الدرس 7/ 50 : سيرة الصحابي : أبو عبيدة بن الجراح ، لفضيلة الأستاذ الدكتور محمد راتب النابلسي
تاريخ : 23 / 11 / 1992 .
تفريغ : عماد علان
التدقيق اللغوي : الأستاذ غازي القدسي .
التنقيح النهائي : المهندس غسان السراقبي .
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيّدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، اللهم لا علم لنا إلا ما علَّمْتنا ، إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علِّمنا ما ينْفعنا ، وانْفعنا بِما علَّمتنا ، وزِدْنا عِلما ، وأَرِنا الحق حقاً وارْزقنا اتِّباعه ، وأرِنا الباطل باطِلاً وارزُقنا اجْتنابه ، واجْعلنا ممن يسْتمعون القول فَيَتَّبِعون أحْسنه ، وأدْخِلنا برحْمتك في عبادك الصالحين .
أيها الإخوة الأكارم ؛ مع الدرس السابع من دروس السيرة ؛ سيرة النبي عليه الصلاة والسلام ، وسيرة أصْحابه الكِرام رِضْوان الله تعالى عليهم أجمعين ، وصحابيُّ اليوم أبو عُبَيْدة عامر بن الجراح ، هذا الصحابي الجليل قال في حقِّه النبي الكريم صلى الله عليه وسلم : لِكُلِّ أُمَّةٍ أَمِينٌ وَأَمِينُ هَذِهِ الْأُمَّةِ أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ *
[رواه البخاري عَنْ أَنَسٍ ](1/1)
الدرس 46/50 ، سيرة الصحابي : أبو الدرداء ، لفضيلة الأستاذ محمد راتب النابلسي .
تفريغ : الأستاذ هشام القدسي .
التدقيق اللغوي : الأستاذ غازي القدسي .
التنقيح النهائي : المهندس غسان السراقبي .
بِسْمِ اللهِ الرَّحمَنِ الرَّحِيمِ
مع الدرس السادس والأربعين من دروس سيرة صحابة رسول الله رضوان الله تعالى عليهم أجمعين ، صحابي اليوم أبو الدرداء رضي الله عنه وأرضاه .
اسمه عويمر بن مالك الخزرجي المكنى بأبي الدرداء ، من نومه مبكراً ، أبو الدرداء هو الذي ينام مبكراً .
كان يمضي هذا الرجل قبل أن يكون صحابياً إلى صنمه الذي نصبه في أشرف مكان في بيته ، فيحيِّيه ويضمِّخه بأنفَس أنواع العطر ، ثمّ يلقي عليه أفخر الثياب من فاخر الحرير ، وكلما استيقظ صباحاً توجه إلى هذا الصنم يعبده من دون الله ، وبعد أن يقف أمام صنمه الذي وضعه في أشرف مكان في بيته ، ينطلق بعد هذا إلى متجره ، تأخر في إسلامه ، انطلق مرةً إلى متجره فإذا شوارع يثرب وطرقاتها تضيق بأتباع محمد ، وهم عائدون من بدر ، وأمامهم أفواج الأسرى من قريش فازوّر عنهم ، لكنه ما لبث أن أقبل على فتىً منهم ينتمي إلى الخزرج وسأله عن عبد الله بن رواحة ، ما شأنه ؟ ..
فقال له الفتى الخزرجي : لقد أبلى في المعركة أكرم البلاء وعاد سالماً غانماً وطمأنه عليه.
فلِمَ سأل أبو الدرداء عن عبد الله بن رواحة ؟ لأنه كان صديقاً له ، وكان بينهما من أواصر المودة الشيء الكثير ، فأبو الدرداء وعبد الله بن رواحة كانا أخوين متآخيين في الجاهلية ، ولما جاء الإسلام اعتنق ابن رواحة الإسلام ولم يعتنقه أبو الدرداء .
أقف هنا قليلاً ، هذه الحادثة تتكرر ، يكون في الحيِّ أو القرية صديقان حميمان ، أخوان طيبان ، على مقعد واحد في الدراسة ، في حي واحد ، في بيت واحد ، في متجر واحد ، في مكان واحد ، في عمل واحد ، بينهما تقارب في السن ، وتقارب في الطباع ، يحبان بعضهما ، فجأةً أحد الصديقين يتجه نحو الله عز وجل ، ويلتحق بمسجد ، يتأدب بأدب الإسلام ، يعيش أجواء الدين ، يقبل على كتاب الله الكريم ، والآخر يبقى على ما هو عليه .. بربكم هذا الذي اهتدى إلى الله ، أليس من واجبه الأول أن يعين صديقه الحميم الذي أمضى معه ردحاً من الزمن؟ .. ألم يقل عليه الصلاة والسلام : " إن الله ليسأل العبد عن صحبة ساعة " .
أقول والكلام لكم : إذا كان لأحدكم صديق في المدرسة ، صديق في الحي ، جار له ، صديق في العمل ، بينهما مودة بينهما محبة ، وبينهما تآخٍ سابقٍ ، واللهُ عز وجل أكرمه بالهدى ، فأقبل عليه ، وتخلق بأخلاق المسلمين ، واتبع شرع الله الحميد ، واجتهد في العبادات ، وأقبل على الطاعات ، وقرأ القرآن ، وحضر مجالس العلم ، وشعر بالسمو ، فهذا الذي كان صديقاً معه ، وأمضى معه عشرين عاماً ، عشرة ، أليس هؤلاء الأصدقاء أولى الناس أنْ تعنى بأمورهم؟ أليس هؤلاء الأصدقاء أحق الناس أن تهديهم ؟ أن تدلَّهم ، وأن ترعاهم ، وأن تزورهم، وأن تتفقدهم ، وأن تعرض عليهم بضاعتك الجديدة ، وانتماءك الجديد ، وتوبتك إلى الله عز وجل، وصلحك معه ، أليس هذا واجباً ؟.
أنا أيها الإخوة ، أريد من سيرة رسول الله وأصحابه الكرام أن تكون واقعاً ملموساً بين أيديكم ، أن نستفيد من أحداث السيرة ، ومن أفعال الصحابة الكرام لنكون على هدًى مثلهم .
حينما جاء الإسلام اعتنق عبد الله بن رواحة الإسلام ، وأعرض عنه أبو الدرداء ، والملاحظ أنّ بعض الإخوان الذين لم ينضجوا بعد ، عندما ينضم لمسجد ، ويهتدي إلى الله عز وجل ، ويلتحق بجماعة المؤمنين يحتقر أصدقاءه القدامى ، ويزور عنهم ويترفع عنهم ، فهم في نظره جهلة فاسقون .. أهكذا الصحبة ؟ .. ماذا يمنعك أن تزورهم من حين إلى آخر ، وتتفقدهم ، وأن تعرض عليهم ما أنت فيه من خير وهدىً ، لذلك فأبو الدرداء لم يسلم ، لكن عبد الله بن رواحة لم يقطع العلاقة مع أبي الدرداء ، وظل يتعهده بالزيارة ، ويدعوه إلى الإسلام ويرغبه فيه ويجعله يأسف على كل يوم يمضي من عمره وهو مشرك .
هذه النقطة الأولى في هذا الدرس ، هل يوجد شخصٌ ليس له أصدقاء ؟.
في مثل سنه ، نشآ معاً ، في العمل ، في البيت ، في المتجر ، حتى أحياناً في خدمة العَلَم ، في مهجع واحد أيضًا سنتين ، أليس هذا له حق عليه ؟ ..
إذاً عليك أن تتفقد أصحابك القدامى لأن الله سيسألك عنهم وسيحاسبك عنهم ، ولا تنس هذا الحديث الشريف : " إن الله ليسأل العبد عن صحبة ساعة " .
انطلق أبو الدرداء إلى متجره وتربع على كرسيه العالي ، وأخذ يأمر غلمانه وينهاهم ، وهو لا يعلم شيئاً مما يجري في منزله ، ففي ذلك الوقت كان عبد الله بن رواحة يمضي إلى بيت صاحبه أبي الدرداء وقد عزم على أمر ، فدخل إلى بيته ، ووصل إلى مكان الصنم الذي يعبده من دون الله ، صنم منحوت ، مضمَّخ بالعطر ، عليه حرير ماذا فعل بهذا الصنم ، قطَّعه بالفأس إرباً إرباً .
فلما رأت زوجة أبي الدرداء ما حل بالصنم الذي يعبده زوجها من دون الله ، توقعت الهلاك، وقالت له : يا ابن رواحة أهلكتَني عند أبي الدرداء .
ولم يمض غير قليل حتى عاد أبو الدرداء إلى منزله فرأى امرأته جالسة أمام الحجرة وهي تبكي وتنشج وعلامات الخوف من زوجها بادية على وجهها .
قال لها : ما شأنك ؟
قالت : أخوك عبد الله بن رواحة ، جاءنا في غيبتك وصنع هكذا بصنمك .
أنا أقول لكم دائماً : إنّ الإنسان أحياناً سرُّ هداه بلحظة تفكير صحيحة ، وكان ممكنًا لأبي الدرداء أنْ يغضب ، ويثور ، ويحمل الفأس ليكسر بها رأس الذي كسر صنمه ، لكن يبدو أن صديقه يعرفه عاقلاً ، يعرفه منطقياً .
نظر إلى الصنم فوجَدهُ حطاماً ، ماذا قال ؟ فكر فيما حدث ، ثم قال : لو كان في هذا الصنم خير لدفع الأذى عن نفسه ، ثم انطلق من توه إلى عبد الله بن رواحة ومضيا معاً إلى رسول الله صلى الله عليه وأعلن دخوله في الإسلام ، فكان آخر أهل حيه إسلاماً .
أنا أعبد صنماً حينما جاء رجل قطعه بالفأس ، فما استطاع هذا الصنم أن يدفع عنه ما أصابه ، إذاً هذا ليس إلهاً يُعبد من دون الله .
وبعد ؛ أمَا رأيت إنسانًا قويًّا صار ضعيفًا ؟ أما رأيت إنسانًا كان في أعلى درجات الجاه فصار وضيعاً ؟ أما رأيت غني افتقر ؟ أما رأيت طبيبًا مرِض ؟ أما رأيت قويًّا أصبح مشلولاً ؟ أما رأيت إنسانًا عظيمًا صار في لحظة خبراً على الجدران .
فهذا الإنسان الذي تخافه ، أو الذي ترجوه ، أو الذي تعبده من دون الله وأنت لا تشعر ، هذا الإنسان ألا تشله نقطة دم في بعض شرايين الدماغ ؟ .. وبمكان آخر يفقد ذاكرته ، وبمكان آخر يفقد ذاكرته ، وبمكان آخر يفقد عقله ، وبمكان رابع يفقد بصره ، ما هذا الإنسان الذي يقول (أنا) وهو لا يستطيع أن يدفع عن نفسه شراً .
الحقيقة عبادة الأصنام الحجرية انتهت مع مجيء الإسلام ، ولكن أحياناً يكون للإنسان ابن خالة بمكان مرموق ، دائماً متكئ عليه ، ابن خالتي فلان ، انتبه فمعي رقم تلفونه .. خير إن شاء الله ، هذا شرك .
أنت معتمد على هذا الإنسان وهو بعيد ، فنحن لا نخاف على المسلمين مِن الشرك الجلي ، ولكن نخاف عليهم من الشرك الخفي الشرك الخفي أن تعتقد أن إنساناً بإمكانه أن ينفعك أو أن يضرك ، أن تعتقد أن إنساناً بإمكانه أن يعطيك أو أن يمنعك .
لا معطيَ ، ولا مانعَ ، ولا رافعَ ، ولا خافضَ إلا الله ، هذا هو التوحيد لذلك كلما وضعت الثقة بالله عز وجل أكرمك الله ، وكلما وضعت الثقة بغير الله عز وجل تخلى الله عنك .
وندم أبو الدرداء ندماً كبيراً على ما فاته من خير ، وأدرك إدراكاً عظيماً ما سبقه إليه أصحابه من فقه في الدين وحفظ لكتاب الله وعبادة وتقوى ادخروها لأنفسهم عند الله .
المشكلة لدينا تسابق ، الله عز وجل قال : وسابقوا .. وقال : وفي ذلك فليتنافس المتنافسون.. والجنة أبدية ، مراتب الجنة بحسب أعمال الدنيا ، فكل إنسان يحب إن ينافس الناس في الدنيا ولا يحب أن ينافسهم في الآخرة فهو إنسان غبي ، لأن منافسة الدنيا ينتهي شأنها بالموت .
لاحظ أحياناً سيارة تزاحم السيارات ، تزاحم وترتكب الأخطار من أجل أن تصل إلى الإشارة الحمراء ، والذي قصر يقف جنبه ، فهذه المزاحمة حمقاء ، ولو كان الطريق سالكًا إلى ما لا نهاية يمكن أنْ تزاحم ، ولكن بعد مائتين متر هناك إشارة حمراء ، فكل هذا الطيش والمزاحمة والتجاوز والوقوع في الأخطار جعَلَ الناس يسبُّون هذا السائق ، وبعد دقيقة يقف عند الإشارة الحمراء مثله مثل الآخرين .
إذاً هذه مزاحمة فيها غباء ، هذا مثل بسيط ، لو زاحمت الناس في الدنيا وحصلت على أكبر نصيب ، فيأتي الموت ويسوِّي بينك وبين أفقر إنسان .
لو زاحمت الناس وحصلت أكبر مرتبة اجتماعية ، يأتي الموت ويساوي بينك وبين أضعف إنسان ، هذا الموت أمرُه عجيب ، ينهي غنى الغني وفقر الفقير ، وقوة القوي وضعف الضعيف، وصحة الصحيح ومرض المريض ، ينهي كل الميزات وكل السيئات ، هذه المنافسة إذاً غير معقولة ، إذاً أين المنافسة ؟ .. في الآخرة .
فهذا أبو الدرداء رضي الله عنه ندم أشد الندم على تقصيره وعلى تأخر إسلامه ، فعزم على أن يستدرك ما فات ، بالجهد الجاهد ، وأن يواصل كلال الليل بكلال النهار ، حتى يلحق بالركب ويتقدم عليه فانصرف إلى العبادة انصراف المتبتل ، وأقبل على العلم إقبال الظمآن وأكب على كتاب الله يحفظه ويتعمق في فهم آياته ، ولما رأى التجارة تنغص عليه لذة العبادة وتفوت عليه مجالس العلم تركها غير متردد ولا آسف .
هل هذا مِن أبي الدرداء حكم شرعي ؟ .. لا لكنه موقف شخصي يجب أن نفرق دائماً بين الحكم الشرعي الذي يصدر عن النبي صلى الله عليه وسلم من خلال أقواله أو أفعاله أو إقراره ، وبين الموقف الشخصي الذي يصدر عن غير النبي .
فلديه سبب ، إنه متأخر ، فمثلاً هل يمكن لشخص أن يقرأ عشرين ساعة في النهار ؟ الشيء الطبيعي ثماني ساعات ، لكن لو فرضنا إنسانًا نام طوال العام الدراسي ، وصحا قبل شهر من الفحص ، ودرس عشرين ساعة في اليوم ، هذا وضع استثنائي ، ليس هذا أصلاً ، الأصل ثماني ساعات ، وتنام ثماني ساعات ، ودوام ثماني ساعات .. دوام وراحة ودراسة ، أما حينما ينام الطالب ثمانية أشهر من دون دراسة ، والفحص على الأبواب ، فإذا درس عشرين ساعة في اليوم فهذا وضع استثنائي .. فَهِمْتٌم سببَ ترك سيدنا أبي الدرداء التجارة ، وشعر بالتقصير والندم، وشعر أن الصحابة قد سبقوه مراحل فسيحة ، وأنه فاته خير كثير .
أحياناً يأتي شخصٌ أخر مثلاً يقول لك : أما عندكم دروس ، فتقول له : درس الجمعة درس تفسير ، ودرس الأحد درس فقه ، ودرس الاثنين درس سيرة ، ودرس للدعاة يوم السبت ، ودرس الفجر ، والخطبة ، سبحان الله يأتي إلى جميع الدروس ، ثم يقول : عندكم أشرطة لتلك الدروس .
صدقاً بعض الإخوان أعطيه عشرة عشرين شريطًا أقول لنفسي يحتاج إلى شهر ، بعد ثلاثة أيام يأتي بهم ، ويقول : سمعتها كلها ، لديكم غيرها .
أحياناً في حالات خاصة الإنسان يحس أنه فاته خير كثير ، كيف يعوض ؟
فأنا أقول لكم : إن أبا الدرداء ترك التجارة لأنه شعر بالتقصير ، شعر بالغبن الفاحش ، شعر أن
هناك أصحابًا سبقوه مراحل فسيحة .
سأله سائل عن تركه للتجارة فقال : كنت تاجراً قبل عهدي برسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما أسلمت أردت أن أجمع بين التجارة والعبادة ، فلم يستقم لي ما أردت ، فتركت التجارة وأقبلت على العبادة .
أنا لا أحب أن يُفهم غيرُ ما ينبغي أن يُفهم ، الإنسان أحياناً يكون عمله جزء من عبادته ، يكون عنده زوجة وأولاد ، وهو يعمل ليكسب المال لينفق على هؤلاء ، أما إذا عرف الله عز وجل ، واحتسب عمله عند الله انقلب عمله إلى عبادة .
يعني الإنسان ينبغي أن يجمع بين الدنيا وبين الآخرة ، لقول النبي عليه الصلاة والسلام : "ليس بخيركم من ترك دنياه لآخرته ، ولا من ترك آخرته لدنياه ، إلا أن يأخذ منهما معاً فإن الأولى مطية للثانية " .
فقد جعل الله قوام الحياة أن تكسب الرزق وتطعم ، والأدلة كثيرة من حديث النبي عليه الصلاة والسلام ، ألم تسمعوا أن النبي عليه الصلاة والسلام دخل إلى المسجد فرأى شاباً يصلي فيما بين الصلاتين .
سأله قائلاً : مَن يطعمك ، قال : أخي ، قال : أخوك أعبد منك " .
لكن طالب العلم لما جاء شريكه يشكوه للنبي ، ماذا قال للشريك ؟ لعلك تُرزق به ، فطلب العلم عمل ، الآن في العالم تُخصَّص منحٌ دراسية ، فيأتي الطالب للجامعة أو للثانوية ، يدرس ولا يكلَّف بعمل ، يكلَّف بالدراسة حصرًا ، إذاً إذَا طلبت العلم فهذا عمل مشرف .
أنا أنصح إخواننا الشباب الذين يجدون من ينفق عليهم ، ووجد بيتاً يؤويه ، أنا أنصحه يطلب العلم ، لأن العلم أثمن شيء في الحياة ، وكثير مِنَ الأشخاص لا يُتاح لهم أن يدرسوا ، ويضطرون أن يعملوا حتى يأكلوا ، فإذا هيَّأ الله لشاب أبًا ينفق عليه فليطلب العلم الشرعي ، حتى يكون عالمًا ، لأن مرتبة العلم هي أعلى الرتب .
أحد الخلفاء وهو في الحج طلب أن يلتقي بعالم ، وهذا العالم كان عبدًا فالتقى به ، فالعالم أعزَّه العلم ، لا أقول كبر ، بل أعزّه الله ، وكان سيدنا الحسن مرةً يمشي مشية فيها شعور بالثقة، فقال له أحدُهم : أَكبَرْتَ ؟
قال : لا ، ولكنه عز الطاعة ، المطيع يشعر بالعزة ، الكبر قبيح مذموم ، أما الذي يطيع الله عز وجل فيشعر بالعزة .
يبدو أن هذا العالم العبد وقف موقفًا أمام الخليفة في عزة ، قال الخليفة لابنه : قم يا بني ، وتعلّم العلم ، ألا ترى حالنا مع هذا العالم ، وقفنا أمامه أذلاء ، قم يا بني واطلبْ العلم .
قال : تعلموا العلم فإن كنتم سادة فُقْتُم ، وإن كنتم وسطاً سُدْتم ، وإن كنتم سوقة عِشتُم .
إذا كنت مِن الطبقة الرفيعة في المجتمع ، وطلبت العلم صرتَ متفوقاً ، وإن كنت من الطبقة الوسطى ، وطلبتَ العلم صرت سيداً ، وإن كنت من الطبقة الدنيا وطلبت العلم عشت بين الناس حميدَ السيرة .
يقول أبو الدرداء : والذي نفس أبي الدرداء بيده ، ما أحب أن يكون لي اليوم حانوت على باب المسجد فلا تفوتني صلاة مع الجماعة ثم أبيع وأشتري وأربح كل يوم ثلاثمائة دينار ، ثم نظر إلى سائله وقال : إني لا أقول : إن الله عز وجل حرم البيع ، ولكني أحبّ أن أكون من الذين لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله .
لذلك هذه نصيحة لي ولكم ، من أحب دنياه أضر بآخرته ، ومن أحب آخرته أضر بدنياه ، وحينما يتفرّغ الإنسان تفرغًا كاملاً للتجارة يربح أكثر بحسب قواعد التجارة ، ولكن المؤمن يعقد موازنة ، يجمع بين العمل وبين طلب العلم ، وبين العمل والعبادة ، بين العمل وبين الدعوة إلى الله وبين العمل وبين حضور حلقات الذكر ، بين العمل وبين ما ينبغي أن يفعله .
في خلافة الفاروق رضوان الله عليه ، أراد من أبي الدرداء أن يلي له عملاً في الشام فأبى، قال : إذا رضيت مني أن أذهب إليهم لأعلمهم كتاب ربهم وسنة نبيهم وأصلي بهم ذهبت .
المنصب العلمي فيه عطاء ، المنصب الإداري فيه أخذ ، فمدير ثانوية عملُه محصور في : مَن تأخر اليوم ؟ ومَن لم يدفع القسط ؟ كل عمله أساسه سلْبُ ما عند الناس ، أما المدرس فيعطي ، ترى الطالب يميل إلى المدرس أكثر من ميله إلى المدير ، فعنده العطاء ، فعملُ المدير سلبٌ ، يبني عمله على أمور إدارية ، ضبط الوقود ، وضبط الدوام ، كله ضبط ، لكن التدريس فيه عطاء ، أليس كذلك ؟ لذلك من المناصب الرفيعة أن تكون معلماً ، في أي مرحلة النبي عليه الصلاة والسلام يقول : " إنما بعثت معلماً ، إنما بُعثت لأتمم مكارم الأخلاق " .
يعني أعلى وظيفة تشغلها في الحياة أن تكون معلماً ، الملائكة في السماء والحيتان في البحار تصلي على معلمي الناس الخير .. كلام النبي كلام دقيق صلى الله عليه وسلم ، قال : "خَيْرُكُمْ مَنْ تَعَلَّمَ الْقُرْآنَ وَعَلَّمَهُ *
(رواه البخاري عن عثمان)
لنا إخوان من فضل الله ، أساس عملهم بعيد عن التعليم ، يدرسون طلابًا صغارا في تحفيظ قرآن وتجويده ، يقول عن نفسه : أنا أعيش في عالم آخر ، وهذا شيء مسعد حقًّا .
مهنة التعليم أرقى حرفة ، لأنها حرفة الأنبياء ، لكن إذا ضعفت قيمة العلم في المجتمعات ضعفت معها قيمة التعليم .
أضرب مثلاً ، الذي يقف ليبيع هذا اللحم المشوي الذي انتشر في الشام ، راتبه الشهري ثمانية عشر ألف ليرة ، لكن منصب التدريس دخله ضعيف جداً ، ما معنى ذلك ؟ أن بطن الناس أغلى عليهم من عقولهم ، فإذا كان البطن أغلى من العقل ، يصير الذي يقف على منصة اللحم ليبيعه يتقاضى ثمانية عشر ألفًا بالشهر ، والذي يقف بين خمسين طالبًا ليعلمهم القيم واللغة يتقاضى أقلَّ دخلٍ في عالم الوظائف ، أليس كذلك ؟ .
فالأمة ما الذي يعنيها أكثر من غيره ؟ ترى أنّ بعض الأعمال يرتفع صاحبُها.
لو فرضنا إنسانًا حاز أعلى شهادة ، فراتبُه ربما لا يكفيه ، لكن تتقاضى المغنية سبعين ألف ليرة في سهرة واحدة ، ما معنى ذلك ، المعنى أنّ الطرب عند الناس أغلى عليهم من العقل .
من عدم الحكمة أن تقيس المهنة بدخلها ، تقاس المهنة بمدى ارتباطها برسالة الإنسان في الحياة ، تقاس المهنة بمدى رضوان الله على صاحبها ، هذه .
فعرضوا على أبي الدرداء منصبًا إداريًّا ، وأنْ يكون واليَ الشام فرفض ، قال : أنا إذا ذهبت إلى الشام أعلِّمهم كتاب الله وسنة نبيهم ، وأصلي بهم ، فإذا أردتَ - الكلام موجَّهٌ إلى الخليفة - ذهبتُ إلى الشام .
فلما بلغها قال : وجدتُ الناس قد أولعوا بالترف ، وانغمسوا في النعيم ، فهاله ذلك ، ودعا الناس إلى المسجد ، فاجتمعوا عليه ، فوقف فيهم فقال :يا أهل دمشق ، أنتم الإخوان في الدين ، والجيران في الدار ، والأنصار على الأعداء ، يا أهل دمشق ، ما الذي يمنعكم من مودتي ، والاستجابة لنصيحتي ، وأنا لا أبتغي منكم شيئاً ، فنصيحتي لكم ومؤونتي على غيركم .
ما لي أرى علماءكم يذهبون ، وجهالكم لا يتعلمون ، وأراكم قد أقبلتم على ما تكفل لكم به الله عز وجل وتركتم ما أمرتم به ، ما لي أراكم تجمعون ما لا تأكلون ، وتبنون مالا تسكنون ، وتؤملِّون ما لا تبلغون .
لقد جمعتِ الأقوامَ التي قبلكم ، وأمَّلت فما هو إلا قليل حتى أصبح جمعهم بوراً ، وأملهم غروراً ، وبيوتهم قبوراً .
واللهِ هذه موعظة بليغة ، يقول لك : وضعت سبعة أكياس إسمنت في هذه الأساسات ، وهذه البناية يسكنها مليون شخص ، فهل أنت تعيش مدى الحياة ؟ هناك بيوت من اللبِن عمرها أربعمائة سنة في الشام ، وهذا يعني أنّ بناء الإسمنت المسلح يقاوم ألف سنة ، عمر الإنسان كلُّه ستون سنة ، والبناية التي أُقيمت له ربما لا يسكنها .
قال : مالي أراكم تبنون ما لا تسكنون ، وتؤمِّلُون ما لا تبلغون ، لقد جمعت الأقوام التي قبلكم ، وأمَّلَت ، فما هو إلا قليل حتى أصبح جمعهم بوراً ، وأملهم غرورا ، وبيوتهم قبوراً ، هذه عاد يا أهل دمشق قد ملأت الأرض مالاً وولداً ، فمن يشتري مني تركة عاد اليوم بدرهمين؟ فجعل الناس يبكون حتى سُمع نشيجهم من خارج المسجد ، لقد كانت كلمة بليغة.
مِن ذلك اليوم طفق أبو الدرداء يؤمُّ مجالس الناس في دمشق ، ويطوف بأسواقهم ، فيجيب السائل ، ويعلّم الجاهل ، وينبِّه الغافل ، مغتنماً كل فرصة ، مستفيداً من كل مناسبة .
له مواقف رائعة جداً ، مرةً مر على جماعة ، قد تجمهروا على رجل وجعلوا يضربونه ويشتمونه ، فأقبل عليهم وقال : ما الخبر .
قالوا : رجل وقع في ذنب كبير .
قال : أرأيتم لو وقع في بئر أفلم تكونوا تستخرجونه منه .
قالوا : بلى .
قال : إذاً لا تسبوه ، ولا تضربوه ، وإنما عِظُوه وبصِّروه ، واحمدوا الله الذي عافاكم من الوقوع في هذا الذنب .
قالوا : أفلا تضربه ؟.
قال : لا ، إنما أبغض فعله ، فإذا تركه فهو أخي .
ما قولكم بطريقة الدعوة إلى الله ؟.
فأخذ الرجل ينتحب ويعلن توبته .
هذه طريقة في الدعوة إلى الله ، أنت طبيب ، لست خصمًا ، إذا جاء الطبيبُ إلى مريض فهل يحقد عليه ، لا ، بل يرثي لحاله ، ويحاول إنقاذه ، وتطبيبه .
شاب أقبل على أبي الدرداء ، قال : يا صاحب رسول الله أوصني .
قال : يا بني اذكر الله في السراء يذكرك في الضراء ، يا بني ؛ كن عالماً أو متعلماً أو مستمعاً ولا تكن الرابعة فتهلك .
يا بني ؛ ليكن المسجد بيتك ، فإن سمعت النبي عليه الصلاة والسلام يقول : " المساجد بيت كل تقي " .
المؤمن في المسجد كالسمكة في الماء ، والمنافق في المسجد كالعصفور في القفص ، يكاد يختنق ، لأنه يتضجّر .
وقد ضمن الله عز وجل لمن كانت المساجد بيوتهم ، الرَّوح والرحمة والجواز على الصراط.
مر سيدنا أبو الدرداء على جماعة من الشبان جلسوا على الطريق يتحدثون وينظرون إلى المارين .
من معلوماتكم المشي والتنزه في الطرقات يجرح العدالة ، الحديث عن النساء يجرح العدالة ، صحبة الأراذل تجرح العدالة .
قال يا بني صومعة الرجل بيته ، يكف فيه نفسه وبصره ، وإياكم والجلوس في الأسواق فإنه يلهي ويلغي .
الطرقات الآن فيها نساء كاسيات عاريات ، البيت أرحم وأولى ، إذا فسد الزمان فالبيت صومعة ، وصار محرابُ البيت كهفًا ، قال تعالى :
[سورة الكهف]
في أثناء إقامة أبي الدرداء في دمشق بعث إليه واليها معاوية بن أبي سفيان يخطب ابنته الدرداء لابنه يزيد فأبى أن يزوجها ابنه وأعطاها لشاب من عامة المسلمين ، لأنه رضي دينه وخلقه ، فسار ذلك في الناس وشاع الخبر ، أنّ يزيد بن معاوية خطب ابنةَ أبي الدرداء فردّه أبوها ، وزوَّجها لرجل من عامة المسلمين.
سأله سائل عن السبب ، فقال : إني تحرَّيتُ فيما صنعتُه صلاح أمر الدرداء ، قال : وكيف؟
قال : ما ظنكم بالدرداء إذا قام بين يديها العبيد يخدمونها ، ووجدت نفسها في قصور يخطف لألاؤها البصر ، أين يكون دينها حينئذ ، لذلك أعطاها لشاب من عامة المسلمين .
حينما كان أبو الدرداء في الشام قدم سيدنا عمر متفقداً أحواله ، فزار صاحبه أبا الدرداء في منزله ليلاً ، فدفع الباب فإذا هو بغير غلق ، فدخل في بيت مظلم لا ضوء فيه ، فلما سمع أبو الدرداء صوته قام إليه ورحّب به وأجلسه ، وأخذ الرجلان يتناوبان الأحاديث ، والظلام يحجب كلاً منهما عن صاحبه .
قال له عمر : رحمك الله ، ألم أوسِّعْ عليك ؟ ألم أبعث إليك ؟ قال له أبو الدرداء - ويبدوا أن سيدنا عمر أعطاه عطاءً ليوسِّع على نفسه ، لكن أبا الدرداء تصدَّق به .
قال : أتذكر يا عمر حديثاً حدثنا به النبي صلى الله عليه وسلم .
قال : وما هو ؟.
قال : ألم يقل : ليكن بلاغ أحدكم من الدنيا كزاد الراكب " .
قال : بلى .
قال : فماذا فعلنا بعده يا عمر ؟.
فبكى عمر ، وبكى أبو الدرداء .
ظل أبو الدرداء في دمشق يعظ أهلها ، ويعلمهم الكتاب والحكمة ، حتى أتاه اليقين ، الموت.
فلما مرِض مرَض الموت ، دخل عليه أصحابه : فقالوا : ما تشتكي ؟
قال : ذنوبي .
قالوا : ما تشتهي ؟
قال : عفو ربي .
ثم قال لمَن حوله : لقِّنوني لا إله إلا الله محمد رسول الله .
فما زال يرددها حتى فارق الحياة .
فلما لحق أبو الدرداء بجوار ربه ، رأى عوفُ بن مالك الأشجعي فيما يراه النائمُ مرجاً أخضر فسيحَ الأرجاء ، وارفَ الأَفْياء ، فيه قبة عظيمة من أدم حولها غنم رابضة لم تر العين مثلها قط .
قال : لمن هذا ؟ قيل هذا لعبد الرحمن بن عوف ، فطلع عليه عبد الرحمن بن عوف وقال له : يا ابن مالك ، هذا ما أعطانا الله عز وجل بالقرآن ، ولو أشرفت على هذه الثنية لرأيت ما لم تر عينك وسمعت ما لم تسمع أذنك ووجدت ما لم يخطر على قلبك ، قال ابن مالك : ولمَن ذلك كله يا أبا محمد ؟ قال : أعده الله عز وجل لأبي الدرداء ، لأنه كان يدفع عنه الدنيا بالراحتين والصدر .
في بعض الروايات كان أبو الدرداء قصير القامة ، شديد السمرة ، في أنفه فطس ، وأما نبؤه فعظيم جداً .
الآن إذا ذهبتم إلى قلعة دمشق ، لها مدخل شمالي حديث ، يصل بكم إلى العصرونية ، بعد أمتار عدة ، تجدون مسجداً في القلعة اسمه مسجد أبي الدرداء ، رضي الله عنه وأرضاه .
نستنبط أن أبا الدرداء كان سبب هدايته صديقُه عبدُ الله بنُ رواحة ، وأبو الدرداء عرض عليه عمر منصباً راقياً جداً ، والي دمشق ، فماذا فضل عليه ؟ منصب التعليم ، لأن منصب التعليم أرقى عند الله عز وجل ، قال عليه الصلاة والسلام : خَيْرُكُمْ مَنْ تَعَلَّمَ الْقُرْآنَ وَعَلَّمَهُ *
[رواه البخاري عَنْ عُثْمَانَ]
ولا تنسوا أن هذا الصحابي الجليل زوّج ابنته من شاب من عامة المسلمين حفاظاً على دينها، لأن الأب إن لم يزوج ابنته من المؤمن فإن كل أعمالها غير الصحيحة في صحيفته ، وقد تقول لله عز وجل يوم القيامة ، يا رب لا أدخل النار حتى أُدخل أبي قبلي .
لا تنتهي مسؤولية الأب عند تزويج ابنته ، بل تبدأ ، إلا إذا اختار لها الزوج الصالح .
وهناك أشياء يمكن أن نستنبطها من هذه القصة ، أرجو الله تعالى أن ننتفع بسلوك هذا الصحابي الجليل وعلمه .
والحمد لله رب العالمين
***(/)
الدرس 20/50 : سيرة الصحابي : أبو العاص بن الربيع لفضيلة الأستاذ الدكتور محمد راتب النابلسي .
التاريخ : 22/02/1993
تفريغ : م . م . حسان العودة .
التدقيق اللغوي : الأستاذ غازي القدسي .
التنقيح النهائي : المهندس غسان السراقبي .
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا ، وزدنا علماً ، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .
أيها الإخوة الأكارم : قصة من قصص أصحاب رسول الله رضوان الله تعالى عليهم أجمعين ، ولكن هذه القصة لها طعم خاص ، ذلك أنها تتصل اتصالاً مباشرًا بأهل بيت النبي عليه الصلاة والسلام ، إنه أحد أصهاره ، ويمكن أن نستنبط من هذه القصة موقف النبي عليه الصلاة والسلام من قرابته ، وكيف كان مثلاً أعلى للمؤمنين في علاقاته مع من يلوذ به ، صهره أبو العاص بن الربيع العبسي القرشي .
كان شاباً موفور الشباب ، بهي الرونق ، رائع المجتلى ، كان ذا نعمة ، وحسبٍ ، ونسبٍ ، وكان فارساً ، فيه كل خصائص الأنفة ، والكبرياء ، وكل مثال المروءة والوفاء .
هذا الرجل قبل الإسلام كان مولعاً بالتجارة ، فقد أحبها حباً جما ، وكان صاحب رحلتين إلى الشام ، رحلة الشتاء ، ورحلة الصيف ، وكانت قافلته تضم مائة من الإبل ، ومائتين من الرجال، من أضخم القوافل ، رحلتان إلى الشام ، رحلة الشتاء ، ورحلة الصيف ، وكل رحلة فيها مائة بعير عليها الأحمال ، مع مائتي رجل يرعون هذه الأحمال ، هذا حجم تجارته .
ويبدو أنه ، بالتعبير الحديث كان شريكاً بجهده ، فأناس كثيرون بمكة كانوا يدفعون إليه بأموالهم ليتجر بها ، وهذه شركة القراض أو المضاربة ، إنسان بماله ، وإنسان بجهده .
خديجة بنت خويلد زوج النبي عليه الصلاة والسلام هي خالته ، وله في نفسها منزلة رفيعة جداً ، تحبه وتعطف عليه ، وترعاه ، وكان موفور الشباب ، كان ملء السمع والبصر .
لا بد من هذه المقدمة قبل أن نبدأ بالموضوع ، والأعوام مرت سراعاً على بيت محمد بن عبد الله فشبت زينب كبرى بناته عليه الصلاة والسلام من السيدة خديجة ، وتفتحت كما تتفتح الزهرة فواحة الشذا بهية الرواء ، طمحت إليها نفوس أبناء السادة من أشراف مكة ، فهي من أعرق بنات قريش حسباً ، ونسباً ، ومن أكرمهن أماً وأباً، ومن أزكاهن خلقاً وأدباً ، لكن أنَّى لهم يظفروا بها وقد حال دونهم ودونها ابن خالتها ، أبو العاص بن الربيع فتى الفتيان .
إذاً فالنبي عليه الصلاة والسلام قبل البعثة ، تزوج من السيدة خديجة ، ورزق منها البنات ، كانت كبرى بناته زينب ، تفتحت ، وكانت تتمتع بخصال حميدة فهي من أبويْن كريمين ، ومن بيتِ حسبٍ ونسبٍ عريقين ، طمحت إليها نفوس أبناء سادة قريش ، لكن ابن خالتها حال بينهم وبينها ، وكان الزواج الميمون ، زواج أبي العاص بن الربيع من بنت النبي عليه الصلاة والسلام زينب ، لم يمض على اقتران زينب بنت محمد بأبي العاص إلا سنوات محدودات حتى أشرقت بطاح مكة بنور البعثة المحمدية ، ونزل الوحي ، وبعث النبي عليه الصلاة والسلام نبياً ورسولاً إلى العرب ، وإلى الأمم جميعاً ، وأمر الله نبيه أن ينذر عشيرته الأقربين .
( سورة الشعراء : 213 ـ 214 ) .
النبي عليه الصلاة والسلام دعا إلى الله عز وجل ، وأنذر عشيرته الأقربين ، فكان أول من آمن به من النساء خديجة ، وأول من آمن به من بناته زينب ، ورقية ، وأم كلثوم ، وفاطمة ، لكن كنَّ صغيرات السن ، وهنا دخلنا في القصة ، ثم إن صهره أبا العاص كره أن يفارق دين آبائه وأجداده ، هنا بدأت العقبة ، صهره زوج ابنته لم يؤمن به ، وكره أن يفارق دين آبائه وأجداده ، والإنسان كما يقال : عدو ما يجهل ، ومن علائم ذكاء الإنسان أن يتحرر من كل شيءٍ ألفه ولو كان باطلاً ، ويبحث عن الحق ولو لم يألفه ، وعلى كلٍ فهذا الإنسان كره أن يفارق دين آبائه وأجداده ، وأبى أن يدخل فيما دخل فيه زوجته زينب ، على الرغم من أنه كان يُصِفْها الوداد ، ويحبها حبا جما ، ولما اشتد نزاع النبي عليه الصلاة والسلام مع قريش ، فكَّروا في إشغال النبي عن دعوته بشيء ، والإنسان قد يكرمه الله عز وجل بسبب موقف أخلاقي ، فأراد كفارُ مكة أن يغيظوا النبي ، وأن ينالوا منه ، وأن يحمِّلوه فوق طاقته ، فقالوا : ويحكم إنكم قد حملتم عن محمد همومه بتزويج فتيانكم من بناته ، فلو رددتموهن إليه لانشغل بهن عنكم ، طلقوا بناته ، فوصل الأمرُ بكفار مكة مع النبي عليه الصلاة والسلام إلى مستوى تطليق بناته ، ليحمل همَّهنّ فوق هم الدعوة ، حينما كنت أقول : إن النبي ذاق كل مرارةَ ، واللهِ لقد غاب عن ذهني أن بناته قد طُلِّقن ، فالأب إذا كان طلقت ابنته كان مصابُه عظيمًا ، فهاجر من مكة إلى المدينة ، وذاق اليتم ، وذاق الفقر ، وذاق موت الولد ، وذاق تطليق بناته من أصهاره ، فقال كفار قريش: ويحكم إنكم قد حملتم عن محمد همومه ، بتزويج فتيانكم من بناته ، فلو رددتموهن إليه لانشغل بهن عنكم ، قالوا : واللهِ نِعْمَ الرأي ما رأيتم ، والكافر حيثما قدَرَ على الأذى يتهلل وجهه ، حيثما قدَر على إيقاع الضرر بالآخرين تجده نشيطًا ، أمّا إذا دعوته إلى عمل صالح ألفيتَه كسولا، قالوا : واللهِ نِعْمَ الرأي ما رأيتم ، ومَشَوْا إلى أبي العاص ، وقالوا له : فارقْ صاحبتك يا أبا العاص ، وردَّها إلى بيت أبيها ، ونحن نزوجك أي امرأة تشاء من كرائم عقيلات قريش ، هناك أشخاص حتى الآن إذا تزوج ابنه من مؤمنة ، يقول له أبوه : فارقها ونحن نزوجك غيرها ، لا لشيء إلا لأنها مؤمنة ، فارق صاحبتك يا أبا العاص ، وردّها إلى بيت أبيها ، ونحن نزوجك أي امرأة تشاء من كرائم عقيلات قريش ، وهذا الموقف الأخلاقي الذي وقفه ، فقال : لا والله إني لا أفارق صاحبتي .
يا أيها الإخوة الأكارم : أي إنسان يضايق زوجته بخصومة بينه وبين أهلها ، فهذا إنسان دون الخط الأحمر ، أشخاص كثيرون ، لهم زوجات صالحات ، زوجات مخلصات ، زوجات طائعات ، لأن خلافًا نشأ بينك وبين أخيها ، أو بينك وبين أبيها ، تهددها بالطلاق أهذه هي المروءة ؟ ماذا فعلت معك ؟ قال تعالى :
( سورة فاطر : 18 ) .
ولا تزر وازرة وزر أخرى ، لكن العوام والجهلاء حينما يقعون في خصومة مع أهل زوجاتهن ، لا يجدون متنفساً لهم إلا بإيقاع الأذى بزوجاتهم ، كيداً لأهلهن .
قال : ولا والله إني لا أفارق صاحبتي ، وما أحب أن لي بها نساء الدنيا جميعاً ، هذه بطولة أن تفصل قضيتك عن قضية أهل زوجتك، هذا الموقف الأخلاقي من أبي العاص هو الذي رده إلى هذا الدين ، هو الذي جعله يسلم ، وهو السبب الذي أكرمه الله بالإسلام بعد إذْ لم يكن مسلماً، قال : ولا والله إني لا أفارق صاحبتي ، وما أحب أن لي بها نساء الدنيا جميعاً ، أما ابنتاه رقية وأم كلثوم فقد طُلِّقتا ، وحُمِلتا إلى بيته الشريف ، لكن النبي عليه الصلاة والسلام سُرَّ بردِّهما إليه، وتمنى أن لو فعل أبو العاص كما فعل صاحباه ، لأنه خلصهما من بيت فيه شرك وكفر ، غير أنه ما كان يملك من القوة ما يرغمه على ذلك ، يعني لا يتمكن النبي عليه الصلاة والسلام أنْ يأمر أبا العاص أن يطلق ابنته ، لكن بعد حين أيها الإخوة نزل تشريع خلاصته :
إن المرأة المؤمنة إذا بقي زوجها مشركاً فلا بد أن يفارقها ، لأنها تابعة له ، فقد يأمرها بالمنكر ، وقد يأمرها بالمعصية ، الزواج رق ، وبعد حين شرع الله للمؤمنين ؛ أن الكافر أو المشرك لا يمكن أن يبقى زوجاً للمؤمنة ، وإذا طالب بالمهر هذا من حقه ، يدفع إليه المهر ، ولما هاجر النبي عليه الصلاة والسلام إلى المدينة واشتد أمره فيها وخرجت قريش لقتاله في بدر، الآن برَز على السطح موقف حرج جداً ، قريش كلها خرجت لقتال النبي عليه الصلاة والسلام ، وأبو العاص صهره لا بد من أن يخرج مع من خرج ، وابنته لا زالت عنده ، تحت إمرته ، ولم يكن التشريع قد أنزل بعد ، لكنَّ أبا العاص لم تكن له رغبة في قتال المسلمين ، ولا أرب له في النيل منهم ، إلاّ أنّ منزلته من قومه حملته على أن يسايرهم ، وقد انجلت بدر عن هزيمة منكرة لقريش ، أذلت أنوف الشرك ، وقصمتْ ظهور طواغيته ففريق قتل ، وفريق أسر، وفريق نجاه الفرار ، وكان من زمرة الأسرى أبو العاص ، زوج زينب بنت محمد صلوات الله عليه ، الموقف الصعب حين أن يستعرض النبي الأسرى فإذا أبو العاص بينهم ، لماذا جاء ؟ جاء ليقاتل المؤمنين ، جاء لينتصر عليهم ، فنظر إلى صهره أبي العاص ، وقال كلمة لا تُنسى، قال عليه الصلاة والسلام : والله ما ذممناه صهراً ، فهل رأيت حُكماً موضوعياً أشدَّ من هذا الحكم ؟ يستعرض أسيراً جاء لقتاله ، جاء لينال منه ، جاء ليقتله ، أو جاء ليقتل أصحابه ، ومع ذلك ما نسي النبي عليه الصلاة والسلام موقفه الشهم من زوجته حينما رفض أن يطلقها وقال والله لا أتمنى أن لي بها نساء العالمين ، قال عليه الصلاة والسلام : والله ما ذممناه صهراً ، أنصفه ، والإنسان إن لم ينصف فليس مؤمناً ، من صفات المؤمن إنصاف الناس من نفسه ، وأن يقف عند العدل ، وها قد وقع أسيرًا ، وأضحى أهلُ الأسرى يرسلون فدية ليفتدوا بها أسراهم من النبي عليه الصلاة والسلام ، وهذه زينب وزوجها أسير عند أبيها ، وأبوها نبيٌ مرسل ، وزوجها جاء ليحارب أباها ، وقد وقع أسيراً عنده ، وينبغي أن تفتديه من أبيها ، هذه قضية خاصة جداً ، فبعثت زينب رسولها إلى المدينة ، يحمل فدية زوجها أبي العاص ، لكن ما هي هذه الفدية ؟ حينما تزوجت زينب أبا العاص قدَّمت لها أمها هدية ثمينة ، وهي قلادة السيدة خديجة ، حينما زفت إلى زوجها ، وزينب الآن لا تملك إلا هذه القلادة ، فبعثت بها إلى أبيها ليأخذ القلادة ، فلعله يقبل هذه القلادة فداءً لزوجها أبي العاص الأسير عند أبيها ، فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم القلادة ، وهي لها ، شيء يُبَكِّي ، ابنته تريد زوجها ، وزوجها مشرك ، وهو عند النبي أسير ، ولا تملك إلا هذه القلادة ، والقلادة في الأصل للسيدة خديجة ، فلما رأى النبي القلادة غشيت وجهَه الكريم غلالةٌ شفافة من الحزن العميق ، ورقَّ لابنته أشد الرقّة ، وإنّي أتحيَّر أحياناً كيف أن أبًا يسحب ابنته من بيت زوجها ، لما اختلف معه ، والبنت تحب زوجها ، تتمنى أن تبقى عنده ، وتحب بيتها ، وأولادها ، لكن قسوة الأب تجعله ينسى المشاعر الزوجية الصادقة فيأخذ ابنته عنوة من بيت زوجها ، فالنبي بكى ، وغطى وجهَه الحزنُ العميق ، ورقّ لابنته أشدّ الرقة ، ثم التفت إلى أصحابه وقال يريد المشورة ، ولم يأخذ قرارًا من طرف واحد ، فالتفت إلى أصحابه وقال : إن زينب بعثت بهذا المال لافتداء أبي العاص ، فإن رأيتم أن تطلقوا لها أسيرها، وتردّوا عليها مالها فافعلوا ، يستشيرهم في شأن ابنته ، وفي شأن صهره ، وشأن هذه القلادة ، فهل هي مقبولة عندكم ؟ هل تكفي ؟ هل بعد هذا التواضع من تواضع ؟ هل بعد إنكار الذات من فضيلة ؟ قال لأصحابه إن زينب بعثت بهذا المال لافتداء أبي العاص فإن رأيتم أن تُطْلقوا لها أسيرها ، وتردوا عليها مالها فافعلوا ، وأصحابُ النبي يفدونه بأرواحهم ، قالوا : نعم ، ونعِمتْ عينٌ يا رسول الله ، أيْ حباً وكرامة .
أحياناً تكون عند صديقك ، والهاتف أمامك ، والصديق يحبك حباً جما ، فتمسك الهاتف وتتصل ، ولكنّ الأكمل أن تسأله ، أتأذن لي ، أحياناً بإمكانك أن تأخذ حاجة لصديقك ، ونفسه تطيب بأن تأخذها ، ولكن الأكمل أن تسأله وتستأذنه .
فالنبي استشار أصحابه في شأن صهره ، وفي شأن ابنته ، فلذة كبده ، هذا هو الأكمل ، لكن النبي عليه الصلاة والسلام اشترط على أبي العاص قبل إطلاق سراحه أن يسيِّر إليه ابنته زينب من غير إبطاء ، بناءً على حكم شرعيٍّ ، خلاصته ألاّ تبقى امرأةٌ مؤمنةٌ عند زوج كافر ، فقد يحملها هذا الزوج على معصية الله ، وقد يأمرها بما يغضب الله ، فالحكم الشرعي ألا تبقى امرأةٌ مؤمنةٌ تحت زوج مشرك أو كافر .
لذلك العوام يقولون : طلقت منه امرأته ، هل تصدقون أن الإنسان إذا سبَّ الدين ولم يتُب فالقضية خطيرة جداً ، الذي يسب الدين يرتد عنه ، والمرتد تطلّق منه زوجته ، فالقضية كبيرة جداً .
كان أبو العاص صادقاً ، وفياً ، فما كاد أبو العاص يبلغ مكة بعد فكِّ أسْره حتى بادر إلى الوفاء بعهده ، فأمر زوجته بالاستعداد للرحيل ، وأخبرها بأن رسل أبيها ينتظرونها غير بعيد عن مكة ، وأعد لها زادها وراحلتها ، وندب أخاه عمرو بن الربيع لمصاحبتها وتسليمها لمرافقيها يداً بيد ، النبي عليه الصلاة والسلام عفا عنه ، وأطلق سراحه على شرط أن يعيد زينب إلى النبي ، تنكب عمرو بن الربيع قوسه وحمل كنانته ؛ الكنانة جعبة السهام ، وجعل زينب في هودجها ، وخرج بها من مكة جهاراً نهاراً على مرأى من قريش ، فهاج القوم وماجوا ، ولحقوا بهما حتى أدركوهما غير بعيد ، وروَّعوا زينب ، وأفزعوها ، عند ذلك هيَّأ عمرو قوسه ، ونبل نبله ، ونشر كنانته بين يده ، وقال : واللهِ لا يدنو رجلٌ منها إلا وضعت سهماً في نحره ، وكان رامياً لا يخطئ له سهمٌ ، فأقبل عليه أبو سفيان بن حرب ، وكان قد لحق بالقوم ، وقال له : يا ابن أخي كفَّ عنا نبلك حتى نكلمك ، فكفّ عنهم ، فقال له : إنك لم تصب فيما صنعت ؛ أي لم تكن على صواب ، كنت مخطئاً ، لماذا ؟ لأنك حملت زينب في هودجها جهاراً نهاراً على مرأى من قريش ـ وهذا بعد موقعة بدر حيث سالتْ دماء صناديدهم ، وبرَزتْ حساسيات بالغة ـ فلقد خرجت بزينب علانية على رؤوس الناس ومرأى مِن عيونهم ، وقد عرفت العربُ جميعها أمرَ نكبتنا في بدر ، وما أصابنا على يده أبيها محمد ، فإذا خرجت بابنته علانية كما فعلت ، رمتنا القبائل بالجبن ، ووصفتنا بالهوان والذل ، فارجع بها ، واستبقِها في بيت زوجها أياماً ، حتى إذا تحدث الناس بأننا رددناها ، فسُلَّها من بين أظهرنا سراً ، وألحقها بأبيها ، فما لنا بحبسها عنه حاجة ، لكن ليس على مشهد مِن الناس ، المعركة انتهت من قريب ، وقُتِل فيها خلق كثير ، ووقعت نكبة سوداء في قريش ، وتأخذ ابنة محمد على مرأى من الناس إلى أبيها ، فهاج القومُ وماجوا ، وكان أبو سفيان عاقلاً ، فنصحه بأن يأخذها بعد أيامٍ سراً ، فرضي عمرو بذلك ، وأعاد زينب إلى مكة ، ثم ما لبث أن أخرجها منها ليلاً بعد أيام معدودات ، وأسلمها إلى رسل أبيها يداً بيد ، كما أوصاه أخوه ، وفُرِّق بين زوج وزوجته بحكم الله عز وجل .
أقام أبو العاص بمكة بعد فراق زوجته زمناً حتى إذا كان قبيل الفتح بقليل خرج إلى الشام في تجارة له ، فلما قفل راجعاً إلى مكة ومعه عيره التي بلغت مائة ، ورجاله الذين نيفوا على مائة وسبعين بزرت له سرية من سرايا الرسول عليه الصلاة والسلام قريباً من المدينة ، فأخذت العير، وأسرت الرجال ، لكن أبا العاص أفلَتَ منها فلم تظفر به ، وأُلقِي القبض على مائة وسبعين رجلاً من أتباع أبي العاص أسرى في يد السرية ، وصودرت القوافل بنياقها المائة ، وأصبحت غنائم في أيدي المسلمين ، لكن أبا العاص نجا من الأسر ، فلما أرخى الليل سدوله ، استتر أبو العاص بجنح الظلام ، ودخل المدينة خائفاً يترقب ، ومضى حتى وصل إلى زينب ، زوجته ، واستجار بها ، فأجارته .
ولما خرج النبي عليه الصلاة والسلام لصلاة الفجر ، واستوى قائماً في المحراب ، وكبّر للإحرام ، وكبّر الناس بتكبيره ، صرخت زينب من شفة النساء ، وقالت أيها الناس : أنا زينب بنت محمد ، وقد أجرتُ أبا العاص ، فأجيروه ، فلما سلم النبي عليه الصلاة والسلام من الصلاة التفت إلى الناس وقال : هل سمعتم ما سمعت ؟ قالوا : نعم يا رسول الله : قال والذي نفسي بيده ما علمتُ بشيء من ذلك حتى سمعت ما سمعتموه ، البيان يطرد الشيطان ، هكذا علّمنا النبي ، قد يظنون أن ثمة اتفاق بين سيدنا رسول الله وزينب ، أنه لما أصلي فقولي : قد أجرته ، فبيَّن النبي وأزال الشبهة ، قال : والله لقد سمعت معكم ، وليس بيني وبينها كلام قبل ذلك ، وهو النبي المرسَل ، فقد بيَّن الحقيقة من غير لَبْسٍ.
فإذا كان الإنسان في موقف حرِج يستدعي سؤالاً وجوابًا ، فعليه أنْ يبيِّن ، ويوضِّح ، هذه قاعدة أساسية ، البيان يطرد الشيطان .
ذات مرة زار رجلٌ صاحبًا له في العيد ، وضع له طبقًا من الحلويات مليئًا فأكل قطعة واحدة ، وجاء شخص آخر ، وكان صاحب البيت مشغولاً ، فهذا الثاني بدأ يأكل ويأكل ويأكل حتى لم يبقِ من الطبق إلا القليل ، فوقع الأول في الحرج ، وقد أكل قطعة واحدة ، فلما دخل صاحب البيت قال الأول : واللهِ إني أشهدُ الله أنه يحبك أضعاف ما أحبك ، لأنه أكل من هذا الطبق أضعاف ما أكلت ، فبيَّن ، أنا أكلت واحدة ، هو أكل معظم ما في الطبق ، فالمرءُ يضطر أحيانًا للبيان والتوضيح ، وبخاصّة في المواقف التي فيها تهمة ، فإن وضعتَ نفسك موضع التهمة ولامك الناس فهم مُحِقُّون ،فلا تضع نفسك موضع التهمة ثم تلوم الناس إذا اتهموك ، فكم كان النبي عليه الصلاة والسلام حريصًا على سمعته ، فعَنْ صَفِيَّةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهَا جَاءَتْ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَزُورُهُ فِي اعْتِكَافِهِ فِي الْمَسْجِدِ فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ فَتَحَدَّثَتْ عِنْدَهُ سَاعَةً ثُمَّ قَامَتْ تَنْقَلِبُ فَقَامَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَهَا يَقْلِبُهَا حَتَّى إِذَا بَلَغَتْ بَابَ الْمَسْجِدِ عِنْدَ بَابِ أُمِّ سَلَمَةَ مَرَّ رَجُلَانِ مِنْ الْأَنْصَارِ فَسَلَّمَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لَهُمَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى رِسْلِكُمَا إِنَّمَا هِيَ صَفِيَّةُ بِنْتُ حُيَيٍّ فَقَالَا سُبْحَانَ اللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَكَبُرَ عَلَيْهِمَا فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَبْلُغُ مِنْ الْإِنْسَانِ مَبْلَغَ الدَّمِ وَإِنِّي خَشِيتُ أَنْ يَقْذِفَ فِي قُلُوبِكُمَا شَيْئًا *
(متفق عليه)
هي القصة تنسحب على آلاف الحالات ، كنتَ مع صديقك في نزهة ، والمصروف مشترك ، يقول أحدكما للآخر : ليس لك ولا عليّ شيء ، فالحساب كان مناصفة بيني وبينك ، بَيِّنْ له المدفوعات والمقبوضات كلها ، لكن من دون بيان ، يجري في القلب شيءٌ ، فوضِّح الحساب ، وإنْ تأخرتَ فَبَيِّن السبب ، قضية لم تنتهِ أعلِمْ صاحبك ، وبَيِّن السبب ، هذه قاعدة أساسية في التعامل مع الناس ، البيان يطرد الشيطان ، في التعامل ، في العلاقات الاجتماعية ، في الشراكة، في الزواج ، بيِّنْ ما الذي دفعك إلى هذا الموقف ، فإنْ لم تبيِّن أساء الناسُ الظنَّ بك ، فوقعتْ العداوة والبغضاء .
فالنبي علمنا قال : والذي نفسي بِيَدِه ما علمت بشيء من ذلك حتى سمعت ما سمعتموه ، وإنه يجير من المسلمين أدناهم ، ثم انصرف إلى بيته ، ولم يقل : ابنتي أشرفُ بنتٍ على الأرض ، بل قال : وإنه يجير من المسلمين أدناهم ، قلم يرفعها إلى أعلى درجة ، لأنها ابنته فقط ، وعبارتُه تفيد أنّه عدَّها من أدنى المسلمين ، وأدنى المسلمين يجير أعلاهم ، انتبهوا إلى نصيحة النبي ، قال : يا بنيتي ، أكرمي مثوى أبي العاص ، واعلمي أنك لا تحلِّين له ، ثم دعا رجال السرية التي أخذت العير ، وأسرت الرجال وقال لهم : إن هذا الرجل منا - هذا صهري - حيث قد علمتم ، وقد أخذتم ماله ، فإنْ تحسنوا إنْ شئتم ، والأمر عائد إليكم ، وأنتم أصحاب حق ، فإن تحسنوا وتردوا عليه الذي له كان ما نحب ، أيْ أنا يسرني أن تعيدوا له البضاعة والأحمال والرجال ، وإن أبيتم فهو فيء الله الذي أفاء عليكم ، وأنتم به أحق ، هكذا يكون الموقف الصحيح، ولو أنّ المال يخصّ ابنته وصهره ، ثم قال : هذا المالُ فيء الله ، إن أردتم أن تردوا عليه ماله فيطيب قلبي بذلك ، وإن أبيتم فهو فيء الله ، وأنتم به أحق ، انظُرْ إلى أسلوبِ التعليم في أحسن صوره .
إذا كنت بموقع قيادي فاستشِرْ ، واجعلْ للذين حولك شأنًا ، خذ رأيهم ، لا تقطع أمراً دونهم ، وشاورهم في الأمر ، وهو السيد المعصوم ، وهو الذي يوحى إليه ، وهو سيد الخلق ، وحبيب الحق ، ومع ذلك قال : إن هذا الرجل منا حيث قد علمتم ، وكان زوج ابنتي ، وصهري ، وقد أخذتم ماله ، فإن تحسنوا إن شئتم ، والأمر عائد إليكم ، وأنتم أصحاب حق ، فإن تحسنوا وتردوا عليه الذي له ، كان ما نحب ، وإن أبيتم فهو فيء الله الذي أفاء عليكم ، وأنتم به أحق .
أحياناً قد تطلب من شخص أنْ يبيع حاجة بلا ثمن لصاحبك ، هذا تطاول ، ولكن قل له : إذا راعيته أكون لك من الشاكرين ، فالنبي عليه الصلاة والسلام خبير بحقائق النفس البشرية ، والصحابة طابت نفوسهم بهذا التواضع ، وهذه الاستشارة فقالوا جميعاً بل نرد عليه ماله يا رسول الله ، كما تريد ، وكما تحب ، لو أنه اتخذ قرارًا من جانب واحد ، وقال : أعطوه الذي أخذتموه من ، لكان تفردًا بالقرار ، فلما جاء لأخذه ، هنا الموقف الأخلاقي ، قالوا : يا أبا العاص إنك في شرف من قريش ، وأنت ابن عم رسول الله وصهره ، فهل لك أن تُسْلِم ، ونحن ننزل لك عن هذا المال كله ، فتنعم به ، وبما معك من أموال أهل مكة ، وتبقى معنا في المدينة، وهذا حكمٌ شرعي ، إليكم بيانُه .
فالحكم الشرعي أنّ هذا الرجلَ إذا أسلم ومعه أموال الكفار ، انقلبت هذه الأموالُ فجأة إلى غنائم ، ونحن نسامحك في نصيبنا ، خذها كلها ، وانْعَمْ بها ، وعش في بحبوحة ، موقفك شرعي ، أنت أسلمت ، فلما أسلمت أصبح مال كفار مكة غنائم ، والغنائم تأخذها حلالاً ، فاسمعوا الجواب ، فقال : بئسما دعوتموني إليه ، أنْ أبدأ إسلامي الجديد بغدرٍ ، معاذ الله أنْ أبدا الإسلام بهذا الغدر ، أخذ أموالَ مائةِ بعيرٍ ليتاجر بها ، فوقع أسير ، ثم أسلم في أثناء الأسر ، فانقلبت أموال الناس غنائم ، تنازلوا له عن حصصهم فأخذها ، وعاش في بحبوحة ، وبقي في المدينة ، وزوجته إلى جانبه ، وانتهى الأمر ، فما قولك ؟ قال : بئسما دعوتموني إليه ؛ أن أبدأ ديني الجديد بغدر ، ومضى أبو العاص بالعير وما عليها إلى مكة .
يا أخي هذا شيء عجيب !!! هؤلاء مشركون ، ولديهم هذه الأخلاق والقيم ، وفي أيامنا والمجتمع مسلم يبيع أباه بمائة ليرة ، واللهِ حدثني ضابط بالجمارك ، قال : واللهِ جاءتني تقارير مِن آباء على أولادهم ، ومِن أبناء على آبائهم ، وشاية ، شيء عجيب .
مضى أبو العاص بالعير وما عليها إلى مكة ، فلما بلغها أدَّى لكل ذي حقٍ حقَّه ، ثم قال : يا معشر قريش ، هل بقي لأحدٍ منكم عندي مال لم يأخذه ؟ قالوا : لا ، وجزاك الله عنا خيراً ، فقد وجدناك وفياً كريماً ، قال : أما وإني قد وفّيتُ لكم حقوقكم ، فأنا الآن أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله .
هذا إسلام في الوقت المناسب ، بعدما أدى ما عليه ، فالإنسان لا يستغل الدين لمصالحه الشخصية ، فلو أسلم لانطبق عليه الحكم الشرعي ، أسلم ومعه أموال الكفار ، إذاً هي غنائم يأخذها ، لكن يا ترى لو فعل هذا لعَدُّوا هذا تواطُؤاً ، ولعدُّوا هذا غدراً ، ومؤامرة ، وشوَّه بذلك سمعة المسلمين بين القبائل .
قال : والله لا أبدأ إسلامي بغدرٍ ، فلما ذهب إلى مكة أعطاهم أموالهم جميعاً ، وقال : هل بقي لكم عندي شيء ؟ قالوا : لا ، قال فإني الآن أشهد أنه لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله ، ثم قال : واللهِ ما منعي من الإسلام عند محمد صلى الله عليه وسلم إلا خوفي أن تظنوا أني إنما أردتُ أن آكل أموالكم .
هناك مواقف كثيرة جداً تفعلها وأنت على حق ، لكن يمكن أن تُفَسَّر تفسيرًا آخر ، فلما أداه الله إليكم ، كيف عرف ذلك ؟ قال من أخذ أموال الناس يريد أداءها أدى الله عنه ، الله ربُّ النوايا، إذا نويت أن تعطي هذه الأموال لأصحابها أدى الله عنك ، ومن أخذها يريد إتلافها أتلفه الله ، إن أخذها يريد أداءها أدَّاها الله عنه ، وإن أخذها ليتلفها أتلفه الله ، ثم خرج حتى قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأكرم وفادته ورد إليه زوجته ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول عنه : أبو العاص حدثني فصدقني ، ووعدني فوفَّاني .
هذا الإنسان كم موقفٍ أخلاقي رفعه الله عز وجل ، أولاً : لم يطلّق زوجته ، قال : واللهِ لا أطلقها ، ثانياً : ما رضي أن يأخذ مالاً بغدرٍ ، ثالثاً : بعد أن أدى ما عليه أعلن إسلامه ، وعاد إلى زوجته ، وليعلمْ كلُّ مسلم أنّ لكل شيء وقتًا مناسبًا ، ومَن تعجَّل الشيء قبل أوانه عوقب بحرمانه .
قبل أن ينتهي الدرس هناك سؤال أو سؤالان ، الاسنتباطات التي يمكن أن تفيدنا في حياتنا اليوم : لا إيمان لمن لا أمانة له ولا دين لمن لا عهد له ، شيء جميل ،هذا استنباط .
استنباط آخر : المشاورة تجعل قلوب الناس تهفو إليك ، أمّا التفرد بالرأي فينفِّر الناس عنك ، شاوَر أصحابه ، حتى في أمر خاص ، في أمر ابنته ، في أمر صهره ، شاوَرهم .
الملاحظة الثالثة : البيان يبيِّن الملابسات ، مرة حدثني أخ يسافر للمحافظات في عمله التجاري ، فنسي وثيقة في المحل ، تذكرها الساعة الثانية عشرة ليلاً ، فركب مركبته ، وانطلق إلى محله التجاري ، وكان ضمن سوق مغلق ، وله حارس ، رأى هذا الحارس رجلاً يأتي في منتصف الليل ليفتح محله التجاري ، الذي يشاركه فيه تاجر ، قال له : أيها الأخ أنا نسيت ورقة أساسية ، وجئتُ لآخذها ، حتى لا يظن شيئًا ، أنه لعب على الشريك ، بيِّن للحارس ، بيِّن للآذن، بيِّن للحاجب ، فإذا بينت ينتهي الأمر دون ظنون أو شكوك ، فلو لم يبيِّن للحارس فقد يتّهمه شريكه ، ويقع في مشاكل، فالبيان يطرد الشيطان .
هذه زوجتي فلانة ، وهذا البيان من النبي ينسحب على آلاف الحالات ، وكم من سوء ظن ، وكم من هدم أُسَر ، وكم من مشكلة وبيلة وقعت بسبب الإهمال في التبيين .
أيضاً السيدة زينب أجارت أبا العاص ، لكن النبي بيّن الحكمَ الشرعي ، لم يرفض العمل الصالح، لكن نبهَّها إلى أن هذا الرجل لا يحل لك ، أكرميه ، لكنه لا يحل لك .
أنا أعرف أناسًا كثيرين قاربوا أن يطلقوا زوجاتهم لخصومة وقعت بينه وبين أهل زوجته ، هذا عمل غير أخلاقي ، القاعدة الأساسية ، ولا تزر وازرة وزر أخرى ، نشأت خصومة مع والدها ، مع أمها ، مع أخيها ، من أجل هذه الخصومة تطلقها ؟ أو تسيء إليها ؟ .
وهذه فقرة فيها إيضاح لغوي لا بد منه ؛ كلمة (قُمّة) صوابها (قِمّة) ، القُمة هي القُمامة ، والفرق كبير جداً بين القُمة وبين القِمة ، ومعظم الإخوان الكرام إذا قالوا كلمة قِمة يقولون قُمة ، القُمة هي القمامة ، فإياك أن تغلط هذه الغلطة ، القِمة ، الأخ الكريم يقول : إن قِمة العفو مع قِمة القوة .
أمّا موقفه الأخلاقي ، فأولاً : حينما ردّ الأموال عُرف أنّ المسلم إنسان صادق ، وكذلك أنه رَفَض أنْ يطلق زوجته ، فأحبَّه النبي ، وكان موقف النبي متعاطفًا معه فما السبب ؟ لأنه وقف موقفًا أخلاقيًّا يُسجَّل له ، لا عليه .
أنت قد تتعامل مع ناس ليس فيهم دين - هذه نقطة مهمة جداً - فكُنْ ذكيًّا ، إذا وقفت موقفًا أخلاقيًّا منهم ، هو لا يصلي ، هو لا يصوم ، وربما يشرب الخمر ، لكنّه يبقى إنسانًا ، فإذا أخذت موقفًا أخلاقيًّا فقد تكسبه .
حدثني أخ كان في بلد عربي ، وفيه حركة هداية للإسلام ، منها توبة بعض الفنانات ، وقد وجدتُ في معرَض مكتبة الأسد كتيبًا عن الفنانات المحجَّبات ، شيء رائع جداً ، امرأة كانت راقصة ، ثم تتوب ، وتتحجب حتى الوجه ، فقرأت الكتاب ، اشتريته وقرأته لفت نظري أن واحدة سئلت ما الذي دفعك إلى أن تتوبي ؟ فقالت : أنا حينما زرت صديقاتي اللواتي سبقنني إلى التوبة ، وجدت مجتمعهن مجتمعاً مثاليًّا ، فيه الصدق ، وفيه الحب ، وفيه التناصح ، وفيه السعادة ، وبينما أعيش في مجتمعٍ يسوده الكذب ، والطعن ، والريبة ، والشقاء ، وفي بالقصة مغزى عميق فمَن يكشفه لنا ؟ لماذا أسلمت ؟ لأنها وجدت مجتمع زميلاتِها التائباتِ أرقى بكثير من مجتمعها هي ، ومغزى آخر لم أُشِرْ إليه ، فلو أن هؤلاء المسلمات التائبات رفضنها ، وطردنها لما عرفت الحقيقة ، ولمَا تمادتْ في الضلال .
فأنت كمسلم ، لا تعادِ شخصًا بلا دين ، ولا يصلي ، ماله حرام ، ويشرب الخمر ، ويفطر في رمضان ، أغمِضْ عينيك عنه ، وادعُ الله أن يعافيه ، وخاصّة إذا لم يكن معاديًا لك ، فكنْ أخلاقيًّا أمامه ، ليرى مَن هو المسلم ، الإنسان الصادق ، الأمين ، الأخلاقي ، المتواضع ، الذكي، المتفوق بعمله ، فلعل هذا يبصِّره بحقيقة الإسلام .
يقولون : إن روجي جارودي ، هذا زعيم الحزب الشيوعي بفرنسا ، وأسلم ، فهل تصدقون أن سبب إسلامه يعود إلى أربعين سنة سابقة ، هذا وقع أسيراً في الحرب العالمية الثانية ، وجاء أمرٌ بقتله ، الأمر جاء لجندي مغربي مسلم ، هذا الجندي المغربي المسلم قال له : أنا مسلم ، وديني يمنعني أن أقتل الأسير ، فاهرب ، ما الذي أنجاه من الموت ؟ الذي أنجاه من الموت المحقَّق أنّ هذا الجندي المغربي أبلغه أن الإسلام يمنعنه مِن قتل الأسير ، وهذا الموقف الأخلاقي تفاعل مع هذا الإنسان أربعين عاماً ، حتى حمله على أن يصبح مسلماً ، وجاء إلى الشام ، وله كتب كثيرة ، إنسان يرأس حزبًا ، يعلن أنه (لا إله في الكون) ثم يصبح مسلماً ، أن أرجِّح أن موقف هذا الجندي المغربي الأخلاقي ساهم إلى حد كبير في إسلامه .
وأنت يمكن أن تنقذَ أيَّ إنسان حولك ليس فيه دين إطلاقاً ، فكنْ معه صادقًا ، وفيًّا ، مخلصًا ، كن معه متقنًا لعلمك ، فبذلك كلِّه يمكنك أنْ تُلفِت نظره .
في أثناء أداء فريضة الحج العام الماضي ذكروا لي أن حاجًّا ألمانيًّا سألوه عن سبب إسلامه فقال : طالب سوري كان عنده في البيت ، ولهذا الرجل الألماني فتاة جميلة ، وليس عنده مانع أنْ تكون صديقة لهذا الطالب السوري ، والأمور عندهم سهلة جداً ، من غير تكلُّف ، فلذلك لفت نظره أن هذا الطالب ما نظر إلى ابنته أبداً ، تمنَّى أن يضبطه مرة وهو ينظر إليها فيعنِّفه ، وأخيرًا سأله : ألست من بني البشر ؟ أنت شاب ، وهذه الفتاة في البيت ، فقال : ديني يمنعني أن أنظر إليها ، وسمعت من مدة ، وقد جاءتنا وزيرة من بريطانيا ، وقابلتْ مهندسًا يبدو أنه متمسك بدينه ، فما صافحها ، وقد مدَّتْ يدها له ، فانزعجت كثيرًا ، فسألتْ وهي في قاعة الشرف : مَن هذا الذي لم يصافحني ؟ أريد أن أكلمه ، فجاء ، وقال لها : إسلامي يمنعني أن أصافحك ، قالت: لو أن جميعكم مثل هذا الإنسان لغلبتمونا ، نحن نريد إنسانًا متمسكًا بالدين .
المغزى الأساسي أن النبي الكريم يعرفه أنه مشرك ، ويعرف أنّه جاء ليقاتله ، رغم ذلك أعلمه أنني لا أنسى موقفك الأخلاقي السابق ، قال : واللهِ ما ذممناه صهراً ، فلما وقع أسيراً أحسن إليه ، فَمَلَكَه بهذا الإحسان ، إن رأيتم أن تردوا له ماله فافعلوا ، هذا مما أحبَّ أنْ يفعله أصحابه ، المواقف الأخلاقية تفاعلت إلى أن حملته على الإسلام ، الآن بالعكس ، تتعامل مع مسلم فيسبِّب لك مشكلة ، ويكذب عليك ، ويغشك ، فيبدو من خلال أفعالِه هذه أنّ الدين باطل ، وأن الدين كله خلط ، فأنت على ثغرة من ثغر الإسلام فلا يؤتين من قبلك ، أنت سفير تمثل المسلمين ، فكن ملتزمًا بدينك تكنْ داعيةً للإسلام، وأنت ساكت .
والحمد لله رب العالمين
***(/)
(/)
االدرس :14\ 50 سيرة الصحابي : أبو أيوب الأنصاري لفضيلة الأستاذ محمد راتب النابلسي.
تفريغ : م . م حسان عودة
التدقيق اللغوي : الأستاذ غازي القدسي
التنقيح النهائي : المهندس غسان السراقبي .
بِسْمِ الله الرَّحمَنِ الرَّحِيمِ
الحمد لله رب العالمين ، و الصلاة و السلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا ، إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا و انفعنا بما علمتنا و زدنا علماً و أرنا الحق حقاً و ارزقنا إتباعه ، و أرنا الباطل باطلاً و ارزقنا اجتنابه واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، و أدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .
أيها الأخوة الأكارم :
مع الدرس الرابع عشر من دروس سيرة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضوان الله عليهم أجمعين وصحابيّ اليوم سيدنا : أبو أيوب الأنصاري رضي الله عنه .
أول شيءٍ أحب أن أضعه بين أيديكم في هذا الدرس هو أنك إذا ذهبت إلى الحج ، ورأيت مائتي ألف من الحجاج الأتراك ، وكلهم يبتهلون إلى الله ، ويدعون الله ، فإنهم في صحيفة هؤلاء الصحابة الكرام الذين خرجوا من مكة المكرمة ، ومن المدينة المنورة ، لينشروا هذا الدين في الآفاق .
وسيدنا أبو أيوب الأنصاري أحد هؤلاء الصحابة الذين وصلوا إلى أقاصي الشمال ، ودفن عند أسوار القسطنطينية . فهو الآن مدفون في أحد أحياء استنبول ، أسوار القسطنطينية حينما اتسعت استنبول شملت قبره رضي الله عنه وأرضاه . على كلٍ الإنسان يعمل في الحياة الدنيا أعمالاً كثيرة ، لكن أرقى عمل له حينما ينشر الحق ، أرقى عمل يعمله الإنسان حينما يسمح الله له أن ينشر الحق بين الناس ، ومع نشر الحق هناك جهاد في سبيل الله .
هذا الصحابي الجليل له قصة مثيرة جداً مع رسول الله صلى الله عليه . على كلٍ هو آمن برسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يأتي إلى المدينة مهاجراً ، فهو من الرعيل الأول الذين بايعوا النبي في بيعة العقبة الثانية ولكن من خلال هذه القصة تجدون العلاقة بين أصحاب رسول الله وبين رسول الله علاقة فريدة من نوعها ، وإن شاء الله سأقف وقفة عندها، و عند كل نقطة من سيرة هذا الصحابي الجليل .
و الوقائع التي سأسردها لكم ربما سردت من قبل ، قبل عشر سنوات ، أو ربما قرأتموها في كتاب ، والتركيز في هذه الدروس لا على الوقائع بل على التحليل ، والتركيز في هذه الدروس لا على التحليل فحسب ، بل على ربط هذه الوقائع وذاك التحليل بحياتنا اليومية .
يعني أنت أيها الإنسان .. ما شأنك بهذه القصة ؟..
ماذا تستفيد منها ؟.. ماذا تستنبط منها ؟.. ما الدروس البليغة التي يمكن أن تأخذها ؟..
بل وأرقى من ذلك ، اسأل نفسك بعد حين ... ما المواقف التي وقفتها اقتداء بهذا الصحابي الجليل ؟.. ماذا أفادني هذا الصحابي الجليل ؟.. ماذا علمني هذا الصحابي الجليل ؟.. هل قلدته ؟ هل اتبعت خطاه ؟.. لقد رضي الله عن أصحاب رسول الله ، فإذا قلت في حديثك عن
أصحاب رسول الله رضي الله عنهم ، فهذا ليس دعاء ، لكنه تقرير ، وفرق كبير بين الدعاء والتقرير ، أنت إذا ذكرت الإمام أبا حنيفة تقول رضي الله عنه ، لكن قولك هذا : دعاء ، وإن ذكرت رجلاً عالماً ، جليلاً ، مستقيماً ، عاملاً ، تقول رضي الله عنه ، لكن هذه رضي الله عنه غير تلك ، فهذه دعائية ، أما إذا ذكرت أصحاب رسول الله رضوان الله عليهم تقول رضي الله عنه تقريراً ، وأنت في هذا لا تتألى على الله ، ولكن تقول ما قال الله ، ألم يقل الله عز وجل :
( سورة الفتح : 18 )
ويا أخي الكريم هل من مرتبة على وجه الأرض أعلى من أن يرضى عنك خالق الكون ؟ من أن تشعر أنك في رضاه ؟ من أن تشعر أنه يحبك ؟ أنه يحفظك ؟ أنه يوفقك ؟
( سورة الطور : 48 )
كما قال الله عز وجل ، مخاطباً النبي عليه الصلاة والسلام وقد قال بعض علماء التفسير ، إن لكل مؤمنٍ من هذه الآية نصيب بقدر إيمانه وإخلاصه واستقامته .
أولاً : النبي عليه الصلاة والسلام ، حينما بلغ المدينة تلقته أفئدة أهلها بأكرم ما يتلقى بها وافد، تطلعت إليه عيونهم ، تبثه شوق الحبيب إلى حبيبه ، وهنا وقفة .
أيها الأخوة الأكارم :
الإنسان له قالب وله قلب ، بالقوة تملك القالب ، إذا كنت قوياً بإمكانك أن تخضع الناس جمعياً لمشيئتك ، بإمكانك أن تجعلهم يقولون أية كلمة تريدها بإمكانك أن تحملهم على أي موقف ،أي إنك ملكت قوالبهم ، ملكت أجسامهم ، ملكت رقابهم ، ملكت عضلاتهم ، ملكت ألسنتهم ، ملكت حركاتهم ، ملكت سكناتهم ، إنك بالقوة تملك القالب فالبطولة ليس أن تملك رقاب الناس بالقوة ، لكن بطولة الأنبياء أنهم كانون من أضعف خلق الله .
ألم يقل النبي عليه الصلاة والسلام في الطائف ، اللهم إني أشكو إليك ضعف قوتي ، وقلة حيلتي ، وهواني على الناس ، يا رب المستضعفين ، إلى من تكلني ، إلى صديق يتجهمني ، أم إلى عدو ملكته أمري إن لم يكن بك غضب علي فلا أبالي ، ولك العتبى حتى ترضى ، لكن عافيتك أوسع لي . شاءت حكمة الله أن يكون معظم أنبيائه ضعفاء ، كأي شخصٍ عادي
بل إن قومه اتهموه بالجنون وبغيره ، وقالوا :
( سورة الذاريات : 39 )
يتهمه الكافر الضال بالسحر ، يتهمه بأنه كاهن ، يتهمه بأنه شاعر ، تتهمه بأنه تأتيه بعض الرؤى الشيطانية ، هذا الذي يتهمه ينام في بيته ناعم البال ، مطمئناً ، كيف تتهم النبي بأنه مجنون ، وتنام في البيت ناعم البال ، لأنه ضعيف ، لو كان قوياً لما أمكنك أن تتهمه هذا الاتهام ، ولما نجوت من عقابه ، إذاً فقد شاءت حكمة الله أن يكون النبي ضعيفاً لكن بكماله ملك القلوب .
الإنسان قلب وقالب ، الأقوياء يملكون القالب ، الجسم ، اللسان الحركات ، السكنات ، مشيئتهم نافذة لأنهم أقوياء ، لكن الأنبياء ملكوا القلوب ، هذه البطولة :
البطولة أن يحبك الناس حباً حقيقياً . البطولة أن تهفو قلوب الناس إليك . البطولة أن تشعر أنهم يؤثرونك على أنفسهم ، ولو كان بهم خصاصة . البطولة أن يميل القلب ميلاً حقيقياً إليك
النبي عليه الصلاة والسلام أحبه أصحابه حباً يفوق حدّ الخيال .
ألم تسمعوا حينما سأل أبو سفيان خبيب بن عدي ، قال له قبل أن يصلب ، قبل أن يقتل .
قال يا خبيب : أتحب أن يكون محمد مكانك ، وأنت سليم معافى في أهلك ؟
الآن تقول العوام : " ألف أم تبكي ولا أمي ، مين ما أخذ أمي فهو عمي " قال له :
أتحب أن يكون محمد مكانك ؟ يقولون : أن سيدنا خبيباً انتفض ، كما ينتفض العصفور المذبوح . قال : لا والله ، لا أحب أن أكون في أهلي وولدي .
كشخص قاعد في بيته ، تدفئة مركزية ، وفي غرفة الجلوس ، فيها الفراش وثير ، الأرائك مريحة ، السجاد نوع ثمين ، المناظر الطبيعية ، زوجته قاعدة أمامه متزينة ، أولاده ، بناته الصغار . قال له :
والله لا أحب أن أكون في أهلي وولدي ، وعندي عافية الدنيا ونعيمها العافية غير النعيم .
النعيم : باقة ورد .. النعيم : أشياء طيبة ، ما لذّ وطاب من الطعام والشراب والمناظر الجميلة ، والروائح العبقة .
قال له : والله لا أحب أن أكون في أهلي وولدي ، وعندي عافية الدنيا ونعيمها ويصاب رسول الله بشوكة .
والله ما كان كاذباً ، والله كان صادقاً ، هذا الحب ، الذي يفتقده المسلمون اليوم ، الثقافة موجودة ، معلومات ، أشرطة ، كتب ، مجلات أما هذا الحب الذي هز قلوب أصحاب رسول الله ، فجعلهم يؤثرون طاعة الله عز وجل على كل شيء ، هذا الذي نرجو أن نصل إليه ، أو هذا الذي نرجو أن نسعى إليه .
هؤلاء الأنصار الذين آمنوا بالنبي قبل أن يروه ، وحينما جاء النبي إليهم ، عبروا عن حبهم تعبيراً غريباً ، عبروا عن شوقهم ، عبروا عن وفائهم عبروا عن إخلاصهم ، فتحوا له قلوبهم ليحل منها في السويداء ، اشرعوا له أبواب بيوتهم لينزل فيها أعز منزل .
فكل صحابي ، بل كل أنصاري ، كان حلمه الأعظم أن ينزل النبي ضيفاً عنده ، فهذا شرف ما بعده شرف ، هذا مقام ما بعده مقام ، لأنّ النبي سيد الأنبياء ، سيد الرسل ، الإنسان الكامل، قمة البشر ، يأتيه ضيفاً ، ويقيم عنده ضيفاً في بيته مكرماً معززاً ، فهذا شرف لا يُدانى .
النبي عليه الصلاة والسلام لحكمة بالغة يعرفها كتاب السيرة بقي في قباء أربعة أيام ، وبنى فيها مسجداً هو أول مسجد بني في الإسلام ، هذا المسجد أسس على تقوى .
فأحياناً تجد مسجداً أسس على تقوى ، الذي أسسه لا يبتغي سمعة ، ولا شهرة ، ولا مجداً ، ولا كسباً ، ولا شيئاً من هذا القبيل ، والذي يدرس فيه والذي يخطب فيه ، مخلصون لله سبحانه ، يجب أن تكون الدعوة إلى الله خالصة لوجهه الكريم و ألا تختلط بالدنيا ، ألا تشوبها شائبة ، ألا يوضع الدين في الوحل ، أن يبقى الدين في السماء ، أن يبقى الدين بعيداً عن المصالح ، عن الأهواء ، عن المنازعات ، عن المكاسب الدنيوية ، هذا هو الدين .
إن هذا الدين قد ارتضيته لنفسي ، ولا يصلحه إلا السخاء ، وحسن الخلق فأكرموه بهما ما صحبتموه . أنت أيها المؤمن تمثل هذا الدين ، إياك أن تكذب ، إياك أن تخون ، إياك أن تغش الناس ، إياك أن تخلف وعدك معهم . من عامل الناس فلم يظلمهم ، وحدثهم فلم يكذبهم ، ووعدهم فلم يخلفهم فهو ممن كملت مروءته ، وظهرت عدالته ، ووجبت أخوته ، وحرمت غيبته . أنت سفير ، كل واحد منكم سفير الإسلام ، لأقربائهِ ، وجيرانه وزملائه في العمل ، هذا صاحب دين ، تحت المجهر ، الأضواء كلها مسلطة عليه ، أصغر ذنبٍ يفعله يكبره الناس، فلان فعمل كذا وكذا ، ويقولون صاحب الدين ؟ أنت حينما أعلنت أنك مسلم ، أو حينما اتبعت منهج الإسلام ، أو حينما عرف الناس أن لك خلفية دينية ، أو حينما اتجهت اتجاهاً إسلامياً ، فأنت الآن تحت المراقبة ، تحت المراقبة بالتلسكوبات التلسكوب يقرب البعيد والميكروسكوب يكبر الصغير ، تحت المراقبة الشديدة ، فإياك أن تسيء لدينك .
أنت على ثغرة من ثغر الإسلام ، فلا يؤتين من قبلك .
دقق أنت حينما عرف الناس أنك مسلم ، إذا أخطأت معهم ليتهم يتهمونك . لا . والله ، هم يتشفون ، ويتهمون دينك ، لا يتهمونك ، بل يتهمون إسلامك .
فهذا المسجد الذي أسسه النبي عليه الصلاة والسلام ، أسسه على تقوى ، وهو أول مسجد في الإسلام ، وإذا كتب الله لكم وزرتم مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وزرتم مسجد قباء، ترون أن هذا المسجد فيه روحانية عجيبة .
وبعد أن قضى النبي الكريم في قباء أربعة أيام ركب ناقته وتوجه تلقاء يثرب طبعاً بين يثرب وبين قباء ، يعني مسير ربع ساعة أو ثلث ساعة تقريباً .
أنا في أول عمرة أكرمني الله بها ذهبت إلى هذا المسجد ، مسجد قباء وأمامه في ساحة ، وفي وسط هذه الساحة ، نصب عمود وفوق العمود كرة من البلور مكتوب عليها طلع البدر علينا، فو الله الذي لا إله إلا هو ، سمعت هذا النشيد بالشام ، عشرات ، بل مئات بل ما يقترب من ألوف المرات ، لكن ما شعرت بنشوة ، ولا هزة انفعالية إلا حينما رأيت المكان الذي وقف فيه أصحاب النبي يستقبلونه عليه الصلاة والسلام ، في هذا المكان وقفوا واستقبلوه ، وقالوا طلع البدر علينا من ثنيات الوداع . فكان أصحاب رسول الله ، الأنصار يعترضون الناقة ، ناقة رسول الله في مسيرها ، ويقولون : أقم عندنا يا رسول الله ، أقم عندنا في العَدد ، والعُدد، والمنعة نحن أقوياء نحن رجال كثر ، وعندنا أسلحة كافية ، ونمنعك من عدوك أقم عندنا ، هذا عرض مغرٍ ، فيقول عليه الصلاة والسلام . في الحقيقة ؛ القيادة عمل فذ ، فليس كل إنسان يكون قائداً ، القائد عندما ينحاز لبعض الأطراف ويهمل بعضها الآخر ، فعندئذ يقع في مشكلة كبيرة ، من صفات النبي عليه الصلاة والسلام ، أنه ما من واحد من أصحابه دققوا ، إلا وهو يظن أنه أقرب الناس إليه ، فلو أنه أختار اللهم صل عليه بيتاً من البيوت تنشأ حساسيات ، وتنشأ غيرة بل أن النبي وقف موقف حكيم جداً فالحكمة هي أحد مستلزمات القيادة يجوز القيادة المادية إن لم يكن هناك حكمة أن تجوّز الأمور على الناس ويرضوا بها ، لكن القضية إذا كانت متعلقة بالدين ، والنبي أنحاز لجهة دون جهة فيتألم الآخرون لدرجة ، قد لا تحمد عواقبها ، لكن النبي عليه الصلاة والسلام وقف موقفاً في منتهى الحكمة ، فقال كلما أعترض هذه الناقة أسياد الأنصار وقالوا يا رسول الله أقم عندنا في العَدد ، والعُدد ، والمنعة ، يقول لهم : دعوها فإنها مأمورة ، اتركوها فإنها مأمورة .
فقد تنشأ مشكلة في البيت عندك أولاد تنازعوا على مكان في الغرفة فإذا قلت لفلان أجلس هنا، وللآخر اجلس هناك صارت لديهم حساسية . فالنبي الكريم علمنا القرعة ، القرعة ما لها مشكلة ، إذا جرى تنازع بين أفراد وهم بدرجة واحدة بالنسبة لك ، تحبهم جميعاً وتنازعوا على شيء ، كأن يكون لك أولاد وأنت مدعو إلى سهرة أو مدعو إلى عقد قران ، والأنسب أن تأخذ واحداً فقط ، واخترت واحداً وغيره أهملته تنشأ مشكلة ، فأقرع بينهم فالقرعة تطيب بها النفوس .
فالنبي الكريم حتى ما يؤثر بيتاً على بيتٍ ، وتنشأ حساسيات ناس ينكسرون و ناس يفتخرون ، قال دعوها فإنها مأمورة ، والناقة تمضي إلى غايتها تتبعها العيون وتحف بها القلوب ، ويقول القائلون هنيئاً لمن تقف عنده هذه الناقة ، فإذا اقتربت من منزل فرح أهله ، وإذا تجاوزته حزن أهله ، إذا قربت يا رب تقف هنا ، وإذا تجاوزت لا حول ولا قوة إلا بالله ، وما زالت هذه الناقة على حالها ، والناس يمضون في إثرها وهم يتلهفون شوقاً لمعرفة السعيد المحظوظ، حتى بلغت ساحة خلاء أمام بيت أبي أيوب الأنصاري .
وقبل أن تقف الناقة هناك راوية أخرى في كتاب آخر ، من كتب التاريخ والسيرة ، يوضح ويبين أنه حينما شعر عليه الصلاة والسلام أن هناك تنافساً شديداً ، وهناك حساسية بالغة وكل الأنصار يتمنون أن يقبع عندهم ، أطلق زمام الناقة ، لأنه لو كان ماسكاً الزمام فقد يكون تحركها بتوجيه من رسول الله ، ولو أمسك الزمام وشد الزمام ، وشده يمنة ، أو يسرة ، أو منعها لثارت شكوك ، حينما رأى الأمر بهذه الدرجة من الحساسية ، أطلق زمام الناقة ، ولم يثنها لا يمنة ولا يسرة ولم يستوقف خطاها ، وقال : أي : دعاء دعا به ـ قال : اللهم خر لي وأختر لي .
يعني أنت أحياناً تأخذ بكالوريا ، يا ترى أألتحق بكلية طب ، أو طب أسنان ، أو هندسة كيمياء، علوم ، حقوق ، شرعية ، أدب عربي ، ما لك ثقة بالله عز وجل ، لكن قل اللهم خر لي واختر لي ، جاءك عرضا عمل ، اللهم خر لي واختر لي ، فهذا موقف تعويضٍ لله ، وهذه حصافة حقاً . لذلك الآية الكريمة التي يقرؤها المؤمنون وتذوب نفوسهم بها .
( سورة البقرة : 216 ) .
يعني شاب اختار الله له زوجةً ، أو اختار له عملاً ،أو أختار له بيتاً فلما يدخل بكلمة لو ، لو فعلت كذا لكان كذا لو اخترت هذا لكان كذا ، فكلمة (لو) ممنوعة في قاموس المؤمن لأنها تفتح عمل الشيطان ، لا تقل لو أني فعلت كذا وكذا ، وقل قدر الله وما شاء فعل ، فإن كلمة لو تفتح عمل الشيطان أما المؤمن يقول : اللهم خر لي واختر لي ، والله شيء جميل الإنسان يطلب من الله أن يختار له ، خطب ثم خطب ثم خطب ، وأخيراً نصيبه فلانة انتهى ، فهذه هي نصيبنا ، فهو مطمئن ، أما غير المؤمن يقول : مسواقنا عاطل ، يدخل في متاهات ، يعمل موازنات ، أختها أحسن منها ، الله يصلحها أمي لو اختارت لي أختها ، لمَ تنظر لأختها؟ ما لك حق شوف أختها أساساً ، هذه مخالفة شرعية .
أن تنظر اللهم خر لي واختر لي ، شيء مهم جداً ، في عملك ، في زواجك ، في شراء البيت، في تربية أولادك ، اللهم خر لي واختر لي هكذا علمنا النبي عليه الصلاة والسلام ، فالله هو العليم ، هو الحكيم ، هو الرحيم ، هو الخبير ، أترك الأمر إليه ، اللهم خر لي واختر لي ، هذا من سنة النبي .
وما زالت الناقة على حالها مستمرة في مسيرها ، والناس يمضون في إثرها وهم يتلهفون شوقاً لمعرفة السعيد المحظوظ ، حتى بلغت ساحة خلاء أمام بيت أبي أيوب الأنصاري ، لكن النبي عليه الصلاة والسلام لم ينزل عنها حكم ما بعدها حِكم ، ليست القضية أنه هو أوقفها ونزل ، أو لمجرد أن وقفت نزل ، بل حتى يثبت موقف الناقة ، فما لبثت أن وثبت وانطلقت تمشي والنبي عليه الصلاة والسلام مُرخٍ لها زمامها ، ثم ما لبثت أن عادت أدراجها وبركت في مبركها الأول .
الطبيب أحياناً يقيس الضغط ، يعيده مرة ثانية للتثبُّت . فهذه الناقة لئلا يُظن أن النبي أوقفها ، ويظن أنه شدّ الزمام شدة سريعة ، لئلا يظن أن النبي له مصلحة في أن يقف عند هذا الصحابي ، بقي راكباً عليها وانطلقت ودارت ورجعت إلى مكانها الأول ، وبركت ، إذاً فالقضية مركزه ، الموقع اختاره الله عز وجل ، وهذا الموقع ماذا أصبح الآن أصبح مقام رسول الله ، والمسجد النبوي بني فيه القضية لها أثر كبير جداً ، عندئذ غمرت الفرحة فؤاد أبي أيوب الأنصاري ، وبادر إلى النبي صلى الله عليه وسلم يرحب به ، وحمل متاعه بين يديه وكأنما يحمل كنوز الدنيا كلها ، ومضى إلى بيته ، هذا الإنسان العظيم حلّ ضيفاً عنده .
فهذا المنزل ، منزل متواضع ، منزل أبي أيوب الأنصاري يتألف من طبقة فوقها علية ، يعني غرفة صغيرة لكنها في الطبقة الثانية فأخلى العلية من متاعه ومتاع أهله ، لينزل فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، إلا أن النبي عليه الصلاة والسلام رحمة بأصحابه آثر عليها الطبقة السفلى ، لأن الطابق الأرضي أسهل للصحابة عند لقائه والقدوم إليه ، فالباب خارجي والمنزل
أرضي وهذا فيه سهولة واضحة فامتثل أبو أيوب لأمره وأنزله حيث أمر . لذلك تجد العلماء يتنازعون أحياناً ، و الامتثال خير من الأدب فإذا وقع خلاف فالأدب هو الامتثال والامتثال أولى ، فالنبي الكريم ارتأى أن يكون في الطبقة السفلية ، في الطبقة الأرضية ، ولما أقبل الليل، وأوى النبي صلى الله عليه وسلم إلى فراشه ، صعد أبو أيوب الأنصاري وزوجته إلى العلية ، وما إن أغلقا عليهما بابهما حتى التفت أبو أيوب إلى زوجته وقال : ويحك ماذا صنعنا بأنفسنا أيكون النبي عليه الصلاة والسلام أسفل منا ، ونحن أعلى منه ، أنمشي فوق رسول الله، أنصير بين النبي وبين الوحي ، إنا إذاً لهالكون ، فما هذا التعظيم ؟ ماذا قال الله عز وجل:
( سورة الحج : 32 ) .
هذا الذي يعظم رسول الله ، يعظم المصحف ، يوقر ذا شيبة مسلم ، يوقر الكعبة فهذا يعرف الحق لأصحابه ، هناك أشخاص يستهينون بهذه المقدسات بينما تعظيم هذه المقدسات دليل إيمان الإنسان ، والأصل في ذلك قوله تعالى :
وهنا نقف إزاء ملاحظة لا بد من بيانها :
أن الكفر أنواع ثلاثة : هناك كفر قولي ، وكفر اعتقادي ، وكفر سلوكي .
لو أن إنساناً أمسك بالمصحف وألقاه وأراد أن يهينه فقد كفر . هذا سيدنا أبو أيوب يقول : ماذا فعلت اليوم ؟ ماذا فعلنا بأنفسنا ؟ أنمشي فوق رسول الله ؟ أيكون النبي أسفل منا ؟ أنكون بينه وبين الوحي ؟ إن ذنب المنافق كالذبابة ، وذنب المؤمن كالجبل الجاثم فوق صدره ، كلما استصغرت الذنب كبر الذنب ، وكلما استعظمت الذنب صَغُر .
المؤمن يرى ذنبه كالجبل جاثم على صدره ، وغير المؤمن يستخف بذنوبه ولم تسكن نفسهما بعض السكون إلا حينما انحاز إلى جانب العلية ، الذي لا يقع فوق رسول الله ، والتزاماه لا يبرحانه إلا ماشيين على الأطراف متباعدين عن الوسط ، نام هو على طرف الحائط وزوجته على الطرف الآخر يعني ابتعدا عن مكان نوم النبي عليه الصلاة والسلام .
فلما أصبح أبو أيوب ، قال للنبي عليه الصلاة والسلام يا رسول الله : والله ما أُغمض لنا جفن هذه الليلة ، لا أنا ولا أم أيوب .
الملاحظة الثانية :
يعني من سعادة المرء أن تكون زوجته على نمط الزوج فأحياناً تجد الزوجة تعترض على زوجها هذا شيخك ؟ هذا شيخك ؟ تنزل دائماً بالشيخ ، فما عندها ولاء لزوجها ، أما الزوجة الصالحة ولاؤها كولاء زوجها يعني لها ولاء لدينه ، ولجامعه ، ولشيخه ، أم أيوب مثلها مثله تماماً . قال له : والله يا رسول الله ما أغمض لنا جفن في هذه الليلة لا أنا ولا أم أيوب .
فقال عليه الصلاة والسلام : ومما ذلك يا أبا أيوب ، خير إن شاء الله فقال : ذكرت أني على ظهر بيت أنت تحته ، وإني إذا تحركت تناثر عليك الغبار ، فالسقف ترابي ، فإذا تحرك أحد تناثر التراب ، فآذاك ، ثم إني غدوت بينك وبين الوحي .
فقال عليه الصلاة والسلام : اللهم صلِّ عليه كان طبيعياً ، قال له : هون عليك يا أبا أيوب ، إنه أرفق بنا أن نكون في السفلي ، لكثرة من يغشانا من الناس ، لا تهتم فالله عز وجل وضعه في آية فقال :
( سورة ص : 86 ) .
الإسلام ليس فيه كهنوت ، يعني طقوس ، وتعظيم ، وتأليف . قال له : هون عليك يا أبا أيوب إنه أرفق بنا أن نكون في السفلي لكثرة من يغشانا من الناس ، لا تهتم يعني هَوّن عليك .
قال أبو أيوب : فامتثلت لأمر النبي عليه الصلاة والسلام ، إلى أن كانت ليلة باردة فانكسرت لنا جرة في العلية ، ووقعت مشكلة وأريق ماؤها في العلية وكانت مشكلة كبيرة جداً ، فقمت إلى الماء أنا وأم أيوب ، وليس لدينا إلا قطيفة كُنّا نتخذها لحاف ، وجعلنا ينشف بها الماء خوفاً من أن يصل إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، اللحاف الوحيد ، الليلة باردة ، ما في غيره ، وضعوه فوق المياه ، حتى يمنعوا وصول الماء لسيدنا رسول الله .
هذا كله مسجل ، الأدب مسجل ، الحب مسجل ، والتضحية مسجلة والبذل مسجل ، والإنفاق مسجل . فلما كان الصباح ، غدوت على النبي صلوات الله عليه وقلت له : بأبي أنت وأمي إني أكره أن أكون فوقك ، هي ، وأن تكون أسفل مني ، ثم قصصت عليه خبر الجرة ، وهكذا صار معنا البارحة ، فاستجاب لي شو كمان النبي ، ما أحب أن يحرج أبا أيوب ، ما أحب أن يحمله فوق طاقته فوقف موقفاً ليناً .
النبي الكريم قال : رحم الله عبداً سهلاً ، قِس عليها إذا باع وإذا أشترى ، أو طُلب منه شيء ، المؤمن هين لين ، يألف ويؤلف ، كالجمل الأنف ينقاد سريعاً فلما رأى أبو أيوب في حرج شديد وفي ضيق ، وفي خوف ، قال له هون عليك ، فاستجاب النبي لي ، وصعد إلى العلية، ونزلت أنا وأم أيوب إلى الأسفل و ارتحنا وهدأت غلواء نفوسنا .
أقام النبي عليه الصلاة والسلام في بيت أبي أيوب نحواً من سبعة أشهر ، حتى تم بناء مسجده في الأرض الخلاء ، التي بركت فيها الناقة فأنتقل إلى الحجرات التي أقيمت حول المسجد له ولأزواجه ، فغدا جاراً لأبي أيوب ، معناها بيت أبي أيوب الأنصاري إلى جوار المسجد النبوي الشريف .
أما الآن إذا ذهبت إلى هذا المكان تجده غداً من أرقى الأبنية في العالم مساحات يتسع لمليون مصلٍ تقريباً ، فيه أعظم مشروع تكييف في العالم ، كله تعظيماً لهذا النبي الكريم .
وهذه نقطة ثانية أنه لما قامت الألفة ، بعد أن سكن النبي عند سيدنا أبي أيوب الأنصاري ، ورفرف شيء من الحب ، و مع الحب رفعت الكلفة ، تجد الناس قناصين ، لكن أبا أيوب منزّه عن ذلك . فالنقطة الدقيقة التي لفتت نظري ، أن هذه الإقامة عند سيدنا أبي أيوب الأنصاري ، أورثت لهذا الصحابي حباً للنبي منقطع النظير . والحقيقة أن الإنسان أحياناً يُحبُّ عن بعد ، فإذا سافرت معه تنكمش منه ، ما كنا عرفانين هيك لا حول ولا قوة إلا بالله .
قالوا : الإنسان إذا رأيته أول مرة تعرفه من شكله ، من هندامه من ألوان ثيابه ، فإذا تكلم نسيت شكله .
الأحنف بن قيس كما تعلمون كان قصير القامة ، أسمر اللون مائل الذقن ، ضيق المنكبين ، ناتئ الوجنتين ، غائر العينين ، أحنف الرجل ، ليس شيء من قبح المنظر إلا وهو آخذ منه بنصيب ، وكان مع ذلك سيد قومه ، إذا غضب غضب لغضبته مائة ألف سيف لا يسألونه فيم غضب ، وكان إذا علم أن الماء يفسد مروءته ما شربه .
فالإنسان إذا رأيته أول مرة ، تستنبط بعض خصائصه من هيئته ، من ثيابه أما إذا تكلم ، تنسى شكله ، فإذا عاملك تنسى كلامه فكلامه ينسيك شكله ومعاملته لك تنسيك كلامه ، فالبطولة أن على الإنسان ألا يحب عن بعد ، بل أن يحب عن قرب ، أن يحب وأنت شريكه وأنت مسافر معه ، هو جارك ، هو ضيفك ، أما من بعد ، كل إنسان ببيته ، بعلاقاته العامة ، أناقة ، واحترام، وكلام لطيف ، واعتذارات ودبلوماسيات ، وعبارات رقيقة ، أما المجاورة ،
أو السفر أو المحاككة بالدرهم والدينار ، فهذه هي المحكة بعض الأشخاص لهم هالة كبيرة جداً ، لو دخلت إلى حياتهم الخاصة ، لرأيت فرقاً شاسعاً بين أقوالهم وبين أفعالهم لذلك تنكمش منهم .
فسيدنا أبو أيوب عاش مع النبي في بيت واحد ، وعلى قرب شديد فماذا فعل به هذا القرب الشديد ؟ زاده حباً ، زاده تعلقاً ، زاده تعظيماً ، زاده إكباراً لكماله المؤمن تحبه عن قربٍ وعن بعدٍ ، تحبه من دون أن تخالطه ، وتحبه إذا خالطته تحبه من دون أن تسافر معه وتحبه إذا سافرت معه ، تحبه من دون أن تشاركه ، وتحبه إن شاركته .
أنا أتألم جداً عندما أرى أخوين بعد أن تشاركا تخاصما ، رغم كل هذا الحب وكل هذه المودة، لما دخلتما في شركة واحدة بدأت الخصومات والحسد ، والانتقادات ، لماذا ؟ لضعف إيمان أحدهما ، أو لضعف إيمان كليهما بالعلاقات الحميمة يزداد تألق المؤمن ،وكذلك في السفر ، ومع الجوار ، إن سكن معه في بيت واحد ، ازداد الحب ، والتعلق ، والشوق ، حتى رفعت الكلفة .
والنبي عليه الصلاة والسلام يعني قائد فذ صديق حميم ، وأب رؤوف وزوج ناجح ، كان إذا دخل صحابي يداعبه هذا خالي أروني خالاً مثل خالي ، اِرمِ سعد سعد فداك أبي وأمي .
فالنبي الكريم أقام في هذا البيت سبعة أشهر ، وكأن هذا البيت بيته ، ورفعت الكلفة بينهما إلى ما لا نهاية .
لذلك يا إخوان أجمل شيء في الحياة ، وأنا لا أبالغ في مقالتي أجمل شيء أخ لك مؤمن ، تخلص له ويخلص لك ، تحبه ويحبك تؤثره ويؤثرك ، تضحي من أجله ويضحي من أجلك ، تقرضه ويقرضك ، تعينه ويعينك ، تشعر بمشاعره ، تتألم لآلامه ، تفرح لأفراحه ، هذا حال المؤمنين . هكذا قال النبي :
المؤمنون بعضهم لبعض نصحه متوادون ولو ابتعدت منازلهم والمنافقون بعضهم لبعض غششة متحاسدون ولو اقتربت منازلهم .
قال لي أخ كان مع جماعة مؤمنين قال لي والله ما ارتحت معهم ، ليش ؟ قال لي ما رأيت اثنين متحابين ليس معقولاً أيكونون مؤمنين ، وليس بينهم حب أبداً ؟ كل واحد ينتقد الآخرين ، فعلامة أهل الإيمان أنهم يحبون بعضهم حباً حقيقياً ، ومع الحب رفع الكلفة ومع الحب الوفاء، ومع الحب التضحية ، ومع الحب التعاون .
( سورة المائدة : 2 ) .
سيدنا أبو أيوب ، بعد أن انتقل النبي إلى بيته المجاور للمسجد النبوي وهو يرى أن كل سعادته بإكرام النبي ، كل سعادته كانت أساسها ، أن الله أكرمه بأن جعل النبي ضيفه ، فهذا الخير كأنه انقطع ، فأحبّ أن يستمر الخير فكان يعد له كل يوم طعاماً ، على الطريقة القديمة .
و النبي الكريم قال : إن الله يحب من الأعمال أدومها وإن قل ، أو أحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قل . فإذا أنت صليت قيام الليل فاستمر ، وإن خصصت مبلغاً كل شهر صدقة فاستمر ، الأعمال المستمرة ، تتراكم ، ومع التراكم تتعاظم ، ومع التعاظم تحملك إلى الله عز وجل ، لكن بعضهم يهب هبة ثم ينطفىء يفور ويهمد ، هذا ليس من صالح المؤمن ، أحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قل .
إن كان لك عمل صالح فاستمر عليه ، تقصد هذا المسجد استمر عليه لك هذه الصدقة استمر عليها ، لك هذا الجزء من القرآن تقرؤه كل يوم أستمر عليه ، لك هذا الذكر استمر عليه .
سيدنا أبو أيوب لما النبي انتقل إلى بيوته التي حول المسجد ، كان يعيش في خير ما بعده خير، كان يعيش في سعادة ما بعدها سعادة لذلك كان يعد للنبي طعاماً كل يوم .
فمرة طرق النبي الكريم مع سيدنا الصديق وسيدنا عمر باب داره ـ بالمناسبة يعني النبي جاع، وكان فقيراً ، ولأن النبي قدوة للمؤمنين جميعاً إلى يوم القيامة لابد من أن يذوق كل شيء ، ولو أن النبي ما ذاق الجوع إطلاقاً ، وما ذاق الفقر إطلاقاً ، فلا يمكن أن يكون قدوة لنا لكن ذاق الجوع ، وذاق الفقر .
قال : أوذيت وما أوذي أحد مثلي ، وخفت وما خاف أحد مثلي ومضى علي ثلاثون يوماً ، لم يدخل جوفي إلا ما يواريه إبط بلال .
فيبدو أن النبي لم يكن عنده طعام ، فانطلق إلى بيت أبي أيوب ، ماذا فعل أبو أيوب ؟ كان يعمل في نخلٍ قريب ، فأقبل يسرع ويقول مرحباً برسول الله والله ترحيب الأخ أغلى من طعامه ، أهلاً وسهلاً ، أنورَتْ ، أنور البيت ، أكرمتنا بهذه الزيارة ، الترحيب ضيافة يا أخوان ، الترحيب الشديد من صفات المؤمن .
فهذا سيدنا أبو أيوب قال له مرحباً برسول الله ، وبمن معه أحياناً تهتم بالضيف الأول وتهمل الباقين ، فيستحون بحالهم لأن المضيف لم يلتفت إليهم ، تفضل ويهمل الآخرين ! انتبه يا أخي فمع ضيفك اثنان آخران ، رحب بهم جميعاً .
قال له : مرحباً برسول الله وبمن معه وهذا هو الأدب ، توزع اهتمامك على الكل ، ترحيبك بالكل ، ضيافتك للكل ، عنايتك بتوزيع الطعام للكل .
سبحان الله بالمدينة المنورة أخٌ دعانا إلى غذاء ، من أهل المدينة لفت نظري أنه ما أكل معنا أبداً ، بقي واقفاً يقدم لنا الطعام ، هذه من سنة النبي اللهم صلِّ عليه ، فالشدة الترحيب والإكرام ، يقف ويوزع الطعام بيده ، على كل واحد من المدعوين .
أنطلق أبو أيوب إلى نخلة ، فقطع منها عرقاً فيه تمرٌ ورطبٌ ، وبسرٌ ، البسر يعني تمر لم ينضج بعد ، قد يبيعون في الطريق بلحاً ، على العذق يعني معلقاً بعناقيد ، لونه بلحي ، فقال عليه الصلاة والسلام : ما أردت أن تقطع يا أبا أيوب ، هلا جنيت لنا من ثمره ، قال يا رسول الله أحببت أن تأكل من تمره ورطبه وبسره فكل ما تشتهي نفسك بسراً أو رطباً أو تمراً يا رسول الله ، ولأذبحن لك أيضاً ، قال إن ذبحت ، فلا تذبحن ذات لبن .
وفي أيامنا هذه قد يكون أحد جائعاً ولا يقبل ضيافة مضيفه ويقول : قبل قليل أكلت ، هذا لا معنى له وهو من الكلام الفاضي ، أنت جائع وهو أحب أن يكرمك ، قل له : ضع لنا أكلاً ، ما في مانع ، يعني الكريم ما من كلمة أحب إلى قلبه من أن يقول له الضيف ، ضع لي طعاماً، لكن بلا تكلف.
أمرنا ألا نتكلف المفقود ، يا عائشة لا تتكلفي لضيفك فتملي ألغِ التكلف ، لا نبخل بالموجود ، ولا نتكلف المفقود . قال له ولأذبحن لك شاة يا رسول الله ، قال له إن ذبحت فلا تذبحن ذات لبن ، فأخذ أبو أيوب جدياً ، فذبحه ، ثم قال لامرأته اعجني واخبزي لنا أنتِ أعلم بالخبز ، ثم أخذ نصف الجدي فطبخه ، وعمد إلى النصف الآخر فشواه ، فلما نضج الطعام ، ووضع بين يدي النبي وصاحبيه ، أخذ النبي قطعة من الجدي ، ووضعها في رغيفٍ فقال : يا أبا أيوب بادر بهذه القطعة إلى فاطمة فإنها لم تصب مثل هذا منذ أيام .
فالمؤمن وفيّ لأهله ، واليوم إخوان مؤمنون كثيرون إذا دعي لطعام نفيس ، ففي اليوم التالي يجلب للبيت طعاماً مثله لأهله يعني هذه زوجتك ، وشريكة حياتك ، فان أكلت أنت ما لذّ وطاب وهي محرومة ، فهذا شيء لا يليق بالزوج أبداً .
فقال له يا أبا أيوب بادر بهذه القطعة إلى فاطمة فإنها لم تصب مثل هذا منذ أيام ، فلما أكلوا وشبعوا قال النبي عليه الصلاة والسلام خبزٌ ، ولحمٌ ، وتمرٌ ، وبسرٌ ، ورطبٌ ، ودمعت عيناه.
يعني أحدنا إذا أكل صباحاً ، وكان على المائدة لبن مصفى ، وزيتون وجبن وبيض مقلي ، وصحن سلطة مثلاً ، وكأس حليب مع نسكافة ، فلا يبكي ، أو لا تدمع له عين شكراً على ما أنعم الله عليه ، لكن النبي بكى ، ثم عند الظهر طبخ وفواكه وحلويات ، وأكل طيب ، والمؤمن كلما ارتقى إيمانه يخجل من الله ، فالنبي الكريم كانت تعظم عنده النعمة مهما دقت .
ككأس ماء مثلاً ، حتى لو أنه قضى حاجته ، قال : الحمد لله الذي أذاقني لذته ، وأبقى في قوته ، وأذهب عني أذاه .
هذا المؤمن ، المؤمن دائماً مع الله ، في طعامه وشرابه ، فلما أكلوا وشبعوا قال النبي الكريم خبزٌ ، ولحمٌ ، وتمرٌ ، وبسرٌ ، ورطبٌ ودمعت عيناه ثم قال : والذي نفسي بيده ، إن هذا هو النعيم الذي تسألون عنه يوم القيامة . أكلت وموّنت يعني كلكم تعرفون ماذا في بالبلد ، وماذا به من خيرات إذا الإنسان أكل قطعة جبن مع كأس شاي ، وصحة طيبة ، فهذه أكبر نعمة فإذا أصبتم مثل هذا ، فضربتم أيديكم فيه فقولوا بسم الله ، سَمّوا الله . لأن الشيطان إذا دخل إنسان لبيته وما سلم ، قال الشيطان أدركتم المبيت ، وطول الليلة مناقرة ، وخبط أبواب وتكسير ، وسباب بين الزوجين ثم ضرب وصراخ ، ثم غادرت بيتها لبيت أهلها ، و الشيطان نام عندهم، فالزوج دخل البيت ولم يسلّم ، سلم يا أخي ، سلم ، وقل السلام عليكم يهرب الشيطان، إذا الشيطان رأى أن هذا الرجل دخل ولم يسلم ، قال أدركتم المبيت فإذا جلس للطعام ولم يسمِ قال : أدركتم العشاء ، فإذا دخل ولم يسلم وجلس للطعام ولم يسمِ قال : أدركتم المبيت والعشاء . فالخنايق بالبيوت ، وعياط وشياط ، وكلها أساسها البعد عن الله عز وجل .
قال : فإذا شبعتم فقولوا الحمد لله الذي أشبعنا وأنعم علينا فأفضل ، ثم نهض النبي إلى أبي أيوب ، وقال ائتنا غداً لنكافئك ، و النبي الكريم قال : من أسدى إليكم معروفاً فكافئوه.
سيدنا أبو أيوب عاش طوال حياته غازياً ، حتى قيل إنه لم يتخلف عن غزوة غزاها النبي أبداً، وكانت الآية الكريمة ، شعاراً له :
( سورة التوبة : 41 ) .
سيدنا أبو أيوب في عهد معاوية بن أبي سفيان رحمه الله تعالى ورضي عنه ، انخرط في جَيَّش جيشه معاوية بقيادة ابنه يزيد لفتح بلاد الروم كم كان عمره في ذاك الوقت ؟ ثمانون عاماً .
بينما في أيامنا الرجل بالأربعينات معه حزمة أدوية ، قبل الطعام وبعده ، هات أسبرين ، وهات سكرين وهات .... ثمانين سنة ، عاش هذا الصحابي الجليل ، وعاش مجاهداً ، يبدو أنه أصابه مرض في هذه الغزوة ، كان قائد الجيش يزيد بن معاوية فخف إليه القائد ، قال له يا أبا أيوب ما حاجتك ـ استمعوا ما حاجة أبا أيوب الأنصاري ـ فطلب أبو أيوب الأنصاري من يزيد إذا هو مات أن يُحمل جثمانه فوق فرسه ويمضي به أطول مسافة ممكنة في أرض العدو ، أبعد مسافة ممكنة ، في أرض العدو ، ويدفن هناك ثم يزحف بجيشه على طول هذا الطريق ، حتى يسمع أبو أيوب وهو في قبره وقع حوافر خيل المسلمين فوق قبره ، عندئذ يدرك أنهم قد أدركوا ما يبتغون ، من نصر وفوز ، وهذه أمنيته . سيدنا عمر بن الخطاب ، حينما قتل ، وقبل أن يلفظ أنفاسه الأخيرة ، سأل سؤالاً ، قال أصلّى المسلمون الفجر ؟
أما هذه الأيام اسأل طبيباً ، يشاهد حالات موت أحياناً ، فيسمع المريض : أين السيارة موجودة لا تخف ، فيها محفظة فلوس ، لا تخف موجودة ، فهو قلق على سيارته ، وعلى فلوسه ، وعلى بيته وعلى ممتلكاته المنقولة وغير المنقولة ، سيدنا عمر قال لهم : أصلّى المسلمون الفجر ؟
سيدنا أبو أيوب قال له : امضِ بجثماني إلى أبعد مكان في أرض العدو وادفني هناك ، ثم تابعني بالجيش لأسمع وقع حوافر خيل المسلمين حتى أموت مطمئناً إلى أنكم وصلتم إلى هذه الأماكن ، وهذه أمنيته وقد تحققت ، وقبره معروف ضمن استنبول ، حتى الحي المدفون فيه له أسم شهير ، من يذكره ؟ له أسم بالتركي مشهور جداً ، مكان دفن هذا الصحابي في هذه المدينة ، طبعاً يزيد بن معاوية أنجز وصية أبي أيوب وقبره في قلب القسطنطينية وهي اليوم استنبول ، وتضم جثمان هذا الرجل العظيم ، أما الشيء الغريب ، أنه قبل أن تفتح القسطنطينية وتغدو استنبول كان الروم يتعاهدون قبره ، ويزورنه ، ويستسقون بقبره إذا قحطوا .
فأعداء المسلمين كانوا يتبركون به ، أنا أعرف يقيناً أنه ما من رجل أوربي زار دمشق إلا وطلب زيارة قبر سيدنا صلاح الدين ، ويقف هؤلاء باحترام كبير أمامه ، لأنه عاملهم أشرف معاملة ، لما انتصر عليهم ، في بيت المقدس .
من أقوال سيدنا أبي أيوب : إذا صليت فصلّ صلاة مودع ، هذا الحديث عن رسول الله أما سيدنا أبو أيوب كان يتمثله دائماً ، إذا صليت فصلّ صلاة مودع ولا تكلمن بكلام تعتذر منه ، وتمام النصيحة هي : الزم اليأس مما في أيدي الناس ، يحبك الناس ، إياك وما يعتذر منه ، صلّ صلاة مودع إياك وما يعتذر من ، استقم يعني ، استقامة كاملة ، وحسن صلاتك ، ولا تطمع بما عند الناس هذه كلها من نصائح هذا الصحابي الجليل ، التي كان يأخذها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وكل واحد رأى ملايين الأتراك المسلمين ، والأعداد الكبيرة منهم في الحج ، وهذا كله من بركات هذا الفتح الإسلامي لهذه البلاد . ولنا أخوان من الصين ، أين الصين ؟ سألت أخاً زارني منذ يومين قال لي أنا من الشمال ، الشمال الشرقي ، من الصين ، رحمه الله أولئك الفاتحين إذ آلاف الكيلومترات بين الشام وبين الصين ، ورغم بعد المسافة وصلوا غليها وفتحوها ، و أرجو الله سبحانه وتعالى أن ننتفع من هذه الدروس ، وأن يكون هؤلاء الصحابة قدوة لنا ، وأن نقتدي بهداهم ، فهم الذين رضي الله عنهم ورضوا عنه .
والحمد لله رب العالمين(/)
الدرس 48/50 ، سيرة الصحابي : أبو ذر الغفاري ، لفضيلة الأستاذ محمد راتب النابلسي .
تفريغ : الأستاذ هشام القدسي .
التدقيق اللغوي : الأستاذ غازي القدسي .
التنقيح النهائي : المهندس غسان السراقبي .
بِسْمِ اللهِ الرَّحمَنِ الرَّحِيمِ
مع الدرس الثامن و الأربعين من دروس سيرة صحابة رسول الله رضوان الله عليهم ، وصحابي اليوم هو سيدنا أبو ذر الغفاري رضي الله عنه وأرضاه ، فعَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا أَظَلَّتْ الْخَضْرَاءُ وَلَا أَقَلَّتْ الْغَبْرَاءُ مِنْ ذِي لَهْجَةٍ أَصْدَقَ وَلَا أَوْفَى مِنْ أَبِي ذَرٍّ شِبْهِ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ عَلَيْهِ السَّلَام فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ كَالْحَاسِدِ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَفَتَعْرِفُ ذَلِكَ لَهُ قَالَ نَعَمْ فَاعْرِفُوهُ لَهُ * وَقَدْ رَوَى بَعْضُهُمْ هَذَا الْحَدِيثَ فَقَالَ أَبُو ذَرٍّ يَمْشِي فِي الْأَرْضِ بِزُهْدِ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ عَلَيْهِ السَّلَام *
(رواه الترمذي)
وبالمناسبة فإن شهادة النبي صلى الله عليه وسلَّم لأصحابه شهادة حق ، لأنه لا ينطق عن الهوى ، ولأنه عليه الصلاة والسلام لا يعرف المحاباة والمديح ، ولأنه الإنسان الكامل ، فإذا مدح صحابياً يمدحه بما فيه ، ولا ينطق عن الهوى أبداً ، إن هو إلا وحي يوحى .
لذلك هؤلاء الذين سعدوا بوصف الني عليه الصلاة والسلام لهم هم سعداء حقاً ، كيف لا، وقد قال الله عز وجل عن أصحابه الكرام رضي الله عنهم ورضوا عنه :
(سورة الفتح ، الآية 18)
ويا أيها الإخوة الكرام ، والله الذي لا إله إلا هو ما في الأرض شيء - بكل ما في هذه الكلمة من معنى - أثمنُ من أن يرضى الله عنك ، و لو كنت معذباً ، و لو كنت فقيراً ، ولو كنت مضطهداً ، ولو كنت ضعيفاً ، و لو كنت تعاني ما تعاني ، ولو كنت في أدنى درجة السلّم الاجتماعي ، فإذا رضي الله عنك فأنت أسعد الناس .
لذلك فالذي قال :
***
فليتك تحلو والحياة مريرة وليتك ترضى والأنام غِضابُ
وليت الذي بيني و بينك عامر وبيني وبين العاليمن خَرابُ
***
واللهِ لقد صدق .. لكنه لِمن ذاق طعم الإيمان ، وذاق طعم القرب ، وذاق طعم الرضى، وذاق طعم أن يشعر الإنسان أن الله يحبه ، وأن خالق الكون يرعاه ، ويحمه ، ويدافع عنه ، ويجعل له وُدًّا ، قال عزوجل :
[سورة مريم]
الإنسان أحياناً يملأ الدنيا إذا كانت له صلة مع شخص مهمٍّ ، وإذا كانت معه صورة له.. فيا لطيف ، يضعها في جيبه دائمًا ، وكلما التقى بإنسان يقول : كنا البارحة معًا في سهرة .. لعله إنسان لا قيمة له عند الله أبداً ، فكيف إذا كانت لك مودة مع خالق الكون .
على كل ؛ وكما كنت أقول هذا لكم كثيراً : مهما يكن وضعك الصحي ، أو الاجتماعي أو الاقتصادي ، أو العلمي ، أو الطبقي ، أو العرقي ، فلا شيء يحول بينك وبين أن تكون بطلاً عند الله عز وجل .
لا شيء ، من أي منبت كنتَ ، من أي مشرب ، من أي طبقة ، من أي عرق ، من أي جنس ، من أي أمة ، من أي لون ، من أي شكل ، من أي وراثة ، من أي أسرة ، من أي منطقة ، أبداً .. لأن هذا الدين دين الله عز وجل ، وليس هناك عقبة إلا منك ، أمّا عقبة من منبتك ، أو من عرقك ، أو من محيطك ، فهذا لن يضيرك ، هذا هو الحق ، لذلك ترون مِن الصحابة مَن هم في قمم النسب القريشي ، ومن الصحابة من هم دخلاء على قريش ، فسلمان وبلال وصهيب دخلاء على قريش ، ماذا قال النبي عليه الصلاة والسلام : سَلْمَانُ مِنَّا أَهْلَ الْبَيْتِ *
(الطبراني في الكبير ، والحاكم في المستدرك عن عمرو بن عوف)
النبي عليه الصلاة والسلام ألغى النسب كله ، قال : أنا جد كل تقي ولو كان عبداً حبشياً، هذا هو الإسلام ، وما سوى ذلك جاهلية ، فأيُّ إنسان يعتد بنسبه إن لم يكن مستقيماً فلا شأن له ، لكن النسب مع الاستقامة فهو على العين والرأس ، تاج يُتوَّج الإنسان به ، أما نسب بلا استقامة فكلام فارغ ، قال تعالى :
[سورة المسد]
هذا شعار من يفتخرون بالأنساب دون أن يستقيموا على أمر الله ، قال تعالى :
[سورة المسد]
فأيُّ إنسان يعتد بأسرته ، بوسامته ، بذكائه ، بقومه ، بأمته فهو اعتداد أعمى .. إنْ لم يقدم شيئًا يرفعه ، فهذا سلوك جاهلي ، وتفكير جاهلي ، ونمط جاهلي ، فعَنْ الْمَعْرُورِ بْنِ سُوَيْدٍ قَالَ لَقِيتُ أَبَا ذَرٍّ بِالرَّبَذَةِ ، وَعَلَيْهِ حُلَّةٌ ، وَعَلَى غُلَامِهِ حُلَّةٌ ، فَسَأَلْتُهُ عَنْ ذَلِكَ ، فَقَالَ : إِنِّي سَابَبْتُ رَجُلًا فَعَيَّرْتُهُ بِأُمِّهِ ، فَقَالَ لِي النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : يَا أَبَا ذَرٍّ أَعَيَّرْتَهُ بِأُمِّهِ، إِنَّكَ امْرُؤٌ فِيكَ جَاهِلِيَّةٌ ، إِخْوَانُكُمْ خَوَلُكُمْ ، جَعَلَهُمْ اللَّهُ تَحْتَ أَيْدِيكُمْ ، فَمَنْ كَانَ أَخُوهُ تَحْتَ يَدِهِ فَلْيُطْعِمْهُ مِمَّا يَأْكُلُ ، وَلْيُلْبِسْهُ مِمَّا يَلْبَسُ ، وَلَا تُكَلِّفُوهُمْ مَا يَغْلِبُهُمْ ، فَإِنْ كَلَّفْتُمُوهُمْ فَأَعِينُوهُمْ *
(متفق عليه)
كل إنسان عنصري فهو جاهلي ، كل إنسان يحابي إنسانًا لا لأخلاقه ، ولا لعلمه ، ولكن لنسبه ، أو لاتصاله بقومه ، أو لعشيرته ، أو أسرته فهو إنسان جاهلي عنصري ، لذلك في هذا الدرس ترون أن هذا الصحابي الجليل كان من أطراف المدينة ، وادٍ من الوديان التي تصل مكة بالعالم الخارجي .
وتعرفون الوديان ممرات إجبارية ، فهناك وادٍ يعد ممراً إجبارياً بين مكة والعالم الخارجي ، في هذا الوادي الذي اسمه " ودان " كانت تنزل قبيلة غفار ، وقد تسألون لماذا في الوادي ؟ لأن الوادي مسيل الماء ، وفي قعر الوادي قد تتجمع المياه ، وقد ينبت الكلأ ، لذلك هذه القبيلة ، قبيلة غفار كانت تنزل في قعر الوادي الذي يصل مكة بالعالم الخارجي ، يعني على الطريق ، وكانت غفار قبيلة فقيرة جداً ، تعيش من ذلك النزر اليسير الذي تبذله لها القوافل ، أيْ تعيش على فتات القوافل .
فقد تلاحظون على الطرقات أحيانا من يمدُّ اليد ، على الطرقات من يمسح لك زجاج السيارة ، يقول لك : من مال الله ، قبيلة فقيرة إلى درجة غير معقولة ، تقبع في واد يُعد طريقاً إجبارياً من مكة إلى العالم الخارجي ، فكانت تعيش على فتات القبائل ، وربنا سبحانه وتعالى نوَّع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، منهم الغني ومنهم الفقير ، فمنهم القريب ومنهم البعيد ، ومنهم الحضري ومنهم البدوي ، ومنهم الذكي ومنهم الأقل ذكاءً ، ومنهم ذو العشيرة ومنهم من كان دخيلاً على مكة .
إذاً كانت هذه القبيلة تعيش على ذلك النزر اليسير الذي تبذله لها القوافل التي تسعى بتجارة قريش ، ذاهبة إلى بلاد الشام أو آيبة منها .
وربما عاشت هذه القبيلة على قطع الطريق على هذه القوافل ، أيْ قبيلة قطاع طرق ، وكلمة قطاع طرق تُعد وصمة عار في حق الإنسان ، قاطع الطريق ، فالمجرم الصعلوك الذي ليس له عمل ، والذي لا قيم تضبطه ، ربما كان قاطع طريق .
وكان جندب بن جنادة المكنى بأبي ذر واحداً من أبناء هذه القبيلة .
صحابي اليوم الذي هو سيدنا أبو ذر الغفاري ، كان واحداً من هذه القبيلة التي تعيش في ذلك المكان ، وعلى فتات القوافل ، أو على قطع الطريق .
والإسلام أيها الإخوة يصبغ الإنسان ، وكنت أقول هذه الكلمة : لا يمكن أن يُضاف إلى كلمة مؤمن كلمة أخرى ، تقول مؤمن متحضر ، هذا كلام ليس له معنى ، المؤمن متضجر ، إذا قلت : مؤمن غير متحضر لم يكن معقولاً ، فالمؤمن متحضر .. قد يقال : مؤمن لطيف ، لا فالمؤمن بالأساس لطيف .. فأي كلمة تضاف إلى المؤمن كلمة باطلة ، لأن الإيمان يصبغ نفسية الإنسان بصبغة الكمال ، قال تعالى :
[سورة البقرة]
لكن هذا الصحابي الجليل كان يمتاز بجرأة القلب ، ورجاحة العقل ، وبُعْدِ النظر ..
اليوم زارني إنسان يتمتع بقدرات فكرية عالية جداً ، قلت له : إنّ النبي عليه الصلاة والسلام عجب ؛ لا من إسلام خالد ، ولكن عجب من تأخر إسلام خالد ، قال له : عجبت لك يا خالد !! العجب ليس من إسلامه العجب من تأخر إسلامه ! .. قال له : أرى لك فكراً ".
معناها الإسلام متوافق توافقاً تاماً مع العقل ، كل من كان له عقل راجح يجب أن يستسلم لله عز وجل ، هذا التلازم بين العقل الراجح وبين التدين ، هذا تلازم ضروري ، وتلازم ثابت وحتمي ، فالنبي لما رأى سيدنا خالدًا ، وقد أسلم قبل عام الفتح بقليل ، قال له : عجبت لك يا خالد أرى لك فكراً " .
إذاً سيدنا أبو ذر كان يمتاز بجرأة القلب ، ورجاحة العقل ، وبُعْدِ النظر ، وفطرته كانت تأبى أن يعبد الأصنام ، كان يضيق أشد الضيق بهذه الأوثان التي تُعبد من دون الله ، ويستنكر على قومه ، يستنكر فساد دينهم ، وتفاهة معتقدهم .
وكان عندنا درس للدعاة يوم السبت ، البارحة ، فأحد إخواننا الكرام ألقى محاضرة مِن مقرر تاريخ الأديان ، وفي هذه المحاضرة حديث عن الديانات في الهند ، وقرأ لنا مقتطفات من قول رجل راجح العقل هناك ، وله مكانة كبيرة جداً ، يفضل البقرة على أمه ، ويرى أن هذه البقرة يجب أن تُعبد من دون الله ..
فالإنسان حين يرى تفاهة عقل الآخرين ، فذاك الرجل له عقل راجح ، والدليل وصل إلى قمة المجتمع الهندي ، ومع ذلك حين تحدث عن دينه الهندوسي ، وتحدث عن البقرة ، وكيف أنها أفضل من أمه ، وقال : هو يرضع من أمه سنتين فقط ، لكنه يشرب الحليب البقري طوال حياته ، إذاً البقرة أفضل من أمه .
هذا ما سمعناه البارحة منقول بنصه الحرفي .
فكان أبو ذر رضي الله عنه يضيق أشد الضيق بقومه ، ويتطلع إلى ظهور نبي جديد ، يملأ على الناس عقولهم وأفئدتهم ، ويخرجهم من الظلمات إلى النور .
و الإنسان قد يبحث بهذا المجلس أو بذاك ، بهذا المكان أو بغيره ، ثم يقول لك : ما ارتويت ، عندي فراغ ما مُلِئ ، عندي حاجة عقلية ما ارتوت ، عندي تطلع ما وجدته ، إلى أن يهديه الله إلى جهة يرتاح لها تسد فراغ عقله ، و تسد حاجة نفسه .
سيدنا أبو ذر كان عنده فراغ ، كان عنده بحث دائم ، ثم تناهت إلى أبي ذر وهو في باديته أخبارُ النبي عليه الصلاة والسلام الذي ظهر في مكة ، وقال لأخيه أنيس : انطلق إلى مكة ، وقِفْ على أخبار هذا الرجل الذي يزعم أنه نبي ، وأنه يأتيه وحي من السماء ، واسمع شيئاً من قوله واحمله إلي .
ذهب أنيس إلى مكة ، والتقى بالنبي صلوات الله وسلامه عليه ، وسمع منه ، ثم عاد إلى البادية ، فتلقاه أبو ذر باللهفة ، وسأله عن أخبار النبي الجديد بشغف .
فقال : لقد رأيت واللهِ رجلاً يدعو إلى مكارم الأخلاق ، ويقول كلامًا ما هو بالشعر .
فقال : وماذا يقول الناس عنه ؟ .
قال : يقولون ساحر ، وكاهن ، وشاعر .
فقال أبو ذر : والله ما شفيت لي غليلاً ، ولا قضيت لي حاجة ، فهل أنت كافٍ عيالي حتى أنطلق فأنظر في أمره .
المعلومات غير كافية ، فأخوه ما شفى له غليلاً ، ولا قضى له حاجة .
قال : نعم ، ولكن كنْ من أهل مكة على حذر ..
انتبه ، لأن الرجل مُحارَب هناك ، فإذا علموا أنك جئته ربما قتلوك .
فتزود أبو ذر لنفسه ، وحمل معه قربة ماء صغيرة ، واتجه من غده إلى مكة يريد لقاء النبي عليه الصلاة والسلام ، والوقوف على خبره بنفسه .
بلغ أبو ذر مكة المكرمة ، وهو متوجس خيفة من أهلها ، فقد تناهت إليه أخبار غضبة قريش لآلهتهم ، وتنكيلهم بكل من تحدثه نفسه باتباع محمد ، لذا كره أن يسأل أحداً عن محمد، لأنه ما كان يدري أيكون هذا المسؤول من شيعته أم من عدوه ؟ لا يعرف .
ولما أقبل الليل اضطجع في المسجد ، فمر به رجل هو سيدنا علي بن أبي طالب ، فعرف أنه غريب ، فقال : هلم إلينا أيها الرجل ، فمضى معه ، وبات ليلته عنده ، وفي الصباح حمل قربته ومزوده ، وعاد إلى المسجد دون أن يسأل أحدًا عن شيء .
أحياناً أيها الإخوة قد يوجه الإنسان أسئلة محرجة ، كأنْ يمشي مع شخص ، يقول له : أراك هنا ، نعم أين ذاهب ؟ .. لا تحرجه ، ربما لا يحب أن يقول أين هو ذاهب ، فكل إنسان يكثر الأسئلة ، يضيق على صاحبه ، فسؤالٌ وراء سؤالٍ وراء سؤالٍ .. انظر إلى كمال سيدنا علي ، رجل غريب ينام في المسجد ، أخذه إلى البيت ، وأضافه عنده ، و ما سأله عن اسمه ، ولا ممن هو ؟ ولا لمِ جاء إلى مكة ؟
ثم قضى أبو ذر يومه الثاني دون أن يتعرف إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فلما أمسى أخذ مضجعه من المسجد ، فمر به علي بن أبي طالب رضي الله عنه فقال له ، أما آن للرجل أن يعرف منزله ؟ .
ثم اصطحبه معه فبات عنده ليلته الثانية ، ولم يسأل أحدٌ منهما صاحبه عن شيء .
فلما كانت الليلة الثالثة ، قال علي لصاحبه : ألا تحدثني عما أقدمك إلى مكة ؟ فقال أبو ذر : إن أعطيتني ميثاقاً أن ترشدني إلى ما أطلب فعلت ، فأعطاه عليٌّ ما أراد من ميثاق .
فقال أبو ذر : لقد قصدت مكة من أماكن بعيدة أبتغي لقاء النبي الجديد ، وسماع شيء مما يقوله .
فانفرجت أسارير سيدنا علي ، وقال : والله إنه لرسول الله حقاً .
هذه على حد قوله تعالى :
(سورة طه)
هذه اللقاءات العابرة ، اللقاءات التي يظن أنها صدفة ، فليست هي صدفة ، ولكنها بقدر.
[سورة الأنفال]
[سورة طه]
فالله عز وجل علم صدقه ، فجمعه بصاحبي جليل ، ابن عم النبي عليه الصلاة والسلام.
قال : والله إنه لرسول الله حقاً .. وإنه وإنه وإنه .. وحدثه عن النبي ، فإذا أصبحنا فاتبعني حيثما سرت ـ انظر الذكاء ـ قال له : سر ورائي ، فإن رأيت شيئاً أخافه عليك ، وقفتُ كأني أريق الماء - اتفقوا على إشارة - فإن رأيت شيئاً أخافه عليك وقفتُ كأني أريق الماء ، فانتبه وارجع ، فإن مضيت فاتبعني حتى تدخل معي ، فلم يقر لأبي ذر مضجعه طوال ليلته شوقاً إلى النبي ورؤيته ، ولهفة إلى استماع شيء مما يوحى إليه .
وفي الصباح مضى عليٌّ بضيفه إلى بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ومضى أبو ذر وراءه يقفو أثره ، وهو لا يلوي على شيء ، حتى دخلا على النبي صلى الله عليه وسلم .
يقولون : إنّ أول صحابي سلَّم على النبي بسلام الإسلام هو أبو ذر الغفاري ، أما كان راجح العقل ؟! بلى ، حينما رأى النبي صلى الله عليه وسلم قال : السلام عليك يا سول الله .
ولنا هنا كلام جميل ، فحين يتكلم الإنسانُ فإمّا أنْ يعلو أو يسقط ، قال زهير بن أبي سلمى في معلقته :
***
وكائِنْ ترَى مِنْ صَامِتٍ لكَ مُعجِبٍ زِيادَتُهُ أوْ نَقصُهُ فِي التّكَلُّمِ
***
السلام عليك يا رسول الله .
سيدنا عمر كان مرةً ماشيًا في الطريق ، فقال : السلام عليكم يا أهل الضوء ولم يَقُلْ السلام عليكم يا أصحاب النار .
يعني اللغة شيء ثمين ، مرة منشئ الأخبار صاغ الخبر التالي : يُسمح باستيراد العلف للمواطنين ، هذا غلط ، يجب أن يقول يُسمح للمواطنين باستيراد العلف .
قال له : السلام عليك يا رسول الله ، فقال عليه الصلاة والسلام : وعليك سلام الله ورحمته وبركاته .
كان أصحاب النبي إذا مشوا معاً ، وفرقت بينهم شجرة ، فبعد الشجرة يلتقون ويقول : السلام عليكم .
والله أيها الإخوة ، ما من كلمة أمتع إلى القلب من " السلام عليكم " .
فعندما تقول : السلام عليكم ، يعني أنني إنسان خيَّر فلا تخف مني ، الإنسان عليه أن يكثر السلام ، حتى إذا دخل على أهل بيته ، حتى إذا دخل إلى محل ما فليبدأ بالسلام ، وَلْيُنْهِ لقاءه بالسلام .
كان أبو ذر أول من حيَّا الرسول بتحية الإسلام ، ثم شاعت وعمَّت بعد ذلك .
أقبل النبي عليه الصلاة والسلام على أبي ذر يدعوه إلى الإسلام ، ويقرأ عليه القرآن ، فما لبث أن أعلن كلمة الحق ، ودخل في الدين الجديد قبل أن يبرح مكانه ، فكان رابع ثلاثة أسلموا أو خامس أربعة .
بعض الصحابة يقولون : كنت في وقت وأنا ثلث الإسلام ، الثلث أي سبقه اثنان ، الآن أنت كم سبقكم من واحد ، ألف ومائتا مليون ، أنت واحد على ألف مليون و مائتي مليون ، سيدنا أبو ذر واحد على أربعة ، يعني حينما دخل في الإسلام كان رابع خمسة أو ثالث أربعة، و لنترك لأبي ذر الكلام ليقصَّ علينا بنفسه بقية الخبر .
قال : أقمت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة ، فعلمني الإسلام ، وأقرأني شيئاً من القرآن ، ثم قال لي : لا تخبر بإسلامك أحداً في مكة ، فإني أخاف عليك أن يقتلوك .
فقلت : والذي نفسي بيده لا أبرح مكة حتى آتي المسجد ، وأصرخ بدعوة الحق بين ظهراني قريش ، فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم .
والحقيقة التفسير سهل ، من شدة انبهاره بالدعوة ، من شدة سعادته بالإسلام ، فهل من المعقول أنّ في الناس مَن لا يعرف الإسلام ؟ فتطوع أن يخرج إليهم ، وأن يصرخ في وجههم بكلمة الحق .. مع أنّ النبي نصحه ألاّ يفعل .
قال : فجئت المسجد ، وقريش جلوس يتحدثون ، فتوسطتهم ، وناديت بأعلى صوتي ، يا معشر قريش ، إني أشهد أن لا إله إلا الله ، وأن محمد رسول الله ، فما كادت كلماتي تلامس آذان القوم حتى ذعروا جميعاً ، وهبوا من مجالسهم ، وقالوا : عليكم بهذا الصابئ ، وقاموا إليَّ ، وجعلوا يضربونني لأموت ، فأدركني العباس بن عبد المطلب عمُّ النبي صلى الله عليه وسلم ، وأكب عليَّ ليحميني منهم ، ثم أقبل عليهم ، وقال : ويلكم .. ويلكم ، أتقتلون رجلاً من غفار ، وممر قوافلكم عليهم ، انتبهوا .
انظر إلى الذكاء ، لو قال : أتقتلون إنسانًا مؤمنًا لقتلوه ، فهمْ يريدون قتله ، لكنّهم خاطبهم بلغتهم ، أحياناً الإنسان يُوفق ويخاطب الآخرين باللغة التي يفهمونها ، ليس بحكيم من خاطب أناساً بلغة لا يفهمونها ، أحياناً تخاطب إنسانًا قويًا ، و تقول : والله يجب أن تفعل هكذا ، ألاَ تخاف اللهَ ، فتقول : لا إنه لا يخاف الله ، إنه لا يخاف الله ، يظن الإنسان العاقل أنَّ أعظم شيء أن يخاف الإنسانُ من الله ، فالمتغطرس لا يخاف الله إطلاقاً ، فكل إنسان يجب أن يُخاطَب بلغة يفهمها ، وهذا من الحكمة .
قال : ولما أفقت من غيبوبتي بعد أن ضُربت ضرباً مبرحاً ، جئت النبي عليه الصلاة والسلام ، فلما رأى ما بي قال : يا أبا ذر ألم أنهك عن إعلان إسلامك ؟
فقلت : يا رسول الله كانت حاجة في نفسي فقضيتها .
فقال : الحقْ بقومك ، وأخبرهم بما رأيت وما سمعت ، وادعُهم إلى الله ، لعل الله ينفعهم بك ، ويأجرك فيهم .
والإنسان مسؤول عن قومه ، وعن أسرته ، وعن أقربائه ، وعمن يلوذ به ، وهكذا فعل النبي عليه الصلاة والسلام .
قال : فإذا بلغك أني ظهرت فتعال إليَّ ، ما معنى ظهرت ؟ يعني نصرني الله ، فتعال إليَّ ، الآن النبي مستضعف متخفٍّ .
قال أبو ذر : فانطلقت حتى أتيت منازل قومي ، فلقيني أخي أنيس ، فقال : ما صنعت ؟ قلت : لقد أسلمتُ وصدَّقتُ .
لقد ذهب أخوه مستطلعًا ، وذهب سيدنا أبو ذر فأسلم .
فما لبث أن شرح الله صدره ، وقال : مالي رغبة عن دينك ، فإني قد أسلمت وصدقت أيضاً.
ثم أتينا أمَّنا فدعوناها للإسلام ، والمرأة لها قيمة وشأن ، فهي أمٌّ وزوجة ، فقالت : مالي رغبة عن دينكما ، وأسلمتْ أيضاً .
ومنذ ذلك اليوم انطلقت الأسرة المؤمنة تدعو إلى الله ، لا تكلُّ عن ذلك ، ولا تملّ منه ، حتى أسلم من غفار خلق كثير ، وأقيمت الصلاة فيهم .
ما معنى قوله تعالى ؟ :
(سورة النحل ، الآية 120)
أنت ممكن أن تكون أمة ، إذا كان عند الإنسان صدق شديد ، ودعا إلى الله يصبح وحده أمةً.
لكنّ فريقًا منهم قال : نبقى على ديننا ، حتى إذا قدم النبيُّ المدينة أسلمنا ، فلما قدم النبي المدينة أسلموا ، فعَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غِفَارُ غَفَرَ اللَّهُ لَهَا ، وَأَسْلَمُ سَالَمَهَا اللَّهُ ، وَعُصَيَّةُ عَصَتْ اللَّهَ *
(رواه مسلم)
وأسلم قبيلة أخرى أسلمتْ .
أقام أبو ذر في باديته حتى مضت بدرٌ وأحدٌ والخندقُ ، ثم قدم إلى المدينة ، وانقطع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، واستأذنه أن يقوم في خدمته ، فأذن له ، ونَعِمَ بصحبته ، وسَعِدَ بخدمته ، وظلَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم يؤثره ويكرمه ، فما لقيه مرةً إلا صافحة ، وهشَّ في وجهه وبشَّ .
وأحياناً قد يضن الإنسانُ ببسمة ، يضن بإشراقة وجه ، يضن بمصافحة ، يضن بكلمة طيبة ، يضن بكلمة طيبة ، يضن بلفتة كريمة ، فيكون بخيلاً .
فالنبي عليه الصلاة والسلام كلما لقي أبا ذر كان يصافحة ، ويهشُ في وجهه ويبشّ ، ولما لحق النبي صلى الله عليه وسلم بالرفيق الأعلى لم يُطِق أبو ذر صبراً على الإقامة في المدينة ، بعد أن خلت من سيدها ، وأقفرت من هدي مجلسه ، فرحل إلى بادية الشام ، وأقام فيها مدة خلافة الصديق والفاروق رضي الله عنهم جميعا .
وفي خلافة عثمان نزل في دمشق ، فرأى من إقبال المسلمين على الدنيا وانغماسهم في الترف ما أذهله ، ودفعه إلى استنكار ذلك ، فاستدعاه عثمان إلى المدينة ، فقدم إليها ، لكن ما لبث أن ضاق برغبة الناس في الدنيا ، وضاق الناس بشدته عليهم ، وتنديده بهم ، فأمره عثمان بالانتقال إلى الربذة ، وهي قرية صغيرة من قرى المدينة ، فرحل إليها ، وأقام فيها بعيداً عن الناس ، زاهداً بما في أيديهم من عرض الدنيا ، مستمسكاً بما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وصاحباه من إيثار الباقية على الفانية .
دخل عليه رجلٌ ذات مرة ، فجعل يقلب الطرف في بيته ، فلم يجد فيه متاعاً ، فقال : يا أبا ذر أين متاعكم ؟ فقال : لنا بيت هناك ، نرسل إليه صالح متاعنا ، ففهم الرجل مراده ، أنّه يعني الدار الآخرة ، وقال : ولكن لا بد لك من متاع ما دمت في هذه الدار ، فأجاب : ولكن صاحب المنزل لا يدعنا فيه .
وبعث إليه أمير الشام بثلاثمائة دينار ، وقال له : استعن بها على قضاء حاجتك ، فردها إليه ، وقال : أما وجد أمير الشام عبداً لله أهون عليه مني.
وفي السنة الثالثة والثلاثين للهجرة استأثرت يد المنون بالعابد الزاهد ، الذي قال فيه النبي صلوات الله عليه : " مَا أَظَلَّتْ الْخَضْرَاءُ وَلَا أَقَلَّتْ الْغَبْرَاءُ - الغبراء الأرض ، والخضراء السماء - مِنْ ذِي لَهْجَةٍ أَصْدَقَ وَلَا أَوْفَى مِنْ أَبِي ذَرٍّ شِبْهِ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ عَلَيْهِ السَّلَام *
(رواه الترمذي)
يعني أصدق مع ربه ، وأصدق في طلب الحق ، وأصدق في الزهد في الدنيا ، هكذا .
أردت من هذه القصة ذكرَ إنسان يعيش في وادٍ منقطع ،و تعيش قبيلته على قطع الطريق أحياناً ، وعلى فتات القوافل أحياناً ، يصبح سيدنا ، ويصبح صحابياً جليلاً ، ويصبح في أعلى قمم التقوى والصلاح .
مرةً ثانية ، أيّ وضع أنت فيه ؟ من أي انتماء أنت ؟ من أي عرق كنت ؟ من أي لون؟ من أي طبيعة ؟ من أي مستوى ؟ من أي أصل ، لا شيء في الأرض يمنعك من أن تكون مؤمناً وبطلاً قريباً من الحق .
والحمد لله رب العالمين .
***
*****(/)
الدرس 31/50 ، سيرة الصحابي : سيدنا أبو هريره ، لفضيلة الأستاذ محمد راتب النابلسي .
تفريغ : م المهندس عرفان نابلسي .
التدقيق اللغوي : الأستاذ غازي القدسي .
التنقيح النهائي : المهندس غسان السراقبي .
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد الله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا ، وانفعنا بما علمتنا ، وزدنا علما ، وأرنا الحق حقاً ، وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .
أيها الأخوة الأكارم : مع بداية الدرس الواحد والثلاثين من دروس سير أصحاب رسول الله رضي الله عنهم تعالى أجمعين ، وصحابيّ اليوم تعرفونه جميعاً ، فما من مسلم إلا ويطرق سمعَه اسمُ هذا الصحابي الجليل في كل خطبة تُلقَى ، وفي كل درس يُعطَى ، وفي كل كتاب يُقْرأ، إنه الصحابي الجليل أبو هريرة الدوسي ، رضي الله عنه .
وقبل أن نمضي في الحديث عن هذا الصحابي الجليل نذكر سببَ اختيار هذا الصحابي، في فكرة أساسية مؤَدَّاها أن الله سبحانه وتعالى أعطى الإنسان حرية الاختيار ، وجعل للجنة أبوابًا عدة ، فكل إنسان بإمكانه أن يصل إلى الجنة من أيِّ باب من هذه الأبواب ، هناك من يطلب العلم فقط ليتعلَّم ويعلِّم ، وهناك من يتعلّم ويقدِّم خدمات للناس ، وهناك من يبني المساجد ، وهناك من يرعى الأيتام ، وهناك من يعين الضعفاء ، وهناك من ينصر المظلومين ، فالطرائق إلى الخالق بعدد أنفاس الخلائق ، فمِنَ السذاجة وضيق الأفق والجهل أن تظّن أن الجنة للدعاة إلى الله فقط ، لا ، فهي أيضًا لأصحاب الحرف ، ولمن أتقنوا حرفهم ، ولمن خدموا المسلمين ، ولأصحاب الأموال الذين أنفقوا أموالهم رخيصة في سبيل الله ، ولأصحاب الجاه الذين وضعوا جاههم في خدمة الضعفاء ، ولمن أنشؤوا المساجد ، ولمن أسّسوا دور الأيتام ، أبواب الجنة مفتحة لكل هؤلاء ، فأنتم ترون كيف أنّ صحابياً جليلاً باعُه طويل في الجهاد ، كسيدنا خالد ، وأن صحابياً جليلاً آخر باعه طويل في الإنفاق ، وأن صحابياً جليلاً آخر باعه طويل في تعلُّم العلم وتعليمه ، فهذا الصحابي الجليل أبو هريرة رضي الله عنه نمطٌ فريد ، فما من صحابي روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يزيد عن خمسة آلاف وستمائة حديث كأبي هريرة، لذلك بعض العلماء لهم تعبير مهني يقول : هذا مريد علم ، هذا مريد خدمة ، ترى طالب علم همُّه الأول أن يخدم المسجد ، ويحسِّنه ، وينظفه ، فهذا على العين والرأس ، وتجد إنسانًا آخر همه حفظُ الآيات والأحاديث والتفاسير ، وهو على العين والرأس ، وهناك إنسان ثالث همه الإنفاق ومساعدة الفقراء ، فهو كذلك على العين والرأس ، فكل إنسان يعمل في حقله ، والشيء العجيب أنّ الإنسان مخيَّر ، ومع أن الحياة تحتاج إلى آلاف آلاف الأعمال فقد نسق الله عز وجل بين اختيار الإنسان وبين إعمار الكون على مستوى الحياة الاقتصادية والاجتماعية ، فكل إنسان يحقق اختياره يستمتع بعمله ، ومجموع الأعمال يحقق إعمار للأرض ، لكنْ كيف تمّ هذا التنسيق بين اختيار الناس وبين تحقيق حاجات البشر جميعاً ؟ لقد تمّ هذا بترتيب وتدبير الله سبحانه ، على مستوى مدينة واحدة فيها خطاطون ، وفيها منشدون ، وفيها قراء قرآن ، وفيها تجار ، وفيها ميكانيكيون ، وكل إنسان اختار مهنة أحبّها ، وبرع فيها ، لكن كيف تنسق اختيار هؤلاء جميعاً ؟ حيث إن هذه المدينة فيها كل الحِرَف ، وفيها كل الفعاليات .
على كُلٍّ مقدمتي هذه هدفُها أن أحدناً لا يتوقف عمله ، فأي قطر إسلامي يعدّ من أكبر الأقطار الإسلامية تعداداً من حيث سكانه ؟ إندونيسيا ، فيها مائة وخمسون مليون مسلم ، والأمة العربية من خليجها إلى محيطها مائتا مليون ، إندونيسيا وحدها مائة وخمسون مليونًا ، أكبر قطر إسلامي أسلم أبناؤه عن طريق التجار والبيع والشراء لذلك ففي الحديث الشريف عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدرِيِّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ التَّاجِرُ الصَّدُوقُ الْأَمِينُ مَعَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ *
(رواه الترمذي)
لماذا ؟ لأنه داعية كبير ، وهو لا يدري ، ولأنه حقق للناس حاجات أساسية باعهم بضاعة جيدة بسعر معتدل ، وكان لطيفًا معهم ، رحيمًا بهم ، سَمْحًا في التعامل معهم ، فهذا التاجر الصدوق يمكن أن يكون داعية إلى الله وهو ساكت .
والآن إلى الصحابي الجليل أبي هريرة رضي الله عنه ، لقد كان الناس يدعون هذا الصحابي الجليل في الجاهلية عبد شمس الناس بأسمائهم ، فرعون ، قارون ، سيدنا زيد ، ولا تجد إلا كنية واحدة في القرآن كله ، وهي أبو لهب ، لأن اسمه الأساسي عبد العزى ، والقرآن لا يصح أن يذكر اسمًا أساسه الشرك لذلك قال تعالى:
(سورة المسد )
أحيانا يتألم الإنسان إذا نودي باسمه ، لا تتألم يا أخي ، فقد نادى الله الأنبياء بأسماهم ، فقال:
(سورة آل عمران ، الآية 55)
ناداه باسمه .
(سورة مريم ، الآية 12)
أما أصحاب الكنى :
(سورة المسد ، الآية 1)
القرآن الكريم لم يذكر من أسماء الكنى إلا أبا لهب ، قياساً على هذا فاسم هذا الصحابي الجليل عبد شمس ، فلما أكرمه الله بالإسلام ، وشرّفه بلقاء النبي عليه الصلاة والسلام قال له : ما اسمك ؟ قال عبد شمس ، فقال عليه الصلاة والسلام : عبد الرحمن ، فقال : نعم ، عبد الرحمن ، بأبي أنتَ وأمي يا رسول الله ، ومِن السنة أن تُغَيِّر أسماءَ مَن تحب إنْ كانت قبيحة منفِّرة ، أو كانت من أسماء ترمز إلى الشرك ، ولا تليق بالمؤمن الموحِّد ، ما اسمك يا زيد ؟ فقال : اسمي زيد الخيل ، قال : بل أنت زيد الخير ، هناك أسماء لا تليق ، مثل عدوان ، لماذا ؟ ينبغي أن نغيِّرها ، أعتقد أنّ من حق الإنسان أن يغيّر اسمه إلى اسم يروق له ، لكن دائماً من حق الولد على والده أن يحسن تسميته كي يزهو باسمه .
قال : ما اسمك ؟ قال : عبد شمس ، فقال عليه الصلاة والسلام : عبد الرحمن ، فقال : نعم ، عبد الرحمن ، بأبي أنت وأمّي يا رسول الله ، أمّا لماذا كان يكنى بأبي هريرة ، فإنّ سبب ذلك كانت له هرة وهو صغير ، يلعب بها ، فجعل لدّاته أي أصدقاؤه ينادونه أبا هريرة ، وشاع ذلك، وذاع حتى غلب على اسمه ، ونحن عندنا في تاريخ الأدب أسماء ، مثل الجاحظ لجحوظ عينيه ، المتنبي ، أبو تمام ، أسماء كثيرة غلبت على أسماء أصحابها الحقيقية الكنى والألقاب .
بالمناسبة سيدنا عمر سُمِّي الفاروق ، وهذا لقبه ، وكنيته أبو حفص ، وابن الخطاب ، والكنية أبو فلان أو ابن فلان ، أما الفاروق فلقب ، والصديق لقب ، القرشي نسب ، فلان الحداد شهرة ، عبجي شهرة ، والشهرة شيء واللقب شيء ، والنسب شيء ، والاسم شيء ، وأكثر أسماء الأُسَرِ أساسُها الصنعة ، السمّان ، الحدّاد ، وغير ذلك .
شاع ذلك حتى غلب على اسمه ، فلما اتصلت أسبابه بأسباب رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل يناديه كثيراً بأبي هِرّ ، إيناساً له وتحبباً ، فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم رقيق لطيفًا ، ومثل هذا ما رواه الشيخان وغيرُهما عَنْ أَنَسٍ قَالَ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحْسَنَ النَّاسِ خُلُقًا وَكَانَ لِي أَخٌ يُقَالُ لَهُ أَبُو عُمَيْرٍ قَالَ أَحْسِبُهُ فَطِيمًا وَكَانَ إِذَا جَاءَ قَالَ يَا أَبَا عُمَيْرٍ مَا فَعَلَ النُّغَيْرُ نُغَرٌ كَانَ يَلْعَبُ بِهِ فَرُبَّمَا حَضَرَ الصَّلَاةَ وَهُوَ فِي بَيْتِنَا فَيَأْمُرُ بِالْبِسَاطِ الَّذِي تَحْتَهُ فَيُكْنَسُ وَيُنْضَحُ ثُمَّ يَقُومُ وَنَقُومُ خَلْفَهُ فَيُصَلِّي بِنَا *
وكان يتحبب للسيدة عائشة ويقول : لها يا عويش فعَن مسلم بن يسار قال بلغني أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل على عائشة فقال يا عويش مالي أراك أشرق وجهك ...*
(انظر الإصابة لابن حجر ، الترجمة رقم 11552)
وفي اللغة العربية الاسم يصغَّر تعظيماً ، ويصغَّر تحقيراً ، ويصغَّر تحبُّباً ، فمِن تصغير التعظيم قولُ لبيد بن ربيعة :
***
وَكُلُّ أُنَاسٍ سَوْفَ تَدْخُلُ بَيْنَهُمْ دُوَيْهِيَةٌ تَصْفَرُّ مِنْهَا الأَنَامِلُ
***
الدويهية تصغير داهية ، وهذا تصغير تعظيم ، يعني هذا الأمر داهية كبير ، وتصغير التحقير تقول هذا شويعر ، تصغير شاعر ، ومنه قول المتنبي :
***
وَفِي كُلِّ يَوْمٍ تَحْتَ ضِبْنِي شُوَيْعِرٌ ضَعِيفٌ يُقاوِينِي ، قَصِيرٌ يُطَاوِلُ(1)
ـــــــــــــــــــــــ
(1) الضبن ما تحت الإبط إلى الخاصرة ، وهو الحضن : والاستفهام للتعجب والإنكار ، يقول : أفي كل يوم يتمرس بي شويعر ضعيف في صناعته ، قصير في معرفته ، فأراه يباريني في القوة ، وهو لا قوة له ، ويطاولني وهو قصير أحمله تحت ضبني ، يريد حقارة ذلك الشاعر ، حتى لو أراد أن يحمله تحت ضبنه لقدر على ذلك ، ثم هو مع حقارته يباهيه بمدح سيف الدولة .
عويلم ، قويئد ، هذا تصغير التحقير ، أما تصغير التحبّب يا عويش ، فإذا استخدمت التصغير فاعلم أن هناك تصغير تحقير ، وتصغير تعظيم ، وتصغير تحبب ، فالنبي عليه الصلاة والسلام كان يتحبَّب إلى هذا الصحابي الجليل بتكنيته " أبا هر" ، إيناساً له وتحبباً ، فصار يُؤْثر أبا هر على أبي هريرة ، ويقول : ناداني بها حبيبي رسول الله ، والهرّ ذَكَرُ ، والهريرة أنثى ، والذكرُ خير من الأنثى ، هكذا عُلِّلَتْ .
أسلم أبو هريرة على يد الطفيل بن عمرو الدوسي ، وظل في أرض قومه دوس إلى ما بعد الهجرة بست سنين ، حيث وفد مع جموع من قومه على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، هذا الصحابي الجليل انقطع لخدمة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فاتخذ المسجد مقاماً ، واتخذ النبي معلماً وإماماً ، إذ لم يكن له في حياة النبي زوج ولا ولد ، وتعرفون ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم في حديث يَعْلَى الْعَامِرِيِّ أَنَّهُ جَاءَ حَسَنٌ وَحُسَيْنٌ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا يَسْتَبِقَانِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَضَمَّهُمَا إِلَيْهِ وَقَالَ إِنَّ الْوَلَدَ مَبْخَلَةٌ مَجْبَنَةٌ *
(رواه الترمذي وابن ماجه وأحمد)
ليس عنده زوجة تسأله : لماذا تأخرت ؟ ولا أولاد حتى يتفقدهم ، فهو متفرغ تفرُّغًا تامًّا لخدمة رسول الله صلى الله عليه وسلم .
أحيانًا التفرغ له معنى ، فمع طلب العلم رائع جداً ، والكلام موَجّه إلى إخواننا الشباب ، وأنتم الآن في طور اليفاع ، وأنتم الآن متفرغون ، لا زوجة ولا ولد ، والزواج مسؤولية ومتاعب ، فريثما تتزوج أحدكم فعليكم بمضاعفة الجهد ، لأن هذا الوقت الذي تعيشونه الآن لا تعرفون قيمته إلا بعد الزواج ، فالزواج مشغلة ، فاستغلوا وقتكم ، وضاعفوا جهدكم ، واطلبوا العلم حثيثاً ، ومَن لم تكن له بداية محرقة لم تكن له نهاية مشرقة ، ما المانع أن تحفظ القرآن الكريم ؟ ما الذي يمنعك أن تطلب العلم طلباً حثيثاً ؟ ما الذي يمنعك أن تضاعف من إنتاجك العلمي والتحصيلي وأنت شاب ؟ فإنّ ريح الجنة في الشباب ، والشيء المؤلم أنّ الإنسان حينما تتقدم به السن يتحرّق ألمًا على الوقت الذي مضى في شبابه على غير ما يتمنى ، وقد قال الشاعر أبو العتاهية في هذا المعنى :
***
فَيَا لَيْتَ الشَّبَابَ يَعُودُ يَوْماً فَأُخْبِرَهُ بِمَا صَنَعَ الْمَشِيبُ
***
فإذ سمح اللهُ لشابٍّ أنْ يستفيد من خبرات الآخرين ، أو أكرمه بخبرات الشيوخ مقدَّمةً له على طبق من ذهب ، فعليه أن يستفيد منها ، ومِن علامات ذكاء الإنسان وتوفيقه أنه يستفيد من خبرات الآخرين دون أن يدفع الثمن الباهظ لها ، تجلس مع إنسان كبير في السن يقول لك : آه ، فتخرج من أعماق أعماق أعماقه ، لقد ضيَّعتُ الوقت الثمين في شبابي ، ترى الآن الشباب يقفز نشيطًا خمس درجات معاً على سُلَّم البناء ، لكنّه بعد الأربعين والخمسين يميل للراحة والسكون والنوم ، ويميل إلى إلغاء هذه الزيارة ، وهذا اللقاء ، فقد بدأت متاعبُه ، أما وهو شاب يغلي غلياناً ، ويتوقد نشاطاً ، فالإنسان الشاب يستغل نشاطه ، وأروع شاب هو الذي يمضي شبابه في تجارب الشيوخ ، وحضور مجالس العلم ، فيعطيك خبرات الشيوخ ، وأنت شاب ، فاستغِلَّ هذه الفرصة قبل أن تُشغَل ، والحديث الشريف تعرفونه جميعاً : اغتنم خمساً قبل خمس .. فراغك قبل شغلك، حياتك قبل موتك ، صحتك قبل سقمك ، شبابك قبل هرمك ، غناك قبل فقرك .
وفي القرآن الكريم آية تحضنا على التسابق ؟ قال تعالى :
(سورة الحديد )
وقال سبحانه :
(سورة الصافات )
وقال عزوجل :
(سورة المطففين )
إلا أن هذا الصحابي كانت له أم عجوز أَصَرَّتْ على الشرك ، فكان لا يفتأ أن يدعوها إلى الإسلام إشفاقًا عليها ، وبراً بها ، فتنفر منه ، وتصده فيتركها والحزن عليها يفري فؤاده فرياً .
والله أيها الإخوة قد ألتقي بأخ شاب فتراه يتحرّق على هداية أمِّه وأبيه وهداية إخوته وأخواته، واللهِ أُكْبِرُه ، فالإنسان إذا لم يكن فيه خيرٌ لأقرب الناس إليه فلا خير فيه لأحد ، فالشاب المؤمن بأساليب ذكية جداً يُسمِع والدَه الحقَّ ، وُيسمع والدته الحق ، وينصح بأدب ، ولا يدخر وسعاً لهداية أقرب الناس إليه ، وكلكم يعلم أن الابنَ لن يستطيع أن يردَّ جميل أبويه إلا في حالة واحدة ؛ أن يكونا ضالَّين فيتم هداهما على يديه ، فإذا فعل ذلك فقد ردّ الجميل كلّه ، لأنّه أعتقهما من النار ؛ فإذا تمكّن الابن أنْ يعتق والديه من النار بالهدية والإكرام بالخدمة الفائقة والإقناع بتسميعهما بعض الأشرطة حتى مال قلبُ الأب إلى الهدى والرشاد فقدْ حقّق أكبر عطاء.
يتركها و الحزن يفري فؤاده فرياً ، وفي ذات يومٍ دعاها إلى الإيمان بالله و رسوله ، فقالت في النبي عليه الصلاة والسلام قولاً أحزنه ، لا أستطيع إعادته ؛ فمضى إلى النبي يبكي ، فقال له النبي عليه الصلاة والسلام : ما يبكيك يا أبا هريرة ؟ فقال : إني كنت لا أفتر عن دعوة أمّي إلى الإسلام فتأبى عليّ ؛ وقد دعوتها اليوم فأسمعتني فيك ما أكره .
أحياناً بعض الناس يسبّ الشيخ ، والأم تكردِس للشيخ بعض الكلمات ، لا مانع ، الله يسامحها سلفاً ؛ تقول : فرَّق شملَ العائلة ، يقولون ، ويقولون ، لكن الشيخ ما فرّق ما دام يتصرف طبق الشرع .
وقال للنبي عليه الصلاة والسلام : فادعُ الله جل وعز كي يميل قلبَ أم أبي هريرة للإسلام، فدعا لها النبي صلوات الله وسلامه عليه ؛ قال أبو هريرة : فمضيتُ إلى البيت ، فإذا بالباب قد ردّ ، وسمعت خضخضة الماء ، فلما هممتُ بالدخول قالت أمي : مكانك يا أبا هريرة ، ثم لبستْ ثوبها ، وقالت : ادْخُل ، فدخلتُ ، فقالت : أشهد أن لا إله إلا الله ، وأشهد أن محمداً رسول الله ، فعدتُ إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، وأنا أبكي من شدة الفرح ، فالشاب المؤمن إذا كانت هذه رغبتُه ، وهذا رجاؤه ، وقد سمعتُ عن إنسان له أب ملحد ، ولهذا الأب أصدقاء كثر ، فما زال هذا الشاب يقنع أباه بأدب ومنطق وحُجة ، وكذلك أسمعه أشرطة ، وخدمه ، إلى أنْ مال قلبُ هذا الأب ، ولعله صلى من أجل ابنه ، فانتهزها الابنُ مناسبة ، وأقام في البيت مولداً ، دعا إليه كبار العلماء في هذه البلدة ، ودعا إكرامًا لأبيه أصدقاء الأب كلهم ، الذين هم على شاكلته ، وقال لي : إنّ بعض العلماء تحدّث وقال : إن هذا المولد نتج عنه خير كبير ، تحدّث عالم ، فثانٍ، فثالث عالم ، كلهم ألقوا كلمات ، وهذا شيء رائع جداً ، أنْ يمكِّنك الله عز وجل ويسمح لك أن تهدي الطرف الآخر.
قد تجلسون مع بعضكم ، وهذا شيء جميل ورائع ؛ ولكن لا تساورهم أيّة مشكلة ، إنهم إخوان يحب بعضهم بعضاً ، على مذهب واحد ، وكلهم مؤمنون ، يحب بعضكم بعضاً ، ويألف بعضكم بعضاً ، ويؤنس بعضكم بعضاً ، لكن أنت عندما تجالس الطرف الآخر الذي لا يعرف الله أبداً ، والذي لا يصلي ، إذا استطعتَ أن تحاوره ، وأن تستميل قلبه ، وأن تقنعه بالدخول في الدين ، وتريه الإسلام من خلال تصرفاتك ، ليرى أنّ الدين عظيم ، وتستطيع أن تجره إلى حقل المسلمين ، وهو سيجرُّ معه أصدقاءه فهذه بطولة .
ذات مرة قال لي شخص : إنه جاءه مولود بعد سبع بنات ، فأراد أنْ يقيم حفلاً لتقبُّل التهاني، وهو يعمل مدرسًا في معهد متوسط ، وكل مَن حوله بعيدون عن الدين بعداً شديداً ، وبعضهم لا يصلي إطلاقاً ، وهو قريب لي ، فاقترحتُ عليه بدل هذا اليوم الذي أعده لاستقبال أصدقائه أن يقيم مولداً للنبي صلى الله عليه وسلم ، وتبرّعت أنا بإلقاء كلمة في هذا المولد ، وجاء أولئك العلمانيون ، وجلسوا ، وفوجئوا أنّ الحفل مولد ، طلبتُ مِنَ المنشد وأرشدتُه إلى أن ينتقي القصائد الجيدة ، ثم ألقيتُ كلمة فيها توفيق إلهي ، واللهِ أيها الإخوة ثلاثة من ثلاثة وعشرين مدعوًّا لزموا هذه الدروس ، وهم أبْعدُ الناس ، فإذا أقمْتَ احتفالاً فلا تجعله احتفالاً عاديًّا ، و لكنْ لِيَكُنْ احتفالك هادفاً ، جاءك مولود ، أو تزوجت فأقِمْ احتفالاً وادعُ علماء يتكلمون كلامًا طيبًا ، واستغل هذا الاحتفال لتسميع الناس الحقَّ ، فنحن هنا نتمنى على إخواننا أن يسمعوا الطرف الآخر ، إذا وجد شخصٌ مجتهد ومتفوق جداً وأخلاقي ، وقلت له : انتبه لوالدك ، فهذا تحصيل حاصل ، أو قلت له: اجتهد ، فهذا تحصيل حاصل أيضًا ، فأنت ما فعلت شيئًا مع هذا المجتهد ، أما الإنسان الشارد الشقي إذا تلطفتَ معه ، وأقنعته حتى مال لقبُه إليك فهذه البطولة ، فبطولتك في إقناع الطرف الآخر ، وبطولتك في إقناع البعيدين عن الدين ، في إقناع أهل الدنيا ، في إقناع العلمانيين ، في إقناع الذين رأوا أن الدين ليس لهذا العصر ، وأنه سلوك أساسه الضعف والخوف ، هذه رؤيتُهم .
قالت له : مكانك يا أبا هريرة ، ثم لبستْ ثوبها ، وقالت له : ادخل ، قال : فدخلت ، فقالت: أشهد أن لا إله إلا الله ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ، فَعُدْتُ إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، وأنا أبكي من الفرح ، كما بكيت قبل ساعة من الحزن ، قلت : أبشِرْ يا رسول الله ، فقد استجاب الله دعوتك ، وهدى أمّ أبي هريرة إلى الإسلام ، فهل عندك يا أخي هذه الرحمة تجاه والديك ؟ وإذا كان أبوك لا يصلي فهل أنت مرتاح ، إذْ تعتقد أنه لا مشكلة نهائياً ، ورأيت أمَّك سافرة ، وسهرات مختلطة ، تقول : لا خيرَ فيه ولا فيها ، أهكذا المسلم ؟ أما تتأثر وتتحرّق وتبكي ؟ هل لك أخوات غير منضبطات سافرات ؟ أمَا خطر في بالك أنْ تنصحَهم ، وتزورهم ، وتتلطف معهم، وتسمعهم شريطًا ، وتعينهم على أنفسه .
أنا أردت من هذا أنّ كل أخ مِن إخواننا الكرام له أب ، وله أم ، وله أخوات ، وأصهار ، وجيران ، وأولاد عم ، فلا بد أنْ يغار عليهم ؟ ألست مسلماً ؟ ألا تحب للناس ما تحب لنفسك ؟ مَن منكم يصدِّق قول النبي عليه الصلاة والسلام في بيان المعنى الدقيق اللغوي للأخوة ؟ فعَنْ أَنَسٍ رَضِي اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : قَالَ لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ *
(متفق عليه)
من أخوه ؟ أخوه في الإنسانية ، لأن المطلق على إطلاقه ، وهو أوسع دائرة ، لم يقل (لأخيه المؤمن) لأن الصفة قيدٌ ، ولو قال : (أخيه المؤمن) لقيَّدها ، ولو قال : (أخيه المسلم) لقيّدها ، (أخيه النَسَبي) لقيّدها ، فما قيدها النبيّ ، بل قال :حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ ، فقط ، وما دام مطلقًا فهو ينطبق على أوسع دائرة الأخوة في الإنسانية ، فأنت لن تكون مؤمناً إلا إذا أحببت لأي إنسان ما تحبه لنفسك ، فلا تيأس ، الدرس الماضي أو قبل الماضي تحدّثنا عن عمير بن وهب ، بماذا وصفه سيدنا عمر ؟ بأنه كلب أو خنزير ثم قال بعد أن أسلم : وخرج من عند رسول الله وهو أَحبُّ إليَّ من بعض أولادي .
أحبَّ أبو هريرة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حُبًّا خالط لحمَه ودمه ، فكان لا يشبع من النظر إليه ، ويقول : ما رأيت شيئاً أملح ولا أصلح من رسول الله ، حتى ولكأن الشمس تجري في وجهه .
وللهِ دَرُّ سيّدنا حسان بن ثابت حين قال واصفا كمالَ خَلْقِ النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
***
وَأحْسَنُ مِنْكَ لم تَرَ قَطُّ عَيْني وَأجْمَلُ مِنْكَ لَمْ تَلِدِ النّسَاءُ
خُلِقْتَ مُبَرَّأَ مِنْ كُلّ عَيْبٍ كَأنّكَ قَدْ خُلِقْتَ كمَا تَشاءُ
***
هذا الجمال الذي كان يتمتع به النبي ، وإخواننا الحجاج الذين أكرمهم الله بالحج والعمرة والزيارة ، إذا وصلوا إلى المدينة المنورة سيَرَوْن آثار هذا الجمال ، فالقبة الخضراء لها منظر لا يُنْسِى ؛ وكذا الحرم النبوي ؛ ومقامه الشريف ؛ والروضة ؛ وآثار جماله في مقامه ؛ وفي قبره .
كان هذا الصحابي الجليل يحمد الله تبارك و تعالى على أن مَنَّ عليه بصحبة النبي ، واتِّباع دينه ، بينما تسأل بعض الناس : كيف حالك يا أخي ؟ يقول لك : واللهِ السوق مسموم ، لا عمل، ولا حركة .
كيف صحتك ؟ يقول : والله الحياة كلها مشاكل ، نعمة الهدى ألا تنتبه لها ؟! أنت مستقيم ، أليس هذه أعظم نعمة ؟ ما سألت واحدًا سؤالاً إلا ، وقال : لا بيع في السوق ، وفي الحياة تعقيدات ، كونك صائمًا مصليًّا ، تغض بصرك عن محارم الله ، أليست هذه أعظم نعمة ؟ انظروا إلى أبي هريرة ، لقد كان فقيرًا معدَما ، الحمد لله الذي هدى أبا هريرة للإسلام ، هذه أول نعمة ، الحمد لله الذي علم أبا هريرة القرآن ، الحمد لله الذي مَنَّ على أبي هريرة بصحبة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
كان سيدنا عمر إذا أصابته مصيبة يقول : الحمد لله ثلاثًا ، الحمد لله أنْ لم تكن في ديني ، الدين سليم كله ، والأمر سهل ، السيارة حديد تنحل أعطالها ومشاكلُها ، الحمد لله أن لم تكن في ديني ، والحمد لله ، المصيبة أنْ ترى شخصًا عمره ستون سنة وهو يقبع في المقهى ويلعب النرد، ولا يصلي ، والمصيبة أنْ يشرب خمرًا .
ذهب رجلٌ إلى بلد في الشمال ، إلى موسكو ، وقال : خمس فتيات في ليلة واحدة !!! واللبيب بالإشارة يفهم ، قال : شاهدنا ليلة القدر ، هذه مصيبة الدهر ، إنه زانٍ يقرّ ويعترف ، فهذه مصيبة دونها كل المصائب .
الحمد لله إذْ لم تكن في ديني ، والحمد لله إذ لم تكن أكبر منها ، والحمد لله إذ ألهِمتُ الصبرَ عليها " ، هكذا كان يقول سيدنا عمر عند أيّة مصيبة تقع له .
يا أيها الإخوة ، كلما سُئِلْتُمْ : كيف الحال ، فقولوا : الحمد لله الذي هداني إليه ، والحمد لله الذي علمني دينه ، والذي علمني القرآن ، والذي أعانني على طاعته ، والذي رزقني ذرية صالحة ، والذي آواني في بيت ، والذي زوَّجني ، والذي أكرمني بأولاد أطهار ، هذه هي النعم، أمّا : السوق مسمومة ، لا بيع ولا شراء ، هذا كلام أهل الدنيا المنقطعين عن الله .
سيدنا أبو هريرة أولع بالعلم ، وجعله ديدنه ، وغاية ما يتمناه ، وحدث زيد بن ثابت فقال : بينما أنا وأبو هريرة وصاحب لي في المسجد ندعو الله تعالى ، ونذكره في المسجد ، إذْ طلع علينا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، شيء جميل ، وأقبل نحونا حتى جلس بيننا ، وكان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ متواضعًا ، فسكتنا إجلالاً له ، فقال : عودوا إلى ما كنتم فيه ، فدعوتُ اللهَ أنا وصاحبي قبل أبي هريرة ، وجعل النبي يقول : آمين ، ثم دعا أبو هريرة .
إنه موقف رهيب ، يريد أن يدعوَ أمام رسول الله ، إذا تكلّم الطالب أمام أستاذه فإنه يرتبك، ولا يستطِع الحديث ، فقال : اللهم أسألك ما سألك صاحباي ، اختصرها ، وأسألك علماً لا يُنسى، فقال عليه الصلاة والسلام : آمين ، يا أبا هريرة ، فقلنا : ونحن نسأل الله علماً لا يُنسى ، فقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : سبقكم بها الغلام الدوسي ، وكأن الله عز وجل أكرم أبا هريرة بعلم لا يُنسى ، لذلك روى عن رسول الله خمسة آلاف حديث وستمائة ، وأكثر الخطب والدروس والكتب يقال فيها : عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
أَحَبَّ أبو هريرة العلمَ لنفسه ، وأحبّه لغيره ، وذات يوم مرَّ بسوق المدينة فهاله انشغالُ الناس بالدنيا ، واستغراقهم بالبيع والشراء ، والأخذ والعطاء ، فوقف عليهم ، وقال : يا أهل المدينة ما أعجزكم ! قالوا : وما رأيت من عجزنا يا أبا هريرة ؟ قال : ميراث رسول الله يقسم، وأنتم هاهنا! قالوا : وأين هو ؟ قال : هو في المسجد ، فخرجوا سراعاً ، ووقف أبو هريرة لهم حتى رجعوا ، فلما رأوه قالوا : يا أبا هريرة ، لقد أتينا المسجد ، فدخلنا فيه فلم نرَ شيئًا يُقسَم ، قال لهم: أوَ مَا رأيتم في المسجد أحداً ؟ قالوا : بلى رأينا قوماً يصلون ، وقومًا يقرؤون القرآن، وقوماً يتذاكرون في الحلال والحرام ، قال : ويحكم هذا ميراث رسول الله .
ماذا في المسجد ؟ فيه : قال الله تعالى ، وتفسير قرآن ، وقال عليه الصلاة والسلام ، وتفسير حديث ، ودرس سيرة ، ودرس فقه ، فهذا ميراث رسول الله .
وعَنْ كَثِيرِ بْنِ قَيْسٍ قَالَ كُنْتُ جَالِسًا مَعَ أَبِي الدَّرْدَاءِ فِي مَسْجِدِ دِمَشْقَ فَجَاءَهُ رَجُلٌ فَقَالَ يَا أَبَا الدَّرْدَاءِ إِنِّي جِئْتُكَ مِنْ مَدِينَةِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِحَدِيثٍ بَلَغَنِي أَنَّكَ تُحَدِّثُهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا جِئْتُ لِحَاجَةٍ قَالَ فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ مَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَطْلُبُ فِيهِ عِلْمًا سَلَكَ اللَّهُ بِهِ طَرِيقًا مِنْ طُرُقِ الْجَنَّةِ وَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا رِضًا لِطَالِبِ الْعِلْمِ وَإِنَّ الْعَالِمَ لَيَسْتَغْفِرُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالْحِيتَانُ فِي جَوْفِ الْمَاءِ وَإِنَّ فَضْلَ الْعَالِمِ عَلَى الْعَابِدِ كَفَضْلِ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ عَلَى سَائِرِ الْكَوَاكِبِ وَإِنَّ الْعُلَمَاءَ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ وَإِنَّ الْأَنْبِيَاءَ لَمْ يُوَرِّثُوا دِينَارًا وَلَا دِرْهَمًا وَرَّثُوا الْعِلْمَ فَمَنْ أَخَذَهُ أَخَذَ بِحَظٍّ وَافِرٍ *
(رواه أبو داود)
مر معي في درس الفجر بجامع النابلسي حديثان ، أوّلهما عَنْ مُعَاوِيَةَ يَقُولُ سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ مَنْ يُرِدِ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ وَإِنَّمَا أَنَا قَاسِمٌ وَاللَّهُ يُعْطِي وَلَنْ تَزَالَ هَذِهِ الْأُمَّةُ قَائِمَةً عَلَى أَمْرِ اللَّهِ لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَالَفَهُمْ حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللَّهِ *
(متفق عليه)
أمّا الحديث الثاني فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ يَقُولُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ يُرِدِ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُصِبْ مِنْهُ *
(رواه البخاري)
فقد جمعتُ في ذهني معنى هذين الحديثين ، فإذا أراد الله بعبدٍ خيراً علَّمه وأدّبه ، إذا علَّمك وأدَّبك فأنت محبوب ، وإذا كان المرءُ بلا علم ولا تأديب فهو مهمل ، فإذا كنت في العناية المشدّدة علّمك وأدّبك ، وإذا غلطتَ أدّبك .
قال : لي شخص عنده معمل ، عَلِمَ شخص أنّ عندي معملَ ألبسة ، فقال لنفسه : إنه أخونا، فنشتري منه قطعتين أو ثلاثة ، انزعج صاحبُ المعمل ، وقال : أنا أبيع قطعة أو قطعتين؟ إنما أبيع ثلاثمائة قطعة ونحوها ، فاستحيا القادمُ بنفسه ، وفي اليوم التالي لم يأتِه زبائن، وهكذا مرّ عشرون يومًا ولم يدخل أحد معملَه ، لقد أدّبه الله عز وجل ، وهذا خير ، إذا كان الله يعلمك ويؤدبك فمعنى هذا أنك محبوب ، معنى هذا أنّ الله أراد بك خيراً ، يعلمك ، ويؤدبك ، والحديثان صحيحان ، أمّا الأول فعَنْ مُعَاوِيَةَ يَقُولُ سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ منْ يُرِدِ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ وَإِنَّمَا أَنَا قَاسِمٌ وَاللَّهُ يُعْطِي وَلَنْ تَزَالَ هَذِهِ الْأُمَّةُ قَائِمَةً عَلَى أَمْرِ اللَّهِ لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَالَفَهُمْ حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللَّهِ *
(متفق عليه)
والحديث الثاني ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ يَقُولُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ يُرِدِ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُصِبْ مِنْهُ *
(رواه البخاري)
يؤدبه ويبعث له مصيبة .
قال أبو هريرة : مرَّ بي رسول الله يوما ، وكنتُ جائعًا ، منقطعًا للعلم ، فمرّ بي رسول الله صلى الله عليه وسلم فعرف ما بي من الجوع ، فقال أبا هريرة ، قلت : لبيك يا رسول الله ، قال: اتبعني ، فدخلتُ معه ، فرأى قدحًا فيه لبن ، فقال لأهله : من أين لكم هذا ؟ قالوا : أرسل به فلان إليك ، قال : يا أبا هريرة انطلق إلى أهل الصفة فادعُهم ، وأطعمهم جميعاً من هذا اللبن، اللهم صلِّ عليه ، كان مثل الأب ، فإذا دَعَوتَ إلى الله عز وجل فاشعُرْ بعواطف مقدسة سامية تجاه إخوانك .
أنا أقول كلمة : إنْ لم تكن مشكلتهم مشكلتك فلست أهلاً أن تدعو إلى الله ، مسرّاتهم مسرّاتك، وأحزانهم أحزانُك ، وبالمقابل متاعبك متاعبهم ، ومسرَّاتُك مسرَّاتهم ، هذه هي المشاركةُ الوجدانيةُ ، هذه المشاركةُ تنسي همومَ الحياة ، فإذا كنتَ تعيش بين إخوة طيبين يتعاطفون معك ، يألمون لألمك ، ويفرحون لفرحك ، ويهبُّون لنجدتك ، ويسرعون لإغاثتك ، فهذا مجتمع مؤمن وربِّ الكعبة ، واللهُ عز وجل لا يحبّنا إلا إذا تعاونّا ، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ نَفَّسَ عَنْ مُؤْمِنٍ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ الدُّنْيَا نَفَّسَ اللَّهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ الْآخِرَةِ وَمَنْ سَتَرَ عَلَى مُسْلِمٍ سَتَرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ فِي عَوْنِ الْعَبْدِ مَا كَانَ الْعَبْدُ فِي عَوْنِ أَخِيهِ *
(رواه الترمذي ، وبعضُه في مسلم)
إذا أردتم رحمتي فارحموا خلقي .
سيدنا أبو هريرة بعد أن فُتحتْ البلاد ، وجاءت الغنائم ، أكرمه الله عز وجل أكرمه بمال وفير ، فتزوج ، وأنجب أولاداً ، وسكن بيتًا ، وبقيت تلك المرحلة الماضية ذكرى ، وكل إنسان له عند الله ترتيب ، فقد يفرِّغك في أول حياتك ، وبحسب ظنك أنت معذَّب ، ولستَ متزوجًا ، وما عندك بيت ، لكن في الحقيقة فرَّغك تفريغًا خاصًّا ، وقد قال أحد العلماء : أنا سجني خلوة ، وإبعادي سياحة ، ومرضي مناجاة ، هل عندك إمكانية أن تتلقى كل المتاعب بنفسٍ طيِّبة ؟ إنْ أبعدوك فتلك سياحة ، وإنْ وضعوك في السجن فتلك خلوة مع الله ، أَلَمَّ بك مرض فهذا شفافية وقربٌ من الله عز وجل .
مرة خاطب نفسه فقال : يا أبا هريرة ، هاجرتَ مسكيناً ، وكنتَ أجيراً لبثرة بنت غزوان ، بطعام بطني ، فكنتُ أخدمُ القومَ إذا نزلوا ، وأَحْدُو لهم إذا ركبوا ، فزوَّجَنِيها الله ، تزوج هذه المرأة ، والحمد لله الذي جعل الدين قياماً ، وصيّر أبا هريرة إماماً ، سيدنا عمر فعلها ، فقال مخاطبًا نفسه : كنتَ عميرًا ، وأصبحت عمر ، ثم أصبحت أمير المؤمنين ، إذا كان لأحدٍ ماضٍ متعب ، ماضٍ فيه فقر ، فلا ينسَ ماضيه ، دخل ورأى بيتًا مرتبًا ، فيه خمس أو ستُّ غرف ، وسيارته على الباب واقفة ، ودخلُه كبير ، وكان سابقاً في وضع صعب جداً ، فلا ينسَ الماضي، ويرفع رأسه ويتكبر ، فإنّ الله كبير ، وإذا أعطاك فازْدَدْ تواضعًا له ، وازددْ خدمة للناس ، واجعل هذا المال خدمة للناس يزدْك الله عطاءً .
قال عليه الصلاة والسلام : أخشى أن يدخل عبد الرحمن الجنة حبواً ، فقال عبد الرحمن بن عوف : واللهِ لأدخلنها خبَباً ، وماذا أفعل إن كنت أنفق مائة في الصباح فيؤتيني الله ألفًا في المساء، واللهِ ما حَرَمتُ مالي فقيراً ولا مسكيناً .
أصبحَ أبو هريرة واليًا على المدينة مِن قِبَل معاوية بن أبي سفيان أكثر من مرة ، فلم تبدِّل الولايةُ من سماحة طبعه ، وخفة ظلّه شيئًا ، ولقد مرّ يومًا بأحد أسواق المدينة وهو والٍ عليها ، وكان يحمل الحطب لأهل بيته ، فمرّ بثعلبة بن مالك ، فقال له : أَوْسِعِ الطريق للأمير يا ابن مالك، فقال له ابن مالك : يرحمك الله ، أما يكفيك هذا المجال كله ، فقال له : أَوْسِع الطريق للأمير ، وللحزمة التي على ظهر الأمير ، أنا حجمي واسع ، ومعي حزمةٌ ، ولست منتبهاً ، فقال له : أَوْسِعِ الطريق للأمير ؛ الطريق عريض ، قال له : يا سبحان الله !! ألا يكفيك هذا الطريق؟ قال له : أَوْسِعْ الطريق للأمير ، وللحزمة التي على ظهر الأمير ؛ ثم وسّع له ، فهكذا يكون التواضع ، كان مع سماحة نفسه ، ومع شدة علمه تقياً ورعاً ، يصوم النهار ، ويقوم ثلث الليل ، ثم يوقظ زوجته ، فتقوم ثلثه الثاني ، ثم يوقظ ابنته فتقوم ثلثه الأخير ، فهذا البيت فيه قيام ليل بشكل دائم ؛ ثلث هو ؛ وثلث زوجته ؛ وثلث ابنته .
تقول ابنته له : يا أبتِ إن البنات يعيِّرْنَني ؛ فيقلن : لمَ لا يحلِّيك أبوك بالذهب ؟
فيقول أبو هريرة لابنته : قولي لهنّ يا بنيتي : إن أبي يخشى عليَّ حرَّ اللهب ، ولم يكن امتناع أبي هريرة عن تحلية ابنته ضنًّا بالمال ، أو حرصاً عليه ، إذ كان جواداً سخي اليد في سبيل الله، فبعث إليه مروان بن الحكم مائة دينار ذهباً ، فلما كان الغد أرسل إليه يقول : إنّ خادمي غلط فأعطاك الدنانير ، وأنا لم أردك بها ، إنما أردتُ غيرك فسَقُط في يدي أبي هريرة ، وقال : أخرجتها في سبيل الله ، ولم يَبِتْ عندي منها دينار ، فإذا خرج عطائي فخذها منه ، لقد فعل مروانُ بن الحكم هذا ليختبره ، فوجده صادقًا ، وما ترك شيئًا من تلك الدنانير عنده .
كان هذا الصحابي الجليل برًّا بأمِّه ، وكان كلما أراد الخروج من البيت وقف على باب حجرتها وقال : السلام عليك يا أماه ورحمة الله وبركاته ، فتقول : وعليك السلام يا بني ورحمة الله وبركاته ، ويقول : رحمك الله كما ربّيتني صغيراً ، تقول : ورحمك الله كما بررتني كبيراً ، ثم إذا عاد إلى بيته فعل مثل ذلك ، شيء جميل ، كل يوم يقف على باب أمه ويقول : السلام عليك يا أماه .
رأى مرة سيدنا أبو هريرة رجلين ؛ أحدهما أسنُّ من الآخر ، يمشيان معًا ، فقال لصغيرهما: ما يكون هذا الرجل منك قال : أبي قال له : " لا تسمِّه باسمه ، ولا تمشِ أمامه ، ولا تجلس قبله " .
(أخرجه عبد الرزاق في المصنف والبخاري في الأدب والبيهقي)
لما مرض أبو هريرة مرض الموت بكى ، فقيل له : لِمَ تبكي يا أبا هريرة ؟ فقال : أما إني لا أبكي على دنياكم هذه ، ولكني أبكي لبعد السفر ، وقلة الزاد ، لقد وقفتُ في نهاية طريق يفضي إلى الجنة أو إلى النار ، ولا أدري في أيّهما أكون ، وقد عاده بنفسه مروان بن الحكم ، وكان خليفة ، فقال له : شفاك الله يا أبا هريرة ، فقال : اللهم إني أحبُّ لقاءك فأحبَّ لقائي ، وعجِّل لي فيه ، فما كاد مروان يغادر داره حتى فارق الحياة ، رحم الله أبا هريرة رحمة واسعة، فقد حفظ للمسلمين ما يزيد عن خمسة آلاف وستمائة وتسعة من أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم أو نحوها ، وجزاه الله عن الإسلام والمسلمين خيراً ، هذا صحابيُّ علمٍ حفِظَ عن النبي أقواله ، ونقلها لمَن بعده ، وأنت اختر لنفسك أنْ تتحرى العلم النافع والعمل الصالح ، وتتحرى الدعوة إلى الله ، وكلها طرق مفضية إلى الله عز وجل .
والحمد لله رب العالمين(/)
الدرس 10/ 50 : سيرة الصحابي : أسامة بن زيد ، لفضيلة الأستاذ الدكتور محمد راتب النابلسي
تاريخ : 14 / 12 / 1992 .
تفريغ : عماد علان
التدقيق اللغوي : الأستاذ غازي القدسي .
التنقيح النهائي : المهندس غسان السراقبي .
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيّدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، اللهم لا علم لنا إلا ما علَّمْتنا إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علِّمنا ما ينْفعنا وانْفعنا بِما علَّمتنا وزِدْنا عِلما ، وأَرِنا الحق حقاً وارْزقنا اتِّباعه وأرِنا الباطل باطِلاً وارزُقنا اجْتنابه ، واجْعلنا ممن يسْتمعون القول فَيَتَّبِعون أحْسنه وأدْخِلنا برحْمتك في عبادك الصالحين .
بسم الله الرحمن الرحيم
أيها الإخوة الأكارم ؛ مع الدرس العاشر من دروس سِيَر صحابة رسول الله رِضْوان الله عليهم أجْمعين ، وصحابِيُّ اليوم ابن صحابيِّ الأمس سيّدنا أُسامة بن زيد ابن حِبِّ رسول الله صلى الله عليه وسلم .
كما ذكرتُ لكم سابِقاً : إنْ دَرَسْنا سِيَر أصْحاب رسول الله في وقْتٍ سابق ، فقد غَلَبَتْ النُصوص على التحليل ، وإنْ دَرَسْنا سِيَر أصْحاب رسول الله مرَّةً ثانِيَة فَنَرْجو الله تعالى أن يغلب التحليل على النُصوص ؛ أيْ أنْ نربط هذه المواقف مع حياتنا ، وأنْ نسْتَخْلص العِبر من سِيَرِهم كي نسْتفيد منها في حياتنا ، أو في التعامل مع بعضِنا بعْضاً أوْ في علاقاتنا بالله عز وجل .
بادِئه ذي بدْء في قِصَّة هذا الصحابِيِّ الجليل حقيقةٌ خطيرة ؛ وهي أنَّ الكافِر بالتعبير الحديث عُنْصُرِي بِمَعْنى أنهْ يحْتَقِر الآخرين ، ويقْبَلُ أنْ يبْنِيَ حياته على مَوْت غيره ، وغِناهُ على فقْرِه، وأمْنَهُ على خَوْفِهم ، يرى أنَّ الحياة له وحْده ، وأنَّها من حقِّهِ هو فقط ! ، يُمْكِن أنْ يأكُل لِيَجوع الآخرون هذه نظْرَةٌ عُنْصُرِيَّة ؛ أيُّ إنْسان لأيِّ انْتِماء ومن أيِّ مشْرب إذا رأى أن له الحق أنْ ينطلق هذا المُنْطَلق فَهُو عُنْصُري ، كما أنه بعيدٌ عن الإيمان بالله عز وجل بُعْد الأرض عن السماء ، ولكنَّ المؤمن ، أيها الإخوة ، يرى أنَّ الناس كلَّهُم عباد الله ، وأنَّ أيَّ مَخْلوقٍ إنْ زاد في طاعَتِهِ لِرَبِّه يرْقى في مرْتَبَتِه ، يُصَدِّقُ قوله تعالى :
( الحجرات : الآية 13 )
لا يرْفَعُ الإنسان عند الله إلا طاعته لله ، لذلك فالمؤمن قد يرى شَخْصاً فقيراً لكنَّهُ يعْرف الله حقاً ويعبده ؛ فيُكِنُّ له في قلْبِهِ أعظم التقْدير ، قد يكونُ مُديراً عاماً لِمُؤَسَّسَةٍ ضَخْمة وعنده حاجِب ؛ هذا الحاجِب مُستقيمٌ على أمر الله لا يُعامِلُهُ إلا كما يُعاملُ نفْسه ؛ فهذا هو المؤمن ، اِحْذَر أيها الأخ الكريم أنه إذا انْطَلَقْتَ من أنَّك إنْسانٌ آخر ولك مَيِّزات ولك حقُّ الحياة ولك حقّ أنْ تأكلُ ما تشْتهي بينما الذين حوْلك تقول : ما شأني وشأنَهُم ! إذا كانَ بالإمْكان أنْ تنْطَلِق بِهذا المُنْطلق فَبَيْنَك وبين الإيمان مراحل فسيحة ، أردْتُ من هذه المُقَدِّمة بيان أنَّ المؤمن يُحِبُّ عباد الله جميعاً ، ويحْتَرِمُهم جميعاً ، ولا يُفَرِّقُ أبداً بين جِنْسٍ وجِنْس ، ولا بين عِرْقٍ وعِرْق ، ولا بين لَوْنٍ ولَوْنٍ ، ولا بين نَسَبٍ ونَسَبٍ ولا بين ثقافَةٍ وثقافة ، ولا بين بلدٍ وآخر ، ولا بين مدينةٍ وريفٍ ، ولا بين غِنىً وفقْر ؛ كُلُّ الناس عِباد الله ، يَحْتَرِمُهم جميعاً ، وإذا أراد أنْ يقيسهم فهو يقِيسُهم بِمِقْياس الإيمان فقط ، إذا أراد أنْ يُصَنِّفَهم فتَصْنيفُهُ وِفْق قِيَم الإيمان فقط ؛ أما أنْ يَفَرِّق بين قوِيٍّ وضعيف ، وبين وَجيهٍ وحقير ، وبين عالي النَّسَب ومغْمور النَّسَب ، بين الذكِيّ وغير الذكيّ ؛ هذا شيء يتنافى مع طبيعة الإيمان ، هذه المُقَدِّمة قَدَّمْتُها لكم لأنَّ النبي عليه الصلاة والسلام كما تعْلمون في السنة السابعة قبل الهِجْرة كابد عليه الصلاة والسلام من أذى قُرَيش ما كابد ! وحَمَلَ هُموم الدَّعْوة وأعْباءِها ما أحال حياته إلى سِلْسِلَةٍ مُتواصِلَة من الأحْزان والنوائِب ، وفيما هو في هذه المَشَقَّة والمُكابَدَة وأشَدِّ الضِّيق أشْرَقَتْ في حياته بارقة سُرور ، جاءَهُ المُبَشِّر أنَّ أُمَّ أيْمن وَضَعَتْ غُلاماً فأضاءتْ أساريرُ النبي فأشْرق وَجْهُهُ الكريم ، وابْتَهَجَ قلبه الشريف فَمَن هي أُمُّ أيْمن ؟ ومن هذا الغُلام ؟
ومن أبو هذا الغُلام ؟ هذا الذي جعلني أُقَدِّمُ هذه المُقَدِّمة ؛ رسولٌ كريم ، سيِّدٌ عظيم ، من أرْقى أُسَر قُرَيش ؛ من بني هاشِم تُصْبِحُ حياته سعيدةً لأنَّ أُمَّ أيمن التي زَوَّجَها لِزَيْد بن حارِثة غُلامه ومُتَبَناه ، أنْجَبَتْ أُمُّ أيْمَن لِزَيْد بن حارِثَة غُلاماً اسمُهُ أُسامة طبْعاً أُمُّ أيْمن هي بَرَكَةُ الحَبَشِيَّة ؛ كُنْيَتُها أُمُّ أيْمن ، كانت مَمْلوكَةً وجارِيَة لآمنةَ بنت وَهْب أُمِّ رسول الله صلى الله عليه
وسَلَّم ، هذه بركة الحَبَشِيَّة أُمُّ أيمن رَبَّتْهُ في حياةِ أُمِّه وحَضَنَتْه بعد وفاتِها ، فَحينما فتح عَيْنه على الدنيا فتحها على أُمِّ أيمن ، فأحَبَّها أعْمَقَ الحُبِّ وأصْدَقَهُ ، وكان يقول عليه الصلاة والسلام هي أمِّي بعد أُمِّي وبَقِيَّة أهل بيْتي ، أرَأيْتُم إلى هذا الوَفاء ؟! جارِيَة مَمْلوكَة لكِنَّهُ أحَبَّها أعْظم الحُبِّ ، كَرَّمَها أعْظم التَّكْريم هي أُمُّهُ بعد أُمِّهِ ، وفي سِيَرٍ أُخْرى ، تَرْوي كُتُبُ السيرة أنَّهُ أكْرَمها في مُناسَباتٍ لاحِقَة أشَدَّ الإكْرام فمن أبو هذا الغُلام ؟ إنَّهُ حِبُّ رسول الله صلى اله عليه وسلم ؛ زَيْدُ بن حارِثَة أوَّلاً هو غُلامٌ أعْتَقَهُ ثانِياً ابنه بِالتَبِنِّي ثالثاً : خليفته على المدينة ، رابِعاً : قائِدُ جَيْشِهِ ، هل هناك عُنْصُرِيَّة ؟ هل هناك تَفْرِقَة ؟ هل هناك ما يُسَمَّى بالطَّبَقِيَّة ؟ نحن الآن في القَرْن العِشْرين قَرْنُ الديمقْراطِيَّة والتَّنْوير العِلْمي ، نسْتَمِع إلى الأخبار إلى نَزَعاتٍ عِرْقِيَّة تظْهر في أوروبا الغَرْبِيَّة أعْمال عُنْف ضِدّ كلّ إنْسان ليس من ألْمانْيا ، لا لِشَيءٍ ؛ إلا لأنه ليس من هذا العِرْق ! لكن النبي عليه الصلاة والسلام لايفرق بين المسلمين ؛ من هي أُمُّ أيْمن ؟
مَمْلوكَةُ أُمِّه مُرَبِّيَة وخادِمَة ، هذا هو المؤمن ، لا يُفَرِّق ، وحينما تشْعُر أيها الأخ المؤمن أنَّ عندك اسْتِعْداداً أنْ تقول : أنا غير فُلان ، وأنا من بَيْتِ فُلان ، أنا أهْلي أغْنِياء ، أنا مُثَقَّفٌ ، أنا من هذه الأُسْرة ، أنا لديّ أمْوال ، إذا كان لك اسْتِعْداد أنْ تنْطَلِق هذا الانْطِلاق فابْكِ على نفْسِك وعلى إيمانك ، النبي عليه الصلاة والسلام سيِّدُ العُرْب والعَجَم ، ومع ذلك هذه التي رَبَّتْهُ وحَضَنَتْهُ وهذه التي فَتَحَ عَيْنَيْه في الدنيا على مُحَيَّاها ، هذه أُمُّهُ قال : هي أُمِّي بعد أُمِّي ، من زَوْجُها ؟ هو مُتَبَناه ، كلُّ حُبِّه وشَوْقِه ومَوَدَّتِه لِعَبْدٍ وأمة لِمَمْلوكٍ ومَمْلوكة ، لِرَقيقٍ وجارِيَة ، عَيَّنه قائِد الجيش وخليفته على المدينة ، كان يقول : هذا ابني حقاً يَرِثُني وأرِثُه ، أنا ما أردْتُ من هذه المُقَدِّمة إلا أنْ تَشْعُر أيها المؤمن أنَّهُ ليس لك الفضْلُ على أحدٍ إلا بِالتَّقْوى ، والله : أخٌ
كريمٌ ذهب إلى الحجّ فلما عاد زُرْتُهُ مُهَنِّئاً بكى بُكاءً شديداً وتَفَكَّر أحْواله حول الكَعْبة وفي الطواف والسَّعْي وقال لي هذه الكلمة ولها عشْر سنوات - والله ما نَسَيْتُها - : والله يا أُسْتاذ ، ليس في الأرض من هو أسْعَدُ منِّي ! وَجَدْتُها أنّ فيها مُبالغة ، ولكن لما أضاف إلا أنْ يكون أتْقى منِّي ، مِقْياسُ الطاعة دائِماً صحيح ، وهو المِقْياسُ الصحيح ، تذْكُرون أنَّ سيّدنا عمر لما
اسْتَدْعى سَيِّدَنا سَعْدُ بن أبي وقاص وقال له يا سَعْدُ لا يَغُرَنَّك أنَّهُ قد قيل خال رسول الله ! فالخَلْقُ كُلُّهم عند الله سَواسِيَة وليس لهم عند الله قرابة إلا طاعَتُهُم ، الناسُ يتفاضَلون بالعافِيَة وينالون ما عند الله بالطاعة ، سُبْحان الله ! لقد اِسْتَمَعْتُ قبل أيامٍّ إلى قِصَّةٍ هَزَّتْ مشاعِري أسْرةٌ فيها مجْموعة فَتيات ، وبعض هؤلاء الفَتَيات على جانِبٍ من الجمال لكن هناك فتاةٌ كأنَّها أقَلُّهُنَّ شأناً وحَظاًّ ، اِعْتَقَد أهْلُها أنَّ هذه أبْقَاها الله لِخِدْمَتِنا أما أخواتها الأربع فلَهُنَّ أزْواج وبُيوت ؛ وأما الخامسة فكأن الله أبْقَاها الله لِخِدْمَتِنا ، وإذْ بِهذه الخامِسَة يأتيها زَوْجٌ كريمٌ كريم، والشُّروط المطلوبة كلها مُتَوَفِّرة بِهذا الزوج ، يُكْرِمُها أعْظم تَكْريمٍ ويرفَعُ من شأنِها .
تَعْرِفون القِصَّة التي كُنْتُ أُرَدِّدُها عليكم أنَّ شخْصاً كان يأكل مع زوْجَتِه الدجاج فَطَرَقَ سائِلٌ الباب هَمَّتْ أنْ تُعْطِيَهُ قِطْعَة من هذه الدجاجة فَنَهَرَها زَوْجُها وقال لها : اُطْرُديه ففَعَلَتْ ، بعد سَنَةٍ أو سنَتَيْن نَشَب خِلافٌ بينهما فاِنْتهى إلى الطلاق ، ثمَّ جاءَها زوْجٌ آخر فَتَزَوَّجَها ، وفي جَلْسَةٍ مثل الجَلْسَة المُشابِهَة للأولى كانا يأكُلان الدجاج فَطُرِقَ الباب فَذَهَبَتْ لِتفتح الباب فاضْطَرَبَتْ فقال زوجُها من ؟ قالت : سائِل فقال زوْجُها لِماذا اضْطَرَبْت ؟!
قالتْ : إنَّهُ زَوْجي الأوَّل ، فقال : أتَدْرين من أنا ؟ قال : أنا السائِل الأول!
تعلَّم أنْ تحْتَرِم الناس جميعاً ، وألا تكون عُنْصُرياً ، وأنْ تقيسَ الناسَ بِمِقْياسٍ واحدٍ وهو مِقْياسُ الطاعة لله ، قال تعالى :
( الحجرات : الآية 13 )
فأنا دائِماً عندي قاعدة في النظر إلى الناس والتعامل معهم ؛ هذا الإنسان أهو رَحْماني مؤمن أو عُنْصُري له تفْكيرٌ طَبَقي وعِرْقي ، الدول المُتَحَضِّرَة لها تفْكير عِرْقي ، من أجل أنه مسلم يجب أنْ يُقْتل ، وهذا هو التفْكير الجاهِلي ، أما المُسْلمون فهم أُناسٌ آخرون ، أضاءتْ أساريرُ النبي فأشْرق وَجْهُهُ الكريم ، وابْتَهَجَ قلبه الشريف ، لماذا ؟ لأنَّ مَمْلوكته أُمَّ أيمن أنْجَبَتْ طِفْلاً صغيراً اسمه أُسامة لِمَمْلوكٍ سابق اسمه زيدُ بن حارِثة ، وكان كُلَّما ذُكرت له يقول : هي أُمِّي بعد أُمِّي وبَقِيَّةُ أهل بيْتي ، هذا الغُلام أطْلق أصْحاب رسول الله عليه الحِبُّ وابن الحِبّ ، الحِبُّ هو زيد ، وابن الحِبِّ هو أُسامة بن زَيد .
يا أيها الإخوان ، إنْ لم تضَع تحت رِجْلِك كُلَّ قِيَم الجاهِلِيَّة وأعْرافِها والتفْريقات ، والعَنْعَنات ، والعُنْصُرِيات فلن تكون مُسلما حق الإسلام ، تذكرون أن أحد مُلوك بني غَسَّان جَبَلَة بن الأَيْهَم، أسْلم واسْتَقْبَلَهُ عمر ورَحَّبَ به وفي أثناء طوافِهِ حول البيت ، بَدَوِيٌّ من دون أنْ يدْري ويقْصِد داسَ طرَفَ إزاره فانْخَلَع إزارُهُ فَغَضِبَ والْتَفَتَ نحو هذا البدَوِيّ من قبيلة فزارَة وضربه على أنْفِهِ ضَرْبةً هَشَّمَتْ أنْفَهُ فَوْراً ، فاشْتكى هذا البَدَوِيّ لِعُمَر بن الخطاب لما فَعَلَهُ به جَبَلَة بن الأَيْهَم ، فاسْتَدْعاه سيّدنا عمر وقال له : لا بدّ من إرْضاء الفَتى ، مازال ظِفْرُكَ عالِقاً بِدِمائِهِ ، أوْ يُهْشَمَنَّ الآن أنْفُكَ ، وتنال ما فَعَلَتْهُ كَفُّكَ ، قال : كيف ذاك يا أمير المؤمنين ؟! هو سوقَة وأنا عَرْشٌ وتاج ! كيف ترْضى أنْ يخِرَّ النجْمُ أرْضاً ؟! فقال عمر رضي الله عنه : نزَوَاتُ الجاهِلِيَّة دَعْكَ منها ، ورِياحُ العنْجُهِيَّة ، فالنَّزَواتُ قد دَفَنَّاها أقَمْنا فوقها صَرْحاً جديداً ، وتساوى الناس لدَيْنا أحْراراً وعَبيداً ، فقال : كانَ وهْماً ما جرى في خَلَدي ، أنني عندك أقْوى وأعزّ ، أنا مُرْتَدٌّ إذا أكْرَهْتَني ، فقال عمر رضي الل عنه : عُنُقُ المُرْتدِّ بالسيفِ تُحَزّ ، عالمٌ
نبْنيهِ كلُّ صدْع فيه بِشَبى السيف يُداوى ، وأعزُّ الناس بالصُّعْلوك بالعَبْد تساوى ؛ هذا هو الإسلام يُمْكِنُ أنْ تُعامِلَ الناس وكأنَّك واحدٌ منهم ، فإن كان عندك خادِم أو أجير أو مُوَظَّف أو امرأة خادِمَة ، فهذه لها مكانَتُها وشأنُها عند الله وهي أشْرفُ من ألف امرأة تؤذي الناس فَهِيَ تُطْعم أوْلادها بِعَرَقِ جبينها ، يجب أنْ تشْعُر أنَّهُ لا فضْل لك على أحد إلا بالتَّقْوى ؛ كُلُّ هذه القِيَم التي تعارف عليها الناس ؛ لا قيمة لها فالقرآن أغْفَلَها وأهْمَلَها وسَكَتَ عنها ، فالقُرآن فيتبنّى قيمتين اثنتين قيمة العِلْمُ وقيمة العَمَل ، قال تعالى :
( المجادلة : الآية 11 )
والقيمة الثانِيَة قوله تعالى :
( الأحقاف : الآية 19 )
لا تَقُلْ أصْلي وفَصْلي أبداً ، وحَجْمي المالي كذا وقيمته بالمِئتي مليون ! كُلُّهُ كلام فارغ ، وسيمُ الطَّلْعَة ؛ كلُّ هذه القِيَم وسامة الطَّلْعة ، وقِيَمُ الغِنى والقُوَّة ، وقِيَمُ الذكاءِ كُلُّها لا قيمة لها عند الله ، فَعِند الله قيمتان : العلم والعمل ؛ يُمْكِنُ أنْ يُقاسَ الناسُ بهما ، واحْرَصْ على أنْ تُحْفَرَ في ذِهْنِك هذه الآية :
( الحجرات : الآية 13 )
فإما مؤمن وإما عُنْصُري والتفْكيرٌ الطبقي أساسه الغِنى والفقْر ، والقوَّة والضَّعْف ، رُبَّ أشْعَثَ أغْبر ذي طِمْرَيْن ، مدْفوعٍ بالأبواب ، لو أقْسَمَ على الله لأَبَرَّه لكنّ هذا من غير تَكَلُّف فإذا عَرَفْتَ الله وحُبَّهُ للناس جميعاً ، فمن هنا يأتي تواضُعُك وحُبُّكَ للآخرين .
