قال ابن إسحاق : ثم غزا رسول الله صلى الله عليه و سلم في شهر ربيع أول يعني من السنة الثانية يريد قريشا قال ابن هشام : و استعمل على المدينة السائب بن عثمان بن مظعون
و قال الواقدي : استخلف عليها سعد بن معاذ و كان رسول الله صلى الله عليه و سلم في مائتي راكب و كان لواؤه مع سعد بن أبي وقاص و كان مقصده أن يعترض لغير قريش و كان فيه أمية بن خلف و مائة رجل و ألفان و خمسمائة بعير قال ابن إسحاق : حتى بلغ بواط من ناحية رضوى ثم رجع إلى المدينة و لم يلق كيدا فلبث بها بقية شهر ربيع الآخر و بعض جمادى ( الأولى ) (2/361)
ثم غزا قريشا يعني بذلك الغزوة التي يقال لها غزوة العشيرة و بالمهملة و العشير و بالمهملة و العشيراء و بالمهملة
قال ابن هشام : و استعمل على المدينة أبا سلمة بن عبد الأسد
قال الواقدي : و كان لواؤه مع حمزة بن عبد المطلب قال : و خرج عليه السلام يتعرض لعيرات قريش ذاهبة إلى الشام
قال ابن إسحاق : فسلك علي نقيب بني دينار ثم علي فيفاء الخيار فنزل تحت شجرة ببطحاء ابن أزهر يقال لها ذات الساق فصلى عندها فثم مسجده فصنع له عندها طعام فأكل منه و أكل الناس معه فرسوم أثافي البرمة معلوم هناك و استسقى له من ماء يقال له المشيرب
ثم ارتحل فترك الخلائق بيسار و سلك شعبة عبد الله ثم صب للشاد حتى هبط يليل فنزل بمجتمعه و مجتمع الضبوعة ثم سلك فرش ملل حتى لقى الطريق بصخيرات اليمام ثم اعتدل به الطريق حتى نزل العشيرة من بطن ينبع
فأقام بها جمادى الأولى و ليالي من جمادى الآخرة و وادع فيها بني مدلج و حلفاءهم من بني ضمر ثم رجع إلى المدينة و لم يلق كيدا
و قد قال البخاري حدثنا عبد الله حدثنا وهب حدثنا شعبة عن ابن إسحاق قال : كنت إلى جنب زيد بن أرقم فقيل له : كم غزا رسول الله صلى الله عليه و سلم من غزوة ؟ قال : تسع عشرة قلت : كم غزوت أنت معه ؟ قال : سبع عشرة
قلت : فأيهن كان أول ؟ قال العشير أو العسير فذكرت لقتادة فقال : العشير
و هذا الحديث ظاهر في أن أول الغزوات العشيرة و يقال بالسين و بهما مع حذف التاء و بهما مع المد اللهم إلا أن يكون المراد أول غزاة شهدها مع النبي صلى الله عليه و سلم زيد بن أرقم العشيرة و حينئذ لا ينفى أن يكون قبلها غيرها لم يشهدها زيد بن أرقم و بهذا يحصل الجمع بين ما ذكره محمد بن إسحاق و بين هذا الحديث و الله أعلم
قال محمد ابن إسحاق : و يومئذ قال رسول الله صلى الله عليه و سلم لعلى ما قال فحدثني يزيد بن محمد بن خيثم عن محمد بن كعب القرظي حدثني أبو يزيد محمد ابن خيثم عن عمار بن ياسر قال : كنت أنا و علي بن أبي طالب رفيقين في غزوة العشيرة من بطن ينبع فلما نزاها رسول الله صلى الله عليه و سلم أقام بها شهرا فصالح بها بني مدلج و حلفاءهم من بني ضمرة فوادعهم فقال لي علي بن أبي طالب : هل لك يا أبا اليقظان أن نأتي هؤلاء النفر من بني مدلج يعملون في عين لهم ننظر كيف يعملون ؟ فأتيناهم فنظرنا إليهم ساعة فغشينا النوم فعمدنا إلى صور من النخل في دقعاء من الأرض فنمنا فيه فو الله ما أهبنا إلا رسول الله صلى الله عليه و سلم يحركنا بقدمه فجلسنا و قد تتربنا من تلك الدقعاء (2/361)
فيومئذ قال رسول الله صلى الله عليه و سلم لعلي مالك ياأبا تراب ؟ لما عليه من التراب فأخبرناه بما كان من أمرنا فقال [ ألا أخبركم بأشقى رجلين ] قلنا : بلى يا رسول الله فقال [ أخمير ثمود الذي عقر الناقة و الذي يضربك ياعلي على هذه و وضع رسول الله صلى الله عليه و سلم يده على رأسه حتى تبل منها هذه و وضع يده على لحيته ]
و هذا حديث غريب من هذا الوجه له شاهد من وجه آخر في تسميه علي أبا تراب كما في صحيح البخاري أن عليا خرج مغاضبا فاطمة فجاء إلى المسجد فأيقظه و جعل يمسح التراب عنه و يقول : [ قم أبا تراب قم أبا تراب ] (2/363)
قال ابن إسحاق : ثم لم يقم رسول الله صلى الله عليه و سلم بالمدينة حين رجع من العشيرة إلا ليالي قلائل لا تبلغ العشر حتى أغار كرز بن جابر الفهري على سرج المدينة فخرج رسول الله صلى الله عليه و سلم في طلبه حتى بلغ واديا يقال له سفوان من ناحية بدر و هي غزوة بدر الأولى و فاته كرز فلم يدركه و قال الواقدي : و كان لواؤه مع علي بن أبي طالب
قال ابن هشام و الواقدي : و كان قد استخلف على المدينة زيد بن حارثة
قال ابن إسحاق فرجع رسول الله صلى الله عليه و سلم فأقام جمادى و رجبا و شعبان و قد كان بعث بين يدي ذلك سعدا في ثمانية رهط من المهاجرين فخرج حتى بلغ الخرار من أرض الحجاز قال ابن هشام : ذكر بعض أهل العلم أن بعث سعد هذا كان بعد حمزة ثم رجع و لم يلق كيدا هكذا ذكره ابن إسحاق مختصرا و قد تقدم ذكر الواقدي لهذه البعوث الثلاثة أغنى بعث حمزة في رمضان و بعث عبيدة في شوال و بعث سعد في ذي القعدة كلها في السنة الأولى
و قد قال الإمام أحمد : حدثني عبد المتعال بن عبد الوهاب حدثني يحيى بن سعيد و قال عبد الله بن الإمام أحمد : و حدثني سعيد بن يحيى بن سعيد الأموي حدثنا أبي حدثنا المجلد عن زياد بن علاقة عن سعد بن أبي وقاص قال : لما قدم رسول الله صلى الله عليه و سلم المدينة جاءته جهينة فقالوا : إنك قد نزلت بين أظهرنا فأوثق حتى نأتيك و قومنا فأوثق لهم فأسلموا قال : فبعثنا رسول الله صلى الله عليه و سلم في رجب و لا نكون مائة و أمرنا أن نغير على حي من بني كنانة إلى جنب جهينة فأغرنا عليهم و كانوا كثيرا فلجأنا إلى جهينة فمنعونا و قالوا : لم تقاتلون في الشهر الحرام ؟ فقال بعضنا لبعض : ما ترون ؟ فقال بعضنا : نأتي نبي الله فنخبره و قال قوم : لا بل نقيم ها هنا و قلت أنا في أناس عمي : لا بل نأتي عير قريش فنقتطعها و كان الفئ إذ ذاك من أخذ شيئا فهو له
فانطلقنا إلى العير و انطلق أصحابنا إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فأخبروه الخبر فقام غضبان محمر الوجه فقال : [ أذهبتم من عندي جميعا و رجعتم متفرقين ! إنما أهلك من كان قبلكم الفرقة لبعثن عليكم رجلا ليس بخيركم أصبركم على الجوع و العطش ]
فبعث علينا عبد الله بن جحش الأسدي فكان أول أمير في الإسلام
و قد رواه البيهقي في الدلائل من حديث يحيى بن أبي زائدة عن مجالد به نحوه و زاد بعد قولهم لأصحابه : لم تقاتلون في الشهر الحرام ؟ فقالوا : نقاتل في الشهر الحرام من أخرجنا من البلد الحرام
ثم رواه من حديث أبي أسامة عن مجالد عن زياد بن علاقة عن قطبة بن مالك عن سعد بن أبي وقاص فذكر نحوه فأدخل بين سعد و زياد قطبة بن مالك و هذا أنسب و الله أعلم
و هذا الحديث يقتضي أن أول السرايا عبد الله بن جحش الأسدي و هو خلاف ما ذكره ابن إسحاق أن أول الرايات عقدت لعبيدة بن الحارث بن المطلب و للواقدي حيث زعم أول الرايات عقدت لحمزة بن عبد المطلب و الله أعلم (2/364)
باب سرية عبد الله بن جحش
التي كان سببها لغزوة بدر العظمى و ذلك يوم الفرقان يوم التقى الجمعان و الله على كل شئ قدير
قال ابن إسحاق : و بعث رسول الله صلى الله عليه و سلم عبد الله بن جحش بن رئاب الأسدي في رجب مقفله من بدر الأولى و بعث معه ثمانية رهط من المهاجرين ليس فيهم من الأنصار أحد و هم : أبو حديفة بن عتبة و عكاشة بن محصن بن حرثان حليف بني أسد بن خزيمة و عتبة بن غزوان حليف بني نوفل و سعد بن أبي وقاص الزهري و عامر بن ربيعة الوائلي حليف بني عدي و واقد بن عبد الله بن عبد مناف بن عرين بن ثعلبة بن يربوع التميمي حليف بني عدي أيضا و خالد بن البكير أحد بني سعد بن ليث حليف بني عدي أيضا و سهل بن بيضاء الفهري فهؤلاء سبعة ثامنهم أميرهم عبد الله بن جحش رضي الله عنه
و قال يونس عن ابن إسحاق : كانوا ثمانية و أميرهم التاسع فالله أعلم
قال ابن إسحاق : و كتب له كتابا و أمره أن لا ينظر فيه حتى يسير يومين ثم ينظر فيه فيمضي لما أمره به و لا يستكره من أصحابه أحدا
فلما سار بهم يومين فتح الكتاب فإذا فيه : [ إذا نظرت في كتابي فأمض حتى تنزل نخلة بين مكة و الطائف فترصد بها قريشا و تعلم لنا من أخبارهم ] فلما نظر في الكتاب قال : سمعا و طاعة و أخبر أصحابه بما في الكتاب و قال : قد نهانى أن أستكره أحدا منكم فمن كان منكم يريد الشهادة و يرغب فيها فلينطلق و من كره ذلك فليرجع فأما أنا فماض لأمر رسول الله صلى الله عليه و سلم
فمضى و مضى معه أصحابه لم يتخلف منهم أحد و سلك على الحجاز حتى إذا كان بمعدن فوق الفرع يقال له بحران أضل سعد بن أبي وقاص و عتبة بن غزوان بعيرا لهما كانا يعتقبانه فتخلفا في طلبه و مضى عبد الله بن جحش و بقية أصحابه حتى نزل نخلة
فمرت عير لقريش فيها عمرو بن الحضرمي قال ابن هشام : و اسم الحضرمي عبد الله ابن عباد أحد الصدف و عثمان بن عبد الله بن المغيرة المخزومي و أخوه نوفل و الحكم بن كيسان مولى هشام بن المغيرة
فلما رآهم القوم هابوهم و قد نزلوا قريبا منهم فأشرف لهم عكاشة بن محصن و كان قد حلق رأسه فلما رأوه أمنوا و قال عمار : لا بأس عليكم منهم و تشاور الصحابة فيهم و ذلك في آخر يوم من رجب فقالوا : و الله لئن تركتموهم هذه الليلة ليدخلن الحرام فليمتنعن به منكم و لئن قتلتموهم لتقتلنهم في الشهر الحرام
فتردد القوم و هابوا الإقدام عليهم
ثم شجعوا أنفسهم عليهم و أجمعوا على قتل من قدروا عليه منهم و أخذا ما معهم فرمى واقد بن عبد الله التميمي عمرو بن الحضرمي بسهم فقتله و استأسر عثمان بن عبد الله و الحكم بن كيسان و أفلت القوم نوفل بن عبد الله فأعجزهم و أقبل عبد الله بن جحش و أصحابه بالعير و الأسيرين حتى قدموا على رسول الله صلى الله عليه و سلم
و قد ذكر بعض آل عبد الله بن جحش أن عبد الله قال لأصحابه : إن لرسول الله صلى الله عليه و سلم فيما غنمنا أتحمس فعزله و قسم الباقي بين أصحابه و ذلك قبل أن ينزل الخمس
قال : و لما نزل الخمس نزل كما قسمه عبد الله بن جحش كما قاله ابن إسحاق
فلما قدموا على رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ ما أمرتكم بقتال في الشهر الحرام ] فوقف العير و الأسيرين و أبي أن يأخذ من ذلك شيئا
فلما قال ذلك رسول الله صلى الله عليه و سلم أسقط في أيدي القوم و ظنوا أنهم قد هلكوا و عنفهم إخوانهم من المسلمين فيما صنعوا و قالت قريش : قد استحل محمد و أصحابه الشهر الحرام و سفكوا فيه الدم و أخذوا فيه الأموال و أسروا فيه الرجال فقال من يرد عليهم من المسلمين ممن كان بمكة : إنما أصابوا ما أصابوا في شعبان و قالت يهود : تفائل بذلك على رسول الله صلى الله عليه و سلم : عمرو بن الخضرمي قتله واقد بن عبد الله عمرو : عمرت الحرب فجعل الله ذلك عليهم لا لهم فلما أكثر الناس في ذلك أنزل الله تعالى على رسوله صلى الله عليه و سلم : { يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل : قتال فيه كبير وصد عن سبيل الله و كفر به و المسجد الحرام و إخراج أهله منه أكبر عند الله و الفتنة أكبر من القتل و لا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا }
أي إن كنتم قتلتم في الشهر الحرام فقد صدوكم عن سبيل الله مع الكفر به و عن المسجد الحرام و إخراجكم منه و أنتم أهله أكبر عند الله من قتل من قتلتم منهم و الفتنة أكبر من القتل أي قد كانوا يفتنون المسلم عن دينه حتى يردوه إلى الكفر بعد إيمانه فذلك أكبر عند الله من القتل ثم هم مقيمون على أخبث ذلك و أعظمه غير تائبين و لا نازعين و لهذا قال الله تعالى : { و لا يزالون يقاتلوكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا } الآية
قال ابن إسحاق : فلما نزل القرآن بهذا الأمر و فرج الله عن المسلمين ما كانوا فيه من الشفق قبض رسول الله صلى الله عليه و سلم العير و الأسيرين و بعث قريش في فداء عثمان و الحكم بن كيسان فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ : لا نفديكموهما حتى يقدم صاحبنا ] يعني سعد بن أبي وقاص و عتبة بن غزوان [ فأنا نخشاكم عليهما فإن تقتلوهما نقتل صاحبكم ] فقدم سعد و عتبة فأفداهما رسول الله صلى الله عليه و سلم فأما الحكم بن كيسان فأسلم فحسن إسلامه و أقام عند رسول الله صلى الله عليه و سلم حتى قتل يوم بئر معونة شهيدا و أما عثمان بن عبد الله فلحق بمكة فمات بها كافرا
قال ابن إسحاق : فلما تجلى عن عبد الله بن جحش و أصحابه ما كانوا فيه حين نزل القرآن طمعوا في الأجر فقالوا : يا رسول الله أنطمع أن تكون لنا غزاة نعطى فيها أجر المجاهدين ؟ فأنزل الله فيهم : { إن الذين آمنوا و الذين هاجروا و جاهدوا في سبيل الله أولئك يرجون رحمة الله و الله غفور رحيم } فوضعهم الله من ذلك على أعظم الرجاء
قال ابن إسحاق : و الحديث في ذلك عن الزهري و كذا روى شعيب عن الزهري عن عروة نحوا من هذا و فيه : و كان ابن الحضرمي أول قتيل قتل بين المسلمين و المشركين
و قال عبد الملك بن هشام : هو أول قتيل قتله المسلمون و هذه أول غنيمة غنمها المسلمون و عثمان و الحكم بن كيسان أول من أسره المسلمون (2/366)
قلت : و قد تقدم فيما رواه الإمام أحمد عن سعد بن أبي وقاص أنه قال : فكان عبد الله بن جحش أول أمير في الإسلام
و قد ذكرنا في التفسير لما أورده ابن إسحاق شواهد مسنده فمن ذلك ما رواه الحافظ أبو محمد بن أبي حاتم [ حدثنا أبي حدثنا محمد بن أبي بكر المقدمي حدثنا المعتمر بن سليمان عن أبيه حدثني الحضرمي عن أبي السوار عن جندب بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه و سلم بعث رهطا و بعث عليهم أبا عبيدة ابن الجراح أو عبيدة بن الحارث فلما ذهب بكى صبابة إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فجلس فبعث عليهم مكانة عبد الله بن جحش و كتب له كتابا و أمره ألا يقرأه حتى يبلغ مكان كذا و كذا و قال : لا تكرهن أحدا على المسير معك من أصحابك ]
فلما قرأ الكتاب استرجع و قال : سمعا و طاعة لله لرسول فخبرهم الخبر و قرأ عليهم الكتاب فرجع منهم رجلان و بقي بقيتهم فلقوا ابن الحضرمي فقتلوه و لم يدروا أن ذلك اليوم من رجب أو من جمادى فقال المشركين للمسلمين : قتلتم في الشهر الحرام
فأنزل الله : { يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبير } الآية
و قال اسماعيل بن عبد الرحمن السدي الكبير في تفسيره عن أبي مالك عن أبي صالح عن ابن عباس و عن مرة عن ابن مسعود عن جماعة من الصحابة { يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبير } و ذلك أن رسول الله صلى الله عليه و سلم بعث سرية و كانوا سبعة نفر عليهم عبد الله بن جحش و فيهم : عمار بن ياسر و أبو حذيفة بن عتبة و سعد بن أبي وقاص و عتبة بن غزوان و سهل بن بيضاء و عامر بن فهيرة و واقد بن عبد الله اليربوعي حليف لعمر بن الخطاب
و كتب لابن جحش كتابا و أمره ألا يقرأه حتى ينزل بطن ملل فلما نزل بطن ملل فتح الكتاب فإذا فيه : أن سر حتى بطن نخلة فقال لأصحابه : من كان يريد الموت فليمض و ليوص فإنني موص و ماض لأمر رسول الله صلى الله عليه و سلم
فسار و تخلف عند سعد و عتبة أضلا راحلة لهما فأقاما يطلبانها و سار هو و أصحابه حتى نزل بطن نخلة فإذا هو بالحكم بن كيسان و المغيرة بن عثمان و عبد الله ابن المغيرة
فذكر قتل واقد لعمر بن الحضرمي و رجعو بالغنيمة و الأسيرين فكانت أول غنيمة غنمها المسلمون و قال المشركون : إن محمدا يزعم أنه يتبع طاعة الله و هو أول من استحل الشهر الحرام و قتل صاحبنا في رجب و قال المسلمون : إنما قتلناه في جمادى
قال السدي : و كان قتلهم له في أول ليلة من رجب و آخر ليلة من جمادى الآخرة
قلت : لعل جمادى كان ناقصا فاعتقدوا بقاء الشهر ليلة الثلاثين و قد كان الهلال رؤى تلك الليلة فالله أعلم
و هكذا روى العوفي عن ابن عباس أن ذلك كان في آخر ليلة من جمادى و كانت أول ليلة من رجب و لم يشعروا
و كذا تقدم في حديث جندب الذي رواه ابن أبي حاتم
و قد تقدم في سياق ابن إسحاق أن ذلك كان آخر ليلة من رجب و خافوا إن لم يتداركوا هذه الغنيمة و ينتهزوا هذه الفرصة دخل أولئك في الحرام فيتعذر عليهم ذلك فأقدموا عليهم عالمين بذلك و كذا قال الزهري عن عروة رواه البيهقي فالله أعلم أي ذلك كان قال الزهري عن عروة : فبلغنا أن رسول الله صلى الله عليه و سلم عقل ابن الحضرمي و حرم الشهر الحرام كما كان يحرمه حتى أنزل الله براءة رواه البيهقي (2/370)
قال ابن إسحاق : فقال أبو بكر الصديق في غزوة عبد الله بن جحش جوابا للمشركين فيما قالوا من إحلال الشهر الحرام قال ابن هشام : هي لعبد الله بن جحش :
( تعدون قتلا في الحرام عظيمة ... و أعظم منه لو يرى الرشد راشد )
( صدوكم عما يقول محمد ... و كفر به و الله راء و شاهد )
( و إحراجكم من مسجد الله أهله ... لئلا يرى لله في البيت ساجد )
( فإن و إن عيرتمونا بقتله ... و أرجف بالإسلام باغ و حاسد )
( سقينا من ابن الحضرمي رماحنا ... بنخلة لما أوقد الحرب واقد )
( دما و ابن عبد الله عثمان بيننا ... ينازعه غل من القيد عاند ) (2/372)
في تحويل القبلة في سنة اثنتين من الهجرة قبل وقعة بدر
و قال بعضهم : كان ذلك في رجب من سنة اثنتين و به قال قتادة و زيد بن أسلم و هو رواية عن محمد بن إسحاق و قد روى أحمد عن ابن عباس ما يدل على ذلك و هو ظاهر حديث البراء بن عازب كما سيأتي و الله أعلم و قيل في شعبان منها
قال ابن إسحاق بعد غزوة عبد الله بن جحش : و يقال صرفت القبلة في شعبان على رأس ثمانية عشر شهرا من مقدم رسول الله صلى الله عليه و سلم المدينة
و حكى هذا القول ابن جرير من طريق السدى فسنده عن ابن عباس و ابن مسعود و ناس من الصحابة
قال الجمهور الأعظم : إنما صرفت في النصف من شعبان على رأس ثمانية عشر شهرا من الهجرة
ثم حكى عن محمد بن سعد عن الواقدي أنها حولت يوم الثلاثاء النصف من شعبان و في هذا التحديد نظر و الله أعلم
و قد تكلمنا على ذلك مستقصى في التفسير عند قوله تعالى : { قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضاها فول وجهك شطر المسجد الحرام و حيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره و إن الذين أوتوا الكتاب ليعلمون أنه الحق من ربهم و ما الله بغافل عما يعملون } و ما قبلها و ما بعدها من اعتراض سفهاء اليهود و المنافقين و الجهلة الطعام على ذلك لأنه أول نسخ وقع في الإسلام هذا و قد أحال الله قبل ذلك في سياق القرآن تقرير جواز النسح عند قوله { ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها ألم تعلم أن الله على كل شئ قدير }
و قد قال البخاري : حدثنا أبو نعيم سمع زهيرا عن أبي إسحاق عن البراء أن النبي صلى الله عليه و سلم إلى بيت المقدس ستة عشر شهرا أو سبعة عشر شهرا و كان يعجبه أن تكون قبلته إلى البيت و أنه صلى أول صلاة صلاها إلى الكعبة العصر و صلى معه قوم فخرج رجل ممن كان معه فمر على أهل مسجد و هم راكعون فقال : أشهد بالله لقد صليت مع النبي صلى الله عليه و سلم قبل مكة فداروا كما هم قبل البيت و كان الذي مات على القبلة قبل أن تحول رجال قتلوا لم ندر ما نقول فيهم فأنزل الله { و ما كان الله ليضيع إيمانكم إن الله بالناس لرؤوف رحيم } رواه مسلم من وجه آخر
و قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو زرعة حدثنا الحسن بن عطية حدثنا إسرائيل عن أبي إسحاق عن البراء قال : كان رسول الله صلى الله عليه و سلم قد صلى نحو بيت المقدس ستة عشر أو سبعة عشر شهرا و كان يحب أن يوجه نحو الكعبة فأنزل الله : { قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضاها فول وجهك شطر المسجد الحرام } فوجه نحو الكعبة
قال السفهاء من الناس و هم اليهود : ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها ؟ فأنزل الله : { قل لله المشرق و المغرب يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم }
و حاصل الأمر أن رسول الله صلى الله عليه و سلم كان يصلي بمكة إلى بيت المقدس و الكعبة بين يديه كما رواه الإمام أحمد عن ابن عباس رضي الله عنه فلما هاجر إلى المدينة لم يمكنه أن يجمع بينهما فصلى إلى بيت المقدس أول مقدمه المدينة و استدبر الكعبة ستة عشر شهرا أو سبعة عشر شهرا و هذا يقتضي أن يكون ذلك إلى رجب من السنة الثانية و الله أعلم
و كان عليه السلام يحب أن يصرف قبلته نحو الكعبة قبلة إبراهيم و كان يكثر الدعاء و التضرع و الابتهال إلى الله عز و جل فكان مما يرفع يديه و طرفه إلى السماء سائلا ذلك فأنزل الله عز و جل : { قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضاها فول وجهك شطر المسجد الحرام } الآية
فلما نزل الأمر بتحويل القبلة خطب رسول الله صلى الله عليه و سلم المسلمين و أعلمهم بذلك كما رواه النسائي عن أبي سعيد بن المعلى و أن ذلك كان وقت الظهر
و قال بعض الناس : نزل تحويلها بين الصلاتين قاله مجاهد و غيره
و يؤيد ذلك ما ثبت في الصحيحين عن البراء أن أول صلاة صلاها عليه السلام إلى الكعبة بالمدينة العصر
و العجب أن أهل قباء لم يبلغهم خبر ذلك إلى صلاة الصبح من اليوم الثاني كما ثبت في الصحيحين عن ابن عمر قال : بينما الناس بقباء في صلاة الصبح إذ جاءهم آت فقال : إن رسول الله صلى الله عليه و سلم قد أنزل عليه القرآن و قد أمر أن يستقبل الكعبة فاستقبلوها و كانت وجوهم إلى الشام فاستداروا إلى الكعبة
و في صحيح مسلم عن أنس بن مالك نحو ذلك (2/372)
و المقصود أنه لما نزل تحويل القبلة إلى الكعبة و نسح به الله تعالى حكم الصلاة إلى بيت المقدس طعن طاعنون من السفهاء و الجهلة و الأغبياء قالوا : ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها ؟
هذا و الكفرة من أهل الكتاب يعلمون أن ذلك من الله لما يجدونه من صفة محمد صلى الله عليه و سلم في كتبهم من أن المدينة مهاجره و أنه سيؤمر بالاستقبال إلى الكعبة كما قال : { و إن الذين أوتوا الكتاب ليعلمون أنه الحق من ربهم } الآية و قد أجابهم الله تعالى مع هذا كله عن سؤالهم و نعتهم فقال : { سيقول السفهاء من الناس ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها قل : لله المشرق و المغرب يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم } أي هو المالك المتصرف الحاكم الذي لا معقب لحكمه الذي يفعل ما يشاء في خلقه و يحكم ما يريد في شرعه و هو الذي يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم و يضل من يشاء عن الطريق القويم و له في ذلك الحكمة التي يجب لها الرضا و التسليم
