأثير.
فمن ذلك ما كتبه إلى مفتي الدولة:
دروعٌ لِشاكِي الطعنِ هذي الرسائلُ ... يرُدُّ بها عن نفسه ويشاغِلُ
هي الزَّرََدُ الضَّافِي عليه ولفظُها ... عليكَ ثناءٌ سابغٌ وفضائلُ
أتاك يكادُ الرأسُ يجحَد عُنْقَه ... وتنْقَدُّ تحت الذُّعْر منه المَفاصلُ
كيف لا، وأيد الله مولانا، وهو مظهر الجلال والقهر، ومصدر الحماسة والسيادة في أبناء الدهر.
ذو الهمة التي همت بالدهر إذ تصرف في الاحرار بصروفه، والعزمة التي عزمت على تسكين دور دوائر حتوفه.
الذي تصهر باستبعاده الأحرار من عزمهم غصناً وريقا، وتسنم من سبح الجلالة والجبروت مكاناً وثيقا.
متى استنجد تنمر تنمر الليث، أو استغيث تشمر تشمر البطل عند الغيث.
يكاد سنا برق سطوته يذهب بالأبصار، وتكاد صواعق دولته تخرب المدائن والأمصار.
وإن شيم برق حلمه في خلال جون معارضات عوارضه، فالمستغر بوميضه كمن اغتر في الأحقاف بعارضه.
كم أوجف أقدام قربه بالجبان، إلى مساقط الحرب العوان.
وكم روى سويد بن البنان، من دماء الغطارفة الشجعان.
يتكسَّب القصَبُ الضعيفُ بخطِّه ... شَرفاً على صُمِّ الرماحِ ومَفْخَرَا
لقد أطال إلى سمك السماكين باعا، ومد إلى جر مجرة الفرقدين ذراعا.
فتغنى بمديحه غير الغريد، وملأت مهابته قلب كل قريب وبعيد.
بعث الرعبَ في قلوبِ الأعادِي ... فكأنَّ القتالَ قبلَ التَّلاقِي
وتكاد الظُّبَا إذا جاشَ غَيْظاً ... تَنْتضِي نفسَها إلى الأعناقِ
كرمٌ خَشَّنَ الجوانبَ منه ... فهْو كالماءِ في الشِّفارِ الرِّقَاقِ
ومَعالٍ إذا ادَّعاها سِواهُ ... لزِمتْه جِنايةُ السُّرَّاقِ
هو لعمري المقدم الذي لا يجارى في مضمار، ولا يساوى عذار جواد سؤدده بعذار.
لقد تقلد بفخره حساماً لا تنبو مضاربه، وتخوذ من عرضه بيضةً يعجز عن قرعها مضاربه.
فمن رام وطء حرمه بنقصٍ ملته البقيا، ومن اصطلى بناره أتيح له منها شوبٌ لا يموت فيها ولا يحيى.
أعزُّ مُغالبٍ كفّاً وسيْفاً ... ومقدرةً ومَحْمِيةً وآلاَ
وأشرفُ فاخرٍ نفساً وقوماً ... وأكرمُ مُنْتمٍ عَمّاً وخالاَ
كلا والله، لست صادقاً في قالي، ولا مصيباً تلك الرمية بنبال مقالي.
لأني لا أرتضي له من جميل المدح مدحَا، ولا أستطيع لمتن حسن ثنائه شرحَا.
إذ المدح وسيلةٌ لأن يعتقد في الناقص الكمال، والثناء ذريعةٌ إلى تخيل الجميل في غير ذي الجمال.
فأكون كالأعشى إذا مدح محلقا فغدا بعد خموله إلى شأو العلى محلقا.
وهو فقد ملك السيادة مقاداً ذليلا، وأضح له صعب الفخار ذلولا.
وجل عن مذهب المديح فقد كاد يكون المديح فيه هجاء، فأكبر بشأنه، وأعظم بمكانه.
هو الذي بذ فلا يدرك، وشذ في عصره فلا يشرك.
وأي مقال ينبي عن مغنى فضله، وأي إرقالٍ ينتهي إلى مداه وخصله.
لو أرخى عنان جواد الثنا، في ميدان المدح والثنا، لوجب من غلو الوصف المندوح، تكفير المادح والممدوح.
لكن قد زحم جماح غلوه، واستنزه جلمود علوه.
