الدرس 28\50 سيرة الصحابي : سيدنا عمير بن سعد الأنصاري لفضيلة الأستاذ محمد راتب النابلسي.
تفريغ : م المهندس عرفان نابلسي .
التدقيق اللغوي : الأستاذ غازي القدسي
التنقيح النهائي : المهندس غسان السراقبي .
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا وزدنا علما ، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .
أيها الإخوة الأكارم :
مع بداية الدرس الثامن والعشرين من دروس صحابة رسول الله رضوان الله عليهم أجمعين، وصحابيّ اليوم سيدنا عمير بن سعد ، وقصته وقعت يوم كان في السنة العاشرة من عمره ، انظروا إلى عظمة الإسلام ؛ شيخ في الثمانين يجاهد في سبيل الله ليصل إلى القسطنطينية ، ويدفن هناك ، وطفل في العاشرة من عمره ، كأن صحابة رسول الله رضوان الله عليهم يمثِّلون كل النماذج البشرية ، ويمثِّلون كل الأعمار ، وكل الأحوال ، وكل الأطوار ، وكل البيئات ، وكل المستويات ، وكل القدرات والإمكانات ، والإسلام يجعل من الإنسان بطلاً ولو كان صغيراً ، ويجعل من الشيخ بطلاً ولو كان متقدماً في السن .
الغلام الصغير عمير بن سعد الأنصاري تجرّع كأس اليُتْم والفاقة منذ نعومة أظفاره ، يُتْمٌ مع الفاقة ، فقد مضى أبوه إلى ربه ، ولم يترك له مالاً ولا معيلاً ، لكن أمه ما لبثت أن تزوجت رجلاً ثريًّا من أثرياء الأوس في المدينة يدعى الجلاَّس بن سويد ، فكفل ابنها عميراً ، وضمّه إليه، طفل صغير تجرع كأس اليتم والفاقة ، مضى أبوه دون أن يدع له مالاً يقوم بأوده ، ولا يجد معيناً ينفق عليه ، فتزوجت أمُّه ثريًّا من أثرياء المدينة اسمه الجلاس بن سويد ، ولقي عمير مِن برِّ الجلاس وحسنِ رعايته وجميل عطفه ما جعله ينسى أنه يتيم .
أحب عمير الجلاس حبَّ الابن لأبيه كما أولع الجلاس بعمير ولع الوالد بولده ، كأن عمير ابن الجلاس ، وكأن الجلاس والد عمير ، وكان كلما نما عمير وشب يزداد الجلاس له حباً وبه إعجاباً كما كان يرى به أمارات الفطنة والنجابة التي تبدو في كل عمل من أعماله .
يا أيها الإخوة الأكارم :
إذا كان لأحدنا طفل صغير فليتأمّل منه خيرًا إن شاء الله ، فهذا عمير في العاشرة من عمره كان بطلاً ، وسوف ترون من قصته العجب العجاب ، والذي عنده طفل عليه أن يعتني به ، وعليه أن يرعاه ، وأن يعلمه عليه أن يؤدِّبه ، فعليه أن يربِّيَه على قراءة القرآن ، وعليه أن ينشئه على حب النبي العدنان ، عليه أتم الصلاة والسلام .
وكان كلما نما عمير وشبَّ يزداد الجلاس له حباً ، وبه إعجاباً ، كما كان يرى فيه أمارات الفطنة والنجابة التي تبدو في كل عملٍ مِن أعماله ، وشمائل الأمانة والصدق التي تظهر في كل تصرف من تصرفاته ، وأسلم الفتى عمير ، طفل في وهو في العاشرة من عمره ، وبايع النبيَّ عليه الصلاة والسلام وهو صغير لم يجاوز العاشرة من عمره ، فوجد الإيمان في قلبه الغض مكاناً خالياً فتمكن منه .
أيها الإخوة الأكارم ؛ أيها الشباب أيها الصغار : كلما بكّرتم بالإيمان كلما تمكّن الإيمان في قلوبكم ، وكلما كانت نشأتكم منذ البداية على طاعة الله وطاعة رسوله وحب القرآن وحبِّ أهل الإيمان ، كلما نما الإيمان وترعرع حينما تكبرون .
مَن لم تكن له بداية محرقة ، لم تكن له نهاية مشرقة ، ريح الجنة في الشباب ، هذه القصة عجيبة جداً لطفل في العاشرة مِن عمره .
مرة قلت لكم : دخل وفدٌ من الحجازيين على عمر بن عبد العزيز فامتعض الخليفة منهم ، لأن فيهم غلاماً صغيراً ، وكأن هذا الغلام انتقص من قدره ، والأغرب من ذلك أن هذا الغلام وقف ليتكلم فقال له الخليفة عمر : اجلس ، وليقمْ مَن هو أكبر منك سناً ، فقال : أصلح الله الأمير، المرء بأصغريه ؛ قلبه ولسانه ، فإذا وهب اللهُ العبدَ لساناً لافظاً ، وقلباً حافظاً فقد استحق الكلام ، ولو أن الأمر كما تقول لكان في الأمة مَن هو أحقُّ منك بهذا المجلس .
الغلام الثاني دخل على أحد الخلفاء الكبار مِن بني أمية ؛ هشام بن عبد الملك ، فلما رأى طفلاً صغيراً بين الوفد عاتب الحاجب ، وقال : ما شاء أحدٌ أن يدخل عليَّ إلاّ دخل ، حتى الأطفال ، فقال هذا الغلام الصغير : أيها الأمير إنّ دخولي عليك لن ينقص من قدرك ، ولكنه شرَّفني ؛ أصابتنا سَنَة أذابت الشحم ، وسنة أكلت اللحم ، وسنة دقَّت العظم ، ومعكم فضولُ مالٍ ، فإن كانت هذه الأموال لكم فتصدقوا بها علينا ، وإن كانت لله فعلام تحبسوها عن عباده ، وإن كانت لنا فأعطونا إياها ؛ مثلما حسبتها احسب ؛ إن كانت لكم تصدقوا بها علينا ؛ إن كانت لنا فأعطونا إياها ؛ وإن كانت لله فأعطوها لعباده ؛ فقال الخليفة : واللهِ ما ترك هذا الغلام لنا في واحدة عذرًا.
ومِن البطولات الغلمان ، والشيء بالشيء يُذكر أنّ عبد الله بن الزبير لما مرّ به سيدنا عمر ، وكان مع جمع غفير من غلمان المدينة يلعبون ، وكان عمرُ ذا هيبة عظيمة ، فلما رأوه فرّوا وولّوا هاربين ، إلا عبد الله بن الزبير ؛ فلَفَت نظرَ عمر بن الخطاب وقوفُه وأدبهُ ، فقال : يا غلام لِمّ لمْ تهرب مع من هرب ؛ قال : أيها الأمير لستَ ظالماً فأخشى ظلمك ، ولستُ مذنباً فأخشى عقابك ، والطريقُ يسعني ويسعك ، ما هذا الإسلام الرفيع ؟ ما هذا الأدب ؟ وما هذه الفصاحة ؟ بل ما هذه الجرأة ؟
أسلَمَ سيدنا عمير بن سعد في العاشرة ، و تفتح قلبه للإيمان ، وتمكن الإيمان من قلبه ، وألفى الإسلامُ في نفسه الصافية الشفافة تربةً خصبةً فتغلغل فيها ، فإذا نشأ الإنسان في طاعة الله، أو أسْلم على كِبَرٍ فلا بأس ، جزاه الله الخير ، ولكن المتقدِّمة سنُّه لا يعلم كثيراً مِن دينه ، قال لي أحدُهم وهو يُعَبِّر عن تقدمه في السن ، قال لي : أنا الدولاب عندي ماسح ، والعداد قالب ، لا يكاد يعلم ما حوله ، تكلمه عشر ساعات فيبقى محدودا ، ومَنْ شبَّ على شيء شاب عليه ، ومَن شاب على شيء مات عليه ، ومَن مات على شيء حُشِرَ عليه ، ومَن بلغ الأربعين ولم يغلب خيرُه شَرَّه فليتجهز إلى النار ، فأروع ما في الحياة أن ترى شاباً ناشئاً في طاعة الله ، إن الله ليباهي الملائكة بالشاب المؤمن فيقول : انظروا عبدي ترك شهوته من أجلي وَعَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لَيَعْجَبُ مِنْ الشَّابِّ لَيْسَتْ لَهُ صَبْوَةٌ *
(رواه أحمد)
همّه فهمُ القرآن وحفظه ؛ همه حضور مجالس العلم ؛ همه صلاة الليل ؛ همه فهم العلم ؛ هذا الشاب المؤمن يساوي وزنه ذهباً كما يقولون ، إنه شيء ثمين جداً .
أيها الإخوة الأكارم :
أقول هذا لآباء الشباب المؤمنين : واللهِ أيها الأب لو أنك تملك ملء الأرض ذهباً فإنّ هذا لا يقاس بابنٍ لك نشأ في طاعة الله ، لأن هذا الابن ثروة حقًّا ، وكل ثروتك تتركها في الدنيا ؛ لكن هذا الابن المؤمن ثروة دائمة دنيا وأخرى ؛ هذا الابن المؤمن الذي ينفع الناس مِن بعدك ؛ هذا الابن المؤمن الذي يعلم الناس مِن بعدك ؛ هذا الابن المؤمن الذي يعد استمراراً لك من بعدك ؛ وهو الثروة الكبرى ، لذلك فَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ قَالَتْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ مِنْ أَطْيَبِ مَا أَكَلَ الرَّجُلُ مِنْ كَسْبِهِ وَوَلَدُهُ مِنْ كَسْبِهِ *
(رواه أبو داود والنسائي وابن ماجه وأحمد )
هذا عمل مشروعًا تجاريًّا ناجحًا جداً ، جمع مئات الملايين وهذا أنشأ مشروعًا صناعيًّا ، وهذا أقام مشروعًا زراعيًّا وصل لأعلى المراتب ، وهذا ترك ولدًا صالحًا ، فالولد الصالح خيٌر من كل أولئك ، لأنه صدقة جارية ، وينفع الناس من بعدك ، لأنك كل يوم تتلقَّى عطاءً من الله ، من أين هذا ؟ فقيل له : من ابنك الذي ربيته تربية صالحة .
وكان على حداثة سنه لا يتأخر عنْ صلاة خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم ، المؤمن بالمسجد كالسمكة بالماء .
وكانت أمُّه كلما رأته ذاهباً إلى المسجد أو آيباً منه تغمرها الفرحة ، ويملأ قلبها السرور ، وإذا كنتُ أعجب لشيء لا أعجب أيها الإخوة فإنّي أعجبُ مِن أبٍ ينهى ابنه عن الصلاة في المساجد ، ولا أعجب حائرًا إلاَّ من أبٍ لا يريد ابنه أن يسلك طريق الإيمان ، فيضغط عليه بكل الوسائل ليصرفه عن طريق الحق ، إن أخبره ابنه أنه كان مع رفاق السوء وفي دور الملاهي فلا يتكلم كلمة راشدة ، ولا يعترض ، أمّا إذا بلغ الأب أن الابن كان في مجلس علم أو في مسجد يقيم الدنيا ولا يقعدها ، فما أشقى هذا الأب الذي يمنع ابنه عن سلوك أهل الإيمان .
وكانت أمُّه كما قلت قبل قليل كلما رأت ابنها عمير بن سعد ذاهباً إلى المسجد أو آيباً منه تغمرها الفرحة ، ويملأ قلبها السرور ، تارة مع زوجها وتارة وحده ، وسارت حياة الغلام عمير بن سعد على هذا النحو هانئة وادعة ، لا يعكِّر صفوها معكر ، ولا يكدِّر هناءتها مكدِّر حتى شاء الله ، وها نحن الآن دخلنا في العقدة ، أول قسم في فنّ القصة اسمه البداية ، والبداية تنتهي حينما تستقرّ الأحداث ، أما إذا تأزّمت وتداخلتْ ونشأت المشكلة فهذه هي العقدة ، حتى شاء الله أن يُعرِّض الغلام اليافع لتجربة من أشدّ التجارب عنفاً ، وأعظمِها قساوةً ، وأن يمتحنه الله امتحاناً قلّما مرّ بمثله فتىً في سنه ؛ في السنة التاسعة للهجرة أعلن النبي صلى الله عليه وسلم عزمه على غزو الروم في تبوك ، وأَمَر المسلمِين بأن يستعدّوا ، ويتجهزوا لذلك ، هذه من أصعب الغزوات لبعد المسافة ، والوقت كان في أشد أشهر الصيف حرارةً ، وكان عليه الصلاة والسلام إذا أراد أن يغزو غزوة لم يصرِّح بها ، وأوهم أنه يريد جهةً غير الجهة التي يقصد إليها ، لأن الحرب خدعة، إلا في غزوة تبوك فإنه بيَّنها للناس لِبُعْدِ الشُّقَّة ، وعِظَم المشَقَّة ، وقوة العدو ، ليكون الناس على بيّنة من أمرهم ، وليأخذوا للأمر أهبتَه ، ويعدّو له عدّته ، وعلى الرغم من أن الصيف كان قد دخل ، وأنّ الحرّ قد اشتدّ ، والثمار قد أينعت ، والظلال قد طابت ، والنفوس قد ركنت إلى التراخي والتكاسل ؛ على الرغم من كل ذلك فقد لبّى المسلمون دعوةَ النبي عليه الصلاة و السلام ، وأخذوا يتجهزون ، ويستعدَّون ، فالمؤمن الصادق أداؤه للواجبات الدينية ليس على مزاجه ، ولا حسبَ فراغه ، ليس له خِيارٌ ، ويقول : ضاقت نفسُه وضجرتْ إنِ حضرَ الدرسَ .
إنَّ أداء الواجبات الدينية ، وطلب العلم ليس على مزاجه ، بل إنَّ كل حياته مُبَرْمَجةٌ وفق برنامجه الديني ؛ حر شديد ؛ مسافة شاسعة ؛ طابت الثمار وأينعت ؛ مال الإنسانُ للاسترخاء ؛ للراحة ؛ للمكثِ في البيوت الرطبة ؛ وجاء النفير العام إلى تبوك ، وهذا الكلام لا يعرفه إلا من ذهب إلى الحج و العمرة ؛ فلا يعرف ما معنى الحر ؛ حين تبلغ درجة الحرارة ستًّا وخمسين درجة في الظل ؛ كنا نخرج من الغرفة من البيت في مكة الساعة العاشرة ليلاً ، وكأنك داخل إلى تنور .
غير أن طائفة من المنافقين أخذوا يثبِّطون العزائم ، ويوهنون الهمم ، ويثيرون الشكوك ؛ لماذا هذه الغزوة الآن ؟ و يغمزون الرسول صلوات الله عليه ، ويطلقون في مجالسهم الخاصة من الكلمات ما يدمغهم بالكفر دمغاً دائماً ، فالمنافق دائمًا يشكِّك ويقول : أنا لا أقبض فلانًا ، دائماً يطعن ، دائماً يثبِّط العزائم ، دائماً يبثُّ الشكوك ، ويثير الفتنَ ، ويشقُّ الصفوفَ ، ويوهن العزائمَ، هذه مهمة المنافق ، إنه طابور خامس ، يضعف معنويات المؤمنين ، ويضخم مِن قوة أعدائهم ، ويحلُّ بينهم الشقاق بين المؤمنين ، ويضعف عزائمهم ، ويطعن في نواياهم .
وفي يوم من هذه الأيام التي سبقتْ رحيلَ الجيش عاد الغلامُ عمير بن سعد إلى بيته بعد أداء الصلاة في المسجد ، وقد امتلأت نفسُه بطائفة مشرقة من صور بذل المؤمنين وتضحيتهم ، لقد رآها بعينه ، وسمعها بأذنه ، والصيف حار ، والمسافة طويلة ، والثمار أينعت ، والظلال طابت، والنفس مالت للاسترخاء ، مع كل ذلك رأى هذا الغلام الصغير من صور البطولة عند الصحابة ما تخشع له الأبدان ، رأى نساء المهاجرين والأنصار يُقْبِلن على رسول الله ، ينزعن حليهن ، ويلقينها بين يدي النبي عليه الصلاة والسلام ، ليبيع هذه الحلي ، ويجهِّز بثمنها الجيش الغازي في سبيل الله ، وأبصر الغلامُ عميرُ بعين رأسه عثمانَ بنَ عفان يأتي بجرابٍ فيه ألف دينار ذهباً ، وقَدَّمه للنبي عليه الصلاة والسلام .
مَن الذي قال لك : قوةُ المال أقلُّ من قوة العلم ؟ المال قوةٌ كبيرة في الحياة ، والعلم قوة كبيرة ، وإذا تعاون المال والعلم تحقّق المستحيل ، أُناس آتاهم الله علماً ، وأناسٌ آتاهم الله مالاً ، أناس آتاهم الله وجاهةً وقوةً ، هذه القُوى الثلاث تشكِّل القوة الكبرى في المجتمع ، لذلك فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُؤْمِنُ الْقَوِيُّ خَيْرٌ وَأَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِ الضَّعِيفِ وَفِي كُلٍّ خَيْرٌ احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُكَ وَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ وَلَا تَعْجَزْ وَإِنْ أَصَابَكَ شَيْءٌ فَلَا تَقُلْ لَوْ أَنِّي فَعَلْتُ كَانَ كَذَا وَكَذَا وَلَكِنْ قُلْ قَدَرُ اللَّهِ وَمَا شَاءَ فَعَلَ فَإِنَّ لَوْ تَفْتَحُ عَمَلَ الشَّيْطَانِ *
(رواه مسلم)
لا بد من التفوق ، وإنّ علو الهمة من الإيمان ، فتفوَّقْ بالعلم أو بالمال أو بالسلطان والقوة ، لأنك إذا كنت كذلك كنت عوناً للمسلمين ، وكنت قوةً لمجموع المسلمين .
لقد أتى سيدنا عثمان بجراب فيه ألف دينار ذهباً ، وقدمه للنبي عليه الصلاة والسلام ، ونزَعَ نساءُ المهاجرين والأنصار الحلِيَّ ، وقدمنها للنبي عليه الصلاة والسلام ، وحملَ عبدُ الرحمن بن عوف على عاتقه مائتي أوقية من الذهب ، وألقاها بين يدي النبي الكريم ، هذا ما جاد به هؤلاء الأغنياء ، أمّا الفقراء فصحابي جليل حمل على كتفه فراشه الذي لا يملك غيره ، وَعَرَضَه للبيع، ليشتري بثمنه سيفاً يقاتل به في سبيل الله ، فالكبير والصغير ، والرجل والمرأة ، والغني والفقير، كل هؤلاء الصحابة الكرام بذلوا لهذه المعركة الحاسمة الشاقة والطويلة .
هذا الطفل الصغير عمير بن سعد استعاد هذه الصورة الفذة الرائعة ، لكنه عجب أشَدّ العجب لتباطؤ الجلاس زوج أمه عن الاستعداد للرحيل مع الرسول صلى الله عليه وسلم ، وعجِب لتأخره عن البذل على الرغم من قدرته ويساره ، وحينما عرض عمير بن سعد على عمه زوج أمه هذه الصور الفذّة ، وهذه البطولات الرائعة ، وهذا البذل السخي ، وهذه التضحية ، أراد أن يستثير حماسة عمّه ، فقصَّ عليه أخبار ما سمع ، وأخبار ما رأى ، وخاصةً خبر أولئك النفر من المؤمنين الذين قدموا على النبي صلى الله عليه وسلم وسألوه في لوعةٍ أن يضمّهم إلى الجيش الغازي في سبيل الله فردَّهم النبي عليه الصلاة والسلام ، لأنه لم يجد عنده من الركائب ما يحملهم عليه ، فتولوا وأعينهم تفيض من الدمع حَزَناً ألا يجدوا ما يبلغهم أمنيتَهم في الجهاد .
هذه الصورة لكي تعرفوا الفرق الكبير بين الصحابة وبين مؤمني آخر الزمان يبكون لأنهم لم يُتَحْ لهم الجهاد في سبيل الله مع المجاهدين .
لكن الجلاس زوج أم عمير بن سعد الذي أحبّه حبًّا جمًّا ما كاد يسمع من عمير ما سمع - هنا أعقد ما في القصة - حتى انطلقت من فمه كلمة أطارت صواب الفتى المؤمن ، ماذا قال الجلاس بعد أن سمع خبر سيدنا عثمان ، وسيدنا عبد الرحمن ، وهذا الفقير الذي باع فراشه ، والنساء اللواتي قدَّمن الحليَّ للنبي عليه الصلاة والسلام ؟ قال الجلاس : إْن كان محمّدٌ صادقاً فيما يدّعيه من النبوة فنحن شرٌّ من الحمير ، ما هذه الكلمة ؟ هذه كلمة الكفر بعينها ، فدهش عمير مما سمع ، ولم يكن يظن أن رجلاً له عقل عمّه وسنّه تندُّ من فمه مثل هذه الكلمة ، التي تُخرِج صاحبَها من الإيمان دفعة واحدة ، وتدخله في الكفر من أوسع أبوابه .
أحيانًا إذا أمسك الرجلُ المصحفَ ، وألقاه باستخفاف ليهينه فقد كفر ، وإذا قال : لماذا الصلاة ، وما فائدتها ؟ فقد كفر ، إذا أنكرت شيئاً عُلِمَ مِن الدِّين بالضرورة ، كأنْ تنكر حقيقة آية كريمة أو حديثًا صحيحًا متواترًا ، وإذا أنكرت فريضةً فهذا هو الكفر بعينه .
قال الجلاس : إن كان محمد صادقاً فيما يَدّعيه من النبوة فنحن شرٌّ من الحمير ، وكما تنطلق الآلات الحاسبة الدقيقة في حساب ما يلقى إليها من المسائل انطلق عقل الفتى عمير بن سعد يفكّر فيما يجب عليه أن يصنعه ، عمّه زوج أمّه ، وأقرب الناس إليه ، وأحبّهم إليه ينطق بكلمة الكفر ، هنا المشكلة ، غلام في سن العاشرة حُمِّل ما لا يطيق ، فإنْ سكت على عمّه ، وتستر عليه فقد خان الله ورسوله ، لأن النبي يحسبه مؤمناً ، بينما هو منافق وليس مؤمناً ، بل كافرٌ محسوب على النبي ، أنه من أصحابه ، وإنْ أذاع هذا الكلام كان عقوقاً لعمّه ، وهو الذي أنقذه من الفقر واليتم ، وأكرمه ، وأطعمه ، وألبسه ، ورعاه ، وقدّم له كل ما يحتاج ، إنه موقف عسير وخطير وشديد ، وإنه لصراع عنيف ، وكان على الفتى أنْ يختار بين أمرين ، أحلاهما مُرٌّ ؛ إن أبلغ النبي فقد عقَّ عمّه ، وإن سكت عنه فقد خان النبي .
استمعوا أيها الإخوة إلى ما فعله عمير بن سعد ، التفت عمير بن سعد إلى الجلاس ، وقال : واللهِ يا عمّ ما كان على ظهر الأرض أحدٌ بعد محمد بن عبد الله أحبّ إليّ منك ، وقد كنتَ آثرَ الناس عندي ، وأجلَّهم يداً عليّ ، ولقد قلتَ مقالةً إنْ ذكرتُها فضحتْكَ ، وإنْ أخفيتُها خنتُ أمانتي ، وأهلكت نفسي وديني ، وقد عزمتُ على أن أمضي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبره بما قلت ، فكن على بيِّنة من أمرك ، وتصرف الفتى هذا لم يكن من خلف ظهر علمه .
طبعاً العم كبير وثري ، ومن وجهاء المدينة ، والطفل عمره عشر سنوات ، فهل يُعقَل أنْ يقبل التحدِّي ؟ تكلم وانتهى ، وهذا الطفل إنْ سكت خان الله ورسوله ، لعل هذا المنافق يكيد للنبي ما دام لا يصدق برسالته ، وإنْ فضحه كان عقوقاً بولِيِّ نعمته ، فاختار أن يبلّغه ، فهو لن يسكت عن هذا الكلام ، فمضى الفتى عمير بن سعد إلى المسجد ، وأخبر النبي عليه الصلاة والسلام بما سمع من عمه الجلاس بن سويد ، فاستبقاه النبي عليه الصلاة والسلام عنده ، وأرسل أحدَ أصحابه ليدعو له الجلاس ، وما هو إلا وقت قليل حتى جاء الجلاس فحيّا رسول الله صلى الله عليه وسلم قال تعالى :
(سورة المجادلة )
وجلس بين يدي النبي ، وقال عليه الصلاة والسلام : يا جلاس ، مقالةٌ سمعها منك عمير بن سعد، وذكر له ما قاله ، فقال : يا رسول الله كذب عليَّ وافترى ، فما تفوهت بشيء من ذلك ، فكيف صار وضع هذا الطفل الصغير ؟ شخص وجيه وقوي وغني قال عنه : كذّاب ، كذب عليّ يا رسول الله وافترى ، فما تفوهت بشيء من ذلك ، وأخذ الصحابة ينقِّلون أبصارهم بين الجلاس وفتاه عمير بن سعد ، كأنهم يريدون أن يقرؤوا على صفحتيْ وجوههما ما تكنُّه صدورهما ، وجعلوا يتهامسون ، فقال واحد من الذين في قلوبهم مرض : فتىً عاق ، أبَى إلا أن يسيء لمَن أحسن إليه ، وقال آخرون : بل إنه فتىً نشأ في طاعة الله ، وإن قسمات وجهه لتنطق بالصدق .
والتفت النبي عليه الصلاة والسلام إلى عمير فرأى وجهه محتقنًا بالدم ، والدموع تنحدر من عينيه ، وتتساقط على خديه وصدره ، وهو يقول : اللهم أنزل على نبيك بيانَ ما تكلمتُ فيه .
هذا الطفل الصغير يدعو الله عز وجل أن ينزل وحياً يصدِّق مقالته ، فانبرى الجلاس ، وقال: إنّ ما ذكرته لك يا رسول الله هو الحق ، وإن شئتَ تحالفنا ، نقسم بين يديك ، وإني أحلف بالله أني ما قلت شيئاً مما نقله إليك عمير ، فما إن انتهى من حلفه ، وأخذت عيونُ الناس تنتقل عنه إلى عمير بن سعد حتى غشيت رسول الله صلوات الله وسلامه عليه السكينةُ ، فعرف أصحابُه أنه الوحي ، نزل الوحي مباشرةً ، فلزموا أماكنهم ، وسكنت جوارحهم ، ولاذوا بالصمت، وتعلقت أبصارهم بالنبي عليه الصلاة والسلام ، وهنا ظهر الخوف والوجل على الجلاس ، وبدا التلهُّفُ والتشوُّفُ على عمير ، وظل الجميع كذلك حتى سُرِّيَ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فتلا قوله جل جلاله :
(سورة التوبة )
فارتعد الجلاس مِن هولِ ما سمع ، وكاد ينعقد لسانه من الجزع ، ثم التفت إلى النبي عليه الصلاة والسلام وقال : بل أتوب يا رسول الله ، بل أتوب ، صدق عمير يا رسول الله ، وكنت أنا من الكاذبين ، اسأل اللهَ أنْ يقبلَ توبتي ، جعلت فداك يا رسول الله ، وهنا توجّه النبيُّ عليه الصلاة والسلام إلى الفتى عمير بن سعد ، فإذا دموعُ الفرح تبلِّل وجهه المشرق بالإيمان ، فمدَّ النبيُّ عليه الصلاة والسلام يدَه الشريفة إلى أذنه، وأمسكها برفق ، وقال : وفّتْ أذنُك يا غلام ما سمعت ، وصدَّقك ربك ، وعاد الجلاس على إثر هذه الحادثة إلى حظيرة الإسلام ، وحسُن إسلامُه .
أمّا أروع ما في القصة ، وقد عرف الصحابة صلاحَ حاله ممَّا كان يغدقه على عمير من بر، فعوضاً أنْ يطردَ عميرًا ضاعف له إكرامه ، وأغدق عليه من البر الشيء الكثير ، وكان الجلاس يقول كلما ذكر عميرًا : جزاه الله عني خيراً ، فقد أنقذني من الكفر ، وأعتق رقبتي من النار ، هذه صورة من حياة عمير بن سعد ، وكانت سنه لا تزيد عن عشر سنوات ، فما قولكم أليس الإسلام عظيمًا يصنع الأبطال وهم صغار ؟ ما خانه ، وما أبلغ النبيَّ من وراء ظهره بما فعل عمُّه ، وما سكت عن كلمة الكفر ، ولا خان الله ورسوله ، لقد وقف موقفاً رائعاً ، وكان فيه مخلصاً ، والنبي عليه الصلاة والسلام أثنى عليه ، وأمسك أذنه برفق ، وقال : وفّت أذنُك يا غلام ما سمعتْ ، وصدّقك ربك ، ونزل الوحي مصداقاً لقول هذا الغلام الصغير
حينما كبر هذا الغلام وصار في سن الرشد أراد سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن يعيِّن والياً على حمص ، نثر كنانته ، وعجم عيدانها عوداً عوداً ، فلم يجد خيراً من عمير بن سعد ، رأى في هذا الصحابي الجليل أفضل إنسان يتولى أمر حمص ، وصل عمير إلى حمص ، ودعا الناس للصلاة في المسجد ، ولما قُضِيَت الصلاة خطبَ الناسَ ، وحمد الله ، وأثنى عليه ، وصلى على النبي صلى الله عليه وسلم ، وقال : ((أيها الناس إن الإسلام حصن منيع ، وباب وثيق ، وحصنُ الإسلام العدلُ ، وبابُه الحقُّ ، فإذا دُكَّ الحصنُ ، وحُطِّم البابُ استُبِيحَ حِمَى هذا الدين ، وإنّ الإسلام ما يزال منيعاً ما اشتد السلطانُ ، و ليست شدة السلطان ضرباً بالسوط ، ولا قتلاً بالسيف ، ولكن قضاءً بالعدل ، وأخذاً بالحق)) ، ما هذه الكلمات ؟
قضى عمير بن سعد حولاً كاملاً بحمص ، لم يكتب خلاله لأمير المؤمنين كتاباً ، ولم يبعث إلى بيت مال المسلمين من الفيء درهماً و لا ديناراً ؛ فأخذت الشكوك تساورُ عمرَ بن الخطاب ، إذ كان شديد الخشية على ولاته من فتنة الإمارة ، فلا معصوم عنده غير النبي عليه الصلاة والسلام ؛ قال لكاتبه : اكتب إلى عمير بن سعد ، وقل له : إذا جاءك كتاب أمير المؤمنين فدع حمص ، وأقبل عليه ، واحمل معك ما جَبَيْتَ من فيء المسلمين ؛ تَلَقَّى عميرٌ الكتاب ، فأخذ جراب زاده ، وحمل على عاتقه قصعته ووعاء وضوئه ، وأمسك بيده حربته ، وخلّف حمص وإمارتها وراءه ، وانطلق يحثّ الخطى مشياً على قدميه إلى المدينة ، فما كاد يبلغ عمير المدينة حتى كان قد شحب لونه ، وهزل جسمه ، وطال شعره، ظهرت عليه وعثاءُ السفر ، دخل عميرٌ على عمر رضي الله عنه فدهش الفاروق من حالته ، وقال : ما بك يا عمير ؟ قال : ما بي من شيء ، فأنا صحيح معافى بحمد الله ، أحمل معي الدنيا كلها ، وأَجُرُّها من قرنيها ، قال : ما معك من الدنيا ؟ قال : معي جرابي وضعت فيه زادي ، ومعي قصعتي آكل فيها ، وأغسل عليها رأسي وثيابي ، ومعي قربة لوضوئي وشرابي ، ثم إن الدنيا كلها يا أمير المؤمنين تَبَعٌ لمتاعي ، وفضلة لا حاجة لي ، ولا لأحد غيري بها ، والي حمص كل دنياه على كتفه ، هذه القصعة والإناء والجراب والعصا ؟! فقال عمر : وجئت ماشياً ؟! قال : نعم ، قال : أما أُعطِيتَ من الإمارة ولا دابة تركبها ، هم لم يعطوني ، وأنا لم أطلب منهم ، وأين ما أتيت به لبيت المال ؟ قال : لمْ آتِ بشيء ، ولِمَ ؟! قال : لمّا وصلتُ حمص جمعتُ صلحائها ، وولّيتُهم جمعَ فيئهم ، فكانوا كلما جمعوا شيئاً استشرتُهم في أمره ، فوضعته في مواضعه ، وأنفقته على المستحقين منهم، فقال عمر لكاتبه : جدِّد عهداً لعمير على ولاية حمص ، فقال عمير : هيهات فإن ذلك شيء لا أريده ، ولن أعمل لك ، ولا لأحد من بعدك يا أمير المؤمنين ، ثم استأذنه بالذهاب إلى قرية من ضواحي المدينة يقيم فيها مع أهله ، فَأذِنَ له ، وبقي عمرُ يشكُّ فيه ، فلم يمضِ على ذهاب عمير إلى قريته وقت طويل حتى أراد عمرُ أن يختبر صاحبه ، وأن يستوثق من أمره ، فقال لأحد ثقاته يُدعى الحارث : انطلق يا حارث إلى عمير بن سعد ، وانزل به كأنك ضيف ، فإن رأيتَ عليه آثارَ نعمة فَعُدْ كما أتيت ، وإنْ وجدتَ حالاً شديداً فأعطِه هذه الدنانير ، وناوله صُرّة فيها مائة دينار ، فانطلق الحارث حتى بلغ قرية عمير ، وسأل عنه فَدُلّ عليه ، ولما لقيه قال : السلام عليك ورحمة الله ، قال : وعليك السلام ورحمة الله وبركاته ، مِن أين قدمت ؟ قال : من المدينة ، قال : كيف تركت المسلمين ، قال : بخير ، قال : كيف أمير المؤمنين ، قال : صحيح صالح ، قال : أليس يقيم الحدود ؟ قال : بلى ، قال : اللهم أعِن عمرَ فإني لا أعلمه إلا شديد الحب لك ، أقام الحارث في ضيافة عمير ثلاث ليال ، كان يخرج له كل ليلة بقرص من الشعير يقدمه له ، فلما كان اليوم الثالث قال للحارث رجلٌ من القوم : لقد أجهدتَ عميرًا وأهله ، فليس لهم إلا هذا الرغيف ، وقد أضرّ بهم الجوع والجهد ، فإن رأيتَ أن تتحّول فتحوّلْ إليَّ ، عند ذلك أخرج الحارث الدنانير ، ودفعها إلى عمير ، فقال عمير : ما هذه ؟ قال : دفع بها إليك أمير المؤمنين ، قال : رُدَّها إليه ، واقرأ عليه السلام ، وقل له : لا حاجة لعمير بها ، فصاحت امرأته مثل كل النساء ، وكانت تسمع ما يدور بين زوجها وضيفه : خذها يا عمير ، فإن احتجتَ إليها أنفقتها ، وإلا وضعتها في مواضعها ، فالمحتاجون هنا كثيرون ، فلما سمع الحارث قولها ألقى الدنانير بين يدي عمير وانصرف ، فأخذها عمير، وجعلها في صرر صغيرة ، ولم يبت ليلته تلك إلا بعد أن وزّعها بين ذوي الحاجات ، وخصّ منهم أبناء الشهداء ، وعاد الحارثُ إلى المدينة، وقال له عمر : ما رأيت يا حارث ؟ قال : حالاً شديدة يا أمير المؤمنين قال : أدفعتَ إليه الدنانير ؟ قال : نعم ، قال : وما صنع بها ؟ قال الحارث : لا أدري ، وما أظنه يبقي لنفسه منها درهماً واحداً ، فكتب الفاروق إلى عمير يقول له : إذا جاءك كتابي هذا فلا تضعه من يدك حتى تقبل عليّ ، وتوجَّهَ عمير إلى المدينة ، ودخل على عمر رضي الله عليه ، فرحّب به ، وأدنى مجلسه ، ثم قال له : ما صنعتَ بالدنانير يا عمير ؟ قال : وما عليك منها بعد أن خرجتَ لي عنها؟ قال : عزمتُ عليك أن تخبرني بما صنعت بها ؟ فقال : ادَّخرتها لنفسي لأنتفع بها في يومٍ لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم ، فدمعت عينا عمر ، وقال : أشهد أنك من الذين يؤثرون على أنفسهم ، ولو كانت بهم خصاصة ، فالآية انطبقت عليه ، ثم أمر له بوسق من طعام وثوبين ، فقال : أما الطعام فلا حاجة لنا به يا أمير المؤمنين ، فقد تركت عند أهلي صاعين من شعير ، وإلى أن نأكلهما يكون الله عز وجل قد جاء بالرزق ، وأما الثوبان فآخذهما لأم فلان ، يعني زوجته ، فقد بلي ثوبها ، وكادت تعرى .
أرأيتم مثَل هذا الزهد ؟! أرأيتم مثل هذه العفة ؟! أرأيتم مثل هذا الورع ؟! هذا عمير بن سعد يوم كان صغيراً ، وهذا عمير بن سعد يوم صار كبيراً ووالياً ، وتعفّف عن كل شيء يناله من هذه الإمارة .
طبعاً جاءته المنية رضي الله عنه وبلغ الفاروقَ نعيُه ، ووشح الحزنُ وجهَه ، واعتصر الأسى فؤاده ، وقال : وددتُ أن لي رجالاً كثيرًا مثل عمير بن سعد ، أستعين بهم في أعمال المسلمين ، هكذا كان أصحابُ رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهذا نمط من أنماط الصحابة ، فكل إنسان عنده طفل صغير ، ولعل هذا الطفل الصغير يكون كهذا الصحابي الجليل ، فاعتنُوا بأولادكم ، علِّموهم ، وأدِّبوهم ، وعلِّموهم القرآن ، وفقِّهوهم ، ودلُّوهم على الله عز وجل ، فلعل الله عز وجل يجعل من أولادكم قرّةَ عين لكم .
والحمد لله رب العالمين
***(/)
الدرس 17\50 : سيرة الصحابي : كعب بن مالك لفضيلة الأستاذ الدكتور محمد راتب النابلسي .
التاريخ : 01/02/1993
تفريغ : م . م . حسان العودة .
التدقيق اللغوي : الأستاذ غازي القدسي .
التنقيح النهائي : المهندس غسان السراقبي .
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا ، وانفعنا بما علمتنا ، وزدنا علماً ، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .
أيها الإخوة الكرام : مع الدرس السابع عشر من دروس سيرة صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ورضوان الله عليهم أجمعين ، وصحابي اليوم صحابي جليل ورد ذكره في القرآن الكريم ، لا بالاسم ولكن بالمضمون إنه : كعب بن مالك .
لو ألقيتُ أيها الإخوة على مسامعكم عشرات المحاضرات في فضيلة الصدق ، بل في فضل الصدق ، لما كانت هذه المحاضرات أبلغَ من هذه القصة التي يرويها هذا الصحابي الجليل عن نفسه ، وبعد قليل سوف ترون أن الصدق هو شعار المؤمن ، وأن المؤمن لا يكذب ، وأنّ منجاته في الصدق ، وأنه إذا صدق أكرمه الله عز وجل ، وجعل الأمور كلها في صالحه .
