بسم الله الرحمن الرحيم
ظاهرة الإساءة للنبي _صلى الله عليه وسلم_ وشريعته في الغرب
الشيخ أ . د . ناصر بن سليمان العمر
المؤتمر العالمي لنصرة النبي صلى الله عليه وسلم
ورقة الشيخ ناصر العمر: في المحور الأول؛ ظاهرة الإساءة
واس
مكتبة قصيمي نت لروائع الكتب
والكلام حولها يقع في محاور، هي:
1- مقدمة.
2- ثم حقائق سريعة تبين حجم الإساءة للنبي_صلى الله عليه وسلم_ في الغرب.
3- يليها: بيان صورة الإسلام لدى الغرب وأسبابها.
4- وأخيراً: تحرير مفهوم حرية التعبير واحترام الأديان والمقدسات.
أولاً مقدمة: العداوة القديمة.. والسنة الماضية.
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على محمد وعلى آل محمد، كما صلى على إبراهيم، وعلى آل إبراهيم، إنه حميد مجيد، وبارك على محمد، وعلى آل محمد، كما بارك على إبراهيم، وعلى آل إبراهيم، إنه حميد مجيد، وبعد:
إن الاستهزاء بمحمد_صلى الله عليه وسلم_ تكذيب وكفر بالله –سبحانه-؛ لأنه_صلى الله عليه وسلم_ "رَسُولٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ" [ الأعراف :61] ثم هو استهزاء وتكذيب بجميع الأنبياء والمرسلين، حيث إن من كذب بنبي فقد كذب بجميع الأنبياء، "إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ" [الأنبياء : 92] "آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ"[ البقرة:285].(1/1)
فما صنعه بعض النفر من الدنمارك، وأشد منه ما صنعه قبلهم قساوسة العصر، تبعاً لأسلافهم من رهبان الماضي، كفر بجميع الرسل، وتفلت عن القيم العالمية القاضية باحترام الأنبياء -عليهم السلام-، فضلاً عن كونه قلة أدب وسفه من قبيل سفه الصبيان الذين إذا أعجز أحدهم أمر لجأ إلى كيل السباب والتنقصات.
ولا شك أن اللجوء إلى هذا الأسلوب يدل على أن القوم قد أعيتهم الحيلة، وشعروا بالهزيمة المعنوية الممهدة للهزيمة الحسية، فاخرجوا آخر ما في كنانتهم من سهام...
وقد دأب أعداء الرسل -إذا أعيتهم حجة الإسلام البالغة ودمغتهم محجته الواضحة- دأبوا يسارعون في حيدة واضحة، ليخرجوا الحوار حول ذلك التشريع الرباني والهدي الإلهي الذي جاءتهم به الرسل من عند الله إلى قضية أخرى يعتمدون فيها على نقل المعركة من ميدانها الصحيح إلى ميدان لا يجاريهم فيه الشرفاء، فينتقصون من جاءهم بالحق من عند الله، ويرمونه بالمثالب والمعائب فعل العاجز عن مقارعة الحجة بالحجة المائل لصرف الناس عن الحق والهدى بتطوير الخصومة عن طريق استفزاز أصحاب الحق.
قال الله _تعالى_: "وَفِي مُوسَى إِذْ أَرْسَلْنَاهُ إِلَى فِرْعَوْنَ بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ" [ الذاريات: 38] جاء موسى وجاءت معه الحجة الظاهرة والسلطان المبين، فماذا فعل أستاذهم فرعون لما أتته تلك الحجج والآيات البينات؟ "فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ وَقَالَ سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ" [ الذاريات: 39] لجأ للتهم والسباب!(1/2)
ومع أن هؤلاء اليهود اكتووا بفرية فرعون"سَاحِرٌ كَذَّابٌ"[ص:4]، لكنهم لم يعتبروا فعادوا لمّا بعث موسى يقولون:"سَاحِرٌ كَذَّابٌ"!، قال ابن جرير في تفسيره بعد أن ذكر سنده لقتادة في قوله: "ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ" [مريم:34] قال: امترت فيه اليهود والنصارى، فأما اليهود فزعموا أنه ساحر، وأما النصارى فزعموا أنه ابن الله وثالث ثلاثة وإله، وكذبوا كلهم ولكنه عبد الله ورسوله، وكلمته وروحه (1) ؟. والشاهد رمي اليهود لعيسى بأنه ساحر كذاب، وقد أخبرنا الله عن حالهم، فقال: "وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَىَ شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ" [البقرة: 113].
__________
(1) تفسير الطبري 16/83.(1/3)
"وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلاَ تَتَّقُونَ" [الأعراف: 65] فكيف جابهوا تلك الدعوة؟ "قَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وِإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِين" [الأعراف: 66] .قال القرطبي: "في سفاهة أي في حمقة وخفة عقل" (1) ،وهكذا تسير قافلة الأنبياء، والصورة تتكرر؛ "كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم مِّن رَّسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ* أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ" [الذاريات: 52-53]. قال الطبري: يقول _تعالى_ ذكره كما كذبت قريش نبيها محمداً_صلى الله عليه وسلم_ وقالت هو شاعر أو ساحر أو مجنون كذلك فعلت الأمم المكذبة رسلها الذين أحل الله بهم نقمته كقوم نوح وعاد وثمود وفرعون وقومه ما أتى هؤلاء القوم الذين ذكرناهم من قبلهم يعني من قبل قريش قوم محمد_صلى الله عليه وسلم_ من رسول إلا قالوا: ساحر أو مجنون كما قالت قريش لمحمد_صلى الله عليه وسلم_ (2) . قال القرطبي: "أتواصوا به"! أي: أوصى أولهم آخرهم بالتكذيب وتواطؤوا عليه، والألف للتوبيخ والتعجب، بل هم قوم طاغون أي: م يوصي بعضهم بعضا بل جمعهم الطغيان.
__________
(1) تفسير القرطبي 7/236.
(2) التفسير 27/9(1/4)
وهذا الطغيان الجامع لأعداء الرسل دأب أهل الباطل جميعاً كما يقول الأستاذ سيد قطب في تعليقه على كلمة فرعون في موسى"إِنِّي أَخَافُ أَن يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَن يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ" [غافر: 26] ."أليست هي بعينها كلمة كل طاغية مفسد عن كل داعية مصلح؟ أليست هي بعينها كلمة الباطل الكالح عن وجه الحق الجميل؟ أليست هي بعينها كلمة الخداع الخبيث لإثارة الخواطر في وجه الإيمان الهادئ؟ إنه منطق واحد يتكرر كلما التقى الحق والباطل، والإيمان والكفر، والصلاح والطغيان، على توالي الزمان واختلاف المكان؛ والقصة قديمة مكررة تعرِض بين الحين والحين".
وإليك بعض نصوص التلمود عن المسيح عيسى بن مريم لتعلم أن القوم على طريقهم سائرون:-
- ... جاء في التلمود : "إن المسيح كان ساحرًا ووثنيًا".
- ... وقالوا: "إن يسوع الناصري موجود في لجات الجحيم بين الزفت والقار".
- ... وفي التلمود: "لقد ضلل يسوع, وأفسد إسرائيل وهدمها".(1/5)
ويا سبحان الله إن من العجب أن أشد الناس بلاءً هم أعظم الناس حرمة، وهم الأنبياء كما ثبت في الأحاديث الصحيحة، فإذا كان إيذاء المؤمنين الطيبين بغير ما اكتسبوا بهتان وإثم مبين كما قال _تعالى_: "وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَاناً وَإِثْماً مُّبِيناً" [الأحزاب :58] . فإن إيذاء الخاصة أشد إثماً، ولهذا جاء في أشرف أحاديث الأولياء "من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب" (1) ، وإيذاء أهل العلم والدعاة منهم أشد حرمة حتى قال الحافظ ابن عساكر -رحمه الله- اعلم وفقني الله وإياك لمرضاته وجعلنا ممن يخشاه ويتقيه حق تقاته أن لحوم العلماء مسمومة وعادة الله في هتك منتقصيهم معلومة وأن من أطلق لسانه في العلماء بالثلب بلاه الله قبل موته بموت القلب "فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ" [النور: 63] .لأن الوقيعة فيهم بما هم منه براء أمره عظيم ، والتناول لأعراضهم بالزور والافتراء مرتع وخيم ، والاختلاق على من اختاره الله منهم لنعش العلم خلق ذميم ، فكيف إذا كان هذا العالم أو الداعية ممن أصفاه الله على العالمين إنسهم وجنهم، بل وملائكتهم "إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ * ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ" [آل عمران: 33-34]
وقد قال _سبحانه_: "إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً مُّهِيناً) [الأحزاب: 57].
__________
(1) صحيح البخاري 5/2384.(1/6)
إن مما خُبرنا به من أنباء الماضين أن بلعام ابن بعاورا كان من بني إسرائيل، وزعموا أنه علم اسم الله الأعظم فسخر علمه في حرب نبي الله موسى وشرع يدعوا عليه، فقال الله في القرآن مبيناً مثله: "وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِيَ آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ (175} وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث ذَّلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (176} سَاء مَثَلاً الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَأَنفُسَهُمْ كَانُواْ يَظْلِمُونَ" [الأعراف: 175-177].
ولهذا لا ينبغي أن يعجب من صنيع المستشرقين المتحاملين ومن كتاباتهم منذ منتصف القرن السادس عشر الميلادي الذين تنوعت حملات إساءتهم وتشكيكهم بصحة رسالة النبي _صلى الله عليه وسلم_ ومصدرها الإلهي، أو في بعض أخباره وآثاره وخصائصه.
ويؤكد المفكر النصراني المعروف المستشار إدوار غالي الدهبي أن هذا التشويه الذي يقوم به الغرب ليس نابعا عن فكر أو قراءة موضوعية لسيرة نبي الإسلام، وإنما هو تشويه متعمد لا يصدر إلا عن أحد نوعين من الناس إما جاهل وإما حاقد مأجور يعمل لحساب النفوذ الصهيوني الذي يهمه أن يشوه الديانات السماوية وخصوصاً الدين الإسلامي ورسوله وأتباعه. وعلى هذا فهو ردة فعل طبيعية لإفلاس الحجة وفقد المنطق.
وبعد هذا التمهيد الذي حكى تاريخاً قديماً وقريباً يبين أصل هؤلاء وأسلافهم وعاقبتهم، أشرع في ذكر:
ثانياً: حقائق سريعة تبين حجم الإساءة للنبي _صلى الله عليه وسلم_ في الغرب.(1/7)
والحوادث كثيرة، ولكني أكتفي بنماذج لها مراميها، فأشير على الصعيد الإعلامي إلى نماذج محدودة، وعلى الصعيد الديني إلى نماذج لشخصيات مشهورة مقربة من الإدارة الأمريكية:
- فأما الصعيد الإعلامي فمنه ما نشرته صحيفة هيوستن برس الأمريكية الأسبوعية، في ولاية تكساس من إعلان لدار عرض أمريكية، تعرض فيلماً إباحياً بعنوان: 'الحياة الجنسية للنبي محمد'.
ورغم الاحتجاجات التي تلقتها دار السينما من مسلمي ولاية تكساس، إلا أنها رفضت إيقاف عرض الفيلم، واستعانت بالشرطة لصد المتظاهرين.
وبالطبع لم يتم اتخاذ أي إجراء لمنع عرض الفيلم من قبل المسؤولين.
- ومن الحوادث القديمة نسبياً والتي تذكر في هذا الصدد حادثة الهجوم على المقر الرئيس لمنظمة "بني بريث" (1) ومبنيين رئيسيين في واشنطن العاصمة عام 1977م طلبت فيه مجموعة إسلامية بإلغاء الفيلم السينمائي "محمد رسول الله،" ودفع مبلغ 750 دولاراً كغرامة، وتسليم الرجال الذين قتلوا "مالكوم إكس" (2) الداعية المعرف باسم: الحاج مالك شباز.
__________
(1) منظمة صهيونة ذات ميول ماسونية معروفة.