المُسْلِمون حينما أطْلقوا على هذا الغُلام كلمة حِبّ وابن حبّ رسول الله - طبْعاً أُمُّهُ مَمْلوكة ، وأبوهُ عبْدٌ فأغْلَبُ الظنّ أنَّ هذا الغُلام مُلَوَّن ليس أبيض أزْهر - ما بالَغوا ، فكان عليه الصلاة والسلام يُحِبُّهُ حُبًّا شديداً وتَغْبِطُهُ الدنيا كُلُّهاعليه ، كانَ أُسامة يُقارِبُ في السِنِّ الحسن بن فاطِمَة الزهْراء ، وكان الحَسَن أبيض أزْهر ، رائِع الحُسْن شديد الشَّبَهِ بِجَدِّهِ رسول الله ، وكان أُسامةُ أسْوَدَ البَشَرة ، أفْطَسَ الأنف ، شديد الشَّبَهِ بِأُمِّه الحَبَشِيَّة ؛ لكنَّ النبي صلوات الله عليه ما كان يُفَرِّقُ بينهما في الحُبِّ حُبُّهُ لِسِبْطِهِ الحَسَن كَحُبِّهِ لابن مُتبناهُ أًسامة ، كان يأخذُ أسامة فَيَضَعُهُ على إحْدى فخذله ويأخذ الحَسَن ويضَعُهُ على فخذِهِ الأُخْرى ، ثمَّ يَضُمُّهما إلى صَدْرِه ويقول : اللهمَّ إني أُحِبُّهُما فَأَحِبَّهُما ! هذا هو الإنسان الكامل ، ولقد قُلتُ منذ يَوْمَين : إنَّ الإنسان لو سار في الطريق عارِياً ، فالإنْسانُ بَشِعٌ جداً وهو عاري الجسد وهو لا يرْتَكِبُ حماقَةً ولا يسْقُطُ عند الناس كما لو تعامل مع الناس بِمِقْياسَيْن فهناك في الحياة : بِنْتُك ، وكُنَّتَك - زوْجَةُ ابنك - هل لك اسْتِعْداد أنْ تُعامِل ابنتك مثل أنْ تُعامِل زوْجة ابنك ؟ لماذا إذا قالتْ لك ابنتك : أنا مريضةٌ يا أبي تُصَدِّقُها فَوْراً ، وإذا قالتْ زوْجَةُ ابنك الكلام نفسه لم تُصَدِّقْها ! لماذا هذه تُصَدِّقُها وتلك لا تُصَدِّقها ؟! هل لك اسْتِعْدادٌ أنْ تعامل ابنك كما تعامل مُوَظَّفاً يعْملُ عندك في مَحَلٍّ تِجاري ؟ إنْ حَمَلَ ابنك شيئاً ثقيلاً بادَرْتَهُ معترضاً وإنْ حملها خادمك لم تُلْقِ بالاً !! هذه هي العُنْصُرِيَّة
وهي أنْ تقيس ابنك بِمِقْياس والأجير بِمِقْياس ، وابنتك بِمِقْياس وزوْجَةُ ابنك بِمِقْياسٍ فأنت عُنْصُري ، هل لك اسْتِعْداد أنْ تخدمَ والد زوْجَتِك كما تخْدُم والدك ؟ أيها الإخوة لا حِظوا أنفسكم فإنَّ الإنسان أحْياناً يقيسُ بِمِقْياسَيْن وهو لا يشْعُر ذكر لي أحدهم قصة وهي واقِعِيَّة ، بِيَوْمٍ واحدٍ ابنُها اشْترى غسالة حديثة لِزَوْجَتِه ، وصِهْرُها اشْترى غسالة لِابِنْتِها ، فالحماة بِيَوْمٍ واحدٍ عَنَّفَتْ ابنها على شِرائِهِ هذه الغسالة ، وفي اليوم ذاته قالت اللهم ارْض على فُلان صهرها رَيَّحَ لي ابْنتي من دون أنْ تشْعُر ، هذه هي العُنْصُرِيَّة ، وهي من ضَعْف الإيمان ، هل لك اسْتِعْداد أنْ تُعامل زوْجَةُ ابنك كابْنَتِك ؟ والصانِع كابنك ؟ فإذا أراد الصانع الخُروج من العمل قبل ساعة من أجل الالْتِحاق بالمَدْرَسَة الليلية وقُلْتَ له : لا ، كان ذلك علامة الأنانيَّة والعُنْصُرِيَّة ، اِبْكِ على حالك ، نحن نعيشُ هذا الكلام ونراهُ بالمُسْلمين ، واقعاً ابنه يُؤمن له اثنى عشر أُسْتاذاً ، وخادِمُهُ لا يسْمح له بالخُروج قبل الوقت بقليل من أجل الدِراسة !! ثلاثة مئة ألف ليرة كلَّفَتْني من أجل الدروس الخاصَّة ، هذا الأمر يُؤْلِمُني أنْ يصدُر من المسلمين ، اُنْظُروا كيف فعل النبي عليه الصلاة والسلام ؟ أسْوَدَ البَشَرة ، أفْطَسَ الأنف ، شديد الشَّبَهِ بِأُمِّه الحَبَشِيَّة ، وعلى رُكْبَتِهِ اليُسرى سِبطه الحَسَن ؛ أبيض أزْهر مُشْرق الوَجْه ، كان عليه الصلاة والسلام يضُمُّهُما إليه ويقول اللهم إني أحبهما فأحبهما .
عن أَبِي أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ قَالَ طَرَقْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ لَيْلَةٍ فِي بَعْضِ الْحَاجَةِ فَخَرَجَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ مُشْتَمِلٌ عَلَى شَيْءٍ لا أَدْرِي مَا هُوَ فَلَمَّا فَرَغْتُ مِنْ حَاجَتِي قُلْتُ مَا هَذَا الَّذِي أَنْتَ مُشْتَمِلٌ عَلَيْهِ قَالَ فَكَشَفَهُ فَإِذَا حَسَنٌ وَحُسَيْنٌ عَلَى وَرِكَيْهِ فَقَالَ هَذَانِ ابْنَايَ وَابْنَا ابْنَتِيَ اللَّهُمَّ إِنِّي أُحِبُّهُمَا فَأَحِبَّهُمَا وَأَحِبَّ مَنْ يُحِبُّهُمَا *
( رواه الترمذي )
راقبْ نفْسَكَ حينما تُعامِلُ الناس ، عامِلِ الناس كما تُحِبّ أنْ يُعامِلوك ، هل عندك اسْتِعْداد إذا كنت مُوَظَّفاً وجاءَكَ رجُلٌ مُراجِع أنْ تضعَ نفْسَكَ مكانه ، أم أنك تضع أمامه تَضَعُ ألف عَقَبَة ، كأن تقول له : لا بد من أنْ تُصَدِّق لي على هذا التوقيع ، وأنت تقْدِر أنْ تتجاوز له عن هذا ، وتيسر له المعاملة ، ولكن تعرقلها ، إما لِإظْهار قيمتك وإما لكي تُشْعِرَهُ أنَّك إنْسانٌ مُهِمّ وخطير فالإنسان عليه أن يعامِل الناس كما يُحِبّ أنْ يُعامِلوه .
تَرْوي بعض الرِّوايات أنَّهُ بلغ من شِدَّة حُبِّ النبي عليه الصلاة والسلام لأُسامة أنَّه عثر يوماً بِعَتَبَةِ الباب فَشُجَّتْ جَبْهَتُهُ وسال الدمُ من جُرْحِهِ فأشار النبي عليه الصلاة والسلام إلى عائِشة رِضْوان الله عليها أنْ تُزيل الدَّم عن جُرْحِهِ فربما أنَّها لم تسْتَجِبْ سريعاً ، أو لم تَطِبْ نفْساً لِذلك فقامَ إليه النبي عليه الصلاة والسلام وجعل يُزيلُ الدَّم عن جَبْهَتِه ويُطَيِّبُ خاطِرَهُ بِكَلِماتٍ
تفيضُ عُذوبِةً وحناناً ، وبِالمُناسَبَة فإياكم أنْ تنْزَلِقوا وتَظُنوا أنَّ النبي عليه الصلاة والسلام كما يفْعَلُ ذلك مع بعض الناس ؛ يُمَثِّلُ ، فهذه أبعد عن أخْلاق النبي عليه الصلاة والسلام بُعْد الأرض عن السماء ، والآن في زماننا هناك أشْخاصٌ أذْكِياء وبارعون في تمْثيل التَحَبُّب ، فأحْياناً يكون لك مع شَخْصٍ منْفَعَة كبيرة تجدُهُ يقول لابنه : اُعطوهُ شوكولاتا ، ليس حُباً ولكن مصْلَحَةً !! هذا يفْعَلُهُ الناس أحْياناً لكن النبي عليه الصلاة والسلام حُبُّهُ حقيقيّ وصِدْقُهُ ما بعْده صِدْق وإخْلاصه ما بعده إخْلاص .
أهْدى حكيم بن حزام أحد سَراة قُرَيْش لِرَسول الله صلى الله عليه وسلَّم حُلَّةً ثمينةً شراها من اليَمَن بِخَمْسين ديناراً ذَهَبِياً ؛ كانت لِذي يَزَن أحد مُلوكِه ، فأبى النبي عليه الصلاة والسلام أنْ يقبل هَدِيَّتَهُ لأنه كان يوْمئِذٍ مُشْرِكاً ، أخَذَها منه بِالثَّمن ، لِمَنْ اشْتراها ؟ هو لا يلْبَسُها ، لَبِسَها النبي مرَّةً واحدة ثمَّ خلعها على أُسامة بن زيد فكان أُسامة يروحُ بها ويغْدو بين أتْرابِهِ من شُبان الأنْصار والمُهاجِرين ، حُلَّةٌ يرْتَديها مَلِكٌ سابق اشْتراها النبي وقَدَّمَها لأُسامة بن زَيْد ؛ حِبُّهُ .
يرْوي التاريخُ أنَّ هذا الصحابيّ الجليل كان ذَكِياًّ جداً ، وشُجاعاً خارِقَ الشجاعة ، حكيماً يضَعُ الأمور في مواضعها ، عفيفاً يأنفُ من الدنايا ، آلِفاً مألوفاً يُحِبُّهُ الناس ، تَقِياً وَرِعاً يُحِبُّهُ الله ، أحْياناً يكون الإنسانُ ذَكِياً ويُحِبُّهُ الناس ولكنَّ الله تعالى لا يُحِبُّهُ فهو منافق ، وأحْياناً الإنسان له عِبادته واتِّصاله بالله لكن يُقَصِّر أحْياناً مع الناس ، فالذي ينْبغي أن يكون أنك بِقَدْرِ ما تُحِبُّ الله بِقَدْر ما تكون مع الناس لطيفاً رحيماً وكامِلاً ومُنْصِفاً حتى يُحِبُّك الناس .
في غزوة الخَنْدَق جاءَ أُسامة إلى النبي عليه الصلاة والسلام لِيَنْخَرِط في هذه الغزوة ، فَرَقَّ له النبي عليه الصلاة والسلام وأجازَهُ ، أما في أُحد جاءَهُ فَرَدَّهُ صلى الله عليه وسلم لِصِغَرِه ، فَبَكى من شِدَّة تأثُّرِهِ ، الآن أين تجد أبناء الخامسة عشرة ؟! تجدهم بِالمَلْعَب ، أما هذا الشاب الذي جاءَ لِيُحارِبَ مع النبي عليه الصلاة والسلام فلما رَدَّهُ صلى الله عليه وسلم لِصِغَرِه بَكى!! ويوْمَ حُنَيْن حينما انْهَزَم المُسلمون ثبت أسامة بن زيد مع العباس عمّ رسول الله وأبي سُفْيان بن الحارث بن عَمِّهِ وسِتَّةُ نَفَرٍ آخرين من كِرام الصحابة فاسْتطاع النبي عليه الصلاة والسلام بِهَذه الفِئَة المسلمة الصغيرة الباسِلَة أنْ يُغَيِّر هزيمة أصْحابه إلى نصْرٍ وأنْ يَحْمِيَ المسلمين
الفارِّين من أنْ يفتِكَ بِهِم المشركون .
قد يتساءل الإنسان ، أُسامة بن زيد سبْعَةَ عشر عاماً يُمْكِنُ أنْ يُعَيَّن قائِداً لِجَيْش فيه أبو بكر وعمر وعثمان وعَلِيّ ؟! هذا مَوْقِفُ النبي صلى الله عليه وسلَّم ؛ أوَّلاً : هو قُدْوَة للشباب جميعاً، كُلُّ من دخل الإسلام صار عظيماً سواء أكان شاباً أم كهْلاً أم شَيْخاً ؛ سيِّدنا أبو أيوب الأنْصاري شارك في جَيْشٍ اتَّجَه لِفَتْحِ القُسْطنْطينِيَّة وهو في الثمانين من عُمُرِه ! فهذه عَظَمَةُ الإسلام فالإسلام يصْنع الأبطال ؛ الشيْخُ له نَفْسِيَّةُ الشاب ، والشاب لهُ حِكْمَةُ الشَّيْخ .
الآن تجد شاباً مُنْدَفِعاً لكنَّهُ أحْمق ولا علم له ، حركة عَشْوائِيَّة ، وتجد شيخاً وقوراً كلُّه حكمة لا مُروءَة له ، مَرَّةً أراد أحدهم أنْ يُعَبِّر لي عن تقدُّمه في السِّنّ فقال لي : أنا أُسْتاذ ، الدولاب ماسِح ، والعداد بهذا الأسلوب ! عَبَّر عن تَقَدُّمه بالسِنّ ، لكن بالإسلام ؛ الشيْخُ له نَفْسِيَّةُ الشاب، والشاب لهُ حِكْمَةُ الشَّيْخ هذا هو الإسلام ؛ فإذا أردت أنْ تكون شيخاً وأنت شابٌّ فَكُنْ مُسْلماً ، وإنْ أردتَ أنْ تكون شاباً وأنت شيخٌ فكنْ مُسْلماً .
في يومِ مؤتة جاهد أُسامة تحت لِواء أبيه زيد بن حارِثَة وسِنُّهُ دون الثامنة عشرة فرأى بِعَيْنَيْه مصْرع أبيه فلم يَهِن ولم يتضَعْضَع وإنما ظلَّ يُقاتلُ تحت لِواء جعفر بن أبي طالب حتى صُرِع ! وعلى مرْأى منه ومشْهد ، ثمَّ تحت لِواء عبد الله بن رواحة حتى لَحِق بِصاحِبَيْه ، ثمَّ تحت لِواء خالد بن الوليد حتى اسْتَنْقَذ الجيش الصغير من براش الروم ، ثمَّ عاد أُسامة إلى المدينة مُحْتَسِباً أباهُ عند الله ، تارِكاً جسده الطاهر على تُخوم الشام راكِباً جواده الذي اسْتُشْهِد عليه ، المَوْقِف الحاسِم ومركز الثِّقَل في سيرة هذا الصحابيِّ الجليل أنَّهُ في السَّنَة الحادِيَة عشرة للهِجْرة أمر النبي عليه الصلاة والسلام بِتَجْهيزِ جَيْشٍ لِغَزْوِ الروم ، وجعل فيه أبا بكرٍ ، وعمر ، وسعْد بن أبي وقاصٍّ ، وأبا عُبَيْدة بن الجراح وغيْرهم من جِلَّة الصحابة وأمَّر على
الجَيْش أُسامة بن زيْد ، وهو لم يتجاوز العِشْرين من عُمره ، وأمره أنْ يوطِىء الخيل تُخوم البلْقاء ، وقَلْعَةَ الداروم القريبة من غَزَّة بِلاد الروم ، حرْبٌ هَدَفُها تحْجيمُ الأعْداء وفيما كان الجَيْشُ يتَجَهَّز مَرِضَ عليه الصلاة والسلام ، لو أنَّهُ يعْلمُ الغَيْب لَتَرَك هذه المُهِمَّة لِخَليفَتِه ، لكن النبي عليه الصلاة والسلام لا يعْلمُ الغَيْب ، ولو أنَّهُ كان يعْلم الغَيْب لما مسَّهُ السوء ، وهو صلى الله عليه وسلم يخاف إنْ عصى ربَّهُ عذابَ يوْمٍ عظيم ، ولا يمْلِكُ لِنَفْسِهِ نفْعاً ولا ضَرًّا ؛ فمن باب أوْلى ألا يمْلِكَ لأصْحابه نفْعاً ولا ضَرًّا ! وهذا هو مقامُ النُبُوَّة وأيُّ إنْسانٍ يدَّعي فوق ذلك فَهُوَ دَجَّال ، يقول أُسامة لما اشْتَدَّ المرضُ على النبي الصلاة والسلام تَوَقَّفَ الجَيْشُ عن
المَسير اِنْتِظاراً لما تُسْفِرُ عنه حال النبي عليه الصلاة والسلام ، ولما ثقُلَ على نبِيِّ المرضُ أقْبَلْتُ عليه وأقْبَلَ الناسُ معي فَدَخَلْتُ عليه فَوَجَدْتُهُ قد صَمَتَ فما يتكلَّمُ من وطْأةِ الداء فَجَعَلَ عليه الصلاة والسلام يرْفَعُ يدَهُ إلى السماء ثمَّ يضَعُها عليّ فَعَرَفْتُ أنَّهُ يدْعو لي ، وما لبِثَ عليه الصلاة والسلام أنْ فارق الحياة وتَمَّتْ البَيْعَة لأبي بكْرٍ ، وأوَّلُ قرارٍ اتَّخَذَهُ هذا الصحابيّ
الجليل خليفة رسول الله أنَّهُ أمر بإنْفاذ بعْث أُسامة لكنَّ الأنْصار رأوا أنْ يُؤخَّر هذا البعْثُ وطَلَبَتْ عمر بن الخطاب أنْ يُكَلِّم أبا بكرٍ ، وقالتْ له : فإنْ أبى إلا المُضِيّ فأبْلِغْهُ عنا أنْ يُوَلِّي أمْرنا رَجُلاً أقْدَمَ سِناًّ من أُسامة - إذْ لا تناسُبَ بين سِنِّه وسِنِّ الآخرين - هذا الصِّديق اللطيف النَّاعِم الرقيق الحليم ؛ ما إنْ سَمِعَ الصِّديق من عمر رسالة الأنصار حتى وَثَبَ وكان جالِساً ، وأخذ بِلِحْيَةِ الفاروق وهَزَّها حتى كادَت تنْخَلِع ، وقال مُغْضَباً ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ يا ابن الخطاب اِسْتَعْمَلَهُ رسول الله وتأمُرُني أنْ أنْزِعَهُ ؛ والله لا يكون هذا أبداً ، جبارٌ في الجاهِلِيَّة خَوَّارٌ في الإسلام ، بعض كُتاب السيرة المُوَفَّقين قالوا : هذا المَوْقِف من سيِّدنا عمر ليس مَوْقِفُهُ لكن أراد هذا الصحابيُّ الجليل أنْ ينْقُلَ لِخَليفة رسول الله صلى الله عليه وسلَّم رأْيَ الأنصار فإذا وَثَبَ هذا الخليفة على الفاروق وأمْسَكَهُ من لِحْيَتِهِ وهَزَّها فَلَعَلَّ الأنْصار حينئِذٍ يخافون ؛ أراد أنْ يُبَيِّنَ للأنْصار مَوْقِفَ الصِدِّيق من بَعْثِ أُسامة ولما رجع عمر إلى الناس سألوه عما حدث ، فقالوا : اُمْضوا ، ثَكِلَتْكُم أُمُّهاتكم ، فقد لقيتُ ما لقيتُ في سبيلِكم من خليفة رسول الله ، ولما انْطَلَقَ الجَيْش بانْطِلاقة قائِدِهِ الشاب شَيَّعَهُ خليفة رسول الله ؛ هذا المنظر بِتاريخ العالم ليس له نظير ، خليفة المسلمين يمْشي وشابٌ لا تزيدُ عُمُرُهُ على سبعة عشر عاماً راكِبٌ الناقة ، فقال أُسامة : يا خليفة رسول الله ، والله لَتَرْكَبَنَّ أوْ لأنْزِلَنَّ فقال أبو بكرٍ : والله لا تنْزِل ، ووالله لا أرْكَب ، وما علَيَّ أنْ أُغَبِّرَ قدَمَيَّ في سبيل الله ساعة - سيّدنا عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه كان عنده ضَيْفٌ وهو أمير المؤمنين والسِّراج قد انْطَفَأ ، فقامَ سيّدنا عمر بِنَفْسِه وأصلح السِّراج ، فهذا الضَّيف وقع في حرَجٍ فقال له : أنت أميرُ المؤمنين ، قُل للغُلام أو أكون أنا مُصْلِحه ، فقال له : أما أنت فَضَيْفٌ وَسَخافَةٌ بالمرء أنْ يسْتخدم ضَيْفه ؛ فهكذا النبي علَّمَهُ ، ومَرَّةً كان سيِّدُنا عمر بن الخطاب مارًّا بالمسجد ورجُلٌ مُضْطَجِعٌ بِالمَسْجد ليلاً فداسَ على طَرَفَيْه فقال له ذلك المُضطجِع : أَأَعْمى أنت ؟ فقال: لا ، ولما سئل عمر ، قال مجيباً : سألني فأجبته فالبساطة وعدم التَكَلُّف والتواضع أخلاقهم - سيِّدُنا أُسامة لما ودَّعَ سيِّدنا الصِّديق ؛ اِسْمعوا هذا الوداع ، قال له سيِّدُنا الصدِّيق : أسْتَوْدِعُ الله دينك وأمانتك وخواتيمَ عَمَلِكَ ، وأوصيكَ بِإِنْفاذ ما أمرك به رسول الله ثمَّ مال عليه وقال : إنْ رأيْتَ أنْ تُعينني بِعُمَر فاذَنْ له
بالبقاء معي - أنت قائِدُ الجَيْش وهذا أحدُ جُنودِك - فأذِنَ أُسامةُ لِعُمَر ، هذا هو نِظامُ التَسَلْسُل، ومضى أسامةُ بالجَيْش ونفَّذَ كلَّ ما أمره به رسول الله صلى الله عليه وسلَّم وأَوْطَأ خَيْلَ المُسلمين تُخوم البلْقاء ، وقَلْعَةَ الداروم ، ونزع هَيْبَة الروم من قُلوب المُسلمين ، ومهَّد الطريق أمامهم لِفَتْحِ دِيار الشام ومِصْر ، والشمال الإفْريقي كُلِّه حتى بحْر الظلمات ، ثمَّ عاد أُسامة مُمْتَطِياً صَهْوَة الجواد الذي اسْتُشْهِد عليه أبوه حامِلاً من الغنائِم مازاد على تقْدير المُقَدِّرين ، حتى قيل إنَّهُ ما رُئِيَ جيْشٌ أسلم وأغْنَمُ من جَيْش أُسامة بن زيد ، فالنبي عليه الصلاة والسلام كانت نظْرته في مَحَلِّها وظَلَّ أُسامة بن زَيْد ما امْتَدَّتْ به الحياة مَوْضِعَ إجْلال المُسْلمين وحُبِّهِم وفاءً لِرَسول الله صلى الله عليه وسلَّم .
آخرُ مَوْقِفٍ خلاصته : لما فرض له الفاروقُ عطاءً ، عني أن سيِّدُنا عمر أعْطاهُ عطاءً ويبْدو أنَّ عبد الله بن عمر كان عطاؤُهُ أقَلّ - فابن عمر بن الخطاب عطاؤُهُ قليل وأُسامة عطاؤُه أكثر ! - فقال عبد الله لأبيه مُؤاخِذاً : يا أبتِ فَرَضْتَ لأسامة أربعة آلافٍ ، وفَرَضْتَ لي ثلاثة آلاف ، وما كان لأبيه من الفضْل أكثر مما كان لك ، وليس له من الفضْل أكثر مما هو لي ، فقال له سيِّدُنا عمر : إنَّ أباهُ كان أحَبَّ إلى النبي عليه الصلاة والسلام من أبيك ، وكان هو أحَبَّ إلى رسول الله منك ، وكان عمر إذا لَقِيَ أُسامة بن زيد الشاب الناشئ يقول له : مَرْحَباً بأميري -شاب في أوائل العمر - فإذا رأى أحداً يعْجَبُ من كلامه يقول : لقد أمَّرَهُ عليّرسول الله صلى الله عليه وسلَّم .
أيها الإخوة ، كما قُلْتُ لكم والله إنهم إن كانوا بشراً فنحن لسْنا من بني البشر ، وإن كُنا بَشَراً فهُم فوق البشر ، ولكن نقْتَدي بِهم ، ونَعْتني بِشَبابِنا ، ذلكم شابٌ قيمته عظيمة ، شابٌ ذهب إلى تُخوم الروم وقاد جَيْشاً فيه كِبارُ الصحابة والنبي عليه الصلاة والسلام وَضَع تحت قَدَمَيْه كُلّ الجاهِلِيَّة والغَطْرَسَة ، فراقِب نفْسَكَ في مُعامَلَتِك للآخرين ؛ هل عندك شيءٌ من العُنْصُرِيَّة وتحس أن لك مَيِّزات ، وهل ينْبغي أنْ تأكُلَ وحْدَك ، وأنْ تسْتَخْدِمَ الآخرين وأنْ تستثمر جُهودَهُم إن كنت كذلك فهذا التفْكير يتناقض مع الإيمان ، والحقيقة أن هذه الأخبار مُمْتِعَة ولكن الأمْتَعُ منها أنْ تُطَبِّقها ، وأنْ تنْطَلِقَ في حياتك من هذه القِيَم ؛ من العَدْل والتواضع والمُؤاثرة وحُبِّ الآخرين وتوْقيرُ الآخرين وأنْ تسْتخدِمَ مِقْياساً واحِداً وهو المِقْياس الذي وضعه الله ، قال تعالى :
( الحجرات : الآية 13 )
والحمد لله ربِّ العالمين(/)
الدرس 25\50 سيرة الصحابية : أسماء بنت أبي بكر لفضيلة الأستاذ محمد راتب النابلسي.
التاريخ : الاثنين مساءً 05/04/1993
تفريغ : م المهندس عرفان نابلسي .
التدقيق اللغوي : الأستاذ غازي القدسي
التنقيح النهائي : المهندس غسان السراقبي .
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة و السلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا ، إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا ، وانفعنا بما علمتنا ، و زدنا علما ، وأرنا الحق حقًّا وارزقنا اتباعه ، و أرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، و اجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
أيها الإخوة الأكارم ؛ مع بداية الدرس الخامس والعشرين من دروس سيرة صحابة رسول الله رضوان الله تعالى عليهم أجمعين ، وصحابية اليوم السيدة أسماء بنت أبي بكر .
ويا أيها الإخوة الأكارم ، لا فرق في البطولة بين رجل وامرأة ، فالإسلام يصنع المعجزات ؛ يصنع الأبطال رجالاً كانوا أم نساءً ؛ فصحابيَّتُنا الجليلة جمعت المجد من أطرافه كلها ؛ أبوها صحابي جليل ، وجدها صحابي جليل ، وأختها صحابية ، وزوجها صحابي ، وابنها صحابي ، وحسبها بذلك شرفاً وفخرًا .
وبما أننا ذكرنا النسب فليَ تعليق عليه ؛ النسب تاج لا يوضع إلا على رأس المؤمن ، فإن لم يكن مؤمناً فلا قيمة له ، والدليل قال تعالى :
(سورة المسد)
أبو لهب عم النبي ، وإذا كان هناك إيمان فالنسب تاج يزيد الشريف شرفاً ، ويزيد ذا المروءة مروءةً ، أما إن لم يكن هناك إيمان فلا قيمة للنسب إطلاقاً ، بل هو حجة على صاحبه ، وأقوى دليل حديثُ أَبِي هُرَيْرَةَ الطويل ، وفيه : وَمَنْ بَطَّأَ بِهِ عَمَلُهُ لَمْ يُسْرِعْ بِهِ نَسَبُهُ *
(رواه مسلم)
فمن دون إيمان فلا قيمة للنسب .
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ أَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ قَالَ يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ أَوْ كَلِمَةً نَحْوَهَا اشْتَرُوا أَنْفُسَكُمْ لَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنْ اللَّهِ شَيْئًا يَا بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ لَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنْ اللَّهِ شَيْئًا يَا عَبَّاسُ بْنَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ لَا أُغْنِي عَنْكَ مِنْ اللَّهِ شَيْئًا وَيَا صَفِيَّةُ عَمَّةَ رَسُولِ اللَّهِ لَا أُغْنِي عَنْكِ مِنْ اللَّهِ شَيْئًا وَيَا فَاطِمَةُ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَلِينِي مَا شِئْتِ مِنْ مَالِي لَا أُغْنِي عَنْكِ مِنْ اللَّهِ شَيْئًا *
(متفق عليه)
***
لا تقل : أصلي وفصلي أبدا إنما اصل الفتى ما قد حصل
***
وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمْ مِنْ أَشْعَثَ أَغْبَرَ ذِي طِمْرَيْنِ لَا يُؤْبَهُ لَهُ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لَأَبَرَّهُ مِنْهُمْ الْبَرَاءُ بْنُ مَالِكٍ *
(رواه الترمذي)
فأبو سفيان زعيم قريش وقف بباب عمر ساعات طويلة فلم يُؤذن له ، و بلال و صهيب يدخلان ويخرجان بلا استئذان ؛ فآلمه ذلك فلما دخل عليه قال : زعيم قريش يقف ببابك ساعات طويلة ولم يؤذن له و صهيب و بلال يدخلان بلا استئذان ؛ فأجابه بكلمة واحدة قال : يا أبا سفيان أأنت مثلهم ؟ هذا هو الجواب ؛ فالنسب والحسب والأسرة والعائلة والرفعة هذه من دون إيمان لا قيمة لها إطلاقاً ، لكن إذا آمنت فربما كان النسب تاجاً تتوِّج به إيمانك ، هذا موضوع النسب .
ومرة إنسان سألني شخصٌ عن شجرة نسب ، فقلت له : أنا عندي شجرة مختصرة تصلح لكل مؤمن ، وفي الأثر : أنا جد كل تقي ولو كان عبداً حبشياً .
وانتهى الأمر ؛ فإذا قلنا هذه الصحابية جمعت المجد من أطرافه ؛ أبوها صحابي ، وجدها صحابي ، وأختها صحابية ، و زوجها صحابي ، وابنها صحابي ؛ فلأنها مؤمنة ذكرنا ذلك .
سَلْمَانُ مِنَّا أَهْلَ الْبَيْتِ *
(أخرجه الطبراني في الكبير والحاكم في المستدرك عن عمرو بن عوف)
نِعْمَ الْعَبْدُ صُهَيْبٌ ، لَوْ لَمْ يَخَفِ اللَّهَ ، لَمْ يَعْصِهِ *
(كنز العمال عن عمر موقوفا)
هذا موضوع النسب لا يُتكلم به ، ولا يُفتخر به ، ولا يُذكر إلا مع الإيمان ، وهو تاج يتوِّج الإيمان ؛ فإن لم يكن هناك إيمان فلا أحد يعبأ به ؛ أبوها سيدنا الصديق ، خليل النبي عليه الصلاة والسلام في حياته ، وخليفته بعد مماته ؛ جدها أبو عتيق ، والد أبي بكر رضي الله عنه ؛ أختها أم المؤمنين عائشة الطاهرة المبرَّأة ؛ زوجها حواري رسول الله صلى الله عليه وسلم الزبير بن العوام .
يروي التاريخ أن سيدنا معاوية جاءه كتاب شديد اللهجة فيه تجاوز ؛ أما بعد فيا معاوية ؛ معاوية باسمه فقط ، من دون لقب ، لا أمير المؤمنين ، ولا خليفة المسلمين ، ولا شيء من هذا القبيل ؛ أما بعد فيا معاوية ، إن رجالك قد دخلوا أرضي فانهَهُم عن ذلك ، وإلا كان لي معك شأن، والسلام ؛ دفع معاوية بكتابه إلى ابنه يزيد ، فقال له : يا يزيد ماذا نصنع ؟ لما قرأ الكتاب غلا الدم في عروقه ، وقال : أرى أن ترسل له جيشاً أوله عنده ، وآخره عندك ، يأتونك برأسه ؛ وكان معاوية حكيمًا حليمً ، فقال : يا بني غيرُ ذلك أفضلُ ؛ أملى على الكاتب ، وقال له : اكتبْ : أما بعد ؛ فقد وقفتُ على كتابِ ولد حواري رسول الله ؛ من أرسل الكتاب ؟ عبد الله بن الزبير ، والزبير بن العوام حواري رسول الله .
وقال له : أكتب أما بعد فقد وقفت على كتابي ولد حواري رسول الله ، ولقد ساءني ما ساءه، والدنيا كلها هينة جنب رضاه ، ولقد نزلت له عن الأرض ومَن فيها .
فردّ عليه ابن الزبير : أما بعد ؛ فيا أمير المؤمنين ، أطال الله بقاءك ، ولا أعدمك الرأي الذي أحلك من قومك هذا المحل ؛ واستدعى ابنه يزيد ، وقال له : انظر ماذا كان اقتراحك ؛ أن نرسل له جيشاً أوله عنده ، وآخره عندنا ، يأتون برأسه ؛ انظر إلى الجواب ، قال : يا بني من عفا ساد ، ومَن حلم عظُم ، ومَن تجاوز استمال إليه القلوب .
الزبير بن العوام زوج السيدة أسماء بنت أبي بكر ؛ لقد كانت من السابقين إلى الإسلام ؛ يعني تطبيقاً لهذا ، إذا جاء شخصٌ إلى المسجد منذ شهر أو شهرين ، وصار يتطاول على أخ له مضى عليه في المسجد عشر سنوات فهذا سوء أدب ؛ القِدَم له قيمة ، حتى في الجيش له قيمة ؛ متقدم ، لو اجتمع ضابطان برتبة واحدة ، ومن كلية واحدة ، وبعلامات واحدة ، فمَن كان منهما أقدَمَ ، ولو بيوم واحد يتولى قيادة الفرقة ؛ فعامل الزمن له قيمة ؛ فأخٌ قديم ، وله سنوات عدة ، فله إذًا شأنه ومكانته ، وله أفضلية السبق في طريق الإيمان .
كانت أسماء من السابقين إلى الإسلام ، إذ لم يتقدم عليها في هذا الفضل العظيم غير سبعة عشر إنساناً ، بين رجل وامرأة ؛ فكان ترتيبها المسلمة الثامنة عشرة ، فهذه الصحابية الجليلة لقبت بذات النطاقين ؛ أنا أقول الجليلة لأن الإسلام يصنع الأبطال ، ذكوراً كانوا أم إناثاً ، و أنا أشهد الله أن في مجتمعاتنا من النساء ما إن إحداهن لتَعْدِل عند الله مائة ألف رجل ، بطاعتها لله ، و تفانيها بخدمة زوجها ، وأولادها ، وتقديمها للمجتمع عناصر طيبة ، وحسن تربيتها ، وصبرها على أسرتها .
عن أسماء بنت يزيد الأنصارية أنها قالت : يا رسول الله ، أنا وافدة النساء إليك ، إن الرجال فُضِّلوا علينا بالجمع والجماعات ، وعيادة المرضى ، وشهود الجنائز ، والحج ، والعمرة، والرباط ، فقال عليه الصلاة والسلام : انصرفي أيتها المرأة وأعلمي مَن وراءك من النساء أنَّ حسنَ تَبَعُّلِ إحداكن لزوجها ، وطلبها مرضاته ، واتباعها موافقته يعدل ذلك كله *
(كنز العمال)
هذه السيدة الجليلة الصحابية الكريمة لقبت بذات النطاقين ، لأنها صنعت لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولأبيها يوم هاجرا إلى المدينة زاداً ، وأعدَّتْ لهم سقاءً ، فلما لم تجد ما تربطهما به شقت نطاقها شقين ؛ فربطت بأحدهما المزود ، وبالثاني السقاء ؛ فدعا لها النبي عليه الصلاة والسلام أنْ يبدلها الله منهما نطاقين في الجنة ، فلقِّبَتْ يومئذٍ أسماءُ بنت أبي بكر ذات النطاقين ؛ تزوج بها الزبير بن العوام وكان شاباً مرملاً ، يعني فقيراً ؛ وليس له خادم ينهض بخدمته ، وليس له مال يوسع به على عياله غير فرس اقتناه ؛ والبطولة أن تزوج ابنتك للمؤمن ، فقيراً كان أم غنياً ، و لا تعبأ بالمال ، لأنه إن كان فقيراً ، و كان مؤمناً فسوف يغنيه الله من فضله .
سعيد بن المسيب من كبار التابعين ، وكان قاضياً من كبار القضاة في عهد عبد الملك بن مروان ، وكان له ابنة من خير النساء ، تحفظ كتاب الله ، فقيهة ، وتحفظ الحديث الشريف ، وعلى مستوىً رفيع من الكمال الخُلقي والخَلقي ، ولأنها من أعلى النساء علماً وخَلقاً وخُلقاً خطبها عبد الملك لابنه الوليد ، والقصة طويلة ، لكن آخر فقرة في القصة عنده تلميذ فقير جداً ، غاب عنه أسبوعين ، فلما تفقّده قال : يا سيدي ، ماتت زوجتي ، قال : لمَ لمْ تخبرنا ؟ فقال : استحييت أن أخبرك ، وكنت قد هيأتها للدفن ، فقال له : هل لك من زوجة ؟ فقال : لا يا سيدي ، أنا فقير ، فقال له : أزوجك ابنتي ؛ فما صدق من شدة الفرح ، ولا يملك شيئاً ، وفي الليلة نفسها طُرِقَ الباب ، فقلت : من الطارق ؟ قال : سعيد ، قال هذا التلميذ الفقير : استعرضت كلَّ مَن اسمه سعيد ، فلم يخطر على بالي أن يكون الطارق سعيد بن المسيب ؛ فلما فتح الباب رأى شيخه ، ومعه ابنته التي عقد له عليها بالنهار ، ودفعها إليه ، وقال : خذْ زوجتك ، لقد كرهتُ أن تنام الليلة وحدك .
الآن لا يصل إليها الخاطب ، يقضي سنتين ونصف في الخِطبة ، يكاد يموت ، وغرفة النوم لم تنتهِ ، فتعقيد الحياة يذهب برونقها في زماننا هذا .
عَنْ أَبِي حَاتِمٍ الْمُزَنِيِّ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا جَاءَكُمْ مَنْ تَرْضَوْنَ دِينَهُ وَخُلُقَهُ فَأَنْكِحُوهُ إِلَّا تَفْعَلُوا تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ وَإِنْ كَانَ فِيهِ قَالَ إِذَا جَاءَكُمْ مَنْ تَرْضَوْنَ دِينَهُ وَخُلُقَهُ فَأَنْكِحُوهُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ *
(رواه الترمذي)
كانت أسماء نِعْمَ الزوجة الصالحة لزوجها ، تخدمه وتسُوس فرسه ؛ واحد خطب امرأة ، فأراد أن ينصحها ، قال : يا فلانة إن في خلقي سوءاً ؛ فأجابته إجابة مفحمة ، قالت له : إن أسوأ خلقاً منك من حاجك إلى سوء الخلق ؛ هكذا المرأة المؤمنة .
كانت له نِعْمَ الزوجة الصالحة ، تخدمه ، وتسوس فرسه ؛ ترعاه ، وتطحن النوى لعلفه ، حتى فتح الله عليه ، فغدا من أغنى أغنياء الصحابة ؛ ولما أتيح لها أن تهاجر إلى المدينة فراراً بدينها إلى الله ورسوله ، كانت قد أتمَّتْ حملها بابنها عبد الله بن الزبير ؛ وعبد الله بن الزبير هذا الذي كان مع غلمان يومًا يلعبون ، فمر عمر بن الخطاب ، فلما رأوه ، وكان ذا هيبة شديدة تفرَّقوا إلا عبد الله بن الزبير ، بقي واقفاً بأدب ؛ شيء يلفت النظر ، فلما وصل إليه قال : يا غلام، لمَ لمْ تهرب مع من هرب ؟ قال : أيها الأمير ، لستَ ظالماً فأخشى ظلمك ، ولستُ مذنباً فأخشى عقابك ، والطريقُ يسعُني ويسعُك .
لم يمنعها الحمل من تحمّل مشاق الرحلة الطويلة ، فما إن بلغت قباء حتى وضعت وليدها عبد الله بن الزبير في أثناء الهجرة ، فكبّر المسلمون ، وهلّلوا ، لأنه كان أول مولود يولد للمهاجرين في المدينة ؛ فحملته إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ووضعته في حجره ، فأخذ شيئاً من ريقه الشريف ، وجعله في فم الصبي ثم ، حنكه ودعا له ، ومن السنة تحنيك المولود عند ولادته ، والأذان في أذنه اليمنى ، والإقامة في أذنه اليسرى .
فكان أول ما دخل في جوفه ريق رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ وقد اجتمع لأسماء بنت أبي بكر من خصال الخير ، و شمائل النبل ، ورجاحة العقل ما لم يجتمع إلا للقليل النادر من الرجال ، فقد تجد امرأة تعدل عند الله مائة ألف رجل ، برجاحة عقلها ، وصدق إيمانها ، واستقامتها ، و إخلاصها ، و تفانيها في خدمة زوجها و أولادها ، و يجب أن نعرف أن المرأة كالرجل في التكليف و في التشريف ، لكن لها خصائص تميزها عن الرجل ، و له خصائص تميزه عن المرأة ، و ليست مجال انتقاص لكليهما ؛ مثلاً الأمية في النبي صلى الله عليه و سلم نقص أم كمال ؟ كمال ؛ أمّا الأمية فينا فنقصٌ ؛ إنّها صفة واحدة ، لكنها في النبي كمال ، و في المؤمنين نقص .
هذا مثل واقعي ؛ المكان المعد للبضاعة في السيارات إذا كان واسعاً جداً في الشاحنات نقص أم كمال ؟ كمال ، أما في السيارات التي مهمتها نقل الركاب ؟ فهو نقص .
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ يَا مَعْشَرَ النِّسَاءِ تَصَدَّقْنَ وَأَكْثِرْنَ الِاسْتِغْفَارَ فَإِنِّي رَأَيْتُكُنَّ أَكْثَرَ أَهْلِ النَّارِ فَقَالَتْ امْرَأَةٌ مِنْهُنَّ جَزْلَةٌ وَمَا لَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ أَكْثَرَ أَهْلِ النَّارِ قَالَ تُكْثِرْنَ اللَّعْنَ وَتَكْفُرْنَ الْعَشِيرَ وَمَا رَأَيْتُ مِنْ نَاقِصَاتِ عَقْلٍ وَدِينٍ أَغْلَبَ لِذِي لُبٍّ مِنْكُنَّ قَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا نُقْصَانُ الْعَقْلِ وَالدِّينِ قَالَ أَمَّا نُقْصَانُ الْعَقْلِ فَشَهَادَةُ امْرَأَتَيْنِ تَعْدِلُ شَهَادَةَ رَجُلٍ فَهَذَا نُقْصَانُ الْعَقْلِ وَتَمْكُثُ اللَّيَالِي مَا تُصَلِّي وَتُفْطِرُ فِي رَمَضَانَ فَهَذَا نُقْصَانُ الدِّينِ *
(متفق عليه ، واللفظ لمسلم)
لم يقصد النبي عليه الصلاة والسلام أن يذم المرأة ، لكن عقل المرأة مع عاطفتها مجموعهما واحد ، وعقل الرجل مع عاطفته مجموعهما واحد ، فحينما تُهَيَّأَ المرأة لتكون أمًا فلا بد من عاطفة جياشة ، ولا بد من إحساس مرهف ، ولا بد من رقّة في المشاعر ؛ أمّا حينما يُهَيَّأُ الرجل ليقود أمةً ، أو يكسب رزقاً فلا بد من عقل يزيد على عاطفته ، ولا بد من أجل تربية الأم أولادَها من عاطفة تزيد على عقلها ، إذاً فالمجموع ثابت ، فكمالها في زيادة عاطفتها على عقلها ، وكماله في زيادة عقله ، ومجموع العقل والعاطفة في النوعين واحد .
لكن هناك طُرفة ، إنّ امرأة في الطريق رأت شيخاً أزهرياً ، فقالت يا : سيدي أيحق للنبي عليه الصلاة والسلام أن يقول عنا : ناقصات عقل ودين ، فقال : لا والله ، ليس له حقّ ، لكنْ هذا ليس لكنّ الآن ، بل هذا للصحابيات ، أمّا أنتن هذه الأيام فلا عقل ، ولا دين ، أجابها إجابة مفحمة .
ولنضربْ مثلاً ؛ جاء الزوجُ إلى البيت الساعة الثانية ظهرًا ، الغرف مضطربة ، والمطبخ غير نظيف ، والأولاد غير مرتَّبين ، والبيت في أعلى درجات الاضطراب والفوضى وعدم التنظيف ؛ دخل إلى البيت فإذا امرأته تلقي عليه محاضرةً في أيديولوجيات معينة ، أيرضيه منها ذلك ؟ فمهما كان عقلها راجحاً جداً ، وإدراكها عميقاً جداً ، واطلاعها واسعًا جداً ، وألقت عليه محاضرة ، والبيت هذا حاله ؛ أيرضيه ذلك ؟ لا بد أن تكون أحاسيسها مرهفةً .
قيل : هذه أسماء بنت أبي بكر كانت من الجود حيث يضرب بها المثل ؛ حدث ابنها عبد الله فقال : ما رأيت امرأتين قط أجود من خالتي عائشة وأمي أسماء ، لكن جودهما مختلف ، أما خالتي فكانت تجمع الشيء إلى الشيء حتى إذا اجتمع عندها ما يكفي قسمته بين ذوي الحاجات ، وأما أمي فكانت لا تمسك شيئاً إلى الغد .
يروى أن النبي صلى الله عليه وسلم جاءه سائل فقال له : اذهب إلى فلان ، يقصد أحد الصحابة ، فانطلق إلى داره فإذا هو يلتقط الحَبّ من الأرض ، حبَّ القمح المتناثر فقال في سرِّه : هذا الذي يلتقط الحب أيعقل أن يعطيني شيئًا الآن ؟ مستحيل ،أن يعطيني ، ولم يكلمه إطلاقاً ، وسكت ؛ فقال الصحابي : يا رجل لِمَ أتيت إليَّ ؟ فاضطرب ، وقال : واللهِ لقد أرسلني النبي الكريم إليك لتعطيني مما أعطاك الله ، فلما رأيتك تلتقط الحب توقعت ألاّ تعطيني شيئاً ؛ فقال له : يا أخي نجمع هكذا لننفق هكذا ؛ اذهب وخذ أيّة ناقة شئت ، فأخذ ناقة فتبعها عشرة من أولادها ، فقال : خذهنّ جميعاً ، فقال له : عجبت لأمرك ! تلتقط الحَبَّ من الأرض ، وتنفق هذا الإنفاق ؛ فأجابه قائلاً : يا أخي نجمع هكذا لننفق هكذا .
السيدة عائشة تجمع وتنفق نفقةً كبيرة والسيدة أسماء كلما توافر بين يديها شيء تنفقه في الحال ، مذهبان في الجود ؛ كانت أسماء عاقلة ، تحسن التصرف في المواقف الحرجة ؛ وعندما خرج الصديق مهاجراً بصحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم حمل معه كل ماله ؛ ومرة قال له الرسول عليه الصلاة والسلام : يا أبا بكر ماذا أبقيت لنفسك ؟ قال : الله ورسوله ، لم يُبقِ عليه إلا جبته ، حمل ماله كله ومقداره ستة آلاف درهم ، ولم يترك لعياله شيئاً ، فلما علم والده أبو قحافة برحيله ، وكان ما يزال مشركاً جاء إلى بيته ، وقال لأسماء : واللهِ إني لأراه قد فجعكم بماله ، بعد أن فجعكم في نفسه ، فقالت له : كلا يا أبت ، إنه قد ترك لنا مالاً كثيراً ، ثم أخذت حصىً ، ووضعته في الكوة التي كانوا يضعون فيها المال ، وألقت عليه ثوباً ثم أخذت بيد جدها ، وكان مكفوف البصر ، وقالت : يا أبتِ ضع يدك على المال ، وانظر كم ترك لنا من المال ، فوضع يده عليه ، وقال : لا بأس إذا كان ترك لكم هذا كله ، فقد أحسن ، فقد حلّت مشكلة لئلا يغضب وينفجر على ابنه الذي أخذ المال كله ، وقد عرفت حكمة أبيها ، وشدة قلقه على النبي عليه الصلاة والسلام ، وهما يقدِمان على رحلة مجهولة ، فأخذ المال كله لينفق عليه ، لذلك عليه الصلاة قال : ما ساءني قط ، فاعرفوا له ذلك ؛ وعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَرَضِهِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ عَاصِبٌ رَأْسَهُ بِخِرْقَةٍ فَقَعَدَ عَلَى الْمِنْبَرِ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ النَّاسِ أَحَدٌ أَمَنَّ عَلَيَّ فِي نَفْسِهِ وَمَالِهِ مِنْ أَبِي بكْرِ بْنِ أَبِي قُحَافَةَ وَلَوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا مِنْ النَّاسِ خَلِيلًا لَاتَّخَذْتُ أَبَا بَكْرٍ خَلِيلًا وَلَكِنْ خُلَّةُ الْإِسْلَامِ أَفْضَلُ سُدُّوا عَنِّي كُلَّ خَوْخَةٍ فِي هَذَا الْمَسْجِدِ غَيْرَ خَوْخَةِ أَبِي بَكْرٍ *
(رواه البخاري)
وعَنْ عَلِيٍّ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَحِمَ اللَّهُ أَبَا بَكْرٍ زَوَّجَنِيَ ابْنَتَهُ وَحَمَلَنِي إِلَى دَارِ الْهِجْرَةِ وَأَعْتَقَ بِلَالاً مِنْ مَالِهِ رَحِمَ اللَّهُ عُمَرَ يَقُولُ الْحَقَّ وَإِنْ كَانَ مُرًّا تَرَكَهُ الْحَقُّ وَمَا لَهُ صَدِيقٌ رَحِمَ اللَّهُ عُثْمَانَ تَسْتَحْيِيهِ الْمَلَائِكَةُ رَحِمَ اللَّهُ عَلِيًّا اللَّهُمَّ أَدِرِ الْحَقَّ مَعَهُ حَيْثُ دَارَ *
(رواه الترمذي)
وما دعوت أحدًا إلى الإسلام إلا كانت له كبوة غير أبي بكر *
(مختصر تفسير الصابوني)
وما طلعت شمس على رجل بعد نبي أفضل من أبي بكر .
وفي بعض الروايات : تسابقت أنا وأبو بكر فكنا كهاتين .
وسيدنا الصديق ما عبد صنمًا قط ، ولا شرب خمرًا قط .
ليس له جاهلية ؛ أرادت أسماء أن تسكن نفس الشيخ ، وألاّ تجعله يبذل لها شيئاً من ماله الخاص ، ذلك لأنها كانت تكره أن تجعل لمشرك عليها يداً ، حتى لو كان جدها ، وهذا الموقف من أبرز مواقف السيدة أسماء الذي يدل على رجاحة عقلها ، وقوة إيمانها ، وشدة حزمها ، وحينما لقيت ولدها قبل أن يموت بقليل ؛ ابنها هو عبد الله بن الزبير ، بُويِع له بالخلافة بعد موت يزيد بن معاوية ، ودانت له الحجاز ومصر والعراق وخراسان ، وأكثر بلاد الشام ، لكن بني أمية ما لبثوا أن سيّروا لحربه جيشاً عرمرماً بقيادة الحجاج بن يوسف الثقفي ، فدارت بين الفريقين معارك طاحنة ، أظهر فيها ابن الزبير من ضروب البطولة ما يليق بفارس كَمِيٍّ مثله ؛ غير أن أنصاره جعلوا ينفضُّون عنه شيئاً فشيئاً ، فلجأ إلى بيت الله الحرام ، واحتمى هو ومن معه في حمى الكعبة المعظمة ، وقبيل مصرعه بساعات دخل على أمه أسماء وكانت عجوزاً فانيةً ، قد كُفّ بصرُها ، وكانت سنها تزيد عن مائة ، قال لها : السلام عليك يا أمي و رحمة الله و بركاته؛ قالت : وعليك السلام يا عبد الله ؛ ما الذي أقدمك في هذه الساعة ، و الصخور التي تقذفها منجنيقات الحجاج على جنودك في الحرم تهز دور مكة هزاً ؛ قال جئت لأستشيرك ؛ قالت تستشيرني في ماذا ؟ قال : لقد خذلني الناس ؛ و انحازوا عني رهبة من الحجاج ، أو رغبة بما عنده ، حتى أولادي وأهلي انفضوا عني ، ولم يبق معي إلا نفر قليل من رجالي ، وهم مهما عظم جلدهم فلن يصبروا إلا ساعة أو ساعتين ، فقد رأى النهاية المفجعة ؛ رأى أنه لا بد أن يُهزَم ، لأنه ليس ثمة تكافؤ ؛ دولة بني أمية ألقتْ بكل ما عندها من قوة لإنهاء هذه الخلافة التي ظهرت إلى جانب خلافة يزيد ؛ ورسلُ بني أمية يفاوضونني على أن يعطوني ما شئت من الدنيا؛ يبدو أنه كان أصلح من يزيد ؛ ولما جمع معاوية وجهاء القوم ليأخذ البيعة لابنه يزيد تكلم الجميع، فأثنوا على يزيد إلا الأحنف بن قيس بقي ساكتاً ، فأربك بسكوته المجلس ، فقال معاوية : يا أحنف ، لمْ تقل شيئاً ؛ فقال : أخاف الله إنْ كذبت ، وأخافكم إن صدقت ؛ فكان تلميحاً أبلغ من تصريح .
على كلٍّ ، ورسلُ بني أمية يفاوضونني على أن يعطوني ما شئت من الدنيا ، إذا أنا ألقيت السلاح ، وبايعت عبد الملك بن مروان ؛ فما ترين من رأي ؟ أن ألقي السلاح ، وآخذ من الدنيا ما شئت ، وجلُّ أصحابي انفضوا عني ، حتى أهلي ، و لم يبق معي إلا نفر قليل ، فالأمر عصيب ، إذًا ألقي السلاح ، وآخذ من المال ما شئت ، وتنتهي الحرب ؛ فماذا تتوقعون مِن أمٍّ يأتيها ابنها بين خيارَيْن صعبَيْن ؛ الأول أن يموت ؛ و الثاني أن يبقى حياً ، على يصبح غنياً ، ويدع هذا الأمر ؛ فقالت له :
الشأن شأنك يا عبد الله ؛ أنت أعلم بنفسك ؛ فإن كنت تعتقد أنك على حق ، وتدعو إلى حق فاصبر ، وجالدْ كما صبر أصحابك الذين قتلوا تحت رايتك ؛ فهل هي قضيةُ مزاح ؛ لا ، إنها حق أو باطل ، وليس من مساومة على الحق ؛ و إن كنت إنما أردت الدنيا بهذه الخلافة فلبئس العبد أنت ؛ أهلكت نفسك ، وأهلكت رجالك ؛ كان هذا رأيها ، فهل بعد هذا العقل من عقل ؟ ليس الموضوع موضوع مساومة ؛ إن كنت على حق ، وتعتقد أن هدفك الحق ، فامضِ لما أردت ، وإن كنت إنما أردت الدنيا بهذه الخلافة فبئس العبد أنت ، أهلكت نفسك ، وأهلكت مَن كان معك ؛ أما إن كنت على حق فلك في الذين قتلوا معك أسوة حسنة ؛ كلام حازم واضح قوي ؛ قال لها : ولكني مقتول اليوم لا محالة ؛ وأنا على حق ، وأردت الحق ، وإن فعلت كما تريدين فأنا مقتول لا محالة ؛ قالت : ذلك خير لك من أن تسلم نفسك للحجاج مختاراً ، فيلعب برأسك غلمان بني أمية ؛ موتك أشرف لك ألف مرة من أن تستسلم ؛ قال : لست أخشى القتل ، وإنما أخاف أن يمثلوا بي ؛ قالت : ليس بعد القتل ما يخافه المرء فإنّ الشاة المذبوحة لا يؤلمها السلخ ؛ هل هذه امرأة ؟ نعم ، هذه امرأة تقول هذا الكلام لابنها الذي على وشك الاستشهاد ؛ إن كنت إنما أردت الدنيا فلبئس العبد أنت ، أهلكت نفسك ، وأهلكت رجالك ؛ وإن كنت تعتقد أنك على حق ، وتدعو إلى الحق فاصبر وجالد كما صبر أصحابك الذين قتلوا تحت رايتك ؛ فأشرقت أسارير وجهه وقال: بوركت من أم ؛ نعم هذه أم ؛ الآن يأخذون ابنها على الجيش ، وإلى منطقة داخلية جداً ، فتصرخ بشدة ، وتولول ، نعم بوركت من أم ، وبوركتْ مناقبك الجليلة ، فأنا ما جئت إليك في هذه الساعة إلا لأسمع منك ما سمعت ، واللهُ يعلم أني ما وهنت ، ولا ضعفت ، وهو الشهيد عليَّ أني ما قمت بما قمت به حباً في الدنيا وزينتها ، وإنما غضب لله أن تستباح محارمه ، وها أنا ذا ماض إلى ما تحبين ، فإذا أنا قُتِلت فلا تحزني عليَّ ، وسلمي أمرك لله .
أعطته حماسًا كبيرًا جداً ، كان مترددًا ، وأخذ أقصى شحنة من الحماس ، قالت : إنما أحزن عليك يا بني لو قتلت على باطل ، قال : يا أمي كوني على ثقة بأن ابنك لم يتعمد إتيان منكر في حياته ، ولا عمل بفاحشة قط ، ولم يَجُرْ في حكمٍ ، ولم يغدر في أمان ، ولم يتعمد ظلم مسلم ولا معاهد ، ولم يكن شيء عنده آثر من رضا الله عز وجل ، طمأنها ، لا أقول ذلك تزكيةً لنفسي ، فالله أعلم مني بي ، وإنما قلت لأدخل العزاء على قلبك يا أمي قالت : الحمد لله الذي جعلك الله على ما يحب ، وعلى ما أحب أنا ؛ اقترب مني يا بني كي أتشمَّم رائحتك ، ولألمس جسدك ، فقد يكون هذا آخر العهد بك ، النهاية معروفة ، فأكبَّ عبد الله على يديها ورجليها يوسعهما لثماً وتقبيلاً ، وأجالت هي أنفها في رأسه ووجهه وعنقه وتشمَّمَتْهُ ، وقبَّلته ، وأطلقت يديها تتلمس جسده ، ثم ما لبثت أن ردتهما عنه ، وهي تقول : ما هذا الذي تلبسه يا عبد الله ؟ قال : درعي ، قالت : ليس هذا يا بني لباس من يريد الشهادة ، قال : إنما لبستها كي أطيب خاطرك ، وأسكن قلبك ، قالت : انزعها عنك ، فذلك أشد لحميَّتك ، وأقوى لوثبتك ، وأخف لحركتك ، ولكن البسْ بدلاً منها سراويل مضاعفة ، حتى إذا صرعت لم تنكشف عورتك ، نزع عبد الله بن الزبير درعه ، وشد عليه سراويله ، ومضى إلى الحرم لمواصلة القتال ، وهو يقول : لاَ تَفتُري عن الدعاء لي يا أمي ، فرفعتْ كفيها إلى السماء ، وهي تقول : اللهم ارحم طول قيامه ، وشدة نحيبه في سواد الليل ، والناس نيام ، اللهم ارحم جوعه وظمأه في هواجر المدينة ومكة ، وهو صائم ، اللهم ارحم بره بأبيه وأمه ، اللهم إني سلمته لأمرك ، ورضيت بما قضيته له ، فأثبني عليه ثواب الصابرين ، ولم تغرب شمس ذلك اليوم إلا وعبد الله بن الزبير قد لحق بجوار ربه ، ولم يمضِ على مصرعه سوى أربعة عشر يوماً إلا وأمه أسماء بنت أبي بكر قد لحقت به ، وقد بلغت من العمر مائة عام لم يسقط لها سن .
الآن تخطب بنت ثلاثة عشر عامًا السن محشاة ، عمرها ثلاثون سنة أو خمس وعشرون نصف أسنانها ساقطة ، وقد بدلت ، لكن أسماء لم يسقط لها سن ولا ضرس ، ولم يغب من عقلها شيء .
اللهم ارزقنا الزوجة الصالحة ، لأن الزوجة الصالحة كنز ، والدنيا كلها متاع ، وخير متاعها الزوجة الصالحة ، فهي المربية لأولادها كي يكونوا مؤمنين صادقين .
سيدنا عمر بن الخطاب أرسل كتاباً إلى واليه على بلاد فارس حذيفة بن اليمان الصحابي المعروف ، أرسل إليه عمر بن الخطاب كتاباً يقول فيه ، والكتاب أرسله لحذيفة بعد أن بلغه أنَّه تزوج كتابيةً ، وهذا من حقه ، أليس كذلك ؟ قال تعالى :
(سورة المائدة)
فأرسل له كتاباً ، وقال له فيه : إذا أتاك كتابي هذا فطلِّق ، هذه الكلمة (طلق) تستلزم أن يكون هذا الزواج صحيحاً ، ولا يقع الطلاق إلا على أساس زواج صحيح ، لكن سيدنا عمر أمره عجيب ، أمره خطي يخاطب به واليه على بلاد فارس حذيفة بن اليمان ، يقول فيه : إذا جاءك كتابي هذا فطلق ؛ سيدنا حذيفة من كُتَّاب الوحي ، وكان فقيهًا وعالمًا جليلاً ، فردّ على الخليفة بكتاب آخر قال فيه : يا أمير المؤمنين أحلال هذا الزواج أم حرام ؟ أنا أنفذ أمرك ، لكن أريد أن أطمئن ، وهو يراد أن يذكَّره بقوله تعالى :
(سورة المائدة ، الآية 5)
أنّه يحل التزوج بهن ، فردّ عليه العمر الخليفة بما ينبئ أنه عالم بالحل والإباحة ، ومع ذلك طلب إليه أن يطلق لأمر آخر برَّره ، قال سيدنا عمر : إني أعلم هذا ، أنا أعلم أن زواجك حلال ، ولكني أخشى الفتنة بين المسلمات ، يعني هذه المسلمة المؤمنة الطاهرة العفيفة إذا تزوّجتَ أنت بغير مسلمة فمَن يتزوج المسلمة ؟ لكنّ كتَّاب السيرة حلّلوا هذا الموقف تحليلات كثيرة : أول تحليل مصلحة عامة ومصلحة خاصة ، وربما تحققت مصلحة سيدنا حذيفة الخاصة ، لأنها تناقضت مع المصلحة العامة ، وهو والي أمير المؤمنين على بلاد فارس ، فإن كانت زوجته كتابية ربما تتسرب إليها بعض الأسرار فتنقلها إلى قومها .
الشيء الثاني عندما يعزف الشباب المؤمنون عن الزواج من المسلمات فهذا يجعل بينهن فتنة، فهن لمن إذاً ؟ كلما ذهب طالب إلى أوربا فإنّه يتزوج هناك ، ويعود بامرأة أجنبية ليس لها عاداتنا ، ولا تقاليدنا ، ولا إيماننا ، ولا قيمنا ، حدثني صديق قال : جاء ابني من بلاد الغرب بزوجة ، وبيتهم له شرفة واسعة جداً ، فصارت تستلقي بثياب السباحة ، وتقول : هذا حمام شمسي ، وكل الأبنية مُطِلّة على هذه الشرفة .
فعندما يترك المسلمُ الفتاةَ المسلمة المؤمنة العفيفة ، الحافظة لكتاب الله ، ويبحث عن امرأة منبتها غير منبتنا ، وعاداتها غير عاداتنا ، وتقاليدها غير تقاليدنا ، وربما كانت عدوةً لديننا ، سيدنا عمر أدرك أن الإسلام حينما أباح الزواج بالكتابية لئلا يستوحش أهل الكتاب ، أما حينما تكون الزوجة مصدر خطر على المسلمين ، أو حينما تنشأ فتنة بين المسلمات لعزوف الشباب عن الزواج بهنّ فهذا من شأنه أن يكون محرماً لحكمة سماها علماء الأصول سد الذرائع ، وأنا أعرف عشرات القصص ، بل بضع عشرات مفادها أن مَن تزوج امرأة أجنبية نشأ أولاده على غير دين الإسلام ، وهناك نساء عُدن إلى بلادهن مع البنات ، وزوجها لا يدري ، وليس بإمكانه أن يفعل شيئاً ، لذلك فإنّ موقف سيدنا عمر عندما قال له : طلِّقْ ، موقف سليم ، لأنه يخشى الفتنة على المسلمات ، وهذا من العمل الصالح ، فهذه الفتاة المؤمنة الطاهرة ، العفيفة الملتزمة ، هذه الفتاة لك ولأمثالك ، فإذا بحثت عن فتاة غير مسلمة فهذه لمن إذاً ؟ .
هذه أضفتها للدرس لأن طبيعة الدرس متعلقة بالسيدة أسماء بنت أبي بكر ، فمثل هؤلاء النساء الطاهرات العفيفات ينبغي أن يبحث الشباب عنهن ، ولأن الدنيا كلها متاع ، وخير متاعها المرأة الصالحة .
والحمد لله رب العالمين
***(/)
الدرس 50/50 ، سيرة الصحابي : الربيع بن زياد الحارثي ، لفضيلة الأستاذ محمد راتب النابلسي .
تفريغ : الأستاذ هشام القدسي .
التدقيق اللغوي : الأستاذ غازي القدسي .
التنقيح النهائي : المهندس غسان السراقبي .
بِسْمِ اللهِ الرَّحمَنِ الرَّحِيمِ
مع الدرس الخمسين من دروس سير صحابة رسول الله رضوان الله عليهم أجمعين ، وصحابيُّ اليوم هو الربيع بن زياد الحارثي رضي الله عنه .
وقبل أن نمضي في الحديث عن هذا الصحابي هناك مقدمة أرجو أن ينتفع بها الإخوة الكرام ، وهي ؛ أن في القرآن الكريم آيات تزيد عن مائة آية أو أكثر مضمونها : الهدى لمن يطلبه :
[سورة ق]
من هذه الآيات آيات كثيرة ، منها :
[سورة الرعد]
[سورة الشورى]
[سورة الأحقاف آية 10]
[سورة غافر]
[سورة المنافقون]
[سورة الزمر]
[سورة النحل آية 37]
يبدو من هذه الآيات الكثيرة أن هناك شيئاً يسبق سماع الحق ، هو الطلب ، هذه الآيات ومثيلاتها ، لاح لي مثلُ يمكن أن يعبّر أدق التعبير عن فحواها ، إنسان بلا مأوى ، يبحث عن بيت ، بقي ستة أشهر ينام عند فلان ، وعند فلان ، وهو في أمس الحاجة إلى بيت ، هذا الإنسان لو التقى إنساناً آخر ، وقال له : أتريد بيتاً ؟ .. ينفعل أشدَّ الانفعال ، ويتعلق بهذا الإنسان أشدَّ التعلق ، ويتلهف أشدََّ اللهفة ، ويقول له : إِي واللهِ ، أين البيت ؟ .
ترى هذا الإنسان الذي بحاجة ماسة لبيت ، ويرى في طريقه من يعرض عليه بيتاً ، آيباً، مطيعاً ، يصبر ، يتابع ، يسأل ، يستفهم ينتظر من أجل أن يحقق حاجته التي هو في أمس الحاجة إليها .
فالإنسان يسكن بيتًا كما يريد ، وإنسان قال له : هل تحتاج إلي بيت ؟ وهو لا يحتاج إلى بيت .. تراه يعرض ، ولا يرد عليه ، ولا يبالي به .
فالإنسان عندما يطلب الهدى ، فأيُّ درس علم ، أو تفسير آية ، أو تفسير حديث ، وأيُّ إنسان له صلة بالله ، يتعلق به ، يسأله ، يحضر مجلسه ، يصبر عليه ، و يتودد له ، فالقضية قضية حاجة سابقة ، فإذا كان عندك رغبة ، عندك طلب للحق ، عندك رغبة في معرفة الله ، عندك رغبة في طلب مرضاة الله عز وجل ، يعنيك درس العلم ، يعنيك كتاب الله ، يعنيك أهل الحق ، يعنيك العمل الصالح .
فهذا التفسير يبيِّن لك كيف أن الإنسان يتكلم بالحق ، فإنسان يصغي ويتأثر وينفعل ويستجيب ، وإنسان لا يبالي ، ولا يهتم ، ولا يتأثر ، ولا يعلق كبير أهمية على هذا الدرس ، فحين يلحظ الإنسان أنه ضعيف الاهتمام بالعلم ، ضعيف الاهتمام بمرضاة الله عز وجل ، ضعيف الاهتمام بمعرفة الله ، فليتَّهمْ نفسه أنه ضعيف الصدق في طلب الحق .
الحقيقة أحياناً أنّ العلة ليست في المتكلم ، بل في المستمع .
فالإنسان إذا نما صدقه نما اهتمامه ، ونمت معرفته ، ونمت طاعته واستقامته .
قيل هذه مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ما تزال تكفكف الدموع لفَقْدِ الصديق .. سيدنا الصديق مات ، وكل مخلوق يموت ، ولا يبقى إلا ذو العزة والجبروت ، والليل مهما طال ، فلا بد من طلوع الفجر ، والعمر مهما طال ، فلا بد من نزول القبر .
***
كل ابن أنثى و إن طالت سلامته يوماً على آلة حدباء محمولُ
فإذا حملت إلى القبور جنازة فاعلم بأنك بعدها محمولُ
***
أيها الإخوة الكرام ، أنا كنت قبل قليل في تعزية ، فتكلمت كلمات هدفها : التفكر في الموت ، تصور نفسك أنّك تمشي على طريق ، وعلى حافتيه واديان سحيقان ؛ وادٍ عن يمينك، و وادٍ عن شمالك ، واحتمال الانزلاق في الوادييْن كبير جداً ، التفكر في الموت يقيم حول الطريق جداراً استنادياً يحميك من الزلل ، ومن السقوط ، والتفكر في الموت يبعث فيك دافعاً قوياً يدفعك إلى طاعة الله ، فإذا أبطأت بك الهمّة ، فالموت يحثك على طلب الحق ، وإذا زلّتْ بك القدم فالموت يحميك من الزلل ، إذاً أنتم ولو كنتم شباباً حينما نجعل من الموت عنصراً أساسياً في محاسبة أنفسنا ، حينما نُدخِل الموت في حساباتنا اليومية ، هذا الموقف ، كيف ألقى الله به ؟ لو جاءت منيتي بعد ساعة ، ووقفت بين يدي الله عز وجل بماذا أجيب ؟.
لو أن إنسانًا اصطاد عصفوراً لغير مأكلة ، جاء يوم القيامة وله دوي تحت العرش ، يقول : يا رب سله لمَ قتلني .
مرة نصحت إنسانًا يعمل في وظيفة ، وبإمكانه أن يوقع أشد الأذى بالناس ، نظرًا لموقعه ، فقال لي : انصحني ، قلت له : افعل ما تشاء ، ولكنك إذا كنت بطلاً فهيِّئْ لخالق الكون جواباً عن كل تصرف تتصرفه .
يا أيها الإخوة ، حاسبوا أنفسكم قبل أن تُحاسبوا ، وزنوا أعمالكم قبل أن تُوزن عليكم ، من حاسب نفسه حساباً عسيراً كان حسابه يوم القيامة يسيراً ، ومن حاسب نفسه في الدنيا حساباً يسيراً كان حسابُه يوم القيامة عسيراً .. أمّا هذه الكلمات : لا تدقق ، حُطَّ بالخرج ، من هنا إلى يوم الله يفرجها الله ، حط رأسك مع الرؤوس ، وقل يا قطاع الرؤوس .. هذه كلها مِن وساوس الشيطان ، كلمات شيطانية لا معنى لها ، بل معناها مدمر وخطر .
سيدنا الصديق توفي ..
قيل : و ها هي ذا وفود الأنصار ، تقدم كل يوم إلى يثرب مبايِعةً خليفته الفاروق عمر بن الخطاب على السمع والطاعة ، في المنشط والمكره .
المؤمنون لهم قيادة ، ولهم رأس ، المؤمن منضم إلى مجموع المؤمنين ، يأتمر بما يُؤمر ، وينتهي عما يُنهى عنه.
وذات صباح قدم على أمير المؤمنين وفدٌ من البحرين مع طائفة أخرى من الوفود ، وكان الفاروق رضوان الله تعالى عليه شديد الحرص على أن يسمع كلام الوافدين عليه .
فأنا أحياناً ، أشعر كما أنتم بحاجة إلى أن تسمعوا ، أنا أحياناً أشعر بحاجة إلى أن أسمع، عندما أسمع من أخٍ كلامًا منطقيًّا ، كلامًا فيه وعي ، ويَنُمُّ عن فهم ، وبأدلة ، فيه دقة، واللهِ هذا شيء يسعد كل إنسان يدعو إلى الله عز وجل ، شيء مسعد حقًّا ، كشعور المزارع حينما يرى هذه الفسيلة قد نمت ، واخضرت وأزهرت ، وأثمرت ، شيء لا يُصدق أن ترى إنساناً قد اقتدى ، واهتدى ، واستفاد ، ونفع الناس وأينع عندهم الثمر .
الحق ينبغي أن ينتشر ، ينبغي أن يتوسع ، الحق ينبغي أن يحاصِر الباطل ، لا أن يحاصره الباطل .
قلت لأخ قبل أن آتي : " ما أهدى رجل أخاً في الله ، إلا أحدث الله له درجة في الجنة ، وحجمك عند الله بحجم عملك الصالح :
[سورة الأنعام]
اسأل نفسك هذا السؤال المحرج : أنا ماذا قدمت ليوم اللقاء ، ماذا قدمت لله عز وجل ؟ يقول : عبدي جئتُ بك إلى الدنيا ، وبقيت فيها عمراً طويلاً ، فماذا قدَّمتَ لنفسك ؟ قال تعالى:
[سورة فاطر]
الذي عاش أربعين سنة ، شاهد أربعين ربيعًا ، وأربعين خريفًا ، وأربعين صيفً ، وأربعين شتاءً ، فتناوبتْ عليه الفواكه والخضراوات والأنواء من أمطار ورياح وحر وقرّ ، و من أزهار ومن طيور ، ومن أفراح ومن أحزان ، قال تعالى :
[سورة فاطر]
فكان الفاروق رضوان الله تعالى عليه شديد الحرص على أن يسمع كلام الوافدين عليه، فلعله يجد فيما يقولونه موعظة بالغة ، أو فكرة نافعة ، أو نصيحة لله ولكتابه ولعامة المسلمين.
هذا يدلّ على أنّ الإنسان كلما ارتقى بالعلم ازداد تواضعاً ، والإنسان المؤمن يستفيد من كل إنسان ، حتى من الطفل الصغير .
الإمام أبو حنيفة كان يماشي في الطريق ، رأى غلاماً أمامه حفرة ، فقال له : يا غلام إياك أن تسقط .
فقال هذا الغلام كلمةً حاسمة مفحمة ، قال له : بل أنت يا إمام إياك أن تسقط .. أنا إن سقطتُ سقطتُ وحدي ، وإنك إن سقطتَ سقطَ معك العالم .
المؤمن لا يتأبى عن نصيحة ، ولا عن موعظة ، ولا عن كلمة حق ، المؤمن يستشير ، والمؤمن يستعير عقول الآخرين ، والمؤمن يتقبل الملاحظات ، صدره رحب .
عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ اسْتَأْذَنْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْعُمْرَةِ فَأَذِنَ لِي وَقَالَ لَا تَنْسَنَا يَا أُخَيَّ مِنْ دُعَائِكَ فَقَالَ كَلِمَةً مَا يَسُرُّنِي أَنَّ لِي بِهَا الدُّنْيَا*
(رواه أبو داود)
وفي رواية الترمذي : أَيْ أُخَيَّ أَشْرِكْنَا فِي دُعَائِكَ وَلَا تَنْسَنَا *
وفي غزوة بدر قال له صحابي : ليس هذا المكان بموقع حرب مناسب ، قال : دلني على الموقع المناسب ، فدلّه ، وأمر أصحابه أن ينتقلوا إليه ، هكذا المؤمن كن بسيطًا ، ولا تتكلف ، ولا تتكبر .
فندب عمرُ عددًا من الحاضرين للكلام ، فلم يقولوا شيئاً ذا بال ، قال : إذا لم يكن لديك ما تقول فلا غَناء في القول .
تسمع أحيانا كلامًا مدة ساعة ، كله لا خير فيه ، كلام فارغ ، كلام مكرر ومعاد ، لا جدوى منه ، ولا فائدة ، المؤمن كلامه مليء ودقيق ، كلامه دسم ، وكلامه حق ، وكلامه خطير .
[سورة الأنعام]
فالتفت إلى رجل توسم فيه الخير ، وأومأ إليه وقال : هات ما عندك ، فحمد الرجل الله ، وأثنى عليه ، ثم قال : إنك يا أمير المؤمنين ، ما وليت أمر هذه الأمة إلا ابتلاء من الله عز وجل ابتلاك به ، فاتَّقِ الله فيما وُلِّيتَ ، واعلم أنه لو ضلّت شاة بشاطئ الفرات لسئلت عنها يوم القيامة ، فأجهش عمر بالبكاء ، وقال : ما صدقني أحد منذ استخلفت كما صدقتني ، فمن أنت ؟ قال : أنا الربيع بن زياد الحارثي ، أخو المهاجر بن زياد .
قال : نعم .
فلما انفضّ المجلس ، دعا عمر بن الخطاب أبا موسى الأشعري ، وقال : تحَرَّ أمر الربيع بن زياد ، فإن يك صادقاً ، فإن فيه خيراً كثيراً ، وعوناً لنا على هذا الأمر .
سيدنا عمر يحبّ الناصح ، والمؤمن الصادق ،و يستجيب للناصح ، ويُسَرُّ به ولو كان في كلامه قسوة ، أمّا الإنسان ضعيف الإيمان فإنّه يحب المديح ، ويفرح بالمادحين ، ويضيق ذرعًا بالناصحين .
سيدنا عمر يقول : أَحَبُّ النَّاسِ إِلَيَّ مَنْ رَفَعَ إِلَيَّ عُيُوبِي .
(كنز العمال)
وقال عمر بن عبد العزيز : رَحِمَ اللّه مَنْ أَهْدَى إِلَيَّ عُيُوبِي .
(مجمع الأمثال للميداني)
فالإنسان إذا استمع إلى نصيحة الناصحين ، وإلى انتقاد الناقدين ، وإلى اعتراض المعترضين ، فإنه يرقى سريعاً إلى الله ، ويتخلص من أخطاء كثيرةً ، ومن عيوب وفيرة .
سيدنا عمر كان مع أصحابه مرةً ، فقال له أحدهم متملقاً : والله ما رأينا خيراً منك بعد رسول الله .
ما كان من هذا الخليفة الراشد إلاّ أن أَحَدَّ النظر فيهم إلى درجة غير معقولة .
فقال أحدهم : لا والله ، لقد رأينا من هو خير منك .
قال : من هو ؟ .
قال : الصديق .
فقال عمر رضي الله عنه : لقد كذبتم جميعاً .. و صدق هذا .. وعَدَّ سكوتهم كذباً .
كلمة الحق لا تقطع رزقاً ، ولا تقرب أجلاً .
لقد كذبتم جميعاً وصدق ، واللهِ كنت أضل من بعيري ، وكان أبو بكر أطيب من ريح المسك.
قرأت منذ أيام أن امرأة تعاني مشكلة ، فطلبها ليسألها ، ومن شدة هيبته في الطريق أسقطت خوفاً منه ، فلما جلس مع أصحابه قال : أعليَّ شيء ؟ نتيجة إسقاطها ، فأكثرُ أصحابه قالوا : لا ، وأنت أردت أن تؤدِّبها ، ثم قال : قل يا أبا الحسن ، قال : واللهِ عليك دية الجنين ، لأنها خافت منك فأسقطت ، فأثنى عليه ثناءً شديداً .
إذا أخذ الله بيدك ، وجعلك بمنصب قيادي ، جعلك داعية ، جعلك مدير مشفى ، جعلك مدير معمل ، رئيسًا في دائرتك ، إياك أن تلغي المعارضة ، استمع للنقد ، استمع للاعتراض، ودليل إيمانك وإخلاصك وصدقك أنْ تصغي للنصيحة وللنقد ، ولو كان جارحاً ، فهذا الذي يرفعك.
فالإنسان إذا انتقدته تحرك ، وأصلح من نفسه ، وقوَّم اعوجاجه ، وَرَأَبَ مِن صدعه ، فأنا مؤمن أن النقد ضروري ، والمعارضة ضرورية ، والنصيحة ضرورية ، والأمة تستحق الهلاك إذا كفَّتْ عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وهي الفريضة السادسة ، إن صحت هذه التسمية ، هناك شهادة لا إله إلا الله ، وصوم ، وزكاة ، وحج ، وصلاة ، وهناك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، والله سبحانه وتعالى أهلك بني إسرائيل لأنهم .
(سورة المائدة)
وقال في آية كريمة أخرى :
(سورة هود)
لم يقل : صالحون ، لو أنهم صالحون لأهلكهم الله ، يجب أن يكونوا مصلحين ، الصالح لذاته، أما المصلح لغيره .
قال له : فاتق الله فيما ولِّيت ، واعلم أنه لو ضلت شاةٌ بشاطئ الفرات لسُئِلتَ عنها يوم القيامة ، فأجهش عمر بالبكاء .
أحياناً تبحث عن معين لك مخلص ، فطِن ، صادق ، لبيب ، أريب ، هذه قمة نجاح القائد ، أن يختار معاونين من المخلصين :
(سورة القصص الآية 26)
سيدنا عمر لما وَلَّى رجلاً ، قال له : خذ عهدك ، وانصرف إلى عملك ، واعلم أنك مصروف رأسَ سنتك ، وأنك تصير إلى أربع خلال فاختر لنفسك ؛ إن وجدناك أميناً ضعيفًا استبدلناك لضعفك ، وسلمتك من معرتنا أمانتك ، وإن وجدناك خائناً قوياً ، استهنا بقوتك ، وأوجعنا ظهرك ، وأحسنّا أدبك ، وإن جمعت الجرمين جمعنا عليك المضرتين ، وإن وجدناك أميناً وفِيًّا ، زدناك في عملك ، ورفعنا لك ذكرك ، وأوطأنا لك عقبك .
نحن لا تصلح أمورنا إلا إذا كان الأشخاص الذين يعوَّل عليهم يتمتعون في وقت واحد بالكفاءة والإخلاص ، الكفاءة قدرات ، والإخلاص قيد للمبدأ ، خلاص للمبدأ ، القرآن سماه : " القوي الأمين " .
(سورة القصص)
عَنْ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهَا قَالَتْ خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قِبَلَ بَدْرٍ فَلَمَّا كَانَ بِحَرَّةِ الْوَبَرَةِ أَدْرَكَهُ رَجُلٌ قَدْ كَانَ يُذْكَرُ مِنْهُ جُرْأَةٌ وَنَجْدَةٌ فَفَرِحَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ رَأَوْهُ فَلَمَّا أَدْرَكَهُ قَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جِئْتُ لِأَتَّبِعَكَ وَأُصِيبَ مَعَكَ قَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ قَالَ لَا قَالَ فَارْجِعْ فَلَنْ أَسْتَعِينَ بِمُشْرِكٍ قَالَتْ ثُمَّ مَضَى حَتَّى إِذَا كُنَّا بِالشَّجَرَةِ أَدْرَكَهُ الرَّجُلُ فَقَالَ لَهُ كَمَا قَالَ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا قَالَ أَوَّلَ مَرَّةٍ قَالَ فَارْجِعْ فَلَنْ أَسْتَعِينَ بِمُشْرِكٍ قَالَ ثُمَّ رَجَعَ فَأَدْرَكَهُ بِالْبَيْدَاءِ فَقَالَ لَهُ كَمَا قَالَ أَوَّلَ مَرَّةٍ تُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ قَالَ نَعَمْ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَانْطَلِقْ *
(رواه مسلم)
هذا مبدأ ؛ المشرك قوي ، ولكن ليس أمينًا .
إياك أن تستعين بكافر ، إياك أن تستعين بمنافق ، فلا يزيدك إلا خبالاً ، ولا يألو أن يضرك ، بل ولا يدخر وسعاً في أن يؤذيك، وأنت لا تدري ، فازهد بكفاءته ، وازهد بقدراته، وازهد بكل ما يملك ، إن لم يكن مخلصاً .
وبالمقابل لا تعتمد على مخلص جاهل ، يريد أن ينفعك فيؤذيك ، لا على مخلص جاهل، ولا على قوي خائن .
قال له : إن وجدناك أميناً ضعيفاً استبدلناك لضعفك ، وسلمتك من معرتنا أمانتك ، وإن وجدناك خائناً وقوياً استهنا بقوتك ، وأوجعنا ظهرك وأحسنا أدبك ، وإن جمعت الجرمين جمعنا عليك المضرتين ، العزل والتأديب ، وإن وجدناك أميناً قوياً ، زدناك في عملك ، ورفعنا لك ذكرك ، وأوطأنا لك عقبك .
فلم يمض على ذلك اليوم غير قليل حتى أعدَّ أبو موسى الأشعري جيشاً لفتح "مناذر" ، من أرض الأهواز ، بناءً على أمر الخليفة ، وجعل في الجيش الربيع بن زياد ، وأخاه المهاجر .
يعني إذا وفَّق الله عز وجل أحدًا فحظِي بإنسان مخلص وكفءٍ فيجب أنْ تعضّ عليه كما تعضّ على شيء نفيس ، فهو أندر كما يقولون من الكبريت الأحمر ، إنسان مخلص وكفء ، فالواحد منا حتى في اختيار زوجته ، حتى في اختيار معاونيه في عمله ، حتى في اختيار من يليه في العمل .. فعليه أنْ يبجث عن الكفء في العمل .
ولكنْ ما الذي يحصل ؟ إما أن تجد إنسانًا مخلصًا مؤمنًا طيبًا يُقال : إنه درويش ، درويش لا يفهم شيئًا ، أو أن تجد إنسانًا حاذقًا في اختصاصه ، لكنه خائن ، زنديق ، لئيم ، لا هذا يملأ عينك ، ولا ذاك يملأ عينك ، لا يملأ عينك ، إلا إنسان بقدر ما هو طيب ، أنْ يكون أيضًا كفؤًا.
ربنا عز وجل لما وصف نفسه قال :
[سورة الرحمن]
يعني عظيم ، ولا حدود لعظمته ، وكريم ولا حدود لكرمه ، بقدر ما هو عظيم ، هو كريم ، بقدر ما هو كريم عظيم .
قد يكون للواحد والدة يحبها حباً لا حدود له ، لكنها غير متعلمة ، وهو دكتور ، يحبها ولكنْ لا يعجب بها ، وقد يعجبك عالم في الجامعة ، لكنه قاس ، أنت لا تحبه ، ولكنه يعجبك، فالشخصية المتكاملة هي التي تشد الناس إليها ، فالأنبياء أوتوا الفطانة ، بقدر ما النبي ذكيًا وعاقلا وفطنًا ، بقدر ما هو طيب ورحيم ومتواضع ، فالصفات الأخلاقية ، مع الصفات العلمية إذا اجتمعتا أعطت نموذجاً مدهشا ، نموذجاً فذا .
أحياناً يفتقر هذا الأخلاقي إلى علم ، فهو صغير في نظر الناس وأحياناً يفتقر هذا العالم إلى أخلاق ، فهو صغير في نظر الناس .
فأنت كمؤمن شخص واحد ، يقول لك أحدهم : أنا واحد بهذا الدرس ، وبهذا الجامع ، أنت هنا شخص واحد ، ولكنك ضمن أسرتك ، ولك أهمية كبرى ، أنت ضمن أسرتك أحد أركانها .
فلان صاحب دين ، فلان من رواد المساجد ، فلان مسلم ، فلان له اتجاه ديني ، فأنت بين أهلك ، بين جيرانك ، في عملك ، في محيطك ، في بيئتك ، أنت عَلَم ، أما هنا فرد واحد، واحد من رواد هذا المسجد مثلاً .
فأنت هنا واحد ، لكنك في نطاق أسرتك وعملك وحيد ، هنا واحد من مائة ، أما هناك فواحد لا مثيل له .
فصعب أن تشد الناس إلى الدين إذا كان في علمك ضعف ، صعب أن تشد الناس إلى الدين إذا كان في أخلاقك ضعف ، فيجب أن تسعى ، وأن تحيط بكل جوانب الدين ، إن هذا الدين كما ورد في الحديث القدسي عن جابر بن عبد الله قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : قال لي جبريل : قال الله تعالى : إِنَّ هَذَا الدِّينَ ارْتَضَيْتُهُ لِنَفْسِي ، وَلاَ يُصْلِحُهُ إِلاَّ السَّخاءُ وَحُسْنُ الْخُلُقِ ، فَأَكْرِمُوهُ بِهِمَا مَا صَحِبْتُمُوهُ *
(كنز العمال)
حاصر أبو موسى الأشعري "مناذر" ، وخاض مع أهلها معارك طاحنة ، قلَّما شهدت لها الحروب نظيراً ، فقد أبدى المشركون من شدّة البأس ، وقوة الشكيمة ما لا يخطر على بال ، وكثُر القتل في المسلمين كثرةً فاقتْ كلَّ تقدير ، فلما رأى المهاجر بن ربيع بن زياد أن القتل قد كثر في صفوف المسلمين ، عزم على أن يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله ، فتحنط وتكفن وأوصى أخاه .
الحقيقة أنّ الحديث عن الصحابة ممتع ، والحديث عن الشهادة ممتع كذلك ، لكن الحقيقة عندما يتعرَّض الإنسان للخطر يُعرف حجمُه الحقيقي من بين هؤلاء الأبطال ، فالكلام سهل ، لكن الإنسان عندما يشعر أنَّ أجله قد اقترب يختل توازنه ، فهؤلاء الصحابة ، باعوا أنفسهم في سبيل الله .
فأنت دائماً محكُّكَ هو العمل ، كل كلام سهل ، سيدنا إبراهيمُ فدى اللهَ بذبح ابنه إسماعيل ، بذبح عظيم .. فلما فداه بذِبحٍ عظيم ما كان يدري أنه سيفدى بذِبح عظيم ، قال تعالى :
[سورة الصافات]
فهذا تحنط ، وتكفن ، وأوصى أخاه ، فمضى الربيع إلى أبي موسى وقال: إن المهاجر قد أزمع أن يشري نفسه وهو صائم ، والمسلمون قد اجتمع عليهم من وطأة الحرب وشدّة الصوم ما أوهن عزائمهم ، وهم يأبون الإفطار ، فافعل ما ترى .
سمعتم منذ يومين أنني ألقيت خطبة في جامع النابلسي حول صفات النبي عليه الصلاة والسلام ، لكن ما لفتَ نظري أن النبي عليه الصلاة والسلام كان مع أصحابه في غزوة في رمضان ، فبعض أصحابه أفطر أخذاً بالرخصة ، وبعضهم بقي صائمًا أخذاً بالعزيمة ، ولكنَّ الصائمين أرهقهم الصومُ والحرُّ فسقطوا ، لقد أصبحوا ضعافًا ، جلسوا واستلقوا ، والمفطرون أعدوا لهم الطعام ، ونصبوا لهم الخيام ، وقدموا لهم كل الخدمات ، ماذا قال عليه الصلاة و السلام ؟ كلام رائع فاسمعوه ، عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَكْثَرُنَا ظِلًّا الَّذِي يَسْتَظِلُّ بِكِسَائِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ صَامُوا فَلَمْ يَعْمَلُوا شَيْئًا وَأَمَّا الَّذِينَ أَفْطَرُوا فَبَعَثُوا الرِّكَابَ وَامْتَهَنُوا وَعَالَجُوا فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَهَبَ الْمُفْطِرُونَ الْيَوْمَ بِالْأَجْرِ *
(متفق عليه)
رجَّح عليه الصلاة والسلام العمل على العبادة ، هذا الإنسان خدم ، ونصب الخيام ، وذبح الذبائح ، وطبخ لإخوانه .
لأن أمشي مع أخ مؤمن في حاجته خير لي من صيام شهر واعتكافه في مسجدي هذا .
وكان سيدنا ابن عباس مرةً معتكفًا ، بعد وفاة رسول الله ، فدخل عليه رجل وطلب منه حاجة ، يبدو أن عليه دينًا ، والدائن شديد الضغط عليه ، قال له : أرهقني فلان ، قال : أتحب أن أكلمه لك ؟
قال : إن شئت .
فخرج ابن عباس من معتكفه ، فقال له أحدهم : يا ابن عباس أنسيت أنك معتكف ، قال : لا، ولكن سمعت صاحب هذا القبر ، والعهدُ به قريبٌ ، فدمعت عيناه ، " لأن أمشي مع أخ في حاجته خير لي من صيام شهر واعتكافه في مسجدي هذا " .
هذا هو الإسلام ، الإسلام معاونة ، الإسلام عمل ، الإسلام خدمة ، الإسلام بذل ، الإسلام تضحية .
فهنا لما اشتدَّتْ عليهم وطأة المعركة ، واشتدت عليهم صعوبة الصيام وقف أبو موسى الأشعري ، ونادى في الجيش : يا معشر المسلمين عزمت على كل صائم أن يفطر ، أو يكفوا عن القتال ، وشرب من إبريق كان معه ليشرب الناس لشربه ، فلما سمع المهاجر مقالته جرع جرعة من ماء ، و قال : واللهِ ما شربتها من عطش ، و لكني أبررت عزمة أميري .
أحياناً نحتاج إلى فقه ، أحياناً خدمة أخيك المؤمن أفضل من صلاة النافلة ، وأحياناً حضور مجلس علم أفضل من عبادة نافلة ، فأنت بالعلم ترقى ، أما بالعبادة فتتألق ، يمكن للطاولة أنْ تتألق بالمسح ، أما العلم فإنّه يضيف لك منزلةً جديدة ، فأنت بالعلم ترقى ، أما بالعبادة وحدها فإنّك تصفو .
فالصفاء ليس له مردود ، أما العلم له مردود ، والأولى أن تجمع بينهما ، ولكن لو خُيِّرتُ بين مجلس علم ، وبين الصلوات النافلة ، فإنّي أحضر مجلس العلم ، وأفضِّله على الصلوات النافلة ، وهناك في السنة آثار كثيرة تؤكد ذلك .
قال : والله ما شربتها من عطش ولكنني أبررت عزمة أميري .
أحياناً أخوك دعاك ، وتكلَّف لك ، فتقول له : واللهِ أنا صائم ، هو لنفسه وأهله تكفيه طبخة واحدة ، فصنع لك لونين من الطعام أو ثلاثة ، تعِب عليها وأرهق نفسه ، وأتى بالفواكه ، ثم تقول : أنا صائم .. وأرى أنه من الكمال أن تفطر .
كان النبي عليه الصلاة والسلام في دعوة ، وكان معه أحدُ الأصحاب ، فلما وضع الطعام ، ودعاهم المضيف إليه قال ذاك الصحابي : أنا صائم ، فقال عليه الصلاة والسلام : " أخوك دعاك ، وتكلف لك ، وتقول : إني صائم ، أفطر ، وصم يوماً مكانه " .
إنّ الفقه ضروري جدًّا .
امتشق حسامه ، وطفق يشق الصفوف ، ويجندل الرجال ، غير وجل ولا هيَّاب ، فلما أوغل في جيش الأعداء أطبقوا عليه من كل جانب ، وتعاورته سيوفهم من أمامه ومن خلفه ، حتى خرَّ صريعاً ، ثم إنهم احتزُّوا رأسه ، ونصبوه على شرفة مطلة على ساحة القتال ، إنّه أخو الربيع ، فلما نظر إليه الربيع قال : طوبى لك وحسن مآب ، واللهِ لأنتقمنَّ لك ولِقتلى المسلمين إن شاء الله ، فلما رأى أبو موسى ما نزل بالربيع من الجَزَع على أخيه ، وأدرك ما ثار من الحفيظة في صدره على أعداء الله تخلَّى له عن قيادة الجيش ، ومضى إلى السوس لفتحها .
استلم الآن سيدنا الربيع قيادة الجيش .
هَبَّ الربيعُ وجندُه على المشركين هبوبَ الإعصار ، وانصبوا على معاقلهم انصباب الصخور إذا حطها السيل ، فمزقوا صفوفهم ، وأوهنوا بأسهم ، ففتح الله (مناذر) للربيع بن زياد عُنْوةً ، فقتل المقاتلة ، وسَبَى الذرية ، وغنم ما شاء الله أن يغنم ، ومنذ هذا التاريخ لمَع نجمُه ، وذاع اسمه ، وتألق صيته في كل مكان .
بالمناسبة إنّ الله سبحانه وتعالى قال :
(سورة الشرح)
دققوا ؛ هذه الآية كما يتضح لنا هي للنبي عليه الصلاة والسلام ، ولكن لكل مؤمن منها نصيب ، فما من مؤمن يلزم طريق الاستقامة ، وما من مؤمن يعاهد الله على طاعته ، وما من مؤمن يحضر مجالس العلم ، وما من مؤمن يعاهد الله ورسوله على السير في طريق الإيمان ، إلا رفع الله ذكره ، وأعلى شانه ، يرفعه على أقرانه ، ويجعله متألقاً لامعاً ، هذا من عطاء الدنيا قبل عطاء الآخرة ، هذا من قوله تعالى :
(سورة الرحمن)
قال العلماء : جنَّة في الدنيا ، وجنَّة في الآخرة .
إذا ذهب الإنسان إلى مقام النبي عليه الصلاة والسلام فمِن المستحيل أنْ يعتقد أنَّ في الأرض كلها إنساناً واحداً ناله العزُّ والرفعةُ كما نالهما النبي صلى الله عليه وسلم .
ولو أنك رأيت ملكاً في حرم النبي فإنّك لا تلتفت إليه أبداً .
مرةً قرأت لوحة رخامية في الحرم النبوي ، أحد السلاطين العثمانيين وسَّع الحرم النبوي ، كتب لوحة رخامية وذيلها بالكلمات التالية : " الفقير إلى الله تعالى كثير الذنوب السلطان فلان غفر الله ذنبه آمين".
ملك ، سلطان ، يحكم نصف الأرض ، ومع ذلك ليس له وجود في حضرة النبي عليه الصلاة والسلام .. " كثير الذنوب غفر الله له ذنبه آمين ، السلطان فلان .. " .
النبي عليه الصلاة والسلام رفع الله شأنه رفعة لا توصف ، وكل واحد منكم ، على قدر استقامته ، وعلى قدر إخلاصه ، وعلى قدر التزامه ، وعلى قدر خوفه من الله ، يرفع الله له ذكره ، هذا ليس كبراً ، لا ، بل هذا مكافأة .
المؤمن إنسان عظيم ، له هيبته ، له شأنه ، له مقامه عند الله ، مرغوب الجانب ، محبوب ، وهذه كلمة "أرذل العمر" نعوذ بالله منها ، قال تعالى :
(سورة النحل)
كل واحد منا إذا كان له أقرباء ، وضيعوا في شبابهم دينَهم ، فلما كبرت سنهم ، وضعف بصرهم ، وانحنى ظهرهم ، وشاب شعرهم ، رُدُّوا إلى أرذل العمر ، فإنْ لم يعتبرْ ويتعظْ فهو ذو عقل سخيف ، تدخل حشري ، والقصة تُعاد آلاف المرات فأهله يكرهونه ، ويهربون منه ، ويَدَعُونَه في غرفته وحده .. فليعتبرْ كلُّ إنسان .
أما إذا رأيت عالماً جليلاً ، أمضى حياته في طاعة الله ، فانظر إليه ، انظر إلى وضاءة وجهه ، وانظر إلى فطانته ، وانظر هيبته ، وانظر إلى التفاف الناس حوله ، ففي هذا أيضًا العبرة لمِن أراد أنْ يعتبر .
مرةً أحد اليهود رأى الإمام الجنيد في موكب يركب فرساً ، وكان بهي المنظر ، أزهر اللون متألقاً ، وحوله من أتباعه وإخوانه العدد الكبير ، وكأنه ملك من الملوك ، فارتاع اليهودي لهذا المنظر ، وأخذته الدهشة ، وصار يتساءل .
وهذا سيدنا ابن عباس كما مرّ معنا في الدرس الماضي ذهب إلى الحج ،يرافقه وفدٌ فاق وفدَ الخليفة ، وليس هذا هو القصد ، وإنّما القصدُ أنّ هذا اليهودي يعمل في المجاري ، والمياه المالحة ، فقير رثّ الهيئة ، جائع مبتذل ، لا شأن له ، يعني المصائب اصطلحت عليه ، كما قال أحد الشعراء :
***
بلاني الدهر بالأرزاء حتى فؤادي في غشاء من نبالِ
فكنت إذا أصابتني سهام تكسرت النصال على النصالِ
***
لم يعد في مجلسه محلات لرفع النصال والنبال .
فقال هذا اليهودي لهذا العالم الجليل : الدُّنْيَا سِجْنُ الْمُؤْمِنِ وَجَنَّةُ الْكَافِرِ *
(رواه مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ)
فأيُّ سجن أنت فيه وأية جنة أنا فيها ، ما هذا الكلام ؟ فقال له الجنيد : يا هذا إذا قِسْتَ حالك بما ينتظرك من عذاب فأنت في جنة ، وإذا قِسْتَ حالي بما وعدني الله من ثواب ونعيم فأنا في سجن .
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ اللَّهُ : أَعْدَدْتُ لِعِبَادِي الصَّالِحِينَ مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ فَاقْرَءُوا إِنْ شِئْتُمْ فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ *
(متفق عليه)
(سورة القصص)
فإنسانٌ يَعِدُه اللهُ وعداً حسناً ، هذا شيء عظيم .
أصبح سيدنا الربيع أحد القادة المرموقين الذي يُرجَوْن لجلائل الأعمال ، فلما عزم المسلمون على فتح سجستان ، عهدوا إليه بقيادة الجيش ، وأمَّلوا على يديه النصر .
تسمعون بأذربيجان ، مِن دول الاتحاد السوفياتي سابقًا ، هذه البلاد في عهد عمر كانت تابعة لإمارة سيدنا عمر ، تُحكم من المدينة المنورة ، ألم يأتِه من أذربيجان رسولٌ بهدية ثمينة ، وقد دخل هذا الرسولُ المسجدَ خشية أن يوقظه في الليل ، فرأى رجلاً يصلي ، ويبكي ، ويقول : يا رب هل قبلتَ توبتي فأهنئ نفسي ، أم رددتها فأعزيها ؟.
قال له : من أنت يرحمك الله ؟.
قال له : أنا عمر .
قال : أمير المؤمنين ؟!!
قال : نعم .
قال : يا أمير المؤمنين ، ألا تنام الليل ، فأنا لم آت بيتك خشية إزعاجك.
قال : أنا إن نمت ليلي كلَّه أضعتُ نفسي أمام ربي ، وإن نمتُ نهاري أضعت رعيتي .
صلى معه الفجر ، ثم أخذه إلى البيت ، وقال : يا أم كلثوم هات ما عندك من طعام ، فجاءت له بخبز وملح ، أكل وشرب ، وحمد الله تعالى وقال : الحمد لله الذي أطعمنا فأشبعنا، وسقانا فأروانا .
قال له : ما الذي جاء بك إلينا ؟
قال : هدية بعث بها عاملك على أذربيجان .. و أذربيجان أصبحتْ بعد انهيار الاتحاد السوفياتي دولةً مستقلةً ، ولكن أين كانت في عهد عمر ؟ كانت تابعة للمدينة .
قال : أيأكل عندكم عامة المسلمين هذا الطعام ؟
قال : لا .. هذا طعام الخاصة .
يقولون : إنّ سيدنا عمر كان قد أكل لقمة واحدة ، أخرجها من فمه ، وقال : هذا حرام على بطن عمر ، أن يذوق طعامًا لا يطعمه فقراء المسلمين .
مضى الربيع بن زياد بجيشه الغازي في سبيل الله إلى سجستان ، عبر مفازة طولها خمسة وسبعون فرسخاً ، تعيا عن قطعها الوحوش الكاسرة من بنات الصحراء .
كأنّ جنس الإنسان بهذه العصور صار سريع العطب ! .. يركب المرءُ الآن سيارة مكيفة ، سرعتها مائتا كيلو متر في الساعة ، من مكة إلى المدينة ، فيقول : يا أخي ، الطريق طويل ، أربع ساعات ، شيء يحطم .. فكيف بهذا الذي قطع المسافة على جمل في اثني عشر يوماً ، من دون تكييف ، ليس لدينا جمل مكيف !! أليس كذلك ؟ .. ما قوة الاحتمال هذه ؟! وما هذا الجَلَد ؟!.
في متحف التكية السليمانية ترس وزنه حوالي خمسة وثلاثون كيلو غرامًا ، أتستطيع أن تحمل ترسًا وزنُه خمسة وثلاثين كيلو في اليسار ، وسيفًا في اليمين ، وتبقى ساعات طويلة في المعركة ؟! ..
كان أصحاب رسول الله يركبون خيولهم ، ومعهم حفنة من القمح أو الطحين ، أو تمرات !.. الآن ؛ سندويش وبيبسي كولا في الملعب ، هذا هو الفرق.
فمضى الربيع بن زياد بهذا الجيش الغازي ، فكان أول ما عرض له حصن شامخ ، محصن ، وافر الخيرات ، كثير الثمار ، بثَّ القائد الأريب عيونَه قبل أن يصل إليه ، فَعلِم أنّ القوم سيحتفلون قريباً بمهرجانٍ لهم ، فتربَّص بهم حتى بَغَتَهُمْ في ليلة المهرجان على حين غرة .
وفي الحديث عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : الْحَرْبُ خَدْعَةٌ *
(متفق عليه)
لأنه ليس القصد أن تبيد أعداءك ، إنما القصد أن تأسرهم ، لأن هذا إنسان ، وأنت إنسان أيضاً ، وأنت مؤمن أوسعُ منه رحمة ، فإذا اتخذتَ الخدعةَ معه وفَّرتَ عليك مشقَّةَ قتله ، فأخذته أسيراً ، وعلَّمتَه حتى يسلم .
فتربص بهم حتى بغتهم ، فسبى منهم عشرين ألفاً ، ووقع دهقانهم بيده - أسير الدهقان زعيم - وكان بين السبي مملوك للدهقان ، فوجدوه قد جمع ثلاثمائة ألف ليحملها إلى سيده ، قال له الربيع : من أين هذه الأموال ؟ .. قال : من إحدى قرى مولاي .
ثلاثمائة ألف دينار يحملها إلى سيده .
فقال له : وهل تعطيه قرية واحدة مثل هذا المال كل سنة ؟
قال : نعم .
قال : وكيف ؟
قال : بفؤوسنا ومناجلنا وعرقنا .. نحن بالقوة نجني هذه الأموال .
ولما وضعت المعركة أوزارها ، تقدم الدهقان إلى الربيع يعرض عليه افتداء نفسه وأهله .
فقال له : أفديك إذا أجزلت للمسلمين العطاء .
قال : كم تبغي ؟
قال : أركز هذا الرمح في الأرض ، ثم تصب عليه من الذهب والفضة حتى تغمره غمراً بأكوام الذهب .
إذا كان دخلُه ثلاثمائة وخمسون ألف دينار من قرية واحدة ، فحُقَّ له إذًا أنْ يطالب بهذا.
قال : رضيت .
واستخرج ما في كنوزه من الأصفر والأبيض وطفق يصبها على الرمح حتى غطاه .
وذات مرة قبض أصحابُ رسول الله بالخطأ على إنسان ، فإذا هو ثمامة ، أحد زعماء القبائل ، وقد وقع أسيراً ، وكان قد قتل هذا الرجل عشرةً من أصحاب رسول الله ، لكنهم ما عرفوا أنه ثمامة ، جاءوا به إلى النبي عليه الصلاة والسلام ، وربطوه بسارية ، وخرج النبي عليه الصلاة والسلام فلما رآه قال : هذا ثمامة .. ما وراءك يا ثمامة ؟ ..
فقال ثمامة : إن تقتل تقتل ذا دم ، وإن تَعْفُ تَعْفُ عن شاكر ، وإن تُرِدِ المال فاطلبْ منه ما تشاء.
تركه النبي عليه الصلاة والسلام ، وفي اليوم التالي مرّ به النبي عليه الصلاة والسلام ثانيةً ، وقال : ما وراءك يا ثمامة ؟.
قال : كما قلت بالأمس ، إن تقتل تقتل ذا دم ، وإن تَعْفُ تَعْفُ عن شاكر ، وإن تُرِدِ المال فخذ منه ما تشاء .
تركه ومر به في اليوم الثالث ، لكنه أمرهم أن يأتوا له بطعام من بيت النبي ، أطعموه وأكرموه .
في اليوم الثالث ، قال له : ما وراءك يا ثمامة ؟.
ترك قوله : "إن تقتل تقتل ذا دم " التي ردَّدها في المرنين السابقتين ، قال : إنْ تَعْفُ تَعْفُ عن شاكر ، وإنْ تُرِدِ المال فاطلب منه ما تشاء .
قال : أطلقوا سراحه .
أطلق أصحاب النبي سراح ثمامة ، فخرج بعيداً ، وعاد إلى النبي صلى الله عليه وسلم في جمع من أصحابه ، وقال : يا رسول الله ، أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله ، واللهِ يا محمد ، ما كان وجهٌ أبغض إليَّ من وجهك ، والآن ما وجه أحَبّ إليَّ من وجهك .
وما كان دين أبغض إليّ من دينك ، والآن ما دين أحَبّ إليّ من دينك.
و ما كان قوم أبغض إليّ من قومك ، والآن ما قوم أَحبّ إليّ من قومك ، ثم أسلم .
كان عليه الصلاة والسلام عنده قوة تأثير ، عنده حبٌّ للناس ، حبٌّ للإنسان ، حيث لو نظر إلى عدوه اللَّدُود لَقَلَبَهُ إنسانًا آخر محباً .
أمّا هذا الذي جاء النبيَّ ، وقال له : ائذن لي بالزنا ، فقام له الصحابة ليقتلوه ، وقاحة ما بعدها وقاحة ، فعَنْ أَبِي أُمَامَةَ قَالَ إِنَّ فَتًى شَابًّا أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ائْذَنْ لِي بِالزِّنَا ، فَأَقْبَلَ الْقَوْمُ عَلَيْهِ فَزَجَرُوهُ ، قَالُوا : مَهْ مَهْ ، فَقَالَ : ادْنُهْ ، فَدَنَا مِنْهُ قَرِيبًا ، قَالَ : فَجَلَسَ ، قَالَ : أَتُحِبُّهُ لِأُمِّكَ ؟ قَالَ : لَا وَاللَّهِ ، جَعَلَنِي اللَّهُ فِدَاءَكَ ، قَالَ : وَلَا النَّاسُ يُحِبُّونَهُ لِأُمَّهَاتِهِمْ ، قَالَ : أَفَتُحِبُّهُ لِابْنَتِكَ ؟ قَالَ : لَا وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ ، جَعَلَنِي اللَّهُ فِدَاءَكَ ، قَالَ : وَلَا النَّاسُ يُحِبُّونَهُ لِبَنَاتِهِمْ ، قَالَ : أَفَتُحِبُّهُ لِأُخْتِكَ ؟ قَالَ : لَا وَاللَّهِ ، جَعَلَنِي اللَّهُ فِدَاءَكَ ، قَالَ : وَلَا النَّاسُ يُحِبُّونَهُ لِأَخَوَاتِهِمْ ، قَالَ أَفَتُحِبُّهُ لِعَمَّتِكَ ؟ قَالَ : لَا وَاللَّهِ، جَعَلَنِي اللَّهُ فِدَاءَكَ ، قَالَ : وَلَا النَّاسُ يُحِبُّونَهُ لِعَمَّاتِهِمْ ، قَالَ : أَفَتُحِبُّهُ لِخَالَتِكَ ؟ قَالَ : لَا وَاللَّهِ، جَعَلَنِي اللَّهُ فِدَاءَكَ ، قَالَ : وَلَا النَّاسُ يُحِبُّونَهُ لِخَالَاتِهِمْ ، قَالَ : فَوَضَعَ يَدَهُ عَلَيْهِ وَقَالَ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ ذَنْبَهُ ، وَطَهِّرْ قَلْبَهُ ، وَحَصِّنْ فَرْجَهُ ، فَلَمْ يَكُنْ بَعْدُ ذَلِكَ الْفَتَى يَلْتَفِتُ إِلَى شَيْءٍ *
(رواه أحمد)
فأنت كمؤمن يجب أن تحب الإنسان ، فلا تكن حقوديًّا ، ولا تكن متجافِيًا ، هذا العاصي إنسان زلّتْ قدمُه ، وهو الآن بحاجة إليك ، كن معه كالطبيب ، وأشفق عليه ، ولا تحقد عليه.
طبيب من إخواننا الأطباء يأتيه مريض أصابه مرض جلدي مزعج ، أفيحقد عليه ؟ لا بل يرثي لحاله .
توغل الربيع بن زياد بجيشه المنتصر في أرض سجستان ، فطفقت تتساقط الحصون تحت سنابك خيله ، كما تتساقط أوراق الشجر تحت رياح الخريف ، وهبَّ أهلُ القرى والمدن يستقبلونه مستأمنين خاضعين ، قبل أن يشهر في وجوههم السيف ، حتى بلغ مدينة زرنج عاصمة سجستان ، فإذا بالعدو قد أعد لحربه العدة ، وكَتَّبَ للقائه الكتائب ، واستقدم لمواجهته النجدات ، وعقد العزم على أن يذوده عن المدينة الكبيرة ، وأن يوقف زحفه .
ودارت بين الربيع وأعدائه رحى حرب طحون ، لم يضن بها أيٌّ من الفريقين بما تطلبه من ضحايا ، فلما بدرت أولُ بادرة من بوادر النصر للمسلمين ، رأى مرزبان القوم المدعو (برويز) أن يسعى لمُصالحة الربيع ، وهو ما تزال فيه بقية من قوة ، فلعله يحظى لنفسه ولقومه بشروط أفضل ، فبعث إلى الربيع بن زياد رسولاً من عنده ، يسأله أن يضرب له موعداً للقائه ليفاوضه على الصلح ، فأجابه إلى طلبه .
استطاع هذا الصحابي الجليل بما أوتي من إخلاص وشجاعة أن يفتح بلاد سجستان ، فكان فاتحها ، وخلَّد التاريخُ اسمَه فاتحًا .
لذلك ذاتَ مرةٍ باع مسلمٌ أرضه لإنسان غير مسلم ، فسأل عالمًا ، قال له : أيجوز أن أبيعها لغير مسلم ؟ قال له العالم : اسأل الذي فتحها ؟ يعني سيدنا خالدًا ، كم بذل من دماء حتى فتحها ؟.
فالإنسان يبيع أرضًا ، أو يبيع بيتًا لإنسان غير مسلم ، فهذا نوع من أنواع الخيانة للمسلمين ، وعلى المسلم أنْ يحافظ على هذه الأرض التي فُتحت بدماء المسلمين ، وليعلمْ أنه سيقف يومًا بين يدي الله سبحانه ، و يُسأَل عن تفريطه .
والحمد لله رب العالمين
***(/)
الدرس 15\ 50 سيرة الصحابي : سيدنا الطفيل بن عمرو الدوسي لفضيلة الأستاذ محمد راتب النابلسي.
التاريخ : الاثنين مساءً 18/01/1993
تفريغ : السيد أحمد مالك
التدقيق اللغوي : الأستاذ غازي القدسي
التنقيح النهائي : المهندس غسان السراقبي .
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين ، و الصلاة و السلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا و انفعنا بما علَّمتنا وزدنا علما ، و أرنا الحق حقًّا و ارزقنا اتِّباعه ، و أرنا الباطل باطلا و ارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممن يستمعون القولَ فيتَّبعون أحسنه ، و أدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
أيها الأخوة الأكارم :
مع الدرس الخامس عشر من دروس سيرة أصحاب رسول الله رضوان الله عليهم أجمعين ، و صحابي اليوم سيدنا الطُّفيل بن عمرو الدوسي ، لهذا الصحابي الجليل قصةٌ مثيرة جدًّا يرويها هو بالذات ، فنحن مع قصته بروايته ، و لكن قبل أن نبدأ برواية قصته أقدِّم لكم نبذةً عن هذا الصحابي .
الطفيل بن عمرو الدوسي سيد قبيلة دوس ، و كان زعيم قبيلته ، و بالمناسبة كل إنسان له مكانة فهذا له حساب خاص ، إن أحسن فله أجران و إن أساء يُضاعف له العذاب ضعفين ، لماذا ؟ لأنه قدوة ، الأب غيرُ الابن ، إذا الأب دخَّن يُحاسب مرتين ، إذا الأب كذب يحاسب مرتين ، قال تعالى :
(سورة الأحزاب)
(سورة الأحزاب)
إذًا عليَّة القوم ، مدير مستشفى ، مدير ثانوية ، عميد كلية ، قائد في سرية كلما علاَ منصبُك فلك حساب خاص ، سيدنا عمر رضي الله عنه كان إذا جمع أهله و خاصته قال : إني قد أمرت الناسَ بكذا و نهيتهم عن كذا ، و الناس كالطير إن رأوكم وقعتم وقعوا وايمُ الله لا أُوتيَنَّ بواحد وقع فيما نهيت الناسَ عنه إلا ضاعفت له العقوبة لمكانه مني " فصارت القرابةُ من عمر مصيبة ، إذًا انتبِه ، الأب غير الابن ، و مدير الثانوية غير المدرِّس ، و المدرس غير الطالب ، المتعلِّم غير الجاهل ، الغني غير الفقير ، عميد الأسرة غيرُ أحد أفرادها ، فأيُّ خطأ يرتكبه من كان في القمة فهذا يُعمَّم ، و يقلَّد .
عَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ جَاءَ نَاسٌ مِنْ الْأَعْرَابِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَيْهِمْ الصُّوفُ فَرَأَى سُوءَ حَالِهِمْ قَدْ أَصَابَتْهُمْ حَاجَةٌ فَحَثَّ النَّاسَ عَلَى الصَّدَقَةِ فأبطئوا عَنْهُ حَتَّى رُئِيَ ذَلِكَ فِي وَجْهِهِ قَالَ ثُمَّ إِنَّ رَجُلًا مِنْ الْأَنْصَارِ جَاءَ بِصُرَّةٍ مِنْ وَرِقٍ ثُمَّ جَاءَ آخَرُ ثُمَّ تَتَابَعُوا حَتَّى عُرِفَ السُّرُورُ فِي وَجْهِهِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ سَنَّ فِي الْإِسْلَامِ سُنَّةً حَسَنَةً فَعُمِلَ بِهَا بَعْدَهُ كُتِبَ لَهُ مِثْلُ أَجْرِ مَنْ عَمِلَ بِهَا وَلَا يَنْقُصُ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْءٌ وَمَنْ سَنَّ فِي الْإِسْلَامِ سُنَّةً سَيِّئَةً فَعُمِلَ بِهَا بَعْدَهُ كُتِبَ عَلَيْهِ مِثْلُ وِزْرِ مَنْ عَمِلَ بِهَا وَلَا يَنْقُصُ مِنْ أَوْزَارِهِمْ شَيْءٌ *
(رواه مسلم)
ملخَّص هذا الكلام شخص القدوة له حساب خاص ، إن أحسن فأجره مضاعف ، أجر نفسه و أجر من قلَّده ، و إن أساء فعقابه مضاعف عقابه على خطئه و عقابه على كل من اقتدى به في خطئه ، طبعاً سترون بعد قليل كيف أن هذا الصحابي الجليل ، الطفيل بن عمرو الدوسي ، لأنه زعيم قبيلة ، و لأنه سيد قبيلة لما أسلم أسلمَت كلُّ قبيلته فإذا كان لك شأن فممكن بهذا الشأن العالي أن ترقى إلى أعلى عليِّين ، و يمكن بهذا الشأن العالي أن تهوي إلى أسفل سافلين، أتباعك المعجبون بك ، الذين يرونك في مكان عالٍ ، والذين أنت ملءُ سمعهم وبصرهم ، هؤلاء إن قلَّدوك لإحسانك ارتقيتَ مرتين ، و إن قلَّدوك بإساءتك عوقبت مرتين ، فكل إنسان في موضع القيادة ، و في مركز مرموق ، في مركز وجيه له سمعته و له أسرته ، عميد أسرته ، هذا له حساب مضاعف ، و لا أبالغ بأن محور هذه القصة أنك إن كانت لك مكانة و أسلمت ، فكلُّ من حولك يقلِّدونك ، فكان هذا الصحابي في الجاهلية سيد قبيلة دوس ، و شريفا من أشراف العرب المرموقين وواحدا من أصحاب المروءات المعدودين ، لا تنزل له قِدرٌ عن نار و لا يوصد له باب أمام طارق ،و العرب كنّوا عن الكرم بقولهم : فلان لا يُغلق بابه ، أو فلان لاتطفأ نارُه ، أو فلان كثير الرماد ، و كنُّوا عن البخل كما قال الشاعر :
بيضُ المطابخ لا تشكو إماؤهم طبخَ القدور و لا غسل المناديلِ
فالأمور عند هؤلاء منتظمة جدا ، لأنه لا ضيوف يحلون ، و لا امتلأ البيت يوماً ، بينما الكريم لا يُغلق بابه و لا تُطفأ ناره ، و هو كثير الرماد ، و هذه من الكنايات التي أَلِفها العرب في كلامهم ، كان هذا الصحابي في الجاهلية يطعم الجائع و يؤَمِّن الخائف و يجير المستجير وهو إلى ذلك أديب لبيب أريب ، و بالمناسبة من كان يتحلَّى بمكارم الأخلاق من مروءة أو كرم أو حمية أو نجدة أو إغاثة ملهوف ، أو رحمة فهذه الصفات الأخلاقية لا بد من أن تحمل صاحبها في يوم من الأيام على طاعة الله ، لأن الله يحب مكارم الأخلاق ، و يكره دنيَّها ، و هذا الأخلاقي لا شك أن الله آخذ بيده كلما عثر ، و فوق أنه كان يطعم الجائع ويؤمِّن الخائف و يجير المستجير ، كان أديبا أريبا لبيبا ، ومعنى أريب أي ذكيٌّ فطن ، و ما
من عطاء أعظم من أن تكون فطنا ، كان بصيرا بحلو البيان ، أي كان صاحب بيان ، يقال : فلان صاحب فضل فلان صاحب علم ، فلان صاحب بيان ، البيان طريق اللسان ، العالم يعلم جزئيات أيّ موضوع ، و صاحب الفضل له عمل طيب ، على كلٍّ المؤمنون يتوزَّعون في حقول ثلاثة ، هناك مؤمن يغلب عليه الفكر ، أي كل قضية يفهم أبعادها و دخائلها و خوارجها و ملابساتها ، يطالع كثيرا و يفهم كثيرا ، يفنِّد مزاعم المفترين، يردُّ على النظريات الشيطانية،هذا مؤمن يغلب عليه الفكر، هذا له عند الله وظيفة ، هناك مؤمن آخر يغلب عليه العمل الصالح ، خدمة الأرامل و الأيتام و بناء المساجد ، و خدمة الناس ، و التوفيق بين المتخاصمين ، هذا عمل طيب ، و هناك مؤمن يغلب عليه الحالُ ، يعتني بأحواله و أذكاره وأطواره و قراءاته و تلاوته لكن الأكمل من كل هذا أن تجمع بين هذا و ذاك ، الأكمل أن تكون حادَّ الفكر عامرَ القلب ، مستقيم السلوك ، أن تجمع بين العلم و العمل ،و بين الحال ، قال : يا ربي أيُّ عبادك أحبُّ إليك حتى أحبه بحبك ؟ قال : أحبُّ العباد إليَّ تقيُّ القلب نقيُّ اليدين ، لا يمشي إلى أحد بسوء ، أحبني و أحب من أحبني و حبَّبني إلى خلقي ، قال : يا ربي إنك تعلم أني أحبك و أحب من يحبُّك ، فكيف أحبِّبك إلى خلقك ؟ قال : ذكِّرهم بآلائي ونعمائي و بلائي " الآلاء أي الآيات ذكِّرهم بها حتى يمتلئ قلوبُهم تعظيما لي، ذكِّرهم بالنعم حتى تمتلئ قلوبهم حبًّا لي ، ذكِّرهم بالبلاء حتى تمتلئ قلوبهم خوفا مني ، إذًا لا بد أن يكون في قلب المؤمن تعظيمٌ و حبٌّ و خوف ، و إذا أردتَ أن تدعو إلى الله عز وجل يجب أن تجمع بين كل هذه المعاني ، وأن تذكر الناس ببعضَ النعم التي أنعم اللهُ بها على المؤمنين حتى يحبُّوا اللهَ عز وجل ، و أن تتلو عليهم بعضَ النقم المخيفة حتى يخافوا من عقابه ، ويلتزموا أمره وأن تذكِّرهم ببعض الآيات العظيمة حتى يمتلئوا تعظيما له ، قال تعالى :
(سورة فاطر)
من دعا إلى الله فعليه أن يجعل في ذهنه هذه الخطوط الثلاثة .
هذا الطفيل بن عامر الدوسي غادر منازل قومه في تهامة ، و تهامة هي السهل الساحلي الموازي للبحر الأحمر ، سهول تهامة ، كما عندنا بين البحر و بين الجبل سهل ، فهناك سهول ساحلية ، في المملكة العربية السعودية ، بين البحر الأحمر و بين الجبال التي تحاذيه سهول اسمها سهول تهامة ، فهذا الطفيل هنا مضارب قبيلته ، فغادر منازل قومه في تهامة متوجِّها إلى مكة المكرمة ، و في مكة المكرمة كان صراع عنيف عنيف يدور بين النبي وأصحابه من جهة ، و بين كفار قريش من جهة ثانية ، حينما دخل مكة شعر أن فيها شيئا غريبا ، وأن فيها معركة ضارية وأن فيها عوامل فتنة ، وأن فيها حركة جذرية ، وأن هناك من يكره النبيَّ كراهية شديدة ، هناك من يمنع الناسَ أن يلتقوا به ، هناك أصحابه الذين يحبونه أي هناك بمكة مشكلة ، قال الطفيل : قدمتُ مكة ، فما إن رآني سادةُ قريش حتى أقبلوا عليَّ فرحَّبوا بي أكرم ترحيب ، و أنزلوني فيهم أعزَّ منزل ، ثم اجتمع إليَّ سادتُهم وكبراؤهم و قالوا : يا طفيل إنك قد قدِمتَ بلادنا ، و هذا الرجل الذي زعم أنه نبيٌّ قد أفسد أمرنا ، و مزَّق شملنا و شتَّت جماعتنا ، و نحن إنما نخشى أن يحلَّ بك و بزعامتك في قومك ما قد حلَّ بنا ، فلا تكلِّم الرجل و لا تسمعنَّ منه شيئا فإن له قولا كالسحر يفرِّق بين الولد وأبيه ، و بين الأخ و أخيه و بين الزوجة و زوجها مُلوّعين ، هكذا يرون ، أن هذا النبي عليه الصلاة و السلام شتَّت جمعهم و فرَّق وحدتهم ، و فرَّق بين الأخ و أخيه ، و الزوجة وزوجها، و الأب و ابنه و جعل مكة حزبين ؛ هؤلاء يدَّعون أنهم على حق ، و وأولئك يهاجمون ، يا طفيل إياك أن تلتقي به ، إياك أن تستمع إليه ، إياك أن تصغي له ، إنك إن فعلت هذا حلَّ بك و بقومك و بزعامتك ما حل بنا و بقومنا ، فانتبه ، واتَّعظ بنا يا طفيل ، دائما أهل الكفر والضلال يحذِّرون من أهل الإيمان ، ودائما أهل المعصية و الفجور يحذِّرون من الدعاة إلى الله عز وجل ، دعواهم مضحكة ، إنه يسلبك ، يجدبك ، و يجنِّنك ، و يحرمك من أهلك ، و يبعدك عن مجتمعك ، و يجعلك منعزلا ، هذا كله كلام فارغ ، إذا كان الإنسان في ماء آسن ، ماء مجارٍ ، فإذا خرج من هذا الماء الآسن و اغتسل و تطيّب و شعر ببهجة النظافة ، أيفرَِّق بين فلان و جماعته ؟ جماعته كلهم في ضلال ، لكنه انسحب منهم ، نجا بنفسه منهم ، هذا ليس تفريقا ، و على كلٍّ الإنسان فالعاقل لا يصغي إلى كلام الفاسق ، قال تعالى :
(سورة الحجرات)
لا تصغِ إلى الفاسق ، قال تعالى :
(سورة الكهف)
هذا الذي ينصحك انظر إليه هل يعصي اللهَ ؟ هل يصلي و هل يخاف الله و هل هو منصف؟ إذا كان لا يصلي و إذا كان مقطوعا عن الله عز وجل و إن لم يكن منصفا فكيف تصغي إليه؟ إنه فاسق ،و الله سبحانه يقول :
(سورة الحجرات)
يا أيها الأخوة ؛ بالمناسبة ، أقول لكم كلاما دقيقا ؛ أهل الدنيا و أهل الضلال ، أهل الكفر والفسوق و العصيان فيهم دافع قويٌّ جدا إلى ماذا ؟ أنا أقول لكم كلاما دقيقا دقيقا ، أهل الكفر و الفسوق و العصيان هؤلاء لا يتوازنون إلا إذا طعنوا في المؤمنين الصادقين ، هم إن لم يطعنوا يُحاصرون ، متى يرتاح هؤلاء ، هؤلاء عندهم عقدة نقص عندهم شعور بالذنب ، عندهم شعور بالدونية ، هؤلاء لا يستعيدون توازنهم إلا إذا طعنوا في أهل الحق ، فمعركة أهل الحق مع أهل الباطل معركة أزلية أبدية ، معركة قديمة جدا ، لذلك الإنسان ليس له حق أبدا بل هو آثم إذا صدَّق كلامَ أهل الفسوق في أهل الحق ، وهذه قاعدة : أهل الفسق و الفجور لا يرتاحون إلا إذا طعنوا في أهل الحق ، فتارة يقول لك : له مقصد ، و تارة يقول لك : له مصلحة ، و تارة يقول لك: هذا يقول شيئا و يفعل شيئا ، هذا كلام مألوف في كل عصر ، لذلك المؤمن لا يصغي إلى أهل الفسق و الفجور إذا حدَّثوه عن أهل الإيمان ، و الآية الكريمة واضحة جدا ، فهؤلاء كفار قريش يقولون هذا محمد الذي يدَّعي أنه نبي أفسد أمرنا و مزَّق شملنا و شتَّت جماعتنا ، ونحن إنما نخشى عليك نخشى أن يحلَّ بك و بزعامتك في قومك ما حلَّ بنا ، فلا تكلِّم الرجل و لا تسمعن منه شيئا ، فإن له قولا كالسحر ، يفرِّق بين الولد و أبيه، و بين الأخ و أخيه ، و بين الزوجة و زوجها ، قال الطفيل : فوالله ما زالوا بي يقصُّون عليَّ من غرائب أخباره و يخوِّفونني على نفسي و قومي بعجائب أفعاله حتى أجمعتُ أمري على أن ألا أقترب منه و ألا أكلمه أو أسمع منه شيئاً ، واسمعوا هذه الآية ، فعنيها دلالة دقيقة قال تعالى :
(سورة العلق)
انتهت الآية ، ما معنى هذه الآية ؟ أين جواب أرأيت ؟
أي انظر إلى أفعاله ، انظر إلى سلوكه و انظر إلى دناءته ، انظر إلى خيانته ، انظر إلى كذبه ،انظر إلى انحرافه ، انظر إلى إخلافه وعده انظر إلى تناقضه ، انظر إلى أنه يقيس بمعيارين ، هذا السلوك المنحرف وهذه الدناءة ألا تكفيك دليلاً على أنه كاذب ، و على أن هذا الإنسان هو أحقر من أن تصغي إليه :
أرأيت إلى أحواله ، أرأيت إلى أقواله ، أرأيت إلى سلوكه ، أرأيت إلى انحرافه ، ألا يكفيك انحرافُه و دناءته و ماديته و خيانته و كذبه فلا تصغِ إليه ، إذًا هذا شيء يقع في كل زمان ، أهل الفسق و الفجور معقَّدون ، عندهم عقدة الذنب ، عندهم شعور بالنقص ، عندهم خلل في توازنهم ، كيف يرتاحون ، يرتاحون إذا طعنوا في أهل الحق ، و إذا جرَّحوهم و إذا فرَّغوا دعوتهم من مضمونها ، و إذا اتَّهموهم في نواياهم ، إذا فنَّدوا أقوالهم إذا استخدموا عقولهم وذكاءهم في الباطل لا في الحق ، لذلك على المؤمن الصادق ألا يصغي إلى كلام أهل الباطل في أهل الحق ، أقول لكم الموقفَ الكامل ، أنك إن سمعتَ كلاما فيه طعنٌ شديد في رجل مؤمن ، فما موقفك ؟ هناك مجموعة مواقف ،إنك إن كذَّبت هذا الكلام تكذيبا سريعا و رأيت
القائل مغرضا و رأيته كذَّابا ، و رأيته أفَّاكا و لم تعبأ بهذا الكلام و لم يهزَّ فيك و لا شعرة واحدة ، لا عليك أن تلقي كلامه عرضَ الطريق و لا تبالِ به ، و عليك أن تقول له : هذا كلام غير صحيح ، و أنا لا أصدقك ، لكن إذا كان كلامه ذكيًّا وأعطاك بعض الأدلة ، وأعطاك بعض البينات و تشوَّشت أنت و شعرت أن هذه المكانة العلية قد هُزَّت و أن هذه القدوة قد تزلزلت ، فإذا بلغت من كلامه هذا المبلغ فماذا عليك أن تفعل ؟ عليك أن تذهب إليه، إلى هذا المؤمن و تقول له فيما بينك و بينه : سمعتُ عنك هذا الكلام فقل لي الحقيقة ، قد يقول لك : هذا الكلام غير صحيح وهذا هو الدليل ، أنا على عكس ذلك ، أو و اللهِ يا أخي كنتُ سابقا في خطأ و الآن تبتُ منه ، على كلٍّ إذا أسأت الظنَّ بأخيك المؤمن فلا بد لك من أن تتحقَّق إذا كان كلام الفاسق لم يحرِّك فيك ساكنا و لم يهزَّ فيك شعرة فألقِه في الحاوية ، أما إذا أثَّر في نفسك و شوَّش عليك نظرتك الراقية إليه ، وإذا فعل كلامُه فيك هذا الفعل فأنت آثمٌ إذا بقيت ساكنا ، يجب أن تذهب إلى الآخر كي تتحقَّق بنفسك فتبيَّنوا ، قال تعالى :
(سورة الحجرات)
اذهب إليه وتبين بنفسك لماذا ؟ لأنك إن أسأت الظنَّ بأخيك فقد أسأت الظن بربك ، إنسان من أربعين سنة يطيع الله عز وجل و يدعو إليه لكنه يأكل مالا حراما ، فمعنى ذلك أن كل هذا الدين باطل ، وليس معقولا ، عندما يأكل الإنسان المتعمِّق في الدين المالَ الحرام أو يكذب ، فمعنى ذلك أن هذا منهج غير صحيح ، هذا المنهج عاجز عن تقويم الأشخاص
لذلك قيل : من أساء الظنَّ بأخيه فكأنما أساء الظن بربِّه .
هذه معركة أزلية أبدية ، هذه القصة و التي بعدها و التي بعدها و في كل زمان ، و في كل مكان تندرج في سلسلة الصراع الطبيعي بين الحق و الباطل ، في الحياة حق و باطل ، خير و شر ، إحسان و إساءة ، وأنت لا بد أن تنضمَّ إلى أحد الفريقين ، فإن كنت مع أهل الباطل فلا بد من أن تتهجَّم على أهل الحق ، و إن كنت مع أهل الحق فلا بد من أن تدافع عنهم ، فهذا الطفيل قال : فو الله مازالوا بي يقصُّون عليَّ من غرائب أخباره و يخوِّفونني على نفسي و قومي بعجائب أفعاله حتى أجمعت أمري على ألا أقترب منه و ألا أكلمه أو أن أسمع منه شيئا ، و لما غدوتُ إلى المسجد للطواف بالكعبة و التبرُّك بأصنامها ، هو مشرك يدعها ، والتبرك بأصنامها التي كنا إليها نحجُّ و إياها نعظِّم ، حشوتُ في أذني قطنا ، أتى بالقطن ووضعه احتياطا لِما خوًَّفوه ، أحذر أن يسحرك ، إياك أن يسلبك ، إياك أن يؤخذ بينك وبين
أسرتك ، قال : حشوت في أذني قطنا خوفا من أن يلامس سمعي شيء من قول محمد ، لكني ما إن دخلتُ المسجد حتى وجدتُه قائما يصلي عند الكعبة اللهم صلِّ عليه ، صلاةً غير صلاتنا، و يتعبَّد عبادة غير عبادتنا ، لا خير في دين لا صلاة فيه ، و الصلاة عماد الدين من أقامها فقد أقام الدين و من هدمها فقد هدم الدين ، الصلاة سيدة القربات و غرَّة الطاعات ، ومعراج المؤمن إلى رب الأرض و السماوات ، قال تعالى :
(سورة طه)
"عَنْ سَالِمِ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ قَالَ قَالَ رَجُلٌ قَالَ مِسْعَرٌ أُرَاهُ مِنْ خُزَاعَةَ لَيْتَنِي صَلَّيْتُ فَاسْتَرَحْتُ فَكَأَنَّهُمْ عَابُوا عَلَيْهِ ذَلِكَ فَقَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ يَا بِلالُ أَقِمْ الصَّلَاةَ أَرِحْنَا بِهَا *
(رواه أبو داود)
عَنْ أَبِي مَالِكٍ الأشعري قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الطُّهُورُ شَطْرُ الْإِيمَانِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ تَمْلَأُ الْمِيزَانَ وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ تَمْلآَنِ أَوْ تَمْلَأُ مَا بَيْنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالصَّلَاةُ نُورٌ وَالصَّدَقَةُ بُرْهَانٌ وَالصَّبْرُ ضِيَاءٌ وَالْقُرْآنُ حُجَّةٌ لَكَ أَوْ عَلَيْكَ كُلُّ النَّاسِ يَغْدُو فَبَايِعٌ نَفْسَهُ فَمُعْتِقُهَا أَوْ مُوبِقُهَا *
(رواه مسلم)
"الصلاة حبور" الصلاة طهور " لو يعلم المصلي من يناجي ما انفتل " ليس للمرء من صلاته إلا ما عقل منها " الصلاة ميزان فمن وفى استوفى " قال تعالى :
(سورة النساء)
الصلاةُ إذًا وعيٌ ، الصلاة ذكر ، و الصلاة دعاء ، و الصلاة تقرُّب ، قال تعالى :
(سورة العلق)
الصلاة مناجاة ، الصلاة عُروج ، و الصلاة إقبال ، و الصلاة طهور، و الصلاة حبور " أرحنا بها ، الصلاة سعادة ، الصلاة نور ، هذه الصلاة لا خير في دين لا صلاة فيه " أنا أحيانا مغرم بضغط المعلومات ، ممكن هذا الدين العظيم الواسع أن تضغطه في كلمتين ؟ فربنا عز وجل قال على لسان سيدنا عيسى :
(سورة مريم)
الدين اتِّصال بالخالق و إحسان للمخلوق ، حركة نحو السماء و حركة نحو الأرض ، نحو السماء إقبال على الله ، نحو الأرض خدمة الخلق لذلك يا رب لا يطيب الليل إلا بمناجاتك ، و لا يطيب النهار إلا بخدمة عبادك ، إن لله عملا في الليل لا يقبله في النهار و إن لله عملا في النهار لا يقبله في الليل ، هذا الدين ، اتِّصال بالله و إحسان إلى المخلوق ، كان يصلي اللهم صلِّ عليه ، و إذا استقام الإنسان أيها الأخوة استقامة تامة ، فإنه يصل إلى الورع ، صلى و تجلَّى اللهُ على قلبه يعرف حقيقة الصلاة ، يعرف و يتذوَّق قول النبي عليه الصلاة والسلام :
عَنْ سَالِمِ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ قَالَ قَالَ رَجُلٌ قَالَ مِسْعَرٌ أُرَاهُ مِنْ خُزَاعَةَ لَيْتَنِي صَلَّيْتُ فَاسْتَرَحْتُ فَكَأَنَّهُمْ عَابُوا عَلَيْهِ ذَلِكَ فَقَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ يَا بِلالُ أَقِمْ الصَّلَاةَ أَرِحْنَا بِهَا *
(رواه أبو داود)
لسان حال معظم المسلمين أرحنا منها ، صلى و أوى ، هذه معناها : أرحنا منها ، أما النبي كان إذا حضر وقت الصلاة قال :فكأنه لا يعرفنا و لا نعرفه." الواحد إذا كان موظَّفا و رنَّ التلفون : نعم سيدي ، طلبه الوزير ، يركز كرافته و قميصه ، يذهب إلى وزيره ، هذا إنسان مثلك و مثله ، و قد تكون أفضل منه أنت عند الله ، فكيف إذا وقفت بين يدي الله عز وجل ؟
لذلك عندما يقول المصلي : سمع الله لمن حمده ، فهل تفهم ما تقول ؟ أي أن اللهُ سبحانه وتعالى الآن يصغي إليك و يسمع حمدك و ثناءك ، سمع الله لمن حمده ، قال الطفيل : فكان يصلي هذه الصلاة و يتعبَّد عبادة غير عبادتنا ،فأسرَّني منظرُه ، و اللهِ شيء جميل ، في وجهه نور ،وفيه سمت حسن و هزَّتني عبادته ووجدتُ نفسي أدنو منه ، رغم كل التحذيرات لم تفلح معهم ، سبحان الله فالمؤمن عنده قوةُ جذب ، لأن فيه نورا ، ونورانيته و عقلانيته وأخلاقه العالية ، إيناسه و تواضعه و اتِّصاله بالله عز وجل شيء يكهرِب ، قال : ووجدت نفسي أدنو منه شيئا فشيئا على غير قصد مني حتى أصبحت قريبا منه ، سحب القطن من أذنيه ، قال : و أبى الله إلا أن يصل إلى سمعي بعضٌ مما يقول ، فسمعت كلاما حسنا .
واللهِ يا أيها الأخوة إن استمعتَ إلى القرآن و أنت صافٍ تشعر أن الله يخاطبك ، و تشعر أن هذا الكلام كلام الله ، تشعر أن هذا الكلام :
(سورة النجم)
و قلتُ في نفسي - انظروا إلى الحوار - ثكلتك أمُّك يا طفيل ، ثكلتك أمك يا طفيل إنك لرجل لبيب شاعر ، أنت ذكي و فهيم و فطن و شاعر ، و ما يخفى عليك الحسنُ من القبيح فما يمنعك أن تسمع من الرجل ما يقول ، أين عقلك أنت ؟ أين ميزانك ؟ أنت الفهيم اللبيب الأريب الذكي الحذِر ، اسمع و زِنْ كلامه ، فإن كان الذي يأتي به حسنا قبلتُه ، و إن كان قبيحا تركته، لديك ميزان ، قال تعالى :
(سورة الصافات)
قال تعالى :
(سورة يونس)
(سورة النمل)
ربنا أحيانا يعاتبنا ، أين عقولنا ؟ قال : ثم مكثتُ حتى انصرف رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إلى بيته فتبعتُه حتى إذا دخل داره دخلتُ عليه ، و بالمناسبة هناك حديث شريف رائع جدا يفسِّر لكم بعض الظواهر ، قال : ما أخلص العبد لله عز وجل إلا جعل قلوب المؤمنين تهفو إليه بالمودة و الرحمة " هذه قوة الجذب أساسها إخلاص المؤمن ، إخلاصه يجعل لكلامه
قوة جذب ، فتبعته حتى إذا دخل داره دخلت عليه ، كان الصحابي سيدنا ربيعة يخدم رسول الله ، فلما ينتهي وقت الخدمة ، يقال له : انصرف يا ربيعة ، فماذا يفعل ربيعة ؟ لا ينصرف، يبقى على عتبة باب النبي من شدَّة تعلُّقه به ، من شدة حبه له ، و من شدة انجذابه إليه ، أي أنت كمؤمن يجب أن يكون عندك قوة جذب ، نورك الذي في قلبك ، استقامتك وورعك واتِّصالك بالله ، حبك لله ، هذه كلها قوة جذب ، فقلت : يا محمد - دخل عنده ، وقد نزع القطن - قلت : يا محمد إن قومك قد قالوا لي عنك كذا و كذا ، فو الله ما برحوا يخوِّفونني من أمرك حتى سددتُ أذنيَّ بقطن لئلا أسمع قولك ، ثم أبى اللهُ إلا أن يسمعني شيئا منه فوجدتُه حسنا ، فاعرض عليَّ أمرك ، ما هي القصة ؟ ما دعوتك ، و من أنت ؟ من الذي أرسلك ، ولماذا أرسلك ؟ ما دليلك ؟ حوار ، والنبي ما ربَّى أصحابه على الخنوع ، فقد صلى الظهر ركعتين يوماً ، و اللهِ أحيانا هناك بعض الشيوخ لو غلطوا لا يستطيع إنسان أن يصحِّح لهم ، لكن النبي صلى ركعتين فقال له بعضُ أصحابه : يا رسول الله أقصُرتْ أم نسيت ؟ فقال عليه الصلاة و السلام : كل هذا لم يكن ، قال : بعضه قد كان فالنبي سأل أصحابه فوجد أنه صلى
ركعتين فقال قولة رائعة ، قال عليه الصلاة و السلام :
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ صَلَّى بِنَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الظُّهْرَ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ سَلَّمَ ثُمَّ قَامَ إِلَى خَشَبَةٍ فِي مُقَدَّمِ الْمَسْجِدِ وَوَضَعَ يَدَهُ عَلَيْهَا وَفِي الْقَوْمِ يَوْمَئِذٍ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ فَهَابَا أَنْ يُكَلِّمَاهُ وَخَرَجَ سَرَعَانُ النَّاسِ فَقَالُوا قَصُرَتْ الصَّلَاةُ وَفِي الْقَوْمِ رَجُلٌ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدْعُوهُ ذَا الْيَدَيْنِ فَقَالَ يَا نَبِيَّ اللَّهِ أَنَسِيتَ أَمْ قَصُرَتْ فَقَالَ لَمْ أَنْسَ وَلَمْ تَقْصُرْ قَالُوا بَلْ نَسِيتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ صَدَقَ ذُو الْيَدَيْنِ فَقَامَ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ سَلَّمَ ثُمَّ كَبَّرَ فَسَجَدَ مِثْلَ سُجُودِهِ أَوْ أَطْوَلَ ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ وَكَبَّرَ ثُمَّ وَضَعَ مِثْلَ سُجُودِهِ أَوْ أَطْوَلَ ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ وَكَبَّرَ *
(رواه البخاري)
(سورة الأعلى)
ما ربَّى أصحابا خانعين ، ربى أصحابا يقظين ، عندهم جرأة أدبية ،سيدنا خالد اضطر إلى القتال بعد فتح مكة ، و سيدنا سالم مولى أبي حذيفة راجعه ، و النبي لما بلغه ذلك قال :
عَنْ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ بَعَثَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ إِلَى بَنِي جَذِيمَةَ فَدَعَاهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ فَلَمْ يُحْسِنُوا أَنْ يَقُولُوا أَسْلَمْنَا فَجَعَلُوا يَقُولُونَ صَبَأْنَا صَبَأْنَا فَجَعَلَ خَالِدٌ يَقْتُلُ مِنْهُمْ وَيَأْسِرُ وَدَفَعَ إِلَى كُلِّ رَجُلٍ مِنَّا أَسِيرَهُ حَتَّى إِذَا كَانَ يَوْمٌ أَمَرَ خَالِدٌ أَنْ يَقْتُلَ كُلُّ رَجُلٍ مِنَّا أَسِيرَهُ فَقُلْتُ وَاللَّهِ لَا أَقْتُلُ أَسِيرِي وَلَا يَقْتُلُ رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِي أَسِيرَهُ حَتَّى قَدِمْنَا عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرْنَاهُ فَرَفَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدَهُ فَقَالَ اللَّهُمَّ إِنِّي أَبْرَأُ إِلَيْكَ مِمَّا صَنَعَ خَالِدٌ مَرَّتَيْنِ *
(رواه البخاري)
ثم قال لأصحابه : هل راجعه أحد ؟ هل عارضه أحد ؟ قالوا : نعم سالم مولى أبي حذيفة ، قال : الحمد لله " على ماذا حمد اللهَ النبيُّ الكريم ؟ على أنه ربَّى أصحابا لا يسكتون على الخطأ ، ربى أصحابا لا يقيمون على ضيم ، ربى أصحابا علماء حكماء ، ربى أصحابا يحاسبون ، ومرة سيدنا عمر - والقصة تعرفونها - واحد أراد أن يتقرَّب منه ، فقال : و اللهِ
ما رأينا خيرا منك بعد رسول الله ، ما هذه العظمة ؟ نظر إليهم ، فذاك ظن أنه سيُسرُّ بكلامه، فحدَّ إليهم النظر حتى كاد يأكلهم بنظراته ، فقال : أحدهم : لا و اللهِ رأينا من هو خير منك ، قال : من هو ؟ قال : أبو بكر ، فقال عمر رضي الله عنه : و اللهِ كان أبو بكر أطيبَ من ريح المسك ، و كنت أنا أضلَّ من بعيري ، لقد كذبتم جميعا و صدق "عدَّ سكوتهم كذبا ، قال له : فاعرضْ علي أمرك ، فعرض عليه أمرَه و قرأ لي سورة الإخلاص و الفلق ، فو الله ما سمعتُ قولاً أحسنَ من قوله ، و لا رأيت أمرا أعدل من أمره ، عند ذلك بسطتُ يدي له وشهدتُ أنه لا إله إلا الله و أن محمدا رسول الله ، و دخلت في الإسلام ، و رمى القطن كان قد وضعه في أذنيه ، قال تعالى :
(سورة الأنفال)
قال الطفيلُ : ثم أقمت في مكة زمنا تعلمتُ فيه أمورَ الإسلام ، و حفظت فيه ما تيسِّر لي من القرآن ، و لما عزمت على العودة إلى قومي قلتُ : يا رسول الله إنني امرؤٌ مُطاع في عشيرتي ، أنا زعيم قبيلة ، أنا من سراتها ، من علية القوم ، أنا قيادي ، و أنا راجع إليهم وداعيهم إلى الإسلام ، فادعُ اللهَ أن يجعل لي آيةً تكون لي عونا فيما أدعوهم إليه فقال : اللهم
اجعل له آيةً ، دعاؤه صلى الله عليه وسلم مستجاب ، قال : اللهم اجعل له آية فخرجت إلى قومي حتى إذا كنت في موضع مشرف على منازلهم وقع نورٌ فيما بين عيني مثلُ المصباح ، فقلت : اللهم اجعله في غير وجهي ، فإني أخشى أن يظنوا أنها عقوبة وقعت في وجهي لمفارقة دينهم ، القصة قديمة ، فإذا كان الشخص مقيما على دينٍ ضالٍّ و خرج منه ، هؤلاء المضلَّلون يتوعَّدونه بمصيبة كبيرة ، قال : فتحوَّل النورُ فوقع في رأسِ سوطي ، فجعل الناسُ يتراءون ذلك النورَ في سوطي كالقنديل المعلَّق ،و أنا أهبط إليهم من الثنية ، فلما نزلتُ أتاني أبي و كان شيخا كبيرا ، فقلت : إليك عني يا أبت ، فلستُ منك و لستَ مني ، قال : و لِم يا بني خير ، ماذا فعلنا لك ؟ قلت : قد أسلمتُ و تابعت دين محمد صلى الله عليه و سلم،قال : أي بني ديني دينك ، أنا على دينك ، لأنه كبير معروف و شهم و صاحب مروءة ، كريم راقٍ من علية القوم ، قال له : يا بني ديني دينك ، انتهى الأمر و لا تغضب ، فقال له : اذهب و اغتسل و طهِّر ثيابَك ثم تعالَ حتى أعلمك ما عُلِّمت ، فذهب فاغتسل و طهَّر ثيابه ، ثم جاء فعرضتُ عليه الإسلام فأسلم ، ثم جاءت زوجتي فقلت لها : إليكِ عني ، لستُ منكِ ولستِ مني، قالت : و لِم بأبي أنت و أمي ما لي غيرك ، خير إن شاء الله ، فقلت : فرَّق بيني و بينك الإسلام ، طبعا رسم خطَّة ذكية ، هو لا يتخلى عنها ، و لكن يقول ذلك حتى يدفعها إليه فقد فرَّق بيني و بينك الإسلام ، لأني أسلمت و تابعتُ محمدا صلى الله عليه و سلم، قالت : فديني دينك .
أضرب لكم مثلاً : شخص له معمل صغير ، صاحب متجر وعنده صانعان أو ثلاثة وبعض الموظفين ، فإذا كان هناك إحسان منه و إكرام و فهم فهذا الموظَّف يتابعك ، ويأتي معك إلى الجامع ، أنت هديته و أنت لا تدري ، مكانتك العلية و استقامتك و ترفُّعك و كرمك جعلك ملءَ سمعه و بصره ، فإذا نطقت بالحق تابعك ، فكل صاحب عملٍ من الممكن أن كل من حوله في العمل يتابعونه ، و يهتدون بهديه ، يقلِّدونه و لو تقليدا ، فالإنسان لايستهين بعمله، ربما كان عملُك ييسّر لك طريقاً إلى الله ، ربما كان عملك طريقا للدعوة إلى الله .
قال لها : إذاً فاذهبي و تطهَّري من ماء ذي الشرى ، و ذو الشرى صنم لدوس حوله ماءٌ ، فقالت : بأبي أنت و أمي أتخشى على الصبية شيئا من ذي الشرى ؟ فقلتُ تبًّا لكِ و لذي الشرى ، قلتُ لك : اذهبي و اغتسلي هناك بعيدا و أنا ضامن لكِ ألا يفعل هذا الحجرُ الأصمُّ شيئاً و مرةً استيقظت قبيلة صباحاً فرأت صنمها قد بال الثعلبُ على رأسه فقال الشاعرُ
أربٌّ يبول الثعلبانُ برأسه لقد ضلَّ من بالت عليه الثعالبُ
ما هذا الإله ؟ و هناك قبيلة ثانية صنعت صنما من تمر ، فلما جاعت أكلته، فقيل : أكلت ودٌّ ربَّها ، كم هناك من تفكير ضعيف ، و الله إنك لتجد في شرق آسيا كما حكى لي إخوان زاروا اليابان و غير اليابان من تلك الدول في شرق آسيا ، فهم يعبدون أصناما من دون الله ، و تجد أمام الصنم فواكه من أرقى أنواع الفواكه ، فسألوا واحدا : لماذا هذه الفواكه ، قالوا : ليأكلها الصنمُ في الليل ، ثم بدا أن الرهبانُ يأكلونها في الليل ، و ليس الصنم فهو من حجر ، دكاترة و مثقَّفون ، أصحاب إجازات علمية و مدراء معامل يدخل إلى معبد يجد صنم بوذا و أمامه الفواكه الشهية يعبده من دون الله وتفسير ذلك أن التَّديّن فطريٌّ في الإنسان ، فالسعيد من عرف الإله الحقيقي ، و الشقي من التبس عليه الأمرُ وظنَّ أن هذا الصنم إلها وهو ليس كذلك، لكن كل إنسان بحاجة فطرية إلى التديّن ، إلى أن يعبد عظيما لذلك إما أن تكون عبدا لله ، وإما أن تكون عبداً لعبد لئيم ، أو أن تكون عبدا لفكرة سخيفة ، أو عبدا لصنم أجوف ، أو عبداً لشيء لا يقدم و لا يؤخِّر ، قال : ثم دعوتُ دوسا ، دعا قومه فأبطئوا عليه ، وما استجابوا كانوا غارقين في الزنا و الربا ، الربا عدوان على أموال الناس و الزنا عدوان على أعراض الناس ، كانت هذه القبيلة غارقةً في الزنا و في الربا ، أبطئوا عليه ، قال : ثم دعوت دوسا فأبطئوا عليَّ إلا أبا هريرة كان أولَّ ثمرة من ثمار سيدنا الطفيل ، فقد كان أسرع الناس إسلاما ، قال الطفيل : فجئتُ رسولَ الله صلى الله عليه و سلم بمكة و معي أبو هريرة فقط ذهب بواحد يصحبه ، ما أحدث رجلٌ أخًا في الله إلا أحدث اللهُ له درجة في الجنة ، أنت كم واحد ؟ وحدي ، خير إن شاء الله ، ما تمكَّنت في هذه السنوات العشر أن تقنع واحدا بالدين ؟ تحمل إنسانا على التوبة أما عندك أقارب أما عندك أخوات ؟ أما عندك أولاد أخوة وأخوات ؟ أما عندك جيران ؟ أما لك أصحاب ؟ أليس لك زملاء ، ما استطعتَ أن تقنع واحدا ، و اللهِ هذه مشكلة ، لكن هناك أخ يقول لك : أنا أقنعت خمسة عشر آخر يقول :عشرون ، وثالث خمسون ، قال تعالى :
(سورة النحل)
لا بدَّ أن تنتقل من طور التلقي للإلقاء ، من طور السماع للتكلم ، و من طور الأخذ للعطاء ، قال عليه الصلاة و السلام :
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ نَضَّرَ اللَّهُ امْرَأً سَمِعَ مَقَالَتِي فَوَعَاهَا وَحَفِظَهَا وَبَلَّغَهَا فَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ إِلَى مَنْ هُوَ أَفْقَهُ مِنْهُ ثَلَاثٌ لَا يُغِلُّ عَلَيْهِنَّ قَلْبُ مُسْلِمٍ إِخْلَاصُ الْعَمَلِ لِلَّهِ وَمُنَاصَحَةُ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَلُزُومُ جَمَاعَتِهِمْ فَإِنَّ الدَّعْوَةَ تُحِيطُ مِنْ وَرَائِهِمْ *
(رواه الترمذي)
و قال عليه الصلاة و السلام :
عَنْ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ خَيْرُكُمْ مَنْ تَعَلَّمَ الْقُرْآنَ وَعَلَّمَهُ *
(رواه البخاري)
وعَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ الْجُهَنِيِّ قَالَ خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَحْنُ فِي الصُّفَّةِ فَقَالَ أَيُّكُمْ يُحِبُّ أَنْ يَغْدُوَ إِلَى بُطْحَانَ أَوْ الْعَقِيقِ فَيَأْخُذَ نَاقَتَيْنِ كَوْمَاوَيْنِ زَهْرَاوَيْنِ بِغَيْرِ إِثْمٍ بِاللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَلَا قَطْعِ رَحِمٍ قَالُوا كُلُّنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ فَلَأَنْ يَغْدُوَ أَحَدُكُمْ كُلَّ يَوْمٍ إِلَى الْمَسْجِدِ فَيَتَعَلَّمَ آيَتَيْنِ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ خَيْرٌ لَهُ مِنْ نَاقَتَيْنِ وَإِنْ ثَلَاثٌ فَثَلَاثٌ مِثْلُ أَعْدَادِهِنَّ مِنْ الْإِبِلِ *
(رواه أبو داود)
يسمع دروس العلم ، و يسمع تفسير آيات و تفسير أحاديث ، شيء من السيرة ، لا بد أن يسجل و يراجع الأمر و يحفظه ، و إذا جلس في مجلس يلقي هذا الشيء فلا تعرف كم إنسان يستفيد منك ، انظروا إلى هذه الآية ما أجملها ، قال تعالى :
(سورة المائدة)
أحيانا يتفضل الله عز وجل عليك بهداية إنسان ، و هذا الإنسان تجد إخوانه و أخواته و أولاد أخوته و أخواته و جيرانه و شركائه ، كلهم اهتدوا بهدايته ، و تزوج امرأة مسلمة و أنجب أولادا صالحين ، يمكن بعد عشرين ثلاثين سنة ، تجدهم وقد صاروا مئتي إنسان ، كلهم في صحيفتك ، لذلك أعظم تجارة أن تتاجر مع الله و أعظم عمل أن تدعو إلى الله ، إنها صنعة الأنبياء ، قال تعالى :
(سورة طه)
و اللهِ هناك إخوان كثيرون ، نعم كثيرون ، و اللهِ همُّهم الأول نشرُ الحق همهم الأول الدعوة إلى الله ، همهم الأول مداراة الناس لهدايتهم ، فلعلهم يأخذون بأيديهم إلى الله عز وجل .
جئتُ رسول الله صلى الله عليه و سلم بمكة و معي أبو هريرة ، فقال لي النبي عليه الصلاة و السلام : ما وراءك يا طفيل ؟ ما الذي حدث معك ؟ تكلم لعلها مداعبة ، ما وراءك يا طفيل ؟ فقلت : قلوب عليها أكنة ، و كفر شديد ،ولقد غلب على دوس الفسوق و العصيان ، فلا أمل فيهم فقام عليه الصلاة و السلام ، اسمعوا ، فتوضأ و صلى و رفع يديه إلى السماء ،
قال أبو هريرة : فلما رأيته كذلك خِفتُ أن يدعو على قومي فيهلكوا ، : قال : ليس فيهم خير، جفاة غلاظ ، قلوبهم في أكنة ، فسق و فجور و زنا و ربا ، لا أمل ، فالنبي قام فتوضأ و رفع يديه ، ماذا سيقول ؟ سيدنا أبو هريرة قال : فخفت أن يدعو على قومي فيهلكوا فقلت : واقوماه ، الجماعة هلكوا ، جاء أجلهم ، لكن النبي عليه الصلاة و السلام جعل يدعو لهم :
قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَدِمَ طُفَيْلُ بْنُ عَمْرٍو الدَّوْسِيُّ وَأَصْحَابُهُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ دَوْسًا عَصَتْ وَأَبَتْ فَادْعُ اللَّهَ عَلَيْهَا فَقِيلَ هَلَكَتْ دَوْسٌ قَالَ اللَّهُمَّ اهْدِ دَوْسًا وَأْتِ بِهِمْ *
(رواه البخاري)
ثم التفت إلى الطفيل و قال : ارجع إلى قومك وارفق بهم ، و ادعهم إلى الإسلام ، كن عندك حكمة ، استوعبهم و احتوِهم ، اخدمهم ، قال الطفيل :
فلم أزل بأرض دوس أدعوهم إلى الإسلام حتى هاجر رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى المدينة و مضت بدرٌ و أحد و الخندق ، فقدمت على النبي و معي ثمانون بيتا من دوس ، ليس ثمانون رجلا ، ثمانون بيتا ، و كل بيت فيه خمسة أو ستة شباب ، قال : حتى أسلموا وحسن إسلامهم فسُرَّ بنا رسول الله و أسهم لنا مع المسلمين في غنائم خيبر ، فقلنا : يا رسول الله
اجعلنا ميمنتك في كل غزوة تغزوها ، و اجعل شعارنا " مبرور " فقال الطفيل : ثم لم أزل مع رسول الله حتى فتح الله عليه مكة ، فقلت : يا رسول الله ابعثني إلى ذي الكفَّين ، ما ذو الكفين ؟ ذو الكفين صنمُ عمرو بن حمحم ، حتى أحرقه ، أي أرسلني إلى صنم ذي الكفين حتى أحرقه ، فأذن له النبيُّ صلى الله عليه و سلم فسار إلى الصنم في سرية من قومه فلما بلغه وهمَّ بإحراقه اجتمع حوله النساء و الرجال و الأطفالُ يتربَّصون به الشرَّ ، و ينتظرون أن تصعقه صاعقة إن هو نال ذا الكفين بضرٍّ ، لكن الطفيل مؤمن يعيش مع الحقائق و هناك أشخاص كثيرون يعيشون في الأوهام ، يضع لك حذوة فرس ، ما تصنع يا أخي ؟ هذه أعقلها للعين ، أو يعلن حذاءً صغيراً للصبيان ، أو يرسم عينا في وسطها قلب و سهم ويكتب: عين الحاسد تُبلى بالعمى ، كلها أوهام ، لا يحميك من الله إلا أن تستقيم على أمره ، لا ملجأ من الله إلا إليه ، قال تعالى :
(سورة الفتح)
يكتبها بعضهم على باب متجره ، وطول النهار كذب وغش ، فهل يفتح الله بالغش و الكذب ؟ فهؤلاء الذين حول الصنم خافوا أن تأتيهم صاعقة فيحترقون ، لكن الطفيل أقبل على الصنم على مشهد من عُبَّاده و جعل يضرم النارَ في فؤاده ، و هو يرتجز ، نظم ثلاثة أبيات من الشعر ، قال له :
يا ذا الكفين لستُ من عُبَّادك ميلادنا أقدمُ من ميلادك
إني حشوتُ النار في فؤادك
وما إن التهمت النارُ الصنمَ حتى التهمت معها ما تبقَّى من الشرك في قبيلة دوس ، أي آخر شيء في هذه القبيلة أنه أحرق لهم صنمهم ، فأسلم القومُ جميعا و حسُن إسلامهم ، اسأل نفسك أنت ماذا فعلت ؟ كلُّ إنسان بإمكانه أن يدعو إلى الله ، و بإمكانه أن يتعلَّم ، و بإمكانه أن يلتقي مع إخوانه ، مع أقربائِهِ و جيرانه ، وبإمكانه أن ينقل لهم تفسير آية و تفسير حديث ، بإمكانه أن يهديهم .
قال : ظل الطفيلُ بن عمرو الدوسي بعد ذلك ملازما لرسول الله صلى الله عليه و سلم حتى قُبض النبيُّ إلى جوار ربه ، و لما آلت الخلافةُ من بعده إلى الصدِّيق وضع الطفيلُ نفسه وسيفه وولده في طاعة خليفة رسول الله .
الإسلام عظيم عظمته أن المسلمين ينبغي أن يلتفوا حول رجل ، المنافسات و المطاحنات والمناقشات و الخصومات و الصراعات ، هذه لا ترضي اللهَ عز وجل ، لا بد من التعاون ، ولا بد من التكاتف ، لا بد من أن نتعاون فيما اتّفقنا ، و يعذر بعضنا بعضا فيما اختلفنا ، لا بد من أن ندعم بعضنا بعضا ، أما الطعن في الآخرين و تقاذف التهم و المهاترات ، التكفير واتهام بالشرك ، هذا الذي يضعف المسلمين ، فلما آلت الأمور إلى سيدنا الصديق وضع - انظروا - وضع نفسه وسيفه وولده في طاعة خليفة رسول الله ، و لما نشبت حروب الردة نفر الطفيلُ في طليعة جيش المسلمين لحرب مسيلمة الكذاب ، و معه ابنه عمرو ، و فيما هو في طريقه إلى اليمامة رأى رؤيا فقال لأصحابه : إني رأيت رؤيا فعبِّروها لي ، قالوا و ما رأيت ؟ قال : رأيت أن رأسي قد حُلِق ، ليس فيه شعر و أن طائرا قد خرج من فمي ، وأن امرأة أدخلتني في بطنها و أن ابني عمرًا جعل يطلبني حثيثا ، لكنه حيل بيني و بينه ، قالوا : خيرا ، قال : أمّا أنا فإني أوَّلتها ، اسمعوا تفسيرها ، وهذا الإمام مالك ، إمام دار الهجرة رأى في المنام ملك الموت رؤيا ، غريبة جدا، قال له : يا ملك الموت كم بقي لي ، طمئني ، ملك الموت لم يتكلم و قال له مشيراً بيده : هكذا ، خمسة ، فلما استيقظ اضطرب اضطراباً شديدا ، يا ترى خمس سنوات أم خمسة أشهر أم خمسة أسابيع أم خمسة أيام أم خمس ساعات أم خمس دقائق ، أم خمس ثواني ، احتار ، فذهب إلى ابن سيرين ، و كان من كبار مفسِّري الأحلام ، قال : يا ابن سيرين رأيتُ ملك الموت و سألته كم بقي لي من عمري ، فأشار بهذه الإشارة ، فما تفسير هذه الرؤيا ؟ قال له :يا إمام دار الهجرة ، قال لك ملك الموت : إن هذا السؤال من خمسة أشياء لا يعلمها إلا اللهُ ، هذا التفسير ، هذا السؤال من خمسة أشياء لا يعلمها إلا الله ، فهذا سيدنا الطفيل قال : أما أنا و اللهِ لقد أوَّلتها ، أما حلق رأسي فذلك أنه يُقطع ويموت شهيدا ، و أما الطائر الذي خرج من فمي فهو روحي ، و أما المرأة التي أدخلتني في بطنها فهي الأرض تُحفر لي فأُدفن في جوفها ،و إني لأرجو أن أُقتل شهيدا ، سبحان الله أنا سمعت أكثر من عشر قصص ، المؤمن الصادق إذا اقترب أجلُه فربُّنا عز وجل يعلمه بذلك ، ومنذ أسبوع هناك امرأة صالحة عمرها ثمانية و أربعون عاماً ، مرة حدَّثتكم عنها قبل شهرين أو ثلاثة ، كرابعة العدوية ، قيام ليل و خدمة لزوجها و إنفاق لمالها ، فقالت لزوجها وهي في الثامنة و الأربعين و لا تشكو شيئا ، قالت له : اقترب أجلي ، و اخترت الرفيق الأعلى ، يا امرأة ما هذا الحديث ؟ ليس بكِ بلاء ، يقول لنا زوجها : ودَّعت أولادها وبناتها واحداً واحداً و بعد أيام ثلاثة قبل أن تدخل بيتها جلست على حافة البيت و أسلمت روحها لله عز وجل ، في الليل رأتها بنتُها في المنام قالت لها : يا بنيتي أنا لم أمُت ، لا تقيموا عزاءً ، أقيموا مولدا لي ، فقد أكرمني ربي ، يقول زوجها : فأقمنا مولداً و بقي إلى الساعة الثانية ليلا ، في يوم وفاتها ، فأنا لاحظت أن المؤمن من تكريم الله له أنه يعلمه أن الأجل قد دنا ، و على كلٍّ كلُّ واحد منا لما يضعف يضع نظارات على عينيه و يصبح شعره أبيض ، و يقول لك : صار معي قليل من الآلام ، وحط جسمي ، هذه كلها إشارات لطيفة من الله ، أن يا عبدي اللقاء قد اقترب ، أنت مستعدٌّ للقاء ؟ و أما طلب ابني لي فهو يعني أنه يطلب الشهادة التي سأحظى بها إن شاء الله ، إذا أذن الله ، لكنه يدركها فيما بعد ، يعني يدرك ابنه الشهادة بعد استشهاد الطفيل بحين .
و الحمد لله رب العالمين(/)
الدرس 33/50 ، سيرة الصحابي : النعمان بن مقرن المزني ، لفضيلة الأستاذ محمد راتب النابلسي .
تفريغ : المهندس عبد العزيز كنج عثمان .
التدقيق اللغوي : الأستاذ غازي القدسي .
التنقيح النهائي : المهندس غسان السراقبي .
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا ، وانفعنا بما علمتنا وزدنا علما ، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .
أيها الإخوة الأكارم ... مع الدرس الثالث والثلاثين ، من دروس سيرة صحابة رسول الله رضوان الله تعالى عليهم أجمعين .
وصحابي اليوم ، سيدنا النعمان بن مقرِّنٍ المُزني ، فقد كانت قبيلة مُزينة ، تتخذ منازلها قريبةً من يثرب ، والتي أضحتْ بعد ذلك المدينة المنورة ، مدينة رسول الله صلى الله علية وسلَّم، على الطريق الممتدة بين المدينة ومكة ، وكان النبي عليه الصلاة والسلام قد هاجر إلى المدينة ، وجعلت أخباره تصل تباعاً إلى مزينة ، مع الغادين والرائحين ، لأن مزينة كانت على الطريق ، بين مكة والمدينة .
فأخبار هجرة النبي ، وأخبار بزوغ هذه الدعوة ، وأخبار من أسلم، ومن عارض الإسلام ، كانت تطرق مسامع هذه القبيلة ، لكن هذه القبيلة ، لا تسمع إلا خيراً عن رسول الله وأصحابه .
لقد كانتْ منصفة ، والمؤمن من صفاته أنه منصف ، ينصف الناس من نفسه ، وحينما يكابر الإنسان ، ويجحد ، ويبالغ ، ويمدح مَن كان قريباً منه ، ويحابي ، ويذمُّ بلا سبب ، حسدا ، وغيرةً ، وعداوةً ، إذا فعل ذلك فقد ابتعد عن إيمانه ، وعن إسلامه ، بُعْدَ الأرض عن السماء ، فأبرزُ صفة في المسلم والمؤمن أنه منصف ، ينصف الناس من نفسه ، أما الذي تراه يبالغ ، يجحد ، يطمس ، ويسلِّط الأضواء على من يحبُّه ، ويحجبها عمن لا يحبُّه ، فهذا إنسان بعيد عن مرضاة الله عزَّ وجل ، هناك أمهات يمدحن بناتهن مدحاً غير معقول ، فإذا جاءت الكنّةُ إلى بيتهم حوسبت حساباً عسيراً ، وسُلِبت كلُّ إمكانياتها ، وأُبْرزت أخطاؤها ، فهذا جحود ، وهذا ليس إسلاماً ولا إيماناً ، فهذا ابني أمدحه ، وابن الآخرين أذمُّه ، فلست حينئذٍ منصفاً ، ولست مؤمناً ، وإنّ الله يحب المنصف العادل ، ويحب الذي يقول الحق ، ولو كان مراً .
هؤلاء سرُّ إسلامهم ، وسرّ قربهم من الله عزَّ وجل ، وسبب سرعة إسلامهم ، وسبب دخول الإيمان إلى قلوبهم ، وسبب إقبالهم على هذا الدين الجديد ، أنهم أنصفوا ، ومن خلال أخبار الغادين والرائحين ، ما سمعوا إلا خيراً عن رسول الله وعن أصحابه ، وفي ذات عشيةٍ ، جلس سيِّد القوم ، الصحابي الجليل الذي ندرس عظمة موقفه في الإسلام ، جلس سيِّد القوم ، النعمان بن مقرن المزني في ناديه مع إخوته ، ومشيخة قبيلته ، فقال - واسمعوا هذا الكلام أيها الإخوة ، ودققوا فيه - .
قال : يا قوم : واللهِ ما علِمنا عن محمدٍ إلا خيراً ، ولا سمعنا من دعوته إلا مرحمةً ، وإحساناً ، وعدلاً ، فما بالنا نبطئ عنه ، والناس يسرعون إليه ؟ لماذا ؟
مرة ثانية ، والله ما علمنا عن محمدٍ إلا خيراً ، ولا سمعنا من دعوته إلا مرحمةً ، وإحساناً، وعدلاً ، فما بالنا نبطئ عنه ، والناس يسرعون إليه ؟.. أي بالتعبير الدارج ألا نغار ؟ إنسان أقبل على هذا الدين ، أقبل على ربه ، انضوى تحت لواء المؤمنين ، استقام على منهج الله ، بذل كلِّ شيءٍ في سبيل الله ، تألَّقت روحه ، أشرقت نفسه ، اطمأن قلبه ، وأنت جاره ، صديقه ، أخوه ، زميله ، ألا تغار منه ؟ فما بالنا نبطئ عنه ، والناس يسرعون إليه ؟ ما سمعنا من دعوته إلا مرحمةً ، وإحساناً ، وعدلاً ، وهكذا قال بعض العلماء :
الشريعة رحمةٌ كلُّها ، عدلٌ كلُّها ، مصلحةٌ كلُّها ، فأية قضيةٍ خرجت من الرحمة إلى القسوة، من العدل إلى الجور ، من المصلحة إلى المفسدة ، فليست من الشريعة ، ولو أُدخلت علّيها بألف تأويلٍ وتأويل ، شرعنا رحمةٌ ، وعدلٌ ، ومصلحةٌ ، وإحسان ، هذا هو الشرع .
أتقنت العبادات ولك إساءة ، فلستَ مؤمنًا ، ولا مسلمًا ، أتقنت العبادات وعندك تقصير في الحقوق ، أتقنت العبادات ولديكَ ظلم ، وجحود ، وإجحاف ، ومحاباة ، فلست مؤمنًا ، ولست مسلمًا .
ثم قال النعمان : أمّا أنا فقد عزمتُ على أن أغدوَّ عليه إذا أصبحت ، فمَن شاء منكم أن يكون معي فليتجهَّز .
يا إخوان ... إذا للواحد مكانة ، معلم ، طبيب ، مدير مستشفى، مدير معمل ، وقام ويصلي أمام عمَّاله ، فهو قدوة بصدق ، وإذا جاءت امرأةٌ فغضَّ بصره عنها أمام عماله ، هل تعلم أن كلَّ هؤلاء يكبرون هذا السلوك ؟ فكلما علا شأنك ، وكبرت ، وكلما كان حجمك أكبر ، وقيادتك أكبر ، فأعمالك الصالحة مضاعفة بالثواب بحسب كلِّ مَن اتبعك فيها ، وكلّ واحد اقتنع بها لأنك فعلتها فكذلك ، الآن حتى يُقنعوا الناس ، وطبعاً مع الفارق الكبير ، حتى يقنعوا الناس بشراء سلعة معينة، يطلبون من نجوم الفن أن يستعملوها على مرأى من الناس ، يأخذون لهم صورًا في المجلات ، وكذا وكذا ، لأن قدوة الناس اليوم الفنانون ، نحن قدوتنا أصحاب رسول الله ، قل لي بمَن تقتدي ، أقلْ لك من أنت ،مَن هو الشخص الذي تتمنى أن تكونه ، أقل لك من أنت ؟ من هو الشخص الذي تحلم أن تكون مثله ، أقلْ لك من أنت ، المؤمن قدوته أصحاب رسول الله ، أو كبار المؤمنين والصدِّيقون ، هؤلاء قدوته .
قال لقومه : أمّا أنا فقد عزمت على أن أغدوَ عليه إذا أصبحت ، فمن شاء منكم أن يكون معي فليتجهَّز ، وكأنما مسَّت هذه الكلمات وتراً مرهفاً في نفوس القوم ، فما إن طلع الصباح حتى وجد إخوته العشرة ، وأربعمائة فارسٍ من فرسان مُزينة قد جهَّزوا أنفسهم للمضي معه إلى يثرب ، للقاء النبي صلوات الله وسلامه عليه ، والدخول في دين الله ، أنظر إلى القدوة ، لذلك في القرآن آية تشير إلى القدوة ، فهل تعرفوها ؟ قال تعالى :
( سورة الأحزاب ، الآية " 30 " )
وفي آية ثانية يقول تعالى :
( سورة الأحزاب ، آية " 31 " )
نساء النبي ، إن أحسنَّ ، يُؤْتَيْنَ أجورهن مرتين ، وإن أسأن يعاقبن مرتين ، لذلك سيدنا عمر كان إذا أراد إنفاذ أمرٍ جمع أهله وخاصَّته ، وقال : ((إني قد أمرت الناس بكذا ، ونهيتهم عن كذا ، والناس كالطير ، إن رأوكم وقعتم وقعوا ، وايم الله لا أوتينَّ بواحدٍ وقع فيما نهيت الناس عنه ، إلا ضاعفت له العقوبة ، لمكانه مني)) .
فصارت القرابة من عمر مصيبة ، وحينما ترقى إلى مستوى قيادي فلك حساب مضاعف ، فإن أطعتَ الله عزَّ وجل فلك أجرُّ طاعته ، ولك أجرُ مَن اقتدى بك ، ولك أجرُ مَن قلَّدك ، ولك أجرُّ من رأى هذا العمل عظيمًا ، واقتدى به ،يقول الطلابُ مثلاً : أستاذنا صلى في المسجد ، فهذا قدوة صارخة ناجحة ، فيقتدون به ولو بعد حين ، خرجت من المدرسة ، وقت الظهر ، فدخلتَ إلى المسجد ، وصلَّيت على مرأى من طلاَّبك ، فهذا شيء جميل ، ونبراسُ هدى ، وقدوة صالحة.
لكن النعمان بن المقرِّن المزني فقد استحيا أن يَفِدَ مع هذا الجمع الحاشد على النبي صلى الله عليه وسلم دون أن يحمل له وللمسلمين شيئاً يقدِّمه ، وفي المسلمين فقراء ، وذو حاجة ، فأراد أن يقدِّم للنبي بعض الهدايا ، لكن السنة العجفاء المجدبة التي مرَّت بها مزينة لم تترك لها ضرعاً ولا زرعاً ، فطاف النعمان ببيته ، وبيوت إخوته ، وجمع كلما أبقاه القحط من غنيمات ، وساقها أمامه، وقدم بها على النبي صلى الله عليه وسلم ، وأعلن هو ومن معه إسلامهم بين يديه .
جمع بعض الغنيمات والشياه ، وقدم بهم على النبي صلى الله عليه وسلم ، مع عشرةٍ من إخوته ، ومع أربعمائة فارسٍ من مزينة ، هذا إسلام جماعي ، وبالجملة ، النبي عليه الصلاة والسلام حينما رأى ذلك سُرَّ أشدَّ السرور ، واهتزت يثربُ من أقصاها إلى أقصاها ، فرحاً بالنعمان بن مقرِّن وصحبه ، إذْ لم يسبق لبيتٍ من بيوت العرب أنْ أسلم منهم هذا الجمع الغفير ، وأسلم أحد عشر أخاً من أبٍ وأمٍ واحدة ، ومعهم أربعمائة فارس ، سرَّ النبي عليه الصلاة والسلام بإسلام النعمان أبلغ السرور ،وتقبَّل الله عزَّ وجل غُنيماته ،وأنزل فيه قرآناً يُتلى إلى يوم القيامة:
( سورة التوبة )
أخوك فقير قدَّمت له شيئًا ، قد تغديه عندك مثلاً ، قدمت شيئًا ممّا عندك ، فالله يتقبّله ، وإذا قدّم إنسان إلى أخيه هدية بِنِية تمتين العلاقات ، وبِنِية إكرامه ، وبِنِية مسح شيء من الضغينة ، هذه الهدية يتقبلها الله عزَّ وجل قبل أن يتقبَّلها ، وهكذا فلْيَكُن المؤمن .
أحياناً يقدِّم أخٌ خدمةً إلى المسجد ، قد يساهم في حلِّ قضيةٍ ، أو يقضي حاجة أخيه ، أو يحل مشكلة عويصة ، أو يسدّ نقصًا ، أو يقوِّي ضعفًا ، أو يطفئ فتنةً ، أو يزيل نفورًا ، فتجد هذا الذي يدعو إلى الله يمتلأ قلوبَ الآخرين امتناناً له .
انضوى النعمان بن مقرن المزني تحت راية النبي صلى الله عليه وسلم ، وشهد معه غزواته كلها ، غير وانٍ ، ولا مقصِّر .
ولما آلت الخلافة إلى سيدنا الصديق وقف معه هو وقومه من بني مزينة وقفةً حازمةً ، كان لها أثرٌ كبير في القضاء على فتنة الردة .
وكانت الأضواء مسلطة على موقف سيدنا النعمان في موقعة القادسية ، وفيما تلاها من وقعات ، ومنها وقعة نهاوند ، فكل إنسان له مجال تفوَّق فيه يُذكَر به ، فلمَّا صارت الأمور إلى الفاروق رضي الله عنه ، وقد صار للنعمان بن مقرِّن في عهده شأنٌ ما يزال التاريخ يذكره بلسانٍ نديٍ بالحمد ، رطبٍ بالثناء ، فقُبَيْل القادسية أرسل سعدُ بن أبي وقَّاص قائد جيوش المسلمين وفداً إلى كسرى يزدجرد ، برئاسة النعمان بن مقرن ، ليدعوه إلى الإسلام ، وهنا وقفة لا بدَّ منها .
أيها الإخوة الأكارم ... كما يقول العامَّة : الإسلام ليس دين السيف ، الإسلام دين العقل ، بل الإسلام دين المنطق ، الإسلام دين الدعوة السلمية ، فلا يمكن أن يشهر السيف من قبل المسلمين، قبل أن يُدعَى الكفَّار إلى الإسلام دعوةً هادئةً مبنيةً على التبيين ، والتوضيح ، والتبليغ ، فإذا رفض هذا الكافر أن يسلم ، وأن ينضوي تحت لواء المسلمين ، وأن يحميه المسلمون ، لأنّ عقيدتهم لا تسمح له أن يقاتل مع المسلمين ، لذلك تؤخذ منه الجزية ، وإذا رفض أن يسلم ، ورفض أن يدفع الجزية ، فعندئذٍ يقاتل ، لتكون كلمة الله هي العليا .
لذلك أهل سمرقند فتحت بلادهم فتحاً عسكرياً ، ثم علموا أن فتحهم ليس شرعياً ، فأرسلوا وفداً خفيةً إلى سيدنا عمر بن عبد العزيز ، وأطلعوه على ما جرى وعلى طريقة فتح بلادهم ، فما كان مِن سيدنا عمر ، كما يروي التاريخُ ، إلاّ أن أرسل قصاصة ورق ، كتب فيها ما يلي :
إلى فلان الفلاني ، قائد جيوش المسلمين في سمرقند ، ما إن يصلك كتابي هذا ، فاخرجْ من سمرقند ، وادعُ أهلها إلى الإسلام ، فإن أبَوْا فأدعُهم لدفع الجزية ، فإن أبَوْا فقاتلهم ، وافتح بلادهم مرةً ثانية .
هذا الوفد الذي عاد ومعه تلك قصاصة ، فيها أمرٌ إلى قائد جيش أن ينسحب من بلدٍ احتلها ، وانتصر على أهلها ، ودانتْ للمسلمين ، لم يصدِّق ، فلما قُدِّمت هذه القصاصة إلى قائد الجيش قبَّلها ، وأمر جيشه بالانسحاب ، فلما رأوا ذلك ، قالوا : نحن أسلمنا ، وابقَوْا على ما أنتم عليه .
ما هذا الدين ؟ إنسان فتح بلادًا بالحرب ، وبالضحايا ، ثم يأتيه أمرٌ على قصاصةٍ من خليفة المسلمين كي ينسحب ، لأن هذا الفتح ليس شرعياً .
فسيدنا سعد بن أبي وقاص ، قائد جيوش المسلمين ، قبل أن يحارب كسرى يزدجرد ، لا بدَّ أن يدعوه إلى الإسلام ، فإن أبى ، دعاه إلى دفع الجزية ، فإن أبى ، يقاتله ، فإذا قاتله ، فليس المقصود أن يبيده ، المقصود أن يأسره ، فلعله يسلم بطريقة المعاملة إنْ لم تفلحْ بطريقة الحوار ، هذا هو منهج الإسلام في نشر الدعوة .
فأرسل له وفدًا على رأسه النعمان بن مقرَّن ليدعوه إلى الإسلام ، ولما بلغ الوفد عاصمة كسرى في المدائن ، استأذنوا بالدخول عليه ، فأذن لهم ، ثم دعا الترجمان فقال له : سَلْهُمْ ما الذي جاء بكم إلى ديارنا ، وأغراكم بغزونا ؟ لعلكم طمعتم بنا ، واجترأتم علينا ، لأننا تشاغلنا عنكم ، ولم نشأ أن نبطش بكم ؟ هذا كلام كسرى للمترجم ، ليوجِّهه لسيدنا النعمان بن مقرن المُزني .
فالتفت النعمان بن مقرن إلى من معه ، انظروا إلى أدبه ، وإلى تواضعه ! وقال : إن شئتم أجبته عنكم ، وإن شاء أحدكم أن يتكلم آثرتُه عليَّ بالكلام ، هذا كلام النعمان ، إن شئتم تكلَّمت عنكم ، وإن أراد أحدكم الكلام تكلَّم عني ، فماذا تروْن ؟ قالوا جميعاً : بل تكلَّم أنت ، لأنه رئيس وفد ، وما اختاره سيدنا سعد إلا على علم ، قالوا : بل تكلم ، والقاعدة ، إذا عزَّ أخوك فهن أنت ، فهي ليست قضية منافسة ، أنت مع أربعة أو خمسة ، جئتم لمقابلة شخص ، وأحدكم طليق اللسان ، وقوي الحجة ، فإن أراد أن يتكلم فاتركْه يتكلم ، لكنّه إنْ قال لك : أعِنِّي ، فأَعنْهُ ، أمّا أن أنافسه، وأُسْكِتَه ، أو أن أتكلم أكثر منه ، لكي أثبت موجودية ، فليس هذا من أخلاق المؤمن .
قال لهم : إن شئتم أجبته عنكم ، وإن شاء أحدكم أن يتكلم آثرته بالكلام ، فقالوا : بل تكلم ، ثم التفتوا إلى كسرى ، وقالوا : هذا الرجل يتكلَّم بلساننا ، فاستمع إلى ما يقول .
انظُرْ إلى النظام ، فالمجتمع المسلم له أمير ، وإذا كنتم ثلاثةً في نزهة فأمِّروا أحدكم ، هذا يقول : يجب أن ننام ليلة ثانية ، هذا يجيبه : لا يجب أن ننام ، وذاك يقول : لا نتغدى الآن ، فتعُمّ الفوضى ، ويقع الخلاف ، لكنّ الأمير إنْ أمر أن ننام ليلة ثانية فأمره مسموع .
فحِمَد النعمانُ الله ، وأثنى عليه ، وصلى على نبيِّه صلى الله عليه وسلم ، ثم قال : إن الله رحمنا ، فأرسل إلينا رسولاً يدلُّنا على الخير ، ويأمُرنا به ، ويعرِّفنا الشرَّ ، وينهانا عنه ، ووعدنا ، من يجبه فيما دعانا إليه ، بخيري الدنيا والآخرة .
إنّه وصف رائع للنبي عليه الصلاة والسلام .
واللهِ إنه كلام مختصر مفيد ، جامع مانع .
فما هو إلا قليل ، حتى بدَّل الله ضيقنا سَعَةً ، وذلَّتنا عزةً ، وعداواتنا ، إخاءً ومرحمةً .
والله كلامٌ بليغٌ بليغ ، وهو موجزُ فحوى دعوة النبي عليه الصلاة والسلام ، توضيح الخير ، والأمر به ، توضيح الشر ، والنهي عنه ، ووعدنا إن أجبناه إلى ما دعانا إليه ، أن يعطينا الله خيري الدنيا والآخرة ، فما هو إلا قليل ، حتى بدل الله ضيقنا سعةً ، وذلتنا عزةً ، وعداواتنا ، إخاءً ومرحمةً
أليس المسلمون في أمسِّ الحاجة ، وهم في ضيقٍ شديد اليوم ، وهم في ذلةٍ ما بعدها ذلة ، وهم في عدواةٍ فيما بينهم ما بعدها عداوة ، أليس المسلمون في أمسِّ الحاجة ، لأن يهتدوا بهدي النبي عليه الصلاة والسلام ؟ فما هو إلا قليل ، حتى بدَّل الله ضيقنا سَعَةً ، وذلَّتنا عزةً ، وعداواتنا ، إخاءً ومرحمةً .
إذًا المؤمنون متراحمون ، متآخون ؛ أمّا مجتمع الضغينة ، والحقد ، والحسد ، والغيرة ، والبغضاء ، والطعن ، والتبخيس ، فهذا مجتمعٌ نتن ، وهذا مجتمعٌ ليس مجتمعاً مسلماً ، هذا مجتمعٌ لا نزهو به ، ولا نفتخر به أمام أعداء الإسلام .
وقد أمرنا أن ندعوَ الناس إلى ما فيه خيرهم ، وأن نبدأ بمن يجاورنا .
سبب مجيئي إليكم ، أن الإسلام أمرنا أن ندعوَ إليه ، وأن نبدأ بمَن هو في جوارنا ، إنسان ما تعلَّم في جامعة ، ولا في مدرسة ، ابن الصحراء ، لكن الإيمان أطلق لسانه ، لكنّ حبَّ الله عزَّ وجل جعل كلامه موزوناً ، دقيقاً ، فاسمعوها مرة ثانية :
قال : إن الله رحمنا ، فأرسل إلينا رسولاً يدلنا على الخير ، ويأمرنا به ، ويعرِّفنا الشرَّ ، وينهانا عنه ، ووعدنا إن أجبناه إلى ما دعانا إليه أن يعطينا الله خيري الدنيا والآخرة ، فما هو إلا قليل حتى بدّل الله ضيقنا سعةً ، وذلتنا عزةً ، وعداواتنا ، إخاءً ومرحمةً ، وقد أمرنا أن ندعوَ الناس إلى ما فيه خيرهم ، وأن نبدأ بمن يجاورنا ، فنحن ندعوكم إلى الدخول في ديننا ، وهو دينٌ حَسَّنَ الحسَنَ كلَّه ، وحضَّ عليه ، وقبَّح القبيح كلَّه ، وحذَّر منه ، وهو ينقل معتنقيه من ظلام الكفر وجوره ، إلى نور الإيمان وعدله .
الحمد لله الذي أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم ، إلى أنوار المعرفة والعلم ، الحمد لله الذي أخرجنا من وحول الشهوات إلى جنات القربات ، ينقل معتنقيه ، من ظلام الكفر وجوره ، إلى نور الإيمان ، وعدله ، فإن أجبتمونا إلى الإسلام ، خلَّفنا فيكم ، كتاب الله ، وأقمناكم عليه ، على أن تحكموا بأحكامه ، ورجعنا عنكم ، وتركناكم ، وشأنكم .
صرتُم إخواننا ، لكم مثل ما لنا ، وعليكم مثل ما علينا ، إن أجبتمونا إلى الإسلام خلَّفنا فيكم كتاب الله - نبقي عندكم كتاب الله - ومن يعلِّمكم إياه ، وأقمناكم عليه ، على أن تحكموا بأحكامه ، ورجعنا عنكم ، وتركناكم وشأنكم ، فإن أبيتم الدخول في دين الله ، أخذنا منكم الجزية ، وحميناكم .
يعني أنّ الجزية بدل نقدي .
فإن أبيتم إعطاء الجزية حاربناكم .
هذا منهج .
فاستشاط يزدجرد غضباً ، وغيظاً مما سمع وقال : إني لا أعلم أمةً في الأرض كانت أشقى منكم ، ولا أقلَّ عدداً ، ولا أشدَّ فرقةً ، ولا أسوأ حالاً .
من أنتم ؟ هذه هي الحقيقة ، كنا في الجاهلية كذلك ، مثلاً مدَّ رجلٌ شريف رجله في قومه ، فقال : من كان أشرف مني فليضربها ، فضربها رجل ، ونشبت حربٌ دامت عشر سنين ، أكلت الأخضر واليابس ، كان الرجلُ منهم يضع ابنته في التراب ، وهي حية ، فتصور طفلة مثل الوردة ، عمرها سنة ونصف ، متعلقة بأبويها ، فأخذها أبوها ، وحفر لها حفرة ، ثم وضعها في التراب ، و ردمه فوقها ، هذا ليس بشَرًا ، إنه وحشُ فلاةٍ حقًّا .... هذا ما كانوا عليه قبل الإسلام.
( سورة التكوير )
كان الرجال العشرة يشتركون على امرأة واحدة ، فيتزوجوها بالتناوب ، وإذا جاءها مولود، اختارتْ منهم واحدًا فنسبَتْه إليه ، وصار له أبًا ، إنها جاهلية بأتمّ معنى الكلمة .
قال كسرى : إني لا أعلم أمةً في الأرض كانت أشقى منكم ، ولا أقل عدداً ، ولا أشدَّ فرقةً، ولا أسوأ حالاً ، لكن الإسلام رفع هذه الأمة ، قال الله عزَّ وجل :
( سورة آل عمران : آية " 103 " )
حوار طويل ، وقد كنا ، نَكِل أمركم إلى ولاة الضواحي ، إذا كان الشيء قليل الأهمية ، يوكلون مساعدًا ، أو مدير ناحية ، أو مدير المنطقة ، أما إذا كان البلد مهِمًّا فيبعثون أرقى وزير، قال : وقد كنا نكِل أمركم إلى ولاة الضواحي ، فيأخذون لنا الطاعة منكم ، ثم خفف شيئاً من حدته، وقال : فإن كانت بكم الحاجة ، أي الفقر ، هي التي دفعتكم إلى المجيء إلينا ، أمرْنا لكم بقوتٍ إلى أن تخصِب دياركم ، وكسونا سادتكم ، ووجوه قومكم ، وملَّكنا عليكم ملكاً من قبلنا ، يرفق بكم.
كلام استعلاء ، أنا أعتقد أنكم جئتم لأنكم جماعة فقراء ، فسوف نطعمكم ، ونكسوكم ، ونولِّي عليكم ملِكاً من قِبَلنا يرفق بكم .
فردَّ عليه رجل من الوفد رداً أشعل النار من جديد ، فغضب يزدجرد ، قال : لولا أن الرسل لا تُقْتَل لقتلتكم ، يبدو أنه استفزّه ، قوموا فليس لكم شيءٌ عندي ، وأخبِروا قائدكم أني مرسِلٌ إليه رستم ، حتى يدفنه ، ويدفنكم معاً في خندق القادسية ، لقد غضب ، وأنتم مصيركم القتل في خندق القادسية .
طبعاً هم في بلاده ، وهم ضعاف جداً .
ثم أمر فأتي له بحِملٍ من التراب ، وقال لرجاله : حمِّلوه على أشرف هؤلاء ، وسوقوه أمامكم ، على مرأىً من الناس ، حتى يخرج من أبواب عاصمة ملكنا ، فقالوا للوفد ، من أشرفكم؟ يريدون أنْ يحملوه ترابًا ، ويمشوا به في الطريق ، كي يذلَّونه ، لأنهم في نظره أسرى عنده ، انظر إلى التضحية ، فبادر إليه عاصم بن عمر ، أحد صغار الوفد ، فقال له : أنا أشرفهم، فحمَّلوه عليه ، حتى خرج من المدائن ، ثم حمل الترابَ على ناقته ، وأخذه معه ، لسعد بن أبي وقَّاص ، وبشّره بأن الله سيفتح على المسلمين ديار الفرس ، ويملِّكهم تراب أرضهم، ثم وقعت وقعة القادسية ، واكتظ خندقها بجثث آلاف القتلى ، ولكنهم لم يكونوا من جند المسلمين ، إنما كانوا ، من جنود كسرى .
انظر إلى هذه المواقف ما أجلَّها ، أحد أعضاء الوفد الصغار ، توقيراً لرئيسه ، ولبقية الوفد، قال : أنا أشرفهم ، احمله عليّ ، وكان هذا الحملُ وسامَ شرفٍ علَّقه على صدره .
حينما هُزِم الفرس في معركة القادسية شرَّ هزيمة ، جمعوا جموعهم ، وجيَّشوا جيوشهم ، حتى اكتمل لهم ، مائةٌ وخمسون ألفاً من أشدَّاء المقاتلين ، للمعكرة الثانية ، معركة نهاوند ، وتفاصيل القادسية تعرفونها ، فلما وقف الفاروق على أخبار هذا الحشد العظيم ، عزم أن يمضي إلى مواجهة هذا الخطر الكبير بنفسه ، لكن وجوه المسلمين ، ثنوه عن ذلك ، وأشاروا عليه ، أن يُرسل قائداً يعتمد عليه ، في مثل هذا الأمر الجلل ، فقال عمر : أشيروا عليّ برجلٍ ، لأولِّيَه ذلك الثغر ، فقالوا : يا أمير المؤمنين ، أنت أعلم بجندك ، فقال : واللهِ لأولِّيَنّ على جند المسلمين رجلاً يكون إذا التقى الجمعان أسبقَ من الأسنة ، إنه النعمان بن مقرن المزني ، صار سيدنا النعمان قائد معركة نهاوند ، فقالوا: هو لها ، أي واللهِ أصبتَ ، قد كان النعمانُ رجلاً كألْف ، قالوا : هو لها ، فكتب إليه يقول :
مِن عبد الله عمر بن الخطاب ، إلى النعمان بن مقرن ، أما بعد.. فإنه قد بلغني أن جموعاً من الأعاجم كثيرةً ، قد جمعوا لكم بمدينة نهاوند، فإذا أتاك كتابي هذا ، فسِرْ بأمر الله ، وبعون الله ، وبنصر الله ، بمَن معك مِن المسلمين ، ولا توطئهم وعراً فتؤذيهم .
هناك أسلوب في قيادة الجيش ، إنْ أُتعِب الجندي فهذا غلط ، يجب أن تريحه ، وأن تعلي مكانته ، وأن ترفع معنوياته ، وأن توفِّر كلَّ طاقته للمعركة ، لا أن تجهده قبل المعركة .
قال له : ولا توطئهم وعراً ، فتؤذيهم ، فإن رجلاً واحداً من المسلمين ، أحبُّ إلي من مائة ألف دينارٍ ، والسلام عليك .
رجل واحد من المسلمين أحبُّ إليَّ من مائة ألف دينار ، تفرح بالجزية ، تضحِّي لي بمسلم ، والقائد لا ينجح في الحرب إلا إذا شعر الجندي أن حياته غالية جداً على قيادة الجيش ، أما نحن فنقول : إنّ عندنا أعدادًا كبيرة لا يهمنا الأمر ، هذه بعض المجتمعات التي رفعت شعارَ لا إله ، من عقيدتها في الحرب أنها تكسح الألغام بالقوى البشرية ، أي إنْ وُجِد حقل ألغام أُرسِلت سرية، فيتفجَّر الألغام بها ، فيتمّ كسحها ، فإذا شعر الجندي أنه رخيص على قيادته ، وليس له قيمة فلن يحارب على الإطلاق ، أما إذا شعر أنه غالٍ جداً على قيادته ، والقيادة مستعدة لبذل كل شيء لإنقاذ حياته ، فحينئذٍ يكون شجاعاً ، هذه أسرار قوة الجيش ، قال له : إن رجلاً واحداً من المسلمين ، أحبُّ إليَّ من مائة ألف دينارٍ ، والسلام عليك .
هبَّ النعمان بجيشه للقاء العدو ، وأرسل أمامه طلائع من فرسانه ، لتكتشف له الطريق ، فلما اقترب الفرسان من نهاوند توقَّفت خيولهم ، فدفعوها فلم تندفع ، فنزلوا عن ظهورها ، ليعرفوا ما الخبر ؟ فوجدوا حوافر الخيل ، فيها شظايا من الحديد ، تشبه رؤوس المسامير ، فنظروا إلى الأرض ، فإذا العجم قد نثروا في الدروب المؤدية ، إلى نهاوند حسكَ الحديد ، ليعوِّقوا الفرسان والمشاة عن الوصول إليهم .
أخبرَ الفرسانُ النعمان ، بما رأوا ، وطلبوا منه أن يمدَّهم برأيه .
ونرجوا التوجيه ، أي تفضل ، وتصرف ، فأنت قائد ، الطريق أصبح غير سالك ، كله فيه أشواك الحديد ، وهذه الأشواك دخلت في سنابك الخيل ، وأعاقتها عن الحركة .
فأمرَهم أن يقفوا في أمكنتهم ، وأن يوقدوا النيران في الليل ، ليراهم العدو ، عند ذلك ، يتظاهرون بالخوف منه ، والهزيمة أمامه ، ليغروه باللحاق بهم ، وإزالة ما زرعه من حسك الحديد ، فنجحت الخطةُ ، وجازت الحيلة على الفرس ، فما إن رأوا طليعة جيش المسلمين تمضي منهزمةً أمامهم ، حتى أرسلوا عمَّالهم ، فكنسوا الطرق من الحسك ، فكرَّ عليهم المسلمون ، واحتلوا تلك الدروب ، وعسكرَ النعمانُ بن المقرن المزني بجيشه على مشارف نهاوند ، وعزم على أن يباغت عدوه بالهجوم ، فقال لجنوده : إني مكبرٌ ثلاثاً ، المباغتة ، المباغتة من علامات نجاح المعركة ، إني مكبرٌ ثلاثاً ، فإن كبَّرتُ الأولى فليتهيَّأْ مَن لم يكن قد تهيَّأ ، وإن كبَّرت الثانية ، فليشددْ كلُّ رجلٍ منكم سلاحه على نفسه ، وإن كبرتُ الثالثةَ فإني حاملٌ على أعداء الله فاحملوا معي .
كبرَّ النعمان بن مقرنٍ تكبيراته الثلاث ، واندفع في صفوف العدو ، كأنه الليث عادياً ، وتدفق وراءه جنود المسلمين تدفُّقَ السيل ، ودارت بين الفريقين رحى معركةٍ ضروس ، قلَّما شهد التاريخُ لها نظيراً ، كانت من أشهر معارك المسلمين في فتح بلاد الفرس ، تمزَّق جيش الفرس شرَّ ممزق ، وملأت قتلاه السهل والجبل ، وسالت دماؤهم في الممرات والدروب ، فزلق جواد النعمان بن مقرن بالدماء فصُرع ، وأصيب النعمان نفسه إصابةً قاتلة ، فأخذ أخوه اللواء من يده ، وسجَّاه ببردةٍ كانت معه ، وكتم أمره على المسلمين ، وما أخبر أحدًا ، ولما تمَّ النصر الكبير الذي سمَّاه المسلمون فتح الفتوح ، سأل الجنودُ المنتصرون عن قائدهم الباسل ، فرفع أخوه البردة عنه، وقال : هذا أميركم ، قد أقرَّ اللهُ عينه بالفتح ، وختم له بالشهادة .
واليوم إنْ ذهبتَ إلى مدينة مشهد بأقاصى إيران - ألف كيلو متر عن العاصمة طهران - تجد جوامع ، ومساجد ، وهذا الفضل لهؤلاء الصحابة الكرام ، الذين فتحوا هذه البلاد ، ونشروا دين الله في الخافقين.
فملخص الملخص ، أيها الإخوة ... نحن ماذا فعلنا ؟ نحن كمسلمين ، ماذا فعلنا ؟ لا جنة من دون عمل ، ومن دون تضحية ، ومن دون بذل ، وأقل شيء أنْ تطلب العلم ، وأنْ تعلِّم ، وأقل شيء يمكن أن تقدمه للمسلمين أنْ تتعلم القرآن ، وأن تعلِّمه ، وأن تفعل الخير ، وأن تطعم الفقراء، وأن تنصر الضعفاء ، وأن تزيل البأساء عن البائسين ، وأن تسهم في خدمة مجتمعك المسلم ، فمِن دون عمل أنتَ تستهلك جهود الآخرين ، وتأخذ ما عندهم ، لكنْ أنْ تصلي وتصوم، وتظن أن هذا هو الإسلام ؟ لا والله ، الإسلام عمل ، ولو فَهِم الصحابة الكرام الإسلام كما نفهمه اليوم ، واللهِ لما خرج الإسلام من مكة إطلاقاً ، ولبقي في مكة ، فانظرْ إلى أين وصلوا ، وأين هذه نهاوند ؟ هذه في شرق المدائن ، وفي أعماق بلاد الفرس ، لقد وصل الإسلامُ إلى الصين .
لكن انظرْ إلى هذا الوفد الجريء ، وإلى رئيس الوفد ، هذا الذي يتكلم ، ويخاطب كسرى ، لقد عرَّف بالإسلام تعريفًا رائعًا ، وأشاد بالإسلام وبالنبي ، وأنّ اللهَ رحمنا الله بالنبي ، الذي عرّفنا بالحق ، وأمرنا به ، وعرّفنا بالشرّ ونهانا عنه ، ووعدنا بأنّ مَن يستجيب لما دعاه بخيري الدنيا والآخرة ، فما هو إلا قليل حتى بدل الله ، ضيقنا سعةً ، وفقرنا غنىً ، وعداوتنا محبةً ، وقد أمرنا أن ندعوَ إلى الإسلام الناس جميعاً ، وأن نبدأ بمَن هم في جوارنا ، هذا الكلام بليغ ، دقيق، واضح .
ويا أيها الأخ الكريم ... إن لم تكن الأمور واضحةً في ذهنك وضوح الشمس ، وإنْ لم تكن حياتك مفعمةً بما تعتقد ، وبما تنطلق ، فالطريق إلى الله لا يزال طويلاً ، لكنّ الحقيقة أن الصحابة الكرام على اختلاف مشاربهم ، وانتماءاتهم ، وعلى اختلاف أصولهم ، وقبائلهم ، صبَغَهُم الإسلام جميعاً بصبغةٍ واحدة .
( سورة البقرة : آية " 183 " )
الإيمان رفع شأنهم ، ويجب أن تعلموا أيها الإخوة ، أن الله هو هو ، إلههم إلهنا ، ربهم ربنا، إذًا فينا تقصير ، وهذا بسببنا ، فإذا توهَّمنا أن الله عزَّ وجل لا يعاملنا كما عاملهم ، لأننا لسنا مثلهم ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُغَفَّلٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اللَّهَ اللَّهَ فِي أَصْحَابِي اللَّهَ اللَّهَ فِي أَصْحَابِي لَا تَتَّخِذُوهُمْ غَرَضًا بَعْدِي فَمَنْ أَحَبَّهُمْ فَبِحُبِّي أَحَبَّهُمْ وَمَنْ أَبْغَضَهُمْ فَبِبُغْضِي أَبْغَضَهُمْ وَمَنْ آذَاهُمْ فَقَدْ آذَانِي وَمَنْ آذَانِي فَقَدْ آذَى اللَّهَ وَمَنْ آذَى اللَّهَ يُوشِكُ أَنْ يَأْخُذَهُ *
(الترمذي وأحمد)
وعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا تَسُبُّوا أَصْحَابِي فَلَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ أَنْفَقَ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا مَا بَلَغَ مُدَّ أَحَدِهِمْ وَلَا نَصِيفَهُ *
(متفق عليه)
حينما اقترب أجل النبي عليه الصلاة والسلام ، نظر إلى أصحابه الكرام ، فأعجبه سمتُهم ، وأعجبه إقبالُهم على ربهم ، فقال : قال - موسى - : ((يا رب إني وجدت في التوراة نعتَ قومٍ حلماء علماء ، كادوا أن يبلغوا بفقههم حتى يكونوا أنبياء ، فَمن هم ؟ قال : تلك أمة أحمد ، يا موسى أُعطُوا العلم الأول الآخر ، قال : يا رب إني وجدت في التوراة قوما توضع المائدة بين أيديهم فما يرفعونها حتى يغفر لهم فمن هم؟ قال: أولئك أمة أحمد)) .
(الدر المنثور ، للسيوطي ، تفسير الآية 144من سورة الأعراف)
فأنا أرى أن قدوتنا أصحاب رسول الله ، في ورعهم ، في عباداتهم ، في إقبالهم، في بذلهم، في تضحياتهم .
والحمد لله رب العالمين
* * *(/)
الدرس 19/50 : سيرة الصحابية : أم سلمة ، لفضيلة الأستاذ الدكتور محمد راتب النابلسي .
التاريخ : 15/02/1993
تفريغ : م . م . حسان العودة .
التدقيق اللغوي : الأستاذ غازي القدسي .
التنقيح النهائي : المهندس غسان السراقبي .
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا ، وزدنا علماً ، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .
أيها الإخوة الأكارم : نحن مع أصحاب رسول الله رضوان الله عليهم أجمعين ، وصحابي اليوم ، بل وصحابية اليوم السيدة أم سلمة وهي زوج النبي عليه الصلاة والسلام ، ولقصتها عِبَر كثيرة ، ودلالات خطيرة ، وحقائق دقيقة .
فأم سلمة ؛ أبوها سيد من سادات مخزوم المرموقين ، وجواد من أجواد العرب المعدودين ، حتى إن أباها كان يسمى بين العرب زاد الراكب ، لكثرة عطائه ، وشدة كرمه ، وأمّا زوجها فعبد الله بن عبد الأسد أحد السابقين إلى الإسلام ، إذ لم يسلم قبله إلا أبو بكر الصديق ونفر قليلٌ لا يبلغون أصابع اليدين عدداً ، أما اسمها ، هند ، لكنها سميت أو كنيت ، الوجهان يصحان بأم سلمة ، ثم غلبت عليها الكنية ، هذه المرأة الفاضلة أسلمت مع زوجها فكانت هي الأخرى من السابقات إلى الإسلام ، وهذه وقفة قصيرة لا بد منها .
أيها الإخوة : هذا كلام دقيق ، المرأة كالرجل تماماً ، هذا حكم الإسلام ، هذا حكم الدين ، المرأة كالرجل تماماً ، في التكليف ، وفي التشريف ، مكلفة بالإسلام كالرجل ، مكلفة بالإيمان كالرجل ، مكلفة بالفرائض كالرجل ، مشرِّفة عند الله كالرجل ، والأدلة على هذه الحقيقة في القرآن والسنة كثيرة جداً .
( سورة النحل : 97 ) .
( سورة آل عمران : 195 ) .
( سورة الأحزاب : 35 ) .
من أجل أن نعتقد أن المرأة كالرجل تماماً في التكليف ، وفي التشريف ، إذاً أسلمت أم سلمة مع زوجها ، فكانت هي الأخرى من السابقات إلى الإسلام .
يا أيها الإخوة الأكارم : من سعادة المرء في الدنيا أن تكون زوجته صالحة ، أن تكون زوجته مؤمنة كإيمانه ، سابقة إلى الإسلام كسبقه ، محبة لله كحبه ، طائعة لله كطاعته ، عبادة كعبادته ، لذلك أي رجل يهمل تعليم زوجته حقائق الدين وآيات القرآن الكريم يدفع الثمن باهظًا من سعادته الزوجية ، وليس أشقى في الحياة من أن تكون أنت في واد وزوجتك في واد آخر ، فأجمل البيوت الإسلامية ما كان فيها توافق بين الزوجين ، لأن الزوجة من أجل أن تقضي منها الوطر، فهذا شيء يخف بريقه مع الأيام ، والذي يبقى من الزوجة الإنسان ، المؤمن ، المتفهم ، الواعي، الذي يشاركك مشاعرك الدينية ، حبك لله عز وجل ، لذلك فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ لِأَرْبَعٍ لِمَالِهَا وَلِحَسَبِهَا وَلِجَمَالِهَا وَلِدِينِهَا فَاظْفَرْ بِذَاتِ الدِّينِ تَرِبَتْ يَدَاكَ *
(رواه مسلم)
لأنها تسعد زوجها ، أما ذات الدنيا تمتعه ولا أقول تسعده ، تمتعه إلى حين ، فأسعد المؤمنين من كانت زوجته على شاكلته ، عليه أن يجتهد في ترسيخ الإيمان في قلبها ، القضية بحسب الطلب ، ربنا عز وجل قال :
( سورة الأنبياء : 89 ـ 90 ) .
وأصلحنا له زوجه ، فالمسلم إن لم يكن متزوجاً ، عليه بذات الدين ، وإن كان متزوجاً عليه بإصلاح زوجته ، بالإحسان تارة ، بالتوعية تارة ، بالتعليم تارة ، بالتكريم تارة ، بوسائل كثيرة جداً يراها الزوج مناسبة .
ما إن شاع إسلام أم سلمة وزوجها حتى هاجت قريش وماجت وجعلت تصب عليهما من نكالها ما يزلزل الصخور ، فلم يضعفا ، ولم يَهِنَا ، ولم يترددا .
يا إخوة الإيمان ، الصحابة الكرام دفعوا ثمن هذا الإسلام باهظاً ، حتى وصل إلينا ، دفعوا من راحتهم في الدنيا ، دفعوا من طمأنينتهم ، دفعوا من مستوى معيشتهم ، دفعوا من حبهم لأوطانهم ، كل هذا ضحوا به من أجل أن ينتشر الإسلام ، ولما اشتد عليهما الأذى ، وأذن النبي عليه الصلاة والسلام لأصحابه بالهجرة إلى الحبشة ، كان عبد الله وأم سلمة من طليعة المهاجرين ، طبعاً أم سلمة من علية القوم ، حينما مضت مع زوجها إلى الحبشة خلفت وراءها بيتًا باذخاً ، وعزاً شامخاً ، ونسباً ، عريقاً ، محتسبة ذلك كله عند الله ، مستقلة ذلك في جنب الله.
يعني الإنسان إذا ما بذل ، يا بِشْر لا صدقة ولا جهاد فبمَ تلقى الله إذاً ، المسلم إن لم يبذل من جهده ، من ماله ، من راحته أحياناً ، من علاقاته الاجتماعية في سبيل الله ، فلن يصل إلى ما يرضه .
لقيت أم سلمة وزوجها من الملك الرحيم النجاشي ، نضر الله مثواه في الجنة ، عده بعض كتاب السيرة من التابعين ، لأنه كان أفضل مَن وَفَدَ إليه أصحاب النبي ، تتابعت الأخبار على المهاجرين إلى أرض الحبشة ، من هذه الأخبار أن المسلمين قد كثر عددهم وأن حمزة بن عبد المطلب ، وعمر بن الخطاب قد أسلما ، وبإسلام هذين الرجلين الكبيرين اشتد أزر المسلمين ، وقويت شوكتهم فالأخبار إذاً طيبة ، الأخبار التي جاءت إلى المهاجرين في الحبشة كانت طيبة جداً ، لذلك عادت أم سلمة وزوجها إلى مكة ، بعد أن تلقيا أخباراً طيبة عن أن المسلمين قويت شوكتهم ، واشتد عودهم بإسلام عمر وحمزة ، وأن المسلمين كثر عددهم ، لكن سرعان ما اكتشفت أم سلمة وزوجها أنّ هذه الأخبار كان مبالغاً فيه ، وأن الوثبة التي وثبها المسلمون بعد إسلام عمر وحمزة قوبلت من قريشٍ بهجمة أكبر .