ثم قال تعالى : { و كذلك جعلناكم أمة وسطا } أي خيارا { لتكونوا شهداء على الناس و يكون الرسول عليكم شهيدا } أي و كما اخترنا لكم أفضل الجهات في صلاتكم و هديناكم إلى قبلة أبيكم إبراهيم والد الأنبياء بعد التي كان يصلي بها موسى فمن قبله من المرسلين كذلك جعلناكم خيار الأمم و خلاصة العالم و أشرف الطوائف و أكرم التالد و الطارف لتكونوا يوم القيامة شهداء على الناس لإجماعهم عليكم و إشارتهم يومئذ بالفضيلة إليكم
كما ثبت في صحيح البخاري عن أبي سعيد مرفوعا من استشهاد نوح بهذه الأمة يوم القيامة و إذا استشهد بهم نوح مع تقدم زمانه فمن بعده بطريق الأولى و الأخرى
ثم قالى تعالى مبينا حكمته في حلول نقمته بمن شك و ارتاب بهذه الواقعة و حلول نعمته على من صدق و تابع هذه الكائنة فقال { و ما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلا لنعلم من يتبع الرسول } قال ابن عباس : إلا لنرى من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه
{ و إن كانت لكبيرة } أي و إن كانت هذه الكائنة لعظيمة الموقع كبيرة المحل شديدة الأمر إلا على الذي هدى الله أي فهم مؤمنون بها مصدقون لها لا يشكون و لا يرتابون بل يرضون و يؤمنون و يعملون لأنهم عبيد للحاكم العظيم القادر المقتدر الحليم الخبير اللطيف العليم
و قوله : { و ما كان الله ليضيع إيمانكم } أي بشرعته استقبال بيت المقدس و الصلاة إليه : { إن الله بالناس لرؤوف رحيم }
و الأحاديث و الآثار في هذا كثيرة جدا يطول استقصاؤها و ذلك مبسوط في التفسير و سنزيد ذلك بيانا في كتابنا الأحكام الكبير
و قد روى الإمام أحمد [ حدثنا علي بن عاصم حدثنا حضين بن عبد الرحمن عن عمرو بن قيس عن محمد بن الأشعث عن عائشة قالت : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم يعني في أهل الكتاب : إنهم لم يحسدوننا على يوم الجمعة التي هدانا الله إليها و ضلوا عنها و على القبلة التي هدانا الله لها و ضلوا و على قولنا خلف الإمام آمين ] (2/375)
في فريضة شهر رمضان سنة اثنتين قبل وقعة بدر
قال ابن جرير : و في هذه السنة فرض صيام شهر رمضان و قد قيل : أنه فرض في شعبان منها ثم حكى أن رسول الله صلى الله عليه و سلم حين قدم المدينة و جد اليهود يصومون يوم عاشوراء فسألهم عنه فقالوا : هذا يوم نجى الله فيه موسى فقال : [ نحن أحق بموسى منكم ] فصامه و أمر الناس بصيامه
و هذا الحديث ثابت في الصحيحين عن ابن عباس
و قد قال الله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون أياما معدودات فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر و على الذين يطيقون فدية طعام مسكين فمن تطوع خيرا فهو خير له و أن تصوموا خير لكم إن كنتم تعلمون شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس و بينات من الهدى و الفرقان فمن شهد منكم الشهر فليصمه و من كان مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر }
و قد تكلمنا على ذلك في التفسير بما فيه كفاية من إيراد الأحاديث المتعلقة بذلك و الآثار المروية في ذلك و الأحكام المستفادة منه و لله الحمد (2/377)
و قد قال الإمام أحمد حدثنا أبو النضر حدثنا المسعودي حدثنا عمرو بن مرة عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن معاذ بن جبل قال : أحيلت الصلاة ثلاثة أحوال و أحيل الصيام ثلاثة أحوال فذكر أحوال الصلاة قال : و أما أحوال الصيام : فإن رسول الله صلى الله عليه و سلم قدم المدينة فجعل يصوم من كل شهر ثلاثة أيام و صام عاشوراء ثم إن الله فرض عليه الصيام و أنزل { يأيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم } إلى قوله : { و على الذين يطيقونه فدية طعام مسكين } فكان من شاء صام و من شاء أطعم مسكينا فأجزا ذلك عنه ثم إن الله أنزل الآية الأخرى : { شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن } إلى قوله : { فمن شهد منكم الشهر فليصمه } فأثبت صيامه على المقيم الصحيح و رخص فيه للمريض و المسافر و أثبت الإطعام للكبير الذي لا يستطيع الصيام فهذان حولان
قال : و كانوا يأكلون و يشربون و يأتون النساء مالم يناموا فإذا ناموا امتنعوا ثم إن رجلا من الأنصار يقال له صرمة كان يعمل صائما حتى أمسى فجاء إلى أهله فصلى العشاء ثم نام فلم يأكل و لم يشرب حتى أصبح فأصبح صائما فرآه رسول الله صلى الله عليه و سلم قد جهد جهدا شديدا فقال : [ مالي أراك قد جهدت جهدا شديدا ؟ ]
فأخبره قال : و كان عمر قد أصاب من النساء بعد ما نام فأتى رسول الله صلى الله عليه و سلم فذكر ذلك له فأنزل الله { أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم هن لباس لكم } إلى قوله { ثم أتموا الصيام إلى الليل } و رواه أبو داود في سننه و الحاكم في مستدركه من حديث المسعودي نحوه وفي الصحيحين من حديث الزهري عن عروة عن عائشة أنها قالت : كان عاشوراء يصام فلما نزل رمضان كان من شاء صام و من شاء أفطر و للبخاري عن ابن عمرو ابن مسعود مثله
و لتحرير هذا موضع آخر من التفسير و من الأحكام الكبير و بالله المستعان (2/378)
قال ابن جرير : وفي هذه السنة أمر الناس بزكاة الفطر و قد قيل : إن رسول الله صلى الله عليه و سلم خطب الناس قبل الفطر بيوم أو يومين و أمرهم بذلك
قال : وفيها صلى النبي صلى الله عليه و سلم صلاة العيد و خرج بالناس إلى المصلى فكان أول صلاة عيد صلاها و خرجوا بين يديه بالحربة و كانت للزبير وهبها له النجاشي فكانت تحمل بين يدي رسول الله صلى الله عليه و سلم في الأعياد
قلت : و في هذه السنة فيما ذكره غير واحد من المتأخرين فرضت الزكاة ذات النصب : كما سيأتي تفصيل ذلك كله بعد وقعة بدر إن شاء الله تعالى و به الثقة و عليه التكلان و لا حول و لا قوة إلا بالله العلي العظيم (2/379)
غزوة بدر العظمى يوم الفرقان يوم التقى الجمعان
قال الله تعالى : { و لقد نصركم الله ببدر و انتم أذلة فاتقوا الله لعلكم تشكرون }
و قال الله تعالى : { كما أخرجك ربك من بيتك بالحق وإن فريقا من المؤمنين لكارهون يجادلونك في الحق بعد ما تبين كأنما يساقون إلى الموت و هم ينظرون وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين أنها لكم و تودون أن غير ذات الشوكة تكون لكم و يريد الله أن يحق الحق بكلماته و يقطع دابر الكافرين ليحق الحق و يبطل الباطل و لو كره المجرمون }
و ما بعدها إلى تمام القصة من سورة الأنفال وقد تكلمنا عليها هنالك و سنورد ها هنا في كل موضع ما يناسبه
قال ابن إسحاق رحمه الله بعد ذكره سرية عبد الله بن جحش : ثم إن رسول الله صلى الله عليه و سلم سمع بأبي سفيان صخر بن حرب مقبلا من الشام في عير لقريش عظيمة فيها أموال و تجارة و فيها ثلاثون رجلا أو أربعون منهم مخرمة بن نوفل و عمرو بن العاص
قال موسى بن عقبة : عن الزهري كأن ذلك بعد مقتل ابن الحضرمي بشهرين
قال : و كان في العير ألف بعير تحمل أموال قريش بأسرها إلا حويطب بن عبد العزي فلهذا تخلف عن بدر
قال ابن إسحاق : [ فحدثني محمد بن مسلم بن شهاب و عاصم بن عمر بن قتادة و عبد الله بن أبي بكر و زيد بن رومان عن عروة بن الزبير و غيرهم من علمائنا عن ابن عباس كل قد حدثني بعض الحديث فاجتمع حديثهم فيما سقت من حديث بدر قالوا : لما سمع رسول الله صلى الله عليه و سلم بأبي سفيان مقبلا من الشام ندب المسلمين إليهم و قال : هذه عير قريش فيها أموالهم فاخرجوا إليها لعل الله ينفلكموها ]
فانتدب الناس فخف بعضهم و ثقل بعض و ذلك أنهم لم يظنوا أن رسول الله صلى الله عليه و سلم يلقى حربا و كان أبو سفيان حين دنا من الحجاز يتجسس من لقى من الركبان تخوفا على أمر الناس حتى أصاب خبرا من بعض الركبان : أن محمدا قد استنفر أصحابه لك و لعيرك فحذر عند ذلك فاستأجر ضمضم بن عمرو الغفاري فبعثه إلى مكة و أمره أن يأتي قريشا فيستنفرهم إلى أموالهم و يخبرهم أن محمدا قد عرض لها في أصحابه فخرج ضمضم بن عمرو سريعا إلى مكة (2/380)
قال ابن إسحاق : فحدثني من لا أتهم عن عكرمة عن ابن عباس و زيد بن رومان عن عروة بن الزبير قالا : و قد رأت عاتكة بنت عبد المطلب قبل قدوم ضمضم إلى مكة بثلاث ليال رؤيا أفزعتها فبعثت إلى أخيها العباس بن عبد المطلب فقالت له : ياأخي و الله لقد رأيت الليلة رؤيا أفظعتني و تخوفت أن يدخل على قومك منها شر و مصيبة فاكتم على ما أحدثك قال لها : و ما رأيت ؟ قالت :
رأيت راكبا أقبل على بعير له حتى وقف بالأبطح ثم صرخ بأعلى صوته : ألا انفروا يا آل غدر لمصارعكم في ثلاث ثم مثل به بعيره على رأس أبي قبيس فصرخ بمثلهما ثم أخذ صخرة فأرسلها فأقبلت تهوي حتى إذا كانت بأسفل الجبل ارفضت فما بقي بيت من بيوت مكة و لا دار إلا دخلتها منها فلقة قال العباس : و الله إن هذه لرؤيا و أنت فا كتميها لا تذكريها لأحد ثم خرج العباس فلقى الوليد بن عتبة و كان له صديقا فذكرها له و استكتمه إياها فذكرها الوليد لابنه عتبة ففشا الحديث حتى تحدث به قريش قال العباس : فغدوت لأطوف بالبيت و أبو جهل ابن هشام في رهط من قريش قعود يتحدثون برؤيا عاتكة فلما رآني أبو جهل قال : يا أبا الفضل إذا فرغت من طوافك فأقبل إلينا فلما أقبلت حتى جلست معهم فقال أبو جهل : يا بني عبد المطلب متى حدثت فيكم هذه النبية ؟ قال : قلت : و ما ذاك ؟ قال : تلك الرؤيا التي رأت عاتكة قال : قلت : و ما رأت ؟ قال : يا بني عبد المطلب أما رضيتم أن يتنبأ رجالكم حتى تتنبأ نساؤكم ؟ قد زعمت عاتكة في رؤياها أنه قال : انفروا في ثلاث فسنتربص بكم هذه الثلاث فإن يك حقا ما تقول فسيكون و إن تمض الثلاث و لم يكن من ذلك شئ نكتب عليكم كتابا أنكم أكذب أهل بيت العرب
قال العباس : فو الله ما كان مني إليه كبير شئ إلا إني جحدت ذلك و أنكرت أن تكون رأت شيئا قال : ثم تفرقنا فلما أمسيت لم تبق امرأة من بني عبد المطلب إلا أتتني فقالت : أقررتم لهذا الفاسق الخبيث أن يقع في رجالكم ثم قد تناول النساء و أنت تسمع ثم لم يكن عندك غيرة لشئ مما سمعت ؟ قال قلت : قد و الله فعلت ما كان منى إليه من كبير و أيم الله لأتعرضن له فإذا عاد لأكفيكنه
قال : فغدوت في اليوم الثالث من رؤيا عاتكة و أنا حديد مغضب أرى أني قد فاتني منه أمر احب أن أدركه منه
قال : فدخلت المسجد فرأيته فو الله إني لمشي نحوه أتعرضه ليعود لبعض ما قال فأقع به و كان رجلا خفيفا حديد الوجه حديد اللسان حديد النظر قال : إذا خرج نحو باب المسجد يشتد قال : قلت في نفسي : ماله لعنه الله ؟ أكل هذا فرق مني أن أشاتمه ؟ ! و إذا هو قد سمع ما لم أسمع صوت ضمضم بن عمرو الغفاري و هو يصرخ ببطن الوادي واقفا على بعيره قد جدع بغيره و حول رحله و شق قميصه و هو يقول : يا معشر قريش االلطيمة اللطيمة أموالكم مع أبي سفيان قد عرض لها محمد في أصحابه لا أرى أن تدركوها الغوث الغوث
قال : فشغلني عنه و شغله عني ما جاء من الأمر فتجهز الناس سراعا و قالوا : أيظن محمد و أصحابه أن تكون كعير ابن الحضرمي ؟ ! كلا و الله ليعلمن غير ذلك
و ذكر موسى بن عقبة رؤيا عاتكة كنحو من سياق ابن إسحاق قال : ابن إسحاق : فكانوا بين رجلين : إما خارج و إما باعث مكانه رجلا و أو عبت قريش فلم يتخلف من أشرافها أحد إلا أن أبا لهب بن عبد المطلب بعث مكانه العاصي بن هشام بن المغيرة استأجره بأربعة آلاف درهم كانت له عليه قد أفلس بها (2/381)
قال ابن إسحاق : و حدثني ابن أبي نجيح أن أمية بن خلف كان قد أجمع القعود و كان شيخا جليلا جسيما ثقيلا فأتاه عقبة بن أبي معيط و هو جالس في المسجد بين ظهراني قومه بمجمرة يحملها فيها نار و مجمر حتى وضعها بين يديه ثم قال : يا أبا علي استجمر فإنما أنت من النساء !
قال : قبحك الله ما جئت به قال : ثم تجهز و خرج مع الناس
هكذا قال ابن إسحاق في هذه القصة
و قد رواها البخاري على نحو آخر فقال : حدثني أحمد بن عثمان حدثنا شريح ابن مسلمة حدثنا إبراهيم بن يوسف عن أبيه عن أبي إسحاق حدثني عمرو بن ميمون أنه سمع عبد الله بن مسعود حدث عن سعد بن معاذ أنه كان صديقا لأمية بن خلف و كان أمية إذا مر بالمدينة نزل على سعد بن معاذ و كان سعد إذا مر بمكة نزل على أمية
فلما قدم رسول الله صلى الله عليه و سلم المدينة انطلق سعد بن معاذ معتمرا فنزل على أمية بمكة قال سعد لأمية : انظر لي ساعة خلوة لعلى أطوف بالبيت فخرج به قريبا من نصف النهار فلقيهما أبو جهل فقال : يا صفوان من هذا معك ؟ قال : هذا سعد
قال له أبو جهل : ألا أراك تطوف بمكة آمنا و قد أويتم الصباة و زعمتم أنكم تنصرونهم و تعينونهم أما و الله لو أنك مع أبي صفوان ما رجعت إلى أهلك سالما
فقال له سعد و رفع صوته عليه : أما و الله لئن منعتني هذا لأمنعنك ما هو أشد عليك منه : طريقك على المدينة
فقال له أمية : لا ترفع صوتل يا سعد على أبي الحكم فإنه سيد أهل الوادي قال سعد : دعنا عنك يا أمية فو الله لقد سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : [ إنهم قاتلوك ] قال : بمكة ؟ قال : لا أدري
ففزع لذلك أمية فزعا شديدا
فلما رجع إلى أهله قال : يا أم صفوان ألم تري ما قال لي سعد ؟ قالت : و ما قال لك ؟
قال : زعم أن محمدا أخبرهم أنهم قاتلي فقلت له : بمكة ؟ قال : لا أدري فقال أمية : و الله لا أخرج من مكة
فلما كان يوم بدر استنفر أبو جهل الناس فقال : أدركوا عيركم فكره أمية أن يخرج فأتاه أبو جهل فقال : يا أبا صفوان إنك متى يراك الناس قد تخلفت و أنت سيد أهل الوادي تخلفوا معك
فلم يزل به أبو جهل حتى قال : أما إذ غلبتني فو الله لأشترين أجود بعير بمكة
ثم قال أمية : يا أم صفوان جهزيني فقالت له : يا أبا صفوان و قد نسيت ما قال لك أخوك اليثربي ؟ قال لا و ما أريد أن أجوز معهم إلا قريبا
فلما خرج أمية أخذ لا ينزل منزلا إلا عقل بعيره فلم يزل كذلك حتى قتله الله ببدر
و قد رواه البخاري في موضع آخر عن محمد بن إسحاق عن عبيد الله بن موسى عن إسرائيل عن أبي إسحاق به نحوه تفرد به البخاري
و قد رواه الإمام أحمد عن خلف بن الوليد و عن أبي سعيد كلاهما عن إسرائيل و في رواية إسرائيل قالت له امرأته : و الله إن محمدا لا يكذب قال ابن إسحاق : و لما فرغوا من جهازهم و أجمعوا المسير ذكروا ما كان بينهم و بين بني بكر بن عبد مناة بن كنانة من الحرب فقالوا : إنا نخشى أن يأتونا من حلفنا و كانت الحرب التي كانت بين قريش و بين بني بكر في ابن لحفص بن الأخيف من بني عامر بن لؤي قتله رجل من بني بكر بإشارة عامر بن يزيد بن عامر بن الملوح ثم أخذ بثأره أخوه مكرز بن حفص فقتل عامرا و خاض بسيفه في بطنه ثم جاء من الليل فعلقه بأستار الكعبة فخافوهم بسبب ذلك الذي وقع بينهم (2/383)
قال ابن إسحاق : فحدثني يزيد بن رومان عن عروة بن الزبير قال : لما أجمعت قريش المسير ذكرت الذي كان بينها و بين بني بكر فكاد ذلك أن يثنيهم فتبدى لهم إبليس في صورة سراقة بن مالك بن جعشم المدلجي و كان من أشراف بني كنانة فقال : أنا لكم جار من أن تأتيكم كنانة من خلفكم بشئ تكرهونه فخرجوا سراعا قلت : و هذا معنى قوله تعالى : { و لا تكونوا كالذين خرجوا من ديارهم بطرا و رئاء الناس و يصدون عن سبيل الله و الله بما يعملون محيط و إذ زين لهم الشيطان أعمالهم و قال : لا غالب لكم اليوم من الناس و إني جار لكم فلما تراءت الفئتان نكص على عقبيه و قال : إني برئ منكم إني أرى ما لا ترون إني أخاف الله و الله شديد العقاب }
غرهم لعنه الله حتى ساروا و سار معهم منزلة منزلة و معه جنوده و راياته كما قاله غير واحد منهم فأسلمهم لمصارعهم فلما رأى الجد و الملائكة تنزل للنصر و عاين جبريل نكص على عقبيه و قال : إني برئ منكم إني أرى ما لا ترون إني أخاف الله
و هذا كقوله تعالى : { كمثل الشيطان إذ قال للإنسان اكفر فلما كفر قال إني برئ منك إني أخاف الله رب العالمين } :
و قد قال الله تعالى : { و قل جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا }
فإبليس لعنه الله لما عاين الملائكة يومئذ تنزل للنصر فر ذاهبا فكان أول من هرب يومئذ بعد أن كان هو المشجع لهم كما غرهم و وعدهم و مناهم و ما يعدهم الشيطان إلا غرورا (2/386)
و قال يونس عن ابن إسحاق : خرجت قريش على الصعب و الذلول في تسعمائة و خمسين مقاتلا معهم مائتا فرس يقودونها و معهم القيان يضربن بالدفوف و يغنين بهجاء المسلمين
و ذكر المطعمبن لقريش يوما يوما
و ذكر الأموي : أن أول من نحر لهم حين خرجوا من مكة أبو جهل نحر لهم عشرا ثم نحر لهم أمية بن خلف بعسفان تسعا و نحر لهم سهيل بن عمرو بقديد عشرا و مالوا من قديد إلى مياه نحو البحر فظلوا فيها و أقاموا بها يوما فنحر لهم شيبة بن ربيعة تسعا ثم أصبحوا بالجحفة فنحرهم يومئذ عتبة بن ربيعة عشرا ثم أصبحوا بالأبواء فنحر لهم نبيه و منبه ابنا الحجاج عشرا و نحر لهم العباس بن عبد المطلب عشرا و نحر لهم على ماء بدر أبو البختري عشرا ثم أكلوا من أزوادهم
قال الأموي : حدثنا أبي حدثنا أبو بكر الهذلي قال : كان مع المشركين ستون فرسا و ستمائة درع و كان مع رسول الله صلى الله عليه و سلم فرسان و ستون درعا
هذا ما كان من أمر هؤلاء في نفيرهم من مكة و مسيرهم إلى بدر (2/387)
و أما رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال ابن إسحاق : و خرج رسول الله صلى الله عليه و سلم في ليال مضت من شهر رمضان في أصحابه و استعمل ابن أم مكتوم على الصلاة بالناس ورد أبا لبابة من الروحاء و استعمله على المدينة و دفع اللواء إلى مصعب بن عمير و كان أبيض و بين يدي رسول الله صلى الله عليه و سلم رايتان سوداوان إحداهما مع علي بن أبي طالب يقال لها : العقاب و الأخرى مع بعض الأنصار قال ابن هشام : كانت راية الأنصار مع سعد بن معاذ و قال الأموي : كانت مع الحباب بن المنذر قال ابن إسحاق : و جعل رسول الله صلى الله عليه و سلم على الساقة قيس بن أبي صعصعة أخا بني مازن بن النجار و قال الأموي : و كان معهم فرسان على إحداهما مصعب ابن عمير و على الأخرى الزبير بن العوام و من الميمنة سعد بن خيثمة و من الميسرة المقداد ابن الأسود و قد روى الإمام أحمد من حديث الإمام أحمد عن حارثة بن مضرب عن علي قال : ما كان فينا فارس يوم بدر غير المقداد وروى البيهقي من طريق ابن وهب عن أبي صخر عن أبي معاوية البلخي عن سعيد بن جبير عن ابن عباس أن عليا قال له : ما كان معنا إلا فرسان : فرس للزبير و فرس للمقداد بن الأسود يعني يوم بدر و قال الأموي حدثنا أبي حدثنا إسماعيل بن أبي خالد عن التيمي قال : كان مع رسول الله صلى الله عليه و سلم يوم بدر فارسان الزبير بن العوام على الميمنة و المقداد ابن الأسود على الميسرة
قال ابن إسحاق : و كان معهم سبعون بعيرا يعتقبونها فكان رسول الله صلى الله عليه و سلم و علي و مرثد بن أبي مرثد يعتقبون بعيرا و كان حمزة و زيد بن حارثة و أبو كبشة و أنسة موليا رسول الله صلى الله عليه و سلم يعتقبون بعيرا كذا قال ابن إسحاق رحمه الله تعالى و قد قال الإمام أحمد : [ حدثنا عفان عن حماد بن سلمة حدثنا عاصم بن بهلة عن زر بن حبيش عن عبد الله بن مسعود قال : كنا يوم بدر كل ثلاثة على بعير كان أبو لبانة و علي زميلي رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : فكانت عقبة رسول الله صلى الله عليه و سلم فقالا : نحن نمشي عنك فقال : ما أنتما بأقوى مني و لا أنا بأغنى عن الأجر منكما ] و قد رواه النسائي عن الفلاس عن ابن مهدي عن حماد بن سلمة به
قلت : و لعل هذا كان قبل أن يرد أبا لبابة من الروحاء ثم كان زميلا علي و مرثد بدل أبي لبابة و الله أعلم و قال الإمام أحمد : [ حدثنا محمد بن جعفر حدثنا سعيد عن قتادة عن زرارة بن أبي أوفى عن سعد بن هشام عن عائشة : أن رسول الله صلى الله عليه و سلم أمر بالأجراس أن تقطع من أعناق الإبل يوم بدر ] و هذا على شرط الصحيحين و إنما رواه النسائي عن أبي الأشعث عن خالد بن الحارث عن سعيد بن أبي عروبة عن قتادة به قال شيخنا الحافظ المزي في الأطراف : و تابعه سعيد بن بشر عن قتادة و قد رواه هشام عن قتادة عن زرارة عن أبي هريرة فالله أعلم و قال البخاري : حدثنا يحيى بن بكير حدثنا الليث عن عقيل عن ابن شهاب عن عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك أن عبد الله بن كعب قال : سمعت كعب ابن مالك يقول : لم أتخلف عن رسول الله صلى الله عليه و سلم في غزوة غزاها إلا في غزوة تبوك غير أني تخلفت عن غزوة بدر و لم يعاتب الله أحدا تخلف عنها إنما خرج رسول الله صلى الله عليه و سلم يريد عير قريش حتى جمع الله بينهم و بين عدوهم على غير ميعاد
تفرد به (2/387)
قال ابن إسحاق : فسلك رسول الله صلى الله عليه و سلم طريقه من المدينة إلى مكة على نقب المدينة ثم على العقيق ثم على ذي الحليفة ثم على أولات الجيش ثم مر على تربان ثم على ملل ثم على غميس الحمام ثم على صخيرات اليمامة ثم على السيالة ثم فج الروحاء ثم على شنوكة و هي الطريق المعتدلة
حتى إذا كان بعرق الظبية لقي رجلا من الأعراب فسألوه عن الناس فلم يجدوا عنده خبرا فقال له الناس : سلم على رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : أو فيكم رسول الله صلى الله عليه و سلم ؟ قالوا : نعم فسلم عليه ثم قال : لئن كنت رسول الله فأخبرني عما في بطن ناقتي هذه قال له سلمة بن سلامة بن وقش : لا تسأل رسول الله صلى الله عليه و سلم و أقبل علي فأنا أخبرنا عن ذلك نزوت عليها ففي بطنها منك سلخة فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ مه أفحشت على الرجل ] ثم أعرض عن سلمة
و نزل رسول الله صلى الله عليه و سلم سجسج و هي بئر الروحاء ثم ارتحل منها حتى إذا كان منها بالمنصرف ترك طريق مكة بيسار و سلك ذات اليمين على النازية يريد بدرا فسلك في ناحية منها حتى إذا جزع واديا يقال له رحقان بين النازية و بين مضيق الصفراء ثم على المضيق ثم انصب منه حتى إذا كان قريبا من الصفراء بعث بسبس عمرو الجهني حليف بني ساعدة و عدي بن أبي الزغباء حليف بني النجار إلى بدر يتجسان الأخبار عن أبي سفيان صخر بن حرب و غيره و قال موسى بن عقبة : بعثهما قبل أن يخرج من المدينة فلما رجعا فأخبراه بخير العير استنفر الناس إليها
فإن ما ذكره موسى بن عقبة و ابن إسحاق محفوظا فقد بعثهما مرتين و الله أعلم قال ابن إسحاق رحمه الله : ثم ارتحل رسول الله صلى الله عليه و سلم و قد قدمها فلما استقبل الصفراء و هي قرية بين جبلين سأل عن جبليها ما اسماهما ؟ فقالوا يقال لأحدهما مسلح و للآخر مخرئ و سأل عن أهلهما فقيل : بنو النار و بنو حراق بطنان من غفار فكرههما رسول الله صلى الله عليه و سلم و المرور بينهما و تفاءل له ذفران فجزع فيه نزل (2/390)
و أتاه الخبر عن قريش و مسيرهم ليمنعوا غيرهم
فاستشار الناس و أخبرهم عن قريش
فقام أبو بكر الصديق فقال و أحسن