(2) مسلم أمريكي كان في مبدأ أمره مقدماً في حركة أمة الإسلام يدين بعقيدة الإليجا، وهي طائفة باطنية عنصرية مشبوهة، يرى بعض المحللين أنها مدعومة بغرض هدم الإسلام باسم الإسلام ولاسيما بين الزنوج، ثم يسر الله لمالك الحج ولقاء العلماء بالجزيرة ومصر والسودان فرجع وأنشأ جماعة أسماها "جماعة أهل السنة" وشرع في الدعوة إلى دين الحق بصورته الصحيحة، وظل على هذه الحال يسلم على يديه الفئام ويرجع إلى الدين الحق من خدع بالأفكار الباطنية حتى كان يوم 18 شوال سنة 1381 هـ عندما دُعي مالك شباز لإلقاء محاضرة بجامعة نيويورك وعندما صعد المنصة وأخذ يدعو للإسلام وحدثت مشاجرة مفتعلة في وسط القاعة فالتفت إليها الحاضرون وفي غفلة من الناس انطلقت ثماني عشرة رصاصة غادرة من ثلاث رجال جالسين بالصف الأول لتستقر في جسد هذا الداعية.(1/8)
والغرض من هذا بيان أن الحملة على نبينا _صلى الله عليه وسلم_ قديمة في الغرب وقد كانت لها آثارها إذ ذاك، ولكنها تنشط حيناً وتضمحل حيناً آخراً.
- ومن هذا القبيل نشاط عدد من الإعلاميين الغربيين قديماً وحديثاً ودأبهم على تشويه صورة الإسلام والمسلمين عن سبق إصرار وترصد بدعوى حرب الراديكالية (1) :
o وهذا ليس بالأمر الجديد ففي عام 1985 خصص الإعلامي الفرنسي المخضرم (برنار بيفو) في برنامجه الثقافي الذائع الصيت "أبوستروف" أو فاصلة بالعربية، حلقةً خاصةً عن "القرآن والعنف"، دعا إليها محمد أركون، وعلال سي ناصر وجيل كبيل وآخرين. رغم هذا العنوان القاطع للحلقة الذي يربط دون تردد بين القرآن والعنف، نجد أن هذا الصحافي يعترف منذ البداية وهو يقدم للموضوع بأنه لم "يقرأ" القرآن! إلا أنه، في ما يبدو، كان قادراً على استخلاص الحكم بأن القرآن يدعو للعنف حتى بدون قراءته!
o واليوم تجد بعض الكتاب قد نذر نفسه لتلك المهمة ومن أمثلتهم الكاتب: دانييل بايبس Daniel Pipes المعروف بانتقاده للسياسات العربية ودعمه للتدخل الأمريكي في الشرق الأوسط الذي يلهج بذكر التهديد الإسلامي الوشيك، وله إسهامات كثيرة في هذا الصدد (2) . آخرها مقال يحرض فيه على منظمة (كير) ويدأب فيه على تشويه صورتها نشر في الشهر الماضي.
__________
(1) ولا شك أن هذه إساءة لمن دعا إلى الإسلام والقرآن وبلغهما وقام بهما خير قيام _صلى الله عليه وسلم_، وإن كان غيرها أصرح.
(2) على الرابط التالي: تعريف به وببعض جهوده سيأتي الذكر في هذا الصدد:
http://rightweb.irc-online.org/profile/1316
وعلى موقعه الذي جنده لحرب الإسلام عشرات المقالات والمشاركات الطاعنة في الإسلام والمناصرة للصهيونية الداعية للتدخل الأمريكي في سياسات الشرق الأوسط بقوة:
http://www.danielpipes.org(1/9)
-وأما الصعيد الديني فهو متمثل في بعض القيادات الدينية، فبعض الإساءات العظيمة لنبينا _صلى الله عليه وسلم_ خرجت من أشخاص لا يقال ليست لديهم خبرة بالأديان، بل لهم خبرة بالأديان، بل إن الإساءة إلى رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ جاء من رجال الدين النصارى أنفسهم، فقبل ثلاثة سنوات في عام 1423 نشطت حملة قساوسة في أمريكا غرضها الطعن في نبينا _صلى الله عليه وسلم_ وتشويه صورته:
o فعرف منهم (جيري فالويل Jerry Falwell) (1)
__________
(1) قسيس إنجيلي معروف يعيش في منطقة لينشبرج بولاية فرجينيا له برنامج أسبوعي إذاعي وتلفزيوني يصل لأكثر من 10 مليون منزل، وله جامعة أصولية تسمى جامعة الحرية، عرف بسبه وشتمه لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم. ويجدر بالذكر أن الإسرائيليّين أهدوا طائرة خاصة لفولويل من نوع ويندستريم ثمنها 2.5-3.5 مليون مع قطع غيار بقيمة نصف مليون دولار. وفولويل يُباهي بأنّه يقطع بطائرته النّفاثة 10 آلاف ميل في الأسبوع للدّعاية الانتخابيّة لمرشّحيه. وظهر فولويل كأوّل سياسي أمريكي مرموق يقول: على أمريكا دعم إسرائيل ليس من أجل مصلحة إسرائيل فقط ولكن من أجل المحافظة على أمريكا نفسها.
ومع اقتراب انتخابات 1980 زاد بروز فولويل وسلّطت الصّحافة أضواء على منظّمته المعروفة باسم الأكثرية الوطنيّة. وقرّر ريغان مكافأته فمنحه ميداليّة تحمل اسم فلاديمير زيف جابوتنسكي الأيديولوجي الصّهيوني اليميني وأستاذ بيغن. وعلى العموم كما تقول هالسل: "لفولويل وبيغن نفس الأهداف: إنّهما يعشقان القوّة ويبرّران العنف من أجل تحقيقها".(1/10)
وهو صاحب كتاب: (فلنتقدم إلى معركة هرمجدون) (1) ، وضع في أوله–عليه من الله ما يستحق- سيرة زائفة لنبينا _صلى الله عليه وسلم_، ويجدر هنا قبل نقل كلمة ذائعة له أن يُعلم أن حزب بوش في 16/أكتوبر/2002 قام بتكريم كل من القسيسين (بات روبتسون) و(جيري فالويل) هذا لمساهمتهم في دعم التيار اليميني المحافظ والحزب الجمهوري.
يقول جيري فالويل في حديث له بث يوم الأحد بتاريخ 6/أكتوبر/2002 على برنامج "60 دقيقية" قال : "أنا أعتقد أن محمداً كان إرهابياً، لقد قرأت ما يكفي.. من المسلمين وغير المسلمين، إنه كان رجل عنف، ورجل حروب".. وهذا يشعرك بمعنى الإرهاب الذي يحاربون! ونحن لا ندري ماذا قرأ للمسلمين؟ هل قرأ " وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ"[ الأنبياء: 107]!
وعلى العموم فكلمة هذا الكافر هي نفسها شر من كلمة أسلافه أعداء الأنبياء "....يَا مُوسَى أَتُرِيدُ أَن تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْساً بِالْأَمْسِ إِن تُرِيدُ إِلَّا أَن تَكُونَ جَبَّاراً فِي الْأَرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَن تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ" [القصص: 19]، فتلم حادثة عين قبل النبوة لها حظها من الخطأ، وأما هذه فعين كلمة فرعون "ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَن يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَن يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ" [غافر: 26] .إنها كلمة قوم السوء الفاسقين " أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ" [الأعراف: 127]. وهي الكلمة التي قيلت عن يسوع في التلمود: "لقد ضلل يسوع, وأفسد إسرائيل وهدمها"!
__________
(1) وهي معركة نهاية التاريخ التي يرى البروتستانت حتميتها مع المسلمين عند سفح هرمجدون، وقد نشر هذا الكتاب في موقعه على الإنترنت: www.falwell.com وقد وضع في الصفحة الأولى –عليه من الله ما يستحق- سيرة زائفة لنبينا _صلى الله عليه وسلم_.(1/11)
o مثال آخر قول (بات روبرتسون Pat Robertson) (1) ، أحد مؤيدي بوش وقد كان له أثره الكبير في فوز بوش برئاسة الحزب الجمهوري في مارس 2000، فقد كان يقود الإتلاف اليميني المسيحي المؤيد له، وقد كشف عن هذا منافس بوش، جون ماكين، كما أن بوش يدعمه أعظم الدعم (2) ، وقد أشير إلى تكريم الحزب الجمهوري له مع (جيري)، وقد تصدر (نشيد المسيح!) افتتاح أعمال المؤتمر القومي للحزب الجمهوري من أجل اختيار بوش مرشحاً رسمياً في مارس 2000، وأعلن فيه تبنيه لأفكار تيار اليمين المسيحي.
__________
(1) قسيس إنجيلي، معروف باهتماماته السياسية، وتأييده المطلق لإسرائيل، يمتلك عدداً من المؤسسات الإعلامية من بينها نادي الـ 700، وله برنامج تلفزيوني يصل إلى عشرات الملايين في الولايات المتحدة الأمريكية، بالإضافة إلى امتلاكه محطة فضائية تصل إلى 90 دولة بأكثر من 50 لغة وهي محطة (البث النصراني) وغيرها، كما أنه يقف خلف أكبر تحالف سياسي ديني في الحزب الجمهوري وهو "التحالف النصراني" ويجدر بالذكر أنه ترشح للانتخابات الرئاسية في عام 1988م ثم كان هذا الرجل سبب فوز بوش الصغير برئاسة الحزب الجمهوري في مارس 2000، فقد كان يقود الإتلاف اليميني المسيحي مؤيداً له، وقد كشف عن هذا منافس بوش، جون ماكين.
(2) قام البيت الأبيض في يوم الجمعة 4/أكتوبر/2002م بالإعلان عن منحة دينية قدرها نصف مليون دولار أمريكي للقسيس (بات روبتسون) والجدير بالذكر أنها المنحة الأولى التي يمنحها البيت الأبيض لأي مؤسسة أو شخصية دينية.(1/12)
يقول بات روبرتسون في برنامج هانتي وكلولمز Hannity & Colmes الذي بث في قناة فوكس الإخبارية Fox News: "أنا أقول هذا القرآن ماهو إلاّ سرقة من المعتقدات اليهودية.. ثم استدار محمد بعد ذلك ليقتل اليهود والنصارى في المدينة. أنا أقصد.. أن هذا الرجل كان قاتلاً سفاك دماء"، وقال: "أظن أن الإرهاب قد غدا تياراً وليس فقط عند حفنة من المتطرفين. إذا اشتريت مصحفاً اقرؤه بنفسك فستجد عنفاً يبشر به".
وقد أجبر هذا الرجل على الاعتذار عن قوله هذا، ولكنه عاد ليقول في كتابه الذي صدر حديثاً باسم: الاسم (The Name) ص71: "الإسلام أسس بواسطة مجرد فرد بشري مقاتل يسمى محمداً، وفي تعاليمه ترى تكتيك نشر الإسلام من خلال التوسع العسكري، ومن خلال العنف إذا كان ضرورياً" وقال: "الإسلام بخلاف المسيحية في تعاليمه الأساسية تعصب عميق ضد أصحاب الديانات الأخرى"، فتأمل قوله عن النبي _صلى الله عليه وسلم_: "إنه كان يدعو قومه إلى قتل المشركين ..إنه رجل متعصب إلى أقصى درجة إنه كان لصاً وقاطع طريق .. ما يدعو إليه خديعة وحيلة ... 80% من القرآن نقل من نصوص النصرانية واليهودية...ثم استدار ليقتل اليهود"..
تذكرت وأنا أقرأ هذه التهمة كلمة اليهود في التلمود: " الناصري [أي المسيحي] هو الذي يتبع تعاليم كاذبة, يبتدعها رجل يدعو إلى العبادة في اليوم الأول التالي للسبت". فقلت صدق الله " تَشَابَهَت قُلُوبُهُمْ" [البقرة: 118]!
