ظواهر الفوضى والعنف
واشكالية التخلف في المجتمع الفلسطيني
ومجتمعات المشرق العربي
دراسة حالة فينومينولوجية ونفس اجتماع
بقلم
علي نجم الدين
القدس
2004/ 1425
المحتويات
المحتويات .
الإهداء .
مقدمة . أ - د
* الفصل الأول :- التفسيرات النظرية للفوضى . 1-11
* الفصل الثاني : - الفوضى في المجتمع العربي . 12-58
1:2 بدايات الفوضى في المجتمع العربي . 12-16
2:2 فوضى الهوية العربية – الإسلامية . 17-22
3:2 فوضى القيم والثقافة والتربية في غياب الضبط الاجتماعي في البناء الاجتماعي . 22-27
1:3:2 فوضى القيم والثقافة في التغير الاجتماعي . 28-39
2:3:2 فوضى قيم التربية والتدرج الاجتماعي في البناء الاجتماعي . 39-46
3:3:2 الفوضى وعلاقتها بالسلوك والشخصية والسلطة السياسية . 46-48
4:3:2 انواع الشخصية . 48-58
* الفصل الثالث :- مفهوم الزمن و علاقته بالفوضى والتخلف الاجتماعي. 59-96
1:3 التخلف الاجتماعي وعلاقته بالفوضى . 59-64
2:3 التخلف في استغلال الزمن والنظرة للحياة . 65-68
3:3 أسباب إهدار الوقت والنظرة للحياة والموت ( القضاء والقدر ) . 69-78
4:3 الفوضى مرض مجتمع …. أم مرض دولة ….. أم قضية عقلية …؟ 78-90
1:4:3الفوضى مرض مجتمع . 78-83
2:4:3 أمراض الدولة . 83-90
3:4:3 الفوضى وعلاقتها بالصحة النفسية للشخصية العربية . 91-96
* الفصل الرابع :- العنف … نهاية الفوضى . 97-132
1:4 فوضى الذهنية القبلية ( العصبية) والعنف . 97- 105
2:4 تخلف وفوضى وسائل الإعلام والاتصال في المجتمع العربي . 105-116
3:4 العلاقة بين تخلف الوعي وفوضى التغيير . 116-124
4:4 فوضى المجتمع العربي .. وتحديات العولمة . 124-132
* الفصل الخامس :- المشكلات والظواهر الاجتماعية . 133-152
1:5 مفاهيمها وخصائصها . 133-134
2:5 خصائصها . 134-135
3:5 مصادرها واسبابها واثارها . 135-138
4:5 المجتمع الفلسطيني – كدراسة حالة . 138-152(1/1)
1:4:5 السياق التاريخي . 139-140
2:4:5 السياق الانساني والاجتماعي . 140-145
3:4:5 منطلقات الاحتلال الاسرائيلي . 145-152
* الفصل السادس :- الدين ومواجهة الظواهر والمشكلات الاجتماعية 153-165
- 1:6 مقومات الدين 153-154
- 2:6 لماذا الدين ..وما حاجتنا اليه...؟ 154-155
- 3:6 ما هو الدين...؟ 155-157
- 4:6 وظائف الدين 158-159
- 5:6 علاقة الدين بالظواهر والمشكلات الاجتماعية 159 - 160
- 1:5:6 خصائص الظواهر والمشكلات الاجتماعية 160-161
- 2:5:6 خصائص الدين 161-162
- 6:6 موقف الدين من الظواهر والمشكلات الاجتماعية 162- 165
* خاتمة . 165-179 * مصطلحات ومفاهيم . 180-182
* المصادر والمراجع . 183-187
مقدمة
يعالج البحث مفهوم الفوضى ( ( Anarchyوبداياتها وأسبابها وجذورها ونتائجها وتأثيرها على الجوانب الخلقية والقيمية والسلوكية للمجتمع العربي ونظمه وأنماط معيشته ، وانعكاساتها على ظواهر أخرى يعانيها المجتمع العربي كالواسطة مثلا وكأنها – الفوضى – سلسلة متواصلة لا تنتهي من حياة الفرد والنظام العربي ، مما حدانا إلى التساؤل … هل الفوضى ظاهرة سلبية أم إيجابية وهل تلبي حاجات ومتطلبات الفرد والمجتمع في سبيل إشباع الرغبات والشعور بالانتشاء والإحساس بالأمان في ظل حياة متناقضة … وهل هي ظاهرة أم مشكلة أم قيمة اجتماعية ...؟(1/2)
إن علم المشكلات ( العلل ) الاجتماعية لم يظهر إلى الوجود إلا حديثا جدا ( منذ 50 عاما) لأسباب حتمتها معطيات الحربين العالميتين ( الأولى والثانية ) ، واقتصر في بداياته على المجتمعات الغربية لمعالجة إفرازات ونتائج الحروب والدمار والانهيار المادي والمعنوي والبشري والحضاري ، وإعادة البناء من جديد كما يقول معن خليل عمر ( علم المشكلات الاجتماعية ) فهذا العلم يقوم "بتشخيص الأمراض الاجتماعية الناجمة عن التغيرات الاجتماعية التي تحدث بشكل دائم ومستمر، سواء بتأثيرات خارجية أو داخلية ، أو نتيجة تناقض التغيرات الاجتماعية كالتكلّس السياسي والتفّرد النفوذي والعزلة الثقافية والانكفاء نحو الماضي"… فهل المجتمع العربي كذلك ...؟
لذا فان الفرضية التي انطلقنا منها لدراسة مشكلة الفوضى ومفهوم الوقت أو الزمن تنطلق من إفرازات التخلف العام والشامل ، وخاصة التخلف الاجتماعي الذي يعانيه المجتمع العربي منطلقين من الأسرة وما تشرّبه للفرد وتعجنه بمعجنها وتقولبه ( كلبنة ) من لبنات المجتمع ، التي تعكس انساق وأنماط تركيبته وانبنائه النظمي والقيمي ، التي تغذيها وترسّخها الدولة وتصبح انعكاسا لأمراضها بعد أن كانت أمراض مجتمع ، وتناولنا المجتمع الفلسطيني باعتباره جزءا متمما للمجتمع العربي في المشرق العربي بشكل عام ، ولانه يعيش حاليا فترة خطيرة تتعرض فيه بناه ونظمه وانساقه وقيمه الى تشويه وتمزيق ، مما اوجد عللا وامراضا ومشكلات اجتماعية . اننا نثير تساؤلات عدة حول طبيعة التنشئة الأسرية وبيئة الفرد الاجتماعية الأوسع من خلال تأثيرها على القيم والأخلاق والتربية والسلوك … ومدى العلاقة بينها وبين الفوضىالتي تكون في النهاية نتيجة حتمية في حياته رغم بيئاته المتعددة واهم انعكاساتها جغرافيا وبشريا …!(1/3)
إن هذه الدراسة رغم الاختلاف في التفسيرات واختلاف مناهج الدرس والبحث والتحليل والاستنتاج ، هي محاولة لتحليل الأسباب واستكشاف المسببات ، وليست جلدا للذات كما هو متبع في اغلب الكتابات النقدية – الاجتماعية ، وصولا إلى نتائج إن أمكن ، ولو أنها حتما ليست كاملة أو شاملة ، ولكنها تأتي ضمن جهود تشخيصية وتحليل للمستوى البنيوي للمجتمع العربي من جهة ، وتحليل امراضه وعلله ومشكلاته التي اصابت بناه وانساقه ، وتتبع وتحليل واظهار الاسباب لهذه الظواهر من خلال الفهم واستخلاص النتائج للأبعاد البشرية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية والتاريخية من جهة أخرى ، ووضع قضايا المجتمع العربي في إطار تحليلي نقدي ضمن البعدين التاريخي – الاجتماعي والسيكولوجي الكامنتان وراء أزمة الفوضى ومفهوم الزمن كإفراز طبيعي " جراء إشكالية تخلف المجتمع العربي … واستكناه أزمته الحالية التي يعيشها من خلال… استهزائنا بأهمية الفكر ودوره في الوصول إلى الهدف (التغيير )… (شرابي ، 1999، ص/7)… الذي نتج عنه انحراف وغوغائية شاملة وفوضى عارمة ، اصطخبت فيها ممارساتنا الاجتماعية في غياب الوعي الذاتي لمجابهة التحديات والواقع .(1/4)
ان المشكلات الاجتماعية هي الميدان الفعلي والعملي لعلم الاجتماع التطبيقي من حيث تشخيصها وطبيعتها وتحليل اسبابها ومصادرها وتاثيراتها واستعراض نماذجها ، من خلال الحياة اليومية للفرد العربي على اعتبار ان المشكلات والظواهر الاجتماعية تشكل اضطرابات وهموما مزمنة لذا يتطلب البحث فيها اهتمامات متجددة ومستمرة لسبب بسيط وهو ان المشكلات والظواهر الاجتماعية هلامية المظهر والملمس ، وهي متشكلة ومتلونة وزئبقية الحركة كيف اتيتها واردت البحث فيها من خلال حتميتها ونسبيتها ووظيفتها في المجتمع المصاب بها وخاصة في وقتنا الحاضر ، الامر الذي يتطلب منا ان نكون بعيدين عن التفسيرات الغيبية او الذاتية ، بل علينا اتباع العمق التاريخي والانساني بمنهجية عقلانية – علمانية وعلمية في دراستها وتحليلها .
وعليه فقد قسّمنا البحث الذي جاء في ستة فصول اشتملت على المفاهيم النظرية لتفسير ظاهرة الفوضى وعلاقتها بالتخلف الاجتماعي ومفهوم الزمن واستغلاله ، وأخيرا تأثير العولمة في مواجهة التخلف والعنف ، واسقاط هذه المشكلة او الظاهرة على المجتمع الفلسطيني كدراسة وتحليل ، حيث أنهيناه بخاتمة وقائمة بالمراجع والمصادر ، بالإضافة إلى المحتويات والمقدمة .
الفصل الأول
التفسيرات النظرية للفوضى
يمر المجتمع العربي حاليا بمرحلة انتقالية صعبة ( ومأزقية-Predicament ) في ظل أجواء العولمة والحداثة وسياسة العالم الجديد ، خاصة ونحن في بداية الألفية الثالثة والتي تتصف بالانفتاح الثقافي والعلمي والتقني والاقتصادي ( اقتصاد السوق ) وازالة الحواجز وتنويع وزيادة الإنتاج من أجل مزيد من الرفاهية وإشباع حاجات الإنسان .(1/5)
ولقد شكّل النصف الثاني من القرن العشرين كما يقول سليمان العسكري رئيس تحرير مجلة العربي (العدد / 494 ) إرهاصة –Interaction كبرى للألفية التي عشناها بقفزاته الكبرى في مجالات العلم والتقدم التكنولوجي ، ووسائل الاتصالات والمواصلات وفي مجالات الأبحاث الطبية والزراعية والصناعية على مستوى العالمين الأول والثاني ، وأما نحن ( العالم الثالث والعالم العربي خاصة ) فقد انشغلنا بمخاصمة القرن العشرين وان كنا بالكاد متعايشين معه ، بينما العالمين الآخرين مشغولين بالتحضير والاستعداد والتهيئة للألفية الثالثة ... واستطاعا أن يحفرا بصماتهما على صرح الحضارة العالمية بشكل منفرد ، حيث بذلت الجهد في الإبداع والابتكار والإنتاج والتحضّر، والتي كلفتها سنين طويلة من تراكم البحث والدرس والتغيير والثبات والتقدم والتعثر والحرب والسلام والصراع والاستقرار … وتربعا أخيرا على عرش الحضارة العالمية بلا منازع ، بينما نحن لا ندري عن ذلك شيئا أو لا نريد أن ندري .(1/6)
إن المجتمع العربي يعاني من حالة فوضى مستفحلة في بناه الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية وتركيبته الشخصية وأنماط سلوكياته ، نتج عنها كما يقول حليم بركات (المجتمع العربي المعاصر ) حالة اغتراب مستعصية تتجلى في تبعيته الاقتصادية والسياسية والثقافية ، وهو مجتمع عاجز يترنح بين الخضوع والعزلة والمواجهة ، وذي إمكانيات متعطلة… قاسى ويقاسي من حرمان وهضم حقوق ، وهو متداعي تسيطر عليه الجماعات الوسيطة ويمر بمرحلة انتقالية للتغلب على الفقر والتخلف وهو متحرك وممزق ودائم الصيرورة … بمعنى انه دائم الفوران ، لم يستقر ويثبت بعد ليرى نفسه وذاته ، بعد سنين طويلة ظاهرها الفوضى وباطنها التخلف ، والذي يقول عنه هشام شرابي (النظام الأبوي وإشكالية تخلف المجتمع العربي )… إنه مجتمع يعاني من تخّلف من نوع أخر فهو ليس تخلفا اقتصاديا أو إنمائيا أو تربويا بل يكمن في أعماق الحضارة الأبوية والتي تسري في كل أطراف المجتمع والفرد وتنتقل من جيل إلى جيل كالمرض العضال… حتى أن شرابي يحسم الأمر ويسدّها في وجوهنا فيقول " إن هذا المرض (التخلف) لا تكشف عنه الفحوص وتعجز عن تفسيره الأرقام والإحصائيات والنسب ، وهو ذي حضور دائم لا يغيب عنا لحظة في حياتنا ، نتقبّله من غير وعي ونتعايش معه حتى الموت بعجز وبلاعقلانية .. حتى تجسّد ذلك في إصابة المجتمع بالشلل والتراجع والانكسارات المتكررة مما سبب …و(أدى)…إلى انهيارات داخلية ، اذ نواجه مرضا عضالا ( ومزمنا- Remediless ) حسب طرح هشام شرابي فلا شفاء منه خلال وقت قصير إلا بالموت والتحلل ، أو بالتفكك وإعادة التركيب والبناء من جديد ، ولكن كيف سيكون تدرجنا إن اخترنا الحل الأخير ونحن معجونون بالفوضى وعدم احترام الزمن واستثمار الوقت…؟ هذا الجانب هو الذي تناولناه في بحثنا واستعرضناه كمشكلة (مزمنة) وحينما نقول مزمنة فإننا نعني بأن المجتمع العربي وخلال مسيرته الطويلة كان من المفترض(1/7)
أن يثبت ويستقر في نهاية مراحله التراكمية – الانبنائية ، ويحجز له مكان على مدرج الحضارة العالمية ، ولكن ما هو ملاحظ بأن المجتمع العربي لم يبدأ بالخروج حتى من اسفل الهرم الحضاري بسبب تركيبته وبنائه الاجتماعي والقيمي ونظمه وعاداته وتراثه وشخصيته وأنساقه الاجتماعية ونظمه السياسية والاقتصادية والثقافية التي تتصف بالتخلف والتخبط والجهل والفوضى .
وقد قدّمت النظريات المتداولة في شتى المجالات العلمية والنفسية والاجتماعية والثقافية والسياسية والاقتصادية تفسيرات وتأويلات عدة ، رغم الاختلاف في التفسيرات واختلاف مناهج الدرس والبحث والتحليل والاستنتاج لكنها كانت جزئية ، حيث انطلقت من التراث التاريخي والقيم والعادات المتوارثة والدين والأخلاق والقيم السائدة أحيانا ، ومن بناه الأنثروبولوجية والاقتصادية أحيانا أخرى ، لكنها في النهاية لم تقدّم تفسيرات وتعليلات منسقة وشاملة تربط بين النظريات والواقع ، وصولا إلى تفسيرات أدق واعمق لظاهرة الفوضى واستثمار الوقت (الزمانية - Time Exploitation) في المجتمع العربي .
ورغم اهتمام الباحثين بدراسة الظاهرة( الفوضى والتخلف ) بالإضافة إلى اهتمام الجهات المعنية فلم يزل المجتمع العربي يعاني من وطأة هذه الآفة رغم التغيرات الجذرية التي شهدها العالم العربي عبر عشرات بل ومئات من السنين ، والغريب ( وهذا ليس استكثارا بل لحداثة كينونتها) فان دولا أسيوية كسنغافورة وهونغ كونغ وماليزيا وكوريا الجنوبية واليابان أصبحت اليوم في عداد دول العالم الأول والثاني اقتصاديا وتكنولوجيا وثقافيا ، حيث وصلت إلى ما يسمى بالمجتمع المدني والتعددية السياسية والحريات الديمقراطية وحقوق الإنسان وتداول السلطات والعدالة الاجتماعية والحرية الفردية ، وأضحت أمثلة لدول القانون والنظام والانتظام وقضت بنسبة كبيرة على التخلف والفوضى والعنف .(1/8)
فإذا كانت عملية إدراك وتحليل الظواهر البيئية المحيطة بنا صعبة والتي لها علاقة جدلية بالتغيرات الاجتماعية ، فان عملية إدراك ذواتنا وتحليلها اصعب بكثير ، كما يقول مروان دويري...بسبب تأثير المحيط الخارجي وتأثرنا به وإنكار عيوبنا ونواقص ما تشرّبناه من قيم وعادات وأخلاق من آبائنا ( النظام الأبوي – الأسرى) من جهة ، وما رسّخته وترسّخه أنظمة الحكم العربي في عملية قولبة وصناعة مجتمعاتها من جهة اخرى .
إن قيمة الوقت واستثماره ( الزمانية ) لدى الفرد العربي ما زالت تحمل سمات مميزة تعكس التخلف والإحباط واللامبالاة في تقدير قيمة الوقت وإهداره وعدم استغلاله ، لذا فإننا نتساءل كيف ينظر الفرد العربي لمفاهيم الحياة الدنيوية والمادية والأخروية – الأبدية … وهل يعيش يومه أم يحمل قلق وهموم غده ومستقبله الغامض ( والمجهول ) … ولماذا يطمع بالحياة الأخروية الأبدية … وما هو المغزى من حياته ووجوده في هذا العالم … وهل الحياة لديه هدف أم وسيلة … وهل هي مجرد متعة أم أنها سلسلة متصلة ومتواصلة ، وان كانت كذلك فما هو التراكم المادي والحضاري الذي أنتجه في صرح الحضارة الإنسانية …وأين بصماته المميزة في عالم اليوم …؟
اننا لا نهدف من خلال دراستنا وتحليلنا للمشكلات والعلل والظواهر الاجتماعية للمجتمع العربي في المشرق العربي ان نجعل المجتمع خاليا منها ، وايصاله الى الحالة المثالية ، لأن ذلك غير وارد بل ومستحيلا في الحياة الاجتماعية لأي مجتمع .(1/9)
ان المجتمعات الانسانية بحكم تطورها وتغيرها تحدث فيها اعتلالات واوهان وامراض وظواهر ومشكلات اجتماعية تصيب انساقه وبناه وتنظيمه ومعاييره وقيمه وخاصة في وقتنا الحاضر، اذ نلاحظ ان مشكلات المجتمع في تزايد وتفاقم بسبب التغيرات الحاصلة والتنافس المستعر بين افراده من اجل المزيد من الثروة والقوة والسيطرة والنفوذ من جهة ، وبسبب ازدياد اعداد مستشفيات الامراض العقلية والنفسية والعصبية من جهة اخرى .
بالرغم من قلة ومحدودية المصادر التي عالجت هذه القضية ، ومدى انتشارها واسبابها ونتائجها من جهة ، ولما كانت الحياة الاجتماعية مستمرة في تغيرها وتطورها من جهة اخرى ، فان مضامينها تكون متشعّبة ومتسعة ومتغيراتها متعددة ، حتى تعذّر على البحّاثة وخاصة علماء الاجتماع وعلم النفس الاجتماعي ان يصلوا الى نتائج حاسمة حولها ، من حيث كينونتها كمشكلة او آفة او ظاهرة او مرض او ازمة ، وخاصة فيما يتعلق بالتراث المتنوع والمتنافر بسبب التحولات الاجتماعية ، فهي ( النظرية) إما مكمّلة لسابقاتها أو جديدة بطرحها ، ولهذا بقي علم الاجتماع قاصرا عن تناول جوانب وظواهر الأحداث الاجتماعية بسبب سرعة تطور الحياة الاجتماعية واستحالة بناء نظرية اجتماعية واحدة تدرس كل أحوال المجتمع وحركاته وتطوراته .(1/10)
ولم يزل علماء الاجتماع والنفس من بحّاثة ومتخصصين يكابدون للوصول إلى نتائج حاسمة حول ظاهرة الفوضى ... فكان من المتعذر بلورة نظريات غرارية – منوالية .. ( معن خليل عمر، 1997 ، ص/ 12) ، لكن علينا البدء في تحديدها من حيث أنها مشكلة اجتماعية انحرفت عن القيم والمعايير والنظم السائدة ... وكنمط من السلوك تحول إلى مشكلة مع تعاقب الزمن ، وأسبابها إما أن تكون من الفرد أو من التركيب الاجتماعي" ( غسان التل ، 1999، ص / 2 -4) … والتي تتحدد من وجهة نظر المجتمع أو لأحد قطاعاته المهمة بوضع غير مرغوب فيه والسعي للتخلص منه أو احتوائه أو تقليصه بطرق ووسائل معروفة له سلفا وبإمكانات تنظيمية ومادية متاحة يمكن تعبئتها لهذا الغرض (غسان سلامة وآخرون ، 1996، ص /330 ) … ولهذا فهناك علاقة جدلية بين التغيرات والمشكلات الاجتماعية.. بتأثير العوامل الخارجية والداخلية كسبب ونتيجة ، ناهيك على أنها تخدم شريحة أصحاب المصالح في المجتمع… وبالتالي تنشأ (الفوضى) بسبب التناقض بين قيم ومعايير المجتمع السائدة… بغض النظرعن حجم الجماعة الاجتماعية التي تقررأنها تشكّل مشكلة أم لا ، إلا أن هناك معايير ومحكّات أخرى تقرر أن هناك مشكلة وهي الدين والقانون ووسائل الإعلام والأدب بأنواعه ... (معن خليل عمر ، 1997 ، ص/27) .. بالإضافة إلى علماء الاجتماع والنفس والصفوة المثقفة في المجتمع ) .(1/11)
ان التغير الاجتماعي يمثل الإطار المرجعي للفوضى التي تنشأ كعلة أو كمشكلة اجتماعية ، باعتباره (التغير الاجتماعي ) سنة الحياة ، وهو مستمر ومتدرج بحيث لا يستطيع المرء ملاحظة ما يحصل من تحولات وتغيرات والتي قد تكون مبرّمجة ومخططة ، وأحيانا دون تخطيط مسبق هذا من ناحية ، ومن ناحية أخرى فان التغير لا يحدث في كافة أقسام المجتمع بنفس الدرجة والسرعة والنوع والاتجاه والوتيرة ، فهناك أقسام بطيئة في تحولها وأخرى متساوقة ، ويمثل الأولى الجوانب المعنوية كالثقافة والقيم والعادات والتقاليد والأعراف الاجتماعية ، وأما الثانية فتمثلها الجوانب المادية مثل التطور التقني في وسائل الإنتاج والاتصالات والمواصلات وأساليب المعيشة والإدارة والحياة اليومية … فبين هذا التفاوت والاختلاف في تطور أقسام المجتمع .. تخلق مشكلات عديدة من ضمنها الفوضى .. (المصدر السابق ، ص/12) .(1/12)
وما دمنا في سياق الحديث عن طبيعة المشكلة الاجتماعية( كالفوضى) فمن الصعب تحديد نقطة بدايتها والحسم بين العوامل التي سبقت والتي تلت في نشوئها وانتشارها .. لأنها جميعا في تفاعل وتواصل .. ( مروان دويري، 1997 ، ص/ 6 ) … لكن هناك أسباب أدت إلى انتشارها مثل الفشل في العثور على معيار أو منظم اجتماعي يوجه سلوك الفرد أمام الكم الهائل من السلوك الاجتماعي والفشل الثقافي…الناتج عن الصراع بين ثقافتين نتيجة التغيرات الطارئة… والإحباط … الناتج عن عدم وجود بدائل سلوكية ..( المصدر السابق ، ص/62-65 )... بدل السلوك أو التقليد أو المعتقد المتروك ، بالإضافة إلى غياب المكافآت المادية والمعنوية ، الأمر الذي يخلق عدم توازن وانسجام بين أقسام النظام الاجتماعي الخاص بالسلوك والقيم والمعايير ، وهذا ينتج صراع بين ما يقوم به الفرد من سلوك يومي وبين توقعات مجتمعه ، بالإضافة إلى نشوء صراع قيمي جراء تنافس السلوك الفردي من اجل اكتساب منافع وتحقيق طموحات على حساب النوازع الخلقية والأدبية ، بالإضافة إلى السلوك المنحرف الناتج عن نقص في تربية وتنشئة الفرد ، وأخيرا هناك الوسم أو الوصم الاجتماعي … وهذا من شأنه أن يعمّق انحراف السلوك الفردي والتمادي به … في حالة حكم المجتمع على الفرد بأنه منحرف عن النظم والقيم السائدة .(1/13)
إن النظريات التي نستطيع ( استشرافها ) من خلال قراءاتنا وتحليلنا فيما يتعلق بالبناء الاجتماعي ونظرياته المختلفة والتي تناقش الاطر التي ترسخ الانسجام وتفعيل انساق البناء الاجتماعي وخصائصه والتي يؤدي فقدانها الى نشوء الصراع الاجتماعي وفوضى ... وهذا سببه تعارض المصالح ... ( مبادئ علم الاجتماع ، 1992 ، ص/ 113 ) وهيمنة احد الانساق وخاصة في الانظمة المحورية كعالمنا العربي على باقي الانساق ، فان البناء الاجتماعي يتصف بعدم الاستقرار والثبات والاستمرارية وبالتالي تنعدم وظائفه ( البناء الاجتماعي ) وتعم الفوضى والعنف والصراع الاجتماعي بانماطه المتخلفة ، ومعالجة ذلك تتم بتفكيك البناء الاجتماعي واعادة تكوينه من جديد ضمن الاطر النظرية ( والغربية المنشأ ) والتي صممت للمجتمعات الغربية في اطار زمني ومكاني معين لتخليصه من مشكلة (الفوضى) وهي :-
1- النظرية الظاهراتية (الفينومينولوجي) :- وتهدف إلى تشريح النسيج العلائقي بين الأفراد (المتفاعلين) والتعرّف على نشأته وتطوره ، حيث تفترض هذه النظرية أن عقل الفاعل (الفرد)"ليس مجردا بل مكتسبا من خلال قواعد اجتماعية اكتسبها من محيطه الاجتماعي …( الخبرة الاجتماعية)… وتخزينها واستخدامها عند الضرورة … معتمدا على التخلل الذاتي للفاعلين ( الأفراد) …ثم تشكيل نموذج …أو(صيغة) لصفاتهم " (المصدر السابق ، ص/260) … وبما أن هذه النظرية تبرز مدى ودور المحيط الاجتماعي في اكتساب الفرد الخبرة الاجتماعية، إذن يمكن إدراج ( عوامل التربية البيئية) التي تمثل الأسرة والمدرسة والمجتمع وحتى الشارع والأصدقاء والجيران والمعارف والعلاقات المرجعية ، في تشكيل اتجاهات ونمط التنشئة وطبيعة السلوك ونمط العلاقة التي يتربى عليها الفرد وصقل تركيبته ونمط حياته وتجاذبه الوجداني ، وذلك استنادا لطول الفترة ( الزمنية) التي يعيشها الفرد وتكيّفه في هذا المحيط .(1/14)
إذن والحالة هذه تكون البيئة مرآة عاكسة لسلوك الفرد ، وبالتالي فان الفوضى ( مكتسبة) اكتسابا ، وارثا اجتماعيا متوارثا ، إذ أن الفاعل( الفرد) يكّون نموذجا( وصيغة ) مختزلة لما يراه ويلاحظه من سلوك المتفاعلين معه وحوله ، خاصة وأنها( الفوضى) تعتبر نموذج سلوكي مختزن (محفوظ للاستعمال والاستخدام ) ومكتسب ماضوي ، باعتبار أن الفاعل يعتمد (ويتكئ) على الماضي جراء تراكم الخبرة المكتسبة ، والتي لا تكون تراكمية بل تنافرية التكون وغير متنوعة وتسير في خط واحد ، مما اسبغ على النظرية نمط "الفردانية لاستبطانها على سلوك الفاعل الماضوي والتحكم في سلوكه الحاضر غير العقلاني " ( المصدر السابق ص/265) …لذا فهذه النظرية تتصف بأنها تخدم الوصم التعصبي لخدمتها وتفسيرها لأسباب التخلف الاجتماعي الذي يعقب الفوضى ويفرز العنف الحتمي .
2- نظرية الحياة الاجتماعية اليومية:- وتهتم بدراسة الفعل الاجتماعي العملي (والسلوك) اليومي للفاعل( الفرد) بشكل دوري ومستمر ودائم " ومعرفة انعكاسات ( الفعل الاجتماعي ) على الأفراد من حيث … وهل لهم رغبة بفعله وراضون به… أم انه مفروض عليهم … وما أهميته عندهم… وكيف توصلوا إليه ووجدوا حالهم في ظله…؟ " (المصدر السابق ، ص/ 295) .(1/15)
إن التساؤلات التي تثيرها هذه النظرية هي نفس تساؤلات ظاهرة الفوضى وهل أنها الرغبة والإرادة في الفعل الاجتماعي … أم أنها خضوع إلزامي للمعايير والقيم الاجتماعية ، بعكس ما تراه نظريات البناء الوظيفي والماركسية البنائية " حول إلزام وإجبار المؤسسات والأنساق للأعضاء بأداء فعل رسمي تقره وحدها " (المصدر السابق ، ص/266) …وإلا ما الذي ساعد وأقر ظاهرة الفوضى في حالة انتفاء دور المؤسسات…؟ إذن هي بفعل الأسرة والمدرسة والشارع والمؤسسات الأولية ، وأنها موروثة منذ الولادة وكرسّتها سبل وأنماط التنشئة الاجتماعية ، فان كان ذلك( وهذا مؤكد) أن للمؤسسات الأولية الدور الأهم والأساس في إكساب الفرد صفات وأفعال اجتماعية (وسلوكيات ) ثابتة ، لذا فلكون السلوك (ظاهر) يعتمد على الملاحظة والتسجيل الواقعي والتحليل والتفسير ، بعكس النظريات التقليدية التي لم تفسّر الواقع بأنه "يأتي بناءا على الادراكات والمشاعر والأحاسيس وليس على المؤثرات الاجتماعية وآلياتها الضبطية وروادها الخلقية والدينية وهذا هو السائد في مجتمعنا العربي " ( معن خليل عمر ، 1997 ، ص/312) و(دويري ، 1997 ، ص/16) .
3-النظرية العضوية ( البيولوجية ) :- تقيس هذه النظرية الواقع الاجتماعي بمقياس الكائن الحي الذي له رغبات وحاجات تحتاج إلى إشباع ، حيث يفترض أن يقوم أفراد "المجتمع بالتعاون مع بقية الأجزاء بهدف المحافظة على ديمومة وحياة المجتمع " ( التل ، 1999، ص/5) …تماما كوظائف الجسم الحي كمحصلة سوسيو ـ بولوجية .(1/16)
ويلاحظ أن هذه النظرية شبيهة بنظرية التبادل الاجتماعي التي تتصف بوجود المتحكّمات وآليات الضبط العضوي ( الاجتماعي ) لبقية أجزاء الجسم من اجل الحفاظ على التوازن والاتزان ، ولكن الفوضى جاءت ( لتنسف ) آليات النظام والانتظام في انساق وتركيبة المجتمع وخلخلته، حيث استفاد من هذه النظرية منظرو الفاشية والنازية والصهيونية في تطبيق مفهوم (المجال الحيوي) على الأرض والبشر ، الأمر الذي " ولّد صراعات وحروب طاحنة في أوروبا… والعالم الثالث وفي الشرق الأوسط خاصة… كانت من ثمرتها الحربين العالميتين الأولى والثانية وأدت بالتالي إلى انبثاق مفهوم الطبقات والمراتب والتقسيمات الطبقية للدول القومية الحديثة " (عبد الفضيل ، 1997، ص/15 ) .
4-نظرية البناء - الوظيفي : - وهي تتناول المجتمع كتنظيم لنظم متخصصة تعتمد على بعضها البعض بهدف تنظيم الحياة الاجتماعية ، حيث تعتمد على " عدة مؤشرات فرعية مثل الوظيفة ومصادر الدخل والتقسيم الاجتماعي للعمل والمنافسة والسوق الحر " ( التل ، 1999، ص/5) …وتركّز هذه النظرية (السوسيوبولوجية) الأمريكية المنشأ على مكان الإقامة ونوعه بالإضافة للمؤشرات السابقة ، أما فيما يتعلق بظروف وأوضاع المجتمعات العربية فتعتمد على " الانتساب والأصل القبلي والملة والمهنة والجهة ( المحلة ) ومكان العمل" (عبد الفضيل ، 1997 ، ص ، 21 ) …ويضيف اليها معن خليل عمر " رأي الناس ومدى رضاهم عنها (الفوضى) وتأثيرها عليهم ومعايشتهم لها وتهديدها لمعتقداتهم ومدى خدمتها لمصالحهم …( معن خليل عمر ، 1997 ، ص/ 69) وما الذي يدفع الجماعة للذهاب في مسالكها … هل هو فشل النسق الاجتماعي في مساعدة أفراده … أم هو عدم توازن أقسام النسق الذي ينتج اختلالا وفوضى بداخله ومن ثم تسبّب اعتلالا وانحرافا أوليا…انها ظروف وأوضاع المجتمع العربي السالفة الذكر .(1/17)
5-النظرية السلوكية – الثقافية :- وتفسر طبيعة الشخصية والنفس الإنسانية من حيث اكتسابها لثقافة معينة، وبالتالي تعكس سلوكا معينا لا يتماش مع الثقافة السائدة ، إذ لا يمكن فصل هذا العامل عن العامل الاجتماعي خلال مراحل التطور وخاصة عند " تعرض أفراد المجتمع إلى مؤثرات ثقافية متعددة وغير موجهه أو ذات تعارض مع الثقافة الأساسية والتقليدية" (على كمال ، 1983 ، ص/ 20) .
لكن معن خليل عمر ينطلق من هذا المفهوم من منطلق التفاعل الرمزي الذي يفسّره " بأنه قياس للسلوك الاجتماعي… سواء (سوي أو منحرف)… يوصم به الفرد ويهتم بالإشارات والرموز وما ينتج عنها" (معن خليل عمر ، 1997 ، ص/70) … وعليه فالثقافة لا تؤثر على الشخصية البشرية (كفرد) بل على أخلاق وتراث المجتمع ككل إن لم يكن على معظم فئاته وشرائحه ، وخاصة المجتمعات الحديثة ، إذ يوضح علي كمال هذا الجانب بحيث يظهر تأثيرها واضحا عليها (كالمجتمعات الحديثة) أكثر من المجتمعات البدائية ، لارتباطها من حيث المسؤولية المعاشية وتعقيدات الحياة(1/18)
6- النظرية الصراعية :- وهي تفسر المتحكّمات وآليات الضبط الاجتماعية وعلاقتها بالعوامل السياسية والاقتصادية والاجتماعية من " اجل الحفاظ على قوام وترابط وديمومة الكيانات الاجتماعية ، إذ عليها توجيه عناصر المجتمع نحو التماثل مع أحد مكونات النسق مثل المعايير الاجتماعية والقيم والقوانين والتعاليم الدينية" (المصدر السابق ، ص/70) …وهذه النظرية شبيهة بالنظرية العضوية ، إذ تعزو حدوث ضعف النظام الاجتماعي إلى تخلف المعايير ، فلا هي تخدم المجتمع ولا تحقق طموحات أفراده ، ولا تتماشى مع ثقافاتهم… فتقيّدها وتلجمها فيبتعدوا عنها ، فيغدوا الأفراد منحرفين وتحصل خلخلة ضبطية ، ويؤدي ذلك إلى عدم سيطرة النظام الاجتماعي على الأفراد ، وعدم قدرته على إنجاز وظائفه ، فتدب الفوضى بين الأفراد وخاصة في النظام الاقتصادي " باتباع وسائل غير مشروعة للكسب وتحقيق الثراء بالإضافة إلى حدوث انحرافات اجتماعية كالرشوة والواسطة وشراء المناصب والفساد الإداري والأخلاقي والمحسوبية " (سعد الدين إبراهيم وآخرون ، 1996 ، ص/ 310) ... أما سياسيا فيتم توجيه النظام والحركة كما يسير نظام القيم والسلوك الذي يجعل الفرد ينزع إلى الفوضى ، وخاصة عند إلزام وإجبار الناس على إنجاز واجباتهم دون تحقيق مطالبهم ، فتعم الفوضى ويدب الصراع بين أقسام المجتمع وطبقاته .(1/19)
7- نظرية ( مدرسة ) المحافظين الجدد :- برأينا أن هذا المصطلح لا ينطبق على محتويات وتفسيرات النظرية المتعلقة بما يسمى ( بالعقد الاجتماعي ) المبرم بين الناس والنخبة الحاكمة لتحقيق المصلحة العامة للمجتمع ، بحيث " إذا رفض أحد الطرفين الالتزام بالعقد انفرط وبرزت بالتالي المشكلات الاجتماعية وتصدّعت الآداب العامة وتخلخلت مفاصل البناء الاجتماعي مما يؤدي إلى الانحرافات السلوكية (والفوضى) " ( معن خليل عمر ، 1997 ، ص/ 70) …هذا التحليل والربط السالف الذكر للنظرية ينطبق على أوضاع الناس في القرن الثامن عشر أو التاسع عشر ( أيام الثورة الفرنسية والثورة البلشفية) .(1/20)
8-وهناك نظريات أخرى اجتماعية تفسيرية ، وتقديرية ، وبيئة بشرية ، وإحصائية ، ونسق وسلوك وفعل وإصلاح اجتماعي ، ونفس بيولوجي ، واجتماع معرفي ، لكن ما يهمنا هو النظريات ذات المدى المتوسط والتي تتناول مواضيع دقيقة ومهمة وتنطلق من مساحة واسعة في الحياة الاجتماعية ، والتي يطلق عليها ( نظريات القاعدة- الأرضية ) والتي تدرس الحياة اليومية للناس وتطرح مفاهيم وقضايا بأسلوب سلس يفهمه غير المتخصصين في علم الاجتماع ، والتي من خلال إسقاطها ( النظريات ) على واقع المجتمع العربي نراها هي الأكثر ملائمة لدراستنا أو بالأحرى التي تبنيناها ، رغم الاختلافات المتعددة والمتنوعة بين المشكلات الاجتماعية ورغم أنها واحدة في الاسم ، فمنها ما ينحصر بتحديد الأسباب وإدراك الناس وحكمهم على أنها مشكلة ، حيث تعود الأسباب إلى اختلاف الثقافات والمعتقدات والقيم والمعايير ، إلا أن هناك معايير مشتركة من بينها الهجرات (داخلية وخارجية ) وصعوبة تكيّف الفرد في مواجهة متطلبات التغيرات الاجتماعية ، وعدم مسايرة النظم الاجتماعية لتطورات المجتمع ، والصراع بين المتطلبات والتوقعات للمجتمع وعجز المؤسسات الاجتماعية عن تحقيق أهدافها ، بالإضافة إلى التغير الاجتماعي وعلاقته بالمدة الزمنية التي يستغرقها في تغيير النظام الاجتماعي وأنساقه " إذ تعتبر الطبقية والثقافة السائدة والتراث والمصالح الذاتية من أهم معوقاته … بالإضافة للحروب وما تخلّفه من تناقض في نظام القيم وما تسببه من تفاوت اجتماعي ووهن تنظيمي " ( معن خليل عمر ، 1998 ، ص/97-112) .
الفصل الثاني
الفوضى في المجتمع العربي
1:2- بدايات الفوضى في المجتمع العربي :-(1/21)
تكاد تجمع اغلب المصادر الاجتماعية والسياسية والتاريخية على أن المجتمع العربي قد عانى من الضعف والتدهور في انظمته السياسة وقيمه الاجتماعية وأرثه الحضاري منذ القرن العاشر الميلادي .. انظر ( سعد الدين إبراهيم وآخرون ، 1996، الفصل الثالث- وبرهان غليون ،1994 ، الفصل الثاني- وغسان سلامه واخرون ، 1989، الفصلين الأول والثاني )… لما لذلك من أهمية لماضي وحاضر ومستقبل الوطن العربي ، على اعتبار أنها بمجموعها تشكّل حلقات متصلة من التخلف الحضاري والتي أوصلته إلى حالة من التخبط والفوضى والتخلف الاجتماعي وإهدار الوقت ، فالبيئة الطبيعية – الصحراوية - ما زالت بصماتها واضحة المعالم بشكل مباشر من خلال .. اللغة والأدب وأنماط التفكير والعادات والتقاليد والقيم الموروثة (والمرأة ) بالإضافة إلى اتصاف البيئة الصحراوية بشح العطاء ورتابة الحياة ..( مروان دويري ، 1997، ص/ 38 ) … حيث بلورت قضايا وأفكارا منمّطة ومتطابقة لمتغيرات الظاهرة (الفوضى) والتي سببت توازن غير مستقر وبتوافق مع البيئة الطبيعية والبشرية المعاشة .(1/22)
ومنذ القدم ( ما قبل الجاهلية ) وولاء الفرد في المجتمع العربي في علاقة ذوبانية واحتماء دمجي (Fusional Protection Relation &) بالعائلة أو العشيرة أو المذهب أو الطائفة أي تحول المرء الى شئ وتركّز الأنوية والتشييئ (Chosification) وهو تبخيس لقيمته وانسانيته واحترامه لذاته وكيانه ويفقد شخصيته واستقلاله ، والتي تعني عودة المرء الى طفل صغير يحتمي بوالديه وذوبانه في جسدهما (رمزيا وتخيليا ) لينعم بالسكينة والاطمئنان والامن النفسي ، ويبتعد عن مثيرات القلق والألم من منطلق انهما ( والديه او اشخاص ) يعبران له عن مصدر الحماية والحب ، وبالتالي يتمتع المرء بقوة للتصدي للاخطار وخاصة عند وقوع الكوارث او الاخطار لأ حساسه بالعجز عن ردها ذاتيا ، وبالتالي يفقد المرء استقلاليته وذاته ، وهنا ينتفي مفهوم المكان او الوطن او المجتمع لديه ، لذا فان فكرة المجتمع أو الوطن مجردة لا تتخذ أي معنى إلا في ارتباطها بالنماذج الأولية للقرابة والدين … أما في إطار التقاليد الاجتماعية فان سلطة الأب وشيخ القبيلة والزعيم الديني… فهي التي تحدد ولاء الفرد … ويوفر تقليد الواسطة مرونة وحيوية ( في حياة الفرد المعاشية)… فهي تضمن حماية الفرد والمجتمع ( الجماعة ) ومصالحهما المادية بما في ذلك الفرد الأدنى مرتبة في المجتمع… وهي بذلك تعزّز شعور الفرد بالهوية … ولا تعمل فقط على تنشئته اجتماعيا ليرقى بسيادة السلطة … بل إنها تدرّبه على التعامل معها .. ( هشام شرابي ، 1993، ص/64-65 ) … بالإضافة إلى ذلك فإنها أفرزت (ونسجت ) لدى الفرد شبكة تبادل علاقات منمطة (ومنمذجة) من تنشئة وترويض للنمط الدماغي المتماثل مع العصبية القبلية ، كإطار وجماعة مرجعية وتذويت لشخصيته وتقديرها .(1/23)
إن هذا المشهد في حياة المجتمع العربي وأنظمته السياسية والاقتصادية والثقافية والعلمية والاجتماعية ، قد تأثرت بهذا الجانب - النمط الأبوي - في تحليل لماضيه وما نلمسه في حاضره ونستشرفه لمستقبله ، فحول علاقة الفرد بأسرته من جهة وبالمؤسسات المجتمعية من جهة أخرى ، فهي إما أن تتصف .. بالتكامل أو بالتناقض.. وتقوم على التفاعل والتأثير المتبادل … حيث يتناقض الولاء المجتمعي والولاء القومي مع الولاء العائلي في مرحلة التنشئة الأسرية ، في الوقت الذي يحّض فيه الدين على تمجيد الأسرة … فنجده (الدين).. يتعارض مع القبيلة ، كذلك يشير الفكر القومي أحيانا إلى التناقض ورفض الولاء الاجتماعي مقابل الولاء القبلي ، الذي يتصف… بالتماسك والتواكل والعصبية والتوحّد … حيث عكس ذلك- بعد ظهور الإسلام- طبيعة تركيب العائلة أيام الجاهلية كما أسلفنا ، واستمرت إلى اليوم حيث تعتبر الأسرة / القبيلة (النواة المركزية) للنشاطات الاقتصادية والاجتماعية وأبوية السلطة وهرمية التراتب … رغم توسع نظام الخدمات وسيطرة الدولة (وبيروقراطيتها)… ومع هذا فلم تزل تشكّل وحدة ومركز كالسابق .. ( حليم بركات ، 1996، ص/ 171- 179 ) …ونسق مغلق (ومعجّن) ضمن مسيرته الحياتية ، الأمر الذي عزّز السلوك التعبيري والمتوافق مع شرعنة وتبرير العلاقة الدمجية ( الذوبانية) مع العصبية/القبلية ( Tribalism ) .(1/24)
إن العصبية القبلية والتراتب الطبقي والهرمي للأفراد والجماعات الطائفية /العشائرية- الاثنية والسلطوية/السياسية والرؤية الغيبية والتخلف العام في مختلف مناحي الحياة ، بالإضافة إلى تفاقم معضلة ( الانتماء العربي ) كانت من الأسباب الرئيسية في خلق حالة من التخلف العام بالتوازي مع استمرار الظروف التي خلقتها التنشئة وظروف البيئة الطبيعية.. (المصدر السابق ، ص/ 45 - 49)… حيث انعكس ذلك في اتباع سلوك التفافي ( Detour Behavior ) متكيّف مع المحيط الاجتماعي من حيث تشكيل الوعي والإدراك ومحدودية الحس -والمفترض - أن يتصف بالدينامية .(1/25)
وبعد ذلك بدت قرون الإسلام الأولى لمخيلة المسلم الخلقية كأنها دراما مثيرة مؤلفة من ثلاثة فصول "عصر النبي وخلفائه الأولين وهو عصر الأمة الذهبي الذي كانت فيه على ما ينبغي أن تكون، والعصر الأموي الذي اصطبغت فيه مبادئ الدولة الإسلامية بنزعة الطبع البشري إلى الحكم الملكي المدني ، وأخيرا العصر العباسي الأول الذي عادت فيه مبادئ الأمة فتأكدت من جديد …(خاصة بعد بروز الانقسام الكبير بين السنة والشيعة والذي نشأ أصلا عن نزاع سياسي حول خلافة الرسول ، ثم امتد تدريجيا إلى ظلال الفوارق في العقيدة والشرع والعرف ) … كما أصبحت درسا في شرور التفرقة التي تعانيها الأمة في حياتها المشتركة " (حوراني ،1997، ص/ 17 ) … فمنذ أواخر حكم الخلافة العباسية ومرورا بحكم الدويلات في بلاد الشام والأندلس والعراق ، وانتهاء بحكم المماليك والأتراك العثمانيين وسيطرتهم على مقدرات الوطن العربي والتي تعرضت لعوامل الضعف والتآكل التدريجي ، بالإضافة إلى الصبغة العسكرية في إدارة الأقاليم والولايات في المشرق العربي خاصة ، الامر الذي صبغها بالطابع الإقطاعي وابتعاد الحكام والسلاطين عن الرعية ( Subjects ) من خلال نظمها وقوانينها ، والتي صاغتها من خلال وسطاء كان لهم الدور الرئيسي في نشر الجهل والفقر والتسلط وانتشار الفوضى وانعدام الأمن وشيوع الرشوة وبيع المناصب ، مقابل الحرص ( من قبل الرعية) على تأمين الحد الأدنى من متطلبات الحياة ، حيث يضطر الناس الى " اباحة الكذب والتحيل والخداع والنفاق والتذلل ومراغمة الحس واماتة النفس " ( الكواكبي ، طبائع الاستبداد ، ص/ 59 ) ... في ظل هذه الظروف التي نستطيع أن نطلق عليها زوال الحكم العربي منذ فجر الإسلام الأول ، بمعنى أن الفوضى ضربت جذورها بشكل راسخ منذ بداية عصر العباسيين الثاني ولحد الآن ، جراء تشكيل واكتساب الفرد لإدراك وعي نكوصي ومنكفئ (Regression) وتعني عودة المرء من مرحلة نضج متقدم(1/26)
واستقلال ومسؤولية ، الى مرحلة الاتكال والتبعية كرد فعل على مأزق لا يؤمن له اشباعا لحاجاته ، خاصة في مرحلة انعدام الأمن الحياتي والنفسي وانعدام التوازن المستقر في بناء النسق الاجتماعي بعد سيطرة العنصر غير العربي على مقاليد الحكم والإدارة والجيش .
فعلى الرغم من .. أن المجتمع العربي لم يشهد قيام أنظمة سياسية ذو سلطة وطنية أو قومية طيلة وجوده في بيئاته المختلفة …إذ أن… الدولة الإسلامية التي أقيمت لا تعد دوله وطنية أو قومية ، بل كانت دولة من الطراز الشمولي القائم على المذهب أو الدين… فقد كان ( الدين)… في صراع دائم مع العصبية والقبلية المتصارعة والمتنافسة فيما بينها وبين أي سلطة مركزية ... (بركات ، 1996، ص / 45) 0
لقد كان من المفترض أن تنشأ في المجتمع العربي انساق ومستويات اجتماعية واقتصادية وثقافية متطورة ، عندما انتقل من عصر الجاهلية إلى عصر الإسلام وصولا إلى الدولة القومية – الأمة ( لعروبة القرآن وقومه الأولين) اخذين بعين الاعتبار انحدارهم القبلي من جهة ، وارثهم التاريخي والاقتصادي (كموسم الحج إلى الكعبة وتجارة قريش ) من جهة أخرى ، إلا أن الذي حدث هو العكس ، فالمجتمعات الغربية مثلا تطورت اقتصاديا واجتماعيا وفكريا في فترة عصر النهضة وتحديدا في القرن الثامن عشر ، واستطاعت أن توجد وتطور قوى إنتاج مادية وبشرية أحدثت طفرات ( توصيفات) مجتمعية وطبقية جديدة ، كإفراز من ضمن النتاج الفكري والثقافي والحضاري والذي انطلق من مصالحها من جهة ، وبتوجيه من السوق الداخلي من جهة أخرى ، أدى ذلك إلى نشوء قوى محركة والتي أنتجت بدورها الدولة القومية… بينما حدث العكس في المجتمع العربي فهو استمر في إنتاج نفسه وبتوجيه خارجي وليس من داخل المجتمع ... كيف…؟(1/27)
لمّا كانت القبيلة تشكّل وحدة التنظيم الاجتماعي والتي تربط أعضائها بصلات الدم والقرابة والمصالح المشتركة وأنماط وأساليب الحياة المعيشية والقيم والعادات والتقاليد والسلوك والأعراف المشتركة ، واستمرار الصراع على الخلافة بين شيعة علي بن أبي طالب وأنصار معاوية ثم بين الأمويين والعباسيين وحركات الانقسام بين مختلف التيارات الدينية والسياسية ، جعلت المجتمع العربي - الإسلامي " يعي الصعوبات التي تعترض المشيئة الإلهية في حياته … وانه وان حدث التغيير فلن يفضي إلا إلى الأسوء ، ولا يمكن إصلاح الأسوء بإيجاد شيء جديد ، بل… ببعث… ما وجد من قبل … أي النظر إلى الماضي والذي ينطوي في جوهرها على فكرة (الانحدار- Restitution)… والتي تعطينا معنيان ، فإما أن تؤدي إلى الفوضى ، أوهي الفوضى بعينها ، فالانحدار يعني أن الأمة الإسلامية فقدت زمام قيادتها وأهداف رسالتها ، واصبح المسلمون ينظرون إلى عصر الإسلام الأول العظيم وكأنه صورة ينبغي للعالم أن يكون عليه بسبب الضياع والتخبط والفوضى " (حوراني ،1997، ص/17- 18 ) .(1/28)
لذا فقد كان المجتمع العربي-الإسلامي مذاك الوقت ( نهاية العصر العباسي الأول ) يعيش في مجموعات بشرية متصارعة ، تعمها الفوضى والانقسامات والولاءات العصبية وليس كمجتمع واحد ، لذا فان ولاء الفرد وخاصة في حالات إشباع الحاجات والرغبات والحصول على الأمن والحماية حتمت عليه التشبث بالعصبية والقبلية في سبيل تحقيق غاياته من جهة ، ومن جهة أخرى وكما يقول المعلم ( ابن خلدون في مقدمته ص/111- ص/112) " لأن الشارع ( ص ) لما اخذ المسلمون عنه دينهم كان وازعهم فيه من انفسهم ...(أي انهم تأدبوا ذاتيا – وايمانيا داخليا ) ... بالترغيب تارة وبالترهيب ولم يكن تأديبا صناعيا... ( مصطنعا ) او تعليميا بل هي احكام الدين وادابه ... لكن بعد وفاة الشارع ( ص ) بقيت ... سورة بأسهم مستحكمة ...وتناقص الدين في نفوس ( قلوب ) الناس ...حتى اصبح الشرع ( شريعة الشارع – ص- ) علما وصناعة ويؤخذ بالتعليم والتاديب ...فاصبح الوازع اجنبيا " (خارجيا )... وكان النظام السياسي السائد يغذي هكذا علاقة في تعامله مع الرعية وكسب الأنصار والموالين له بأسلوب صراعي – استباقي ( Competition Agonistic) يتسم بالطابع الفوضوي وعدم مراعاته للقيم والعادات والأخلاق والنظم الاجتماعية ، ... حيث " من اخلاق البشر الظلم والعدوان ...وسببه هو الحكام والدولة ... بسبب القهر والسلطان وابتعادهم عن النظام ..." ( نفس الصدر السابق ص/112) وهذا ما استمر خلال عهود الاستعمار الأوروبي ، إلا ما كان يهدد وجود ومصالح الاستعمار ومن بعده اسرائيل ( سنفصل ذلك في الفصل الخامس ) فكان الاستعمار او الاحتلال يشهر النظام والقانون والانتظام إلى حين حيث كان له وجهان ، وجه حضاري يعكس ما وصل إليه الغرب والصهيونية من تقدم وتطور في جميع المجالات ، ووجه أخر كان يتلاءم ويتواءم مع الواقع العربي المعاش ويشجعه على اعتبار أن وجود الاستعمار كان وجودا مصلحيا ومؤقتا .(1/29)
2:2 - فوضى الهوية العربية – الإسلامية :-
ان مفهوم الهوية يعكس الولاء والانتماء فالاول يعني ..الاخلاص والاحترام للسلطة او النظام الحاكم وهذا له علاقة مباشرة بطبيعة التنشئة الاجتماعية للفرد ، اما الانتماء فيعني الانتساب الحقيقي للدين ( العقيدة ) او للوطن فكرا وتجسيدا وعملا وهذا يعكس مدى حب الفرد واعتزازه بالانضمام اليه ، وللانتماء وسائل عديدة لتعزيزه مثل : التضحية من اجل الوطن والقيام بالواجب والمحافظة على مقدساته وتراثه وعاداته وتقاليده وقيمه .
ومن المعروف أن أهمية العروبة هي كونها لغة القرآن وبكونه نزل على الأمة العربية دون غيرها ، من هنا كانت أهمية العروبة بمدى أهميتها للإسلام .. وليس باعتبارها قومية ذات أهمية بحد ذاتها … فإذا تتبعنا التاريخ منذ ظهور الاسلام وحتى اليوم يمكن أن نلاحظ أن الازدهار العربي لم يدم طويلا في الشرق ، وخاصة بعد نهاية حكم الأمويين ، وذلك… بتسلل غير العرب وتقلّدهم لمناصب الدولة العليا وفي إدارة الحكم وأجهزة الدولة … وحتى فترة الاستعمار الحديث… بمعنى… أن الهوية العربية منذاك الوقت أصبحت هوية ثانوية أمام الهوية الإسلامية الرئيسية ( دويري ، 1997، ص/ 47) .
هذه التراكمات شكّلت بدايات الفوضى التي نشأت في جسم المجتمع والحكم العربي ، من خلال العادات والتقاليد والقيم والأخلاق وأنماط السلوك والمعيشة وأساليب الحياة والمأكل والملبس ومعاملة المرأة والآداب والفكر ونظم الحكم والإدارة والفنون والموسيقى، بمعنى أن كل ما نعيشه اليوم ليس عربيا- Crossbred البتة اللهم إلا اللغة ... فقد كان وما زال فارسيا أو تركيا .. (المصدر السابق ، ص/ 48 ) ...وحتى اللغة فنحوها وصرفها وموازينها فارسية .(1/30)
أما فيما يتعلق بنظام (ونمط ) الحكم فان المجتمع والشرع الإسلاميين لم يترعرعا إلا في عهد الخلفاء الراشدين وبفضل سلطتهم…إذن الخلافة… شرطا ضروريا للمحافظة على الشرع والمجتمع … لكن بعد نهاية العصر العباسي الأول (القرن10 الميلادي ) …أخذت وحدة الإسلام السياسية تتفكك أو على الأقل تتغير في شكلها … ذلك أن ( انقسام السلطة بين الخليفة العباسي والأمير التركي المملوكي أدى إلى حدوث فراغ قاتل لم يملأه سوى مماليك وعبيد وخدم مستوردين خصيصا لكي يحكموا عددا من أهم الأقطار العربية ويسودوا على الأمة ) ، قد اصبح أمرا نهائيا لا مرد له … فسلطة المماليك في مصر كأعلى نموذج قد اختلفت في تركيبها عن الخلافة … حيث استولت على الحكم استيلاء … وكانت الرابطة بين أفراد الطبقة الحاكمة هي رابطة المصلحة المشتركة … إما تدبير مصالح الدولة فكانت (الشرائع ) كناية عن أوامر صادرة عن السلطان … ولهذا فلم يكن بوسعهم (السلاطين) ولا بوسع سواهم من حكام ذلك الزمان الادعاء (بالخلافة) وبأنهم كانوا يحكمون الأمة جمعاء … مما كان من شأنه أن يجعل من الشريعة مبدأ سلبيا لا غير ، أي أمرا على الحاكم أن لا يخالفه لا أمرا يوجه سلوك الرعية … وكانت هناك أخطار من الخارج تتحدى الشريعة في الوقت نفسه ، مثل هجرات القبائل العربية إلى الصحراء السورية عبر سيناء إلى وادي النيل وشواطئ إفريقيا الشمالية حملت معها العصبية القبلية وتقاليد الجاهلية الوثنية " (حوراني ،1996، ص/20- 22 ) … بالإضافة إلى تأثير الإرث الحضاري للفرس والأتراك والأمم الأخرى المتأسلمة ، حيث البس هؤلاء نظام الحكم ..." لباس الخلافة للتبرك ... ( من جهة ) ...واجبار العامة على تقديسها ... وتصويرها لهم ( بالاسم ) على ان مصدرها هو (الشريعة – الدين) فانحرفت عن مقاصدها الدينية والدنيوية واصبحت تستعمل ( الخلافة) في تحقيق الاغراض الدنيوية فقط ... بعد حكم هارون الرشيد " ( نفس المصدر السابق ،(1/31)
ص/ 181) الى يومنا هذا .
ومما دعم من نمط هذا الحكم الإمام الغزالي بفتاواه المشهورة المتعلقة بطاعة السلطان "ووجوبها مع عدم الاهتمام في مسألة اختياره ( فوضويا ومشاعيا) – التشديد من عندنا – أو بالتفويض من رجل ذي شوكة ، إذ لهذا النمط الغريب في توليه الحكم من شأنه…أن يكفل بقاء الحياة وسلامة قدر الحاجات من الكسوة والمسكن والأقوات وما أشبه فقط ... ومنعا من بطلان الأنكحة والأفعال الشرعية الأخرى وهي بذلك خير من الفوضى" (المصدر السابق ص/ 23 – 24)… بمعنى أن أمور الحكم والسلطة على المسلمين تؤول لمن غلب بالسيف أو بالعصبية ، وكأن مسألة بطلان الأنكحة مثلا عند الغزالي كانت أهم من شروط الخلافة…!
وعليه فان فوضى إدارة الدولة والمجتمع كانت بعيدة عن السياق الإسلامي " الذي كوّن منظومة متكاملة ومتوازنة … من خلال سلطات الإسلام الثلاث سلطة الاختيار ( وظيفة الخليفة ) وسلطة الإفتاء (وظيفة علماء الدين ) وسلطة القضاء (وظيفة القضاة ) … فزوال هذا التوازن هو الذي يفسر الانتقال إلى مرحلة التدهور والانحطاط و( الفوضى ) منذاك الوقت " (سعد الدين إبراهيم وآخرون ،1996، ص/ 90) … وهكذا افسد الحكام الإسلام " فانتشرت الفوضى… بين المسلمين برعاية الحكام الجهلاء ، حيث استمر هذا الجهل وهذا الفساد حتى يومنا هذا ".. ( حوراني ،1996، ص/ 159)... والدليل هو ما نقلته لنا الفضائيات عند دخول قوات الاحتلال الامريكي لبغداد من جهة والعراقيون يخلعون المغاسل ومقاعد الحمامات ويسرقون الاثاث والكتب والاثار وكل ما تقع عليه ايديهم من الوزارات والمؤسسات الحكومية والخاصة والمحلات التجارية ، هنا ينطبق عليهم وصف المعلم ابن خلدون للعرب في مقدمته ، انهم شاطرين بالسلب والنهب والسطو وحمل ما خف وزنه بشكل فوضوي وغوغائي .(1/32)
إن الفوضى قد أصابت تطبيق الأحكام الشرعية المنبثقة من الدين وخاصة الدين الإسلامي ، حيث تعتبر(الأحكام الدينية ) هي النخاع الشوكي والعمود الفقري لسلامة المجتمع والدولة الإسلامية وخاصة فيما يتعلق بتربية الفرد المسلم ، حيث يصبح الدين كالقانون … لا يقوم الفرد والحاكم بالالتزام به إلا إذا فرض عليهما ، وهما على الدوام في محاولة للتحايل عليه وعلى أحكامه وشريعته … وبالتالي يتم تحديد فاعليته (الدين ) وتجاهل الجانب التربوي فيه وتقليص دوره في صياغة الإنسان ، كما يقود ذلك إلى تقليص دور العقل … حيث اصبح همنا هو البحث في السياسة لتأييد حاكم قائم أو تشويه حاكم قديم ( بفتاوى رجال الدين كالغزالي مثلا ) وعليه فلم يستوعب المسلمون درس الإسلام ولم يفهموه كرسالة تربوية … حيث ظل الإسلام خارجهم يسكن مصاحفهم الموضوعة على الرفوف ، وتمسكوا فقط بقواعد المعاملات الدنيوية … ولم يقتصر الأمر على ما أصاب الهوية العربية – الإسلامية وانتفاء تطبيق الأحكام الشرعية في تسيير أمور الدولة والرعية ، بل ولم يكتفي الحاكم أو الملك أو الرئيس أو صاحب العمامة بالهيلمان والسلطان والجبروت والمسوغات الدينية المفبركةFabrication- Vindicatoryحاليا في تبرير العلاقة بين الحاكم والمحكومين -الرعية - أو بما ورثه ، بل تجاوزوا وتمادوا بمسخها –الأحكام- حتى انهم تجرؤا وتدّخلوا في أركان الإسلام الخمسة مثلا ، والتي تعتبر انعكاسا لأيمان المسلم بالله ومن ثوابته المقدسة والمنزلة والتسليم بواسطتها بالله ولله ، وليس للحاكم أو صاحب العمامة أي علاقة بهذه الثوابت ، كفريضة الحج السنوية إذ يمنع المسلم حتى لو امتلك الشروط الشرعية ( كالبلوغ والرشد والاستطاعة والقدرة ) على أدائها نتيجة تدخل الحاكم وبناء على توصية – او فتوى- من صاحب العمامة بتطبيق التوزيع النسبي الخاص بالحجاج المسموح لهم بالتوجه إلى الديار الحجازية حسب عدد سكان كل قطر عربي أو إسلامي أو(1/33)
حتى أجنبي إلا بعد التنسيق مع السلطات السعودية ، ويشترط في هذه الحالة أن تكون المناسك ضمن قوافل جماعية بدءا من بلد الحاج ومرورا بأداء المناسك وانتهاء بالعودة ، وهنا نلمس مدى الفوضى والمحسوبية والواسطة في التمييز والتسجيل إلى الحج مما يلحق بالبقية الظلم والإجحاف ، فيضطر من لم يحالفه الحظ أو من لم تشمله مكرمة الزعيم أو الرئيس أو الملك من الرعية ، فيقوم بمناشدة أهل الحل والعقد ومن بيدهم مناسك الحج ... ومساعدتهم في التسجيل للحج لهذا العام …علما بأنه قد سجل للحج في مديرية الأوقاف في محافظة…وبتزكية (وواسطة) من المفتي …الشرعي …ولم يأتنا أي رد على ذلك … لذا نرجو من سيادتكم مساعدتنا في إصدار تعليماتكم الحكيمة لقبولنا للحج هذا العام " ( القدس ، 1/2/2001، ص/4)… وهنا نريد أن نتساءل ماذا لو يتم قبول أو تسجيل المواطن ضمن قوافل الحج …علما بأنه ركن من أركان الإسلام الخمسة والذي بدونه يعتبر المسلم ناقص الإيمان …؟ ألا يعني ذلك أن السلطة السياسية تتدخل في عبادة الإنسان وتهبه أو تحرمه من الثواب و تجبره على دخول الجحيم (النار) ، وكأن الحاكم أو المفتي في هذه الحالة يضع نفسه بديلا عن الله وأنه يهب عطايا الإيمان والجنة لزبانيته وازلامه ومحاسيبه على حساب الرعية ، فأمكن لأصحاب المصالح أن يجدوا في تعاليم الدين تأويلا مصلحيا أو سياسيا لتأييد موقفهم وشرعية حكمهم أو وجهة نظرهم أو فتاواهم … حتى أن البعض تمادى واستخرج من الدين… تبريرات للجريمة ومسوّغ للظلم والقهر والجبروت وتسخير الدين… لخدمة الخرافات والأساطير والبدع ومعالجة الأمراض بالأدعية وحتى في هزيمة الأعداء ( كما هو متبع اليوم في خطب الجمعة ) – التشديد من عندنا - … واحترف البعض كشف الغيب Chirmonacy-وقراءة الطالع- Palmmistryومطاردة الجن والشياطين – Demons Pursuit .. ( عبد الحميد البكوش ، 1998 ، ص /32- 33 ) .(1/34)
إن ما دعانا للتركيز على العقيدة الإسلامية ونظام الحكم هو أنها كانت لغاية القرن العشرين هي المصدر الوحيد في إدارة الدولة والمجتمع قبل أن تنبثق دول العالم العربي الحديث (العلماني )، لذا فقد عانت الرعية في ظل فساد أنظمة الحكم الإسلامية منذ ألف عام " من التطبيق الصارم لقواعد الدين على معاملاتهم السياسية والاجتماعية والاقتصادية ، وفي ظل تفريغ الشريعة من محتواها الإنساني الهادف لخير وسعادة البشر ، ففساد النظام السياسي .. حولهم إلى مجتمع…خائف ومطيع لا حرية فيه ولا إبداع…ولم تنجح الصرامة بالتالي إلا في خلق… مجتمع من العبيد والجهلة…ولم يقتصر الأمر على الرعية ، بل امتدت عدوى ( الجهل )…إلى الحكام والفقهاء …الذين انقلبوا بين ليلة وضحاها وبعد أن اصطدمت مصالحهم الدنيوية بمصالح الحكام والسلاطين ، فأصبحوا ينادون بإقامة حكومة إسلامية وأصبح الحاكم فقيها يجاهد في الحفاظ على كرسيه بعد أن كانا (الحاكم والفقيه) بالأمس حلفاء مصلحة " (المصدر السابق ، ص/33 ) .(1/35)
لقد حدث للإسلام شيء قريب كالذي حدث " لأديان سماوية أخرى … حتى تجاوز الناس حدودهم في تفسير وتأويل تعاليم العقيدة ، فطرأ على فهمهم الكثير من التعقيد والاختلاف " (المصدر السابق ، ص/ 34) … مما جعلهم يضفون على المتخصصين ( الفقهاء ) صبغة القداسة ، حتى أن رجال الدين صدّقوا أنفسهم انهم ( ذو قداسة ) وتميزوا عن الرعية ، حتى بنمط ملابسهم التي تشيع في النفس الهيبة والسلطوية والإجلال والطاعة ، باعتبارهم في نظر الرعية يحتكرون فهم تعاليم الدين وحدهم ، حتى تمادت الرعية في هذه البدعة وقدّمت لهم ألاعطيات والنذور والهبات والأقطاعات ومن كل شيء عزيز وثمين كان لهم منه النصيب الأوفر والأول ، للحصول على البركة الكاذبة منهم ، والتي جعلتهم (رجال الدين ) يصدقون انفسهم ويمتهنون الدين ويمتطون الرعية ، حيث ينطبق عليهم المثل القائل ( العمر على الله والعيشة على الأجاويد –Pauper ) .