واستقصر مدى جريته، دون التمادي في مريته.(1/344)
على سرد بعض منتقى أوصافه الفاخرة، ووصف فيض ملتقى بحر علومه الزاخرة.
عَلامةُ العلماءِ والبحرُ الذي ... لا ينتهي ولكل لُجٍ ساحلُ
يدْرِي بما بِكَ قبلَ تُظهِرُهُ له ... من ذهنِه ويُجيب قبلَ تُسائلُ
وتراه معترضاً لنا ومُولِّياً ... أحْداقُنا وتحارُ حين يُقابلُ
كلماتُه قُضُب وهنَّ فواصلٌ ... كلُّ الضَّرائبِ تحتهنَّ مَفاصلُ
مقطعاته كالسحر الحلال، والسلسبيل السلسال.
والمثل السائر، والنادر المنجد والغائر.
لا يمكن الاحتذاء على مثالها، ولا تطول أعناق الهمم إلى مثالها.
إن شبه فالمعتزيات واجمة، أو أغرب فالمغربات راغمة.
ذو الأخلاق الأريحية، والأحكام الشريحية.
والشجاعة العنترية، والنصائح البحترية.
من هو في الزهد كأويس، وفي الحلم كالأحنف بن قيس.
إياس الزكن، عريٌّ عن اللحن واللكن.
كان قدما أبوه في العلم والزهد يساوي سميه زكريا، فاقتفى أثره وأربى عليه وله صار وارثاً ووليا.
أنهي إليك أيها المولى الباذخ فخاره، الشامخ على النجم مناره.
أن هذا بعض ما أدركه أسير امتهانك، وهدف سهام امتحانك.
من بعض أوصاف حميد شيمك، التي حويتها بعلي هممك.
التي أفحمت كل معارض يجارى، وأوجمت كل معاندٍ يمارى.
ورجمت مناويك بشواظٍ من نار، وألجمت كل ذي لسنٍ يقاويك بلجام العي والبوار.
فكيف أقوى بعد جرمي بها، وتحقق وهمي فيها، على سل مرهف المقال، والتجاسر في حضرتك على إطلاق عنان المقال.
مع علمي بصلود قدحي، ومعرفتي وسم قدحي.
وإني إن جعلت نفسي لسهام سطوتك هدفا، أوردتها من وخيم مناهل بطشك تلفا.
ثم لا أجد لي من الانتساب إلى معرفة جنابك شافعا، ولا من الانتماء إلى خدمة أعتابك عن أليم عقابك دافعا.
وما عسى أن أقول، وعلى أي قرنٍ أصول.
وأنت سحبان وائل، وأنا أعيى من باقل.
ولقد عُرِفتَ وما عُرِفت حقيقةً ... ولقد جُهِلتَ وما جُهِلت خُمولاَ
ما كلُّ من طَلب المعالي نافِذاً ... فيها وما كلُّ الرجال فُحولاَ
والرسالة التي تقوم بعدة رسائل، هو ما قال القائل:
تأخَّرتُ أستبقي الحياةَ فلم أجدْ ... لنفسِي حياةً مثل أن أتقدَّمَا
فلستُ بمُبْتاعِ الحياة بذلَّةٍ ... ولا مُرْتَقٍ من خشْية الموت سُلَّمَا
وكنت برهةً طالما اقتدحت زناد فكري، في وصف معاليك فما قدح، واستصدحت عندليب شعري، في وصف مساعيك فما صدح.
فأصبحت من زخارف آمالي، وزيف نقود أعمالي، على ركية جفت مذانبها، وروضةٍ اغبرت جوانبها.
وصرت الآن كقطاةٍ لم يعلق لها جناح، علق بها من جأشك لا من الأيام جناح.
ونصبت لها في حرمك الأشراك، وأعوزها البشام والأراك.
والذي حول حمالي، وهيج بلابل بلبالي.
هو ما أنا شارحه، وبين يديك الكريمتين طارحه.
سمعتُ حديثاً ما سمعتُ بمثلِه ... فأكثرتُ فيه فِكرتي وتعجُّبِي
وها أنا أُلْقيه إليك مُفصَّلاً ... فدونك فاسْمعْ ما يسرُّك واطْرَبِ
وذلك أنا صادفنا خلسةً من خلس الاتفاق، في مجلس بعض الموالي الرفاق.