وهذا الكلام فيه من مغالطات أسلافه الماضين الشيء الكثير.. بل هو مكرر ممجوج رده القرآن "وَمَا كُنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لَّارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ"[العنكبوت: 48]، " وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِّسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ" [النحل: 103].(1/13)
ثم تتكرر الصورة مرة أخرى فيجعل المفسدين من الذين فعلوا بالمسلمين الأفاعيل بمكة والمدينة ونقضوا العهود والمواثيق وعمدوا إلى قتل النبي مراراً وقتلوا من أتباع دينه من قتلوا يجعل هؤلاء المجرمين المفسدين ضحية ويجعل المسلم البريء مفسدا!
o مثال ثالث: يقول (جيري فاينز) (1) -الرئيس السابق للمؤتمر السنوي للكنيسة المعمدانية الجنوبية، والذي يمدحه بوش جهاراً فيذكر عنه أنه من المتحدثين بصدق عن دينهم، وهذا الرجل عمد بوش ليكون من النصراء الأوائل لسماحة العقيدة: "... شاذ يميل للأطفال وتزوج 12 زوجة آخرهن طفلة عمرها تسع سنوات..".
وهذا الكلام قول من قائله بغير عرفان، وكذب بين لا برهان له به ويكفي أن يعلم قائله أن النبي _صلى الله عليه وسلم_ تزوج زوجه الأولى خديجة وهي تكبره بأكثر من خمسة عشر عاماً، وأنه لمّا بنى بعائشة وهي ابنة تسع لم ينكر أحد هذا ولا تكلم به المنافقون الحاضرون الذين هم في الحرص على الكيد والطعن في النبي _صلى الله عليه وسلم_ مع جيري هذا سواء، ولكنهم أعلم بواقع ذلك الجيل، وأعرافه، معهود عندهم أن تنكح المرأة إذا بلغت التسع وبلغت شأن النساء، ولذلك ما بنى بها النبي _صلى الله عليه وسلم_ حتى بلغت التسع بالرغم من أنه تزوجها قبل الهجرة بثلاث سنين. ثم إنه لم يتزوج بكراً غيرها، وهو سيد قومه، بل سيد البشرية جمعاء، بل سيد البشر أجمعين.
ثم إن هذا الكلام يذكرنا بكلام قتلة الأنبياء من قبله في المسيح ابن مريم وأمه، فقد اتهموها بالشذوذ في تلمودهم، فقالوا في تلمودهم: "إن يسوع المسيح كان ابناً غير شرعي، حملته أمه خلال مدة الحيض من العسكري بانديرا بمباشرة الزنا".
__________
(1) وهو راعي كنيسة جاكسون فيل في فلوريدا، وهو من أبرز المتحدثين في المؤتمر السنوي للكنائس المعمدانية الجنوبية، وهو أكبر مؤتمر ديني يعقد في كل عام.(1/14)
وأخيراً يحسن التنبيه إلى أن هؤلاء القساوسة تجيء إساءاتهم في مجامع مشهودة، أو منابر مبثوثة، في مناسبات مقصودة، فهم يعنون ما يقولون ويتعمدونه ويرتبونه فليست هي فلتات لسان من قبيل الفلتات التي تفضح من انطوى على عداء للإسلام ولرسول البشرية لا يظهره، بل العداوة معلنة صريحة يدعى لها، ولهذا جيري فاينز اختار الاجتماع السنوي في مدينة سانت لويس بولاية ميسوري الأمريكية ليلقي طعوناته في نبينا _صلى الله عليه وسلم_، ولم يكتفي بذلك فقط بل قال: إن الله الذي يؤمن به المسلمون، ليس هو الرب الذي يؤمن به المسيحيون، وقال: 'لن يقوم الرب بتحويلك إلى إرهابي يحاول تفجير الناس و أخذ أرواحهم'، ومع ذلك يلقون تأييد الحزب الجمهوري، وينالون ثناء بوش، فمن الطبيعي بعدها أن يتأثر بهم الإعلام، الذي هم سلفاً جزء منه بمؤسساتهم الإعلامية النصرانية المتعددة.
ثالثاً: بيان صورة الإسلام لدى الغرب وأسبابها.
الكلام في هذا الجانب مؤلف من جزأين، الأول عن صورة الإسلام لدى الغرب، والثاني: أسباب تلك الصورة.
أما الجزء الأول فقد صدر كتاب بعنوان: (صورة الإسلام في الإعلام الغربي)، لمؤلفه الدكتور محمد بشاري يرصد فيه الكيفية التي يتناول بها الإعلام الغربي قضايا الإسلام والمسلمين في ضوء الحملة المتصاعدة والتي تسعى لتشويه صورة العرب والمسلمين وهي الحملة التي تزايدت وتيرتها خاصة بعد أحداث 11 سبتمبر.
ولعله يحسن قبل أن أنقل كلام كاتب ينتمي إلى الإسلام أن أذكر نقولاً عن الطرف الآخر فأستشهد أولاً بما جاء في مقال للكتاب المعادي للإسلام بجدارة دانييل بايبس وقد جاء فيه ما نصه (1) :
__________
(1) المقال منشور على موقع يتبناه وهذا رابطه فيه معرباً:
http://www.danielpipes.org/article/1199
وعنوان مقاله: [تصليح] مشكلة صورة الإسلام.(1/15)
"يوماً بعد يوم، تتغيّر نظرة الأمريكيين إلى الإسلام والمسلمين لتصبح أكثر سلبية -هذا ما جاء في استطلاعٍ مهمٍّ نشره [مركز پـيو للأبحاث] في الأسبوع الماضي [عام 2003م].
ربما كان التطوّر الأكثر إثارةً في الاستطلاع، هو ازدياد عدد الأمريكيين الذين يجدون بأن الإسلام -على الأرجح- دينٌ [يشجّع أتباعه على العنف] أكثر من الأديان الأخرى. ففي شهر مارس من سنة 2002 كان هناك خمسة وعشرون بالمئة من الذين استُطلِعت آراؤهم يؤيدون هذه النظرة. أما الآن، فقد ارتفعت هذه النسبة إلى 44 بالمئة.
هناك اتجاهات أخرى تتعلق بالإسلام تتّسم أيضاً بالسلبية:
· فيما يتعلق بالمسلمين الأمريكيين: 59 بالمئة من الذين استُطلعت آراؤهم في نوفمبر 2001 كانوا ينظرون إلى المسلمين الأمريكيين نظرة إيجابية. هذه النسبة هبطت إلى 54 بالمئة في مارس 2002 وهي الآن بحدود 51 بالمئة.
· فيما يتعلّق بمرشح رئاسة الجمهورية: أظهرت الاستطلاعات أنّ نفور الأمريكيين من فكرة التصويت لمرشحٍ مسلمٍ لرئاسة الجمهورية، هو أعظم من نفورهم من فكرة التصويت لمرشحٍ ينتمي إلى أي دينٍ آخر. 31 بالمئة من الأمريكيين يقولون "لا" لمرشح مسلم، مقابل 20 بالمئة بالنسبة لمرشح مسيحي إنجيلي، و 15 بالمئة لمرشح كاثوليكي و 14 بالمئة لمرشح يهودي.
· فيما يتعلق بالقيم المشتركة: جواباً على سؤال فيما إذا كان "الدين الإسلامي ودينك يشتركان بأمور كثيرة متشابهة"، 31 بالمئة من الردود كانت إيجابية في نوفمبر 2001 ثم أصبحت 27 بالمئة في مارس 2002 بينما انحدرت في هذه السنة إلى 22 بالمئة" ا.هـ.
ولعل هذا يكفي.(1/16)
أما ما يقوله المسلمون فأقتطف من كتاب محمد بشاري؛ (صورة الإسلام في الإعلام الغربي) بعض المقتطفات، ولم يحصل لي الاطلاع على الكتاب بيد أني قرأت تقريراً عنه جاء فيه ملخص يصلح أن يثبت هنا، فمما قاله الملخص: إنه "في إطار تزايد موجة العداء للمسلمين في الإعلام الأوروبي يشير المؤلف إلى مجموعة من القضايا التي تعكس هذا التوجه ومن ذلك:
- ملف قضية الفتيات المحجبات، فتحت عنوان: هل هو صراع حضاري أم ماذا؟ تناولت مجلة دير شبيغل بهذا العنوان المستفز القضية وعدتها صراعاً يتفجر من جديد، متسائلة عما إذا كان هذا الصراع يهدد المجتمع المسيحي أو العلماني؟
- أما في النمسا فإن الدنيا قامت ولم تقعد عندما تزوجت لوسيا دحلب السويسرية المسلمة من المواطن الجزائري علي دحلب، واعتنقت الإسلام وارتدت الحجاب، حيث انطلقت حملة إعلامية عنصرية ضدها في أثناء احتفال أقيم في المدرسة الابتدائية التي تدرس فيها لوسيا حضره الآباء وأولياء الأمور وبعض ممثلي أجهزة الإعلام المحلي. أما مجلة الاكسبريس فقد اختزلت موضوع الحجاب الإشكالي بعنوان: الحجاب المؤامرة.. كيف يتسلل الإسلاميون؟
ويحوي الموضوع مفردات تثير فزعاً واضحاً لدى القارئ الفرنسي ومنها الارخبيل الإسلامي، الجماعة الإسلامية المسلحة، تفشي الحجاب، والذي راحت كاتبة تصفه بأنه عملية إرهابية!
- أما بالنسبة لقضية المرأة فإزاء التناول غير المحايد للإعلام الغربي لهذه القضية إلى حد أن أصبح أول ما يتبادر إلى ذهن الإعلامي الفرنسي في أثناء تناول موضوع المرأة هو تعدد الزوجات المشروع في الإسلام والممنوع في الدستور الفرنسي.
وفي مقال بمجلة الاكسبرس مثلاً نقرأ تنديداً شديداً موجها إلى القادة السياسيين بسبب سماحهم بممارسات جاهلية قديمة مثل تعدد الزوجات، ختان البنات، الإسلام المتشدد، وحتى دروس تلقين اللغات الأصلية لأبناء الأقلية المسلمة والعربية.(1/17)
- ثم ينتقل المؤلف إلى جانب آخر يتمثل في تشويه مفهوم الجهاد في الإعلام الغربي، ومن ذلك تأكيد البعض على أن الإسلام هو دين حرب. وأصبح يكفي أن تتم الإشارة في أي مقال لمصطلح الجهاد مقرونة بترجمة في اللغة الفرنسية «الحرب المقدسة» لكي تثار الزوابع والهواجس والمخاوف.
ولا يتطلب الأمر أن يكون هناك حدث ذو دلالة لكي يتم التخويف من الإسلام، وإنما أصبح ينظر إلى كل ما يتعلق بالمسلمين على أنه كذلك، ومن ذلك على سبيل المثال أن صحيفة لونوفيل أوبزرفاتير نشرت مقالاً عما وصفته بانفجار الحالة الإسلامية في فرنسا، فهناك في تلك [المدة] أكثر من ألف مسجد وأكثر من ستمئة جمعية إسلامية.
وهذا انفجار يعود إلى حوالي 17 سنة يطرح مشكلاً فريداً على المجتمع الفرنسي. ويضيف صاحب المقال المذكور: إن تكرار العمليات الإرهابية واختطاف الرهائن تندرج ضمن استراتيجية مضادة للغرب، وذلك عبر تمرير خطاب الجهاد في معناه العدواني.
- ويجول المؤلف في الإعلام البريطاني ضمن جولته في الإعلام الأوروبي فيشير إلى أن الصورة لا تختلف كثيراً عن طبيعة الصورة الموجودة في باقي الدول الأوروبية، والتي تصنف الإسلام بالدين البدائي والإرهابي وأنه الدين الذي يتعارض مع الحضارة والبديل عن الشيوعية وأيديولوجياتها خاصة بعد سقوط الاتحاد السوفييتي.
- وفي ذلك نشرت صحيفة صنداي تايمز مقالاً لكاتب يدعى بيير جرين دورتون بعنوان: الوجه القبيح للإسلام. قال فيه: إن الإسلام الذي كان حضارة عظيمة تستحق الحوار معها قد انحط وأصبح عدواً بدائياً لا يستحق إلاّ الإخضاع.
- ويقدم المؤلف في هذا الجزء عرضا للعناوين فقط والتي تستصرخ بداخل القارئ الفزع من الإسلام، مثل:
- المسلمون قادمون.
- الحروب الصليبية مستمرة.
- سيف الإسلام يعود من جديد.