ثم قام عمر بن الخطاب فقال و أحسن
ثم قام المقداد بن عمر فقال : يا رسول الله امض لما أراك الله فنحن معك و الله لا نقول لك كما قال بنو إسرائيل لموسى : اذهب أنت و ربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون و لكن اذهب أنت و ربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون فو الذي بعثك بالحق لو سرت بنا إلى برك الغماد لجالدنا معك من دونه حتى تبلغه فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم خيرا و دعا له (2/391)
ثم قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ أشيروا علي أيها الناس ] و إنما يريد الأنصار و ذلك أنهم كانوا عدد الناس و أنهم حين بايعوه بالعقبة قالوا : يا رسول الله إنا برآء من ذمامك حتى تصل إلى ديارنا فإذا وصلت إلينا فأنت في ذمتنا نمنعك مما نمنع منه أبناءنا و نساءنا فكان رسول الله صلى الله عليه و سلم يتخوف ألا تكون الأنصار ترى عليها نصره إلا ممن دهمه بالمدينة من عدوه و أن ليس عليهم أن يسير بهم إلى عدو من بلادهم
فلما قال ذلك رسول الله صلى الله عليه و سلم قال له سعد بن معاذ : و الله لكأنك تريدنا يا رسول الله ؟ قال : [ أجل ] قال : فقد آمنا بك و صدقناك و شهدنا أن ما جئت به هو الحق و أعطيناك على ذلك عهودنا و مواثيقنا على السمع و الطاعة لك فامض يا رسول الله لما أردت فنحن معك فو الذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا البحر فخضته لخضناه معك ما تخلف منا رجل واحد و ما نكره أن تلقي بنا عدونا غدا إنا لصبر في الحرب صدق عند اللقاء لعل الله يريدك منا ما تقر به عينك فسر على بركة الله
قال : فسر رسول الله صلى الله عليه و سلم بقول سعد و نشطه ثم قال : [ سيروا و أبشروا فإن الله قد وعدني إحدى الطائفتين و الله لكأني الآن أنظر إلى مصارع القوم ]
هكذا رواه ابن إسحاق رحمة الله و له شواهد من وجوه كثيرة
فمن ذلك ما رواه البخاري في صحيحه : حدثنا أبو نعيم حدثنا إسرائيل عن مخارق عن طارق بن شهاب قال سمعت ابن مسعود يقول : شهدت من المقداد بن الأسود مشهدا لأن أكون صاحبه أحب إلى مما عدل به أتى النبي صلى الله عليه و سلم و هو يدعو على المشركين فقال : لا نقول كما قال قوم موسى لموسى : اذهب أنت و ربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون و لكن نقاتل عن يمينك و عن شمالك و بين يديك و خلفك
فرأيت النبي صلى الله عليه و سلم أشرق وجهه و سره
انفرد به البخاري دون مسلم فرواه في مواضع من صحيحه من حديث مخارق به و رواه النسائي من حدثيه و عنده : و جاء المقداد بن الأسود يوم بدر على فرس فذكره و قال الإمام أحمد : حدثنا عبيدة هو ابن حميد عن حميد الطويل عن أنس قال : استشار النبي صلى الله عليه و سلم مخرجه إلى بدر فأشار عليه أبو بكر ثم استشارهم فأشار عليه عمر ثم استشارهم فقال بعض الأنصار : إياكم يريد رسول الله يا معشر الأنصار
فقال بعض الأنصار : يا رسول الله إذا لا نقول كما قالت بنو إسرائيل لموسى : اذهب أنت و ربك فقاتل إنا هاهنا قاعدون و لكن و الذي بعثك بالحق لو ضربت أكبادها برك الغماد لا تبعناك
و هذا إسناد ثلاثي صحيح على شرط الصحيح
و قال أحمد أيضا : حدثنا عفان حدثنا حماد عن ثابت عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه و سلم : شاور حين بلغه إقبال أبي سفيان قال : فتكلم أبو بكر فأعرض عنه ثم تكلم عمر فأعرض عنه فقال بن عبادة : إيانا يريد رسول الله صلى الله عليه و سلم و الذي نفسي بيده لو أمرتنا أن نخيضها البحار لأخضناها و لو أمرتنا أن نضرب أكبادها إلى برك الغماد لفعلنا
فندب رسول الله صلى الله عليه و سلم الناس
قال : [ فانطلقوا حتى نزلوا بدرا ] و وردت عليهم روايا قريش و فيهم غلام أسود لبنى الحجاج فأخذوه و كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم يسألونه عن أبي سفيان و أصحابه فيقول : مالي علم بأبي سفيان و لكن هذا أبو جهل بن هشام و عتبة بن ربيعة و أمية بن خلف فإذا قال ذلك ضربوه فإذا ضربوه قال : نعم أنا أخبركم هذا أبو سفيان فإذا تركوه فسألوه قال : مالي بأبي سفيان علم و لكن هذا أبو جهل و عتبة و شيبة و أمية فإذا قال هذا أيضا ضربوه
و رسول الله صلى الله عليه و سلم قائم يصلي فلما رأى ذلك انصرف فقال : [ و الذي نفسي بيده إنكم لتضربونه إذا صدق و تتركونه إذا كذبكم ]
قال : و قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ هذا مصرع فلان يضع يده على الأرض هاهنا و هاهنا فما أماط أحدهم عن موضع يد رسول الله صلى الله عليه و سلم ]
و رواه مسلم عن أبي بكر عن عفان به نحوه
و قد روى ابن أبي حاتم في تفسيره و ابن مردويه و اللفظ له من طريق عبد الله ابن لهيعة عن يزيد بن أبي حبيب عن أسلم عن أبي عمران أنه سمع أبا أيوب الأنصاري يقول : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم و نحن بالمدينة : [ إني أخبرت عن عير أبي سفيان أنها مقبلة فهل لكم أن نخرج قبل هذه العير لعل الله يغنماها ؟ ] فقلنا : نعم
فخرج و خرجنا فلما سرنا يوما أو يومين قال لنا : [ ما ترون في القوم فإنهم قد أخبروا بمخرجكم ؟ ] فقلنا : لا و الله مالنا طاقة بقتال القوم و لكنا أردنا العير
ثم قال : [ ما ترون في قتال القوم ؟ ] فقلنا مثل ذلك
فقام المقداد بن عمر ( فقال ) : إذا لا نقول لك يا رسول الله كما قال قوم موسى لموسى : اذهب أنت و ربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون
قال : فتمنينا معشر الأنصار لو أنا قلنا مثل ما قال المقداد أحب إلينا من أن يكون لنا مال عظيم فأنزل الله عز و جل على رسوله : { كما أخرجك ربك من بيتك بالحق و إن فريقا من المؤمنين لكارهون } و ذكر تمام الحديث و روى ابن مردوية أيضا من طريق محمد بن عمرو بن علقمة بن وقاص الليثي عن أبيه عن جده قال : خرج رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى بدر حتى إذا كان بالروحاء خطب الناس فقال : [ كيف ترون ؟ ] فقال أبو بكر : يا رسول الله بلغنا أنهم بكذا و كذا قال : ثم خطب الناس فقال : [ كيف ترون ؟ ] فقال عمر مثل قول أبي بكر ثم خطب الناس فقال : [ كيف ترون ؟ ]
فقال سعد بن معاذ : يا رسول الله إيانا تريد ؟ فو الذي أكرمك و أنزل عليك الكتاب ما سلكتها قط و لا لي بها علم و لئن سرت حتى تأتي برك الغماد من ذي يمن لنسيرن معك و لا يكون كالذين قالوا لموسى : اذهب أنت و ربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون و لكن اذهب أنت و ربك فقاتلا إنا معكم متبعون و لعل أن تكون خرجت لأمر و أحدث الله إليك غيره فانظر الذي أحدث إليك الله فامض فصل حبال من شئت و اقطع حبال من شئت و عاد من شئت و سالم من شئت و خذ من أموالنا ما شئت فنزل القرآن على قول سعد : { كما أخرجك ربك من بيتك بالحق و إن فريقا من المؤمنين لكارهون } الآيات
و ذكره الأموي في مغازية و زاد بعد قوله : ( و خذ من أموالنا ما شئت ) : ( و أعطنا ما شئت و ما أخذت منا كان أحب إلينا مما تركت و ما أمرت به من أمر فأمرنا تبع لأمرك فو الله لئن سرت حتى تبلغ البرك من غمدان لنسيرن معك ) (2/392)
قال ابن إسحاق : ثم ارتحل رسول الله صلى الله عليه و سلم من ذفران فسلك على ثنايا يقال لها الأصافر ثم انحط منها إلى بلد يقال له الدابة و ترك الحنان بيمين و هو كثيب عظيم كالحبل العظيم ثم نزل قريبا من بدر فركب هو و رجل من أصحابه
قال ابن هشام : هو أبو بكر
قال ابن إسحاق كما [ حدثني مجمد بن يحيى بن حبان حتى وقف على شيخ من العرب فسأله عن قريش و عن محمد و أصحابه و ما بلغه عنهم فقال الشيخ : لا أخبر كما حتى يخبراني ممن أنتما ؟ فقال له رسول الله صلى الله عليه و سلم : إذا أخبرتنا أخبرناك ] فقال : أو ذاك بذاك ؟ قال : نعم
قال الشيخ : فإنه بلغني أن محمدا و أصحابه خرجوا يوم كذا و كذا فإن كان صدق الذي أخبرني فهم اليوم بمكان كذا و كذا للمكان الذي به رسول الله صلى الله عليه و سلم و بلغني أن قريشا خرجوا يوم كذا و كذا فإن الذي أخبرني صدقني فهم اليوم بمكان كذا و كذا للمكان الذي به قريش فلما فرغ من خبره قال : ممن أنتما ؟ فقال له رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ نحن من ماء ] ثم انصرف عنه قال يقول الشيخ : ما من ماء ؟ أمن ماء العراق ؟ قال ابن هشام : يقال لهذا الشيخ سفيان الضمري
قال ابن إسحاق : ثم رجع رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى أصحابه فلما أمسى بعث علي بن أبي طالب و الزبير بن العوام و سعد بن أبي وقاص في نفر من أصحابه إلى ماء بدر يلتمسون الخبر له كما حدثني يزيد بن رومان عن عروة بن الزبير (2/396)
فأصابوا رواية لقريش فيها أسلم غلام بني الحجاج و عريض أبو يسار غلام بني العاص بن سعيد فأتوا بهما فسألوهما و رسول الله صلى الله عليه و سلم قائم يصلي فقالوا : نحن سقاة قريش بعثونا نسقيهم من الماء فكره القوم خبرهما و رجوا أن يكونا لأبي سفيان فضربوهما فلما أذاقوهما قالا : نحن لأبي سفيان فتركوهما و ركع رسول الله صلى الله عليه و سلم و سجد سجدتيه و سلم و قال : [ إذا صدقاكم ضربتموهما و إذا كذباكم تركتموهما ! صدقا و الله إنهما لقريش أخبراني عن قريش ؟ ] قالا : هم و الله وراء هذا الكثيب الذي ترى بالعدوة القصوى و الكثيب العقنقل
فقال لهما رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ كم القوم ؟ ] قالا : كثير قال : [ ما عدتهم ؟ ] قالا : لا ندري قال : [ كم ينحرون كل يوم ؟ ] قالا : يوما تسعا و يوما عشرا فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ القوم ما بين التسعمائة إلى الألف ]
ثم قال لهما : [ فمن فيهم من أشراف قريش ؟ ] قالا : عتبة بن ربيعة و شيبة بن ربيعة و أبو البختري بن هشام و حكيم بن خزام و نوفل بن خويلد و الحارث بن عامر بن نوفل و طعيمة بن عدي بن نوفل و النضر ابن الحارث و زمعة بن الأسود و أبو جهل بن هشام و أمية بن خلف و نبيه و منبه ابنا الحجاج و سهيل بن عمرو و عمرو بن عبد ود قال : فأقبل رسول الله صلى الله عليه و سلم على الناس فقال : [ هذه مكة قد ألقت إليكم أفلاذ كبدها ] (2/397)
قال ابن إسحاق : و كان بسبس بن عمرو و عدي بن أبي الزغباء قد مضيا حتى نزلا بدرا فأناخا إلى تل قريب من الماء ثم أخذا شنا لهما يستقيان فيه و مجدي بن عمرو الجهني على الماء فسمع عدي و بسبس جارتين من جواري الحاضر و هما يتلازمان على الماء و الملزومة تقول لصاحبتها : إنما تأتي العير غدا أو بعد غد فأعمل لهم ثم أقضبك الذي لك قال مجدي : صدقت ثم خلص بينهما و سمع ذلك عدي و بسبس فجلسا على بعيرهما ثم اطلقا حتى أتيا رسول الله صلى الله عليه و سلم و أخبراه بما سمعا
و أقبل أبو سفيان حتى تقدم العير حذرا حتى ورد الماء فقال لمجدي بن عمرو : هل أحسست أحدا ؟ قال : ما رأيت أحدا أنكره إلا أني قد رأيت راكبين قد أناخا إلى هذا التل ثم استقيا في شن لهما ثم انطلقا فأتى أبو سفيان مناخهما فأخذ من أبعار بعيريهما ففته فإذا فيه النوى فقال : هذه و الله علائف يثرب
فرجع إلى أصحابه سريعا فضرب وجه عيره عن الطريق فساحل بها و ترك بدرا بيسار و انطلق حتى أسرع (2/398)
و أقبلت قريش فلما نزلوا الجحفة رأى جهيم بن الصلت بن مخرمة بن المطلب بن عبد مناف رؤيا فقال : إني رأيت فيما يرى النائم و إني لبين النائم و اليقظان إذ نظرت إلى رجل قد أقبل على فرس حتى وقف و معه بعير له ثم قال : قتل عتبة بن ربيعة و شيبة بن ربيعة و أبو الحكم بن هشام و أمية بن خلف و فلان و فلان فعد رجالا ممن قتل يوم بدر من أشراف قريش ثم رأيته ضرب في لبة بعيره ثم أرسله في العسكر فما بقي خباء من أخبية العسكر إلا أصابه نضح من دمه
فبلغت أبا جهل لعنه الله فقال : هذا أيضا نبي آخر من بني المطلب ! سيعلم غدا من المقتول إن نحن التقينا (2/398)
قال ابن إسحاق : و لما رأى أبو سفيان أنه قد أحرز عيره أرسل إلى قريش : إنكم إنما خرجتم لتمنعوا عيركم و رجالكم و أموالكم فقد نجاها الله فارجعوا
فقال أبو جهل بن هشام : و الله لا نرجع حتى نرد بدرا و كان بدر موسما من مواسم العرب يجتمع لهم به سوق كل عام فنقيم عليه ثلاثا فننحر الجزور و نطعم الطعام و نسقي الخمر و تعزف علينا القيان و تسمع بنا العرب و بمسيرنا و جمعنا فلا يزالون يهابوننا أبدا فامضوا (2/399)
و قال الأخنس بن شريق بن عمرو بن وهب الثقفي و كان حليفا لبني زهرة و هم بالجحفة : يا بني زهرة قد نجى الله لكم أموالكم و خلص لكم صاحبكم مخرمة بن نوفل و إنما نفرتم لتمنعوه و ماله فاجعلوا بي جبنها و ارجعوا فإنه لا حاجة لكم بأن تخرجوا في غير ضيعة لا ما يقول هذا
قال : فرجعوا فلم يشهدها زهري واحد أطاعوه و كان فيهم مطاعا
و لم يكن بقي بطن من قريش إلا و قد نفر منهم ناس إلا بني عدي لم يخرج منهم رجل واحد فرجعت بنو زهرة مع الأخنس فلم يشهد بدرا من هاتين القبيلتين أحد (2/399)
قال : و مضى القوم و كان بين طالب بن أبي طالب و كان في القوم و بين بعض قريش محاورة فقالوا : و الله لقد عرفنا يا بني هاشم و إن خرجتم معنا أن هواكم مع محمد فرجع طالب إلى مكة مع من رجع و قال في ذلك :
( لا هم إما يغزون طالب ... في عصبة محالف محارب )
( في مقنب من هذه المقانب ... فليكن المسلوب غير السالب )
( و ليكن المغلوب غير الغالب ) (2/400)
قال ابن إسحاق : و مضت قريش حتى نزلوا بالعدوة القصوى من الوادي خلف العقنقل و بطن الوادي و هو يليل بين بدر و بين العقنقل الكثيب الذي خلفه قريش و القليب ببدر في العدوة الدنيا من بطن يليل إلى المدينة
قلت : و في هذا قال تعالى { إذ أنتم بالعدوة الدنيا و هم بالعدوة القصوى و الركب أسفل منكم } أي من ناحية الساحل { و لو تواعدتم لاختلفتم في الميعاد و لكن ليقضي الله أمرا كان مفعولا } الآيات
و بعث الله السماء و كان الوادي دهسا فأصاب رسول الله صلى الله عليه و سلم و أصحابه منها ماء لبدلهم الأرض و لم يمنعهم من السير و أصاب قريشا منها ماء لم يقدروا على أن يرتحلوا معه (2/400)
قلت : و في هذا قوله تعالى : { و ينزل عليكم من السماء ماء ليطهركم به و يذهب عنكم رجز الشيطان و ليربط على قلوبكم و يثبت به الأقدام }
فذكر أنه طهرهم ظاهرا و باطنا و أنه ثبت أقدامهم و شجع قلوبهم و أذهب عنهم تخذيل الشيطان و تخويفه للنفوس و وسوسته الخواطر و هذا تثبيت الباطن و الظاهر و أنزل النصر عليهم من فوقهم في قوله : { إذ يوحي ربك إلى الملائكة أني معكم فثبتوا الذين آمنوا سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب فاضربوا فوق الأعناق } أي على الرؤوس { و اضربوا منهم كل بنان } أي لئلا يستمسك منهم السلاح { ذلك بأنهم شاقوا الله و رسوله و من يشاق الله و رسوله فإن الله شديد العقاب ذلكم فذوقوه و أن للكافرين عذاب النار }
قال ابن جرير : حدثني هارون بن إسحاق حدثنا مصعب بن المقدام حدثنا إسرائيل حدثنا أبو إسحاق عن حارثة عن علي بن أبي طالب قال : أصابنا من الليل طش من المطر يعني الليلة التي كانت في صبيحتها وقعة بدر فانطلقنا تحت الشجر و الحجف نستظل تحتها من المطر و بات رسول الله صلى الله عليه و سلم يعني قائما يصلي و حرض على القتال
و قال الإمام أحمد : حدثنا عبد الرحمن بن مهدي عن شعبة أبي إسحاق عن حارثة بن مضرب عن علي قال : ما كان فينا فارس يوم بدر إلا المقداد و لقد رأيتنا و ما فينا إلا نائم إلا رسول الله صلى الله عليه و سلم تحت شجرة يصلي و يبكي حتى أصبح
و سيأتي هذا الحديث مطولا
و رواه النسائي عن بندار عن غندر عن شعبة به و قال مجاهد : أنزل عليهم المطر فأطفأ به الغبار و تلبدت به الأرض و طابت به أنفسهم وثبتت به أقدامهم
قلت : و كانت ليلة بدر ليلة الجمعة السابعة عشر من شهر رمضان سنة اثنتين من الهجرة و قد بات رسول الله صلى الله عليه و سلم تلك الليلة يصلي إلى جذم شجرة هناك و يكثر في سجوده أن يقول : [ يا حي يا قيوم ] يكرر ذلك و يلظ به عليه السلام (2/401)
قال ابن إسحاق : فخرج رسول الله صلى الله عليه و سلم يبادرهم إلى الماء حتى جاء أدنى ماء من بدر نزل به
قال ابن إسحاق : فحدثت عن رجال من بني سلمة أنهم ذكروا أن الحباب ابن منذر بن الجموح قال : يا رسول الله أرأيت هذا المنزل أمنزلا أنزلكه الله ليس لنا أن نتقدمه و لا نتأخر عنه أم هو الرأي و الحرب و المكيدة ؟
قال : [ بل هو الرأي و الحرب و المكيدة ]
قال يا رسول الله فإن هذا ليس بمنزل فامض بالناس حتى نأتي أدنى ماء من القوم فنزله ثم نغور ما وراءه من القلب ثم نبني عليه حوضا فنملؤه ماء ثم نقاتل القوم فنشرب و لا يشربون
فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ لقد أشرت بالرأي ]
قال الأموي : حدثنا أبي قال : و زعم الكلبي عن أبي الصالح عن ابن عباس قال : بينا رسول الله صلى الله عليه و سلم يجمع الأقباص و جبريل عن يمينه إذا أتاه ملك من الملائكة فقال : يا محمد إن الله يقرأ عليك السلام فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ هو السلام و منه السلام و إليه السلام ] فقال الملك : إن الله يقول لك : إن الأمر الذي أمرك به الحباب بن المنذر
فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ يا جبريل هل تعرف هذا ؟ ] فقال : ما كل أهل السماء أعرف و إنه لصادق و ما هو بشيطان
فنهض رسول الله صلى الله عليه و سلم و من معه من الناس فسار حتى أتى أدنى ماء من القوم نزل عليه ثم أمر بالقلب فغورت و بني حوضا على القليب الذي نزل عليه فملئ ماء ثم قذفوا فيه الآنية
و ذكر بعضهم أن الحباب بن المنذر لما أشار بما أشار به رسول الله صلى الله عليه و سلم نزل ملك من السماء و جبريل عند النبي صلى الله عليه و سلم فقال الملك : يا محمد ربك يقرأ عليك السلام و يقول لك : إن الرأي ما أشار به الحباب فنظر رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى جبريل فقال : [ ليس كل الملائكة أعرفهم و إنه ملك و ليس بشيطان ]
و ذكر الأموي أنهم نزلوا على القليب الذي يلي المشركين نصف الليل و أنهم نزلوا فيه و استقوا منه و ملأوا الحياض حتى أصبحت ملاء و ليس للمشركين ماء (2/402)
قال ابن إسحاق : فحدثني عبد الله بن أبي بكر أنه حدث أن سعد بن معاذ قال يا نبي الله ألا نبي لك عريشا تكون فيه و نعد عندك ركائبك ثم نلقي عدونا فإن أعزنا الله و أظهرنا على عدونا كان ذلك ما أحببنا و إن كانت الأخرى جلست على ركائبك فلحقت بمن وراءنا من قومنا فقد تخلف عنك أقوام ما نحن بأشد حبا لك منهم و لو ظنوا أنك تلقي حربا ما تخلفوا عنك يمنعك الله بهم يناصحونك و يجاهدون معك
فأثنى عليه رسول الله صلى الله عليه و سلم خيرا و دعا له بخير ثم بنى لرسول الله صلى الله عليه و سلم عريش كان فيه (2/403)
قال ابن إسحاق : و قد ارتحلت قريش حين أصبحت فأقبلت
فلما رآها رسول الله صلى الله عليه و سلم تصوب من العقنقل و هو الكثيب الذي جاؤوا منه إلى الوادي قال : [ اللهم هذه قريش قد أقبلت بخيلائها و فخرها تحادك و تكذب رسولك اللهم فنصرك الذي و عدتني اللهم أحنهم الغداة ]
و قد قال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ و قد رأى عتبة بن ربيعة في القوم و هو على جمل له أحمر : إن يكن في أحد من القوم خير فعند صاحب الجمل الأحمر إن يطيعوه يرشدوا ] قال : و قد كان خفاف بن أيماء بن رحضة أو أبوه أيماء بن رحضة الغفاري بعث إلى قريش ابنا له بجزائر أهداها لهم و قال : إن أحببتم أن نمدكم بسلاح و رجال فعلنا قال : فأرسلوا إليه مع ابنه : أن وصلتك رحم و قد قضيت الذي عليك فلعمري إن كنا إنما نقاتل الناس ما بنا ضعف عنهم و إن كنا إنما نقاتل الله كما يزعم محمد فما لأحد بالله من طاقة قال : فلما نزل الناس أقبل نفر من قريش حتى وردوا حوض رسول الله صلى الله عليه و سلم فيهم حكيم بن حزام فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ دعوهم فما شرب منه رجل يومئذ إلا قتل إلا ما كان من حكيم بن حزام فإنه لم يقتل ثم أسلم بعد ذلك فحسن إسلامه فكان إذا اجتهد في يمينه قال : لا و الذي نجاني يوم بدر ] قلت : و قد كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم يومئذ ثلاثمائة و ثلاثة عشر رجلا كما سيأتي بيان ذلك في فصل نعقده بعد الوقعة و نذكر أسماءهم على حروف المعجم إن شاء الله (2/404)
ففي صحيح البخاري عن البراء قال : كنا نتحدث أن أصحاب بدر ثلثمائة و بضع عشر على عدة أصحاب طالوت الذين جاوزا معه النهر و ما جاوزه معه إلا مؤمن و للبخاري أيضا عنه قال : استصغرت أنا و ابن عمر يوم بدر و كان المهاجرين يوم بدر نيفا على ستين و الأنصار نيف و أربعون و مائتان
و روى الإمام أحمد عن نصر بن رئاب عن حجاج عن الحكم عن مقسم عن ابن عباس أنه قال : كان أهل بدر ثلثمائة و ثلاثة عشر و كان المهاجرين ستة و سبعين و كانت هزيمة أهل بدر لسبع عشرة مضين من شهر رمضان يوم الجمعة و قال الله تعالى : { إذ يريكهم الله في منامك قليلا و لو أراكهم كثيرا لفشلتم و لتنازعتم في الأمر و لكن الله سلم } الآية
و كان ذلك في منامه تلك الليلة و قيل : إنه نام في العريش و أمر الناس أن لا يقاتلوا حتى يأذن لهم فدنا القوم منهم فجعل الصديق يوقظه و يقول : يا رسول الله دنوا منا فاستيقظ و قد أراه الله إياهم في منامه قليلا
ذكره الأموي و هو غريب جدا
و قال تعالى : { و إذا يريكموهم إذ التقيتم في أعينكم قليلا و يقللكم في أعينهم ليقضي الله أمرا كان مفعولا }
فعند ما تقابل الفريقان قلل الله كلا منهما في أعين الآخرين ليجترئ هؤلاء على هؤلاء و هؤلاء على هؤلاء لما له في ذلك من الحكمة البالغة و ليس هذا معارضا لقوله تعالى في سورة آل عمران : { قد كان لكم آية في فئتين التقتا فئة تقاتل في سبيل الله و أخرى كافرة يرونهم مثليهم رأى العين و الله يؤيد بنصره من يشاء } (2/405)
فإن المعنى في ذلك على أصح القولين : أن الفرقة الكافرة ترى الفرقة المؤمنة مثلي عدد الكفرة على الصحيح أيضا و ذلك عند التحام الحرب و المسايفة أوقع الله الوهن و الرعب في قلوب الذين كفروا فاستدرجهم أولا بأن أراهم إياهم عند المواجهة قليلا ثم أيد المؤمنين بنصره فجعلهم في أعين الكافرين على الضعف منهم حتى وهنوا وضعفوا و غلبوا و لهذا قال : { و الله يؤيد بنصره من يشاء إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار }
قال إسرائيل عن أبي إسحاق عن أبي عبيد و عبد الله لقد قللوا في أعيننا يوم بدر حتى أني لأقول لرجل إلى جنبي : أتراهم سبعين ؟ فقال : أراهم مائة ! (2/406)