أحيانًا نفرح إذ يقولون : هناك صحوة إسلامية ، ولأن مع الصحوة في هجمة ، أبداً الهجمة تكافئ الصحوة ، يعني الله عز وجل ، هذه معركة أبدية ، معركة الحق والباطل ، معركة الخير والشر ، معركة الهدى والضلال ، معركة العقل مع الشهوة ، معركة القيم مع الحاجات ، هذه معركة أبدية ، فأي مشكلة تواجهها من هذا القبيل فهذه المشكلة تندرج مع هذه المعركة الأزلية بين الحق والباطل .
لذلك بالغ المشركون في تعذيب المسلمين ، وترويعهم ، فقد أذاقوهم من بأسهم ما لا عهد لهم به ، عند ذلك أمر النبي عليه الصلاة والسلام أصحابه بالهجرة إلى المدينة ، فعزمت أم سلمة وزوجها على أن يكونا أول المهاجرين فراراً بدينهما من أذى قريش ، وكما هي العادة ندع الحديث الآن لمن ؟ لأم سلمة تحدثنا عن هجرتها ، والقصة مؤثرة جداً ، وفيها استنباطات رائعة، وحقائق دامغة .
تقول أم سلمة : لما عزم أبو سلمة على الخروج إلى المدينة أعد لي بعيراً ثم حملني عليه ، وجعل طفلنا سلمة في حجري ، ومضى يقود بنا البعير وهو لا يلوي على شيء .
ذات مرة أحد لصوص الصحراء ، لصوص الخيل ، وقف على الرمل الذي يكاد يحترق من شدة أشعة الشمس ، فمر به فارس يمتطي فرسه ، هذا الفارس رق لهذا الإنسان البائس الذي ينتعل رمال الصحراء المحرقة ، فدعاه إلى ركوب الفرس معه ، وما إن ركب هذا اللص خلف صاحب الفرس ، حتى دفعه إلى الأرض ، وعدا بالفرس لا يلوي على شيء ، ذكرني بهذه القصة كلمة لا يلوي على شيء ، فناداه صاحب الفرس ، وقال : يا هذا وهبت لك الفرس ولن أَسْأل عنها بعد اليوم ، ولكن إياك أن يشيع هذا الخبر في الصحراء ، فإن شاع هذا الخبر تذهب المروءة من الصحراء ، وبذهاب المروءة يذهب أجمل ما فيها .
إذا أقرضَ إنسان إنسانًا مبلغًا ، وهذا المدين أكله على الدائن ، فأنا لا أتمنى أن يشيع هذا الخبر بين الناس ، وإذا أحسن إنسان إلى إنسان ، والذي أُحْسِنَ إليه أساء إساءة بالغة ، فلا أتمنى أن تشيع بين الناس ، لأنه كلما شاع بين الناس مثلُ هذه الإساءات ، أحجم الناس عن فعل الخير، وبالمناسبة في هذه بلدنا أكثر من سبعمائة ألف شقة فارغة ، هل هي أزمة سكن أم إسكان ؟ أزمة إسكان ، وليس هناك أزمة سكن لماذا ؟ لأن بعض الحوادث أو عشرات الحوادث زعزعت ثقة الإنسان بمَن يريد سكنًا للإيجار ، فنشأ ما يسمى بأزمة الإسكان ، لا أزمة السكن ، هذا الذي ذكره الله عز وجل :
( سورة الماعون : 1 ـ 7 ) .
ويمنعون الماعون ، إذا أسأت إلى المحسن فقد منعت الماعون ، كلكم يذكر قبل حين أنه كان الإنسان إذا رأى مصاباً في حادث فلا أحد يسعفه إلى المستشفى ، لماذا ؟ لأن الذي يسعفه إلى المستشفى سوف يعتقل إلى أن تُكتشف حقيقة هذا الحادث ، فالإنسان إذا قام بإسعاف جريحٍ فإنه يبقى في السجن أيامًا عديدة حتى يكتشف أولو الأمر الحقيقة ، هي مشكلة كبيرة ، لذلك صار الإنسان يموت نزيفاً ولا أحد يسعفه إلى المستشفى ، إلى أن صدرت تعليمات جديدة بأن أحداً لن يسأل المسعف أبداً ، وإذا أسعفه وأوصله إلى المستشفى ، فالذي كان يضيِّق على هذا المسعف فقد مَنَعَ الماعون ، ومَنَعَ الخير ، فالمحسن إذا أسأت إليه أسأت إلى المجتمع بأسره ، لا إلى شخصه .
تقول هذه الصحابية الجليلة : لما عزم أبو سلمة على الخروج إلى المدينة ، أعد لي بعيراً ثم حملني عليه ، وجعل طفلنا سلمة في حجري ، ومضى يقود بنا البعير وهو لا يلوي على شيء ، وقبل أن نفصل عن مكة ؛ أي نبتعد عن مكة ، رآنا رجال من قومي بني مخزوم فتصدوا لنا ، وقالوا لأبي سلمة إن كنت قد غلبتنا على نفسك ، فما بال امرأتك هذه وهي بنتنا فعلامَ نتركك تأخذها منا وتسير بها في البلاد ، ثم وثبوا عليه وانتزعوني منه انتزاعاً ، فرقوا بين عبد الله وبين زوجته أم سلمة ، وما إن رآهم قوم زوجي بنو عبد أسد يأخذونني أنا وطفلي حتى غضبوا أشد الغضب وقالوا لا والله لا نترك الولد عند صاحبتكم بعد أن انتزعتموها من صاحبنا انتزاعاً فهو ابننا ونحن أولى به ثم طفقوا يتجاذبون طفلي سلمة بينهم على مشهد مني حتى خلعوا يده ، وأخذوه ، في وقت قصير فرق بين عبد الله وبين أم سلمة وبين سلمة ، هذه مأساة ، وفي لحظات ـ القول لأم سلمة ـ وجدت نفسي ممزقة الشمل وحيدة فريدة فزوجي أتجه إلى المدينة فراراً بدينه ونفسه ، وولدي اختطفه بنو عبد أسد من بين يدي محطماً مهيضاً ؛ يعني مكسور الجناح ، أمَّا أنا فقد أستولي عليَّ قومي بنو مخزوم وجعلوني عندهم ، هذه من المآسي التي عاناها أصحاب رسول الله .
وهذا سؤال : لو أنّ رجلاً سأل نفسه : نحن ما عملنا لرفعة الإسلام ؟ والله يا أخي ما حضرتُ الدرسَ ، المواصلات صعبة ، لكنها الآن حُلَّتْ مشكلتها ، وكثرتْ سيارات النقل المتوسطة ، يتعلّل بأن المواصلات صعبة ، أهي صعوبة ، أنْ تأتي لحضور الدرس ؟ أهذه صعوبة هي ؟ فهل حصل لأحدٍ كما حصل لهذه المرأة الصحابية ؟.
وفي لحظات وجدت نفسي ممزقة الشمل وحيدة فريدة ، زوجي اتجه إلى المدينة فراراً بدينه ونفسه ، وولدي اختطفه بنو عبد أسد من بين يدي محطماً ، أما أنا فقد استولى عليَّ قومي بنو مخزوم وجعلوني عندهم ، ففرقوا بيني وبين زوجي وبين ابني في ساعة .
رُوِيَ سيدنا صلاح الدين الأيوبي رضي الله عنه أنّ امرأة أسيرة فقدتْ وليدها ، فلما شكتْ إليه ذلك ، وقف ولم يجلس حتى أعادوا لها وليدها ، دخلت إلى خيمة تنتظر مجيء وليدها ، فإذا زوجها بالخيمة ، فلما عرفته وعرفها بعد طول فراق ، وهما من النصارى ، ويبدو أنها عانقته أو عانقها ، فيروي كتاب التاريخ أن سيدنا صلاح الدين الأيوبي غض بصره وأكبر هذه الرحمة التي وضعها الله بين الزوجين ، فلما حدثته عن معاملة المسلمين ، وكان زوجها فارساً من فرسان أوربا المشاهير ، أسلم لتوه وعينه صلاح الدين الأيوبي أحد قادته الكبار ، ما هذه المعاملة ؟ يعني المسلمون يتحلَّون بأعلى درجات الكمال ، لكنهم المسلمون الصادقون !!.
قالت ومنذ ذلك اليوم جعلت أخرج كل غداة إلى الأبطح ، فاجلس في المكان الذي شهد مأساتي ، فإذا قرأ إنسانٌ السيرةَ ، وذهب للحج أو للعمرة فما هي الكلمات التي يقرؤها ؟ الآن إلى جانب الحرم لوحة صغيرة مكتوب عليها في منطقة (الأبطح) ، والآن أقيمت فيها أبنية شامخة ، وشوارع ، وبنايات ، وعمارات ، وجسور ، في هذا المكان كان تخرج أم سلمة كل يوم ، قالت : فأجلس في المكان الذي شهد مأساتي وأستعيد صورة اللحظات التي حيل خلالها بيني وبين ولدي وزوجي ، وأظل أبكي حتى يخيم عليَّ الليل .
إذاً الذي أودعه الله في قلب الزوجة من محبة لزوجها ، والذي أودعه الله في قلب الزوج من محبة لزوجته ، ومن محبة الزوجين لابنهما ، ومن محبة الابن لوالديه ، فهذه رحمة من الله سبحانه أودعها الله قلوبَ عباده .
لذلك فالنبي الكريم قال : ليس منا من فرق بين والدة وولدها ، وينطبق هذا القولُ على كل إنسان يفرِّق بين أم وولدها ، حتى لو كانا من البهائم ، من أجل أنْ يشتري حيوانًا يبيع ابنها ، إذا فرَّقت بين فرس وابنها ، المهر ، وبين سخلة وابنتها ، فالمفرِّق ملعون ، لأن الذي أودعه الله في القلوب لا تمحوه الأحداث أبداً ، لذلك قال تعالى :
( سورة الروم : 21 ) .
وبقيت على ذلك سنة ، أو قريباً من السنة ، إلى أن مر بي رجل من بني عمي فرَقَّ لحالي ، ورحمني ، وقال لبني قومي ، ألا تطلقون هذه المسكينة ، فرقتم بينها وبين زوجها ، وبينها وبين ولدها ، وما زال بهم يستلين قلوبهم ، ويستدر عطفهم حتى قالوا : الْحقي بزوجك إن شئت ، ولكن كيف ألحق بزوجي وهو في المدينة ، وأترك ولدي وفلذة كبدي في مكة عند بني عبد الأسد؟ كيف يمكن لي أن تهدأ لوعة ، أو ترقأَ عَبْرة ، وأنا في دار الهجرة ، وولدي الصغير في مكة لا أعرف عنه شيئاً ؟ فقلب الأم ، وقلب الأب ، يؤكد عظمة الله عز وجل ، قلب الأم يؤكد رحمة الله عز وجل .
أنا رأيت بأم عيني في طريقٍ في بعض المحافظات أنّ شاحنة دهست جرواً ، أول مرة أرى بعيني أمًّا لهذا الجرو تبكي ، والدموع تنهمر من عينيها على الأرض ، حين رأت جروها قد دُهِس .
تقول أمُّ سلمة : ورأى بعض الناس ما أعالج من أحزاني وأشجاني فرقت قلوبهم لحالي ، وكلموا بني عبد الأسد في شأني ، واستعطفوهم عليَّ ، فردوا لي ولدي سلمة ، قالت : فلم أشأ أن أتريث في مكة حتى أجد من أسافر معه ـ قصة غريبة جداً ، لشدة شوقها للمدينة دار الهجرة ، ولزوجها والد ابنها ـ فقد كنت أخشى أن يحدث ما ليس بالحسبان ، فيعوقني عن اللحاق بزوجي عائق ، لذلك بادرت فأعددتُ بعيري ، ووضعت ولدي في حجري ، وخرجتُ متوجهة نحو المدينة أريد زوجي ، وما معي أحد من خلق الله ، امرأة تركب ناقة وفي حجرها ولدها وتُيَمِّم شطر المدينة ، التي تبعد عن مكة 450 كيلومترًا ، تحتاج إلى أن تقطعها الآن في سيارة مكيفة حديثة تسير بسرعة 180 ـ 210 ، في طريق سريعة عريضة مزفَّتة ، تحتاج إلى خمس ساعات سير ، أو ثلاث ساعات ، وكان أصحاب النبي يقطعون هذه الطريق في اثني عشر يوماً.
بربكم أرجو أن توازنوا بين ما نحن فيه وبين ما كان أصحاب رسول الله فيه ، بل الأغرب من ذلك وازنوا بين ما نحن فيه ، وبين ما كان فيه أهل الجاهلية .
قالت : وما إن بلغت التنعيم ؛ التنعيم الآن منطقة فيها مسجد السيدة عائشة ، مكان الإحرام للعمرة ، وما إن بلغت التنعيم حتى لقيت عثمان ابن طلحة فقال : إلى أين يا بنت زاد الراكب ؟
قلت أريد زوجي في المدينة .
قال : أو ما معك أحد ؟.
قلت : لا والله ، إلا الله ، ثم بنيَّ هذا .
قال : واللهِ لا أتركك أبداً حتى تبلغي المدينة .
فسار معها اثني عشر يوماً ، قال : والله لا أتركك أبداً حتى تبلغي المدينة ، ثم أخذ بخطام بعيري وانطلق يهوي بي .
اسمعوا وصف السيدة أم سلمة لهذا الرجل الذي لم يسلم بعد ، هذا مشرك .
قالت : واللهِ ما صحبت رجلاً من العرب قط أكرم منه ولا أشرف ، كان إذا بلغ منزلاً من المنازل ينيخ بعيري ثم يستأخر عني ، حتى إذا نزلت عن ظهره ، واستويت على الأرض ، دنا إلى البعير ، وحط عنه رحله ، واقتاده إلى شجرة ، وقيده فيها ، ثم يتنحى عني بعيداً إلى شجرة أخرى فيضطجع فيها فإذا حان الرواح قام إلى البعير ، فأعدَّه ، وقدَّمه إلي ، ثم يستأخر عني ويقول : أركبي فإذا ركبت واستويت على البعير ، أتى وأخذ بحطامه وقاده .
وازنوا بين هذا الجاهلي وبين شباب المسلمين اليوم ، يعني إذا امرأة في مكان تعثرت ، فالمسلم الشهم يغض بصره فوراً ، أما الدنيء فإنه ينظر إليها ، فهذا الرجل قبل أن يسلم ، هكذا تصرف كما رأيتم وقرأتم عن تصرفاته قبل أسطر .
قالت : والله ما صحبت رجلاً من العرب قط أكرم منه ولا أشرف ، كان إذا بلغ منزلاً من المنازل ينيخ بعيري ثم يستأخر عني ، حتى إذا نزلت عن ظهره ، واستويت على الأرض ، دنا إلى البعير ، وحط عنه رحله ، واقتاده إلى شجرة ، وقيده فيها ، ثم يتَنَحَّى عني بعيداً إلى شجرة أخرى ، فيضطجع في ظلها ، فإذا حان الرواح ، قام إلى البعير فأعده ، وقدمه إلي ، ثم يستأخر عني ويقول : اركبي ، فإذا ركبت واستويت على البعير ، أتى وأخذ بخطامه وقاده ، وما زال يصنع بي مثل ذلك كل يوم حتى بلغنا المدينة ، فلما نظر إلى قرية بقباء لبني عمرو بن عوف قال : زوجك في هذه القرية فادخليها على بركة الله ، ثم أنصرف راجعاً ، وسار اثني عشر يومًا، حتى أوصلها سالمةً ، فهو شهم حقًّا ، وصاحب مروءة ، فهذه أخلاق جاهلية أمتنا .
ونضرب مثلا باللغة التجارية فنقول : إذا قبض رجلٌ مالاً من المشتري ، فكتب في سجلاَّته دفعة أولى ، معنى ذلك أنه ستكون هناك دفعة ثانية ، هل هذا الكلام صحيح ؟ نعم ، فكل شيء موثَّق ، ورغم ذلك نجد التحايلَ كثيرًا ، ربنا عز وجل قال :
( سورة الأحزاب : 33 ) .
ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى ، فما المعنى ؟ كانت جاهلية أشد ممّا أتى بعدها ، هي جاهلية جهلاء ، يُكذَّب الصادق ، ويُصدَّق الكاذب ، يؤتمن الخائن ، ويخون الأمين ، ويوسَّد الأمر إلى غير أهله ، ويصبح الولد غيظاً ، والمطر قيظاً ، ويفيض اللئام فيضاً ، يغيظ الكرام غيظاً ، يؤمر بالمنكر ، ويُنهى عن المعروف ، وتركب ذواتُ الفروج السروج ، كما ورد في بعض الأحاديث ، ويعق الابنُ أباه ، ويبرُّ صديقه .
وفي أيامنا نجد شبابًا مع والده ووالدته ، أشرس ما يكون ، ومع أصدقائه مثل الجمل الذلول ، سهل المأخذ ، ليّن الجانب ، لطيف ، وديع ، مع رفاقه ، لكنّه مع والده ووالدته شرس .
النبي الكريم أخبر : يوم يذوب قلب المؤمن في جوفه مما يرى ولا يستطيع أن يغير ، أحاديث كثيرة لا أذكرها الآن ، لذلك أُلِّفتْ كتب كثيرة تحت عنوان : جاهلية القرن العشرين ، هناك جاهلية جهلاء ، والملاحَظ الآن في العالَم جاهلية ما بعدها جاهلية ، لا قيم ، ولا مبادئ ، ولا أخلاق ، ولا رحمة ، أبداً ، بل قسوة ما بعدها قسوة ، ووحشية ما بعدها وحشية ، تفاوت ما بعده تفاوت ، قهرٌ ما بعده قهر ، لذلك كلمة الأولى في قوله تعالى لها معانٍ كثيرة ، ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى ، فمَن يصدِّق أنّ في بعض البلاد الغربية 30% من حالات الزنى زنى محارم ، الأخت مع أخيها ، والأب مع ابنته ، إلى أن أصبح هذا شبه شائع ، ولا تبتعدوا كثيراً ، هذا الذي نجح في الانتخابات الرئاسية في أمريكا ، لماذا نجح ؟ لأنه وعَد فيما وعدهم بإباحة الإجهاض ، وأما الشاذون جنسياً فهؤلاء سمح لهم بدخول الجيش ، وكأن هذا ليس شذوذاً ، بل هو مقبول اجتماعياً ، هذه هي جاهلية القرن العشرين .
قال : زوجك في هذه القرية فادخليها على بركة الله ، ثم أنصرف راجعاً إلى مكة ، اجتمع الشمل الشتيت بعد طول افتراق ، وقرت عين أم سلمة بزوجها وسعد أبو سلمة بصاحبته وولده ، ثم تسارعتْ الأحداث ومضتْ الأيامُ سراعاً كلمح البصر ، فهذه بدر يشهدها أبو سلمة ويعود منها مع المسلمين ، وقد انتصروا نصراً مؤزراً ، وهذه أُحُد يخوض غمارها بعد بدرٍ ، ويبلي فيها أحسن البلاء وأكرمه ، لكنه يخرج منها وقد جرح جرحاً بليغاً ، فما زال يعالجه حتى بدا له أنه قد اندملتْ ، لكن الجرح قد اندمل على فساد ، فما لبث أن انتكأتْ ، ولزم أبو سلمة الفراش ، وفيما كان أبو سلمة يعالَج من جرحه ، قال لزوجته : يا أم سلمة ، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : لا يصيب أحد مصيبة فيسترجع عند ذلك فيقول ، ومعنى يسترجع أنْ يقول : إنا لله وإنا إليه راجعون ، فيسترجع عند ذلك فيقول اللهم عندك احتسبت مصيبتي هذه ، اللهم اخلفني خيراً منها إلا أعطاه الله عز وجل ، هذا كلام النبي الذي لا ينطق عن الهوى ، اللهم اخلفني خيراً منها إلا فعل الله ذلك ، قالت : ضل أبو سلمة على الفراش مريضًا أياماً ، وفي ذات صباحٍ جاءه النبي صلى الله عليه وسلم ليعوده ، فلم يكد ينتهي من زيارته ويجاوز باب داره حتى فارق أبو سلمة الحياة ، فرجع النبيّ وأغمض عينيه بيديه الشريفتين ، ورفع طرفه إلى السماء وقال : اللهم أغفر لأبي سلمة وارفع درجته في المقربين ، واخلفه في عقبه من الغابرين، واغفر لنا وله يا رب العالمين ، هذا دعاء النبي لأبي سلمة وقد توفاه الله عز وجل ، وافسح له في قبره ، ونوِّرْ له فيه .
أمّا أمُّ سلمة فتذكرت ما رواه لها أبو سلمة عن رسول الله فقالت : اللهم عندك احتسبت مصيبتي هذه ـ هكذا يكون المؤمن ، لكنها لشدة إعجابها بأبي سلمة ، ولشدة حبها له ، ولأنها تعتقد أن أحداً لن يكون خيراً منه كزوج لها ، لمّا وصلت لقول النبي : اللهم اخلفني خيراً منه ، ما استساغت نفسُها أنْ تدعوَ بهذا الدعاء ، لم تطب نفسها أن تقول : اللهم اخلفني فيها خيراً منها، لأنها كانت تقول : ومن عساه أن يكون خيراً من أبي سلمة ، ليس معقولاً ، ويبدو أن زوجها كان في أعلى درجة من المروءة ، والشهامة ، والكرم ، والأخوة ، والقوة ، والمنعة ، بعضُ الأزواج ملء السمع والبصر ، فحزن المسلمون لمصاب أم سلمة كما لم يحزنوا لمصاب من قبل ، وأطلقوا عليها اسمَ أيِّم العرب ، إذْ لم يكن لها في المدينة أحدٌ من ذويها غير صِبْية صغار كزغب القطا ، وشعر المهاجرون والأنصار معاً بحق أم سلمة عليهم .
وهنا تعقيب لا بد منه ؛ أنا أقول لكم : هناك زواج في الإسلام لا يقصد منه المتعة إطلاقاً ، زواج شهامة ، زواج مروءة ، حتى تقدم منها أبو بكر الصديق يخطبها لنفسه ، فلا قريب لها ، ولا معيل ، وأولادها صغار ، ولا أحد يدخل عليها ، فأبت أن تستجيب له ، ورفضت ، ثم تقدم منها عمر بن الخطاب ، فردَّته كما ردت صاحبه .
وبالمناسبة يقول عليه الصلاة والسلام : أول من يمسك بحلق الجنة أنا ، فإذا امرأة تنازعني تريد أن تدخل الجنة قبلي ، قلت من هذه يا جبريل ؟ قال : هذه امرأة مات زوجها ، وترك لها أولادًا ، فأبت الزواج من أجلهم .
أنا أعتقد أن أم سلمة هذه الصحابية الجليلة لم ترفض طلبَ أبي بكر رضي الله عنه ، ولا طلب عمر رضي الله عنه كِبَراً ، لا ، أبداً ، ولكن هناك أسباب ، سنراها بعد قليل ، ثم تقدم منها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت له يا رسول الله : إن فيَّ خلالاً ثلاثًا ، فأنا امرأة شديدة الغيرة ، فأخاف أن ترى مني شيئاً يغضبك فيعذبني الله ، وأنت رسول ، وأنا امرأة قد دخلت في السن ، أيْ كبيرة ، لا أصلح للزواج ، وأنا امرأة ذات عيال ، وعندي أولاد ، صلى الله عليك يا أبا القاسم قال : أمَّا ما ذكرت مِن غيرتك فإني أدعو الله عز وجل أن يذهبها عنك ، فهي مرض، والغيرة لها حد مقبول ، وبوضعها المعتدل ضرورية جداً ، فإذا شعر الزوج أن زوجته تغار عليه ، وتحرص على أن يكون لها وحدها ، وتحرص على رضاه ، فهذه صفة ضرورية أودعها الله في النساء ، لكن كل صفة أودعها الله في النساء والرجال لها حد طبيعي ، والآن بالتحاليل يقول التقرير : نسبة طبيعية ، حد طبيعي ، وهناك أرقام مرضية ، زيادة أو نقصان ، الغيرة أيها الإخوة ، في أحجامها الطبيعية ضرورية ، لكن أحياناً تتفاقم عند امرأة ما ، وتزيد عن حدها المعقول ، فتنقلب إلى مرض ، يعني امرأة تشك في زوجها الذي هو في أعلى درجات الاستقامة، فهي مريضة إذاً ، تغار عليه أن يتصل بالهاتف ، تغار عليه أن يتأخر بالمجيء إلى البيت ، تظن به الظنون ، مريضة ، هذه امرأة تحتاج إلى معالجة .
النبي عليه الصلاة والسلام قال : أما ما ذكرت من غيرتك فإني أدعو الله عز وجل أن يذهبها عنك ، ودعاء النبي مستجاب ، وأما ما ذكرت من السن فقد أصابني مثل الذي أصابك ـ هذا تلطف من رسول الله ، وأنا كبير كذلك ـ وأمّا ما ذكرت من العيال فإنما عيالك عيالي ، هذه إجابة النبي عليه الصلاة والسلام ، ثم تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم من أم سلمة فاستجاب الله دعاءها ، أليس رسول الله خيراً من أبي سلمة ؟ اخلفني خيراً منها ، فاستجاب الله دعاءها ، واخلفها خيرًا من أبي سلمة ، ومنذ ذلك اليوم لن تبقى أم سلمة أماً لسلمة وحده ، وإنما غدتْ أمًّا لجميع المؤمنين .
وبعد ؛ فإني أسألكم بعض الأسئلة ، وأريد استنباطات من هذه القصة ، استنباطات تفيدنا في حياتنا اليومية ، فمَن عنده استنباط ؟ طبعاً أحداث القصة يعنينا منها الحقائق ، العبر ، المواعظ ، التجارب .
أن يكون اختياره أولاً مرضاة الله عز وجل ، أبو سلمة ترك زوجته وولده وفر إلى الله ورسوله، فر بدينه إلى الله ورسوله ، والله عز وجل تولى أمره ، أعاد إليه زوجته وولده ، وأكرمه بصحبة النبي عليه الصلاة والسلام ، إذاً المقولة التي تعرفونها ، هم في مساجدهم والله في حوائجهم .
استنباط آخر ، أنت رجل ، وبين الناس إنسان عفيف ، وإنسان دنيء ، هذا الذي ينظر إلى امرأة لا تحل له ، فهذه ليست له ، ولذلك غض البصر يكسب الإنسان شرفاً ، يكسب الإنسان مروءة ، وأجمل صفة بالشاب العفة ، تعلمون جميعاً أن العدل حسن لكن في الأمراء أحسن ، والسخاء حسن لكن في الأغنياء أحسن ، والتوبة حسن لكن في الشباب أحسن ، والصبر حسن لكن في الفقراء أحسن ، والحياء حسن لكن في النساء أحسن ، والورع حسن لكن في العلماء أحسن ، فالعالِم ألزم ما يلزمه الورع ، والحاكم ألزم ما يلزمه العدل ، والغني السخاء ، والفقير الصبر ، والشباب التوبة ، والمرأة الحياء .
وما ترك عبد شيئاً لله إلا عَوَّضَه الله خيراً منه ، هذه واحدة ، والثانية ما أصاب أحداً مصيبةٌ فقال : حسبي الله ونعم الوكيل إلا عوضه الله خيرًا منها ، لم تصدِّق أمُّ سلمة أن زوجها أبا سلمة ملء السمع والبصر ، زوج لا كالأزواج ، رجل لا كالرجال ، فكيف يعوضها الله خيراً منه ، لقد كان الزوجُ الآخر النبي عليه الصلاة والسلام ، وهو خير من أبي سلمة .
أيضاً استنباط آخر ، إن مع العسر يسرا ، وكل مصيبة في ثناياها بذور حلها ، لذلك قالوا : اشتدي أزمة تنفرجي ، فالفرج يأتي بعد الشدة ، والآية الكريمة :
( سورة الطلاق : 2 ) .
ومن يتق الله يجعل له مخرجا ، ماذا تعني كلمة (مخرج) ، إذا انقطع واحد بفلاة فهو يحتاج إلى مخرج ، أمّا إذا كان الشخصُ في مكان له سبعة أبواب مفتوحة ، هل يحتاج لمخرج ؟ لا ، لكن متى نقول مخرج ؟ عندما تكون الأبواب كلها مغلقة ، والأمور مشتدّة ، والطرق كلها غير سالكة ، عندئذ يأتي الفرج من أعلى ، مِن لدُنْ حكيم خبير ، قال تعالى : ومن يتق الله يجعل له مخرجا .
استنباط آخر ، كان وفاءها لزوجها منقطع النظير ، لذلك فالأصل بين الزوجين المودة والمحبة، فإذا طغتْ بينهما الخصومات ، والمشاحنة ، والبغضاء ، والبيت في نكد ، فهذه حالة مَرَضية ينبغي أن تعالج ، لأن الله سبحانه وتعالى قال : ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة ، إنها من آياته .
هل عندكم شك أن النبي أراد أن يتزوجها من أجل شيء دنيوي ، لا والله ، لكنّ امرأة جاهدت هذا الجهاد ، وهاجرت إلى الحبشة ، ثم هاجرت إلى المدينة ، ولقيت من العنت ما لقيت، وفوق كل ذلك يموت زوجها ، ويُبقِي لها أطفالاً صغاراً ليس لهم مُعيل ، أليس من الشهامة أن تقدِم على الزواج من هذه المرأة ؟ بلى ، والدليل سيدنا الصديق ، وسيدنا عمر ، وجاء النبي بعد ذلك ، الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَخَيْرُ مَتَاعِ الدُّنْيَا الْمَرْأَةُ الصَّالِحَةُ *
(رواه مسلم عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو)
المرأة الصالحة التي إذا نظرت إليها سرتك ، وإذا غبت عنها حفظتك في مالك ونفسها ، وإذا أقسمت عليها أَبَرِّتْك ، وإذا أمرتها أطاعتك ، سِتِّيرة ، عزيزة في نفسها ، ذليلة مع بعلها ، ودود ولود ، نعم ، ترضى باليسير ، ولا تكفر العشير ، وفي القرآن آية تشير إلى ذلك ، عن نساء أهل الجنة ، وصف الله حوريات أهل الجنة بأنهن قاصرات الطرف ، يعني يقصرن طرفهن على أزواجهن لكن مِن النساء : فلان أحسن منك ، كل ليلة عنده مشكلة ، فلان أكرم منك ، فلان بيته أكبر ، فلان صنع وليمة لبيت أصهاره ، وأنت لم تفعل ذلك في العيد ، كل يوم عنده مشكلة، فهذه المرأة التي توازن زوجها بالآخرين ، هذه ليست امرأة ترضي الله عز وجل .
لذلك يقول النبي الكريم : أَيُّمَا امْرَأَةٍ سَأَلَتْ زَوْجَهَا طَلَاقًا مِنْ غَيْرِ بَأْسٍ فَحَرَامٌ عَلَيْهَا رَائِحَةُ الْجَنَّةِ *
(رواه الترمذي وأبو داود وابن ماجه عَنْ ثَوْبَانَ)
إن الله لا ينسى أحداً من رحمته ، فقد فرَّق بين أم سلمة وزوجها وولدها ، وصبرتْ ، فأعاد الله لها زوجها وولدها ، وهذا الاستنباط رائق صحيح .
وثمّة استنباط آخر ، وهو أن المؤمن يكره مجتمع الكفر ، وهذه حقيقة إيمانية ، كما يكره أن يلقى في النار ، المؤمن مع المؤمنين كالسمك في الماء ، المؤمن في المسجد كالسمك في الماء ، راحته مع إخوانه المؤمنين ، راحته في بيوت الله ، راحته في أداء العبادات ، فقد سئل الجنيد : مَن وليّ الله ؟ قال : ليس الولي الذي يطير في الهواء ، ولا الذي يمشي على وجه الماء ، الولي كل الولي الذي تجده عند الحلال والحرام ، وتجده حيث أمر الله ، وتفقِده حيث نهى الله عنه ، فلا يقرب الأماكن الموبوءة .
نحن الآن في جاهلية أخرى ، قال سيدنا جعفر : كنا قوماً أهل جاهلية ، نعبد الأصنام ، ونأكل الميتة ، ونأتي الفواحش ، ونسيء الجوار ، ونقطع الأرحام ويأكل القوي منا الضعيف ، هي جاهلية مُرَّة ، القوي يأكل الضعيف ؟ أما الآن فالأقوياء يأكلون الشعوب ، وليس الضعاف فحسب ، هذه جاهلية جهلاء .
هنا حقيقة ، هي نصيحة للشباب ، يمكن أنْ تتزوج فتاة ، وقد أودع الله عز وجل في نفس كل شاب حبَّ الزوجة ، لكن إذا كانت الزوجة رفيقة لك في الحياة ، بمعنى أنها في مستواك الثقافي ، والشرعي ، والإيمان ، والورع ، فهذه أكثر مِن زوجة ، هذه رفيقة العمر ، الواحد إذا تزوج يجب أنْ يعلِّم زوجته ، لأن هذه المتعة التي يحتاجها الزوج من زوجته تنقضي ، وتصبح مع الزمن شيئاً عاديًّا ، لا يترك أثراً بعيدًا في النفس ، أمّا الذي يبقى هو علمها ، وأخلاقها ، ودينها ، وورعها ، ووفاؤها ، وحكمتها ، وتربيتها لأولادها .
مرة نصحتُ شخصًا نصيحة ، قلت له : لن تسعد بزوجتك إلا إذا عرَّفتها بالله ، فسعدتْ به ، عندئذ تسعد بها ، ثم تسعِدك ، لأنها عرفت قيمتك ، وعرفت قيمة الزوج ، وعرفت واجبها تجاه الزوج ، وعرفت حقوق الزوج ، وأنت عرفت حقوقها ، لن تسعدك زوجتك إلا إذا عرفتها بالله ، فسعدت بقربه ، وعرفت حق الزوج ، عندئذ تسعدك ، فكل إنسان يهمل دين زوجته يدفع الثمن باهظًا ، وكل إنسان يرعى دين زوجته ، ويرعى إيمانها ،و يرعى تلاوتها للقرآن ، وعلمَها ، فهو الرابح الأول ، وإذا المرءُ : يا رب وفِّق شريكي ، فنصف الدعوة له ، فهذه معروفة بين التجار ، إذا دعا الشريك لشريكه بالتوفيق ، فإنه يدعو لنفسه وهو لا يدري ، وهذه الزوجةُ شريكة الحياة ، فإذا دعوتَ لها بالهدى والصلاح ، فأنت الرابح الأكبر ، فالإنسان قبل أن يتزوج يبحث عن المرأة الصالحة ليسعَدَا معًا .
والحمد لله رب العالمين
***(/)
الدرس 41/50 ، سيرة الصحابي : ثابت بن قيس الأنصاري ، لفضيلة الأستاذ محمد راتب النابلسي .
تفريغ : المهندس عبد العزيز كنج عثمان .
التدقيق اللغوي : الأستاذ غازي القدسي .
التنقيح النهائي : المهندس غسان السراقبي .
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا ، وانفعنا بما علمتنا وزدنا علما، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .
أيها الإخوة المؤمنون ... مع الدرس الواحد والأربعين ، من دروس سير صحابة رسول الله رضوان الله تعالى عليهم أجمعين ، وصحابي اليوم ، سيدنا ثابت بن قيس الأنصاري .
ولحكمةٍ بالغة اختار اللهُ سبحانه وتعالى للنبي عليه الصلاة والسلام أصحاباً ، هم قِمَمٌ في البطولة ، لكن البطولات منوَّعة ، وهذا الصحابي الجليل كان الناطق الرسمي ، باسم النبي عله الصلاة والسلام ، كان خطيبه ، أي آتاه الله قدرةً بيانية ، والإنسان يحتاج إلى أن يكون ، متمكناً من اللُّغة، لأنها قالب المعاني ، والمعاني لا يمكن أن توصلها إلى الناس إلا بقالبٍ مقبول .
فإذا اختار أحدكم أن يكون داعيةً إلى الله عزَّ وجل ، وهي صنعة الأنبياء ، وهي أشرف عملٍ على وجه الأرض ، لا بدَّ له إضافةً إلى إيمانه ، وتوحيده ، وإخلاصه ، واتصاله ، وعباداته، وأوراده ، وبذله ، وتضحيته ، وانضباطه ، إضافةً إلى كلِّ ذلك ، لا بدَّ له من بيان ، لذلك كما قال سيدنا عمر :
((تعلموا العربية فإنها من الدين)) .
فأحياناً ، في مَجْمع كبير ، مهما كنت متَّقد الإيمان ، ومهما كنت شديد الإخلاص، إن لم تكن متمكناً من اللُّغة فلن تستطيع أن تنقل أفكارك الدقيقة ، ومشاعرك الإيمانية ، ولا أن تؤثِّر في الآخرين ، فهذه اللُّغة علم الأدوات ، فحينما تريدُ أن تنطق بالحق فلا بدَّ لك من أداة ، إنما هي اللُّغة ، لذلك فالذي يبذل جهداً في تعلمُّ اللُّغة ، وتعلم تلاوة القرآن ، فله ثوابه عند الله تعالى ، ويجب أن تتلو القرآن ، تلاوةً صحيحةً ، ويجب أن تتكلم بلغةٍ صحيحة ، مبدئياً صحيحة ، وبعد قليل نقول لك : لا بدَّ من لغةٍ أدبية.
قال أحدهم : تكاثرتْ عليَّ المصائبُ ، وهذا كلام فصيح ، وقال المتنبِّي :
رماني الدهرُ بالأرزاءِ حتى ... فؤادي في غشاءٍ من نبالِ
فصرتُ إذا أصابتني سهامُ .. تكسَّرَتِ النِّصالُ على النِّصالِ
***
هذه صورة أدبية ، والتعبير إما أن يكون تعبيراً مبتذلاً ، عامِّياً ، سوقياً ، وإما أن يكون تعبيراً صحيحاً ، وإما أن يكون تعبيراً أدبياً ، فنحن قبل كل شيء ، نطالب الإخوة الذين يطمحون إلى أن يكونوا دعاةً إلى الله عزَّ وجل ، أن يمتلكوا قدرةً بيانية ، أن يكون تعبيرهم صحيحاً ، فصيحاً ، إذا أتقنوا هذه الناحية ، نطالبهم ، أن يرقوا بمستوى لغتهم إلى المستوى الأدبي .
فسيدنا ثابت بن قيس ، هذا الصحابي الجليل كان خطيب النبي عليه الصلاة والسلام، فكلما كانت تأتيه الوفود ، ويتبارون أمامه بشِعرهم وخطاباتهم ، يدعو النبيُّ الكريمُ سيدَنا ثابت بن قيس ليقف خطيباً ينطق باسم النبي عليه الصلاة والسلام .
ولا أزال أعيد وأكرر ؛ إنّ كل الحظوظ التي يمكن أن يؤتيك الله إياها ، ابتداءً من وسامتك ، ومن طول قامتك ، ومن نصاعة لونك ، ومن رجاحة عقلك ، ومن طلاقة لسانك ، ومن كثرة مالك ، ومن أي حظٍ يؤتيك الله إياه ، هذه الحظوظ ، إما أنها درجاتٌ ترقى بها إلى أعلى علِّيِّين ، وإما أنها دركاتٌ تهوي بها إلى أسفل سافلين .
الذين يكتبون القصص الماجنة أليسوا أدباء ؟ أليسوا أذكياء ؟ هؤلاء يستخدمون اللُّغة والبيان في إفساد مجتمعٍ بأكمله .
فلذلك تعلموا العربية فإنها من الدين ، وإنّه لشيء عظيم جداً أن تتقن لغة القرآن ، ولا تعرف هذه النعمة إلا إذا التقيتَ بمسلمٍ من بلدٍ لا ينطق بالعربية ، أنت تستمع إلى اللُّغة العربية ، وإلى القرآن الكريم ، وإلى الحديث الشريف بيُسْرٍ وراحةٍ ، من دون عناءٍ ، ولا جهدٍ ، وغيرك يتلوَّى على أن يفهم معنى هذه العبارة ، لذلك هؤلاء العرب ، الذين جعلهم الله أمةً وسطى ، بمعنى أنهم وسطاءُ ، بين الله عزَّ وجل ، وبين الخلق ، فالذي ولد في بلدٍ عربي ، ونشأ على اللُّغة العربية ، فهذه نعمةٌ لا تقدَّر بثمن ، فعليه أن يصقل لغتَه صقلاً ، وأن يهذِّبها ، وأن يطلب العلم .
إذا وَجد أخ مؤمن عنده كتابًا صغيرًا في اللُّغة العربية ، في تيسير قواعد الُّلغة العربية ، ألا يخطُر في باله أن يَسأل : ما الفرق بين قط ، وبين أبداً ؟ لن أفعل هذا قط .. غلط ، ما فعلت هذا أبداً .. غلط ، قطُّ تستغرق الزمن الماضي ، ما فعلته قط ، ولن أفعله أبداً ، ألم يخطر ببالك أن تعرف الفرق بين نعم ، وبلى ؟ فرقٌ كبير :
( سورة الأعراف : آية " 172 " )
إذا قالوا : نعم ، فقد كفروا ، نعم أي لست ربنا ، أما إذا قالوا : بلى ، أي أنت ربُنا ، فنعم تثبت النفي ، وبلى تنفي النفي ، ونفي النفي إثبات ، فرقٌ كبير بين نعم وبين بلى .
فرقٌ كبير بين إذا وبين إن ، قال تعالى :
( سورة الحجرات : أية " 6 " )
(إنَّ) ، تفيد احتمال الوقوع ، لكن (إذا) تفيد تحقق الوقوع ، أي :
( سورة النصر )
لا بدَّ أنْ يأتي نصرُ الله ، أما :
(سورة الحجرات ، الآية 6)
فقد يأتي وربما لا يأتي ، ألا تشتاق إلى معرفة معاني الأدوات ؟ ماذا تعني أنَّى :
( سورة البقرة : آية " 223 " )
ينبني على معرفة معنى (أنَّى) حكمٌ شرعيٌ دقيقٌ دقيق ، خاصٌ خاص ، لا بدَّ للزوج أن يعرفه .
لذلك فهناك كتب في معاني الأدوات ، فمعنى (إذا) ، نحن درسنا في الجامعة ثمانية وأربعين حالة لـ : ما ، وهذا الكتاب اسمه [مُغني اللبيب عن كتُب الأعاريب] لابن هشام النحوي ، فأحد أجزائه في معاني أدوات اللغة العربية ، جزء بكامله منه ، أربعمائة صفحة أو أكثر ، تتحدَّث عن أدوات اللغة العربية ، كيف ، أربعة عشر نوعاً لها ، اللام لها عشرون نوعًا ، فالأدوات بعضُها حروف وبعضها أسماء ، فهذه لغتكم ، ولغة آبائكم وأجدادكم ، هذه لغة نبيِّكم عليه الصلاة والسلام ، هذه لغة القرآن ، فتعلُّم العربية واجبٌ دينيّ ، لأن فهم القرآن يحتاج إلى لغة ، والنطق في تفسير القرآن يحتاج إلى لغة ، فأكثر الناس يقول لك في قوله تعالى :
( سورة البقرة : آية " 282 " )
يعنون : إذا تتقي الله يعلِّمك الله .. ليس هذا هو المعنى المقصود إطلاقاً ، هذا معنى غير صحيح ، لو أن الله قال : واتقوا الله يعلِّمْكُم الله .. لصحَّ المعنى ، انظُرْ إلى الفرق بين : يعلِّمُكُم - بضمِّ الكاف - وبين يعلِّمْكم - بسكون اللام - لأنه لو قال الله : اتقوا الله يعلِّمْكم ، لصار اتقوا فعلَ طلب، ويعلِّمْكم جواب الطلب ، مجزوم لوقوعه جواباً لطلب ، أما : اتقوا الله ، ثم استئناف : ويعلِّمُكُمُ الله ، أي الله يعلِّمكم دائماً ، علَّمكم بالكون ، وبالعقل ، وبالقرآن ، وبالدعاة ، وبالعلماء ، وبالأحوال النفسية، وبالأحداث ، ما دام الله يعلِّمكم دائماً ، فلِمَ لا تتقون الله عزَّ وجل ، هذا هو المعنى .
فالإنسان أحياناً يشعر بأمسِّ الحاجة لفهم خصاص اللغة ، ذات مرة أحد المتعهدين استلَم مشروعًا ، فلمَّا تسلَّم أصحاب المشروع التعهُّد ، خصموا منه خمسمائة ألف ليرة ، فأقام عليهم دعوى، واحتجَّ بحرف (من) ، ففي دفتر الشروط كتب : عليه أن يقدِّم من أجود المواد ، فقال : اسألوا مجمع اللغة العربية ، هل تعني من أجود المواد أن أقدِّم أجود المواد ؟ هذه من للتبعيض ، وربح الدعوى، واسترد المبلغ بشرح كلمة (من) التي كان معناها في النص التبعيض ، أيْ بعض .
كلُّكم يعلم هذا القرار الذي أصدره وزير الخارجية البريطاني : على إسرائيل أن تنسحب من أراضٍ احتُلَّت ، ترجمت إلى العربية : من الأراضي المحتلَّة ، العرب وافقوا على هذا القرار، لأنه ينصُّ على أن إسرائيل عليها أن تنسحب من كل الأراضي المحتلَّة ، والترجمة الإنكليزية ، أن تنسحب من أراضٍ ، فهذا التنكير للتبعيض ، محتلَّة ، اختلف المعنى من الأرض إلى السماء ، فاللغة العربية دقيقة جداً.
وأنا الآن لست في معرض بيان دقائق هذه اللغة ، فهو بحثٌ ممتعٌ وطويلُ ، فأحياناً حرف واحد يغيِّر المعنى تغييراً جذرياً ، ألم يسأل الحَجَّاج شخصًا قائلاً له : من أنا ؟ قال له : أنت قاسطٌ عادل ، فسأل أصحابه : أتدرون ماذا قال لي ؟ قالوا له : مدحك ، قال : لا ، بل قال لي : أنت ظالمٌ كافر ، قالوا : وكيف ؟ قال : قال تعالى :
( سورة الجن )
المُقسِط هو العادل ، أما القاسط فهو الظالم ، أما عادل ، فقد قال تعالى :
( سورة الأنعام )
أي عدلوا عن الإيمان إلى الكفر ، فهو عادلٌ قاسط .
على كلٍّ من علامات إيمان الإنسان ، أن يحبَّ اللغة العربية ، وأن يحبَّ أهلها ، وأن يتعلَّم قواعدها ؛ نحوها ، وصرفها ، وأوزانها ، وهذا شيء ممتع ، لكني أرى بعض الإخوة ، وأشعر أن إيمانه قوي ، وفيه إخلاص ، ولديه عاطفه جيَّاشة ، لكن إذا أراد أن يتكلَّم وجدتَ كلامه مضطَّربًا ، وعباراته غير صحيحة ، وجمله غير متماسكة ، يلحن كثيراً ، لذلك كمن يقدِّم شراباً نفيساً بالتعبير العامي (بكيلة مصدِّية) لا يُشرَب بها ، شراب نفيس يُقَدَّم في وعاء قمئ ، صدئ ، قديم ، بشع ؛ لكن هذا الذي يقدِّم أثمن شراب بكأسٍ فضّي مثلاً فهو المناسب ، فلا بدَّ أن يتناسب المضمون مع الشكل ، أنت صاحب دعوة ، وأنت مؤمن ، فلا بدَّ أن يكون كلامك موزوناً ، لذلك : تعلَّموا العربية ، فإنَّها من الدين .
ثابت بن قيس الأنصاري ، سيدٌ من سادات الخزرج المرموقين ، ووجهٌ من وجوه يثرب المعدودين ، وكان إلى ذلك ذكيَّ الفؤاد ، حاضر البديهة ، رائع البيان ، جهير الصوت ، إذا نطق بزَّ القائلين .
هذا ابن المقفَّع يصف صديقه ، فقال :(( لي صديقٌ كان من أعظم الناس في عيني ، وكان رأس ما عظَّمه في عيني صِغر الدنيا في عينيه ، فكان خارجاً عن سلطان بطنه - البطن له سلطان، وقد يقتل صاحبه - فلا يشتهي ما لا يجد ، ولا يُكثر إذا وجد ، وكان خارجاً عن سلطان الجهالة، فلا يتكلَّم بما لا يعلم ، ولا يماري فيما عَلِم ، وكان أكثر دهره صامتاً ، فإذا تكلَّم بزَّ القائلين ، وكان يُرى ضعيفاً مستضعفاً ، فإذا جدَّ الجِدُّ فهو الليث عادياً ، وكان لا يدلي بحجَّةٍ ، إلا إذا رأى قاضياً فَهْماً ، وشهوداً عدولاً ، فعليك بهذه الأخلاق ، فإن لم تستطع ، فإن أخذ القليل خيرٌ من ترك الكثير)) .
فهذا ابن قيس رضي الله عنه ، كان ذكيَّ الفؤاد ، حاضر البديهة ، رائع البيان ، جهير الصوت ، إذا نطق بزَّ القائلين .
بالمناسبة ، على كل مؤمن أنْ يعلم أنه سفير هذا الدين ، فعلى مستوى سفراء يعمل، فهل لاحظت ذات مرة أن سفيراً اشترى ثوبًا من سوق الألبسة المستعمَلة ، معقول !!! في اللقاءات والاجتماعات والمؤتمرات ، تجد أناقة كاملة مائة بالمائة ، لماذا ؟ هل يمثِّل شخصه ؟ لا ، فهو يمثِّل دولته، السفير في الأساس سيارته التي يركبها عليها علم ، ما معنى ذلك ؟ أن في داخلها السفير ، إذا وجد العلم يكون السفير موجوداً ضمن السيارة ، ولماذا ذكرت هذه الكلمة ؟ لأنّ كل مؤمنٍ في الحقيقة سفير هذا الدين، فمظهرك الخارجي مهم جداً ، وأنت كمسلم هل تليق الفوضى بدكانك ، يعلوه غبار واضطراب وقذارة ، هذا لا يجوز ، أنت تمثِّل هذا الدين ، مكتبك ، دكانك ، سبُّورتك ، خطَّك ، أُضيف إلى ذلك : أن تحسين الخط من الدين ، بعض الأطباء لا تفهم من خطه شيئًا .
فكان هذا الصحابي ذكيَّ الفؤاد ، حاضر البديهة .
فأنت سفير ، بيتك قد يكون صغيرًا ، ولكنَّه أنيق ونظيف ، دكانك ، مكتبك ، مظهرك ، هندامك ، كلامك ، أحدُ الأشخاصٍ لبس لباسًا أنيقًا جداً في حفل ، وتكلَّم كلام بذيئًا ، فقال له أحد الحضور ، وقد أعجبتني هذه الكلمة : إما أن تلبس مثل كلامك ، أو تتكلَّم مثل لباسك .
اللباس يحتاج إلى كلام موزون ، فإما أن ترتدي ثياباً من مستوى هذا الكلام السوقي ، أو تتكلَّم كلاماً موزوناً كهذا اللباس الأنيق ، مرةً ثانية : المؤمن سفير ، سفير هذا الدين ، مَن عنده حديثٌ شريف يؤكِّد هذا المعنى ؟
قال عليه الصلاة والسلام : " أنت على ثغرة من ثغر الإسلام ، فلا يؤتَيَنَّ من قِبلك".
أنت تمثِّل هذا الدين ، وأنت حارس ، وأنت مُوكَلٌ بمهمَّة .
فهذا سيدنا ثابت ، أحد السابقين إلى الإسلام في يثرب ، إذ ما كاد يستمع إلى آي الذكر الحكيم ، يرتِّلُها الداعية المكِّي الشاب مصعب بن عمير ، بصوته الشجي ، وجرْسه الندي ، حتى أَسَرَ القرآنُ سمعَه بحلاوة وقعه .
فإذا أكرمكم الله ، وتعلَّمتم التجويد ، يمكنك أنْ تقرأ وترتل ، فهو أجمل على قلبك، فالإنسان أحياناً يطرب لنفسه ، فأجمل ساعات حياته يمضيها وهو يرتِّل القرآن ترتيلا ، فقد كان بعض أصحاب النبي إذا تلا كتاب الله بكى ، فعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ قَالَ لِي النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اقْرَأْ عَلَيَّ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ آقْرَأُ عَلَيْكَ وَعَلَيْكَ أُنْزِلَ قَالَ نَعَمْ فَقَرَأْتُ سُورَةَ النِّسَاءِ حَتَّى أَتَيْتُ إِلَى هَذِهِ الْآيَةِ فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا قَالَ حَسْبُكَ الْآنَ فَالْتَفَتُّ إِلَيْهِ فَإِذَا عَيْنَاهُ تَذْرِفَانِ *
( متفق عليه)
فأحد أكبر مصدر للسعادة أن تتقن قراءة القرآن ، والعلم في الصغر كالنقش في الحجر ، والعلم في الكِبر كالكتابة على الماء ، وهذا الكلام للشباب ، للصغار ، تعلَّموا تجويد القرآن ، فالحمد لله الأمور ميسَّرة ، والأحوال مواتية ، فلا يوجد جامع إلا وفيه معهد لتحفيظ القرآن ، وأساتذة ، وتحفيظ ، وتجويد ، وتسميع ، فالآباء والأبناء عليهم أن يبادروا إلى تعلُّم تجويد القرآن ، وتسميعه .
كان هذا سبب إسلامه أنه استمع إلى صوت سيدنا مصعب بن عمير يتلو القرآن الكريم بصوتٍ شجيّ ، القرآن له سحر ، القرآن له أسْرٌ ، أما إذا قُرئ قراءةً غير صحيحة فقد أفقد المسلمُ قوة القرآن في تأثيره ، فهل هناك شكّ أن المسلم تأتي عليه ساعةٌ ، وهو يستمع إلى كتاب الله فيذوب ذوباناً؟!!
(سورة الأنفال : آية 2)
هذا كلام الله عزَّ وجل ، فأنا أكاد أقول : ما من ساعةٍ أمتع في حياة المؤمن ، من ساعةٍ يقرأ فيها كتاب الله ، أو يستمع إلى كتاب الله من صوتٍ شجيِّ ، فيتفاعل ، طبعاً إذا كان مستقيمًا ، ومصطلحًا مع الله ، وتائبًا ، ومنيبًا ، فالقرآن يحرِّك أعمق مشاعره .
ولمَّا قدم النبي عليه الصلاة والسلام إلى المدينة مهاجراً استقبله ثابت بن قيس في كوكبةٍ كبيرة من فرسان قومه أكرمَ استقبال ، ورحَّب به وبصاحبه الصديق أجملَ ترحيب .
ألا تلاحظون هذا الأدب الرفيع الذي يتخلَّق به أصحاب رسول الله ؟
سيدنا زيد الخير ، ما مضى على إسلامه إلا دقائق ، حتى دفع النبيُّ له وسادةً ليتَّكئ عليها ، فقال زيد :
" والله يا رسول الله ما كان لي أنة أتكئ في حضرتك " .
الدين كلُّه أدب ، في الحركة ، في السكون ، في الوقوف ، فأنا البارحة في جامع النابلسي ، وفي أثناء الدرس رأيت أخًا ، واللهِ لا أعرفه ، وقد يكون أول درس يحضره ، رأيته قاعدًا ومادًّا رجليه ، ومرتاح تماماً ، وموسعًا بينهما كثيراً ، وكأنه يقعد في بستان ، ألم ينتبهْ أنّ هذا مسجد ، فالنبي عليه الصلاة والسلام : " ما رُئِي مادًّا رجليه قط " .
هذا سيِّد الخلق ، طبعاً إذا كان معذورًا ، فهذا بحث آخر ، فالمعذور على العين والرأس ، كيفما أراد فليجلس ، ولو أحب أن يجلس على كرسي ، أو لو أحب على الأرض ، أو على طاولة ، فكيفما أحب فليجلسْ ، فالمعذور معذور ، فَعَنْ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ صَفِيَّةَ زَوْجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخْبَرَتْهُ أَنَّهَا جَاءَتْ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَزُورُهُ فِي اعْتِكَافِهِ فِي الْمَسْجِدِ فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ فَتَحَدَّثَتْ عِنْدَهُ سَاعَةً ثُمَّ قَامَتْ تَنْقَلِبُ فَقَامَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَهَا يَقْلِبُهَا حَتَّى إِذَا بَلَغَتْ بَابَ الْمَسْجِدِ عِنْدَ بَابِ أُمِّ سَلَمَةَ مَرَّ رَجُلَانِ مِنْ الْأَنْصَارِ فَسَلَّمَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لَهُمَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى رِسْلِكُمَا إِنَّمَا هِيَ صَفِيَّةُ بِنْتُ حُيَيٍّ فَقَالَا سُبْحَانَ اللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَكَبُرَ عَلَيْهِمَا فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَبْلُغُ مِنْ الْإِنْسَانِ مَبْلَغَ الدَّمِ وَإِنِّي خَشِيتُ أَنْ يَقْذِفَ فِي قُلُوبِكُمَا شَيْئًا *
(متفق عليه)
وهناك ظاهرة أخرى آلمتني ؛ لدينا في جامع النابلسي ديوانان ، وعدد مِنَ الكراسي، أحياناً أُفاجأ أن شباباً في ريعان شبابهم يجلسون في هذه الأماكن ، والإخوة المعذورون الذين تؤلمهم ظهورهم ليس لهم مكان ، فإذا أتم الله على أحدكم بنعمة الشباب ، والحيوية والنشاط ، فليس له أي حق في أن يحتل هذه الأمكنة المريحة جداً ، أليس كذلك ؟ هذه ضمن قوسين .
وخطب زيد بن ثابت بين يدي النبي عليه الصلاة والسلام خطبةً بليغةً ، افتتحها بحمد الله عزَّ وجل ، والثناء عليه ، والصلاة والسلام على نبيِّه ، واختتمها بقوله : وإنا نُعاهدك يا رسول الله ، على أن نمنعك مما نمنع منه أنفسنا، وأولادنا ، ونساءنا ، فما لنا لقاء ذلك ؟
ما الثمن ؟ فقال عليه الصلاة والسلام : " الجنَّة " .
الدليل :
( سورة التوبة : آية " 111 " )
صفقة ، تقدِّم لها وقتك كلَّه ، وجهدك كلُّه ، وإذا لزم الأمر قدَّمتَ حياتك ، ومالك، والثمن ؟ الجنَّة.
فما كادت كلمة الجنَّة تصافح آذان القوم ، حتَّى أشرقت وجوههُم بالفرحة ، وزَهتْ قسماتهم بالبهجة ، وقالوا : " رضينا يا رسول الله ، رضينا يا رسول الله " .
اتفقنا ، الصفقة تمَّت .
ومنذ ذلك اليوم ، جعل النبي عليه الصلاة والسلام ثابت بن قيس خطيبه ، كما كان حسَّان بن ثابت شاعره .
كان له شاعر ، وكان له خطيب ، فقد كان في الجاهلية قبل الإسلام أعلى منصب رئيس القبيلة ، ويليه الشاعر ، كمنصب رفيع جداً ، فالشاعر وقتها كان وزير إعلام ، ينطق باسم القبيلة ، يثني عليها ، ويردُّ على خصومها ، ويهاجم أعداءها ، هكذا كان الشعر .
فصار إذا جاءت النبي وفود العرب لتفاخره ، أو تناظره بألسنةٍ فصيحةٍ ، ندب النبي لهم ثابت بن قيس ، لمصاولة الخطباء ، وحسَّان بن ثابت ، لمفاخرة الشعراء .
كان له خطيب ، وكان له عليه الصلاة والسلام شاعر ، وأشرف عمل أن تكون في خدمة الحق ، وأعظم عمل أن توظِّف اختصاصك في الحق ، وتقول : أنا أختصّ في هذا العمل ، فهل لكم حاجة بعملي ؟
اليوم التقيتُ مع طبيب ، قلت له : جزاك الله خيراً ، وهذا الطبيب منذ خمس أو ست سنوات اتصل بي وقال : أي أخ يحب أن يجري عملية ، أنا أجريها له مجَّاناً ، جزاه الله خيرا ، فبعثنا له أول شخص ، والعملية تمَّت بنجاح ، مجَّانا ، والثاني ، والثالث ، فلمَّا رأيته واللهِ أكبرته ، فقد سخَّر علمه واختصاصه ، في خدمة الحق ، فهو جرَّاح ماهر ، وإذا كان الإنسان المؤمن وكل مَن له اختصاص ، هذا بالطب ، وهذا بالمحاماه ، وهذا بالقضاء ، فإذا كان الشخصُ محاميًا ، وأعطى استشارة قانونية لإنسان فقير ، وكتب له عقدًا ، فهل يكون خاسرًا بهذا العمل ؟ هذا العقد وحده الرابح ، والباقي كلُّه خسارة ، إذا كنتَ طبيبًا ، أو موظَّفًا فساعِدْ ولو مواطنًا من دون أجر ، وإذا كنتِ بائعًا فأعطِ شيء من إمكاناتك ، من بضاعتك للفقراء المحتاجين ، وفي ذلك فليتنافس المتنافسون .
سيدنا ثابت وظَّف اختصاصه ، وطلاقة لسانه ، وخطابته في سبيل الحق .
وقد كان ثابت بن قيس ، مؤمناً عميق الإيمان ، تقياً صادقّ التقوى، شديد الخشية من ربه ، عظيم الحذر من كلِّ ما يغضب الله عزَّ وجل ، لقد رآه النّبي صلّى الله عليه وسلّم ، ذات يومٍ هلعاً ، جزعاً ، ترتعدُّ فرائصه ، خوفاً وخشيةً ، فقال :
ما بِك يا أبا محمد ؟ قال : أخشى أن أكون قد هلكتُّ يا رسول الله ، قال : ولمَ ؟ قال : لقد نهانا الله جلَّ وعز عن محبَّةِ أن نُحْمَدَ لِمَا لم نفعله ، وأجدني أحبُّ الحمد ، ونهانا عن الخُيلاء ، وأجدني أحبُّ الزهو ، فما زال النّبي عليه الصلاة والسلام يهدئ من روعه ، حتى قال : يا ثابت ، ألا ترضى أن تعيش حميداً ، وأن تقتل شهيداً ، وأن تدخل الجنة ؟ فأشرق وجه سيدنا ثابت بهذه البشرى ، وقال : بلى يا رسول الله ، بلى يا رسول الله ، فقال عليه الصلاة والسلام : إنَّ لكَّ ذلك............
...... بشَّره أن يعيش حميداً ، وأن يموت شهيداً ، وأن يدخل الجنّة ، والنّبي عليه الصلاة والسلام لا ينطق عن الهوى .
مرة بشّر صحابيًّا بالجنة اسمه فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مِنْ أُمَّتِي زُمْرَةٌ هُمْ سَبْعُونَ أَلْفًا تُضِيءُ وُجُوهُهُمْ إِضَاءَةَ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ فَقَامَ عُكَّاشَةُ بْنُ مِحْصَنٍ الْأَسَدِيُّ يَرْفَعُ نَمِرَةً عَلَيْهِ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ادْعُ اللَّهَ أَنْ يَجْعَلَنِي مِنْهُمْ قَالَ اللَّهُمَّ اجْعَلْهُ مِنْهُمْ ثُمَّ قَامَ رَجُلٌ مِنْ الْأَنْصَارِ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ادْعُ اللَّهَ أَنْ يَجْعَلَنِي مِنْهُمْ فَقَالَ سَبَقَكَ بِهَا عُكَّاشَةُ *
(متفق عليه)
سبق وأكلها ، هذا موقف ذكي جداً ، ولمّا نزل قوله تعالى :
( سورة الحجرات )
تجنَّب ثابت بن قيس ، مجالس رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ، على الرغم من شدَّة حبّه له ، وفرط تعلّقه به ، ولزم بيته ، حتى لا يكاد يبرحه ، إلا لأداء المكتوبة ، " الصلوات المكتوبة"، فافتقده النبي صلّى الله عليه وسلّم .
وهذا من السنة ، فعلى المسلم أنْ يتفقد إخوانه ، ويسأل عنهم ، فلان أين هو ؟ ماذا يريد مني ؟ محبّة واللهِ ، لا نريد منك شيئًا ، إلا المحبة ، غاب شخص يومًا ، والشخص إذا غاب يُعرف رأساً ، هذا مهم ، ووجوده مهم جداً ، فيغيب درسًا فيسألُ عنه إخوانُه ، فإذا سُئل عن شخصٍ ، فهذه ميزة له .
فافتقده النبي صلوات الله عليه ، وقال : من يأتيني بخبره ؟ فقال رجل من الأنصار : أنا يا رسول الله ، وذهب إليه ، فوجده في منزله محزوناً منكساً ، قال : ما شأنك يا أبا محمد ؟ قال : شرّ، قال: وما ذاك ؟ قال : إنّك تعرف أني رجل جهير الصوت ، وأنَّ صوتي كثيراً ما كان يعلو صوت النبي، وقد نزل من القرآن ما تعلم ، وما أحسبني إلا أنني قد حبط عملي ، وأنني من أهل النّار .
الآن تجد الشخص يرتكب الكبائر ، وهو مطمئن ، لكن ثابت بن قيس لأنّ صوته أعلى من صوت النبي صلّى الله عليه وسلّم لم يعُد قادرًا على النوم ، خاف ، ما هذه القصة ؟ الصحابة كأنهم ليسوا من بني البشر ، وكأنهم فوق البشر ، أقول لكم : بعضُ الناس يرتكب الكبائر ، ويقول : لا تدقق ، أهذه معصية ؟ أهذا حرام ؟ أهذا ربا ؟ أهذا زنا ؟ أهذا فسق ؟ ، فهو في غفلة ، بل في ضياع .
ماذا نفعل ؟ زمن عاطل ، هكذا يجيبك ، لا ورع ، ولا إحساس ، ولا خوف من الله عزَّ وجل ، علامة المنافق أنّ الذنب عنده كالذبابة ، وعلامة المؤمن أنّ الذنب عنده كأنه جبلٌ جاثمٌ على صدره ، يكاد يقع عليه ، فكلَّما عَظُمَ عندك الذنب ، كنت أرقى عند الله ، وكلّما صَغُرَ لديك الذنب ، كنت أقلَّ عند الله .
فرجع هذا الرجل إلى النّبي عليه الصلاة والسلام ، وأخبره بما رأى ، وبما سمع ، فقال : اذهبْ إليه ، وقل له : " لست من أهل النار ، ولكنك من أهل الجنة ".
فكانت هذه بشارةً عظمى لثابتٍ ، وظلَّ يرجو خيرها طوال حياته ، لقد كان صوته جهوريًّا ، فكان إذا خطب يعلو صوتُه صوتَ رسول الله ، بسببِ الخطابة ، فالخطيب يحتاج الخطابة إلى صوت جهير ، ونبرات حادَّة ، وتلوين بالصوت .
وقد شهد ثابت بن قيس مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم المشاهد كلَّها ، سوى بدر ، وأقحم نفسه في غِمار المعارك ، طلباً للشهادة ، التي بشَّره النبي بها ، فكان يُخْطِئها في كلِّ مرة ، وهي قاب قوسين منه أو أدنى ، إلى أن وقعت حروب الردة بين المسلمين ومسيلمة الكذَّاب ، على عهد الصديق رضي الله عنه .
لقد كان ثابت بن قيس ، إذا ذاك أميراً لجند الأنصار ، وسالمٌ مولى أبي حذيفة ، أميراً لجند المهاجرين ، وخالد بن الوليد قائداً للجيش كلِّه ، أنصاره ، ومهاجريه ، ومن فيه من أبناء البوادي ، ولقد كانت الغلبَةُ في جُلِّ الجولاتِ لمسيلمة الكذاب ، ولرجاله على جيش المسلمين ، حتى بلغ بهم الأمر أنْ اقتحموا فسطاط خالد بن الوليد ، وهمُّوا بقتل زوجته ، أمِّ تميم ، وقطعوا حبال الفسطاط ، ومزَّقوه شرَّ ممزَّق ، و الفسطاط الخيمة ، فرأى ثابت بن قيس يوم ذاك ، مِن تضعضعِ المسلمين ، ما شحن قلبه أسىً وكمداً ، وسمع من تنابذهم ، ما ملأ صدره ، هماً ، وغماً ، فأبناء المدن ، يرمون أهلَّ البوادي ، وأهل البوادي يصفون أبناء المدن ، بأنهم لا يحسنون القتال ، ولا يدرون ما الحرب ، عند ذلك تحنط ثابتٌ وتكفن، " تحنط ، وتكفن " ووقف على رؤوس الأشهاد وقال : يا معشر المسلمين ، ما هكذا كنّا نقاتل مع رسول الله صلّى الله عله وسلّم ، بئس ما عوَّدتم أعداءكم من الجراءة عليكم ، وبئس ما عوَّدتم أنفسكم من الانخذال لهم ، ثمَّ رفع طرفه إلى السماء وقال : اللهم إني أبرأ إليك ، مما جاء به هؤلاء من الشرك ، " أي مسيلمة وقومه " وأبرأ إليك ، مما يصنع هؤلاء ، " أي المسلمين " ثمَّ هبَّ هبة الأسد الضاري ، كتفاً لكتف ، مع الغُر الميامين ، البراء بن مالك الأنصاري ، وزيد بن الخطاب ، أخ سيدنا عمر بن الخطاب ، وسالمٍ مولى أبي حذيفة ، وغيرهم ، وغيرهم من المؤمنين السابقين ، وأبلى بلاءً عظيماً ، ملأ قلوب المسلمين حميةً ، وعزماً ، وشحن أفئدة المشركين ، وهناً ، ورعباً ، وما زال يجالد في كلِّ اتجاهٍ ، ويضارب بكلِّ سلاحٍ ، حتى أثخنته الجراح ، فخرَّ صريعاً على أرض المعركة ، قرير العين بما كتب الله له من الشهادة التي بشَّره به حبيبُه النّبي عليه الصلاة والسلام ، مثلوج الصدر ، بما حقق الله على يديه للمسلمين ، من النصر.
وهناك بعض الأحاديث تصف حال الشهيد : الشهيد أولاً ، من تكرمته على الله ، أنه لا يحسُّ بألم الجراح إطلاقاً ، والشهيد من كرامته على الله ، أنَّ الله يطلعه على مقامه في الجنة ، في أثناء استشهاده ، ومن كرامة الشهيد على الله ، أنه تفوحُّ من دمائه ، رائحة المسك .
هذا شيء ثابت ، ثابت بالتجربة ، الشهيد لا يشعر بالآلام إطلاقاً ، ويرى مقامه في الجنة ، وتفوح من دمائه رائحة المسك ، وأعظم مقامٍ يناله الإنسان ، أن يموت ، واللهُ راضٍ عنه .
وكان على ثابتٍ درعٌ نفيسة ، فمرَّ به رجلٌ من المسلمين ، فنزعها عنه ، وأخذها لنفسه ، وفي الليلة التالية لاستشهاده ، رآه رجلٌ من المسلمين في منامه ، فقال للرجل : أنا ثابت بن قيس، فهل عرفتني؟ قال : نعم ، قال ؟ إني أوصيك بوصيةٍ ، فإياك أن تقول : هذا حلمٌ ، فتضيِّعها ، إني لمّا قتلت أمس ، مرَّ بي رجلٌ من المسلمين ، صفته كذا وكذا ، فأخذ درعي ، ومضى بها نحو خبائه ، في أقصى المعسكر ، من الجهة الفلانية ، ووضعها تحت قدرٍ له ، ووضع فوق القدر رَحْلاً ، فأتِ خالد بن الوليد ، وقل له : أن يبعث إلى الرجل من يأخذ الدرع منه ، فهي ما تزال في مكانها .
وأوصيك بأخرى ، إياك أن تقول : هذا حلم نائمٍ ، فتضيعها ، قل لخالدٍ : إذا قدمت على خليفة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في المدينة، فقل له : إنَّ على ثابت بن قيس ، من الدين كذا وكذا، وإن فلاناً وفلاناً من رقيقه عتيقان ، فليقضِ ديني ، وليحرر غِلماني .
رسالة واضحة وضوح الشمس ، معنى ذلك أنَّ الإنسان حينما يموت ، يرى ويسمع، يرى كلَّ شيء ، ويسمع كلَّ شيء ، الميت ترفرف روحه فوق النعش ، في أثناء تشييع الجنازة، يقول : يا أهلي ، يا ولدي ، لا تلعبنَّ بكم الدنيا ، كما لعبت بي ، جمعت المال مما حلَّ وحرم ، فأنفقته في حلِّه ، وفي غير حلِّه ، فالهناء لكم ، والتبعة علي .
الميت يرى ويسمع ، يرى كلَّ إنسان ، ويميِّز أوصاف مَن يراه ، قال عليه الصلاة والسلام ، يخاطب قتلى بدر :
عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَرَكَ قَتْلَى بَدْرٍ ثَلَاثًا ثُمَّ أَتَاهُمْ فَقَامَ عَلَيْهِمْ فَنَادَاهُمْ فَقَالَ يَا أَبَا جَهْلِ بْنَ هِشَامٍ يَا أُمَيَّةَ بْنَ خَلَفٍ يَا عُتْبَةَ بْنَ رَبِيعَةَ يَا شَيْبَةَ بْنَ رَبِيعَةَ أَلَيْسَ قَدْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا فَإِنِّي قَدْ وَجَدْتُ مَا وَعَدَنِي رَبِّي حَقًّا فَسَمِعَ عُمَرُ قَوْلَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ يَسْمَعُوا وَأَنَّى يُجِيبُوا وَقَدْ جَيَّفُوا قَالَ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا أَنْتُمْ بِأَسْمَعَ لِمَا أَقُولُ مِنْهُمْ وَلَكِنَّهُمْ لَا يَقْدِرُونَ أَنْ يُجِيبُوا ثُمَّ أَمَرَ بِهِمْ فَسُحِبُوا فَأُلْقُوا فِي قَلِيبِ بَدْرٍ *
(صحيح مسلم ، 5121)
هذا سيدنا ثابت قال له : ثم قل لخالد : إذا قدمت على خليفة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ، في المدينة ، فقل له :
إن على ثابت بن قيس ، من الدين كذا وكذا ، وإن فلاناً وفلاناً من رقيقه عتيقان ، فليقضِ ديني ، وليحرر غلماني .
فاستيقظ الرجل ، فأتى خالد بن الوليد ، فأخبره بما سمع ، وما رأى ، فبعث سيدنا خالد ، من يحضر الدرع من عند آخذها ، فوجدها في مكانها ، وجاء بها كما هي ، ولما عاد سيدنا خالد إلى المدينة ، حدَّث أبا بكر الصديق ، بخبر ثابت بن قيس ، ووصيته ، فأجاز الصديق وصيته ، وما عُرف أحدٌ ، قبله ولا بعده ، أُجْزِيَتْ وصيته بعد موته سواه ، رضي الله عن سيدنا ثابت بن قيس وأرضاه، وجعل مقامه في أعلى عليين .
والحمد لله رب العالمين
* * *(/)
الدرس 34/50 ، سيرة الصحابي : ثمامة بن أثال ، لفضيلة الأستاذ محمد راتب النابلسي .
تفريغ : المهندس عبد العزيز كنج عثمان .
التدقيق اللغوي : الأستاذ غازي القدسي .
التنقيح النهائي : المهندس غسان السراقبي .
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا ، إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا ، وانفعنا بما علمتنا وزدنا علما ، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .
أيها الإخوة الأكارم ... مع دروس صحابة رسول الله رضوان الله تعالى عليهم أجمعين ، ومع الدرس الرابع والثلاثين ، وصحابي اليوم سيدنا ثمامة بن أثال ، ولهذا الصحابي قصةٌ فريدة، يبدو أنَّ كل صحابيٍ، يمثلُّ نموذجاً فذًّا ، يمكن أن يكون قدوةً لشريحةٍ كبيرةٍ من المجتمع، ففي السنة السادسة للهجرة ، عزم النّبي صلّى الله عليه وسلّم، على أن يوسِّع نطاق دعوته .
فالمؤمن لو أنّه اهتدَى إلى الله عزَّ وجل ، واهتدى معه أهلُه ، لكنه طموح ، ولا يرضى أن يهتدي معه فقط ثلةٌ قليلةٌ من بني عشيرته ، ويبقى النّاسُ في جهالةٍ جهلاء ، ليس هذا من شأن المؤمن ، لكنّ المؤمن يهمه أن يعمَّ الهدى لأرضَ كلّها ، وأن ينتشرَّ الهدى في الخافقين .
فلذلك أراد النّبي عليه الصلاة والسلام في السنة السادسة ، للهجرة أنْ يوسِّع نطاق دعوته إلى الله ، لأنَّ دعوة النّبي عليه الصلاة والسلام موجهةٌ إلى الأممِ كلِّها ، وإلى كلِّ الشعوب :
( سورة سبأ : آية " 28 " )
الأنبياء السابقون كلُّ نبيٌ منهم كان مرسلاً إلى قومٍ بالذات ، لكن النبي عليه صلوات الله وسلامه أرسله الله إلى أمم الأرض كلها ، لذلك كان خاتم النبيِّين ، فكتب ثمانية كتبٍ إلى ملوك العرب والعجم ، وبالمناسبة الرسائل لها دور كبير ، فبعضُ الناس قد يتوب إلى الله من خلال رسالة صادقة .
سيدنا عمر أرسل إلى صديقه الذي ذهب إلى الشام ووقع على الخمرة ، وأدمن عليها ، فلما بلغه النبأ تألم أشد الألم ، وكتب له : من عبد الله عمر بن الخطاب إلى فلان ، أما بعد أحمد الله إليك :
( سورة غافر )
فجعل هذا الصديق يقرأ كتاب عمر بن الخطاب ويبكي ، إلى أن حملته هذه الرسالة على التوبة ، فالنبي عليه الصلاة والسلام ، أرسل ثمانية كتبٍ إلى ملوك العرب والعجم ، المؤمن الصادق ، تارةً بلسانه ، تارةً بقلبه ، تارةً بمعروفه ، تارةً بزيارته ، تارةً ببذله ، بالإحسان ، بالإقناع ، بالمنطق ، بالزيارة ، بالخدمة ، بالرسالة ، بالتفقُّد ، همه كبير وهدفه نبيل ، وشرفه من شرف دعوته ، ويمثُّل هذا الدين ، ((أنت على ثغرةٍ من ثغر الإسلام ، فلا يؤتين من قِبَلك)) ، كلُّ مسلم يشعر أنه سفير المسلمين ، ويمثِّلهم .
وبعث بها إليهم يدعوهم فيها إلى الإسلام ، وكان مِن جملة مَن كاتبهم ثمامة بن أثال الحنفي، أحد ملوك العرب ، ولا غرو فثمامة (قيلٌ) ، أي ملِك ، قيْلٌ من أقيال العرب في الجاهلية ، وسيدٌ من سادات بني حنيفة المرموقين ، وملكٌ من ملوك اليمامة الذين لا يُعصَى لهم أمر ، تلقَّى ثمامة رسالة النبي صلى الله عليه وسلم بالزراية والإعراض ، أزرى بها ، وأعرض عنها ، وأخذته العزة بالإثم ، فأصمَّ أذنيه عن سماع دعوة الحق والخير ، قال تعالى :
( سورة التحريم : آية رقم " 4 " )
صحَّة السماع تعني المبادرة إلى التطبيق ، وصحة السماع تعني أن تتوب إلى الله عزَّ وجل ، قال عزوجل :
ركبه شيطانه ، فأغراه بقتل النبي عليه الصلاة والسلام ، وهذا الملك هكذا عنَّت له نزوة طارئة ، أن يقتل النبي ويريح الناس منه ، وقد قال الله عزوجل :
( سورة الحج : آية " 15 " )
فمَن توهَّم أن الله عزَّ وجل لا ينصر النبي عليه الصلاة والسلام ، فليفعلْ ما يشاء ، ولن تتحقّق رغبته وأمنيته ، لأن أمنيته سرابٌ بِقِيعَةٍ ، واللهُ عزَّ وجل ناصر نبيه ، رسول رب العالمين ، أيعقل أن يسلمه ؟! هذا معنى قول الله عزَّ وجل :
( سورة المائدة : آية 67 " )
لا يستطيع أحدٌ أن يقتل النبي ، أبداً ، هذا معنى :
يعصمك مِن أن تُقْتَل ، فإذا قُتِلتَ فقد انتهت الدعوة مع قتلك .
هذه عصمة النبي ، معصوم عن الخطأ ، والله عصمه مِن أن يُقتَل .
ركبه شيطانه ، فأغراه بقتل النبي عليه الصلاة والسلام ، ووأد دعوته في مهدها ، فدأب يتحيَّن الفرص ، للقضاء على النبي صلى الله عليه وسلم ، حتى أصاب منه ، غرة غفلةً ، وكادت تتم الجريمة الشنعاء لولا أن أحد أعمام ثمامة ثناه عن عزمه في آخر لحظة ، فنجَّى الله النبي من شرِّه .
أراد أن يقتل النبي ، فإلى هذه الدرجة بلغت عداوته للنبي عليه الصلاة والسلام.
لكن ثمامة إذا كان قد كفَّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه لم يكفَّ عن أصحابه ، حيثُ جعل يتربَّصُ بهم ، حتى ظفر بعددٍ منهم ، وقتلهم شرَّ قتلة ، فحينما اقتنع وانصرف عن قتل النبي عليه الصلاة والسلام تربَّص بأصحابه ، حتى إذا فاز بعددٍ منهم قتلهم شر قتله ، لذلك أهدرَ النبي عليه الصلاة والسلام دمه ، وأعلن هذا في أصحابه ، أنّ هذا الرجل دمه مهدور .
هذا تمهيدٌ للقصة قبل أن نمضي في تفاصيلها ، وأذكِّركم كلمة كنت أرددها : هكذا تدار الأمم، لا بالانتقام ، ولكن بالعقل والغفران ، هذا الإنسان ما جزاؤه ؟ القتل ، والتنكيل ، ولم يمض على ذلك طويل وقتٍ حتى عزم ثمامة بن أُثال على أداء العمرة ، على النمط الجاهلي ، فانطلق من أرض اليمامة ، مولياً وجهه شطر مكة ، وهو يمنِّي نفسه بالطواف حول بالكعبة ، والذبح لأصنامها ، وبينما كان ثمامة في بعض طريقه ، قريباً من المدينة ، نزلت به نازلة ، لم تقع له في الحسبان ، ذلك أن سريةً من سرايا رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت تجوس خلال الديار ، خوفاً من أن يطرق المدينة طارق ، أو يريدها معتدٍ بشر ، فأسرت السريةُ ثمامةَ بن أثال، وهي لا تعرفه ، دورية من دوريات النبي عليه الصلاة والسلام كانت تجوب في الآفاق ، وتترصد الكفَّار والمشركين ، فعثرت على ثمامة ، فألقت عليه القبض ، وأسرَتْه ، وأتت به ، إلى المدينة ، وشدّته إلى ساريةٍ من سواري المسجد ، وهذه طريقة سجنه .
ولم يكن يومئذ سجن ، فإذا ألقيَ القبض على إنسان ، يشدُّ إلى ساريةٍ من سواري المسجد .
وهي تنتظر أمر النبي عليه الصلاة والسلام في شأن هذا الأسير ، وقد سألت النبي عليه الصلاة والسلام هذا الأسير ماذا نفعل به ؟ ولما خرج النبي عليه الصلاة والسلام إلى المسجد ، وهمَّ بالدخول فيه ، رأى ثمامة مربوطاً في السارية ، فقال لأصحابه : " أتدرون من أخذتم ؟ قالوا لا يا رسول الله . قال : هذا ثمامة بن أثال الحنفي " .
ألقوا القبض على ملِك ، وساقوه أسيراً ، وربطوه في السارية ، وتوجهوا إلى النبي عليه الصلاة والسلام ، ليقرِّر رأيه فيه ، ويأمرهم فيه ، ماذا قال النبيّ عليه الصلاة والسلام لهذا الملك الحاقد الذي أراد قتله ، والذي جمع أصحاباً له ، ونكَّل بهم وقتلهم شر قتله ؟ ماذا ينبغي أن يقول النبي عليه الصلاة والسلام ؟ هنا الوقفة ، وهنا الحقيقة ، فأيّ إنسان على وجه الأرض تمكَّن مِن عدوٍّ لدودٍ ، وخصمٍ عنيدٍ ، ومبغضٍ حاقدٍ ، وألقى القبض عليه ، فلا بدَّ أن يقتله ، وربما كان قتله لا يشفي غليل الأول ، فماذا يفعل به إذًا ؟ يأمر بتعذيبه ، والتمثيل به ، ثم قتله ، قال عليه الصلاة السلام ، حينما رأى ثمامة بن أثال مربوطاً إلى ساريةٍ من سواري المسجد ، قال : "أحسنوا إسارَه".
لماذا ؟ هنا يفرض السؤال نفسه ، ما الذي خطر في بال النبي ؟ هذا قاتل ، هذا ينبغي أن يقتل ، بحكم الله عزَّ وجل ، ينبغي أن يقطَّع ، كما أنه نكَّل بأصحاب رسول الله ، ينبغي أن يُعامل بالمثل ، ينبغي أن يقتل ، وأن يقطَّع ، لماذا قال عليه الصلاة والسلام :"أحسنوا إسارَه "؟.
ما الجواب ؟ إنه خلاف المألوف ، الجواب هو أن النبي عليه الصلاة والسلام ، لا يمكن أن يبغض إنساناً لذاته ، لكن يبغضه لعمله ، فإذا كان هناك أملٌ في هدايته ، ونقله من الضلالة إلى الهدى ، ومِن الضياع إلى الرُشد ، ومن الخطأ إلى الصواب ، فمرحباً بذلك ، فالنبيّ عليه الصلاة والسلام ، قال : " أحسنوا إسارَه ".
أيْ أحسٍنوا إلى هذا الأسير ، ثم رجع عليه الصلاة والسلام إلى أهله ، وقال : " اجمعوا ما كان عندكم من طعام ، وابعثوا به إلى ثمامة بن أثال " .
ليطعمه من طعام بيته ، فجمع من طعام أهله شيئًا ، وأرسله إلى ثمامة بن أثال ، ثم أمر بناقته أن تُحلب له في الغُدو والرواح ، وأن يُقدَّم لبنها إلى ثمامة بن أُثال ، ما هذا يا رسول الله ؟!! هذا الذي أراد أن يقتلك ، أراد أن ينكِّل بأصحابك ، وبل نكَّل بهم ، وجمع عدداً منهم ، وقتلهم شر قتلة، ثم تجمع له من طعام بيتك ، وتأمر بحلب ناقتك ، وترسلها إلى ثمامة ، ليأكل وليشرب ، وتمَّ ذلك كلُّه ، قبل أن يلقاه النبيّ عليه الصلاة والسلام ، وقبل أن يكلمه .
هذا تخطيط ، فالنبي لمحه وقال : هذا ثمامة ، فقبل أن يظهر أمامه ، وقبل أن يقابله ، وقبل أن يكلِّمه ، وقبل أن يحاوره ، بعث إليه بهذا الطعام ، من بيته ، وأمر أن تُحلب ناقته ، وأن يُرسل لبنها إليه .
بعد أن أكل وشرب وشبع ، وشعر أن هذا من عند النبي عليه الصلاة والسلام أقبلَ النبيُّ عليه الصلاة والسلام على ثمامة ، يريد أن يستدرجه إلى الإسلام .
فإذا كان لك عدو لدود ، وخصم عنيد ، وإنسان أوقع فيك أشدَّ أنواع الأذى ، ثم وقع في قبضتك ، فأنت بين أمرين ؛ إمّا أن تنتقم منه ، وتشفي غليلك ، وإمّا أن تسعى كي يُسلم ، وكي يهتدي ، وقد ملكتَ أمره ، ووقع في قبضتك ، فإذا اخترت الانتقام ، فما أبعدك عن الإيمان ، وإن اخترت له الهداية ، وصفحت عنه ، وعفوت عنه ، فقد أفلحتَ وأنجَحتَ ، وربنا عزَّ وجل يأمرنا بالصفح فيقول :
( سورة الحجر )
هذه أخلاق الأنبياء ، أقبل عليه النبيّ صلى الله عليه وسلم ، وقال :" ما عندك يا ثمامة ؟ "
هات لنرى ماذا عندك ؟ ما عندك يا ثمامة ؟ فقال ثمامة : " عندي يا محمد خير ، فإن تقتل تقتل ذا دم " .
يعني إن قتلتني فأنت محق ، والحق معك ، وأنا أستحق أن أُقتل لأنني قاتل .
" إن تقتل ، تقتل ذا دم ، وإن تنعم علي بالعفو ، تنعم على شاكر " .
أنا لا أنسى لك هذا المعروف ، فإن قتلتني فأنا أستحق القتل ، وإن عفوت عني ، فلا أنسى لك هذا الجميل .
" وإن كنت تريد المال ، فسَلْ تُعطَ منه ما شئت "
أتحب أن تقتلني ، أنت واللهِ محق ، وأنا أستحق ، وإن عفوت عني ، فوالله لا أنسى لك هذا الجميل ، وإن أردت المال فاطلبْ منه ما تشاء ، وسل منه تُعطَ ما تشاء ، فالنبي ما قال شيئًا ، فتركه وعاد .
تركه النبيّ عليه الصلاة والسلام يومين على حاله ، يؤتى له بالطعام والشراب ، ويحمل إليه لبن الناقة ، ثم جاءه ثانيةً ، قال : " ما عندك يا ثمامة ؟ "
مرة ثانية ، خطة حكيمة ، قال : " ليس عندي إلا ما قُلت لك من قبل ".
أنا قلت لك : " إن تنعم ، تنعم على شاكر ، لغى موضوع القتل ، إن تنعم تنعم على شاكر ، وإن كنت تريد المال ، فسل منه ما تشاء " .
فتركه النبيّ عليه الصلاة والسلام ، حتى إذا كان في اليوم التالي، جاءه فقال : " ما عندك يا ثمامة ؟ قال عندي ما قلت لك : إن تنعم ، تنعم على شاكر ، وإن تقتل تقتل ذا دم ، وإن كنت تريد المال ، أعطيتك منه ما تشاء " .
فالتفت النبيّ عليه الصلاة والسلام ، إلى أصحابه ، وقال : " أطلِقوا ثمامة ، وفكُّوا وثاقه ، وأطلقوه " .
(راجعْ هذه القصة في ترجمة ثمامة في الإصابة برقم 962)
يعني عفا عنه ، لكن هذا من شأن النبيّ عليه الصلاة والسلام ، فالله عزَّ وجل فتح بصيرته ، ولا شك أن النبيّ عليه الصلاة والسلام توسَّم فيه الخير ، وهذا موقف غريب جداً ، وموقف غير معقول ، قاتل ، نكَّل بأصحابه ، عفا عنه ، وأكرمه هذا الإكرام ، وأطعمه الطعام ، وسقاه هذا اللبن !!!
غادر ثمامة مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ومضى حتى إذا بلغ نخلاً من حواشي المدينة ، قريباً من البقيع ، فيه ماءٌ ، أناخ راحلته عنده ، وتطهَّر من مائه ، فأحسن طهوره ، ثم عاد أدراجه إلى المسجد ، فما إن بلغه ، حتى وقف على ملأٍ من المسلمين وقال : " أشهد أن لا إله إلا الله ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله " .
فهذا الإنسان على جانب عالٍ من الذكاء ، ما أراد أن يسلم وهو مقيَّد ، وما أحب أن يُسلم تحت ضغط الأسر ، قال له : إن تقتل تقتل ذا دم ، وإن تنعم تنعم على شاكر ، وإن أردت المال فسل منه ما تشاء ، لكن حينما عفا عنه النبي ، وقال : أطلِقوا سراحه ، توجَّه واغتسل ، وعاد إلى مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأعلن إسلامه ، وقال :" يا محمد ، والله ما كان على ظهر الأرض وجهٌ ، أبغض إليّ من وجهك " ....
العرب كانوا صرحاء ، وما تسمع الآن إلا مديح كاذب ، وزورٌ وبهتان .
" والله ما كان على وجه الأرض وجهٌ أبغض إليّ من وجهك ، وقد أصبح وجهك أحبَّ الوجوه كلُّها إليّ " .
هذا بالإحسان ، وأنت أيها المؤمن بإمكانك تنقل إنسان من أشد أنواع العداوة والبغضاء إلى أشد أنواع الحب والولاء ، بإحسانك ، بالبر ، يستعبد الحر ، بالبر يستعبد الحر ، افتح القلوب بإحسانك ، قبل أن تفتح الآذان لبيانك ، وقد أخرج ابن أبي شيبة وابن أبي الدنيا عن سعيد بن المسيب قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :رأس العقل بعد الإيمان بالله مداراة الناس *
ويتابع ثمامة فيقول :" ووالله يا محمد ، ما كان دينٌ أبغض إليّ من دينك ، فأصبح دينك اليوم أحبَّ الدين كله إليّ ، ووالله يا محمد ، ما كان بلدٌ أبغض إليّ من بلدك ، فأصبح بلدك أحب البلاد كلها إليّ " .
ثم قال : " يا محمد ، لقد كنت أصبت في أصحابك دماً ، أنا قاتل ، فما الذي توجبه عليّ ؟ "
فقال عليه الصلاة والسلام : " لا تثريب عليك يا ثمامة ، فإن الإسلام يجُبُّ ما قبله ".
أنت حينما تتوب فكل شيءٍ سبق هذه التوبة عفا الله عنه ، لا تثريب عليك يا ثمامة ، إن الإسلام يجُب ما كان قبله ، وبشَّره بالخير، الذي كتبه الله له بإسلامه ، فانطلقت أسارير ثمامة ، وانفرجتْ ، وقال : " والله يا محمد ، لأُصيبن من المشركين أضعافَ ما أصبت من أصحابك ، ولأضعن نفسي وسيفي ومن معي في نصرتك ، ونصرة دينك " .
وهنا وقفة أُخرى ، إذَا أقنعتَ إنسانًا له شأن ، فاعتقد اعتقاداً جازماً صحيحًا ، فإنّ كل أتباع هذا الإنسان يصيرون إلى دينه ، وإذا أقنعتَ مثلاً رب أُسرة بالإيمان ، إذا أقنعت الابن قناعة كافيةً فهذا أجود ، لكن يبقى موقفُه ضعيفًا في الأُسرة ، أمّا لو أقنعت الأب لوجَّه أولاده جميعاً ، لو أقنعتَ مدير مؤسسة ، أو أقنعت مدير مستشفى مثلاً ، فكلما رفعت مستوى الدعوة ، هؤلاء لهم أتباع ، هؤلاء لهم مراكز قِوى ، هؤلاء بإمكانهم أن يؤثروا في الآخرين ، ولقد دعا النبي اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ربَّه أن يعز الإسلام برجلين ، فعَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ اللَّهُمَّ أَعِزَّ الْإِسْلَامَ بِأَحَبِّ هَذَيْنِ الرَّجُلَيْنِ إِلَيْكَ بِأَبِي جَهْلٍ أَوْ بِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ قَالَ وَكَانَ أَحَبَّهُمَا إِلَيْهِ عُمَرُ *
(رواه الترمذي وأحمد)
قال :" والله لأُصيبن من المشركين ، أضعاف ما أصبت من أصحابك ، ولأضعن نفسي وسيفي ومن معي في نصرتك ونصرة دينك .
وكان ثمامة أصلاً متوجِّهًا للعمرة ، وبالمناسبة في بعض مواسم الحج السابقة ، أُلقيتْ بعض الندوات ، والمحاضرات ، وكان في المجلس رجل من العالم الغربي ، أسلم وحسُن إسلامه ، وامتلأ قلبه بالإيمان ، وهو على مستوى رفيع جداً من الثقافة ، فألقى محاضرة في مكة المكرمة، قال فيها : نحن أقوى أُمم الأرض ، فإذا أقنعتمونا بالإسلام ، فكل قوتنا تتحوّل لكم ، يعني نحن أقوى أُمة ، بأيدينا السلاح المدمِّر ، السلاح الفتَّاك ، التكنولوجيا ، الأقمار الصناعية ، الكمبيوتر، نحن أقوى أُمم الأرض ، فإذا أقنعتمونا بالإسلام ، وهديتمونا إليه ، فكل قوتنا تصبح بين أيديكم .
يعني أنت همَّك الأول هداية الناس ، فإذا اهتدى إنسان قوي ، فكل قوته تصبح للإسلام ، لذلك يقول الإمام مالك إمام دار الهجرة : لو أن ليّ دعوةً مستجابةً ، لادَّخرتها لأُولي الأمر .
لأن في صلاحهم ، صلاح الأُمة ، وفي الحديث : "إن اللّه ليزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن *
(تفسير ابن كثير الآية 80 من سورة الإسراء)
القوة لها شأن كبير ، إذا كان الإنسان قويًّا فأقنعته بالدين ، فإنّ كل قوته ، وكل ذكائه ، وكل أتباعه ، وكل إمكاناته ، تصبح في خدمة هذا الدين ..
قال :" يا رسول الله ، إن خيلك أخذتني ، وأنا أُريد العمرة ، فماذا ترى أن أفعل ؟ "
فقال عليه الصلاة والسلام : امضِ لأداء عمرتك ، ، ولكن على شِرعة الله ورسوله " .
عمرة إسلامية ، لا وثنية ، وعلَّمه ما يقوم به من المناسك .
مضى ثمامة إلى غايته ، حتى إذا بلغ بطن مكة وقف يجلجل بصوته العالي ، قائلاً : " لبيك اللهم لبيك ، لبيك لا شريك لك لبيك ، إن الحمد والنعمة لك والملك ، لا شريك لك ، لا شريك لك " .
فكان أول مسلمٍ على ظهر الأرض يدخل مكة ملبِّياً ، ولا تزال مكة بيد الكفار ، ولا يزال فيها الأصنام ، لكن ثُمامة بن أثال ، أول مسلمٍ دخل مكة ، ولبَّى فيها تلبية المسلمين ، لبيك اللهم لبيك ، لبيك لا شريك لك لبيك ، إن الحمد والنعمة لك والملك ، لا شريك لك................... .
سمعت قريشٌ صوتَ التلبية ، فهبَّت غاضبةً مذعورة ، واستلت سيوفها مِن أغمادها ، واتجهت نحو الصوت لتبطش بهذا الذي اقتحم عليها عرينها ، ولما أقبل القوم على ثمامة ، رفع صوته بالتلبية رفع العيار ، وهو ينظر إليهم بكبرياء ، فهمَّ فتىً من فتيان قريش أن يرديه بسهمٍ ، فأخذوا على يديه ، وقالوا : ويحك أتعلم من هذا ، إنه ثمامة بن أثال ، ملك اليمامة ، فقتْلُه يشعل علينا نارَ حربٍ كبيرةٍ ، توقَّفْ ، أخذوا على يديه ، ومنعوه أن يناله بسهم ، وقال الناصح :
والله إن أصبتموه بسوءٍ لقطع قومه عنا الميرة ، وأماتونا جوعاً.
فيبدو أن بلاد اليمامة تزرع القمح ، وأن القمح يُستورد منها ، قال له : والله لو قتلتموه أو أصبتموه بسهم لقطع قومه عنا الميرة وأماتونا جوعاً ، ثم أقبل القوم على ثمامة ، بعد أن أعادوا السيوف إلى أغمادها ، وقالوا : ما بك يا ثمامة ، أصَبَوْتَ ؟!! يعني أسلمت ، وتركتَ دينك ودين آبائك !! قال : ما صبوت ، ولكني اتبعتُ خير دينٍ ، اتبعت دين محمد ، وكلُّ مَن بمكة المكرمة المشركة عُبَّاد الأصنام ، ثم أردف يقول : أُقسم بربِّ هذا البيت إنه لا يصل إليكم بعد عودتي إلى اليمامة حبةٌ من قمحها ، أو شيءٌ من خيراتها ، حتى تتبعوا محمداً عن آخركم .
(انظرْ هذه القصة في السيرة النبوية لابن هشام)
مقاطعة اقتصادية ، لا قمح ، ولا ميرة ، ولا شيء من المواد التموينية حتى تتبعوا محمدًا عن آخركم ، ملِكٌ يتكلم .
ثم اعتمر ثمامة بن أُثال على مرأى من قريش كما أمره النبيّ عليه الصلاة والسلام أن يعتمر ، وذبح تقرباً إلى الله ، لا للأنصاب والأصنام ، ومضى إلى بلاده ، فأمر قومه أن يحبِسوا الميرة عن قريش ، فصدعوا لأمره ، واستجابوا له ، وحبسوا خيراتهم عن أهل مكة .
لكنّ النبي عليه الصلاة والسلام حينما أكرمه ، وحينما عفا عنه ، أراد من خلال ذلك أن يهتدي ، ويهتدي معه قومه ، وهذا بالتعبيّر العام ضربة معلم ، رحمة ، رحمة ، عفو ، عفو ، حنكة ، حنكة ، سياسة ، سياسة ، عفو عند المقدرة ، عفو عند المقدرة ، دعوة إلى الله عميقة ، عميقة ، لأن هذا إنسان قوي ، إذا أسلم فكلُّ أتباعه ، يصبحون مسلِمين .
أخذ الحصار الذي فرضه ثمامة على قريش ، يشتدُّ شيئاً فشيئاً ، فارتفعت الأسعار ، والآن النظام العالمي الجديد يتخذُّ الحصار علاجًا ، لكن بغير الحقّ ، بل بالباطل ، فارتفعت الأسعار وفشا الجوع في الناس ، واشتد عليهم الكرب ، حتى خافوا على أنفسهم ، وأبنائهم أن يهلكوا جوعاً، عند ذلك كتبوا إلى النّبي صلّى الله عليه وسلّم ، صار النًبي ندًّا لهم ، كان ضعيفاً مستضعفاً ، ائتمروا على قتله ، أخرجوه من بلاده ، نكَّلوا بأصحابه ، وهم أشداء ، أقوياء ، ولكن الله لهم بالمرصاد ثم أرادوا أن يتوسَّلوا إلى النّبي عليه الصلاة والسلام ليأكلّوا ، فكتبوا إلى النّبي عليه الصلاة والسلام قائلين : إن عهدنا بك أنك تصل الرحم ، وتحضُّ على ذلك ، وها أنت قد قطعتَ أرحامنا ، فقتلتَ الآباء بالسَّيف ، وأمتَّ الأبناء بالجوع ، وإنَّ ثمامة بن أُثال ، قد قطعَ عنا ميرتنا ، وأضرَّ بنا ، فإن رأيت - أي نلتمسُ إليك - فإن رأيتّ أن تكتب إليه أن يبعث إلينا بما نحتاج إليه فافعل .
عرفوا أنّ مفتاحه عند رسول الله ، ملك اليمامة ، مثل ما يقول لك الآن : "كوبا" عندها السُّكَّر، فإذا امتنعت عن تصديره ارتفع سعرُ السكَّر في العالم كلّه ، أكبر منتج للسكر في العالَم كوبا ، مثلاً ، فهذه اليمامة أكبر بلد منتج للقمح ، فإنْ قطعتَ عنهم الميرة ماتّوا جوعاً ، مَنْ مفتاحه، ومن يمون عليه ؟ النّبي عليه الصلاة والسلام ، فرَجَوْا النّبي عليه الصلاة والسلام أن يكتب إليه ، أن يفكَّ عنهم هذا الحصار ، فإنَّ رأيتّ أن تكتب إليه أن يبعث إلينا بما نحتاج إليه فافعل ، فكتب النّبي عليه الصلاة والسلام إلى ثمامة بأن يطلق لهم ميرتهم ، فأطلَقها ، وهذا انضباط .
وظلَّ ثمامة بن أُثال ما امتدّت به الحياة وفياً لدينه ، حافظاً لعهد نبيه ، فلّما التحق النبي صلّى الله عليه وسلّم بالرفيق الأعلى ، طفق العرب يخرجون من دين الله زرافاتٍ ووحدانًا .
الذي دخل بسهولة ، يخرج بسهولة ، أمّا الذي دخل بعد قناعة عميقة ، وبعد محاكمة فكرية، فعزيزٌ عليه الارتداد ، ولن يكون ، فإذا جاء معك إلى المسجد مِن أول دعوة دعوته بها ، فاستجاب ، وقعد في مجلس العلم بهذه البساطة ، فهذا الإنسان الذي جاء بهذه البساطة يمكن أن يترك لأتفه الأسباب ، أما الذي عنده محاكمة ، فكَّر ، وتأمل ، واستمع ، وناقش ، وسأل ، واعترض ، وقال : عندي شبهة فاكشفوها لي ، وما استسلم إلا بعد محاكمة طويلة ، وبعد سؤالٍ وجواب ، وبعد حوارٍ مديد ، وبعد تبصُّر ، وبعد تأمُّل ، فهذا الإنسان دخل ساحةَ الدين بقناعةٍ ، وبحثٍ ، ودرسٍ ، ومِن رابع المستحيلات أن يتركه بسببٍ تافه ، أنت مع مَن ؟ مع خالق الكون، ومَن عاهدت ؟ عاهدت الله عزَّ وجل ، واللهُ عظيم ، فاثبتْ واذكرْ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وثباتهم ، وعاقبة أمرهم .
من علامات قيام الساعة أن يصبح المرء مؤمناً ، ويمسي كافراً ، يمسي كافراً ويصبح مؤمناً، يبيع دينه ، بعرضٍ من الدنيا قليل ، تجده ترك الصلاة لأتفه الأسباب ، ترك الاستقامة بعدما كان مستقيمًا ، قَبِلَ مالاً حراماً ، يقول لك : عندي أولاد ، ماذا أفعل ، أهذا هو السبب ؟ أو ليشتري أجهزة فيها ترف ، الأساسيات موجودة ، فإذا وفَّر الإنسانُ الأساسيات لم تَعُدْ لديه مشكلةٌ.
ولما قام مسيلمة الكذاب ، في بني حنيفة ، يدعوهم إلى الإيمان به ، وقف ثمامة في وجهه ، وقال لقومه : يا بني حنيفة ، إياكم وهذا الأمر المظلم ، الذي لا نور فيه .
سبحان الله ، كم فرقة إسلامية ظهرت في التاريخ الإسلامي ؟ ظهرت وتلاشت ، لكن دين الله عزَّ وجل ، هذا الدين العظيم ، لأنّه دين الله بقي شامخاً ، كالطود الأشم ، فالمؤامرات التي حيكت ضدَّ الإسلام ، أكثر مِن أن تحصى ، ومع ذلك ، فالإسلام هو الإسلام ، والدين هو الدين، والإسلام كالطود الشامخ ، وكالسفينة العملاقة التي لا تهتز بأتفه الأمواج .
قال : يا بني حنيفة ، إياكم وهذا الأمر المظلم الذي لا نور فيه ، إنه واللهِ لشقاءٌ كتبه الله عزَّ وجل على مَن أخذ به منكم ، وبلاءٌ على من لم يأخذ به ، ثم قال : يا بني حنيفة ، إنه لا يجتمع نبيَّان في وقتٍ واحد ، وإن محمداً رسول الله لا نبي بعده ، ولا نبي يُشْرَك معه ، ثم قرأ عليهم :
( سورة غافر )
ثم قال : أين كلام الله هذا من قول مسيلمة ؟
يا ضفدع نِقِّي ، ما تَنِقِّين ، لا الشراب تمنعين ، ولا الماء تكدَّرين.
هذا كلام مسيلمة ، يا ضفدع نقي ، ما تنقين ، لا الشراب تمنعين ولا الماء تكدرين ، ولما كذَّب مسيلمة الكذاب بالفطرة ، فقد تنكر الفطرة القائمة في نفسه ، والإيمان بالقرآن يتمّ بالفطرة ، من دون دليل ، تقرأ القرآن ، تشعر أنه كلام خالق الكون ، تقرأ كلامًا منحولاً ، مفترى ، تشعر أنه سخيف ، تافه ، كلامٌ لا يقف على قدمين ، وهناك الأدلة علمية ، والأدلة إعجازية ، ولدينا أدلة نقلية ، وعقلية ، مع دليل بسيط ، هو دليل الفطرة ، مثلاً لما قال ربنا عزَّ وجل :
( سورة آل عمران )
تشعر أنَّ هذا كلام الله :
( سورة يس : آية " 12 " )
( سورة الإنسان )
تشعر بالفطرة ، بلا دليل ، بلا تعليل ، بلا محاكمة ، تشعرُّ أنَّ هذا كلام الله ، أمًّا : يا ضفدع نِقِّي ، ما تنقِّين ، لا الشراب تمنعين ، ولا الماء تكدرين ، فهذا هراءٌ ، وجزاف .
ثم انحاز لِمَن بقي على الإسلام من قومه ، ومضى يقاتل المرتدين ، جهاداً في سبيل الله ، وإعلاءً لكلمة الله في الأرض ، فقد أدرك الحقَّ ، واستجاب له ، قال تعالى :
( سورة الأنفال : آية 24 " )
الإنسان قبل الإيمان - واللهِ - ميت ، قال سبحانه :
( سورة الأنعام : آية 122 " )
والكافر في ظلماتٍ بعضها فوق بعض ، لكنّ المؤمن استنار عقلُه ، وطهُرت نفسه ، وامتلأ قلبه سعادةً ، وضبط سلوكه ، وسددَّ خطاه ، وامتلك رؤيةً صادقة ، وعزماً متيناً ، وإرادةً صلبةً ، هذا هو الإيمان .
فهذا ثمامة بن أُثال ، فكم كان البَوْنُ شاسعًا بين حياته قبل الإسلام ، يوم كان ملِكًا ، غاشمًا، حقودًا ، قاتلاً ، وأراد أن يقتل النّبي ، ثمَّ صُرِف عن قتله ، وجَمَع نفرًا من الصحابة وقتلهم شرَّ قتله ، فلمّا عرف الله عزَّ وجل ، أصبح إنسانًا آخر ، كلُّ طاقاته ، وكلُّ إمكاناته موظفةٌ في خدمة الحق ، وهذا هو المؤمن بذكائه ، لسانه ، عضلاته ، وقته ، اختصاصه ، خبراته ، أولاده ، أسرته ، كلُّ إمكاناته سخَّرها في سبيل الله مضحِّيًّا صادقًا ، أما قبل ذلك فكانت كلُّ إمكاناته في سبيل الشيطان ، في سبيل المصالح الدنيوية ، لذلك فالحياة لا تستقيم إلا بالإيمان ، ولا يسعد الإنسان إلا بالإيمان ، مِن هنا قال عليه الصلاة والسلام : لَا تُصَاحِبْ إِلَّا مُؤْمِنًا وَلَا يَأْكُلْ طَعَامَكَ إِلَّا تَقِيٌّ *
( سنن الترمذي وأبو داود عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ )
إنْ صاحبتَ المؤمن فالمؤمن منصف ، والمؤمن وفي ، والمؤمن صادق ، وقَّاف عند حدود الله عزَّ وجل ، يحب لكَّ ما يحبُّ لنفسه ، ويكره لك ما يكره لنفسك.
هذا ثمامة بن أُثال ، جزاه الله عن الإسلام والمسلمين خيراً ، وأكرمه بالجنة التي وعِد المتقون .
والحمد لله رب العالمين
* * *(/)
الدرس 16\50 : سيرة الصحابي : جعفر بن أبي طالب لفضيلة الأستاذ الدكتور محمد راتب النابلسي .
تفريغ : السيد عماد علان .
التدقيق اللغوي : الأستاذ غازي القدسي .
التنقيح النهائي : المهندس غسان السراقبي .
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا ، وانفعنا بما علمتنا ، وزدنا علماً ، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .
أيها الأخوة الأكارم :
لازلنا مع أصحاب رسول الله رضوان الله عليهم أجمعين وصحابي اليوم :
سيدنا جعفر بن أبي طالب .
وقد أكدت لكم من قبل أن الإنسان من خصائصه أنه يتعلق بالأشخاص أكثر مما يتعلق بالأفكار؛ لذلك إذا درسنا حياة صحابي جليل ورأيناه وقد تمثلت به القيم الإسلامية فهذه حقيقة مع البرهان عليها ، ولأن ترى القيم الإسلامية مجسدةً في شخص جليل أبلغ بكثير من أن تقرأها في كتاب ، أو أن تطلع عليها في نشرة أو ما شاكل ذلك .
ومن هنا كان تدريس السيرة كما يرى بعض العلماء فرض عين ، لأن الله سبحانه وتعالى خاطب النبي عليه الصلاة والسلام ، أو حدثنا عن النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال :
( سورة الأحزاب : 21 ) .
كيف يكون هذا النبي وأصحابه الكرام أسوة لنا حسنة ، إن لم نقف على سيرته ، وعلى مواقفه من أصحابه ، وإن لم نطّلع على سيرة الأبطال من أصحابه الذين كانوا بحق أبطالاً بكل ما في هذه الكلمة من معنى .
فسيدنا جعفر بن أبي طالب ؛ هو أخ لسيدنا علي بن أبي طالب ، لكن هذا الصحابي الجليل له قصة وما أروعها من قصة ، لقد انضم هذا الصحابي الجليل إلى ركب النور هو وزوجته أسماء بنت عميس ، منذ أول الطريق .
يعني هذا الذي يُسلم ، أو يصطلح مع الله في وقت مبكر ، في شبابه ، هذا له شأن كبير ، من كانت له بداية محرقة كانت له نهاية مشرقة ، الذي يشب على طاعة الله شيء ، والذي يتعرف إلى الله في وقت متأخر شيء آخر ، وكلاً وعد الله الحسنى .
ولكن يا أيها الأخوة :
إذا تعرفت إليه وأنت شاب ما الذي يحصل ؟ أولاً : تُشكل حياتك تشكيلاً إسلامياً ، ألصق شيءٍ بحياتك عملك وزوجتك ، فإذا كنت مسلماً حقاً ، مؤمناً حقاً تختار الزوجة المؤمنة الصالحة التي تعينك على طاعة الله ، وإن كنت مؤمناً مسلماً حقاً ، تختار العمل المهني الذي يرضي الله وإذا عرفت الله في وقت مبكر تنامت هذه المعرفة ، وتراكم هذا العلم ، وتعمقت
تلك التجربة ، وكلما ازددت يوماً في عمرك ، ازددت قرباً من الله عز وجل ، لذلك لا تنسوا نصيحة رسول الله :
اغتنم خمساً قبل خمس ، اغتنم شبابك قبل أن تكون صحتك شغلك الشاغل قبل أن تنتقل من طبيبٍ إلى طبيب ، ومن مستشفى إلى مستشفى ومن تحليل إلى تصوير ، إلى خزعة ، إلى تحليل ، قبل أن تدخل هذه المتاهات ، أغتنم صحتك قبل سقمك ، اغتنم فراغك قبل شغلك ، أنت شاب ليس وراءك زوجة تحاسبك أين كنت البارحة ؟ ولماذا جئت البيت في هذه الساعة المتأخرة ، الزوجة شريكة الحياة ، ومن له شريك فله معلم يحاسبه هذا كلام التجار ، شريكة حياتك ، تسألك وتحاسبك أين كنت ؟ أين ذهبت ؟ قبل الزواج أنت متفرغ ، أنت عصفور طليق تَعَلّم ، ابنِ إيمانك .
أغتنم خمساً قبل خمس ، شبابك قبل هرمك ، صحتك قبل سقمك ، فراغك قبل شغلك وحياتك قبل موتك .
فسيدنا جعفر انضم إلى ركب النور ، انضم إلى جماعة المؤمنين ، أشرق الهدى في نفسه ، تعرّف إلى الله ، في سن مبكرة ، لقد أسلم على يدي سيدنا الصديق رضي الله عنه ، في وقت مبكرٍ جداً قبل أن يدخل النبي عليه الصلاة والسلام دار الأرقم بن الأرقم ، وهي أول دارٍ ظهرت فيها الدعوة الإسلامية .
ولقي الفتى الهاشمي جعفر بن أبي طالب ، وزوجه الشابة ، من أذى قريش و نكالها ما لقيه المسلمون الأولون ، بالله عليكم أليس الله قادراً على أن يخلق النبي وأصحابه في عصرٍ ليس فيه كافر واحد ؟ هل هذا يعجز الله عز وجل ؟ لو خلق النبي وأصحابه الكرام الكثر في بلدة وحدهم ، فلما جاء بالدعوة آمنوا به جميعاً وأحبوه جميعاً ، وانتهى الأمر لا غزوات ، ولا حروب ، ولا مناقشات ، ولا مؤامرات ، ولا إخراج ، ولا شعراء هجاءون ولا هجرة إلى المدينة ، ولا إلى الحبشة ، لا شيء من هذا كله ، إذاً فلو أن النبي خلقه الله مع أصحابه ، في بلد وحدهم ، وآمنوا به ببساطة ، وأحبهم وأحبوه ، وأسسوا مجتمعاً إسلامياً ، وسعدوا به ، ثم انقضت حياتهم ، نحن من بعده ، فكيف نتأسّى به ؟ فيما لو لاقينا الصعوبات ؟ لكن هكذا شاءت حكمة الله :
( سورة الأنعام : 112 ) .
وهذه آية ثانية :
( سورة الفرقان : 31 ) .
ليظهر جهاده ، ليظهر صدقه ، ليظهر ثباته ، والله يا عم : لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في شمالي على أن اترك هذا الأمر ما تركته حتى يظهره الله أو أهلك دونه ، عرضوا عليه أجمل فتاة ، عرضوا عليه أن يكون رئيسهم عرضوا عليه أن يكون أغناهم وأكثرهم مالاً، المال والنساء والرئاسة ، آثر النبي عليه الصلاة والسلام الدعوة إلى الله عليها كلها ، كيف تتأسّى به ؟ كيف تجعله نبراساً لك ؟ كيف يكون قدوة لك ؟ الجواب : أن تكون حياة النبي وسيرته كما عرفناها . فاسمعوا هذه الكلمة أيها الأخوة :
إن لم يجرِ على النبي ما يجري على البشر لا يكون سيد البشر ، يجوع ويخاف ، ويتألم ، ويؤلمه الهجاء ، ويؤلمه التكذيب ، تؤلمه السخرية ، يؤلمه خذلان قومه له ، إنه بشر كأي بشر، لكنه كان سيد البشر .
إذاً : لقي جعفر رضي الله عنه من قومه ما لقي ، من الأذى ، من العنت ، من النكال ، من التآمر ، من الإخراج ، وكان هذا الصحابي الجليل يعلم أن طريق الجنة مفروش بالأشواك لا بالزهور .
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ بْنِ قَعْنَبٍ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ ثَابِتٍ وَحُمَيْدٍ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حُفَّتِ الْجَنَّةُ بِالْمَكَارِهِ وَحُفَّتِ النَّارُ بِالشَّهَوَاتِ
( أخرجه مسلم )
حفت الجنة بالمكاره ، وحفت النار بالشهوات ، إن عمل الجنة حزن بربوة وإن عمل النار سهل بسهوه ، من السهولة بمكان أن يسلك الإنسان طريق النار ، يكفي أن يسترسل مع شهواته ، ومع نزواته ، ومع خطراته ، ومع رغباته ، ومع ميوله للدنيا ، يكفي أن يعيش كما يحلو له ، أن يأكل ما يشتهي ، أن يلتقي بمن يشتهي ، أن ينظر إلى ما يشتهي ، وانتهى الأمر.
لذلك كان هذا الصحابي الجليل يعلم علم اليقين أن سلعة الله غالية حتى إن سيدنا علي كرم الله وجهه قال : طلب الجنة بغير عمل ذنب من الذنوب استهزاء بالله ، أن تطلب الجنة بلا عمل ، أن تطلب الجنة بالأماني فهذا استهزاء .
أيها الأخوة :
حديث تعرفونه جميعاً ، فلو وقفنا على دقائقه ، وعلى أبعاده لأصبحت حياتنا حياة أخرى، النبي الكريم وهو الفطن ، وهو أول خلق الله ، يعرّف الذكاء ، قال : الكيس من هو ؟ العاقل ! من هو ؟ ذو العقل الراجح ! من هو ؟ ذو العقل الكبير !. من هو ؟
عَنْ ضَمْرَةَ بْنِ حَبِيبٍ عَنْ أَبِي يَعْلَى شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْكَيِّسُ مَنْ دَانَ نَفْسَهُ وَعَمِلَ لِمَا بَعْدَ الْمَوْتِ وَالْعَاجِزُ مَنْ أَتْبَعَ نَفْسَهُ هَوَاهَا ثُمَّ تَمَنَّى عَلَى اللَّهِ *
( أخرجه ابن ماجه )
الْكَيِّسُ مَنْ دَانَ نَفْسَهُ ، معنى دان ؛ يعني ضبط نفسه ، ضبط سمعه ، ضبط بصره ، ضبط لسانه ، ضبط ما يدخل في بطنه ، ضبط حركة يده ضبط حركاته ، وسكناته ، ضبط قلبه مما سوى الله ، ضبط فكره أن يعمل لغير الله ، وَعَمِلَ لِمَا بَعْدَ الْمَوْتِ ، إذاً هناك جانب بالإيمان : سلبي ، الاستقامة وجانب إيجابي ، العمل الصالح ، وَالْعَاجِزُ ؛ الغبي ، الجاهل مَنْ أَتْبَعَ نَفْسَه هَوَاهَا ، دائماً مع هوى نفسه ، مع نزواتها ، كلام العوام ، "شو طالع بيدنا هيك الناس ، الله يعفو عنا ، بلوى عامة يا أخي ، نحنا عبيد إحسان ما لنا عبيد امتحان ، الله يتوب عليّ يا سيدي ، ما لنا غير عفوه وكرمه " هي كلها زعبرة هي .
الْكَيِّسُ مَنْ دَانَ نَفْسَهُ وَعَمِلَ لِمَا بَعْدَ الْمَوْتِ وَالْعَاجِزُ مَنْ أَتْبَعَ نَفْسَهُ هَوَاهَا ثُمَّ تَمَنَّى عَلَى اللَّهِ .
لكن الكفار ضيّقوا على أصحاب النبي ، وشددوا عليهم ، وأحكموا عليهم الخناق ، وقاطعوهم، ونكلوا بهم ، وعذبوهم ، إلى درجة أن حياة المؤمنين في مكة صارت لا تطاق .
لذلك فالنبي عليه الصلاة والسلام ، وهو الحريص على أصحابه الحريص على سلامتهم، الحريص على راحتهم ، أمرهم بالهجرة إلى بلد فيها ملك صالح .
فاستأذن سيدنا جعفر بن أبي طالب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يهاجر مع زوجته، ونفرٌ من الصحابة إلى أرض الحبشة ، فأذن لهم وهو حزين ، أؤكد لكم كيف أن أصحاب النبي احبوا النبي ، وهو بادلهم حباً بحب ، يعني كان يتمنى عليه الصلاة والسلام أن يبقوا إلى جانبه ، لكنها مشيئة الله ، والله أيها الأخوة :
نرجو الله أن نكون من هؤلاء ، تجد أخاً يرغب في أن يسافر ، و المصلحة أن يسافر ، يأذن له أبوه أن يسافر ، والله لكن قلبه يتفطر ، يتمنى أن يبقى إلى جانبه ، هذا الشيء طبيعي بين المؤمنين ، المؤمنون بعضهم لبعض نصحة متوادون ، ولو ابتعدت منازلهم ، والمنافقون بعضهم لبعض غششة متحاسدون ، ولو اقتربت منازلهم .
مضى ركب المهاجرين إلى أرض الحبشة ، وعلى رأسهم ـ طبعاً أمير ، والنبي عليه الصلاة والسلام ، قال : إذا كنتم ثلاثة فأمروا أحدكم مجتمع المسلمين منظم ، التنظيم حضارة، التنظيم رقي ، فهؤلاء الذين هاجروا إلى الحبشة أمر عليهم النبي واحداً منهم ، أمر عليهم سيدهم ، أرقاهم أقربهم إلى الله عز وجل ، ونحن كذلك ـ فيجب أن يكون أمير لمجموعة
إخوان سافروا معاً ، يعني بلا أمير يتخاصمون ، أناس منهم فعلاً يحبون أن يعودوا مبكرين وغيرهم يرغب في التأخير ، فالأمير صاحب القول الفصل.
منذ أن أسلموا لم يذوقوا طعم الأمن ، لكنهم حينما هاجروا إلى هذه الأرض ذاقوا حلاوة الأمن، واستمتعوا بحلاوة العبادة ، فليس هناك كفار يستفزونهم ، ولا مشركون يضيقون عليهم الخناق .
بالمناسبة وأقول هذا كثيراً ، العبد المؤمن يمتحن بالرخاء ، ففي الرجاء يقول : والله الحمد لله، الله مفضلها ، طبعاً ، لأن الصحة طيبة ، وضرس طيب كما يقال ، و معك مال وماشي حالك ، يقبّل يده ويضعها على جبينه ويقول يا ربي لك الحمد ، لكن الله يمتحن بالصعوبات ، لا بالرخاء فإن أخذنا مركبة ، فهي بالنزلة والله ممتازة لها كرات رائعة ، لكن بالطلوع كيف حالها ؟ والله حَميت ، والله انقطعت ، فالبطولة لا بالنزلة ، بل بالطلعة ، بالرخاء الكل جيدون ، لكن بالشدة يتساقط الكثيرون
( سورة الأحزاب : 11 )
لذلك أروع شيء بحياة المؤمن ، حينما يأتيه قضاء يكرهه فيقول الحمد لله رب العالمين ، النبي علمنا هذا الشيء ، اللهم أشكو إليك ضعف قوتي وقلة حيلتي وهواني على الناس ، يا رب المستضعفين ، وأنت ربي إلى من تكلني ، إلى صديقٍ يتجهمني ، أو إلى عدوٍ ملكته أمري ، إن لم يكن بك غضب علي فلا أبالي ولك العتبى حتى ترضى ، لكن عافيتك أوسع لي .
الآن قريش حينما علمت أن بعض الصحابة الكرام هاجروا إلى الحبشة ونجوا من تعذيبها ونكالها ، سبحان الله ، الشيء الذي لا يصدق أن الكافر يحب إيقاع الأذى بالمؤمنين ولو لم يستفد شيئاً ، حباً للأذى ، فكبر على قريش أن ينجو هؤلاء الشباب ، الصحابة الأطهار ، إلى بلد فيه ملك عادل ، رحيم ، كبر عليها ذلك ، فأرادت أن تكيد لهم وأن ترجعهم مقهورين إلى مكة ، ولنترك الكلام لأم سلمة رضي الله عنها ، تروي لنا الخبر كما عاينته ، لأنها كانت إحدى المهاجرات ، فإلى رواية أم سلمة لخبر أصحاب رسول الله الذين هاجروا إلى الحبشة ، وعلى رأسهم سيدنا جعفر بن أبي طالب .
قالت : لما نزلنا أرض الحبشة ـ هذا كلام أم سلمة ـ لقينا فيها خير الجوار فأمِنّا على ديننا ، وعبدنا الله ربنا من غير أن نؤذى ، أو نسمع شيئاً نكرهه .
يعني بالمناسبة ، إذا كان هناك بلد ، وبإمكان المسلم أن يصلي ، ويصوم ، ويحضر مجالس العلم ، ويلتقي مع إخوانه ، فهذه نعمة كبرى ، لا يعرفها إلا من فقدها ، هذه نعمة اشكروا الله عليها ، أنتم تدخلون إلى بيوت الله وأنتم مطمئنون ، مرتاحون ، بإمكانك أن تصلي بأي مكان ، بإمكانك أن تدخل أي مسجد ، وأن تحضر أي مجلس علم ، وأن تحضر خطب الجمعة ، في بيتك عشر مصاحف تقرأ القرآن ، تقتني كتباً إسلامية ، هذه نعمة لا يعرفها إلا من فقدها .
وتتابع أم سلمة تقول أرسلت إلى النجاشي رجلين جلدين ، وانتقت قريش أذكى رجلين ، وأقوى رجلين ، وأكثرهم دهاءً ، هما عمرو بن العاص ، وعبد الله بن أبي ربيعة ، وبعثت معهما بهدايا كثيرة ، رشوة ، إلى النجاشي ولبطاركته مما كانوا يستظرفونه من أرض الحجاز، ثم أوصتهما بأن يدفعا إلى كل بطريك هديته قبل أن يكلما ملك الحبشة ، حتى إذا أراد ملك الحبشة أن يحكم وأراد أن يستشير البطاركه ، يكونون كلهم قد قبضوا الثمن آخذين الهدايا الثمينة ، فيقولون : والله يا سيدي علينا أن نطردهم ، هكذا نرى المصلحة ، نرى المصلحة أن تطردهم، لأنهم آخذين الهدايا الثمينة .
قالت : فلما قدما الحبشة لقيا بطاركة النجاشي ودفعا إلى كل بطريك هديته ، فلم يبقَ أحد منهم إلا أهديا إليه وقالا له : إنه قد حل في أرض الملك غلمان من سفهائنا .
( سورة البقرة : 11 ـ 15 )
إنه قد حل في أرض الملك غلمان من سفهائنا صبئوا عن دين آبائهم وأجدادهم ، وفرقوا كلمة قومهم ، فإذا كلمنا الملك ، في أمرهم فأشيروا عليه بأن يسلمهم إلينا ، من دون أن يسألهم عن دينهم خائفين أن يقنعوا الملك ، لأن المؤمن عنده قوة إقناع عجيبة ، يعني مثل ثمامة وضع
في أذنه قطناً ، قالا : من دون أن يسألهم عن دينهم فإن أشراف قومهم أبصر بهم ، واعلم بما يعتقدون والبطاركة رأوا الهدية ثمينة جداً ، فقالوا : تكرموا ، نعم وألف نعم " وكل ما ورد في هذه الساعة برواية أم سلمة .
قالت أم سلمة : ولم يكن هناك شيء أكره لعمرو وصاحبه من أن يستدعي النجاشي أحداً منا ، ويسمع كلامه ، يعني كان عمرو بن العاص يتمنى إن يلتقي بالملك ، وأن يقنعه ، وأن يسلمهم له ، من دون أن يسألهم ، من دون أن يتصل بهم .
يا أيها الأخوة الكرام : اسمعوا هذه الحقيقة :
الحق لا يخشى البحث ، ولا يستحي به ، ولا تحتاج أن تكذب له ، ولا أن تكذب عليه ، ولا أن تبالغ به ، ولا أن تقلل من خصومه ، الحق حق ، والباطل باطل ، لذلك إذا كنت على الحق فلا تخشَ أحداً ، قال تعالى :
( سورة النمل : 79 )
إذا كنت على الحق فلا تخشَ لومة لائم ، ثم أتيا النجاشي وقدما إليه الهدايا فاستظرفها ، شيء جميل ، الله يجزيكم الخير ، بارك الله بكم وأعجب بها ، ثم كلماه فقالا :أيها الملك ـ والله سبحانه يقول :
( سورة الطارق : 16 ) .
( سورة آل عمران : 54 ) .
( سورة الأنفال : 36 )
قالوا أيها الملك : إنه قد آوى إلى مملكتك طائفة من أشرار غلماننا ، انظروا لكلمتهما أشرار :
( سورة يوسف : 77 )
قد جاءوا بدين لا نعرفه لا نحن ولا أنتم ، دين عجيب يا أخي ، ففارقوا ديننا ، ولم يدخلوا في دينكم ، انظروا النفاق ، وقد بعثَنا إليك أشراف قومهم ، من آبائهم ، وأعمامهم ، وعشائرهم ، لتردهم إليهم ، وهم أعلم الناس بما أحدثوا من فتنة عمن كان في مجلس النجاشي ؟ البطاركة ،
هؤلاء المستشارون ، نظر النجاشي إلى بطاركته فقال البطاركة : صدقا أيها الملك ، لقد فعلت الهدايا فعلها ، فإن قومهم أبصر بهم ، وأعلم بما صنعوا ، فردهم إليهم ليروا رأيهم فيهم لكن الملك صالح ، والله عز وجل علمنا ، بالقرآن أن أخطر صفة لمن كان ملكاً ، أو أميراً إن أراد العدل أن يتحقق بنفسه:
( سورة النمل : 23 ـ 27 )
هذه الصفة يجب أن يتحلى بها كل إنسان وليّ أمر الناس ، فغضب النجاشي وقال سننظر حتى نتحقق ، فلماذا غضب النجاشي ؟ لأن البطاركة أشاروا عليه أن يطردهم من دون أن يستمع إليهم .
قالت : فغضب الملك غضباً شديداً ، هذا كلام من ؟ أم سلمة ، فغضب الملك غضباً شديداً من كلام بطاركته ، وقال : لا والله لا أسلمهم لأحد حتى أدعوهم ، وأسألهم عما نسب إليهم ، قلتم أشرار ، قلتم سفهاء قلتم أحدثوا فتنة إذاً فإن كانوا كما يقول هذان الرجلان أسلمتهم لهما ، وإن
كانوا على غير ذلك حميتهم ، وأحسنت جوارهم ما جاوروني ، هذا حقاً كلام ملك صالح .
قالت أم سلمة : ثم أرسل النجاشي يدعونا إلى لقائه ، فاجتمعنا قبل الذهاب إليه ، وقال بعضنا لبعض : إن الملك سيسألكم عن دينكم فاصدعوا بما تؤمنون به ، الملك نصراني ، وليتكلم عنكم جعفر بن أبي طالب ، هكذا النظام ، رئيس الوفد يتكلم ، ولا يتكلم أحد غيره ، قالت أم سلمة : ثم ذهبنا إلى النجاشي فوجدناه قد دعا بطاركته ، فجلسوا عن يمينه وعن شماله ، وقد لبسوا طيالستهم .
قال العلماء : الرجل تحت طيّ لسانه لا تحت طيلسانه ، هذا جناس تام اسمه ، يقين بالله يقين، يعني يقين بالله يقيني ، ما معنى ذلك ؟ يحميني الدنيا إذا حَلت أوحلت وإذا كفت أو كفت ، وإذا أينعت نعت .
ووجدنا عنده عمرو بن العاص ، وعبد الله بن أبي ربيعة ، هؤلاء البطاركة لبسوا طيالستهم ، واعتمروا قلانسهم ، ونشروا كتبهم بين أيديهم فلما استقر بنا المجلس ، التفت إلينا النجاشي وقد توجه إلينا ، وقال : ما هذا الدين الذي استحدثتموه لأنفسكم ؟ وفارقتم بسببه دين قومكم ، ولم تدخلوا في ديني ، ولا في دين أيٍ من هذه الملل ؟ فما أروعها من كلمة قالها هذا الصحابي الجليل ، إذا كان الله مع إنسان يطلق لسانه ، ويثبت جنانه ، ويرفع معنوياته ، تقدم منه جعفر بن أبي طالب وقال أيها الملك :
فتكلم بأدب ، كنا قوماً أهل جاهلية ، نعبد الأصنام ، ونأكل الميتة ونأتي الفواحش ، ونقطع الأرحام ، ونسيء الجوار، ويأكل القوي منا الضعيف ، وبقينا على ذلك حتى بعث الله إلينا رسولاً منا ، نعرف نسبه وصدقه ، وأمانته ، وعفافه ، فدعانا إلى الله لنوحده ، ونعبده ، ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان ، وقد أمرنا بصدق الحديث ، وأداء الأمانة ، وصلة الرحم ، وحسن الجوار ، والكف عن المحارم ، وحقن الدماء ، ونهانا عن الفواحش ، وقول الزور ، وأكل مال اليتيم ، وقذف المحصنات ، وأمرنا أن نعبد الله وحده، ولا نشرك به شيئاً، وأن نقيم الصلاة ، ونؤتي الزكاة ، ونصوم رمضان ، فصدقناه وآمنا به ، واتبعناه على ما جاء به من عند الله ، فأحللنا ما أحل لنا ، وحرمنا ما حرم علينا ، فما كان من قومنا أيها الملك إلا أن عَدَوا علينا ، فعذبونا أشد العذاب ليفتنونا عن ديننا ، ويردونا إلى عبادة الأوثان ، فلما ظلمونا ، وقهرونا ، وضيقوا علينا ، وحالوا بيننا وبين ديننا، خرجنا إلى بلادك ، واخترناك على من سواك ورغبنا في جوارك ، ورجونا ألا نظلم عندك .
ما هذه البلاغة ؟ هذا توفيق الله عز وجل ، إذا كان الله معك فمن عليك ، أطلق لسانه .
قالت أم سلمة : فالتفت النجاشي إلى جعفر بن أبي طالب ، وقال له هل معك شيءٌ مما جاء به نبيكم عن الله ، قال نعم ، قال فاقرأه عليّ ، فقرأ ، وقد انتقى له سورة مريم :
( سورة مريم : 1 ـ 6 )
حتى أتم صدراً من السورة ، قالت أم سلمة :
فبكى النجاشي ، حتى اخضلت لحيته بالدموع ، وبكى أساقفته حتى بللوا كتبهم ، لِما سمعوا من كلام الله ، هذا كلام الله عز وجل ، وهنا قال لنا النجاشي : إن هذا الذي جاء به نبيكم ، والذي جاء به عيسى ليخرج من مشكاة واحدة ، هذا هو الحق ، ثم التفت إلى عمرو وصاحبه وقال لهما : انطلقا فلا والله لا أسلمهم إليكما .
قالت أم سلمة : فلما خرجنا من عند النجاشي ، توعدنا عمرو بن العاص ، وقال لصحابه والله لآتين الملك غداً ولأذكرن له من أمرهم ما يملأ صدره غيظاً منهم ، ويشحن فؤاده كرهاً لهم ، ولأحملنّه على أن يستأصلهم من جذورهم ، فقال له عبد الله بن أبي ربيعة : لا تفعل يا عمرو
فإنهم من ذوي قرابتنا ، وإن كانوا قد خالفونا ، فكان الثاني ألطف من صاحبه أجل .
يا الله يا أيها الأخوة :
إنسان يجلس بخندق ضد الدين ، هذا أشقى الناس ، أجل أشقى الناس .
فقال له عمرو : دع عنك هذا ، والله لأخبرنه بما يزلزل أقدامهم ، والله لأقولن له ، يا أيها الملك : إنهم يزعمون أن عيس بن مريم عبد من عباد الله وليس ابن الله ، هذه تقرب أجلهم ، هكذا رأيه .
فلما كان الغد دخل عمرو على النجاشي وقال له : أيها الملك إن هؤلاء الذين آويتهم وحميتهم يقولون في عيسى بن مريم قولاً عظيماً ، انظروا النفاق ، فقد انحازوا إلى عقيدة النصارى في عيسى بن مريم ليكيدوا لهؤلاء الأصحاب ، فأرسل إليهم وسلهم عما يقولون فيه .
قالت سلمة : فلما عرفنا ذلك نزل بنا الهم ، والغم ، ما لم نتعرض لمثله قط ، وقال بعضنا لبعض : أم ماذا نقول في عيسى بن مريم ، إذا سألكم عنه الملك ، فقلنا والله لا نقول فيه إلا كما قال الله عز وجل ، ولا نخرج في أمره قيد أنملة ، عما جاء به نبينا ، وليكن بسبب ذلك ما
يكون ، هكذا المؤمن ، يكون دائماً صادقاً مع الله سبحانه ، ويتقيد بأمره وقوله :
( سورة طه : 71 )
هذا ما قاله فرعون للسحرة ، فاسمعوا الجواب :
( سورة طه : 72 ـ 73 )
هكذا المؤمن لا يحابي ولا يراوغ بل إن سألنا ، فسنجيبه ، بما قال عنه القرآن ، وليكن ما يكون ، المؤمن أحياناً من قوة إيمانه يبلغ درجة لا يبالي معها بشيء ، والله لا أخالف أمر الله قيد أنملة وليكن ما يكون ، ثم اتفقنا على أن يتولى الكلام عنا جعفر بن أبي طالب أيضاً ، ما شاء الله وقف وقفة رائعة ، فلما دعانا النجاشي دخلنا عليه فوجدنا عنده بطاركته على الهيئة التي رأيناهم عليها من قبل ، ووجدنا عنده عمرو بن العاص وصاحبه ، فلما صرنا بين يديه بادرنا بقوله : ماذا تقولون في عيسى بن مريم ؟ .
فقال له جعفر بن أبي طالب : إنما نقول فيه ما جاء به نبينا صلى الله عليه وسلم .
قال النجاشي : ما الذي يقول فيه نبيكم ؟ فأجاب جعفر : يقول عنه ـ من القرآن أخذ مقالته ـ إنه عبد الله ورسوله وروحه وكلمته التي ألقاها إلى مريم العذراء البتول .
فما إن سَمِع النجاشي قول جعفر حتى ضرب بيده الأرض ، وقال والله ما خرج عيسى بن مريم عما جاء به نبيكم مقدار شعرة ، هذا هو الحق .
عبد الله ورسوله وروحه وكلمته التي ألقاها إلى مريم العذراء البتول فتناخرت البطاركة من حول النجاشي ، تناخرت معناها ؛ أخرجوا أصوات من أنوفهم ، همهموا يعني ، ما أعجبتهم ، استنكاراً لما سمعوا منه ، فقال وإن نخرتم ـ النجاشي يقول : وإن نخرتم ، هذا الذي قالوا عنه هو الحق ثم التفت وقال اذهبوا فأنتم آمنون في أرضي ، اطمأنّ ، من سبكم غرم ، ومن تعرض لكم عوقب ، المركز قَويَ أكثر ، سبحان الله فأرادوا به كيداً فجعلناهم الأخسرين ، فوالله ـ هذا كلام النجاشي : ما أحب أن يكون لي جبل من ذهب وأن يصاب أحد منكم بسوء، أنتم آمنون في أرضي ، من سبكم غرم ، ومن تعرض لكم عوقب ، ثم نظر إلى عمرو وصاحبه ، وقال ـ ردوا على هذين الرجلين هداياهم فلا حاجة لي بهما .
أرادوا أن يستأصلهم من جذورهم ، فاستأصلوا هم ، كن مع الله تَرَى الله معك واترك الكل وحاذر طمعك ، وإذا أعطاك من يمنعه ، ثم من يعطي إذا ما منعك ، إنما أنت له عبد ، فكن جاعلاً في القرب منه ولعك .
قالت أم سلمة : فخرج عمرو وصاحبه مكسورين ، مقهورين ، يجران أذيال الخيبة ، أما نحن فقد أقمنا عند النجاشي بخيرِ دارٍ مع أكرم جار .
هذا درس لنا أيها الأخوة : كن مع الحق ولا تبالِ .
قال له يا غلام : لو أن الأمة اجتمعت على إن ينفعوك بشيء لم ينفوك بشيء إلا قد كتب الله لك ، ولو أن الأمة اجتمعت على إن يضروك بشيء لم يضروك بشيء إلا قد كتب الله عليك .
وفي السنة السابعة للهجرة غادر سيدنا جعفر مع نفر من المسلمين بلاد الحبشة متجهين إلى يثرب فلما بلغوها كان عليه الصلاة والسلام عائداً من توه من خيبر بعد أن فتحها الله له ، ففرح بلقاء جعفر فرحاً شديداً ، حتى قال : اسمعوا كلام النبي اللهم صلّ عليه ، والله ما أدري بأيهما أنا أشد فرحاً بفتح خيبر أم بقدوم جعفر ، هكذا علاقة المؤمنين ، علاقة الحب ، علاقة الشوق ، علاقة الوفاء ، علاقة المؤاثرة ، والمسلمون فرحوا كما فرح النبي عليه الصلاة والسلام .
كان سيدنا جعفر شديد الحدب على الضعفاء والمساكين ، كثير البر بهم ، حتى إنه كان يلقب بأبي المساكين ، أخبر عنه أبو هريرة فقال : كان خير الناس لنا معشر المساكين ، فقد كان يمضي بنا إلى بيته فيطعمنا ، ما يكون عنده ، حتى إذا نفد طعامه أخرج لنا العكة التي يوضع فيها السمن وليس فيها شيء فنشقها ونلعق ما علق بداخلها .
في أول السنة الثامنة للهجرة جهز النبي صلوات الله عليه ، جيشاً لمنازلة الروم في بلاد الشام، وأمر على هذا الجيش زيد بن حارثة وقال إذا قتل زيد أو أصيب فالأمير جعفر بن أبي طالب ، فإن قتل جعفر أو أصيب فالأمير عبد الله بن رواحه ، فإن قتل عبد الله بن رواحه أو أصيب فليختر المسلمون لأنفسهم أميراً .
معركة شديدة جداً ، فلما وصل المسلمون إلى مؤتة وهي قرية واقعة على مشارف الشام في الأردن وجدوا أن الروم قد أعدوا لهم مائة ألف تظاهرهم مائة ألف أخرى ، من نصارى العرب ، من قبائل لخم وجذام وقضاعة ، أما جيش المسلمين فكان ثلاثة آلاف ، وما إن التقى الجمعان ودارت رحى الحرب حتى خر زيد بن حارثة صريعاً مقبلاً غير مدبر ، فما كان إلا أن أسرع جعفر بن أبي طالب وترجل عن ظهر فرسه ، كانت له شقراء وثب عنها وبدأ يقاتل الجيش مشياً على قدميه وحمل الراية وأوغل بها في صفوف الروم وهو ينشد فاسمعوا نشيده :
يا حبذا الجنة و اقترابها طيبة وباردٌ شرابها
الروم روم قد دنا عذابها كافرة بعيدة أنسابها
عليّ إذ لاقيتها ضرابها
وظل يجول في صفوف الأعداء بسيفه ويصول حتى أصابته ضربة قطعت يمينه ، فأخذ الراية بشماله .
والله إذا انجرحت أصبع واحد هذه الأيام ، فيطلب إجازة ، ويتغيّب كذا يوماً عن العمل ! بدو إجازة وعلى الشغل ثاني يوم يستلقي على ظهره وهاتوا ضماد ، و هاتوا مقويات ، و هاتوا أسبرين ، وإبرة كزاز .
قطعت يمينه ، فأمسك الراية بشماله ، فما لبث أن قطعت شماله ، فأخذ الراية بصدره وعضديه ، فما لبث أن أصابته ثالثة ، شطرته شطرين فأخذ الراية منه عبد الله بن رواحه فما زال يقاتل بها حتى لحق بصاحبيه .
بلغ النبي عليه الصلاة والسلام مصرع القواد الثلاثة ، فحزن عليهم أشد الحزن ، وانطلق إلى بيت ابن عمه جعفر ، من شدة حزن النبي أراد أن يبلغهم هو بنفسه هذا النبأ المحزن ، ليكون وقعه عليهم خفيفاً ، انطلق إلى بيت جعفر فألفى زوجته أسماء تتأهب لاستقبال زوجها الغائب، فهي قد عجنت عجينها ، وغسّلت بنيها ، ودهنتهم ، وألبستهم .
قالت أسماء : فلما أقبل علينا النبي عليه الصلاة والسلام ، رأيت غلالة من الحزن توشح وجهه الكريم ، فالأمر غير طبيعي ، كثرتْ المخاوف في نفسي ، غير أني لم أشأ أن أسأله عن جعفر ، مخافة أن أسمع منه ما أكره ، ما سألته ، فحيا وقال : ائتيني بأولاد جعفر ، فدعوتهم له ، فهبوا نحوه فرحين مزغردين وأخذوا يتزاحمون عليه كلٌ يريد أن يستأثر به
فأكب عليهم .
يا إخوان من يحب شخصاً يحب أولاده ، هذه قاعدة صحيحة ، فمحبة الآباء تورث محبة الأبناء ، أقبل نحوهم ، وتشممهم ، وعيناه تذرفان من الدمع ، فقلت يا رسول الله بأبي أنت وأمي ، ما يبكيك ؟ أبلغك عن جعفر وصاحبيه شيء ، قال : نعم ، وألقى الكلمة الفاجعة ، لقد استشهدوا هذا اليوم ، عندئذ غاضت البسمة من وجوه الصغار ، لما سمعوا أمهم تبكي وجمدوا في أمكنتهم ، وكأن على رؤوسهم الطير ، أما النبي عليه الصلاة والسلام فمضى وهو يكفكف عبراته ويقول : اللهم اخلف جعفراً في ولده ، اللهم اخلف جعفراً في أهله ثم قال : لقد رأيت جعفراً في الجنة له جناحان مضرجان بالدماء ، وهو مصبوغ القوادم .
إنها مرتبة عالية عند الله ، إنها الشهادة ، هذا الصحابي الجليل عاش حياته مهاجراً تارة ، ومجاهداً تارة أخرى ، إلى أن لقي الله وهو عنه راضٍ ، وسمعت أنه سينشأ جامع في مطار دمشق إن شاء الله ، باعتباره مطاراً دائباً بحركة الطيران وسيسمي " جامع جعفر الطيار "
النبي عليه الصلاة والسلام رآه يطير في الجنة ، بجناحين ألم تقطع يداه ؟ فأبدله الله عز وجل جناحين ، يقول : رأيت جعفراً في الجنة له جناحان مضرجان بالدماء ، وهو مصبوغ القوادم.
والله أهم ما في الدنيا طاعة الله ، وما فيها شيء أفضل من القرب من الله عز وجل ، ما لها وزن إلا أن تكون عند الله مرضياً ، فإذا رضي الله عنك لا تسأل عن الدنيا ، ابن آدم اطلبني تجدني فإذا وجدتني وجدت كل شيء ، وإن فتك فاتك كل شيء ، وأنا أحب إليك من كل شيء.
والحمد لله رب العالمين(/)
الدرس 13\ 50 سيرة الصحابي حذيفة بن اليمان لفضيلة الأستاذ محمد راتب النابلسي.
تفريغ : م . م حسان عودة
التدقيق اللغوي : الأستاذ غازي القدسي
التنقيح النهائي : المهندس غسان السراقبي .
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين ، و الصلاة و السلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا ، إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا و انفعنا بما علمتنا و زدنا علماً و أرنا الحق حقاً و ارزقنا إتباعه ، و أرنا الباطل باطلاً و ارزقنا اجتنابه واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، و أدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .
أيها الأخوة الأكارم :
مع الدرس الثالث عشر من دروس سيرة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضوان الله عليهم أجمعين وصحابي اليوم سيدنا : حذيفة بن اليمان .
الشيء الذي يلفت النظر أن كل صحابي نسيج وحده كما يقولون ، يتمتع بشخصية لها سماتها وخصائصها ، وهذه الشخصية كأنها جاءت في عهد النبي عليه الصلاة والسلام لتكون قدوة لمثيلاتها في العصور القادمة ، فكل صحابي يمثل شخصية نجدها في كل عصر ، لكن هذا الصحابي بهذه الشخصية التي يتميز بها وقف الموقف المثالي فكان بطلاً بحقٍ إذ قيل إن عصر النبي عليه الصلاة والسلام هو عصر البطولات .
الحقيقة أن المجتمعات تجد فيها في كل عصر شخصاً يلتمع ويعلو ذكره ، يتفوق أما أن تجد في عصر واحد عدداً لا ينتهي من الأبطال ، وكل واحد نسيج وحده ، فهذا لم يتوافر إلا في عصر الرسالة الإسلامية وعهد الرسول صلى الله عليه وسلم.
سيدنا حذيفة بن اليمان عاش والده في المدينة مكي الأصل مدني النشأة ، فلما بعث النبي عليه الصلاة والسلام كان حذيفة على شوق كبير ليلقى النبي عليه الصلاة والسلام ، ويملأ جوانحه من حبه ، فما إن التقى بالنبي عليه الصلاة والسلام ، حتى سأله النبي الكريم :
أمهاجر أنت أم أنصاري ؟.
أولاً : النبي عليه الصلاة والسلام ، كان فطناً ، والفطنة كما تعلمون من صفات الأنبياء ، فحينما التقى النبي هذا الصحابي أول سؤال طرحه عليه أمهاجر أنت أم أنصاري ؟ .
ماذا نفهم ، يعني أنت أيها المؤمن إذا التقيت بإنسان ينبغي أن تحدثه عن شيء يعيشه ، عن قضية يعانيها ، يجب أن تهتم به ، يجب أن تهتم بمشكلته لأنه لا سبيل إلى قلبه إلا بهذه الطريقة . يعني إذا التقى مؤمن بشخص فليسأله عن أحواله ، عن وضعه عن عمله ، عن بعض المشكلات التي يعاني منها ، حينما تسأل الإنسان عن قضية يعانيها يتجاوب معك .
النبي عليه الصلاة والسلام ، حينما التقاه أول مرة ، قال يا حذيفة أمهاجر أنت أم أنصاري؟.لأنه هو مكي الأصل مدني النشأة ، فقال رضي الله عنه : إن شئت كنت من المهاجرين ، وإن شئت كنت من الأنصار .
أنت بحكم وضعك النادر ممكن أن تكون مع إخوانك المهاجرين أو مع إخوانك الأنصار ، فاختر لنفسك ما تحب .
فقال حذيفة رضي الله عنه : بل أنا أنصاري يا رسول الله آثر أن يكون مع الأنصار .
لا يعنينا من هذه النقطة في حياة هذا الصحابي إلا أن النبي كان فطناً وكان إذا جلس مع إنسان، يضع يده على جرحه ، يضع يده على مشكلته ، يحدثه عما في نفسه ، فأما أن تحدث الناس في موضوع بينما هم يعانون مشكلة معينة ، فليس هذا من الحكمة .
يقال إن النبي عليه الصلاة والسلام كان إذا جلس مع التجار حدثهم بالتجارة إذا جلس مع أي إنسان حدثه باختصاصه تأليفاً لقلبه وتقرباً إليه ، يعني ليس القصد أن تملي على الإنسان المعلومات بل القصد أن تفتح قلبه إليك القصد أن يميل إليك ، القصد أن يشعر أن هناك لغة مشتركة بينك وبينه ، أن هناك اهتمامات واحدة ، من هنا قال عليه الصلاة والسلام :
من لم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم . أنا العبد الفقير من عادتي إذا جلست مع أخ أسأله عن أولاده لأنه ما من إنسان على وجه الأرض إلا ويحب أولاده ، إذا سألته عنهم عن أوضاعهم
الدراسية ، وأوضاعهم المعاشية ، والمهنية ، انطلق الأب يحدثني عن أولاده ، أنا أريد أن ينطلق ، فإذا أنطلق عندئذ يمكن أن تحدثه أنت عن الله عز وجل .
فالقضية ليست أن تملي على الناس معلومات ، القضية أن تفتح قلوبهم قبل أن تفتح آذنهم ، القضية أن تستميلهم ، القضية أن يشعروا أنك قريب منهم من الممكن أن أقول لكم كلمة : لا أعتقد أن واحداً منكم لا يتمنى أن يكون داعية إلى الله عز وجل ، لأنك إذا أردت أن تزن الأعمال بالميزان الصحيح ، ما من عمل أرقى في الأرض من أن يستخدمك الله بالدعوة إليه ، ما من عمل أشرف من أن تكون ناطقاً بلسان الحق .
أحياناً يقال : فلان الناطق باسم المبعدين ، دكتور يتقن اللغة الأجنبية من حين لآخر يصرح تصريحاً معيناً ، شيء جميل ، فاختاروا أعلاهم علماً وثقافة ، وطلاقة ، ولغة . لكن حينما تكون أنت ناطقاً باسم الحق ، هذه أعلى مرتبة ، لن تستطيع أن تدعو الناس إلى الله إلا إذا شعر الناس جميعاً أن مشكلاتهم هي مشكلتك ، يعني إن لم تشعر بما يشعرون ، إن لم تحس بما يحسون ، إن لم تتعاطف مع من يتعاطفون ، لن يصغوا إليك .
لذلك فالنبي الكريم قال : بعثت لمداراة الناس .
المدارة بذل الدنيا من أجل الدين ، اجلس معه استمع إليه أصغ إليه وتراه يصغي للحديث بسمعه وبقلبه ، ولعله أدرى به فمداراة الناس تفتح قلوبهم ، فإذا فتحت قلوبهم ، فتحت آذانهم.
يا حذيفة أ أنصاري أنت أم مهاجر ؟ .
وضع يده على مشكلته ، هو في حيرة ، مكي الأصل ، مدني النشأة ، يعني أحياناً الإنسان ، يستنبط معاني جليلة من أشياء صغيرة من كلمة ، من نظرة يستنبط معنى جليلاً .
إذاً ، إن شعر الناس أن مشكلتهم هي مشكلتك فهذه علامة طيبة على أنه قد نما لك قلب ، وعاطفة ، وشفافية شعرت بها من اطلاعك على مشكلات الناس ومشاركتهم .
سيدنا حذيفة بن اليمان ، في معركة أحد قُتل أبوه خطأً ، قُتل أبوه بسيوف المسلمين ، وأبوه مسلم ، هذا الشيء يقع في كل الحروب فأحياناً تقصف قطعة عسكرية من قبل طيران الصديق، لا طيران العدو . فهذا يحدث ولأنه يحدث له تشريع في القرآن الكريم ، سماه القرآن القتل الخطأ :
( سورة النساء : 92 ) .
إذا حدث عند قتل والده خطأ ، فخر صريعاً بأسياف أصحابه فصار حذيفة ينادي أبي ، أبي ، لكنه في ضجيج المعركة ، وصليل السيوف مات أبوه بأسياف المسلمين خطأ ، قال فما زاد على أن قال لهم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين ، أما عند النبي عليه الصلاة والسلام فالحق أحق أن يتبع ، فأمر أن يعطى حذيفة دية أبيه ، وهي دية من قُتل خطأً فقال حذيفة :
يا رسول الله : أبي كان بطلب الشهادة وقد نالها ، اللهم اشهد أني تصدقت بديته على المسلمين .
طلب الشهادة ونالها ، والقتل خطأ ، لذلك إذ وقع خطأ في حادث فهناك عدل وهناك إحسان ، العدل أن يدفع المتسبب الدية ، أما الإحسان أن تعفو عنه إذا كنت أنت ولي الأمر .
فقال يا رسول الله إن أبي قد طلب الشهادة ونالها ، اللهم اشهد أني تصدقت بديته على المسلمين . فازداد بذلك منزلة عند النبي عليه الصلاة والسلام ، مرتبة العفو مرتبة عالية جداً، والإنسان إن يعفُ يزده الله بكل عفوٍ عزاً ، أنت جرب ، المنتقم يصغر ، والعفُوُّ يكبر ، ما من إنسان يعفو عن خصمه إلا رفعه الله وزاده عزاً بعفوه .
الحقيقة أننا يجب أن نتعلم من النبي الشيء الكثير ، النبي كان قائداً والقيادة لها خصائص ، من خصائص قيادة النبي عليه الصلاة والسلام ، أنه يعرف إمكانات أصحابه ، كل صحابي له إمكانات ، له خصائص ، له ملامح له قدرات له شخصية خاصة ، القيادة الناجحة أولاً تتعرف على إمكاناتِ مَن دونها ، ثم تكلف هؤلاء الذين تقودهم كلٌ بحسب اختصاصه ، وكلُ بحسب إمكاناته ، القيادة غير الناجحة تضع الرجل المناسب في المكان غير مناسب ، رجل غير مناسب في مكان غير مناسب ، أما القيادة الناجحة ، تضع الرجل المناسب في المكان المناسب .
ذات مرة كان النبي عليه الصلاة والسلام يبحث عن رجل ليقوم بمهمة فقيل له يا رسول الله فلان ، فقال عليه الصلاة والسلام : ليس هناك يعني لا يملك الأهلية لهذه المهمة ، يبحث عن إنسان يتمتع بهذه الأهلية فالنبي عليه الصلاة والسلام أدرك أن هذا الصحابي حذيفة بن اليمان فيه خلال ثلاث : أولاً : يتمتع بذكاء فذ ، يسعفه في حل المعضلات .
ثانياً : يتمتع ببديهة مطاوعة تلبّيه كلما دعاها .
ثالثاً : يتمتع بكتمان للسر فلا ينفذ إلى غوره أحد ، عنده صدر واسع .
يقولون : فلان ببطنه رجل دجاجة ، أي فكرة ، يعني ما أن يسمعها حتى يشيعها بين الناس.
كان هذا الصحابي الجليل كتوماً للسر ، وكان صاحب بديهة وكان فوق ذلك يتمتع بذكاء فذ .
وهنا يُطالعنا سؤال : هذا الذي يتمتع بذكاء فذ ، لو أنه لم يؤمن ؟! ماذا يفعل بذكائه ، هل
في القرآن آية تشير إلى هذا المعنى الدقيق ؟ شخص عبقري لكن ما فيه دين ، شهواني ، يؤثر الدنيا على الآخرة ، فهذا الذكاء الذي منحه الله إياه ما مصيره ؟ وقد آثر الدنيا على الآخرة ، وقد آثر الشهوة على المبدأ ، ربنا عز وجل قال :
( سورة الكهف : 54 ) .
يعني أرجو الله أن أوفق بمثل يوضح فكرتي ، يعني أنت أُعطيت مركبة ، تصعد مكاناً زاويته مثلاً خمس وثلاثون درجة ، نادراً أن يكون طلعة بهذا الشكل ، لكن المركبة قوية جداً ، فإن لم تستخدم هذه المركبة لبلوغ قمة هذا الجبل فقد تهوي بك إلى الحضيض .
يعني الله عز وجل آتى الإنسان عقلاً ، وهذا العقل فيه من القدرات المذهلة الكثير و لو أنهم استطاعوا أن يصنعوا عقلاً آلياً يقوم مقام العقل البشري لاحتاجوا إلى أكبر شارع في نيويورك أكبر شارع ، وهذا الشارع أبنيته من على اليمين ، ومن على الشمال كلها صمامات صغيرة حتى يكون هذا الشارع بكل أبنيته عقلاً ميكانيكياً من صنع الإنسان ، العقل فيه أشياء غريب جداً . و منذ يومين دخلت على طبيب مصور ، عرفته حينما كنت صغيراً ، في سن لا تزيد على عشر سنوات ، كان لهذا الطبيب عيادة في أحد شوارع دمشق وكان له لوحة مصنوعة من الشينكو ، فتذكرت من كلمة واحدة تذكرت شيئاً قبل أربعين عاماً تقريباً ، معنى ذلك أن الإنسان يتمتع بذاكرة ، مداها عجيب جداً .
فالإنسان أعطاه الله قدرةَ تذكُّرٍ ، قدرة محاكمة ، قدرة استنباط قدرة استقراء ، قدرة حكم ، قدرة موازنة ، قدرة تخيّل ، قدرة تصور هذا العقل البشري ، زود الله به الإنسان ليرقى به إلى الله ، لو آثر الدنيا ماذا يفعل بهذا العقل ؟ يستخدمه لفلسفة الباطل ، ولتغطية انحرافاته ، ولفلسفة شهواته ، ولتحبيب الدنيا إلى الناس .
فلذلك أصحاب الأهواء أذكياء ، أصحاب المبادئ الهدامة أذكياء يفلسفون مبادئهم الهدامة ويعطونها طابعاً منطقياً ، يعطونها تماسكاً إيديولوجيا كما يقولون الله عز وجل قال :
( سورة الكهف : 54 ) .
فعقلك إن لم تستخدمه في معرفة الله ، صار سلاحاً خطيراً تستخدمه إذاً في تزيين الباطل ، في ترويج الباطل ، ما من انحراف أخلاقي ، ولا من عقيدة فاسدة ، إلا ولها فلسفة براقة ، وقد عبر الله عن هذا بقوله جل جلاله :
( سورة الأنعام : 112 ) .
يعني إذا قرأت مقالة ، أو قرأت كتاباً فلسفياً ، كتاباً فيه مبادئ إنسانية وجدته يؤيد الباطل ، يؤيد المعاصي ، لكن بفلسفة . يعني مثلاً :
يقولون لك إذا حضرت مسرحية ، النفوس تشفى عند حضور هذه المسرحية لماذا ؟ قال لأن الشر الذي يمثل أمامك ، هذا يخرج من نفسك ، يفلسفون هذه الفنون ، الاختلاط يهذب المشاعر ، إذا كان بالمجلس امرأة تجد الكل يتملمقون ويتكلمون بكلامٍ لطيف ، يجاملون بكلماتهم وبحركاتهم ، هذا الاختلاط مفلسف بأنه يهذب المشاعر والمسرح يشفي النفوس ، وبعض الألعاب التي يقبل الناس عليها إقبالا منقطع النظير ، يدّعون بأنها تزيل الخصومات ، الخصومات يرونها أمامهم وتشفى نفوسهم بمشاهدتها . العقل البشري يمكن أن يزين الباطل ، ويمكن أن يفلسف الانحراف ويغطي المعاصي كلها ، فأنت لا تعبأ بهذا الكلام إن كان مخالفاً للمقياس أنت الذي عندك مقياس ، فلو وقفنا أمام بائع وشعرنا أن هذا الميزان غير صحيح ،
فلا نرتاح له ، ما الحل هذا بائع القماش يقيس القماش بالمتر ، كأنه أقصر من المتر الطبيعي، ما الحل ؟ هناك متر نظامي ، وهناك ميزان دقيق ، نحن عندنا ميزان العقل ، وعنا ميزان الفطرة ، و عندنا ميزان يضبط هذين الميزانين ، هو الشرع وعلى هذا أضرب مثل :
أعطيناك مسألة حللتها بعقلك ، نحن نعطيك سلفاً الحل الشرعي فإذا وصلت بعقلك إلى الحل الشرعي فأنعم بهذا العقل ، وإن لم تصل بعقلك إلى الحل الشرعي فبئس هذا العقل .
كلما هداك عقلك إلى نتيجة تنطبق على حقائق الدين ، أنعم بهذا العقل وكلما هداك عقلك إلى نتيجة لا تنطبق على حقائق الدين فبئس هذا العقل ، هذه هي القاعدة .
فكان هذا الصحابي ، صاحب بديهة ، مطاوعة ، وله ذكاء حاد وكان كتوماً للسر . النبي الكريم حينما انتقل إلى المدينة ظهرت فئة اسمها المنافقون ،المنافق مثل النفق ، له مظهر ضخم لكن من الداخل فارغ ، المنافق إنسان يظهر ما لا يبطن ، المنافق إنسان يتزين بما ليس فيه ، فالمنافق خطر ، الكافر سهل أن تعرفه فمثلاً بحياتنا إنسان يدخن في رمضان فسهل أن تتقيه وهذا إنسان فاجر لكن أنت ممن تخاف ؟ تخاف ممن له مظهر ديني ، ممن له اتجاه دين فيما يبدو ، وله أفعال خبيثة ، هذا يغش الناس ، هذا يوقع بالناس حالة اسمها الإحباط .
لذلك فلأن يطلب الإنسان الدنيا من مظانها أيسر أن يطلبها عن طريق الدين . إنه إن طلبها عن طريق الدين فقد أربك الناس ، وأوقعهم في حيرة ، وجعلهم في شك من أمر هذا الدين ، يعني أتمنى أن أقول لكم أعظم أحوالك أن يكون عملك مصدّقاً لقولك ، من تصديق عملك لقولك ، ينشأ ما يسمى المصداقية ، يعني أنت عندما تخيب ظن إنسان ، هو يظن أنك صالح، وأنك مؤمن ، وأنك تقي ، وأنك تخاف الله وأنك ورع ، فإذا به يفاجأ بأنك على خلاف ذلك فليته يسيء الظن بك و القضية إذاً سهلة جداً ، يا ليت يسقطك من حسابه ، القضية أسهل المشكلة الأخطر أنك إذا خيبت ظن إنسان بأن لك مظهراً دينياً ،و لك انتماءً دينياً ، وأن لك خلفيةً دينية ، ولك اتجاهاً دينياً ، وأن لك عاطفة دينية ، لك منبتاً دينياً ، وأنت مظنة صلاح ، مظنة تُقى ، إذا كنت كذلك وخيبت ظن الناس بك فيا ليت الأمر ينتهي عند سقوطك من أعينهم يا ليت ، يا ليت الأمر ينتهي عند شطبك من حساباتهم ، يا ليت الأمر ينتهي حينما تتهم بأبشع التهم ، يا ليت ، ولكن أخطر ما في الأمر ، أن أصابع الاتهام تتجه إلى الإسلام ، أهذا هو الدين ؟ انظروا دققوا انظروا إلى أهل الدين ! أول كلمة يتفوه بها أعداء الدين إن خيب ظنهم أهل الدين ، أنهم يطعنون بأصل الدين ، يطعنون بأحقية هذا الدين .
لذلك هناك ما يسمى بداعية ، وهناك ما يسمى بمنفر ، الداعية يقرب والمنفر يبعد ، الداعية يحبب ، والمنفر يبغض ، الداعية يرسخ والمنفر يزلزل الداعية مثل أعلى ، والمنفر مثل سيئ.
فلذلك سيدنا النبي الكريم كان يتقي المنافقين لأنهم فئة خطيرة جداً ، والمنافق إنسان يعيش مع المؤمنين ، ويصلي معهم ، ويسلك في ظاهر الأمر مسالكهم :
( سورة النساء : 142 ) .
( سورة البقرة : 14 ـ 15 ) .
والنبي الكريم رأى حذيفة ذكياً ، ورآه صاحب بديهية ، ورآه كتوماً للسر ، كلفه ، وأفضى إليه بأسماء المنافقين الذين أطلعه الله عليهم ، فكان حذيفة بن اليمان صاحب سر رسول الله .
بصراحة أقول لكم ، أنت لا تتمكن من أن تتقرب من إنسان عظيم إلا إذا كنت كتوماً للسر ، يعني إذا أنت سمعت فكرة ، أو خبراً ، أو قصةً من شخص مهم ، وأنت حسبته خبراً مسلياً فنشرته بسرعة ، فهذا يحط من سمعتك إذاً لن تستطيع أن تتقرب من إنسان تراه عظيماً إلا بكتمان السر ، و اسمك عندئذٍ أمين سر ، يعني أمين على سرك .
النبي الكريم علمنا إذا كنت مع شخص ويحدثك حديثاً ، فلما سمعتما معاً وطء أقدامٍ فالتفت ، فالتفات المتحدث يعد أن هذا الحديث بالأمانة ، يجب أن يبقى سراً بينك وبينه . فهذا الصحابي لشدة كتمانه ، وذكائه ، وبديهته ، صار صاحب سر رسول الله صلى الله عليه وسلم .
هل تصدقون ؟ أن سيدنا عمر بن الخطاب الصحابي الجليل عملاق الإسلام ، ثاني الخلفاء الراشدين ، الذي ملأ الأرض بعدله والذي ملأ العين والسمع ، بأخلاقه ، واندفاعه ، وجرأته، كان قلقاً على نفسه ، ومن علامة المؤمن يا أخوان ، أنه يقلق على نفسه ، ويخشى عليها .
قال تابعي جليل : التقيت بأربعين من أصحاب رسول الله ، ما منهم واحد إلا ويظن نفسه أنه منافق ، فلديهم قلق وخشية . إلى أن التقاه عمر يوماً وقال يا حذيفة أنشدك الله هل وجدت اسمي بين المنافقين ؟ فخجل هذا الصحابي أشد الخجل ، من أمير المؤمنين قال لا والله أنت أكرمنا ، ولكن لا أزكي بعدك أحداً ، يعني أعذرني لا تحرجني بأسماء أخرى ، قال: لا أنت أكرمنا ، و لا أُزكي بعدك أحداً كان صاحب سر رسول الله ، لأن الله عز وجل قال في القرآن :
( سورة التوبة : 84 ) .
ومن حرص النبي على تنفيذ أمر الله ، أنه أعطى أسماء المنافقين لهذا الصحابي عند وفاته ، حتى إذا مات أحدهم فلا يصلى عليه ، لأنه إنسان خطر ، المنافق خطر جداً يعطيك من طرف اللسان حلاوة ، ويروغ منك كما يروغ الثعلب ، نعوذ بالله من النفاق ، وأنا لا أخاف على الدين من أعدائه ، إطلاقاً ، فأعداؤه مكشوفون ، ويحذرهم جميع المسلمين ، ولكن الخوف على الدين من أدعيائه من المنافقين .
الحقيقة أتمنى على الله عز وجل وأرجو أن تعلموا علم اليقين أن واحداً منا لن يستطيع أن يصل إلى جنة عرضها السماوات والأرض إلا إذا مر بامتحانات شديدة ، هذا كلام قد يرضيكم وقد لا يرضيكم لكنه حقيقة ، يعني لظن بعضهم أنه بالرخاء ، والبحبوحة ، واليسر، والصحة، وسمو المكانة يظن أمه يخرج من الدنيا للجنة رأساً ، لا . فهناك أدلة كثيرة تشير إلى الابتلاء:
( سورة آل عمران : 142 ) .
( سورة العنكبوت 2 ) .
( سورة آل عمران : 92 ) .
فالصحابة الكرام في قمة إخلاصهم ، وحبهم ، وإقبالهم وورعهم ، وطاعتهم في القمة جاءتهم معركة الخندق ( غزوة الخندق ) فزلزلوا بها ، وقد قال أحد الذين عاشوا مع النبي حينما رأى قريشاً وكل القبائل قد جمعت كل إمكاناتها وطاقاتها وجاءت بجيش لم يجّيش مثله في تاريخ الجزيرة ، عشرة آلاف مقاتل جاءوا ليستأصلوا الإسلام ، ليبيدوه عن آخره ، واليهود مِن ظهر النبي نقضوا عهدهم كعادتهم ، واتفقوا مع الأحزاب ليطعنوا النبي من الظهر والمدينة مكشوفة ، والجيش عرمرم كما يقولون ، وغدا مستقبل الإسلام قضية ساعات .
لو فرضنا أنك إنسان خبير بالمعارك ، ولو فرضنا أن لواءً محاصراً بين عشر فرق ، والمنافذ كلها مغلقة ، قطعوا التموين ، قطعوا الماء ، قطعوا الإمداد ، قطعوا المعلومات ، قطعوا الاتصالات مدرعات مجهزه ، ثم تقدمت هذه الفرق لتستأصل هذا اللواء عن آخره ، هكذا كان شأن المسلمين في غزوة الخندق.
الأمر أبلغ من ذلك ، يعني المسلمون بقي لهم ساعات ، حسب رأي المنافقين والكفار ، وقد كان النبي وعدهم أن يفتح عليهم بلاد قيصر وكسرى ، ما هذا الكلام ؟ أين بلاد قيصر ؟ وأين بلاد كسرى ؟ فالأمر لما ضاق به المسلمون ، حمل أحد المنافقين على أن يقول ، أيعدنا صاحبكم أن تفتح علينا بلاد قيصر وكسرى ، وأحدنا لا يأمن أن يقضي حاجته ، غير قادر على أن يفرغ مثانته ، طبعاً هذا الذي قال هذا الكلام شعر أن هذا النبي ليس نبياً ، والدليل ، أنه انتهى مع المنافقين ، لكن ربنا عز وجل وصف الحال بقوله :
( سورة الأحزاب : 11 ـ 12 ) .
لكن :
( سورة الأحزاب : 23 ) .
ـ الإسلام قد يمر بنكبات ، قد يمر بهجمات شرسة ، وقد يمر بمؤامرات على مستوى العالم كله ، لكن المؤمن لا يتزحزح ، ولا يسيء الظن بربه ، أبداً ، وهو صابر ، وهو صامد بالتعبير الحديث . فالنبي عليه الصلاة والسلام احتاج في هذه المعركة الحرجة إلى هذا الصحابي الجليل ، سرعة بديهة ، وذكاء حاد ، وكتمان للسر ، أراد النبي أن يبعث إلى جيش العدو رجلاً يندس فيهم ليأخذ أخبارهم ، القرار الصحيح يحتاج إلى معلومات صحيحة ، تقصي الحقائق ، وأنت إذا كان لك عمل قيادي ، فأكبر غلط ترتكبه حينما تتخذ قراراً من دون دراسة فالقرار الصحيح يحتاج إلى معلومات صحيحة .
فسيدنا النبي قائد محنك ، قائد فذ ، يجب أن يتخذ قراراً ، الأمر خطير جداً لا بد من صحابي على مستوى عالٍ من الذكاء ، وسرعة البديهة ، والفطنة وكتمان السر ، عليه أن ينطلق إلى جيش العدو في جنح الظلام ، وهناك يتقصى الأخبار ويعود إلى النبي ، لأن النبي الكريم جاءته معلومات مضطربة ، يريد أن يعرف الحقيقة ، فاسمعوا سيدنا حذيفة وهو يروي لكم قصته :
قال : كنا في تلك الليلة صافين قعوداً ، وأبو سفيان ومن معه من مشركي مكة فوقنا ، وبنو قريظة من اليهود أسفل منا ، نخافهم على نسائنا وذرارينا ، قال وما أتت ليلة قط أشد ظلمة ولا أقوى رياحاً منها ، فأصوات رياحها مثل الصواعق ، وشدة ظلامها تجعل أحدنا لا يرى إصبعه ، فأخذ المنافقون يستأذنون الرسول عليه الصلاة والسلام ويقول أحدهم : عندنا مشكلة بالبيت ، والآخر زوجته سوف تولد ، والثالث جدار بيته تهدم ، كلها أعذار واهية ، والله سبحانه وصف أحوال المنافقين فقال على ألسنتهم :
( سورة الأحزاب : 13 ) .
المنافق عند الحزة واللزة يختفي وإذا قامت أزمة لا تجد أحداً ، هذا حال المنافقين ، فكلهم تسللوا ، وما بقي مع رسول الله إلا ثلاثمائة . عند ذلك قام النبي عليه الصلاة والسلام وجعل يمر بنا واحداً واحداً ، حتى أتى إليّ وما علي شيء يقيني من البرد ، إلا مرط لامرأتي ، المرط يعني ثوب مثل عباءة غير مخيط مجرد قطعة قماش ، إلا مرط لامرأتي لا يجاوز ركبتي ، فاقترب مني وأنا جاثٍ على الأرض وقال من هذا ؟ والظلام شديد ، قلت حذيفة ، يعني هو خائف ، واقعي ، بشر ، برد ، وجوع ، وخوف ، قال من هذا ؟ قال حذيفة قلت حذيفة !! فتقاصرت ، وتقاصرت إلى الأرض كراهية أن أقوم من شدة الجوع والبرد ، فالمقاتل قد تتلف أعصابه ، وقلت نعم يا رسول الله ، فقال إنه كائن في القوم خبرٌ ـ أجل ، بالقوم خبر ، أريد حقيقته فتسللْ إلى عسكرهم وائتني بخبرهم ، والنبي قد ربى رجالاً .
قال : فخرجت ـ وهو صادق فيما يقول : فخرجت وأنا من أشد الناس جزعاً ، وأكثرهم فزعاً، وأكثرهم برداً ، خائف ، وكذلك جوعان و بردان ، والنبي عليه الصلاة والسلام رحيم حقاً لكن لا بد من هذا الموقف . فقال عليه الصلاة والسلام : اللهم أحفظه من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله ومن فوقه ومن تحته .
فدعاء النبي لا يرد ، شعر أنه خائف ، وبردان وجوعان ، ظرف عصيب ، الوصف غير الحقيقة ، يعني الإسلام في نظر أعدائه والمنافقين انتهى الموضوع رهن ساعتين أو ثلاثاً ، وتتلاشى الرسالة والوحي في خطر ، والنبي الكريم عليه إذا أراد أن يأخذ موقفاً ، و يعطي قراراً، والمعلومات مشوشة ويحتاج إلى رجل يذهب إلى جيش العدو ، يتقصى أخبارهم ويعود إلى النبي ، رضي الله عنك يا سيدنا يا حذيفة يا ابن اليمان .
قال : فو الله ما تمت دعوة النبي عليه الصلاة والسلام ، حتى أنتزع الله من جوفي كل ما أودعه فيه من خوفٍ ، وأزال عن جسدي كل ما أصابه من برد .
أنت ؛ اطلب من الله وانتظر ، فالله بيده كل شيء ، قلبك بين إصبعين من أصابع الله عز وجل، إذا أردت رضاء الله عز وجل والموقف عصيب فلا تخشَ ، الله يمدك بمدد شديد ، بمدد استثنائي بقوي قلبك ، يذهب عنك الجوع ، يذهب عنك الخوف ، يذهب عنك البرد .
قال : فو الله ما تمت دعوة النبي عليه الصلاة والسلام حتى أنتزع الله من جوفي كل ما أودع فيه من خوف ، وأزال عن جسدي كل ما أصابه من برد ، فلما وليت ناداني عليه الصلاة والسلام ، قال الله عز وجل :
( سورة التوبة : 128 ) .
العلماء يقولون : إن أرحم الخلق بالخلق هو رسول الله ، إنه أرحم الخلق بالخلق .
قال يا حذيفة : لا تُحدثَن بالقوم شيئاً ـ ولا حركة ، ولا كلمة حتى تأتيني ، أنت ما لك مكلف، فالقيادة قيادة حازمة ، وقائد فذ ، يتصرف فاحذر ؛ لا تتكلم أية كلمة ، بل اندس بينهم واستقص أخبارهم وائتني ـ ولا تحدثن بالقوم شيئاً حتى تأتيني .
فقلت : نعم ، ومضيت أتسلل في جنح الظلام حتى دخلت في جند المشركين ، وصرت كأني واحد منهم ، وما هو إلا قليل حتى قام أبو سفيان فيهم خطيباً ، وقال :
يا معشر قريش إني قائل لكم قولاً ، أخشى أن يبلغ محمداً فلينظر كل رجل منكم إلى جليسه .
قال فما كان مني إلا أخذت بيد الرجل الذي كان بجانبي وقلت له من أنت ـ فلو تأخر حذيفة لأنكشف ، قال أنا فلان، وكفى حاد الذكاء اللهم اَرض عنه ، ذكي جداً ، وهنا قال أبو سفيان :
يا معشر قريش ، إنكم والله ما أصبحتم بدار قرار ، فالله عز وجل تولى نصر المسلمين ، لأن الأمر كان في منتهى الضعف والله عز وجل قال :
( سورة الأحزاب : 25 ) .
( سورة الأحزاب : 10 ) .
هناك من يقول في أيامنا هذه الله تخلى عن المسلمين في عصرنا هذا الله لا يتخلى عنهم أبداً، إذا كانوا معه لا يتخلى عنهم هذا الذي يصيبهم الآن صعقة ، لعل هذا القلب الميت يتحرك إنها صعقة ، لكنها صعقة مؤلمة .
قال يا معشر قريش إنكم والله ما أصبحتم بدار قراراً ، لقد هلكت رواحلنا ، وتخلت عنا بنو قريظة .
و قصة سيدنا نعيم بن مسعود تأخذ بالألباب ، الله عز وجل قدر النصر على يد شخص واحد، أسلم وقت المعركة ، فجاء النبي فقال له اُمرني قال له : أنت واحد فخذل عنا ، فذهب إلى قريش وقال لهم كلاماً خلاصته أن هؤلاء اليهود ندموا على نقض عهدهم مع محمد ، واصطلحوا مع النبي على أن يأخذوا منكم عشرين أو أربعين شخصاً رهينة ، ليضرب محمد أعناقهم ، وذهب إلى قريش بعد أن ذهب إلى اليهود ، وقال هؤلاء قريش اتفقوا مع النبي على أن يأخذوا منكم رهائن ، يعني قصة طويلة خلاصتها أنه أوقع بين قريش وقريظة ، فنعيم بن مسعود وحده تمكن أن يشق صفوف الكفار ، فلما ذهب وفد من بني قريظة إلى قريش ، وجدوا أن كلام نعيم صحيح ، وتأكدوا أن خبره صحيح فانشق صفهم ، وانتهت وحدتهم والغي تآمرهم .
وقال أبو سفيان : وتخلت عنا بنو قريظة ، ولقينا من شدة الريح ما ترون فارتحلوا فإني مرتحل ، ثم قام إلى جمله ففك عقاله ، وجلس عليه ، ثم ضربه فوثب قائماً ، ولولا أن النبي عليه الصلاة والسلام أمرني ألا أحدث فيهم شيئاً حتى آتيه لقتلته بسهمٍ ، ولكنه ما أحدث شيء، عند ذلك رجعت إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فوجدته قائماً يصلي ، في مرط لبعض نسائه، فلما رآني ، أدناني إلى رجليه وطرح علي طرف المرط ، تعال ادفأ ، فأخبرته الخبر، فسر به سروراً شديداً ، وحمد الله وأثنى عليه .
وهنا نحن في زمن رخاء والحمد لله ، تحكي كلمة مع أخوك ، تجي على الدرس ، تغض بصرك عن محارم الله ، وأمورنا وأحوالنا سهلة رخيّة لكن الصحابة مروا بظروف صعبة جداً ، كل واحد منهم وضع روحه على كفه .
لقد استدعاه سيدنا عمر مرة ، قال له يا حذيفة أبَيْنَ عمالي أحد من المنافقين ؟ أنت أمين سر رسول الله ، وكلمة عمال تعني الولاة ، ولاة المحافظات ، بالتعريف الحديث ، محافظين ، قال له أبين عمالي أحد من المنافقين ؟ قال نعم فيهم واحد ، قال دلني عليه ، قال لا أفعل ، معه سر لكنه مؤتمن عليه ، فلعله تاب ، فقال حذيفة : لكن عمر ما لبث أن عزله قال كأنما هدي إليه ، عرفه سيدنا عمر ، و قال عليه الصلاة والسلام : اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله . سيدنا حذيفة بن اليمان ، رضي الله عنه مرة قال : كان الناس يسألون النبي عليه الصلاة والسلام عن الخير وكنت أسأله عن الشر ، مخافة أن يدركني .
قلت يا رسول الله ، إنا كنا ـ الحديث دقيق جداً ـ يا رسول الله إنا كنا في جاهلية وشر ، فجاءنا الله بهذا الخير ، فهل بعد هذا الخير من شر ؟ . فقال عليه الصلاة والسلام : نعم ، بعد هذا الخير هناك شر . قلت : فهل بعد هذا الشر من خير ؟ .
قال : نعم وفيه دخن .
قلت وما دخنه ؟ .
قال : قومٍ يستنون بغير سنتي ، ويهتدون بغير هديي ، تعرف منهم وتنكر .
يصلون ، والله شيء جميل ، يصومون أجمل ، يحجون يعتمرون ، لكن في علاقاتهم الاجتماعية اختلاط ، وهذا خلاف السنة يتساهلون بالنظر للنساء مثلاً ، يتساهلون بطريقة بيعهم وشرائهم . يعني أنا أضرب أمثلة يصلون كما تصلون ، يصومون كما تصومون تعرف منهم وتنكر .
قال له : وهل بعد هذا الخير من شر ؟ .
قال : نعم ، دعاة على أبواب جهنم ، من أجابهم إليها قذفوه فيها .
أبعد الخير شر ؟ نعم هناك شر ، وهل بعد الشر خير ؟ نعم و دخن ما دخنه ؟ قوم مسلمون تعرف منهم وتنكر ، أبعد هذا الخير شر ؟ نعم هناك شر قال من هم ؟ قال دعاة على أبواب جهنم ، من أجابهم إليها قذفوه فيها .
قلت : يا رسول الله ، فما تأمرني إن أدركني ذلك يعني يومها الفكر ملحد والشهوات مستعرة والكاذب مصدق ، والصادق مكذب ، والأمين مخون والخائن مؤتمن والأمة تلد ربتها ، تلد المرأة بنتاً تتعلم ، تتفرنج ، تتفلسف ، وتقول أمي دقة قديمة ، أمي لا تفهم شيئاً ، هي ربتها ، وهذا كله من علامات قيام الساعة .
وُسدّ الأمر إلى غير أهله ، فانتظر الساعة ، إذا ضيعت الأمانة فأنتظر الساعة ، يوم يذوب قلب المؤمن في جوفه مما يرى ولا يستطيع أن يغير ، ما بيده شيء ، يأتي على الناس زمان يكون فيه المؤمن أذل من شاته ، ما بيدنا شيء إطلاقاً .
قلت : يا رسول الله ، فما تأمرني إن أدركني ذلك ؟ . فاسمعوا الجواب ! ! .
هل بعد هذا الخير من شر ؟ نعم ، هناك شر ، بعد الشر هناك خير فيه دخن ، أبعد الخير شر، نعم وهذا الشر مخيف ، قال دعاة على أبواب جهنم ، من أجابهم إليها قذفوه فيها ، قلت يا رسول الله فما تأمرني إن أدركني ذلك .
قال : تلزم جماعة المسلمين ، لا تبقَ وحدك ، لا تكن سائباً شارداً ليكن لك مرجع من دين ، لك إخوان ، لك مسجد ، لك جماعة تطمئن لها ، تثق بعلمها ، تثق بورعها ، تعينك إذا عجزت، تذكرك إذا نسيت ، ترشدك إذا ضللت قال له تلزم جماعة المسلمين .
قلت : فإن لم يكن لهم جماعة ؟. قال : تعتزل تلك الفرق كلها ، ولو أن تعض على أصل شجرة حتى يدركك الموت وأنت على ذلك .
يعني إما أن تعيش وحدك ، وإما أن تعيش مع الجماعة الإسلامية ، أما أن تعيش مع هؤلاء الفسقة ، الفجار ، المنحرفين ، فهؤلاء ينتهون بك إلى النار .
وله قول آخر ، يقول هذا الصحابي الجليل :
إن الله تعالى بعث محمداً صلى الله عليه وسلم ، فدعا الناس من الضلالة إلى الهدى ، ومن الكفر إلى الإيمان ، فاستجاب له من استجاب ، محيى بالحق من كان ميتاً ، ومات بالباطل من كان حياً ثم ذهبت النبوة ، وجاءت الخلافة ، على منهاجها ، ثم يكون ملكاً عضوضاً ، فمن الناس من ينكر بقلبه ويده ولسانه ، أولئك الذين استجابوا للحق ، منهم من ينكر بقلبه ولسانه ، كافاً يده ، فهذا ترك شعبة من الحق ، منهم من ينكر بقلبه ، كافاً يده ولسانه ، فهذا ترك شعبتين من الحق ، ومنهم من لا ينكر لا بقلبه ، ولا بيده ، ولا بلسانه فهذا ميت الأحياء ، حيٌ ميت ، حي نبضه جيد ، ضغطه جيد لكنه ميت فلا أنكر بقلبه ، ولا بلسانه ، ولا بيده .
مرة هذا الصحابي جاء النبي عليه الصلاة والسلام ، وقال : يا رسول الله إن لي لساناً ذرباً على أهلي ، وأخشى أن يدخلني النار ، إنه ذكي جداً ولسانه طليق .
فقال له النبي عليه الصلاة والسلام : فأين أنت من الاستغفار إني لأستغفر الله في اليوم مائة مرة .
فالإنسان كلما وقع في غلط عليه بالاستغفار ، ولهذا الصحابي الجليل مواقف بطولية ، فمن يصدق أن بلاد نهاوند بأكملها فتحت على يده . وهاأنذا أقول كلمة كنت قد ذكرتها في خطة الجمعة ، أولاً : عمرك الذي تمضيه بين الولادة والوفاة لا قيمة له إطلاقاً ، هذا أتفه أعمالك ، لكن عمرك الحقيقي هو حجم عملك الصالح ، الخالص ، هذا العمل كلما اتسعت رقعته ، وكلما عم خيره ، وكلما أمتد أمده ، وكلما اشتد أثره كان أعظم عند الله عز وجل ، وهذا العمل الصالح كلما كثرت المعوّقات أمامه ، وكلما كثرت الصوارف عنه ، وكلما قل المعين عليه والمعوقات كثيرة ، فهناك صوارف كثيرة ، والأعوان قلائل ، وكلما كان هذا العمل في زمن الفساد ، إذا تجبّر الأقوياء ، وجار الأمراء ، وأُترف الأغنياء وداهن العلماء ، وظهرت الفاحشة ، كلما كان العمل أعظم عند الله عز وجل .
أحفظ هذه الكلمة ، حجمك عند الله ، بحجم عملك الصالح .
يا بِشر : لا صدقة ولا جهاد فبم تلقى الله إذاً ؟ هذا السؤال الكبير ، الإنسان حينما ينتهي أجله، بم يلقى الله ؟ قل لنفسك ما العمل الذي فعلته حتى أستطيع أن ألقى الله به ، كلام سيدنا حذيفة الأخير .
ليس خياركم الذين يتركون الدنيا للآخرة ، ولا الذين يتركون الآخرة للدنيا ، ولكن الذين يأخذون من هذه ومن هذه .
حينما جاءه ملك الموت دخل عليه بعض أصحابه ، فسألهم أجئتم ومعكم أكفان ؟.
قالوا : نعم . قال : أروني إياها .
فلما رآها ، وجدها جديدة فارهة . فارتسمت على شفتيه آخر بسماته الساخرة ، وقال لهم : ما هذا لي بكفن ، إنما يكفنني يكفيني لفافتان بيضاوان ليس معهما قميص ، فإني لن أترك في القبر إلا قليلاً ، حتى أبدل خيراً منهما أو شراً منهما .
وتمتم بكلمات ، ألقى الجالسون أسماعهم إليها فسمعوها .ماذا قال ؟ وقد جاءه ملك الموت .
قال : مرحباً بالموت ، حبيبٌ جاء على شوق ، لا أفلح من ندم . وصعدت روحه إلى السماء.
وهذه كلمة أخيرة فعندما يولد الطفل فكل من حوله يضحك وهو يبكي وعندما يموت فكل من حوله يبكي ، فإذا كنت بطلاً عليك أن تضحك في هذه الساعة ، فاعمل طيلة حياتك بحيث إذا جاءك ملك الموت أن تكون ضاحكاً ، فأنت البطل ، ليس من يقطع طرقاً بطلاً إنما من يتقي الله البطل .
والحمد لله رب العالمين(/)
الدرس 43/50 ، سيرة الصحابي : حكيم بن حزام ، لفضيلة الأستاذ محمد راتب النابلسي .
تفريغ : الأستاذ هشام القدسي .
التدقيق اللغوي : الأستاذ غازي القدسي .
التنقيح النهائي : المهندس غسان السراقبي .
بِسْمِ اللهِ الرَّحمَنِ الرَّحِيمِ
مع الدرس الثالث والأربعين من دروس سير أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضوان الله تعالى عليهم أجمعين ، وصحابي اليوم سيدنا حكيم بن حَزَام ، هذا الصحابي يبدو أنه الإنسان الوحيد الذي ولد في جوف الكعبة ، كانت الكعبة مفتوحة في إحدى المناسبات للزوار وكانت أمه حاملةً به ، فما إن دخلت جوف الكعبة حتى جاءها المخاض فجيء لها بنطع رداء ، وولدت في جوف الكعبة هذا الصحابيَّ الجليل .
هذا الصحابي الجليل قريب أم المؤمنين السيدة خديجة بنت خويلد رضي الله تعالى عنها وأرضاها ، قريب النبي ، ابن أخي أم المؤمنين يعني أم المؤمنين السيدة خديجة عمته ، والنبي عليه الصلاة والسلام زوج عمته ، فهو من أقرباء النبي عليهم رضوان الله ، وكان حكيم بن حزام عاقلاً سرياً ، معنى السري جمعها سراري يعني شريفاً من عليه القوم ، كان عاقلاً سرياً فاضلاً .
بالمناسبة ؛ ما من نعمة ينعم الله على عبد من عباده كنعمة العقل ، فمن أوتي عقلاً وفكراً وحكمةً ، فقد أوتي خيراً كثيراً ، وسوف ترون بعد قليل أن الإسلام مبني على العقل ، فمن كان عاقلاً وأريباً وحكيماً ، وذا فكر، ولم يبادر إلى الإسلام ، فأمْرُه عجيب .
حكيم بن حزام كان عاقلاً سرياً فاضلاً ، لذلك سوَّده قومه ، وأناطوا به منصباً مهماً ، هو منصب الرفادة ، فقد كان مُوكَلاً إليه أن يعطي الحجاج المنقطعين ما يحتاجون كي يصلوا إلى بلادهم سالمين ، هذا المنصب منصب ديني ، اسمه منصب الرفادة ، وكان حكيم بن حزام موكلاً له هذا المنصب في الجاهلية .
وكما ذكرتُ لكم فقد كان كريماً ، وكان عاقلاً أريباً ، وكان من سراة قومه ، لذلك كان أحياناً يُخرِج من ماله الخاص ما يرفد به المنقطعين من حجَّاج بيت الله الحرام .
النبي عليه الصلاة والسلام زوجُ عمته ، وهو من أعرق أسرة ومن أشرف نسب ، ويتمتع بقدرات ذاتية عالية المستوى نادرة .
بالمناسبة ؛ تعرفون المخروط ، شكل هندسي ، كلما ازداد ارتفاع المخروط ازدادت رؤيته من هذا الارتفاع ، وكلما ازداد حظك في الدنيا ازدادت مسؤوليتك ، فالذي يؤتى عقلاً راجحاً في الدنيا هذا له حساب خاص ، والذي يؤتى طلاقة لسان هذا له حساب خاص ، والذي يؤتى شكلاً وسيماً فهذا له حساب خاص ، والذي يؤتى مالاً وفيراً فهذا له شأنٌ ، فكلما ازداد حظك من حظوظ الدنيا ازدادت مسؤوليتك ، وازدادت تبعاتك .
وفوق هذا وذاك كان حكيم بن حزام صديقاً حميماً للنبي عليه الصلاة والسلام قبل البعثة ، فهو صديق وقريب ، وكان أكبر من النبي صلى الله عليه وسلم بخمس سنوات ، وقد تمتع الصحابة بأدب جمٍّ ، كان أحدهم إذا سأل : أيهما أكبر أنت أم النبي ؟ فكان يقول : هو أكبر مني، ولكني ولدتُ قبله ، لشدة الأدب الذي كانوا يتمتعون به .
كان حكيم بن حزام أكبر من النبي صلى الله عليه وسلم بخمس سنوات ، ولا تنسوا أن العمر الزمني هو أتفه أعمار الإنسان ، فالإمام الشافعي مات في الخمسين ، والإمام النووي مات في الثانية والأربعين وهناك بعض العظماء ماتوا في الثلاثين ، ومع ذلك كانت أعمارهم غنية بالأعمال الصالحة ، إذا ذُكر العمر تذَكَّر هذا المثل ، إنسان فتح محلاً تجاريًّا اثني عشرة ساعة فباع بمائتي ليرة ، وآخر فتح ساعة فباع بمليون ، فالوقت له قيمة ؟ وأتفه أعمار الإنسان عمره الزمني ، والعمر يغتني بالأعمال الصالحة ، ويصبح تافهاً بافتقاره إلى الأعمال الصالحة ، فكلما ازداد عملك الصالح كان عمرك ثميناً ، وكلما قَلَّ عملك الصالح كان حياتك تافهةً ، وكنتَ إنسانًا هامشيًّا :
[سورة محمد]
[سورة البقرة]
النقطة دقيقة أيها الإخوة أنّ أتفه أعمارك عمرك الزمني ، العمر الزمني يغتني بالعمل الصالح ويصبح تافهاً بحظوظ النفس .
حينما دخل على سيدنا عمر بن عبد العزيز وفد الحجازيين ، تَقَدَّمه غلام ، فقال له : اجلس أيها الغلام ، وليقمْ مَن هو أكبر منك سناً ، فتبسم هذا الغلام ، وكان رئيس الوفد ، وقال : أصلح الله الأمير ؛ المرء بأصغريه ؛ قلبه ولسانه ، فإذا وهب اللهُ العبدَ لساناً ذاكراً ، وقلباً حافظاً فقد استحق الكلام ، ولو أن الأمر كما تقول لكان في الأمة مَن هو أحقُّ منك بهذا المجلس ، كلام بليغ، العالم شيخ ولو كان حدثاً ، والجاهل حدث ولو كان شيخاً .
أحياناً ترى مهندسًا في الثالثة والعشرين ، وزنه حوالي خمسة وأربعون كيلوًا ، وعنده مساعد وزنُه مائة وثمانون كيلوًا ، فالعالم شيخ ولو كان حدثاً ، والجاهل حدث ولو كان شيخاً .
ذكرتُ أنّه من علية القوم ، من أشرف الناس نسباً ، ومن أعرقهم محتداً ، وهو مِن سراة القوم ، وُلِد في الكعبة ، قريب النبي ، أكبر من النبي سِنًّا ، كان يألف النبي عليه الصلاة والسلام، ويأنس به ، ويرتاح إلى صحبته ومجالسته ، وكان النبي عليه الصلاة والسلام يبادله وداً بود ، وصداقة بصداقة ، وكذلك المؤمن دمث الخلق ، وقد كان النبي قبل البعثة شخصية جذابة ، محبَّبة، ليس في الإسلام غطرسة وغلظة ، رقيق الحاشية ، لطيف المعشر ، ليِّن العريكة ، يألف ويؤلف ، وهكذا المؤمن .
ثم جاءت آصرة القربى ، فعندما تزوج النبي من السيدة خديجة صار قريبًا ، فهو زوج عمته، فتوثقَّت ما بينهما من علاقة وذلك حين تزوج النبي عليه الصلاة والسلام من عمته خديجة بنت خويلد رضي الله عنها.
أما الشيء الذي يدعو للعجب ، والشيء الذي لا يُصدق ، أنّ هذا الإنسان العاقل الفهِم ، الفطن ، الذكي ، صاحب النسب ، العريق ، صديق النبي الحميم ، وقريبه ، حينما جاء الإسلام، وحينما بُعث نبي الإسلام لم يؤمن به ، ولم يصدقه ، وبقي على الشرك عشرين عاماً إلى أن فُتحت مكة ، فهذا الشيء عجيب حقًّا .
فأنا أيها الإخوة ، واللهِ حين أجد إنسانًا تفكيره محدود ، وجاهل ، وضائع ، ومنحرف ، وواقع في المعاصي ، فهذا شيء طبيعي جداً ، لأنّ ضعف التفكير يقود إلى كل هذه الحماقات ، ضعف التفكير ، التخلف العقلي ، ضيق الإمكانيات ، ضيق الأفق ، يقود لكل حماقة ، أما والله الذي لا إله إلا هو يشتد عجبي من إنسان ذكي فهيم ، يفهم سريعاً ، يستوعب كثيراً ويكون منحرفاً، أتساءل : يا رب كيف يجتمع هذا العقل الراجح مع هذا السلوك المنحرف ، كيف ؟ .
إنسان يتمتع بإمكانات عقلية كبيرة ، لا يستقيم على أمر الله ، ولا يطلب الجنة ، بل يجعل الدنيا أكبر همِّه ومبلغ علمه ،و يبقى في حمأتها ، وفي وحلها ، وهو ذو العقل الحصيف ، هذه مفارقة مزعجة .
أحياناً ترى شخصاً محدودًا لا يحب الدراسة ، هذه طبيعتُه ، لكنَّ إنسانًا عاقلاً عنده إمكانيات عالية لا يدرس ، فهذا أمْرٌ عجيب .
كان المظنونُ برجلٍ مثل حكيم بن حزام حباه الله بذاك العقل الراجح ، ويسر له تلك القربى من رسول الله عليه صلوات الله ، أن يكون أول من يؤمن به ، وأول من يصدقه ، وأول من يهتدي بهديه .
الإنسان مخير ، على الرغم من رجاحة عقله وفطانته ، آثر قومه وآثر أن يبقى مع زعماء قريش ومع علية القوم ذوي الضلالة .
والقصة لم تبدأ بعد ، هذه بدايات ، لكن الشيء الذي يدعو للعجب أيضاً أن هذا الصحابي الجليل أسلم يوم فتح مكة .
فما كاد يدخل الإسلام ويتذوق حلاوة الإيمان حتى جعل يعض بنانه ندماً ، لأنه عاقل ، لما أسلم ، ذاق حلاوة الإيمان ، وذاق أمن الإيمان ، وذاق حلاوة القرب من الله ، وذاق لذة التوبة إليه، وذاق لذة الإنابة إليه ذاق حلاوة الصلح معه ، ذاق حلاوة الانضباط ، ذاق حلاوة الطاعة ، كل ذلك شعر به لما ذاق حلاوة الإيمان ، والنبي ذكَر أنّ الإيمان له ذوق وطعم ، فعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ ثَلَاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ حَلَاوَةَ الْإِيمَانِ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا وَأَنْ يُحِبَّ الْمَرْءَ لَا يُحِبُّهُ إِلَّا لِلَّهِ وَأَنْ يَكْرَهَ أَنْ يَعُودَ فِي الْكُفْرِ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُقْذَفَ فِي النَّارِ *
[متفق عليه]
والله يا إخوان إذا لم يشعر أحدُكم في أعماقه أنّه أسعد الناس لأنه مؤمن فإيمانه مشكوك فيه، تؤمن بالله وتشقى ؟! تؤمن بالله وتحزن ؟! تؤمن بالله ويضيق صدرك ؟! تؤمن بالله وتكون متشائماً ؟! تؤمن بالله وتحس أنه ليس لك شيء في الدنيا ؟! وأنت لك كل شيء ، يا رب ماذا فقد من وجدك ؟ " عبدي اطْلبني تجدني ، فإن وجدتني وجدت كل شيء ، وإن فُتُّك فاتك كل شيء ".
كان هذا الصحابي بعد أن أسلم بعد عشرين عامًا ، بعد فتح مكة ، وبعدما خاض مع المشركين معركة بدر ، ومعركة أحد ، ومعركة الخندق ، بعد حين طويل ، وبعد حقب طويلة أسلم !! .
الإنسانُ أحياناً يتعرف إلى الحقيقة ، ولكن في سن متأخرة ، أين الشباب ؟ لقد أمضاه في اللهو ، وأين ذهبت طاقةُ شبابه ؟ وأين حيوية الشاب وإقباله والطاقات التي أودعها الله فيه ؟ هذه كلها أنفقها في المعاصي ، لكنْ حين أسلم ارعوى ..
قال لي رجلٌ أنا كبير في السن ، وهو ذو دعابة ، ثم قال لي : الدولاب مسح ، والعداد قلب، عبَّر عن كبر سنه ، هكذا ..
الإنسان جميل جداً أن يؤمن وهو في عنفوان الشباب ، وهو في إقبال الدنيا عليه ، مقبول أن يؤمن في سن متأخرة ولكن ليسوا سواء .
هذا الصحابي جعل يعضّ أصابع الندم على كل لحظة قضاها من عمره وهو مشرك بالله ، مكذب لنبيه ، فمرة رآه ابنه يبكي ، فقال يا أبتاه ما يبكيك ؟ قال أمور كثيرة ، كلها أبكتني يا بني، أولها بُطْءُ إسلامي ، ممّا جعلني أُسْبَقُ إلى مواطن كثيرة صالحة ، حتى لو أني أنفقت ملء الأرض ذهباً لما بلغت شيئاً منها ، متى .... بعد فوات الأوان ، ترى الشباب بالتعبير العام يغبون غبة كبيرة ، يعني أقبلوا على الله ، وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم ، وطلبوا العلم ، وتعرَّفوا إلى الله ، وقرؤوا القرآن ، وأمروا بالمعروف ، ونهوا عن المنكر ، وأنفقوا من أموالهم ، فالله يرقيهم درجة درجة ..
بعد عشرين سنة أسلم هذا الصحابي ، قال له : أول شيء يؤلمني ويبكيني بطءُ إسلامي ، ممّا جعلني أُسبَق إلى مواطن كثيرة صالحة ، حتى لو أنني أنفقتُ ملء الأرض ذهباً لما بلغتُ شيئاً من هذه المراتب ..
الوقت ثمين ، فإذا لم يكن الإنسان متزوجًا فعليه أن يستغل العزوبة في طلب العلم ، لأن الزواج مشغلة ، فإذا كان للإنسان وقت فراغ فلْيستِغلْه في حفظ القرآن الكريم ، وفي طلب العلم، وفي العمل الصالح ، وفي خدمة الحق وأهله ، وفي الالتزام بالمنهج الديني .
ثم قال له : شيء آخر أبكاني ، فإن الله أنجاني يوم بدر وأحد ، فقلت يومئذ في نفسي : واللهِ لا أنصر بعد ذلك قريشاً على النبي صلى الله عليه وسلم ، ماذا تستنبطون من هذا الكلام ؟ ..
أنه حينما كان يحارب النبيَّ يعرف أنه رسول ، ويعرف أنه نبي ، ويعرف أنه على حق ، ويعرف أنه منصور ، هذه مشكلة كبيرة عويصة ، تعادي إنسانًا ، وتعلم أنه على حق ، وتنتقص من قيمة إنسان ، وتعلم أنه على حق ، تشوش على إنسان ، وتعلم أنه على حق ، وتطعن في إنسان ، وتعلم أنه على حق ، وتحارب إنسان ، وتعلم أنه على حق ، فالمعنى أنها مصالح ذاتية ، ومآرب خاصة ، وتجمعات مصلحية ، حينما تعرف أن فلانًا على حق وتحاربه ، فهذه مصلحة ، لم تعُد دعوة إلى الله ، بل أصبحت مصلحة مادية ، وحفاظًا على مناصب ، وحفاظًا على زعامة وعلى المكاسب ، وهذا شيء خطيراً ، أنا أقول لكم هذه الحقيقة ، لو عاديت أهل الحق أشد عداوة وأنت تعلم أنهم على باطل ، أهون ألف مرة أنْ تعاديهم بكلمة ، وتعلم أنت علم اليقين أنهم على حق ، إذا كان الإنسان لا يعرف فهو معذور ، أما الذي يعرف فلا يُعذر .
لهذا أيها الإخوة الكرام نصيحة أزجيها لكم من أعماق قلبي ، إياكم أن تقفوا في خندق تعادون به أهل الحق ، إياكم أن تقفوا في خندق تناوئون به أهل الحق ، إياكم أن تحاربوا الله ورسوله ، لأنكم في النهاية مهزومون ، فحين تحارب الله عز وجل ، فأنت تحارب دعوة الحق ، وهذه محاربة لله عز وجل ، تعرف هذا المسجد فيه إخلاص ، وفيه دعوة الحق ، فلا تحاربه ، ولا تدخل في معركة لا قِبَلَ لك بها ، وإنّ لحوم العلماء مسمومة :
[سورة يونس]
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ اللَّهَ قَالَ مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالْحَرْبِ وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا وَإِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ وَلَئِنْ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ وَمَا تَرَدَّدْتُ عَنْ شَيْءٍ أَنَا فَاعِلُهُ تَرَدُّدِي عَنْ نَفْسِ الْمُؤْمِنِ يَكْرَهُ الْمَوْتَ وَأَنَا أَكْرَهُ مَسَاءَتَهُ *
[رواه البخاري]
كلما رأيت عالمًا : هذا لا يفهم ، من أنت ؟ .. وهذا ليس لي ثقة في نواياه ، أأنت إله لتعلم نواياه ؟ ابق في أدبك ، ابق ضمن أخلاقك الإسلامية ، الدعاة قلة ولو كانوا كثيرين ، فكيف إذا كانوا قلة ، ترى مدينة فيها خمسة ملايين ، الناسُ الذين يُستفاد منهم يُعدُّون على الأصابع ، وهؤلاء نريد أن نحطمهم ؟ ونتهمهم ، وننزلهم على الأرض ، ونشكك في دعوتهم ، عددُهم قليل.. ليس لنا غيرهم ، أمّا أنا فأعلن أنني مِن أنصار التعاون .
قال : ثم إن الله أنجاني يوم بدر وأحد ، فقلت يومئذ في نفسي : لا أنصر بعد ذلك قريشاً على رسول الله ، ولا أخرج من مكة ، فما لبثت أن جُرِرتُ إلى نصرة قريش جراً ، سحَبُوه للمرة الثالثة ، فسحبوه إلى معركة الخندق ، والله شيء صعب ، والإنسان يتمزق أحياناً أنت تحارب شخصًا على حق ، تعرفه نبياً ثم تحاربه ؟! .. إذن حُقَّ له أنْ يبكي ، وأنْ تفيض عيناه ، بل نفسه.
إن أهل النار ليبكون ، وإنهم ليبكون الدم ، ولو أن السفن جرت في دموعهم لجرت مسرعة..
قال ثم إنني كلما هممت بالإسلام وآتي النبي مسلماً نظرت إلى بقايا من رجالات قريش ، لهم أسنان وأقدار ، متمسكين بما هم عليه من أمر الجاهلية ، فأقتدي بهم وأجاريهم .
اليوم ترى شابًا أبوه وعده ببيت ، ووعده بسيارة ، وأبوه لا دين له ، تراه يؤاثر جانب والده ، يقول : ليس لي مصلحة في إغضابه ، اختلاط ، ودخل حرام ، وتجارة لا ورعَ فيها ، ومع ذلك يسير في ركبِ والده ، لقد آثر دنياه على آخرته .
في الشام رجل من الغنى بمكان ، لو طلبتْ منه ابنتُه خمسة ملايين بكلمة يعطيها هذه الملايين ، ولا تأكل من طعامه لقمة واحدة ، عنده ملهى ، وماله كله حرام ، تعمل معلمة في إحدى قرى دمشق ، وتأكل من عملها ، ولا تأكل من مال أبيها ، قال تعالى :
[سورة الأنعام]
قال : ويا ليتني لم أفعل ، فما أهلكنا إلا الاقتداء بآبائنا وكبرائنا ، فلِمَ لا أبكي يا بنيَّ .
أيها الإخوة لا تكن خطيئة لأحد ، لا تكن ضحية لأحد ، لا تكن أداة لأحد ، لا تكن أداة رخيصة لأحد ، لا تكن منديلاً يُمسح بك أقذر عملية ثم تلقى ، انتبه ، لا تكن أداة للآخرين ، هناك أشخاص ، أشبههم بالمنديل الورقي ، تُمسح به أقذر عملية ، ثم يُلقى بسلة المهملات ، لا تكن خطيئة لأحد ، قال تعالى :
[سورة طه]
وقال عزوجل :
[سورة القصص]
وقال :
[سورة الكهف]
وقال :
[سورة لقمان]
وقال :
[سورة الممتحنة]
وكما عجبنا نحن من تأخُّر إسلام حكيم بن حزام ، وكما كان يعجب هو نفسه من ذلك أيضاً، فإن النبي صلوات الله وسلامه عليه ، كان يعجب من رجل له مثل حلم حكيم بن حزام وفهمه ، كيف يخفى عليه الإسلام ؟ وكان يتمنى له وللنفر الذين هم على شاكلته أن يبادروا في الدخول في دين الله .
النبي عليه الصلاة والسلام لما أسلم سيدنا خالد قال له عجبت لك يا خالد أرى لك فكراً ، وكنت أرجو ألاّ يهديك إلا إلى خير ، يعني لماذا تأخرت ، مرة ثانية ، إذا آتى الله عبدًا عقلاً ، وفكرًا ، فيجب ألاّ يغلط ، ويجب أن يعرف الحق في الوقت المناسب ، والنبي عليه الصلاة والسلام في الليلة التي سبقت فتح مكة قال لأصحابه : إن بمكة لأربعة نفر أربأ بهم عن الشرك ، وأرغب لهم في الإسلام .
إلاّ أنّ ثمة نقطة دقيقة ، إذا كان الإنسان يعصي الله ، ولكنه يعصيه وهو متألم ، مغلوب على أمره ، فهذا عنده حياء وخجل مرضي ، ضغطوا عليه لكنه متمزق من داخله ، فهذا الذي يعصي الله وهو متألم أشد الألم نرجو له خاتمة طيبة ، وهذا معنى قول النبي عليه الصلاة والسلام المرويِّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ حَدَّثَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ الصَّادِقُ الْمَصْدُوقُ إِنَّ أَحَدَكُمْ يُجْمَعُ خَلْقُهُ فِي بَطْنِ أُمِّهِ فِي أَرْبَعِينَ يَوْمًا ثُمَّ يَكُونُ عَلَقَةً مِثْلَ ذَلِكَ ثُمَّ يَكُونُ مُضْغَةً مِثْلَ ذَلِكَ ثُمَّ يُرْسِلُ اللَّهُ إِلَيْهِ الْمَلَكَ فَيَنْفُخُ فِيهِ الرُّوحَ وَيُؤْمَرُ بِأَرْبَعٍ يَكْتُبُ رِزْقَهُ وَأَجَلَهُ وَعَمَلَهُ وَشَقِيٌّ أَوْ سَعِيدٌ فَوَالَّذِي لَا إِلَهَ غَيْرُهُ إِنَّ أَحَدَكُمْ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ حَتَّى مَا يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا إِلَّا ذِرَاعٌ ثُمَّ يَسْبِقُ عَلَيْهِ الْكِتَابُ فَيُخْتَمُ لَهُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ فَيَدْخُلُهَا وَإِنَّ أَحَدَكُمْ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ حَتَّى مَا يَكُونَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا إِلَّا ذِرَاعٌ ثُمَّ يَسْبِقُ عَلَيْهِ الْكِتَابُ فَيُخْتَمُ لَهُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَيَدْخُلُهَا *
(متفق عليه)
فإذا كان الإنسان عاصيًّا لله عز وجل ، وكانت المعصية لا عن كفر ولا عن جرأة على الله، ولكن عن غلبة نفس ، فربنا عز وجل يعالجه ، ويعينه على نفسه حتى يحمله على التوبة .
أربعة نفر يربأ بهم النبي عن الشرك ، ويرغب لهم بالإسلام ، قيل : مَن هم يا رسول الله ؟ قال: عتاب بن أسيد ، وجبير بن مطعم ، وحكيم بن حزام ، وسهيل بن عمرو ، أربعة مشركين ، لكن النبي عليه الصلاة والسلام يتوسم فيهم الخير .
بالمناسبة ، رأيت رجلاً لا يصلي ، وفي الظاهر لا دين فيه ، لكن أخلاقه عالية ، عنده حياء، وعنده مروءة ، وقلبه رقيق ، يحب الخير ، وفكره ناضج ، فإيّاك أن تيأس منه ، هذا إنسان فيه خير ، احرص عليه ، اتصل به ، ودَارَهِ ، قَدِّمْ له كل خدمة ، لأنه قريب جداً ، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قِيلَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ أَكْرَمُ النَّاسِ قَالَ أَكْرَمُهُمْ أَتْقَاهُمْ قَالُوا يَا نَبِيَّ اللَّهِ لَيْسَ عَنْ هَذَا نَسْأَلُكَ قَالَ فَأَكْرَمُ النَّاسِ يُوسُفُ نَبِيُّ اللَّهِ ابْنُ نَبِيِّ اللَّهِ ابْنِ نَبِيِّ اللَّهِ ابْنِ خَلِيلِ اللَّهِ قَالُوا لَيْسَ عَنْ هَذَا نَسْأَلُكَ قَالَ فَعَنْ مَعَادِنِ الْعَرَبِ تَسْأَلُونِي قَالُوا نَعَمْ قَالَ فَخِيَارُكُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ خِيَارُكُمْ فِي الْإِسْلَامِ إِذَا فَقُهُوا *
[متفق عليه]
رأيتَ شخصًا أخلاقه عالية ، لا يكذب ، قلبه رقيق ، صاحب مروءة وشهامة ، ذكيًّا عاقلاً ، ولكن لا دين فيه ، فلا تيأس منه ، هذا أقرب إلى الدين من الذين يصلون ليلاً ونهاراً وهم يرتكبون المحرمات ، يعني انتبه هكذا فعل النبي ، قال أربعة أربأ بهم عن الشرك ، ومن فضل الله عز وجل أنهم أسلموا جميعاً ، وأن النبي كان صائباً في نظرته ، وأنه كان صادقاً في فراسته، وأنه أوتي نظرة عميقة .