- العالم يتحكم فيه بدو الصحراء وشيوخ [النفط].(1/18)
وما زالت هذه الحملات الإعلامية تظهر بين الفينة والأخرى مما يساهم بطبيعة الحال في تنميط صور مغلوطة تماماً عن الإسلام بوصفه ديناً للكراهية والتعصب والعنف.
- ولعل أبلغ تعبير عن وضعية الإسلام في الإعلام والإدراك الغربي ظاهرة «الإسلاموفوبيا» وهي الكلمة التي دخلت قاموس السياسة الأوروبية وتحولت إلى مفردة لها معان محددة في عصرنا كما حصل في القرن التاسع عشر مع مفردة اللاسامية وتحت مفردة «الإسلاموفوبيا» وهي كلمة يقصد بها «الرِهَابُ الإسلامي» كمصطلح لمعنى الخوف من الإسلام بدأت تعقد المؤتمرات السياسية وتدار الندوات الفكرية لمعالجة مواضيع المخاوف من الإسلام وأبعادها الاجتماعية والاقتصادية والثقافية.
- ومن الصور التي يعرض لها المؤلف وتشير إلى الظلم البريطاني للإسلام والمسلمين نشر وسائل الإعلام هناك مزاعم وادعاءات تزعم فيها أن الثقافة الإسلامية مختلفة جملة وتفصيلا عن الثقافات الأخرى، كذلك تتضمن هذه الصورة الثانية انتقادا بريطانيا حادا للنظام الاجتماعي في الإسلام، والذي يعتمد بشكل أساسي على الأب الذي ينسب الأبناء إليه دون أمهم ويتولى مسؤولية الأسرة كاملة وغير ذلك.
- وإذا كانت هذه هي الصورة فيما قبل أحداث سبتمبر فلنا أن نتخيلها فيما بعد هذه الأحداث، فقد زاد معدل خضوع صورة الإسلام والمسلمين للتشويه والتحريف. وقد تفرعت أصناف تشويه صورة الإسلام والمسلمين ما بين التصريحات الأكاديمية والسياسية والإعلامية.
- واذا كانت الصورة التي ترسخها وسائل الإعلام مشوهة بسبب سيطرة اللوبيات الإعلامية اليهودية عليها أو بسبب وجود عقليات عنصرية متطرفة استغلت أحداث ستبمبر لكي تفرغ ذلك المكبوت من أجل تفعيل تشويه صورة الإسلام فقد كانت هذه الأحداث فرصة مواتية أيضا لبعض السياسيين الغربيين والدينيين لكي يمرروا خطاب العنصرية والاستعلاء.(1/19)
فمن الدعوة إلى هدم الكعبة إلى وصف الإسلام بأنه دين شيطاني جديد على لسان القس البروتستانتي المعروف (فرانكلين غرام) إلى (بيرلسكوني) الذي راح يؤكد على أن الغرب يجب أن يثق في أن حضارته أرقى من الحضارة الإسلامية وهو يضع استراتيجيته لقمع ما وصفه بالإرهاب.. كلها تنويعات على تشويه صورة الإسلام.
- وهي مواقف تمتد لتصل إلى الكاتبة والصحافية الإيطالية (أوريانا فالاتشي)، والتي راحت تؤكد رسالة لها على أن الغرب يعيش حربا صليبية بالفعل.. حرب يسمونها جهادا.. حرب لا تريد أن تغزو أراضينا بل أرواحنا، حرب تريد القضاء على خيراتنا وعلى حضارتنا!
- أما رئيس تحرير مجلة لوبوان الفرنسية فيقول في مقالة افتتاحية له بعد أحداث سبتمبر: إنه من ضمن الملاحظات العديدة التي نخرج بها من هذا الحدث هو أن الإرهاب المستشري أكثر في العالم اليوم يتعلق بالتطرف الإسلامي.
مضيفا إن الغرب يجهل القوة الصامتة للحركات الإسلامية وللمسلمين كافة؛ لأن هناك مليارا منهم في العالم وأنه حتى لو كان هذا المليار لا يساند الإرهاب فإنهم لا يعارضون الانخراط في أعمال الجهاد والحرب المقدسة.
- أما في بريطانيا فقد نشرت جريدة الصنداي تليغراف مقالا بعنوان «هذه الحرب ليس موضوعها الإرهاب بل الإسلام»، أما الصحافة الأميركية فحسبما يشير المؤلف فقد أثبتت دراسة بشأنها أنها بدأت في الهجوم المباشر على الدين الإسلامي باعتباره دينا يحض على العنف والانتقام وكان هذا النمط من المعالجة الصحافية متوازيا مع الهجوم على المسلمين.
- كما لجأت الصحافة الأميركية والبريطانية إلى تخصيص مساحات واسعة لشخصيات ذات تأثير في المجتمع للإدلاء بشهادتها المعادية والداعمة للأهداف التي كانت تعمل من أجلها في هذه المرحلة وهو ما نراه مثلاً في أقوال (صامويل هنتنغتون) بأن المسلمين يشكلون 20 % من سكان العالم وهم وحدهم مسؤولون عن 80% من الصراعات والاضطرابات في عالم اليوم.(1/20)
- أما في هولندا فقد نشرت مجلة «هاخسابوت» في متنصف أكتوبر مقالا دعا فيه كاتبه إلى مراجعة جذرية للوجود الإسلامي في هولندا وإلغاء مدارس المسلمين مضيفاً: إن الوقت حان للتاكد من إمكان التعايش مع الدين الإسلامي بوصفه ديناً يحترم القيم الديمقراطية للدولة الغربية والنظام الدستوري والقانون.
هذا بعض ما ذكره المؤلف، وأما التصريحات التي أعقبت حادث 11 سبتمبر فمشهورة من أبرزها تصريحات لأصحاب برامج مشهورة يرددون مثل هذه العبارات ومن هؤلاء:
- بني هن (1) (Benny Hinn) الذي يقول: "هذه ليست حرب بين العرب واليهود، إنها حرب بين الله وبين الشيطان".
- وتقول آن كولتر (Ann Coulter ) في مقابلة أجرتها على قناة NBC عقب أحداث سبتمبر: "نحن يجب أن نجتاح بلدانهم، ونقتل قادتهم، ونحولهم لنصارى" (2) !
ولعل العرض السابق كاف في بيان الجانب الأول المتعلق بصورة الإسلام لدى الغرب.
أما الجانب الثاني، وهو: أسباب تلك الصورة، فقد كتب علاء بيومي مدير الشؤون العربية في كير مقالاً جدياً يوضح أحد أسس تلك الأسباب ولاسيما الخراجية منها، قال ما نصه:
((يوضح ديفيد بلانكس ومايكل فراستو في مقدمة كتاب قاما بتحريره عن "رؤية الغرب للإسلام في العصور الوسطى" (1999) أن جذور رؤية الغرب الراهنة للإسلام والمسلمين تعود إلى القرن الحادي عشر الميلادي الذي شهد بداية الحروب الصليبية والمراحل الأولى لنشأة الهوية الغربية الحديثة.
ويقول الكاتبان: إن الأوربيين في تلك [المدة] كانوا محاصرين بحضارة أكثر قوة وتقدماً، وهي الإسلام، وأنهم فشلوا في هزيمة هذه الحضارة خلال الحروب الصليبية كما رفضوا فهما، [لكن لديهم شعور] دائم بتهديدها الحضاري والديني لهم، لذا لعب الإسلام دورا أساسيا في تشكيل الهوية الأوربية ومن ثم الغربية الحديثة.
__________
(1) راجع الموقع: http://www.zawaj.com/editorials/bush_restrain.html وهو منشور في عدة مواقع.
(2) راجع الموقع السابق.(1/21)
ويرى المؤلفان أن الإسلام لعب دور شبهاه "بنيجاتيف الصورة" في تشكيل رؤية الأوربي المسيحي المثالية لنفسه، إذ عمد الأوربيون إلى تشويه صورة منافسيهم (المسلمين) كأسلوب لتقوية صورتهم الذاتية عن أنفسهم، وبناء ثقتهم في مواجهة عدوا أكثر قوة وتحضرا.
وفي الكتاب نفسه يرى دانيال فيتكس [وهو أستاذ آداب بجامعة ولاية فلوريدا الأمريكية] أن نظرة الغرب الحديثة للإسلام ولدت في [المدة] كانت علاقة أوربا بالإسلام فيها هي علاقة خوف وقلق، مما دفع الأوربيين لتعريف الإسلام تعريفا "ضيقا كاريكاتوريا" كدين يملأه "العنف والشهوة" يقوم على "الجهاد العنيف" في الحياة الدنيا و"الملذات الحسية الموعودة" في الآخرة، كما نظروا للرسول محمد _صلى الله عليه وسلم_ على أحسن تقدير على أنه واحد من اثنين، إما "قس كاثوليكي فشل في الترقي في سلم البابوية" فقرر الثورة ضد المسيحية أو أنه "راعي جمال فقير تلقى تعليمه على يد راهب سوري" ليشكل دينا جديدا من "قشور العقيدتين المسيحية واليهودية".
كما نظر الأوربيون إلى حياة المسلمين الأخلاقية نظرة مزدوجة فمن ناحية نظروا إلى حجاب المرأة المسلمة كتعبير عن "السرية والقهر" والفصل بين الرجل والمرأة، وفي نفس الوقت نظروا للحجاب على أنه مصدر "فجور واستباحة أخلاقية مستترة" خلف الحواجز والأسوار.
وقد انتقلت هذه الصورة المشوهة - كما يري جون اسبزيتو – أستاذ دراسات الأديان والعلاقات الدولية بجامعة جورج تاون الأمريكية – في كتاب (التهديد الإسلامي: حقيقة أم أسطورة؟) (1992) – إلى بعض أهم قادة الإصلاح الفكري والديني في أوربا، وعلى رأسهم مارتن لوثر - زعيم حركة الإصلاح البروتستانتي – الذي نظر للإسلام على أنه "حركة عنيفة تخدم أعداء المسيح لا يمكن جلبها للمسيحية؛ لأنها مغلقة أمام المنطق، ولكن يمكن فقط مقاومتها بالسيف".
معرفة الإسلام للسيطرة عليه:(1/22)
مع دخول عصر النهضة الأوروبية في القرن الخامس عشر دخلت نظرة الغرب للإسلام مرحلة جديدة وصلت إلى قمتها خلال عصور الاستعمار الأوروبي الذي اجتاح شرق العالم القديم خلال القرن التاسع عشر الميلادي.
ويرى إدوارد سعيد في سلسلة من مؤلفاته على رأسها الاستشراق (1978) أن معرفة الغرب للإسلام في هذه المرحلة كانت بغرض السيطرة عليه وليس فهمه، وأن عمليه المعرفة هذه تمت بشكل منظم نسبيا تعاونت فيه مؤسسات الفكر والمعرفة الأوروبية تعاوناً وثيقاً مع مؤسسات الاستعمار الأوروبية الرسمية لمدها بالمعرفة اللازمة للسيطرة على المجتمعات المستعمرة.
وخلال هذه المرحلة نظر الغرب للشرق - بما في ذلك العالم الإسلامي – بأسلوب أصبح الآن نموذجا يدرس عن التشويه المتعمد الذي يمكن أن تقوم به حضارة ما لصورة حضارة أخرى، ومن أهم عناصر هذا الأسلوب ما يلي:
أولا: النظر للشرقي أو للمسلم على أنه الآخر المستقل تماما عن الأنا أو الذات الأوروبية.
ثانيا: تنظيم علاقة الأوروبي مع الآخر من خلال سلسلة من الثنائيات الفكرية يضع كل منها الأخر الشرقي أو المسلم في مقابل الأنا الأوروبي على طرفي نقيض في مختلف جوانب الحياة، فعلى سبيل المثال تم النظر للشرقي على أنه متخلف وحشي في مقابل الغربي المتقدم المتحضر، كما نظر الغربي للشرقي على أنه جاهل فقير في مواجهة الغربي المتعلم الثري، كما رأى الغربي الشرقي على أنه داكن ضعيف في مقابل الغربي الأبيض القوي.(1/23)
ثالثاً: وقفت المؤسسات الاستعمارية خلف التقسيم الثنائي السابق لدعمه سياسياً واقتصادياً وثقافياً على أرض الواقع من خلال مساعيها لربط الشرق بما في ذلك العالم الإسلامي بأوربا من خلال روابط مؤسساتية استعمارية تضمن بقاء الشرق الطرف الأضعف على طول الخط في علاقته بالإمبراطوريات الأوروبية، ولذا سعى الاستعمار لتكريس استغلاله واستنزافه الاقتصادي للشرق ولإضعاف اللغات والأديان والثقافات الشرقية الأصلية ولمحاربة ظهور الحركات السياسية والاجتماعية الوطنية في الشرق والعالم الإسلامي على مدار عقود الاستعمار.