الذين حضور مجالسهم شرف دهر، واستئناف عمر، ورفعة قدر.
والذين هم عيون أعيان أصدقائك، وأجل جلة محبيك وأخلائك.
نتنافث فيه رقى الأشعار، ونتساجل من فقرها ما يفعل في العقول فعل الأسحار.
ونتفاوض منها في المحكم والمتشابه، والشرط الذي لا يحسن القريض إلا به.
مع سادةٍ هم لعمري نجوم الفضل والأدب، وبدور الحسب والنسب.
فبينما نحن نجول في تلك الحلبة، ونرتشف من مخض تلك الحلبة.
إذ سقط علينا من السما، وفاجأنا من العما، من أسكرته حميا قربك، وأقعس منكبيه كونه من حزبك.
فهو لا يرتضي غير حاله حالا، ولا يعد غير قاله قالا.
فجعل ينص لنا من مخدرات أبكار أفكاره، ويجلو علينا من قاصرات نظامه ونثاره.
ما زعم أنهن كاللؤلؤ والمرجان، لم يطمثهن إنسٌ قبله ولا جان.
ولنا القولُ وهو أدْرَى بفحْوا ... هُ وأهدى فيه إلى الإعجازِ
ومن الناسِ من يمُرُّ عليه ... شعراءٌ كأنها الخَازِبَازِ
فاعتقدنا ما اعتقدنا، ونقدنا ما نقدنا.
وأقمنا لبضاعة قريضه سوقا، ونهجنا للأخذ والعطاء فيه طريقا.(1/345)
فرأينا النقاوة فانتقيناها، واريناه النفاوة التي انتفيناها.
فأوتر لذلك قوس غضبه بوتر المثالب، ورمى المملوك من تعنته بكل سهم صائب.
وتكشف عن خلق ليس بينه وبين الجميل نسب، ولا له إلى التثبت طريقٌ ولا مذهب.
وهو بسيف تعسفه صائل، ولم يعلم قول القائل:
إن بِعضاً من القَرِيض هُراءٌ ... ليس شيئاً وبعضُه إحكامُ
منه ما تجلِبُ البراعةُ والفضْ ... لُ ومنه ما يجلبُ البِرْسَامُ
فلما رأى أني لست ممن تغتاله غوائله، ويصطاد في حبائله.
وأني وإن طلبت للشعر عيباً ألفيته، وإن كافحني قرنٌ لقيته.
وأنه إنما تخضع الرقاب لمن وجدت فيه فضلا، وتنقل الأقدام إلى من كان للزيارة أهلا.
فأضرب عن المجادلة صفحا، وسحب ذيل تناسيه على رسم المساجلة مرحا.
ثم لما ودعنا، وغاب شخصه عنا.
حملناه على أحسن محمل، ونسبناه إلى ما هو من الجميل أجمل.
ولم نعلم أنه ركض علينا في ميدان حضرتك، ووضع قدم قوله حيث شاء من الملام في سدتك.
وما لكلام الناس فيما يَرِيبُنِي ... أصولٌ ولا للقائلين أصولُ
أُعادَى على ما يُوجِب الحبَّ للفتى ... وأهدأُ والأفكارُ فِيَّ تجُولُ
فلم أشعر إلا منذراً إيعاد مولاي علاه لدى الباب، يذكر ما حصل لجنابه من التحمل والاضطراب.
فيا لله العجب كيف أصغي للنميمة، وبالغ كل المبالغة في الشتيمة.
ولم يلهم أن الروايات تمر وتعذب، والحكايات قد تصدق وتكذب.
ولم أرَ في عيوبِ الناسِ عيباً ... كنقْصِ القادرين على التَّمامِ
وربما صدق مولانا ما نقل إليه، وما عرض من الافتراء عليه.
من أني استهجنت شعره الرائق، واستوجمت نثره الفائق.
أو من تقدمه من متقدمي هذه الصناعة، وجالبي هذه البضاعة.
من كل من إذا رام اقتناص نوادر بديعية ابتدعها، أو غاص في بحار المعاني على جواهر اختراعية اخترعها.
أو قال أبياتا أبرزها غررا، أو نظم فقراً جعلها دررا.
وأنا أعيذ سيدي أن ينظر الذنب الخفي، أو يتغافل عن العذر الجلي.