قال ابن إسحاق : و حدثني أبي إسحاق بن يسار و غيره من أهل العلم عن أشياخ من الأنصار قالوا : لمل اطمأن القوم بعثوا عمير بن وهب الجمحي فقالوا احزر لنا القوم أصحاب محمد
قال : فاستجال بفرسه حول العسكر ثم رجع إليهم فقال : ثلاثمائة رجل يزيدون قليلا أو ينقصون و لكن أمهلوني حتى أنظر : أللقوم كمين أو مدد
قال : فضرب في الوادي حتى أبعد فلم ير شيئا فرجع إليهم فقال : ما رأيت شيئا و لكن قد رأيت يا معشر قريش البلايا تحمل المنايا نواضح يثرب تحمل الموت الناقع قوم ليس لهم منعة و لا ملجأ إلا سيوفهم و الله ما أرى أن يقتل رجل منهم حتى يقتل رجلا منكم فإذا أصابوا منكم أعدادهم فما خير العيش بعد ذلك ! ؟ فروا رأيكم (2/406)
فلما سمع حكيم بن حزام ذلك مشى في الناس فأتى عتبة بن ربيعة فقال : يا أبا الوليد إنك كبير قريش و سيدها المطاع فيها هل لك إلى أن لا تزال تذكر فيها بخير إلى آخر الدهر ؟
قال : و ما ذاك يا حكيم ؟ قال : ترجع بالناس و تحمل أمر حليفك عمرو ابن الحضرمي قال : قد فعلت أنت على بذلك إنما هو حليفي فعلي عقله و ما أصيب من ماله فأت ابن الحنظلية يعني أبا جهل فإنى لا أخشى أن يشجر أمر الناس غيره ثم قام عتبة خطيبا فقال : يا معشر قريش إنكم و الله ما تصنعون بأن تلقوا محمدا و أصحابه شيئا و الله لئن أصبتموه لا يزال الرجل ينظر إلى وجه رجل يكره النظر إليه قتل ابن عمه أو ابن خاله أو رجلا من عشيرته فارجعوا و خلوا بين محمد و بين سائر العرب فإن أصابوه فذلك الذي أردتم و إن كان غير ذلك ألفاكم و لم تعرضوا منه ما تريدون
قال حكيم : فانطلقت حتى جئت أبا جهل فوجدته قد نثل درعا فهو يهنها فقلت له : يا أبا الحكم إن عتبة أرسلني إليك بكذا و كذا فقال انتفخ و الله سحره حين رأى محمدا و أصحابه فلا و الله لا نرجع حتى يحكم الله بيننا و بين محمد و ما بعتبة ما قال و لكنه رأى محمدا و أصحابه أكلة جزور و فيهم ابنه فقد تخوفكم عليه ثم بعث إلى عامر بن الحضرمي فقال : هذا حليفك يريد أن يرجع الناس و قد رأيت ثأرك بعينك فقم فانشد خفرتك و مقتل أخيك
فقام عامر بن الحضرمي فاكتشف ثم صرخ : و اعمرا ه واعمراه قال فحميت الحرب و حقب أمر الناس و استوثقوا على ما هم عليه من الشر و أفسد على الناس الرأي الذي دعاهم إليه عتبة
فلما بلغ عتبة قول أبي جهل : انتفخ و الله سحره قال : سيعلم مصفر استه من انتفخ سحره أنا أم هو ! ثم التمس عتبة بيضة ليدخلها في رأسه فما و جد في الجيش بيضة تسعه من عظم رأسه فلما رأى ذلك اعتجر على رأسه ببرد له (2/407)
و قد روى ابن جرير من طريق مسور بن عبد الملك اليربوعي عن أبيه عن سعيد بن المسيب قال : بينا نحن عند مروان بن الحكم إذ دخل حاجبه فقال : حكيم بن حزام يستأذن قال : ائذن له فلما دخل قال : مرحبا يا أبا خالد ادن فحال عن صدر المجلس حتى جلس بينه و بين الوسادة ثم استقبله فقال : حدثنا حديث بدر
فقال : خرجنا حتى إذا كنا بالجحفة رجعت قبيلة من قبائل قريش بأسرها فلم يشهد أحد من مشركيهم بدرا ثم خرجنا حتى نزلنا العدوة التي قال الله تعالى فجئت عتبة بن ربيعة فقلت : يا أبا الوليد هل لك في أن تذهب بشرف هذا اليوم ما بقيت ؟
قال : أفعل ما ذا ؟ قلت : إنكم لا تطلبون من محمد إلا دم ابن الحضرمي و هو حليفك فتحمل بديته و يرجع الناس
فقال : أنت علي بذلك و اذهب إلى ابن الحنظلية يعني أبا جهل فقل له : هل لك أن ترجع اليوم بمن معك عن ابن عمك ؟ فجئته فإذا هو في جماعة من بين يديه و من خلفه و إذا ابن الحضرمي واقف على رأسه و هو يقول : فسخت عقدي من عبد شمس و عقدي اليوم إلى بني مخزوم فقلت له : يقول لك عتبة بن ربيعة : هل لك أن ترجع اليوم بمن معك ؟ قال : أما وجد رسولا غيرك ؟ قلت : لا و لم أكن لأكون رسولا لغيره
قال حكيم : فخرجت مبادرا إلى عتبة لئلا يفوتني من الخبر شئ و عتبة متكئ على أيماء بن رحصة الغفاري و قد أهدى إلى المشركين عشرة جزائر
فطلع أبو جهل الشر في وجهه فقال لعتبة : انتفخ سحرك ؟ فقال له عتبة : ستعلم فسل أبو جهل سيفه فضرب به متن فرسه فقال أيماء بن رحضة : بئس الفأل هذا فعند ذلك قامت الحرب (2/408)
وقد صف رسول الله صلى الله عليه و سلم أصحابه و عباهم أحسن تعبية فروى الترمذي عن عبد الرحمن بن عوف قال : صفنا رسول الله صلى الله عليه و سلم يوم بدر ليلا وروى الإمام أحمد من حديث ابن لهيعة حدثني يزيد بن أبي حبيب أن أسلم أبا عمران حدثه أنه سمع أبا أيوب يقول : صفنا رسول الله صلى الله عليه و سلم يوم بدر فبدرت منا بادرة أمام الصف فنظر إليهم النبي صلى الله عليه و سلم فقال : [ معي معي ] تفرد به أحمد و هذا إسناد حسن
و قال ابن إسحاق : و حدثني حبان بن واسع بن حبان عن أشياخ من قومه أن رسول الله صلى الله عليه و سلم عدل صفوف أصحابه يوم بدر و في يده قدح يعدل به القوم فمر بسواد بن غزية حليف بني عدي بن النجار و هو مستنتل من الصف فطعن في بطنه بالقدح و قال : [ استو يا سواد ]
فقال : يا رسول الله أوجعتني و قد بعثك الله بالحق و العدل فأقدني فكشف رسول الله صلى الله عليه و سلم عن بطنه فقال : استقد قال : فاعتنقه فقبل بطنه فقال : ما حملك على هذا ياسواد ؟ قال : يا رسول الله حضر ما ترى فأردت أن يكون آخر العهد بك أن يمس جلدي جلدك
فدعا له رسول الله صلى الله عليه و سلم بخير وقاله (2/409)
قال ابن إسحاق : [ و حدثني عاصم بن عمر بن قتادة أن عوف بن الحارث و هو ابن عفراء قال : يا رسول الله ما يضحك الرب من عبده ؟ قال : غمسه يده في العدو حاسرا ]
فنزع درعا كانت عليه فقذفها ثم أخذ سيفه فقاتل حتى قتل رضي الله عنه (2/410)
قال ابن إسحاق : ثم عدل رسول الله صلى الله عليه و سلم الصفوف و رجع إلى العريش فدخله و معه أبو بكر ليس معه فيه غيره
و قال ابن إسحاق و غيره : و كان سعد بن معاذ رضي الله عنه واقفا على باب العريش متقلدا بالسيف و معه رجال من الأنصار يحرسون رسول الله صلى الله عليه و سلم خوفا عليه من أن يدهمه العدو من المشركين و الجنائب النجائب مهيأة لرسول الله صلى الله عليه و سلم إن احتاج إليها ركبها و رجع إلى المدينة كما أشار به سعد بن معاذ
و قد روى البزار في مسنده من حديث محمد بن عقيل عن علي أنه خطبهم فقال : يا أيها الناس من أشجع الناس ؟ فقالوا : أنت يا أمير المؤمنين (2/410)
فقال : أما إني ما بارزني أحد إلا انتصفت منه و لكن هو أبو بكر إنا جعلنا لرسول الله صلى الله عليه و سلم عريشا فقلنا : من يكون مع رسول الله صلى الله عليه و سلم لئلا يهوي إليه أحد من المشركين ؟ فو الله ما دنا منا أحد إلا أبو بكر شاهرا بالسيف على رأس رسول الله صلى الله عليه و سلم لا يهوي إليه أحد إلا أهوى إليه فهذا أشجع الناس
قال : ولقد رأيت رسول الله صلى الله عليه و سلم و أخذته قريش فهذا يحاده و هذا يتلتله و يقولون : أنت جعلت الآلهة إلها واحدا فو الله ما دنا منا أحد إلا أبو بكر يضرب و يجاهد هذا ويتلتل هذا و هو يقول : ويلكم ! أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله ثم رفع علي بردة كانت عليه فبكى حتى اخضلت لحيته ثم قال : أنشدكم الله : أمؤمن آل فرعون خير أم هو ؟ فسكت القوم فقال علي : فو الله لساعة من أبي بكر خير من ملء الأرض من مؤمن آل فرعون ذاك رجل يكتم إيمانه و هذا رجل أعلن إيمانه
ثم قال البزار : لا نعلمه يروى إلا من هذا الوجه فهذه خصوصية للصديق حيث هو مع الرسول في العريش كما كان معه في الغار رضي الله عنه و أرضاه (2/411)
و رسول الله صلى الله عليه و سلم يكثر الابتهال و التضرع و الدعاء و يقول فيما يدعو به : [ اللهم إنك إن تهلك هذه العصابة لاتعبد بعدها في الأرض ] و جعل يهتف بربه عز و جل و يقول : [ اللهم أنجز لي ما وعدتني اللهم نصرك ]
و يرفع يديه إلى السماء حتى سقط الرداء عن منكبيه و جعل أبو بكر رضي الله عنه يلتزمه من ورائه و يسوي عليه رداءه و يقول مشفقا عليه من كثرة الابتهال : يا رسول الله بعض مناشدتك ربك فإنه سينجز لك ما وعدك
هكذا حكى السهيلي عن قاسم بن ثابت أن الصديق إنما قال : بعض مناشدتك ربك من باب الإشفاق لما رأى من نصبه في الدعاء و التضرع حتى سقط الرداء عن منكبيه فقال : بعض هذا يا رسول الله أي : لم تتعب نفسك هذا التعب و الله قد وعدك بالنصر و كان رضي الله عنه رقيق القلب شديد الإشفاق على رسول الله صلى الله عليه و سلم (2/411)
وحكى السهيلي عن شيخه أبي بكر بن العربي بأنه قال : كان رسول الله صلى الله عليه و سلم في مقام الخوف و الصديق في مقام الرجاء و كان مقام الخوف في هذا الوقت يعني أكمل قال : لأن لله أن يفعل ما يشاء فخاف أن لا يعبد في الأرض بعدها فخوفه ذلك عبادة قلت : و أما قول بعض الصوفية : إن هذا المقام في مقابلة ما كان يوم الغار فهو قول مردود على قائله إذ لم يتذكر هذا القائل عور ما قال و لا لازمه و لا ما يترتب عليه و الله أعلم (2/412)
هذا و قد تواجه الفئتان و تقابل الفريقان و حضر الخصمان بين يدي الرحمن و استغاث بربه سيد الأنبياء و ضج الصحابة بصنوف الدعاء إلى رب الأرض و السماء سامع الدعاء و كاشف البلاء
فكان أول من قتل من المشركين الأسود بن عبد الأسد المخزومي
قال ابن إسحاق : و كان رجلا شرسا سيئ الخلق فقال : أعاهد الله لأشربن من حوضهم أو لأهدمنه أو لأموتن دونه فلما خرج خرج إليه حمزة بن عبد المطلب فلما التقيا ضربه حمزة فأطن قدمه بنصف ساقه و هو دون الحوض فوقع على ظهره تشخب رجله دما نحو أصحابه ثم حبا إلى الحوض حتى اقتحم فيه يريد زعم أن تبر يمينه و أتبعه حمزة فضربه حتى قتله في الحوض (2/412)
قال الأموي : فحمى عند ذلك عتبة بن ربيعة و أراد أن يظهر شجاعته فبرز بين أخيه شيبة و ابنه الوليد فلما توسطوا بين الصفين دعوا إلى البراز فخرج إليهم فتية من الأنصار ثلاثة و هم عوف و معاذ ابنا الحارث و أمهما عفراء و الثالث عبد الله بن رواحة فيما قيل فقالوا : من أنتم ؟ قالوا : رهط من الأنصار فقالوا : مالنا بكم من حاجة و في رواية فقالوا : أكفاء كرام و لكن أخرجوا إلينا من بني عمنا و نادى مناديهم : يا محمد أخرج إلينا أكفاءنا من قومنا فقال النبي صلى الله عليه و سلم [ قم يا عبيدة بن الحارث و قم يا حمزة و قم يا علي ]
و عند الأموي أن النفر من الأنصار لما خرجوا كره ذلك رسول الله صلى الله عليه و سلم لأنه أول موقف واجه فيه رسول الله صلى الله عليه و سلم أعداءه فأحب أن يكون أولئك من عشيرته فأمرهم بالرجوع و أمر أولئك الثلاثة بالخروج
قال ابن إسحاق : فلما دنوا منهم قالوا : من أنتم ؟ و في هذا دليل أنهم كانوا ملبسين لا يعرفون من السلاح فقال عبيدة : عبيدة و قال حمزة : حمزة و قال علي : علي قالوا نعم أكفاء كرام فبارز عبيدة و كان أسن القوم عتبة و بارز حمزة شيبة و بارز علي الوليد بن عتبة فأما حمزة فلم يمهل شيبة أن قتله و أما علي فلم يمهل الوليد أن قتله و اختلف عبيدة و عتبة بينهما بضربتين كلاهما أثبت صاحبه و كر حمزة و علي بأسيافهما على عتبة فذففا عليه و احتملا صاحبهما فحازاه إلى أصحابهما رضي الله عنه
و قد ثبت في الصحيحين من حديث أبي مجلز عن قيس بن عباد عن أبي ذر : أنه كان يقسم قسما أن هذه الآية { هذان خصمان اختصموا في ربهم } نزلت في حمزة و صاحبه و عتبة و صاحبه يوم برزوا في بدر هذا لفظ البخاري في تفسيرها
و قال البخاري : حدثنا حجاج بن منهال حدثنا المعمر بن سليمان سمعت أبي حدثنا أبو مجلز عن قيس بن عباد عن علي بن أبي طالب أنه قال : أنا أول من يجثو بين يدي الرحمن عز و جل في الخصومة يوم القيامة (2/413)
قال قيس : و فيهم نزلت : { هذان خصمان اختصموا في ربهم } قال : هم الذين بارزوا يوم بدر : علي و حمزة و عبيدة و شيبة بن ربيعة و عتبة بن ربيعة و الوليد بن عتبة
تفرد به البخاري
و قد أوسعنا الكلام عليها في التفسير بما فيه كفاية و لله الحمد و المنة
و قال الأموي : حدثنا معاوية بن عمرو عن أبي إسحاق عن ابن المبارك عن إسماعيل بن أبي خالد عن عبد الله البهي قال : برز عتبة و شيبة و الوليد و برز إليهم حمزة و عبيدة و علي فقالوا : تكلموا نعرفكم فقال حمزة : أنا أسد الله و أسد رسول الله أنا حمزة بن عبد المطلب فقال : كفء كريم و قال علي : أنا عبد الله و أخو رسول الله و قال عبيدة : أنا الذي في الحلفاء فقام كل رجل إلى رجل فقاتلوم فقتلهم الله (2/414)
فقالت هند في ذلك :
( أعيني جودي بدمع سرب ... على خير خندف لم ينقلب )
( تداعى له رهطة غدوة ... بنو هاشم و بنو المطلب )
( يذيقونه حد أسيافهم ... يعلونه بعد ما قد عطب )
و لهذا نذرت هند أن تأكل من كبد حمزة (2/415)
قلت : و عبيدة هذا هو ابن الحارث بن المطلب بن عبد مناف و لما جاؤوا به إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم أضجعوه إلى جانب موقف رسول الله صلى الله عليه و سلم فأشرفه رسول الله صلى الله عليه و سلم قدمه فوضع خده على قدمه الشريفة و قال : يا رسول الله لو رآني أبو طالب لعلم أني أحق بقوله :
( و نسلمه حتى نصرع دونه ... و نذهل عن أبنائنا و الحلائل )
ثم مات رضي الله عنه فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ أشهد أنك شهيد ]
رواه الشافعي رحمه الله
و كان أول قتيل من المسلمين في المعركة مهجع مولى عمرو بن الخطاب رمي بسهم فقتله
قال ابن إسحاق : فكان أول من قتل ثم رمي بعده حارثة بن سراقة أحد بني عدي بن النجار و هو يشرب من الحوض بسهم فأصاب نحره فمات
و ثبت في الصحيحين عن أنس أن حارثة بن سراقة قتل يوم بدر و كان في النظارة أصابه سهم غرب فقتله فجاءت أمة فقالت : يا رسول الله أخبرني عن حارثة فإن كان في الجنة صبرت و إلا فليرين الله ما أصنع يعني من النياح و كانت لم تحرم بعد فقال لها رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ ويحك أهبلت إنها جنان ثمان و إن ابنك أصاب الفردوس الأعلى ! ] (2/415)
قال ابن إسحاق : ثم تزاحف الناس و دنا بعضهم من بعض و قد أمر رسول الله صلى الله عليه و سلم أصحابه أن لا يحملوا حتى يأمرهم و قال : [ إن اكتنفكم القوم فانضحوهم عنكم بالنبل ]
و في صحيح البخاري عن أبي أسيد قال : قال لنا رسول الله صلى الله عليه و سلم يوم بدر : [ إذا أكثبوكم يعني المشركين فارموهم و استبقوا نبلكم ]
و قال البيهقي : [ أخبرنا الحاكم أخبرنا الأصم حدثنا أحمد بن عبد الجبار عن يونس بن بكير عن أبي إسحاق حدثني عبد الله بن الزبير قال : جعل رسول الله صلى الله عليه و سلم شعار المهاجرين يوم بدر : يا بني عبد الرحمن و شعار الخزرج : يا بني عبد الله و شعار القوس : يا بني عبيد الله و سمي خيله خيل الله ] قال ابن هشام : كان شعار الصحابة يوم بدر : أحد أحد
قال ابن إسحاق : و رسول الله صلى الله عليه و سلم في العريش معه أبو بكر رضي الله عنه يعني و هو يستغيث الله عز و جل كما قال تعالى : { إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم أني ممدكم بألف من الملائكة مردفين و ما جعله الله إلا بشرى و لتطمئن به قلوبكم و ما النصر إلا من عند الله إن الله عزيز حكيم }
قال الإمام أحمد : حدثنا أبو نوح قراد حدثنا عكرمة بن عمار حدثنا سماك الحنفي أبو زميل حدثني ابن عباس حدثني عمر بن الخطاب قال : لما كان يوم بدر (2/416)
نظر رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى أصحابه و هم ثلاثمائة و نيف و نظر إلى المشركين فإذا هم ألف و زيادة فاستقبل النبي صلى الله عليه و سلم القبلة و عليه رداؤه و إزاره ثم قال : [ اللهم أنجز لي ما وعدتني اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام فلا تعبد بعد في الأرض أبدا ]
فما زال يستغيث بربه و يدعوه حتى سقط رداؤه فأتاه أبو بكر فأخذ رداؤه فرده ثم التزمه من ورائه ثم قال : يا رسول الله كفاك مناشدتك ربك فإنه سينجز لك ما وعدك فأنزل الله : { إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم أني ممدكم بألف من الملائكة مردفين }
و ذكر تمام الحديث كما سيأتي
و قد رواه مسلم و أبو داود و الترمزي و ابن جرير و غيرهم من حديث عكرمة بن عمار اليماني و صححه علي ابن المديني و الترمذي
و هكذا قال غير واحد عن ابن عباس و السدي و ابن جرير و غيرهم أن هذه الآية نزلت في دعاء النبي صلى الله عليه و سلم يوم بدر
و قد ذكر الأموي و غيره أن المسلمين عجوا إلى الله عز و جل في الاستغاثة بجنابه و الاستعانة به
و قوله تعالى : { بألف من الملائكة مردفين } أي ردفا لكم و مددا لفئتكم
رواه العوفى عن ابن عباس و قاله مجاهد و ابن كثير و عبد الرحمن بن زيد و غيرهم
و قال أبو كدينة عن قابوس عن ابن عباس ( مردفين ) وراء كل ملك ملك و في رواية عنه بهذا الإسناد ( مردفين ) بعضهم على أثر بعض و كذا قال أبو ظبيان و الضحاك و قتادة (2/417)
و قد روى علي بن أبي طلحة الوالبي عن ابن عباس قال : و أمد الله نبيه و المؤمنين بألف من الملائكة و كان جبريل في خمسمائة مجنبة و ميكائيل في خمسمائة مجنبة و هذا هو المشهور
ولكن قال ابن جرير : حدثني المثنى حدثنا إسحاق حدثنا يعقوب بن محمد الزهري حدثني عبد العزيز بن عمران عن الربعي عن أبي الحويرث عن محمد بن جبير عن علي قال : نزك جبريل في ألف من الملائكة على ميمنة النبي صلى الله عليه و سلم و فيها أبو بكر و نزل ميكائيل في ألف من الملائكة على ميسرة النبي صلى الله عليه و سلم و أنا في الميسرة
ورواه البيهقي في الدلائل من حديث محمد بن جبير عن علي فزاد و نزل إسرافيل في ألف من الملائكة
و ذكر أنه طعن يومئذ بالحربة حتى اختضبت إبطه من الدماء فذكر أنه نزلت ثلاثة آلاف من الملائكة
و هذا غريب و في إسناده ضعف و لو صح لكان فيه تقوية لما تقدم من الأقوال و يؤيدها قراءة من قرأ : { بألف من الملائكة مردفين } بفتح الدال
و الله أعلم
و قال البيهقي : أخبرنا الحاكم أخبرنا الأصم حدثنا محمد بن سنان القزاز حدثنا عبيد الله بن عبد المجيد أبو علي الحنفي حدثنا عبيدالله بن عبد الرحمن بن موهب أخبرني إسماعيل بن عوف بن عبد الله بن أبي رافع عن عبد الله بن محمد بن عمر ابن علي بن أبي طالب عن أبيه عن جده قال : ما كان يوم بدر قاتلت شيئا من قتال ثم جئت مسرعا لأنظر إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم ما فعل قال : فجئت فإذا هو ساجد يقول [ يا حي يا قيوم يا حي يا قيوم ] لا يزيد عليها فرجعت إلى القتال ثم جئت و هو ساجد يقول ذلك أيضا فذهبت إلى القتال ثم جئت و هو ساجد يقول ذلك أيضا حتى فتح الله على يده
وقد رواه النسائي في اليوم و الليلة عن بندار عن عبيد الله بن عبد المجيد أبي علي الحنفي (2/418)
و قال الأعمش : [ عن أبي إسحاق عن أبي عبيدة عن عبد الله بن مسعود قال : ما سمعت مناشدا ينشد أشد من مناشدة محمد صلى الله عليه و سلم يوم بدر جعل يقول : اللهم إني أنشدك عهدك و وعدك اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تعبد ثم التفت و كأن شق وجه القمر و قال : كأني أنظر إلى مصارع القوم عشية ]
رواه النسائي من حديث الأعمش به
و قال : لما التقينا يوم بدر قام رسول الله صلى الله عليه و سلم فما رأيت مناشدا ينشد حقا له أشد مناشدة من رسول الله صلى الله عليه و سلم و ذكره
و قد ثبت إخباره عليه السلام بمواضع مصارع رؤس المشركين يوم بدر في صحيح مسلم عن أنس بن مالك كما تقدم و سيأتي في صحيح مسلم أيضا عن عمر بن الخطاب
و مقتضى حديث ابن مسعود أنه أخبر بذلك يوم الوقعة و هو مناسب و في الحديثين الآخرين عن أنس و عمر ما يدل على أنه أخبر بذلك قبل ذلك بيوم
و لا مانع من الجمع بين ذلك بأن يخبر به قبل بيوم و أكثر و أن يخبر به قبل ذلك بساعة يوم الوقعة و الله أعلم
و قد روى البخاري [ من طريق عن خالد الحذاء عن عكرمة عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه و سلم قال و هو في قبة له يوم بدر اللهم أنشدك عهدك و وعدك اللهم إن شئت لم تعبد بعد اليوم أبدا ] (2/419)
فأخذ أبو بكر بيده و قال : حسبك يا رسول الله ألححت على ربك فخرج و هو يثب في الدرع و هو يقول : { سيهزم الجمع و يولون الدبر بل الساعة موعدهم و الساعة أدهى و أمر }
و هذه الآية مكية : و قد جاء تصديقها يوم بدر كما رواه ابن أبي حاتم : حدثنا أبي حدثنا أبو الربيع الزهراني حدثنا حماد عن أيوب عن عكرمة قال : لما نزلت : { سيهزم الجمع و يولون الدبر } قال عمر : أي جمع يهزم و أي جمع يغلب ؟ قال عمر : فلما كان يوم بدر رأيت رسول الله صلى الله عليه و سلم يثب في الدرع و هو يقول : { سيهزم الجمع و يولون الدبر بل الساعة موعدهم و الساعة أدهى و أمر } فعرفت تأويلها يومئذ
و روى البخاري من طريق ابن جريح عن يوسف بن ماهان سمع عائشة تقول : نزل على محمد بمكة ـ و إني لجارية ألعب ـ { بل الساعة موعدهم و الساعة أدهى و أمر }
قال ابن إسحاق : و جعل رسول الله صلى الله عليه و سلم يناشد ربه ما وعده من النصر و يقول فيما يقول : [ اللهم إن تهلك هذه العصابة اليوم لا تعبد ] و أبو بكر يقول : يا نبي الله بعض مناشدتك ربك فإن الله منجز لك ما وعدك
و قد خفق النبي صلى الله عليه و سلم [ خفقة ] و هو في العريش ثم انتبه فقال : [ أبشر يا أبا بكر أتاك نصر الله هذا جبريل آخذ بعنان فرسه يقوده على ثناياه النقع ] يعني الغبار
قال : ثم خرج رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى الناس فحصرهم و قال : [ و الذي نفس محمد بيده لا يقاتلهم اليوم رجل فيقتل ضابرا محتسبا مقبلا غير مدبر إلا أدخله الله الجنة ] (2/420)
قال عمير بن الحمام أخو بني سلمة و في يده ثمرات يأكلهن : بخ بخ ! أفما بيني و بين أن أدخل الجنة إلا أن يقتلني هؤلاء ؟ قال : ثم قذف التمرات من يده و أخذ سيفه فقاتل القوم حتى قتل رحمه الله
و قال الإمام أحمد حدثنا هاشم بن سليمان عن ثابت عن أنس قال : بعث النبي صلى الله عليه و سلم بسبسا عينا ينظر ما صنعت عير أبي سفيان فجاء و ما في البيت أحد غيري و غير النبي صلى الله عليه و سلم قال : لا أدري ما استثني من بعض نسائه قال : فحدثه الحديث قال : فخرج رسول الله فتكلم فقال [ إن لنا طلبة فمن كان ظهره حاضرا فليركب معنا ] فجعل رجال يستأذنوه في ظهورهم في علو المدينة قال : [ لا إلا من كان ظهره حاضرا ]
و انطلق رسول الله صلى الله عليه و سلم و أصحابه حتى سبقوا المشركين إلى بدر و جاء المشركون فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ لا يتقدمن أحد منكم إلى شئ حتى أكون أنا دونه ]
فدنا المشركون فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ قوموا إلى الجنة عرضها السموات و الأرض ]
قال يقول عمير بن الحمام الأنصاري : يا رسول الله جنة عرضها السموات و الأرض ؟ !