رابعاً: وقف الغرب موقفاً منزعجاً ومتشدداً وأحياناً انتقامياً تجاه الجماعات الشرقية أو المسلمة التي خرجت عن التقسيم الثنائي السابق وحاولت امتلاك أدوات القوة الغربية مثل: اللغة وقوة الاقتصاد وفهم السياسة والقانون وأساليب العمل الإعلامي للتقريب بين مواقف المجتمعات الشرقية المستضعفة والغرب المستعمر.
خامساً: النظرة السابقة لعبت دوراً مزدوجاً خطيراً في تشكيل صورة الإسلام والمسلمين لدى الغرب، الدور الأول هو تشويه هذه الصورة، والثاني هو تبرير الاستعمار الأوربي واستنزاف أوربا المنظم لثروات الشرق والعالم الإسلامي تحت عنوان تحريره ومساعدته على الرقي والتحضر)) ا.هـ.
وهذا تحليل جيد مستنده كتابات الغربيين أنفسهم.
وقد اشتمل كلامه على أسباب شتى تدور كلها على قوله الله _عز وجل_: "وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ ..." [البقرة:120]. وهذا ولاشك عامل مهم بل هو أهم العوامل التي تدفع لتشويه صورة الإسلام في الغرب، وإلاّ لو كان هناك عدل وإنصاف لم يؤاخذ الإسلام والمسلمين بأخطاء فردية وتجاوزات توجد في كل الأديان والشعوب مثلها بل أضعافها.(1/24)
وأخطأ من ظن أن الإشكال مع الغرب جاء من جهة عدم تصورهم جميعاً للإسلام أو لنبيه _صلى الله عليه وسلم_، وقد شاعت في الأزمة الراهنة (الرسوم) عبارة غير دقيقة اتخذت كشعار ونصها: (لو عرفوه لأحبوه)، والله _تعالى_ يقول: "يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ" [آل عمران:71]. ويقول _عز وجل_: "الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمُ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ" [الأنعام:20]، فكثير منهم يعرفون الكتاب ويكتمونه حسداً وبغياً، وكثير منهم يعلمون أن محمداً هو رسول الله حقاً، ومع ذلك أبوا إلاّ أن يناصبوه العداء في الحاضر، كما ناصبه أسلافهم العداء في الماضي، وهم يعلمون، ولهذا أثنى الله على من خالف هواه منهم، وانصاع للحق الذي عرف فقال _سبحانه_: "الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ" [لأعراف:157].
وفي قصة إسلام عبدالله بن سلام الحبر البحر _رضي الله عنه_ في صحيح البخاري وغيره أن عبد الله بن سلام جاء رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ فقال: أشهد أنك رسول الله، وأنك جئت بحق، وقد علمت يهود أني سيدهم، وابن سيدهم، وأعلمهم، وابن أعلمهم، فادعهم فاسألهم عني قبل أن يعلموا أني قد أسلمت، فإنهم إن يعلموا أني قد أسلمت قالوا في ما ليس في.(1/25)
فأرسل نبي الله _صلى الله عليه وسلم_ فأقبلوا فدخلوا عليه فقال لهم رسول الله _صلى الله عليه وسلم_: "يا معشر اليهود ويلكم اتقوا الله! فوالله الذي لا إله إلا هو إنكم لتعلمون أني رسول الله حقا، وأني جئتكم بحق فأسلموا".
قالوا: ما نعلمه.
قالوا للنبي _صلى الله عليه وسلم_ قالها ثلاث مرار قال: "فأي رجل فيكم عبد الله بن سلام"؟
قالوا: ذاك سيدنا وابن سيدنا، وأعلمنا وابن أعلمنا.
قال: "أفرأيتم إن أسلم"؟
قالوا: حاشا لله ما كان ليسلم.
قال: "أفرأيتم إن أسلم"؟
قالوا: حاشا لله ما كان ليسلم.
قال: "أفرأيتم إن أسلم"؟
قالوا: حاشا لله ما كان ليسلم.
قال: "يا ابن سلام! اخرج عليهم".
فخرج فقال: يا معشر اليهود اتقوا الله فوالله الذي لا إله إلا هو إنكم لتعلمون أنه رسول الله وأنه جاء بحق، فقالوا كذبت فأخرجهم رسول الله _صلى الله عليه وسلم_.
وهكذا النصارى لسوا بمنأى عن نهج هؤلاء.
وقد ثبت عند البخاري وغيره أيضاً حديث أبي سفيان في كتاب النبي _صلى الله عليه وسلم_ لعظيم النصارى، هرقل الروم، وخبر أبي سفيان معه، وفيه قول: " فقال [يعني هرقل] للترجمان قل له: سألتك عن نسبه فذكرت أنه فيكم ذو نسب، فكذلك الرسل تبعث في نسب قومها.
وسألتك: هل قال أحد منكم هذا القول؟ فذكرت أن لا، فقلت: لو كان أحد قال هذا القول قبله لقلت رجل يأتسي بقول قيل قبله.
وسألتك: هل كان من آبائه من ملك؟ فذكرت أن لا، قلت: فلو كان من آبائه من ملك قلت رجل يطلب ملك أبيه.
وسألتك: هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ فذكرت أن لا، فقد أعرف أنه لم يكن ليذر الكذب على الناس ويكذب على الله.
وسألتك: أشراف الناس اتبعوه أم ضعفاؤهم؟ فذكرت أن ضعفاءهم اتبعوه، وهم أتباع الرسل.
وسألتك: أيزيدون أم ينقصون؟ فذكرت أنهم يزيدون، وكذلك أمر الإيمان حتى يتم.
وسألتك: أيرتد أحد سخطة لدينه بعد أن يدخل فيه؟ فذكرت أن لا، وكذلك الإيمان حين تخالط بشاشته القلوب.(1/26)
وسألتك: هل يغدر؟ فذكرت أن لا، وكذلك الرسل لا تغدر.
وسألتك: بما يأمركم فذكرت أنه يأمركم أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا، وينهاكم عن عبادة الأوثان، ويأمركم بالصلاة والصدق والعفاف، فإن كان ما تقول حقا فسيملك موضع قدمي هاتين، وقد كنت أعلم أنه خارج لم أكن أظن أنه منكم، فلو أني أعلم أني أخلص إليه لتجشمت لقاءه ولو كنت عنده لغسلت عن قدمه.
ثم دعا بكتاب رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ الذي بعث به دحية إلى عظيم بصرى فدفعه إلى هرقل فقرأه فإذا فيه:
(بسم الله الرحمن الرحيم من محمد عبد الله ورسوله إلى هرقل عظيم الروم، سلام على من اتبع الهدى، أما بعد: فإني أدعوك بدعاية الإسلام، أسلم تسلم، يؤتك الله أجرك مرتين، فإن توليت فإنّ عليك إثم الأريسيين، و "يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم أن لا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون").
قال أبو سفيان: فلما قال ما قال وفرغ من قراءة الكتاب كثر عنده الصخب، وارتفعت الأصوات وأخرجنا، فقلت لأصحابي حين أخرجنا: لقد أمر أمر ابن أبي كبشة إنه يخافه ملك بني الأصفر. فما زلت موقنا أنه سيظهر حتى أدخل الله علي الإسلام.(1/27)
وكان ابن الناظور صاحب إيلياء وهرقل سقفا على نصارى الشام يحدث أن هرقل حين قدم إيلياء أصبح يوما خبيث النفس، فقال بعض بطارقته: قد استنكرنا هيئتك قال ابن الناظور وكان هرقل حزاء ينظر في النجوم فقال لهم حين سألوه إني رأيت الليلة حين نظرت في النجوم ملك الختان قد ظهر فمن يختتن من هذه الأمة قالوا ليس يختتن إلا اليهود فلا يهمنك شأنهم واكتب إلى مداين ملكك فيقتلوا من فيهم من اليهود فبينما هم على أمرهم أتي هرقل برجل أرسل به ملك غسان يخبر عن خبر رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ فلما استخبره هرقل قال: اذهبوا فانظروا أمختتن هو أم لا، فنظروا إليه فحدثوه أنه مختتن، وسأله عن العرب، فقال هم يختتنون فقال هرقل هذا ملك هذه الأمة قد ظهر ثم كتب هرقل إلى صاحب له برومية وكان نظيره في العلم وسار هرقل إلى حمص فلم يرم حمص حتى أتاه كتاب من صاحبه يوافق رأي هرقل على خروج النبي _صلى الله عليه وسلم_ وأنه نبي فأذن هرقل لعظماء الروم في دسكرة له بحمص ثم أمر بأبوابها فغلقت ثم اطلع فقال يا معشر الروم هل لكم في الفلاح والرشد وأن يثبت ملككم فتبايعوا هذا النبي فحاصوا حيصة حمر الوحش إلى الأبواب فوجدوها قد غلقت فلما رأى هرقل نفرتهم وأيس من الإيمان قال ردوهم علي وقال إني قلت مقالتي آنفا أختبر بها شدتكم على دينكم فقد رأيت فسجدوا له ورضوا عنه فكان ذلك آخر شأن هرقل.
والشاهد مما سبق بيان أنه قد أخطأ من ظن أن سبب العداوة من جميع اليهود والنصارى لنبينا _صلى الله عليه وسلم_ عدم علمهم به أو بصدق رسالته.(1/28)
وكما أن هذا السبب لا ينبغي أن يغفل ويهمل، فإن من الواجب كذلك ألا يغالى فيه ويزايد، فإن هذا من دوعي تفاقم الإشكال لا حله، وهذا مقتضى الإنصاف الذي علمناه إياه ديننا، كما في قول الحق _سبحانه_: "لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ" [آل عمران:113]. وعدم المغالة فيه تكون بمراعاة أمرين:
أحدهما: استحضار أن هناك خمسة طوائف من الغربيين، فكما أن هناك طائفة أولى من المستكبرين باطري الحق وغامطي الإسلام، فإن هناك طائفة ثانية من الجهلة المغرر بهم، أما الطائفة الثانية فلا يعرف أهلها عن الإسلام إلاّ ما صورته الطائفة الأولى، فهؤلاء المساكين يحب أن يستنقذوا من بني الإسلام، فيعرفوا بنبي الثقلين وبدين الحق فتعرض لهم صورته المشرقة في سكينة وهدوء، وتقصير المسلمين في حقهم من أفحش الظلم لهم.
أما الطائفة الثالثة فهي بين هؤلاء وهؤلاء وهم المعرضون الذين لا يريدون معرفة الحق وتمييزه من الباطل، يصمون آذانهم ويستغشون ثيابهم، إما لهوى أو ظلم أو جهل، وهؤلاء ينبغي أن يرغبوا في الإسلام وينبهوا إلى أهمية النظر فيه، قبل أن يُلحقوا بالفريق الأول.
وأما الطائفة الرابعة فهم المنصفون من الغربيين الذين عرفوا شيئاً من الإسلام فبانت لهم تعاليمه السمحة، وتشريعاته الحكيمة، وعرفوا شيئاً عن نبينا _صلى الله عليه وسلم_ فعظموه، فوقفوا موقف أبي طالب من محمد _صلى الله عليه وسلم_، وقاموا مقام غيره ممن حمى بعض أهل الإسلام وذب عنهم.