فقد أخرج الإمام البخاري ومسلم حديث سيدنا كعب بن مالك ، والقصة كلها يرويها هذا الصحابي الجليل بلسانه ، وقد وردت في كتب التفسير كسبب لنزول آية عظيمة من سورة التوبة، ووردت في كتب السيرة ، ووردت في كتب الحديث أيضًا ، وروى هذه القصة الإمام البخاري ، والإمام مسلم ، وكلكم يعلم أن أعلى درجة في الأحاديث الصحيحة ما اتفق عليه البخاري ومسلم ، وهذا الحديث ، أو تلك القصة تعد من الطبقة الأولى .
عَنْ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ رَضِي اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ لَمْ أَتَخَلَّفْ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَزْوَةٍ غَزَاهَا إِلَّا فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ غَيْرَ أَنِّي تَخَلَّفْتُ عَنْ غَزْوَةِ بَدْرٍ وَلَمْ يُعَاتَبْ أَحَدٌ تَخَلَّفَ عَنْهَا إِنَّمَا خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُرِيدُ عِيرَ قُرَيْشٍ حَتَّى جَمَعَ اللَّهُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ عَدُوِّهِمْ عَلَى غَيْرِ مِيعَادٍ *
[ أخرجه البخاري ] .
كلمة (يُعَاتَبْ) تعني أنّ النبي الكريم له حق عليك ، أنت لستَ مستمعًا ، أحيانا يظنّ الناس أنّ درس العلم مجرد محاضرة ، وبعض الأشخاص يحضرها بل ، ينصرف عنها ، فأنت لك إخوان مؤمنون ، منضم إلى جماعة مؤمنة ، لهم حق عليك ، ولك حق عليهم هذا فرق كبير بين التدريس وبين التربية ، التدريس إلقاء درس وانتهى الأمر ، المدرس لا يَعْلَمُ مَن هو المستمع ، ولا من هو المتعلم ، ألقى المحاضرة وسار إلى بيته ، لكن المربي هو الذي يتعاون مع إخوانه ليأخذ بيدهم إلى الله عز وجل ، فالنبي عليه الصلاة والسلام ليس مبلغاً فقط ، بل هو مربٍّ ، قال : إنما بعثت معلماً إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق ، فالنبي لحكمة رآها لم يعاتب أحداً من أصحابه تخلف عن موقعة بدر ، لكن في تبوك عاتب النبي من تخلف عن هذه الموقعة .
بالمناسبة الإنسان أحيانًا يعاتِب مَن يثق به ، حضر شخصٌ أول مرة ، فالحضور الأول لا يعدّ التزاماً حميماً ، لكن شخصًا له في مجلس العلم سنوات طويلة ، فهذا الشخص يعاتَب إذا سافر مِن دون أن يُعلِم ، ويعاتَب إذا طلق امرأته من دون أن يستشير ، ويعاتَب إذا دخل في تجارة لا ترضي الله عز وجل وله مرجع ، من استشار الرجال استعار عقولهم ، أنت إذا استشرت رجلاً عاديًّا فقد استعرتَ عقله ، واستعرت خبرته ، فكيف إذا استشرت من تثق بدينه وعلمه ، يعطيك الحكم الشرعي يعطيك ما يرضي الله عز وجل ، يعطيك التوجيه الصحيح ، يعطيك الدليل ، أفعل وهذا هو الدليل ، أو لا تفعل ، وهذا هو الدليل .
قلت البارحة : أيستطيع أحد منا أن يدخل على طبيب من دون أن يملك المبلغ الكافي كأتعاب له ؟ هل بإمكانه أن يدخل على محامٍ لامعٍ مِن دون مبلغ يغطي أتعابه ، لحكمة أرادها الله عز وجل أنه يسَّر القرآن للذكر ، وكل شيء متعلق بالدين مبذول بلا شيء ، من دون ثمن ، ما عليك إلا أن تحضر ، ما عليك إلا أن تسأل ، ما عليك إلا أن تستشير .
فالنبي في بدر لم يعاتب ! لكن في تبوك عاتب ، أنت لك حق على من يعلمك ، حق النصيحة ، وحق الإرشاد ، وحق الخدمة ، وأن يقدم لك كل ما يستطيع من أجل إسعادك في الدنيا والآخرة ، وله حق عليك ، إذا دعاك إلى عمل صالح أن تستجيب ، فهذا الصحابي الجليل قال :
لَمْ أَتَخَلَّفْ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَزْوَةٍ غَزَاهَا إِلَّا فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ غَيْرَ أَنِّي تَخَلَّفْتُ عَنْ غَزْوَةِ بَدْرٍ وَلَمْ يُعَاتَبْ أَحَدٌ تَخَلَّفَ عَنْهَا إِنَّمَا خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُرِيدُ عِيرَ قُرَيْشٍ ـ يعني قافلة قريش ـ حَتَّى جَمَعَ اللَّهُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ عَدُوِّهِمْ عَلَى غَيْرِ مِيعَادٍ وَلَقَدْ شَهِدْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةَ الْعَقَبَةِ حِينَ تَوَاثَقْنَا عَلَى الْإِسْلَامِ *
إذا عاهد المسلمُ اللهَ عز وجل ، أو عاهد رسول الله ، أو عاهد من ينوب عن رسول الله ، عاهد الله عز وجل على السير في طاعته فلا بدّ أن يفيَ ، وأنت هل تدري مَن عاهدت ؟ عاهدت خالق الكون ، لذلك فعَنْ أَنَسٍ قَالَ قَلَّمَا خَطَبَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَّا قَالَ لَا إِيمَانَ لِمَنْ لَا أَمَانَةَ لَهُ وَلَا دِينَ لِمَنْ لَا عَهْدَ لَهُ *
(رواه أحمد)
إذا أكرم اللهُ الإنسانَ بالعمرة أو بالحج ، ووقف عند الحجر الأسعد ، وقال الدعاء المشهور : اللهم عهداً على طاعتك ، اللهم إيماناً بك ، وتصديقاً بكتابك ، وإيماناً بنبيك ، وعهداً على طاعتك، ثم قبل الحجر ، هذا العهد ينبغي أن يذكره طوال حياته ، وأنت عاهدت الله على الطاعة فعليك الوفاء .
قال: لَقَدْ شَهِدْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةَ الْعَقَبَةِ حِينَ تَوَاثَقْنَا عَلَى الْإِسْلَامِ وَمَا أُحِبُّ أَنَّ لِي بِهَا مَشْهَدَ بَدْرٍ وَإِنْ كَانَتْ بَدْرٌ أَذْكَرَ فِي النَّاسِ مِنْهَا ـ بدر أشهر ، لكنه في هذه البيعة التي بايع بها النبي عليه الصلاة والسلام في العقبة ، هذه البيعة هي حياته كلها ـ كَانَ مِنْ خَبَرِي أَنِّي لَمْ أَكُنْ قَطُّ أَقْوَى وَلَا أَيْسَرَ حِينَ تَخَلَّفْتُ عَنْهُ فِي تِلْكَ الْغَزَاةِ وَاللَّهِ مَا اجْتَمَعَتْ عِنْدِي قَبْلَهُ رَاحِلَتَانِ قَطُّ ـ الآن دخلنا في الصدق ، هذا الصحابي سترون بعد قليل أنه أوتي طلاقة لسان ، وأوتي جدلاً ، وهذه قدرة في الإنسان ، اسمها القدرة على الإقناع ، عندما قسّم علماء النفس القدرات العامة والقدرات الخاصة ، عدُّوا القدرة على الإقناع قدرة خاصة في الإنسان ، فهناك شخص كيفما تكلم تنحاز إلى جانبه ، وقد يكون غير محقٍّ ، لكن عنده قدرة إقناع ، وطلاقة لسان ، وحجة حاضرة ، وتعليل سريع ، كلها موفورة عنده .
ذات مرة قلت لكم : كان الأحنف بن قيس في مجلس معاوية بن أبي سفيان ، وهذا المجلس عُقِد لأخذ البيعة لابنه يزيد ، وكل من حضر المجلس تكلم ، وأثنى ، وأطنب ، ومدح ، وبالغ في المديح أمام أبيه ، مدحوا يزيد أمام أبيه ، وبقي الأحنف ساكتاً ، سكوته أربك المجلس ، بل أحرج الحاضرين ، فما كان من معاوية إلا أن قال له تكلم يا أحنف ، لماذا أنت ساكت ؟ فقال الأحنف كلمتين ، فيهما بيان ، وأيّ بيان ، قال : ((أخاف اللهَ إنْ كذبت ، وأخافكم إن صدقت)) ، فكانت كنايتُه أبلغ من التصريح ، أخاف الله إن كذبت ، وأخافكم إن صدقت .
كذلك هناك أشخاص ، ومنهم أبو حنيفة النعمان ، فقد دخل على المنصور ، وقال له خصم عنيد له : يا أبا حنيفة إذا أمرني الخليفة بقتل أمرئ أأقتله أم أتريث ؟ فلعله مظلوم ، فقال أبو حنيفة : الخليفة على الحق أم على الباطل ، أجِبني ؟ والخليفة جالس معهم ، قال له : على الحق ، قال له : كنْ مع الحق ، فقال أبو حنيفة : أراد أن يقيِّدني فربطتُه .
بعض الأشخاص أصحاب فطنة ، أصحاب بديهة ، يسعفهم الجواب المفحم مباشرة ، هي قدرة في الإنسان ، اسمها القدرة على الإقناع ، والعوام يسمونه (مكلمدان) يعني إذا تكلّم أثّر كلامه.
لكن بالمناسبة من يملك هذه القدرة على الإقناع يملك قدرة على قلب الحق إلى باطل ، فالباطل عندئذ يبدو بحجم أكبر من حجمه ، من كان يملك قدرة على أن يحطم خصومه بالكلام ، فهذه القدرة يوم القيامة يفقدها الإنسان الدليل :
( سورة يس : 65 ) .
طلاقة اللسان تنتهي يوم القيامة ، لأن يومئذ العمل يشهد على صاحبه .
هذا الصحابي الجليل أوتي جدلاً ، بالتعبير الحديث أوتي قوة إقناع عجيبة ، فلو أراد أن يكذب على النبي لأقنعه ، والنبي هكذا يقول ، قال : لعل أحدكم ألحن بحجته من الآخر ، فإذا قضيت له بشيء ، فإنما أقضي له بقطعة من النار ، النبي بشر ، شخص يملك لسانًا ذربًا ، حجة قوية ، طلاقه لسان ، سرعة بديهة ، عبارة متينة ، شواهد دقيقة ، معه أدلة ، بطلاقه لسانه أنتزع من فم النبي عليه الصلاة والسلام حكم لصالحه ، فالنبي الكريم طمأننا ، وقال إذا كان أحدكم طليق اللسان ، قوي البيان ، قوي الحجة وأقنعني ، واستطاع بقوة لسانه أنْ ينتزع مني فتوى ، ولم يكن محقاً فلن ينجوَ من عذاب الله ، لذلك سأهمس في آذانكم : علاقتك مع مَن ؟ مع الله عز وجل ، هذا هو التوحيد ، علاقتك مع الله وحده .
فقال هذا الصحابي الجليل : وَكَانَ مِنْ خَبَرِي حِينَ تَخَلَّفْتُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ أَنِّي لَمْ أَكُنْ قَطُّ أَقْوَى وَلَا أَيْسَرَ مِنِّي حِينَ تَخَلَّفْتُ عَنْهُ فِي تِلْكَ الْغَزْوَةِ ـ فهو صادق ، واللهِ ليس لي عذر ، كنت قويًّا ، نشيطًا ، غنيًّا ، متفرغًا ، لكنك الآن تجد الرجل يستطيع أنْ يقول : واللهِ زوجتي مريضة ، أو عندي مشكلة ، ويأتي بآلاف الأعذار ، ويتخلص بنعومة ، لكن مع الله الأمر مكشوف ، أمَا قال سيدنا عبد الله بن عمر للراعي : بعني هذه الشاة .
قال له : ليست لي .
قال له : خذ ثمنها .
قال : ليست لي .
قال له : قل لصاحبها ماتت .
قال : ليست لي .
قال له : خذ ثمنها .
قال : واللهِ إنني لفي أشد الحاجة لثمنها ، ولو قلت لصاحبها ماتت ، أو أكلها الذئب لصدقني فإني عنده صادق أمين ، ولكن أين الله ؟
إذًا لا حل لها ، هذا هو الإيمان ، هذا الإيمان كله ، هذا الراعي وضع يده على جوهر الدين، الإيمان قيد ، واللهُ عز وجل مطَّلعٌ على قلبك ، وعلى حركتك ، وعلى نشاطك ، وعلى كلامك ، يعلم السر وأخفى ، الأبلغ من ذلك أنه يعلم السرَّ وأخفى .
قال : وَكَانَ مِنْ خَبَرِي حِينَ تَخَلَّفْتُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ أَنِّي لَمْ أَكُنْ قَطُّ أَقْوَى وَلَا أَيْسَرَ مِنِّي حِينَ تَخَلَّفْتُ عَنْهُ فِي تِلْكَ الْغَزْوَةِ وَاللَّهِ مَا جَمَعْتُ قَبْلَهَا رَاحِلَتَيْنِ قَطُّ حَتَّى جَمَعْتُهُمَا فِي تِلْكَ الْغَزْوَةِ ـ لم يكن عندي راحلة واحدة فقط ، بل كان عندي راحلتان ، فَغَزَاهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَرٍّ شَدِيدٍ .
( سورة التوبة : 81 ) .
وكانت من أصعب الغزوات ، أولاً لبُعْدِها عن المدينة ، وكانت في الصيف ، في وقت نضج العنب والتمر ، فَغَزَاهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَرٍّ شَدِيدٍ وَاسْتَقْبَلَ سَفَرًا بَعِيدًا وَمَفَازًا، الآن ننتقل من مكة إلى المدينة بسيارة حديثة مكيفة ، والطريق واسع فسيح ، ومُضَاء ليلاً ، وإشارات ضوئية رائعة جداً ، تسير خمس ساعات حتى تصل ، وبسرعة المائة والثمانين، فكيف قطع النبي المسافة من المدينة إلى تبوك ، ومنها إلى الأردن ؟.
قال : اسْتَقْبَلَ سَفَرًا بَعِيدًا وَمَفَازًا وَاسْتَقْبَلَ عَدُوًّا كَثِيرًا فَجَلَا لِلْمُسْلِمِينَ أَمْرَهُمْ لِيَتَأَهَّبُوا أُهْبَةَ غَزْوِهِمْ فَأَخْبَرَهُمْ بِوَجْهِهِمِ الَّذِي يُرِيدُ ، وهكذا بيَّن النبي الكريم للمسلمين أن هذه الغزوة باتجاه تبوك ، وأن العدو قويٌ قوي ، وكثير العدد والعُدد ، كي يتأهبوا ، كي يأخذوا العدة الكافية ، فأخبرهم بوجهه الذي يريد ، قال : فَتَجَهَّزَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُسْلِمُونَ مَعَهُ وَطَفِقْتُ أَغْدُو لِكَيْ أَتَجَهَّزَ مَعَهُمْ فَأَرْجِعُ وَلَمْ أَقْضِ شَيْئًا ، ليس هناك رغبة شديدة ، قد يتحرك اليوم ، أو غداً ، أو بعد غدٍ ، قضية سهلة ، وَأَقُولُ فِي نَفْسِي أَنَا قَادِرٌ عَلَى ذَلِكَ إِذَا أَرَدْتُ فَلَمْ يَزَلْ ذَلِكَ يَتَمَادَى بِي ، لذلك قيل : هلك المسوفون ، وقيل لعارف بالله : انصحنا يا رجل ، فقال: احذروا سوف ، سوف مهلكة ، هذا الذي يسوف .
فَلَمْ يَزَلْ ذَلِكَ يَتَمَادَى بِي حَتَّى أَسْرَعُوا وَتَفَارَطَ الْغَزْوُ فَهَمَمْتُ أَنْ أَرْتَحِلَ فَأُدْرِكَهُمْ فَيَا لَيْتَنِي فَعَلْتُ ثُمَّ لَمْ يُقَدَّرْ ذَلِكَ لِي فَطَفِقْتُ إِذَا خَرَجْتُ فِي النَّاسِ بَعْدَ خُرُوجِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَحْزُنُنِي أَنِّي لَا أَرَى لِي أُسْوَةً إِلَّا رَجُلًا مَغْمُوصًا عَلَيْهِ فِي النِّفَاقِ أَوْ رَجُلًا مِمَّنْ عَذَرَ اللَّهُ مِنَ الضُّعَفَاءِ .
مثلُه كمثَل رجل له أصدقاء يحبهم ويحبونه ، ثم يلتفت في أثناء الدرس فلا يجد أحدًا حواليْه ، سيجد الأشخاص البعيدين عن الله عز وجل ، وهذا وقت لله عز وجل ، وهذا استنباط لطيف ، يعني وقت صلاة الجمعة :
( سورة الجمعة : 9 ) .
من تجد في البيت قابعاً لا يصلي ؟ المقصر ، الفاسق ، الفاجر ، المنحرف ، غير المسلم ، أما المسلمون في هذا الوقت فكلُّهم في المساجد ، وقد قال أحد كبار العارفين : ليس الوليُّ الذي يمشي على وجه الماء ، وليس الولي الذي يطير في الهواء ، لكن الولي كل الولي هو الذي تجده عند الحلال والحرام ، أو أن يجدك الله حيث أمرك وأن يفتقدك حيث نهاك .
الذي آلمه أنه حين يخرج من بيته لا يرى إلا المنافقين ، والعجزة ، أما الأصحاب الكرام ، الأقوياء ، الأشداء ، فهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم .
( سورة التوبة : 120 ) .
استنباط سريع ، بهذا الوقت أين المسلمون ؟ في بيوت الله ، وأنت أين تتواجد ؟ وهذا الوقت أين تمضيه ؟ يجب أن يجدك الله حيث أمرك ، وأن يفقدك حيث نهاك.
النبي ما ذكره .
قال كعب : وَلَمْ يَذْكُرْنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى بَلَغَ تَبُوكَ ، فَقَالَ وَهُوَ جَالِسٌ فِي الْقَوْمِ بِتَبُوكَ : مَا فَعَلَ كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ ؟ فالرسول لم يكن مبلِّغًا فقط ، بل كان قائدًا كذلك ، وكان مربِّيًّا يسأل عن أصحابه ، ويتفقّدهم ، وأنت لما تتفقد أخًا لك غاب عن درس ، فلا يعلم إلا الله كم لك من أجر ، شعر أن له قيمته ، شعر أنه عضو بأسرة ، وشعر أن هناك من يسأل عنه ، وهناك من يتفقده ، فكل أخ من إخواننا الكرام يجب أن يكون له أخ في الله ، فحينما يغيب الإنسان عن درس وكان مريضاً ، يتفقده إخوانه ، ويسألون عنه ، أنا اليوم قبل أن آتي إليكم ، أخٌ غالٍ علينا ، لم أرَه منذ أسبوعين أو ثلاثة ، اتصلت به قبل أن آتي ، قال لي لديه سبب يمنعه، لكن شعر بمودة بالغة ، شكرني مرتين ثلاثًا ، فقلتُ له : مِن واجبي أنْ أسال عنك ، فكل واحد منكم يتفقد إخوانه ، هذا أوصل ، وأدعى للمودة ، وأقرب إلى مرضاة الله عز وجل ، قال النبي الكريم بتبوك ، وهو جالس في القوم ، قال : مَا فَعَلَ كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ ؟ قَالَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي سَلِمَةَ يَا رَسُولَ اللَّهِ حَبَسَهُ بُرْدَاهُ وَالنَّظَرُ فِي عِطْفَيْهِ ـ يعني يعتني بثيابه ، ببيته ، بالظل الظليل، بالفاكهة الناضجة ، فهذا ما شأنه أنْ يكون معنا ؟ وهذا طعن أليس كذلك ؟ فقال رجل ، ولم يقل : صحابي قال : فقال رجل من بني سلمة : يا رسول الله حبسه برداه ، والنظرُ في عطفيه ـ فَقَالَ لَهُ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ بِئْسَ مَا قُلْتَ وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ إِلاَّ خَيْرًا ، فَسَكَتَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، هؤلاء الأصحاب يجب أن نحبهم ، وليكنِ المؤمن عن غياب أخيه كالسيف ، يدافع عنه ، لكن هناك مؤمنون ضعاف ، يتلذذون بنهش أعرض إخوانهم ، ويتلذذون بالطعن بإيمانهم ، قال له بئسما قلت ، والله يا رسول الله ما علمنا عليه إلا خيراً .
وفي موقف آخر أيضاً تفقد النبي صحابيًّا جليلاً ، فاتَّهمه أحدهم أنّه شغلته دنياه ، فقال أحد أصحاب رسول الله : واللهِ يا رسول لقد تخلف عنك أقوام ما نحن بأشد حباً لك منهم ، ولو علموا أنك تلقى عدواً ما تخلفوا عنك .
فَقَالَ كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ فَلَمَّا بَلَغَنِي أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ تَوَجَّهَ قَافِلًا مِنْ تَبُوكَ حَضَرَنِي بَثِّي ـ يعني تألمت ، أكلتُ همًّا ، بالتعبير الشائع ، وإذا سألني النبي : لماذا تخلفتَ يا كعب ؟ فبماذا أجيبه ؟ فَطَفِقْتُ أَتَذَكَّرُ الْكَذِبَ وَأَقُولُ بِمَ أَخْرُجُ مِنْ سَخَطِهِ غَدًا وَأَسْتَعِينُ عَلَى ذَلِكَ كُلَّ ذِي رَأْيٍ مِنْ أَهْلِي ـ ماذا أقول له ؟ ما الذي شغلني عنك يا رسول الله ؟ـ فَلَمَّا قِيلَ لِي إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ أَظَلَّ قَادِمًا زَاحَ عَنِّي الْبَاطِل حَتَّى عَرَفْتُ أَنِّي لَنْ أَنْجُوَ مِنْهُ بِشَيْءٍ أَبَدًا ـ الكذب لا ينجيني ـ فَأَجْمَعْتُ صِدْقَهُ ـ أيْ اتخذ قرارًا حكيمًا ؛ أن يصدقه ـ وَصَبَّحَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَادِمًا وَكَانَ إِذَا قَدِمَ مِنْ سَفَرٍ بَدَأَ بِالْمَسْجِدِ فَرَكَعَ فِيهِ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ جَلَسَ لِلنَّاسِ فَلَمَّا فَعَلَ ذَلِكَ جَاءَهُ الْمُخَلَّفُونَ فَطَفِقُوا يَعْتَذِرُونَ إِلَيْهِ وَيَحْلِفُونَ لَهُ .
أراد شخصٌ يومًا أن يسافر لأداء فريضة لحج ، ومعه مبلغ من المال ، وحار أين يضعه ، فدخل إلى المسجد وتوسّم في المصلين ، فرأى أحدهم أشدَّهم خشوعاً ، يصلي ويغمض عينه ، وصلاته متقنة ، فبعد أن انتهى من صلاته ، قال له : والله أعجبتني صلاتك ، وعندي أمانة أريد أن أضعها عندك إلى أن أعود من الحج ، فقال له : وأنا صائم أيضًا ، قال له : واللهِ صيامك لم يعجبني .
أحياناً الإنسان يكشف نفسه ، فهؤلاء حلفوا أيمانًا ، ولم يستحلفهم النبي ، وقدّم كل واحد منهم عذرًا ، فقَبِلها فالنبي منهم .
وَكَانُوا بِضْعَةً وَثَمَانِينَ رَجُلًا ـ هؤلاء هم المنافقون ـ فَقَبِلَ مِنْهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَانِيَتَهُمْ وَبَايَعَهُمْ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمْ وَوَكَلَ سَرَائِرَهُمْ إِلَى اللَّهِ حَتَّى جِئْتُ فَلَمَّا سَلَّمْتُ ـ والنبي عنده فراسة ، وسيدنا كعب مؤمن - تَبَسَّمَ تَبَسُّمَ الْمُغْضَبِ - رحب به في غضبٍ منه - ثُمَّ قَالَ تَعَالَ فَجِئْتُ أَمْشِي حَتَّى جَلَسْتُ بَيْنَ يَدَيْهِ فَقَالَ لِي مَا خَلَّفَكَ أَلَمْ تَكُنْ قَدِ ابْتَعْتَ ظَهْرَكَ ؟ قَال : قلت يا رسول الله ـ اسمعوا الكلام هذا كلام يكتب بماء الذهب - قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي وَاللَّهِ لَوْ جَلَسْتُ عِنْدَ غَيْرِكَ مِنْ أَهْلِ الدُّنْيَا لَرَأَيْتُ أَنِّي سَأَخْرُجُ مِنْ سَخَطِهِ بِعُذْرٍ - فأنا طليق اللسان ، وعندي حجة قوية ، ولكنْ لو كان غيرك لخرجتُ من سخطه بعذر مقبول - وَلَقَدْ أُعْطِيتُ جَدَلًا - أنا أتكلم بقوة - وَلَكِنِّي وَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُ لَئِنْ حَدَّثْتُكَ الْيَوْمَ حَدِيثَ كَذِبٍ تَرْضَى بِهِ عَنِّي لَيُوشِكَنَّ اللَّهُ أَنْ يُسْخِطَكَ عَلَيَّ - هذا هو التوحيد ، أنت بشر ، لو أرضيتك بكلام مقنع ليوشك أن يسخط عليَّ الله عز وجل ، واللهُ هو الأصل ، وأنا بيده ، قال عليه الصلاة والسلام : من أرضى الناس بسخط الله ، سخط عليه الله ، وأسخط عليه الناس ، ومن أرضى الله بسخط الناس رضي عنه الله، وأرضى عنه الناسَ ـ لَقَدْ عَلِمْتُ لَئِنْ حَدَّثْتُكَ الْيَوْمَ حَدِيثَ كَذِبٍ تَرْضَى بِهِ عَنِّي لَيُوشِكَنَّ اللَّهُ أَنْ يُسْخِطَكَ عَلَيَّ ـ الأمر بيد الله عز وجل ، هذا التوحيد ـ وَلَئِنْ حَدَّثْتُكَ حَدِيثَ صِدْقٍ تَجِدُ عَلَيَّ فِيهِ ـ أيْ تغضب عليّ ـ إِنِّي لَأَرْجُو فِيهِ عُقْبَى اللَّهِ وَاللَّهِ مَا كَانَ لِي عُذْرٌ وَاللَّهِ مَا كُنْتُ قَطُّ أَقْوَى وَلَا أَيْسَرَ مِنِّي حِينَ تَخَلَّفْتُ عَنْكَ ـ هذا هو الصدق ، واللهِ ما لي مِن عذر ، كنت قويًّا، ونشيطًا ، لكن تخلفت ، لقد صدقتُك ، وقد تغضب مني ، لكن أرجو الله أن يكرمني بهذا الصدق وبإمكاني أنْ أتكلم كلامًا آخر ترضى به عني ، لكنّ الله يسخطك عليّ بكلامي ،و النبي اللهم صلِّ عليه فطن ، أربعة وثمانون رجلاً متخلِّفًا ، كل واحد أعطى حجة رائعة جداً ، هذا عذرُه زوجته ، وهذا بيته ، وهذا بستانه ، وكل واحد قَبِل منه ، وصدّقه ، واستغفر له ، وبايعه ، ووكَّلهم إلى سرائرهم ، لكن أوتي فراسة صلى الله عليه وسلم ـ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَمَّا هَذَا فَقَدْ صَدَقَ- الأربعة والثمانون كانوا كاذبين ـ أَمَّا هَذَا فَقَدْ صَدَقَ فَقُمْ حَتَّى يَقْضِيَ اللَّهُ فِيكَ فَقُمْتُ وَثَارَ رِجَالٌ مِنْ بَنِي سَلِمَةَ فَاتَّبَعُونِي فَقَالُوا لِي وَاللَّهِ مَا عَلِمْنَاكَ أَذْنَبْتَ ذَنْبًا قَبْلَ هَذَا لَقَدْ عَجَزْتَ فِي أَنْ لَا تَكُونَ اعْتَذَرْتَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَا اعْتَذَرَ بِهِ إِلَيْهِ الْمُخَلَّفُونَ فَقَدْ كَانَ كَافِيَكَ ذَنْبَكَ اسْتِغْفَارُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَكَ قَالَ فَوَاللَّهِ مَا زَالُوا يُؤَنِّبُونَنِي حَتَّى أَرَدْتُ أَنْ أَرْجِعَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأُكَذِّبَ نَفْسِي ـ أَنَّبوني على الصدق ، ورموني بالجنون ، قل له : كنت مريضًا ، واخرجْ بحيلة ، قل له : زوجتي مريضة ، قل له : لديَّ مشكلة ـ قَالَ ثُمَّ قُلْتُ لَهُمْ هَلْ لَقِيَ هَذَا مَعِي مِنْ أَحَدٍ ـ هل كان أحدٌ حالُه كحالي ـ قَالُوا نَعَمْ لَقِيَهُ مَعَكَ رَجُلَانِ قَالَا مِثْلَ مَا قُلْتَ ـ كذلك صدقوا ، ثلاثة فقط ، وأربعة وثمانون كذابون ، وثلاثة صادقون ـ فَقِيلَ لَهُمَا مِثْلَ مَا قِيلَ لَكَ قَالَ قُلْتُ مَنْ هُمَا قَالُوا مُرَارَةُ بْنُ الرَّبِيعَةَ الْعَامِرِيُّ وَهِلَالُ بْنُ أُمَيَّةَ الْوَاقِفِيُّ قَالَ فَذَكَرُوا لِي رَجُلَيْنِ صَالِحَيْنِ قَدْ شَهِدَا بَدْرًا فِيهِمَا أُسْوَةٌ قَالَ فَمَضَيْتُ حِينَ ذَكَرُوهُمَا لِي قَالَ وَنَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُسْلِمِينَ عَنْ كَلَامِنَا أَيُّهَا الثَّلَاثَةُ مِنْ بَيْنِ مَنْ تَخَلَّفَ عَنْهُ ـ ثلاثة وثمانون رجلاً ما عليهم شيء ، أما هؤلاء الثلاثة فنهى النبي أصحابه عن تكليمهم ـ قَالَ فَاجْتَنَبَنَا النَّاسُ وَقَالَ تَغَيَّرُوا لَنَا ـ فلا مرحبا ، ولا سلامًا ، ولا كلمة ، لا قريبًا ، ولا بعيدًا ، فاجتنبنا الناس ـ قَالَ تَغَيَّرُوا لَنَا حَتَّى تَنَكَّرَتْ لِي فِي نَفْسِيَ الْأَرْضُ فَمَا هِيَ بِالْأَرْضِ الَّتِي أَعْرِفُ فَلَبِثْنَا عَلَى ذَلِكَ خَمْسِينَ لَيْلَةً ، فَأَمَّا صَاحِبَايَ فَاسْتَكَانَا وَقَعَدَا فِي بُيُوتِهِمَا يَبْكِيَانِ وَأَمَّا أَنَا فَكُنْتُ أَشَبَّ الْقَوْمِ ـ أيْ كنتُ شابًا ـ وَأَجْلَدَهُمْ فَكُنْتُ أَخْرُجُ فَأَشْهَدُ الصَّلَاةَ وَأَطُوفُ فِي الْأَسْوَاقِ وَلَا يُكَلِّمُنِي أَحَدٌ ـ ما هذا الانضباط ؟ هذا مجتمع الإيمان ، كلمة قالها النبي التزموا بها ، ولا صحابي كلمه كلمة ، ولا سلام ـ فَكُنْتُ أَخْرُجُ فَأَشْهَدُ الصَّلَاةَ وَأَطُوفُ فِي الْأَسْوَاقِ وَلَا يُكَلِّمُنِي أَحَدٌ وَآتِي رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأُسَلِّمُ عَلَيْهِ وَهُوَ فِي مَجْلِسِهِ بَعْدَ الصَّلَاةِ ـ ولا كلمة ـ فَأَقُولُ فِي نَفْسِي هَلْ حَرَّكَ شَفَتَيْهِ بِرَدِّ السَّلَامِ أَمْ لَا ـ لعله لم يحركهما ، أو حرّكهما - ثُمَّ أُصَلِّي قَرِيبًا مِنْهُ وَأُسَارِقُهُ النَّظَرَ فَإِذَا أَقْبَلْتُ عَلَى صَلَاتِي نَظَرَ إِلَيَّ وَإِذَا الْتَفَتُّ نَحْوَهُ أَعْرَضَ عَنِّي ، حَتَّى إِذَا طَالَ ذَلِكَ عَلَيَّ مِنْ جَفْوَةِ الْمُسْلِمِينَ مَشَيْتُ حَتَّى تَسَوَّرْتُ جِدَارَ حَائِطِ أَبِي قَتَادَةَ وَهُوَ ابْنُ عَمِّي وَأَحَبُّ النَّاسِ إِلَيَّ فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ فَوَاللَّهِ مَا رَدَّ عَلَيَّ السَّلَامَ فَقُلْتُ لَهُ يَا أَبَا قَتَادَةَ أَنْشُدُكَ بِاللَّهِ هَلْ تَعْلَمَنَّ أَنِّي أُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ قَالَ فَسَكَتَ فَعُدْتُ فَنَاشَدْتُهُ فَسَكَتَ فَعُدْتُ فَنَاشَدْتُهُ فَقَالَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ فَفَاضَتْ عَيْنَايَ وَتَوَلَّيْتُ حَتَّى تَسَوَّرْتُ الْجِدَارَ فَبَيْنَا أَنَا أَمْشِي فِي سُوقِ الْمَدِينَةِ إِذَا نَبَطِيٌّ مِنْ نَبَطِ أَهْلِ الشَّامِ مِمَّنْ قَدِمَ بِالطَّعَامِ يَبِيعُهُ بِالْمَدِينَةِ يَقُولُ مَنْ يَدُلُّ عَلَى كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ فَطَفِقَ النَّاسُ يُشِيرُونَ لَهُ إِلَيَّ حَتَّى جَاءَنِي فَدَفَعَ إِلَيَّ كِتَابًا مِنْ مَلِكِ غَسَّانَ وَكُنْتُ كَاتِبًا فَقَرَأْتُهُ فَإِذَا فِيهِ أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّهُ قَدْ بَلَغَنَا أَنَّ صَاحِبَكَ قَدْ جَفَاكَ وَلَمْ يَجْعَلْكَ اللَّهُ بِدَارِ هَوَانٍ وَلَا مَضْيَعَةٍ فَالْحَقْ بِنَا نُوَاسِكَ قَالَ فَقُلْتُ حِينَ قَرَأْتُهَا وَهَذِهِ أَيْضَا مِنَ الْبَلَاءِ - الغساسنة عرب في شمال الجزيرة يبدو أن قصته انتشرت حتى وصلتْهم، فأرسل ملك الغساسنة له كتابًا أنّ صاحبك جفاك ، فتعال إلينا ، نحن نستقبلك ، قال ـ فَتَيَامَمْتُ بِهَا التَّنُّورَ فَسَجَرْتُهَا بِهَا ـ أحرق الكتاب في التنور ـ حَتَّى إِذَا مَضَتْ أَرْبَعُونَ مِنَ الْخَمْسِينَ وَاسْتَلْبَثَ الْوَحْيُ ـ أنا أنتظر الوحي ـ إِذَا رَسُولُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْتِينِي فَقَالَ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْمُرُكَ أَنْ تَعْتَزِلَ امْرَأَتَكَ ـ هل مِن إنسان على الأرض أمرُه نافذ في أصحابه إلى درجة أنه يمنع علاقتهم بزوجاتهم فيستجيبون ـ فَقَالَ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْمُرُكَ أَنْ تَعْتَزِلَ امْرَأَتَكَ قَالَ فَقُلْتُ أُطَلِّقُهَا أَمْ مَاذَا أَفْعَلُ قَالَ لَا بَلِ اعْتَزِلْهَا فَلَا تَقْرَبَنَّهَا قَالَ فَأَرْسَلَ إِلَى صَاحِبَيَّ بِمِثْلِ ذَلِكَ قَالَ فَقُلْتُ لِامْرَأَتِي الْحَقِي بِأَهْلِكِ فَكُونِي عِنْدَهُمْ حَتَّى يَقْضِيَ اللَّهُ فِي هَذَا الْأَمْرِ قَالَ فَجَاءَتِ امْرَأَةُ هِلَالِ بْنِ أُمَيَّةَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ لَهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ هِلَالَ بْنَ أُمَيَّةَ شَيْخٌ ضَائِعٌ لَيْسَ لَهُ خَادِمٌ فَهَلْ تَكْرَهُ أَنْ أَخْدُمَهُ قَالَ لَا وَلَكِنْ لَا يَقْرَبَنَّكِ فَقَالَتْ إِنَّهُ وَاللَّهِ مَا بِهِ حَرَكَةٌ إِلَى شَيْءٍ وَ وَاللَّهِ مَا زَالَ يَبْكِي مُنْذُ كَانَ مِنْ أَمْرِهِ مَا كَانَ إِلَى يَوْمِهِ هَذَا ـ ما هذا الحب ؟ إنسان بالثمانين يبكي لأن النبي أمر بقطيعته !! قَالَ فَقَالَ لِي بَعْضُ أَهْلِي لَوِ اسْتَأْذَنْتَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي امْرَأَتِكَ فَقَدْ أَذِنَ لِامْرَأَةِ هِلَالِ بْنِ أُمَيَّةَ أَنْ تَخْدُمَهُ قَالَ فَقُلْتُ لَا أَسْتَأْذِنُ فِيهَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَا يُدْرِينِي مَاذَا يَقُولُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا اسْتَأْذَنْتُهُ فِيهَا وَأَنَا رَجُلٌ شَابٌّ قَالَ فَلَبِثْتُ بِذَلِكَ عَشْرَ لَيَالٍ فَكَمُلَ لَنَا خَمْسُونَ لَيْلَةً مِنْ حِينَ نُهِيَ عَنْ كَلَامِنَا قَالَ ثُمَّ صَلَّيْتُ صَلَاةَ الْفَجْرِ صَبَاحَ خَمْسِينَ لَيْلَةً عَلَى ظَهْرِ بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِنَا فَبَيْنَا أَنَا جَالِسٌ عَلَى الْحَالِ الَّتِي ذَكَرَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مِنَّا قَدْ ضَاقَتْ عَلَيَّ نَفْسِي وَضَاقَتْ عَلَيَّ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ .
( سورة التوبة : 118 ) .