إن الفوضى والحالة هذه هي نقيض النظام والانتظام من جهة ، وان اعتبرت قيمة بعد أن كانت أزمة اجتماعية تعني الغموض وانعدام التوازن والاستقرار من جهة أخرى ، أما كقيمة فلأنها موجودة في المجتمع من خلال الأعراف والثقافة والتقاليد والأخلاق والعادات والقوانين وأنماط الحياة ونظم الحكم ، لذا فان تأثيرها قد انعكس على سلوك وأخلاق وتقدم ورقي الإنسان العربي .. وعادت بالمجتمع إلى حياة البداءة والغموض .. ( عبد العزيز قباني ،1992، ص/17 ) .(1/36)
وباعتبارها مصدر ( وأم ) الآفات والظواهر والعلل الاجتماعية ( كما الخمر) في نظر الشريعة ، وبكونها( الفوضى) أزمة شاملة تبدأ من الأسرة والمدرسة والمجتمع وتنتهي بالحياة اليومية وطبيعة نظام الحكم وإدارة الدولة وما تشمله من مؤسسات ، حتى أنها تجاوزت الجوانب المادية للمجتمع والدولة أصبحت تسيطر ( تتحكم وتقود ) الفرد من حيث طبيعة العلاقات الجنسية والشهوانية والثقافية والاقتصادية والنقابية والعلاقاتية والطائفية وحتى الجيش ، الذي يتصف بالضبط والربط والنظام فلم يخلص منها ، وحتى في مجالات الفكر والفن والمأكل والملبس وطرق التعامل اليومية … وفي كل شيء ، ولهذا فهي تعيش معنا وبنا (وبداخلنا ) من الميلاد حتى الموت ، بل أصبحت من ضرورات الحياة في المجتمع حتى أنها ..تعتبر شيئا طبيعيا أو نظريا في الفعل ورد الفعل .. ( قباني ،1992 ، ص/150)… وهي ليست وليدة حقبة معينة بل لها صلة تاريخية بالماضي ، والدليل أننا نعيش الحاضر بها ، وهنا السؤال …هل هي موروث أم موروثة…؟ أم هي تقليد …؟ وان كانت كذلك فهل هو مكتسب أم أصيل 000؟ وما علاقتها بأنماط التربية الاجتماعية والثقافية والقيم والأعراف والنظم …؟ وما هو موقف المجتمع منها...؟ بل ما هو موقف الدولة أيضا منها... ؟ وما هي الحلول الناجعة لمكافحتها واستئصالها ...؟ وهل هي عربية أم عالمية الطابع أم إقليمية المظهر…؟ ولماذا شعوب العالم الثالث ومن ضمنها أقطار الوطن العربي مبتلاة بها000؟ وأخيرا ما هي العوامل أو (الحبال السرية - Funiculus ) التي تغذيها وتمدها بالحياة والديمومة والاستمرارية حتى الألفية الثالثة …؟
3:2 - فوضى القيم والثقافة في غياب الضبط الاجتماعي والتربية في البناء الاجتماعي :-(1/37)
ان التربية ( Breeding ) هي المسؤولة عن سلوك الافراد والجماعات ولها دور هام في ترسيخ القيم في نفوسهم وهي المحدد لاطار وانماط السلوك العام ، والتي تتضمن الاخلاص والولاء للنظام الاجتماعي القائم ، لهذا فان التربية تعتبر السلطة الاجتماعية الضابطة ( Social Control ) وهي انعكاس لنظام الجماعة التربوي وبيئتها التربوية وانماطها الثقافية والحضارية وتعكس احوالها السياسية ... فالتربية هي التي تكيف الفرد ضمن الضوابط الاجتماعية التي يفرضها المجتمع وهي اليوم من مسؤولية الدول والحكومات كاداة ضابطة لاستقرار المجتمع وتدعيم السلطة السياسية .. ( ابراهيم ناصر ، 1994 ، ص/99) .
إن الإطار الذي يحكم سلوك مجتمعاتنا العربية في الإطار العام لمفاهيم القيم والثقافة والتربية في البناء الاجتماعي – Social construction ( كنظم - Systems ) ينم عن فوضى عارمة ، حتى في قفزات الفرد والمجتمع عنها ، فمن هذه الأطر (كالقفز فوق القيم والثقافة والتقاليد والتربية ) تتم أو تأخذ الطابع اللاأخلاقي وعدم التدرج من خلال الارتقاء ثم الاستقرار في الوضع الطبيعي ، فهذا غير متبع ولا يؤخذ به .
ففيما يتعلق بالقيم وبغض النظر عن التعريف وتحديد دورها في حل المشكلات الاجتماعية ، تهدف إلى إيجاد الصيغ المقبولة .. للمشكلات الناجمة عن عدم ملائمة الوسائل الاجتماعية ، لتحقيق الأهداف الاجتماعية … وعن عدم وضوح الجزاءات وفصلها في الصراع الذي ينشب بين القيم والمجتمع ، وأخيرا يتحدد دورها في إيضاح أبعاد تدرج القيم في المجتمع .. (جليل شكور ، 1998 ، ص /84 ) 0(1/38)
إن العلاقة بين نظام القيم ونمط التربية السائد في المجتمع فيما يتعلق بطبيعة النشأة الاجتماعية .. تعد إحدى مرتكزات العملية التربوية وتحقيقها يعد من أهم مقاصدها ووظائفها ، حيث يحتاج المتعلم في أي فئة عمريه ، أن يتعلم كيف ينبغي له أن يسلك في الحياة وليس فقط عن طريق المعرفة الخلقية وعاداتها عن طريق الممارسة … لما لها من دور هام في توجيه سلوك الفرد والجماعة … وتتميز بسمات وخصائص تحدد الصبغة الاجتماعية العامة للمجتمع وقبوله لها عن طريق التعلم بالملاحظة… وهذا يتعلق ببعدي الزمان والمكان واختلافهما كنسق ذاتي / نسبي من حيث القبول أو الرفض ، ثم هناك الهرمية والقابلية للتغيير المتدرج من حيث الأهمية ، بالإضافة إلى اتصافها من خلال التجربة بقطبين إما خير أو شر، وأخيرا صبغتها القومية والمثالية على اعتبار أنها ليست شئ .. ( صالح ابوجادو ، 1998 ، ص / 233-235) .(1/39)
وما دمنا نستعرض سمات وخصائص القيم لنرى كيف يتعامل العربي معها إلى اليوم .. فلا يزال في فكره ووجدانه يخضع للتأثير القوي للتراث العربي / الإسلامي … ولا يزال مضطربا في سلوكه ووجدانه بين المفاهيم التي ترتبط بالحياة المعاصرة اليوم .. وبين تلك التي ترجع إلى مفاهيم أخرى ترسبت في لا شعوره الجمعي / العربي عبر الأزمنة والعصور الغابرة .. (غسان سلامة واخرون ، ج/1، 1989 ، ص / 142 ) … ولنأخذ مثلا على ذلك قيمة الحرية ونلاحظ مدى علاقتها بالفوضى ضمن مفهوم إنسان العالم الثالث ومن ضمنه الإنسان العربي .. الذي يعيش في مجتمعات الغرب … الذي يبهره ويثيره ما فيها من حرية … ولكنه لا يقبل تطبيقها … في مجتمعه خشية منها على الجنس أي على (المرأة ) بل وعلى سائر قيمه المتخلفة … ومع هذا…( فالحرية ليست بلا حدود )…بل إن حدودها المسؤولية وحرية الآخرين ...( فهل هكذا يفهمها ويمارسها العربي …؟ ( لا نظن ذلك ) – التشديد من عندنا – لأن الحرية لا يمكن فهمها إلا من خلال النظام والانتظام ، وإلا أخذت طابع الفوضى والعشوائية وستتعرض حياة الآخرين إلى التجاوز والاعتداء ، وبعكس ذلك فان المجتمع يزداد نظاما وانتظاما .. (عبد العزيز قباني ،1997، ص / 118 ) .(1/40)
يقول المعلم ابن خلدون في مقدمته ص/ 129- 131" في وصف العرب " ان المغلوب مولع ابدا بالاقتداء بالغالب في شعاره وزيه ونحلته وسائر احواله وعوائده ... وان العرب ى يتغلبون الا على البسائط ... ويحبون السلب والنهب السهل ولا يحبون الزحف والمحاربة ولا يركبون الصعاب " ...هذا ما ينطبق على المجتمعات العربية من المحيط الى الخليج وخاصة في المجتمع الفلسطيني ( وهو مثال دراسة حالة المجتمعات العربية في المشرق العربي) خاصة بعد عام 1994 وخاصة فيما يتعلق في نمط تناول الطعام والزي ( الملبس ) والشعر والسلوك العام ( كالمشي ) وحتى في الحديث (عبرية مع انحليزية مشوهة) وحمل واستخدام السلاح وحتى حفلات الزفاف ( اعراس السبت ) وانتهاءا بالادارة والسلك الوظيفي ..ان هذا السلوك يسمى التماهي او التشبه بالغالب او القوي او المنتصر او المعتدي ( Identification Aggressor) من حيث السلوك والخصائص والادوات ونمط الاعتداء حيث تنتشر هذه الظاهرة بين الشعوب المستعمرة .
لنستعرض بعضا من قيم المجتمع العربي ونرى بعض سماتها التي تتصف .. بالقدرية والأتكالية والقناعة وبالقسمة والنصيب .. (شكور ، 1997، ص / 81 ) والمبالغة والكذب والتلفيق والترقيع والأوهام والخرافة والتبرير المشوه… مثل "( نار جوزي ولا جنة أبوي ) و(حبايب يا مرقة العدس ) و(الخبز الحاف بربي الأكتاف ) و(خليك الحيط الحيط وقول يا الله السلامة) و(شعره من … الخنزير بركة ) و(اربط الحمار مطرح ما بقل لك صاحبه ) و(إن جيت على ناس بتعبد العجل حش وأطعم) و( إن كنت بين العوران اعور عينك ) و(إن انجّنوا جماعتك عقلك ما بنفعك)" (معجم الأمثال الشعبية الفلسطينية ،1989) .(1/41)
ومن سماتها كذلك التمسك بالعادات والتقاليد المتوارثة -على اعتبار أنها أساس حل لكل مشكلة اجتماعية- والعاطفية والترابط وحب المعاشرة ، كانعكاس لأهمية الجماعة على الفرد "والاهتمام بالشكل (الغلاف الخارجي ) .. للمواضيع على حساب المضمون ، والخوف من كلام الناس والمحافظة على شرف العائلة وسمعتها والطاعة واحترام السلطة .. ( شكور ، 1997 ، ص / 82 ) ...حتى أن العربي ينتحر ولا تلوث سمعته وتسمى سوء السمعة Notoriety ) ( .
ومن تجليات تقمّص بعض القيم السلبية في مجتمعنا العربي ولما له من علاقة بالتخلف ، هو ما يتعلق بمستوى السلوك وخاصة ما يتعلق بشريحة أو فئة لبعض المثقفين ( كنموذج ) .. الذين يضطرون إلى الالتزام بنظام اجتماعي من اجل الانتظام والتكيف…( بعد تحرير السلوك للوصول إلى الأمن النفسي )… والذي هو تنازل من الأفراد عن القيم التي لا تأتلف ونظام المجتمع الجديد أو البيئة الجديدة مثلا…( كالجامعة أو السكن في حي راقي )… فالتنازل لا يعني أبدا اقتلاع القيمة المتنافرة ، بل دفعها إلى الوراء… ( إخمادها- (Suppression )… بحيث تكف عن التعبير بالسلوك بمنطق العقل والا بدا (السلوك) نافرا نشازا مصطنعا ( Artificial ) ومستهجنا مما يحط من قيم الذات واعتبارها.. (قباني ،1997 ، ص/ 59 ) .
كذلك هناك فوضى من حيث نوعية القيم السائدة وخاصة فيما يتعلق بالعلاقة بين الموقع الطبقي والقيم في حياة المدينة ، حيث .. تتمسك الطبقات الحاكمة البرجوازية بقيم النجاح والربح والكسب المادي والطموح والتحديث والاقتباس والسفر والاستنفاخInflation ) ) …بالمقابل… نجد أن الطبقات الكادحة تشدد على قيم العلاقات الشخصية في الجيرة والقيم العائلية والصبر والإيمان والاستسلام والأتكالية .. (بركات ، 1996 ، ص /99) .(1/42)
لنستعرض صورة من صور القناعة المبنية على النصيب النابع من الحرمان من خلال مقطع من قصيدة " الكنز" للشاعر محمد صالح المنشورة في ( مجلة العربي / العدد /494 / لسنة / 2000) : -
ذات مرة أضعت كنزا
قطعة فضية من فئة القرشين
مستديرة ولامعة
لكنها قفزت فجأة
واختفت في ذلك الصدع
( تصور ما هو الكنز الذي أضاعه … ؟ ) ثم يقول :-
تنتابني أحيانا أحلام غريبة
إنني أجد ثروة في المنعطف هناك
حيث أعبر كل يوم
وأتطلع
يبدو أن رقما إلى يمينه أربعة أصفار
هو كل ما احتاجه
ما يكفي فقط لأحقق ذلك الحلم
وأكرس الوقت الطويل القليل الباقي
لنفسي
لكنني سأهجر بيتي
وأترك عملي
وأسافر
سوف أغيب طويلا
ويقول أحد الباحثين الاجتماعيين حول سر استمرارية الفوضى والأمراض الاجتماعية الأخرى حيث " يتم اكتساب القيم إما عن طريق التفاعل مع أشخاص أو جماعات ، وإما نتيجة الخبرات الفردية السابقة … فالأولى نتيجة لعملية التنشئة التي تعتبر الأهم وخاصة في مرحلة دور الأسرة في التكوين من خلال محافظتها على الثقافة واستمراريتها ، وتشكيلها همزة وصل بين الفرد والمجتمع وإكساب الطفل اللغة والعادات والتقاليد والمعتقدات ومعايير السلوك والنسق القيمي في المجتمع …بالإضافة إلى المؤسسات الاجتماعية الأخرى كالمدرسة والنادي والجمعية ووسائل الإعلام ومؤسسات السلطة الرسمية والأحزاب السياسية ، وأما الثانية…وهي القيم المكتسبة عن طريق الخبرات الفردية السابقة … فهي نتيجة مشاهدة ومعايشة الفرد لطبيعة العلاقات بين الوالدين أو الكبار من أفراد أسرته ومجتمعه " ( شكور ، 1998 ، ص/ 87 ) .(1/43)
وعلى افتراض أن الفوضى ترسّخت كقيمة اجتماعية فان القيمة نظام وتنميط للحركة وحفز وإلزام للإرادة … وتحديد سلوك ، وهي صفة … تحوز على التقدير والاحترام والإعجاب … أو تحوز على التنفير كالجبن والسرقة ، ولهذا فهي إما حافزة للاتصاف…(للتمسك )… بها وإما صارخة…( منفّرة)… منها… وهي قناة تعبر من خلالها إرادة الحياة إلى الواقع…( كالتنافس والاصطراع والاحتراب )…إشباعا لحاجات الذات المادية والمعنوية ، وتحقيقا لوجودها في أهدافه وغاياته … وهي إيجابية وفقا لمقاييس البيئة ومفاهيمها …(كالتميز والتفرد )…وهي معيار- تقيس به البيئة ذات الفرد - سلوك بقياسها ومقدار تعبيرها عن الدرجة والمرتبة الأخلاقية المجتمعية …فكلما كان معنى…المضمون إيجابا زاد الاحترام والتماهي … وسلبا فتغدو منّفرة … وهي بمثابة الضمير للفرد … تطالبه وتلّح وتدفعه للأمام أو تثبط عزيمته وتهبط به إلى الأسفل ، فتلجئه إلى المخادعة ومن وراء الستار لإقناع الذات بتحقيق مطلبها …لأنها متمكنة منها بفضل البيئة أو بالوعي الثقافي السائد … فالبيئة هي التي تحدد أولويات القيم الجاذبة بإيجابياتها أو سلبياتها … وهي تمييزية حتى لو كان ذلك ينتهك من جوهر الإنسان ، وان عجزت الذات من خلال القيمة عن تحقيق التميز والتفرد لسبب ما فان القيمة تزور(تبتعد) عنها والوسيلة الموصلة بعد ذلك لا تهم … لان البيئة الاجتماعية ( Social Environment ) هي التي تحدد أفضليتها وفقا لمفاهيمها كالجريمة والعنف وحتى ممارسة المهنة .. فان كانت قيم ممارس المهنة سلبية فإنها… تنعكس على تعامله مع المجتمع … حتى الأمراض النفسية ترتبط ارتباطا وثيقا بقيم المجتمع مثل… العجز والفشل والإحباط والخوف ، أو… حتى الحرية … التي يختلف في مفهومها وتفسيرها سواء من اجل خدمة المصلحة أو تعارضها أو حتى مفهوم الديمقراطية … فالقيمة لا تفن ولا تنعدم … ولكنها تضمر وتنزوي في خلفيات النفس…( اللاوعي)… تنتظر ظروفا(1/44)
ملائمة لتعود إلى النمو الفاعل في الواقع كواقع مجتمعنا العربي .. ( قباني ،1997، ص/61- 68) …إذن والحالة هذه فان الفوضى هي قيمة تماما كغيرها من القيم .
ان البناء الاجتماعي يعني طبيعة النسق المعقد للقواعد العلاقات المتبادلة والتصرف والسلوك المتوقع من كل فرد ، والتي تربط بين الاجزاء لتشكل كلا متماسكا وهذا التعريف ينظر للمجتمع على انه :-
كائن حي ولا بد من ايجاد حالة من التوازن بين اجزائه واعضائه .
على انه يتكون من اجزاء تدخل في تكوين الكل وهو البناء الاجتماعي والاجزاء هم الافراد والكل هو المجتمع .
على انه نتيجة التفاعل بين الافراد عن طريق ادائهم لادوارهم في مراكزهم المحددة لهم ضمن البناء الاجتماعي .
ان البناء الاجتماعي والحالة هذه يختلف عن التنظيم الاجتماعي ( Social Organization) الذي يعني ترتيب اوجه النشاط ضمن البناء الاجتماعي .. لكن ماذا سيحدث لو هيمن او سيطر احد اوجه او احد انساق التنظيم الاجتماعي ( كالنسق العسكري مثلا ) على بقية انساق البناء الاجتماعي وان افراد هذا النسق المهيمن غير مؤهلين وليست لهم الكفاءة والمؤهلات العلمية والخبرة لادارة بقية انساق البناء الاجتماعي .....؟ ان ذلك يخلق :-
عدم الانسجام في نمط العلاقات الاجتماعية ( Social Relatios ) مما يخلق ما يسمى بالصراع ( Conflict ) .
تفكك اجزاء البناء الاجتماعي المتشابك .
يتصف البناء الاجتماعي في مثل هذه الحالة بالجمود والثبات وهو عكس الاستقرار والاستمرارية .
ينتج ما نسميه بفوضى الحراك والتدرج الاجتماعي (Mobility & Social Stratifiction) .
واخيرا تأتي النتيجة بما يسمى بالوهن التنظيمي او التفكك الاجتماعي ( Social Disorganization ) .
1:3:2- فوضى القيم والثقافة في التغير الاجتماعي :-(1/45)
ان الثقافة ( Culture ) تعني التراث ( Heritage) الذي ينتقل من الجيل السابق الى الجيل اللاحق وهو مكتسب من الحياة في المجتمع من قبل الافراد الذين يعيشون فيه وهو تراكمي ومتطور ويشمل الجوانب المادية والمعنوية في احداث التغير الاجتماعي .
والانغلاق الثقافي (Culture Isolation ) يعني العيش ضمن الثقافة الواحدة من دون الانفتاح على غيرها من الثقافات والحكم على انها الثقافة الطبيعية الوحيدة وما عداها يجب ان يقاس عليها وان الثقافات الاخرى لا اهمية لها .
إن الشعور بالنقص ( Inferiority Complex ) هو السبب الرئيسي في اختلال التوازن في تقييم الذات لصالح الغير وخاصة عند شعور الفرد بطعنة عميقة ومستمرة في قيمه ومثله وثقافته وفكره ، فيشعر بالمرارة والتخلف بسبب إعاقة في التكوين النفسي ، حيث يجنح به ذلك للتعويض والتخيل بسبب شدة الفوضى التي يعانيها .. جراء ازدواجية الثقافة والصراع بين التقاليد القديمة وبين الانطلاقات الحديثة وضروراتها ، مما يسبب له التمزق والحيرة والقلق الداخلي وينعكس بالتالي على الموقف والأخلاق والسلوك والإبداع .. ( علي زيعور ، 1987، ص/105 ) .
التغير الاجتماعي وعلاقته بالثقافة السائدة :-
ان التغير الاجتماعيSocial change) ) يعني التبدل في الابنية الاجتماعية أي في انماط الفعل الاجتماعي ( السلوك والتصرف ) والتفاعل الاجتماعي بما فيها من نتائج ومظاهر متمثلة في معايير وقيم ونتاجات ثقافية ، بمعنى ان التغير والتبدل او الاضافة يشمل النظم والظواهر والعلاقات الاجتماعية بدون تحديد اتجاه هذا التغير الذي يعتبر نتيجة التغير الثقافي والذي يصيب انساق وافكار متنوعة من المعتقدات والقيم والمعايير أي ( عناصر الثقافة المعنوية ) ... ولكن كيف يحدث التغير الاجتماعي ....؟ انه يحدث ضمن نظريات وحسب اسس ومحددات وعوامل واسباب وهي التي تعنينا ومن اهمها... ( مبادئ علم الاجتماع ،2000 ، ص/308-311 ) :-(1/46)
فكري- ايدولوجي .
اقتصادي .
تقني – تكنولجي .
ديموغرافي ( سكاني) .
بيئي – ايكولوجي .
عنصري ( بيولوجي ) .
ثقافي .
ديني .
والتغير الاجتماعي بحاجة الى حركة اجتماعية ( Social Movement ) ليحدث في المجتمع ، اما الى وضع مرضي او غير مرضي ، ولهذه الحركات نماذج متعددة منها الاصلاحية او التراجعية او الثورية او التعبيرية ( الاحتجاجية ) والاخيرة على نمطين اما شرعية او غير شرعية ... لكن في كلا الحالتين فان للتغير الاجتماعي اثار اهمها :-
اما ان تتعارض مع القوانين السائدة .
واما التوفيق بين القيم المتعارضة .
واما الموافقة على التجديد .
اذن من خلال الاثار نستنتج ان هناك معوقات امام التغير الاجتماعي تتعلق بـ :-
معيقات اجتماعية وهي اما ان تكون قسرية او للمحافظة على الوضع القائم او لعدم تجانس وتكامل المجتمع .
معيقات اقتصادية وهي اما لقلة الموارد الاقتصادية او لانخفاض المستوى التعليمي او الثقافي .
معيقات بيئية – ايكولوجية .(1/47)
لنأخذ مثلا الشعور بالنقص والعجز الاجتماعي ( Social Incapacity) الذي يعانيه الفرد العربي خاصة أمام الضيف أو الغريب أو الأجنبي ، فهو يشعر بكبرياء في تدخينه سيجارة أو حين يلبس ثيابا أجنبية ، بالإضافة إلى انه شديد الانضباط في مواعيده مع الأجنبي ، ويكون في منتهى الأدب والرقة والاتيكيت المصطنع والتملق والمداهنة ( Adulation & Cajolery) ، أما في حالة السير معه في الشوارع وعلى الأرصفة فأنه ( العربي)… يلتزم بعبور الشارع من المكان المخصص للمشاة ، حتى انه لا يتجرأ على التدخين في السيارة أو الحافلة وهو معه ، حتى في قيادته للسيارة أيضا تراه يتحلى بفن وذوق وأخلاق السياقة الراقية أمام الأجنبي ..(الحياة الجديدة 17/6/2000، ص/5)… لكن في حالة التخلّص منه (من الأجنبي) فان العربي يعود ( Retrace ) إلى طبيعته الفوضوية من عدم احترامه لمواعيده وزياراته وخاصة للمستشفيات ويدخّن في السيارات والحافلات ، بل ويتجرأ بصفع رجل المرور ، على عكس ما أظهره أمام الأجنبي قبل لحظات …لماذا…؟ لأن هذه اللحظات ( أمام الأجنبي) تعطينا الفرصة لنعيش ونتلذذ (Relish ) التميز والتفرد أمامه لنحاكيه ، وهذا ما تحدثنا عنه في موضوعة ( القيم ونمط التربية والحرية كمثال ) ، وحتى وأن أتقنا ممارسة الحرية أمام الأجنبي فهي فوضوية بالمقاييس الأخلاقية والاجتماعية ، لأننا متأكدين من ذاتنا بأننا نقّلد ونكذب ونتجمل أمامه بسبب النقص الذي نعانيه من جهة ، ولأننا نفتقد لأساسيات التربية والثقافة الخاصة بقيم الحرية – والتي نحن بصددها- ولم نتعود عليها ، وهي في الحقيقة فوضى وليست حرية من جهة أخرى ، والا ما الذي يدفع الإنسان العربي لان يقول عند أي فعل يقوم به أو حركة أمام المجموع أو الأفراد مثلا ( أنا حر… اعمل ما يحلو لي ) وفي جميع المناسبات ، فهذا دليل على النقص والتشوه في التربية والسلوك والثقافة ، والذي ما زال شاغرا ومترسخا في داخلنا ومهما حاولنا(1/48)
سداده ( النقص- Penury ) .. فالعربي سيظل عربي ولو تغير دينه أو تقليده أو جلده .. ( واصف عبوشي، 1980، ص/6 ) .
إن أثر الثقافة يظهر جليا على سلوك الفرد أو .. بحسب ما يومئ به نظام القيم لديه … والذي كوّنه خلال حياته وتربيته وتنشئته وعلاقاته …الأمر الذي قد يتعارض مع نظام القيم السائد في المجتمع ، لذا فكل فرد في هذه الحالة من (الفوضى ) يتصرف ويسلك ويحكم على الأمور من خلال نظام كونه وترسّخ لديه ضمن ما يسمى بالتنظيم الاجتماعي .. (شكور ، 19، ص/85 ) .
لهذا فالتنظيم الاجتماعي يعتبر من انماط السلوك تجمعت حول حاجات الانسان الاساسية ، ويعتبر مستودع التراث الثقافي يفيد كمرشد ودليل لكل سلوك ويعين كل دور او مركز ويحدد كل وظيفة ، حيث يصبح السلوك من خلال التنظيم الاجتماعي رسميا ومنمطا خاصة حين يرتبط بقيم ثقافية ويؤدى بطريقة آلية ومن ثم يترسخ ويتعمق الخضوع له ، وبالتالي يتقبل الناس معاييره من خلال السلوك المقبول والمرضي ، لكن ان تحول عن هذه الانماط السلوكية ( المشار اليها ) فان السبب ان هناك تباين ثقافي ينتج صراعا اجتماعيا كما راينا سابقا.
ان التنظيم الاجتماعي يرتبط بالبناء الاجتماعي ارتباطا التحاميا وما البناء الاجتماعي الا النتيجة النهائية للتنظيم الاجتماعي او افراز طبيعي له حيث يشمل جميع مستويات العلاقات الاجتماعية في البناء الاجتماعي .
ومستوى العلاقات الاجتماعية في البناء الاجتماعي الطبيعي هي ثلاث ، اما في مجتمعاتنا العربية ربما تمتد لكثر من ذلك والمستويات الثلاث هي :-
المستوى الاول :- ويشمل الاسرة وجماعات الصداقة والشللية والاتراب والجيران ( الجماعة الاولية – Primary Group) .
المستوى الثاني :- ويشمل المدرسة او النادي او المؤسسة البروقراطية او اجهزة الدولة الرسمية ( الجماعة الثانوية – Secondary Group) .(1/49)
المستوى الثالث :- وتشمل العقيدة او الاتجاه الفني او الادبي او الفني او المهني او الجمعيات بانواعها ( الجماعة المرجعية – Reference Group ) .
والانسان السوي يجب ان تتوفر فيه المستويات الثلاث لتعكس نمط وطبيعة السلوك الانساني المنظم . اما في عالمنا الثالث او عالمنا العربي فهناك مشكلة ( تداخل ) في مستويات العلاقات بعضها ببعض والسبب :-
بكيفية الاتصال ونعني بها طبيعة العلاقات من الادنى الى الاعلى وبالعكس وتظهر خالية من المشاعر والعواطف والمودة ويظهر ذلك في جميع المستويات .
تداخل المستوى الاول بالمستوى الثاني ونعني به نشوء ( تكوين ) علاقات جماعة اولية في المستوى الثاني ( الجماعة الرسمية ) والسبب يرجع عما فقده الافراد من قيم ومعايير ثقافية وتعاطف في مؤسساتهم الرسمية كتكوين النقابات او الجمعيات .
تداخل المستوى الثالث بالمستوى الثاني ونعني به تداخل العلاقات المرجعية بالعلاقات الرسمية وهذه تتضح عندما يهيمن نسق اجتماعي –Social System ( كحزب او حركة او فكر سياسي او عسكري ) على جميع انساق البناء الاجتماعي ، وهنا تظهر الفئوية والطائفية والعنصرية ، وتصبح المناصب والمكافآت حكرا على المنتفعين واعوان الحزب او الحركة فقط ، وتصبح انساق البناء الاجتماعي مغلقة امام باقي الافراد كما حصل ويحصل في العراق وسوريا ولبنان والسلطة الفلسطينية ، انها فوضى ما بعدها فوضى .(1/50)
لم تقتصر الفوضى على التداخل ضمن المستويات الثلاث فقط ، فهناك مستوى رابع ولكنه غير رسمي أي انه خارج اطار البناء الاجتماعي وهو مستوى السلوك الجمعي – Colective Behavior – وهي النزعة القطيعية – Instinct Herd Gregarious - ومن المفترض في الوضع الطبيعي ان يكون هذا المستوى غير ثابت او مستمر ، وان يكون آني وطارئ وعفوي كالجمهور او الحشد او الجمع او مجموعات الشغب او الغوغاء او جماعات البدع او الصرعات ، الا انه في المجتمعات العربية عكس ذلك تماما لماذا ...؟ لان البناء والتنظيم والعلاقات الاجتماعية مصابة بفيروس الفوضى ولاننا نستهويها ونشعر بنشوة عارمة حينما نمارسها ، بل ونحس براحة تامة ومتعة بعد ان كنا موتورين ومحتقنين وساخطين ومفتقرين لنظام قيم وثقافة وتنشئة اجتماعية منظمة ومنمطة ، ونفتقر لوسائل الضبط الاجتماعي فانعدم الحس والشعور بالانتماء والوعي الوطني ، وهنا تخيلنا وكأن الوطن والمجتمع والنظام اعداء لنا فعثنا فسادا وفوضى ونهب وسلب وعنف وادمنا على ذلك ... ونعود مرة اخرى ونضرب مثلا على ذلك وهو العراق عشية سقوط بغداد ...ماذا فعلت الغوغاء وقطعان الشغب في مؤسسات النظام ....؟ والتي كانت تعتبر آليات ( Mechanism ) تدير علاقات وحياة المجتمع رسميا . لقد تسائلنا منذ البداية عن سبب نشوء هذه الظواهر ( السلوك الجمعي – القطيعي ) وسنجيب ولكن هذا لايعطيها المبرر او المسوغ في سلوكها او ديمومة وجودها الا اذا كان هناك :-
تباين كبير وواسع في الحراك الاجتماعي مما يولد اجحافا وحرمانا وظلم لهذه الجموع بمعنى ان هناك فئة معينة تسيطر وتهيمن على ثروات المجتمع وتمتلك القوة والنفوذ والسلطة والجاه دون غيرها .
اعتقاد هذه المجاميع ( Rabbles) بأنها قادرة على حل المشاكل التي تعاني منها بهذه الطريقة الفوضوية .
تعمد اجهزة الامن والمخابرات استفزاز هذه المجاميع بالاعتقالات والاشتباه وقطع الارزاق .(1/51)
فشل وسائل الضبط الاجتماعي ( كالمحاكم ودوائر الامن والشرطة ) في السيطرة وبسط النظام وحل المشاكل وتوفير الامن .
احساس هذه المجاميع بالظلم الاجتماعي في توزيع المناصب وفرص العمل والوظيفة والثروة .
سوء المعاملة التي تتعامل بها بعض انساق النظام الاجتماعي في ظل النظام السياسي الحاكم .
ومن الأمور الهامة أيضا طبيعة العلاقة بين نظام القيم وما يسمى بعصر اقتصاد المعرفة ويعني ذلك إن العلم هو ممارسة العلم ، والثقافة هي سلوك ، والمعرفة هي التطبيق العملي .. في حل إشكاليات قائمة أو استحداث أخرى جديدة … فمثلا ما زالت النصوص العربية بحاجة إلى الكثير من البحوث في مجال علم النفس اللغوي والتربوي ، حتى تتضح لنا الأسرار الخفية لهذه العملية الذهنية …التي اعتدنا أن نأخذها كقضية مسلمة … فالنص العربي ملغز( Cryptic )... يفهم ليقرأ ولا يقرأ ليفهم... ( نبيل علي ، مجلة العربي ، السنة /2000، ص/34 ) .(1/52)
ناهيك عما يلاقيه الأدب مثلا من حرب شعواء من قبل فئة التقليديين ، كما حدث عند نشر رواية (وليمة لأعشاب البحر) للكاتب السوري حيدر حيدر ، اذ ليست بالأهمية والخطورة والإلحاد حسب ادعاء الإسلامويين الجدد والملتحين ... حيث سقط اكثر من 50 جريحا جراء اشتباك طلاب جامعة الأزهر مع قوات الأمن المركزي المصري في القاهرة احتجاجا على الرواية وإساءتها للإسلام ، كما أطلق المتظاهرون هتافات ضد وزير الثقافة المصري فاروق حسني لسماحه بنشر الرواية... ( الحياة الجديدة ، 9/5/2000، ص/14)… لنرى المنفلوطي واصفا نظرة رجال الدين إلى الأدب ( كتجربة واقعية للكاتب ) فقال " كنت أعيش في مفتتح عمري به (الأدب ) بين أشياخ أزهريين من الطراز القديم … فكانوا يرون العمل به … من أعمال البطالة والعبث وفتنة من فتن الشيطان … فكانوا يحولون بيني وبينه … فكنت لا أستطيع أن ألم بكتابي إلا في الساعة التي آمن فيها على نفسي … وقليلا ما كنت أجدها ، وكثيرا ما كانوا يهجمون مني على ما لا يحبون ، فإذا عثروا في خزانتي أو تحت وسادتي أو بين لفائف ثوبي على ديوان شعر أو كتاب أدب ، خيل إليهم انهم ظفروا بالدينار في حقيبة السارق فأجد من البلاء بهم الغصص … ما لا يحتمل مثله مثلي "( مصطفى لطفي المنفلوطي ، 1983، ص/11 ) ... إن ذلك يعكس الإرهاب الفكري على حرية الثقافة والأدب المعاصر من جهة ، وتدخل السياسة والدين في قضية الحريات الفكرية والثقافية ، والا كيف تجرؤ إحدى محاكم القاهرة على تكفير نصر حامد أبو زيد وتطليق زوجته منه بقوة الشرع ، الذي كفّر الكاتب بسبب احتجاج لوبي اسلاموي – أزهري تمادى وتجاوز حدود الدولة ومؤسساتها ، والمنوط بها توفير الحماية الضرورية لحريات الأفراد الأساسية ، إنها الفوضى التي تريدها الدولة للهيمنة ولإلهاء الأفراد والجماعات والطوائف بعضها ببعض .(1/53)
فأهمية الثقافة اليوم تنبع من معانيها وإنجازاتها الحضارية والعلمية والتكنولوجية والأنثروبولوجية ، لذا فأن الثقافة العربية ليست متفردة ( Distinction ) ... لان التفرد يتطلب مكانة بارزة بين ثقافات الامم والمجتمعات من حيث الابداع العلمي والفني والتكنولوجي فثقافتنا ...هي ثقافة عامة مشتركة ومتنوعة … ومستمدة من اللغة العربية وآدابها ومن الدين والعائلة وأنماط الإنتاج المتشابهة والتحديات والنظام العام السائد ووحدة التجربة التاريخية… فهي نتاج تفاعلي بين قوى وأوضاع ومصادر متنوعة… وتفاعلها هذا تفاعل معقد دائم مستمر ودائري، ولم يقتصر الأمر على ذلك بل مارست الإمبريالية الاستعمار الثقافي والفكري والروحي والسياسي والاقتصادي … بأسلوبين متناقضين … نتج عنهما اقتلاع … وتشجيع التفكير التسلطي الغيبي ، فنشأت ثقافة ثنائية ضمن البلد الواحد … شملت أنواع الثقافة التي تحددت بالثقافة السائدة ( Prevailing Culture) وهي الأكثر انتشارا ، والثقافة الفرعية ( Ramiform Culture ) وهي الثقافة العامة ، والثقافة المضادة (Culture Counter ) وهي المتصارعة والمضادة للثقافة السائدة .. ( بركات ، 1996 ، ص / 52) .(1/54)
ولكن كيف يبدو مشهد واقعنا العربي ثقافيا ونحن في القرن الحادي والعشرين ….؟ يجيب على هذا السؤال سليمان العسكري ( رئيس تحرير مجلة العربي الكويتية ) في مقالة له بعنوان نحن والعام 2000 ، فيقول " إن العام 2000 يكشف لنا عمق فشلنا وتخلفنا … ويبدو هذا الواقع كالمتجه إلى المستقبل يحث السير إلى الوراء … أننا نبدو أشبه بذلك الشخص الذي وقع فجأة على واحد من تلك الممرات المتحركة إلكترونيا … نراه يهرول مذهولا في الاتجاه المعاكس لسير الممر، في اتجاه الماضي والتقليدي والمهجور في كثير من أمور العقل والمعاش " ...اذن لدينا تخلف ثقافي لان عناصر الثقافة المادية ( Material Factors) قد اثرت بنا وسادت ثقافتنا بسرعة اكبر من تأثير عناصر الثقافة المعنوية Intangible Factors -... وحينما نقول عناصر الثقافة المادية فاننا نعني العناصر التي نختبرها بحواسنا الخمسة ، أي انها الاشياء الواقعية الملوسة ونستخدمها في حياتنا اليومية ... وعناصر الثقافة المعنوية تعني العناصر التي لا تدرك بالحواس وغير ملموسة الا من خلال كيفية تعاملنا مع عناصر الثقافة المادية ومن خلال سلوكنا وانتاجنا المادي ، لانها تشمل القواعد والنظم والانماط السلوكية والفكرية والوجدانية وهي التي تحدد رؤيتنا لانفسنا وللعالم وللثقافات الاخرى ...اذن نعاني من تحدي ثقافي ( Culture Chalenge ) أي اننا نواجه صراعا مع ثقافات اخرى ترغب في الغاء ثقافتنا وشخصيتنا وهويتنا وبالتالي تحطيم بنائنا الاجتماعي على اعتبار ان هناك هوة ثقافية ( Culture Gap ) بيننا وبينها ....!(1/55)
إن دعاة الهوة الثقافية في العالم العربي والإسلامي يعارضون سياسات الانفتاح .. ويعارضون الدعاة الجدد لعالمية حقوق الإنسان والتحول الديمقراطي … بسبب إن الإسلام … يريد أن يكون دينا ودولة في آن واحد ، على عكس الإنسان الديمقراطي … الذي لا يقبل فرض حدود جغرافية أو إنسانية أو علوية … فرغم واقعية الفكر الإسلامي لكنه اقل مواتاه للديمقراطية ، خاصة هذا التعارض الوسواسي بين النظام… ( السلطة الراسخة )… وهي الدين وبين الفوضى… (الحرب الأهلية )… الناجمة عن الممارسة الديمقراطية " (غسان سلامة ، 1995 ، ص / 11- 12 ) … تماما حسب منطق ابن تيميه الذي يخلط بين الممارسة الديمقراطية وبين الحاجة إلى وجود سلطة عامة تضبط أمور الناس وكما يحرص الغزالي على ضبط الانكحة .
إن موضوعة الثقافة وعلاقتها بالقيم متشّعب ومتنوع كما أسلفنا ، لنأخذ مثلا معنى ومفهوم (الكوفية والعقال ) فهو في نظر المجتمع العشائري " يحدد رجولة الرجل وشجاعته وشرفه … فلا يجوز خلعها ، حيث تستغل الكوفية في الحرب والحماسة والأخذ بالثأر والفرح والتلويح بها ورميها عن الرأس هي والعباءة يعتبر رمزا للإهانة ، وهي رمز الاعتراف بالذنب في مكان الصلح…( وهي أداة تمّلك للمرأة ، فان ألقاها لابسها على المرأة فإما أن يحميها ويفديها ويذود عنها ، وإما أن يتزوجها ويتملكها قسرا ) – التشديد من عندنا - …فالكوفية والعباءة هي الإجراء الحاسم والقاطع "( التل ، 1999، ص / 340 – 342 ) … ولنفترض أن المرأة في هذه الحالة متزوجة فكيف سيكون الوضع حينها … هل يترك لها أي خيار…؟(1/56)
لنأخذ صورة أخرى من صور الوثنية المتوارثة (Beguested Paganism ) وهي عروس المولد – وهي دمية من الحلوى تباع وتؤكل بمناسبة المولد النبوي في مصر ، والنذور كمظهر من مظاهر التخلف الثقافي فيقول المنفلوطي بهذا الخصوص :- " يوجد في ضريح السيد البدوي صندوق توضع فيه النذور، ويبلغ مجموعها في العام نحو ستة آلاف جنيه فإذا فتح … يختص بعض الخلفاء…( القيّمين على الضريح )…بأخذ الربع مما فيه ، والباقي يوزع على أصحاب الأنصبة الكثيرين ... ( الفقراء وابن السبيل واليتامى والمحتاجين الخ…)… والصورة الأبشع هي ما يجب على الزائر أن يفعله عند زيارة ضريح (مقام ) عبد القادر الجيلاني في بغداد ، فأول ما يجب عمله هو أن " يتوضأ الزائر ثم يصلي ركعتين ثم يتوجه إلى تلك الكعبة… ( الضريح )…ويبدأ بالدعاء والمناجاة فيقول ( يا صاحب الثقلين اعني وفرج كربتي … يا سيد السماوات والأرض والنّفاع والضّرار والمتصرف في الأكوان والمطّلع على الأسرار ومحي الموتى ومبرئ ألاكمه والأبرص والأعمى وماحي الذنوب ودافع البلاء والرافع والواضع وصاحب الوجود التام …الخ" ( المنفلوطي ، 1983 ، ص / 65 ) … فهل يعقل إن كل هذه الصفات لصاحب الضريح وليست لله ...؟(1/57)
إن هذه الممارسات ما زالت متداولة بين الناس وهي آفة من آفات الثقافة العربية قديما وحديثا ولهذا فلم تراعى عوامل التغير الثقافي فحسب بل " فرض عليها فرضا أن تنهض بحمل مطلقات أو ادعاءات بامتلاك الحقيقة المطلقة ونفي الأخر الفكري والسياسي والديني والقومي وغير ذلك " ( محمد السيد سعيد ، 2000، ص / 45 ) … وعليه فما زالت هذه المجتمعات مبتلاة بالجهل والفقر ، رغم التقدم التكنولوجي في جميع المجالات وتطور التعليم وإكساب العقل مهارات فكرية وقدرات ذهنية إبداعية ، وما يسمى بالانفتاح على العالم كالهجرة والسياحة ووسائل الاتصالات والمواصلات والإعلام ، فالمنفلوطي خير من يصوّر لنا هذه المآسي ويرصد لنا عمق التخلف وفوضى القيم في كتاباته جميعها والتي شملت مختلف التركيبة الاجتماعية للمجتمع العربي والمصري بشكل خاص .
إن الثقافة العربية تعيش أزمة وجود ذات اوجه متعددة فهي لم تبلغ بعد مرحلة المصالحة بين الأنا والأخر ولا بين النحن وهم ، فالأنا " يمثله فريق نخبوي يفرض أيدلوجية بشكل فوقاني على السواد الأعظم … فيبرز الصراع هادئا حينا وعنيفا حينا أخر… والانا الأخر يعاني من انعزالية لم تعرف حقيقة التواصل والاتصال ، وفريق أخر يدّعي بالتواصل مع التراث إلا انه…(صدى)… ورد فعل على تيار الغربنة … وهو بذلك ازدواجي ، يقبل بالرأي الأخر ليحبذه أو ليحتمي من أذاه … ويخلق أرضية حوار قائمة على التضليل والتزييف والتمويه … ثم تتجمع هذه الأنماط السلبية لتأخذ مواقف متعددة من السلطة، التي تتحكم في فريق الأنا من اجل النفعية والارتزاق والعيش كالفطريات وعلى مغانم الطبقة الحاكمة تحقيقا لمبدأ الغاية تبرر الوسيلة ، ثم هناك فريق أخر معارض ورافض ومنكفئ على هامش الحياة الاجتماعية في مواجهة قسوة وقمع وطغيان الدولة التسلطية " (الطاهر لبيب واخرون ، 1992 ، ص / 11- 12) .(1/58)
فالمعنى العام يشير إلى أن الثقافة وقيمها (Culture Values )... هي عملية تقليد … تأخذ القشور وتترك الجذور … فالأول اسهل في الاستهلاك واكثر منه في الإنتاج واسهل للاستيعاب … فالتقليد اسهل للمتخلف… ولهذا نلاحظ في العرب العصريين …عنصر التصنع (الزيف) وعقد النقص…التي تنتج في الغالب من فجوة تحدث بين الإمكانيات والرغبات ...( عبوشي ، 1980 ، ص / 97 ) .
وما دمنا بالقشور والزيف فنرى البهرجة والمنفحة الكاذبة ( الاستنفاخ - Cockiness ) أمام الناس سواء بالتصرف أو بالفكر أو بالتعبير أو بالعمل .. فنراه مرتشيا وينادي بالمبادئ ويحبذ العمل في السلطة (السلك الحكومي ) وذلك نابع من الخوف المتأصل فيه من الأب ، حيث ينتقم لذاته من السلطة الحاكمة… (كإسقاط ) – التشديد من عندنا – ولا يقتصر الأمر على ذلك ، بل يمتد إلى المؤسسات الحكومية وغير الرسمية التي تحكمها العقلية البدوية والشللية والمحسوبية والمصالح الذاتية.. ( زيعور ، 1987 ، ص / 108) …وهذه تنتج كما قلنا الاستنفاخ كيف …؟ لنأخذ ظاهرة تقديم التهاني أو التعزية أو النعي في الصحف مثلا ، فنرى صاحب التهنئة أو التعزية يبدأ بوضع لقبه مثل (الدكتور … أو العميد… أو رئيس مجلس أمناء …أو النائب …أو مدير العلاقات العامة …الخ ) ثم يتبع ذلك الاسم واللقب بـ( أبو …) وجميع المرتبطين به ، والأدهى من ذلك أن صاحب الإعلان يتبع بعد لقبه اسم محلاته أو مكان عمله أو شركته وعنوانها ، ثم يصل بعد ذلك بكلمات قليلة إلى تقديم التهنئة أو التعزية وكأن المادة المنشورة ما هي إلا إعلان له ولنشاطاته أو ترويجا لمشاريعه …إن ذلك يعكس انعدام الذوق ومدى شعور الفرد بالخواء المتعلق بالتخلف الثقافي الناتج عن فوضى القيم وطغيان حب الذات والعصبية والمنفخة ، وسنلمس ذلك في فوضى قيم التربية والبناء الاجتماعي .
2:3:2 - فوضى قيم التربية والتدرج الاجتماعي في البناء الاجتماعي :-(1/59)
يفتقر الانسان العربي الى التربية المدنية ( Breeding Patriotic & ( Civilian والوطنية والتي نعني بها معرفته لحقوقه وواجباته نحو وطنه ونحو العالم الخارجي وكيفية تعامله مع الاخرين ، أي انه ( غير مؤنسن – Non-Humanize) لسبب بسيط وهو لحد الان لا يعرف ذاته اوهويته او نفسه من جهة ، ويفتقر لمفهوم الصالح العام ، وتلك هي معضلته الاساسية في عدم تكيفه واندماجه في علاقاته مع الاخرين سواء في مجتمعه المحلي – الوطني او على مستوى العالم الخارجي .(1/60)
إن افضل من شخّص السمات العامة للمجتمع العربي من حيث الشمولية والعمق والدقة هو حليم بركات (المجتمع العربي المعاصر ، 1996، ص/14- ص/224 ) ولشدة الاتساع في موضوع التربية والبناء الاجتماعي ارتأينا الاسترشاد به ، ولهذا فان المجتمع العربي مجتمع نامي ومتخلف من حيث التربية والبناء والنظم الاجتماعية ، معتبرين أن البناء الاجتماعي .. هو الهيكل التدرجي للمواقع الاجتماعية والثقافية والمهنية المتسلسلة والتي يشغلها الأفراد إما بالوراثة أو بالاكتساب ، ضمن شروط ومواصفات مهنية ومهارية وذكائية وخبرة ، من اجل بناء علاقات اجتماعية متفاعلة داخل المجتمع ، مع الأخذ بعين الاعتبار عوامل اللغة والمعتقدات والأمور الثقافية ومراعاة اختيار الفرد المناسب لكي يشغل الموقع الاجتماعي المناسب مقيدا بالضبط والامتثال لمعايير المجتمع وقيمه ، وكخطوة إلى نمو تنميط سلوكه في تكوين النسق الاجتماعي ..(معن خليل عمر ، 1992 ، ص/ 256 ) على اعتبار ان اهداف الهيكل الاجتماعي هو... احتضان الجماعة ... والطبقة الاجتماعية تحوي التنظيم الاجتماعي ، والمؤسسات الاجتماعية تحوي الجماعة العرفية ...وبالتالي لا يسمح الهيكل بأنفصال لاي وحدة من وحدات الهيكل في البناء الاجتماعي ... ( معن خليل عمر ، 1998 ، ص/ 46 ) ، إذ تتسم اطر البناء الاجتماعي بالجماعية والسلطوية فيما يتعلق بأنماط التفكير والحياة والسلوك بسبب تفاعلها ( الأطر ) مع.. الأنظمة الأجتصاسية .. (دويري،1997، ص/71) .
وما دمنا في سياق النسق الاجتماعي وعلاقته بنظام القيم السائد فان التركيب الاجتماعي يلعب دورا هاما في " تغيير نظام القيم …( النسق القيمي – Values System )…وفي إيجاد مواقف تتناقض فيها القيم التي تحكم سلوك الفرد منذ القيام بالدور الاجتماعي … ويمكن اعتبار هذا التناقض مشكلة اجتماعية .. (شكور ، 1998 ، ص/85) .(1/61)
إن نواة المجتمع العربي كما هو معروف هي العشيرة والقبيلة ( Tribe Kin & ) التي يتحدد من خلالها موقع الأسرة والفرد ، منذ نشأته الأولى وعلاقته / ها البطريركية - التقليدية في بداية مرحلة الاندماج (الانتماء- Integration ) الاجتماعي الذي يتحدد من المدرسة ثم إلى المجتمع ( المحيط والبيئة ) ، ويستمر هذا الاندماج متوازيا مع القبيلة ويتحد ذلك في شخصية وسلوك وثقافة الفرد ، وبالتالي تحول هذه العلاقة البطريركية دون عضوية الفرد في تحوّله إلى مواطن داخل المجتمع ، إذ يبدأ بعدها دور الدولة التي تمارس عنفها بالتعسف والقهر والتسلط والديكتاتورية التي تمس بل وتفقد الفرد كرامته وحريته ، حيث يساعدها ( الدولة ) في ذلك العقلية والعلاقة البطريركية الأبوية التسلطية ( Domineering Patriarchy ) التي تحول دون العقلية الديمقراطية ، حيث يتم إعادة إنتاج الأزمة والفقر والجهل .. وتصبح الحقوق مستباحة وتعم الفوضى السياسية المفروضة بالإكراه والعنف ، ويحدث الانهيار في جسم ( بناء ) المجتمع وتظهر الفروقات الطبيعية التي تنم عن فوضى في البناء المؤسساتي في المجتمع وأجهزة الدولة .. (مجلة دراسات عربية ، العدد 7/8 ، السنة /35 ، ص/114) …كما هو موجود حاليا في جميع دول العالم العربي ومن ضمنها مناطق السلطة الفلسطينية، فتصبح النخبة هي الواجهة الأبرز في جسم المجتمع والدولة والتي تمتلك إمكانيات السيطرة السياسية والعسكرية والاقتصادية والثقافية والإعلامية والأمنية (والاستخباراتية) من جهة ، وطبقة أخرى دنيا مسخّرة للعمل والإنتاج ودفع الضرائب يعمها القهر الاجتماعي والكبت والحرمان والدونية من جهة اخرى ، وخير من جسّد وصف هذه الطبقة هو الدكتور خلدون النقيب ( الدولة التسلطية في المشرق العربي المعاصر ، مركز دراسات الوحدة العربية ، 1996) وبحث الدكتور محمود عبد الفضيل ( التشكيلات الاجتماعية والتكوينات الطبقية في الوطن العربي ، مركز دراسات(1/62)
الوحدة العربية ، 1997 ) وكذلك بحث د. برهان غليون( المحنة العربية … الدولة ضد الأمة ، مركز دراسات الوحدة العربية ، 1994 ) .. حيث تكون الطبقة الوسطى هنا غائبة بسبب الفوضى ... والضعف..(علي كمال ، 1983، ص / 40 ) ...حيث ادى ذلك الى تشويه مقومات الكيان الاجتماعي التي تشمل على ما يلي :-
* الموقع الاجتماعي – Social Position :- وهذا يتطلب لتبوءه الكفاءة والتخصص والخبرة والمؤهل ولا يحتاج الى .. عوامل وراثية – اجتماعية او جنس او اعتبار شخصي او مكانة اجتماعية او قبلية او طائفية او حزبية .. ( معن خليل عمر ، 1997 ، ص/70 ) ..فالموقع الاجتماعي يمثل الرتبة المهنية ولا يمثل الشخص ، بينما في مجتمعنا العربي يمثل الشخص ، وهذا نتاج التحام مصالح القبيلة مع سلطة النظام السياسي العربي الحاكم ، الامر الذي ادى الى تشويه البناء ( الهيكل) الاجتماعي وخاصة في مجتمعات المشرق العربي ، التي تتميز نتيجة ذلك بالبيروقراطية والجهل والتخلف الاداري الرسمي – الشعبي وتهميش ذوي الكفاءة والاختصاص والمؤهل ، وحتى تدرجنا الاجتماعي ينم عن فوضى عارمة وقبل ان نسهب لنسأل انفسنا اولا... ما هو التدرج الاجتماعي – Social Stratification ...؟
انه يعني التمايز الاجتماعي للافراد الذين يكونون نسقا اجتماعيا او معاملتهم في حدود الاعلى والادنى في جوانب مهمة اجتماعيا، وهذا يعني تدرجهم في ترتيب هرمي للمكانات والادوار والمراكز داخل المجتمع .
فالمركز الاجتماعي هو المكانة – Social Status التي يحتلها الفرد في المجتمع ضمن محددات واسس سنوضحها لاحقا .(1/63)
اما الدور الاجتماعي – Social Role فيعني السلوك الذي يقوم به الفرد في المركز الاجتماعي الذي يشغله ، وهذه بديهيات في علم الاجتماع ، ففي الثقافة البدائية والمتخلفة لمجتمعاتنا العربية تتميز المراكز بالجمود والتقليدية ، مما يجمد التدرج والحراك الاجتماعي في هذه المجتمعات ويؤدي الى ما يسمى بصراع القوى والمواقع والمراكز ، بأساليب مسعورة (Rabid) وكانها حرب طاحنة في البناء الاجتماعي تستخدم فيها العشائرية والحزبية والطائفية والواسطة والنزعة الاستكلابية (Doggery ) والافتراءات والاكاذيب والاشاعات وحتى الاسلحة النارية والاغتيالات ، والنظام الحاكم واقف يتفرج بل وينظم ويشجع كما يقول د. هشام شرابي وينتظر من سيخرج من هذا الصراع ليأخذ المكافأة ويخدم النظام السياسي كنسق مهيمن وليس النظام الاجتماعي ككل في المجتمع ، وفي مثل هذه الحالة نطلق على هكذا مجتمع ( مجتمع مغلق وجامد ومتخلف ) تسوده الاستبدادية وتتحكم فيه طبقة او فئة معينة ، تسيطر على مقدراته وثرواته بالوراثة وتنعدم فيه فرص تحقيق العدالة وتكافؤ الفرص ، والتعليم يصبح غير مهم في هكذا مجتمع ولا يحترم وليس له مكانة ، لذا نلاحظ ان فئة المتعلمين والاكاديميين في هذه المجتمعات ليس لها مكانة لائقة او احترام بل لها المعتقلات والارهاب الفكري والبطالة واحتقار المؤهل ، اما المجتمعات المتقدمة فيحدث فيها العكس دون اعتبار للخلفية السياسية او الحزبية او الاقتصادية او العنصر او الجنس .(1/64)
فلو نظرنا الى أي مجتمع قديم او حديث متخلف او متحضر شرقي او غربي سنجده مقسم الى مستويات او طبقات متسلسلة تعكس درجات متباينة من الكيانات والادوار الاجتماعية تنحصر في تمايزات او اختلافات في القوة والهيبة والدخل والثقافة والتعليم والجنس ( رجل وامرأة) ، أي ان الافراد متفاوتون بين بعضهم البعض وهذا حقيقي وواقعي حتى في المجتمعات الاشتراكية سابقا والتي كانت تدعي وتصرخ في ادبياتها وعلى منابرها بانها حققت العدالة الاجتماعية والمساواة وازالة الطبقية والفروق الاجتماعية ..وطبعا هذا مستحيل بالمطلق ، فلا يمكن لاي مجتمع أي كان ان يحقق المساواة بالكامل ويلغي التدرج الاجتماعي في بنائه او تنظيمه الاجتماعي حتى لو كان هذا المجتمع فطري او بدائي او مشاعي .(1/65)
ان مفهوم التدرج الاجتماعي واشكاله المتنوعة هو في الحقيقة عبارة عن جماعات او تكوينات وطبقات لا تخضع لتحديد او لتعريف قانوني او ديني او اقتصادي او سياسي او ثقافي ، لكن ان حدث وتم فالتدرج على هذه الاسس او المعايير يعطي التدرج طبقية مفتوحة اذ بامكان الفرد الانتقال من طبقة الى اخرى ( عليا او وسطى او دنيا او عاملة او أي كانت طبقته ) الى طبقة اخرى اذا كان يملك المعايير او الاسس السالفة ، فنقول ساعتها ان المجتمع مفتوح طبقيا ويشهد حراكا اجتماعيا بكلا الاتجاهين ( راسي او افقي ) وهذا يدل على انه يشهد تطور وتقدم معا ، بالاضافة الى تغير المكانات والادوار خلال مراحل تطوره وذلك يدل ايضا على ان افراد المجتمع في هذه الحالة يملكون التعليم والمهارة والذكاء والسلطة والكفاءة والعمل الجاد والدقة والانضباط والتخصص ، فكان طبيعيا ان يكافئهم مجتمعهم بالتدرج الاجتماعي ( ماديا ومعنويا ) ولا يخلق ذلك سعارا او صراعا اجتماعيا ومن ثم ومع مرور الزمن تصبح هذه الاسس والمحددات جزءا من النظام الاجتماعي ، فلا تفيد في مثل هذا المجتمع الواسطة او الحزبية او التنظيم او العشائرية او الطائفية او الشللية او المحسوبية او الرشوة لشراء المناصب وكتابة التقارير الامنية ، ولا يفيد الانصات والتلصص واستراق السمع وتوصيل الافتراءات لاجهزة الامن والمخابرت ، كما هو متبع عندنا كمجتمع عربي عامة وكمجتمع فلسطيني خاصة ، فنحن كمجتمعات عربية حددنا سلفا تدرجنا الاجتماعي حتى قبل ان نولد كيف ...؟(1/66)
اننا نعتمد على الواسطة - Intercession والثروة وشراء المناصب - Barratry والملكية والشرف ( الاصل او شرف المحتد - Gentry ) وعلى الحزب – Party او التنظيم او على العشائرية او الطائفية – Sectarianism او على ما يسمى بـ ( Quota ) او على مدى خدمتنا للنظام السياسي الحاكم ( السلطة ) لننال رضاه ومكافئته لنا فلا يهمنا المؤهل ولا الكفاءة ولا التخصص ولا الثقافة ، المهم ان نتدرج بأي شكل كان وبأي ثمن ( وهذا حقيقي ) حتى لو بعنا شرفنا وكرامتنا وربما عرضنا او حتى اخلاقنا وقيمنا الوطنية ..! كما اشار د. معن خليل عمر ،1998 ، ص/111 ...انها فوضى في البناء الاجتماعي والنتيجة حتما ستكون وهن وتفكك اجتماعي كما هو حاصل الآن ولا سبيل لانكاره او التعامي عنه ... فمن الذي احضر قوات الاحتلال الامريكي الى العراق ... ولأسقاط من ... وما هي النتيجة الا دليل على ذلك ..! والخوف ان تتبع فلسطين.. وغيرها من الانظمة العربية .. العراق ان استمر الحال كما هو .
السلطة- Authority :- ونعني به النفوذ الشرعي الذي يمنحه مالكه عن طريق الاوامر القانونية والعقلانية وبدون تدخل شخصي او فردي او تسلط ، والمالك هنا هو النظام السياسي ( الحكومة – الدولة ) أي ان الدولة هي الممثل الحقيقي ، ولكن ما هو حاصل في المجتمع العربي هو ان الشخص هو الممثل والمالك للسلطة ويستخدم سلطته اما .. بنمط تقليدي او قانوني ( قبلي ) او شخصي (كارزمي) ... ( نفس المصدر السابق ، ص/ 70) .
الدور الاجتماعي – Social Role:- هو الممارسة السلوكية لحقوق وواجبات الموقع الاجتماعي ولمعايير المكانة حيث يستقي الدور عناصره من .. مكونات النظام الاجتماعي ( كالقيم والدين والمعتقدات والخبرات الشخصية ) ..( نفس المصدر السابق ، ص/ 73 ) حيث تتصف الادوار بدرجة عموميتها واتساعها ووضوحها وانسجامها مع الادوار الاخرى(1/67)
النفوذ الاجتماعي – Power& Social Influence :- ونعني به قدرة الشخص على فرض ارادته ، وهو ( النفوذ) مكمل للمكانة الاجتماعية والسلطة في البناء الاجتماعي ، حيث يكتسب الصفة الصراعية في السيطرة على الوحدة او المكون الاجتماعي في المجتمع العربي ويتصف بالنمط القبلي – الوجاهي .
العلاقات الاجتماعية – Social Relations :- وهو التفاعل بين شخصين او اكثر ضمن مكونات الطبقة في البناء الاجتماعي وتتصف بالنمط الجمعي – المصلحي وليس بالنمط الفردي – الاختياري .