وحين دخل النبي عليه الصلاة والسلام مكة فاتحاً .. انظروا إلى حكمة النبي ، إنسان له مكانته ومن علية القوم ، عاقل تأخر بالإسلام فالني استجلبه ، فكيف استجلبه ؟ أمر النبي عليه الصلاة والسلام مناديه أن ينادي ؛ من شهد أنه لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدًا عبده ورسوله فهو آمن ، ومن جلس عند الكعبة فوضع سلاحه فهو آمن ، ومن أغلق عليه بابه فهو آمن ، ومن دخل دار أبي سفيان فهو آمن ، ومن دخل دار حكيم بن حزام فهو آمن .. جعل له شأنًا صلى الله عليه وسلم ، فأعانه على نفسه ، وعلى كبريائه .
قد يحترم الإنسانُ شخصًا ، ولك مقصد كبير ، وله مكانته ، فلما احترمته شعر بمكانته ضمن المسجد .. فقال في نفسه : أيضاً يقدروني ، وأنا متفوق باختصاصي ، أنا لي مرتبة عالية ، أنا في منصب رفيع ، فلقي احترامًا وإكرامًا ، حاشية رقيقة ، فحينما أشعرته أننا نعرف قدرك مال قلبه وتلهَّف ، فأحياناً كلمة لطيفة تكون سبب إيمان إنسان ، وسبب توبته .
وكانت دار حكيم بن حزام أسفل مكة ، ودار أبي سفيان في أعلاها ، وكان النبي حكيمًا أيضاً، تقول مثلاً : مَن يدخل بيت في حيِّ المهاجرين من أهل الشام فهو آمن ، وأناس آخرون يسكنون في الجهة المقابلة البعيدة ، فاجعلْ لهم بيتًا ثانيًا في ذلك الحيِّ أيضًا ، بيت بالشمال ، وبيت بالجنوب ، فالنبي عليه الصلاة والسلام قال : " من دخل دار حكيم بن حزام فهو آمن ومن دخل دار أبي سفيان فهو آمن " .
وكانت دار حكيم بن حزام في أسفل مكة ، ودار أبي سفيان في أعلاها فرحِم الناس أيضاً .
أسلم حكيم بن حزام إسلاماً ملك عليه لبه ، وآمن إيماناً خالط دمه ومازج قلبه ، وآلى على نفسه أن يكفِّر عن كل موقف ..
هنا اقتدوا بالعقلاء ، فالذي قضى صُيوفًا في المعاصي ، وفي هذه الصيفية تاب إلى الله ، يخاطب ربه : يا رب ، أنا كما أمضيتُ تلك العطل فيما لا يرضيك واللهِ لأمضينَّ غيرَها فيما يرضيك ، وما أنفقتُ كثيرَ الأموال على المعاصي والآثام ، والله لأنفقنَّ مثلها على الطاعات ، وكما صحبتُ أهل الدنيا من أجل دنياهم ، والله لأصحبنّ أهل الإيمان من أجل ديني .
فالذي تاب إلى الله عز وجل وانتقل من طور إلى طور ، والذي اصطلح مع الله ، يناجي ربه هذه المناجاة ، يعاهده هذه العاهدة ، واللهِ يا رب سوف أنفق من الأموال كالتي أنفقتها على المعاصي سوف أنفق من الأوقات كالذي أنفقته في المعاصي والآثام .
قال هذا الصحابي الجليل ، آلى على نفسه أن يكفر عن كل موقف وقفه في الجاهلية ، أو نفقة أنفقها في عداوة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقد برَّ بقسمه ، فأول شيء فعَله دار الندوة ؛ أكبر بناء في مكة ، وهو مشهور في التاريخ ، هي داره الشخصية ، فأول شيء آل إليه دار الندوة ، وهي دار عريقة ذات تاريخ ، ففيها كانت قريش تعقد مؤتمراتها في الجاهلية ، وفيها اجتمع ساداتهم وكبراؤهم يأتمرون برسول الله صلى عليه الصلاة والسلام ، فأراد حكيم بن حزام أن يتخلص منها ، وهذه الدار التي اجتمع فيها كفار قريش ليأتمروا على النبي لن تبقى له ، فأول شيء أراد أن يتخلص منها ، وكأنه أراد أن يرخيَ ستاراً من النسيان على ذلك الماضي البغيض ، فباعها بمائة ألف درهم ، فقال له قائل من فتيان قريش : لقد بعتَ مَكْرُمَةَ قريش يا عمّ ، فقال له حكيم : هيهات يا بني ، ذهبت المكارم كلها ، ولم يبق إلا التقوى ، دار اجتمعنا فيها ، وقررنا فيها قتْلَ رسول الله ، أيُّ مَكْرُمَةٍ هذه ؟ اجتمعنا فيها وقررنا أن نحاربه ، هذه دار نجسة قال له : يا بني ذهبت المكارمُ كلها ، ولم يبق إلا التقوى .
أحياناً يقول لك إنسان : هذه عملٌ لا يرضي الله عز وجل ، عمل مِن أثر أبي ، هذا العود من بقايا أعواد أبي ، لستَ محتاجًا إلى هذه السمعة ، ولو كان من آثار أبيك ، دعْك من كل هذا، والتمِسْ ما يقرِّبك من الله سبحانه .
أراد أن يتخلص منها .
قال : وإني لأشهدكم أنني جعلت ثمنها في سبيل الله عز وجل .
أيؤمن رجلٌ ويسلم ويتوب ولا يغيِّر حالَه ؟ ولا يبدِّل ؟ يجب أن نغيِّر كل رفاق السوء أوَّلاً ، إذا كان له رفاق سوء يجب أن يتخلص منهم جميعاً ، هذه اللقاءات الباطلة ، هذه الأماكن هذه الطرقات المزدحمة بالنساء ، صار بريئًا منها كلها .
إذا لم يحدُثْ تبدلٌّ جذريٌّ ، ولم يكن بالمعنى الحديث ثورة في حياتك على كل معصية ، وعلى كل مكان سيِّئ ، وعلى كل صديق سيِّئ ، وعلى كل مخالفة ، فليستْ هذه توبةٌ ، ولا عودة إلى الله تعالى .
وحجَّ حكيم بن حزام بعد إسلامه ، فساق أمامه مائة ناقة مجلّلة بالأثواب الزاهية ، ثم نحرها جميعاً في سبيل الله ، وأطعم لحمها للفقراء .
وفي حجة أخرى وقف في عرفات ومعه مائة من عبيده .. فقدْ كان غنيًّا ، وقد جعل في عنق كل واحد منهم طوقاً من الفضة ، نُقِشَ عليه عتقاء لله عز وجل عن حكيم بن حزام .
ذبح مائة ناقة في أول حجة ، وساق معه مائة عبد في ثاني حجة ، ثم أعتقهم جميعاً .
وفي حجة ثالثة ، ساق أمامه ألف شاة ، وأراق دمها كلها في منى ، وأطعم بلحومها فقراء المسلمين تقرباً إلى الله عز وجل .. وهذا ليكن الإسلام ، ولتكن التوبة إلى الله عز وجل ، باع الندوة بمائة ألف ، وجعلها في سبيل الله ، وساق مائة ناقة في أول حجة ، ومائة عبد أعتقهم في ثاني حجة ، وألف شاة ذبحها ، وأطعم لحمها للفقراء في الحجة الثالثة .
بعد غزوة حنين سأل حكيم بن حزام رسول الله صلى الله عليه وسلم من الغنائم فأعطاه ، ثم سأله فأعطاه ، حتى بلغ ما أخذه مائة بعير ، وكان يومئذ حديث عهد بالإسلام ، فقال له النبي عليه الصلاة والسلام : " يا حكيم ، إن هذه الأموال حلوة خضرة ، فمن أخذها بسخاوة نفس (يعني بعفة نفس) بورك له فيها ، ومن أخذها بإشراف نفس ( بطمع) لم يبارك له فيها ، وكان كالذي يأكل ولا يشبع " .
حكمة بالغة ...
عَنْ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ الْيَدُ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنْ الْيَدِ السُّفْلَى وَابْدَأْ بِمَنْ تَعُولُ وَخَيْرُ الصَّدَقَةِ عَنْ ظَهْرِ غِنًى وَمَنْ يَسْتَعْفِفْ يُعِفَّهُ اللَّهُ وَمَنْ يَسْتَغْنِ يُغْنِهِ اللَّهُ *
[متفق عليه]
فلما سمع حكيم بن حزام ذلك من النبي عليه الصلاة والسلام قال يا رسول الله ، والذي بعثك بالحق لا أسأل أحداً بعدك شيئاً .
النبي أعطاه ونصحه ، ولكن كانت النصيحة مؤثِّرة جداً ، وعلامة إيمانه الصادق أنه استجاب ، قال له : واللهِ يا رسول الله ، والذي بعثك بالحق لا أسأل أحداً بعدك شيئاً ، ولا آخذ من أحد شيئاً بعدك حتى أفارق الدنيا ، وبر حكيم بقسمه أصدق البر ، ففي عهد أبي بكر رضي الله عنه ، دعاه الصديق أكثر من مرة لأخذ عطاء من بيت مال المسلمين فأبى أن يأخذه ، ولما آلت الخلافة إلى الفاروق دعاه مرة ثانية إلى أخذ عطاء فأبى أن يأخذه ، فقام عمر في الناس وقال ، أشهدكم يا معشر المسلمين ، أني أدعو حكيماً إلى أخذ عطائه فيأبى ، وظل حكيم كذلك لم يأخذ من أحد شيئاً حتى فارق الحياة .
هذه قصة حكيم بن حزام فيها نقاط مضيئة ، أبرزها أنه إذا آتاك الله عقلاً راجحاً ، وفكراً ثاقباً ، وإمكانات عالية ، ينبغي أن تسرع بك إلى الله ، ولا ينبغي أن تبطئ بك ، لأن الحسرة عندئذ تكون كبيرة ، ولأن الإسلام أساسه العقل ، وأساسه الواقع ، وأساسه الفطرة ، فأي إبطاء في إسلامك ، مع رجاحة عقلك فهذا يدعو للعجب العجاب ، يعني الذي أنت فيه يتناقض مع العقل الراجح الذي أعطاك الله إياه ، فأرجحكم عقلاً أشدكم لله حباً .
فالنبي عليه الصلاة والسلام جعل العقل حاكماً على القلب ، يقول أحدُهم : أخي أنا أحبُّ ، والحبُّ ليس بيدي ، بل الحبُّ بيدك ، أعملْ عقلك تحبَّ الله عز وجل ، " أرجحكم عقلاً أشدكم لله حباً "
الحمد لله رب العالمين
***(/)
الدرس 8/ 50 : سيرة الصحابي : حمزة بن عبد المطلب ، لفضيلة الأستاذ الدكتور محمد راتب النابلسي
تاريخ : 23 / 11 / 1992 .
تفريغ : عماد علان
التدقيق اللغوي : الأستاذ غازي القدسي .
التنقيح النهائي : المهندس غسان السراقبي .
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيّدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، اللهم لا علم لنا إلا ما علَّمْتنا ، إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علِّمنا ما ينْفعنا ، وانْفعنا بِما علَّمتنا ، وزِدْنا عِلما ، وأَرِنا الحق حقاً وارْزقنا اتِّباعه ، وأرِنا الباطل باطِلاً وارزُقنا اجْتنابه ، واجْعلنا ممن يسْتمعون القول فَيَتَّبِعون أحْسنه وأدْخِلنا برحْمتك في عبادك الصالحين .
أيها الإخوة الأكارم ؛ و أنا في طريقي إليكم لاحت أمامي فكرةٌ يمكن أن تكون مقدِّمةً لدروس السِّيرة ، لو أنَّ إنساناً يتيه في صحراءَ موحشةٍ ، أو في غابة فيها وحوشٌ مفترسة ، أو في أرضٍ وَعرةٍ فيها مخاطرُ ثابتةٌ، وأنت رأيته في هذه الحالة الخطيرة التي تدعو إلى الشَّفقة ، مهمتك الأولى أن تدعُوَه إلى مكانٍ آمنٍ ، إلى حصنٍ حصينٍ ، إلى بستانٍ مَحاطٍ ، إلى قصرٍ مُنيفٍ ، فإذا رضي واستجاب لك ، ودخل هذا البستان الآمن أو إلى هذا القصر المنيف ، فقد أصبح لك مهمَّةٌ ثانيةٌ ، وهي أن تعرِّفَه مداخل هذا القصر ومخارجه ، وأماكن النوم ، وأماكن الرَّاحة ، وأماكن الطَّعام فلمّا كان خارج القصر كانت له طريقة في التوجيه ، فإذا دخل إلى القصر فله طريقة أخرى ، فحينما تدعو إلى الله عز وجل ورأيتَ إنساناً شارداً تائهاً عاصيًا ، مقيماً على معصية عقيدته زائغة ، تصَوُراته غير صحيحة ، هذا الإنسان عليك أن تدعوَه إلى الله، عليك أن تقنعه بأحقِّية هذا الدِّين ، عليك أن ترشده إلى طريق الحق ، فإذا استجاب و سلك هذا الطريق عليك أن تبيِّن له الجزئيات ؛ الأمرَ الإلهي ؛ النَّهي الإلهي ؛ حقيقة الدُّنيا ، فمهمة الدَّاعية إلى الله عز وجل تجاه الإنسان الشَّارد لها طبيعة ، وبعد أن يستجيب هذا الإنسان فللدعوة طبيعة أخرى ، فحينما نخاطب إخوةً كراماً مؤمنين آمنوا بالله عز وجل ، آمنوا بوجوده ، آمنوا بكمالاته ووحدانيته ، وآمنوا برسوله و بكتابه ، هؤلاء الإخوة الأكارم الذين استجابوا لله ، يجب أن نبصِّرهم بدقائق الأفعالِ ؛ بدقائق السُّنة ؛ وبدقائق الأحكام الفقهية ؛ بطبيعة المنهج الدَّقيق الذي ينبغي أن يسيروا عليه ، هذه مهمة ثانية ، لذلك طلب العلم لا ينقطع بل يستمر ما دام المسلم حيًّا، لكن في كل طوْرٍ هناك موضوعاتٌ ينبغي أنْ نُعْنى بها ، هذا ما حصل تماماً في عهد الصحابة الكِرام ، ففي المرحلة الأولى كانت الدعوة إلى الله والإيمان وباليوم الآخر والرسُل والملائكة والقدر خيره وشَرِّه ، وكانت دعوة إلى التفكُّر في الكون ، وإلى إقام الصلاة ، ودعْوةٌ إلى ضبْط الشهوات والالْتِزام والتضْحِيَة ، والهِجْرة ، فلما اسْتجاب أصحاب النبي لله وللرسول فيما دعاهم إليه وهاجَروا معه واسْتَقَروا في المدينة ، جاءَتْ آياتُ التشريع ؛ آية الدَّيْن وأحكام الطلاق ، والزواج ، وأحْكام البيْع ، فَنَحْنُ في مسيرتنا في هذه الحياة ، نَطْلُب العلم دائِماً ولكن في كلِّ مرحلةٍ ، ونحْتاج إلى موضوعات خاصَّةٍ بها ، نحن آمنا بالله ورسوله وكتابه ، ثم نريد أنْ نقْتَدِيَ بأصْحاب النبي صلى الله عليه وسلَّم ، بهؤلاء الذين خصَّهم الله بالنبيِّ عليه الصَّلاة و السَّلام ، بهؤلاء الذين رضي الله عنهم ، بهؤلاء الذين اختارهم الله لصُحبة نبيه عليه الصَّلاة والسَّلام ، بهؤلاء الأبطال الذين وصفهم النبي عليه الصَّلاة والسَّلام فقال : "علماء حكماء كادوا بفقههم أن يكونوا أنبياء " ، هؤلاء الذين كانوا قادة ألوية النبي عليه الصَّلاة والصلاة والسَّلام ، وكانوا رسلَه إلى بقية الأمم والشُّعوب ، لذلك فقراءة سيرتهم جزءٌ أساسيٌّ من الدِّين ، بعد أن آمنتَ بالله ورسوله و كتابه واليوم الآخر ، وبعد أن التزمتَ وطبَّقتَ واستجبتَ ؛ بقي عليك أن تفهم دقائق مواقف هؤلاء الصَّحابة .
صحابيُّ اليوم ؛ هو سيِّدنا حمزة بن عبد المطَّلب ؛ عم النبي عليه الصَّلاة والسلام ، قد يقول قائلٌ : هذا الصحابي درسناه قبل ثماني سنوات ، تماماً كما تجد نصًّا في المرحلة الإعدادية، وتجده في المرحلة الثَّانوية ، والنصُّ نفسه في المرحلة الجامعية ، نحن لمَّا نريد أن نعطيَ الإخوةَ الأكارم دروسًا في السِّيرة ، ولاسيما سيرة الصَّحابة الكرام ، نريد أن نستنبط من سيرهم حقائق نستعين بها في هذه الحياة المعاصرة ، لا نريد أن ندرس هذه السِّير كتاريخ ، نريد أن ندرسها كوقائع يمكن أن نستنبط منها قواعدَ وعبراً وحقائق ومبادئ نستعين بها في تعاملنا مع الله ، ومع أهل الحق ، و مع عامة الناس فأوَّلُ ملاحظة أنه من السذاجة ، ومِن ضيق الأفق ومِن عدم النضج ، ومن أخلاق الغوغاء والعامة أن تقول : هذا أبيض وهذا أسود ؛ وليس بينهما لونٌ آخر، هذا مؤمن وهذا كافر ، هذه النظرة الحادَّةُ المتطرفة ، هذه الأحكام الحدِّية القاسية ، هذه ليست من صفات أهل الإيمان .
فمثلاً ؛ في العهد الذي أُرسِل به النبي عليه الصلاة والسلام وجاء بالقرآن الكريم ؛ كان ناسٌ في مكة غارقين في الشَّهوات ، غارقين في المعاصي والآثام ، غارقين في أكل المال الحرام، غارقين في الطُّغيان والعدوان ، غارقين في الكِبْر ، غارقين في البَطَرِ ، هؤلاء الكفَّار الفجَّار المشركون ، بينما كان في الطَّرف الثَّاني النبيُّ عليه الصَّلاة والسلام ؛ قمَّة البشر ؛ سيِّد الخلق ؛ حبيب الحق ، ومعه أصحابٌ مخلصون ؛ مجاهدون تائبون عابدون سائحون راكعون ساجدون ، هؤلاء في قمَّة الرُّقي والمجد ، وأولئك الكفرة في حضيض الدناءة والاحتقار ، والسؤالُ الآن ؛ أليس بين هؤلاء ناسٌ لا من هؤلاء و لا من هؤلاء ؟ هذا الذي أتمنَّى عليكم أن تعرفوه ، أنتَ مؤمن تصلي وتصوم ومستقيم ، وتغدو وتروح إلى مسجد ، ولك مجلس علم ، ولك إخوان ، وتعرف الحق من الباطل ، شيءٌ جميل ، وهناك شخصٌ في حياتك ؛ فاجر عاصٍ ، شارب خمرٍ ، زانٍ ، باغٍ ، عاتٍ ، أليس ممَّن حولك شخصٌ لا من إخوانك ولا من أولئك الفجرة؟ إنسان لم يُصَلِّ بعد ، لكنْ له أخلاقٌ ترضي ، وقدً لا يحبُّ الانحراف ، ويفي بالوعد ، وينجز العهد ، هذا الذي لا من هؤلاء ولا من أولئك ، ليس لك أن تُقَيِّمه تقييمًا سيِّئًا ، بل عليك أن تلتفت إليه ، فالنبي عليه الصلاة والسلام و أصحابه الكرام الذين سبقوا إلى الإسلام كانوا في قِمَّة الطُّهر والعفاف والمجد ، وكان كفَّار قريش في حضيض الدناءة والبغي و الطُّغيان ، أمَّا سيدنا حمزة فلم يكن مسلماً بعد ، لكن كان شهماً ، وكان صاحب مروءة ، شجاعاً يأبى الظلم والدناءة ، فإذا رأيتَ أيها الأخ الكريم إنساناً أخلاقيًّاً يفي بالعهد ، ولا يكذب ، لكنه ليس ملتزِمًا ، فلا ينبغي أن تُقَيّمَه تقييماً سيِّئاً لأنه تاركٌ للصلاة فقط ، هذا كما يُقال : خامةٌ طيِّبةٌ ، هذا عنصرٌ جيدٌ ، لو وجَّهته ، وسدَّدتَ خُطاه ، وعلَّمتَه ودرَّبتَه ، وفقَّهتَه ، ودفعتَه إلى الله عز وجل لاستجاب ، فمن السذاجة وضيق الأفق ، بل من الغباء أن تقول : أبيض أو أسود فقط ، بين الأبيض والأسود مئات الألوف من الألوان ؛ التي لا هي في نصاعة البياض ، ولا في قتامة السَّواد ، هذا هو الموقف المعتدل ، والمنصف ، ولو أنك كلما شاهدتَ إنساناً بعيدًا عن مسجدك ، وعن إخوانك ، أو لا يصلي ؛ فحكمتَ عليه بالكفر ولم تعبأ به ، فأنَّى لك أن تكون هادياً للناس ؟ وأنى لك أن يستخدمك الله في الدعوة إليه ؟ عندئذٍ لا تُصْلِح ، لذلك أنا أتمنَّى على الإخوة الأكارم رحابة الصَّدر ، و اتساع صدورهم لكل الناس ، لكل من هو على شاكلتهم ، أو ليس على شاكلتهم .
لا أكتمكم أنني أنطلق من فكرة ، أتمنَّى على الله عز وجل في هذا الدرس أن أوضِّحها لكم، أنتم رُوَادُ هذا المسجد ، ونحن جميعاً طرفٌ واحد ، تؤمنون بما أنا به مؤمن ، وتصدِّقون بما أنا به مصدق ، نحن جميعاً طرف واحد ، لأننا آمنَّا بالله عز وجل و آمنا بكتابه و استجبنا له ، ولكن متى ترتفعون عند الله عز وجل ؟ إذا ضممتم إليكم أناسًا من الطرف الآخر ، أنت تجلس مع إخوانك فتأنس بهم ، تحدِّثهم ويحدثونك ، تتفاعلون و تتصافون وتحلقون ، ولكن هل أضفتم إلى المجتمع الإسلامي عناصر جديدة ؟ هل حاورتم الطَّرف الآخر ؟ هل لك صديق لا يصلي ؟ هل لك صديق يحدِّث نفسه إطلاقًا في أن يأتي إلى مجالس العلم ؟ هل تقنعه بحضور مجلس علم ؟ أردتُ من هذه النقطة ومن هذا النص الذي أمامي أنه ينبغي أن تضيف إلى مجتمع المؤمنين عناصر جديدة من مجتمع غير المؤمنين ، هنا البطولة ، وأنا أثني على كل لقاء بين الإخوة الأكارم لتمتين علاقتهم بالله ، وأنا أحضُّ على هذا اللقاء ، كما قال تعالى :
[ سبأ : الآية 46 ]
هذا أمرٌ إلهي أن تجلس مع إخوانك في الأسبوع مرَّة ، بحسب القرب والمكان ، وبحسب العمل والعلاقات الاجتماعية ، أنْ تلتقي إخوانك الكرام ، وتحدثهم عمَّا أفاض الله عليك ، وعما عقلتَه من درس الجمعة ، أو من درس السبت، أو من درس الاثنين ، أو من خطبة الجمعة ، عن موقف تأثَّرتَ به أشدَّ التأثُّر ؛ هذا اللقاء أنا أباركه وأحضُّ عليه ، وأتمنَّى أنْ يكون لكل واحد منكم مثل هذا اللقاء ، ولكن هذه اللقاءات ماذا تفعل ؟ توطِّن علاقة الإخوة الأكارم بربهم ، وتمتِّن علاقتهم بدينهم ، وبمنهلهم وبمشربهم الدِّيني ، وبمسجدهم ، وهذا شيء جميل ؛ ولكن ينبغي أن يكون لك نشاطٌ آخر ، هؤلاء الأخلاقيون الذين لا يرتادون المساجد ، هؤلاء الطيِّبون الذين شرَدوا عن الله عز وجل ، هؤلاء الذين تأنسون لهم ، لكنكم لا ترضون عنهم ، قد يكون هناك شخص وحش ، هناك شخص دنيء ، ساقط ، منحرف ، متكبِّر ، طاغٍ باغٍ ؛ هذا دعونا منه ، ولكنْ هناك شخص من جلدتك ، من إخوانك ، من أقرب الناس إليك ، هذا أيضًا تأنس به وترتاح له ، وكذلك هناك شخص ممن يلوذ بك ؛ قريب أو وصديق أو جار أو زميل أو صاحب بالجَنب ، هذا لا ترْضى عن سُلوكه ، ولكن ترْتاحُ له ، وحينما ترْتاحُ له ، فهذا يعْني أنه ينْطوي على نفْسٍ طيِّبَة ، هذا ينْبغي أنْ تسْعى لِإقْناعِهِ أنْ يسْلك طريق الإيمان ، وهذا الذي ترتاحُ له ولا ترْضى عن سُلوكه ينْبغي ألاّ يكون خارج الحِساب ، وخارج اهْتِمامك ، فأنت لك نشاطان ؛ نشاطٌ يتعلَّقُ بِتَمْتين علاقة إخْوانك بِرَبِّهم وبِدينهم وبِمَسْجِدِهم وبِمَنْهَلِهم ، هذا النشاط لا يُضيفُ عناصِر جديدة إلى مُجْتمع المؤمنين ، ولكن يُمَتِّن العلاقات القائِمَة ، أمّا النشاط الثاني ؛ فينبغي أنْ تُحاور الطَّرَفَ الآخر ، هذا الذي أتمناهُ عليكم ، ولذلك أيَّةُ حفْلَةٍ في بيْتٍ ، وأيَّةُ دَعْوَةٍ ، وأيَّةُ مناسبة مُفْرِحَة ، هذه البلدة التي نحن فيها - دمشق - والله أعْتَزُّ بها كثيراً ؛ ما من لِقاءٍ وما من احْتِفالٍ ، وما من زواجٍ ، وما من وِلادَةٍ إلا وهذه المُناسبات مُلْتقى فِئَة خَيِّرَة لإلْقاءِ تَوْجيهاتٍ ، فأنت لك مع إخْوانك لِقاءاتٍ دَوْرِيَّة ؛ ولكن حينما جاءَكَ موْلودٌ ؛ فما المانع أنْ تدْعُوَ أقارِبَك الذين تتَوَسَّمُ فيهم الخير إلى حفلٍ بسيط في منزلك ، وتَدْعُوَهم في أثناء اللقاء إلى سُلوك طريق الإيمان والالْتِزام بالدين ، والصُّلْح مع الله ، وإلى معْرِفَتِه ، فإن كُنت قادِراً فافْعَل ، وإنْ لم تكُن قادِراً فما الذي يمْنَعُك أنْ تدْعُوَ من يقْدُر على تَوْجيهِهِم إلى بيْتِك ، فإذا اسْتَجاب عدد من الذين شَرُدوا على الله عز وجل وتأثَّروا فهذا في صحيفتك عند الله ، ولقد سمعتُ قِصَّةً تأثَّرْتُ لها ، هذه القِصَّة أنَّ رجُلاً ممن شرد على الله ، وممن آمن أنه لا إله - دون أن أُكْمل - أيْ أنه مُلْحِدٌ ، في الخامسة والأربعين ، أو الخمسين من عُمُره اهْتدى إلى الله ، وبدأ يُصلي ، له ابنٌ صالِحًٌ ، فَمِن شِدَّة فَرَحِ ابنه أنَّ أباهُ بدأ يُصَلي ، هذا الابن أقام موْلِداً في بيْتِهِ ، ودعا أصْدِقاء والده ، بِمُناسَبَة أنَّ أباهُ بدأ يُصلي ، وكلَّف أحد علماء دِمَشْق لإِلْقاء كلمة على هؤلاء الشارِدين ، أصْدِقاء هذا المُلْحِد ؛ ألْقى عليهم كلمة فيها كُلُّ العَقْلانية والمنطق والأدِلَّة ، فهذا الابن يقول : لم ينتهِ هذا الاِحْتِفال إلا وخَمْسَةٌ من أصْدِقاء والده اصْطَلَحوا مع الله ، فالبطولة لا أنْ تُفْسِد إنْساناً على شَيْخِهِ ! دِمَشْق فيها خمسة ملايين ، كم من مُصَلٍّ فيها؟! نِصْف مليون أو أكثر ، فهؤلاء أربعة الملايين الشارِدين عن ربِّهم ابذل من نفسك لهم ، ولِهَؤُلاء الذين لا يُصَلون ، ولِهَؤُلاء الذين أُلْبِسوا شُبُهاتٍ حول الدِّين ، وظنوا أنَّ الإسلام شيءٌ قديمٌ ، وأنَّ الأديان أشياءٌ غَيْبِيَّة لا علاقة لها بِالواقع ، فأنت إذا أردتَ أنْ ترقى عند الله يجب أنْ تنْطلق في حِوار الطَّرَف الآخر ، لا أنْ تبْقى على الطَّرف الواحد ، فالبُطولة في إقْناعِ الطَّرَف الشارِد !!.
أردتُ من هذه المُقَدِّمة أنْ أبيِّن أنَّه في عهْد النبي عليه الصلاة والسلام كان النبي قِمَّةً في الحُبِّ والوَرَعِ والإقْبال والسُّمُوِّ وإنْكار الذات والشَّوْق لربِّه ، وكان أُناسٌ في مكَّةَ في حضيض الانْحِطاط والدناءة والأَثَرَة والكِبْر والبَغْي والأنانية - إن صَحَّ التعبير - والعُدْوان ، وكان أُناسٌ لم يؤمنوا بِمُحَمَّدٍ عليه الصلاة والسلام ، وليْسوا في هذا المُسْتوى الوَضيع الذي انْحدر إليه كُفارُ قريش ، من هؤلاء سيِّدُنا حمزة بن عبد المُطَّلب رضي الله عنه وأرْضاه .
كان سيدنا حمزة مرَّةً في فناء الكعبة ، حيثُ سادة قريشٌ يتحادثون ، فجلس معهم ليسمع ما يقولون ، وكانوا يتحدَّثون عن محمد صلى الله عليه وسلم ، ولأوَّل مرَّةٍ رآهم يقلقون على مصيرهم من هذه الدعوة الجديدة ، ويُعبِّرون عن حقدهم وغيظهم وعن مرارة قلوبهم ، كان هو متفائلاً معتدلاً واقعيًّا ، فلم يبالغ هذه المبالغة ، ولم ينطوِ على هذا الحقد ، وهو ليس على دين محمد ، ولكن لا ينطوي على حقد على ابن أخيه ، ولا على كُرهٍ للحق ، هذا الذي أريده ؛ هؤلاء الذين لم يقاتلوكم في الدين ، قال الله عز وجل :
[ الممتحنة : الآية 8 ]
لو أقمتَ علاقةً مع إنسان لك ثقة بأخلاقه ، لكن لا تراه ملتزِماً ، هذا الذي أتمنَّى أن استنبطه من هذه القصَّة ، فكان سيدنا حمزة كلما طُرِح موضوعُ النبي عليه الصلاة والسلام مع أنه لم يكن على دينه ؛ لكن لم يكن ينطوي على حقدٍ دفين ، ولا على كراهية شديدة ، ولا على بغضٍ عميق ، بل كان معتدلاً ، وكان يرى أنَّ ابن أخيه على حقٍّ ، ولم يفكِّر أنْ يؤمن به ، لكنه كان يدافع عنه ، هؤلاء الحياديون ينبغي أن نقرِّبهم إلينا ؛ لا أن نبعِّدَهم عنَّا ، أحيانًا يكون أخٌ منا ملتزماً بالدين وله قريب متلبِّسٌ بمعصيةٍ أو مخالفة ، فيكَفِّرُه بها ، ويحاربه ، هذا ليس من الحكمةِ إطلاقًا ؛ هذا موقف غير حكيم ، وغير إسلامي ، ولا يُرْضي الله عز وجل ، فهذا موقفٌ مُنَفِّر ، إذْ إنه ما عاداك ، وما هاجمك ، ولا نال منك ، ولكنه ليس على شاكِلَتِك ، ليس على الْتِزامك ، فأنت عليك أنْ تُحْسن إليه ، وأنْ تصِله وتزوره وتُقَدِّم له بعض الخدمات ، وتريه منكَ الكمال ، وعليك أنْ تُرِيَهُ العِفَّة والإحسان ، حتى يُوازن فيقال : هذا إنسانٌ عظيمٌ .
هناك اسْتِنباط آخر من هذه القِصَّة ، فأكثر الأشْخاص عامِلُ السِنِّ حِجابٌ بينهم وبين الله ؛ مثلاً إذا كان أكبر من هذا الذي يدْعو إلى الله سِناًّ ؛ لا يسْتمع إليه ، لذلك دائِماً عقدة الآباء مع أبنائِهم ، فالأب يقول : هذا ابني ، أنَّى له أن يسْبِقَني ، وقد يسْبِقُ الابن أباهُ ، قال تعالى :
[ مريم : الآية 43 ]
فَسَيِّدُنا حمزة مع أنه كان عمَّ النبي صلى الله عليه وسلم ، ومع ذلك عرف قَدْرهُ وصِدْقَهُ ، وعرف أمانته وإخْلاصه وقيمته عند الله عز وجل ، فالسُّعداء أيها الإخوة ؛ لا يمْنعهم فارق السِّنِّ من أن يسْتمعوا وأن يتَّبِعوا ؛ أحْياناً يكون الشخْصُ مدير ثانويَّة لا يُمْكن أنْ يسْتجيب لِمُعَلِّمٍ عنده ، كذلك طبيبٌ كبير لا يسْتجيب لِمُمَرِّض ، مديرٌ عام لا يسْتجيب لِمُوَظَّف صغيرٍ عنده ، ففارق المرتبة الاجتِماعِيَّة و السِّن ، أو فارق المستوى الاقتِصادي ، هذا حِجابٌ بين العبد والحقّ ، فَسَيِّدُنا حمزة مع أنه كان عمَّ النبي صلى الله عليه وسلم والعمُّ مقدَّمٌ دائِماً ، وقد قيل : لا نَبِيَّ في قَوْمه ، وأزهد الناس في العالم أهلهُ وجيرانه ، شِدَّةُ القُرب حِجابٌ ، فَسَيِّدُنا حمزة وهو عمُّ النبي صلى الله عليه وسلم ومع ذلك عرف قَدْره ، بل إن العباس رضي الله عنه لشدَّة أدبه مع رسول الله سُئِلَ مرَّةً : أيُّكُما أكبر أنت أم رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال : هو أكبر مني ، وأنا وُلِدْتُ قبله ، أحْيانًا أنت تحمل شهادة ، ويُلْقي الله في قلب إنسان أقلَّ منك عِلمًا ، وتكون أنت من ذوي الشهادات العاليَة ؛ يُنْطِقُهُ بالحِكمة ، ويُلقي في قلبه السكينة ، فلا يكون فارق السنِّ ، ولا فارق الشهادة ، ولا فارق المرتبة الاجتِماعِيَّة حِجاباً بينك وبين الحقّ ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
كَمْ مِنْ أَشْعَثَ أَغْبَرَ ذِي طِمْرَيْنِ لَا يُؤْبَهُ لَهُ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لَأَبَرَّهُ مِنْهُمْ الْبَرَاءُ بْنُ مَالِكٍ *
[رواه الترمذي]
مرَّ معنا حديثٌ شريف منذ يومين في درس الفجر أنَّ الرجل قد يبْدو بليغاً ، طليق اللِّسان ، ووسيمَ المنظر ، لا شأنَ له عند الله ، وقد تجد إنساناً في مقاييس البشر في الدرجة الدنيا ، وله عند الله شأنٌ عظيم ؛ كَمْ مِنْ أَشْعَثَ أَغْبَرَ ذِي طِمْرَيْنِ لَا يُؤْبَهُ لَهُ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لَأَبَرَّهُ ، لذلك هذا الأخلاقي الذي لا يُصلي أنت ترتاحُ له ، ولكن لا ترْضى عن سُلوكه هذا الإنسان بالذات - وأنا أعْني ما أقول - لا بد أنْ يأتِيَ يومٌ يسْتجيب فيه لله عز وجل ؛ أخْلاقِيَّتُهُ ونظافَتُهُ ومُروءَتُهُ هذه تُعينه على طلب الحقّ ، فَسَيِّدنا حمزة خرج من داره مُتَوَشِّحاً قوسه ، ومُيَمِّماً وجْههُ شطر الفلاة لِيُمارِس هِوايَةً يُحِبُّها ؛ إنها الصَّيْد ، وكان صاحِبَ مهارَةٍ فائِقَة فيه ، قضى هناك بعض يومه ، ولما عاد من صَيْده ذهب كَعَادتِهِ إلى الكعبة لِيَطوفَ بها قبل أنْ يقْفِلَ راجِعاً إلى داره ، ماذا نسْتنبط من هذا ؟! الإنسانُ مُتَدَيِّن بالفِطْرة ؛ الآن اذْهب إلى أيِّ مكانٍ في العالم ؛ اِذْهب إلى شرق آسيا تجد مُثَقَّفين ودكاتِره يدخُلون معْبد بوذا ، ويُمارِسون طقوساً مُعَيَّنَة أمام صَنَمٍ كبير ، وأمام هذا الصَّنم فواكه كثيرة توضَع لِيَأكلها ليلاً ، والذين يأكُلونها هم الرُّهبان ، وحتى الإنسان الذي له مرتبة اجْتِماعِيَّة وسِياسِيَّة يقْصد كاهِناً أو عرافاً لِيَسْتَنْبِئه الغيب ، وهذه كُلُّها إشارات إلى أنَّ الإنسان مُتَدّيِّنٌ بِالفِطْرة ، فإما أنْ يتعلَّق بِالخُرافات والأباطيل والأكاذيب ، وإما أنْ يتعلَّق بالحقّ فلا بد أنْ تكون عبْداً ؛ إما أنْ تكون عبْداً لِخُرافَةٍ ، أو لِفِكْرةٍ تافِهَة مغْلوطة ، أو أنْ تكون عبْداً لله عز وجل ، فَسَيِّدُنا حمزة قبل أنْ يؤمن ويُسلم يأتي من الصَّيْد لِيَطوف بالكعبة ، ثمَّ يعود إلى بيْتِهِ ، فالتدَيُّن سُلوكٌ فِطْري ، حتى على مُستوى عامَّة الناس تجده يُقيمُ على كلَّ المعاصي ، لكنَّهُ لا بد أنْ يتبرَّك بِهذا الولِيِّ ، ولا بد أن يذْبح خروفاً على روح فلان ، فهؤلاء العُصاة والمُنْحَرِفون لهم سُلوكٌ ديني - غير صحيح طبْعاً - فالتَدَيُّن بِالفِطرة ، فإما أنْ تكون مُتعلِّقاً بالله ومنهجه ، وإما أنْ تتعلَّق بالخُرافات ، فهؤلاء الذين ينْدَفِعون للكَهَنَة من العُصاة ، ومَن شاكَلَهم إنما ينْدفِعون بِفِطْرتهم، لماذا ينْدفعون لهذا ؟! لأنّ الإنسان ضعيف يُحِبُّ أنْ يلْجأ إلى قَوِيّ ، وكل الخُرافات الدِّينِيَّة منْبعُها هذه الحاجة الفِطْرِيَّة إلى التدَيُّن ، فَسَيِّدُنا حمزة قبل أنْ يؤمن ويُسلم يأتي من الصَّيْد لِيَطوف بالكعبة كَسُلوكٍ ديني وقريباً من الكَعْبة لَقِيَهُ خادِمٌ لِعَبْد الله ، ولم تكد تبصرُه حتى قال له : يا أبا عُمارة - وهي كنية سيدنا حمزة - لو رأيتَ ما لقيَ ابن أخيك محمدٌ آنفًا من أبي الحكم بن هشام ، الذي رأى ابن أخيك هناك جالساً فانصرفَ إليه فآذاه وسبَّه ، وبلغ منه ما يكره ، فسيدنا حمزة بكل مروءته وشهامته وغيرته ، وبكل إنصافه توَشَّح سيفه ، واتَّجه ليقتصَّ من أبي الحكم بن هشام ، بحث عنه فإذا هو في جوار الكعبة ، تقدَّم نحوه ، واستلَّ قوسه ، وهوى به على رأسه فشجَّه وأدماه ، وقبل أن يفيق الجالسون من الدهشة صاح حمزة بهم وصاح في أبي جهل : أَتَشْتُمُ محمَّداً وأنا على دينه ، أقول ما يقول ؟ ألا فَرُدَّ عليَّ إن اسْتَطَعْتَ ، سيِّدُنا حمزة كان من الشَّخْصِيات اللامعة والأولى في المُجتمع الجاهِلي ، ومن عَلِيَّة القوم ؛ واحد كَألف ! وقال أيضًا : أنا على دينه أقول ما يقول ! أسلم سيِّدنا حمزة ، ولكن بِمَوْقفٍ ارْتِجالي ، وموقف دفعته إليه حَمِيَّتُهُ لابن أخيه ، وإنْصافُهُ وغَيْرَتُهُ ، أسْلم وتحَدى المُشْرِكين ، ولكن أدَعُكُم معه لِيُعبِّر عن حالةٍ نفْسِيَّة ألمَّتْ به ، يقول سيِّدنا حمزة : أدْركني النَّدَم على فِراقي دين آبائي وقَوْمي - هو أسْلم في لحظةٍ ارْتِجالِيَّة وحماسة وغَيْرة وأدْرك أنَّ متاعِبَ سَتَلْحَقُ به ، لذلك قال النبي عليه الصلاة والسلام : ما دَعَوْتُ أحداً إلى الإسلام إلا كانت له كَبْوَة إلا أخي أبا بكر ...." - وبِتُّ في شكٍّ من أمرٍ عظيم ، لا أكْتَحِلُ بِنَوْم ، ثمّ أتَيْتُ الكعبة وتضرَّعْتُ إلى الله - ، مفْهوم الإله مفْهومٌ عامٌ في كلِّ مكان وزمانٍ ، وفي كلِّ مِصر ، ومع أيِّ إنسان - أنْ يشرح صدْري ؛ ذكر لي أحد إخْواننا وكان من رُواد المسْجد أنَّ جماعَةً أرادوا أنْ يُشَكِّكوه في إيمانه و منهجه ، فصلَّى ركعتين قبل أن ينام ، ودعا فيهما فقال : اللهمَّ إن كان هؤلاء على الحق فأيقظني مع صلاة الفجر ، وإن كانوا على باطل فلا توقظني ، فاستيقظ قبل الفجر بساعة ، هكذا طلب من الله ، فسيدنا حمزة وقع في حيرة ، في ساعة مروءة ، و في ساعة غيرة أسلم ، ومنذ الآن فسيعاكس آباءه وأجداده - قال : ثم أتيتُ الكعبة ، وتضرعتُ إلى الله أن يشرح صدري للحقِّ ، ويُذهب عني الرَّيبَ ؛ فاستجاب الله لي ، وملأ قلبي يقيناً ، وغدوتُ إلى النبي عليه الصلاة والسلام فأخبرتُه بما كان من أمري ، فدعا الله أن يثبِّتَ قلبي على دينه ، كذلك هنا استنباط ؛ أنتَ لك علاقة مع الله مباشرة ، لك ابتهالات ، لك سؤال إلى الله ، لا شكَّ أنَّ في حياتنا أشياءَ مُحَيِّرةً ، أحياناً يلجأ إلى الله ؛ يا رب أنت تعلم و أنا لا أعلم ، دُلَّني بك عليك ، دُلَّني على رجلٍ يُحِبُّك ؛ إنْ كان هذا يُحِبُّك وتُحِبُّه فألْقِ حبي فيه ، إنْ كان هذا على الحق فاجْعَلْني أميل إليه ، فاجْعل بينك وبين الله سُؤالاً وعلاقة ، كما فعل سيِّدُنا الحمزة .
النبي عليه الصلاة والسلام حينما دخل سيِّدُنا حمزة في الإسلام كان هذا مَكْسَبًا كبيرًا لِذلك أنا أقول لكم : كُنْ شَخْصاً لامِعاً ؛ إما في الدِّراسة ، أو في العمل ، أو في التِّجارة أو في الزِّراعة أو في الصِّناعة ،ِحَيْث إذا عرف الناسُ أنَّك مؤمن بالإسلام اعتزُّوا بك ؛ هناك من يَعْتَزُّ بالإسْلام ، وهناك من يعْتَزُّ به الإسْلام ، فإذا كان ذاك مُتَفَوِّقًا ، وهو يغُضُّ بصره عن محارم الله؛ فشيء عظيم ، والناسُ لا يُطَأطئون لك إلا إذا رأوا تَفَوُّقاً في اخْتِصاصِك ، عندئِذٍ يَحْتَرِمونك ، ويَحْتَرمون دينك ، ويحْتَرمون المنهل الذي تشرب منه ، كلكم يعلم أنّه في معْركة بدْرٍ قُتِل أبو جَهْل ، وعُتْبَة بن ربيعة عبد ، وشيْبَة بن ربيعة ، وأُمَيَّة بن خلف ، وعُقْبَة بن أبي مُعيط ، والأسود بن الأسد المخْزومي ، والوليد بن عُتبة ، والنَّضر بن الحارث ، والعاص بن سعيد ، وطعْمَة بن عدِيّ ، وعشَرات من زُعَماء قريش ، ومن أعلى مُستوى من مُسْتَوَياتهم ، فغزوَةُ أُحد كانت أخْذًا بالثَّأر لِهؤلاء القتْلى ، فهذا وَحْشي الذي قتل سيِّدَنا حمزة - أنا والله العَبْدُ الفقير كنت مع صحبي موسم الحج والعُمرة نزور أُحُدًا ثلاث أو أربع مرات ، وفي كلِّ مرَّةٍ نزور قبر سيِّدنا حمزة ، وأنا أمام قبره أشعر وأقول : كم من إنْسانٍ قُتِل في هذه الدنيا ؟! الذين يموتون على فِراشِهم حَتْفَ أُنوفهم هم أكثر الناس ، ولكن الذين يُقْتلون هم كُثر ؛ ما شَعَرْتُ أنَّ أحداً كان قتْلُهُ رِفْعَةً له كهذا الصحابيِّ الجليل ، تقف أمام قبره ويمْتَلِئ قلبك إكْباراً لاسْتِشْهاده في الحق ، فأنت أيها المسلم تُوَظِّف شَخْصِيَتُك وطلاقة لِسانك واخْتِصاصك وخِبْراتك لغير الله ؟!! هل يُمْكن للمسلم أنْ يفعل هذا ؟! أنت عظيمٌ إذا عرفْتَ الله ، ووظَّفْتَ كلَّ الطاقات في سبيل الله ، فعن شعيب بن صالح قال عيسى بن مريم :
والله ما سكنت الدنيا في قلب عبد إلا التاط قلبه منها بثلاث ؛ شغل لا ينفك عناه ، وفقر لا يدرك غناه، وأمل لا يدرك منتهاه ، الدنيا طالبة ومطلوبة ، فطالب الآخرة تطلبه الدنيا حتى يستكمل فيها رزقه ، وطالب الدنيا تطلبه الآخرة حتى يجيء الموت فيأخذ بعنقه *
[أخرجه ابن عساكر]
تجده مات لِسَبَبٍ تافِه ؛ مات وانتهى ، ونَسِيَهُ الناس - النبي عليه الصلاة والسلام وصف هذا الصحابي الجليل فقال : أسَدُ الله وأسد رسوله ! الحَبَشي الذي قتل هذا الصحابيَّ الجليل - طبْعاً أسْلم - وبعد أنْ أسْلم يرْوي كيف قتله ؟! يقول وَحْشي : كنتُ عَبْداً لِجُبَيْر بن مُطعم ، وكان عمُّ جُبَيْر قد لَقِيَ مصْرَعَهُ يوم بدْرٍ ، فقال له جُبَيْر : اُخْرج مع الناس ، وإنْ أنت قتَلْتَ حمزة فأنت عتيق ، ثمَّ أحالوه إلى هند بنت عُتبة زوجة أبي سُفْيان لِتَزيدهُ تحْريضاً ودفْعاً إلى الهدف ، وكانت هند قد فَقَدَت في معركة بدْرٍ أباها وعَمَّها وأخاها وابنها ، وقيل لها إنَّ حمزة هو الذي قتل بعض هؤلاء ، وأجْهَزَ على البعض الآخر ، من أجل ذلك كانت هند بنت عتبة زوجة أبي سُفيان أكثر القُرَشِيات تَحْريضاً للخُروج للحرب ، لا لِشَيْءٍ إلاّ لتظفر بِرَأسِ حمزة مهما يكُن الثمن ، ولقد لَبِثَت أياماً قبل الخُروج وليس لها عمل إلا إفْراغُ كُلِّ حِقْدِها في صدْر وَحْشي ، ورسْم الدَّوْر الذي يقومُ به ، كُلُّ قلائِدِها وكُلُّ أساوِرِها وأقْراطِها وخلاخِلِها وزينتها هِبَةٌ لِهذا الوَحْشي إذا قتل حَمْزة!
يقول وَحْشي : كُنتُ رجُلاً وحْشِياً حَبَشِياً ، أقذِفُ بالحَرْبة قذْف الحَبَشَة ، فقَلَّما أُخْطِئُ بها شيئاً ، ولما الْتَقى الناس خَرَجْتُ أنظر حمزة وأتَبَصَّرُهُ، حتى رأَيْتُهُ في عَرْض الناس مثل الجمل الأورق ، يَهُدُّ الناس بِسَيْفِه هداً ، ما يقِفُ أمامه شيءٌ ، فوالله بينما كنتُ أتَهَيَّأُ له أريدهُ وأسْتَتِرُ منه بِشَجَرَةٍ لِأتَقَحَّمَهُ ، أو يَدْنُوَ مني إذْ تَقَدَّمني سُباعُ بن عبد العُزَّى فلما رآهُ حمزة صاح به قائِلاً : هلمَّ إليّ ، ثمّ ضربه ضربةً فما أخْطأ رأسه ، قال عندئذٍ وَحْشي - هكذا شاءتْ حكمة الله ، قال تعالى: " ولئن متم أو قتلتم لإلى اللَّهِ تُحشَرونَ" ، أهل الدنيا يظنون أنَّ الموت مُصيبة ! لا ، الموتُ انتقال من دنيا صغيرة إلى آخرة واسعة ، هذا ما قال عنه النبي : خروج المؤمن من ضيق الدنيا إلى سَعَة الآخرة كَخُروج الجنين من ضيق الرحم إلى سَعَة الدنيا "
قال وحشي :عندئذٍ هَزَزْتُ حَرْبتي حتى إذا رضيتُ منها دَفَعْتُها حتى وقَعَتْ في ثُنَّتِهِ ، أيْ تحت سُرَّتِه ، حتى خرجت من بين رِجْلَيْه ، ونهض نحوي ثم غلب على أمْره فمات ، وأتَيْتُهُ فأَخَذْتُ حَرْبَتي ، ثمَّ رَجَعْتُ إلى المُعَسْكر ، فَقَعَدْتُ فيه ، إذْ لم يكن لي فيه حاجةٌ ، فقد قَتَلْتُهُ لأُعتَقَ ، ولما قَدِمْتُ مكَّة أُعْتِقْتُ حسب الوَعْد ، ثمَّ أقَمْتُ بها حتى دخلها النبي عليه الصلاة والسلام يوم الفتح ، فهَرَبْتُ منها إلى الطائِف ، فلما خرج وفْدُ الطائف إلى النبي عليه الصلاة والسلام لِيُسْلم ضاقَتْ عَلَيَّ المذاهب ، وقُلْتُ : ألْحُق بالشام أو اليمن أو سِواهما ، فوالله لإني في ذلك من هَمِّي وحُزْني إذْ قال لي رَجُلٌ : وَيْحَكَ إنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلَّم لا يقْتُلُ أحداً من الناس يدْخُلُ في دينه - فقاتل أحبِّ الناس إلى النبي ، ومع ذلك إذا دخل الإسلام أمِنَ - فَخَرَجْتُ حتى قَدِمْتُ على النبي عليه الصلاة والسلام في المدينة فلم يرني إلا قائِماً أمامه أشْهَدُ شهادة الحقِّ ؛ أشْهد أنْ لا إله إلا الله ، وأشْهد أنَّ محمَّداً رسول الله ، فلما رآني النبي قال : أَوَحْشِيٌّ أنت ؟! قلتُ نعم ، يا رسول الله، فقال : حَدِّثْني كيف قَتَلْتَ حمزة ؟ فَحَدَّثْتُهُ فلما ، فَرَغْتُ من حديثي قال : وَيْحك ! غَيِّبْ عني وَجْهَك ، اللهم هذا قَسْمي فيما أمْلك ، فأنا أملكُ أنْ أعْفُوَ عنه ، ولكن لا أمْلكُ أنْ أراه ! قتَلَ أحبَّ الناس إلى النبي صلى الله علليه وسلم ، قال : فَكُنْتُ أتنكَّبُ طريق رسول الله صلى الله عليه وسلم حيثُ كان ، أيْ لا أُواجِهُهُ حتى لا يراني حتى قبضه الله إليه قال فلما خرجَ المُسلمون إلى مُسَيْلَمة الكَذاب - هذه بِتِلْك - صاحِبِ اليمامة خَرَجْتُ معهم وأخذْتُ حَرْبتي التي قَتَلْتُ بها حمزة فلما الْتقى الناسُ رأيْتُ مُسَيْلمة الكذاب قائِماً في يده السَّيْف وتهيَّأتُ له وهَزَزْتُ حَرْبتي حتى إذا رَضيتُ منها دَفَعْتُها عليه فَوَقَعَتْ فيه ، فإنْ كُنْتُ قد قتلْتُ خير الناس بحربتي هذه ؛ وهو حَمْزة ، فإني لأرْجو اللهَ أنْ يغفر لي إذْ قَتَلْتُ بها شرَّ الناس مُسيْلَمَة ! فهو قتل بهذه الحربة خير الناس وشرَّ الناس ؛ فلعلَّ هذه بِتِلْك .
أنا قرأتُ بعض التاريخ الذي يتحدَّثُ عن فتْح القُدْس في عهْد الصَلِبيِّين ، فالصَلِبِيُّون قتلوا في القدس سبْعين ألف مُسلمٍ في يومٍ واحد ، ذبحوهم ذَبْحاً ، فلما فتح القُدْس سيّدنا صلاح الدِّين عفا عنهم جميعاً وكان أرحم بهم من أنفسهم ؛ هذا هو المؤمن ، أنا أتصَوَّر أنَّ المؤمن لو ملك عَدُوَّهُ لا يسْتطيعُ أنْ يفعل معه شيئاً إلا ِوَفْقَ منهج الله ، بِالحَرب هناك قَتْلٌ ، ولكن بعد أنْ يسْتسلم فهناك أخْلاقٌ شَرَعَها الله لنا ، فَسَيِّدُنا النبي لما أسلم وَحْشي عفا عنه ، ولكن قال له : غَيِّب عني وَجْهَك ، فماذا فعل هو ؟ قتل مُسَيْلمة بعد سيّدنا حمزة .
نُتابِعُ الحديث ؛ قال : لقد أمرتْ هندُ بنت عُتبة وَحْشِياً أنْ يأتِيَها بِكَبِد حمزة ، واسْتجاب الحَبَشِيُّ لِهذه الرغبة المذعورة ، وعندما عاد بها إلى هند ، كان يُناوِلُها الكبد بِيُمْناه ، ويتلقى قِرْطها وقلائِدها بِيُسْراه ، مُكافَأةً له على إنْجاز هذه المُهِمَّة ، النبي عليه الصلاة والسلام حينما رأى سيّدنا حمزة قد قُتِل ومُثِّل به قال : لن أُصابَ بِمِثْلِك أبداً ! أيْ هذه أكبرُ مصيبةٍ في حياتي ، هكذا كان وفاءُ النبي وحُبُّهُ صلى الله عليه وسلَّم ، وما وَقَفْتُ مَوْقِفاً قطُّ أغيَظ من مَوْقِفي هذا ، وتَرْوي بعضُ الكُتُب أنَّ أصْحابه تَمَنَّوا أنْ يُمَثِّل بقتلى قُرَيْش ، فقال عليه الصلاة والسلام كما في حديث بُرَيْدَةَ قَالَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا بَعَثَ أَمِيرًا عَلَى جَيْشٍ أَوْصَاهُ فِي خَاصَّةِ نَفْسِهِ بِتَقْوَى اللَّهِ وَمَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ خَيْرًا فَقَالَ اغْزُوا بِسْمِ اللَّهِ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ قَاتِلُوا مَنْ كَفَرَ اغْزُوا وَلَا تَغُلُّوا وَلَا تَغْدِرُوا وَلَا تُمَثِّلُوا وَلَا تَقْتُلُوا وَلِيدًا *
[ رواه الترمذي ]
وَكَرِهَ أَهْلُ الْعِلْمِ الْمُثْلَةَ .
فالنبي والمُسلمون لهم أخلاق رفيعة .
حينما انْصَرَفَ النبي من مَوْقِعة أُحد مرَّ على نِساءٍ من بني عبد الأشْهل يبْكينَ شُهَداءَهنّ ، فقال عليه الصلاة والسلام من فَرْط حنانه وحُبِّه : لكنَّ حمزة نام وما بُكِيَ له ، فَهِم أصْحابه أنه لا بد من أن تأتي النِّساء لِتَبْكي حَمْزة ، فلما سمع النبي البُكاء قال : ما إلى هذا قَصَدْتُ ، اِرْجِعْنَ يرْحَمْكُنَّ الله ، فلا بُكاء بعد اليَوْم ! كالنواح ، وضرب الوجه ، وتمْزيق الثياب ... أذكر أنني كُنتُ في جنازة فَخَرَجَتْ زوْجَةُ ذاك الشخْص المُتوفَّى إلى الطريق تُوَلْوِل حاسرة متكشفة ؛ هكذا بلا شيءٍ ، كل هذا من فِعْل الجاهِلِيَّة ، أمّا مَوْتُهُ ، واسْتِشْهادُه ... كُلُّ هذا قضاءٌ وقدَر ، والإنسانُ كلما ارْتقى إيمانه انضبطتْ أحْزانه ؛ يبْكي ويتألَّم ، فعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ دَخَلْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أَبِي سَيْفٍ الْقَيْنِ وَكَانَ ظِئْرًا لِإِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَام فَأَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِبْرَاهِيمَ فَقَبَّلَهُ وَشَمَّهُ ثُمَّ دَخَلْنَا عَلَيْهِ بَعْدَ ذَلِكَ وَإِبْرَاهِيمُ يَجُودُ بِنَفْسِهِ فَجَعَلَتْ عَيْنَا رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَذْرِفَانِ فَقَالَ لَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَأَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَقَالَ يَا ابْنَ عَوْفٍ إِنَّهَا رَحْمَةٌ ثُمَّ أَتْبَعَهَا بِأُخْرَى فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ الْعَيْنَ تَدْمَعُ وَالْقَلْبَ يَحْزَنُ وَلَا نَقُولُ إِلَّا مَا يَرْضَى رَبُّنَا وَإِنَّا بِفِرَاقِكَ يَا إِبْرَاهِيمُ لَمَحْزُونُونَ *
[رواه البخاري]
على هامِش هذه القِصّة عبرةٌ تَعْرِفونها جميعاً ؛ فالنبي عليه الصلاة والسلام حينما وقف على قَبْره قال هذه الكَلِمة : رَحْمَةُ الله عليك ، فإنَّك كُنتَ كما عَلِمْتُ - اُنظر أيها المؤمن إلى الأدب مع الله ، المؤمن لا يُزَكي على الله أحداً - وَصولاً للرحِم ، فَعولاً للخَيْرات .
مرَّةً حَضَرْتُ جنازَةً ، قام أحدُ العلماء يُؤبِّنُهُ - وهذا الأخ من أهل اليسار ، أيْ من أهل الغِنى وأحسبه صالحاً ، وقد تأثَّرْتُ لما قاله هذا العالم قال : إنَّ أخاكم أبا فلان كان مُؤذِّناً فَتَرَحَّموا عليه ؛ خمسةٌ وسِتونَ عاماً عاشَها هذا المتوفى ، ألم يسْتطِع هذا العالم أنْ يتكَلَّم عنه إلا بهذا ؟! فقُلْتُ : هذا دليل على أنَّ الإنسان مهما كان يمْلك ، ومهما قدَّم أثناء حياته ، فإذا وافَتْهُ المَنِيَّة لا يتكلَّمون عنه أكثر من خمس دقائق ، فهذه الدنيا فانِيَة ، وبُطولتنا فيها أنْ ندعَ عملاً صالِحاً نَرْقى به إلى الله .
والحمد لله رب العالمين(/)
الدرس 22\50 سيرة الصحابي : سيدنا سيرة الصحابي ربيعة بن كعب لفضيلة الأستاذ محمد راتب النابلسي.
التاريخ : الاثنين مساءً 08/03/1993
تفريغ : م المهندس عرفان نابلسي .
التدقيق اللغوي : الأستاذ غازي القدسي
التنقيح النهائي : المهندس غسان السراقبي .
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد الله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا وزدنا علما ، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
أيها الإخوة الكرام ؛ مع بداية الدرس الثاني والعشرين من دروس سيرة صحابة رسول الله رضوان الله تعالى عليهم أجمعين ، وصحابي اليوم سيدنا ربيعة بن كعب ، وكما تعلمون سابقاً أن كل موقف من مواقف الصحابة يعدّ لنا درساً بليغاً ، نهتدي به في حياتنا وعلاقاتنا ، فيمن حولنا ، ومع ربنا ، فقال ربيعة بن كعب : كنت فتىً حديث السن ، يعني صغير السن ، لما أشرقت نفسي بنور الإيمان ؛ وأنا بفضل الله تعالى أعلق أهمية كبرى على الإخوة الأكارم الشباب ، لأن هؤلاء لهم مستقبل كبير ، ومن لم تكن له بداية محرقة ، لم تكن له نهاية مشرقة ؛ وريح الجنة في الشباب وما من شيء أحب إلى الله من شاب تائب ، وإن الله يباهي الملائكة بالشاب التائب ، يقول: انظروا عبدي ترك شهوته من أجلي ؛ قال : كنت فتىً حديث السن لما أشرقت نفسي بالإيمان ، وامتلأ فؤادي بمعاني الإسلام ، ولما اكتحلت عيناي بمرأى رسول الله صلى الله عليه وسلم أول مرة أحببته حباً ملأ علي كل جارحة من جوارحي .
أيها الإخوة ؛ إسلام بلا حب جسد بلا روح ؛ لا إيمان لمن لا محبة له ؛ لا إيمان لمن لا أمانة له ، ولا دين لمن لا عهد له ؛ فالحب أحد أركان الإسلام ، ليس بالمعنى الاصطلاحي .
عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ وَلَدِهِ وَوَالِدِهِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ *
(متفق عليه)
وأولعت به ولعاً صرفني عن كل ما عداه ، فقلت في نفسي ذات يوم ؛ يعني ما قيمة الحب من غير عمل تقدمه ؛ ما قيمة الحب من غير ترجمة تترجم له ؛ ما قيمة الحب من دون شيء يؤكده ؛ لما كثر مُدَّعوا المحبة طولبوا بالدليل ، ادعاء المحبة سهل جداً ، وكل إنسان بإمكانه أن يدعي أنه يحب رسول الله ، أو يحب الله ولما كثرت هذه الدعوى طولب هؤلاء المُدَّعون بالدليل ، قال تعالى :
(سورة آل عمران )
فقلت في نفسي ذات يوم : ويحك يا ربيعة لِمَ لا تجرد نفسك لخدمة رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم ؟ اعرض نفسك عليه فإن رضي بك سعدت بقربه وفزت بحبه وحظيت بخَيْرَي الدنيا والآخرة .
والخدمة من أجل الأعمال التي يقدمها الإنسان تعبيراً عن حبه وإخلاصه لمن يحب ، وهي برهان صادق ؛ لأن المؤمن الموصول بالله سعيد ، وكل من خالطه يسعد بقربه ، ويسعد بصحبته، فكيف برسول الله ؟ كل واحد منا إذا التقى أخًا بالله مؤمنًا خالص الإيمان ، صادقاً في إيمانه ، له عمله الطيب ، يأنس بقربه ، ويسعد بصحبته ، ويسعد برفقته ، هذا مع مؤمن ، فكيف إذا التقيت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فكيف إذا كنت من أقرب الناس إليه ، إنه شيء مسعد جداً ، أن تكون مع رسول الله قريبًا منه .
ثم ما لبثت أن عرضت نفسي على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ورجوت أن يقبلني في خدمته فلم يخيب رجائي ، وصدق الفرزدق حين قال :
***
ما قال لا قطّ إلا في تشهده لولا التشهد كانت لاؤه نَعَمُ
***
إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يحب أن يرفض طلب إنسان إلا إذا كان غير معقول ، لذلك هذه أخلاق الله عز وجل ، وقد علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نتخلق بأخلاق الله.
عَنْ سَلْمَانَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ إِنَّ رَبَّكُمْ حَيِيٌّ كَرِيمٌ يَسْتَحْيِي مِنْ عَبْدِهِ أَنْ يَرْفَعَ إِلَيْهِ يَدَيْهِ فَيَرُدَّهُمَا صِفْرًا أَوْ قَالَ خَائِبَتَيْنِ *
(رواه الترمذي وأبو داود وابن ماجه)
فلم يخيب رجائي ، ورضي بي أن أكون خادماً له ، فصرت منذ ذلك اليوم ألزمَ للنبي الكريم من ظله ؛ صار خادمًا ، وكلمة خادم للعظماء وسامُ شرف ؛ أما لغير العظماء فهي وصمة عار ؛ أن تكون خادماً لنبي أو لولي فهذا وسام شرف ؛ أما أن تكون خادماً لأهل الدنيا فهذه وصمة عار ، ومَلِك يسمِّي نفسه خادم الحرمين ؛ هذا شرف ، أما إذا خدمت غنياً ابتغاء ماله كما قال عليه الصلاة والسلام : من دخل إلى غني فتضعضع له ذهب ثلثا دينه *
(رواه البيهقي عن ابن مسعود)
فصرتُ من ذلك اليوم ألزم للنبي الكريم من ظله ، أسير معه أينما سار ، وأدور في فلكه كيفما دار ؛ فما رام بطَرْفه مرةً نحوي إلا مثلت واقفاً بين يديه ؛ كان ذكيًّا لا حاجة أن ينادي له ؛ من نظرة يفهم ؛ الفطِنُ يفهم بالإشارة ؛ وما تَشَوَّف لحاجة من حاجاته إلا وجدني مسرعاً في قضائها .
الحُبُّ إذا نما بين شخصين فهِمَ المحب عندئذٍ على المحبوب خواطرَه قبل أن ينطق بها ؛ قال: ما تَشَوَّف النبي عليه الصلاة والسلام لحاجة من حاجاته إلا وجدني مسرعاً في قضائها ؛ وكنت أخدمه نهاره كله ، هنيئاً له ، فإذا انقضى النهار وصلى العشاء الآخرة ، وأوى إلى بيته ، أهم بالانصراف ، لكني ما ألبث أن أقول في نفسي : إلى أين تمضي يا ربيعة ؟ هل لك مكان أجمل من هذا المكان ؟ أو موقف أشرف من هذا الموقف ؟ إلى أين تمضي ؟ فلعلها تعرض للنبي عليه الصلاة والسلام حاجة في الليل فأجلس على بابه ، ولا أتحول عن عتبة بيته .
إذا أحب الإنسانُ رسولَ الله سعِدَ في الدنيا والآخرة ، لأن النبي شفّاف ، إن أحببته فحبك له عين حب الله ، فليس بينهما انفصال ، قال تعالى :
(سورة التوبة )
حُبُّ رسول الله صلى الله عليه وسلم عينُ حب الله ، وحبُّ الله عزوجل عينُ حبِّ رسول الله، لو أن إنسانًا قال لك : أنا أحب الله فقط ، نقول له : أنت كذاب ، لأنّ مَن أحبَّ الله أحبَّ رسولَ الله ، ولأن النبي عليه الصلاة والسلام ليس له ذات يدعو إليها ، إنما يدعو إلى الله ، وهو يمثل الكمال البشري ، ومن هذا المعنى لو أن إنسانًا لم يطبق سنة النبي ، ثم اصطلح مع الله ؛ فإنّ الله لا يقبله إلا إذا اصطلح مع النبي صلى الله عليه وسلم ، والدليل قوله تعالى :
(سورة النساء )
إنّ الله لا يقبلك إلا من باب النبي عليه الصلاة والسلام ، فهو بابُه الأوحد .
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ إِذَا سَمِعْتُمُ الْمُؤَذِّنَ فَقُولُوا مِثْلَ مَا يَقُولُ ثُمَّ صَلُّوا عَلَيَّ فَإِنَّهُ مَنْ صَلَّى عَلَيَّ صَلَاةً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ بِهَا عَشْرًا ثُمَّ سَلُوا اللَّهَ لِي الْوَسِيلَةَ فَإِنَّهَا مَنْزِلَةٌ فِي الْجَنَّةِ لَا تَنْبَغِي إِلَّا لِعَبْدٍ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ وَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَنَا هُوَ فَمَنْ سَأَلَ لِي الْوَسِيلَةَ حَلَّتْ لَهُ الشَّفَاعَةُ *
(متفق عليه)
وكل امرئ أتاك من غير هذا الباب فلن يدخل ، لذلك كل من يدعي أنه يحب الله وحده دون أن يحب النبي كحب الله عزوجل فهذه دعوى كاذبة .
قال : إلى أين تمضي يا ربيعة ؟ لعلها تعرض لرسول الله صلى الله عليه وسلم حاجة في الليل ، فأجلس على بابه ، ولا أتحول عن عتبة بيته أبداً ، وقد كان ؛ انتبهوا الآن ؛ سيدنا ربيعة يجلس على عتبة باب النبي ، فربما اضطجع على عتبة الباب ، والأذن تسمع ماذا يفعل النبي في الليل ، وقد كان عليه الصلاة والسلام يقطّع ليله قائماً يصلي ، فربما سمعته يقرأ بفاتحة الكتاب فما يزال يكررها هزيعاً من الليل ؛ فالإنسان أحيانًا يطرب لآية يعيدها ، يعيدها ولا يمل من سماعها، وقد ورد في بعض قصص الصحابة والتابعين أنهم كانوا إذا صلوا قيام الليل ووقفوا عند آية وترنموا بها أعادوها طوال الليل ، فهذه إشارة إلى أن النبي عليه الصلاة والسلام كان يقرأ بفاتحة الكتاب ، وما يزال يكررها هزيعاً من الليل حتى أمل فأتركه ، أو تغلبني عيناي فأنام ؛ قال تعالى:
(سورة المزمل : آية 20)
وربما سمعته يقول : سمع الله لمن حمده ، ثم يحمده ، فما يزال يرددها أطول من ترديد فاتحة الكتاب .
وذات مرة رابعة العدوية ناجت ربها في الليل وقالت : يا رب أغلقت الملوكُ أبوابَها ، وخلا كلُّ حبيب بحبيبه ، ثم توجهتْ إلى الله في صلاتها ؛ فإذا انعقدت صلة المسلم بالله عزوجل في جزء من الليل فهو في سعادة ما بعدها سعادة ؛ أحد كبار العلماء ترك مؤلفات كثيرة ، رآه تلميذ له في المنام ، قال : يا سيدي ما فعل الله بك ؟ قال : يا بني طاحت تلك العبارات ، وذهبت تلك الإشارات ، ولم يبق إلا ركيعات ركعناها في جوف الليل ، كل مسلم يقدر أن يصلي قيام الليل قبل الفجر إذا هيَّأَ المنبه ليوقظه قبل الفجر بنصف ساعة ، وبإمكانه أن يصلي أربع ركعات مثلاً.
وقد كان من عادة رسول الله عليه الصلاة والسلام أنه ما صنع أحد له معروفاً إلا أحبَّ أن يجازيه عليه بما هو أجلُّ منه ؛ وسقتُ هذه القصة كلها ، وأردت منها هذه الفقرة لأبيِّن لكم أخلاق النبي ؛ وليس في الأمر ضريبة الخدمات التي تقدم للنبي ، فيعدها النبي ديًان عليه ، دققوا في هذه الناحية ؛ النبي وما أدراكم ما النبي ؟ سيد الخلق ، حبيب الحق ، سيد ولد آدم ؛ المعصوم الذي يوحى إليه ، قمة البشر إذا قدمت له خدمةً ، هل يراها فرضاً عليك ؟ هل يراها ضريبة يجب أن تؤديها ؟ هل يقول لك : لي عليك فضل كبير ؟ وأين جزاء الفضل ؟ لا ، لكنْ إذا قدمت له خدمةً يراها دينًا عليه .
يا أيها الأخوة الأكارم ؛ أرجو الله سبحانه وتعالى أن يوفقني لتوضيح هذه الحقيقة ؛ لن يرضى الله عنك إلا إن قُدِّمتْ لك خدمة يجب أن تراها دينً عليك ، ويجب ألاَّ تنساها حتى الموت، وإن قدمتَ خدمة لأحدٍ فينبغي أن ترى أن تقديم هذه الخدمة من فضل الله عليك ، ويجب أن تنساها لتوِّك ؛ إذا قُدِّمتْ لك خدمةٌ ينبغي ألا تنساها ، وإن قدَّمتَ خدمًة ينبغي أن تنساها ؛ إن قُدِّمتْ لك خدمة يجب أن تراها دينًا ، وإن قدمتَ خدمة ينبغي أن تراها فضلاً من الله ساقها إليك ؛لأنه سمح لك أن تفعل هذا ؛ فهل هناك من دليل يؤكد هذه الحقيقة ؟ الدليل هو : عندما سيدنا موسى سقى للمرأتين تولى إلى الظل ، قال تعالى :
(سورة القصص)
فإذا تكلم أحدكم عن الله عزوجل ، وأجاد ، فينبغي أن يذوب شكراً لله أن أطلق لسانه ، وسمح له أن يكون داعية إلى الله عزوجل ؛ فإذا وفقت إلى عمل صالح لا ينبغي أن تُدلَّ به على أحد ، بل ينبغي أن تشكر الله عزوجل أن سمح لك بفعله ؛ و قيض لك مالاً تنفقه ؛ و صحةً تبذلها.
قال ربيعة : وقد أحبَّ النبي أن يجازيني على خدمتي له ، فأقبل عليَّ ذات يوم ، وقال : يا ربيعة بن كعب ، قلت : لبيك يا رسول الله ، وسعديك ، وبالمناسبة فإنّ النبي الكريم مرةً طرق باب أحد أصحابه فما ردَّ عليه ، ثم قال : يا فلان ، فما أجابه أحد ، وفي المرة الثانية لم يردَّ عليه أحد ، وكذا في الثالثة ، فانطلق ؛ ثم فُتِح الباب بعد أن انطلق ، ولحقه الصحابي الجليل ليستقبله ؛ فقال له : لمَ لمْ تردَّ عليَّ ؟ فقال : والله يا رسول الله كنت حينما أسمع صوتك يناديني أشعر برحمة تتغّشى قلبي ، فأردت أن أسمعها مرة ثانية وثالثة ، إنه شيء يذيب القلب ، نبي كريم ، سيد الخلق يقول لك : يا فلان ويناديك باسمك ، فهذه سعادة .
قلت لبيك يا رسول الله ، وسعديك ؛ قال : سلني شيئًا أعطِه لك ؛ أنت خدمتنا ؛ اطلب مني حاجة ؛ تروّيتُ قليلاً ، ثم قلت : أمهلني يا رسول الله لأنظر فيما أطلبه منك ، ثم أعلمك ؛ كان ذكيًّا جداً ، فأَحبَّ أن يستغل هذا الطلب إلى أبعد الحدود ، وأحب أن يفكر ، والأذكياء دائماً ، والناجحون في حياتهم لا يتخذون قراراً سريعاً ؛ هل تقبلون هذه النصيحة ؛ إنْ أغضبك أحدٌ فلا تتخذ أي قرار وأنت غاضب ، قل : سأتخذ قراري بعد أسبوع ، فتجد نفسك بعد أسبوع إنسانًا هادئًا ، ونفسك سمحت وعفت ؛ فأي قرار تتخذه وأنت غاضب فهو قرار فيه خطأ ، أو فيه تسرع، أو فيه حمق ، أو فيه عدم نضج ، وأي طلبٍ طُلِبَ منك فخذ مهلة بالمقابل ؛ وإذا أردت إنفاذ أمر فتدبَّرْ عاقبته ، وكلما زدتَ الأمرَ فكراً زدت رؤية صحيحةً ، وأصحُّ قرارٍ تتخذه هو القرار الذي تتخذه وأنت هادئ النفس ، وقد جمعت المعلومات الضرورية حوله .
قال : يا رسول الله أمهلني لأنظر فيما أطلبه منك ، ثم أعلمك ، فقال عليه الصلاة والسلام : لا بأس عليك ؛ وكنت يومئذ شاباً فقيراً لا أهل لي ولا مال ولا سكن ؛ وإنما كنت آوي إلى صفة المسجد ، فإذا أكرمَ الله أحدَنا بزيارة الروضة الشريفة فلينظرْ خلف الروضة ، كيف ، ترى في المسجد الأموي منصة مرتفعة ، وفي أثناء الاحتفالات يجلس عليها كبار الضيوف ، ففي الحرم النبوي الشريف منصة مرتفعة ، وهذا المكان كان مكان أهل الصُّفة ، وهم فقراء المسلمين ، هناك يجلسون وهناك ينامون .
وإنما كنت آوي إلى صفة المسجد مع أمثالي من فقراء المسلمين ، وكان الناس يدعوننا بضيوف الإسلام ؛ فإذا أتى أحد المسلمين بصدقة إلى النبي صلى الله عليه وسلم بعث بها كلها إلينا ؛ ولي تعليق لطيف ؛ فبعض الأشخاص يظنون أن صلة الرحم أن تكتفي بزيارة أقاربك ؛ الأقارب الفقراء ليس معنى صلتهم أن تزورهم ، معنى صلتهم أن تهديهم ، وتقدم لهم هديةً ؛ أن تدخل عليهم ويدُك ملأى ببعض الحاجات ، هذه هي الصلة ، أما السلام عليكم ، وكيف الصحة ، والسلام عليكم ؛ خير إن شاء الله ، ماذا فعلت ؟ فكان المسلمون يأتون بالصدقات إلى النبي عليه الصلاة والسلام ، وكان عليه الصلاة والسلام يدفعها كلها إلى صُفّة المجلس ؛ وكان النبي بأعلى درجات الورع ، ولقد قرأت مرةً أن الوحي انقطع عنه قليلاً ، فحار في هذا الانقطاع فقال للسيدة عائشة : لعلها يا عائشة تمرة أكلتها من تمر الصدقة .
لأنّ النبي عليه الصلاة والسلام لا يأكل الصدقة أبداً ؛ أما الهدية فيأكل منها ، ويهدي بعضها؛ فإذا أتى أحد المسلمين بصدقة إلى النبي صلى الله عليه وسلم بعث بها كلها لأهل الصّفة ، وإذا أهدى له أحد هدية أخذ منها شيئاً ، وجعل باقيها لنا ؛ أخذ حاجته ، والباقي أعطاه لفقراء المسلمين ، فحدثتني نفسي أن أطلب من النبي عليه الصلاة والسلام من خير الدنيا ؛ يزوجني ، وأطلب بيتًا ، وأغتني به من فقر ، وأغدو كالآخرين ذا مال وزوج وولد ؛ لكني ما لبثت أن قلت: تباً لك يا ربيعة بن كعب ، إنّ الدنيا زائلة فانية ، وإنّ لك فيها رزقاً كفله الله عزوجل ، فلا بد أن يأتيك ، والنبي عليه الصلاة والسلام له منزلة عند ربه ، فلا يرد معها طلب ، فاطلب منه أن يسأل الله لك من فضل الآخرة ؛ انظروا العقل الراجح ؛ الدنيا لا قيمة لها ؛ فطابت نفسي بذلك ، واستراحت له ؛ ثم جئت النبي عليه الصلاة والسلام ، فقال لي : ما تقول يا ربيعة ؟ قلت يا رسول الله : أسألك أن تدعو لي الله سبحانه وتعالى أن يجعلني رفيقاً لك في الجنة ، فقال عليه الصلاة والسلام : من أوصاك بذلك ؟ قلت : لا ، والله ما أوصاني به أحد ، ولكنك حينما قلت لي: سلني أعطك ، حدثتني نفسي أن أسألك شيئاً من خير الدنيا ، ثم ما لبثت أن هديت إلى إيثار الباقية على الفانية ، فسألتك أن تدعو الله لي أن أكون رفيقك في الجنة ؛ فصمتَ النبيُّ عليه الصلاة والسلام طويلاً ، ثم قال : أَوَ غيرَ ذلك يا ربيعة ؟ أحيانا يقدم لك شخصٌ خدمة كبيرة جداً ، تقول له : ماذا تطلب ؟ فيقول لك : ادعُ لنا ؛ فتقول : وفّقك الله ، لا تقل له ذلك ، فالدعاء وارد ، ونريد شيئًا آخر ، لا تقبل بخدمة ثمينة إلاّ غاية ثمينة ، أمّا دعاؤك فلعله وارد منه بصورة عفوية.
عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : مَنِ اسْتَعَاذَ بِاللَّهِ فَأَعِيذُوهُ وَمَنْ سَأَلَكُمْ بِاللَّهِ فَأَعْطُوهُ وَمَنِ اسْتَجَارَ بِاللَّهِ فَأَجِيرُوهُ وَمَنْ آتَى إِلَيْكُمْ مَعْرُوفًا فَكَافِئُوهُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَادْعُوا لَهُ حَتَّى تَعْلَمُوا أَنْ قَدْ كَافَأْتُمُوهُ *
(أخرجه النسائي)
علَّمنا النبيُّ أن نقدِّم مقابلَ كل خدمةٍ خدمةً ؛ ومقابل كل هديةٍ هديةً ، وكل معروف معروفاً ، لئلا نمنع الماعون ، هؤلاء الذين لا يردون على الهدية بمثلها يمنعون الماعون ، ولنَعُدْ إلى ربيعة، قلت : لا يا رسول الله ، فما أعدل بما سألتك شيئاً ؛ ما أريد إلا الذي سألتك .
وهناك كلمة في محور هذا الدرس ، فبماذا أجاب النبي ؟ عَنْ رَبِيعَةَ بْنِ كَعْبٍ الْأَسْلَمِيِّ قَالَ كُنْتُ أَبِيتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَتَيْتُهُ بِوَضُوئِهِ وَحَاجَتِهِ فَقَالَ لِي سَلْ فَقُلْتُ أَسْأَلُكَ مُرَافَقَتَكَ فِي الْجَنَّةِ قَالَ أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ قُلْتُ هُوَ ذَاكَ قَالَ فَأَعِنِّي عَلَى نَفْسِكَ بِكَثْرَةِ السُّجُودِ *
(رواه مسلم)
طلبتَ شيئاً عظيماً ؛ وقد كنتُ أوضِّحُ هذا بمثل : ملِك له ابن ، قال له : اطلب يا بني ؛ فإذا قال له : أريد قصرًا ، فالقصر شيء سهل ؛ أو طائرة خاصة ؛ أو يختًا ؛ وزيادة ، مزرعة ؛ مركبة أحدث موديل ؛ فقال له ذات مرة : أرغب أن أكون أستاذ جامعة ؛ قال له : هذه عليك ، وليست عليّ ؛ فكل شيء ممكن إلا هذه ؛ إذا أردت هذا المنصب العلمي فادرس إذاً ؛ الفكرة دقيقة؛ لو طلبت شيئاً مادياً فقضية سهلة جداً ؛ ملِكٌ كل شيء بيده ؛ لكنه طلب منصبًا علميًّا .
فهذا الصحابي طلب أن يكون مع رسول الله في الجنة ؛ وهذا مقام يحتاج إلى جهد كبير ؛ قال له : إذاً إن كنت على هذا مصراً " فَأَعِنِّي عَلَى نَفْسِكَ بِكَثْرَةِ السُّجُودِ" .
فَكِّرْ في الكون كثيراً ، عمِّق إيمانك ، تعرَّف إلى الله عز وجل ، استقِمْ على أمره ، ابذلْ من مالك ، ومن وقتك ، ارتقِ في معرفة الله حتى تستحق هذا المقام ، قال الملِك : يا بني هذه ليست عليَّ ، ولكنها عليك .
أن تكون ذا منصب علمي فهذه لك ، قال له : فَأَعِنِّي عَلَى نَفْسِكَ بِكَثْرَةِ السُّجُودِ ؛ قال ربيعةُ: فجعلت أدأب بالعبادة حتى أحظى بمرافقة رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجنة ؛ كما حظيت بخدمته وصحبته في الدنيا ؛ إنه طمِعٌ ؛
(سورة المطففين)
(سورة الصافات)
ثم إنه لم يمض على ذلك وقت طويل حتى ناداني رسول الله عليه وسلم إذْ لم يقبل مقابل خدمة مادية إلا أن يكافئه عليها بخدمة مادية ؛ جيد ؛ استنباط آخر ؛ غِناه في قلبه ؛ من آثر آخرته على دنياه ربحهما معاً ؛ قال له النبي عليه الصلاة والسلام : يا ربيعة ، ألا تتزوج ؟ قلت: لا أحب أن يشغلني شيء عن خدمتك يا رسول الله ؛ وفي حديث يَعْلَى الْعَامِرِيِّ أَنَّهُ قَالَ جَاءَ الْحَسَنُ وَالْحُسَيْنُ يَسْعَيَانِ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَضَمَّهُمَا إِلَيْهِ وَقَالَ إِنَّ الْوَلَدَ مَبْخَلَةٌ مَجْبَنَةٌ *
(رواه ابن ماجه)
ثم إنه ليس لي ما أمهر به الزوجة ؛ بالتعبير العامي ـ منتوف ـ ولا ما أقيم حياتها به ، فسكت عليه الصلاة والسلام ؛ ثم رآني ثانية ، فقال : يا ربيعة ألا تتزوج ، فأجبته بمثل ما قلت له في المرة السابقة ، لكني ما إن خلوت إلى نفسي حتى ندمت على ما كان مني ، وقلت : ويحك يا ربيعة ؛ هذا حوار داخلي ، ومن أروع القصص الحوارُ الداخلي ؛ فو اللهِ إنّ النبي لأعلمُ منك يا ربيعة بما هو أصلح لك في دينك ودنياك ، وأَعْرَفُ منك بما عندك ، واللهِ لأن دعاني النبيُّ صلى الله عليه وسلم بعد هذه المرة للزواج لأجيبنَّهُ ؛ ثم لم يمض على ذلك طويل وقت حتى قال لي النبي صلى الله عليه وسلم : يا ربيعة ، ألا تتزوج ، للمرة الثالثة ؛ انظر إلى حرص النبي على أصحابه ، وعلى استقرارهم ؛ على سعادتهم ؛ على طمأنينتهم ؛ هو أب وأرقى من أب ؛ أرحم الخلق بالخلق .
قلت : بلى يا رسول الله ، أريد أن أتزوج ، ولكن من يزوجني وأنا كما تعلم ؟ فقال : انطلق إلى آل فلان ، وقل لهم : إن رسول الله يأمركم أن تزوجوني فتاتكم فلانة ؛ أمر ؛ فأتيتهم على استحياء ؛ فهل من المعقول أن يزوِّجوني وأنا لا أملك شيئًا ؟ وقلت لهم : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أرسلني إليكم لتزوجوني فتاتكم فلانة ؛ قالوا : فلانة !! ويبدو أنها على مستوى رفيع جداً ، قلت : نعم ؛ على استحياء ، ولم يرتفع صوته ؛ قالوا : مرحباً برسول الله ، ومرحباً برسول رسول الله ؛ والله لا يرجع رسولُ رسولِ الله إلا بحاجته ؛ وعقدوا لي عليها ، فأتيت النبيَّ صلى الله عليه وسلم ، قلت له : يا رسول الله ، لقد جئت من عند خير بيت ، وزوجوني ؛ من دون تعقيدات ؛ سنتين خطبة ، تخرج روح الأهل ، وكل خميس عندهم ؛ القضية أبسط من ذلك ؛ والألبسة ثمنها سبع وثلاثون ألفًا ، وتُلبس ليلة واحدة ثم تُلقى ؛ ستون ألفًا ألبسة ، تكون نحيفة أول الأمر ، ثم تبدَّنتْ فأتلفتْ الملابس ، فهل هذا الكلام صحيح ؟ نعم ، أعجبني مرة في عقد قران حيث ما قدمت قطعة ذهبية أو غيرها إطلاقاً ، وقام خطيب الحفل ، وقال : مجموع هذه الهدايا زوَّجْنا بها شاباً فقيراً ؛ أما مجموع هذه الهدايا فقد زَّوجنا بها شابًا ؛ أخ كريم من إخوانا ذهب إلى أمريكا لإجراء عملية في قلبه ، وصدفةً كان الطبيب من هذه البلدة ، فلما رآه أخًا له من بلدته أكرمه إكراماً ما بعده إكرام ، وأجرى له عملية بالغة التعقيد ، والعجيب أنه رفض أن يأخذ قرشاً واحداً ؛ هذا الذي ذهب رجل ميسور الحال ، قال له : أنا ميسور الحال ، ولا أقبل بهذا ، فقال الطبيب : هذه العملية هدية لك ، ثم عاد إلى الشام ، والمبلغ الذي كان مقرَّرًا أن يدفعه لهذا الطبيب الذي أجرى عمليته رصده لعملية قلب لفقير ، وأرسل للطبيب في أمريكا صورة لهذا الفقير الذي أجريتْ له العملية ، وأن هذا الأجر الذي لم تأخذه أنت خصَّصتُه أنا لإنقاذ رجل أصيب قلبه ، وهو فقير ، ولا يملك أجر علاجه ، وهذا شيء جميل حقًّا .
يا رسول الله لقد جئت من عند خير بيت ، صدَّقوني ، ورحَّبوا بي ، وعقدوا لي على ابنتهم.
قال العلماء : سعيد بن المسيب من كبار التابعين ، خطب ابنتَه عبدُ الملك بن مروان لابنه الوليد بن عبد الملك الذي أنشأ مسجد بني أمية ، فرفض سعيد الخطيب ، وعنده تلميذٌ فقيراً جداً ، غاب درسين ، فلما تفقده أخبره قائلاً : زوجتي توفيت يا سيدي ، فقال له : لمَ لمْ تعلمنا فنعزيك ؛ أفتريد زوجة ؟ قال له : نعم ، ولكني فقير ، فقال سعيد : أزوَّجك ابنتي ، فهذا التلميذ الفقير لا يملك من حطام الدنيا شيئاً ؛ طبعاً وافق ، ولكن دخل في همٍّ كبير ، ولكن في الليلة نفسها قرع الباب ، فقلت : من الطارق ؟ قال : سعيد ، فقال : خطر في بالي أربعون سعيداً إلا سعيد بن المسيب ، لأنه من أربعين عاماً ما خرج عن خط واحد ؛ من البيت إلى مجلس القضاء ؛ فلما فتحت الباب رأيت شيخي سعيد بن المسيب ، ووراءه ابنته ، فدفعها إليَّ ؛ في يوم واحد تمَّ العقد ثم الزواج ، وكلما عقَّدْنا الزواج في زماننا يكثر السفاح ؛ وكلما سهَّلنا الزواج قلَّ السفاح ؛ النكاح يرضي الله ، والسفاح يغضبه ؛ ليس الآن مِن عمل عظيم كأن تسهِّل إجراءات الزواج ، غرفة تكفي مبدئياً ؛ ولا داعي للحلي الثمينة ، فقد سمعت بقريةٍ في الريف ، واللهِ أنا أكبرتُ عملهم ؛ اجتمع وجهاؤها ، وقرروا أنَّ أيَّ شاب يخطب امرأة يقدم خاتم سحب ، وساعة فقط ، هذا هو المصاغ الذي يقدم فقط ، وهذا تسهيل كامل .
وأعظم النساء بركةً أقلهن مؤونةً ؛ وأعظم النساء بركة أقلهن مهراً ؛ سبحان الله ! إنّ عقود القِران التي يبالغ بالبذخ فيها لا يسعد بعدها الزوجان في أغلب الأحيان ، والعقود المتواضعة ترى بعدها الزواج قطعة من الجنة ؛ قال ربيعة : صدَّقوني ، ورحَّبوا بي ، وعقدوا لي على ابنتهم ، فمِن أين آتيهم بالمهر يا رسول الله ؟ فاستدعى النبي بريدة بن الحصيب ، وكان سيداً من سادات بني أسلم ، وقال له : يا بريدة اجمع لربيعة وزن نواة ذهباً ، فجمعوها لي ؛ فقال لي عليه الصلاة والسلام : اذهب بهذا إليهم ، وقل لهم : هذا صداق ابنتكم ؛ وهكذا التعاون ، فإذا كانت مجموعة المؤمنين في ولاء وفي محبة أمكن ذلك ؛ هذا ابن أخيك ، وأنت ميسور ، ادفع له المهر لزواجه ، وهكذا مجتمع المؤمنين ، قال تعالى :
(سورة المادة ، الآية 2)
فأتيتهم ودفعته لهم ، فقبلوه ، ورضوا به ، وقالوا : كثير طيب ؛ لكنّك هذه الأيام تقدِّم أسورة يفصلونها في السوق ماذا تساوي ؟ عيب ؛ اقبلها ، فهي هدية ؛ هذه العادة سيِّئة ؛ أنّ كل شيء قدِّم لك تسأل عن سعره ، فأنت إنسان مادي ، فمن جاءك ورضيت دينه وخلقه ففيه الخير فارض به .
فقالوا كثير طيب ، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم ، وقلت : ما رأيت قوماً قط أكرم منهم ، فلقد رضوا ما أعطيتهم على قلته ، وقالوا : كثير طيب ، فمن أين ما أولم به ؟ والوليمة من السنة؛ فقال النبي صلى الله عليه وسلم لبريدة : اجمعوا لربيعة ثمن كبش ؛ فابتاعوا لي كبشاً عظيماً سميناً ؛ فقال لي النبي صلى الله عليه وسلم اذهب إلى عائشة ، وقل لها أن تدفع لك ما عندها من الشعير ؛ فأتيتها فقالت : إليك المكتل ، ففيه سبعة آصع ؛ لا ، والله ما عندنا طعام غيره ؛ فمن عند رسول الله الشعير ، ومِن بريدة الكبش والمهر .
فانطلقتُ بالكبش والشعير إلى أهل زوجتي ، فقالوا : أما الشعير فنحن نعدُّه ، وأما الكبش فأْمُرْ أصحابك أن يعدُّوه لك ، فأخذتُ الكبشَ أنا وأناسٌ من أسلم وذبحناه ، وسلخناه ، وطبخناه ، فأصبح عندنا خبز ولحم ، فأولمت ، ودعوت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأجاب دعوتي ؛ وذات مرة دُعِينا إلى عقد قران ، فأحضروا لنا ـ زبدية من بسكوت ـ فأولمت ودعوت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأجاب دعوتي ، ثم عليه الصلاة والسلام منحني أرضاً إلى جانب أرض أبي بكر ، فدخلتْ عليَّ الدنيا ؛ أرض وزوجة ووليمة ومهر.
حتى إني ذات مرةٍ اختلفت مع أبي بكر رضي الله عنه على نخلة ، فقلت : هي في أرضي ، فقال : بل هي في أرضي ؛ فنازعته ، فأسمعني كلمة ، فلما بدرت منه الكلمة ندم ، وقال : يا ربيعة رُدَّ عليَّ بمثلها ، حتى يكون قصاصاً ، فقلت : لا والله ، لا أفعل ، فقال : إذاً آتي رسول الله ، وأشكو له امتناعك عن القصاص مني ، وانطلق إلى النبي فمضيتُ في إثره ، فتبعني قومي بنو أسلم ، وقالوا : هو الذي بدأ بك ، ثم يسبقك إلى رسول الله فيشكوك ؛ فالتفتُّ إليهم ، وقلت لهم: ويحكم أتدرون من هذا ؛ هذا الصديق ، وذو شيبة المسلمين ، ارجعوا قبل أن يلتفت فيراكم ، فيظن إنما جئتم لتعينوني عليه ، فيأتي رسولَ الله فيغضب النبيُّ لغضبه ، ويغضب اللهُ لغضبهما فيهلك ربيعة ؛ يعرفون مقام بعضهم ؛ إذا التفتَ ورآكم معي يظن أنكم معي كي تعينونني عليه ، فيغضب أبو بكر ، ويغضب النبيُّ لغضبه ، ويغضب الله لغضبهما .
ثم أتى الصديقُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم وحدثه الحديث كما كان ، فرفع النبي رأسه إلي وقال : يا ربيعة مالَك وللصديق ؟ فقلت له : يا رسول الله أراد مني أن أقول له كما قال لي ، فلم أفعل ؛ فقال : نعم ، لا تقل له كما قال لك .
لا يعرف الفضل لأهل الفضل إلا أهل الفضل ، و لكن قل : غفر الله لأبي بكر ؛ فقلت : غفر الله لك يا أبا بكر ، فمضى وعيناه تفيضان من الدمع وهو يقول : جزاك الله عني خيراً يا ربيعة بن كعب ؛ جزاك الله عني خيراً يا ربيعة بن كعب .
شخص له سابقة في الإسلام ، وله مقام ، ولو فرضنا أنه حاد الطبع ، فاغفرها له أولاً ، وأين أنت منه ؟ والولي غالٍ على الله فإذا نهش إنسان لحم الأولياء فلحمهم مسموم ؛ وهذه ورطة كبيرة ، أن تنصِّب نفسك خصماً لولي من أولياء الله ؛ بالعكس أعِنْهُ ، وفي الأثر : اتخذ لأخيك عذراً ولو سبعين مرة .
هذا سيدنا ربيعة بن كعب ، صحابي جليل من أصحاب رسول الله ، كان فقيراً ، وقد أكدتْ هذه القصةُ أشياءَ كثيرة ، يمكن أن نلخصها بسرعة .
أولُ حقيقة ـ إذا قُدِّمتْ لك خدمة فينبغي أن تراها قرضاً أو دينًا ، ينبغي ألاَّ تنساها ؛ وإذا قدَّمتَ خدمة فهي من فضل الله عليك ، وينبغي أن تنساها .
ثاني حقيقة ـ إذا لم يتمكن الإنسانُ أن ينفق من ماله ولا من قوته يمكنه أن يقدم خدمات ، أعرف شخصًا يحب أن يخدم المسجد ، وينظِّف سجاده ، واللهِ هذا عمل عظيم ، وإذا أعان إخوانه فهذا عمل جليل ؛ ومن آثر آخرته على دنياه ربحهما معاً .
ثالث حقيقة ـ هذا الخيرُ لا يأتيك إلا بجهدك ، قال تعالى :
(سورة النجم )
أخيرًا التأدب مع الأولياء الأدب كاملاً ؛ فهذه هي القصة ، واللهُ أعلم أنها صحيحة ، فموقف سيدنا ربيعة كامل .
أرجو الله سبحانه وتعالى أن نستفيد من هذه القصص وأن تنعكس على حياتنا سلوكاً وسعادةً لأن هذه المعلومات لا قيمة لها كمعلومات إلا أن تترجم إلى وقائع .
والحمد لله رب العالمين(/)
الدرس 37/50 ، سيرة الصحابية : رملة بنت أبي سفيان ، لفضيلة الأستاذ محمد راتب النابلسي .
تفريغ : المهندس عبد العزيز كنج عثمان .
التدقيق اللغوي : الأستاذ غازي القدسي .
التنقيح النهائي : المهندس غسان السراقبي .
بسم الله الرحمن الرحيم
بسم الله الرحمن الرحيم ، الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علَّمنا ما ينفعنا ، وانفعنا بما علمتنا ، وزدنا علما، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، و اجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .
أيها الإخوة المؤمنون ... مع الدرس السابع والثلاثين من دروس سيَر صحابة رسول الله رضوان الله تعالى عليهم أجمعين ، وصحابيّة اليوم السيدة رملة بنت أبي سفيان .
أبو سفيان زعيم قريش ، ناصَبَ النبيَّ صلى الله عليه وسلم العداءَ عشرين عاماً ، وابنته بضعةٌ منه ، مِن صُلبه ، آمنتْ برسول الله صلى الله عليه وسلم ، ودخلت في الإسلام ، ودخل معها زوجها ، وآمنت بالله ورسوله ، وهاجرت هي وزوجها إلى الحبشة ، وكان إسلامها طعنةً في قلب أبي سفيان ، ماذا يقول لوجوه قريش ، وقد خرجت ابنته عن سلطانه ، وعن دينه ، ودين آبائه ، إنها حكمٌ بالغةٌ تجري في الحياة البشرية ، قال تعالى :
( سورة الروم )
لو أن القضية قضية بيئة ، أو قضية وراثة ، أو قضية محيط ، أو قضية ظروف وتفاعلات ، ما كان ينبغي أن تخرج رملة بنت أبي سفيان عن دين أبيها ، و أبوها زعيم قريش ، ومن أغنى أغنياء قريش ، ومن سادات قريش، في بيت العز ، وبيت المال ، وبيت الغنى .
لكن يجب أن تعلموا دائماً أيها الإخوة ، أن الإنسان مخيَّر ، وأن الإنسان إذا اختار شيئاً يلغي كل العوامل الخارجية ، ولأنه أكبر من كل الظروف المحيطة به ، إن القرار الذي يتخذه الإنسان في شأن مصيره ، قلما تنقضه الأيام ، إن كان صادراً حقاً عن إرادةٍ وإيمان .
سيدنا إبراهيم في أية بيئة نشأ ؟ دعاة البيئة ، دعاة المحيط ، دعاة المورثات ، دعاة المؤثِّرات ، دعاة المعطيات ، هؤلاء الذين يؤَلِّهون هذه العوامل ، نردُّ عليهم فنقول : سيدنا إبراهيم في أية بيئة نشأ ؟ في بيئة تعبد الأصنام .
سيدنا النبي عليه الصلاة والسلام في أية بيئة نشأ ؟ بلغت الجاهلية في مكة درجةً عاليةً جداً من الخطورة ، الربا ، الفواحش ، الزنا ، الخمور ، القهر ، الاستبداد ، الطبقية ، جاهلية ، جاهلية أولى .
فرملة بنت أبي سفيان إسلامها أيةٌ من آيات الله ، ودليلٌ على أن الإنسان مخيَّر ، وإسلامها حجةٌ على مَن يعتقد أن البيئة تؤثِّر أبلغ الأثر ، والبيئة لها تأثير لا شكّ فيه ، لكن ليس لها كل التأثير ، فما كان يخطر في بال أبي سفيان أنّ في وسع أحدٍ من قريش أن يخرج عن سلطانه ، فهو الزعيم الأوحد ، والشخصية الأولى ، والسيد المطاع ، ذو الحسب والنسب ، ذو القوة والسلطان ، وابنته بضع منه ، تخرج عن دين آبائه ، وهو سيد مكة المطاع، وزعيمها الذي تدين له بالولاء ، لكن ابنته رملة المكنَّاة بأم حبيبة قد بددت هذا الزعم ، وذلك حين كفرتْ بآلهة أبيها ، وآمنتْ هي وزوجها عبيد الله بن جحش بالله وحده لا شريك له وبرسوله ، ودخلا في الإسلام ، وانضما إلى النبي عليه الصلاة والسلام .
حاول أبو سفيان بكل ما أوتي من سطوة وبأس ، ولم يدرِ أنّ المسلم كلما ضغط عليه ، ازداد تمسكاً بإسلامه ، وأنّ هذا الدين كلما أردت أن تقضي عليه فكأنَّك تصبُّ على النار الزيتَ ، والأذكياء يهادنون الدين ، والحمقى يواجهونه ، فإنْ واجهته ازداد قوة ، فالمسلم لا تجدي معه كلَّ الضغوط ، فلا سياط الجلادين اللاذعة ، ولا سبائك الذهب اللامعة ، تثنيه عن عزمه ، وتقوِّض إيمانه ، وهذا هو الإيمان.
قال أبو طالب للنبي صلى الله عليه وسلم : ((يا ابن أخي هؤلاء مشيخة قومك وسرواتهم قد سألوك النصف، أن تكف عن شتم آلهتهم ، ويدَعوك وإلهك ، فقال : أي عم أَوَلاَ أدعوهم إلى ما هو خير لهم منها ؟ قال : وإلامَ تدعوهم ؟! قال : أدعوهم إلى أن يتكلموا بكلمة يدين لهم بها العرب ، ويملكون بها العجم ، فقال أبو جهل مِن بين القوم : ما هي وأبيك لنُعطِينَّكها وعشرَ أمثالها ؟ قال : تقول لا إله إلا الله ، فنفروا ، وقالوا : سلنا غير هذه ، قال : لو جئتموني بالشمس حتى تضعوها في يدي ما سألتكم غيرها ، فغضبوا ، وقاموا من عنده غضابا ، وقالوا : والله لنشتمنّك وإلهك الذي يأمرك بهذا)) .
(أخرجه ابن جرير الطبري وابن أبي حاتم عن السديّ)
فقضية الإسلام ليست خاضعة للمساومة ، ولا للمبادلة ، ولا للمهادنه ، قضية الإسلام قضية مبدأ ، وقضية مصير .
أحياناً ، في المؤتمرات ، ولقد مكثوا مرةً عشر دورات ، ولم تنجح هذه الدورات في المفاوضات ، للاتفاق على جدول الأعمال فقط ، عشر جولات انتهت بالفشل الذريع ، ولم يتفقوا على جدول الأعمال، يقولون : هذا الموضوع غير قابل للمناقشة ، وإيّاكم أن تطرحوه ، فإن طرحتموه معنى ذلك أنكم لا تريدون الصلح ، كذلك في حياة المسلم هناك قائمة موضوعات غير قابلة للمناقشة ، ولا يمكن أن تُعرَض على بساط البحث ، هذه مِنَ المسلَّمات ، قضية عقيدة ، قضية مبدأ ، قضية مصير .
حاول أبو سفيان بكل ما أوتي من قوةٍ ، ومن سطوةٍ ، ومن بأسٍ ، أن يردَّ ابنته وزوجها إلى دينه، ودين آبائه ، فلم يفلح .
والكافر أحياناً يتوهم بسذاجة أنّ فلانًا مِنَ الممكن أنْ نغريه بالمال ، وأنْ نغريه بالنساء ، هذا ظن الكافر ، وهو ظنٌ غبي ، بل هذه سذاجة محضة ، والمسلم لا يخضع ، ولا يتأثر لا بالضغوط ، ولا بالإغراءات ، لأنه عرف الله عزَّ وجل .
قال بعضهم : إن الإيمان الذي رسخ في قلب ابنة أبي سفيان كان أعمق مِن أن تقتلعه أعاصيرُ أبي سفيان ، وأثبتَ من أن يزعزعه غضبه .
قالت أم سعد بن أبي وقاص لابنها : يا سعدُ إمّا أن تكفر بمحمد ، وإلا سأدع الطعام حتى أموت ، فقال : يا أمِّي، لو أن لكِ مائة نفسٍ ، فخرجت واحدةً واحدةً لمَا كفرتُ بمحمد ، فكلِي إن شئتِ ، أو لا تأكلِي .
سيدنا عبد الله بن عمر فيما تروي الكتب أغرى بدوياً راعياً ، على أن يبيعه شاة ، ويعطيه ثمنَهَا ، فقال له البدوي : ليست لي ، فقال له : قل لصاحبها ماتت ، قال له : ليست لي ، قال له : خذ ثمنها ، قال له: ليست لي ، قال : واللهِ إنني لفي أشِّد الحاجة إلى ثمنها ، ولو قلتُ له ضاعت ، أو أكَلها الذئب ، لصدقني ، فإني عنده صادقٌ أمين ، ولكن أين الله ؟.
قرأت رواية حديثه لهذه القصة ، أنّ هذا الراعي ظلّ يقول : ولكنْ أين الله ؟ أين الله ؟ حتى أُغْمِي عليه .
أين الله ؟ هؤلاء الذين يأكلون أموال الناس بالباطل ، هؤلاء الذين يغشّون الناس ، ويتجاوزون الحدود ، ويعتدُون على أعراض الناس ، واللهِ ما عرفوا ربَّهم ، ، ولو عرفوا الله عزَّ وجل لتهيَّبوا أن يعصوه في أدق المخالفات وأدناها .
أبو سفيان ركبه الهمُّ بسبب إسلام رملة ، فما كان يعرف بأي وجهٍ يقابل قريشاً ، سيقولون له : عليك بابنتك التي من صلبك ، فقد أسلمتْ ، أين أنت ؟ أغافلٌ عنها ؟ كيف أقنعوها ؟! أين قوتك ؟.
لما وجدت قريشٌ أن أبا سفيان ساخطٌ على رملة وزوجها ، اجترأتْ عليها ، وطفقتْ تضيِّق عليهما الخناق، وجعلتْ ترهقهما أشدَّ الإرهاق ، حتى باتا لا يطيقان الحياة بمكة .
ولقد ضغطت قريشٌ على المسلمين بشكلٍ لا يوصف ، ونحن نشأنا في بلاد المسلمين ، والحمد لله ، ونحضر مجالس العلم ، ولا نشعر بهذا الضغط ، لكن الضغط الذي مارستْه قريشٌ كان شديدًا مؤلِمًا ، تعذيب حتى الموت ، ومقاطعة حتى الجوع ، ولما أذِنَ النبيّ عليه الصلاة والسلام للمسلمين بالهجرة إلى الحبشة ، كانت رملة بنت أبي سفيان وطفلتها الصغيرة حبيبة ، وزوجها عبيد الله بن جحش في طليعة المهاجرين إلى الله بدينهم ، الفارِّين إلى حِمى النجاشي بإيمانهم ، إذًا هاجرت رملة بنت أبي سفيان ، وطفلتها الصغيرة حبيبة ، وزوجها عبيد الله إلى الحبشة ، فراراً بدينهما .
وبالمناسبة ، قد يسافر الإنسان فراراً بدينه ، أو طلباً للعلم ، أو طلباً للرزق ، وهذا سفرٌ مشروع، فإمّا أن تفرَّ بدينك ، وإمّا أن تطلب العلم بهذا السفر ، وإمّا أن تطلب الرزق الذي انقطع في بلدك .
لكن أبا سفيان بن حرب ومن معه من زعماء قريش عزّ عليهم أن يفلت من بين أيديهم أُولئك النفر من المسلمين ، وأن يذوقوا طعم الراحة في بلاد الحبشة ، فأرسلوا رسلَهم إلى النجاشي ، يحرِّضونه عليهم ، ويطلبون منه ، أن يسلِّمهم إليهم .
الإنسان هو الإنسان ، سلمونا فلانًا وفلانًا ، دائماً مطاردة ، هذا يجب أن تسلِّمونا إياه ، وهذا ما فعله أبو سفيان وزعماء قريش ، لقد أرسلوا إلى النجاشي رسلاً معهم الهدايا الثمينة ، للبطارقة حتى يشكلوا رأيًا عامًّا ضاغِطًا على النجاشي ، وكان عمرو بن العاص وهو أحد دُهاة العرب رئيسَ وفدِ قريش إلى النجاشي ، كي يقنع النجاشي بتسليم هؤلاء الذين هاجروا إلى الحبشة ، وفرُّوا بدينهم ، ورأوا في بلاد النجاشي الراحة والأمان .
ومن دهاء عمرو بن العاص أنه أراد أن يثير حفيظة النجاشي ، وهو النصراني ، أثاره بموضوعٍ خطير ، فقدْ ذكَّره أن هؤلاء الذين لجؤوا إلى بلاده يقولون في المسيح وأُمِّه مريم قولاً يسوءه ، فبعث النجاشي إلى زعماء المهاجرين ، وسألهم عن حقيقة دينهم ، والنص معروف عندكم أنا أُلقيه عليكم كثيراً ، قال له :
فعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ ابْنَةِ أَبِي أُمَيَّةَ بْنِ الْمُغِيرَةِ زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَتْ لَمَّا نَزَلْنَا أَرْضَ الْحَبَشَةِ جَاوَرْنَا بِهَا خَيْرَ جَارٍ النَّجَاشِيَّ أَمِنَّا عَلَى دِينِنَا وَعَبَدْنَا اللَّهَ لَا نُؤْذَى وَلَا نَسْمَعُ شَيْئًا نَكْرَهُهُ فَلَمَّا بَلَغَ ذَلِكَ قُرَيْشًا ائْتَمَرُوا أَنْ يَبْعَثُوا إِلَى النَّجَاشِيِّ فِينَا رَجُلَيْنِ جَلْدَيْنِ وَأَنْ يُهْدُوا لِلنَّجَاشِيِّ هَدَايَا مِمَّا يُسْتَطْرَفُ مِنْ مَتَاعِ مَكَّةَ .... قَالَتْ فَكَانَ الَّذِي كَلَّمَهُ جَعْفَرُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ فَقَالَ لَهُ أَيُّهَا الْمَلِكُ كُنَّا قَوْمًا أَهْلَ جَاهِلِيَّةٍ نَعْبُدُ الْأَصْنَامَ وَنَأْكُلُ الْمَيْتَةَ وَنَأْتِي الْفَوَاحِشَ وَنَقْطَعُ الْأَرْحَامَ وَنُسِيءُ الْجِوَارَ يَأْكُلُ الْقَوِيُّ مِنَّا الضَّعِيفَ فَكُنَّا عَلَى ذَلِكَ حَتَّى بَعَثَ اللَّهُ إِلَيْنَا رَسُولًا مِنَّا نَعْرِفُ نَسَبَهُ وَصِدْقَهُ وَأَمَانَتَهُ وَعَفَافَهُ فَدَعَانَا إِلَى اللَّهِ لِنُوَحِّدَهُ وَنَعْبُدَهُ وَنَخْلَعَ مَا كُنَّا نَعْبُدُ نَحْنُ وَآبَاؤُنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ الْحِجَارَةِ وَالْأَوْثَانِ وَأَمَرَنَا بِصِدْقِ الْحَدِيثِ وَأَدَاءِ الْأَمَانَةِ وَصِلَةِ الرَّحِمِ وَحُسْنِ الْجِوَارِ وَالْكَفِّ عَنْ الْمَحَارِمِ وَالدِّمَاءِ وَنَهَانَا عَنْ الْفَوَاحِشِ وَقَوْلِ الزُّورِ وَأَكْلِ مَالَ الْيَتِيمِ وَقَذْفِ الْمُحْصَنَةِ وَأَمَرَنَا أَنْ نَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ لَا نُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا وَأَمَرَنَا بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَالصِّيَامِ قَالَ فَعَدَّدَ عَلَيْهِ أُمُورَ الْإِسْلَامِ فَصَدَّقْنَاهُ وَآمَنَّا بِهِ وَاتَّبَعْنَاهُ عَلَى مَا جَاءَ بِهِ فَعَبَدْنَا اللَّهَ وَحْدَهُ فَلَمْ نُشْرِكْ بِهِ شَيْئًا وَحَرَّمْنَا مَا حَرَّمَ عَلَيْنَا وَأَحْلَلْنَا مَا أَحَلَّ لَنَا فَعَدَا عَلَيْنَا قَوْمُنَا فَعَذَّبُونَا وَفَتَنُونَا عَنْ دِينِنَا لِيَرُدُّونَا إِلَى عِبَادَةِ الْأَوْثَانِ مِنْ عِبَادَةِ اللَّهِ وَأَنْ نَسْتَحِلَّ مَا كُنَّا نَسْتَحِلُّ مِنْ الْخَبَائِثِ فَلَمَّا قَهَرُونَا وَظَلَمُونَا وَشَقُّوا عَلَيْنَا وَحَالُوا بَيْنَنَا وَبَيْنَ دِينِنَا خَرَجْنَا إِلَى بَلَدِكَ وَاخْتَرْنَاكَ عَلَى مَنْ سِوَاكَ وَرَغِبْنَا فِي جِوَارِكَ وَرَجَوْنَا أَنْ لَا نُظْلَمَ عِنْدَكَ أَيُّهَا الْمَلِكُ .... قَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ فَلَمَّا خَرَجَا مِنْ عِنْدِهِ قَالَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ …… أَيُّهَا الْمَلِكُ إِنَّهُمْ يَقُولُونَ فِي عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ قَوْلًا عَظِيمًا فَأَرْسِلْ إِلَيْهِمْ فَاسْأَلْهُمْ عَمَّا يَقُولُونَ فِيهِ قَالَتْ فَأَرْسَلَ إِلَيْهِمْ يَسْأَلُهُمْ عَنْهُ قَالَتْ وَلَمْ يَنْزِلْ بِنَا مِثْلُهُ فَاجْتَمَعَ الْقَوْمُ فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ مَاذَا تَقُولُونَ فِي عِيسَى إِذَا سَأَلَكُمْ عَنْهُ قَالُوا نَقُولُ وَاللَّهِ فِيهِ مَا قَالَ اللَّهُ وَمَا جَاءَ بِهِ نَبِيُّنَا كَائِنًا فِي ذَلِكَ مَا هُوَ كَائِنٌ فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قَالَ لَهُمْ مَا تَقُولُونَ فِي عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ فَقَالَ لَهُ جَعْفَرُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ نَقُولُ فِيهِ الَّذِي جَاءَ بِهِ نَبِيُّنَا هُوَ عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ وَرُوحُهُ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ الْعَذْرَاءِ الْبَتُولِ قَالَتْ فَضَرَبَ النَّجَاشِيُّ يَدَهُ إِلَى الْأَرْضِ فَأَخَذَ مِنْهَا عُودًا ثُمَّ قَالَ مَا عَدَا عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ مَا قُلْتَ هَذَا الْعُودَ فَتَنَاخَرَتْ بَطَارِقَتُهُ حَوْلَهُ حِينَ قَالَ مَا قَالَ فَقَالَ وَإِنْ نَخَرْتُمْ وَاللَّهِ ، اذْهَبُوا فَأَنْتُمْ سُيُومٌ بِأَرْضِي ، وَالسُّيُومُ الْآمِنُونَ ... *
(رواه أحمد)
إنه كلام بليغ ، فلما اقتنع النجاشي بهذا الكلام ذكروه أنهم يقولون في عيسى بن مريم ، قولاً يسوءُه ، لا يعدونه ابنَ الله ، هو نبيٌ من الأنبياء ، طلب النجاشي إليهم ، أن يسمعوه شيئاً من القرآن الكريم الذي ينزل على قلب نبيِّهم ، فلما أخبروه بحقيقة الإسلام ، وتلوا عليه بعضاً من آيات القرآن ، بكى النجاشي ، حتى اخضلَّت لحيته، وقال لهم : مَا عَدَا عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ مَا قُلْتَ هَذَا الْعُودَ ، ثم أعلن النجاشي إيمانه بالله وحده لا شريك له ، وتصديقه لنبوة محمد صلى الله عليه وسلم ، وأسلم .
والنجاشي ملِك ، لذلك لما جاءت رسل النجاشي ، أراد النبي عليه الصلاة والسلام ، أن يخدمهم بنفسه ، إكراماً له ، ولما توفِّي النجاشي صلى عليه النبيُّ صلى الله عليه وسلم صلاة الغائب ، على أنه مسلم، وفي بعض الكتب يعدُّ من الصحابة ، لكن لم يلتقِ بالنبي صلى الله عليه وسلم ، بل التقى به عن بُعْد ، وأسلم وغدا المهاجرون بعد ذلك في بحبوحة ، وفي رعاية ، وفي طُمأنينة ، وتحت ظل النجاشي .
حسبت أم حبيبة بعد ذلك أنّ الأيام صفت لها بعد طول عبوس ، وأن رحلتها الشاقة في طريق الآلام قد انتهتْ إلى واحة الآمان ، إذ لم تكن تعلم ما خبَّأتها لها المقادير ، فيما سيحدث لها في حياتها من أخطر الأحداث.
شاء الله تبارك وتعالى ، ولحكمةٍ بالغةٍ أرادها أن يمتحن أمَّ حبيبة امتحاناً قاسياً ، تطيش فيه عقول الرجال .
قبل أن نتابع القصة ، ماذا يعني أن يؤمن النجاشي ؟ معنى ذلك أنّ الإيمان مكلَّف به الناس جميع الناس ، والملوك كذلك ، والملِك إذا آمن وأسلم ، فأَنْعِمْ وأكرم به من ملك ، يؤيِّده الله ، ويثبِّت ملكه ، ويزيد قوةً ومضاءً ، والإنسان كلما اتسعت سلطته يزداد عمله الصالح .
أضرب لكم مثلاً بسيطًا ؛ معلم في صف يضمُّ ثلاثين طالبًا ، أقصى ما عنده أنه يوجِّه هؤلاء الطلاب توجيهاً صحيحاً ، لكن المدير تحت سلطته سبعمائة وثمانين طالبًا ، فإذا كان مديرًا حازمًا أخلاقيًّا فإنّه ينتقى مدرسين ممتازين ، لضبطِ المدرسة ، ضبطِ سلوك مَن فيها ، أمّا مدير التربية فعنده محافظة بأكملها ، ووزير التربية أعلى مِن ذلك ، فكلما عَلَت السلطة ازدادَ العملُ الصالح ، فأنت بإمكانك أن تعمل بقدر سلطتك ، فحينما يكون الإنسان في مرتبة عالية فقد أتيح له أنْ يعمل من الأعمال الصالحة ما لا حدود له .
إن الله ليزع بالسلطان ، ما لا يزعه بالقرآن *
(مختصر تفسير ابن كثير ، للصابوني ، سورة الإسراء ، الآية 80-81)
فأحيانًا قرار واحد يسبق ألف داعية ، لأن الدعاة إلى الله ، إلى أن يصل إليهم طالب العلم تواجهه آلاف المطبَّات في الطريق ، الطرقات وما فيها من فساد ، دور اللهو ، أجهزة اللهو ، المجلات ، الكتب ، ألف ألف مطب ، وألف حاجز ، يعترض وصول طالب العلم إلى المسجد .
إن الله ليزع بالسلطان ، ما لا يزعه بالقرآن .
(مختصر تفسير ابن كثير ، للصابوني ، سورة الإسراء ، الآية 80-81)
فمن الممكن أنّ الملك إذا نوَّر اللهُ عزَّ وجل قلبَه أنْ يعملَ أعمالاً لا تأتي بها الجبال الراسيات .
وهنا أمرٌ يجب أن تعرفوه ؛ إنّ الإنسان إذا صعد إلى جبل قاسيون مثلاً ، فكلما ارتفع أكثر اتَّسعتْ دائرةُ الرؤية ، وهذا الكلام صحيح ، والإنسان كلما علت حظوظه بأنْ ازداد ماله ، أو صار مسؤولاً أعلى ، ازدادت سلطته ، كان مديرًا عامًّا ، أصبح وزيرًا ، كان رئيس دائرة ، صار معاون وزير ، فكلما ازدادت سلطته ، ازدادت مسؤوليته ، وازدادت فرص عمله الصالح .
وبالمناسبة ، هناك شيئان يتوازنان ، كلما ازداد حظُّك من الدنيا ؛ حظ العلم ، أو حظ المال ، أو حظ السلطان ، أو الذكاء ، أو الوسامة ، أو الغنى ، كلما ازدادت حظوظك في الدنيا ، ازداد معها شيئان ، مسؤوليتك ، وفرص العمل الصالح التي تتاح لك ، المسؤولية ازدادت ، وفرص العمل الصالح ازدادت ، فإذا ارتقى الإنسان في مستواه الوظيفي ، أو السلطوي ، أو المالي ، فقد صار متاحًا له أن يعمل أعمالاً صالحة أكبر ممَّا كان عليه من قَبلُ ، وإذا ضيَّع هذه الفرصة ، صارت مسؤوليته أمام الله كبيرةً عسيرة ، لذلك صدقوا حينما قالوا : فلان مسؤول كبير ، بالمعنى اللغوي ، أي مسؤول مسؤولية كبيرة ، بهذا المعنى بالضبط .
فالنجاشي ، آمن بالله ورسوله ، وازداد قوةً ، وازداد حكمةً ، وازداد قرباً من الله عزَّ وجل.
والآن عودٌ على بدْءٍ إلى امتحان أم حبيبة القاسي ، لقد كان هذا الامتحان تطيش له عقول الرجال ، ذوي الأحلام ، وتتضعضع أمامه أفهامُ ذوي الأفهام ، وهذا الابتلاء ربما أخرجها من عقلانيتها ، فما هذا الابتلاء ؟ ذات ليلةٍ ، أَوَتْ أم حبيبة إلى مضجعها ، فرأت فيما يراه النائم أنّ زوجها عبيد الله يتخبَّط في بحرٍ لُجيٍّ ، غشيته ظلماتٌ بعضها فوق بعض ، وهو في أسوأ حال ، والرؤيا الصالحة يراها الرجل الصالح ، أو تُرى له ، فرأت أم حبيبة في المنام أن زوجها يتخبَّط في بحرٍ لُجيٍّ ، غشيته ظلماتٌ بعضها فوق بعض ، وهو في أسوأ حال ، فهبَّتْ من نومها مذعورةً مضطربة ، ولم تشأ أن تذكر له أو لأحدٍ غيره شيئاً مما رأت ، لأن الرؤيا مزعجة جداً ، لكن ما لبثت أن تحققت رؤياها ، فزوجها ، المؤمن ، المهاجر ، الذي صحبها إلى الحبشة ، فلم ينقضِ يوم تلك الليلة المشؤومة ، حتى كان عبيد الله بن جحشٍ قد ارتد عن دينه وتنصَّر ، ثم أكبَّ على حانات الخمَّارين ، يعاقر الخمرة أمَّ الخبائث ، فلا يرتوي منها ، ولا يشبع .
تصوَّرْ هذه النكسة ، صحابي ، مهاجر ، زوج رملة ، أم حبيبة ، فجأةً يرتدُّ عن دينه ، ويتنصَّر ، ويعاقر الخمرة ، أم الخبائث ، فلا يشبع منها ، وقد خيَّرها بين أمرين أحلاهما مرُّ ؛ إما أن أطلقك ، وإما أن تتنصَّري .
هذه مصيبة ، أبوها مشرك ، فهل تعود إلى أبيها ذليلةً ؟ وزوجها نصراني ، وهي في بلاد الحبشة غريبة ، هذه القصة تعطيكم الدليل العظيم على حكمة النبي في زواجه مِن أمّ حبيبة .
فوجدت أمُّ حبيبة نفسها فجأةً بين ثلاث : إما أن تستجيب لزوجها ، الذي جعل يلحُّ عليها في دعوته إليها إلى التنصُّر ، والعياذ بالله ، وتبوء بخزي الدنيا ، وعذاب الآخرة ، وهذا أمرٌ لا تفعله ، ولو مُشِّط لحمُها عن عظمها بأمشاطٍ من حديد ، هذا مستحيل ، هذا أول احتمال ، وقد ألغيناه .
وإمّا أن تعود إلى بيت أبيها في مكة ، وهو ما زال قلعةً للشرك ، فتعيش فيه مقهورةً ، مغلوبةً ، ذليلةً ، وّإما أن تبقى في بلاد الحبشة وحيدةً شريدةً لا أهل لها ، ولا وطن ، ولا معين ، فآثرت ما فيه رضاء الله عزَّ وجل ، وأزمعت على البقاء في الحبشة ، حتى يأتي اللهُ بفرجٍ من عنده ، مستحيل أن تعود إلى أبيها المشرك ، فيقهرها ، ويذلُّها ، ومستحيل أن تقبل عَرْضَ زوجها ، فترتدّ عن دينها ، فلم يبق لها إلا ما يرضي الله ورسوله ؛ أن تبقى في الحبشة وحيدةً ، شريدةً ، لا معين لها ، ولا رجل .
لم يَطُل انتظارُ أمِّ حبيبة كثيراً ، فما إن انقضت عدَّتُها من زوجها الذي لم يعش بعد تنصره إلا قليلاً حتى جاءها الفرَجُ .
خدم رجلٌ والدته اثنتي عشرة سنة ، وفي أحد الأيام ضاقت نفسه بخدمته لها ، وغضب ، وأسمعها كلماتٍ قاسيةً جداً ، وقال لها : لستُ أنا ابنك الوحيد ، اذهبي إلى غيري ، اخرُجي من بيتي ، فبكت ، وقهرها بهذه الكلمة ، فاستدعتْ أحدَ أبنائها ، وأخذها معه إلى البيت ، وما هي إلا أيام حتى توفّاها الله عزَّ وجل ، فهَدَرَ عملَ اثنتي عشرة سنة ، وهذا بعد أشهر قليلة من ارتداده عن الإسلام مات .
لقد خُتِم عملُه بالكفر ، ومعاقرة الخمرة ، لذلك فعَنْ أُمَّ سَلَمَةَ تُحَدِّثُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُكْثِرُ فِي دُعَائِهِ أَنْ يَقُولَ اللَّهُمَّ مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ قَالَتْ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَوَ إِنَّ الْقُلُوبَ لَتَتَقَلَّبُ قَالَ نَعَمْ مَا مِنْ خَلْقِ اللَّهِ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ بَشَرٍ إِلَّا أَنَّ قَلْبَهُ بَيْنَ أُصْبُعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ اللَّهِ فَإِنْ شَاءَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَقَامَهُ وَإِنْ شَاءَ اللَّهُ أَزَاغَهُ فَنَسْأَلُ اللَّهَ رَبَّنَا أَنْ لَا يُزِيغَ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا وَنَسْأَلُهُ أَنْ يَهَبَ لَنَا مِنْ لَدُنْهُ رَحْمَةً إِنَّهُ هُوَ الْوَهَّابُ قَالَتْ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلَا تُعَلِّمُنِي دَعْوَةً أَدْعُو بِهَا لِنَفْسِي قَالَ بَلَى قُولِي اللَّهُمَّ رَبَّ مُحَمَّدٍ النَّبِيِّ اغْفِرْ لِي ذَنْبِي وَأَذْهِبْ غَيْظَ قَلْبِي وَأَجِرْنِي مِنْ مُضِلَّاتِ الْفِتَنِ مَا أَحْيَيْتَنَا *
( رواه أحمد)
لقد جاءها السعد يرفرف بأجنحةٍ خضراء فوق بيتها المحزون ، على غير ميعاد ، في ذات ضحىً طَرَق بابَها طارقٌ ، فلما فتحته ، فوجِئت بأبرهة ، مَن هي أبرهة ؟ " اسم مؤنث بالطبع " ؟ وهي وصيفة النجاشي ، ملك الحبشة ، فحيَّتها بأدبٍ وبِشْر ، واستأذنتْ بالدخول عليها ، وقالت : إن الملك ، يحيِّيكِ ، ويقول لك : إن محمداً رسول الله ، قد خطبك لنفسه .
هل تعرفون لماذا يتزوج النبي عليه الصلاة والسلام مثل هذه المرأة ؟ لقد تنصَّر زوجها ، وعاقر الخمرة، وأبوها ، أبو سفيان ، بيته قلعةٌ من قلاع الشرك ، وهي في الحبشة طريدةٌ ، شريدة ، لا معين لها ، فالنبي عليه الصلاة والسلام خطبها لنفسه ، عن طريق الملك النجاشي ، وقد بعث إليه كتاباً وكَّله فيه أن يعقد له عليكِ ، فوكِّلي عندك من تشائين ، هذه هي الوكالة في الزواج ....
.... النبي عليه الصلاة والسلام وكَّل النجاشي أن يعقد على أمِّ حبيبة وطلبتْ أبْرهةُ وصيفةُ الملك مِن أن حبيبة أنْ توكِّل عنها وكيلاً في عقد الزواج ، فاستطارت أمُّ حبيبة فرحاً ، وهتفت : بشَّركِ اللهُ بالخير ، بشَّرك الله بالخير ، وطفقت تخلع ما عليها من الحلي ، فنزعت سواريها ، وأعطتهما لأبرهة المبشرة ، ثم ألحقتهما بخلخالها ، ثم أتبعت ذلك بقرطيها ، وخواتهما ، ولم تُبْقِ شيئًا ، هذه بشارة عظيمة ؟ إمرأةٌ تنصّر زوجها ، وعاقر الخمرة ، وأبوها مشرك ، وهي غريبة ، تصبح فجأةً زوجة النبي عليه الصلاة والسلام ، لقد أَعْطَتْ كلَّ شيءٍ تملكه من الحلي ؛ القرطين ، والأساور ، والخلخال ، قدَّمتها لهذه الوصيفة ، إكراماً لها .
ولو كانت تملك كنوز الدنيا كلها لأعطتها لها في تلك اللحظة ، ثم قالت لها : لقد وكَّلت عني خالد بن سعيد بن العاص ، فهو أقرب الناس إلي ، وفي قصر النجاشي الرابض على رابية خضراء ، وعلى تلّة خضراء ، مطلةٍ على روضةٍ من رياض الحبشة النضرة ، وفي أحد أبهائه الفسيحة ، المزدانة بالنقوش الزاهية ، المضاءة بالسُرج النحاسية الوضاءة ، المفروشة بفاخر الرياش اجتمع وجوهُ الصحابة ، المقيمين في الحبشة ، وعلى رأسهم جعفر بن أبي طالب ، وخالد بن سعيد بن العاص ، وعبد الله بن حذافة السهمي ، وغيرهم ، ليشهدوا عقد رسول الله صلى الله عليه وسلم على أمِّ حبيبة بنت أبي سفيان .
الكلام لكم أيها الإخوة ، قد تضيق الدنيا ، وتضيق ، والطرق كلها مغلقة ، فاصبر ، فقد تأتي الدنيا وهي راغمة ، ويأتي الفرج بعد اليأس ، ويخلق اللهُ جلَّ جلاله مِنَ الضعف قوة ، ومن الضيق فرجاً ، ومن الفقر غنىً ، ومن الذل عزاً ،ف كن مع الله ولا تبالِ ، فبطولتك أن تكون مع الله في طاعته ، وعلى الله الباقي .
فلما اكتمل الجمع ، تصدَّر النجاشي المجلس ، وخطبهم ، فقال : أحمد الله ، القدوس ، المؤمن، الجبَّار ، وأشهد أن لا إله إلا الله ، وأن محمداً عبده ورسوله ، وأنه هو الذي بشَّر به عيسى بن مريم ، أما بعد ..
فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم طلب مني أن أزوِّجه أمَّ حبيبة بنت أبي سفيان ، فأجبته إلى ما طلب ، وأمهرتها نيابةً عنه أربعمائة دينارٍ ذهباً .. وأدّى النجاشي عنه المهر على سنة الله ورسوله .
ثم سكب الدنانير بين يدي خالد بن سعيد بن العاص ، وهنا قام خالد بن سعيدٍ وقال :
الحمد لله أحمده وأستعينه ، وأستغفره ، وأتوب إليه ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ، أرسله بدِين الهدى والحق ليظهره على الدين كله ، ولو كره الكافرون ، أما بعد .. فقد أجبتُ - أي الإيجاب والقبول - طلبَ رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وزوجته موكِّلتي ، أمَّ حبيبة بنت أبي سفيان ، فبارك الله لرسول الله بزوجته ، وهنيئاً لأم حبيبة بما كتب اللهُ لها من الخير .. ثم حمل المال ، وهمَّ أن يمضي به إليها ، فقام أصحابه بقيامه ، وهمُّوا بالانصراف أيضاً ، وهنا قال لهم النجاشي : اجلسوا ، فإن سنة الأنبياء إذا تزوَّجوا أن يطعموا الطعام ، ودعا لهم بطعامٍ ، فأكل القوم ، ثم انفضوا .
قالت أم حبيبة : فلما وصل المالُ إليَّ ، أرسلتُ إلى أبرهة التي بشَّرَتْني خمسين مثقالاً من الذهب ، وقلت لها : إني كنت أعطيتكِ ما أعطيت حينما بشَّرتني ، ولم يكن عندي يومئذٍ مال ، فما هو إلا قليلٌ حتى جاءت أبرهة إليها ، وردَّت الذهبَ ، وأخرجتْ حُقًّا فيه الحَلْيُ الذي أعطيتها إيَّاه ، فردّته إليّ أيضاً ، وقالت : إن الملك قد عزم عليّ ، ألا آخذ منك شيئاً ، المبلغ أرجعته ، وقد أمر نساءه أن يبعثنً لك بكل ما عندهن من الطيب ، فلما كان الغد ، جاءتني بورسٍ ، وعودٍ وعنبرٍ .
أنتم الآن استغربتم مِن جارية مكلفة أن توصل خبرًا ، فتأخذ كل هذا العطاء ، الحلي ، والخلخال ، والأساور ، وخمسين مثقال ذهب !!
ثم قالت الوصيفة أبرهةُ : إن لي عندك حاجة ؟ فقلت : وما هي ؟ فقالت : لقد أسلمتُ ، واتبعتُ دين محمد، فاقرئي على النبي مني السلام ، وأعلميه ، أني آمنت بالله ورسوله ، ولا تنسيْ ذلك .
أرأيتم الإحسان !! الإنسان أحياناً يملك قلب إنسان بالمال ، بالإكرام ، لا تظن أنّ الناس تنقصهم معلومات، وفلسفات ، وكلام منمَّق ، إنما ينقصهم إحسان ، فإنْ أحسنت فتحت قلوب الناس بإحسانك ، قبل أن تفتح عقولهم ببيانك .
يا أيها الإخوة الكرام ... أخرج البيهقي في شعب الإيمان عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال : لما نزلت سورة براءة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم بُعِثْتُ بِمُدَارَاةِ النَّاسِ *
المداراة كما تعلمون بذْلُ الدنيا من أجل الدين ، والمداهنة بذلُ الدين من أجل الدنيا ، فإذا كنتَ مِمَّن يطمح أن يصير داعيةً إلى الله عزَّ وجل ، وممَّن يطمح أن يهتدي الناس على يديه ، أو بسببه ، فليس أمامك إلا طريق واحد ، وهذا الطريق أنْ تحسن إلى الناس ، لأن الناس كما تعلمون أيها الإخوة هل يتعلَّمون بعيونهم، أم بآذانهم ؟ بعيونهم ، ثم بآذانهم ، فإذا التقى الإنسانُ بشخص ، فأول لقاء لا يعرفه ، فينظر إلى طوله ، ولونه ، وأناقته ، ونظافته ، وثيابه ، وإلى ألوان ثيابه ، وإلى الانسجام بين الألوان ، وإلى طريقة مشيته ، وطريقة جِلسته ، وحركاته ، ونظراته ، فيتفحصه ، فأنت التقيتُ مع شخص لا تعرفه ، زرت أخاك في العيد ، وقال لك : انتظرْني دقيقة ، ووجدتَ عنده ضيوفًا ، وقال لك : أنا مشغول ، فاجلِسْ معه دقائق ، تأمله ، تأمَّل شكله ، طوله ، لونه ، بذلته ، حذاءه ، قميصه ، ألوان ثيابه ، طريقة جلسته ، فإذا تكلَّم نسيتَ شكله ، وجدت فيه علمًا ، وفهمًا ، ودقةً في التعبير ، أو هو ذو كلام فارغ ، وحديثُه خرافات ، أو عنده آراء غير صحيحة ، أو تصورات مضحكة ، فإن تكلّم ، إمّا أن يرقى ، وإمّا أن يسقط ، فإن تكلم نسيت شكله ، فإذا سافرت معه ، وعاملته بالدرهم والدينار ، نسيتَ كلامه ، الشكل يُسقِط ، والكلام يُسقِط ، ولا تبقى إلا المعاملة ، والمعاملة هي الأساس ، فالإنسان إذا ضاقت به الأمور ، فعليه بالدعاء ، وعليه بالالتجاء إلى الله ، وعليه بالصبر ، والصبر مفتاح الفرج ، وربنا عزَّ وجل يمتحنك ، ويضعك في ظروف صعبة ، والطرق كلّها مغلّقة ، وفيما يبدُو لك أن الأمر صار فوق التحمل فاصْبِرْ ، فإنّ الله يحبُّ العبد الصابر ، قال عزوجل :
هذه الآية تؤثِّر في كثيراً :
( سورة ص )
والصبر متى يكون ؟ عند الصدمة الأولى ، فعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ مَرَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِامْرَأَةٍ تَبْكِي عِنْدَ قَبْرٍ فَقَالَ اتَّقِي اللَّهَ وَاصْبِرِي قَالَتْ إِلَيْكَ عَنِّي فَإِنَّكَ لَمْ تُصَبْ بِمُصِيبَتِي وَلَمْ تَعْرِفْهُ فَقِيلَ لَهَا إِنَّهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَتَتْ بَابَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ تَجِدْ عِنْدَهُ بَوَّابِينَ فَقَالَتْ لَمْ أَعْرِفْكَ فَقَالَ إِنَّمَا الصَّبْرُ عِنْدَ الصَّدْمَةِ الْأُولَى
(متفق عليه)
كلّ إنسان إنْ لجَّ وكفر سوف يصبر مقهوراً ، يقول لك : ما بعد الصبر ، إلا المجرفة والقبر ، أي إن لم تصبر فماذا تفعل ؟ نحن عبيدٌ لله عزَّ وجل ، فبين الصابر وغير الصابر مرتبةُ الرضا ، وهي عند الصدمة الأولى ، لكن بعد حين تصبر ، لكنك فقدتَ الأجر ، لذلك فالمؤمن إذا جاءه ما يكرهه ، فأوّلُ كلمة يقولها : الحمد لله على كل حال ، فعوِّد لسانك على الحمد ، يا ربِّ لك الحمد على كل حال .
والنبي عليه الصلاة والسلام كان قدوة لنا أيها الإخوة ، فكيف جعله الله قدوة ؟ لأنه أولاً ، لو جعله غنياً فقط، ونصح الفقراء بالصبر ، فهذه النصيحة غير مقبولة ، ماذا يقولون له ؟ لم تذق الفقرَ يا سيدي ، هذا كلام نظري، لكنه ذاق الفقر المدقع ، قال :
" أُوذيتُ وما أُوذي أحدٌ مثلي ، وخفت ، وما خاف أحدٌ مثلي ، ومضى علي ثلاثون يوماً لم يدخل جوفي إلا ما يواريه إبط بلال " .
ذاق الفقر ، وذاق الغنى ، فلما ذاق الفقر ، فعَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ يَوْمٍ يَا عَائِشَةُ هَلْ عِنْدَكُمْ شَيْءٌ قَالَتْ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا عِنْدَنَا شَيْءٌ قَالَ فَإِنِّي صَائِمٌ قَالَتْ فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأُهْدِيَتْ لَنَا هَدِيَّةٌ أَوْ جَاءَنَا زَوْرٌ قَالَتْ فَلَمَّا رَجَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أُهْدِيَتْ لَنَا هَدِيَّةٌ أَوْ جَاءَنَا زَوْرٌ وَقَدْ خَبَأْتُ لَكَ شَيْئًا قَالَ مَا هُوَ قُلْتُ حَيْسٌ قَالَ هَاتِيهِ فَجِئْتُ بِهِ فَأَكَلَ ثُمَّ قَالَ قَدْ كُنْتُ أَصْبَحْتُ صَاِئِمًا *
(رواه مسلم)
أنا أستحلفكم بالله عزَّ وجل ، هل منكم رجلٌ إذا دخل بيته لم يجد شيئاً يأكله إطلاقاً ؟ مستحيل ، فليس مِن بيت إلاّ وفيه زيتون ، جبن ، لبن مصفى ، كأس من الشاي ، معكرونة ، برغل ، أرز .
يَا عَائِشَةُ هَلْ عِنْدَكُمْ شَيْءٌ ؟ قَالَتْ : فَقُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا عِنْدَنَا شَيْءٌ قَالَ : فَإِنِّي صَائِمٌ ، نبي ، رسول ، سيد الخلق لا يجد شيًا ، يقول بعدئذٍ : فَإِنِّي صَائِمٌ.
الآن المسلم ، إذا تأخّر الأكل به الأكل ، يخبط خبط عشواء ، ويسبُّ ، ويقيم ، ويُقعِد ، لكنّ النبي صلى الله عليه وسلم لم يجد شيئاً يأكله ، ويقول : فَإِنِّي صَائِمٌ .
دخل عليه عدي بن حاتم ، قال : فقذف إليَّ وسادةً من أدمٍ ، محشوةً ليفاً ، قال :" اجلسْ عليها ، قلت : بل أنت، قال : بل أنت ، قال : فجلست عليها ، وجلس رسول الله على الأرض " .
ماذا يوجد في بيته ؟ هل كان عنده طقم فاخر ، وثريات تشيكية ، وسجاد صيني ؟ لا ، بل وسادة واحدة ، من أدمٍ محشوةٍ ليفاً ، دفعها إلى عدي بن حاتم ، قال : " اجلسْ عليها ، قلت : بل أنت ، قال : بل أنت ، فجلست عليها، وجلس هو على الأرض ".
دخل عليه أعرابيٌّ يومًا فلم يعرفه ، وهو صلى الله عليه وسلم جالس بين أصحابه ، وصار يتأملهم ملياً ، ثم قال : أيُّكم محمّد ؟
أين كان جالسًا ؟ كان بين أصحابه ، فذاق الفقر ، ونصحنا بالصبر ، فلما ذاق الغنى ، قيل له : " لمن هذا الوادي يا محمد ؟ وادٍ من غنم ، قال : هو لكَّ ، قال : أتهزأ بي ؟! قال : لا والله ، قال : أشهد أنك رسول الله، تعطي عطاء من لا يخشى الفقر " .
لو أن الله عزَّ وجل جعل كل حياته انتصارات ، وعزًّا ومجدًا ، ثم نصح المسلمين أنْ يصبروا إذا ذُلُّوا ، أو قُهِروا ، قالوا له : ما ذقتَ الذل أنت يا سيدي ، فقد ذاق النبيُّ طعمَ القهر ، ففي الطائف مشى على قدميه ثمانين كيلو مترًا ، كذَّبوه ، وسخروا منه ، وضربوه ، فذاق طعم القهر .
وذاق طعم النصر في مكة ، وقد أحاط به عشرةُ آلاف سيف متوهِّج ، بعد أنْ أُخرِج منها شريداً ، طريداً ، خائفاً ، مهدوراً دمه ، فعاد إليها سيداً ، فاتحاً ، منتصراً ، ومصير هؤلاء جميعاً منوطٌ بكلمةٍ مِن فمه ، لو قال : اقتلوهم لقتلوهم ، لكنه ماذا قال ؟ عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ بعضادتي الباب يوم فتح مكة ، وقد لاذ الناس بالبيت فقال : (الحمد لله الذي صدق وعده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده) ثم قال: (ماذا تظنون يا معشر قريش) قالوا: خيرا ، أخ كريم ، ابن أخ كريم وقد قدرت ؛ قال: (وأنا أقول كما قال أخي يوسف "لا تثريب عليكم اليوم" فقال عمر رضي الله عنه: ففضت عرقا من الحياء من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ذلك أني قد كنت قلت لهم حين دخلنا مكة: اليوم ننتقم منكم ونفعل ، فلما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قال استحييت من قولي *
(ذكره القرطبي في تفسيره للآية 91-92 من سورة يوسف)
ذاق موت الولد ، والولد غالٍ جدًّا ، مات ابنه إبراهيم فبكى عليه ، فعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ دَخَلْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أَبِي سَيْفٍ الْقَيْنِ وَكَانَ ظِئْرًا لِإِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَام فَأَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِبْرَاهِيمَ فَقَبَّلَهُ وَشَمَّهُ ثُمَّ دَخَلْنَا عَلَيْهِ بَعْدَ ذَلِكَ وَإِبْرَاهِيمُ يَجُودُ بِنَفْسِهِ فَجَعَلَتْ عَيْنَا رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَذْرِفَانِ فَقَالَ لَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَأَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَقَالَ يَا ابْنَ عَوْفٍ إِنَّهَا رَحْمَةٌ ثُمَّ أَتْبَعَهَا بِأُخْرَى فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ الْعَيْنَ تَدْمَعُ وَالْقَلْبَ يَحْزَنُ وَلَا نَقُولُ إِلَّا مَا يَرْضَى رَبُّنَا وَإِنَّا بِفِرَاقِكَ يَا إِبْرَاهِيمُ لَمَحْزُونُونَ *
(متفق عليه)
ذاق الهجرة ، وهي اقتلاع من الجذور ، أرأيتَ إلى رجلٍ يسكن بيتًا مرتِّبًا ، وله محله ، ومصيفه ، وسيارته ، ثم غادرها خلال خمس دقائق ، أين ؟ إلى اليمن ، فقد يقعد على الرصيف ، فهذه هي الهجرة.
فالنبي عليه الصلاة والسلام ، لولا أنه جرت عليه كلُّ خصائص البشر لمَا كان سيِّد البشر ، لقد كذّبوه ، واتّهموه ظلماً بأنه مجنون ، وساحر ، وكاهن ، وضيِّقوا عليه ، وأخرجوه ، وتآمروا على قتله ، وذاق الفقر ، وذاق الغنى ، وذاق النصر ، وذاق الهزيمة ، لقد ذاق كلُّ هذا .. لهذا قال تعالى :
( سورة الأحزاب )
فاعتبِروا يا أولي الألباب .
والحمد لله رب العالمين
***(/)
الدرس 39/50 ، سيرة الصحابي : زيد الخير ، لفضيلة الأستاذ محمد راتب النابلسي .
تفريغ : المهندس عبد العزيز كنج عثمان .
التدقيق اللغوي : الأستاذ غازي القدسي .
التنقيح النهائي : المهندس غسان السراقبي .
بسم الله الرحمن الرَّحيم
بسم الله الرحمن الرحيم ، الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا ، إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا ، وانفعنا بما علمتنا وزدنا علما ، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .
أيها الإخوة المؤمنون ... مع الدرس التاسع والثلاثين ، من دروس سير صحابة رسول الله رضوان الله تعالى عليهم أجمعين ، وصحابيُّ اليوم اسمه الذي سماه به أهله ، (زيد الخيل) ، فلما سأله النبيّ صلى الله عليه وسلم ، عن اسمه ، قال : أنا زيد الخيل ، فقال عليه الصلاة والسلام : بل أنت زيد الخير ، فسميّ بعد ذلك بهذا الاسم ، (زيد الخير) .
اخترتُ لكم هذه القصة ، كي تستنبطوا منها في نهاية المطاف العبرة ، فعن معاذ بن جبل أنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم حين بعثه إلى اليمن : أوصني ، قال : أخلص دينك يكفك القليل من العمل*
(أخرجه الحاكم وصححه والبيهقي في الشعب)
فمع الإخلاص لله عزَّ وجل ينفعُ كثيرُ العمل وقليله ، ومن دون إخلاصٍ ، لا ينفع لا كثيرُ العمل ولا قليلُه ، قال تعالى :
( سورة الفرقان )
قال بعض المفسرين : العمل الذي لا إخلاص فيه ، لا خير فيه ، ومردود على صاحبه .
فيا أيها الإخوة الأكارم ... تقْدُمون إلى المسجد ، وتغادِرون المسجد ، وتصلون الصلوات الخمس ، فرقٌ كبيرٌ جداً ، بين من هو مخلصٌ لله عزوجل ، وهو يرقى ، وبين من يرائي الناسَ بصلاته ، ودروسه، وسائِرِ عباداته .
لكن هذا الصحابيّ الجليل ، له في الجاهلية اسمٌ كبير ، وكان علَماً من أعلام الجاهلية ، وقصته تؤكِّد لكم ثانيةً صحة قول النبيّ عليه الصلاة والسلام في حديثه عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ تَجِدُونَ النَّاسَ مَعَادِنَ خِيَارُهُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ خِيَارُهُمْ فِي الْإِسْلَامِ إِذَا فَقِهُوا وَتَجِدُونَ خَيْرَ النَّاسِ فِي هَذَا الشَّأْنِ أَشَدَّهُمْ لَهُ كَرَاهِيَةً وَتَجِدُونَ شَرَّ النَّاسِ ذَا الْوَجْهَيْنِ الَّذِي يَأْتِي هَؤُلَاءِ بِوَجْهٍ وَيَأْتِي هَؤُلَاءِ بِوَجْهٍ *
( متفق عليه)
والناسُ معادن ، فزيد الخير ، أو (زيد الخيل) ، كما كان اسمه سابقاً ، يدعُوه الناس في جاهليته زيد الخيل ، فقد حكى الشيبانيّ ، وهذه القصة منتزعة من كتب الأدب ، كيف كانت حياة هذا الإنسان قبل أن يُسلم ، حكى الشيبانيّ عن شيخٍ من بني عامر ، قال : أصابتنا سنةٌ مجدبةٌ، هلك فيها الزرع والضرع.
العرب في الجاهلية ، مَن هم ؟ لا شيء ، لقد كانوا فقراء ، وعاشوا في الصحراء ، كانوا يقتاتون على ما يغنمون في الغزو ، وكانوا يقتتلون لأتفه الأسباب ، فكان يغزو بعضُهم بعضاً ، فسمىَّ الله حياتَهم هذه جاهلية ، لأن أساسها الجهل .
((فأصابتنا سنةٌ مجدبةٌ ، هلك فيها الزرع والضرع ، فخرج رجلٌ منا بعياله إلى الحيرة ، وتركهم فيها وقال لهم : انتظِروني هنا حتى أعود إليكم ، ثم أقسم ألا يرجع إليهم ، إلا إذا كسب لهم مالاً أو يموت)) .
نحن ، والحمد لله لم نذق الفقر الذي لا يحتمل ، ألا تجد شيئاً تأكله ؟ كلُّنا يجد ، أمّا أن ترى أهلك وأولادك يتضوَّرون جوعاً ، ولا تملك درهماً تشتري لهم به طعامًا فهذه مصيبة الدهر ، وقاصمة الظهر ، فقد أخرج ابن أبي شيبة والبيهقي عن أنس رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : كَادَ الْفَقْرُ أَنْ يَكُونَ كُفْرًا ، وَكَادَ الْحَسَدُ أَنْ يَغْلِبَ الْقَدَرَ *
هذا كلامٌ بليغ ، ومن بليغ الكلام أيضًا ما ورد عن سيدنا علي رضي الله عنه حيث قال : (( قِوام الدين والدنيا أربعة رجال ، عالمٌ مستعملٌ علمه ، وجاهلٌ لا يستنكف أن يتعلم ، وغنيٌ لا يبخل بماله ، وفقيرٌ لايبيع آخرته بدنياه - الآن دقِقوا جيداً - فإذا ضيَّع العالم علمه ، استنكف الجاهلُ أنْ يتعلَّم)) .
إذا رأيت الناس مُعرضين عن الدين ، فهل تعلم مَن السبب ؟ إنهم الدعاة إلى الله ، إن قصَّروا ، أو دعوا إلى شيء ولم يطبِّقوه ، فهذا تضييع العالم لعلمه ، وقد ذكرتُ لكم مرةً أن أبا حنيفة النعمان كان يمشي في الطريق ، فرأى غلاماً صغيراً ، وأمامه حفرة ، فأراد أن ينصحه ، فقال :
((يا غلام إياك أن تسقط ، كان الغلام على درجةٍ من الذكاء والفطنة. أجابه الغلام : بل أنت يا إمام ، إياك أن تسقط ، أنا إن سقطتُ ، سقطتُ وحدي ، وأنتَ إن سقطتَ سقط العالَمُ معك)) .
هذا أن يُضيِّع العالمُ علمه ، لذلك قالوا : ((الورع حسن ، لكن في العلماء أحسن ، والسخاء حسن ، لكن في الأغنياء أحسن ، والعدل حسن ، لكن في الأُمراءِ أحسن ، والحياء حسن، لكن في النساء أحسن، والصبر حسن ، لكن عند الفقراء أحسن ، والتوبة أمر حسن ، لكن في الشباب أحسن)) .
أجملُ شيءٍ شابٌ تائب ، وأجملُ شيءٍ عالمٌ ورع ، وحاكمٌ عدل ، وغنيٌ سخي ، وفقيرٌ صابر ، وامرأةٌ صاحبة حياء ، الحياء أجمل شيءٍ فيه ، أن يكون في المرأة ، والورع في العلماء ، والسخاء في الأغنياء ، والعدل في الأُمراء ، والصبر عند الفقراء ، والتوبة عند الشباب ، وهكذا ، فإذا ضيَّع العالمُ علمَه، استنكف الجاهلُ أن يتعلم ، لذلك نحن نخشى على الدين لا من أعدائه ، فإنّ أعداءه مكشُوفون ، ولكن نخشى عليه من أدعيائه ، لأن الناس يغترُّون بهم ، ويظنونهم على حق ، وهم على باطل ، لهذا قال عليه الصلاة والسلام : ((ابن عمر ، دينك دينك ، إنه لحمُك ودمُك ، خذ عن الذين استقاموا ، ولا تأخذ عن الذين مالوا)) .
إِنَّ هَذَا الْعِلْمَ دِينٌ فَانْظُرُوا عَمَّنْ تَأْخُذُونَ دِينَكُمْ *
( صحيح مسلم )
فهذا الرجل الذي ذكره الشيباني ، والذي أقسم بالله ألاّ يعود إلى أهله إلا برزقٍ أو يموت جوعاً ، فإذا أكرم اللهُ الإنسان بأن يسّر حاجته ، دقِقوا أيها الإخوة ، كلما شكا ليّ أحدٌ أنّ دخله وسط ، أقول له : واللهِ إنّ الله يحبك ، لأن دعوة النبيّ أصابتك ، النبيُّ عليه الصلاة والسلام قال : " اللهم من أحبني ، فاجعل رزقه كفافاً " .
الإنسان إن كان رزقه يكفي حاجاته ، وهو متفرغ لمعرفة الله ، فهذا هو الملك ، مرة سأل ملِكٌ وزيرَه فقال : مَنِ الملك ؟ فتحرّج الوزير ، ما هذا السؤال ؟ ملِك يسأله : مَنِ الملك ؟ فما فهم الوزيرُ مقصدَ الملك، ثم قال له : أنت الِملك ، قال له : لا ، لا يا أخي ، الِملك رجلٌ لا يعرِفُنا ، ولا نعرِفه ، رزَقَه اللهُ زوجةً ترضيه ، وبيتاً يُؤويه ، لا نعرفه ولا يعرفنا ، لأنه إنْ عَرَفَنا جَهِدَ في الخضوع لنا ، وإنْ عرفْناه جَهِدْنا في إذلاله ، فلا يعرفنا ولا نعرفه .
فإذا كان عقلُ الإنسان كبيرًا ، فإنّه يبتعد عن الأضواء ، ويبتعد عن الأماكن التي فيها محاسبة شديدة، أحياناً الإنسان يستخدم الكلمة ولا يفقه معناها ، يقول لك : فلان مسؤول كبير ، ومعناها اللغوي ، أنه مسؤول مسؤوليةً كبيرة ، وسَيُسْأَل عنها ، فهذا الشيخ الذي يروي قصّتَه الشيباني أقسم ألاّ يرجع إلا بزادٍ لأهله ، أو يموت جوعاً ، لأنه بلغ من الفقر حداً لا يُحتمل ، تزوّدَ زاداً ، ومشى يومه كله ، حتى إذا أقبل الليل وجد أمامه خِباءً ، خيمةً ، وبالقرب من الخِباء مُهرٌ مُقيدٌ ، يعني فرسًا أصيلة ، فقال : هذا أول الغنيمة، وتوجه إليه، وجعل يحُلُّ قيده ، فما إن همَّ بِركوبه حتى سمع صوتاً يناديه : خلِّ عنه ، واغنمْ نفسك ، فتركه ومضى ، فما نجحتْ معه المغامرة ، ثم مشى سبعة أيام ، حتى إذا بلغ مكاناً فيه مراحٌ للإبل ، وبجانبه خِباءٌ عظيم ، فيه قبةٌ من أدمٍ ، تشير إلى الثراء والنعمة ، فقال هذا الرجل الشيخ في نفسه: لا بدَّ لهذا المراح مِن إبل ، ولا بد لهذا الخِباء من أهل ، ثم نظر في الخِباء ، وكانت الشمس تدنو من المغيب ، فوجد شيخاً فانياً في وسطه ، فجلس خلفه ، وهو لا يشعر به ، وما هو إلا قليل حتى غابت الشمس ، وأقبل فارِسٌ لم يُرَ قطُّ فارس أعظم منه ، ولا أجسم منه ، قد امتطى صهوةً ، وحوله عبدان يمشيان عن يمينه وشماله ، ومعه نحو مائةٍ من الإبل ، أمامها فحلٌ كبير ، فبرك الفحلُ ، فبركت حوله النُوقُ ، وهنا قال الفارِس لأحد عبديه : احلبْ هذه ، وأشار إلى ناقةٍ سمينة ، واسقِ الشيخ ، فحلب منها حتى ملأ الإناء ، ووضعه بين يدي الشيخ ، وتنحىَّ عنه ، فجرع الشيخ منه جُرعةً أو جُرعتين ، وتركه ، قال الرجل : فدببت نحوه متخفياً ، وأخذت الإناء وشربتُ كلَّ ما فيه ، فرجع العبد ، وأخذ الإناء ، وقال : يا مولاي لقد شربه كله ، يعني والده ، فقال الفارس : احلب هذه ، وأشار إلى ناقةٍ أخرى ، ووضع الإناء بين يدي الشيخ ، ففعل العبد ما أمر به ، فجرع منه الشيخ جرعةً واحدة وتركه ، قال الرجل : فأخذته وشربت نصفه ، وكرهت أن آتي عليه كلِّه ، حتى لا أثير الشكَّ في نفس الفارس ، ثم أمر الفارسُ عبدَه الثاني ، بأن يذبح شاةً ، فذبحها ، فقام إليها الفارس ، وشوى للشيخ منها، وأطعمه بيديه ، حتى إذا شبع ، جعل يأكل هو وعبداه ، وما هو إلا قليلٌ حتى أخذ الجميعُ مضاجعَهم ، وناموا نوماً عميقاً له غطيط ، ومعروف الغطيط ، عند ذلك توجَّهتُ إلى الفحل ، والفحلُ إذا تحرّك تحرّكتْ معه النوقُ كلها ، فحللتُ عقاله ، وركبتُه فاندفع ، وتبعته الإبل ، ومشيتُ ليلتي ، فلما أسفر النهار نظرتُ في كل جهةٍ فلم أرَ أحداً يتبعني ، فاندفعت في السير، حتى تعالى النهار ، ثم التفتُ التفاتةً ، فإذا أنا بشيءٍ كأنه نسرٌ أو طائر كبير، ما زال يدنو مني حتى تبيَّنتُه ، فإذا هو فارسٌ على فرس ، ثم ما زال يقبل عليَّ حتى عرفت أنه صاحبي جاء ينشد إبله ، عند ذلك عقلتُ الفحل ، وأخرجتُ سهماً من كنانتي ، ووضعتُه على قوسي ، وجعلتُ الإبلَ خلفي ، فوقف الفارس بعيداً ، وقال لي : احْلُلْ عقالَ الفحل ، فقلت : كلا ، لقد تركت ورائي نسوةً جائِعات بالحيرة ، وأقسمتُ ألاّ أرجع إليهن إلاّ ومعي مالٌ أو أموت ، قال : إنك ميِّت ، احْلُلْ عقال الفحل ، لا أبا لك ، فقلت : لن أحلَّه ، فقال : ويحك إنك لمغرور ، ثم قال : دلِّ زمام الفحل ، أي أَرْخِ زمام الناقة ، وكان فيه ثلاث عقد ، ثم سألني ، في أية عقدةٍ منها تحبُّ أن أضع لك السهم ، وفي الحديث عن عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ يَقُولُ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ يَقُولُ وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ أَلَا إِنَّ الْقُوَّةَ الرَّمْيُ أَلَا إِنَّ الْقُوَّةَ الرَّمْيُ أَلَا إِنَّ الْقُوَّةَ الرَّمْيُ *
( صحيح مسلم )
قال له : ارْمِ ، دلِّ زمام الفحل ، وكانت فيه ثلاث عقد ، ثم سألني في أية عقدةٍ تحب أن أضع فيها السهم ، فأشرت إلى الوسطى ، فرمى السهم ، فأدخله فيها حتى لكأنما وضعه بيده ، أي إنه رامٍ من الطراز الأول ، ثم أصاب الثانية والثالثة ، عند ذلك عرفتُ قوته ، فأعدتُ سهمي إلى الكنانة ، ووقفتُ مستسلماً ، فدنا مني ، وأخذ سيفي وقوسي ، وقال : اركَبْ خلفي ، فركبت خلفه ، فقال : كيف تظن أني فاعلٌ بك ، قلت : أسوأ الظن ، قال : ولِمَ ، قلت : لما فعلته بك ، وما أنزلتُ بك من عناءٍ ، وقد أظفرك الله بي ، فقال: أو تظن أني أفعل بك سوءًا ، وقد شاركتَ مُهلْهِلاً ،" أي أباه " في شرابه وطعامه ، ونادمته تلك الليلة ، معقول ، فلما سمعت اسم المهلهل ، قلت : أزيد الخيل أنت ؟! قال : نعم ، قلت : كن خير آسر ، قال : لا بأس عليك ، ومضى بي إلى موضعه ، وقال : واللهِ لو كانت هذه الإبل لي لسلَّمتها إِليك ، ولكنها لأُختٍ من أخواتي ، فأقِمْ عندنا أياماً ، فإني على وشك غارةٍ ، قد أغنم منها ، هكذا كان العرب في الجاهلية يعيشون .
وما هي إلا أيامٌ ثلاثة حتى أغار على بني نمير ، فغنم قريباً من مائة ناقة ، فأعطاني إياها كلَّها ، وبعث معي رجالاً من عنده يحمونني ، حتى وصلت الحيرة .
هذه قصَّته في الجاهلية ، فارس من أكابر فرسان العرب ، ذو مروءة ، شهم ، شجاع ، رامٍ ممتاز ، هذا لا يعنينا ، لكن ذكرتُ هذه القصة تمهيداً للقصة الثانية ، تلك كانت صورة (زيد الخيل) في الجاهلية.
أما صورته في الإسلام :
فقد كتب كتَّاب السيرة يقولون : لمَّا بلغت أخبار النبي صلى الله عليه وسلم ، سمع زيد الخيل ، ووقف على شيءٍ مما يدعو إليه .
فالإنسان أيها الإخوة ، قبل أن أُتابع ، الإنسان إذا بلغه الحق ، ولم يستجب له ، يعدُّ أحمقَ ، لأن هذه الفرصة ربما لا تتكرر ، فإذا دُعيتَ إلى الحق فاستجِبْ ، لأن الله سبحانه وتعالى يقول :
( سورة الأنفال : آية " 24 " )
الإنسان قبل أن يعرف الله ميِّت ، قال تعالى :
( سورة النحل : آية " 21 " )
أما إذا عرف الله عزَّ وجل ، فقد أصبح حياً ، مثل المؤمن وغير المؤمن كمثل الحيِّ والميِّت .
فلمَّا بلغت أخبارُ النبي عليه الصلاة والسلام ، سَمْعَ زيدِ الخيل ، ووقف على شيءٍ مما يدعو إليه ، سأسألكم سؤالاً : لو أن أحداً فتح صندوقَ بريده ، فإذا فيه رسالة ، فهل مِنَ الممكن أنْ يمزِّقها قبل أن يقرأها ، ممكن ؟!! هل تجدون في الأرض كلِّها إنساناً واحداً يتلقَّى رسالةً ، فيمزُّقها قبل أن يقرأها ؟!! اقرأها ، وانْظُرْ ما فيها .
أنا أتعجَّب مِن هذا الذي يرفض الإسلام قبل أن يتعلَّمه ، يرفض الدين قبل أن يطَّلع عليه ، يرفض القرآن قبل أن يفهم تفسيره ، هذا الذي يرفضُ الدين ، أو يرفض القرآن ، أو يرفض الإسلام ، أو يتَّهم الدين بتُهمٍ ما أنزل الله بها من سلطان ، قبل أن يتعلَّم ، قبل أن يتمكن ، قبل أن يعلم ، قبل أن يقف على حقيقته ، هذا إنسان مجنون ، يشبه تماماً ذلك الذي مزَّق الرسالة قبل أن يقرأها .
دُعيتَ دعوةً ، لك عقل ، إلامَ يدعو فلان ؟ إلى الحق أم إلى الباطل ؟ إلى الخير أم إلى الشر ؟ إلى العفَّةِ أم إلى الإباحية ؟ إلى الصدق أم إلى الكذب ؟ إلى الإخلاص أم إلى الخيانة ؟ إلى الطَّاعة أم إلى المعصية ؟ إلى الإيمان أم إلى الكفر ؟ إلامَ يدعو ؟ لا ترفض دعوةً صالحة ، لا ترفض دعوة الحق ، استجِبْ لدعوة الحق ، من أجل أن تحيا ، والإنسان من دون الحق ، ميتٌ بين الأموات .
فلمَّا بلغت أخبارُ النبي صلى الله عليه وسلَّم سمْعَ زيدِ الخيل ، ووقف على شيءٍ مما يدعو إليه ، أعدَّ راحلته ، ودعا السادة الكبراء من قومه إلى زيارة يثرب .
وأقول لكم أيها الإخوة ، كل واحد له دور اجتماعي ، الأب غير الابن ، والمعلّم غير الطالب ، والمدير العام غير الموظف ، ورئيس الدائرة غير الكاتب ، والإنسان كلما علا منصبه ، أو علت مرتبته ، إن أساء يضاعفْ له العذاب ، وإن أحسن يضاعفْ له الثواب .
حتى إنني أقول : هناك حِسابٌ خاص لمن كانوا قادة ، الأب إذا أخطأ تبعه أولاده ، الأم إذا أخطأتْ ، فلم تنضبط بشريعة الإسلام تتبعها بناتها ، لذلك فحساب القدوة حسابٌ خاص ، يؤخذ هذا من قوله تعالى :
( سورة الأحزاب )
من هنا ، سيدنا عمر ، كان إذا أراد إنفاذ أمرٍ ، جمع أهله وخاصَّته ، وقال : إني قد أمرت الناس بكذا، ونهيتهم عن كذا ، والناس كالطير ، إن رأوكم وقعتم وقعوا ، وايمُ الله ، لا أوتَيَنَّ بواحدٍ وقع فيما نهيتُ الناس عنه إلا ضاعفت له العقوبة ، لمكانه مني .
فصارت القرابة من عمر مصيبة ، مصيبةٌ كبيرة ، أن تكون قريباً من عمر ، لأنه إذا أخطأَ يُضاعف له العذاب ضعفين .
فسيدنا زيد ، سيِّد قومه ، فارسٌ عظيم ، إذا أسلم أسلم معه كبارُ القوم وعليتهم .
فانتبِهوا أيها الإخوة ، الأب له حساب مُضاعف ، يعني إذا الأب دخَّن مثلاً ، وعنده أولاد شباب ، فهل يستطيع أنْ يمنعهم من التدخين ؟ فأنت تدخن ، وإذا تابع الأب برامج لا ترضي الله ، فهل يتمكن مِن منع أولاده مشاهدة هذه البرامج ؟ لا يقدر ، وإذا كذب الأبُ على أُمهم ، على مرأى من الابن ، أيتمكن هذا الأب أن ينصح ابنه بالصدق ، لا ، إذًا دقِقوا ، فالقدوة لها حسابٌ خاص ، الأب قدوة ، والمعلم قدوة ، والطبيب في المستشفى قدوة ، وكل إنسان رفع الله عزَّ وجل شأنه يُحاسَب حِساباً خاصًّا .
سيدنا زيد الخيل ، جمع سادة قومه ، ودعاهم إلى زيارة يثرب ، ولقاء النبيّ عليه الصلاة والسلام ، بالمناسبة في القرآن آية كريمة دقيقة جداً ، قال تعالى :
( سورة القصص : آية " 50" )
صدقني أيها الأخ الكريم ، إذا استقمت على أمر الله استقامةً تامةً ، تلتقي مع أهل الحق لقاءً عفوياً ، فتُحبهم ، وتثق بهم ، وتُصدِّق دعوتهم ، تعينهم وأنت لا تدري ، إنه تطابق عفوي ، أما كل مَنْ يُقيم على معصية ، يُعادِيهم من زاوية هذه المعصية ، فكلما اتسعت دائرة المعاصي ، اتسعت معها دائرة بغضاء أهل الحق ، فلو أنّ إنسانًا يأكل الرِبا ، وجلس مع مؤمن ، وتحدَّثا في هذا الموضوع ، وآكلُ الربا مُصر على عمله ، ويقول : أنت لا تفهم في هذا ، وأنت مُتزمِّت ، واتّهمه بالجهل ، وعدم الفهم ، وعد الاطِّلاع على الفتاوى الحديثة ، إذًا من أين جاءت هذه العداوة ، وهذا التكذيب ، وهذا الإنكار ؟ من اقتراف المعصية ، فإذا أردتَ أن تتعرف إلى أهل الحق فاستقم على أمر الله ، فتلتقي معهم لقاءً عفوياً ، وتحبهم من أعماق قلبك ، لأن المنافق دائماً يكره المؤمن ، وكل إنسان يرتكب المعاصي سراً ، ويُظهر الطاعة علانيةً ، فهذا إنسان مُنافق ، والمنافق دائماً يُبغضُ أهل الإيمان ، فإذا تغيَّر قلبك ، فاعلم أنه لمعصيةٍ وقعت منك ، ما تحابَّ اثنان ، ثم افترقا ، إلا كان أشدهما حباً لصاحبه أقربهما لله عزَّ وجل ، الأقل محبة، هو الأكثر معصية ، والأكثر محبة هو الأكثر استقامة .
ركب زيد الخيل ، ومعه وفدٌ كبيرٌ من طيِّئ ، فيهم زر بن سدوس ، ومالك بن جُبير ، وعامر بن جوين ، وغيرهم ، وغيرهم ، فلما بلغوا المدينة ، توجَّهوا إلى المسجد النبويّ الشريف ، وأناخوا ركائبهم ببابه ، وصادف عند دخولهم أن كان عليه الصلاة والسلام ، يخطبُ المسلمين على المنبر ، من فوق المنبر، يعني جاءوا وقت خطبة الجمعة ، فراعهم كلامه ، وأدهشهم تعلُّق المسلمين به .
ولقد قال أبو سفيان مرة : (( ما رأيت أحداً يحبُّ أحداً ، كحب أصحاب محمدٍ محمداً )) .
أقول لكم بصراحة : أنتم في هذه المجموعة إذا كنتم في محبة شديدة ، في مؤاثرة ، في تضحية ، في مسامحة ، كلٌ منكم يلتمس لأخيه العذر ، كلٌ منكم يحب أن يرقى أخوه ، فالحب بين المؤمنين علامة الإيمان ؛ أما البغضاء ، والتحاسد ، والطعن ، والتشكيك ، وإيقاع المشكلات بين المؤمنين ، فهذا المجتمع لا يرضى الله عنه ، ولا يرضيه ، ولا قيمة له عند الله .
لقد راعه كلام النبيّ ، وراعه أيضاً تعلُّق المسلمين برسولهم .
يا أيها الإخوة ، نحن أُسرة ، أُسرة بكل معنى الكلمة ، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا تَحَاسَدُوا وَلَا تَنَاجَشُوا وَلَا تَبَاغَضُوا وَلَا تَدَابَرُوا وَلَا يَبِعْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَيْعِ بَعْضٍ وَكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ إِخْوَانًا الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ لَا يَظْلِمُهُ وَلَا يَخْذُلُهُ وَلَا يَحْقِرُهُ التَّقْوَى هَاهُنَا وَيُشِيرُ إِلَى صَدْرِهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ بِحَسْبِ امْرِئٍ مِنْ الشَّرِّ أَنْ يَحْقِرَ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ كُلُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ حَرَامٌ دَمُهُ وَمَالُهُ وَعِرْضُهُ *
(رواه مسلم)
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ مَنْ نَفَّسَ عَنْ مُسْلِمٍ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ الدُّنْيَا نَفَّسَ اللَّهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَمَنْ يَسَّرَ عَلَى مُعْسِرٍ فِي الدُّنْيَا يَسَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَنْ سَتَرَ عَلَى مُسْلِمٍ فِي الدُّنْيَا سَتَرَ اللَّهُ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ فِي عَوْنِ الْعَبْدِ مَا كَانَ الْعَبْدُ فِي عَوْنِ أَخِيهِ*
(رواه مسلم)
فما أبصرهم النبيّ عليه الصلاة والسلام ، لقد كان النبيُّ فطنًا ، والأنبياء كلهم فطِنون ، ورأى وفدًا يدخل المسجدَ أول مرة ، حتى أدار بعض الكلام وخاطبهم به ، فقال :"إني خيرٌ لكم من العُزَّى ، ومن كل ما تعبِدون ، إني خيرٌ لكم من الجمل الأسود ، الذي تعبِدونه من دون الله ".
فما الجمل الأسود ؟ كل عصر فيه شيء ثمين ، الآن يقولون لك : ما ثمن الأخضر اليوم ؟ الناس الآن يعبِدون الأخضر من دون الله ، أو هذه الخمسمائة ($500) يقول لك : ثمنها اليوم ثمانية ملايين ، هذه يعبُدها الناس من دون الله ، الشيء الثمين الغالي ، الذي يزهو به الإنسان ، هذا شيءٌ يعبده أهل الدنيا من دون الله ، ويبدو أن الجمل الأسود ، كان أغلى أنواع الجمال ، فالنبيّ عليه الصلاة والسلام تحدّاهم بالشيء الذي تعلقوا به ، قال : " إني خيرٌ لكم من الجمل الأسود ، الذي تعبُدونه من دون الله ".
وفي زماننا هذا يقول لك قائلٌ : هذه فيلا رائقة ، هنيئاً لصاحبها ، ثمنها ثلاثون مليونًا ، يا أخي مثل الجنة ، وإذا كان بيت في حي المالكي ، أربعمائة متر ، مع مداخل ، هنيئاً لصحابه ، وإذا كانت مركَبة موديل 2000 ، هذه كم ( $ ) ، يقول لك : يا أخي هذه حقًّا سيارة ، أقسم بالله رجلٌ فقال : يتمنى أن تدوسَه ، واللهِ سمعتها بِأُذني ، من شدّة تعلقه بها ، يتمنى أن تمشي فوقه .
قال : إني خيرٌ لكم من الجمل الأسود ، الذي تعبدونه من دون الله ، كل عصر له جمل أسود ، فالنبيّ تحداهم بمعبودهم ، قال : " إني خيرٌ لكم من العُزّى ، ومن كل ما تعبدون ، وإني خيرٌ لكم من الجمل الأسود ، الذي تعبدونه من دون الله ".
فأنت أيها المؤمن إنْ كنتَ في جلسة ودخل شخص ، فلا تهمله ، انتبه له ، خاطبه ، إن رأيته مثقفاً ثقافةً عاليةً ، وأنت داعية ، حدِّثه بالعلم ، بالعلم يخضع ، لا تقصَّ عليه منامًا ، ولا كرامة ، فإنْ يكنْ بقيَ عنده قليلُ اعتقاد بالدين أذْهبْتَه ، فلا يجوز أن تُخاطب المُتعلم بأشياء ربما تُبعده عن الدين ، كل إنسان خاطبه بلغةٍ يفهمها ، فالنبي عليه الصلاة والسلام ، وهو يخطب على المنبر قال ما قاله للقادمين ؛ زيد وصحبه ، مرة وهذا فضل الله عزَّ وجل ، كنت أخطبُ فدخل أحد المُصلين ، أنا حينما أخطب أنتبه للحاضرين ، فدخل مُصلٍّ وهو أخٌ كريم ، مصاب بمرضٍ عُضال ، وأنا أعلم أنه على وشك الموت ، صدِّقوني لقد أشفقت عليه إشفاقاً كبيراً ، وخصصته بحديثٍ خاص ، وذكرتُ وقتها حديثاً شريفاً ، حينما زار النبيّ أحد أصحابه وكان مريضاً ، وقال : يا رسول الله ادعُ الله أن يرحمني ، فقال :" يا ربّ ارحمه، فحدثنا النبيّ أن الله عزَّ وجل يقول : كيف أرحمه ممّا هو به أرحمه ، هذه رحمتي ، وعزتي ، وجلالي، لا أقبِض عبدي المؤمنَ ، وأنا أحب أن أرحمه ، إلا ابتليته ، بكل سيئةٍ كان عملها، سقماً في جسده ، أو إقتاراً في رزقه ، أو مُصيبةً في ماله أو ولده ، حتى أبلغ منه مثل الذر ، فإذا بقي عليه شيء ، شددت عليه سكرات الموت ، حتى يلقاني كيوم ولدته أُمه " .
هذا الحديث يُطيب قلب المرضى ، ويجبر قلوبهم ، ويطمئنهم أن الله يحبهم ، وما فعل معهم ما فعل إلا ليطهِّرهم ، واللهِ ما إن أتممتُ هذا الحديث ، حتى بكى بكاءً شديداً ، بكى حباً لله عزَّ وجل ، وبعد يومين توفاه الله عزَّ وجل ، فإذا كنتَ في جلسة ودخل شخص تعرفه ، فلا تهمله ، تأسَّ بفعل النبيّ عليه الصلاة والسلام ، وانتبه له ، وخُصَّه بنظرةٍ ، أو بكلمةٍ ، وابتسامةٍ .
لقد وقع كلام الرسول عليه الصلاة والسلام في نفس زيد الخيل ومَن معه موقعين مختلفين ، بعضهم استجاب للحق ، وأقبل عليه ، وبعضهم تولَّى عنه ، واستكبر عليه ، قال تعالى :
(سورة الشورى)
أما زر بن سدوس فما كاد يرى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم في موقفه الرائع ، تحُفُّه القُلوب ، وتحوطه العيون ، حتى دبَّ الحسدُ في قلبه ، وملأ الخوف فؤاده ، ثم قال لمن معه : إني لأرى رجلاً ليملِكن رِقابَ العرب ، واللهِ لا أجعلُه يملك رقبتي أبداً ، ثم توجَّه إلى بلاد الشام ، وحلق رأسه وتنصَّر :
( سورة الإنسان )
وأما زيدٌ والآخرون ، فقد كان لهم شأنٌ آخر ، الآن بدأت القصة ، فما إن انتهى النبيّ عليه الصلاة والسلام من خطبته ، حتى وقف زيد الخيل ، بين جُموع المسلمين ، وكان من أجمل الرجال ، وأتمِّهم خلقةً، وأطولهم قامةً ، حتى إنه كان يركب الفرس ، فتمَسُّ رجلاه الأرض ، كما لو كان راكباً حماراً ، وقف بقامته الممشوقة ، وأطلق صوته الجهير ، وقال : يا محمد ، أشهد أن لا إله إلا الله ، وأنك رسول الله ، فأقبل عليه النبيّ صلى الله عليه وسلم ، قال : مَن أنت ؟ قال : أنا زيد الخيل بن مُهلهل ، فقال عليه الصلاة والسلام : " بل أنت زيد الخير ، لا زيد الخيل ، الحمد لله الذي جاء بك من سهلِكَ وجبلك ، ورقق قلبك للإسلام ".
فعُرِف بعد ذلك بزيد الخير ، ثم مضى به النبيّ عليه الصلاة والسلام ، إلى منزله ، والنبي علمنا هذا الأدب ، فعَنْ مَيْمُونِ بْنِ أَبِي شَبِيبٍ أَنَّ عَائِشَةَ مَرَّ بِهَا سَائِلٌ فَأَعْطَتْهُ كِسْرَةً وَمَرَّ بِهَا رَجُلٌ عَلَيْهِ ثِيَابٌ وَهَيْئَةٌ فَأَقْعَدَتْهُ فَأَكَلَ فَقِيلَ لَهَا فِي ذَلِكَ فَقَالَتْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْزِلُوا النَّاسَ مَنَازِلَهُمْ*
( سنن أبي داود : رقم " 4202 " )
فالقادم عليك أول مرة لا بد أنْ تعرفه ، وعليك أنْ تدعوَه إلى بيتك ، وأنْ تحترمه ، وهذه من حكمة المؤمن .
مضى به النبي عليه الصلاة والسلام إلى منزله ، ومعه عمر بن الخطَّاب ، ولفيفٌ من الصحابة ، فلما بلغوا البيت طرح النبي عليه الصلاة والسلام لزيدٍ متَّكأً .
واللهِ أيها الإخوة ، أكثر ما أدهشني في هذه القصة هذا الموقف ، كم مضى على إسلامه ؟ نصف ساعة ، أو ربع ساعة ، والنبيّ إكراماً له طرح له مُتكأً ، وسادة ، فعظُم عليه أن يتكئ في حضرة النبيّ عليه الصلاة والسلام ، وقال : واللهِ يا رسول الله ، ما كنتُ لأتكئ في حضرتك .
أقعدُ هكذا أمام رسول الله ؟ ليس معقولاً ! هذا هو الأدب ، لكنْ متى تعلمه ؟ لم يمضِ على إسلامه ربعُ ساعة ، قال له : والله يا رسول الله ، ما كنت لأتكئ في حضرتك ، المسلم كلُّه أدب ، أحد العلماء قال لأحد تلاميذه : يا بنيّ نحن إلى أدبك ، أحوجُ منا إلى علمك ، علامة رُقي الإنسان أدبه ، النبيّ عليه الصلاة والسلام ، وهو سيِّد الخلق ، ما رؤي ماداً رجليه قط ، ولا بين أصحابه ، وهو سيدهم ، وردّ المُتَّكأ وما زال يُعيده إلى النبيّ ، وهو يرُدّه ، ولما استقر بهم المجلس ، قال عليه الصلاة والسلام لزيد الخير : " يا زيد ما وصِف لي رجلٌ قط ، ثم رأيته ، إلا كان دون ما وصف ، إلا أنت " .
يقول لك أحدهم : لقد أقمنا في مكان لا مثيل له ، هل لكَ أنْ ترافقنا إليه فنرتع ونسعد ، يقول لك : فلان قمَّة ، تلتقي معه فلا تجد شيئًا مِنَ القمة ، فهو أقل دون ما وُصِف بكثير ، والإنسان دائماً يبالغ ، وهذه طبيعة بشرية ، فإذا عاينتَ ما وُصِفَ لك رأيته صغيراً ، قال له :" يا زيد ما وصف لي رجلٌ قط ، ثم رأيته ، إلا وكان دون ما وصف به ، إلا أنت ، قال له : يا زيد ، إنّ فيك خصلتين ، يحبهما الله ورسوله ، قال : وما هما يا رسول الله ؟ قال : الأناة والحلم " .
هاد ، مُتأنٍّ ، حليم ، هذه صفاتٌ يحبها الله ، أمّا هذا الطائش ، والعجول ، والغليظ ، والمتكبِّر ، فلا يرتاح إليه الناسُ ، بل مَن كان فيه أناة وحلم فهو المقبول عندهم ، فقال زيد الخير وكله أدب :" الحمد لله الذي جعلني على ما يُحب الله ورسوله ، ثم التفت إلى النبي عليه الصلاة والسلام ، قال : يا رسول الله، أعطني ثلاثمائة فارس ، وأنا كفيلٌ لك ، بأن أُغير بهم على بلاد الروم ، وأنال منهم ". فأكبر النبيّ عليه الصلاة والسلام ، همته هذه ، وقال له : " لله درُك يا زيد ، أيّ رجُلٍ أنت ؟!! " .
شيء عظيم جدا ، أن يحبك رسول الله ، وأن يُعجب بك ، ثم أسلم مع زيد جميعُ مَن صحِبَه مِن قومه، ولمّا همّ زيدٌ بالرجوع إلى بلاده في نجد ودَّعه النبيّ عليه الصلاة والسلام ، وقال بعد أن ودَّعه :"أيّ رجُلٍ هذا ؟ كم سيكون له من الشأن ، لو سلم من وباء المدينة " .
كان في المدينة أوبئة ، وكانت المدينة المُنورة آنئذٍ موبوءةً بالحمى ، فما إن برحها زيد الخير حتى أصابته ، فقال لمن معه : جنِّبوني بلاد قيس ، فقد كانت بيننا وبينهم حماقاتٌ من حماقات الجاهلية ، ولا واللهِ لا أُقاتل مسلماً حتى ألقى الله عزوجل ، وتابع زيد الخير سيره نحو ديار أهله في نجد ، على الرغم من أن وطأة الحمَّى كانت تشتد عليه ساعةً بعد أُخرى ، فقد كان يتمنَّى أن يلقى قومه ، وأن يكتب اللهُ لهم الإسلامَ على يديه ، وطفِق يسابق المنية ، والمنية تُسابقه ، لكنها ما لبِثت أن سبقته ، فلفَظَ أنفاسه الأخيرة في بعض الطريق ، ولم يكن بين إسلامه وموته مُتسعٌ لأن يقع في ذنب .
عن معاذ بن جبل أنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم حين بعثه إلى اليمن : أوصني ، قال : أَخْلِصْ دِينَكَ يَكْفِكَ الْقَلِيلُ مِنَ الْعَمَلِ *
(أخرجه الحاكم وصححه والبيهقي في الشعب)
هذا سيدنا زيد ، لقد كان مُخلصًا ، وما عاش بعد إسلامه طويلاً ، قد مات في الطريق إلى أهله ، فالإنسان عليه أن يُخلص ، والمُخلٍص في أعلى مقام عند الله عزَّ وجل ، ونرجو الله سبحانه وتعالى أن نكون مُخلصين ، وأن يبعدنا عن الرياء والنفاق .
والحمد لله رب العالمين
***(/)
الدرس 45/50 ، سيرة الصحابي : زيد بن ثابت الأنصاري ، لفضيلة الأستاذ محمد راتب النابلسي .
تفريغ : الأستاذ هشام القدسي .
التدقيق اللغوي : الأستاذ غازي القدسي .
التنقيح النهائي : المهندس غسان السراقبي .
بِسْمِ اللهِ الرَّحمَنِ الرَّحِيمِ
مع الدرس الخامس والأربعين من دروس سيرة صحابة رسول الله رضوان الله تعالى عليهم أجمعين ، وصحابي اليوم سيدنا زيد بن ثابت ولهذا الصحابي قصة ، لعلنا في أمس الحاجة إليها، ذلك أنه في مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، كان أصحاب النبي عليهم رضوان الله يموجون فيها موجاً استعداداً لمعركة بدر ، والمؤمن دائماً صاحب همةٍ عاليةٍ ، المؤمن دائماً ينشط لطاعة الله عز وجل ، المؤمن دائماً يسخر كل طاقاته الفكرية والمادية وخبراته في سبيل الله ، فحق للصحابة أن يرضى الله عنهم لأن أمر الله عندهم عظيم ، ودعوة النبي عليه الصلاة والسلام إلى الجهاد ملأت قلوبهم ، لذلك كانت المدينة تموج موجاً استعداداً لمعركة بدر .
وهذا يقودنا إلى أن الناس إذا تواطؤوا في عصر على تعظيم شيء فكل الناس يتجهوا إليه ، حتى الصغار يقلدون الكبار ، فلو تنافس الناس في الزخرفة والزينة ، لرأيت حديث الناس كله عن زخرفة بيوتهم وزينتها ، ولو تنافس الناس كلهم في جمع الأموال لرأيت حديثهم كله عن جمع الأموال ، ولو تنافس الناس في طلب رضوان الله عز وجل لرأيت الناس جميعاً يتحدثون في هذا المجال ، ففي كل عصر بحسب اتجاه الناس موضوع يهمهم جميعاً .
فيبدو أن الصحابة الكرام في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم لا شيء يشغلهم إلا الإقبال على الله وطاعة الله وخدمة الخلق والدعوة إلى الله والجهاد في سبيل الله ، لذلك ترى المجتمع المؤمن في المناسبات الدينية يموج موجاً .
الآن ترى مثلاً حياً يسكنه أكثر من نصف مليون إنسان ، تدخل إلى المسجد فجراً فتجد سبعة أو ثمانية ، وهو بين بنايات تسع الواحدة منها خمسمائة إنسان مِن ، ترى أبنية مديدة ، طوابق عديدة ، أحياء مكتظة كثيفة ، تدخل إلى صلاة الفجر ، التي هي فريضة تجد سبعة .. أو ثمانية .. فأين الناس ؟
منصرفون إلى متابعة برامج اللهو ، طبعاً ناموا في الساعة الواحدة ، وهذه البرامج كلها موضوعات ساقطة ، وأهداف سخيفة تافهة لا تسمو بالإنسان ، على كلٍ أردت من هذا التعليق أن أبيِّن ما يشغل الإنسان ، أقول : قل لي ما الذي يشغلك أقل لك من أنت .. ساحة نفسك ما الذي يملؤها ، تملؤها الدنيا ، فأنت من أهل الدنيا ، تملؤها البطولات فأنت من أهل البطولات ، تملأها الدعوة إلى الله ، فأنت من هؤلاء ، فالنقطة دقيقة جداً وواضحة ، راقب نفسك ، تأمل نفسك ، ما الذي يشغل ساحة النفس .
[سورة المؤمنون]
والنبي عليه الصلاة والسلام كان يومًا يلقي النظرات الأخيرة على أول جيش ، يتحرك تحت قيادته للجهاد في سبيل الله ، وتثبيت كلمته في الأرض ، بعد أن أسس النبي دولة الإسلام ، وبعد أن تجهز أصحابه لمواجهة ألد أعدائهم ، قريش المشركة الكافرة ، والنبي عليه الصلاة والسلام شأنه شأن كل القادة .. كان يستعرض جيشه قبل أن يعطي أمراً بالتقدم ، وهنا أقبل على الصفوف غلامٌ صغير ، وهذا الكلام للصغار ، الصغار عند الله كالكبار ، والنساء عند الله كالرجال ، أما عند الجهلة ، الصغير صغير والمرأة امرأة ، هذا عند الجهلة ، أما عند الله الصغير كالكبير ، والمرأة كالرجل ، مخلوق أراد الله أن يكرمه في الدنيا والآخرة ، فبحسب إخلاصه ، وبحسب إقباله وبحسب تضحيته يرقى عند الله عز وجل .
أقبل غلام صغير لم يتم الثالثة عشرة من عمره ، يتوهج ذكاءً وفطنة ويتألق نجابة وحمية ، وفي يده سيف يساويه في الطول تماماً ، أو يزيد عنه قليلاً ، ودنا من النبي صلى الله عليه وسلم، وقال : جُعلت فداك يا رسول الله ـ طليق اللسان ـ ائذن لي أن أكون معك وأجاهد أعداء الله تحت رايتك ..
سبحان الله ، الصغار كانوا أبطالاً ، فكيف بالكبار ، في مجتمعات الفسق والفجور الكبار سخفاء ، فكيف بالصغار ؟ .. مجانين ، الكبار سخفاء ، الكبار أهل دنيا ، الكبار يمتلئ قلبهم حقداً، وحسداً ، وطعناً وتهجماً واستعلاءً وكبراً وأنانية .. فكيف بالصغار ؟ .. مجانين ! .
جُعلت فداك يا رسول الله ، ائذن لي أن أكون معك وأجاهد أعداء الله تحت رايتك .. فنظر النبي عليه الصلاة والسلام إليه نظرة سرور وإعجاب ، وربَّت على كتفه بلطف وود ، وطيَّب خاطره ، وصرفه لصغر سنه ..
ليس معقولاً ، طفل صغر ، طوله بطول السيف ، السيف كم طوله ؟ تقريباً ثمانون أو تسعون سنتمترًا ، طفل طوله بطول السيف ، يحب أن يكون مع رسول الله في الجهاد ، فالني ربت على كتفه تحبباً له ، ونظر إليه بإعجاب وسرور ، وطيب خاطره وصرفه لصغر سنه .
بالمناسبة ، الإنسان كلما ارتقى عند الله يتلطف مع الصغار ، والصغار أحباب الله .
ذاتَ مرة سيدنا عمر رضي الله عنه مرة دخل عليه ابنُه الصغير فقبَّله ، وعنده أحد الأشخاص الذين رشَّحهم للولاية ، فقال : يا أمير المؤمنين أتقَبِّل ابنك ، واللهِ أنا لا أقبِّل أحداً من أبنائي ، فأخذ الكتاب منه ومزِّقه ، وقال : انصرف ، إن لم يكن بك رحمة على صغارك فلن يكون بك رحمة على أمتك ، وصرفه ولم يُوَلِّه .
عاد الغلام الصغير يجرجر سيفه على الأرض ، حزيناً أسوان لأنه حرم شرف صحبة رسول الله ، وعادت من ورائه أمه النوار بنت مالك وهي لا تقل عنه أسىً وحزناً ، والنساء كن بطلات ، كانت المرأة ترجو أن يكون ابنها في عداد المجاهدين ، كانت المرأة تزهو إذا قيل لها : إن ابنها استشهد في سبيل الله .
الخنساء استشهد أربعة من أولادها في المعركة ، فقالت : الحمد لله الذي شرفني بقتلهم .
امرأة أنصارية ، رأت زوجها وأباها وابنها وأخاها شهداء في أرض المعركة ، فكانت تقول ما فعل رسول الله ؟ فما إن اطمأنت على أنه حي حتى قالت : يا رسول الله كل مصيبة بعدك جلل، هكذا كانت صحابيات العهد الأول في الإسلام.
كانت هذه الأم تتمنى أن تكتحل عيناها برؤية غلامها ، وهو يمضي مع الرجال مجاهداً تحت راية رسول الله ، وكانت تأمل أن يحتل المكانة التي كان من المنتظر أن يحظى بها أبوه لدى النبي صلى الله عليه وسلم لو أنه ظل على قيد الحياة ، ولكن الغلام الأنصاري حين وجد أنه قد أخفق في أن يحظى بالتقرب من رسول الله في هذا المجال لصغر سنه ، تفتقت فطنته عن مجال آخر .. هنا موطن الشاهد .
إذا لم يُتح لك أن تجاهد في عصر من العصور ، فهناك جهاد آخر ، ربنا عز وجل قال عن القرآن الكريم :
[سورة الفرقان]
الصادق لا يعدم حيلة ، الصادق إذا سُدَّ بابٌ فَتَحَ أبوابًا ، إذا كان الجهاد لا يُتاح للمسلم في بعض العصور والظروف ، لملابسات كثيرة هناك جهاد النفس والهوى ، هناك جهاد التعلم والتعليم ، هناك جهاد الدعوة إلى الله ، هناك جهاد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، هناك جهاد تهذيب النفس ، هناك جهاد البذل ، بذل المال وهو شقيق الروح ، هناك أنواع منوعة من الجهاد .
إذا أتيح لك الجهاد الأول فأنعم به وأكرم ، وإذا لم يتح فهناك أنواع كثيرة للجهاد ، وأنواع منوعة ، فهذا الغلام الأنصاري تفتقت فطنته عن مجال آخر لا علاقة له بالسن ، يقربه من النبي صلى الله عليه وسلم ويدنيه إليه ، فما المجال إذًا ؟ هو مجال العلم والحفظ ، هذا المجال متاح لكم جميعاً : العلم والحفظ ، التعلم والتعليم ، شيء لا يُقدر بثمن ، لقول النبي عليه الصلاة والسلام : " خيركم من تعلم القرآن وعلمه " ، خيركم على الإطلاق ، من تعلم القرآن وعلمه ، هذه الجلسة التي في المسجد ، وهذا الانتظار وذاك الاستماع ، وهذا الاستيعاب ، وتلك المراجعة، وهذه المذاكرة بعد الدرس ، ثم هذا الحفظ ، أو التدوين ، ثم الإلقاء والتوجيه ، فهذا جهاد لا يقلُّ عن أيّ جهاد ، والله سبحانه وتعالى أكّده بالقرآن الكريم قال :
انظر إلى هذا الغلام الصغير ، حينما لم يسمح له النبي عليه الصلاة والسلام ، أن يجاهد بجسمه ، تفتق ذهنه عن جهاد آخر ، عن العلم وعن الحفظ ، فذكر الغلام الفكرة لأمه ، فهشت لها وبشت ، ونشطت لتحقيقها.
حدثت النوار أم الغلام رجالاً من قومهم برغبة الغلام وذكرت لهم فكرته ، فمضوا به إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقالوا : يا نبي الله هذا ابننا زيد بن ثابت ، يحفظ سبع عشرة سورة من كتاب الله .
درجَتْ عادةٌ إسلاميةٌ : أن ابنته تحفظ ثمانية عشر جزءًا ، واللهِ شيء جميل ، فلانة ابنتي تحفظ القرآن كله ، شيء جميل وعظيم .
قالوا : يا نبي الله ، هذا ابننا زيد بن ثابت يحفظ سبع عشرة سورة من كتاب الله ، ويتلوها صحيحة كما أنزلت على قلبك ، وهو فوق ذلك حاذق يجيد الكتابة والقراءة ، وهو يريد أن يتقرب إليك وأن يلزمك فاسمع منه إذا شئت .
أنت رفضته أن يجاهد معك في الحرب ، وهو الآن يحفظ هذه السور ، ويحذق الكتابة والقراءة ، ويحب أن يتقرَّب إليك بحفظه وخبرته فاسمعْ منه إذا شئت .
سمع النبي عليه الصلاة والسلام من الغلام زيد بن ثابت .. يا أيها الإخوة الكرام والله الذي لا إله هو ، أقول لكم هذا الكلام ، لو أن أحدكم اعتنى بابنه عناية بالغة حتى تعلم القرآن ، أو حتى تعلم حديث رسول الله ، أو تعلم أحكام الفقه ، وحمله على طاعة الله ، وعلى أداء الصلوات، وعلى التقرب إلى الله بالطاعات ، فالأب إذا رأى ابنه على هذه الحال ، واللهِ يدخل على قلبه سعادة لا أستطيع وصفها ، ولو كانت هذه الأسرة متقشفة ، حياتها خشنة ، طعامها خشن ، بيتها صغير دخلها قليل لكانت في غاية السعادة .
إن الذي يسعدك أن ترى ابنك امتداداً لك ، أن ترى ابنك يخلفك في معرفة الله ، في الدعوة إليه ، في خدمة الخلق .
أن ترى ابنك ولداً صالحاً يدعو لك من بعدك ، فكل إنسان عنده ابن فليعتنِ به .
قبل أسبوع ، وفي يوم الجمعة جرى احتفال بمناسبة تخريج دفعة عند نهاية دورة صيفية لمعهد تحفيظ القرآن ، وسمعت كلمات من الصغار ، وتلاوات ، واللهِ أثلجتْ قلبي من شدة الفرح، فكيف بالأب الذي رَّبى هذا الابن هذه التربية ، فالأب الذي علم ابنه القرآن له عند الله يوم القيامة شأن خاص .
سمع النبي الكريم من الغلام زيد بن ثابت بعضاً مما يحفظ ، فإذا هو مشرق الأداء مبين النطق ، تتلألأ الكلمات على شفتيه كما تتلألأ الكواكب على صفحة السماء ، ثم إن تلاوته تَنُمُّ عن تأثر بما يتلو ، واسيتعاب وحسن أداء .
ذات مرة قرأ طالبٌ نصًّا ، وهو يحمل رسالة ، والنصُّ يصف طيرًا حرًّا ، لا يشعر بقيد في ساقه ، ولا بِغُلٍ في جناحه ، فقرأها ولا بَغْلٍ في جناحه ! فهل يُعقَل أنّ الطائر يحمل بغلاً في جناحه ، يقرأ ولا يستوعب ، فيقع في أخطاء غير معقولة ، وهذا دليل عدم فهم .
فالذي يقرأ القرآن أين يقف ، موقفه دليل فهمه ، أحياناً يعطي الآيات نبرة خاصة ، آيات الوعيد لها نبرة ، آيات الوعد لها نبرة ، آيات الرحمة لها نبرة ، آيات العذاب لها نبرة ، الآيات الكونية لها نبر ، والآيات المدنية لها لونها ، فكلما نوعت في تلاوتك ونوعت في صوتك ولونت في صوتك فهذا دليل حِذقٍ في كتاب الله عز وجل .
ووقفاته تدل على وعي لما يقرأ وحسن في فهمه ، سُرَّ به النبي عليه الصلاة والسلام ، إذ وجده فوق ما وصفوا ، يعني بالمائة تسع وتسعون ، الناس يصفون شيئاً أو رجلاً أو طفلاً أو فتاة أو زوجة أو زوجاً ، يصفونه وصفاً أكبر من حقيقته بكثير ، دائماً تجد مبالغات ، وأكثر ضررٍ نقع فيه تلك المبالغات .
ترى أناسًا إذا خطب ابنتَهم شابٌ ، يصفونه بالوَلاية ، صاحب دين تقي ، ورع نقي ، كل شيء على تمامه وزيادة ، فإنْ حصل خلاف .. يا لطيف ، صار الإنسان ساقطًا ، جاهلاً ، النقلة لست معقولة ، فمَن وصفه بالولاية والتقى والصلاح والذكاء والحصافة والحكمة والغنى والأسرة، ذات الحسب والنسب ، فجأة يصبح هذا الصهر ساقطاً ، رذيلاً ، ماكراً ، خداعاً منحطاً فاسقاً عاصياً كافراً .. أعوذ بالله ، هكذا الناس ، ليس عندهم وسطية ..
مع أن النبي عليه الصلاة والسلام قال : أَحْبِبْ حَبِيبَكَ هَوْنًا مَا عَسَى أَنْ يَكُونَ بَغِيضَكَ يَوْمًا مَا وَأَبْغِضْ بَغِيضَكَ هَوْنًا مَا عَسَى أَنْ يَكُونَ حَبِيبَكَ يَوْمًا مَا *
[رواه الترمذي عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ]
فعَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ قَالَ أَمَرَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ أَتَعَلَّمَ لَهُ كَلِمَاتٍ مِنْ كِتَابِ يَهُودَ قَالَ إِنِّي وَاللَّهِ مَا آمَنُ يَهُودَ عَلَى كِتَابِي قَالَ فَمَا مَرَّ بِي نِصْفُ شَهْرٍ حَتَّى تَعَلَّمْتُهُ لَهُ قَالَ فَلَمَّا تَعَلَّمْتُهُ كَانَ إِذَا كَتَبَ إِلَى يَهُودَ كَتَبْتُ إِلَيْهِمْ وَإِذَا كَتَبُوا إِلَيْهِ قَرَأْتُ لَهُ كِتَابَهُمْ *
[رواه الترمذي وأبو داود وأحمد]
وفي الأثر : "من تعلم لغة قوم أمن شرهم " .
مجتمع المسلمين مجتمع راق مجتمع حصيف ، فلا بد من إنسان يتقن اللغة الأجنبية حتى يكون وسيطًا ، أحياناً يأتي شخص أجنبي يريد أن يسلم ، فما أروع أن يكون بين الإخوة المؤمنين إنسان يتقن اللغة الأجنبية .
قد تكون هناك وثائق رسمية ، فلا بد من ترجمتها ، أو مصحف مترجم ، أو نسخة مترجمة للمصحف مُنع إدخالها ، فأنا ظننت أن الذي منع إدخاله من باب التعنت ، فدفعته إلى أحد الإخوة المختصين باللغة الأجنبية ، تبيّن له أن فيه دسائس ، وفيه تزويرًا للحقائق ، وفيه تحريف لمعاني آيات تحمل تشويهًا للإسلام ، فمَن تعلم لغة قوم أمن مكرهم .
فعَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ قَالَ أَمَرَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ أَتَعَلَّمَ لَهُ كَلِمَاتٍ مِنْ كِتَابِ يَهُودَ قَالَ إِنِّي وَاللَّهِ مَا آمَنُ يَهُودَ عَلَى كِتَابِي قَالَ فَمَا مَرَّ بِي نِصْفُ شَهْرٍ حَتَّى تَعَلَّمْتُهُ لَهُ قَالَ فَلَمَّا تَعَلَّمْتُهُ كَانَ إِذَا كَتَبَ إِلَى يَهُودَ كَتَبْتُ إِلَيْهِمْ وَإِذَا كَتَبُوا إِلَيْهِ قَرَأْتُ لَهُ كِتَابَهُمْ *
[رواه الترمذي وأبو داود وأحمد]
اليهود ماذا قالوا ؟
[سورة المائدة]
الصحابة الكرام ماذا قالوا ؟ فعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ اسْتَشَارَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَخْرَجَهُ إِلَى بَدْرٍ فَأَشَارَ عَلَيْهِ أَبُو بَكْرٍ ثُمَّ اسْتَشَارَ عُمَرَ فَأَشَارَ عَلَيْهِ عُمَرُ ثُمَّ اسْتَشَارَهُمْ فَقَالَ بَعْضُ الْأَنْصَارِ إِيَّاكُمْ يُرِيدُ نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ فَقَالَ قَائِلُ الْأَنْصَارِ تَسْتَشِيرُنَا يَا نَبِيَّ اللَّهِ إِنَّا لَا نَقُولُ لَكَ كَمَا قَالَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ لِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام اذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ وَلَكِنْ وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لَوْ ضَرَبْتَ أَكْبَادَهَا إِلَى بَرْكٍ قَالَ ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ إِلَى بَرْكِ الْغِمَادِ لَاتَّبَعْنَاكَ *
[رواه أحمد]
وفي حديث آخر عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَاوَرَ حَيْثُ بَلَغَهُ إِقْبَالُ أَبِي سُفْيَانَ قَالَ فَتَكَلَّمَ أَبُو بَكْرٍ فَأَعْرَضَ عَنْهُ ثُمَّ تَكَلَّمَ عُمَرُ فَأَعْرَضَ عَنْهُ فَقَالَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ إِيَّانَا يُرِيدُ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ أَمَرْتَنَا أَنْ نُخِيضَهَا الْبِحَارَ لَأَخَضْنَاهَا وَلَوْ أَمَرْتَنَا أَنْ نَضْرِبَ أَكْبَادَهَا إِلَى بِرْكِ الْغِمَادِ لَفَعَلْنَا ...*
[رواه أحمد]
وأكب زيد على العبرية حتى حذقها في وقت يسير ، وجعل يكتبها للنبي عليه الصلاة والسلام كلها إذا أراد أن يكتب لليهود ، ويقرؤها له إذا هم كتبوا إليه .. ، فصارتْ له قيمة عند رسول الله، وصار مستشارًا في اللغة العبرية .
ماذا تتقن ؟ قيمة الرجل ما يحسن ، تتقن المحاسبة ، فهذا جيد .. ومكانتك جيدة ، تتقن اللغة الأجنبية ، نعم يتقنها ، تتقن الاختصاص الفلاني ؟ لا ، إذًا فأَتقِنه .. فقيمة المرء ما يحسنه .. لكن لا يحسن شيئًا فهذا لا ينبغي ، ماذا تحسن ؟ لا شيء .. على باب الله ، ما هذا ؟ !! يجب أن تتقن شيئاً ، يجب أن تتقن اختصاصاً ، تعلَّمْ كل شيء عن شيء ما ، وشيئاً ما عن كل شيء ، وهذا الذي تتقنه يجب أن يوظَّف في الحق ، تتقن اللغة العربية أنْعمْ بها وأكرم ، وكذلك اللغة الأجنبية التي تعلَّمتها ، الرياضيات والفيزياء الكيمياء ، لتتقِنْ التجارة مثلاً ، لتتقن الضرب على الآلة الكاتبة ، لتتقن المحاسبة ، فلا بد من اختصاص ، ومن حرفة تتقنها ، والنبي عليه الصلاة والسلام أمسك بيد عبد الله بن مسعود فرآها خشنه ، فقال عليه الصلاة والسلام إن الله يحب هذه اليد .
فسيدنا زيد تعلم العبرية فأتقنها قراءة وكتابة ، فإذا كتب اليهود إلى النبي عليه الصلاة والسلام كان يقرأ له ما كتبوا إليه ..
مرةً وافقنا على قرار الأمم المتحدة ، ووافق اليهود عليه ، والفرق بين النَّصَّيْن العربي والإنجليزي أَلِفُ التعريف ، نحن فهِمْنا أن على إسرائيل أن تنسحب من الأراضي المحتلة هم فهموا أن عليها أن تنسحب من أراضٍ احتلت ، فبَيْنَ (أل التعريف) وعدمها مسافة كبيرة جداً .. على كل من تعلم لغة قوم أمن مكرهم ، والإنسان لو تعلم اللغة الأجنبية الإنكليزية أو الفرنسية أصبح إنساناً آخر .
والآن بالمناسبة لديّ كلام سأوجهه لإخواننا المختصين في اللغة الأجنبية ، الآن ملايين ـ إن صح التعبير ـ في العالم الغربي يتشوقون إلى معرفة الإسلام ، ولكن لا تستطيع أن تخاطبهم إلا بعقليتهم وبلغتهم فمَن مكَّنه الله مِن لغة أجنبية ، واستطاع أن يؤلف كتباً باللغة الإنجليزية بطريقة يفهمها الأجانب ، وبأسلوب يقدرونه فقد حقّق إنجازاً لا يوصف إطلاقاً ، ولا يقدر بثمن .
أنا والله أتمنى على كل أخ يتقن اللغة الإنكليزية أن يوظف اختصاصه في ترجمة بعض الكتب الإسلامية ، أو في تأليف بعض الكتب ، يعني في العالم الغربي يقال لك هذا الكتاب مطبوع منه ثمانية ملايين نسخة ، وآخر عشرة ملايين ، وثالث عشرين مليون نسخة ، هناك إقبال على القراءة كبير ، وهناك شغف لمعرفة الإسلام شديد ، وهناك ولا سيما بعد أن أفلست كل النظم الوضعية ، هناك رغبة ملحة للاطِّلاع على الإسلام ، فكل إنسان يحمل لسانس باللغة الأجنبية أتمنى عليه وأرجو منه أن يوظف اختصاصه في خدمة هذا الدين والدعوة له .
أصبح سيدنا زيد بن ثابت ترجمان النبي عليه الصلاة والسلام ، ولما استوثق النبي صلوات الله وسلامه عليه من رصانة زيد وأمانته ودقته وفهمه ائتمنه على رسالة السماء .
النمو مستمر .. والإنسان ينمو دائماً ، تبدأ بهذا المستوى وتنمو ، البطولة أن تبدأ ، الطريق طويل ، اقطع فيه أول خطوة ، لا ترى نفسَك إلا وأنت في منتصفه ، أما الذي لا يبدأ عاجز .. لذلك هلك المسوفون ، أطول طريق أوله خطوة ، أكبر هدف أوله حركة ، فهو رُفِضَ كمجاهد ، فطلبَ العلم ، وحفظ القرآن ، حتّى تلاه على سمع النبي فأعجب به ، وكلَّفه أن يتعلم العبرية ، فأتقنها قراءة وكتابة ، فسُرَّ به النبي وعيَّنه ترجمانه ، ثم ارتقى عند رسول الله فاستوثق النبي من رصانة زيد ، وأمانته ودقته وفهمه فأتمنه على رسالة السماء فجعله كاتباً للوحي ، أقليلة هذه ؟ أنعِمْ بها من مهمة ، شرف عظيم ، فكان إذا نزل شيء من كتاب الله على قلب النبي عليه الصلاة والسلام ، بعث إليه يدعوه ..
فإذا أتيح لشخص أن يشتغل بالعلم ، أن يقرأ ، أن يترجم ، أن يؤلف ، ولا سيما العلم الشرعي ، فهذه رتبة سامية ، لأنّ كل علم ممتع .. وهناك علم ممتع ونافع في اختصاص نادر ، يدر عليك مئات الألوف ، أما العلم الشرعي فهو علم ممتع نافع مسعد في الدنيا والآخرة ، ثلاث كلمات ، علم نافع ممتع كأي علم نافع في الدنيا ، ونافع في الآخرة .
ترى عالمًا جليلاً .. اسأل أقرباءه ماذا كان يعمل في صغره ؟ والله كان دولاتيًّا ، فلو يُذكر مليون مرة لمَا خطر في بال إنسان أن فلانًا كان دولاتيًّا .
تسمع عن عالم جليل آخر .. ماذا كان يعلم ؟ كان نجاراً ، فإن يُذكر اسمه مليون مرة لا يخطر في بال واحد أنه كان نجاراً .
يعني ليس عنا ببعيد الشيخ أحمد الشامي رحمه الله ، رجل متواضع صغير الحجم ، خرج بجنازته خمسون ألف ، فما بقي في الشام أحد إلاّ وذهب إلى تعزية أهله وذويه ، وأنا كنت حاضرًا في التعزية .
لذلك أيها الإخوة رتبة العلم أعلى الرتب ، وعلمياً رؤساء الدول العظمى ، كيف يتخذون قراراتهم ؟ .. بناءً على توصية العلماء .
سيدنا زيد بن ثابت أصبح المرجع الأول لكتاب الله ولأمة محمد صلى الله عليه وسلم ، فكان رضي الله عنه رأس من جمعوا كتاب الله في عهد الصديق ، وطليعة من وحدوا مصاحفه في زمن عثمان ! أفبَعدَ هذه المنزلة منزلة تسمو إليها الهمم ، وهل فوق هذا المجد مجد تطمح إليه النفوس ..
الحقيقة ، لهذا الصحابي الجليل موقف لا يُنسى ، والمؤمن بحكمته وفهمه وكياسته قد يوفق، وقد يحقن الدماء ، بموقفه الحكيم .
ففي يوم السقيفة اختلف المسلمون فيمن يخلف رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال المهاجرون : فينا خلافة رسول الله ونحن بها أولى ، وقال بعض الأنصار : بل تكون الخلافة فينا ونحن بها أجدر ، وقال بعضهم الآخر : بل تكون الخلافة فينا وفيكم معاً ، فقد كان عليه الصلاة والسلام إذا استعمل واحدًا منكم على عملٍ قرن معه واحداً منا ، وكادت تحدث فتنة ونبي الله صلى الله عليه وسلم ما زال مسجى بين ظهرانيهم ، وكان لا بد من كلمة حاسمة حازمة رشيدة مشرقة بهدي القرآن الكريم تئد الفتنة في مهدها ، فانطلقت هذه الكلمات من فم زيد بن ثابت ، اسمعوا ماذا قال التفت إلى قومه وقال : يا معشر الأنصار ، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان من المهاجرين فينبغي أن يكون خليفته من المهاجرين وإنا كنا أنصار رسول الله فنكون أنصاراً لخليفته من بعده ، وأعواناً له على الحق ، ثم بسط يده إلى أبي بكر الصديق وقال هذا خليفتكم فبايعوه وأنهى الموقف .
ما أروع المؤمن إذا حسم الفتنة ، ما أروع المؤمن يألف ولا يفرِّق ، وما أروع المؤمن إذا وفق ولم يجُرْ ، ما أروع مِنَ المؤمن الذي تهمّه مصلحة المؤمنين ، صار همزة وصل ، وأداة جمع وتوفيق ، وأداة تأليف ، لا أداة فرقة ، ولا أداة بعد ، ولا أداة عداوة ..