ومن هؤلاء على سبيل المثال جوسلين سيزاري (الباحثة الفرنسية)، روبرت فيسك الصحافي البريطاني، ماركوس بورج استاذ علوم الدين في جامعة أوريغون الأمريكية، فرانسوا بورجا الباحث الفرنسي المرموق وكذلك كارين أرمسترونج الكاتبة البريطانية والراهبة الكاثوليكية سابقا وصاحبة العديد من المؤلفات عن الإسلام والمسيحية واليهودية.(1/29)
بل الأمير الإنجليزي تشارلز وشهادته النادرة التي أسقط فيها صفة التطرف التي يحاول الإعلام الغربي أن يربطها بالإسلام إلى جانب دفاع تشارلز عن فضل الحضارة الإسلامية على القارة الأوروبية وعلى الحضارة الغربية بصفة عامة.
وأمثال هؤلاء ينبغي أن يعرف لهم فضلهم، وأن يكافؤوا عليه، وأن يحرص على دعوتهم وهدايتهم، وحري بمثلهم أن يسلموا إذا تعرفوا على الإسلام أكثر.
وأما الطائفة الخامسة والأخيرة فهم مسلمو الغرب، فهؤلاء ينبغي أن نكون ردءاً لمحسنهم، حادبين على مسيئهم، حريصين على هدايته وتوجيه التوجيه الأمثل.
أما الأمر الثاني الذي تنبغي مراعاته:
فهو معرفة الأسباب الأخرى التي ساعدت على تشويه صورة الإسلام والمسلمين، على الرغم من توافر عوامل التعريف بالإسلام وأهله في عصر الفضائيات وثورة الاتصالات.
ولعل أهما ينحصر في اثنين:
الأول: تقصير بني الإسلام في عرض صورة الإسلام الواضحة النقية.
والثاني: عرض صورة لمسخ مشوه والتصريح بأنها صورة الإسلام، أو الإيهام بذلك، عمداً أو خطأ.
ولاشك أن هذين السببين يتداخلان مع ما سبق ذكره، ولاسيما الثاني فإن أثر الغرب في هذا ظاهر، بيد أن الغرب ليس هو كل شيء فيه، كما أن حقد الغربيين له من يدعمه من الأطراف العميلة المؤثرة وليست كل شيء فيه.
أما تقصير بني الإسلام في عرض صورة الإسلام الواضحة النقية فيشمل أموراً منها:
- تقصيرهم في عرضه ابتداء.
- وتقصيرهم في تنقية الصورة المشوهة بالشبه الغربية أو المستغربة الناطقة بالعربية.
- تقصيرهم في بيان الأخطاء ومعالجتها، على المستوى الداخلي والخارجي، فعندما تزور ممارسات باسم الإسلام خطأ، ثم لا يوضح بجلاء أن الإسلام منها براء داخل الصف المسلم أو خارجه، فإما أن تبقى الصورة مشوهة عند إغفال الاعتراف بالخطأ وتصحيحه في الذهن الغربي، وإما أن تتكرر الأخطاء عند إغفال توعية الصف المسلم وحواره وتعريفه بالخطأ الذي وقع فيه.(1/30)
وأما عرض صورة لمسخ مشوه والتصريح بأنها صورة الإسلام، أو الإيهام بذلك، عمداً أو خطأ، فذلك يشمل أمور أيضاً:
- منها الممارسات التي يعتقد بعض الجهلة أو المتحمسين أو المنهزمين أنها من الإسلام والإسلام منها براء.
- ومنها ما يزوره العلمانيون وأضرابهم وأذنابهم من دعاة التنوير بإحراق الفضائل، الذين يزعمون جهلاً أو كذباً أن الإسلام لايعارض ما يعرضون وأن معارضته تشدد أو تزمت.
- ومنهم ما يُعرض في وسائل الإعلام المسلمة، أو يعرض في واقعهم من تعاملات مشينة، أو ممارسات تخالف هدي الإسلام، بغير نكير في أحيان، وبنكير لايلتفت إليه في أحايين أخرى، فكل هذا مما يوهم الغربيين بأن تلك الصورة المشوهة هي الإسلام.
فلعل ما سبق من أسباب داخلية وخارجية، هي أعظم الأسباب التي قادت إلى تشوه صورة الإسلام لدى الغرب.
ويحسن التنبيه إلى أن العلاج الذي نملكه يتعلق أولاً بعلاج المظاهر والأسباب التي للمسلمين فيها يد، كتصحيح واقعهم، مثلاً وإنكار المناكر التي ليست من الإسلام في شيء.
ثم ثانياً بمدافعة الباطل وأهله الناقمين على الإسلام ومجاهدتهم جهاداً كبيرا من أجل إيصال صورة الإسلام للناس بيضاء نقية كما جاءنا به محمد _صلى الله عليه وسلم_.
وهذا يتطلب خطاباً إعلامياً عصرياً نقدياً وموضوعياً يغزو الأسواق الغربية ويبتعد عن رتابة الخطاب الإعلامي الغربي والإسلامي الموجود اليوم.
كما أن الحاجة إلى الاتجاء إلى الله ماسة، والاعتماد عليه كبيرة، والدعاء لأهل الضلال من الكفار بمعرفة الحق واتباعه، وفي صحيح البخاري ابن مسعود قال: كأني أنظر إلى النبي _صلى الله عليه وسلم_ يحكي نبيا من الأنبياء ضربه قومه فأدموه وهو يمسح الدم عن وجهه ويقول اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون.(1/31)
فكما أننا بحاجة إلى دعاء الله بأن يهلك الظالمين المستكبرين المعرضين من الكافرين المستهزئين، نحن أيضاً بحاجة إلى أن نسأله سبحانه أن يهدي ضالهم ويدل حائرهم ولاسيما أولئك النفر الذين لا يزالون ينافحون عن الإسلام ونبيه عليه الصلاة والسلام.
رابعاً: تحرير مفهوم حرية التعبير واحترام الأديان والمقدسات.
شاعت عند الغربيين منذ قرن من الزمان عبارة يبدو أن من أشهرها بينهم أحد أعمدة كتاب الخيال العلمي ألا وهو الكاتب الشهير المولود أوائل القرن الماضي روبرت هاينلاين (Robert Heinlein). الذي قال: " حقك في أرجحة قبضتك ينتهي حيث تبدأ أنفي" (1) !
ويصوغها بعضهم في شكل طرفة يصور فيها رجلاً يتثاءب ويتمطى على مقعده بحديقة عامة، فيفرد يده بكل قوة لتستقر في أنف جاره الغافل، والذي ما أن رقأ دمعه، وذهب احمرار وجهه، واختفت أصداء صرخته، حتى قال لجاره: بهدوء –يغبط على تمالك نفسه فيه-: يا عزيزي لقد هشمت أنفي!
فما كان من جاره إلاّ أن فرَّ ثغره مبدياً أسناناً صفراء في ابتسامة باردة، ثم قال مجيباً صاحبه: أنا.. أنا حر! أتمطى كيف شئت أن أتمطى!
وبعدها أظلمت الدنيا أمامه إثر شيء صلب اصطك بصدغه، وكان آخر ما سمعه كلمات بل صرخات يقول فيها جاره الذي تصاعدت أبخرة الغضب من رأسه، وحاكى لونه لون الجزرة، بينما انطلقت أطرافه الأربعة نحوه كأنها نبال: حرية يدك تنتهي حيث تبدأ حرية أنفي يا...
ومن رحمة الله به أن حجب عنه سماع بقية الكلمات فقد أغمي عليه إثر اصطكاك بعض الأطراف برأسه!
__________
(1)
"Your right to swing your fist ends where my nose begins".
وهذه العبارة قالوا إن أول من ذكرها الفيلسوف الفرنسي (Helvétius, Claude Adrien)، هيلفيتيو، كلود أدغيا، (1715 -1771)، وقيل بل الخبير القانوني الأمريكي (Oliver Wendell Holmes, jr)، أوليفير ويندل هولمز, الابن (1841-1935)، ولا يعنينا من ابتدأها عندهم.(1/32)
ولعل مضمون هذه العبارة أمر بدهي، كما أن ما يرد عليها من قيود أمر بدهي كذلك، ومن ذلك ما قاله السياسي الأمريكي نجم المحافظين الصاعد والمدافع عن الحريات الفردية الشهير بول جاكوب (Paul Jacob) إذ قال ما حاصله: إنك قد تملك الحق في أرجحة قبضتيك حتى تستقر ليس فقط على رأس أنف صاحبنا، بل أبعد من ذلك بنصف بوصة إلى حيث يتكوم أنفه!
وذلك في حالات المجازاة بالمثل، أو الدفاع عن النفس، شريطة ألا يصل ذلك إلى حد أبعد من: (العين بالعين) (1) .
ولعل هذه أمور بدهية لا يجادل في مجملها عاقل، غير أن الجدال انتصب في بعض الصور والتطبيقات التي تُلحق بها. والحق أن كثيراً من الأمثلة التطبيقية قد تكون محل نظر وتأمل، يكتنف القول بأنها من قبيل تلك البدهيات حق وباطل، بيد أن الجدل في بعضها من قبيل إنكار البدهيات والاعتراض بالجدل المحض من أجل تسويغ واقع منحرف باسم الحرية.
ولعله مر بك –أيها الفاضل- يوماً أحد المجادلين في مسألة واضحة محاولا تسويغ الخطأ الذي أخطأه، ولعلك لا تنسى أي شيء انقذف في رُوعِك تجاه ذلك المكابر باطر الحق، وغامط الناس، المعرض عن الانصياع للصواب.
وحقاً:
مَن ناطَ بِالعُجْبِ عُرى أَخلاقهِ نيطَت عُرى المَقتِ إِلى تِلك العُرى
وحتى لا يكون هذا، فتكثر القبضات الطائرة والأنوف المحطمة، ولغيره، وضع الحقوقيون قوانينهم الوضعية لتكفل عدم المساس ببعض تلك الحريات البدهية، وإن أدى الأمر إلى منع الحرية عن طريق الحبس بل القتل لأولئك العابثين بالحريات ولو باسم الحرية.
__________
(1) ينظر هذا المعنى في مقال كتبه عنوانه: حدود الحرية، (Liberty's limits)، ونشر في التاون هول دوت كوم [مجموعة تفاعلية على الإنترنت تستجلب كتابات المنظمات السياسية المحافظة العامة، وموظفو الكونجرس، ونشطاء سياسيون يجمعهم فكر المحافظين]، وعلى الرابط التالي نسخة من مقاله:
http://www.townhall.com/opinion/columns/pauljacob/2004/09/26/13131.html(1/33)
نظرة إسلامية في القوانين العالمية:
هل يستقل العقل بوضع قوانين تضبط الحريات:
ولعل هذا يساهم في طرح الفلسفة الإسلامية ونظرتها لتلك القوانين.
في تقديري أن من استقلوا بعقولهم زلوا في وضع كثير من تلك القوانين، وهذا أمر من الطبعي أن يعرض لمن خرج من البشر عن دائرة ضوء الوحي المنزل من عليم بخلقه لطيف خبير، وإن لم تكن لهم أهواء وعجر وبجر فكيف إذا كانت ثمَّ؟
ولا أدل على ذلك من التعديلات والاستدراكات التي تطرأ على تلك القوانين على الرغم مما بذل لأجل وضعها، مع أن النقل واقع –ولو خفية- عن الأمثلة السابقة سواء أكانت مجلة أحكام عدلية عثمانية، أو تشريعات سماوية محفوظة.
إن جمهور الأمم والشعوب يقرون بوجود خالق وقد دل هذا الكون وما اشتمل عليه من نواميس وإحكام على أنه خالق عليم سميع بصير خبير قدير مريد. ولن يجد أحد جواباً صواباً عن السبب المنشيء لحدوث الحوادث وكل ما هو جائز الوجود، فيبين سبب عدم ما لم يوجد منها، أو وسبب وجود ما وجد منها إلاّ إذا أقر بخالق تلك بعض صفاته، لا تجري عليه أقيسة الشبه بالخلق، وبعدها يصح أن يسند إليه ترجيح طرفي الوجود أو العدم، وإلاّ ساقه الاقتصار في العزو إلى الأسباب إلى سلسلة مجهولة.
وكما أن خلق الخالق سبحانه وتعالى كان معجزاً محكماً، فكذلك أمره وتشريعه المحكم الباقي.