التفاعل الاجتماعي – Social Interaction :- وهو التاثير والتاثر بين شخصين او اكثر ...فالقيم تتناقض ضمن التركيبة الاجتماعية من خلال الأدوار التي يقوم بها الفرد في مراكز اجتماعية متعددة ضمن التراتب الاجتماعي " كالزوج مثلا ودوره في العمل وفي المنزل … ومن هنا فان محاولة التوفيق بين الأدوار تبدو صعبة وتخلق قلقا واضطرابا وفوضى … بالإضافة إلى احتواء التركيب الاجتماعي على قيم تتطلب جهدا واهتماما وأنشطة معقدة … أو قد يكون هناك… تناقض … بين نظام القيم والتركيب الاجتماعي … والسبب هو تناقض في التركيبة الثقافية والاجتماعية للمجتمع وللأفراد …خاصة الذين يتقاطعون مع نظام القيم السائدة والذين يرتكبون ويربكون ( يخلخلون ) التركيبة الاجتماعية .. ففي حالة ارتكابها…لا يقوم المجتمع بعقاب الأشخاص المخالفين .. ( شكور، 1998 ، ص/86 )… تماما كما في حالة الفوضى وفي حالة التغير السريع الذي يتعرض له المجتمع فينتج عنه صراعا حادا بين القديم والجديد .(1/68)
لذا فان البناء والنظم الاجتماعية لها علاقة بما يسمى بالمكانة أو الدور الاجتماعي للفرد ، فكما أسلفنا هناك فوضى تعم المجتمع العربي في هذا الإطار الذي يعكس لنا عدم تساوي وتكافؤ المكانات والفرص ، حيث يتحدد سلوك الفرد العربي بالظواهر الشاذة بسبب عوامل اجتماعية ونفسية وحضارية واقتصادية وطبقية وبيولوجية.. وفسيولوجية المنشأ كالغدد والهرمونات .. (مصطفى سويف ، 1975 ، ص/ 21 )... الأمر الذي يسبب اضطرابا وخللا في النسق الاجتماعي ، وإلا ما معنى وتفسير أن يمتلك بائع خضار متجول عدة أبنية في وسط المدينة ، ويفضّل على حاملي المؤهلات العلمية العالية وهو ما زال يقيم في مخيم أو قرية أو في بؤرة هامشية على أطراف المدينة…؟ السبب هو .. تفاهة قيم مجتمعه المتخلفة وغرابة التركيبة الاجتماعية والبناء الطبقي الشاذ للمجتمع ، وليس انعكاسا لسلوكه أو ثقافته أو مؤهله أو نمط تفكيره ، الذي مكّنه من تملّك العقارات… ومع هذا فهذه بمجموعها العام وان كان هناك نسق بناء اجتماعي سليم ، لا يخّوله أن يكون في وضع مادي افضل من أساتذة وأكاديميين ومثقفين افضل منه بمئات المرات من حيث الكفاءة والمؤهل والترتيب الاجتماعي والثقافي .. (معن خليل عمر وآخرون ، 1992 ، ص / 261 ) 0(1/69)
من هنا نستنتج أن المجتمع العربي يمتاز بغياب تنظيم وقوننة الأدوار الاجتماعية وانعزال البناء الاجتماعي الطبيعي وانعدام الضبط الأخلاقي والقيمي والأدبي والديني من جهة ، وانعدام الضوابط المتعلقة بالقوانين والقيم والمعايير والأعراف الاجتماعية الرسمية السائدة ( Social Mores ) من جهة أخرى ، بالإضافة إلى تحجّر المعايير وخلل في انساق البناء الاجتماعي ، بالإضافة إلى سوء وتشوه نشأة وبناء الفرد نفسه وحتى الطبقة ، والدليل ..إن الطبقة العليا مثلا وبرغم تشابهها بامتلاك الثروة والنفوذ والسلطة ، إلا أنها لا تتساوى في القيم والأعراف والمواقف وأنماط السلوك والثقافة ومستوى المعيشة الذي يعكس..- بل ويجب أن يعكس- الواقع الاجتماعي لها.. (المصدر السابق ، 1992 ، ص/ 269) .
3:3:2- الفوضى وعلاقتها بالسلوك والشخصية والسلطة السياسية : -
ان التربية السياسية (Political Breeding ) ضرورية للفرد لانها تؤثر عليه تأثيرا مباشرا من جميع الجوانب ، فلا بد للمواطن ان يكون على مستوى معين من معرفة سياسية بلده والاهداف التي تسعى لتحقيقها ، وهي تختلف عن التشريب العقائدي ( Indoctrination ) الذي يهدف الى تمجيد الحزب الواحد او الزعيم الاوحد ، والمصطلح يعني ادخال الديكتاتورية في عقول الافراد وتوجيههم نحو عقيدة او زعيم واحد ، وهذه الطريقة في التربية السياسية تسمى التربية الحزبية وعبادة الزعيم ( Dictator Cultism ) الذي عادة ما يكون على رأس الحزب ، وهي بمجملها تعني حكم استبداي فردي مطلق الصلاحيات يسخر امكانيات النظام لخدمته ، ومعتمدا على اجهزة الدولة كالامن والجيش والبوليس السري والمخابرات واشكال القمع الاخرى والجماهير هنا عليها ان تلبي رغبات ونزوات وامراض الزعيم وجلاوزته ، فلا تشترك بأي نشاط او بصنع قرار او بممارسة حرياتها في العالم العربي وخاصة في ( المشرق العربي ) .(1/70)
وليس هذا فحسب بل يجب على النظام السياسي ان يشرك مواطنه بصنع واتخاذ القرار السياسي وذلك لاشباع الحافز النفسي المرتبط بالانسان – المواطن ، من اجل الاطمئنان على نفسه ومستقبل اسرته واستقراره المعيشي وامنه وحياته وضمان حياة كريمة ، وعكس ذلك سوف يدفع المواطن للبحث عن متنفس اخر بديل وغير شرعي لاشباع رغبته النفسية والفطرية .
لذا فعملية التنشئة والتربية السياسية واجب الدولة والاحزاب والمؤسسات الرسمية واطر المجتمع المدني ، من اجل تنمية وتطوير شخصية المواطن وحتى تساعده في العالم السياسي وليؤدي دوره بوعي وولاء واخلاص وخلق وامانة وكفاءة ومسؤولية نحو وطنه ومجتمعه بشكل شرعي وموجه .
رغم أهمية حب السيطرة وتأثيرها في أو (على) سلوك وشخصية الفرد وأفعاله وخاصة ما لمسناه ونلمسه في الزعيم الديكتاتور ، فكيف اذن بالمواطن العادي ... فلا توجد مقاييس دقيقة توزن بها عوامل ومظاهر الشخصية المسيطرة ، إلا أن علماء النفس والاجتماع يجمعون على إن الشخصية السوية والطبيعية.. هي التي تجمع في نفس صاحبها الاعتدال ، مع العلم إن المعالم الأساسية للشخصية في الماضي والحاضر والمستقبل ثابتة ولا يستطيع المحيط رغم أهميته أن يؤثر على الخصائص الأساسية التي يتطلبها المجتمع من فكر وعاطفة وسلوك .. (علي كمال ، 1983 ، ص / 81) .(1/71)
وتبرز السيطرة هنا( كاتجاه إنصافي- Justice Attitude) لتبرير العدوان نتيجة التخّشب والتخلف ( والجمدة - Catatonia) من جهة ، وكنتيجة للحقوق المهضومة والكرامة المستلبة ، الأمر الذي يغلّف الفرد بميل اختزالي ( Reduction Tendance ) ، التي تحدد هوية الفرد ضمن إطار الجماعة المرجعية التي تكسبه طابعا سلوكيا متعصبا وفوضويا .. بضرورة تخلّص الفرد من القيود الثقيلة التي يرزح تحتها ، وإخراج حاجاته المكبوتة والتي تتصف بإبراز الذات والتنافس ، ونسيان المصلحة العامة واستبدالها بالمصلحة الفردية في سبيل الحصول …(التملّك والسيطرة)…على النفوذ والمال والجنس .. (هشام شرابي ، 1991 ، ص/37 ) .
لكن ما هي الشخصية - Personal...؟ وهل هناك فرق بينها وبين الذات - Self ....؟ ان الشخصية تعني الاسلوب المتفرد والمتميز للفرد من حيث التفكير والسلوك والشعور وليس فقط المظهر الخارجي ، اما الذات فهي القدرة على تحديد الفرد لنفسه ولذاته كموضوع ( أي انه مستقل ) وليس كشئ ( Subject & Thing) ، وان يستجيب لذاته بأنه هكذا ، مقدرا ومثمنا لنفسه ، لا اذلالها وتحقيرها ومحقها ، وان يعمل على حمايتها وبنائها .
ان أي شخصية طبيعية او منحرفة هي نتيجة الامكانات الوراثية والبيولوجية والعوامل المادية التي اثرت على الدماغ او نتيجة العوامل الاقتصادية والاسرية والاجتماعية ( مثل التربية والتنشئة الاجتماعية والبيئة ) والطبيعية وخلل بيولوجي ، التي تفرض اتجهات معينة وتؤثر على نمو الشخصية وعلى الطريقة التي يتفاعل بها الفرد مع مصادر الضغط والارهاق النابعة من داخله او المحيطة به من الخارج .. ومتى تقولبت الشخصية وثبتت معالمها بسبب هذا التفاعل والتطور ، فأنه من الصعب تبديلها او تغيير اتجاهاتها او خصائصها وطرق انفعالها ... ( المصدر السابق ، ص/77 ) وهذا ايضا ما اكده ( عبوشي ، 1980 ص/6 ) .(1/72)
4:3:2 - انواع الشخصية :- نعترف اولا بأننا لسنا اطباء او اختصاصي امراض نفسية ، ولكن تناولنا لهذا الجانب من جهتنا فقط هو من باب الاستفادة مما حققه علماء واطباء علم النفس وخاصة د. علي كمال في مؤلفه القيم (النفس انفعالاتها وامراضها وعلاجها ) ولا نبالغ ان قلنا ان تنوع وتعدد الشخصيات ليس له حدود ، فهي بعدد سكان العالم اليوم ، وليس باستطاعتنا حصر انواع الشخصية لان لكل فرد في هذه الدنيا له شخصية لكن اهمها :-
الانطوائية :- اهم صفاتها تحاشي الاتصال الاجتماعي والرغبة في الانعزال والوحدة والميل للتأمل وتجنب الواقع وقلة الاهتمام بالنواحي المادية ويفضل المثالية وهذه الشخصية حساسة المزاج وسريعة الانفعال .
الانبساطية :- هي عكس الانطوائية تماما ، الا ان صاحبها يكيف نفسه حسب متطلبات وظروف العلاقات الاجتماعية .
الكئيبة :- تتصف هذه الشخصية بالانعزال والتشاؤم ولا يجد متعة الحياة لا في الحاضر ولا في المستقبل ، ولا يجد الدافع للعمل والابداع ، ويعتبر نفسه مسؤول عما يجري من حوله ( يحمل عبئ ) وتصاب هذه الشخصية في النهاية بمرض عقلي .
المتقلبة :- وتتصف هذه الشخصية بتقلب المزاج ومن حالة الى عكسها وخاصة عند ( البدينين) وهي من الشخصيات الكثيرة الانتحار .
القلقة :- وتتصف هذه الشخصية بعدم الارتياح وتوقع الخطر وهي في حالة تحفز دائم ، وتسعى جاهدة لضمان حاضرها ومستقبلها ومستقبل عائلتها ، وهي موجودة عند اغلب الناس .
الشكاكة :- وتتصف بتصلب الاراء والافكار والمعاملة والحساسية وسرعة التأثر وتشعر بانها منبوذة اجتماعيا .
الهستيرية :- وتتصف بحب الذات ومحاولة جلب انتباه الآخرين وحب الظهور والمبالغة والكذب والتمثيل وضحالة في الفكر .
الناقصة :- وتتصف بقبول ادنى المراتب تحب الخضوع والذلة والخنوع وتحب خدمة الغير وهي شخصية هامشية تسمى ( الواطئة) .(1/73)
الانفعالية :- وتتصف بالانفعال لأتفه الاسباب واستخدام العنف نتيجة الارهاق النفسي والجسدي والفشل الدائم وتتحول الى شخصية متفجرة .
السايكوباتية :- وتتصف بأضطراب السلوك وفقدان الطاعة وعدم الانتظام وتؤذي المجتمع وهي مضادة له ، وكذلك تتصف بعدم صحة حكمها على الامور وعدم المسؤولية واستغلال الاخرين بالابتزاز وفقدان الخجل ، ولا تهتم باحترام وتقدير الاخرين ، وهي منحرفة خلقيا وتحب الانتماء للعصابات وبالجنوح والانحراف جنسيا وهي اخطر انواع الشخصيات لماذا....؟ لأن انحراف الشخصية يكون بسبب الخصائص السلوكية والعاطفية والفكرية وبروزها بدرجات متفاوتة كحب السيطرة ، وبسبب عوامل وراثية أو مؤثرات محيطيه كما اسلفنا ، فتظهر ساعتها الشخصية السايكوباتية الهستيرية وغير المستقرة ، في سبيل الاستقلال الذاتي على اعتبار أن العائلة لا تتيح للطفل سوى مجال ضيق في هذا السبيل ، فتبرز لدى الفرد رغبة جامحة للحصول على المكانة الاجتماعية والسيطرة والسلطة وانتزاع اعتراف الآخرين به ، وذلك بسبب القيود الاجتماعية القاسية التي تنتج الأتكالية من جهة ، وانعدام الكفاءة الاجتماعية من جهة أخرى ، حيث يدعمها زخم كبير من العادات السلبية والحيل والتخريف والضعف العقلي في محاولات متكررة لتجسيد أحلام اليقظة ، في سبيل نمو ( الأنا ) العليا بشكل كاف والتي تعتبر نقيض العجز والأتكالية 0(1/74)
تبدأ المراحل الأولى في فوضى السيطرة من الأسرة ( الأب ) ومرورا بأجهزة الإعلام والقوانين والاقتصاد وقضاء المصالح والتربية والتعليم ، وفي مجالات الفن واختيار المهنة وفي السياسة والوظيفة وحتى في الحوار… والملاحظ هنا أن السيطرة كمفهوم في المجتمع والنظام العربي لا تأخذ الأبعاد المتزنة والطبيعية والتي تتلاءم مع الأوضاع الداخلية والأخلاقية والاجتماعية للأفراد ، بل أسلوب القهر واستخدام العنف والاستلاب نتيجة نزوة الحياة ، فتصبح حياة الفرد والمجتمع وكأنها حلقات متصلة من الفوضى المعاشة والمقبولة ، بل وكأنه متفق عليها برضى النظام السياسي ، والمفروض إن الالتزام بنظام من اجل النظام يعني التعبير عن .. ذاتها بالإدارة عبر القيم ليكون التعبير منضبطا لا عشوائيا أو عفويا أو مفهوما … حيث يعّبر السلوك عن مضمون القيمة … فلا أحد يسلك على هواه في علاقاته أو سلوكه أو قيمه … والمرتبطة بالتربية والتثقيف والممارسة ، وآلا انتشرت الفوضى والعصبية والعدوانية .. ( قباني ، 1997، ص/61) .
إن لجوء الطفل للكذب يحتم علينا أن نلتمس له الأعذار قبل أن نسارع بتأنيبه ومعاقبته ، لان الطفل اتبع وسيلة للخروج من مأزقه النفسي وحماية ذاته من العقاب الأبوي من جهة ، ولأن علاقته بأبويه ليست سوية ، فهو حتما سيلتقط سلوك والديه أمامه ، وبالتالي سيرسم صورة مثالية لنفسه خاصة قبل بلوغه سن السادسة من جهة أخرى مثلا ، حيث يطلق علم النفس على أفكار وسلوك الطفل في هذه الحالة مرحلة الأفكار السحرية ، إذن والحالة هذه نطلق على مثل هذا الطفل .. كذاب صغير ابن كذاب كبير .. ( المنار ، 26/6/2000، ص/ 13) .(1/75)
وبالرغم من أن إنسان هذا العصر هو اكثر حظا من سابقه من حيث تحقيق التوازن وإشباع الحاجات المادية ، ويتمتع بأفاق واسعة من الحرية وثقافة متنوعة وفكر متطور ، مما يتيح له تفهما واضحا لمحيطه وعلاقاته ، إلا أن القلق وعدم الاطمئنان والإرهاب والعزلة صبغته بطابع الفوضى في سلوكه من دافع الحرمان لحاجاته المادية ، وهو دائم الإبقاء عليها بالجهد الدائم واتباع الذاتية ، وهذا لا يوجد في مجتمعاتنا العربية وان وجد فسيمر وقت طويل لتحقيقه ، بالإضافة إلى الجهل في سبيل الجمع بين تقدمه وضمان الأمان له .. لذا فما زلنا نلاحظ ونعيش ونتفاعل مع الفوضى وحياة السلب وعدم احترام الآخرين وانعدام التقيد بالقوانين لأنها أصلا غير معمول بها .. (علي كمال ، 1980 ، ص/ 14 ) .
ومما يدعم ما استشرفناه من حالة كذب الصغير الذي يمتلك سلوك وفكر سحري يتصف بالبراءة ضمن مشاعر الطفل الإنسانية ، فهناك ما يسمى .. بالتصرف الأرعن .. ( البيادر السياسي ، 12/9/1998، ص/27)… مثل التدخين في سيارات أو حافلات الركاب والمستشفيات رغم المنع والتحذير ، فهذه العينة من الأفراد تنعدم لديهم المشاعر الإنسانية ويسلكون سلوكا ارعن على اعتبار انهم لا يكذبون فقط ، بل يعكس عدم احترامهم للآخرين من جهة ، ولا يجرؤون على التدخين أمام والديهم خوفا من العقاب من جهة أخرى ، مفترضين انهم بتصرفهم وسلوكهم بالتدخين في بيئة ممنوعة انه لا يخاف من عقاب والديه ، وانه لا يكذب بذلك ، وهو في الحقيقة كذاب كبير يعكس نمط تربيته وأخلاقه وهامشية قيمه الأسرية .(1/76)
وعلى الرغم من دمغ الحياة العربية بالفردية والسلطوية من جهة ولان .. شخصية العربي غير تركيبته بسبب الأساليب التربوية التقليدية المختلفة ..( عبوشي ، 1980 ، ص/ 139 )…من جهة أخرى ، لذا جاءت فرديته فوضوية وغير مقيدة ، بسبب سلطوية مؤسسات العائلة والمجتمع والدولة ونظامها الولائي ومظاهر تركز الأنوية والسمعة ومفاهيم الشرف والكرامة نتيجة الغبن المفروض .. لهذا نلاحظ أن الفوضى تزيد كلما ابتعدنا عن المؤسسات الأولية بسبب رسوخها وتغلغلها في ذات العربي ، فمثلا حينما نجد الحرية ضعيفة نجد سلطة قوية والعكس صحيح ، وإذا وجدا معا فنجدهما في صراع وينتهي عادة بانتصار السلطة ، ولكن الصراع يبدأ من جديد ، وهكذا يعيش المجتمع دائما في توتر ..(المصدر السابق ، ص/140) .
لهذا فمن شروط التطور العصري للشخصية .. تغير المؤسسات … والتركيبة الفعلية للتفكير والسلوك… (بشرط )…أن يتم التوافق النفسي بين العصرية والشخص ، فإذا انتفى… (الشرط)…حصل التوتر الداخلي الذي يؤثر على سلوك الفرد سلبا وعلى المجتمع ككل .. (المصدر السابق ، ص/282 ) ...لانه من اجل بناء مجتمع واحد هناك شرط التعليم كما يشير مصطفى سويف في كتابه ( مقدمة لعلم النفس الاجتماعي ، ص/ 21 ) ...ان عملية التعليم مسؤولة عن قدر كبير من .. التشابه الحاصل بين ابناء المجتمع الواحد ...مما يجعلها اساسا هاما في وحدة المجتمع وتكامله .(1/77)
ان سلوك الفرد اليومي ما هو الا نتاج .. تأثير الضوابط النسقية – البنائية ...( معن خليل عمر ، 1997 ،ص/ 15) ... وتتمثل في القيم والمعتقدات والمعايير والقواعد والقوانين المتمثلة في مؤسسات البناء ( الهيكل ) الاجتماعي المشوه اصلا ، نتيجة التربية الاسرية التقليدية وتخلف نظم التربية والتعليم من جهة ، واستبداد وقمع النظام السياسي ذي النسق المحوري – القرابي الجاثم والمستولي على باقي الانساق الاخرى ومنها الهيكل الاجتماعي من جهة اخرى ، والذي له حاجة بذلك وهي المحافظة على كياناته ( انساقه) وصيانتها من التصدع والتكسر والانهيار وذلك بأستخدام كافة الامكانات المتاحة ( مادية وعضوية) ، وتنشيط كياناته وربطها بالظروف المحيطة وخاصة الخارجية ، وبالتالي يكتسب مرونة وتطور في وظائفه المتنوعة , ليس على مستوى المجتمع فحسب ، بل على مستوى ادارة الدولة ككل ، حيث من المفترض ان يتغير حجم المجتمع او نمو المدن مثلا او انتقال المجتمع من مرحلة لاخرى - كانتقاله مثلا في مرحلة الخمسينات من الواقع الاستعماري الى الواقع الاستقلالي او .. عند انهيار النسق الاقتصادي او عند تغير نمط وشكل البناء .. ( نفس المصدر السابق ، ص/ 15) او عندما تتحول التفاعلات الاجتماعية وينتج عنها اثار تنعكس على المعايير والقيم ورموز المجتمع وثقافته ، او احد انساقه ... ( كما هو حادث اليوم في المجتمع الفلسطيني قبل وبعد الاحتلال الاسرائيلي منذ عام 1967 مثلا ) ولهذا فلم تستطع اسرائيل ان تبتلع بناء المجتمع الفلسطيني ضمن بنائها الاجتماعي .. بل الذي حدث هو امتصاص ثقافي ( وتشويه- Distortion & Saturation ) اثر على التغير النسقي للمجمع الفلسطيني وليس على البناء الاجتماعي ككل ، وهذا ايضا ما حصل للمجتمعات العربية بعد حصولها على الاستقلال ...ّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّ والغريب ان هذا الامتصاص لقي الترحيب من النظام السياسي العربي بعد(1/78)
الاستقلال ، بل واصبح يقولب مجتمعه كما لو كان النظام العربي نظاما استعماريا ويدجن ويشكل المجتمع لمصلحته ، وان حدث تغير في انساق البناء الاجتماعي مثلا فانه لا يحدث متساوقا او بشكل متكافئ في الاداء او الوظيفة ، والسبب يعود الى .. عدم اهلية وكفاءة وخبرة وتخصص شاغلي المواقع من جهة وعدم تقبلهم من قبل مجتمعهم ولانجازاتهم ... ( نفس المصدر السابق ، ص/ 16) ... التي لم تساهم في بناء الهيكل الاجتماعي ، بل كانوا يخدمون نظاما سياسيا مسيطرا لخدمة مصالحه فقط واطالة عمر بقائه في الحكم كما هو حاصل اليوم في النظام السياسي العربي ، فوجهه يوحي بالتغير والتقدم لكن مجتمعه متخلف راكد ، بل وينحدر باستمرار ويلجأ الى التقوقع ، وتغلب عليه القطيعية ويستسلم للحاكم كولي امر ونعمة ... وبالتالي فان النسق الاجتماعي في النظام السياسي العربي ذو كيان واحد ( مركزي – جامد ) ويكتسب صفة الامني – العسكري ، حيث يمنع نمو باقي الكيانات ، وذلك بتفريغ مؤسساتها وفروعه الاخرى من اصحاب الكفاءة والمؤهلة والمتخصصة ، ويشغلها من قبل مرتزقته ومحاسيبه وازلامه ومواليه ( عديمي الكفاءة والمؤهل والتخصص) ...همهم هو المراقبة من جهة وتخدير الجماهير وارهابهم من جهة اخرى ... ( نفس المصدر السابق ، ص/49 .
ان للسلطة السياسية دور هام في نشر فوضى القيم التي تنعكس على السلوك ، فتتصف كما أسلفنا بسوء التعاطي مع العوامل الحضارية والثقافية - وعدم قدرة الناس على التلاؤم والتكيّف نفسيا وسلوكيا واجتماعيا - مع التطورات الحديثة والتكنولوجيا المعقّدة والمتغيرة باستمرار ، وهذا ما تعاني منه دول العالم العربي وخاصة دول الخليج النفطية ( اختلاط قيم وأعراف متخلفة مع تقدم حضاري وثقافي وتكنولوجي ) .. يحدث انحرافات خاصة في السلوك والشعور بالإحباط والغربة التي يعانيها الفرد العربي مع محيطة الذي يعيش فيه ..( شكور ، 1998، ص / 27) .(1/79)
يسعى الزعماء السياسيون في الوطن العربي إلى كسب قبول الشعب بزعاماتهم وترسيخ شرعيتهم أوعلى الأقل برضوخه لهم من خلال ( التقدمات ) ، كالسماح بالمشاركة السياسية المحدودة وتقديم العطايا وبإعلانات صاخبة لقرارات صرح بها ويمنحها الزعيم الفلاني للشعب من شأنها أن تخفف من معاناة الشعب ، كزيادة فرص التعليم وإتاحة الفرص في الوظائف مقابل كسب الشرعية ، وعدم مراعاة تطورات العصر بضرورة إجراء تغييرات اجتماعية فيما يتعلق بالثقافة والإعلام ونمط الاقتصاد السائد وإدخال تعديلات جذرية على وسائل الإنتاج ، والاهم من ذلك العمل على بناء المجتمع المدني ، لهذا نرى أننا نعيش أزمة أخلاق وتعقيدات شخصية في ظل أنظمة حكم تسلطية تمعن في التخلف الاجتماعي ، ومثال ذلك المناشدات المتكررة للملك أو للزعيم أو لرئيس الدولة بضرورة مساعدة فلان أو العائلة الفلانية في الكشف عن .. جريمة مقتل ابنهم من قبل عشرة أشخاص .. أو إرسال طفل لعائلة للخارج من اجل العلاج نتيجة فقرهم أو العمل على إطلاق سراح أحد أعضاء النقابة .. أو الاتحاد الفلاني من سجون السلطة أو من زنازين المخابرات ووضع حد للاعتقالات التعسفية .. (الأيام ، 24/6/2000 ص/3 و الحياة الجديدة ، 15/7/2000، ص/1) ... إن هذا يدل على عدم النظام والانتظام وغياب القوانين في الدولة نتيجة الارتجال والفوضى السياسية برضى رأس الدولة .(1/80)
ان التنشئة والتربية السياسية تعني تربية الفرد احترام القانون والعدالة الاجتماعية ومبادئ الحرية والمساواة ، والتحرر من التعصب والتحيز والعنصرية والطائفية والاقليمية والمذهبية وتثقيفه ، وتلقينه لغة الجماعة التي ينتمي اليها وبعاداتها وتقاليدها وخضوعه لقيمها ومعاييرها والتمثل بسلوكها ، اذ يؤدي ذلك الى ضبط الاطار الاجتماعي ويصبح للفرد هوية وشخصية وذات اجتماعية ليتمكن من الاندماج في انساق البناء الاجتماعي والتوافق مع المعايير الاجتماعية ، هذه العملية تنمي لدى الفرد سلوكا فعليا مقبولا وفق المعايير الاجتماعية لمجتمعه ، وينعكس ذلك في افعاله واقواله وسلوكه اليومي مع الغير ، وهذا بمجمله يشكل ثقافته ومظاهرها الاجتماعية .. ولهذا يجب ان تتم عملية تنشئة الفرد بشكل تام وكامل وعدم التضارب بين مؤسسات المجتمع المسؤولة عن التنشئة والتي يجب ان تتوافق وتتوازى مع البيئات الثقافية والطبيعية والاجتماعية في المجتمع.. ( ابرهيم ناصر ، 1994 ، ص/ 111) وكما اسلفنا فان الفرد يعكس انماط تنشئته الاجتماعية التي عاشها وتشربها ، لتساعده على التفاعل الاجتماعي ومعرفة وتنمية وسائل الضبط الاجتماعي وتبصيره لمعرفة دوره ومكانته الاجتماعية وما هية الحراك الاجتماعي ، فان كانت تنشئة متسلطة فان ذلك يطور لديه مشاعر سلبية ويميل الى عدم التفاعل مع الاخرين وينسحب بالتالي من المواقف الاجتماعية ، فيحد ذلك من تحقيق ذاته واشباع رغباته ، وتكون شخصيته حينئذ غير كفوءة وتتصف بالاهمال والتعدي على الممتلكات وحقوق الغير ، وسلوكه يتصف بالعدوانية ويكون مضادا للمجتمع ومخالفا للقوانين والانظمة بسبب :-
تركه بدون توجيه ونبذ من قبل والديه .
الطبقة الاجتماعية .
المعتقد او الدين .
البيئة الطبيعية ( مكان السكن او العيش ) والمناخ وطبيعة الحياة اليومية .
الوضع السياسي .
الوضع الاقتصادي .
المستوى التعليمي .(1/81)
أننا نتصف بـ .. شعب اشتهر بميله إلى نقد ذاته بشكل مفرط وبطريقة تكشف الضعف الأخلاقي سواء بعبارات ساخطة أو بنكات ساخرة ولاذعة…( وهذا طبيعي في ظل جمود العقلية التقليدية المتخلفة التي تصطدم بالنظام السياسي)- التشديد من عندنا-... كالمصريين مثلا ، حيث مرد ذلك… يعود إلى الظروف الموضوعية المتراكمة … ومواجهتنا لازمة أخلاقية … بوصفنا مجتمعا شرقيا ونفهم ذلك من جانب واحد … كالجنس الذي نوليه أهمية قصوى واكثر بكثير من أدائنا لمسؤولياتنا العامة مثلا .. وبالتالي غلب علينا افتقارنا للضمير المهني والوعي الاجتماعي الذي يجب أن يبدأ من أعلى إلى اسفل ، بالإضافة إلى تفشي ظواهر الواسطة والنفاق والمجاملة وقضاء المصالح الخاصة ضمن مسؤولياتنا العامة ، حتى إننا نقرأ الصحف ونشرب القهوة والشاي وندخل في أحاديث جانبية بينما أوراق المعاملات مكدّسة ، بالإضافة إلى ظاهرة التغيب عن العمل والتمارض ، فالأسباب هنا معروفة .. وهي عدم الاهتمام بالمصالح المتبادلة بين الفرد والمجتمع من جهة وبين الدولة من جهة أخرى … (والأدهى أنها – الدولة - تعي ذلك وتتمسك به من خلال بيروقراطيتها الإدارية ) -التشديد من عندنا- (فؤاد زكريا ، 1975 ، ص / 173- 181 ) .
لذا نلاحظ أن معظم الأنظمة العربية اعتمدت لبقائها في الحكم أطول مدة ممكنة على واحد أو اكثر لترويض والهاء واذلال الرعية مثل .. الابتزاز والقمع وبيع الأحلام وسياسات التأزم ..(سعد الدين إبراهيم وآخرون ، 1996 ، ص/ 324 ) …وعليه فان الدولة القطرية في الوطن العربي تمر حاليا بأزمة خانقة ومتزايدة وهي إن هناك … فجوة بين المجتمع والدولة تكاد تصل إلى حد القطيعة … ناهيك عن تدخلها في شؤون المجتمع المدني واختراقه وصياغته بالطريقة المناسبة والمرغوبة لها … ما دام … المجتمع لا يمس جوهر العملية السياسية ولا يسمح له بالمشاركة .. ( سعد الدين إبراهيم وآخرون، 1996 ، ص / 301 ) .(1/82)
فلا أحد ينكر ديكتاتورية السلطة السياسية لأنها .. لا تمثّل عامة الشعب ولا يشاركون في اختيارها أو رسم سياساتها وتحولها – الأنظمة السياسية – إلى دكتاتوريات وراثية ولها زبائنها ومن يدعمها بدافع المصلحة والاستنفاع ..( عبوشي ، 1980 ، ص / 241 ) ...
ما نلاحظه اليوم ان التنشئة والتربية السياسية في عالمنا العربي مقتصرة على فئة النخبة ومكرسة لطبقة معينة - Elite ( وكأنها حكرا لهم وعليهم ) وهؤلاء يشكلون بطانة ومنتفعي ومسترزقي وادعياء النظام السياسي الحاكم ، والذين يتشدقون بانهم وحدهم المثقفون والانتليجنسيا ، وفي الحقيقة هم طبول خاوية وخشب مسندة ، واغلب المواطنين محرومين من هذا الحق ، من هنا انعدم او قل عند الفرد العربي الولاء والانتماء والاعتزاز الوطني الواعي والعميق للامة ولعقيدتها وفكرها وتراثها وقيمها وللارض والوطن وللشعب وللنظام الحاكم ، واصبحت مفاهيم العزة والكرامة والوطنية ومجد الامة شعارات مبتذلة يلوكها الحاكم – الصنم على مسامع قطعان شعبه المحروم وفاغري الافواه ، والذين لا يعرفون بل ولم يتربوا او ينشأوا على هذه المفاهيم التي تتلى عليهم ، فلا تحركهم ولا تثيرهم ولا تدغدغ عواطفهم ونوازعهم الوطنية ولا تدفعهم للدفاع عن مصلحة الوطن العليا ، فقط نراهم يصفقون ويقفزون كالقرود حينما يسمعون بأن الصنم الذي امامهم من عليهم بزيادة تافهة من فضلاته سواء في الرواتب او الاجور او بتقديم دعم في مجال حياتي ، كدعم رغيف الخبز او تخفيض اسعار الكاز او غيره من السلع ، علما بأن هذه السلع قد تبرعت بها دول المجموعة الاوروبية ليوزعها على شعبه مجانا فقام هو ببيعها بأسعار مخفضة ، فكان ذلك منتهى الكرم والوطنية فيصفقون له والاجدر ان ....... عليه .(1/83)
إن عملية تداول السلطة في عالمنا العربي لم تزل .. الحلقة المفقودة .. وهو ما يضعها في ركب التخلف السياسي ، حيث يتسم التراث السياسي العربي بالسلبية.. فهو قمعي لا يقر بالقانون ولا حرمة للحكومة أو للمواطنين وحرياتهم ..( منى مكرم عبيد ، 2000، ص / 21 ) .
إن الظاهرة الخطيرة الذي يعاني منها المجتمع العربي والدولة كذلك ، هي في آلية الاستيلاء على الحكم والوصول إلى السلطة ( فاغلبها بالانقلابات العسكرية ) ، فعلى عكس نماذج التعددية في السلوك السياسي الذي يستمد فيها الرئيس سلطته … من شرعية النظام السياسي ، فان السياسة نظريا وممارسة في الوطن العربي تعمل على رفع الحاكم إلى موقع الهيمنة على البنيان المؤسسي .
ان التربية السياسية تعني كما قلنا معرفة الفرد ما له وما عليه اتجاه دولته ومجتمعه ووطنه ومعرفة مفهوم التنظيم السياسي والذي يعني .. مجموعة من الناس ذو اتجاه واحد وهدف متفق عليه حيث ترتبط هذه المجموعة وفقا لقواعد تنظيمية تحدد علاقاتهم وسلوكهم ووسائلهم في العمل ..( ابرهيم ناصر ، 1994 ،ص/144) ..( كأطار مرجعي لمستوى العلاقات الاجتماعية ) – التشديد من عندنا - وكذلك معرفة الحقوق والواجبات والتي تمثل المصالح والحريات التي يتوقعها الفرد من المجتمع بما يتفق مع معايير مجتمعه ، واما الحقوق فتعني السلطة المخولة لشخص ما لتمكينه من القيام باعمال معينة تحقيقا لمصلحة له يعترف بها القانون وهي على انواع منها : الاجتماعية والسياسية والمدنية والانسانية والزواجية والانتخابية والوراثة وحقوق المرأة وحق التأليف والنشر وتقرير المصير والمعتقد بالاضافة لواجباته الخاصة والعامة .(1/84)
حتى الأحزاب السياسية العربية فقد طوعت وأعطت النظام .. قوة وقسط من الشرعية يتناقضان بحدة مع أنظمة الحكم .. (غسان سلامة واخرون ،ج/2 ، 1989، ص 798 ) …على حساب المجتمع ومؤسساته ، ومع هذا فان ..هناك مئات الأحزاب حاصلة على ترخيص سياسي إلا أن اغلب قوانين الانتخاب لا تعترف إلا بالترشيح الفردي وليس الحزبي…( فوضى ) …لذا ففوزهم (الحزبيون) يأتي بصفتهم الاجتماعية والعشائرية وليس الحزبية ، وحتى وان كانت حزبية فان الأغلبية تأتي منسجمة مع نظام الحكم (كالأردن والمغرب ) " – التشديد من عندنا-( سمير أمين وآخرون ، ج3 ، 1998، ص / 65) .
خلاصة :- لم نرد إصدار حكمنا على المجتمع العربي من حيث وحدته أم لا اعتباطيا ، وذلك منعا من اتهامنا بالتسرع وتحاشيا للنقد من جهة ، ومن جهة أخرى أننا لسنا بصدد إصدار مثل هذا الحكم ، إلا أن ذلك لا يمنع من الاقرار بأن المجتمع العربي يعاني من الاغتراب والتمزق والتناقض اجتماعيا وطبقيا وقوميا وهذا يضعنا في موقع تساؤل كما تسائل من قبلنا حليم بركات ( المجتمع العربي المعاصر) …هل يكوّن المجتمع العربي مجتمعا واحدا ولو نسبيا ( وهذا مقصدنا)… رغم اختلاف أنظمته السياسية والاقتصادية …؟(1/85)
إن المجتمع العربي يعاني من .. اختلافات وانعدام التجانس والتعدد وهو فسيفسائي مستندين على مقولة انه .. ليس في العالم مجتمعا واحدا متجانسا كليا وبشكل مطلق…( حليم بركات ، ص/15 ، 1996) …وحتى وان كنا نقصد ذلك بشكل نسبي رغم امتلاك المجتمع العربي مقومات المجتمع ، إلا أننا وكمحاولة نستطيع تحديد أسباب انعدام ( إن جاز لنا التعبير ) إلى أهمية الوطن العربي وموقعه الاستراتيجي وتأثره وتأثيره على مراكز الإنتاج العالمية ، حيث عرّضه موقعه ومنذ فترات مبكرة لاحتلالات وغزوات من الخارج عملت على تقطيع أوصاله ، الأمر الذي أضفى عليه تعقيدا سلاليا ترك أثرا فيه لم يزل إلى يومنا هذا في مختلف نواحي حياته وأنشطته وفكره وتراثه وعاداته وتقاليده وفنونه وآدابه رغم تعرّبها ، الأمر الذي احدث فجوات واسعة في بناه وانسجامه وأنماط تفكيره ، وخاصة في الوقت الحالي والذي نشهد فيه تغيرا وتطورا هائلا وسريعا من حيث الكم والكيف والآثار ، وخصوصا في الجوانب المادية ، على عكس ما تشهده الجوانب القيمية والأخلاقية والمعنوية للمجتمع العربي ...وقد اوضح كل من قاسم امين ( تحرير المرأة ) وشبلي شميل ( ج/2 من مقالاته) وعبد الله النديم (في مجلة الاستاذ) واحمد امين ( فجر وضحى الاسلام ) حول اهم اسباب التخلف والاستبداد في المجتمع العربي .
الفصل الثالث
مفهوم الزمن وعلاقته بالفوضى والتخلف الاجتماعي
1:3 – التخلف الاجتماعي وعلاقته بالفوضى : -(1/86)
إن اعترافنا بالآخر -كشرط لحصولنا على إنسانيتنا - هو اعتراف الأخر بنا كقيمة إنسانية تتضمن المساواة والعدالة والاحترام ، ولما كان التخلف مبنيا من تراكم انبنائي تاريخي بسبب الحالة الذهنية العربية من جهة ، وهذا ما يؤكده سليمان العسكري في مقالته حول اسباب التخلف واننا بحاجة الى معجزة ، فهو لا يعزو اسباب التخلف الى " التركة الاستعمارية او الى اسرائيل او لقلة الموارد المتاحة وهجرة العقول " ( العربي ، العدد/ 470 ) ... بل من القهر والتسلط والعنف والإذلال من قبل الأب والسيد والحاكم تجاه الإنسان ( الفرد ) ، وخنق كل انتفاضة له في سبيل وقف التسلط والاستبداد واستمرار التبخيس ( Depreciation ) في الحط من قيمة نفسه او من قيمة الأخر في حقه بالحياة ، مما ادى الى تبرير العدوانية المشوبة بالقلق وانعدام الأمن من جهة اخرى ، ولهذا فان التخلف الاجتماعي ( Social Underdevelopment or Lag ) يعني العجز والفشل والقصور في تبني أنماط جديدة من الفكر والسلوك ، والذي يقود المجتمع إلى وضع افضل من حيث استغلال الإمكانيات والموارد المادية والمعنوية والسياسية والإنتاجية والعلمية والتكنولوجية وعدم توفير الرفاهية للمواطن ، ويمكن إجماله بأنه .. وراثة الأمراض والعلل الاجتماعية ..(معن خليل عمر ، 1999 ، ص/22) ... ويقول محمد الرميحي في مقال له بعنوان (متى تنتهي حيرتنا العقلية وتبدأ معجزتنا الاقتصادية… ؟ ) .. لماذا تقدّموا هم وتأخرنا نحن … فالعربي ما زال يواصل التردّي منذ عقود … ورغم تشخيصنا لأسباب التخلف… إلا أن المسألة تبدو متعلقة بالذهنية العربية وهي حالة مزمنة لا علاج لها…إننا بحاجة إلى معجزة… (عقلية)…لأن التقدم يأتي أولا من خلال تلافيف العقل قبل أن يأتي من نقل التقنيات واستيراد أدوات التقدم " (الرميحي ، 1998 ، ص / 18) وهذا ما يؤكده ايضا سليمان العسكري في مقالته في ( العربي ، العدد / 537) . حول فوضى استخدامنا لمنتجات(1/87)
الثورة التكنولوجية والتي تتمثل بالهواتف الجوالة والحواسب الآلية والمحمولة والمحطات الفضائية والاقمار الصناعية التي امتلكناها ... فلم نحصل من البائع على الكاتلوج الاخلاقي والعلمي الذي ينظم حياتنا .. في صحراء العقل " ...العربي- التشديد من عندنا -
إن الفرد العربي يسعى باتباع كافة السبل للحصول على الحد الأدنى لمتطلباته بأتباع أسلوب فوضوي يبدأ من البيت ويمر بالمدرسة وينتهي بمجتمعه ، حيث يتصرف ضمن سلسلة من الحلقات التي لا تنتهي ، الأمر الذي يخلق واقع ينتظم في .. أنماط ثلاثة تتمثل في الرضوخ والتمرد ثم الثورة ، وهذه الأنماط تخلق في النهاية صورة إعجاب بالسيد المستبد المتفوق أمام استكانته وإذلاله ..( حجازي، 1998 ، ص / 38 ) ...وهذا ما اشرنا اليه خاصة في الفصلين الثاني والخامس .(1/88)
إن ( مظاهر ) ومقاييس التخلف الاجتماعي ( نسبيا وذاتيا ) تختلف من مجتمع لأخر ، فهي متعددة ومتنوعة ، فمنها ضيق الولاءات وتأصل الفردية والعشائرية والنفاق الاجتماعي – Social Flattery والاستمتاع المادي (الاستهلاك – Consumption ) الذي يعكس أثر الاستعراض (الادلال- Demostration ) ، وعدم استثمار الوقت وتفشي الأمية وانخفاض مستوى الدخل الفردي وانتشار الفقر ، بالإضافة للتخلف التقني ، ويعدد حليم بركات ومعن خليل عمر اكثر من( 18 ) مظهرا للتخلف ( معن خليل عمر ، 1998، ص/224-230) فهناك ..الفجوة بين المستوى المادي للعالم الأول ونفسه للعالم الثالث … فهي بازدياد من حيث مستوى الدخل والمعيشة ، وكذلك التقدم الاقتصادي …لا يكون موزعاً بالتساوي عند العالم الثالث… بالإضافة إلى اعتماده على العالم الأول في … تأمين المواد الهامة في الصناعة (التبعية )… ثم إن العالم الأول أقوى بكثير في المجال العسكري والاقتصادي والتكنولوجي والعلمي .. (عبوشي،1980، ص 12- 14 ) ...اذن اسباب التخلف متعددة ومتنوعة منها التخلف المجتمعي والعلمي والاخلاقي وكلها مرتبطة ببعضها البعض ، ولا تقتصر على سبب من الاسباب التي ذكرناها ولكن محمد جابر الانصاري اجملها لنا بعدة انواع وربط تأثيرها في مقالة له في ( العربي ، العدد /514 ) حيث يقول .. ان التخلف المجتمعي يؤدي الى تخلف العمل السياسي وتقليص القدرة الانتاجية ، والتخلف الذهني يؤدي الى تخلف الفكر والثقافة والابداع العلمي ، والتخلف الاخلاقي يؤدي الى تخلف المسلكيات في التعامل العام والقيم المدنية .. وهذا ما اكدناه في الفصلين الاول والثاني حول تأثير تخلف البنى الاجتماعية التقليدية ونمطها العشائري- القطيعي في الاطر الاجتماعية بسبب تكلس البنية الذهنية( Mental Petrifaction ) في الاطار العام ، وتغييب دور العقل وخاصة عند بعض النخب المثقفة ( التي تلقت علومها في الخارج المتقدم والمنفتح والمتحضر ) حيث(1/89)
يصابون بأزدواج الشخصية ويعانون بما يسمى (بالاغتراب - Alienation ) عن مجتمعاتهم .. مما ينتج اخلاقيات خارجية وداخلية متناقضة... ( نفس المصدر السابق ) .
نلاحظ أن المقارنة في المقاييس بين العالمين هي مقاييس مادية واقتصادية نوعاً ما ، لكن ما هي المقاييس العلمية –Criterion Scientific... ؟ إن الإجابة على هذا السؤال تأتي في سياق إظهار الفروق بالمقاييس العلمية ونسب المتعلمين من المجموع الكلي للسكان ( الذين يعرفون القراءة والكتابة ولنأخذ أربع دول عربية كمثال ) .. فنسبة المتعلمين في سوريا ومصر والجزائر والعراق والتي لم تتعد 53% ، 44% ، 35% ، 26%على التوالي عام 1979 ، بالإضافة إلى أن الناتج الإجمالي للفرد الواحد لنفس الأقطار كانت على التوالي 910$ ، 320$ ، 1110$ ، 1550 $ .. (غسان سلامة وآخرون ، ج2 ، 1989 ، ص/682 ) .... والادهى من ذلك ان ما ورد في تقرير التنمية الانسانية العربية لعام / 2003 يفقدنا صوابنا فمعطياته اقل ، بل واسوء من النسب المذكورة اعلاه .
وهناك مقاييس أخرى سنوردها في سياق البحث بعد استعراض السمات والظواهر المصاحبة للتخلف الاجتماعي في المجتمع ونجملها من حيث .. إن المجتمع العربي يعيد إنتاج نفسه وهو غير متحرك ومعاد للتجديد …(ومقطّع )… ليس فيه انسجام وغير متسامح ، وخاصة فيما يتعلق بالاستقلالية مثلا .. وهو ظلامي وخاضع للوصاية واقتصاده كذلك خاضع للهيمنة ، ويتصف بالهشاشة من حيث الرعاية الصحية والنظافة العامة ، وذو معدلات ولادة عالية ويتمتع بفروقات حادة وصارخة في مستويات الثراء والفقر ، وهو مجتمع تشنّجي في حال التصادم مع السلطة .. ( محمد الرميحي ، 1998 ، ص/ 24 ) .(1/90)
وبما أننا استعرضنا ولو بإيجاز ابرز سمات المجتمع المتخلف ، لنرى ( ولنستعرض ) إنسان هذا المجتمع … فطبيعي أن الإنسان المتخلف هو وليد البيئة (المحيط) الاجتماعية المتخلفة ..ولكنه ليس مجرد أمر مادي قابل للتغير تلقائيا… (كيف…؟) …لأنه نشأ تبعا لبنيته الاجتماعية فانه يصبح قوة فاعلة ومؤثرة فيها ويعززها ويدعم استقرارها ( ويرسّخها )- التشديد من عندنا- بمقاومة تغييرها بسبب ارتباطها ببنيته النفسية والذهنية ( والمصلحية ) .. – التشديد من عندنا – (حجازي ، 1998 ، ص / 9 ) … لكنه في لحظة تاريخية ما سوف يصبح في وضعية مأزقية- Critical Point - خاصة في سلوكه وقيمه وتوجهاته ومواقفه خاصة عند مجابهة بيئته من جهة ، وعدم السيطرة على قيمه وسلوكه وتوجهاته ونزعاته بشكل يحفظ له التوازن النفسي من جهة أخرى ( لكنه) – التشديد من عندنا – يعيش في مأزق … جراء تعجّنه (ومأسسته) ضمن تشكيل سلوكي يشخّص الانكفاء نحو الذات ومتداخل مع نزوع مستنبط ومحافظ ، ذي قدرة وسمات عقلية – ذهنية محدودة ومغلقة…تتناسب مع الفعل الاجتماعي التعبيري الذي يتصف (بالعضلي)…لأنه أساسا جعل سلوكه وتوجهاته وقيمه نابعة من وضعية القهر والغبن المفروض عليه ... ( من الطبيعة والمجتمع والسلطة )... التي رضخ لها ، وبالتالي حينما يشعر بمأزقه فأنه يصل لحالة التمرد... ( والعصيان ) ... لشعوره بانعدام الأمن…(لربما)…ولكن ماذا سيحل بمصالحه وحاجاته ساعتئذ …؟ مقابل استمراريتها... ( ونعني مصالحه )…؟ حتما سيتجه إلى …الثورة التي لا مفر منها ، وبالتالي سيكون العنف هو ديدنه والذي يعتبر المحرك الأساسي للتخلف الاجتماعي كناتج ، وهو بالتالي المحدد للعلاقات… (الساكنة)…ظاهريا .. (المصدر السابق ، ص / 10- 11 ) .(1/91)
من هنا نعي أسباب سقوط الفرد العربي فريسة للتخلف وتنازعه الدائم بين حاجاته وبيئته الاجتماعية ، لكن هل هي قابعة في الاستعداد الفطري للبشر …؟ أم هي محض قضية ثقافية وتربوية وذهنية …؟ إنها الذهنية .
إن ذلك يجّسده الفرد العربي عندما يكون عاملا فنراه كسولا ، يتحامل على العمل … انه ينتقم من أسياده بطرق خفية أو رمزية ، فنراه فوضويا متمارضا مهملا بطيئا عند قدومه للعمل ، لا يحسب حسابا للوقت ولا يبذل الجهد المطلوب للنجاح ، على اعتبار ان ذلك بنظره ( شطارة وفهلوة ) فهي انعكاس لتداخل العلاقات الاولية بالرسمية ، وكذلك عند البيع والشراء الذي يكتسب صفة القنص والسلب والهروب ، وهذا ما اكده العلامة ابن خلدون قبل سبعة قرون .
إن ما حدانا لإيراد هذا المثل هو للولوج في محور نشوء وظهور التخلف ( كآلية ) كيف ...؟
إن التخلف يحدث ..اضطرابات سلوكية وأمراض اجتماعية تتحدد في التوجه المادي للحياة…(والإنسان يتصف بالأنانية والاستغلال والمخادعة والمسايرة الزائدة ، والأتكالية والتمردية والعداوة والشعور بالنقص والانعزال الانفعالي والتعصب)… بالإضافة إلى المعوقات النفسية والتنظيمية والتقنية والاجتماعية والأول (المعوقات النفسية ) أخطرها ، لأنها خفية والثانية تشمل الاتصال بالمجتمع وتتعلق بالعلاقات الشخصية... أما الاثنتان الأخريتان فيعدان ثانويتان " ( شكور ، 1998 ، ص/ 103 – 109 ) .
إن النمط الاجتماعي الراهن للمجتمع العربي .. هو نمط هجين … ولم يستقر بعد ، مما ولّد الاختلال والازدواجية بين الواقع المتخلف والمستقبل المثالي … والغريب انهما متعايشان الأضداد تتلاحق فيهما العقلية والخرافية والغيبية واللاتجانسية .. (زيعور ، 1987، ص/ 79) .(1/92)
لنأخذ الإنسان العربي في مرحلة القهر والرضوخ التي تتميز .. باستحالة التخلص منها لما تحويه من جمود وتخلف وانحطاط ، وتظهر عقد النقص والعار … العار الذي يكشف بؤسه وعجزه ويشكّل فضيحة بالنسبة له وخاصة ما يمس الشرف والكرامة والعزة…( وهكذا يتصور )… مع انه في الحقيقة...يعاني من خواء مرضي داخلي وفوضى ، وما الكرامة والشرف إلا قشرته الخارجية التي يحاول أن يتجّمل بها أمام الناس خوفا من كلامهم وحرصا على سمعته ، وخير مثال على ذلك المرأة ( الحرمة) على اعتبار أنها من المحرّمات وممنوع الاقتراب منها ، أنها صمته لستر عاره .. (المصدر السابق ، ص/ 88 ) 0
ورغم اهمية دور العلم ومساهمته في تطور البنى الاجتماعية إلا أن العمل سبقه وكسر البنى المحافظة خاصة في المجتمع الريفي والبدوي الراكد ، كانتقال المرأة إلى نوع جديد من العمل (وخاصة في المستوطنات الاسرائيلية ) فارتفع دورها وتحسنّت مكانتها ، وبرزت أعراف وقيم جديدة … فبعد أن ( ذاق ) أبيها اوزوجها (طعم النعمة ) وتحسّنت أحوالهما المادية ، الأمر الذي جعله يبقيها في عملها…وهي بدورها أجبرته على القبول بمنحها بعض الحرية والخروج وحرية اللباس ... ولكن أمام عقدة العار أين يذهب كل ذلك… أمام الجرح النرجسي…المرتبط بالجنس ..(زيعور، 1987 ، ص/ 71 ) و( شكور ، 1998 ، ص/42 ) ...(1/93)
بالإضافة إلى ذلك فهناك اضطراب الديمومة وهو العجز عن التحكم في المصير والزمن ، فآلام الماضي تؤثر في الحاضر ، وتجعل المستقبل اشد قلقا ويقع الفرد العربي أسير الاجترار السوداوي – الاكتئابي ( Melancholia Ruminatiom ) وهو مرض عقلي يدفع الفرد الى ادانة نفسه بسبب مآسيه ، من هنا نرى أن الطابع الغالب على حياته هو طابع الحزن وخاصة في الأغاني ( كالطابع العراقي ) مثلا ، ولهذا فان أمتع لحظات الإنسان العربي هو حضوره لفيلم هندي طويل لإفراغ ( وتنفيس وتصريف) ما بداخله من أحزان ومعاناة ، فيخرج بعد انتهاء الفيلم وكأنه إنسان جديد ، أما مرحلة الاضطهاد ( Persection ) فتكون نفسية الفرد قد بلغت حدا من التوتر والانفعال والغليان ، لذا فانه يسقطها على الغير ... وأخيرا مرحلة التمرد والثورة ( Mutiny & Commotion ) وهي مرحلة العنف الذي يخدم الفرد المضطهد للتخلص من سموم القهر والاستغلال والنقص كالانتفاضة مثلا عام 1987 ردا على سياسة الاحتلال الاسرائيلي المذلة ، والدليل على ذلك ان الانتفاضة جاءت للتخلص والتخفيف من سموم القهر والاستغلال وعقد النقص ، لان العمال الفلسطينيين استمروا بالعمل بل وازدادت اعدادهم خلال فترة الانتفاضة من جهة ، وفي ظل انعدام الإمكانيات المتاحة للهروب والنجاة من وطأة التعسف والظلم ومحاولة تقليد القائد أو الزعيم في مواقع البطولة من جهة اخرى .. حيث ستصبح شخصية الفرد العربي لاحقا صورة طبق الأصل لديكتاتورية سيده حيث يمارس استعلائه وغروره وتعسفه ، فيحدث الانشطار بين مختلف القطاعات الحياتية والشخصية .. (حجازي ، 1998 ، ص/ 52 ) ...( وهذا ما لمسناه خلال فترة الانتفاضة الاولى عام 1987 ، وحاليا بعد دخول السلطة الوطنية الفلسطينية ولحد الآن ، إلا أن انتفاضة الأقصى عام/ 2000 تداركت الموقف) الا ان الانتفاضة الثانية ايضا وقعت بنفس ظروف واسباب الاولى .(1/94)
أما الطبقية والفوضى التي يعانيها ( المجتمع ) فسببها .. التحول عن قيم المساواة والحكم البيروقراطي العسكري المركزي وتوسع التجارة ونشوء المدن وتداخلها…( الطبقية)… مع الانتماءات الطائفية وتلاحم علماء الدين مع الملاك والحكام .. (بركات ، 1996، ص /132) .
2:3- التخلف في استغلال الزمن والنظرة للحياة :-
إن عدم استثمار واستغلال الزمن ( Exploitation Time) في حياة المجتمع العربي يعني عجز الفرد والمجتمع عن التحكم بمصيره واضطراب ديمومته ( بمعنى أن الزمن جدلي وليس تسلسلي ) ، على اعتبار كما أسلفنا أن الماضي يحدد الحاضر ، والحاضر والمستقبل يمنحان الإنسان القدرة على استشراف المستقبل والذي بدوره يؤثر على تجربتنا الحاضرة .. لذا فالأبعاد الثلاثة مترابطة مع بعضها البعض وكل منهما يحّدد البعدين الباقيين ويتحدّد بهما معا ، الأمر الذي يجعلنا نعيش الزمن كوحدة واحدة كلية .. (زيعور ، 1987 ، ص/ 44) .(1/95)
وعليه فالإنسان العربي المتخلف والمقهور يعيش في دوامة الفوضى واللامبالاة أيضا كسلسلة لا متناهية ، ويعاني من أشكال مختلفة من القسوة والقمع والكبت والتسلّط في ماضيه ، وحاضره أيضا متأزم وآفاق مستقبله مظلمة ومجهولة ، مما يشعره بالعجز وانعدام الشعور بالأمن والأمان وفقدان الإحساس في السيطرة على يومه وغده ، فهّمه الوحيد أن يعيش ليومه ويحصل على قوته بشتى الوسائل ( ويكتفي بعيشة الكفافDay Bread - ) فلا يدري ماذا يحمل له الغد..؟ هل يعمل .. وهل يضمن رزقه .. وماذا لو مرض أو مات ..؟ فهو مصاب بالعمى المطبق أو ما يطلق عليه بنزوة الحياة – Life Instinct التي تولّد نزوة السطوة ( السعار ) من جهة ونزوة الموت - Death Instinc وتعني الفناء والتدمير وهما في صراع دائم ، لذا فالإنسان العربي المتخلف والمقهور يعيش في دوامة الفوضى والقهر ، ونظرته للحياة كلها هواجس وتشاؤم وإحباط ويأس وقلق متواصل وشرود مستمر ، لذا نراه متوترا فاغرا فاههه يسير بشكل غير متزن وهائم متحفز ولا ينظر إلى ساعته ، وان نظر فهو يود لو تنقضي الساعات بسرعة ليرى ماذا سيحدث له غدا عله يهدأ من قلقه وانفعاله ، ولا يدري أن غده كسابقه وهكذا نراه أحيانا يطلب السلامة ، ويهوى بشغف قراءة الأبراج والكف وكشف الطالع والفنجان ، وان طال يومه فهو يقطّعه بالثرثرة والغيبة ، تماما كما نلاحظ أغلب الصائمين - Fastings في شهر رمضان حيث تنفرج أساريرهم عند طعام الإفطار ويتوقفوا عن الثرثرة والنميمة .(1/96)
إن الديانات السماوية وخاصة الإسلام قد حض على التقيد بالمواعيد والعهود وخاصة مواقيت الصلاة والحج والزكاة والصوم ، أي أن أركان الإسلام لها ارتباط وثيق وهادف بالزمن لحكمة ، وهي أن حياة الإنسان وزمنه وبقائه غير مضمون ، فجعل الله له مواعيد معينة في العام أو في السنة الواحدة كمواقيت محددة تقبل فيها عبادته ، كالحج والصوم والزكاة مرة كل عام ، والصلاة خمس مرات في اليوم والشهادتين في كل لحظة ، إذن هناك برنامج زمني مرتبط بسنين وبعمر الإنسان وحياته ، إذن الإنسان مخلوق زمني لكنه منتهي ، وخالقه غير منتهي ولا متناهي ، لهذا فالزمان أو الزمن أيضا مرتبط بالخالق الواحد الاحد الذي لا حد له ولا انتهاء ، ومن هنا يأتي عدم احترامنا للمواعيد فنقول دائما ( إن شاء الله) لكن مشيئة الله لا متناهيه ، ولا نعلم كنهها ولأننا عاجزين عن ذلك فأننا نبرر نكثنا بوعودنا ونقول بان الله لم يشأ ، والحقيقة ان الله شاء ويشاء في كل حين ، ولكن الانسان هو الذي لا يشاء فيلصق نكثه بوعده ( بالله عز وجل ) بل ويكذب ويدعي انه قد حدث له مكروه أو حادث منعه من الوفاء بالوعد وطبعا هو كاذب .. كما يقول ( الكواكبي ، طبائع الاستبداد ، ص/ 96 ) " ... تموهون عن جهلكم الاسباب بقضاء الله وتدفعون عار المسببات بعطفها على القدر ، لا والله ما هذا شأن البشر "…!
ومن شروط الإيمان ايضا ، الإيمان بالغيب ولكن حب الحياة والتمسك بالحياة الدنيا هو الطاغي قال تعالى : "ولتجدنهم احرص الناس على حياة ومن الذين أشركوا يود أحدهم لو يعمر ألف سنة وما هو بمزحزحه من العذاب أن يعمر والله بصير بما تعلمون " سورة البقرة ، الآية /96 . إننا نتصف بالقدرية والاستسلام والتواكل والتهرب وعدم تحمل المسؤولية مخالفين الحديث النبوي (اعقل وتوكل) .(1/97)
إن ذلك له علاقة بوجودنا على الأرض ونظن بأننا مركز العالم – Centrality ولا نعلم بان الإنسان الغربي مختلف عنا بـ180درجه من حيث النظرة والمفاهيم والهدف الذي يحققه كل منا في حياته .. فنحن أصحاب نظرة سوداوية مشبعين بالحسد والغيرة ولا نحب النعمة بيد الغير، متشائمين بائسين ومحبطين عدوانيين وفوضويين ، أما ذاك الغربي… ولو انه يشعر بخواء عاطفي وجامد الحس وغير اجتماعي… فهو متقدم ومتطور ومتعلم وهادئ وجريء وصريح وغير شخصي ومستقل ومتفائل ، نحن وسيلتنا الغيبيات والروحانيات والتمني والحظ والشعوذة… وحفلات الزار والدخان الأزرق والأبيض (المخدرات)…والمال والجنس ، والثاني ... وسيلته العلم والعقل والواقع والتقدم التكنولوجي والجهد المبذول وعدم إضاعة الوقت والجد والنجاح وتحقيق مصلحته وسعادته .. ( قباني ، 1992 ، زيعور ، 1987، عبوشي ، 1980 ، شرابي ، 1991) .(1/98)
إننا نحب الحياة بشدة… وهذا ليس خطأ ولكننا نحبها كما عاشها قارون غير قنوعين ، يقتلنا الجشع ، وكذلك ننافق على الله ولا نحب الآخرة لاننا لم نراها بعد ولاننا سنصلها عندما نموت لكننا نكره الموت ، والدليل قال تعالى : "ولتجدنهم احرص الناس على حياة ومن الذين أشركوا يود أحدهم لو يعمر ألف سنة وما هو بمزحزحه من العذاب أن يعمر والله بصير بما تعلمون " سورة البقرة ، الآية /96 ...لكننا نطمع بالجنة والخلود ، لنشبع نهمنا من الخيرات والثروات والحور العين ، لأننا سنفتقد متع ونعم الحياة عندما يداهمنا الموت ويحرمنا من تحقيق أطماعنا ، ولهذا فأننا نكره الموت وكأن الدنيا لنا وحدنا ، لننظر مثلا إلى ذلك الإنسان المسلم الذي يشرب الخمر والذي يتظاهر بالصلاة يوم الجمعة فقط...لماذا....؟ خجلا من الناس ، وخوفا من أن لا يصلى عليه عند موته ، فهذا الإنسان وموته متعلق بالناس والعيب ولا يتعلق بحريته وعقله وقناعته وايمانه ، ولا يتعلق حتى بمخافة الله ، حتى الجلوس في المقاهي لفترات طويلة بين الثرثرة ولعب الزهر أو الورق إن الهدف الأساسي للجلوس على المقاهي هو لقضاء الوقت وقتله- Time Killer او لمواعدة صديق منعا من حضوره إلى البيت ...لماذا ...؟ لئلا يفترس المرأة أو البنت ، يعني هاجسه الجنس فيفضل مواعدته على المقهى ، ناهيك عن النميمة والنظر إلى سيقان النساء وقفاهن ...إن المقهى أداة تفريغ وتنفيس .. لما يعتري نفسية الإنسان العربي من أمراض وعقد وكبت وخوف ونكوص واجترار سوداوي وتشّفي من الذات المتوترة ..(زيعور،1987، ص/ 106) إن الحياة في نظر العربي هي غاية وليست وسيلة ، فهو يرجو منها الصحة والمال والجنس والنفوذ ، لكنها بعيدة عن أسس المادية وغارقة بالروحانيات ، فلا توازن ولا عصرية والتي من شانها أن تخلق " مدرحية " (عبوشي، 1980 ، ص/ 115 ) ...اي ان يكون روحانيا وماديا .(1/99)
إن الأمثلة على ما سبق كثيرة ولنأخذ مثلا ظاهرة التسكع والتجمهر على مفترقات الشوارع أو المنعطفات أو في الحدائق العامة أو أمام محلات بيع الأشرطة والأغاني ومحلات بيع الملابس النسائية ، فالناظر لنوعية المتسكعين يلاحظ انهم من فئة عمريه متشابهة ( قطعان مراهقين وبالغين بل وكبار سن – Herd-Rout ) ذوي تصرفات وسلوكيات قطيعية ، كالألفاظ التي يسمعونها للفتاة مثل " شو هالطعجة يا نعجة " و " يا ريتني صدرية أو بلوزة أو قميص على صدرك " و "يا ريتني بنطلون أو فيزون أو … كندرة تلبسيني "…والغريب أن لدى هذه الفئة القطيعية قدرة واستمرارية للوقوف ساعات طويلة يقضونها في هذه الأماكن ، ولا يحتملون قضاء ساعتين أو ثلاثة في مدارسهم أو في أماكن عملهم أو حتى في مواقفهم الجدية ، فليس لهم إلا التسكع والتعليق الساقط والبذيء على الناس .. لا شغله لهم ولا مشغلة …إلا التحرش بالفتيات …وقلة الحياء والزعرنة …ناهيك عن شذوذهم العضوي أو الجنسي ومظهرهم وسلوكهم المنفّر … كاغتصاب الأخت أو ابنة الأخت أو الأخ أو زوجة الأخ .. ( البيادر السياسي ، 29/8/1998،العدد / 710، ص/39) .(1/100)
وهناك ظواهر السير والوقوف على الأرصفة كالقطعان ومسالة البيع والشراء ، فهي بحد ذاتها الطريقة المخزية للعربي في قضاء وقت طويل يتذلل ويتوسل ويبخس التاجر ويفاصل في السعر ويكذب أحدهما على الأخر ، فقط في محاولة لسلب كل منهما الأخر قدر ما يستطيع من الثمن ، هذا بالتمسك بالثمن وذاك بتوفير قدر الإمكان من السرقة ، وكذلك الاستهتار بعدم الاصطفاف حسب الدور أمام دور السينما أو المسرح أو موقف السيارات أو حتى في المدارس ، وان صادف وارشدت احدهم ليقف بالصف او بالدور وخاصة في البنوك ، ينظر اليك شزرا ويظل صامتا او يسمعك الفاظا نابية .. لنسأل القارئ : هل اخطأت عندما ترشده ليلتزم بالقانون والانتظام كالبقية ...؟ ثم لماذا غضب منك وكأنك اسأت اليه...لكن لنفترض ان احدا اخر قال له : دبّر حالك وانت وشطارتك ، فبماذا سيجيبه ...؟ حتما بالشكر والامتنان بل وبالابتسام ...بل وسيصبحون اصدقاء بل وسيتفاخرون امام الآخرين كيف تصادقوا ...واين .....؟
انت ارشدته ليلتزم بالدور والنظام فأحرج ورد فعله انه غضب منك ، والآخر شجعه على الفوضى فشكر وابتسم ...ماذا يعني ذلك ....؟ .. إن حياته كلها استلاب يعيشها ويطبّقها على الآخرين .. (زيعور ، 1987 ، ص/115 ) ...هذه ظاهرة من ظواهر الفوضى في مجتمعاتنا العربية وقس على الباقي ...والجواب ستجده عزيزي القارئ في الصفحات التالية مباشرة .