صار سيدنا زيد مع فقهه وعلمه وطول ملازمته للنبي عليه الصلاة والسلام منارة للمسلمين ، يستشيره خلفاؤه في المعضلات ، ويستفتيه عامتهم في المشكلات ، ويرجعون إليه في المواريث خاصة ، إذ لم يكن بين المسلمين إذ ذاك من هو أعلم منه بأحكامها ، ولا أحذق منه في قسمتها ، فقد خطب عمر رضوان الله عليه في المسلمين يوم الجابية فقال : ((أيها الناس من أراد أن يسأل عن القرآن فليأت زيد بن ثابت ، ومن أراد أن يسأل عن الفقه فليأت معاذ بن جبل ، ومن أراد أن يسألَ عنِ المال فليأت إليَّ ، فإن الله عز وجل جعلني عليه والياً ، ولها قاسماً)) .
وطلاب العلم من الصحابة والتابعين لزيد بن ثابت عرفوا قدره فأجلوه وعظموه لما وقر في صدره من العلم .
استمعوا لهذه الوقفة : بحر العلم سيدنا عبد الله بن عباس ، يرى زيد بن ثابت قد هم لركوب دابته ، فيقف بين يديه ويمسك له بركابه ، ويأخذ بزمام دابته ، فيقول له زيد بن ثابت : دع عنك يا ابن عم رسول الله فقال ابن عباس هكذا أمرنا أن نفعل بعلمائنا ، فقال له زيد : أرني يدك ، فأخرج ابن عباس يده فمال عليها زيد ، وقبَّلها ، قال : وهكذا أمرنا أن نفعل بآل بيت نبينا .
أدب ما بعده أدب ، تقدير ما بعده تقدير ، حب ما بعده حب ، إخلاص ما بعده إخلاص ، وفاق ما بعده وفاق ، علامة إخلاص أحدنا أن يحب أخاه ، علامة إخلاص علمائنا أن يحبوا بعضهم بعضاً ، علامة إخلاص المؤمنين أن يجتمعوا يداً واحدة ، علامة إخلاص الدعوات إلى الله أن تتعاون لا أن تتناقض ، علامة إخلاصك أن تؤثر مصلحة المؤمنين على مصلحتك الشخصية ، علامة إخلاصك أن تجعل انتماءك وانتماء إخوانك لمجموع المؤمنين ، علامة إخلاصك أن تدعو إلى أن يكون المؤمنون يدًا واحدة .
ولما لحق زيد بن ثابت بجوار ربه بكى المسلمون بموت العلم الذي ووريَ معه ، فقال أبو هريرة : اليوم مات حَبرُ هذه الأمة ، وعسى أن يجعل الله في ابن عباس خلفًا له ، ورثاه شاعر النبي عليه الصلاة والسلام ورثا نفسه معه فقال :
***
فمَن للقوافي بعد حسانَ وابنه ومَن للمثاني بعد زيد بن ثابت
***
وكلنا على هذا الطريق سنموت ، ولكن البطولة أن تخلف أثراً طيباً ، فالبطولة أن تترك عملاً طيباً ، والبطولة أن تجعل ذكرك عطراً بعد موتك .
***
دقات قلب المرء قائلة له إن الحياة دقائق وثوان
فاجعل لنفسك بعد موتك ذكرها فالذكر للإنسان عمر ثان
***
سيدنا زيد ما أتيح له أن يجاهد مع النبي ، كان صغيراً ، كان طوله بطول السيف ، رده النبي بلطف ، ما عدم حيلة أخرى ، طلب العلم حفظ القرآن تلاه أمام النبي ، النبي كلفه أن يحذق العبرية ، حذقها ، كلفه أن يكتب الوحي كتبه ، تعلم الفرائض صار حبر هذه الأمة ، صار مرجعَ الأمة في القرآن الكريم ، لذلك لا يقلُّ مداد العلماء عن دماء الشهداء ، ولا يقلُّ الجهاد بالقرآن الكريم عن الجهاد بالسيف ، لقوله تعالى :
والحمد لله رب العالمين(/)
الدرس 9/ 50 : سيرة الصحابي : زيد بن حارثة ، لفضيلة الأستاذ الدكتور محمد راتب النابلسي
تاريخ : 07 / 12 / 1992 .
تفريغ : عماد علان
التدقيق اللغوي : الأستاذ غازي القدسي .
التنقيح النهائي : المهندس غسان السراقبي .
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيّدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، اللهم لا علم لنا إلا ما علَّمْتنا إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علِّمنا ما ينْفعنا وانْفعنا بِما علَّمتنا وزِدْنا عِلما ، وأَرِنا الحق حقاً وارْزقنا اتِّباعه وأرِنا الباطل باطِلاً وارزُقنا اجْتنابه ، واجْعلنا ممن يسْتمعون القول فَيَتَّبِعون أحْسنه وأدْخِلنا برحْمتك في عبادك الصالحين .
بسم الله الرحمن الرحيم
أيها الأخوة الأكارم ؛ مع الدرس التاسع من دروس سِيَر الصحابة رِضْوان الله عليهم أجْمعين ، وصَحابِيُّ اليوم حِبُّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وصفَهُ الواصِفون بأنَّهُ كان قصير القامة ، شديد السُّمْرة ، في أنفِهِ فطَس ، وأما نبؤُهُ فَعَظيمٌ جداً جداً ، ماذا تدُلُّكم هذه المُفارقة ؛ قصير القامة ، شديد السُّمْرة ، في أنفِهِ فَطَس ، وهو حِبُّ رسول الله ، وسَأريكم بعد قليل كم هي المكانة التي يتمَتَّع بها عند النبي عليه الصلاة والسلام، وسأُخْبِرُكم بعد قليل أنَّ الصحابيُّ الوحيد - تَذَكَّروا - الذي ذكر الله اسمه في القرآن هو سيِّدُنا زَيْد ، وفي ذِكْره قِصَّة ، لماذا ذكر الله اسمه في القرآن الكريم ؟! أوَّلاً لا قيمة لِشَكْل الإنسان إطْلاقاً عند الله عز وجل ، أيَّةُ صِفَةٍ تكون مُتَلَبِّساً بها قصيرُ القامة أو طويلها ، أبيض اللون أو أسْمر اللون ، أيَّةُ صِحَّةٍ وأيَّةُ
عاهَةٍ ، أيُّ جمالٍ وأيَّةُ وسامَةٍ وأيَّةُ دمامةٍ لا أثر لها عند الله تعالى قيمة الرجل في إيمانه وأفْعاله وعمله ، إذاً كلُّ القِيَم المادِيَّة الأخرى تحت الأقدام نَبِيُّ الرحمة والعدل والقِيَم والأخلاق، كلها اجتمعت فيه ، وهاهو
عليه الصلاة والسلام يقول :" إنما بُعِثْتُ لأُتَمِّم َصالح الأخلاق "
( رواه أحمد )
إنه حِبُّ رسول الله .
هذا الصحابيُّ الجليل كان أقرب الناس إلى النبي عليه الصلاة والسلام قبل أنْ يُبْعَث النبي عليه الصلاة والسلام له قِصَّة ، وهي أنَّ زَيْداً كان صغيراً وعُمرهُ لا تزيد على ثماني سنوات ، أَتَوْا به إلى سوق عُكاظ وباعوه عَبْداً لماذاَ ؟! لأنَّ أمه سُعْدى بنت ثعْلبة أرادت أن تزور قومها بني معن ؛ وكانت تصحب معها ابنها زيد بن حارثة الكعبي ، فما كادت تحِلُّ في ديار قومها حتى أغارت عليهم خيلٌ لبني القيد ؛ فأخذوا المال واستاقوا الإبل وسبوا الذراري ، هكذا كان العرب في الجاهلية ، أكرر القول :غارةٌ مفاجئة استاقوا الإبل وسلبوا الأموال و سبوا الذراري ؛ فكان هذا الطفل الصغير في الثامنة من عمره مع أمه في زيارة بيت جدِّه ؛ جاءت غارةٌ مفاجئة فأخذته وباعته في سوق عُكاظ عبداً واشترى هذا العبدَ حكيم بن حَزام بن خُوَيلِد بأربعمائة درهم ، واشترى معه طائفةً من الغلمان وعاد بهم إلى مكة فلما عرفت عمَّتُه خديجة بنت خُوَيلد بمقدمه زارته مسَلِّمةً عليه مرَحِّبةً به فقال : يا عمَّةُ لقد ابتعتُ من سوق عُكاظٍ طائفةً من الغلمان فاختاري أيَّا منهم تشائين فهو هديَّةٌ لكِ ، فتفرَّست السيدةُ خديجةُ وجوه الغلمان واختارت زيدَ بنَ الحارثة لِما بدا لها من نجابته ؛ ومضتْ به ؛ وما هو إلاَّ وقتٌ قليلٌ حتَّى تزوَّجتْ خديجةُ بنتُ خويلد من محمد بنِ عبدِ الله صلى الله عليه وسلم فأرادت أن تُطرِفه ؛ أي تتحفه بتُحفة وهدية ، فأهدت له غلامها زيد بن حارثة ، فأعتقه النبي عليه الصلاة والسلام فورًا .
هناك معانٍ كثيرةٌ جدًّا تدور في نفسي حول هذه القصة ، النبي عليه الصلاة والسلام لم يُبعَثْ بعدُ ، اسمه محمدُ بنُ عبدِ الله ، أحدُ الأشخاص في مكة المكرمة قُدِّم له زيدُ بن حارثةَ هديَّةً ، لكنَّ نفسَه أبَتِ أن تستعبد الناس فأعتقه فورًا ، ولكن أين يسكُنُ ، وأين يأكلُ ؟ بقِيَ عند النبي عليه صلاة والسلام ، لم يَبْقَ عنده عبداً ، إنما بقي عنده ضيفًا ، أما أُمُّه وأبوه فقد بَكَيَا عليه كثيرًا وبَحَثاَ عنه كثيرًا ، وفي موسمٍ من مواسم الحجِّ قصَدَ البيتَ الحرام نفرٌ من قوم زيدٍ ، وفيما كانوا يطوفون بالبيت العتيق ؛ إذْ هم بِزَيدٍ وجهاً لوجهٍ ، فعرفوه وعرفهم وسألوه وسألهم، و لما قضَوْا مناسكهم وعادوا إلى دِيارِهم أخبروا حارثةَ - من حارثةُ ؟ أبوه - بِما رأوا وبما
سمعوا ، وقال زيدٌ لهؤلاء : أخبروا أبي أني مع أكرمِ والدٍ ، وبعد دعونا قليلاً من أحداثِ هذه السيرةِ وتعالَوْا بنا إلى حياتنا اليومية ، أنتَ كمؤمن ؛ إذا كان إنسانٌ تحتَ يَدِكَ ؛ وليكُنْ صانعاً في محلِّكَ التِّجاري ؛ وليكن موظفاً عندك ، أنتَ كمؤمنٍ عليك أن تقتديَ بهذا النبي عليه الصلاة والسلام ، يجبُ أن تعاملَه كما تُعامل ابنَك إلى أن يقولَ هذا الإنسانُ الذي تحت يدك :
أنا مع أكرم والد ، الإسلامُ هكذا ، الذي تحت يدك يجب أن تُطعِمَه ممَّا تأكلُ وأن تُلبسَه ممَّا تلبس ، أنا يَحُزُّ في قلبي أن أرى رجلاً مسلماً عنده مُوظَفٌ أو صانعٌ أو غُلامٌ صغيرٌ ، يؤتى له بالطَّعام ظهرًا فيأكل ، وذاك الغلام أو ذاك المُوَظف أو ذاك الصَّانع ينظرُ إليه ولا يقول له: تَعَالَ كُلْ معي يا بني .
أيُّها الأخوة الأكارم ؛ واللهِ أقول لكم : إن لم تُعاملوا مَنْ تَحْتَ أيديكم كما تُعاملون أبناءكم ؛ فواللهِ الذي لا إله إلاَّ هو لا قيمةَ لا لصلاتكم ولا لصومكم ولا لحجِّكُم ، فالدِّينُ هكذا ، هذا الذي يعيش معك ويتعامل معك إن لم يشعرْ بأُبُوَّتِكَ برحمتك وبِعَطْفك وبِحِرصِك ، فأنتَ لستَ مسلماً ، لعلَّك تظنُّ أنَّ الإسلامَ صومٌ وصلاةٌ ، لا والله ، شيء يُلفتُ النظرَ فهذا كان قبل البعثة، ولو أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم عامله هذه المعاملة بعد أن بعثه الله وأحبَّه ، فلرُبَّما ليستفيد دعاية له ، أو مُجاملةً ، لكن عامله المعاملة الطيبة قبل البِعثةِ وهو كرجلٍ من رجال مكةَ اسمُه محمَّدُ بنُ عبد الله ، فنحن هنا لديك مُوَظَّف أو صانع تحت يَدِك ، أو يتيمٌ في بيْتِك إنْ لم تَرْعَهُ الرِّعاية التامة وتُطْعِمه مما تأكل ، إنْ لم يشْعُر بالحَنان والإنصاف ، فإسلامك صورة وشكل ، سيّدنا عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه كان عنده ضَيْفٌ وهو أمير المؤمنين فانطفأ السِّراج ، فقامَ سيّدنا عمر بِنَفْسِه وأصلح السِّراج ، فهذا الضَّيف وقع في حرَجٍ فقال له : أنت أميرُ المؤمنين ، قُل للغُلام أو أكون أنا مُصْلِحه ، فقال له : أما أنت فَضَيْفٌ وَسَخافَةٌ بالمرء أنْ يسْتخدم ضَيْفه ؛ هكذا النبي علَّمَهُ ، لو قُلْتَ للضَّيْف ناوِلني كذا فهذه استهانةٌ
بالضَّيف وأما الغُلام فقد نام وكَرِهْتُ أنْ أوقظه ؛ ذَهَبْتُ وأنا عمر وعُدْتُ وأنا عمر ، والنبي عليه الصلاة والسلام قال يوصي بالرقيق :" الليل لهم والنهار لكم "
أنت مُرْتاحٌ بالنوم ثلاث ساعات ظهراً بِإمكانك أن تسهر إلى الواحدة ليلاً أما بعضهم فلا يجد مُتَّسَعاً ، لهذا فَعَليك أنْ تحْترم واقِعَ الناس وأنْ تكون واقِعِياً .
فيا أيها الأخوة الأكارم الإسلام دينُ معاملة بِحَيث يجْعلك عند عاملك أو الموظف الذي لديك تزْداد احْتِراماً وحُباً عنده وتَعَلُّقاً بك وكُلُّ هذا من الإحْسان ، عبْدٌ أعْتقه ثمَّ أحسن مُعاملته حتى طَمْأنَ أُمَّهُ وأباه وقال : أبْلِغ أبي أنني مع أكرم والد ، وأنا أقول لكم : والله لو عامَلْنا غيرنا بهذه المُعاملة لكُنا مُجْتَمَعاً مُتَماسِكاً وبِحالٍ غير هذه الحال قَوْلاً وعملاً .
فتلك بِنْتٌ صغيرة تَخْدُم البيت عند مجيء الضيوف الذين يأكُلون أشْهى الطعام ثم يُقدِّمون لها الطعام الباقي منذ خمسة أيام! فهذه هي القلوب القاسِيَة لا بدَّ أنْ تَعامل الناس سَوَاسِيَة ، فتعامل الخادمة كابنتك ! لذلك فالنبي عليه الصلاة والسلام كان مع أصْحابه وقال : وعلّيَّ جمعُ الحطب ، فقالوا : نَكْفيكَ ذلك قال : أعرف ، ولكنَّ الله يكرهُ أنْ يرى عبداً مُتَمَيِّزاً عن أقْرانه، في معْركة بدْر قال : أنا وعليّ وأبو لُبابة على راحِلَة فقالوا : ابْقَ راكِباً فقال : لا ، ما أنتما بِأقْوى مني على المَشْي ، ولا أغْنى مني عن الأجر ، هكذا كان النبي صلى الله عليه وسلَّم بلا مَيِّزَة ، فَحُبُّهم له وتعْظيمُهُم له وتقْديسُهم له شيءٌ آخر أما هو فقد جعل نفْسه معهم في كفَّةٍ واحدة ؛ سَواءً بِسَواء حتى أنَّ النبي عليه الصلاة والسلام كان إذا جلس مع أصْحابه ودخل أعْرابيّ لم يعْرِفْهُ قال : أيُّكُم مُحمّدٌ ! صلى الله عليه وسلّم فَيَقول النبي : قد أصَبْتَ ، لماذا لأنه لم تكن له ميزَةٌ على أصْحابه الكِرام .
حارثة لما علِمَ أنَّ ابنه فَلِذَةُ كَبِدِه بِمَكَّة عند محمدٍ بن عبد الله ، شَدَّ راحِلَتَهُ وهيَّأ المبلغ الكبير لافتدائه ؛ عَبْدٌ بيعَ بِسُوق عُكاظ لا بد من دَفْع الثَمَن ، تَوَجَّهَ تِلْقاءَ مكَّة المُكَرَّمة ومعه أخوه فلما دخلا على محمد بن عبد الله حارِثَة وأخوه - قالاَ له : يا ابن عبد المُطَّلب أنتم جيران الله تَفُكُّون العاني - الأسير - وتُطْعِمون الجائِع وتُغيثون الملْهوف وقد جِئْنا في ابننا الذي عِندك ، وحَمَلْنا إليك من المال ما يفي به ، فامْنُنْ علينا وفاده لنا بما تشاء واطْلُب المبلغ الذي تريد فقال عليه الصلاة والسلام وهو سيّد الخلق : ومن ابْنُكُما الذي تَعْنِيان - الدِّقَة والتحْقيق - فقالاَ: غُلامك زَيْدُ بن حارِثَة فقال : وهل لكما فيما هو خيرٌ من الفِداء ؟ أنا أعْرض لكما لما هو خيرٌ من الفِداء فقالا : وما هو ؟ قال عليه الصلاة والسلام : أدْعوه لكم فَخَيِّروهُ بيني وبينكم فإنْ اخْتاركم فَهُو لكم بِغَيْر مال وإن اخْتارني فما أنا بالذي يرغب عمن اخْتاره ! دَقِّقوا في دِقَّة النبي عليه الصلاة والسلام ، فقال العمّ والأب : والله قد أنْصَفْت وبالغتَ في الإنصاف مع أنَّ النبي عليه الصلاة والسلام قال لهم لم الفِداء وهو ابنكم ؟! فَدَعا النبي عليه الصلاة والسلام زيْداً فقال : من هذان ؟! قال : هذا أبي حارثة ابن شُرَحْبيل وهذا عمِّي كَعْب فقال : يا زيد قد خَيَّرْتك إنْ شِئتَ مَضَيْتَ معهما وإن شِئتَ أقَمْتَ معي ، فقال زيدٌ من غير تَرَدُّدٍ ولا إبْطاء : بل أُقيمُ معك ، وما أنا بالذي أخْتار عليك أحداً أنت الأب والعمّ فقال أبوه : وَيْحَكَ يا زيد أَتخْتارُ العُبودِيَّة على أبيك وأمِّك ؟! قال : إني رأيْتُ من هذا الرجل شيئاً أنْساني كُلَّ إنْسان ، ما أنا بالذي يُفارقُه أبداً - هذه هي المُعاملة ، وهل تسْتطيع أنْ تُعامل إنْساناً مُعامَلَةً يؤْثِرُك على أمِّهِ وأبيه ؟! إذا كنت مؤمناً فهكذا تُعامل الناس، المؤمن أيها الأخوة ، كيْفما تَحَرَّك مع الذين يعيشون معه من شِدّة إنصافه ورحمته وحنانه وعَطْفِه وكرمِهِ ووفائِه وتواضُعِه يؤثرونه على كُلِّ شيء - قال : إني رأيْتُ من هذا الرجل شيئاً أنْساني كُلَّ إنْسان ، ما أنا بالذي يُفارقُه أبداً ، فلما رأى النبي عليه الصلاة والسلام من زَيْدٍ ما رأى أخذ بِيَده وأخْرجه إلى البيت الحرام ووقف به بِالحِجْر على ملأ من قُرَيش وقال : يا معْشَر قُرَيْش اِشْهدوا أنَّ هذا ابني يَرِثُني وأرِثُهُ ، عندئِذٍ طابتْ نفسُ أبيه وعَمِّه وخَلَّفاهُ عند محمّدٍ بن عبد الله وعادا إلى قوْمِهما مُطْمئِنّي النفس و مُرْتاحي البال ، ومنذ ذلك الوقت أصبح زيدُ بن حارِثة يُدْعى بِزَيْد بن محمّد والغريب في القصَّة هو أنه مهما كان الإنسان يعيش في رَغَدٍ من الحياة إلا أنه لا يُؤثر أحداً على والدَيْه! لكن النبي عليه الصلاة والسلام كان بِمَثابة الوالد والأم وهكذا الإسلام ، وهكذا ليكن المسلم فأنت قد يكون عندك بالمحلّ أو المصنع عامل أو بالبيت يتيم أو طِفْلٌ يكْنس لك ، أرِهِ العَطْف والحنان والموَدَّة والإكْرام ، اِبْذِل المال واعْتَبِرْه كابنك ، والله أستمع إلى كلِّ قِصَّة -شهِد الله - لولا أنَّ الذي أخبرني بها لي صادِقٌ لما صَدِّقتهُ ، قَلْبٌ قاسٍ كالحجر ، المبيعات باليوم مائة ألف، الراتب ألفان وخمسمائة بالشهر ، هل هذه تكْفي ، وتجده يقول إذا لم يُعْجِبك هذا المبلغ نأتي بِغَيْرك ، القصد أنَّ الإنسان إذا لم يرْحَم لا يُرْحم ، وإنْ أرَدْتُم رحْمتي فارْحَموا خَلْقي ، فهذا الذي أُجْرته ألفان وخمسمائة بالشهر هل تكْفيه للأكل هو وزَوْجَته ؟! حدَّثني أحد الأخوة فقال لي : آخذ ألفين وخمسمائة بالشهر وأنا أشْتري لصاحب المحلّ كلَّ يومٍ أغْراضاً مبْلغها سِتَّة آلاف فأنت خَرْجك اليومي ستة آلاف وهذا الصادق الأمين تعطيه ألفين وخمسمائة بالشهر! ثمَّ تذهب إلى المسْجد ؛ الله أكبر !!! وأنا الآن أحِبُّ أنْ أجري موازنةً ، النبي عليه الصلاة والسلام كُتلةُ رحمة ، كُتلة إنصاف ، كتلة تواضع ، كتلة حبٍّ ، لذلك لما رأى زيدٌ أباه آثر النبي عليه الصلاة والسلام على أبيه وعمِّه ، فنحن نقلِّد تقليداً ، فكل إنسان عنده شخصٌ تحت يده ، قد يكون موظفًا أو صانعا أو خادماً أو آذِناً أو حاجِباً فهذا شَخْصٌ غالٍ عند الله عز وجل، فهذا إنْ اهْتَمَمْتَ به وأكْرَمْته وعاوَنْتَه ، وسألْتَ عن أحْواله ودَقَّقْتَ بِدَخْله ، وبِأَهْلِهِ وسألت هل عنده مشروع زواج أو وِلادة أو مُشْكلة فمثلاً : في أوَّل الشِّتاء لا بد له من وَقود ، وأوَّلُ العام المدْرسي يحْتاج إلى ملابس لأولاده ، فهل أنت تعيشُ لِنَفْسِك أمْ للناس ؟! .
فلما بُعِثَ النبي عليه الصلاة والسلام وأبْطَلَ الإسلامُ التَبَني حيث نزل قوله عز وجل :
( الأحزاب : الآية 5 )
عندَئِذٍ عاد النبي عليه الصلاة والسلام وناداهُ زيد بن حارثة اِمْتِثالاً لأمر الله فإكْراماً له عندما ردّه إلى أبيه ذكر الله اسمه في القرآن الكريم تطيباً لخاطره، وهو الوحيد الذي ذكِر في القرآن الكريم ، إذْ ليس في القرآن الكريم اسم لصحابي إلا سيّدنا زيد ، والآية قوله تعالى :
( الأحزاب : الآية 37 )
هل في القرآن اسمُ امرأة ؟ نعم مريم ، وهي الوحيدة التي ذُكِرَت في القرآن إذْ إنّ بعض العلماء قال إنَّ ذِكْر اسم المرأة مكْروه ، وإنما ذُكِرت مريم عليها السلام في القرآن لأنَّ سيّدنا عيسى عليه السلام قالوا عنه إنَّهُ إله ، وهو ابن الله ، فَرَبُّنا عز وجل قال : عيسى بن مريم وهو الاسم الوحيد ، لكن زيداً اخْتار النبي وآثره وأحَبَّهُ دون أنْ يعْلم أنَّهُ ستكون زيداً ، فماذا نسْتَنبط من هذه الحقيقة ؟ نسْتَنْبط أنَّ الأنبياء اصْطفاهُم الله عز وجل من صَفْوَة الخلق ، فالنُّبَوَة هِبَة أساسُها اصْطِفاء ، والاصْطِفاء أساسه التَفَوُّق ، فهو عليه الصلاة والسلام تَفَوَّقَ بِكماله وأخْلاقه وتواضُعِه وإنْسانِيَتِهِ وكَرَمِه وحُبِّه للخلق ، فاصْطَفاهُ الله عز وجل ، هي نُبَوَّةٌ وهِبَةُ ولكن أساسها اصْطِفاءٌ من بين صَفْوَة الخلق .
كُنْتُ أذكر لكم هذه الفِكْرة وأكررها كثيراً ، لما بُعَث النبي عليه الصلاة والسلام وجاء الوَحْيُ وزَيْدٌ عنده وقد آثَرَهُ على أمِّهِ وأبيه فاحْتَلَّ زيْدٌ عند النبي صلى الله عليه وسلَّم مكانة كبيرة ، فبِالمَرْتبة الاجْتِماعِيَّة والتصْنيف الطَبَقي سيّدنا زيد عَبْدٌ لكنه كان خليفة رسول الله على المدينة وكان أمين سِرِّه وقائِدَ غزواته ؛ هذا هو الإسلام الذي نطْمَحُ إليه ؛ عَبْدٌ قصير القامة شديد السُّمْرة أفْطَسُ الأنْف كانَ حِبَّ النبي عليه الصلاة والسلام ، وكان أمين سِرِّه وقائِده على سراياهُ وغزواته وخليفته على مدينته أثْناء غِيابه .
دائِماً أيها الأخوة ، لا يوجد حُبٌّ من طرفٍ واحدٍ ، عظمة النبي عليه الصلاة والسلام أنه أحبَّ أصْحابه كما أحبُّوه ، أو أنهم أحَبُّوه كما أنه أحَبَّهُم، أَحَبوهُ لأنه أحَبَّهُم ، مُجْتمع المؤمنين مُتماسِك .
عَنْ مُعَاذٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ قَالَ وَجَبَتْ مَحَبَّتِي لِلَّذِينَ يَتَحَابُّونَ فِيَّ وَيَتَجَالَسُونَ فِيَّ وَيَتَبَاذَلُونَ فِيَّ *
( رواه أحمد )
إذا لم تُحبّ إخوانك ولم ترْحَمْهُم ، ولم تعْطِف عليهم ، ولم تنصِفْهم ، ولم تَوُدَّهم ،ولم تزرهم وتتفَقَّدْهم بِمُناسبات مُعَيَّنة ، وتبْذل لهم شيئاً من مالك حتى يصير الأخ لِأخيه كالبُنْيان المَرْصوص ؛ إنْ لم نكُن كذلك فَلَسْنا من المؤمنين !
الشيءُ الذي لفتَ نظري في سيرة هذا الصحابي ، كما أنه أحَبَّ النبي صلى الله عليه وسلَّم وآثره على أمِّه وأبيه فقد أحَبَّهُ النبي عليه الصلاة والسلام وخلطه بِأهله وبنيه فكان يشْتاقُ إليه، والله أيها الأخوة ، أُقْسِم لكم بالله أنَّ أخاً كريماً إذا غابَ أسبوعاً أو أسْبوعَيْن أشْتاقُ له ، لحقيقة وليس ادعاءً ،و العلاقة بين المؤمنين لا يعْلمها إلا الله ؛ أرْقى علاقة ، لا تظنّ أنَّ إخْوانك هم الذين يُحِبونك فقط بل لا بد من أنْ تُحِبَّهم أيضاً ، وتشْتاقُ لهم كما يشْتاقون لك ، وتُؤْثِرُهم كما يُؤْثِرونك ، وتَحْفظ وُدَّهُم كما يحْفظون وُدَّك ؛ هذا مُجْتمعُ المؤمنين والصحابة ، فالنبي صلى الله عليه وسلّم إنْسانٌ عظيمٌ جداً ووقورٌ جداً وهو سيِّدُ الأنبياء ومع ذلك يشْتاقُ لزيد إذا غاب عنه وهذا هو مُجْتمع المؤمنين ؛ حُبٌّ وتراحم ووِئام على عكس مُجْتمع الدنيا ، إذ يضْحك لك أحدهم ويبتسمُ لك ابْتِسامة صفراء وهو يكيد لك ! الذي لفتَ نظري أنَّ النبي يشْتاقُ إليه ! هذا المُتَّصِل بالله عز و جل والذي يأتيه الوَحْي وأسْعد الخلق يشْتاقُ لِسَيِّدِنا زيْد قصير القامة ، شديد السُّمْرة ، في أنفِهِ فَطس ، وهو حِبُّ رسول الله صلى الله عليه وسلَّم فقد كان يشْتاقُ إليه إذا غاب عنه ويفْرَحُ بِقُدومه إذا عاد إليه ويلْقاهُ لِقاءً لا يَحظى بِمِثْله أحد ، هذا هو الوفاء ، وكأنَّ لِسانَ حالِ النبي عليه الصلاة والسلام : أنت يا زيد آثرْتني على والِدَيْك وبقيتَ عندي أفلا أُحِبُّك أشَدَّ من حُبِّك لي ؟ السَيِّدة عائِشَة رضي الله عنها تَرْوي مشْهداً تقول : قَدِمَ زيد بن حارِثة المدينة ورسول الله صلى الله عليه وسلَّم في بيتي فقَرَعَ الباب ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم مُتَخَفِّفاً من ثِيابه - تركَتْ هذه القِصَّة أثراً في نفْسي - فلما علِمَ أنَّ زيْداً قد جاء فَمِن شِدَّة شَوْق النبي لِزَيْدٍ واهْتِمامه به نَسِيَ أنْ يرْتَدي ثِيابه الخارِجِيَّة فلما قرع الباب قام إليه النبي عليه الصلاة والسلام بِثِيابه الخفيفة ومضى نحو الباب يَجُرُّ ثَوْبَهُ فاعْتَنَقَهُ وقبَّلَهُ ووالله ما رأيْتُ رسول الله صلى الله عليه وسلَّم يسْتقبل أحداً قبله ولا بعده بِهذه الثِّياب ، وهو مَشْهَدٌ من مشاهد حُبِّ النبي لِهذا الصحابيِّ الجليل ، شاعَ هذا الأمر بين الصحابة حتى إنَّ الصحابة سَمَّوْهُ بِزَيْد الحِبّ أيْ محْبوبهُ وأطْلقوا عليه لقب حِبَّ رسول الله ولَقَّبوا ابنه أسامة من بعده بِحِبِّ رسول الله وابن حِبِّه ، وقِصَّة اسْتِشْهادِهِ معْروفة عندكم ، فإن النبي عليه الصلاة والسلام عَيَّنَهُ القائِد الأول في جَيْش مؤتة وتَعْلمون أنَّ مؤتة موْقِعَةٌ خاضَها المُسلمون
والنبي عليه الصلاة والسلام ليس معهم ، كان أصْحابُ النبي ثلاثة آلاف ، ما قَوْلُكم بأنهم واجَهوا أكثر من مئتي ألف ! من الروم مائة ، ومائة ممن ظاهروهم ، ووقف أصْحاب النبي أمام هذا الجيش الكبير بِعُدَّتِه وعتاده والقِصَّة التي أرْويها لكم دائِماً أنَّ سيّدنا جعْفر تسلم القيادة بعد استشهاد زيد فلما قطعت يده اليُمنى حَمَل الراية بِيَدِهِ اليُسرى فلما قُطِعَت اليُسْرى حَمَلها بِعَضُدَيْه وقاتل حتى قُتِل وخَرَّ صريعاً من علا فرَسِه غارِقاً في بحْر دِمائِهِ واسْتُشْهِد ، بعدها تقدَّم سيّدنا ابن رواحة - كما تَرْوي بعض السِّيَر لا كلها- رأى صاحِبَيْه قد اسْتُشْهِدا في وقْتٍ قصيرٍ جداً ورأى مصيرهُ المحْتوم بعضُهم قال تَرَدَّد مِقدار ثلاثين ثانية ؛ مِقْدار بيْتَيْن من الشِّعر :
يا نفْسُ إلا تُقْتلي تموتي هذا حِمامُ الموت قد صليتِ
إنْ تفْعلي فِعْلهما رضيتِ وإنْ تَوَلَّيْتِ فقد شَقيتِ
وقاتل حتى قُتِل ، والنبي عليه الصلاة والسلام حينما بلغه النبأ قال : أخذ الراية أخوكم جعفر فقاتل بها حتى قُتِل وإني لأرى مقامه في الجنَّة ؛ النبي رأى سيّدنا جعفراً يطير بجناحين في الجنَّة ، وسماهُ أصْحابُهُ جعفر الطيار والآن ينشئون مسْجِداً في المطار يُسَمونه مسجد جعفر الطيار ويتناسب مع المطار وقبله سيّدنا زيد بن حارثة قاتل حتى قُتِل واسْتُشهد فقد كان قائِداً
وخليفةً عند سفر النبي كما كان أمين سِرِّه ، وكان حِبُّهُ ، وكان في المرتبة الاجتماعِيَّة في التصْنيف الطبقي عبْداً ، أرأيْتُم إلى عظمة الإسلام ؟! وإلى هذه العدالة في الإسلام ؟! اللهمّ صلِّ عليه ومن شِدَّة وفائِه ذهب بِنَفْسِه لِيُبَلِّغَ أهل سيِّدنا جَعْفر نبأ اسْتِشْهاده لأنَّ مكانته الكبيرة عند الله لعلَّها تُخَفِّفُ وطْأةَ خبرِ اسْتِشْهاده وذهب بِنَفْسِهِ أيضاً إلى بيتِ سيّدنا زيدٍ بن حارِثة لِيُبَلِّغ نبأ اسْتِشهاده ، ولما َبَلَغَتْ رسولَ الله صلى الله عليه وسلّم أنباءُ مُؤتة ومصْرَعُ قادته الثلاثة حَزِنَ عليهم حُزْناً لم يحْزن مثله قطُّ ، ومضى إلى أهْليهم يُعَزيهم فيهم فلما بلغ بيتَ زيْدٍ لاذَتْ به ابنته أيْ أقْبلت على النبي عليه الصلاة والسلام وتعلَّقَت به ، وهي مُجْهِشَةٌ بالبُكاء ، شيءٌ غريب فقد كان النبي يبْكي ولكن بدون صَوْتٍ إلا مرَّةً واحدة فقد بكى صلى الله عليه وسلَّم حتى انتَحَب ومعنى انْتَحَب اِرْتفع صوْته بالبُكاء ، فقال له سعدُ بن عُبادة : ما هذا يا رسول الله ؟ فقال عليه الصلاة والسلام : هذا بُكاءُ الحبيب على حبيبه ، هذا هو الحُبّ الذي بين النبي وبين أصْحابه ، وينْبغي أنْ يكون هذا الحُبُّ بين المؤمنين ، وهذا هو الإسلام ، هؤلاء الصحابة هم الذين حملوا الإسلام ورَوَوا هذه الأراضي بِدِمائِهم ، أما نحن فالإسلام هو
الذي حملنا ، فإذا الإنسان منا حَفِظ القرآن أُكْرم بالجوائِز من عُمْرةٍ ودراهم إلى احْتِفالات وعزائِم ، وهؤلاء الدعاة الآن يُكْرمون كثيراً أما الذين فتحوا هذه البلاد ورووا الأرض بِدِمائِهم، والذين دفعوا الثمن باهِظاً ، وأكلوا طعاماً خَشِناً وخاضوا حُروباً قاسِيَة وما ذاقوا طعْمَ النوم ، إلا قليلاً فهؤلاء هم الذين حملوا الإسلام حقاً فَشَتَّان بين أن تحْمِل الإسلام وبين أنْ يحملك الإسلام !
على كلٍّ ، الذي لفَتَ نظري في سيرة هذا الصحابي ؛ كيفَ أنَّ النبي الكريم يشْتاقُ لأصْحابه ، ويُحِبُّهم ، ويرْعى شأنهم ، ويَفِي بِعَهْدهم ، ويذْكرهم وينْتَحِبُ حين فقْدِهم ؛ هذا هو الإسلام بِأبهى صُوَرِه ، ومن المُمْكن أن نسْتفيد من سلوكهم فالذي يملك محلاً أو متْجَراً أو معْمَلاً يُمْكِنُ أنْ يُقْنع من حوله بِدِينه وهو ساكِت ، فأنت مُمكن أنْ تكون داعِيَة كبيراً وأنت ساكِتٌ وهذا يتم بِإنْصافِك وإحْسانك وتواضُعِك وحُبِّك وعطْفِك وحنانك ، فالنبي الكريم عامل سيّدنا زيداً مُعاملة جَعَلَتْهُ يؤثِرُهُ على أمِّه وأبيه وهذه المُعاملة قبل البِعْثة ، ومعنى ذلك أنَّ النبي معْصومٌ قبل البِعْثة وبعْدها ، وهو في أعْلى درجات الكمال قبل البِعْثة وبعْدها ، والشيءُ الثاني: أنَّ النبي عليه الصلاة والسلام بادل أصْحابه حُباًّ بِحُبٍّ وشَوْقاً بِشَوْقٍ ووفاءً بِوَفاء ، وإذا
أردْتم أن تكونوا مؤمنين صادِقين اتِّبِعوا سُنَّة النبي واعْتَذِروا من بعضِكم وراعوا مشاعر بعضكم واصْدُقوا إخوانكم وتعاونوا فيما بينكم واحْتَرِموا بعضكم ؛ وإياكم والمزاح ، تواصَلوا وتبادلوا وتزاوروا وضَحوا من أجل بعضكم حتى يُحِبَّنا الله جميعاً ونسْتحقّ أنْ نكون مؤمنين ، والله أعرفُ رجُلاً ساكِناً بِبَيْت وله أخٌ مُتَزَوِّج ليس له بيت فقال له : تعال ، وخُذ هذا البيت ؛ ثم إن الله تعالى أكْرمه الله بِبَيْتٍ خيرٍ منه ! فَبَذْلُ الخير يورثك الِسَعادَة ، ويعود عليك بالعوض، فالإسلام دينُ معاملة ومواقف وبذْلٌ وعدالة ورحمة وإنْصاف وحبّ وتماسك وصِدْق وأمانة والله عينه بأجرة.
فَدَرْسُنا اليوم ، يتلخص بأن لِكُلِّ واحدٍ منا من هو دونه ؛ بالوظيفة أو المتْجر أو المصنع أو المزرعة وأقلّ شيء أنه قد يكون عندك مُوَظَّف فإن رأى منك العطف والحنان والحبّ والإنصاف والإكْرام ؛ فالأب مع أوْلاده والضابط مع جُنودِه ، والمُعَلِّم مع تلاميذه والطبيب مع مُمَرِّضيه ، والمُحامي مع مُوَكِّليه ، ألا تُحِبُّ أنْ يكون هذا الذي جعله الله دونك طريقاً لك إلى الله وزاداً لك إلى الآخرة ورأس مالك إلى الجَنَّة ؛ اِفْعَل ، وأتمنى أنْ يهْدي التجارُ زبائِنهم إلى الله وإلى طريق الإنصاف والصِّدق ، أعرفُ أخاً له مصنع عُمالُهُ كأولاده فإذا رأى في وجْههم ضيْقاً سارِعَ لِحَلِّ مُشْكِلاتهم ، تجد بعدها أنَّ العامل يَفْدي ربَّ العمل بِنَفْسِه وروحه ، الحِقْدُ الطبقي مُسْتَوْرَد ، فنحن عندنا حُبَّ طبقي وليس عندنا حقد طبقي .
وأرجو الله سبحانه وتعالى ضارعاً أنْ يُلْهِمنا الخير والحق ، وتطبيق هذه السيرة السمحة في مجتمعنا وفيما بيننا لأننا إذا طبَّقْناها كُنا مسْلمين حقاً .
والحمد لله رب العالمين(/)
الدرس 21/50 : سيرة الصحابي : سراقة بن مالك ، لفضيلة الأستاذ الدكتور محمد راتب النابلسي .
التاريخ : 01/03/1993
تفريغ : م . م . حسان العودة .
التدقيق اللغوي : الأستاذ غازي القدسي .
التنقيح النهائي : المهندس غسان السراقبي .
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا ، إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا ، وانفعنا بما علمتنا ، وزدنا علماً ، وأرنا الحق حقاً ، وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً ، وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .
أيها الإخوة المؤمنون : مع الدرس الحادي والعشرين من دروس سيرة صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ورضوان الله عليهم أجمعين .
صحابي اليوم سيدنا سراقة بن مالك .
يمكن أن نستنبط من سيرته ، حقائق كثيرة ، تفيدنا في حياتنا المعاصرة ، فالذي ينبغي أن نعلمه من السيرة ، أن مواقف الصحابة مواقف مثالية ، فإذا عرفنا بواطن مواقفهم ، وأسرارها ، يمكن أن نكون قد تعلمنا تفاصيل كثيرة عن الدين من خلال سيرتهم ، قبل أن نبدأ الحديث عن هذا الصحابي الجليل ، يمكن أن نشبه الإسلام بهرم ، مقسم إلى أربعة أقسام ، القسم الأعلى هو القرآن الكريم ، كلام الله عز وجل ، القسم الثاني السيرة النبوية ، التي بيَّنت ، وفصلت القرآن الكريم .
( سورة النحل : 43 ـ 44 )
قد يسأل سائل ، ما تفسير كتاب الله تعالى ؟ الجواب : النبي عليه الصلاة والسلام فسره من خلال السنة النبوية ، فالسنة هي التفسير العملي للقرآن الكريم ، حتى إن الإمام الشافعي حينما قال في تفسير قوله تعالى :
( سورة الجمعة : 2 )
الحكمة هي السنة ، إذاً القرآن الكريم جاء موجزاً قال تعالى :
( سورة النساء 23 )
" وأن تجمعوا بين الأختين إلا ما قد سلف " .
عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِي اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَنْ تُنْكَحَ الْمَرْأَةُ عَلَى عَمَّتِهَا ، أَوْ خَالَتِهَا *
[ أخرجه البخاري ومسلم وغيرهما ]
للعلة نفسها ، فالقرآن الكريم أمر بدفع الزكاة ، لكن النبي فصل نصاب الأموال ، نصاب الأبقار، نصاب الأغنام ، فالسنة تبين ، وتفصل ، وتوضح ، وتقيد المطلق ، وتطلق المقيد ، وتعطي حالات خاصة ، والنبي عليه الصلاة والسلام نهى عن قطع يد السارق بأثناء الحرب ، مع أنّ حكم قطع يد السارق ثابتٌ بالكتاب الكريم .
( سورة المائدة : 38 )
النبي نهى عن قطع يد السارق في ديار الحرب ، لماذا ؟ لأن هذا الإنسان إذا تلبس بجرم السرقة ، وعلم أن يده سوف تقطع ينتقل إلى العدو ، يعطيهم المعلومات ، وينجو من قطع اليد ، فحكم قطع يد السارق تعطل في أثناء الحرب .
النبي عليه الصلاة والسلام قال : ادرؤوا الحدود بالشبهات ، فلو أن إنساناً اشتبه عليه أن له حقاً عند زيد أو عبيد وسرق منه يسجن ، ويعذر ، ويحاسب ، ويغرم ، لكن مادام هناك شبهة فلا تقطع يده ، السنة بينت ، فالقرآن الكريم ستمائة صفحة ، لكن النبي الكريم ترك أكثر من ستمائة ألف حديث ، كلها تبيِّن ، وتفصِّل ، وتوضِّح ، وتقنِّن .
الصلاة ، والوضوء ذُكِرا في القرآن بشكل موجز ، والنبي فصّل كيف تتوضأ ، فهناك خمس وسبعون سنة ، أو ست وثمانين سُنَّة للصيام واردة في كتب الفقه ، القرآن قال :
( سورة البقرة : 183 )
السنة بينت الواجبات والسنن والمستحبات والمكروهات والمندوبات .
الجزء الثاني من الهرم ؛ هو السنة القولية ، لكن أفعال النبي أوسع من أقواله ، فإذا درستَ السنة الفعلية التي فعلها النبي يمكن أن تكوِّن الجزءَ الثالث من الهرم ، قد لا نفهم السنة القولية ، إلا من خلال السنة الفعلية ، صلوا كما رأيتموني أصلي ، كان النبي عليه الصلاة والسلام يفعل كذا ، ولا يفعل كذا ، تبيِّن أحواله ، وحركاته ، وسكناته ، وسكوته ، وهناك سنة فعلية ، وإقرار.
إذًا المقطع الثالث من الهرم : هو سنة النبي الفعلية ، النبي عليه الصلاة والسلام شخصٌ واحد، لكن أصحابه كثر ، صحابيٌ غني جداً ، صحابيٌ فقير جداً ، صحابيٌ شاب صغير ، صحابيٌ شيخ فانٍ ، صحابيٌ حاد المزاج ، صحابيٌ هادئ الطباع ، فكأن أصحابه يمثلون نماذج بشرية ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : سَتَرَوْنَ مِنْ بَعْدِي اخْتِلافًا شَدِيدًا فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي، وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ عَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ ، وَإِيَّاكُمْ وَالأمُورَ الْمُحْدَثَاتِ فَإِنَّ كُلَّ بِدْعَةٍ ضَلالَة* " .
[ أخرجه ابن ماجه ] .
إذاً : القسم الرابع من الهرم : سيرة أصحابه ، لأنها تمثل نماذج متعددة .
يقع القرآن الكريم في قمة الهرم ، والحديث النبوي الشرف القولي يقع في القسم الثاني ، يبيِّن كتاب الله عز وجل ، وأفعال النبي عليه الصلاة والسلام تبيِّن حقائق أقواله ، وسيرة صحابة رسول الله رضوان الله عليهم تبين الفروع التي يمكن أن نحتاجها في دراستنا بسيرة النبي عليه الصلاة والسلام ، ولا سيما إن كان أصحابه من الذين لازموه ، وعُرِفوا بشدة حبهم ، وإخلاصهم له .
فالإسلام إذاً يُفهَم من خلال القرآن ، والسنة القولية ، والسنة الفعلية ، وسير أصحاب رسول الله رضوان الله تعالى عليهم أجمعين .
والذي أراه أنَّ معرفة سيرة أصحاب النبي الذين رضي الله عنهم جزءٌ من الدين ، فماذا فعل هذا الصحابي الذي رضي الله عنه ، وأقرَّ النبيُّ فعلَه ؟ هذا فعله كامل ، يمكن أن أقتدي به ، فضلاً عن أن هناك آيات بيناتٍ يمكن أن تستنبط من أفعال رسول الله ، وهذا الصحابي الجليل سيدنا سراقة بن مالك ، يمكن أن نفهم من سيرته الشيء الكثير .
على كلٍ عودة إلى هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، يوم سرى نبأُ هجرته في مكة كان نبأ غريبًا ، أن محمداً قد بارح مكة ، مستتراً بجنح الظلام ، فلم يصدِّق زعماء قريش النبأ ، واندفعوا يبحثون عن النبي في كل دارٍ من دور بني هاشم ، وينشدونه في كل بيت من بيوت أصحابه ، حتى أتوا منزل أبي بكر ، فخرجت إليهم ابنته أسماء ، قال لها أبو جهل أين أبوك يا بنت ؟ قالت لا أدري أين هو الآن ، فرفع يده ولطم خدها لطمة أهوت بقرطها على الأرض ، وصار يغلي غضباً ، يعني كلهم يظنون أن محمداً في قبضتهم ، وأنه بالتعبير الحديث الورقةُ الرابحة التي في أيديهم ، فجأةً غادر هذا النبي الكريم مكةَ المكرمة ، انطلق زعماء قريش في كل اتجاه ، يبحثون عن محمد صلى الله عليه وسلم ، بعد أن أيقنوا أنه غادر مكة ، وكان عند العرب قفاةٌ للآثار ، خبراء ، فتتبَّع قُفاةُ الآثارِ آثارَ النبي فوصلوا من خلال آثاره إلى غار ثور ، مكان اختباء النبي وصاحبه الصدِّيق ، قال خبراء الآثار حينما وصلوا غار ثور : والله ما جاوز صاحبكم هذا الغار ، ولم يكن هؤلاء مخطئين فيما قالوه لقريش ، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبه داخل الغار ، وكانت قريش تقف فوق رأسيهما .
ونحن هنا أمام مجموعة استدلالات دقيقة جداً ، ونحن كمسلمين في أشد الحاجة إليها ، والنبي الكريم حينما هاجر من مكة إلى المدينة ، أخذ بكل الأسباب ، فسار مساحلاً ؛ عكس الطريق المألوف إلى المدينة ، خرج في جنح الظلام ، عيَّن رجلاً يمحو الآثار ، رجلاً يتتبع الأخبار ، وشخصًا يأتيه بالزاد ، فما من ثغرةٍ إلاَّ وسدَّها ، وما من احتياط إلا وغطاه ، ما من خطة إلا وأحكمها ، ومع ذلك وصل كفار قريش إلى الغار .
وماذا يعني أن يصل كفار قريش إلى الغار ؟ السؤال موجَّهٌ إليكم ، وأعِينكم على الإجابة بسؤال فرعي ، لو أن النبي عليه الصلاة والسلام أخذ بهذه الأسباب واعتمد عليها ، وفوجئ أن كفار قريش كانوا على باب الغار ، فماذا يمكن أن يحصل ؟ ينبغي أن ينهار النبي ، لأنه أخذ بالأسباب واعتمد عليها لكن النبي أخذ بالأسباب واعتمد على الله .
أقول لكم دائماً أيها الإخوة : ولو أعدتها كثيراً ، هذه حقائق أساسية ، ينبغي أن ترسخ عندكم ، القرآن الكريم أعاد بعض القصص سبع عشرة مرة ، إن أخذت بالأسباب واعتمدت عليها فقد أشركت ، وإن لم تأخذ بها فقد عصيت ، وخيطٌ دقيق يبعدك عن الشرك ، وعن المعصية ، أن تأخذ بالأسباب ، وأن تعتمد على الله ، وهكذا فعل النبي ، أخذ بكل الأسباب ، واعتمد على الله تعالى .
الحقيقة الأولى : التي يمكن أن تستنبط من فعل النبي أنه إن لم تكفِ الأسباب التي أخذتها لنجاتك ، فعندئذٍ يتولى الله رعايتك بطرق خاصة ، بخرق العادات ، و إن لم يكف أخذُ الأسباب لبلوغ هدفك ، فأنت أخذت بالأسباب تأدباً مع الله عز وجل ، وطاعةً له ، لكن هذا الأخذ بالأسباب إن لم يكفِ تولّى اللهُ عز وجل خرقَ العادات من أجلك ، لأنك أخذت بالأسباب ، وهذه مشكلة المسلمين اليوم ، يا أخي هناك فرق تكنولوجي ، وفرق حضاري ، وفرق بالأسلحة كبير جداً بين المسلمين وبين أعدائهم ، ما الحل إذاً ؟ أنت خذ بالأسباب ، وتوكل على الله ، واللهُ يكمل ، قال تعالى :
(سورة آل عمران)
وصل كفار قريش إلى غار ثور ، وبقي النبي رابطَ الجأش ، واثقاً من نصر الله عز وجل له ، لم تلِن له قناة ، وما خارت قواه ، فأنت افعل ما تؤمر ، وعليك أن تأخذ بالأسباب ، فإن لم تكفِ الأسباب خَرَقَ اللهُ لك العادات .
بالمناسبة لن يكون خرق العادات إلا بعد الأخذ بالأسباب ، فأي إنسان قال أنا مؤمن والحمد لله وهؤلاء كفار ، الله لا يحبهم ، إنه يحبني وحدي ، هو سينصرني عليهم من دون أن أفعل شيئًا ، هذا هو الغباء بعينه ، وهذه هي المعصية بعينها ، وهذا هو الجهل بعينه ، إن أخذت بالأسباب ولم تكفِ الأسباب خَرَق الله لك العادات ، فإن لم تأخذ بها دفعتَ الثمن باهظاً .
لذلك كنت أقول دائماً هذه العبارة وأنا أتأثر بها ، إن بعض المصائب التي تصيب المسلمين ، بعضها يسمى جزاء التقصير ، وبعضها يسمى قضاءً وقدراً ، فإن أخذت بكل الأسباب ، وانتهت مهمتك وجاء شيءٌ فوق إرادتك ، وفوق قدرتك فهذا هو القضاء والقدر ، أما إن لم تأخذ بها ، وجاء مكروه فإياك أن تسمِّيه قضاءً وقدراً ، هو قضاء وقدر ، ولكن سمِّهِ جزاء التقصير ، وأهو كبر مرض يعاني منه المسلمون اليوم ، ما أسعفوا المريض يقولون لك : جاء أجله ، هكذا كتب الله له ، هذا الذي قصّر في إسعافه ينبغي أن يحاسَب كقاتل ، فلا تُدخِل القضاء والقدر في تقصير المسلمين ، أهملنا العلاج فتفاقم المرض ، أمّا كلام العوام ، وكلام الجهلاء ، وكلام السخفاء فمردود ، إن جاءك مكروه ، وقد قصرت قبله فهذا اسمه جزاء التقصير ، أما إن جاءك أمرٌ مكروه ، وقد أخذت بكل الأسباب ، فهذا هو القضاء والقدر ، وعندئذٍ نستسلم .
سيدنا الصديق لما رأى أقدام القوم تتحرك فوق الغار دمعت عيناه ، وفي روايات تفصيلية أن قطرةً من دمع الصديق وقعت على يد النبي ، فانتبه النبي وقال : أتبكي يا أبا بكر ؟ قال : واللهِ ما على نفسي أبكي ، وهو صادق ، ولكن مخافة أن أرى فيك مكروهاً يا رسول الله ، أنا واحد ، لكنْ أنت أمة .
مرة سيدنا أبو حنيفة رأى طفلاً على مقربةٍ من حفرة ، فقال : ((يا غلام إياك أن تسقط ، كان هذا الطفل ذكياً ونبيهاً ، فقال : أنت يا إمام إياك أن تسقط ، أنا إن سقطتُ سقطتُ وحدي ، وأنت إن سقطت سقط معك العالَم)) .
ما من مصيبة في الدنيا أكبر من أن تهتز عندك القدوة ، من أن يهتز المثل ، مِن أن يخيب ظنك بمن ظننته مثلاً أعلى ، لذلك فسقوط الإنسان من السماء إلى الأرض أهون من أن يسقط من عينه مَثلُه الأعلى ، قد يبني حياته على أن فلانًا كاملاً قال له : يا إمام أنت إن سقطت سقط معك العالم ، أنا إن سقطت سقطت وحدي .
هكذا قال الصديق للنبيِّ : واللهِ ما على نفسي أبكي ، ولكن مخافة أن أرى فيك مكروهًا يا رسول الله ، فقال عليه الصلاة والسلام مطمئناً : لا تحزن يا أبا بكر فإن الله معنا ، والله هذه الكلمة (إن الله معنا) ، كبيرة عظيمة ؟ فإذا كان اللهُ معك فمَن عليك ؟ لو أن الدنيا كلها اجتمعت عليك لم تستطِع أن تغبِّر عليك ، وإذا كان الله عليك فمَن معك ؟ واللهِ الذي لا إله إلا هو ، هناك أبناء يضربون آباءهم ، وهناك زوجات يكِدْنَ لأزواجهن ، وهناك حوادث يندى لها الجبين ، أقرب الناس إليك يكيد لك أحب الناس إليك يتخلى عنك ، أكثر الناس مودةً لك يقلب لك ظهر المجن إذا كان الله عليك فمَن معك ؟.
قال له يا أبا بكر : لا تحزن إن الله معنا ، وقد أثبت القرآن هذه الرواية ، فقال عزوجل :
( سورة التوبة : 40 )
فأنت كل بطولتك أن يكون الله معك ، كن مع الحق وانتهى كل شيء ، إذا كنت بطلاً كن مع الحق ، ولا تخشَ في الله لومة لائم .
فأنزل الله السكينة على قلب الصديق ، وفي الآية ملاحظة لطيفة " فأنزل الله سكينته عليه " ، بالضمير المفرد ، لأن النبي ساكن بالأصل ، والنبي مرتاح ، السكينة احتاجها الصديق فقط ، "فأنزل الله سكينته عليه " ، يعني على الصديق وحده ، لأن النبي من الثقة بالله عز وجل حيث لم يهتز ، فقال الصديق : يا رسول الله لو نظر أحدهم إلى موطئ قدميه لرآنا ، فقال يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما ، بل هناك في رواية ثابتة لم ترد هنا ، يبدو أن عين أحد كفار قريش وقعت على عين الصديق ، عين على عين ، فقال لقد رأونا ، فقال عليه الصلاة والسلام يا أبا بكر ألم تقرأ قوله تعالى :
( سورة الأعراف : 198 )
فإذا حفِظَ اللهُ إنسانًا فليس عليه بأس ، وإذا أَحَبَّ اللهُ أنْ ييسِّر لك أمرًا ، تجده قد تمَّ لك كلمح البصر بتيسير الله عزوجل ، فإذا كان الله عليك فمَن معك ؟ وإذا كان معك ألفَيْتَ الأمور كلها سالكة ، لذلك مِنَ الدعاء النبوي : " اللهم لا سهل إلا ما جعلته سهلاً " .
القانون :
( سورة الليل : 5 ، 6 )
قيل لأمية بن خلف : كان في الغار ، فقال أمية بن الخلف ساخراً : ألم ترَ إلى هذا العنكبوت قد عشَّش على بابه قبل ميلاد محمد .
ولْنسْأَلْ هذا السؤال : لماذا ينصر الله عز وجل نبياً ، كريماً ، عظيماً ، وينصر دينه بخيوط عنكبوت ؟! بشيء لا يذكر ؟! هذه هي العظمة ، لأن الله عز وجل جعل الدين هو رسول الله ، فإن قتل انتهى الدين ، إله عظيم ، بيده أن يزلزل من تحتهم الأرض ، بيده أن ينسف الجبال نسفاً، بيده أن يجعل البحر طريقاً ، بيده أن يجعل هؤلاء الكفار أصناماً فجأةً ، نصر دينه عن طريق العنكبوت ، وعن طريق حمامةٍ ، هذه عظمة الله عز وجل .
فرعون رأى في المنام أن طفلاً من بني إسرائيل سوف يقضي على ملكه ، فالتدابير عنده سهلة جداً ، إذاً سنذبح كل أطفال بني إسرائيل ، جاء بالمولّدات ، فأيّة ولادة أخبرْنَ عنها ، وإلا تموتي أنتِ محل الطفل ، فلا تقدر إلاّ أنْ تبلغ ، أما هذا الطفل الذي سوف يقضي على ملكه فيجب أن يتربى في القصر عنده .
( سورة القصص : 8 )
هذه آيات الله عز وجل ، هذا الذي سيقضي على ملكه سوف يربى في قصره .
( سورة طه : 36 ـ 39 )
ِفعْلُ الله عجيب ، كن مع الله فقط ، قال أمية بن خلف : ألم ترَ إلى هذا العنكبوت الذي عشش على بابه ، واللهِ إنه أقْدمُ من ميلاد محمد ، لكنّ أبا جهل وكأنّ عنده حاسة سادسة غريبة ، قال : واللات والعزى إني لأحسبه قريباً منا ، يسمع ما نقول ، ويرى ما نصنع ، ولكن سحره ران على أبصارنا ،والموقف محيِّرٌ ، أنا أشعر أن محمدًا في الغار .
على كلٍ حينما يئست قريش أن تقبض على النبي وضعت جائزة مائة رأس من الإبل ، أقدِّر أن ثمنها الآن مائة وخمسون ألف الناقة ، مائة وخمسون ألف ضرب مائة ، يعني خمسة عشر مليون ليرة لمن يأتي به حياً أو ميتاً ، وسراقة صحابي هذا الدرس ، سراقة بن مالك كان في بعض أندية قومه قريباً من مكة ، فإذا برجل يدخل عليهم ، ويذيع فيهم نبأ الجائزة التي بذلتها قريش لمن يأتيها بمحمدٍ حياً أو ميتاً ، رقم يغري ! ثروة طائلة ! من أجل قتل محمد قضية سهلة، قال فما كاد سراقة يسمع بالنوق المائة حتى سال لعابه ، واشتد عليها حرصه ، ولكنه كان ذكيًّا جداً ، فضبط نفسه ، ولم يَفُهْ بكلمة واحدة حتى لا يلفت نظر الآخرين ، وقبل أن ينهض سراقة من مجلسه ، دخل على مكان وجوده رجلٌ يقول : واللهِ لقد مرّ بي الآن ثلاثة رجال ، وإني لأظنهم محمداً وأبا بكرٍ ودليلهما ، فقال سراقة: إنهم بنو فلان مضوا يبحثون عن ناقة لهم أضلّوها ، يريد أن يصرف الناس عن هذه الجائزة ، فقال الرجل : لعلهم كذلك ، وسكت ، مكث سراقة قليلاً حتى لا يثير اهتمام أحدٍ ، فلما دخل القوم في حديثٍ آخر انسل من بينهم ، ومضى خفيفاً مسرعاً إلى بيته ، وأَسَرَّ لجاريته بأن تخرج له فرسه في غفلة من أعين الناس ، وأن تربطه له في بطن الوادي ، وأمر غلامه بأن يعد له سلاحه ، وأن يخرج به خلف البيوت حتى لا يراه أحد ، وأن يجعل السلاح في مكانٍ قريبٍ من الفرس ، ولبس سراقة درعه ، وتقلد سلاحه، وركب صهوة فرسه ، وطفق يغذُّ السير ليدرك محمداً قبل أن يدركه أحدٌ سواه ، ويظفر بجائزة قريش .
من السذاجة أن تظن أن الله يسلِّم أولياءه إلى أعدائه ، فهذا من السذاجة ، ومن الحمق ، ومن الغباء ، وكان سراقة بن مالك فارساً من فرسان قومه ، طويل القامة ، عظيم الهامة ، بصيراً باقتفاء الأثر ، من خبراء الآثار ، صبوراً على أهوال الطرق ، وكان إلى ذلك أريباً ، لبيباً ، شاعراً ، وكانت فرسه من عتاق الخيل ، بالتعبير الحديث (600 $) ، مضى سراقة يطوي الأرض طياً ، لكنه ما لبث أن عثرت به فرسه وسقط عن صهوتها ، فتشاءم ، وقال : ما هذا ؟ تباً لكِ من فرس ، وعلا ظهرَها ، غير أنه لم يمضِ بعيداً حتى عثرت به مرةً أخرى ، فازداد تشاؤماً ، وهمَّ بالرجوع ، فما ردّه عن همّه إلا طمعه بالنوق المائة ، فلم يبتعد سراقة كثيراً عن مكان عثور فرسه حتى أبصر محمداً وصاحبه ، فمدَّ يده إلى قوسه ، ولكن يده جمدت في مكانها ، اليد بيد مَن ؟ بيد الله .
يقول لك الطبيبُ مرة : خثره ، فأصيبت اليد بالشلل ، وحينًا آخر مرض الهستريا ، وهذا مرض نفسي ، وشلل عضوي بأسباب غير عضوية ، آلاف الأسباب بيد الله عز وجل ، ومن قدرته أن يجعل هذا الإنسان جثة في ثانية ، إن الله على كل شيء قدير.
ذلك بأنه رأى قوائم فرسه تسيخ في الأرض ، غريبة ! قوائم الفرس تسيخ في الأرض ، فدفع الفرس فإذا هي قد ساختْ ثانيةً في الأرض ، كأنما سمرت بمسامير من حديد ، فالتفت إلى النبي وصاحبه وقال بصوت ضارع ، وقد أدْرَك هذا الإنسان لا بعقله ، ولكن بفطرته أن خالق الكون مع محمد صلى الله عليه وسلم ، هذه الفطرة ، فالتفت إلى النبي وصاحبه وقال بصوت ضارع : يا هذان ادعوا لي ربكما أن يطلق قوائم فرسي .
وهذا يذكِّرنا بفرعون ، ماذا ادّعى ؟ ادّعى بأنه إله .
( سورة النازعات : 24 )
ولما أصيب قوم فرعون بمصائب عديدة ما كان موقف فرعون من موسى :
( سورة الأعراف : 134 )
يعني أنّ ادعاءه سخافة ، ودجل ، أدرك سراقةُ بفطرته أن هذا رسول ، وتيقن أن خالق الكون مع هذا الإنسان ، فقال : يا هذان ادعوَا لي ربكما أن يطلق قوائم فرسي ، ولكما عليّ أن أكفّ عنكما ، فدعا له النبي فأطلق الله له قوائم فرسه فأُطلِقتْ ، لكنه تذكّر مائة ناقة ، فما لبثت أطماعُه أن تحركت من جديد ، فدفع فرسه نحوهما فساخت قوائمها هذه المرة أكثر من ذي قبل ، وسعي النبي لا يكفي لنجاته من سراقة رغم توكُّله ، فماذا فعل الله عز وجل ؟ خرق العادات ، ونصر نبيه ، وهذا هو محور الدرس ، فأنت عليك أن تأخذ بالأسباب ، فإنْ لم تكفِ خرق الله لك العادات ، أما إن لم تأخذ بالأسباب لم يخرق الله لك العادات ، وهذه للنبي معجزة ، ولغيره من المؤمنين كرامة .
وفي روايات كثيرة أن سيدنا الصديق كان يمشي مرةً عن يمينه ، ومرةً عن شماله ، ومرةً أمامه ، ومرةً وراءه ، فالنبي الكريم تحيَّر ، قال : ما هذا يا أبا بكر ؟ قال : والله يا رسول الله أخاف أن تُطلَب من خلفك فأمشي من ورائك ، وأخاف أن يأتي الطلب من أمامك فأمشي أمامك ، وعن يمينك أكون عن يمينك ، وأنا لا أعتقد أنّ إنسانًا على وجه الأرض يحب إنسانًا كحبِّ الصديق لرسول الله ، ومع ذلك حينما مات عليه الصلاة والسلام قال : من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات ، ما هذا التوحيد ؟ أقرب إنسان ، أشد الناس حباً للنبي ، أشدهم إخلاصاً له ، أشدهم تضحيةً من أجله ، حينما مات قال : من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات ، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت .
وكان سيدنا الصديق حريصاً على ألاّ يُصاب الرسول عليه الصلاة والسلام بأدنى أذى ، وقال له مرة ثانية والله ما على نفسي أخاف ولكن أخاف عليك ، إن أهلك أهلك وحدي ، وإن تهلك تهلك أمة ، هذا كلام سيدنا الصديق ، يروى أيضاً أن النبي الكريم لما رأى سراقة قال اللهم اكفناه بما شئت ، وكيف شئت ، فدعاؤه مستجاب عليه الصلاة والسلام .
وأنت أيضاً كن مع الله طائعاً لكي يكون دعاؤك مستجاباً .
للمرة الثانية : فاستغاث بهما ، وقال : إليكما زادي ، الآن يريد يريد أنْ يقدِّم دليلاً آخر ، إليكما زادي ، ومتاعي ، وسلاحي ، ولكما عليّ عهد الله أن أردَّ عنكما مَن ورائي من الناس ، لأنه أول مرة كذب ، وخان العهد ، حتى يؤكد عهده الجديد قال خذوا مالي ، زادي ، ومتاعي ، وسلاحي ، ولكما عليّ عهد الله عز وجل أن أرد عنكما من ورائي من الناس ، فقالا له لا حاجة لنا بزادك ، ومتاعك ، ولكن رد عنا الناس ، ثم دعا له النبي صلى الله عليه وسلم فانطلقت فرسه ، فلما همَّ بالعودة ناداهم قائلاً : تريثوا أكلمكم ، فوالله لا يأتيكم مني شيء تكرهونه ، فقال له النبيُّ : ما تبتغي منا ؟ فقال : والله يا محمد إني لأعلم أنه سيظهر دينك ، ويعلو أمرك فعاهدني إذا أتيتك في ملكك أن تكرمني ، واكتب لي بذلك ، أريد وثيقة ، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم الصديق فكتب له على لوح عظمٍ ، ودفعه إليه ، ولما همَّ بالانصراف قال له النبي عليه الصلاة والسلام ، ويبدو أن هذا وحي من الله ، قال له : كيف بك يا سراقة لو لبستَ سواري كسرى ، يعني الآن بلا تشبيه ، إذا قلنا لأعرابيٍّ في اليمن ، أو في الصومال : ما رأيُك أن تسكن في البيت الأبيض الأمريكي مثلاً ؟ لقال : هذه ليستْ معقولة ، وهذا إنسان من أطراف الدنيا ، من البدو الرحل ، يلبس تاج وسواريْ كسرى !!.
قال له : كيف بك يا سراقة إذا لبست سواري كسرى ؟ فقال سراقة في دهشة : كسرى ابن هرمز ؟ معنى ذلك أن لكسرى شأنًا كبيراً ، كانت دولة الفُرسِ من العظمة ما لا يُتصوَّر ، والعرب كانوا ضعافًا ، وهم قبائل متناحرة ، متباغضة جياع ، عراة ، ما الذي أعزهم ؟ الإسلام، أعزهم الله بالإسلام ، ومهما نبتغي العزة بغيره أذلنا الله ، قال رسول الله نعم كسرى بن هرمز ، وهذا من إعلام الله له ، وليست مِن عنده .
( سورة الجن : 26 ـ 27 )
ما كان للنبي عليه الصلاة والسلام أن يَعلَمَ بنفسه أنّ هذا الإنسان الذي جاء يلاحقهما سوف يلبس سِوارَيْ كسرى وتاجه ، هذه المرة أصبح سراقةُ وفيًّا ، وعاد أدراجه ، فوجد الناس قد أقبلوا ينشدون رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال لهم ارجعوا فقد نفضتُ الأرضَ نفضاً بحثاً عنهم ، فلا تغلبوا نفسكم ، لم أعثُر على أحدٍ ، وأنتم لا تجهلون مبلغ بصري بالأثر ، فرجعوا ، ثم كتم خبره مع محمد وصاحبه حتى أيقن أنهما بلغا المدينة ، وأصبحا في مأمنٍ من عدوان قريش ، عند ذلك أذاع الخبر ، فلما سمع أبو جهلٍ بخبر سراقة مع النبي صلى الله عليه وسلم ، وموقفه منه لامه على تخاذله ، وعنفه ، وعنف جبنه ، وتفويته الفرصة ، فقال يجيبه على ملامته أبا حكمٍ والله لو كنت شاهداً ، قال له : أبا حكمٍ ، والله لو كنت شاهداً لأَمرِ جوادي إذ تسيخ قوائمه لعلمتَ ، ولم تشكك بأن محمداً رسول ببرهانٍ ، فمَن ذا الذي يقاومه ، ثم إنّ الأيامَ دارت ، والنبي عليه الصلاة والسلام الذي خرج من مكة طريداً ، شريداً ، مستتراً بجنح الظلام ، يعود إليها سيداً ، فاتحاً ، تحفُّ به الألوف المؤلفة من بيض السيوف ، وإذا بزعماء قريش الذين ملؤوا الأرض عنجهيةً ، وغطرسةً ، وكبراً ، واستعلاء ، يقبلون على النبي خائفين واجفين ، يسألونه الرأفة ويقولون ماذا عساك أنْ تصنع بنا يا محمد ؟ فيقول عليه الصلاة والسلام في سماحة الأنبياء : اذهبوا فأنتم الطلقاء ، عند ذلك أعدّ سراقة بن مالك راحلته ، ومضى إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليعلن إسلامه بين يديه ، ومعه العهد الذي كتبه له قبل عشر سنوات ، قال سراقة : لقد أتيت النبي صلى الله عليه وسلم بالجعرانة ، فدخلتُ في كتيبة الأنصار ، فجعلوا يقرعونني بكعوب الرماح ويقولون : إليك إليك ، ماذا تريد ؟ فما زلتُ أشقُّ صفوفهم حتى غدوتُ قريباً من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو على ناقته فرفعت يدي بالكتاب ، وقلت: يا رسول الله أنا سراقة بن مالك ، وهذا كتابك لي ، فقال عليه الصلاة والسلام : يوم وفاء وبر، ادنُ ، ماله "ألا لا إيمان لمن لا أمانة له ، ولا دين لمن لا عهد له " ، فأقبلت عليه ، وأعلنتُ إسلامي بين يديه ، ونلتُ من خيره ، وبره ، ولم يمضِ على لقاء سراقة بن مالك برسول الله غير زمن يسير حتى اختار الله نبيه إلى جواره ، فحزن سراقة أشد الحزن ، وجعل يتراءى له ذلك اليوم الذي همَّ بقتله ، من أجل مائة ناقة ، وكيف أن نوق الدنيا كلها قد أصبحت اليوم لا تساوي عنده قلامة من ظفر النبي ، لو جمعت نوق الدنيا عند سراقة الآن لا تساوي قلامة ظفر النبي ، وقد همّ بقتله من أجل مائة ناقة ، هذا الإيمان ، قال أبو سفيان لخبيب بن عدي : أتحبُّ أن تكون مع أهلك ومحمد مكانك يُصلَب ؟ قال له : واللهِ ما أحب أن أكون في أهلي وولدي وعندي عافية الدنيا ونعيمها ويصاب رسول الله بشوكة .
الإسلام كله حب أيها الإخوة ، حب ، وإيثار ، وإخلاص ، ووفاء ، وحينما لم يبق من الإسلام إلا اسمه ، ولم يبق من القرآن إلا رسمه ، وحينما يفرغ الدين من قيمه ، ويصبح طقوساً ، وعباداتٍ جوفاء ، فاقرأْ على المسلمين السلام .
وجعل يردد قولته له : كيف بك يا سراقة إذا لبستَ سواريْ كسرى ، دون أن يخامره شك في أنه سيلبسهما ، ثم دارت الأيام دورتها كرةً أخرى ، وآل أمر المسلمين إلى الفاروق رضوان الله عليه ، وهبت جيوش المسلمين في عهده المبارك على مملكة فارس ، فطفقت تدكُّ الحصون ، وتهدم الجيوش ، وتهز العروش ، وتحرز الغنائم ، وفي ذات يوم من أواخر أيام خلافة عمر قدم على المدينة رسل سعد بن أبي وقاص يبشرون خليفة المسلمين بالفتح ، ويحملون إلى بيت مال المسلمين خمس الفيء الذي غنمه الفاتحون ، فلما وضعت الغنائم بين يدي عمر نظر إليها في دهشة ، فقد كان فيها تاج كسرى المرصع بالدر ، وثيابه المنسوجة بخيوط الذهب ، ووشاحه المنظوم بالجوهر ، وسواراه اللذان لم تر العين مثلهما قط ، ومالا حصر له من النفائس الأخرى ، فجاء عمر يقلب هذا الكنز الثمين بقضيبٍ كان بيده ، ثم التفت إلى من كان حوله ، وقد اغرورقت عيناه بالدموع ، لماذا ؟ وإلى جانبه سيدنا علي فقال له : ما الذي يبكيك ؟ أعجبت من أمانة هؤلاء ؟ فقال له الفاروق : إنّ قومًا أدُّوا هذا لأُمناء حقًّا ، تاج كسرى ثمنه مئات الملايين ، لو أن هذا الذي أخذه ذهب به إلى أنطاكية لعاش أغنى الأغنياء ، فأجابه بكلمة ، والله لا أنساها مدى الحياة ، قال له : يا يا أمير المؤمنين ، لقد عففتَ فعفُّوا ، ولو وقعتَ لوقعوا ، وهنا دعا الفاروق رضوان الله عليه سراقة بن مالك فألبسه قميص كسرى ، وسراويله ، وقباءه ، وخفيه ، وقلده سيفه ، ومنطقته ، ووضع على رأسه تاجه ، وألبسه سواريه ، عند ذلك هتف المسلمون الله أكبر الله أكبر ، لقد تحققت نبوءة النبي عليه الصلاة والسلام ، لكن هذه النبوءة ليست من عند النبي ، إنما هي وحي أوحي إليه ، ثم التفت عمر إلى سراقة وقال بخٍ بخٍ يا سراقة أعرابيٌ من مدلج على رأسه تاج كسرى ، وفي يديه سواراه ، قال له : أعرابيٌ من بني مدلج على رأسه تاج كسرى ، وفي يديه سواراه ، ثم رفع عمرُ رأسه إلى السماء ، وقال : اللهم إنك منعتَ هذا المال لرسولك ، وانظروا إلى سراقة الآن ، اللهم إنك منعت هذا المال لرسولك، وكان أحبَّ إليك مني ، وأكرمَ عليك ، ومنعته أبا بكرٍ ، وكان أحبَّ إليك مني وأكرمَ عليك ، وأعطيتنيه ، وأعوذ بك أن تكون قد أعطيتنيه لتمكر بي ، ثم لم يقم من مجلسه حتى قسمه بين فقراء المسلمين وانتهى الأمر .
هكذا كان أصحاب النبي ، وهكذا كان عطاؤهم ، وورعهم ، وتواضعهم ، وهذه بعض الحقائق التي يمكن أن نستنبطها من قصة هذا الصحابي الجليل سراقة ابن مالك .
والحمد لله رب العالمين(/)
الدرس 26\50 سيرة الصحابي : سيدنا عدي بن حاتم الطائي لفضيلة الأستاذ محمد راتب النابلسي.
التاريخ : الاثنين مساءً 12/04/1993
تفريغ : م المهندس عرفان نابلسي .
التدقيق اللغوي : الأستاذ غازي القدسي
التنقيح النهائي : المهندس غسان السراقبي .
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا ، وانفعنا بما علمتنا ، وزدنا علما ، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
أيها الإخوة الأكارم ؛ مع بداية الدرس السادس والعشرين من دروس صحابة رسول الله رضوان الله عليهم أجمعين ، وصحابي اليوم : عدي بن حاتم الطائي ، والده حاتم الطائي كان مضرب المثل بالكرم ، وعدي بن حاتم له قصة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ونحن اليوم في أمس الحاجة إلى المعاني التي تستنبط منها ، وكما قلت لكم دائماً : الذي يعنينا أن نربط السيرة النبوية وسيرة صحابة الرسول رضوان الله عليهم أجمعين بحياتنا وواقعنا .
ففي السنة التاسعة للهجرة دان للإسلام ملِكٌ من ملوك العرب بعد نفور شديد ، ولان للإيمان بعد إعراض و صدٍّ ، وأعطى الطاعة لرسول الله صلى الله عليه و سلم بعد طول إباء ، إنه عدي بن حاتم كان ملكًا من ملوك الجزيرة العربية ، و الحقيقة ترونها بعد قليل أن بطولة رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت في هذه القدرة الفائقة التي أكرمه الله بها على استجلاب أعدائه قبل أصدقائه .
من السهل جداً أن تجلب من يحبك لكن ليس من السهل أن تلين قلوب أعدائك الذين امتلئوا بغضاً لك .
دخل على النبي عليه الصلاة والسلام رجلٌ وقال : واللهِ يا رسول الله ما على وجه الأرض رجل أبغض إليَّ منك ، والآن ما على وجه الأرض رجل أحب إليَّ منك ، فهذه القدرة التي أكرم الله بها نبيه على امتلاك قلوب أعدائه ، بينما نحن ننفر الأصدقاء ، فضعاف المؤمنين بسبب نقص ثقافتهم ، وعدم اتباعهم للسنة النبوية ، فمَن يلوذون بهم يبتعدون عنهم ، وقلت لكم مرةً : العاجز هو الذي يعجز عن اكتساب الأصدقاء ، ولكنّ الأعجزَ منه هو الذي يعجز على الاحتفاظ بهم ، أن تصل إلى القمة أمرٌ ليس سهلاً ، ولكن إذا قيس ذلك بقدرتك على بقائك في القمة فهو سهل جداً ، أن تصل إلى مكتسبات شيء وأن تحافظ عليها شيء أعظم ، أن تحقق إنجازاً في مسيرة الإيمان ، وأن تثبت عليه شيء أعظم ، وأن تقفز قفزة نوعية في رمضان ، وأن تحافظ عليها على مدار العام شيء أعظم ، وأن تهتدي إلى الله شيء ، وأن تتابع الهدى شيء آخر ، أن تنطلق بسرعة معينة وأن تحافظ على هذه السرعة شيء آخر .
فالعاجز هو الذي عجز عن اكتساب أخ في الله ، والأعجز منه هو الذي لم يستطع أن يحافظ على هذه الأخوّة ، ولأسباب مادية ، ولأسباب تافهة خسر أخوَّته ، لكن النبي عليه الصلاة والسلام كان من شدة كماله ورحمته وحبه للخلق يتألف أعداءه قبل أصدقائه ، وهذا عدو لدود من أعداء النبي ، وسترون بعد قليل كيف أنّ قلبه لان بالإحسان ، وبالبر تستعبد قلوب الكثيرين ، والأنبياء كما قلت لكم ، فالأقوياء ملكوا الأجساد ، لكن الأنبياء ملكوا القلوب ، فأيّ إنسان قوي بإمكانه أن يخضع الناس لرغبته ومشيئته ، ولكن ليست هذه بطولة ، البطولة هي القوة التي في يديه ، فالإنسان قد يكون في منصب حساس ؛ مدير مدرسة مثلاً ، ويستطيع أن يزعج المعلمين ، واحترامهم له لا قيمة له ، وتعظيمهم له ، وخضوعهم له قام على قوته ، وسلطته ، لكن لو نُحِّيَ عن هذا المنصب أيحتفظ بهم أصدقاء ؟ أغلب الظن لا ، إذاً الأقوياء يملكون القوالب ، بينما الأنبياء يملكون القلوب ، الأقوياء يملكون القوالب بقوتهم المادية ، لكن الأنبياء يملكون القلوب بكمالهم ، أنت بكمالك بإمكانك أن تملك القلوب .
ورث عدي الرئاسة عن أبيه ، فكان ملكاً في الجزيرة ، ملَّكته قبيلة طيِّئ ، وفرضت له الربع في غنائمها ، وأسلمت له القيادة ، ولما صدع رسول الله صلى الله عليه وسلم بدعوة الهدى والحق ، ودانت له الجزيرة العربية حيًّا بعد حي ، رأى عدي في دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم زعامة واسعة النفوذ ، يوشك أن تقضي على زعامته ، وستفضي إلى إزالة رياسته ، فعادى النبيَّ ، ولماذا عاداه ؟ حفاظاً على مصالحه ، وما أكثرَ الأشخاص في كل زمان وفي كل مكان ، حفاظاً على مصالحهم ، وعلى مكتسباتهم ، وعلى مراكزهم ، وعلى جاههم ، وعلى تبجيل الناس لهم ، وعلى تعظيم الناس إياهم ، يعادون الحق .
يا أيها الأخ الكريم ؛ إيّاك ثم إيّاك ثم إيّاك أن تقف في خندقٍ معادٍ للحق من أجل مصالحك ، ولا بد عندئذ أن تخسر الاثنتين معاً ، وإذا وقفت مع الحق ربحت الدنيا والآخرة ، وإذا وقفت مع الباطل حفاظاً على مصالحك خسرت الآخرة ، وخسرت مصالحك ، قال تعالى :
(سورة الأنفال ، الآية 36)
لا ، لأن الله مع الحق ، ولن تستطيع أن تطفئ نور الله ، ولن تستطيع أن تضعف قوة الحق ، إياك أن تكون في درب الحق معترضاً ، فإن الحق لا يلوي على شيء مهما كان شأنه ، وما ضر السحاب نبح الكلاب ، ما ضر البحر العظيم أن ألقى فيه غلام بحجر ، إن الذين يحبون أن يغبروا على الإسلام كمن يكنس الطريق ليغبر على السماء ، وما يغبرون إلا على أنفسهم ، لأن هذا الإسلام دين الله ، بقي شامخاً كالطود على مدار العصور والحقب ، ولولا أنه دين الله لقُضِيَ عليه منذ ألف عام ، ولكن هذا الدين العظيم كلما وقفتَ في وجهه ازداد قوةً ، كلما أردت أن تقضي عليه ازداد مضاءً ، فهذا عدي بن حاتم رأى في زعامة النبي زعامةً تطغى على زعامته، ورأى في رئاسة النبي رئاسةً ستزيل رياسته ، فماذا يفعل ؟ عليه أن يعادي النبي .
أيها الإخوة ؛ يقف الحسد وراء خمسة أعشار معارضات الحق ، الإنسان أحياناً يرفض الحق حسداً من عند نفسه ، والمثل المأثور : إذا عزَّ أخوك فهن *
(لسان العرب ، مادة هين)
كن معيناً له يقبلك الله ، ويقبله ، ويرفع شأنك ، ويرفع شأنه ، وفضلُ الله عز وجل واسع ، نحن بتعاملنا مع بعضنا نريد وظيفة مدير عام ، نعلن عن مسابقة ، فيتقدم ألف شخص ، ونحن نحتاج إلى واحد ، لكن رحمة الله ليست كذلك ، رحمة الله تسع الخلق كلهم ، ولقد قرأت بيتين من الشعر ذات يوم :
***
ملك الملوك إذا وهب لا تسألن عن السبب
الله يعطي من يشاء فقف على حد الأدب
***
أنا عدلت فيه كلمة واحدة قلت :
ملك الملوك إذا وهب قم فاسألن عن السبب
لأن الله عادل ، يتعامل مع عباده وفق قواعد ثابتة .
***
ملك الملوك إذا وهب لا تسألن عن السبب
الله يعطي من يشاء فقف على حد الأدب
***
إذا وجدت أخاك متفوقًا فنافسْه ، قال تعالى :
(سورة المطففين )
ظل عدي بن حاتم على عداوته للإسلام قريباً من عشرين عاماً ، لكن الله حليم ، فالإنسان يضيق ذرعاً بالكفار ، يا رب لماذا هؤلاء يعيشون ، وحياتهم بيدك ؟ رزقهم بيدك ، وحينما خلق الله عز وجل الإنسانَ سمح له أن ينكر وجوده ورزقه ، أليس كذلك ؟ لا إكراه في الدين ، ترى إنسانًا ملحدًا ، وله قلب ، ودسامات وشرايين ، ورئتان ، وكليتان ، وأمعاء ، وأعصاب ، وكذا ألف عضو يعمل في جسمه بانتظام ، وعنده فكر وذكاء وحرفة ، ويكسب مالاً ، وينفق ، ويشتري بيتًا ، ويتزوج ، وهو ملحد ، واللهُ لم يضق به ذرعاً ، لا إكراه في الدين ، لذلك أعطي الإنسان في الدنيا الكثير ، قال له : ابنَ آدم لي عليك فريضة ، ولك عليَّ رزق ، فإذا خالفتني في فريضتي لم أخالفك في رزقك .
فالبطولة أن يأتي الإنسان ربه طائعاً ، راغباً محباً ، فظل عدي بن حاتم على عداوته للإسلام قرابة عشرين عاماً ثم أسلم ، ولإسلام عدي قصة لا تنسى ، فلنترك للرجل نفسه يحدثنا عن قصته ، وأروع ما في قصص الصحابة حينما يتولى الصحابي نفسه الحديث عن نفسه .
يقول عدي بن حاتم : ما من رجل من العرب كان أشدَّ مني كراهةً لرسول الله صلى الله عليه وسلم حين سمعت به ، فقد كنت امرأ شريفاً ، وكنت نصرانياً ، وكنت أسير في قومي بالمرباع ، معه أموال طائلة ، ربع أموال قومه ، وله زعامة وملك وشرف ، ووالده أكرم العرب وربع دخلهم له وحده ، فماذا يريد من الإسلام ؟ بالمنطق المادي هو وصل إلى قمة الدنيا.
فقد كنت امرأ شريفاً وكنت نصرانياً وكنت أسير في قومي بالمرباع ، فأخذ الربع من غنائمهم ، كما كان يفعل غيري من ملوك العرب ، فلما سمعت برسول الله صلى الله عليه وسلم كرِهتُه ، ولما عظم أمره ، وامتدت شوكته ، وجعلتْ جيوشُه وسراياه تشرِّق وتغرِّب في أرض العرب ، قلت لغلام لي يرعى إبلي : لا أبا لك ، أعدد لي من إبلي نوقاً سماناً سهلة القياد ، واربطها قريباً مني ، فإذا سمعت بجيش لمحمد أو بسرية من سراياه قد وطئت هذه البلاد فأعلِمْني، فقدْ هيَّأ الطائرة ، ولكل عصر أساليبه ، وفي ذات غداة أقبل علي غلامي ، وقال : يا مولاي ما كنت تنوي أن تصنعه إذا وطئت أرضَك خيلُ محمد فاصنعه الآن ، فقلت : ولِمَ ثكلتك أمك ؟ فقال : إني رأيت رايات تجوس خلال الديار ، فسألت عنها فقيل لي : هذه جيوش محمد قد قدمت ، فقلت له : أعدد لي النوق التي أمرتك بها ، وقربها مني ، ثم نهضت من ساعتي ، فودعت أهلي وأولادي إلى الرحيل عن أرضي التي أحبها ، وجعلت أعد السير نحو بلاد الشام للِّحاق بأهل ديني من النصارى ، وأنزل بينهم ، لكنه وقع في غلطة كبيرة ارتكبها ، فكانت سببَ إسلامه ، وقد أعجلني الأمر عن استقصاء أهلي كلهم ، فلما اجتزت مواقع الخطر ، تفقدت أهلي فإذا لي أن تركت أختًا لي في مواطننا بنجد ، مع من بقي هناك من طيِّء ، ولم يكن مِن سبيل إلى الرجوع إليها ، فمضيت بمَن معي حتى بلغت الشام ، وأقمت فيها بين أبناء ديني ، أما أختي فقد نزل بها ما كنت أتوقعه وأخشاه ، أخته سفانة من أذكى نساء العرب ، ولها قصة مع رسول الله في كتاب آخر .
ولقد بلغني وأنا في ديار الشام أن خيل محمد صلى الله عليه وسلم أغارت على ديارنا ، وأخذت أختي في جملة من أخذته من السبايا ، وسيقت إلى يثرب ، وهناك وضعت مع السبايا في حظيرة عند باب المسجد ، فمر بها النبي صلى الله عليه وسلم ، فوقفت ، وكانت ذكية جداً ، وقالت : يا رسول الله ، خاطبته بالرسالة وهذا عقل راجح ، وهي لم تسلم ، وقالت له : يا رسول الله ، هلك الوالد ، وغاب الوافد ، فامننْ عليَّ مَنَّ الله عليك ، فقال عليه الصلاة والسلام : ومَن وافدُك ؟ الوالد معروف حاتم الطائي ، الوافد من ؟ قالت : عدي بن حاتم ، الوافد الذي يمكن أن يأتي إليك ليفتديني ، هرب ، فقال عليه الصلاة والسلام : الفار من الله ورسوله ، ثم مضى ، وتركها صلى الله عليه وسلم ، ولم يتكلم بشيء ، فلما كان الغد مر بها ، فقالت له مثل قولها بالأمس ، وقفت ، وقالت : يا رسول الله هلك الوالد ، وغاب الوافد ، فامننْ عليَّ مَنَّ الله عليك ، قال : من الوافد ؟ قالت : عدي بن حاتم ، قال : الفار من الله ورسوله ، ثم تركها ومضى ، فلما كان بعد الغد مرَّ بها ، وقد يئست فلم تقل شيئاً ، وكان وراء النبي رجلٌ أشار لها من خلفه أن قومي وكلميه كما كلمته بالأمس ، فقامت إليه ، وقالت : يا رسول الله هلك الوالد ، وغاب الوافد ، فامننْ عليَّ مَنَّ الله عليك ، وفي رواية أخرى أوسع قالت : يا رسول الله هلك الوالد ، وغاب الوافد ، فإن رأيت أن تخلِّيَ عني ، ولا تشمت بي أحياء العرب ، لأنها شريفة ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : أكرموا عزيزَ قومٍ ذلَّ ، وغنيًّا افتقر ، وعالماً ضاع بين الجهال .
وبالمناسبة إنكم تعلمون أنه لا تجوز الزكاة أبداً لشخصين ، مَن هما ؟ لا تجوز الزكاة لغني، ولا لذي مِرّة قوي ، شاب مفتول العضلات يقدر أن يكسب رزقه ، لا تجوز الزكاة له ، وغني كذلك ، إلا في حالة واحدة ، إذا كان غنيًا ثم افتقر ، وشخص قوي البنية ولكنه بلا عمل ، فتجب له الزكاة من بيت مال المسلمين ، حفاظاً على مكانته ، نقول له اعمل حمَّالاً ، لا يجوز هذا ، له مكانة ، والنبي الكريم كان رحيماً .
قالت : يا رسول الله ، هلك الوالد ، وغاب الوافد ، فإن رأيت أن تُخلِّيَ عني ، ولا تشمت بي أحياء العرب ، فإن أبي كان سيد قومه ، يفكّ العاني ، ويعفو عن الجاني ، ويحفظ الجار ، ويحمي الذِّمار ، ويفرج عن المكروب ، ويطعم الطعام ، ويفشي السلام ، ويحمل الكَلَّ ، ويعين على نوائب الدهر ، وما أتاه أحد في حاجة فردَّه خائب ، أنا بنت حاتم طيِّء .
هناك تعليق للنبي عميق جداً ، فقالت له : فإن أبي كان سيد قومه ، يفكّ العاني ، ويعفو عن الجاني ، ويحفظ الجار ، ويحمي الذِّمار ، ويفرج عن المكروب ، ويطعم الطعام ، ويفشي السلام، ويحمل الكَلَّ ، ويعين على نوائب الدهر ، وما أتاه أحد في حاجة فردّه خائبًا ، أنا بنت حاتم طيِّء، فقال عليه الصلاة والسلام : يا جارية ، أيْ يا امرأة ، هذه صفات المؤمنين حقاً ، ولو كان أبوك مسلماً لترَحمْنا عليه ، معنى ذلك أنّ الإنسان قد يكون بعقل راجح جداً ، و بذكاء لامع ، قد يعمل أعمالاً طيبة فيثني عليه الناس بها ، و لكنها ليست طاعة لله عز وجل ، فرق كبير بين أن تكون كاملاً لتنتزع إعجاب الناس و بين أن تكون كاملاً لتتقرب إلى الله عز وجل ، الأول سلوك اجتماعي ذكي ، أمّا الثاني فهو عبادة ، و السلوك الاجتماعي الذكي تحصل ثماره في الدنيا فقط ، لكن العبادة تحصل نتائجها في الدنيا و الآخرة معاً .
فقال عليه الصلاة والسلام : يا جارية ، أيْ يا امرأة هذه صفات المؤمنين حقاً ، ولو كان أبوك مسلماً لترحمنا عليه ، خَلُّوا عنها ، فإن أباها كان يحب مكارم الأخلاق .
لقد رحم أباها ، لأنه كان سيد قومه ، و رحم شرفها ، إلا أنه أشار عليه الصلاة والسلام ، إلى أن السلوك الاجتماعي الذكي شيء ، والعبادة شيء آخر .
ومرةً ذكرت ذلك في موضوع الأمانة ، أنك استقرضتَ مائة ألف ، ووقعت سندًا ، وأديته في وقته ، يا أخي أنا أمين ، لا ، لست أمينًا ، ليست هذه هي الأمانة ، أنت موقع على سند ، وخصمك مُرٌّ ، وإذا لم تدفع شهَّرَ بك ، وأقام عليك دعوى ، وحجز على أموالك ، وأخذ منك المبلغ عنوة في المحاكم ، وأنت حينما دفعت هذا المبلغ دفعته طلباً للسلامة ، وحفاظاً على مكانتك وسمعتك ، الأمين رجل أعطاك مائة ألف في سيارة ، ثم وقع حادث في هذه السيارة ، ومات في هذا الحادث ، ولم يعلم أحد في الدنيا كلها بهذا المبلغ ، لا شركاؤه ، ولا ورثته ، ولا أيّ إنسان كائنًا من كان ، وليس في الأرض كلها من يطالبك به ، ولا من يُدِينُك به ، فتوجهتَ بمحض اختيارك إلى ورثته ، ونقدتهم هذا المبلغ ، هذه هي الأمانة دفعت هذا المبلغ إرضاء لله عز وجل.
والإنسان أحيانا يأخذ موقفًا رحيمًا ، وهو ليس رحيماً ، يأخذ موقفًا عادلا ، وهو ليس عادلاً ، هذا سلوك ذكي تمليه عليه مصلحته ، وبهذه الطريقة نفسر كل ما عند الأجانب الكفار من تصرفات تعجبنا ، يا أخي أخلاق المسلمين ، لا ليست أخلاق المسلمين ، ولكنهم أذكياء جداً ، وهكذا تقتضي مصالحهم ، أما إذا أردت أن ترى وحشيتهم فاستمع إلى الأخبار ، يبحثون عن حقوق الحيوان ، مستشفيات للحيوانات ، وقيود نفوس للحيوانات ، ألبسة خاصة للحيوانات ، ومكان تسوُّق خاص للحيوانات ، ولحوم خاصة للحيوانات ، وما حالُ بني البشر الذين تذبحونهم ؟ وما موقفهم من شعوب العلم الثالث ؟ ظلم ، ونهب ثروات ، واضطهاد واستعباد وقتل وتشريد ، على حدِّ قول مضن قال :
***
قتل امرئ في غابة جريمة لا تغتفر وقتل شعب أمن مسألة فيها نظر
***
الحمد لله الآن أصبح كل إنسان يرى وحشية الأجانب ، يرى انحيازهم لضلالهم ، ويرى قسوتهم ، ويرى وحشيتهم ، وتعصبهم ، وحقدهم ، وهذا شيء يراه كل إنسان رأي العين.
فقال عليه الصلاة والسلام : يا جارية ، أي يا امرأة ، هذه صفات المؤمنين حقاً ، ولو كان أبوك مسلماً لترحمنا عليه ، خلُّوا عنها فإن أباها كان يحب مكارم الأخلاق ، ثم قال عليه الصلاة والسلام : ارْحَمُوا ثَلاَثَةً : عَزِيزَ قَوْمٍ ذَلَّ ، وَغَنِيَّ قَوْمٍ افِتَقَرَ ، وَعَالِماَ بَيْنَ جُهَّال *
(كنز العمال عن أنس)
قد تكون في المطار ، ورأيتَ رجلاً تعرفه من أهل العلم ، جالس بين السياح ، ضائعًا بينهم، غير معروف ، فإذا سلمت عليه باحترام ، وأكرمته بمكان خاص فقد عملت بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : ارْحَمُوا ثَلاَثَةً : عَزِيزَ قَوْمٍ ذَلَّ ، وَغَنِيَّ قَوْمٍ افِتَقَرَ ، وَعَالِماَ بَيْنَ جُهَّال *
(كنز العمال عن أنس)
وامتن عليها بقومها ، فأطلقهم جميعاً تكريماً لها ، هذه ضربة معلم ، بالتعبير الدارج ، والآن ترون أنّ الإنسان عبدُ الإحسان ، فاستأذنته بالدعاء ، فأذن لها ، وقال لأصحابه : اسمعوا ، وعوا، فقالت : أصاب الله ببرك مواقعه ، ولا جعل لك إلى لئيم حاجة ، ولا سلب نعمةً عن كريم إلا جعلك سبباً في ردِّها عليه .
أحيانا تخدم إنسانًا فيرفس ويجحد ، وقد تخدم إنسانًا ، ويكون كريمًا فلا ينسى لك هذا المعروف طوال حياته ، اللهم ارزقنا العمل الصالح مع الكرماء .
يقول سيدنا علي والله والله مرتين : لحفر بئرين بإبرتين ، فهل هذا يكون ؟ بئر ارتوازية عمقها تسعون مترًا تُحفَر بإبرة ، وكنس أرض الحجاز في يوم عاصف بريشتين ، صحراء كلها رمال أيمكن هذا بريشة طائر ؟! ونقل بحرين زاخرين بمنخلين ، وغسل عبدين أسودين حتى يصيرا أبيضين ، عشر مرات بالليفة الخشنة ، ويبقى أسود ، قال : أهون عليَّ من طلب حاجة من لئيم لوفاء دين .
سيدنا عليٌّ سئل : ما الذل ؟ قال : أن يقف الكريم بباب اللئيم ثم يرده .
أصاب الله ببرك مواقعه ، ولا جعل لك إلى لئيم حاجة ، ولا سلب نعمةً عن كريم إلا جعلك سبباً في ردها عليه .
قال : فلما أطلقها رجعت إلى أخيها عدي ، وهو بدومة الجندل ، قالت له : يا أخي ايتِ هذا الرجل قبل أن تعلقك حبائله ، فإني قد رأيت هدياً ورأياً يغلب أهل الغلبة ، ورأيت خصالاً تعجبني، رأيته يحب الفقير ، ويفك الأسير ، ويرحم الصغير ، ويعرف قدر الكبير ، ولا رأيت أجود ولا أكرم منه ، فإن يكن نبياً فلسَابِقِ فضله ، ألحقْ نفسك ، وإن يكن ملكاً فلن تزال في عز ملكه ، لقد أقنعت أخاها عدي بن حاتم أن يذهب إلى النبي ، هو نسيها ، ولولا أنه نسيها لبقي على عداوته للنبي طوال حياته ، لكن نسيها ، وما أنساه إياها إلا الله لحكمة أرادها .
لما قال النبيُّ عليه الصلاة والسلام : خلوا سبيلها فإنّ أباها يحب مكارم الأخلاق ، والآن اسمعوا دقة موقف النبي ، قال لها : يا جارية إلى أين تريدين أن تذهبي ؟ قالت : أريد اللحاق بأهلي في الشام ، فقال : ولكن لا تعجلي بالخروج حتى تجدي من تثقين به من قومك ، ليبلغك بلاد الشام ، فإذا وجدت الثقة فأعلميني ، وكأنها ابنته لما انصرف النبي عليه الصلاة والسلام سألت عن الرجل الذي أشار إليها أن تكلمه فقيل لها إنه علي بن أبي طالب رضوان الله عليه ، ثم أقامت حتى قدم ركب فيهم من تثق به ، فجاءت النبي صلى الله عليه وسلم ، وقالت : يا رسول الله لقد قدم رهط من قومي لي فيهم ثقة وبلاغ ، فكساها النبي صلى الله عليه وسلم ، ومنحها ناقة تحملها ، وأعطاها نفقة تكفيها ، وأطلق سراح قومها كلهم إكراماً لها ، ولم يسمح لها بالخروج إلا مع من تثق به ، كي يبلغها أهلها بسلام ، فخرجت مع الركب .
فلْنعُدْ إلى عدي بن حاتم في بلاد الشام ، وهو هارب ، قال عدي : ثم جعلنا بعد ذلك نتنسم أخبارها ، ونترقب قدومها ، ونحن لا نكاد نصدق ما روي لنا من خبرها مع محمد ، لقد كان يتوقَّع قتلها ، وعلمتُ إحسانه إليها كل ذلك الإحسان ، على ما كان مني اتجاهه ، فوالله إني لقاعد في أهلي إذ أبصرت امرأة في هودجها تتجه نحونا ، فقلت : ابنة حاتم ، فإذا هي هي ، فلما وقفت علينا بادرتني بقولها القاطع الظالم ، لقد احتملت بأهلك وولدك وتركت بقية والدك وعورتك ، فقلت : أيْ أُخَيَّة لا تقولي إلا أنْ تقولي خيراً ، وجعلتُ أسترضيها حتى رضيت ، وقصَّتْ علي خبرها ، فإذا هو كما تناهى إليَّ ، فقلت لها وكانت امرأة حازمة عاقلة : ما ترين في هذا الرجل ، يعني محمداً ، قالت : أرى والله أن تلحق به سريعاً ، فإن يكن نبياً فلسابق فضله ، وإن يكن ملكاً فلن تذل عنده ، وأنت أنت ، وعلى الحالتين الذهاب إليه غنيمة ، فإذا كان نبياً فأنت من السابقين ، وإذا كان ملكًا فلن تذلَّ عنده ، وديننا كله مكارم أخلاق صريحة ، طلبوا تصريحًا من الحجاج ، على أنه لم يحج أحدُهم قبل العام هذا ، ثم فوجئا أن حجاجًا كثيرين حجوا من قبل، وكتبوا تصريحات كاذبة ، الآن سوف يعودون إلى سجلات الحجاج لعشر سنوات سابقة ، ويحصون كل من ذهب إلى الحج سابقاً ، وسيواجه الكاذبُ مشكلة كبيرة بعد عودته ، ويقولون أيكون الحاجُّ كاذبًا ؟ هذا لا يصح ، أنت حاج ذاهب إلى عبادة ، والإسلام كله مكارم أخلاق ، والإسلام كله صدق وأمانة وأخلاق واستقامة .
قال عدي : فهيأت جهازي ، ومضيت حتى قدمت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقد ذكرتُ لكم في بداية الدرس أننا في أمس الحاجة إلى هذه القصة ، ولقد حانت المناسبة لسماعها .
قال عدي : فهيأت جَهازي ومضيت حتى قدمت إلى عند رسول الله ، لا تقل : جِهازي - بكسر الجيم - صوابها جَهازي - بفتح الجيم - ، قال تعالى :
(سورة يوسف ، الآية 59)
فهيأتُ جَهازي ، ومضيتُ حتى قدمتُ إلى عند رسول الله صلى الله عليه وسلم من غير كتاب ولا أمان ، وكان عديّ بن حاتم يتصور أن يقتله النبي ، فلما سمع من أخته ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم قال : ذهبت إليه بلا كتاب ولا أمان ، وكان بلغني أنه قال : "إني لأرجو أن يجعل الله يد عدي في يدي" ، نتعاون ، وقد بعث له بهذا الخبر ، "إني لأرجو أن يجعل الله يد عدي في يدي"، فدخلت عليه وهو في المسجد ، فسلمت عليه ، قال : من الرجل ؟ قلت : عدي بن حاتم ، فقام إلي ، وأخذ بيدي ، وانطلق بي إلى بيته ، فوالله إنه لماضٍ بي إلى البيت إذ لقيَتْه امرأة ضعيفة كبيرة ، ومعها صبي صغير ، فاستوقفته ، وجعلت تكلمه في حاجة لها ، فظل معها حتى قضى حاجتها ، وأنا واقف ، وكانت أخته قد خاطبته : يا نبي ، ولم تقل : يا ملِك ، فقلت في نفسي : والله ما هذا بملِك ، ثم أخذ بيدي حتى أتينا منزله ، منزل من ؟ منزل النبي عليه الصلاة والسلام ، وأن تأخذه إلى بيتك فهذا منتهى الإكرام ، قال في إحدى المقامات : السوق أقرب ، والطعام أطيب ، هذه درجة ثانية ، أما إلى البيت فهذه درجة أولى ، فتناول وسادة من أدم محشوة ليفاً ، فألقاها إليَّ ، وقال : اجلس على هذه ، فاستحييت منه ، وقلت : بل أنت تجلس عليها ، قال: بل أنت ، فجلستُ عليها ، وجلس رسول الله على الأرض ، إذْ لم يكن في بيته سواها ، سوى وسادة واحدة من أدم محشوة ليفًا ، فقلت في نفسي : والله ما هذا بأمر ملك ، ثم التفتَ إليَّ وقال : إيه يا عدي بن حاتم ، ألم تكن ركوسياً تدين بدين بين النصرانية والصابئة ؟! قلت بلى ؛ قال : ألم تكن تسير في قومك بالمرباع ، تأخذ ربع أموالهم ، فتأخذ منهم ما لا يحل لك في دينك ، فقلت: بلى ، وعرفت عندئذٍ أنه نبي مرسل ، يعلم ما نجهل ، ثم قال لي - الآن دققوا ، الآن الوضع نحن في أمس الحاجة إليه - لعلك يا عدي إنما يمنعك من الدخول في هذا الدين ما ترى من حاجة المسلمين وفقرهم ، فوالله ليوشكن المال أن يفيض فيهم ، حتى لا يوجد من يأخذه ، إذا رأيت إخوانك كلهم فقراء ، والأغنياء ليسوا في المسجد ، الأغنياء في النوادي والفنادق والملاهي، فلا تنكمش ، فإخوانك كلهم فقراء ، لعلك يا عدي إنما يمنعك من الدخول في هذا الدين ما ترى من حاجة المسلمين وفقرهم ، فوالله ليوشكن المال أن يفيض فيهم ، حتى لا يوجد من يأخذه ، ولعله يا عدي إنما يمنعك من الدخول في هذا الدين ما ترى من قلة المسلمين وكثرة عدوهم ، فأينما ذهبتم فأعداء المسلمون شرسون .
فوالله لتوشكن أن تسمع بالمرأة تخرج من القادسية على بعيرها حتى تزور هذا البيت لا تخاف إلا الله ، ولعله يا عدي إنما يمنعك من الدخول في هذا الدين أنك ترى أن المُلْك والسلطان في غيرهم ، فهم ضعاف ، والقوة بيد أعدائهم ، والأسلحة الفتاكة في يد أعدائهم ، والتكنولوجيا بيد أعدائهم ، وكذلك المصارف والجامعات والأبحاث الراقية جداً ، وايمُ الله لتوشكن أن تسمع بالقصور البيض من أرض بابل قد فتحت عليهم ، وإن كنوز كسرى قد صارت إليهم ، فقلت : كنوز كسرى ؟ قل لواحد في اليمن ستسكن البيت الأبيض مثلاً ، يقول لك : هذا الكلام مستحيل ، هذه النسبة نفسها ، قلت : كنوز كسرى ؟! قال : نعم كنوز كسرى ، قال عدي : عندئذ شهدت شهادة الحق ، وأسلمت .
عُمِّرَ عدي طويلاً ، وكان يقول : لقد تحققت اثنتان ، وبقيت الثالثة ، وإنها والله لا بد كائنة ، فقد رأيت المرأة تخرج من القادسية على بعيرها لا تخاف شيئاً ، حتى تبلغ البيت ، وكنتُ في أول خيل أغارت على كنوز كسرى ، هو نفسه وأخذتها ، وأحلف بالله لتجيئَن الثالثة ، ولقد شاء الله أن يحقق قول نبيه عليه الصلاة والسلام ، فجاءت الثالثة في عهد الخليفة الزاهد العابد عمر بن عبد العزيز ، حيث فاضت الأموال على المسلمين حتى جعل مناديه ينادي : من يأخذ أموال الزكاة ، من فقراء المسلمين ، فلا يجد أحداً ، سيدنا عمر بن عبد العزيز لا يجد فقيرًا يعطيه الزكاة ، وصدق النبي عليه الصلاة والسلام ، وبرّ عدي بن حاتم بقسمه .
لا تنكمش أيها الأخ عن التوبة إلى الله أنْ ترى المؤمنين ضعافًا ، أو فقراء أو أمرهم بيد عدوهم ، لكنَّ الله معهم ، وسينصرهم إن شاء الله تعالى .
والحمد لله رب العالمين
***(/)
الدرس 18/50 : سيرة الصحابي : أبو سفيان بن الحارث لفضيلة الأستاذ الدكتور محمد راتب النابلسي .
التاريخ : 08/02/1993
تفريغ : م . م . حسان العودة .
التدقيق اللغوي : الأستاذ غازي القدسي .
التنقيح النهائي : المهندس غسان السراقبي .
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا ، وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .
أيها الإخوة الكرام : مع الدرس الثامن عشر من دروس سيرة أصحاب رسول الله رضوان الله تعالى عليهم أجمعين ، وصحابي اليوم : أبو سفيان بن الحارث .
قصة هذا الصحابي تؤكد أن الحسد أحياناً يهلك صاحبه ، لولا أن الله سبحانه وتعالى تلطف به لكان من الهالكين .
المتكبر أحياناً يمنعه الحسد أن يستفيد من رجل فاقه في العلم والتقى ، فهذا الصحابي الجليل ، أبو سفيان بن الحارث قلَّ أن اتصلت الأسباب بين شخصين وتوثقت العرى بين إنسانين ، كما اتصلت وتوثقت بين محمد صلى الله عليه وسلم وبين أبي سفيان بن الحارث ، يعني علاقة متينة، أخوّة صادقة ، وشائج ثابتة ، بين أبي سفيان بن الحارث وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لماذا ؟ لأن هذا الرجل أبا سفيان بن الحارث كان لِدةً من لدات رسول الله ، لدة يعني من سنه ، ومن جيله ، الآن يقال : نحن رفقاء ، كنا بالابتدائي معًا مثلاً ، نحن جيران ، أولاد سنة وحدة ، وُلِدنا في شهر واحد ، والقرابة في السن مهمة جداً ، والإنسان له شيخ وأستاذ لا شك ، لكن لا بد له من أخ في سنه يبثّه وجده ، اتخذْ مؤمناً مخلصاً تقياً ورعاً صاحباً ، فهذا الصاحب ينفعك كثيراً.
عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ لَا تَصْحَبْ إِلَّا مُؤْمِنًا وَلَا يَأْكُلْ طَعَامَكَ إِلَّا تَقِيٌّ *
[ أخرجه أبو داود والترمذي وأحمد] .
وفي الحِكَم العطاية : ((لا تصاحب من لا ينهض بك إلى الله حاله ، ومن لا يدلك على الله مقاله ، إن أحببته رفعك حاله ، وإن استمعت إليه غذتك مقالته)) .
( سورة التوبة : 23 ) .
يجب أن تختار أصدقاءك كما تختار أغلى شيء عليك ، إنك به تعرف ، الصاحب ساحب ، وَمَن جالَسَ جانَسَ ، إن صحبتَ الكبراء فأنت منهم ، إن صحبتَ العلماء فأنت منهم ، وإنَ صحبتَ أُولي الفضل فأنت منهم ، أخطر شيء في الحياة ـ والله لا أبالغ ـ صاحبُ السوء ، فإن يهلك قرينَه .
الإنسان العاقل يختار إنسانًا مؤمنًا ، أرسخ منه إيماناً ، وأشد منه ورعاً ، فهذا أبو سفيان كان لِدة من لدات رسول الله ، وتِرباً من أترابه ، وُلِدا في زمن متقارب ، ونشآ في أسرة واحدة ، وفوق هذا وذاك ، كان ابن عم النبي اللصيق "اللزم" ، بالتعبير الدارج ، كان ابن عم النبي اللصيق ، فأبوه الحارث وعبد الله والدُ رسول الله صلى الله عليه وسلم ينحدران من صُلبِ عبد المطلب ، ابن عمه ، وتربه وابن لدته ، ثم إنه كان أخاً للنبي عليه الصلاة والسلام من الرضاعة، فقد غذَّتهما السيدة حليمة السعدية من ثدييها معاً ـ شيء جميل ـ أخ في الرضاعة ، ابن عم لصيق ، تربٌ ، لِدة ، وبَعد هذا كله كان صديقاً حميمًا للنبي عليه الصلاة والسلام قبل النبوة ، وأشد الناس شبهاً به .
إذاً المقدمة واضحة وصحيحة ، قلَّ أن اتصلت الأسباب بين شخصين ، وتوثقت العرى بين إنسانين كما اتصلتْ وتوثقتْ بين محمد صلى الله عليه وسلم وبين أبي سفيان بن الحارث ، لدة، أو ترب ، ابن عم النبي اللصيق ، أخوه من الرضاعة ، غذتهم أم واحدة ، كان صديقاً حميماً للنبي صلى الله عليه وسلم ، وكان أشد الناس شبهاً برسول الله .
وهنا سؤال يطرح نفسَه ؟ حينما تأتي الرسالة لهذا النبي العظيم ، فمَن تتوقعون أن يكون أسبقَ الناس إلى الإيمان به ؟ أبو سفيان ، من كان ينبغي أن يكون أقرب الناس إليه ؟ أبو سفيان ، أقرب ، وأسبق ، ولكن الذي حصل على خلاف ذلك ، المفروض على أبي سفيان أن يكون أسبقَ الناس إلى تلبية دعوة النبي ، وأن يكون أسرعهم مبادرةً لاتباعه ، ولكن الأمر جاء على خلاف ذلك ، إذْ ما كاد النبي صلى الله عليه وسلم يظهر دعوته ، وينذر عشيرته ، حتى شبت نار الضغينة ؛ الضغينة الحقد والكراهية ، وقد يكون السبب هو الحسد .
قد يكون في بيت شاب مؤمن ، ممّا يمنع أخاه الأكبر أنْ يستفيد منه ، هذا أخي ، هذا أصغر مني ، ضيق الأفق ، خذ الحكمة ولا يهّمك ِمن أي مكان خرجت ، أحيانًا يكون الزملاء في مدرسة واحدة ، فأحدهم يقول : معقول أنا أتَّبِعه ! وسِنُّه مِن سني ! كنا معًا على مقعد واحد ، هذا كلامٌ فيه كِبْر ، والكبر والحسد مسؤولان في الدرجة الأولى عن إعراض الناس عن قبول دعوة المخلصين .
استحالت هذه الصداقة إلى عداوة ، واستحالت هذه الرحم إلى قطيعة ، واستحالت هذه الأخوة إلى صد وإعراض ، ويوم صدع النبي صلى الله عليه وسلم بدعوة ربه كان أبو سفيان فارساً من أنبه فرسان قريش ، إنه فارس ملء السمع والبصر ، الحقيقة أنّ الشجاعة كانت صفةً لصاحبها في العهود السابقة ، فيها كرٌّ وفَرٌّ ، هجومٌ وطِعان .
أمّا الآن فإنك تجد جنديًّا أمام شاشة رادار يرى صورة الطائرة على شاشة الرادار ، وعنده إشارة ضرب يحركها فوق الطائرة يضغط على زر فيسقطها ، وقد يكون أشدَّ الناس جُبنًا ، الأسلحة الحديثة ليس فيها شجاعة ، إنها أجهزة معقدة جداً ، حتى إنهم قالوا : الحرب الحديثة حرب بين عقلين ، أمّا الجندي فقد يكون شارب خمر ، وقد يكون مقصرًا مع ربه ، وقد يكون جبانًا ، لكن قضية إلكترون ، وأجهزة ، وأشعة الليزر ، الشجاعة الحقيقية يوم كانت الحربُ بالسيف ، سيف لسيف ، ووجهٌ لوجهٍ .
على كلٍ كان هذا الصحابي حينما دعا النبي صلى الله عليه وسلم إلى الله عز وجل كان من انبه فرسان قريش ، يعني شخصية فذة ، إنه إنسان متفوق ـ بالتعبير الغربي سوبر ـ فارس ملء السمع والبصر ، كان ملء السمع والبصر ذِكْراً ، وكان شاعراً من أعلى شعرائهم كعباً ، فما إن امتلأ قلبه حقداً وضغينةً وحسداً حتّى وضع سنانه ولسانه في عداوة النبي ، وقد يكون جرح اللسان أبلغ من جرح السنان ، على كلٍ استخدم كل الأسلحة ، سنانه ولسان ، وفي محاربة الرسول ومعاداة دعوته ، وجنّد طاقاته كلها للنكاية بالإسلام والمسلمين ، فما خاضت قريشٌ حرباً ضد النبي صلى الله عليه وسلم إلا كان مسعرها ، أبو سفيان ولا أوقعت بالمسلمين أذى إلا كان له فيه النصيب الأكبر ، كتلة شر ، وحسد .
لقد بدأت الدرس بهذه الكلمة ، الحسد مهلك ، بدأ بصاحبه فقتله ، فإذا كان الواحد له أخ فاقه بالإيمان فلْيتتلمذْ على يده ، ولا مانع ، والآن في الجيش هناك ضباط أمراء عميد فما فوق ، فإذا دخلوا كلية الأركان وفيها ضابط نقيب مختص في الحرب الإلكترونية ، وهو الذي يعلِّمهم ، يقفون له ، ويستعدون عند دخوله ، ويحيُّونه ، على أنه الضابط المدرِّب ، فهو الآن أرقى منهم ، وقد يكونون أرفع منه منصبًا ، وقد يكونوا عمداء ، لكن الضابط المدرِّب الآن أعلى منهم .
فإذا اتصل الإنسان برجل ، بصديق ، فلو أنه من سنِّه لا يمنعه الحسد أن يصُدَّ عنه ، استفِدْ منه ، والإنسان حينما يتواضع لله عز وجل فإنّه يكرم نفسه ، وقد قال عليه الصلاة والسلام : ألا يا رُبَّ مكرم لنفسه وهو لها مهين ، الآن ترون أنه أكرم نفسه فأهانها اللهُ ، وأبت نفسه أن تؤمن برسول الله ، مع أنه ابن عمه ، وأخوه من الرضاعة ، وصديقه الحميم ، وأشبه الناس به ، وابن لدته ، وقريبه ، ومع كل ذلك فالحسد منعه أن يؤمن ، ثم إن أبا سفيان بن الحارث أطلق شيطانَ شِعره ، وسوطَ لسانه في هجاء رسول الله ، فيا للبوار والخسار .
يا أيها الإخوة الأكارم : نعوذ بالله ، أن نكون في خندق نعادي المسلمين ، وأنْ نكون في صف أعداء المسلمين ، لأنك إذا حاربتَ الله ورسوله فالله هو المنتصر ورسوله ، وأنت المهزوم الخاسر .
( سورة الأنفال : 36 ) .
هذا الذي يحارب الله ورسوله ، يريد أن يطفئ نور الله عز وجل ، يريد أن يشوه سمعة المسلمين ، أن يطعن بهم ظلماً وعدواناً ، أن يسفه دعوتهم ، أن يطعن بأخلاقهم ، تشفياً لنفسه ، لما في قلبه من الحسد ، هذا الذي وقع به أبو سفيان ، المتوقع أن يكون أقرب الناس إلى النبي، المتوقع أن يكون مكان أبي بكر ، قرابة على رحم ، على شَبَه ، على لدة ، على صداقة حميمة ، على نسب ، وطالتْ عداوة أبي سفيان بن الحارث للنبي عليه الصلاة والسلام حتى قاربت عشرين عاماً ، عشرون عاماً يناصب النبي العداء ، عشرون عاماً يهجوه بلسان مقذع ، عشرون عاماً يحاربه بسنان لا يلين ، لم يترك أبو سفيان بن الحارث في هذه الأعوام العشرين ضرباً من ضروب الكيد للنبي صلى الله عليه وسلم إلا فعله ، ولا صنفاً من صنوف الأذى للمسلمين إلا اجترحه ، وباء بإثمه .
المشكلة عند النهاية ، هذا هو العاقل ، وقبيل فتح مكة بقليل كُتب لأبي سفيان أن يسلم ، وكان لإسلامه قصة مثيرة وعتها كتب السير ، وتناقلتها آثار التاريخ ، والآن نتنحّى جانباً لندعَ الحديث لأبي سفيان نفسه ، حتى يرويَ لنا قصته المثيرة عن إسلامه ، فشعوره بها أعمق شعور ، ووصفه لها أدق وأصدق .
أنا أشعر ، أن في قصة هذا الصحابي من المواعظ والعبرة ما لا سبيل إلى حصره ، الآن أحاول إن شاء الله تعالى أن أعمق التحليل لهذه القصة المثيرة .
قال : أبو سفيان بن الحارث : لما استقام أمر الإسلام ، وقرّ قراره ، وشاعت أخبار انتصار النبي صلى الله عليه وسلم ، وتوجه إلى مكة ليفتحها ضاقت علي الأرض بما رحبت ـ أين أذهب ، ولِمَن ألتجئ ، طيلة عشرين سنة هجاء ، وعشرين سنة قتال ، والنبي دخل مكة فاتحًا وانتصر .
قال عليه الصلاة والسلام : إذا أردت إنفاذ أمرٍ تدبَّرْ عاقبته .
أحيانًا يسافر الإنسان إلى بلد أجنبي ، يتساءل : ما هذه الحياة ؟ وهل نحن من أهل الحياة ؟ خير إن شاء الله ، السيارات ، الطرقات ، محلات البيع الأنيقة ، أرض كلها خضراء ، جبال مزدهرة ، معامل ، مطارات ، فانبهر ، وغشيت عينه غشاوة ، كما غشيت قلبه فكرة ، فأخذ إقامة ، وتزوج فتاةً أمريكية ورَكَن واطمأنّ ، لكن المشكلة حينما يرى ابنته مع صاحب لها يهودي ، فلما نهره طلبوه إلى المخفر ليؤنبوه ، هو معها بدعوة من ابنتك ، فلِمَ تتعرَّض لهما ؟! وحينما يرى أولاده فلذات أكباده ينحرفون انحرافاً خطيراً ، ولا يستطيع أنْ يتفوَّه ، عندئذ يذوب قلبه ألماً وكمدًا ، نقول له : أين عقلك ؟ أنت حينما أردتَ أن تقيم هناك لمَ لمْ تفكر؟ مَن أقام مع المشركين فقد برئت منه ذمة الله ، وعلى كلٍّ مَن هو العاقل ؟ هو الذي يحتاط للأمور قبل وقوعها .
فهذا الصحابي قضى عشرين سنة عداء ، عشرين سنة هجاء ، وها هو قد وقع ، قال : ضاقت عليَّ الأرض بما رحبت ، وقلت : إلى أين أذهب ؟ ومن أصحب ؟ ومع من أكون ؟ ثم جئت زوجتي وأولادي وقلت : تهيؤوا للخروج من مكة ، فقد أوشك وصول محمد ، وإني لمقتول لا محالة إن أدركني المسلمون ، فقالوا لي : (زوجته وأولاده) : أمَا آن لك أن تبصر أن العجم والعرب قد دانت لمحمد بالطاعة إلى متى تبقى راكبًا رأسك ، وإلى متى العناد ؟ إلى متى الكبر؟
***
إلى متى أنت بالذات مشغول وأنت عن كل ما قدمت مسؤول
***
أما تستحي منا ويكفيك ما جرى أما تخشى من عتبنا يوم جمعنا
أما آن أن تقلع عن الذنب راجعاً وتنظر ما به جاء وعدنا
***
تعصي الإله وأنت تظهر حبه ذاك لعمري في المقال شنيعُ
***
إلى متى ؟ قالوا : أما آن لك أن تبصر أن العجم والعرب قد دانت لمحمد بالطاعة ، واعتنقت دينه ، وأنت ما تزال مصراً على عداوته ، وكنت أولى الناس بتأييده ونصره .
أحياناً أيها الإخوة : تكون الزوجة أصفى من الزوج قلبًا ، وأصوب رأيًا ، وقد تنصحك نصيحة أبلغ من أية نصيحة ، ابنك قد ينصحك ، قال : وما زالوا بي يعطفونني على دين محمد، ويرغبونني فيه حتى شرح الله صدري للإسلام .
قرر أنْ يخطب ابنة الملك ، قال الحمد لله ، أنا موافق ، وأبي موافق ، وأمي موافقة ، لكن بقيتْ هي وأمها وأبوها ، فهذا الرجل أحب أن يسلم ، والطرف الثاني هل يقبلك ؟ عداوة طويلة لأنه ما حفظ خط الرجعة إطلاقاً .
قال النبي عليه الصلاة والسلام : أَحْبِبْ حَبِيبَكَ هَوْنًا مَا عَسَى أَنْ يَكُونَ بَغِيضَكَ يَوْمًا مَا وَأَبْغِضْ بَغِيضَكَ هَوْنًا مَا عَسَى أَنْ يَكُونَ حَبِيبَكَ يَوْمًا مَا *
[رواه الترمذي عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ]
ثم قال : قمت من توي وقلت لغلامي ، هيئ لي نوقاً وفرساً ، وأخذت معي ابني جعفرًا ، وجعلنا نغذّ السير نحو الأبواء بين مكة والمدينة فقد بلغني أن محمدًا نزل فيها ، ولما اقتربت منها تنكرت ـ لماذا تنكر ؟ لأن أصحاب النبي لو رآه لقتلوه ، لأنه عدوٌ لدود ، هذا عدوٌ لله ورسوله ، تنكرت حتى لا يعرفني أحد ، فأقتل قبل أن أصل إلى النبي ، وقبل أن أعلن إسلامي بين يديه ، ومضيت أمشي على قدمي نحواً من ميل وطلائع المسلمين تمضي ميممةً شطر مكة ، جماعة إثر جماعة ، فكنت أتنحى عن طريقهم فرَقاً ؛ أي خوفاً منهم ، وفرقاً من أن يعرفني أحد من أصحاب محمد ، وفيما أنا كذلك إذ طلع النبي صلى الله عليه وسلم في موكبه - رائع الآن -نسلم والنبي يفرح بنا فرحاً كثيراً ، قال : فتصديت له ووقفت تلقاءه ، وحسرت عن وجهي فما إن ملأ عينه مني وعرفني حتى أعرض ، أقليل ما فعلتهُ طيلة عشرين سنة حتى أعرض عنك؟ حتى أعرض عني إلى الناحية الأخرى ، فتحولت إلى ناحية وجهه ، فأعرض عني وحوّل وجهه، فتحولت إلى ناحية وجهه ، فأعرض عني وحوّل وجهه ، وفي القرآن آية تؤكد هذا المعنى ؟ هذه الآية كتبت أمام قبر النبي صلى الله عليه وسلم :
( سورة النساء : 64 ) .
إنْ لم تطبق السنة فقد جهلت حقيقة النبي ، فإذا اصطلحت مع الله فلن يقبلك الله حتى تصطلح مع نبيه ، فالمسألة ليست سهلة ؟ جاءك هذا النبي مبلِّغاً ، منذراً ، مبشراً ، صادقاً ، مخلصاً من أجل أن يهديك إلى الله فأعرضت عنه ؟ فالنبي الكريم أعرض عنه .
يقول هذا الصحابي : كنت لا أشك وأنا مقبل على النبي أن رسول الله سيفرح بإسلامي ، وأن أصحابه سيفرحون لفرحه ، لو كان هذا قبل عشرين سنة لصحّ كلامك ، أمّا بعد هذا العداء ، والجفاء ، وبعد القتال ، والهجاء ، فالقضية ليست سهلة.
يقول أحد الإخوان مسوِّفًا : غداً سأتوب !! مَن قال لك ذلك ؟ إذا تلبّس الإنسان بمعصية فالقضية ليست سهلة ، أرتكب معصية وأقول : أتوب منها ، فالتوبة دونها حجُب ، وحينما يتورّط الإنسان ، وينحرف ، ويرتكب المعصية فليس من السهل أن يعود إلى الله بعد أن كثُرت الحجُبُ بينك وبين الله .
لكن المسلمين حينما رأوا إعراض الرسول عني تجهموا لي ، وأعرضوا عني جميعاً ، فقلت: يا جماعة ، قد أسلمت !! فات الأوان ، تأخرت كثيرًا ، لقد لقيني أبو بكر فأعرض عني أشد الإعراض ، نظرت إلى عمر بن الخطاب نظرةً أستميل بها قلبه ، فوجدته أشد إعراضًا من أبي بكر ، لا حول ولا قوة إلا بالله ، بل إنه أغرى بي أحد الأنصار ، فقال لي الأنصاري : يا عدو الله أأنت الذي كنت تؤذي رسول الله ، وتؤذي أصحابه ، وقد بلغت في عداوتُك للنبي مشارق الأرض ومغاربها ؟ يعني بشعرك ، وما زال الأنصاري يستطيل عليّ ويرفع صوته ، والمسلمون يتفحصونني بأعينهم ، ويُسَرُّون بما ألاقي ، حتى أبصرت عمي العباس فَلُذْتُ به ، وقلت يا عم : قد كنت أرجو أن يفرح رسول الله بإسلامي ، أمَا للإسلام بهجة ؟! أمَا يفرح أحدٌ بإسلامي ، لقد تأخرت كثيرًا ـ وهذا الكلام أقوله لكم : لا تتأخر بالتوبة أيًّا كنتَ ، حتى لا يفوت الأوان ، بعد ما صار في الستين ومعه ، ولديه علبة أدوية ، واقتحمتْ جسمه العلل ، ثم يحاول أن يتوب ، فعليك بالتوبة وأنت شاب تغلي غليان الفتوة والنشاط ، في أوج صحتك ، وفي أوج شبابك ، أمّا الآن فقد فات الأوان ، جاء وقد غرق في المعاصي ، وبعدما ملّ ، وضعفت نفسه ، وضعف جسمه ، الآن يريد المساجد وخيرها ، لا حول ولا قوة إلا بالله ، ريح الجنة في الشباب.
عند ذلك أبصرت عمي العباس فلذت به ، وقلت يا عم ؛ شفاعتك ، قد كنت أرجو أن يفرح رسول الله بإسلامي لقرابتي منه ، وشرفي في قومي ، لم تعُدْ شريفًا الآن ، الشرف أن تؤمن وقد كان منه ما تعلم ، ما سلم علي ، ما قبلني ، وما نظر إليّ لا هو ، ولا الصِّدِّيق ، ولا عمر ، فكلِّمْه فيّ ليرضى عني ، فقال : لا واللهِ لا أكلمه كلمةً أبداً بعد الذي رأيته مِن إعراضه عنك ، إلا إن سنحت ليّ فرصة فإني أجل رسول الله وأهابه ، فقلت يا عم إلى من تكلني إذاً ـ وماذا أفعل ؟.
إذاً والله يا إخوان عندما يشعر الإنسان أن الله عز وجل أعرض عنه ، وبالتعبير القرآني : لعنه ، وإذا سقط الإنسان من عين الله ، أو سقط من عين المؤمنين ، وقد ارتكب حماقة ، وارتكب معصية ، وعادى أهل الحق ، وافترى عليهم افتراء ، واللهِ الأرضُ كلها لا تسَعُه ، واللهِ لأَنْ يسقط الإنسانُ من السماء إلى الأرض فتتحطم أعضاؤه ويموت أهون ألف مرةٍ مِن أن يسقط من عين الله ، هذا يعيش في جهنم ، قلت : يا عم إلى من تكلني إذاً ؟ قال : ليس لك عندي غير ما سمعت ، فتملَّكني الهمّ ، وركبني الحزن ، ولم ألبث أن رأيتُ ابن عمي علي بن عمي أبي طالب فكلمته في أمري ، فقال لي مثل ما قال عمي العباس ، فالكل يعرض ، ولا أحد يتورط ، ولا أحد يعصي الله ثم يقول : أتوب ، لا ستجد حجبًا كثيفة دون توبتك ، عند ذلك رجعتُ إلى عمي العباس وقلت يا عم : إذا كنت لا تستطيع أن تعطِّف عليّ قلب رسول الله فكفَّ عني ذلك الرجل ، هؤلاء سوف يقتلونني ، فخلِّصْني من هذا الذي يشتمني ويغري الناس بشتمي ، فقال صفه لي فوصفته له فقال ذلك النعيمان بن حارث النجاري ، عرفته ، فأرسل إليه وقال له يا نعيمان : إن أبا سفيان ابن عم رسول الله ـ القرابة لها شأنها ، وابن أخي ، وإنْ يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم ساخطًا عليه اليوم فسيرضى عنه غدًا ، فكفَّ عنه - ارحموا عزيز قوم ذل - وما زال به حتى رضي بأن يكفّ عني ، وقال : لا أعرض له بعد الساعة .
إذا كان لأحد مكانة في المسجد فلا يضحي بها ، لا يرتكب معصية ، حتى إذا عرف إخوانُه معصيته احتقروه ، فتكريمك ، والاحتفال بك ، والسلام الذي فيه مودة بالغة ، واللقاء البشوش ، والاحترام الكبير ، والمكانة العلية التي لك بالجامع ناتجة من استقامتك ، من التزامك ، من طاعة لله عز وجل ، أمّا إذا قلت : أنا عليّ هؤلاء ، أرضيهم ، وأرضي أولئك ، فإذا كشفوك سقطتَ من أعينهم ، فلا تكن لا مع هؤلاء ولا مع هؤلاء ، كن مع الحق فقط ، ولا بأس عليك ، فحينما يكون للإنسان مكانته يعيش بسمعته ، ويعيش بكرامته ، لأنه مستقيم أخلاقيًّا ، مطيع لله ، له إخوان يحبونه ، وهذه نعمة كبيرة ، شيء جميل جداً معزز ، مكرم ، محترم ، مبجل ، وحيثما دخلت يرحبون بك ، ولم يرحبوا بك لأنك فلان ، بل لأنك مؤمن ، وإذا كشفوك تعصي الله عز وجل ، ولك جاهلية سِرِّية ، ولك انحراف خطير ، سقطت من أعينهم.
والله كان ثمة شخص مظنة صلاح ، غلِط غلطة كبيرة ، فلما علم إخوانه بهذا الغلط لم يعُد يستطيع أن يأتي إلى المسجد ، فسقوط الإنسان أخلاقيًّا صعب جدًّا .
قال : ولما نزل النبي صلى الله عليه وسلم بالجحفة : جلست على باب خيمته ، ومعي ابني جعفر قائماً ، فلما رآني النبي وهو خارج من منزله ، أزاح عني بوجهه ، أعوذ بالله ، لا أمل لي ، فلم أيأس من استرضائه ، وجعلت كلما نزل بمنزل أجلس على بابه ، وأقيم ابني جعفرًا واقفاً بحذائي ، فكان إذا أبصرني أعرض عني ، وبقيت على ذلك زماناً ، فلما أشتد علي الأمر وضاق ، قلت لزوجتي : والله ليرضين عني رسول الله صلى الله عليه وسلم أو لآخذن بيد ابني هذا ، ثم لنذهبن هائميْن على وجوهنا في الأرض حتى نموت جوعاً ، ما عاد يحتمل الصد ، والبعد ، والجفاء ، شيء عظيم لا يحتمل أنْ يواجهه به نبي كريم ، وكل الأصحاب سعداء بصحبته ، سعداء بقربه ، سعداء بخدمته ، والنبي معرض عني قال فلما بلغ ذلك رسول الله ، رق لي ، ولما خرج من قبته نظر إليَّ نظراً ، لكن ألين من النظر الأول ، بدأتْ الأمور تتلحلح ، فقد لان قلبه اللهم صلِّ عليه شيئًا قليلا ، وكنت أرجو أن يبتسم فلم يبتسم .
وبصراحة أقول لكم : ابتسامة من رسول الله في وجهك تعدل الدنيا وما فيها ، فكيف إذا قال النبي لأحد أصحابه والله يا معاذ إني لأحبك ، ارم سعد فداك أبي وأمي ، هذا خالي أروني خالاً مثل خالي ، إذا داعب النبيُّ إنسانًا ، وهش في وجهه وبش ، واللهِ هذه سعادة ما بعدها سعادة ، وهذا يعني أنّ الله راضٍ عنه ، لأنّ رضى النبي مِن رضى الله عز وجل .
( سورة التوبة : 62 ) .
الحمد لله ، لكن ليس فيه صلى الله عليه وسلم ابتسام ، لكن النظرة ألين قليلاً ، ثم دخل النبي عليه الصلاة والسلام مكة ، فدخلت في ركابه ، وخرج إلى المسجد فخرجت أسعى بين يديه ، لا أفارقه على حال ، قال الشاعر :
***
أخلق بذي الصبر أن يحظى بحاجته ومدمن القرع للأبواب أن يلجا
***
الإلحاح على الله عز وجل مقبول ، يا رب أرجو رضاك ، يا رب أرجو رحمتك ، يا ربي أرجو توبتك عليّ ، لو أنك ما شعرت بشيء أول يوم ، اصبر لليوم الثاني ، ولليوم الثالث ، والرابع ، وقد صدق القائل في قوله :
***
أخلق بذي الصبر أن يحظى بحاجته ومدمن القرع للأبواب أن يلجا
***
ولما كان يوم حنين جمعت العرب من أهل الشرك لحرب النبي صلى الله عليه وسلم ، ما لم تجمع قط ، وأعدت للقائه ما لم تعد من قبل ، وعزمت على أن تجعلها القاضية على الإسلام والمسلمين ، وخرج النبي صلوات الله عليه في لقائه في جموع من أصحابه فخرجت معه ، ولما رأيت جموع المشركين الكبيرة قلت والله ـ الآن جاء الوقت ، فالإنسان قد تأتيه فرصة يكفِّر بها عن كل أخطائه السابقة ، لما رأى أنّ المعركة قادمة ، والمشركون كثر ، وأشداء ، قال : والله لأكفرن اليوم عن كل ما سلف مني ، من عداوة رسول الله ، وليرين النبي مني ما تقر به عينه ، قال : ولما التقى الجمعان اشتدت وطأة المشركين على المسلمين ، فدبّ فيهم الوهن والفشل ، وجعل الناس يتفرقون عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وكادت تحل بنا الهزيمة المنكرة ، فإذا بالنبي فداه أبي وأمي ، يثبت في قلب المعركة على بغلته الشهباء ، كأنه الطود الراسخ ، ويجرد سيفه ، ويجاهد عن نفسه وعمن حوله ، كأنه الليث عادياً ، عند ذلك وثبتُ عن فرسي ، وكسرت غمد سيفي ، واللهُ يعلم أني أريد الموت دون رسول الله ، وأخذ عمي العباس بلجام بغلة النبي ، ووقف إلى جانبه ، وأخذت أنا مكاني من الجانب الآخر ، وفي يميني سيفي أذود به عن رسول الله ، أما شمالي فكانت ممسكةً بركاب النبي ، وبيده السيف يدافع بها عن رسول الله ، فلما نظر النبي إلى حسن بلائي ، قال لعمي العباس اللهم صلِّ عليه ، كم كان حكيماً ، قال : من هذا ؟ وهو يعرفه ، ولكن يريد أنْ يعالجه معالجة دقيقة ، ليخرج بها من ذنوبه كيوم ولدته أمه ، قال : من هذا ؟ فقال العباس : هذا أخوك يا رسول الله ، هذا ابن عمك أبو سفيان ، فأرضَ عنه يا رسول الله ، فقال : قد فعلت ، وغفر الله له كل عداوة عاداني إياها ، فقد جاءت مناسبة أبلى بلاء حسن ، جاءت مناسبة وضع روحه على كفه ، دفاعاً عن رسول الله ، فاستطار فؤادي فرحاً ـ لما سمعتُ الرسول يقول له : لقد غفر الله له كل عداوة عاداني إياها ، فاستطار قلبي فرحاً برضى رسول الله عني وقبلت رجله في الركاب ، ثم التفت إليّ فقال : يا أخي ـ تأخرت علينا ـ إذا رضي النبي عن إنسان فقد دخل الجنان ـ قال له : أخي ـ كلمة أخي من رسول الله ، هو فعلاً أخوه من الرضاع وصديقه الحميم ، وتِرْبُه ، وابن عمه اللصيق ، وأشبه الناس به ، قال له أخي لعمري تقدم فضارب ـ وبهذا تمّ الصلح .
أيها الإخوة : أقسم بالله العظيم ، ما من سعادة أعظم عندنا من أن يشعر المؤمن أن الله يحبه ، وأن الله راض عنه ، ورضاء رسول الله من رضاء الله قال : ألهبت كلمات رسول الله حماستي فحملت على المشركين حملة أزالتهم عن مواضعهم ، وحمل معي المسلمون حتى طردناهم قدر فرسخٍ ففرقناهم في كل وجه قال : ظل أبو سفيان بن الحارث منذ حنين في نعيم القرب ، فالمؤمن باستقامته وإخلاصه لله ، وثقته بالله في جنة القرب .
***
لو شاهدت عيناك من حسننا الذي رأوه لما وليت عنا لغيرنا
ولو سمعت أذناك حسن خطابنا خلعت عنك ثياب العجب وجئتنا
ولو ذقت من طعم المحبة ذرة عذرت الذي أضحى قتيلاً بحبنا
ولو نسمتْ من قربنا لك نسمة لمتَّ غريباً واشتياقاً لقربنا
و لو لاح من أنوارنا لك لائحٌ تركت جميع الكائنات لأجلنا
فما حبنا سهلٌ وكل من ادعى سهولته قلنا له قد جهلتنا
***
وبعد فإني أقول لكم ، ولكل واحد منكم ، وأنا معكم ، يظن المرءُ أنّ الإسلام قضية ركعتين وليرتين لفقير ، فمَن كان ظنُّه هذا فهو أحمق ، ألا إن سلعة الله غالية ، وفي مسيرة الإيمان امتحانات ، وظروف صعبة يمر بها المؤمن ، فهل يثبت ؟ قال رجل للنبي صلى الله عليه وسلم: واللهِ إني لأحبك ، قال له : انظرْ ماذا تقول ، انتبه لكلامك ، هذه كلمة خطيرة ، قال له : واللِه إني أحبك يا رسول الله ، قال له : انظر ماذا تقول ، قال له : واللهِ إني أحبك ، قال له : إن كنتَ صادقاً فيما تقول فَلَلْفَقْرُ أقربُ إليك من شرك نعليك ـ لا تغلطوا في فهم الحديث ، إذا أنت أحببت رسول الله ، ولديك صفقة تجارة فيها ثلاثة أرباع المليون خلال أسبوع ، ولكنْ فيها مادة محرمة ، أتقبَلها ؟ ضعْها تحت قدمك ، وظيفة راقية جداً فيها مكاسب كثيرة جداً لكن لا ترضي الله ؟ أتقْبلها ؟ لا ، وأَلْف لا ، لا تقبلها ، سفرة لبلد غربي تقبلها إذا كانت لغير الله ؟ لا تقبلها ، فإذا أراد الإنسان أنْ يستقيم فلا بد أنْ يضحي ، ولا يقبل إلا ما هو حلال يرضي الله تعالى ، وهنا يكون الإيمان ، ويكون لك الفلاح .
كان أبو سفيان بعد وقعة حنين ينعم بجميل رضى النبي عنه ، ويسعد بكريم صحبته ، من خجله منه ، وقيل : إنه لم يرفع نظره إليه أبداً ، هذه العشرون سنة كسرت نفسه وحجّمته ، ما رفع نظرًا له أبداً ، ولا ثبت نظره في وجهه حياء منه ، وخجلاً من الماضي معه ، منذ أن رضي عنه ما نظر في وجهه ، إلا وأطبق عينيه ، فقد دخل في النعيم ، ودخل في الجنة .
والله يا إخوان ، عندنا جنة في الدنيا ، تتحقّق للمؤمن بالقرب من الله ، ولكن لا بد أنْ يضحّي ، ويستقيم ، فاضبط شهواتك ، واحضر مجالس العلم ، وآثر الله ورسوله على كل شيء.
وجعل أبو سفيان يعض بنان الندم على الأيام السود التي قضاها في الجاهلية ، المؤمن الصادق أيها الإخوة إذا تذكر جاهليته ، أو تذكر أيام المعاصي والفجور يذوب مثل الشمعة ندمًا ، وجعل أبو سفيان يعض أصابع الندم على الأيام السود ، التي قضاها في الجاهلية محجوباً عن نور الله ، محروماً من كتاب الله .
( سورة هود : 28 ) .
وقال تعالى :
( سورة القلم : 2 ) .
المؤمن في سعادة ، واللهِ لا تستطيع سبائك الذهب اللامعة ، ولا سياط الجلادين اللاذعة أن تصرفاه عنه ، أحد أحد ، قال له : أتحب أن يكون محمد مكانك ، قبل صلبه ، (سيدنا خبيب) ، قبل أن يصلب ، أتحب أن يكون محمد مكانك ، قال : لا والله لا أحب أن أكون في بيتي وأهلي ، وعندي عافية الدنيا ونعيمها ، ويصاب رسول الله بشوكة ، ماذا فعل هذا الصحابي الجليل ؟ قال أقبل على كتاب الله يقرؤه ليلاً ونهاراً ، ويتفقه في أحكامه ، ويتملى من عظاته ، وأعرض عن الدنيا وزهرتها ، وأقبل على الله بكل جارحة من جوارحه ، حتى إن النبي صلى الله عليه وسلم رآه ذات يومٍ يدخل المسجد فقال لعائشة رضي الله عنها : يا عائشة أتدرين مَن هذا؟ قالت : لا والله ، قال إنه ابن عمي أبو سفيان ، انظري إليه إنه أول من يدخل المسجد وآخر من يخرج منه، ولا يفارق بصره شراك نعليه أبداً .
بالمناسبة لا يسمح لك الله أنْ تكون داعية إذا كانت نفسك تحمل على أحد ، ثم إنّ النبي صافاه ، وقال له : أنت أخي ، أخي لعمري ، فإذا كان عندك استعداد أنْ تضع كل مشكلاتك مع الناس تحت قدمك ، وأن تأخذ بيدهم إلى الله عز وجل ، فالله عز وجل يسمح لك أن تدعو إليه، ولما لحق النبي صلى الله عليه وسلم بالرفيق الأعلى حزن عليه أبو سفيان حزن الأم على وحيدها ، لا على ابنها ، بل على وحيدها ، وبكاه بكاء الحبيب على حبيبه ، ورثاه بقصيدة ، فهو شاعر ، فهذه مناسبة تجود بها القرائح الشعرية ، ورثاه بقصيدة من أَرَقِّ المراثي ، تفيض لوعةً وشجوناً ، وتذوب حسرة وأنينًا .
وفي خلافة الفاروق رضي الله عنه أحسّ أبو سفيان بدنو أجله ، فحفر قبره بنفسه ، ولم يمض على ذلك غير ثلاثة أيام حتى حضرته الوفاة ، كأنه مع الموت على ميعاد ، فالتفتَ إلى زوجته وأولاده وأهله وهم يبكون حوله ، ماذا قال لهم : لا تبكوا علي ، ولا تحزنوا ، فو الله ما تعلقت بخطيئة منذ أسلمت ، فهو مطمئن ،هكذا فليكنِ المؤمن ، تربية النبي كانت راكزة ، رباه تربية توبة ، أنا أعتقد والله أعلم أنّ النبي من أول لقاء فرح بإسلامه ، لكن باعتبار عشرين سنة عداء، فمَن أخذ البلاد من غير حرب يهُنْ عليه تسليمها ، وحتى رضي عنه مضتْ فترة طويلة ، ثم فاضت روحه الطاهرة فصلى عليه الفاروق نفسه ، وحزن لفقده ، هو وأصحابه الكرام وعدوا موته جللاً حل بالإسلام وأهله ، هذه قصة أبي سفيان بن الحارث ابن عم النبي صلى الله عليه وسلم .
وليس من السهل أن تتوغل في المعاصي ، وتعود متى أردت إلى الله ، وهذا هو المغزى ، ليس من السهل التوغل في المعاصي ، ثم تعود متى شئت إلى الله ، لا ، إنّ الله عزيز .
( سورة الزمر : 53 )
فعلى المسلم ألاّ يتورط ، فلا يعصي ، ولا يضحي بسمعته عند المؤمنين ، فسقوطه من أعينهم أمرٌ فادح جلل ، مكانتك لها ثمن ، المودة لها ثمن ، الحب له ثمن ، النبي قال : الجماعة رحمة ، أنت منضم إلى جماعة مؤمنة ، محبوب ، مكرم ، معزز ، ومفارقة الجماعة خسارة ، فعَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ الشَّيْطَانَ ذِئْبُ الْإِنْسَانِ كَذِئْبِ الْغَنَمِ يَأْخُذُ الشَّاةَ الْقَاصِيَةَ وَالنَّاحِيَةَ وَإِيَّاكُمْ وَالشِّعَابَ وَعَلَيْكُمْ بِالْجَمَاعَةِ وَالْعَامَّةِ *
(رواه أحمد)
(التوبة ، الآية 118)
أيْ الثلاثة الذين خُلِّفوا ، فمَن كان المؤدِّب ؟ إنّه الله عز وجل ، وفي درس اليوم من المؤدِّب؟ إنّه النبي صلى الله عليه وسلم ، لكن بوحي من الله عز وجل ، وقد يؤدِّب ربنا إنسانًا أسرف على نفسه ، وتقبل توبته ، وليحذرْ أنْ يعود إلى الذنوب ثانية ، فالعاد إلى الذنب كالمستهزئ بربه ، وقد تكون الخاتمة وبيلة .
دخل النبي على بعض أصحابه وكان مريضاً ، فقال : يا رسول الله ادعُ الله لي أن يشفيني ، أن يرحمني ، فقال : يا رب ارحمه ، قال : فجاء الوحي للنبي فقال يا محمد : كيف أرحمه مما أنا به أرحمه ، وعزتي وجلالي لا أرحم عبدي المؤمن ، ولا أقبض عبدي المؤمن وأنا أحب أن أرحمه إلا ابتليته بكل سيئة كان عملها ، سقماً في جسده ، أو إقتاراً في رزقه ، أو مصيبة في ماله أو ولده حتى أبلغ منه مثل الذر فإذا بقي عليه شيء شددت عليه سكرات الموت حتى يلقاني كيوم ولدت أمه .
كان للواحد منا جاهلية ، فإنه سبحانه يطهره ، فلْيرضَ وليسلِّمْ ، ولْيتحمل ، فهذا لصالحه ، وهذه المعالجة كانت لصالح هذا الصحابي ، إعراض شديد انتهى بالرضي ، والله عز وجل لا يتخلى عن المؤمن ، ولكن لا تملَّ ، وكن عبدًا ملحاحاً .
***
لا تسألن بني آدم حاجة وسَلِ الذي أبوابه لا تُحجَبُ
الله يغضب إن تركت سؤاله و بني آدم حين يسئل يغضب
***
الإنسان يغضب إذا سئل ، والله جل جلاله يغضب إذا لم يسأل .
والحمد لله رب العالمين .
***(/)
الدرس 44/50 ، سيرة الصحابي : زيد بن سهل الأنصاري ، لفضيلة الأستاذ محمد راتب النابلسي .
تفريغ : الأستاذ هشام القدسي .
التدقيق اللغوي : الأستاذ غازي القدسي .
التنقيح النهائي : المهندس غسان السراقبي .
بِسْمِ اللهِ الرَّحمَنِ الرَّحِيمِ
أيها الإخوة المؤمنون ، لا زلنا مع سير صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضوان الله تعالى عليهم أجمعين ، ولا زلنا مع الدرس الرابع والأربعين من هذه الدروس ، وموضوع درس اليوم سيدنا زيد بن سهل ، أبو طلحة الأنصاري ، ولهذا الصحابي قصة بالغة ، بالغة التأثير ، قبل أن نقرأ تفاصيل حياة هذا الصحابي ، لا بد أن تعلموا أن المرأة في الإسلام لا تقل عن الرجل إطلاقاً ، وكلما ازداد الإنسان علماً تبين له أن المرأة من حيث التشريف والتكليف كالرجل تماماً ، وربما وهبها الله عز وجل من الأعمال الصالحة التي تفوق بها الرجال ، فهذا الصحابي الجليل كان أحد الصحابة الذين كان لهم باع طويل في الدعوة إلى الله ، هل تصدقون أن سبب هدايته إلى الله امرأة ، لا تعجبوا أن تروا بين رواد المساجد عدداً كبيراً منهم كانت النساء ؛ زوجات ، أو أمهات ، أو أخوات وراء هداية الرجال، فالمرأة كائن عظيم ، والإسلام كرَّمها ، والكفر دَنَّسها ، وجعلها سلعة ، فلو أردتَ أن تبيع طلاء أحذية تحتاج إلى صورة امرأة شبه عارية على العلبة ، كي تباع هذه السلعة ، والكفار جعلوها سلعة رخيصة ، بينما الإسلام جعلها كائناً عظيماً ، وعلى كلٍّ من ثنيات هذه القصة تبدو لكم ملامح عظمة المرأة.
عرف زيد بن سهل النجّاري ، صحابي اليوم المُكَنَّى بأبي طلحة ، أن الرميصاء بنت ملحان النجّارية المكناة بأم سليم قد غدت أيِّماً ، أي أصبحت بلا زوج ، وربنا عز وجل قال :
[سورة النور]
الأيامى كلمة مطلقة ، تشمل الذكور والنساء ، أي مخلوق من بني البشر ليس له زوج أو زوجة فهو أيِّم ، والأمر الإلهي متوجِّهٌ إلى أولي الأمر أولاً ، وإلى أولياء الأمور ثانياً ، وإلى الأطراف المعنية بالزواج ثالثاً، والزواج سنة .
فزيد بن سهل النجاري المكنى بأبي طلحة ، حينما علم أن الرميصاء بنت ملحان النجارية المكناة بأم سليم قد غدت أيِّماً بعد أن توفي زوجها استطار فرحاً بهذا الخبر ، وفرح فرحاً لا حدود له ، حتى استخفه الفرح ، ولا غرو فقد كانت أم سليم سيدة حصاناً رزاناً ، راجحة العقل ، مكتملة الصفات ، وما أجمل أن يجتمع في المرأة كمالُ الخَلق ، مع كمال الخُلق ، مع رجاحة العقل ، يبدو أن أم سليم كانت كذلك ، راجحة العقل ، كاملة الخَلق ، كاملة الخُلق ، فلما أصبحت أيماً استطار عقل أبي طلحة فرحاً بهذا الخبر ، فعزم أن يبادر إلى خطبتها قبل أن يسبقه أحد ممن يطمحون إلى أمثالها من النساء .. فعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَخَيْرُ مَتَاعِ الدُّنْيَا الْمَرْأَةُ الصَّالِحَةُ *
[رواه مسلم]
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قِيلَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيُّ النِّسَاءِ خَيْرٌ قَالَ الَّتِي تَسُرُّهُ إِذَا نَظَرَ وَتُطِيعُهُ إِذَا أَمَرَ وَلَا تُخَالِفُهُ فِي نَفْسِهَا وَمَالِهَا بِمَا يَكْرَهُ *
[أخرجه النسائي]
الدنيا كلها متاع وخير متاعها المرأة الصالحة ، ليس في النساء درجة الوسط إما أنها جنة، وإما أنها نار ، فعَنْ مَعْقِلِ بْنِ يَسَارٍ قَالَ جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ إِنِّي أَصَبْتُ امْرَأَةً ذَاتَ حَسَبٍ وَجَمَالٍ وَإِنَّهَا لَا تَلِدُ أَفَأَتَزَوَّجُهَا قَالَ لَا ثُمَّ أَتَاهُ الثَّانِيَةَ فَنَهَاهُ ثُمَّ أَتَاهُ الثَّالِثَةَ فَقَالَ تَزَوَّجُوا الْوَدُودَ الْوَلُودَ فَإِنِّي مُكَاثِرٌ بِكُمْ الْأُمَمَ *
[رواه أبو داود والنسائي]
المودة في الزوجة شيء لا يقدَّر بثمن ، والولود تنجب لك أولاداً هم ثمرة هذا اللقاء .
على كل يبدو أن كمال هذه المرأة رجاحة عقلها ، وكمال خلقها وكمال خُلقها ، حينما علم أنها أصبحت أيماً استطار فرحاً وانطلق يسابق الآخرين على خطبتها ، وكان أبو طلحة على ثقة من أن أم سليم لن تؤثر عليه أحداً من طالبيها ، يبدو أنه في مستواها ، كمال في الخَلق والخُلق وشهامة ومروءة وشجاعة ، وكرم ، وحسب ونسب ـ لكن تعليق بين قوسين لو أن الإنسان جاءته امرأة كأمِّ سُلَيْم ربما قعد عن طلب الحق ، لأن المرأة الكاملة مشغلة ، فيطمئن إليها ، وتطمئن إليه فيكسلان ، فالمرأة الوسط أيضاً نعمة ، فعلى المسلم ذكرا كان أم أنثى أنْ ينطلق إلى التعليم ، وإلى طلب العلم ، وإلى العمل الصالح ، وكل إنسان له حالة خاصة .
وكان هو أيضاً رجلاً مكتمَل الرجولة ، مرموقَ المنزلة ، طائل الثروة ، غنيًّا .. مكانة على رجولة على غنى ، وهو إلى ذلك فارس بني النجار وأحد رماة يثرب المعدودين ، مقاتل فارس رامٍ ثري ، رجل بكل معنى الكلمة مكانته عليّة ، شيء جميل ، هو في أعلى الصفات وطمع بامرأة في أعلى الصفات ، مضى أبو طلحة إلى بيت أم سليم ، يبدو أن الحياة كانت بسيطة ، وهو في بعض طريقه تذكّر أن أم سليم قد سمعت من كلام هذا الداعية المكيّ مصعب بن عمير ، فآمنت بمحمد ، واتبعت دينه ، لكنه ما لبث أن قال في نفسه : وماذا في ذلك ، ليس ثمة مشكلة ، ألم يكن زوجها قد توفي عنها مشركًا مستمسكاً بدين آبائه ، وعلى عبادة الأصنام ، نائياً بجانبه عن محمد ودعوته ، وهو خارج هذا الاهتمام ، وخارج هذا النشاط .. بلغ أبو طلحة منزل أم سليم ، واستأذن عليها ، فأذنتْ له ، وكان ابنها أنس حاضراً، فعرض نفسه عليها مباشرة .
بالمناسبة ، القرآن علّمنا ، كما أن المرأة تُخطَب فالشاب يُخطَب ، قال له :
[سورة القصص]
عندنا عادات بعيدة عن جوهر الإسلام ، هل يُعقَل أنْ يعرض الأبُ ابنته على رجل للزواج ، معنى ذلك أنّ فيها علة كبيرة ، ولعلها ، ولعلها ، فإذا وجدت شابًا مؤمنًا كفؤًا لابنتك، يا بني أنا عندي ابنة مناسبة لك ، هذه ما فيها غضاضة ، ترى الحياء الحياء الحياء، وبقيت هذه الفتاة عانساً ، شيء صعب أن تتجاوز فتاة سن الثلاثين ، بلا زوج ، مصيرها عند أحد إخوتها تحت سيطرة زوجة أخيها ، قال تعالى :
[سورة النور]
هل يوجد أب على وجه الأرض فيه ذرة إيمان يدفع ابنته للزنا ، مستحيل ، فلمن هذه الآية إذن ؟ أليست للمؤمنين ، أليس الله يخاطب بها المؤمنين؟ نعم .. أيوجد مؤمن على وجه الأرض يُكرِه فتاته على الزنا ، القرآن أراد بهذه الآية أن الأب الذي يضع العراقيل أمام الخاطب يسأله : عندك بيت ؟ والله عندي بيت صغير ، لا ، بل نريد بيتًا واسعًا ، الله يرضى عليك ، وفي الشام قريبًا منَّا ، وعقَّدْتَ الأمور ، وعرقلتَ الزواج ، فقد أكرهتَ ابنتَك على الزنا ، وأنت لا تشعر ، وأيقظتَ فيها جانب الشهوة ، وأنت لا تشعر ، كل أب يضع العراقيل أمام زواج ابنته يبعث فيها جانب الشهوة ، وهو لا يدري ، وكأنه يدفعها من طرف خفيٍّ إلى الزنا.
أنت مثلاً إذا كان عندك صانع تعطيه ألف ليرة في هذا الزمان ، وهو يرى أن دخلك كبير ، ومحلك ضخم ، وبضاعة ، واستيراد وتصدير ، وكأنك تدفعه إلى أن يسرق منك مالاً من وراء ظهرك ، وتدفعه دفعاً لأنك لم تكفه ، فأنت السبب ، لا يصحُّ عند أبٍ عاقل أنْ يضع عراقيل أمام زواج ابنته .
أيها الإخوة الأمر صار في زماننا صعبًا عسيرًا ، يجب أن تقبل ببيت خارج دمشق ، وبيت مؤلف من غرفة واحدة وإذا كان أبوه وأمه وحدهما في البيت فاقبلْ بغرفة عند أبيه وأمه ، وعلِّم ابنتك أن يكون عندها حسن سياسة ، لأنّ أي شيء مزعج في الزواج أخف من أن تبقى ابنتك بلا زواج .. واللهِ عشرات بل مئات الفتيات الطاهرات العفيفات المستقيمات نتيجةَ تعنُّت آبائهن ووضع العراقيل أمام الخُطَّاب ، ولشموخ أنف آبائهن ، ولعرقلة الأمور ، ولمظاهر زائفة ، فمجتمعنا الإسلامي قتلته المظاهر ، حتى صرنا على مشارف فساد أخلاقي شديد ، بل حتى السفاح حل محل النكاح ، فالآباء عليهم أن يساعدوا خطاب بناتهم في أي شيء ، وهذه ابنتك مثل ابنك فلماذا هذه العنصرية ؟ كما أمَّنتَ لابنك بيتًا فأَمِّنْ لابنتك بيتًا، وزوجها شاب مؤمن ، فليس من الغلط إذا ساعدت زوج ابنتك ، هذه أشياء نعيشها جميعاً ، انتبهوا أيها الإخوة ، الذي عنده بنات لا يضع عراقيل أبداً ، ما دام هناك مسكن شرعي ، ليس فيه اختلاط ، وليس فيه فساد فيجب أن تبادر إلى قبول هذا الزوج ، ما دام مؤمنًا مستقيمًا، وله مسكن شرعي ، فادفعها إليه ، ولا تجعل من ابنتك سلعة تغتني بها .
ماذا قالت هذه الفتاة العاقلة الرزان الحصان ، مكتملة الأخلاق مكتملة الخلق ؟ قالت : إن مثلك يا أبا طلحة لا يُرَدُّ ، لكنني لن أتزوجك وأنت رجل كافر ، أيْ أنت من حيث الصفات ممتاز ، شهم ، شجاع ، فارس ، لك مكانة علية في قومك هذا كله كلام طيب .. إن مثلك لا يُرد ، ولكنني لن أتزوجك وأنت رجل كافر ، فظن أبو طلحة أن أم سليم تتعلل عليه بذلك ، وأنها قد آثرت عليه رجلاً آخر أكثر منه مالاً أو أعز ونفراً ، فقدْ أساء ظنًّا حين اعتقد أنّ خاطبًا أغنى منه قد سبقه إلى أم سليم ، فتعللت بموضوع الكفر كي تنسحب منه ، وتتزوج ذلك الأغنى .
فقال : والله ، ما هذا الذي يمنعك مني يا أم سليم قالت ما الذي يمنعني إذاً ؟ قال : الأصفر والأبيض ، الذهب والفضة ، هذا سوء ظن محض .
قالت : الذهب والفضة !!.
قال : نعم .
قالت : بل إني أشهدك يا أبا طلحة ، وأشهد الله ورسوله أنك إن أسلمتَ رضيتُ بك زوجاً من غير ذهب ولا فضة ، وجعلتُ إسلامك لي مهراً .. فما دمتَ تقول : إنني آثرتُ عليك رجلاً أغنى منك ، فأنا أشهِد الله ، وأشهِدك أنك إذا أسلمتَ فلن آخذ منك شيئًا ، مهري هو إسلامك ، هكذا كان الصحابة .
أنا أقول لكم هذه الكلمات : لو أن الإسلام الذي نحن عليه هو الذي كان على عهد النبي، واللِه الذي لا إله إلا هو ما خرج الإسلام من مكة المكرمة إلى المدينة ، ولمَا وصل إلى مشارق الأرض ومغاربها إلا بعدما أظهر الصحابة الكرام من المواقف البطولية ما يعجز عن إدراكه البشر .
قالت : له أشهد الله ، وأشهدك يا أبا طلحة ، أنك إن أسلمت لا آخذ منك شيئاً لا أصفر ولا أبيض ، وأن مهري هو إسلامك .
وما إن سمع أبو طلحة كلام أم سُليم حتى صرف ذهنه إلى صنمه الذي اتخذه من نفيس الخشب وخص به نفسه كما يفعل السادة من قومه .. عنده صنم من خشب محفور مرتب هو إلهه ، لكن أم سليم أرادت أن تطرق الحديد وهو ما زال حامياً ، فقالت له : ألست تعلم يا أبا طلحة أن إلهك الذي تعبده من دون الله قد نبت من الأرض ..
قال : بلى ، قالت : أفلا تشعر بالخجل ، وأنت تعبد جذع شجرة جعلت بعضه لك إلهاً ، بينما جعل غيرك بعضه الآخر وقوداً به يصطلي ، فأنت جعلته صنماً تعبده من دون الله ، وغيرك جعله حطباً يصطلي به في الشتاء إنك إن أسلمت يا أبا طلحة رضيت بك زوجاً ولا أريد منك صداقاً غير الإسلام .
قال لها : ومن لي بالإسلام ؟ قالت : أنا لك به ، قال وكيف ؟ قالت : تنطق بكلمة الحق ، فتشهد أن لا إله إلا الله ، وأن محمدًا رسول الله ، ثم تمضي إلى بيتك ، وتحطم صنمك ، فانطلقتْ أسارير أبي طلحة ، وقال : أشهد أن لا إله إلا الله ، وأشهد أن محمداً رسول الله .. ثم تزوج مِن أمّ سليم ، فكان المسلمون يقولون : ما سمعنا بمهر قط كان أكرمَ من مهر أم سليم ، فقد جعلت صداقها الإسلام .
بالمناسبة أعظم النساء بركة أقلهن مهراً ، وأعظم النساء بركة أقلهن مؤونة .
سيدنا أبو طلحة صار مسلماً بسبب أم سليم .. مناقشة ذكية وعاقلة ، والدليل هو اتهمها أنها تبحث عن الأبيض والأصفر ، فقالت : أُشهِدُ الله أنك إنْ أسلمتَ لا أبتغي منك شيئاً ، إسلامك صداقي .
ومنذ ذلك التاريخ انضوى أبو طلحة تحت لواء الإسلام ، ووضع طاقاته الفذة كلها في خدمة الإسلام .
خطب شابٌ بنت عالم اسمها وصال ، قال : يا بني ، هذه مهرها أنْ تلازم دروسنا ، قال له : لك ما تشاء ، وهو جالس في الدرس كان عقله عند خطيبته ، ثم يبدو أنه انتبه للدروس ، وهذا شيء راع رائق ، وفي الدرس الثاني انسجم ، وفي الدرس الثالث ذاب ، وفي الرابع انطلق ، وفي الخامس اصطلح مع الله ، وفي السادس بدأ يرقى ، ونسي المخطوبة ، فأرسلتْ له : يا فلان أين العهد أن تتزوجني ؟ فقال لها : يا وصال كنتِ سببَ الاتصال .
أحياناً الإنسان يهتدي على يد زوجته ، أو على يد أخته ، أو على يد امرأة عظيمة من ذوات قرابته ، ليس في هذا عار ، الإنسان عليه أن يصل إلى الله من أي طريق ، أبو طلحة سبب إسلامه أم سليم ، كان معجباً بها ، وكان مهرها كان إسلامها ، فأسلم .
كما قال الإمام الغزالي :(( طلبنا العلم لغير الله ، فأبى العلم إلا أن يكون لله)) .
أحياناً يأتي الإنسانُ إلى المسجد ـ هي قصة تتكرر كثيراً ـ لهدف آخر غير طلب العلم ، هدفه ليس له علاقة بطلب العلم إطلاقاً ، يسمع فيستفيد ثم يعلق به حبل الوصال .
لقدْ جاء لهدف ، وانتهى إلى هدف آخر .
سيدنا أبو طلحة قال : كان أحد السبعين الذين بايعوا رسول الله صلى الله وسلم ، ومعه زوجه أم سليم ، وكان أحد النقباء الاثني عشر الذين أمَّرهم النبي عليه الصلاة والسلام في تلك الليلة على مسلمي يثرب .
وكان من الخواص ، بايع رسول الله ثم أمَّره عليهم .
ثم إنه شهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم مغازيه كلها ، وأبلى فيها أشرف البلاء وأعزه ، لكن أعظم أيام أبي طلحة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما هو يوم أحد .
ويا أيها الإخوة الكرام ، الحقيقة أسعد إنسان هو الذي له مع النبي عليه الصلاة والسلام موقف ، فإن لم يكن مع النبي فمع أصحابه ، فإنْ لم يكن فمع التابعين ، وإنْ لم يكن فمع الدعاة إلى الله ، ومع أهل الحق ، والمغزى أنْ يكون الإنسان جنديًّا للحق ، وألاّ يكون في خندق الباطل معاديًا لأهل الحق ، وهذه القصة التي أمامكم شيء لا يصدق .
أحب أبو طلحة النبي صلى الله عليه وسلم حباً خالط شغاف قلبه ، وجرى مجرى الدم في عروقه ، فكان لا يشبع من النظر إليه .. ليس من السهل أن تلتقي بنبي عظيم ، ليس من السهل أن تقتبس من أنواره ، من حكمه ، من أحواله ، من علمه .
كان لا يشبع هذا الصحابي الجليل من النظر إليه ، ولا يرتوي من الاستماع إلى عذب حديثه ، وكان إذا بقي معه جثا بين يديه وقال نفسي لنفسك الفداء ، ووجهي لوجهك الوقاء ، فلما كان يوم أحد انكشف المسلمون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فنفذ إليه المشركون من كل جانب فكسروا رباعيته ، أيْ سنه التي بين الثنية والناب ، وشجُّوا جبينه ، وجرحوا شفته ، وأسالوا الدم على وجهه ، النبي صلى الله عليه وسلم تحمَّل وقال : أوذيت وما أوذي أحد مثلي ، وخفت وما خاف أحد مثلي ، ومضى عليَّ ثلاثون يوماً لم يدخل جوفي إلا ما يواري إبطَ بلال .
النبي أسوة لنا ، تحمل كل أنواع المتاعب ، تحمل الأذى تحمل الفقر تحمل الخروج من الوطن ، تحمل الخوف ، فهو بشر ، ولأنه جرت عليه كل خصائص البشر كان سيد البشر ، لولا أنه جرت عليه كل خصائص البشر لما كان سيد البشر .
فالنبي قدوة لنا ، وإذا تحملتَ شيئًا مِنَ المتاعب في الدعوة إلى الله ، وتحملت معارضة، وتحملت فجوًار ، ونقد لاذِعًا أحياناً ، لك خصوم ، هم أعداء لله عز وجل ، أرادوا إطفاء نور الله فاستهدفوك ، قال تعالى :
[سورة آل عمران]
لما رأى أبو طلحة أن المسلمين انكشفوا عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وأنه كُسرت ثنيته ، وجرحت وجنته ، وسال الدم على جبهته ، انتصب أبو طلحة أمام رسول الله صلى الله عليه وسلم كالطود الشامخ ، بينما وقف النبي عليه الصلاة والسلام خلفه يتترس به ، ثم وَتَرَ أبو طلحة قوسه التي لا تُفل ، وركّب عليها سهامه التي لا تخطئ ، وجعل يذود بها عن رسول الله ، ويرمي جنود المشركين واحداً إثر واحد ، وكان النبي عليه الصلاة والسلام يتطاول من خلف أبي طلحة ليرى مواقع سهامه ، فكان أبو طلحة رضي الله عنه يردُّه خوفاً عليه ، ويقول له : بأبي أنت وأمي لا تشرف عليهم فيصيبوك ، إنّ نحري دون نحرك ، وصدري دون صدرك ، جُعِلتُ فداك يا رسول الله .
يا إخوان الإسلام حب ، فإذا فُقِدَ الحب لم يبق في المرء إسلام ، وهذا الدين فيه جانب علمي ، وجانب انفعالي ، فمن دون حب .. كمركبة بلا محرك ، هي ممتازة ، وطلاؤها جيد، وتلمع ، ولكن لا محرك لها ، فالذي يحركك إلى الله عز وجل هو الحبّ ، والحب ثمنه الطاعة ؛ وقد صدق أبو العتاهية في قوله :
***
تعصي الإله وأنت تظهر حبه هذا محالٌ في القياس بديعُ
لو كان حبك صادقاً لأطعته إن المحب لمن يحب يطيعُ
***
هذه بطولة ، إنسان يقف كالطود أمام رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : يا رسول الله صدري دون صدرك ، ونحري دون نحرك ، جعلت فداك يا رسول الله .
بصراحة أقول لكم : إذا لم تحبّ المؤمنين فهذه واللهِ مشكلة مستعصية .. المنافقون يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا .. فيكفي أن يصلك خبر أن فلانًا المؤمن أصابه مكروه ، يكفي أن ترتاح نفسُك فتكون منافقًا ، ولمجرد أن ترتاح لخبرٍ مفاده أن مؤمناً قد ابتلاه الله بمصيبة والله الذي لا إله إلا هو ضع نفسك مع المنافقين ولا تخف ، لأنّ علامة إيمانك أن تحب المؤمنين ، وأن تتمنى لهم كل الحب ، تتمنى عزهم ، تتمنى أن يكونوا أقوياء، تتمنى أن ينتصروا ، فهذا الذي يتمنى أن يكون العكس هو في خندق المنافقين وهو لا يدري .
فهل يهون عليك أن يهان المؤمن ؟ وأن يفتقر المؤمن ، وأن ينكشف ، وأن يذل في حضرتك ، وأنت قادر على نصره وتبقى ساكتاً ؟! .. واللهِ لست بمؤمن .
وكان الرجل من جند المسلمين يمر بالنبي عليه الصلاة والسلام هارباً ومعه الجعبة من السهام، فينادي عليه النبي ويقول له : انترْ سهامك لأبي طلحة .
بالمناسبة قد تسأل : أيعقل أن يخذل الله الصحابة ، وفيهم النبي عليه الصلاة والسلام ؟ .. ممكن ، بل لقد حصل ذلك ، قال أحكمُ الحاكمين :
[سورة التوبة]
أنا أقول لكم دائماً : في حياتك يومان أيها الأخ ؛ يوم كيوم بدر ، ويوم كيوم حنين ، فإذا قلت : أنا مفتقر إلى الله ، يا رب إني ضعيف فقوِّ في رضاك ضعفي ، اللهم إني تبرأتُ من حولي وقوتي ، والتجأتُ إلى حولك وقوتك يا ذا القوة المتين .. إذا كنت مفتقراً إلى الله تولاك الله ، ونصرك الله ، وأيدك الله ، ووفقك ، وحفظك .. وإن قلت : أنا عندي مال وفير ، عندي تجارب كثيرة متراكمة ، عندي خبرات واسعة ، أنا أجعل خصومي في قبضتي ، إذا قلت : أنا تخلّى الله عنك ووكَّلك إلى نفسك ، وإذا افتقرتَ إليه يتولاك وينصرك .
يوم بدر .. قال تعالى :
[سورة آل عمران]
[سورة التوبة]
بعملك ، باختصاصك ، بدراستك ، بتجارتك ، بصناعتك بزراعتك بوظيفتك ، بعلاقاتك ، بعلاقاتك في البيت خارج البيت ، ومع مَن هم أعلى منك ، ومع مَن هم أدنى منك ، تقول : أنا يتخلى الله عنك ، تقول : أنا فقير إلى الله يتولاك ، هذه نصيحة أزجيها لكم .
علمياً أنت بين حالين ، حال الافتقار ومع الافتقار التولي ، يتولى الله أمرك ،
[البقرة ، الآية 257]
فإذا قلت : أنا تخلى ، ومن اتكل على نفسه أوكله الله لها ، تفضل ، وجرِّب باختصاصك ، قل: أنا أفهم الموضوع .. فترتكب حماقة ما بعدها حماقة .
أنا مختص بهذا الموضوع فهناك المهلَكة ، أساساً هناك أربع كلمات مهلكات ( أنا ونحن ولي وعندي ) ؛ أمَّا (أنا) فقد قالها إبليس :
[سورة الأعراف]
فأهلكه الله .
أمّا (نحن) فقالها قوم بلقيس :
[سورة النمل ، الآية 33]
فظفر بهم سليمان مسلمين .
وأمّا (عندي) فقالها فرعون :
[سورة الزخرف]
فأهلكه الله غرقًا .
وقالها قارون :
[سورة القصص ، الآية 78]
فخسَفَ الله عز وجل به وبداره الأرضَ .
دقق بين الافتقار وبين الاستغناء ، يستغني يُتخلّى عنه ، يفتقر يُتَوَلَّى .
***
مالي سوى فقري إليك وسيلة فبالافتقار إليك فقري أدفعُ
مالي سوى قرعي لبابك حيلة فإذا رددت فأي باب أقرعُ
***
كان عليه الصلاة والسلام يقول لمن انكشف عنه : انثر سهامك بين يدي أبي طلحة ، ولا تمضِ بها هارباً ، وما زال أبو طلحة ينافح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى كسر ثلاثة أقواس وقتل ما شاء أن يقتل من جنود المشركين ..
ثم انجلت المعركة وسلّم اللهُ نبيه وصانه بصونه ، وكما كان أبو طلحة جواداً بنفسه في سبيل الله في ساعات البأس ، فقد كان أكثر جوداً بماله في مواقف البذل ، استمعوا لهذه القصة؛
كان له بستان من نخيل وأعناب لم تعرف يثرب بستاناً أعظم منه شجراً ولا أطيب ثمراً ولا أعذب ماءً .
ترى شخصًا عنده مزرعة ، ولدينا مزارع جميلة جداً ، مداخل ، أشجار ، نباتات زينة ، ورود ، أشتال ، أصص ، عرائش ، كروم ، أشجار مثمرة ، مسبح ، يعني من هذا القبيل تقريباً .
قلت لكم في بداية القصة : إن أبا طلحة كان ثريًا ، وعنده مزرعة من أجمل مزارع المدينة ، جاء وصفها في كتب السيرة ، كان له بستان من نخيل وأعناب لم تعرف يثرب بستاناً أعظم منه شجراً ، ولا أطيب ثمراً ، ولا أعذب ماءً ، وفيما كان أبو طلحة يصلي تحت أفيائه الظليلة ، أثار انتباهه طائر غريب ، أخضر اللون أحمر المنقار ، مخضب الرجلين نظر إليه وقد جعل يتواثب على أفنان الأشجار طرباً مغرداً متراقصاً فأعجبه منظره ، وسبّح بفكره معه ، وما لبث أن رجع إلى نفسه فإذا هو لا يذكر كم ركعة صلى ، قد تجد في أثناء الصلاة شخصًا يرفع أصبعه .. يقرأ التشهد ، وهو واقف ، سارح في موضوعات ليس لها علاقة بالصلاة إطلاقًا ..
حينما شعر أن هذا الطائر الصغير الجميل المغرد الذي يتراقص على أغصان الأشجار شَغَلَه عن صلاته ، فما ذكر كم صلى .. ركعتين أم ثلاثًا ، ما إن فرغ من صلاته حتى غدا على النبي عليه الصلاة والسلام ، شكا له نفسه التي صرفها البستان وشجره الوارف ، وطيره المغرِّد عن الصلاة ، ثم قال : اشهدْ يا رسول الله أني جعلتُ هذا البستان صدقةً لله تعالى ..
لأنه شغله عن الصلاة ، وهذا البستان الذي بمقاييس اليوم ثمنه ملايين ، يقال لك : بيعت مزرعة بمائة وستة وخمسين مليونًا ، قال هذا كله صدقة لله ، لأنه شغله عن صلاته .
ماذا قال سيدنا سعد ؟ قال : " ثلاثة أنا فيهن رجل ، وفيما سوى ذلك فأنا واحد من الناس ، ما صليت صلاة فشغلت نفسي بغيرها حتى أقضيها .. " .
فضعْه يا رسول الله حيث يحب الله ورسوله ، هذا لك تصرف به أنت .
عاش أبو طلحة حياته صائماً مجاهداً ، ومات كذلك صائماً مجاهداً فقد أُثِر عنه أنه بقي بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، نحواً من ثلاثين عاماً صائماً لم يفطر ، إلا في أيام الأعياد حيث يحرم الصيام وأنه امتدت به الحياة حتى غدا شيخاً فانياً ، لكن شيخوخته لم تحل دونه ودون مواصلة الجهاد في سبيل الله ، والضرب في فجاج الأرض إعلاءً لكلمته وإعزازاً لدينه ، من ذلك ؛ أن المسلمين عزموا على عزوة في البحر في خلافة عثمان .. غزوة في بحر .. هؤلاء البداة رعاة الشاة ، صاروا قادة للأمم ، صار لهم أسطول يغزون به الجزر في عهد عثمان بن عفان .
فأخذ أبو طلحة يعدّ نفسه للخروج مع جيش المسلمين المُبْخِر ، فقال له أبناؤه ، وكان شيخاً فانياً : يرحمك الله يا أبانا ، لقد صرت شيخاً كبيراً ، ولقد غزوتَ مع رسول الله ومع أبي بكر ومع عمر كثيراً ، فهلاّ ركنت إلى الراحة ، وتركتنا نغزو عنك ؟ .. بماذا أجابهم الشيخ الفاني وهو يطلب الجهاد في البحر ؟ قال : إن الله عز وجل يقول :
[سورة التوبة]
ما معنى ثقالاً ؟ .. المعنى الدقيق ؛ الإنسان وهو صغير خفيف ، طفل عمره خمس سنوات تراه يقفز مثل الكرة ، يصعد على الدرج خمسة خمسة ، ينزل عشرة عشرة ، وهو خفيف ، لكن في الخمسينات لم يعد خفيفًا ، يصعد أربعة طوابق فيهلث ، صار ثقيلَ الحركة ، فالله بماذا أمرنا ؟ قال :
[سورة التوبة ، الآية 41]
أنت شاب وأنت شيخ وأنت كبير في السن .. قال : إن الله عز وجل يقول
[سورة التوبة ، الآية 41]
فهو قد استنفرنا جميعاً ، شيوخاً وشباناً ، لم يحدد سناً ، ثم أبى إلا أن يخرج .
وبينما كان الشيخ المعمر أبو طلحة على ظهر السفينة مع جند المسلمين في وسط البحر، مرض مرضاً شديداً فارق على أثره الحياة فطفق المسلمون يبحثون له عن جزيرة ليدفنوه فيها، فلم يعثروا على مبتغاهم إلا بعد سبعة أيام ، وأبو طلحة مسجى بينهم لم يتغير فيه شيء كأنه نائم ، وفي عرض البحر ، بعيداً عن الأهل والوطن ، نائياً عن العشير والسكن ، دُفن أبو طلحة في إحدى الجزر .
مَن سببه ؟ أم سليم ، فالموقف البطولي كان حينما خطبها ، قالت له لن أتزوجك لأنك كافر ، قال لها : إنما آثرتِ الأبيض والأصفر ، جاءك رجلٌ أغنى مني ، قالت له : لا والله ، لو أسلمتَ لقبلتك من دون مهر ، وإسلامك مهري .. أثبتت له حسن النية ، أعجب بها فأسلم من أجلها .
هل تصدقون أيها الإخوة أن هذا البطل العظيم ، الذي وقف هذا الموقف العظيم أمام النبي عليه الصلاة والسلام ، وبذل ماله الكثير وجاهد وهو شيخ فانٍ ، كل أعماله في صحيفة امرأته، التي دفعته إلى أن يسلم ، فالمرأة لها مكانة عظيمة عند الله .
مرة ثانية ، المرأة كالرجل في التشريف والتكليف ، وقد تفوقُ الرجل
[سورة الحجرات ، الآية 13]
ربوا بناتكم أيها الإخوة على طاعة الله ، علموهن القرآن الكريم ، علموهن أحكام الفقه ، علموهن حب النبي عليه الصلاة والسلام ، فعن أسماء بنت يزيد الأنصارية أنها أتت النبي صلى الله عليه وسلم وهو بين أصحابه فقالت : بأبي أنت وأمي إني وافدة النساء إليك ، وأعلم نفسي - لك الفداء - أنه ما من امرأة كائنة في شرق ولا غرب سمعت بمخرجي هذا إلا وهي على مثل رأيي، إن الله بعثك بالحق إلى الرجال والنساء فآمنا بك وبإلهك الذي أرسلك، وإنا معشر النساء محصورات مقصورات، قواعد بيوتكم، ومقضى شهواتكم، وحاملات أولادكم، وإنكم معاشر الرجال فضلتم علينا بالجمعة والجماعات ، وعيادة المرضى، وشهود الجنائز، والحج بعد الحج، وأفضل من ذلك الجهاد في سبيل الله، وإن الرجل منكم إذا خرج حاجا أو معتمرا أو مرابطا حفظنا لكم أموالكم ، وغزلنا لكم أثوابكم ، وربينا لكم أموالكم، فما نشارككم في الأجر يا رسول الله؟ فالتفت النبي صلى الله عليه وسلم إلى أصحابه بوجهه كله ثم قال: هل سمعتم مقالة امرأة قط أحسن من مسساءلتها في أمر دينها من هذه؟ فقالوا يا رسول الله ما ظننا أن امرأة تهتدي إلى مثل هذا؟ فالتفت النبي صلى الله عليه وسلم إليها ثم قال لها: انصرفي أيتها المرأة وأعلمي من خلفك من النساء أن حسن تبعل إحداكن لزوجها ، وطلبها مرضاته، واتباعها موافقته ، يعدل ذلك كله .
[أخرجه البيهقي]
الذي عنده ابنتان فأحسن تربيتهما ، قال النبي الكريم : فأنا كفيله في الجنة ، قالوا واحدة قال واحدة " .
فالذي عنده بنت فهي ثروة كبيرة ، هذه الفتاة إذا تزوجت رجلاً مؤمناً وأسست أسرة مسلمة ، كل خيرات هذه الأسرة الإيمانية في صحيفة الأب .
والذي عنده فتاة يعلمها القرآن ، يعلمها حب النبي عليه الصلاة والسلام ، يعلمها أمر دينها ، يعرفها بالله عز وجل ، حتى إذا كانت زوجة ، كانت زوجة صالحة ، ولعل هذه المرأة تكون سبباً لرقي زوجها وأولاها ، وكل إنسان يحتقر المرأة جاهلي ، عنصري ، بعيد عن روح الإسلام .
النبي الكريم كرم المرأة ، قال : " أكرموا النساء ، فوالله ما أكرمهن إلا كريم ، ولا أهانهن إلا لئيم ، يغلبن كل كريم ، ولا يغلبهن إلاّ لئيم ، وأنا أحب أن أكون كريماً مغلوباً من أن أكون لئيماً غالباً " .
هذه القصة محورها أن امرأة مسلمة بطلة ، كانت وراء زوجها الذي أصبح من أكابر صحابة رسول الله ، هذه امرأة ، هذه واحدة كألف رجل ، أو ألف امرأة ، وأحيانًا ترى ألفًا كأفٍّ .. ألف امرأة لا يقيم الُله لهن وزناً ، لا شأن لهن عند الله عز وجل .
كل تفكير في أن المرأة دون الرجل تفكير جاهلي ، تفكير غبي ، تفكير أساسه العنصرية، المرأة كالرجل في التكليف والتشريف ، وربما فاقت الرجل ، لا ترَ أنّ ابنتك غير ابنك ، فقد تكون ابنتك أرقى من ابنك ، فعلِّمها ، لأن الزوجة الصالحة لا تُقدر بثمن .
والحمد لله رب العالمين
***(/)
الدرس 11/ 50 : سيرة الصحابي : سالم مولى أبي حذيفة ، لفضيلة الأستاذ الدكتور محمد راتب النابلسي
تاريخ : 28 / 07 / 1985 .
تفريغ : م . م . حسان العودة
التدقيق اللغوي : الأستاذ غازي القدسي .
التنقيح النهائي : المهندس غسان السراقبي .
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا ، وانفعنا بما علمتنا ، وزدنا علماً وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .
أيها الأخوة الأكارم :
مع الدرس الحادي عشر من دروس سيرة أصحاب رسول الله رضوان الله تعالى عنهم ، صحابي اليوم : سيدنا سالم مولى أبي حذيفة ...
ولهذا الاسم قصة تسمعونها بعد قليل ، ولكن قبل أن نمضي في الحديث عن هذا الصحابي الجليل ، يجب أن تعلموا أن أصحاب رسول الله ما استطاعوا أن ينشروا الإسلام في الخافقين، إلا لأنهم عاشوا القيم الإسلامية ، الإسلام له قيم ، عاشوها ، وحينما ترون المسلمين الآن يزيدون على ألف ومائتي مليون ، وليست كلمتهم هي العليا ، وليست إرادتهم هي النافذة ، فيجب أن نستنبط ، أو يجب ألا نتهم الله في وعده بل نستنبط أن ديننا كأن القيم فرغت منه وبقي شكلاً ، بلا محتوى ، بقي مظاهر بلا مضمون ، بقي طقوساً بلا مشاعر .
على كلٍ قصة اليوم لا تقل شأناً عن قصة الأسبوع الماضي ، النبي عليه الصلاة والسلام ، أوصى أصحابه يوماً فقال :
خذوا القرآن عن أربعة ، تلاوةً ، وفهماً ، وأحكاماً ، ودراسةً ومعرفةً ، ودرايةً ، خذوا القرآن عن أربعة :
عن : عبد الله بن مسعود ...
وعن : سالم مولى أبي حذيفة ...
وعن : أبي بن كعب ...
وعن : معاذ بن جبل ...
صحابي اليوم : سيدنا سالم مولى أبي حذيفة .
سالم ممن شهد لهم النبي عليه الصلاة والسلام بأنه ماهر في القرآن ، إلى درجة أن النبي أمر أصحابه أن يأخذوا عنه ، أن يتعلموا منه ، إذاً بلغ مرتبة علية ومرتبة تفوّق في التلاوة والفهم ..... .
من هو هذا الصحابي ؟ الذي يأمر النبي أصحابه الأجلاء أن يجلسوا أمامه وأن يأخذوا عنه القرآن ، أن يتتلمذوا على يديه ، أن يقتبسوا من علمه ، أن يستنيروا بنوره ، قالوا : إنه عبد رقيق .
أرأيتم أيها الأخوة إلى مجتمع الطبقة الواحدة ، أرأيتم أيها الأخوة كيف أن قيم الإسلام عاشها أصحاب النبي ، أرأيتم أيها الأخوة كيف أن في الإسلام قيمتين فقط ، قيمة العلم والعمل ، وما سوى هاتين القيمتين تحت الأقدام ، إنه عبد رقيق ، عبد رقيق يأمر رسول الله أصحابه وهم من علية قريش أن يجلسوا أمامه متأدبين ليتعلموا منه القرآن .
من الذي رفع شأن هذا العبد الرقيق ؟ وجعله كما نقول اليوم سيدنا ، أجل سيدنا ، أنا لا أعتقد أن مسلماً في العالمين يجرؤ على أن يسمي الصحابي باسمه فقط ، إلا أن يقول سيدنا ، تعظيماً لشأنه ، وتوقيراً له من هذا العبد الرقيق الذي رفعه الإسلام ؟ لننتقل نحن الآن إلى حياتنا المعاصرة .
أيها الأخ الكريم :
العلم يرفعك ، والقرآن يرفعك ، وطهارتك ترفعك ، وعفتك ترفعك ، وورعك يرفعك ، واستقامتك ترفعك ، وخدمتك للخلق ترفعك وتمثلك بالقيم الإسلامية ترفعك ، كل إنسان يحب أن يكون ذا شأن ، هذه فطرة ، هذا شيء جبلنا عليه ، تحب أن تأكل لتبقى حياً ، تحب أن تتزوج ليبقى نوع البشرية ، تحب أن تكون ذا شأنٍ ، ليخلد ذكرك ، هذا ميل فطري .
من هذا العبد الرقيق الذي رفعه الإسلام ؟ .
الإسلام ، والقرآن ، واتّباع النبي عليه الصلاة والسلام ، هو الذي جعل هذا العبد الرقيق نقف أمام قصته متأدبين ونتحدث عنه مجلين مكبرين إنه سيدنا سالم مولى سيدنا حذيفة .
كان رقيقاً وأعتق ، وآمن بالله وبرسوله أيماناً مبكراً .
وتعقيباً على كلمة مبكراً ، فأنا والله أُكبر الأخ الكريم الذي قَدِمَ إليّ صغيراً ، وترعرع في بيت من بيوت الله ، شيء رائع جداً أن تتعرف إلى الله وأنت غض العود ، وأنت في مقتبل العمر، تشكل حياتك ، تشكل علاقاتك ، تختار أصدقاءك ، يبني زواجك ، تنتقي حرفتك ، وتفهم مهنتك ، وفق الشرع وفق قواعد الدين ، وفق منهج رب العالمين .
لذلك ريح الجنة في الشباب ، والنبي شجع الشباب ورفع من شأنهم حينما عين شاباً في سنهم قائداً لجيش فيه أبو بكر ، وعمر وعثمان ، وعلي ، شاب آمن في وقت مبكر .
لذلك قالوا : من لم تكن له بداية محرقة لم تكن له نهاية مشرقة .
يعني أنه جميل بالإنسان أن يتوب إلى الله مبكراً ، لكن بالسبعين فقدت التوبة جمالها فقد أكل حتى مل الطعام ، وما خلا منه محل ، حتى مل النزهات ، سهران مائة ألف سهرة ، حتى مل السهرات ، نفسه عزفت عن الدنيا ، ليس غير الآخرة أمامه ، لكنّ الأجمل من هذا ، أن ترى شاباً يتقد حيويةً يغلي نشاطاً مقبلاً على الدنيا ، كل شيء عنده جديد ، ومع ذلك يلتفت إلى الله عز وجل .
لذلك فالله جل جلاله يباهي الملائكة بالشاب التائب يقول : انظروا عبدي ترك شهوته من أجلي، يعني استقامة الشاب على أمر الله تعدل عند الله استقامة ألف إنسان تجاوز الخمسين ثم استقام على أمر الله لأن كل سن لها ترتيب ، كل سن لها اهتمامات ، لعلك تلاحظ أكثر الناس الذين أسرفوا في المعاصي في حياتهم بالخمسينات بدأ يصلي ، واتجه إلى المساجد ، طبعاً لأنه أزف وقت الرحيل ، شيء طبيعي جداً ، حينما أزفت الآزفة ، حينما اقترب أجله ، ومعترك المنايا بين الستين والسبعين وهذا صار بالستين ، تجده صار أميل للدين ، أميل للمساجد أميل للدروس شيء جميل ، لكن الأجمل وأنت في السابعة عشرة ، في الثامنة عشرة بالعشرين بالخامسة والعشرين تريد الله ورسوله ، تريد معرفة الله تريد إتقان القرآن، تريد أن يكون الله راضياً عنك ، هذا شيء جميل جداً .
هو : سالم مولى أبي حذيفة .
أبو حذيفة تبناه ، فلما نزل القرآن الكريم بتحريم التبني صار أسمه سالم مولى أبي حذيفة ، كان أسمه سالم بن أبي حذيفة ، فقد حّر م الله التبني ، هذا وبالمناسبة العبد الرقيق ـ لا يعرف من أبوه ، وليس هذا يقدح في نسبه ، لأنه أشتري من سوق العبيد ، واشتراه رجل ، فلا هو يعرف من أبوه ، ولا أحد ممن حوله يعرف من أبوه ـ فلما نزل قوله تعالى في تحريم التبني، فإلى من ينسب إذاً ؟ سيدنا أبو حذيفة قال هو مولاي ، فصار أسمه سالم مولى أبي حذيفة .
كلكم يعلم أن هذا الصحابي الجليل آخى سيدنا أبي حذيفة وصارا أخوين في الله ، وهذا ينقلني إلى ما كنت صبوت إليه من قبل أن كل أخ منكم لا بد له من أخ يكون وليه ، يكون أخاه في الإسلام ، وهو أخوه في الله ، هذه الأخوة في الله لها معانٍ كثيرة ، ففيها تعاون ، و تفقد ، ومواساة ، و بث هموم ، يعني معاونة على أمر الدين والدنيا أي أن أقل مرتبة أنه إذا غاب الشخص فهناك من يسأل عنه ، هناك من يبلغ أن فلاناً اليوم ما جاء ، فإذا تفقدناه يشعر بمكانته ، يعني أنا مصرٌّ على هذا الطلب ، وأن كل أخ ليكن له أخ ، يتعاونان وهذا ورد في القرآن الكريم قوله تعالى :
( سورة سبأ : 46 ) .
اثنان ، اثنان .
( سورة الحجرات : 13 ) .
طبعاً سيدنا سالم مولى أبي حذيفة ، وسيدنا أبو حذيفة ، عاشا الإسلام ومن أولى مبادئ الإسلام .
ليس لعربي على عجمي فضل إلا بالتقوى . ليس لابن البيضاء على ابن السوداء فضل إلا بالتقوى .
مما يلفت النظر في سيرة هذا الصحابي أنه كان حجة في كتاب الله ، حتى إن النبي عليه الصلاة والسلام أمر أصحابه أن يتعلموا منه وكان إماماً للمهاجرين من مكة إلى المدينة طوال صلاتهم في مسجد قباء .
مسجد قباء هو المسجد الذي في ظاهر المدينة ، وهو الموقع الذي استقبل عنده أصحاب رسول الله من الأنصار المؤمنين قبل أن يروا رسول الله وقالوا طلع البدر علينا .
بلغ من التفوق في القرآن ، ومن الورع والإخلاص ، ومن حب النبي عليه الصلاة والسلام درجة قال عنه النبي عليه الصلاة والسلام : الحمد لله الذي جعل في أمتي مثلك .
والله شيء جميل ، يعني الإنسان يقاس بمن معه ، هناك أتباع بلغوا درجة عالية جداً من الرقي، و مستوى عالياً من الفهم ، والإيمان ، والتواضع والمعاونة ، والوقوف في الملمات ، والإيثار ، والتضحية .
الإنسان لا يقاس أتباعه بعددهم ، بل بنوعيتهم ، أحياناً تجد في ملعب كرة خمسة وثلاثين ألفاً ، كلهم يهيج ويموج ، لدخول كرة بالمرمى ، فكان القيامة قامت ، تعجب ما الذي حصل ، ما هذا الذي جعل الناس يهيجون ، وقع أربعون قتيلاً مرة في بعض المباريات وينقلب الأمر إلى توحش أحياناً .
( سورة الكهف : 105 ) .
لا يقاس الأتباع بعددهم ، بل يقاسون بنوعيتهم ، وهذا الذي أقوله لكم دائماً : واحد كألف وألف كأف ، ربنا عز وجل وصف أهل الدنيا فقال :
( سورة الأنعام : 124 ) .
ماله قيمة ، وبآية أخرى :
مجرمٌ صغير الشأن ، لا شأن له ، لكن المؤمن عظيم في عيون الناس صغير في نفسه ، فالنبي عليه الصلاة والسلام كان يقول : الحمد لله الذي جعل في أمتي مثلك .
شيء آخر سيدنا سالم رضي الله عنه ، كان إخوانه المؤمنون يقولون عنه : سالم من الصالحين .
وقد أعجبني في القضاء البريطاني أنه عندما تكون قضية معقدة جداً يطلب القاضي عشرين شخصاً من عامة الناس ، من الطريق ويسمعهم معطيات هذه القضية ، ويأنس القاضي بآرائهم ، والإنسان بصورة عامة عنده فطرة ، يعني كما يقول العامة : ألسنة الخلق أقلام الحق ، تقول لي أنا مليح لكن لا أحد يحبني ، لا أصدقك ، معناها ما لك مليح ، أنا مستقيم كن الناس يحسدونني غلط هذا الكلام ، يعني علامة المؤمن أنه محبوب ، و الناس يحبون المتواضع ، يحبون المنصف ، يحبون المستقيم ، يحبون الحقاني باللغة الدارجة، يحبون الذي يخدمهم ، يحبون المعطاء ، الكريم ، الشجاع ، المضحي هذا محبوب ، أنت تقول أنا مليح لكن لا أحد يحبني ، العكس ، الناس لا يحبون واحداً وقد أجمعوا على بغضه ، وهذه والله علامة سيئة جداً ، هذه علامة أن هذا الإنسان ليس على ما يرام .
فالصحابة كانوا جميعاً يحبونه ، حتى إنهم وضعوه سالم من الصالحين وبعد فلا شيء يخفى ، الجيد جيد ، والسيئ سيئ والمنافق منافق ، والمخلص مخلص ، والورع ورع ، وغير الورع غير ورع .
وهذا الصحابي له مزايا ، وبالمناسبة فأصحاب النبي عليهم رضوان الله ، كل واحد منهم تفوَّق في ناحية ، هذا في شجاعته هذا في حلمه ، هذا في حيائه ، هذا في كرمه ، هذا في إنصافه ، هذا في شدته في الحق ، هذا في عفوه ، إلا أن النبي عليه الصلاة والسلام جمع كل الفضائل ، لذلك خضعوا له أنت ممكن أن تجعل في مشفى ثلاثمائة طبيب ، وتختار واحداً منهم يكون مدير المستشفى ، لكن إن لم يكن هذا المدير أعلى مستوى في العلم من كل الأطباء لا ينصاعون له ، بل يتمردون عليه ، الإنسان العالي يأبى أن يخضع للأدنى ، فهل يمكن لإنسان يكون يحمل شهادة عليا وتضعه تحت إمرة إنسان يحمل ابتدائية ، طبعاً سيكشف حاله وقصوره وأن الفرق كبير جداً .
النبي عليه الصلاة والسلام لم يكن كاملاً في كل النواحي لما أستحوذ على قلوب أصحابه ، لذلك رحم الشاعر إذ يقول :
وأجمل منك لم تر قط عيني وأكمل منك لم تلد النساء
خلقت مُبرّأً من كل عيبٍ كأنك قد خلقت كما تشاء
فسيدنا سالم كان جريئاً بالحق ، وأحياناً الجرأة مهمة جداً ، يعني الجرأة أحياناً ينتج منها خيرٌ كثير ، هذه الجرأة بدت في قصة ، و هي محور الدرس وهذه القصة نموذجية ، وتبين عظمة الإسلام ، وتبين عظمة الدين ، وتبين عظمة هذا النبي العظيم .
فبعد أن فتحت مكة للمسلمين بعث النبي عليه الصلاة والسلام ببعض السرايا إلى ما حول مكة من قرى وقبائل ، وأخبرهم أنه عليه الصلاة والسلام إنما يبعث بهم دعاة ، لا مقاتلين .
يعني أرسل بعض أصحابه إلى ما حول مكة من قرى يدعوهم إلى الإسلام وقال لهم أنتم دعاة لا مقاتلون ، وكان على رأس إحدى السرايا سيدنا خالد بن الوليد ، وحينما بلغ خالد وجهته حدث ما جعله يستعمل السيف ويريق الدم ، وقع أمر اقتضى أن يحارب سيدنا خالد مع أن التوجيه الذي معه ألا يحارب ، والتوجيه خلاصته دعوة لا قتال .
يروي كتاب السيرة أن النبي عليه الصلاة والسلام حينما سمع بهذه الواقعة اعتذر إلى الله عز وجل ، اعتذر إلى ربه وقال : اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد ، أنا والله ما أمرته بهذا يا رب ، كم في النبي من رغبة في حقن الدماء ؟ كم عند النبي من رغبة في نشر السلام ؟ كم كان حريصاً على حياة الناس ؟ كم كان حريصاً على أن يحيا الناس بسلام ؟ كم كان حريصاً على أن ينشر هذا الإسلام بالدعوة السلمية ؟ لا بالسيف ، فقال عليه الصلاة والسلام متوجهاً إلى الله جل جلاله : اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد .
وسيدنا عمر بن الخطاب فيما يروي التاريخ كان متألماً جداً من هذا الموقف ، وبالمناسبة الصحابة مع عُلوّ شأنهم ، ومع سبقهم ، وتفوقهم هل هم معصومون ؟ لا ليسوا معصومين ، لكن النبي عليه الصلاة والسلام معصوم ، والقاعدة الشهيرة أن النبي عليه الصلاة والسلام معصوم بمفرده ، لكن أمته معصومة بمجموعها .
كان سيدنا سالم مولى أبي حذيفة مع سيدنا خالد في هذه الواقعة ولم يكد سالم يرى صنيع خالد حتى واجهه بمناقشة حامية ، سيدنا خالد القائد ، القرشي ، البطل ، العظيم في الجاهلية ، وفي الإسلام ، ينصت مرةً إلى سيدنا سالم ، ما هذا المجتمع أرجل عبد رقيق ، يناقش قائد جيش ؟ وهذا القائد يصغي إليه ، ويعتذر له ويبين وجهة نظره تارةً ويسكت تارةً ، ويشتد في القول سالم ، وسالم مستمسك برأيه يعلنه في غير تهيب أو مداراة ، الإسلام سوّى بينهما ، سوّى بين خالد وبين سالم ، سالم عبد رقيق ، وخالد من وجهاء قريش ، لكن لا شك أن سيدنا سالم ما عارضه حباً في المعارضة .
وفي زماننا هذا مرض النفوس مُتفَشٍّ ، المعارضة هي الهدف ، إثبات وجود عملية إزعاج ، عملية تحجيم ، وعنعنات بين الناس قائمة و أكثر مناقشاتهم عملية عرض عضلات ، عملية تجريح ، عملية تحجيم ، عملية كيد عملية تفوق ، يعني أهداف خسيسة ، جداً ، الأهداف خسيسة لخساسة النفوس .
واحد قال للثاني : والله أنا أود أن أحضر المولد في هذا الجامع قال له صاحبه : لِمَ ؟ فقال له: والله القائم على المولد له خصومة مع فلان فأنا كيداً لفلان سألبي دعوته ، الله يعطيه العافية على هذه التلبية ، تلبية هذه الدعوة فقط ليكيد فلاناً ، دعوة عيد مولد ، من أجل المكايدة إنها مستويات متدنية جداً بالمجتمع .
إنسان ينتقد ، يجرح ، يحجم ، يحط عثرات ، يُحرج ، يحمّر الوجوه من أجل أن يظهر ، أو من أجل أن ينكمش خصمه ، أو ليحرج ، أو ليكسب مكاسب معينة دنيئة ، وهذا ليس من شأن الصحابة .
أما القاعدة الأساسية إذا عز أخوك فهن أنت ، وما المانع ؟ أنت في مجلس و أخوك أنطلق بالحديث ، والله أيده ، كلام منطقي ، ومتماسك مع دليل وأصغواله وأنا ما حكيت شيئاً، أ معقول ألا أحكي أنا ، انتصر لحاله ، يعترض قائلاً هذا لا يصح ، هذا غلط سيدي ، هذه قصة ما صارت وهي عملية شيطانية تم يسكت ، فما أجمل هذه القاعدة ، إذا عز أخوك أجل فهن أنت ، فهن أنت ، فما المانع .
أسمعوا هذه القاعدة مني : من علامات الإخلاص القاطعة أن المخلص لله دائماً يغلّب مصلحة المسلمين على مصلحته الشخصية ، ففي اللحظة التي تغلّب فيها مصلحتك الشخصية على مصلحة المسلمين العامة فهذا دليل عدم إخلاصك ، وهو دليل قطعي .
المناقشة بين سيدنا سالم ، وسيدنا خالد ، مناقشة راقية جداً وهادفة ، لا سيدنا سالم راغب في تجريح سيدنا خالد ، ولا سيدنا خالد يرى أن سالماً يشاغب عليه فليس المنتقد مشاغباً ، ولا المنتقد متسلطاً ، وليكن تواضعٌ في المناقشة . يروي التاريخ أن رجلاً جاء لسيدنا الصديق ، إذ عرضت له قضية فأراد سيدنا الصديق أن يأخذ رأي سيدنا عمر ، ألم يقل الله عز وجل :
( سورة آل عمران : 159 ) .
فقال سيدنا الصديق للرجل : أعرضها على عمرو يبدو أن عمر رفض الأمر من عنده وحسمه، فهذا الشخص صاحب الحاجة وقع في حرج شديد ، وقع في غيظ شديد ، فتوجه إلى سيدنا الصديق ، وأراد أن يوقع بينهما فقال له : الخليفة أنت أم هو ؟ فأجابه إجابة رائعة قال له : هو إذا شاء ولا فرق بيننا ، هو إذا شاء .
الآن إذا قلت لواحد قاعد وراء طاولة إن فلاناً أقوى منك بالدائرة ، والمدير فلان لا أنت ، فيقول : والله لأفرمنّه فرماً .
قال له : الخليفة هو إذا شاء ، مثل بعضها ، لا فرق بيني وبينه واحد نحنا ، نحن نريد هذا المجتمع ، لا يتمكن إنسان مغرض أن يدخل بين مؤمنين أبداً .
مرّةً وفي غزوة تفقد رسول الله صلى الله عليه وسلم أحد الصحابة فقال : واحد يبدو أن إيمانه ضعيف جداً : يا رسول الله شغلته البساتين والظلال ، والفواكه ، موسم فواكه ، والزمن قائظ والحر شديد ، وهي غزوة تبوك بالصيف ، وبالحر ، شغله المدينة وبساتينها ، والظلال والجداول ، فتصدى له صحابي آخر و قال له : لا والله ، ثم قال : والله يا رسول الله لقد تخلف عنك أناسٌ ما نحن بأشد حباً لك منهم ، ولو علموا أنك تلقى عدواً ما تخلفوا عنك، تبسم النبي عليه الصلاة والسلام ، وفرح بهذا الدفاع .
يجب أن تدافع عن أخيك ، ببساطة أيغتاب أخ لك وتظل ساكتاً ؟ أمعقول أن يأكل المؤمن مالاً ليس له ، فالمواقف الانهزامية عديدة و أنت تعلم علم اليقين أنه مستقيم ، ونظيف ، و بريء ، وطاهر ، وورع ، وعفيف ، فادفع عن أخيك المؤمن ، من دون أن يخش بالله لومة لائم .
الحقيقة أن هذه القصة مهمة جداً ، فمركز القصة ، أو محورها ، أو بيت القصيد فيها ، أو مركز الثقل فيها ، أن النبي عليه الصلاة والسلام حينما بلغه صنيع خالد بن الوليد ، سأل وقال: هل أنكر عليه أحد ؟ فقالوا له نعم راجعه سالم وعارضه ، فارتاح النبي عليه الصلاة والسلام فلماذا أرتاح النبي هنا السؤال ، السؤال سأله هل عارضه أحد ؟ هل راجعه أحد ؟ فلما قالوا نعم عارضه ، وراجعه سالم مولى أبي حذيفة ارتاح النبي وبدت على وجهه المشاعر المرضية ، فلماذا فرح النبي ؟ هل عندكم أجابه ؟ نعم لا تجتمع أمتي على ضلالة ، فلو سكت سالم لاجتمع القوم على ضلالة ، وهذا يتنافى مع مجتمع المسلمين لكن اليهود وصفهم الله عز وجل بأنهم :
( سورة المائدة : 79 ) .
جيد ، طبعاً الإجابة بالعكس ، إذ كان أصحاب النبي يتناهون عن أي منكر فعلوه .
لأنه وجد من بين أصحابه من لا يخافه ، يعني النبي الكريم ربىّ أصحابه تربية المراجعة ، تربية الجرأة وتربية النقد البناء ، وتربية عدم قبول الخطأ ، وتربية إنكار المنكر فلما رأى النبي أن أحد أصحابه راجع سيدنا خالداً ارتاح عليه الصلاة والسلام ، يعني التربية صحيحة ، أما لو ورباهم على الخضوع ، رباهم على النفاق ، لِما وجد من يناقش القائد .
أما سيدنا عمر ، والقصة معروفة عندكم ، فقد كان بين أصحابه واحد حب يتقرب منه بمدحه.
قال له : والله يا أمير المؤمنين ، ما رأينا أفضل منك بعد رسول الله ما شاء الله ما هذا العلم وهذه الحكمة !! .
فسيدنا عمر نظر إليهم مغتاظاً ، وتفرس في وجوههم واحداً واحداً إلى أن قال أحدهم لا والله ، لقد رأينا من هو خير منك قال له من هو ؟ قال له أبو بكر ، فقال سيدنا عمر كذبتم جميعاً وصدق .
سيدنا عمر عد سكوتهم كذباً ، فقط مجرد سكوتهم كذباً ، قال والله كنت أضل من بعيري وكان أبو بكر أطيب من ريح المسك .
فأنت ممكن أن تربي إخوانك على الخنوع ، والسكوت ، وعدم الاعتراض ، والنفاق ، والمديح الكاذب ، وممكن أن تربّي إخوانك على الجرأة والنقد البناء ، والمعارضة ، بل يجب ألا تقبلوا شيئاً ليس مؤيداً بالدليل . قال له : والله لو رأينا فيك اعوجاجاً لقومناك بسيوفنا قال : الحمد لله يا رب الذي جعل في أصحاب رسول الله من يقول هذا القول لسيدنا عمر ، يعني شيء رائع جداً أن سيدنا رسول الله يرتاح لأنه قال : هل راجعه أحد ؟ هل عارضه أحد ؟ قال
نعم سالم مولى أبي حذيفة راجعه وعارضه ، والله هذا شي جميل ، وبهذا فالإسلام يعطي للناس مقياساً دقيقاً ، يقيسون فيه الأمور ويقيسونك معه ، وفق الكتاب والسنة .
( سورة الكهف : 77 ) .
وعندنا دليل في كتاب الله تعالى : واقعية سيدنا الخضر مع سيدنا لما قال له سيدنا موسى :
فقد قبل الخضر منه واستمهله ، والله عز وجل في هذه القصة يمدح سيدنا موسى ، فلما عرف أنه ما فعله إلا عن أمر الله وبين الحكمة ، سكت .
معناها أنت يجب أن تبنى بناء صحيحاً ، بناء على أسس سليمة بناء على موازين ، على مناهج ، على مقاييس ، وليس السماع وتصديق كل شيء لا ، وهذا يؤكده قول النبي عليه الصلاة والسلام . إنما الطاعة في معروف .
منذ زمان وهذه القصة في ذهني ، قال له هل راجعه أحد ؟ هل عارضه أحد قالوا أجل راجعه سالم وعارضه ، فارتاح النبي عليه الصلاة والسلام . هكذا كان أصحاب رسول الله ، يتناصحون والقاعدة أن الذي يمدحك لا يرقى بك ، لكن الذي ينتقدك ويعارضك يرقى بك ، ولا شيء يجعل المنحرف يزداد انحرافاً كسكوت من حوله ونحن المسلمين ما عندنا اتباع أعمى . قال تعالى :
( سورة يوسف : 108 ) .
اتباع أعمى ليس عندنا ، بل الحق حق ، والباطل باطل والموازين واضحة ، والموازين ، في الكتاب والسنة .
( سورة النساء : 59 ) .
أي إلى الكتاب والسنة . وهناك نقطة أخرى عند هذا الصحابي الجليل .
انتقل النبي عليه الصلاة والسلام إلى الرفيق الأعلى .. وواجهت خلافة الصديق مؤامرات المرتدين .. وجاء يوم اليمامة ، وكانت حرباً رهيبةً لم يُبتلَ الإسلام بمثلها .. وخرج المسلمون للقتال ، وخرج سالم وأخوه في الله أبو حذيفة .. وفي بدء المعركة لم يصمد المسلمون للهجوم ، وأحس كل مؤمن أن المعركة معركته ، وأن المسؤولية مسؤوليته .
وجمعهم خالد من جديد ، وأعاد تنسيق الجيش بعبقرية مذهلة .. وتعانق الأخوان أبو حذيفة وسالم وتعاهدا على الشهادة في سبيل الدين الحق الذي وهبهما سعادة الدنيا والآخرة ، وقذفا نفسيهما في الخضم الرهيب ... كان أبو حذيفة يقول وينادي :
يا أهل القرآن زينوا القرآن بأعمالكم . هذه النقطة تحتاج غلى إيضاح ، والقرآن كلام الله عز وجل ، إن وجدته في مجتمع يتلى ولا يطبق هل زيناه بأعمالنا ؟ لا والله ، لكن إذا رأيت في السوق ، في البيت ، في المتجر ، في العيادة ، في مكتب المحامي في النزهات ، أن القرآن مطبق معناها فهو مزين .