فَبَيْنَا أَنَا جَالِسٌ عَلَى الْحَالِ الَّتِي ذَكَرَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مِنَّا قَدْ ضَاقَتْ عَلَيَّ نَفْسِي وَضَاقَتْ عَلَيَّ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ سَمِعْتُ صَوْتَ صَارِخٍ أَوْفَي عَلَى سَلْعٍ يَقُولُ بِأَعْلَى صَوْتِهِ يَا كَعْبَ ابْنَ مَالِكٍ أَبْشِرْ قَالَ فَخَرَرْتُ سَاجِدًا وَعَرَفْتُ أَنْ قَدْ جَاءَ فَرَجٌ قَالَ فَآذَنَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النَّاسَ ـ آذن أي أعلم الناس ـ بِتَوْبَةِ اللَّهِ عَلَيْنَا حِينَ صَلَّى صَلَاةَ الْفَجْرِ فَذَهَبَ النَّاسُ يُبَشِّرُونَنَا فَذَهَبَ قِبَلَ صَاحِبَيَّ مُبَشِّرُونَ وَرَكَضَ رَجُلٌ إِلَيَّ فَرَسًا وَسَعَى سَاعٍ مِنْ أَسْلَمَ قِبَلِي ، وَأَوْفَى الْجَبَلَ فَكَانَ الصَّوْتُ أَسْرَعَ مِنَ الْفَرَسِ ، فَلَمَّا جَاءَنِي الَّذِي سَمِعْتُ صَوْتَهُ يُبَشِّرُنِي فَنَزَعْتُ لَهُ ثَوْبَيَّ فَكَسَوْتُهُمَا إِيَّاهُ بِبِشَارَتِهِ ـ الله عز وجل تاب على هؤلاء الصحابة الثلاثة ـ وَاللَّهِ مَا أَمْلِكُ غَيْرَهُمَا يَوْمَئِذٍ وَاسْتَعَرْتُ ثَوْبَيْنِ فَلَبِسْتُهُمَا فَانْطَلَقْتُ أَتَأَمَّمُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَلَقَّانِي النَّاسُ فَوْجًا فَوْجًا يُهَنِّئُونِي بِالتَّوْبَةِ وَيَقُولُونَ لِتَهْنِئْكَ تَوْبَةُ اللَّهِ عَلَيْكَ حَتَّى دَخَلْتُ الْمَسْجِدَ فَإِذَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَالِسٌ فِي الْمَسْجِدِ وَحَوْلَهُ النَّاسُ فَقَامَ طَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ يُهَرْوِلُ حَتَّى صَافَحَنِي وَهَنَّأَنِي وَاللَّهِ مَا قَامَ رَجُلٌ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ غَيْرُهُ قَالَ فَكَانَ كَعْبٌ لَا يَنْسَاهَا لِطَلْحَةَ قَالَ كَعْبٌ فَلَمَّا سَلَّمْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ وَهُوَ يَبْرُقُ وَجْهُهُ مِنَ السُّرُورِ ـ أرأيتم إلى رحمة النبي ـ وَيَقُولُ أَبْشِرْ بِخَيْرِ يَوْمٍ مَرَّ عَلَيْكَ مُنْذُ وَلَدَتْكَ أُمُّكَ قَالَ فَقُلْتُ أَمِنْ عِنْدِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَمْ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَقَالَ لَا بَلْ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ـ قال كعب : والله ما أنعم الله عليّ من نعمة قط بعد إذْ هداني الله إلى الإسلام أعظمَ في نفسي من صدقي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأخذ كعب يرتل في خشوع ودموعه تغمر خديه ، قول الله تعالى :
( سورة التوبة : 118 ) .
بقى لدينا سؤال ؟ الله عز وجل في أول هذه الآية قال :
( سورة التوبة : 117 ـ 118 ) .
فما الذنب الذي فعل النبي حتى يتوب الله عليه وعلى هؤلاء الثلاثة ؟ قال بعض العلماء : وهذا قولٌ أدهشني ، إن الله عز وجل أراد أن يجبر خواطر هؤلاء فتاب على النبي تكريماً لهم ، النبي لم يفعل شيئاً ، ولم يذنب ذنباً ، وما تخلف مرة ولكن تكريماً لهؤلاء الثلاثة الصادقين مع الله ، جاءت توبة الله على النبي وعلى أصحابه لئلا يشعروا بالوحشة وحدهم ، لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة من بعد ما كاد يزيغ قلوب فريق منهم ثم تاب عليهم إنه بهم رءوف رحيم وعلى الثلاثة الذين خلفوا حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت وضاقت عليهم أنفسهم وظنوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه ثم تاب عليهم ليتوبوا إن الله هو التواب الرحيم .
يا أيها الإخوة : أجمل شعور يشعر به المؤمن حينما يصطلح مع الله ، وحينما تكون له توبة أو حينما تصدقُ له توبة ، أو حينما لا تخلف العهد الذي عاهدت الله عليه ، أو حينما تشعر أنك على العهد قائم ، هذا شعور لا يقدر بثمن ، شعورك أن الله راضٍ عنك ، وقد تاب عليك ، وقد قبل توبتك .
فيا أيها الإخوة : نحن في الدنيا وباب التوبة في الدنيا مفتوح على مصراعيه ، لماذا تاب الله عليه ؟ ولماذا أوحى إلى النبي أن يأمر أصحابه بمقاطعته ؟ لأنه صادق ، لو أنه اعتذر كما اعتذر المنافقون لبقي منافقاً طوال حياته ، وطوته الحياة ، ولا سبيل له إلى الجنة ، ولكن صدقه نجَّاه من النفاق ، فكن صادقاً .
سيدنا جعفر قال : حتى بعث الله فينا رجلاًً نعرف أمانته وصدقه وعفافه ونسبه .
يعني الصدق سمة أساسية من سمات المؤمنين ، فهذا الصحابي الجليل أوتي طلاقة اللسان ، أوتي الحجة القوية ، أوتي قدرة على إيهام المستمع بما يريد ، أوتي قدرة على أن يظهر بحجم أكبر من حجمه ، ولكن شعر أن هذا رسول الله فإذا كذب عليه فالأمر بيد الله وحده ، واللهُ قادر على أن يسخط النبي عليه .
بقي علينا استنباط لطيف ، العلاقة مع الآخرين بيد الله ، فإذا أنت بنيتها على معصية الله عز وجل يخرِّب لك هذه العلاقة ، ويخلق ظروفًا معقدة فيكرهونك ، لو أنك أردت أن تكون عندهم محظياً ، مقرباً ، ولم تكن ترضي الله عز وجل فالله عز وجل قادر أن يفسد هذه العلاقة بينك وبين من آثرت مرضاته على مرضاة الله عز وجل .
فالقصة فيها صدق ، وفيها توبة ، وفيها توحيد ، فعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ الصِّدْقَ يَهْدِي إِلَى الْبِرِّ وَإِنَّ الْبِرَّ يَهْدِي إِلَى الْجَنَّةِ وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَصْدُقُ حَتَّى يُكْتَبَ صِدِّيقًا وَإِنَّ الْكَذِبَ يَهْدِي إِلَى الْفُجُورِ وَإِنَّ الْفُجُورَ يَهْدِي إِلَى النَّارِ وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَكْذِبُ حَتَّى يُكْتَبَ كَذَّابًا *
(رواه مسلم)
فعلى كل مسلم أنْ يعاهد الله عز وجل على ألاّ يكذب ، وربنا عز وجل قال :
( سورة التوبة : 119 ) .
معهم بالتوفيق ، معهم بالتوبة ، يتوب عليهم ، ويوفقهم ، ويعالجهم ، وما من صفة كانت أبغض إلى النبي عليه الصلاة والسلام مِنَ الكذب ، فهذا الصحابي صدق ، قال له : أنا قادر أنْ أكذب ، وبإمكاني أن أرضيك الآن ، ولكن واللهِ ما مر عليّ وقت كنت أنشط وأقوى مني حين تخلفت عنك ، ما لي عذر ، فالنبي قال : أمَّا هذا فقد صدق ، وجاءت المعالجة التي بتوبة الله عليه في القرآن الكريم .
فيا أيها الإخوة الأكارم : الصدق منجاة ، والكذب مهواة ، اُصْدُقْ مع الله ، اُصْدُقْ مع نفسك يرفعْك الله عنده وعند الناس ، أما إذا كذبت على الله ، أو كذبت على نفسك فالهوانُ مصيرُك ، والحقيقة حينما يكذب الإنسان على نفسه ، يحتقر نفسه ، ولأَنْ يسقط الإنسانُ من السماء إلى الأرض أهونُ من أن يسقط من عين الله ، فإذا كذبت على الله ، أو كذبت على نفسك سقطتَ من عين الله ، فكن صادقاً ولا تبالِ .
فالصحابي الجليل كعب بن مالك مع أنه تخلف عن رسول الله ، مع أنه ارتكب كبيرة ، التخلف عن الزحف كبيرة في الإسلام ، ارتكب كبيرة لكن صدقه نجاه من مغبة هذه الكبيرة التي ارتكبها .
استنباطات كثيرة ، فلما جاءت البشارة خرّ ساجدًا ، فإذا تلقّى الإنسان بشارة ، أو خبرًا سارًّا، فمِن السنة أن تسجد لله سجود الشكر ، وهذه القصة علَّمتنا أن نكون صادقين ، وعلَّمتْنا أن ندافع عن إخواننا المؤمنين ، قال له : بئس ما قلت ، واللهِ ما علِمْنا عليه إلا خيراً ، دعْ عنك الآخرين ، وكن صادقاً ، دافع عن أخيك المؤمن ، علَّمتنا أن نشكر الله عز وجل إذا تلقينا نبأ ساراً ، علَّمتنا أن التوبة أعظم هدية تأتيك من الله عز وجل ، لذلك قالوا :
التوبة أمرٌ حسنٌ ، وهي في الشباب أحسن ، والعدل حسن ، لكن في الأمراء أحسن ، والورع حسن ، لكن في العلماء أحسن ، والحياء حسن ، لكن في النساء أحسن ، والصبر حسن ، لكن في الفقراء أحسن ، والسخاء حسن ، لكن في الأغنياء أحسن ، الأمراء أحسن صفة يتصفون بها العدل ، والعلماء الورع ، والنساء الحياء ، والأغنياء السخاء ، والفقراء الصبر ، والشباب التوبة .
فباب التوبة مفتوح على مصراعيه ، وإن الله عز وجل ليفرح بتوبة عبد المؤمن كما يفرح الضال الواجد والعقيم الوالد ، وهذا الصحابي الجليل دخل في سجل الخالدين وصار من أصحاب رسول الله المرموقين بفضل صدقه ، ولو كذب على النبي لمات منافقاً ، ولحشر مع المنافقين وأهلك نفسه في الدنيا والآخرة .
والحمد لله رب العالمين
***(/)
الدرس 12/ 50 : سيرة الصحابي : مصعب بن عمير ، لفضيلة الأستاذ الدكتور محمد راتب النابلسي
تفريغ : م . م . حسان العودة
التدقيق اللغوي : الأستاذ غازي القدسي .
التنقيح النهائي : المهندس غسان السراقبي .
بِسْمِ الله الرَّحمَنِ الرَّحِيمِ
الحمد لله رب العالمين ، و الصلاة و السلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا ، إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا و انفعنا بما علمتنا و زدنا علماً و أرنا الحق حقاً و ارزقنا إتباعه ، و أرنا الباطل باطلاً و ارزقنا اجتنابه واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، و أدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .
أيها الأخوة الأكارم :
مع الدرس الثاني عشر من دروس سيرة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنهم أجمعين . صحابي اليوم شاب متألق أشد التألق ، رخيٌ ، يرفل في حلل أنيقة ، كان مضرب المثل في شباب قريش ، إنه : مصعب بن عمير.
وقبل أن أمضي في الحديث عن هذا الصحابي الجليل ، لا بد من تعليق ضروري ، لماذا ندرس سير صحابة رسول الله ؟ لأن النبي عليه الصلاة والسلام يقول :
إن الله اختارني ، واختار لي أصحابي .
فأصحابه نماذج للبطولة ، كل صحابي يمثل ـ بالتعبير الاجتماعي ـ نموذجاً اجتماعياً .
فأحدنا إذا قرأ سير صحابة رسول الله ، لابد من أن يجد في بعض الصحابة ما ينطبق عليه ، فيعد هذا الصحابي إذاً لهذا الأخ الكريم قدوة .
سيدنا مصعب بن عمير ، شاب من شباب مكة الذين يشار إليهم بالبنان ، منحه الله وسامة ونجابة ، ومروءة ، وحدّثْ عن هذا ولا حرج ، لكن الذي كان يلفت نظر الناس إليه أناقته المتناهية ، أثوابه الجميلة ، رقة حاشيته ، وقد تجد في شباب اليوم من يستهويه الثوب الأنيق ، والشعر المرجل والرائحة العبقة ، والأناقة في الحديث ، والتعبير ، والحركة ، والثياب والبيت ، هذا الصحابي ، يمثل هذا النموذج .
يصفه كتاب السيرة بأنه كان فتى ريان ، مدللاً ، منعماً ، كان حديث حِسان مكة ، لؤلؤة ندواتِها ومجالسها .
انظروا أيها الأخوة :
إلى هذا الشاب الأنيق ، الناعم ، الذي حباه الله ببحبوحة الحياة و بأناقة المظهر ، وبحسن الطلعة ، هذا الشاب سمع حديث النبي عليه الصلاة والسلام ، وكيف أنه جاء بالتوحيد ، وكيف أنه دعا الناس إلى الإسلام وكيف أنه مع أصحابه القلة ، الخُلّص ، كانوا في دار الأرقم بن أبي الأرقم ، هذا الصحابي ، بدافع حب الحقيقة ، بدافع رغبته الجامحة في معرفة شأن هذا النبي ، توجه إلى دار الأرقم بن أبي الأرقم ، ليلتقي النبي عليه الصلاة والسلام ويبدو أن هذا الشاب ينطوي على حب للحقيقة ، وإيثار للحق ، فما إن رأى النبي عليه الصلاة والسلام حتى تجاوبت نفسه معه ، وهفا قلبه إليه ، ومد النبي عليه الصلاة والسلام يده ليصافحه ، وليمسح عن صدره آثار الجاهلية ، وكانت لحظة إيمانٍ رائعةٍ سرت في أحناء هذا الصحابي الجليل ، وأعلن إسلامه على يد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولكن !. لِهذا الصحابي أم أسمها خناس بنت مالك ، تتمتع هذه الأم بقوة في شخصيتها فذة ، وقد تجد في كل عصر أماً قوية الشخصية يهابها أبناؤها ، إلى درجة الخوف ، يأتمرون بأمرها بقوة سحرية يخافون غضبها ، يرجون رضاها ، أم هذا الصحابي الجليل سيدنا مصعب بن عمير ، اسمها خناس بنت مالك ، تتمتع بقوة فذة في شخصيتها ، وكانت مهابةً إلى حد الرهبة . قال مصعب حينما أسلم : لم يكن يخاف أحداً ، ولا يخشى أحداً ولا يحسب حساب أحدٍ إلا أمه ، لو قيل له واجه الناس جميعاً ، واجه كل من في مكة لا يهابهم ، لكن قلبه كان يرتعد ، وأعصابه تتوتر حينما يذكر كيف سيواجه أمه بإسلامه .
كما هي العادة فكر في كتمان إسلامه ، كتم إسلامه وبالمناسبة : فإن الإنسان أحياناً يمرُّ في ظروف صعبة جداً ، وفي حالات استثنائية يجد من المناسب أن يكتم إيمانه ، وقد ورد في القرآن الكريم إشارة إلى ذلك :
( سورة غافر : 28 ) .
في حالات صعبة جداً ، وفي ظروف قاهرة ،وفي فتن مستعرة وفي حالات حرجة لا تستطيع أن تظهر ، والله عز وجل ما كلف الإنسان فوق طاقته ، فهذه الإشارة في القرآن الكريم ، تسلية لكل من كتم إيمانه :
( سورة غافر : 28 ) .
فسيدنا مصعب رأى من المناسب أن يكتم إيمانه أو إسلامه عن أمه ، فظل يتردد على دار الأرقم بن أبي الأرقم ، ويجلس إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام وهو قرير العين بإيمانه، لكنه تفادى غضب أمه بهذا الكتمان هناك قاعدة أنه لا شيء يختفي ، مهما حاولت أن تخفي شيئاً لا بد وأن يظهر ، بالمناسبة ، إذا أيقنت أن شيئاً لا يختفي فكن صادقاً ، هذه الحقيقة إذا ظهرت بادئ ذي بدء منك أفضل من أن تظهر ، أو أن تضبط متلبساً بها .
على كلٍ رجل اسمه عثمان بن طلحة ، أبصر به وهو يدخل خفية إلى دار الأرقم ، هذا الرجل عثمان بن طلحة حينما رآه يدخل دار الأرقم ، سابق الريح إلى أمه ليخبرها أن أبنك يتردد على دار الأرقم مقر النبي عليه الصلاة والسلام ، حينما واجهته أمه ، يعني ضبط متلبساً ، وهو يدخل دار الأرقم ، أجل حينما واجهته أمه ما استطاع أن ينكر الحقيقة ، بل قرر أن يظهرها ، وقف أمام أمه وعشيرته وأشراف مكة المتجمعين حوله يتلو عليهم في يقينٍ ، وثباتٍ القرآن الذي غسل قلبه وغذّى فؤاده ، وملأ جوانحه سعادة .
ألم أقل لكم قبل قليل أن أمه كانت قاسية جداً ، همت أمه أن تسكته بلطمة قاسية ، ولكن اليد التي امتدت لتلطمه ، ما لبثت أن استرخت وترنحت أمام النور الذي زاده وسامة في وجهه .
يعني لا أدري ماذا أقول لكم ، المؤمن أحياناً يهبه الله هيبة ورقة ، و وضاءة ، وجمالاً ، بحيث إن الذي يريد أن يناله بالأذى يجمد في مكانه .
وذات مرة وقف الحسن البصري رحمه الله تعالى ، موقفاً فيه جرأة بالغة جداً ويعني بلغة العصر تهوّر ، بلغ الحجاجَ موقفُه ، وانتقادهُ فأمر السياف أن يقطع رقبته ومُدّ النطع في مجلس الحجاج ، والنطع عبارة عن جلد إذا قطع رأس هذا الرجل ، لئلا تصل الدماء إلى الأثاث الفخم ، والطنافس ، والأرائك ، فيمد جلد كبير جداً ، يقف هذا الذي يراد أن يقطع رأسه في وسطه وتضرب عنقه ، فإذا نفر الدم أصاب هذا النطع ، أجل مد النطع ، وطُلب الحسن كي تقطع رقبته ، فلما دخل الحسن البصري على الحجاج ، تمتم بشفتيه ولم يسمع أحد ماذا قال لكنه فيما يبدو طلب من الله عز وجل أن يحميه ، من بطش هذا الرجل ، و ما إن دخل ووجهه يتلألأ نوراً ، حتى وقف له الحجاج ودعاه إلى أن يجلس جنبه ، وسأله الدعاء وآنسه ، وطيب قلبه ، واحترمه أشد الاحترام ، وضّيفه ، ثم ودعه فالسياف وقف مذهولاً ، لا يدري ماذا يقول ، إذاً فلماذا جئتم بي إلى هنا .
فالمؤمن له هيبة أيها الأخوة ، والله ، إذا كنت مع الله لاكتسبت هيبة لا يعلمها إلا الله ، من هاب الله هابه كل شيء ، المؤمن له هيبة ، له شخصية قوية ليست من صنعه ، ولكن من تفضل الله عليه . على كلٍ هذا الصحابي الجليل حينما همت أمه أن تلطمه على وجهه وهو يتلو القرآن ، استرخت يدها ، وأخذت بأنوار وجهه ، لكنها ما لبثت أن أخذته بعد أن تلا على قومه القرآن ، لتحبسه في غرفة قصية من غرف البيت وكأنها بسذاجة إذا حبسته كف عن متابعة النبي الكريم ، وعن زيارته ولكن كان حبسها له بلا جدوى.
وبلغ سيدنا مصعباً أن النبي عليه الصلاة والسلام ، أمر أصحابه ، أن يهاجروا إلى الحبشة ، بطريقة أو بأخرى ، فانسل من غرفته القصية ، التي حبسته أمه بها ، ولحق بالقافلة ، وهاجر مع من هاجر إلى الحبشة ، وبعد أن أقام هناك ردحاً من الزمن ، عاد والتحق بالنبي عليه الصلاة والسلام ، وخرج يوماً على بعض المسلمين .
وهم جلوس حول النبي صلى الله عليه وسلم بثياب رثة بالية بينما كان يرتدي أجمل الثياب ، وأغلاها ثمناً وأكثرها أناقة في الجاهلية .
يعني أن المجتمع الراقي بالتعبير اليومي فيه من يقول لك : بأن بذته اشتراها بثمانين ألف من لندن وحذاؤه بثمانية عشر ألفاً فهناك أشخاص يكتسب مكانته من ثيابه فقط ، وهذا مصداق ما قاله النبي عليه الصلاة والسلام : في آخر الزمان ، قيمة الرجل متاعه .
هذا الصحابي يمثل الطبقة الغنية ، الأنيقة ، صاحبة الأذواق الرفيعة ، في اختيار الثياب ، في اختيار الحاجات . فخرج يوماً على بعض المسلمين وهم جلوس حول رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فما إن بصروا به ، حتى حنوا رؤوسهم وغضوا أبصارهم ، وذرفت بعض عيونهم دمعاً شجياً . ذلك أنهم رأوه يرتدي جلباباً مرقعاً بالياً ، وعاودتهم صورته الأولى قبل إسلامه ، حيث كانت ثيابه كزهور الحديقة نضرة ، وعطرة ...
تمّلى النبي الكريم تملاه جيداً ، تملّى مشهده بنظرات حكيمة شاكرة ، محبة ، وتألقت على شفتيه ابتسامة جليلة وقال : لقد رأيت مصعباً هذا ، وما بمكة فتى أنعم عند أبويه منه ، ثم ترك ذلك كله حباً لله ورسوله .
فلتقف إذاً وقفة قصيرة . يعني إذا كان الإنسان ذا دخل محدود ، وبإمكانه أن يحصل على أموال طائلة بطريق غير مشروع ، فاختار طاعة الله ، ودخله المحدود جعله يرتدي ثياباً من الدرجة الخامسة ، وبيته متواضع ، وأكله خشن ، فأنا أرى أن هذا وسام شرف ، كله زائل أيها الأخوة ، يعني إذا أنت آثرت الحق آثرت أن تستقيم على أمر الله ، آثرت أن ترضي الله عز وجل ، آثرت ألا تأكل حراماً ، آثرت أن تأكل من كد يدك ، وعرق جبينك ، آثرت ألا تأكل مالاً ليس لك ، هذا الدخل الشرعي الحلال ، الطيب ، قليل لكن هذا الدخل القليل جعلك
تسكن بيتاً صغيراً ، وأن تأكل طعاماً خشناً وأن ترتدي ثياباً من الدرجة الخامسة ، فهل تستحيي مما أنت عليه ؟ إن كنت تستحيِ مما أنت فيه ، فأنت لا تعرف الله .
والله أخٌ كريم محامٍ ، قال لي : يا أستاذ : جاءني رجل عرض عليّ قضية لأكون وكيلاً له فيها وهذه القضية مشمولة بقانون العفو فكنت صادقاً معه ، قلت له يا فلان قضيتك لا تحتاج إلى محامٍ ، تقدم بطلب إلى المحكمة الفلانية ، وسيصدر حكمٌ فوري بإعفائك من هذه الجنحة لأن قانون العفو يشملك ، لكنه لم يقتنع فذهب إلى محامٍ آخر بث في روعه أن القضية خطيرة جداً ، و يجوز أن يسجن فيها عشر سنوات ، حتى ابتز منه عشرين ألفاً ، ولم يكتفِ بهذا بل اتهمني أنني لا أفقه شيئاً بالمحاماة وقال عني :هذا أجدب ، مو فهمان …. فكان هذا المحامي متألماً لما اتهم به . أما أنا فوالله أيها الأخوة ، حينما قال لي هذا الكلام ، رأيته إنساناً كبيراً في نظري قلت له والله كلام الناس عنك ، بأنك محامٍ مبتدئ أو ساذج، والله هذا وسام شرف عند الله عز وجل ، هذا هو المؤمن ، وهكذا يجب أن يكون .
أنا أتمنى على إخواننا الكرام أن يتحلوا بالاستقامة ، فالإنسان عندما يستقيم فقد تكون عنده إمكانيات كبيرة ، ولكن إذا استقام وأرضى الله عز وجل فهو ملِك في الدار الآخرة .
فمصعب بن عمير ، من أسرة غنية جداً ، ولو بقي على دين آبائه لعاش حياة ناعمة جداً ، لكن لأنه أسلم ، والتحق بالنبي عليه الصلاة والسلام ، وكان أصحاب النبي رضوان الله عليهم فقراء ضعفاء :
( سورة هود : 27 ) .
أي فقراء وهذا شأن كل نبي ، كبراء القوم ، أصحاب الغنى ، هؤلاء غارقون في شهواتهم ، أصحاب القوة غارقون في وجاهاتهم ، لكن الضعاف يتبعونه ، هؤلاء الضعاف سيغنيهم الله عز وجل .
وهذه كلمة قالها النبي الكريم ، لعدي بن حاتم ، لا أنساها ما حييت ، قال له :
لعلك يا عدي ، إنما يمنعك من دخول في هذا الدين ما ترى من حاجتهم ، من فقرهم ، وايم الله ليوشكن المال أن يفيض فيهم حتى لا يوجد من يأخذه ، ولعله إنما يمنعك من دخول في هذا الدين ما ترى من كثرة عدوهم فوالله ليوشكن أن تسمع بالمرأة البابلية تحج البيت على بعيرها لا تخاف ، ولعله إنما يمنعك من دخول في هذا الدين أنك ترى أن الملك والسلطان في غيرهم ، فو الله ليوشكن أن تسمع بالقصور البابلية مفتحة للمسلمين .
فالبطولة أن تكون مع الحق ، وليكن ما يكون ، البطولة أن تكون على منهج الله عز وجل غنياً كنت أو فقيراً ، طبعاً الغنى مع الإيمان وارد ، فسيدنا ابن عوف كان غنياً ، وكان يقول وماذا أفعل والله لأدخلتها خبباً ، فلقد جاءته قافلة من سبعمائة بعير محملة ببضاعة ثمينة من الشام ، حتى ضجت أسواق المدينة ، فقالت عائشة ما هذا الضجيج ؟ قالوا قافلة لعبد الرحمن بن عوف ، فقالت : أخشى أن يدخل الجنة حبواً فلما بلغه ذلك قال والله لأدخلنها خبباً ، وما عليّ إذا كنت أنفق مائة في الصباح فيؤتيني الله ألفاً في المساء ، اشهدوا أن هذه القافلة كلها لله عز وجل . تصور والآن أن واحداً جاءته قافلة من سبعمائة سكسويل سبعمائة شاحنة براد كبيرة، سبعمائة ، فقال اشهدوا أنها كلها في سبيل الله . على كلٍ فالنبي الكريم قال عن هذا الصحابي: لقد رأيت مصعباً هذا وما بمكة فتى أنعم عند أبويه منه ، ثم ترك ذلك كله حباً لله ورسوله .
إذا كنت مستقيماً ، وحياتك متواضعة فافتخر وازهو.
( سورة الأحزاب : 71 ) .
( سورة الأعراف : 128 ) .
( سورة الحجرات : 12 ) .
آيات كثيرة ، تبشر المستقيمين على أمر الله ، بالفوز في الدنيا والآخرة ، حاولت أمه مرة ثانية أن تحبسه ولكنه أصر وقال : والله لأقتلن كل من تستعين به أمي على حبسي ، علمت أنه صادق وأنه يعني ما يقول ، فكفت عنه .
فلما جرى نقاش بينه وبينها قال لها يا أمي : إني لك ناصح وعليك شفوق ، فاشهدي أنه لا إله إلا الله ، وأن محمداً عبده ورسوله أجابته غاضبة مهتاجة : قسماً بالثواقب لا أدخل في دينك ، فيزرى برأيي ويضعف عقلي .
والله هذه عقلها ضعيف ولو أن عقلها كان راجحاً لآمنت بالنبي عليه الصلاة والسلام .
قال عليه الصلاة والسلام : أرجحكم عقلاً أشدكم لله حباً .
و حينما أسلم وأصر على إسلامه ، وترك دين آبائه ، حرمه أهله من كل شيء ، يقول كتاب السيرة : خرج مصعب من النعمة الوارفة التي كان يعيش فيها مؤثراً الشظف والفاقة وأصبح الفتى المتأنق المعطر ، لا يرى إلا مرتديا أخشن الثياب . أنا أعرف فتاة مؤمنة تنتمي إلى أسرة غنية جداً ، لكنها اصطلحت مع الله وأنابت إليه ، فحينما أنابت إلى الله عز وجل ما بقي أحد من الشباب الأغنياء الذين يعرفونها قبل توبتها يرغبون بها خطبها رجل فقير دخله محدود ، فقلبت ، وانتقلت من بيت واسع جداً إلى بيت صغير ، ومن طعام نفيس ، إلى طعام خشن ومن ثياب أنيقة إلى ثياب متوسطة معتدلة ، وقالت بملء فيها : أنا سعيدة بمعرفة الله ، وسعيدة بهذا الزوج ، وأنا أرضى أن أتخلى عن كل دنياي من أجل طاعة الله عز وجل .
أعرف فتاة سمعت عنها ، وأن أباها يدير أكبر ملهى من الملاهي التي تدر عليه أرقاماً فلكية ، ولو أنها طلبت من أبيها عدة ملايين لأعطاها إياها لكنها تعمل معلمة في إحدى قرى دمشق وتأكل من دخلها ولا تأخذ من مال أبيها شيئاً ، لأنها تعتقد أن مال أبيها كله حرام .
فهذه الأخبار عن مصعب تعني أن هذا الصحابي الجليل نموذج لكل شاب ، ينتمي إلى أسرة غنية فلما خرج عن نمط حياة أسرته ، وحرمه أهله ، عاش حياة متقشفة فله بهذا الصحابي الجليل ، أسوة حسنة . مرة ثانية لأنك مستقيم فدخلك محدود ، والله عز وجل لحكمة أرادها جعل الحرام سهلاً ، وجعل الحلال صعباً ، الحرام سهل ، يعني امرأة تشتغل أحياناً ثماني ساعات تأخذ مائة وخمسين ليرة في خدمة شاقة في البيوت ، وامرأة تبيع ما وهبها الله من جمالٍ تبيعه بمبالغ طائلة لوقت قصير ، فهذه امرأة وهذه امرأة !! ولكن أين الثرى من الثريا؟
و الإنسان حينما يخلص لله عز وجل ربنا عز وجل يندبه لأعظم المهمات ، وعندما يخلص ، فالله عز وجل يستخدمه في الحق .
سيدنا رسول الله عليه الصلاة والسلام كان في أصحابه من هو أكبر من مصعب سناً ، وأعلى شأناً ، وأكثر جاهاً ، وأقرب إلى النبي نسباً ، لكن عليه الصلاة والسلام ندبه ليكون خليفة له في المدينة قبل أن يهاجر إليها .
وهناك بالسيرة أمرٌ أقف أمامه محتاراً ، أنه حينما هاجر النبي إلى المدينة ، كيف أن أهلها خرجوا عن بكرة أبيهم يستقبلونه ، ويعظمونه ويصدقونه ، ويحبونه ، وهم لم يلتقوا بها من قبل ، فهل عرفتم ما السر ؟
السر أن هذا الصحابي الجليل الذي أرسله النبي إلى المدينة قبل أن يهاجر إليها جعل الله هداية كبار أصحابه من الأنصار على يديه .
منهم مثلاً سيدنا سعد بن عبادة ، سيدنا سعد بن معاذ ، كبار الصحابة أسلموا على يده ، قبل أن يأتي النبي . هذا الشيء نقلني إلى فكرة ، فأحياناً ترى الجامع ملأنَ ، فهل تعرف الفضل لمن يعود ؟ لبعض الأخوة النشيطين الذين يندفعون لنشر الحق ، يُقنع جاره ويقنع أخاه ، يقنع ابنه ، يقنع أباه ، يقنع زميله في العمل ، يعني يدعوه إلى المسجد ، يدله على الله ، يسمعه بعض الأشرطة ، يناقشه ، يخدمه ، فغص الجامع وامتلأ ، هذا الجامع أساسه أخ نشيط بذل كل شيء ، حتى أقنع الناس بالحق ، وحتى أقنعهم بالهدى ، وحتى حملهم على التوبة .
المدينة عن بكرة أبيها تخرج لاستقبال النبي و لم يلتقوا به من قبل ، ولم يسمعوا كلامه ، من الذي جلس بينهم ، ودعاهم إلى الهدى ، وقرأ عليهم القرآن ، وحدثهم عن النبي عليه الصلاة والسلام ، بين لهم شمائله الشريف ، عرفهم بربهم ، بين كمال الله عز وجل ، بأسمائه الحسنى ،و صفاته الفضلى من هذا الذي كان يعمل ليلاً ونهاراً ، سيدنا مصعب ...
يعني ماذا أقول إن صح التعبير ، إن الأنصار كلهم في صحيفته . تضيق عليك دنياك ويقل دخلك ، لكن الله عز وجل يعطيك أضعاف مضاعفة عطاءً لا ينتهي بالموت ، يبدأ بعد الموت.
فالإنسان لا يقيس نفسه ويقيس الآخرين بالأمور المادية ، هذا قياس فاسد ، رب أشعث أغبر ذي طمرين ، مدفوع بالأبواب لو أقسم على الله لأبره لا تقس نفسك بمساحة بيتك ، ولا بمستوى بيتك ، ولا بدخلك ، ولا بمركبتك ، قِس نفسك بطاعتك لله ، واجعل قوله تعالى نصبَ عينيك :
( سورة الحجرات : 12 ) .
صحيح أن هذا الصحابي ، فقد الثوب الجميل ، والرائحة العطرة لكنه صار من الخالدين في دنيا الناس وعند الله تعالى و الإنسان ما له حق في أن يفتخر بدنياه أيها الأخوة ، فإذا افتخر بدنياه أفسد حياة الناس وصرفهم عن الآخرة ، أما إذا حدثهم عن الله عز وجل ، فقد قربهم إلى الله وأصلح عليهم دنياهم لا أفسدها .
وعندنا قصة يبدو أن فيها حكمة فهذا الصحابي الجليل ، قال ذات يوم وهو يعظ الناس ، وقد فاجأه أسيد بن حضير ، سيد بني عبد الأشهل بالمدينة وكان يدرس وحوله هؤلاء الذين أحبوا الإسلام ، وانشرحت صدورهم له ، فاجأه أسيد بن حضير شاهراً حربته يتوهج غضباً على هذا الذي جاء يفتن قومه عن دينهم ، وقال له ما جاء بكما إلى حينا ؟ هو وأسعد بن زرارة ،
وهما أخوان في الإسلام كريمان ، ما جاء بكما إلى حينا ؟ تسفهان ضعفاءنا اعتزلانا إذا كنتما لا تريدان الخروج من المدينة . و الإنسان ، إذا وقف الموقف اللين ، والموقف الحكيم ،فهو عاقل رشيد ، و هذا من نعمة الله عز وجل أن موقفاً ليناً فيه حكمة ، فقال له مصعب بلسان طيب ، أولا تجلس فتسمع فإن رضيت أمرنا قبلته ، وإن كرهته كففنا عنك ما تكره اسمع أولاً . فهل سمعتم بإنسان جاءته رسالة ، مختومة لا يدري ما بها مزقها ، وسب مرسلها ؟ أقرأها أولاً ، لعل فيها حوالة ، لعل فيها دعوة ، قبل أن تمزقها وتسب مرسلها أقرأها ، هذا منطق سليم وصحيح .
قال : أولا تجلس فتستمع فإن رضيت أمرنا قبلته وإن كرهته كففنا عنك ما تكره ، فقال أسيد بن حضير وكان رجلاً عاقلاً ، والله أنصفت ، معقول ، ما أحسن هذا القول وأصدقه ، فجلس وكان مصعب يتلو عليهم القرآن فاستمع إلى القرآن ، ودخل إلى قلبه ، وشرح الله صدره ، فقال أسيد : ما أحسن هذا القول وأصدقه ، كيف يصنع من يريد أن يدخل في هذا الدين ، ما العمل ؟ فأرشدوه إلى ذلك .
سيدنا عمير بن وهب مرة قال : والله لولا أولاد صغار أخاف عليهم العنت ، ولولا ديون ركبتني لذهبت وقتلت محمداً وأرحتكم منه ، فرجل أسمه صفوان كان قاعداً ، قال له ديونك علي بلغت ما بلغت ، وأولادك أولادي مهما امتد بهم العمر ، اذهب لما أردت .
فعمير من فوره سم سيفه وذهب ، ولما وصل للمدينة ، رآه سيدنا عمر فقال : هذا عدو الله ساقه إلى رسول الله ، القصة تعرفونها لكن المغزى ، هذا عمير بن وهب عدو لدود ، حاقد ، ابنه قتل في بدر ، قال له سيدنا النبي ما الذي جاء بك إلينا ؟ قال جئت أفك ابني ، قال له : وهذا السيف الذي على عاتقك ، قال له : قاتلها الله من سيوف ، فقال له النبي : ألم تقل لصفون كذا وكذا وكذا فوقف ، وقال أشهد أنك رسول الله ، لأن الذي قلته لصفوان لا يعلمه إلا الله ، وأنت رسوله ، فدخل عدواً لدوداً ينوي القتل وخرج مسلماً ، يعني الصلحة مع الله تتم بلمحة أحياناً . فهذا أسلم وخرج لكي يطهر ثوبه وبدنه ، ويشهد أن لا إله إلا الله ، بعد قليل عاد وقد أغتسل ، وأعلن الشهادة وأسلم ، أسلم أسيد بن حضير ، أسلم سعد بن عبادة ، أسلم سعد بن معاذ ، فلما يسلم الكبار ، فالصغار يتبعونهم ، إذا وفقك الله أن تتحه لإنسان له مكانته له شأنه ، مثقف ثقافة عالية ، يحتل مركزاً مرموقاً وقنع بالإسلام ، فهذا له أتباع يحذون حذوه فهي نعمة من نعم الله .
فسيدنا مصعب وفقه الله في دعوته ، فلانت قلوب كبراء المدينة ، فلما لانت قلوبهم وأسلموا معه ، ودخلوا في هذا الدين العظيم ، كل أتباعهم تبعوهم ، كلكم يعلم أن هذا الصحابي الجليل خاض معركة أحد (( غزوة أحد )) وحمل لواء من ألوية أجنحتها وكلكم يعلم أنه لما جال المسلمون واشتبكوا مع عدوهم ثبت مصعب فأقبل ابن قميئة وهو فارس فضربه على يده اليمنى فقطعها ، ومصعب يقول :
( سورة آل عمران : 144 ) .
وأخذ اللواء بيده اليسرى تم حمل حنا عليه ، عدو الله ثانيةٍ فضرب يده اليسرى فقطعها ، وحنا على اللواء وضمه بعضديه إلى صدره ، وهو يقول :
ثم حمل عليه الثالثة بالرمح فأنفذه واندق الرمح ووقع مصعب وسقط اللواء ، ووقع شهيداً بل كان كوكباً بين الشهداء . الشيء الذي يدمي القلب أن هذا الصحابي قال عنه بعض أصحاب رسول الله ، قالوا : هاجرنا مع رسول الله عليه الصلاة والسلام في سبيل الله نبتغي وجه الله، فوقع أجرنا على الله ، فمنا من مضى ولم يأكل من أجره في دنياه شيئاً .