ولهذا فإن من استقل بعقله وخرج عن نور ومحدادت الوحي المنزل ممن استتم علمه وكملت قدرته، فإنه بمثابة من انحاز في أرض زرعت بالألغام، نحو رقعة منها مظلمة مليئة بسبل الردى، فأنى لمثل هذا السلامة ما لم يسلط أضواء الوحي على طريقه، ويحسن قراءة محدداته فيها؟
نعم قد يرشده عقله وما أوتي من وسائل حس لتجنب ما نتأ من العوارض أو غار مثلاً، ولكن لن يسلم من جميعها إلاّ من شذ، وليس ذلك بفضل العقل الذي لا يعلم، فليس مع صاحبه الناجي غير الجهل، ولكن بفضل الله الذي سلّم وألهم. وقد دل خلق الله على إرادته وقدرته وعلمه.(1/34)
وقد يقول قائل لم هذا التصوير ولم لا يكون العقل هو السراج الذي ينير الطريق للبشرية، وجوابه يتلخص في أن العقل آلة استنباط واستنتاج تعمل في معطيات الواقع التي يقود إليها الحس، ووفقاً لمعطيات الحس قد يلتذ الإنسان أو يتأذى، وبهذا قد يعلم العقل ملاءمة الفعل له أو منفاته، وهذه الأفعال كثيراً ما تتعارض فيها الرغبات فقد يلتذ أحدهم بما يتأذى به الآخر، فيتباين الحكم العقلي لكل منهما وفقاً لرغباته ومصالحه، كما أنه ثمت أمور تضطرب أحاسيس الناس تجاهها وتختلج مشاعرهم عندها، وهنا يتعطل استدلال العقل بالحس ويحتاج إلى ما يضيء له الطريق، وقد لا تختلف حواس الناس لكنها تعجز نظراً لقصورها وحدودها التي لا تتجاوزها قدرة البشر مع أن للشيء الذي عجزت عن إدراكه أثره، فالعين –على سبيل المثال- قد تحتاج لأمر خارج عنها حتى تبصر مع توافر شروط الرؤية وانتفاء موانعها إذا كان ما يراد إبصاره خارج عن حدود قدرتها، فإذا قَصُرت الحواس عن إدراك أمر غيبي أو مشهود، أو اختلفت فيه أو في تقدير ما يترتب عليه، وما ينبغي له، احتاجت البشرية إلى ما يعرفها هل هذا الفعل سبباً للذم أو العقاب، أم لا؟ وما مقدار الذم أو العقاب الذي يستحقه من قارف ما اتفقت العقول على قبحه، واختلف في مقدار جزائه؟
وإلاّ فلو اتفقت العقول البشرية الصحيحة –وهذا ما يزيفه الواقع- لاكتفينا بحكم العقل حتى في المجتمع الواحد الذي يتغير ويتبدل رأي عقلائه قرناً إثر قرن.
التفريق بين فلسفة الإسلام ومعتقد أهله في شأن القوانين البشرية وبين التعامل مع واقعها:(1/35)
إذا تقررت تلك النظرة للقوانين التي يفرضها منطق القوة، فإن هذا لا يمنع التعامل مع واقعها بحكمة وفقاً لفقه القدرة ومقتضى المصلحة الشرعية، مع بقاء الرأي والمعتقد في تلك القوانين وفقاً لما تقتضيه النظرة الإسلامية، فإذا اختلت موازين القوى وتغيرت الطاقات والقدرات وأمكن صياغة تلك الأحكام وفقاً للنظرة الشرعية فبها ونعمت، وإلى ذلك الحين تظل المدافعة، ونافذة بيان الرأي وإثبات جدارته وصلاحيته مشرعةً يمكن من خلالها إذاعة فلسفة الإسلام ورؤاه في أمثال تلك القوانين، وذلك أول سبيل الدعوة إليها، شريطة أن يقوم بذلك المأهلون العالمون بالشرع والواقع.
أما التعامل مع واقع تلك القوانين المفروضة فيكون بالاستفادة مما تنص عليه من حق لا يخالف شرائع الإسلام في الجملة، كاحترام الأنبياء مثلاً.
وبالمقابل العمل على حكم وإخضاع الباطل منها لقوانين أخرى مجملة تعارضها والمدافعة في هذا الإطار بحسب الطاقة، تماماً كما يفعلون في مساسهم بالحريات الدينة للمسلمين وعدم احترامهم لما يجِلّون كنبينا _صلى الله عليه وسلم_ بحجة الحريات الصحفية، فهذه الصورة يمكن أن تعكس في المجتمعات الإسلامية.
احترم الأديان نموذجاً:
وإذا تقرر هذا فإن مسألة احترام الحريات الدينية مسألة مجملة، لا يمكن أن نقبلها جملة، ولا يمكن أن نردها جملة.
فاحترام الأنبياء مثلاً قضية محل اتفاق فيمكن حينها تفعيل الاستفادة من القوانين الدولية لتقريرها والأمر بها وعقاب من يخالفها بأقصى ما يتاح لنا، وهذا بطبيعة الحال لن يوافق التصور الإسلامي بكامله ولكن العمل على تخلية الأرض من ازدراء الرسل والتقليل منه قدر الطاقة مطلب شرعي ومقصد إسلامي يسعى إلى تحقيقه بما في الطاقة.(1/36)
أما إذا اقتضت قوانين الحريات الدينية تعدياً على المجتمع المسلم وإظهاراً للمنكر بين أهله ودعوة للردة عن الدين، فحينها ينبغي أن يحسم ذلك بما أمكن في المجتمع المسلم، ويدافع بأن حرية الأغلبية مقدمة، ومقدساتها ينبغي أن لا تنال ونحو ذلك.
ولعل التفريق بين نظرتنا إلى تلك القوانين وبين تعاملنا معها حال كونه ضرورة وقتية، النسبية فيها وتحميلها أوجه هو واقع الغرب في تعامله معها لا يختلف عما ذكر كثيراً.
منهجية الغرب في التعامل مع قوانين الحريات الدنمارك نموذجاً:
عوداً على بدء بعد هذا الاستطراد فإن البشر قد وضعوا قوانين تضبط ما رأوه حقوقا وتحميها.
وتلك القوانين والتشريعات لا تخلو من حق ظاهر، ومنها ما هو عالمي التزمته ساسة الدول جميعاً فضلاً عن واضعيها.
إلاّ أنك تجد عند التطبيق تفلت بعض دعاتها من الغربيين عنها، وبينما يوغل هؤلاء في انفلاتهم من قيمها يغضي الطرف آخرون زعموا أنهم حماة الحرية وناصبو نصبها.
ولنأخذ على سبيل المثال صنيع الدنمارك الأخير فقد أُطلقت يد الإعلام هنالك فنال بعضهم من بعض شعائر الإسلام بل من رسول البشرية _صلى الله عليه وسلم_.
وعلى الرغم من وجود أعداد كبيرة من المسلمين في الدنمارك، تمثل ديانتهم الديانة الثانية في تلك البلاد من حيث تعداد السكان (1) ،
__________
(1) الديانة الإسلامية في الدنمارك هي الديانة الثانية باعتبار مجموع تعداد السكان، فمن جملة 5.4 مليون نسمة يوجد 180.000 مسلم يمثلون نسبة 3.5% من مجموع السكان، تليهم الجالية الكاثوليكية التي يبلغ تعداد سكانها 35.000 نسمة، ثم شهود يهوه وتعدادهم 15.000 نسمة، أما اليهود فعددهم 7.000 نفس. أما سوادهم الأعظم فهم الإنجليون اللوثريون وتبلغ نسبتهم 83.2% من مجموع السكان بيد أن نسبة الطائفة المواظبة منهم على خدمة الكنيسة المنضوية إليها تبلغ نسبتهم 3% فقط.
تنظر هذه الأرقام في تقرير الحريات الدينية الأمريكي لعام 2005م الجزء الخاص بالدنمارك، وعلى رابط وزارة الخارجية التالي نسخة من الجزء المتعلق بالموضوع:
http://www.state.gov/g/drl/rls/irf/2005/51549.htm(1/37)
فضلاً عن شعوب كاملة يسوؤها ويغضبها ويزكي روح البغض والبراء في نفوسها مثل هذا الصنيع، إلاّ إنك لا تجد لأدعياء الحقوق أثراً، بينما لم يعبأ الساسة والمتأمرون بمشاهد الأسى والأسف التي علت وجوه المسلمين.
وكأنهم لم يوقعوا بالأمس أو يدعوا العالم للإعلان العالمي لحقوق الإنسان (1) ، أو العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية (2) .
لقد جاء في الإعلان العالمي ما نصه: "الدول الأعضاء قد تعهدت بالتعاون مع الأمم المتحدة على ضمان اطراد مراعاة حقوق الإنسان والحريات الأساسية واحترامها" (3) . ثم قرر الإعلان أن من الحريات الدين في غير موضع ومن ذلك نص المادة الثامن عشرة: "لكل شخص الحق في حرية التفكير والضمير والدين".
وجاء في العهد الدولي الخاص بالحقوق السياسية والمدنية ما نصه: " تحظر بالقانون أية دعوة إلى الكراهية القومية أو العنصرية أو الدينية تشكل تحريضا على التمييز أو العداوة أو العنف" (4) .
فبموجب نص الإعلان العالمي فإن على حكومة الدنمارك أن تحترم الدين الذي أفادت تقارير الأمم المتحدة نفسها أنه أكثر الأديان انتشاراً.
__________
(1) الذي اعتُمد بموجب قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة 217 ألف (د-3) المؤرخ في 10 كانون الأول/ديسمبر 1948م.
(2) اعتمد وعرض للتوقيع والتصديق والانضمام بموجب قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة 2200 ألف (د-21) المؤرخ في 16 كانون/ديسمبر1966 تاريخ بدء النفاذ: 23 آذار/مارس 1976، وفقا لأحكام المادة 49.
(3) تنظر ديباجة الإعلان، وعلى الرابط التالي من موقع الأمم المتحدة نسخة عربية من نص الإعلان:
http://www.un.org/arabic/aboutun/humanr.htm
(4) المادة 20 من العهد المذكور وعلى عدة مواقع نسخة عربية منها:
موقع جامعة منيسوتا – مكتبة حقوق الإنسان على الرابط التالي:
http://www1.umn.edu/humanrts/arab/b003.html
وكذلك الشبكة العربية لمعلومات حقوق الإنسان:
http://www.hrinfo.org/docs/undocs/iccpr.shtml(1/38)
فهل من احترام الدين السخرية من نبي ملة تعظمه مليار نفس بشرية على وجه الكرة الأرضية اليوم؟
وبموجب العهد الدولي الخاص بالحقوق السياسية فإن على الحكومة الدنماركية وغيرها أن تحظر بالقانون أي دعوة تثير الكراهية الدينية لدى المسلمين.
وأي شيء يثير الكراهية لدى المسلم أكثر من انتقاص من لا يؤمن حتى يكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين؟
إن أمثال تلك الطعونات الرعناء في الإسلام وفي نبي الإسلام تنبئ عن مصداقية بعض الدول الغربية وتبين ما يعنيه التزامهم بتلك القوانين المتعلقة بالحقوق المدنية والسياسية، أو حقوق الإنسان عموماً.
وكذلك فإنها تفضح المعيار المزدوج للدولة التي نصبت نفسها مسؤولاً عن احترام الحريات الدينية.
لقد جاء في التقرير السنوي الأمريكي حول الحريات الدينية في العالم عام 2004م ما نصه: " وتعترف الولايات المتحدة بمسؤوليتها الخاصة بالنسبة لاحترام تلك المعايير في الحفاظ على الحرية الدينية وفي حمايتها" (1) .
وأكد ذلك الرئيس جورج بوش عام 2005م إذ نقل عنه ما معناه: "على الرغم من تقدم الولايات المتحدة بسبب الحرية، نتذكر بأن الحرية ليست هدية أمريكا إلى العالم، لكنها هدية الله إلى كل رجل وامرأة في هذا العالم. هذه الحقيقة تقود جهودنا لمساعدة الناس ليحرزوا حرية دينية في كل مكان" (2) .