مثلاً إذا رأيت في المحافظة مخططات للحدائق رائعة جداً مساحات خضراء ، أشجار الصنوبر ، هنا ممرات ، هنا بحيرات ، هناك نوافير ، و شلالات و ساحة عامة ، هنا مدرج للمحاضرات ، وهناك مجمع استهلاكي ، إذا أنت وقفت في بناء المحافظة ورأيت أشياء جميلة وذهبت إلى المدينة ، ولم تجد من ذلك شيئاً ، بل رأيت مجمع قمامة ، وأمكنة خربة ، فالفرق كبير جداً لكن لو أن كل هذه المخططات التي رأيتها في المحافظة وجدتها في الواقع فعلاً مساحات خضراء ، وحدائق جميلة وشلالات ، ونوافير ، طرق نظيفة ، وأرصفة ، إضاءة جيدة في الشوارع ، كل شيء رأيته على المخطط رأيته في الواقع ، فهذا يعني أن هذه الخارطة وهذا التصميم مزين بالواقع الجيد .
نحن إما أن نزين القرآن بأفعالنا ، وإما أن نجعله باهتاً بمخالفاتنا .
فهذا الصحابي الجليل قال : يا أهل القرآن زينوا القرآن بأعمالكم .
وسيفه يضرب كالعاصفة في جيش مسيلمة الكذاب ، وكان سالم يصيح هذا أبو حذيفة .
أما سيدنا سالم فقد قال : بئس حامل القرآن أنا ، لو هوجم المسلمون من قبلي .
انظر الجمع بين تلاوة القرآن ، وبين شجاعة الجنان .
بئس حامل القرآن أنا ، لو هوجم المسلمون من قبلي .
فقيل له : حاشاك يا سالم بل نعم حامل القرآن أنت .
( سورة آل عمران : 146 ) .
وكان سيف هذا الصحابي الجليل جوالاً ، صوالاً ، في أعناق المرتدين ، وهوى سيف من سيوف الردة على يمناه فبترها ، وكان يحمل بها راية المهاجرين ، بعد أن سقط حاملها زيد بن الخطاب ، ولما رأى يمناه تبتر التقط الراية بيسراه ، وظل يلوح بها إلى أعلى وهو يصيح تالياً الآية الكريمة :
آية مدلولاتها جميلة جداً .
أحياناً ترى أخاً على الرخاء ماشي حاله في شغله ، وأعماله ،و صحته وبيته ، وفجأة فقد وظيفته ، وتغير وضعه ، "ليش هيك صار معي" ؟ معناها أنت مالك عبد الفتاح بل أنت عبد الفتح ، الأمور مادامت ميسرة فأنت راضٍ ، لكن الله عز وجل امتحنك ، البطولة أن تكون مقبلاً في الشدة ، لا في الرخاء .
سيدنا سالم تلا هذه الآية :
ثم أحاطت به غاشية من المرتدين فسقط البطل ، ولكن روحه ظلت تتردد في جسده الطاهر ، حتى انتهت المعركة بقتل مسيلمة الكذاب ، واندحار جيشه ، وانتصار جيش المسلمين .
وبينما المسلمون يتفقدون ضحاياهم وشهداءهم وجدوا سالماً في النزع الأخير يلفظ أنفاسه الأخيرة .
وفي التاريخ الإسلامي مشاهد يكاد العقل لا يصدقها ، ثلاثة جرحى اسألوا طبيباً جراحاً إذا أجرى عملية لإنسان وفقد جزءاً من دمه يعني يصبح الماء أغلى عليه من روحه ، يطلب ماء كثيراً ، كل إنسان أصابه نزف تنشأ عنده حالة عطش غير معقولة .
فهؤلاء الصحابة الثلاثة ، جاءهم شخص ليسقي الماء فسأل أول شخص هل لك بالماء حاجة ، قال له اسقِ أخي لعله أحوج مني ، ذهب إلى الثاني فقال له اسقِ أخي لعله أحوج مني ، فذهب إلى الثالث فرآه قد مات ، رجع إلى الثاني فرآه قد مات ، ثم رجع إلى الأول فرآه قد فارق الحياة ، وهذا غاية الإيثار .
فهل هناك إنسان يؤثر غيره على نفسه وهو في النزع الأخير ؟! هكذا ربى النبي أصحابه على المؤاثرة والتضحية .
بالمطار مثلاً تجد المائة والثمانين راكباً لطائرة معينة والطائرة لن تقلع إلا بهم جميعاً ، فترى الازدحام على مدخل الطائرة وكل راكب له محل محجوز سلفاً وعلى البطاقة رقم محله، والمائة والثمانون لهذه الطائرة ، ولن تقلع إلا بهم جميعاً ، ومع ذلك فالتدافع والسباب، أعوذ بالله عنوانهم .
أما الصحابة فعند الوفاة ، وأثناء النزع الأخير ، قال له اسقِ أخي مؤثراً إياه على نفسه ، فالتخلف في مجتمعنا حالياً كثير .
لولا الصحابة الكرام لما انتشر الإسلام إلى الأفاق لكن بأخلاقهم النادرة وبالقيم العالية لديهم رفرفت رايات الإسلام بعيداً في الآفاق .
والله يا أخوان سأقول لكم كلمة :
( سورة الحشر : 9 ) .
الناس لا يرغبون بجامعكم ، ولا فيكم ، إذا كان أحدكم أنيقاً أو إذا كان بيته فخماً ، لا ،بل يرغبون بأخلاقكم ، أخلاقكم وحدها هي التي تؤكد حقيقة هذا الدين العظيم ، لأن الدين ربّى أناساً أبطالاً ، ربى أناساً أعفه ربى أناساً منصفين ، ربى أناساً موحدين ، ربى أناساً متماسكين، ربى أناساً متبادلين ، ربى أناساً يؤثرون على أنفسهم .
سيدنا سالم وهو في النزع الأخير ماذا سألهم ؟ وقبل أن أجيب نعرج على حادثة طعن سيدنا عمر لما طعن قبل صلاة الفجر ، طبعاً أغمي عليه إذ فقد جزءاً كثيراً من دمه ، ثم إنه صحا من غيبوبته .
وفي أيامنا إذا واحد صارت له مشكلة ثم أفاق يقول : أين سيارتي ؟ يقال له تحت لا تخف موجودة ، ويقول : كان معي فلوس ، لا تخف فالمبلغ موجود …. لكن الصحابة لما صحا سيدنا عمر هل تعلمون ماذا قال ؟ قال هل صلى المسلمون الفجر ؟ يا الله ! على هذا أنت قلق يا أمير المؤمنين ؟! طعنت وأنت في النزع الأخير ، فما أهمه إلا شيء واحد هل صلى المسلمون الفجر ؟ سيدنا سالم وهو في النزع الأخير قال : ماذا فعل أبو حذيفة طمئنوني عنه .
وهناك صحابي جليل سعد بن الربيع تفقده النبي فما وجده ، فسأل أناس يتفقدونه في ساحة المعركة ، الذي كلفه النبي أن يتفقده رآه بين الموت والحياة قال له يا سعد هل أنت بين الأموات أمْ بين الأحياء ؟ قال له والله أنا مع الأموات يعني منتهٍ أمره ولكن أبلغ رسول الله وأقرئه السلام ، وقل له جزاك الله خير ما جزى نبياً عن أمته ، وقل لأصحابه لا عذر لكم إذا خلص أحد إلى نبيكم وفيكم عين تطرف ، إنسان على فراش الموت ، أو في النزع الأخير ، على وشك مغادرة الدنيا ، لا ينسى فضل النبي عليه ، أبلغوا رسول الله أي جزاه الله عنا خيراً ـ الذي عرفنا بربنا ، والذي عرفنا بآخرتنا ، الذي ارتقى بنا ، وأبلغوا أصحابه ألا عذر لكم إذا خُلص إلى نبيكم وفيكم عين تطرف .
فسيدنا سالم قال : ما فعل أبو حذيفة .
قالوا : استشهد .
قال : أضجعوني إلى جواره ـانظروا إلى صدق المؤاخاة ـ قالوا إنه إلى جوارك ، وبشكل طبيعي مضطجع إلى جوارك .
قال : ما فعل أبو حذيفة .
قالوا : أستشهد .
قال : فأضجعوني إلى جواره .
قالوا : أنه إلى جوارك يا سالم ، لقد أستشهد في المكان نفسه وابتسم ابتسامته
الأخيرة ، ولم يتكلم .
لقد عاش سالم وأبو حذيفة ، عاشا معاً ، وأسلما معاً ، واستشهدا معاً .
أما الشيء الغريب أن سيدنا عمر بن الخطاب ، عملاق الإسلام الخليفة الراشد ، ثاني الخلفاء الراشدين ، يقول وهو على فراش الموت : لو كان سالم حياً لوليته الأمر من بعدي ، العبد الرقيق ، لو كان سالم حياً لوليته الأمر من بعدي .
أنا كل ما أرجوه منكم لكي نجعل هذا الدرس ذا فائدة ، أن نحاول أن نطبق هذا الذي نسمعه، فيما بيننا ، نريد أن نعيش مجتمع الصحابة ، بقدر إمكانكم أقيموا المحبة بينكم ، والمؤاخاة ، والتضحية والإيثار ، والجرأة ، بقول الحق لا تجاملوا بعضكم أبداً ، لكن بأدب تناصحوا من دون فضيحة ، بينك وبينه ، قل له عملك غلط ، عملك مخالف للسنة ، لا تجامل ، لا تترك أحداً الإنسان غلطان وأنت فرحان بغلطه .
سيدنا سالم مع سيدنا أبي حذيفة ، كانا أخوين ، متآخيين متعاونين ، متناصحين ، عاشا معاً ، وأسلما معاً ، واستشهدا معاً .
فكل أخ ليكن له أخ ، أخ حميم ، عاونه في دنياه ، في أخراه إذا أحتاج إلى مال أقرضه ، أزوج ، إن تزوج فاخدمه ، إلى أقصى درجة ، حتى نستدرّ عطف الله عز وجل علينا جميعاً ، لأن يد الله مع الجماعة ، ويد الله على الجماعة ، فالتناصح التناصح .
الصبر ، صبر ، ونصح ، وكان جريئاً وكان مخلصاً وهو عبد رقيق ، يعني أجمل شيء قول سيدنا عمر وهو على فراش الموت : لو كان سالم حياً ، لوليته الأمر من بعدي ، لجعلته خليفة المسلمين ، وهو عبد رقيق رفعه الإسلام إلى أعلى الدرجات .
طبعاً كما يقول سيدنا علي : لا تستحيِ من إعطاء القليل ، فإن الحرمان أقل منه .
أحد إخواننا قال لي إنه يعمل بتوزيع بعض المواد التجارية وبالشهر يتقاضى ثلاثة آلاف ليرة، وهذا المبلغ غير كاف ، لكن ماشي الحال ، ساكن عند أهله إنه يستحق العون ، لكنه أردف يقول : أحد إخواني جاءني مرة وقال لي : فقدت عملي ، هذا الأخ متزوج حديثاً ، وبعد ما مضى على عمله في الشركة فترة فليسبب أو لآخر انهوا له عمله وسرحوه ، فجاء هذا الأخ الشاب يشكو أخاه الأقدم منه ، قال له : فقدت عملي ، فقال له تعال اقعد جنبي بالسيارة ، تعاوني أثناء التوزيع ، وخذ نصف الدخل ، يعني لك واحد منهما ألف وخمسمائة ، إنه الإيمان يؤاخي ويواسي . ثم أقسم بالله العظيم ، أن أول شهر كان دخلهما ثلاثين ألفاً فبالتعاون ، الصادق أكرمهم الله بثلاثين ألفاً ، فلا تستحيِ من إعطاء القليل ، فإن الحرمان أقل منه .
فهذه الدروس اجعلوها واقعاً ترقوا بها ، وإذا جعلتموها معلومات سمعتموها ، وقلتم الدرس حلو والله وكان ممتعاً الحمد لله ، والله الدرس حلو يا إخوان ، فهذا كلام فارغ و صار الدرس عندئذٍ تسلية ، أما إذا عشنا هذه المعاني فلك صديق أو أخ فعاونه والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه .
إننا نريد مجتمع المسلمين ، نريد أن نعيش مجتمع الصحابة ، نحس أننا في مجتمع له قيم خاصة ، قيم الدين وطبقة واحدة فلا أحد أحسن من أحد كلكم لآدم وآدم من تراب ، لا المال له قيمة عندنا ، ولا الصحة ، ولا الجمال ولا الوسامة ، ولا النسب ، ولا الحسب ، أبداً والإنسان قيمته باستقامته وعمله .
سيدنا سالم في الطبقة الدنيا من المجتمع ، يعني أقل طبقة هي طبقة العبيد ، لو كان سالم حياً لوليته الأمر من بعدي ، هذا هو الإسلام .
فنحن نتعاون يا إخوان ، لما أنت تطبق السنة ، تطبق ما فعله الصحابة وتشعر بسعادة لا توصف ، وأكبر دعوة إلى الله ليست تلك التي تتفوه بها ، لكن أكبر دعوة إلى الله تلك التي يراها الناس منك بأعينهم فالناس يتعلمون بأعينهم لا بآذانهم .
يعني ممكن الآن وبهذا الزمان فإنه إذا وجد أحدٌ بيت أجرة معتدلة جداً ألف ليرة بالشهر ، ومعاشه خمسة آلاف ، وهو لا زال أعزب و له أخ في الله خاطب لكنه لم يجد بيتاً فأسعفه بهذا البيت فقد عمل خيراً هكذا ينصرف المؤمن الحق ولقد وقعت قصة مشابهة منذ فترة قصيرة .
نحن نريد مؤاثرة ، تضحية ، معاونة ، ببيت أفضل وأحسن وأكرم الله الذي تخلى عن بيته لصديقه ، وأن يحس الإنسان الذي يقبل على الجامع أن هذا الجامع بيت الله ، وكل من فيه أحباب الله ، ما لا حسد لا ضغينة ، ولا نقد ، ولا استعلاء ولا كبر ، لكن هناك أشخاص قناصون ينتظر منك خطيئة ، ومتى ما علقت فضحك وهذا مجتمع الذئاب ، مجتمع المنافقين، مجتمع المنحرفين ، إننا نريد مجتمع المسلمين ونريد الإسلام واضحاً فيما بيننا.
فنحن ما أردنا من هذه القصص التسلية ، هي والله قصص ممتعة ، لكن والله ما أردت منها إلا أن نجعلها نبراساً لنا ، مفاهيم نطبقها في حياتنا فهذان الصحابيان ، لبعد ألف وخمسمائة سنة ، نقرأ سيرتهما فيتعطر بهما المجلس أولاً مجتمع القيمة الواحدة لا القيم العديدة ، وليست قيماً مادية بل كلها قيم روحية ، قيم أخلاقية والنبي الكريم يقول : الحمد لله الذي جعل في أصحابي مثلك ، هذا كلام سيدنا رسول الله ، وسيدنا عمر يقول : والله لو كان سالم حي لوليته الأمر من بعدي .
وسيدنا أبو حذيفة يقول : زينوا القرآن بأفعالكم .
لنجعل القرآن يتزين بأعمالنا ، هذا الذي والله أتمناه ، وكلما حرصنا على تطبيق هذه المواقف، وهذه السنن كلما ارتقينا عند الله .
والحمد لله رب العالمين(/)
االدرس 5/ 50 : سيرة الصحابي : سعد بن أبي وقاص ، لفضيلة الأستاذ الدكتور محمد راتب النابلسي
تاريخ : 09 / 11 / 1992 .
تفريغ : عماد علان
التدقيق اللغوي : الأستاذ غازي القدسي .
التنقيح النهائي : المهندس غسان السراقبي .
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيّدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، اللهم لا علم لنا إلا ما علَّمْتنا إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علِّمنا ما ينْفعنا وانْفعنا بِما علَّمتنا وزِدْنا عِلما ، وأَرِنا الحق حقاً وارْزقنا اتِّباعه وأرِنا الباطل باطِلاً وارزُقنا اجْتنابه ، واجْعلنا ممن يسْتمعون القول فَيَتَّبِعون أحْسنه ، وأدْخِلنا برحْمتك في عبادك الصالحين .
أيها الإخوة الأكارم ، صحابِيُّنا اليوم سعْد بن أبي وقاص ، وأوَّلُ نقطة في شَخْصِيَّة هذا الصحابي الجليل أنه شَخْصِيَّةٌ فذَّة ، بِمَعْنى أنه يُمْكن أنْ يُعْتمد عليه في أشَدِّ الأزْمات ، ويُمْكن أنْ يُدَّخَر لِحَلِّ مُشْكِلَاتٍ كبيرة ، فَسَيِّدُنا عمر رضي الله عنه كان أمير المؤمنين ، وقد تلقى أنْباءً مُؤْسِفَةً جداً من بلاد الفُتوحات في فارس ، فقد قُتِل في يومٍ واحدٍ أربعة آلاف شهيد من أصْحاب رسول الله ، ولم يعُدْ يمْلك خِياراً ، فأراد هذا الخليفة العظيم أن يقود جَيْشَ إنْقاذٍ بِنَفْسِه ، وجَهَّزَ هذا الجَيْش ممن بَقِيَ من أصْحاب رسول الله وقادهم وخرج من المدينة ، لكنّ صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلَّم رأوا أنَّ حياة هذا الخليفة العظيم ليْسَتْ مِلْكَهُ ، إنما هي مِلْكُ المُسْلِمين.
أتوقَّفُ قليلاً عند هذه الكلِمَة ؛ أنت كَمُؤْمِنٍ لك رِسالة تعْرف لماذا جِئتَ إلى الدنيا ، وتعرف عِظَم المُهِمّة التي ألْقاها الله على عاتِقِك ، تؤمن وتوقِنُ أنَّ حياتك لَيْسَتْ مِلْكك ، وهي قبل كُلّ شيءٍ مِلْكُ أُسرتك ، ومِلْكُ المؤمنين ، ومن هنا كانت العِنايةُ بِصِحَّة الإنسان واجِبًا دينيًا ، ومن هنا قال عليه الصلاة والسلام :" من ركب ناقةً حرونًا فلا يقربنّ مجْلِسَنا ..." والناقة الحرون هي الناقة الخَطِيرة ، يُقاسُ على هذا أنَّك إذا ركِبْتَ مرْكَبَةً ليْسَتْ جاهِزِيَّتُها كاملة فقد عَصَيْتَ رسول الله صلى الله عليه وسلّم ، إنْ ركِبْتَ مرْكَبَةً مكابِحُها ليْسَتْ مُحْكَمة ، وعجلاتها ليْسَتْ مضْبوطة فقد عصيت ، قبل شهْر أَحَدُ الإخوة الأكارم - والأعمارُ بِيَد الله - ممّن له باعٌ طويلٌ في خِدْمة المساجد ، عُضْوٌ في أكثر من عِدَّة لِجانٍ لِعِمارة المساجد ، وهو طليقُ اللِّسان ، متكلِّم ، ركِبَ سيارَتَهُ واتَّجَهَ إلى حِمْص ، وقبل حمصَ بِقَليل اخْتلّ ميزان السيارة فَقَضَتْ عليه ، فالأعْمارُ بِيَد الله ، ولكن أنْ يذهب الإنْسانُ رخيصاً هكذا ، نتيجة تفريط ، فلا ، لذلك من معْصِيَة رسول الله أنْ ترْكب ناقَةً حرونًا ، أو أنْ ترْكب مَرْكَبَةً جاهِزِيَّتُها ليستْ على ما يُرام .
النبي عليه الصلاة والسلام نهى أنْ ينام الإنسان على سَطْحٍ ليس له سور لئلا يقع ، هذه التَّوْجيهات يُحْمَلُ عليها أنَّ أيَّةَ مُخاطَرَةٍ يُخاطِرُ بها الإنسان بِحَياته فإنّه يموت عاصِياً ، وهل تُصَدِّقون أنَّ أحد أصْحاب النبي وهو في الجِهاد عصى رسول الله وركِبَ ناقَةً حروناً ، فَدَقَّتْ عُنُقَه، فأبى النبي أنْ يُصَلي عليه ؛ لمعصيته رسول الله صلى الله عليه وسلّم ، وركوبِه ناقَةً حروناً ، فَحَياةُ المؤمن ليْسَتْ مِلْكه ، إنما هي مِلْكُ المسْلمينَ جميعاً ، ولا سِيَما إذا كان له عملٌ صالحٌ ، وباعٌ طويلٌ في خِدْمة الخَلْق والدعوة إلى الله عز وجل ؛ فعِنايَتُكَ بِصِحَّتِكَ ليْسَتْ أنانِيَّةً
أو أَثَرَة ، ولكنَّها مؤاثرة ، وقد يسأل سائلٌ : ألَيْسَت الأعْمارُ بِيَد الله ؟ أنا أُعطي إشارة ؛ نعم الأعمار بِيَد الله ، ولك عُمُرٌ لا يزيد ولا ينْقص ، ولكن إما أنْ تُمْضي العُمُر الذي كتبه الله لك هكذا صحيحًا ، وإما أنْ تمْضيه هكذا طريح الفِراش ، فالعُمُر هوهو ، لا يزيد ولا ينْقص ، إما أنْ يمْضي هذا العُمُر في الأسْقام والأوْجاع والأمْراض الناتجة عن مُخالفة سُنَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم أو في عافية ، لذلك دقِّقوا في قوله تعالى على لسان سيدنا إبراهيم :
[سورة الشعراء الآية 78-80]
فما قال : والذي إذا أمْرضني فهُو يشْفين ، قال :
[سورة الشعراء الآية 78-80]
فالمرض في هذه الآية عُزِيَ إلى الإنسان ، أما الخلق فعُزِيَ إلى الله ، والهِداية عُزِيَتْ إلى الله ، ولكنّ المرض عُزِيَ إلى الإنسان ، فأصْلُ المرض مُخالفَةٌ لِمَنْهج الله عز وجل ، وبالمُناسَبَة قد تقْتني أحْدث وأرْقى وأغْلى سيارة ، ومع ذلك مصانع السيارات الآن ليس بِإِمْكانها أن تصنع سيارة لترْكَبَها أرْبعين عاماً من دون أنْ تُغَيِّر لها بعض القِطَع ، بل لا بد أنْ تُغَيِّر لها المكابِح والزيت وقطعًا كثيرة ، فالتغيير لا بدَّ منه ، لكن الإنسان لما خلقه الله عز وجل صَمَّمَهُ بِطَريقة يمكن معها للأجهزة والأعْضاء أنْ تقوم بِعَمَلها حتى آخر لحْظة في حياتك في أعلى درجة ، كالمفاصِل والكُلْيَتَين ، والقلب والشرايين ، والأوْردة والأعْصاب ، والعضلات ، ولقد سمِعْتُ مرةً أنَّ الإنْسان إذا لَبِسَ حذاءً قاسِياً وسار على أرضٍ صلبة وهَرْوَل يسْتَهْلكُ مفاصِلَهُ عن طريق تضاد الصَّدْمة ، فلا بد من حِذاءٍ مرِنٍ وأرضٍ مرِنة ، أما إذا كان الحِذاءُ صَلْباً والأرض صلبةً فإنَّ المفاصل تُسْتَهْلك قبل أوانِها .
المُلَخَّص أنَّ النبي عليه الصلاة والسلام لما قال :" أدِنِ القدح عن فيك " ولما نهى أيضًا أن تشْرب مِن فم الإناء وأمر أنْ تشرب الماء ثلاثاً ، وأنْ تشْربه قاعداً ، ونهى كذلك أنْ تأكل أكثر من حَدِّك الطبيعي ، ونهى عليه الصلاة و السلام أنْ تأكل فاكِهَةً ليْستْ مغْسولةً ، فمن أكل التراب فقد أعان على قتْل نفْسه ، وأيضًا النبي أنْ تترك صحاف الطِّعام وقُدور الماء مكْشوفةً ، فهذا كُلُّه من أجل الحِفاظ على حياتك ، إذاً نسْتفيد من هذه النقطة أنَّ أصْحاب رسول الله حينما رأوا خليفتهم وهو في وقْتٍ عصيبٍ جداً ، وقد علِموا أنَّ أثْمن شيءٍ يمْلِكُهُ المُسْلمون حياةُ أميرهم ، فلِذلك اجْتمع أصْحاب رسول الله ولَحِقوا بِعُمَر ، وثَنوهُ عن أنْ يقود جَيْشاً بِنَفْسه ، وأنَّ حياته الآن في هذا الوقْت العصيب وقْتِ الرِّدة والفِتَن والحُروب والفتوحات هي أثمُن شيءٍ عند المؤمنين ، فنزل سيّدنا عمر عند رأْيِهِم ، وقال : من تَرَوْن أنْ نبْعث إلى العِراق ؟ فصَمَتَ أصْحابُهُ ، وراحوا يُفَكِّرون ، ثمَّ صاح عبد الرحمن بن عَوْفٍ - الذي كانَ موضوع حديثنا الأسبوع الماضي - لقد وَجَدْتُهُ ! وبالمُناسبة أصْعَبُ شيءٍ في القِيادة أنْ يخْتار القائِدُ أعْوانه ، لأنَّ القائِدَ أجَلُّ مُهِماتِهِ أنْ يخْتار من حَوْله ؛ فإذا كانوا صالِحين صلُحَ بِهِم المُجْتمع ، وإذا كانوا فاسِدين فَسَد بهم المُجْتمع ، والنبيّ عليه الصلاة والسلام كان يدْعو اللهَ أنْ يهيِّئ له بِطانةَ خيرٍ ، تنْصَحُهُ وتأمُرَهُ وتُخْلِصَ له ، سيّدنا عمر أرْسل مرةً والِياً وقال : خُذْ عَهْدك ، وانْطَلِق إلى عَمَلِك ، واعْلم أنَّك مصْروفٌ رأسَ سَنَتِك ، وأنَّك تصير إلى أرْبع خِلال ، فاخْتر لِنَفْسك ؛ إنْ وَجَدْناك أميناً ضعيفاً اسْتَبْدَلْناك لِضَعْفِك ، وسَلَّمَتْك من مَعَرَّتِنا أمانتُك ، وإنْ وَجَدْناك خائِناً قوِياً اسْتَهنا بِقُوَّتِك ، وأوْجَعْنا ظَهْرك ، وأحْسَنا أدَبَك ، وإنْ جَمَعْتَ الجُرْمَيْن - الضَّعْفُ والخِيانة - جَمَعْنا عليك المَضَرَّتَين ، وإن وجدناك أميناً قَوِياً زِدْناك في عمَلِك ، ورَفَعْنا لك ذِكْرك ، وأَوْطأْنا لك عَقِبَك ، قال تعالى :
[ القصص : الآية 26 ]
إنَّ اخْتِيارَ أعْوانك أجلُّ أعْمالك ، فَسَيّدنا عمر كان عليه أنْ يخْتار قائِداً لِجَيْشٍ يدْعمُ جَيْش العِراق ؛ قال عبد الرحمن : لقد وَجَدْتُهُ ، قال عمرُ من هو ؟! قال : الأسد في براثِنِه سعْدُ بن مالك الزهري ؛ أيْ سعْدُ بن أبي وقاص ، هذا الصحابيّ الجليل يتيهُ على أصْحاب رسول الله صلى الله عليه وسلّم ؛ يتيهُ ليس بِمَعْناها اللغوي وإنما بِمَعْناها المَجازي فالنبي لما قال :" لا حسد إلا في اثْنتين ..." العُلَماء لما فسَّروا هذا الحَسَد قالوا : الغِبْطة ، فإذا كان لك أخٌ يُعْطي عطاء من لا يخْشى الفقْر فأنت تَغْبِطُهُ ، أو لك أخٌ يُلْقي على الناسِ عِلْماً يُؤَثِّرُ فيهم ، فأنت تغبطه كذلك ، وكان النبي عليه الصلاة والسلام كلما دخل عليه سعْدُ بن أبي وقاص يُداعِبُهُ ويقول : هذا خالي ، أروني خالاً مِثْل خالي ، ومُداعَبَةُ النبي شيءٌ ثمينٌ ، فَمُداعَبَةُ النبي لأصْحابه تعْني أنَّهُ راضٍ عنهم ، ورِضاءُ النبي عليه الصلاة والسلام هو عَيْنُ رِضاء الله عز وجل ، لأنَّ النبي شفاف ، وليس له ذات إطْلاقاً ، بل يَشِفٌّ عن الحقيقة الإلهِيَّة ، فإذا رضي الله عنك رَضِيَ عنك رسوله وإذا رضِيَ عنك رسوله رضي عنك الله عز وجل ، قِياساً على ذلك إذا كان الفَسَقَة والفَجَرَة يوَدُّونك كثيراً فلا تفْرح بِهذا ؛ أعوذ بالله ! هذه وصمة عارٍ ، فالمُنْحَرِفون تارِكو الصلاة ، آكِلو المال الحرام ، الذين يَحْتالون على الناس ، فإذا كانت علاقتُكَ بِهؤلاء حميمةً فانْدُبْ حظَّك ، إذْ إنَّها وصْمة عارٍ ، أما إذا كان المؤمنون الصادِقون يُحِبُّونك ، ويُقَدِّرونك ، ويَرْعَوْنك فهذه بِشارةُ خير، فَقَوْل النبي لهذا الصحابي : هذا خالي ، هذه الكلمة أغْلى من الدنيا وما فيها ، لأنَّ النبي عليه الصلاة والسلام لا ينْطِقُ عن الهوى ، إنْ هو إلا وَحْيٌ يوحى ، أَنْ يَقُول لك النبي : أروني خالاً مثل خالي ، وأَن يبْتَسِمَ لك النبي ، ويَبَشَّ لك ، ويضْحك لك ، ويُوَقِّرَك ؛ فهذا شيءٌ عظيم ! فلِذلك لا تُصاحِبْ إلا مؤمناً ولا يأكُل طعامك إلا تقِيّ ، دائِماً ابْتَغِ العِزَّة عند أهْل الإيمان ، ولا تبْتَغِها عند أهْل الكُفْر والعِصْيان ، فتقْريبُهم لك لا قيمة له ، وكلما قرَّبوك منهم أبْعَدوك عن الله ، أما أهلُ الإيمان فكلما قَرَّبوك إلَيْهم قرَّبوك إلى الله ، لأنَّهُم أيْضاً شفّافون ؛ ولَيْسَتْ لهم نُفوسٌ تكون حِجاباً بينك وبين الله ، فكُلَّما قرَّبوك إليهم قَرَّبوك إلى الله ، أما أهل الفُجور والفُسوق والعِصْيان فكلما قرَّبوك منهم أبْعَدوك عن الله عز وجل ، قال الخليفةُ المنصور : يا أبا حنيفة لو تَغَشَّيْتنا ؛ أي لو زُرْتَنا ، فقال : ولِمَ أَتَغَشَّاكم ؟ وليْس لي عندكم شيءٌ أخافكم عليه ، وهل يتغشَّاكم إلا مَن خافكم على شيءٍ ؟! لكنّ أهل الإيمان عليك أنْ تصْحَبَهم ، سألني اليوم أخٌ : كيف يُطْلبُ العِلم ؟ قُلْتُ له: من الكُتُب العظيمة التي أعْتزّ بها كتابٌ في أُصول الفقه : اسمه المُوافَقات للإمام الشاطِبي ؛ هذا يُعَدُّ مَرْجعَ كلّ علماء الأصول ؛ كِتابٌ قَيِّمٌ ، لكنه يحْتاج إلى مُسْتوى ثقافي مُعَيَّن ، وقد ورد في مقدمته التاسعة أن العلم لا يُطلَب إلا على يد عالم متحقِّق وَرِع ؛ قال : هذا خالي أروني خالاً مثل خالي .
يبدو أن سعدًا أسلم وكان ترتيبه في الإسلام الرجل الثالث ؛ فقال رضي الله عنه : لقد أتى عليَّ يومٌ وأنا ثُلُثُ الإسلام ، لذلك فالسابقون السابقون لهم أجرٌ عظيم ، لأنه حين ينتصر الإسلام ، ويدخل الناس فيه أفواجًا ؛ وهو دخولٌ جيِّدٌ ، لكن بعدما انتصر ، أمّا حينما يكون في محنته ، ويعارضه المعارضون ، ويكيد له الكائدون، ويهاجمه المهاجمون ، ويتآمر عليه المأتمرون ، وأنت تقبل عليه وتحمله ، أعجبني في ذلك كلمة قالها أحد العلماء في عقد قران ، قال : هناك من يحمله الإسلامُ ؛ أي لمَّا صار لك زيٌّ ديني عظَّمك الناس ، وبجَّلوك ، ووضعوك في مقدِّمة الصُّفوف ، ورحَّبوا بك ، وقبَّلوا يدك ، ولمَّا دخلتَ عليهم ؛ طلع البدر علينا ؛ هؤلاء وأمثالهم رفعهم الإسلام وأعلاهم ، لكن هناك أبطال حملوا الإسلامَ ، فشتَّان بين أن يحملك الإسلام، وبين أن تحملَ الإسلام ، حينما تجاهد وتضحي بالغالي والرخيص ، والنفس والنفيس ، حينما تواجهك المحنُ وتصبر ، حينما تربي النفوس ، وتقدِّم كل ما عندك في سبيل الله ، فأنت بهذا ترْفع الإسْلام، وحينما ترى الإسلام أنْ يُعَظِّمك الناس ، ويُقَدِّمُون لك كلّ شيءٍ ، فالإسْلام رفعك ؛ ولكنَّ الرِّفعة الحقيقية أن تكون عند الله عز وجل ، مثلاًّ ؛ النبي عليه الصلاة والسلام لمَّا كان في الطَّائف ؛ من منّا يمشي ثمانين كيلومترًا على قدميه ؟ مِن هنا إلى النَّبَك ، والطريق وعْرٌ صعبٌ ، وما تمكنوا حديثًا أنْ يشقُّوه بالجبال إلا بالآلات الضخمة ، والمهندسون الكبار عجزوا عن شقِّ هذه الطرق ، إلاّ بعد أنْ قام أصحاب الخبرة في شقِّ الطرق ، وفكَّكُوا الآلات قطعة قطعة حتى استطاعوا أن يشقُّوا الجبال ، فكيف صعد النبي عليه الصلاة والسلام إلى الطَّائف ؟ هل صعد للتَّنَزُّه ؟! صعد لِيَلْقى المُعارضة والتكذيب والسُّخْرِيَة والضَّرْب ؛ هكذا كان النبي عليه الصلاة والسلام ، أما الآن إذا وضعوا إنْساناً بِمَكانٍ غير لائق ، وما احْتَرموه يغْضب قائِلاً : أنا مقامي ليس هنا !! ماذا قدَّمْتَ للمُسْلمين والإسلام حتى تغْضب ؟ فأنت تريدُ مَيِّزاتٍ فقط، ولا تتحمّل الأعباء والتكاليف .
هذا الصحابي الجليل أتى عليه يومٌ كان ثُلثَ الإسلام ، أسْلم على يد أبي بكرٍ ، أحْياناً في الدعوة إلى الله تَجِدُّ كُلّ الجدّ كي تهدي إنسانًا ما ! وتَجُرُّهُ جراً إلى الدرس ، ثمّ يأتي درساً وعشرة دروس لا يأتيها ، وإذا جاء تجده نائِماً ، وإنْ كان جالِساً تجده يُفَكِّر في غير موضوع الدرس ، وباله مشْغولٌ ! وأَحْياناً يُوَفِّقُك الله في دَعْوتك لِشَخْصٍ ، فإذا بك تجده أصْبح علَماً من أعْلام الدين؛ على ورَعٍ وعِلْمٍ وبذْلٍ وتَضْحِيَة ودَعْوة ، تجده مثل الأُمَّة ، والآية التي تَهُزّ مشاعِري هي قوله تعالى
[ النحل : الآية 120 ]
فأنت قد تكون فرْداً ، وقد تكونُ أُمَّةً ، فإذا بذَلْتَ من ذات نفْسك ، من عِلْمك وخِبْرتك ، ومن وقْتك ومالك وجُهْدك للآخرين ، وصَبَرْتَ عليهم إلى أنْ أخَذْتَ بِأيْديهم إلى الله عز وجل فاسْتقاموا على أمر الله ، والنبي عليه الصلاة والسلام كان جُلّ ضَحِكِه التَّبَسُّم ، فلا يضْحك ، ولكن مرَّةً واحدة رُئِيَتْ نواجِذُهُ ، حينما أطَلَّ على أصْحابه فرآهم علماء حُكماء ، كادوا من فِقْهِهِم أنْ يكونوا أنْبياء ، هذه المشاعر لا يعْرفها إلا أصْحاب الدعوات إلى الله عز وجل ، حينما ترى شَخْصاً بذَلْتَ جُهْداً كبيراً في دَعْوَتِهِ إلى الله وصَبَرْتَ على أسْئِلَتِه وزِياراته ومُشْكِلاته ، ونَقَلْتَهُ من مكانٍ إلى مكانٍ ، ومن مقامٍ إلى مقام ، ومن منزلة إلى منزلة ، إلى أنْ أصْبح ناضِجاً ، كلما ألْقَيْتَ عليه نظرةً يدخل إلى قلْبك سرور لا يعْلمه إلا الله ، هذا قُرَّةٌ عَيْنٍ لك ، لذلك أهْلُكَ الحقيقيُّون هم الذين اهْتَدَوا على يَدَيْك وآباؤك الحقيقيُّون هم الذين أسْدَوا إليك الهُدى ، مرةً قال أحدُهم : آباؤُك ثلاثٌة ؛ أبٌ أنْجَبَكَ ، وأبٌ زَوَّجَك ، وأبٌ هداك إلى الله ، فالذي أنْجَبَكَ كان له فضْلٌ كبير عليك ، لأنه سبب وُجودك ، ولكن هذا الوُجود ينْتهي عند المَوْت ، فإذا انْتهى الوُجود انْتهى فضْل الأب ، والذي زوَّجَك أبٌ آخر له فضْلٌ عليك ، ولكن حينما ينْتهي الزواج بالموت مثلاً ينْتهي فَضْلُهُ ، أما الذي هداك إلى الله فالخَيْر الذي جاءَكَ من قِبَلِه يسْتمرّ معك إلى أبد الآباد ، سَألني أحدهم فقال : أيُّهم أعظم ؟ فقُلْتُ حسب المُدَّة ؛ فعلى قَدْر المُدَّة التي تنْتفع بها منه ، فالأب الذي أنْجبك مع انْتِهاء الحياة ينْتهي فَضْلُه ، والأب الذي زوَّجَك مع نِهاية الزواج ينْتهي فَضْلُه ، والأب الذي هداك فهذا فَضْلُهُ يسْتمرّ إلى أبد الآبِدين ، لكن أكْملُ شيءٍ أنْ يقول المرءُ : تَعَلَّمْتُ على يد والِدي ، فإذا كان الأب الذي أنْجَبَك هو الذي هداك فهذا من أرْوَعِ ما يكون ، أو أنَّ الأب الذي زوَّجك هو الذي هداك كذلك من أرْوَعِ ما يكون ، فأنْ تَجْتَمِعَ أُبُوَّتان في أبٍ فشيءٌ رائِعٌ .
لا يوجد صحابي جليل فداهُ النبي عليه الصلاة والسلام بِأُمِّهِ وأبيه إلا سعْد بن أبي وقاص ، فعَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ مَا سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَمَعَ أَبَوَيْهِ لِأَحَدٍ إِلَّا لِسَعْدِ بْنِ مَالِكٍ فَإِنِّي سَمِعْتُهُ يَقُولُ يَوْمَ أُحُدٍ يَا سَعْدُ ارْمِ فِدَاكَ أَبِي وَأُمِّي *
[رواه البخاري]
أيها الإخوة ؛ واللهِ الذي لا إله إلا هو لو سألتُم كلَّ الناس العُقلاء وخاصَّتهم عن أعْلى شيءٍ يُمْكن أن تصِل إليه لَقالوا : هو أنْ يرْضى الله عنك ، لأنه إذا رضي عنك أرْضى عنك كُلّ شيء، وإذا أَحبَّك الله ألْقى حُبَّك عند كُلِّ الناس:
يُنادى له في الكَون أنَّا نحبُّه فَيَسْمع من في الكَون أمر مُحِبِّنا
فإذا هِبْتَ الله هابك كُلُّ شيء ، وإذا خِفْتَ الله خافك كُلّ شيءٍ ، وإذا أحَبَّك الله أحَبَّكَ كُلّ شيء ، وإذا أطَعْتَ الله أطاعَكَ كُلّ شيء ، وإذا أقْبَلْتَ على الله أقْبل عليك كُلّ شيء ، ليس هناك شيء أشقى من أن تعيش في سَخَط الله ، وأنْ يكون عملك ومِهْنَتُك وكَسْبك في سَخَط الله ، وقْتُ فراغه في سَخَط الله ، ولَهْوُهُ في سَخَط الله ، وجِدُّهُ في سَخَط الله ، وسَفَرُه في سَخَط الله ، حدَّثني أخٌ عن رجلٍ ذهب إلى الاتِّحاد السُّوفياتي بعد انهياره ، فقال له : تَصَوَّر في ِلَيْلةٍ واحدة أربع فتيات ؛ يقول هذا الكلام على مَلأٍ بعد أنْ عاد ، وعُمُرُه خمسٌ وسِتون سنة !!! فهذا والله ما رأَيْتُ أشْقى منه ، وواحِدٌ آخر يقول : ما المانع من أنْ يكون لإنسان خليلةٌ غير زوْجَتِهِ ؟! هذا مُسْلم عُمْره خمسٌ وخمْسون سنة ؛ يقولُها جاداً ، فهذا هو الشقيّ ، الذي يرى المَعْصِيَة حلالاً ، إذاً لمَّا قال له النبي صلى الله عليه وسلّم : اِرْمِ سَعْدُ فِداك أبي وأُمِّي ، فهذه أكبر شهادة ، ومرَّة ثانية أقول : إذا أَحَبَّكَ المؤمنون فهذا وِسامُ شَرَفٍ ، قد تتَوَدَّد من أجل أنْ تدخل على الأغنياء من أجل شيء تافِه ، لذلك من توَدَّد إلى الأغْنياء خرج من عِنْدهم وهو ساخِط على الله .
عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا أَرَدْتِ اللُّحُوقَ بِي فَلْيَكْفِكِ مِنْ الدُّنْيَا كَزَادِ الرَّاكِبِ وَإِيَّاكِ وَمُجَالَسَةَ الْأَغْنِيَاءِ وَلَا تَسْتَخْلِقِي ثَوْبًا حَتَّى تُرَقِّعِيهِ *
[رواه الترمذي]
فإذا ثقبت لك الجوارب فهل هذا مُسَوِّغ لِرَمْيِها !.
يا أيها الأخ الكريم ؛ فأنت لا بد أنْ تُصاحب المؤمنين ، وتدخل عليهم ، وهم الذين يعْرفون قيمتك وفضْلك وورَعَك وعِلمك وحُبَّك لله ، وشَوْقك إليهم ، وأنك مُلْتزم بإرضائه ، ونزيه وحُرّ ومُنْصِف وعَدْلٌ ، فهذا هو الذي تزوره ، وتَجْلِس معه عشْر ساعات ولا تشْبع منه ، لذلك لا تصْحَب من لا يُنْهضك حاله ، ولا يدلُّك على الله مقاله ، وقْتُك ثمين ، فالبُطولة باخْتِيار الأصْدِقاء؛ مؤمن مُخْلصٌ وودود ومُحِبّ ومُضَحٍّ ، وإنْ أدْبَرَت الدنيا عنك أقبَلَ عليك ، وإنْ أقْبَلَت ابتعَدَ عنك، أما أهل الدنيا إنْ أقْبَلَت عليك الدنيا أقبَلوا عليك ، وإن أدْبَرَت أدبَروا عنك ، وهؤلاء أشْأمُ الناس .
سيّدنا سعْد بن أبي وقاص كان يقول : والله إني لأوَّلُ رجُلٍ من العَرَب رمى بِسَهْمٍ في سبيل الله ، إذاً هو ثُلُثُ الإسلام ، ثالث واحد دخل الإسلام ، وهو الوحيد الذي فداهُ النبي بأبيه وأمِّه ، هو الوحيد الذي كان يُداعِبُهُ النبي إذا دخل عليه : أروني خالاً مثل خالي ، هو الوحيد الذي يُعَدُّ أوَّل من ضرب بِسَهْمٍ في سبيل الله .
هذا الصحابي الجليل معه سِلاحان قويَّان ؛ رُمْحُهُ ودُعاؤُهُ ، فقد كان مُسْتجاب الدعوة ، لماذا كان مُسْتجاب الدعوة ؟ لأنَّ النبي عليه الصلاة والسلام دعا له أنْ يكون مُسْتجاب الدعوة ، فقال : اللهم سدِّدْ رَمْيَتَهُ ، وأجِبْ دَعْوَتَهُ ؛ من أعْماقِهِ ، أُحِبّ أن أربط الماضي بالحاضِر ، والسيرة منهج في حَياتِنا ، أحْياناً تخْدُمُ إنْساناً خِدْمة فَيَقول لك : وفَّقَك الله وأحسَن إليك ، وجزاك الله عنا كُلّ خير، تَشعُر أنها خرجت من أعمق أعْماقه ، فهذه الدّعْوة أيها الإخوة ، والله خيرٌ لك من الدنيا وما فيها ، هذه قِصَّة أعْرفها جيِّداً لأنَّ ، بطلها أحدُ إخْواننا ؛ بيتُه بالأُجرة في أحد الأحياء الراقِيَة بِدِمَشْق ، ففي أثناء أزمة السكَن الخانِقَة قالتْ له صاحِبَةُ البَيْت يا فلان : أريد البَيْت ، ألم تَقُل لي : عندما تُريدين البَيْت سأخْرُج منه ! فقال لها : أنا حاضِرٌ ، فقالتْ له : غداً تعال ، في اليوم الثاني جاء فإذا به يجد مُحاميًا ،وقد جهّز الأوراق للتوقيع فوقّعها المستأجِر ، فإذا بِالمُحامي يقول له : أنت مجْنون ، كيف تُوَقِّعَ هذه الأوْراق ! لقد أصْبَحْتَ في الطريق ، فجاءني وقال لي : هكذا فَعَلْتُ، فقُلْتُ له : ليس لك إلا الله ، ودَلَلْتُهُ على قِيام الليل ، لأنَّ النبي عليه الصلاة والسلام يقول : يَنْزِلُ رَبُّنَا تَبَارَكَ وَتَعَالَى كُلَّ لَيْلَةٍ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا حِينَ يَبْقَى ثُلُثُ اللَّيْلِ الْآخِرُ يَقُولُ مَنْ يَدْعُونِي فَأَسْتَجِيبَ لَهُ مَنْ يَسْأَلُنِي فَأُعْطِيَهُ مَنْ يَسْتَغْفِرُنِي فَأَغْفِرَ لَهُ
[ رواه البخاري ]
وفي رواية الدارمي : حَتَّى الْفَجْرِ .
القِصَّة طويلة ولكن مُلَخَّصُها : خلال ستَّة أشْهر وجدَ بيْتاً في بِناء عَمَلِه ، وله دُكان شهيرة، والبِناء عالٍ ومفْتوحٌ مِن ِأَرْبع جِهاتٍ ؛ هذا تَوْفيقٌ من الله عجيبٌ !! قال لي : أنا وقَفْتُ فإذا بي أجد نفْسي في بَيْتٍ أملِكه ! سِرُّ هذه القِصَّة أنَّ صاحِبَة هذه البيْت لها بِنْتٌ عانِس ، وقد فاتَها قِطارُ الزواج ، ثمّ جاءَها شابٌ يَخْطُبُها ، وقد أعْجَبَتْهُ ، ولكِنَّ المُشْكلة ليس عنده بيتٌ ، فقالت هذه البِنْتُ لِأُمِّها : سلي فُلاناً المستأجِر ؛ هل يُمْكِنُهُ أنْ يُعْطِيَنا البَيْت ؟ وحدث الذي عَلِمْتُموه ، فهذه الفتاة العانِس ذَهَبَتْ لأداء العُمْرة ، ومن أوَّل الطريق وفي مكَّة وفي الطَّواف وفي السَّعْي وفي المدينة وفي العَوْدة تقول : يا رب وَفِّقْ فُلاناً لِبَيْتٍ أحْسن من بيْته ، لأنَّهُ جَبَرَ خاطِري ، فجَبَر اللهَ خاطره حقًّا ، فإذا دعا لك أخوك دَعْوَةً صادِقَة ، واللهِ أيها الإخوة هي خيرٌ لك من الدنيا وما فيها ، فالنبي عليه الصلاة والسلام قال : اللهم سدِّد رَمْيَتَهُ ، وأَجِبْ دَعْوَته ، فإذا قضيْتَ لأخيك حاجةً من حاجاتِ الدنيا ، وقال لك : جزاك الله خيراً ، فهي خيرٌ لك من الدنيا وما فيها ، كان هناك أخٌ من إخْواننا يُعاني أزمة صعبة مع أهْله ، فأحدُ إخْواننا أمَّن له بيْتاً ، فلما اِلْتَقَيْتُ معه قُلْتُ له : واللهِ من أعْماقي أشْكُرك ، لأنَّك أعَنْتَ أخاً ، ونحن يا أيها الإخوة ، مَجالِسُنا ليْسَتْ مجالسُ الكلام ؛ مجالِسُنا مجالِسُ المُعاوَنَة ، نحبّ أنْ نعيش عَيْشَة النبي مع أصْحابه ، وهذه هي سُنَّتُهُ ؛ حياةُ المَوَدَّة والمُعاوَنَة ، حياةُ الأُخُوَّة الصادِقَة والمُؤاثرة ، هل من مرَّةٍ وجدتَ أخاً بِلا شُغْلٍ ، فَقُلْتَ له : هاكَ نِصْفَ دخْلي ، ودخْلي بيْني وبيْنك فهكذا فعل الصحابة ، أخٌ بيننا يحْضُر جاءهُ أخٌ في الله وكان يشْتغلُ ويتقاضى بِالشهْر ألْفَيْن وخمسِمئة ليرة ، أو ثلاثة آلاف ، وقال له : فَقَدْتُ عملي ، وأنا مُتَزَوِّج حديثًا ، فقال له هذا الأخ الكريم : تعال ، وخُذْ نِصْفَ دخْلي ، وهي ثلاثة آلاف ، إنّه موقف بُطولة ، أقْسَمَ بالله وهو حيٌّ يُرْزق ولعلَّهُ بيننا : أنَّ الشهْر الأول أكرمهما الله بِثَلاثين ألْفًا ، قفز َدخْلُهما من ثلاثة آلاف إلى ثلاثين ألفًا ، قال تعالى :
[ غافر : الآية 64 ]
إنّ الدعاءُ أكبر سِلاحٍ ؛ اللهم سدِّد رمْيَتَهُ وأَجِبْ دُعاءهُ ، خالقُ الكَوْن معك ، ولذلك قال العلماء : إذا الْتقى الإنْسان بِشابٍ بارٍّ لِوالِدَيْه لِيَسْأَلْهُ الدعاء ، لأنَّ دعاءهُ مُسْتجابٌ ، فَمَن كانَ باراً بِوالِدَيْهِ فقد أكْرَمَهُ الله بأنْ جعَلَهُ مُسْتجاب الدعوة، وبِالمُناسبة ؛ أنْ تُسْتَجابَ دعْوَتُك هذه من إكرام الله لك ، وإحدى كرامات المؤمن أنْ يجْعَلَهُ اللهُ مُسْتجاب الدَّعْوة .
قُلنا إنَّه رضي الله عنه كان معه سِلاحان ؛ رَمْيَتُهُ ودُعاؤُه ، لأنّ النبي دعا له فقال : اللهم سدِّد رمْيَتَهُ وأَجِبْ دَعوتَهُ ، يُرْوى أنَّ سيّدنا سَعْد رأى رَجُلاً يسُبُّ علِياً كرَّم الله وجْهه وطلْحة والزبير فنهاهُ فلم ينْتهِ ، يا رجُل هؤلاء أصْحاب النبي !! فقال له : إذاً أدْعو عليك فقال الرجل : أراك تتهَدَّدُني كأنَّك نبِيّ ، فانْصَرَفَ سعْدُ وتوضَّأ وصلى ركْعَتَين ، ثمّ رفع يديه وقال : اللهم إنْ كنت تعلم أنَّ هذا الرجل قد سَبَّ أقْواماً قد سَبَقَتْ منك لهم الحُسنى ، وأنه قد أسْخَطَك سَبُّهُ إياهم فاجْعَلْهُ آيةً وعِبْرة ، وقد كان ، حَدَّثني أخٌ بِمَعْمل فقال : كان هناك خبير من بلادٍ كافرة ، في أثْناء تَجَوُّلِهِ بين الآلات سمع كلمة "الله" ، فطلب تَرْجَمة لها ، فلما علم أنها "الله" فإذا به يشْمَئزّ ويسبّ ، وفي أثناء مروره اقترب من آلةٍ فدخل ثوْبُهُ بين المُسَنَّنات ، فحَمَلَتْهُ إلى سَقْفِ الغُرْفة ، ثمّ رمَتْهُ أرْضاً ميِّتاً ، فَبَيْنَ سِبابِهِ للذات الإلهيّة وبين تَحْطيمه لم يمضِ إلا ثوانٍ !! قال له : اللهم إنْ كنت تعلم أنَّ هذا الرجل قد سَبَّ أقْواماً قد سَبَقَتْ لك منك لهم الحُسنى ، وأنه قد أسْخَطَك سَبُّهُ إياهم فاجْعَلْهُ آيةً وعِبْرة ، ولم يمْضِ إلا الوقتُ اليسير حتى خَرَجَت من إحْدى الدور ناقَةٌ شاردة لا يَرُدُّها شيء ، فدخلَتْ في زِحام الناس كأنها تبْحثُ عن شيء ، ثمَّ اقْتَحَمَت الرجل ، وأخَذَتْهُ بين قوائِمِها ، وما زالتْ تَخْبِطُهُ حتى مات ، فإذا ظلَمْتَ أحداً وكانَ ضعيفاً وقال لك : شَكوتُك إلى الله فإذا كنت تعْرف الله فلا بد أنْ ترْجف مفاصِلك !! قالوا لك : فإنّ القانون إلى جانبك ، وخصمك ضعيف ، ومعه وثيقة ، وأقام دعوى عليك ، وتخلَّصٍت منها عن طريق القاضي ؛ وقُلتَ له : هذا الحاضر واشْرب البحر الآن ! فقال لك : شكوتُك إلى الله ، فاحذَرْ ، ويَرْوون قِصَّة قد تكون رمْزِيَّة ولكنَّها مُؤثِّرة ، أنَّ رجُلاً كان يأكل مع زوْجَتِه الدجاج ، فإذا بالباب يُطْرق ، فقامَتْ لِتَرى من الطارق ، فإذا بالباب سائِلٌ ، فالزوجة أرادت أنْ تُطْعم ذاك السائل ، ولِبُخل الزوج صار يسبّها ويعَنَّفُها ، وقال : اطْرُديه ، فَطَرَدَتْهُ ، وعادت ، ولا زالت العلاقة تسوء بينه وبيْنها إلى أنْ طلَّقها ، وبعد تطْليقها تَزَوَّجَها إنْسانٌ آخر فقير ، وهذا الإنسان أخذ اللهُ بِيَدِهِ حتى أصْبح غَنِيّاً ، ومرَّةً كانت تَجْلِسُ معه يأكلان الدجاج ، وإذا بالباب يُطْرق ، وعادَتْ مُضْطَربة فقال لها : ما بك؟ فقالت : لا شيء ، سائِلٌ ، فقال : من هذا السائِل ؟! قالَتْ : إنه زوْجي الأول ، قال : أَتَعْلمين من أنا ؟ أنا السائِلُ الأول !! فالله عز وجل أكبر ، وإذا أكلْتَ لقمةً تواضع ولا تتفَوَّه بالكلام البذيء ، قال : أنا السائل الأول ، أحْياناً يتوفى الرجل ، فإذا بالابن الأكبر يأخذ كلّ ثروة إخْوته الصِّغار ، والأم معه ، ويسْتولي على البيت والمزرعة ، ويُكَلِّف إخوته البنات بأنْ يوكِّلْنَه وكالة عامَّة ، فيحتال عن طريق تلك الوكالة ، ويَحْرُمُهُنّ ميراثهن ، ويظنّ أنه قد فاز ، ونسي أنّ الله عز وجل قادرٌ على أنْ يجعله يشتغل بعد حين أجيراً عند إخْوته الصِّغار ، وقد وقع الكثير من هذا ، والله يمْتَحِنُك ، وبعْد حين يأتي الردّ ، فما معنى قوله تعالى :
[ الفجر : الآية 22 ]
لقد فَسَّرَها العلماء : جاء أمر ربِّك ، واللهُ يُرْخي لك الحَبْل ، فإذا به تجِدُه يتعالى ، ويغْتصب وينْتهك أعْراضًا ، ويقْهر الضعيف ، إلى أنْ يأتي أمرُ الله ، عندئذٍ يأتي وقتُ الحساب ، فتأتي الأمور على خِلاف ما يريد ، وعندها يُدمِّره الله عز وجل جزاءً وفاقًا .
سيدنا سعد ، هذا الصحابي الجليل كذلك قِصَّته غريبة ، فقد كان غَنِياً ، ولكن قيل : قَلَّما يجْتمعُ المالُ الوفيرُ مع الحلال ، أما هذا الصحابي كانت أمْواله كثيرة من وَجْهٍ حلال ، أمّا الآن فإذا وَجَدتَ غِنًى فُجائيًا ؛ فهذا شيءٌ يُحَيِّر العقول السليمة ! أكبر شركة في العالم من دون اسْتِثناء وَزَّعَتْ أرْباحاً بِنِسْبَة ثمانِيَة عشر بالمئة ، لكن الذي يُعْطيك بالمئة سبعين أرباحاً ، فهذه تَمْثيلِيَّة ، وكثير من الأشخاص تجدهم يربحون رِبْحاً خيالِياً ، ثمّ تجد المال قد ذهب !! فالمال الوفير إذا لم تكُن لصاحبه اسْتِقامة فإنّه يُظَنّ أنه مال حرام ، أقول : يُظَنُّ ، لا على اليقين ، فسيّدنا سعد اجتمع عند الحلال الطَيِّب الكثير ، لكن هناك من تجده أسْتاذاً في فنِّ الكَسْب ، وأُسْتاذاً في العطاء ، فماذا قال سيّدنا ابن عَوْف : يا رب ، وماذا أصْنع إذا كنتُ أُنْفقُ مئةً في الصباح فَيُؤْتيني الله ألْفاً في المساء ؟! عَنْ سَعْدَ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ قَالَ عَادَنِي النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ مِنْ وَجَعٍ أَشْفَيْتُ مِنْهُ عَلَى الْمَوْتِ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ بَلَغَ بِي مِنْ الْوَجَعِ مَا تَرَى وَأَنَا ذُو مَالٍ وَلَا يَرِثُنِي إِلَّا ابْنَةٌ لِي وَاحِدَةٌ أَفَأَتَصَدَّقُ بِثُلُثَيْ مَالِي قَالَ لَا قُلْتُ أَفَأَتَصَدَّقُ بِشَطْرِهِ قَالَ لَا قُلْتُ فَالثُّلُثِ قَالَ وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ إِنَّكَ أَنْ تَذَرَ وَرَثَتَكَ أَغْنِيَاءَ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَذَرَهُمْ عَالَةً يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ وَلَسْتَ تُنْفِقُ نَفَقَةً تَبْتَغِي بِهَا وَجْهَ اللَّهِ إِلَّا أُجِرْتَ بِهَا حَتَّى اللُّقْمَةَ تَجْعَلُهَا فِي فِي امْرَأَتِكَ ...*
[رواه البخاري]
لذلك في السنة لك الحق في التصرُّف في الأعمال الصالحة كبِناء المساجد ، والنفقة على طلاب العِلْم ، ونشْرُ الكُتُب ، وإطْعامُ الفُقَراء ، وأبواب الخير كثيرة ، ولكن كل هذه الأموال التي اجْتمعت لا تزيد عن رُبُع المال ، لأنّ الثُّلُثُ كثير ، ثمَّ قال عليه الصلاة والسلام : إِنَّكَ أَنْ تَذَرَ وَرَثَتَكَ أَغْنِيَاءَ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَذَرَهُمْ عَالَةً يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ ، وكنتُ أردِّد كلمة دائمًا : الفقير أنت له ، وغيرك له ، ولكن ابْنك مَنْ له غيرك ؟! فلذلك إِنَّكَ أَنْ تَذَرَ وَرَثَتَكَ أَغْنِيَاءَ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَذَرَهُمْ عَالَةً يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ ، هل تعْرفون أنَّ هناك وَصِيَّة محرَّمة ؟ هي الوَصِيَّة لِوارِث ، هذا لدَيْه امرأة وخمْسة أوْلاد ، فيوصي بِثُلُث مالِه للفقراء ، ولا يمْلك إلا بيْتاً تِسْعين متْراً ! أين يذهب أولادك ؟ فالضَّرر بالوَرَثَة من أجل الوَصِيَّة ، هذه الوَصِيَّةُ حرام إِنَّكَ أَنْ تَذَرَ وَرَثَتَكَ أَغْنِيَاءَ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَذَرَهُمْ عَالَةً يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ ، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : وَلَسْتَ تُنْفِقُ نَفَقَةً تَبْتَغِي بِهَا وَجْهَ اللَّهِ إِلَّا أُجِرْتَ بِهَا حَتَّى اللُّقْمَةَ تَجْعَلُهَا فِي فِي امْرَأَتِكَ ، فإذا أطعم الإنسانُ أهْله وكساهم وأشْبَعَهُم وأضْحَكَهُم ، أنت بهذا تبْتغي وجْه الله ، وأنْ يزْداد حُبّ هؤلاء لك ، وأنْ تأخذ بِيَدِهم إلى الله عز وجل ، دَخَلَ فقيرٌ على غَنِيٍّ فَوَجد أنَّ تَكْلُفَة الحمام المَوْجود عند هذا الغَنِيّ تعدل خمسمئة ألف ليرة ، والبيت أربعمئة متر ، أحَسَّ هذا الفقير أنَّهُ كإنسان لا يعدل شيئًا ، وهذا الغَنِيّ بدأ يتفَلْسَف ، وقال : لم أقْصِد بهذا حبَّ الدنيا ، ولكن للأَخْذ بِيَد أهْلي إلى الله والدار الآخرة ، فلما رأتْ زوجةُ الفقيرِ البيْتَ تشاجَرَتْ معه إلى أنْ وصل الأمر إلى ضربها ، فماتَتْ ، فقال : هذا الرجل للغنيّ : أنا أخَذْتُ بِيَدها إلى الدار الآخرة مُباشَرَةً !!! وشرُّ البلية ما يضحك .
ذات يوْمٍ كان النبي عليه الصلاة والسلام جالِساً مع أصْحابه فَنَظَر إلى الأُفُق بإصْغاء ، ثمّ قال : يطْلع عليكم الآن رجُلٌ من أهل الجنَّة ، فأخذ الأصْحابُ يلْتَفِتون صَوْبَ كُلِّ اتِّجاهٍ ، يسْتَشْرِفون هذا السعيد المُوَفَّقُ المَحْظوظ ، ثمَّ أطلَّ سيّدنا سعْد عليهم ، فلاذَ به أحدُ الصحابة ، وقال له : قُل لي : ماذا تفْعل ؟ وكيف اسْتَحْقَقْتَ هذه البِشارة من رسول الله ؟ وبعد إلْحاحٍ ، قال له: لا أعمل إلا ما تعْملونه جميعاً من العِبادة ؛ أصوم وأُصلي وأغضّ بصري غير أني لا أحمل لِأحدٍ من المُسلمين ضِغْناً ولا حقدًا ولا أبغيهم سوءًا ، لذلك عندما نجد بين المُسلمين مُشاحنات وحسد ، أحُسّ بِضيقٍ ليس له حدود ، أما إذا وجدتُ مودَّةً وحباً ووِفاقًا ، بينهم ومُعاوَنة أشْعُر بِراحَةٍ كبيرة ، فالذي جعله النبي صلى الله عليه وسلّم من أهلِ الجنّة أنّه لا يحْمل في قلبه ضِغْناً ولا سوءًا .
هذا الصحابي كان مُسْتجاب الدعوة ، وإذا سأل الله النصْرَ أعْطاهُ إياه ، وإنه عفُّ المطْعم ، وعفُّ اللِّسان ، وعفُّ الضمير ، وإنَّهُ واحدٌ من أهل الجنَّة ، كما تنبَّأ النبي عليه الصلاة والسلام ، وإنه الفارسُ يوم بدْر وأحد ، وفي كلِّ مَشْهَد شهِدَهُ النبي عليه الصلاة والسلام .
آخر قِصَّة لِهذا الصحابي ، كانت مع أُمِّه ، أنا أدْعو ليلاً نهاراً لِبِرِّ الوالِدَيْن ، لكن يُؤْلِمُني أشدّ الألم حينما أرى مؤمناً يسْتَجيبُ لأبٍ فاسِقٍ ويُطيعُهُ ، ويعصي الله عز وجل ؛ هذا ليس بِراً إنما هو معْصِيَةٌ وضَعْف ، فَسَيِّدُنا سعْد حاوَلَتْ أُمُّهُ كثيراً أنْ تصْرِفَهُ عن هذا الدِّين فلم تُفْلِح ، فاسْتَخْدَمَتْ آخر ورقَةٍ رابِحَة بِيَدِها ؛ وهي حياتها ، فقالت له : يا سعْد إني سأصوم عن الطعام ، ولن أُفْطر حتى تكْفر بِمُحَمَّد أو أنْ أموت ، سيّدنا سَعْد إيمانه كالجِبال قال : تعْلَمين واللهِ يا أُمي أنه لو كانت لك مئةُ نفْسٍ فخَرَجَتْ نفْساً نفْساً ، ما تَرَكْتُ دينَ مُحَمَّدٍ ، فَكُلي إن شِئت أو لا تأكلي ! ثمَّ تلا قوله تعالى :
[ لقمان : الآية 15 ]
أنا أدْعوكم ليلاً ونهاراً ، صُبْحاً ومساءً ، في كُلِّ درْسٍ إلى بِرِّ الوالِدَيْن ، أما أنْ أرى مؤمناً يُؤْمرُ بالمَعْصِيَة كالاخْتِلاط وكسْب المال عن طريق الرِّبا ، والإحْسان للوالدين ، والله تعالى يقول :
[ الإسْراء : الآية 23 ]
فالإحْسان للوالدين ، أما الله جلّ جلاله فإنّه يُعْبد ، فمن عبد والِدَيْه بأن أطاعَهُما ، وعصى ربَّهُ فقد ضلَّ سواء السبيل .
ولما أرسله سيّدنا عمر إلى العراق أعْطاهُ وَصِيَّةً ، وأُحِبَّ أنْ أُلْقيها على مسامِعِكم لأنها حاسِمَة ، قال له : يا سعْدُ بن وهيب ، لا يَغُرَنَّك من الله أنْ قيل : خالُ رسول وصاحِبُهُ ، فإنَّ الله ليس بينه وبين أحدٍ نسَبٌ ، فلا تتقرَّب من الشيخ ظناً منك أنه يُنْهي لك مُشْكِلاتك ، ثم تقول : واللهِ ما انتهى شيء ! والمعْصِيَة هي هي ، تُحاسب عليها حِساباً عسيراً ، لو اسْتَطَعْتَ أنْ تنْتَزع من فم النبي عليه الصلاة والسلام فَتْوى لِصالِحِكَ ، ولم تَكُن مُحِقاً فلن تنْجُوَ من عذاب الله ، عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ وَإِنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إِلَيَّ وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَنْ يَكُونَ أَلْحَنَ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ وَأَقْضِيَ لَهُ عَلَى نَحْوِ مَا أَسْمَعُ فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ مِنْ حَقِّ أَخِيهِ شَيْئًا فَلَا يَأْخُذْ فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنْ النَّارِ *
[ متفق عليه ]
فإذا كان هذا النبي وعَظَمَته وقُرْآنه لا ينْفَعُك من دون الله ، أيَنْفَعُكَ شيخٌ من دون رسول الله ؟!! ، فلا تتقرَّب من الشيخ ثمَّ تؤذي إخوانك ، يدعو شخصٌ الشيخ دعوةً ويُغَلي الأسْعار على العامّة بعدها ، لن تتخلَّص من عذاب الله ، قال له : يا سعْدُ بن وهيب ، لا يَغُرَنَّك من الله أنْ قيل: خالُ رسول الله وصاحِبُهُ ، إذْ هناك ما هو أهمّ منها ، وهو قَوْلُ النبي لِفاطِمَة : يا فاطِمَة بنت محمد أنا لا أُغني عنك من الله شيئاً ؛ هي ابْنَتُهُ وأبوها محمد سيّد الخلق ، لا يأتيني الناسُ بِأَعْمالهم وتأتوني بِأنْسابكم ، من يُبْطئ به عمله لم يُسْرع به نسَبُهُ ، فإنَّ الله ليس بينه وبين أحدٍ نسَبٌ إلاّ بطاعته ، والناسُ شريفهم ووضيعُهُم في ذات الله سواء ، فالله ربهم ، وهم عِبادُهُ ، يتفاضلون بالعافِيَة ، ويُدْركون ما عند الله بالطاعة ، سواءٌ كنت من نسبٍ رفيع أو وضيعٍ ، وسيم الهَيْئة أو ذميماً ، ذَكِياً أو بليداً ، هذا كله لا قيمة له ، بِطاعة الله وحده تسْتطيع أنْ تصل إلى ما تريد ، التعاوُنُ مع الله سهلٌ ، ولا يوجد عند الله مُقَرَّبون ومُبْعَدون إلاّ بالتقوى ، وهؤلاء من جماعَتِه ، وهؤلاء ليسوا من جماعَتِه ، فكلُّنا عباد الله ، وطريقُ رِضْوانه وما عنده من إكْرام يُنال بطاعته .
والحمد لله رب العالمين(/)
الدرس 6/ 50 : سيرة الصحابي : سعد بن زيد ، لفضيلة الأستاذ الدكتور محمد راتب النابلسي
تاريخ : 16 / 11 / 1992 .
تفريغ : عماد علان
التدقيق اللغوي : الأستاذ غازي القدسي .
التنقيح النهائي : المهندس غسان السراقبي .
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيّدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، اللهم لا علم لنا إلا ما علَّمْتنا إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علِّمنا ما ينْفعنا وانْفعنا بِما علَّمتنا وزِدْنا عِلما ، وأَرِنا الحق حقاً وارْزقنا اتِّباعه وأرِنا الباطل باطِلاً وارزُقنا اجْتنابه ، واجْعلنا ممن يسْتمعون القول فَيَتَّبِعون أحْسنه وأدْخِلنا برحْمتك في عبادك الصالحين .
أيها الإخوة المؤمنون ؛ مع الدرس السادس من دروس السيرة النبويَّة ، وسِيَر الصحابة الكِرام رِضْوان الله عليهم أجْمعين ، وصحابِيُّ اليوم هو أحدُ الصحابة العَشَرة الذين بشَّرهم النبي عليه الصلاة والسلام بالجنَّة ، وهو سعيد بن زَيْدٍ ، والأخْبار عنه قليلةٌ ، ولكن مع قِلَّتِها فيها دلالاتٌ كثيرةٌ .
هذا الصحابيّ الجليل ، والده اسمه زَيد بن عمرو بن نُفَيل ، كان مرَّةً في مكَّة المُكّرَّمَة ، وكانت قُرَيْش تحْتفلُ بأحد أعْيادِها ، فرأى الرِّجال يعْتَجِرون بالعَمائِم السُّنْدُسِيَّة الغالِيَة ، ويَخْتالون بالبُرودِ اليمانِيَّة الثمينة ، وأبصر النِّساء والوِلْدان وقد لبِسوا زاهي الثِّياب وبديع الحُلَل ، ونظر إلى الأنعام يقودُها الموسِرون بعد أن حلَّوها بأنواع الزِّينة ليذبحوها بين أيدي الأوثان .
وقف زيد بن عمرو بن نفيل والد سيدنا سعيد بن زيد ، مُسْنداً ظهره إلى جدار الكعبة وقال: يا معشر قريش ، الشاة خلقها الله عز وجل ، وهو الذي أنزل لها المطر من السماء فَرَوِيَت، وأنبت لها العشب من الأرض فشبعت ، ثم تذبحونها على غير اسم الله عز وجل ، إني أراكم قوما تجهلون !
ماذا تَدُّلُّ هذه القصة ؟ النبي عليه الصلاة والسلام لم يُبعث بعد ، وهذا الإنسان ما الذي جعله ينكر على قومه هذه الأفعال ؟ قال: يا معشر قريش ، الشاة خلقها الله عز وجل ، وهو الذي أنزل لها المطر من السماء فَرَوِيَت ، وأنبت لها العشب من الأرض فشبعت ، ثم تذبحونها على غير اسم الله عز وجل ، إني أراكم قوماً تجهلون .
أسألكم سؤالاً يبدو لكم أنه لا علاقة له بهذه القصة ، كل مولود يولد على الفطرة ، فأبواه يُهَوِّدَانِه أو يُنَصِّرانِه أو يُمَجِّسانِه ، لِمَ لمْ يقل النبي عليه الصلاة والسلام : أو يُسْلِمَانه ؟ لأن الإسلام هو الفطرة ، والفطرة هي الإسلام ، وهذا الإنسان جُبِلَ جِبِلَّةً ، وبُنِيَ بناءً ، وصُمِّم تصميما حيث إنه إذا عرف الله عز وجل ، وعرف أمره وطبَّق منهجه ارتاحتْ نفسه ، وإذا حاد عن منهج الله تغلي نفسه وتضطرب ، لذلك فالعصاة في حالة غليان ، و في حالة اختلال توازن ، كما سمَّاها علماء النفس ، وسمَّاها العلماء أيضاً ُعْقَدُة الذَّنْب ، فحينما خرج عن فطرته شعر بخلل، والله جل جلاله أشار إلى الفطرة قال تعالى:
[ طه : الآية 124]
هذه المعيشة الضنك حينما تسلك في الحياة سلوكاً غير سُلوك الدِّين ، وغير المنهج الذي رسمه الله لك تشعر بالاضطراب والضيق ، فالإنسان إذا أحبَّ ذاته ووُجوده ، وسلامة وُجوده وراحة نفْسه ، وأحَبَّ اسْتِقْرارها وطُمَأنينتها ، وأنْ تتنَزَّل السكينة على قلْبه فَعَلَيْهِ بِطاعة ربِّه عز وجل ، قيمة هذه القصة أنَّ والد سيّدنا سعيد بن زيدٍ عاشَ قبل بِعْثة النبي وما سمِع بالقُرآن ولا بِالنَّبي العَدنان ، ولا قرأ كتاب الله ، ولا نُقِلَتْ إليه الأحاديث الشريفة ؛ شيءٌ فِطْري فَفِطْرَته السليمة أبَتْ هذه العادات القبيحة ؛ شاةٌ خلقها الله ، والمطر الذي أنزله الله من السماء شَرِبَتْه فَرَوِيَت ، والكلأُ الذي أنْبَتَهُ الله من الأرض أكلَتْهُ فَشَبِعَت ، وبعد ذلك تذْبحونها على اسم اللات والعُزى ؟!
أيها الإخوة ؛ الله عز وجل يقول :
[ الروم : الآية 30 ]
إعْراب هذه الكلمات في هذه الآية أنَّك إذا أقمْتَ وجْهَكَ للدِّين حنيفاً ؛ إقامة وَجْهِك للدِّين حنيفاً هي عَيْنُها فِطْرة الله ، لذلك أيها الإخوة ؛ أصْدُقُكم أنَّ المؤمن المُسْتقيم على أمر الله يشْعر بِراحَةٍ نفْسِيَّة وطُمأنينةٍ وسكينةٍ ، واللهِ الذي لا إله إلا هو لو وُزِّعَتْ على أهل بلْدَةٍ لَكَفَتْهم ، ويشْعُر المُعْرِض عن الله عز وجل باضْطِرابٍ واخْتِلال توازُنٍ وعُقْدة نقْصٍ ، وشُعورٍ بالذَّنْب وقلقٍ واضطراب وغَلَيانٍ لو وُزِّع على أهل بلْدَةٍ لَكَفَتْهم ، هذا الإنسان على الفِطْرة ؛ ما وصلته رِسالة الإسلام ، وما قرأ القرآن ، ولا الْتَقى بالنبي ولا سمع الحديث الشريف ولا استمع إلى خُطْبة ، إنما فطرته السليمة قادَتْهُ إلى اسْتِنكار أفْعال قُرَيشٍ .
أمَّا عمُّ زيد بن عمرو فهو الخطَّاب ؛ والد عمر بن الخطَّاب ، قال تعالى :
[ الروم : الآية 19 ]
قالوا: هذا الخطَّاب والد عمر بن الخطَّاب ؛ قام إليه فلطمه وقال : تبًّا لك ما زلنا نسمع منك هذا البذاء ؛ هذا الكلام السخيف ، ونحتمله حتَّى نفد صبرنا .
مرَّةً ثانية ، منذ أن خلق الله الأرض ومن عليها وإلى يوم القيامة ؛ هناك معركة أزلية أبدية بين الحق والباطل في كل عصرٍ ومصرٍ ، وفي كل مجتمع وبيئة ؛ وبين أهل الإيمان وأهل الكفر والعصيان ، المؤمنون يحبُّون الناس جميعاً ، هذه صبغة الله التي اصطبغوا بها ، لكنَّ أهل الدنيا لا يحبون المؤمنين ، دائماً يقفون في الصفِّ المعارض ، والمعركة بين الحقِّ والباطل معركة أزلية أبدية ، لذلك أيُّها الأخ الكريم ؛ وَطِّنْ نفسك أنَّك إذا اتَّبعتَ منهج الله فسيكون لك خصومٌ وأعداء ، ومنتقدون ومُجَرِّحون ، ولك من يعيب عليك ، ويبحث عن أخطائك الطَّفيفة ويكبِّرَها ، ليُثبِت لنفسه وللنَّاس أن الدِّين لا يصلح لهذا الزَّمان ، لهذا قال عليه الصَّلاة والسَّلام : " أنت على ثُغرةٍ من ثُغَرِ الإسلام فلا يُؤْتَيَنَّ من قِبَلِك ".
المسلم ؛ أوَّلاً : هو بشرٌ ، وثانيًا : ليس معصوماً ، لكن أهل الباطل يسلِّطونُ على أخطائه الطَّفيفة أشدَّ الأضواء ، ويكبِّرُونها أشدَّ التَّكبير ، ويُشهِّرون به أشدَّ التَّشهير حتَّى يرتاحوا ؛ لأنَّهم إذا رأوا المسلم إنساناً ناجحاً منضبطاً ظهر خللُهم ونقصهم وعيبهم ، فإذا نهشُوه بألسنتهم ، وكبَّروا أخطاءَه ارتاحوا لذلك ، فالمسلم العاقل لا ينمكِّن أهلّ الباطل من خطأ عليه ، ولا يُمِّسك أهل الباطل خطأً يتاجرون به .
يُروَى أنَّ أحدَ الملوكَ الطُّغاةَ أرادَ أن يضعَ العلماءَ في موقفٍ صعبٍ ، فوضعَ لحمَ خنزيرٍ، وأمرهم أن يأكلوا منه ، ومن لم يأكل ضُرِبَتْ عُنُقُه ، أحدُ العلماء الورعين الذين أحَبَّهم الناسُ حبًّا جمًّا قُدِّم له اللَّحمُ ، وقيل له : هذا لحمُ ضَّأن وليس لحم خنزير ، جيء به لأجلك ؛ كُلْهُ ولا تَخَفْ ، فرفض أن يأكله حفاظاً على سمعة العلم ، وقال لهم : أنا آكلُ لحم الضَّأنِ ، ولكنه عند الناس لحم خنزير ، فرفض أن يأكله ، وضحَّى بحياته حفاظًا على سمعة العلم والعلماء .
إنَّ هذا الدِّين قد ارتضيتُه لنفسي ، ولا يُصلحُه إلاَّ السَّخاء وحُسْنُ الخُلق ، فأكرموه بهما ما صحِبْتُمُوه ، هناك داعية وهناك مُنَفِّرٌ - ولم ألقَ كلمة عكس الدَّاعية ونقيضًا لها إلاَّ هذه - الدَّاعية يقَرِّب ويُحبِّب و يُوصل بالله عزَّ وجل ، الدَّاعية يعطي المثل العالي ويُدهش الناسَ مِن كماله وأخلاقه ، أمَّا المُنَفِّرُ فيُبَعِّدُ ويَقطع ، فالإِساءةُ من مسلمٍ إساءتان ؛ لأنك إذا أسأْتَ يُقالُ لك : أهكذا الإسلام ؟! فلا تُنْسَبُ الإساءة إليك بل إلى إسلامك ، فكل إنسان له موضعٌ قِياديٌّ يُحاسب مرَّتين ، قال تعالى :
[ الأحزاب :الآية 30 ]
إن سيِّدنا عمر كان إذا أراد إنفاذَ أمرٍ جمع أهله وخاصته ، فقال : إنِّي قد أمرتُ الناس بكذا، ونهيتهم عن كذا ، والناسُ كالطَّيرِ إنْ رَأَوْكُمْ وَقَعْتُمْ وََقعُوا ، وَايْمُ اللهِ لا أُوتَيَنَّ بواحدٍ من قرابتي وقع فيما نهيتُ الناس عنه إلاَّ ضاعفْتُ له العقوبةَ لمكانه منِّي ، فصارت القرابة من عمر مصيبة.
لذلك أيُّها الإخوة الأكارم ؛ موقفٌ أخلاقيٌّ واحدٌ خيرٌ من مئة محاضرة ، حسابٌ دقيق ، عفة في المحاسبة ، دخلٌ حلالٌ ، موقفٌ فيه شهامة فيه مروءة ، وإنصاف وتواضع ، أفضل بِكَثير للمسلمين اليوم من مُحاضرة عَصْماء بليغةٍ ، لذلك أصحاب النبي لو اكْتفَوا بِالكَلام لما خرج الإسلام من مكة المكرمة ، لكن وصل الإسلام إلى أطراف الصين وإلى وسط أوروبا عن طريق سلوكهم وأفعالهم ، قال له الخطاب : تباً لك يا زيد ! لا زِلنا نسْمع منك هذا البذاء ، ونَحْتمِلُه حتى نفِد صبرنا ، ثمّ أغرى به سُفهاء قَوْمه ، فآذَوْهُ ولَجُّوا في إيذائِهِ ، حتى نزح عن مكة ، والْتَجَأ إلى أحد جبالها وشِعابِها ، فَوَكَّل به الخطاب طائِفَةً من شباب قُرَيْش لِيَحولوا بينه وبين دُخول مكَّة فكان لا يدْخُلُها إلا سِراً لأنه قال كلمة الحق ، قال تعالى :
[ البروج : الآية 8 ]
البارحة جاءَتْني رسالة مِن مُوَظَّفٌ يعمل في محلٍّ تِجاري ؛ لأنه يغضُّ بصره عن محارم الله ، وعن النِّساء الكاسِيات العارِيات ، فَصَاحِبُ هذا المحلّ انْزَعَج ، أيُّ خِلافٍ بين مؤمنٍ وغير مؤمن أَدْخِلْهُ في قائِمة الصِّراع الأزلي الأبديّ بين الحقِّ والباطل ، إن لم تنْظُر فلا مكان لك عندي!! يجب أنْ تنْظر وتتكَلَّم وإلا تُنَفِّرُ الزبائن بِغَضِّك البصر عنهنّ ؛ هذا هو موقف صاحب المحلّ ! أمَّا زيدٌ والدُ سعيد قال : هذه الشاة خلقها الله عز وجل وهو الذي أنزل لها المطر من السماء فَرَوِيَت ، وأنبت لها العشب من الأرض فشبعت ، ثم تذبحونها على غير اسم الله عز وجل، إني أراكم قوما تجهلون ! ضربه الخطاب ولطمه وأغْرى به السُّفهاء ، وأخرجه من مكة ومنعه من دخولها ، فكان لا يدْخُلها إلا سِراًّ ، قالوا : هذا زيد بن عمرو بن نفيل : اِجْتَمَعَ في غَفْلةٍ من قُرَيْش إلى كلٍّ من ورقة بن نَوْفَل ، وعبد الله بن جَحْش ، وعُثمان بن الحارث ، وأُمَيْمَة بنت عبد المُطَّلِب عمَّة النبي صلى الله عليه وسلّم ، وجعلوا يتذاكرون فيما غَرِقَتْ فيه قُرَيْشٌ من الضلال ، فقال زيْدٌ لأَصْحابه : إنكم واللهِ ، تعْلمون أنَّ قوْمكم ليسوا على شيءٍ ! تعْبيرٌ لطيفٌ : ليسوا على شيء ؛ لا قِيَمَ ، ولا مبادئ ، ولا أهْدافَ ؛ إنما مصالحٌ وشَهْوةٌ لِحُبِّ المال ، إنكم والله، تعْلمون أنَّ قوْمكم ليسوا على شيءٍ ! وأنهم أخْطؤوا دينَ إبراهيم وخالفوه ، فابْتغوا لِأنفسكم ديناً تَدينون به إن كنتم تُريدون النجاة ، معنى ذلك أنَّ زيد بن عمرو بن نْفيل شعر بِالخطر ، وأنَّ هناك هلاكًا وحِسابًا فقال : يا معْشر قُرَيش ، إنكم والله ، لتعْلمون أنَّ قوْمكم ليسوا على شيءٍ ! وأنهم أخْطؤوا دينَ إبراهيم وخالفوه ، فابْتغوا لِأنفسكم ديناً تَدينون به إن كنتم تُريدون النجاة ، قال: فَهَبَّ الرِّجال الأربعة إلى أحْبار اليهود والنصارى وغيرهم من أصْحاب المِلَل ، يَلْتَمِسون عندهم الحَنِيفِيَّة دين إبراهيم ، وبالمُناسبة : استمعوا إلى هذه الآية الكريمة ، قال تعالى :
[ العنكبوت : الآية 69 ]
فإذا كنت في حَيْرَةٍ من أمْرك ، وبَحَثْتَ عن الحقيقة ، وجَهِدْتَ من أجْلها ودَعَوْتَ الله عز وجل ، وقلتَ : يا ربّ أبْتغي الحقيقة ، وأبتغي وجْهَك الكريم ورِضْوانك ، دُلَّني على ما يدُلُّني عليك ، اُرْزُقْني حُبَّك وحُبَّ من يُحِبُّك وحُبَّ عَمَلٍ يُقَرِّبُني إليك ، اُرْزُقْني إلى أنْ ألْتَقِيَ مع أحْبابك، ومع من تُحِبُّهم ، فهذا الدعاء له أثره إنْ شاء الله وهذا قوله تعالى :
[ العنكبوت : الآية 69 ]
قال: أما ورقَةُ بن نَوْفَل فَتَنَصَّر ، وأما عبد الله بن جَحْشٍ وعُثمان بن الحارث فلم يَصِلا إلى شيءٍ، وأما زيد والد سيّدِنا سعيد فكانت له قِصَّة ولْنَدَعْ له الكلام لِيَرْويَها لنا :
قال زَيْدٍ : وَقَفْتُ على اليهودِيَّة والنَّصْرانِيَّة فأعْرَضْتُ عنهما ، إذْ لم أجِدْ فيهما شيئاً أطْمَئِنُّ إليه - طبْعاً بعد أنْ حُرِّفَ كلٌّ منهما - وجَعَلْتُ أضْرِبُ في الآفاق بحْثاً عن مِلَّة إبراهيم ، حتى صِرْتُ إلى بلاد الشام ، فَذُكِرَ لي راهِبٌ له علْمٌ من الكِتاب ، فأَتَيْتُه وقَصَصْتُ عليه أمْري ، فقال : أراك تُريدُ دين إبراهيم يا أخا مكَّة ، قُلْتُ : نعم ، وذلك ما أبْغي ، فقال : إنَّك تطْلب ديناً لا وجود له اليوم ، ولكِنَّ الحق بِبَلَدِك ، فإنَّ الله يبْعَثُ مِن قَوْمِك مَن يُجَدِّدُ دين إبْراهيم ، فإنْ أدْرَكْتَهُ فالْتَزِمْهُ ، وهذا مذكور في كتب النصارى ، كما يبيِّنه قوله تعالى :
[ الصفّ : الآية 6 ]
وهناك بعض الطبعات للإنجيل فيها إشارة إلى النبي عليه الصلاة والسلام ، منها إنْجيل بَرْنابا ، على كُلٍّ هذا الراهب أنْبأ زيد بن عمرو بن نفيل أنَّ هذا الدِّين الذي تبحث عنه غير موْجود ، فإذا عُدْتَ إلى مكَّة فقد آن الأوان لِيُبْعَثَ نبِيٌّ بِمَكَّة لِيُجَدِّدَ دين إبراهيم فإذا أدْرَكْتَهُ فالْتَزِمْهُ، فَقَفَل زيدٌ راجِعاً إلى مكَّة بِخُطىً حثيثَة اِلْتِماساً للنبيّ المَوْعود ، ولما كان في بعض طريقه بعث الله نبِيَّهُ محمَّداً بالهُدى ودين الحق ، وبينما هو في الطريق ظهر النبي محمّدٌ ، ودعا الناس إلى التوحيد ، ولكنَّ زيْداً لم يُدْرِكْهُ ، إذْ خَرَجَتْ عليه جماعَةٌ من الأعراب فَقَتَلَتْهُ ! فالعَرَب في ِالجاهِلِيَّة كانوا قُطاعاً للطرق ، ويئِدون البنات ، وهذا الذي يفْتَخِر بِمَرْحلة ما قبل الإسلام يفْتَخر بِماذا ؟! رجلٌ مَدَّ رِجْلَهُ وقال : من كان أشْرف مني فلْيَضْرِبها ، فنشِبَتْ حرْبٌ دامت عشر سنواتٍ ، عاد إلى مكة فَخَرَج عليه قطاع الطرق فقتلوه ، قالوا : وقبل أن يبلغ مكَّة ، وقبل أنْ تكْتَحِل عيْناه بِرُؤية النبي عليه الصلاة والسلام ، وفيما كان يلْفِظ أنْفاسه الأخيرة ، رفع بصره إلى السماء وقال : اللهمّ إنْ كُنْتَ حَرَمْتني من هذا الخير ، فلا تحْرم منه ابني سعيداً ! هنا وَقْفَة لطيفة، وهي : قد يكون الأب ليس من الفِئة المُتَعَلِّمة ، فإذا أنْجَبَ مَوْلوداً ووجَّهَهُ إلى العِلْم الشرعي ، وأصْبح هذا الغُلام عالِماً جليلاً ؛ فكُلُّ دَعْوة هذا الغُلام في صحيفة الأب ، فما أجْمل الدُّعاء ! فالذي عنده ابن يا إخْوان ، عليه أنْ يعتني به كثيراً ؛ بِتَعْليمه العلمَ الشرعي ، والآداب الإسلاميَّة ، ويدْفَعُهُ إلى مَرْضاة الله ، لأنَّ كلّ أعمال الابن في صحيفة الأب ، فزيدٌ لم يلتقِ بالنبي ، ولكنَّ هذه الدَّعْوة تركتْ أثراً كبيراً ، قال : اللهمّ إنْ كُنْتَ حَرَمْتني من هذا الخير ، فلا تحْرم منه ابني سعيداً! أما أنْ تتزَوَّج وتتْرُك أولادك في ِالطُّرقات ، يمارَسُون هِواياتهم ، ويشبّون على معْصِيَة الله ، وقد تذهب أخلاقهم ، فهل هذه أُبُوَّة ؟! في حين أنّ هناك من يُنْفِقُ أكثر وَقْتِه في تَرْبِيَة ابنه ، فهذا الذي يُنْفقُ وَقْته في تَرْبِيَة ابنه يُعْتبر هذا أهمُّ وَقْتٍ تُنْفِقُهُ في حياتك ، لأنَّ ابنك اسْتِمْرارٌ لك ، وخليفةٌ لك ، وكلّ الخير الذي يظهر من ابنك في صحيفتك ، من أراد ألاّ يموت وأنْ يبْقى ذِكْره حياًّ فعليه بِتَرْبِيَة ابنه ترْبِيَةً إسلاميةً صحيحة ، فَلَعَلَّهُ ينْفع الناس من بعْده ، والإنسان إذا مات انْقطع عمله إلا من ثلاث : أحد هذه الثلاث ولدٌ صالحٌ يدْعو له ، فهذا كانت له حُرْقة ، وهي تَمَني لِقاء النبي ، ولكنَّ فضل الله عز وجل كبير ؛ فإنَّك إنْ كنتَ في أوَّل الطريق وجاءتْك المَنِيَّة فإنّ اللهَ عز وجل يُحاسِبُك الله وكأنَّك بلَغْتَ نِهاية الطريق ، وهذا من كرم الله عز وجل ؛ إنسان خرج من بيته يطلب العلم فإن أدْرَكَتْهُ المَنِيَّة فهو في ذِمَّة الله ، وكأنه بلغ نِهاية العِلْم ؛ وهذا من كرم الله عز وجل ، فربنا عز وجل اسْتجاب لِزَيْدٍ دَعْوَته الحارَّة ، وسيّدنا سعيد بن زيد ما أَنْ بُعِثَ النبي عليه الصلاة والسلام حتى بادر إلى الإيمان به ، وكان من السابقين السابقين ؛ آمن به من قبل أنْ ينتقل النبي عليه الصلاة والسلام إلى دار الأرقم ، والحقيقة أنّ سيّدنا سعيد بن زيْدٍ أسْلَمَ وأسْلَمَت معه زوْجته فاطمة بنت الخطاب ؛ أُخْتُ عمر بن الخطاب ، وقد لَقِيَ هذا الفتى القُرَشي من قومه ما كان خليقاً أنْ يفْتِنَهُ عن دينه ، فلقد آذتْهُ قريشٌ وضغطتْ عليهِ ، إلا أنه اسْتطاع أنْ يأخذ منها عمر ابن الخطاب ، وهنا وقفةٌ جديرة ؛ وهي أنَّ الله عز وجل إذا أكرمك بِهِداية إنْسان فلن يسْبِقَكَ؛ مادام عن طريقك فَكُلُّ أعْمالك في صحيفتك ؛ ضغطوا عليه ، وآذَوْه لكنه اسْتطاع أنْ ينتزع منهم عِمْلاقهم سيّدنا عمر ، حتى إنَّ النبي عليه الصلاة والسلام كان يدْعو ويقول : اللَّهُمَّ أَعِزَّ الْإِسْلَامَ بِأَحَبِّ هَذَيْنِ الرَّجُلَيْنِ إِلَيْكَ ؛ بِأَبِي جَهْلٍ أَوْ بِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ ، قَالَ : وَكَانَ أَحَبَّهُمَا إِلَيْهِ عُمَرُ *
[ رواه الترمذي عن ابن عمر]
وقِصَّة إسْلام عمر قِصَّةٌ مؤَثِّرة جداً ؛ بلغه أنَّ أُخْته قد أسْلَمَتْ فانْطَلَق لِيَقْتُلها ، وسمع القرآن الكريم فَلانَ قلبه ، وخشع فُؤاده ، وانْهَمَرَتْ دُموعه ، واتَّجَهَ نحو النبي عليه الصلاة والسلام ، وقد تَوَجَّس أصْحاب النبي خيفَةً من عمر بن الخطاب ، فإذا هو قد جاء مُسْلِماً !! قد يكون شخصٌ عبئًا على الإسلام ، وآخر في خِدْمة الإسلام ، فَسَيِّدُنا عمر واحدٌ كَأَلْف، وشاء الله أنْ يسلم على يد سعيد بن زيد وأخته فاطمة ، فمهما لَقِيَ سعيد من اضطهاد من قومه لكنَّ الله عز وجل وفَّقَهُ إلى أنْ يجعل هذا الإنسان العظيم يُسْلِمُ على يَدَيْه ، فَسَيِّدُنا عمر في صحيفة سيّدنا سعيد بن زيد وفي صحيفة أُخته فاطمة بنت الخطاب .
سيّدنا سعيد بن زيد حينما أسلم ، كانت سِنُّهُ لا تزيد عن عشْرين عاماً ، وأنا أقول لكم : يا معْشر الشباب كلما بَكَّرْتُم بمَعْرِفَة الله كُلَّما شَكَّلْتم حياتكم وِفْقَ منهج الله ، واخْتَرْتُم مهْنَةً تُرْضي الله، وألْصق شيءٍ بالإنسان مَن ؟ زوْجَتُهُ ومهنتُه ، فإن اخْتار زوْجَةً فاسِدَةً مِن أهل الدنيا ، شَهْوانِيَّة شيْطانِيَّة ، ثمَّ اهْتدى إلى الله عز وجل فإنّه يتَمَزَّقُ تَمَزُّقاً لا حُدود له ، فهو في وادٍ وهي في وادٍ !! ولا شيءَ أسعد للمؤمن من زوْجَةٍ تُعينه على دينه ، ولا أسعد للمؤمن من أنْ يصلي قِيامٍ ليلٍ مع زوْجَته ؛ يوقِضُها أو توقِضُهُ ، ولا شيءَ أسعد للمؤمن من أنْ يكون هو وأهله على شاكلةٍ واحدة ، لذلك كلما بكَّرْتُم بِمَعْرِفة الله شكَّلْتم حياتكم وِفْقَ مَنْهَج الله ؛ فإذا اِخْتَرْتم زَوْجاتٍ وِفْق منهج الله سَعِدْتم بِهِنّ وسَعِدن بِكم .
سيّدنا سعيد بن زيد شَهِد مع النبي عليه الصلاة والسلام المشاهد كلَّها ، إنّها هِمَّة عالية ؛ وقد يقول لك أخٌ : أنا آتي للدرس الجمعة والسبت والأحد ، نقول له : تُشْكر على هذه الهِمَّة العالية ، ونسأل اللهَ عز وجل أنْ يُبارك له في وقْته ؛ هُمْ في مساجِدِهم ، والله يُبارك لهم في حوائِجِهم ، قال تعالى :
[ الليل : الآية 5-13 ]
إذا كان الله معك فَمَن عليك ؟! وإذا كان عليك فمن معك ؟! يا رب ماذا فَقَدَ من وَجَدك ، وماذا وجد من فقدك ؟! قال تعالى :
[ الأحزاب : الآية 41 ]
فقد كان الصحابة أعلى منازل من شباب زماننا، فيقولون لك : شَهِد المشاهد كلَّها ، بدْرًا وأُحدًا والخندق وحُنينًا وتبوكَ ومُؤتة ، أما الآن فلا حرْب ولا غزوة ، وما عليك إلا أن تحضر الدرس وتسْتمع إلى كلام الله ، والسنَّة النبوية المطهَّرة ، ولأقوال الصحابة ومواقفهم المُشَرِّفة ، ثمّ إنَّ المسجد نظيف ، وهناك تكْبير صوت ، وتَهْوِيَة وتدْفئة مرْكزيَّة ، لا تحْتاج عند الدخول إلى وَصْل أو قسيمة أو اسْتِلام ، عكسَ دُخولِك للمحامي أو الطبيب ، فإنّه يكلِّفك مالاً كثيرًا ، لكن بيْتَ الله دُخوله سَهْل ، إذاً هذا الصحابي شَهِد المشاهد كلَّها إلا بدْراً ، لكنه تخَلَّف عن بدْرٍ لأنَّ النبي عليه الصلاة والسلام كلَّفَهُ بِمُهِمَّة ، فلما عاد إلى المدينة كان النبي قد خرج إلى بدْرٍ فلما لَحِقَ بالنبي عليه الصلاة والسلام كانت المعركة قد انتَهَتْ ، فالنبي عليه الصلاة والسلام أعْطاه سَهْماً ، وكأنه قد شَهِدَ بدْراً إكْراماً له .
هذا الصحابي الجليل ، سعيد بن زَيْد أسْهَم مع المسلمين في اسْتِلاب عرْشِ كِسْرى ، وتقْويض مُلْك قيْصَر ، وكانت له في كُلِّ مَوْقِعَةٍ خاض غمارَها المسلمون مواقف مشْهودة ، وأيادٍ بيْضاءُ حميدة ، ومن أرْوَعِ بُطولاته يوْمَ اليَرْموك ، فقد قال : لما كان يوم اليرْموك كنا أربعةً وعشرين ألْفاً ، أو نحْواً من ذلك ، فَخَرَجَتْ لنا الروم بِعِشْرين ومئة ألف - أما نحن المسلمين الآن فمليار ومئتا ألف !! وكَلِمَتُهُم ليست هي العُلْيا ، والعالم كلهُ خمسةُ مِلْيارات - وأقْبلوا علينا بِخُطىً ثقيلة ، كأنهم الجِبال تُحَرِّكُها أيْدٍ خَفِيَّة ، وسار أمامهم الأساقِفَة والبطارقة والقِسِّيسُون يحْمِلون الصُّلْبان ، وهم يَجْهَرون بالصلوات فَيُرَدِّدُها الجَيْش من ورائِهم ، ولهم هزيمٌ - دَوِيٌّ - كَهَزيم الرعد ، عِشْرون ومئة ألف أمام أربعةٍ وعشرين ألفًا ! فلما رآهم المسلمون على حالتهم هذه هالَتْهُم كثْرَتُهُم ، وخالط قُلوبهم شيءٌ من خَوْفِهم ، فعنْدها قام أبو عُبَيْدة بن الجراح أمينُ هذه الأمة يَحُضُّ المسْلمين على القِتال ، فقال : عِباد الله ، اُنْصُروا الله ينْصُرْكم ويُثَبِّتْ أقْدامكم ، عباد الله اصْبِروا فإنَّ الصبر منْجاةٌ من الكُفْر ، ومرْضاةٌ للربِّ ، ومدْحَضَةٌ للعارِ ، أشْرِعوا الرِّماح ، واسْتَتِروا بالتُّروس ، والْزَموا الصَّمْتَ إلا من ذِكْر الله تعالى في أنفسكم حتى آمركم إنْ شاء الله ، أحْياناً موقِفٌ واحدٌ يُغَيِّر مجْرى معْركة ، قال سعيد بن زَيْد : عند ذلك خرج رجُلٌ من صُفوف المُسْلمين ، وقال لأبي عُبَيْدة : إني أزْمَعْتُ أنْ أقْضِيَ نحبي الساعة ، فَهَل لك من رِسالة تبْعَثُ بها للنبي صلى الله عليه وسلَّم ؟! هكذا كان الصحابة ؛ رأى المَوْت وبعده الجنَّة ، رأى الموتَ يتألَّق ، فقال أبو عُبَيْدة : نعم ، أقْرِئه مني ومن المسلمين السلام ، وقُل له يا رسول الله : إنا وجَدْنا ما وعدنا ربنا حقاً ، والنبي عليه الصلاة والسلام لما انْتَهَتْ معركة بدْرٍ ، ورأى صناديد قُرَيْش قد قُتِلوا وهم جُثَثٌ مُتَفَسِّخة خاطبهم واحدًا واحداً : يا شيبةُ ، يا عُتْبة ، يا فُلان ، وتَرْوي كُتُب السيرة أنهم خاطَبَهُم فَرْداً فرْداً ، قال : هل وجَدْتم ما وعَدَ ربكم حقاً ؟ فإني وَجَدْتُ ما وعدني ربي حقاً ؛ لقد أخْرَجْتُموني وآواني الناس ، وخَذَلْتُموني ونصَرَني الناس ، قالوا : يا نَبَيَّ الله ، أَتُخاطِبُ قومًا جَيَّفوا ؟! قال : ما أنتم بِأَسْمَع لما أقول منهم ، ولكنَّهُم لا يُجيبونني ، فهذا الرجل الشُّجاع الذي قال: إني أزْمَعْتُ أنْ أقْضِيَ نحبي الساعة ، فهل لك من رسالةٍ تبْعَثُها لِرَسول الله ؟ فقال أبو عُبَيْدة : نعم ، أقْرِئه مني ومن المسلمين السلام ، وقُل له : يا رسول الله إنا وجَدْنا ما وعدنا ربنا حقاً .
أحدُ الصحابة خاضَ معركةً مع رسول الله صلى الله عليه وسلَّم فلما انْتَهَت المعْركة وَوُزِّعَتْ الغنائِم أعْطَوْهُ نصيبهُ فقال : ما هذا ؟! قالوا : هذا غنيمةٌ لك ، فقال : ما أسْلَمْتُ على هذا ! أنا أسْلَمْتُ وعاهَدْتُ الله على الموت لا على أخذ الغنائم ، فلما بلَّغوا النبي تأثَّرَ تأثُّراً شديداً ، وفي المعْركة القادمة وُجِدَ مقْتولاً ، ومن شِدَّة ما مثَّل به الكُفار لم تَعُدْ تبْدو ملامِحُهُ ، إنما عَرَفَتْهُ أُخْتُهُ من خَنْصَرِهِ ، وقيل للنبي عليه الصلاة والسلام : هذا الذي رفض أن يأخذ الغنيمة وقال : آمنتُ على الذَّبح ، فقال عليه الصلاة والسلام : هو هو، قالوا : هو هو ، فَبَكى النبي عليه الصلاة والسلام .
قال سعيد فما إنْ سمِعْتُ كلامه ورأيته يمْتَشِقُ حُسامه ، ويَمْضي إلى لِقاء أعْداء الله حتى خررتُ إلى الأرض ، وجَفَوْتُ على رُكْبَتَي ، وأشْرَعْتُ رُمْحي ، وطَعَنْتُ أوَّل فارِسٍ أقبل علينا ، ثمَّ وَثَبْتُ على العَدُوّ ، وقد انْتَزَعَ الله كُلّ ما في قلبي من الخوف ، فالإنسان إذا نوى أعانه الله ، وبِالمُناسبة مرَّ معي قَوْلٌ مأثورٌ يُعْزى إلى النبي عليه الصلاة والسلام :" ما كان الله لِيُعَذِّب قَلْباً بِشَهْوَةٍ تركها صاحِبُها في سبيل الله " حينما تخْتارُ اخْتِياراً صحيحاً فالله عز وجل يمْلأُ قلبك غنىً وشَجاعَةً وطُمَأنينةً ، إذا خاف الناسُ فأنت مُطْمئِنّ ، وإذا ارْتَعَدَت فرائِص الناس فأنت مُتماسِك ، فهذا الصحابي يقول : لقد انْتَزَعَ الله كل ما في قلبي من الخوف ، فثار الناسُ في وُجوه الروم ، وما زالوا يُقاتِلونهم حتى كُتِبَ لهم النَّصْر ؛ أربعة وعشرون ألفاً انْتصروا على مئة وعشرين ألفاً! عِلْماً أنه إذا الْتقى مؤمن وكافر فالمَعْركة قصيرة لأن الموازين لِصالِح المؤمن والله معه ، وإذا الْتقى الكُفار مع بعضهم بعضاً فإنَّ المعركة تطول ، لأنَّ الموضوع للقُوَّة من السِلاحٍ والتكنولوجيا، كلُّ المُقَوِّمات التي يقولها الناس تدْخل في الحِسابات ، أما إذا كان فريق مؤمنٌ وفريقٌ غير مؤمن فالمعركة يحْسِمُها الله عز وجل بِتَأييده للمؤمنين .
سيِّدُنا سعيد بن زيد شَهِد فَتْح دِمَشْق ، فلما دانت للمسلمين بالطاعة جعله أبو عُبَيْدة بن الجراح والِياً عليها ، فكان سعيد أوَّل من وَلِيَ إمْرةَ دِمَشْق من المُسْلمين وهناك اسْتِنْباطٌ آخر ، في زمن بني أُميَّة وقعتْ لسيِّدنا سعيد بن زيد حادثة ظلّ أهل المدينة يتحدَّثون بها زمناً طويلاً ، وهذه القِصَّة أيها الإخوة تقع في كُلِّ زمان ، ذلك أنَّ أرْوَى بنت أُوَيْس زعمتْ أنَّ سعيد بن زيد - الصحابي الجليل وأحد المُبَشَّرين بالجنَّة - قد غَصَب شيئاً من أرضِها وضمَّها إلى أرْضه ، وجعلتْ تلوك ذلك بين المُسلمين ، وتتحدَّثُ به إلى أنْ رفَعَتْ أمْرها إلى مروان بن الحكم والي المدينة ، امرأةٌ أرادت أنْ تُشَهِّر بهذا الصحابي زاعِمَةً أنه أراد اغْتِصاب أرضِها وضمَّها إلى أرضه ، ولاكتْ هذا بِلِسانها ، وأذاعَتْهُ ونشَرَتْهُ ، وأرادتْ أنْ تفْضَحَهُ ، وأنْ تطْعن في أمانته ، وأنْ تهزَّ مكانته ، ولم تكْتفِ بِهذه الإشاعات وهذا الإرْجاف ، بل رفعتْ شَكْوى إلى والي المدينة ، واضْطرّ الوالي أنْ يُرْسِل إليه أشْخاصاً لِيُحَقِّقوا في الأمر ، فأرسل مروان بن الحكم أُناساً يُكَلِّمونه بِذلك ، فَصَعُبَ الأمر على صاحب رسول الله ، فأحْياناً يكون الشخصٌ له دَعْوة إلى الله ، ومؤمن ومسْتقيم ، يأتي خصْمٌ له يتَّهِمُهُ باتِّهامات لا أصْل لها ، بل باطلة ، ثمّ يُرَوِّجُها ، وذلك غافِلٌ عن كلِّ هذا ، حتى يصل الأمر إلى أنْ تسمع كلّ البلدة عما أذيع عنه ؛ أين دينه واسْتِقامته ؟ لأنَّ الشيطان يؤُزُّ الكافرُ أزاًّ ، فهذا الصحابي الجليل تألَّم أشّدَّ الألم ، وهل معْقولٌ أنْ يعْتدي هذا الصحابي المُبَشَّر بالجنة على أرْضِها ؟ وأين قَوْلُ النبي واتِّباعُ السُّنة ؟ وأين اسْتِقامته وطهارته وعِفَّتهُ ؟ إذا كان لك أخٌ مؤمن وتعرفه حقَّ المعْرفة وسَمِعْتَ عنه قِصَّة بِإمْكانك أنْ تنْفِيَها عنه وأنت مُطْمَئِنّ ، لا يُعْقَلُ أنْ يفعل هذا ، سيِّدُنا الصِّديق قيل له : اُنْظر ما قال صاحِبُك ؛ إنه ذهب إلى بيت المقْدِس ، وكانوا أساساً غير مُعْترفين به كَنَبِيّ ، وفوق هذا وذاك قال لهم : إنْ قال هذا فقد صَدَق ، فمن أساء الظنَّ بِأخيه المؤمن فقد أساء الظنَّ بِرَبِّه ، هذا مؤمن ويعرف الله ، ولا يسْتطيع أنْ يأكل دِرْهمًا حرامًا ، الإيمان قَيْدُ الفَتْك ، وحينما يُتَّهَمُ المؤمن يهْتزُّ عرشُ الرحمن ، إنسانٌ مُسْتقيمٌ عرف الله ، والْتَزَم أمْره ، وضَحى بالغالي والرخيص ، والنفْس والنَّفيس ، ثمَّ تَتَّهِمُهُ أنت ، وبِبَساطةٍ !! فَهذه المرأة أساءتْ إلى هذا الصحابي إساءةً بالغة ؛ يبْدو أنها شيْطان ، وأنَّ الشيْطان يؤُزُّها أزاًّ ؛ فشَهَّرتْ وأرْجَفَتْ ، ونشرتْ القِصَّة ، واشْتَكَتْ ، فصَعُبَ الأمر على صاحب رسول الله وقال :
يَرَوْنني ظالِماً أظْلِمُها ، فكيفَ أظْلِمُها وقد سَمِعْتُ رسول الله صلى الله عليه وسلَّم يقول : من ظلمَ شِبْراً من أرْضٍ طُوِّقَهُ يوم القِيامة من سبْعِ أرضين" اللهم إنها قد زعَمَتْ أنني ظلمْتُها ، فإنْ كانت كاذِبَةً فأعْمِ بصَرَها وألْقِها في بِئرها الذي تُنازِعُني فيها ، وأظهرْ من حقي نوراً يُبَيِّنُ للمسْلمين أنني لم أظْلِمْها " يا رب انْصُرني ، وأظهِر الحق ، وابْتَهَل إلى الله عز وجل من أعْماق قلبه ، فالله عز وجل استجاب له ، وأظْهرُ الحق .
إنَّ المؤمن ليس له اخْتِيار إذا رأى أمر الله وأمر رسوله فالله عز وجل قال :
[ الأحزاب : الآية 36 ]
وإذا قال الله أو قال رسولُه فالمؤمن يقول : سمعًا وطاعة .
حديثٌ عن رسول الله سَمِعَهُ بِأُذُنه من النبي صلى الله عليه وسلَّم :" من ظلمَ شِبْراً من الأرْضٍ كلَّفه الله تعالى أن يحفره حتى يبلغ سبع أرضين ثمّ يطُوِّقُهُ يوم القِيامة حتى يقْضي بين الناس"
[ رواه الطبراني في الكبير ]
وقال :" اللهم إنها زعَمَتْ أنني قد ظلمْتُها فإنْ كانت كاذِبَةً فأعْمِ بصَرَها ، وألْقِها في بِئرها الذي تُنازِعُني فيها ، وأظهر من حقي نوراً يُبَيِّنُ للمسْلمين أنني لم أظْلِمْها " يقولون : لَحْمُ العُلماء مسْموم فإذا انْزَعَجْتَ من إنسانٍ له دَعْوة فلا تكِدْه لأنَّ الله أكبر .
قال : فَلَمْ يمْضِ على ذلك إلا القليل حتى سال العقيق - وهو وادٍ في المدينة ويذكرُهُ المُنشدون - سال هذا الوادي سيْلاً لم يسِل مثله قطّ فَكَشَفَ عن الحدِّ الذي كانا يخْتَلِفان فيه ، وظهر للناس جميعاً أنَّ سعيداً كانَ صادِقاً ، ولم تَلْبث المرأة بعد ذلك إلا شَهْراً حتى عَمِيَتْ ، وبينما هي تطوفُ في أرْضِها تِلك سَقَطَتْ في بئْرها ، قال عبد الله بن عمر : فَكُنا ونحن غِلْمان نسْمع أحدهم يقول للآخر : أعْماك الله كما أعمى أرْوى ، فأصْبَحَتْ مضرب المثل ، وجعلها الله نكالاً ، فعلى الإنسان ألاّ يقترب من حدود شَخْصٍ من ذوي الخير ، ومن أصْحاب الدعوة ، ومن شَخْصٍ تسْتفيد منه الناس ، عليك أنْ تبْتعد عنه ، وقُلْ : حَسْبِيَ الله ونِعْم الوكيل ، ولا عَجَبَ في ذلك فالنبي عليه الصلاة والسلام يقول : اتَّقوا دعوة المظلوم فإنها ليس بينها وبين الله حِجاب "
[ رواه أحمد ]
فإذا شكاك إنسانٌ إلى الله ينْبغي - إنْ كنتَ تعرف الله - أنْ ترْتعدَ فرائِصُك ، وألاّ تنام الليل .
هناك خَبَرٌ في كتاب صِفَة الصَّفْوة ، يقول : له مِن الولد عبد الله الأكبر ، هذا واحد ، وعبد الله الأصغر ، وعبد الرحمن الأكبر ، وعبد الرحمن الأصغر ، وإبراهيم الأكبر ، وإبراهيم الأصغر ، وعمرو الأكبر ، وعمرو الأصغر وطلحة ، ومحمد ، وخالد ، وزيد ، واُمُّ الحَسَن الكبرى ، وأمُّ الحسن الصغرى ، وأمُّ حبيب الكبرى ، وأمُّ حبيب الصغرى ، وأمُّ زيد الكبرى والصغرى ، وعائِشَة ، وعاتِكَة وحَفْصَة وزَيْنب وأمُّ سلمة وأمُّ موسى وأمُّ سعيد ، وأمُّ النعمان ، وأمُّ صالح ، وأمُ خالد وأمُّ عبد ، ودَجْلة ، رزَقَهُ الله أولاداً كُثراً .
الآن ما الذي يُؤكِّدُ أنه من أصْحاب الجنَّة ؟ عَنْ سَعِيدِ بْنِ زَيْدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ أَنَّهُ قَالَ أَشْهَدُ عَلَى التِّسْعَةِ أَنَّهُمْ فِي الْجَنَّةِ وَلَوْ شَهِدْتُ عَلَى الْعَاشِرِ لَمْ آثَمْ قِيلَ وَكَيْفَ ذَلِكَ قَالَ كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِحِرَاءَ فَقَالَ اثْبُتْ حِرَاءُ فَإِنَّهُ لَيْسَ عَلَيْكَ إِلَّا نَبِيٌّ أَوْ صِدِّيقٌ أَوْ شَهِيدٌ قِيلَ وَمَنْ هُمْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَعُثْمَانُ وَعَلِيٌّ وَطَلْحَةُ وَالزُّبَيْرُ وَسَعْدٌ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ قِيلَ فَمَنْ الْعَاشِرُ قَالَ *
[رواه الترمذي]
كان العَشَرَة المُبشَّرين مع رسول الله صلى الله عليه وسلم على جبل حِراء ، قال له : اثْبُتْ حِرَاءُ فَإِنَّهُ لَيْسَ عَلَيْكَ إِلَّا نَبِيٌّ أَوْ صِدِّيقٌ أَوْ شَهِيدٌ ، وذكر من كان على الجبل .
[ رواه الترمذي]
قال سعيد بن زيد : أشْهد أني سمِعْتُ رسول الله صلى الله عليه وسلَّم يقول : أبو بكرٍ في الجنة وعمر في الجنَّة وعثمان في الجنَّة ....وسعْدُ في الجنَّة قال : فإن شِئتم أخْبرتكم بالعاشر وقال : أنا " وهذه أكبر شهادة أنْ يقول لك النبي : أنت من أهل الجنَّة " وعلماء العقيدة يقولون : ليس من أهل الجنَّة على التحْقيق إلا هؤلاء العشرة ، والبَقِيَّة على الرجاء ، والذين على التحقيق فهم العشرة المُبَشَّرون من رسول الله صلى الله عليه وسلَّم ، ويبدو أنهم بذلوا كلّ شيء ، وأحبوا رسول الله حباًّ جماً ، ولكن أبواب البُطولة مفْتوحة ، فالله هو ربنا ، والأعمال الصالحة مُتاحَةٌ لكم جميعاً ، فبِإمكانكم أنْ تطلبوا المال ، وأن تبْذلوه ، وأن تدعوا إلى الله ، وأنْ تلْتَزِموا الشرع ، وأنْ تكونوا قُدْوَةً لِغَيْرِكم ، كلُّ هذا بِإِمْكانكم لأنَّ الله عز وجل قال :
[ الواقعة : الآية 13-14 ]
عدد غفير ولكن بالنسبة للآخرين هم قليل ، فإذا كنتم طموحين ، وأردتم أنْ تبْلغوا أعلى المراتب عند الله عز وجل ، كما قال النبي الكريم :" ابتغوا الرِّفْعة عند الله .." لتبتغيها أيها المؤمن عند الله، ولا تبْتغها عند أهل الدنيا .
وهذه هي قصَّة سيّدنا سعيد بن زيد وقصة أبيه ، وفي هذه القِصَّة على قِلَّة أخْبارها عِبَرٌ واضحة ، ولكنها تحْمل اسْتِنْباطات كثيرة ؛ فالأب قال داعيًا : اللهم إن حَرَمْتني هذا الخير العظيم فلا تحْرِم منه ابني سعيدًا ، فَكُلُّ واحدٍ منا إذا كان له ابنٌ فعليه أنْ يعْتني به أشَدَّ العِناية ؛ لِيُعَلِّمْهُ العِلم الصحيح ، ليُراقب سُلوكه ، ولِيَدْفَعه لِطاعة الله ، فإذا نجا وأفْلح كان كلُّ عمله في صحيفة أبيه ، كما أنَّ عمل سيِّدنا سعيد بن زيدٍ في صحيفة والده زيد بن عمرو بن نفيل .
والحمد لله رب العالمين(/)
الدرس 29 / 50 : سيرة الصحابي سعيد بن عامر الجمحي لقضيلة الأستاذ الدكتور محمد راتب النابلسي .
تفريغ : م المهندس عرفان نابلسي .
التدقيق اللغوي : الأستاذ غازي القدسي .
التنقيح النهائي : المهندس غسان السراقبي .
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد الله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا ، وانفعنا بما علمتنا ، وزدنا علما ، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .
أيها الإخوة الأكارم ؛ مع بداية الدرس التاسع والعشرين من دروس سير صحابة رسول الله رضوان الله عنهم أجمعين ، وصحابيّ اليوم سيدنا سعيد بن عامر الجمحي .
وقبل أن نبدأ الحديث عن سيرة هذا الصحابي الجليل لا بد من كلمة أمهِّد بها لمحور هذه السيرة .
الإنسان أيها الإخوة له شهوتان كبيرتان في حياته ؛ شهوة المال ، وشهوة النساء ، ولو أردتم أن تحصوا المعاصي المتعلقة بهاتين الشهوتين لوجدتم أن تسعة أعشار المعاصي - ولا أبالغ - متعلقة بكسب المال ، ومقاربة النساء لذلك ترى في القرآن الكريم ، وفي السنة المطهرة آيات كثيرة وأحاديث كثيرة تشدِّد على الانضباط ، فنحن إذا اخترنا صحابياً جليلاً ، وبرزتْ فيه صفةُ العفّة ، التي هي مِن آثار الإيمان ، والإيمان عفّة ، فهذا الصحابي سعيد بن عامر المؤمن، بالتعبير اليومي "نفسه خضرة " ، والمؤمن مسموح له في القنوات النظامية ، قال تعالى :
(سورة المؤمنون )
النقطة الدقيقة أن هذا الصحابي سوف ترون لديه عفة ما بعدها عفة ، ونزاهة ما بعدها نزاهة ، والحقيقة هذه ثمرة يانعة تجدها عند المؤمن ، فما قيمة المعلومات إنْ لم تكن مثمرة ثمارًا يانعة ؟ كل إنسان ذكي ينتسب إلى الجامعة يقرأ عددًا من الكتب ، ويحفظ ما فيها ، ويكون طليق اللسان ، الكلام سهل جداً ، النقطة الدقيقة لو أنّك تعلمتَ ، وفهمتَ ، وتكلمتَ ولم تكن في مستوى الكلام فهذا الشيء لا يقدِّم ولا يؤخِّر ، فنجاح الإنسان ليس في مدى معلوماته، بل في مدى تطبيقاته ، وسوف ترون بعد قليل أن هذا الصحابي الجليل كان في أعلى درجات العفة .
هذا الصحابي سعيد بن عامر الجمحي كان واحداً من الآلاف المؤلفة الذين خرجوا إلى منطقة التنعيم ، وإذا أكرمَ اللهُ أحدَكم بالحج أو بالعمرة ، فلأداءِ العمرة ينطلق المعتمِرُ إلى التنعيم، مكان مسجد السيدة عائشة ، هذا المكان كان في عهد النبي خارج مكة ، وفي ظاهرها .
آلاف مؤلفة خرجوا إلى منطقة التنعيم في ظاهر مكة ، بدعوة من زعماء قريش ، ليشهدوا مصرع خبيب بن عدي ، أحد أصحاب محمد ، بعد أن ظفروا به غدراً بعد معركة بدر الحاسمة، التي جعلت أنوف قريش في الوحل ، قِلَّة قليلة ؛ ثلاثمائة صحابي على ضُعفٍ في قوتهم وعدتهم وعتادهم ، لكنهم على قوةٍ في إيمانهم جعلوا صناديد قريش ، زعيمة الجزيرة العربية راغمة أنوفها ، ويذلُّونها ، فتركت معركة بدر أثرًا نفسيًّا سلبيًّا جداً عند قريش ، لذلك غلت دماؤهم ، واشتد حقدهم ، وأي صحابي عثروا عليه ولو غدراً يقتلونه ، ويمثلون به ، ليشفوا غليلهم ، فهذا الصحابي سيدنا خبيب بن عدي رضي الله عنه لحكمة أرادها الله وقع بأيدي كفار قريش ، وكلكم يعلم أن هذه الحياة الدنيا لا قيمة لها ، فأيُّ إنسان شاءت حكمة الله أن ينتهي أجله ، وكان الله راضيًا عنه ينطبق عليه قول الله عز وجل :
(سورة يس )
وعندما يُسعِد اللهُ إنسانًا فهذا شأنٌ لا يوصف ، وإذا ألقى الله عز وجل في قلبك رحمته فأنت أسعد الناس ، ولو كنت أفقر الناس ، وأنت أسعد الناس ، ولو كنت أشد الناس مرضاً ، وأنت أسعد الناس ، ولو كانت ظروف حياتك في منتهى القسوة والخشونة ، وإذا حَجَبَ عنك رحمته ، وكنت مترفًا إلى أعلى درجة كنت أشقى الناس فخبيب أُلقِيَ القبض عليه ، وسيق ليُقتَل مع التمثيل به.
يجب أن تعلموا أيها الإخوة ، أنّ فعل الإيمان بالنفس كفعلِ السحر ، أمرٌ لا يصدق ، ليس هذا لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فحسب ، لا واللهِ ، بل هو لكل مؤمن سلك مسلكهم ، ولكل مؤمن عرف ربه ، ولكل مؤمن التزم منهج ربه ، ولكل مؤمن أخلص لله ، ولا بد أن يكرمه الله عز وجل ، يقال : هذه كرامات ، تعريف الكرامة أنك حينما تطيع الله ، وحينما تخلص ، وحينما تحبُّ الله حقًّا ، فلا بد أنّ الله جل جلاله يبادلك حبًّا بحبٍّ عن طريق التكريم ، فيُحدِث لك أمورًا غريبة ، وترى الأمور ميسرة لك ، ولك هيبة كبيرة عند الناس ، وأنت مرتاح، ليس عندك الشعور بالقهر ، شعورك النفسي سويٌّ ، وأنت أسعد الناس ولو أنك تفتقر إلى كل شيء ، هذا الحديث يطول ، قال تعالى :
(سورة النحل )
واللهِ أيها الإخوة ، أنا إذا التقيت بأخ كريم من إخواننا ، وسألته السؤال التقليدي : كيف حالك ، صدِّقوني أحياناً أشعر بغبطة ما بعدها غبطة ، إذا قال لي هذا الأخ : الحمد لله ، فإنّه يقولها من أعماق نفسه ، سعيد بالله ، وهو لا يملك بيتًا ، ولم يتزوج ، ولا عمل له ، لكنه سعد بالله رغم أصعب الظروف ، وأخشن أنواع الحياة ، وأقسى المنغِّصات ، وتلتقي بإنسان معه أموال ، لو أحبَّ أن ينفق باليوم مائة ألف وعاش مائة سنة لكَفَتْه ، ويقول لك : السوق مسموم ، ولا يعاش في هذا البلد ، يا لطيف ! .
عنده أموال لا تأكلها النيران ، وتشعر أنه من أشقى الناس ، وتلتقي بمؤمن في أدنى مستويات المعيشة ، فيقول لك : الحمد لله ، أنا تقريباً شعرتُ بالتجربة ، لأنّ اتصال المؤمن بالله اتصال حقيقيٌّ ، واصطلاحه مع الله ، وأوبته إليه ، وعودته إليه ، وإخلاصه له ، وطاعته له ، وبذله ، وإنفاقه ، هذا كله يكسبه كرامة عند الله تتجلى بنواحي شتى ، إحداها الطمأنينة ، قال تعالى :
(سورة الرعد )
إحداها الشعور بالرضى ، فلا يسخط ، وعلامة المؤمن أنّه راضٍ عن الله ، راضٍ عن نفسه، راضٍ عن جسمه ، وعن وضعه العائلي ، وعن عمله ، وعن زوجته وأولاده ، يقول لك : الله حكيم فاختار لي الأحسن دائمًا ، فحالة الرضى لا تقدر بثمن .
يا أيها الأخوة ؛ أن ترضى عن الله ، معنى ذلك أنك تعرفه ، أن ترضى بالقضاء والقدر ، معنى ذلك أنك مؤمن بأنَّ الله حكيم ورحيم وغني وكريم وعادل ، وأن تفتقد أشياء كثيرة في الدنيا ، وأنت متفائل ، معنى ذلك أن كل همِّك الآخرة ، والدنيا لا قيمة لها ، وهذا كلام النبي صلى الله عليه ، وأحيانًا لا يستوعبه الإنسان ، فعَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَوْ كَانَتْ الدُّنْيَا تَعْدِلُ عِنْدَ اللَّهِ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ مَا سَقَى كَافِرًا مِنْهَا شَرْبَةَ مَاءٍ *
(رواه الترمذي)
أظنّ جازمًا أنه ما مِن مخلوق أهون على كل الناس كالبعوضة ، فإذا وقفتْ على يد شخص بعوضةٌ وقتلها هل يشعر في نفسه أنه قاتل ؟ هل يشعر أنه مجرم مذنب ؟ لا ، إطلاقاً ، إذاً فلا قيمة لها ، فكيف بجناحها لَوْ كَانَتْ الدُّنْيَا تَعْدِلُ عِنْدَ اللَّهِ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ مَا سَقَى كَافِرًا مِنْهَا شَرْبَةَ مَاءٍ *
(رواه الترمذي)
لذلك إن الله يعطي الدنيا لمَن يحبّ ، ولمن لا يحب ، فليست الدنيا مقياساً إطلاقاً ، قد تكون أفقر الناس ، وأنت عند الله في مرتبة عالية جداً ، والقاعدة معروفة ، إنّ الله أعطى المال لمَن لا يحبُّ ؛ أعطاه لفرعون ، وأعطاه لقارون ، وأعطاه لمن يحب ؛ أعطاه لسيدنا ابن عوف ، فكان من أغنى الصحابة ، فإذا أعطاه للكافر وللمؤمن هل يصلح كمقياس ؟ لا يصلح لذلك البتة .
القوة أعطاها لفرعون ، وأعطاها لسليمان الحكيم ، سيدنا سليمان كان ملكًا من أعظم الملوك، قال تعالى :
(سورة ص)
وفرعون كان قال تعالى :
(سورة النازعات )
فما دام الشيء أُعطِي لأَحبِّ الناس إلى الله ولأبغضِهم إليه فهل يُعدُّ مقياساً ؟ فلا القوة مقياس ، ولا المال مقياس ، وقد تجد شخصًا وسيمًا بهيَّ الطلعة ، ولكنه فاجر فاسق كافر .
وترى شخصًا كما وصفه الواصفون ، قصير القامة ، أحنف الرِّجل ، مائل الذقن ، ناتئ الوجنتين ، ضيق الكتفين ، أسمر اللون ، ليس شيء من قبح المنظر إلا وهو آخذٌ منه بنصيب ، وكان مع ذلك سيد قومه ، فحتى الشكلُ لا قيمة له ، ولا المال ، ولا المال ، ولا الغنى ، ولا القوة والسلطة لها قيمة ، قيمة واحدة فوق القيم كلها هي مدى معرفتك بالله ، ومدى طاعتك له ، قال تعالى :
(سورة الحجرات )
هذا هو المقياس ، لذلك فأنا تكلمتُ يومًا على منبر الجمعة في خطبة عن الحج : أن الإنسان في الدنيا تتحكم فيه قيم مادية طاغية ، تحجبه عن حقيقته الإنسانية ، لأنه يستخدم موازين خاطئة ، وحجبٌ مُضَلِّلة ، ويكون عنده أقنعة مزيفة ، ولكنْ عند الموت تسقط كل هذه الأقنعة المزيفة ، وتُزاح الحجب المضللة ، وتتلاشى القيم المادية ، وتحطم الموازين غير الصحيحة ، ليحاسب في ضوء قيم جديدة ، وموازين جديدة ، فما هي هذه المقاييس ؟ وما هي هذه الموازين والقيم ؟ إنها مدى معرفتك بالله ، ومدى معرفتك بمنهج الله ، ومدى استقامتك على منهج الله ، وحجم عملك الصالح الذي نفعت به الخلق ، فهي أربعة موازين فاستمسِكْ بغرزِها .
ثمّ إنّ مكتسبات الإنسان إذا وضعت على هذا المحك يجب أن تستخدم مقياس ربنا عز وجل، فلا تفرحٍ بالدنيا ، أنا أقول لكم : قل لي ما الذي يفرحك ، أقل لك مَن أنت ، أيفرحك أن تنال مبلغاً كبيراً ، وبيتًا واسعًا ، وزوجة تروق لك ، أم أنّ الذي يفرحك أن يرضى الله عنك ، وأن تتعلم العلم الصحيح ، وأن تتمثل بالقيم الصحيحة ، وأن يجري الله على يديك العملَ الصالحَ .
فهذا سيدنا خبيب بن عدي إما أنه ليس بشرًا ، بل فوق البشر ، وإمّا أننا لسنا بشرًا ، وسنشاهد بعد حينٍ إنسانًا أُلقِي القبضُ عليه غدراً ، وسيق ليُقتَل ، ويمثَّل به ، وهو في أسعد لحظات حياته ، الآن إذا تلقى الشخصُ خبرًا سيّئًا عن صحته فلا أحدَ يتكلم معه أبداً ، فقد لجأ إلى النوم من شدة الألم واليأس والخوف ، ذهبَ شبابُ مكة ليشاهدوا مصرعَ خبيب ، قد يصدرُ أمرٌ مِن قيادة الجيش ، التي ترتئي أن تعدم إنسانًا خائنًا لوطنه ، فهذا الإعدام لا يتمّ في غرفة ، بل يتم في ساحة عامة ، ويُدعى مِن كل الفئات أناس ليشاهدوا هذا الإعدام ليتعظوا ، هذا السلوك في أصله صحيح ، لكنه هنا باطل محض ، فالشباب متّجهون إلى التنعيم ليشاهدوا مصرع خبيب بن عدي ، فقد كان خبيب بن عدي شابًا موفور الشباب ، فتىً متدفقًا موفورَ الفتوة ، ومع ذلك هذا مصيره الذي أراده الله له ، لكن العبرة في الخاتمة الحسنة ، وهي الجنة ، قال تعالى:
(سورة يس )
وصلت هذه الجموع الحاشدة بأسيرها إلى المكان المُعَدِّ لقتله ، فوقف الفتى سعيد بن عامر الجمحي - صحابي اليوم - بقامته الممدودة يطلّ على خبيب ، ولم يكن مسلماً يومئذٍ ، وقف يطل على خبيب ، وهو يقدم إلى خشبة الصلب ، وسمع صوته الثابت الهادئ من خلال صياح النسوة والصبيان ، وهو يقول : إن شئتم أن تتركوني أركع ركعتين قبل مصرعي فافعلوا ، فالصلاة عنده أعظم شيء في حياته ، أنا راضٍ بما كتبه الله لي ، لكن هل تسمحون لي أن أركع ركعتين ؟ ففعلوا ، فنظر إليه سيدنا سعيد بن عامر الجمحي وهو يصلي ركعتين ، ويستقبل الكعبة ويصلي ، وقال : يا لحسنهما !! ويا لتمامهما !! صلاة متقنة فيها خشوع ، فإذا جاءت شخصًا رسالةٌ مزعجة فإنه يقول : واللهِ لم أعرف كيف أصلي ، وهذا سيموت بعد قليل ويُعدم ، ويصلِّي صلاةً ما أروعها من صلاة ، دهش زعماء قريش ، فما خاف ، أين الفزع ؟! أين الجزع ؟! أين التوسل ؟! أين البكاء ؟! أين لطم الخدود ؟! أين الصياح بالويل ؟! أهكذا أحوال الناس ؟ كلها تكون بثبات وجرأة وثقة ؟ لا ، ثم لا .
قال : إن شئتم أن تتركوني أن أركع ركعتين قبل مصرعي ، ففعلوا ، لكنه كان ذكياً ، وكان حكيماً ، فما أطال الركعتين ، ولو أنه أطالهما لظنوا أنه خائف ، ويؤخِّر وقت الإعدام ، فاتَّجه إلى زعماء قريش ، وقال : واللهِ لولا أن تظنّوا أني أطلتُ الصلاة جزعًا من الموت لاستكثرتُ ِمنها ، لكن اقتصرت على ركعتين خفيفتين لئلا تظنوا أني خائف من الموت ، ثم شهد قومُه ، وشهد أيضًا سعيدُ بن عامر الجمحي صحابي اليوم ، وكان وقتها مشركاً ، شهد سعيدٌ قومَه بعينَيْ رأسه وهم يمثِّلون بخبيب ، وهو حيٌّ ، فيقطعون من جسده القطعة تلو القطعة، وهم يقولون : أتحبُّ أن يكون محمداً مكانَك ، وأنت ناجٍ ؟ فيقول والدماء تنزف منه : واللهِ ما أُحبُّ أن أكون آمناً وادعاً في أهلي وولدي ، فكلمة (ِآمن) معروفة ، أما كلمة (وادع) تعني أنّ عنده طعامًا وفواكه ، ووردًا ، وبيتًا واسعًا ، وأولاده في أحسنِ زينة ، وزوجته أمامه .
ما أحب أن أكون آمناً وادعاً في أهلي وولدي وعندي عافية الدنيا ونعيمها ويصاب محمّدٌ بشوكة ، ما هذا ؟ واللهِ إني كنت ولا زلتُ أقول : إذا كان الصحابة من البشر ، فنحن لسنا من البشر ، نحن دون البشر ، وإن كنّا بشرًا فَهُمْ فوق البشر ، إنسان يقطع لحمه ، وتقطع أعضاؤه ، ثم يُسأَل : أتحب أن يكون محمدٌ مكانك ؟ ماذا فعل لَهُ النبي ؟ هداه إلى الله ، ماذا أعطاه النبي حتى قُتِل من أجل إيمانه برسول الله ؟ لقد أعطاه الهدى والإيمان ، فإذا جاء أحدَنا شرٌّ من شريكه يقول : لَعَنَ اللهُ الساعةَ التي شاركتُه فيها ، أليس كذلك ؟ وإذا جاءته متاعب من شخص يلعن الساعة التي رآه فيها .
لكنّ خبيبًا سيق إلى القتل وإلى التمثيل لأنه آمن بالله ورسوله عليه الصلاة والسلام ، وقيل له : أتحب أن يكون محمد مكانك ، وأنت معافى في أهلك ؟ فقال : واللهِ ما أُحِبّ أن أكون في أهلي وفي ولدي وعندي عافية الدنيا ونعيمها ويصاب رسولُ الله بشوكة ، لذلك دهش أبو سفيان، بل صُعق ، فقال : ما رأيت أحداً يحب أحداً كحُبِّ أصحابِ محمدٍ محمداً .
إخواننا ، الإيمان حبٌّ ، فيجب أن تحبّ اللهَ ، وأن يكون اللهُ أحبَّ إليك من كل شيء ، كيف ذلك ؟ إذا تلقيت أمرًا من إنسان مخالفًا لأمر الله ، لو قطعوك إرْباً إرْباً فلا تعصِ الله ، لأن اللهَ أحبُّ إليك من أيّ شيء ، قال تعالى :
(سورة التوبة )
يجب أن تحبَّ رسولَ الله ، وعلامةُ محبتك له اتّباعُك له ، ويجب أن تحبّ المؤمنين ، وحينما تكره مؤمناً فهذا مؤشر خطير ، ومعنى ذلك أنك في خندق المنافقين ، فهذا مؤمن مطيع لله ، متأدِّب مع الله ، عبد لله ، منصف ، وعلى جادة الحق ، فلماذا تكرهه ؟ فكراهية المؤمنين علامة ليست طيبة ، بل هي علامة خطيرة ، والدليل قول الله عز وجل :
(سورة التوبة )
إذا أخذ أخٌ من إخوانك شهادة عليا ، وأنت لا تملك هذه الشهادة ، الدكتوراه مثلاً ، تقول : لا يستحقها ، تفرح أم تنزعج ؟ أخوك اشترى بيتًا ، أو تعيَّن في منصب رفيع ، أو تزوج بنَت شخص غنيّ ، فأكرمه وأعطاه بيتًا ، أو أصابته نعمة وأنت انزعجت ، فهذه علامة النفاق ، وإذا أصابه خير ، وفرحت فأنت مؤمن سليم القلب والنفس ، واللهِ الذي لا إله إلا هو لا أشعر بطمأنينة إلا عندما أشعر أن أي أخ وصل إلى خيرٍ وفلاحٍ ، وكأني أنا أصبتُه ، وأعدُّه كسبًا للمؤمنين ، والحمد لله .
فعلامة إيمانك أن تفرح لإخوانك المؤمنين ، وهذا التحاسد والتباغض والطعن ، هذا كله من صفات المنافقين ، وليس المؤمن بفاحش ولا صخّاب ولا عيّاب .
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ لَا يَظْلِمُهُ وَلَا يُسْلِمُهُ مَنْ كَانَ فِي حَاجَةِ أَخِيهِ فَإِنَّ اللَّهَ فِي حَاجَتِهِ وَمَنْ فَرَّجَ عَنْ مُسْلِمٍ كُرْبَةً فَرَّجَ اللَّهُ عَنْهُ بِهَا كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ *
(متفق عليه)
قال أبو سفيان : ما رأيت أحداً يحبّ أحداً كحبّ أصحاب محمد محمداً ، لكن سيدنا سعيد بن عامر نظر إلى خبيب بن عدي ، وقد رفع بصره إلى السماء مِن فوق خشبة الصلب ، وكان يقول : اللهم أحصهم عددا، واقتلهم بددا ، ولا تبقِ منهم أحدا ، فلك الحق أن تدعو على الكفار المجرمين ، الذين يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم ، قال : اللهم أحصهم عدداً واقتلهم بدداً، ولا تغادر منهم أحداً ، ثم لفظ أنفاسه الأخيرة ، وبه ما لم يستطع على إحصائه من ضربات السيوف ، وطعنات الرماح ، فقد صبُّوا كل حقدهم وكل ضيقهم على هذا الصحابي الجليل ، وقتلوه ومثَّلوا به .
وكان مما قال قبل موته بيتين من الشعر :
***
ولستُ أبالي حين أُقتَلُ مسلما على أي شق كان لله مصرعِي
وذلك في ذات الإلهِ وإن يشأ يبارك على أوصال شِلوٍ ممزعِ
***
(انظر في ذلك تفسير القرطبي للآية 77من سورة الكهف)
إنّ الله عز وجل قادر في المعركة أن لا يذيق الشهيدَ طعمَ الألم ، وهذا شيء ثابت في السنة، وفي صحيح البخاري ، الشهيد لا يشعر بألم الجراح إطلاقاً ، وهناك شواهد قطعية واقعية، فالإنسان اخترع المخدِّر ، فترى المريضَ مستلقيًا على المنصة في غرفة العمليات ، والشرايين مربوطة ، والقلب صناعي ، وبالمنشار شققنا الصدر ، وفتحنا القفص الصدري ، وخرج القلب ، وفتحوا القلب ، ووصلوا إلى الدسام ، والإنسان المريض مرتاح ، الإنسان يخترع مخدرًا ليخفف عنه الألم ، وخالق الكون إذا استحق إنسانٌ الشهادة ، والأعداء طعنوه وقطّعوه إرْبًا إرْبًا أفلا يستطيع الله أن يمنع عنه العذاب ؟ واللهِ أنا مؤمن إيمانًا قطعيًّا أن كل إنسان يموت في سبيل الله لا يمكن أن يشعر بالألم إطلاقاً ، وثمّة أدلة كثيرة .
النبي الكريم وصف الشهيد بثلاث صفات ؛ أن لدمه رائحة المسك ، وأن الله يريه مقامه في الجنة ، وأن الله يعفيه من ألم الجراح .
لا يشعر بآلام ، ويرى مقامه في الجنة ، وتفوح من دمه رائحة المسك ، هذه الصفات الثلاث وردت في حديث صحيح رواه الإمام البخاري ، وذلك حينما يضع الإنسان نفسه في سبيل الله ليموت يشعر بهذا الشعور .
لقد لَفَظ خبيب أنفاسه الأخيرة ، واستحق جنة ربه ، قال تعالى :
(سورة الذاريات )
(سورة الحاقة )
وكل شيء بحساب .
عادت قريش إلى مكة ، ونسيت في زحمة الأحداث الجسام خبيباً ومصرعه ، لكن الفتى اليافع سعيد بن عامر الجمحي لم يغِب خبيبٌ عن خاطره لحظةً ، فصورة خبيب وكيف قتلوه ، وكيف قطعوا من لحمه ، وكيف عذبوه ، وكيف صلى ، وكيف دعا عليهم ، هذه الصورة لم تغِبْ عن ذهنه إطلاقاً ، فكان يراه في الحلم إذا نام ، ويراه بخياله إذا استيقظ ، ويمثُل أمامه وهو يصلي ركعتين هادئتين مطمئنً أمام خشبة الصلب ، ويسمع رنين صوته في أذنيه ، وهو يدعو على قريش ، فيخشى أن تصعقه صاعقة ، أو تخرّ عليه صخرة من السماء ، يشعر نفسه أنه مجرم ، لأنه ما نصره ، ولأنه سكت .
لذلك أيها الإخوة ، إذا كان الشخصُ بمكان ، وله أخ مؤمن ظُلِم ، وهو قادر أن ينصره ، ولم ينصره ، فإنّ الله عز وجل سيحاسبه حساباً شديداً ، وإذا ظلم في حضرتك مؤمن ، وأنت قادر أن تنصره ، لكنّك آثرت السلامة ، وأنت قوي ، وفي مركز قوي ، وهذا الذي يظلمه تحت يدك ، وهذا مؤمن وتعرفه مستقيمًا بريئًا ، وهذه التهمة ألبسوه إياها إلباسًا ، وأنت تستطيع أن تنصره ، وقلت : لا علاقة لي ، له رب يتولى أمره ، ما شاء الله على هذا الكلام ، أنت خليفة في الأرض ، قال تعالى :
(سورة محمد )
فهذا سيدنا سعيد بن عامر الجمحي ينام فيراه في منامه ، ويجلس أمامه ، وصورته في أثناء قتله وفي أثناء دعائه وصلاته ماثلة لا تبرح ذهنه إطلاقاً ، لكن الحقيقة سيدنا سعيد بن عامر الجمحي كان وقتها قريبًا من الإسلام ، رغم أنه كان مشركاً ، بل كان على مشارف الإيمان ، لذلك فقدْ علِم أن الحياة عقيدة وجهاد .
***
قِفْ دونَ رأيك في الحياة مناضلاً إن الحياة عقيدة وجهاد
***
والباقي لا شيء ، تفاهة في تفاهة ، اعتنقتَ مذهبًا عظيمًا ، وبذلت من أجله الغالي والرخيص ، والنفس والنفيس ، فأنت في الدرجات العلا إيمانا وثوابا ، وأعظم شيء في الحياة أن تؤمن بالله ، وأن تضع كل إمكاناتك في الدعوة .
إنّ الإيمان الراسخ يفعل الأعاجيب ، ويصنع المعجزات ، فواللهِ إنّ الإيمان الحقيقي لَيصنع من الإنسان شخصيةً أخرى .
وهذا مثل بسيط جداً ، وقد يكون تافهًا ، قال لي أخ : وقفتُ على بائع أريد أن أشتري بيضًا، فقلت له : أريد أن أشتري بيضًا طازجًا فقال لي : البيض الذي عندي منذ أربعة أيام ، وجارنا أحضر بيضًا الآن ، لقد صُدِمْتُ ، لأن هذا هو المؤمن حقًّا ، هذا أبسط شيء في الإيمان، تاجر نصوح لا يكذب ، وشراء البيض أمرٌ بسيط ، لكن صدقه يلفت النظر .
قال له أبو سفيان : أتحب أن يكون محمد مكانك ، وأنت معافىً ، فيقول خبيب : واللهِ ما أحبّ أن أكون في أهلي وولدي ، وعندي عافية الدنيا ونعيمها ، ويصاب رسولُ الله بشوكة ، فهذا ليس إنسانًا عاديًّا ، كلامه ليس ككلامنا ، وموقفه ليس كموقفنا ، فنحن نرضى بالسلامة لأنفسنا ، ولو على حساب غيرنا ، أما خبيب فحبُّه ما بعده حبٌّ لهذا النبي ، الذي مات بسبب إيمانه به ، لقد شعَر سيدنا سعيد بن عامر الجمحي أنّ هذا الرجل الذي يحبه أصحابُه هذا الحب ليس إنسانًا عاديًّا ، بل هو نبي مؤَيَّد من السماء ، ونحن لم يُتَحْ لنا أن نرى أنبياء ، فإذا جلس مع مؤمن أعلى منه يقول : واللهِ استأنست ، وشعرت براحة ، فأحواله طيبة ومستقرة ، فإذا جلستَ مع مؤمن سبقك أكثر منك إيمانًا تشعر براحة ، والجلوس معه سعادة ، فكيف لو التقينا مع نبي .
سيدنا ربيعة عندما قال له النبي : الآن الخدمة انتهت فاذهب إلى البيت ، يبقى على عتبة البيت ، لأنّ قوة جذب النبيِّ عجيبة جداً ، حتى إنهم قالوا : إنّ محمداً سحَرَ أصحابَه ، سحرهم بكماله .
إلى أن شرح الله صدر سعيد بن عامر الجمحي إلى الإسلام ، وأعلن براءته من آثام قريش، ومن أوزارها ، وخلعه لأصنامها وأوثانها ، ودخوله في دين الله ، وهاجر سعيد بن عامر إلى المدينة ، ولزم النبي صلى الله عليه وسلم ، وشهد معه خيبر وما بعدها من الغزوات ، ولما انتقل النبي الكريم إلى جوار ربه وهو راضٍ عنه ، ظل مِن بعده سيفاً مسلولاً في أيدي خليفتيه أبي بكر وعمر ، وعاش مثلاً فريداً فذاً للمؤمن الذي اشترى الآخرة بالدنيا ، وآثر مرضاة الله وثوابه على سائر رغبات النفس وشهوات الجسد .
فمركز الثقل في السيرة علاقته بسيدنا عمر ، وكل إنسان له مركز ثقل ، لقد أسلم خبيب متأخرًا ، ودخل مع النبي ، وجاهد معه ، لكن بطولته والصفحات المتألقة في حياته كانت في عصر سيدنا عمر بن الخطاب ، الذي كان يعرف لسعيد بن عامر صدقه وتقواه ، ويستمع إلى نصحه ، ويصغي إلى قوله .
فمرة دخَلَ سعيد بن عامر الجمحي على سيدنا عمر في أول خلافته ، فقال : يا عمر ، أوصيك أن تخشى الله في الناس ، اسمعوا ، فهذه قاعدة إيمانية ، أنا سوف أقدمها هدية لكم ، أنت بائع ، تاجر ، موظف ، مهما كانت الحرفة التي تتعامل مِن خلالها مع الناس ، إذا خفتَ الله في الناس ، فما آذيتَهم ، وما غششتَهم ، وما كذبتَ عليهم وما احتلت عليهم ، وعاملت كل واحد منهم كأنّ الله هو المحامي ، وكأن الله هو الوكيل ، فإذا خفتَ الله في الناس فأنت في موكب النجاة، اسمعوا الجواب : لن يخيفك الله من الناس ، قال لي واحد : واللهِ يا أستاذ دخل عليّ موظف تموين ، فصارت ركبي ترجف ، فانطلقتُ رأساً إلى طبيب القلب ، وخططتُ فشعرتُ بضيق ، إنسان يدخل إلى محلك ، فيسبِّب لك أزمة قلبية ، أمّا لو فرضنا بائِعًا ما دخل زبون إلى المحل إلا وباعه بصدق وأمانة ونصيحة ، وما كذب ، ولا غشَّ ، ولا أخذَ أكثر مما ينبغي ، ولا استغلَّ جهل الزبون ، فأنت تخاف من الله ، فلن يخوِّفك من الناس ، هذا شيء مستحيل ، فلنسْمعْ ما قاله سعيد بن عامر لعمر ، ولنفقَهْ دقة العبارة ، قال له : أوصيك أن تخشى الله في الناس ، ولا تخش الناس في الله ، ما أجمل هذه الكلمة ، وألاّ يخالف قولك فعلك ، فإن خيرَ القول ما صدقه الفعل .
نصيحتان موجزتان عميقتان سريعتان قال له : أوصيك يا عمر أنْ تخشى الله في الناس، ولا تخش الناس في الله ، وألاّ يخالف قولك فعلك ، فإن خير القول ما صدقه العمل ، فهل تجد إنسانًا في الأنظمة الحديثة يخاطب ملِكًا بهذه الطريقة ؟! هذا مستحيل ، يا عمر ، الحمد لله الذي أخرجنا من جور الحكام إلى عدل الإسلام ، يا عمر : أقم وجهك لمن ولاّك الله وجهه من بعيدِ المسلمين وقريبِهم ، وأحِبَّ لهم ما تحب لنفسك وأهل بيتك ، واكرهْ لهم ما تكره لنفسك وأهل بيتك ، وخصّ الغمرات إلى الحق ، ولا تخف في الله لومة لائم .
إنسان مغمور ضعيف عييّ اللسان أعطِه حقه الكامل .
قد ترى قصابًا يأتي إليه طفل يريد أوقية لحم ، وهذا الطفل لو أعطاه رديء اللحم ، وهو لا يعرف شيئًا ، فأين إيمانك ؟ يظهر مع طفل صغير ، أما إذا كان الزبون عينه عشرة عشرة عليك، يقول : اقطع هذه ، وهذه وخذ ما تريد ، يأخذ زهرة الخاروف ، أما إن جاءه طفل ، وقال لك : أعطِني أوقية لحم مفرومة ، فقد يعطيه القصّابُ أردأَ ما عنده ، فلو كان مؤمنًا والله ليعطينّه إياها كما لو كانت لبيته ، فهذا المؤمن إذًا ، وهذا هو الدين .
"يا عمر ، أقم وجهك لمن ولاّك الله وجهه من بعيدِ المسلمين وقريبِهم ، وأحبَّ لهم ما تحب لنفسك وأهل بيتك ، واكرهْ لهم ما تكره لنفسك وأهل بيتك ، وخُصَّ الغمرات إلى الحق ، ولا تخف في الله لومة لائم ، فقال عمر : من يستطيع ذلك يا سعيد ؟ فقال : يستطيعه رجل مثلك ممَّن ولاهم الله أمر أمة محمد ، وليس بينهم وبين الله أحد " ، أنت أعلى واحد قوة ومرتبة عند الله عز وجل .
مرة سيدنا عمر كان يخطب ، فقطع الخطبة ، وتكلم كلامًا لا معنى له ، مثل الإعلانات في الأخبار ، لا علاقة للأخبار في الإعلان ، يخطب وفجأةً قطع الخطبة ، وقال : يا عمر كنتَ عميرًا ترعى غنمات لبني مخزوم ، وتابع الخطبة ، ما علاقة هذا الكلام بالموضوع ؟ فلما انتهت الخطبة سأله أحد الصحابة ، وهو سيدنا ابن عوف عن تلك الجملة الدخيلة على الخطبة ، فأجابه : واللهِ وأنا أخطبُ قالت لي نفسي : أنت أمير المؤمنين ، وليس بين الناس وبين الله أحد إلا أنت ، فأردت أن أعرِّف نفسي حقيقتها ، لقد كنتَ عُميرًا رَاعي الغنم ، وهذه حقيقته ، وقطع الخطبة وعرّف الناس مَن هو ، وتابع ، عظماء علماء كادوا من فقههم أن يكونوا أنبياء .
الإنسان العاقل لا يتكبر ، ومَن تكبَّر فإنّ الله يضعه ، ومن تواضع لله رفعه ، ومن تكبر وضعه .
ويدعو سيدنا عمر عميرًا إلى مؤازرته ، وقال له : يا سعيد ، إني ولَّيتُك على أهل حمص، فقال يا عمر : ناشدتك الله ألا تفتننِّي ، فغضب عمر ، وقال : ويحكم ويحكم !! وضعتم هذا الأمر في عنقي ، ثم تخليتم عني ، يجب أن تعينوني ، لا يقدر إنسان أنْ ينجح بمفرده ، حتى الدعوة إلى الله ، أعينونا فيها أيها الإخوة ، كل واحد يعين على حسب قدراته ، هذا بماله ، وهذا بعلمه ، وهذا بإمكاناته ، وهذا بعضلاته ، وهذا بخبرته ، وهذا باختصاصه أما أن يكون الشخصُ سلبيًّا فهذا ليس من المسلمين.
وقال : ويحكم ويحكم !! وضعتم هذا الأمر في عنقي ثم تخليتم عني ، والله لا أدعك ، ثم ولاه على حمص ، وقال له : ألا نفرض لك رزقاً ؟ قال : وما أفعل به يا أمير المؤمنين ، فإن عطائي من بيت المال يزيد عن حاجتي ، ثم مضى إلى حمص ، بعد فترة قليلة وفد على أمير المؤمنين بعض من يثق بهم من أهل حمص ، فقال لهم اكتبوا لي أسماء فقرائكم حتى أسديَ حاجتهم ، فرفعوا إليه كتاباً فإذا فيه فلان وفلان وسعيد بن عامر ، قال : من سعيد بن عامر ؟ قالوا : أميرنا ، قال : أميركم فقير ؟! قالوا : نعم ، والله إنه لتمرّ عليه الأيام الطوال ولا توقد في بيته النار .
اسم أمير حمص في قائمة الفقراء ، ألم أقل لكم : إنهم فوق البشر .
قال : أميركم فقير ؟! قالوا : نعم ، والله إنه لتمرّ عليه الأيام الطوال ولا توقد في بيته النار، فبكى عمر حتى بللت دموعه لحيته ، ثم عمد إلى ألف دينار ، فجعلها في صرة ، وقال : اقرؤوا عليه السلام مني ، وقولوا له : بعث إليك أمير المؤمنين بهذا المال لتستعين به على قضاء حاجتك ، فجاء الوفد إلى سعيد بالصُّرة ، فنظر إليها فإذا هي دنانير ، فجعل يبعدها عنه ، ويقول : إنا لله وإنا إليه راجعون ، كأنما نزلت به نازلة ، أو حلَّ بساحته خطب ، فهبَّتْ زوجته مذعورة ، وقالت : ما شأنك يا سعيد ، أمات أحدٌ مِن المؤمنين ؟ قال : بل أعظم من ذلك ، قالت: أأصيب المؤمنون في وقعة ؟ قال : بل أعظم من ذلك ، فقالت : وما أعظم من ذلك ؟ قال: دخلتْ عليَّ الدنيا لتفسد آخرتي ، وحلَّت الفتنة في بيتي ، قالت : تخلَّصْ منها ، وهي لا تدري من أمر الدنانير شيئاً ، والنساء يحبون المال ، قال : أو تعينيني على ذلك ؟ قالت : نعم ، فأخذ الدنانير فجعلها في صرر ، ثم وزعها على فقراء المسلمين ، لقد خاف أنْ يصبح غنيًّا يتنعم ، ويأكل والناس جائعون ، ولكنه لجأ إلى أسلوب " هل تعينيني ، في بيتي فتنة" ، قالت : أعينك ، فقام وجمع الدنانير ، وقسمها في صُرَر ، ووزّعها على فقراء المسلمين .
سيدنا عمر قام بجولة تفقدية إلى المحافظات ، أو إلى الولايات في دولته ، فذهب إلى بلاد الشام ، وحمص يومئذٍ تُدعى الكُويفة ، تصغير الكوفة ، تشبيهًا لها بالكوفة ، لكثرة شكاوى أهلها من عمالهم وولاتهم ، كما كان يفعل أهل الكوفة ، فلما نزل فيها لقيه أهلها للسلام ، وأول سؤال سألهم : كيف وجدتم أميركم ، فشكوه إليه ، وذكروا أربعًا من أفعاله ، أربع شكايات ، وكل واحدة منها أعظم من الأخرى ، فقال عمر : فجمعتُ بينه وبينهم ، بالمناسبة إن اشتكى إنسان لك على آخر فاجمعهما معاً ، فقد ترى أنّ أربعة أخماس الكلام ليس على حقيقته ؛ أربع أخماس الكلام يُلغَى إذا جمعت الاثنين معاً ، فلا يتكلم بحضرة خصمه كما لو كان غائبًا ، فأمامه يخجل ، فكل شيء فيه كذب يلغيه ، فاجمعهما ؛ قال عمر : فجمعتُ بينه و بينهم ، و دعوت الله ألا يخيِّب ظني فيه ؛ لأن عمر هو الذي اختاره واليًا عليهم ؛ فقد كنتُ عظيم الثقة به ، فلما أصبحوا عندي هم و أميرهم قلت : ما تشكون من أميركم ؟ قالوا : لا يخرج إلينا حتى يتعالى النهار ؛ فقلت لسعيد : ما تقول في ذلك يا سعيد ؛ فسكت قليلاً ، ثم قال : والله إني كنتُ أكره أن أقول ذلك ؛ أما وإنه لا بد منه ، فإنه ليس لأهلي خادم ، فأقوم في كل صباح فأعجن لهم عجينهم، ثم أتريث قليلاً حتى يختمر ، ثم أخبزه لهم ، ثم أتوضأ وأخرج للناس .
قال عمر : هذه واحدة ، وما الثانية ؟ قالوا : لا يجيب أحداً بليل ؛ فما تقول يا سعيد ؟ قال: والله كنت أكره أن أعلن هذا أيضاً ، فأنا قد جعلت النهار لهم والليل لله عز وجل ؛ الليل ليس لهم؛ النهار لهم ، والليل لله صلاةً و قيامَ ليل ، و ذكرًا و تهجدًا و دعاء ؛ قلت : وما تشكون أيضاً ؟ قالوا : إنه لا يخرج إلينا يوماً في الشهر ؛ قال : وما هذا يا سعيد ؛ قال : ليس لي خادم يا أمير المؤمنين ، وليس عندي ثياب غير التي عليّ ، فأنا أغسلها في الشهر مرة ، وأنتظرها حتى تجف ، ثم أخرج إليهم ؛ قال : ثم ماذا ؟ قالوا : تصيبه من حين لآخر غشية، فيغيب عمن في مجلسه ؛ كأنه يغيب عن الوعي ؛ قال : ما تقول في هذا يا سعيد ؟ قال : شهدت مصرع خبيب بن عدي ، وأنا مشرك - هنا الشاهد - ورأيت قريشًا تقطِّع جسده وهي تقول : أتحب أن يكون محمدٌ في مكانك ؟ فيقول : واللهِ لا أحب أن أكون آمناً في أهلي وولدي ، وعندي عافية الدنيا ونعيمها ، ويصاب رسول الله بشوكة ، وإني واللهِ كلما ذكرت ذلك اليوم ، وكيف أني تركت نصرته إلا ظننت أنّ الله لن يغفر لي ، كلما جاء على خاطره هذا المشهد يعتقد أن الله لا يغفر له ، وأصابتني هذه الغشية ، فقال عمر : الحمد لله الذي لم يخيِّب ظني به ، ثم بعث له بألف دينار ليستعين بها على حاجته ، ثم رأتها زوجته ، هذه المرة رأت زوجته المال ، قالت له: الحمد لله الذي أغنانا عن خدمتك ، اشترِ لنا مؤونة ، واستأجر لنا خادماً ، فقال لها : وهل لك فيما هو خير من ذلك ؟ قالت : وما ذلك ؟ قال : ندفعها إلى من يأتينا بها ، ونحن أحوج ما نكون إليها ، قالت : وما ذاك ؟ قال نقرضها لله قرضاً حسناً ، قالت : نعم وجزيت خيراً .
فقدْ أعانته ، وهذه الألفُ الثانية وزَّعها ، وقال لزوجته : انطلقي بها إلى أرملة فلان ، وإلى أيتام فلان ، وإلى مساكين فلان ، وإلى معوزي آل فلان ، ووزع الألف الثانية .
هذا سعيد بن عامر الجمحي الذي كان يتأخَّر صباحاً ، وبالليل لا يجيب أحدًا ، وبالشهر يغيب يومًا ، وأحياناً تأتيه غاشية فيغيب عن الوعي ، وهذا الرجل قد شهد مصرع خبيب ، وكيف رأى هذا الصحابي الجليل الذي عذَّبَه الكفار أشدّ التعذيب ، ومات وهو في أسعد لحظاته .
هذا أثر الإيمان في نفس الإنسان ، وفي الأثر : "الإيمان عفة عن المحارم عفة عن المطامع" .
إنّ العفّة مِن علامة إيمانك ، العفة عن أموال الناس ، والعفة عن أعراض الناس ، والناس يُؤْتَوْن من المال والنساء ، فإذا حصنتَ نفسك من فتنة النساء بغض البصر ، وعدم الاختلاط ، ومن جهة المال بتحرير الدخل ، فقد سددت عندئذٍ على الشيطان أكبر المنافذ ، التي يمكن أن ينفذ إليك منها .
إن إبليس طلاع رصاد ، وما هو من فخوخه باوثق لصيده في الأتقياء من النساء .
عنده فخ فعال ، وعنده شبكة محكمة ، وعنده مقلب مدمِّر ، ألا وهو النساء ، لذلك قال عليه الصلاة والسلام :
النساء حبائل الشيطان .
(أخرجه أحمد في كتاب الزهد)
كيف أنّ الإنسان ينهار إذا بُعِث في مهمة شاقّة ؟ واعلمْ أنّ المرءَ يسقط بالنساء والمال ، وبهذين يسقط جميع الناس ، الرشاوى والفضائح في إيطاليا ما أسبابها ؟ المال والنساء ، فالمؤمن محصن ضدَّ المال والنساء ، وهو في حرز حريز .
والحمد لله رب العالمين
***(/)
الدرس 35/50 ، سيرة الصحابي : سلمان الفارسي ، لفضيلة الأستاذ محمد راتب النابلسي .
تفريغ : المهندس عبد العزيز كنج عثمان .
التدقيق اللغوي : الأستاذ غازي القدسي .
التنقيح النهائي : المهندس غسان السراقبي .
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا ، وانفعنا بما علمتنا وزدنا علما، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .
أيها الإخوة الأكارم ، مع الدرس الخامس والثلاثين ، من دروس سير صحابة رسول الله رضوان الله تعالى عليهم أجمعين ، وصحابي اليوم ، سيدنا سلمان الفارسي ، وقد قال عليه الصلاة والسلام ، في الحديث الصحيح : سلمان منا آل البيت ، وأنا جدُّ كل تقي ولو كان عبداً حبشياً *
(تفسير الطبري ، من غير زيادة الجملة الأخيرة)
هذه القصة ، لعل بعضكم أو أكثركم يعرف خطوطها العريضة ، ولكن لا بدَّ من مقدمةٍ حتّى نعرف أبعاد هذه القصة .
أحياناً هناك مَن يقول : إن الإنسان ابن بيئته ، ابن الظروف المحيطةِ به ، ابن أمه وأبيه ، ابن وراثته ، ابن مستوى ذكائه ، وكأن الإنسان منفعلٌ ، وليس فاعلاً ، تؤثِّر فيه الظروف ، والبيئة ، وتؤثر فيه وراثته ، ونوع التعليم الذي تلَّقَّاه يؤثِّر فيه ، وكأن الإنسان ، والحالة هذه ، كرةٌ ، إن رأت منحدراً ، انطلقت ، فإن رأت صعوداً وقفت ، لكن الحقيقة خلاف ذلك .
الإنسان ليس منفعلاً ، بل هو فاعل ، فإذا أراد الإنسان شيئاً تخطَّى كل العقبات ، وإذا صمم على شيء تجاوز كل المشكلات ، والحقيقة أنّ الكسالى والمقصِّرين ، والعصاة يتمسكون بنظرية أن الإنسان منفعل ، يقول لك : ظروفي صعبة ، وبيئتي سيئة ، وما تلقيت تربية جيدة ، وما تعلمت ، فكل أخطائه يعزوها إلى جهاتٍ خارجةٍ عنه ويستريح .
لكن الحقيقة عكس ذلك ، الإنسان فاعل وليس منفعلاً ، فهذا الماء منفعل ، فإنْ سفحته في منحدر سال نحو الأسفل ، وإن سفحته في أرضٍ مستوية تجمَّع بشكلٍ أفقي ، وإن أصابته شمسٌ تبخَّر ، وهناك قوانين تحكم هذا الماء ، فالماء مُنفعل ، لكن الإنسان ربما يتحرك بخلاف راحته، وربما يتجاوز كل المثبِّطات في بيئته ، وربما يحطم كل عقبةٍ تقف أمامه ، ولولا أن الإنسان بهذه الصفة لما كان مكرماً ، لو كان الإنسان منفعلاً كما يتوهَّم بعض الناس لمَا كان له قيمه ، فحكُمه عندئذٍ حكمُ الأشياء المادِّية ، تتحرك بحسب القوانين ، وبحسب المعطيات ، لكن الإنسان إذا أراد شيئاً ، وصل إليه ، ولذلك قال بعض الأدباء : إن القرار الذي يتخذه الإنسان في شأن مصيره ، قلما تنقضه الأيام ، إذا كان صادراً حقاً عن إرادةٍ وإيمان .
أيُعقَل لإنسان في الخامسة والخمسين أنْ يتعلم القراءة والكتابة ؟ نعم ، إذا كان ذا عزم وبصيرة ، أو أنْ يحفظ القرآن الكريم بكامله ؟! أو أنْ يطلب العلم ؟! أو يبدأ بتعلم القراءة والكتاب ؟! وما يموت إلا وهو شيخ الأزهر ، أحد شيوخ الأزهر الكبار بدأ تعلُّمه للقراءة والكتابة في الخامسة والخمسين ، وحفظ القرآن ، وطلب العلم ، ومات في السادسة والتسعين ، وما مات إلا وهو شيخ الأزهر ، وشيخ الأزهر بمصر ، أعلى مرتبة في سُلّم المناصب الدينية في مصر .
فالإنسان إذا أراد شيئاً لا تستطيع قوةُ في الأرض أن تقف أمامه، لأن الله جهّزه تجهيزًا أساسه الصدق ، ولأن ربنا عزَّ وجل حينما خلقه في الدنيا قال له : عبدي ، اطلُبْ تُعطَ .
( سورة الإسراء )
لكن الله سبحانه وتعالى لا يتعامل مع التمنيات ، بل يتعامل مع الصادقين ، اصْدُقْ يصدقْك الله سبحانه وتعالى ، أي يحقق نواياك .
يوجد عندنا شيء آخر ، مثلٌ منتزعٌ من عالم الزراعة ، لو جئنا بكمية بذور ، ولتكن مائة بذرة ، ووزَّعناها على الفلاحين ، وراقبنا نبات هذه البذور ، فإذا وجدنا عند تسعين فلاحا أنّ هذه البذرة لم تنبت نباتاً جيداً ، ولم تثمر الثمر المطلوب ، والأوراق صفراء ، والبُنية ضعيفة ، ورأينا عند عشرة فلاحين ، البذرة في أعلى درجات عطائها وإنتاجها ، فالعلَّة في الفلاح أم في البذرة ؟ في الفلاح ، هل تستطيع أن تتهم البذرة ؟ ما دام عشرة أشخاص اعتنوا بها عناية فائقة ، أعطت محصولاً كبيراً ، والنبات تألَّق ، فلذلك هؤلاء العشرة حجةٌ على التسعين ، ولو قلت : البذرة سيئة، فلماذا نبت هذا النبات الجيد عند الآخرين ؟ معناها البذرة جيدة ، لكن معظم الَّذين زرعوها أهملوها ، ولم يعتنوا بها ، ولم يكونوا في المستوى المطلوب ، فإذا رأيت الأكثرية مقصِّرة ، فهل المعنى أن الإنسان منفعل ؟ لا .
موضوعنا اليوم سيدنا سلمان الفارسي ، فلا يوجد إنسان أبعد عن الهدى من هذا الإنسان ، إليكم الأسباب ، لكن أنا كما عوَّدْتُكم أبحث عن قصةٍ لصحابيٍ جليل يرويها هو ، فروايته أشفى للغليل ، فسيدنا سليمان كان فتىً فارسياً من أهل أصبهان ، من قريةٍ يقال لها : جيَّان ، يقول سلمان الفارسي عن نفسه : كنت فتىً فارسياً ، من أهل أصبهان .... واسمحوا لي بالخروج عن رواية سلمان قليلا .
ذات مرةٍ كنا في إيران ، وركبنا طائرةً حلَّقتْ على ارتفاع ألف كيلو متر ، حتى وصلنا إلى مدينة اسمها مشهد ، ثم زرنا قريةً في طرف المدينة ، اسمها طوس ، هي بلدة الإمام الغزالي، فكيف قدم الإمام الغزالي من طوس إلى الشام ؟ طوس تبعد عن طهران ألف كيلو متر ، من طوس إلى طهران ، إلى عربستان ، إلى بغداد ، إلى الشام ، فتشعر أن الإنسان الصادق ، لا يوجد عقبات أمامه ، فهذا سيدنا سلمان ، قال :كنت فتىً فارسياً ، من أهل أصبهان من قريةٍ يقال لها : جيَّان ، وكان أبي دهقان القرية ، معنى دهقان القرية ، أي رئيسها ، غالباً أبناء الملوك ، أبناء الزعماء ، أبناء الأغنياء ، لشدة المال ، والرخاء ، والجاه، يعزفون عن الهدى ، مشغولون في دنياهم ، في نُزهاتهم ، في مقاصفهم ، في ألعابهم ، في الأموال التي بين أيديهم ، في المركبات التي يركبونها ، فأبعدُ الناسِ عن طلبِ الحق هم أبناء الأغنياء ، وأبناء الأثرياء ، وأبناء الأقوياء ، هؤلاء الدنيا العريضة التي بين أيديهم تشغلهم عن الله عزَّ وجل ، فمن كان أبو سيدنا سلمان ؟ الله عزَّ وجل جعل هذا الصحابي الجليل حجَّةً على كل الناس ، كان أبو سيدنا سلمان دهقانَ القرية ، أي رئيسها ، وكان أغنى أهلها ، وأعلاهم منزلةً ، فشيء مألوف أنْ ترى إنسانًا من الطبقة الوسطى أو الفقيرة يريد الله عزَّ وجل ، ويريد الآخرة ، يقول لك أهل الدنيا : هذه عملية تعويض ، لأنه فَقَدَ الدنيا فالتفت للآخرة ، هذا كلام غير صحيح ، غير صحيح إطلاقاً، فسيدنا سلمان حجة على هذا الكلام ، كان أبوه دهقان القرية ، أيْ زعيمها وهو ثريٌّ ، وقد كان أهل الكهف مِن أبناء النخبة الثرية أيضًا ، قال تعالى :
( سورة الكهف )
أين كانوا يسكنون ؟ في القصور ، تركوا القصور إلى الكهوف ، أرادوا الله عزَّ وجل ، فإذا كان موضعَ الهدى ، إنسانٌ فقير قالوا : أراد التعويض عن خسارة الدنيا فالتجأ إلى الآخرة .
مرة قرأت مقالة في مجلة جاء فيها أن هؤلاء المتدينين فشلوا في الحياة ، وذهبت الدنيا من بين أيديهم ، فلم يبقَ لهم إلا الآخرة ، فانكبِّوا عليها ، هذا ظن الذين كفروا ، لكن المؤمن ، وهو في أعلى درجات القوَّة ، وفي أعلى درجات الغنى ، وفي أعلى درجات الشباب ، يُقبِل على الله عزَّ وجل ، ويضع الدنيا تحت قدميه .
فسيدنا سلمان كان أبوه زعيم القرية ، وكان أغنى أغنيائها ، وكان أعلاهم منزلةً ، قال : وكنت أحبَّ الخلق إليه .
هذه أصعب الظروف التي يمكن أن تدفع الإنسان إلى الهدى ، غنى ، وجاه ، وعز ، وحب، أحياناً لا يكون الابن محبوب عند أبيه ، فالابن يلتفت إلى طريقٍ آخر ، لكن سلمان قال : كنت أحب خلق الله إلى أبي ، ثم ما زال حبه بي يشتد ، ويزداد على الأيام ، حتى حبسني في البيت ، خشيةً علي ، كما تحبس الفتيات .
من شدة حبِّ أبيه له ، من شدة خوفه عليه ، من شدة قلقه على سلامته ، وعلى حياته ، حبسه في البيت .
وقد اجتهدت في المجوسية .
كان مجوسيًّا ، وحتى هذا التاريخ أحد إخواننا زار بعض البلاد شمال باكستان ، فهناك من يعبدون النار حتى الآن ، وأطلعني على تقويم كيف تُنشأ الأبنية ، وتوقد فيها النيران ليلاً ونهاراً، وهذا الذي يوقد النار ليلاً ونهاراً ذو مستوى عالٍ في دين المجوس ، وقال : وقد اجتهدت في المجوسية ، حتى غدوت قيمَّ النار .
فالذي يوقد النار هو في مرتبة دينية عالية جداً ، كان مجوسيًّا ، على غني ، على وجاهة ، على حب ، وكل هذه العوامل مثبطاتٌ للهدى .
حتى غدوت قيم النار التي كنا نعبدها ، وأنيط بي أمرُّ إضرامها ، حتى لا تخبو ساعةً في ليلٍ أو نهار ، وكانت لأبي ضيعةٌ عظيمةٌ تدرُّ علينا غلةً كبيرة ، وكان أبي يقوم عليها ، ويجني غلَّتها ، وفي ذات مرةٍ شغله عن الذهاب إلى القرية شاغل ، فقال : يا بني ، إني قد شُغلت عن الضيعة بما ترى ، فاذهب إليها ، وتولَّ اليوم عني شأنها ، فخرجت أقصد ضيعتنا ، وفيما أنا في بعض الطريق ، مررت بكنيسةٍ من كنائس النصارى ، فسمعت أصواتهم فيها ، وهم يصلُّون ، فلفت ذلك انتباهي .
هو مجوسي يعبد النار من دون الله ، النار عندهم إلههم ، رأى كنيسة ، وفيها صلوات ، غير الصلاة التي يصليها هو .
قال : فلما تأملتهم ، أعجبتني صلاتهم ، ورغبت في دينهم ، وقلت : واللهِ هذا خيرٌ مِن الذي نحن فيه .
بالمناسبة ، ما مِن إنسان إلى حدٍ ما في الأعم الأغلب يغدو مؤمناً صادقاً إلا وله طلبٌ قديم، منذ نعومة أظفاره يتمنَّى أن يكون مؤمناً ، ويتمنَّى أن يكون طائعاً لله عزَّ وجل ، يبحث عن الحق بحثًا مستمرًا ، وعنده رغبة جامحة ، وصدق في طلب الحقيقة .
فلما تأملتهم أعجبتني صلاتهم ، ورغبت في دينهم ، وقلت : والله هذا خيرٌ ، من الذي نحن عليه.
الإنسان منطقي ، هناك رجل في عصرنا هذا أسلم ، وبعد أن لم يكن مسلماً ، فألقى محاضرة، وسمعتُ الشريط ، يقول في المحاضرة :
تأتيني امرأةٌ تعترف أمامي بزلاَّتها ، خلف ظهر زوجها ، وتعطيني مبلغاً كبيراً من المال لكي أغفر لها ، يخاطب نفسه : وأنا من يغفر لي ، أنا أبعَدُ عن الله منها ، من يغفر لي ؟
فالإنسان منطقي ، لكن يحتاج إلى لحظة صدقٍ مع نفسه ، سيدنا نعيم بن مسعود ، جاء إلى المدينة ، ليحارب رسول الله ، جاء مع الأحزاب ، الذين حاصروا النبيَّ عشرين يوماً ، وفي إحدى الليالي فكرَّ هذا الصحابي تفكيراً صافياً ، فقال : لماذا أنا مع هؤلاء ؟ لماذا أحارب هذا الرجل الصالح ، إلامَ يدعو ؟ يدعو إلى عبادة الله خالق الأكوان ، و أصحابه أناسٌ طيبون ، منصفون ، عادلون ، لماذا أحاربهم ؟
فعلى الإنسان أن يفكر ، لماذا أنا أفعل هذا ؟ لماذا أبتعد عن هذا ؟ لما لا أستجيب ؟ وفي الحديث عَنْ حُذَيْفَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا تَكُونُوا إِمَّعَةً تَقُولُونَ إِنْ أَحْسَنَ النَّاسُ أَحْسَنَّا وَإِنْ ظَلَمُوا ظَلَمْنَا وَلَكِنْ وَطِّنُوا أَنْفُسَكُمْ إِنْ أَحْسَنَ النَّاسُ أَنْ تُحْسِنُوا وَإِنْ أَسَاءُوا فَلَا تَظْلِمُوا *
(رواه الترمذي)
تأمل سلمانُ ، وأدار فكره ، ثم قال : فو اللهِ ما تركتهم ، حتى غربت الشمس ، ولم أذهب إلى ضيعة أبي ، ثم إني سألتهم ، أين أصل هذا الدين ؟
"دينَك دينَك ، إنه لحمك ودمك" ، أين أصل هذا الدين ، قالوا : في بلاد الشام ، وسلمان يعيش في أصبهان ، في بلاد الفرس ، ولما أقبل الليل ، عُدت إلى بيتنا ، فتلقاني أبي يسألني عما صنعت ؟ فقلت : يا أبتِ إني مررت بأناسٍ يصلون في كنيسة لهم ، فأعجبني ما رأيت من دينهم ، وما زلت عندهم حتى غربت الشمس ، فذعر أبي ، مما صنعت ، وقال : أيْ بني ، ليس في ذلك الدين خير.
وهذا شأن الآباء ، وشأن الذين عطَّلوا عقولهم ، فقد أَلِف ما هو مقيمٌ عليه ، ويرفض كلَّ تجديد ، والإنسان العاقل لا تنطبق عليه الآية الكريمة :
( سورة الزخرف )
العاقلُ يقيِّم الأمور ، ويتفحَّص ، ويتأمَّل ، ويزن بميزان العقل ، وبميزان المنطق ، وبميزان الفطرة .
أي بني ، ليس في ذلك الدين خير ، دينك ودين آبائك خيرٌ منه .
هذا الكلام غير صحيح ، بالمناسبة ، هل تدرون من هو الجاهل ؟ لعل أكثركم يقول : الذي لا يعلم ، لا ، الذي لا يعلم اسمه أمّيّ ، أمّا الجاهل فممتلئ معلومات ، لكن كلّها غلط ، والذي لا يعلم يقال له : أمِّيّ ، أما الذي يعلم مقولات كلها غير صحيحة ، فهذا هو الجاهل ، فتعريف الجهل هو : عدم مطابقة الكلام للواقع .
قال : دينك يا بني ، ودين آبائك خيرٌ منه ، قلت : كلا والله ، إن دينهم لخيرٌ من ديننا ، فخاف أبي مما أقول ، وخشي أن أرتد عن ديني ، وحبسني بالبيت ، ووضع قيداً في رجلي ، قيد الغنى، وقيد الوجاهة ، وقيد التفوق في المجوسية ، وقيد المحبة ، والقيد الخامس قيدٌ حديديُّ وضعه في رجله ، خشية أن يرتد عن دينه ، ولما أتيحت لي الفرصة ، بعثت إلى النصارى أقول لهم : إذا قدم عليكم ركبٌ يريد الذهاب إلى بلاد الشام ، فأعلموني ، فما هو إلا قليلٌ حتى قدم عليهم ركبٌ متجهٌ إلى الشام ، فأخبروني به ، فاحتلْتُ على قيدي حتى حللته ، وخرجت معهم متخفياً ، حتى بلغنا الشام .
لذلك قالوا : هناك أبٌ أنجبك ، وهناك أبٌ زوَّجك ، وهناك أبٌ دلّك على الله ، فالأب الذي أنجبك ، ينتهي فضله عند الموت ، أي هو ساهم بإيجادك ، ساهم بأنه جعلك إنساناً ، فلما جاء ملك الموت انتهى فضله ، والأب الذي زوَّجك ينتهي فضله عليك بفراق زوجتك ، أما الأب الذي دلَّك على الله ، فهذا يمتد فضله إلى أبد الآبدين ، لأنه كان سبباً في إدخالك الجنة ، فلذلك هو يبحث عن رجل يدلُّه على الله .
قال : فلما نزلنا في الشام ، قلت : من أفضل رجلٍ من أهل هذا الدين ؟ قالوا : الأسقف راعي الكنيسة ، فجئته فقلت : إني قد رغبت في النصرانية ، وأحببت أن ألزمك وأخدمك وأتعلَّم منك وأصلي معك ، قال : ادخل ، فدخلت عليه ، وجعلت أخدمه ، ثم ما لبثت ، أن عرفت أن الرجل رجل سوء ، فقد كان يأمر أتباعه بالصدقة ، ويرغِّبهم بثوابها ، فإذا أعطوه منها شيئاً لينفقه في سبيل الله اكتنزه لنفسه ، ولم يعطِ الفقراء والمساكين منها شيئاً ، حتى جمع سبع قلالٍ من الذهب ، القلال جمع قُلِّة ، والقلة الجرة الكبيرة ، جمع سبع قلال من الذهب ، قال : فأبغضْتُه بغضاً شديداً لِمَا رأيته منه ، ثم ما لبث أن مات ، فاجتمعت النصارى لدفنه وتعظيمه ، وتأبينه ، و.. و .. فقلت لهم : إن صاحبكم كان رجل سوء ، يأمركم بالصدقة ، ويرغِّبكم فيها ، فإذا جئتموه بها اكتنزها لنفسه ، ولم يعطِ المساكين منها شيئاً ، قالوا : مِن أين عرفت ذلك ؟ قلت لهم: أنا أدلُّكم على كنزه ، قالوا : نعم دُلنا عليه ، فأريتهم موضعه ، فاستخرجوا منه سبع قلالٍ مملوءةٍ ذهباً وفضةً ، فلما رأوْها ، قالوا : واللهِ لا ندفنه ، ثم صلبوه ورجموه بالحجارة .
أعظم الأعمال إجراماً أن ترفع مبادئ وشعارات ، وأن تفعل خلافها ، أن تدعو إلى شيء وألاَّ تأتمر به ، ماذا قال أحد الأنبياء :
(هود ، الآية 88)
مِنَ الممكن أنْ يكون لإنسان مظهر ، لكن مخبره غير مظهره ، هذه أول تجربة من تجارب سيدنا سلمان الفارسي ، تبيّن أن الأسقف كذّاب ، يأمر الناس بدفع المال ، ويكتنزه لنفسه .
ثم إنه لم يمضِ غير قليل - الكلام كلام سيدنا الفارسي ، والقصة يرويها هو بنفسه - ثم إنه لم يمض غير قليلٍ حتى نصّبوا رجلاً آخر مكانه ، فلزمته ، قال : فما رأيت رجلاً أزهد منه في الدنيا ، ولا أرغب منه في الآخرة ، ولا أدأب منه على العبادة ليلاً ونهاراً ، فأحببته حباً جماً ، وأقمت معه زماناً ، فلما حضرته الوفاة ، قلت له : يا سيدي إلى من توصي بي ، ومع مَن تنصحني أن أكون من بعدك ، لأن الله عزَّ وجل قال يصف أهل الدنيا ، وقد فاتهم الإيمان :
( سورة الفرقان )
مع الرسول ، أيْ أنت بحاجة إلى رفيق ، إلى إنسان يعينك على أمر دينك ، أنت بحاجة إلى جماعة ، إلى مجتمع مسلم ، يقوِّي فيك عزيمة الإيمان ، يبعدك عن مزالق الشيطان ، يرغِّبك في الآخرة ، لا تصاحب من لا ينهض بك إلى الله حاله ، ولا يدلك على الله مقاله ، قال له : يا سيدي إلى مَن توصي بي ، ومع مَن تنصحني أن أكون من بعدك ؟ قال : أيْ بني ، لا أعلم أحداً على ما كنت عليه ، إلا رجلاً بالموصل ، هو فلان ، لم يحرِّف ، ولم يبدِّل .
المعنى : مَن هم أهلُ الضلال ، الذين حرفوا وبدلوا .
لم يحرِّف ، ولم يبدِّل ، هو بالموصل فالحق به ، فلما مات صاحبي ، لحقت بالرجل ، بالموصل، فلما قدمت عليه ، قصصت عليه خبري وقلت له : إن فلاناً ، أوصاني عند موته ، أن ألحق بك، وأخبرني ، أنك مستمسكٌ بما كان عليه من الحق ، فقال : أقم عندي ، فأقمت عنده ، فوجدته على خير حال ، ثم إنه لم يلبث أن مات ، فلما حضرته الوفاة ، قلت له : يا سيدي ، لقد جاءك من أمر الله ما ترى ، وأنت تعلم من أمري ما تعلم ، فإلى من توصي بي ، ومن تأمرني باللحاق به ؟ فقال : أي بني ، والله ما أعلم أن رجلاً على مثل ما كنا عليه ، إلا رجلاً بنصيبين هو فلان فالحق به .
معناها أهل الحق قلة ، قال تعالى :
(يونس ، الآية 36)
فلما غُيِّب الرجل في لحده ، لحقت بصاحب نصيبين ، وأخبرته خبري ، وما أمرني به صاحبي فقال لي : أقم عندنا ، فأقمت عنده فوجدته على ما كان عليه ، صاحباه من الخير " هذا رقم ثلاثة ، جيد " فوالله ما لبث أن نزل به الموت ، فلما حضرته الوفاة قلت له : لقد عرفت من أمري ما عرفت ، فإلى من توصي بي ؟ قال يا بني : والله إني لا أعلم أحداً بقي على أمرنا ، إلا رجلاً بعمورية ، هو فلان ، فالحق به ، فلحقت به ، وأخبرته خبري ، فقال سلمان : "كنتُ أصِل إليهم في أواخر حياتهم كلهم ، " فقال : أقم عندي ، فأقمت عند رجلٍ ، كان واللهِ على هدي أصحابه ، وقد اقتنيتُ عنده بقراتٍ وغنيمة ، غنمة صغيرة ، وغنيمة وبقرات ، ثم ما لبث أنْ نزل به ما نزل من أصحابه من أمر الله ، فلما حضرته الوفاة ، قلت له : إنك تعلم من أمري ما تعلم فإلى مَن توصي بي ، وما تأمرني أن أفعل ؟ فقال : يا بني ، والله ما أعلم أن هناك أحداً من الناس بقي على ظهر الأرض ، مستمسكاً بما كنا عليه ، ولكنه ، قد أظلَّ " معنى أظلَّ دنا واقترب "، زمانٌ يخرج فيه بأرض العرب نبيٌ يبعث بدين إبراهيم ، ثم يهاجر من أرضه إلى أرضٍ ذات نخل ، بين حرتين ، وله علاماتٌ لا تخفى ، هو يأكل الهدية ، ولا يأكل الصدقة ، وبين كتفيه خاتم النبوة ، فإن استطعتَ أن تلحق بتلك البلاد فافعلْ ، فصارت تنقلاتُه كلها رحلةٌ في البحث عن الحقيقة .....
.... المكان الفلاني ، مكان جميل جداً ، الفندق الفلاني ، المسبح الفلاني ، الملعب الفلاني ، المقصف الفلاني ، هؤلاء أهل الدنيا ؛ أما أهل الآخرة ، العالم الفلاني ، المُربي الفلاني ، المُرشد الفلاني ، ينتقل من عالمٍ ، إلى عالم ، ومن رجل ، إلى رجل ، فلعله يتعلَّم منه أمر الدين.
قال : ثم وافاه الأجل ، فمكثتُ بعده بعمورية زمناً ، إلى أن مر بنا نفرٌ من تجَّار العرب ، من قبيلة كلب ، فقلتُ لهم : إن حملتُموني معكم إلى أرض العرب ، أعطيتكم بقراتي كلها ، وغُنيمتي هذه ، فقالوا : نعم نحمِلك ، فأعطيتهم إياها ، وحملوني معهم ، حتى إذا بلغنا وادي القُرى غدروا بي ، وباعوني لِرجلٍ يهودي ، عبدًا رقيقًا ، وأخذوا بقراتي وغُنيمتي ، وباعوني بيع الأرقاء ، وأصبحتُ عبداً عند هذا اليهودي .
يستوقفنا هنا موقف ، يعني أنّ الإنسان أحيانًا قد يضعه الله عزَّ وجل في ظروف صعبة ، يشتغل بمحلٍّ صاحبُه قاسٍ جداً ، أو يكون موظفًا ، يتعيَّن في قرية نائية ، خشونة في العيش ، وشدَّة ، فالله عزَّ وجل هو الذي يعلم ، وربما كان هذا التعيين بهذه القرية النائية خلوةً لا يمكن أن تحققها في المدينة ، وربما كان صاحب هذا المحل القاسي دافعاً لك إلى الله ، لا تعرف :
( سورة البقرة )
سيدنا سلمان الفارسي صحابي جليل ، يباع بيع الأرقَّاء ، ليهودي ؟ وكان قاسياً جداً ، وسوف تروْن معي بعد قليل ، من قسوته الشيءَ الكثير، هو يُريد الله عزَّ وجل ، لكن العبرة في النهاية ، العبرة في النهايات ، العبرة في خريف العمر ، العبرة في النتائج .
قال : فالتحقتُ بخدمته ، ثم ما لبث أن زاره ابن عمٍ له من بني قُريظة ، فاشتراني منه ، بيع ليهودي آخر ، وسلمان يبحث عن ماذا ؟ عن الحقيقة .
والله أيها الإخوة ، تلك الحقيقة تستحق كل هذا البحث ، وتستحق كل هذا الجهد ، تستحق كل هذه التنقلات ، لأنك إن وصلت إليها وصلت إلى كل شيء ، وإن فُزت بها ، فُزت بكل شيء ، وإن نقلتك الحقيقة إلى الله عزَّ وجل ، ما فقدت شيئاً ، ولا خسِرت شيئاً ، وأن أكبر خسارةً ، تخسرُها ، أن تخسر نفسك التي بين جنبيك ، وأنّ أكبر نجاحٍ تنجحه ، أن تُزكِّيها وأن تعرفُها بربها ، فهو يبحثُ عن الحقيقة ، و يطلبُ الله عزَّ وجل ، واللهُ لا يخطئ ، بل هو حكيم في ذلك، بِيعَ ليهودي ، واليهودي باعه لابن عمٍ له من بني قُريظة في المدينة ، وهذا قدر الله عزَّ وجل ، قال : ثم ما لبث أن زاره ابن عمٍ له من بني قُريظة ، فاشتراني منه ، ونقلني معه إلى يثرب ، فرأيتُ النخل ..
بالمناسبة النخل الذي في المدينة الآن هو النخل نفسه الذي كان على عهد النبيّ صلى الله عليه وسلم ، لأن النخلةَ من الأشجار المُعمِرة ، التي تُعمٍرُ أكثر من ستة آلاف عام ، فالتمر الذي أكله النبيّ من نخلات المدينة هي النخلاتُ نفسُها الموجودة الآن ، إذا أكلت الآن تمرًا من نخل المدين، فاعتقدْ جازماً أنه النخل نفسه الذي أكل منه النبيّ عليه الصلاة والسلام ، ولمّا كنتُ في الحج السابق تألمتُ أشد الألم ، لأن هذا النخل أُهمل إهمالاً شديداً ، وأكثره يبس ، طبعاً العمارات، والأسواق ، والمحلات التجارية ، والطُرقات ، فهذه المنشآت قضت على بساتين النخل ، وهذه البساتين كان ينبغي أن تبقى كما كانت إلى الآن ، فترى حُقولاً من النخل كلها يابسة ، قد أُهمِلت.
فلما اشتراني ابن عمٍ له من بني قُريظة ، ونقلني معه إلى يثرب ، رأيت النخل الذي ذكره لي صاحبي بعمورية ، وعرفت المدينة بالوصف الذي نعتها به ، فأقمتُ بها معه .
اُطلبْ من الله أنْ يهديك فقط ، وسلِّمْ له يجمعك مع فلان ، وينقلك إلى فلان ، يمكن أن يكون الإنسان ساكنًا ومُقيم بحلب فرضاً ، وجاءت خدمته الإلزامية في الشام ، فاستعمل الوسائط حتى يبقى في حلب ما أمكن ، فإذا به في الشام يلتقي مع أهل الحق ، فانخرط بينهم ، وأكرمه الله بالهُدى ، إذًا هذا التعسير وقتها كان لصالحك ، حدثني رجُل فقال : كنت في أمريكا ، ودخلتُ أحد مراكِزها الإسلامية ، فرأيت رجلاً من هيئته ومن شكله يُعد من الطبقة الأولى في المجتمع ، وهو يغسِلُ المسجد بهمّةٍ ما بعدها همّة ، فلما سألتُ عنه قالوا : هذا رجل يحتل مركزًا رفيع جداً في بلده ، لكن كُلِّف بمهمةٍ في الخليج ، فنزل في الخليج في مدينةً مع رجُلٍ مسلمٍ حقاً ، ومؤمنٍ حقاً ، فدلَّه على الله ، وأسلم على يديه ، فلما عاد إلى بلده ، وقد أسلم ، فلزِم المسجد ، فهذه المهمة التي كُلِف بها في الخليج ، هذه بعلم الله عزوجل خيرٌ له ، والدليل :
( سورة الأنفال : آية " 23 " )
ربنا عزَّ وجل قد يجمعك مع شخص يومًا من الدهر ، أو تذهب إلى مكان ، فتلتقي مع إنسان مؤمن ، وينشأ بينكما حديث ، فتتعلَّق به ، وتكون هدايتُك على يديه ، وأنت لا تدري ، فاطلبْ من الله الهداية وانتظر ، كلام دقيق أقوله لكم : ادعُ اللهَ واضرع إليه : اللهمَ اهدني ، واهدِ بي ، فقط ، ثم استسلمْ لله عزَّ وجل ، فما دمت صادقاً في طلب الحقيقة يجمعك مع الأشخاص الذين يُؤهِّلونك للحق ، هذا سيدنا سلمان نقله الله من يهوديّ إلى يهوديّ ، حتى بلغوا الخمسة ، والسادس يهودي اشتراه ، والسابع باعه إلى ابن عمه ، والسابع من بني قُريظة ، ساكن بالمدينة، والأحداث تجري بقدر .
وكان النبيّ حينئذٍ يدعوا قومه في مكة ، لكني لم أسمع له بذكر ، لانشغالي بما يوجبه عليَّ الرقُّ ، فهو عبدٌ رقيق ، كل وقته ملكُ سيِّده ، ثم ما لبِث أن هاجر النبيّ عليه الصلاة والسلام إلى يثرب ، وهو لا يدري ، فواللِه إني في رأس نخلةٍ لسيدي ، أعمل فيها بعض العمل ، وسيدي جالسٌ تحتها ، إذ أقبل عليه ابن عمٍ له وقال له : قاتل الله بني قيْلة ، قيلة الأوس والخزرج ، واللهِ إنهم الآن لمجتمعون بقباء على رجُلٍ قدم عليهم اليوم من مكة ، يزعُم أنه نبيّ ، فما إن سمعتُ مقالته حتى مسني ما يشبه الحمَّى ، واضطربتُ اضطراباً شديداً ، حتى خشيت أن أسقط على سيدي من شدة الفرح ، وبادرتُ إلى النُزول مَن النخلة ، وجعلت أقول للرجل : ماذا تقول ؟ أعد عليّ الخبر ، فغضب سيدي ، ولكمني لكمةً شديدةً ، وقال لي : مالك ولهذا ؟ عُد إلى ما كنتَ عليه من عملك .
قد تقرؤون في السيرة أن النبيّ عليه الصلاة والسلام ، وهو سيد الخلق ، وحبيب الحق ، وهو سيد الأنبياء ، وسيد الرسُل ، المعصوم ، ذهب إلى الطائف يدعو قومه ، وقد ورد في بعض الروايات أنهم كذبوه ، وأنهم سخِروا منه ، وفي رواية أنهم ضربوه ، فقد يسألُ سائل لماذا ضُرِب النبيّ عليه الصلاة والسلام ؟ لولا أن النبيّ بشر ، يجري عليه ما يجري على البشر ، لمَا كان سيد البشر .
وهناك معنىً آخر ، هو أن النبيّ عليه الصلاة والسلام ضُرب في الطائف من أجل أن المؤمن إذا تلقَّى لكمةً لأنه آمن بالله عزَّ وجل ، ينبغي أن يكون له في رسول الله أُسوةٌ حسنة ، والإنسان بسبب اتجاهه الديني قد يتحمل متاعب كثيرة جداً ، يتحمَّل لكمات ، وضربات ، ويُحاصر أحياناً ، ويُقاطع ، ويُضيَّق عليه في رزقه ، وفي بيته ، هذا جهاد في سبيل الله ، فالنبيّ قدوة لنا ، تحمَّل ما تحمل من أجلنا ، حتى إذا مررت بظرفٍ صعبٍ يكون لك في النبيّ أُسوةٌ حسنة .
قال : لكمني لكمةً شديدة وقال لي : مالك ولهذا عد إلى ما كنت فيه من عملك ، ولما كان في المساء أخذت شيئاً من تمرٍ كنت جمعته ، وتوجهت به حيث ينزل الرسول ، فدخلت عليه ، وقلت له : إنه قد بلغني أنك رجلٌ صالح .
ما معنى نبي ؟ ما معنى رسول ، قال له : صاحب عمورية ، في رجل يقبل الهدية ، ولا يأكل من الصدقة ، تجده في بلد فيه نخل ، هذه معلومات ، أُعطِيتْ له ثلاث معلومات ، نخل ، صدقة ، هدية ، فالنخل موجود ، بقيت الهدية ، وبقيتْ الصدقة .
ولما كان المساء أخذت شيئاً من تمر كنت قد جمعته ، وتوجهت به حيث ينزل الرسول عليه الصلاة والسلام ، فدخلت عليه ، وقلت له : إنه قد بلغني أنك رجلٌ صالح ، ومعك أصحابٌ لك غرباء ذوا حاجة ، وهذا شيءٌ كان عندي للصدقة ، فرأيتكم أحق به من غيركم ، ثم قربته إليه ، أيْ ليأكل ، فقال لأصحابه : كلوا ، وأمسك يده ، فلم يأكل ، فقلت في نفسي : هذه واحدة ، ما أكل من الصدقة ، ويُروى أن سيدنا رسول الله تأخر عليه الوحيّ مرةً ، فقال تعليمٌ لنا ، قال :
" لعلها يا عائشة ، تمرةٌ أكلتها من تمر الصدقة ".
وقد رأى مرة تمرة على السرير فأكلها ، والواحد منا أحياناً يلاقي حبة قِضامة يأكلها ، فلما تأخر الوحيّ عليه ، قال :" يا عائشة لعلها تمرةٌ أكلتها من تمر الصدقة " .
لبيان شدة ورعه صلى الله عليه وسلم .
قلت في نفسي : واللهِ هذه واحدة ، ثم انصرفت ، وأخذت أجمع بعض التمر، فلما تحول النبي من قباء إلى المدينة ، جئته فقلت له : إني رأيتك لا تأكل الصدقة ، وهذه هديةٌ لك ، أكرمتك بها ، فأكل منها ، وأمر أصحابه فأكلوا معه ، قال : وهذه الثانية .
ثم جئتُ رسول الله وهو ببقيعِ الغرقد ، وهو البقيع نفسه ، ولم يكن يومئذٍ مدفنًا ، اسمه بقيعُ الغرقد ، إلى جوار الحرم النبوي ، قال : ثم جئت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو ببقيع الغرقد ، حيث كان يواري أحد أصحابه ، فرأيته جالساً وعليه شملتان ، فسلَّمت عليه ، ثم استدرت أنظر إلى ظهره لعلي أرى الخاتم ، الذي وصفه لي صاحبي في عمورية ، فلما رآني النبيّ أنظر إلى ظهره ، عرف غرضي ، فألقى رداءه عن ظهره ، فنظرت فرأيت الخاتم ، هكذا يروى ، فعرفته فانكببت عليه أُقبِّله وأبكي .
فالقصد أنّه وصل إلى بيت القصيد ، فقال عليه الصلاة والسلام : ما خبرك ؟ ما هي قصتك يا ابني ؟ فقصصت عليه قصتي من أولها إلى آخرها ، يوم كان مجوسياً ، وكان أبوه رئيس قبيلته، وأغنى أغنيائها ، وكيف ارتقى به الأمر حتى أصبح يوقد النار ، وكيف ترك أهله إلى رجُلٍ نصرانيٍ كان كذاباً وسيئاً ، وانتقل منه إلى آخر ، وآخر ، حتى اشتراه هذا اليهودي ، وباعه لابن عمه ، وابن عمه أقام في المدينة ، وهذه القصة موجزة ، وسُرَّ النبيّ صلى الله عليه وسلم سروراً بالغاً.
واللهِ أيها الإخوة ، وهذه علامة إيمان فيكم ، إذا كان لك قريب ، أو صاحب ، أو أخ ، أو ابن أخ ، ورأيتَه اهتدى ، وصلى ، وأقبل معك ، ولزم مجالس العلم ، فإذا لم تفرح فرحً لا يعدله فرح ففي إيمانك خلل ، فيجب أن تفرح ، لأنّ النبيّ فرح فرحًا كبيراً بسلمان ، والدليل أنّه سَرَّه أن يسمع أصحابه هذه القصة .
فأمرني أن أُسمعهم إياها ، فقصَّها على مسامعهم ، فأُعجبوا منه أشد العجب ، وسُروا بها أشد السرور .
ولسيدنا سلمان الفارسي قصص طويلة جداً ، لكن هذه بدايته ، فنحن لا نقول لكم : اذهبوا إلى أصبهان ، ولا إلى تركيا ، ولا إلى نصيبين ، ولا إلى عمورية ، ابقَ في بلدك ، والزم مجالس العلم ، واعمل أعمالاً صالحة ، والهدى واضحةٌ سبلُه ، والقرآن بين أيديكم ، والسنة بين أيديكم ، والأعمال الصالحة مُتاحة أمامكم ، ومجالس العلم موفورة عندكم ، فكم بذل سلمانُ من الجهد ، وكم تحمل من المشاق ، قال : سلامٌ على سلمان الفارسي ، يوم قام يبحثُ عن الحق في كل مكان ، وسلامٌ على سلمان الفارسي يوم عرف الحق فآمن به أوثق الإيمان ، وسلامٌ عليه يوم مات ويوم يبعثُ حياً .
هذه قصة سيدنا سلمان الفارسي ، في البحث عن الحقيقة ، يعني كل ظروفه كانت تحول بينه وبين الهدى ، ومع ذلك تجاوز كل العقبات ، ووصل إلى النبيّ عليه الصلاة والسلام ، وهذه القصة ، يجب أن تكون نبراساً لنا في حياتنا ، ابحثْ عن الحقيقة ، فإن أدركْتَها ووصلت إليها فقد وصلتَ إلى كل شيء ، وسعدت إلى الأبد ، وإن غابت عنك الحقيقة ، فما وصلت إلى شيء، وما فُزتَ بشيء ، وكان الخسار والبوار ، والعياذ بالله .
والحمد لله رب العالمين
***(/)
الدرس 40/50 ، سيرة الصحابي : سلمة بن قيس الأشجعي ، لفضيلة الأستاذ محمد راتب النابلسي .
تفريغ : المهندس عبد العزيز كنج عثمان .
التدقيق اللغوي : الأستاذ غازي القدسي .
التنقيح النهائي : المهندس غسان السراقبي .
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا ، وانفعنا بما علمتنا وزدنا علما ، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .
أيها الإخوة الأكارم ... مع الدرس الأربعين من دروس سير صحابة رسول الله صلى الله علية وسلم ، ورضوان الله تعالى عليهم أجمعين ، وصحابي اليوم سيدنا سلمةُ بن قيسٍ الأشجعي .
سيدنا الفاروق ، عمر رضي الله عنه ، الخليفة الراشد الذي قال عنه النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
لَوْ كَانَ بَعْدِي نَبِيٌّ لَكَانَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ *
(رواه الترمذي وأحمد عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ)
فهذا الصحابي الجليل عملاق الإسلام ، قضى ليلةً من الليالي سهران ، يعسُّ في أحياء المدينة ، يتجوَّل ، لينام الناس ملء جفونهم آمنين مطمئنين ، وكان خلال تطوافه بين الدور والأسواق يستعرض في ذهنه الأمجاد ، الأمجاد من صحابة رسول الله ، ليعقد لواحدٍ منهم الراية على الجيش الذاهب لفتح الأهواز .
الأهواز الآن تقع في غرب إيران ، هذه بلادٌ شاسعة ، لكنها جبلية وعرة المسالك ، أزمع سيدنا عمر رضوان الله تعالى عليه أن يفتح هذه البلاد ، وجهَّز الجيش ، وبقي عليه أن يختار له القائد .
ويا أيها الإخوة ... من أسباب نجاح أي قائدٍ حُسْنُ اختياره لقوَّاده ، ولأعوانه ، لأن البطانة إذا كانت صالحة صلح القائد ، ومن الأدعية المأثورة ، دعاءٌ بصلاح البطانة : اللَّهم هيّئ له بطانة خير ، تأمره بالخير وتدلُّه عليه .
فسيدنا عمر رضي الله عنه كان حريصاً حرصاً بالغاً ، على أن يختار قوَّاد الجيوش وولاة الأمصار من بين الأبطال الورعين ، الأكْفاء ، المستقيمين ، المخلصين .
وأنت أيها الإنسان ، لو عيَّنوك مدير مدرسة ، فبطولتك في حسن اختيار المعلمين ، إن أحسنتَ اختيارهم ، وكانوا مخلصين ، أكْفاء ، انطلقتْ هذه المدرسة ، وإنْ كنتَ مدير مستشفى ، فبطولتك في حسن اختيار الأطبَّاء ، إنهم إن تعاونوا معك ، وأخلصوا ، وكانوا أعفَّة ، نجح المستشفى وأفلح ، في أي مجال ، وفي أي عمل ، في أعمال الحروب ، في أعمال العلوم ، في أعمال التجارات ، في أي مجال ، لن تفلح إلا إذا كان حولك أعوانٌ يجمعون بين الكفاءة والإخلاص .
ومن عادة سيدنا عمر ، رضي الله عنه أنه إذا عيَّن والياً يكتب له هذا الكتاب ، يكتب له : ((خذ عهدك ، وانصرف إلى عملك ، واعلم أنك مصروفٌ رأس سنتك - سنة واحدة تجريبية - وأنك تصير إلى أربع خلال ، " أربع حالات " إن وجدناك أميناً ضعيفاً استبدلناك لضعفك ، وَسَلَّمَتكَ مِنْ مَعَرَّتِنَا أَمانَتُكْ ، وإن وجدناك خائناً قوياً ، اسْتَهَنَّا بقوَّتك ، وأوجعنا ظهرك ، وأحسنَّا أدبك ، وإن جمعتَ الجُرمين ، جمعنا عليك المضرَّتين ، وإن وجدناك أميناً قوياً ، زدناك في عملك ، ورفعنا لك ذكرك ، وأوطأنا لك عقبك .
استنبط هذا الخليفة الراشد ، هذين المقياسين ، الإخلاص ، والكفاءة ، بالتعبير الحديث ، أو الأمانة، والقوة ، بالتعبير القديم ، من قول الله عزَّ وجل :
( سورة القصص )
القوي ، ذو الكفاءة ، والأمين ، ذو الإخلاص ، قويٌ أمين ، مخلصٌ كفء .
سيدنا عمر من أسباب نجاحه في الخلافة ، أنّه كان يختار ولاة الأمصار ، وقوَّاد الجيوش من القمم، فلذلك قال : ((أريدُّ رجلاً ، إن كان أميراً ، بدا وكأنه واحدٌ من أصحابه - أيْ فيه تواضع -وإن كان واحداً من أصحابه بدا وكأنه أمير)) .
لشدة حرصه ، وغيرته ، وحبّه ، يؤمِّر نفسه ، فإن عيِّن أميراً بدا وكأنه واحدٌ من الناس ، وإن كان واحداً من الناس بدا وكأنه أميرهم ، لرعايته ، وحرصه .
فالآن سيدنا عمر يريد أن يعيِّن قائداً لجيشٍ يذهب لفتح بلاد الأهواز ، ثم ما لبثَّ ، أن هتف قائلاً: ظفرتُ به ، نعم ظفرتُ به إن شاء الله .
كما قال أرخميدس : وجدتها ، وجدتها ، أن تجد الشخص المناسب ، الرجل المناسب ، للمكان المناسب، فهذه بطولة ، وأحياناً لا يقضي على الخلفاء والأمراء إلا بطانة السوء ، إلا الأعوان الذين يُسيئون ولا يحسنون ، يخونون ولا يخلصون ، يأخذون ولا يعطون ، يكونون حجاباً بين الناس ، وبين الأمير.
ولما طلع عليه الصباح ، دعا هذا الخليفة العظيم ، سيدنا سلمة بن قيسٍ الأشجعي ، وقال له : ((إني وليتك على الجيش المتوجه إلى الأهواز ، فَسِرْ بسم الله )) ...
وبعد ، دققوا في الوصايا التي تكتب بماء الذهب ، والتي أوصى بها عمرُ هذا القائدَ العظيم ، قال له : ((إني وليتك على الجيش المتوجه إلى الأهواز ، فسِرْ بسم الله ، وقاتلْ في سبيل الله مَن كفر بالله ، وإذا لقيتم عدوكم من المشركين فادعوهم إلى الإسلام ، فإن أسلموا ، فإمّا أن يختاروا البقاء في ديارهم ، ولا يشتركوا معكم في حرب غيرهم ، فليس عليهم إلا الزكاة ، وليس لهم في الفيء نصيب ، وإمّا أن يختاروا أن يقاتلوا معكم، فلهم مثل الذي لكم ، وعليهم مثلُّ الذي عليكم)) .
كلام دقيق مركَّز .. ادعُوهم إلى الإسلام ، فإن أسلموا فخيِّروهم ، إمّا أن يقاتلوا معكم ، فلهم مثل ما لكم ، وعليهم مثل ما عليكم ، وإمّا أن يختاروا أن يبقوا في ديارهم ، فليس عليهم إلا الزكاة ، وليس لهم من الفيء والغنائم شيء .
((فإن أبوا الإسلام ، فادعوهم إلى إعطاء الجزية ، ودعوهم وشأنهم ، واحموهم من عدوهم ، ولا تكلِّفوهم فوق ما يطيقون ، فإن أبوا فقاتلوهم ، فإن اللهَ ناصرُكم عليهم .
وإذا تحصَّنوا بحصنٍ ، ثم طلبوا منكم أن ينزلوا على حكم الله ورسوله ، فلا تقبلوا منهم ذلك ، فإنكم لا تدرون ما حكم الله ورسوله ، وإذا طلبوا منكم أن ينزلوا على ذمة الله ورسوله ، فلا تعطوهم ذمة الله ورسوله ، وإنما أعطوهم ذممكم أنتم ، فإن ظفرتم في القتال ، فلا تسرفوا ، ولا تغدروا ، ولا تمثلوا ، ولا تقتلوا وليداً)) .
هذا الدرس ينبغي أن يوضع بين أيدي الذين يحاربون المسلمين ، ويمثِّلون في صبيانهم ، ويغتصبون نساءهم ، ويذبحون رجالهم ، ولا يرقبون فيهم إلاًّ ولا ذمة .
قال سلمة : سمعاً وطاعةً يا أمير المؤمنين .
وصية ، دقيقة جداً ، توضِّح المنهج ، الدعوة إلى الإسلام ،(( إن أسلموا ، فلهم ما لكم ، وعليهم ما عليكم ، هم مخيَّرون ، إما أن يقاتلوا معكم ، وإما أن يبقوا في ديارهم ، إن بقوا فلا عليهم إلا الزكاة ، وإن قاتلوا فلهم الفيء ، إن أبوا أن يسلموا ، فادعوهم لدفع الجزية ، ولا تكلفوهم ما لا يطيقون ، واحموهم ، لا تكلفوهم أن يحاربوا معكم ، وإن أبوا فقاتلوهم ، وإن انتصرتم عليهم ، فلا تقتلوا وليداً ، ولا شيخاً كبيراً ، ولا امرأةً ، ولا تعقروا نخلاً ، ولا تذبحوا شاةً)) ، هذا من وصايا الخلفاء الراشدين ، رضوان الله عليهم أجمعين .
فقال سلمة : سمعاً وطاعةً يا أمير المؤمنين ، فودَّعه عمر بحرارةٍ بالغة ، وشدَّ على يديه بقوة، ودعا له بضراعة ، لأنَّ عمر كان يقدِّر ضخامة المهمة التي ألقاها على عاتقه ، وعاتق جنوده .
ما هي الحرب ؟ الحرب أن تضع روحك على كفِّك ، فإما أن تعود غانماً ، وإما أن تموت شهيداً ، كلمة موت عند الجبناء شيء مخيف ، يقول لك : يقولون عني : ألف جبان ولا : "رحمه الله" ، ألف جبان هكذا الجبناء، لكن المؤمنين ، لهم شأنٌ آخر ، جادوا بأنفسهم ، ولله در القائل :
***
تجُود بالنفسِ إذْ أنتَ الضَّنينُ بها والجودُ بالنفسِ أقصَى غايةِ الجودِ
***
قال سيدنا عمر في نفسه : الأهواز منطقةٌ جبليةٌ وعرة المسالك ، حصينة المعاقل ، واقعةٌ بين البصرة وتخوم فارس ، يسكنها قومٌ أشداء أقوياء ، ولم يكن للمسلمين بُدٌّ من فتحها ، أو السيطرة عليها، ليحموا ظهورهم من هجمات الفرس على البصرة ، ويمنعوهم من اتخاذها ميداناً لجنودهم ، فتتعرض سلامة العراق ، وأمنه للخطر .
مضى الجيش ، وانطلق إلى الأهواز ، والذي لا يعرف بلاد الحجاز في الصيف ، لا يقدِّر قيمة الجهاد في هذه البلاد ، وانظُرْ في تعليمات الحجاج عند وجودهم في الديار المقدسة :
إياك أن تغادر مقرَّ سكنك إلى البيت الحرام في النهار ، لأن الإنسان قد يصاب بضربة شمسٍ قاتلة ، وهناك حجاجٌ كثيرون يصابون بضربة شمسٍ مع استعمال المظلة ، فكيف إذا انطلق جيش من المدينة ليتجه نحو الشمال ، في هذا الحر الشديد .
مضى سلمة بن قيس ، على رأس الجيش الغازي في سبيل الله ، غير أنهم ما كادوا يتوغَّلون قليلاً في أرض الأهواز حتى دخلوا في صراعٍ مرير مع طبيعتها القاسية ، فقد طفق الجيش يعاني من جبالها الوعرة ، وهو مُصْعِد ، ويكابد من مستنقعاتها الموبوءة ، وهو مسهل .
السهول كلُّها مستنقعات ، والجبال كلُّها وعرة ، ويصارع أفاعيها القاتلة ، وعقاربها السامة ، كلُّ جنديّ منهم يقظ دائماً .