3:3 - أسباب إهدار الوقت والنظرة للحياة والموت (القضاء والقدر- Fate-Destiny) :-(1/101)
إن من ابرز ملامح التخلف الأساسية في المجتمع العربي هي التنميط الذهني والفوضى والعشوائية وسوء التخطيط والارتجال ونمط التفكير ، حيث يكون من نتائجها ما يسمى .. برد الفعل الحرج .. (حجازي ، 1998 ، ص/ 440 ) الذي يتسم بالخضوع والاستسلام- Servility - Submission من جهة ، والاستعلاء والتفوق والاستعراض Demonstration- Superiority من جهة أخرى ، نتيجة بروز مزاج نفاجي ( وتضخم ذاتي واستنفاخ وتخريف) نحو التعويضية بالتقليد والسلوك المدفوع بالعصبية والجهل ، والممزوج بانشطار بين واقع الحياة والحياة الشخصية التي تتصف بصعوبة السيطرة الذهنية والعجز عن تحليل الواقع ، وهذا طبيعي في ظل بيئة اجتماعية متخلفة لا تعي أهمية السنين والزمن في حياتها ، وخاصة إذا كانت محكومة بالتقاليد وسيطرة الطبيعة والتاريخ ، ناهيك عن الخصاء الفكري – Mental Castration والفقر الاقتصادي وانخفاض مستوى المعيشة وسوء توزيع الإنتاج والدخل ، فيلجأ الفرد حينها إلى الصبر والتمني والتخيل لإشباع خيالاته وحاجاته بالأحلام ، وينم ذلك عن ضعف عقلي وعدم القدرة على التركيز والاستيعاب وعدم السيطرة على الفكر ، على عكس الإنسان الغربي الذي يقتحم المستقبل ويتحكم بالوقت ويعطيه قيمته ويعيش حاضره بما فيه من سعادة ، وحتى الهموم لا تخطر بباله ، بينما العربي يعيش الهموم بيومه آملا في غيره وحامل لهمومه .. دون الالتزام بالزمن .. (دويري ، 1997، ص/ 30 ) .(1/102)
فالأمريكيين رغم ما وصلوا اليه من تقدم وعلم وتكنولوجيا مثلا وفي ظروف الكفاح المتواصل مع الطبيعة والسباق اللاهث مع المتنافسين ومع الزمن .. لم يكن لديهم متسع من الوقت لصوغ ووضع الأفكار أو الأشعار أو الإسراف في الحديث أو إضاعة الفرص أو قتل الوقت والدخول في تجارب غير نافعة ، لقد كان الوقت عند الأمريكي هو المال وقد يكون هو العمر وبذلك كانت اللحظة عنده هي الأساس ، والهدف لم يكن مرتبطا بالماضي ولم يكن مشدودا إلى المستقبل إلا بقدر ضئيل .. ( محمد سعيد العشماوي ، 1998، ص/40 ) اما الانسان العربي فعكس ذلك تماما ، فلا غرابة انه تابع لأمريكا .
ومن ابرز ملامح المجتمع العربي الانكفاء على الذات - Retroversion كوسيلة دفاعية في مجابهة تحديات الحاضر والمستقبل ، فالماضي عنده أمر مفروغ منه لا يحمل همه ، لذا فهو يفضّله ويتعمّق في التفكير به ويجّسده في خيالاته وأحلامه ، وان اصطدم بالحاضر فهو يلجأ إلى العصبية (القبلية) كضمانة للغد ويدخل في متاهات .. العدم والزهد والتسليم بالقدر والمكتوب والقسمة والنصيب .. (حجازي ، 1998، ص/ 90 ) .
إن أسباب ذلك تعود لقلة الحيلة وانعدام الوسيلة وخاصة عندما تسيطر عليه خرافة المصير الأبدي واقتراب الموت ، لأنه لا يعرف من شؤون الغد شيئا ولأن المستقبل بيد الله ، يصف المنفلوطي هذه اللحظات فيقول .. لبست أثوابي ولا أزال البسها حتى الآن ، ولكني لا اعلم متى اخلعها بيدي أو تخلّصها يد الغاسل ، فالغد شبح مبهم…غمض عن العقول وصورة مملوءة بالأسرار تحوم حوله البصائر وتتسقطه العقول … ومع أن الإنسان قد ذلل كل عقبة في هذا العالم ، إلا انه سقط أمام الغد عاجزا مقهورا … لأنه باب الله لا يطلع على غيبه أحد ، أيها الغد صن سرك وابق لثامك على وجهك حتى لا تفجعنا في أرواحنا فإنما نحن أحياء بالأمل سعداء بالأماني وان كانت كاذبة .. ( المنفلوطي ، النظرات ، 1983 ، ص/46) .(1/103)
إن أهمية الزمن لا تلعب دورا هاما في عملية التفاعل الاجتماعي للفرد العربي ، وذلك بسبب استباق العلاقة القرابية وتفضيلها على تفاعل الأفراد والعيش في عالم من الرموز بدءا من الآن واليوم والأمس والغد والساعة والدقيقة والأسبوع والشهر والسنة ، ثم لماذا يتعب نفسه بالغد فهو لا يعلم ان هذه .. الرموز تساعد في تسلسل الزمن ، وهذا له أهمية من حيث التفاعل الاجتماعي واستمراره أو تقطيعه بتفاعل جزئي معه .. ( معن خليل عمر ، 1997 ، ص/ 83-84 ) .
فالزمن وسيلة وإعادة بناء للذات لتأخذ معنى جديد من حيث .. انه ( الزمن ) قدرات وإمكان وإحداث وإبداع… وجسر الانتقال إلى الطور الإيجابي وتحقيق الأفضل للإنسان ...( زيعور ، 1987 ، ص/ 39 ) فهو غير فعال لانه يعد بالعودة .. إلى الفردوس (الجنة أو النعيم ) لا يضمنها ولا يعلم عنها لانها من علم الغيب ، او يعود به الى عصر ذهبي قصير …(مضى)… قرأ عنه فترتاح نفسه فيعود الى الحنين للايام الخوالي ويتمنى ان تعود وهنا لا يسير صوب الأمام ، بل الى الخلف ، لذا فالعربي يضع نفسه وتاريخه فوق الزمن وخارج التاريخ ويطويه ( ويقضيه بالكرامات كطريقة للخلاص والاستعانة بالجن والعفاريت والإيمان بالسحر والتعاويذ وقراءة الفنجان ومتابعة الابراج - وخاصة المرأة في مجتمع القرية والبادية وحتى في المدينة والادهى - المرأة المثقفة والمتعلمة بل والمسؤولة – والانسان العربي يتعامل مع الزمن .. بالحيلة ( للاقتناص ) والقطع… فالزمن يصبح سكوني ، والعلاقة بينهما غير سوية ومضطربة ، وهذا هو المرض النفسي للذات العربية التي تعتمد المشيئة الإلهية والصدفة .. ( زيعور ، 1987 ، ص/ 40 ) .(1/104)
يروي أحد الكتّاب حادثة لأحد مرافقي بعض الأمراء العرب النفطيين تعكس مدى إهدار الوقت فيقول :_ " يأتي موعد إقلاع الطائرة… وهو( الأمير ) غارق في حديثه عن صيد الحبارى بالصقور ، غير مبال بما يدور حوله … وهولا يبالي بالمواعيد … لذا فالوقت يستعمل بشكل فضفاض ، بحيث يشير تصرفه (الأمير ) إلى أنه هو المسيطر والآخرون مسيطر عليهم … فيدع الآخرين ينتظرونه طويلا من أجل الإذلال والسيطرة " ( فؤاد إسحاق الخوري ، 1993 ، ص/99 ) .
إن الحياة خط زماني تسير عليه الذات نحو الموت والذي هو هاجسها وهزيمتها ونهاية زمانها وحاضرها وإرادتها وفعلها وحركتها ، فالحركة تلتهم السأم والملل وهي بذلك تلتهم الزمن ، ولكن هل العربي فعلا يتحرك…؟ إن العربي يميل إلى التزّمن أي يعيد الزمن المستقبل حاضرا (استحضار) وهو بهذا يقع خارج الزمن ( كما أشار زيعور) ولأنه… أمنية وأمل وتصور وأوهام .. (حجازي ، 1997 ، ص/ 23-26 )… لذا فأننا نراهم يشتمون الزمن الغدار والقاسي والغريب في الأحاديث والأغاني والروايات وفي الحياة اليومية، لعجزهم عن تطويعه لمصلحتهم وتخليقه لإرادتهم .(1/105)
لنرى شعور وإحساس العربي عندما يغزوه الشيب ماذا يعني له ذلك ... ؟ إن ذلك يعكس التشبث بالحياة والشباب والاستزادة من السعادة ، لكن الشيب يعني الاقتراب من الموت فانه يستسلم له ويبدأ بتبرير الموت على انه خلاص له من الآلام والشقاء والغدر والمرض ، وفي النهاية يسلّم أمره لله ، انظر للمنفلوطي ماذا يقول " رأيت الشعرة البيضاء في مفرقي فارتعت لمرآها … كأنه سيف جرد للقضاء على رأسي أو رسول جاء من عالم الغيب ينذرني باقتراب الأجل … أو خيط من خيوط الكفن لجثتي … لقد أبغضت من أجلك كل بياض أحببت سواد الغربان وكل ظلام حتى ظلام الوجدان … فأنت رسول الموت فلا احمل لك الحقد والموجدة لأني لم انعم بشبابي ولم أذق حلاوة الحياة ولم استنشق نسمات السعادة … لا انقم عليك … لأنك طليعة الموت الذي يخلصني من شرور العالم وآثامه وآلامه وأسقامه وغدر الصديق وخيانة الأخ … فأنت الطريق إلى الغرفة التي أخلو بها بربي وآنس بنفسي " ( المنفلوطي ، النظرات ، 1983 ، ص/ 144-148 ) .(1/106)
ولكن كيف يعيش الفرد العربي يومه وكيف تكون حياته ومعيشته إنها تتصف ..بالبساطة والعيش كل يوم بيومه ..( بركات ، 1996 ، ص/87 )…وهذا ما قلناه سابقا ، فالقروي شديد الإحساس بالزمن وخاصة الفصول الاربعة … حيث يتصارع معه ويعتبره معه أو ضده كما يحتفل به ويصبر عليه أو يستفيد من فرصه .. ( المصدر السابق ، ص/101 )… فمن خصائص الإنسان في ذلك المجتمع الراكد ، القدرية والاستسلام للأمر الواقع وللقادم والتواكلية ، التي تعكس الاتجاهات النفسية والعقلية لبعض الأقوال مثل " إن شاء الله ، إن راد الله" ، فهذه كلها يراد منها الكذب والتملص من الوعد أو العهد مع عدم إنكارنا للإرادة والمشيئة الآلهية ، وهذا دليل على إن قائلها كاذب سلفا ويتعمد اختلاق الكذب وشتى اصناف الحيل ويلقي اسباب اهماله وعدم احترامه للوقت والزمن والاخرين على القضاء والقدر وعلى الله .. إن هكذا مجتمع مولع بحب الدنيا ويحب .. الآخرة بنفس الدرجة بل ويعطي الأولى ( الحياة الدنيا ) أهمية اكبر ، لاعتقاده بأن الحياة الآخرة لم يعشها بعد ولم يتذوق حلاوتها بعد ، فذلك يجعله يؤجل عمله للمستقبل ، ناهيك عن النظرة للحياة والزمن هي نظرة دينية .. لكن لماذا يستسلم الانسان لله عند إحساسه باقتراب اجله ...؟ ثم هناك…التعلق الزمني المساير للتعلق الجغرافي… وخاصة في حالة الوفاة والدفن … في مقبرة الأهل والأقارب والأجداد نظرا لان ذلك …(بتصوره)…يشعره ويؤنسه في وحدته واندماجه معهم ، وذلك ادعى للطمأنينة تمهيدا لحياة ثانية بعد الموت .. ( زيعور ، 1981 ، ص/ 102 ) .(1/107)
وهناك حالات غريبة وعجيبة وهي مؤانسة الميت يوم الخميس وخاصة في أول خميس يلي وفاته، والمؤانسة كما هو معروف تكون مع الأحياء وليست مع الأموات ، والحقيقة إن ذهابنا للمقبرة ليست لمؤانسة الميت وتسليته وإنما على أمل العودة به حيا ، أو للتأكد من انه مات أو أن هناك بعض حياة بقيت له ، أو لربما يكون الموت قد اخطأ.. وان الله قد يعيده مرة أخرى حيا ، وهذا يعكس مدى حب الإنسان للحياة من جهة ، ومن جهة أخرى انه بتلك الطقوس يترجى (يأمل ويتمنى) أن يطول بقائه ، والدليل عندما نقدّم واجب العزاء في الصحف نختم العزاء بقولنا " لا أراكم الله مكروها بعزيز " وهذا مستحيل لأن الموت مستمر ويأخذ الأعزاء باستمرار ، وكذلك نكذب كذبا كبيرا عندما نقول لأحدهم في العزاء "ولكم من بعده طول البقاء " أو " البقية في حياتك" فهنا لم نحدّد مدة البقاء وطوله ، وثانيا لم يحدث أن خلّد أحدهم وأبقاه الله إلى ما شاء ، وثالثا وهذا هو الجوهر أن المعزّي يأمل بصاحب العزاء أن يطيل الله في عمره ويبقيه، وهو في الحقيقة فأل حسن له( للمعزّي) ولبقية أفراد أسرته وإبعاد الموت ورده عنه وعن أسرته طمعا في الخلود الأبدي وطول البقاء وطلب السلامة ، كقولنا "يسلم رأسك"…ممن يسلم الرأس ...من الموت ام من السيف ام من العقل ام من الجنون ...؟ وغالبا ما نلاحظ ونسمع من المعزّي يقول الحمد لله…! ويقصد بها أن الموت لم يختاره هو أو أحد من أعزائه بل اختار آخرين غيره فيحمد الله على ذلك ، ولهذا نلحظه يتصّنع الحزن ومشاركة أهل الميت العبوس والقنوط ولأنهم بنظره دفعوا عنه بلاء ومصيبة ولوعة الموت بدلا عنه ، لذا نسمعه يقول الحمد لله … "ويسلم رأسك يا جار أو يا فلان من أبو فلان فالله أعطاك عمره" …انظر هنا مدى الجشع والطمع في الحياة الدنيا وحب البقاء ، فهو يقرر أن الله قد أعطى ما تبقى من عمر أبو فلان الميت لأبو فلان الحي … "وقولنا يارب ادفع عنا البلاء "… يدفعه لمن…؟ إننا(1/108)
بقولنا هذا نريد دفعه ونتمناه للآخرين …ولا يعلم قائله ان الابتلاء اختبار للمؤمن ، اذن في قوله هذا لا يريد ان يكون من المؤمنين بقضاء الله ، وللعلم إن مثل هذه الألفاظ والمقولات الطقوسية مكروهة وغير محببة في الإسلام حيث استبدلت بـ عظّم الله أجركم ..وان هذه المقولات اصلها دخيل على الاسلام والثقافة العربية ، فهي قادمة من ثقافة الفرس والترك والمماليك ودويلات الخدم والعبيد التي حكمتنا ما يقرب من 1000عام ، ودليل اخر فقد كانت تقال لدفع قطع الرأس والقتل والبطش الذي عانى منه المجتمع العربي في السنين الغابرة بسبب انتشار الفوضى والهرطقات والبدع والملل والنحل والمذاهب الحلولية والتقمصية والوثنية او الجاهلية الجديدة التي احضرها المتأسلمون الجدد في ذاك الوقت ، واستمرت الى وقتنا الحاضر ... ( انظر الفصل الثاني ) .
ان العصبيةtribalism – Clanish هي إحدى مظاهر التخلف الاجتماعي والتي تسميها العرب ( السؤدد او العزوة ) ومن أهم سماتها .. أن لا قيمة للإنسان لديها فلا تحترم حياته ولا شخصه ولا كرامته أو حريته وحقه ولا تولي مواعيده وعهوده أي اعتبار أو أهمية أو احترام… فالمسكون بالعصبية لا يقدّر الزمن ونادرا ما تكون مواعيده محترمة… والسبب لأنه لا يقدّر ولا يحترم الإنسان ، حيث يصعب عليه الاعتراف بحق وذات الأخر، لانتفاء الاحترام والمساواة ، والشعور الشديد بتمّلك الأخر ووجوب ذوبانه فيه ، بوجوب استيعابه في السيطرة والهيمنة عليه ..( قباني ، 1997، ص /47 )… كما يشعر هو بذوبانه في عصبيته وهذه هي قمة الاستخفاف والعنجهية والاستعلاء الفارغة .(1/109)
إن سيطرة العصبيات في المجتمع العربي هو واقع حقيقي حتى أننا لا نستطيع فهم .. الأحداث السياسية أو التحولات الجارية ، بدون أن نفهم تأثير العصبيات وجذورها العميقة…وانتماءاتها العرقية والطائفية والقبلية والمناطقية …والمحلية ، حتى أنها أدت إلى فشل …الكثير من تحقيق برامج وأهداف المجتمع والنظام العربي… وخاصة المشروع القومي منه …إذ ما إن يبدأ المشروع حتى يفشل ويتبخر ..( الحياة الجديدة ، 3/7/2000 ، ص/15)… أمام الولاءات والمصالح العصبية … وبالتالي يتبخر كل اثر للثقافة والتعليم والفكر الحر ومفاهيم العصرنة والتمدن ، نتيجة فشل النظام العربي في إنجاز ( الاندماج الاجتماعي- Social Integraion ) وارتداد الفرد العربي إلى انتمائه الطائفي والقبلي والعرقي في الوقت الحاضر ، الذي يتميز بالأزمات والاضطرابات ( والفوضات ) الاجتماعية والسياسية والثقافية والاقتصادية وخاصة أمام تراجع سطوة القانون والنظام والمفاهيم الديمقراطية والعدالة الاجتماعية .(1/110)
لو عشنا لحظات في إحدى أروقة الدوائر الحكومية أو الرسمية العربية ورأينا ماذا يحدث…انه مولد أو (زيطة - Messiness) كما يسميها المصريين فنرى .. إن الفقير نتبّينه من ملابسه … ولا ترى ميسور الحال ( الباشا او البيك ) يقف في الصف إلا نادرا… فعادةً ما يكون بانتظاره أحد الأصدقاء أو المعارف أو الوسطاء ، فتسمع صياح وتلاحظ المعاملة السيئة… ولا تستطيع أن تحدد مصدره سواء أكان من الموظف أم من المواطن ، فالمواطن يشعر بالضعف ولذلك لا تجده يسير بالنظام ، إما لأنه غير معتاد عليه … أو لأنه لا يثق به ويظن انه موجود لمصلحة …(وخدمة)…القوي ، والنظام والحالة هذه ... يعيق المواطن العادي فلا يلتزم به ولا يخضع للتعليمات ، إما لأنه أهوج وجاهل ومعاند أو لأنه يشعر بالعصبية طيلة نهاره وكأن الدائرة ملك لعائلته أو لقبيلته ، وكذلك الموظف - -Beadledomيشعر بنفس الشعور فنرى الاثنان يتصايحان والشرطي يجذب المواطن ويضربه ، فقد اعتاد الناس على ذلك في سبيل منافسة بعضهم البعض بسبب أو بدون سبب …فنرى الفوضى هنا عارمة وتأخذ شكلا دائريا بين الموظف والمواطن والشرطي ..( عبوشي ، 1980 ، ص / 252) .. فلا يعرف الفرق بين العمل للصالح العام والمصلحة الخاصة … فالأول يتجه بنفعه نحو الذات والغير… والثاني يتجه نفعه نحو الذات … ولأنه يعمل للثاني فهو يتخبط بالفوضى ويتذمر…لأنه يتحرك دون تكامل معها ( أو مع الغير ).. (قباني 1997 ، ص/ 93 ) .(1/111)
لنأخذ مثلا زيارات المرضى خاصة في المستشفيات الحكومية ، نلاحظ المراجعين يخالفون إرشادات ومواعيد الزيارة ولا يتقيدون بألانظمة أو القوانين ، فهم يختارون أوقات الزيارة حسب وقت فراغهم أو بما يتماشى مع مصالحهم او بالواسطة او لأن الزائر يعمل مخبر للسلطة ان لم يكن مندوب ( مندس بين الناس يعمل بالقطعة او على الرأس ) ، ناهيك عن إدخال الأطعمة والمشروبات الممنوعة والتدخين داخل غرف المرضى أو بين أروقة المستشفى ، بالإضافة إلى الصراخ المستمر بينهم وبين أطقم المستشفى بهذا الخصوص مما يؤدي إلى تدخل قوات الشرطة والأمن .
أما ما يتعلق بالإنتاجية وخاصة لدى الموظفين فتكاد تكون منخفضة وتكاد تتركز واجباتهم في الدوام في مقر العمل ، لمجرد الحضور والانصراف بصرف النظر عن نوع وحجم الخدمة التي يؤدونها ، لان عقليتهم مبنية على الريع وهو ( أجر بلا تعب أو كد ) غير المرتبط بالجهد ، فيؤدي ذلك إلى رسوخ عقلية المضاربة التي تسعى إلى تحقيق فرص للربح دون جهد ، انه التهرّب والكذب والقنص وأسلوب النصب والاحتيال على الآخرين وكأنه يغرف من إقطاعياته وخاصة اذا كان حزبيا اوجبهويا او مندوبا لاحدى الاجهرة الامنية في السلطة الحاكمة ، وهي في حقيقتها إتاوة وخاوة .
وهناك ظاهرة المزاح الشخصي وخاصة عادة ( الاستلام - Mockery ) كما يسميها مروان دويري والذي .. يكثر بين الأفراد في المجتمع العربي وخاصة بين المختلفين طبقياً واجتماعياً … بدو وقرويين ومدنيين … إن حقيقة المزاح في الوطن العربي يعني الانتقام والثأر الصامت أو …البارد … وتنفيس للكبت والطاقة العنيفة ، ناهيك عن إهدار الوقت وتعطيلا للمصالح وللنظام وإثارة العداء والعدوان ( المحبب أو الملطف)… والغريب أن الطرفين يستحليان ويرتاحان له لسبب … لأنه مصدر تفريغ لشحنة الضغينة واثبات الاسترجال –Virilism والتفوق والاستعظام ..( قباني ، 1997 ، ص / 159 ) .(1/112)
ولنأخذ الأغاني مثلا ونتعمق بكلماتها… فكلماتها جوفاء غير هادفة ومعانيها خالية خاوية تنم عن التذلل والشك والكذب والمبالغة والحزن والنواح وطلب السماح ، وحتى أننا قلنا للبنت في إحدى الأغاني (زتي عنك هالمريول ) وللعلم هذه الأغنية تذاع بالإذاعات العربية وهي لمطرب مغمور ، ناهيك عن المقاطع التافهة التي تعكس ضحالة معنى الكلمات وهو .. انعكاس للإطار العقلي المتخلف والاتجاه النفسي الدوني وقيم الروح المريضة .. ( زيعور ، 1987 ، ص/ 9) .
أما الأمثال فهي تعكس أسلوب وواقع العيش وطريقة حياة الإنسان العربي فغدت متناقضة تبريريه ومتعاكسة الربط مثل " حط رأسك بين الروس وقول يا قطّاع الروس " وتعني منتهى اللامبالاة وعدم الانتماء مثل " البلد اللي ما بتعرف حد فيها شّمر و … فيها " وبعضها يعني الذلة والخنوع والاستسلام مثل " اربط الحمار محل ما بقلك صاحبه ناهيك عن الأمثال التي تعني .. الأتكالية والالتواء والمسايرة والانحناء وقتل روح المبادرة والذلة والمسكنة .. ( زيعور ، 1987 ، ص/100) و( شرابي ، 1991 ، ص/51) .
لنأخذ ظاهرة الأعراس والولائم ( العزايم ) وما يصاحبها من جهل وتخلف وإهدار للوقت في طقوس تبدو وكأنك تشاهد مجموعات من القرود ( الراقصة) ملطخة بالمكاييج وبملابسها المضحكة ، تتمايل طربا على صوت شريط أغاني او( C.D ) بعيد كل البعد عن حركاتهم التي يؤدونها (الرقص) إلى ما بعد منتصف الليل ، حيث يصاحب هذه المشاهد الهزلية إطلاق الرصاص من مختلف الأسلحة كتحية للعرسان وللعرس ككل ، رغم تنبيهات إدارات الشرطة إلى .. جميع المواطنين ومنتسبي الأجهزة الأمنية بالامتناع عن إطلاق النار في الأفراح …إذ يعتبر ذلك ظاهرة سيئة …تخلق المنازعات …وتخلق جوا من عدم الاستقرار والفوضى ... الحياة الجديدة ، 11/7/2000، ص/1) و ( البيادر السياسي ، 15/8/1998، العدد/709، ص/33، 68) .(1/113)
تتجلى فوضويتنا في قيادة السيارات والحديث مع بعضنا البعض في الطريق أو الحديث بالتلفون أو بالبلفون وخلفنا السيارات تطلق أبواقها ، ناهيك عن سيل الشتائم والسباب ، إن ذلك ينم عن سلوك جانح وعدم إدراكنا لآداب التربية والثقافة .. نتيجة اتجاه إنصافي والذي يسبب انشطار نفسي منتج للاهتياج .. حيث يستحيل التفاهم والحوار والوصول إلى تجاوب مع الأخر وان وصلت فهي متناقضة .. ( عبد الكريم غلاب ، 1998 ، ص/8 ) .
حتى انتمائنا للوطن وإحساسنا بالحياة وتحقيق سعادتنا ينم عن شعور قلق ولا مبالاة ، وخير تصوير لذلك ما كتبه الدكتور فؤاد مغربي في مجلة السياسة الفلسطينية ، العدد/30 ، 1997 ، ص/3-17 حيث يصف ويصور النموذج الفلسطيني كجزء من .. الكل العربي من حيث القيم والمعايير الاجتماعية والثقافية والمعتقدات والسلوك ، ويتطرق إلى حالة اللامبالاة والفوضى والتخلف وعدم استثمار الوقت من خلال عدم التمييز بين المكان العام والخاص والمحل والرصيف والشارع ( والمنزل الذي تتكدس أمامه أكوام القمامة ) رغم الإجراءات الرادعة ، فتنظيف شارعه ورصيفه ليس من اختصاصه ، ومثال ذلك الإعلان الذي نشرته بلدية أريحا والصادر عن دائرة الصحة والبيئة إلى جميع المواطنين الذين قاموا بوضع .. سيارات غير صالحة مشطوبة … أي أنها سكراب … على الأرصفة والطرقات العامة أو في قطع أراضي مجاورة …حيث ستقوم البلية باتخاذ إجراءات رادعة بحق المخالفين … علما بأن البلدية قامت بتخصيص ارض لتجميع يلك السيارات .. ( الحياة الجديدة ، 10/6/2000، ص/2) … !(1/114)
فوطنه وعالمه فقط هي داخل حدود منزله ، وما تبقى فليذهب إلى الجحيم ، وهنا تبرز روعة المقالة بإظهار حقيقة الانتماء بين المكان والوطن أو الأرض ، بالإضافة إلى سلوك الطلاب والناس في الطرق والأرصفة أثناء السير ، وكيف يتعامل وينظر الناس للقانون ، وأروع ما صوره الدكتور مغربي هو أن كل إنسان يعتبر نفسه قائدا وزعيما سياسيا ، ويفهم في حل قضايا وطنه ( ويتقمص شخصية المستبد الزعيم ) وهذا ناتج عن اجترار سوداوي وأفكار منمطة وتعليم تشريطي ، نتيجة غرس نظرة معينة لدى الفرد عن الآخرين ، فتقولبه وتطّبعه بتصرفات وتوجهات منفصلة في الحياة الاجتماعية ، حتى نمط ونهج حياة الناس فهي تنم عن ملل وتعب وفراغ ، وذلك ما شعر به الكاتب لحقيقة العلاقات الاجتماعية التي تقوم على المصلحة النفاق والنفعية والنميمة والكذب ، ويصل الدكتور في نهاية مقالته إلى أن الشعب الفلسطيني كغيره من الشعوب العربية منغلق ومتخلف ومحصّن بالعائلة والقبيلة في سبيل المحافظة على النفس .
4:3- الفوضى مرض مجتمع ... أم مرض دولة…أم قضية عقلية ...؟
1:4:3- الفوضى مرض مجتمع : -(1/115)
بداية يجب الاتفاق على مفهوم وتعريف الفوضى وتحديد معناها ، فقد قلنا سابقا بأنها عكس النظام والانتظام واستعرضّناها كمشكلة أو أزمة ، علما بان كلتاهما مرضا قابلا للعلاج أو الشفاء أو للاستئصال ، فهل الفوضى كذلك.. وهل تم او سيتم علاجنا أو شفائنا منها… وهل يمكننا استئصالها …؟ لا نعتقد ذلك ، إذن هي أزمة ومرض مزمن اجتماعي الطابع … وهي سلوك سالب هدّام تهدد المجتمع وأمن الفرد وتخل بالتوازن وتحدث الاضطراب ، فحسب تصنيفات علماء النفس والاجتماع أمكن تصنيف الأمراض الاجتماعية إلى أمراض مجتمع وأمراض دولة ، فأمراض المجتمع تتميز بالانحراف عن القيم والأخلاق والعرف السائد والطبيعي ، وبالتالي يصبح المجتمع مريضا ، أما المجتمع الذي تظهر فيه الفوضى والرشاوى وبيع وشراء المناصب ( Barratry ) والمحسوبيات والواسطات فهو محكوم بدولة مريضة ( وهذه امراض دولة ) ...وهكذا يصبح الانهيار اجتماعيا حتميا ..وبالتالي هناك علاقة وطيدة ووثيقة بين أمراض المجتمع وأمراض الدولة .. ( شكور ،1998، ص/ 12 )… فهل المجتمع العربي ودوله كذلك ..؟(1/116)
من المعروف إن الدولة تنبثق من رحم المجتمع وتحمل ( أو تعكس ) سماته وطبيعته وتركيبته الاجتماعية والطبقية ، وهي بمثابة مرآة عاكسة له ، ففي هذه الحالة للمجتمع لمسات أو بصمات في خلق الدولة وبشكل أوضح هو صانع الدولة ، لكن في حالة مجتمعنا العربي لا نعتقد ذلك ، فالاستعمار هو الذي أوجد وصنع الدولة ( منذ 1920) وبالتالي أوجد جماعات ( بجمع ولملمة شتات أناس وأفراد وصنع نخب ومجتمعات وأنظمة) في جميع الأقطار العربية وحتى تلك التي لم تستعمر ، ومع هذا فقد أوجدها الاستعمار كذلك ( كالسعودية مثلا) ، فان أضفنا .. سوء الأحوال الاقتصادية والكوارث الطبيعية والحروب وسوء التوجيه وعدم التوافق المهني وتدهور نظام القيم المعنوية والدينية والخلقية والتفاوت الطبقي داخل المجتمع ..(المصدر السابق ، ص/ 37-47)… كلها عوامل تؤدي إلى الانحراف وظهور الأمراض الاجتماعية في المجتمع ، فلماذا… ومن المسؤول عنها .. وكيف سمح المجتمع لمثل هذه العوامل أو (الأمراض ) أن تصيبه… وما الذي منعه من التصدي لها… ؟
نعلم أن أساس التكوينات الاجتماعية القديمة منها والحديثة هو .. الأساس الإنتاجي المهني… أما أساس التكوينات الاجتماعية …(التقليدية- العربية)… فهي المعايير القرابية…(الأسرة والعشيرة والقبيلة )… أو الدينية…( المذهب والطائفة والطريقة )… أو العرقية… ( السلالة والأصل والعنصر )… ولهذا فالمعيار هنا الإرث الاجتماعي .. ( والتاريخي) – التشديد من عندنا – المفروض على الفرد فلا يمكن تغييره .. علما بان المجتمعات العربية لا تزال في طور الانتقال من التقليدية إلى المرحلة الحديثة .. (سعد الدين إبراهيم وآخرون، 1996 ، ص/ 232- 233 ) …(1/117)
إذن الآن وضحت الرؤية ، إنها التقليدية الموروثة والموروث الاجتماعي والتاريخي هي السبب ، لأنها سابقة على الدولة العربية الحديثة ، وهذا له علاقة مباشرة بفوضى الانتماء حيث .. يوجد انتماء عربي عام وانتماء خاص وطني محلي وديني وطائفي ومعيشي وقبلي واثني ، وهذا يحدد مصير الاندماج الاجتماعي والسياسي ، لذا فالمجتمع لا يزال يعيش فوضى التناقضات..(رغم وجود الدولة ) – التشديد من عندنا -.. (بركات ، 1996 ، ص/111 ) .
فالقيم والسلوك هما انعكاس لأخلاق المجتمع ولا دخل للدولة فيها ، ولنأخذ مثلا قضية أو ظاهرة الواسطة .. فطبيعة الجماعات الوسيطة بين الأفراد والمجتمع سببها الولاءات الاجتماعية المرتبطة بتنوع أنماط المعيشة… ويلعب لوبي (الجماعات الوسيطة ) مركزا مرموقا في حياة العرب الاجتماعية والسياسية والاقتصادية ، فرغم توسع المدن والهجرة والتعليم وازدياد التوظيف في بيروقراطية الدولة ، التي استغلت هذا (اللوبي) وهي الجماعات الوسيطة وغذّتها (لترسيخ وتثبيت دعائم النظام وإضفاء الشرعية عليه وحشد التأييد له) ، الأمر الذي جعل الواسطة تستمر لحد الآن وتلعب دورا هاما في حياة الأفراد والجماعات ، من ... خلال المختار وشيخ الحارة والعمدة ورئيس الجمعية الخيرية أو التعاونية أو روابط القرى أو عميد العائلة الفلانية ... ومن يطالع الصحف اليومية يرى مشاهد التعيين والتأييد والتهاني والمبايعة والولاء والطاعة للشيخ الفلاني والعميد العلاني ...وكل هذا يجري بمباركة وموافقة أجهزة الحاكم ، بل وبتعيين وبتوصية من أجهزة المخابرات ووزارة الداخلية والحكم المحلي ومن رئيس الدولة ، وذلك لإعطائه ولائها من جهة… ولتحقيق مصالحها القبلية -الفئوية ضمن سلم الصراع الاجتماعي في المجتمع الغابي من جهة أخرى .. المصدر السابق، ص/ 63-64 ) .(1/118)
ولا يقتصر الأمر على ذلك بل هناك ما يسمى بفوضى الكسب والذي .. تشدّد عليه العائلات البرجوازية الصغيرة القديمة منها و…(الحديثة النعمة)…والتي تنزع إلى تقليد البرجوازية الكبرى والحلول محلها إذا أمكن مهما كان نشاطها وبما يطعم خبزا … وهذه الطبقات شديدة الولع بلعبة تحسين أوضاعها... مهما كانت السبل وبأسرع وقت ممكن وتحقيق أحلامها… فتلجأ للواسطة لتدبير أمورها اليومية .. (المصدر السابق ، ص/101 ) .
وتلعب المؤسسة الدينية كذلك دورا هاما في تبرير هذه الأعمال .. وتسوغها لتحقيق طموحها ونفوذها ... ثم يأتي دور الطبقات المتوسطة السفلى والكادحة ، فهي أيضا تسعى مأخوذة بحلم النجاح المادي ونادرا ما يحالفها الحظ وتحقق بعض النجاح ، إلا أن اغلبها ينشد إلى اسفل ويصبح مصيرها محتوم و(محسوم ).. فتلجأ إلى التلاحم مع الآخرين.. ( العائلة مثلا ) والتضحية في سبيلها، حيث يستمد الأفراد منها...عزاء ومنعة وإحساس بالسعادة في علاقاتهم وتأمين حاجاتهم الشخصية .. (المصدر السابق ، ص/102)… كعزاء لهم ونتيجة الاحتماء الدمجي ( Fusional Protection ) وحاجة الفرد للأمن النفسي والسكينة نتيجة الاحساس بالعجز .(1/119)
إذن أمام الفرد أحد خيارين ، اما اتباع وسائل غير مشروعة لتحقيق أهدافه وإشباع رغباته ، وأما الانسحاب من الحياة العامة والهروب من الواقع ، وفي كلا الحالين هناك انحراف في السلوك وخللا في أداء المجتمع ، وفي ظل دولة مريضة تتفشى في جسمها مثل هذه الآفات والأمراض الاجتماعية ، إذن هكذا مجتمع سوف ينجب ويماهي دولة مريضة لا مفر ..كيف ..؟ لنأخذ المرأة وانتشار ظاهرة القانون العشائري كل على انفراد واقتحامهما لحياة المدن ، فالمرأة مثلا كما هو معروف تمثّل شرف وكرامة و(عرض ) العائلة والعشيرة بأكملها ، وهي بنظر المجتمع العربي ككل ذات حرمة..فهي تروح وتجئ بحرية ولم تمنع من الاختلاط وخاصة في المجتمع القبلي … ولكن في حالة ضياع شرف العائلة لا يتم اللجوء إلى السلطة الرسمية ، لان ذلك يعتبر عملا معيبا ينقص من اعتبار العشيرة …إذن المرأة محترمة في أشياء وممتهنة في أشياء أخرى بتناقض صارخ وفوضى نفاجية مزاجية لم يحصل لها مثيل .. ( التل ، 1999 ، ص/ 98-101 ) .
نعود ثانية للمرأة ولنمط الطبقية في المجتمع العربي ، فعقوبة الخيانة الزوجية في الدين أخف مما هي في التقاليد الشديدة القسوة وخاصة جرائم الشرف والقتل العمد … هذا من جهة ، ومن جهة أخرى فللتغلب على الغيرة ( الشك - Doubtful ) عند الزوج .. يقوم بإشباع المرأة جنسيا إلى حد غير معقول ، أو بفرض الحجاب عليها أو بفرض التدين كحماية لها …إن ذلك سببه يعود للفضول والرغبة المتأصّلة في لا شعوره وهو صغير في ألتنصت واستراق السمع والنظر خلسة لوالديه وهما نائمين ، أو أثناء ممارستهما للجنس رغم احترازهما وما يفرضانه من قيود ، وليس هذا فحسب بل انه يرفض عملها… كل ذلك بسبب الخوف عليها من تهورها واندفاعها نحو ممارستها للجنس … إنها عقلية متحجرة ( Petrificaon Mental ) وميتة لا أمل فيها.. (زيعور ، 1987، ص / 83-89) .(1/120)
من العار على المرأة أن تبدي إعجابها أو تحب شابا وتتزوجه باختيارها ، فليس لها رأي في زوجها أو زواجها ، وتحرم من الإرث ولا تتصرف في مهرها ، وتمتهن رعي الغنم والإبل وحلبها وتنظيف الزريبة ، وإذا ذكرت أمام أو في مجالس الرجال يقال للسامعين ( أعزكم الله ، أوحشاكم الله ، أو بعيد عنكم ) وكأنها بهيمة أو شئ نجس ( كالبراز مثلا ) ، وتعتبر في حكم ممتلكات الرجل مثل سيارتي ، بيتي ، زوجتي ومثل ( بقايا التركة ) بعد وفاة زوجها، وهي أيضا ممنوعة من الشهادة ، وحتى .. ان غضب عليها زوجها اجبرها على النوم في الزريبة مع البهائم ولا تأكل مع الرجال أو مع زوجها ، بل عار عليها أن تأكل مع أولادها الكبار ، ويباح قتلها من قبل ابن عمها بلا نقاش إذا رفضت الزواج منه ..(المصدر السابق ، ص/110 ) … ومع هذا فحينما تعمل المرأة وتصبح عضوا منتجا - ولكونها معالة من قبل الرجل اصلا – فإنها ترى ما حصلت عليه من عملها وكأنه شئ كثير ومهم ، بل وتعاير الرجل ( الأخ أو الزوج مثلا) وانه يكفيه فخرا بأنها تساعده بمالها ، وهذا دليل على تخلّفها وضيق افقها ، إذ أصبحت تعيل بدل أن تعال من قبل الرجل ، وهذا بسبب المطالبة لها بحرية العمل والمساواة في بيئة متخلفة لا تصلح لعمل أو المطالبة للمرأة فيها بالمساواة ، خاصة في ذهنية امرأة نتاج مجتمع متخلف . لنرى كم من حالات طلاق تعرض في المحاكم الشرعية وكم من حالات عنف وقتل جراء ذلك .(1/121)
يقول المنفلوطي في النظرات :- " زرت حاكم بلدة فرأيت بين يديه فتاة في الثانية عشرة من عمرها بائسة عليلة تشكو ألما في عنقها وجرحا في ذراعيها… فعلمت أن أهلها زوجوها مبكرا لرجل وحش الخلق ( بشع وقبيح ) والخلق ، فحاول أن يفترشها فامتنعت عليه فأراد اغتصابها فعجز فضربها ففرت إلى منزل أهلها فنقموا عليها ففرت إلى الحاكم … ثم سمعت قصة أخرى مشابهة إلا أن الزوج في هذه المرة سقى زوجته مخدرا وعقرها... (اي اغتصبها) " ( المنفلوطي ، ج 1-3 ، 1983 ، ص/ 240).
إن العائلة العربية تستثقل وجود البنت في البيت عند بلوغها فيحاسبوها على المضغة واللقمة وشربة الماء والقومة والقعدة ، ويظلون ينتظرون عريس الغفلة على أحر من الجمر ليقتلعها من عندهم ، أين دور الدولة في مثل هذه الحالة وغيرها … ؟ طبعا غائب وحجتها إن عادات الناس هكذا من جهة ، ولأنها غير مسؤولة عن المواطن أي ليست ( دولة رعاية – Welfare State ) بتاتا من جهة اخرى … إنها دولة ريعية / تسلطية – محورية ، وسوف نتناول أمراض الدولة ونوضح دورها في صناعة المجتمع لاحقا …!
إن ما يدفع المرء إلى اتباع سلوك اجتماعي معين سواء سلبا أو إيجابا يتلخص بـ .. الرغبة في الأمن ضمن بيئته الاجتماعية وليس ضمن بيئة الدولة ... والرغبة في التحصيل والتفوق لما يراه مناسبا في بيئته ، ويفسرها على أنها سلوك ومعيار اجتماعي سائد…والتوحد بالجماعة لتبرير السلوك وتقوية وتعزيز انحرافه…عدم توازن الأنا والأنا الأعلى…كقيمة وكضمير… وتكون ضوابط المجتمع وقتها بمثابة قيود يجب التخلص منها .. ( عبد العلي الجسماني ، 1994 ، ص/ 14-44 ) .(1/122)
فأنساق البناء الاجتماعي المتنوعة لا تتساوى في نضجها أو أدائها لوظائفها وغير متوازنة في نفوذها .. فالمجتمعات المتخلفة لا تملك انساقا ناضجة وأداء" ملتزما ، والسبب حداثة نشوئها…(كدول)… وعدم وجود أشخاص متخصصين لأشغال مواقع التخصص ، فالنسق المتبع عادة في مثل هذه الحالة هو (القرابسياسي )…الأمر الذي يزيد من تخلف باقي الأنساق…بالإضافة إلى (القرابعسكري) …وكلاهما يتمتع بالقوة والنفوذ والمال والسلطة …فتظهر المشكلات والاضطرابات وتنتشر الفوضى داخل المجتمع .. ( معن خليل عمر ، 1997 ، ص / 16-17 ) .
2:4:3 - أمراض الدولة- State Diseases :-
ان التربية اليوم هي من مسؤولية الدول والحكومات كأداة ضابطة ولازمة لاستقرار المجتمع وتدعيم السلطة السياسية .. التي تعمل على تشكيل وقولبة عقول الناس على نحو يلائم تقبلهم وحماسهم وولائهم للنظام السياسي ... ( ابراهيم ناصر ، 1994 ، ص/99-100) ونحن نخالف د. ابرهيم ناصر في ذلك ، لان النظام السياسي العربي لم يعطي قدرا ولو بسيطا للناس لتشكل عقولها على نحو يلائم تقبلهم وحماسهم وولائهم للنظام السياسي هذا من جهة ، ومن جهة اخرى يقول د. ابراهيم ناصر ان النظام السياسي يلجأ لغرس مبادئ جديدة في نفوس الاطفال وعقول النشئ عن طريق المناهج المدرسية وعن طريق الشعارات والافكار ، على مستوى المؤسسات والتنظيمات الاجتماعية بدءا من البيت ومرورا بالمدرسة واماكن العبادة وانتهاءا بالاندية والاحزاب ... هنا نتساءل مرة اخرى ...هل شكّل الناس عقولهم على حسب ما يلائمهم .. ام فرضت المبادئ عليهم فرض من قبل النظام السياسي ... ؟(1/123)
هناك العديد من الكتاب من وصف جبروت الدولة - كصانعة مجتمع وشعب - لكننا استرشدنا ببعض منهم كخلدون النقيب في مؤلفه المعنون بـ " الدولة التسلطية في المشرق العربي المعاصر" الصادر عن مركز دراسات الوحدة العربية العام/ 1996 وكذلك مؤلف " ديمقراطية من دون ديمقراطيين " لغسان سلامة الصادر عن نفس المركز العام 1995 وكذلك برهان غليون في مؤلفه " المحنة العربية000الدولة ضد الأمة " أيضا الصادر عن نفس المركز عام 1994 وكذلك مؤلف حليم بركات " المجتمع العربي المعاصر " الصادر عن نفس المركز السابق عام 1996 ، لذا فقد أجملنا أراء هؤلاء الكتاب وغيرهم ، فمنهم من هاجم الدولة ووضع اللائمة عليها ، ومنهم من اتهمها بالتواطؤ والموافقة عما أصاب المجتمع من أمراض لخدمة مصالحها وترسيخ شرعيتها ، ومنهم من يضع اللائمة على المجتمع ولا دخل للدولة بأمراضه لأنها تشّكلت (الدولة) بعد استفحال الأمراض والآفات ، ولكن ما يحدد أيهما اكثر أهمية في الحد من انتشار المرض الاجتماعي أو علاجه المجتمع أم الدولة…فنقول الدولة ، لأنها تملك السلطة والنفوذ والمال ووسائل الإنتاج وسلطة القانون والسلطات التنفيذية والتشريعية والقوة (الأمنية والعسكرية والوقائية والصحية ) ، بمعنى أنها تملك ثروات المجتمع والأرض – وهذه تقع ضمن مسؤولياتها – فالمجتمع وحده لا يمكن أن يكافح أمراضه ، بل ربما يساعد في التصدي لها، أما الدولة فتلعب العامل الرئيسي والاهم في العلاج أو في الإهمال .
مع افتراضنا أن الدولة ( بنت ) المجتمع وأتت من رحمه وحملت سماته ، فكيف يتم الوصول أو الاستيلاء على السلطة ...؟ في الأغلب عن طريق الاستلاب أو الانقلاب ( (Coup detat أو الأصطراع والعنف وبالقوة ، تماما كما يعيش الفرد والطبقات والجماعات في صراعاتهم الاجتماعية في المجتمع وخاصة ذي الطابع العصبوي… كيف …؟(1/124)
إن جميع دول العالم العربي كما قلنا هي كيانات مصطنعة بمعنى أن حدودها مصطنعة تمخضّت عقب هزيمة الدولة العثمانية وتقهقرها إلى موطنها ( تركيا حاليا ) في عام 1916 ، وكان إجماع العرب آنذاك هو تحقيق مطالبهم في الاستقلال والوحدة والديمقراطية والتنمية كأهداف عليا … ولكنها لم تتحقق ، بل نتج عنها كوارث ونكبات ونكسات وانكسارات وهزائم وانقلابات رغم التبريرات الفارغة ، لذلك فالخلل لم يكن عسكري أو حضاري أو سياسي …بل في علاقة المجتمع العربي بالدولة… فالمشرق العربي مخترقا اختراقا كاملا ..( خلدون النقيب ، 1996 ، ص / 41-45) …وهذا ما قصدناه منذ البداية ، بأن دول ومجتمعات الوطن العربي لم تتشكل بفعل عامل داخلي كالمجتمعات الاوروبية ، بل بفضل عوامل خارجية والاختراق احدها ، ولما تشكّلت الدول العربية وضعت تحت تصرفها معظم مصادر الثروة الوطنية وأصبحت وظيفتها… توزيع المزايا والمنافع على أفراد المجتمع … وانعكس ذلك على تشكيل علاقات المجتمع وهذا دليل آخر على ان الدولة العربية هي صانعة المجتمع … بحيث انتظم المجتمع في هيكل أشبه بهرم من الشرائح الريعية ..(غسان سلامة وآخرون ، ج1 ، 1989 ، ص / 285)… بمعنى أن الحال بقي على ما هو عليه منذ ايام ما قبل وبعد الاستعمار ، أي أن ما هو مترسّخ في جسم المجتمع من أدران وأمراض وآفات عبر مئات السنين ورثته الدولة العربية ولم تعالجه أو تقتلعه ، بل استطابته وكرسّته لخدمة أهدافها ، ولهذا اعتمدت معظم الأنظمة العربية للبقاء في الحكم وما زالت على واحد أو اكثر من أساليب ..الابتزاز والقمع وبيع الأحلام وسياسات التأزيم .. (سعد الدين إبراهيم وآخرون ،1996 ، ص/ 324) … وهذه الأخيرة هي التي نقصدها وهي (التأزيم) فهي لب المشكلة وهي المنقذ السحري للنظام العربي عند الضيق ( كالحرب الايرانية – العراقية عام/ 1980وانتفاصة الاقصى عام/2000).. وخاصة عندما محاولة العسكر تأليف قوى اجتماعية وسياسية ضد(1/125)
بعضها البعض ، فتحولت التكتلات القبلية والطائفية والإقليمية إلى ميليشيات لتنظيم الحياة السياسية من جهة ، والى وسائل لحماية المكاسب لها وللدولة ، وهنا برزت نزعة طغيان المصلحة الأنانية وحب النجاة والسلامة في خضم طوفان إرهاب الدولة ، ومن هنا برز شعار…من يستولي على الدولة يملك مفاتيح السلطة والثروة والجاه والنفوذ والمجتمع أيضا .. ( النقيب ، 1996 ، ص/176) .
وأصبح الانسان العربي يكتفي بلقمة العيش التي تمثل له الهم الرئيسي نتيجة تعويد وتطويع وترويض النظام السياسي له …( وكأن همه بطنه فقط ) فمن هنا بدأ يزداد سخط الأفراد والجماعات (العاملة والفقيرة ) يوما بعد يوم…ويتضاعف استعدادها لتقويض أركان النظام الاجتماعي…( الموروث ) ، حتى تعدى الأمر إلى إسقاط النخب الحاكمة بل... وتجاوز ذلك حتى بلغ وجود الدولة نفسها... (غسان سلامة وآخرون ، 1996، ص/ 329 ) .
فعندما قضت الفئات الحاكمة على المعارضة وتنظيماتها وأخضعت مؤسسات المجتمع لخدمتها كانت بذلك تقضي على الأسس المادية لبناء المجتمع المدني وتتيح المجال لعودة التنظيمات المتخلفة واتباع سياسة توزيع الأنصبة والحصص في مجال الحياة السياسية(1/126)
نعود فنقول بان ميلاد الدولة القطرية وتطورها تأثر بحجم وطبيعة المجتمع الذي ورثته وتكوينه وهو اقدم من الدولة واكثر رسوخا… إذا أخذنا بعين الاعتبار أن الدولة الحديثة هي نتيجة عمليتين مزدوجتين الأولى...هي التطور الطبيعي لإرث الدولة السلطانية ، والثانية هي استعادة بعض القواعد والترتيبات والرموز من نمط الغرب … حيث كان هدفها تقوية سلطانها خارجيا وداخليا … وإضعاف النخب المحلية... وكسب ولاء جماعات اكثر… ( تضررا )… من النظام البائد… ( ولكن لا نعتقد ذلك )…لأن الأمر ظل على حاله بالنسبة للدولة … من خلال المساهمة… ( الأجنبية )… واجهزة الإدارة والسلطة …ونتيجة لذلك .. لم يزل الفرد العربي يربط علاقاته الحقيقية في نطاق الأمة المحلية … خارج جهاز الدولة ..( سعد الدين إبراهيم وآخرون ، 1996 ، ص/ 91-201)… كما حدث في العراق ، حيث وصل الامر الاستعانة بالامريكيين واعادة احتلال العراق .. ، فمن هنا بدأت حركة العصيان والتمرد والتعاون مع الأجنبي في الخارج (حتى ان النخب العراقية الحاكمة اليوم دخلت العراق ممتطية الدبابات الامريكية وكظاهرة العملاء في مناطق السلطة الفلسطينية ) وقل حرص هذه الجماعات على كيان الدولة واستمرار النظام الحاكم الذي استغل علاقاته مع مختلف الطبقات الاجتماعية لمصلحته وتراوحت بين… التحالف والسلام الاجتماعي تارة والقمع تارة أخرى ، ولكن بدون إتاحة الفرص لهذه أو لتلك في أية مشاركة سياسية حقيقية…بالإضافة إلى النكسات والكوارث الاجتماعية والاقتصادية والعسكرية التي حلت بالمجتمعات العربية نتيجة سياسات الأنظمة الحاكمة .. فكان المجتمع يصاب بتصلب الشرايين (التشنج ) والتقلص والتجمد وتتضاءل فرص الحراك الاجتماعي والعدالة الاجتماعية…( بل ومعالجة أمراض المجتمع )- التشديد من عندنا- " (سعد الدين إبراهيم وآخرون ، 1996 ، ص/ 270-271) …وما دمنا في هذا السياق فان أنماط الحياة السياسية وأشكال السلطة في حياة(1/127)
المجتمع العربي تنبثق من…الثقافة الاجتماعية وأنواع الأنظمة العائلية المهيمنة … باعتبارها سابقة على وجود الدولة كما أسلفنا.. ( شرابي ، 1999، ص/89) .
ويؤكد ذلك غسان سلامة فيما يتعلق باستحداث وإنشاء الكيانات والدول الحديثة ، حيث ساهمت هذه الظاهرة (عربيا ) في زيادة .. حدة الفوضى … لأنها أنشئت بسبب عوامل خارجية وليست داخلية - فليس لأحد فضل على إنشائها وخاصة منذ بداياتها الأولى .. سوى الدول الاستعمارية .. (غسان سلامة ، 1987 ، ص/ 27 ) … وهذا ما نريد الوصول إليه لتفسير استمرارية الفوضى واللامبالاة من قبل الأنظمة العربية تجاه مجتمعاتها المتخلفة وسر ديمومة أمراضها وعللها … حيث دعمت ذلك مثلا باستحداث اكثر من (14) جهازا أمنيا بالسلطة الفلسطينية كما ورد في تقرير مجلة النيوزويك الأمريكية في الربع الأول من العام / 2000.(1/128)
ويؤكد وضاح شرارة نقطة هامة ، بل وتوسع فيها سعد الدين إبراهيم اكثر من حيث .. أن الدولة تحافظ أيضا على تنافر التجمعات القومية وإدارة الصراع بينها ، عن طريق الاستعداء والتفتيت وسلخ فئات اجتماعية من وسطها الطبيعي والطبقي … بالإضافة إلى أن الدولة لا تدرك أنها منفصلة كاملا عن المجتمع وإنها تستعدي كتلا اجتماعية متنافرة فيما بينها .. (سعد الدين إبراهيم وآخرون ، 1996 ، ص/ 94- 96 ) … وان استشعرت ( الدولة ) بخطر المجتمع المدني فإنها .. تعمد إلى بناء قشرة اجتماعية بديلة … فتنشئ نقابات لتمثيل الفلاحين والمهنيين مثل .. تأسيس مجلس نقابة المحامين التأسيسي في فلسطين …بقرار رئاسي قبل ( 5) أعوام لوضع النظام الداخلي للنقابة والتحضير للانتخابات …الأمر الذي احدث خلافات بين نقابيتي الحقوقيين على هذه الخلفية .. ( القدس ، 12/5/2000، ص/ 2)… وتضع على رأسها قيادات من اختيارها ، وتخلق صحافة رسمية ذليلة ( وبائسة) وتحكم سيطرتها المباشرة وغير المباشرة على بقية المؤسسات الأهلية والتطوعية … فيكون المجتمع بذلك قد صنعته الدولة على مثالها وصورتها … كمجتمع اللاطبقة كدول الخليج النفطية ومناطق السلطة الفلسطينية ونظام الحكم في كل من سوريا والعراق مثلا… فحقوق الفرد السياسية لا نجد لها أثرا في هذا الفكر السياسي ونمط الحكم ..(سعد الدين إبراهيم وآخرون ،1996 ، ص/84- 96) .
وهناك مثال أخر شكل سابقة خطيرة بل ومحرمة وهي تدخل أجهزة الأمن الفلسطيني في الجهاز الأكاديمي الجامعي الأمر الذي أدى إلى .. فصل عدد من المحاضرين الأكاديميين من جامعة الأزهر د. فتحي صبح.. حتى أن الأجهزة الأمنية تجاوزت حدودها وقامت بوقف وسجن د. عبد الستار قاسم من جامعة النجاح الوطنية .. ( حقوق الناس ، العدد/15، 1998، ص/25…وكذلك استعانت جامعة الأزهر ( مدعومة من السلطة الوطنية) بقوات الأمن والشرطة لاعتقال طلابها ( المصدر السابق ، ص/43 ) .(1/129)
بالإضافة إلى ذلك هناك الغموض والفوضى في عمل بعض جهات الاختصاص الرسمية كالوزارات مثل مطالبة النائب عبد الكريم أبو صلاح رئيس اللجنة القانونية بالمجلس التشريعي الفلسطيني .. السلطة الفلسطينية بضرورة المصادقة على القانون الأساسي بهدف تنظيم عمل الوزارات والمؤسسات وتحديد صلاحياتها وترتيب العلاقة بينها وفقا للقانون…إذ أن هناك جهات متنفذة تعرقل إقرار القانون كونه يضر بمصالحها .. ( الحياة الجديدة ، 9/5/2000، ص/3) .
ولا تكتفي بذلك بل تتعسف بالاستيلاء على أموال المواطنين بحجة إقامة مرافق خدمية عامة مثل القرار الصادر م.ت.ف /السلطة الوطنية الفلسطينية – مكتب الرئيس ( بدون رقم) بتاريخ 7/6/2000 بشأن استملاك ارض لغايات المنفعة العامة…وذلك بعد الاطلاع على قانون الأراضي …رقم 34 لسنة 1943 …(قانون الانتداب البريطاني) – التشديد من عندنا -… تنزع مطلقا ملكية 14261 من القسائم رقم ( 7،8،9،10،12،13) من القطعة رقم ( 830) من أراضي غزة …لصالح السلطة الوطنية الفلسطينية ويتم وضع يد الهيئة العامة للبترول على الأرض المذكورة وذلك لاستخدامها مخازن عامة …على كل من يدعي بأي حق منفعة على الأرض المشار إليها …ويرغب في الحصول على تعويض أن يتقدم بطلب خلال شهر من تاريخ القرار …وعلى أصحاب الأراضي المذكورة والمنتفعين بها أن يمتنعوا من التصرف بها بأي نوع من أنواع التصرف وان يبادروا برفع أيديهم عنها فورا …( الحياة الجديدة ، 20/6/2000، ص/5) .
لنأخذ مثلا آخر من إفرازات الدولة العربية وهي توزيع الملكية ( الزراعية ) فسوء التوزيع هو .. في صلب تكون الطبقات الاجتماعية في المجتمع العربي وخاصة في الريف … وكذلك نتيجة لرسوخ المؤسسات السياسية والدينية والاقتصادية والثقافية نشأت في المدن تركيبات اجتماعية واضحة ( وصارخة) ، والغريب أن الولاءات التقليدية لا تنفصل عن هذه المؤسسات… بسبب رعاية ورضى الدولة .. ( بركات ، 1996، ص/ 81 - 95) .(1/130)
وهناك ظاهرة أخرى وهي إنشاء الروابط والجمعيات العائلية والخيرية والتعاونية بحجة مساعدة المحتاج والفقير على أن .. التصور اللاهرمي للمجتمع يفترض بالضرورة غياب السلطة المتدرجة الصلاحيات ، فيتقرب الناس من بعضهم البعض وكأنهم متساوون في الأصل والقربى والأهل والبيت الواحد والعائلة الواحدة … فالسبب الخفي والحقيقي من وراء تشكيل هذه الروابط والجمعيات تتمثل في أسباب شخصية مصلحيه وسياسية وطائفية ، أو للاستيلاء على أموال الغير أو للبروز القيادي .. (فؤاد إسحاق الخوري ، 1993 ، ص/ 75 -85 ) … والغريب أنها تلقى تشجيعا من الدولة .
وظاهرة أخرى تتصف بالفوضى الصارخة وهي فوضى تخطيط المدن فهي تفتقد للتخطيط الإقليمي المنظم وخاصة ما يتعلق بالحدائق العامة والشوارع والأبنية التي ... تنمو حسب المصالح الخاصة والانتماءات والولاءات الأولية … ولهذا فان الفصل بين المنطقة العامة والخاصة... يتلاشى وخاصة فيما يتعلق بالأحياء ونشاطاتها التي تشمل الدكاكين والمحلات العامة وورش الصناعة والكارات ( الحرف و الأعمال ) التي يمتهنها السكان … لذا فالمدينة العربية تشترك مع القرية ببعض المظاهر الأساسية .. (بركات ، 1996 ، ص/99 ) …وهذا طبعا يحدث تحت أعين الدولة وبصرها ورضاها …كما حدث في مدينة رفح حيث سقط 3 أطفال في حجرة امتصاصية وماتوا غرقا بتاريخ17/5/2000 رغم علم البلدية بها (الحياة الجديدة ، 27/5/2000، ص/10) .(1/131)
ولا تعتمد الدولة او السلطة على مقدراتها واعوانها ومرتزقتها ، بل وتعمد الى خلق ودعم تنظيمها الخاص ( مليشيا ) لبث الرعب والاستعراض ، مثبتة بذلك نمط حكمها الشمولي واحتكار النفوذ والقوة والثروة ، لكنها تحفظ لنفسها خط الرجعة وتتبرأ من ( فسائلها ) التي استنبتتها عندما تتضارب المصالح او تسبب اوجاع لرأس النظام او السلطة .. ومثالا على ذلك… البيان رقم /5 والصادر عن اللجنة الحركية العليا لفتح في الضفة الغربية بتاريخ 7/10/2000 والذي تطالب فيه الحركة ( برغم الأغلاط والأخطاء الإملائية والصياغة الركيكة الواردة فيه ) بضرورة ( مقاطعة المنتجات الإسرائيلية … وعرقلة ووقف عمل الدوريات المشتركة …وإغلاق الطرق الالتفافية … والتقيد بفتح المحلات التجارية حتى الساعة الواحدة ظهرا) …وجرى تعميم البيان على جميع غرف التجارة والصناعة وعلى جميع المرافق العامة للعمل بما جاء فيه ، تبع ذلك نفي رسمي من قبل السلطة الفلسطينية بما جاء في البيان الصادر عن جهة غير رسمية أو ملزمة …!كذلك دعوة رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس بتاريخ 20/1/2005 الى دمج المطاردين والمطلوبين لأسرائيل وكتائب شهداء الاقصى ( التابعة لحركة فتح ) الى قوات الامن الوطني الفلسطيني ، لحمايتها وحلها وتخليص السلطة من حرجها امام اسرائيل ، والسؤال هنا لماذا لم يدعى باقي المطلوبين والمطاردين وباقي عناصر الفصائل الاخرى من حركة حماس الجبهتين الشعبية والديمقراطية والجهاد الاسلامي ...؟ ان للنظام السياسي العربي وجهان .(1/132)
وفي النهاية فان الدولة تتبع مسارين في التحكم وخلق مجتمعها كما أسلفنا أعلاه .. أما بالتدخل بطريقة غير مباشرة وخاصة في المسار الاقتصادي ، بإعادة تشكيل علاقات القوة والضبط الاجتماعي والسياسي بأدوات القهر المتاحة لها ، أو أنها تتدخل مباشرة في المسار الاقتصادي من خلال استخدام أدواتها النقدية والمالية ، بحيث تصبح هي نفسها المنتج المباشر وصاحب راس المال .. (سعد الدين إبراهيم وآخرون ، 1996 ، ص/ 294-295 )… وبرأينا أيضا تسهل بعض الإجراءات لزبائنها وتمنحهم بعض الامتيازات كمكافآت لهم ، وخاصة فيما يتعلق بأقطاعهم بعض الأراضي المملوكة لها والتي ورثتها من بقايا الحكم العثماني أو الاستعماري ، فهنا يظهر لنا أن الدولة حريصة على أموالها وعلى عدم الاقتراب من سياستها ومطبخ حكمها السري ، ولكنها متهاونة بالأرض التي لم تتعب في الاستحواذ عليها ، لأننا سبق وقلنا بان الدولة جاءت بفعل عامل خارجي - استعماري أي على البارد ، والدليل استقطاع أراضي عربية من العراق وضمها إلى إيران (عربستان ) ولواء الاسكندرونة من سوريا إلى تركيا وتقاسم فلسطين بين الفلسطينيين والإسرائيليين ، فقوة الدولة تظهر فقط في الدفاع المستميت عندما تستشعر الخطر على مكاسبها المادية ، وما يهدد نظام حكمها كادعاء نظام البعث في سوريا عقب هزيمة 1967، بأن السبب الرئيسي لحرب حزيران هو لإسقاط النظام ، فالدولة ورثت هذه التركة وحافظت عليها بل ورعتها وكرستّها وقوتها ، واخترعت أخرى غيرها …!
3-4-3- الفوضى وعلاقتها بالصحة النفسية للشخصية العربية(1/133)
" لكل امرئ من دهره ما تعودا " شطر من بيت شعر لأبي الطيب المتنبي يؤيدها اغلب كتاب ومفكري علماء الاجتماع والنفس ، على أن الإنسان وليد بيئته الطبيعية ومحيطه الاجتماعي وفي نمط تربيته وسلوكه وأخلاقه وقيمه ونفسيته وذهنيته وحتى تركيبته الشخصية والنفسية ، ولهذا فالأخيرتان من أهم ركائز بناء الفرد (الإنسان ) من حيث السلوك الذي يعتبر الناتج الحقيقي لهما ، لذا كان من الضروري أن تنموان في بيئة صحيحة وسليمة اجتماعيا وذهنيا وقيميا وأخلاقيا وتربويا ، لان مواصفات الإنسان السوي .. هو الذي يستطيع أن يوفق بين رغباته وغرائزه وبين قيامه بواجباته … وان يكون الإنسان نافعا ومنتجا … وعكس ذلك… فالإنسان عرضة للصراعات النفسية التي تنشا في مراحل نموه المختلفة .. (مروان دويري ، 1997، ص/ 160 ) .