والإنسان عندما يستقيم ويتعرف إلى الله ، ويكبر ، فالله عز وجل يكرمه ويتزوج يسكن بيتاً، ويكون له دخل جيد ، يترفه ويأكل ويسعد ويقوم بنزهات كثيرة ، يتمتع بالدنيا ، فيقول لك : الله أكرمني والحمد لله لقد استقمت على أمر الله والله أكرمني ، لكن هذه الدنيا ليست دار نعيم إذا الله أكرمك فالحمد لله ، هذه من نعم الله الكبرى ، لكن لو أن الله عز وجل ، تبعنَ إنساناً بعد أن أسلم ، وأحب الله عز وجل واختاره إلى جواره فهل ضاع عليه شيء ؟ لا ، فهذه فكرة سخيفة جداً ، إذا لم يخسر شيئاً ولا أضاع شيئاً :
( سورة آل عمران : 169 ) .
و الإنسان عندما يخلص لله عز وجل ، ويتوكل على الله عز وجل فقد ربح ورب الكعبة فهذا الصحابي الجليل حياته كلها دعوة إلى الله ، حياته كلها جهاد ، وما عليك إلا أن تتصور أن أهل المدينة الأنصار جميعاً في صحيفته ، ثم مات شهيداً فقد فاز ورب البيت .
يقول عنه خباب بن الأرت : هاجرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سيبل الله نبتغي وجه الله ، فوجب أجرنا على الله ، فمنا من مضى ولم يأكل من أجره في دنياه شيئاً .
سيدنا عمر مرة قدم له طعام طيب ، فبكى ، لماذا بكى ؟ تذكر أصحاب النبي الذين ماتوا قبل أن يفتح الله الدنيا على المسلمين ثم جاءتهم الدنيا بعد ذلك راغمة .
جاءوا بكنز كسرى ووضع الكنز على الأرض ، بحيث أن أحداً لو أمسك برمحه ، وأمسك رجل آخر برمحه في الطرف الثاني فالأول لا يرى الثاني .
فتحت عليهم الدنيا ، لكن صحابة كرام ماتوا قبل أن تفتح عليهم الدنيا هؤلاء لهم عند الله أجر مضاعف . فالإنسان يستسلم لله عز وجل ، هو الرحمن الرحيم ، الآية التي تؤثر بالنفس :
( سورة آل عمران : 158 ) .
( سورة الزخرف : 32 ) .
والإنسان دائماً يبحث عن رزقه ، ثم يبلغ درجة من الكفاية والحاجة ويبقى همه الجمع ، لكن الله تعالى يقول :
هذا سيدنا مصعب قتل يوم أحد ، ولم يجدوا له شيئاً ليكفن به إلا نمرة ، يعني رداء خشن ، فكنا إذا وضعناها على رأسه ، تعرّت رجلاه ، وإذا وضعناها على رجليه برزت رأسه ، فقال عليه الصلاة والسلام : اجعلوها مما يلي رأسه ، واجعلوا على رجليه من نبات الإذخر ضعوا قليلاً من حشيش على رجليه وارفعوا الثوب إلى رأسه .
هذا سيدنا مصعب بن عمير الذي كان من أرفه ، ومن أنعم ومن أكثر فتيان قريش أناقةً ، ونعومةً ، ورخاءً ، وغنىً ، باع دنياه في سبيل الله عز وجل .
وإذا اختار الإنسان عملاً نظيفاً ، عملاً شريفاً ، متعباً و دخله قليل لكن شريف ، ما به شبهات،و ما به مداخلات ، وما به ما يثير القلق ، فإذا اختار عملاً شريفاً متعباً دخله قليل ، وعاش حياة مع الله وادعة ، مطمئنة ، فهذا وسام شرف له ، افرح بالدخل الحلال ، إن كان كثيرا فالحمد لله ، هذا من نعم الله عز وجل لكن إن كان قليلاً ، وهو حلال ، فهذا أفضل من كثيرٍ لا
يرضي الله عز وجل ، حتى إن النبي عليه الصلاة والسلام ، قال مرة لثعلبة : يا ثعلبة قليل تؤدي شكره ، خير من كثير لا تؤدي شكره . وقف النبي عليه الصلاة والسلام عند مصعب بن عمير ، وعيناه تذرفان بالدموع ، وقال :
( سورة الأحزاب : 23 ) .
ومنذ مدة قرأت نعوة ضخمة مكتوب فيها :
فممكن لكل من أراد أن يضع في النعوة هذه الآية أن يفعل ، ولكن المهم العبرة ، وحسن الخاتمة .يمكنك أن تأخذ إشارة أرقى ماركة سيارة تضعها على طنبر ، لكن يبقى الطنبر طنبراً والسيارة سيارة ، فهذه الآية تلاها النبي الكريم عندما وقف على جثمان مصعب :
ثم ألقى في أسى نظرة على بردته التي كفن بها وقال : يا مصعب لقد رأيتك بمكة ، وما بها أرق حلة ، ولا أحسن لمة منك ، ثم ها أنت شَعِث الرأس في بردة ، عندئذ قال عليه الصلاة والسلام : إن رسول الله يشهد أنكم الشهداء عند الله يوم القيامة . نعم ، أنا أشهد ، وهناك صحابي لما أسلم ثم خاض مع رسول الله معركة والله نجاه ، ووزعت الغنائم ، قال ما هذا ؟ قالوا هذه غنيمة لك قال والله ما على هذا أسلمت !! أنا أسلمت على الذبح ، أنا أسلمت على أساس أن أقدم حياتي في سبيل الله ، وفي المعركة الثانية ، وجد مقتولاً ، فالنبي الكريم قال : أهو ؟ هو ؟ هو ، قالوا هو ، هو ، فبكى النبي عليه الصلاة والسلام وقال :
اللهم إني أشهد أن هذا قاتل في سبيلك .
أهذه شهادة قليلة ؟ قال : له إن رسول الله يشهد أنكم الشهداء عند الله يوم القيامة ، ما في الدنيا شيء يؤسف عليه ، فالدنيا تغر ، وتضر ، وتمر .
فإذا استقمنا ، وقرأنا القرآن ، وفهمنا القرآن ، وخدمنا من حولنا و كنا أبراراً بوالدينا ، وأمهاتنا ، ونصحنا المسلمين في بيعنا وشرائنا ، وما كذبنا و ما غششنا ، وما اعتدينا ،وإن غضضنا أبصارنا عن محارم الله ، فالمطالبة قضية سهلة جداً ، ما لك مطالب أن تخوض معركة ، مُطالب فقط أن تستقيم ، ُمطالب تتعلم ، ُمطالب أن تعلم تقرأ القرآن ، تفهم القرآن ، تُعلم القرآن ، تستقيم على أمر الله ، تعامل الناس بالإحسان تكون صادقاً ، تكون أميناً ، إذا
فعلت هذا في عصر الفتن ، وعصر الضلالات ، وعصر الشبهات ، وفي عصرٍ فيه القابض على دينه كالقابض على جمر فلك أجر عظيم . النبي الكريم قال : اشتقت لأحبابي ، قالوا أو لسنا أحبابك قال لا : أنتم أصحابي ، أحبابي أناس يأتون في آخر الزمان ، القابض منهم على دينه كالقابض على جمر ، أجره كأجر سبعين ، قالوا : منا أم منهم ، قال : بل منكم ، قالوا ولم ؟ قال : لأنكم تجدون على الخير معواناً ولا يجدون . المسلم المؤمن غريب ، يعني أن أقرب الناس إليه يستنكر استقامته يُستنكر إذا أراد ألا يختلط مع الناس ، ترى إنساناً أهله بالمظهر دينين وإسلام ومسلمين ، يوصفون بأنهم محافظون ، فهؤلاء الذين زعموا أنهم محافظون يريدون اختلاط للجنسين ويريدون أن يسفر وجه المرأة ، ويحتالون ليجدوا إلى التفلت من أمر الله عز وجل سبيلاً يسلكوه . على كلٍ فالشيء الذي يبرز في حياة هذا الصحابي الجليل ، أنه كان من أسرة غنية ، فلما أصر على إسلامه وإيمانه ، فقد كل ما يمكن أن يناله من والديه فعاش فقيراً ، ونذر نفسه لهذا الدين العظيم فاختاره الله ليكون خليفة النبي في المدينة .
لذلك يمكن أن نذكر ثانية أن أكثر الأنصار كانوا في صحيفته ، هذا عمل عظيم والنبي الكريم كان إذا أراد أن يصلي أزاحت السيدة عائشة رجليها لأن غرفته لا تتسع لصلاته ونومها ، والآن اذهب إلى مقامه الشريف يطالعك أضخم مسجد في العالم .
ولقد حججت قبل ثلاثة أعوام فكان المقام الذي كان في العهد العثماني تقريباً في عرض مسجدنا هذا ، وإلى نصفه ، هذا المسجد النبوي الذي وسعه العثمانيون ، يعني أضافوا إليه إضافة ثم وسعه السعوديون توسعة تعدل عشرة أمثال ما كان عليه تقريباً ، يعني صار البناء على العرض نفسه ممتداً إلى الشمال وفيه فسحتان سماويتان ، في العام الماضي حينما حججت أية مساحة هذه ؟! أكثر من عشرة أمثال المساحة السابقة فهو مدينة كاملة ،و الإنسان
أحب أن يطوف حوله فالمسافة تقريباً خمسة كيلومترات ، يعني كان الحج بأيام حارة جداً ، وسمعت أنه مكيفاً و يعد أعظم تكييف في العالم ، والأجهزة على بعد سبعة كيلومترات،ومساحتها مائتان وسبعون ألف متر مربع تكون درجة الحرارة خارج الحرم ستاً وخمسين درجة ، أو اثنين وخمسين ، كأنما تلفح وجوههم النار ، بينما هي بالحرم ثماني عشرة درجة أو نحوها .
النبي عاش حياة خشنة ، لكن عرف المسلمون قيمته وقدره ، كل هذا الاعتناء دليل مقامه العظيم عند الله عز وجل ، الدنيا تضر ، وتمر وتغر ، حاول أن تكون على أمر الله ، و أن تكون مستقيماً و أن تكون ملتزماً ، و أن تتعلم ، و أن تعلم ، فإذا كنت كذلك ، فهذا الصحابي الجليل قدوة لنا ، والله ولا يخفضك عند الله ! دخلك القليل ، لا والله ، لا يخفضك عند الله بيتك الصغير ، ولا يرفعك العكس ، لكن ترفعك طاعتك ، وتخفضك معصيتك .
لذلك مصعب هذا قدوة لكل شاب عاش بأسرة مرفهة ، ناعمة ، فلما أصر على إيمانه وإسلامه، والناس تخلوا عنه عاش حياة خشنه ، ومن كان كذلك فله بهذا الصحابي الجليل ، أسوة حسنة .
والحمد لله رب العالمين(/)
الدرس 1 / 50 ، سيرة الصحابي : معاذ بن جبل ، لفضيلة الأستاذ الدكتور محمد راتب النابلسي
تاريخ : 5 / 10 / 1992 .
تفريغ : عماد علان
التدقيق اللغوي : الأستاذ غازي القدسي .
التنقيح النهائي : المهندس غسان السراقبي .
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيّدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، اللهم لا علم لنا إلا ما علَّمْتنا ، إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علِّمنا ما ينْفعنا ، وانْفعنا بِما علَّمتنا ، وزِدْنا عِلما ، وأَرِنا الحق حقاً وارْزقنا اتِّباعه ، وأرِنا الباطل باطِلاً وارزُقنا اجْتنابه ، واجْعلنا ممن يسْتمعون القول فَيَتَّبِعون أحْسنه ، وأدْخِلنا برحْمتك في عبادك الصالحين .
أيها الإخوة الأكارم ، طرأ على درس الاثنين اِنْعِطاف في موضوعه ، ولا بد من تَبْيانِ الأسباب التي حمَلَتْني على هذا الانْعطاف ؛ وهو أنَّ درس الجمعة بِفَضْل الله تعالى تفْسيرٌ لِكِتاب الله ، وهذا هو الدرس الأول ، لأنّه لا شيءَ يعْلو على كلام الله ، ودرْسَ الأحد درس حديث نبوي شريف وهو تَبْيانٌ لما في كتاب الله ، ولا شيء مما سوى كلام رسول الله يعْلو على كلام رسول الله ؛ لكنَّني وجدْتُ نفسي في درس الاثنين أتَتَبَّعُ موضوعات تتعلَّق بالأخلاق ، والدين هو الخُلُق وهو في جَوْهَرِه خُلُقٌ عظيم ، والله جلّ جلاله حين وصف النبي عليه الصلاة والسلام وصَفَهُ بأنَّهُ على خلقٍ عظيم ، والخلق الحسن ذهب بِخَيْري الدنيا والآخرة ، وهناك أحاديث صحيحة وكثيرة تُؤكِّد أنَّ الخُلُق الحَسَن بعد الإيمان بالله هو كُلّ شيء ، لذلك وجدْتُ نفسي أتتبَّعُ الموضوعات التي تتعلَّق بالخُلق الحَسَن ، فاخْتَرْتُ لكم موضوعات في الأخلاق الإسلامية ، ثمّ اخْترْت لكم موضوعات من كتاب إحْياء علوم الدين ، وقبل أيام تسآءلت في نفْسي : أيُّهما أبْلغ : أنْ نعرض الأخلاق الإسلامية بِشَكلٍ نظري ، أم أنْ نرى الأخلاق الإسلامية مُجَسَّدَةً في صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ لأنّ الخُلق الإسلامي إذا عُرض بِشَكلٍ نظري بَقِيَ حقيقةً تفْتقر إلى البرهان عليها ؛ لكِنَّك إذا تتبّعْتَ أخلاق رسول الله وسِيَرَهم ومواقفهم وبطولاتهم ومآثِرَهم وتضْحِياتِهم وحُبَّهم وشَوْقهم وانْضِباطهم والتِزامهم ؛ رأيْتَ الأخلاق الإسلاميَّة كلّها مُجَسَّدة في شَخْصِهم ، فإذا قرأت السيرة ؛ سيرة النبي عليه الصلاة والسلام أو أصْحابه الأجلاء رأيْت الأخلاق الإسلاميّة مُجَسَّدَةً فيهم ، أيْ رأيت الأخلاق الإسلاميّة مع البرهان عليها ، ولقد وجَدْت من خلال خبْرتي السابقة المُتواضعة في الدعوة إلى الله وفي التدْريس الديني أنَّ مادة القِصَّة ولا سِيَّما قِصص أبطال المسلمين وقِصص أصْحاب رسول الله ، هؤلاء الذين اخْتارهم الله على عِلْم لِقَول النبي عليه الصلاة والسلام :" إنّ الله قد اخْتارني واخْتار لي أصْحابي "
[ رواه البيهقي ]
وجَدْتُ أنَّ قصص أَصْحاب رسول الله وعلى رأسِها سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم هي الموضوع الثالث المُهِمّ الذي يأتي بعد تفْسير كتاب الله ، وبيان سُنَّة نبِيِّه ، لذلك اسْتعَنْتُ بالله عزّ وجل وأردْتُ أنْ أجْعل من درْس الاثنين في السيرة النبويَّة ، وفي سيرة أصْحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم مِن دون أن أكون مُلْزَماً بِتَسَلْسُلٍ مُعيَّن ، ولا بِصحابي دون صحابي ، لأنني أخْتار بِفَضْل الله عزّ وجل الصحابِيَّ أو المَوْقف من سيرة النبي عليه الصلاة والسلام الذي نحن في أشدّ الحاجة إليه ، وسِرّ هذا أنني كنت مرَّة في عقد قِران ، وقام أحد العلماء يُلقي كلمة فَمِن جُمْلة كلِمَتِه ذكر حديثاً للنبي عليه الصلاة والسلام ، عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ قَالَ أَخَذَ بِيَدِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ إِنِّي لَأُحِبُّكَ يَا مُعَاذُ فَقُلْتُ وَأَنَا أُحِبُّكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَا تَدَعْ أَنْ تَقُولَ فِي كُلِّ صَلَاةٍ رَبِّ أَعِنِّي عَلَى ذِكْرِكَ وَشُكْرِكَ وَحُسْنِ عِبَادَتِكَ *
[ رواه النسائي ]
وفي رواية أبي داود : أنْ تقول دُبُرَ كُلِّ صَلاَةٍ ....."
وما أدري لِمَ فعلَتْ هذه الكلمة في نفْسي فِعْل السِّحْر ؟ فقلت : إذا أحَبَّك النبي عليه الصلاة والسلام فهل من بعد هذه المرتبة من مرْتبة ؟ وهل من أعظم منها ؟ أنْ يُحِبَّك رسول الله ، ورسول الله لا ينْطق عن الهوى ، ولذلك وجدت أنّ كلّ إنْسانٍ يفْرح بِحُبِّ جِهَةٍ له ، فكلما ارْتقى الإنسان فرِح بِحُبِّ الله ورسوله له ، لأنّ حُب الله عز وجل هو عَيْن حُبّ رسول الله ، وحب رسول الله هو عَين حُبّ الله عز وجل ، لأنّ الله ورسوله أحقّ أن يُرْضوه ، فانْطِلاقاً من هذا الصحابي الجليل الذي قال في حقِّه رسول الله حديثاً ؛ عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ قَالَ أَخَذَ بِيَدِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ إِنِّي لَأُحِبُّكَ يَا مُعَاذُ فَقُلْتُ وَأَنَا أُحِبُّكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَا تَدَعْ أَنْ تَقُولَ فِي كُلِّ صَلَاةٍ رَبِّ أَعِنِّي عَلَى ذِكْرِكَ وَشُكْرِكَ وَحُسْنِ عِبَادَتِكَ *
[ رواه النسائي ]
أردْت أنْ أجعل هذا الصحابي موضوع الدرس الأول من دروس السيرة ؛ مُقْتطفات وفقرات ومواقف وأقْوالاً لهذا الصحابي الجليل ، الذي هو سيّدنا معاذ بن جبل رضي الله عنه .
قال بعْضهم : دخلْتُ مسْجدَ حِمْص فإذا أنا بِفَتىً حوله الناس ؛ جَعْدٍ قطَطٍ ، أيْ شعْره أجْعد، إذْ هناك شعْرٌ أجْعد ليس مُسْتَحْسناً ، لكن شعْر هذا الصحابي كان أجْعد ، ولكنه مُسْتَحْسن ، وهو معنى قطط ، فإذا أنا بِفَتىً حوله الناس جَعْدٍ قطَطٍ ، إذا تكلَّم كأنما يخرج من فيه نورٌ ولُؤلؤ ؛ هذا تأييد الله له ، فأنت إذا أخْلصْت أيها الأخ الكريم لله رب العالمين ، والْتَزَمْتَ أوامر الدين ، واتّصلْت بالله جل جلاله ، أسْبغ الله عليك مهابَةً وجمالاً ووضاءَةً ونوراً وهَيْبَةً وسكينةً ووقاراً
قال : فإذا أنا بِفَتىً حوله الناس جَعْدٍ قطَطٍ ، إذا تكلَّم كأنما يخرج من فيه نورٌ ولُؤلؤ فقلتُ : من هذا ؟ فقالوا : هو مُعاذ بن جبل ، وهذا هو معنى قول الله عز وجل حينما خاطب النبي عليه الصلاة والسلام وأصْحابه مَعْنِيون بِهذا الخِطاب وكذا كلّ مؤمن في كلّ مكانٍ وزمان : وَرَفعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ "
[سورة الشرح]
هذا لِكُلّ مؤمن ؛ كل مؤمن أخْلص لله عز وجل ، وأكْرمه الله عز وجل بِمَنْطقٍ وحُجَّةٍ ووقارٍ ومهابَةٍ ونورٍ ومكانةٍ وسُمْعةٍ ...إلخ ، وعن أبي مسلم الخوْلاني قال : أتيتُ مسجد دمشق فإذا حلقة فيها كهول من أصْحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وإذا شابٌ فيهم أكحل العين ، براق الثنايا ، وأسْنانه تلمَع ؛ دليل نظافته ، ودليل عِنايَتِهِ بِأسْنانه ، براق الثنايا ، وكلما اختلفوا في شيء ردوه إلى الفتى ، فقلت لِجَليسٍ لي : مَن هذا ؟ فقال : هذا مُعاذُ بن جبل ، هذا يُذكِّرُني بِمَقولةٍ أنَّ العالم شيْخٌ ولو كان حَدَثاً ، وأنّ الجاهل حَدَثٌ ، ولو كان شيخًا ، وهذا يُذكِّرُني كيف أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم اخْتار أُسامة بن زيد الذي لا تزيد سِنُّهُ عن سبعة عشر عاماً قائداً لِجَيْشٍ فيهم أبو بكرٍ وعمر وعثمان وعليّ ، وكيف أنّ الشباب في الإسلام له شأنٌ كبير ، وله شأنٌ خطير ، وقد قال عليه الصلاة والسلام :" ريح الجنّة في الشباب .." طاقاتهم كامنة ، وانْدِفاعهم شديد ، وغيرةٌ عظيمة ، وتعلُّقٌ بالمبادئ والمُثُل ؛ هؤلاء الشباب إذا أُحْسن تَوْجيههم ، ودُلوا على الله عز وجل، وعلى طريق البطولة، كان لهم شأنٌ ، وأيُّ شأنٍ ، كان هذا الصحابي الجليل زاهِداً في الدنيا ، قال مالك الداريّ : أخذ عمر بن الخطاب أربعمئة دينارٍ فَجَعَلها في صُرَّةٍ فقال لِغُلامٍ له : اِذْهب بها إلى أبي عُبيدة بن الجراح ثمّ تلَهَّ - وهو فعل أمرٍ - أيْ أُلْهُ بشيءٍ حتى تبْقى عنده فَتَنْظر ما يصْنع بها ، ثمّ تلهَّ ساعةً في البيت حتى تنظر ما يصنع قال : فذَهب الغلام وقال له : يقول لك أمير المؤمنين : اِجْعل هذه في بعض حاجتك ، فقال رضي الله عنه : وصله الله ورحِمَهُ ؛ أرأيْتُم أيها الإخوة : أنه من لم يشكر الناس لم يشكر الله ، فهناك أشْخاص يسوق الله لهم خيراً على يدِ رِجال ثمّ يتنكَّرون ويقولون : لقد منَّ الله علينا بالهُدى ، ويسوق الله لهم أشْخاصاً يُكْرِمونهم إكْراماً مادِّياً ، ثمَّ يقولون : هذا رِزْقٌ ساقه الله إلينا ، ولكن هذا لا يمْنَعُ أنْ تشْكر الناس، لأنه من لم يشكر الناس لم يشكر الله ، ماذا قال هذا الصحابي الجليل وماذا فعل ؟ قال : وصله الله ورحِمَهُ، ثمّ قال : تعالَيْ يا جارِيَة ، واذْهَبي بِهذه السبْعة إلى فلان ، وبِهذه الخمسة إلى فلان ، وبِهذه الثلاثة إلى فلان ، حتى أنْفَذَها جميعَها ، فَرَجَع الغُلام إلى عُمر فأَخْبَرَهُ ، فوَجَده قد أعَدّ مِثْلها لِمُعاذ بن جبل صاحب هذا الدرس ، وقال له : اِذْهب بها إلى معاذ بن جبل وتلهَّ في البيت ساعةً حتى تنظر ماذا يصْنع ، فذَهَب بها إليه ، وقال له : يقول لك أمير المؤمنين : اِجْعَل هذه في بعض حاجَتِك ، فقال : وصله الله ورحِمَهُ ، تعالَيْ يا جارِيَة واذْهبي إلى بيت فلان بكذا ، وإلى بيت فلان بِكذا ، فاطَّلَعَتْ امْرأته فقالت : ونحن ! والله مساكين فأَعْطِنا ، ولم يبْقَ في الخِرْقة إلا ديناران فدفع بهما إليها ، وقال : خُذي ، فرجع الغلام إلى عمر وأخْبره بِذلك ، فقال : إنهم إخوة ، بعضُهم من بعض ؛ ألم يقف النبي عليه الصلاة والسلام قُبَيْل وفاته وقد نظر إلى أصْحابه وهم يُصلون في المسْجد فتَبَسَّم حتى بَدَتْ نواجِدُه ، وقال : حُكماء علماء ، كادوا من فِقْهِهِم أن يكونوا أنبياء ؟ إنهم أبطال .
أمّا وَرَعُهُ ؛ فكان لِمُعاذ بن جبل امْرأتان ، فإذا كان عند إحْداهما لم يشْرب في بيت الأخرى الماء ، لِيُحَقِّقَ العدْل الكامل بينهما ؛ هذه الليلة لِفُلانة فيأكل ويشْرب وينام عندها ، أمّا عند الأخرى فَكان لا يشْرب عندها الماء في الليلة التي ليسَتْ لها ، وعن يحيى بن سعيد :" أنَّ مُعاذ بن جبل كان له امْرأتان فإذا كان يوم إحْداهما لم يتوضَّأ في بيت الأخرى فَوُضوؤهُ وصلاتُهُ وطعامه وشرابه وسَمَرُهُ عند صاحبة الليلة ، ألم يقل الله عز وجل :
[ النساء : الآية 3 ]
لذلك قالوا : ركْعتان من ورِع خير من ألف ركعة من مُخلِّط ! ألم يتَنَحَّ الإمام أبو حنيفة عن ظلِّ بيتٍ إلى الشمس ، فلما قيل له لِمَ : قال هذا البيت مُرْتَهَنٌ عندي ، وأنا أكْرهُ أن أسْتفيد من ظِلِّه ، وعن ثَوْر بن يزيد قال :" كان مُعاذ بن جبل إذا تهجَّد من الليل قال : اللهم قد نامت العُيون وغارتِ النجوم وأنت الحيّ القيوم ؛ اللهم طلبي للجنّة بطيء - إذا كان رضي الله عنه طلبه بطيء فَنَحن جامِدين - وهربي من النار ضعيف اللهم اجْعل لي عندك هُدىً ترُدُّهُ لي يوم القِيامة إنك لا تُخْلف الميعاد "
ولِذلك علامة المؤمن أنَّهُ يتَّهِم نفْسه دائِما ، وعلامةُ المنافق أنَّهُ يرضى عن نفسه ، حتى العوام يقولون : لا يرْضى عن نفسه إلا إبليس !.
وهذا أحد التابعين قال : الْتَقَيْتُ بِأَربعين صحابِياً ما واحِدٌ منهم إلا ويظنّ أنه منافق ، من شِدَّة خوفِهِ من الله ، ومُحاسَبَتِهِ لِنَفْسه ، ومُراقَبَتِهِ لها ، والنبي عليه الصلاة والسلام قال : أَرْحَمُ أُمَّتِي بِأُمَّتِي أَبُو بَكْرٍ وَأَشَدُّهُمْ فِي أَمْرِ اللَّهِ عُمَرُ وَأَصْدَقُهُمْ حَيَاءً عُثْمَانُ وَأَعْلَمُهُمْ بِالْحَلَالِ وَالْحَرَامِ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ وَأَفْرَضُهُمْ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ وَأَقْرَؤُهُمْ أُبَيٌّ وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَمِينٌ وَأَمِينُ هَذِهِ الْأُمَّةِ أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ *
[رواه الترمذي]
والنبي عليه الصلاة والسلام وُجودُهُ يطغى على كلّ إنسان ، وعظمتُهٌُ باهرة ، ولا يُلْتَفَتُ إلى إنسانٍ غَيْرِهِ ، وفقد عرف قدْرَ أصْحابه ، وأعطى كُلّ واحِدٍ منهم قَدْرَهُ ، مرَّةً سأل النبي عليه الصلاة والسلام مُعاذ حينما أرسله إلى اليمن ، فَعَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا أَرَادَ أَنْ يَبْعَثَ مُعَاذًا إِلَى الْيَمَنِ قَالَ كَيْفَ تَقْضِي إِذَا عَرَضَ لَكَ قَضَاءٌ قَالَ أَقْضِي بِكِتَابِ اللَّهِ قَالَ فَإِنْ لَمْ تَجِدْ فِي كِتَابِ اللَّهِ قَالَ فَبِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فَإِنْ لَمْ تَجِدْ فِي سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا فِي كِتَابِ اللَّهِ قَالَ أَجْتَهِدُ رَأْيِي وَلَا آلُو فَضَرَبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَدْرَهُ وَقَالَ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَفَّقَ رَسُولَ رَسُولِ اللَّهِ لِمَا يُرْضِي رَسُولَ اللَّهِ *
[رواه أبو داود]
القرآن والسنة ، والاجْتهاد دخل فيه القِياس والإجماع ، ولا تجْتمع أمتي على ضلالة ، والقِياس أنْ أكْتَشِف عِلَّة التحريم ، فإذا اتَّحَدَتْ هذه العِلَّة في حالةٍ ما مع حالةٍ أخرى انْسَحَب التحريم على الحالة الأخرى ، كما في الأولى ، فالخمر حرام ، وعِلَّتُها الإسْكار ، فأَيُّ شرابٍ أسْكر فهو حرام، وهذا هو القِياس ، ولعلّ هذا الصحابي الجليل كان رائِداً في الاجتهاد ، وكأنَّهُ رسَمَ للأئمَّة المُجْتهدين من بعْده أنّ الكِتاب أوَّلاً ، ثم السنّة ثانيا ، ثمّ الإجماع ثالِثاً ، ثمّ القياس رابِعاً ، والإجْماع والقِياس هما الاجْتِهاد ، والأدلّة كما تعلمون أدِلَّة أصْلية ، وأدِلّة فرعِيَّة ، فالأصلية الكتاب والسنة ، والفرعية القياس والإجماع والاسْتحسان والمصالح المرسلة ، إلى آخر الأدلة الفرعية في الاجتهاد ، وعن عاصم بن حميد عن معاذ بن جبل قال : لما بعثه رسول الله صلى لله عليه وسلم إلى اليمن خرج معه النبي الكريم لِيُوصيه ، فهل من الأصول المُتَّبعة الآن أنْ يخرج رأس القوم لِيُوَدِّع أصحابه الذين هم تابِعون له ؟ هذا لا نجده عند غير النبي عليه الصلاة والسلام، فالنبي عليه الصلاة والسلام بِكُلّ هَيْبَته ، وبِكلّ عظمته ووقاره خرج مع سيّدنا معاذ بن جبل لِيُوّدِّعُهُ ، والأغرب من هذا أن معاذاً كان راكِباً ، والنبي عليه الصلاة والسلام يمْشي محاذِيًا راحِلَتَه ؛ ما هذا التواضع ؟ ويَرْوي بعض كُتاب السيرة أنَّه نظر إليه ملِياً وتأمَّلَهُ كثيراً ، أنا اسْتنبطتُ من هذا كيف أَنَّ أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام يُحِبون النبي حُباً جماً ؟ وكيف أنه أخذ عليهم مجامع قلوبهم ؟ وكيف أنَّه أسَرَهم بِكماله ؟ أعتقد أنّ النبي عليه الصلاة والسلام كان يُحِبُّهم حُباً جماً ، واعْتقِدوا معي أيها الإخوة أنّ الحُبّ لا يُمكن أن يكون من طرفٍ واحد ، كما أنهم كانوا يُحبونه كان عليه الصلاة والسلام يُحِبُّهم ، وما خرج مع سيّدنا معاذ بن جبل مُشَيِّعاً له وهو يمْشي ومُعاذٌ يرْكب إلا من شِدَّة حُبّ النبي عليه الصلاة والسلام لمعاذ ، وقد تَرْوي القصص أنه لما قدِم جعْفر أيضاً هشَّ له النبي عليه الصلاة والسلام بشَّ ، وبدا عليه فرحٌ لم يبْدُ عليه في أيّ وقتٍ آخر ، فالنبي عليه الصلاة والسلام مشى معه ومُعاذٌ يركب والنبي يمْشي ويُوصيه ، فلما فرغ قال : يا معاذ ، إنك عسى ألاّ تلْقاني بعد عامي هذا ، يُسْتنبط من هذا اسْتِنباط دقيق ؛ إذْ إنّ النبي عليه الصلاة والسلام آثر أن يُرسل سيّدنا معاذًا إلى اليمن لِيَدْعُوَ إلى الله هناك ، ولِيُعَلِّمَهم كتاب الله وسنَّة رسوله ، على أنْ يبْقى إلى جانِبِه ، معنى ذلك أنّ أكبر هدفٍ يجب أن نسْعى إليه هو نشْرُ هذا الدِّين ، نشرُ هذا العِلْم العظيم ، ودعوة الناس إلى الله ورسوله ؛ فالنبي أرْسله إلى اليمن ، وكأنَّ شُعوراً غامِضاً ألَحَّ عليه أنَّهُ لا يلْقاه بعد عامه هذا قال : يا معاذ إنك عسى ألاّ تلْقاني بعد عامي هذا ، ولعلَّكَ تمرُّ بِمَسْجِدي هذا وقبري ، فَبَكى مُعاذٌ خُشوعاً لِفِراقِ رسول الله ، ثمّ الْتَفَت بِوَجْهِهِ إلى المدينة فقال : إنَّ أوْلى الناس بي المُتَّقون ، مَنْ كانوا وحيث كانوا ، حُبٌّ شديد ، وشَوْقٌ أشدّ ، ووفاءٌ لا مثيل له ، ومع ذلك الدعوةُ إلى الله عز وجل كانت فوق كُلِّ اعْتِبار.
سيِّدنا عمر يقول : لو اسْتَخْلَفْتُ معاذ بن جبل ، أيْ لو جعلهُ خليفةً من بعده ، فسألني عنه ربي عز وجل : ما حَمَلَكَ على ذلك ؟ لَقُلْتُ : سمِعْتُ نبِيَّك صلى الله عليه وسلَّم يقول : إنَّ العلماء إذا حضروا ربهم عز وجل كان مُعاذٌ بين أيْديهم ، إذاً معي شهادةٌ من رسول الله صلى الله عليه وسلم بِأنّ مُعاذَ بن جبل أهلٌ لِخِلافة المُسلمين جميعاً ، بعض أصْحاب النبي وهو ابن مسْعود كان يقول هكذا : إنَّ معاذ بن جبل كان أمَّةً قانتاً لله حنيفاً فقيل له : إِنّ إبراهيم هو الذي كان أمةً قانتاً لله حنيفاً فقال : ما نسيتُ ولكن هل تدري ما الأمة وما القانت ؟ قُلتُ : الله أعلم ، فقال : الأمة الذي يعلمُ الخير والقانت المُطيع لله عز وجل ولِرَسوله وكان مُعاذ بن جبل يُعَلِّمُ الناس الخير وكانَ مُطيعاً لله عز وجل ، إذاً إنَّ معاذ بن جبل كان أمَّةً قانتاً لله حنيفاً .
وعن شهْر بن حَوْشَب : " كان أصْحاب مُحَمَّدٍ رِضْوان الله عليهم إذا تحَدَّثوا وفيهم مُعاذٌ نظروا إليه هَيْبَةً له "
لقد كانت له هَيْبَة حتى مع أصْحاب النبي ومن مواعِظِه رضي الله عنه أنه كان يقول : إنَّ مِن ورائِكم فِتناً يكثر فيها المال ، ويُفْتح فيها القرآن ، حتى يقْرأه المؤمن والمنافق ، والصغير والكبير ، والأحمر والأسود ، فَيوشِكُ قائِلٌ أنْ يقول : ما لي أقرأ على الناس القرآن فلا يتبعوني عليه ، فما أظنّ أنهم يتبعوني عليه حتى أبتدع لهم غيرَه ، إياكم وإياكم وما ابْتُدِع ، يعني إياكم والبِدَع ، فإنَّ ما ابتُدِع ضلالة ، وأُحَذِّركم من زَيْغَة الحكيم - فالحكيمُ أحْياناً يخْطئ - فإنَّ الشيطان يقول : عليَّ في الحكيم كلمة ضلالٍ واحدة ، فالشيطان لا يتمنى إلا أنْ ينطق الحكيم بِكَلِمة ضلال واحدة ، لأنَّ تلك الكلمة تُسيء إلى الدِّين إساءة كبيرة ، كلكم يعلم أنَّ أبا حنيفة النعمان رحمه الله كان يمشي في الطريق ، فرأى غلاماً أمامه حُفْرة فقال : يا غلام إياك أن تسْقط ، ولا أدري كيف أنطَق اللهُ هذا الغُلام وقال : بل أنت يا إمام إياك أن تسْقط ، إني إنْ سقطتُ سقطْتُ وحدي ، وإنك إنْ سقطتَ سقط العالم معك ، فالحكيم إذا تكلَّم كلمة ضلال واحدة سقطت معه الأمة ، لأنَّ عامَّة الناس لا يُفَرِّقون بين الإسلام والمُسْلمين ، ولا بين الحقِّ وأهل الحقِّ ، ولا بين المبادئ وأصْحابها ، فهذا التداخل يجْعلهم إنْ سقط أمامهم الحكيم سقط معه الدِّين، فَلِذلك سيّدنا معاذ بن جبل أدْرك بِحاسَّتِه المُرْهفة أنَّ أكبر خطرٍ على الإسلام أنْ ينطق الحكيم بِكَلِمةِ ضلالٍ واحدة ، لأنَّ هذه الكلمة الواحدة ربما أسْقطتْ كلّ كلامه الصحيح ، فلو أنَّ أحداً أعْطاك مئات المعْلومات الصحيحة ، ثمّ قال لك : اثْنين واثنين خمْسة ، هنا يداخلك الشكّ ، ليس في هذا الكلام ، بل في كلّ ما قاله لك .