قال : [ نعم ] قال : بخ بخ ؟ فقال رسول الله : [ ما يحملك على قول بخ بخ ؟ قال : لا و الله يا رسول الله إلا رجاء أن أكون من أهلها قال : فإنك من أهلها ]
قال : فأخرج تمرات من قرنه فجعل يأكل منهن ثم قال : لئن أنا حييت حتى آكل تمراتي هذه إنها حياة طويلة ! قال : فرمي ما كان معه من التمر ثم قاتلهم حتى قتل رحمه الله
و رواه مسلم عن أبي بكر بن أبي شيبة و جماعة عن أبي النضر هاشم بن القاسم عن سليمان بن المغيرة به
و قد ذكر ابن جرير أن عميرا قاتل و هو يقول رضي الله عنه :
( ركضا إلى الله بغير زاد ... إلا التقى و عمل المعاد )
( و الصبر في الله على الجهاد ... و كل زاد عرضة النفاد )
( غير التقى و البر و الرشاد ) (2/421)
و قال الإمام أحمد : حدثنا حجاج حدثنا إسرائيل عن أبي إسحاق عن حارثة ابن مضرب عن علي لما قدمنا المدينة أصبنا من ثمارها فاجتويناها و أصابنا بها وعك و كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يتحيز عن بدر فلما بلغنا أن المشركين قد أقبلوا سار رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى بدر و بدر بئر فسبقنا المشركين إليها فوجدنا فيها رجلين : رجلا من قريش و مولى لعقبة بن أبي معيط فأما القريشي فانفلت و أما المولى فوجدناه فجعلنا نقول له : كم القوم ؟ فيقول : هم و الله كثير عددهم شديد بأسهم فجعل المسلمون إذا قال ذلك ضربوه
حتى انتهوا به إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال له : كم القوم ؟ قال : هم و الله كثير عددهم شديد بأسهم فجهد النبي صلى الله عليه و سلم أن يخبره كم هم فأبى
ثم إن النبي صلى الله عليه و سلم سأله : كم ينحرون من الجزر ؟ فقال عشرا كل يوم فقال النبي صلى الله عليه و سلم [ القوم ألف كل جزور لمائة و تبعها ]
ثم إنه أصابنا من الليل طش من مطر فانطلقنا تحت الشجرة و الحجف نستظل تحتها من المطر و بات رسول الله صلى الله عليه و سلم يدعو ربه و يقول [ اللهم إنك إن تهلك هذه الفئة لا تعبد ]
فلما طلع الفجر نادى : الصلاة عباد الله فجاء الناس من تحت الشجر و الحجف فصلى بنا رسول الله صلى الله عليه و سلم و حرض على القتال ثم قال : [ إن جمع قريش تحت هذه الضلع الحمراء من الجبل ]
فلما دنا القوم منا و صاففناهم إذا رجل منهم على جمل له أحمر يسير في القوم فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ يا علي ناد حمزة ] و كان أقربهم من المشركين من صاحب الجمل الأحمر ؟ فجاء حمزة فقال : هو عتبة بن ربيعة و هو ينهي عن القتال و يقول لهم : يا قوم اعصبوها برأسي و قولوا : جبن عتبة بن ربيعة و قد علمتم أني لست بأجبنكم
فسمع بذلك أبو جهل فقال : أنت تقول ذلك و الله لو غيرك يقوله لأعضضته قد ملأت رئتك جوفك رعبا فقال : إياي تعير يا مصفر استه ؟ ستعلم اليوم أينا الجبان
فبرز عتبة و أخوه شيبة و ابنه الوليد حمية فقالوا : من يبارز ؟ فخرج فتنة من الأنصار مشببة فقال عتبة : لا نريد هؤلاء و لكن نبارز من بني عمنا من بني عبد المطلب
فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ قم يا حمزة و قم يا علي و قم يا عبيدة بن الحارث بن المطلب ]
فقتل الله عتبة و شيبة ابني ربيعة و الوليد بن عتبة و جرح عبيدة فقتلنا منهم سبعين و أسرنا سبعين
و جاء رجل من الأنصار بالعباس بن عبد المطلب أسيرا فقال العباس : يا رسول الله إن هذا ما أسرني لقد أسرني رجل أجلح من أحسن الناس وجها على فرس أبلق ما أراه في القوم فقال الأنصاري : أنا أسرته يا رسول الله
فقال : [ اسكت فقد أيدك الله بملك كريم ] قال : فأسرنا من بني عبد المطلب العباس و عقيلا و نوفل بن الحارث
هذا سياق حسن و فيه شواهد لما تقدم و لما سيأتي و قد تفرد بطوله الإمام أحمد و روى أبو داود بعضه من حديث إسرائيل به (2/422)
و لما نزل رسول الله صلى الله عليه و سلم من العريش و حرض الناس على القتال و الناس على مصافهم صابرين ذاكرين الله كثيرا كما قال الله تعالى آمرا لهم { يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا و اذكروا الله كثيرا } الآية
و قال الأموي : حدثنا معاوية بن عمرو عن أبي إسحاق قال : قال الأوزاعي : كان يقال : قلما ثبت قوم قياما فمن استطاع عند ذلك أن يجلس أو بعض طرفه و يذكر الله رجوت أن يسلم من الرياء
و قال عتبة بن ربيعة يوم بدر لأصحابه : ألا ترونهم يعني أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم جثيا على الركب كأنهم حرس يتلمظون كما تتلمظ الحيات أو قال الأفاعي
قال الأموي في مغازية : و قد كان النبي صلى الله عليه و سلم حين حرض المسلمين على القتال قد نفل كل امرئ ما أصاب و قال : [ و الذي نفسي بيده لا يقاتلهم اليوم رجل [ فيقتل ] صابرا محستبا مقبلا غير مدبر إلا أدخله الله الجنة ] و ذكر قصة عمير ابن الحمام كما تقدم
وقد قاتل بنفسه الكريمة قتالا شديدا ببدنه و كذلك أبو بكر الصديق كما كانا في العريش يجاهدان بالدعاء و التضرع ثم نزلا فحرضا و حثا على القتال و قاتلا بالأبدان جمعا بين المقامين الشريفين (2/424)
قال الإمام أحمد : حدثنا وكيع حدثنا إسرائيل عن أبي إسحاق عن حارثة ابن مضرب عن علي قال : لقد رأيتنا يوم بدر و نحن نلوذ برسول الله صلى الله عليه و سلم و هو أقربنا من العدو و كان من أشد الناس يومئذ بأسا
و رواه النسائي من حديث أبي إسحاق عن حارثة عن علي قال : كنا إذا حمي البأس و لقي القوم اتقينا برسول الله صلى الله عليه و سلم
و قال الإمام أحمد : حدثنا أبو نعيم حدثنا مسعر عن أبي عون عن أبي صالح الحنفي عن علي قال : قيل لعلي و لأبي بكر رضي الله عنهم يوم بدر : مع أحدكما جبريل و مع الآخر ميكائيل و إسرافيل ملك عظيم يشهد القتال و لا يقاتل أو قال : يشهد الصف
و هذا يشبه ما تقدم من الحديث : أن أبا بكر كان في الميمنة ولما تنزل الملائكة يوم بدر تنزيلا كان جبريل على أحد المجنبتين في خمسمائة من الملائكة فكان في الميمنة من ناحية أبي بكر الصديق و كان ميكائيل على المجنبة الأخرى في خمسمائة من من الملائكة فوقفوا في الميسرة و كان علي بن أبي طالب فيها
و في حديث رواه أبو يعلي من طريق محمد بن جبير بن مطعم عن علي قال كنت أسبح على القليب يوم بدر فجاءت ريح شديدة ثم أخرى ثم أخرى فنزل ميكائيل في ألف من الملائكة فوقف على يمين رسول الله صلى الله عليه و سلم و هناك أبو بكر و إسرافيل في ألف في الميسرة و أنا فيها و جبريل في ألف قال : و لقد طفت يومئذ حتى بلغ إبطى
و قد ذكر صاحب العقد و غيره أن أفخر بيت قالته العرب قول حسان بن ثابت :
( و ببئر بدر إذ يكف مطيهم ... جبريل تحت لوائنا و محمد ) (2/425)
و قد قال البخاري : حدثنا إسحاق بن إبراهيم حدثنا جرير عن يحيى بن سعيد عن معاذ بن رفاعة بن رافع الزرقي عن أبيه و كان أبوه من أهل بدر قال : جاء جبريل إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال ما تعدون أهل بدر فيكم ؟ قال : من أفضل المسلمين أو كلمة نحوها قال : و كذلك من شهدا بدرا من الملائكة
انفرد به البخاري
و قد قال الله تعالى : { إذ يوحى ربك إلى الملائكة أني معكم فثبتوا الذين آمنوا سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب فاضربوا فوق الأعناق ـ يعني الرؤوس ـ و اضربوا منهم كل بنان }
و في صحيح مسلم من طريق عكرمة بن عمار عن أبي زميل حدثني ابن عباس قال : بينما رجل من المسلمين يشتد في أثر رجل من المشركين أمامه إذ سمع ضربة بالسوط فوقه و صوت الفارس [ يقول : ] أقدم حيزوم إذ نظر إلى المشرك أمامه قد خر مستلقيا فنظر إليه فإذا هو [ قد ] حطم [ أنفه ] و شق وجهه بضربة السوط فاخضر ذلك اجمع فجاء الأنصاري فحدث ذاك رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : [ صدقت ذلك من مدد السماء الثالثة ] فقتلوا يومئذ سبعين و أسروا سبعين
قال ابن إسحاق : حدثني عبد الله بن أبي بكر بن حزم عمن حدثه عن ابن عباس عن رجل من بني غفار قال : حضرت أنا و ابن عم لي بدرا و نحن على شر كنا و إنا لفي جبل ننتظر الوقعة على من تكون الدائرة فأقبلت سحابة فلما دنت من الجبل سمعنا منها حمحمة الخيل و سمعنا قائلا يقول : اقدم حيزوم : فأما صاحبي فانكشف قناع قلبه فمات مكانه و أما أنا لكدت أن أهلك ثم انتعشت بعد ذلك
و قال ابن إسحاق : و حدثني عبد الله بن أبي بكر عن بعض بني ساعدة عن أبي أسيد مالك بن ربيعة وكان شهد بدرا قال بعد أن ذهب بصره : لو كنت اليوم ببدر و معي بصري لأريتكم الشعب الذي خرجت منه الملائكة لا أشك فيه و لا أتمارى
فلما نزلت الملائكة ورآها إبليس و أوحى الله إليهم : { أني معكم فثبتوا الذي آمنوا } و تثبيتهم : أنى الملائكة كانت تأتي الرجل في صورة الرجل يعرفه فيقول له : أبشروا فإنهم ليسوا بشئ و الله معكم كروا عليهم
و قال الواقدي : حدثني ابن أبي حبيبة عن داود بن الحصين عن عكرمة عن ابن عباس قال : كان الملك يتصور في صورة من يعرفون فيقول : إني قد دنوت منهم و سمعتهم يقولون : لو حملوا علينا ما ثبتنا ليسوا بشئ إلى غير ذلك من القول
فذلك قوله : { إذ يوحي ربك إلى الملائكة أني معكم فثبتوا الذين آمنوا } الأية
و لما رأى إبليس الملائكة نكص على عقبيه و قال : ( إني برئ منكم إني أرى ما لا ترون ) و هو في صورة سراقة
و أقبل أبو جهل يحرص أصحابه و يقول : لايهولنكم خذلان سراقة إياكم فإنه كان على موعد من محمد و أصحابه ثم قال : و اللات و العزى لا نرجع حتى نفرق محمدا و أصحابه في الجبال فلا تقتلوهم و خذوهم أخذا
و روى البيهقي من طريق سلامة عن عقيل عن ابن شهاب عن أبى حازم عن سهل بن سعد قال : قال أبو أسيد بعد ما ذهب بصره : يا ابن أخي و الله لو كنت أنا و أنت ببدر ثم أطلق الله بصري لأريك الشعب الذي خرجت علينا منه الملائكة من غير شك و لا تمار
و روى البخاري عن إبراهيم بن موسى عن عبد الوهاب عن خلد عن عكرمة عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال يوم بدر : [ هذا جبريل آخذ برأس فرسه و عليه أداة الحرب ]
و قال الواقدي : حدثنا ابن أبي حبيبة عن داود بن الحصين عن عكرمة عن ابن عباس و أخبرني موسى بن محمد بن إبراهيم التيمي عن أبيه و حدثني عابد بن يحيى عن أبي الحويرث عن عمارة بن أكيمة الليثي عن عكرمة عن حكيم بن حزام قالوا : لما حضر القتال و رسول الله صلى الله عليه و سلم رافع يديه يسأل الله النصر و ما وعده يقول [ اللهم إن ظهروا على هذه العصابة ظهر الشرك و لا يقوم لك دين ] و أبو بكر يقول : و الله لينصرنك الله و ليبيض وجهك فانزل الله ألفا من الملائكة مردفين عند اكتناف العدو قال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ أبشر يا أبا بكر هذا جبريل معتجر بعمامة صفراء آخذ بعنان فرسه بين السماء و الأرض فلما نزل إلى الأرض تغيب عني ساعة ثم طلع و على ثناياه النقع يقول : أتاك نصر الله إذ دعوته ]
و روى البيهقي عن أبي امامة بن سهل عن أبيه قال : يا بني لقد رأيتنا يوم بدر و إن أحدنا ليشير إلى رأس المشرك فيقع رأسه عن جسده قبل أن يصل إليه السيف
و قال ابن إسحاق : حدثني والدي حدثني رجال من بني مازن عن أبي واقد الليثي قال إني لأتبع رجلا من المشركين لأضربه فوقع رأسه قبل أن يصل إليه سيفي فعرفت أن غيري قد قتله
و قال يونس بن بكير عن عيسى بن عبد الله التيمي عن الربيع بن أنس قال : كان الناس يعرفون قتلى الملائكة ممن قتلوهم بضرب فوق الأعناق و على البنان مثل سمة النار و قد أحرق به
و قال ابن إسحاق : حدثني من لا أتهم عن مقسم عن ابن عباس قال : كانت سيماء الملائكة يوم بدر عمائم بيضا قد أرخوها على ظهورهم إلا جبريل فإنه كانت عليه عمامة صفراء
و قد قال ابن عباس : لم تقاتل الملائكة في يوم سوى يوم بدر من الأيام و كانوا يكونون فيما سواه من الأيام عددا و مددا لا يضربون
و قال الواقدي : حدثني عبد الله بن موسى بن أبي أمية عن مصعب بن عبد الله عن مولى لسهيل بن عمرو سمعت سهيل بن عمرو يقول : لقد رأيت يوم بدر رجالا بيضا على خيل بلق بين السماء و الأرض معلمين يقتلون و يأسرون
و كان أبو أسيد يحدث بعد أن ذهب بصره قال : لو كنت معكم الآن ببدر و معي بصري لأريتكم الشعب الذي خرجت منه الملائكة لا أشك و لا أمتري
قال : و حدثني خارجة بن إبراهيم عن أبيه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم لجبريل : [ من القائل يوم بدر من الملائكة أقدم حيزوم ؟ ] فقال جبريل : يا محمد ما كل أهل السماء أعرف
قلت : و هذا الأثر مرسل و هو يرد قول من زعم أن حيزوم اسم فرس جبريل كما قاله السهيلي و غيره و الله أعلم
و قال الواقدي : حدثني إسحاق بن يحيى عن حمزة بن صهيب عن أبيه قال : فما أدري كم يد مقطوعة و ضربة جائفة لم يدم كلمها قد رأيتها يوم بدر !
و حدثني محمد بن يحيى عن أبي عقيل عن أبي بردة بن نيار قال : جئت يوم بدر بثلاثة أرؤس فوضعتهن بين يدي رسول الله صلى الله عليه و سلم فقلت أما رأسان فقتلتهما و أما الثالث فإني رأيت رجلا طويلا ( قتله ) فأخذت رأسه
فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ ذاك فلان من الملائكة ]
و حدثني موسى بن محمد بن إبراهيم عن أبيه قال : كان السائب بن أبي حبيش يحدث في زمن عمر يقول : و الله ما أسرني أحد من الناس فيقال : فمن ؟ يقول : لما انهزمت قريش انهزمت معها فأدركني رجل أشعر طويل على فرس ابيض فاوثقني رباطا و جاء عبد الرحمن بن عوف فوجدني مربوطا فنادى في العسكر : من أسر هذا ؟ حتى انتهى بي إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : من أسرك ؟ قلت : لا أعرفه
و كرهت أن أخبره بالذي رأيت فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ أسرك ملك من الملائكة اذهب يا بن عوف بأسيرك ]
و قال الواقدي : حدثني عابد بن يحيى حدثنا أبو الحويرث عن عمارة بن أكيمة عن حكيم بن حزام قال : لقد رأيتنا يوم بدر وقد وقع بجاد من السماء قد سد الأفق فإذا الوادي يسيل نهلا فوقع في نفسي أن هذا شئ من السماء أيد به محمد فما كانت إلا الهزيمة و لقي الملائكة
[ و قال إسحاق بن راهوية حدثنا بن جرير بن حازم حدثني أبي عن محمد بن إسحاق حدثني أبي عن جبير بن مطعم قال : رأيت قبل هزيمة القوم و الناس يقتتلون مثل البجاد الأسود قد نزل من السماء مثل النمل الأسود فلم أشك أنها الملائكة فلم يكن إلا هزيمة القوم ]
و لما تنزلت الملائكة للنصر و رآهم رسول الله صلى الله عليه و سلم حين أغفى إغفاؤة ثم استيقظ و بشر بذلك أبا بكر و قال [ أبشر يا أبا بكر هذا جبريل يقود فرسه على ثناياه النقع ] يعني من المعركة
ثم خرج رسول الله صلى الله عليه و سلم من العريش في الدرع فجعل يحرض على القتال و يبشر الناس بالجنة و يشجعهم بنزول الملائكة و الناس بعد على مصافهم لم يحملوا على عدوهم حصل لهم السكينة و الطمأنينة
و قد حصل النعاس الذي هو دليل على الطمأنينة و الثبات و الإيمان كما قال : [ إذ يغشيكم النعاس أمنة منه ] و هذا كما حصل لهم بعد ذلك يوم أحد بنص القرآن
و لهذا قال ابن مسعود : النعاس في المصاف من الإيمان و النعاس في الصلاة من النفاق
و قال الله تعالى : { إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح و إن تنتهوا فهو خير لكم و إن تعودوا نعد و لن تغني عنكم فئتكم شيئا و لو كثرت و إن الله مع المؤمنين }
قال الإمام أحمد حدثنا يزيد بن هارون حدثنا محمد بن إسحاق حدثني الزهري عن عبد الله بن ثعلبة أن أبا جهل قال حين التقى القوم : اللهم أقطعنا للرحم و آتانا بما لا نعرف فأحنه الغداة : فكان هو المستفتح
و كذا ذكره ابن إسحاق في السيرة و رواه النسائي من طريق صالح بن كيسان عن الزهري و رواه الحاكم من حديث الزهري أيضا ثم قال : صحيح على شرط الشيخين و لم يخرجاه
و قال الأموي : حدثنا أسباط بن محمد القرشي عن عطية عن مطرف في قوله : { إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح } قال : قال أبو جهل : اللهم أعن أعز الفئتين و أكرم القبيلتين و أكثر الفريقين فنزلت : { إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح }
و قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله : { و إذ يعدكم الله إحدى الطائفتين أنها لكم } قال : أقبلت عير أهل مكة تريد الشام فبلغ ذلك أهل المدينة فخرجوا و معهم رسول الله صلى الله عليه و سلم يريدون العير
فبلغ ذلك أهل مكة فأسرعوا إليها لكيلا يغلب عليها النبي صلى الله عليه و سلم و أصحابه فسبقت العير رسول الله صلى الله عليه و سلم و كان الله قد وعدهم إحدى الطائفتين و كانوا يحبون أن يلقوا العير
و سار رسول الله صلى الله عليه و سلم بالمسلمين يريد القوم و كره القوم مسيرهم لشوكة القوم فنزل النبي صلى الله عليه و سلم و المسلمون و بينهم و بين الماء رملة دعصة فأصاب المسلمون ضعف شديد و ألقى الشيطان في قلوبهم الغيظ يوسوسهم تزعمون أنكم أولياء الله و فيكم رسوله و قد غلبكم المشركون على الماء و أنتم كذا
فأمطر الله عليهم مطرا فشرب المسلمون و تطهروا فأذهب الله عنهم رجز الشيطان فصار الرمل لبدا و مشى الناس عليه و الدواب
و ساروا إلى القوم و أيد الله نبيه و المؤمنين بألف من الملائكة فكان جبريل في خمسمائة من الملائكة مجنبة و ميكائيل في خمسمائة من الملائكة مجنبة
و جاء إبليس في جند من الشياطين و معه ذريته و هم في صورة رجال من بني مدلج و الشيطان في صورة سراقة بن مالك بن جعشم و قال الشيطان للمشركين : لا غالب لكم اليوم من الناس و إني جار لكم
فلما اصطف الناس قال أبو جهل : اللهم أولانا بالحق فانصره
9 (2/426)
و رفع رسول الله صلى الله عليه و سلم يديه فقال : [ يا رب إن تهلك هذه العصابة فلن تعبد في الأرض أبدا ]
فقال له جبريل : خذ قبضة من التراب فأخذ قبضة من التراب فرمى بها وجوههم فما من المشركين من أحد إلا و أصاب عينه و منخريه و فمه تراب من تلك القبضة فولوا مدبرين (2/433)
و أقبل جبريل إلى إبليس فلما رآه و كانت يده في يد رجل من المشركين انتزع إبليس يده ثم ولى مدبرا و شيعة فقال الرجل : يا سراقة أما زعمت أنك لنا جار ؟ قال : إني أرى ما لا ترون إني أخاف الله و الله شديد العقاب و ذلك حين رأى الملائكة رواه البيهقي في الدلائل
[ و قال الطبراني : حدثنا مسعدة بن سعد العطار حدثنا إبراهيم بن المنذر الحزامي حدثنا عبد العزيز بن عمران حدثنا هشام بن سعد عن عبد ربه بن سعيد بن قيس الأنصاري عن رفاعة بن رافع قال : لما رأى إبليس ما فعل الملائكة بالمشركين يوم بدر أشفق أن يخلص إليه فتشبث به الحارث بن هشام و هو يظن أنه سراقة بن مالك فوكز في صدر الحارث ثم خرج هاربا حتى ألقى نفسه في البخر و رفع يديه فقال : اللهم إني أسألك نظرتك إياي و خاف أن يخلص القتل إليه و أقبل أبو جهل فقال يا معشر الناس لا يهولنكم خذلان سراقة بن مالك فإنه كان على معياد من محمد و لا يهولنكم قتل شيبة و عتبة و الوليد فإنهم قد عجلوا فو اللات و العزي لا نرجع حتى نفرقهم بالجبال فلا ألفين رجلا منكم قتل رجلا و لكن خذوهم أخذا حتى تعرفوهم سوء صنيعهم من مفارقتهم إياكم و رغبتهم عن اللات و العزى
ثم قال أبو جهل متمثلا :
( ما تنقم الحرب الشموس مني ... بازل عامين حديث سني )
لمثل هذا ولدتني أمي ]
و روى الواقدي عن موسى بن يعقوب الزمعي عن أبي بكر بن أبي سليمان عن أبي حتمة سمعت مروان بن الحكم يسأل حكيم بن حزام عن يوم بدر فجعل الشيخ يكره ذلك فألح عليه فقال حكيم : التقينا فاقتتلنا فسمعت صوتا وقع من السماء إلى الأرض مثل وقعة الحصاة في الطست و قبض النبي صلى الله عليه و سلم القبضة التراب فرمى بها فانهزمنا
قال الواقدي : و حدثنا إسحاق بن محمد بن عبد الرحمن بن محمد بن عبد الله عن عبد الله بن ثعلبة بن صقير سمعت نوفل بن معاوية الديلي يقول : انهزمنا يوم بدر و نحن نسمع صوتا كوقع الحصى في الطاس في أفئدتنا و من خلفنا و كان ذلك من أشد الرعب علينا (2/433)
و قال الأموي : حدثنا أبي حدثنا ابن أبي إسحاق حدثني الزهري عن عبد الله ابن ثعلبة بن صقير أن أبا جهل حين التقى القوم قال : اللهم أقطعنا للرحم و آتانا بما لا نعرف فأحنه الغداة فكان هو المستفتح
فبينما هم على تلك الحال و قد شجع الله المسلمين على لقاء عدوهم و قللهم في أعينهم حتى طمعوا فيهم خفق رسول الله صلى الله عليه و سلم خفقة في العريش ثم انتبه فقال : [ أبشر يا أبا بكر هذا جبريل معتجر بعمامته آخذ بعنان فرسه يقوده على ثناياه النقع أتاك نصر الله و عدته ]
و أمر رسول الله صلى الله عليه و سلم فأخذ كفا من الحصى بيده ثم خرج فاستقبل القوم فقال : [ شاهت الوجوه ] ثم نفحهم بها ثم قال لأصحابه : احملوا
فلم تكن إلا الهزيمة فقتل الله من قتل من صناديدهم و أسر من أسر منهم (2/434)
و قال زياد عن ابن إسحاق : ثم إن رسول الله صلى الله عليه و سلم أخذ حفنة من الحصباء فاستقبل بها قريشا ثم قال : [ شاهت الوجوه ] ثم نفحهم بها و أمر أصحابه فقال : [ شدوا ] فكانت الهزيمة فقتل الله من قتل من صناديد قريش و أسر من أسر من أشرافهم
و قال السدي الكبير : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم لعلى يوم بدر : [ أعطني حصباء من الأرض ] فناوله حصباء عليها تراب فرمى به في وجوه القوم فلم يبق مشرك إلا دخل في عينه من ذلك التراب شئ ثم ردفهم المسلمون يقتلونهم و يأسرونهم و أنزل الله في ذلك : { فلم تقتلوهم و لكن الله قتلهم و ما رميت إذ رميت و لكن الله رمى }
و هكذا قال عروة و عكرمة و مجاهد و محمد بن كعب و محمد بن قيس و قتادة و ابن زيد و غيرهم : إن هذه الآية نزلت في ذلك يوم بدر
و قد فعل عليه السلام مثل ذلك في غزوة حنين كما سيأتي في موضعه إذا انتهيا إليه إن شاء الله و به الثقة
و ذكر ابن إسحاق أن رسول الله صلى الله عليه و سلم لما حرض أصحابه على القتال و رمى المشركين بما رماهم به من التراب و هزمهم الله تعالى صعد إلى العريش أيضا و معه أبو بكر و وقف سعد بن معاذ و من معه من الأنصار على باب العريش و معهم السيوف خيفة أن تكر راجعة من المشركين إلى النبي صلى الله عليه و سلم
قال ابن إسحاق : و لما وضع القوم أيديهم يأسرون رأي رسول الله صلى الله عليه و سلم (2/435)
فيما ذكر لي في وجه سعد بن معاذ الكراهية لما يصنع الناس فقال له : [ كأني بك يا سعد تكره ما يصنع القوم ؟ ] قال : أجل و الله يا رسول الله كانت أول وقعة أوقعها الله بأهل الشرك فكان الإثخان في القتل أحب إلى من استبقاء الرجال (2/436)
قال ابن إسحاق : و حدثني العباس بن عبد الله بن معبد عن بعض أهله عن عبد الله ابن عباس أن النبي صلى الله عليه و سلم قال لأصحابه يومئذ [ إني قد عرفت أن رجالا من بني هاشم و غيرهم قد أخرجوا كرها لا حاجة لهم بقتالنا فمن لقي منكم أحدا من بني هاشم فلا يقتله و من لقي أبا البختري بن هشام بن الحارث بن أسد فلا يقتله و من لقي العباس بن عبد المطلب عم رسول الله صلى الله عليه و سلم فلا يقتله فإنه إنما خرج مستكرها ]
فقال أبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة : أنقتل آباءنا و أبناءنا و إخواننا و نترك العباس و الله لئن لقيته لألحمنه بالسيف
فبلغت رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال لعمر : [ يا أبا حفص ] قال عمر : و الله إنه لأول يوم كناني فيه رسول الله صلى الله عليه و سلم بأبي حفص ( أيضرب وجه عم رسول الله بالسيف ! )
فقال عمر : يا رسول الله دعني فلأضرب عنقه بالسيف فو الله لقد نافق
فقال أبو حذيفة : ما أنا بآمن من تلك الكلمة التي قلت يومئذ و لا أزال منها خائفا إلا أن تكفرها عني الشهادة فقتل يوم اليمامة شهيدا رضي الله عنه (2/436)
قال ابن إسحاق : و إنما نهى رسول الله صلى الله عليه و سلم عن قتل أبي البختري لأنه كان أكف القوم عن رسول الله صلى الله عليه و سلم و هو بمكة كان لا يؤذيه و لا يبلغه عنه شئ يكرهه و كان ممن قام في نقض الصحيفة فلقيه المجذر بن ذياد البلوى حليف الأنصار فقال له : إن رسول الله صلى الله عليه و سلم نهانا عن قتلك و مع أبي البختري زميل له خرج معه من مكة و هو جنادة بن مليحة و هو من بني ليث قال : و زميلي ؟ فقال له المجذر : لا و الله ما نحن بتاركي زميلك ما أمرنا رسول الله إلا بك وحدك قال : لا و الله إذا لأموتن أنا و هو جميعا لا يتحدث عني نساء قريش بمكة أني تركت زميلي حرصا على الحياة !