فالصحة النفسية ضرورية للإنسان وللمجتمع فهي .. حالة إيجابية توجد لدى الأفراد وتظهر حال قيام وظائفهم النفسية بمهمتها ، وهي مجموع الشروط اللازم توفرها لإحداث التكيف بين الأفراد وذاتهم وبينهم وبين الآخرين .. ( صالح أبو جادو ، 1998 ، ص/309 ) .
وقبل الخوض في أهمية الصحة النفسية للفرد والمجتمع ( العربي) وأسباب الأمراض التي تتطلب صحة نفسية ، والتي لا تقتصر على مرض نفسي أو اخر معين ، بل تشتمل على معالجة جميع الأمراض النفسية والانفعالية (السلوكية ) والعصبية والاجتماعية والتربوية والوراثية والجنسية والجسدية والنفس جسدية ، لذا فهي تشمل الإنسان من الداخل والخارج وكذلك المجتمع والبيئة ، فمن هنا تنبع أهميتها وهي ( الصحة النفسية ) ضرورية لجميع الناس .. الأصحاء وغير الأصحاء ، حيث الفارق بين المجموعتين هو في طريق حل الصراع التي تكون لدى المرضى بواسطة حيل دفاعية شديدة ، تبعدهم جدا عن الواقع وتستحوذ على طاقاتهم النفسية وتحول دون قيامهم بواجباتهم .. (دويري ، 1997 ، ص/161 ) .(1/134)
ولسنا هنا بصدد تشخيص الأمراض السالفة الذكر وكيفية استخدام الصحة النفسية لعلاجها ، أولا ليست موضوع بحثنا وثانيا لسنا متخصصين في مجال الطب النفسي ، بل سنتناول الموضوع من جانب اجتماعي - نفسي وعلاقته بصحة الفرد النفسية خاصة ( إنسان المستقبل )…وهل هناك إمكانية تزايد أو تناقص أو استئصال هذه الأمراض … وكيف يمكن معالجتها من وجهة نظر اجتماعية في عالم اليوم ، الذي يشهد تحولات سياسية واجتماعية واقتصادية وثقافية وعلمية هائلة ، ومدى آثارها على عقله وسلوكه ونفسيته وحياته ، فهناك آراء تتوقع…القضاء على جميع الأمراض النفسية والعقلية وحسم أسبابها أو الوقاية منها ، وهناك من يتوقع… أن تتطور وسائل العلاج وتكتشف الوسيلة العلاجية التي تستطيع إزالة الأعراض المرضية فورا أو بتكوين المناعة الكافية لمقاومتها ، وهناك من يتوقع… الوقاية والعلاج بما يقلل أو يمنع الأمراض … وأخيرا هناك من هم اكثر تشاؤما ويتوقعون…أن تلازم الأمراض بني الإنسان مهما طال الزمن ، وان وضع الإنسان في خطر بل وسيزداد خطورة ..وانه سيكون اكثر بؤسا وتعاسة ، وانهيار الإنسان سيكون من واقع عجزه عن التكيف مع محيطه وبيئته ومتطلباته الكثيرة والمعقدة ومواجهة التغيير.. ( علي كمال ، 1983، ص/ 711 ) … فرغم التقدم الحضاري والعلمي ومقدرة العقل البشري المستمرة في الاكتشافات ومواجهة التحديات ، إلا أن اغلب الأطباء النفسيين يميلون إلى القول بان الأمراض ما زالت في ازدياد خاصة في البلدان النامية والمتخلفة كالعالم العربي ، كذلك فهناك إمكانية ازديادها في البلدان المتقدمة لاختلال التوازن بين الفرد وبيئته - محيطه - وتعقيدات الحياة وتلوث البيئة وتفسّخ العائلة والخوف من البطالة وتوقف الآلة في ظل أزمة طاقة متوقعة .(1/135)
والاهم من ذلك أن الاكتشافات العلمية وقبل سنوات قليلة استطاعت أن تحدث ثورة فيما يسمى (بالهندسة الجينية – Genetics Engineering ) وأثمرت عن تجربة الاستنساخ والتلاعب بالجينات وزراعتها في غير أماكنها الطبيعية ، وخلطها بجينات جديدة مختلفة ينتج عنها مسخ غير طبيعي يحدث أزمة وثورة في عالم الغد ، بحيث لن يكون للعلم ولا للإنسان المقدرة على التحكم به لقدرته المحتملة .
إن من كان بالأمس في عداد قصص الخيال العلمي اصبح اليوم واقعا علميا ، بل وتجاوز الخيال العلمي ، وما دمنا نبحث بالأمراض المتعلقة بالمجتمع والفرد والتي ذكرناها سالفا فلن نلم بها جميعها لكن .. مرض الكآبة والخوف من المستقبل وعلاقتها بالموت والزمن وانعكاسها على القيم والأخلاق والسلوك ... وهذا ما نلاحظه ونعيشه في حياتنا اليومية وخاصة في الشارع والمؤسسة والمنزل والجيران.. (المصدر السابق ، ص/227) … والتي تسبب انفعالا زائدا أو شرودا وتوترا مستمرا وانعزالا في انتظار شئ ما مجهول وشيك الحدوث ، فلا يمكن تحليل سلوك الأفراد .. إلا بواسطة آليات الضبط النسقية في المؤسسة الأسرية والثقافية والاقتصادية والسياسية والتربوية … مما تؤثر في بلورة سلوك اجتماعي معين .. ( معن خليل عمر، 1997، ص/15) … والمقصود بالضبط ( Social Control ) هنا إعادة النظر في بناء الفرد والمجتمع وليست مراقبته ومحاسبته في ظل مرض الكابة والخوف والتوتر والانعزال ، فهو بهذه الحالة لا يحتمل ضبطا من نمط المراقبة والمحاسبة وخاصة في مجال الشخصية .. وهي تلك الأنماط المستمرة المتسقة نسبيا من الإدراك والتفكير والإحساس والسلوك التي تبدو وتعطي للناس ذاتيتهم المتميزة ، فهي تكوين اختزالي يتضمن الأفكار والدوافع والانفعالات والميول والاتجاهات والقدرات والظواهر المشابهة .. (محمد صالح آبو جادو ، 1998 ، ص/313) .(1/136)
وقد توسع حليم بركات في وصف شخصية العربي وكذلك هشام شرابي في مقدمات لدراسة المجتمع العربي وعلي زيعور في التحليل النفسي للذات العربية وكذلك مصطفى حجازي في التخلف الاجتماعي ، بحيث اجمعوا على أن الشخصية العربية تتصف بالانطوائية والكآبة والمتقلبة والقلق والسيكوباتية والانفعالية والناقصة والعصبية ، وردوا أسباب ذلك إلى الوراثة والمحيط والمدرسة والثقافة والهجرة والاقتصاد ، والى العوامل الاجتماعية كالتربية والتنشئة الأسرية ، وما دمنا بصدد الشخصية فانفعالاتها النفسية ( العاطفية ) كالقلق والأفكار التسلطية والكآبة النفسية والنحول العصبي والشدة والإرهاق والانهيار ( العصبي ) ، بالإضافة إلى السلوك وانحرافاته ودوافعه سواء الفردية ، كالتلصصية- Voyerism والاستمناء والفتشية- Fetishism ، وحديثا الجنسية المضادة والجنسية المثلية ( ذكر وأنثى –-Pederasty Sapphism-Lisbianism ) واللواطية والغلمانية والحيوانية والجنسية المحرّمة ، أو انحرافات الأسلوب الذي يلعب دورا رئيسيا في تشكيل أنماط سلوكه وتصرفاته في جميع حالاته ، تكمن خطورتها في أنها مستترة (وخفية) .(1/137)
أما الأمراض العقلية وطبيعتها ومدى انتشارها وأسبابها فهي إما محدودة ، وإما عضوية أو وظيفية ، وأهمها الشيزوفرينيا والأمراض المزاجية والهياج العقلي وجنون السرقة ومشاكل الهوية الشخصية والمكانة الاجتماعية… لذا فإن مجمل الأمراض السالفة وخاصة النفسية .. تعطي المريض شعورا خاصا بعدم الارتياح والاضطراب الشخصي … والشعور بتغيير الواقع من حوله حيث يصاحب ذلك اختلال في الفكر والسلوك .. ( علي كمال ، 1983 ، ص/ 13 ) … والدليل عند سؤال الفرد العربي أينما كان ، السؤال التقليدي " كيف الحال … أو ( كيف شايفها) …أو كيف الواقع… هل تشعر بارتياح اتجاهه…؟ حتما الإجابة ستكون من خلال فكره وذهنيته وسلوكه والذي سيكون صورة عاكسة لواقعه المعاش (المادي والمعنوي ) ومع ذلك فهناك .. الحياة اللاوعية وهي الوجه الخفي للتجربة الوجودية للإنسان … وما تمارسه من ضغوطات على المكبوتات من ناحية والإفلات من سيطرة الوعي والإرادة من ناحية أخرى ، فهذه بحد ذاتها مرضا … فهو اللاوعي – Unconscious- متغلغل في كل حركة وسكنة وتوجه ونظرة وقيمة تحيط بحياتنا... من خلال.. وأيضا بسبب ما أحدثته التربية الأسرية والمدرسية والمجتمعية والسلطة السياسية والعلاقة الاجتماعية ، على اعتبار أن اكبر حليف للمرض الاجتماعي هو...المرض النفسي واضطراب الشخصية في المجتمع المتخلف… فيلجأ المريض إلى الحلول التعويضية والإفراط في الذكورية .. ( مصطفى حجازي ، 1996 ، ص/84) … ولهذا يتولد لدى الإنسان المتخلف .. شعورا نفسيا يتجاوز طاقة الاحتمال … فتبرز الحاجة إلى محاولة تغييرها…( ظروف واقعه)…أو أيجاد حلول دفاعية ليس من اجل التغيير... بل من اجل تخفيف وطأتها والتكيف والانسجام معها … فمن هنا يكمن سر تخلف الإنسان العربي لحد الآن ..(المصدر السابق ، ص/ 87-88) .(1/138)
إن بعض الأمراض الجسمية هي انعكاس .. للأمراض النفسية والعكس صحيح … وبما أن الفوضى سلوك مادي ظاهر لحالة ذاتية نفسية يعانيها الفرد ، وهي تنبع من مرض نفسي أصلا تجسّدت بواقعها الملموس ، وتدّعمت ( كما قلنا سابقا بان كل ما حوله متغير ومختلف ) فيكون حينها ( السلوك الفوضوي )… ناتج عن مرض نفسي وليس فقط نتيجة تنشئة أسرية ومجمعية ومحيطية فقط .. ( علي كمال /1983 ، ص/15) .
فلا شك أن الأمراض الاجتماعية تبدأ فرديه وتتمثل سيكولوجيا ونفسيا واجتماعيا … الخ ، حيث يظهر ذلك على ..الذاكرة والانتباه والتفكير والإرادة والانفعالات والتعابير اللفظية والمظهر العام الخارجي والأعراف الاجتماعية .. (شكور ، 1998 ، ص/ 49-59 )…بالإضافة إلى الجوهر الباطني (النفس والعقل والأعصاب ) مع أنها خفية ، إلا أن لها تأثير هام من حيث استفحال المرض .(1/139)
إن مسألة الهامشيون – Mob-Ignoble-Trash في المدن العربية تشكّل تراكما ضخما من الأمراض الاجتماعية والنفسية والسلوكية والسادية وجميع ما يعني من دناءة وجنوح ، وسببها .. عدم التجانس الاجتماعي للتحالف بين التركيب الفكري والعالم الروحي … للتعبير عن الذات ، بالإضافة إلى المغالاة في حب الظهور والمعارضة الانفعالية والفوران ( الهيجان ) الهستيري … بسبب وضعها المحتقر والبائس … الناتج عن الجوع واليأس وخيبة الأمل والحرمان والخوف من الفقر والإفلاس والوضاعة… (والضياع )… واسوداد المستقبل… فيميلون إلى بيع النفس والوقاحة المبهرة واللاأخلاقية… وهم نتاج تفكك المجتمع التقليدي… وبعيدين عن التحديث والتطور الثقافي والعلمي والحضاري ، ومرتبطين بالقبيلة كقطيع …(حتى بعد انفصالهم عنها)… حيث يشكّلون جماعات قطيعية أو جمعية سرية أو فرقة أخوية ، بسبب تدني الكفاءة والمكانة اللازمة في البيئة الاجتماعية … لذا نراهم يمتهنون المهن الوضيعة التي لا تحتاج إلى تأهيل عال ..( عصام الخفاجي وآخرون ، 1993 ، ص/ 306 - 307 ) .
ولهذا نلاحظ أن الفوضى بذاتيتها الحيوانية ورفضها الأعمى ، رافضة لأي تقيد بالنظم الاجتماعية بالإضافة إلى .. العداء للدولة وعبادة الحرية المطلقة…( الفوضوية )…التي تتحول للعنف والتدمير … لذا فالفوضوية والتقليدية في الشرق ليست مجرد خيبة أمل العناصر التي انسلخت عن طبقتها الاجتماعية وفقدت روابطها ... بل هي رد فعل على عدم الوصول … إلى عدم الحزم في حل المشاكل .. ( الخفاجي ، 1993 ، ص/ 322 ) .(1/140)
إن استعراضا موجزا ( أو مراجعة واستذكار- Revision ) لسمات وطبيعة ونمط المجتمع العربي الذي يتصف إجمالا بالتخلف كما استعرضناه في الفصل السابق ، تدل على انه بيئة نشطة وموّرثة للأمراض خاصة النفسية والعقلية ، بالإضافة إلى ظواهره العامة التي تولد السخط وعدم الرضى لدى الفرد في محيطه بشكل عام ، بالإضافة إلى ذلك استمرار توارث هذه الآفات والعلل عبر الأجيال السابقة واللاحقة أمام الكم الضئيل من العلاجات وخاصة النفسية ، بشكل يوحي وكأن هذه الأمراض لأحد لها أو كأنها نبع لا ينضب ، من هنا برز فريق من البحاثة والكتاب والمعالجين الاجتماعيين والأطباء النفسانيين ذوي نظرة تشاؤمية فيما يتعلق بالأمراض الاجتماعية والصحة النفسية للمجتمع ضمن مسالة .. مقومات المجتمع العربي والثقافة وأنماط المعيشة والتمايز الطبقي وتصنيفاته ، وطبيعة دور العائلة والقرابة والحياة الدينية والصراع بين القيم ومضامينها ، بالإضافة إلى الواقع العربي كنظام اجتماعي-سياسي يعاني من سلطة إرهابية كلها تمثل بؤر وأمراضا اجتماعية ونفسية ، ونتساءل هنا كغيرنا.. ما العمل وما هو الحل..؟ (بركات ، 1996 ، ص/ 447-450) .
خلاصة :- ان مقاييس ونسب التخلف تختلف من مجتمع لأخر ، لكن هناك مقاييس ثابتة تراعى فيها العوامل ( التراكمات ) المادية والروحية ( المعنوية) ، وطبيعة المراحل الزمنية التي مر بها المجتمع ونمط استغلاله للزمن وهدفه من حياته ، فالفراعنة مثلا كان هدفهم الخلود الابدي فاستثمروا حياتهم للوصول الى الهدف ، لذا فالمجتمع يعتبر صانع امراضه والدولة تشكل الدفيئة والاداة الرئيسية في الابقاء او القضاء عليها ان ارادت ، على اننا تطرقنا لموضوع الشخصية العربية في هذا الفصل الا اننا آثرنا الحديث عنها بتوسع طفيف في الفصل الخامس .
الفصل الرابع
العنف...نهاية الفوضى
نحن قوم لا توسط بيننا لنا الصدر دون العالمين أو القبر
"أبو فراس الحمداني"(1/141)
1:4– فوضى الذهنية القبلية ( العصبية - Gregariuos) والعنف - Voilence :-
ربما يكون لهذا العنوان صلة بما سبقه فبرغم الآواليات والآليات الدفاعية التي يتبعها الفرد العربي لحل مأزقه الوجودي المجبول بالفوضى والجهل والتخلف…( والعنف) إلا أنها لم تخلّصه من ذلك الواقع ، بل منحته أداة ووسيلة للتكيف وعجنته بنمط عضلي وأفكارا منمّطة على حساب النمط الدماغي وحدّت من استخدامه للعقل كمعطى ...وقولبته بجمدة متوارثة ( تخشّب وشلل وجمود - Paralysis ) يتجسد في الإعراض عن العالم وإدارة الظهر له ، بالإضافة... إلى توقف الجهاز الحركي الذي يؤدي إلى العناد الذهني وتفشي العدوانية خاصة إذا كان ذو عصبية/ اختزالية ، وإبراز نفوذ الجماعة المتألقة على حساب تذويت النفس وشحنها بفعل تعبيري شكّل سلوكه ، وخاصة في مرحلة الاستجابة الحرجة- ما قبل تفجّر العنف - التي استخدمها ويستخدمها في كل آن… وهي المرحلة التي تدفعه للعنف…( ولم تمكّنه ) – التشديد من عندنا - من تغيير بيئته وظروفه السببية… وراكمت لديه مخزون وارث ثقيل من القلق والهروب والاستسلام والتوتر… لكن لا مفر من وسيلة لتفريغ هذا التراكم (المرجل - Boiler) الذي يغلي داخليا وخارجيا وقابل للانفجار في أية لحظة ، ولا بد من وسيلة للتصريف (أو للتخفيف - Catharsis ) منه ولكن كيف…؟ ..بالعنف والقتال .. ( بركات ، 1996، ص/ 321- 358) … وسبب ذلك (العنف والعدوانية ) ناجم عن .. فوضى القيم …ومكونات الثقافة ورموز ومعتقدات وتقاليد وعادات متوارثة" …حيث يكمن ( فيها) – التشديد من عندنا – سر توارث الأمراض (الاجتماعية) -التشديد من عندنا - وخاصة الفوضى ..؟ ( بركات ، 1996، ص/ 323) و(حجازي ، 1998، ص/ 158 ) .(1/142)
فالعنف إن لم يكن كالفوضى فهو من نتاجها في المجتمع المتخلف ، وهو انحراف سلوكي يعني عدم التماثل مع الدور والمكانة الاجتماعية للفرد بغض النظر عن المعايير والقيم الاجتماعية ، وهو .. إما خفي أو ظاهري…(مقّنع خوفا من ردود الفعل ومنعا من زيادة القمع نتيجة العجز، وهو موجه إما للذات أو للخارج)... وإما رمزي … ويتمثل في السلوك الجانح والهادف إلى خرق وتجاوز قوانين المجتمع والسلطة ، وهو(العنف)… دائم الوجود العام ، ويضع الفرد والمجتمع في حالة استنفار دائم لأتفه الأسباب… وعدم التفاهم وفقدان التوازن في تغيير الواقع ، وعدم وجود الضبط والانضباط والمراقبة الاجتماعية من قبل المجتمع أومن قبل مؤسسات الدولة (السلطة )… حيث ينتشر العنف اللفظي والفعلي والأداتي (كالسكين والسلاح الناري ) أو تخريب الممتلكات …ولكن أخفها…(آليات العنف )…بالألفاظ وهذا في أحسن الحالات .. (حجازي ، 1998،ص/ 304 ) و( معن خليل عمر ، 1998، ص/174 ) .
وهو يعني أيضا اختراق قوانين وقواعد المجتمع السائدة بسبب التنشئة والتغيرات الاجتماعية ، بالإضافة للمعوقات الذهنية والجسمية( العضلية) والاجتماعية والعاطفية وهو أيضا على.. نوعين ظاهري بسبب الصراع الثقافي ، ولحظي ( آني ) وليس دائمي .. ( معن خليل عمر ، 1998 ، ص/ 176) .(1/143)
لذا فالعنف سلوك جانح ومنحرف ومنغرس في طبيعة الإنسان الحيوانية .. لتلبية وتأمين الحاجات والمتطلبات الغريزية كالتملك والأمن والسلطة والنفوذ .. نتيجة التفاوت في نظام المكافآت المادية والمعنوية بين الأفراد والجماعات …أي إن العنف مرتبط بأفراد وجماعات في الغالب يكونون مختلين عقليا أو متعصبين بشكل أعمى ، لذا فهناك عنف فردي وعنف جماعي ويكون بصور مختلفة… جسدي أو مدمر وهو إما منظّم أو غير منظّم ، فالأول يشمل مثلا العنف الطبقي أو الديني – الطائفي- وهو مشروع ..( معن خليل عمر ، 1998 ، ص/177)…وحتى هذا النوع غير مسموح به في عرف المجتمع والنظام العربي ، حتى وان كان هناك عنفا مشروعا فانه يقمع بقسوة وبشدة بهدف التنكيل واخذ العبر ، تماما كما حدث للجماهير العربية في القاهرة وعمّان وتأثرها بما سمي في حينه بـ(هبة الأقصى) التي اندلعت في مناطق السلطة الفلسطينية أواخر أيلول/تشرين أول لعام /2000، فما جرى في العواصم العربية كان عنفا أليفا ومخمليا خجولا اشتمل على (مسيرات ومشاركات خجلة ودفع بلاء أمام غضبة الجماهير العربية وانتصارها للفلسطينيين)… والغريب أن هذه الجماهير حركتها الفضائيات ولم تحركّها الأنظمة كما حدث في مسقط والكويت وأبو ظبي وصنعاء وباقي عواصم أنظمة الحكم العربي ، والتي اكتفت بفتح أجربتها وقدّمت عدة ملايين من الدولارات لتعويض الفلسطينيين ، بالإضافة لإرسالها لبعض شحنات من الأدوية والطحين والزيت والعدس والفول عبر مطارات الأردن ، فالهدف من هذه الاستعراضات الكاذبة هو للبرهنة أمام وسائل الإعلام…على أن هذه الأنظمة – ولو أنها هشة ولا تتفاعل مع الحدث العربي ، بل ولا تحتمل سماعه ، وتحاول جل اهتمامها عدم بث أو إذاعة الحدث عبر وسائل الإعلام – ألا أنها تفاعلت من باب المجاملة والمزايدة وتلميع سمعتها أمام سياسات التطبيع مع إسرائيل ، واللهاث وراء إقامة علاقات ديبلوماسية معها ، مما حتم عليها( حياء(1/144)
واستعراضا) أن تطّعم نفسها بشيء من الوطنية والاستجابة القومية مع الأشقاء الفلسطينيين من جهة ، وتجنبا من اندلاع أعمال عنف وشغب وتفجيرات في عواصمها كما حدث في اليمن والأردن والقاهرة … !
لنرى كيف يتعايش العنف والقبلية في غياب القانون وما يولده من تذمر وسخط وفوضى ( تأكيدا لما قلناه) وكيف زحف هذا التعايش للمدينة ، فنتيجة لمقتل فتاة من مخيم الأمعري بإطلاق الرصاص عليها في وسط مدينة رام الله على خلفية نزاع عائلي ، فان مجلس بلدية البيرة .. يأسف على ما آلت إليه الأوضاع في المدينة من تسيب وتدهور …وما ترتب على ذلك من فوضى أدت إلى تخريب وتدمير للممتلكات العامة وخاصة الإشارات الضوئية …بالإضافة إلى وقوع خسائر جسيمة ومؤلمة ماديا ومعنويا تبعث في النفس الحسرة والأسى والشعور بعدم الطمأنينة …ويناشد المجلس البلدي ألا تتكرر مثل هذه الأعمال …ووضع حد لمن تسول له نفسه العبث بمقدراته وإنجازاته .. ( الحياة الجديدة ، 8/7/2000، ص/1) …ولنأخذ مثلا آخر على ذلك وهو طبيعة آلية حل القضايا في المجتمع البدوي فالصيغة العامة لحلها…هي الصيغة الجزائية... (الفورية) أي الاعتداء أو الرد عليه بمثل ما اعتدي … من دافع إطفاء النار ( الغل - Malevolence ) والاعتزاز بالكرامة والكبرياء المرتبطة بالقبيلة والعشيرة التي قدمت الخدمات والحماية والخيرات … بغض النظر عن صنف وطبيعة ونوع القضية ( مثار النزاع أو العنف )… فالقضاء العشائري يهدف...( التل ،1999، ص/ 6-8 )… و( يدّعي) – التشديد من عندنا- والحالة هذه إلى وضع الحد وعدم استفحال الجرائم والمخالفات ضمن المجتمع العشائري … وهذا له صلة وعلاقة من واقع التفاعل ( الايكولوجي - البيئي ) للفرد القبلي ضمن بيئته المعيشية في الصحراء التي تفتقر إلى الأمن والأمان ، ولنفس الأسباب نبني استنتاجنا في التمسك بضرورة تطبيق العرف والقانون والحق العشائري في المجتمع المدني حاليا بسبب ازدياد حالات العنف(1/145)
من جهة ، ولإيقاع اكبر الخسائر على المعتدي بدافع الانتقام والتشّفي ، والاهم من ذلك هو عجز وضعف إن لم يكن انعدام الأمن والأمان وإهمال القوانين والتقاعس عن تطبيقها في مجتمع المدينة ، حيث أصبحت ( المدينة) لتشعب واتساع مشاكلها وقضاياها من جهة ، ولجهل ساكنيها بدراية وخبرة القضاة العشائريين القادمين من البادية والريف والأقل من سكان المدن تحضرا وثقافة وعلم ، ساحة تفريخ - Propagation ، بل واغلبيتهم الساحقة أميين وجهلة ومحترفي نصب واحتيال – Plunderage وعاطلين عن العمل ... بامتهان القضاء العشائري ودخلاء عليه من لابسي العباءات .. ( الحياة الجديدة ، 10/6/2000،ص/6) … بحجة ( ضبع وترهيب ) أهل المدينة ، فمن يطالع الصحف اليومية في اغلب دول العالم العربي يرى (صك عطوة أو صلح عشائري ) بين عائلتين أو اكثر في المدينة أو العاصمة الفلانية كإعلان مدفوع الأجر ، ولم نرى صلحا أو عطوة بين العائلات الريفية أو البدوية منشورا في الصحف إلا نادرا... فمن هنا ينبع السؤال… لماذا يتم الإعلان عن صك الصلح والعطوة العشائرية في الصحف عندما يكون الأمر متعلقا بقضايا مجتمع المدينة...؟(1/146)
وهناك صك أخر غريب وعجيب وهو صك إعلان الطلوع العشائري كما حدث في مدينة غزة وغيرها من المدن العربية وبمباركة النظام السلطوي السائد ، وهو صك طلوع – يعني اجلاء وطرد وابعاد- Exile ...عن بعض الأقارب …وذلك جهارا نهارا وعلى رؤوس الأشهاد وحسب النظم المعمول بها عشائريا وقرويا … وبذلك اصبح الطلوع وقعود النوم شاهرا ظاهرا ومستوفى المراسيم والشروط المطلوبة… وبهذه المناسبة تتقدم عائلة… بالشكر والتقدير إلى قسم العلاقات العامة في إدارة شؤون العشائر في مكتب الرئيس…( طبعا رئيس السلطة الفلسطينية …! )…( الحياة الجديدة، 11/7/2000،ص/3) … بالإضافة إلى براءة من الدم والهم وهي التنصل من أحد الأفراد وذريته ، فتصور عزيزي القارئ ان العائلة المطرودة وتنفيذا لقرار الطرد الصادر بحقها ممن يسمون انفسهم قضاة عشائريين وبمباركة من الرئيس عرفات يتقدمون بالشكر الجزيل على هذه الطردة والجلوة ...!(1/147)
إننا نلاحظ شدة العرف والقانون العشائري في التطبيق كما أسلفنا خاصة في وضع اختلاف أنماط المعيشة والتركيبة الاجتماعية مثل تجزئة المجتمع بين ريف وبدو ومدن ولاجئين … وخاصة في حالة عجز مؤسسات السلطة عن تطبيق القانون والحفاظ على الأمن كما أسلفنا من جهة ، ومن خلال النظرة المتبادلة كل للآخر ، والتي تنم عن الاستعلاء والتشفي والانتقام … وبسبب سوء التنوع والتمايز الطبقي في المجتمع العربي والفلسطيني خاصة …( والذي يعكس عدم الوصول إلى الاندماج الاجتماعي وتعزيز أنسنة المجتمع ، وعكس هذه المعطيات ونتيجة للأزمات المتراكمة والوهن الفردي والشخصي ، تصبح القيم والمعايير الاجتماعية عديمة الفائدة وخاصة في ظل غياب آليات الضبط الاجتماعي وسلطة القانون.. فتتكرر المنازعات وتنعدم وسائل التفاهم وتنظيم العلاقات حتى بين عائلتين أو اكثر من نفس الفئة أو الشريحة للطبقة الاجتماعية … فيعّبرون عن سلبيتهم بطرق عدة منها الجرائم وخرق القوانين…(بالفوضى)…أو التستر بالدين أو بالطائفة أو بالقبيلة- العصبية - .. (عبوشي ، 1980 ، ص/ 243) .(1/148)
ويسهب مصطفى حجازي في مؤلفه ( التخلف الاجتماعي - سيكولوجية الإنسان المقهور) في وصف مظاهر العنف كمظهر من مظاهر الفوضى والتخلف الاجتماعي ، بل ويبدع في ربطه (العنف) بمسببات اجتماعية - نفسية مرضية .. كوسيلة أخيرة في يد الإنسان المتأزم والمقهور وإعادة الاعتبار إلى الذات المفقودة والتبخيس الوجودي والشعور بالفشل…( باتباع سلوك وسيلي يعكس الإفراط العاطفي وانثلام السمعة كارتداد نكوصي يعكس الفشل في مواجهة معايير وقيم ومتغيرات المجتمع ، وخاصة في حالة النسق المغلق والذي يعتبر مفتاح الوظائف في شرعنة وتبرير السلوك الالتفافي...– النكوصي كالمجتمع العربي )-التشديد من عندنا -… في سبيل الاعتراف بكيانه وقيمته في محاولة لإقناعهم (الجماعات الأخرى).. (حجازي ، 1998 ، ص/ 148- 162) …والنيل منهم بشكل خفي (وتحذيري ) أو بشكل علني عبر نشر إعلان تهديد او بصك عطوة او صلح في الصحف المحلية .. كاتجاه إنصافي.. وإحساس بالغبن لتبرير فعل دفاعي مشروع ، وكتخليص للحق المهضوم والكرامة المستلبة جراء انعدام الكفاءة والمكانة الاجتماعية والغبن المفروض على الفرد ، والذي يتحول إلى المثلنة (الندية) بتوجيه العدوان إلى أفراد جماعة غريبة حتى لو من داخل مجتمعه ، جراء العصبية العمياء والتهميش الذي يعانيه ، ليثبت على انه ليس لقمة سائغة أو حيطة واطية أمام الغير أو أمام الأقارب ، وان تهاون الفرد او تقاعس عن هذا الاجراء او ابدى تسامحا ، فان ذلك يجر العار على القبيلة أو الحمولة ، حيث يقوم أحد أو جميع أو كبير عائلة … بنشر إعلان البراءة وعدم المسؤولية التامة عنه...وليسوا مسؤولين عن جميع تصرفاته وأعماله قانونيا وعشائريا .. ( الحياة الجديدة ، 6/6/2000،ص/9) .(1/149)
وهناك رأي أخر حول تحبيذ الإنسان ( الفرد ) للعنف وهو فشله .. في تغيير الواقع سلميا ومحاولة تنفيس المكبوت تاريخيا نتيجة...( تراكم ارثي ) بالانتقام والثار والعدوانية … خاصة إذا كان هناك دعم سياسي واقتصادي وعسكري وثقافي تأمينا لمصالحه وطلبا للسلطة … وبهذا يصبح المجتمع عرضة للعنف والتطرف والفوضى والانفعال اللاعقلاني والاستغلال في ظل (العصبية)… ويمثل هذه الصورة واقع الصراعات والانقلابات واستلام السلطة كوسيلة خلاص على مستوى النظام العربي… فكيف بباقي فئات وقوى المجتمع الأخرى والتي لا تمتلك قدرات وإمكانيات الدولة ...؟ ... ورغم ذلك فهناك عنف وثأر وعصبيات نتيجة تخلف قيمها .. (قباني ، 1997 ، ص/ 86- 87 ) .
فحتى المسؤول والإداري في السلطة والمؤسسة الرسمية فانه .. يلجأ إلى إدارة الصراع... (والعنف) ..عن طريق التلويح بالمنصب والارتكان إليه … على مرءوسيه ..( وهذا ما نلمسه حاليا في السلطة الوطنية الفلسطينية خاصة عندما يكون هذا المسؤول مدعوما من فصيل أو حزب الأغلبية في السلطة كصاحبة مشروع سلامي من جهة ، واعتبار الوطن ومن عليه قطيعا تمتلكه وكأنه ضيعة لها) – التشديد من عندنا - (غسان سلامة وآخرون ، ج2 ، 1989 ، ص/ 600 ) .(1/150)
وهناك العنف ضد المرأة والذي تحدثنا عنه في صفحات سابقة وخاصة في المجتمع المدني والعشائري ، حيث يعتبر موضوع العادات الاجتماعية- Social Norms … موضوعا شائكا من حيث التحديد ( كقضايا التحرش الجنسي ، والاغتصاب ) وتسوده الفوضى .. بسبب تعبيرها عن السلوك الجمعي في التفكير وأساليب الناس ، وتمثل شكلا متصلا تتداخل أجزاءه مع بعضها البعض (والغريب ) – التشديد من عندنا - أن العادة تتحول إلى عرف وسنة وآداب وطقوس وبدع … تبعا لوظائفها الاقتصادية والاجتماعية والضبط التنظيمي … وهي مترسخة الجذور … فلا يستطيع أحد الإفلات أو التخلص أو التحرر منها ، لانتقال بعضها بالوراثة أو بحكم الضرورة القاهرة … فرغم تغلغل الدين في النفوس ، إلا أن الأعراف والتقاليد وخاصة الآمرة منها تكون ذي سلطة قوية وسيد مطاع …-والقوة – واقتصاديا... (كالغنائم والأموال التي تدفع أو تسلب ) واجتماعيا - كالمكانة -... بين القبائل.. (التل ، 1999، ص /28- 35 ) … وهذا ما نسميه بالسؤدد ، والذي يعكس نمط ذاكرة صماء تتوافق مع شبكة التبادل الوظيفي بين الفرد والقبيلة ، ضمن صيغة (ونمذجة) سلوك تبريري معزز ومؤسس على علاقة دمجية – ذوبانية والتي من شانها أن تعجن وتوجد الجماعة القطيعية والتي نسميها بالعامية ( الفزعة أو العزوة ) .(1/151)
وحتى لو افترضنا أن الحكم في هذه القضايا وغيرها سيكون للشريعة أو للقانون الوضعي ، فان ذلك يدعو للسخرية وعدم احترام القرارات الصادرة أن طالعنا القرارات الصادرة وخاصة بالصحف المحلية بتمعن … فهناك قصص يختلط فيها المشهد الجرمي (لفظي أو فعلي ) بالمعنى القانوني ، ويتجسد ذلك في مجتمع المجرمون والهامشيون في المدن العربية حيث يبدأ العنف (اسريا وعائليا) من .. البيت وعلاقة الأبوين ومشاكلهما والطلاق وتعدد الزوجات والأزواج ، فتبدأ مرحلة التشرد والسرقة وهتك العرض والدعارة والتهريب - Smuggle ...( المخدرات وترويجها ) – التشديد من عندنا -… وسرعة سحب الموس (الشفرة ) والتشطيب القاتل …وعندما يقعون بيد القانون أو الشرطة يتحدثون بمرارة عن الفقر والجهل والوضع العائلي ، فترى صورا من قبح المنظر والجرأة في الإساءة والاستعراض الكاذب الذي يعكس سلطة الشارع والعصابات والشللية التي تشكّل عالم المهمّش وأسرته ، فمن هنا تنبع بطولاته وتتجلى العلاقات بينهم ( المهمشين )… في أخر الليل في النوم كالأغنام وممارسة اللواط والاغتصاب وتعاطي المخدرات (والشم ) وحياة المقابر ودور السينما والمقاهي والأزقة المظلمة ، ناهيك عن الجنس القرابي والانحرافات والشذوذ … وفي النهاية نراه يطلق لحيته ويتوب ويتصّنع اتباع طرق ودروب الهدى والتوبة والرشاد ، إلا انه يعود مرة أخرى ويهجر المسجد والدين …ويعود لسيرته الأولى …في العنف والإجرام وهكذا سلسلة لا تنتهي…( من الفوضى والعنف ) – التشديد من عندنا - (الخفاجي ، 1993 ، ص/ 171-184 ) … ولمزيد من التفاصيل هناك حالة مصر(أبعاد هامشية) لثروت اسحق وكذلك ( قاع المدينة ) لسهير سلطي التل ، ص/168- 199)…إذ تشتملان على وصف لحياة الليل في عمان والقاهرة…وهذه الظاهرة –المشكلة- تعتبر من صميم نسق الجماعة القطيعية التي تتصف بالعدمية – المشاعية و الفوضوية –الاستباحية … لنأخذ مثلا الأخبار المنشورة في الصحف(1/152)
العربية المحلية كاستدعاء شرطة رام الله والبيرة وقلقيلية ونابلس وجنين .. لعدد من المشبوهين للتحقيق معهم في قضايا إطلاق النار وإتلاف مال الغير والسرقة والسكر المقرون بالشغب ، والإيذاء والتزوير ومحاولة الانتحار ودخول مساكن الغير والنصب والاحتيال وحوادث السير وحيازة المخدرات وتم تحويلهم للمحكمة لاتخاذ الإجراءات القانونية بحقهم ..( الحياة الجديدة ،9،10/5/2000، ص/4) .
أما العنف المقرون بجرائم القتل بحجة انتهاك شرف العائلة أو ادعاء الجنون أو الشك في سلوك فتاة أو بسبب مياه الري ، فهو منتشر في جميع أوساط المجتمع العربي لأسباب مختلفة كما أسلفنا ، كجريمة .. ذبح طفلة صغيرة بالسكين بادعاء الجنون .. الحياة الجديدة ، 20/5/2000،ص/26)…وجريمة امرأة ..خنقت ابنتها لشكها في سلوكها … علما بأن الفتاة كانت (عذراء ) بعد إجراء التشريح ( الحياة الجديدة ، 20/5/2000،ص/27)…وقضية .. أب يخنق ابنته ثم يقطع جثتها إلى 8 قطع … وعند التحقيق مع الأب أجاب... النار ولا العار ..( الحياة الجديدة ، 6/5/2000، ص/26) … وكل هذه الحوادث الإجرامية وقعت في القاهرة ، والأغرب من ذلك ..عراقي يقتل شقيقه بسبب الخلاف على قسمة مياه السقي … حيث تشهد البلاد - العراق - موجة من .. الجفاف ينذر بخطر كبير على الموسم الزراعي والحيواني ..( الحياة الجديدة ، 9/5/2000، ص/19) .(1/153)
إذن هناك عنف وكل عنف برأينا له عالمه ، فهناك عالم العنف الطبقي … وعنف الطبقة الحاكمة والطبقة البرجوازية وعنف الطبقة الوسطى وعنف الطبقة الكادحة وعنف لطبقة المهمّشين وهو من اخطر أنواع العنف ، ويعتبر المجتمع والأسرة والقانون -بعدم تطبيقه- والدولة وعدم مسئوليتها ورعايتها لمواطنيها والعادات والتقاليد والأمراض النفسية ، من الأسباب الرئيسية المؤدية للفوضى التي تنتج العنف ، والذي يتوقع حليم بركات أن نتخلّص منه بالنهضة وبتحقيق خمس غايات هي .. القضاء على التبعية وإلغاء الطبقية وإنجاز الوحدة والتخلص من الاغتراب وتحقيق الحرية والعدالة .. (بركات ، 1995 ، ص/ 458-460 )… بالإضافة إلى آلية التنفيذ والتطبيق ، إلا أن بركات لم يلّمح إلى قضية تغيير المجتمع وإعادة بناءه وتركيبه بمجتمع جديد نقي وسليم عند التنفيذ والتطبيق كما طرح دويري ، من اجل الإصلاح الإنساني ضمن بيئته البشرية بطرق التغذية المستقبلة والمسترجعة ، بغية التحكم في الفعل الاجتماعي من جهة ، ومأسسة قيم مشتركة وتنمية المهارات المعرفية التي تعّد من صلب نظرية العقيدة الاجتماعية من جهة أخرى ، والتي تعّبر عن ثقافة سلوكية وذهنية تعويضية وتذويت الذات وتقديرها والتمرس على ضبط النفس والحيلولة دون تمفصلها حول عصبية أخرى من جديد ... من كل ما سبق يتقاطع نمط التخلف المغروس في أعماق …التجربة واللاشعور …والذي تجسّده …الأحوال المعيشية (ونمط المعيشة) …ومستوى الإدراك المرتبط بالذهنية ..( شرابي ، 1999، ص/88) …ان ذلك يعكس مسألة الصور والمشاعر المتبادلة بين طبقات المجتمع المحكوم .. بأنماط معيشية مختلفة .. ( بركات ، 1996، ص/105-120)… الامر الذي يعكس طبيعة العلاقات بين الطبقات ونمط الصراع المستفحل فيها وبالتالي يعكس الاراء والنظرة المتبادلة كل للأخر وما يتخلل ذلك من استعلاء وضحالة .
2:4 - تخلّف وفوضى وسائل الإعلام والاتصال في المجتمع العربي(1/154)
على الرغم من التباين في التعريفات والمفاهيم فان الإعلام- Media يعني الاتصال والإيصال ، فمنظمة اليونسكو تعرّفه .. بأنه لا يعني استمرار الحياة في وجودها فحسب ، وإنما دفع النشاط الاجتماعي والتعبير عن الحضارة … وذلك لأن الاتصال ينتقل بالأفراد والشعوب من التعبير الغريزي إلى الإلهام ، من خلال عمليات وآليات ونظم (وسائل ) متنوعة للاستعلام والتحقق في مسائل تهم الرأي العام ، وإصدار الأوامر والتوجيه والإرشاد، بالإضافة إلى ترجمة الفكر إلى عمل والتعبير عن العواطف والحاجات التي تكفل بقاء الإنسان ، ناهيك عن تكامل المعرفة والتنظيم والقوة وامتداد الاتصال بين الإنسان الحالي من اجل حياة افضل .
فكما هو معروف فان وسائل الإعلام والاتصال تتنوع بين سمعي ومرئي ومقروء ، فأما الاتصال فينحصر بين الاتصال الرسمي الموجه والمحلي والجماهيري والخارجي ، لكن الإعلام والاتصال من حيث تحديد الوظائف ، فهو عبارة عن عملية جمع وتخزين ومعالجة نشر الأخبار والبيانات والصور والحقائق والرسائل والآراء والتعليقات ، من اجل فهم الظروف المحيطة ( الشخصية والمحلية والإقليمية والدولية ) والبيئة والتصرف حيالها عن علم ومعرفة ، والوصول إلى وضع يمكّن من اتخاذ القرارات السليمة ، بالإضافة إلى ذلك فهناك وظيفة لا تقل أهمية عن السابق وهي أساس بحثنا ، مثل التنشئة الاجتماعية وفعاليتها في المجتمع وخلق الدوافع والحوار والنقاش والتربية عن طريق نشر التربية ، وأخيرا الترفيه بنشر الفنون والتمثيليات الهادفة وإشهار الأدب وإبراز دور الفن والموسيقى والمسرح والرياضة والثقافة ، لما لها من قيمة روحية ومادية في حياة المجتمع ، لكن …هل هذا معمول به في المجتمع والنظام العربي ونحن نعيش اليوم فوضى الفضائيات لنرى …!(1/155)
سننطلق من هذه الحادثة التي وقعت للشاعر الفلسطيني إبراهيم طوقان عام 1940 خلال عمله في إذاعة القدس التابعة لإذاعة الشرق الأدنى البريطانية أل(B.B.C ) حاليا فقد .. اجبر على الاستقالة من عمله عندما ألّف وقدّم روايتا (عقد اللؤلؤ وجزاء الأمانة ) عندما كان مسؤولا عن القسم الأدبي في الإذاعة المذكورة.. (الموسوعة الفلسطينية ، ج1،1984، ص/ 39)…ولهذه الحادثة مغزى من حيث أن جميع البلاد العربية كانت مستعمرة ومحتلة وكل ما ينشر كما فعل - إبراهيم طوقان - لا يخدم سياسة المحتل الأجنبي وهذا طبيعي ، أما أن يستمر الحال كذلك ( لما بعد فترة الاستقلال وإرساء الحكم الوطني ) عبر اكثر من 60 عاما فهذا هو العجيب والغريب ... فالحكومات العربية تسيطر على وسائل الإعلام الجماهيرية وهناك حدود (ورقابة صارمة -Censorship ) لنشر الأيدلوجية الرسمية..(غسان سلامة وآخرون ، ج1،1989، ص192) .(1/156)
إن النظام العربي في تطبيقه للشعارات ( الوطنية والقومية والوحدة والحرية والديمقراطية ) .. لم يدعمها بتربية بيتية -بيئية -ونظرة اجتماعية تخدمها وتحترمها وتقدّرها … فربى حتى الصغار على الخوف وعدم المسؤولية والأتكالية ..( عبوشي ، 1980 ، ص/ 322)… وعلى الكذب والتضليل والتضخيم الإعلامي والمبالغة ، ولنأخذ مثلا قريبا عايشناه وهو انتفاضة 1987وكيف تعايش (وتعامل ) معها الإعلام المحلي والعربي والخارجي وحتى الإعلام الإسرائيلي ، رغم أنها عمل وطني وعمادها الشاب والشابة … ورغم تنصل الأبوان منهما أحيانا لأنهما... (الشاب والشابة) جرا عليهما غضب الجيش الإسرائيلي ، وهما ( الوالدان ) في غنى عن هذه البهدلة ، والسبب هو ترسيخ عقدة الخوف وتفضيل الانعزال والاستكانة والجبن الذي يسيطر على نفوسهما … فعاقبوا أولادهما لأنهما انخرطا في عمل أثار لديهما( نوازع) الكبت والقهر والاستسلام والخنوع … ورغم أن العمل الوطني له علاقة بالرجولة فهو كذلك ، لكنه ( في الحقيقة ) تحدّي لسلطة الأب ( القائد والزعيم والمستبد ) بشكل غير مباشر( وإسقاطه على العدو )...وهذا له علاقة مباشرة في انتفاضة الاقصى عام /2000 فيما بعد ، رغم انه ( العمل الوطني ) شريف ومحترم ومشروع… إلا انه هدف إلى عقوق الوالدين بمعنى سيكولوجي لصالح سلطة أعلى ، وهي سلطة الوطن … فحتى البنت التي انخرطت في العمل الوطني وأصبحت تخرج من البيت وتنظم المظاهرات في الشوارع وكتفها ملاصق بكتف الشاب… لم تلق أي اعتراف من قبل الأب المتخلف… وان تجرأ ووقف أمامها فماذا سيقول عنه المجتمع ...؟ حتما سيقول…اما خائن أو راضي بالاحتلال أو انه ضد مصلحة الوطن ، فهذه التهم آنذاك كانت تعني ( الموت حيا )…ومع هذا الاندماج الوطني من قبل الشاب والشابة في أعمال الانتفاضة ، إلا انه خدمهما في الفصل (ربما الانفصال الأسرى)…والاستقلالية الاجتماعية والاقتصادية وتحطيم الأتكالية وخاصة العاطفية ، لان(1/157)
الشابة كانت تعيش حالة من (الحرية) ضد العسف والظلم والحرمان … ولكن الأهم من ذلك…هل حافظت هذه الشابة على حريتها ومكسبها لما بعد انتهاء الانتفاضة ، الجواب طبعا …لا ،لأنها في سن ومجتمع تنقصهما تربية بيئية وبيتيه ووطنية ضمن المشروع العائلي والذي له …علاقة بالمشروع الأكبر وهو مشروع الوطن … فهي لم تعد كانسان حر ومقاتل .. فقد انطلقت من بيئة محافظة لهدف مؤقت وهو الوطن…وستكون نتائجه النفسية سلبية ومضرة وستعود الشابة القهقرى إلى سابق عهدها ..( عبوشي، 1980 ،ص/ 325 ) … وفعلا هذا ما تعيشه الشابة اليوم بعد أن كانت قيادية تتحكم في آلاف الشباب والرجال وحتى في أبيها ، فانقلب السحر عليها وضدها ، جراء النقص في التنشئة والتربية الأسرية والاجتماعية ، ولم يكن هناك اتصال وإيصال وإعلام وتوجيه وتوعية ناجحة كما أسلفنا في أول حديثنا عن وظيفة الإعلام ووسائل الاتصال .
إذن الاتصال ..عملية اجتماعية … تنطوي على عناصر لغوية وثقافية واجتماعية واقتصادية.. (غسان سلامة وآخرون ، ج2 ، 1989 ، ص/ 855 )… قبل أن تكون عملية وطنية خاصة بعد فترة الاستقلال ، فالبلدان العربية ما زالت تفتقر إلى الاتصالات ووسائلها .. وهي محدودة الاستعمال والتداول ونجدها في المدن الرئيسية والكبرى .. (المصدر السابق ، ص/ 861 ) .
إن هدف النظام العربي من اجل الحفاظ على وسائل الإعلام والاتصال يهدف إلى السيطرة الاجتماعية .. فيلجأ إلى التضليل الإعلامي … وخاصة عندما يبدأ دور الشعب في الظهور…(ولو بصورة فجة )… أما قبل ذلك فنجد قمعا شاملا .. إذ لا ضرورة لتضليل المضطهدين عندما يكونون غارقين لآذانهم في بؤس الواقع.. (المتلاعبون بالعقول ، 1999، ص/8 ) .(1/158)
ولم يقتصر الأمر على أجهزة ووسائل الإعلام الحكومية في التضليل والكذب والمبالغة وخاصة ما بعد مرحلة ( 52- 1967) والتي تعتبر في أدنى درجات التاريخ العربي سوءا وتضليلا (اعلاميا ) ، ويكفي أن نستذكر كيف تلاعب احمد سعيد وأكاذيبه بالعقل العربي عبر إذاعة صوت العرب ، وكم من آلاف الأرواح أزهقت نتيجة ذلك خاصة في احتلال صحراء سينا عام 1967 (اكثر من 15 ألف جندي مصري ) ، فالإسرائيليون وصلوا إلى حافة قناة السويس الغربية والمصريون يذيعون البلاغ تلو البلاغ طالبين من جنودهم التأهب والتحضير لدخول تل أبيب ببث أغنية ( عبد الناصر يا حبيب بكرة حتدخل تل أبيب ) من خلال اذاعاتهم .(1/159)
هناك اكثر من 250 محطة إرسال إذاعية واكثر من 245 محطة بث تلفزيوني عبر الاقمار الصناعية المستأجرة من الاجانب لانهم مطليقيها وصانيعيها .. مهمتها الرئيسية هي التأثير على جيرانها الآخرين … فبرغم جهود التنسيق ( الخجل ) بينها… فقد كانت هناك فوضى موجات الأثير امتدت من الإذاعة والتلفزيون وفي خلق فوضى إرسال …فلم يقتصر دور النظام العربي على المراقبة والتحكم بالإعلام ووسائل الاتصال ، فهناك التشويش المتبادل حيث قوبلت دعوة صوت العرب إلى الوحدة العربية .. بتشويش مضاد ، واصبح الوطن العربي مسرحا للحرب المتبادلة …من خلال الموجات الإعلامية التي … استهدفت السيطرة على الطيف الكهرومغناطيسي وعلى عقل المواطن العربي وروحه .. (غسان سلامة وآخرون ، ج2 ، 1989 ، ص/ 864)… وكما حدث بين بغداد ودمشق إبان حربي الخليج الأولى والثانية ، ولم تكتف الإذاعات العربية في إحداث الفرقة ، بل كانت عاملا للتفسخ الوطني والاجتماعي والقمعي ، حتى وصل الأمر بالنظام الأردني آنذاك ( في مرحلة الخمسينات والستينات) بالتنصت على بيوت المواطنين ، ومن يثبت لديه جهاز راديو في بيته ويقبض عليه وهو يستمع لإذاعة صوت العرب أيام المد الثوري الناصري في تلك المرحلة ، كان يحاكم ويلقى به في السجن ويدفع غرامة لا تقل عن (5) دنانير أردنية .(1/160)
وأما البرامج التي تبثها الإذاعات أو محطات التلفزة العربية ، فتتصف بالبؤس الشديد والضحالة وعديمة الفائدة من حيث الشكل والمضمون والتوجه ، بل ويمتد الى درجة فرض مذيعين ومراسلين وبائعي كلام ضحل يعكس مدى ثقافتهم على المشاهدين بكثير من التأتأة والمأمأة والفأفأة - Stuttering وخاصة في ابجديات القراءة والكتابة ووصف الاحداث ، حيث شكلت عاملا مساعدا في إدمان المواطن العربي - مستمع ومشاهد - على قضاء وقت طويل ( وقت فراغ ) في مشاهدة القحط الفكري والمشاهد المركّبة التي لا تواكب الحدث والبرامج المكررة والمملة أو الموجهة ، والمبالغة في نقل الخبر او الحدث بصورة مضخمة ، لجذب اكبر عدد من المشاهدين من جهة ، ولجلب المعلنين من جهة اخرى ، فالمحطة التلفزيونية والمعلن هما الجهتان اللتان وضعا الجمهور في زاوية شعارها ( كيف تضحك على المشاهد وتنسل من جيبه المال بشكل مخزي ، وكيف تروض المشاهد وتجعله مدمنا على تفاهات هذه المحطات ) ، وشكلت عاملا هاما في تكريس عدم استثمار الوقت أو الزمن في حياة الفرد العربي ، ناهيك عن نقل مشاهد البلادة والخمول وهز الرأس والقيام عن المقاعد والصراخ والتصفيق بإعجاب لذلك المطرب او العارية او القائد أو الملك أو الزعيم العربي على اغنية او قرار مصطنع أعلن للتو او بأجراء مقابلة او حديث تافه مع شخصية مستهلكة وضحلة في فكرها ، قتتلقفه المحطات الاخرى ( كالقرد) يقفز من محطة الى اخرى ، والمصيبة ان اغلب هذه الشخصيات الباهتة او الفنانين والفنانات يفتخرون بالتحدث عن عقدهم وفضائحهم وامراضهم النفسية ، ولا يدرون ان ذلك ينم عن انعدام القيم والاخلاق والذوق الفني الرفيع ، ولا تملك هذه الفئة البائسة جذور تقاليدية او تربية او معرفة اجتماعية وعدم احترام المشاهد ، بالإضافة إلى دورها في حجب الثقافة عن القراء وجمهور المستمعين والمثقفين .. لاعتبارات لا علاقة لها بطبيعة الأدب أو الفكر أو بالثقافة أو(1/161)
بالعلم أو بالنقد…-أو بأمن الدولة ومصلحتها العليا -التشديد من عندنا -…ولكن لها علاقات وثيقة بعادة عربية مستحكمة ومتحكمة وحاكمة منذ زمن طويل ، وهي الاستهتار بعقل القارئ والمستمع والمشاهد والطعن في مقدرته على الفهم والاستيعاب والنقد والمحاكمة …فهناك أطرافا عملت على تكريس هذه العادة أبرزها السلطات الرسمية والجهات (التلقينية وخاصة بعد احداث 9/ سبتمبر ) … بينما كانت هناك فئة -الصفوة - فقط لها الحق في الاطلاع ..( صادق جلال العظم ، 1997 ، ص/ 11 ) …خاصة ما يتعلق بنوع ومضمون المطبوعات العربية والأجنبية ومنع دخولها أو بفرض رقابة صارمة عليها .(1/162)
لقد فقدت الجماهير ثقتها بالإذاعات والصحف العربية فالصحف من حيث التوزيع والكم والنوع والمضمون متواضع جدا إن لم يكن متدنيا وضحلا .. فجريدة الأهرام مثلا … لم توّجه عناية اكبر إلى الشؤون العربية إلا مؤخرا ، حيث كانت – الصحف- تذكي نار الغيرة بين النظم المتنافسة وأصبحت أدوات للفرقة… وهي عبارة عن حشد معلومات وحشو صفحات وتدبيجها بشكل عشوائي مناقض للذوق وملّغز –Cryptic ، ولغتها الركيكة وأحيانا الموجهة ، والاجدر برؤوساء تحريرها ان يبيعوا الصحف بدل ان يحرروها ، ناهيك عن المجلات وسرقاتها وأخبارها وموادها المثيرة والصفراء ، المليئة بالفضائح الملفقة وبصفحاتها الإعلانية الجذابة ( كفوستا ومعظم المجلات اللبنانية مثلا) ، بالإضافة إلى فئات من الصحافيين والكتاب المبالغين بالتضليل والكذب والذين ..لا يهدؤون ساعة عن تصديع رؤوسنا وتمزيق أفئدتنا كل يوم بعناوين مقالاتهم في معرض التهويل والتضخيم …إن المحراث في يد الفلاح والقدوم في يد النجار…انفع من القلم بأيديهم .. (المنفلوطي ، 1983 ، ص/ 122 ) … بالإضافة إلى ذلك ، هناك ما نسبته .. 53% من مجموع الأفلام التي تعرض في دور السينما في البحرين واردة من الهند والباكستان ، أما الأفلام العربية فيعرض منها ما نسبته 3% فقط والباقي أفلام أمريكية وأوروبية ..(غسان سلامة وآخرون ، ج2 ، 1989 ، ص/870) وتفاهة الافلام العربية هي السبب وفضائحها مع الممثلين والممثلات الذين يستاهلون ذلك ، لانهم غير جديرين بهذا اللقب واداء هذا الدور الخطير في المجتمع ، لضحالة ثقافاتهم واميتهم ومؤهلاتهم العلمية الدنيا ، فالسينما والغناء اصبحتا ادوات لترويج العاهرات والقوادين ومهنة لمن لا مهنة له ولكل من هب ودب .(1/163)
أما الأغاني والمسلسلات والبرامج التي تعرضها أو تبثها وسائل الإعلام العربية - الإذاعات والفضائيات - فهذه الأخيرة تشكّل مهزلة لم تكن بالحسبان ، فمن خلال رصد لأكثر من 240 محطة عربية كانت كلها تعرض بثا مكررا لبرامجها والتي استحوذت عليها بالسطو من محطات اخرى ، بمعنى أن نشرات الأخبار ( كل ساعة وحتى كل 1/4 ساعة ) والبرامج والمسلسلات والاغاني وغيرها تعرض مرتين او ثلاث خلال أوقات البث الذي يتراوح ما بين 18 ، 24 ساعة ، أذن هناك فرق بينها وبين التلفزيون الذي يعرض برامجه ضمن أوقات وفترات محددة تتراوح ما بين 12-18 ساعة بث يوميا وبدون تكرار كبير ، بل وبرامج التلفزيون افضل ، إن فائدة الفضائيات هي النقل الحي والمباشر للحدث فقط ، أما عن آلية العرض فلا تختلف عن التلفزيون البتة ، اللهم إلا أنها تعرض نفس البرامج نهارا ومساءا ، فهي أدوات تضليل لعقول البشر ..وأداة للقهر والملل وقضاء الوقت من اجل تطويع الجماهير لأهدافها…(للنخبة الحاكمة والمتحكّمة) .. باستخدام البرامج المملة والأساطير والصور المركبة والمعلومات التي تتلاعب بالصور واستحداث معاني زائفة لا تتطابق مع حقائق الوجود الإنساني والاجتماعي ، حيث يتحولون …(النخب)…إلى سائسي عقول بحيث لا يستطيع الوعي أن يستوعب بإرادته الشروط الفعلية للحياة أو يرفضها .. ( المتلاعبون بالعقول ،1999 ، ص/7- 27) .(1/164)
أما العنف وأفلام الإثارة فتنم عن واقع واعتقاد بان الإنسان وعدوانيته كامنة في طبيعته الحيوانية ، حيث يصبح القهر الاجتماعي Social Oppression-…( وترسيخه )… وبعثه من مكامنه هو السبب الأساسي أمام هذه الطبيعة والعنف الإنساني ، فهذه هي سياسة مضللي العقول والنخب الحاكمة .. لإلهاء الأفراد والجماعات في صراعاتهم الخاصة .. المتلاعبون بالعقول ، 1999 ، ص/27)… للسيطرة على الشعب من خلال هذه الوسائل ، وهي في هم دائم من اجل تطوير أدائها والتأكيد على النظرة التجزيئية وليست بوصفها أبعادا كل على حدا ، إن هذه الحقائق تثبت ما أسلفناه سابقا حول التلاعب بالصورة والخبر والإثارة المصاحبة .. كتوزيع المعلومات وسرد الأخبار وتغطيتها بطابع تكراري آلي وممل … كإذاعات عمان والقاهرة وصوت إسرائيل واذاعة سوا وغيرها، حيث تذيع كل ساعة نشرة أخبار مكررة سواء في التلفزيون أو في الإذاعة ، وحتى تقنيات البث التلفزيوني والفضائي والإذاعي الذي تحدثنا عنه… فتقوم بقطع مستمر للبرامج من أجل إذاعة فقرات إعلانية أو خطاب للزعيم أو الرئيس ، أو من أجل عرض مباراة لكرة السلة أو كرة المضرب أو كرة القدم ، وخاصة في وقت مشاهدة الأطفال وفي فترة المساء - عند تجمع الأسرة - بأسلوب غث وتجاري ومنغص ومثير لأعصاب المشاهد ، وبشكل يؤدي إلى عدم الاحترام واللامبالاة فيما يتعلق بالظواهر الاجتماعية والسياسية والأخلاقية والقيمية والتربوية والثقافية ، واختزال القضايا الهامة ، حيث يتم عرض القضايا المحتوية فقط على نقد الجمهور كحوادث السير والسرقات وأخبار الجرائم … والعنف إذ تبرز هذه القضايا وكأن الجمهور مسؤول عنها فقط … وليس النظام والسلطة الحاكمة التي تظهر… وكأنه لا دور لها البتة .. (المتلاعبون بالعقول ، 1999 ، ص/ 39 - 41 ) .(1/165)
أما الإنترنت فان كل من يستعرض الوثائق والصفحات التي تنشرها مواقعنا العربية ، سيدرك أنها تعوزها الشروط الأساسية التي يجب أن تتوفر.. في الوثيقة الإلكترونية وكيفية تأليفها وإخراجها وقابلية قراءتها وكيفية البحث عنها واختزالها ( بالتناص ) .. ( نبيل أبو علي ، 2000 ، ص/ 30 ) .
ونقطة هامة نود الاشارة اليها وهي ما يسمى بـ ( المساجات - Messages ) او الرسائل المرسلة عبر المحمول او الجوال وترسل للفتيات او للشباب مباشرة ، تعكس تفاهة العبارات المرسلة وغير ذات القيمة او الاهمية من جهة ، ومن جهة اخرى لينظر القارئ للمخازي والعبارات الضحلة والخارجة عن اللياقة والأدب التي تظهر علىشكل شريط متحرك في اسفل الشاشة خلال البرامج التي تبثها الفضائيات العربية من جهة اخرى ، وليمعن النظر فيما يكتب ، ناهيك عما يسمى بالمحادثة او ( الشات - Chat ) فكل من يستطلع او يدخل غرف المحادثة يكاد ان يفرغ ما بجوفه مما يراه او يسمعه او يقرأه على شاشات المحادثة ، والسبب هو الكبت الجنسي والفكري والذهنية المريضة التي تعشش في العقول والتخيلات التافهة التي تراكمت مع الزمن نتيجة تشوه التربية والتنشئة الاجتماعية العربية المسخة ، وكان لا بد ان تفرغ هذه ( التفاهات والكبت والعقد والامراض ) في المجاري ، بدل ان تفرغ عبر الانترنت وخاصة غرف ومواقع المحادثة العربية ، فالإعلام العربي ووسائل اتصالاته لا تراعي البيئة الاجتماعية والخطط التنموية والثقافية والتربوية والتعليمية على الرغم من الانقسامات والاختلافات بين الشعوب العربية ، فهناك تشرذم صارخ ضمن المجتمع الواحد داخل النظام السياسي في الدولة عربية .. وانه لمن المثير للسخرية أن المسلسلات الأمريكية توحّد بين جماهير التلفزيون في الوطن العربي كمسلسل دالاس وداينستي.. غسان سلامة وآخرون ، 1989 ، ص/ 863 ) … فان كان هناك تنسيق وتعاون وانفتاح عربي رسمي فهو كما قلنا فقط في البرامج ..الرياضية(1/166)
والمنوعات والأمسيات والسهرات المشتركة.. ( المصدر السابق ، ص/861 )…اوخطب ومواعظ الرئيس الامريكي بوش باعتباره ولي نعمتهم ومانحهم الرواتب ، ان لم يكن منه فمن وكالة المخابرات المركزية ، أو ببرامج هابطة من حيث المستوى والمضمون والشكل الذي لا يتناسب مع شهر..كشهر رمضان مثل فوازير رمضان ، بالإضافة إلى الأفلام السينمائية والمسلسلات التلفزيونية .. المصدر السابق ، ص/863 ) .