الشيطان يقول : عليَّ في الحكيم كلمة ضلال واحدة ، وقد يقول المنافق كلمة الحق ، دقِّق في هذا ؛ قد يقول المنافق كلمة الحق ، وقد يقول الحكيم كلمة ضلال ، فما الأصل ؛ المُتَكّلِّم أم الكلام ؟ الكلام ، وهذا ما قاله الإمام عليّ : "نحن نعرف الرجال بِالحقّ ولا نعْرف الحق بالرجال"، فالأصل هو الحق ، قالوا : وما يُدْرينا أنّ الحكيم قد يقول كلمة الضلالة ؟ قال : هي كلمةٌ تُنْكِرونها ، مُخالفة للفِطرة والعقل والنقل والواقع ؛ كلِمَةُ الضلالة تخالف العقل والنقل والواقع والفِطْرة ، تُنْكِرونها بِفِطَرِكم السليمة ، وعُقولِكم الراجحة ، سيّدنا عمر رضي الله عنه كان يسْتعين بِرَأْيِ مُعاذ بن جبل حتى إنه قال : لولا معاذ بن جبل لَهَلَكَ عُمر ، وعَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ قَالَ أَخَذَ بِيَدِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ إِنِّي لَأُحِبُّكَ يَا مُعَاذُ فَقُلْتُ وَأَنَا أُحِبُّكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَا تَدَعْ أَنْ تَقُولَ فِي كُلِّ صَلَاةٍ رَبِّ أَعِنِّي عَلَى ذِكْرِكَ وَشُكْرِكَ وَحُسْنِ عِبَادَتِكَ *
[ رواه النسائي ]
وكان هذا الصحابي يقول : يا بُني إذا صَلَّيْتَ فَصَلِّ صلاة مُوَدِّع ، ويا بني إنَّ المؤمن يموت بين حَسَنَتَين : حسنةٍ قدَّمَها ، وحسنةٍ أخَّرها ، له أعمالٌ جليلة قبل موته ، وترك خيراً كثيراً بعد موته ، بين حَسَنَتَين : حسنةٍ قدَّمَها ، وحسنةٍ أخَّرها ، ويقول هذا الصحابي الجليل : قد ابْتُليتُم بِفِتْنَة الضراء فَصَبَرْتُم وسَتُبْلَوْنَ بِفِتْنَةِ السراء وأَخْوَفُ ما أخاف عليكم فِتْنة النِّساء ، إذا تسَوَّرْنَ الذهب ، ولَبِسْنَ رِياط الشام ، وعَصْبَ اليَمَن ، فأَتْعَبْنَ الغني ، وكلَّفنَ الفقير ما لا يجد ، لذلك كما قال عليه الصلاة والسلام :" إنَ إبليس طلاعٌ رصاد وما هو من فُخوخه - جمع فخّ - بِأَوثق في صَيْدِه في الأتْقِياء من النِّساء " ، لكن الشيء الذي يشْترك فيه هذا الصحابي الجليل مع كُلِّ أصْحاب رسول الله حالَتُهُ عند الوفاة ، فلما حضَرَهُ الموت قال : أصْبَحْنا ، فقِيل له : لم نُصْبِحْ، فقال : رضي الله عنه : أعوذ بالله من ليلةٍ صباحُها النار ، مرْحَبًا بالموت مرْحبًا بالموت؛ زائِرٌ مُغِبّ ، حبيب جاء على فاقة ، اللهم إني كنت أخافُك وأنا اليوم أرْجوك ، إنك تعلم أني لم أكن أُحِبّ الدنيا وطول البقاء فيها لِكَرْي الأنهار ، ولا لِغَرْس الأشجار ، ولكن لظمأ الهواجر ، ومُكابَدَة الساعات ، ومُزاحَمَة العُلماء بِالرُّكَب عند حِلَق الذِّكر ، وتُوُفِّيَ هذا الصحابي الجليل عن عُمُرٍ ؛ كم تُقَدِّرون ؟ عن عُمُرٍ لا يزيد عن ثلاث وثلاثين سنة ، فالعُمْرُ أَتْفَهُ ما فيه طولُهُ ، وأعْظم ما فيه الأعمال الجليلة التي عمِلَها .
عن سعيد بن المُسَيِّب قال:" قُبِضَ مُعاذ بن جبل وهو ابنُ ثلاثٍ وثلاثين أو أرْبعٍ وثلاثين عاماً "
العُمُر يُقاسُ بِوَزْن العمل الذي احْتواهُ لا بِمُدَّتِه .
والحمد لله رب العالمين .(/)
الدرس 23\50 سيرة الصحابي : سيدنا نعيم بن مسعود لفضيلة الأستاذ محمد راتب النابلسي.
التاريخ : الاثنين مساءً 15/03/1993
تفريغ : م المهندس عرفان نابلسي .
التدقيق اللغوي : الأستاذ غازي القدسي
التنقيح النهائي : المهندس غسان السراقبي .
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد الله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا وزدنا علما ، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .
أيها الإخوة الكرام ؛ مع بداية الدرس الثالث والعشرين من دروس سيرة صحابة رسول الله رضوان الله تعالى عليهم أجمعين ، وصحابي اليوم سيدنا نعيم بن مسعود ، مرة بعد مرة أوضح لكم أن وقائع هذه السير ربما كانت معروفة عندكم ، إلا أن محور هذه الدروس أن نستنبط منها حقائق وأساليب وطرائق تعيننا على تعاملنا مع الله أولاً ، ومع مَن حولنا ثانياً ، فالعبرة في التحليل ؛ هذا الصحابي الجليل يتمتع بقدْرٍ عالٍ جداً من الذكاء ؛ واخترتُ هذا الصحابي لأبيِّن لكم أنه يمكن أن يوظَّف الذكاء في سبيل الحق ؛ ربما كانت معركة الخندق والنصر الذي حصل فيها ، ربما في جزء كبير منه يرجع الفضل فيه إلى هذا الصحابي الجليل ؛ لذكائه الذي استخدمه في سبيل الحق ، فما أكبَرَ خسارة ذلك الإنسان العاقل الذكي الذي يوظف ذكاءه للإيقاع بين الناس، أو لجمع الدرهم و الدينار ، أو لاقتناص المناسبات ، و يأتي يوم القيامة صفر اليدين .
هذا الصحابي الجليل كان فتىً يقظَ الفؤاد ، ألمعي الذكاء ، خرّاجًا ولاّجًا ؛ (خراجاً ولاجاً) وهو تعبير يشفُّ عن مرونته ، وعن ذكائه الاجتماعي ؛ مرة سأل معاويةُ بن أبي سفيان عمرَو بن العاص وكانا من دهاة العرب ، قال يا عمرو : ماذا بلغ من دهائك قال : واللهِ ما دخلتُ مدخلاً إلا أحسنت الخروجَ منه ، فقال يا عمرو : لست بداهية ، أمّا أنا فو اللهِ ما دخلتُ مدخلاً أحتاج أن أخرج منه .
وكان خراجاً ولاجاً ، لا تعوقه معضلة ، ولا تعجزه مشكلة ، متَّقدَ الذكاء ؛ بالتعبير الحديث ؛ الخط العريض في المجتمع مَن يتمتع بدرجة ذكاء تساوي مائة ، والمائة تساوي المتوسط ، والعباقرة درجتهم بالذكاء تزيد عن مائة وأربعين ، لكن هذا الحظ من الذكاء قد يودي بصاحبه إلى أعماق جهنم مرة بعد مرة ؛ والحظوظ التي تنالها من الله إمّا أنها درجات إلى الجنة، وإما أنها دركات إلى النار ؛ بالصوت الحسن قد تقرأ القرآن ، وقد تغني ؛ والمهارات بأنواعها قد توظفها في الحق أو بالباطل .
هذا الصحابي الجليل يتمتع بصحِة حدثٍ ، وسرعة بديهة ، وشدة دهاء ، ولكنه كان في الجاهلية صاحب صبوة ، وخَدِين متعة ، وكان يَنشُدُهما أكثر ما يَنشُدُهما عند يهود يثرب ؛ يعني بالتعبير الدارج ـ رجل كيف ـ في الجاهلية ، وسوف ترون كيف أنّ المؤمن إذا تعرف إلى الله أقل ما يقال بأنه غَيَّر سلوكَه مائة وثمانين درجة ؛ رجُل بْسطٍ ؛ رجل شراب ؛ رجل نساء ؛ كان ينشد هذه المتعة عند يهود يثرب في المدينة ، هذا في الجاهلية ، ولكن ما قولكم : إنّه من رحمة الله تعالى أنْ فتح باب التوبة لعباده ، قال تعالى :
(سورة الزمر )
باب التوبة مفتوح على مصراعيه ؛ كان كلما تاقت نفسه لقينة ، أو هفَّ سمعه لوتر شدّ رحاله من منازل قومه في نجد ، ويَمَّمَ وجهه شطر المدينة ، حيث يبذل المال ليهودها بسخاء ، ليبذلوا له المتعة بسخاء أكثر ؛ هذه صفحة من جاهليته ؛ ومن هنا كان نعيم بن مسعود كثير التردد على يثرب ، وثيق الصلة بمَن فيها من اليهود ، وبخاصة بني قريظة ؛ هذا قبل أن يسلم .
ولما بعث الله النبي صلى الله عليه وسلم برسالة الإسلام إلى العالمين ، أعرض هذا الصحابي عن الدين الجديد أشد الإعراض ، خوفاً من أن يحول هذا الدين بينه وبين متعه وملذاته.
هذا الوهم الكبير الذي عند معظم الناس أنه إذا تديَّن فسوف يحرم من مباهج الحياة ؛ من متع الحياة ؛ من الملذات ومن المسرات ومن السهرات المختلطة ومن النزهات ؛ من السهرات الصاخبة ، هكذا يتوهم بعضهم ، ولو علم هؤلاء المتوهمون أن في الدين سعادةً لا تعدلها سعادة ، ولو اطلع عليها الملوك لقاتلوا عليها أهلها ، ولكنهم لا يعلمون ؛ فقد تستمتع بشيء منحه الله بعض الجمال ، فكيف إذا أقبلت على منبع الجمال ؛ أبيت عند ربي يطعمني ويسقين .
***
لو شاهدت عيناك من حسننا الذي رأوه لما وليت عنا لغيرنا
***
لكن ليته بقي على الحياد ، هذا الصحابي وجد نفسه مسوقاً إلى الانضمام شاء أو أبى إلى خصوم الإسلام ؛ والإنسان لا يستطيع أن يخفي هويته دائماً ، فأحياناً تضعه الظروف في مواقف حرجة ، فإن لم يعلنها مدوية أنه مسلم ، فسوف يجر إلى مواقف محرجة جداً ، كثير من الأشخاص يعتذر عن مصافحة امرأة لأن يده مربوطة ؛ متوضئ ؛ أنا مسلم لا أصافح ببساطة ؛ يعتذر عن شرب الخمر ، ويقول يصيب معدتي منها حموضة ؛ لا هذه فلسفة فارغة ؛ أنا مسلم لا أشرب الخمر ، ببساطة ، لأنك إذا امتنعت عن معصية لأسباب غير دينية ، لم تكن داعية إلى الله عزوجل ؛ أما إذا امتنعت عن معصية لأسباب دينية ، فلعل الناس يقتدون بك ؛ ويرونك مثلاً أعلى ، لا تَخَفْ ، فكلمة الحق لا تقطع رزقاً ، ولا تقرب أجلاً .
لكن سيدنا نعيم بن مسعود وجد نفسه مسوقاً إلى الانضمام إلى خصوم الإسلام الألداء ، مدفوعاً دفعاً إلى إشهار السيف في وجه المسلمين ؛ لكن أيها الإخوة أتمنى على الله عزوجل أن تضعوا أيديكم على هذا الموقف الخطير ، لحظة تفكير سليمة ؛ محاكمة منطقية ؛ مراجعة مع نفسه ؛ تأمل دقيق ؛ تبَصُّر عميق ؛ لقد استخدم عقله ، وحقَّق كل سعادته في الدنيا وفي الآخرة ، بفضل هذه المحاكمة ؛ فلا ينبغي للإنسان أن يمضي مع الحياة دون تأمل دون توقف ؛ دون تبصر ودون مراجعة ، هذا الصحابي في غزوة الأحزاب - وهي غزوة الخندق - فتح صفحة جديدة في علاقته بهذا الدين ، ووقف موقفًا لا ينسى ؛ إن صح التعبير وقف موقفاً تاريخياً ؛ لأن التاريخ سجله له ، وكل سعادتك أحياناً سببها تفكير صحيح ، ومحاكمة منطقية ، وإعمال العقل .
أنا أبحث عن قصة لصحابي يرويها هو عن نفسه ، فهذا الصحابي ما الموقف الذي وقفه ؟ لا بد من تمهيد لهذا الموقف بما يسمى بفرش تاريخي.
قبيل غزوة الأحزاب بقليل هبَّت طائفة من يهود بني النضير في يثرب ، وقام زعماؤها يُحزِّبون الأحزاب لحرب النبي صلى الله عليه وسلم ، والقضاء على دينه ؛ فقدموا على قريش ، وحرضوهم على قتال المسلمين ، وعاهدوهم على الانضمام إليهم عند وصولهم إلى المدينة ، وضربوا لذلك موعداً لا يخلفونه ، ثم تركوهم ، وانطلقوا إلى غطفان في نجد ، قوم نعيم بن مسعود ، فأثاروهم ضد الإسلام ونبيه ، ودعوهم إلى استئصال الدين الجديد من جذوره ، وأسرُّوا بينهم بما تم بينهم وبين قريش ، وعاهدوهم على ما عاهدوهم عليه ، وآذنوهم بالموعد المتفق عليه ، فما الذي حصل ؟ الآن خرجت قريش بقضها وقضيضها ، وخيلها ورَجِلها ؛ تراكيب أدبية ؛ بكل ما تملك ، وبكل وزنها ، وبكل ثقلها ، وكل طاقاتها ، بقيادة زعيمها أبي سفيان بن حرب متجهةً شطر المدينة ، كما خرجت غطفان من نجد بعدتها وعددها ، بقيادة عيينة بن حصين الغطفاني زعيمها ، وكان في طليعة رجال غطفان نعيم بن مسعود صاحب هذا الدرس ، فلما بلغ النبيَّ نبأُ خروجهم جمع أصحابه ، وشاورهم في الأمر ، فقرَّ قرارُهم على أن يحفروا خندقًا حول المدينة ، ليصدوا عنها هذا الزحف الكبير الذي لا طاقة لها به .
بالمناسبة عزوة الخندق كانت زلزلة شديدة للمؤمنين ، قال تعالى :
(سورة الأحزاب )
وهذا أسلوب اسمه الفرزُ العلمي ؛ فمن غير امتحان الناس كلهم متشابهون ؛ وبالامتحان يفرز الناس ؛ بين صادق ، وبين رجل أقل صدقاً ، وبين رجل خائف ، ورجل كاذب ؛ منافق ، والحدث هو الذي يفرز ؛ والواقع أنّ رجلاً منافقًا قال : أيَعِدنا صاحبكم - ولم يقل رسول الله - أن تفتح علينا بلاد قيصر وكسرى ، و أحدنا لا يأمن أن يقضي حاجته ؛ لكن كما قال الله عز وجل:
(سورة الأحزاب )
على كل كان في طليعة غطفان نعيم بن مسعود ، ولما بلغ النبيَّ نبأُ خروجهم جمع المسلمين، وشاورهم ، واستقر رأيهم على أن يحفروا خندقًا حول المدينة ؛ وما كاد الجيشان الزاحفان من مكة ونجد يقتربان من مشارف المدينة حتى مضى زعماء بني النضير إلى زعماء بني قريظة القاطنين في المدينة ، وجعلوا يحرضونهم على الدخول في حرب النبي ، ويحضونهم على مؤازرة الجيشين القادمين من مكة ونجد ، فقال لهم زعماء بني قريظة : لقد دعوتمونا إلى ما نحبُّ ونبغي ، ولكنكم تعلمون أن بيننا وبين محمدٍ ميثاقاً ؛ على أن نسالمه ، ونوادعه لقاء أن نعيش في المدينة آمنين مطمئنين ، وأنتم تدرون أن مداد ميثاقنا له لم يجفَّ بعد ؛ معاهدة مغلظة ؛ أن يعيش اليهود في المدينة آمنين مطمئنين على أن يسالموا النبي ، ويوادعوه ، ومداد المعاهدة لم يجف بعد ، فكيف نخون محمدًا ؟ وشيء آخر نخشى إذا انتصر محمد في هذه الحرب أن يبطش بنا بطشة جبارةً ، وأن يستأصلنا من المدينة استئصالاً ، جزاء غدرنا به ، لكنَّ زعماء بني النضير ما زالوا يغرونهم بنقض العهد ، ويزيِّنون لهم الغدر بمحمد ، ويؤكدون لهم بأن الدائرة ستدور على المسلمين في هذه المرة لا محالة ، ويشدون عزمهم بقدوم الجيشين الكبيرين ؛ والخبر الخطير : فما لبثت بنو قريظة أن لانت ، ونقضوا عهدهم مع الرسول صلى الله عليه وسلم ، ومزقوا الصحيفة التي بينهم وبينه ، وأعلنوا انضمامهم إلى الأحزاب في حربه ، فوقع الخبر على المسلمين وقوع الصاعقة ، قال تعالى :
(سورة الأحزاب )
النبي عليه الصلاة والسلام يواجه الأحزاب خلف الخندق ، وخلفه في المدينة نقض اليهود عهدهم ، وأصبح محاصرًا ؛ وصدِِّقوا أيها الإخوة أن الإسلام بتقدير الخبراء قد انتهى ؛ لم تنته المعركة فحسب ، بل الإسلام انتهى بتقديرهم ، وهذه الحرب كان هدفها القضاء على الإسلام كلياً، لأنها حرب إبادة ، فهؤلاء المسلمون يجب أن يبادوا عن بكرة أبيهم ؛ هنا عظمة الدين ، وهذا دين الله عزوجل ؛ زوال الكون أهون من أن يزول هذا الدين ، وهذا الدين كلما ضُغِطَ عليه قويَ ، لأن الله معه .
حاصرت جيوشُ الأحزاب المدينةَ ، وقطعت عن أهلها الميرة والقوت ، وشعر النبي صلى الله عليه وسلم أنه وقع بين فكي كماشة ، بالتعبير الحديث ؛ فقريش وغطفان معسكرون قبالة المسلمين خارج المدينة ، وبنو قريظة متربصون متأهلون خلف المسلمين داخل المدينة ؛ وعندك الطابور الخامس ، هؤلاء هم المنافقون ضمن المدينة ، وهم عند المسلمين مسلمون ، لكنهم منافقون حقًّا ، وهؤلاء الذين في قلوبهم مرض أخذوا يكشفون عن مخبآت نفوسهم ، ويقولون : كان محمد يعدنا أن نملك كنوز كسرى وقيصر ، وها نحن اليوم لا يأمن الواحد منا على نفسه أن يذهب إلى بيت الخلاء ليقضي حاجته ؛ رجل موعود أن يفتح أمريكا والشرق كله ، ووجد نفسه محاصرًا في بيته !! أين يا سراقة ؟ كيف بك إذا لبست سواري كسرى ؟ والإسلام في نظر أعدائه بقي موضوع ساعات ؛ ساعات وينتهي الإسلام ؛ أنت أحيانًا تمر باختناق في حياتك وأنت كمؤمن تمر باختناق شديد ، قال تعالى :
(سورة آل عمران )
(سورة هود )
لكنَّ الإيمان ألاَّ تقنط من رحمة الله ؛ وألاّ تيأس من رحمة الله ، قال تعالى:
(سورة يوسف )
ربنا عزوجل يؤخر النصر ، وبهذا التأخير تنكشف النفوس كلها ؛ ثم طفق المنافقون ينفضون عن النبي جماعة إثر جماعة ، بحجة الخوف على نسائهم وأولادهم وبيوتهم من هجمة يشنها عليهم بنو قريظة ؛ قال تعالى :
(سورة الأحزاب )
حتى لم يبق مع النبي صلى الله عليه وسلم سوى بضع مئات من المؤمنين الصادقين ؛ عشرة آلاف مقاتل حول المدينة ، وبنو قريظة بأكملها نقضت عهدها ، وهي وراء ظهر النبي ، والمنافقون يثبطون العزائم ، ويحبطون المساعي ؛ أعتقد أنه ما مرت الدعوة الإسلامية بمأزق أشد من هذا المأزق ، قال تعالى :
(سورة الأحزاب )
وفي ذات ليلة من ليالي الحصار الذي دام تقريبًا عشرين يوماً لجأ النبي صلى الله عليه وسلم إلى ربه ، وجعل يدعوه دعاء المضطر ، فعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى قَالَ دَعَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْأَحْزَابِ فَقَالَ اللَّهُمَّ مُنْزِلَ الْكِتَابِ سَرِيعَ الْحِسَابِ اهْزِمْ الْأَحْزَابَ اللَّهُمَّ اهْزِمْهُمْ وَزَلْزِلْهُمْ *
(متفق عليه ، واللفظ لمسلم)
يا أيها الإخوة ؛ تعلموا هذا السلوك من رسول الله ، كان إذا حزبه أمر بادر إلى الصلاة ، والإنسان المسلم إذا وقع في مخمصة ، أو وقع في مشكلة ، أو في ورطة كبيرة ، أو في مأزق حرج ، وغلا دمه في عروقه فعليه أن يلجأ إلى الله ؛ وأنا أنصح نصيحة مشابهة ؛ إذا حزبك أمر فبادرْ إلى ركعتين قبل الفجر ، لأن الله عزوجل يقول ينزل إلى السماء الدنيا ، كما جاء في حديث أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ يَنْزِلُ رَبُّنَا تَبَارَكَ وَتَعَالَى كُلَّ لَيْلَةٍ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا حِينَ يَبْقَى ثُلُثُ اللَّيْلِ الْآخِرُ يَقُولُ مَنْ يَدْعُونِي فَأَسْتَجِيبَ لَهُ مَنْ يَسْأَلُنِي فَأُعْطِيَهُ مَنْ يَسْتَغْفِرُنِي فَأَغْفِرَ لَهُ *
(متفق عليه)
ولا تصدقوا أن المؤمن يمكن أن ينجو من مشكلة لتكشف صدقه وحبه لله عزوجل ؛ أو بامتحانات أحياناً ، أو بضيق مادي ؛ ضمن العمل ؛ ضمن البيت ؛ بزواجك ؛ لا بد من اختناق ، وهذا الاختناق إجباري ، والنبي عليه الصلاة والسلام كان إذا حزبه أمر بادر إلى الصلاة .
نعيم بن مسعود مع معسكر الكفار والمشركين ، أحد زعماء غطفان وهو مستلقٍ على فراشه في الخيمة ، يتقلب على مهاده أرقاً ، كأنما سمر جفناه ، فما ينطبقان لنوم ، فجعل يسرح ببصره وراء النجوم السابحة على صفحة السماء الصافية ، ويطيل التفكير ، وفجأةً رأى نفسه تسأله قائلةً: ويحك يا نعيم ؛ هذا هو الحوار الداخلي ، ويا أيها الأخ ألمْ يحدثْ معك حوار داخلي ؟ أو محاسبة ذاتية ؛ ويحك يا نعيم ، ما الذي جاء بك من تلك الأماكن البعيدة في نجد لحرب هذا الرجل ، ومن معه ؟ هل هي حرب مقدسة ، أم حرب قذرة ؟ فأنت لا تحاربه انتصاراً لحق مسلوب ، ولا حمية لعرض مغصوب ، وإنما جئت لتحاربه لغير سبب معروف .
لا يكن أحدكم إمعة ، أيها الإخوة ؛ وتقول : أنا مع المجموع ؛ لعل المجموع على خطأ ؛ أنا مع أهلي ؛ لعل أهلك على خطأ ؛ أنا مع أبناء الحي ، ولعل أبناء الحي على خطأ ؛ أنا مع أصدقائي لعلهم على خطأ ؛ لا يكن أحدكم إمعة ، وتكن أداة رخيصة ، ولا تكن منديلاً تُمسَح به أقذر عملية ، ثم يرمى ؛ لا تكن كذلك ، لا تكن أداةً ؛ لا تكن صنيعةً ؛ لا تكن وسيلةً ، بل كن حراً تتحرك من قناعتك ، وتتحرك بوحي من إيمانك ؛ وبوحي من عقيدتك ؛ تحرَّكْ بوحي من الحق والإنصاف ، ولا تكن رقمًا مع الأرقام ، ولا تكثِّر سواد الباطل .
قال لنفسه : ويحك يا نعيم ! هذا محور القصة ؛ لحظة تفكير سديدة ؛ محاكمة عقلية دقيقة ؛ تأمل دقيق ؛ ويحك يا نعيم ! ما الذي جاء بك من تلك الأماكن البعيدة في نجد لحرب هذا الرجل ومن معه ؟ إنك لا تحاربه انتصاراً لحق مسلوب ؛ والإنسان أحيانا ينجرُّ إلى معاداة أهل الحق انجرارًا ، وله أخ مثلاً متفوق عليه بالدراسة ، ولهذا الأخ شيخ ، فحسده ، وأكل قلبه اتجاه أخيه ، مما جعله يبغض شيخه ، فيسوق القصص الواهية ، ويطعن فيه ، ويسخر منه من دون أن يدري ماذا يفعل ، فلا تكن إمّعة ؛ ولا تتحرك تكملة لعدد ، بل تحرك بوعي وقناعة وتفكير وإنصاف .
إنك لا تحاربه انتصارًا لحق مسلوب ، أو حمية لعرض مغصوب ، وإنما جئت تحاربه لغير سبب معروف ؛ أيليق برجل له عقل مثل عقلك أن يقاتل فيقتل ، أو يقتل لغير سبب ؛ ومن علامات قيام الساعة موت كعقاص الغنم لا يدري القاتل لِمَ يقتل ، ولا المقتول لما قُتِل .
و عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَيَأْتِيَنَّ عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ لَا يَدْرِي الْقَاتِلُ فِي أَيِّ شَيْءٍ قَتَلَ وَلَا يَدْرِي الْمَقْتُولُ عَلَى أَيِّ شَيْءٍ قُتِلَ *
(رواه مسلم)
لا يوجد سبب ؛ هاتِ هويتك .. ثم ذبحه ؛ هكذا يجري ؛ أيليق برجل له عقل مثل عقلك يقاتل فيقتل ، أو يقتل لغير سبب ، ويحك يا نعيم ! ما الذي يجعلك تشهر سيفك في وجه هذا الرجل الصالح ؛ ولم يعرِّفه بنبيّ ، ولكن : هذا رجل صالح ؛ الذي يأمر أتباعه بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى ؛ ويحك يا نعيم ! ما الذي يحملك على أنْ تغمس رمحك في دماء أصحابه الذين اتبعوا ما جاءهم به من الهدى والحق ؛ هذه المناقشة التي كانت سبب سعادته إلى أبد الآبدين ؛ وأنا أقسم لكم أن أناسًا كثيرين ماتوا على الشرك ، لا لأنهم كانوا فعلاً مشركين ، إلا أنهم كانوا مع أتباعهم هكذا ؛ لم يفكر ، وإنما يعيش مع المجموع ، ومع التيار العام ، فسق على فسق ؛ ولم يحسم هذا الحوار العنيف بين نعيم ونفسه إلا القرار الحازم الذي نهض من توه لتنفيذه.
أنت عندك إمكانية أن تتخذ قرارًا حازمًا ؛ يا رب أعاهدك على طاعتك مهما كلف الثمن ؛ أنت متلبس بعمل فيه معصية ، فلا بدّ أن تنزع من توِّك ؛ لك مهنة لا ترضي الله ، فعليك أن تستقيل منها سريعًا ؛ لك تصرف ليس في صالح الشرع ، فلتنزع عنه مباشرة .
اتخذ هذا الصحابي الجليل قراراً حازماً ، ونهض من توه لتنفيذه ؛ أحدكم أيها الإخوة لا يقل: غداً أنفذه ؛ الآن أنفذه .
تسلل نعيم بن مسعود من معسكر قومه تحت جنح الظلام ، ومضى يحث الخطى إلى النبي صلى الله عليه وسلم ؛ مشرك مع الأعداء جاء ليقاتل المسلمين ، فلما رآه النبي عليه الصلاة والسلام ماثلاً بين يديه قال : نعيم بن مسعود !! قال : نعم يا رسول الله ؛ قال : ما الذي جاء بك في هذه الساعة ؟ قال : يا رسول الله : جئت لأشهد أن لا إله إلا الله ، وأنك عبد الله ورسوله ؛ وأنّ ما جئتَ به الحق ، ثم أردف يقول : لقد أسلمت يا رسول الله .
والله الذي لا إله إلا هو حينما يعقد الإنسان الصلح مع الله ؛ حينما يتوب إلى الله ، أو حينما يرجع إليه يدخل الله في قلبه سعادة ، والله لو قُسِمتْ على ستة آلاف مليون إنسان لوسعتهم ؛ أقليل أن تصطلح مع الله ، وأن تعود إليه ، وأن تنضوي تحت لواء رحمته ؟.
لقد أسلمت يا رسول الله ، وإن قومي لم يعلموا بإسلامي ، فمُرْني بما شئت ؛ كنت أقول لكم دائماً : الإيمان ما إن يستقر في قلب المؤمن حتى يعبِّر عن نفسه بالحركة ؛ ليس هناك مؤمن سلبي ؛ كلمة (يصطفلوا) بمعنى لا دخل لي ، ليس لها وجود في قاموس المؤمن ؛ المؤمن إيجابي، ويدعو إلى الله ، والمؤمن يعطي من كل شيء ؛ فالإيمان أساسه العطاء ، وأن يعطي من كل شيء عنده ؛ فكل إنسان يدَّعي أنه مؤمن ، ولو فرضنا أنه بقي في مكانه وآمن ؛ أنا أمنتُ ، والدين معقول ، وأنا يجب أن أسلم ، ويقبع في مكانه ؛ لا ، لا يجوز له أن يبقى في مكانه ، عندما أسلم نهض ، وتوجه إلى رسول الله ، وقال له : مُرْنِي بما شئت ؛ النبي عليه الصلاة والسلام في مواجهة عشرة آلاف رجل بأسلحتهم الفتاكة ، واليهود نقضوا العهد ، والإسلام صار موضوع ساعات ؛ فماذا يفعل رجل واحد ؟! فقال عليه الصلاة والسلام : إنما أنت فينا رجل واحد، فاذهب إلى قومك وخذِّلْ عنا إن استطعت ، فإن الحرب خدعة .
الآن ، سيوظف ذكاءه ، وعقله الكبير ، وسرعة بديهته ، وفطانته ، وكل أساليبه الذكية، الآن سيوظفها لصالح الدين الجديد ؛ قال : نعم يا رسول الله ، وسترى ما يسرك إن شاء الله .
الله عزوجل يقدِّر نصر حركة كبيرة ، والمرجح أن المسلمين سيفوزون بها على يد رجل واحد .
مضى نعيم بن مسعود من توه إلى بني قريظة ، وكان لهم من قبل صاحباً ونديماً ، وقال لهم: يا بني قريظة ، لقد عرفتم وُدِّي لكم ، وصدقي في نصحكم ، فقالوا : نعم ، والله ما أنت عندنا بمتهم ، فقال : إن قريشًا وغطفان لهم في هذه الحرب شأن غير شأنكم ، قالوا وكيف ؟ قال: أنتم هذا البلد بلدكم ، وفيه أموالكم ، وأولادكم ونساؤكم ، وليس بوسعكم أن تهجروه إلى غيره ؛ أما قريش وغطفان فبلدهم وأموالهم وأولادهم ونساؤهم في غير هذه البلد ، وقد جاءوا لحرب محمد ، ودعوكم لنقض عهده ، ومناصرتهم عليه ، فأجبتموهم ، فإن أصابوا نجاحاً في قتاله ـ ركبوا عليكم ـ اغتنموه ، وإن أخفقوا في قهره عادوا إلى بلادهم آمنين ، وتركوكم وحدكم ، فينتقم محمد منكم شر انتقام ، وأنتم تعلمون أنه لا طاقة لكم به إذا خلا بكم ؛ فقالوا : صدقت واللهِ، وهذا رأي حصيف ؛ تحليل دقيق جداً ، بلدكم ، ونساؤكم ، وأولادكم ، إن نجحوا ركبوا عليكم ، وإن أخفقوا عادوا إلى بلادهم آمنين ، وبقيتم أنتم وحدكم مع محمد ، فينتقم منكم أشد الانتقام ، وأنا أنصحكم ، والرأي عندي ألاّ تقاتلوا معهم ؛ من شدة ذكائه لم يأمرهم أن ينسحبوا لا ؛ الرأي عندي أن لا تقاتلوا معهم حتى تأخذوا طائفة من أشرافهم ، وتجعلوهم رهائن عندكم ، وبذلك تحملونهم على قتال محمد معكم إلى أن تنتصروا عليه ، أو يفنى آخر رجل منكم ومنهم ، فقالوا : واللهِ أشرتَ ونصحتَ ، بارك الله بك ، ثم خرج من عندهم ، وأتى أبا سفيان بن حرب قائد قريش، وقال له ولمن معه : يا معشر قريش ، قد عرفتم ودي لكم ، وعداوتي لمحمد ، فقالوا : نعم ، وقد بلغني أمر فرأيت حقاً عليَّ أن أفضي به إليكم ، نصحاً لكم ، على أن تكتموه ، ولا تذيعوه ؛ قالوا : لك علينا ذلك ؛ قال : إنّ بني قريظة قد ندموا على مخاصمتهم محمدًا ، فأرسَلوا إليه يقولون : إنا قد ندمنا على ما فعلنا ، وعزمنا أن نعود إلى معاهدتك ومسالمتك ، فهل يرضيك يا محمد أن نأخذ لك من قريش وغطفان رجالاً كثيراً من أشرافهم ، ونسلمهم إليك لتضرب أعناقهم ، ثم ننضم إليك في محاربتهم حتى نقضي عليهم ؛ فأرسل إليهم النبي أي نعم ، وقَبِلَ منهم ذلك ؛ فإنْ بعثت اليهود يا أبا سفيان تطلبُ منكم رهائن من رجالكم فلا تدفعوا إليهم أحداً ؛ قال أبو سفيان : نِعْمَ الحليف أنت ، بارك الله بك ، وجزيت خيراً ، فقد أنقذتَنا .
ثم خرج نعيم من عند أبي سفيان حتى أتى قومه غطفان ، فحدثهم بمثل ما حدث به أبا سفيان، وحذرهم مما حذره منهم ، وهنا انتهت مهمته ؛ أراد أبو سفيان أن يختبر بني قريظة ، فأرسل إليهم ابنه ، فقال لهم : إن أبي يقرئكم السلام ، ويقول لكم : إنه قد طال حصارنا لمحمد وأصحابه ، حتى مللنا ، وإننا قد عزَمْنا على أن نقاتل محمداً ، ونفرغ منه ، وقد بعثني أبي إليكم يدعوكم إلى منازلته غداً ، فقالوا له : إن اليوم يوم سبت ، ونحن لا نعمل فيه شيئاً ، ثم إنا لا نقاتل معكم حتى تعطونا سبعين من أشرافكم ، وأشراف غطفان ، حتى يكونوا رهائن عندنا ؛ يعني أنّ كلام ابن مسعود صحيح ؛ فإنا نخشى إن اشتدَّ عليكم القتال أن تسرعوا إلى بلادكم ، وتتركونا لمحمد وحدنا ، وأنتم تعلمون أن لا طاقة لنا به .
والخطة نجحت مائة بالمائة ؛ امتحنهم أبو سفيان ، وطلبوا رهائن ، والرهائن من أجل أن يذبحهم النبي ؛ فلما عاد ابن أبي سفيان إلى قومه ، وأخبرهم بما سمعه من بني قريظة ، قالوا بلسان واحد : خسئ أبناء القردة والخنازير ، واللهِ لو طلبوا منا شاة رهينةً ما دفعناها إليهم ؛ وهكذا دبَّتْ بينهم الوقيعة .
اللهم اضرب الظالمين بالظالمين ، وأخرجنا منهم سالمين ؛ نجح نعيم بن مسعود في تمزيق صفوف الأحزاب ، وتفريق كلمتهم ، وأرسل اللهُ على قريش وأحلافها ريحاً صرصراً عاتية ؛ مائة وخمسة وسبعون كيلومترًا بالساعة ، سرعة الرياح بالساعة في أمريكا ؛ الثلج أربعة أمتار ، والخسائر لا توصف عندهم ، وهذه من عند الله مباشرة ، وأرسل الله على قريش وأحلافها ريحاً صرصراً ، فجعلت تقتلع خيامهم ، وتكفأ قدورهم ، وتطفئ نيرانهم ، وتصفع وجوههم ، وتملأ أعينهم تراباً ؛ فلم يجدوا مفراً من الرحيل ، فرحلوا تحت جنح الظلام ، ولما أصبح المسلمون وجدوا أعداء الله قد ولوا مدبرين ، وجعلوا يهتفون بعد أيام عيد الفطر السعيد ، ومن الأوراد المتعارف عليها ما ورد في الصحيحين عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُولُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ أَعَزَّ جُنْدَهُ وَنَصَرَ عَبْدَهُ وَغَلَبَ الْأَحْزَابَ وَحْدَهُ فَلَا شَيْءَ بَعْدَهُ *
ظلّ نعيم بن مسعود بعد ذلك اليوم موضع ثقة رسول الله ؛ فهذا عمل ؛ ولمثله فليعمل العاملون .
واللهِ أيها الإخوة ما منكم واحد إذا طلب من الله عملاً عظيماً إلا يجريه على يديه إلاّ يسّره له، وأجراه على يديه ، فكن طموحًا ؛ قال تعالى :
(سورة التوبة)
تعلم العلم ، وانشر العلم ، وادعُ إلى الله ، وكن مثلاً أعلى لإخوانك ولأصحابك ، وكن نجمًا متألقًا ؛ فَوَلِيَ لنعيم للنبي عليه الصلاة والسلام الأعمال ، ونهض له بالأعباء ، وحمل بين يديه الرايات ، فلما كان يوم فتح مكة ؛ هنا وقف أبو سفيان بن حرب يستعرض جيوش المسلمين ، فرأى رجلاً يحمل راية غطفان ، فقال لمن معه : من هذا ؟ فقالوا : هذا نعيم بن مسعود ، قال : بئس ما صنع بنا يوم الخندق ؛ كشفها ، واللهِ لقد كان أشدَّ الناس عداوة لمحمد ؛ وها هو ذا يحمل راية قومه بين يديه ، ويمضي لحربنا تحت لوائه .
إنّ المؤمن كيس فطن حذر ؛ قال تعالى :
(سورة النساء )
وهناك من قرأها كَيْسُ قُطْنٍ ؛ فقال له : يا سيدي ما معنى كيس قطن ، فقال له : يا بني قلبه أبيض ، وليِّن المعاملة ؛ شيخ ضعيف باللغة قرأها كيْس قطن .
هذا نعيم بن مسعود وكل مَن آتاه الله ذكاءً فليوظفْ ذكاءه في الحق ، ويتعلم العلم ويعلمه ؛ فإذا آتاك الله كتابة قلم سيال ، فاكتبْ عن أصحاب رسول الله ، واكتبْ في هذا الدين ؛ ولا تستخدم هذا القلم في قصة قذرة ؛ وإنْ آتاك اللهُ لسان طلق فاستخدمه في الحق ؛ وإنْ آتاك عضلات فاخدم بها بيوت الله عزوجل ؛ وإنْ آتاك مالاً فأنفقه في سبيل الله .
قال عليه الصلاة والسلام لأحد الصحابة : يا بشر لا صدقة ، ولا جهاد ، فبمَ تلقى الله إذاً ؟ محور هذه القصة أن هذه الطاقة الفكرية العالية التي تمتع بها هذا الصحابي الجليل وظّفها في الحق ، ونِعْمَ ما فعل ، ولا تنسوا قوله تعالى حينما خاطب الله عزوجل قارون ، فقال في كتابه العزيز :
(سورة القصص )
سمعت عن امرأة صالحة كان لها بيت مساحته أربعمائة متر ، باعته واشترت بيتًا مساحته مائة متر ، والباقي وزّعته على الفقراء ، والمساكين ، وطلبة العلم ، والمحتاجين ، ولقيت ربَّها بثلاثمائة متر فائضًا عن حاجتها ؛ فلابد من عمل تقدِّمه بين يديك ؛ ولابد من عمل يعرض على الله عزوجل ، ولابد من عمل ترقى به في الجنة ؛ أليس لك شيء ؟ ولو دللتَ إنسانًا واحدًا على الله عزوجل ؛ أمَا ساهمت أبداً في هداية واحد ؟ أما أقنعت واحدًا يؤمن بالله عزوجل ؟ أما حاولت أنْ تزور إنسانًا لوجه الله ؛ أما حاولت أن تحضر مجلس علم حتى تتعلم وتُعلِّم ؟.