لقد وجدوا أفاعي وعقارب ، وجبالاً وعرة ، وسهولاً فيها مستنقعاتٌ آسنة ، وفيها حشرات ، وأوبئة وأمراض ، وأرضًا لا يعرفونها ، وعدوًّا يخشون بأسه ، وهم خرجوا من الصحراء ، من أرضٍ حارةٍ ، إلى أرضٍ باردة ، هؤلاء هم الصحابة ، فعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا تَسُبُّوا أَصْحَابِي فَلَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ أَنْفَقَ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا مَا بَلَغَ مُدَّ أَحَدِهِمْ وَلَا نَصِيفَهُ*
(متفق عليه)
وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُغَفَّلٍ الْمُزَنِيِّ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : اللَّهَ اللَّهَ فِي أَصْحَابِي اللَّهَ اللَّهَ فِي أَصْحَابِي لَا تَتَّخِذُوهُمْ غَرَضًا بَعْدِي فَمَنْ أَحَبَّهُمْ فَبِحُبِّي أَحَبَّهُمْ وَمَنْ أَبْغَضَهُمْ فَبِبُغْضِي أَبْغَضَهُمْ وَمَنْ آذَاهُمْ فَقَدْ آذَانِي وَمَنْ آذَانِي فَقَدْ آذَى اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى وَمَنْ آذَى اللَّهَ فَيُوشِكُ أَنْ يَأْخُذَهُ *
( مسند الإمام أحمد : رقم " 19641 " )
أي دعوني وأصحابي .
لَا تَسُبُّوا أَصْحَابِي فَلَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ أَنْفَقَ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا مَا بَلَغَ مُدَّ أَحَدِهِمْ وَلَا نَصِيفَهُ *
(متفق عليه)
المؤمن الكامل ، لا يستطيع ، أن يتكلَّم كلمةً واحدةً في حق الصحابة ، من أنا ؟ متى كان الجنديُّ يقيِّم رؤساء الأركان ؟ متى كان الممرضُ يقيم الأطباء الكبار ؟ متى كان البائعُ المتجول يقَيِّم رؤساء غرف التجارة ؟ متى ؟ !! ومَن نحن حتى نقيِّمهم ؟ ومن نحن حتى نوازن بينهم ، وبين غيرهم ؟ ومن نحن حتى نتقصى أخطاءهم ؟ .
اللَّهَ اللَّهَ فِي أَصْحَابِي اللَّهَ اللَّهَ فِي أَصْحَابِي لَا تَتَّخِذُوهُمْ غَرَضًا بَعْدِي فَمَنْ أَحَبَّهُمْ فَبِحُبِّي أَحَبَّهُمْ وَمَنْ أَبْغَضَهُمْ فَبِبُغْضِي أَبْغَضَهُمْ وَمَنْ آذَاهُمْ فَقَدْ آذَانِي وَمَنْ آذَانِي فَقَدْ آذَى اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى وَمَنْ آذَى اللَّهَ فَيُوشِكُ أَنْ يَأْخُذَهُ *
( مسند الإمام أحمد : رقم " 19641 " )
لَا تَسُبُّوا أَصْحَابِي فَلَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ أَنْفَقَ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا مَا بَلَغَ مُدَّ أَحَدِهِمْ وَلَا نَصِيفَهُ *
(متفق عليه)
كان الصحابة عندما يحاصِرون مدينةً محصنةً لها سور مرتفع ، يرجو أحدُهم إخوانه أن يرفعوه إلى قمة الحصن ، ويلقي بنفسه إلى داخله ، ومَن بداخله ؟ أعداءٌ ألدَّاء ، معهم السيوف ، والرماح ، ينتظرونه ، كي ينهشوا لحمه بسيوفهم ، ويقع هذا الصحابي خلف السور ، ويضربه الكفار ، ستةً وثمانين طعنةً في جسمه ، ويفتح باب الحصن ، ويستشهد ، ماذا فعلتم أنتم ؟ فنحن وأنا معكم ماذا نفعل؟ لا نفعل شيئاً ، يقولون هذه الأيام : لا نرى مراوح في المسجد ، لا يُطاق الدرس بلا مروح ، وفي الشتاء يشكون البرد ، ولا تشتغل المدفئات ، والمواصلات صعبة ، هذا درس فقط، ونزلت كلُّ هذه الشكاوى ؟ مرة المواصلات ، مرة المراوح ، ومرة التدفئة ، ماذا نفعل نحن ؟ لا يتحمل الإنسان شيئًا من المشقة .
لذلك هؤلاء الصحابة ، رضي الله عنهم ، ورضوا عنه ، يكفيهم شرفاً أن الله عزَّ وجل ، اختارهم لصحبة نبيه ، اختارهم لصحبة سيِّد الخلق ، وحبيب الحق ، وشُرِّفوا بأنهم رأوا النبي عليه الصلاة والسلام ، وآمنوا به ، وعاونوه ، وفدوه بأرواحهم .
لكن روح سلمة بن قيس المؤمنة الشفافة كانت ترفرف بأجنحتها فوق جنده .
يا أيها الإخوة ، الإيمان يفعل المعجزات ، واللهِ أيها الإخوة ، مهما اشتدت المحن ، ومهما ضاقت الأمور وتعسَّرتْ ، ومهما اكفهرَّت الليالي ، واشتدَّت الخطب ، إيمان المؤمن ، أقوى من كلِّ شيء .
فقد كان هذا الصحابي الجليل ، والقائد العظيم ، يتخوَّل أصحابه بالموعظة ، التي تهزُّ نفوسهم هزاً، ويملأ لياليهم بأرج القرآن ، فإذا هم مغمورون بضيائه ، سابحون في لألائه ، ناسون ما مسَّهم من عناءٍ ونصب .
من يقدر منا الآن أنْ يركب فرسًا ، ويمشي في هذه الليالي ، من دمشق إلى المدينة وحيداً ؟ من يستطيع ذلك ؟ هكذا كان الصحابة .
النبي عليه الصلاة والسلام ، يرسل الصحابي الجليل رسولاً إلى كسرى وحده ، الآن تجد الوفد ثلاثين شخصًا ، معهم مهمات ، طائرات ، قاعات شرف ، فنادق خمس نجوم ، أجنحة ، سيارات مع سائقيها ، مع مترجمين ، الآن هذه المهمة متعة ، فيها كلّ شيء ، الإكرام شديد ، والتعويضات باهظة، وأذون السفر بغير حدود ، واستقبال ، وولائم ، يقول لك : غداء عمل ، أي عمل هذا ؟ فلذلك :
لَا تَسُبُّوا أَصْحَابِي فَلَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ أَنْفَقَ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا مَا بَلَغَ مُدَّ أَحَدِهِمْ وَلَا نَصِيفَهُ *
(متفق عليه)
امْتَثَل سلمة بن قيس لأمر خليفة المسلمين ، فما إن التقى بأهل الأهواز حتى عرض عليهم الدخول في دين الله ، فأعرضوا ونفروا ، فعرض عليهم الإسلام فأعرضوا ، ودعاهم إلى إعطاء الجزية فأبوا واستكبروا ، فلم يبق أمام المسلمين غير ركوب الأسنة ، فركبوها مجاهدين في سبيل الله ، راغبين بما عنده من حسن الثواب ، ودارت المعاركُ حاميةَ الوطيس ، مستطيرة الشرر ، وأبدى فيها الفريقان مِن ضروب البسالة ما لم تشهد له الحروب نظيراً ، إلا في القليل النادر .
مركز الثقل في القصة ليس في أثناء المعارك ، ولكن بعد المعركة..
ثم ما لبثت أن انجلت المعارك ، عن نصرٍ مؤزَّر ، للمؤمنين المجاهدين ، لإعلاء كلمة الله ، وهزيمةٍ منكرةٍ للمشركين أعداء الله ، ولما وضعت الحرب أوزارها ، هذه المرحلة في القصة اسمُها البداية .
والآن دخلّنا في العقدة :
ولما وضعت الحرب أوزارها ، بادر سلمة بن قيس إلى قسمة الغنائم بين جنوده ، ومن بين هذه الغنائم حِليةٌ نفيسةٌ جداً ، فهذا الصحابي ، هذا القائد المخلص ، المحب ، المؤمن ، الورع ، لما رأى هذه الحلية النفيسة ، أحبَّ أن يُتْحِف بها أمير المؤمنين ، وأن يقدِّمها هدية من الجنود جميعاً لأمير المؤمنين ، فما دامت هذه الحلية من حق الجنود ، فلا بدَّ أن يستأذنهم ، فقال للجنود :
إن هذه الحلية ، لو قسِّمت بينكم ، لما فعلتْ معكم شيئاً ، فهل تطيبُ أنفسكم إذا بعثنا بها إلى أمير المؤمنين ؟ تسمحون لنا ؟ .
ماذا فعل هذا الصحابي ؟ هل ارتكب جريمة ، لقد قدَّم للخليفة هديةً من حقه ، ما دامت من حقِّ الجنود جميعاً ، وقد استأذنهم ، فقالوا مِن دون تردد جميعا : نعم .
فجعل الحليَةَ في سفطٍ ، ما هو السَّفط(1) ؟ صندوق ، عندك صفت راحة ، السَّفط صندوق ، فجعل الحلية في سَفطٍ ، وندب رجلاً من قومه ، من بني أشجع ، وقال له : امضِ إلى المدينة ، مِن أين ؟ من الأهواز إلى المدينة ، اذهبْ وحدك ، امضِ إلى المدينة أنت وغلامك ، وبشِّر أمير المؤمنين بالفتح ، وأطرِفْهُ بهذه الحلية .
اذهبْ إلى المدينة ، أنت وغلامك ، وبشر أمير المؤمنين بالفتح ، وقدِّم له هذه الهدية .
فكان للرجل مع عمر بن الخطاب خبرٌ فيه عبرٌ وعظات ، قال الأشجعي : - وهذه قصة يرويها هو :مضيتُ أنا وغلامي إلى البصرة ، فاشترينا راحلتين ، مما أعطانا سلمة بن قيس ، وأوقرناهما زاداً، ثمَّ يمَّمنا وجوهنا شطر المدينة ، فلما بلغناها - الكتابة سهلة ، بين (فلما بلغناها) ، بين ( يمَّمنا وجهينا شطر المدينة) ، بين التوجه وبين الوصول أعتقد أنّ ثمة مسيرة شهر ، ثلاثين يومًا ، بلياليهنّ.
نشدتُ أمير المؤمنين ، أي طلبته ، بحثت عنه ، فوجدته واقفاً يغدِّي المسلمين ، طبعاً فقراء المسلمين ، وهو متكّئ على عصاه كما يصنع الراعي ، وكان يدور على القِصاع ، وهو يقول لغلامه "يرفأ" : يا يرفأ زِدْ هؤلاء لحماً ، يا يرفأ زد هؤلاء خبزاً ، يا يرفأ زد هؤلاء مرقةً ، بنفسه .
سيدنا الصديق رضي الله عنه ، كانت له جارة عجوز عندها شاة ، فكان يحلبها لها ، فلما صار خليفةً ، حزنتْ لأن هذه الخدمات لن تستمر ، لقد أصبح خليفة ، وفي اليوم التالي طرق باب الجارة ، وقالت لابنتها : يا بنيَّتي افتحي الباب ، فلما فتحت الباب ، قالت : مَن الطارق يا بنيتي ؟ قالت : جاء حالب الشاة يا أمّاه ، وهو خليفة المسلمين .
فسيدنا عمر كان يدور بنفسه على القِصاع - جمع قصعة - ويقول لغلامه يرفأ : يا يرفأ ِزدْ هؤلاء لحماً ، زد هؤلاء خبزاً ، زد هؤلاء مرقةً ، فلما أقبلتُ عليه ، قال : اجلس ، فجلست في أدنى الناس ، وقدَّم لي الطعام ، فأكلّتُ لحمًا ، وسيد الطعام اللحمُ .
ـــــــــــــــــــــ
(1) السَّفَطُ: الذي يُعَبَّى فيه الطِّيبُ وما أَشبهه من أَدَوات
ِ
فلما فرغ الناس من طعامهم ، قال : يا يرفأ ارفع قِصاعك ، ثم مضى فتبعته ، مضى ، فلما دخل داره استأذنتُ عليه بالدخول ، فأذن لي ، فإذا هو جالسٌ على رقعةٍ من شعر ، أي جلد شعر ، نصفه قد قُطِع ، ونصفه ما زال موجودًا ، متكئٌ على وسادتين من جلدٍ محشوَّتينِ ليفاً ، فطرح إلي إحداهما ، فجلست عليها .
انظُرْ إلى التواضع في تكريم الضيف .
وإذا خلْفه سترٌ ، فالتفتَ نحو الستر ، وقال : يا أم كلثوم ، ائتنا بغدائنا ، بطعام ، يريد أن يتغدى سيدنا عمر ، فقلت في نفسي : ما عسى أن يكون طعام أمير المؤمنين الذي خصَّ به نفسه ؟ الآن الأكل مِن الدرجة الأولى ، الأكل الفاخر النفيس ، المقبِّلات ، الحساء ، الفتَّات ، أنواع اللحوم، أنواع الخضار، المقبِّلات .
قال : فناولته خبزةً بزيتٍ ، عليها ملحٌ لم يدق ، ملح خشن ، فالتفتَ إليَّ ، وقال : كُلْ ، فامتثلت ، وأكلت قليلاً ، وأكل هو ، قال : فما رأيت أحداً أحسن منه أكلاً ، ثم قال : اسقونا ، فجاءوه بقدحٍ فيه شرابٌ من سويق الشعير ، نقيع الشعير ، فقال : أعطوا الرجل أولاً ، فأعطوني ، فأخذت القدح ، فشربت منه قليلاً ، ثم أخذه وشرب ، حتى روي ، ثم قال : الحمد لله الذي أطعمنا فأشبعنا ، وسقانا فأروانا .
عند ذلك ، التفت إليه ، وقلت : يا أمير المؤمنين ، جئتك برسالةٍ من عاملك سلمة ... قال : مِن أين ؟ قلت : من عند سلمة بن قيس ، قال : مرحباً بسلمة بن قيس ، ومرحباً برسوله ، حدِّثني عن جيش المسلمين ، فقلت : كما تحب يا أمير المؤمنين ، السلامة والظَّفَرُ على عدوهم ، وعدو الله ، وبشَّرته بالنصر ، وأخبرته خبر الجيش جملةً وتفصيلاً ، هذه هي المهمة الأولى .
فقال : الحمد لله أعطى فتفضَّل ، وأنعم فأجزى ، ثم قال : هل مررت بالبصرة ؟ قلت : نعم يا أمير المؤمنين ، قال : كيف المسلمون ؟ طمئني عنهم ؟.
قلت : بخيرٍ من الله ، قال : كيف الأسعار ؟
السؤال الأول ، بعد كيف حال المؤمنين ؟ كيف الأسعار ؟ من شدة رحمته ، من شدة حرصه ، قلبٌ رحيم .
قلت : بخير ، أسعارهم أرخص أسعار ، قال : وكيف اللحم ؟ قلت : اللحم شجرة العرب ، واللحم كثيرٌ وفير ، فالتفت إلى الصفت الذي معي ، وقال : ما هذا الذي بيديك ؟ قلت : يا أمير المؤمنين ، لما نصرنا الله على عدونا ، جمعنا الغنائم ، فرأى سلمة فيها حليةً ، فقال للجند ..
عودة إلى موضوع الطعام ، فمرة سيدنا عمر ، حرم نفسه اللحم أشهرًا ، في عام المجاعة ، فقرقر بطنُه ، فخاطبه قائلاً : قرقر أيها البطن ، أو لا تقرقر ، فو الله لن تذوق اللحم ، حتى يشبع منه صبية المسلمين .
ومرة قُدِّم له لحمٌ نفيس ، فقال : بئس الخليفة أنا ، إذا أكلت أطيبها ، وأكل الناس كراديسها(1) .
ومرةً ، جاءته هديةٌ من أذربيجان ، طعامٌ نفيس ، فلما وضعها في فمه ، سأل الرسول : أيأكل عندكم عامة المسلمين هذا الطعام ؟ قال : لا، هذا طعام الخاصة ، فوبَّخ الوالي ، وقال: حرامٌ على بطن عمر ، أن يذوق طعاماً لا يطعمه فقراء المسلمين ، ثم أمر بالهدية أن تعطى لفقراء المسلمين .
قال : ما هذا الذي بيديك ؟ ما هذا الصفت ؟ قلت : لما نصرنا الله على عدونا ، جمعنا الغنائم ، فرأى سلمة فيها حليةً ، فقال للجند : إن هذه لو قسِّمت عليكم لما بلغت منكم شيئاً ، فهل تطيب نفوسكم، إذا بعثت بها لأمير المؤمنين ؟ فقالوا : نعم ، ثم دفعت إليه بالسفط .
استأذناهم ، وأذنوا ، ووافقوا .
فلما فتحه ، ونظر إلى الفصوص التي فيه ، من بين أحمر وأصفر وأخضر ، وثب من مجلسه ، وجعل يده في خاصرته ، وألقى بالسفط على الأرض ، فانتثر ما فيه ، ذات اليمين ، وذات الشمال ، فظنَّ النساء ، أنني أريد قتله .
لما وقف ، وضع يده على خاصرته ، وعلا صوته ، واضطرب ، ظنَّ النساء أنني أريد أن أقتله ، ثم التفت إليَّ ، وقال : اجمَعْه ، فجعلت أجمع ما انتثر من الصفت ، ثم قال : قم غير محمودٍ لا أنت ولا صاحبك، قلت : ائذن لي بمركبٍ يحملني أنا وغلامي إلى الأهواز ، فقد أخذ غلامك راحلتي ، قال: يا يرفأ ، أعطني راحلتين من إبل الصدقة ، له ولغلامه ، ثم قال لي : إذا قضيت حاجتك منهما ، ووجدتَ مَن هو أحوج لهما منك فادفعهما إليه ، يعني الراحلتين .
قلت : أفعل هذا يا أمير المؤمنين ، نعم أفعل إن شاء الله ، ثم التفت إليَّ ، وقال : أمَا واللهِ ، لئنْ تفرَّق الجند قبل أن يقسم فيه هذا الحلي ، لأفعلن بك وبصاحبك الفاقرة .
فمضيتُ من توِّي حتى أتيت سلمة ، وقلت له : ما بارك الله لي فيما خصصتني به ، اقسم هذا الحلي في الجند قبل أن تحلَّ بي وبك داهية ، وأخبرته الخبر ، فما غادر مجلسه إلا بعد أن قسمه فيهم.
طبعاً سيدنا عمر ، لولا أن يكون بهذا الورع ، وهذه الشدة ، وذلك الحزم ، لما أكرمه الله ذلك الإكرام ، قال عليه الصلاة والسلام :
__________________
(1) قال في لسان العرب [مادة كردس] : الكَرادِيس رُؤُوس العِظام، واحدُها كُرْدوس ، وكل عظمين التقيا في مَفْصِل فهو كُرْدُوس نحو المَنْكِبَين والرُّكْبَتين والوَرِكَين ، وقال في الموضع نفسه : الكَرادِيس رُؤُوس العِظام .
" الإيمان عفَّةٌ عن المطامع ، عفَّةٌ عن المحارم " .
أيها الإخوة ... لا تنسوا أنّ ركعتين من ورع ، خيرٌ من ألف ركعةٍ من مخلِّط ، والإيمان عفةٌ عن المطامع عفةُ عن المحارم ، والإنسان لا يرقى عند الله بعلمه ، بل يرقى باستقامته ، ولا يرقى بعباداته، بل يرقى بورعه ، وهؤلاء الصحابة رضوان الله تعالى عليهم أجمعين كانوا من الورع والخوف مِنَ الله في مكانٍ عليّ ، ولولا أنهم كانوا كذلك لما قدَّر الله على أيديهم النصر .
فإذا أردتم أن ترقوا عند الله عزَّ وجل ، وأن تستحقوا نصر الله وتأييده ، وأن يكون الدين مسعداً لكم ، وأن يجري الخير على أيديكم ، فعليكم بالورع والعفة ، فهما أساس هذا الدين .
الدين له مظاهر ، وله جوهر، جوهر الدين الاستقامة والعمل الصالح ، والاستقامة والعمل الصالح، لا يمكن أن يُبْنَيَا إلا على معرفة الله عزَّ وجل ، ترون ، الرحمة ، والعدل ، والورع ، والبذل، والتضحية ، والشجاعة ، التي لا حدود لها ، بسبب أن أصحاب النبي عليهم رضوان الله ، اتصلوا بالله اتصالاً وثيقاً .
والحمد لله رب العالمين
* * *(/)
الدرس 32/50 ، سيرة الصحابية : السيدة صفية بنت عبد المطلب ، لفضيلة الأستاذ محمد راتب النابلسي .
تفريغ : المهندس عبد العزيز كنج عثمان .
التدقيق اللغوي : الأستاذ غازي القدسي .
التنقيح النهائي : المهندس غسان السراقبي .
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا ، وانفعنا بما علمتنا وزدنا علما، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .
أيها الأخوة الأكارم ... مع الدرس الثاني والثلاثين ، من سيرة صحابة رسول الله رضوان الله عليهم أجمعين ، وصحابية اليوم السيدة صفية بنت عبد المطلب .
ومن حين لآخر نريد أن نبيِّن لإخواننا الكرام أن دور المرأة في الحياة لا يقلُّ أبداً عن دور الرجل ، لكنْ لكلِّ من المرأة والرجل موقعٌ خاصٌ به ، وبها ، وما الفساد إلا في تبادل المواقع .
موقع الطيار ، في غرفة القيادة ، هل يعدُّ الطيار ضيِّق الأفق ، حبيساً في غرفة ضيقة، إذا كان وراء المقود ، وأمام الأجهزة الكثيرة ، وبرقبته أرواح ثلاثمائة إنسان من الركاب ؟ هذا موقعه الصحيح ، هنا (مركز القيادة) يقوم بأخطر دور ، يطير بهذه الطيارة ، ومعه هؤلاء الركاب ، وهم أمانةٌ في عنقه ، فهذا موقعه ، فإذا شعر أنه حبيس هذه الغرفة الصغيرة ، ولا بدَّ من أن يخرج ليجلس مع الركاب ، ويتسامر معهم ، وينطلق ، ربما سقطت الطائرة ، لأنه تخلَّى عن مركز القيادة .
هل يقال للطبيب الجراح : أنت هنا حبيسُ هذه الغرفة الضيقة ؟ لا ، بل هنا موقعه الصحيح ، هنا يُجرِي أخطر عملية جراحية .
فحينما قال الله عزَّ وجل :
( سورة الأحزاب : آية " 33 " )
ليس معنى هذا أن المرأة حبيسة المنزل ، ولكن معنى هذا أنها تربِّي أجيالاً ، :وأن هذا البيت موقعها الصحيح ، وأن بإمكان المرأة أن تهزَّ العالم بتربيتها لأولادها ، أليس المجتمع ، محصلة تربيةٍ بيتية ؟ فإن كانت التربية البيتية صالحةً ، صلح المجتمع ، وإن كانت التربية البيتية سيئةً ساء المجتمع .
على كلٍ من الثابت أيها الإخوة أنه كلما تقدمتَ في طريق العلم، وكلما ارتقيتَ في سلم الأيمان ، اكتشفتَ أن المرأة كالرجل تماماً في التكليف ، وفي التشريف ، ثم اكتشفتَ أيضاً ، أن للمرأة خصائص متعلقة بها ، ومتعلقة بمهمتها ، وتتناسب مع مهمتها ، وأن للرجل خصائص جسمية ، وعقلية ، ونفسية ، واجتماعية ، تتعلَّق بدوره في الحياة ، وبمهمته ، أما من حيث التكليف فالمرأة والرجل سيَّان ، وأما من حيث التشريف فالمرأة مشرفةٌ كالرجل تماماً ، وربما ظهرت بطولاتٌ من النساء ، أين منها بطولات الرجال ، وربما ارتقت المرأة في معرفة الله ، وفي الإقبال عليه ، وفي الشوق إليه ، وفي العمل الصالح ، الذي يقرِّبها إليه ، وربما فاقت الرجال في ذلك ، هذا هو المنطلق السليم ، واللهُ جل جلاله يقول :
( سورة النحل : آية " 97 " )
مرةً ذكرت هذا المثل للتوضيح فقط ، هذه السيارة مهمتها نقل الركاب ، فإذا زادت فيها مساحة الركاب ، وقلَّت مساحة البضاعة ، أليس هذا كمالٌ فيها ؟ وهذه السيارة الأخرى لنقل البضائع ، فإذا نقصت فيها مساحة الركاب ، وازدادت مساحة البضائع ، أليس هذا كمالٌ فيها ؟
لذلك المرأة قد تزيد عاطفتها على إدراكها ، والرجل قد يزيد إدراكه على عاطفته ، لكن مجموع الإدراك والعاطفة في الرجل واحد ، ومجموع الإدراك والعاطفة في المرأة واحدٌ ، فهي عملية توزيع فقط .
صحابية اليوم امرأةٌ نادرة ، ليست كمعظم النساء ، امرأة تمثِّل نموذجاً خاصاً من بين النساء، إنها السيدة صفية بنت عبد المطلب ، صحابيةٌ باسلة ، امرأة حازمة ، قدَّمتْ للمسلمين أول فارسٍ سلَّ سيفاً في سبيل الله بعد أن أنشأته تنشئةً سليمة .
فأنا مع المقولة القائلة : إن رأيت إنساناً عظيماً ، فإن خلفه امرأةٌ عظيمة ، وإن رأيت بطلاً شجاعاً فإنّ خلفه أُمًّا عظيمة ، أو زوجةً عظيمة .
إنها صفية بنت عبد المطلب ، الهاشمية ، القرشية ، عمَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أخت أبيه ، هذه المرأة العظيمة ، اكتنفها المجد من كل جانب ، أبوها ، عبد المطلب بن هاشم ، جد النبي عليه الصلاة والسلام ، وزعيم قريش ، وسيِّدها المطاع ، وأمُّها هالة بنت وهبٍ ، أخت آمنة بنت وهبٍ ، والدة النبي عليه الصلاة والسلام .
بالمناسبة ، إذا تحدثنا عن النسب فهو حديث مقبول بشرطٍ واحد ؛ أن يكون الإنسان مؤمناً ، فإذا تحدثنا عن نسبه ، فنسبه تاجٌ يضاف إلى إيمانه ، أما إذا تحدثنا عن النسب ، وليس صاحبه مؤمناً ، فهذا النسب لا يقدِّم ، ولا يؤخِّر هل من قرابة أشد من قرابة العمومة ، أبو لهبٍ كان عم النبي عليه الصلاة والسلام ، لا قيمة للنسب مع الكفر ، لا قيمة للنسب مع المعصية ، أما مع الإيمان فالنسبُ تاجٌ يتوِّج الإيمان .
أبوها عبد المطلب بن هاشم ، جد النبي عليه الصلاة والسلام ، وزعيم قريش ، وسيِّدها المطاع ، وأمُّها هالةٌ بنت وهبٍ ، أخت آمنة بنت وهبٍ ، والدة النبي عليه الصلاة والسلام ، وزوجها الأول الحارث بن حرب ، أخو أبو سفيان زعيم قريش ، وزوجها الثاني العوَّام بن خويلد ، أخو خديجة بنت خويلد ، سيدة نساء العرب في الجاهلية ، وأولى أمهات المؤمنين في الإسلام ، وابنها الزبير بن العوام ، حواري رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ابنها الزبير ، وزوجها الثانى العوّام أخو خديجة أم المؤمنين ، زوجها الأول أخو أبي سفيان ، والدها جدُّ النبي، أمها أخت أمِّ النبي صلى الله عليه وسلم .
جمعت المجد من كلِّ أطرافه ، ولكنها كما ترون بعد قليل أيها الإخوة ، امرأة نادرة ، امرأة لا كمعظم النساء .
توفى زوجها العوَّام بن خويلد ، يعني النبي عليه الصلاة والسلام وصف الزبير بن العوام بأنه حواري رسول الله .
والقصة المعروفة ، أن عبد الله بن الزبير ، حينما أرسل كتاباً إلى معاويةَ ببن أبي سفيان ، وقال : أما بعد .. كان عبد الله بن الزبير مجرد مسلم ، وكان معاوية بن أبى سفيان خليفة المسلمين أرسل له كتاباً قال فيه : أما بعد .. فيا معاوية ، إن رجالك قد دخلوا أرضى ، فانههم عن ذلك ، وإلا كان ليَ ولك شأنٌ ، والسلام .
أمسك معاويةُ الكتابَ ، ثم دفعه إلى ابنه يزيد ، وقال : يا يزيد ما قولك في هذا الكتاب ؟ فقال يزيد : أرى أن ترسل له جيشاً أوله عنده ، وآخره عندك ، ليأتوك برأسه .
تبسَّم هذا الخليفة الحليم ، وقال : يا بنى غير ذلك أفضل ، أمر الكاتب أن يكتب :
وهنا الشاهد .
أما بعد .. فقد وقفت على كتابِ ولد حواري رسول الله ، ولقد ساءني ما ساءه ، والدنيا كلها هينةٌ جنب رضاه ، لقد نزلتُ له عن الأرض ومن فيها .
فجاء الجواب : أما بعد .. فيا أمير المؤمنين ، اختلف الأسلوب ، لا أعدمك الله الرأيَ الذي أحلَّك من قومك هذا المحل .
فدفع الجواب إلى ابنه يزيد وقال : يا بنى من عف ساد ، ومن حلم عظم ، ومن تجاوز استمال إليه القلوب .
فكان الزبير بن العوام ابن هذه المرأة البطلة ، كان حواري رسول الله ، هذا الحواري نشَّأته السيدة صفية أمه الجليلة ، على الخشونة ، والبأس ، وقد وصفه معاوية في رسالته لابن الزبير بحواري رسول الله صلى الله عليه وسلم .
الحقيقة ، يبدو أنّ النعيم الزائد للصغار يفسدهم ، وتربية الصغار على الخشونة والبأس يقوِّيهم ، ويجعل عودهم صُلباً ، وتجربتهم في الحياة عميقة ، وأخطر ما في حياتنا تربية أولادنا، فإن نَجَحْنا في تربية أولادنا ، نجح المجتمع ، وإن أخفقنا أخفق المجتمع ، وواللهِ لا أرى على وجه الأرض عملاً أعظم مِن أن تعتني بأولادك ، وأن تربيهم تربيةً إسلامية ، وأن تنشِّئهم نشأةً مستقيمة ، وأن تحملهم على طاعة الله ، وأن تجعلهم علماء ، وأن تعلِّمهم كتاب الله وسنة رسول الله ، وأن تعلِّمهم مكارم الأخلاق ، وأن تحملهم على الطاعات ، واللهِ ما من عملٍ أجلُّ مِن هذا العمل ، وهذا الكلام موجه إلى الآباء ..
أيها الآباء ... بين يديك كنز ، ألا تدري ما هو ؟ ابنك كنزٌ بين يديك ، إنْ نشَّأته تنشئةً فاضلة كان ذخراً لك في الدنيا والآخرة ، وكان امتداداً لك إلى أبد الآبدين ، فالأب الذي ربَّى أولاده تربيةً قويمة ثم مات ، فإنّه لم يمت ذكرُه ، ولو أنه فارق الحياة .
مرة حضرنا حفلاً تأبينياً لأحد العلماء الأجلاء ، والدعاة إلى الله عزَّ وجل ، وفي نهاية الحفل سمعنا أن وزارة الأوقاف عيَّنت ابنه خطيباً لهذا المسجد الكبير ، العريق مكان أبيه ، فقلت: يا سبحان الله ، لولا أن هذا الأب ربَّى ابنه تربيةً علميةً إسلاميةً لمَا احتلّ مكان أبيه ، ثم قام وخطب فينا خطاباً أكَّد أهليته لهذا المنصب ، فقلت : واللهِ لم يمُتْ أبوه ، فما دام حينما غاب عن أنظارنا ، كان ابنه مكانه ، وقد علمه ، ورباه وهذبه ، وهو الآن من الدعاة إلى الله عزَّ وجل.
إذا كان لك ابن فربَّيتَه تربيةً إسلاميةً ، وفقَّهته في الدين ، وعلَّمته كتاب الله ، وسنة رسول الله ، وقوَّمت اعوجاجه ، وهذَّبت مشاعره ، وحملته على طاعة الله ، فأنت لا تموت ولو غادرتَ الدنيا ، ولو أن جسمك غاب تحت الثرى ، هذا ابنك خليفةٌ لك ، ابنك استمرارٌ لك ، ابنك صدقةٌ جاريةٌ لك ، لا ينقطع خيرها إطلاقاً .
هذه المرأة هي في الأصل عظيمة ، وسترون بعد قليل أن هذه المرأة ليست كالنساء ، ولا كمعظم النساء ، ولا كالقلة من النساء ، امرأةٌ نادرة ، ومع ذلك ابنها الزبير بن العوام كان حواري رسول الله صلى الله عليه وسلم .
أيها الأخوة ... لا يصلح مجتمعنا إلا بتربية أولادنا ، ولا حلَّ للمسلمين إلا أن يؤسِّسوا أُسَراً إسلامية ، مسالكها إسلامية ، ونشاطاتها إسلامية ، تقول لي : أنا مسلم أتعاطف مع المسلمين ، يا أخي إن المسلمين يُذَبَّحون في العالم ، فماذا نفعل ؟ ماذا تفعل ؟ أنت اضمَن لي بيتك فقط أنْ يكون إسلامياً ، اضمن لي عملك أن يكون إسلامياً ، تجد في العمل مخالفات ، وفي التعامل مخالفات ، وفي البيت مخالفات ، ونحن يا ربِّ عبيد إحسان ، وما نحن عبيد امتحان ، ما هذا؟؟!! مثل هؤلاء المسلمين ، لا يستحقون النصر ، ولا يستحقون الحفظ .
الآن الحلُّ مطروح ، الحل أنْ ينكفئَ كلٌ منا إلى بيته ، فيُصلِح اعوجاجه ، ويقوِّم بناته ، يقوِّم أولاده ، ويجعل من بيته منارَ علمٍ ، البيت هو الأصل ، بيت المسلم بيتٌ متألِّق ، فيه العلم النافع ، والعمل الصالح ، فيه الانضباط ، اجعل من بيتك وعملك مكانين إسلاميَيْن .. وانتهى الأمر ، لا تلبث أنْ ترى المجتمع ينهض ، ولا تلبث أنْ ترى أنّ الله عزَّ وجل يعطف على هؤلاء ، وينظر إليهم نظرة رحمةٍ .
فهذه السيدة العظيمة ربت ابنها الزبير ، ونشَّأته على الخشونة ، والبأس ، وربته على الفروسية والحرب .
مرة التقيت مع رجلٍ يريد أنْ يؤدّيَ زكاة ماله لبعض الجمعيات الخيرية ، فقال لي : أنا أحب أن أجعل ابني يدفع هذا المبلغ لأعلِّمه على الإنفاق وأدَرِّبه عليه ، فقدَّم المبلغ لابنه ، وكلَّفه أن يذهب إلى الجمعية الخيرية ليدفع لها المبلغ ، حتى يتعوَّد الابن على الإنفاق ، وليس على القبض ، فالابن لا بدَّ أن يربَّى ، والنبي عليه الصلاة والسلام قال :
" اخشوشنوا فإن النعم لا تدوم "(1) .
هل تعرف مَن هو الذي يخفق في تزويج بناته ؟ هو الأب الذي أغرقهم في النعم ، فهذه الفتاة التي تشتهي كلَّ شيء ، ثم تراه بين يديها ، مِن أطيب الطعام ، وأفخر اللباس ، هذه الفتاة لا تصلح أن تكون زوجةً ، وقد يأتيها زوجٌ مؤمنٌ عظيم ، لكن دخله محدود ، فلا تستطيع العيش معه ، النبي الكريم قال :
" اخشوشنوا فإن النعم لا تدوم " .
وفي حديث آخر يقول :
" تمعددوا واخشوشنوا "(2) .
يعني عوِّد أولادك على الطعام الطيب ، والخشن ، على طعام مع فواكه ، وطعام ، مِن دون الفواكه ، وعلِّمهم شيئًا من التقشُّف ، فالإنسان الغارق في النعيم لا يصلح أن يكون إنساناً منتجاً .
فهذه ربَّت ابنها على الخشونة والبأس ، ربَّته على الفروسية والحرب ، وجعلت لعِبه في بَرْيِ السهام ، وإصلاح القسيِّ (الأقواس) فلَهْوُ الزبير بن العوام كان في بري السهام ، وإصلاح القسيّ، ودأَبتْ على أن تقذفه في كلِّ مخوفةٍ ، وتقحمه في كل خطر إقحامًا ، فإذا رأته أحجم ، أو ترّدد
__________
(1) ، (2) قال ابن حجر في الإصابة تحت رقم 7131: ذكر بن أبي حاتم عن أبيه وروى البغوي وابن شاهين والطبراني من طريق عبدالله بن سعيد بن سعيد المقبري عن أبيه عن القعقاع بن أبي حدرد سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول تمعددوا واخشوشنوا وامشوا حفاة.
وذكَر أيضا تحت الترجمة رقم 4624 رواية أخرى : تمعددوا واخشوشنوا وانتضلوا* وامشوا حفاة.
" قال ابن منظور في لسان العرب : وخرج القوم يَنْتضِلون إِذا اسْتَبَقوا في رَمْي الأَغْراض. وفي الحديث : أَنه مَرَّ بقومٍ يَنْتَضِلون أَي يَرْتَمُون بالسِّهام " ، يقال : انْتَضَل القوم وتَناضَلوا أَي رَمَوْا للسَّبْق.
ضربته ضرباً مبرِّحاً ، حتى إنها عوتِبتْ في ذلك مِن قِبَل أحد أعمامه ، حيث قال لها :
ما هكذا يُضرَب الولد ، إنَّك تضربينه ضرب مبغضةٍ ، لا ضرب أمٍّ ؟ فقالت شعراً :
من قال : قد.... أبغضته فقد كذب
و إنما أضربه ......... لكي يلب
و يهزم الجيش .... ويأتي بالسلب
يلب : يصبح لبيباً .
هذه الصفة مهمة جداً ، نشَّأت ابنها نشأة خشونةٍ ، ونشأة بأسٍ ، ونشأة حزمٍ ، ودفعته إلى اقتحام الأخطار ، وإلى التعامل مع المصاعب ، كي يصلب عوده .
والطفل اليوم إنْ رأى حشرة صغيرة يصيح خوفاً ، ولا يقوى على فعل شيء ، بل لا يتحمَّل شيئًا ، وإذا اختلفت مواقيتُ طعامه تراه يضْطَرِب ، ويصيح ، ويغضب ، ويفعل ما لا يصح أنْ يفعل .
وحين بُعث النبي عليه الصلاة والسلام بدين الهدى والحق ، وأرسله الله للناس نذيراً وبشيراً، أمره أن يبدأ بذوي القربى ، فقال تعالى :
( سورة الشعراء )
يقاس عليها ، هل بيننا شخصٌ ليس له أقرباء ؟ أمَا له أخ ؟ أما له ابن أخ ؟ أما له أخت ؟ أما له بنت أخ ؟ أو بنت أخت ؟ أما له جار ؟ أما له صديق ؟ أما له ابن ؟ أما له أب ؟ فلماذا أنت ساكت إذًا ؟ لمِ لا تنقل هذا العلم إلى أقربائك ، إلى أهلك ، إلى أولادك ، إلى من حولك ، إلى جيرانك ، إلى أصدقائك .
قد يكون الواحدُ منا طليق الِّلسان ، وهذا شيء جميل ، بارك الله بك ، فانشط وتكلّمْ ، أمَّا إنْ لم تكن عندك إمكانية ، فسمِّعه شريطًا ، لا يوجد معك ثمن شريط ، أحضِرْه إلى المسجِد ، أسمعه الحق ، اعتنِ به ، احرِصْ على هدايته ، وعاونه ، وأكرمه ، واخدمه ، حتى يميل قلبه إليك ، والدعوة إلى الله تحتاج إلى أن تفتح القلوب بالإحسان ، قبل أن تفتح الآذان باللسان .
فلما بُعث النبيُّ ، وأمره الله أن يبدأ بذوي قرابته ، جمعهم ، صغاراً ، وكباراً .
فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ أَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ قَالَ يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ أَوْ كَلِمَةً نَحْوَهَا اشْتَرُوا أَنْفُسَكُمْ لَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنْ اللَّهِ شَيْئًا يَا بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ لَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنْ اللَّهِ شَيْئًا يَا عَبَّاسُ بْنَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ لَا أُغْنِي عَنْكَ مِنْ اللَّهِ شَيْئًا وَيَا صَفِيَّةُ عَمَّةَ رَسُولِ اللَّهِ لَا أُغْنِي عَنْكِ مِنْ اللَّهِ شَيْئًا وَيَا فَاطِمَةُ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَلِينِي مَا شِئْتِ مِنْ مَالِي لَا أُغْنِي عَنْكِ مِنْ اللَّهِ شَيْئًا *
(متفق عليه)
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ لَمَّا أُنْزِلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ دَعَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قُرَيْشًا فَاجْتَمَعُوا فَعَمَّ وَخَصَّ فَقَالَ يَا بَنِي كَعْبِ بْنِ لُؤَيٍّ أَنْقِذُوا أَنْفُسَكُمْ مِنْ النَّارِ يَا بَنِي مُرَّةَ بنِ كَعْبٍ أَنْقِذُوا أَنْفُسَكُمْ مِنْ النَّارِ يَا بَنِي عَبْدِ شَمْسٍ أَنْقِذُوا أَنْفُسَكُمْ مِنْ النَّارِ يَا بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ أَنْقِذُوا أَنْفُسَكُمْ مِنْ النَّارِ يَا بَنِي هَاشِمٍ أَنْقِذُوا أَنْفُسَكُمْ مِنْ النَّارِ يَا بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ أَنْقِذُوا أَنْفُسَكُمْ مِنْ النَّارِ يَا فَاطِمَةُ أَنْقِذِي نَفْسَكِ مِنْ النَّارِ فَإِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ مِنْ اللَّهِ شَيْئًا غَيْرَ أَنَّ لَكُمْ رَحِمًا سَأَبُلُّهَا بِبَلَالِهَا *
(رواه مسلم)
هذا التوجيه الصحيح ، هذا أعظم توجيه ، كل إنسان يطرح أفكارًا خلاف هذا التوجيه فهو مخطئ ، قال أحد الشيوخ لتلاميذه : بعضُ العلماء توفي أحدُ تلاميذه ، فلما جاءه الملكان ليجلسانه، ويسألانه ، تَلَقَّيَّا ضربةً من الشيخ العالِم ، فأبعدهما عنه ، وقال لهما : أمثلُ هذا يُسأل!! هذا تلميذي لا تسألوه .
هذه القصة خلاف الشرع .. ولا تتوافق مع الشرع ، لكنّ الصواب ما قاله النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم : لَا أَمْلِكُ لَكُمْ مِنْ اللَّهِ شَيْئًا ، هذا هو الشرع .
ربِّ إخوانك على تمتين علاقتهم بالله فقط .
كنت أقول لكم دائماً : لو أنك بذكاءٍ ، وطلاقةٍ لسانٍ ، وحجةٍ وبيان ، استطعتَ أن تنزع من فم النبي فتوى لصالحك ، أو حكماً لصالحك ، ولم تكن محقاً ، فلن تنجوَ من عذاب الله :
وعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ إِنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إِلَيَّ وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَلْحَنُ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ بِحَقِّ أَخِيهِ شَيْئًا بِقَوْلِهِ فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنْ النَّارِ فَلَا يَأْخُذْهَا *
(متفق عليه)
إذا كان النبي عليه الصلاة والسلام ، لا يستطيع أن ينقذك من عذاب الله ، أفيستطيع إنسانٌ آخر ؟ أنظر إلى هذا الكلام ما أجمله وما أصوبَه :
يَا صَفِيَّةُ عَمَّةَ رَسُولِ اللَّهِ لَا أُغْنِي عَنْكِ مِنْ اللَّهِ شَيْئًا وَيَا فَاطِمَةُ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَلِينِي مَا شِئْتِ مِنْ مَالِي لَا أُغْنِي عَنْكِ مِنْ اللَّهِ شَيْئًا *
فلا تجعل إنسانًا يتكئ على آخر ، ولا تجعل إنسانًا يطمع في إنسان ، أصلِحْ هذا الإنسان مع الله ، اجعله يراقب الله عزَّ وجل ، في حلِّه وترحاله ، في جلوته وخلوته ، في سرِّه وعلانيَّته ، إذا استطعتَ أن تحمل الناس على طاعة الله وحده ، وعلى التعامل مع الله وحده فقد نجحتَ ، وأفلحتَ في الدعوة إلى الله .
دعاهم إلى الإيمان ، وحضَّهم على التصديق برسالته ، أقبل على هذا النور العظيم مَن أقبل، وأعرض عنه مَن أعرض ، موطن الشاهد أن صفية بنت عبد المطلب ، موضوع درسنا اليوم ، كانت مع من أقبل على هذا الدين الجديد ، ومع من أسلم لرسول الله صلَّى الله عليه وسلم ، ومع من قبل هذه الدعوة الجديدة .
أضافت إلى أن جدَّها فلان ، وأمها فلانة ، وزوجها الأول فلان ، وزوجها الثاني فلان ، وابنها فلان ، أضافت إلى كل هذا المجد التليد ، وذاك النسب العريق ، أضافت فضيلةَ السبق إلى الإسلام ، فلا أحدَ في المسجد يهزُّ مشاعري كالشاب ، في مقتبل حياته ، كتلةٌ من الشهوات المنضبطة ، جاء إلى بيت الله طائعًا ، واللهِ إخوانُنا جميعاً يهزُّون مشاعري ، لكن أخصُّ الشاب بالذات لأنه في أوجِّ نشاطه ، لكنّه وجَّه نشاطه وطاقته صادقًا طائعًا لله عزَّ وجل .
انضمتْ صفية بنت عبد المطلب عمَّة النبي إلى ركب المؤمنين ، هي وفتاها الصغير الزبير بن العوام ، وعانت مع ابنها ما عاناه المسلمون .
والذي حجَّ منكم ، يرى عند الكعبة المشرفة هؤلاء الضعاف ، الذين يحملُهم على منصّاتٍ خشبية رجال أشداء ، يطوفون بهم حول البيت ؟ هذه الصورة أثارت في نفسي هذا المعنى ، فهناك أشخاص يحملهم الإسلام ، وهم قعود ، كُسالى ، عبيد إحسان ، في حين أن الإسلام رفع شأنهم .
وهناك أشخاص حملوا الإسلام ، فأنت مِمَّن ؟ عندما تديَّنت أكرمك الناس ، والإسلام حملك ، ولما تديَّنت احترمك الناس وقدّروك ، لستَ مثل الذي هو جالس على المنصة ، يحمله مَن يحمله ، ويهرولون به ، هكذا بعض المسلمين ، فأنت مطلوب منك أن تحمل الإسلام ، فماذا بذلت ؟ وماذا فعلت ؟ لستَ مكلفًا في شيء ، إلا أن تأتي إلى المسجد ، ولكن احذرْ أنْ تقول : أنا اليوم مشغول، عندي وعندي ، ويتقاعس ويتخاذل .
بماذا أنت مكلف ؟ الصحابة الكرام بذلوا الغالي والرخيص ، والنفس والنفيس ، وتحملوا المقاطعة والجوع ، وتحملوا الاضطهاد والتنكيل ، وأُخرجوا من ديارهم .
تصوَّروا رجلا يسكن في بلده ، وله بيت ، ومحل ، وسيارة ، ومكانة اجتماعية ، ثم أُخرج من بلده ، وأقام في بلد بعيد ، يفترش الأرض ، ويلتحف السماء ، وليس معه ثمن أدنى طعام ، فالهجرة ليست سهلة ، فالنبي هاجر ، والهجرة حقيقة ، وهي اقتلاع من الجذور ، هذه هي حقيقة الهجرة .
فأنا أقول لإخواننا : هناك من يحملهم الإسلام ، فلمّا أعلن إسلامه ، وتديَّن ، أكرمه الناس ، واحترموه ، ودلّلوه ، فأنت ممن حُملت ، لا ممن حَملت ، الصحابة الكرام حملوا ، أنت محمول، فرقٌ كبير بين المحمول والحامل ، ليسوا سواء .........
أقول لكم بصراحة وبساطة : كان من الممكن أن يخلق الله النبي وأصحابه من دون كفار ، فلما جاء الوحيُ للنبيِّ آمنوا جميعاً ، وسلكوا درب السلامة ، وعاشوا حياة سعيدة ، وانتهى الأمر، لا فتوحات ، ولا حروب ، ولا مضايقات ، ولا خصومات ، ولا تنكيل ، ولا إخراج من الديار ، أبداً ، كان ذلك ممكنًا ، ولكن متى يرقى الإنسان ؟ واللهِ الذي لا إله إلا هو ، لا ترقى إلا بالمعاناة ، لا ترقى إلا بالمعارضة ، ولا ترقى إلا بتحمُّل المشقات .
لذلك والنبي عليه الصلاة والسلام يجري عليه كلُّ ما يجري على البشر ، ولولا ذلك لما كان سيد البشر ، لقد جاع وخاف ، قال : " أوذيت في الله ولم يُؤذَ أحدٌ مثلى ، وخفت ولم يخف أحدٌ مثلي - خاف على الدعوة - ومضى علي ثلاثون يوماً ، لم يدخل جوفي إلا ما يواريه إبط بلال".
فهل الهجرة سهلة ؟ وهو في غار حراء ، وفي غار ثور ، وهو في معركة الخندق، حيث قال بعضهم لبعض : أيعدنا صاحبكم ، أن تفتح علينا بلاد قيصر وكسرى ، وأحدنا لا يأمن أن يقضي حاجته .
لم يقل : نبي ، لم يقل : رسول الله ، قال : صاحبكم ، وفي نظره أنّ الإسلام قضية بضع ساعات ، ثم ينتهي الإسلام كلياً ، ويندثر ، هكذا ظن المنافقين .
فأنت لا ترقى إلا بالمجاهدة ، ولا ترقى إلا بالمعارضة ، ولا ترقى إلا بالمكابدة ، ولا ترقى إلا بالمقاومة ، فإذا عارضَك في البيت أهلُك بعض المعارضة ، لأنك أخذتَ لنفسك هذا المسلك ، فلتصبرْ ولتحتسبْ .
وقد أحْسنَ المتنبي في قوله :
***
إِذَا اعْتَادَ الفَتَى خَوْضَ المَنَايَا فَأَهْوَنُ مَا يَمُرُّ بِهِ الوُحُولُ
***
أما نحن فعند أقل معارضة يقول لك أحدُهم : لا أريد ، لمجرد أنْ يُسأَل سؤالاً واحدًا يقول لك : أخي لا أريد ، هذا وجع رأس ، فأنت محمول ، تصوروا المحمول على النقالة ، وهو قاعد وهم يحملونه ، ليس هذا هو الإسلام ، وليس هذا ممّن يكون بالإسلام عظيمًا .
إذًا السيدة صفية بنت عبد المطَّلب ، عمَّة النبي صلى الله عليه وسلَّم ، وابنها الزبير بن العوام تحملا في مكة الشدائد ، والمضايقات ، والتنكيل ، والمعارضات ، والعزلة ، والمقاطعة ، والفقر .
( سورة محمد : آية " 4 " )
ليبلوكم حتى يرقيكم ، فلما أذِن اللهُ لنبيِّه صلى الله عليه وسلَّم ، وللمؤمنين بالهجرة إلى المدينة ، خلَّفت السيدة الهاشمية وراءها مكة ، بكلِّ ما لها فيها من طيوب الذكريات ، ودروب المفاخر والمآثر ، ويمَّمَتْ وجهها شطر المدينة مهاجرة بدينها إلى الله ورسوله .
هاجرت مع من هاجر ، لكنّ الآن الهجرة معاكسة ، يقول لك : واللهِ أخذت البطاقة الخضراء، والسفر لأمريكا ، حيث الزانا على قارعة الطريق ، هاجر وفوجئ بابنته مع صديق لها ، في خلوة في البيت ، أعوذُّ بالله ، فثارت نخوته ، وعنَّف ابنته ، بعد دقائق جاءت الشرطة لتأخذه إلى المخفر ، لأنه قسا على إنسان مدعو من قبل ابنته ، هذه هي الغرين كارت ، ابنته على ساحل البحر بلباس السباحة مع يهودي ، وهو مسلم ، ثم يقول أبوها المسلمُ : الأمور ميسرة في تلك البلاد ، هذه الهجرة إنما هي في سبيل الشيطان .
عَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ سَرِيَّةً إِلَى خَثْعَمٍ فَاعْتَصَمَ نَاسٌ بِالسُّجُودِ فَأَسْرَعَ فِيهِمْ الْقَتْلَ فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَمَرَ لَهُمْ بِنِصْفِ الْعَقْلِ وَقَالَ أَنَا بَرِيءٌ مِنْ كُلِّ مُسْلِمٍ يُقِيمُ بَيْنَ أَظْهُرِ الْمُشْرِكِينَ قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ وَلِمَ قَالَ لَا تَرَايَا نَارَاهُمَا *
وَرَوَى سَمُرَةُ بْنُ جُنْدَبٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَا تُسَاكِنُوا الْمُشْرِكِينَ وَلَا تُجَامِعُوهُمْ فَمَنْ سَاكَنَهُمْ أَوْ جَامَعَهُمْ فَهُوَ مِثْلُهُمْ *
(رواه الترمذي وأبوداود والنسائي)
أنت يجب أن تبقى في بلد يُعبد الله فيه ، فيه مساجد ، ومجالس علم ، وانضباط ، وفيه بقية شرف ، وبقية مروءة ، أقول : بقية ، بقية حياء ، بقية شرف ، بقية مروءة ، هكذا المؤمن ، قال تعالى :
(سورة هود)
هاجرتْ ، كم تقدِّرون عمر هذه السيدة الجليلة التي ربَّت ابنها تربيةً خشنة ، تربيةً على البأس ، وعلى الشجاعة ، وعلى اقتحام المخاطر ، وآمنتْ مع النبي عليه الصلاة والسلام ، وتحمَّلتْ كلَّ الصعاب ، وهاجرتْ معه ، كم تقدرون عمرها ؟ كان عمرها ستين عاماً ، امرأةٌ لا كالنساء .
بعض مواقفها :
في معركة أحد خرجتْ مع جند المسلمين ، في ثُلّةٍ من النساء جهاداً في سبيل الله ، فجعلتْ تنقل الماء ، وتروي العطاش ، وتبري السهام ، وتصلح القسي ، كلّه عمل خاص بالنساء ، لكن حمزة بن عبد المطلب ، من هو ؟ أخوها ، أخوها وقد قتل في معركة أحد ، وبُقِر بطنه ، وانتزعت كبده ، ومضغتْ ، وثُلِمت أذناه ، وقطع أنفه ، ومثِّل به ، وابنها الزبير بن العوام حواري النبي صلى الله عليه وسلم ، فلما رأت المسلمون ينكشفون عن رسول الله إلا قليلا منهم، ووجدتْ المشركين يوشكون أن يصِلوا إلى النبي ويقضوا عليه ، طرحتْ سقاءها أرضاً ..
طبعاً هذا موقف شخصي ، المرأة ليست مكلفة بالجهاد ، لطبيعتها الأنوثية ، لكن هذا موقف شخصي ، عمرها ستون عاماً ، وعملها في المعركة عمل إنساني ، تضميد الجراح ، وإرواء العطشى ، وبَرْيُ السهام ، وإصلاح القسيِّ ، لكن لما رأت النبي عليه الصلاة والسلام ، ابن أخيها قد انكشف ، واضطرب المسلمون .. ألقت السقاء ، وهبَّت كاللبؤة التي هوجم أشبالها ، وانتزعت من يد أحد المنهزمين رمحه ، ومضت تشقُّ به الصفوف ، وتضرب بسنانه الوجوه ، وتزأر في المسلمين قائلةً : وَيْحكم انهزمتم عن رسول الله ، فلما رآها النبي عليه الصلاة والسلام، مقبلة خشي عليها أن ترى أخاها حمزة ، وهو صريع ، خاف عليها ، خاف على مشاعرها .
لكن والله أيها الإخوة ، بين نساء الصحابة نساء ولكنّهن في عظمة عظماء الرجال ، أنا أقرأ عنهن ، ولا أصدِّق أن امرأةً في أحد ، قُتِل زوجها ، وقُتِل أبوها ، وقُتل أخوها ، وقُتِل ابنها ، ورأتهم صرعى في أرض المعركة ، واحداً جانب الآخر وهي تقول : ما فعل رسول الله ، ولم تسكن مشاعرها ، ولم تتطامن ، إلا بعد أن رأت النبي عليه الصلاة والسلام ، سليماً معافى قالت: يا رسول الله ، كل مصيبةً بعدك تهون ، أبوها ، وأخوها ، وزوجها ، وابنها ، وحينما رأت رسول الله سليماً لم يصب بأذى ، قالت : يا رسول الله ، كل مصيبةً بعدك تهون .
ما هذه المرأة ؟ واللهِ إنها مِن نوع خاص ، وهي السيدة صفية نسيج وحدها ، فالنبي عليه الصلاة والسلام لما رآها مقابلةً خشي عليها أن ترى أخاها حمزة ، وهو صريع ، وقد مثَّل به المشركون أبشع تمثيل ، فأشار إلى ابنها الزبير قائلاً :
" المرأةَ يا زبير .. المرأةَ يا زبير ، أمَّك يا زبير ، أبعِدْها عن ساحة المعركة ، فأقبل عليها الزبير ، وقال : يا أمي إليك ، " يعني ابتعدي " يا أمي إليك ، فقالت : له تنحَّ عني لا أمَّ لك ، قال : إن رسول الله يأمرك أن ترجعي ، قالت : ولمَ ، إنه قد بلغني أنه مُثِّل بأخي ، وذلك في الله، فقال له النبي الكريم : خلِّ سبيلها يا زبير ، فخلَّى سبيلها ".
مثِّل به في الله ، لا ضير إذًا .
وهذه الخنساء ، مات أخوها صخر ، فملأت الشعر العربي بكاءً عليه ، بكت وأبكت ، فليس مِن ديوان شعر مفعم بالحزن والرثاء كديوان الخنساء ، وكانت ممّا قالت فيه :
***
حَمَّالُ أَلْوِيَةٍ هَبَّاطُ أَوْدِيَةٍ شَهَّادُ أَنْدِيَةٍ لِلْجَيْشِ جَرَّارُ
نَحَّارُ رَاغِيَةٍ مِلْجَاءُ طَاغِيَةٍ فَكَّاكُ عَانِيَةٍ لِلْعَظْمِ جَبَّارُ
***
والأبيات طويلة مشهورة .
فهنا قالت له : تنحَّ عني ، لا أُم لك ، إنه قد بلغني أنه قد مُثِّل بأخي ، وذلك في الله ، فقال عليه الصلاة والسلام : خَلِّ سبيلها يا زبير فخلى سبيلها .
فلما وضعت المعركة أوزارها ، وقفت صفية وهي في السَّتِّين من عمرها على أخيها حمزة، فوجدته قد بُقِر بطنُه ، وأُخرِجتُ كبدُه ، وجُدِع أنفه ، وثُلِمتْ أذناه ، وشُوِّه وجهه ، فاستغفرت له وجعلت تقول : إن ذلك في الله ، ولقد رضيتُ بقضاء الله ، واللهِ لأصبرنّ ، ولأحتسبنّ إن شاء الله.
هنا عظمة المؤمن ، فهو كالجبل رسوخاً ، وليس أقل مصاب يقلبه ويهز أعماقه ، فمِنَ الناس اليوم مَن يشك في القضاء والقدر ، ولأَقَلِّ مصاب يقول لك : واللهِ أنا محتار ، إيماني تزلزل ، ما هذا الإيمان الذي عندك ؟ هذا ليس إيمانًا ، هذا على لأقل مشكلة تلفيه ينهار ، ارتعدت فرائصه ، وشكَّ في حكمة الله ، وفي قدرته ، وهذا مِن ضعف الإيمان ، قال تعالى :
( سورة آل عمران )
إذا كان الشخص يرتدي ثيابًا جميلة ، وبعد قليل جاءه رجلٌ بمقص وقصّ ثيابه ، وقطعها ، ورمى الثياب ، وكان في أجمل حالة ، ثم غدا عاديًّا ، وقد سلِم جسمُه .
فهذا الجسد عبارة عن ثياب للنفس ، فإذا استشهد المؤمن في ساحة المعركة ، فجسده هو ثوبه القديم ، ولو ذبح ، وقتل ، والنبي الكريم أبلغنا أن الشهيد لا يشعر أبداً بألم الجراح ، وهو عليه الصلاة والسلام لا ينطق عن الهوى ، والشهيد لكرامته على الله عزَّ وجل يرى مقامه في الجنة وقت استشهاده ، وتفوح من دمائه رائحة المسك ، لأنه قدَّم حياته الله عزَّ وجل ، فَقَبِلَهَا اللهُ منه ، وأكرمه بها ، فكل ما تراه عينك على جسد الشهيد ، لا قيمة له إطلاقاً ، هو في :
( سورة البروج : آية " 11 " )
( سورة يس )
بقيَ الإنسانُ بكامل صحته ، وكامل قوته ، وكامل شبابه ، وكامل تألُّقه ، وثيابُه ممزَّقة ملقاة على الأرض ، هو في الجنة .
( سورة آل عمران )
فهذه ثيابُه التي خلعها ، وألقاها جانباً ، وأبدله الله خيراً منها ، وقد قيل : لقد دُعِيَ النبي عليه الصلاة والسلام إلي التمثيل بالكفار ، نظير تمثيلهم بعمِّه حمزة ، فقال عليه الصلاة والسلام:" لا أمثل بهم ، فيمثل الله بي ، لو كنت نبياً " .
لقد نُهِيَ عن التمثيل ، والنبي يخاف الله ، وهو وقَّاف عند كلام الله .
موقفها يوم الخندق :
لكن موقف هذه السيدة الجليلة يوم الخندق موقفٌ غريب عجيب بطوليّ ، فكان من عادة النبي صلى الله عليه وسلم إذا عزم على غزوة من الغزوات أن يضع النساء والذراري في الحصون ، خشية أن يغدر بالمدينة غادرٌ في غيبة حُماتِها ، فلما كان يوم الخندق جعل نساءَه وعمّته معهم ، وطائفة من نساء المسلمين ، في حصنٍ لحسان بن ثابت ، ورِثه عن آبائه ، وكان من أكثر حصون المدينة مناعةً ، وأبعدها منالاً ، وبينما كان المسلمون يرابطون على حوافِّ الخندق ، في مواجهة قريش ، وأحلافها ، وقد شغلوا عن النساء والذراري بمنازلة العدو ، فأبصرتْ صفيةُ بنت عبد المطلب شبحاً يتحرَّك في عتمة الفجر ، فأرهفتْ له السمع ، وأحدَّتْ إليه البصر ، فإذا هو يهوديٌ أقبل على الحصن ، وجعل يَطوف به ، متحسساً أخباره ، متجسساً على مَن فيه ، فأدركتْ أنه عينٌ لبني قومه ، جاء ليَعلم أفي الحصن رجالٌ يدافعون عمن فيه ، أم أنه لا يضمّ بين جدرانه إلا النساء والأطفال ؟.
فإذا علم هذا اليهودي المتجسس أنّ هذا الحصن لا يضمّ إلا نساءً وأطفالاً ، داهموا هذا الحصن ، وسبَوْا النساء والذراري ، فقد نقضوا عهدهم مع النبي ، وانتهى الأمر ، وصاروا في صف الأعداء من قريش وأحلافها .
فقالت في نفسها : إن يهود بني قريظة قد نقضوا ما بينهم وما بين رسول الله من عهدٍ ، وظاهروا قريشاً وأحلافها على المسلمين ، وليس بيننا وبينهم أحدٌ من المسلمين يدفعون عنا ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم ومَن معه مرابطون في نحور العدو ، فإن استطاع عدو الله ، هذا اليهودي أن ينقل إلى قومه حقيقة أمرنا سبَا اليهودُ النساءَ ، واسترقُّوا الذراري ، وكانت الطامَّة على المسلمين ، هذه أخت الرجال حقًّا ، عند ذلك بادرت إلى خمارها ، فلفَّته على رأسها، وعمدت إلى ثيابها فشدَّتها على وسطها ، وأخذت عموداً على عاتقها ، ونزلت إلى باب الحصن ، فشقَّته في أناةٍ وحذقٍ ، وجعلت ترقب من خلاله عدو الله في يقظةٍ وحذر ، حتى إذا أيقنت أنه غدا في موقفٍ يُمَكِّنها منه ، حملت عليه حملةً حازمةً صارمةً ، وضربته بالعمود على رأسه ، فطرحته أرضاً ، ثم عززتْ الضربة الأولى بثانيةٍ وثالثة ، حتى أجهزت عليه ، وأخمدتْ أنفاسه بين جنبيه ، وبادرتْ إليه ، فاحتزّتْ رأسه بسكين كانت معها ، وقذفت بالرأس من أعلى الحصن، فطفق يتدحرج على سفوحه ، حتى استقر بين أيدي اليهود ، الذين كانوا يتربَّصون في أسفله، فلما رأى اليهود رأس صاحبهم ، قال بعضهم لبعضٍ : قد علمنا أن محمدًا لم يكن ليترك النساء والأطفال وحدهم ، من غير حماةٍ ، ثم عادوا أدراجهم .
لقد أجرى اللهُ على يديها حفظَ نساء المسلمين وسلامتهنّ بهذه الشجاعة النادرة.
ألم أقل لكم : إنها أخت الرجال ؟ .. رضي الله عن صفية بنت عبد المطلب ، كانت مثلاً فذَّةً للمرأة المسلمة ، ربَّت وحيدها فأحكمت تربيته ، أصيبت بشقيقها ، فأحسنت الصبر عليه ، اختبرها اللهُ في الشدائد ، فوجد فيها المرأة الحازمة ، العاقلة ، الباسلة ، إن صفية بنت عبد المطلب ، كانت أول امرأةٍ قتلت مشركاً في الإسلام .
هذه بطولة ، وهذه حالة خاصة بالطبع ، فلا نُكلِّف النساء أن يكنّ كذلك ، هذه حالة خاصة ، وهذا موقف شخصي ، لكن وهي في الستين من عمرها كانت في أعلى درجات إيمانها ، وأعلى درجات محبَّتها لدين الله ، ولرسول الله ، وأعلى درجات دفاعها عن هذا الدين العظيم .
تذكروا أن محور هذا الدرس ؛ إمّا أن تحمل الإسلام ، وإمّا أن يحملك الإسلام ، فإذا حملك الإسلام فلا تزيد عن هؤلاء الذين يُحْمَلون في الحج ، ويُطافُ بهم حول الكعبة ، أمّا المطلوب فأنْ تحمل أنت الإسلام ، وأن تكون شامخاً كالطوْد ، قاسياً كالعود ، صُلباً كالصخر ، وأن تبذل الغالي والرخيص ، والنفس والنفيس ، وأقل ما في الأمرِ أنْ تطلب العلم ، وأنْ تحافظ على مجالس العلم، وأقلُّ أحوالك أنْ تستقيم على أمر الله ، وأن تقيم الإسلام في بيتك ، وفي عملك ، وفي دكانك ، وفي مكتبك ، وفي متجرك ، أقل شيء أن تكون مسؤولاً عن بيتك ، وعن أولادك ، وبصلاح بيتك وبتربية أولادك على الإسلام فقد فعلتَ الكثير في خدمة الإسلام وعزته .
والحمد لله رب العالمين
***(/)
االدرس 3 / 50 ، سيرة الصحابيان : طلْحَةُ بن عُبَيْدِ الله و الزُّبَيْر بن العَوام ، لفضيلة الأستاذ الدكتور
محمد راتب النابلسي
تاريخ : 26 / 10 / 1992 .
تفريغ : عماد علان
التدقيق اللغوي : الأستاذ غازي القدسي .
التنقيح النهائي : المهندس غسان السراقبي .
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيّدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، اللهم لا علم لنا إلا ما علَّمْتنا ، إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علِّمنا ما ينْفعنا ، وانْفعنا بِما علَّمتنا ، وزِدْنا عِلما ، وأَرِنا الحق حقاً وارْزقنا اتِّباعه ، وأرِنا الباطل باطِلاً وارزُقنا اجْتنابه ، واجْعلنا ممن يسْتمعون القول فَيَتَّبِعون أحْسنه وأدْخِلنا برحْمتك في عبادك الصالحين .
أيها الإخوة الأكارم ، ما دام الإنسانُ مخلوقاً للدار الآخرة وللسعادة الأبديَّة فأثْمَنُ شيءٍ في هذه الدنيا أنْ يرْضى الله عنه ، وما دامتِ الأبَدِيَّة وما دامتِ الدار الآخرة هي مصير الإنسان ، فأثْمَنُ شيءٍ أنْ يرْضى الله عزّ وجل عنك ، وهو الذي سوف تكون في رِحابِهِ إلى أبد الآبِدين ، حيث كان الأمر مع الصحابة رضي الله عنهم بِنَصِّ القرآن الكريم ، قال تعالى :
[ الفتح : الآية 18 ]
وبعد ؛ فإذا درَسْنا أفْعال الصحابة ومواقِفَهم وصِفاتِهم وسجاياهُم وتَضْحِياتِهم لا نقْصِدُ من هذه الدِّراسة مجرّد الاطِّلاع ، ولكن نقْصِد أن نتأسى بهم ، وأن نقْتَدِيَ بهم وأنْ نجْعَلَهم مُثُلاً عُلْيا لنا ، فَلِذلك حينما ندْرس تاريخ الصحابة ينْبغي أنْ تبْقى هذه الفِكْرة ماثِلَةً في أذْهاننا ، نحن أمام النموذج الذي رضي الله عنه ، ماذا فَعَل ؟ وماذا قال ؟ ولِماذا وقفَ هذا المَوْقِف ؟ .
شيءٌ آخر ؛ في سيرة الصحابة شيئان ؛ أحْداثٌ و تَحْليلات ، فَنحن قد نُعْنى بالتحْليلات أكثر مما نُعْنى بالأحْداث ؛ لأنّ التحْليل هو القانون والضِّياء والتحْليل هو النِّبْراس .
أبو محمّد طلْحَةُ بن عُبَيْدِ الله ، هذا صحابيٌّ جليل بعثه النبي صلى الله عليه وسلّم مع سعيد بن زيدٍ قبل خُروجِهِ إلى بدْرٍ ، يتَجَسَّسان خبرَ العِير ، فَمَرَّتْ بِهما ، فَبَلَغَ رسولَ الله صلى الله عليه وسلَّم الخَبَرُ ، فَخَرَج ورجعا يُريدان المدينة ، ولم يعْلما بِخُروج النبيّ صلى الله عليه وسلَّم فَقَدِما في اليوم الذي لاقى فيه النبي صلى الله عليه وسلّم المُشْركين ، فَخَرَجا يعْتَرِضان رسول الله صلى الله عليه وسلَّم ، فَلَقِيَاهُ مُنْصَرِفاً من بدْرٍ ، فَضَرَبَ لهُما بِسِهامِهِما وأَجْرِهِما ، فَكانا كَمَن شَهِدَها ، فالنبيّ عليه الصلاة والسلام يقودُ أُمَّتَهُ قِيادَةً فَذَّةً ، فالمَعْلومات شيءٌ مُهِمٌّ ؛ فقد بعثَ النبي صلى الله عليه وسلّم طلْحَة مع صحابِيٍّ آخر لِيَأْخُذا خبر العَدُوِّ ، فالخبرُ في المعْرَكَة له قيمَةٌ كبيرة، ولا تنْسَوا أيها الإخوة ، أنَّ النبيّ عليه الصلاة والسلام أبْقى عَمَّهُ العباس في مكَّةَ يوْمَ كان المُشْركون يتولَّوْن أمْرهم ، أبْقاهُ في مكَّةَ معهم لِيَأتيهِ بالأَخْبار ، فقد كتَمَ إسْلامه ، وكتَمَ العَباسُ كذلك إسْلامه ، ولم يُفاجأ النبي عليه الصلاة والسلام بِأَيِّ حدثٍ من قريْشٍ ، لأنَّ المعْلومات كانت تأتيهِ تِباعاً من عمِّهِ العباس ، لكن وقعتْ مُشْكِلةٌ في مَوْقِعَة بدْر حينما شارك العَباس المُشْركين في هذه المَوْقِعة ، فلو لم يُشارِك لَكُشِفَ أمْرُهُ ، ولو أنَّ النبي عليه الصلاة والسلام قال : لقد أسْلَمَ عمِّي لَكَشَفَهُ ، وانْتَهتْ مُهِمَّتُهُ ، ولكنَّهُ قال : لا تقْتُلوا عمِّي العَباس ، ولو لم يقُل ذلك لَقَتَلَهُ أصْحاب النبي صلى الله عليه وسلَّم ، إنْ تكلَّمَ العباسُ كَشَفَ أمْرهُ ، وإنْ لم يُشارِك في المعْركة كُشِف ، وإنْ قال النبي صلى الله عليه وسلَّم أسْلم كَشَفَهُ ، وإنْ سكت صلى الله عليه وسلَّم قتلَهُ أصْحابُهُ ، فلا بدّ من تنْبيه الصحابة ألاّ يقْتُلوا عمَّهُ العَباس ، وكان من جراء ذلك أنَّ صحابِيًّا أساء الظنّ بِرَسول الله صلى الله عليه وسلّم ، وقال : ينْهانا عن قَتْلِ عمِّهِ ، وأحَدُنا يقْتُلُ أباهُ وإخْوانهُ ! فلما كُشِفَ له الأمر بَقِيَ عشْرَ سِنين يتصَدَّقُ ويُعْتِقُ الرِّقاب ، لعلَّ الله يغْفِرُ له سوءَ ظَنِّهِ بِرَسول الله صلى الله عليه وسلّم ، فالمعْلومات ضروريَّةٌ في أيِّ قِيادة ، والنبي صلى الله عليه وسلَّم أرْسَلَ طلْحَةَ بن عُبيْدِ الله لِيأْتِيَهُ بالأخْبار ، لأنَّ قرارَ المعْركة أساسه الخبرُ الصحيح ، والحَرْبُ كما قال النبي عليه الصلاة والسلام : الْحَرْبُ خَدْعَةٌ *
[رواه البخاري عن جابر]
شَهِدَ طلْحَةُ أُحُداً ، وثبتَ مع رسول الله صلى الله عليه وسلّم يومئِذٍ ، ووقاهُ بِيَدِهِ فَشُلَّتْ إصْبعاهُ ، وجُرِحَ يومئِذٍ أربعاً وعشرين جِراحَةً ، ويُقال : كانت فيهِ خَمْسٌ وسبْعون ؛ بين طعْنَةٍ وضَرْبَةٍ ورَمْيَةٍ ، وسَمَّاهُ رسول الله صلى الله عليه وسلّم يومَ أُحُدٍ طلْحَةَ الخَيْر ، وسمَّاه يومَ غزْوة ذات العُشَيْرة طلْحَةَ الفياض ، وسمَّاه يوم حُنَيْنٍ طلْحَةَ الجود ، وفي أُحُدٍ طلْحة الخير ، وسمَّاه في غزوة ذات العُشَيْرة طلْحَةُ الفياض ، وفي غزوة حُنَيْن طلْحَةَ الجود ، فهذه مواقف مُشَرِّفَةٌ وقفها هذا الصحابِيُّ الجليل .
إنَّ الأحْداثَ تمْضي ، والآلام تنْتهي ، والمَوْتُ يُنْهي كُلّ شيءٍ ، وتَبْقى المواقِفُ المُشَرِّفَة التي يسْعَدُ بها الإنْسانُ إلى الأبد ، وكُلّ شيءٍ ينقضي ؛ فاللَّذائِذُ تمْضي وتبْقى تَبِعاتُها ، والمتاعِبُ تمْضي وتبْقى خَيْراتُها ، ذات مرَّةٍ قُلْتُ لكم ذلك فقد قرأْتُ كِتاباً عن تاريخ العَرَب ؛ وهو كِتابٌ أدَبيٌّ مُمْتِعٌ اسْمُهُ : قَصَصُ العَرَب ، فيه من القِصص المُمتِعة الشيءُ الكثير ، بعد أنْ أنْهَيْتُ قِراءَته تأمَّلْتُهُ تأَمُّلاً طفيفاً ؛ قُلْتُ : هؤلاء الذين قرأْتُ عنهم ، الأقْوِياءُ منهم ماتوا ، والضُّعفاء ماتوا ، والأغنياءُ ماتوا ، والأصِحاءُ ماتوا ، والمرْضى ماتوا ، والأذْكياءُ ماتوا ، والأغْبِياء ماتوا ، والظالمون ماتوا ، والمظْلومون ماتوا ، وكُلُّهم تحت أطْباق الثرى ؛ ماذا بَقِيَ الآن ؟ بَقِيَتْ مواقِفُهُم التي سَيُحاسَبون عليها ؛ إنْ خيراً فَخَيْرٌ ، وإنْ شراً فَشَرٌّ ، ونحن لا بد من يومٍ نكون فيه تحت أطْباق الثرى ، هذا الوقت ؛ كيفَ أمْضَيْتَهُ ؟ في طاعَةٍ أم في معْصِيَةٍ ؟ ماذا فَعَلْتَ ؟ وماذا أدَّيْتَ ؟ وماذا قَدَّمْتَ ؟ وماذا أعْطَيْتَ ؟ وبِماذا ضَحَّيْتَ ؟ وما الأثر الذي تَرَكْتَهُ ؟ هذه النُّقْطة مُهِمَّةٌ ؛ يجب أن نذْكرَ دائِماً أنَّ الأيام والأسابيع والشهور والسِّنون تمْضي ، ويبْقى شيءٌ واحدٌ ؛ هو العَمَل ، إما في جنَّةٍ يدومُ نعيمُها ، أو في نارٍ لا ينْفَذُ عذابُها .
طلْحَةٌ رضي الله عنه ؛ إليكم جُمْلَةً من مناقِبِه ، فعَنْ الزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ قَالَ كَانَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دِرْعَانِ يَوْمَ أُحُدٍ فَنَهَضَ إِلَى الصَّخْرَةِ فَلَمْ يَسْتَطِعْ فَأَقْعَدَ طَلْحَةَ تَحْتَهُ فَصَعِدَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَيْهِ حَتَّى اسْتَوَى عَلَى الصَّخْرَةِ فَقَالَ سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ أَوْجَبَ طَلْحَةُ *
[رواه الترمذي]
- أيْ وجَبَتْ له الجنَّة - لأنَّهُ ماذا فعَلَ ؟ أظْهر من المواقفِ والتَّضْحِيات الشيءَ الذي لا يوصَفُ ، فَطَلْحَةُ برَك على الأرض ، وصعد عليه رسول الله صلى الله عليه وسلَّم لِيَرى بعض ملامِحِ المعْركة ، فجَعَلَ من نفْسِهِ كُرْسِياً للنبي عليه الصلاة والسلام .
وقالتْ عائِشَةُ رضي الله عنها : كان أبو بكرٍ رضي الله عنه إذا ذُكِر يومُ أُحُدٍ ، قال : ذلك كُلُّهُ يومُ طلْحة ! .
وقال : أبو بكرٍ رضي الله عنه : "كُنْتُ أوَّلَ من جاءَ يومَ أُحُدٍ فقال لي النبي عليه الصلاة والسلام ولِأبي عُبَيْدة بن الجراح عَلَيْكما به - يُريدُ طلْحة - وقد نزفَ ، فأصْلَحْنا من شأنِ النبي صلى الله عليه وسلَّم ، ثمَّ أتَيْنا طلْحة في بعض تِلك الحِفار فإذا به بِضْعٌ وَسَبْعون أو أقَلَّ أو أكثر، بين طَعْنَةٍ وضَرْبَةٍ ورَمْيَة ! وإذا قد قُطِعَتْ إصْبعُهُ ، فأصْلَحْنا من شأنِهِ " ، فقد بذَل سيّدنا طلْحة في غزوة أُحد الشيء الكثير .
النبي عليه الصلاة والسلام دَمِيَتْ يدُهُ في الخَنْدَق ، فعَنْ جُنْدَبٍ الْبَجَلِيِّ قَالَ كُنْتُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَارٍ فَدَمِيَتْ إصْبُعُهُ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
هَلْ أَنْتِ إِلَّا إِصْبَعٌ دَمِيتِ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ مَا لَقِيتِ
قَالَ وَأَبْطَأَ عَلَيْهِ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَام فَقَالَ الْمُشْرِكُونَ قَدْ وُدِّعَ مُحَمَّدٌ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى *
[رواه الترمذي]
وعن موسى بن طلْحة عن أبيه طلْحةَ بن عُبَيْد الله قال : لما رجَعَ رسول الله صلى الله عليه وسلَّم من أُحد صَعِدَ المِنْبر ؛ فَحَمِدَ الله وأثْنى عليه ثمّ قرأ هذه الآية قال تعالى :
[ الأحزاب : الآية 23 ]
وبِالمُناسَبَة كلِمَةُ "رجُلٍ" في القرآن والسُّنَّة لا تعْني في الأعَمِّ الأغلب أنَّهُ ذكَرٌ ، بل تعْني أنَّهُ بطلٌ ، وفي أقْوال الصحابة الكِرام ما يدْعَمُ هذا المعْنى ، فسيَّدنا سعدُ بن أبي وقاصٍ قال :" ثلاثة أنا فيهِنَّ رجُلٌ - أيْ بطل - وما سِوى ذلك فأنا واحِدٌ من الناس - والعَوام أحْياناً يسْتخْدمون هذا المعْنى - ما صَلَّيْتُ صلاةً فَشُغِلَتْ نفْسي بغيرها حتى أقْضِيَها ، ولا سِرْتُ في جنازَةٍ فحَدَّثْتُ نفْسي بِغَيْر ما تقول حتى أنْصَرِفَ منها ولا سَمِعْتُ حديثاً من رسول الله صلى الله عليه وسلَّم إلا عَلِمْتُ أنَّهُ حقٌّ من الله تعالى "، فالرُّجولة أنْ تُصَدِّقَ أقْوال النبي عليه الصلاة والسلام ، والرُّجولةُ أنْ تُصَلي صلاةً كما أرادها الله عز وجل ، والرُّجولة أنْ تتَّعِظَ بِالمَوت ، لأنَّ الموت كما قال عُمَر: كفى بالموت واعِظاً يا عُمر ! فالنبي عليه الصلاة والسلام حينما رجع من أُحد صعِد المِنبر فَحَمِد الله وأثْنى عليه ثمَّ قرأ قوله تعالى
[ الأحزاب : الآية 23 ]
فقام إليه رجُلٌ وقال : يا رسول الله ، من هؤلاء ؟ قال سيّدنا طلْحة : فأَقْبَلْتُ وعليَّ ثوْبان أخْضران فقال عليه الصلاة والسلام أيُّها السائل ؛ هذا منهم وأشار إلى سيّدنا طلْحة ، لو أرَدْنا أنْ نسْتفيد من هذا المَوْقف ، حينما يُشْعِرك الله عز وجل بِطَريقَةٍ أو بِأُخرى - بِرُؤْيا أو ثناءٍ صادِقٍ من أهل الحق أو بِسَعادةٍ يُلقيها في قلبك - أنه راضٍ عنك ؛ فهذه أسْعد لحظات المؤمن ، وقد قلت قبل قليل : المصير إلى الله عز وجل ، فحينما يُدْفَنُ العبد في القبر يقول الله عز وجل : عبدي رجَعوا وتَرَكوك ، وفي التُّراب دفنوك ، ولو بقوا معك ما نفعوك ، ولم يبْقَ لك إلا أنا ، وأنا الحيّ الذي لا يموت ، ذكروا في الأخبار أنهم كشَفوا إنْساناً تحت أنْقاض الزِّلْزال ؛ بقي حيًّا بعد إحْدى وثمانين ساعة ، وإلى جانِبِهِ امْرأته وأُمُّهُ قد ماتتا ، شُعور الإنسان حينما ينْهار عليه البيت ، ويُصْبِحُ تحت الأنْقاض ؛ هذا شُعورٌ مُخيف ، لماذا نخاف الزِّلْزال ولا نخاف القبر ؟ أليس القبر يُشْبِهُ بِشَكْلٍ أو بِآخر دمار الزِّلْزال ؟ يوضع الإنسان في هذه الحُفْرة ثمّ يُهيل عليه الحُفَّارُ التراب ، وينْصرفُ الناس عنه ؛ هذا معنى رجَعوا وتَرَكوك ، وفي التُّراب دفنوك ، ولو بقوا معك ما نفعوك ، ولم يبْقَ لك إلا أنا ، وأنا الحيّ الذي لا يموت ، فما دام المصير مع الله ، في جنَّةٍ عرْضُها السماوات والأرض أو -والعِياذ بالله - في نارٍ لا ينْفذ عذابها ، فأثمن شيءٍ في الدنيا ، وأعظمُ مرْتَبَةٍ تنالها أنْ يرضى الله عنك ، والله عز وجل يُعْطي القُوَّةَ لِأُناسٍ ، ولا يُحِبُّهم ، ويُعْطي المال لِأُناسٍ ، ولا يُحِبُّهُم ، ولكن إذا رضي الله عنك فهذا أعظمُ مَطْلَبٍ تناله ، فَنَحْنُ الآن ندْرسُ سيرة الذين رضي الله عنهم ؛ ماذا فعلوا ؟ أحْوالهم وأفْعالهم وأعْمالهم ومواقِفُهم ؛ مِن هذا المُنْطَلَق ، سيِّدنا طلْحة لو تحَدَّثْنا عنه مئة مرَّة ، هل يزْدادُ مقامُهُ عند الله عز وجل ؟ لا واللهِ ، وكذلك لو سَكَتْنا عنه هل يُنْقُصُ مقامُهُ ؟ لا ، ولو أنَّ رجُلاً ذمَّه هل ينْقُصُ مقامُهُ ؟ مقامُهُ هو مَقامُهُ ، كُلُّ إنْسانٍ بِحَسَبَ إخْلاصِهِ وعملِه - وهذه فِكْرة حبَّذا لو تفْهَموها - وله عند الله مقامٌ ومَكَانة ، وهذه المكانة لا يرْفَعُها المادِحون ، ولا يَخْفِضُها الذامون ، فَلو أنَّ الناسَ جميعاً أثْنوا عليك ، ولم يكُن خالقُك راضٍ عنك فأنت الخاسِرُ الوحيد ، ولو أنَّ الناس جميعاً ذَمُّوك وأنت عند الله مَرْضيٌّ ، فكُلّ هذا عند الله لا قيمة له ، فنحن ندْرس مواقف الذين رضي الله عنهم .
دخل سيِّدُنا طلْحة على النبي عليه الصلاة والسلام فقال النبي للسائِل : هذا مِن الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه ، ألا تَكْفي هذه الشهادة من رسول الله ؟! ، أحْياناً يقول لك شخْصٌ معي شهادة موقَّعة من البروفِيسور الفُلاني ، وهو أكبر جراح في العالم ، يُمْكن أنْ يفْتَخر بِهذا افْتِخاراً لا حُدود له ، فَكُلَّما ارْتفع مقامُ الذي يُثْني عليك يكون لِهذا الثناء قيمة ، فكيف إذا أثْنى عليك النبي عليه الصلاة والسلام ؟ واللهُ قد يُثْني عليك ؛ فقد يُريكَ مناماً تسْعَدُ به أمداً طويلاً ، وقد يُشْعِرُك بِالطُّمأنينة ، فَرِضى الله عليك قد يكون بالتيْسير لك ؛ فالأمور مُيَسَّرة ، قال تعالى :
[ الليل : الآية 5-13]
أحْياناً التَّيْسير علامة من علامة رِضى الله عنك ، وأحْياناً إذا انْطلق لِسانُك في الدَّعْوة إلى الله ، ورأَيْتَ المعْلومات تزْدَحِمُ ، واللِّسانُ طليق ، والتأثيرُ قَوِيّ ، قال تعالى :
[ الكهف : الآية 51 ]
إنّ التَّوْفيق في الدعوة إلى الله علامة ، وتيْسيرِ الأمور علامة ، والشُّعور بالطُّمأنينة علامة؛ كلها علامات رضاء الله عنك ، لذلك هناك من يجْعل وِرْدَهُ ذِكر الله تعالى ، لِقَوْله تعالى :
[ الإنسان : الآية 25 ]
فإذا انْقَطَعَ نفَسُهُ يقول : إلهي أنت مقْصودي ، ورِضاك مطْلوبي ، فإذا أردْتَ رِضاء الله في كُلّ أحْوالك انْقَلَبَت المُباحات إلى عِباداتٍ .
قال أحدُ الصحابة : " دخَلْتُ على طلْحَةَ فرأيْتُهُ مغْموماً ، فَقُلْتُ : ما شأنُك ؟ قال : المال الذي عندي قد كثُر وكرَبَني "، ما هؤلاء الأشْخاص ؟ إذا كثُر مالُهم أصابهم الكَرْب ! لأنَّ المال عِبءٌ ؛ فعَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ قَالَ لَا تَزُولُ قَدَمَا عَبْدٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ أَرْبَعٍ عَنْ عُمُرِهِ فِيمَا أَفْنَاهُ وَعَنْ جَسَدِهِ فِيمَا أَبْلَاهُ وَعَنْ مَالِهِ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ وَفِيمَا وَضَعَهُ وَعَنْ عِلْمِهِ مَاذَا عَمِلَ فِيهِ *
[رواه الدارمي]
ففي المال هناك سؤالان ؛ فهذا الصحابي قال : المال الذي عندي قد كثُر وكرَبَني ، قُلْتُ : وما عليك ؟ اِقْسِمْهُ ، فَقَسَمَهُ حتى ما بَقِيَ منه دِرْهم! ، إنْفاق المال يُعْطي الإنسانَ سعادَةً كُبْرى ، واللهُ يُعَوِّض ، قال تعالى :
[ سبأ : الآية 39 ]
وعنه أنَّ طلْحة بن عُبيد باع أرضاً له من عُثمان بِسَبْعمئة ألفٍ ، فَحَمَلها إليه ، ولما جاء بها ، قال : إنَّ رجُلاً تبيتُ هذه عنده لا يدْري ما يطْرُقُه من أمر الله لَغَريرٌ بالله ، لأنَّ الله عز وجل يقول :
[ الانفطار : الآية 6 ]
من عَدَّ غداً من أجَلِهِ فقد أساء صُحْبة الموت ، هناك رجُلان اخْتلفا على بيْعِ بيْتٍ ، وكَلَّفاني أنْ أكون بيْنهما حَكَماً ؛ جَلَسْتُ معهما وقْتاً طويلاً - حتى الساعة الثانية عشرة - جلْسَةٌ وجلْسَةٌ وجَلْسة ، أحدُ الطَّرَفَيْن لم ينْصَعْ لِحُكْمِ المُحَكَّمين ، واسْتَمَرَّ الخِلاف أربعاً أو خمسَ سنواتٍ أو أكثر وأنا أُتابِعُ هذا الخِلاف ، كُلِّفَتْ لجْنَةٌ ولجْنةٌ ومُحَكَّمون ، والأمر يزْدادُ تخاصُماً ، فأُخْبِرْتُ البارحة أنَّ أحدَ الخصْمَينِ توفاهُ الله عز وجل ، هذه هي الدنيا ، كلّ هذه المتاعب ، ثمّ يأتي مَلَك الموت ، ويُنْهي هذه المتاعب ، فالإنسانُ عُمُرُهُ ثمينٌ ، فإذا أمْضاهُ في الخُصومات ، واسْتَهْلك أعْصابه ووقْته وحواسَّهُ وقُدْراته ، فقد قامَرَ بسعادته الأبدِيَّة ، وغامر في شيء زائل ، والعوام أحْياناً لهم أمْثلة مُعَبِّرة ؛ " تخانَقوا على ظِلِّ الحِمار" ، فهذا كان يجْلس في يومٍ حار في ظلّ حمار، ثمّ ذهب لِيَشْبب ، وعندها أخذ إنسانٌ آخر مكانه ، فصار هو والآخذ لِمَكانه يخْتَصِمان ، وبعْدها ذهب الحِمار فانْتهى موضوعُ الخِلافِ بِذَهابه ، وهذا هو الذي يحْدُث ، فأكثر الدعاوي تبقى في القضاء سنوات عديدة ، عشرًا أو نحو ذلك ، وفي الأعمِّ الأغْلب يموتُ أحدُ المُتَخاصِمَين قبل أنْ يُفْصَل بالدعوى ، فمن عدَّ غداً من أجله فقد أساء صُحْبة الموت .
هذا الصحابي الجليل قُتِل يوم الجمل ، عن عُمُرٍ لا يتجاوز الاثنين والسِّتين عاماً فيما تذْكُر الرِّوايات .
* * *
صحابِيٌّ آخر اسمه الزُّبَيْر بن العَوام ، هذا الصحابي كما ترْوي أُمُّهُ صَفِيَّة بن عبد المُطَّلِب عَمَّةُ رسول الله صلى الله عليه وسلَّم أسْلَمَتْ وأسْلم الزُّبير وهو ابن ثماني سنين ، وقيل ابن ستَّ عشْرة سنة ، فَعَذَّبه عمُّهُ بالدُّخان ، لِكَي يتْرُك الإسلام فلم يفْعل ، وهاجر إلى أرضِ الحَبَشَة الهِجْرَتين جميعاً ، ولم يتَخَلَّف عن غزوةٍ غزاها رسول الله صلى الله عليه وسلّم ، يقول أحدهم : أنا لا أتَخَلَّفُ عن الدرس ، ولكن ماذا في الدروس ؟ لا عِبءٌ ولا تضْحِيَة ولا سَفْك دم ، ومع ذلك لُزوم مجالس العِلْم عَمَلٌ عظيمٌ ، وهذا الوقت زكاةُ وقْتِكَ كُلِّه ، والله عز وجل قادِرٌ على أنْ يُضَيِّع لك عشرات الساعات بل المئات في الأمور التافِهَة ، وإذا أدَّى القويُّ من قوَّته لِنُصْرة الحق فقد أدَّى زكاة قُوَّتِه ، والمُتَعّلِّم إذا علَّم الناس أدى زكاة عِلْمِه ، والخبير إذا أدى خِبْرَته للناس أدى زكاة خِبْرته ، وطالب العلم إذا بذل وقْته لِمَعْرفة الله عز وجل فقد أدى زكاة وقْتِهِ ، والحقيقة أنَّ كلَّ حظٍّ آتاك الله إياه فهو له زكاة ، والدليل قوله تعالى :" ومما رزَقْناهم يُنْفِقون " ، فالقَويّ يجب أنْ يضع قوَّتَهُ في خِدْمة الضُّعفاء ، والغنيّ يجب أنْ يضع ماله في خدمة الفقراء ، والمُتَعّلِّم يجب أن يضع عِلْمه في خِدْمة الجُهال ، والوقتُ الذي هو رأس مال الإنسان يجب أنْ تأخذ منه ، وقْتاً لتَتَعَرَّف على الله عز وجل ، فإذا فعَلْتَ هذا فَكَأنما أدَّيْتَ زكاةَ وقْتِك ، قال : ولم يتخلَّف عن غزوة غزاها النبي صلى الله عليه وسلّم ، وهو أوَّل من سلَّ سيْفاً في سبيل الله ، وكان عليه يوم بدْرٍ ريقةٌ صفْراء مُعْتَجِراً بها ، أيْ قُماشٌ أصْفر لَفَّهُ على رأسه ، وكان على مَيْمَنَة رسول الله ، وثبت مع النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد ، وبايَعَهُ على الموْت ، وفي الحقيقة حين يبْذل الإنسان حياته في سبيل الله فقد بذل أثمن ما يَمْلكه ، والجود بالنَّفْس أقْصى غاية الجود .
من أبْنائِهِ المشْهورين ؛ عبد الله بن الزبير ، هذا الذي رآه عمرُ مع صِبْيَةٍ يلْعبون فَتَفَرَّقوا جميعا إلا هو ، فلما وصَلَ إليه قال :" يا غُلام لما لم تهْرُب مع من هرَبَ ؟ قال أيها الأمير : لسْتَ ظالِماً فأخْشى ظُلْمَك ، ولَسْتُ مُذْنباً فأخْشى عِقابك ، والطريق يَسَعُني ويَسَعُك " .
تَرْوي كُتُب السيرة أنَّ إسلام هذا الصحابي الزبير بن العوام ، كان رابِعاً أو خامِساً بعد إسْلام أبي بكرٍ ، هؤلاء السابقون والأولون ، والإنسانُ في ساعة العُسْرة إذا آمن فله حِسابٌ خاص ، أحْياناً قد يتعاونُ إنسانٌ مع جماعةٍ ، لكن قبل أن تسْتلم الجماعةُ الحُكمَ ، الدخول مع هذه الجماعة بعد الحُكم سهْلٌ ، والمغانِمُ كثيرة ، أما قبل الحُكم فالمتاعِبٌ كبيرة ، لذلك قال الله عز وجل :
[ آل عمران : الآية 113 ]
فالذي آمن مع النبي عليه الصلاة والسلام وهو صلى الله عليه وسلم في أشدِّ حالات الضعْف والعُسْرة والضِّيق ، والناسُ كلهم أعْداؤُهُ ، وقُريش تكيد له ، فهذا من ذوي البذل والتضحية ، أما الذي يُسْلم بعد الفَتْح فالقَضِيِّة سهْلة ، لأن هذا جاء للمغانم فقط ، لكن البطولة أن تؤمن بالحق وهو ضعيف ، والله عز وجل قادر أن يجعل الأنبياء ملوكا ، فإذا دعوا إليه انصاع الناس إليهم جميعا خوفا لا إيمانا ، ولكن لحكمة أرادها الله عز وجل جعل الأنبياء ضعافا ، حيث إنك لو قلت عنه : إنه مجنون أو ساحر أو كاهن أو شاعر ، فإنك تنام مساءً مطمئنّ البال ، ولا شيء عليك ؛ من أجل أن يكون مَن آمن به قد آمن به عن قناعة ما بعدها قناعة ؛ وله أجرٌ عظيم، وهذا أيضا ينسحب بشكلٍ أو بآخر على الدعاة إلى الله ، لأن هذا الداعي ليس عنده شيء ، لا يقدر أن يعينك بمنصب ، ولا يقدر أن يعطيك مالاً ، وليس عنده أيّةَ ميزة ، إلا أن الحق معه ، فإذا اتبعته وسرت على منهج الله عز وجل بمعيته ، ولم يأتك شيء من الدنيا فقد أثبت أنك مع الحق ، فقوّة المؤمنين تكمن في أنهم آمنوا بالنبيّ وهو ضعيف ، قال تعالى:
[ الأعراف : الآية 188 ]
عن سعيد بن المسيّب قال : أوّل من سلّ سيفاً في سبيل الله الزبير بن العوام ، بينا هو بمكة - في اللغة العربية يصح أن تقول بينا ويصح أن تقول بينما - بينا هو بمكة إذ سمع نغمة ، يعني صوتاً ، بأن النبيّ صلى الله عليه وسلم قد قتل ، فخرج عرياناً وما عليه شيء ، وفي يده السيف مُصلتاً مسحوبا من غِمده ، فتلقاه النبي ، وقال له : ما لك يا زبير ؟ قال : سمعت أنك قد قُتلتَ ، قال: فماذا كنتَ صانعًا ؟ قال : أردتُ واللهِ أن استعرض أهل مكة بهذا السيف ، من شدّة حبّه للنبي عليه الصّلاة والسلام ، حين بلغه هذا الخبر اختلَّ توازُنه ، فخرج وليس عليه شيء ، وأراد كما قال للنبي الكريم أن يستعرض أهل مكة بهذا السيف ، فدعا له النبي عليه الصلاة والسلام .
باع الزبيرُ داراً له بستمئة ألف ، قال : فقيل له يا أبا عبد الله غُبِنتَ ، قال : كلا، واللّه لتعلمنَّ أني لم أُغبَن ؛ هي في سبيل الله .
أعجبني في هذا الموضوع موقفا رائعا ، اختلف اثنان على مبلغ ، كلٌّ يدّعي أنه له ، وكان الحلُّ أن يُدفع هذا المبلغ لعملٍ صالح بكامله ، وكل إنسان يأخذ أجره عند الله عز و جل بنصيبه الحقيقيِّ منه ، فكثيراً ما يختلف اثنان على موضوعٍ ، فقال الحكم بينهما : ادفعوها إلى المسجد ؛ وانتهى الأمر ، والله عز وجل يعلم كمْ لكلٍّ منكما ، وستجدانه في صحيفتيكما يوم القيامة ، فباع الزبير دارًا بستمئة ألف ، فقيل له : يا أبا عبد الله غُبِنتَ ؛ قال : كلا واللّهِ لتعلمنَّ أني لم أُغبن ؛ هي في سبيل الله .
و عن عليِّ بن زيدٍ ، قال : أخبرني من رأى الزبير وإن في صدره مثلُ العيون من الطعن والرمي .
أحيانا يفتخر الإنسان بآثار خوضه للمعارك ، وآثار خوضه للغزوات ، كلها تشهد له يوم القيامة؛ كيف أن أهل المعصية تشهد عليهم جلودهم وأيديهم وأرجلهم ، كذلك أهل الإيمان تشهد لهم - هناك فرقٌ كبير بين مَنْ تشهد لهم ، ومَنْ تشهد عليهم - مواقفهم ، وجراحاتهم ، ومتاعبهم ، تشهد كلها لهم يوم القيامة .
قال الزبير بن العوام : " من استطاع منكم أن يكون له جَنْيٌ من عملٍ صالح فليفعل "، وهذا الموضوع دقيق ؛ فكل إنسان له مقام عند الله بحجم عمله الصَّالح ، فالإنسان يحاسب نفسه حساباً عسيرًا ، فإن حاسب نفسه في الدنيا حسابا عسيراً كان حسابه يوم القيامة يسيرًا ، وإن حاسبها حسابا يسيرا كان حسابه يوم القيامة عسيرا .
عن عبد الله بن الزبير قال : جعل الزبيرُ يوم الجمل يوصيه ؛ أي جعل أبوه يوصيه و يقول : "إن عجزتَ عن شيء فاستعن عليه بمولاي ؛ قال : فوالله ما فهمتُ ما أراد حتى قلتُ : يا أبت من مولاك ؟ قال : الله "، والإنسان كلما قوي إيمانه تمتَّنتْ علاقته بالله عز وجل ، ويطلب من الله مباشرة ، والناس ينهمكون بالوسائط وبالأسباب ، أمّا سيدنا زكريا فقد سأل الله عز وجل ، ولم يحرك شفتيه ، قال تعالى:
[ مريم : الآية 3 ]
فعلامة إيمان المؤمن أنّه يطْلب حاجاته من الله عز وجل ، ويسأله ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : لِيَسْأَلْ أَحَدُكُمْ رَبَّهُ حَاجَتَهُ كُلَّهَا حَتَّى يَسْأَلَ شِسْعَ نَعْلِهِ إِذَا انْقَطَعَ *
[رواه الترمذي]
إنَّ الله يُحِبّ المُلِحين في الدعاء ، من لا يدْعوني أغْضب عليه ، إنَّ الله يُحِبّ من العبد أن يسْأله شِسع نعْله إذا انْقطع ، قال : "يا أبت من مولاك ؟ قال : الله ، قال : عبد الله بن الزبير فوالله ما وقَعْتُ في كُرْبة من دَيْنٍ إلا قُلْتُ : يا مولى الزبير اِقْضِ عني فَيَقْضيهِ "، هذا الصحابي كان الناسُ يضَعون عنده المال ثِقَةً به ، من شِدَّة ورَعِهِ كان يقول لهم : سَلَفٌ وليس أمانة ، إذْ الأمانة لو تَلِفَتْ فهي على صاحِبِها ، فما دام لم يُصِبْها عُدْوانٌ ولا تقْصير فالمُؤْتَمَنُ ليس ضامِناً ، فكان هذا الصحابي لِشِدَّة وَرَعِهِ إذا أخذ مالاً لِيَكون أمانةً عنده عدَّهُ دَيْناً عليه ، فإذا تَلِفَ كان عليه أنْ يرُدَّهُ ، وقف هذا المَوْقف وألزم نفسه به ورعًا ، وفي التاريخ قِصَّة ؛ وهي أنّ زوْج بنْت النبي عليه الصلاة والسلام ؛ أبو العاص زوْجُ السيّدة زَيْنب رضي الله عنها ، كان في طريقه من الشام إلى مكَّة ، فَسَرِيَّةٌ من سرايا النبي عليه الصلاة والسلام أخَذَتْهُ أسيراً مع بِضاعَتِهِ ، وجيءَ به أسيراً إلى المدينة ، معه بِضاعَةٌ لِقُرَيْش ، فعرضوا عليه الإسلام ، فإذا أسلم أصْبَحَتْ هذه البِضاعة غنائِم ، فَرَفَضَ أنْ يُسْلم ، والنبي عليه الصلاة والسلام لِسَبَبٍ أو لآخر أمر بِإِطْلاق سراحِهِ مع البِضاعة ، وذهب إلى مكَّة وأدَّى المال لِأصْحابه ، وبعد أنْ أعْطى كُلَّ ذي حقٍّ حقَّهُ وقف وقال : أشهد أنْ لا إله إلا الله وأنَّ محمَّداً رسول الله ، وعاد إلى المدينة ، وانْخَرَط مع أصْحاب النبي ، فلما قيل له : لمَ لمْ تُسْلم يوم كنت في المدينة ، ومعك البِضاعة ؟ وهذه البِضاعةُ تُصْبِحُ غنائِم ؟ قال هذا الصحابي زَوْجُ بِنْت النبي صلى الله عليه وسلّم : والله ما أُحِبُّ أنْ أبْدأَ إسْلامي بِهذا ! ما أراد أنْ يبْدأ إسْلامه بِأَكْل مال الناس ظُلْماً ، بعد أنَّ أدى المال لأصْحابه أسلَم ، والمال الذي عند الزبير أمانة ، لكنه جعله دينا عليه حتى يضمن لصاحبه هذا المبلغ لو تلف ، وقصة ابنه عبد الله معروفة ؛ فحينما أرسل إلى معاوية بن أبي سفيان يقول : أمّا بعد ؛ فإن رجالك قد دخلوا أرضي فانهَهُم عن ذلك ، وإلاّ كان لي ولك شأنٌ ، والسّلام ، فقال معاوية لابنه يزيد : ما قولك ؟ قال : أرى أن ترسل إليه جيشًا أوّلُه عنده ، وآخرُه عندك ، فيأتوك برأسه ، فقال : غير ذلك أفضل ، فكتب معاويةُ كتاباً قال فيه : أمّا بعد ؛ فقد وقفتُ على كتاب ولد حواريِّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولقد ساءني ما ساءه ، والدنيا هيِّنة جنب رضاه ، لقد نزلتُ له عن الأرض ومن فيها ، فجاء الجواب ؛ أما بعد ؛ فيا أمير المؤمنين - في الكتاب الأوَّل قال له : يا معاوية - لا خليفة ولا أمير و لا أيّ لقب ، وفي الكتاب الثاني ؛ فيا أمير المؤمنين : أطال الله بقاءك ولا أعدمك الرأي الذي أحلَّك من قومك هذا المحل فاستدعى ابنه يزيد وقال له : يا يزيد من عفا ساد ، ومن حلُمَ عظم ، ومن تجاوز استمال إليه القلوب .
من خلال هذه المواقف ؛ أوَّلاً : نجد في أصحاب النبيِّ ورعاً ما بعده ورع ، وزهدا ما بعده زهد ، سبعمئة ألف وزَّعها في يومين ، وانتهى الأمر ؛ ورعٌ مع زهدٍ ، وتضحية بالغالي والرخيص ، والنفس والنفيس ، في سبيل الحق ، فإذا أردتم أن يرضى الله عنكم فعليكم بالورع ، كما في الحديث :" ركعتان من ورع خير من ألف ركعة من مخلِّط " ، ومن لم يكن له ورعٌ يصده عن معصية الله إذا خلا لم يعبأ الله بشيء من عمله ، هذا في الورع ، أما الزهد فهو انتقال الدنيا من قلبك إلى يديك ؛ إن كانت في القلب فهي مصيبة ، لأن القلب إذا أحبَّ الدنيا حبًّا جمًّا كان له هذا الحب حجابا عن الله عز وجل ، كما قال النبي عليه الصَّلاة والسَّلام : "ليس بخيركم من ترك دنياه لآخرته ولا من ترك آخرته لدنياه إلا أن يأخذ منهما معًا " ، فإن الأولى مطيّةٌ للثانية ، هذا موقفٌ للنبي عليه الصَّلاة والسّلام ، معنى ذلك أن الدنيا بالأيدي ، والدنيا أحيانا يمكن أن تسهم في خدمة الخلق ، في حلّ مشكلات الناس ، في الرقيِّ عند الله عز وجل ، فالقاسم المشترك هو الورع والزهد والتضحية والحبُّ ، فحبهم للنبيِّ عليه الصّلاة والسلام كان من أعظم ما يميِّز هؤلاء عن الأبطال ، سيِّدنا أبو سفيان حينما رأى سيدنا خبيبًا قبيل أن يُصلَب سأله : "أتحب أن يكون محمدٌ مكانك ، وأنت في أهلك ؟ فانتفض خبيب ، وقال: والله ما أحبُّ أن أكون في أهلي وولدي وعندي عافية الدنيا و نعيمها ويصاب رسول الله بشوكة " لذلك قال أبو سفيان : "ما رأيتُ أحداً يحبُّ أحداً كحبِّ أصحابِ محمدٍ محمداً "
حبُّ للنبيِّ والمؤمنين ، وزهدٌ في الدنيا وما فيها ، وورعٌ شديد ، وتضحية وبذلٌ ، هذه أربعُ نقاطٍ تستنبط من حياة أصحاب النبيِّ عليهم رضوان الله ، لذلك هؤلاء الذين رضي الله عنهم هكذا كانوا ، وهكذا ينبغي أن نكون حتى يرضى الله عنَّا .
والحمد لله ربِّ العالمين(/)
االدرس 4 / 50 ، سيرة الصحابي : عبد الرحمن بن عوف ، لفضيلة الأستاذ الدكتور محمد راتب النابلسي
تاريخ : 02 / 11 / 1992 .
تفريغ : عماد علان
التدقيق اللغوي : الأستاذ غازي القدسي .
التنقيح النهائي : المهندس غسان السراقبي .
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيّدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، اللهم لا علم لنا إلا ما علَّمْتنا ، إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علِّمنا ما ينْفعنا ، وانْفعنا بِما علَّمتنا ، وزِدْنا عِلما ، وأَرِنا الحق حقاً وارْزقنا اتِّباعه ، وأرِنا الباطل باطِلاً وارزُقنا اجْتنابه ، واجْعلنا ممن يسْتمعون القول فَيَتَّبِعون أحْسنه ، وأدْخِلنا برحْمتك في عبادك الصالحين .
أيها الإخوة الأكارم ؛ مع الدرس الرابع من دروس سير صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وصحابي اليوم ؛ سيُّدنا عبد الرحمن بن عوف ، وقبل أن نبدأ الحديث عن هذا الصحابي الجليل لا بدَّ من مقدمة .
وخلاصة المقدمة هي أن أصحاب النبي عليهم رضوان الله بمجموعهم يمثلون كل النماذج البشرية ، ففي كل مجتمع غنيٌّ وفقير ، قويٌّ وضعيف ، شابٌ وكهلٌ وشيخ ، صحيح ومريض ، ذو نسب عالٍ ، وذو ضآلة في النسب ، هذه الحظوظ التي وزَّعها الله يبن البشر موجودة في كل مجتمع ، لذلك يجب أن نعلم أن الإنسان إذا عرف الله واتصل به ، واصطبغ بصبغته ارتقى إلى مرتبة عالية ، فإذا كان غنيًّا اشتهيْتَ الغنى عليه ، وإذا كان فقيراً لا ترى الفقر ضيراً على مؤمن، وإذا كان صحيحاً جعل صحته في سبيل الله ، وإذا كان مريضاً رأيتَ فيه الصبر والسلوان، وإن كان وجيهاً استخدم وجاهته في الحق ، وإن كان خاملا استغنى برضاء الله عن الدنيا ؛ الذي أريد أن أؤكِّده لكم أنه بأيِّ حال أنت ؛ بأيِّ وضعٍ اجتماعيٍّ ؛ بأيَّة قوة ، بأيِّ ضعف؛ بأيِّ غنى ؛ بأيِّ فقرٍ ؛ بأيِّ وجاهة ، وبأيِّ خمول ؛ بأي وَسَامةٍ ، وبأيِّ دمامة ، فإذا عرفت الله عز وجل ، و طبَّقتَ منهجه ، واصطبغت بصبغته كنتَ إنساناً عظيما ، قد يظن الناس واهمين أن الغنى يتناقض مع الإيمان ؛ من قال ذلك ؟ يمكن أن تكون أغنى أغنياء الأرض ، وفي أعلى درجات الإيمان والقبول عند الله عز وجل ؛ يمكن أن تكون من أقوى الأقوياء وأنت مؤمن ، لماذا حدثنا ربنا عز وجل عن ذي القرنين ؟ كان ملكاً ، ولا يتنافى الملكُ مع الإيمان ، فقد تكون فقيراً وأنت عند الله عظيم ، قد تُغطَّى بقول النبي صلى الله عليه وسلم : "ألا يا رُبَّ نفسٍ جائعة عارية في الدنيا طاعمة ناعمة يوم القيامة "، في نفسي معنى أرجو الله أن يمكنني من التعبير عنه ؛ لا تقل : أنا ابن فلان ؛ لا تقل : أنا لي نسبٌ رفيع ، أو لي نسب وضيع ؛ لا تقل : أنا فقير ، لا تقل : أنا شاب ، كن ابن من شئتَ ؛ في أيِّ حالٍ شئتَ ، وفي أيِّ طور شئت ، وفي أيِّ مستوى شئتَ ، فإذا عرفتَ اللهَ ، وعرفتَ منهجه ، وطبَّقتَ شرعَه ، وأقبلتَ عليه ، واصطبغتَ بصبغته ؛ فأنت عند الله عظيم .
نحن اليوم مع صحابي كان من أغنى الصحابة ، سأُِريكم كيف يكون الغنى مع الإيمان ، قد يقول أحدكم : قد مرَّ بنا تاريخ الصحابة كثيرًا في أوقات خلتْ ، فأقول: كلكم يعلم أنَّ في التعليم الإعدادي والثانوي والابتدائي مثلاً نصًّا للمتنبيِّ ، قد تجده في كتاب الصف الخامس ، وتجده في كتاب الصف الثامن ، والنص نفسه تجده في كتاب الصف الحادي عشر ، والنص نفسه يدرسه طلاب الجامعة في السنَّة الثالثة في الأدب العباسي ، أن يكون النص واحدا في كل هذه المراحل ، هل يعني ذلك أن مستوى التدريس واحد ؟ لا ، نحن عندما كنا في الجامعة كان الأستاذ رحمه الله يمضي ساعتين في شرح بيتين من الشعر ، فيظل يشرحها ، ويحللها ، ويبيِّن معنى كلماتها و معنى تراكيبها وصورها ، إلى أن يشخب هذان البيتان دمًا ، فلذلك ولو أن هذا الصحابي معروف عندكم ، ولكن لا أريد في هذه الدروس الجديدة من السيرة أنْ أكتفي بسرد الوقائع ؛ هذه قد تجدونها في كتب السيرة ، والكتاب يغني عن الدرس ، لكنْ أرجو الله عز وجل أنْ يوفِّقني إلى تحليل هذه الوقائع ؛ ومركز الثقل في هذا الدرس هو التحليل وليس السرد .
مرة بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم سُمِع في المدينة ضجيجٌ ، وتعالى غبارٌ في الأفق، فسألت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها ، وقد ترامى إلى سمعها أن قافلة عظيمة زاحفة إلى المدينة : ما هذا الذي يحدث في المدينة ؟ فقالوا لها : يا أم المؤمنين ؛ إنها قافلة لعبد الرحمن بن عوف ، جاءت من الشام تحمل تجارة له ، قالت أم المؤمنين : قافلة تحدث كل هذه الضجَّة ! قالوا : أجل يا أم المؤمنين ؛ إنها سبعمئة راحلة ، تصوَّر قافلةَ شاحناتٍ عددُها سبعُمئة تراها على الساحل ، فستضيق نفسك بها ، و في عدِّها ، سبعمئة راحلة ، قافلة واحدة لهذا الصحابي الجليل ، فهزَّت أم المؤمنين رأسها وأرسلت نظراتها الثاقبة بعيدا كأنها تبحث عن شيء ، عن ذكرى مرَّت بها ، أو عن حديث سمعته ، ثم قالت : أمَا إني سمعتُ النبي صلى الله عليه وسلم يقول : رأيتُ عبد الرحمن بن عوف يدخل الجنة حبوًا ، يعني زحفاً ، عبد الرحمن بن عوف يدخل الجنة حبوًا! ولماذا لا يدخلها وثباً وجرياً وركضاً وخبباً ، فإنّه من أصحاب رسول الله ، وإنه من السابقين السابقين ، من أصحاب رسول الله الذين شهدوا بدراً وأُحداً والخندق ، وهاجروا إلى الحبشة مرتين ، وكان هذا الصحابي في ترتيب المسلمين الثامن ؛ ثامن مسلم دخل الإسلام ، أسلم على يد سيدنا أبي بكر ، وهذا الصحابي الجليل من العشرة المبشرين بالجنة ، ويدخلها حبواً ! لكن سمعتْ رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والنبي عليه الصلاة والسلام لا ينطق عن الهوى ، إنْ هو إلاّ وحيٌ يُوحَى ، أنا شخصياً كنتُ أقول حينما أذكر هذه القصة - لا أدري أكنتُ أقول هذا عن وعي أو عن غير وعي - كنتُ أقول : قالت السيِّدة عائشة : أخشى أن يؤخِّر عبدَ الرحمنِ مالُه ، فيدخل الجنة حبواً ، أما هنا ؛ فسمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : رأيتُ عبد الرحمن بن عوف يدخل الجنة حبواً ، اختلف الأمر ، إذا عُزِيَ القولُ إلى السيدة عائشة فالقضية سهلة ، إذا عُزِيَ القولُ إلى غير الرسول فالقضية سهلة ؛ قد يخطئ وقد يصيب ، أمَّا إذا عُزِيَ القول إلى النبي الكريم فهو الحق المطلق ، والصواب المطلق .
سيدنا عبد الرحمن بن عوف نقل إليه بعض الصحابة نقلاً ؛ نقل نصيحة لا نقل نميمة ، وهناك فرق كبير بين أنْ تنقل الخبر شامتا ؛ أنْ تنقله متشفياً صدرُك ، وبين أن تنقله ناصحاً ، وبالمناسبة أعجبني أخٌ كريم رأى أمرًا منكراً ؛ فقد رأى إنسانا يقدم على منكر في مكان يرأسه رجلٌ طيِّب ، فقال له إنْ فعلتَ هذا فسأبلِّغ فلاناً ، فإذا استدعاك فلانٌ فأنا الذي بلَّغتُه ، أنا أعجبني هذا الموقف ، ومرَّة غلامٌ صغير سمع عمَّه يقول : لو أن محمداً صادق فيما يقول فنحن شرٌّ من الحُمُرِ ، عهْدُهُ بعمِّه أنه مؤمن ، فإذا به كافر ، فقد قال له : هذه كلمة كفر ، والله يا عمَّاه ما رجلٌ تحت قبَّة السماء بعد رسول الله ، أحبُّ إليَّ منك ، ولكنني سأبلِّغ رسول الله ، هذه كلمة كفر لا مجاملة فيها ، فإذا تجاملنا مجاملات بكلام غلط ، أو بكلام فيه إساءة وتجاوز ، فهذا مجتمع المنافقين ، ولا نرقى بهذه الطريقة ، ولكن مجتمع المؤمنين فيه غيرة شديدة ، والقصة لها وقت آخر ، وذكر هذا الغلامُ الخبرَ للنبي عليه الصلاة والسلام ، واستدعاه النبي عليه الصلاة والسلام فأنكر ، قال يا رسول الله : إن هذا غلامٌ كذَّاب ، أأنا أقول هذا الكلام ؟ فنزل الوحي مصدقا قول الغلام ، فأمسك النبيُّ بأذن الغلام متحبِّبًا : لقد صدَّقك الله من فوق سبع سماوات ، وكانت توبة هذا المنافق على يد هذا الغلام ، وقال : يا رسول الله لقد تبتٌ من هذا الذنب ، ولن أعود إليه ، وبدل أن ينتقم منه زاد في إحسانه إليه ، فأحيانا الكلمة إذا أخذتها مأخذ الجِّدِّ نصحتَ بها ، فهؤلاء الذين أوصلوا هذا الكلام إلى سيِّدنا عبد الرحمن ليسوا نمامين ، ولكنهم ناصحون ، ونقل بعضُ أصحابه مقالة عائشة رضي الله عنها ، فتذكَّر قول النبي صلى الله عليه وسلم هذا الحديث أكثر من مرَّة ، وأكثر من صيغة ، وقبل أن تُفَضَّ مغاليق الأحمال حثَّ خطاه إلى بيت عائشة ، وقال لها : لقد ذكَّرتِني بحديث لم أنسه ، ثم قال : أما إني أُشهدكِ أن هذه القافلة كلها بأحمالها وأقتابها وأحلاسها في سبيل الله ، كلها ، سبعمئة شاحنة ، سبعمئة راحلة محمَّلة بالبضائع من الشام قدَّمها كُلَّها في سبيل الله ، قال : والله لأَدْخُلَنَّها خَبَباً ليس حَبْواً ، ولكن هناك مُشْكلة ؛ هذا قَوْلُ النبي صلى الله عليه وسلَّم ، أيُعْقل أن يكون قوْلُ النبي غير واقِعٍ ؟! وهي مُشْكِلَةٌ عانَيْتُ منها كثيراً ، حُلَّتْ بِكَلِمة واحدة تَرَوْنها بعد قليل ؛ قال : أما إني أُشْهِدُك أنَّ هذه القافلة بِأَحْمالها وأَقْتابها وأحْلاسِها هي في سبيل الله ، هذا هو عبد الرحمن بن عوْفٍ ، هذا هو الغنيُّ المؤمن ، هذا الذي يكون سيِّد المال ، وليسَ عبداً له ، هذا الذي يسْتخدم المال في سبيل الجنَّة ، في سبيل مرْضاة الله عز وجل ، في سبيل أنْ يفوز بِجَنَّةٍ عَرْضُها السماوات والأرض ، في سبيل أنْ يرْضى الله عنه ، هذا الصحابي الجليل هو أحدُ الثمانِيَّة الذين سبَقوا إلى الإسلام ، عرضَ عليه أبو بكر الإسلام هو وعثمان بن عفان والزبير بن العَوام وطلْحة بن عُبَيد الله وسعْدُ بن أبي وقاص فمَا غُمَّ عليهم الأمر، لما يخْطِب الإنسان فتاةً ، فإذا قرؤوا الفاتحة فقد تمَّت الخطبة بِكَلمة ، أحْياناً تشْتري بيْتاً ، ثمَّ يأتي التوْقيع بِكَلِمة ، فإذا بك تجد نفْسك تسْكُتُ ، ففي الأمور الحاسِمَة يضْطرب الإنسانُ ويشْعُر بالضِّيق ، لذلك قال عليه الصلاة والسلام :" ما دَعَوْتُ أحداً إلى الإسْلام إلا كانت له كَبْوَة إلا أبا بكر " ، وقال سيِّدُنا ابن عوف أيضاً : حينما عرضَ عليه أبو بكر الإسلام هو وعُثمان بن عفان والزبير بن العَوام وطلْحة بن عُبَيد الله وسعْدُ بن أبي وقاص فما غُمَّ عليهم الأمر ، ولا أبْطؤوا ، بل سارَعوا مع الصِّديق إلى النبي عليه الصلاة والسلام يُبايِعونه ، ويحْمِلون لِواءَهُ ، معنى ذلك لما ينْشرحُ صَدْرك للحق فهذه علامة طيِّبة ، حينما لا تتَرَدَّدُ ، كلكم يذكر قِصَّة سيِّدنا عبد الله بن رواحة حينما عَيَّنَهُ النبي عليه الصلاة والسلام قائدًا ثالثاً ، وكيف أنَّ القائد الأول حمل راية المُسْلمين ، فقاتل بها حتى قُتِل ، وحملَها بعده سيّدنا جعفر ، فقاتل بها حتى قُتِل ، فلما جاء دَوْرُ عبد الله بن رواحة تَرَدَّدَ ، ويَذْكُر المُؤرِّخون أنه تردَّد بِقَدْر هذين البيْتَيْن :
يا نفْسُ إلاّ تُقْتلي تموتي هذا حِمامُ الموت قد صَليت
إنْ تفْعلي فِعْلها رضيت و إنْ تَوَلَّيْتِ فقد شَقيت
وأخذ الراية فقاتِل بها حتى قُتِل ، لكنَّ النبي الكريم قال : رأيْتُ أخاكم جعْفرًا وهو في الجنَّة ، ورأيْتُ أخاكم زيداً وهو في الجنَّة ، ثمَّ سكتَ النبي صلى الله عليه وسلَّم ، فلما سكتَ النبي قَلِقَ الصحابة الكِرام على أخيهم عبد الله ، فقال الصحابة : ما فعل عبد الله ؟ قال : ثمّ أخذها عبد الله ، فقاتَلَ بها حتى قُتِل ، وإني لأرى في مقامِهِ اِزْوِراراً عن صاحِبَيْه ، درجته هَبَطَتْ ، فإذا كانَ الصحابة هَبَطَت درجَتُهُم بتَرَدُّدِهم ثلاثين ثانِيَة ، فَكَيْفَ بنا ؟! تَرَدُّدٌ فقط ، لماذا التَّرَدُّد ؟ لِبَذْل النفْس ، وليْس لِبَذْل المال ، أما الآن فتضعُ له مُقَدِّمات ، وتُبَيِّن له عِظَم العمل الصالح والجنَّة ، ثمَّ يُعْطيك عشْرَ لَيْراتٍ ، قال لي أحدهم : دخلْتُ مَحَلاًّ تِجاريًا في رمضان ، والمَحَلُّ كبير وفَخْم ، البضاعة بالملايين ، فقال له : عندنا أيْتام ، ومدارس شرْعِيَّة ، قال : فإذا بي أراهُ أخْرج عشْر لَيْراتٍ ، واللهِ لو رآها هو في الطريق لم يأخُذُها ؛ أفهذه قيمة الآخرة عنده ؟ لذلك قال تعالى :
[ آل عمران : الآية 133 ]
وهذا أحد التجار كذلك ، أنا لا أزكي على الله أحداً ، لكني أظنه مؤمناً ، كلما جاءته جمْعيَّة خيرية ، أو لجنة بناء مسْجد يقول لهم : دونَكُم الصندوق ، خُذوا منه ما تشاؤون ، ولا تُعْلِموني كم أخَذْتم ، هذا الإنْسان عاشَ عُمْراً لا بأسَ به ، ولكنَّهُ أصيب بِمَرضٍ خبيثٍ في دمه ، فجاءَتْ مُخابرة إلى البيت ، وفي البيت عدَّةُ هواتف ، ورُفِعَتْ سماعة ، فرفعَ هو السماعة ، وكانت المكالمة من المستشفى ، وأخذ الموظف يقرأ له التقْرير ؛ معلنًا أنَّ القضِيَّةُ مُنْتهيَّة ، ولا بدّ أنْ يموت بعد ثلاثة أيامٍ ! سمِعَها بِأُذُنه ، والقِصَّة واقِعِيَّة ، وقصَّها عليّ أُناسُ كثيرون ، تلقى هذا الخبر بِنَفْسٍ رَضِيَّة ، لأنَّ عمله صالحٌ ، ولأنه قدَّمَ ماله أمامه ، والآن سرَّهُ اللَّحاقُ به ، اسْتَدْعى أحد أصْدِقائِهِ التُّجار - وهو الذي قصَّ علينا القِصَّة - وقال له : يا أبا فُلان ، الفِلْم انتهى ! باللغة العامِيَّة ، والصَّفْقَة الفُلانِيَّة بِعْها ، ووزِّعْ أثْمانها على النحْو التالي ، والصَّفْقة الفُلانيَّة : اُطْلُب من صاحِبِها أنْ يُلْغِيَها ، خطَّطَ له تخْطيطاً دقيقاً ، كلُّ علاقاته المالِيَّة أنْجَزَها أوَّلَ يومٍ ، واليوم الثاني طلب أوْلاده وأصْهاره وبناته وودَّعَهُم ، وفي اليوم الثالث : دخل للحمام فاِغْتَسَل اِغْتِسال درجة أولى بِيَدِه ، دون أنْ يُغَسِّلَهُ أحد ، واضْطَجَع على السرير حتى الساعة الثانِيَة عشر ، واسْتَقْبَل أحد علماء دِمَشْق الأجِلاء ، وهذا العالم مع إخْوانه أجْرَوا له تهْليلة وقرآن حتى الساعة الواحدة ، وفي الساعة الواحد سلَّمَ روحَهُ لبارِئِه ، شيءُ لا يُصَدَّق ، أن يتلَقى الإنسانُ خبرَ وفاته بِصَدْرٍ رَحِب ، وبِنَفْسٍ طيِّبة ، هذا لأنه كلما دخل عليه إنْسان من جمْعِيَّة خيريّة يقول له : دونك الصنْدوق اِفْتَحْه، وخُذْ ما تُريد ، وأُنْشِدُك الله ألاّ تقول لي كم أخَذْتَ ! يقول الله عز وجل في الحديث القُدْسي : "عبدي أعْطَيْتُك مالاً فماذا صَنَعْتَ فيه ؟ يقول يا رب لم أُنْفِق منه شيئاً مخافة الفقر على أولادي من بعدي ، يقول الله عز وجل : ألم تعْلم أنِّي أنا الرزاق ذو القوة المتين ، إنَّ الذي خَشيتَهُ على أوْلادك من بعْدِك قد أنْزَلْتُهُ بهم ، يقول لِعَبْدٍ آخر آتاه مالاً : أعْطَيْتُك مالاً فماذا صَنَعْتَ فيه ؟ يقول: يا رب أنْفَقْتُهُ على كُلّ مُحْتاجٍ ومِسْكين لِثِقَتي أنَّك خيرٌ حافِظاً ، وأنت أرْحم الراحِمين ، فَيَقُول الله عز وجل : أنا الحافظ لِأولادك من بعدك ، فهذا الصحابي الجليل هو ثامِنُ رجلٍ دخل في الإسْلام ، ما دَعَوْتُ أحداً إلى الإسْلام إلا كانت له كَبْوَة ، فهُوَ لم تكُن له كَبْوة ، بل أقْبل بِكُلِّه ، وهو من العَشَرَة المُبَشِّرين بالجنَّة ، ففي التاريخ الإسْلامي عشَرَةُ أشخاص يدْخلون الجنَّة على التحْقيق ، وما سِواهُم على الرَّجاء ، نحن نرْجو الله ، وفرْقٌ كبير بين التحْقيق والرَّجاء ، وهو من أصْحاب الشورى السِّتَة الذين اخْتارهم سيّدُنا عمر من بعْده ؛ ومن بينِهِم سيّدنا عبد الرحمن بن عوفٍ ، وكان مَحْظوظاً في التِّجارة ، وكان يقول : لقد رأَيْتُني لو رفَعْتُ حجَراً لَوَجَدْتُ تحته فِضَّةً وذَهَباً ، والعوام يقولون : يدُهُ خضْراء ، يمْسك التُراب فَيَصيرُ ذهباً ، كَيْفَما تحَرَّك ربِح ، لكنْ مرَّةً سألوه : بِما حَقَّقْتَ هذه الثرْوة يا عبد الرحمن ؟ قال : والله ما اسْتَقْللتُ رِبْحاً ، ولا بِعْتُ دَيْناً ، تِجارةُ الدَّيْن ليْسَتْ تِجارة ، بل هي ذُلٌّ وتَسَوُّلٌ وفَقْرٌ وهَمٌّ ، هذا تَوْجيهُ صحابِيٍّ جليل آتاهُ الله مالاً، وكان له ثلاثة أطْوار ؛ فهُوَ إما في المسْجد ، وإما أنه في غَزْوٍ مع رسول الله ، وإما أنه في تِجارِتِه ، إما تَنْمِيَةُ التِّجارة ، أو أنه في المسجد يتعلَّمُ من النبي ، أو أنه في الغَزْو يُجاهدُ في سبيل الله .
إنّ الصحابة الكٍرام كانوا مٌثُلاً عُلْيا ، فلما هاجَروا إلى المدينة أمرهم النبي صلى الله عليه وسلّم أنْ يتآخَوا اثْنَيْن اثْنَين ، فسيّدنا بن عوفٍ كان نصيبُهُ سيّدنا سَعْد بن الربيع ، وهو أنْصاري ، وسيّدنا ابن عوف مُهاجِر ، ولما انْتَقَل إلى المدينة كانَ بِلا مالٍ ، تَصَوَّر أنَّ شَخْصاً ترك كلّ ثَرْوَته من أراضٍ ومصانع وسيارات ومسْكن بالمالْكي وأمْوالٍ ضَخْمة ، ثمّ يذْهب إلى مكانٍ آخر وهو مُفْلِس ، هكذا كان الصحابة ، تركوا كلّ أمْوالهم وهاجَروا مع النبي صلى الله عليه وسلّم ، فَسَيِّدُنا سَعْد بن الربيع قال له : يا أخي أنا أكثر أهل المدينة مالاً ، فانْظُر شَطْرَ مالي فَخُذْهُ ، فقال له عبد الرحمن بن عوفٍ : بارك الله لك في مالك ، ولكن دُلَّني على السوق ، هؤلاء الصحابة الكِرام الأنْصار الذين أظْهروا أعْلى درجات المُؤاثرة قابَلَهُم المُهاجِرون بِأَعلى درجات العِفَّة ، لذلك - وقد لا تُصَدِّقون - لم يُسَجِّل التاريخ أنَّ مُهاجِراً واحداً أخذ شطْر مال أخيه الأنْصاري ! هُم عرضوا ذلك ، وعبَّروا عن أعْلى درجات المُؤاثرة ، إلا أنَّ المُهاجِرين وقفوا بِأَعلى مواقف العِفَّة والتَجَمُّل ، قال له : بارك الله لك في مالك ، دُلَّني على السوق ، فاشْترى بِضاعَةً ورَبِح ، فإذا كان الإنْسان ضَيِّقَ ذات اليد فله طريقان ؛ الطريقُ الأكْمل أنْ تقول : يا رب اُرْزُقْني من فضْلك ، ولا تُحْوِجْني إلى أحدٍ سِواك ، ولا تجْعَلْ حاجتي إلا إليك ، لأنّ الإنسان إذا أعْطى فَعَطاؤُهُ غير عطاء رب العالمين ، قال : اِحْتَجّ إلى الرجل تكُنْ أسيرَهُ ، واْستَغْنِ عنه تكُن نظيره ، وأحْسِن إليه تكُن أميرهُ ، هناك مُشْكِلة ؛ وهي أنَّ أُمَّنا عائِشَة تسْمع من النبي عليه الصلاة والسلام - وهو الذي لا ينْطق عن الهَوى - أنّ سيّدنا عبد الرحمن بن عوْف سيَدْخُل الجنَّة حَبْواً ، أيُعقَل أنْ يقول عبد الرحمن مُتَحَدِّيًّا قولَ النبي عليه الصلاة والسلام : والله لأَدْخُلَنَّها خَببًا ، وفي روايةٍ أخرى : وما عَلَيَّ إنْ تصَدَّقْتُ مئةً في الصباح ، فَيُؤْتيني الله ألْفاً في المَساء ، حُلَّتْ هذه المُشْكِلة بِهذا الحديث الذي قاله النبي صلى الله عليه وسلَّم لِسَيِّدنا بن عوف : يا ابن عَوْفِ إنك من الأغْنِياء، وإنَّك سَتَدْخُل الجنَّة حَبْواً ، فأَقْرِض الله يُطْلِقُ لك قَدَمَيْك ؛ أعْطاهُ الحل ؛ إنْ لم تُنْفِق بِسَخاء تدْخُلُها حَبْواً ، فإذا أَقْرَضْتَ الله عز وجل أطْلَقَ الله قَدَمَيْكَ فَدَخَلْتها خَبَباً وجَرْياً ، القَضِيَّة حُلَّت ، إذْ إنَّ الحلَّ معه ، والنبي الكريم صلى الله عليه وسلّم ما أراد أنْ يُثَبِّطه ، وما أراد أنْ يجعله يَيْأس ، قال له :" إنك غنِيّ ، والأغْنِياءُ عادَةً تشْغَلُهُم أمْوالهم ، وتَنْمِيَةُ أمْوالهم واسْتِثْمارها ، والمال الوفير يحْتاج إلى وسائل رفاه ، وهذه الوسائل تشْغَلُ صاحبَ المال عن ذِكْر الله ، قال تعالى :
[ العلق : الآية 6-7 ]
فالنبي لم يقصد عبد الرحمن بالذات ؛ إنما قال : إنك غنيّ ، والأغنياءُ عادَةً مشْغولون بأمْوالهم ، فإذا آمنوا واسْتقاموا دَخَلوا الجنَّة حَبْواً ؛ أَقْرِض الله يُطْلق لك قَدَمَيْك ، فهو يعْرف الطريق ، ولما قال : سبعُمئة راحِلَة في سبيل الله ، والله لأدْخُلَنَّها خَبباً ، فالنبي صلى الله عليه وسلّم ما أراد أنْ يُثَبِّطه ، ويجعل مصيرَه مصيراً محْتوماً ، والقَوْلُ الشهير الذي ورد عن النبي : "خُذْ من الدنيا ما شِئتَ ، وخُذ بِقَدرِها هماً ، ومن أخذ من الدنيا فوق ما يكْفيه أخذ من حَتْفِهِ وهو لا يشْعر .
رَوَوا أنَّ أحد الشيوخ كان له تلاميذ ، فأعطى كلَّ واحدٍ منهم نِصْفَ لَيْرة لِيَشْتَري بِها حاجَتَين ، وأعْطى تِلميذاً عشر لَيْرات لِتَكون معه ، فالذي أُعْطي المبلغ القليل تألَّم وانْكسر خاطِرُهُ، وشعر أنه ليس من مُسْتوى الثاني ، وأنّ الشَّيْخُ ليس واثِقاً به ، بيْنما أعطى الثاني مبْلغاً كبيراً ، فَشَعَرَ الشيخ أنّ تِلْميذه استولى عليه هذا الشُّعور ، فقال : نحن بِحاجة إلى حمام يا أبنائي ، وبِحَمام السوق يوجد داخِلي وخارجي وأوْسطي ، فأدْخَلَهم إلى الحمام ، وإلى الغُرْفة الساخِنَة ، وبدأ يقول لِصاحب العشر ليرات : حاسِبْني في هذه وهذه ، فاضطرب وارتبك ، أما صاحب المبلغ القليل فكانَ حسابهُ يسيراً ، ربع ليرة بقْدونس ، والربع الآخر كزْبرة ، وانتهى الحساب ، إذاً كلما كان نصيبك قليلاً كلما كان حِسابك يسيراً ، وكلما كثُر المبْلغ صار الحِساب مُعَقَّدًا أكثر فأكثر ؛ هذه قِصَّة رَمْزِيَّة فقط ، المُهِمّ أنّ الإنسان إذا اخْتار اللهُ له الكفاف فقد اختار له اليسير ، أنا أقول لكم : كل إنسان يشكو لي أنّ الأمور كما يقولون : ماشي الحال ! ونحن نشْتَغِل قدْر مصْروفِنا ، كلما سَمِعْتُ إنْساناً يشْكو لي هذه الشَّكْوى ، أقول له : لقد أصابَتْكَ دعْوَةُ رسول الله ، فالنبي عليه الصلاة والسلام قال :" اللهم من أحَبَّني فاجْعَل رِزْقَهُ كفافاً " ، فأكْمَلُ مُسْتوى هو الكفاف ؛ لا غِنى فيُطْغي ، ولا فقر فلا يُحْتَمَل ، وكاد الفقر أن يكون كُفراً ، والغِنى مُطْغٍ ، والفقر صعْب ؛ بعد ما اغْتَنى ترك الصلاة ، وارتاد دور للملاهي ، وانشغل بالأفلام المُنْحَطَّة ، وترك زوْجَتَهُ ، وأصْبح لدَيْه خليلات ، فإذا كان هذا هو الغِنى فهذا غِنى مُطْغٍ والنبي عليه الصلاة والسلام قال : بَادِرُوا بِالْأَعْمَالِ سَبْعًا هَلْ تَنْتَظِرُونَ إِلَّا فَقْرًا مُنْسِيًا أَوْ غِنًى مُطْغِيًا أَوْ مَرَضًا مُفْسِدًا أَوْ هَرَمًا مُفَنِّدًا أَوْ مَوْتًا مُجْهِزًا أَوْ الدَّجَّالَ فَشَرُّ غَائِبٍ يُنْتَظَرُ أَوْ السَّاعَةَ فَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ *
[رواه الترمذي عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ]
فهذه هي القاعدة : من شأن الغني أنَّ ماله يشْغله عن ذِكر الله ، والدليل قوله تعالى :
[ المنافقون : الآية 9]
فَمِن شأن الغِنى أنْ يشغل صاحبه عن ذكر الله ، قال له : يا ابن عَوْف ، إنَّك من الأغْنياء وإن لم تُنْفِق هذا المال في سبيل الله فإنَّك سَتَدْخَل الجنَّة حَبْواً ، فأقْرِض الله يُطْلِقُ لك قَدَمَيْك ، وعندئذٍ تدْخُلها خبباً ، وانْتهى الأمر ، سيّدنا ابن عوفٍ منذ أنْ سَمِع هذا النُّصح من رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يُقْرض ربَّهُ قرْضاً حَسَناً ، فَيُضاعِفَهُ له أضْعافاً كثيرة ؛ باعَ يوْماً أرْضاً بِأرْبعين ألْفَ دينار ، ثمّ فرَّقها جميعاً في أهْله من بني زُهرة ، وعلى أُمَّهات المؤمنين ، إكْراماً لِرَسول الله ، وعلى فقراء المسلمين ، فكانت ثلاثة أثلاث ؛ ثلثٌ على أقْربائه من بني زهرة ؛ وثلث على أُمَّهات المؤمنين ، وثلث على فقراء المُسْلمين .
وقدَّم يوماً رضي الله عنه لِجُيوش المسلمين خمسُ مئة فَرَسٍ تشبه كلٌّ منها في أيامنا سيارة مَرْسيدَس ، أو شاحنة مَرْسيدَس ؛ شيءٌ ثمين ، هناك مَن سَعَّرها خمسة ملايين ، وحتى عشْرة ملايين ، برَّاد مثلاً ثمنُه اثنا عشر ملْيونًا ، ومرَّةً قدَّم ألفًا وخمسمئة راحِلَة في سبيل الله ، وعند مَوْتِهِ أوْصى بِخَمْسين ألف دينار في سبيل الله ، وأَوْصى لكل من بَقِيَ ممن شهِدوا بدْراً بِأَرْبَعمئة دينار ، حتى إنَّ عُثْمان بن عفان رضي الله عنه أخذ نصيبه من هذه الوَصِيَّة رغْمَ ثرائِهِ ، وقال : إنَّ مال عبد الرحمن حلالٌ صَفْوٌ ، وإنَّ الطُّعْمَةَ منه عافِيَةٌ وبَرَكَة ، فإذا دعاك المؤمن ، فوالله طعامه شِفاء ، قال : إنَّ مال عبد الرحمن حلالٌ صَفْوٌ ، وإنَّ الطُّعْمَةَ منه عافِيَةٌ وبَرَكَة ، فالمُلَخَّصُ أنَّهُ كان سيِّدَ ماله ، ولم يكن عَبْداً لِماله ، لذلك عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ تَعِسَ عَبْدُ الدِّينَارِ وَالدِّرْهَمِ وَالْقَطِيفَةِ وَالْخَمِيصَةِ - الثياب - إِنْ أُعْطِيَ رَضِيَ وَإِنْ لَمْ يُعْطَ لَمْ يَرْضَ *
[رواه البخاري]
من أجل ألاّ تَفْسُد ثيابه الأنيقة يقول لك : لا أصلي في المسجد ، بل أجْمَعُ الصلوات في البيت ! هذا هو عبد الخميصة ، يُؤْثر ثيابه على طاعة ربِّه .
بلغ من سعة عطائه وعَوْنِه أنه كان يُقال : أهل المدينة جميعاً شُرَكاءُ لابن عوفٍ في ماله ، وقد سَمِعْتُ اليوم - صباحاً - قِصَّة عن رجلٍ غَنِيّ ، كانت امْرأة تأتي في الساعة السابعة إلى مَكْتَبِه لِتُنَظِّف ، وهو لا يعْرِفُها في شَكْلِها ، إنما يسْمع عنها ، ويُعْطيها أُجْرتها ، مرَّةً جاء في الساعة السابعة لِأمرٍ اسْتِثْنائي ، فرأى امْرأة مُسِنَّة تشْتغل ، وتَمْسح ، فقال لها : أنت كم تأخُذين ؟ فقالت له : ألْفَيْن وخَمْسُمئة في الشَّهْر ، فقال لها : كم ولدٍ عندك ؟ فقالت : أربعة ، فقال لها : اذْهبي إلى بيْتِكِ ، وارْعَيْ أوْلادك ، وتعَالَي كلَّ شهْرٍ وخُذي خمْسة آلاف ؛ قلْبه رقيق ، وما تحَمَّل ذلك المشْهد ، وهي على كِبَر سِنِّها تشْتغل ، فالغَنيّ أحْياناً يصِلُ إلى الأوْج في إنْفاق ماله ، لأنَّها المِسْكينة وصَلَتْ إلى مرْحلة التقاعُد ، فالدنيا لا تخْلو من أهل الخير .
وقالوا : بلغ من سِعَة عطائِهِ وعَوْنه أنه كان يُقال : أهل المدينة جميعاً شُركاءُ لابن عوفٍ في ماله ، أحْياناً تجد شَخْصًا يساعد أكثر من أربعمئة عائِلة تعيش من عطائه ، طبْعاً أُسَر أبناؤُهم مُوَظَّفون عنده ، ويتَفَقَّدُهم في الأعْياد ، وأُسَرٌ لها رواتب شَهْريَّة ، ومعونات مَوْسِمِيَّة ؛ آلافٌ مُؤَلَّفة كلُّها في صحيفة فُلان .
قالوا : أهل المدينة جميعاً شُركاءُ لابن عوفٍ في ماله ، ثُلُثٌ يُقْرِضُهم ، وثُلُثٌ يقْضي عنهم دُيونهم ، وثُلُثٌ يصِلُهُم ويُعْطيهم ، فَثُلُثٌ يُكْرِمهم إكْراماً بلا مُقابل ، وثُلُثٌ يُدَيِّنُهم ، وثُلُثٌ يوفي عنهم الدَّين ، فأهل المدينة جميعاً شُركاءُ لابن عوفٍ في ماله ، ألا تشْتهون غِنى مثل هذا الصحابي الجليل؟!
سيِّدنا ابن عوف جيءَ له بِطعام الإفْطار ، وكان صائِماً ، فَلَما وقَعَتْ عَيْناهُ فَقَدَ شَهِيَّتَهُ ، وبكى ، لماذا يبْكي ؟ قال : اسْتُشْهِدَ مُصْعب بن عُمَيْر ، وهو خيرٌ مني ، فَكُفِّن في بُرْدَةٍ إنْ غُطِّيَ رأْسه بَدَتْ رِجْلاه ، وإنْ غطَّيتْ رِجْلاه بدا رأسه !! ، واسْتُشْهِدَ حمزة ، وهو خيرٌ مني فلم يوجد له ما يُكَفَّن فيه إلا بُرْدة ، ثمّ بُسِطَ لنا من الدنيا ما بُسِط ، وأُعْطينا منها ما أُعْطينا ، وإني لأخْشى أنْ تكون قد عُجِّلتْ لنا حَسَناتُنا ، وأنا واللهِ أقول لكم هذا الكلام : إذا كثر رفَهُ المؤمن فهو في خوف مِن سوء المصير ، أما إذا كان بالكفاف فهذه نِعْمة ؛ هذه دار عمل وليس دار بَسْط ولا دار نعيم ؛ هي دار ابْتِلاء وامْتِحان وطاعة ومُجاهدة والْتِزام ، فالمؤمن الصادق إذا شعر أنَّ رفاهته أكثر مما يجب يحُسّ بِضيقٍ ، حاله حال طالب دخل إلى المدْرسة ، له أحْلى طاولة ، وأحْلى كُرْسي ، ومن جِهَة الشَّمس ؛ هذه مدْرسة للعلم وليست للتَّشَمُّس ! دخلْتُ مرةً إلى ثانوِيَّة فَوَجَدْتُ المدير قد دهَّن كل البلور بالدهن الزيْتي من أجل مصلحة الطلاب .
واجْتمع بعض أصْحابه يوماً على طعامٍ عنده ، وما كاد الطعام يوضَعُ أمامهم حتى بكى ، فسألوه : ما يُبْكيك يا أبا محمد ؟! فقال : لقد مات رسول الله صلى الله عليه وسلَّم وما شَبِعَ هو وأهْلُ بَيْتِه من خُبْز الشعير ، وما أرانا أننا أُخِّرْنا لما هو خيرٌ منا ؛ القُدْوة رسول الله صلى الله عليه وسلَّم ، زرْتُ صديقاً يوماً وكان بَيْتُهُ صغيراً ، فقال لي : لا تؤاخِذْنا لصِغر بيتنا ! فقُلْتُ له : والله لو تقرأ عن بيْتِ رسول الله صلى الله عليه وسلَّم الذي هو سيِّدُ الخلق وحبيب الحق لما استحييتَ ببيتك ، كان إذا صلى قِيام الليل تحوِّل السيِّدة عائِشة رِجْلَيْها ، لأنَّ غرفته لا تَتَّسِعُ لِصَلاته ونوْمه ، ولما دخل عليه عديّ بن حاتم قذف إليه وِسادةً من أدم مَحْشُوَّةً ليفًا ، وقال له : اجْلِسْ عليها ، قُلْتُ بل أنت ! فقال: بل أنت ، فَجَلَسْتُ عليها وجلس صلى الله عليه وسلّم على الأرض ، ليس في بيْتِ النبي إلا وِسادةٌ واحدة !! ، هذه هي النبُوَّة ، لما دخل سيِّدنا عمر ورآهُ مُضْطجعاً على حصيرٍ وقد أثَّر في خَدِّه الشريف وبكى ، فقيل له : يا عُمَر ما يُبْكيك ؟ فقال : رسول الله ينام على الحصير ، ويُؤَثِّرُ في خَدِّه ! وكِسْرى وقَيْصَر ينامان على الحرير ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : يا عُمَر إنما هي نُبُوَّة وليستْ مُلْكاً ، هل تراني ملِكاً ؟ أنا نبيّ وهذه هي النبوَّة ؛ النبوَّة قُدوة وتَقَشُّفٌ وزُهْدٌ .
بعد موت النبي عليه الصلاة والسلام وتَسَلُّمَ أبو بكرٍ الخِلافة من بعده وبعد موت سيّدنا الصديق ، وقد أوْصى بالخِلافة لِسَيّدنا عمر ، وبعد سيّدنا عمر اخْتار سِتَّةً من أصْحاب رسول الله صلى الله عليه وسلّم ، لِيَخْتار المُسلمون أحدَهم بعد وفاته ، وكان منهم عبد الرحمن بن عوفٍ ، والأصابعُ أشارتْ إليه ، على أنَّهُ أنْسَبُ إنْسانٍ ، فقال : والله لأنْ تؤْخَذَ مُدْيَةٌ فَتوضَعُ في حلْقي ، ثمّ يُنْفَذ بها إلى الجانب الآخر أحبّ إليّ من ذلك ؛ اِعْتذرَ ، وانْسحب ، فلما اعْتذر وانْسحب عَيَّنه الأصحاب الكرام أنْ يخْتار الذي يكون خليفةً بعد سيِّدنا عمر ، فاخْتار سيّدنا عثمان بن عفان ، فهو الذي اخْتار سيِّدنا عثمان لِيَكون خليفةً بعد سيّدنا عمر .
سيّدنا عمر قبل أنْ يتوفاه الله عز وجل مُتأثِّراً بِجِراحه اسْتأذن السيّدة عائِشة أمُّ المؤمنين أنْ يُدْفَن في حُجرة النبي عليه الصلاة والسلام ، ثمَّ اسْتدرك وقال : أنا خليفة المسلمين ، ولعلَّها قبلتْ خجَلاً مني ، بعد أنْ أموت اسْألوها مرَّةً ثانِيَة ، فإن قبِلتْ فافْعلوا ، فهُوَ رضي الله عنه ما أراد أنْ يسْتخدم سُلْطته في أخذِ مُوافقَتِها ، والسيّدة عائِشَة أرادَتْ أنْ تَخُصّ نفسها بِشَرف الدفْن في حُجْرة النبي ، فهذا الصحابي الجليل وهو على فِراش الموت أشارتْ إليه أنَّها تُوافقُ على أنْ يُدْفن في حُجْرَتها إلى جِوار النبي عليه الصلاة والسلام وأبي بكرٍ وعُمر ، ولكنه رضي الله عنه كان على حياءٍ كبير ، فقد اسْتَحْيا أن يكون مع هؤلاء الكِبار ، ثمّ إنه كان على مَوْعِدٍ وثيق مع عثمان بن مظغون ، إذْ تواثقا ذات يومٍ أَيُّهُما مات بعد الآخر يُدْفَنُ إلى جِوار صاحِبِه ، فهذا وعْدٌ ! ، أوَّلاً اسْتَحْيا أن يُدْفن مع سيّدنا محمد صلى الله عليه وسلم والصديق وعمر، إضافةً للوَعْد الذي وَعَدَهَ ، وهو على فِراش الموت قال : إني أخاف أنْ أُحْبَسَ عن أصْحابي لكثرة ما كان لي من مالٍ ، مع كُلّ هذا الإنفاق وهذا السَّبْق والحُبّ والمؤاثرة ، كان يقول : إني أخاف أنْ أُحْبس عن أصْحابي لِكَثْرة ما كان لي من مالٍ ، ولكن عندئذٍ ذكر قوْل النبي عليه الصلاة والسلام : "عبد الرحمن بن عوْفٍ في الجنَّة" ، هذه البِشارة طَمْأنَتْ قلْبه وجعَلَتْهُ قريرَ العَيْن وتلا قبل قولَه تعالى :
[ البقرة : الآية 262 ]
حضرْتُ مرَّةً حفل ختام مسابقة القرآن الكريم ، فَتَكَلَّمَ وزير الأوْقاف كلمة تأثَّرْتُ لها ، قال : جزى الله عنا العلماء الذين علَّموا القرآن ، وأشْكر هؤلاء الطلاب الذين تدافعوا إلى حِفْظِه ، ولا أنْسى أصْحاب الأموال الذين تبَرَّعوا بأموالهم تكْريماً لِهَؤلاء الأطفال ، وحينها قال رجل: كلُّ من حَفِظ القرآن فله مني عشْرة آلاف دائِماً ، وسَمِعْنا أنَّ أحداً تبرَّعَ لهم جميعاً بِعُمْرةٍ ، وأخذ على حِسابه سبْعين طالِباً ، فقال الخطيب : المال شقيقُ الروح ، فلَيْسَ الفضل للعالم فقط ، بل وللغنيّ المؤمن ، فهذا بِعِلْمه وهذا بماله ، لهذا قال النبي عليه الصلاة والسلام : لَا حَسَدَ إِلَّا فِي اثْنَتَيْنِ رَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ مَالًا فَسُلِّطَ عَلَى هَلَكَتِهِ فِي الْحَقِّ وَرَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ الْحِكْمَةَ فَهُوَ يَقْضِي بِهَا وَيُعَلِّمُهَا *
[ رواه البخاري ]
فليستْ العظمة عند الله أنْ تكون داعِيَةً فقط ، أصْحاب الأموال بِإنْفاقهم وسخائِهم وبذْلهم يصِلون إلى مرْتَبَةٍ عالِيَةٍ عند الله عز وجلّ ، فقال : جزى الله من تعلَّم القرآن خيراً ، ومن علَّمه خيراً ، ومن فحص الطلاب خيراً ، ومن بذل ماله إكْراماً لِهؤلاء الحَفَظَة خيراً ، لأنَّ هؤلاء أنفقوا مالهم والمال شقيق الروح .
والحمد لله رب العالمين(/)
الدرس 42/50 ، سيرة الصحابي : عبد الله بن أم مكتوم ، لفضيلة الأستاذ محمد راتب النابلسي .
تفريغ : الأستاذ هشام القدسي .
التدقيق اللغوي : الأستاذ غازي القدسي .
التنقيح النهائي : المهندس غسان السراقبي .
بِسْمِ اللهِ الرَّحمَنِ الرَّحِيمِ
مع الدرس الثاني والأربعين من دروس صحابة رسول الله رضوان الله تعالى عليهم أجمعين ، وصحابي اليوم هو الصحابي الذي عُوتب فيه النبي عليه الصلاة والسلام من فوق سبع سماوات من قِبَل الله عز وجل ، إنه عبد الله بن أم مكتوم ، وقصة هذا الصحابي لها ملابسات كثيرة ، ولا بد من توضيح بعضها ، لأن النبي عليه الصلاة والسلام كما هو ثابت في العقيدة معصوم عن الخطأ .
فهذا الذي نزل في شأنه قرآن يُتلى إلى يوم القيامة ، نزل به جبريل الأمين على قلب النبي عليه الصلاة والسلام بوحي من عند الله ، إنه عبد الله بن أم مكتوم ، مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، عبد الله بن أم مكتوم قرشيٌّ مكيٌّ ، من مكة المكرمة ، فهو مهاجر ، تربطه بالرسول صلى الله عليه وسلم رحم ، فهو قريب من أقرباء النبي عليه الصلاة والسلام، فقد كان ابن خال أم المؤمنين خديجة بنت خويلد رضوان الله عليها ، أما أبوه فقيس بن زائد ، وأما أمه فعاتكة بنت عبد الله ، وقد دُعيت بأم مكتوم ، لأنها ولدته أعمى مكتوماً .
شهد عبد الله بن أم مكتوم مطلع النور في مكة ، فشرح الله له صدره للإيمان ، وكان من السابقين إلى الإسلام ، بالمناسبة فالسابق ليس كغير السابق ، الإنسان إذا دُعِي إلى الله فاستجاب في وقت مبكِّر ، فهذا له نهاية متألقة ، أمّا الذي يستجيب لله ورسوله بعد فوات الأوان ، أو قبيل الموت ، أو بعد سن الشيخوخة ، أو بعد أن ينفض يديه من الحياة ، وبعد أن يمل الحياة ، فهذا له حساب ليس كحساب السابق ، والذي يأتي ربه شاباً في عنفوان الشباب، متألقاً قوياً تغلي الشهوات في صدره ، هذا له حساب وذاك له حساب ، والله سبحانه وتعالى أخبرنا ، فقال :
[سورة آل عمران]
من أسلم في وقت مبكر فله حساب خاص ، الإسلام حينما ينتصر فالذين يعتنقونه هم منتفعون ، أما حينما يكون الإسلام في ضعفه الذين يعتنقونه هم أصحاب المبادئ ، هم المجاهدون ، على كل هذا الصحابي الجليل عاش محنة المسلمين في مكة بكل ما حفلت به من تضحية وثبات وصمود وفداء ، مسلم سابق إلى الإسلام ، عانى من الضغوط الشديدة التي ألمت بالمسلمين في بداية الدعوة الإسلامية ، وعانى من قريش ما عاناه أصحابه ، وبلا من بطشهم وقسوتهم ما بلوه ، فما لانت له قناة .
النبي عليه الصلاة والسلام هو القدوة ، في أشد أوقات المحن ، في أصعب أيام الدعوة ، عُرض عليه أن يكون أمير مكة ، عُرض عليه أن يكون زوجاً لأجمل فتاة في مكة ، عُرض عليه ليكون أغنى شباب أهل مكة ، قال : " والله يا عم لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر ما تركته حتى يظهره الله أو أهلك دونه " .
إذاً قيمة الإنسان في ثباته على المبدأ ، قيمة الإنسان أنه إذا عاهد الله عز وجل فقد حسمَ الأمر ، أما هذا الذي يقدِّم ، ويؤخِّر ، يتقدم ويتراجع ، ينطلق ويقف ، يتردد ، فالذي يفعل هذا لن يصل إلى شيء ، بالتعبير الدارج ( الثبات نبات ) .
هناك موضوعات كثيرة حول هذا الصحابي ، على كل هذا الصحابي عانى ما عاناه أصحاب النبي رضوان الله عليهم ، وما لانت له قناة ، ولا فترت له حماسة ، ولا ضعف له إيمان ، أحياناً ترى الإنسان يفور ويهمد ، ينطلق ويتراجع ، يتألق ويخبو ، هذا من ضعف الإيمان ، لكن الصدق في طلب الحق يجعل المؤمن يستمر في تألقه ، يستمر في اتقاده ، يستمر في عطائه ، يستمر في التزامه .
والشيء الغريب أن بعض المحن تزيد المؤمن إيماناً ، وتزيده تمسكاً ، وتزيده تعلقاً ، وتزيده التزاماً ، وتزيده إقبالاً ، وتزيده صبراً ، وتزيده صلابةً ، وهكذا فليكن المؤمن .
وقد بلغ من إقباله على النبي صلى الله عليه وسلم وحرصه على حفظ القرآن الكريم ، أنه كان لا يترك فرصة إلا اغتنمها ، ولا سانحة إلا ابتدرها .. يعني حريص على أن يلتقي بالنبي عليه الصلاة والسلام حرصاً لا حدود له ، والحقيقة أنّ الإنسان حينما يحرص على أن يلتقي بأهل الحق ، على أن يلتقي بالمؤمنين ، على أن يتواجد في بيوت الله ، أن يكون معهم في السراء والضراء ، أن يكون في مجالسهم ، أن يكون في معاونتهم ، فهذا الإنسان صادق الإيمان.
بل إن هذا الصحابي الجليل ، عبد الله بن أم مكتوم بلغ من حرصه على لقاء النبي عليه الصلاة والسلام مبلغاً كبيراً ، فكان إلحاحه على أن يكون مع النبي عليه الصلاة والسلام يحمله أحياناً على أن يأخذ نصيبه من النبي عليه الصلاة والسلام ونصيب غيره ، عنده رغبة قوية جداً أن يكون مع النبي دائماً ، وهذه والله علامة إيمان .
هناك إنسان لا ترتاح نفسه إلا مع المؤمنين ، لا ترتاح نفسه إلا مع أهل الحق ، وبالمقابل هناك علامة خطيرة ، عندما يجلس الإنسانُ مع أهل الفسق والفجور ، أو مع أهل الدنيا ، أو مع المقطوعين عن الله عز وجل ويرتاح إليهم ، ويقيم معهم علاقات حميمة ، وينسى واجباته الدينية ، هذه علامة خطيرة جداً ، وتدلُّ على أنّ الإنسان هش المقاومة ، ضعيف الإرادة ، ولذلك جاء الأمر الإلهي :
[سورة التوبة]
العجيب أننا فهمنا الأوامر خمسة : الصلاة والصوم والحج والزكاة والنطق بالشهادتين ، مع أن الأوامر القرآنية كثيرة جداً ، وهذا أحد الأوامر ، قال تعالى :
[سورة التوبة]
أنت مع مَن ؟ مع أهل الإيمان ، أم مع أهل الدنيا ؟ مع أرباب الأموال أم مع أهل الحق؟ مَن الذي يعجبك ؟ من الذي تركن إليه ؟ من الذي ترتاح نفسك إليه ؟.
وكان عليه الصلاة والسلام في هذه الفترة يمر بمحنة عصيبة ، فكان عليه الصلاة والسلام كثير التصدي لسادات قريش ، الآن بدأ الإيضاحُ التفسير ، يبدو أمامي بابان كبيران لهذا المسجد ، لو أن الدرس انتهى وانطلقتم للخروج من هذا المسجد ، وأمامكم بابان ، وليس هناك أي إعلان يمنعكم من الخروج من أحدهما ، فإذا خرج أحدكم من الباب اليميني هل يعد عاصياً ؟ .. وإذا خرج أحدكم من الباب اليساري هل يُعد عاصيًا ؟ ماذا أريد أن أقول ؟ أريد أن أقول : إنه لا معصية قبل التكليف ، ما دام ثمة مانع فالأمر مباح ، لو أنه كُتب على الباب الشمالي ممنوع الخروج من هذا الباب ، ثم خرج إنسان منه ، ضبط متلبساً بمعصية ، لكن البابين متشابهان ، وليس هناك أي إعلان ، ولا أي توجيه ، ولا أي حظر ، ولا أي منع، ولا أي إجبار ، بابان متشابهان متساويان ، انتهى الدرس ، وصلينا العشاء ، وانتهت الصلاة ، وانطلقنا إلى بيوتنا ، فهل بإمكان أحد أن يقول لواحد منكم ؛ أنت لماذا خالفت ، لماذا عصيت؟.. فتجيبه : أنا عصيت مَن ؟ .. ما الأمر الذي عصيته ؟ أين الحظر الذي تجاوزته ؟ أين المنع الذي اخترقته ؟ أجبني ، لكن لا جواب لديه .
هؤلاء الذين يطعنون في قوله :
[سورة عبس]
هل هناك حكم إلهي ؟ هل هناك تشريع ؟ هل هناك توجيه ما ؟ هل تصدقون أن النبي عليه الصلاة والسلام اختار أصعب الأمور بدافع حبه لله عز وجل ؟ بربكم لو أن أحدكم دُعي إلى سهرة مع بعض إخوانه المحبين جداً ، ودُعي إلى سهرة أخرى في اليوم نفسه مع أناس ملحدين منكرين فسقة فجار ، الذين يتمنون أن يأكلوا وينهشوا لحم المؤمن ، بربك أيها الأخ الكريم أي مجلس ترتاح له ، وأي مجلس أهون عليك ؟ أن تجلس مع إخوانك المحبين ، المخلصين الذين يمتلئون حباً وشوقاً لك ، أم أن تجلس مع منكرين ملحدين فساق عصاة فجار؟ أجيبوني .. مع إخوانك أهون أليس كذلك ؟.
فالنبي عليه الصلاة والسلام إن جلس مع عبد الله بن أم مكتوم ، ذلك الصحابي الجليل المحب العاشق ، الذي يتمنى ألاَّ يفارق النبي عليه الصلاة والسلام ، فهذا أَحبُّ إليه ، وأيهما أهون على النبي ، أن يجلس مع عبد الله بن أم مكتوم ، أم أن يجلس مع زعماء الكفر والفسق والفجور المنكرين ، عباد الأوثان ، أيهما أصعب ؟ وماذا اختار النبي ؟ اختار الأصعب ، اختار الأشق حباً بالله عز وجل ، لأنه انطلق من أن هؤلاء الزعماء الأقوياء الأشداء إذا أسلموا أسلم معهم أناس كثيرون ، لأن الناس دائماً تابعون ومتبوعون ، ولكل بلدة كبراء ، والكبراء ماذا يفعلون ؟ .. أي شيء يفعلونه يقلدهم الناس فيه ، فأنت إذا دعوت إلى الله ، وتمكنت أن تقنع كبيراً بطريق الحق ، فهذا الزعيم الكبير معه أتباع كثيرون ، فالني عليه الصلاة والسلام ، ليس هناك تشريع يمنعه ، وليس هناك مانع يصدُّه ، وليس هناك حظر وليس هناك شيء يمكن أن يُعد مخالفة لما فعل .
جاءه ابن أم مكتوم وكان النبي مع زعماء قريش ، وإنْ صحّ التشبيه أسوق هذا المثَل ، أنت مدرس رياضيات ، وابنك في البيت ، وأنت في لقاء مهم خطير خطير ، وأنت منهمك في إقناع هؤلاء الذين في غرفة الضيوف ، فدخل عليك ابنك لتحل له مسألة في الرياضيات ، فماذا تقول له ؟ .. انتظر قليلاً ، أنا لك اليوم كله ، دعني الآن وشأني ، هذا الذي فعله النبي عليه الصلاة والسلام مع ابن أم مكتوم.
وقد كان عليه الصلاة والسلام في هذه الفترة كثير التصدي لسادات قريش ، شديد الحرص على إسلامهم ، فالتقى ذات يوم بعتبة بن ربيعة وأخيه شيبة بن ربيعة ، وعمرو بن هشام المكنى بأبي جهل ، وأمية بن خلف ، والوليد بن المغيرة ، والد سيف الله خالد ، وطفق يفاوضهم ويناجيهم ويعرض عليهم الإسلام ، وهو يطمع أن يستجيبوا له ، أو أن يكفوا أذاهم عن أصحابه ، فكان النبي منهمكاً بلقاء خطير ، يعلق آمالاً كبيرةً على إسلامهم ، لأنهم إن أسلموا أسلم معهم خلق كثير ، وإن اقتنعوا بالإسلام ولم يسلموا .. فالحد الأدنى أنهم كفُّوا أذاهم عن ضعاف المؤمنين الذين يعذبونهم آناء الليل وأطراف النهار .
إذاً النبي كان في مهمة مقدسة عظيمة ، وهذه الحادثة تزيدنا حباً برسول الله ، هذه القصة تزيدنا إكباراً له ، تعظيماً لشأنه لمقامه العالي لأنه اختار الأصعب .
يعني إذا أب مثلاً رأى ابنه يدرس الساعة التاسعة ، فاستلقى الأب في فراشه ، واستيقظ الساعة الواحدة ورآه يدرس ، ثم عاد إلى النوم الساعة واستيقظ الساعة الثالثة استيقظ فرآه يدرس ، فقد يغضب الأب من ابنه ، فهل يعتب عليه أم يعتب له ؟ فرق دقيق بين من يعتب على إنسان وبين من يعتب له ، يقول له : يا بني لا بد أن تستريح ، إن لجسدك عليك حقاً ، بعضَ هذه الدراسة .. هذه معاتبة ، ولكن هذه ليست عتابًا عليه ، بل عتاب له ، وشتان بين العتابين .
وطفق النبي يشرح لهم ويبيِّن ويوضح ويتلو عليهم آيات القرآن فلعلهم يسلمون ، فإن أسلموا أسلم معهم خلق كثير ، وإن اقتنعوا بالإسلام ولم يسلموا فلعلهم يكفون أذاهم عن أصحابه ، وفيما هو كذلك أقبل عليه عبد الله بن أم مكتوم ، وكان كفيف البصر .
أحياناً يدرك الإنسان الموقف بعينيه ، ولكن لا يرى مَن عنده ، طرق الباب ، يا رسول الله علمني مما علمك الله ، النبي رأى أن هذا الوقت غير مناسب ، و بإمكانه أن يأتي في أي وقت يشاء غير هذا ، فجاء النبي عليه الصلاة والسلام يستقرئه آية من كتاب الله ، ويقول : يا رسول الله علمني مما علمك الله ، والنبي عليه الصلاة والسلام يعرض عنه ويعبس في وجهه، ثم يتولى نحو أولئك النفر من قريش ، وأقبل عليهم أملاً في أن يسلموا ، فيكون في إسلامهم عز لدين الله ، وتأييد لدعوة رسول الله .
وما إن قضى رسول الله حديثه معهم وفرغ من نجواهم ، وهمَّ أن ينقلب إلى أهله حتى أمسك الله عليه بعضاً من بصره ، وأحس أن شيئاً يخفق برأسه ، ثم جاء الوحي ، ونزل عليه قوله تعالى : عبس وتولى أن جاءه الأعمى .
هذا التركيب ماذا يسمى في اللغة ؟ .. التركيب نوعان ، تركيب إنشائي وتركيب خبري، التركيب الإنشائي فيه أمر ؛ مثلاً : مزق ، لا تمزق ، افعل ، لا تفعل .. ؛ الأمر والنهي ، والتمني والترجي ، والحض والاستفهام ، والنداء ، هذه تراكيب إنشائية ، ولكن هناك تراكيب خبرية الوصف ؛ هذه ورقة تقويم ، هل في هذا الكلام تعنيف ؟ .. لا ، هل في هذا الكلام لوم ؟ لا ، هذا وصفُ خبر ، والله عز وجل قال : عبس وتولى أن جاءه الأعمى، هذا وصفُ وضعِ النبي ، فالإنسان يجب أن يكون دقيق الذهن ، حسن الظن ، ما استعمل الله عز وجل تركيباً إنشائياً فيه توبيخ أو فيه تعنيف أو فيه نهي ، أو فيه أمر ، تركيب خبري وصفي : عبس وتولى * أن جاءه الأعمى * وما يدريك لعله يزكى * أو يذكر فتنفعه الذكرى * فالله جل جلاله يبيِّن للنبي عليه الصلاة والسلام أن هؤلاء السادة الكبراء لا خير فيهم ، هذا علمُ الله ، وهو عليه السلام يتوسم فيهم الخير ، ويعلق آمالاً على هدايتهم ، لكنّ اللهَ عز وجل لأنه خالقهم وهو الذي يعلم ، قال له : يا محمد هؤلاء ليس فيهم خير ، فلا تشغل بالك بهم .. عبس وتولى أن جاءه الأعمى وما يدريك لعله يزكى أو يذكر فتنفعه الذكرى ، أما من استغنى ـ استغنى عن الله ورسوله وعن دينه ، وانغمس في شهواته فأنت بطيب نفسك له تصدى ـ أما من استغنى فأنت له تصدى ، وما عليك ألاَّ يزكى ، ليس عليك هداهم ـ هذه حقيقة ، إنك لا تستطيع أن تهديهم لأنهم مخيرون ، فإن الله يهدي من يشاء ، هناك آيتان ؛
[سورة القصص]
أي إنك لا تستطيع هدايتهم .
والآية الثانية :
[سورة البقرة]
لست مسؤولاً عن هدايتهم ، أنت لا تستطيع ولست مسؤولاً .
فالآيات :
هذا واقع النبي ، النبي منهمك مع صناديد قريش ، وقد انطلق مِن أنّ هؤلاء الكبراء إذا أسلموا تبعهم خلق كثير ، وإن لم يسلموا لعلهم يكفون أذاهم عن المسلمين ، من هنا انطلق النبي ، وأهون عليه ألف مرة أن يجلس مع عبد الله ابن أم مكتوم مِن أن يجلس مع هؤلاء الصناديد المنتقدين المنكرين المكابرين عبّاد الأوثان ، فربنا عز وجل وصف واقع النبي فقال: عبس وتولى أن جاءه الأعمى وما يدريك لعله يزكى أو يذكر فتنفعه الذكرى ، أما من استغنى ـ هذا الذي أدار ظهره للدين ولم يعبأ بالقرآن ولم يصدق النبي العدنان : أما من استغنى * فأنت له تصدى * وما عليك ألا يزكى *
لست مسؤولاً عنه ، ولست قادراً على هدايته ، لأنه مخير ، هو اختار الدنيا ، هو اختار الإعراض ، هو اختار الشرك ، هو اختار الأوثان .. وأما من جاءك يسعى * وهو يخشى * فأنت عنه تلهى * كلا إنها تذكرة *
الله عز وجل وصف وبيّن ، وصف حال النبي وبيّن له أنه الإله الذي يعلم .
يعني أحياناً يرى الإنسانُ رمادًا ، يظن أن في هذا الرماد ناراً ، فينفخ ويقول له إنسان آخر : لا تتعب نفسك ، إنك تنفخ في رماد .
لقد أسمعت لو ناديت حيًّا ولكن لا حياة لمن تنادي
ولو نارًا نفخت فيها أضاءت ولكنك تنفخ في رمادِ
***
الله يعلم ، وبعلمه وخبرته أخبر النبيَّ أن هؤلاء الكفار الصناديد زعماء الشرك ، رؤوس الفتنة ، عباد الأوثان لا خير فيهم ، فلا تعلِّقْ أملك عليهم ، ولا تلتفت إليهم ، فليسوا أهلاً لاهتمامك ، بل التفتْ لهذا الأعمى الفقير هو الذي سيصغي لكلامك .. بربكم هل في هذا السلوك الذي فعله النبي نقص في حقه ؟ هل فيه مخالفة لأمر إلهي ؟ هل فيه معصية ؟ هل فيه خرق لحظر ؟ .. لا أبداً ، هكذا ينبغي أن نفهم القرآن الكريم ، الله عز وجل وصف حال النبي ، وبين له أن هؤلاء الذين تحرص عليهم لا حياة لمن تنادي .
***
لقد أسمعت لو ناديت حيًّا ولكن لا حياة لمن تنادي
ولو نارًا نفخت فيها أضاءت ولكنك تنفخ في رمادِ
***
قال العلماء : ست عشرة آية نزل بها جبريل الأمين على قلب النبي عليه الصلاة والسلام في شأن عبد الله بن أم مكتوم ، لا تزال تُتلى منذ نُزلت إلى اليوم ، وسوف تظل تتلى حتى يرث الله الأرض ومن عليها ، فالمعنى أنّ هذا درس لنا إلى يوم القيامة ؛ فعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمْ مِنْ أَشْعَثَ أَغْبَرَ ذِي طِمْرَيْنِ لَا يُؤْبَهُ لَهُ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لَأَبَرَّهُ مِنْهُمْ الْبَرَاءُ بْنُ مَالِكٍ *
(رواه الترمذي)
هؤلاء الأقوياء ، هؤلاء الأغنياء المنحرفون عن طريق الحق ، لا تعجبك أجسامهم ولا أموالهم ، إنما يريد الله ليعذبهم في الحياة الدنيا وتزهق أنفسهم وهم كافرون .. هكذا وجَّه الله عز وجل نبيه عليه الصلاة والسلام .
ومنذ ذلك اليوم ما فتئ النبي عليه الصلاة والسلام يكرم منزل عبد الله بن أم مكتوم إذا نزل ، ويدني مجلسه إذا أقبل ، ويسأل عن شأنه ويقضي حاجته ، ولا غرو أليس هو الذي عوتب فيه من فوق سبع سماوات من قبل المولى جل وعلا .
ولما قستْ قريش على النبي صلى الله عليه وسلم والذين آمنوا معه ، واشتد أذاها لهم ، أذن الله للمسلمين بالهجرة ، فكان عبد الله بن أم مكتوم ، أسرع القوم مفارقة لوطنه وفراراً بدينه ، فقد كان هو ومصعب بن عمير أول من قدم المدينة من أصحاب رسول الله رضوان الله تعالى عليهم.
وما إن بلغ عبد الله بن أم مكتوم يثرب حتى طفق هو وصاحبه مصعب بن عمير يختلفان إلى الناس ويقرئانهم القرآن ويفقهانهم في دين الله ، ولما قدم عليه الصلاة والسلام إلى المدينة اتخذ عبد الله بن أم مكتوم وبلال بن رباح مؤذنين للمسلمين يصدعان بكلمة التوحيد كل يوم خمس مرات .
إذاً سيدنا عبد الله بن أم مكتوم كان مؤذن النبي عليه الصلاة والسلام فهنيئاً للمؤذِّنَيْن ، صحابي جليل نزل فيه قرآن يتلى إلى يوم القيامة هو مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم .
قال : كان بلال يؤذن وابن أم مكتوم يقيم الصلاة ، وربما أذن ابن أم مكتوم وأقام بلال الصلاة، ولكن بعد حين وجَّه النبي عليه الصلاة والسلام أن الذي يؤذن هو الذي يقيم الصلاة.
وكان لبلال وابن أم مكتوم شأن آخر في رمضان ، فقد كان المسلمون في المدينة يتسحرون على أذان أحدهما ويمسكون عند أذان الآخر ؛ يعني واحد يذكر الناس أثناء تناول طعام السحور ، فالمسلمون يبدؤون طعامهم عند أذان الأول ، ويمسكون على أذان الآخر .
فقد كان بلال رضي الله عنه يؤذن بليل ويوقظ الناس ، وكان ابن أم مكتوم يتوخى الفجر فلا يُخطئه .
وقد بلغ من إكرام النبي عليه الصلاة والسلام لابن أم مكتوم أن استخلفه على المدينة عند غيابه عنها بضع عشرة مرة ، كانت إحداها يوم غادرها لفتح مكة .
فكان النبي كلما غادر المدينة غازياً أو فاتحاً استخلف عليها أميراً هو عبد الله بن أم مكتوم ، وهذه مرتبة عالية جداً ؛ أن يختار النبي هذا الصحابي الجليل نائباً عنه في إدارة شؤون المدينة في غيابه .
في أعقاب غزوة بدر أنزل الله على نبيه صلى الله عليه وسلم من آي القرآن ما يرفع شأن المجاهدين أيّما رفعة ، يفضلهم على القاعدين ، لينشط المجاهد إلى الجهاد ، ويأنف القاعد من القعود ، فأثّر ذلك في نفس ابن أم مكتوم وعز عليه أن يُحرم من ذلك الفضل وقال: يا رسول الله لو أستطيع الجهاد لجاهدت ، ثم سأل الله بقلب خاشع أن ينزل القرآن في شأنه وشأن أمثاله ممن تعوقهم عاهاتهم عن الجهاد ، لقد رأى الجهاد شيئًا عظيمًا ، وهو ذروة سنام الإسلام ، فهو بحكم عاهته إذْ فَقَدَ بصره محرومٌ من هذه العبادة العظيمة ، فكان يتألم وكان يبكي ، وكان يسأل النبي عليه الصلاة والسلام ، أن يسأل ربه أن ينزل قرآنًا في شأن ابن أم مكتوم المعذور ، وشأن أمثاله ممن تعوقهم عاهاتهم عن الجهاد ، وجعل يدعو في ضراعة : اللهم أنزل عذري ، اللهم أنزل عذري ، فما أسرع أن استجاب الله جل وعز لدعائه.
حدث زيد بن ثابت كاتب وحي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : كنت إلى جنب الرسول صلى الله عليه وسلم ، فغشيته السكينة ، ونزل عليه الوحي ، فلما سُرِيَ عنه قال : اكتب يا زيد ، فكتبت : لاَ يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ
[سورة النساء ، من الآية 95]
فقام ابن أم مكتوم وقال : يا رسول الله فكيف بمن لا يستطيع الجهاد ؟ قال فما انقضى كلامه حتى غشيت رسول الله صلى الله عليه وسلم السكينة ، ولما سُري عنه ، يعني جاءه الوحي مرة ثانية ، قال : اقرأ ما كتبته يا زيد ، فقرأت لا يستوي القاعدون من المؤمنين ، قال : اكتب : غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ ، فصار في الآية استثناء ، هؤلاء أولوا الضرر مستثنون بهذه الآية ، فكأن هذا الصحابي الجليل ، بصدقه وإخلاصه ، وتمنيه ، أن ينزل الله به وبأمثاله المعذورين ما يبرر قعودهم ، فاستجاب الله له ، ونزلت هذه الآية التي جاءت بعد الآية الأولى.
الآن دققوا ، وعلى الرغم من أن الله سبحانه وتعالى ، أعفى عبد الله بن أم مكتوم وأمثاله من الجهاد ، فقد أبت نفسه الطموح أن يقعد مع القاعدين ، وعقد العزم أن يكون مع المجاهدين ، ذلك بأن النفوس الكبيرة لا تقنع إلا بعظام الأمور ، فحرص منذ ذلك اليوم على ألاَّ تفوته غزوة مع أنه أعمى ، مع أنه ضرير ، وحدَّد لنفسه وظيفتها في ساحات القتال فكان يقول أقيموني بين الصفين ، وحمَّلوني اللواء أحمله لكم وأحفظه فأنا أعمى لا أستطيع الفرار.
كانوا يقيمونه بين الصفين ، ويحمِّلونه اللواء ويجاهد ، وفي السنة الرابعة عشرة للهجرة، عقد عمر بن الخطاب العزم على أن يخوض مع الفرس معركة فاصلة تزيل دولتهم وتزيل ملكهم ، وتفتح الطريق أمام جيوش المسلمين ، فكتب إلى عماله يقول ، لا تَدَعُوا أحداً له سلاح أو فرس أو نجدة ، أو رأي إلا وجهتموه إليه ، والعَجَلَ العَجَلَ .
وطفقت جموع المسلمين تلبي نداء الفاروق وتنهال على المدينة من كل حدب وصوب وكان في جملة هؤلاء المجاهدين المكفوف البصر عبد الله بن أم مكتوم .
فأمَّر الفاروق على الجيش الكبير سعد بن أبي وقاص ، ووصاه وودعه ، ولما بلغ الجيش القادسية ، برز عبد الله بن أم مكتوم لابساً درعه مستكملاً عدته ، وندب نفسه لحمل راية المسلمين والحفاظ عليها أو الموت دونها ، والتقى الجمعان في أيام ثلاثة قاسية عابسة ، واحترب الفريقان حرباً لم يشهد لها تاريخ الفتوح مثيلاً ، حتى انجلى الموقف في اليوم الثالث عن نصر مؤزر للمسلمين ، فزالت دولة من أعظم الدول ، وزال عرش من أعرق العروش، ورُفعت راية التوحيد في أرض الوثنية ، وكان ثمن هذا النصر المبين مئات الشهداء ، وكان من بين هؤلاء الشهداء عبد الله بن أم مكتوم ، فقد وجد صريعاً مضرجاً بدمائه وهو يعانق راية المسلمين.
دققوا أيها الإخوة ، صحابي جليل وهو كفيف البصر ، يستشهد في أرض معركة حامية الوطيس ، هكذا كان أصحاب رسول الله رضوان الله تعالى عليهم ، هذه القصة سقتها إليكم من أجل أن تقفوا على دقائقها لأن النبي عليه الصلاة والسلام معصوم في أقواله وأفعاله وأحواله ، وما سورة عبس وتولى إلا وصفٌ لشأن النبي ، حيث انطلق من رغبته الصادقة في هداية قومه.
والحمد لله رب العالمين
*****(/)
الدرس 38/50 ، سيرة الصحابي : عبد الله بن حذافة السهمي ، لفضيلة الأستاذ محمد راتب النابلسي .
تفريغ : المهندس عبد العزيز كنج عثمان .
التدقيق اللغوي : الأستاذ غازي القدسي .
التنقيح النهائي : المهندس غسان السراقبي .
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا ، وانفعنا بما علمتنا وزدنا علما ، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه ، و أرنا الباطل باطلاً و ارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .
أيها الإخوة المؤمنون ... مع الدرس الثامن والثلاثين من دروس سير صحابة رسول الله رضوان الله تعالى عليهم أجمعين ، وصحابيُّ اليوم سيدُنا عبد الله بن حذافة السهمي .
أول ملاحظة ، وهي أن ثمَّة دعاءً يدعو به بعض خطباء دمشق ، يقول: اللهم إنا نعوذ بك من فتنة القول، كما نعوذ بك من فتنة العمل .
القول له فتنة ، وفتنة القول ، أن ينطلق لسانك ، ويقصِّر عملك ، هذه فتنة ، وفتنة العمل ، أن تعجب به ، فالدعاء :اللهم إنا نعوذ بك من فتنة القول ، كما نعوذ بك من فتنة العمل ، ونعوذ بك أن نتكلَّف ما لا نحسن ، كما نعوذ بك من العجب فيما نحسن .
سقتُ هذا الدعاء تمهيداً لملاحظة ، وهذه الملاحظة ، أنّ كلَّ مؤمنٍ إذا قرأ سيرة أصحاب رسول الله يصغر ، ويصغر ، حتى يرى أنه لم يقدِّم شيئاً للإسلام .
صحابيُّ اليوم ، سيدنا عبد الله بن حذافة السهمي ، كأن هؤلاء الصحابة من طينةٍ غير طينتنا ، كأنهم يحبُّون الله حباً يفوق حدَّ التصوُّر ، وقد تحملوا من المشاق ما لا يحتمله بشر ، فالإنسان أيها الإخوة ، إذا اطّلع على سير الصادقين ، وعلى سير المخلصين ، فهناك فائدتان كبيرتان .
أمّا الفائدة الأولى :
فإنه يصغر عوضَ أن يكبر ، والجاهل كبير بنظر نفسه ، أما العالم فصغير ، يقول : ماذا قدُّمت أنا ؟ بعد قليل سوف ترون أن الذي فعله هذا الصحابي يفوق حدَّ الخيال ، والتاريخ صادق .
الفائدة الثانية :
إذا قرأ الإنسان سير صحابة رسول الله ، فقراءته لها تجعله ينطلق أكثر وأكثر إلى طاعة الله ، وإلى التضحية ، وإلى البذل .
بطل هذه القصة رجل من الصحابة الكرام ، يُدعى عبد الله بن حذافة السهمي ، هذا الرجل له قصة مذهلة ، والإسلام أتاح له أن يلقى سيِّد الدنيا في زمانه ، وفي كل عصر هناك دول ، منها دول صغرى ، ودول وسطى ، ودول عظمى ، ودول متخلفة ، ودول متقدمة ، وعلى كلٍّ بين الدول الكبرى تجد دولة هي أكبر دولة .
فهذا الصحابي الجليل ، أتيح له أن يلقى سيِّدَيّ الدنيا في زمانه ، لقد كان في زمان النبي عليه الصلاة والسلام دولتان عظيمتان ، وعلى رأس هاتين الدولتين رجلان عظيمان ؛ كسرى عظيم الفرس ، وقيصر عظيم الروم ، وهذا الصحابي الجليل أتيح له ، أو أرسل بمهمةٍ ليلقى كسرى وقيصر في وقتين مختلفين ، كِسرى ملك الفرس ، وقيصر ملك الروم ، وأن تكون له مع كلٍّ منهما قصة ، ما تزال ذاكرة الدهر تعيدها ، ولسانُ التاريخ يرويها .
أما قصته مع كسرى ملك الفرس فكانت في السنة السادسة للهجرة ، حين عزم النبي صلّى الله عليه وسلم أنْ يبعث طائفةً من أصحابه ، بكتبٍ إلى ملوك الأعاجم ، يدعوهم فيها إلى الإسلام ، ولقد كان النبي صلى الله عليه وسلم - وهذا من عظمته - يقدِّر خطورة هذه المهمة ، فهؤلاء الرسل سيذهبون إلى بلادٍ نائية .
في زماننا طيران ، وكنكورد ، وطائرة أسرع من الصوت ، وأنت على ارتفاع ستين ألف قدم ، يقدَّم لكَّ الطعام الساخن ، والفواكه ، والمشروبات ، والشاي ، والقهوة ، ويمكن أن تنام ، وأن تشاهد فيلمًا، وأن تقرأ المجلات ، وكلّ حين تقدم لكَّ الوجبات الشهيّة ، في المطارات ، قاعات الاستقبال مكيفة ، فالسفر في زماننا هذا سهلٌ ميسور .
لكن تصور السفر في عهد النّبي عليه الصلاة والسلام ، تصور إنساناً يركب حصاناً ، أو يركب ناقةً ، وينطلقُ بها من المدينة إلى القسطنطينية وحده ، لا مؤنس معه ، في ليالي الصحراء ، أمّا في هذه الأيام فالإنسان أحياناً لو ذهب إلى مكتبه في قلب المدينة في الليل يشعر بالوحشة ، ولو سارَّ في طريقٍ وحده بعد الساعة الثانية عشرة لشعر بالوحشة .
فهذا الصحابي ، انطلق ليقطع الصحارى والفيافي وحيداً ، دون مؤنسٍ ، ودون معينٍ ، ليصل إلى ملك من ملُوك الأرض ، لا يفهم لغته ، ملكٌ متربعٌ على عرشٍ عظيم ، يدعو هذا الصحابي ذاك الملك لترك دينه ، والاحتمال أن يقتله احتمالٌ كبير .
أجمل شيء يا أيها الإخوة ... أن يكون الإنسانُ واقعيًّا ، وكلّ إنسان يبتعد عن الواقع لا يصدَّق ، فالنّبي عليه الصلاة والسلام يعلم تماماً خطورة هذه المهمة ، وهؤلاء الصحابة الكرام عاشوا في البادية ، ولم يتعلَّموا ، بل هم أُمِّيُّون ، سينطلق أحدُهم إلى كسرى ، الذي يمثِّل قمَّة الحضارة ، قصور، وخدم ، وحشم ، وحجَّاب ، وفرسان ، وأسلحة ، وأموال ، وأرائك ، وهم يجهلون لغات تلك البلاد ، ولا يعرفون شيئاً عن أمزجة ملوكها .
بينما الآن فهناك إعلام ، والأعمال كلُّها يتناقلها الإعلام ، فأحياناً الملوك يحسبون حسابًا لتناقل الوكالات لما يفعلُون ، أما قديمًا فلم يكن هناك إعلام ، فلو قال الملك : اقتلوه ، لقتلوه ، وانتهى الأمر ، ولنْ تسمع وقتها ضجة إعلامية ، إذ لم يكن بين الشعوب تواصل ، فالنّبي يعلَم خطورة هذه المهمة ، أنْ يرسل أصحابه الذين عاشوا في الصحراء إلى عواصم الدنيا ، إلى رجال يتربَّعون على عروشِ هذه الدول العظمى ، إنّهم سيدعُون هؤلاء الملوك إلى ترك أديانهم ، ومفارقة عزِّهم وسلطانهم ، تصوَّر مثلاً أنَّ يا فلانًا الفلاني ، في القرية الفلانية ، ومن البلد المتخلِّف الفلاني ، يقال له : اذهب إلى صاحب البيت الأبيض ، وقل له : إنَّك كافر ، وإنَّك على باطل ، فعُدْ إلى ديننا ، إنه أمرٌ صعب ، ومهمةٌ فوق الخيال .
سيدعون هؤلاء ، الملوك إلى ترك أديانهم ، ومفارقة عزِّهم وسلطانهم ، والدخول في دينِ قومٍ كانوا إلى الأمسِ القريب ، من بعض أتباعهم ، إنها رحلةٌ خطيرة ، الذاهب فيها مفقود ، والعائد منها مولود.
إنها رحلة بالتعبير المعاصر ، انتحارية ، فإما أن يعود ، وإما ألاّ يعود ، هذه هي طبيعة هذه المهمة .
الإنسان أيها الإخوة ... على قدر تضحيته ، وعلى قدر بذله ، وعلى قدر تجشُّمه للأخطار ، وعلى قدر عطائه يرقى عند الله عزَّ وجل ، إنها رحلةٌ خطيرة ، الذاهب فيها مفقود ، والعائد منها مولود ، لذلك جمع النبي صلّى الله عليه وسلَّم أصحابه ، وقام فيهم خطيباً ، وقال :" أما بعد ، فإني أريد أن أبعثُّ بعضكم إلى ملوك الأعاجم ، فلا تختلفوا عليّ ، كما اختلفت بني إسرائيل على عيسى بن مريم :
( سورة المائدة )
لقد كان الصحابة يتنافسون على الأعمال البطولية ، تصور لو أُلْغِيَ التجنيدُ الإجباري ، وصار اختيارياً ، فكم عددُ مَن يذهبون طواعيةً ؟! كان أصحاب رسول الله حينما يردُّهم النّبي لعدم وجود الرواحل يبكون ، وفي هؤلاء قال سبحانه :
(سورة التوبة)
يبكون لأنه ما أتيح لهم أن يضَحُّوا بأرواحهم في سبيل الله ، فَأَرِنِي لي مِنَ المسلمين بهذا المستوى، وخذ فتحاً يشمل العالم كلَّه ، وخذ نصراً مؤزراً ، الواحد منهم بألف ، والألف من غيرهم كأُف .. سأتلّو على مسامعكم آيتين ، الأولى قوله سبحانه :
( سورة النور : آية " 55 " )
وهو شيء تحقق في عهد سيدنا عمر ، قال : أين سراقة ؟ ائتوني به ، فجاء سراقة ، أين تاج كسرى ؟ ضعوه على رأسه ، ألبسوه سوارَيْه ، قال عمر : بخٍ بخٍ ، أّعرابيٌ من بني مدلج ، على رأسه تاج كسرى !! .. أمّا الآية الثانية فهي قوله عزوجل :
( سورة مريم )
وقعوا في خطيئتين وعلتين .. هما :
قال عليه الصلاة والسلام :" أما بعد فإني أريد أن أبعثُّ بعضكم إلى ملوك الأعاجم ، فلا تختلفوا عليّ ، كما اختلفت بنو إسرائيل على عيسى بن مريم ، فقال أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم : نحن يا رسول الله نؤدِّي عنك ما تريد ، فابعثنا حيث شئت ".
والله أيها الإخوة ، لسيدنا سعد موقف ، لو لم يكن له إلاّ هذا الموقف لكفاه لدخول الجنة ، فعَنْ أَنَسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَاوَرَ حِينَ بَلَغَهُ إِقْبَالُ أَبِي سُفْيَانَ قَالَ فَتَكَلَّمَ أَبُو بَكْرٍ فَأَعْرَضَ عَنْهُ ثُمَّ تَكَلَّمَ عُمَرُ فَأَعْرَضَ عَنْهُ فَقَامَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ فَقَالَ إِيَّانَا تُرِيدُ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ أَمَرْتَنَا أَنْ نُخِيضَهَا الْبَحْرَ لَأَخَضْنَاهَا وَلَوْ أَمَرْتَنَا أَنْ نَضْرِبَ أَكْبَادَهَا إِلَى بَرْكِ الْغِمَادِ لَفَعَلْنَا ...*
(رواه مسلم)
هذا النصر ، إذا نصرت رسول الله ، أو نصرت نوَّابه من بعده فقد نصرتَ الحق ، فكنْ أنت دعامةً للحق ، وجندياً من جنود الحق ، ولا تقل كما قالت بنو إسرائيل لموسى عليه السلام :
( سورة المائدة )
أما أصحاب رسول الله : نحن يا رسول الله ، نؤدِّي عنّك ما تريد فابعثنا حيث شئت .
انتدَب النّبيُّ عليه الصلاة و السلام ستّةً من أصحابه الكرام ، ليحملوا كتبه إلى ملوك العرب والعجم، وكان أحد هؤلاء الستة عبد الله بن حذافة السهمي ، فقد اخْتِيرَ لحمل رسالة النّبي صلّى الله عليه وسلّم إلى كِسرى ملك الفرس ، على حصان ، من المدينة إلى المدائن عاصمة الفرس .
ما المدة التي تستغرقها سفرُه ؟ أكثر من شهر ، وحده في الصحراء ، فيها وحوش ، وفيها قطَّاع طرُق ، وفيها أخطار مجهولة .
جهَّز عبد الله بن حذافة راحلته ، وودَّع صاحبته وولده ، ومضى إلى غايته ترفعه النجاد ، وتحطه الوهاد ، وحيداً ، فريداً ، ليس معه إلا الله .
أحيانًا العوام يقولون كلمات : الله معك ، إنها كلمة عظيمة ، ودلالتها بعيدة ، إذا كان الله معك فمن عليك ؟ وإذا كان الله يحرسك ويحفظك ، ويرعاك ، ويوفِّقك ، وينصرك ، ويؤيِّدك .. فلا بأسَ عليك .
***
وإذا العنايةُ لاحظتًك جفوّنها نم فالمخاوف كلُّهن أمان
***
إذا بلغت هذه المرتبة ، أن يكون الله معك ، وأن تشعر أنَّك في حمايته ، وفي رعايته ، وحفظه ، فأنت في مرضاته ، وأنت في خدمة عباده ، وأنت جنديٌ من جنود الحق ، فإذا بلغت هذه المرتبة ، وهو المؤنس في كلِّ وحشة فقد سمَوْتَ عاليًا .
لقد انطلق وحيداً فريداً ، ليس معه إلا الله ، حتى بلغ ديار فارس ، بين الكلمتين كم شهر ؟ كم ليلة ؟ المشي في الشمس ، والخوف في الليل ، وتوقُّع الأخطار ، وتوقُّع قطَّاع الطريق ، وتوقُّع الوحوش ، وتوقُّع المرض .
حتى بلغ ديار فارس ، فاستأذن بالدخول على ملكها ، وأخطرَ الحاشية بالرسالة التي يحملها له ، عند ذلك أمر كسرى بإيوانه فزُيِّن ، ودعَا عظماء فارس لحضور مجلسه فحضروا ، ثم أذِنَ لعبد الله بن حذافة بالدخول عليه .
هناك في قصور في العالم ، قصور في باريس ، في لندن ، في واشنطن ، أبهاء ، رخام ، زينة ، إضاءة ، لوحات ، مداخل ، ثم يدخل هذه القصور أعرابي عليه رداءه وعمامته ، إنها قضية ليست بالسهلة ، بل هي مِنَ الصعوبة بمكان.
دخل عبد الله بن حذافة على سيد فارس ، مشتملاً شملته الرقيقة ، مرتدياً عباءته الصفيقة ، عليه بساطة الأعراب ، لكنه كان عاليَ الهمَّة ، مشدود القامة ، تتأجج بين جوانحه عزَّةُ الإسلام ، وتتوقَّد في فؤاده كبرياءُ الإيمان .
المؤمن له هيبة ، ومَن هاب اللهَ هابه كلُّ شيء .
فما إن رآه كسرى مقبلاً ، حتى أومأ إلى أحدِ رجاله أن يأخذ الكتاب من يده ، فقال :
لا ، إنما أمرني رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن أدفعه إليك يداً بيد ، وأنا لا أخالف أمر رسول الله ، فقال كسرى لرجاله : اتركوه يدنو مني ، فدنا من كسرى حتى ناوله الكتاب بيده ، ثم دعا كسرى كاتباً عربياً مِن أهل الحيرة ، وأمَرَه أن يفضَّ الكتاب بين يديه ، وأن يقرأه عليه ، فإذا فيه :
بسم الله الرحمن الرحيم
من محمدٍ رسول الله ، إلى كسرى عظيم فارس ..
ماذا تفهمون من قوله " عظيم فارس" ، إنّه حكم شرعي ؟ فإذا كان لأحدٍ رتبة ، معينة ، وله لقب معيَّن ، فإذا خاطبته بهذا اللقب فلست آثماً ، يا ترى هل كسرى عظيمٌ في مقياس الإيمان ؟! وهل الذي يعبد النار عظيم ؟! والذي يقهر الناس عظيم ؟ لا والله ، ليس عظيماً ، لكن هذا لقب ، ومن الحكمة أن تخاطب الناس بألقابهم ، هذا له اسم ، هذا دكتور ، هذا أستاذ ، هذا مقدَّم ، فإذا خاطبت الناس بمراتبهم، فليس في الخطاب غضاضة ، والمؤمن لبق حصيف حكيم .
فقال عليه الصلاة والسلام في الرسالة :
بسم الله الرحمن الرحيم
من محمدٍ رسول الله ، إلى كسرى عظيم الفرس ، سلامٌ على من اتّبع الهدى ، ولم يقل له : سلامٌ عليك ، سلامٌ على من اتبع الهدى ، أي إن اتبعتَ الهدى فسلامٌ عليك ، وإن لم تتبع الهدى ، فالسلام ليس عليك ، على من اتبع الهدى ، أسلِم تسلَم ، فإن أبيت ، فإنما عليك إثمُ الأرِيسيِّين ، أي هؤلاء الذي يتبعونك ، إن لم تسلم ، فهم في رقبتك ، وعليك إثمهم ، فما إن سمع كسرى من هذه الرسالة هذا المقدار، حتى اشتعلت نار الغضب في صدره ، فاحمر وجهه ، وانتفخت أوداجه ، لأن الرسول عليه الصلاة والسلام ، بدأ بنفسه ، وبدأه بقوله : من محمدٍ رسول الله إلى كسرى ، فكان تفكير كسرى تفكيرًا شكليًّا ، ولم يقرأ المضمون ، ولم يهتمَّ له ، فغضِبَ للشكل .
فجلب الرسالة من يد كاتبه ، وجعل يمزِّقها دون أن يعلم ما فيها ، وهو يصيح : أيُكتبُ لي بهذا ، وهو عبدي ؟.
لأنه من أتباعه ، ولأن باذان عامله على اليمن ، تابع لكسرى ، والمناذرة وعاصمتهم الحيرة يتبعون كسرى ، فهذا الذي قال له :
من محمد رسول الله هو من عبيده ، هكذا يفهم كِسرى ، قال : أيكتب لي بهذا وهو عبدي ؟!!!
ثم أمر بعبد الله بن حذافة ، أن يُخًرَج من مجلسه ، فأُخرج .
والقصة لها تتمة ، لكن لما بلغ النبيَّ ذلك الخبرُ قال :" اللهم مزِّق ملكه "
وفي قصةٍ أخرى ، ثار عليه ابنه فقتله ، ومزِّق ملكه شرَّ ممزَّق ، ولقد أعجبني من كاتب معاصر لفتةٌ حيث قال : وأيُّ إنسانٍ يريد أن يعيد مجد ملوك فارس ، يمزِّق الله ملكه ، والذي كان في فارس ، وكان اسمه ملك الملوك ، ألم يمزِّق الله ملكه ؟ كل من يريد أن يعيد مجد فارس ، يمزِّق الله ملكه ، هذه دعوة النبي .
هكذا قال الملك الذي مزِّق مُلكُه : أُلقيت خارج بلادي كما تلقى الفأرة الميتة خارج المنزل .
خرج عبد الله بن حذافة من مجلس كسرى ، وهو لا يدري ماذا يفعل ، أيُقتَل ، أم يترك حراً طليقاً ، لكنه ما لبث أن قال : واللهِ ما أُبالي على أيَّةِ حالٍ أكون بعد أن أدّيتُ كتاب رسول الله .
الرسالة قد أوصلتها ، وحققت المهمة ، وليكن ما يكون ، إنني أحتسب هذا في سبيل الله .
وركب راحلته وانطلق ، ولما سكت عن كسرى الغضب ، أمر بأن يُدخل عليه عبد الله فلم يجدوه ، فالتمسوه ، فلم يقفوا له على أثر ، فطلبوه في الطريق إلى الجزيرة ، فوجدوه قد سبق ، فلما قدم عبد الله على النبي صلَّى الله عليه وسلَّم ، أخبره بما كان من أمر كسرى ، وتمزيقه الكتاب ، فما زاد عليه الصلاة والسلام ، على أن قال :" مزَّق الله ملكه " .
وقد مُزِّق ملكه ، وأيُّ ملكٍ يدعو النبي على ملكه سيمزّق ، والإنسان يتجنَّب دعوة الصالحين ، طبعاً دعوة الأنبياء ، إذا دعا نبيٍ على إنسان فقد هلك ، ودعوة الصالحين أيضاً مخيفة ، فإذا دعا عليك إنسان صالح أردت أن تؤذيه ، فأَعِدَّ لهذا العُدَّة ، لأنَّك تحارب الله ورسوله .
أما كسرى ، فالقضية سهلة ، هذا عبد من عبيدنا نأتي به مخفورا ً، محضراً ، أما كسرى فقد كتب إلى باذان نائبه على اليمن : أن ابعث إلى هذا الرجل ، الذي ظهر بالحجاز ، رجلين جَلْدين من عندك ، ومُرهما أن يأتياني به .
أحضره حتى نرى ما قصَّته ، انظروا إلى منتهى الجهل ، وما درى أنه رسول الله ..!!
فبعث باذان رجلين من خيرة رجاله إلى رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم ، وحمَّلهما رسالةً له ، يأمره فيها بأن ينصرف معهما إلى لقاء كِسرى ، دون إبطاء ، وطلب إلى الرجلين أن يقفا على خبر النبي صلَّى الله عليه وسلَّم ، وأن يستقصيا أمره ، وأن يأتياه بما يقفان عليه من معلومات .
فخرج الرجلان يُغِذَّان السير ، حتى بلغا الطائف ، فوجدا رجالاً من تجَّار قريش ، فسألاهم عن محمَّدٍ عليه الصلاة والسلام ، فقالوا : هو في يثرب ، ثم مضى التجَّار إلى مكة ، فرحين مستبشرين ، وجعلوا يهنِّئون قريشاً ، أنْ قَرّوا عيناً ، فإنّ كسرى تصدَّى لمحمَّد ، وكفاكم شرَّه .
الكفار دائماً يتفاءلون بأحلامٍ مضحكة ، فمنهم مَن يحلم بأن الله عزَّ وجلَّ أنه سينهي هذا الدين ، ويبيد أهله ، فالآن يقول لك : لن تقوم للإسلام قائمةٌ بعد اليوم ، وما علِم أنّ الإسلام شامخٌ كالطود ، ولن تقوم في المستقبل قائمةٌ لأعدائه ، وهذه هي الحقيقة .
قَرّوا عيناً فإن كسرى تصدَّى لمحمّدٍ ، وكفاكم شرَّه ، أما الرجلان ، فَيَمَّمَا وجهيهما شطر المدينة ، حتى إذا بلغاها لقيا النبي عليه الصلاة والسلام ، ودفعا إليه رسالة باذان ، وقالا له :
إن ملك الملوك كسرى كتب إلى ملكنا باذان ، أن يبعث إليك من يأتيه بك ، وقد أتيناك لتنطلق معنا إليه ، " شرِّف معنا " فإن أجبتنا ، كلَّمنا كسرى بما ينفعك ، ويكفُّ أذاه عنك ، وإن أبيت ، فهو مَن قد علمت سطوته وبطشه وقدرته على إهلاكك ، وإهلاك قومك ، " إذا قلت : لا ، فإن كسرى قادرٌ على أن يهلكك ، ويهلك قومك ..........
........ لم يغضب النبي ، بل تبسَّم عليه الصلاة والسلام ، وقال لهما :
ارجعا إلى رحالكما اليوم ، وائتيا غداً .
فلما غدوا على النبي صلَّى الله عليه وسلَّم في اليوم التالي ، قالا له : هل أعددتَ نفسك للمُضِيِّ معنا إلى لقاء كسرى ؟ فقال لهما النبي عليه الصلاة والسلام : لن تلقيا كسرى بعد اليوم ، فلقد قتله الله ، حيث سلَّط عليه ابنه شيرويه في ليلة كذا من شهر كذا وقتَله .
إنه خبرُ الوحي ، نقله ببرودة ، لن تلقياه بعد اليوم ، لقد قتله الله ، لأنه مزَّق الكتاب .
فحدَّقا في وجه النبي ، وبدت الدهشة على وجهيهما ، وقالا :
أتدري ما تقول !! أنكتب بذلك لباذان ؟
قال : نعم ، وقولا له : إن ديني سيبلغ ما وصل إليه ملك كسرى ، وإنَّك إن أسلمتَ ، أعطيتكَ ما تحت يديك ، وملَّكتكَ على قومك.
كان عليه الصلاة والسلام سياسيًّا محنَّكًا من أعظم السياسيّين ، بلِّغا الملك وقولا له : إنّ مُلكي سيصل إلى ملك كسرى ، وأنت إن أسلمتَ أقررناك على ملكك ، اختلف الأمر اختلافًا كلِّيًّا ، أين كلمتهم: " انطلِقْ معنا " ؟
خرج الرجلان من عند رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم ، وقدما على باذان ، وأخبراه الخبر ، فقال لهما :
لئن كان ما قال محمّدٌ حقاً فهو نبيّ .
لم يكن وقتها أقمار صناعية ، أو محطات بث مباشر ، أو محطات وكالات أنباء عالمية ، الخبر ينتقل خلال دقائق في العالم ، لم يكن لها وجود ، الخبر حتى ينتقل يحتاج لأشهر .
فلم يلبث أن قدم على باذان كتابٌ من شيرويه ، وفيه يقول " ابنه":
أما بعد فقد قتلت كسرى ، ولم أقتله إلا انتقاماً لقومنا ، فقد استحلَّ قتلَ أشرافهم ، وسبيَ نسائهم ، وانتهابَ أموالهم ، فإذا جاءك كتابي هذا فخذ لي الطاعة ممّن عندك.
فما إن قرأ باذان كتاب شيرويه ، حتى طرحه جانباً ، وأعلن دخوله في الإسلام ، وأسلم من كان معه من الفرس في بلاد اليمن .
( سورة الطارق )
( سورة الأعراف )
( سورة إبراهيم )
هذه قصة لقاء سيدنا عبد الله بن حذافة لكسرى ملك الفرس ، فما قصة لقائه لقيصر عظيم الروم ؟
هذه أصعب ..
لقد كان لقاؤه لقيصر عظيم الروم ، في خلافة عمر بن الخطّاب رضي الله عنه ، وكانت له معه قصَّة، من روائع القصص .
ففي السنة التاسعة عشرة للهجرة ، بعث عمر بن الخطاب جيشاً لحرب الروم ، فيهم عبد الله بن حذافة السهمي ، وكان قيصر عظيم الروم قد تناهت إليه أخبار جند المسلمين ، وما يتحلَّون به من صدق الإيمان، ورسوخ العقيدة ، واسترخاص النفس في سبيل الله ورسوله ، فأمَرَ رجاله إن ظفروا بأسيرٍ من أسرى المسلمين أن يبقوا عليه ، وأن يأتوه به حياً ، وشاء الله أن يقع عبد الله بن حذافة السهمي أسيراً في أيدي الروم ، فحملوه إلى مليكهم وقالوا :
إنَّ هذا من أصحاب محمد السابقين إلى دينه ، قد وقع أسيراً في أيدينا ، فأتيناك به .
نظر ملك الروم إلى عبد الله بن حذافة طويلاً ، ثم بادره قائلاً :إني أعرض عليك أمراً ، قال : وما هو ؟ قال : أعرض عليك أن تتنصَّر ، فإنْ فعلتَ خلَّيت سبيلك ، وأكرمت مثواك ، فقال الأسير في أنفةٍ وحزم : هيهات .. إن الموت لأحبُّ إليَّ ألف مرة ممّا تدعوني إليه .
قال قيصر : إني لأراك رجلاً شهماً ، فإن أجبتني إلى ما أعرضه عليك ، أشركتك في أمري ، وقاسمتك سلطاني .
فخلاصة قضية قيصر أنّ سمعةَ أصحاب رسول الله ملأت الآفاق ، أشخاص أشدَّاء ، أقوياء ، متعففون ، إيمانهم قوي ، الدنيا عندهم صغيرة، فلهم سمعة كبيرة ، وهو أراد أن يرى من هم هؤلاء ؟ فأخذَ يعرض عليه كلَّ إغراءٍ .
فتبسَّم الأسير المكبَّل بقيوده ، وقال : واللهِ لو أعطيتني جميع ما تملك ، وجميع ما ملكته العرب على أن أرجع عن دين محمدٍ طرفة عينٍ ما فعلت .
هذا هو الإيمان ، الآن من أجل أن يظل رئيس دائرة يبيع دينه ، ويترك الصلاة كلها ، لا أريد أن يعرفوا عني شيئًا ، إذا وضعوه رئيس دائرة مثلاً ، لأتفه المكاسب يتخلَّى عن دينه ، قال له : واللهِ لو أعطيتني جميع ما تملك ، وجميعَ ما ملكته العرب على أن أرجع عن دين محمدٍ طرفة عينٍ ما فعلت .
قال : إذًا أقتلك .
قال : أنت وما تريد .
هذا كلام ، إلقاؤه على الأسماع كلام ، أمّا عندما يهدَّد إنسانٌ بالقتل ، فلا يعرف هذا إلا من ذاقه .
ثم أمر به فصُلِب ، وقال لقنَّاصته بالرومية : ارموه قريباً من يديه ، وهو يعرض عليه التنصُّر فأبى .
قال : ارموه قريباً من رجليه ، وهو يعرض عليه التنصُّر فأبى .
عند ذلك أمرهم أن يكفّوا عنه ، وطلب إليهم أن ينزلوه عن خشبة الصلب ، ثم دعا بقدرٍ عظيمة ، فصُبَّ فيها الزيت ، ورُفعت عن النار حتى غلت ، ثم دعا بأسيرين من أسارى المسلمين ، فأمر بأحدهما أن يُلقى فيها فأُلقي ، فإذا لحمه يتفتت ، زيت مغلي ، أُلقي فيه رجل ، وإن عظامه لتبدو عارية بعد إلقاه ، ثم التفت إلى عبد الله ، ودعاه إلى النصرانية ، فكان أشدَّ إباءً من قبل .
أراه بعينه قِدْرًا عظيمة ، فيها زيتٌ مغلي ، وألقى أمامه أحد الأسرى المسلمين ، حتى بدت عظامه عارية ، فإذا طبخ أحدكم أكلة من اللحم على " طنجرة البخار " ونسيها قليلاً على النار ، تجد اللحم أصبح منفصلاً عن العظم كلاً على حدة ، هذا الذي حدث .
فلما يئس منه ، أمر به أن يُلقى في القدر التي أُلقي فيها صاحباه ، فلما ذُهِب به دمعت عيناه ، فقال رجال قيصر لملكهم : يا سيِّدي إنه قد بكى ، فظَنَّ أنه قد جزع ، فقال : ردّوه إلي .
فلما مثُل بين يديه ، عرض عليه النصرانية فأباها ، قال : ويحك فما الذي أبكاك إذًا ؟! ألم تكن خائفاً ؟ قال : واللهِ ما أبكاني إلا أني قلت في نفسي : تُلْقى الآن في هذه القدر ، فتذهب نفسك ، وقد كنت أشتهي أن يكون لي بعدد ما في جسدي من شعرٍ أنفُسٌ ، فتُلقى كلُّها في هذه القدر في سبيل الله .
يا ليت لي مليون نفس تلقى كلُّها في هذه القدر في سبيل الله .
فقال الطاغية : هل لك أن تقبِّل رأسي وأُخلِّي عنك ؟ فقال له عبد الله :
وهل تُخلّي عن جميع أُسارى المسلمين ؟ مساومة ، أنا أقبِّل رأسك بشرط ، أنْ تخلّيَ عن جميع أُسارى المسلمين .
فقال الطاغية : وعن جميع أسارى المسلمين أيضاً .
قال عبد الله : فقلت في نفسي : عدوٌ من أعداء الله ، أُقبِّل رأسه ، فيُخلّي عني وعن أُسارى المسلمين جميعاً ، لا ضيرَ في ذلك .
انظر إلى محبته لإخوانه ، من أجل إخواني الأسرى أقبِّل رأسه ، ويخلِّي عني وعنهم .
ثم دنا منه ، وقبَّل رأسه ، فأمر ملك الروم ، أن يجمعوا له أسارى المسلمين ، وأن يدفعوهم إليه ، فدُفِعوا له ، وانطلق بهم إلى المدينة .
قدم عبد الله بن حذافة على عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، وأخبره خبره ، فسُرَّ به الفاروق أعظم السرور ، ولما نظر إلى الأسرى قال : حقٌ على كل مسلمٍ أن يقبِّل رأس عبد الله بن حذافة ، وأنا أبدأ بذلك ، ثم قام وقبَّل رأسه .
عندما يضحِّي الإنسان من أجل إخوانه ، ويهمه أمرهم ، وتهمه حياتهم ، وتهمه سعادتهم ، وتهمه حريَّتهم ، فهذا إنسان مسلم حقاً ، فلما قال له : أتقبِّل رأسي وأخلِّيَ عنك ؟ فقال له : وعن جميع الأسرى ؟ قال : نعم ، أقبِّل رأسه وأخلِّي سبيل إخواني .