أما المسلسلات البدوية المعروضة فتكرّس العادات والتقاليد الأثرية كالثأر والغزو والسلب والنهب - Rapacityوالسطو والتعصب والنخوة والبشعة ( كي لسان المتهم بالنار ) والقتل والغدر وقطع الطرق – Banditry ، وكل ما ورد في كتاب الباحث غسان التل ( المجتمع العشائري ، قضايا ومشكلات ) من سلبيات وعادات بالية ، ناهيك عن المسلسلات الخليجية العبثية أو اللبنانية المصطنعة أو السورية الخيالية والتي تعالج فترات ما قبل الجاهلية أو المعرّبة ( المدبلجة ) التي تتناول الشركات الاستثمارية والملايين والنهب والاختلاس والجنس ، أما المسلسلات الهادفة والاجتماعية المفيدة كأعمال الكاتب أسامة أنور عكاشة ومحمد جلال عبد القوي في التلفزيون أو أعمال المخرج يوسف شاهين ومحمد فاضل ومحمد عبد الجليل و يحيي العلمي و إسماعيل عبد الحافظ أو عاطف الطيب ، والتي تتناول قضايا ومشكلات اجتماعية وقيمية وسلوكية وأخلاقية وسياسية ، وخاصة فيما يتعلق بقضايا المرأة التي أبدعت فيها المخرجتان إنعام محمد علي وإيناس الدغيدي فهي قليلة ، فاغلبها ترفضها لجان المصنفات الفنية والتي يرأسها عادة أزلام النظام ومواليه عديمي الكفاءة والتخصص والذوق الفني ، إذ يعكسون في مهنتهم نمط تخلفهم وبيئاتهم القبلية وضحالة ثقافاتهم وسخطهم على مختلف شرائح المجتمع ، بحجة انهم حريصين على مصلحة الوطن (نظام الحكم ) وحمايته من الفئات الهدامة وأعداء الوطن ، وحتى الممثلين الذين يحترمون أنفسهم وذوق المشاهد فهم(1/167)
قلة ، ناهيك عن الموسيقى التافهة والأغاني المصطنعة…( زتي عنك هالمريول)… ( صوت المرأة الصادر عن صحيفة الأيام ، 24/8/2000) ...ثم اي مريول على البنت او المرأة ان ( تزته) ..هل هو مريول المدرسة ام مريول المطبخ...؟ وهذه الاغنية وامثالها يؤديها مغنيون لم نسمع بهم البتة ، حيث تصاحب المغني فتاة جميلة تتمايل معه أو يلاحقها في الطرق أو مطرب بدوي على شاطئ البحر أو في الغابة ويتوسل لها ويستعطفها بكلمات نسمعها في مطلع الأغنية وتظل تتكرر إلى نهايتها ، والأدهى من ذلك (الفيديو كليب) الذي اخترعوه … حيث أغلبية المطربين والمطربات العرب يستعينون بممثلين وراقصين هنود وأسبان أو غجر من بلغاريا لأداء الرقصة في الأغنية العربية بلباسهم الفلكلوري ، أو سرقة الحان هندية أو تركية أو إسبانية وتوليفها وتركيبها على كلمات عربية وتلحينها بموسيقى الغجر والفلامنكو ، انه كوكتيل مزعج وهجين وغير منسجم أو متناسق ، ومن يستمع لها أو لغيرها يكتشف ذلك بسهولة ، ناهيك عن الجهل في تصوير اغاني الفيديو كليب حيث يمر اكثر من خمسة مشاهد من زوايا مختلفة وسريعة ومتكررة امام المشاهد في الثانية ، فلا تستطيع العين تجميع ابعاد المشهد الواحد مما يسبب تعبا وارهاقا لعصب العين الذي يفشل في ايصال ما رصده من صور الى الدماغ لتحليلها ، فيفشل هو ايضا ، ويخرج المشاهد في النهاية وكأن صعقة احدثت لديه تشويش فلم يعي ما حدث او ماذا شاهد ، وهذا ما يسمى ( QUICK ZOOM ) وطبعا هذا المصطلح لم يسمعوا به بتاتا ولم يتقنوا التدرب عليه ، والدليل هو تسليطهم الكاميرا على قفا وصدر المغنية او الراقصة وهي تخض ثدييها امام الكاميرا وعيينها على من وراء الكاميرا .. يطلب منها المزيد من الخض !(1/168)
إن الأطفال في هذه الفوضى أو( الزيطة ) كما يقول المصريون يحفظون هذه التفاهات عن ظهر قلب ، حتى أن كتّاب الكلمات انحدروا في إحدى الأغاني التي تقول " يا شبشب الهنا يا ريتني كنت أنا " لعبد العزيز محمود ( مطرب مصري – متوفي ) وآخرى تغني " العب العب العب " وتنقع جسمها بالبانيو وتستحم بالحليب والكورنفليكس ، وآخرى تتمرغ على الرصيف وهي تغني واخرى تتلوى على السرير وتتحسس صدرها وتتقلب وكأنها تريد شيئا ، واخرى واخريات وآخرين مثل الموديل الذي كان في الاصل ( شعبان المكوجي) وكان يفرح اذا استطاع ان يأكل سندويش فول او فلافل طيلة نهاره واصبح ( شعبله) ومن ذوي الملايين ، واليوم يوجد الكثير الكثير من امثاله ..فهل يستحقون منا ان نشاهدهم او نسمع نهيقهم ...لكن هذا هو واقع الفن العربي الهابط اليوم … فبرغم قوتها (وسائل الإعلام والاتصال ) التكنولوجية ، فلم نحسن استغلالها فهي تعود بنا إلى التيارات الاباحية تارة وتارة الى الأصولية أو الفوضوية - العدمية إنها ..مشروع تنميطي منكفئ على الداخل وعلى الذات، ونحن أمام أحادية التوجيه والتوجه ... وهو حصار وخنق وقتل العقل والثقافة والأخلاق وقيم التربية والذوق الرفيع ... فلا مراعاة لدينا لأبعاد الزمان والمكان والإنسان.. ( مصطفى حجازي ، 1998 ، ص/12-13 ) ...ارضاءا للسيد الامريكي الذي طلب منهم تطبيق هكذا نموذج ، لابعاد الجيل عن الالتحاق بالاصولية والارهاب والعنف ، وتشويقه للجنس واثارته واعمائه عبر حاسة النظر ( الابصار- Vision ) وهي اخطر حاسة لدى الانسان لاتصالها بالدماغ مباشرة وبدون استعمال العقل او التفكير ، وعدم تكرار تجربة 11/ سبتمبر /2001 من جهة ، ولنثبت للخواجات من خلال بثنا وانتاجنا لهذه البرامج والاغاني والمسلسلات ، اننا هكذا يجب ان نكون ، واننا بهذه البرامج سنخلق جيل منفتح ومائع ومخنث – Emaseculation ومجرد من قيم مجتمعه واخلاقه ودينه ، واننا ايضا متغربنين(1/169)
ومتحضّرين من جهة اخرى ، ولكن من خططوا لمثل هكذا سياسة اعلامية تافهة نسوا اننا مجتمعات متخلفة ومكبوتة ، واذا لم يعدوا لنا بيئة كبيئة الغربيين للتنفيس عما يبثوه لنا ، فسوف نغلي كالمرجل او كطنجرة الضغط ثم سننفجر ، وليس مستبعدا ان نعيد تجربة 11/ سبتمبر ثانية ، لأن المجتمع المتخلف في هكذا اوضاع سيعود للدين وللاصولية كملجأ وتصبير للنفس من جانب ، ولعدم توفر بيئة تنفيسية للكبت والطاقة المشحونة نتيجة الهياج المستمر الذي حقنته به الفضائيات ببرامجها التافهة والمهيجة عاطفيا وجنسيا وعصبيا وعقليا ، فسينحرف افراد هكذا مجتمعات وسينتج مشاكل وعلل وانحرافات اجتماعية كالتي مرت في الفصل السابق .
ولم يقتصر الأمر على الأغاني والمسلسلات بل هناك إعلانات عن.. أقوى الأفلام العربية …فيلم يصلح للجميع فيه الحب والجمال والمتعة والإثارة والعنف والمغامرات …أجرأ فيلم ظهر حتى الآن .. نشرته إحدى دور السينما في رام الله (الحياة الجديدة ، الأيام ، 20/5/2000، ص12) …بالإضافة إلى أفلام الكرتون التي تعرض على شاشات التلفزيون كمؤثر ثقافي يجسد العنف الحقيقي لدى الأطفال ، ويؤثر على انفعالاتهم وسلوكياتهم ، حيث يعيشون في زمن يتصف بظروف معيشية صعبة وتنافس من اجل الحياة ، وديكتاتورية التربية والتنشئة الأبوية وأجواء البطالة والأمية والاحباطات الاقتصادية والاجتماعية ، والتي من شأنها أن تفاقم حدة العنف المحيط به ، ليتصور المشاهد العربي نفسه وحوله افراد اسرته وفجأة تقفز امامه دعاية (always) والكاميرا مسلطة على الفتاة من الامام والخلف وهي تحسس على قفاها ( لشعورها بالراحة والامان لاستعمالها الـ ( always) في الدعاية...تصور نفسك... وطفلك يسألك عن معنى الـ ( always ) واين يستعمل...ولمن ....؟ فبماذا ستجيبه ايها الأب او ايتها الام ....؟(1/170)
وأخيرا هناك تركيز في الوسائل الإعلامية على أخبار أسواق المال والأسهم والبورصات وأسعار العملات ومؤشراتها ، اذ ان المشاهدين نادرا ما يكون لهم صلة بذلك ، فهل المقصود بهذه الأخبار هو التثقيف المالي … أم جعل المال وسوقه مرجعية أساسية سواء للذي يملك أو لا يملك ..؟ .. فالمال عصب الحياة وتقديم وهذه الوجبة للمشاهد وخاصة المحروم…في كل ساعة تقريبا يعزز لديه الانشغال والاهتمام بالأمر وخاصة أمام الأرقام المذهلة ، فتثور في مخيلته مسائل عديدة أو إحساس بهامشتيه من المال… الذي لا يملكه أمام هؤلاء القنّاصين الذين يفتحون شهية من يملك المال ، إلى المغامرة بضربة مالية للإثراء والتمتع بمباهج الحياة بالتشاطر …بالفهلوة … والاقتناص وبدون مجهود ..(حجازي ، 1998 ، ص/ 53 – 54 ) ... لكن الذي لا يملكه (المال) فماذا يفعل للإثراء بدون مجهود أسوة بمن يملك المال … لنقرا الصحف كل صباح لنعلم ماذا يحصل …؟ طبعا سيجنح ويسرق وينهب ..!
3:4 - العلاقة بين تخلف الوعي وفوضى التغيير
لقد سبق الحديث على أن نمط الإدارة والحكم في النظام العربي هو مزيج - هجين- Half Bredمن النظام السلطاني العثماني السابق واقتباس بعض النظم الإدارية من النظام الغربي ، فكان طبيعيا أن تأتي المخرجات الاجتماعية أيضا هجينة ومعقدة ، فالمجتمع الأكثر تعقيدا في تركيبته الاجتماعية ونمط حياته هو الأكثر عرضة للإصابة بالأمراض والآفات الاجتماعية والنفسية والذهنية والعصبية ، ولهذا فالمجتمع العربي مزيج من هذه العناصر… فأتى بفوضى شاملة وعارمة في القيم والأهداف والمعتقدات والعادات والتقاليد والنظم الاجتماعية التي انعكست على السلوك الاجتماعي ونتج عن ذلك .. اغتراب وعزلة وقهر وعنف واستغلال وكذب وخداع للنفس .. (شرابي ، 1991 ، ص/64 ) .(1/171)
وعلى عكس ذلك فالمجتمعات البسيطة في تركيبتها الاجتماعية هي الأقل عرضة للإصابة بالآفات والأمراض الاجتماعية ، حيث أثبتت الدراسات الاجتماعية أن العامل الثقافي والتباين الواضح بين الفئات الثقافية من جهة ، وتعرض المجتمع لمؤثرات ثقافية غير موجهة ومتعارضة مع ثقافته الأصلية من جهة أخرى ..تكون فرص إصابته بالآفات والأمراض الاجتماعية اكثر وضوحا وارتفاعا ، وهذا ما ينطبق على المجتمعات المعقدة .. ( علي كمال ، 1983، ص/40) و( حليم بركات ، 1996 ، ص/18) .
وحينما نتحدث عن تخلف الوعي فإننا سنتناول واقع التعليم والخصائص الثقافية للذهنية العربية ولما لها من علاقة مباشرة في التربية والسلوك ، وأما فوضى التغيير فتتعلق بالتنمية والتقدم في ظل سياسة العالم الجديد ، ولهذا تكون الثقافة هي الأرضية (الأساس ) لأي تقدم وتنمية ، حيث يأخذنا ذلك إلى فحص التربية الفردية والتثاقف الجمعي – Collective Acculturation وشكل القيم السائدة – Prevailing Values في المجتمع العربي وطبيعة .. الدفعة الروحية لاستنهاض التنمية … فالنمو هو مزيج من التغيرات الذهنية والاجتماعية لشعب ما …والتغيير الذهني هو الأساس والعامل الحاسم والفاعل واكثر من مجرد عامل من عوامل التنمية ..فلا يمكن لأي دارس جاد لشروط التنمية استبعاد اكثر السمات المادية في المجتمع من تلك الشروط كالدين والأحكام المسبقة والخرافات والمحرمات ، والدوافع إلى العمل والموقف حيال السلطة السياسية وردود الأفعال التاريخية والأخلاق الفردية والجماعية ونظم التربية ومجمل القيم..( محمد الرميحي ، 1998 ، ص/23) …الثابتة والراسخة في المجتمع (وهذا ما كنا سنربطه بالعامل الذهني ) ـ التشديد من عندناـ لأنها تؤثر في سلوك كل شعب وتحور مسار كل حضارة(1/172)
وعودة إلى نمط وإدارة المجتمع والدولة في المجتمع العربي ، ولنرى انه رغم سيرورة التحديث منذ بداية الخمسينات وحتى الوقت الحاضر الذي يتصف بالعصرنة…في ظل البيروقراطية الحاكمة عبر عقود مضت، أنها غربية الأسلوب وشرقية المضمون والتطبيق .. (غسان سلامة ، 1995، ص/800)… فهذا عامل آخر من عوامل تخلف الوعي وفوضى التغيير في النظام والمجتمع العربي .
والواقع أن ما كان يجري طيلة العقود الماضية .. هو قيام نخبة جديدة هجينة … كان يعتقد انهم اختفوا في مرحلة الستينات.. (المصدر السابق ، ص/ 690)… بالإضافة إلى أن المجتمع بقي ينتج نفسه ويدور حول ذاته في عملية تكيف مع نمط حياته ومستوى معيشته المفروضة ، ويحاول أن يتماشى مع أنظمة تسلطية لا ترغب حقيقة في احداث التغيير والتقدم والنمو ، فأمام هذا المشهد التمردي الذي عاشه ويعيشه المجتمع العربي ( والعالم من حوله يتقدم ويتطور ) ورغم انه شهد فترة هدوء واستقرار منذ بداية الستينات … إلا أننا نرى أن معدلات التضخم الفلكية في ازدياد والتراكم الكبير للثروة في بعض أقطاره وتمتع مواطنيها بالترف والبذخ ، ونرى الجانب الآخر المأساوي للمشهد والصورة ، فبقية أقطاره تعاني من عجز وفقر…ونرى إعلانات الأباء طالبين بيع أطفالهم أو بعض المواطنين طالبين فتاوى شرعية تسمح لهم بأكل الميتة ولحوم البشر ، خاصة خلال الحرب الأهلية اللبنانية عام 75-1982 وحصار المخيمات الفلسطينية من قبل حركة أمل الشيعية 1985…بالإضافة إلى تحجر القيم والتقاليد وانتشار الشعوذة والسحر والتمسك بالعصبية والقبلية اكثر من ذي قبل والعودة إلى السلفية والأصولية ... خاصة بعد خيبة الأمل التي عاشها ويعيشها الفرد العربي ..(المصدر السابق ، ص/ 339 ).(1/173)
ورغم أن النظام والمجتمع العربي شهدا منذ سبعينات القرن الماضي .. عملية انفتاح قادتها واستفادت منها فئة محدودة من - النخبة الحاكمة وزبائنها وقلة من الناس -… حيث أنتجت آثارا تعدت إطار هذه الفئة في اكثر من واحد من المجالات إن –سواء- في تطلعات ومطامح وغايات قطاعات المجتمع الأخرى ، أو اكثر من تلك التي جنت منافع الأرباح والفوائد …أمام أعين الغالبية العظمى من فقراء العالم العربي .. (المصدر السابق ، ص/ 692 ) .
فجزرة الوعود المعسولة من الانفتاح والترويج له وما سيستطيع الناس شرائه ..قابلتها عصا التضخم …والمديونية، حيث بدأ سكان المدن يزاحون من تحت مظلة الإعانات الحكومية والأسعار الثابتة …( الدعم الحكومي للسلع الضرورية والأساسية وخاصة المواد الغذائية)…التي استظلوا بها خلال سنوات الراديكالية .. (غسان سلامة وآخرون ، 1989، ص/ 693 )… فشهدنا مظاهرات الخبز في القاهرة في عام 1978 وفي المغرب والجزائر والأردن ( أحداث المفرق ) عام 1989، بالإضافة إلى تململ قطاعات واسعة من الشعوب العربية التي تئن في ظل هذه السياسات الاقتصادية الارتجالية والفاشلة والمحدودة النفع ، وازدياد نسب الريع الحكومي في ظل كساد الأسواق العالمية الذي بدأ يغزو العالم منذ منتصف الثمانينات ، وخاصة بعد هبوط أسعار النفط في الأسواق الدولية وانعكاساتها على الاقتصاد العربي كإفراز ( عقابي ) جراء تزاوج النفط مع السياسة ( حرب أكتوبر 1973) .(1/174)
إن هذا التناقض والتراجع والفوضى نتجت عن تخلف المجتمع والفرد العربي وفي علاقات المجتمع والقوى المسيطرة عليه (نخب وأنظمة حاكمة ) ، والتي لم تحدث التغييرات الواجب إجرائها بعد نيل الاستقلال واستقرار نظم الحكم ، ولم تأخذ وضع وجهل وفقر مواطنها بالحسبان .. والذي جسد وما زال يجسد وضعا نفسيا معينا …إذ أن سلوكه نابع من ذاته وفعله ورد فعله عما يحيط به في بيئته -التي وصفناها سالفا-… فأتى الفرد والمجتمع منسجما لإرادة الطبقة الحاكمة التي شرّبته- Imbibition قيم وسلوكيات ( في مرحلة صناعة الدولة والمجتمع ) - التشديد من عندنا – حيث الفوضى والحالة هذه تصبح قيمة ، وخاصة في مرحلة المد الوطني والقومي والتغيير والتحديث التي مرت وتمر بها المجتمعات العربية التقليدية..( شرابي ، 1991 ، ص/69) بالإضافة إلى أن…الفوضى…تصبح قوة اجتماعية وحركة - خلاقّة - من اجل السيطرة على القوى الاجتماعية الفاعلة في المجتمع...تمهيدا لقمعها.(1/175)
إن واقع حال وماضي المجتمع والنظام العربي قد صوره المنفلوطي في نظراته أن الإنسان العربي " الضعيف والمستسلم أن... ( لا )... يكون من المدنية الغربية إن داناها ، إلا كالغربال من دقيق الخبز يمسك خشاره (النخالة الخشنة )… وعندما أراد العربي أن يقلد الغربي في نشاطه وخفته … فإذا جد الجد وأراد أن يعمل عملا دب الملل في نفسه، وان قلّده في رفاهيته ونعمته فلا يفهم منهما إلا التأنث في الحركات والانزلاق إلى مواطن الفسق والفجور، وان أراد أن يقلّده في الوطنية فلا يأخذ منها إلا نعيقها وضجيجها وصفيرها … فإذا قيل له هذه المقدمات… فأين النتائج…؟ اسلم رجليه إلى الرياح … ويريد أن يقّلده في السياحة فيطير إلى مجامع اللهو والقمار… ويريد أن يقلده في العلم فلا يعرف إلا الكلمات يرددها ، ويريد أن يقلّده في تعليم المرأة وتربيتها فيجملها في مقالة أو خطبة ، فهو يأخذ صورا مشوهه ومعكوسة ، مثل جهلة المتدينين الذين يقلدّون السلف الصالح في تطهير الثياب وقلوبهم ملأى بالأقذار ويقلّدونهم في أداء العبادات ولا ينهون أنفسهم عن الفحشاء والمنكر ، إن في المصريين…(والعرب) – التشديد من عندنا -عيوبا جمة مذاهبهم وعاداتهم وطباعهم " (المنفلوطي، 1983، ص/ 132-136)… إن الأمر لا يقتصر على الفرد بل ويشمل النخب والنظام الحاكم ، هذه لمحة ووصف لما يكن أو سيكون عليه وضع الفرد العربي (حاكم ومحكوم ) لو أراد أن يقلّد الغرب ، وهذا الاستنتاج ورد على لسان الأديب (المنفلوطي ) قبل اكثر من 100 عاما ، فكيف سيكون الحال اليوم....؟ حتما سيكون اسوء .(1/176)
إن مأساتنا كعرب أننا نقف في وجه العقل والعلم ، فالعقل يعاني من أزمة وأزمته هي القوى المضادة -الاجتماعية والسياسية والدينية والثقافية- ولكن لماذا العقل ...؟ لأننا أكدنا على ضرورة تغيير الذهنية والذهنية مرتبطة بالعقل والعلم وليس بالعاطفة ، مع أن العاطفة لا تتناقض مع العلم بل ..هما قوتان تجتمعان في كل إنسان وكل منها يجب أن تكون في مجالها … والمعوق الآخر هو السلطة…-طريقة ومنهج-… والاختلاف بين العقل والسلطة ليس نتيجة حتمية ، بل في طريقة التفكير ومنهجه ، ففي حالة اتباع السلطة يكون التفكير - العقل- خاضعا لمصدر يعلو عليه وتقبل أحكامه بلا نقاش ..( فؤاد زكريا، 1975 ، ص/ 14 -16 ).. ويؤدي ذلك إلى الجمود والتحجّر - Fixism وتنحصر السلطة في الأسرة والقبيلة والمجتمع والدين والنظام السياسي ، فالأسطورة لم تزل تتمثل في نظريات التحليل النفسي العربي .(1/177)
فمن المعروف أن العقلية هي التي تحكم السلوك وتحدد النظرة إلى الكون … فالتخبط والفوضى والعشوائية وسوء التخطيط والارتجال تعد من ملامح التخلف ، فهناك خصائص ذهنية ..انفعالية وأخرى منهجية ، الأولى ترتبط باضطراب منهج التفكير ، والثانية تختص بتبيان تدخل العوامل الذاتية والعقلانية ، وهي أسيرة الانفعال الذاتي والغيبية … أما المنهجية فتتلخص بصعوبة السيطرة الذهنية على الواقع والحياة والطبيعة وصد القدرة عن الفهم ، وان حدث فيحدث دون خطة أو ذات مراحل منطقية… مما يزيد من حدة الفوضى ويظل الفرد يراوح مكانه والاكتفاء بالموضة الحدسية -السطحية -.. لذلك فان الفرد العربي قطعي في أحكامه …لتجنب النقد … بالإضافة إلى ذلك فهناك قصور في التفكير الجدلي وعكسه ، وهو الانعزال والفصل وأحادية النظرة التعصبية ، بسبب العجز عن إدراك الصيرورة الزمنية وترابطها مع بعضها البعض… والذي يؤدي... إلى التصلب الذهني- العناد - والذي يؤدي إلى الهجاس - Scrupulosity وسواس نفسي قهري- نتيجة التوتر والانفعال والعنف والحدة … وهذا نتيجة عوامل تخلف الذهنية السلبية مثل القصور التطوري والعرقي والقدرية والخرافة والهروب… وهذا إفراز للعلاقة بين البيئة الاجتماعية والذهنية التي تكون في هذه الحالة نتاج للبنية تخدم أغراضها … بالإضافة إلى عدم استخدام التكنولوجيا من اجل عقلنة الإنتاج ... ودليل ذلك -تذبذب الإنتاج الزراعي والصناعي وتراجعهما - وسياسة التعليم المرتبطة بارتقاء أو انحطاط الذهنية في المجتمع ، وكذلك هناك نوعية التعليم وتأثيره وان كان هناك تعليم فهناك تنشئة أسرية واجتماعية مشوهة ايضا تعمل على تشويه وافساد وتحريف التعليم عن هدفه ، الأمر الذي يحدث انفصاما وانشطارا –Scission في الشخصية والذهنية والسلوك ، حيث يتمثل … ذلك في علاقات التسلط في المدرسة والدين والنظام السياسي … فالفرد العربي هو ملك للعشيرة وللأسرة أو القرية ، وليس ملكا للدولة(1/178)
من حيث الرعاية .. إذ يعاني… من الاستلاب..( حجازي ، 1998 ، ص/ 54 - 76) .. للحياة والجنس والذهن والمال والجسد ، والمرأة خير مثال على ذلك .
إن عيوب التعليم – التشريطي/ التلقيني- تعكس الأصول والقيم الاجتماعية السائدة وبالتالي تؤثر على الذهنية ويترجمها السلوك والقيمة والعادة مثل ..عدم تشجيع أبناء الريف على التعليم بسبب كونهم يشكلون مصدر دخل وقوة عمل وإنتاج لأسرهم … ولأن التعليم لم ولن يكون حسب ذهنية القروي كمشروع استثماري مجدي …أما التعليم الجامعي فهو يعكس احتقار العمل اليدوي أو المهني ، فالوظيفة افضل ... ولهذا فالتعليم الجامعي هدف لغاية وليس لذاته … ناهيك عن أساليب التربية ومناهج التدريس التي تكون على حساب المضمون … والذي يشجع على التلقين والإرغام والإجبار والنفاق .. (فؤاد زكريا ، 1975 ، ص/ 185-191 ) … حيث يلاحظه الطالب في مديره ومعلميه أثناء زيارة أحد المسؤولين للمدرسة ، إذ تبدأ حملة تنظيف وترتيب طيلة ذاك اليوم ، وباقي الأيام تظل المدرسة في الفوضى والوساخة واللامبالاة ، بالإضافة إلى تعلم الغش والكذب وخاصة في الامتحانات وإجراء الاختبارات .(1/179)
ونظرا لطبيعة أنظمة الحكم السائدة في الوطن العربي فان .. التربية والتعليم تأتي نوعا من القوة الرجعية … وتشكل إحدى الوسائل والأدوات للتنشئة الاجتماعية والسياسية … ناهيك عن التعددية التربوية والمدرسية والمناهجية التي تكون بمثابة تشوش تربوي .. (غسان سلامة وآخرون ، ج2 ، 1989 ، ص/877-892 ) ... فبرامج التدريس الثانوي والجامعي خاصة ( في سوريا ) كمثال مبنية على .. المناهج الفرنسية القديمة … بالإضافة إلى جميع البلدان العربية التي خضعت لنفس التأثيرات .. (صادق جلال العظم ، 1997 ، ص/ 152) … وكذلك ما ورثته السلطة الفلسطينية فيما يتعلق بالمناهج المدرسية التي وضعتها سلطات الاحتلال الإسرائيلية منذ عام 1967، والتي أفرغتها من محتواها الأكاديمي والعلمي المعاصر ، والتي هدفت من ورائه خلق – وقولبة- السكان بما يتماشى وسياستها التجهيلية ، الأمر الذي ينتج ذهنية متخلفة وفكر ضعيف ومشلول ، ومن يتمعن في مناهج الأحياء والفيزياء والكيمياء والتاريخ (الممسوخ) والمفرغة من حقائقها ، حيث يهدف تركيزها على مهارات ضحلة وقيم مشوهة مثل التركيز على الفترة العثمانية والتوسع بها ، الأمر الذي افرز أجيال عثمانية التفكير وعربية الذهن والسلوك وكأنها ما زالت تعيش في القرن 15م ، ولم تزل هذه المناهج تتبع في الجامعات والمعاهد ... وهذه سمة إضافية وأساسية من سمات المجتمع العربي المعاصر .(1/180)
وقد تأكد بعد البراهين القاطعة التي يشهدها التطور والتقدم التقني والعلمي والحضاري للعالم اليوم مدى واهمية ..الدور الخطير الذي يسهم به التعليم في أحوال التنمية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية … حيث تحتل الدول الصناعية ( العالم الأول – المتقدم ) المواقع الأولى من بين 185 دولة ، إذ يشير مؤشر التعليم ( 90,. – 99,.) والحد الأقصى هو واحد صحيح ، لنأخذ كوريا الجنوبية ( قارة آسيا ) كمثل فمؤشرها ( 95,.) ، وأما الدول العربية فيتراوح مؤشرها بين (62,. – 77, .) لذا فان حالة التعليم في الوطن العربي تبرز مدى التدني والتفاوت والتخلف والفوضى بين الإناث والذكور " (حامد عمار ، 2000، ص/ 52 ) … فما زالت نسب الأمية تتراوح بين " 55 % - 70% " ( حليم بركات ، 1996 ، ص/ 76) … فرغم التشدق باستمرار بان الدول العربية أو (بعضها) تتميز بنسب عالية من التعليم تكاد تكون 100% وخاصة في الكويت والبحرين ولبنان وفلسطين ، إلا أن هذا ليس صحيح بتاتا ، وذلك بسبب التخلف في الوعي وبقايا الأمية وجهل فطري مطبق .
إن نظام التعليم فشل في نقل روح العصرية وتقنياتها .. بسبب المقاومة العلنية لسلطة الدولة وتسامحها إزاء الفساد الإداري …والرشوة … لضمان ولاء المؤيدين لها وإهمالها تنمية الجوانب الاجتماعية والمادية لمجتمعاتها وشعوبها ، حتى أنها تشجع الصراعات القبلية والدينية والطائفية من ضمن جهودها...(غسان سلامة وآخرون ، ج1،1989، ص/ 175- 182 ) ... لإلهاء المجتمع عن صراعه معها .(1/181)
لذا فالفوضى تكثر في السلطة السياسية وتقل في السلطة الاجتماعية بسبب امتلاك الأولى .. للنفوذ والقوة وإدارة العنف ووسائل القهر … والثانية لا تملك إلا الانصياع والإذعان والاستجابة –Compliance … ومع ذلك فهناك .. فوضى وصراعات وانفجارات سلفية وعصبية وكل ذلك ارتد إلى داخل الدولة نفسها .. (عبوشي ، 1980 ، ص/ 140 – 149) … فمجرد إصدار القوانين والمراسيم من قبل التكنوقراطيين والأطر السياسية والنخب الحاكمة وراس الدولة يكفي ..لإحداث تغيير جذري في التنظيم السياسي والاجتماعي.. (والاقتصادي) -التشديد من عندنا – (غسان سلامة وآخرون، ج1 ،1989 ، ص/ 174 )… بالأضافة إلى ذلك فان عقلية النظام السياسي هي عقلية (اللهاث وراء الريع ) ، لنأخذ مثلا على ذلك وهي.. فترة حكم السادات… 70-1981 ...( وشبيهه حكم ياسر عرفات سابقا عام/2000) – التشديد من عندنا- ... فالسادات لدى اختياره للحكومة الجديدة لم يعتبر(يعتمد) مطلقا نتائج الانتخابات التشريعية سنه 1976… ولم تكن ذات معنى له ، وذلك لإبعاد الأعضاء المزعجين عن السياسة والحكومة وخاصة أحزاب السلطة الحاكمة أو المعارضة ، فانتماء الفرد العربي لأي حزب أو حركه سياسية تعني…الانتماء إلى خير جماعي مغلق ، رغم انه طوعي ومحّرم عليه ممارسة حياته الخاصة ..( فاضل الربيعي ، 1999، ص/.2) … من هنا فليس للسياسي قيمه كبرى في ذاته بل قيمته بمن حوله أو بمن يستزلم له … وهذا ما يفسر لنا لماذا يتمسك راس السلطة باللصوص والمختلسين وشذّاذ المجتمع من حوله ويعض عليهم بالنواجذ ، حتى ان فقهاء الدين واصحاب العمائم .. جمعوا بين فقه الدين وسلطان الدنيا وحب المصلحة والنفوذ بسبب تسييسهم للدين والاستنفاع منه .. (حجازي ، 1997،ص/ 73)… فمن هنا يجب فصل الدين عن الدولة ضرورة ، منعا من استغلاله وامتطائه .(1/182)
إن فوضى التغيير أيضا شملت قطاع القوى العاملة بعد منتصف السبعينات ونتيجة لارتفاع أسعار النفط وحاجة دول الخليج إلى العمالة ..الأمر الذي احدث اختلالات واختناقات لفئات مختارة من البشر ، واحدث ارتفاعا مفاجئا في الطلب على الأيدي العاملة المتخصصة …الذين فاقت أجورهم أضعافا مضاعفة لمرتبات أصحاب التعليم العالي …كما أسلفنا … مما أدى إلى حراك اجتماعي أعلى لهذه الفئات ، واحدث اختلالات اجتماعية ونفسية وخاصة بين أبناء الطبقة المتوسطة …(سعد الدين إبراهيم وآخرون ، 1996، ص/ 278-279) ... إنها فوضى ما بعدها فوضى …وكذلك ما أوضحه حليم بركات في موضوع الصراع الطبقي ومبرراته في كتابه ( المجتمع العربي المعاصر) في ظل نظام سياسي واقتصادي يشجع (ويغذّي) العصبية والأتكالية ، والتنافس وتنفيع طبقة الجهلة بالمشروعات التي يرسّيها عليهم النظام الحاكم ، أو بالسماح لهم بالعمل بدول الخليج ، أو بمنحهم رخص استيراد وتصدير ، اوفي قطاع المقاولات ، بالإضافة إلى فتح باب الاعتمادات والائتمانات المالية والبنكية لهم ، إذ يصبح هؤلاء ( قطط سمان وحديثي نعمة ) يذكرون الحاكم بالخير وطول العمر ، أما الطبقات الكادحة والمقهورة والمحرومة فتشتغل بتأمين معيشتها ، إما بالمكاسب المادية المحدودة أو بالفوضوية ، خاصة في ظل نمط استهلاكي – استفزازي من قبل القطط السمان وجهلة النظام الحاكم ، الامر الذي يولّد شعورا بالحرمان والحقد والغضب أمام الثراء والبذخ الفاحش للنخبة الجاهلة ، أو بتحسين وضعهم أو المطالبة بإجراء التعديلات أو الإصلاحات أو التغييرات ليتمكنوا من العيش ) – التشديد من عندنا - وأخيرا يأتي دور فقهاء النظام ...بتسويغ هذا الوضع دينيا ، وكتبرير اجتماعي للحد من تبلور وعي طبقي …(بركات،1996، ص/ 164-170 ) .. فمثلا قام السادات بسن قانون العيب وأخلاق القرية … بطريقة عاطفية… لعلمه أن ذلك يحل الأزمة ، إلا أن ذلك تناقض مع سياسات الانفتاح ..(1/183)
وخصوصا ظاهرة البغاء… التي استفحلت…فجاء القانون منسجما مع الانفتاح .. (غسان سلامة وآخرون ، ج2،1989،ص / 866)...وهناك فوضى بالتنظيم البيروقراطي (تحدثنا عنه سابقا ) والتركيب الايكولوجي ( البيئي ) للمدينة العربية ووسطها والشريط السكني الذي يلفها ..والحزام …( حزام البؤس )… المشكّل من هامشيي المدن .. ناهيك عن ظاهرة استقلال وتكامل الأحياء اقتصاديا وإداريا وإنتاجيا وخدماتيا وتعليميا بشكل فوضوي ومختلط ...وبشكل خيمي وليس هرمي ، كمدن الضفة الغربية- ( الخليل– رام الله – نابلس – أريحا وغزة ) – التشديد من عندنا – .. (الخوري ، 1993، ص / 109- 115) .
4:4 - فوضى المجتمع العربي … وتحديات العولمة – Globalization :-
لا تقتصر مفاهيم العولمة كنمط من أنماط سياسة العالم الجديد على إزالة مظاهر التخلف والفقر والجهل الفكري والتكنولوجي ، بل على إزالة الحواجز الثقافية والانفتاح على العالم وحضاراته المختلفة ، في بيئة تعمها الأمن والاستقرار والسلام الدولي ، فهذه هي الملامح والسمات الرئيسية لمعطيات العصر ، ونحن في بدايات الألفية الثالثة ، والتي تشهد مظاهر فوضى في تفسير الحرية والديمقراطية ، ونحن كعرب إن لم نحسن تفسيرها وتطبيقها في مختلف الميادين فسيظل التخلف قابعا ومترسخا في أعماقنا ، فليس امامنا الا ان نقوم بتغيير الذهنية ( العقلية العربية ) والبنى الاجتماعية وبث الدوافع للعمل وابراز ردود فعلنا تجاه السلطة السياسية ، وتعديل نظم التربية والتعليم وغيره لانها بمجموعها هي المؤثرة في سلوك كل شعب وحضارته.(1/184)
إن الفرق ظاهر بين العالم الثالث المتخلف والعالم المتقدم ... وكما قلنا فالعالم المتقدم صناعي النسق ، لذا فان العامل الاقتصادي .. هو أول من يدخل في حقل التطور والتنمية … وهناك العامل الثقافي وأسلوب الحياة … بالإضافة إلى العوامل السياسية والأيدلوجية ونظم الحكم ، لذا فالتقدم… و(التطور )…من متطلبات العولمة وهي ظاهرة كلية عامة ومعقدة … والاهم ، فان ذلك يتطلب تفكيك وإعادة تركيب المجتمع … ومؤسساته جميعها وتغيير وأساليب معيشته ووسائلها والخروج من جلده ، وهذا يعتمد على.. أربعة شروط تسمى عوامل الإنتاج وهي …الثروة الطبيعية ، وراس المال ، والمعرفة ، والعمل … واغلب الدول المتخلفة… ومنها العالم العربي … تنقصها المعرفة وراس المال ..( عبوشي ، 1980 ، ص/ 62) .(1/185)
ورغم ما لنا من تحفظات على هذه الطروحات الموغلة في التفاؤل ، فان النمو والتقدم لا يتحققان بمراسيم … فقد أخفقت الصيغتان البارزتان …الرأسمالية والاشتراكية… في السيطرة على العالم أو في حل مشاكله أو بتقديم نموذج كامل يحتذى به … فحاول العالم أن يجد طريقا… ونموذجا … ثالثا... للتغلب على التخلف والفقر والفوضى ، يعتمد على.. إسداء النصح وتبادل الخبرات مصحوبا بتقديم المنح والقروض والمساعدات … إلا أن… ذلك استتبع قدرا من خيبات الأمل في العالم الثالث … حيث عادت - إن لم تكرّس - نظم الحكم الاستبدادي بقوة وانتشرت الحروب الأهلية والقبلية والإقليمية… حرب الخليج الأولى والثانية ، وقضية أفغانستان ونزاع الحدود بين الهند وباكستان ، وحرب أثيوبيا وإرتريا ، والصومال ومذابح لواندا ، وبوروندي وأزمة نظام الحكم في إندونيسيا والجزائر… واحتلال العراق وغيره مستقبلا الخ … ناهيك عن سيطرة واستيلاء طبقة أو شريحة من المجتمع على السلطة والثروة ، وتفشي الفساد ونهب المساعدات والهجرة من الريف إلى المدن المكتظة ، وتكدس السكان في الضواحي حيث الفقر والبؤس والمخدرات والجريمة .. ( محمد الرميحي ، 1998 ، ص/ 21 ) .(1/186)
إن هامشيي المدن العربية لأكبر شاهد على ذلك ، وكذلك سكان المخيمات الفلسطينية سواء داخل المناطق الفلسطينية أو في الدول العربية المضيفة ، وكذلك سكان القبور في ضواحي القاهرة ومدن المغرب والجزائر والأردن والعراق واليمن والصومال وموريتانيا والسودان… كيف..؟ ..إن أيدلوجيا الفئات الهامشية في المدينة الشرقية شديدة التباين والتنوع … وبالغة التعقيد…حيث تتكون من فئات شتى من الموظفين والمستخدمين وذوي الأجور المنخفضة وعمال المياومة وبعض عناصر البرجوازية الصغيرة… كبائعي المفرق ..( الخفاجي ، 1999،ص /303)… فهذه الشرائح ماذا تجدي معها العولمة والحداثة والمعاصرة … وكيف سيتم حل مشاكلها … وما هي إمكانيات الأنظمة العربية حيال ذلك … وأخيرا كيف تفهم وتستوعب هذه الفئة أو الشريحة في المجتمع معنى ومفهوم العولمة.. وبماذا تفيدها ..وهي فئات المدينة الدنيا والمتفسخة... – وفي طور التشكّل- وضد العمل ، وهي صنف من مجتمع متعدد التركيب ذي اتجاهات تطورية مختلفة… إذ يضمون ما بين 1/3 –1/2سكان المدن في آسيا وأفريقيا ، ثم ازدادت النسبة فأصبحت تضم 40% من سكان دول العالم (800مليون ) حيث يقوى تأثيرهم على من يقفون ورائه أو…أمامه…في مسار التطور الاجتماعي .. (المصدر السابق ، ص/ 304 ) … إذن هذه الفئة أو الشريحة بملايينها كيف تفيد العولمة بحل مشاكلهم …؟ وهناك ايضا طبقات كادحة وفقيرة ، بمعنى أن النسبة المتخلفة - إن كنا منصفين وبدون تعميم- .. تبلغ اكثر من 80% من سواد المجتمع العربي…الذي استعرضنا سماته وخصائصه وصفاته وسلوكه وتركيبته الاجتماعية وأنماط معيشته وعاداته وتقاليده ، انه ارث ثقيل يواجه العولمة ، فلقد شهد القرن العشرين كثيرا من التغييرات التي أثرت في كثير من الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية وشكلت… تعبيرا صريحا من الشك في معنى وفاعلية القيم الاجتماعية والثقافية المتوازنة ، والميل إلى رفضها دون أن يكون(1/187)
هناك بديل يحل محلها…( وهذه هي معضلتنا الرئيسية ) كمجتمع عربي ، وتوفير قدر اكبر من الحرية الشخصية والحق في إبداء الرأي والمشاركة في الحكم وترسيخ مبادئ المساواة والديمقراطية والانفتاح على الثقافات الأخرى … ومع هذا…( لربما)… تسود العالم العربي قيم إيجابية فاعلة.. ( أحمد أبو زيد ، 2000، ص/ 66) .
وليس هذا بحسب وان كنا نستخدم (ربما ) فهناك أيضا فوضى تتسم بطابع دولي جديد سيكون من نتائجها تفاوت في الثروة والمداخيل وتقوية النظام الطائفي ، وكأن العالم لم يتعلم من التجربة اللبنانية ، وهذا ما أشرنا إليه في أحداث - رواندة وإندونيسيا والبوسنة والهرسك- والخلط بين المصالح الفردية وإدارة أجهزة الدولة وانهيار العمل السياسي وأسس المنافسة الحرة والتطبيق الخاطئ والمجحف لما يسمى (بالخصخصة - Specialization ) ..وسيكون هم الناس البحث عن لقمة العيش وتأمينها أمام الفقر والإفراط في الاستهلاك البذخي على حساب نظام القيم ..( محمد الأطرش وآخرون، 1999، ص 98 )… ومع هذا لسنا متشائمين ولكن لان .. شروط اندماج العرب في النظام العالمي الجديد كانت ولم تزل بأيدي… ولمصالح غيرهم … حيث تفجّرت سلسلة من التداعيات الاقتصادية والاجتماعية والهيكلية والقيمية في عقل المجتمع العربي وجسمه … كشؤون الإدارة الحكومية والمالية والضرائب والنقل والمواصلات وتطوير وسائل الري والزراعة الحديثة وتنظيم الملكية الفردية وزيادة فائض القيمة … وبرغم استفادة فئات معينة من أهالي البلاد ، إلا أن ثمن هذه التغيرات كان فادحا من ناحية معنوية وانتقائيا ، فتبلورت تكوينات … ونخب اجتماعية واقتصادية منتفعة … وكأن الذي حصل كان تطورا مشوها ومتعدد الوجوه .. (سعد الدين إبراهيم وآخرون ، 1996، ص/189- 234 ) وما دمنا في الحديث عن نمط الاستهلاك البذخي فقد ساعد على ذلك .. ظاهرة غلاء المعيشة ومدى ارتباطها بمعظم السلع مع الاستهلاك…لنرى ماذا سيحدث عند ارتفاع سعر إحدى(1/188)
السلع في زمن العولمة… ؟
إن غلاء ثمن إحدى السلع… يؤدي إلى ارتفاع أسعار باقي السلع والخدمات أو الحرف بدون مبرر ، بصورة يصعب معها تدارك المشكلة بالحل الفردي … نتيجة لارتفاع تكلفة المنتج المرتبطة بالأجور وتكاليف التسديد سواء بالإعلان أو بالدعاية أو بالعمولة ، بالإضافة إلى تكاليف المواد الأولية وتكاليف النقل ثم الضرائب ثم هامش الربح المركب ، حتى تصل السلعة إلى المستهلك … ثم هناك تغير سعر صرف العملة وزيادة الطلب وندرة العرض واحتكار السلعة …لأسباب اقتصادية .. أما الأسباب الاجتماعية فتتحدد في الزيادة في عدد السكان وتغيير نمط الاستهلاك الدائمي والموسمي وعادة المباهاة …( سعيد حارب وآخرون ، 1994 ، ص/93 -95) ... ان كل ذلك يحدث في غياب دور الدولة وتقلقل وضع العملة والعادات الاجتماعية ومنافسة السوق…(بسبب عولمتها وإزالة الحواجز حسب ما نصت عليه اتفاقية الجات ) – التشديد من عندنا – .(1/189)
فماذا تجدي العولمة ولدينا فوضى اقتصادية واجتماعية نتيجة لطول فترة الفقر والحرمان ، ومعايشتنا لنمط حياة من نوعية جديدة ، وتوفر سلع مختلفة ومغرية في الأسواق وسهولة تسييل المنتج ، وهناك الفخ والنشاط الإعلامي والإعلاني/ الاستهلاكي لما هو جديد ، ولمّا كانت المرأة هي إحدى الفئات الفقيرة والبائسة والمحرومة ، فتراها تذهب إلى الأسواق بشكل مسعور تريد التهام السلع والمنتجات التهاما ، وقبل ذلك نراها تهتم بالإعلانات التي يبثها التلفزيون والفضائيات وتقرأ المجلات والصحف ذي الصبغة التجارية /الإعلانية ، من هنا فهي كثيرة التردد على الأسواق وتهوى التنزيلات ، ناهيك عن أنها كثيرة التوقف والمشاهدة وشراء السلعة بعد أن تخرج روح التاجر من حلقه عند ( المفاصلة) ، أما الشريحة الأخرى من المرأة العربية هي الشريحة (البرجوازية الثرية) .. إذ تحيط سيدات هذه الشريحة نفسها بالخدم فيكتفين بالإشراف وينصرفن للتزين وتبادل الزيارات وإقامة المآدب ... والتنافس بشراء الثياب الفاخرة والمفروشات الثمينة والمجوهرات والحلي وأدوات الزينة … والنميمة… والسفر ويصطنعن الوجاهة والاستنفاخ والاستفزاز … انه تعويض وانعكاس لما يعانينه من النقص الثقافي والتعليمي الضحل الذي حصلن عليه .. ( بركات ، 1996 ، ص/ 87-101)… ناهيك عن الخواء الثقافي والاجتماعي ، بالإضافة إلى انتشار الفساد وإقامة علاقات عاطفية وجنسية موازية لحياتهن الزوجية ، بسبب انشغال أزواجهن بجمع الثروات وعقد الصفقات …!
وكيف يمكن للعولمة والحداثة أن تقضي على تقاليد وعادات مجتمع دستوره هذه الأمثال أو (بعضا منها) :
لا توخذ رأي المرة … ولا تتبع الحمار من ورة
ربي حية... ولا تربي بنية
الجار قبل الدار
الجيران... نيران
الحبس للرجال ... والصحيح أن الحبس للمجرمين والغوغاء وليس للرجال وان كان للرجال …أليس هناك حبس للنساء ...؟
خذ البيضة... ولو مجنونة
زوان بلادك... ولا قمح الغريب(1/190)
خذ المجنونة بنت العاقلة … ولا توخذ العاقلة بنت المجنونة
خير لا تعمل … شر لا تلقى
سخاوة الكف... بتغطي كل عيب
شعرة من ] …… [ الخنزير بركة
يوم على الدنيا … ولا ألف تحتها
هم البنات... للممات
الناس مع الواقف... ولو كان بغل أو حمار
النوم في سنين المحل... فايدة
إذا ماتت وليتك... من صفا نيتك
أبويا باعني... وجوزي اشتراني
إذا جيت من سفر... اهدي ولو حجر
إذا بدك تفضح زلمة... سلّط عليه مرة
اسأل مجرب... ولا تسأل طبيب
اهجر الأرض... ولا تبيعها
اقتل أمير... واسرق حرير
اللي ببلاش... كثّر منه
اللي ما بغار... بكون حمار
إن فاتك اللحم... عليك بالمرق
البنت إما جبرها... وإما قبرها
البلد اللي ما بتعرف حدا فيها... شمر ]……. [ فيها
كيف يمكن للعولمة أن تقضي أو تعالج ظاهرة الولائم وذبح العجول في الأعراس وإقامة الحفلات كنمط ( تقليد) من أنماط المجتمع ( العربي ) المهجّن… وكيف نقنع أنفسنا من مغزى إقامة المآدب والولائم بهدف الظهور ولكسب النفوذ والجاه والأكل بشراهة ودون رحمة أو حكمة ، وبهدف .. الانتقام اللاواعي … وكيف يمكن أن نتخلص من الأكل باليد وخاصة عند أكل ( الفت أو المنسف ) بشكل لصوصي واستلابي وسريع وبلقم كبيرة ( وكأننا ننهب )… وكيف نعالج التلصصية ( استراق النظر والبصبصة من نوافذ المنازل ليلا ) والشخصية واشتهاء زميلاتنا في الدراسة أو العمل … أو مع جاراتنا واشتهاء فتياتنا في الشوارع ، وكيف نتخلص من (الشهوانية -Eroticism ) والشبق الجنسي المترسّخ في عقولنا ، حتى تجاوزنا الحد وأقمنا الجنس مع البهائم ومع المحارم- Incest وبأساليب جانحة ، ناهيك عن التحرش الجنسي – Fortteurism واللواط والغلمانية …انه…التخلف والجهل … فهكذا مجتمع لا تفيد معه العولمة أو المعاصرة أو الحداثة ...انه مجتمع بدوي تحكمه الغريزة والعاطفة ، معبوده الجنس والمال والسلطة.....الخ ..( زيعور ، 1997، ص/104 - 115 ) .(1/191)
إن هذه النظرة إلى المجتمع العربي وتشريح سلوكه وقيمه في زمن العولمة ، يدل على أننا لن نستطيع لا مجتمع ولا أنظمة حكم ، أن نواكب ونساير التحديث والمعاصرة والتقدم ، فهي لا تلائمنا ونحن بهذه الحال ، فقبل أن نقلّد العولمة علينا أولا تغيير ونسف الذهنية العربية وقلع الثقافة التقليدية والعادات والتقاليد والقيم المتحجّرة وكبح جماح العاطفة والبحث عن مكان وموقع ودور لعقولنا …ولا نجزم إن قلنا أن الأغلبية (من المجتمع العربي ) لا تعلم أين يقع العقل هل هو في مقدمة رأسه أم بمؤخرته ، حتما سيقولون انه يقع في المؤخرة ( Backside) هذا إذا لم يقولوا انه يقع بين الفخدين ، فالمجتمع ..الذي يتسامح مع الانحراف ويشجّع الفوضى ويستهويها ويقدّس العادات الصنمية والتقاليد الوثنية البالية… فستكون البداية لموته… وخاصة وان السلطة الحاكمة التي لا تمارس ردع الانحراف… فهي… ممثلة له .. (قباني ، 1997 ، ص/ 88- 89 ) .
ان تداخل الحداثة والتقليد ليس جديدا على المجتمع العربي .. فمنذ الاستقلال السياسي وبعض عناصر التكوينات الاجتماعية الحديثة لجأت في لحظات الجدل الاجتماعي والواعي إلى استثارة الولاءات التقليدية في معاركها ، ونتج عن ذلك تباطؤ في التطور ثم توقف ثم انتكاس .. (سعد الدين إبراهيم وآخرون ، 1996 ، ص /235) … خاصة عندما فكرت النظم السياسية في بلورة الهوية القومية ، حيث كان هدفها إيجاد دولة قومية لتصير .. الأمة دولة وتصل إلى أمة - دولة .. إلا أن مشكلتها هو عدم وجود الدولة القومية بسبب …فوضى نشوء الدولة التي سبقت الأمة كما اسلفنا ، وليس العكس … وهذه الدولة التي سبقت الأمة هي من صنع الاستعمار الأوروبي … وهذا هو سر الدولة القومية العربية حتى يومنا هذا … وحتى في المستقبل .. (عبوشي ، 1980 ، ص/192) .(1/192)
إن المجتمع العربي يعاني مزيدا من التشتت والتنافر والعجز والتراجع وفقدان السيطرة وتفاقم الولاءات التقليدية المتناقضة ، وتبعية أنظمته التي تمارس القمع السياسي والاجتماعي والاقتصادي والثقافي ، واختراق سافر ومستمر للمجتمع المدني الذي تحول إلى مجتمع حكومي- دولاتي يعيش.. دوامة الخوف والرعب والرهاب الأمر الذي يخلق فجوة بين الواقع والحلم .. ( بركات ، 1996، ص/ 60-61)... وتزداد حينها صعوبة التمييز في كيفية الخروج من حالة التجزئة والتشتت والنزاع ... وتكون الفوضى إحدى نتاجات هذه الأوضاع .
إن هذه النظرة التشاؤمية والتي تطفو على السطح عند محاولتنا تسيير الاقتصاد والسياسة في المجتمع العربي ضمن قيمه وأخلاقه وسلوكه ، للحاق بالعالم - القرية - سيؤدي إلى عواقب وخيمة ، بدون إحداث تغيير جذري في الذهنية والتعليم والثقافة والقيم والأخلاق (والإنسانية) والتنشئة الأسرية ، والتخلص من الفقر والجهل والمرض ( الجسدي والنفسي والذهني والسلوكي ) ، وتغيير أنظمة الحكم الحالية التي تشابهت فيها الملكية الاستبدادية- الغيبية بالجمهورية – الديكتاتورية ، فالعالم العربي ككل دول العالم الثالث المتخلف سيستورد .. ثقافته ويستهلكها نظرا لفقر إمكانياته في الإنتاج الأصيل … وهو مجبر على ذلك وغصبا عنه لانتفاء حدود المكان والزمان واستحالة الانغلاق ولتبعيته من جهة ، وأمام ضحالة الإنتاج المحلي وخدمته للسلطة وزيادة لهيمنتها من جهة أخرى ، فهنا تكمن المشكلة … فأيهما سيختار- التشديد من عندنا - ..فالأول يمكن تطويقه وهو تنميط كوني- استهلاكي ...إلا أن الثاني هو الأخطر من حيث آثاره المستقبلية ..لانه يعمل على تعزيز وترسيخ وديمومة التخلف والفوضى والمرض ...وكذلك الأول ، فهذه هي معضلة ومأساة المجتمع العربي فأيهما سيختار….؟..(حجازي ، 1998 ، ص/ 71 ) .(1/193)
إن انعكاسات الفوضى العالمية ( العولمية ) على الوطن العربي ستنحصر في العيش ضمن أنماط من التفاهة والفراغ الحضاري والفكري والشعور بالإحباط واليأس والهم اليومي ، الأمر الذي يولّد المزيد من الانقسام والتشرذم .. في حالة تدخل النظام الحاكم والعقائد الدينية والاجتماعية في الصراعات الثقافية الجديدة ، ومواجهة مراكز القوى الإقليمية والدولية ومراكز النفوذ العالمي ، والتي أحكمت سيطرتها… عبر شركاتها العملاقة…على الأمور السياسية والاقتصادية والثقافية ، على افتراض أن هذه العوامل تضمن تحقيق التقدم نحو المستقبل كطريق افضل ..(محمد الأطرش وآخرون ، 1999، ص / 107 )..حسب تعليمات واوامر العم سام لنا بضرورة اجراء اصلاحات داخلية ، فماذا ستكون افرازاتها فيما بعد ...؟
خلاصة :- رغم محاولات من سبقنا من علماء وبحاثة ومتخصصين ، إلا أننا لسنا في موقع أيجاد وإصدار الأحكام والتعميمات والسبل الناجعة والشافية لعلاج أزمات وآفات المجتمع العربي، حيث جاءت نتائج أبحاثهم متضمنة الاستخدام الأمثل للموارد الطبيعية وتقوية النظم الاجتماعية والاقتصادية ، واللحاق بركب التقدم التكنولوجي وتحرير العقل العربي ووضع الخطط الشاملة ، وتطبيق سياسات تربوية والتمسك بالقيم وتقوية الحس القومي والتخلص من حالة الاغتراب والتجزئة واتباع أسلوب التطور التكيف البطيء ، وإنجاز الوحدة والقضاء على التبعية وتحقيق العدالة والحرية .. وذلك بالثورة الشاملة غير الحتمية …"ولكنها مصيرية ..(حليم بركات ، ص/447، 1996) … إن ذلك برأينا يعد استشرافا وأحلاما لا أكثر ولا أقل مع احترامي الشديد لاستاذي حليم بركات .
الفصل الخامس
المشكلات والظواهر الاجتماعية
Phenomena & Social Problems
1:5 – مفاهيمها وخصائصها :-(1/194)
- تجمع اغلب مصادر علم الاجتماع على ان المشكلة الاجتماعية – Social Problem هي مرض او علة او هم مزمن تمثل خللا وغير مألوف في النظام الاجتماعي ، وتؤثر في استقراره ، وتهم الغالبية العظمى من الناس .
- اما الظاهرة الاجتماعية –Social Phenomenon فهي نمط من السلوك والتفكير والاحساس تسود مجتمعا من المجتمعات ، يجد الافراد انفسهم مجبرين على اتباعها في عملهم وتفكيرهم وتؤثر فيهم ، وهي مفروضة عليهم .
وقد انطلق علم الاجتماع من تحديده وتعريفه للظاهرة والمشكلة الاجتماعية من منطلقات نظرية وعملية( حقلية- Field ) كما اوضحنا في الفصول السابقة ، وتتبع هذه المنطلقات لميدان متفرع من ميادين علم الاجتماع وهو ( علم الاجتماع التطبيقي-Science of Applied Sociology ) في تحديد البحث والدراسة والاهتمام ، على اعتبار انه العلم ان لم يكن الوحيد القادر على رصد ودراسة وتحليل وتفسير المشكلات الاجتماعية من خلال الظواهر الاجتماعية ، حيث تندمج من خلاله النظرية بالتطبيق ، ومن هنا نود ان نوضح للقارئ مدى العلاقة بين المشكلة والظاهرة منعا من أي التباس مفاهيمي بينهما .
ونوجز ما نود قوله ان المشكلات الاجتماعية لها علاقة مباشرة بالامن والسلام الاجتماعي (الاستقرار والثبات- Stability) ونعني بالثبات أي الاستمرارية وسيادة القانون والنظام العام ومدى رسوخ القيم والاخلاق المقبولة اجتماعيا وسلوكيا ، وما الظواهر الاجتماعية الا انماط تمثل خللا في النظام الاجتماعي وتؤثر في استقراره وتهدد استمراره .
واورد د. معن خليل عمر في مؤلفه الموسوم ( علم المشكلات الاجتماعية ) اكثر من ( 15 ) صفة وخاصية للمشكلات الاجتماعية ...( ص/ 18-19) ... وكذلك اوضح متى يمكن اعتبار الحدث او الظرف الاجتماعي يمثل مشكلة او علة او مرض اجتماعي ( ص / 24-28 ) وكذلك اورد المنطلقات النظرية التي تعتبر ان الحدث او الظرف هو مشكلة اجتماعية حسب وجهة نظر علم الاجتماع .(1/195)
ان المشكلة الاجتماعية نتيجة حتمية للتغيرات الاجتماعية التي تحدث في المجتمع سواء بتأثيرات خارجية كالحروب والكوارث وغيرها ، او بتأثيرات داخلية كالثورات والانقلابات السياسية والعسكرية ، او نتيجة تحولات ديمغرافية – سكانية سريعة ، او نتيجة لظهور مورد طبيعي جديد او نتيجة تأثيرات اخرى كالتكلس السياسي او التفرد النفوذي او العزلة الثقافية او بالعودة الى الماضي سياسيا او ثقافيا .
2:5 – خصائصها :- سنوجزها في (4 ) خصائص رئيسية كما في اغلب المصادر واهمها :-
انها عادية-Normality بمعنى انها موجودة وتصيب أي مجتمع من المجتمعات بصورة او بأخرى وفي أي فترة ، وهي متلازمة مع أي تغيير او تطور قد يصيب المجتمع .
انها حتمية- Determinative بمعنى انها مرتبطة بالبناء الاجتماعي لأي مجتمع كما اسلفنا ، وهي نمط مميز لأي مجتمع ، وخاصة من حيث البساطة اوالتعقيد في بناه الاجتماعية ، وهي تزداد بأزدياد تطور وتقدم المجتمعات وتعقيدها من حيث شكلها ولونها ، أي لا بد منها بشكل حتمي .
انها نسبية- Relatively بمعنى انها ليست مطلقة بل هي نسبية ، والسبب يعود الى مدى ثقافة ودين واخلاق وقيم وسلوكيات المجتمع التي وجدت به ، فهذه العناصر او العوامل تخفف من تطرفها وعموميتها وطغيانها ووطئتها وشمولها لعموم المجتمع .(1/196)
انها وظيفية- Functional بمعنى ان لها وجهان سلبي وايجابي ، فالوجه السلبي معروف ومشخص وهو جوهر القضية او المشكلة ، اما الوجه الايجابي لها فيمكن ان نوجزه بالمثل القائل : رب ضارة نافعة ، أي انها بقدر ما تشكله من اضطراب ووهن وخطورة وتفكك واخلال بتوازن البناء الاجتماعي ، فهي تعمل على تنمية روح التعاون والتضامن والعمل الجاد على حماية التواصل الاجتماعي ، واعادة النظر في اسباب الاخلال بتوازنه واستقراره من جهة ، وتبعث في المجتمع الحيوية من اعادة احياء وتطوير وتجديد وتعديل القوانين والتشريعات والتوجه نحو التنمية الشاملة من جهة اخرى .
3:5 – مصادرها واسبابها واثارها :-
ليس بالامكان تحديد اسباب ومصادر المشاكل والظواهر الاجتماعية ، فلكل مشكلة وظاهرة اجتماعية مكانها وفترتها التاريخية وهذا لاجدال فيه ، كما ان لها محيطها الفكري والثقافي ومؤثراته السياسية والاقتصادية ، الا ان د. معن خليل عمر ذكر ابرز مسبباتها وعواملها ( 18) في مؤلفه ( علم المشكلات الاجتماعية ، 1998 ، ص/ 229-230) وتبدأ من الفرد حسب نمط شخصيته ونفسيته وعقليته وثقافته وتنشئته الاجتماعية والاسرية والبيئية ( الجغرافية والطبيعية) وثقافته الفرعية المنحرفة وثقافة مجتمعه الكلي .(1/197)
هذه المنظورات التي ذكرناها هي التي اشار اليها المعلم ابن خلدون منذ اكثر من خمسة قرون ونيف ، لكن اغلب باحثينا ومتخصصي علم الاجتماع يتعامون عن هذه المعطيات والمنظورات الاساسية في تشخيص وتحليل وتفسير المشكلة والظاهرة الاجتماعية ، واول ما يخطون ويدلوا بدلوهم يبدأون بتمجيد وتفخيم علماء الاجتماع الغربيين ، وهذه حسب ظني ( عقدة نقص-Inferiority Comlex ) فما زالت هذه العقدة متأصلة فينا وبداخلنا ، ولا يمنع من ان ندرس ما جاء به الغربيون من نظريات واساليب تحليل ومقارنة ( أي ان نتبع التكنيك-Technique ) وهذا لم يكن من ابداع الغربيين انفسهم بل اختلسوه من المعلم ابن خلدون ، اما التفسير-Interperation فحتما سيكون مختلف لسبب بسيط ، وهو ان العينة المدروسة هو المجتمع العربي وليس المجتمع الغربي ، ولسبب ايضا بسيط وهو : اننا نقر ونعترف بأن ميدان علم الاجتماع لم يبرز ويتبلور الا بعد عصر النهضة الاوروبية وما افرزته ، وبعد الثورة الصناعية ونتائجها ، والقضاء على الاقطاع الاوروبي ، وظهور الرأسمالية – المركنتالية وما افرزته من تغييرات جذرية في المجتمعات الغربية ، وظهور الدول القومية والصراعات والحروب التي طحنت الغرب بشكل عام ، الامر الذي ادى الى نشوء وتقولب المجتمع الغربي الجديد ضمن المعطيات والمنظورات السالفة الذكر وغيرها ، فكان من الطبيعي ان توضع النظريات والمناهج والاساليب وطرق التحليل المناسبة لمعطيات القرن التاسع عشر .(1/198)
لا نريد الدخول في مناظرات ومتاهات الجدال حول هذه المعطيات التاريخية وافرازاتها غربيا ، لكن لو تعمقنا في المجتمع العربي هل سيكون هناك تشابه في المعطيات نفسها والمنظورات عينها حسب ما اطلعنا عليه التاريخ الاوروبي ...؟ بمعنى هل هناك تشابه بين المجتمعين ...؟ اذن كيف يمكن ان ننظر للمجتمع العربي بعين غربية ...؟ حتما سنكون في هذه الحالة مستشرقين ... اذن علينا ان ندرس الآلية الغربية وليس علينا الوصول حتما لنفس النتائج ... !
هناك اختلافات جذرية بين المجتمعين من جميع النواحي ويكفي ان نقر بأختلاف واحد فقط على سبيل المثال وهو نمط الشخصية ... فمن هنا ادرجت عامدا متعمدا فصلا عن الشخصية ولكن من منظور علم الاجتماع لأوضح للقارئ لا اكثر وعليه ان يقارن ، ولا ابالغ ان قلت اننا كعرب بحاجة ماسة اليوم الى علم اجتماع تطبيقي عربي لدراسة المشكلات والظواهر الاجتماعية التي تنخر جسد مجتمعنا العربي ، وذلك من خلال اكتساب ثروة معرفية – نظرية وعلمية في التفسير والتحليل والتطبيق ، وايجاد الحلول من منظور علم اجتماع عربي لأن مصادر مشكلاتنا وظواهرنا الاجتماعية تتلخص بـ :-(1/199)
الفرد :-Individuality ونعني الفرد العربي فهو السبب الاساسي في خلق المشكلات الاجتماعية ونتناول الفرد من منظور باثولوجي ( مرضي ) فمن منا لا يقر بأن الفرد العربي ليس مريضا نفسيا او عصبيا او جسديا او عقليا ...؟ من منا لا يعترف بأن الفرد العربي يعاني من عدم تكيفه مع مجتمعه وهذا اساس المشكلة الاجتماعية ....؟ من منا يتعامى عن انحرافات وعلل الفرد العربي بسبب سوء واضطراب النظم الاقتصادية والسياسية وغياب العدالة الاجتماعية والحريات العامة والخاصة والكبت الجنسي والقمع الفكري والقهر النفسي والاضطراب العقلي والانهيارات العصبية ، والتي تؤثر بمجملها على النسق الاجتماعي ...؟ اذا كنا نريد ان نضع ايدينا على علل وامراض مجتمعاتنا العربية علينا ان نتحسسها بيد عربية كما نتحسس الجسد المريض طبيا ، ليسهل التشخيص وبالتالي لنتمكن قدر الامكان من وصف الدواء والذي ينحصر في مثل حالة الفرد العربي وما يعانيه ، فهو حسب المعطيات اعلاه بحاجة على علاج جسدي ونفسي وذهني (فكري- عقلي) وعصبي ، واعادة تنشئة اجتماعية وسياسية أي ان علاجه من نفس دائه .
الفوضى والتفكك الاجتماعي :- وهذا العامل مرتبط اشد الارتباط بالمجتمع ثم بالفرد ، فالتفكك الاجتماعي يأتي عن طريق الاغتراب بجميع معانيه وتنوع الثقافات والمعتقدات وتباين الاصول الاجتماعية والانتماءات الثقافية والفكرية والسياسية ، ولهذا السبب ايضا اجملنا في بحثنا انماط ومستويات العلاقات الاجتماعية واوضحنا اثر الثقافة والتربية السياسية ودورهما في البناء الاجتماعي .
البناء الاجتماعي والثقافي :- ونعني بذلك ان المجتمع يعاني من خلل وظيفي مرتبط بالنظم الاجتماعية والبناء الاجتماعي والثقافي ، أي ان المشكلات الاجتماعية هي من صنع المجتمع نفسه ، وذلك من خلال نظمه وبناه الاجتماعية والثقافية التي وجد الفرد نفسه مجبرا عليها ، وصعوبة تكيفه معها امام التغيرات الاجتماعية .(1/200)
عدم مسايرة النظم الاجتماعية لتطورات المجتمع الحديثة .