أيها الإخوة الأكارم ؛ كما ورد في بعض الأدعية ؛ يا رب لا يحلو النهار إلا بخدمة عبادك ؛ ولا يحلو الليل إلا بمناجاتك ؛ فمن عرف طريق السعادة لزمها ، قال عليه الصلاة والسلام لبعض أصحابه : عرفت فالزم ، وإني لك ناصح أمين .
والحمد لله رب العالمين
***(/)
الدرس 30 / 50 : سيرة الصحابي عمير بن وهب لقضيلة الأستاذ الدكتور محمد راتب النابلسي .
تفريغ : م المهندس عرفان نابلسي .
التدقيق اللغوي : الأستاذ غازي القدسي .
التنقيح النهائي : المهندس غسان السراقبي .
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد الله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا ، إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا ، وانفعنا بما علمتنا ، وزدنا علما ، وأرنا الحق حقاً ، وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
أيها الإخوة الأكارم ، مع بداية الدرس الثلاثين من دروس سيرة أصحاب رسول الله رضوان الله تعالى عليهم أجمعين ، وصحابيُّ اليوم سيدنا عمير بن وهب ؛ ولهذا الصحابي قصة فريدة ، وقبل أن نخوض في الحديث عن تفاصيل رحلته في طريق الإيمان لا بد من توضيح بعض الأفكار .
الإنسان أيها الإخوة ربنا جل جلاله خبير بخلقه ، وأخصُّ الإنسان بحديثي الآن من بين الخلق جميعًا ، في بعض الأحيان ربنا سبحانه وتعالى يريه الكثيرَ من آياته الدالة على وجوده ، وعلى علمه ، وعلى وحدانيته ، وعلى كماله ، وبعض الأشخاص تتدخل العناية الإلهية لحكمة مطلقة متعلقة بعلم الله بهؤلاء الأشخاص تدخلاً مباشرًا ، فهذا الشخص عمير بن وهب أراه الله من آياته ، ولأن الله سبحانه تعالى عليم به تتضح له الحقائق ، وينطلق في طريق الإيمان .
فهؤلاء سحرة فرعون حينما رأوا عصا سيدنا موسى انقلبت ثعباناً مبيناً ، وتلقَّفت كل ما صنعوا من السحر خروا لله ساجدين ، لذلك قال بعضهم : إما أن تطيعه فيكرمك ، فهذا طريق ، وأحياناً يكشف لك عن جوانب عظمته أو عن آياته ، وهو يعلم أنك تستجيب فيكون الكشف سابقًا للطاعة ؛ وإما أن يكون الكشفُ بعيدًا الطاعة .
هذه القصة فريدة من نوعها ، فأحياناً الإنسان يرى منامًا يأتي مثل فلق الصبح ؛ وأحياناً ينقذه الله عز وجل من ورطة محققة بحكمة ما بعدها حكمة ، وبقدرة ما بعدها قدرة ، فالإنسان إذا وضعه الله عز وجل أمام آية من آياته الدالة على وجوده ، والدالة على كماله ، والدالة على علمه ، والدالة على وحدانيته ، ولم يستجِب فالويل له .
يمكنك أن تتفكر في الكون ، وأن تتيقن خلاله من وجود الله عز وجل ، وذلك من كماله ، من وحدانيته ، ومن ألوهيته ، ومن ربوبيته ، وتمشي في طريق طاعته إلى أن تنكشف لك الحقيقة ، لكن أحياناً وهذه حالات قليلة ، وأنت متلبس بالمعصية ، و أنت غارق في اتباع الشهوات يكشف الله لك بعض الحقائق ، لعلمه بأنك تستجيب ، فهذا الذي لا يستجيب إنسان خاسر ، وكل واحد منا ضمن عمله ، وفي أثناء سفره ، وضمن إقامته ، ومن خلال علاقاته قد ينشأ معه شيء على خلاف المألوف ، وعلى خلاف العادة ، إنها عناية إلهية ، والقصص في هذا كثيرة جداً ، فإذا كشف اللهُ لك جانباً من آياته التي تدل على وجوده ، وعلى وحدانيته ، وعلى ربوبيته ، وعلى ألوهيته ، وعلى علمه فعليك أن تسرع الخطى ، لأنها فرصة نادرة لا تتكرر ، وإذا كان التسعة والتسعون بالمائة من الناس مكلفون أن يهتدوا إلى الله بعقولهم ، وأن يستجيبوا له، وبعدئذ يكشف لهم عن جوانب آياته الباهرة فإن بعض الأشخاص ، و هم قلة قليلة ، ولحكمة بالغة يكشف لهم عن وجوده ، وعن علمه ، وعن آياته قبل أن يطيعوا ، فإذا لم يطيعوا كان هذا الكشف حجة عليهم .
سيدنا عمير بن وهب ، هذا اسمه الدقيق عمير بن وهب الجمحي عاد من موقعة بدر ناجياً بنفسه ، لكن ابنه وهبًا خلَّفه أسيراً عند النبي عليه الصلاة والسلام ؛ أب و ابنه كانا في معركة بدر ، وهذه المعركة حُسِمت لصالح المسلمين ، والقتلى كثير ، وأسرى كثيرون وقعوا في قبضة النبي عليه الصلاة والسلام ، أمّا الأب فنجا ووقع الابن أسيرًا .
أيها الأخوة ، نحن أحياناً بأساليب معوجة ، وبأساليب لا ذكاءَ فيها ، نخسر أصدقاءنا ، لكن النبي عليه الصلاة والسلام للكمال الذي أكرمه الله به يستقطب أعداءه ، إنه شيء غريب ، عمير بن وهب من ألَدِّ أعداء النبي عليه الصلاة والسلام ، كان كافراً مشركاً عنيداً مناهضاً ضالاً مضلاً فاسقاً فاجراً أراد أن يطفئ نور الله ، فحارب أصحاب رسول الله ، ونكل بهم ، بل لم يدَّخر وسعاً في إيقاع الأذى بهم ، فكان هذا الرجل من ألدِّ أعداء النبي ، وبعد أن وقع ابنه أسيراً عند رسول الله ، خاف أن يؤخذ الابنُ بجريرة أبيه ، وأن يسوموه سوء العذاب ، جزاءَ ما كان ينزل برسول الله صلى الله عليه وسلم من الأذى ، ولقاء ما كان يلحق بأصحابه من النكال.
في أحد الأيام توجَّه عمير إلى البيت الحرام للطواف بالكعبة ، لأن الحج كما تعلمون عبادة قديمة ، قال تعالى:
(سورة آل عمران )
فالعرب كانوا يطوفون حول الكعبة .
إذاً ذاتَ ضحىً توجه عمير إلى المسجد الحرام للطواف بالكعبة ، والتبرك بأصنامها ، فرأى صفوان بن أمية جالساً إلى جانب الحِجْر ، والحِجْر ذلك القوس المبني إلى جانب الكعبة ، وهو قديم ، فأقبل عليه ، وقال : عِمْ صباحاً يا سيد قريش ، فقال صفوان : عِمْ صباحاً يا أبا وهب ، اجلس نتحدث ساعةً ، فإنما يُقطَّع الوقت بالحديث ، فجلس عمير ، إنهما رجلان موتوران ، رجلان حاقدان ، رجلان يغليان حقداً على رسول الله ، جلس عمير بإزاء صفوان بن أمية ، وطفق الرجلان يتذاكران بدراً ، ومصابهما العظيم ، ويعدِّدان الأسرى الذين وقعوا في قبضة النبي عليه الصلاة والسلام ، ويتفجعان على عظماء قريش ، ممّن قتلتهم صناديدُ المسلمين ، وغيَّبهم القليبُ في أعماقه ، فتنَهَّد صفوان بن أمية ، وقال : واللهِ ليس في العيش خير بعدهم ، ما هذه الحياة ؟ عظماء قريش قُتِلوا ، وأبناؤنا أسرى ، وليس في الحياة خير بعدهم ، فقال عمير : صدقت واللهِ ، ثم سكت عمير قليلاً ، وقال : وربِّ الكعبة لولا ديون عليّ ليس عندي ما أقضيها، ولولا عيال أخشى عليهم الضياع من بعدي ، لمضيتُ إلى محمد وقتلتُه ، وحسمت أمره ، وكففتُ شرَّه ، وأرحتُكم منه ، ثم أَتْبَعَ يقول بصوت خافت : وإن وجود ابني وهب لديهم ما يجعل ذهابي إلى يثرب أمراً لا يثير الشبهات ، رجل موتور ، حاقد ، ممتلئ غيظاً ، يقول : لولا هذه الديون التي رَكِبَتْنِي ، والتي لا أطيق سدادها ، ولولا هؤلاء الأولاد الصغار الذين لا يجدون أحداً من بعدي يطعمهم ، لذهبتُ إلى المدينة ، وقتلتُ محمداً ، وحسمتُ أمره ، وأرحتُكم منه ، وانتهى الأمر ، قال تعالى :
(سورة الزمر )
قال بعض المفسرين هذه الآية للنبي عليه الصلاة والسلام .
اغتنم صفوان بن أمية كلام عمير بن وهب ، ولم يشأ أن يفوِّت هذه الفرصة ، فالكافر أحيانًا يكون ذكيًّا ، وليس الذكاء قيمة مطلقة ، الذكاء نعمة إذا وظفته في الحق ، وبلاء كبير إذا وظفته في الباطل ، الذكاء شأنه كشأن أيٍّ مِن حظوظ الدنيا ، سُلَّمٌ ترقى به إلى أعلى عليين ، إلى الجنة ، أو دركات تهوي بها إلى أسفل سافلين ، إلى النار ، هؤلاء الذين اخترعوا هذه الأسلحة الفتاكة ، مرة يقولون لك : القنبلة الذكية ، ومرة يقولون : قنبلة عنقودية ، صواريخ موجّهة بأشعة الليزر ، هذا الصاروخ ركب على أشعة الليزر ، ودخل في مدخنة المصنع ، لدقّة الرامي ، وهذا علم ، والقنبلة تُسَيَّر من قبل الطيّار على شاشة أمامه ، هؤلاء الذين اخترعوا هذه الأسلحة الفتاكة الأسلحة الجرثومية ، والكيميائية ، هؤلاء الذين اخترعوا القنابل ذات التدمير الشامل أهم جهلاء ؟ لا والله ، إنهم أذكياء ، هذا الذي أمر بإلقاء قنبلة على هيروشيما فأفنت ثمانمائة ألف في ثلاث ثوانٍ أهو إنسان غبيّ ؟ لا واللهِ ، ذكي ، فهل للذكاء حينئذٍ قيمة مطلقة ؟ لا والله ، قيمة متعلقة بتوظيفه ، فإذا وظفت الذكاء في معرفة الله ، وفي الدعوة إليه ، وفي العمل الصالح فهذا الذكاء نعمة من الله ، أما إذا وظفته في شيء آخر فهو نقمة ، ولحكمة أرادها الله لا ندري أبعادَها أكثرُ الحيوانات التي تشمئزون منها ، والتي إذا ذكر اسمُها ، أو رآها الإنسان يكاد يخرج من جلده ، هذه الحيوانات تتمتع بأعلى قدر من الذكاء من بين الحيوانات ، ومع ذلك لا يحمَّل الإنسان رؤيتها ، لماذا فعل الله ذلك ؟ لبيان أنّ الذكاء وحده لا يكفي ، قال الشاعر :
***
جمال الوجه مع قبح النفوس كقنديل على قبر المجوسِ
***
ذكاء على معصية أعوذ بالله ، لذلك كلّ المجرمين في العالم الغربي يتمتعون بأعلى درجة من الذكاء ، ويستخدمون الذكاء لسلب أموال الناس ، ولقتلهم ، وابتزاز ما عندهم ، لذلك إذا آتى اللَّهُ عبدًا ذكاء فلا ينبغي أن يعدّه نعمة ، إلا إذا وظفه في الحق ، أما إذا وظّفه في الباطل فهو نقمة ما بعدها نقمة ، ويزداد وقوعًا في النار بسبب ذكائه ، قال تعالى :
(سورة المدثر )
كان صفوان ذكيًّا ، ووجدها فرصة لا تعوض ، ومناسبة لا تفوت ، فقال له : يا عمير اجعل دَيْنَك كلَّه عليَّ ، بالغاً ما بلغ ، فأنا أقضيه عنك ، هذه أول مشكلة حللناها ، وسأضمُّ عيالك إلى عيالي ما امتدت بي الحياة ، أولادك أولادي ، وإنّ في مالي من الكثرة ما يسعهم جميعاً ، ويكفل لهم العيش الرغيد ، ثم قال لعمير : فامضِ لما أردتَ ، وأنا معك ، اذهب واقتله ، وأرِحْنا منه ، عيالك عيالي ، عندي مال كثير ، وديونك عليَّ ، بلغت ما بلغت ، ماذا تنتظر ؟ فقال عمير: إذاً اكتمْ حديثنا هذا ، ولا تطلع عليه أحداً ؛ قال صفوان : لك ذلك ؛ إنّه حديث تمَّ بين اثنين ، ولا يعلم أحد فحواه ؛ إذا أرادوا أن يعقدوا اجتماعًا ، ولا يتسرب خبرُه أبداً يقعدون في الصحراء تحت خيمة ؛ فالمفروض أنّ هذا الاجتماع لا يتسرب منه شيء أبداً ؛ قام عمير من المسجد ، ونيران الحقد تتأجّج في فؤاده على محمد صلى الله عليه وسلم ، وطفِق يعُدُّ العدة لإنفاذ ما عزم عليه ، فما كان يخشى ارتيابَ أحد في سفره فابنُه أسيرٌ لدى المسلمين بالمدينة ؛ وهو ذاهب ليفكَّ أسْرَه ، أَمَرَ عميرُ بن وهب بسيفه فشحذ ، و سقي سمًّا ، ودعا براحلته فأعدت ، وقدمت له فامتطى متنها ، ويمّم وجهه شطر المدينة و ملء ردائه الضغينةُ والشرُّ .
بلغ عمير المدينة ، ومضى نحو المسجد يريد النبي عليه الصلاة والسلام ، فلما غدا قريباً من بابه أناخ راحلته ، ونزل عنها ؛ وبدأت العقدة ؛ وصل عمير إلى المدينة ليفُكَّ أسر ابنه ، فالأمر مُغطًّى بحُجة واضحة .
كان سيدنا عمر بن الخطاب عملاقُ الإسلام ، وأحد أركان هذا الدين جالساً مع بعض الصحابة قريباً من باب المسجد ، يتذاكرون بدراً ، وما خلفته وراءها من أسرى قريش وقتلاهم، و يستعيدون صور البطولة التي قدّمها المسلمون من المهاجرين والأنصار ، ويذكرون ما أكرمهم الله به من النصر ، وما أراهم في عدوهم من النكاية والخذلان ؛ فحانت منه الْتِفاتَةٌ فرأى عمير بن وهب ألدَّ أعداء رسول الله ينزل عن راحلته ، ويمضي نحو المسجد متوشحاً سيفه ، فَهَبَّ عمر مذعوراً ، وقال : هذا الكلب عدو الله عمير بن وهب ؛ واللهِ ما جاء إلا لشر فعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اتَّقُوا فِرَاسَةَ الْمُؤْمِنِ فَإِنَّهُ يَنْظُرُ بِنُورِ اللَّهِ ثُمَّ قَرَأَ ( إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ ) *
(رواه الترمذي)
إنّ المؤمنَ مسدَّدٌ رشيد ، ولقد أَلَّبَ المشركين علينا في مكة ، وكان عينًا علينا قبيل بدر ، ثم قال لجلسائه : امضوا إلى النبي عليه الصلاة والسلام ، وكونوا حوله ، واحذروا أن يغدر به هذا الخبيث الماكر .
وفي رواية أخرى أنه انطلق إليه ، وقال له : ما الذي جاء بك إلينا ؟ ولِمَ هذا السيف على عاتقك ، ثم قيّده في حمالته ، وساقه إلى النبي عليه الصلاة والسلام ، دخل سيدنا عمر وعمير بن وهب على سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام ، وقال عمر : يا رسول الله هذا عدو الله عمير بن وهب ، قد جاء متوشحاً سيفه ، وما أظنه إلا يريد شراً ، فقال عليه الصلاة والسلام : أدخِلْه عليّ، فأقبل الفاروق على عمير ، وأخذ بتلابيبه ، وطوّق عنقه بحمّالة سيفه ، ومضى به نحو النبي عليه الصلاة والسلام ، والنبي رقيق ، نور يشعّ ، إنه نفس إنسانية تفيض رحمة ، والإنسان يمتحن ، فأن ترحم مَن تحب هذا أمرٌ طبيعي جداً ، وأهل الدنيا الكفار يرحمون مَن حولهم ، مَن يلوذ بهم ، ولكن عظمة الإيمان أن المؤمن يحب الناس جميعاً ، فيرحم أعداءه قبل خصومه ، فقال عليه الصلاة والسلام : يا عمر أطلقه ؛ وفكَّ عنه هذا القيد ، فأطْلَقه ؛ ثم قال : يا عمر استأخر عنه ؛ فتأخر عنه ؛ ثم توجّه النبي عليه الصلاة و السلام إلى عمير بن وهب ، وقال : ادنُ يا عمير ؛ فدنا ، وقال : أَنْعِمْ صباحاً يا محمد ؛ سلّم عليه ؛ وهذه تحية العرب في الجاهلية ؛ أَنْعِمْ صباحاً ؛ الآن نعلم أولادنا (باي باي) ؛ ما هذا ! قل : السلام عليكم ؛ الله معك يا ولدي ؛ فالمسلم يحيي بتحية الإسلام ؛ فقال عليه الصلاة و السلام : يا عمير لقد أكرمنا الله بتحية خير من تحيتك هذه ؛ لقد أكرمنا الله بالسلام ، وهي تحية أهل الجنة ؛ فقال عمير بفظاظة ما بعدها فظاظة وغلظة ما بعدها غلظة : واللهِ ما أنت ببعيد عن تحيتنا ، وإنك بها لحديث عهد .
أيها الإخوة قد تتحمل إنسانًا مؤمنًا ، وهناك شخص صدره واسع ؛ ونَفَسُه طويل ؛ حليم ؛ يتلقى فظاظة خصومه بصدر رحب ؛ ويمتصُّ مواقفهم الفجّة ؛ وهناك شخص لا يتحمل .
إذا أردت أن تكون داعية إلى الله عز وجل فلا بد من حلم كثير ؛ ولا بد من سعة صدر ؛ ولا بد من تجاوز ؛ ولا بد أن تكون في أعلى مستويات الرحمة والحب.
فقال يا عمير : ما الذي جاء بك إلينا ؟ فقال : جئت أرجو فكاكَ هذا الأسير الذي في أيديكم؛ قال النبي - انظر إلى الذكاء - : فما بالُ هذا السيف الذي في عنقك ؛ أنت قادم لتفك الأسير ، لا بأس فهذا طلب منطقي ، لكن ما شأنُ السيف ؟ قال له : قبّحها الله من سيوف ؛ وهل أغنت عنا شيئاً يوم بدر ؛ إنّه يخادع ، وأن هذه السيوف لا تنفعنا ؛ قبحها الله من سيوف ، وهل أغنت عنا شيئاً يوم بدر ؛ قال : أَصْدِقْني يا عمير ؛ ما الذي جئت له يا عمير ؟ قال : ما جئتُ إلا لذلك ؛ قال له : يا عمير بل قعدتَ أنت وصفوان بن أمية عند الحِجر ، فتذاكرتما أصحابَ القليب من صرعى قريش ، ثم قلت لصفوان : لولا دَيْن علَيَّ وعيال عندي لخرجتُ حتى أقتل محمداً ؛ فتحمّل لك صفوان بن أمية دَيْنَك وعيالك ، على أن تقتلني ، أليس كذلك يا عمير ؟ هذه الآية التي أعطاها الله لعُمير ؛ فذهل عمير لحظة ، ثم ما لبث أن قال : أشهد أنك رسول الله ؛ انتهى الأمر.
إنّ الله عزوجل يُرِي الإنسان وهو في المعصية وهو في الضلال يريه آية من آياته ، فإنْ لم يستجب فقد ضيّع فرصة لا تتكرر ، فذهل عمير ، ثم ما لبث أن قال : أشهد إنك لرسول الله؛ ثم قال مرة ثانية : لقد كنا يا رسول الله نكذِّبك بما كنت تأتينا به من خبر السماء ، بعض الناس يكون محدودًا في نظرته ، فيقول لك : هذه سحبة فلا تصدق ، كلهم دجالون ؛ هؤلاء الكفار كلماتهم قاسية جداً ، لقد كنا نكذّبك بما كنت تأتينا به من خبر السماء ، وما ينزل عليك من الوحي ، لكن يا رسول الله خبري مع صفوان بن أمية لم يعلم به أحد إلا أنا و هو ؛ فهذا الخبر بالذات ما علمه أحد في الأرض ، وتنبئُني أنت به ، إذاً فأنت رسول الله ، وهذه آية وبرهان ؛ وواللهِ لقد أيقنتُ يا رسول الله أنه ما أتاك به إلا الله ؛ الآن أنت رسول الله حقًّ وصدقًا ، فالحمد لله الذي ساقني إليك يا رسول الله سوقاً ؛ وفي الحديث عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ عَجِبَ اللَّهُ مِنْ قَوْمٍ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ فِي السَّلَاسِلِ *
(رواه البخاري)
وفي رواية أبي داود وأحمد : عَجِبَ رَبُّنَا عَزَّ وَجَلَّ مِنْ قَوْمٍ يُقَادُونَ إِلَى الْجَنَّةِ فِي السَّلَاسِلِ *
أحب رجل أن يتحدث معي من مدة ، وقال : أنت تدرِّس من عشرين سنة ، فماذا تدرِّس ؟ قلت له : واللهِ أنا دروسي تتلخّص في كلمتين خلاصتهما : إمّا أنْ تأتيَ ركضًا ، وإمّا أنْ آتي بك ركضًا موجودًا ، فاختر واحدة ؛ إمّا أنْ تأتي إلى الله عز وجل راكضاً ، وإمّا أنْ يعالجك الله معالجة تركض بها إليه ركضاً ، والأُولَى أشرف ؛ الأشرف أنْ تأتيه طائعاً ؛ وأن تأتيه قانعاً ؛ وأن تأتيه محباً ؛ وأن تأتيه مريداً .
فقال عمير : الحمد لله الذي ساقني إليك سوقاً ، ليهديني إلى الإسلام ، ثم وقف و قال : أشهد أن لا إله إلا الله ، وأن محمداً رسول الله ، وأعلن إسلامه ؛ لم يعد هناك شيء ؛ هنا العظمة ؛ فقال عليه الصلاة والسلام : فقِّهوا أخاكم ؛ ألم يقل سيدنا عمر : هذا كلب ، عدو الله ؛ فقال النبي عليه الصلاة والسلام : فقهوا أخاكم ؛ صار الآن أخاكم ؛ ليس هناك عداوة دائمة أبداً في الإسلام، أنت تعادي سلوكه ؛ وتعادي كفره ؛ وتعادي فسقه ؛ وتعادي فجوره ؛ فإذا عاد إليك فهو أخوك حقاً ، وانتهى الأمر ، قال : فقِّهوا أخاكم ، وعلِّموه القرآن ، وأطلقوا أسيره ، إكراماً له ؛ وفرح المسلمون بإسلام عمير بن وهب أشدّ الفرح ، حتى إن عمر بن الخطاب - يا لطيف - قال : واللهِ لَلْخنزير كان أحبَّ إلي من عمير بن وهب حين قدم على رسول الله ، وهو اليوم واللهِ أحبُّ إليَّ من بعض أبنائي ، فهذا هو الدين ؛ لمجرد أن يؤمن المرء ؛ لمجرد أن يصطلح مع الله ؛ لمجرد أن يتوب إلى الله ؛ لمجرد أن يعود إلى الطريق الصحيح ؛ فهو أخوك حقاً ، كروحك تقدم له كل ممكن ؛ وما لم تكن هذه المودة ، وهذه المحبة ، وهذا التناصح ، وهذا البذل، وذاك العطاء بين المؤمنين فواللهِ لا خير فينا ؛ ولا ينظر الله إلينا ؛ وواللهِ ما من وقت مَرَّ على المسلمين في تاريخهم هم في أَمَسِّ الحاجة إلى أن يتعاونوا ، ويتكاتفوا ويعذر بعضهم بعضا ، ويسامح بعضهم بعضاً ، ويعين بعضهم بعضاً ، وما مِن وقت مرَّ على المسلمين في تاريخهم كهذا الوقت الذي هم في أمسِّ الحاجة إلى التعاون ، وما من وقت مرّ على المسلمين في تاريخهم أصعب من هذا الوقت ، حيثُ أعداؤهم يهجمون عليهم هجمة شرسة وحشية في كل أنحاء العالم، والأخبار بين أيديكم ، وقد قال الله عز وجل :
(سورة المائدة )
الحقيقة المؤشر الصحيح للمؤمنين أنه يجب أنْ يكونوا كالصف الواحد ؛ كالبنيان المرصوص يشدّ بعضه بعضاً ؛ كالجسد الواحد إن اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى ، فعَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الْجَسَدِ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى *
(متفق عليه)
وسوف أعطيك مقياسًا واضحًا أيها الأخ الكريم ؛ لك أخ مؤمن ألَمَّتْ به ملمّة ، فهل تتألم ؟ إن تألمت وربِّ الكعبة إنك لمؤمن ، وإن لم تتألم فقد وضعتَ نفسك شئت أم أبيْتَ في صفّ المنافقين ، قال عزوجل :
(سورة آل عمران )
لمجرد أن تفرح بملمّة ألمّت بمؤمن ؛ بنازلة نزلت به ؛ بمصيبة حلّت به ؛ لمجرد أن تفرح فلست مؤمناً ، لقد وضعت بذلك نفسَك مع المنافقين ، أمّا إذا رأيت أخاك المؤمن قد أكرمه الله بشيء من الدنيا ؛ بمرتبة ؛ بوظيفة ؛ بزواج ؛ ببيت ؛ بدعوة ؛ ففرحت به ، واغتبطت له ، وأعنته فأنت مؤمن وربّ الكعبة ، أمَّا إذا حسدتَه ، وأردتَ أن تبحث عن عيوبه ، وأردتَ أن تطعن فيه ، وأردتَ أن تُزَهِّد الناس فيه لحسد يغلي في قلبك فأنت واللهِ مع المنافقين ، والدليل قول الخبير العليم :
(سورة آل عمران )
المنافق يتألم أشد الألم إذا أصاب المؤمنَ خيرٌ .
صار عميرٌ يزكِّي نفسَه بتعاليم الإسلام ، ويشرق فؤاده بنور القرآن ، ويحيا أروع أيام حياته وأغناه .
والله أيها الإخوة ، إنّ أحدكم بعد ما تاب إلى الله ، واصطلح معه ، وسار على طريق الإيمان، إذا لم يقل : أنا أسعد إنسان في الأرض يكون في توبته خلل ، لأن ربنا عز وجل يكرم التائب بسعادة لا توصف ؛ براحة لا سبيل إلى وصفها ، ويشعر المؤمن التائب أنه ملك ؛ وأنه أسعد الناس .
ذات مرة قال لي أخ كلمة ، وكان في الحج : واللهِ يا أستاذ ليس في الأرض مَن هو أسعد مني إلا أن يكون أتقى مني .
فأنت سعادتك بإيمانك ؛ سعادتك بطاعتك ؛ سعادتك بعملك الصالح ؛ سعادتك بإخوانك ؛ سعادتك بمجلس العلم ؛ سعادتك بمسجدك ؛ إذا كان لك هذا الانتماء فأنت مع المؤمنين ، أمّا الذي يتبع غير سبيل المؤمنين نُوَلِّهِ ما تولى ، أنت مع المجموع ؛ أنت عضو في جماعة ؛ أنت خلية في جسد ؛ أنت غصن في شجرة ، تتألم لألم إخوانك ، وتفرح لفرحهم ، تسخِّر إمكاناتك في خدمتهم ، أنت إذًا مؤمن ، وهكذا يكون الإيمان .
لماذا كان صفوان في أروع أيام حياته ؟ لأنه يتوقع بعد أيام أن يأتي الخبر المفرح بأن محمَّداً قد قتل ؛ كان صفوان صامتًا لا يتكلم ، لقد اتفق صفوان وعمير ألا يتكلما ، ولكن كان يقول : يا معشر قريش أبْشِروا بنبأ عظيم يأتيكم قريباً ، فسينسيكم وقعة بدر ، تمهلوا ؛ أخبار سارة جداً سوف تأتيكم عما قريب ، انتظروا هذه الأخبار ، سوف تنسيكم موقعة بدر ، ثم إنه لمَّا طال الانتظار على صفوان بن أمية قالوا : أين هذا الخبر السار ؟ فكان يخرج كل يوم إلى ظاهر مكة يسأل القوافل عن أخبار المدينة ، فلا يسمع شيئًا ، ولا يصله شيء ؛ ولمَّا طال الانتظار أخذ القلق يتسرب إلى نفسه شيئاً فشيئاً ، حتى غدا يتقلب على أحرّ من الجمر ، لقد كفل له أولاده ، وكفل له دَيْنَه ، فماذا ينتظر ؟ و طفق يسأل الركبان والقوافل عن عمير بن وهب ؛ فلا يجد عندهم جواباً يشفيه ، إلا أنه مرة جاءه راكب فقال : إنّ عميراً قد أسلم يا سيدي ؛ صاحبك أسلم؛ فنزل عليه الخبرُ نزولَ الصاعقة ، إذْ كان يظن أن عمير بن وهب لا يسلم ولو أسلم جميعُ مَن في الأرض ؛ لكنَّ الآية الباهرة التي جاءته من الله ، والتي أكدّت له صدق النبي ، وأنه رسول استفاد منها ، فإذا أرَى الله عز وجل عبدًا آية فلا يركب رأسه .
أما عمير بن وهب فإنه ما كاد يتفقه في دينه ، ويحفظ ما تيسّر له من كلام ربه ، حتى جاء إلى النبي عليه الصلاة والسلام ، وقال : يا رسول الله لقد غبَرَ عليّ زمان ، أي مضى علي زمان، وأنا دائب على إطفاء نور الله ؛ شديد الأذى لمَن كان على دين الإسلام ؛ وأنا أحب أنْ تأذن لي أن أقدم على مكة لأدعو قريشاً إلى الله ورسوله فأُكفِّر عما سبق مني ؛ فرجع إلى مكة داعية ؛ لقد خرج منها قاتلاً ، فعاد داعية ، وهذه أنوار النبي صلى الله عليه وسلم ؛ هذه عظمة الرسالة ؛ وهذه عظمة النبوة ؛ لذلك على الإنسان ألاّ يعد حياته التي عاشها قبل أن يسلم ، والوقت الذي أمضاه قبل أن يتعرف إلى الله عز وجل ، لا يعدّ هذا الوقت من حياته .
ذهب رجل إلى قرية ، وزار مقبرتها ، فلفت نظره شيء عجيب على الشواهد ، هذا عاش ثلاث سنوات ، وقد يكون طفلاً ؛ و هذا أربع ؛ وهذا خمس ؛ وهذا ثماني سنوات ؛ غير معقول، مقبرة بأكملها كلهم صغار ، فسأل ، فقيل له : هؤلاء أهل القرية لا يعدُّون من حياتهم السنوات التي سبقت إيمانهم ، فالواحد منا متى تعرَّف إلى الله ؟ في العشرين ، والآن عمره أربعون سنة؛ كم مضى مِن عمرك يا أخي ؟ أنا مضى مِن عمري أربعون سنة ؛ لا عشرون ؛ الباقي لا دخل لها ، الباقي كنتُ لا أعرف عن ديني خلاله شيئًا ، فعمر الإنسان الحقيقي هو العمر الذي تعرّف إلى الله فيه .
قال له : هل تأذن لي بأن أقدم على مكة لأدعو قريشاً إلى الله و رسوله ، فإنْ قبلوا مني فنعمَّا ما فعلوا ، وإنْ أعرضوا عنّي آذيتهم في دينهم ، كما كنتُ أوذي أصحاب رسول الله ؛ لقد كنتُ أوذي كل مَن أسلم ، والآن سأوذي كل مَن لم يسلم ، كم درجة ؟ مائة وثمانون .
أَذِنَ النبي عليه الصلاة و السلام لعمير ، فوافى مكة ، وأول بيت طرقه بيتُ شريكه بيت صفوان بن أمية ؛ فدهش صفوان ؛ قال : يا صفوان إنك لسيد من سادات مكة ، وعاقل من عقلاء قريش ، أفَتَرَى أن هذا الذي أنتم عليه من عبادة الأصنام ، و الذبح لها ، أيصح في العقل أن يكون ديناً ؟ أين عقلك ؟ هل هذا دين ؟! حجر تنحتونه أنتم ، وتعبدونه ، و تقدمون له الهدي! فليس هذا معقولاً ، لقد صار عمير عاقلاً ، انظر فالإسلام يفتح الذهن ؛ وينوِّر النفس ؛ ويوقظ الفكر ؛ قال له : يا صفوان إنك لسيد من سادات مكة ، وعاقل من عقلاء قريش ، أفترى أن هذا الذي أنتم عليه من عبادة الأحجار ، والذبح لها هل يصح في العقل أن يكون ديناً ، أمّا أنا فأشهد أن لا إله إلا الله ، وأن محمداً رسول الله ، فالجماعة رحمة ، وإذا كان الإنسان مع الجماعة ، ويجد فلانًا و فلانًا و فلانًا ، وصديقه ، وجاره ، كلهم يصلون ، وعابدون الله عز وجل ؛ ويحضرون مجالس العلم ؛ ويتفقهون ، حينئذٍ يأنس بهم ، أمّا إذا انزوى الإنسانُ وحده ، انفرد به الشيطان ، فعَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ خَطَبَنَا عُمَرُ بِالْجَابِيَةِ فَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي قُمْتُ فِيكُمْ كَمَقَامِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِينَا فَقَالَ أُوصِيكُمْ بِأَصْحَابِي ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ يَفْشُو الْكَذِبُ حَتَّى يَحْلِفَ الرَّجُلُ وَلَا يُسْتَحْلَفُ وَيَشْهَدَ الشَّاهِدُ وَلَا يُسْتَشْهَدُ أَلَا لَا يَخْلُوَنَّ رَجُلٌ بِامْرَأَةٍ إِلَّا كَانَ ثَالِثَهُمَا الشَّيْطَانُ عَلَيْكُمْ بِالْجَمَاعَةِ وَإِيَّاكُمْ وَالْفُرْقَةَ فَإِنَّ الشَّيْطَانَ مَعَ الْوَاحِدِ وَهُوَ مِنَ الِاثْنَيْنِ أَبْعَدُ مَنْ أَرَادَ بُحْبُوحَةَ الْجَنَّةِ فَلْيَلْزَمِ الْجَمَاعَةَ مَنْ سَرَّتْهُ حَسَنَتُهُ وَسَاءَتْهُ سَيِّئَتُهُ فَذَلِكُمُ الْمُؤْمِنُ *
(رواه الترمذي)
عَنْ مَعْدَانَ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ الْيَعْمُرِيِّ قَالَ قَالَ لِي أَبُو الدَّرْدَاءِ أَيْنَ مَسْكَنُكَ قُلْتُ فِي قَرْيَةٍ دُوَيْنَ حِمْصَ فَقَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ مَا مِنْ ثَلَاثَةٍ فِي قَرْيَةٍ وَلَا بَدْوٍ لَا تُقَامُ فِيهِمُ الصَّلَاةُ إِلَّا قَدِ اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ ، فَعَلَيْكُمْ بِالْجَمَاعَةِ ، فَإِنَّمَا يَأْكُلُ الذِّئْبُ الْقَاصِيَةَ ، قَالَ السَّائِبُ : يَعْنِي بِالْجَمَاعَةِ الْجَمَاعَةَ فِي الصَّلَاةِ *
(أبوداود والنسائي وأحمد)
فالذي يعيش وحده تأتيه الوساوس ؛ ويفتي لنفسه ؛ ويتكاسل في أداء عباداته ؛ ويستبيح بعض المحرمات ، يقول لك : لا شيء بها ، أنت ترى أن ليس فيها شيء ، فمَن أنت ؟ قرأت مرة بيت شعر :
***
يقولون هذا عندنا غير جائز فمن أنتم حتى يكون لكم عند
***
ما هذه (عندنا) ؟ ومن أنت ؟ وشرع مَن هذا ؟ الشرع كلام الله وسنة رسوله ، هل أنت مصدر تشريعي ؟ أنت عبد لله عز وجل ، قال تعالى:
(سورة الأحزاب )
لذلك كم مِن صديق هدَى صديقه بالمنطق ، تجد طالبين ؛ أحدهما التحق بمجلس علم ، واصطلح مع الله ، والثاني لم يفعل ، أقول لكم : ما هو الواجب على المهتدي؟ أنْ يهديَ أصدقاءه الذين عاشوا معه ، بالتعبير العامي : " أنا آكل أكلة طيبة اشتهيتك فيها" ، تعالَ واسمع ، كل أخ من إخواننا له جيران ، وله أصدقاء ، وله زملاء عمل ادْعُهم إلى بيتك ، فأنت تستفيد إذْ تصطلح مع الله ، وتُقبِل عليه ، وتسعد بقربه ، وتشعر أنك تطير في السماء ، ورفيقك الذي عشت معه ثلاثة عشر عامًا إنْ تركه في ضلالاته وبُعْده ومعاصيه فأنت لست مؤمناً ، فعليك أن تدعو إلى الله مَن يلوذ بك .
إن الله ليسأل العبد عن صحبة ساعة .
تآخَيا اثنين اثنين .
إذا هداك اللهُ ، وتعرفتَ إليه ، وسعدتَ بقربه ، انْظُر إلى مَن كان معك سابقاً ، وأقرب الناس إليك زوجتك ، أم أنك تمدحها على جودة طبخها ، ولكنها لا تصلي ، فهل هذا مؤمن ؟ يهمّك منها طبخها فحسْب ، أما المؤمن الصادق فأقرب الناس إليه زوجته ، وأولاده ، وأخواته البنات ، وأولاد عمه ، وأولاد خالته ، وجيرانه ، وزملاؤه ، فإذا اهتديت وسعدتَ فأسْعِدْهُم ، واجلسْ معهم جلسة ، واسهرْ معهم سهرة ، أعطِهم شريطًا ليسمعوه ، وهذا هو السعي الطيب ، الذي قال الله تعالى في حقِّه :
(سورة الإنسان )
سعيك في الدنيا .