تطيعُ الحاسدينَ وأنت امرؤٌ ... جُعِلتُ فِداؤُه وهُم فدائِي
أأنطِق فيك هُجْراً بعد عِلْمي ... بأنك خيرُ مَن تحت السماءِ
وهَبْني قلتُ هذا الصبحُ ليلٌ ... أيَعْمَى العالَمونُ عن الضِّياءِ
وإنما طريق العلم نهجً تستوي فيه الأقدام، ومورد الفضل مشرعٌ تتشارك فيه الأفهام.
ولكني أقول:
أرى المُتشاعِرين غَرُوا بذَمِّي ... ومَن ذا يحمَد الداءَ العُضالاَ
ومن يكُ ذا فمٍ مُرٍ مريضٍ ... يجدْ مُرّاً به الماءَ الزُّلالاَ
فوالذي حرم وطء حرم الأعراض، وعظم أجر غرض أسهم الأغراض.
ما يليق بشأنك، ولا يحسن بعلو مكانك.
أن تكون خفيف ركاب الغضب والرضا، أو تكون رخيص مهر الحب والقلى.
وأن تسارع إلى شنيع العتب، أو تسلف العقوبة قبل ارتكاب الذنب.
ولقد عجبت كل العجب حيث لم تدرك الصواب، في تعيين بشاعة الجزاء. وشناعة العقاب.
وأنت المشهور بالصواب في أحكامك، والمعروف بإصابة اليقين بسهام أوهامك.
وفي حل عقد المشاكل، كما قال القائل:
قاضٍ إذا الْتَبس الأمْرانِ عَنَّ له ... رأيٌ يُخلِّص بين الماءِ واللبنِ
الفاصلُ الحكمَ عَيَّ الأوَّلون به ... والمُظهِر الحقَّ للسَّاهِي على الذَّهِنِ
فلو عرفت وجه سخطك، وتبينت موجب شططك.
لتحملت دونك الوزر في ظلمي، ولكنت مقدمتك إلى سبي وذمي.
ولأزمعت أن أضع نفسي في الكفة التي وضعتني فيها، وأن أنزلها في المنزلة التي أهلتني لها.
لعلمي أن حكومتك لا تنقض، وحجتك لا تدحض.
لكن يتواضع الليث لصيد الأنب، وافتراس الثعلب.
وإن كان يصطاد الفيل، ويفترس العندبيل.
حسبُك اللهُ ما تضلُّ عن الحقِّ ... ولا يَهْتدي إليك أَثامُ
لم لَمْ تحْذَرِ العواقبَ في غَيْ ... رِ الدَّنايا وما عليك حَرامُ
والعقاب الذي حكم به مولانا على عبده مرضي، وقضاؤه على مملوك رقه مقضي.
لكن حيث كان الخوض في شعر الناقل محصورا، والنقد على زيوف محصول ديوانه مقصورا.
لو قصرتم السبب على ذلك المسبب، لكان أظهر للإعلال وأنسب.(1/346)
بشأن الحب أن ذلك العنوان، ليس إلا في شأن ذلك الديوان.
وليعلم الخاص والعام، ويتحدث في المحافل عاماً بعد عام.
بأن مولانا لم يخط في حكمه ثغرة السداد، ولم يزغ برسمه عن شريعة الرشاد.
فلعمري لقد جاءني الداء، من مظنة الدواء.
وكنت أعددت مولاي لكل مطلوب جناحا، ولظلمات الخطوب مصباحا.
قد كنتَ عُدَّتِيَ التي أرْمي بها ... ويدي إذا اشْتَدَّ الزمانُ وساعِدِي
فرُمِيتُ منك بضدِّ ما أمَّلْتُه ... والمرءُ يشْرَق بالزُّلالِ الباردِ
أقول ذلك إجلالاً واحتراما، لا اختباراً واستفهاما.
فإن الأمور بيد الله، والأرزاق في خزانة الله.
قد لَعَمْرِي أقْصرتُ عنك وللوَفْ ... دِ ازْدِحامٌ وللْعطاءِ ازْدحامُ
ومن الرُّشدِ لم أزُرْك على القُر ... بِ على البُعدِ يُعرَف الإلْمامُ
لي والله يا سيدي قلبٌ لا تقلبه السراء ولا الضراء، وعرضٌ غير ملوم لا يدنسه المراء.
طالما نطقت بلسانٍ تشبه خلقته خلقة إنسان، ونمقت بكلمٍ كأن لسانه لسان السنان.