الحروب ( السابقة وربما هناك لاحقة ) .
الاضطراب والاختلال الديمغرافي- السكاني كما حصل للاجئين الفلسطينيين عندما لجئوا الى الدول العربية المجاورة عام 1948 ، حيث احدثوا خللا سكانيا خاصة في الاردن ولبنان ، وما نراه اليوم في لبنان مثلا لهو اكبر مثال على ذلك وخاصة ما بين 1969- 1982 ، وكذلك تمركز الشيعة في جنوب لبنان والاكراد في شمال العراق .
ظهور تفاوت اجتماعي وحراك اجتماعي لفئة معينة على حساب الاغلبية المحرومة .
التغير الاجتماعي وهذا احد المصادر الرئيسية في ظهور المشكلات الاجتماعية .
تناقض نظام القيم الاجتماعية داخل البناء الاجتماعي مع التغيرات المستجدة .
الصراع بين المتطلبات والتوقعات الاجتماعية للمجتمع ، مع قدرات شريحة عمرية معينة كما حدث مثلا اثناء الترشيح لانتخابات الرئاسة الفلسطينية حيث برز الصراع بين ما يسمى بالحرس القديم والجيل الجديد في حركة فتح عام / 2005.
اما اثار المشكلات والظواهر الاجتماعية فسندرس ونحلل المجتمع الفلسطيني بتطبيق ما يسمى في علم الاجتماع بدراسة حالة من منظور ظاهرات اجتماعية ( فينومينولجي ) ونفس اجتماع .
دراسة حالة Case Study -
4:5- المجتمع الفلسطيني : ( دراسة فينومينولوجية – ظاهراتية ونفس اجتماع ) :-(1/201)
لا نود الاسهاب في ابراز وتحليل وتفسير المشكلات وانماط الظواهر الاجتماعية للمجتمع الفلسطيني ، لاننا بصدد اعداد دراسة عميقة ومفصلة ضمن البعدين التاريخي والانساني للمجتمع الفلسطيني خلال قرن ، الا انها تتشابه في عموميات الظواهر والمشاكل التي تعانيها مختلف المجتمعات مثل ظواهر ومشاكل الجريمة والانحرافات والطلاق ، والفقر والتفكك الاسري والبطالة والقهر الاجتماعي ، والواسطة والنفاق الاجتماعي – Social Flattery والعشائرية والشللية والقطيعية ، والمحسوبية والاقليمية والعنف بأشكاله المتنوعة ودرجاته المختلفة ، والسلوك العدواني والتسول والبغاء والتخريب والاعتداء على الممتلكات العامة والخاصة ، وبيع السلع المزيفة والمسروقة والاختلاس والسرقات والتزييف والبغاء واللواط وظاهرة العملاء ( التعامل مع العدو- Conniv)....الخ ، ولقد اوجزنا في هذه العجالة ما يهم القارئ ، آخذين بعين الاعتبار الجانب النفس- اجتماعي له ( للمجتمع الفلسطيني ) قدر الامكان من جهة ، ودراسة حالة للمقارنة بين التطبيق النظري والعملي ( الحقلي ) من جهة اخرى ، ونعترف ثانية اننا غير متخصصين في علم النفس ، ولكنها مجرد محاولة جادة وقاسية نوعا ما من جهة ، واعتراف ومواجهة مع النفس والذات الفلسطينية من منظور اجتماعي وليست من باب الترف الثقافي ، لما يعانيه المجتمع الفلسطيني من امراض وعلل ومشكلات وظواهر اجتماعية من جهة اخرى محاولين تطبيق ما جاء في الفصول السابقة علما بأننا اوردنا امثلة في سياق فصول البحث .(1/202)
1:4:5- السياق التاريخي- Historical Contexture :- ان المجتمع الفلسطيني يعتبر جزءا من المجتمع العربي وكغيره من المجتمعات ، له بناه ونظمه وتنظيمه وقيمه واخلاقه وسلوكياته وتراثه وثقافته الاجتماعية ، ومنذ قرن من الزمان وهو يتعرض لصراعات واحتلالات متعددة ولم يشهد في أي مرحلة او فترة زمنية عبر الخليقة ، ان حكم ذاته ضمن نظام سياسي متميز مثله مثل باقي الامم والدول والشعوب الا منذ عام 1994 ، وليس المجتمع او الشعب الفلسطيني الذي عانى من هذه الظاهرة ، بل اغلب الشعوب العربية وخاصة بعد زوال الوجه العربي عن نظام الحكم الذي ساد منذ بزوغ فجر الاسلام ، وخاصة بعد زوال الدولة الاموية ، ومع ان الدولة العباسية ايضا تندرج ضمن نظام الحكم العربي وتعتبر امتدادا له ، وشهدت منذ بداياتها الاولى نهضة شاملة في جميع المجالات العلمية والثقافية من خلال الترجمة والتراكم العلمي كما هو معروف ، الا انها عربية الوجه والشعار واعجمية المحتوى والمضمون ( كما قال المتنبي ) واستمر هذا الانحدار الى وقتنا الحاضر ، ودليلنا على ذلك هو لهاثنا وجهادنا ليلا ونهارا محاولين العودة الى الاصول والمنابع الاولى ، أي الى العصور التي كنا فيها عربا نبحث وننقب عن ثقافة وتراث وعلوم وحضارة وقيم وتقاليد كانت من صنع ايدينا لا من صنع وابتكار بني بويه والديلم والترك والمماليك والسلاجقة ودويلات الخدم ، وحينما نقول عرب لا نقصد الانغلاق الثقافي ، بل نعني بها اننا امة ومجتمع له تفرده وميزاته وحضارته امام الغرب والشرق سواء بسواء ، وهذا حقنا من ناحية انسانية ، وكما افردنا في الفصل الاول والثاني وحصرنا بدايات الفوضى والتخلف الذي اصاب المجتمع العربي ، واكملنا في الفصلين الثالث والرابع ما عاناه ويعانيه الانسان العربي جراء ذلك ، هنا لن نعيد اسباب ومصادر تخلفنا وفوضويتنا ثانية ، ولكننا سنكتفي بالمصادر والاسباب التي اوردناها اعلاه وسنبدأ مع المجتمع(1/203)
الفلسطيني بدراسة الحالة من عام 1967- 2005 ، اما ما قبل ذلك فسنتوسع به في بحث أخر قادم ، لذا ما يهمنا – ومنعا من اختلاط الامر على القارئ – تناولنا المجتمع الفلسطيني منذ حرب حزيران عام 1967 .
2:4:5- السياق الانساني والاجتماعي- Social & Humanity Contexture :- رغم التشابه الكبير بين المجتمع الفلسطيني والمجتمعات العربية في الظروف السياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية ، الا ان المجتمع الفلسطيني مر ويمر بظروف شديدة القسوة والوطئة على بناه الاجتماعية بشكل عام بعد نكبة 1948 ، والتي احدثت فيه تغيرات اجتماعية شملت مختلف نواحي حياته وبناه وقيمه ونظمه الاجتماعية والاقتصادية والثقافية وقلبتها رأسا على عقب ، الامر الذي اثر فيما بعد على بناه ونظمه جميعها بما فيها نظم علاقاته وطبيعتها وانماط حياته في ظل غياب نظام سياسي ، حيث اعتمد المجتمع الفلسطيني على ما تبقى له من العشائرية والعائلية التي تصدرت سلم بناه الاجتماعية واصبحت هي الاساس في تكوين انماط وانساق بناه لاحقا ، مما ادى الى بروز الصراعات الفئوية والشللية والمحسوبية والواسطة ، وانعكس ذلك على نسق قيادته الثورية والسياسية فيما بعد ، وحدد مساراتها في التنظيمات السياسية وتغلغلت في برامجها وتوجهاتها وفي استقطابها للافراد وخاصة بعد عام 1965 اما قبل ذلك فقد نتج ما يلي :-
تشوه ثقافي .
تأجيج الصراعات الاجتماعية وتحقيق المكاسب المادية وفقدان الثقافة المعنوية ببطء .(1/204)
بروز قطاعات واسعة من الطبقات الاجتماعية المسحوقة والفقيرة والتي فقدت الوطن وفرضت عليها مخيمات اللجوء ، واصبحت وقودا للثورة لكنها لم تشارك بصنع القرارات الحاسمة- Referendom ( كحق العودة-Homesickness ) ولا في بعض مستويات النضال او في القيادة السياسية ، فهذه خطوط حمراء لا يسمح بتجاوزها في ظل معطيات الوضع العربي والدولي ... لكن ماذا فقدت مقابل ذلك....؟ وماذا حققت من مكاسب معنوية ومادية استرضائية- Gratification...؟ انها ما زالت تقيم في المخيم وتتمتع بخدمات مجانية كالتعليم والصحة والاعفاء من الضرائب وبعض الامتيازات ، لكنها محرومة من الارض ( مسقط الرأس ) ، حيث اصبح ذلك عنصر اساسي من تراثها وقيمها .
الشعور بالعجز والقبول بالامر الواقع والرضى بهوية ورقم وكالة الغوث ، بل وتوارثتها الاجيال جيلا بعد جيل ، لكن هذا الحرص على وراثة بطاقة التموين قابله تراجع عن استعادة الوطن السليب ...والاكتفاء بالمخيم كوطن بديل .
رسوخ بعض انماط وظواهر اجتماعية وسلوكية ذي بعد فوضوي بسبب تشوه البنى الشخصية والذات الفلسطينية ، وما اصابها من امراض وعلل وكبت وقهر وقسوة وشعور بالذنب لضياع الوطن ، والشعور بالنقص امام العدو المحتل والمستوطن وخاصة في الحروب والمواجهات والاشتباكات ، بل والتماهي به ( التشبه به) واصاب التشوه آليات التنشئة الاجتماعية واسس ثقافته الهجينة واخرها ثقافة المحتل .(1/205)
ان هذه الاسباب وغيرها نشأت وما زالت تنشأ من ضعف ضبط القيم والمعايير الاجتماعية وعجز المؤسسات البنيوية الشرعية في امتصاص المشكلات ، والعمل على حلها كمشكلة البطالة مثلا حيث يؤدي ذلك بالناس الى البحث عن حلول بديلة سواء بالانتماء او بالانخراط فعليا للحركات الاجتماعية غير الشرعية وخاصة السرية او التعامل مع العدو- Traitors ، للخروج من محنتهم بعدما تبين لهم ان ذلك يبدو شبه مستحيل عبر المؤسسات الشرعية ، وذلك لأن احد مكونات النسق الاجتماعي في البناء الكلي للمجتمع تسيطر عليه قوة وفئة معينة ومغلقة امام الاغلبية ، مما سبب مشاكل اجتماعية وزاد ذلك من اعاقة المجتمع وشل الحراك الاجتماعي الرأسي ، ولم يكتفي فقط بالحراك الافقي ، بل ادى بالحراك ان يكون تحت سطح الارض ( حراك الى الاسفل) وذلك بسبب غياب القاعدة الثقافية التي ادت الى المزيد من التراجع والتخلف الاجتماعي ، باعتبار ان هذه القاعدة هي اساس التغير الاجتماعي ، ومما فاقم من حدة ما يسمى بالتراجع الاجتماعي هو نمط النظام السياسي الحاكم – القائد فهو من النسق المحوري – الاستبدادي والفردي المهيمن على جميع انساق البناء الاجتماعي للدولة – السلطة والمجتمع ، فصفات هذا الزعيم او القائد في بداية حكمه ستكون حتما زعيما تقدميا وخلاقا ومجددا ، وخاصة بعد معاناة المجتمع من احتلال طويل دام لاكثر من 27 عاما ، بالاضافة الى ان هذا المجتمع يشهد ولاول مرة في تاريخ وجوده قيام نظام حكم وطني ، الا ان الذي حدث بعد ذلك ونقصد مع مرور الزمن اصبح هذا الزعيم التقدمي والخلاق عقبة امام البناء الاجتماعي ، وخاصة فيما يتعلق بتقدم وتطور هذا المجتمع للاسباب التي ذكرناها في سياق الفصول السابقة وظهرت المشكلات الاجتماعية ، والانكى من ذلك ان هذه المشكلات ستبقى بعد رحيله كيف.......؟(1/206)
أن السلطة السياسية ومن اجل تثبيت دعائمها تتدخل بتحويل طاقات المجتمع لخدمتها وليس لخدمة المجتمع ككل ، وذلك مقابل مكافآت مادية ومعنوية باستخدام الإلهاء الجمعي- Collective Diversify..( كهّبة الأقصى مثلا أو ما سمي ببيعة الدم عام 2000) ، والقبول فيما بعد بوقف اعمال العنف واطلاق النار من قبل الجانب الفلسطيني … بلا قيد او شرط منعا من تدمير… المشروع الوطني من قبل اسرائيل ، بينما الشعب يتسول ويشحد لقمة العيش ، ويدفع ثمنا باهظا وآلافا من الشهداء والمصابين والمعاقين وتدمير الممتلكات نتيجة ، استمرار القيادة الفلسطينية بمواجهة مصطنعة مع اسرائيل ، وهي يعرف مسبقا نتيجة هذه الفعلة ، في محاولة ابتزاز اسرائيل وتحصيل مكاسب افضل مما عرض عليها في كامب ديفيد ، والتي كانت السبب الرئيسي في تفجر الانتفاضة حسب ادعائها ( القيادة) ، لكن رضوخها لتهديدات اسرائيل ( في بداية حزيران /2001) بلا قيد او شرط … ذلك يعني انها مستعدة لقبول ما هو أخس مما عرض عليها في كامب ديفيد في ايلول /2000 ؟ ألم يكن بأمكانها تجنيب شعبه ويلات وحماقات ما سمي بالانتفاضة..؟(1/207)
ان ذلك يؤكد أن الفرد والمجتمع معّرض لقوى دافعة وأخرى جاذبة حسب الميول والرغبات والمصالح ، فيتم استغلال هذه القوى من قبل الدولة واستثمارها في أيجاد وخلق ازمة من جهة وايجاد تركيبة طبقية تتلاءم مع مؤثرات المحيط الاجتماعي (البدائي) ، الذي عجن وطبع الفرد واثّر في عقليته وآلياته ، بحيث لا يستطيع التمتع بالاستقلالية السلوكية من جهة اخرى ، بالإضافة إلى أن أصول الطبقية تعود إلى .. ملكية الأراضي وراس المال والنسب والحسب والمنصب … لذا فان العلاقات بين الطبقات تتصف بالتناقض والتنافس والتفاوت .. ( بركات ، 1996، ص/ 164) … حيث تنطبق على مثل هذا النسق الاجتماعي نظريات البناء الوظيفي والتبادل الاجتماعي (للأدوار الاجتماعية ) …! وقد افرز ذلك النمط في التركيبة الاجتماعية العديد من الظواهر الاجتماعية والتي كان من نتائجها كما اسلفنا هو الانحدار الطبقي السريع نحو الهاوية ، واحد اسبابها هو الانتفاضة ( وعسكرتها لاحقا ) الامر الذي فاقم من تفشي الفساد والمحسوبية وانتشار الفقر والجريمة والمشكلات الاجتماعية وظواهر وعلل وامراض اجتماعية بسبب الهاء الناس بخلق ازمة ( وهي الانتفاضة) تتجه نحو الخارج ( اسرائيل ) .(1/208)
نلاحظ ذلك في نمط إعلانات الشكر والتقدير والعرفان .. للأخ … عضو المجلس التشريعي … الذي وظّف خبرته وحكمته الموروثة من علية القوم … في حل المشكلة مع آل … بشأن بيارتنا … حيث تمكّن النائب سليل الأصالة … أن يحقق العدل.. (الحياة الجديدة ، 27/5/2000، ص/1 )… إن هذا النمط من الإعلانات يعكس الذلة والمهانة ، ويضفي على المشكور صفات الحكمة وأصالة المحتد من اجل حل مشكلة بيارة ، وهذا طبيعي في غياب القانون والنظام الذي يرسخ العدالة والأمن للمواطنين ، والأدهى أن المشكور نائب في المجلس التشريعي والمنوط به سن وتشريع القوانين لا ترسيخ العرف العشائري ولفلفة القضية ، فاذا قلنا ان هذه الظاهرة وهي غياب القانون ليست من افرازات الانتفاضة وهذا مؤكد ( انظر لتاريخ القضية ) ، حتما ستكون من افرازات ما قبل الانتفاضة ، وهي غياب القانون والعدالة الاجتماعية وهذا شكّل احد العوامل الداخلية للازمة التي بدأت منذ فجّرت ( دائرة الرقابة العامة ) ازمة الفساد والاختلاسات والفضائح التي تبعتها .
لنأخذ نمطا أخر من صيغ الإعلانات التي تحمل صيغة مناشدة واستغاثة .. إلى معالي وزير الحكم المحلي .. ووزير البيئة ... ووزير الصحة... ووزير الزراعة … نناشد أصحاب المعالي على إنقاذنا وإنقاذ أطفالنا وأراضينا الزراعية من الخطر والدمار الذي يهدد صحتنا ويقلق راحتنا …نتيجة وجود المناشير ومعامل الطوب في مناطق سكنانا في بلدة …ولقد تقدّمنا بعدة شكاوي إلى بلدية …ولجميع الوزارات المختصة …وطرقنا جميع الأبواب ، ولكن دون جدوى للتخلص من هذا الجحيم …الذي يستفيد منه نفر قليل باستغلال الأوضاع من اجل الإثراء السريع على حساب صحة وراحة الناس .. ( الحياة الجديدة ، 10/5/2000، ص/1)..من هم النفر القليل المستفيد من هذا الجحيم ...؟ الجواب لدى السلطة الفلسطينية ومنتفعيها .(1/209)
إنها الفوضى بعينها وما هذه الإعلانات وغيرها في الصحف المحلية ( عربيا ومحليا ) إلا وتؤكد على غياب القوانين والنظام والانتظام وتفشي المحسوبية وانتشار الفوضى من جهة ، ودعم وتشجيع السلطة الحاكمة لأزلامها ومنتفعيها ومرتزقتها من جهة اخرى ، على حساب صحة وراحة باقي الناس والتي تعكس تمييزا واستهتارا واضحا في التركيبة الاجتماعية للمجتمع العربي بشكل عام والفلسطيني خاصة ، وليس في مناطق السلطة الفلسطينية فحسب ، بل وفي جميع أنظمة الحكم العربي ، حيث ينطبق على هذه المحصلة النموذج الإقطاعي الذي ساد أوروبا في القرون الوسطى ، إذ كان هناك فئتان هما السادة الإقطاعيين وفئة العبيد ، فاذا كان الفلسطينيون مبتلين بأحتلال اسرائيلي ، فأن المجتمع العربي مبتلي بأنظمة سياسية مشابهة ، والاثنان لهما توجه ووجه وموجه واحد .(1/210)
بعد زوال الزعيم فان الوضع يبقى كما هو لأن هناك منتفعيه وازلامه وعبدة صنمه من بعده متمسكون بمصالحهم ومحافظين على مكاسبهم وزيادة ثرواتهم ، ولا يريدون الاستفادة من ( الاصلاح ) وبوقف الانتفاضة والقضاء على الفساد والتفكك الاجتماعي وتشوه النظم الاجتماعية ، ولا يريدون اعادة على الاقل ترميم البناء الاجتماعي ، فنشب صراع ضاري بين هذه الفئات التقليدية بسبب تآكل ثقافاتها وبين الفئات التي تطالب بالتجديد والتقدم والاصلاح وايجاد حلول للمشكلات والظواهر الاجتماعية ، واعادة بناء ما تهدم من نظم وقيم وتشوهات في البناء الاجتماعي ، وبالتالي اعادة ما فقده المجتمع من قيم وتراث وحرمان من العدالة الاجتماعية ، كل ذلك وغيره بسبب تسارع متطلبات المعايير الاجتماعية الجديدة وغير المنسجمة مع العلاقات والتنظيمات الرسمية المبنية على المصالح الفردية والمغلقة امام الاغلبية ، وهنا سيزداد التحلل الخلقي ( الاغتراب ) فيصبح ارتباط الفرد بمجتمعه ضعيفا بل وغريبا عنه ومتأثرا بالمادية ، ويصيبه السعار والاستكلاب فينحرف خلقيا وادبيا ، وترتفع معدلات الطلاق والجرائم والفساد والسطو والجريمة والانتحار والانحرافات والجنح وتعم الفوضى والتخلف والجهل .(1/211)
ان ما سردناه لا يتعلق بالاوضاع الاقتصادية ، لذا فالازمات الاقتصادية حتما ستكون افرازا طبيعيا ، حيث يعم الكساد وتزدادا البطالة وخاصة عند نشوب ازمات وعنف مسلح مع عدو خارجي ن حيث يحدث تفاوت اجتماعي واقتصادي داخل المجتمع ( كما هو حاصل في مناطق السلطة الفلسطينية ) والتي يخوض مجتمعها ما يسمى ( بالانتفاضة) وهي في حقيقتها عبارة عن عنف مزدوج من الخارج على الداخل ، أي من قبل اسرائيل على المجتمع الفلسطيني وليس على السلطة الفلسطينية ، والدليل ان البناء الاجتماعي للسلطة كنظام ما زال قائما ، وهذا ليس بسسب دعم والتفاف شرائح المجتمع الذي يتعرض للعنف ، بل بسبب عامل خارجي وهو الدعم المادي القادم من الغرب لتنفيذ المشروع الامني لاسرائيل وللشرق الاوسط الجديد - وهذا ايضا ما قصدناه في بداية حديثنا عن الكيفية التي تشكّل فيها النظام السياسي العربي - الامر الذي ادى الى تفاقم الفقر وتفكك العلاقات في نظم وانساق البناء الاجتماعي للمجتمع ، وما الفئة المهيمنة على مقاليد الحكم الا الوجه الآخر للعامل الخارجي الذي سبب هذا الحطام فالتقت مصالح الطرفين ، طرف يريد تحطيم البناء الاجتماعي وافنائه وهي اسرائيل ، وطرف اخر يزداد ثرائا وهو مستفيد من ديمومة الانتفاضة - من اجل ايصال المجتمع لوضع عقله في رأسه ( وليعقل ) - ولا يوافق على وقفها لخوفه من فقدان المصالح والنفوذ والسلطة والقوة والتميز والاحتكار ، مقابل الاغلبية الساحقة من شرائح المجتمع التي لم تجد ما تقتات به ، الا ببيع حلي نساءها وامتعة منازلها وكل ما يصلح للبيع او الرهن ، امام الغلاء الفاحش والضرائب وتكاليف العلاج واسعار الكهرباء والتعليم وتوفير المواد الضرورية للعيش ، وانتشار الجهل والامية والخرافات وافرازات المشاكل والعلل الاجتماعية ، وبالتالي انتاج شخصية مريضة نفسيا وجسديا وعقليا وعصبيا ، ادى ذلك الى ظهور الحركات الاجتماعية والعلاقات الجماعية ذو اشكال(1/212)
متعددة كالحشود والغوغاء والجماعات القطيعية .
3:4:5-منطلقات الاحتلال الاسرائيلي في ترسيخ المشكلات والظواهر الاجتماعية :-
ان سياسة الاحتلال الاسرائيلي حينما اقترحت احداث تشوهات ومشكلات وظواهر اجتماعية مدمرة للمجتمع الفلسطيني اثناء وبعد فترة الاحتلال ، كانت تدرك نتائج ما هي مقدمة عليه وذلك من خلال ادارتها للحياة اليومية لسكان المناطق الفلسطينية المحتلة منذ عام 1967 ، وكذلك بما تحصل عليه من توصيات وتوجيهات من قبل اجهزة الامن والمخابرات ومطابخ علم النفس وعلماء الاجتماع وعلم الاجرام والبيولوجيا ، وليس بمستغربا ان استعانوا بخبراء علم الحيوان , ومن حسن حظ اليهود ان الفلسطينيين كانوا تحت ايديهم وكأنهم فئران تجارب بهدف خلق مشكلات اجتماعية وايجاد ظواهر اجتماعية تهز اركان المجتمع الفلسطيني وتشويه ابنيته ونظمه وقيمه وليس بدافع تهويدهم ، فاليهود ليسوا بحاجة لامثال هؤلاء الغوييم والاوباش والغوغاء والسفلة ( والحيوانات ) لتهويدهم – حسب نظرتهم ووصفهم للعرب والفلسطينيين خاصة - وان نفذوا مثل هذه المخططات ( مثل النفي والابعاد ) في مراحل سابقة الا انهم تراجعوا بعد ان لمسوا ان سياستهم هذه كانت تزود المنظمات الفلسطينية بوقود بشري ايام كان هناك ثورة فلسطينية من جهة ، ونتيجة لتراجع علاقات اسرائيل العامة مع الدول الاوربية والقوى الدولية من جهة اخرى ، فقد كانوا يهدفون الى الاستيلاء على الارض التي يقيم عليها هؤلاء الاقوام وتخليصها من ايديهم ، وهذا ليس بالعمل السهل وان اتبعوا اساليب مختلفة ، بل وتفننوا بها من اجل ذلك الهدف ، ولكن القضية كانت اعقد مما تصورت اسرائيل ، على اعتبار ان الفلسطينيين كانوا بنظر العالم شعب واصحاب وطن ولهم ارض ولهم تراث وقيم ونظم اجتماعية وتاريخ ومقومات ما نسميه اليوم بناء اجتماعي وعلماء وخبراء ، بمعنى ان العالم لا يمكن ان يتعامى عنهم ، رغم انهم اصبحوا لاجئين ونازحين خارج وطنهم(1/213)
فيما بعد ... فكيف العمل مع مثل هذه الحالة من وجهة نظر اسرائيل للاستيلاء على هذه الارض ( ارض الميعاد – Promised Land) من اجل تحقيق الحلم اليهودي وهو ارض اسرائيل الكبرى ...؟ لنكن بمكان اليهود فماذا كنا سنفعل...؟ ومن اين سنبدأ....؟ لا اظن ان العرب لديهم الجواب ، لا الآن ولا بعد 1000 عام ...! لسبب واحد ، لانهم لا يملكون تلمودا وتوراة تغذي عقولهم بالافكار الجهنمية والتي يعجز عنها آصف ( كبير الجن والشياطين ) وثانيا ولأن العرب ليسوا بارعين بعلم النفس وليسوا بمخترعيه ولم ينجبوا امثال فرويد ، ولم يحللوا ما يسمى بالشخصية ومكوناتها وامراضها وابعادها ويعرفوا مكنوناتها واخيرا لم يبتكروا علم نفس - الاجتماع .
بهذه التوليفة بدأ اليهود ، وبهذه الاطر استعانت السياسة الاسرائيلية لاثبات وتحقيق هدف اولي ورئيسي وهو محق وتشويه ما يسمى بالشخصية الفلسطينية ثم التغلغل الى داخلها وتحليل انماطها وكيفية التفكير والنظر للاشياء ، وكيفية الحكم عليها... ؟ ثم ماذا وكيف تفضل الذهنية الفلسطينية ان تعامل... ؟ وهل يمكن ترويضها... ؟ وبأي اساليب... ؟ ثم كيف يمكن الوصول الى النخاع الشوكي ( للاسرة او العائلة ) والتلاعب باساليب تربيتها وتنشئتها الاجتماعية... ؟ وما هي انماط المجتمع الفلسطيني وتركيبته الاجتماعية والاقتصادية والثقافية... ؟ وكيف يمكن التعامل مع عقلية وذهنية وثقافة الفلسطيني الفلاح (القروي ) والفلسطيني البدوي والفلسطيني الحضري والفلسطيني اللاجئ والفلسطيني النازح والفلسطيني ابن الضفة الغربية والفلسطيني ابن قطاع غزة ... ؟
من هنا بدأ المخطط واجريت التجارب فتحقق النجاح في بعضها وفشلت في البعض الاخر ، فتم التعديل والحذف والاضافة مع المراجعة والتصحيح ، وبدات في ايجاد ظواهر وعلل ومشكلات اجتماعية لجميع انماط وشرائح المجتمع الفلسطيني ، والذي هو في الاصل منهك ومشوه وهجين نتيجة السيطرة عليه منذ عام 1948-1967 .(1/214)
بدأت مثلا بظاهرة الكذب المستفحل في جسم النسق الاجتماعي الفلسطيني وغذته وشجعته حتى اصبح قيمة ومن اخلاقيات المجتمع الفلسطيني ، وهي تعي ذلك تماما وهذا ما تريده للفلسطينيين بين بعضهم البعض ، لكن حينما يتعلق الامر بأمن دولة اسرائيل والتعامل مع اليهود كأفراد بشكل خاص ، فانهم كانوا يوصون الفلسطيني بالصدق وقول الصحيح ، لأن اليهودي والمحقق الاسرائيلي يعي تماما ان الفلسطيني سيكذب وان البذرة قد اثمرت ، وهنا يصبح الانسان الفلسطيني بشخصيتين متقلبتين ومختلفتين - Splitting يعيش بواحدة مع العقلية اليهودية والاخرى يعيش بها في مجتمعه الذي استفحلت فيه هذه الظاهرة واصبحت مشكلة اجتماعية ثم ترسخت كقيمة وما زالت ، وبسبب مرض الشخصية الفلسطينية اصبح الفلسطيني يرى ان اليهودي هو اصدق واوفى ، بل وادق من أي مخلوق اخر من حيث المواعيد ، واصبح الفلسطيني يتفاخر بشخصية هذا اليهودي من حيث مواعيده وايفائه بما يقول ، وان اليهودي عكس العربي تماما ، ومن هنا ترسخت- Pentration الشخصية اليهودية في خلايا فكر وعقلية وذهن العربي ، بل واصبح يتمثل ويتقمص هذه الشخصية القدوة ، ويحتقر الشخصية العربية لانها رمز الكذب وعدم الاخلاص ورمز التحايل والتملص ، وطبعا كان ذلك الحكم من وجهة نظر اسرائيلية ، وسيبدأ العربي بعد ذلك بتقليد طريقة الحديث والاكل والملبس والمشي ووضع النظارات فوق مقدمة الرأس ، بل والتكلم ببعض الكلمات العبرية بصورة مضحكة ومزرية ، ناهيك عن التصرفات والسلوك وحركة الايدي ونظرات العيون اثناء الحديث وتدخين السيجارة وقيادة السيارة .....الخ ...نلاحظ هنا ان هذا العربي تقمص شخصية اليهودي ماديا ومعنويا أي انه تشربها- Imbibition واستدخلها الى عقليته ، واستبدل عناصر الثقافة الفلسطينية (التراث ) بعناصر الثقافة الاسرائيلية ، وهنا يبدأ ما نسميه بالتغير الاجتماعي الذي يخلق مشاكل وظواهر وعلل اجتماعية في المجتمع الفلسطيني .(1/215)
ما نقصده - من توصيات وتوجيهات اجهزة الامن والمخابرات ومطابخ علم النفس وعلماء الاجتماع وعلم الاجرام والبيولوجيا ، وعلم الحيوان - هي الكيفية ووصف الآلية للسياسة الاسرائيلية في تشويه المجتمع الفلسطيني ، بغرض محق الثقافة الفلسطينية وتشويهها وابراز المجتمع الفلسطيني على انه مجتمع هجين ومسخ ومشوه ، وليس له جذور ثقافية تنبع من ادعاءاته على انه صاحب الحق التاريخي في هذا الوطن وهي فلسطين ، التي منحته هويته وتراثه وثقافته وقيمه واخلاقه ، وحينما يدّعي الفلسطيني بهذا الحق ، يواجه بفقدانه لعناصر ثقافته التي ليست لها علاقة بوطنه ، وان هذه الارض لاصحاب الثقافة السائدة والقائدة وهم اليهود .
هذا مثل بسيط وهو ظاهرة الكذب وما احدثته ، قس على ذلك ظواهر ( بالالآف) مثل :-
ظاهرة الزواج واقامة الاعراس في يوم السبت وليس يومي الخميس او الجمعة كما هو معتاد .
ظاهرة تناول الاطعمة وشرب الكوكا كولا او أي مشروب غازي اثناء السير في الشوارع او على الارصفة ( اجتماعيا ودينيا وادبيا هذه عادة مكروهة حسب العرف الاجتماعي ) .(1/216)
ظاهرة تقليد قوات الامن الفلسطيني من حيث اللباس والمشي وطريقة حمل الاسلحة سواء باليد او وضعه على الخصر، ووضع البريه ( الطاقية ) على الكتف ووضع النظارات على مقدمة الراس تماما مثل قوات جيش الدفاع الاسرائيلي وقوات الامن والمخابرات الاسرائيلية ، والتمثل والتماهي بجلاده الذي يرمز له بالقوة والحنكة والسيطرة والسوبرمان ، فهو يريد ان يكون مثله لسبب بسيط وهو ان ذلك ينم عن مرض نفسي وعقدة نقص وضعف ، ويعكس مدى الاذلال وفقدان الكرامة والشرف الذي يحس به هذا الانسان في شخصيته ، ويريد ان ينتقم من مواطنه الفلسطيني بسبب الاحساس بالذلة والظلم الذي وقع عليه اثناء فترة الاحتلال ، ويريد اليتخلص من هذه العقدة المذلة التي احدثت شرخا في شخصيته ، وسببت له جرحا وانثلاما ومرضا ذهنيا ونفسيا وعصبيا وانهاكا جسديا وربما عقليا ، والدليل على ذلك ان هذا الفلسطيني يحس بالنشوة والكبرياء والزهو امام مواطنه تماما كما كان يفعل الجندي الاسرائيلي ، وهو بمثل هذه الحالة المزرية لا يدري انه بائس وتعيس ومريض وانه بحاجة الى تنظيف وعلاج نفسي – عقلي وعصبي فوري قبل تجنيده .
هناك الالاف من الظواهر والعلل والامراض الاجتماعية كما اسلفنا ، والتي تعاني منها مفاصل ونظم وقيم ، ومؤسسات تعليمية وثقافية واجتماعية وحتى السياسية وابنية المجتمع الفلسطيني ، وهذه الظواهر والعلل والامراض والمشكلات هي عبارة عن فيروسات كامنة تفعل فعلها كما تفعل بالحاسوب ، فكلما ادخلت عليه أي برنامج او نظام او تجديد او برمجة او استخراج معطيات ، فستكون معطوبة وتالفة وستفسد مدخلاته ايضا لسبب بسيط وهو :-(1/217)
لنسأل الانسان الفلسطيني وهو على الحواجز العسكرية المفروضة- Military Checkpoints-Roadblocks بين المناطق والمدن الفلسطينية كيف يتعامل معها...؟ وكيف يلتف من حولها عبر ما يسمى بالطرق الالتفافية- Detour Roads ..؟ رغم انه على مرأى من جنود الحاجز وبأمكانهم ارجاعه او قتله او اصابته بالرصاص ، لم يقصد الاسرائيليين بوضعهم الحواجز واجبار الفلسطيني على الالتفاف من حولها، بل اتباع الاسلوب الالتفافي- Convolution التي لها علاقة بتلافيف الدماغ وترويضه للتعامل مع الامور المادية والمعنوية وتعويده على ذلك ، بل وترسيخ هذه الظاهرة في نفسيته سواء بقي الاحتلال ام زال ، لأن وجود الحواجز سببه توفير الامن حسب ادعاء اسرائيل ، ولمنع دخول الانتحاريين الى داخل المدن والمستوطنات الاسرائيلية ، فاذا كان الهدف منها هو امني فلماذا وضعتها بين المدن والقرى في المناطق الفلسطينية ...؟
ثم ان سمح الجنود الاسرائيليون – للفلسطيني- بالمرور عبر هذه الحواجز كيف يكون شعوره ...؟ وماذا يقول لهم وهو متجه نحوهم.. وبأية لغة سيحييهم...؟ وماذا يقول للجنود اثناء اخراجه لبطاقة هويته...؟ وبماذا يفكر اثناء ذلك ....؟ وان تصادف وعبر الحاجز ماذا سيقول للجندي الاسرائيلي ...؟ وهل ذلك سيغير من نظرته وما ترسّخ بذهنه عن هذا الجندي ( العدو) او الذي كان عدوه قبل ثوان ...؟ وهل فعلا هذا هو الجندي الاسرائيلي الذي يقتل الشباب ويقنص الاطفال ويهين الناس ...؟
اعتقد ان القارئ سوف يستنتج الاجابة من خلال الاسئلة التي اثرناها ان اعاد القراءة السابقة... بشرط ان يتقمص شخصية الفلسطيني ، ويعيش حالته وذهنيته ونفسيته وعقليته .(1/218)
اننا لا نخمن ان هذه العلل والامراض بمجملها هي من فعل او من اثر سياسة الاحتلال الاسرائيلي فقط ، فهناك النكبة عام 1948وما احدثته من تغيرات كبيرة ، وهناك اثر النظامين ( الاردني والمصري ) اللذين سيطرا على مجتمع ما بعد النكبة في الضفة الغربية وقطاع غزة من عام 1948-1967 ، وهناك الاحتلال الاسرائيلي من 1967-1994 ، واخيرا اثر السلطة الفلسطينية من 1994 – ولحد الآن ، فهذا ما قصدناه بوجود فيروسات كامنة ومتراكمة ، حيث شهد المجتمع الفلسطيني تغيرات جذرية وفجائية في جميع انساقه وبناه ومعاييره الاجتماعية وشهد تحولات ديمغرافية متكررة نتج عنه تفسخ واضطراب وتفكك اجتماعي .
كان طبيعيا ان يعيش الفلسطينيون بعزلة وانكفاء وقلق وانكماش عشائري وعائلي ، في ظل هكذا اوضاع وظروف وانعدام الامن وتأمين سبل عيش كريم وفي ظل عدم وجود نظام سياسي ( كيان او دولة ) من جهة ، وتفشي الكساد والبطالة والفقر والعنف الاسري والعنف المسلح اتجاه الاحتلال الاسرائيلي من جهة اخرى ، ويعانوا الحصار في ظل ضياع وفوضى وتعصب وذاتية واستذئاب- Lycanthropy وانانية مفرطة واحيانا (نسبية ) ، لان هناك ما زالت فئات ملتزمة وواعية ومتمسكة بثوابتها العربية والفلسطينية والثقافية واصالتها الوطنية والاجتماعية ، الامر الذي يجعلنا نعيش يومنا على امل ان تتسع وتنمو وتكبر هذه الفئة وتشكل نواة طليعية لاعادة ما تهدم وتهشم من بناء ، وتشوه من قيم واخلاق ونظم اجتماعية .
نود ان نتساءل هنا ونقول :- اين كانت المحددات والمحكّات التي من شأنها ان تحدد المعالم ، وتنذر بوجود مشاكل وامراض وعلل اجتماعية وبالتالي تصدر تحذيراتها وخاصة بعد عام 1994 ...؟ واين كان دور الدين ووسائل الاعلام والمؤسسات التربوية والتعليمية والقانون او حتى الذين يسمون انفسهم رجالات ووجهاء الاصلاح او المخاتير ....؟ الجواب لربما لاحظه القارئ في الفصول السابقة .(1/219)
ان الذي نود ايضاحه هو ان الفرد الفلسطيني لم يزل فاقدا بصيرته في ايجاد معايير ومنظمات اجتماعية توجه سلوكه ، وفشل بحسم الصراع المستفحل بين قيمه وعناصر ثقافته التقليدية من جهة ، وعناصر الثقافة الجديدة الغازية والموجهة من جهة اخرى .
الاحباط واليأس وفشله ايضا في عدم ايجاده لبدائل لما ترك واهمل من قيم وسلوك وخاصة قيم الوطن والارض السليبة التي طرد منها وعجز عن استرجاعها لحد الآن .
10- تراكمات متنوعة من العلل والاوهان الاجتماعية والتنظيمية في العلاقات والبنى والنظم الاجتماعية غير السوية ، والتي ما زالت تقف حائلا امام تطوره وتقدمه او حتى امام احداثه لأي اصلاح ، لان ذلك يتطلب موافقة ورضى الهيئات الاجتماعية الواعية لمشكلاتها من جهة ودعم وحماية من قبل السلطة الحاكمة ، وبدون ذلك يستحيل احداث أي اصلاح او تغيير او بناء .
11- ظاهرة العملاء :- هي من اخطر الظواهر التي يعاني منها المجتمع الفلسطيني لكونه يجاور كيان مغتصب ومحتل وغريب ، فأصاب بعض انساقه حالة اغتراب - Alienation وهي التحلل من الاخلاق والاعراف والقيم والمعايير الاجتماعية , اما لو كان هذا الكيان عربيا لأطلق على هذه الظاهرة التجسس لصالح دولة معادية ، هنا نسأل القارئ : ماذا يستنتج من هذا الترابط في المسميات ...؟ الا يوحى للذهن بأن النظام العربي عدو للنظام العربي الاخر كما هي اسرائيل عدوة ...؟ اذن هذا يثبت صحة ما تحدثنا عنه سابقا ، بأنه لا فرق بين سياسة الاحتلال الاسرائيلي تجاه الشعب الفلسطيني وسياسة الانظمة العربي تجاه بعضها البعض او اتجاه شعوبها وافرادها .(1/220)
*- ونود ان نوجه عناية القارئ ولمزيد من الفائدة ان ينظر في المصادر المدرجة ادناه لاننا لم نرد اجتزاء وتشويه ما يدعم بحثنا ويؤيد وجهة نظرنا ، ولتكون الفائدة اعم واشمل من جهة ، واحتراما لجهود زملائنا واساتذتنا من جهة اخرى بالاضافة الى الاستعانة ببعض الدوريات والاصدارات والوثائق التي تلقي المزيد من الضوء :-
د. صبري جريس ، العرب في اسرائيل ( باللغة الانجليزية ) ، ط/1 ، نيويورك ، 1976 .
د. عبد الوهاب المسيري ، الايدولوجية الصهيونية : دراسة في علم اجتماع المعرفة ،( الفصلين : الخامس والتاسع ) ، ط/1 الكويت ، 1992 .
د. عزيز حيدر ، الفلسطينيون في اسرائيل في ظل اتفاقية اوسلو ، ( الفصل الاول ) ، ط/1، بيروت ، مؤسسة الدراسات الفلسطينية ، 1997 .
المجتمع الفلسطيني في غزة والضفة الغربية والقدس العربية ، تأليف جماعة من الباحثين الفلسطينيين والنرويجيين ، بدعم من مؤسسة فافو النرويجية ، ط/1 ، مؤسسة الدراسات الفلسطينية ، 1994 .
الاحزاب السياسية في الضفة الغربية في ظل النظام الاردني ( 1949-1967) ، تعريب خالد حسن ، ط/1 ، مطبعة الرام / القدس ، 1988 .
جذور الوصايا الاردنية ، د. سليمان بشير ، ط/1 القدس ، 1980 .
تواطؤ عبر الاردن ( بالانجليزية ومترجم ) ، يوسي ميلمان & دانييل رفيف ، صادر عن مطبوعات دهام موسى العطاونة ، ط/1 ، 1989 .
د. ماهر الشريف ، البحث عن كيان ، ط/1 ، مركزالابحاث والدراسات الاشتراكية في الوطن العربي ، 1995 ، نيقوسيا / قبرص .
شاؤول ميشال ، ضفة غربية / ضفة شرقية ( بالانجليزية ) ، ط/1، مطبعة ييل ، 1978 .
10- اوريل دان ، الملك حسين وتحديات الراديكالية العربية ( بالانجليزية ) ، ط/1 ، مطبعة اكسفورد ، 1989 .
11- هاني الحوراني ، التركيب الاقتصادي والاجتماعي لشرق الاردن ، ط/1 ، مركز الابحاث الفلسطينية ، بيروت ، 1978 .(1/221)
12- ماري ويلسون ، الملك عبد الله وبريطانيا ونشأة الاردن ( بالانجليزية ) ، ط/1 ، جامعة كمبرج ، 1986 .
الفصل السادس
الدين ومواجهة الظواهر والمشكلات الاجتماعية
من قام يهتف بأسم ذاتك قبلنا من كان يدعو الواحد القهارا
عبدوا الكواكب والنجوم جهالة لم يبلغوا من هديها انورا
ندعوا جهارا لا اله سوى الذي صنع الوجود وقدر الاقدارا
اذا الايمان ضاع فلا امان ولا دنيا لمن لم يحي دينه
ومن رضي الحياة بغير دين فقد جعل الفناء لها قرينه
محمد اقبال
وما استعصى على قوم منال اذا الايمان كان لهم ركابا
احمد شوقي
1:6 – مقومات الدين The Religion-:-
بداية اود ان انوه للقارئ بأنني ساتناول دور الدين بشكل عام لكونه احد اهم النظم الوظيفية في البناء الاجتماعي في مواجهة الظواهر والمشكلات الاجتماعية من جهة ، ولكونه يشمل على مكونات ومقومات تغطي مجالات :-
العقيدة – Credo –Principle - Tenet :- والتي تهدف الايمان المطلق بالله - Fideism .
القوانين العامة – Common Laws :- التي تغطي كافة مناحي الحياة وتحقق العدالة والمساواة والتسهيل على المؤمنين وتحقق المصلحة العامة .
الاداب – Decency :- التي تعمل على تقوية الشخصية وتهذبها وتنميتها وتحدد معالمها من خلال العلاقة المرجعية التي تحدثنا عنها في الفصول السابقة ، وبالتالي تنمي الروح الجماعية للمؤمنين من خلال النهج العقيدي .
العبادات –Cult- :- والتي تأمر بالطاعة المطلقة والخضوع التام للاوامر والنواهي وتهذّب الخلق وعدم تجاوز الحدود بشكل عام ، حيث جميعها تعمل على تحرير العقل وتشجيع العلم وتسمو بالروح وتنمي الشخصية وتحقق المصالح ، والدين الاسلامي بشكل خاص من خلال مكوناته الاربعة السالفة ومنعا من الحساسية وسوء الفهم لدى اصحاب الديانات الاخرى من جهة ولاننا سنتناول باقي الديانات الاخرى بشقيها السماوي والارضي في جزء ثاني .(1/222)
ان الاسلام اليوم يتعرض لابشع هجمة ظالمة ممن يسمون - بالمحافظين الجدد - وانا لا ادري لماذا يسمون هكذا .. فالمفروض ان يسموا الشياطين الجدد سواء في الغرب او في الشرق والذين يطلق عليهم – المتغربنين - ومن قبل ادعياء الاسلام واقزام الاممية وهراطقة الالحاد والمرتدين والصهاينة ، الذين تجاوزوا الحد وحان ردعهم ، من باب ان لدينا ديننا ولديهم دينهم وهذا لا يعني ان لا يطلع الآخرون على الديانات ونحن كذلك ، والا سمي ذلك بالانغلاق الثقافي والتعصب والتحجر العقيدي والعنصري كما هو موجود في الثقافة اليهودية والصهيونية وبعض الكنائس المشيحانية والمتحالفة مع الصهيونية وخاصة بالولايات المتحدة الامريكية ، قال تعالى "...فمثله كمثل الكلب ان تحمل عليه يلهث او تتركه يلهث ، ذلك مثل الذين كذبوا بأياتنا ..." 175-176 سورة الاعراف لذا سننطلق في بحثنا هذا من منطلق علم الاجتماع المنفتح والعقلاني والعلمي المنهج والمعاصر وليس من وجهة نظر بعض الفئات المتأسلمة والتي اساءت للاسلام بطرحها الاعوج والاعرج وغير المنطقي من جهة ، ولأن الجيل الحالي بكافة دياناته جيل خاوي وجاهل دينيا ومتهاون ممارسة وعبادة والتي نتج عنها الجهل والتخلف والحقد والعنصرية والتعصب والعنف والارهاب.
2:6 – لماذا الدين ... وما حاجتنا اليه...؟
لقد طرحت هذا السؤال متعمدا هادفا من ورائه حاجة البشر للدين ثم لماذا الدين بالذات وقبل الاجابة على هذه الاسئلة وغيرها ، اذكر القارئ بأنني طرحت تساؤلا في الفصول السابقة وهو اين كان الدين وما هو موقفه من الظواهر والمشكلات الاجتماعية التي تفشت في جسم المجتمع العربي والفلسطيني ....؟ وثانيا اذكر القارئ بأنني اشرت للدين في الفصل الثاني بشكل خاص .
اننا ننطلق في تساؤلاتنا ونقول :-(1/223)
ما هي الحاجات التي يقدمها الدين للانسان .. وهل له وظائف في حياته ..وما هو تأثيره على حياة الافراد والمجتمعات ..وما هو دوره في تحديد انماط العلاقات الاجتماعية في البناء الاجتماعي .. وكيف يحدد مستوياتها ..وما هو دور الدين في تحديد الثقافة السائدة .. وايهما يؤثر في الاخر .. وما موقف الدين من الظواهر والمشكلات الاجتماعية ..هل يعتبر الدين الضابط والمنظم للسلوك في انساق ونظم المجتمع .. وهل هناك دين سماوي واخر ارضي .. وايهما له الدور الاهم في حياة البشر ..وهل اختيارنا للدين طوعي ام اجباري – قسري ..وان خالفنا احدهما ماذا سيحدث لنا .. وايهما اشد عقابا .. وهل هناك جزاء وثواب مؤكد ..ام انها مجرد وعود ..وهل العقاب الارضي كالعقاب السماوي .. ولماذا العقاب السماوي مؤجل ..وايهما ادق الاسلام هو الدين ام الدين هو الاسلام .. ثم ما هو الدين ..هل هو علم كباقي العلوم ام هو نظام ام مؤسسة ام كتاب ام مبادئ ..واذا كان احدهم فمن اين جاء .. فاذا كانت العلوم من اختراع العلماء وهم اصحابها فمن هو صاحب الدين .. ونتاج من .. وكيف وصل الينا ..فالعلوم نتاج البحث والعقل وهي من الكون الانسان والطبيعة .. هل الدين كذلك ..فان كان الجواب بلا .. هل الدين من عند الله .. ما كنهه .. وكيف خلقنا ..والى اين المصير او المفر بعد الموت ..ولماذا اختيرت الارض لنعيش عليها .. واين كانت قبل نزول البشر فوقها ..كيف وضعت الجبال والبحار عليها ..وما علاقتها بالكواكب الاخرى .. هل الكواكب السبعة هي السماوات السبعة ..وهل هناك سبعة ارضيين ..هل هناك علاقة بين اختراع الساعة وبين الشمس ..وهل يمكن ان تكون الشمس هي نفسها جهنم الاخرة ..؟ وما هو البرق والرعد والمطر وكيف ينمو النبات والحيوان ولماذا لم يخلق الانسان كالنبات أي من الارض حسب منطق الارضيين ..وما معنى المشرق والمغرب او المشرقين والمغربين...الخ ... بالأضافة الى الاف الاف الاسئلةالتي وم(1/224)
زالت تخطر على بال البشر منذ القدم ولا جواب عليها ...وحينما رحم الله الانسان واراد ان يخلصه من حيرته ..انزل له الدين واجابه عن تساؤلاته..!
3:6 – ما هو الدين ...؟
تتعدد تعريفات الدين حسب الحقول العلمية والمعرفية ، لكن اغلب علماء الاجتماع يشيرون الى انه لا يوجد تعريف جامع ومانع للدين ولم يوجد بعد ، لتعدد وتنوع الاديان فهناك من يقول :-
انه الفرق بين المقدس والارضي .
وانه التقديس والايمان المطلق بالغيبيات .
وانه استجابة لمشاكل الحياة وتبيان هدفها ومعناها .
وانه استجابة انفعالية وعاطفية وروحية للمجهول ، والاعتقاد والايمان في قوى اكبر من الانسان .
وهو مجموعة من المعتقدات والاتجاهات الانفعالية والمزاولات الطقسية التي بواسطتها يحاول جماعة من الناس الاحاطة بالمشاكل – الاسئلة- الغائية للحياة الانسانية ...وهذا التعريف يتلائم مع طبيعة الاسئلة التي اثرناها سابقا .
اذن هو معتقدات واراء ومبادئ راسخة واتجاهات عاطفية وتوجهات انفعالية وسلوكيات طقسية كالصلاة وغيرها ، في سبيل الوصول الى الاجابة عن الاسئلة التي طرحناها ، وفي سبيل الغاية التي من اجلها وجدنا على هذه الارض ...لكن هل هذا التعريف يتماشى مع وجهة نظر المتديينين – الاصوليين الذين يتصفون بالتزمت والذين يعتبرون انفسهم خلفاء الله على الارض وانهم وحدهم فقط الذين يعرفون معنى الدين ...؟(1/225)
ان مفهوم الدين يشتمل على المقومات الاساسية الاربعة وتفرعاتها التي تشمل :- الايمان واركانه ومعنى الكفر والشرك والالحاد والارتداد والحياة الدنيا ، والعبادات وتشمل الصلاة والصوم والحج والزكاة ، والاداب وتشمل الاخلاق والتفكر في خلق الله والتقوى والخوف والرجاء والحياء وصفات الانسان المؤمن وتجنب النواهي التي تعكس الاخلاق والسلوك السيئ وكيفية تنظيم الاسرة والزواج وتربية الابناء ، والقوانين والمعاملات التي تنظم المجتمع الصالح بكافة نظمه وتقيم الحكومة المسؤلة ، والتي تحقق العدالة والحرية الانسانية وتحفظ كرامة الفرد وتيسر اموره الحياتية ، وتبني قواعد العلاقات الاقتصادية داخليا وخارجيا وتحرص على نظام التكافل الاجتماعي ، واحترام القانون والنظام العام وتراقب السلوك الاجتماعي والاداب العامة ...الخ .
ان السؤال الذي يطرح نفسه ضمن هذا السياق ..هل الاديان جميعها تنص على هذه المقومات..؟ بمعنى هل تنص الشيوعية والكنفوشية والزرادشتية والطاوية والهندوسية والبوذية ..الخ على هذه المقومات ...؟(1/226)
لا نعتقد ذلك انها تفتقد الى مقوم العبادة والايمان والاداب والقوانين التي تحدد مفهوم الدين من جهة ، ولانها تفتقد الى الاتجاه العاطفي – الانفعالي ، ولا تجيب على الاسئلة التي اثرناها في بداية السياق ، ولانها من وضع البشر الذين هم عرضة للنقص والخطأ المطلق ..بمعنى ان الانسان غير متكامل الفكر ، ونتاج فكره قابل للتغيير والتصحيح والتعديل والحذف والزيادة والنقصان ، اذن نحن بحاجة الى فكر ومعتقد كامل قاطع صحيح بالمطلق وغير قابل للتعديل او الحذف او النقص ..فأين نجد مثل هذه الشروط من الاديان ...؟ اذن وضحت الصورة الآن وهي ان الديانات نوعان سماوي – علوي ، وارضي – وضعي ، الاول من عند الله والاخر من صنع البشر ..وهنا يحق لنا ان نتسائل .. هل تتساوى الاديان بنوعيها السالفين من حيث المقومات والغايات والاهداف ...ومن حيث المصدر والوسائل ودلائل الايمان والاقناع ، وصولا الى الايمان المطلق حسب ما نص عليه تعريف الدين .....؟ بالطبع لا ..فالديانات السالفة الذكر ومن هي على شاكلتها تختلف بالمطلق مع ديانات الله السماوية الثلاث ونقصد بها اليهودية والمسيحية والاسلام .(1/227)
مع تقديرنا لتعب ومجهودات لينين وماركس وانجلز وكونفوشيوس وزرادشت وبوذا وغيرهم من البشر .. الا انهم كانوا بشرا يأكلون ويشربون ويتزوجون ويمرضون ويحزنون ويفرحون ويلهون ويلعبون ، وكانوا اصحاب امزجة ولوثات وكان لهم اولاد وزوجات وعاشوا وماتوا ودفنوا وانقطع ذكرهم ولا يملكون ثواب وعقاب وجزاء مؤجل وهذه هي معجزة الله والتي قهر وتحدى بها البشر ، وقبل ذلك كله انهم جاؤوا من تلاقح ذكر وانثى وكانوا عبيدا لرب اسرتهم – ابويهم - ..فكيف يمكن ان يكونوا اصحاب اديان .. فالدين من شروطه ان يكون خالقه وصانعه ليس من البشر ليجيب على اسئلة الانسان ولا يكون له اب او ام او زوج او شريك ، وان يكون عكس هذه الصفات بالمطلق ، فقد عالجوا وجادلوا في مسائل وضعية – ارضية ومادية زائلة ..ولم يكن في فلسفتهم روح او عاطفة او انفعال ..اذن هي بمجموعها عبارة عن افكار واراء وضعية لم ترتق لأكثر من قامة الانسان واخذت الامتداد الافقي الملامس للطبيعة والارض واكتسب الايمان بها الصفة المادية المصلحية ، بينما الدين كدين يجب ان يأتي من فوق الى اسفل ثم يمتد افقيا بالايمان المطلق ويحقق المقومات الاربعة السالفة ..!
4:6 – وظائف الدين – Fuctions of Religion :-
تنحصر وظائف الدين في ايجاد اجوبة على تساؤلات البشر من جهة ، وترسيخ مقوماته في قلوبهم وعقولهم من جهة اخرى ، الا ان اهم وظائف الدين هي :-
لاشباع حاجات اجتماعية- Repletion ومعرفة الغاية التي وجد من اجلها بنو البشر على الارض .
بعد اشباع الحاجات يلي ذلك التصديق والقبول والايمان والاستسلام لله الرب .
بعد الاستسلام واشباع الحاجة لا بد من تقديم فروض الطاعة والعبادة لله وشكره على نعمائه .
لكن كيف يؤدي الانسان فروض عبادته وكيف ينظم معاملاته ويدير شؤونه الا بالدين .(1/228)
بعد ذلك انتقل الدين من الفرد الى الجماعة المؤمنة واصبحت هناك مصلحة جماعية ، وادى ذلك الى تكامل وانسجام المجتمع عن طريق اداء الطقوس والشعائر الدينية كممارسات عاطفية – انفعالية حسب التعريف السالف للدين .
بعد ذلك اكتملت شخصية الانسان وادرك ان هناك الله ومن آمن به لا خوف عليه ، لذا ترتفع المعنويات وتطمئن النفس وتأمن من الشرور وتقوى الارادة للعمل والعبادة .
بعد ذلك يزول الخوف بعد اماطة المجهول واصبح الانسان يستمد قوته من خالقه لمساعدته جسميا ومعنويا وماديا وعلميا ، كيف حدث ذلك .. بواسطة العقل الذي سخّر للتفكير والابداع والانتاج والابتكار .
ولترسيخ الايمان لا بد من معرفة الله بشكل حاسم زيادة في الايمان ..ولكن كيف سيتم ذلك ...بأرسال وبعث الانبياء والنبيين والرسل وهم بشر مصطفين من الجماعة نفسها ، واذا كنا قد عرفنا وصدقّنا ان هناك زرادشت وكونفوشيوس وبوذا ولينين وماركس ، فعلينا ان نصّدق ونؤمن بأن هناك موسى وعيسى ومحمد عليهم السلام هذا هو شرط الايمان علينا وعلى غيرنا من البشر من منطلق الانفتاح الثقافي .(1/229)
ان اصحاب الافكار والمبادئ الارضية قد انزلوا العقاب والجزاء والثواب الفوري والآني على كل من كفر بهم ..ومن المفروض ان ينزلوا العقاب والجزاء والثواب في الاخرة وهذا يسمى بالعقاب والحساب المؤجل – Deferred Retribtuion، الا انهم لم يفعلوا ..لانهم ماتوا وفنوا وانقرضوا ولا يملكون القدرة على محاسبة مخالفيهم ..فكيف يحاسب ميت انسان حي ..ونحن نعلم بأنهم جميعهم انكروا البعث والقيامة وحساب الآخرة ..اذن ارائهم ليست من الدين في شئ ، وانما الدين هو من يوعد بقيام الساعة ونهاية الاجل والبعث والقيامة وحساب الآخرة ..وهذا هو جوهر الدين المقصود بمقوماته ، وان فقد الدين احداها فلا يعد دين ولا يؤخذ به ...لهذا فالدين كله لله ومن الله فقط وبالمطلق ...وان خالفنا ذلك نكون قد انحرفنا- Declenision وصنعنا ظواهر اجتماعية بديلة عن الدين ، وهنا ينشأ ما نسميه بالمشكلات الاجتماعية .
5:6 – علاقة الدين بالظواهر والمشكلات الاجتماعية :-
يجمع اغلب علماء الاجتماع ان الدين يعد احد المحكات او المقاييس او المعايير الاجتماعية – Social Criterion – الذي نحدد من خلاله معالم الظاهرة او المشكلة الاجتماعية بالاضافة الى معايير ومحكات اخرى كالقانون والصحافة والاداب ..معن خليل عمر ، 1998 ، ص/26 ..فالدين يحدد المحرمّات والمسموحات في السلوك والعلاقات والمعاملات الاجتماعية والجنسية ، أي انه يمثل المصفاة - Refinery التي تصفي الحرام والحلال والمسموح والممنوع ، وما هو خير وشر وما هو اخلاقي وغير اخلاقي وما تقّره السماء وما تنهانا عنه ، وهنا فالمشكلة الاجتماعية يتم تحديدها من خلال اقيسة ومعايير دينية ومخالفة التعاليم الدينية التي تعد ذلك انحراف وخطيئة ولها عقاب وعكس ذلك له ثواب Retribution -.(1/230)
على هذا الاساس تبرز العلاقة بين علم الاجتماع والدين التي تتجسد في السلوك الفردي والجماعي في جميع المجالات التي تشمل العبادات والقوانين والاداب والمعاملات والعقيدة ونظام الحكم والسياسة والاقتصاد ...الخ ، فهو من وجهة نظر علم الاجتماع اداة ضبط وتحكم في السلوك ، ويوضح معالم الطريق امام الانسان المؤمن بالدين كعقيدة شاملة ، من اجل فهم كامل لمناحي الحياة ، ويفسّر الطبيعة ويسبر غور اسرار الكون ومخلوقاته ، ويجلي معالمه واسراره ومكنوناته والدخول الى عالم الانسان من حيث الخلق والتفكر والتدبر والسلوك وصولا الى نتيجة نهائية لما يسمى مؤمن وكافر& Paynim - Unitarian ، الاول له ثواب دنيوي واخروي ، والاخر له عقاب ولكنه اخروي .
لذا فعلم الاجتماع ارتكز على الدين باعتباره احد روافده الى جانب العلوم الاخرى كالفلسفة وعلم النفس والقانون وعلم الانسان والجغرافيا والتاريخ والاقتصاد والطب والتربية والفن والعلوم الادارية والسياسة .
1:5:6 – خصائص وسمات الظواهر الاجتماعية :-
لا يضر ان نذّكر القارئ بالماعة مختصرة عن اهم خصائص الظواهر والمشكلات الاجتماعية ، فنقول بأن الظاهرة الاجتماعية هي نمط من السلوك والتفكير والشعور الموجود خارج الفرد وهي ضابطة وموجهة ، وقد نتجت بفعل جهود وتفاعل الافراد كحقيقة عقلية تحمل معنى لحياة الانسان داخل مجتمعه ، وادعو القارئ ان يقارن بينهما- الدين والظواهر الاجتماعية - ويستنتج ايهما اكثر ترسخا وممارسة في حياتنا اليومية ، من خلال ما استعرضناه من ظواهر وامراض وعلل وسلوكيات اجتماعية وردت في الفصول السابقة ولم نزل نمارسها ، وبعد ذلك ليرى القارئ بأنها تنافس الدين في السلوك اليومي ... لذا من اهم خصائصها :-(1/231)
التلقائية Conformity-- :- ونعني ان الظاهرة من خلال تقبل الفرد لها وممارستها ومزاولتها دونما تخطيط تأخذ صفة التقبل الجماعي ، كمحصلة للسلوك وبالتالي تصبح تلقائية ويستخدمها الفرد حسبما هو سائد .
العمومية - Prevailing:- ونعني بها الانتشار في عموم المجتمع الواحد وهي عامة ومستمرة كالزواج مثلا .
الجبرية Compulsory--Coercive :- ونعني بذلك ان الفرد يولد في مجتمع له ثقافة توضح انواع السلوك في مختلف الانشطة الاجتماعية ، فيتعلمها ويتشّربها وتصبح هي الموجه والضابط والقاعدة لسلوكه ، ضمن قيم ومعايير يلتزم بها اجباريا وان امكن تعديلها او مخالفتها احيانا .
الترابط - Ligament:- ونعني بذلك ان الجزء له علاقة بالكل ويتأثر ويؤثر كل في الاخر كالترابط العلائقي بين الفرد واسرته .
النسبية -Relativity:- ونقصد بها ان الظواهر الاجتماعية موجودة في كل المجتمعات البشرية ، ولكن بأشكال وبنسب مختلفة حسب القيم والمعايير والثقافة التي تختلف من مجتمع لاخر.
الشيئية Item:- وهي تعني ان الظاهرة موجودة كشئ له عناصر وكيان مستقل وهي موجودة كحقيقة قائمة .
2:5:6 – خصائص وسمات الدين :-
من خلال استعراضنا للدين من حيث التعريف والمقومات الا ان له خصائص وسمات اهمها :-
لا يخضع للمخالفة او الجدل او التعديل او للتحليل العلمي .
يعتبر معيار ومقياس للسلوك الاجتماعي وله نظام جزاء وثواب اخروي مؤجل .
يعتبر نظام تشريع من صنع قوة تفوق قوة البشر .
ينتشر بالوعظ والتبشير وبالتهديد والوعيد .
يرشد الانسان في دنياه ويحل مشكلاته الحياتية وفي اخرته وما بعد الموت .
يطالب بالايمان كله او لا شئ ، وهو نظام شامل يتحكم في جميع انظمة البناء الاجتماعي
6:6 – موقف الدين من الظواهر والمشكلات الاجتماعية :-(1/232)
بداية سأحاول ان اتفق مع القارئ على ان علم الاجتماع وخاصة الجانب التطبيقي منه وفي مجال علم المشكلات والظواهر الاجتماعية خصوصا ، يمكن ان يتطابق مع ما جاءت به الكتب السماوية وخاصة القرآن ، وما تخلله من ذكر لظواهر ومشكلات اجتماعية واسبابها والاشارة اليها والتحذير منها والنهي عنها بشكل لا يقبل التعديل او الحذف او التغيير او الاضافة ، بل وأبان العقوبات والجزاءات المتعلقة بفعلها ، ومن المدهش وهذا يحسب لصالح الدين كبرهان ودليل على صحته وحقيقته وانه من لدن العزيز الحكيم ، هو انه ذكرها لنا مسبقا وقبل وقوعها وحذرنا من الاتيان بها ، بعكس العقائد الارضية والاراء والمبادئ الوضعية ومن ضمنها علم الاجتماع ، حيث انها من الاستحالة ان تحكم على الظواهر والمشكلات الاجتماعية الا بعد حدوثها وربطها بالاسباب والنتائج الا بعد تحليلها ودراسة مسبباتها ، والوصول الى نظريات واستنتاجات قابلة للتعديل والتغيير والحذف والاضافة .