إذا ذهبت إلى صديقك في طرف المدينة الآخر ، وركبتَ ، وانتقلتَ من حافلة إلى حافلة ، لكي تجلس معه جلسة ، فتحتاج إلى جهد ووقت ، لكن الله لا يضيعُ عنده شيء .
(سورة الإنسان )
أنت بصراحة حجمُك عند الله بحجم أعمالك الصالحة ، وأعظم الأعمال الصالحة أن تكون سبباً في هداية الخلق ، ضِمْن مَن تعرفهم ، رفيقك في الجامعة ، رفيقك في الثانوية ، أخوك في البيت ، ابن عمك ، أختك في البيت ، اجلس معها جلسة ، وأحضِرْ لها هدية ، وقل لها في رفق : يا أختي تحجبي ، وصَلِّي ، وتعرَّفي أسمِعْها شريطًا خاصًّا بالنساء ، هذا هو السعي المشكور ، أما أن تتبرّأ من مسؤوليتك نحوه هؤلاء ، وتهته بشؤونك دونهم ، فلا وجود لهذا في المسلم ، ييأس منهم ، ثم يقول : ربي يحاسبهم ، فهذا ليس مِن كلام المؤمن .
قال عمير لصفوان : أمّا أنا فأشهد أنه لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ، ثم طفق عمير يدعو إلى الله في مكة ، حتى أسلم على يديه خلقٌ كثير ، فأنت حينما تدعو إلى الله فقد أَحْيَيْتَ مَن هديتَه حياةَ نفسٍ غالية ، قال تعالى :
(سورة المائدة )
يصبح المؤمنُ أُمّةً ، هو وزوجته ، وجيرانه .
وذاتَ مرة أكرمني اللهُ بأخ زارني في البيت ، يطلب مني ألاّ أسمح لأولاده أنْ يحضروا دروس العلم ، هكذا طلب ، فظللتُ أقنعه حتى صار يأتي هو وأولاده وشركاؤه وصهره ، وما بقي أحد إلا وأحضره إلى المسجد بعد أن تألق .
أحيانًا قد تدفع سيارة لا يشتغل محرِّكها ، ثم تدفع ، وعندما يعمل المحرك لا تلحق بها ، تركض ولا تلحق بها ، وهكذا المؤمن ، تدفع وتدفع ، وبعد ذلك يقلع المحرك ، ويعمل ثم لا تلحق بها ، هذه بطولة المؤمن ، فإذًا تستطيع أن تصل إلى أعماقه ، وتخاطب عقله ، وتخاطب عاطفته.
وهناك رواية ثانية في كتاب آخر تذكر أنّ سيدنا عمير بن وهب جاء النبي بعد فتح مكة ، وصفوان كما تعلمون ممّن أَهْدَر النبيّ دمَهم ، اقتُلوهم ، ولو تعلّقوا بأستار الكعبة ، هو وعكرمة بن أبي جهل ونفر آخرون ، وعمير صديق حميم وفيٌّ ، ذهب إلى النبي ، وقال : يا نبي الله ، إنّ صفوان بن أمية سيد قومه ، وقد خرج هارباً منك ، ليقذف بنفسه في البحر لينتحر ، وهو خائف ، لأنه مهدور الدم ، مقتول ، فأمنْهُ يا رسول الله ، فقال : هو أَمِن ، كلمة واحدة ، فقال : أعطني آية يَعرف بها أمانك ، أريد علامة ، فأعطاه النبي عِمامته ، قال له : خذ عمامتي ، فقال عمير لصفوان : يا صفوان ، هذه عمامة النبي ، وقد أمّنك ، هذه عمامتي التي دخلتُ بها مكة ، خذها ، وأعطِها إياه ، ليطمئن إلى أنني أمّنته ، قال تعالى :
(سورة التوبة )
ذهب إلى صفوان وقد ولى هارباً شطر البحر لينتحر ، فقال له : إن رسول الله يا صفوان أفضل الناس ، هذا كلام عمير بن وهب ، قال له : إن رسول الله يا صفوان أفضل الناس ، وأَبَرّ الناس ، وأحلم الناس ، وخير الناس ، عزّه عزّك ، وشرفه شرفك ، فقال له : إني أخاف على نفسي أن يقتلني ، فقد هدر دمي ، قال له : هو أحلم من ذلك ، وأكرم ، فجاء صفوان النبيَّ الكريمَ، والشاهد العمامة ، والكلام صحيح ، فقال للنبي الكريم : إنّ هذا يزعم أنك قد أمّنتني ، فقال : صدق ، قال له : اجعلني بالخيار ، أن أستشير عقلي شهرين ، قال له : أنت في الخيار أربعة أشهر ، اللهم صلِّ عليه ، حليم ، وكريم ، ورحيم ، وحليم ، وعندما دخل رسول الله مكة قال أبو سفيان : يا ابن أخي ما أحلمك ، وما أكرمك ، وما أوصلك ، وما أحكمك .
هذا عمير بن وهب أراه الله عز جل أراه آية ، وقد اهتدى وهدى ، وكل واحد منا له نصيب يصيبه مما يُشْبِه هذه القصة ، وهذا الذي أصابه حُجّة عليه ، فعليه أن ينتبه ، فهو يتعامل مع الله عزوجل .
والحمد لله رب العالمين
***(/)
أيها الإخوة ؛ قبل أن أنطلق في الحديث عن حياته ومواقفه وعن بطولاته ومكانته الرفيعة التي أكرمه الله بها ، أريد أنْ أنقل إليكم شُعوراً انْتابني وأنا أُطالعُ سيرة هذا الصحابيِّ الجليل قبل قُدومي إليكم ؛ لَفَتَ نظري أنَّ هؤلاء الصحابة قاسَوا شدائد الحياة ؛ فطعامُهُم ولِباسُهم خَشِنٌ ، حياتهم كلُّها متاعب وغزوات وقِتال ودِفاع عن رسول الله صلى الله عليه وسلَّم ، وفي تَصَوُّري وأنا موقِنٌ بِهذا التصَوُّر أنهم كانوا أسعد الناس ، تشعر أنّ أحدهم يكادُ يمْتلئُ سعادةً وشُعوراً بأنه إنْسانٌ كريمٌ على الله ، وفجأةً قفَزَتْ إلى نفْسي صُورة إنسانٍ مُعاصِر عاش حياة الدَّعة والرخاء ، ويأكل أفضل الطعام ، ويسكُنُ في أفْخَرِ منزل ؛ تَكْييف وتدفئة مركزيَّة ، الغُرَفُ الواسِعة والتزْيينات ، كُلُّ شيءٍ جميل حوله ، وشَعَرت أنَّ مثل حياة الإنسان المُعاصِر الذي خلَتْ حياتُه من البُطولة ، ومن أيِّ تضْحِيَة ، ومن أيِّ إيثارٍ ، ومن حُبٍّ لله ورسوله ، ومن رِسالةٍ يحْمِلُها ، ودَعْوةٍ يدْعو إليها ، ومن عملٍ صالحٍ يُقَدِّمُه ، ومن قلْبٍ ينْبِضُ بِالرحمة ، إنْسانٌ خَلَتْ حياته من هذه المشاعر ، وتِلك المُهِمات المُقدَّسة ، وهذه الأهداف السامِيَّة ، مثل هذا الإنسان يشْعر بِتَفاهَتِهِ وهوانِهِ على الناس ، ولو عاش في أعلى درجات النعيم ، صحابِيٌّ جليل حياته كلُّها متاعب يقود جُيوشاً قِيادةً لا أرْوَع ولا أعظم منها ، يدْخُلُ عليه الخليفة عمر بن الخطاب فإذا غُرْفَتُه فيها قِدْر ماء ، وجِلْدٌ قد ذهب ريشُهُ ، ورَغيفُ خُبْزٍ قد غطى به قِدْر الماء ، وسَيْفٌ مُعَلَّقٌ على الحائِط ، سيِّدُنا عمر الزاهد المُتَقَشِّف فوجئ ؛ أهذه غُرْفَة أمين الأُمّة وقائد الجيش ؟! قال له : ما هذا يا أبا عُبيدة ؟! قال : هو للدنيا ، وهو على الدنيا كثير ، ألا يُبَلِّغُنا المقيل ، شَعَرْتُ بِأحاسيس أردْتُ أنْ أُعَبِّرَها لكم ، كلُّ الدنيا لو(1/2)
كانت بِيَد الإنسان – وتعْلمون ما معنى هذه الكلمة – الدنيا بِأموالها وبُيوتِها ومُتَنَزَّهاتِها وقُصورِها ومرْكَباتِها وطائِراتها ويُخوتِها ونِسائِها ؛ كُلُّ ما لذَّ وطاب ، لا تسْتطيعُ الدنيا بِأكْمَلِها أنْ تمْنح الإنسان سعادةً ، وهؤلاء الصحابة الذين عاشوا حياةً مملوءةً بالشَّقاء فيما يبْدو ؛ هِجْرةٌ اقتلعت الإنسانَ من جذوره ، لقد هاجَرَ أبو عبيدة إلى الحَبَشَة وإلى المدينة ، وشَهِد كلّ المشاهد ، وكان أكبر مُدافِعٍ عن رسول الله حتى إنه نزع حلَقَةً غُرِسَتْ في وَجْنة النبي عليه الصلاة والسلام بِأسْنانه ، فنزع الحلقة الأولى بِفَمِه فانْكسرت سِنُّهُ الأمامية ، ونزع الحلقة الثانِيَة بِفَمِه فانكسرت سِنُّهُ الأخرى فصار أهتمَ ، ومات بالطاعون ، وهو أمين هذه الأمة ، شَعَرْتُ أنَّ الله عز وجل إذا تجلى على قلب المؤمن بالرحمة أسْعَدَهُ سعادَةً لا توصَفُ ، لا تستطيعُ الدنيا بِأَكْملها إذا كانت بِيَد إنْسان أنْ تمْنحه هذه السعادة ، أقول هذا الكلام أيها الإخوة لكم ولِنَفْسي ، أبواب الجنَّة والبُطولة مُفَتَّحَةٌ وهم لا يزالون في الدنيا ، وأبواب الإقبال على الله مُفَتَّحَةٌ لهم في الدنيا ، فما هؤلاء الرجال ؟! واللهِ إنْ كانوا بشَرًا فَنَحْنُ لسْنا من بني البشر ، وإنْ كُنا بشَرٌ فهم فوق البشر ، هم مُلوك الدار الآخرة ، وما هذا الحُبّ الذي في جوانِحِهم ؟ وما هذا الشوْقُ الذي تنْبضُ بِه قُلوبهم ، كلما قرأتَ تاريخ هذا الصحابي مهما تعدَّدَت مرَّات القراءة تشْعُر أنَّك تَقِفُ أمام إنْسانٍ عظيم ، من أيِّ جامِعَةٍ تَخَرَّج ؟! هل يحْمِلُ دُكْتوراه ؟ كم كِتابًا قرأ ؟ فإذا اتَّصل الإنسانُ بالله أصْبح شيئاً آخر ، يُمْكن أنْ يُلْغى عنده مع الاتِّصال بالله كلُّ شيء ، أرجو الله جلّ جلاله أنْ يُمَكِّنَني من نقْل صورة صادِقَةٍ مُشْرِقَةٍ عن هذا الصحابيّ الجليل الذي هو أبو عُبَيْدة بن الجراح .(1/3)
قالوا في صفته : كان وضيء الوجه ، بَهِيَّ الطلْعَة ، نحيل الجِسْم ، طويل القامة ، خفيف العارِضَيْن ، ترْتاحُ العَيْنُ لِمَرْآه ، وتأنَسُ النفْسُ بِلُقْياه ، ويطْمَئِنّ الفؤاد إليه ، وكان رقيق الحاشِيَة جمَّ التواضع ، شديد الحياء لكنه ، كان إذا حزب الأمر ، وجدَّ الجِدّ يغْدو كاللّيْث يعْدو ، لا يلْوي على شيء ، رِقَّةٌ ما بعدها رِقَّة ، وبهاءٌ ما بعده بهاء ، إشْراقُ وجْهٍ ما بعده إشْراق ، فإذا جدّ الجِدّ فَهُو كالليْث .
قالوا : كان يُشْبِهُ نصْل السيْف ، رَوْنَقاً وبهاءً ، ويحْكيهِ حِدَّةً ومضاءً ، إنه أبو عُبَيْدة بن الجراح .
سيّدنا عبد الله بن عمر وَصَفهُ فقال : ثلاثة من قريش أصبح الناس وُجوهاً ، وأحْسنها أخلاقاً ، وأثْبَتُها حياءً ، إنْ حَدَّثوك لم يكْذِبوك ، وإنْ حَدَّثْتهم لم يُكَذِّبوك ؛ إنهم أبو بكرٍ الصديق ، وعثمان بن عفان ، وأبو عُبَيْدة ابن الجَراح ، وهكذا وصف النبي المؤمن فقال : من عامل الناس فلم يظْلمهم ، وحَدَّثَهُم فلم يكْذِبْهم ، ووعَدَهُم فلم يخْلِفْهُم ، فَهُوَ ممن كَمُلَتْ مُروءته ، وظهرَتْ عدالته ، ووجَبَتْ أُخُوَّتُه ، وحرُمَت غيْبته .
كان من السابقين السابقين ، أسلم في اليوم الثاني لإسلام أبي بكرٍ رضي الله عنه ، وسيّدنا الصديق أوَّل من أسْلم من الرِّجال ؛ في اليوم الثاني من إسْلام أبي بكرٍ ، وكان إسْلامه على يدي أبي بكرٍ ، فإذا أكْرم اللهُ أحدَكم بِهِداية إنسانٍ على يده - إنسان بِمَعنى الكلمة صادق ومُخْلص - فأنت من أسعد الناس .
أيها الإخوة الأكارم ، أحبّ دائِماً أنْ أُذَكِّركم بِقَوْل النبي عليه الصلاة والسلام: يا علي لأنْ يهدي الله بك رجُلاً خير لك من حُمر النّعَم"
[ رواه أبو داود ](1/4)
خير لك من الدنيا وما فيها ، وخير لك مما طلعت عليه الشمس ، فالإنسان آن له أن ينْتقل من طور التلقي إلى طَوْر الإلقاء ، ومن طَوْر الأخذ إلى طَوْر العطاء ، ومن طَوْر الاهتداء إلى طَوْر الهِداية ، آن له أنْ يرفعه الله عز وجل بِحَسَب عمله الطَيِّب ، فهذا سيِّدُنا الصديق أجْرى الله على يده هِداية عُظماء المسلمين ، وسيِّدنا أبو عبيدة قد أسلمَ على يد سيّدنا الصديق ، ولعلّ العشرة المُبَشّرين بالجنة أسلموا كلُّهم على يد سيّدنا الصديق .
كان إسلامه على يد سيّدنا الصديق فَمَضى به وبِعَبْد الرحمن بن عَوْف وبِعُثمان بن مظعون وبِالأرقم بن أبي الأرقم إلى النبي صلى الله عليه وسلّم ، فأعْلنوا على يدَيْه كلمة الحق ، وكانوا القواعد الأولى التي أُقيم عليها صَرْحُ هذا الدِّين .
أبو عُبَيدة بن الجراح قال بعض المُفَسِّرين : إنّ قوله تعالى :
[ المجادلة : الآية 22 ](1/5)
قال العلماء : قدِمَ وفْد نصارى نجْران على النبي عليه الصلاة والسلام - اُنْظر إلى ما كان يشْغل أصْحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، وانظر الآن إلى مُجتمع اليوم ما يشْغله ؛ يتنافَسون على الدنيا وزينتها وتِجارتها وأموالها ونِسائِها - فقالوا : يا أبا القاسم ، اِبْعَث معنا رجلاً من أصْحابك تَرْضاهُ لنا لِيَحْكُم بيْننا في أشْياء من أموالنا اخْتَلَفْنا فيها ، فإنكم عندنا معْشَر المُسْلمين مرْضِيون ، هنا يطالعنا العجبُ حقًّا ؛ فأنت كَمُؤمن مَوْثوق حتى من قِبَل خُصومك ، موثوق في أمانتك ، وعِفَّتِك ، وصِدْقِك ، وحِكْمَتِك ، حتى من قِبَل خُصومك ، هذه علامة الإيمان ، علامة الإيمان أنَّ المؤمن شَخْصِيَةٌ فذَّة ، شَخْصِيَةٌ يرْتاح لها الإنسان ولو كان عَدُواً ؛ فقالوا : يا أبا القاسم ، اِبْعَث معنا رجلاً من أصْحابك تَرْضاهُ لنا لِيَحْكُم بيْننا في أشْياء من أموالنا اخْتَلَفْنا فيها ، فإنكم عندنا معْشَر المُسْلمين مرْضِيون ، كلكم يذكر حديثَ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : الْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ وَالْمُؤْمِنُ مَنْ أَمِنَهُ النَّاسُ عَلَى دِمَائِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ
[ رواه الترمذي ](1/6)
فَرْقٌ كبير بين أن يسْلم الناس منك ، وبين أن يأْمنوك ، فلو سَكَنْتَ في بيْتٍ ولك جيران ، ومضى على سكناك في هذا البيت عشرُ سنواتٍ ، ولم يتضجَّر ، ولم يشْكُ منك أحدٌ من الجيران ؛ إذاً سَلِم الجيران منك ، لكنهم لم يطْمئِنوا إليك ، وفَرْقٌ كبير بين أن يسْلم الناس منك ، وبين أن يأْمنوك ، فالسلامة عدم حُدوث المكْروه ، لكنَّ الطمأنينة والأمن عدم تَوَقُّع ما يُكْره ، فالمُسلم يسْلم الناس من لِسانه ويَدِه ، لكنَّ المؤمن أرْقى من ذلك ، يأمنه الناس على أمْوالهم وأعْراضِهم ، المُسلم لا يُؤذي جيرانه ولا يؤذي َمن دونه ، ولا من فوقه ، لكنَّ المؤمن لا يتوَقَّعُ أحدٌ ممن حوله أنْ يأتيَ الأذى منه ، فثَمَّة فَرْقٌ كبير بين ألاّ تؤذي ، وبينْ ألاّ يتوقَّعَ الناسُ منك شيئاً من الأذى ؛ فالحديث فيه دِقَّة ، إذْ إنَّ مرتبة الإسلام أنْ يَسلم الناسُ من لِسانك ويَدِك ، أما مرتبة الإيمان هي أنْ يأمنك الناس على أمْوالهم ودِمائِهم وأعْراضِهم ، لا يُمْكن لإنسانٍ يُعامِلُ مؤمناً أنْ يخاف منه ، ولا أنْ يتوَجَّس منه خيفَةً ، وحتى أنْ يقول : لعلَّهُ يؤذيني ، فهذه صِفات المؤمنين ، خُصوم المؤمنين من أهل الكتاب جاؤوا النبيَّ عليه الصلاة والسلام طالِبين منه أنْ يبْعث إليهم أحد أصْحابه لِيَحْكُم بينهم في خِلافاتٍ مالِيَّة ، ماذا قال عليه الصلاة والسلام ؟! قال : ائتوني العَشِيَّة أبْعَثْ معكم القَوِيَّ الأمين ، يقول سيِّدُنا عمر : فَرُحْتُ إلى صلاة الظهر مُبَكِّراً ، لعلَّني أنا القويُّ الأمين ، وإني ما أحْبَبْتُ الإمارة حُبي إياها يومئِذٍ ، فسيِّدُنا عمر تاقَتْ نفْسه للإمارة ، إذ النبي الكريم يقول : ائتوني العَشِيَّة أبْعَثُ معكم القَوِيَّ الأمين ، قال عمر : فَرُحْتُ إلى صلاة الظهر مُبَكِّراً ، لعلَّني أنا القويُّ الأمين ، وإني ما أحْبَبْتُ الإمارة حُبي إياها يومئِذٍ ، فلما صلى بنا النبي عليه الصلاة والسلام جعل(1/7)
ينْظر عن يمينه وعن شِماله ، فَجَعَلْتُ أتطاول لعلَّهُ يخْتارُني ، ولعلَّني أنا القوِيُّ الأمين - الناس الآن يبْحثون عن مكانة علِيَّة عند أهل الدنيا لا عند المؤمنين ؛ على المنصب والمرتبة والوظيفة ، أما سيّدنا عمر فيبحث عن مرتبة عَلِيَّةٍ عند رسول الله صلى الله عليه وسلّم - فلم يزَل يُقَلِّبُ بصره فينا حتى رأى أبا عُبَيْدة بن الجراح فقال : اُخْرُج معهم ، فاقْضِ بينهم بالحق فيما اخْتَلفوا فيه ، فقُلْتُ : والله ذهب بها أبو عُبَيْدة .
في إحدى المرات بشَّر صلى الله عليه وسلَّم أصْحابه بالجنَّة فَسَأله صحابيٌّ فقال : وأنا فقال: سَبَقَكَ بها عُكاشَة ، وهذا من مُنْتهى الذكاء ، والأنبياء أصْحاب فِطنة وذكاء ، فَهُو صلى الله عليه وسلَّم ما أخَافَهُ ، وما كذب عليه ، وما أهْمله ، إنما قال له : سَبَقَكَ بها عُكاشَة .
سيِّدنا أبو عُبيدة بن الجراح بعثه النبي عليه الصلاة والسلام في جَمْعٍ من أصْحابه لِيَتَلَقَوا عيراً لِقُرَيْش ، وأمَّره عليهم ، وزوَّدَهُم جِراباً من تمْرٍ ، ولم يَجِد لهم غيره ، فكانَ أبو عُبَيْدة يُعْطي الرجل من أصْحابه كلَّ يومٍ تمْرة ، فَيَمُصُّها الواحد منهم كما يمُصُّ الصَبِيُّ ضَرْعَ أُمِّه طوال النهار ، ثمّ يشْرب عليها ماءً ، فكانت تكْفيه إلى الليل ، هذا هو الطعام الخَشِن ، طوال النهار تَمْرة ، أما الآن يقول لك : أين الشاي الأخضر ؟ وأين المُقَبِّلات والحِساء الساخن والفواكه؟ أنواعٌ مُنَوَّعة ، أنا الذي لفتَ نظري أنَّ كلّ هذه الحياة الصعبة والشاقة وهذا الجِهاد ، وهذه الهِجْرة والمُكابدة والتضْحِيَة ، وهذا الحرّ والقرّ جعلهم أسعد الناس ، وكلُّ النعيم الذي نحْياه ، وكُلُّ الرفاه وكلُّ هذه المواد التي بين أيْدينا من دون معْرفةٍ بالله هي عَيْنُ الشَّقاء ، لِذلك اُطْلُبوا العِزَّة عند الله .(1/8)
ويوم أُحُدٍ حينما هُزِم المسلمون ، وطَفِق صائح المُشْركين يُنادي : دُلوني على محمد ، كان أبو عُبَيْدة بن الجراح أحد النفر العَشَرة الذين أحاطوا بالنبي عليه الصلاة والسلام ليذودوا عنه بِصُدورِهم رِماح المُشْرِكين ، فلما انْتَهَت المعْركة كان النبي عليه الصلاة والسلام قد كُسِرَت رُباعِيَّتُه ، وشُجَّ جبينه ، وغارَتْ في وَجْنَتِه حلْقتان من حلق دِرْعِه ، فأقْبَلَ عليه الصديق - هناك نصٌّ آخر يقول عليه الصلاة والسلام وقد حصل له ما حصل : كيفَ يفْلحُ قومٌ خضَّبوا وجه نبِيِّهم وهو يدْعوهم إلى ربِّهم !" - قُلْتُ لكم إنَّ هناك مِن المصائِب ما يكْشف اللهُ بها حقيقةَ هذا الإنسان العظيم ، عندما أقْبل عليه الصِّديق يريد انْتَزاعهما من وَجْنَتَيْه صلى الله عليه وسلم ، فقال له أبو عُبَيْدة : أُقسم عليك أنْ تترك ذلك لي ، فَتَرَكَهُ ، فَخَشِيَ أبو عُبَيْدة إنْ اِقتَلَعَهُما بِيَدِه أنْ يُؤذِيَ رسول الله صلى الله عليه وسلَّم ، فَعَضَّ على أولاهما بِثَنِيَّتَيْه عضاً قوِياً مُحْكماً فاسْتَخْرَجَها ، ووقَعَتْ ثَنِيَّتُهُ ، ثمَّ عضَّ على الأخرى بِثَنِيَّتِهِ الثانِيَة فاقْتَلَعَها ، فَسَقَطَتْ ثَنِيَّتُهُ الثانِيَة ، قال أبو بكرٍ : فكان أبو عٌبَيْدة من أحْسن الناس هتْماً - الأهْتَم الذي كُسِرَت أسْنانه الأماميَّة - لقد كان في قلوبهم حبٌّ لرسول الله صلى الله عليه وسلَّم ، حينما قال أبو سُفْيان : ما رأيْتُ أحداً يُحِبُّ أحداً كَحُبِّ أصْحابِ محمدٍ محمَّداً " ففعلُ أبي عبيدة هذا مصداق قول أبي سفيان .(1/9)
شَهِد أبو عُبَيْدة بن الجراح المشاهدَ كلَّها ، وما تخَلَّف عن النبي إطْلاقاً ، قال : ولما كان يومُ السَّقيفة قال عمر بن الخطاب لأبي عُبَيْدة : اُبْسُط يدَكَ أُبايِعُك ، قَالَ أَنَسٌ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَمِينًا وَإِنَّ أَمِينَنَا أَيَّتُهَا الْأُمَّةُ أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ *
[ رواه مسلم ]
كلمة أمين لها عُمْقٌ كبير ، ولا أعْتَقِد أنَّ هناك أعمق منها في المعنى الذي تشْمله ، أمين على مصالح الناس ، أمين على دينهم ، فأحياناً تجد شَخْصاً لديه موظَّف مُجِدّ ومُتَفَوِّق وذو نشاط، ولكنه لا يُصلي ، ويقول لك صاحب المحلَّ : ماذا أفعل له ؟! دَعوهُ وشأنه !! فصاحب هذا المحل يَهُمُّه أن يكون الموظَّف مُنْضبطًا في العمل ومصالحه ، أما أنه لا يُصلي وغير مُلْتَزِم بالشرع فهذا لا يَهُمُّه ، أما المؤمن أمين على دين الناس وينْصحهم ويُوَجِّهُهُم ويُحْسِن إليهم ويُرَبِّيهم ، فالإنسان لا ينْبغي أنْ يتعلَّق بِمَصالِحه الدنيَوِيَّة ، أنت أمين على دين أهلك ؛ على دين زوْجَتك ، فإذا وَجَدْتَ الطبخ ممتازًا ، ونظافة البيت جيِّدة قُلْتَ : زوْجَتي ممتازة إلا أنَّها ليْسَتْ مُتَدَيِّنة ، فأنت لسْتَ أميناً على دينها ، وكذا إذا كان لك أولاد أبْرار ولكن ليس فيهم الدِّين سليمًا ، فهذه قاصمة الظهر ، وإذا سألك شخصٌ كان واجِباً عليك الإجابة إنْ كنت تعْلم ، أنْ تكون الإجابة ليْسَت في صالحِك أما ، فإن لم تفْعل فلستَ أميناً ، وهذا اشْترى منك بِضاعة ، وقال لك : اِنْصَحْني ، ونَصَحْتَهُ بالبِضاعة الكاسِدة ، فأنت لستَ أمينًا ، هناك أمانة فَتْوى ، وأمانة عِلْم ، وأمانة نُصح ، وأمانة دين ، فأنت عليك دائِماً أنْ تنْصح الناس ، وأنْ تكون حريصًا على مصالِحِهم الدنيوِيَّة والأُخْرَوِيَّة .(1/10)
سيدنا عمر أوَّلُ سؤالٍ كان يطْرحه إذا قدِم عليه الوالي : كيف الأسْعارُ عندكم ؟ لأنه إذا غِلَت الأسْعار شَقِيَ الناس ، وإذا انْخَفَضَت سعِد الناس ، فكان رحيماً بِرَعِيَّتِه .
نعود لعمر بن الخطاب إذْ قال لأبي عُبَيْدة : اُبْسُط يدَكَ أُبايِعْك ، فإني سَمِعْتُ رسول الله صلى الله عليه وسلَّم يقول : إِنَّ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَمِينًا وَإِنَّ أَمِينَنَا أَيَّتُهَا الْأُمَّةُ أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ *
[ رواه مسلم ](1/11)
أنا ما وَجَدْتُ أشْخاصاً مُتَأدِّبين مع بَعْضِهم بعْضاً كأصْحاب رسول الله ، سيِّدنا عمر ؛ عِمْلاق الإسلام ، وهو خليفة المسلمين ، وهو أمير المؤمنين يقول له أحدهم : والله ما رأيْنا أحداً خيراً منك بعد رسول الله ، فتفرَّس فيهم ، وكاد يأكلُهم ، إلى أن قال أحدهم : لا واللهِ ، لقد رأيْنا مَنْ هو خيرٌ منك ، فقال : من هو ؟ فقال : أبو بكر ، فقال : صَدَقْتَ وكَذَبْتم جميعا ، قال : والله لقد كان أبوبكر أطْيب من ريح المِسْك ، وكُنتُ أضَلّ من بعيري ، ووقف على المنبر فَنَزل درجة، فقالوا : لمَ فعلْتَ هذا ؟! فقال : ما كان الله لِيَراني أنْ أرى نفْسي في مقام أبي بكرٍ ، لقد كان أميناً على الصديق بعد وفاته ، وقبل أنْ يموت اسْتأذن عائِشَة رضي الله عنها لِيُدْفَن إلى جانب الصديق، فأذِنَتْ له فقال : لعلها اسْتَحْيَتْ مني وأنا أمير المُؤمنين ، فأوْصى أصْحابه : أنْ إذا متُّ فسِيروا بِنَعْشي أمام بيْتِها ، واسْتأذِنوها ، فإنْ أذِنَتْ فادْفِنوني جانب الصِدِّيق ، ما أُخِذَ بِسَيْف الحياء فهُو حرام ، كلمة (أمين) عظيمة ، هل أنت أمين على مصالح زوْجتك وأولادك ، وعلى الدِّين ، في هذه الأمة تجد من يؤجِّر بيْتاً ، ويجعل فيه الحرام ويقول : دخلي باليوم خمسة آلاف ! أنت لسْتَ أميناً على أخلاق الأمة إنما يهُمُّك المال فقط ، مرَّةً أكرمني الله بِعُمرة وكنت في بَحْبوحةٍ من الوقت ، فأَحْبَبْتُ أنْ أمُرَّ على أكثر المشاهد الإسلاميّة ، فَزُرْتُ موْقِعَة بدْرٍ ، ورأيْتُ العريش الذي وقف فيه النبي عليه الصلاة والسلام ، والعُدْوة الدنيا والعُدْوة القُصوى ، لكن لفتَ نظري أنَّ الزائرين مِن الناس الذين كانوا بالسيارات الفَخْمة مدُّوا المَّدات ، وأخْرجوا الأكْلات الفَخْمة ، فقارنتُ بين هؤلاء الذين زاروا أرض هذه المعركة ، وبين أولئك الذين خاضوا هذه المعركة ، فلم أجِد هناك نِسبة !! طَقْمُ هؤلاء غير طَقْم أولئك ، أين الثرى من(1/12)
الثريا ، الآن الناس هَمُّهُم بطونهم وشَهَواتهم ، فلِذلك قال عليه الصلاة و السلام : إذا كان أُمراؤكم خِياركم ، وأغْنياؤُكم سُمحاؤُكم ، وأمْركم شورى بينكم فَظَهْر الأرض خيرٌ لكم من بطْنها ، وإن كان أمراؤكم شِراركم وأغْنياؤكم بُخلاءكم ، وأمركم إلى نِسائِكم ، فَبَطْنُ الأرض خيرٌ لكم من ظهْرها.(1/13)
كان سيِّدنا أبو عُبَيْدة قصابًا ، وهو أمين هذه الأمة ؛ الإسلام عظيم ، فلما طلب عمر بن الخطاب من أبي عُبَيْدة ما طلب - كما أسْلَفْنا - قال أبو عُبَيْدة : ما كنتُ لأَتَقَدَّم بين يدي رجلٍ أمَّرهُ رسول الله علينا أنْ يؤُمَّنا في الصلاة ، فأَمَّنا حتى مات ، لما اختار النبي صلى الله عليه وسلّم أبا بكرٍ لِيَؤُمَّ الناس في الصلاة فهُوَ أفْضلهم من دون شكٍّ ؛ قال : ما كنتُ لأَتَقَدَّم بين يدي رجلٍ أمَّرهُ رسول الله علينا أنْ يؤُمَّنا في الصلاة ، فأَمَّنا حتى مات - طبْعاً تعلمون أنِّ سيِّدنا الصديق هو الذي بويِعَ بعد ذلك ، فكان مع الصِّديق يده اليُمْنى ، وما عصاهُ أبداً ، وكان مع عُمر أيضاً يدهُ اليُمْنى ، وما عصاهُ أبداً إلا مرةًّ واحدة ، وإليكم هذه المعْصِيَة : لقد وقعت هذه المعصِيَة حينما كان أبو عُبَيْدة في الشام يقودُ جُيوشَ المُسلمين من نصْرٍ إلى نصْرٍ ، حتى فَتَحَ الله على يَدَيْه الدِّيار الشامِيَّة كُلَّها ؛ فَبَلَغَ الفُرات شَرْقاً وآسْيا الصغرى شمالاً ، عند ذلك دهمَ بِلاد الشام طاعون ما عرف الناس مثله قطّ ، فَجَعَل يحْصد الناس حصْداً ، فما كان من عمر بن الخطاب إلا أنْ وَجَّهَ رسولاً لأبي عُبَيْدة بِرِسالةٍ ، بلَّغ أبا عُبيدة وهو في الشام قائِدًا الجُيوش ، فكتب إليه يقول : إني بَدَتْ لي إليك حاجة ، لا غِنى لي عنك فيها ، فإنْ أتاك كِتابي هذا ، إنْ أتاكَ ليْلاً فإني أعْزِمُ عليك ألاَّ تُصْبِحُ حتى تَرْكَبَ إلَيَّ ، وإنْ أتاك كِتابي نهاراً فإني أعْزِمُ عليك ألاَّ تُمْسي حتى ترْكَبَ إلَيَّ " ، فَفَهِمَ سيِّدُنا أبو عُبَيْدة ما يريده عمر ، واسْمَعوا ما قاله هذا الصحابيّ الجليل :" قد علمتُ حاجة أمير المؤمنين إليّ ، فَهُو يُريد أنْ يسْتَبْقي ما هو ليس بِبَاقٍ ، ثمَّ كتب يقول : يا أمير المؤمنين إني قد عَرَفْتُ حاجَتَك إلَيّ ، وإني في جُنْدٍ من المُسْلمين ، ولا أجد بِنَفْسي(1/14)
رَغْبَةً عن الذي يُصيبُهم أنْ يُصيبُني ما يُصيبُهم ، فهو رضي الله عنه ما أراد أنْ يُغادر الجُيوش لِيَنْجُوَ وحْده من الطاعون ، ويَهْلك الجُنْدُ هناك ، ولا أريد فِراقهم حتى يَقْضِيَ الله فيَّ وفيهم أمره ، فإذا أتاك كِتابي هذا فَحَلِّلْني من عزْمك ، وأْذَنْ لي بالبَقاء " هذا هو الأمر الذي عصاهُ فيه ، فهو رضي الله عنه كَبُرَ عليه أنْ يأخذ ميزة على جُنوده ، فلا بدَّ من أنْ يكونوا هناك لِيُدافِعوا ويفْتحوا ، وأراد عمر أنْ يسْتَبْقيه ، وأنْ يُنَجيه من هذا الوباء ، فَرَفضَ قائِلاً : لا أريد فِراقهم حتى يَقْضِيَ الله فيَّ وفيهم أمره فإذا أتاك كِتابي هذا فَحَلِّلْني من عزْمك ، وأْذَنْ لي بالبَقاء " فلما قرأ عمر الكتاب بكى حتى فاضَتْ عَيْناه ، فقال له مَن عنده من شِدَّة ما رأَوْهُ يبْكي : أمات أبو عُبَيْدة ؟! قال: لا ، ولكنَّ الموتَ قريبٌ منه ، كانَ رحيماً بِجُنوده ، وأَبَتْ نفسه أنْ يمْتاز عليهم .
سيِّدُنا عمر حينما أراد أنْ يسْتخلف خليفةً بعده قال: والله لو كانَ أبو عُبَيْدة بن الجراح حياًّ لاسْتَخْلَفْتُه ، فإنه لو أنَّ الله سألني عنه لَقُلْتُ : اسْتَخْلَفْتُ أمين الله ، وأمين رسوله .(1/15)
هناك نقطة ثانية ، لما سيِّدُنا عمر عزل سيّدنا خالدًا وولَّى مكانه أبا عُبَيْدة ، فالكِتاب جاء لِأبي عُبَيْدة ، وكان خالدٌ رضي الله عنه يقود معْرَكَةً ، فَكَتَمَ الخبر ، وكتم الكِتاب ، ولم يُبَلِّغ سيِّدنا خالدًا إلا بعد أنْ انْتَهتْ المعركة ، وانْتَصَر المسلمون ، فتَقَدَّم أبو عُبَيْدة القائِد المُعَيَّن من سيِّدِنا خالد القائِدُ المعْزول بِأدَبٍ جمٍّ ، وقدَّم له كِتاب التَّعْيين ، فَسَيِّدُنا خالد رضي الله عنهم شعر بالحرج، وقال : يرْحَمُك الله أبا عُبَيْدة ، ما منعك أنْ تُخْبِرني لمّا جاءَكَ الكِتاب - فقد مضى على ذلك قرابة أسبوع - حتى انْتَهَت المعركة ؟! فأجابه أبو عُبَيْدة رضي الله عنه وقال : والله إني كَرِهْتُ أنْ أكْسِرَ عليك حرْبَكَ ، وما سُلْطانُ الدنيا نريد ، ولا للدنيا نعمل ، وكلنا في الله إخوة - وقد كان يهُمُّه النصر على الأعداء لا المنصب - يقولون : إنّه لما جاء سيِّدُنا خالد رضي الله عنه إلى المدينة قال لِعُمر بن الخطاب رضي الله عنه : يا أمير المؤمنين لِمَ عزَلْتني ؟ وكانَ عُمر رضي الله عنه يُقَدِّر خالداً رضي الله عنه أعلى تقْدير ، فقال له : والله إني أُحِبُّك ، فقال له - مرَّةً ثانِيَة - : يا أمير المؤمنين لِمَ عزلْتني ؟ فقال له : والله إني أُحِبُّك ، فقال له - مرَّةً ثالثة - : يا أمير المؤمنين لِمَ عزلْتني ؟ فقال له : واللهِ ما عَزَلْتُك يا أبا سُلَيْمان إلا مخافَةَ أنْ يُفْتَتَنَ الناسُ بك ، لِكَثْرة ما أبْليْتَ في سبيل الله ، فهو رضي الله عنه أراد إنقاذَ الوحيد ، وذلك من شِدَّة الانتِصارات وكثرتها على يد خالد ، فخاف أن يظن الناسُ أنَّ النصر من عِنْد خالِدٍ ، فأراد هذا الخليفة العظيم أنْ يُبَيِّن للناس أنَّ النصر من عند الله ، وكان هذا هو سبب العزْلِ .(1/16)
يبْدو أنه حينما تسّلَّم الإمارة أبو عُبَيْدة ولمع نجْمُهُ وذاعَ صيتُهُ وحقَّقَ انتِصارات كبيرة ، عَظَّمَهُ الناس وأكبروه وأجَلُّوه ، فخاف على نفْسه أنْ يُصيبَها الغُرور ، فقال : أيها الناس ، إني مُسلمٌ من قُريش ، وما منكم مِن أحدٍ أحمر ولا أسْود يفْضُلُني بِتَقْوى إلا وَدِدْتُ أني في إهابِهِ - وهذا من تواضُعِه - سيِّدُنا عمر يزور أبا عُبَيْدة بن الجراح ، ويسْأل مُسْتَقْبِليه أين أخي ؟ يقولون: من ؟ يقول : أبو عُبَيْدة ، فيأتي أبو عُبَيْدة فَيُعانِقُ أمير المؤمنين ، ثمَّ يصْحبه إلى داره فلا يجد فيها من الأثاث شيئاً ؛ سَيْفَهُ وتِرْسه ورَحْلَهُ وقِدْرَ ماءٍ مُغَطىً بِرَغيفِ خُبْزٍ ، يسْأله عمر قائِلاً : ألا اتَّخَذْتَ لِنَفْسِك مثل ما يتَّخِذُ الناس فقال له أبو عُبيدة : يا أمير المؤمنين هذا يُبَلِّغُني المقيل ؛ هو للدنيا وهو على الدنيا كثير ألا يُبَلِّغُنا المقيل .