و قال البختري و هو ينازل المجذر :
( لن يترك ابن حرة زميله ... حتى يموت أو يرى سبيله )
قال : فاقتتلا فقتله المجذر بن ذياد و قال في ذلك :
( إما جهلت أو نسيت نسبي ... فأثبت النسبة إني من بلي )
( الطاعنين برماح اليزني ... و الطاعنين الكبش حتى ينحني )
( بشر بيتم من أبوه البختري ... أو بشرن بمثلها مني بني )
( أنا الذي يقال أصلي من بلي ... أطعن بالصعدة حتى تنثنى )
( و أعبط القرن بعضب مشرفي ... أرزم للموت كارزام المري )
( فلا ترى مجذرا يفرى فرى )
ثم أتى المجذر رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : و الذي بعثك بالحق لقد جهدت عليه أن يستأسر فآتيك به فأبى إلا أن يقاتلني فقاتلته فقتلته (2/436)
قال ابن إسحاق و حدثني يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير عن أبيه و حدثنيه أيضا عبد الله بن أبي بكر و غيرهما عن عبد الرحمن بن عوف قال : كان أمية بن خلف لي صديقا بمكة و كان اسمي عبد عمرو فتسميت حين أسلمت عبد الرحمن فكان يلقاني و نحن بمكة فيقول : يا عبد عمرو أرغبت عن اسم سماكه أبوك ؟ قال : فأقول : نعم قال : فإني لا أعرف الرحمن فاجعل بيني و بينك شيئا أدعوك به أما أنت فلا تجبني باسمك الأول و أما أنا فلا أدعوك بما لا أعرف قال : و كان إذا دعاني يا عبد عمرو لم أجبه قال : فقلت له : يا أبا علي اجعل ما شئت قال : فأنت عبد الإله قال : قلت : نعم
قال : فكنت إذا مررت به قال : يا عبد الإله فأجيبه فأتحدث معه
حتى إذا كان يوم بدر مررت به و هو واقف مع ابنه علي و هو آخذ بيده قال : و معي أدراع لي قد استلبتها فأنا أحملها فلما رآني قال : يا عبد عمرو فلم أجبه فقال : يا عبد الإله فقلت : نعم : قال : هل لك في فأنا خير لك من هذه الأدراع التي معك ؟ قال : قلت : نعم ها الله
قال : فطرحت الأدراع من يدي و أخذت بيده و بيد ابنه و هو يقول ما رأيت كاليوم قط أمالكم حاجة في اللبن ؟ ثم خرجت أمشي بهما
قال ابن إسحاق : حدثني عبد الواحد بن أبي عون عن سعد بن إبراهيم عن أبيه عن عبد الرحمن بن عوف قال : قال لي أمية بن خلف و أنا بينه و بين ابنه آخذا بأيديهما : يا عبد الإله من الرجل منكم المعلم بريشة نعامة في صدره ؟ قال : قلت : حمزة قال : ذاك الذي فعل بنا الأفاعيل
قال عبد الرحمن : فو الله إني لأقودهما إذ رآه بلال معي و كان هو الذي يعذب بلالا بمكة على الإسلام فلما رآه قال : رأس الكفر أميه بن خلف لا نجوت إن نجا قال قلت : أي بلال أسيري قال : ثم صرخ بأعلى صوته : يا أنصار الله رأس الكفر أمية بن خلف لا نجوت إن نجا فأحاطوا بنا حتى جعلونا في مثل المسكة فأنا أذب عنه قال : فأخلف رجل السيف فضرب رجل ابنه فوقع و صاح أمية صيحة ما سمعت بمثلها قط قال : قلت : انج بنفسك و لا نجاء ( بك ) فو الله ما أغنى عنك شيئا قال : فهروبهما بأسيافهم حتى فرغوا منهما
قال : فكان عبد الرحمن يقول : يرحم الله بلالا فجعني بأدراعي و بأسيري !
و هكذا رواه البخاري في صحيحه قريبا من هذا السياق فقال في الوكالة : حدثنا عبد العزيز هو ابن عبد الله حدثنا يوسف هو ابن الماجشون عن صالح بن ابراهيم ابن عبد الرحمن بن عوف عن أبيه عن جده عبد الرحمن بن عوف قال : كاتبت أمية ابن خلف كتابا بأن يحفظني في صاغيتي بمكة و أحفظه في صاغيته بالمدينة فلما ذكرت الرحمن قال : لا أعرف الرحمن كاتبني باسمك الذي كان في الجاهلية فكاتبته عبد عمرو فلما كان يوم بدر خرجت إلى جبل لأجرزه حين نام الناس فأبصره بلال فخرج حتى وقف على مجلس من الأنصار فقال أمية بن خلف ؟ ! لا نجوت إن نجا أمية بن خلف فخرج معه فريق من الأنصار في آثارنا فلما خشيت أن يلحقونا خلفت لهم ابنه لأشغلهم فقتلوه ثم أتوا حتى تبعونا و كان رجلا ثقيلا فلما أدركونا قلت له : ابرك فبرك فألقيت عليه نفسي لأمنعه فتخللوه بالسيوف حتى قتلوه و أصاب أحدهم رجلي بسيفه فكان عبد الرحمن بن عوف يرينا ذلك في ظهر قدمه سمع يوسف صالحا و إبراهيم أباه
تفرد به البخاري من بينهم كلهم و في مسند رفاعة بن رافع أنه هو الذي قتل أمية بن خلف (2/342)
قال ابن هشام : و أقبل أبو جهل يومئذ يرتجز [ و هو يقاتل ] و يقول :
( ما تنقم الحرب العوان مني ... بازل عامين حديث سني )
( لمثل هذا ولدتني أمي )
قال ابن إسحاق و لما فرغ رسول الله صلى الله عليه و سلم من عدوه أمر بأبي جهل أن يلتمس القتلى
و كان أول من لقي أبا جهل كما حدثني ثور بن زيد عن عكرمة عن ابن عباس و عبد الله بن أبي بكر أيضا قد حدثني ذلك قالا : قال معاذ بن عمرو بن الجموح أخو بني سلمة : سمعت القوم و أبو جهل في مثل الحرجة و هم يقولون : أبو الحكم لا يخلص إليه
فلما سمعتها جعلته من شأني فصمدت نحوه فلما أمكني حملت عليه فضربته ضربة أطنت قدمه بنصف ساقه فو الله ما شبهتها حين طاحت إلا بالنواة تطيح من تحت مرضخة النوى حين يضرب بها قال : و ضربني ابنه عكرمة على عاتقي فطرح يدي فتعلقت بجلده من جنبي و أجهضني القتال عنه فلقد قاتلت عامة يومي و إني لأسحبها خلفي فلما آذتني وضعت عليها قدمي ثم تمطيت بها عليها حتى طرحتها
قال ابن إسحاق : ثم عاش بعد ذلك حتى كان زمن عثمان ثم مر بأبي جهل و هو عقير معوذ بن عفراء فضربه حتى أثبته و تركه و به رمق و قاتل معوذ حتى قتل
فمر عبد الله بن مسعود بأبي جهل حين أمر رسول الله صلى الله عليه و سلم أن يلتمس في القتلى و قد قال رسول الله صلى الله عليه و سلم فيما بلغني : [ انظروا إن خفي عليكم في القتلى إلى أثر جرح في ركبته فإني ازدحمت أنا و هو يوما على مأدبة لعبد الله بن جدعان و نحن غلامان و كنت أشف منه بيسير فدفعته فوقع على ركبتيه فجحش في أحدهما جحشا لم يزل أثره به ]
قال ابن مسعود : فوجدته بآخر رمق فعرفته فوضعت رجلي على عنقه قال : و قد كان ضبث بي مرة بمكة فآذاني و لكزني ثم قلت له : هل أخزاك الله يا عدو الله ؟ قال : و بماذا أخزاني [ قال ] أعمد من رجل قتلتموه أخبرني لمن الدائرة اليوم ؟ قال : قلت لله و لرسوله
قال ابن إسحاق : و زعم رجال من بني مخزوم أن ابن مسعود كان يقول : قال لي : لقد ارتقيت مرتقى صعبا يا رويعي الغنم ثم احتززت رأسه ثم جئت به رسول الله صلى الله عليه و سلم فقلت : يا رسول الله هذا رأس عدو الله فقال : [ آلله الذي لا إله غيره ؟ ] و كانت يمين رسول الله صلى الله عليه و سلم فقلت : نعم و الله الذي لا إله غيره ثم ألقيت رأسه بين رسول الله صلى الله عليه و سلم فحمد الله
هكذا ذكر ابن إسحاق رحمه الله و قد ثبت في الصحيحين من طريق يوسف بن يعقوب بن الماجشون عن صالح ابن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف عن أبيه عن عبد الرحمن بن عوف قال : إني لواقف يوم بدر في الصف فنظرت عن يميني و شمالي فإذا أنا بين غلامين من الأنصار حديثة أسنانهما فتمنيت أن أكون بين أضلع منها فغمزني أحدهما فقال : يا عم أتعرف أبا جهل ؟ فقلت : نعم و ما حاجتك إليه ؟ قال : أخبرت أنه يسب رسول الله صلى الله عليه و سلم و الذي نفسي بيده لئن رأيته لا يفارق سوادي سواده حتى يموت الأعجل منا فتعجبت لذلك فغمزني الآخر فقال لي أيضا مثلها
فلم أنشب أن نظرت إلى أبي جهل و هو يجول في الناس فقلت : ألا تريان ؟ هذا صاحبكم الذي تسألان عنه فابتدراه بسيفهما فضرباه حتى قتلاه ثم انصرفا إلى النبي صلى الله عليه و سلم فأخبراه فقال : [ أيكما قتله ؟ ] قال كل منهما : أنا قتلته قال : [ هل مسحتما سيفيكما ؟ ] قالا : لا قال فنظر النبي صلى الله عليه و سلم في السيفين فقال : [ كلاهما قتله ] و قضى بسلبه لمعاذ بن عمرو بن الجموح و الآخر معاذ بن عفراء و قال البخاري : حدثنا يعقوب بن إبراهيم بن سعد عن أبيه عن جده قال عبد الرحمن : إني لفي الصف يوم بدر إذ التفت فإذا عن يميني و عن يساري فتيان حدثنا السن فكأني لم آمن بمكانهما إذ قال لي أحدهما سرا من صاحبه : يا عم أرني أبا جهل فقلت : يا بن أخي ما تصنع به ؟ قال : عاهدت الله إن رأيته أن أقتله أو أموت دونه و قال لي الأخر سرا من صاحبه مثله قال : فما سرني أنني بين رجلين مكانهما فأشرت لهما إليه فشدا عليه مثل الصقرين حتى ضرباه و هما ابنا عفراء
و في الصحيحين أيضا من [ حديث أبي سليمان التيمي عن أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم من ينظر ماذا صنع أبو جهل ؟ ] قال ابن مسعود : أنا يا رسول الله فانطلق فوجده قد ضربه ابنا عفراء حتى برد قال فأخذ بلحيته قال فقلت : أنت أبو جهل ؟ فقال : و هل فوق رجل قتلتموه أو قال : قتله قومه !
و عند البخاري عن أبي أسامة عن أبي إسماعيل بن قيس عن ابن مسعود أنه أتى أبا جهل فقال : هل أخزاك الله ؟ فقال : هل أعمد من رجل قتلتموه !
و قال الأعمش عن أبي إسحاق عن أبي عبيدة عن عبد الله قال : انتهيت إلى أبي جهل و هو صريع و عليه بيضة و معه سيف جيد و معي سيف ردئ فجعلت أنقف رأسه بسيفي و أذكر نقفا كان ينقف رأسي بمكة حتى ضعفت يده فأخذت سيفه فرفع رأسه فقال : على من كانت الدائرة لنا أو علينا ؟ ألست رويعينا بمكة ؟ قال : فقتلته ثم أتيت النبي صلى الله عليه و سلم فقلت : قتلت أبا جهل فقال آلله الذي لا إله إلا هو ؟ فاستحلفني ثلاث مرات ثم قام معي إليهم فدعا عليهم
و قال الإمام أحمد : حدثنا وكيع حدثنا إسرائيل عن أبي إسحاق عن أبي عبيدة قال : قال عبد الله : انهيت إلى أبي جهل يوم بدر و قد ضربت رجله و هو يذب الناس عنه بسيف له فقلت : الحمد لله الذي أخزاك الله يا عدو الله قال : هل هو إلا رجل قتله قومه !
فجعلت أتناوله بسيف لي غير طائل فأصبت يده فندر سيفه فأخذته فضربته حتى قتلته
قال : ثم خرجت حتى أتيت النبي صلى الله عليه و سلم كأنما أقل من الأرض فأخبرته فقال : [ آلله الذي لا إله إلا هو ؟ ] فرددها ثلاثا قال : قلت : آلله الذي لا إله إلا هو
قال : فخرج معي حتى قام عليه فقال : [ الحمد لله الذي قد أخزاك الله يا عدو الله هذا كان فرعون هذه الأمة ]
و في رواية أخرى قال ابن مسعود : فنفلني سيفه
و قال أبو إسحاق الفزاري عن الثوري عن أبي إسحاق عن أبي عبيدة عن ابن مسعود قال : أتيت رسول الله صلى الله عليه و سلم يوم بدر فقلت : قد قتلت أبا جهل فقال : [ آلله الذي لا إله إلا هو ؟ ] فقلت : آلله الذي لا إله إلا هو مرتين أو ثلاثا
قال : فقال النبي صلى الله عليه و سلم : [ الله أكبر الحمد لله الذي صدق و عده و نصر عبده و هزم الأحزاب وحده ] ثم قال : [ انطلق فأرنيه فانطلقت فأريته فقال : هذا فرعون هذه الأمة ]
و رواه أبو داود و النسائي من حديث أبي إسحاق السبيعي به
و قال الواقدي : وقف رسول الله صلى الله عليه و سلم على مصرع ابني عفراء فقال : [ رحم الله ابني عفراء فهما شركاء في قتل فرعون هذه الأمة و رأس أئمة الكفر ] فقيل : يا رسول الله و من قتله معهما ؟ قال : [ الملائكة و ابن مسعود قد شرك في قتله ]
رواه البيهقي
و قال البيهقي : أخبرنا الأصم حدثنا أحمد بن عبد الجبار حدثنا يونس بن بكير عن عنبسة بن الأزهر عن أبي إسحاق قال : لما جاء رسول الله صلى الله عليه و سلم البشير يوم بدر بقتل أبي جهل استحلفه ثلاثة أيمان بالله الذي لا إله إلا هو لقد رأيته قتيلا ؟ فحلف له فخر رسول الله صلى الله عليه و سلم ساجدا
ثم روى البيهقي من طريق أبي نعيم عن سلمة بن رجاء عن الشعثاء امرأة من بني أسد عن عبد الله بن أبي أوفى أن رسول الله صلى الله عليه و سلم صلى ركعتين حين بشر بالفتح و حين جئ برأس أبي جهل
و قال ابن ماجه : حدثنا أبو بشر بكر بن خلف حدثنا سلمة بن رجاء قال حدثني شعثاء عن عبد الله بن أبي أوفى أن رسول الله صلى الله عليه و سلم صلى يوم بشر برأس أبي جهل ركعتين
و قال ابن أبي الدنيا : حدثنا أبي حدثنا هشام أخبرنا مجالد عن الشعبي أن رجلا قال لرسول الله صلى الله عليه و سلم : إني مررت ببدر فرأيت رجلا يخرج من الأرض فيضربه رجل بمقمعة معه حتى يغيب في الأرض ثم يخرج فيفعل به مثل ذلك مرارا فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ ذاك أبو جهل بن هشام يعذب إلى يوم القيامة ]
و قال الأموي في مغازيه : سمعت أبي حدثنا المجالد بن سعيد عن عامر قال جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم : فقال إني رأيت رجلا جالسا في بدر و رجل يضرب رأسه بعمود من حديد حتى يغيب في الأرض فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ ذاك أبو جهل و كل به ملك يفعل به كلما خرج فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة ]
و قال البخاري : حدثنا عبيد بن إسماعيل حدثنا أبو أسامة عن هشام عن أبيه قال : قال الزبير : لقيت يوم بدر عبيدة بن سعيد العاص و هو مدجج لا يرى منه إلا عيناه و هو يكنى أبا ذات الكرش فقال : أنا أبو ذات الكرش فحملت عليه بغزة فطعنته في عينه فمات قال هشام : فأخبرت أن الزبير قال : لقد وضعت رجلي عليه ثم تمطيت فكان الجهد أن نزعتها و قد انثني طرفاها قال عروة : فسأله إياها رسول الله صلى الله عليه و سلم فأعطاه إياها فلما قبض أبو بكر سألها إياه عمر بن الخطاب فأعطاه إياها فلما قبض عمر أخذها ثم طلبها عثمان منه فأعطاه إياه فلما قتل عثمان وقعت عند آل علي فطلبها عبد الله بن الزبير فكانت عنده حتى قتل
و قال ابن هشام : حدثني أبو عبيدة و غيره من أهل العلم بالمغازي أن عمر بن الخطاب قال لسعيد بن العاص و مر به إني أراك كأن في نفسك شيئا أراك تظن أني قتلت أباك ؟ إني لو قتلته لم أعتذر إليك من قتله و لكني قتلت خالي العاص بن هشام ابن المغيرة فأما أبوك فإني مررت به و هو يبحث بحث الثور بروقه فحدت عنه و قصد له ابن عمه علي فقتله
قال ابن إسحاق : و قاتل عكاشة بن محصن بن حرثان الأسدي حليف بني عبد شمس يوم بدر بسيفه حتى انقطع في يده فأتي رسول الله صلى الله عليه و سلم فأعطاه جذلا من حطب فقال : [ قاتل بهذا يا عكاشة ]
فلما أخذه من رسول الله صلى الله عليه و سلم هزه فعاد سيفا في يده طويل القامة شديد المتن أبيض الحديد فقاتل به
حتى فتح الله على المسلمين و كان ذلك السيف يسمى العون ثم لم يزل عنده يشهد به المشاهد مع رسول الله صلى الله عليه و سلم حتى قتله طليحة الأسدي أيام الردة و أنشد طليحة في ذلك قصيدة منها قوله :
( عيشة غادرت ابن أقرم ثلويا ... و عكاشة الغنمي عند مجال )
و قد أسلم بعد ذلك طليحة كما سيأتي بيانه
قال ابن إسحاق : و عكاشة هو الذي قال حين بشر رسول الله صلى الله عليه و سلم أمته بسبعين ألفا يدخلون الجنة بغير حساب و لا عذاب : ادع الله أن يجعلني منهم قال : [ اللهم اجعله منهم ]
و هذا الحديث مخرج في الصحاح و الحسان و غيرهما
قال ابن إسحاق : و قال رسول الله صلى الله عليه و سلم ـ فيما بلغني ـ [ منا خير فارس في العرب ] قالوا : و من هو يا رسول الله ؟ قال [ عكاشة بن محصن ] فقال ضرار ابن الأزور : ذاك رجل منا يا رسول الله قال : ليس منكم و لكنه منا للحلف
و قد روى البيهقي عن الحاكم من طريق محمد بن عمر الواقدي حدثني عمر بن عثمان الخشني عن أبيه عن عمته قالت : قال عكاشة بن محصن : انقطع سيفي يوم بدر فأعطاني رسول الله صلى الله عليه و سلم عودا فإذا هو سيف أبيض طويل فقاتلت به حتى هزم الله المشركين و لم يزل عنده حتى هلك و قال الواقدي : و حدثني أسامة بن زيد عن داود بن الحصين عن رجال من بني عبد الأشهل عدة قالوا : انكسر سيف سلمة بن حريش يوم بدر فبقي أعزل لا سلاح معه فأعطاه رسول الله صلى الله عليه و سلم قضيبا كان في يده من عراجين ابن طاب فقال : اضرب به فإذا سيف جيد فلم يزل عنده حتى قتل يوم جسر أبي عبيدة (2/440)
قال البيهقي في الدلائل : أخبرنا أبو سعد الماليني أخبرنا أبو أحمد بن عدي حدثنا أبو يعلي حدثنا يحيى الحماني حدثنا عبد العزيز بن سليمان بن الغسيل عن عاصم بن عمر بن قتادة عن أبيه عن جده قتادة بن النعمان أنه أصيبت عينه يوم بدر فسالت حدقته على وجنته النسائي فأرادوا أن يقطعوها فسألوا رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : [ لا ] فدعاه فغمز حدقته براحته فكان لا يدري أي عينيه أصيب !
و في رواية : فكانت أحسن عينيه
و قد روينا عن أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز أنه لما أخبره بهذا الحديث عاصم ابن عمر بن قتادة و أنشد مع ذلك :
( أنا ابن الذي سالت على الخد عينه ... فردت بكف المصطفى أيما رد )
فقال عمر بن عبد العزيز رحمه الله عند منشدا قول أمية بن أبي الصلت في سيف بن ذي يزن فأنشده عمر في موضعه حقا :
( تلك المكارم لا قعبان من لبن ... شيبا بماء فعاد بعد أبوالا ) (2/447)
قال البيهقي : أخبرنا أبو عبد الله الحافظ أخبرنا محمد بن صالح أخبرنا الفضل بن محمد الشعراني حدثنا إبراهيم بن المنذر أخبرنا عبد العزيز بن عمران حدثني رفاعة بن يحيى عن معاذ بن رفاعة بن رافع عن أبيه رافع بن مالك قال : لما كان يوم بدر تجمع الناس على أبي بن خلف فأقبلت إليه فنظرت إلى قطعة من درعه قد انقطعت من تحت إبطه قال : فطعنته بالسيف فيها طعنة و رميت بسهم يوم بدر ففقئت عيني فبصق فيها رسول الله صلى الله عليه و سلم و دعا لي فما آذاني منها شئ
و هذا غريب من هذا الوجه و إسناده جيد و لم يخرجوه و رواه الطبراني من حديث إبراهيم بن المنذر (2/448)
قال ابن هشام : و نادى أبو بكر ابنه عبد الرحمن و هو يومئذ مع المشركين لم يسلم بعد فقال : أين مالي يا خبيث ؟ فقال عبد الرحمن :
( لم يبقى إلا شكة و يعبوب ... و صارم يقتل ضلال الشيب )
يعني لم يبق إلا عدة الحرب و حصان و هو اليعبوب يقاتل عليه شيوخ الضلالة هذا يقوله في حال كفره
و قد روينا في مغازي الأموي أن رسول الله صلى الله عليه و سلم جعل يمشي هو و أبو بكر الصديق بين القتلى و رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : [ نفلق هاما ] : فيقول الصديق :
( من رجال أعزة ... علينا و هم كانوا أعق و أظلما ! ) (2/448)
قال ابن إسحاق : و [ حدثني يزيد بن رومان عن عروة عن عائشة قالت : لما أمر رسول الله صلى الله عليه و سلم بالقتلى أن يطرحوا في القليب طرحوا فيه إلا ما كان من أمية بن خلف فإنه انتفخ في درعه فملأها فذهبوا ليخرجوه فتزايل [ لحمه ] فأقروه و ألقوا عليه ما غيبه من التراب و الحجارة
فلما ألقاهم في القليب وقف عليهم فقال : يا أهل القليب هل وجدتم ما وعدكم ربكم حقا فإني قد وجدت ما وعدني ربي حقا ؟ ]
قالت له أصحابه : يا رسول الله أتكلم قوما موتى ؟ !