لنتناول الاسلام كدين نزل للبشرية بـ114 سورة وبحوالي 6300 اية ونيف ، جميعها شملت واحاطت بكل ذرة في الكون ولم تترك لا شاردة ولا واردة ، ابتداءا من خلق السماوات والارض وبخلق آدم وبني البشر فيما بعد ، ومرورا بتبيان اسباب بعث الرسل لهداية البشر للدين وانتهاءا بتوضيح النهاية وكيفية الحساب يوم القيامةDay of Resurrection- ، كانتهاء للمسيرة الحياتية والايمانية التي ارادها الله للبشر ... ولا نريد الاسهاب وتفصيل ما ورد في القرآن الكريم كله وذلك لاننا هدفنا ابراز الدين وموقفه من الظواهر والمشكلات الاجتماعية كدراسة بحثية تتعلق بعلم الاجتماع وليس الهدف من ذلك للترويج اوالاقناع او التبشير بالاسلام فهذا المجال له متخصصيه .(1/233)
ان بعض الظواهر والمشكلات الاجتماعية التي سأوردها في هذا السياق والتي لا نستطيع حصرها وتعد بالالاف ، وقد ذكرها الدين وحذرنا منها ، وقام علم الاجتماع بأعمال العقل والتفكير والبحث والتحليل والاستنتاج والتفسير لاسباب هذه الظواهر والمشكلات الاجتماعية ووضع الحلول لها ..وبرائي ان علم الاجتماع ان لم يكن الوحيد هو الاقرب والمتوائم مع الدين .
قصة هابيل وقابيل مثلا تدل على اسباب القتل والجريمة وتداعياتها ونتائجها ، وكذلك قتل النفس التي حرّم الله قتلها الا بالحق ، وماذا ينتج عن ذلك في حال اقترافها .
وظواهر الفساد والرشوى والنميمة والحسد والاستعلاء والمنفخة الكاذبة والكذب والتدليس ، واشتهاء نساء الاخرين والهمز واللمز والخيلاء والربا والزنى وامتهان البغاء ، وقذف المحصنات واللواط والسرقة والخمر والقمار والاستخفاف والاستهزاء .
ظواهر التعصب والجاهلية والبخل والتجسس والغضب والعنف والانانية وحب المال والفوضى وعدم مراعاة الاداب العامة في الاكل والمشي ، والخيانة وعدم الوفاء بالعهود والوعود وانكار الامانة والتطرف وسوء الخلق والغلظة والحقد والغل والاحتيال والاسراف والتبذير والجهر بالسوء والايقاع بين الناس وانعدام المسؤولية والظلم والبغي .. وما ورد من ظواهر في الفصول السابقة وما يراه انسان اليوم من ظواهر .
كما اسلفنا سابقا فقد اردنا ان نوضح موقف الدين من كل ذلك ، أي من منظور ديني ..لنرى ..!
سبب ديني يتحدد في عدم فهمنا الصحيح للدين في حياتنا المعاصرة كأفراد .(1/234)
تقصير من قبل الاسرة او العائلة فيما يتعلق بالتربية الدينية ، فبدل تعليم اطفالنا وتهذيبهم وتوجيههم دينيا شربّناهم الكذب والنفاق وشتى الحيل الخبيثة ولم نهتم بتعليمهم بل نهتم بعملهم ولم نجيب على اسئلتهم التي حيرت عقولهم ، بل ارسلناهم لأمام المسجد ليفهمهم الآية او الحديث ، واحسوا بالاغتراب عن الدين لجهلهم وتجهيلهم الامر الذي نتج عنه خواء روحي وعاطفي ، لنعش يوما في احد البيوت العربية لنرى الصراخ والشتم والعصبية والقمع والضرب والسب والشتم والقهر والقلق ، هكذا مناخ اسري ماذا سينتج ..؟ كما قلنا في الفصول السابقة ان الكذّاب الصغير من ذاك الكذّاب الكبير ، فالتربية والتنشئة الاسرية هجينة ومشوهه ومتخلفة لا تنتج الا هكذا نتاج ، فاولادنا بحاجة الى تأميم ...فالاسرة تتذكر الدين عند وفاة قريب او للقراءة في المقبرة او نحمّل المصحف للعروس عندما تزف لعريس الهنا ، وان اشتقنا للدين في المناسبات فيكفي ان نضع شريط مسّجل لدقائق ونطرب لصوت القارئ وليس لمعاني الكلام وعبره.
نخرج من البيت ونرى المجتمع كيف يتعامل مع الدين وخاصة عند الصباح ، فنرى اصحاب المحلات بشتى مهنهم يبدأون صباحهم بوضع شريط مسجل ومكرر يوميا لدقائق وذلك لجلب الزبائن وتعبئة الجيوب ، ثم تبدأ بعد ذلك شرائط الاغاني المنوعة الى اخر النهار ، وكذلك الحال في الحفلات والاجتماعات والمؤتمرات وخاصة اذا حضرها احد المشايخ او رجال الدين فيجب ارضائهم بآيات عطرة لنكسب بركاتهم ثم يبدأ الحفل ، حتى المقاهي وهنا الغرابة ..كيف يمكن ان تسمع وتستفيد من القرآن وانت جالس في مقهى تستغيب فلان ، وتحّدق في قفا فلانة ، او تلعب الورق او تمتص ارجيلة ..عجيب.(1/235)
لنرى منظرا غريبا وعجيبا وهو الآيات المكتوبة او الملصقة خلف السيارات او الشاحنات او عربات الباعة المتجولين او على الدفاتر او الكتب او على جدران الارصفة او على قطعة كرتون معلقة على عامود كهرباء او على مدخل البيت لطرد الحسد والعين
ثم لنذهب ونرى النظام الحاكم كيف يعمل على تهذيب مواطنيه من خلال توعيتهم وتوجيههم دينيا ، علما بأن النظام الحاكم يملك وسائل الاعلام ويتحكم بها ، ولديه جيوش جراّرة من المشايخ والائمة والدعاة ومن المسبّحين بحمده ولديه الامكانيات المادية والتقنية ، الا ان دوره دينيا لا يذكر وان ذكر فقط من اجل مصلحة الحكومة او لتسويق الزعيم باعتباره زعيما مؤمنا واب للرعية .. وتصويره في الصحف والتلفزيون وهو يؤدي صلاة الجمعة فقط ، لكن اين يوجد باقي ايام الاسبوع ..الله اعلم ...!
اما الفضائيات فلها وسيلة غريبة في تعليمنا لامور ديننا ، مذيع - ومن غير المسلمين - في احدى الفضائيات العربية استضاف الراقصة الحجة دينا التي اتحفتنا بجلستها وملابسها وحديثها عن ادائها لفريضة الحج ، وان ثروتها هي من رضى الله عليها وعلى طبيعة عملها ، وانها فور عودتها من الديار الحجازية باشرت موسم حفلاتها وانها متزوجة من خمسة فحول وليس من اربعة ولم تزل ترقص لحد الآن ...السؤال هنا نطرحه كما هو ..من وما المقصود بهذه المقابلة ...؟ انه الدين .....!(1/236)
واخيرا هناك فئات وشراذم تخور وتدعي الاسلام والتدين يسبون على الاخرين علما أن الله قد نهانا عن سبهم وشتهم حيث قال : " ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم ...(108) من سورة الانعام ، فمن هنا بدأ وصمنا بالارهاب والتعصب والتطرف ، ولم تكتفي هذه الفئات بذلك بل ادعت الدين والفتوة والتفقه به وهي في الحقيقة كما قال تعالى : " ولا تقولوا لما تصف السنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام لتفتروا على الله الكذب ، ان الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون " (116) من سورة النحل .
قال تعالى " ولقد خلقنا الانسان من سلالة من طين (12) ثم جعلناه نطفة في قرار مكين (13) ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا الممضغة عظاما فكسونا العظاما لحما ثم انشأناه خلقا اخر فتبارك الله احسن الخالقين (14) ثم انكم بعد ذلك لميتون (15) من سورة المؤمنون .
وعندما افترى الانسان ونسي خالقه واخذته العزة بالأثم فتكبر وعتى ، اذله الله وذكّره كيف خلقه بقوله تعالى " قتل الانسان ما اكفره (17) من أي شئ خلقه (18) من نطفة خلقه فقدره (19) ثم السبيل يسره (20) من سورة عبس ...ليتدبر الانسان هذه الآيات وليعرف نفسه كيف خلق ومن أي سبيل ..هل يعرف الانسان ما معنى السبيل ..انه مجرى البول عند الذكر وعند الانثى يلاصق مجرى البول ايضا ..منتهى الاذلال للانسان وكسر لنفسه وجبروته ومنتهى عظمة الخالق في ابدع صورة من صور علم النفس الاجتماعي .(1/237)
10-ادعو القارئ ليتصفح السور التالية :- الفلق ، الماعون ، الهمزة ، العاديات ، عبس ، المرسلات ، الواقعة ، الحديد ، الممتحنة ، الحجرات ، الشورى ، الزمر ، يس ، لقمان ، الروم ، النور ، الطور ، الواقعة ، الحج ، الانبياء ، طه ، مريم ، الكهف ، الاسراء ، النحل ، الحجر ، الرعد ، هود ، يونس ، التوبة ، الانفال ، الانعام ، المائدة ، النساء ، آل عمران ، البقرة ...ليتدبر ويتمعن في معظم الظواهر والمشكلات الاجتماعية ، الظاهر منها وما بطن والتي ذكرناها وسهونا عنها .
خاتمة
قليلة هي المصادر والنظريات التي عالجت ولم تزل تعالج الظواهر والمشكلات الاجتماعية ، وذلك لأتساع وتشعب الحياة الاجتماعية وتغيرها باستمرار من جهة ، ولأن المجتمع بظواهره ومسيرته التطورية دائم الحركة والإنتاج من جهة أخرى ، وبالتالي لم تستطع النظريات والدراسات مجاراة التسارع الظاهراتي للمجتمع ، فجاءت إما مكملة أو محدودة أو جديدة بطرحها ، ولهذا اتهم علم الاجتماع ويتهم بالقصور عن تناول ومعالجة مختلف ظواهر وجوانب الأحداث الاجتماعية .(1/238)
لكن ومن خلال قراءاتنا لمختلف النظريات الاجتماعية والتي تتعلق بتفسير ظاهرة الفوضى ومفهوم الوقت ، فقد تم التركيز على النظرية الظاهراتية –الفينومينولوجية- وإسقاطها على موضوع البحث ، والتي أبرزت مدى وأهمية دور المحيط الاجتماعي - الأسري- في إكساب الفرد الخبرة والتربية ونمط السلوك وصقله من خلال تشريبه وعجنه ، أو من خلال ملاحظة الفرد لتأثير الفاعلين في محيطه ، ولهذا فان الفرد يكتسب هذه الخبرة والمران بجميع جوانبه مشكّلا نموذج ( وصيغة) مختزلة وموائمة لمحيطه الاجتماعي الأوسع وهو المجتمع ، فالأسرة في هذه الحالة تعتبر آلة تفريخ- Propagation Machine وحاضنة- Incubator ومعجن للفرد ، واعتبار المجتمع هو المحيط أو الساحة العامة والخارجية التي يتم فيها عرض وتنسيق مصنوعات الأسر وإنتاجها وإدارة علاقات التبادل وإقامة الاتصال بينها ، وصوغ نمط محدد من القيم والأساليب والمبادئ التي تضبط حيز الحياة الاجتماعية اليومية ، على اعتبار أن الفعل الاجتماعي الصادر عن الفرد- وحسب ما توصل إليه علماء الاجتماع – كونه إراديا أم إلزاميا ، بمعنى أن المجتمع يبيح للفرد حق اختيار ما يراه مناسبا له ولتحقيق رغباته ضمن أفعال اجتماعية وقيم ومعايير تتواءم كحد أدنى مع معايير وقيم المجتمع من جهة ، ومدعوما بخبرة وتربية وتنشئة أسرية متجذرة في ذاته من جهة أخرى ، والدليل على ذلك هو التصادم والصراع على تحقيق المصالح والرغبات الواضحة بين الأفراد ظاهريا …فأين دور المجتمع في مثل هذه الحالة ...؟(1/239)
إن الدور الأبرز والحاسم بل والمحرّك الحقيقي هو للأسر التي تستبطن الصراع – Introspection وتفحص الافكار والمشاعر وتسعى لتحقيق مصالحها وبسط نفوذها ، وما الصراع بين الأفراد إلا صراع خفي بين الأسر بعضها ببعض تحقيقا للنموذج النظري الصراعي ، وهي المرحلة التي تسبق البناء الوظيفي لنسق التركيبة الاجتماعية وطبيعة مقوماتها ، والتي تتوزع من خلالها الأدوار وتنتظم أمور المجتمع ويثبت ثم يستقر ، حيث يتراجع الصراع من خلال آليات الضبط والقوانين ودور الدولة في توزيع المكافآت المادية والمعنوية ، وضبط النظام والانتظام ، بإتاحة الفرص للأفراد المؤهلين لإدارة المواقع والمؤسسات الاجتماعية حسب مؤهلاتهم وحسب إرادة ومصلحة المجتمع العليا ، وليس حسب انتمائهم القبلي أو الطائفي أو العائلي أو حسب النسب والمنصب الموروث ، وهذه هي معضلة المجتمع العربي ، حيث ما زال يقبع في دوامة المضمار الصراعي ( الفوضوي) .
إن المجتمع يهدف من تطبيق النظام والانتظام وتخللها في أنساقه وتركيبته في سبيل ديمومته واستمراريته ، هو في استغلال طاقات أفراده وتوجيهها لما فيه تحقيق مصالحهم ومصلحته العليا ، وفي هذا الصدد يقول الدكتور معن خليل عمر .. إن المجتمع يهدف لتنظيم غرضه …في النظام والانتظام… في سبيل استغلال الطاقة الخام …الحاجات… استغلالا افضل وتحويلها إلى طاقة مفيدة ، ولكن عندما يتلاشى النظام وينعدم انتظام العلاقات المتبادلة ويشيع الكفاح …والصراع… غير المنظم ، تضيع الطاقة ويصعب الاستفادة منها .. ويهدف…المجتمع بهذا الغرض …الالتزام… هو تحقيق واستمرار وجوده … ويكون ذلك… إما بالاتزان أو بالتوازن بين القوى الاجتماعية وتعادلها بواسطة اللغة والقانون والتجارة والصناعة والإنتاج والعقاب… ( بالضبط والقانون ) – التشديد من عندنا - ..( معن خليل عمر ، 1997 ، ص/ 71) .(1/240)
إن هذا يعني أن الدور الأساسي والهام في المجتمع وبناه وتراكيبه ومقوماته هي للأسرة - العائلة والقبيلة - ثم للدولة ، وما المجتمع في مثل هذه الحالة سوى بيئة ومحيط غير فاعل وكما يقال بالعامية - مهادن ومهاود- أي لا دور له وكأنه – مطية- وهذا ما ينطبق على المجتمع العربي ، اذ انه يمر الآن بأزمة نتلمسها من خلال الملامح المشتركة للفعل الاجتماعي للأفراد والجماعات والتي تحدد أنماط القيم والعادات والسلوك والتفكير ، والتي تعكس طبيعة العجينة التي عجنتها الأسرة سواء في التنشئة وتحديد مصير وطبقة ومكانة وثقافة الفرد… بل ودينه الذي ورثه منها من جهة ، وباعتبار أن الأسرة سابقة على المجتمع والدولة مما أدى إلى تجذّر القيم الأبوية وعلاقات القربى والطائفة والجماعة العرقية التي تجذب الفرد من حيث لا يدري ولا يشعر كما يقول هشام شرابي (النظام الأبوي وإشكالية تخلف المجتمع العربي ) ، بالإضافة إلى تأثير البيئة الطبيعية التي صاغت الأسرة والفرد وقولبتهما حسب أنماط وقيم وممارسات واضحة ومحددة ، ولهذا فلا يستطيع المجتمع أن يفرض سلوك أو معايير محددة على الأسر… بل العكس هو الصحيح ، ومن هنا نستطيع القول بأن المجتمع عبارة عن مجموعة من الأسر والجماعات تعيش مع بعضها البعض كونت تجمعا (مجتمعا) ، مكون من ألوان شتى من العادات والتقاليد والقيم والمعايير بشكل غير متناسق وغير منظم أو منتظم ، ومن هنا يكون عرضة للفوضى والصراعات ، وخاصة عندما يكون مجتمعا فسيفسائيا- Tessellation كالمجتمع العربي والفلسطيني خاصة ، حيث تعمل الجماعات التقليدية والنظم السياسية على تعزيز وترسيخ التعددية والطائفية والعرقية ونمط تربوي واقتصادي مشوه حيث " تنتج دائرة محكمة يصعب كسرها… حسب قول حليم بركات (المجتمع العربي المعاصر)…!(1/241)
إن هذه الدائرة معززة بالصراعات وتسلط الأنظمة الاستبدادية والأبوية التي تبلور علاقات قائمة على القنص والذعر ، والتي تؤدي إلى نشوء علاقات قائمة على التناقض في المصالح والصراعات القومية والطبقية ، والسعي الدائم نحو تأمين المعيشة ولقمة العيش ، واللهاث وراء الاستنفاخ والنمط الاستهلاكي بشتى السبل ، ولهذا تنتج ثقافة وقيم وأنماط تربية وسلوك وبناء شخصية تحمل سمات هذه التفاعلات .
وعلى اعتبار أن الفرد مرتبط بمجتمعه من حيث السلوك الذاتي والموضوعي ويكمل كل منهما الآخر ضمن نسق ثقافاجتماعي ، ورغم ارتباط وتفاعل الطرفين حسب نظرية -النسق الاجتماعي - فان معطيات (ومخرجات) النسق كما استعرضناه سالفا لا يقوم بوظائفه بشكل هادئ ومريح ، بل تعتريه حالات توتر واضطراب وفوضى .. فتعيق أدائه الوظيفي ويؤدي إلى ضعف وربط الفرد بالمجتمع لكونه نسقا مغلقا … وليس مفتوحا… لاستقبال المؤثرات المحيطة والتي يعيش بوسطها ، وان حصلت استجابة بينهما فلا تحصل للمتغيرات التي تنسجم مع مكوناته الثقافية والمجتمعية … أي إلى قوننة… سلوك الفرد بما لديه من خزين ثقافي موروث ..(معن خليل عمر ، 1997 ، ص/ 91).
من هنا ولربما يكون لهذا التعليل الجدلي بما يتعلق بسر ديمومة وتفشي الفوضى في جسم المجتمع العربي إجابة غير مكتملة ، إلا إذا أضفنا الظروف التاريخية والتجربة المشتركة وتنوع ثقافاته وانعدام الاندماج الاجتماعي والصراع الأسرى – القبلي ، بالإضافة إلى اختلاف أنماط المعيشة واختلاف مستوياتها ، وأخيرا تعدد وتنوع الولاءات…فمن هنا تنبع مأساة المجتمع العربي في التواصل المستمر نحو المزيد من التخلف والجهل والفوضى.(1/242)
إن هذا يوضح لنا مدى أهمية دور الأسرة بالنسبة للفرد والمجتمع والدولة لأسباب ذكرت سابقا ولكونها تشكّل مركزا اجتماعيا واقتصاديا ، وتعتبر إحدى المرتكزات الرئيسية للنظام السياسي العربي الحديث ، وسابقا أثناء مراحل الصراع المختلفة وإدارة الدولة واكتساب الشرعية ، ولهذا فقد منحت الدولة الأسرة حق توريث المنصب والموقف والمعتقد السياسي خدمة لها .. كما تتوارث الملكيات والانتماءات الطبقية والدينية ..(حليم بركات ، 1996، ص/221) .
وللتدليل على صحة هذا التعميم - وليس النظرية -فقد يمس الفرد الذي أنشئ نشأة تقليدية وكرامته مرتبطة بكرامة عائلته مثلا .. إن شرفه قد يمس فيشعر بردة فعل وحدّة فورية لاستعادة شرفه وشرف عائلته المفقود…على اعتبار انه لا يعوض ولا يمكن استرجاعه ، وذلك لرمزيته المعنوية المترسّخة في الوعي المنكفئ والمجبول بالعصبية والجهل والتخلف …أما لو احتل الأعداء بلاده وأرضه وتحكّموا بشعبه فلا يمس ذلك شرفه بنفس الحدّة …على اعتبار انه- الوطن- يمكن تعويضه واسترجاعه من جهة ، ولأنه محسوس ومادي وهذا العنصر متوفر في الطبيعة وبكثرة ويمكن شرائه أو امتلاكه والإقامة فيه بأدنى تكاليف أو صعوبة من جهة اخرى ، وهذا يذكّرنا بالمثل العامي (بلاء أهون من بلاء) كما حدث للشعب الفلسطيني عام 1948…وهذا يدل على إن انتمائه للقبيلة والأسرة أقوى من انتمائه للوطن أو للمجتمع .. ( بركات ، 1996، ص/ 222 ) و ( هشام شرابي ، 1993 ، ص / 64).(1/243)
إن الفرد العربي ينقلب رأسا على عقب في حالة غياب آليات الضبط والمراقبة العائلية والامتثال للسلطة من حيث الالتزام العائلي – السلوكي أمام الآخر والغير ، على اعتبار انه غريب فلا يلتزم تجاهه بموعد أو عهد أو بقيم أو سلوك ضبطي ، وخاصة ما نلاحظه في عدم الالتزام بالوقوف في الصف أو بالدور- Range أو عدم الالتزام بقواعد المرور أو مخالفة البناء أو التعدّي على الأرصفة أو حتى في حالة انتمائه لحزب أو مؤسسة سياسية أو ثقافية أو اجتماعية ، فيشعر بأنه فوقي ولا يمتثل لآليات الضبط والربط التنظيمي خارج إطار الحزب أو المؤسسة على اعتبار أن آليات ضبطه الحزبي أو( رقابة) مؤسسته الرسمية غائبة .
أما دور الفرد وعلاقة سلوكه في بلورة الصراع الطبقي الذي يؤثر على العلاقات بين الطبقات والتي تتصف بالتناقض ، بسبب التفاوت غير المتكافئ في المواقع الاقتصادية والملكية والتنافس للحصول على الثروة والنفوذ والمكانة الاجتماعية ، والتي تتصف بالفوضى والعنف حيث يعللها - عدم الفرص المتكافئة – والمرتبطة .. بقوة اقتصادية تتحول إلى قوة اجتماعية ونفسية وسياسية ، ثم إن هذه الأخيرة تتسبب في المزيد من القوة الاقتصادية التي تعود مرة أخرى وتنتج المزيد من القوة الاجتماعية والنفسية والسياسية … وهكذا حلقة جهنمية يصعب التحرر منها إلا بالصراع الطبقي أو بالعنف الثوري ..بركات ، 1996 ، ص/162) …وهذا برأينا سبب أخر يفسر استمرارية وديمومة الفوضى وربما الصراع الطبقي ، الذي بيّنه لنا حليم بركات هو الذي يشكّل الحبل السري الذي يغذيها وكأنه عنصر جيني موروث ، ونود أن نضيف ملاحظة وهي أن إدارة الصراع حقيقة لا تنحصر بين أفراد بل بين اسر وعائلات .(1/244)
فالمجتمع يجّسد ويظهر ويشّخص وكأنه مسرح تمثيلي حيث يؤدي الأفراد والجماعات أدوارهم من خلاله وبالتالي يعكس ثقافاتهم وسلوكهم وعلاقاتهم السائدة .. من منطلق التفاعل الرمزي الذي يذهب إلى استخدام القيم الاجتماعية كمقياس ، لتقيس السلوك الاجتماعي ، فهو يرى أن الحياة عبارة عن مسرح …المجتمع…والأفراد…هم اللاعبون او الممثلون … يتنافسون للعب أدوارهم ، وهناك سيكون فاشل وناجح في دوره ، ولهذا فالمشكلة ذاتية وليست موضوعية..معن خليل عمر ، 1998 ، ص/70) … ولهذا فالتغيرات يجب أن تبدأ من الأسرة والفرد وليس كما يقول حليم بركات .. أن تبدأ من المجتمع وليس من العائلة على اعتبار أن تغيير الكل اسهل من تغيير الجزء .. ( حليم بركات، 1996، ص/222) … إن رأينا يخالف رأي حليم بركات…فكيف يمكن تغيير المجتمع الذي يشكّل الصورة والمظهر والشكل والإطار العام كبيئة خارجية ، بينما الأسرة التي تشكّل المصنع والمعجن والمضمون وتعكس الجوهر الداخلي للفرد كبيئة داخلية حصينة ودائمة في إنتاج وتفريخ وتشريب وعجن أفراد متخلّفين ، يعكسون ويحملون جيناتها ونؤجّل تغييرها …إذن ما الفائدة من التغيير طالما أن الأسرة تنتج أفرادا باستمرار وبدون توقف ، فهذا التعميم الذي طرحه حليم بركات ينطبق على المجتمع الغربي أو الأمريكي ، على اعتبار أن الدولة هناك دولة رعاية-Welfae State ولا دخل للأسرة في تخليق وعجن الفرد ، بل الدولة ومن خلال آلياتها وإمكانياتها ومواردها ونفوذها وقوانينها وآليات ضبطها وتربيتها وإشرافها ، تستطيع القيام بحل هذه المشكلة وبكل سهولة على اعتبار أن مجتمعها مدني ويراقب… بل ويشارك في الحكم وهو صانع الدولة بموجب عقد اجتماعي ومتفق على اختياره لنسق اجتماعي ، منوط به تبادل أدوار وسلوك ومعايير موحدة ومشتركة ومتوازنة ، أما تجربة المجتمع العربي فلا يجدي معها إلا تغيير الأسرة والعائلة والقبيلة من الداخل ثم يأتي تغيير الذهنية ثم تغيير(1/245)
الدولة أو نظام الحكم السائد ، فيتم بعدها تلقائيا تغيير المجتمع .
كذلك هناك قصور نظري لمفهوم الزمن واستثمار الوقت (الزمانية) وخاصة لدى الأسرة – العائلة، إلا فيما يتعلق بأنماط المعيشة في المجتمع العربي - بدو وريف وحضر- وإلا ما معنى أن البدوي يأخذ بثأره-Retaliation ولو بعد 40 عاما ، ايعقل ذلك ...؟ أو أن كبير الأسرة دائما يتشدّق بأنه ما لم يستطع تحقيقه في حياته فسيحققه خلفه أو ولد ولده ويقولها وهو مطمئن وواثق من تحقيق أمنياته .
وهناك قول أو مثل عامي وهو مطبق فعليا ( اللي عند أهله على مهله) وهذا يعني أو يعكس مدى الثقة والاطمئنان والركون إلى الأسرة ، ويدلل على أن الفرد امتدادا أكيدا لها وهذا يرسّخ في الفرد كينونتها وتمفصلها بذاته ، حتى بات من الاستحالة الانفلات أو الأنفكاك منها والتقاعس أو التهاون بتحقيق مصالحها حتى لو بعد حين أو ولو بعد ولد الولد ، إذن لم يبالغ هشام شرابي حينما شرح لنا في (النظام الأبوي وإشكالية تخلف المجتمع العربي ) على أن التخلف الذي .. نواجهه يكمن في أعماق الحضارة الأبوية .. والأبوية المستحدثة.. وينتقل كالمرض العضال من جيل إلى جيل نعيش معه ونتّقبله ونتعايش معه حتى الممات…وكذلك مصطفى حجازي في( العصبية بنية المجتمع العربي ) وواصف عبوشي في (العربي العصري ).
ولكن أين دور الدولة والنظام السياسي في التصدي لهذه المشكلة الكأداء …؟ لابد أولا من الوقوف على كيفية تبلور وخلفيات تكّون النظام السياسي العربي لنقف بعدها على حقيقة وصدق نواياه في إيجاد الحلول للمشاكل الاجتماعية … لنرى(1/246)
سنستشهد بما أورده حليم بركات في كتابه ( المجتمع العربي المعاصر ) وليس بما أورده خلدون النقيب أو غسان سلامة لنتجنب الحدّة والتطرف بالطرح ، إذ يقول بركات في معرض حديثه حول آلية وصول النخبة الحاكمة إلى دفة الحكم ، التي تعود أصولها إلى الطبقة البرجوازية التقليدية التي .. قاومت الحكم العثماني وكافحت الاستعمار من اجل الاستقلال وكان همها أن تحل محل المستعمر وتنشئ دولة مركزية تؤمن مصالحها ، لا أن تبدل من طبيعة الحكم والتفرد به…( اسريا) كمطلب الأمير عبد الله من ونستون تشرتشل عندما اجتمع به في القاهرة قبل تشكيل إمارة شرق الأردن عام 1921، ثم الأمير سعود بن عبد العزيز قبل تشكيل المملكة السعودية عام 1932 وتعهدهما بأن يسيرا بحكم امراتيهما حسب السياسة والمصالح والأهداف الإنجليزية في المنطقة ، وكأن هذا شرط ما زال معمولا به إلى الآن عليهم وعلى باقي أنظمة الحكم العربي وأيضا على إسرائيل والسلطة الفلسطينية …لا أن تؤسس نظام جديد يكفل الحرية والعدالة للشعب ، وبالتالي …استمرت الأوضاع …. على ما هي عليه من تسلط وإفقار واستبداد ، مما احدث فجوة بين الشعب والسلطة حيث استغلت … أنظمة الحكم ولاء … العائلة… وفتاوى رجال الدين… لتسويغ شرعيتها ، مما أدى إلى انكفاء الشعب والالتهاء بسد حاجاته اليومية وتأمين لقمة عيشه ..( حليم بركات ، 1996 ، ص/277) .(1/247)
والأسر الحاكمة اليوم لأكبر دليل بدءا من دول الخليج العربية ومرورا بالأردن والسعودية ومستقبلا بالعراق وسوريا وانتهاء بالمغرب وليبيا وربما مصر ، فان لم تكن أسرة إلا أنها طائفة أو أقلية أو جماعة ريفية عصبوية من قرية أو من ناحية ما من الوطن العربي ، وخاصة في مرحلة المد الوطني والقومي ، أيام كانت الشعوب مخدّرة-Narcotic بالشعارات الوحدوية والقومية ولم يتح لها أن تسأل عن اصل وأرومة أهل الحل والعقد آنذاك… والغريب أنها كانت تنام على الجوع والفقر او على الخبز والحشيش والقمر كما يقول نزار قباني ، ولم يكن همها تحسين مستواها المعيشي… بل كان غذاءها الشعارات التي خدّرها بها النظام الحاكم الذي استكلب ولم يزل على تحقيق اكبر قدر من الثروة والسطوة والقوة والقهر والاذلال ، او يمن على خلق الله بتوزيع المؤن والزيت والتي استجداها من الدول المانحة لقطعانه – رعيته- للألهاء والتسكين والانشغال بالأكل والطبخ والنفخ ، وانتظار موعد التوزيع التالي وتعويدهم شهريا أو دوريا - كنمط تشريطي /حيواني - Stipulation كما لو ان النظام السياسي يعمل على تبهيم – Brutalize أو كلما شعر النظام بالخطر والاحتقان والسخط ، طالبا منها الاستشهاد والتضحية في سبيل الوطن بصنع او اختلاق ازمة -Crisis أما هو – النظام- فله عالمه وهو الحفاظ على البرج العاجي وحمايته بشتى الاجهزة الأمنية والقمعية والاستثراء الفاحش بشتى الطرق ، ومقاسمة الناس لقمة عيشها او دخلها أو أرباحها بالأتاوة تارة وبالخاوة تارة اخرى ، والعمل على اطالة عمر الزعيم ونظامه الى ما شاء الله ، حيث يقول حليم بركات عن تلك الفترة وما يعقبها ..إن الثروة حلت محل الثورة… إذن فأين هو المجتمع أو الشعب الذي يجرؤ على الوقوف في وجه السلطة والنظام الحاكم ويطالب بالتغيير وإصلاح الأوضاع …؟(1/248)
إن الجرأة لدى العائلات والأسر والقبائل ، أما الشعب فهو ملجم ومشترى ومسيّس … لكن من هي الأسر والقبائل وما هي طبيعتها ونسق تركيبتها …؟ انهم التجار والصناعيون والرأسماليون والإقطاعيون ورؤساء القبائل ، حيث اسهموا في إنشاء وإدارة دفة الحكم على حساب غالبية الشعب المعدم …وطالما أن المجتمع في مثل هذه الحالة هرمي في بنيته الاجتماعية ومنقسم بين أغلبية محرومة وكادحة ومعدومة ، وأقلية نافذة وموسرة وقابضة على دفة الحكم ، فان نظام الحكم جاء حسب أهوائها ولمصالحها ، فاصبح أمام الغالبية الشعبية في سبيل نيل الحظوة وقضاء مصالحها عند الأقلية الحاكمة ، أن تنافق وتداهن وتتزلف وتستعين بالوسطاء ..( واتباع كالواسطة والرشوة والجنس والمحسوبية ) .. -التشديد من عندنا-(حليم بركات ، 1996 ، ص/ 282) و(هشام شرابي ،1993 ، ص/87) .(1/249)
من هنا نستطيع أن نحدد أو نلمس سر ديمومة الفوضى تسري في جسم المجتمع العربي وسبب الإصرار على إبقائها ولمصلحة من وما القصد منها … فالفوضى منتشرة لدى الغالبية العظمى من الشعب المحروم والأفراد المسحوقين ، بل أن أحد أسباب وجودها هو التناقض الاجتماعي-Social Contradiction المتعلق بالتركيبة الاجتماعية والهرم الطبقي للسكان ، والذي نتج عن الاختلال في التنظيم الاقتصادي والديني خاصة بعد ادعاء بعض الأسر العربية الحاكمة اليوم بأنها تنتسب للرسول الهاشمي الكريم ، منعا من الثورة ضدها على اعتبار انها – وحسب زعمها وتلفيقاتها – أن من يثور عليها او لا يمنحها الطاعة فكأنما يثور ويحارب الرسول الكريم …! الأمر الذي انتج جبنا وخنوعا ورعبا ما زال متأصلا في النفوس جراء الترهيب والبطش او بالترغيب ، حيث نشأ وهنا تنظيميا في النسق الاجتماعي والعلاقات الاجتماعية والاستكلاب في خدمة البطانة الحاكمة وكأن هناك مضمار سباق للكلاب –Dog Race ، والفوز فيه او الغنيمة او المكافأة للذي يصل اولا – ويخدم باخلاص- وهذا ما نسميه بالسعار او بالاستكلاب ، حتى شمل ذلك الطبقات البرجوازية الكبرى بسبب التفاوت في الامتيازات والثروة والنفوذ والمصالح والحكم ، والتي أدت إلى بروز صراعات سياسية واجتماعية وطبقية بينها ، مشكّلة حبلا سريا من الحبال المغذية للفوضى العارمة ..وهذا يعود للذهنية السائدة التي لا تقتصر على طبقة دون أخرى ، بالإضافة إلى عدم إجراء التحولات والتغيرات الضرورية للنظم والبنى الاجتماعية والاقتصادية والسياسية للمجتمع العربي .. ( حليم بركات ، 1996 ، ص/ 289 ) .
ولو افترضنا حدوث تغيير اجتماعي نتيجة مشكلة اجتماعية كالفوضى مثلا ، فما هي إفرازات ومخرجات هذا التغيير على مختلف شرائح السكان أو المجتمع العربي ، والتي تواجه حاليا تحولات اقتصادية وسياسية (واجتماعية ولو بتحفظ) فماذا سينتج …؟ لنرى(1/250)
سيكون هناك شرائح وضحايا وقرابين وأموات أحياء وأحياء أموات –Blunt & Impassible وهذه الأخيرة هي التي تهمّنا حيث يصفها معن خليل عمر ..انهم يحيون حياة الدواب أو كقطيع من الغنم يأكلون ويشربون ليومهم ، ولا وجود ولا فاعلية لهم في الحياة الاجتماعية، ولا يغيّرون ولا يتغيرون بل يساقون سوقا نحو الحياة ، فلا طموح لهم ولا يقدمون أفعالا أو أفكارا جديدة أو خّلاقة ومبدعة لإنماء حياتهم ولا ينفعلون بحياتهم الاجتماعية ، انهم أموات اجتماعيا وأحياء جسديا… يكرهون التجديد ويعشقون المسكون الخانق ويحلمون بالماضي وينامون في الواقع… انهم إفراز معضلة اجتماعية … أسرية وقبلية… سببها تعسف النسق المحوري في البناء الاجتماعي ، وهي اكبر مشكلة ، وحلها يتطلب إزالة النسق المحوري واستبداله .. ( معن خليل عمر ، 1998 ، ص/34)… وهذا يؤيد وجهة نظرنا بضرورة بل وحتمية تغيير أنظمة الحكم الاستبدادية (المحورية) .
بالإضافة إلى الفئتين السالفتين فهناك شريحة تتسم باللوبان الاجتماعي - وهي مشتقة من لاب لوبا ولوبانا أي استدار وحام حول الماء وهو عطشان ولا يصل إليه ، وهي على الأكثر عامية الاستعمال ، ولكن اجتماعيا تعني الدوران والوثوب في محيط اجتماعي ضيق تبحث عن مخرج لكي تحيا حياة جديدة ، إلا أنها كبحت وطوّقت بمواقع قيمية وعقائدية وقمعت قسرا بقوانين متعاكسة مع الطبيعة البشرية ..وهي تعيش بين الحياة والموت وبين الحركة والسكون فهي تقفز إلى الأعلى لكنها ترتطم بالواقع الجامد كحالة المجتمع العربي .. (المصدر السابق،ص/34) .(1/251)
وهناك شريحة تعيش حالة الرهاب الاجتماعي-Social Panic وتتمثل هذه في المجتمعات غير الديمقراطية أو ذات البناء المتصلب ذات الحزب أو الرجل الواحد أو الأسرة الواحدة ، والتي يكون الفرد فيها غريبا عن الفئة الحاكمة ومراقب ويعاقب بشدة ، ومهزوم داخليا وخائفا ومتشككا من الآخرين حيث تتحول هذه المعاناة إلى شعور قمعي داخلي تسبب له الاكتئاب نتيجة العزلة .
ويضيف معن خليل عمر فئة أخرى وهي تجسد صورة الإنسان في المرآة المهشّمة والتي تعكس صورة الإنسان غير المكتملة- Stigmatic بسبب التغير الاجتماعي ، ونتيجة التعامل مع الآخرين والمحيطين به خاصة إذا كانوا من فئة الوصوليين والانتهازيين ، بالإضافة إلى شريحة الصراع الخفي والطبيعي ، الذي يعكس سبب تباين وتعارض معايير القيم والمعتقدات لدى الجماعات المتعددة (الأسر والعائلات ) والتي ينتمي إليها الفرد في سبيل إشباع حاجاته ورغباته المختلفة ، حيث تكون هذه القيم والمعتقدات متباينة ومتنوعة تنعكس على سلوك الفرد ، وتسبب له تناقض في فعله الاجتماعي ( السلوك) الأمر الذي يولّد صراع طبيعي…سببه التغير والتبدل الاجتماعي .
واخيرا هناك شريحة الغريب في عالم راكد وهو الفرد الذي يعيش في مجتمع راكد ومحافظ وتقليدي-Obscurantism..حيث يشعر الفرد بالاغتراب عن عالمه الذي يعيش فيه ، وهناك غريب - Fusty يعيش في عالم متغير … وهو عكس الأول.. (المصدر السابق ، ص/ 37 ) .(1/252)
إذن ما فائدة التغيير الاجتماعي إذا كان سيفرز هكذا شرائح ستستمر كما هي ، لذا فتغيير أنماط التربية والسلوك والثقافة ونظام القيم والتقاليد والعادات والتنشئة الأسرية للفرد أجدى وأنجع ، ثم يتبع ذلك تغيير الذهنية السائدة لاجتثاث العصبية والطائفية-Sectarianism والعرقية والحياة القطيعية ، واخيرا يتم توجيه التغيير نحو نظام الحكم المحوري واجتثاثه واستبداله بنظام حكم يعتمد الديمقراطية والمشاركة الشعبية وسيطرة المجتمع المدني على المؤسسات وليس العكس ، وتفعيل آليات الضبط الاجتماعي وبسط سلطة القانون وفصل الدين عن الدولة وتأميم أملاك الأوقاف والطوائف الأخرى ، بعدها يتم تسليم النشئ ( الفرد) للدولة لتربيته وإنشائه وتثقيفه بشكل مستقل عن عائلته باعتبارها دولة الرفاهية والرعاية من جهة ، وان الفرد ليس ملكا لأسرته بل للمجتمع -الدولة لتجنيبه الأمراض والعلل الاجتماعية ، وهكذا نصل إلى ما يسمى بالمجتمع والذي سيكون له دور فاعل ومنتج وصانع قرار ، لسبب واحد فقط وهو أننا في هذه العملية استطعنا أن نخلق اندماج ومساواة وتربية ونسق وتنظيم اجتماعي موحد للجميع ، فالشعب -المجتمع - العربي حاليا .. عاجز تجاه الدولة والعائلة… المبنية على أيدلوجية هرمية سواء في البيت أو بالعمل أو بالتربية أو بالسياسة أو بالعبادة ، فهو…عبارة عن جماعة… ( أو جماعات)…-التشديد من عندنا- وليس مجتمع.. ( حليم بركات ، 1996 ، ص/ 428) .(1/253)
ومما يؤيد ما طرحناه سالفا من أن أسباب المشكلة الاجتماعية في المجتمع العربي تتضح وتتحدد ضمن أسباب وعوامل الأسرة والذهنية السائدة ونظام الحكم السائد ، أي البدء من القاعدة ، وفي هذا الصدد يطرح الدكتور شرابي آلية التصور نفسها ولكن بشكل معكوس أي من أعلى الهرم ( من القمة) فيقول ..علينا أن نبدأ من خلال القيادة - القيادة الحاكمة -ثم ننطلق إلى الذهنية بوسائل واليات التغيير الضرورية والتي ستفعل فعلها وتدك أسس النمط العائلي والقبلي في المجتمع العربي .. ( هشام شرابي ، 1993 ، ص/ 101)…إذن شرط التغيير الاجتماعي مرهون بالتغيير السياسي والعمل على استقلاليته ، بمعنى أن التغيير سيتم عبر انقلاب وعنف ثوري ولكن من نوع مختلف حسب قول احد الكتاب ..ان تجميع هذه الاسباب (اسباب التخلف ) سيحتاج الى ثورة لكنها مختلفة عن الثورات ...ثورة تضع في اهتمامها تثوير المجتمع … ثورة تبدأ من تحت وليس من فوق ...تتحقق بسيرورة متدرجة ذات ابعاد متعددة في كل المجالات ..(ماهر الشريف ، 2000 ، ص/190) جيد ، ولكن من يضمن عدم عودة النخب والنسق المحوري لنظام الحكم كالسابق ...؟ فالعراق وسوريا وليبيا ومصر واليمن والجزائر والسودان قادت انقلابات أطاحت بأنظمة الحكم المحورية والاستبدادية ، فمن يحكم هذه الأقطار الآن…؟ أليست أنظمة حكم محورية ديكتاتورية – عسكرية مشابهة…؟ إذن عندما نبدأ من القاعدة لا مجال لعودة القيادة / والنخبة المحورية ، بل ستكون القيادة شعبية مسطّحة تماما كالثورة الفرنسية ، إذن التغيير يتم عبر ثورة شعبية شاملة وليس عبر تغيير ثوري انقلابي .(1/254)
أما الفوضى وانعكاساتها على القيم والثقافة وأنماط التربية والبناء الاجتماعي والسلوك والشخصية والسلطة السياسية ، فهي تتعلق بنمط وآلية التغيير والتي قصدنا بها نمط التغيير والقفز والتدرج –Intergradation ، بمعنى أننا لو أحدثنا تغييرا ما على الأنماط السالفة فسنقع في مشكلة اجتماعية جديدة ، لان ذلك يتطلب منا أن نكون واعين ومدركين لطبيعة المشكلة ، ولا يكفي أن نعيشها أولا ، ولأننا عاجزين عن إيجاد حلول لها ثانيا ، فلأن طبيعة نشأتنا غير سوية ومشّوهة وتقديسنا للتقاليد والعادات والقيم الماضوية ، وخاصة فيما يتعلق بالثقافة ، والتي ترتبط بالنظام العام للمجتمع الذي يشتمل على البنى والنظم والقيم الاجتماعية وتقسيم العمل ووسائل الإنتاج ، حيث يكون السلوك من مخرجاتها وانعكاس لها …لنطّبق هذا التعميم على المجتمع العربي ونفحص طبيعة السلوك السائد …انه حتما فوضوي …لنرى الفرد العربي ونشّرح نمط سلوكه الناتج من خلال رصد يوم واحد ، فبماذا نعللّه… على أساس انه لب المشكلة الاجتماعية… وهذا صحيح ، ولكن كيف…؟ ..إن ارتباط المؤسسات الاجتماعية وتكافل وظائفها من اجل استقراء البناء الاجتماعي… له علاقة مباشرة بقيم المجتمع والفرد ، لذا فان مصدر المشكلات هو الفرد بسبب تجاوزه ورفضه لقوانين وضوابط مجتمعه ( كمعايير وقيم ) وبسبب تعجنه- Impaste في بيئته الداخلية …الأسرة… وضرورة إعادة تربيته..(معن خليل عمر ، 1998 ، ص/58) .(1/255)
ولهذا كان استغلال الزمن ينم عن فوضى ( عبثية) جرّاء التخلف في التعامل معه وعدم استغلاله واستثماره واحترامه ، بسبب عدم احترامنا لذاتنا الإنسانية والآخر ، من منطلق العصبية والقبلية والطائفية والغيبية ، الأمر الذي انتج زمنا جدليا متقطعا وليس تسلسليا ، على هذا الأساس فالعربي دائم التشدّق بحضارة هارون الرشيد والمأمون وطب ابن سيناء وفلك الرازي ورياضيات الخوارزمي وشعر المتنبي وغناء زرياب … لكن أين نتاج هذا التراكم العلمي والأدبي والفني بل والتقني والحضاري الآن ونحن في عام /2005…؟ … إن الزمن ومفهوم الوقت ومعنى الحياة لدى الفرد العربي هي غاية وليست وسيلة ، لذا فقد انزرع في أعماقه حب الاستهلاك وقطف ثمار الغير بلا كد أو جهد ، ولنسأل الإنسان العربي.. لماذا لا تقوم بتصليح أو تصنيع جهاز راديو ترانزيستور مثلا…؟ فيجيبك من فوره ، لماذا وجدت أوروبا واليابان إذن…؟ إن ذلك يعكس قلة الحيلة وانعدام الوسيلة وتفضيل الغاية ، ولهذا فقد اكتسب إنسان العالم الثالث والإنسان العربي من ضمنه صفة ( العالة على البشرية- Pauper) فهذه النوعية من البشر هي التي ينطبق عليها نتاج شريحة الحي الميت التي شرحها معن خليل عمر عند حدوث التغيير الاجتماعي ، وخاصة الفرد العربي الذي يضع نفسه وذاته فوق الزمان والمكان وخارج التاريخ والاعتماد على الصدفة (والأجاويد) من دول العالم ، إن هم العربي هو بطنه وجيبه وارواء شبقه الجنسي وشعاره الذي فعلا يليق به مع معطيات تفكيره وذهنيته المحدودة هو الماء والخضراء والوجه الحسن .(1/256)
إن مسؤولية الحالة التي يعيشها المجتمع العربي حاليا يتحملها نظامه السياسي بالإضافة إلى تركيبة ذهنيته (لان هيك الله خلق له مخه) –كما يقول دائما- فهذه العبارة كثيرا ما نسمعها ويرددها العربي بتفاخر وشموخ ، فإذا كانت هذه أخلاق وسلوك وأفكار الفرد ، فهي نتاج الأسرة والتي تعكس نتاجها على مجمل المجتمع ككل ...وطبيعي أن يكون نتاج كهذا … التخلف والجهل والفوضى … والعنف…عنف بلا حدود ومتنوع وشامل لكافة طبقات المجتمع ، إنها …قوة التعدّي … نتيجة صراع مؤذي ومحطم في طبيعته ، وسببه هو الدوافع الأساسية في حياة الفرد وحاجاته من جهة ، وبين النظم والمقاييس الاجتماعية والمثل الفردية التي اعتنقها واكتسبها بالتجربة والثقافة والعلم من جهة أخرى ، بالإضافة إلى وجود اضطراب في الشخصية ووجود خطر خارجي ( حقيقي أو متخيل) أو نتيجة لفقدان التوازن بين قوة وشدة التجربة التي يعيشها ، وخاصة بعد استنزاف طاقة الكبت أو لجم دوافع التعدي وانهيار المناعة النفسية للفرد نتيجة الإرهاق والقلق ، أي أن هناك تهيئة نفسية وجسمانية للعنف تتفاعل مع بعضها البعض ، تؤدي إلى انفجار الفرد في لحظة مواتية مع ظرف عرضي أو خاص .
إذن العنف ناجم عن فوضى القيم وهي نتاج التخلف الاجتماعي وخاصة في ظل هيمنة التقاليد والعادات والقيم والسلوك القبلي /العائلي ، والذي يتسم بالنزعة القطيعية التي يستند إليها الفرد لكن هذا لا يكفي كسبب ومبرر للعنف ، فهناك تعسّف السلطة وفشل الأفراد في تغيير الواقع وإسقاط القهر والإذلال الكامن في ذواتهم على الغريب / الآخر ولو من نفس القرية أو المنطقة ، وهي نتيجة العصبية العمياء ونتيجة لعوامل نفسية وعصبية يعانيها الفرد .(1/257)
إن وسائل الإعلام والتربية والتعليم وآليات الضبط الاجتماعي وفرض القانون ، باعتبارها منظم للعلاقات الاجتماعية هي التي تواجه سيطرة العرف العشائري ، وطبيعة ونمط التنشئة الأسرية والذهنية الغيبية وطبيعة التنافس الاستكلابي نحو تحقيق الأهداف والرغبات ، أو لنيل مكافأة مادية أو معنوية والرد على نظام القيم والعادات وأنماط التربية ونظام الحكم السائد .
أمام هذا الطوفان من التخلف والعنف والفوضى ماذا تجدي سياسة العالم الجديد والعولمة والانفتاح الاقتصادي والثقافي والسياسي والحضاري من اجل خلق عالم مستقر يعمه السلام والأمن والاطمئنان ، والعمل على تلطيف الحياة الإنسانية وتسهيلها وتوفير السلع وزيادة الإنتاج والتخفيف من حدة الفقر والبؤس والمرض ، وخاصة في دول العالم الثالث ومن ضمنها العالم العربي …؟
إن المعسكر الغربي ( مخترع العولمة ) وصاحب هذه الشعارات والأهداف السالفة الذكر لا بد انه إما يحلم… أو انه يعمل على تخدير العالم الثالث بتخفيف آلامه أو ينوي ذبحه على البارد بهذه الشعارات .(1/258)
وقبل ان نختم لا بد من الاشارة الى اهمية الدين - واقصد هنا بالدين السماوي- كمحدد ومقياس ومعيار ضابط للظواهر والمشكلات الاجتماعية في البناء الاجتماعي ، فرغم سوء استغلاله الا انه يبقى هو الفيصل والاداة الحاسمة في علاج العلل والامراض الاجتماعية المنتشرة والمتفشية في جسم المجتمع العربي ، واعتقد حاليا ان يزداد التوجه اليه كملاذ ودواء شافي لتحصين الافراد والجماعات في مواجهة العلل الاجتماعية ، وسيزداد ظاهرة التمسك به بل ومن المؤكد ان ما نسميه بالتدين –Proselytization ستشتد وتيرته ردا على تقاعس الانظمة المتسلطة في العالم العربي من جهة ، ورغم الهجمة التي يتعرض لها من قبل زعيمة ما يسمى بسياسة العالم الجديد من جهة اخرى ، ولن تجدي نفعا سياسة تطهير المناهج من الافكار الدينية رغم ما يعقد لها مؤتمرات امنية بدعوة مكافحة التطرف والارهاب ، ولن يتم ذلك بتاتا ان لم تحل قضايا المجتمعات العربية الاقتصادية والاجتماعية والمعيشية ومشكلة البطالة واتاحة الفرص امام افراده وتحقيق العدالة الاجتماعية ، وبدون ذلك ستزداد مسألة التدين وخاصة في قطاع الشباب.
إننا لسنا متشائمون أو متفائلون ولكننا واقعيون ، وقبل أن نلتحق بركب العالم المتحضر والمتقدم واعتبار أنفسنا إنسانيين أسوة بالآخرين ، يجب علينا الاعتراف بهم ، وقبل كل شئ علينا أن نجتث تخلفنا وجهلنا وفوضويتنا وأنماط تربيتنا ونظم تنشئتنا وذهنيتنا وأنظمة حكمنا المحورية ، ونؤمن بان الديمقراطية والعدالة والمساواة والحرية والمشاركة السياسية هي أهم ما نصبو إليه ضمن محاولاتنا من اجل التغيير .
مصطلحات ومفاهيم
احباط ( فشل – خيبة ) Frustration
اجتياف ( تشرب – غرس ) Introjection
اسقاط ( اختبار لكشف حقيقة) Projection
اضطهاد ( مضايقة ) Persecution
اللاوعي ( عقل باطني- شعور لامنطقي ) Unconscious
انعدام الكفاءة الاجتماعية ( غير مؤهل ) Incapability Social(1/259)
اهتياج ( هياج – شعور العاجز والمسحوق) Agitation-Maniac
انتباه Attention
اتجاه Attitude
ادراك – وعي – فهم Apprehension - Awareness
استنباط – استنتاج Inference-Elicitation
اكتئاب ( حزن – وهن ) Depression
انحراف Deviation
انطباع ( صورة في الذهن ) Impression احتذاء ( تقليد – محاكاة ) Imitation- Emulation
اخلاق Morals
ادراك حسي ( قدرة على الفهم) Perception
اذعان – خضوع Compliance- Submission
استجابة – رد فعل Reaction-Response
ارادة Will
احتكار Monopoly
انسحاب ( تخفيف التوتر ) Withdrawal انتعاش- تلذذ - استطعام Relish
ابتسامة مصطنعة Simper
اجتثاث Eradication
تخلف ثقافي Cultural Lag
الوضعيون الجدد Neo- Positivism
نسق مغلق Closed System
جنون العظمة ( مرض عقلي) Paranoia موضة Vogue
ابتزاز Extortion
اجازة رقابية ( رقابة على المطبوعات ) Nihill Obstat
فساد Malversation
يعيد الصياغة ( بناء وتركيب ) Recast
يصّعد Escalate
وحي- الهام Revelation
سطوة- هيمنة Ascendency
النقطة او اللحظة الحرجة Climacteric
سلب ونهب Depredation
ساخط على نظام الحكم Malcontent
يسب الذات الالهية Blaspheme
مثير للجدل Controversial
مجدب – ممحل Aridity
يصعب تعليمه Ineducable
علامات الساعة – القيامة Crack of Doom
مزمن – عضال Remediless
عرّاف – منّجم Augur
عباءة Mantle
ضرورة ملحة Exigency
شعوذة Conjuration
شذوذ Oddity
سيطرة المرأة على زوجها Henpeck
تسامح ديني Toleration
زير نساء Amorist
زواج عرفي Companionate Marriage
الروح القدس Paraclete
رتابة Monotony
دفيئة – مستنبت Hotbed
داجن Tame
خيانة عظمى High Treason
الخوف من الموت Necrophobia
عار – خزي Ignominy
اساطير – خرافات Legendry
خطاب – خطبة Oration
اداب السلوك والحشمة Decency
خروج عن الاجماع Heterodoxy
حلقة مفقودة Missing link
تشريب عقائدي ( الحزب الواحد) Indoctrination(1/260)
تطهير النفس Self Purification
تطهير العواطف ( التنفيس ) Catharsis تصدع Dissociation
اختلاق Fabrication
احتقان Congestion
قسمات – اسارير Lineament
اساءة استخدام السلطة Misfeasance
استجداء Medicancy
استعراض الماضي واستعادته Retrospection
المراجع والمصادر
* كتب
إبراهيم ، حيدر وآخرون . العولمة والتحولات المجتمعية في الوطن العربي . ط/1، القاهرة : مكتبة مدبولي ، 1999 .
إبراهيم ، سعد الدين وآخرون . المجتمع والدولة في الوطن العربي . ط/2 ، بيروت : مركز دراسات الوحدة العربية ، 1996 .
أبو جادو ، صالح محمد علي . سيكولوجية التنشئة الاجتماعية . ط/1 ،عمان : دار المسيرة للنشر والتوزيع والطباعة ، 1998 .
أبو رمان ، حسين وآخرون . المجتمع والدولة في الوطن العربي : في ظل السياسات ( الرأسمالية الجديدة) ، المشرق العربي . ج/3 ، ط/1 ، القاهرة : مكتبة مدبولي ، 1998 .
الأطرش ، محمد وآخرون . العرب وتحديات النظام العالمي . ط/1 ،بيروت : مركز دراسات الوحدة العربية ، 1996 .
بركات ، حليم . المجتمع العربي المعاصر: بحث اجتماعي استطلاعي . ط/5 ، بيروت : مركز دراسات الوحدة العربية، 1996 .
التل ، غسان . المجتمع العشائري : قضايا ومشكلات . ط/1 ، اربد : دار الكندي للنشر ، 1999.
الجسماني ، عبد العلي . علم النفس وتطبيقاته الاجتماعية والتربوية . ط/1 ، بيروت : الدار العربية للعلوم ، 1994 .
حارب ، سعيد وآخرون . الثقافة والاستهلاك : تجربة دولة الإمارات العربية المتحدة . ط/1 ،الشارقة : دار الثقافة والإعلام ، 1994 .
حجازي ، مصطفى . التخلف الاجتماعي : مدخل إلى سيكولوجية الإنسان المقهور . ط/7 ، بيروت : معهد الإنماء العربي ، 1998 .
حجازي ، مصطفى . حصار الثقافة بين القنوات الفضائية والدعوة الأصولية . ط/1 ، بيروت : المركز الثقافي العربي ، 1998.(1/261)
حوراني ، البرت . الفكر العربي في عصر النهضة ( 1798- 1939 ) . ترجمة كريم عزقول ، بيروت : نوفل للنشر، 1997 .
الخوري ، فؤاد اسحق . الذهنية العربية : العنف سيد الأحكام . ط/1 ، بيروت : دار الساقي ، 1993
الدقس ، محمد . التغيير الاجتماعي بين النظرية والتطبيق ، ط/2 ، عمان : دار مجدلاوي للنشر ،1996 .
دويري ، مروان . الشخصية ، الثقافة والمجتمع العربي . ط/1 ، الناصرة : 1997.
الربيعي ، فاضل . كبش المحرقة : نموذج لمجتمع القوميين العرب . ط/1 ، بيروت : بيروت : رياض الريس للكتاب والنشر ، 1999.
رضوان ، شفيق . علم النفس الاجتماعي . ط/1 ، بيروت : المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر ، 1996.
زكريا ، فؤاد . آراء نقدية في مشكلات الفكر والثقافة . القاهرة : الهيئة المصرية العامة للكتاب ، 1975 .
زيعور ، علي . التحليل النفسي للذات العربية . ط/1 ، بيروت : دار الطليعة للطباعة والنشر ، 1987.
سلامة ، غسان . المجتمع والدولة في المشرق العربي . ط/1 ،بيروت : مركز دراسات الوحدة العربية ، 1987.
سلامة ، غسان وآخرون . ديمقراطية من دون ديمقراطيين . ط/1 ، بيروت : مركز دراسات الوحدة العربية ، 1995 .
سلامة ، غسان وآخرون ، الأمة والدولة والاندماج في الوطن العربي . ط/1 ، بيروت : مركز دراسات الوحدة العربية ، 1989 .
سويف ، مصطفى . مقدمة لعلم النفس الاجتماعي ، ط/4 ، القاهرة : مكتبة الانجلو المصرية ، 1975
شرابي ، هشام . النظام الأبوي وإشكالية تخلف المجتمع العربي . ط/2 ، بيروت : مركز دراسات الوحدة العربية ، 1993 .
شرابي ، هشام .مقدمات لدراسة المجتمع العربي . ط/4 ، بيروت : دار الطليعة للطباعة والنشر ، 1991.
شرابي ، هشام .النقد الحضاري للمجتمع العربي في نهاية القرن العشرين . ط/2، بيروت : مركز دراسات الوحدة العربية ، 1999.
الشريف ، ماهر . رهانات النهضة في الفكر العربي . ط/1 : دار المدى للثقافة والنشر، 2000(1/262)
شكور ، جليل وديع . أمراض المجتمع . ط/1 ، بيروت : الدار العربية للعلوم ، 1998.
عباس ، فؤاد إبراهيم واحمد عمر شاهين . معجم الأمثال الشعبية الفلسطينية . ط/1 ، عمان : دار الجليل للنشر والدراسات والتوزيع ، 1989 .
عبد الفضيل ، محمود . التشكيلات الاجتماعية والتكوينات الطبقية في الوطن العربي . ط/2 ، بيروت : مركز دراسات الوحدة العربية ، 1987 .
عبوشي ، واصف . العربي العصري ، منشورات جامعة بير زيت : 1980 .
عثمان ، ابراهيم واخرون . مبادئ علم الاجتماع . ط/1 ، عمان : جامعة القدس المفتوحة ، 1992 .
العظم ، صادق جلال . ذهنية التحريم . ط/3 ، قبرص : مركز الأبحاث والدراسات الاشتراكية ، 1997.
العظم ، صادق جلال . ما بعد ذهنية التحريم . ط/1 ، قبرص : مركز الأبحاث والدراسات الاشتراكية ، 1997.
عمر ، معن خليل . علم المشكلات الاجتماعية . ط/1 ، عمان : دار الشروق للطباعة والنشر والتوزيع ، 1998 .
عمر ، معن خليل . نظريات معاصرة في علم الاجتماع . ط/1 ، عمان : دار الشروق للطباعة والنشر والتوزيع ، 1997 .
عمر، معن خليل . البناء الاجتماعي : أنساقه ونظمه . ط/2 ، عمان : دار الشروق للنشر والتوزيع ، 1997
عمر ، معن خليل وآخرون . مدخل إلى علم الاجتماع . ط/1 ، عمان : دار الشروق للطباعة والنشر والتوزيع ، 1992 .
غلاب ، عبد الكريم . أزمة المفاهيم وانحراف التفكير . ط/1 ، بيروت : مركز دراسات الوحدة العربية ، 1996 .
غليون ، برهان . المحنة العربية : الدولة ضد الأمة . ط/2 ، بيروت : مركز دراسات الوحدة العربية ، 1994 .
قباني ، عبد العزيز . العصبية بنية المجتمع العربي . ط/1 ، بيروت : دار الآفاق الجديدة ، 1997.
كمال ، علي . النفس : انفعالاتها وأمراضها وعلاجها . ط/2 ، بغداد : دار واسط للدراسات والنشر والتوزيع ، 1983 .
الكواكبي ، عبد الرحمن . طبائع الاستبداد ومصارع العباد . القاهرة : مطبعة الامة ( بدون تاريخ ) .(1/263)
لبيب ، الطاهر وآخرون . الثقافة والمثقف في الوطن العربي . ط/1 ، بيروت : مركز دراسات الوحدة العربية ، 1992 .
المنفلوطي ، مصطفى لطفي . النظرات ( 1-3) . بغداد : مكتبة النهضة ، 1983 .
ناصر ، ابراهيم .التربية المدنية ( المواطنة ) . ط/1، عمان : مكتبة الرائد ، 1994
النقيب ، خلدون . الدولة التسلطية في المشرق العربي المعاصر . ط/2 ، بيروت : مركز دراسات الوحدة العربية ، 1996 .
* دوريات ومجلات وصحف
أبو زيد ، احمد . تحديات القرن الواحد والعشرين ، مجلة العربي ، العدد / 494 ، ك/2 2000
البكوش ، عبد الحميد . الإسلام والإنسان ، مجلة العربي ، العدد /471 ، شباط 1998 .
الخفاجي ، عصام وآخرون . هامشيون في المدن العربية ، العدد /4 ، دار كنعان للدراسات والنشر ، دمشق : 1993 .
الرميحي ، محمد . متى تنتهي حيرتنا العقلية وتبدأ معجزتنا الاقتصادية …..؟ ، مجلة العربي ، العدد /470 ، ك/2 1998 .
سعيد ، محمد السيد . التحول الثقافي هو طوق النجاة ، مجلة العربي ، العدد /494 ، ك/2 2000 .
شيللر، هربرت . المتلاعبون بالعقول ، ترجمة عبد السلام رضوان ، ط/2 ، سلسلة عالم المعرفة الصادرة عن المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب ، العدد /243، الكويت : 1999 .
صالح ، محمد . الكنز ، مجلة العربي ، العدد /494 ، ك/2 2000 .
عبيد ، منى مكرم . مستقبل السلطة في عالمنا العربي ، مجلة العربي ، العدد /494 ، ك/2 2000 .
العسكري ، سليمان . نحن والعام 2000.. هل نواصل التقدم إلى الوراء ….؟ ، مجلة العربي ، العدد /494 ، ك/2 2000 .
العشماوي ، محمد سعيد . البراغماتية نظرة أمريكية للعالم ، مجلة العربي ، العدد /494 ، ك/2 2000.
عمار ، حامد . نحو تعلم المستقبل ، مجلة العربي ، العدد /494 ، ك/2 2000 .
علي ، نبيل . العقل العربي وسط الحصار المعلوماتي ، مجلة العربي ، العدد / 494 ، ك/2 2000 .(1/264)
مجلة العربي ، الاعداد :- 470، 471 ، 509 ، 511 ، 512 ، 513 ، 514 ، 515 ، 516 ،518 ،529 ،537 ، 539 ، 541، 546 ، 547 ، 549 ، 550
مغربي ، فؤاد . فلسطين الذاكرة ، مجلة الدراسات الفلسطينية ، العدد /30 ، 1997 .
صحيفة القدس – الصادرة في القدس العربية .
صحيفة الايام – الصادرة في مدينة رام الله .
صحيفة الحياة الجديدة - الصادرة في مدينة رام الله .
مجلة البيادر السياسي - الصادرة في القدس العربية .
نبذة عن الكاتب :-
من مواليد رام الله عام 1956 .
حصل على الثانوية العامة من مدرسة هشام بن عبد الملك الثانوية / اريحا عام /1975.
حصل على درجة البكالوريوس في الاداب العامة في كلية الاداب بجامعة بغداد عام / 1979.
حصل على درجة الماجستير في الدراسات الاقليمية من كلية الدراسات العليا في جامعة القدس عام / 2001 .
عمل معلما بدولة الامارات العربية المتحدة من عام / 1980-1991 .
نشر اكثر من 150 مقالا وبحثا تحليليا في علم الاجتماع والجغرافيا السياسية والتاريخ الاسلامي في صحف القدس والايام والحياة الجديدة والنهار والصباح التونسية .
يعمل محاضرا غير متفرغ في مادة علم الاجتماع بجامعة القدس المفتوحة .(1/265)