كذلك لمّا سيدنا عمر بلغه خبر وفاة سيِّدنا أبي عُبَيْدة بن الجراح بَكى بُكاءً ما بكاهُ على أحدٍ من قبل حتى غُصَّ حلْقُهُ ، وانْهَمَرَتْ دُموعه ، وقال : لو كنت مُتَمَنِّياً ما تمَنَّيْتُ إلا بيْتاً مملوءً بِرِجالٍ مثل أبي عُبَيْدة ، ما تمَنى إلا هذا .(1/17)
حينما وافَتْ المَنِيَّةُ أبا عُبَيْدة وهو يلْفِظُ أنْفاسَهُ الأخيرة أوْصى فقال : أقيموا الصلاة ، سيِّدُنا عمر حينما طُعِن وقُتِل ، فقبْل أنْ يموتَ سأل سؤالا غريبًا ، فقال : هل صلى المُسْلمون الفجر ؟! ما الذي يَهُمُّهُ ؟ صلاة الفجرْ ، فلما قال له المسلمون : نعم ، اطْمَأنَّ ، فَسَيِّدُنا أبو عُبَيْدة قال : أقيموا الصلاة ، وصوموا رمضان ، وتصَدَّقوا ، وحُجُّوا ، واعْتَمِروا ، وتواصوا وانْصحوا لأُمرائِكم ولا تغُشُّوهم ، ولا تُلْهِكم الدنيا ، فإنَّ المرء لو عُمِّر ألف حَوْلٍ ما كان له بُدٌّ من أن يصير إلى مصْرعي هذا الذي تَرَوْن - وكان على فِراش الموت - فنحن جميعاً حُكِمَ علينا بالموت مع وقْفِ التنْفيذ ويأتي التنفيذ وَفْقَ برنامَجٍ عند الله عز وجل ، فعلى هذا الشرط جِئْنا ، فلو أنَّ شخْصاً اسْتَأجر سيارة ثلاثة أيام فهل يُعْقَل عند انتهاء الأجل أنْ يقول : لماذا أخذوها مني ؟! فأنت ركِبْتَها على شرطٍ وهي أنها مستأْجَرة ، وكذا الإنسان جاء على هذا الشرط وهو الموت لكنَّ الله خلقهُ لِجَنَّةٍ عرضُها السماوات والأرض .
اِلْتَفَتَ سيِّدُنا أبو عُبَيْدة إلى مُعاذ بن جبل ساعة احتضاره ، وقال : يا مُعاذ ، صلِّ بِالناس ، ثمَّ ما أنْ لبِث حتى فاضَتْ روحُهُ الطاهِرة فقال معاذ : يا أيها الناس إنكم قد فُجِعْتُم بِرَجُلٍ ، واللهِ ما أعلم أني رأيتُ رجُلاً أبرَّ صدْراً ولا أبعد غائِلَةً ، ولا أشدَّ حُباً للعاقِبَة ، ولا أنصح للعامَّة منهم فَتَرَحَّموا عليه يرْحَمْكم الله .
كم من شَخْصٍ في العالم يموتون يوميًّا ، أنا لا أذكر الرقم ، ولكن على مُستوى العالم كُلّ ثانِيَتَيْن هناك وفاة ، فبِمَ يوصون ؟ وبِمَ يودعون الدنيا ؟ أقول : تبقى قلوبهم متعلقةً بالدنيا .(1/18)
فيا أيها الأخ المسلم ؛ اِعْمل عملاً تسْعد به عند لِقاء الله تعالى ، اِبْذل ، ووضَحِّ ، والتزِم ، وأنْفِق ، وتعلَّم حتى يكون الموت أسعد لَحَظاتك ، والموت سماهُ الله مُصيبة ، لأنَّ كلّ شيءٍ تُجَمِّعُه في الدنيا يُسْلبُ منك في ثانِيَةٍ واحدة ، أما إذا كان الإنسان له أعْمال صالحة يُصبحُ الموتُ عُرْسَهُ وفرْحَتَهُ الكُبْرى .
والحمد لله رب العالمين
الدرس 46/50 ، سيرة الصحابي : أبو الدرداء ، لفضيلة الأستاذ محمد راتب النابلسي .
تفريغ : الأستاذ هشام القدسي .
التدقيق اللغوي : الأستاذ غازي القدسي .
التنقيح النهائي : المهندس غسان السراقبي .
بِسْمِ اللهِ الرَّحمَنِ الرَّحِيمِ
مع الدرس السادس والأربعين من دروس سيرة صحابة رسول الله رضوان الله تعالى عليهم أجمعين ، صحابي اليوم أبو الدرداء رضي الله عنه وأرضاه .
اسمه عويمر بن مالك الخزرجي المكنى بأبي الدرداء ، من نومه مبكراً ، أبو الدرداء هو الذي ينام مبكراً .
كان يمضي هذا الرجل قبل أن يكون صحابياً إلى صنمه الذي نصبه في أشرف مكان في بيته ، فيحيِّيه ويضمِّخه بأنفَس أنواع العطر ، ثمّ يلقي عليه أفخر الثياب من فاخر الحرير ، وكلما استيقظ صباحاً توجه إلى هذا الصنم يعبده من دون الله ، وبعد أن يقف أمام صنمه الذي وضعه في أشرف مكان في بيته ، ينطلق بعد هذا إلى متجره ، تأخر في إسلامه ، انطلق مرةً إلى متجره فإذا شوارع يثرب وطرقاتها تضيق بأتباع محمد ، وهم عائدون من بدر ، وأمامهم أفواج الأسرى من قريش فازوّر عنهم ، لكنه ما لبث أن أقبل على فتىً منهم ينتمي إلى الخزرج وسأله عن عبد الله بن رواحة ، ما شأنه ؟ ..
فقال له الفتى الخزرجي : لقد أبلى في المعركة أكرم البلاء وعاد سالماً غانماً وطمأنه عليه.
فلِمَ سأل أبو الدرداء عن عبد الله بن رواحة ؟ لأنه كان صديقاً له ، وكان بينهما من أواصر المودة الشيء الكثير ، فأبو الدرداء وعبد الله بن رواحة كانا أخوين متآخيين في الجاهلية ، ولما جاء الإسلام اعتنق ابن رواحة الإسلام ولم يعتنقه أبو الدرداء .
أقف هنا قليلاً ، هذه الحادثة تتكرر ، يكون في الحيِّ أو القرية صديقان حميمان ، أخوان طيبان ، على مقعد واحد في الدراسة ، في حي واحد ، في بيت واحد ، في متجر واحد ، في مكان واحد ، في عمل واحد ، بينهما تقارب في السن ، وتقارب في الطباع ، يحبان بعضهما ، فجأةً أحد الصديقين يتجه نحو الله عز وجل ، ويلتحق بمسجد ، يتأدب بأدب الإسلام ، يعيش أجواء الدين ، يقبل على كتاب الله الكريم ، والآخر يبقى على ما هو عليه .. بربكم هذا الذي اهتدى إلى الله ، أليس من واجبه الأول أن يعين صديقه الحميم الذي أمضى معه ردحاً من الزمن؟ .. ألم يقل عليه الصلاة والسلام : " إن الله ليسأل العبد عن صحبة ساعة " .
أقول والكلام لكم : إذا كان لأحدكم صديق في المدرسة ، صديق في الحي ، جار له ، صديق في العمل ، بينهما مودة بينهما محبة ، وبينهما تآخٍ سابقٍ ، واللهُ عز وجل أكرمه بالهدى ، فأقبل عليه ، وتخلق بأخلاق المسلمين ، واتبع شرع الله الحميد ، واجتهد في العبادات ، وأقبل على الطاعات ، وقرأ القرآن ، وحضر مجالس العلم ، وشعر بالسمو ، فهذا الذي كان صديقاً معه ، وأمضى معه عشرين عاماً ، عشرة ، أليس هؤلاء الأصدقاء أولى الناس أنْ تعنى بأمورهم؟ أليس هؤلاء الأصدقاء أحق الناس أن تهديهم ؟ أن تدلَّهم ، وأن ترعاهم ، وأن تزورهم، وأن تتفقدهم ، وأن تعرض عليهم بضاعتك الجديدة ، وانتماءك الجديد ، وتوبتك إلى الله عز وجل، وصلحك معه ، أليس هذا واجباً ؟.
أنا أيها الإخوة ، أريد من سيرة رسول الله وأصحابه الكرام أن تكون واقعاً ملموساً بين أيديكم ، أن نستفيد من أحداث السيرة ، ومن أفعال الصحابة الكرام لنكون على هدًى مثلهم .
حينما جاء الإسلام اعتنق عبد الله بن رواحة الإسلام ، وأعرض عنه أبو الدرداء ، والملاحظ أنّ بعض الإخوان الذين لم ينضجوا بعد ، عندما ينضم لمسجد ، ويهتدي إلى الله عز وجل ، ويلتحق بجماعة المؤمنين يحتقر أصدقاءه القدامى ، ويزور عنهم ويترفع عنهم ، فهم في نظره جهلة فاسقون .. أهكذا الصحبة ؟ .. ماذا يمنعك أن تزورهم من حين إلى آخر ، وتتفقدهم ، وأن تعرض عليهم ما أنت فيه من خير وهدىً ، لذلك فأبو الدرداء لم يسلم ، لكن عبد الله بن رواحة لم يقطع العلاقة مع أبي الدرداء ، وظل يتعهده بالزيارة ، ويدعوه إلى الإسلام ويرغبه فيه ويجعله يأسف على كل يوم يمضي من عمره وهو مشرك .
هذه النقطة الأولى في هذا الدرس ، هل يوجد شخصٌ ليس له أصدقاء ؟.
في مثل سنه ، نشآ معاً ، في العمل ، في البيت ، في المتجر ، حتى أحياناً في خدمة العَلَم ، في مهجع واحد أيضًا سنتين ، أليس هذا له حق عليه ؟ ..
إذاً عليك أن تتفقد أصحابك القدامى لأن الله سيسألك عنهم وسيحاسبك عنهم ، ولا تنس هذا الحديث الشريف : " إن الله ليسأل العبد عن صحبة ساعة " .
انطلق أبو الدرداء إلى متجره وتربع على كرسيه العالي ، وأخذ يأمر غلمانه وينهاهم ، وهو لا يعلم شيئاً مما يجري في منزله ، ففي ذلك الوقت كان عبد الله بن رواحة يمضي إلى بيت صاحبه أبي الدرداء وقد عزم على أمر ، فدخل إلى بيته ، ووصل إلى مكان الصنم الذي يعبده من دون الله ، صنم منحوت ، مضمَّخ بالعطر ، عليه حرير ماذا فعل بهذا الصنم ، قطَّعه بالفأس إرباً إرباً .
فلما رأت زوجة أبي الدرداء ما حل بالصنم الذي يعبده زوجها من دون الله ، توقعت الهلاك، وقالت له : يا ابن رواحة أهلكتَني عند أبي الدرداء .
ولم يمض غير قليل حتى عاد أبو الدرداء إلى منزله فرأى امرأته جالسة أمام الحجرة وهي تبكي وتنشج وعلامات الخوف من زوجها بادية على وجهها .
قال لها : ما شأنك ؟
قالت : أخوك عبد الله بن رواحة ، جاءنا في غيبتك وصنع هكذا بصنمك .
أنا أقول لكم دائماً : إنّ الإنسان أحياناً سرُّ هداه بلحظة تفكير صحيحة ، وكان ممكنًا لأبي الدرداء أنْ يغضب ، ويثور ، ويحمل الفأس ليكسر بها رأس الذي كسر صنمه ، لكن يبدو أن صديقه يعرفه عاقلاً ، يعرفه منطقياً .
نظر إلى الصنم فوجَدهُ حطاماً ، ماذا قال ؟ فكر فيما حدث ، ثم قال : لو كان في هذا الصنم خير لدفع الأذى عن نفسه ، ثم انطلق من توه إلى عبد الله بن رواحة ومضيا معاً إلى رسول الله صلى الله عليه وأعلن دخوله في الإسلام ، فكان آخر أهل حيه إسلاماً .
أنا أعبد صنماً حينما جاء رجل قطعه بالفأس ، فما استطاع هذا الصنم أن يدفع عنه ما أصابه ، إذاً هذا ليس إلهاً يُعبد من دون الله .
وبعد ؛ أمَا رأيت إنسانًا قويًّا صار ضعيفًا ؟ أما رأيت إنسانًا كان في أعلى درجات الجاه فصار وضيعاً ؟ أما رأيت غني افتقر ؟ أما رأيت طبيبًا مرِض ؟ أما رأيت قويًّا أصبح مشلولاً ؟ أما رأيت إنسانًا عظيمًا صار في لحظة خبراً على الجدران .
فهذا الإنسان الذي تخافه ، أو الذي ترجوه ، أو الذي تعبده من دون الله وأنت لا تشعر ، هذا الإنسان ألا تشله نقطة دم في بعض شرايين الدماغ ؟ .. وبمكان آخر يفقد ذاكرته ، وبمكان آخر يفقد ذاكرته ، وبمكان آخر يفقد عقله ، وبمكان رابع يفقد بصره ، ما هذا الإنسان الذي يقول (أنا) وهو لا يستطيع أن يدفع عن نفسه شراً .
الحقيقة عبادة الأصنام الحجرية انتهت مع مجيء الإسلام ، ولكن أحياناً يكون للإنسان ابن خالة بمكان مرموق ، دائماً متكئ عليه ، ابن خالتي فلان ، انتبه فمعي رقم تلفونه .. خير إن شاء الله ، هذا شرك .
أنت معتمد على هذا الإنسان وهو بعيد ، فنحن لا نخاف على المسلمين مِن الشرك الجلي ، ولكن نخاف عليهم من الشرك الخفي الشرك الخفي أن تعتقد أن إنساناً بإمكانه أن ينفعك أو أن يضرك ، أن تعتقد أن إنساناً بإمكانه أن يعطيك أو أن يمنعك .
لا معطيَ ، ولا مانعَ ، ولا رافعَ ، ولا خافضَ إلا الله ، هذا هو التوحيد لذلك كلما وضعت الثقة بالله عز وجل أكرمك الله ، وكلما وضعت الثقة بغير الله عز وجل تخلى الله عنك .
وندم أبو الدرداء ندماً كبيراً على ما فاته من خير ، وأدرك إدراكاً عظيماً ما سبقه إليه أصحابه من فقه في الدين وحفظ لكتاب الله وعبادة وتقوى ادخروها لأنفسهم عند الله .
المشكلة لدينا تسابق ، الله عز وجل قال : وسابقوا .. وقال : وفي ذلك فليتنافس المتنافسون.. والجنة أبدية ، مراتب الجنة بحسب أعمال الدنيا ، فكل إنسان يحب إن ينافس الناس في الدنيا ولا يحب أن ينافسهم في الآخرة فهو إنسان غبي ، لأن منافسة الدنيا ينتهي شأنها بالموت .
لاحظ أحياناً سيارة تزاحم السيارات ، تزاحم وترتكب الأخطار من أجل أن تصل إلى الإشارة الحمراء ، والذي قصر يقف جنبه ، فهذه المزاحمة حمقاء ، ولو كان الطريق سالكًا إلى ما لا نهاية يمكن أنْ تزاحم ، ولكن بعد مائتين متر هناك إشارة حمراء ، فكل هذا الطيش والمزاحمة والتجاوز والوقوع في الأخطار جعَلَ الناس يسبُّون هذا السائق ، وبعد دقيقة يقف عند الإشارة الحمراء مثله مثل الآخرين .
إذاً هذه مزاحمة فيها غباء ، هذا مثل بسيط ، لو زاحمت الناس في الدنيا وحصلت على أكبر نصيب ، فيأتي الموت ويسوِّي بينك وبين أفقر إنسان .
لو زاحمت الناس وحصلت أكبر مرتبة اجتماعية ، يأتي الموت ويساوي بينك وبين أضعف إنسان ، هذا الموت أمرُه عجيب ، ينهي غنى الغني وفقر الفقير ، وقوة القوي وضعف الضعيف، وصحة الصحيح ومرض المريض ، ينهي كل الميزات وكل السيئات ، هذه المنافسة إذاً غير معقولة ، إذاً أين المنافسة ؟ .. في الآخرة .
فهذا أبو الدرداء رضي الله عنه ندم أشد الندم على تقصيره وعلى تأخر إسلامه ، فعزم على أن يستدرك ما فات ، بالجهد الجاهد ، وأن يواصل كلال الليل بكلال النهار ، حتى يلحق بالركب ويتقدم عليه فانصرف إلى العبادة انصراف المتبتل ، وأقبل على العلم إقبال الظمآن وأكب على كتاب الله يحفظه ويتعمق في فهم آياته ، ولما رأى التجارة تنغص عليه لذة العبادة وتفوت عليه مجالس العلم تركها غير متردد ولا آسف .
هل هذا مِن أبي الدرداء حكم شرعي ؟ .. لا لكنه موقف شخصي يجب أن نفرق دائماً بين الحكم الشرعي الذي يصدر عن النبي صلى الله عليه وسلم من خلال أقواله أو أفعاله أو إقراره ، وبين الموقف الشخصي الذي يصدر عن غير النبي .
فلديه سبب ، إنه متأخر ، فمثلاً هل يمكن لشخص أن يقرأ عشرين ساعة في النهار ؟ الشيء الطبيعي ثماني ساعات ، لكن لو فرضنا إنسانًا نام طوال العام الدراسي ، وصحا قبل شهر من الفحص ، ودرس عشرين ساعة في اليوم ، هذا وضع استثنائي ، ليس هذا أصلاً ، الأصل ثماني ساعات ، وتنام ثماني ساعات ، ودوام ثماني ساعات .. دوام وراحة ودراسة ، أما حينما ينام الطالب ثمانية أشهر من دون دراسة ، والفحص على الأبواب ، فإذا درس عشرين ساعة في اليوم فهذا وضع استثنائي .. فَهِمْتٌم سببَ ترك سيدنا أبي الدرداء التجارة ، وشعر بالتقصير والندم، وشعر أن الصحابة قد سبقوه مراحل فسيحة ، وأنه فاته خير كثير .
أحياناً يأتي شخصٌ أخر مثلاً يقول لك : أما عندكم دروس ، فتقول له : درس الجمعة درس تفسير ، ودرس الأحد درس فقه ، ودرس الاثنين درس سيرة ، ودرس للدعاة يوم السبت ، ودرس الفجر ، والخطبة ، سبحان الله يأتي إلى جميع الدروس ، ثم يقول : عندكم أشرطة لتلك الدروس .
صدقاً بعض الإخوان أعطيه عشرة عشرين شريطًا أقول لنفسي يحتاج إلى شهر ، بعد ثلاثة أيام يأتي بهم ، ويقول : سمعتها كلها ، لديكم غيرها .
أحياناً في حالات خاصة الإنسان يحس أنه فاته خير كثير ، كيف يعوض ؟
فأنا أقول لكم : إن أبا الدرداء ترك التجارة لأنه شعر بالتقصير ، شعر بالغبن الفاحش ، شعر أن
هناك أصحابًا سبقوه مراحل فسيحة .
سأله سائل عن تركه للتجارة فقال : كنت تاجراً قبل عهدي برسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما أسلمت أردت أن أجمع بين التجارة والعبادة ، فلم يستقم لي ما أردت ، فتركت التجارة وأقبلت على العبادة .
أنا لا أحب أن يُفهم غيرُ ما ينبغي أن يُفهم ، الإنسان أحياناً يكون عمله جزء من عبادته ، يكون عنده زوجة وأولاد ، وهو يعمل ليكسب المال لينفق على هؤلاء ، أما إذا عرف الله عز وجل ، واحتسب عمله عند الله انقلب عمله إلى عبادة .
يعني الإنسان ينبغي أن يجمع بين الدنيا وبين الآخرة ، لقول النبي عليه الصلاة والسلام : "ليس بخيركم من ترك دنياه لآخرته ، ولا من ترك آخرته لدنياه ، إلا أن يأخذ منهما معاً فإن الأولى مطية للثانية " .
فقد جعل الله قوام الحياة أن تكسب الرزق وتطعم ، والأدلة كثيرة من حديث النبي عليه الصلاة والسلام ، ألم تسمعوا أن النبي عليه الصلاة والسلام دخل إلى المسجد فرأى شاباً يصلي فيما بين الصلاتين .
سأله قائلاً : مَن يطعمك ، قال : أخي ، قال : أخوك أعبد منك " .
لكن طالب العلم لما جاء شريكه يشكوه للنبي ، ماذا قال للشريك ؟ لعلك تُرزق به ، فطلب العلم عمل ، الآن في العالم تُخصَّص منحٌ دراسية ، فيأتي الطالب للجامعة أو للثانوية ، يدرس ولا يكلَّف بعمل ، يكلَّف بالدراسة حصرًا ، إذاً إذَا طلبت العلم فهذا عمل مشرف .
أنا أنصح إخواننا الشباب الذين يجدون من ينفق عليهم ، ووجد بيتاً يؤويه ، أنا أنصحه يطلب العلم ، لأن العلم أثمن شيء في الحياة ، وكثير مِنَ الأشخاص لا يُتاح لهم أن يدرسوا ، ويضطرون أن يعملوا حتى يأكلوا ، فإذا هيَّأ الله لشاب أبًا ينفق عليه فليطلب العلم الشرعي ، حتى يكون عالمًا ، لأن مرتبة العلم هي أعلى الرتب .
أحد الخلفاء وهو في الحج طلب أن يلتقي بعالم ، وهذا العالم كان عبدًا فالتقى به ، فالعالم أعزَّه العلم ، لا أقول كبر ، بل أعزّه الله ، وكان سيدنا الحسن مرةً يمشي مشية فيها شعور بالثقة، فقال له أحدُهم : أَكبَرْتَ ؟
قال : لا ، ولكنه عز الطاعة ، المطيع يشعر بالعزة ، الكبر قبيح مذموم ، أما الذي يطيع الله عز وجل فيشعر بالعزة .
يبدو أن هذا العالم العبد وقف موقفًا أمام الخليفة في عزة ، قال الخليفة لابنه : قم يا بني ، وتعلّم العلم ، ألا ترى حالنا مع هذا العالم ، وقفنا أمامه أذلاء ، قم يا بني واطلبْ العلم .
قال : تعلموا العلم فإن كنتم سادة فُقْتُم ، وإن كنتم وسطاً سُدْتم ، وإن كنتم سوقة عِشتُم .
إذا كنت مِن الطبقة الرفيعة في المجتمع ، وطلبت العلم صرتَ متفوقاً ، وإن كنت من الطبقة الوسطى ، وطلبتَ العلم صرت سيداً ، وإن كنت من الطبقة الدنيا وطلبت العلم عشت بين الناس حميدَ السيرة .
يقول أبو الدرداء : والذي نفس أبي الدرداء بيده ، ما أحب أن يكون لي اليوم حانوت على باب المسجد فلا تفوتني صلاة مع الجماعة ثم أبيع وأشتري وأربح كل يوم ثلاثمائة دينار ، ثم نظر إلى سائله وقال : إني لا أقول : إن الله عز وجل حرم البيع ، ولكني أحبّ أن أكون من الذين لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله .
لذلك هذه نصيحة لي ولكم ، من أحب دنياه أضر بآخرته ، ومن أحب آخرته أضر بدنياه ، وحينما يتفرّغ الإنسان تفرغًا كاملاً للتجارة يربح أكثر بحسب قواعد التجارة ، ولكن المؤمن يعقد موازنة ، يجمع بين العمل وبين طلب العلم ، وبين العمل والعبادة ، بين العمل وبين الدعوة إلى الله وبين العمل وبين حضور حلقات الذكر ، بين العمل وبين ما ينبغي أن يفعله .
في خلافة الفاروق رضوان الله عليه ، أراد من أبي الدرداء أن يلي له عملاً في الشام فأبى، قال : إذا رضيت مني أن أذهب إليهم لأعلمهم كتاب ربهم وسنة نبيهم وأصلي بهم ذهبت .
المنصب العلمي فيه عطاء ، المنصب الإداري فيه أخذ ، فمدير ثانوية عملُه محصور في : مَن تأخر اليوم ؟ ومَن لم يدفع القسط ؟ كل عمله أساسه سلْبُ ما عند الناس ، أما المدرس فيعطي ، ترى الطالب يميل إلى المدرس أكثر من ميله إلى المدير ، فعنده العطاء ، فعملُ المدير سلبٌ ، يبني عمله على أمور إدارية ، ضبط الوقود ، وضبط الدوام ، كله ضبط ، لكن التدريس فيه عطاء ، أليس كذلك ؟ لذلك من المناصب الرفيعة أن تكون معلماً ، في أي مرحلة النبي عليه الصلاة والسلام يقول : " إنما بعثت معلماً ، إنما بُعثت لأتمم مكارم الأخلاق " .
يعني أعلى وظيفة تشغلها في الحياة أن تكون معلماً ، الملائكة في السماء والحيتان في البحار تصلي على معلمي الناس الخير .. كلام النبي كلام دقيق صلى الله عليه وسلم ، قال : "خَيْرُكُمْ مَنْ تَعَلَّمَ الْقُرْآنَ وَعَلَّمَهُ *
(رواه البخاري عن عثمان)
لنا إخوان من فضل الله ، أساس عملهم بعيد عن التعليم ، يدرسون طلابًا صغارا في تحفيظ قرآن وتجويده ، يقول عن نفسه : أنا أعيش في عالم آخر ، وهذا شيء مسعد حقًّا .
مهنة التعليم أرقى حرفة ، لأنها حرفة الأنبياء ، لكن إذا ضعفت قيمة العلم في المجتمعات ضعفت معها قيمة التعليم .
أضرب مثلاً ، الذي يقف ليبيع هذا اللحم المشوي الذي انتشر في الشام ، راتبه الشهري ثمانية عشر ألف ليرة ، لكن منصب التدريس دخله ضعيف جداً ، ما معنى ذلك ؟ أن بطن الناس أغلى عليهم من عقولهم ، فإذا كان البطن أغلى من العقل ، يصير الذي يقف على منصة اللحم ليبيعه يتقاضى ثمانية عشر ألفًا بالشهر ، والذي يقف بين خمسين طالبًا ليعلمهم القيم واللغة يتقاضى أقلَّ دخلٍ في عالم الوظائف ، أليس كذلك ؟ .
فالأمة ما الذي يعنيها أكثر من غيره ؟ ترى أنّ بعض الأعمال يرتفع صاحبُها.
لو فرضنا إنسانًا حاز أعلى شهادة ، فراتبُه ربما لا يكفيه ، لكن تتقاضى المغنية سبعين ألف ليرة في سهرة واحدة ، ما معنى ذلك ، المعنى أنّ الطرب عند الناس أغلى عليهم من العقل .
من عدم الحكمة أن تقيس المهنة بدخلها ، تقاس المهنة بمدى ارتباطها برسالة الإنسان في الحياة ، تقاس المهنة بمدى رضوان الله على صاحبها ، هذه .
فعرضوا على أبي الدرداء منصبًا إداريًّا ، وأنْ يكون واليَ الشام فرفض ، قال : أنا إذا ذهبت إلى الشام أعلِّمهم كتاب الله وسنة نبيهم ، وأصلي بهم ، فإذا أردتَ - الكلام موجَّهٌ إلى الخليفة - ذهبتُ إلى الشام .
فلما بلغها قال : وجدتُ الناس قد أولعوا بالترف ، وانغمسوا في النعيم ، فهاله ذلك ، ودعا الناس إلى المسجد ، فاجتمعوا عليه ، فوقف فيهم فقال :يا أهل دمشق ، أنتم الإخوان في الدين ، والجيران في الدار ، والأنصار على الأعداء ، يا أهل دمشق ، ما الذي يمنعكم من مودتي ، والاستجابة لنصيحتي ، وأنا لا أبتغي منكم شيئاً ، فنصيحتي لكم ومؤونتي على غيركم .
ما لي أرى علماءكم يذهبون ، وجهالكم لا يتعلمون ، وأراكم قد أقبلتم على ما تكفل لكم به الله عز وجل وتركتم ما أمرتم به ، ما لي أراكم تجمعون ما لا تأكلون ، وتبنون مالا تسكنون ، وتؤملِّون ما لا تبلغون .
لقد جمعتِ الأقوامَ التي قبلكم ، وأمَّلت فما هو إلا قليل حتى أصبح جمعهم بوراً ، وأملهم غروراً ، وبيوتهم قبوراً .
واللهِ هذه موعظة بليغة ، يقول لك : وضعت سبعة أكياس إسمنت في هذه الأساسات ، وهذه البناية يسكنها مليون شخص ، فهل أنت تعيش مدى الحياة ؟ هناك بيوت من اللبِن عمرها أربعمائة سنة في الشام ، وهذا يعني أنّ بناء الإسمنت المسلح يقاوم ألف سنة ، عمر الإنسان كلُّه ستون سنة ، والبناية التي أُقيمت له ربما لا يسكنها .
قال : مالي أراكم تبنون ما لا تسكنون ، وتؤمِّلُون ما لا تبلغون ، لقد جمعت الأقوام التي قبلكم ، وأمَّلَت ، فما هو إلا قليل حتى أصبح جمعهم بوراً ، وأملهم غرورا ، وبيوتهم قبوراً ، هذه عاد يا أهل دمشق قد ملأت الأرض مالاً وولداً ، فمن يشتري مني تركة عاد اليوم بدرهمين؟ فجعل الناس يبكون حتى سُمع نشيجهم من خارج المسجد ، لقد كانت كلمة بليغة.
مِن ذلك اليوم طفق أبو الدرداء يؤمُّ مجالس الناس في دمشق ، ويطوف بأسواقهم ، فيجيب السائل ، ويعلّم الجاهل ، وينبِّه الغافل ، مغتنماً كل فرصة ، مستفيداً من كل مناسبة .
له مواقف رائعة جداً ، مرةً مر على جماعة ، قد تجمهروا على رجل وجعلوا يضربونه ويشتمونه ، فأقبل عليهم وقال : ما الخبر .
قالوا : رجل وقع في ذنب كبير .
قال : أرأيتم لو وقع في بئر أفلم تكونوا تستخرجونه منه .
قالوا : بلى .
قال : إذاً لا تسبوه ، ولا تضربوه ، وإنما عِظُوه وبصِّروه ، واحمدوا الله الذي عافاكم من الوقوع في هذا الذنب .
قالوا : أفلا تضربه ؟.
قال : لا ، إنما أبغض فعله ، فإذا تركه فهو أخي .
ما قولكم بطريقة الدعوة إلى الله ؟.
فأخذ الرجل ينتحب ويعلن توبته .
هذه طريقة في الدعوة إلى الله ، أنت طبيب ، لست خصمًا ، إذا جاء الطبيبُ إلى مريض فهل يحقد عليه ، لا ، بل يرثي لحاله ، ويحاول إنقاذه ، وتطبيبه .
شاب أقبل على أبي الدرداء ، قال : يا صاحب رسول الله أوصني .
قال : يا بني اذكر الله في السراء يذكرك في الضراء ، يا بني ؛ كن عالماً أو متعلماً أو مستمعاً ولا تكن الرابعة فتهلك .
يا بني ؛ ليكن المسجد بيتك ، فإن سمعت النبي عليه الصلاة والسلام يقول : " المساجد بيت كل تقي " .
المؤمن في المسجد كالسمكة في الماء ، والمنافق في المسجد كالعصفور في القفص ، يكاد يختنق ، لأنه يتضجّر .
وقد ضمن الله عز وجل لمن كانت المساجد بيوتهم ، الرَّوح والرحمة والجواز على الصراط.
مر سيدنا أبو الدرداء على جماعة من الشبان جلسوا على الطريق يتحدثون وينظرون إلى المارين .
من معلوماتكم المشي والتنزه في الطرقات يجرح العدالة ، الحديث عن النساء يجرح العدالة ، صحبة الأراذل تجرح العدالة .
قال يا بني صومعة الرجل بيته ، يكف فيه نفسه وبصره ، وإياكم والجلوس في الأسواق فإنه يلهي ويلغي .
الطرقات الآن فيها نساء كاسيات عاريات ، البيت أرحم وأولى ، إذا فسد الزمان فالبيت صومعة ، وصار محرابُ البيت كهفًا ، قال تعالى :
[سورة الكهف]
في أثناء إقامة أبي الدرداء في دمشق بعث إليه واليها معاوية بن أبي سفيان يخطب ابنته الدرداء لابنه يزيد فأبى أن يزوجها ابنه وأعطاها لشاب من عامة المسلمين ، لأنه رضي دينه وخلقه ، فسار ذلك في الناس وشاع الخبر ، أنّ يزيد بن معاوية خطب ابنةَ أبي الدرداء فردّه أبوها ، وزوَّجها لرجل من عامة المسلمين.
سأله سائل عن السبب ، فقال : إني تحرَّيتُ فيما صنعتُه صلاح أمر الدرداء ، قال : وكيف؟
قال : ما ظنكم بالدرداء إذا قام بين يديها العبيد يخدمونها ، ووجدت نفسها في قصور يخطف لألاؤها البصر ، أين يكون دينها حينئذ ، لذلك أعطاها لشاب من عامة المسلمين .
حينما كان أبو الدرداء في الشام قدم سيدنا عمر متفقداً أحواله ، فزار صاحبه أبا الدرداء في منزله ليلاً ، فدفع الباب فإذا هو بغير غلق ، فدخل في بيت مظلم لا ضوء فيه ، فلما سمع أبو الدرداء صوته قام إليه ورحّب به وأجلسه ، وأخذ الرجلان يتناوبان الأحاديث ، والظلام يحجب كلاً منهما عن صاحبه .
قال له عمر : رحمك الله ، ألم أوسِّعْ عليك ؟ ألم أبعث إليك ؟ قال له أبو الدرداء - ويبدوا أن سيدنا عمر أعطاه عطاءً ليوسِّع على نفسه ، لكن أبا الدرداء تصدَّق به .
قال : أتذكر يا عمر حديثاً حدثنا به النبي صلى الله عليه وسلم .
قال : وما هو ؟.
قال : ألم يقل : ليكن بلاغ أحدكم من الدنيا كزاد الراكب " .
قال : بلى .
قال : فماذا فعلنا بعده يا عمر ؟.
فبكى عمر ، وبكى أبو الدرداء .
ظل أبو الدرداء في دمشق يعظ أهلها ، ويعلمهم الكتاب والحكمة ، حتى أتاه اليقين ، الموت.
فلما مرِض مرَض الموت ، دخل عليه أصحابه : فقالوا : ما تشتكي ؟
قال : ذنوبي .
قالوا : ما تشتهي ؟
قال : عفو ربي .
ثم قال لمَن حوله : لقِّنوني لا إله إلا الله محمد رسول الله .
فما زال يرددها حتى فارق الحياة .
فلما لحق أبو الدرداء بجوار ربه ، رأى عوفُ بن مالك الأشجعي فيما يراه النائمُ مرجاً أخضر فسيحَ الأرجاء ، وارفَ الأَفْياء ، فيه قبة عظيمة من أدم حولها غنم رابضة لم تر العين مثلها قط .
قال : لمن هذا ؟ قيل هذا لعبد الرحمن بن عوف ، فطلع عليه عبد الرحمن بن عوف وقال له : يا ابن مالك ، هذا ما أعطانا الله عز وجل بالقرآن ، ولو أشرفت على هذه الثنية لرأيت ما لم تر عينك وسمعت ما لم تسمع أذنك ووجدت ما لم يخطر على قلبك ، قال ابن مالك : ولمَن ذلك كله يا أبا محمد ؟ قال : أعده الله عز وجل لأبي الدرداء ، لأنه كان يدفع عنه الدنيا بالراحتين والصدر .
في بعض الروايات كان أبو الدرداء قصير القامة ، شديد السمرة ، في أنفه فطس ، وأما نبؤه فعظيم جداً .
الآن إذا ذهبتم إلى قلعة دمشق ، لها مدخل شمالي حديث ، يصل بكم إلى العصرونية ، بعد أمتار عدة ، تجدون مسجداً في القلعة اسمه مسجد أبي الدرداء ، رضي الله عنه وأرضاه .
نستنبط أن أبا الدرداء كان سبب هدايته صديقُه عبدُ الله بنُ رواحة ، وأبو الدرداء عرض عليه عمر منصباً راقياً جداً ، والي دمشق ، فماذا فضل عليه ؟ منصب التعليم ، لأن منصب التعليم أرقى عند الله عز وجل ، قال عليه الصلاة والسلام : خَيْرُكُمْ مَنْ تَعَلَّمَ الْقُرْآنَ وَعَلَّمَهُ *
[رواه البخاري عَنْ عُثْمَانَ]
ولا تنسوا أن هذا الصحابي الجليل زوّج ابنته من شاب من عامة المسلمين حفاظاً على دينها، لأن الأب إن لم يزوج ابنته من المؤمن فإن كل أعمالها غير الصحيحة في صحيفته ، وقد تقول لله عز وجل يوم القيامة ، يا رب لا أدخل النار حتى أُدخل أبي قبلي .
لا تنتهي مسؤولية الأب عند تزويج ابنته ، بل تبدأ ، إلا إذا اختار لها الزوج الصالح .
وهناك أشياء يمكن أن نستنبطها من هذه القصة ، أرجو الله تعالى أن ننتفع بسلوك هذا الصحابي الجليل وعلمه .
والحمد لله رب العالمين
***(1/19)