سيدنا عمر قام من مجلسه وقبَّل رأسه ، إكراماً له ، وتعظيماً لهذا الموقف المشرِّف .. فهؤلاء هم الصحابة .
لقي زعيم الفرس كسرى ، وزعيم الروم قيصر ، وهو أعرابيٌ ، نشأ في الصحراء ، وانتقل إلى هذه البلاد .
ويجب أن تعلموا أيها الإخوة ، أن الله سبحانه وتعالى ، لا يُضيع أجر من أحسن عملا ، اسمعوا هذه الكلمة وصدِّقوها :
واللهِ الذي لا إله إلا هو لزوال الكون أهْوَنُ على الله مِن أنْ يضيَّع عمل مؤمن ، بل عملك كلُّه محفوظ ، وتضحيتك ، وغض بصرك ، وإنفاق مالك ، وقيام الليل ، وصلاة الفجر ، ودعوتك إلى الله ، ونصحك لإخوانك ، وأمرك بالمعروف ، ونهيك عن المنكر ، وتحمُّلكَ المشاق ، وسهرك في سبيل الله ،
لُّه محفوظ :
( سورة محمد )
أبداً ، فإذا آمنت هذا الإيمان تجد نفسك منطلقاً إلى خدمة الخلق ، وإلى بذل الغالي والرخيص ، والنفس والنفيس ، فترى أن الأعمال الصالحة مغنمٌ كبيرٌ ، وترى أن إنفاق المال مغنم كبير ، فالذي يرى أن إنفاق المال مغرمٌ فهو لا يعرف الله ، والذي يرى أن الراحة مغنم ، وبذل الجهد مغرم ، فلا يعرف الله، إلى أن ترى أن عملك الصالح في سبيل الله ، وهو الذي يرقى بك ، وعندئذٍ يمكن أن تكون من المؤمنين .
أيها الإخوة الأكارم ... عودٌ على بدء ، الإنسان إذا قرأ سير الصالحين ، إذا قرأ سير أصحاب رسول الله رضوان الله عليهم أجمعين ، إذا قرأ عن ورعهم ، قرأ عن جهادهم ، قرأ عن تضحياتهم ، قرأ عن حبهم ، عن شوقهم إلى الله عزَّ وجل ، عن التزامهم ، فربنا واحد ، فليس لنا عذر إن لم نبذل ، والله موجود ، وثوابُه يفيض والله عزَّ وجل هو هو ، والأعمال الصالحة متاحة لكل إنسان ، في أي زمانٍ ، وفي أي مكان .
إذا جئت في أيِّ عصر ، فمِنَ الممكن أن تطلب العلم ، وأنْ تنفق مالك ، وأنْ تعلِّم ، وأنْ تلتزم التزامًا قويًّا ، فيجب أن نعلم علم اليقين ، أن أبواب الجنة مفتحةٌ في كل عصر ، وفرص البطولة متاحةٌ لكل مؤمن ، والله سبحانه وتعالى هو هو ، في أي زمانٍ وفي أي مكان ، لكن أعظم شيء أن يعملَ الإنسان عملاً خالصًا لله وحده .
والحمد لله رب العالمين
***(/)
الدرس 24\50 سيرة الصحابي : سيدنا سيرة الصحابي عبد الله بن سلام لفضيلة الأستاذ محمد راتب النابلسي.
التاريخ : الاثنين مساءً 22/03/1993
تفريغ : م المهندس عرفان نابلسي .
التدقيق اللغوي : الأستاذ غازي القدسي
التنقيح النهائي : المهندس غسان السراقبي .
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد الله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا ، وانفعنا بما علمتنا ، وزدنا علما ، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .
أيها الإخوة الأكارم ؛ مع بداية الدرس الرابع والعشرين من دروس سيرة صحابة رسول الله رضوان الله تعالى عليهم أجمعين ، وصحابي اليوم سيدنا عبد الله بن سلام ، ولهذا الصحابي قصة مؤثرة ، لكن قبل أن نمضي بالحديث عن تفاصيلها لا بد من مقدمة نوضح فيها جوانب هذه الشخصية الفذّة .
مما يطرح في العصور الحديثة أن الإنسان ابن بيئته ، ابن ثقافته ، ابن مورثاته ، ابن عاداته وتقاليده ، وهذا الطرح يصور الإنسان منفعلاً وليس فاعلاً ، فالإنسان مسلمٌ لأنه كان من أبوين مسلمين ، فلو وُلد من أبوين غير مسلمين لما كان مسلماً ، نشأ في بيت فيه علم وصلاح ، وأبوه ربَّاه هكذا ، ولو نشأ في بيت آخر لما كان كذلك هذا الطرح يمهد لإلغاء المسؤولية ، ويقرر أن الإنسان منفعل ، وهو ابن المعطيات الكبرى في حياته .
لذلك هذا الصحابي الجليل سوف يثبت لنا أن الإنسان أكبر من أي شيء حولنا ، أكبر من بيئته ، أكبر من محيطه ، أكبر من وراثته ، وألصق شيء في الإنسان دينه ، وهذا الصحابي كان يهودياً ، ليس مسلماً انتقل من دين إلى دين ، فكل إنسان يرى أنه مستحيل أن ينتقل من دين إلى دين لأنه هكذا نشأ ، لكنْ ليعلمْ أنّ أقرباءه ووراثته ومحيطه والعادات والتقاليد والضغط الاجتماعي ، هذا كله كلام لا قيمة له إطلاقاً في حقل الإيمان .
اسمه الحصين بن سلام ، واسمه له ضبطان ؛ سلاَم أو سلاّم ، وكان حبراً من أحبار اليهود ، أيْ أحد كبار رجال الدين اليهودي ، وكلكم يعلم أن الأحبار والرهبان يأكلون أموال الناس بالباطل ، ويصدون عن سبيل الله ، ويرفضون أي دين آخر لِمَا يتمتعون به ، ومن ميزات كبيرة ، ومن منزلة بين قومهم .
فكان هذا الرجل الحصين بن سلام حبراً من أحبار اليهود في يثرب (في المدينة) ، وكان أهل المدينة على اختلاف مللهم ونحلهم يجلُّونه ويعظِّمونه ، وهذا مصداق قول النبي عليه الصلاة والسلام ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ تَجِدُونَ النَّاسَ مَعَادِنَ خِيَارُهُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ خِيَارُهُمْ فِي الْإِسْلَامِ إِذَا فَقِهُوا وَتَجِدُونَ خَيْرَ النَّاسِ فِي هَذَا الشَّأْنِ أَشَدَّهُمْ لَهُ كَرَاهِيَةً وَتَجِدُونَ شَرَّ النَّاسِ ذَا الْوَجْهَيْنِ الَّذِي يَأْتِي هَؤُلَاءِ بِوَجْهٍ وَيَأْتِي هَؤُلَاءِ بِوَجْهٍ *
(متفق عليه)
الناسُ معادن ، ولدينا حلقات دينية كثيرة في البلد ، وفي كل حلقة أناس مستواهم الأخلاقي رفيع ، وأناس مستواهم الأخلاقي وضيع ، ومِن الخطأ أن تعمِّم ، الذهب ذهب في أي مكان ، وغير الذهب ليس ذهباً في أيِّ مكان ، هذا من أحبار اليهود ، ويبدو أنه يتمتع بأخلاق رفيعة ، هي التي حملته على أن يسلم ، فمن الممكن أن تعتقد ، وأنت مصيب في اعتقادك أنّ الإنسان الأخلاقي أخلاقياته لا بد أن تسوقه في النهاية إلى الإيمان ، إن رأيت إنسانًا أخلاقه عالية جداً فتفاءل له بالخير ، أخلاقه الرضية لا بد أن تقوده في وقت ما إلى أن يكون في صف المؤمنين ، هل عندكم برهان قرآني على هذه الفكرة ؟ قال تعالى :
(سورة الأعراف )
الصالح يتولاه الله ، فقد كان الحصين بن سلام معروفاً بين الناس بالتُّقَى والصلاح ، موصوفاً بالاستقامة والصدق ، وكان يحيا حياةً هادئةً وديعة ، ولكنها كانت في الوقت نفسه جادةً نافعة ، فقد قسم وقته أقساماً ثلاثة ؛ شطرًا في الكنيس للوعظ والعبادة ، وشطرًا في بستان له يتعهد نخله بالتشذيب والتأبير ، وشطرًا مع التوراة للتفقه في الدين ، هكذا وصفوه ، وكان كلما قرأ التوراة وقف طويلاً عند الأخبار التي تبشر بظهور نبي في مكة ، يتمم رسالات الأنبياء السابقين ، ويختمها .
الإيمان أيها الإخوة أنْ تأخذ كل ما في القرآن ، أما إذا اخترت ما يعجبك ، وأغفلت ما لا يعجبك فلست مؤمناً ، و ما الذي أهلك اليهود ؟ إنهم اختاروا من توراتهم ما يعجبهم ، والذي لم يعجبهم رفضوه ، فالآيات التي تتحدث عن مجيء نبي في العرب اسمه أحمد ، هذه الآيات أغفلوها ، وأنكروها ، وألغوها إلا ما جاء في بعض الأناجيل ، كما قال تعالى على لسان السيد المسيح عيسى بن مريم :
(سورة الصف )
إذاً المؤمن يأخذ كل ما في القرآن ، أما أن يختار فليس مؤمناً ، هذا له دين خاص ، يختار ما يعجبه من النصوص ليؤكد رأيه ، وأخطر فئة في المجتمع هم أصحاب الرأي ؛ دينهم رأيهم ، أما النصوص فيأخذون منها ما يعجبهم ، ويدعون ما لا يعجبهم ، إذاً هم لم يحتكموا إلى النص ، ولكن تحكَّموا به .
فكان هذا الصحابي الجليل يوم كان حبراً من أحبار اليهود كان يقرأ في التوراة ، ويصدق أن الله سبحانه وتعالى سيبعث نبياً في العرب يتمم الرسالات ، ويختمها ، فكان ينتظر ، فإذا كنت تعبد الله ، واللهُ سبحانه وتعالى أرسل لك رسولاً ، فينبغي أن تتبعه ، أما أن تصرّ على اتِّباع النبي السابق فأنت إذاً لا تعبد الله ، هذا معنى قول الله عز وجل :
(سورة آل عمران )
وقال تعالى :
(سورة آل عمران )
أنت مأمور ، جاءك الأمر باتباع سيدنا عيسى فاتبعته ، جاء أمر آخر باتباع سيدنا محمد، فإذا رفضت هذا الأمر فأنت لست عبداً لله ، بل أنت عبد لنزواتك ، لذلك قال الله عز وجل :
(سورة آل عمران)
إنك رفضت آخر كتاب ، إنسان قيادي يرسل أمرًا إلى موظف عنده ؛ أنْ كن في اليوم الفلاني في المكان الفلاني ، فأخذ هذا الأمر ونفّذه ، ثم جاء أمر آخر فقال له : أنا لا أنفِّذ هذا الأمر الثاني ، فهذا ليس موظفاً مخلصًا ، هذا ليس عبداً لله عز وجل ، فقد تمسك بأمر ورفض أمراً آخر .
سيدنا عبد الله بن سلام كان عبداً لله عز وجل ، نفذ أمر الله كله ، فكان كلما قرأ التوراة وقف طويلاً عند الأخبار التي تبشر بظهور نبي في مكة ، يتمم رسالات الأنبياء السابقين ، ويختمها ، وكان يستقصي أوصاف هذا النبي المرتقب وعلاماته ، ويهتز فرحاً ، لأنه سيهجر بلده الذي بُعِث فيه ، وسيتخذ من يثرب مَهْجراً له ومقاماً .
أنت عبد لله عز وجل أينما كنت ، فإذا أَمَرَكَ فعليك أنْ تنفذ أي أمر جديد ، وعليك أن تدع القديم ، وتأخذ الجديد .
وكان كلما قرأ هذه الأخبار ، أو مرّتْ بخاطره يتمنى على الله أن يفسح له في عمره حتى يشهد ظهور هذا النبي المرتقب ، ويسعد بلقائه ، ويكون أول المؤمنين به .
العجيب أيها الإخوة أن أهل الإيمان متقاربون ، فقد تلتقي بإنسان على مستوى عالٍ من الإيمان ، وببساطة تتعارفان ، وببساطة تأتلفان ، ويحب كل منكما الآخر ، وببساطة تتوافقان في الأفكار ، فما سر هذا ؟ الإيمان يصبغ الناسَ صبغةً واحدة ، فأنت تأنس بمن يشبهك ، تأنس بمن تتوافق معه في أفكاره وفي قيمه وفي منطلقاته .
وقد استجاب الله جل جلاله دعاء الحصين بن سلام ، فنسأ له في أجله ، ومدّ في حياته حتى بُعث نبي الهدى والرحمة ، وكُتِبَ له أن يحظى بلقائه وصحبته ، وأن يؤمن بالحق الذي أنزل عليه ، فلنترك الآن كما هي العادة لعبد الله بن سلام الكلام ليسوق لنا قصة إسلامه ، فهو لها أروى وعلى حسن عرضها أقدر .
قال الحصين بن سلام : لما سمعت بظهور رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذت أتحرى عن اسمه وعن نسبه وصفاته وزمانه ومكانه ، وبين ما هو مسطور عندنا في الكتب حتى استيقنت من نبوته ، معنى ذلك بحسب هذا النص أنّ هناك أوصافًا ثانوية كثيرة وردت في التوراة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : حتى استيقنت من نبوته ، لذلك فالعقل مهمته قبل النقل التحقُّقُ من صحة النقل ، ومهمته بعد النقل فهمُ النقل ، أما أن يحلَّ العقلُ محلَّ النقل فهذا انحراف خطير .
قال : إلى أن كان اليوم الذي خرج منه رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة قاصداً المدينة ، فلما بلغ يثرب ، ونزل بقباء أقبل رجل علينا ، وجعل ينادي بالناس معلماً قدومه ، وكنت ساعتئذ في رأس نخلة لي أعمل فيها ، وكانت عمتي خالدة بنت الحارث جالسةً تحت الشجرة ، فما إن سمعتُ الخبر حتى هتفتُ : الله أكبر الله أكبر ، وأنا على رأس النخلة ، فقالت لي عمتي حينما سمعت التكبير : خيّبك الله ، واللهِ لو كنت سمعتَ بموسى بن عمران قادماً ما فعلت شيئاً فوق ذلك .
أنت يهودي ، ما هذا التكبير ، فقلت لها : أيْ عمة ، إنه واللهِ أخو موسى بن عمران ، وعلى دينه ، وقد بُعث بما بُعث به ، الرسالات واحدة ، والمشكاة واحدة ، والنور واحد ، والمصدر واحد ، والهدف واحد ، قال تعالى :
(سورة البقرة )
هذا هو الإيمان ، فسكتت ، وقالت : أهو النبي الذي كنتم تخبروننا أنه يبعث مصدقاً لما قبله، ومتمماً لرسالات ربه ؟ فقلت : نعم ، قالت : فذلك إذاً ، ثم مضيت من توِّي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فرأيت الناس يزدحمون على بابه ، فزاحمتهم حتى صرت قريباً منه ، فكان أول ما سمعته وهو قول : أيها الناس أفشوا السلام ، سلم وأنت على الهاتف ، وفي الطريق ، فقد كان الرجلانِ من أصحاب النبي إذا فرقت بينهما نخلة فحين يلتقيان يقول أحدهما : السلام عليكم ، هذا شيء جميل جداً ، أفشوا السلام ، شيء جميل ، دخلت البيت : السلام عليكم ، عود أولادك الصغار ، روى لي أحد إخواننا الخطباء قصةَ فتاةٍ صغيرة ، عمرها أربع سنين ، وضعها في دار حضانة ، فمرة استيقظوا متأخرين ، فهيأ لها شطيرة لتأكلها في الطريق ، فقالت له : يا أبت قال عليه الصلاة والسلام : الأكل في الطريق دناءة .
فخجل أبوها منها ، الطفل إذا تعلم العلم فهذا شيء جميل جداً ، وهو في صحائف والديه، وشيء رائع جداً ، فعلِّمْ ابنك السلام حتى وهو على الهاتف ، وإذا دخل إلى البيت ، أو التقى معك، أو مع والدته ، وإن التقى بصديقه فليقلْ : السلام عليكم .
قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ : لَمَّا قَدِمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ انْجَفَلَ النَّاسُ قِبَلَهُ وَقِيلَ : قَدْ قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، قَدْ قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ ، قَدْ قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ ، ثَلَاثًا فَجِئْتُ فِي النَّاسِ لِأَنْظُرَ ، فَلَمَّا تَبَيَّنْتُ وَجْهَهُ عَرَفْتُ أَنَّ وَجْهَهُ لَيْسَ بِوَجْهِ كَذَّابٍ ، فَكَانَ أَوَّلُ شَيْءٍ سَمِعْتُهُ تَكَلَّمَ بِهِ أَنْ قَالَ : يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَفْشُوا السَّلَامَ وَأَطْعِمُوا الطَّعَامَ وَصِلُوا الْأَرْحَامَ وَصَلُّوا بِاللَّيْلِ وَالنَّاسُ نِيَامٌ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ بِسَلَامٍ *
(رواه الترمذي)
هذا أول حديث سمعه عبد الله بن سلام من رسول الله ، قال فجعلت أتفرس فيه و أتملى منه، فأيقنت أن وجهه ليس بوجه كذاب ، و من تكريم الله لك يا أخي أنه زودك بحاسة سادسة ، تشعر أن هذا صادق ، وتشعر أن ذاك كذاب ، مخادع .
رجل أحب أن يذهب إلى الحج ، ومعه مبلغ ضخم ، فأراد أن يودعه أمانة عند رجل صالح، فدخل إلى المسجد ، فرأى شخصًا صلاته فيها خشوع ، وتفرس فيه خيراً ، فقال له : أحببت أن أضع عندك بعض مالي ، فقال له : أنا صائم أيضاً ، فقال له : صيامك لم يعجبني.
قال : فجعلت أتفرس فيه ، وأتملى منه ، فأيقنت أن وجهه ليس بوجه كذاب ، فعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اتَّقُوا فِرَاسَةَ الْمُؤْمِنِ فَإِنَّهُ يَنْظُرُ بِنُورِ اللَّهِ ثُمَّ قَرَأَ ( إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ ) *
(رواه الترمذي)
ويقال : إن سيدنا عثمان ، وهو على المنبر دخل رجل بعد أن جلس فترة طويلة ، قال : أيدخل أحدكم وأثر الزنا بين عينيه ، فقالوا : أَوَحْيٌ بعد رسول الله قال : لا ، ولكنها فراسة صادقة .
ثم دنوت منه وشهدت أن لا إله إلا الله ، وأن محمداً رسول الله ، فالتفت النبي عليه الصلاة والسلام وقال : ما اسمك فقلت : الحصين بن سلام ، فقال عليه الصلاة والسلام : بل عبد الله بن سلام ، ومِن الناس مَن اسمه حرب ، وذاك اسمه عدوان ، آخر جعيفص ... فغيِّروا الأسماء ، إنْ كانت تعيب صاحبها ، فلا مانع ، إذا كنت معلمًا ، أو كنت مدير مؤسسة، أو عندك موظف اسمه يثير الضحك فغيِّر له اسمه ، ولا مانع من تغييره ، بل هو من السنة .
قال رسول الله : من أنت قال : أنا زيد الخيل ، فقال له : بل زيد الخير ، غيَّر له اسمه، فمن عادة النبي صلى الله عليه وسلم أنه يغيِّر أسماء أصحابه إن لم ترق له ، ومن السنة أيضاً أن تنادي أخاك بأحب الأسماء إليه ؛ محمد عربش ، فقل له : السيد محمد ؛ لا تقل : عربش ؛ قل له: محمد ، وهذا أجمل ، فنادِ إخوانك وأحبابك بأحب الأسماء إليهم ، هناك أسماء غير مقبولة ، فاختر له اسمه الأول أو الثاني ، مثلاً : "عدوان كامل" ، قل له : السيد كامل ، واترك (عدوان) ، وخذ الكنية ؛ اسمه سعيد سَرْكَنْهَا ، خذ سعيد فهو أجمل وأعذب ، واترك الباقي .
فالنبي كان ينادي أصحابه بأحب الأسماء إليهم ، وإذا كان في الاسم مشكلة غيَّره ، فقد يكون بين أطفال المدارس مَن له اسم يثير بعض السخرية ، فالمعلمون المؤمنون يغيِّرون هذا الاسم طوال العام الدراسي ، لكن في دفاتر التفقدات ، ويوم الامتحانات ، وفي الشهادة يكتب الاسم الحقيقي ، فأنت تريحه وتهدِّئه ، وسمعت أنّ من حق الإنسان في النظام المدني أن يغيِّر اسمه .
قال : ما اسمك قال : الحصين بن سلام قال له : بل عبد الله بن سلام ، قلت : نعم ، عبد الله بن سلام ، والذي بعثك بالحق ما أحبُّ أن لي اسماً آخر بعد اليوم ، المؤمن مطواع ، ثم انصرفت من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بيتي ، ودعوت زوجتي وأولادي إلى الإسلام فأسلموا جميعاً ، وأسلمتْ معهم عمتي خالدة ، وكانت شيخةً كبيرة ، ثم إني قلت لهم : اكتموا إسلامي وإسلامكم عن اليهود حتى آذن لكم ، فقد رسم خطة ، فقالوا : نعم ، ثم رجعت إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، وقلت له : يا رسول الله إن اليهود قوم بُهْتان وباطل ، فهو يعرفهم ، وإني أحب أن تدعو وجوههم إليك ، وأن تسترني عندك في حجرة من حجراتك ، ثم تسألهم عن منزلتي عندهم قبل أن يعلموا بإسلامي ، ثم تدعوهم إلى الإسلام ، أيضاً هو عاقل ، أن تدعو وجوههم إليك ، وأن تسترني عندك في حجرة من حجراتك ، ثم تسألهم عن منزلتي عندهم قبل أن يعلموا بإسلامي، ثم تدعوهم إلى الإسلام .
قال : فإنهم إنْ علموا أنني أسلمت عابوني ، ورموني بكل ناقصة ، وبهتوني ، يعني هو خابزهم وعاجنهم ، ويعرفهم ، فأدخلني النبي عليه الصلاة والسلام في بعض حجراته ، ثم دعاهم إليه ، وأخذ يحضُّهم على الإسلام ، ويحبب إليهم الإيمان ، ويذكرهم بما عرفوه في كتبهم من أمره ، فجعلوا يجادلونه بالباطل ، ويمارونه بالحق ، وأنا أسمع ، فلما يئس من إيمانهم قال لهم : ما منزلة الحصين بن سلام فيكم ؟ قالوا : الحصين سيدنا وابن سيدنا ، وحبرنا وابن حبرنا ، وعالمنا وابن عالمنا ، فقال عليه الصلاة السلام : أرأيتم إن أسلم ، أفتسلمون ؟ قالوا : حاشا لله ، ما كان له أن يسلم ، أعاذه الله من أن يسلم ، قال : فخرجت إليهم ، وقلت لهم : يا معشر اليهود اتقوا الله ، واقبلوا ما جاءكم به محمد ، فوالله إنكم لتعلمون أنه لرسول الله ، وتجدونه مكتوبًا عندكم في التوراة باسمه وصفته ، وإني أشهد إنه لرسول الله ، وقد آمنت به وصدقته ، وأنا أعرفه ، فبهتوا وقالوا : كذبت ، والله إنك لشرُّنا وابن شرنا ، وجاهلنا وابن جاهلنا ، ولم يتركوا عيباً إلا عابوني به ، ليسوا أهل إنصاف ، ومعظم الناس الآن كذلك ، ليس لديهم إنصاف ، ويظن أحدهم أنك على سجيته ، وعلى مذهبه، وعلى خطته في الحياة ، أكل المال الحرام ، والاختلاط، ويثني على ذكائك ، وفصاحتك ، وأنك حكيم ، وما شاء الله ، فلما امتنعتَ أن تصافح زوجته ، وامتنعتَ أن تأكل المال الحرام يقول عنكَ : هذا مجنون ، قبل قليل كان ذكياً حصيفاً ولبقاً ومهذباً وحكيماً ، فلما عرف أنك متمسك بدينك اتهمك بالجنون ، وهذه القصة تعاد دائماً .
فقالوا لابن سلام : كذبت والله ، إنك لشرنا وابن شرنا ، وجاهلنا وابن جاهلنا ، ولم يتركوا عيباً إلا عابوني به ، فقلت للنبي عليه الصلاة والسلام : ألم أقل لك يا رسول الله إن اليهود قوم بهتان وباطل ، وإنهم أهل غدر وفجور ، معنى هذا أنه يعرفهم ، و يعرف خبث نفوسهم .
وقد روى البخاري قصته العجيبة هذه عَنْ أَنَسٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ سَلَامٍ بَلَغَهُ مَقْدَمُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ فَأَتَاهُ يَسْأَلُهُ عَنْ أَشْيَاءَ فَقَالَ إِنِّي سَائِلُكَ عَنْ ثَلَاثٍ لَا يَعْلَمُهُنَّ إِلَّا نَبِيٌّ مَا أَوَّلُ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ وَمَا أَوَّلُ طَعَامٍ يَأْكُلُهُ أَهْلُ الْجَنَّةِ وَمَا بَالُ الْوَلَدِ يَنْزِعُ إِلَى أَبِيهِ أَوْ إِلَى أُمِّهِ قَالَ أَخْبَرَنِي بِهِ جِبْرِيلُ آنِفًا قَالَ ابْنُ سَلَامٍ ذَاكَ عَدُوُّ الْيَهُودِ مِنْ الْمَلَائِكَةِ قَالَ أَمَّا أَوَّلُ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ فَنَارٌ تَحْشُرُهُمْ مِنْ الْمَشْرِقِ إِلَى الْمَغْرِبِ وَأَمَّا أَوَّلُ طَعَامٍ يَأْكُلُهُ أَهْلُ الْجَنَّةِ فَزِيَادَةُ كَبِدِ الْحُوتِ وَأَمَّا الْوَلَدُ فَإِذَا سَبَقَ مَاءُ الرَّجُلِ مَاءَ الْمَرْأَةِ نَزَعَ الْوَلَدَ وَإِذَا سَبَقَ مَاءُ الْمَرْأَةِ مَاءَ الرَّجُلِ نَزَعَتْ الْوَلَدَ قَالَ أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ الْيَهُودَ قَوْمٌ بُهُتٌ فَاسْأَلْهُمْ عَنِّي قَبْلَ أَنْ يَعْلَمُوا بِإِسْلَامِي فَجَاءَتْ الْيَهُودُ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيُّ رَجُلٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ فِيكُمْ قَالُوا خَيْرُنَا وَابْنُ خَيْرِنَا وَأَفْضَلُنَا وَابْنُ أَفْضَلِنَا فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَسْلَمَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ قَالُوا أَعَاذَهُ اللَّهُ مِنْ ذَلِكَ فَأَعَادَ عَلَيْهِمْ فَقَالُوا مِثْلَ ذَلِكَ فَخَرَجَ إِلَيْهِمْ عَبْدُ اللَّهِ فَقَالَ أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ قَالُوا شَرُّنَا وَابْنُ شَرِّنَا وَتَنَقَّصُوهُ قَالَ هَذَا كُنْتُ أَخَافُ يَا رَسُولَ اللَّهِ*
(رواه البخاري)
أقبل عبد الله بن سلام على الإسلام إقبال الظامئ الذي شاقه المورد ، وأولع بالقرآن ، فكان لسانه لا يفتأ رطباً بآياته البينات ، وتعلق بالنبي صلى الله عليه وسلم حتى غدا ألزم له من ظله ، ونذر نفسه للعمل للجنة حتى بشَّره بها النبي صلى الله عليه وسلم بشارة ذاعت بين الصحابة وشاعت .
وليس من السهل أن تنتقل من دين إلى دين ، لكن الإسلام أقوى من كل شيء ، والإيمان أقوى من كل شيء ، والإنسان ليس منفعلاً ، بل فاعلاً ، ليس ابن بيئته ، ولا ابن وراثته ، ليس ابن أبويه ، ولا ابن محيطه ، ولا ابن معطياته ، ولكنَّه ابن نفسه ، وابن قناعته ، قال تعالى :
(سورة لقمان )
(سورة المائدة )
وكان لهذه البشارة قصة رواها قيس بن عبادة وغيره قال الراوي : كنت جالساً في حلقة من حلقات العلم في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم في المدينة ، وبالمناسبة يقولون : محلّق ، فما معنى محلق ؟ صوابها الحلْقة ، ويقال : الحلَقة ، قال لي أحدهم : هذا المحلق الجنوبي خط ممتاز ، قلت له : إنْ حلقت في الجو فأنت المحلق ، قال : المحلق الجنوبي ، هذا غلط ، لأنّه حلّق يحلِّق يعني هذا أنه طريق جوي ، لكن الصواب المتحلق الجنوبي ، فهناك دقة في اللغة .
وكان في الحلقة شيخ تأنس به النفس ، ويستروح به القلب ، فجعل يحدث الناس حديثاً حلواً مؤثراً ، فلما قام قال القوم : من سرَّه أن ينظر إلى رجل من أهل الجنة فلينظر إلى هذا، قلت من هذا ؟ فقالوا : عبد الله بن سلام فقلت في نفسي : والله لأتبعنه ، فتبعته ، فانطلق حتى كاد أن يخرج من المدينة ، ثم دخل منزله ، فاستأذنت عليه فأذن لي ، قال : ما حاجتك يا بن أخي ؟ قلت: سمعت القوم يقولون عنك لما خرجت من المسجد : من سره أن ينظر إلى رجل من أهل الجنة فلينظر إلى هذا ، فمضيت في إثرك لأقف على خبرك ، ولأعلم كيف عرف الناس أنك من أهل الجنة ؟
قلت هاته ، وجزاك الله خيراً ، قال : بينما أنا نائم ذات ليلة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاني رجل فقال لي : قم ، فقمت ، فأخذ بيدي فإذا أنا بطريق عن شمالي ، فهممت أن أسلك فيها - الطريق يُؤنّث ويُذكّر ، فلك أن تقول : هذا الطريق ، وهذه الطريق ، وهذا الحال ، وهذه الحال - فإذا أنا بطريق عن شمالي فهممتُ أن أسلك فيها ، فقال لي : دعها فإنها ليس لك ، فنظرت فإذا أنا بطريق واضحة عن يميني ، فقال لي : اسلك هذه ، المؤمن مسدد ، والدليل القرآني قال :
(سورة الكهف )
الهدى الأول : الهدى العام ، هدى الحواس ، والقدرات التي أودعها الله بالإنسان .
الهدى الثاني : هدى الوحي .
الهدى الثالث : هدى التوفيق .
الهدى الرابع : الدخول إلى الجنة .
(سورة محمد )
عَنْ قَيْسِ ابْنِ عُبَادٍ قَالَ كُنْتُ جَالِسًا فِي مَسْجِدِ الْمَدِينَةِ فَدَخَلَ رَجُلٌ عَلَى وَجْهِهِ أَثَرُ الْخُشُوعِ فَقَالُوا هَذَا رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ تَجَوَّزَ فِيهِمَا ثُمَّ خَرَجَ وَتَبِعْتُهُ فَقُلْتُ إِنَّكَ حِينَ دَخَلْتَ الْمَسْجِدَ قَالُوا هَذَا رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ قَالَ وَاللَّهِ مَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يَقُولَ مَا لَا يَعْلَمُ وَسَأُحَدِّثُكَ لِمَ ذَاكَ رَأَيْتُ رُؤْيَا عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَصَصْتُهَا عَلَيْهِ وَرَأَيْتُ كَأَنِّي فِي رَوْضَةٍ ذَكَرَ مِنْ سَعَتِهَا وَخُضْرَتِهَا وَسْطَهَا عَمُودٌ مِنْ حَدِيدٍ أَسْفَلُهُ فِي الْأَرْضِ وَأَعْلَاهُ فِي السَّمَاءِ فِي أَعْلَاهُ عُرْوَةٌ فَقِيلَ لِي ارْقَ قُلْتُ لَا أَسْتَطِيعُ فَأَتَانِي مِنْصَفٌ فَرَفَعَ ثِيَابِي مِنْ خَلْفِي فَرَقِيتُ حَتَّى كُنْتُ فِي أَعْلَاهَا فَأَخَذْتُ بِالْعُرْوَةِ فَقِيلَ لَهُ اسْتَمْسِكْ فَاسْتَيْقَظْتُ وَإِنَّهَا لَفِي يَدِي فَقَصَصْتُهَا عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ تِلْكَ الرَّوْضَةُ الْإِسْلَامُ وَذَلِكَ الْعَمُودُ عَمُودُ الْإِسْلَامِ وَتِلْكَ الْعُرْوَةُ عُرْوَةُ الْوُثْقَى فَأَنْتَ عَلَى الْإِسْلَامِ حَتَّى تَمُوتَ وَذَاكَ الرَّجُلُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ *
(متفق عليه)
قال : اسلكها ، فسلكتها ، حتى أتيت روضة غناء واسعة الأرجاء ، كثيرة الخضرة ، رائعة النضرة ، وفي وسطها عمود من حديد ، أصله في الأرض ، ونهايته في السماء ، وفي أعلاه حلقة من ذهب، فقال لي : ارقَ عليَّ ، قلت : لا أستطيع ، فجاءني وصيف فرفعني ، فرقيت حتى صرت في أعلى العمود ، وأخذت بالحلقة بيدي كلتيهما ، وبقيت متعلقًا بها حتى أصبحت ، فلما كانت الغداة أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقصصت عليه رؤياي .
إنّ الإنسان إذا اقترب من الله سبحانه وتعالى قرباً شديداً يريه رؤيا مثل فلق الصبح ، وأعرف رجلاً دعا ربه دعاءً من كل قلبه ، وبإخلاص شديد ، وحضور قلب ، أن يرزقه زوجة صالحة ، فأقسم بالله أنه رأى في المنام أن اذهبْ إلى المكان الفلاني ، والشارع الفلاني، والحارة الفلانية ، والبناء الفلاني ، والطابق الفلاني ، والبيت الفلاني ، في المنام ، فدل أمه على هذا البيت، فذهبت وخطبت له فتاة صالحةً هي الآن زوجته .
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِي اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ رُؤْيَا الْمُؤْمِنِ جُزْءٌ مِنْ سِتَّةٍ وَأَرْبَعِينَ جُزْءًا مِنَ النُّبُوَّةِ *
(متفق عليه)
وبقيت متعلقًا بها حتى أصبحت ، فلما كانت الغداة أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقصصت عليه رؤياي فقال : أما الطريق التي رأيتها عن شمالك فهي طريق أصحاب الشمال ، أهل النار ، وأما الطريق التي رأيتها عن يمينك فهي طريق أصحاب اليمين ، من أهل الجنة ، وأما الروضة التي شاقتك بخضرتها ونضرتها فهي الإسلام ، وأما العمود الذي في وسطها فهو عمود الدين ، وأما الحلقة التي في آخره فهي العروة الوثقى ، ولا تزال مستمسكًا بها حتى تموت قال تعالى :
(سورة البقرة )
موضوع الإيمان أكبر بكثير من أن يهتز ، ترى في بعض المركبات التي لها مقطورة وقاطرة عروةً ، وهناك معامل متخصصة في صنعها ، لأنها تجر ثلاثون طنًا ، من سبائك معينةئ ، ومن خلائط معينة موصولة بـ (شاسيه) السيارة ، ولو أنها تفلتت لحدثت كارثة كبيرة جداً ، فهي عروة متينة حقًّا ، قال تعالى :
(سورة البقرة )
المؤمن ارتباطه بالدين ارتباط مصيري ، ولا شيء في الأرض يزعزعه ، ولا شيء يثنيه عن خط سيره ، والنبي عليه الصلاة والسلام قال : والله يا عمّ لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في شمالي على أن أترك هذا الأمر ما تركته حتى يظهره الله أو أهلك دونه.
فهذه القصة تروي كيف كان هذا الصحابي الجليل ؟ كان يهودياً ، وكان حبراً من أحبار اليهود ، وكيف أن انتقال الإنسان من دين إلى دين شيء صعب جداً ، وسوف يلاقي عِداءً وحقداً ، وربما قتالاً ، ومع ذلك فإيمانه كان أكبر ، والهدى الذي عرفه كان أقوى من كل معطيات البيئة ، فهذا الذي يزعم أن بيئته صعبة ، وهو ناشئ في بيئة معينة ، وظروفه صعبة وقاسية ، وأهله فيهم شدّة وغلظة ، هذا الكلام مرفوض تماماً ، والإنسان إذا عرف الله عز وجل حقًّا يهون أمام هذه المعرفة كلُّ شيء ، وأمام طاعة الله لا يعبأ بشيء ، وإليكم هذا الدليل ، قال تعالى :
(سورة طه )
كانوا موعودين ، وكانوا بمناصب رفيعة جداً ، قال تعالى :
(سورة الأعراف )
وعندما آمنوا قالوا له :
(سورة طه )
فهذا الصحابي الجليل حجة على كل من يزعم أن بيئته صعبة ، ويقول : معطياتي صعبة ، ونشأت في بيئة معينة ، وأنا على دين كذا ، فهذا مرفوض .
وأنا أعرف رجلاً ترك طريق الدين وانحرف ، لأن مصلحته فيها معصية ، فآثر مهنته ومصلحته على دينه ، ولو أنه غيرها لرزقه الله من فوقه ومن تحت رجليه ، ولكنَّه ما عرف الله عز وجل في حياته فهوى .
الحمد لله رب العالمين(/)
الدرس 49/50 ، سيرة الصحابي : عبد الله بن عباس ، لفضيلة الأستاذ محمد راتب النابلسي .
تفريغ : الأستاذ هشام القدسي .
التدقيق اللغوي : الأستاذ غازي القدسي .
التنقيح النهائي : المهندس غسان السراقبي .
بِسْمِ اللهِ الرَّحمَنِ الرَّحِيمِ
مع الدرس التاسع والأربعين من دروس سير صحابة رسول الله رضوان الله تعالى عليهم أجمعين ، وصحابي اليوم علم كبير من أعلام الصحابة إنه عبد الله بن عباس رضي الله عنه وأرضاه .
هذا الصحابي الجليل مَلَكَ المجدَ من كل أطرافه ، فقد اجتمع له مجد الصحبة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ومجد القرابة ، فهو ابن عم النبي صلى الله عليه وسلم ، ومجد العلم ، فهو حبر هذه الأمة ، وبحر علمها الزاخر ، ومجد التُّقى ، فقد كان صوَّاماً بالنهار ، قواماً بالليل ، مستغفراً بالأسحار ، بكاءً من خشية الله ، حتى خدَّد الدمع خديه .. صار على خديه خدود من شدة بكائه ، وبكاءُ الرحمة أعلى أنواع البكاء ، والقلب القاسي أبعد القلوب عن البكاء ، ومن لم يبكِ ، أو لم يتباكَ فعنده خلل خطير ، وعلامة إيمان المؤمنين :
(سورة الأنفال)
علامة الإيمان أن جِلْدَ المؤمن يقشعر من خشية الله ، قال تعالى :
(سورة الزمر ، الآية 23)
أمَّا الذي لا يبكي ، و لا يدعو ، و لا يلجأ ، ولا يمرِّغ جبهته في أعتاب الله عز وجل فقد اختل إيمانه .
الإيمان يشمل غذاء العقل وهو العلم ، وغذاء القلب ، وهو الذكر ، أمّا غذاء الجسد فهو الطعام والشراب .
إنه عبد الله بن عباس ، ربَّاني هذه الأمة ، أعلمُها بكتاب الله ، وأفقهُها بتأويله ، وأقدرها على النفوذ إلى أغواره ، وإدراك مراميه وأسراره .
يكفيه شرفاً ما قاله فيه عليه الصلاة والسلام ، فَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ الْخَلَاءَ فَوَضَعْتُ لَهُ وَضُوءًا قَالَ مَنْ وَضَعَ هَذَا فَأُخْبِرَ فَقَالَ اللَّهُمَّ فَقِّهْهُ فِي الدِّينِ *
(متفق عليه)
وفي حديث آخر عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ ضَمَّنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ اللَّهُمَّ عَلِّمْهُ الْكِتَابَ *
(متفق عليه)
وفي رواية عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ ضَمَّنِي النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى صَدْرِهِ وَقَالَ اللَّهُمَّ عَلِّمْهُ الْحِكْمَةَ *
(متفق عليه)
وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَضَعَ يَدَهُ عَلَى كَتِفِي أَوْ عَلَى مَنْكِبِي ثُمَّ قَالَ اللَّهُمَّ فَقِّهْهُ فِي الدِّينِ وَعَلِّمْهُ التَّأْوِيلَ *
(رواه أحمد)
معنى التأويل ، أي إدراكُ كلام الله عز وجل ، وإدراكُ معانيه الدقيقة ، ومراميه البعيدة، وإدراك أعماقه ، وهذه نعمة كبرى من نعم الله عز وجل .
وهذا النص وصف اللهُ به سيدنا يوسف عليه السلام فقال :
[سورة يوسف]
فأن تفهم النص فهماً عميقاً ، فهماً دقيقاً ، وتفهم مراميه البعيدة ، وتفهم أبعاده كلها ، هذه نعمة من نعم الله عز وجل ، قال تعالى :
[سورة الأنبياء]
هذا يعبّر عنه العلماء باليقين الإشراقي ، وصفه النبي عليه الصلاة والسلام بل وصف سببه، قال : مَنْ عَمِلَ بِمَا عَلِمَ أَوْرَثَهُ اللَّهُ تَعَالَى عِلْمَ مَا لَمْ يَعْمَلْ *
(رواه أبو نعيم عن أنس)
هذا هو اليقين الإشراقي ، لكن اليقين الإشراقي يجب أن يكون منضبطاً بالكتاب والسنة .
الشيء الغريب أن هذا الصحابي الجيل لما توفى الله النبي عليه الصلاة والسلام ما كانت سنه تزيد عن ثلاثة عشر عاماً ، فيا أيها الصغار أين أنتم ؟.
صحابي جليل ، حبر هذه الأمة ، عَلَم من أعلامها ، أعلمُها بكتاب الله ، حينما توفي النبي عليه الصلاة والسلام ما كانت سنه تزيد عن ثلاث عشرة سنة فقط ، ومع ذلك فقد حفظ عن النبي صلى الله عليه وسلم ألفًا وستمائة وستين حديثًا ، أثبتها البخاري ومسلم .
أثبت البخاريُّ ومسلمٌ لعبد لله بن عباس ألفاً وستمائة وستين حديثاً صحيحاً ، رواها ابن عباس عن رسول الله ، وقد سمعها منه شفاهاً ، وكانت سنه لا تزيد عن ثلاث عشرة سنة .
كان عظيماً .. والصغار المتعلِّمون عظماء ، والمتعلمون عظماء ..
لما وضعته أمه حملته إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فحنكه بريقه الشريف ، فكان أول ما دخل جوفه ريقُ رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودخلت معه التقوى والحكمة :
[سورة البقرة]
ما إن حُلت تمائمه ـ يعني فكت أربطته ـ حتى لازم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ملازمة العين لأختها ، فكان يُعدُّ له ماء الوضوء إذا همَّ أن يتوضأ ، ويصلي خلف رسول الله إذا وقف للصلاة ، ويكون رديفه على راحلته إذا عزم على السفر ، حتى غدا كظله ، يسير معه أنَّى سار ، ويدور معه أنى دار ، ومع ذلك كان هذا الصحابي الفتى الصغير يحمل بين جنبيه قلباً واعياً ، وذهناً صافياً ، وحافظة دونها كل آلات التسجيل ، ذاكرة رائعة قوية جداً .
قال مرةً عن نفسه : همَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم للوضوء ذات مرة ، فما أسرع أن أعددتُ له الماء ، فَسُرَّ بما صنعت ، ولما همَّ بالصلاة أشار إليّ أن أقف بإزائه ، فوقفت خلفه ، فلما انتهت الصلاة مال عليَّ ، وقال : ما منعك أن تكون بإزائي يا عبد الله ؟ لم تخلفت خطوة ؟
قلت : يا رسول الله ، أنت أجلُّ في عيني ، وأعزّ من أن أوازيك في الصلاة .
ما هذا الأدب ؟ .. الآن ترى معلمًا عمره خمسون سنة ، وتلميذه الصغير يمشي أمامه بمتر أو بنصف متر .
يقولون ؛ مرةً أحد رؤساء الجمهورية في فرنسا (ديغول) كان يمشي وإلى جانبه رئيس الوزارة ، فقال له : خطوة إلى الوراء يا سيد ، ليعرف الناس أن في هذا البلد رجل واحد .
رفع النبي عليه الصلاة والسلام يده إلى السماء وقال : اللَّهُمَّ عَلِّمْهُ الْحِكْمَةَ *
(متفق عليه)
فهل دعاء النبي قليل ؟ .. نبي هذه الأمة ، أقرب الخلق إلى الله عز وجل يدعو لإنسان اللَّهُمَّ فَقِّهْهُ فِي الدِّينِ وَعَلِّمْهُ التَّأْوِيلَ *
(رواه أحمد)
إنّ هذا شرف عظيم .
لقد استجاب الله عز وجل دعوة النبي عليه الصلاة والسلام ، فآتى الغلام الهاشمي الحكمة ، ففاق بها أساطين الحكماء .
استمعوا أيها الإخوة إلى موقف من مواقف هذا الصحابي الجليل الفتى الصغير ؛ لما اعتزل بعض أصحاب عليٍّ وخذلوه ، في نزاعه مع معاوية رضي الله عنهما :
فعن عبد الله بن عباس قال : " لما اعتزلت الحرورية - وهم الخوارج ، وكان من أشد الناس عبادة - فكانوا في وٍاد على حدتهم ، قلت لعليٍّ : يا أمير المؤمنين أبرد عن الصلاة لعلي آتي هؤلاء القوم فأكلمهم ؟ فأتيتهم ولبست أحسن ما يكون من الحلل فقالوا : مرحبا بك يا ابن عباس، فما هذه الحلة ؟ قال : ما تعيبون عليَّ ... لقد رأيت علَى رسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن الحلل ، ونزل :
(سورة الأعراف ، الآية 32)
قالوا : فما جاء بك ؟ قلت : أخبروني ما تنقمون على ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وختَنِه ، وأول من آمن به ، وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم معه ؟ قالوا : ننقم عليه ثلاثا : قلت ما هن ؟ قالوا : أولُّهن أنه حكم الرجال في دين الله ، وقد قال الله تعالى :
(سورة الأنعام الآية 57)
قلت : وماذا ؟ قالوا : وقاتل ولم يَسْبِ ، ولم يغنَم ، لئن كانوا كفارا لقد حَلَّتْ له أموالهم ، ولئن كانوا مؤمنين لقد حرمت عليه دمائهم ، قلت : وماذا ؟ قالوا : ومحا اسمه من أمير المؤمنين ، فإن لم يكن أمير المؤمنين فهو أمير الكافرين .
قلت : أرأيتم إن قرأت عليكم من كتاب الله المحكم ، وحدثتكم من سنة نبيه صلى الله عليه وسلم ما لا تشكون أترجعون ؟ قالوا : نعم ، قلت : أما قولكم أنه حكَّم الرجال في دين الله ، فإنَّ الله تعالى يقول :
(سورة المائدة الآية 95)
وقال في المرأة وزوجها :
(سورة النساء ، الآية 35)
أنشدكم الله أفحكمُ الرجال في حقن دمائهم وأنفسهم وصلاح ذات بينهم أحقُّ أم في أرنب فيها ربع درهم ؟ قالوا : اللهم في حقن دمائهم وصلاح ذات بينهم ، قال : أخرجت من هذه ؟ قالوا : اللهم نعم ، وأما قولكم : إنه قاتل ولم يَسْبِ ولم يغنم ، أتَسْبون أمَّكم ، أم تستحلُّون منها ما تستحلُّون من غيرها ؟ فقد كفرتم وخرجتم من الإسلام ، إن الله تعالى يقول :
(سورة الأحزاب الآية 6)
وأنتم تترددون بين ضلالتين فاختاروا أيتهما شئتم ، أخرجت من هذه ؟ قالوا : اللهم نعم ، وأما قولكم محا اسمه من أمير المؤمنين ، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا قريشا يوم الحديبية على أن يكتب بينه وبينهم كتابا فقال: اكتب: هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله فقالوا : والله لو كنا نعلم أنك رسول الله ما صددناك عن البيت ولا قاتلناك ، ولكن اكتب محمد بن عبد الله فقال : والله إني لرسول الله وإن كذبتموني ، اكتب يا علي محمد بن عبد الله ورسول الله كان أفضل من علي ، أخرجت من هذه ؟ قالوا : اللهم نعم ، فرجع منهم عشرون ألفا ، وبقي منهم أربعة آلاف فقتلوا .
وكان من ثمرة هذا اللقاء وما أظهره به عبد الله بن عباس من حكمة بالغة وحجة دامغة أنْ عاد منهم عشرون ألفاً إلى صفوف الإمام علي .
إذًا ليس ثمة أقوى من الحجَّة ، أحياناً تسمع قصصًا لا تنتهي ، هذه القصص كلها تنقضها آية واحدة ، إنّ فلانًا قرأ في الفنجان ، وفلانًا يعلم الغيب ، وفلانًا طمأنوه ، والله عز وجل قال :
[سورة الأنعام]
النبي عليه الصلاة والسلام على عظم شأنه وعلو قدره لا يعلم الغيب .
فلان ينفعك إذا نظر إليك ، بنظرة يتجلى الله عليك ، فلان إذا نظر إليك نظرة فتح الله بها عليك ، هذا كله ينقضه قول الله تبارك وتعالى :
[سورة يونس]
هذا مقام النبي فكيف بِمَن هو دون النبي ؟ .. فما مِن شيءٍ أروع من التوحيد ، وأروع من الحجة القوية ، والمؤمن كأنه في قلعة ، بالأدلة التي يملكها ، والحجج التي آتاه الله إياها، والكتاب الذي نوّر الله قلبه به ، والسنّة التي سالت مع دمائه ، هذا كله يجعله في حصن حصين من كل خرافة ، من كل دجل من كل تزوير ، من كل مبالغة ، لأنّ أخطر شيء في الدين المبالغات .
يعني هناك أخ لا يُنجب أولادًا ، إنه عقيم ، التقى مع رجل من أهل العلم ، ولكن من غير المنضبطين بالكتاب والسنة ، قال له : كُلْ هذه التفاحة ، وسوف تنجب إن شاء الله ! .. والذي قّدم له التفاحة عقيم !. إذا كنت أنت لا تملك لنفسك أن تنجب ولداً ، أفتملك هذا لغيرك؟.
قال الله عز وجل :
[سورة الشورى]
والله أيها الإخوة ، أتمنى وأرجو من كل واحد أن يعمل جرد حساب لتصوراته ، ولمعلوماته الدينية ، هناك أشياء غير صحيحة ، هناك عقائد فاسدة عقائد زائغة ، كل شيء تعتقده يجب أن يكون لك عليه دليل من كتاب الله وسنة رسوله ، وإلا كنتَ ضحية أفكارك الزائغة .
أريد أن أقول لكم كلمة : إنّه ما مِن عقيدة تعتقدها إلا وتظهر في سلوكك ، ولو أنه جدلاً أو فرضاً اعتقدت شيئاً ولم يظهر في السلوك فعندئذ هذه العقيدة لا قيمة لها ، وهي لا تقدِّم ولا تؤخِّر .. ولكنّ هذه العقيدة التي تعتقدها لا بد أن تظهر في سلوكك ، إذًا فانتبه .
لو أنّ إنسانًا توهَّم أن النبي عليه الصلاة والسلام ، يأتي لأهل الكبائر من أمته فيشفع لهم، هكذا توهّم ، فهذه العقيدة مؤداها خطير ، فهذا الإنسان قد يتساهل ، وينتقل من الصغائر إلى أكبر منها ، فإذا شارف على الكبائر قال : شَفَاعَتِي لِأَهْلِ الْكَبَائِرِ مِنْ أُمَّتِي *
[أخرجه الترمذي وأبو داود وأحمد]
فهو يردِّد هذا الحديث ، وقد خدعتهُ نفسُه الأمّارة بالسوء ، وهذا الاعتقاد يوقعه في الكبائر .
يوجد فهم سقيم جداً ، لقوله تعالى :
[سورة الفرقان]
فكلما كانت السيئة كبيرة بُدِّلت بحسنة كبيرة ، فهذا الفهم خطير جداً ، يدفع الإنسان إلى أن يرتكب أكبر الكبائر متوهِّمًا أنّ الله يبدلها له أكبرَ الحسنات ، ليس هذا هو المعنى إطلاقاً ، المعنى أن المؤمن إذا تعرف إلى الله ، وأشرق في قلبه نور الإيمان ، وتجلّى اللهُ على قلبه ، عندئذ الصفات السيئة التي كان متمثلاً بها تنقلب إلى صفات حسنة ، لقد كان بخيلاً فصار كريماً ، كان جبانًا فصار شجاعاً ، كان طائشاً فصار متزيناً ، كان ملحداً فصار منصفًا ، كان قاسيًا القلب فصار رقيق القلب .
هذا معنى الآية ، ليس معنى الآية أنه كلما ارتكبت سيئة كبيرة تنقلب إلى حسنة كبيرة ، هذا معنى خطير جداً ، وفهمٌ سقيم .
فنحن نرجو الله تعالى ألاّ يتسرب إلى عقولنا عقائد زائغة ، قد تؤدي إلى مضاعفات خطيرة.
وبعد أن توفي النبيُّ عليه الصلاة والسلام يقول هذا الصحابي الجليل عن نفسه : كان إذا بلغني الحديث عند رجل من صحابة رسول الله أتيت باب بيته في وقت قيلولته ، وتوّسدتُ ردائي عند عتبة داره ، فيسفو عليّ الريح من التراب ما يسفو ، و لو شئت أن أستأذن عليه لأذِن لي ، و إنما كنت أفعل ذلك لأطيِّب نفسَه ، فإذا خرج من بيته ، و رآني على هذه الحال قال : يا ابن عمِّ رسول الله ما جاء بك ؟ هلاَّ أرسلتَ إليَّ فآتيك ، فأقول : أنا أحَقُّ بالمجيء إليك ، فالعلم يؤتَى ولا يأتي .
كان يتلطف مع أصحب رسول الله الذين سمعوا منه بعض الأحاديث ، وكان يتلطف في التأدب معهم ، حتى يعطوه مما سمعوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فينام على عتبة داره ، والرياح تسفيه بالرمال ، فإذا خرج الصحابي رأى ابن عباس ؛ ابن عم رسول الله على عتبة البيت فيستحي منه ، ما الذي جاء بك ؟ قل لي أنا آتيك : لا ، العلم يؤتى ، ولا يأتي .
مرةً أحد خلفاء بني العباس حج البيت ، وقال أريد عالماً أستفيد من علمه ، فأتباعه توجهوا إلى الإمام مالك ، إمام دار الهجرة ، وقالوا له : تفضّل فالخليفة يدعوك إليه ، قال : قولوا له : يا هارون ؛ العلم يؤتى ولا يأتي .
فلما أبلغوه قال حق ، أنا آتيه ، فلما أبلغوه أنه سيأتيك ، قال : قولوا له لا أسمح لك بتخطي رقاب الناس ، قال : صدق .
فلما وصل إلى مجلس علمه جلس على كرسي ، فقال الإمام مالك : من تواضع لله رفعه ومن تكبر وضعه ، فقال : خذوا عني هذا الكرسي ، وجلس مع الناس .
العلم يؤتى ولا يأتي ، هذه كلمة ابن عباس ، ثم أسأله عن الحديث ، وذلك بعد أنْ أقام على باب بيته زمنًا حتى خرج .
وكان ابن عباس يذل نفسه في طلب العلم ، وهو ابن عم رسول الله ، ولكن مِن أجل أن يطلب العلم .. والحقيقة أنّ النبي الكريم يقول : تواضعوا لمن تعلمون منه ، وتواضعوا لمن تعلِّمونَه ، ولا تكونوا جبابرة العلماء *
(الجامع الصغير عن أبي هريرة)
الطالب الأديب يأخذ كل علم أستاذه عن طيب خاطر ، لكن إن كان هناك سؤال فيه جفاء، وتعليق فيه قسوة ، وانتقاد لاذع ، وسوء أدب بالمعاملة ، فهذا ينفر الإنسان .
***
إن المعلم والطبيب كلاهما لا ينصحان إذا هما لم يُكرَما
***
دخل رجل على الطبيب فشهر عليه سلاحًا ، قال : له اذهب معي في ليلاً ، ذهب الطبيب معه في الليل ، و وصف له أدوية ، كلها غير موجودة في الصيدليات .
***
إن المعلم والطبيب كلاهما لا ينصحان إذا هما لم يُكرَما
***
ورأى عالمٌ أحَدَ التلاميذ سيئ الأدب ، فقال له : يا بني نحن إلى أدبك أحوج منا إلى علمك .
حتى الصحابة الكرام دهشوا لأدب رسول الله ، حتى قالوا متسائلين : ما هذا الأدب ؟ قال : " أدبني ربي فأحسن تأديبي *
(الجامع الصغير عن ابن مسعود)
ما رُئِيَ مادًّا رجليه قط ، اللهم صلِّ عليه ، كان رقيقًا جداً ، وكان يستحي كما تستحي العذراء في خدرها ، وما واجه أحداً من أصحابه بما يكره ، كان إذا أراد أن يوجه الناس يصعد المنبر ، والمقصود عنده واحد فيقول :
مَا بَالُ أَقْوَامٍ يَرْفَعُونَ أَبْصَارَهُمْ إِلَى السَّمَاءِ .....*
مَا بَالُ أَقْوَامٍ يَشْتَرِطُونَ شُرُوطًا لَيْسَتْ فِي كِتَابِ اللَّهِ ......*
مَا بَالُ أَقْوَامٍ يَتَنَزَّهُونَ عَنْ الشَّيْءِ أَصْنَعُهُ ........*
مَا بَالُ أَقْوَامٍ قَالُوا كَذَا وَكَذَا ............*
مَا بَالُ الْعَامِلِ نَبْعَثُهُ فَيَأْتِي يَقُولُ هَذَا لَكَ وَهَذَا لِي ..........*
(متفق عليها)
ما هذا الأدب ؟ !!
صحابي أخرج ريحًا كريهةً في حضرته ، بعد أن أكل أصحابه لحم جزور ، قال لأصحابه : " كل من أكل لحم جزور فليتوضأ " .
هذا هو الحياء ، هذا الذي انتقض وضوءه ، سوف يقوم ويتوضأ وحده ، ويتمنى أن تنشق الأرض وتبلعه ، فالنبي غطى الموضوع ، قال كل من أكل لحم جزور فليتوضأ ، قالوا: كلنا أكل لحم جزور .. قال كلكم فليتوضأ ، ستراً لحاله .
قال : لا تحمِّروا الوجوه ، هذا هو الأدب الذي علمنا إيّاه النبي عليه الصلاة والسلام .
وهذا زيد بن ثابت ، كاتب الوحي ، ورأس أهل المدينة في القضاء والفقه والقراءة والفرائض ، كما يروي ذلك عمار بن أبي عمار أن زيد بن ثابت ركب يوما ، فأخذ ابن عباس بركابه ، فقال له : تنحَّ يا ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال له : هكذا أمرنا أن نفعل بعلمائنا وكبرائنا ،فقال زيد : أرني يدك ، فأخرج يده ، فقبَّلها ، فقال : هكذا أمرنا أن نفعل بأهل بيت نبينا .
(كنز العمال)
ابن عباس أمسك له ركاب دابته ، وزيد بن ثابت قبل يده ، الأول قال هكذا أمرنا أن نفعل بعلمائنا ، والثاني قال : هكذا أمرنا أن نفعل بأهل بيت نبينا .
يا أيها الإخوة ؛ مجتمع المؤمنين مجتمع راقٍ جداً ، واللهِ ينبغي أن نعيش هذه الأخلاق ، احترموا بعضكم ، يؤلمني بعض المزاح بين الشباب ، احترموا مشاعرَ بعضكم ، اعرفوا قدر بعضكم ، تكاملوا فيما بينكم ، واجعلوا من مجتمعكم مجتمعاً يشبه مجتمع أصحاب رسول الله .
أحد الصحابة قال : كنت إذا رأيت ابن عباس قلت : أجمل الناس ، فإذا نطق قلت أفصح الناس ، فإذا تحدث قلت : أعلم الناس .
أجملهم وأفصحهم وأعلمهم .
بلغ هذا الصحابي الجليل من علو القدر على حداثة سنه أن سيدنا عمر بن الخطاب إذا واجهته معضلة دعا جُلَّ الصحابة ، ودعا معهم عبد الله بن عباس ، فإذا حضر رفع منزلته وأدنى مجلسه ، وقال له : لقد أعضل علينا أمراً أنت له ولأمثاله .
الصحابة الكرام تألموا ، طفل صغير يجلس بينهم ويُسأل ويُستفتى ويؤخذ رأيه من قبل أمير المؤمنين ، فمرة عاتبوا سيدنا عمر .
وعوتِب مرةً في تقديمه له ، وجعله مع الشيوخ ، وهو ما زال فتى ، فقال : إنه فتى الكهول ، له لسان سؤول ، وقلب عقول .
مرة عرض سيدنا عمر سورة النصر على أصحاب رسول الله فقال : ماذا فهمتم منها تكلموا؟
فسأل ابن عباس قال : هي نعيُ النبي ، لقد فَهِم منها فهماً عميقاً ، فَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ كَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يُدْنِي ابْنَ عَبَّاسٍ فَقَالَ لَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ إِنَّ لَنَا أَبْنَاءً مِثْلَهُ فَقَالَ إِنَّهُ مِنْ حَيْثُ تَعْلَمُ فَسَأَلَ عُمَرُ ابْنَ عَبَّاسٍ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ فَقَالَ أَجَلُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْلَمَهُ إِيَّاهُ قَالَ مَا أَعْلَمُ مِنْهَا إِلَّا مَا تَعْلَمُ *
(رواه البخاري)
وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا قَالَ كَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ يَأْذَنُ لِأَهْلِ بَدْرٍ وَيَأْذَنُ لِي مَعَهُمْ فَقَالَ بَعْضُهُمْ يَأْذَنُ لِهَذَا الْفَتَى مَعَنَا وَمِنْ أَبْنَائِنَا مَنْ هُوَ مِثْلُهُ فَقَالَ عُمَرُ إِنَّهُ مَنْ قَدْ عَلِمْتُمْ قَالَ فَأَذِنَ لَهُمْ ذَاتَ يَوْمٍ وَأَذِنَ لِي مَعَهُمْ فَسَأَلَهُمْ عَنْ هَذِهِ السُّورَةِ إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ فَقَالُوا أَمَرَ نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا فُتِحَ عَلَيْهِ أَنْ يَسْتَغْفِرَهُ وَيَتُوبَ إِلَيْهِ فَقَالَ لِي مَا تَقُولُ يَا ابْنَ عَبَّاسٍ قَالَ قُلْتُ لَيْسَتْ كَذَلِكَ وَلَكِنَّهُ أَخْبَرَ نَبِيَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَامُ بِحُضُورِ أَجَلِهِ فَقَالَ إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ فَتْحُ مَكَّةَ وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا فَذَلِكَ عَلَامَةُ مَوْتِكَ فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا فَقَالَ لَهُمْ كَيْفَ تَلُومُونِي عَلَى مَا تَرَوْنَ *
(رواه البخاري)
[سورة النصر]
يعني انتهت مهمتك ، بلغت الرسالة ، وأديت الأمانة ، ودخل الناس في دين الله أفواجاً وانتهى كل شيء ، ونُعِيَتْ له نفسُه .
من مواعظ هذا الصحابي الجليل ، أنه كان يقول : يا صاحب الذنب لا تأمن عاقبة ذنبك ، واعلم أن ما يتبع الذنب أعظمُ من الذنب نفسه ، إن عدم استحيائك ممن على يمينك وعلى شمالك ، وأنت تقترف الذنب لا يقلُّ عن الذنب ، وإن ضحكَك عند الذنب ، وأنت تدري ، أو أنت لا تدري ما الله صانع بك أعظمُ من الذنب ، وإن فرحَك بالذنب إذا ظفرت به أعظمُ من الذنب ، وإن حزنَك على الذنب إن فاتك أعظمُ من الذنب .
وإن خوفك من الريح إذا حركت سترك وأنت ترتكب الذنب مع كونك لا تضطرب من نظر الله لك أعظم من الذنب .
يا صاحب الذنب استغفر لذنبك .
ما كان بعد الذنب أعظم من الذنب نفسه .
خرج معاوية بن أبي سفيان خليفة المسلمين ذات سنة حاجًّا ، وخرج عبد الله بن عباس حاجًّا أيضاً ، ولم يكن له صولة ولا إمارة ، فكان لمعاوية موكبٌ من رجال دولته ، و كان لعبد الله بن عباس موكب يفوق موكب الخليفة من طلاب العلم ، فكيف هذا ؟ الجواب :
إنّ الأقوياء ملكوا القوالب ، ولكنّ الأنبياء ملكوا القلوب .
المؤمن يملك القلب بكماله ، والملك يملك القوالب بقوته .
هذا الصحابي الجيل عُمِّر إحدى وسبعين سنة ، ملأ فيها الدنيا علماً وفهماً وحكمةً وتقى ، فلما أتاه اليقينُ صلى عليه محمد بن الحنفية ، والبقية الباقية من أصحاب رسول الله رضوان الله تعالى عليهم ، وجلَّة التابعين ، وفيما كانوا يوارونه التراب سمعوا قارئاً لم يروه يقرأ قوله تعالى:
(سورة الفجر)
أيها الإخوة الكرام ، هذا الصحابي الجليل نموذجٌ للصغار ، إن طفلاً صغيرً لا تزيد عمره عن ثلاث عشرة سنة يروي عن رسول الله ألفاً وستمائة وستين حديثًا صحيحًا ، هذا الصحابي الجليل كان مرجعًا لسيدنا عمر ، يسأله ، وهو عملاق الإسلام .
فالإنسان قيمته بما يعلم ، وقيمته بما يعمل ، وأيُّ مقياس آخر لا قيمة له ، وكما قيل : ابتغوا العزة عند الله ، ابتغوا الرفعة عند الله .. أيْ استعمل المقياس الذي يرفعك عند الله .
والحمد لله رب العالمين
***(/)
الدرس 2 / 50 ، سيرة الصحابي : عبد الله بن مسعود ، لفضيلة الأستاذ الدكتور محمد راتب النابلسي
تاريخ : 12 / 10 / 1992 .
تفريغ : عماد علان
التدقيق اللغوي : الأستاذ غازي القدسي .
التنقيح النهائي : المهندس غسان السراقبي .
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيّدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، اللهم لا علم لنا إلا ما علَّمْتنا إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علِّمنا ما ينْفعنا وانْفعنا بِما علَّمتنا وزِدْنا عِلما، وأَرِنا الحق حقاً وارْزقنا اتِّباعه وأرِنا الباطل باطِلاً وارزُقنا اجْتنابه ، واجْعلنا ممن يسْتمعون القول فَيَتَّبِعون أحْسنه وأدْخِلنا برحْمتك في عبادك الصالحين .
أيها الإخوة المؤمنون ، مع الدرس الثاني من دروس السيرة ؛ والصحابي اليوم سيدنا عبد الله بن مسعود ، وقبل أن نبدأ بعرض سيرته وتعبُّده وفضائله وزهده وأقواله لا بد من وقفة قصيرة حول موضوع السيرة.
أيها الإخوة الأكارم ، السيرة شيئان ؛ وقائع ونصوص وتحليل ودراسات ، والأمر الذي نحن في أمسِّ الحاجة إليه أن نجمع بين النص و التحليل ، وبين النص والاستنباط ، وبين النص واستنباط القاعدة ، تُلقي الضوء على حياتنا اليومية ، إذاً كما نعتني بالنص الذي ورد في كتب السيرة نعتني بالتحليل والاستنباط ؛ لأن هذا التحليل والاستنباط يعطينا قانونًا وسنة ، أو قاعدة تنير لنا السبيل في الدنيا ، والشيء الآخر ؛ يجب أن نعتقد جميعًا أن الله جل جلاله هو هو ؛ يعني أن القوانين التي سنَّها ، والقواعد التي قعَّدها ، والوُعود التي قطعها ، والبشارات التي بشَّر بها هي هي ، فهي لأيِّ مؤمن في أيِّ زمانٍ ومكان ، فهذا المفْهوم ساذج أنَّ الصحابة أبْطال ، والنبي كان بطل الأبْطال ، ولكن اعلموا أنّ باب البطولة مفْتوحٌ إلى يوم القِيامة ، فالله جل جلاله هو هو وعْدُهُ هو هو ، وقوانينُهُ هي هي ، وعطاؤُه هو هو ، سُننه هي هي ، فالشيء الذي ناله أصْحاب رسول الله من الله عز وجل شيءٌ ثمينٌ ، لكنّ الإله موجود ، فالذي نصرهم ينصرنا ، والذي أعْطاهم يُعْطينا ، والذي أسْعدهم يُسْعِدنا ، والذي أغْناهم يُغْنينا ، والذي رفعهم يرْفعنا ، المفْهوم التاريخي للدين مفْهوم غير صحيح ، يقولون : إنّ الدِّين ظاهِرَةٌ ظهرت وانْتَهَت ، لا ، بل ظهرتْ وتَسْتَمرّ ، فإذا أخذ المرءُ بِقَواعد الدِّين قطف ثِماره ، وما أردتُ من درْس السيرة إلا تأكيد هذه الحقيقة ، سيّدنا عبد الله بن مسْعود كانَ ماهِراً في القرآن ، والقرآن موجود بين أيدينا ، وبِإمْكانك أنْ تكون ماهِراً فيه ، وأن تَحْفَظه ، وأن تفْهمه ، وأنْ تعمل به ، وأن تقطِفَ ثِماره ، فهذه المُقَدِّمة مُهِمَّة ، نحن على أبواب البُطولة ، فإما أنْ نُقْدم ، وإما أنْ نُحْجِم ، إما أن نُبادر ، وإما أن نتردّد ، هذا الصحابيُّ الجليل يُكْنى أبا عبد الرحمن ، وأُمُّهُ أُمُّ عبْد ، أسْلم قبل دُخول النبي عليه الصلاة والسلام دارَ الأرقم ، أيْ أسْلم في وقْتٍ مُبَكِّر ، وقال : كُنْتُ سادس المُسْلمين ، أيْ سادِسَ من أسْلم من المُسلمين ، وهاجر إلى الحبشة الهِجْرَتين ، وشهِد بدْراً والمشاهد كُلَّها ، وكان صاحب سرِّ رسول الله صلى الله عليه وسلّم ، وصاحِبَ وِسادته وسِواكِهِ وطُهوره في سفره ، وكان يُشْبه النبي عليه الصلاة والسلام في هَدْيِه وسَمْتِه ، وكان خفيف اللحم ، قصيراً ، شديدَ الأَدَمَة ، وكان من أجْود الناس ثَوْباً ، ومن أطْيَبِ الناس ريحاً ، وُلِيَّ قضاء الكوفة وبَيْتَ المال لعُمَر ، وصدْراً من خلافة عُثمان ، ثمّ صار إلى المدينة فَماتَ بها سنة اثْنَتَيْن وثلاثين ، ودُفِنَ بِالبقيع وهو ابنُ بِضْعٍ وسِتين .
وبعد هذا الموجَز ، نقوم بإلقاء الضوء الشديد على خصائِصهِ الأساسية .
عن عبد الله بن مسْعود صاحب الترجمة رضي الله عنه ، قال كُنْتُ غُلاماً يافِعاً أرْعى غَنَماً لِعُقْبَةَ بن أبي مُعيط ، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكرٍ ، وقد نفرَا من المُشْركين ، فقال : يا غُلام هل عندك من لَبَنٍ فَتَسْقِيَنا ؟ قُلتُ : إني مُؤْتَمَنٌ ، ولَسْتُ أسْقيكُما ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : هل عندك من جَذْعَةٍ لم ينْزُ عليها الفحل ؟ أيْ غَنَمة ليس فيها لبن ، قلتُ : نعم فأتَيْتُهما بها ، فاعْتَنَقَها النبي صلى الله عليه وسلم ، ومسح الضرع ، ودعا فَحَفَل الضَّرْعُ ، وهذا من مُعْجِزات النبي صلى الله عليه وسلم ، ثمّ أتاهُ أبو بكرٍ بِإناءٍ فاحْتَلَبَ بها ، فَشَرِبَ أبو بكْرٍ ، ثمّ شَرِبْتُ ، الاسْتِنْباط الأول : أنّ هذا الصحابيّ الجليل وهو غُلامٌ يافِع أدْرك بِفِطْرَتِه أنّ هناك شيءٌ يجوز ، وهناك شيءٌ لا يجوز ، وهذا يُؤكِّدُ قوْل النبي صلى الله عليه وسلم : خِيَارُكُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ خِيَارُكُمْ فِي الْإِسْلَامِ إِذَا فَقُهُوا *
[ رواه البخاري عن أبي هريرة]
فما من أخٍ مؤمن إلا وله مواقف أخْلاقِيَّة في جاهِلِيَّتِه قبل أنْ يتوب إلى الله ، ويصْطلح مع الله عز وجل ، وهذا هو معنى قوْل النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه أبُو هُرَيْرَةَ رَضِي اللَّه عَنْه عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ تَجِدُونَ النَّاسَ مَعَادِنَ خِيَارُهُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ خِيَارُهُمْ فِي الْإِسْلَامِ إِذَا فَقِهُوا وَتَجِدُونَ خَيْرَ النَّاسِ فِي هَذَا الشَّأْنِ أَشَدَّهُمْ لَهُ كَرَاهِيَةً وَتَجِدُونَ شَرَّ النَّاسِ ذَا الْوَجْهَيْنِ الَّذِي يَأْتِي هَؤُلَاءِ بِوَجْهٍ وَيَأْتِي هَؤُلَاءِ بِوَجْهٍ *
[ رواه البخاري ]
وعن أبي موسى الأشْعري قال : رأيتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم وما أرى إلا ابن مسْعودٍ من أهْله .
أنا أُقْسِمُ لكم بالله أنَّ بين الإخوة المؤمنين مِن المَحَبَّة والمَوَدَّة ورفْعِ الكُلْفة والثِّقة والطُّمأنينة والاسْتِسلام والانْدِماجِ أشَدُّ مما بين الأقارب ، وأشَدُّ مما بين الأخ وأخيه ، والعلاقة نَسَبِيَّة هذا قانون ، وأنا في هذا الدرس إنْ شاء الله تعالى يَعْنيني أكثر ما يعْنيني اسْتِنْباط قواعد في الإيمان ، يقول أبو موسى الأشْعري: " رأيتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم وما أرى إلا ابن مسْعودٍ من أهْله "، فكلَّما ازْداد إيمانُ أحدكم ازْدادَ حُبُّهُ لِإخْوانه وازْدادَتْ خِدْمته لهم وازْداد تَعَلُّقُهُ بهم وازْدادتْ شَفَقَتُهُ عليهم وازْداد إخْلاصُهُم له ونُصْحُهُ لهم ، يجب أنْ يكون المؤمنون كُتْلَةً واحدة وجسداً واحداً إذا اشْتكى منه عُضْوٌ تداعى له سائِرُ الجَسَد بالسَّهَر والحُمى ، سيّدنا أبو موسى الأشعري يقول :" رأيتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم وما أرى إلا ابن مسْعودٍ من أهْله "، فمن أهْلُكَ ؟ هم المؤمنون ، وهذا معنى قولهم : " رُبَّ أخٍ لك لم تلِدْهُ أُمُّكَ " ، أَسْتَنْبِطُ من قَوْل النبي في حقِّ الجار إذا اسْتعانَ بك أَعَنْتَهُ وإنْ اسْتَنْصَرَك نصَرْته ، وإن اسْتَقْرَضَك أقْرَضْته ، وإنْ أصابهُ خيرٌ هَنَّأْته ، وإن أصابَتْهُ مُصيبَةٌ عَزَّيْتَهُ ، ولا تَسْتَطِل عليه بالبناء فَتَحْجُبَ عنه الريح إلا بِإذْنه ، وإذا اشْتَرَيْتَ فاكِهَةً فأهْدِ له منها ، وإنْ لم تفْعل فأَدْخِلْها سِرًّا ، ولا يخْرُجْ بها ولَدُكَ لِيَغيظَ ولَدَهُ ، ولا تؤْذِهِ بِقُتارِ قِدْرِك إلا أنْ تَغْرِفَ له منها ، فإذا كان هذا حَقُّ الجار ، وقد يكون الجار ليس مُسْلِماً ، فَكَيْفَ بحقِّ المؤمن ؟! وكيف بِحَقِّ الأخ في الله ؟ لِذلك علامة قَبول ما عند الله مَحَبَّتُنا ، وتواضُعُنا ، وتضْحِيَتُنا ، وإيثارُنا ، وذْلُنا ، وتواصُلُنا ، وتناصُحُنا
عن القاسم بن عبد الرحمن قال : كانَ عبدُ الله يُلْبِسُ رسول الله صلى الله عليه وسلَّم نَعْلَيْه ثمّ يمْشي أمامه بِالعصا حتى إذا أتى مجْلِسَهُ نزعَ نعْلَيْه فأدْخَلَهما في ذِراعَيْه وأعْطاه العصا فإذا أراد النبي عليه الصلاة والسلام أن يقوم ألْبَسَهُ نعْلَيْه ثمّ مشى بِالعَصا أمامه حتى يدْخُل الحُجْرة قبل النبي .
أنا أقول لكم : إنَّ حُبَّ النبي صلى الله عليه وسلم هو عَيْنُ حُبِّ الله ، وإنَّ حُبَّ الله عز وجل عَيْنُ حُبِّ النبي ، وإنَّ طاعة النبي صلى الله عليه وسلم هي عَيْنُ طاعة الله ، وإنَّ طاعة الله عز وجل هي عَيْنُ طاعة النبي ، والدليل قوله تعالى :
[ آل عمران : الآية 31 ]
وقوله تعالى :
[ التوبة : الآية 62 ]
بِضِميرِ المُفْرَد الغائِب ، ولم يَقُل يُرْضوهُما ، ونُضيفُ شيئاً وهو أنّك إذا أحْبَبْتَ الله والنبي حُباً جماً ، وألْغَيْتَ ذاتك نِهائِياً ، شَفَفْتَ عن حقيقة رسول الله ، لذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول : فيما روى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَزِيدَ الْخَطْمِيُّ الْأَنْصَارِيُّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ فِي دُعَائِهِ اللَّهُمَّ ارْزُقْنِي حُبَّكَ وَحُبَّ مَنْ يَنْفَعُنِي حُبُّهُ عِنْدَكَ ...*
[ رواه الترمذي ]
والإسْلام بلا حُبٍّ جسَدٌ بلا روحٍ ، وورد في بعض الأقْوال : ألا لا إيمانَ لِمن لا حُبَّ له ، وهل للحُبِّ دليل ؟ هناك مئة دليل ، قال تعالى :
[ المائدة : الآية 54 ]
وقال تعالى :
[ البقرة : الآية 165 ]
فمن هَوِيَ الكَفَرَة حُشِرَ معهم ، ولا ينْفَعُهُ عملهُ شيئاً ، قلبُكَ أين هو ؟ سوْفَ تَرَوْنَ أيها الإخوة أنَّ أصْحاب النبي عليهم الرضْوان أحَبُّوا النبي حُباً يفوقُ كُلَّ التَّصَوُّر ، افْتَدَوْهُ بِأموالهم وأوْلادهم وأرْواحِهم ، ماتَ أبوها وابنُها وزوْجُها وأَخوها ، وتقول : ما فَعَلَ رسول الله إلى أنْ رأَتْهُ فقالت : يا رسول الله كُلُّ مُصيبَةٍ بعْدك جَلَلٌ " ، جلل ، لا قيمة لها ، هذه امرأة ، لذلك ونحن في هذا الزمان كيف نعبِّر عن حبِّنا ؟ كيف نعبِّر أننا نُحب الله أكثر من كل شيء ؟ هذا هو السؤال ؟ لا يوجد جهاد ، نحن في الحياة المدنية الآن؛ هذا مُدرِّس ، هذا مُحامٍ ، هذا طبيب ، هذا صانع ، هذا صاحب مصلحة ، هذا تاجر هذا صاحب معمل ، هذا طالب مدرسة ، هذا طالب جامعة ، وهذا متزوج وهذا غير متزوج ، كيف يعبر أحدنا عن حبِّه لله عزّ و جل ؟ بتطبيق أمر الله ، وتطبيق أمر الله سَهْلٌ يسير ، هناك نقطة دقيقة ؛ ربنا عز وجل يخْلق ظروفًا للمؤمن ، ويضعِفُه أمام خِيارٍ صعْبٍ ، شيءٌ يُرضي الله ، ولكن يضرّ بِمَصْلَحَته ، صفْقَةٌ رابحة ، لكن فيها شُبْهَة ، فإذا أَمْضَيْتها أثْبَتَّ أنك تُحِبّ المال أكثر من حُبِّك لله ورسوله ، وإذاَ رفَضْتها أثْبتَّ أنك تُحِبّ الله ورسوله أكثر من هذه الصَّفْقَة ، وفي حالة البَحْبوحة والرخاء طاعة الله سهْلة ؛ أغُضُّ بصري ، وأصْدُق ، لكن هناك ظروف تضَعُك أمامَ خِيارين صعبيْن ؛ الدنيا هنا ، وطاعة الله هنا ، ولولا أنَّ الله عز وجل يضعُكَ أمام هذين الظرْفَين ، وأمام خِيارٍ صعْبٍ لأصْبَحَت الجنَّة سهْلة ، وهناك آية تدلّ على ذلك ، قال تعالى :
[ العنكبوت : الآية 2 ]
فلا بدّ من الابْتلاء ، ولا بد من أن توضَعَ في ظرفٍ ، فإما أن تخْتار رِضى الله عز وجل، وإما أنْ تخْتار الدنيا ، والآية التي أكثر دلالةً قوله تعالى :
[ التوبة : الآية 24 ]
ففي الحياة المدَنِيَّة كيف نًؤكِّدُ حُبَّنا لله عز وجل ؟ إذا امْتُحِنا وابْتُلينا فوُضِعْنا أمام ظرْفين ، أحْياناً زوجَتُك وأُمُّك - هذا أقرب مثل - وأُمُّهُ مُتَقّدِّمة في السِّن ، والإنسان لما يتقدَّم في السِّن يُرَدُّ إلى أرْذل العُمُر ؛ تفْكير ضعيف ، تدَخُّل شديد ، طلبات غير معْقولة ، سَيْطرة وإحْكام القبْضة ، فهُوَ كُلّ سعادَتِه مع زوْجَتِه ،ِ وأُمُّهُ عِبءٌ عليه ، لكنَّ الذي يُرْضي الله أنْ تبَرَّ أُمَّكَ ، وألا تُضَيِّعَ حقَّ زوْجَتِك ، فالبُطولة أنْ تقف المَوْقِف الكامل ، إذًا أنت دائِماً توضَعُ في امْتِحانات صعْبة ، فإما أن تؤكِّد أنَّك تُحِبّ الله ورسوله أكثر من حبِّك الدنيا ، وإما أن تؤكِّد أنك تحب الدنيا والمال والزوجة والعشيرة والأهل و الابن والتجارة والمسكن ، فلو كنت في مسكنٍ فخمٍ مستأجراً ، وبقاؤك في المسكن شيء مريح ، والأجرة رمزية ، والقانون إلى جانبك ، ويوفِّر لك الحماية ؛ فإنْ كنتَ ممَّن يُؤْثر مرضاةَ الله عز وجل أعطيتَ هذا البيت لأصحابه ، نمتَ قرير العين ، إذاً أنت ممتحن ، في تجارتك ، في صناعتك ، وقد تدخل مادة في صناعتك غير شرعية ، تقول لك نفسك : الخُبز يُطْبخُ الآن ، فَدَعِ الأمور تسير ! وهناك رواجٌ سريع ، والمؤمن يخاف الله عز وجل ، ولا يفعل هذا ، فالقصد أنَّ حبَّك لله عز وجل ، شئت أم أبيت ، ولا بد أن يظهر، أو لا يظهر من خلال الامتحان ، فهناك سؤال : هل نحن نمتحن أو لا نمتحن ؟ لا بد أن نمتحن ، قال تعالى :
[ التوبة : الآية 24 ]
أحيانا تعرض البيت للبيع خمس سنوات ، وثمنُه ثلاثة ملايين ، فوافقت على بيعه ، وحصل هناك عقد ، ثم يبعث الله لك بعد يوم أو يومين شخصا يعِض عليك شراءه بثلاثة ملايين ونصف ، هذا امتحان ، فإما أن تنجح فيه وإما أن تسقط ، ونجاحك هو أنك قد بعت البيت بمبلغ ثلاثة ملايين ، وتم البيع ، وكتِب العقد ، ورسوبك أن تلجأ حيلة ، مثلا ؛ تقول له : ما رضيتْ الزوجة ، أو ابني عارضني ، فأنت ممتحن في البيع والشراء ، وفي كل شيء أنت ممتحن ، إما أن يظهر أنك تحب الله ورسوله أكثر من كل شيء ، وإما أن تثبت أن أي شيء من الدنيا أغلى عندك من الله ورسوله ، وهذا الامتحان واقع لا محالة ، وربنا عز وجل فعَّال لما يريد ، فأحيانا يبعث لك عرضا مغريا ، وأحيانا أخرى تقع في مشكلة ، والأبواب كلها مغلقة إلا باب الشبهات ، ولا بد أن تأخذ قرضا بفائدة ، أحد إخواننا الكرام في أول حياته التجارية يملك بيتا صغيرا ، وعرض عليه بيتٌ بثمنٍ مغرٍ ، وهو تاجر ، ولكن المبلغ غير متوافر لديه لشرائه - القصة قديمة- ، وكانت معه سندات مالية ، ذهب إلى أحد المصارف ، وكان مدير المصرف نصرانيا ، فقال : اخصم لي هذه السندات ، (علماً أن هذا ربا معكوس) ، فنطق مدير هذا المصرف قائلاً : يا أبا فلان ، أنت مسلم ، وهذا حرام في ديانتك ، فقال : كأنه صفعني ؛ أنا أتلقى النصيحة من إنسانٍ غير مسلم ، وفي ديني ! قال : والله عندها بكيتُ ، فخرجت وأنا أنزل الدَرَج وأقول : والله يا رب ، لا أريد هذا البيت ، وسأبقى في بيتي ، ولن أعصيك ، وانتقل من المصرف إلى محلِّه بالحريقة ، وما أن وصل إلى محله حتى فوجئ بصديق له ينتظره ، لم يره منذ زمن ، فقال له : أين أنت يا أبا فلان ؟ لقد انتظرتك نصف ساعة ، إني ذاهبٌ إلى الكويت ، ومعي ستون ألف ليرة سورية ، اتركها عندك ، وأُنشدك الله أن تستعملها عند حاجتك لها ، فالردّ جاء بعد نصف ساعة ، أنت قُلْتَ : يا رب لا أريد البيت ، ولا أعْصيك ، فهل يتْرُكُك الله ؟.
أيها الإخوة ؛ الامتحان لا يطول ، إلا أنّ الله يحِبّ منك هذه الكلمة : يا رب لن أعْصِيَك ، هذه الدنيا تحت قدمي ، فإذا جاءك الشيطان وقال لك : أنت إذا لم تسْلُك مسْلَكَ الرِّبا فسَتُصْبِح في الطريق ، فهذا كلامُ الشيطان ؛ قُل: لا أعْصي الله ، ولن يُضَيِّعني ، فهذا هو المؤمن ، والمنهج مُقَدَّسٌ عنده ، وطاعة الله أغلى شيءٍ عند المؤمن .
سيّدنا ابن مسْعود كان أقرب الناس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم ، فكان يوقِظُهُ صلى الله عليه وسلّم إذا نام ، ويسْتُرُهُ إذا اغْتَسَل ، ويمْشي معه في الأرض وحْشاً - أيْ مُنْفَرِداً ؛ وبالمناسبة هناك أشْخاص إذا رأوا من يُعَلِّمُونهم دائِماً على المِنْبر ووراء كُرْسي التدْريس وبِثِيابِهِ الأصوليَّة ، يجد أنَّ الأمر على التَّمام ، أما إذا ذهب في نُزْهَةٍ معه ، ورأى شَيْخَهُ قد نام ، أو أكُل، وجد في ذلك ضَيْقًا ، وكأنَّ شَيْخَهُ ينبغي ألاّ يأكل وألاّ ينام وألاّ...!! ، اُنْظر إلى سيّدنا ابن مسْعود ؛ كان يوقِظُهُ إذا نام ، ويسْتُرُهُ إذا اغْتَسَل ، ويمْشي معه في الأرض وحْشاً ، وكان رضي الله عنه صاحب الوِساد والسِّواك والنَّعْلين ، يا عبد الله أين السِّواك ؟ تجِدُهُ مُلَبِّيًا ، فالإنسان له حياةٌ خاصَّة ، ومهما كانَ عظيماً ؛ فهو ينام ويجوع ويأكل ويعطش ويغْضب ! اللهم إني بشر ، أغْضب كما يغْضب البشر ، اللهم إني بشر أنسى كما ينسى البشر ، فكلما ارْتقى الإنسان فإيمانه لا تؤثِّرُ عليه الأمورُ الخاصَّة ، وأحْياناً يضْطرّ الإنسان أن يؤَدِّب ابنه ، وأن يأخذ تجاهه موقفاً حازماً ، ويتغاضَب ، وقد تنشأُ مُشْكِلَة يهْتَمُّ لها كَبَشَر .
وعن عبد الله بن زيدٍ قال :" أَتَيْنا حُذَيْفة فقُلْنا له : " حدِّثْنا بِأقْرب الناس لِرَسول الله هَدْياً وسَمْتاً؛ لِنَأخذ عنه ونسْتَمِعَ عنه ، فقال عبد الله بن زيدٍ : كان أقرب الناس لِرسول الله صلى الله عليه وسلم هدْياً وسمْتاً عبد الله بن مسْعودٍ " .
لقد كان أشْبَهَ بِرَسول الله عليه الصلاة والسلام ، لذلك أيها الإخوة نحن كَمُؤْمنين لنا المثَلُ الأعلى ، وهو رسول الله صلى الله عليه وسلّم ، فقد كان عليه الصلاة والسلام إذا دخلَ بيْته يقول: السلام عليكم ، وكان بسَّاماً ضَحاكً ، وكان يقول :" أكْرِموا النِّساء ، فَوَالله ما أَكْرَمَهُنَّ إلا كريم " فالمؤمن العَنيف والقاسي الذي لا يَتَحَمَّل ، يضْرب ويَسُبُّ ؛ فهو إذًا ليس مُقْتَدِياً بِرَسول الله صلى الله عليه وسلَّم ، نحن إذا أخَذْنا السيرة ، وقرأْناها إنما للاقْتِداء به صلى الله عليه وسلَّم ، والاسْتِفادة منه .
وبعد فاسمعوا ثناءَ النبي صلى الله عليه وسلَّم على عبْد الله بن مسْعود ، قال : جاء رجُلٌ إلى عُمَرَ وهو بِعَرَفة فقال : جئتُ يا أمير المؤمنين من الكوفة ، وترَكْتُ بها رجُلاً يُمْلي المصاحِفَ عن ظَهْرِ قلْبِهِ ، فَغَضِبَ سيّدنا عمر ، وانْتَفَخ حتى كاد يمْلَأ ما بين شَعْبَتَيْ الرَّحْل ، وقال : من هو وَيْحَك ؟ قال : عبد الله بن مسْعودٍ ، فَما زال يُطفأ ويُسَرَّى عنه الغضبُ حتى عاد إلى حاله الأوَّل ، إنْسان يُمْلي القُرآن عن ظَهْر قلب ويُكْتَبُ الناس ! هذه جريمة ، هذا كلامُ الله ، ولكن لما علِمَ أنه ابن مسْعود لم يجد في ذلك مانِعاً ، ثمَّ قال : وَيْحَك ! ما أعلم أنه قد بقي من الناس أحدٌ هو أحقُّ بِذلك منه .
عَنْ عَلْقَمَةَ قَالَ : جَاءَ رَجُلٌ إِلَى عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَهُوَ بِعَرَفَةَ فَقَالَ : جِئْتُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ الْكُوفَةِ وَتَرَكْتُ بِهَا رَجُلًا يُمْلِي الْمَصَاحِفَ عَنْ ظَهْرِ قَلْبِهِ فَغَضِبَ وَانْتَفَخَ حَتَّى كَادَ يَمْلَأُ مَا بَيْنَ شُعْبَتَيْ الرَّحْلِ فَقَالَ وَمَنْ هُوَ وَيْحَكَ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ فَمَا زَالَ يُطْفَأُ وَيُسَرَّى عَنْهُ الْغَضَبُ حَتَّى عَادَ إِلَى حَالِهِ الَّتِي كَانَ عَلَيْهَا ثُمَّ قَالَ وَيْحَكَ وَاللَّهِ مَا أَعْلَمُهُ بَقِيَ مِنْ النَّاسِ أَحَدٌ هُوَ أَحَقُّ بِذَلِكَ مِنْهُ وَسَأُحَدِّثُكَ عَنْ ذَلِكَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَزَالُ يَسْمُرُ - أي يسهر - عِنْدَ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ اللَّيْلَةَ كَذَاكَ فِي الْأَمْرِ مِنْ أَمْرِ الْمُسْلِمِينَ وَإِنَّهُ سَمَرَ عِنْدَهُ ذَاتَ لَيْلَةٍ وَأَنَا مَعَهُ فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَخَرَجْنَا مَعَهُ فَإِذَا رَجُلٌ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمَسْجِدِ فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْتَمِعُ قِرَاءَتَهُ فَلَمَّا كِدْنَا أَنْ نَعْرِفَهُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَقْرَأَ الْقُرْآنَ رَطْبًا كَمَا أُنْزِلَ فَلْيَقْرَأْهُ عَلَى قِرَاءَةِ ابْنِ أُمِّ عَبْدٍ قَالَ ثُمَّ جَلَسَ الرَّجُلُ يَدْعُو فَجَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ لَهُ سَلْ تُعْطَهْ سَلْ تُعْطَهْ قَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قُلْتُ وَاللَّهِ لَأَغْدُوَنَّ إِلَيْهِ فَلَأُبَشِّرَنَّهُ قَالَ فَغَدَوْتُ إِلَيْهِ لِأُبَشِّرَهُ فَوَجَدْتُ أَبَا بَكْرٍ قَدْ سَبَقَنِي إِلَيْهِ فَبَشَّرَهُ وَلَا وَاللَّهِ مَا سَبَقْتُهُ إِلَى خَيْرٍ قَطُّ إِلَّا وَسَبَقَنِي إِلَيْهِ *
[رواه أحمد]
لقد كان النبي عليه الصلاة والسلام يسْتمع إلى قِراءَتِهِ ، ويطْرب لها ، مع أنَّ القرآن أُنْزِل عليه ، وبالمناسبة أقول لكم : كلما ارتقى حالك طربْتَ لقراءة القرآن، وكلكم يعلم هذه الحقيقة ، فأحيانا تقرأ القرآن فلا تجد طلاقة ، ولا تجد انسيابا وطربا وشوقا وترنُّما ، أحيانا تقرأ القرآن تطرب أنت لصوتك و قد يكون صوتك عاديا ، حدثني مرّة أخٌ أنّ منشدا كان لا ينشد إلا بدرهم ، و لا يسكت إلا بدينار ، البداية بدرهم ، أما السكوت فبدينار ، وهذا صوته معروف ، فالمؤمن إذا كان صافي القلب ، و إذا كان له عملٌ طيِّبٌ ، له قراءة شجيّة يطرب لها هو قبل غيره ، فقرّاء القرآن لهم ساعات صفاءٍ ، و ساعات تحليق وتجلٍّ ، فالساعات النادرة عند قراء القرآن يكون فيها تجلٍّ من الله عز وجل ؛ فقال عمر : والله لأغدوَنّ عليه فلأبشِّرنه ، قال : فغدوت عليه فبشّرته ، فإذا أبو بكر قد سبقني إليه فبشّره ، كم هم يحبون بعضهم بعضا ، إذا جاء أخاك خبرٌ طيّبٌ من رسول الله ، فرأسا بشِّره به ، وبالمناسبة فما علاقتنا بالموضوع ؟ أحيانا يرى الإنسان رؤيا طيِّبةً ، رؤيا صالحة ، فلْيقصُّها على أخيه ولا يسكت عنها ، لأن الرؤيا الصالحة جزء من ستٍّ وأربعين جزءاً من النبوّة ، يراها المؤمن أو تُرى له ، فإذا رأى الإنسانُ رجلاً مؤمنًا يحبُّه في حالة مع الله طيِّبة ، في مظهر يرضي ، برمزٍ واضحٍ فلا يسكت عن ذلك ، هذه بشرى من الله عز وجل ، وربنا عز وجل حكيم ، إما أن يلقيَ هذه البشرى على صاحبها مباشرةً ، وإما أن يُريَها لصديق له أو لأخٍ له .
وعن زرِّ بن حُبيش عن ابن مسعود أنه كان يجتني سواكاً من الأراك ، أي يقطع سواكاً من شجر الأراك ، وكان دقيق السّاقين ، نحيفاً ، يبدو أنه و هو يقطع السواك عصفت الريح فكشفت عن دقّة ساقَيْه ، يعني : جلدة وعظمة كما يُقال عند العوام ، فضحك القوم فعَنْ أُمِّ مُوسَى قَالَتْ سَمِعْتُ عَلِيًّا رَضِي اللَّه عَنْهُ يَقُولُ : أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ابْنَ مَسْعُودٍ فَصَعِدَ عَلَى شَجَرَةٍ أَمَرَهُ أَنْ يَأْتِيَهُ مِنْهَا بِشَيْءٍ فَنَظَرَ أَصْحَابُهُ إِلَى سَاقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ حِينَ صَعِدَ الشَّجَرَةَ فَضَحِكُوا مِنْ حُمُوشَةِ سَاقَيْهِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا تَضْحَكُونَ لَرِجْلُ عَبْدِ اللَّهِ أَثْقَلُ فِي الْمِيزَانِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ أُحُدٍ *
[ رواه أحمد ]
إنّ سيدنا عمر بن الخطاب من العمالِقَة في الدِّين ، ومع ذلك يعْرف قَدْر إخْوانه ، وهذا من علامة المؤمن ، فسيّدنا عُمَر أيها الإخوة ، خرج من المدينة لِيَسْتَقْبِلَ بِلالاً ؛ خليفة المسلمين القُرَشي ، ومن أرومة قُرَيش وذِرْوَتِها وأعْلامِها يخْرج بِنَفْسِه لِيَسْتَقْبِل بِلالاً ، وكان أصْحابُ النبي صلى الله عليه وسلَّم عليهم رِضْوان الله إذا ذكروا بِلالاً ، أو إذا ذكروا الصَّديق قالوا : هو سيّدُنا وأعْتَقَ سيِّدَنا ، أحْياناً أهْل الفجور وأهل الدنيا يؤاخذون المؤمنين أنهم لا ينْطِقون باسمٍ لِصَحابي إلا ويَقولون سيّدنا ، أما الكُتاب العادِيِّين يقولون : وجاءَ عُمَر وجاءَ مُحَمَّد - هل تظنّ أنه رفيقك ؟ - قُلْ : سيّدنا محمّد ، والله يا إخْواننا هذا شخص مُسْلِم ابن مُسلم زارَ مصرَ يقول لِشَخْصٍ آخر : أين قبر محمّد ؟ فقيل له : أنت بِمِصْر ، فقال : أو ليس قبْرُهُ هنا ؟ قال لي هذا الكلام شخْصٌ أثِقُ بِكَلامه - والزائر لمصرَ غَنِيٌّ - غافل يظنّ أنَّ قبْرَ النبي بِمِصْر ! ، فالمُسْلِم يقول : سيّدنا محمّد وليس : مْحَمَّدْ ، فالصحابة الكِرام كانوا يقولون عن سيّدنا أبي بكر : هو سيّدُنا وأعْتَقَ سيِّدَنا ، أيْ بلالاً ، فسيِّدُنا عمر كان جالِساً ، فَجاء ابن مسْعود فقال رضي الله عنه : إنَّهُ رجُلٌ ملئ عِلْماً ، أحْياناً الإنسان يتَعَلَّم ويتعَلَّم ؛ يحضر مجالس العِلم بالتفْسير والحديث والسيرة ، ويحضر خُطب الجُمُعة ، ويقْرأ ويُطالع حتى يشْعُر أنّ كلّ خَلِيَّةٍ في جسمِهِ تنْطِق بعلم ، فمرْتَبَةُ العِلم مرْتَبَةٌ عاليَة، ولن تعْرِفَ مرْتبة عِلْمِك حتى تُجالِس جاهِلاً ، أذكرُ مرةً كُنت أوَدُّ أنْ أُسافر إلى بلدٍ ، فكان لي قريبٌ قد سافر إلى البلد الذي أقصده بِسَيارَتِهِ الشَّخْصِيَّة ، فَعَرَضَ عليَّ فَقُلْتُ : لا مانع من صحبتك ، فَرَكِبَ بجانبه صديق له من كِبار التُّجار ، لكنَّهُ من الجَهْل بِمَكانٍ كبير ، فأنا رَكِبْتُ واسْتَمَعْتُ طوال الطريق إلى حديثهما ؛ حينما وَصَلْنا إلى البَلْد الذي نقصده بعد خمْس ساعات ، والله الذي لا إله إلا هو ؛ تَمَنَّيْتُ أنْ آكلَ خُبزاً يابِساً طوال حياتي ، ولا أكون بِهذا الجَهْل الذي يتمتَّعُ به هذا الغَنيّ ! سُخْف على ضيق أُفُقٍ ، وعلى أنانِيَّة ، وعلى جَهْلٍ مُطْبِق ، لكِنَّهُ غنِيٌّ ؛ فاعلموا أنّ رتبة العلم أعلى الرُّتب ، فلذلك الكفاءة في الزواج مطلوبة ، فالذي عنده فتاة مؤمنة تعرف علوم القرآن والسنّة ، وتُجيدُ دراسَتهما ؛ فلا يتوَرَّط ويُزَوِّجها رجلا جاهِلاً ، بهذا يكون قد قتلها ! لأنّ الشهرة هي كُلّ شيءٍ في حَياته ، أما الفتاة التي تحفظ كتاب الله ، وتدْرس الشرع ؛ فهذه لا بد لها من زوجٍ مؤمنٍ راقٍ يعْرف قيمتها ، وقيمة دينها وقُرآنها ، جاءَتني رسالة عن الخُطبة الإذاعِيَّة الأخيرة ، سَمِعَتْها فتاةٌ في الحَسَكَة ، فَبَعَثَتْ رسالة إلى جامع النابلسي فَقَرَأْتها ؛ فقالت : لي مُشْكِلَة فهل تُوافق أن أَعْرُضها عليك ؟ فقلتُ : فأخبرتها أني مُوافق ، عندها جاءَتْني رِسالة مُطَوَّلَة ؛ فتاةٌ مؤمنة حافِظة لِكِتاب الله ، وهناك رجُلٌ ضرير ، كذلك مؤمن تطَوَّعَتْ أنْ تتزَوَّجَهُ ؛ إنّه ضرير ، طبْعاً أنا أكْبرتُ هذا المَوْقف ، إذْ إنَّ هذا الضرير لعلّ له شأنًا عند الله عز وجل ، وفتاةٌ تامَّةُ الخلق ، ومن أُسْرة ، ولكنّ أرادَتْ أنْ تُضَحي ، وأنْ تكون زوْجَةً لِهذا الضرير، فهذا الضرير أسْكنها في بيْتٍ صغير ، وأهل هذه الفتاة أصروا على أنْ ترفضه ، وأنْ تعود إليهم، وهي مُصِرَّة على أنْ تبْقى معه ، وتسألني ماذا أفعل ؟ قُلْتُ : والله هذه بُطولة ؛ امْرأةٌ تحفظ كتاب الله عز وجل واخْتارَتْ رجلاً ضريراً مؤمناً ، طبْعاً هي لم تخْتَرْهُ لأنه ضرير فقط ، وإنما لأنه مؤمن ، فالمرأة الصالحة العالمة لو أننا أردْنا أنْ نُقَدِّر دينها لكانَ مهْرُها مئة مليون أو أكثر ! لأنها تحْفَظ دينك وأولادك ، والعبرة أنَّ جَمْعَ الجاهل مع العالم أمْرٌ صَعْبٌ .
لقِيَ سيّدنا عمر ركْباً في سفَرٍ له فيهم عبد الله بن مسْعود ، فأمَرَ عمرُ رجُلاً يُنادِيهم ، من أين القَوْم ؟ فأجابه عبد الله : أقْبَلْنا من الفجِّ العميق ، فقال عمر : وأين تُريدون ؟ قال عبد الله : البيتَ العتيق ، قال عمر: إنَّ فيهم عالِماً من كلّ فجٍّ عميق أرادوا البيتَ العتيق ، وأمر الرجل فناداهم وقال له : سَلْهُم أيُّ القرآن أعْظم ؟ فأجابه عبد الله : الله لا إله إلا هو الحيّ القيوم ، ثمّ ناداهم : أيُّ القرآن أحْكم ؟ قال : إنّ الله يأمر بالعَدْل والإحْسان ، فناداهم : أيُّ القرآن أجْمع ؟ قال: فَمن يعْمل مثقال ذرةٍ خيراً يره ومن يعْمل مثقال ذرّةٍ شراً يره ، قال : نادِهِم ، أيُّ القرآن أخْوَف : ليس بِأَمانِيِّكم ولا أمانِيِّ أهْل الكِتاب من يعمل سوءًا يُجْزَ به ، قال عمر : نادِهِم ، أيُّ القرآن أرْجى ؟ قال ابن مسْعود : يا عِبادِيَ الذين أسْرفوا على أنْفسهم لا تقْنطوا من رحمة الله ، فقال عمر : نادِهِم ، أفيكم ابن مسْعودٍ ؟ قالوا : نعم - هذا الكلام ليس منكم ! - فالذي اسْتَوْعَبَ القرآن كلَّه ؛ أيُّ القرآن أحْكم ؟ و أيُّ القرآن أجْمع ؟ و أيُّ القرآن أرْجى ؟ وأيُّ القرآن أخْوَف ؟ إنّه لعالِم ، وأحْياناً تجْلس مع حافظ القرآن ، فَكَأنَّ القرآن كلَّه صفحَةٌ أمامه ، ولا أُبالِغ ! أيّ موضوع تجده يقول : قال تعالى ، قال تعالى ، وهذه من السورة كذا ، وهذه من سورة كذا ، فالماهر بالقرآن مع النبيّين والصِّديقين يوم القِيامة ، سئِلَ عليٌّ كرَّم الله وجْهه عن أصْحاب رسول الله صلى الله عليه وسلّم فقال : عن أيِّهم تسْألون ؟ فقالوا : أخْبِرنا عن سيّدنا عبد الله بن مسْعود فقال سيّدنا عليّ : عُلِّمَ القرآن وعُلِّمَ السنَّة ثم انتهى ، وكفى به عِلْماً ، إذا الإنسان درس القرآن وتعلَّمَهُ ، ففيه كلُّ شيءٍ وهو كلامُ خالق الكَوْن ، وهو الكِتاب المُقَرَّر ، وحبْل الله المتين ، والنور المُبين ، والصِّراط المُسْتقيم .
حينما مات ابن مسْعود كان الواحدُ يقول لِصاِحبِهِ : أَتُراهُ ترك مِثْلهُ ؟ أكرِّر حينما مات هذا الصحابيّ الجليل ، كان الصحابة يسْألون : أترك مثلهُ ؟ وكان الجواب : لا ، فسيّدنا أبو موسى الأشْعري قال : "لا تسألوني عن شيءٍ مادام هذا الحَبر فيكم " ، فإذا سُئِلَ الإنسانُ وكان من هو أعلمُ منه فالأدَبُ ألاَّ يجيب ، أحْياناً يكون في الجلسة طبيب ، ويسأل مريض سؤالاً ، فإذا بك تجد من يجيب والطبيب أمامه ؛ اِحْتَرم الطبيب ، فأنت لا شيءَ أمامه ، أحْياناً السؤال شرْعي وتجد من يتجرَّأُ ويجيب ! هذا سوء أدب ، والمفْروض إذا وُجِد من هو أعلم منك تقول : سلْ فُلاناً ، لذلك سيّدنا أبو موسى الأشْعري قال : "لا تسألوني عن شيءٍ مادام هذا الحَبر فيكم " ، يُسْتَنْبَط من هذا الكلام أنّ أصْحاب النبي كان يعْرف أحدهم حقَّ الآخر ، يعْرفون قَدْرَ بعضِهم ، والمؤمنون يتعاوَنون ، ولا يتنافَسون ، ولا يتحاسدون ولا يتباغَضون ، ولا يتشاتمون بل يتعاوَنون ، وأجمل منظر أراهُ في حياتي حينما أجد الدعاة إلى الله مُتعاوِنين ، ويَحْترمُ بعْضهم بعْضاً ، ويُجِلُّ بعضهم بعضًا ، ويتعاوَنون على مصْلحة المسْلمين العامة ، أما حينما أراهم يتنافسون ويتحاسَدون ويتراشقون التُّهَم ، وكُلُّ واحدٍ منهم يرى أنَّهُ هو الدِّين ، وأنَّ الله جلّ جلاله له وحْده ، وأنَّ جماعته هم على الحقّ ، وأنهم هم الفرقة الناجِيَّة ، وما سِواهم إلى النار ؛ فهذه نظْرةٌ ضَيِّقَةٌ ضَيِّقَةٌ سخيفةٌ سخيفة ، فيجب أن يكون انْتِماؤُك إلى جميع المؤمنين ، وكلُّ إنسانٍ عقيدته صحيحة ، وسٌلوكُهُ مُنْضَبِط فهُو على عَيْني ورأسي ، وأحْتَرِمُهُ وأُجِلُّهُ .
وعن شقيقٍ قال : كنت قاعِداً مع حُذَيْفَة فأَقْبل ابن مسْعودٍ : فقال حُذَيْفَة : إنَّ أشْبه الناسِ هَدْياً برسول الله صلى الله عليه وسلّم من حين يخْرجُ من بيْتِهِ إلى أنْ يرْجِع ، ولا أدري ما يصْنع في أهْله لَهُوَ عبد الله بن مسْعودٍ ؛ أشْبهُ الناس بِرَسول الله ، ووالله لقد عَلِمَ المَحْظوظون من أصْحاب مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلّم أنّ من أقْربهم إلى الله تعالى وسيلَةً يومَ القِيامة ؛ هو عبد الله بن مسْعودٍ .
يقول سيّدنا عبد الله بن مسْعودٍ عن نفْسه : والله الذي لا إله إلا هو ، ما نزلَتْ آيَةٌ في كِتاب الله إلا وأنا أعلم أين نزلَتْ ، وفيمَا نزَلَتْ ، ولو أعلم أنَّ أحداً أعلم بِكِتاب الله منِّي تنالُهُ المَطِيُّ لأتَيْتُهُ.
فما مِن آيةٍ إلا وهو يعلم أين نزلت وفيما نزلت ومتى نزلتْ ! هذا هو المؤمن ، إما أنْ تعْرف ، وإما أنْ تَتتَلْمَذْ على من يعْرف ، وإياكَ أنْ تتكَبَّر ، أما ألاّ يتعلَّم يدَّعي المعْرفة فهذا شيْطان ، ومن الناس من يدْري ويدْري أنَّهُ يدْري فهذا عالمٌ فاتَّبِعوه ، ومنهم من يدْري ولا يدْري أنه يدْري فهذا غافِلٌ فنَبِّهوه ، ومنهم مَن لا يدْري ويدْري أنه لا يدْري فهذا جاهِلٌ فَعَلِّموه ، ولكنْ أخْطر واحد أنَّ منهم مَن لا يدْري ولا يدْري أنَّهُ لا يدْري فهذا شيْطانٌ فاحْذَروه ، وهذا نِصْف العالِمِ ، وهو خطيرٌ ؛ لا هُوَ عالمٌ فيَنْتَفِعُ بِعِلْمِهِ ، ولا هو جاهِلٌ فَيَتَعَلَّم، قال تميمُ بن حَذْلَم : "جالَسْتُ أصْحاب النبي صلى الله عليه وسلَّم وما رأيْتُ أحداً أزْهَدَ في الدنيا ، ولا أرْغَبَ في الآخرة ، ولا أحَبَّ إليَّ أنْ أكون فيه مِن والِهٍ منك يا عبد الله بن مسْعود ، جالَسْتُ أصْحاب رسول الله صلى الله عليه وسلَّم فَوَجَدْتُهُم كالإيخاذ - وهو مُجَمَّعُ الماء - والإيخاذ يرْوي الرَّجُل والرَّجُلَيْن والإيخاذ يَرْوي المئة ، والإيخاذ لو نزل به أهل الأرض لأصْدرهم ؛ فَوَجَدْتُ عبد الله من ذلك الإيخاذ "، فهناك مُجَمَّعُ ماءٍ يرْوي شَخْصاً واحداً ، وهناك مُجمَّع يرْوي المئة ، وجمّع آخر يروي ألفًا ، ومُجَمَّعٌ لو جاء أهل الأرض كلهم لارْتَوَوا منه ، فابن مسْعودٍ من النوع الأخير.
خَبَرٌ لطيفٌ عن عبد الله بن مسْعودٍ ؛ قال عن عبد الله بن يزيد : " ما رأيْتُ فقيهاً قطّ أقَلَّ صَوْماً من ابن مسْعودٍ ، فقيلَ له لمَ لا تصوم فقال : إني أخْتار الصلاة على الصوم ، فإذا صِمْتُ ضَعُفْتُ عن الصلاة .
فَكُلّ شخْصٍ له مزاجُهُ ، أحْياناً تجد شخْصاً يتوافق مزاجُهُ مع الصِّيام ، وبِالمُقابل تجد أنَّ الآخر إذا صامَ تعَطَّل عن كُلّ أعْماله وتُجَمَّدُ ، ولا يسْتطيع أنْ يفْعل شيئاً - الكلام على النَّفْل لا عن الفرْض - فَهُناك من يُوافقهم صوْمُ النَّفْل ، وهناك من يرى أنَّهُ من كثرة الأعْمال الصالحة وكثرة خِدْمَتِهم للناس وكثرة المسْؤولِيات المُناطة بهم إذا صاموا تعطَّلَتْ أعْمالهم كلُّها ، فَسَيِّدُنا ابن مسْعودٍ كانَ واقِعِياً : إني أخْتار الصلاة على الصوم ، فإذا صِمْتُ ضَعُفْتُ عن الصلاة ، يبْدو أنَّ تِلاوَتَهُ وقِراءَتَهُ وصلاته وعمله الصالح لا ينْشط لها إلا وهو في الإفْطار ، لذلك كان أصْحاب رسول الله صلى الله عليه وسلَّم في سَفَرٍ ، بعضُهُم صام وبعضهم الآخر أفْطر ؛ وأجْمَلُ شيءٍ في هَذه الرِّواية قال : إنَّ الذين صاموا لم يأخُذوا على الذين لم يصوموا ، والذين لم يصوموا لم يأخذوا على الذين صاموا ، أما الآن إذا صام أحدُهُم عاشوراء ، كلما الْتقى بِشَخْصٍ يقول له : ألَسْتَ صائِماً اليوم ؟ ألَسْتَ كذا وكذا ؟ يُشْهِّر نفسه في هذا اليوم ، ويرى أنَّ من لم يَصُمْهُ كأنَّهُ قد ارْتكب جريمة !! وهناك أشْخاص ألَمَّ بهم المرض ، وآخرون مُتْعَبون ، وذاك معه قَرْحَة فى المِعدة ، فَكُلُّ واحدٍ له وضْعُهُ الخاص ، فلا تتَدَخَّل ، أنت عليك الفرائِض ، فإذا وَجَدْته في رِمَضان مُفْطِراً فعليك أنْ تُؤاخِذَهُ ، أما فيما عداه فَكُلُّ جِسْمٍ له مزاج ووضْع ، هناك أعْمالٌ شاقَّة ، اُنْظر إلى سيّدنا عبد الله بن مسْعود قال : " إني أخْتار الصلاة على الصوم ، فإذا صِمْتُ ضَعُفْتُ عن الصلاة ".
مرَّ أحد الصحابة بِسَيِّدِنا عبد الله بن مسْعودٍ بِسَحَرٍ وهو يقول : " اللهمّ دَعَوْتني فَأَجَبْتك ، وأَمَرْتني فَأَطَعْتُك ، وهذا سَحَرٌ فاغْفِرْ لي "؛ ألم يقل النبي عليه الصلاة والسلام : يَنْزِلُ رَبُّنَا تَبَارَكَ وَتَعَالَى كُلَّ لَيْلَةٍ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا حِينَ يَبْقَى ثُلُثُ اللَّيْلِ الْآخِرُ فَيَقُولُ مَنْ يَدْعُونِي فَأَسْتَجِيبَ لَهُ مَنْ يَسْأَلُنِي فَأُعْطِيَهُ مَنْ يَسْتَغْفِرُنِي فَأَغْفِرَ لَهُ *
[رواه البخاري عن أبي هريرة]
وهذه نصيحَتي لكم جميعاً ؛ إذا ضاقَتْ الأُمور ، وتريد من الله عطاءً أو فَرَجًا ، وكانت الأمور مُعَسَّرة ، فإذا كان ثُلُثُ الليل الأخير نزل ربكم إلى السماء الدنيا: يَنْزِلُ رَبُّنَا تَبَارَكَ وَتَعَالَى كُلَّ لَيْلَةٍ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا حِينَ يَبْقَى ثُلُثُ اللَّيْلِ الْآخِرُ فَيَقُولُ مَنْ يَدْعُونِي فَأَسْتَجِيبَ لَهُ مَنْ يَسْأَلُنِي فَأُعْطِيَهُ مَنْ يَسْتَغْفِرُنِي فَأَغْفِرَ لَهُ *
[رواه البخاري عن أبي هريرة]
قال ذلك الصحابيُّ الذي سمع ابنَ مسعود يدعو سحَرًا : فلما أصْبَحْتُ غَدَوْتُ عليه وسألته ، فقال: إنَّ يعْقوب لما قال لِبَنيهِ سوف أسْتَغْفِرُ لكم أخَّرَهُم إلى السَّحَر - اُنْظر إلى الفَهْم الدقيق - سيّدنا يعْقوب قال : سوف أسْتغْفر لكم ربي ولماذا لم يقُل : سوفَ أسْتغفر لكم الآن ؟ قال : لأنَّهُ يعْلم أنَّ وقْتَ السَّحر وَقْتَ إِجابة ، ولذلك دعا ابن مسعود في السَّحَر قائلاً : اللهمّ دَعَوْتني فَأَجَبْتك ، وأَمَرْتني فَأَطَعْتُك ، وهذا سَحَرٌ فاغْفِرْ لي .
والحمد لله رب العالمين(/)
الدرس 36/50 ، سيرة الصحابي : عقبة بن عامر الجهني ، لفضيلة الأستاذ محمد راتب النابلسي .
تفريغ : المهندس عبد العزيز كنج عثمان .
التدقيق اللغوي : الأستاذ غازي القدسي .
التنقيح النهائي : المهندس غسان السراقبي .
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا ، وانفعنا بما علمتنا وزدنا علما، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .
أيها الإخوة المؤمنون ... مع الدرس السادس والثلاثين ، من دروس سيرة أصحاب رسول الله رضوان الله تعالى عليهم أجمعين ، صحابي اليوم ، سيدنا عقبة بن عامر الجهني .
هذا الصحابي الجليل يمثِّل نموذجاً إنسانياً فذًّا ، أراد الحدَّ الأدنى في سلّم الإيمان ، ثم عدل عنه إلى الحدَّ الأقصى ، وسوف ترون كم هي المسافة كبيرةٌ بين الحد الأدنى والحد الأقصى ، وفي سورة الواقعة ، إشارةٌ في آخرها إلى هذا المعنى :
( سورة الواقعة )
يوجد عندنا سابق مقرَّب ، وهناك أصحاب اليمين ، فالمؤمن مِن بيته إلى دكانه ، من بيته إلى وظيفته ، صائم مصَلٍّ مستقيم ، يدفع زكاة ماله ، نفسيته طيبة ، فهنيئًا له ، أنعم وأكرم بهذا المؤمن ، لكن هناك مستويات أعلى ، هذا الذي يجنِّد كل إمكاناته ، وطاقاته ، وعلمه ، وحجَّته ، ووقته ، وعضلاته في سبيل الحق ، هذا من السابقين السابقين ، هذا يرفعه الله سبحانه وتعالى إلى أعلى عليِّين .
والإنسان أيها الإخوة ... مطلوبٌ منه أن يكون طموحاً ، فبإمكانك أن تأخذ الحد الأدنى ،فلا تؤذي أحداً ، وتبتعد عن أن تعتدي على أحد ، من بيتك إلى عملك ، تؤدِّي صلاتك ، و تدفع زكاة مالك ، تغض بصرك ، تحسن إلى جيرانك ، هذا مستوى .
لكن هناك مستوى أعلى وأرقى ؛ أن تساهم في نشر هذا الدين ، أن تسخِّر كل إمكاناتك ، في الدعوة إلى الله ، أن تجعل من شخصك ، مثلاً أعلى للناس ، أن تنفق المال في سبيل الله ، لا أن تنفقه في المباحات ، أن تجعل من وقتك كلِّه ، وقتاً مستغلاًّ في سبيل الله وقتًا مكرَّسًا للدعوة في سبيل الله .
سيدنا عقبة بن عامر الجُهني ، صحابيٌ جليل ، له غنيمات ، يحرص عليها حرصاً بالغاً ، كان يرعاها خارج المدينة ، ثم خطر في باله ، أن يلتحق برسول الله صلى الله عليه وسلَّم ، وسوف ترون ، كم هي المسافة بين الحالين .
فالنبي عليه الصلاة والسلام ، يبلغ مشارف المدينة ، في الهجرة ، ونحن في ذكرى الهجرة هذه الأيام ، وها هم أولاء أهل المدينة الطيبة يتزاحمون على الدروب ، وفوق السطوح ، مهلِّلين مكبِّرين فرحاً بلقاء النبي صلى الله عليه وسلَّم ، نبي الرحمة ، وصاحبُه الصدِّيقُ ، وها هن الفتيات الصغيرات ، ينشدن :
***
طلَعَ الْبَدرُ عَلَينَا منْ ثَنِياتِ الوَداع
وَجَبَ الشُكُرُ عَلَيِنَا مَا دَعَا للّهِ دَاع
***
وهذا موكب النبي الكريم ، يتهادى بين الصفوف ، تحفُّه المهج المشتاقة ، وتحوطه الأفئدة التوَّاقة، وتنثر حواليه دموع الفرح ، وبسمات السرور .
لكن عقبة بن عامر الجهني لم يشهد موكب رسول الله صلى الله عليه وسلَّم ، ولم يسعد باستقبالِهِ مع المستقبلين ، ذلك أنه كان قد خرج إلى البوادي بغنيماتٍ له ليرعاها هناك ، بعد أن اشتد عليها السغب ، وخاف عليها الهلاك ، وهي كل ما يملك من حطام الدنيا .
فلو أردنا ، أن نسقط هذا الكلام على حياتنا اليومية ، إنسان مشغول بدكانه ، يقول لك : نحن هذه الأيام عندنا موسم ، فهو إنسان مشغول بتجارته ، وآخر مشغول بمعمله ، وثالث اشترى أرضًا ، وهو يزرعها ، أين أنت ؟ فيجيب : واللهِ في المزرعة ، ما رأيناك هذا الأسبوع في الدرس ، واللهِ كنا في المزرعة مشغولين ، فمَن شغلته الدنيا فهذا مباح ، والمباح مِن الحلال، ولا يعنينا هنا الحرام إطلاقاً ، إنسان مشغول بدنياه .
فالصحابة الكرام مهاجرون وأنصار استقبلوا رسول الله ، وهذا الصحابي الجليل كان في البوادي مع غنيماتٍ له يرعاها .
لكنَّ الفرحة التي غمرت المدينة المنورة ، ما لبثت أن عمَّت بواديها القريبة والبعيدة ، وأشرقت في كل بقعةٍ من بقاعها الطيبة ، وبلغت تباشيرها عقبة بن عامر الجهني ، وهو مع غنيماته بعيداً في الفلوات ، أخبار مجيء النبي ، وصلت إلى البوادي ، كما أنّ أخبار استقباله وصلت إلى البوادي والحواضر .
لاحظْ الآن شعور سيدنا عقبة ، فقد كان بعيدًا عن رسول الله ، بعيدًا عن استقباله ، مشغولاً بغنيماته ، لكن لا تنسَ أيها الأخ الحديث القدسي : مَنْ شَغَلَهُ الْقُرْآنُ وَذِكْرِي عَنْ مَسْأَلَتِي أَعْطَيْتُهُ أَفْضَلَ مَا أُعْطِي السَّائِلِينَ وَفَضْلُ كَلامِ اللَّهِ عَلَى سَائِرِ الْكَلامِ كَفَضْلِ اللَّهِ عَلَى خَلْقِهِ *
( سنن الترمذي عن أبي سعيد الخدري)
شيء كبير بالتعبير العامي ، لمَّا تطلب العلم ، ولمَّا تنتزع من وقتك الثمين وقتًا لحضور مجالس العلم ، ولمَّا تنتزع من وقتك وقتًا لمعرفة الله ، ولمَّا تنتزع وقتًا ، من وقتك الثمين للدَّعوة إلى الله ، ولمَّا تنتزع وقتًا من وقتك الثمين لإصلاح ذات البين ، فهذا عمل عظيم ، كله مسجل .
يقول أصحاب السِّيَر : فلنترك الكلام لعقبة بن عامر ليروي لنا قصته ، مع رسول الله صلى الله علية وسلَّم ، قال عقبة : قدم رسول الله صلى الله عليه وسلَّم المدينة ، وأنا في غنيماتٍ لي أرعاها .
فالواحد منّا أيها الإخوة ، لا يكون أسير دكانه ، وأسير تجارته ، وأسير معمله ، وأسير مهنته ، وأسير بيته ، قابعًا في البيت ، مستعدًّا أن يتخلّى عن أكبر طاعة ، وعن واجب ديني ، وعن عمل جليل ، وعن بطولة ، من أجل تلبية حاجة أهله ، أو مزاولة عمله ، فواجب الإنسان أكبر من بيته ، وأكبر من عملِهِ ، أكبر مِن كل شاغل ، والله عزَّ وجل يقول :
( سورة المدثر )
يعني الله أعظم ، من أن تُشغل عنه .
فسيدنا عقبة بن عامر الجهني قال : قدم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ، المدينة وأنا في غنيمات لي أرعاها ، فما إن تناهى إليَّ خبر قدومه صلّى الله عليه وسلّم ، حتى تركتُها ، ومضيت إليه ، لا ألوي على شيء ، إيمان جيد ، فلّما لقيته قلّت : يا رسول الله تبايعني ؟ فقال عليه الصلاة والسلام : فمن أنت ؟ قلتُ : أنا عقبة بن عامر الجهني .
انظرْ إلى الأدب ، فقد سأله النّبي : من أنت ؟ والإنسان لا شك يحب أن يتعرف على إخوانه، أخ يداوم معه منذ ثماني سنوات ، لا يعرف اسمه ، لا ما عمله ، ولا كم مرة التقيت معه !! ألا يجب أن يكون بينكم تعارف ؟ أحياناً هذه المعرفة تثمر خيراً كبيراً ، من ثمراتها التواصل ، والتوادد والتعاون ، يرقى عند الله عزَّ وجل ، أحياناً يُعاوَن معاونة طيبة ، يرقى عند الله عزَّ وجل ، والتعارف من سنة رسول الله ، أمّا الفوضى ، أحضرْ وامشِ ، ليس لي علاقةٌ مع أحد ، هناك جامعات فيها نظام الاستماع ، وأيّ إنسان يتمكن أنْ يدخل هذه الجامعة حاليًّا ، يحضر ويدخل في شعبة الطب ، ويأخذ شهادة ؟ أما إذا كان اسمه موجودًا في السجلات ، يُعدُّ طالبًا نظاميًا ، ويصبح دكتورًا بعد ذلك .
الأخ المتفوق الذي له أعمال طيبة يحفظ اسمه مباشرةً ، أمّا الذي ليس له أي سيئة ، ولا حسنة ، وهو على الحياد ، فهذا قلما يذكره الإخوة الكرام إذا غاب ، أما بعضُ الإخوة إذا غاب درسًا واحدًا أحدث فراغًا ، فكنْ من هذا النوع ، إذا غِبتَ درساً تُحدِثُ فراغاً ، فلان لم يأتِ اليوم، فنحن أسرة متآخية ، فلِمَ ؟ اسألوا عنه .
قال له : من أنت ؟ قال له : أنا عقبه بن عامر الجهني ، دققوا في هذا السؤال .. قال عليه الصلاة والسلام : أيُّما أحبُّ إليك ، تبايعني بيعةً أعرابيةً ، أو بيعة هجرةٍ ؟
أي أأنت تحب إسلامًا من بعيد ؟ لقد كنتَ في البادية فأتيتَ إلينا ، تحب أن تبايعني يا عقبة بيعة باديةٍ ، أعرابيةٍ ، أو بيعة هجرةٍ ؟ فهل ستعطينا شيئًا من وقتك ؟ وشيئًا من طاقتك ؟ وشيئًا من جهدك ، وتكون كلَّك لله عزَّ وجل ؟ كلّ وقتك ، وكل طاقتك، وكل إمكانياتك .
قلت : بل بيعة هجرةٍ ، وهذه أعلى رتبةً ومنزلة وقربًا ، فبايعني رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على ما بايع عليه المهاجرين ، وأقمتُ معه ليلةً ، ثم مضيت إلى غنمي ، ليلة واحدة ، وكنا إثني عشر رجلاً مِمَّن أسلموا ، نقيم بعيداً عن المدينة ، لنرعى أغنامها في بوادينا ، فقال بعضنا لبعض: والله لا خير فينا ، إذا نحن لم نقدُم على رسول الله صلّى الله عليه وسلًم، يوماً بعد يوم، ليفقِّهنا في ديننا ، وليسمعنا ما ينزل عليه من وحي السماء ، فليمض كلَّ يومٍ واحدٌ منا إلى يثرب، وليترك غنمه لنا ، فنرعاها له .
والله ، هذا اتِّفاقٌ جميل ، لقد اتفق هؤلاء على أن يرسلوا كلَّ يومٍ واحداً منهم إلى النّبي عليه الصلاة والسلام ، ليستمع منه إلى وحي السماء ، ثم ليعود إلى أصحابه ، فيبلِّغهم ذلك .
فقلت لهم : اذهبوا إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم واحداً بعد آخر ، وليترك لي الذاهب غنمه ، لأني كنت شديد الإشفاق على غنيماتي مِن أن أتركها لأحد .
أي آثر غنماته على أن يذهب يومًا كل فترة إلى النّبي عليه الصلاة والسلام .
حينما أخبر النّبيُّ عليه الصلاة والسلام سيدَنا الصديق أنه مهاجر ، سمح له أن يكون رفيقه، فعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ لَقَلَّ يَوْمٌ كَانَ يَأْتِي عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَّا يَأْتِي فِيهِ بَيْتَ أَبِي بَكْرٍ أَحَدَ طَرَفَيْ النَّهَارِ فَلَمَّا أُذِنَ لَهُ فِي الْخُرُوجِ إِلَى الْمَدِينَةِ لَمْ يَرُعْنَا إِلَّا وَقَدْ أَتَانَا ظُهْرًا فَخُبِّرَ بِهِ أَبُو بَكْرٍ فَقَالَ مَا جَاءَنَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَذِهِ السَّاعَةِ إِلَّا لِأَمْرٍ حَدَثَ فَلَمَّا دَخَلَ عَلَيْهِ قَالَ لِأَبِي بَكْرٍ أَخْرِجْ مَنْ عِنْدَكَ قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّمَا هُمَا ابْنَتَايَ يَعْنِي عَائِشَةَ وَأَسْمَاءَ قَالَ أَشَعَرْتَ أَنَّهُ قَدْ أُذِنَ لِي فِي الْخُرُوجِ قَالَ الصُّحْبَةَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ الصُّحْبَةَ قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ عِنْدِي نَاقَتَيْنِ أَعْدَدْتُهُمَا لِلْخُرُوجِ فَخُذْ إِحْدَاهُمَا قَالَ قَدْ أَخَذْتُهَا بِالثَّمَنِ*
(رواه البخاري)
فالإنسان في بعض أطوار إيمانه لا يستطيع أن يدع إخوانه المؤمنين أبداً ، حياته معهم ، المسجد بيته ، فهو في المسجد كالسمك في الماء ، فإذا خرج منه شعر بالضياع ، حتى الذهاب إلى النبي اعتذر عنه ، وقال : دعوني ، اذهبوا أنتم إلى مجلس النّبي الكريم واحداَ بعد آخر ، وليتركْ ليَّ الذاهب غنمه ، لأني كنت شديد الإشفاق على غُنيماتي ، لا أحب أن أتركها لأحد .
ثم طفق أصحابي يغدون الواحد تلوَّ الآخر إلى النّبي صلّى الله عليه وسلّم ، ويترك لي غنمه أرعاها له ، فإذا جاء أخذت منه ما سمع ، وتلقيِّت عنه ما فقه ، لكنني ما لبثت أن رجعت إلى نفسي ، وقلت : ويحك ، أمن أجلُّ غنيماتٍ لا تسمن ، ولا تغني ، تفوِّت على نفسك صحبة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ؟ والأخذ عنه مشافهةً ، من غير واسطة ؟ ثم تخلّيت عن غنيماتي ، ومضيت إلى المدينة ، لأقيم في المسجد ، بجوار رسول الله صلّى الله عليه وسلّم .
فالملازمة جزء أساسي من دين الإنسان ، والمتابعة ، والثبات ، والدوام ، أن تكون دوماً مع المؤمنين ، دوماً معهم في مهماتهم ، في دروسهم ، في أعيادهم ، في مسراتهم ، في مناشطهم ، أنت معهم دائماً ، أما أن يغيب الإنسان لمصالحه الشخصية ، ويؤثرها على الله ورسوله ، فهذا لا يغني ولا يشفي .
سيدنا عقبة بن عامر الجهني إنسان يرعى غنيمات في البادية ، ما مرتبته الاجتماعية ؟ راعي غنم ، وأعتقد أن أقل وظيفة في الأرض أن تكون راعي غنم ، اذهب إلى أطراف البادية فستجد راعي الغنم إنسانًا لا يملكُّ شيئاً من الدنيا ، لا ثقافة ، ولا علّم ، ولا إمكانيات ، يرعى الغنم ، لكن سيدنا عقبة بن عامر الجهني ، لما لازم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ، ولعلكم لا تصدقون ، قال : لم يكن يخطر على بال عقبة بن عامر الجهني حين اتخذ هذا القرار الحاسم الحازم ، راعي الغنم ، الذي آثر غنيماته في البادية على مجلس رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، لما اتخذ قراراً حازماً حاسماً بملازمة النّبي عليه الصلاة والسلام ، مَن منكم يصدِّق ، أنه سيغدو بعد عقدٍ من الزمان - والعَقْد عشرُ سنوات - عالماً :
1ـ عالماً من أكابر علماء الصحابة .
2ـ قارئاً من شيوخ القرَّاء .
3ـ قائداً من قوَّاد الفتح .
4ـ والياً من ولاة الإسلام المعدودين .
ولم يخطر على باله مجرَّد التخيُّل وهو يتخلّى عن غنيماته ، ويمضي إلى الله ورسوله ، أنه سيكون في طليعة الجيش الذي يفتح دمشق ، هو الذي ساهم مع قيادة الجيش في فتح دمشق ، ويتخذ لنفسه داراً بين رياضها النضرة عند باب توما ، دارُ هذا الصحابي الجليل ، عند باب توما، ولم يكن يتصور ، أنه سيكون أحد القادة الذين سيفتحون مصر ، وأنه سيغدو والياً عليها ، ويتخذ لنفسه داراً في سفح جبلها المقطم ، كلُّ هذا كان بعد أن تخلّى عن غنيماته .
دعْك مِن هذه الدكان ، الإمام أبو حنيفة رضي الله عنه ، قال : من طلب العلم تكفَّل الله له برزقه .
قال : كان الحديث منعطفًا في حياتي ، وطلب العلم .
الله عزَّ وجل أكرم الأكرمين ، إذا شغلك شيءٌ عن طلب العلم فدعْه ، ولا تقبلْ عملاً يحرمك من طلب العلم ، شرطوا عليك دوامًا إلى الساعة العاشرة ليلاً كلَّ يوم ، إذًا فلن تحضر أي درس، يقولون لك : أما أعجبك هذا الدوام ؟ لا ، إذًا مع السلامة ، وأنا لي الله الرازق ، ومَن بيده الخير، لا أحد يقبل عملاً يحرمه من كل دروس العلم ، فليس معقولاً ذلك .
لا تسمح لزوجة ، أو لأيّ عمل مهما كان نوعه ؛ دكان ، معمل صغير ، مزرعة ، مدجنة، أن يستهلكك نهائيًّا ، فالعمر قصير مهما طال ، والأجل قريب ، وملّك الموت بالمرصاد ، فماذا قدَّمت ؟ واللهِ لا شيء ، هذه قاصمة الظهر .
والله أيها الإخوة ... موقف لا أنساه أبداً ، أخ كان يحضر بعض الأحيان ، بلَّغني ابنه أنه توفي ، رحمه الله ، فحضرتُ جنازته ، وقام أحد الدعاة فأبَّنه ، قال : أخوكم أبو فلان ، كان مؤذنًا ، ترحموا عليه ، كلمة واحدة ، لم يتمكن أن يتكلمَّ كلمة ثانية ، ولا كلمة ثالثة ، فلعله لم يجد إيجابيات أخرى لتأبينه ، فالإنسان يعمل عملاً في الدنيا ويتكلمون عند تأبينه عشر دقائق فقط، أو عشرين دقيقة ، أو نصف ساعة ، فأنت حجمك عند الله بحجم عملك الصالح ، فماذا فعلت أنت ؟ حينما يوقفك ربنا عزَّ وجل بين يديه ، يقول لك : يا عبدي ماذا فعلت ؟ أين عملك ؟ أين جهادك ؟ أين طاعتك ؟ أين بذلُك ؟ أين تضحيتك ؟ فتجد ما قدَّمت .
ولْنَعُدْ إلى عامر الجهني ، فقد غدا هذا الصحابي الجليل بعد أن صحب رسول الله صلَّى الله عليه وسلّم عالماً من أكابر علماء الصحابة ، ثم قارئاً من شيوخ القرَّاء، وقائداً من قوَّاد الفتح ، ووالياً من ولاة الإسلام ، وهو الذي ساهم في فتح دمشق ، وصار والياً عليها ، وساهم في فتح مصر ، وصار والياً عليه ، لذلك هذا الحديث القدسي يجب أن يبقى في أذهانكم : مَنْ شَغَلَهُ الْقُرْآنُ وَذِكْرِي عَنْ مَسْأَلَتِي أَعْطَيْتُهُ أَفْضَلَ مَا أُعْطِي السَّائِلِينَ وَفَضْلُ كَلامِ اللَّهِ عَلَى سَائِرِ الْكَلامِ كَفَضْلِ اللَّهِ عَلَى خَلْقِهِ *
( سنن الترمذي عن أبي سعيد الخدري)
أنت تريد وأنا أريد ....
ولْنستمع إلى هذا الحديث القدسي الآخر : " أنت تريد وأنا أريد ، فإذا سلَّمت لي فيما أريد ، كفيتك ما تريد ، وإن لم تسلّم لي فيما أريد أتعبتك فيما تريد ، ثم لا يكون إلا ما أريد " .
مَنْ شَغَلَهُ الْقُرْآنُ وَذِكْرِي عَنْ مَسْأَلَتِي أَعْطَيْتُهُ أَفْضَلَ مَا أُعْطِي السَّائِلِينَ وَفَضْلُ كَلامِ اللَّهِ عَلَى سَائِرِ الْكَلامِ كَفَضْلِ اللَّهِ عَلَى خَلْقِهِ *
( سنن الترمذي عن أبي سعيد الخدري)
" ابن آدم ، كن لي كما أريد ، ولا تعلمني بما يصلحك ، كن لي كما أريد أكن لك كما تريد " .
أنت تعامل مَن ؟ تعامل خالق الكون ، هل يعجزه شيءٌ في السماوات و الأرض ؟.
" ما ترك عبدٌ شيئاً لله ، إلا عوضه الله خيراً منه في دينه ودنياه " .
(ذكره ابن كثير في تفسيره لسورة النحل ، الآية 40-41 ، من قول مجاهد)
" أوحى ربك إلى الدنيا ، أنه من خدمك فاستخدميه " ....
يحرق نفسه ، ويعيش في الهمِّ ، ويموت في الهمِّ ، وضغوط ، وهموم لا نهاية لها ، فخذ من الدنيا ما شئت ، وخذ بقدرها همًّا .
" أوحى ربك إلى الدنيا ، أنه من خدمك فاستخدميه ، ومن خدمني فاخدميه " .
بالتعبير الدارج ، " حوينتك " ، أيْ خسارتك كبيرة كبيرة أن تكون لغير الله عزَّ وجل ، " حوينتك " ، وتكون قد احتقرتَ نفسك ، حين تبيعها لغير الله عزَّ وجل ، وربنا عزَّ وجل يقول :
( سورة فاطر )
قال بعض العلماء : القبر هو الشهوة ، هذا غريق ، قبره مزرعته ، وهذا قبره دكانه ، وهذا قبره بيته ، وهذا قبره هواياته ، بعض الناس يشاهد المباريات الرياضية خمس ساعات ، وكأن هذا أصبح ديناً جديداً ، فالوقت ثمين جداً ، لأنه العمر الذي تحياه .
لزم عقبةُ بن عامر الجهني رسولَ الله صلّى الله عليه وسلّم لزوم الظل لصاحبه ، فكان يأخذ له بزمام بغلته أينما سار .
فأنا قصدي أن هناك أعمالاً صالحة كثيرة ، فالزمْ عملاً صالحًا لوجه الله ، خدمة مسجد ، تأمين حاجة مؤمنين ، دعوة إلى الله ، رعاية أيتام ، رعاية فقراء ، تأسيس جمعيات خيرية ، تأليف كتب ، أن ترفع الإسلام على كتفيك ، أن تُسهم ، في نشر هذا الدين ، أن توقظ إنسانًا غافلاً عن الله ، إذا أردت أن تسعد فَأسعِد الآخرين ، أخرج من ذاتك إلى خدمة الآخرين .
واللهِ قال لي صديق ، وهو صادقٌ عندي ، وكان عائداً من مصيف ، يركب مركبته ، شاهد امرأة ، هذه القصة كانت وقت أحداث لبنان ، امرأة تحمل طفلاً صغيراً ، وإلى جانبها رجل ، وكأن هذه المرأة مضطربة ، فوقف ، وقال : ما المشكلة : طفل صغير حرارته "41 " درجة ، على مشارف الموت ، وهي امرأةٌ غريبة ، جاءت من لبنان مع زوجها ، لا تدري ماذا تفعل ؟ قال لي : واللهِ أركبتها هي وزوجها في السيارة ، وأخذتها إلى طبيب ، ثم إلى مستشفى للحقن ، ثم إلى صيدليات مناوبة ، وعدتُ بها إلى المكان الذي أخذتُها منه الساعة الرابعة فجراً ، أقسمَ لي بالله أنه بقي عشرة أيام مغموساً في سعادةٍ لا توصف ، فالمسلم يحتاج إلى عمل لوجه الله ، انطلِقْ ساعةً من نهار لله عزَّ وجل ، لا تبتغي بها إلا وجه الله عزَّ وجل ، وانظر كيف أن الله سبحانه وتعالى يتجلَّى على قلبك ، أحياناً يتعب الإنسانُ كثيراً ، فينام ساعة من الزمن فيرتاح ، لكن عندما يؤدّي عملاً لوجه الله ، يشعر أن الله راضٍ عنه ، أن الله يحبه ، فيرتاح راحةً نفسيةً تعوِّضه ما بذل من جهدٍ جسدي .
بعض إخواننا الذين يعملون في خدمة الفقراء ، يخرج من بيت ويدخل بيتًا في رأس الجبل، حتى يتفقد أحوال أسرة ، ليس له مصلحة شخصية ، بيته فخم ، وسيارته حديثة ، لكنه يتقصى أحوال الناس حتى يصل إلى رضاء الله عزَّ وجل ، الخلق كلهم عيال الله ، وأحبهم إلى الله ، أنفعهم لعياله .
فهذا الصحابي لزم النبي عليه الصلاة والسلام .
أين أنتَ موظف ؟ واللهِ توظَّفتُ عند الله ، الوظائف عند الله عزَّ وجل كثيرة ، ليس له مِن ورائها مصلحة خاصة ، إما في الدعوة إلى الله ، أو في خدمة الخلق .
واللهِ من باب الشكر ، لا مِن باب الفخر ، لا والله ، دُعيتُ منذ فترة لإلقاء محاضرات على طلاب جيء بهم من أطراف الدنيا ، من الشاشان ، من الدول الإسلامية التي ظهرت بعد انهيار الاتحاد السوفيتي ، من بلاد داغستان ، ومن الشاشان ، من يوغوسلافيا ، خطباء مساجد ، يحتاجون لمعارف كثيرة ، لإلقاء محاضرات ، واللهِ شعرتُ بسعادةٍ لا توصف ، كانت لوجه الله، ولم أبتغِ درهماً ولا دينارًا ، اسأل نفسك هذا السؤال مساءً : ما عملك ؟ ما العمل الذي تلقى اللهبه؟ خدمة ، دعوة ، تعليم ، معاونة ، تمريض مريض ، تأمين دواء لمريض ، زيارة فقير ، عيادة مريض ، رعاية أرملة ، رعاية يتيم ، إنقاذ حيوان.
فهذا سيدنا عقبة ، لزم النبي عليه الصلاة والسلام ، فكان كظله ، يمضي بين يديه أين اتجه، وكثيراً ما أردفه النبي وراء ظهره ، حتى دُعي برَدِيفِ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ، وربما نزل له النبي الكريم عن بغلته ، ليكون هو الذي يركب ، والنبي عليه الصلاة والسلام هو الذي يمشي .......
تحدَّث عقبة فقال : كنت آخذًا بزمام بغلة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في بعض طرق المدينة ، فقال لي النبي : اركب ، وهو يمسك بزمام البغلة ، قال لي : يا عقبة ألا تركب ؟ فهممتُ أن أقول : لا ، لكني أشفقت أن يكون في هذا معصيةٌ لرسول الله .
يا ترى أيُّهما أفضل ، الأدب أم الامتثال ، قلت : نعم يا نبي الله ، فنزل الرسول عن بغلته، وركبتُ أنا امتثالاً لأمره ، وجعل هو يمشي .
النبي يمشي ، وسيدنا عقبة راكب .
ثم ما لبثت أن نزلتُ عنها ، وركب النبي عليه الصلاة والسلام ، ثم قال لي : يا عقبة ، ألا أعلِّمك سورتين لم يُرَ مثلهما قط ؟ قلت : بلى يا رسول الله ، فأقرأني ..
( سورة الفلق )
و
( سورة الناس )
ثم أُقيمت الصلاة ، وتقدَّم وصلّى بهما ، وقال : اقرأْهما كلّما نِمْتَ ، وكلّما قمتَ ، هذا توجيه النبي ، اقرأهما كلّما نمت ، وكلّما قمت ، قال عقبة : فما زلت أقرأهما ما امتدت بي الحياة ، قبل أن أنام ..
( سورة الناس )
إذا نام ..
( سورة الفلق)
إذا نام ، وإذا استيقظ ، جعل عقبة همه ، في أمرين اثنين ، العلم ، والجهاد ، وانصرف إليهما بروحه ، وجسده ، وبذل لهما من ذاته أسخى البذل ، وأكرمه .
أما في مجال العلم ، فقد جعل يعبُّ من مناهل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم .
فكلّ أخ يحضر مجلس علم ، فلا بد أنْ يتعلم ، فاكتسِبْ لقب طالب علم ، عندنا وهْمٌ مؤلم جداً ، أنّ فلانًا ليس معه شهادة ، مَن قال لك ذلك ؟ هذا الذي حضر أكثر مِن عشر سنوات ، كل أسبوع أربعة دروس أو خمسة ، درس تفسير ، ودرس فقه ، درس حديث ، ودرس سيرة ، هذا صار عالم ، لأنه يتعلم ، ثم هذه المعلومات ، تتراكم ، تتراكم ، تتراكم ، والدليل سلوكه ، أديب، أخلاقي ، وفيّ ، صادق ، مستقيم ، عنده حياء ، منصف ، هذه الأخلاق كلُّها من هذا العلم .
وعَنْ مَسْرُوقٍ قَالَ كَفَى بِالْمَرْءِ عِلْمًا أَنْ يَخْشَى اللَّهَ وَكَفَى بِالْمَرْءِ جَهْلًا أَنْ يُعْجَبَ بِعِلْمِهِ *
( سنن الدارمي : رقم " 316 " )
يجب ألاّ تقللوا من قيمة حضور الدروس في المساجد ، هذه المساجد جامعات ، لكن من نوع آخر ، لا تحتاج لرسم دخول ، ولا في نهايتها امتحانات كتابية ، الامتحان في المسجد التطبيق ، إذا طبَّقت نجحت ، وإذا لم تطبق لم تنجح ، ما هي الجامعة ؟ مقعد ، وأستاذ ، وسبورة، وحديث ، وكتاب ، هذه هي الجامعة ، والجامع يؤدِّي الدورَ نفسه ، دينٌ ، وعلمٌ ، لكن المسجد يرقى بنفسه ويهذبها .
فهذا الصحابي الجليل ، جعل همه في أمرين اثنين : العلم ، والجهاد ، وانصرف إليهما ، بروحه ، وجسده ، وبذل لهما من ذاته أسخى البذل وأكرمه .
أما في مجال العلم فقد جعل يعبُّ من مناهل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم .. الثرَّة العذبة، حتى غدا مقرئًا .
واللهِ حينما يطلب مني أخٌ أن يتعلّم التجويد ، صدقوني يكبر في عيني كثيرًا ، لأنك أنت مسلم إنْ قدموك إلى الصلاة ، فأسقطتَ حكمين أو ثلاثة ، أسقطْتَ إدغامًا ، أو غنة ، ينتقدك المصلون ، فتعلّم ، وكلما كان السن أصغر كان أثرَ العلم أكبر ، وكلما كبر الإنسان فتعلُّمه كالكتابة على الماء، لأنّ إمكانية التلقِّي والتعلم تتناقض مع تقدُّم السنّ ، فتعلّم التجويد ، ماذا يشغلك ، احفظ من كتاب الله بعض السور ، وقمْ بعدد من المذاكرات مع إخوانك في القرآن الكريم ، قراءة ، وتجويدًا، وحفظًا ، هذا تجده في ساعاتٍ عصيبة ، ويصبح القرآن مؤنسًا لك .
ترك الغنيمات وتبع النبي عليه الصلاة والسلام ، فصار ، مقرئًا ، محدثاً ، فقيهاً ، فرضياً ، ومعنى فرضي ، أي عالماً بالفرائض ، أي علْم المواريث ، أديباً ، فصيحاً ، شاعراً ، وكان من أحسن الناس صوتاً بالقرآن الكريم ، وكان إذا ما سجى الليل ، وهدأ الكون ، انصرف إلى كتاب الله تعالى ، يقرأ من آياته البيِّنات ، فتصغي إلى ترتيله أفئدةُ الصحابة الكرام ، وتخشع له قلوبهم، وتفيض عيونهم بالدمع من خشية الله .
سيدنا عمر دعاه ، يوماً ، وقال له : اعرضْ عليَّ شيئاً من كتاب الله يا عقبة ، أسمعني ، فقال : سمعاً وطاعة يا أمير المؤمنين ، وجعل يقرأ له ما تيسر من آيِ الذكر الحكيم ، وعمر يبكي ، حتى بللت دموعُه لحيتَه ، وقد ترك عقبة مصحفاً ، مكتوباً بخط يده .
كان كاتبًا ، والكتابة نادرة وقتئذٍ ، ترك الغنمات ، لكن إياكم أن تدعوا أعمالكم ، لا، والله لا أقول هذا ، لكن أنا أخاف أن يستهلك العملُ صاحبَه ، أنا لا أدعوكم أبداً أن تدعوا أعمالكم ، لكن لا تسمح لعملك أنْ يستهلك كل وقتك ، أنت إنسان ، أنت مخلوق لعبادة الله عزَّ وجل ، لمعرفة الله ، لا تفهم مني مرةً ثالثة ، أن تدع العمل ، ولكن افهمْ مني ألاّ تسمح لمهنتك أنْ تقضيَ عليك ، ألاّ تسمح لبيتك أن يلهيك ، البيت له وقت ، والعمل له وقت ، وهناك وقت لله عزَّ وجل ، وهذا الوقت مقدَّس ، لا أعتدي عليه أبداً ، هذا وقت الله عزَّ وجل ، وحينما تمضي وقتاً في طلب العلْم فقد أدَّيت زكاة الوقت ، لأن الله عزَّ وجل قادر أنْ يتلف لك عشر ساعات بأتفه الأسباب ، إذا ضَنَنْتَ بساعة عن مجلس علم ، أتلف لك الله عزَّ وجل عشرَ ساعات بشيء تافه جداً ، يسافر إلى حلب كي يوقِّع معاملة ، أو يريد وثيقة ، فيرجع ويجدها غير مختومة ، لماذا لم تختمها ، ارجعْ مرة ثانية فاختمها ، ينكسر برغي في الآلة ، لا تجد من نوعه في بلدنا ، فتقف عند كراجات الأردن ، وكراجات لبنان ، وتوصي السائقين ، ساعات وساعات ، وأحيانا يقع خلل في صحة ابنك ، ثماني ساعات انتظارًا ، وتصويرًا ، وأشعة ، هذا كلُّه استهلاك للوقت .
لكن حينما تبذل وقتك في سبيل الله يبارك لك ربنا عزَّ وجل في وقتك ، ويطرح فيه البركة.
سيدنا عقبة ، ترك مصحفاً مكتوباً بخط يده ، وبقي مصحفه هذا ، إلى عهدٍ غير بعيدٍ ، موجوداً في مصر ، في الجامع المعروف بجامع عقبة بن عامر ، وقد جاء في آخره ، كتبه عقبة بن عامر الجهني ، ومصحف عقبة هذا ، من أقدم المصاحف ،التي وجدت على ظهر الأرض ، لكنه فُقد ، من جملة ، ما فقد من تراثنا الثمين ، ونحن عنه غافلون .
أما في مجال الجهاد ، فحسبنا أن نعلَم أنّ عقبة بن عامر الجهني شهد مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم أُحُداً ، وما بعدها من المغازي ، وأنه كان أحد الكماة الأشاوس المغاوير ، الذين أبلوا يوم فتح دمشق ، أعزَّ البلاء ، وأعظمه ، فكافأه أبو عبيدة بن الجراح على حسن بلائه ، بأن بعثه بشيراً إلى عمر بن الخطاب في المدينة ، ليبشِّره بالفتح ، فظلَّ ثمانية أيامٍ بلياليها ، من الجمعة إلى الجمعة ، يغِذّ السير دون انقطاعٍ حتى بشَّر الفاروق بالفتح العظيم .
انظرْ إلى الصحابة كيف كانوا ؟ رهبانًا في الليل ، فرسانًا في النهار ، فكان عقبةُ مجاهدًا ، شجاعًا ، بطلاً ، حافظًا قرآن ، كاتبًا ، فصيحًا ، محدِّثًا ، فقيهًا ، فرضيًّا .
ثم إنه كان أحد قادة جيوش المسلمين التي فتحت مصر ، فكافأه أمير المؤمنين ، معاوية بن أبي سفيان ، بأن جعله والياً عليها ثلاثة سنين.
سيدنا عقبة ، وَلِيَ مصر ثلاث سنين ، لأنه ترك الغنيمات ، والأصح أنه ما سمح للغنيمات أن يبعدنه عن رسول الله ، هذه أصح ، فلك أن ترعى الغنم ، ولك أن تتاجر ، ولك أن تعمل ، ولك أن تفتح مصنعًا ، لكنْ لا تسمح لعملك أن يستهلكك ، لا تسمح لبيتك أن يقضي عليك ، أنت مخلوقٌ لمعرفة الله ، قال تعالى :
(الذاريات ، الآية 56)
ثم وجَّهَهُ سيدنا معاوية بن أبي سفيان لغزو جزيرة رودس ، تصوَّروا هذه المهمة ، أعرابيٌّ لم يعرف البحر ، ولكنّ الله يسدِّده ، ويساعده .
أخيرًا صار قائدًا بحريًّا .
وقد بلغ مِن ولعِ عقبة بن عامر الجهني بالجهاد أنه وعى أحاديث الجهاد في صدره ، واختَّص بروايتها للمسلمين ، وأنه دأب على حذق الرماية ، فعَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ يَقُولُ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ يَقُولُ وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ أَلَا إِنَّ الْقُوَّةَ الرَّمْيُ أَلَا إِنَّ الْقُوَّةَ الرَّمْيُ أَلَا إِنَّ الْقُوَّةَ الرَّمْيُ*
( صحيح مسلم : رقم " 3541 " )
هذا الحديث من دلائل نبوة النبي صلّى الله عليه وسلم ، الآن أحدث سلاح ، قيمته ، في دقة الإصابة ، من البحر الأحمر، إلى بناء معين ، في مدينة معيّنة .
....أَلَا إِنَّ الْقُوَّةَ الرَّمْيُ ....*
فكان هذا الصحابي الجليل قد دأب على حذق الرماية ، حتى إنه إذا أراد أنْ يتلهَّى تلهَّى بالرمي .
" علموا أولادكم السباحة والرماية وركوب الخيل"(1) .
كان الصحابة الكرام يركبون الخيل ، وبيد أحدهم السيف ، وبيده الأخرى حفنةٌ من قمح ، أو طحين ، أو من تمر ، وينطلقون إلى الجهاد ، وفي زماننا بيده الشراب المنعس وينطلق إلى ــــــــــــــ
(1) (أخرجه ابن منده في المعرفة عن بكر بن عبد الله بن الربيع الأنصاري من غير قوله : وركوب الخيل ، وزاد : والمرأة المغزل)
الملعب ليشاهد المباراة ، لقد اختلف الأمر كلِّيًّا ، وهان المسلمون كثيرًا .
مرِض سيدنا عقبة بن عامر الجهني مرضَ الموتِ ، وهو في مصر ، فجمع بنيه وأوصاهم، فقال : - وبالمناسبة اليوم أحد إخواننا من شاشان من شمال الأرض ، قال : نحن لا نعرف شيئاً عن الإسلام ، لكن رجلاً من هذا البلد هاجر إلينا ، وعلَّمنا الدين ، وسمَّى اسمه ، قلت : سبحان الله ! واللهِ إنّه لعملٌ عظيم ، إنسان ترك بلاده ، وسافر مع زوجته ، وأولاده ، لبلادٍ نائيةٍ ، نائيةٍ ، بعيدةٍ ، بعيدةٍ ، لا تعرف شيئاً عن هذا الدين ، الذي بقي مقموعاً سبعين عاماً، هذا انتقل إلى تلك البلاد ليعلمهم دينهم ، وصلاتهم ، وصيامهم ، وقرآنهم ، وأين مات عقبة ؟ في مصر ، فقال بعد أنْ جمع بنيه : يا بني ، أنهاكم عن ثلاث ، فاحتفظوا بهن ، لا تقبلوا الحديث عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم إلا من ثقةٍ ، ولا تستدينوا ، ولو لبستُم العباءة، ولا تكتبوا شعراً ، فتشغلوا به قلوبكم عن القرآن .
ولما أدركته الوفاة دفنوه في سفح المقطم ، ثم انقلبوا إلى تركته يفتشونها .
ماذا ترك ؟ فإذا هو قد خلَّف بضعًا وسبعينً قوساً ، مع كلِّ قوسٍ قرنٌ ونبال ، وقد أوصى بهن أن يُجعلن في سبيل الله .
نضَّر الله وجه القارئ العالم ، الغازي ، عقبة بن عامر الجهني، وجزاه الله عن الإسلام والمسلمين خيراً ، فهذا سيدنا عقبة بن عامر الجهني ، بفضل مؤاثرته رسول الله ، على دنياه المحدودة ، وصل إلى هذه المراتب ، وأختم بقول الله تعالى :
(سورة ق)
والحمد لله رب العالمين
***(/)
الدرس 27\50 سيرة الصحابي : سيدنا عكرمة رضي الله عنه لفضيلة الأستاذ محمد راتب النابلسي.
تفريغ : م المهندس عرفان نابلسي .
التدقيق اللغوي : الأستاذ غازي القدسي
التنقيح النهائي : المهندس غسان السراقبي .
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا وزدنا علما ، وأرنا الحق حقاً وارزقنا إتباعه وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .
أيها الإخوة الأكارم :
مع بداية الدرس السابع والعشرين من دروس صحابة رسول الله رضوان الله عليهم أجمعين، وصحابي اليوم سيدنا عكرمة بن أبي جهل .
أيها الإخوة الأكارم ، هذه القصة لها دلالات عظيمة ، ومن أبرز دلالاتها أن أشدّ الناس عداوةً إذا اهتدى إلى الله عز وجل يكون من أشدِّ الناس نصرة ، والمؤمن لا ييأس من أعداء الله ، مهما تكن العداوة شديدة ، ومهما يكن البُعدُ واسعاً ، هذا العدو اللدود ، وهذا الخصم العنيد ، وهذا المقاتل في سبيل الطاغوت إنسان لو اهتدى إلى الله سبحانه وتعالى لصار أقربَ الناس إليك ، فلذلك هذه القصة تعطينا أوَّلاً تفاؤلاً ، وثانيًا دلالةً عظيمةً في أن المؤمن يطمع حتى في أعدائه ، وسوف ترون كيف أنّ النبي صلى الله عليه وسلم بحكمته البالغة ، ورحمته الواسعة ، وعطفه الشديد ، وبُعدِ نظره ، كيف أنه صنع من ألدِّ أعدائه نصيراً وصحابياً ، مات في ساحات الجهاد ، هذا الصحابي كان في أواخر العقد الثالث من عمره ، فسِنّه ما بين خمس وعشرين وثمانٍ وعشرين سنة ، يوم صدع نبي الرحمة بدعوى الهدى والحق ، وكان من أكرم الناس حسباً ، وأكثرهم مالاً ، وأعزهم نسباً ، من علية القوم وأشرافهمم ، ومن الفرسان ، وكان جديراً أن يسلم كما أسلم نظراؤُه ، من أمثال سعد بن أبي وقاص ، ومصعب بن عمير ، وغيرهما من أبناء البيوت المرموقة في مكة ، لولا عنادُ أبيه ، فمَن هو أبوه ؟ إنه أبو جهل وكفى ، زعيم الضلال ، وزعيم المناوأة والشرك ، وزعيم القسوة ، وحتى أيامنا هذه إذا أردتَ أن تصف إنساناً بالقسوة والغلظة والبطش وقسوة القلب تقول عنه : "أبو جهل" ، هذه كلمة يستعملها الناس إلى يومنا هذا .
عكرمة بن أبي جهل وجد نفسه مدفوعاً بحكم زعامة أبيه إلى مناوأة النبي صلى الله عليه وسلم ، وهذا أكبر خطأ ، أنْ يتحرك الإنسانُ بلا وعي ، وينطلق بلا هدف مع الناس ، إن أحسنَ الناس أحسنتَ ، وإن أساءوا أسأتَ ، يقول هكذا تَربَّينا ، ونشأنا ، هذا هو التيار الجارف ، إنها بلوى عامة ، وهكذا المجتمع ، وتقول الزوجة : هكذا زوجي يريد ، لا كما يريد الله عزوجل ، أكبر غلط للإنسان أنْ ينساق مع مَن حوله بلا وعي ، يخاصم بلا سبب ، ويناوئ بلا مبرر ، ويرتكب المعاصي بلا قناعة ، ويقاتل من دون فهم ، ويسالم من دون سبب وجيه ، هذا هو الإمعة ، والنبي عليه الصلاة والسلام نهى أن يكون أحدُنا إمَّعة ، والإمّعة هو الذي يقول : أنا مع الناس ؛ إن أحسنوا أحسنتُ ، وإن أساءوا أسأتُ ، "ضع رأسك بين الروس ، وقل: يا قطاع الروس" ، هكذا كلام العوام ، هذا هو الجهل بعينه ، وهذا هو التخلف العقلي ؛ هذا هو ضعف الشخصية .
عكرمة بن أبي جهل شاب في أواخر العقد الثالث من عمره ، بحكم عداوة أبيه الشديدة للنبي صلى الله عليه وسلم وجد نفسه منساقاً إلى هذه العداوة ، وإلى مناوأة النبي عليه الصلاة والسلام ، فبحكم بيئته ، وانسجاماً مع عداوة أبيه ، وانطلاقاً ممن حوله ناصب النبيَّ صلى الله عليه وسلم أشدّ العداوة ، وآذى أصحابه أفدحَ الإيذاء ، وصب على الإسلام والمسلمين من النكال ما قرّتْ به عينُ أبيه ، فقد قرَّت عينُ أبيه لشدة ما نال من أصحاب رسول الله ، وما نكّل بهم ، ولشدة ما ناصب النبيَّ صلى الله عليه وسلم من العداوة والبغضاء والتجريح و الطعن ، ولما قاد أبوه معركة الشرك يوم بدر ، وأقسم باللات والعزى ألاّ يعود إلى مكة إلا بعد القضاء على الإسلام بهزيمة محمد صلى الله عليه وسلم .
أيها الإخوة الأكارم :
إياك أن تحتمي بغير الله ، وأن تلوذ بغير الله ، " فما من عبد يعتصم بمخلوق دوني أعرف ذلك من نيته إلا جعلتُ الأرض هوياً تحت قدميه ، وقطعتُ أسباب السماء بين يديه .
فأبوه زعيم الشرك ، قاد معركة الشرك ، وأقسم باللات والعزى ألاّ يعود إلى مكة إلا إذا هزم محمداً صلى الله عليه وسلم ، ونزل ببدر ، وأقام بها ثلاث ليالٍ ينحر الجُزُر ، ويشرب الخمور ، وتعزف له القيان بالمعازف ، خمر على نساء ، على غناء ، على قسم باللات والعزى ليهزمنّ محمداً صلى الله عليه وسلم قبل أنْ يعود إلى مكة ، لكن اللات والعزى لم يلبِّيان نداء أبي جهل ، لأنهما لا يسمعان ، قال تعالى :
(سورة فاطر )
هذه الآية رائعة جداً في وصف أهل الشرك ، وعلى فرض أنهم يسمعون فلا يستجيبون لكم.
فلم ينصراه في معركته لأنهما عاجزان ، ولم يسمعاه لأنهما أصمّان ، فالويل لمَن يعتمد على أصمّ وعاجز ، لكن الله سبحانه وتعالى أينما توجهتَ إليه يسمعك ، وحيثما أقبلتَ عليه يستجبْ لك، وهو على كل شيء قدير ، لا يعجزه شيء في السماوات ولا في الأرض ، في معركة بدر خرَّ أبو جهل الطاغية الكبير صريعًا ، ورأى ابنُه عكرمةُ بعينه رماحَ المسلمين تنهل من دمه ، وسمعه بأذنيه وهو يطلق آخر صرخة انفرجت عنها شفتاه .
لقد خر صريعاً ، وفي اللغة العربية يقال : فلان مضرّج بدماء الشهادة ، وفلان ملطخ بدماء الجريمة ، فإذا كنتَ في مهمة نبيلة ، وسال دمُك ، فهذا دم ضُرِّج به صاحبُه ، أما إذا كان في مهمة خسيسة ، يأتي ليعادي الحق ، وليطفئ نور الله عز وجل فيقال : إنّه ملطخ بدماء الجريمة .
عاد عكرمة إلى مكة بعد أن خلف جثّةَ سيد كفار قريش في بدر ، فقد أعجزته الهزيمة أنْ يظفرَ بجثة أبيه ليدفنها في مكة .
تعلمون أن النبي عليه الصلاة والسلام جمع هذه الجثث في قليب ، أي في بئر ، وناداها واحداً واحداً ، فعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَرَكَ قَتْلَى بَدْرٍ ثَلَاثًا ثُمَّ أَتَاهُمْ فَقَامَ عَلَيْهِمْ فَنَادَاهُمْ فَقَالَ يَا أَبَا جَهْلِ بْنَ هِشَامٍ يَا أُمَيَّةَ بْنَ خَلَفٍ يَا عُتْبَةَ بْنَ رَبِيعَةَ يَا شَيْبَةَ بْنَ رَبِيعَةَ أَلَيْسَ قَدْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا فَإِنِّي قَدْ وَجَدْتُ مَا وَعَدَنِي رَبِّي حَقًّا فَسَمِعَ عُمَرُ قَوْلَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ يَسْمَعُوا وَأَنَّى يُجِيبُوا وَقَدْ جَيَّفُوا قَالَ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا أَنْتُمْ بِأَسْمَعَ لِمَا أَقُولُ مِنْهُمْ وَلَكِنَّهُمْ لَا يَقْدِرُونَ أَنْ يُجِيبُوا ثُمَّ أَمَرَ بِهِمْ فَسُحِبُوا فَأُلْقُوا فِي قَلِيبِ بَدْرٍ *
(رواه مسلم)
لكن بعد مقتل أبيه أخذ عكرمة موقفًا آخر ، كان في بادئ الأمر يعادي النبي صلى الله عليه وسلم حَميَّةً لأبيه ، فأصبح يعاديه اليوم ثأراً لأبيه ، ومن هنا انبرى عكرمة ونفر ممَّن قُتِل آباؤُهم في بدر يؤجِّجون نار العداوة في صدور المشركين على محمد صلى الله عليه وسلم ، ويضرمون جذوة الثأر في قلوب الموتورين من قريش ، حتى كانت موقعة أحد ، فخرج عكرمة بن أبي جهل إلى أحد وأخرج معه زوجته أمُّ حكيم ، لتقف مع النسوة الموتورات في بدر وراء الصفوف ، وتضرب معهنّ على الدفوف ، تحريضاً لقريش على القتال ، وتنديداً لفرسانها إذا حدثتهم أنفسهم بالفرار ، خرج عكرمة بن أبي جهل ، وأخذ معه زوجته أم حكيم كي تكون الزوجة دافعًا لزوجها في اقتحام الأخطار ، ولإحراز النصر ، لعل هذا النصر يكون ثأراً لموقعة بدر .
جعلت قريش على ميمنة الجيش خالد بن الوليد ، وعلى ميسرته عكرمة بن أبي جهل ، وكان قائداً لامعاً جداً ، وأبلى الفارسان المشركان في ذلك اليوم بلاءً رجّح كفة قريش على محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، الذين عصوا أمر النبي عليه الصلاة والسلام ، وتحقق للمشركين النصر الكبير ، مما جعل أبا سفيان يقول : هذا يومٌ بيوم بدر ، وفي يوم الخندق حاصر المشركون المدينة أياماً طويلة ، فنفذ صبر عكرمة بن أبي جهل ، وضاق ذرعاً من الحصار ، ونظر إلى مكان ضيق من الخندق ، وأقحم جواده فاجتازه ، ثم اجتازه وراءه بضعةُ نفر في أجرأ مغامرة ، ذهب ضحيتها عمرُو بن عبد وُدٍّ العامري أمَّا هو فلم ينجُ إلا بالفرار ، انسحب وفرّ ، وفي يوم الفتح ، طبعاً نستعرض الأحداث بين موقعة بدر وبين فتح مكة سريعاً ، استعرضنا موقعة أحد ، وموقعة الخندق ، لكن العقدة في القصة يوم فتح مكة ، في يوم الفتح رأت قريش ألاّ قَبَلَ لها بمحمد صلى الله علي وسلم وأصحابه ، فأجمعت على أن تُخلِيَ له السبيل إلى مكة ، وقد أعانها على اتخاذ قرارها هذا ما عرفته من أن النبي عليه الصلاة والسلام أمَر قواده ألاّ يقاتلوا إلا مَن قاتلهم من أهل مكة ، لكن عكرمة بن أبي جهل ، انظروا إلى عداوته وإلى إصراره على ذلك ، وإلى شدة حقده وبغضه للنبي عليه الصلاة والسلام وأصحابه ، لكن عكرمة بن أبي جهل ونفرٌ ممّن معه خرجوا على إجماع قريش ، وتصدَّوا للجيش الكبير ، فهزمهم خالد بن الوليد ، والذي أسلم قبل فتح مكة بعام ، هزمهم في معركة صغيرة ، قُتِل فيها من قُتِل ، ولاذ بالفرار من لاذ ، وكان في جملة الفارِّين عكرمة بي أبي جهل ، بعد أنْ قاتل سيدنا خالد بن الوليد ، ثم فرّ عند ذلك ، هنا العقدة ، خرج عكرمة مِن مكة موطنه الذي نبت به ، وبعد أن خضعت للمسلمين ، والنبي عليه الصلاة والسلام عفا عما سلف من قريش تجاهه ، فعن ابن عباس (( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ بعضادتي الباب يوم فتح مكة ، وقد لاذ الناس بالبيت فقال : (الحمد لله الذي صدق وعده ، ونصر عبده ، وهزم الأحزاب وحده) ثم قال: (ماذا تظنون يا معشر قريش) قالوا : خيرا ، أخ كريم ، ابن أخ كريم ، وقد قدرت ؛ قال : (وأنا أقول كما قال أخي يوسف : "لا تثريب عليكم اليوم" ، فقال عمر رضي الله عنه : ففضتُ عرقا من الحياء من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ ذلك أني قد كنتُ قلت لهم حين دخلنا مكة : اليوم ننتقم منكم ونفعل ، فلما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قال استحييت من قولي))
(تفسير القرطبي ، سورة يوسف ، الآية 91-92)
إلا أن النبي عليه الصلاة والسلام استثنى منهم نفراً سمّاهم بأسمائهم واحداً واحد ، وأمر بقتلهم ، وإنْ وُجِدوا تحت أستار الكعبة ، منهم عكرمة ، عفا عن كل أهل قريش غير فلان وفلان ...هؤلاء أمرَ بقتلهم ، ولو تعلقوا بأستار الكعبة ، فأهدر النبي عليه الصلاة والسلام دمَهم ، وقد مَّر معنا من قَبلُ قوله تعالى :
(سورة الزمر )
كانت عزَّتُه عليه الصلاة والسلام تقتضي أنْ يعاقب أعداءه ، هكذا كانت حكمة النبي صلى الله عليه وسلم ، وكان في طليعة هؤلاء النفر الذين أهدر النبيُّ دمَهم ، وأمر بقتلهم ، ولو تعلّقوا بأستار الكعبة عكرمةُ بن أبي جهل ، عداوة ما بعدها عداوة ، تذكروا أول الدرس فقد قلت : هذه القصة لها دلالة كبيرة ، لأنّ أَلَدَّ أعداء المسلمين ، وأشدَّ خصومهم إذا اهتدى إلى الله يصبح أقرب الناس إليهم .
لي صديق حدثني أنه زار بلدًا في أمريكا الشمالية ، كندا ، وفي مونتريال زار مركزاً إسلامياً ، وهناك في أثناء تفقد المركز الإسلامي وهو من ثلاثة طوابق ، قال لي : وَجدتُ رجلاً في غرفة في زاوية المسجد يصلي ، فأردت أن أصغي إلى قراءته ، أدهشني أنه يصلي ويبكي ، ويصلي ويدعو وتنهمر دموعه ، قال لي : شيء لا يصدق ، ركعتان تستغرقان معه ساعتين ، بينما التراويح عشرون ركعة تتم في ساعة في مساجدنا ، وأنا مصرٌّ على أن أستمع إلى دعائه وابتهاله ، وتهجده وتلاوته للقرآن ، وبعد أن انتهى من صلاته ، معه فراش صغير اندسّ فيه ، ونام على شقه الأيمن ، فالمضيف الذي جاء بي إلى هذا المركز أخذته من يده في الطابق الأسفل، وصعدت به إلى الطابق الثالث ، وقلت له : انظر أرأيته ، قال : نعم ، قلت له : مَن هذا؟ قال : هذا من أبناء كندا الأصليين ، اهتدى إلى الله عز وجل ، وكان يمضي عطلة نهاية الأسبوع على سواحل البحار ، وفي النوادي الليلية ، ويرتكب هو وزوجته كل الموبقات ، فلما دُعِيَ إلى الإسلام ، وأناب إلى الله ، واصطلح معه نذر أن يمضي يومين من كل أسبوع معتكفًا في هذا المسجد هو وزوجته ، قلت له : أين زوجته ؟ قال : في قسم النساء ، مثله تصلي وتتهجد ، ولا يبدو من جسمها شيء حتى إنها تلبس القفازين ، وعليها جلباب كامل ، ووجهها مستور ، قلت : يا سبحان الله !! إنسان متفلت غارق في المعاصي والآثام يصبح من العباد الخلص ، وهو من سكان كندا ، هذه القصة غريبة جداً .
ولنَعُد الآن إلى عكرمة بن أبي جهل ، وقد علمتُم أن النبي صلى الله عليه وسلم أهدر دمه ، وربما بعد قليل تتأثرون تأثراً بالغاً بموقف هذا الرجل الصحابي الجليل ، والنبي عليه الصلاة والسلام أمر بهدر دمه ، ولو تعلق بأستار الكعبة ، لماذا ؟ لشدة عداوته ؛ وشدة تنكيله بأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ؛ وشدة كراهيته للإسلام ؛ وكان عكرمةُ في طليعة هؤلاء النفر الذين أهدر النبيُّ عليه الصلاة والسلام دمَهم وأمر بقتلهم ؛ لذلك تسلَّل متخفياً من مكة ، ويَمَّمَ وجهه شطر اليمن ، إذ لم يكن له ملاذٌ إلا هناك ؛ وهذا بالتعبير الحديث يُسمَّى اللجوء السياسي ؛ هرب من الجزيرة العربية إلى اليمن في جنوبها .
أم حكيم زوجتُه ، فمَن هي أم حكيم ؟ زوجته مضت مع هند بنت عتبة إلى منزل رسول الله صلى الله عليه وسلم !! ما هذه الجرأة ؟ زوجة أعدى أعداء النبي عليه الصلاة والسلام مع هند بنت عتبة التي مضغت كبد سيدنا حمزة ؛ ذهبتا إلى بيت النبي عليه الصلاة و السلام ؛ ومعها عشرة نسوة ، معهما عشرُ نسوة ليبايعن النبي عليه الصلاة والسلام ، فدخلن عليه ، وعنده اثنتان من أزواجه ، وابنته فاطمة ، ونساء من بني عبد المطلب ؛ تنقبت هندٌ ، أيْ سترت وجهها بالنقاب ؛ وقالت : إذْ لم يعرفها النبي عليه الصلاة والسلام ؛ قالت : يا رسول الله - هند بنت عتبة التي مضغت كبد سيدنا حمزة ؛ وما من امرأة في قريش تكره النبي وتكيد له كهند بنت عتبة - قالت له : يا رسول الله : الحمد لله الذي أظهر الدين الذي اختاره لنفسه ، و إني لأسألك أن تَمُسَّنِي رحمتُك بخير ، فإني امرأة مؤمنة مصدقة ؛ ثم قالت له : أنا هند بنت عتبة يا رسول الله ؛ فقال عليه الصلاة و السلام : مرحباً بك - امرأة من ألدِّ أعداء النبي عليه الصلاة والسلام ، حرّضت القرشيين ؛ كانت في معركة أحد خلف الرجال ، ولها أبيات من الشعر لا يليق أن أذكرها لكم في هذا الدرس ؛ في تحريض الرجال على قتل النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه؛ قالت له : أنا هند بنت عتبة يا رسول الله ؛ فقال عليه الصلاة والسلام : مرحباً بك ؛ قالت : يا رسول الله : واللهِ ما كان على وجه الأرض بيتٌ أحبَّ إليَّ أن يذلّ من بيتك ؛ ولقد أصبحتُ و ما على وجه الأرض بيتٌ أحبَّ إليّ أن يعزّ من بيتك ؛ صريحة ، والعرب صرحاء ، وهذا النفاق المعروف اليوم لم يكن موجودًا عندهم ، فقال عليه الصلاة والسلام : وزيادة أيضاً ، فقامت أم حكيم زوج عكرمة بن أبي جهل فأسلمت ، وقالت : يا رسول الله ، قد هرب منك عكرمة إلى اليمن خوفاً أن تقتله فأَمِّنْه أَمَّنك الله ، فقال عليه الصلاة والسلام : هو أَمِن ، فالنبيّ كريم اللهم صلِّ عليه ، والكريم هذا شأنه ، سريع الرضى ، هناك أشخاص لو قبَّلتَ رجله لا يرضى ، إذا حقد لم يرض.
اقتلوا عكرمة ، ولو تعلق بأستار الكعبة ، يا رسول الله لقد هرب منك عكرمة إلى اليمن خوفاً أن تقتله فأَمِّنه أمّنك الله ، قال : هو أَمِن ، فخرجت من ساعتها في طلبه ، ومعها غلام لها رومي ، فلما أوغلا في الطريق ، راودها الغلام عن نفسها فجعلت تمنِّيه ، وتماطله حتى قدمت على حيِّ من العرب ، فاستعانتهم عليه فأوثقوه ، وتركوه عندهم ، ومضت هي إلى سبيلها حتى أدركت عكرمة عند ساحل البحر في منطقة تهامة ، وهو يفاوض نوتياً ، والنوتي هو الملاَّح صاحب السفينة ، هذا النوتي مسلم ، والنوتي يقول له : أخلص حتى أنقلك ، فقال عكرمة: وكيف أخلص حتى تنقلني؟ قال : تقول أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ، فقال عكرمة : ما هربت إلا منها ، هذا النوتي اشترط عليه أن يسلم حتى يأخذه بسفينته ، وفيما هو كذلك أقبلت أم حكيم على عكرمة ، وقالت : يا بن عمي جئتك من عند أفضل الناس ، جئتك من عند خير الناس ، جئتك من عند أبرِّ الناس ، أفضل الناس ، وخير الناس ، وأبَرِّ الناس ، مِن عند محمد بن عبد الله عليه الصلاة والسلام ، أم حكيم هي التي تتحدث ، سبحان مغير الأحوال !! ولقد استأمنتُ لك منه ، وأمّنك فلا تهلك نفسك ، قال : أنت كلمتِه ؟! يعني تمكنت أن تكلميه أنت؟! قالت : نعم ، أنا كلمته ، وأمّنك ، وما زالت به تؤَمِّنه ، وتطمئنه حتى عاد معها ، ثم حدثته حديث غلامها الرومي فمرّ به ، وقتله قبل أن يسلم ، ليس لنا علاقة بالأحكام قبل أن يسلم.
وفيما هما في منزل نزلا به في الطريق أراد عكرمة أن يخلوَ بزوجته فأَبَت ذلك أشدّ الإباء، وقالت : إني مسلمة ، وأنت مشرك ، فتملكه العجب قال : إن أمراً يحول دونك ودون الخلوة بي لأمر عظيم .
فهل للإنسان شيءٌ أقرب من زوجت ؟ أمر يكون حائلاً بين المرء وزوجته فهذا الأمر عظيم، وكان ذكاؤه شديداً ، ما هذا الدين ؟ أنت زوجتي ، وأنا زوجك ، قالت : له إني مسلمة ، وأنت مشرك .
فلما دنا عكرمة من مكة - الآن دققوا - قال عليه الصلاة والسلام لأصحابه سيأتيكم عكرمة بن أبي جهل مؤمنًا مهاجرًا فلا تسبُّوا أباه ، فإن سبَّ الميت يؤذي الحي ، ولا يبلغ الميت ، قال تعالى :
(سورة القلم )
ما هذه الأخلاق السامية ؟! ينهى النبيّ عليه الصلاة والسلام أن يسبَّ أصحابُه أبا جهل زعيمَ الشرك والكفر ، سيأتيكم عكرمة بن أبي جهل مؤمنًا مهاجرًا ، فلا تسبّوا أباه ، فإن سبَّ الميت يؤذي الحي ، ولا يبلغ الميت .
أحيانًا قد يلتقي الإنسانُ بأخ يقول له : أبوك لا يصلي ، فليس فيه دين ، كلام ليس فيه لباقة ، الأب غالٍ ، والرسول عليه الصلاة والسلام راعى مشاعر عكرمة في أبيه الكافر المشرك ، العدو اللدود الصنديد .
وما هو إلا قليل حتى وصل عكرمة وزوجه إلى النبيّ عليه الصلاة والسلام ، فلما رآه النبي صلى الله عليه وسلم - الآن دخل عكرمة على النبي ، من عكرمة ؟ ألد أعداء المسلمين - وثب إليه النبيّ عليه الصلاة والسلام مِن غير رداء فرحًا به ، والرداء مثل العباءة ، فمِن شدة فرح النبي عليه الصلاة والسلام بإسلامه وثَب إليه من غير رداء فرحًا بإسلامه .
لذلك فالنبي عليه الصلاة والسلام أرحمُ الخلق بالخلق ، هل عندك إمكانية إذا كان لك عدو لدود نال منك أشدّ النيل ، ثم رأيته رجع إلى الله ، وأقبل عليه واصطلح معه ؟ هفي وُسعك أن تحتفل به ، وأن تحترمه كما لو أنه أخوك .
أجمل ما في القصة أن النبيَّ قبل أيام قال : اقتلوا عكرمة بن أبي جهل ، ولو تعلّق بأستار الكعبة ، فلما علم أنه أسلم ، وجاءه مسلماً وثب إليه ، يعني هبَّ لاستقباله من غير رداء فرحاً به، ولما جلس عليه الصلاة والسلام - الآن دققوا في هذا الحوار - وقف عكرمة بين يديه ، وقال : يا محمد - صلى الله عليه وسلم - ، إنّ أم حكيم أخبرتني أنك أمّنتي ، فقال عليه الصلاة والسلام: صَدَقَتْ ، فأنت أَمِن ، قال عكرمة : إلامَ تدعُ يا محمد ؟ - صلى الله عليه وسلم - قال : أدعوك إلى أن تشهد أنه لا إله إلا الله ، وأني عبد الله ورسوله ، وأن تقيم الصلاة ، وأن تؤتي الزكاة ، حتى عدَّ أركان الإسلام كلَّها ، فقال عكرمة : والله يا رسول الله ما دعوتَ إلا إلى حق ، وما أمرتَ إلا بخير ، ثم أردف يقول : يا رسول الله ، قد كنتَ فينا واللهِ قبلَ أن تدعوَ إلى ما دعوتَ إليه ، وأنتَ أصدقُنا حديثاً ، وأبَرُّنا براً ، ثم بسط يده ، وقال : إني أشهد أنه لا إله إلا الله ، وأشهد أنك عبده ورسوله ، ثم قال : يا رسول الله علِّمني خير شيء أقوله ، فقال عليه الصلاة والسلام : قل أشهد أن لا إله إلا الله ، وأن محمداً عبده ورسوله ، فقال عكرمة : ثم ماذا ؟ فقال عليه الصلاة والسلام : تقول أُشْهِد الله ، وأُشْهِد مَن حضر أني مسلم مجاهد مهاجر ، فقال : عكرمة ذلك ، عند هذا قال عليه الصلاة والسلام : اليوم لا تسألني شيئاً أعطيه أحداً إلا أعطيك إياه .
وأنتم كمؤمنين ينبغي أن تفرحوا أشدّ الفرح إذا اصطلح أحد خصومكم مع الله عز وجل ، ويجب أن ترحِّبوا به ، وأن تقدّموا له كل طلباته ، وهذه فرصة نادرة ، اسمعوا ما قاله عكرمة للنبي عليه الصلاة والسلام ، قال : يا رسول الله ، إني أسألك أن تستغفر لي كل عداوة عاديتك ، أنا كنت عدُوًّا لدودًا لك ، أو كل مقام لقيتُك فيه ، وكل كلام قلتُه في وجهك ، أو في غيبتك ، فاستغفر لي الله عز وجل ، فقال عليه الصلاة والسلام : اللهم اغفر له كل عداوة عادانيها ، وكل مسيرٍ سار به إلى موضع يريد به إطفاء نورك ، واغفر له ما نال من عرضي في وجهي ، أو أنا غائب عنه ، فتهلّل وجه عكرمة بِشْراً ، وقال : أمَا واللِه يا رسول الله لا أدع نفقًة كنتُ أنفقتها في الصَّدِّ عن سبيل الله إلا أنفقتُ ضعفَها في سبيل الله ، ولا قتالاً قاتلتُهُ صداً عن سبيل الله إلا قاتلتُ ضعفه في سبيل الله .
هكذا الاصطلاح مع الله ، أيام الجاهلية سيجعل مكانها أيام جهاد وصبر وعطاء وخدمة ودعوة وطلب علم ، وأيام الإساءة حل محلَّها أيامُ الإحسان ، وأيامُ الجفاء حلَّ محلها أيامُ الود .
ومنذ ذلك اليوم انضمَّ عكرمةُ إلى موكب الدعوة فارسًا باسلاً في ساحات القتال ، وعابدًا قوّامًا قرّاءً لكتاب الله في المساجد ، فقد كان يضع المصحف على وجهه ويقول : كتاب ربي ، كلام ربي ، وهو يبكي من خشية ربه .
ما هذه النقلة أيها الإخوة ؟ لا أعتقد بوجود قصةِ إنسانِ انتقل هذه النقلة الحادة من قصة عكرمة ، إلى درجة أن النبيّ صلى الله عليه وسلم أهدر دمه ، وأمر بقتله ، ولو تعلق بأستار الكعبة ، ثمّ إنه أصبح عابداً قارئاً مصلياً مجتهداً ، وعاهد نفسه كل على أنّ كل نفقة أنفقها في الصدِّ عن سبيل الله سينفق ضعفها في سبيل الله ، وكل قتال قاتل فيه بالصد عن سبيل الله سيقاتل عنه ضعفين في سبيل الله .
الآن جاء وقتُ البَّرِّ بقَسَمِه ؛ في معركة اليرموك أقبل عكرمة على القتال إقبال الظامئ على الماء البارد في اليوم الحارِّ ، ولما اشتد القتالُ على المسلمين في أحد المواقف الصعبة نزل عن جواده ، وكسر غمد سيفه ، وأوغل في صفوف الروم ، فبادر إليه سيدنا خالد ، وقال : يا عكرمة لا تفعل ، فإنَّ قتْلَك سيكون شديداً على المسلمين ، فبماذا أجابه ؟ قال له : إليك عني يا خالد ، لقد كان لك مع رسول الله سابقة ، أمّا أنا وأبي فقد كنا من أشد الناس على النبي صلى الله عليه وسلم عداوةً ، فدعني أكَفِّر عمَّا سلف مني.
أنت لك مواقف ، وقد أسلمتَ في وقت مناسب ، وقاتلتَ ، وأحرزتَ النصر ، أمّا أنا فقد قاتلتُ رسول الله في مواقف كثيرة ، أَوَ أفرُّ من الروم اليومَ ؟ إنّ هذا لن يكون أبداً ، ثم نادى في المسلمين : من يبايع على الموت ؟ فبايعه عمُّه الحارث بن هشام ، وضرار بن الأزور في أربعمائة من المسلمين ، فقاتلوا دون فسطاط خالد بن الوليد أشد القتال ، وذادوا عنه أكرم الذود ، ولما انجلت معركةُ اليرموك عن ذلك النصر المؤزر للمسلمين ، كان يتمدّد على أرض المعركة ثلاثةُ مجاهدين أثخنتهم الجراح ، هم الحارث بن هشام ، وعياش بن أبي ربيعة ، وعكرمة بن أبي جهل ، أمّا عكرمة فقد استشهد .
أرأيتم إلى شوقه إلى الاستشهاد ، أرأيتم إلى رغبته الجامحة في التكفير عن سيئاته ، فإذا كان من إخوانا المؤمنين مَن له جاهلية ألا ينبغي أن يبذل في الطاعات ضعفَ الوقت الذي بذله في المعاصي ؟ ألا ينبغي أن يعاهد الله على أنْ يكون قوله وعمله وطاقته في سبيل الله ، فهذا عكرمة!! فلا تيأس من أعداء المسلمين .
غارودي زعيم حزب في فرنسا ينكر وجود الله عز وجل ، وهو اليوم من المسلمين ، ويدعو إلى الإسلام ، وله مؤلفات ، فلا تيأس من أعداء المسلمين ، لكن كن موَّفقاً في حسن مخاطبتك إياهم ، فمهمة الداعية توضيحُ الحق وتبيينُه ، لأن هذا العدو إنسانٌ له نفس وفكر وله فطرة وطبيعة ، وسيدنا عكرمة كان عدُوًّا لدودًا مهدور الدم ، فإذا به من محبِّي رسول الله ، هو وزوجته وهند بنت عتبة ، والحقيقة ما عرف التاريخ أبطالاً عاشوا قِيَماً مثل أصحاب رسول الله.
الحارث دعا بماء ليشربه ، فلما قُدِّم له نظر إليه عكرمة ، وهو جريح ينازع سكرات الموت، وهذا لا يعرفه إلا الجرحى ، فالجريح يشعر بعطش لا يقابل ويتمنى كأس ماء ، فدعا الحارث بماء ليشربه ، فلما قُدِّم له نظر إليه عكرمة ، فقال : ادفعوه إليه ، فلما قرّبوه إليه نظر إليه عياش، فقال : ادفعوه إليه ، فلما دنا من عياش وجدوه قد قضى نحبه ، فلما عادوا إلى صاحبيه وجدوهما قد قضيا نحبهما ، لقد آثروا بعضهم ، وهم على أرض المعركة في النزع الأخير ، رضي الله عنهم أجمعين ، وسقاهم من حوض الكوثر شربةً لا يظمؤون بعدها أبداً .
المغزى من هذه القصة أنه لو كان لك عدو لدود فكن معه محسناً ، وخاطِبْه بالمنطق ، وكن مثالياً معه لعل الله سبحانه وتعالى يكرمك بإسلامه وهدايته ، فإذا اهتدى فهو في صحيفتك ، ولا تنسوا أن سيدنا عمر لما دخل عمير بن وهب على النبي قال : دخل عمير والخنزير أَحَبُّ إليَّ منه ، وخرج من عند رسول الله وهو أحبُّ إليّ من بعض أبنائي .
ليس في الإسلام عداوة ، هناك عداوة مؤقتة ، أنت تبغض عمله ، ولا تبغضه ، هو عبد لله تكره عمله فقط ، فأَحسِنْ إليه عسى الله أن يهديه ويجزيك أجره .
والحمد لله رب العالمين
***(/)
الدرس 47/50 ، سيرة الصحابي : عمرو بن الجموح ، لفضيلة الأستاذ محمد راتب النابلسي .
تفريغ : الأستاذ هشام القدسي .
التدقيق اللغوي : الأستاذ غازي القدسي .
التنقيح النهائي : المهندس غسان السراقبي .
بِسْمِ اللهِ الرَّحمَنِ الرَّحِيمِ
مع الدرس السابع والأربعين من دروس سيرة صحابة رسول الله رضوان الله عليهم أجمعين ، وصحابي اليوم هو عمرو بن الجموح .
شيخ عزم على أن يطأ بعرجته الجنة ، يعني أردت من هذا التعليق أن أبين لكم أن الإنسان مهما يكن حاله ، ومهما يكن وضعه الصحي ، ومهما تكن سنُّه ، و مهما يكن وضعه الاقتصادي ، ومهما تكن ظروفه ، ومهما تكن مشكلاته ، ومهما تكن بيئته ، ومهما تكن معطياته ، ومهما تكن قدراته مهما تكن إمكاناته ، بإمكانه أن يدخل الجنة لأنه خُلِقَ لها ، وما دام الله سبحانه وتعالى خلقنا للجنة ، إذاً فقد يسَّر لها السبل .
مبدئياً ، الأبوة الكاملة يمكن أن تدخلك الجنة ، أنت أب كامل ، حرصت على أولادك ، وربَّيتَهم تربيةً صالحة ، ورعيتَ شؤونهم حتى زوَّجتَهم ، وحتى نشؤوا على طاعة الله ، ثم نامت عيناك راضيًا عنهم ، ولقيت الله عز وجل وهو عنك راض ، فهنيئًا لك .
الأمومة الكاملة ، " أيما امرأة قعدت على بيت أولادها فهي معي في الجنة " .
الأمومة الكاملة تدخل الجنة .
البنوة الكاملة ، ابن كان باراً بوالديه ، يدخل بِبِرِّه الجنة .
صنعة حرفتك ، أية حرفة أنت فيها بإمكانك من خلالها أن تدخل الجنة ، طبعاً يجب أن تكون الحرفة في الأصل مشروعة ، فالذي يبيع أفلام الفيديو هذه حرفة غير مشروعة ، والذي يبيع لحم خنزير هذه حرفة غير مشروع ، فإذا كانت الحرفة في الأصل مشروعة ، ومارستها بطريقة مشروعة ، وابتغيت بها رضوان الله عز وجل ، وكفايةَ نفسك وأولادك وأهلك ، ولم تشغلك عن فرض صلاة ، ولا عن طاعة ، ولا عن واجب ، ولا عن مجلس علم ، وابتغيت بها خدمة المسلمين ، وأنت لا تدري تنقلب هذه الحرفة إلى عبادة .
إذاً في أي وضع يمكنك أن تدخل الجنة ، فما عليك إلا أن تفكر ، وإلا أن تتعلم ، وإلا أن تنطلق إلى العمل متوكِّلاً على الله سبحانه .
فعمرو بن الجموح زعيم من زعماء يثرب في الجاهلية ، وسيد بني سلمة المسود ، وواحد من أجواد المدينة ، وذوي المروآت فيها ، وقد كان من شأن الأشراف في الجاهلية ، أن يتخذ كل واحد منهم صنماً لنفسه في بيته .. صنمًا خاصًّا به ، كيف أن بعض الناس له يخت خاص ، وطائرة خاصة في العصر الحديث ، فأشراف الجاهلية من علائم شرفهم أن له صنماً خاصاً في بيوتهم ، ليتبرك به أحدُهم عند الغدو والرواح ، وليذبح له في المواسم ، وليلجأ له في الملمات .
كلما وحَّدتَ الله كبُر عقلك ، وكلما أشركت معه صغُر عقلك ، ولو اطلعت على بعض الديانات الوضعية في آسيا لرأيت العجب العجاب .
فهناك إنسانًا يتطيب ببول البقر ، وإنسان يضع روث البقر في غرفة الضيوف ، وإنسان يعبد البقر من دون الله .
" أرجحكم عقلاً أشدكم لله حباً " .
وكان صنم عمرو بن الجموح يُدعى مناة ، وقد اتخذه من نفيس الخشب ، وأرقى أنواعه، ولا تعجبوا ، فما يدع الناس شيئاً خرافياً إلا ويقعون في خرافة أشد ، ولو تأملت حياتنا الحاضرة لرأيت فيها من الخرافات والخزعبلات والأوهام والأضاليل ما لا يقل عن هذه الأوهام ، ولكن بشكل آخر ، وطريقة أخرى .
وكان هذا الرجل عمرو بن الجموح شديد الإسراف في رعايته ، والعناية به ، وتضميخه بنفائس الطيب .. فكان يضمخه بنفائس الطيب ، ويلقي عليه نفائس الحرير ، ويذبح له ، و يلجأ له ، و يعبده من دون الله ، و هو من أشراف الجاهلية .
وجاء الإسلام فحرَّر العقول ، وأعاد للإنسان إنسانيته ، وعرَّفه قدرَه ، وهذا الصحابي ، الآن هو صحابي طبعاً ، أما قبل أن يسلم فلم يكن صحابياً ، كانت سنُّه تزيد عن الستين عاماً، هناك طفل أسلم ، وهناك شيخ أسلم .
" من بلغ الأربعين ولم يغلب خيره شره فليتجهز إلى النار " .الإنسان بعد الأربعين في التعبير العامي "يخشَّب" .
" من شب على شيء شاب عليه ، من شاب على شيء مات عليه ، من مات على شيء حشر عليه " .
الطفل كالعجين تماماً ، كالغصن الأخضر ، بإمكانك أن توجهه الوجهة التي تريد ، أما هذا الغصن حينما ييبس ويأخذ شكلاً معيناً ، فإذا أردت أن تقيمه كسرته ، هذه هي الحقيقة ..
هذا الرجل آمن أسلم أولادُه الثلاثة على يدي سيدنا مصعب بن عمير ، ، وهم : معوذ ومعاذ وخلاد .
وآمنتْ مع أبنائه الثلاثة أمهم هند ، وهو لا يعرف من أمر إيمانهم شيئاً ، كلهم على يد مصعب بن عمير ، وقد تحدثنا عنه في درس سابق ، وهو لا يدري من إسلامهم شيئاً .
رأت هند زوجة عمرو بن الجموح أن يثرب غلب على أهلها الإسلام ، وأنه لم يبق من السادة الأشراف أحد على الشرك سوى زوجها ونفر قليل ، وكانت تحبه وتجله ، وتشفق عليه من أن يموت على الكفر ، فيصير إلى النار .
وأنا والله أيها الإخوة حينما ألمح أحداً منكم يشفق على أمه وأبيه ، ويخاف أن يختم لهما بعمل لا يرضاه لهما ، أنا أكبُر هذا الشاب ، هناك إخوة كرام عندهم حرص لا حدود له على هداية أهلهم ، وهذا من الوفاء .
حتى إنه : يُقال : إن الابن مهما فعل مع أمه وأبيه فلن يستطيع أن يكافئهما على إحسانهما ، إلا في حالة واحدة ؛ أن يراهما عبدين فيعتقهما ، وهذا المعنى موسع ، يعني إذا كانا عبدين لشهوتيهما فدلّهما على الله ، فأعتقهما ، فبهذا العمل وحده بإمكانه أن يكافئ أمه وأباه على سبق إحسانهما إليه .
وكان هو في الوقت نفسه يخشى على أبنائه أن يرتدوا عن دين آبائهم وأجدادهم ، وأن يتبعوا هذا الداعية ؛ مصعب بن عمير الذي استطاع في زمن قليل أن يحول كثيراً من الناس عن دينهم ، وأن يدخلهم في دين محمد صلى الله عليه وسلم .
هناك في الدعوة شيء اسمه الجذب ، كلما كنت أقرب إلى الله ، كلما منحك الله قوة جذب أكثر ، وكلما كنت أقرب إلى الله ، وأكثر صدقاً وإخلاصاً ، تجلى الله عليك حتى حوَّل قلوب الناس إليك ، وقد عثرت على حديث شريف يغطي هذا المعنى ، وهو : " ما أخلص عبد لله إلا جعل قلوب المؤمنين تهفو إليه بالمودة والرحمة " .
مرةً قال لزوجته : يا هند ، احذري أن يلتقي أولادك بهذا الرجل ، يعني مصعب بن عمير ، حتى نرى رأينا فيه ، فقالت : سمعاً وطاعة ، ولكن هل لك أن تسمع من ابنك معاذ ما يرويه عن هذا الرجل .
أنا أضرب لك هذا المثل دائماً ، هل من المعقول أن تصلك رسالة تمزقها قبل أن تفتحها؟ هل يفعل هذا إنسان عاقل على وجه الأرض ؟ جاءتك دعوة .. استمع لتفهم ، وبعدئذٍ خذ الموقف ، هذا الذي يرفض أن يستمع إلى درس علم ، هذا الذي يرفض أن يلتقي مع أهل الحق ، هذا الذي يرفض أن يقرأ كتاباً ، هذا الذي يرفض أن يستمع إلى شريط ، يرفض سلفاً ، هو كمثل الذي تأتيه رسالة فيمزقها قبل أن يفتحها .
فهند بأدب جم قالت لزوجها : هل لك أن تسمتع من ابنك معاذ ما يرويه عن هذا الرجل؟ قال : ويحك ، هل صبأ معاذ عن دينه ، وأنا لا أعلم .
فأشفقت المرأة الصالحة على هذا الشيخ ، وقالت : كلا ، ولكنه حضر بعض مجالس هذا الداعية ، وحفظ شيئاً مما يقوله .
فقال : ادعيه لي ، فلما حضر بين يديه ، قال : أسمِعْني شيئاً مما يقوله هذا الرجل .
قال : يقول سبحانه وتعالى :
[سورة الفاتحة]
بالمناسبة ، عندنا قاعدة في اللغة ، النص إذا كثر ترداده خَفَتَ - أعني النص العادي ، ولا أقول القرآن - الكلمة إذا كثر تردادها فَقَدَتْ بريقَها ومعناها ، وعامة الناس ، والغافلون منهم ، الغارقون في شهواتهم ، حتى المعاني السامية التي يمكن أن تستنبط من بعض آيات القرآن يغفلون عنها ، ولكن لو أن أحدنا استمع إلى القرآن كما نزل لأخذ بألبابه .
فهذا حينما قرأ ابنه عليه سورة الفاتحة ، قال : ما أحسن هذا الكلام ، وما أجمله ، أوَ كلُّ كلامه مثل هذا ؟ .
فقال معاذ : و أحسن من هذا يا أبتاه ، فهل لك أن تبايعه ؟ فإنّ قومك جميعاً بايعوه .
سكت الشيخ قليلاً ، ثم قال : لست فاعلاً حتى أستشير مناة ، يعني صنمه ، فأنظر ما يقول.
حدثني أخ ذهب إلى الهند ، دخل إلى معابدهم ؛ معابد السيخ ، قال لي : صنم بوذا ارتفاعه ثلاثون مترًا ، ضخم جداً ، وقال : أنواع الفاكهة موضوعة أمامه ، فسأل لمن هذه الفاكهة ، قال : هي له يأكلها في الليل ، والذي يحدثه دكتور في الجامعة ، قال : يأكلها بالليل .. وهو مِن خشب ، فابتسم ، وقال : الرهبان يأكلونها ، غيَّر التعبير ، الرهبان يأكلونها بالليل ، تُقدم له أشهى أنواع الفواكه وأثمنها .
قال : لست فاعلاً حتى أستشير مناة ، فأنظر ما يقول ، فقال له الفتى : وما عسى أن يقول مناة يا أبتاه ، وهو خشب أصمّ ، لا يعقل ولا ينطق .
فقال الشيخ في حدة : قلت لك : لن أقطع أمر دونه .
ثم قام عمرو بن الجموح إلى مناة ، وكانوا إذا أرادوا أن يكلموه جعلوا خلفه امرأة عجوزاً ، فتجيب عنه بما يلهمها إياه في زعمهم .
يأتون بامرأة عجوز تقف خلفه ، يسألون مناة ويسمعون الجواب من العجوز .. والعجوز وحدها هي التي تجيب ، وليس مناة .
ثم وقف أمامه بقامته الممدودة ، واعتمد على رجله الصحيحة ، فقد كانت الأخرى عرجاء ، شديدة العرج ، فأثنى عليه أطيب الثناء ، ثم قال : يا مناة لا ريب أنك قد علمت بأن هذا الداعية الذي وفد علينا من مكة لا يريد أحداً بسوء سواك ، وأنه إنما جاء لينهانا عن عبادتك ، وقد كرهت أن أبايعه على الرغم مما سمعت من جميل قوله ، حتى أستشيرك ، فأشر عليَّ ، فلم يردّ عليه مناة بشيء ، فقال : لعلك قد غضبت ، وأنا لم أصنع شيئاً يغضبك بعد ، ولكن لا بأس فسأتركك أياماً حتى يسكت عنك الغضب .
هو يتوهم أنه غضبان ، حجر أصم ، أو خشب أصم يتوهم أنه غضبان .
وكان أبناء عمرو يعرفون مدى تعلق أبيهم بصنمه مناة ، وكيف أنه غدا مع الزمن قطعةً منه ، ولكنهم أدركوا أنه بدأت تتزعزع مكانته في قلبه ، وأن عليهم أن ينتزعوه من نفسه انتزاعاً ، فذلك سبيله إلى الإيمان .
المؤمن كيس فطن حذر ، المؤمن العاقل الكيس لا يصل لأهدافه من دون تفكير ، ومن دون حكمة وخطة .
سيدنا إبراهيم ماذا فعل ؟ كسر الأصنام ، ووضع الفأس في عنق كبيرهم ، قال تعالى حكاية عن فعلِه هذا :
(سورة الأنبياء)
أوقعهم في مشكلة ، أنتم تعبدون هؤلاء الأصنام من دون الله ، إنّ كبيرهم فعل هذا .
إذاً سيدنا إبراهيم ما كذبهم مباشرةً ، بل سلك معهم أسلوبًا ذكيًّا ، كذلك فعل أبناءُ عمرو بن الجموح .
وذات ليلة أدلج أبناءُ عمرو بن الجموح مع صديقهم معاذ بن جبل إلى مناة ، فطرحوه في الدِّمنة ، مكان أقذارهم ، وعادوا إلى بيوتهم دون أن يعلم بهم أحد .
فلما أصبح عمرو دلف إلى صنمه لتحيته فلم يجده ، فقال : ويلكم من عدا على إلهنا هذه الليلية ، فطفق يبحث عنه في داخل البيت وخارجه ، وهو يرغي ويزبد ، ويتهدد ويتوعد ، حتى وجده منكساً على رأسه في الحفرة ، فغسله ، وطهره ، وطيّبه ، وأعاده إلى مكانه ، وقال : أما والله لو أعلم من فعل بك هذا لأخزينّه ، فلما كانت الليلة الثانية عاد الفتية على مناة ففعلوا به مثل فعلهم بالأمس ، فلما أصبح الشيخ التمسه فوجده في الحفرة ملطخاً بالأقذار، فأخذه ، وغسله ، وطيّبه وأعاده إلى مكانه ، وما زال الفتية يفعلون بالصنم مثل ذلك كل ليلة ، فلما ضاق بهم ذرعاً راح إليه قبل منامه ، وأخذ سيفه وعلقه برأسه ، وقال له يا مناة ، إني واللهِ لأعلم من يصنع بك هذا الذي ترى ، فإن كان فيك خير فادفع الشر عن نفسك، وهذا السيف معك .. انظروا إلى العقل الصغير ، انظروا إلى الجاهلية ، هذا كان من أشراف الجاهلية ، ومن النخبة والصفوة ، ومن علية القوم وأنبلهم ، بل من أذكاهم ، وهذا عقله كما ترون .
ثم أوى إلى فراشه ، فما إن استيقن الفتية من أن الشيخ قد غطّ في نومه ، حتى هبوا إلى الصنم ، فأخذوا السيف من عنقه ، وذهبوا به خارج المنزل ، وقرنوه إلى كلب ميت بحبل ، وألقوهما في بئر لبني سلمة ، تسيل إليها الأقذار ، وتتجمع فيها ، فلما استيقظ الشيخ ، ولم يجد الصنم ، خرج يلتمسه ، فوجده مكبًّا على وجهه في البئر ، مقروناً إلى كلب ميت ، وقد سُلب منه السيف ، فلم يُخرجه هذه المرة من الحفرة ، وإنما تركه حيث ألقوه ، وأنشأ يقول : والله لو كنتَ إلهاً لم تكن أنت وكلب وسط بئر في قرن
ثم ما لبث أن دخل في دين الله .
هذه القصة لها مغزى في دين الله ، فالمؤمن إذا استخدم الحكمة والعقل يصل إلى أهدافه بالتدريج ، أمّا المجابهة فهي أسلوب الحمقى ، فالمجابهة والسباب والشتائم والتقريع كلها أساليب بلهاء ، ولكنهم تلطفوا به ، وأقنعوه أن هذا الصنم لا يستطيع أن يدفع عنه شيئاً ، أول مرة بالدمنة ، وفي الحديث عن أبي سعيد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : إِيَّاكُمْ وَخَضْرَاءَ الدِّمَن ، قِيلَ يَا نَبِيَّ اللَّهِ وَمَا خَضْرَاءُ الدِّمَنِ ؟ قال: المَرْأَةُ الحُسْنَى فِي المَنْبَتِ السُّوءِ *
(كنز العمال)
بالمزبلة ، أول مرة مجمع الأقذار ، وثاني مرة وثالث مرة ، والرابعة ربطوه بكلب ميت ، وألقوه في بئر ، وهم يتجاهلون ماذا حدث ، إلى أن اقتنع أنه يعبد قطعة من الخشب صماء ، لا تنطق ، ولا تسمع ، ولا تفعل ، ولا تملك أن تدفع عن نفسها شيئاً ، فاقتنع بالتدريج .
وتروي كتب الأدب أن قبيلة وُدٍّ صنعت صنماً لها من التمر ، فلما جاعت أكلته ، فالعرب قالت : أكلت ودُّ ربَّها .
ومرة رأى إنسانٌ ثعلباً يبول على رأس صنماً ، فقال :
***
أرْبٌّ يَبُولُ الثُّعْلُبَانُ برَأسِهِ لَقَدْ ذَلَّ مَنْ بَالَتْ عَلَيهِ الثَّعَالِبُ
***
(مجمع الأمثال للميداني)
هكذا كان العرب في الجاهلية ، فهؤلاء الذين يريدون أن يعتَدُّوا بالجاهلية ، وأن يعظِّموها ، وأن يتجاهلوا الإسلام ، فهذه جاهلية العرب .
بعد أن دخل عمرو بن الجموح في دين الله تذوق حلاوة الإيمان ، حيث عضَّ أصابعه ندماً على كل لحظة قضاها في الشرك .
فيا أيها الأخ المسلم ؛ علامة إيمانك الصادق ؛ أن تكره أن تعود إلى ما كنت عليه كما يكره الرجل أن يُلقى في النار .
علامة إيمانك الصادق ؛ أن تمقت جاهليتك مقتاً لا حدود له ، أما هذا الذي يحنُّ إلى جاهليته ، يحنُّ إلى أيامه قبل الهدى ، يحن إلى ماضيه اللاأخلاقي ، هذا دليل أنه لم يؤمن بعد .
وقبيل موقعة أحد رأى عمرو بن الجموح أبناءه الثلاثة يتجهزون للقاء العدو ، ونظر إليهم غادين رائحين كأُسد الشرى ، وهم يتوهَّجون شوقاً إلى نيل الشهادة ، والفوز بمرضاة الله عز وجل ، فأثار هذا الموقف حميته ، وعزَم على أن يغدو معهم إلى الجهاد تحت راية رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لكن الفتية أجمعوا على منع أبيهم مما عزم عليه ، فهو شيخ كبير طاعن في السن ، وهو إلى ذلك أعرج شديد العرج ، وقد عذره الله عز وجل فيمن عذرهم ، فقالوا له : يا أبانا إن الله قد عَذرَكَ ، فعلامَ تكلف نفسك مما أعفاك الله منه ؟ فغضب الشيخ من قولهم أشد الغضب ، وانطلق إلى النبي صلى الله عليه وسلم يشكوهم .
قال : يا نبي الله ، إن أبنائي هؤلاء يريدون أن يحبسوني عن هذا الخير ، وهم يتذرعون بأني أعرج ، والله إني لأرجو أن أطأ بعرجتي هذه الجنة .
فقال عليه الصلاة والسلام : دعوه لعل الله يرزقه الشهادة ، فخلوا عنه إذعاناً لأمر النبي عليه الصلاة والسلام .
وما إن أَزِفَ وقتُ الخروج حتى ودّع عمرو بن الجموح أهله وداع مفارق لا يعود ، ثم اتجه إلى القبلة ، ورفع كفيه إلى السماء ، وقال : اللهم ارزقني الشهادة ، ولا تردني إلى أهلي خائباً .. فما معنى خائباً ؟ يعني حياً .. يعني إذا رجع حياً عاد خائباً ، فإذا استشهد فقد حقق أمنيته .
ثم انطلق يحيط به أبناؤه الثلاثة وجموع كثيرة من قومه بني سلمة ، ولما حمي وطيس المعركة ، وتفرق الناس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، شوهد عمرو بن الجموح ، يمضي في الرعيل الأول ، ويثب على رجله الصحيحة وثباً وهو يقول : إني لمشتاق إلى الجنة ، إني لمشتاق إلى الجنة ، وكان وراءه ابنه خلاد .
وما زال الشيخ وفتاه يجالدان ويذودان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى خرا صريعين شهيدين على أرض المعركة ، ليس بين الابن وأبيه إلا لحظات .
وما إن وضعت المعركة أوزارها حتى قام رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى شهداء أحد ليواريهم ترابهم ، فقال عليه الصلاة والسلام لأصحابه : خلوهم بدمائهم وجراحهم ، فأنا الشهيد عليهم .
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا يُكْلَمُ أَحَدٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَنْ يُكْلَمُ فِي سَبِيلِهِ إِلَّا جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَاللَّوْنُ لَوْنُ الدَّمِ وَالرِّيحُ رِيحُ الْمِسْكِ *
(متفق عليه)
وقد روى هذه القصة الإمام أحمد في مسنده عَنْ أَبِي قَتَادَةَ قَالَ : أَتَى عَمْرُو بْنُ الْجَمُوحِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْتَ إِنْ قَاتَلْتُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ حَتَّى أُقْتَلَ أَمْشِي بِرِجْلِي هَذِهِ صَحِيحَةً فِي الْجَنَّةِ وَكَانَتْ رِجْلُهُ عَرْجَاءَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَعَمْ فَقُتِلُوا يَوْمَ أُحُدٍ هُوَ وَابْنُ أَخِيهِ وَمَوْلًى لَهُمْ فَمَرَّ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَيْكَ تَمْشِي بِرِجْلِكَ هَذِهِ صَحِيحَةً فِي الْجَنَّةِ فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهِمَا وَبِمَوْلَاهُمَا فَجُعِلُوا فِي قَبْرٍ وَاحِدٍ *
رجل تزيد عمره عن الستين عاماً ، أعفاه القرآن من الجهاد وهو معذور ، ويصرّ على أن يجاهد في سبيل الله ، وأن يدفع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والقول الرائع : أن يا رب ، لا تردني إلى أهلي خائباً ، يعني حياً ... يعني سبحان الله ، كأنهم ليسوا بشراً ، أو كأننا نحن دون البشر ، هكذا كان أصحاب النبي ، بمثل هؤلاء فتح النبي عليه الصلاة والسلام البلاد ، بمثل هؤلاء انتشر الإسلام في الخافقين .
رضي الله عن عمرو بن الجموح وأصحابه من شهداء أحد ، ونوّر الله لهم في قبورهم.
والحمد لله رب العالمين
***(/)