فقال : [ لقد علموا أن ما وعدهم ربهم حق ]
قالت عائشة : و الناس يقولون : لقد سمعوا ما قلت لهم و إنما قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : لقد علموا
قال ابن إسحاق : و [ حدثني حميد الطويل عن أنس بن مالك قال : سمع أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم رسول الله من جوف الليل و هو يقول يا أهل القليب يا عتبة ابن ربيعة و يا شيبة بن ربيعة و يا أمية بن خلف و يا أبا جهل بن هشام فعدد من كان منهم في القليب هل وجدتم ما وعد ربكم حقا فإني قد وجدت ما وعدني ربي حقا ]
فقال المسلمون : يا رسول الله أتنادي قوما قد جيفوا ؟
فقال : [ ما أنتم بأسمع لما أقول منهم و لكنهم لا يستطيعون أن يجيبوني ]
و قد رواه الإمام أحمد عن ابن أبي عدي عن حميد عن أنس فذكر نحوه و هذا على شرط الشيخين
قال ابن إسحاق : و [ حدثني بعض أهل العلم أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : يا أهل القليب بئس عشيرة النبي كنتم لنبيكم كذبتموني و صدقني الناس و أخرجتموني و آواني الناس و قاتلتموني و نصرني الناس هل وجدتم ما وعدكم ربكم حقا ؟ فإني قد وجدت ما وعدني ربي حقا ]
قلت : و هذا مما كانت عائشة رضي الله عنها تتأوله من الأحاديث كما قد جمع ما كانت تتأوله من الأحاديث في جزء و تعتقد أنه معارض لبعض الآيات
و هذا المقام مما كانت تعارض فيه قوله : [ و ما أنت مسمع من في القبور ] و ليس هو بمعارض له و الصواب قول الجمهور من الصحابة و من بعدهم للأحاديث الدالة نصا على خلاف ما ذهبت إليه رضي الله عنها و أرضاها
و قال البخاري : [ حدثنا عبيد بن إسماعيل حدثنا أبو أسامة عن هشام بن عروة عن أبيه قال : ذكر عند عائشة أن عمر رفع إلى النبي صلى الله عليه و سلم أن الميت يعذب في قبره ببكاء أهله فقالت : رحمه الله ! إنما قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : إنه ليعذب بخطيئته و ذنبه وإن أهله ليبكون عليه الآن ]
قالت : و ذاك مثل قوله : إن رسول الله صلى الله عليه و سلم قام على القليب و فيه قتلى بدر من المشركين فقال لهم ما قال قال : [ إنهم ليسمعون ما أقول و إنما قال إنهم الآن ليعلمون أن ما كنت أقول لهم حق ] ثم قرأت : [ إنك لا تسمع الموتى ] و [ ما أنت مسمع من في القبور ] تقول : حين تبوأوا مقاعدهم من النار
و قد رواه مسلم عن أبي كريب عن أبي أسامة به
و قد جاء التصريح بسماع الميت بعد دفنه في غير ما حديث كما سنقرر ذلك في كتاب الجنائز من الأحكام الكبير إن شاء الله
ثم قال البخاري : [ حدثني عثمان حدثني عبدة عن هشام عن أبيه عن ابن عمر قال : وقف النبي صلى الله عليه و سلم على قليب بدر فقال : هل وجدتم ما وعد ربكم حقا ] ثم قال : [ إنهم الآن يسمعون ما أقول لهم ] و ذكر لعائشة فقالت : إنما قال النبي صلى الله عليه و سلم : [ إنهم الآن ليعلمون أن الذي كنت أقول لهم هو الحق ] ثم قرأت : { إنك لا تسمع الموتى } حتى قرأت الآية وقد رواه مسلم عن أبي كريب عن أبي أسامة و عن أبي بكر بن أبي شيبة عن وكيع كلاهما عن هشام بن عروة
و قال البخاري : حدثنا عبد الله بن محمد سمع روح بن عبادة حدثنا سعيد بن أبي عروبة عن قتادة قال : ذكر لنا أنس بن مالك عن أبي طلحة أن رسول الله صلى الله عليه و سلم [ أمر يوم بدر بأربعة و عشرين رجلا من صناديد قريش فقذفوا في طوى من أطواء بدر خبيث مخبث و كان إذا ظهر على قوم أقام بالعرضة ثلاث ليال فلما كان ببدر اليوم الثالث أمر براحلته فشد عليها رحلها ثم مشى و تبعه أصحابه و قالوا ما نرى ينطلق إلا لبعض حاجته حتى قام على شفة الركي فجعل يناديهم بأسمائهم و أسماء آبائهم : يا فلان بن فلان و يا فلان بن فلان يسركم أنكم أطعتم الله و رسوله ؟ فإنا قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقا فهل وجدتم ما وعد ربكم حقا ! ]
فقال عمر : يا رسول الله ما تكلم من أجساد لا أرواح فيها ؟ فقال النبي صلى الله عليه و سلم : [ و الذي نفس محمد بيده ما أنتم بأسمع لما أقول منهم ]
قال قتادة : أحياهم الله حتى أسمعهم قوله توبيخا و تصغيرا و نقمة و حسرة و ندما
و قد أخرجه بقية الجماعة إلا ابن ماجه من طرق عن سعيد بن أبي عروبة
و رواه الإمام أحمد عن يونس بن محمد المؤدب عن شيبان بن عبد الرحمن عن قتادة قال : حدث أنس بن مالك فذكر مثله فلم يذكر أبا طلحة و هذا إسناد صحيح و لكن الأول أصح و أظهر و الله أعلم
و قال الإمام أحمد : حدثنا عفان حدثنا حماد عن ثابت عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه و سلم ترك قتلى بدر ثلاثة أيام حتى جيفوا ثم أتاهم فقام عليهم فقال : [ يا أمية ابن خلف يا أبا جهل بن هشام يا عتبة بن ربيعة يا شيبة بن ربيعة هل وجدتم ما وعد ربكم حقا ؟ فإني قد وجدت ما وعدني ربي حقا ] قال : فسمع عمر صوته فقال : يا رسول الله أتناديهم بعد ثلاث و هل يسمعون ؟ يقول الله تعالى : { إنك لا تسمع الموتى } فقال : [ و الذي نفسي بيده ما أنتم بأسمع لما أقول منهم و لكن لا يستطيعون أن يجيبوا ]
و رواه مسلم عن هدبة بن خالد عن حماد بن سلمة به (2/449)
و قال ابن إسحاق : و قال حسان بن ثابت :
( عرفت ديار زينب بالكثيب ... كخط الوحى في الورق القشيب )
( تداولها الرياح و كل جون ... من الوشمي منهمر سكوب )
( فأمسى رسمها خلقا و أمست ... يبابا بعد ساكنها الحبيب )
( فدع عنك التذكر كل يوم ... و رد حرارة القلب الكثيب )
( و خبر بالذي لا عيب فيه ... بصدق غير إخبار الكذوب )
( بما صنع المليك غداة بدر ... لنافي المشركين من النصيب )
( غداة كأن جمعهم حراء ... بدت أركانه جنح الغروب )
( فلاقيناهم منا بجمع ... كأسد الغاب مردان و شيب )
( أمام محمد قد وازروه ... على الأعداء في لفح الحروب )
( بأيديهم صوارم مرهفات ... و كل مجرب خاطى الكعوب )
( بنو الأوس الغطارف وازراتها ... بنحو النجار في الدين الصليب )
( فغادرنا أبا جهل صريعا ... و عتبة قد تركنا بالجنوب )
( و شيبة قد تركنا في رجال ... ذوي حسب إذا نسبوا حسيب )
( يناديهم رسول الله لما ... قذفناهم كباكب في القليب )
( ألم تجدوا كلامي كان حقا ... و أمر الله يأخذ بالقلوب )
( فما نطقوا و لو نطقوا لقالوا ... صدقت و كنت ذا رأي مصيب )
2 (2/452)
قال ابن إسحاق : ولما أمر رسول الله صلى الله عليه و سلم أن يلقوا في القليب أخذ عتبة بن ربيعة فسحب في القليب فنظر رسول الله صلى الله عليه و سلم ـ فيما بلغني ـ في وجه أبي حذيفة بن عتبة فإذا هو كئيب قد تغير لونه فقال : [ يا حذيفة لعلك قد دخلك من شأن أبيك شئ ؟ ] أو كما قال رسول الله صلى الله عليه و سلم
فقال : لا و الله يا رسول الله ما شككت في أبي و لا في مصرعه و لكني كنت أعرف من أبي رأيا و حلما و فضلا فكنت أرجو أن يهديه ذلك للإسلام فلما رأيت ما أصابه و ذكرت ما مات عليه من الكفر بعد الذي كنت أرجو له أحزنني ذلك فدعا له رسول الله صلى الله عليه و سلم بخير و قال له خيرا
و قال البخاري : حدثنا الحميدي حدثنا سفيان حدثنا عمرو عن عطاء عن ابن عباس : ( الذين بدلوا نعمة الله كفرا ) قال : هم و الله كفار قريش قال عمرو : هم قريش و محمد نعمة الله : ( و أحلوا قومهم دار البوار ) قال : النار يوم بدر (2/453)
قال ابن إسحاق : و قال حسان بن ثابت :
( قومي الذين هم آووا نبيهم ... و صدقوه و أهل الأرض كفار )
( إلا خصائص أقوام هم سلف ... للصالحين من الأنصار أنصار )
( مستبشرين بقسم الله قولهم ... لما أتاهم كريم الأصل مختار )
( أهلا و سهلا ففي أمن و في سعة ... نعم النبي و نعم القسم و الجار )
( ( فأنزلوه بدار لا يخاف بها ... من كان جارهم دارا هي الدار ) )
( و قاسوها بها الأموال إذ قدموا ... مهاجرين و قسم الجاحد النار )
( سرنا و ساروا إلى بدر لحنهم ... لو يعلمون يقين العلم ما ساروا )
( و الاهم بغرور ثم أسلمهم ... إن الخبيث لمن والاه غرار )
( و قال إني لكم جار فأوردهم ... شر الموارد فيه الخزي و العار )
( ثم التقينا فولوا عن سراتهم ... من منجدين و منهم فرقة غاروا )
و قال الإمام أحمد : حدثنا يحيى بن أبي بكر و عبد الرزاق قالا : حدثنا إسرائيل عن عكرمة عن ابن عباس قال : لما فرغ رسول الله صلى الله عليه و سلم من القتلى قيل له : عليك العير ليس دونها شئ فناداه العباس و هو في الوثاق : إنه لا يصلح لك قال : لم ؟ قال : لأن الله وعدك إحدى الطائفتين و قد أنجز لك ما وعدك و قد كانت جملة من قتل من سراة الكفار يوم بدر سبعين هذا مع حضور ألف من الملائكة
و كان قدر الله السابق فيمن بقي منهم أن سيسلم منهم بش كثير و لو شاء الله لسلط عليهم ملكا واحدا فأهلكهم عن آخرهم و لكن قتلوا من لا خير فيه بالكلية
و قد كان في الملائكة جبريل الذي أمره الله تعالى فاقتلع مدائن قوم لوط و كن سبعا فيهن من الأمم و الدواب و الأراضي و المزروعات و ما لا يعلمه إلا الله فرفعهن حتى بلغ بهن عنان السماء على طرف جناحه ثم قلبهن منسكات و أتبعهن بالحجارة التي سومت لهم كما ذكر ذلك في قصة قوم لوط (2/454)
و قد شرع الله جهاد المؤمنين للكافرين و بين تعالى حكمه في ذلك فقال : { فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب حتى أثخنتموهم فشدوا الوثاق فإما منا بعد و إما فداء حتى تضع الحرب أوزارها ذلك و لو يشاء الله لانتصر منهم و لكن ليبلو بعضكم ببعض } الآية و قال تعالى : { قاتلوهم يعذبكم الله بأيديكم و يحز هم و ينصركم عليهم و يشف صدور قوم مؤمنين و يذهب غيط قلوبهم و يتوب الله على من يشاء } الآية فكان قتل أبي جهل على يدي شاب من الأنصار ثم بعد ذلك يوقف عليه عبد الله بن مسعود و مسك بلحيته و صعد على صدره حتى قال له : لقد رقيت مرتقى صعبا يا رويعي الغنم ثم بعد هذا حز رأسه و احتمله حتى و ضعه بين يدي رسول الله فشفى الله به قلوب المؤمنين كان هذا أبلغ من أن تأتيه صاعقة أو أن يسقط عليه سقف منزله أو يموت حتف أنفه ! و الله أعلم (2/455)
و قد ذكر ابن إسحاق فيمن قتل يوم بدر مع المشركين ممن كان مسلما و لكنه خرج معهم تقية منهم لأنه كان فيهم مضطهدا قد فتنوه عن إسلامه جماعة منهم : الحارث بن زمعة بن الأسود و أبو قيس بن الفاكه ( و أبو قيس بن الوليد بن المغير ) و على بن أمية بن خلف و العاص بن منبه بن الحجاج
قال : و فيهم نزل قوله تعالى { إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا : فيم كنتم قالوا : كنا مستضعفين في الأرض قالوا : ألم تكن أرض الله واسعة فهاجروا فيها فأولئك مأواهم جهنم و ساءت مصيرا } (2/456)
و كان جملة الأساري يومئذ سبعين أسيرا كما سيأتي الكلام عليهم فيما بعد إن شاء الله منهم من آل رسول الله صلى الله عليه و سلم : عمه العباس بن عبد المطلب و ابن عمه عقيل بن أبي طالب و نوفل بن الحارث بن عبد المطلب
و قد استدل الشافعي و البخاري و غيرهما بذلك على أنه ليس كل من ملك ذا رحم محرم يعتق عليه و عارضوا به حديث الحسن عن ابن سمرة في ذلك
فالله أعلم
و كان فيهم أبو العاص ابن الربيع بن عبد شمس بن أمية زوج زينب بنت النبي صلى الله عليه و سلم (2/456)
و قد اختلف الصحابة في الأساري : أيقتلون أو يفادون على قولين
كما قال الإمام أحمد : حدثنا على بن عاصم عن حميد عن أنس و ذكر رجل عن الحسن قال : استشار رسول الله صلى الله عليه و سلم الناس في الأساري يوم بدر فقال : [ إن الله قد أمكنكم منهم ]
قال : فقام عمر فقال : يا رسول الله اضرب أعناقهم قال : فأعرض عنه النبي صلى الله عليه و سلم
ثم عاد النبي فقال للناس مثل ذلك فقام أبو بكر الصديق فقال يا رسول الله نرى أن نعفو عنهم و أن تقبل منهم الفداء
قال : فذهب عن وجه رسول الله صلى الله عليه و سلم ما كان فيه من الغم فعفا عنهم و قبل منهم الفداء قال و أنزل الله تعالى : [ لو لا كتاب من الله سبق لمسكم ] الآية
انفرد به أحمد
و قد روى الإمام أحمد و اللفظ له و مسلم و أبو داود و الترمذي و صححه و كذا على ابن المدني و صححه من حديث عكرمة بن عمار حدثنا سماك الحنفي أبو زميل حدثني ابن عباس حدثني عمر بن الخطاب قال : نظر رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى أصحابه يوم بدر و هم ثلاثمة و نيف و نظر إلى المشركين فإذا هم ألف و زيادة
فذكر الحديث كما تقدم إلى قوله : فقتل منهم سبعون رجلا و أسر منهم سبعون رجلا
و استشار رسول الله صلى الله عليه و سلم أبا بكر و عليا و عمر فقال أبو بكر : يا رسول الله هؤلاء بنو العم و العشيرة و الإخوان و إني أرى أن تأخذ منهم الفدية فيكون ما أخذناه قوة لنا على الكفار و عسى أن يهديهم الله لنا فيكونوا لنا عضدا
فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ ما ترى يا ابن الخطاب ؟ ] قال : قلت : و الله ما أرى أبو بكر و لكن أرى أن تمكنني من فلان قريب لعمر فأضرب عنقه و تمكن عليا من عقيل فيضرب عنقه و تمكن حمزة من فلان أخيه فيضرب عنقه حتى يعلم الله أنه ليست في قلوبنا هوادة للمشركين و هؤلاء صناديدهم و أئمتهم و قادتهم
فهوى رسول الله صلى الله عليه و سلم ما قال أبو بكر و لم يهو ما قلت و أخذ منهم الفداء
فلما كان من الغد قال عمر : فغدوت إلى النبي صلى الله عليه و سلم و أبي بكر و هما يبكيان فقلت : يا رسول الله أخبرني ماذا يبكيك أنت و صاحبك فإن وجدت بكاء بكيت و إن لم أجد بكاء تباكيت لبكائكما ؟
فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ للذي عرض على أصحابه من أخذهم الفداء قد عرض على عذابكم أدنى من هذه الشجرة ] لشجرة قريبة
و أنزل الله تعالى : { ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض تردون عرض الدنيا و الله يريد الآخرة و الله عزيز حكيم لو لا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم } من الفداء ثم أحل لهم الغنائم و ذكر تمام الحديث
و قال الإمام أحمد : حدثنا أبو معاوية حدثنا الأعمش عن عمرو بن مرة عن عبيدة عن عبد الله قال : لما كان يوم بدر قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ ما تقولون في هؤلاء الأسرى ؟ ] قال : فقال أبو بكر : يا رسول الله قومك و أهلك استبقهم و استأن بهم لعل الله أن يتوب عليهم
قال : و قال عمر : يا رسول الله أخرجوك و كذبوك قربهم فاضرب أعناقهم
قال : و قال عبد الله بن رواحة : يا رسول الله انظر واديا كثير الحطب فأدخلهم فيه ثم أضرمه عليهم نارا قال : فدخل رسول الله صلى الله عليه و سلم و لم يرد عليهم شيئا فقال ناس : يأخذ بقول أبي بكر وقال ناس : يأخذ بقول عمر و قال ناس يأخذ بقول عبد الله بن رواحة فخرج عليهم فقال : [ إن الله ليلين قلوب رجال فيه حتى تكون ألين من اللين و إن الله ليشد قلوب رجال فيه حتى تكون أشد من الحجارة و إن مثلك يا أبا بكر كمثل إبراهيم قال : ( فمن تبعني فإنه مني و من عصاني فإنك غفور رحيم ) و مثلك يا أبا بكر كمثل عيسى قال : ( إن تعذبهم فإنهم عبادك و إن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم ) و إن مثلك يا عمر كمثل نوح قال ( رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا ) و إن مثلك يا عمر كمثل موسى قال : ( ربنا اطمس على أموالهم و اشدد على قلوبهم فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم ) أنتم عالة فلا يبقين أحد إلا بفداء أو ضربة عنق ]
قال عبد الله : قلت يا رسول الله إلا سهيل ابن بيضاء فإني قد سمعته يذكر الإسلام قال : فسكت
قال : فما رأيتني في يوم أخوف أن تقع علي حجارة من السماء من ذلك اليوم حتى قال : [ إلا سهيل بن بيضاء ]
قال فأنزل الله : { ما كان لنبي أن يكون أسرى حتى يثخن في الأرض تريدون عرض الحياة الدنيا و الله يريد الآخرة و الله عزيز حكيم لولا كتاب من الله سبق لمسكم } إلى آخر الآيتين
و هكذا رواه الترمذي و الحاكم من حديث أبي معاوية و قال الحاكم : صحيح الإسناد و لم يخرجاه و رواه ابن مردوية من طريق عبد الله بن عمر و أبي هريرة بنحو ذلك و قد روى عن أبي أيوب الأنصاري بنحوه
و قد روى ابن مردوية و الحاكم في المستدرك من حديث عبيد الله بن موسى حدثنا إسرائيل عن إبراهيم بن مهاجر عن مجاهد عن ابن عمر قال : لما أسر الأساري يوم بدر أسر العباس فيمن أسر أسره رجل من الأنصار قال : و قد أوعدته الأنصار أن يقبلوه فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه و سلم فقال : [ إني لم أنم الليلة من أجل عمي العباس و قد زعمت الأنصار أنهم قاتلوه ] قال عمر : أفآتيهم ؟ قال : نعم
فأتى عمر الأنصار فقال لهم : أرسلوا العباس فقالوا : لا و الله لا نرسله فقال لهم عمر : فإن كان لرسول الله رضا ؟ قالوا كان له رضا فخذه فأخذه عمر فلما صار في يده قال له عمر : يا عباس أسلم فو الله لئن تسلم أحب إلي من أن يسلم الخطاب و ما ذاك إلا لما رأيت رسول الله يعجبه إسلامك
قال : و استشار رسول الله صلى الله عليه و سلم أبا بكر فقال أبو بكر : عشيرتك فأرسلهم و استشار عمر فقال : اقتلهم ففاداهم رسول الله صلى الله عليه و سلم فأنزل الله : { ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض } الآية
ثم قال الحاكم في صحيحه : هذا حديث صحيح الإسناد و لم يخرجاه و روى الترمذي و النسائي و ابن ماجه من حديث سفيان الثوري عن هشام بن حسان عن محمد بن سيرين عن عبيدة عن علي قال : جاء جبريل إلى النبي صلى الله عليه و سلم فقال : خير أصحابك في الأسارى إن شاءوا الفداء و إن شاءوا القتل على أن يقتل عاما قابلا منهم مثلهم قالوا : الفداء أو يقتل منا و هذا حديث غريب جدا و منهم من رواه مرسلا عن عبيدة و الله أعلم و قد قال ابن إسحاق عن ابن أبي نجيح عن عطاء عن ابن عباس في قوله : { لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم } يقول : لولا أني لا أعذب من عصاني حتى أتقدم إليه لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم و هكذا روى عن ابن أبي نجيح عن مجاهد أيضا و اختاره ابن إسحاق و غيره (2/457)
و قال الأعمش : سبق منه ألا يعذب أحدا شهد بدرا و هكذا روى عن بن سعد أبي وقاص و سعيد بن جبير و عطاء بن أبي رباح
و قال مجاهد و الثوري : { لو لا كتاب من الله سبق } أي لهم الغفرة
و قال الوالبي : عن ابن عباس سبق في أم الكتاب الأول أن المغانم و فداء السارى حلال لكم و لهذا روى عن أبي هريرة و ابن مسعود و سعيد بن جبير و عطاء و الحسن و قتادة و الأعمش و اختاره ابن جرير
و قد ترجح هذا القول بما ثبت في الصحيحين عن جابر بن عبد الله قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ أعطيت خمسا لم يعطهن أحد من الأنبياء قبلي نصرت بالرعب مسيرة شهر و جعلت لي الأرض مسجدا و طهورا وحلت لي الغنائم و لم تحل لحد من قبلي و أعطيت الشفاعة و كان النبي يبعث إلى قومه و بعثت إلى الناس عامة ]
وروى الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم [ لم تحل الغنائم لسود الرؤس غيرنا ]
و لهذا قال تعالى : { فكلوا مما غنمتم حلالا طيبا } فأذن الله تعالى في أكل الغنائم و فداء الأسارى
وقد قال أبو داود : حدثنا عبد الحمن بن المبارك العبسي حدثنا سفيان بن حبيب حدثنا شعبة عن أبي العنبس عن أبي الشعثاء عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه و سلم جعل فداء أهل الجاهلية يوم بدر أربعمائة و هكذا كان أقل ما فودي به أحد منهم من المال و أكثر ما فودي به الرجل منهم أربعة آلاف درهم
و قد وعد الله من آمن منهم بالخلف عما أخذ منه في الدنيا و الآخرة فقال تعالى : { يا أيها النبي قل لمن في أيديكم من الأسرى إن يعلم الله في قلوبكم خيرا يؤتكم خيرا مما أخذ منكم و يغفر لكم } الآية (2/461)
و قال الوالبي عن ابن عباس نزلت في العباس ففادي نفسه بالأربعين أوقية من ذهب قال العباس : فآتاني الله أربعين عبدا يعني كلهم يتجر له قال : و أنا أرجو المغفرة التي و عدنا الله جل ثناؤه
و قال ابن إسحاق : حدثني العباس بن عبد الله بن معبد عن بعض أهله عن ابن عباس قال : لما أمسى رسول الله صلى الله عليه و سلم يوم بدر و الأسارى محبوسون بالوثاق بات النبي صلى الله عليه و سلم ساهرا أول الليل فقال له أصحابه : مالك لا تنام يا رسول الله ؟ فقال [ سمعت أنين عمي العباس في وثاقه ] فأطلقوه فسكت فنام رسول الله صلى الله عليه و سلم
قال ابن إسحاق : و كان رجلا موسرا ففادى نفسه بمائة أوقية من ذهب قلت : و هذه المائة كانت عن نفسه و عن ابني أخويه عقيل و نوفل وعن حليفه عتبة بن عمرو أحد بني الحارث بن فهر كما أمره بذلك رسول الله صلى الله عليه و سلم حين ادعى أنه كان قد أسلم فقال له رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ أما ظاهرك فكان علينا و الله أعلم بإسلامك و سيجزيك ] فادعى أنه لا مال عنده قال :
[ فأين المال الذي دفنته أنت و أم الفضل و قلت لها : إن أصبت في سفري فهذا لبني الفضل و عبد الله وقثم ؟ ] فقال : و الله إني لأعلم أنك رسول الله إن هذا شئ ما علمه إلا أنل و أم الفضل رواه ابن إسحاق عن أبي نجيح عن عطاء عن ابن عباس
و ثبت في صحيح البخاري من طريق موسى بن عقبة قال الزهري : حدثني أنس ابن مالك قال : إن رجالا من الأنصار استأذنوا رسول الله صلى الله عليه و سلم قالوا إيذن لنا فلنترك لابن أختنا العباس فداءه فقال : [ لا و الله لا تذرون منه درهما ]
قال البخاري : و قال ابراهيم بن طهمان عن عبد العزيز بن صهيب عن أنس أن النبي صلى الله عليه و سلم أوتي بمال من البحرين فقال : [ انثروه في المسجد ] فكان أكثر مال أتى به رسول الله صلى الله عليه و سلم إذ جاءه العباس فقال : يا رسول الله أعطني إني فاديت نفسي و فاديت عقيلا فقال : خذ فحثا في ثوبه ثم ذهب يقله فلم يستطع فقال مر بعضهم يرفعه إلى قال لا قال : فارفعه أنت علي قال : لا فنثر منه ثم ذهب يقله فلم يستطع فقال : مر بعضهم يرفعه إلى قال : فارفعه أنت علي قال : لا فنثر منه ثم احتمله على كاهله ثم انطلق فما زال يتبعه بصره حتى خفى علينا عجبا من حرصه ! فما قام رسول الله صلى الله عليه و سلم و ثم منها درهم
و قال البيهقي : أخبرنا الحاكم أخبرنا الصم عن أحمد بن عبد الجبار عن يونس عن أسباط بن نصر عن إسماعيل بن عبد الرحمن السدي قال : كان فداء العباس و ابني أخويه عقيل بن أبي طالب و نوفل بن الحارث بن عبد المطلب كل رجل أربعمائة دينار ثم توعد تعالى الآخرين فقال : { : و إن يريدوا خيانتك فقد خانوا الله من قبل فأمكن منهم و الله عليم حكيم } (2/462)
و المشهور أن الأسارى يوم بدر كانوا سبعين و القتلى من المشركين سبعين كما ورد في غير ما حدث مما تقدم و سيأتي إن شاء الله و كما في حديث البراء بن عازب في صحيح البخاري أنهم قتلوا يوم بدر سبعين و أسروا سبعين
و قال موسى بن عقبة : قتل يوم بدر من المسلمين من قريش ستة و من الأنصار ثمانية و قتل من المشركين تسعة و أربعون و أسر منهم تسعة و ثلاثون هكذا رواه البيهقي عنه
قال : و هكذا ذكر ابن لهيعة عن أبي الأسود عن عروة في ععد من استشهد من المسلمين و قتل من المشركين
ثم قال : أخبرنا الحاكم أخبرنا الأصم أخبرنا أحمد بن عبد الجبار عن يونس بن بكير عن محمد بن إسحاق قال : و استشهد من المسلمين يوم بدر أحد عشر رجلا أربعة من قريش و سبعة من الأنصار النسائي و قتل من المشركين بضعة و عشرون رجلا و قال في موضع آخر : و كان مع رسول الله صلى الله عليه و سلم أربعون أسيرا و كانت القتلى مثل ذلك
ثم روى البيهقي عن طريق أبي صالح كاتب الليث عن الليث عن عقيل عن الزهري قال : و كان أول قتيل من المسلمين مهجع مولى عمر و رجل من الأنصار و قتل يومئذ من المشركين زيادة على سبعين و أسر منهم مثل ذلك
قال : ورواه ابن وهب عن يونس بن يزيد عن الزهري عن عروة بن الزبير
قال البيهقي : و هو الأصح فيما روينا في عدد من قتل من المشركين و أسر منهم ثم استدل على ذلك بما ساقه هو البخاري أيضا من طريق أبي إسحاق عن البراء ابن عازب قال : أمر رسول الله صلى الله عليه و سلم على الرماة يوم أحد عبد الله بن جبير فأصابوا منا سبعين و كان النبي صلى الله عليه و سلم و أصحابه قد أصابوا من المشركين يوم بدر أربعين و مائة سبعين أسير و سبعين قتيلا (2/463)
قلت : و الصحيح أن جملة المشركين كانوا ما بين التسعمائة إلى ألف
و قد صرح قتادة بأنهم كانوا تسعمائة و خمسين رجلا و كأنه أخذه من هذا الذي ذكرناه و الله أعلم
و في حديث عمر المتقدم أنهم كانوا زيادة على الألف و الصحيح الأول لقوله عليه السلام [ القوم ما بين التسعمائة إلى الألف ] (2/464)
و أما الصحابة يومئذ فكانوا ثلاثمائة و بضعة عشر رجلا كما سيأتي التنصيص على ذلك و على أسمائهم إن شاء الله (2/465)