لا يعثر جوادهما في مضمار الكلام، وصلت بحسام همة لا ينبو شباه عن ضرب أعناق المرام.
لم أوجد بحمد الله تعالى كاسد الشعر، رخيص السعر.
نزر الكلام، كسلان الأقلام.
غافلاً عما هو من الحقوق متعدٍ أو لازم، جاهلاً بما هو للأنفة محرك أو جازم.
وما الحداثةُ من ِحلْمٍ بمانعةٍ ... قد يُوجَد الحلمُ في الشُّبَّانِ والشِّيبِ
فليتك يا سيدي ومولاي تقول:
إنِّي امرؤٌ لا يعْترِي خُلُقِي ... دَنَسٌ يُكدِّرهُ ولا أفَنُ
وكل هذا لا يساوي هذا الملق، ولا يستغرق السجع الملفق.
وإن تيقنت أبقاك الله جميع ما نقل عني، أو زعمت أنه صدر مني.
فطالما كانت الهفوة عند الكريم سبباً لجميل الرجعي، والنبوة سلماً عند الحليم إلى كريم العتبى.
والصلة بعد القطيعة أبقى، والود بعد النفرة أخلص وأصفى.
ولطالما انكسرت المودة فانجبرت، وانقلبت الأحوال بعد ما أدبرت.
فليس لما صدر تربةٌ تحتمل غراسا، ولا قرارةٌ تسع أساسا.
والكذب عائدٌ على من حكاه، والغلط مردود على من رواه.
فإنه صيرفي دراهم، لا صيرفي مكارم.
وإنما هو تاجر قيل وقال، لا تاجر مقال وأفعال.
دعونِيَ والواشِي فها أنا حاضرٌ ... وصوتِيَ مرفوعٌ ووجهيَ بارِزُ
والمرء أقصر ما تكون بنانه، إذا طال لسانه.
وإنما يتلمظ بحلاوة العرس، من احتمل مهر العرس.
أنَفُ الكريمِ من الدَّنِيَّةِ تاركٌ ... في عينِه العددَ الكثيرَ قليلاَ
والعارُ مَضَّاضٌ وليس بخائفٍ ... من حَتْفِه مَن خاف مهما قيلاَ
ولئن عاد إلى التعريض، والادعاء في إجادة القريض.
لم أدع في لساني فضلةً إلا أحضرتها، ولا في قلبي سجعةً إلا نثرتها.
ليعلم أن الكريم من أكرم الأحرار، واللئيم من ازدرى بالأخيار.
وأن الرياسة، حيث النفاسة.
وأني ممن إذا رمى صاد، وإذا قال أجاد.
وأن الحر إذا جرح أسا، وإذا خرق رفا.
ومن بسط عذر الأيام، فقد بسط عذر الأنام.
ومن جهل المتاع، فلينظر المبتاع.
جعل الله أوقات مولانا صافيةً من الكدر، خالصةً من الغير.
ومساعيه محمودة الأثر، وعلومه زاكية الثمر.
إنه على كل شيء قدير، وبالإجابة جدير.
أيا عاتباً لا أحمِلُ الدهرَ عَتْبَه ... عليَّ ولا عندي لأنْعُمِه جَحْدُ
سأسكتُ إجلالاً لعلمِك إنني ... إذا لم تكن خَصْمِي لِيَ اللُّجَجُ اللُّدُّ
ومن شعره النقي، ما كتبه لبعض أحبابه في صدر رسالة:
أيها السيدُ الذي أنا عبدُهْ ... والذي أنطَق المدائحَ مجدُهْ
لي إلى وجهِك الجميلِ غرامٌ ... في يديْه عَفْوُ اشْتياقي وكَدُّهْ
أنا إن زرتَ أو تخلَّفتَ عبدٌ ... بل ولُبِّي صفَا وحقِّك وُدُّهْ
يستوي في الوفاءِ قُربي وبعدِي ... وسواءٌ قُربُ الوليِّ وبُعدُهْ
سوف أُثْنِي على مودةِ مولىً ... ضاق عنها شكرُ الكلام وحَمدُهْ
وقوله في بعض الصدور:
حدَّثتُ باليَاسِ منك النفسَ فانصرفتْ ... واليأسُ أحْمدُ مَرجُوعاً من الطمعِ(1/347)