__________
(1) عن التقرير السنوي حول الحرية الدينية في العالم لسنة 2004م، وفي الرابط التالي من موقع وزارة الخارجية الأمريكية نسخة إلكترونية من التقرير كاملاً:
http://jerusalem.usconsulate.gov/jerusalem-ar/irf2004.html
(2) عن السفير جون هانفورد في تقرير وزارة الخارجية السنوي على الحرية الدينية الدولية الصادر عن الخارجية الأمريكية لعام 2005م، وعلى رابط وزارة الخارجية الأمريكية التالي نسخة منه بالإنجليزية:
http://www.state.gov/r/pa/prs/ps/2005/56647.htm(1/39)
فهم يزعمون إذاً أنهم مبعوثون من قبل الله من أجل الحفاظ على الحريات الدينية وحمايتها.
فما رصيد هذا الزعم من التطبيق العملي ولنأخذ الدنمارك الذي تزايدت فيه الإساءة لنبي الإسلام ولدينه في السنوات الثلاث الأخيرة وبالأخص بعد عرض فلم الخضوع (Submission) الذي أساء إلى الإسلام أواخر عام 2004م، وكان قد أثار موجة احتجاجات إسلامية أول ما صدر -في هولندا- أسفرت عن مقتل مخرجه "ثيو فان جوخ" (Theo Van Gogh) ببعض شوارع أمستردام في أول عام 2004م.
مع ذلك جاء التقرير الأمريكي الأخير للحريات مليئاً بالمفارقات أو النفاق السياسي على حد قول البعض.
فقد أكد أن الدستور الدنماركي يعزز الحرية الدينية، ويحترم الحق الديني عموماً، وأنه لم يكن هناك تغير في مكانة احترام الحرية الدينية أثناء المدة التي غطاها التقرير، وأن الحكومة واصلت سياستها في تعزيز حرية ممارسة الدين.
بيد أن التقرير أشار إلى اشتراط الدستور عندهم أن يكون الملك الحاكم عضواً في الكنيسة الإنجيلية اللوثرية، وأن الكنيسة اللوثرية الإنجيلية هي المجموعة الدينية الوحيدة التي يمكن أن تستلم الإعانات المالية أو الأموال الرسمية مباشرة من خلال نظام الضرائب. وذكر أيضاً أن 12% تقريباً من دخل الكنيسة يجيء من الإعانات المالية الرسمية.
ولم ينس التقرير أن يشير إلى حالات مسجلة مما يسمى بحوادث معاداة السامية مع أن الحكومة الدنماركية حققت في بعضها وأدانت المسؤولين عنها.
وكذلك نشرت مقالاً شاركت به السفارة الأمريكية في تقرير معاداة السامية يناير 2005م وذلك في صحيفة كريستيليج داجبلاد (Kristelig Dagblad) اليومية الوطنية، وهي الصحيفة الدينية الوحيدة بالدنمارك، أكدت فيه على حاجة الحكومات إلى اتخاذ خطوات صلبة لمعالجة قضية الانتهاكات المعادية للسامية المتزايدة في أوروبا وروسيا على حد وصف التقرير.
المفارقات في تطبيق قوانيين الحريات:(1/40)
الشاهد مما سبق بيان المفارقة بين المكاييل التي تكيل بها بعض الدول التي تزعم رعاية الحرية وابتعاث الله لها لأجل صيانتها، فبينما تدرج دولاً كالسودان ضمن القائمة السوداء مع أنه لم ينص دستورها على ما نص عليه دستور الدنمارك في شأن الحاكم، ولا أُثبتت فيها حالات اضطهاد لأجل الدين لنصارى أو وثنيين، ولا يعرف نص في مواد أحكامها يأذن بدعم المسلمين على حساب غيرهم (1) ، تشيد هنا بالتزام الدنمارك بالحريات الدينية وفي غير موضع، وبينما ينص على أن حكومة السودان تضيق باب بناء الكنائس وإحداثها، لايشار إلى تضييق الدنماركيين على أصحاب ثاني أكبر دينانة عندهم في بناء المساجد وإحداثها!
وبينما توضع المملكة العربية السعودية ضمن قائمة الدول التي لا تحترم الحريات الدينية تغفل الدنمارك، مع أن الأخيرة يهزأ فيها بنبي ودين جهاراً، والأولى لو تجرأ فيها مسلم فسخر من المسيح –عليه السلام- لتعرض لأشد العقاب. فما لهم كيف يحكمون!
ومن جهة أخرى يتعرض التقرير لقضية معاداة السامية على الرغم من جهود الدنمارك في هذا الصدد، وعلى الرغم من محاسبة الدولة لبعض المدانين في نحو هذه القضية، وعلى الرغم من أن اليهود شرذمة لا يتعدى تعدادها السبعة آلاف نسمة في الدنمارك، بينما يعرض عن الإساءات التي يتعرض لها الإسلام ثاني أكبر دين بالبلاد وكذلك المسلمون عبر وسائل الإعلام المرئية والمقروءة!
بل يُعَرِّضُ التقرير في معرض ذكر معادة السامية بالمسلمين المثيرين.
وبينما يحظر على البعض البحث ولو في مسألة تاريخية كشأن المحرقة اليهودية سداً لذريعة معاداة السامية! يباح لآخرين الطعن في دين المسلمين ونبيهم _صلى الله عليه وسلم_ جهاراً نهاراً على الملأ.
__________
(1) ولعل القارئ الكريم يعلم أن ما ذكر هنا ليس في إطار المدح، ولكنه في سياق بيان المفارقة.(1/41)
وبعد ذلك يرون بوقاحة قول المسيح –عليه السلام-: "أَمَّا أَنَا فَأَقُولُ لَكُمْ: لاَ تُقَاوِمُوا الشَّرَّ بِمِثْلِهِ، بَلْ مَنْ لَطَمَكَ عَلَى خَدِّكَ الأَيْمَنِ، فَأَدِرْ لَهُ الْخَدَّ الآخَرَ" (1) .
وقوله: "أَحِبُّوا أَعْدَاءَكُمْ، وَبَارِكُوا لاَعِنِيكُمْ، وَأَحْسِنُوا مُعَامَلَةَ الَّذِينَ يُبْغِضُونَكُمْ، وَصَلُّوا لأَجْلِ الَّذِينَ يُسِيئُونَ إِلَيْكُمْ وَيَضْطَهِدُونَكُمْ" (2) .
أهم حقاً أتباع عيسى _صلى الله عليه وسلم_، أم الذين قال فيهم القطامي:
تراهم يظلمون من استركوا ... ويجتنبون من صدق المصاعا (3) !
ويحق لنا أن نتساءل وإن كان الجواب واضحاً:
أبعض الظالمين وإن تعدى ... شهي الظلم مغفور الذنوب؟
وأقبح من نحو هذا الذي يتبجحون به، محاولة بعضهم إناطة أسباب بعض مظاهر الغلو في الدين بدعوات خرجت أكابر الدعاة والهداة، ويغفلون أفعالهم هذه وهم يعلمون أن كل فعل له ردة فعل معاكسة في بعض النفوس!
والخلاصة:
هي أن مفهوم حرية التعبير في ما يتعلق بجناب الأنبياء واحترامهم قانون دولي مقرر على وجه العموم، بل إن التعريض ببعض معتقدات الأديان وما يعظمون مما لايرقى إلى درجة الأنبياء حرمته مقررة في قوانينهم الدولية، ولهذا تجد أن المحرقة المزعومة لايجرؤ كثير منهم على الكلام فيها باسم الحرية، ومن تكلم حوسب. أما الكلام في الإسلام ونبيه _صلى الله عليه وسلم_ فلا يعتبرون فيه المواثيق الدولية بحجة الحرية.
__________
(1) انجيل متى 5/40، وفي انجيل لوقا نحوه 6/30.
(2) انجيل متى 5/43-45، وفي لوقا 6/29.
(3) ماصعه: جالده والمصدر مصاعاً، والعرب تقول: بطل ماصع، وأما استركوا فمعناه استضعفوا، رجل ركيك: ضعيف، تقول: استركوه فاستجرؤوا عليه ، والعرب تقول: اقطع الحبل من حيث ركّ أي ضعف.(1/42)
وهذا التناقض ليس منشؤه غموض في القانون أو لبس في حدود مفهوم الحرية، وأما اللغط الذي يدور حول هذا المفهوم فما هو إلاّ صخب يستر به كثيرون ما تكن صدورهم من عدم اعتبار لدين الإسلام ولانبيه.
وإلاّ فإن جماهير أمم الأرض لهم معتقداتهم ولهم مقدساتهم التي يرفضون أن تمس أو تنال بسوء، فإذا سألت أمم الأرض عن رأيهم في عد السخرية والاستهزاء أو التنقص والشتم لمعتقداتهم ومقدساتهم حرية مأذونا بها لقالوا: لا. بل ذلك سوء أدب وتعد على الآخرين.
ولكن يقع الإشكال في التطبيق، فإذا طعن مسلم في تثليث النصارى أو سخر بدعوى صلب المسيح، أو سفه معتقد اليهود في التلمود، فلن يعد المسلمون ذلك من منطلق الرؤية الإسلامية سخرية ولاتنقصاً ولا سباً لمقدس له حق القداسة بل إهانة لشيء من حقه أن يهان، أما هل تقتضي المصلحة إظهار ذلك أو ينهى عنه من باب قول الله _تعالى_: "وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ" [الأنعام:108]. فهذه هو الذي يدخله تفصيل وقد يقع فيه الاختلاف بينهم.
فكذلك النصارى–وهم سواد الغرب الأعظم- واليهود لا يرضون أن تمس مقدساتهم باسم الحرية، أو يسخر من بعض مهماتهم الدينية فضلاً عن أنبيائهم باسم الحرية، ولكن كثيراً منهم لايعتقدون أن الإسلام دين حق، وأن نبينا _صلى الله عليه وسلم_ رسول كريم.
ولكن لما كانت مجتمعاتهم خليطاً من الأديان والفرق النصرانية المتنوعة اقتضت المصلحة أن يعقدوا المواثيق الدولية الناصة على احترام الأديان.(1/43)
فإذا تعارضت تلك المواثيق والقوانين مع القيم التي قامت عليها المجتمعات الغربية كالحرية وقع الانفصام في ردة الفعل تجاه الحوادث بحسبها، فإن كانت تمس ما من أجله أنشأت تلك القوانيين لم يكن للحرية أن تتجازوها إذ قيام المجتمعات واستقراراها لا يكون إلاّ باحترامها، لم يكن ليد الحرية أن تمتد لتهشم أنف المجتمع.
وإذا كانت الحادثة لا تدخل في ما من أجله أنشأت تلك القوانين وإنما دخلت تبعاً، وليس ذلك المقدس المهان مما يهدد استقرار المجتمع الغربي فعندها يكون لحرية التعبير مجال واسع، فقيم المجتمع مقدمة على المقدسات الوافدة التي ليست من مقدسات المجتمع في شيء بل ربما كانت من ما يناصبه العداء.
وحتى يفعل القانون الموجود ليحمي حقوق المسلمين فلا سبيل إلى ذلك إلاّ بأن يثبت أهل الإسلام أنفسهم، ويظهر أثرهم.
وهذا ما ينبغي أن يسعى أهل الإسلام في تحقيقه بحكمة يعقل أصحابها ما هو الذي في طاقتهم، وإلى أي درجة يؤثر في تحقيق مطلوبهم، وإلى أي درجة ينبغي أن ترتفع قدرتهم ليحصل تمام مطلوبهم، وكيف لهم أن يرفعوها.
ثم يكون التعامل مع معطيات الواقع وتدار بحيث يسلك كل سبيل شرعي يقلل على الأقل من حجم الإساءة للإسلام ولنبيه _صلى الله عليه وسلم_ في الغرب، إلى أن يعز الله دينه، ويظهر عباده الصالحين، وحين يقطع دابر المستهزئين المتنقصين للمرسلين، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
قصيمي نت
http://www.qassimy.com/
منتديات قصيمي نت
http://www.qassimy.com/vb/index.php
مكتبة قصيمي نت لروائع الكتب(احد منتديات قصيمي نت)
http://www.qassimy.com/vb/forumdisplay.php?f=68
واس/مشرف المكتبة
waas@hotmail.com
الشكر والتقدير لـ موقع المسلم (موقع الشيخ ناصر العمر )(1/44)