و تقدم في حديث الحكم عن مقسم عن ابن عباس أن وقعة بدر كانت يوم الجمعة السابع عشر من شهر رمضان و قاله أيضا عروة بن الزبير و قتادة و إسماعيل و السدي الكبير و أبو جعفر الباقر
و روى البيهقي من طريق قتيبة عن جرير عن الأعمش عن إبراهيم عن الأسود عن عبد الله بن مسعود في ليلة القدر قال : ( تحروها لإحدى عشرة بقين فإن صبيحتها يوم بدر )
قال البيهقي : و روى عن زيد بن أرقم أنه سئل عن ليلة القدر فقال : ليلة تسع عشرة ما شك و قال : يوم الفرقان يوم التقي الجمعان
قال البيهقي : و المشهور عن أهل المغازي أن ذلك لسبع عشرة ليلة مضت من شهر رمضان
ثم قال البيهقي : أخبرنا أبو الحسين بن بشران حدثنا أبو عمرو بن سماك حدثنا حنبل بن إسحاق حدثنا أبو نعيم حدثنا عمرو بن عثمان سمعت موسى بن طلحة يقول : سئل أبو أيوب الأنصاري عن يوم بدر فقال : إما لسبع عشرة خلت أو ثلاث عشرة بقيت و إما لسبع عشرة بقيت
و هذا غريب جدا (2/465)
و قد ذكر الحافظ بن عساكر في ترجمة قباث بن أشيم الليثي من طريق الواقدي و غيره بإسنادهم إليه أنه شهد يوم بدر مع المشركين فذكر هزيمتهم مع قلة أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : و جعلت أقول في نفسي : ما رأيت مثل هذا الأمر فر منه إلا النساء و الله لو خرجت نساء قريش بالسهاء ردت محمدا و أصحابه فلما كان بعد الخندق قلت : لو قدمت المدينة فنظرت إلى ما يقول محمد و قد في نفسي الإسلام قال : فقدمها فسألت عنه فقالوا : هو ذاك في ظل المسجد في ملأ من أصحابه فأتيته و أنا لا أعرفه من بين أصحابه فسلمت فقال : يا قباث بن أشيم أنت القائل يوم بدر : ما رأيت مثل هذا الأمر فر منه إلا النساء ؟ فقلت : أشهد أنك رسول الله فإن هذا الأمر ما خرج مني إلى أحد قط و لا تزمزمت به إلا شيئا حديث به نفسي فلولا أنك نبي ما أطلعك عليه هلم أبايعك على الإسلام فأسلمت ] (2/465)
و قد اختلفت الصحابة رضي الله عنهم يوم بدر في المغانم من المشركين يومئذ لمن تكون منهم
و كانوا ثلاثة أصناف حين ولى المشركين : فقرقة أحدقت برسول الله صلى الله عليه و سلم تحرسه خوفا من أن يرجع أحد من المشركين إليه
و فرقة وراء المشركين يقتلون منهم و يأسرون
و فرقة جمعت المغانم من متفرقات الأماكن
فادعى كل فريق من هؤلاء أنه أحق بالغنم من الآخرين لما صنع من الأمر المهم
قال ابن إسحاق : فحدثني عبد الرحمن بن الحارث و غيره عن سليمان بن موسى عن مكحول عن أبي أمامة الباهلي قال : سألت عبادة بن الصامت عن الأنفال فقال : فينا أصحاب بدر نزلت حين اختلفا في النفل و ساءت فيه أخلاقنا فنزعه الله من أيدينا فجعله إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فقسمه بين المسلمين عن بواء يقول : عن سواء
و هكذا رواه أحمد عن محمد بن مسلمة محمد بن إسحاق به
و معنى قوله : ( على السواء ) أي ساوى فيها بين الذين جمعوها و بين الذين اتبعوا العدو و بين الذين ثبتوا تحت الرايات لم يخصص بها فريقا منهم ممن ادعى التخصيص بها
و لا ينفي هذا تخميسها و صرف الخمس في مواضعه كما قد يتوهم بعض العلماء منهم أبو عبيدة و غيره و الله أعلم بل قد تنفل رسول الله صلى الله عليه و سلم سيفه ذا الفقار من مغانم بدر
قال ابن جرير : و كذا اصطفى جملا لأبي جهل كان في أنفه برة من فضة و هذا قبل إخراج الخمس أيضا
و قال الإمام أحمد : حدثنا معاوية بن عمرو حدثنا ابن إسحاق عن عبد الرحمن ابن الحارث بن عبد الله بن عباس بن أبي ربيعة عن سليمان بن موسى عن أبي سلام عن أبي أمامة عن عبادة بن الصامت قال : خرجنا مع النبي صلى الله عليه و سلم فشهدت معه بدرا فالتقى الناس فهزم الله العدو فانطلقت طائفة في آثارهم يهزمون و يقتلون و أكبت طائفة على المغنم يحوزونه و يجمعونه و أحدقت طائفة برسول الله صلى الله عليه و سلم لا يصيب العدو منه غرة حتى إذا كان الليل و فاء الناس بعضهم إلى بعض قال الذين جمعوا الغنائم : نحن حويناها و ليس لأحد فيها نصيب و قال الذين خرجوا في طلب العدو : لستم بأحق به منا نحن نفينا منها العدو و هزمناهم و قال الذين أحدقوا برسول الله صلى الله عليه و سلم : خفنا أن يصيب العدو منه غرة فاشتغلنا به فأنزل الله : { يسألونك عن الأنفال قل الأنفال لله و أصلحوا ذات بينكم و أطيعوا الله و رسوله إن كنتم مؤمنين } فقسمها رسول الله : و كان رسول الله صلى الله عليه و سلم إذا أغار في أرض العدو نفل الربع فإذا أقبل راجعا نفل الثلث و كان يكره الأنفال
و قد روى الترمذي و ابن ماجه من حديث الثوري عن عبد الرحمن بن الحارث آخره و قال الترمذي : هذا حديث حسن و رواه ابن حبان في صحيحه و الحاكم في مستدركه من حديث عبد الرحمن و قال الحاكم : صحيح على شرط مسلم و لم يخرجه
و قد روى أبو داود و النسائي و ابن حبان و الحاكم من طرق عن داود بن أبي هند عن عكرمة عن ابن عباس قال : لما كان يوم بدر قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : من صنع كذا و كذا فسارع في ذلك شبان الرجال و بقي الشيوخ تحت الرايات فلما كانت الغنائم جاءوا يطلبون الذي جعل لهم قال الشيوخ : لا تستأثروا علينا فإنا كنا رداء لكم لو انكشفتم لفئتم إلينا فتنازعوا فأنزل الله تعالى { يسألونك عن الأنفال قل الأنفال لله و الرسول فاتقوا الله و أصلحوا ذات بينكم و أطيعوا الله و رسوله إن كنتم مؤمنين }
و قد ذكرنا في سبب نزول هذه الآية آثارا يطول بسطها هاهنا
و معنى الكلام : أن الأنفال مرجعها إلى الله و رسوله يحكمان فيها بما فيه المصلحة للعباد في المعاش و المعاد و لهذا قال تعالى : { قل الأنفال لله و الرسول فاتقوا الله و أصلحوا ذات بينكم و أطيعوا الله و رسوله إن كنتم مؤمنين } ثم ذكر ما وقع في قصة بدر و ما كان من الأمر حتى انتهى إلى قوله : { و اعلموا أن ما غنمتم من شئ فأن لله خمسه و للرسول و لذي القربى و اليتامى و المساكين و ابن السبيل } الآية فالظاهر أن الآية مبينة لحكم الله في الأنفال الذي جعل مرده إليه و إلى رسوله صلى الله عليه و سلم فبينه تعالى و حكم فيه بما أراد تعالى و هو قول أبي زبد
و قد زعم أبو عبيد القاسم بن سلام رحمه الله أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قسم غنائم بدر على السواء بين الناس و لم يحمسها ثم نزل بيان الخمس بعد ذلك ناسخا لما تقدم
و هكذا روى الوالبي عن ابن عباس و به قال مجاهد و عكرمة و السدى و في هذا نظر و الله أعلم فإن في سياق الآيات قبل آية الخمس و بعدها كلها في غزوة بدر فيقتضي أن ذلك نزل جملة في وقت واحد غير متفاصل بتأخر يقتضي نسخ بعضه بعضا
ثم في الصحيحين عن علي رضي الله عنه أنه قال في قصة شار فيه اللذين اجتب أسنمتهما حمزة أن إحداهما كانت من الخمس يوم بدر ما يرد صريحا على أبي عبيد أن غنائم بدر لم تخمس و الله أعلم بل خمست كما هو قول البخاري و ابن جرير و غيرهما و هو الصحيح الراجح و الله أعلم (2/466)
في رجوعه عليه السلام من بدر إلى المدينة و ما كان من الأمور في مسيره إليها مؤيدا منصورا عليه أفضل الصلاة و السلام
و قد تقدم أن الوقعة كانت يوم الجمعة السابع عشر من رمضان سنة اثنتين من الهجرة
و ثبت في الصحيحين أنه كان إذا ظهر على قوم أقام بالعرصة ثلاثة أيام و قد أقام عليه السلام بعرصة بدر ثلاثة أيام كما تقدم و كان رحيله منها ليلة الاثنين فركب ناقته و وقف على قليب بدر فقرع أولئك الذين سحبوا إليه كما تقدم ذكره
ثم سار عليه السلام و معه الأسارى و الغنائم الكثيرة و قد بعث عليه السلام بين يديه بشيرين إلى المدينة بالفتح و النصر و الظفر على من أشرك بالله و جحده و به كفر أحدهما عبد الله بن رواحة إلى أعالي المدينة و الثاني زيد بن حارثة إلى السافلة
قال أسامة بن زيد : فأتانا الخبر حين سوينا على رقية بنت رسول الله صلى الله عليه و سلم و كان زوجها عثمان بن عفان رضي الله عنه قد احتبس عندها يمرضها بأمر رسول الله صلى الله عليه و سلم و قد ضرب له رسول الله بسهمه و أجره في بدر
قال أسامة : فلما قدم أبي زيد بن حارثة جئته و هو وقف بالمصلى و قد غشيه الناس و هو يقول : قتل عتبة بن ربيعة و أبو جهل بن هشام وزمعة بن الأسود و أبو البخترى العاص بن هشام و أمية بن خلف و منبه ابنا الحجاج قال : قلت : يا أبة أحق هذا ؟ قال : إى و الله يابني (2/469)
و روى البيهقي من طريق حماد بن سلمة عن هشام بن عروة عن أبيه عن أسامة ابن زيد أن النبي صلى الله عليه و سلم خلف عثمان و أسامة بن زيد علي بنت رسول الله صلى الله عليه و سلم فجاء زيد بن حارثة على العضباء ناقة رسول الله صلى الله عليه و سلم بالبشارة قال أسامة : فسمعت الهيعة فخرجت فإذا زيد قد جاء بالبشارة فو الله ما صدقت حتى رأينا الأسارى و ضرب رسول الله صلى الله عليه و سلم لعثمان بسهمه و قال الواقدي : صلى رسول الله صلى الله عليه و سلم مرجعه من بدر العصر بالأثيل فلما صلى ركعة تبسم فسئل عن تبسمه فقال : يرى ميكائيل و على جناحه النقع فتبسم إلى و قال : إني كنت في طلب القوم و أتاه جبريل حين فرغ من قتال أهل بدر على فرس أنثى معقود الناصية و قد عصم ثنييه الغار فقال : يا محمد إن ربي بعثني إليك و أمرني ألا أفارقك حتى ترضى هل رضيت ؟ قال : نعم قال الواقدي : قالوا : و قدم رسول الله صلى الله عليه و سلم زيد بن حارثة و عبد الله ابن رواحة من الأثيل فجاءا يوم الأحد حين اشتد الضحى و فارق عبد الله بن رواحة زيد بن حارثة من العقيق فجعل عبد الله بن رواحة ينادي على راحلته : يا معشر الأنصار أبشروا بسلامة رسول الله صلى الله عليه و سلم و قتل المشركين و أسرهم قتل ابنا ربيعة و ابنا الحجاج و أبو جهل و قتل زمعة بن السود و أمية بن خلف و أسر سهيل بن عمرو
قال عاصم بن عدي : فقمت إليه فنحوته فقلت : أحقا يا بن رواحة ؟ فقال : إي و الله و غدا تقدم رسول الله صلى الله عليه و سلم بالأسرى مقرنين ثم تتبع دور الأنصار بالعالية يبشرهم دارا دارا و الصبان ينشدون معه يقولون : قتل أبو جهل الفاسق حتى إذا انتهى إلى دار بني أمية و قدم زيد بن حارثة على ناقة رسول الله صلى الله عليه و سلم القصواء يبشر أهل المدينة فلما جاء المصلى صاح على راحلته : قتل عتبة و شيبة ابنا ربيعة و ابنا الحجاج و قتل أمية بن خلف و أبو جهل و أبو البخترى و زمعة بن الأسود و أسر سهيل ابن عمرو ذو الأنياب في أسرى كثير فجعل بعض الناس لا يصدقون زيدا و يقولون : ما جاء زيد بن حارثة إلا فلا حتى غاظ المسلمين ذلك و خافوا و قدم زيد حين سوينا على رقية بنت رسول الله صلى الله عليه و سلم بالبقيع وقال رجل من المنافقين لسامة : قتل صاحبكم و من معه و قال آخر لأبي لبابة : قد تفرق أصحابكم تفرقا لا يجتمعون فيه أبدا و قد قتل عليه أصحابه قتل محمد و هذه ناقته نعرفها و هذا زيد لا يدري ماذا يقول من الرعب و جاء فلا فقال أبو لبابة : يكذب الله قولك و قالت اليهود : ما جاء زيد إلا فلا
قال أسامة : فجئت حتى خلوت بأبي فقلت : أحق ما تقول ؟ فقال : إى و الله حق ما أقول يا بني
فقويت نفسي و رجعت إلى ذلك المنافق فقلت : أنت المرجف برسول الله و بالمسلمين لنقدمنك إلى رسول الله إذا قدم فليضر بن عنقك فقال : إنما هو شئ سمعته من الناس يقولونه
قال : فجئ بالأسرى و عليهم شقران مولى رسول الله صلى الله عليه و سلم و كان قد شهد معهم بدرا و هم تسعة و أربعون رجلا الذين أحصوا
قال الواقدي : و هم سبعون في الأصل مجتمع عليه لا شك فيه (2/470)
قال : و لقى رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى الروحاء رؤس الناس يهنئون بما فتح الله عليه
فقال له أسيد بن الحضير : يا رسول الله الحمد لله الذي أظفرك و أقر عينك و الله يا رسول الله ما كان تخلفي عن بدر و أنا أظن أنك تلقى عدوا و لكن ظننت أنها عير و لو ظننت أنه عدو ما تخلفت
فقال رسول الله [ صدقت ]
قال ابن إسحاق : ثم أقبل رسول الله صلى الله عليه و سلم قافلا إلى المدينة و معه الأسارى و فيهم عقبة بن أبي معيط و النضر بن الحارث و قد جعل على النفل عبد الله بن كعب بن عمرو بن عوف بن مبذول بن عمرو بن غنم بن مازن بن النجار
فقال راجز من المسلمين قال ابن هشام : يقال إنه هو عدي بن أبي الزغباء :
( أقم لها صدورها يا بسبس ... ليس بذي الطلح لها معرس )
( و لا بصحراء عمير محبس ... إن مطايا القوم لا تحبس )
( فحملها على الطريق أكيس ... قد نصر الله وفر الأخنس )
قال : ثم أقبل رسول الله صلى الله عليه و سلم حتى إذا خرج من مضيق الصفراء نزل على كثيب بين المضيق و بين النازية يقال له سير إلى سرحة به فقسم هنالك النفل الذي أفاء الله على المسلمين من المشركين على السواء ثم ارتحل حتى إذا كان بالروحاء لقيه المسلمون يهنئونه بما فتح الله عليه و من معه من المسلمين فقال لهم سلمة بن سلامة بن وقش كما حدثني عاصم بن عمر و يزيد بن رومان : ما الذي تهنئوننا به ؟ ! و الله إن لقينا إلا عجائز صلعا كالبدن المعقلة فنحرناها فتبسم رسول الله صلى الله عليه و سلم ثم قال : [ أي ابن أخي أولئك الملأ ]
قال ابن هشام : يعني الأشراف و الرؤساء (2/472)
قال ابن إسحاق : حتى إذا كان رسول الله صلى الله عليه و سلم بالصفراء قتل النضر ابن الحارث قتله علي بن أبي طالب كما أخبرني بعض أهل العلم من أهل مكة خرج حتى إذا كان بعرق الظبية قتل عقبة بن أبي معيط
قال ابن إسحاق : فقال عقبة حين أمر رسول الله صلى الله عليه و سلم بقتله : فمن للظبية يا محمد ؟ قال : [ النار
! ]
و كان الذي قتله عاصم بن ثابت بن أبي الأقلح أخو بني عمرو بن عوف كما حدثني أبو عبيدة بن محمد بن عمار بن ياسر
و كذا قال موسى بن عقبة في مغازية و زعم أن رسول الله صلى الله عليه و سلم لم يقتل من الأساري أسيرا غيره
قال و لما أقبل إليه عاصم بن ثابت قال : يا معشر قريش علام أقتل من بين من هاهنا ؟
قال : على عداوتك الله و رسوله
و قال حماد بن سلمة عن عطاء بن السائب عن الشعيبي قال : لما أمر النبي صلى الله عليه و سلم بقتل عقبة قال : أتقتلني يا محمد من بين قريش ؟
قال : [ نعم أتدرون ما صنع هذا بي ؟ ] جاء و أنا ساجد خلف المقام فوضع رجله على عنقي و غمزها رفعها حتى ظننت أن عيني ستندران و جاء مرة أخرى بسلا شاة فألقاه على رأسي و أنا ساجد فجاءت فاطمة فغسلته عن رأسي
قال ابن هشام : و يقال بل قتل عقبة علي بن أبي طالب فيما ذكره الزهري و غيره من أهل العلم
قلت : كان هذان الرجلان من شر عباد الله و أكثرهم كفرا و عنادا و بغيا و حسدا و هجاء للإسلام و أهله لعنهما الله و قد فعل ! (2/473)
قال ابن هشام : فقالت قتيلة بني الحارث أخت النضر بن الحارث في مقتل أخيها
( يا راكبا إن الأثيل مظنة ... من صبح خامسة و أنت موفق )
( أبلغ بها ميتا بأن تحية ... ما إن تزال بها النجائب تخفق )
( مني إليك و عبرة مسفوحة ... جادت بوابلها و أخرى تخنق )
( هل يسمعن النضر إن ناديته ... أم كيف ميت لا ينطق )
( أمحمد يا خير ضئ كريمة ... من قومها و الفحل فحل معرق )
( ما كان ضرك لو مننت و ربما ... من الفتى و هو المغيظ المحنق )
( أو كان قابل فدية فلينفقن ... بأعز ما يغلو به ما ينفق )
( و النضر أقرب من أسرت قرابة و أحقهم إن كان عتق يعتق )
( ظلت سيوف بني أبيه تنوشه ... لله أرحام هنالك تشقق )
( صبرا يقاد إلى المنية متعبا ... رسف المقيد و هو عان موثق )
قال ابن هشام : و يقال و الله أعلم أن رسول الله صلى الله عليه و سلم لما بلغه هذا الشعر قال : [ لو بلغني هذا قبل قتله لمننت عليه ! ]
قال ابن إسحاق : و قد تلقى رسول الله صلى الله عليه و سلم بهذا الموضع أبو هند مولى فروة بن عمرو البياضي حجامة عليه السلام و معه زق خمر مملوء حيسا و هو التمر و السويق بالسمن هدية لرسول الله صلى الله عليه و سلم فقبله منه و وصى به الأنصار
قال ابن إسحاق : ثم مضى رسول الله صلى الله عليه و سلم حتى قدم المدينة قبل الأساري بيوم (2/474)
قال ابن إسحاق : و حدثني نبيه بن وهب أخو بني عبد الدار أن رسول الله صلى الله عليه و سلم حين أقبل بالأساري فرقهم بين أصحابه و قال : [ استوصوا بهم خيرا ]
قال : و كان أبو عزيز بن عمير بن هاشم أخو مصعب بن عمير لأبيه و أمه في الأساري قال أبو عزيز : مر بي أخي مصعب بن عمير و رجل من الأنصاري يأسرني فقال : شديديك به فإن أمه ذات متاع لعلها تفديه منك
قال أبو عزيز : فكنت في رهط من االأنصار حين أقبلوا بي من بدر فكانوا إذا قدموا غداءهم و عشاءهم خصوني بالخير و أكلوا التمر لوصية رسول الله صلى الله عليه و سلم إياهم بنا ما تقع في يد رجل منهم كسرة خبز إلا نفحني بها فأستحى فأردها فيردها على ما يمسيها !
قال ابن هشام : و كان أبو عزيز هذا صاحب لواء المشركين ببدر بعد النضر بن الحارث و لما قال أخوه مصعب لأني اليسر و هو الذي أسره ما قال قال له أبو عزيز : يا أخي هذه و صاتك بي ! فقال له مصعب : إنه أخي دونك
فسألت أمه عن أغلى ما فدى به قريش فقيل لها : أربعة آلاف درهم فبعث بأربعة آلاف درهم ففدته بها
قلت : و أبو عزيز هذا اسمه زرارة فيما قاله ابن الأثير في غابة الصحابة وعده خليفة بن خياط في أسماء الصحابة و كان أخا مصعب بن عمير لأبيه و كان لهما أخ آخر لأبويهما و هو أبو الروم بن عمير و قد غلط من جعله قتل يوم أحد كافرا ذاك أبو عزة كما سيأتي في موضعه و الله أعلم
قال ابن إسحاق : حدثني عبد الله بن أبي بكر أن يحيى بن عبد الله بن عبد الرحمن ابن سعد بن زرارة قال : قدم بالأساري حين قدم بهم و سودة بنت زمعة زوج النبي صلى الله عليه و سلم عند آل عفراء في مناحتهم على عوف و معوذ ابني عفراء قال : و ذلك قبل أن يضرب عليهن الحجاب قال : تقول سودة : و الله لعندهم إذ أتينا فقيل : هؤلاء الأساري قد أتى بهم قالت : فرجعت إلى بيتي و رسول الله صلى الله عليه و سلم فيه و إذا أبو زيد سهيل بن عمرو في ناحية الحجرة مجموعة يداه إلى عنقه بحبل قالت : فلا و الله ما ملكت نفسي حين رأيت أبا يزيد كذلك أن قلت : أي أبا يزيد أعطيتم بأيديكم ألا متم كراما ؟ !
فو الله ما أنبهني إلا قول رسول الله صلى الله عليه و سلم من البيت : [ يا سودة أعلى الله و على رسوله تحرضين ! ! ] قال : قلت : يا رسول الله و الذي بعثك بالحق ما ملكت نفسي حين رأيت أبا يزيد مجموعة يداه إلى عنقه أن قلت ما قلت
ثم كان من قصة الأساري بالمدينة ما سيأتي بيانه و تفصيله فيما بعد من كيفية فدائهم و كميته إن شاء الله (2/475)
قال الحافظ البيهقي : أخبرنا أبو القاسم عبد الرحمن بن عبيد الله الحرفي ببغداد حدثنا أحمد بن سليمان النجاد حدثنا عبد الله بن أبي الدنيا حدثني حمزة بن العباس حدثنا عبدان بن عثمان حدثنا عبد الله بن المبارك أخبرنا عبد الرحمن بن يزيد عن جابر عن عبد الرحمن رجل من أهل صنعاء قال أرسل النجاشي ذات يوم إلى جعفر بن أبي طالب و أصحابه فدخلوا عليه و هو في بيت عليه خلقان ثياب جالس على التراب
قال جعفر : فأشفقنا منه حسين رأيناه على تلك الحال فلما أن رأى ما في وجوهنا قال : إني أبشركم بما يسركم إنه جاءني من نحو أرضكم عين لي فأخبرني أن الله قد نصر نبيه و أهلك عدوه و أسر فلان و فلان و قتل فلان و فلان التقوا بواد يقال له بدر كثير الأراك كأني أنظر إليه كنت أرعى لسيدي رجل من بني ضمرة إبله
فقال له جعفر : ما بالك جالسا على التراب ليس تحتك بساط و عليك هذه الأخلاط ؟
قال : إنا نجد فيما أنزل الله على عيسى : إن حقا على عباد الله أن يحدثوا لله تواضعا عند ما يحدث لهم من نعمة فلما أحدث الله لي نصر نبيه صلى الله عليه و سلم أحدث له هذا التواضع (2/467)
قال ابن إسحاق : و كان أول من قدمه مكة بمصاب قريش الحسيمان بن عبد الله الخزاعي فقالوا له : ما وراءك ؟ قال : قتل عتبة بن ربيعة و شيبة بن ربيعة و أبو الحكم ابن هشام و أمية بن خلف و زمعة بن الأسود و نبيه و منبه و أبو البختري ابن هشام
فلما جعل يعدد أشراف قريش قال صفوان بن أمية : و الله لن يعقل هذا فسلوه عني فقالوا : ما فعل صفوان بن أمية ؟ قال هو ذاك جالسا في الحجر قد و الله رأيت أباه و أخاه حين قتلا
قال موسى بن عقبة : و لما وصل الخبر إلى أهل مكة و تحققوه قطعت النساء شعورهن و عقرت خيول كثيرة و رواحل
و ذكر السهيلي عن كتاب الدلائل لقاسم بن ثابت أنه قال لما كانت وقعة بدر سمع أهل مكة هاتفا من الجن يقول :
( أزار الحنيفيون بدرا وقيمة ... سينقض منها ركن كسرى و قصيرا )
( أبادت رجالا من لؤي و أبرزت ... خرائد يضر بن الترائب حسرا )
( فيا ويح من أمسى عدو محمد ... لقد جار عن قصد الهدى و تحيرا ) (2/477)
قال ابن إسحاق : و حدثني حسين بن عبد الله بن عبيد الله بن عباس عن عكرمة مولى ابن عباس قال : قال أبو رافع مولى رسول الله صلى الله عليه و سلم : كنت غلاما للعباس بن عبد المطلب و كان الإسلام قد دخلنا أهل البيت فأسلم العباس وأسلمت أم الفضل و أسلمت و كان العباس يهاب قومه و يكره خلافهم و كان يكتم إسلامه و كان ذا مال كثير متفرق في قومه و كان أبو لهب قد تخلف عن بدر فبعث مكانه العاص ابن هشام بن المغيرة و كذلك كانوا صنعوا لم يتخلف منهم رجل إلا بعث مكانه رجلا
فلما جاءه الخبر عن مصاب أصحاب بدر من قريش كتبه الله و أخزاه و وجدنا في أنفسنا قوة و عزا قال : و كنت رجلا ضعيفا و كنت أعمل الأقداح أنحتها في حجرة زمزم فو الله إني لجالس فيها أنحت أقداحي و عندي أم الفضل جالسة و قد سرنا ما جاءنا من الخبر إذا أقبل أبو لهب يجر رجليه بشر حتى جلس على طنب الحجرة فكان ظهره إلى ظهري فبينا هو جالس إذا قال الناس : هذا أبو سفيان و اسمه المغيرة بن الحارث بن عبد المطلب قد قدم قال : فقال أبو لهب : هلم إلي فعندك لعمري الخبر
قال : فجلس إليه و الناس قيام عليه فقال : يا ابن أخي أخبرني كيف كان أمر الناس ؟
قال : و الله ما هو إلا أن لقينا القوم فمنحناهم أكتافنا يقتلوننا كيف شاؤوا و يأسروننا كيف شاؤوا و ايم الله مع ذلك ما لمت الناس لقينا رجالا بيضا على خيل بلق بين السماء و الأرض و الله ما تليق شيئا و لا يقوم لها شئ
قال أبو رافع : فرفعت طنب الحجرة بيدي ثم قلت : تلك و الله الملائكة !
قال فرفع أبو لهب يده فضرب وجهي ضربة شديدة قال و ثاورته فاحتملني و ضرب بي الأرض ثم برك علي يضربني و كنت رجلا ضعيفا فقامت أم الفضل إلى عمود من عمد الحجرة فأخذته فضربته به ضربة فبلغت في رأسه شجة منكرة و قالت : استضعفته أن غاب عنه سيده !
فقام موليا ذليلا فو الله ما عاش إلا سبع ليال حتى رماه الله بالعدسة فقتله
زاد يونس عن ابن إسحاق : فلقد تركه ابناه بعد موته ثلاثا ما دفناه حتى أنتن
و كانت قريش تتقى هذه العدسة كما تتقى الطاعون حتى قال لهم رجل من قريش : و يحكما ألا تستحيان أباكما قد أنتن في بيته لا تدفنانه ؟ فقالا : إنا نحشى عدوة هذه القرحة فقال : انطلقا فأنا أعنيكما عليه فو الله ما غسلوه إلا قذفا بالماء عليه من بعيد ما يدنون منه ثم احتملوه إلى أعلى مكة فلأسنده إلى جدار ثم رضموا عليه بالحجارة
قال يونس عن ابن إسحاق : [ و حدثني يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير عن أبيه عن عائشة أم المؤمنين أنها كانت لا تمر على مكان أبي لهب هذا إلا تسترت بثوبها حتى تجوز ]
قال ابن إسحاق : و حدثني يحيى بن عباد قال : ناحت قريش على قتلاهم ثم قالوا : لا تفعلوا يبلغ محمدا و أصحابه فيشتموا بكم و لا تبعثوا في أسراكم حتى تستأنسوا بهم لا يأرب عليكم محمد و أصحابه في الفداء
قلت : و كان هذا من تمام ما عذب الله به أحياءهم في ذلك الوقت و هو تركهم النوح على قتلاهم فإن البكاء على الميت مما يبل فؤاد الحزين
قال ابن إسحاق : و كان الأسود بن المطلب قد أصيب له ثلاثة من ولده زمعة و عقيل و الحارث و كان يجب أن يبكي على بينه قال : فبينهما هو كذلك إذ سمع نائحة من الليل فقال لغلام له و كان قد ذهب بصره انظر هل أحل النحب ؟ هل بكت قريش على قتلاها ؟ لعلى أبكي على حكيمة يعني ولده زمعة فإن جوفي قد احترق ! (2/478)
قال : فلما رجع إليه الغلام قال إنما هي امرأة تبكي على بعير لها أضلته قال فذاك حين يقول الأسود :
( أتبكي أن أضل لها بعير ... و يمنعها من النوم السهود )
( فلا تبكي على بكر و لكن ... على بدر تقاصرت الجدود )
( على بدر سراة بني هصيص ... و مخزوم و رهط أبي الوليد )
( و بكى إن بكيت أبا عقيل ... و بكى حارثا أسد الأسود )
( و بكيهم و لا تسمى جميعا ... و ما لأبي حكيمة من نديد )
( ألا قد ساد بعدهم رجال ... و لو لا يوم بدر لم يسودوا ) (2/480)
في بعث قريش إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فداء أسراهم
قال ابن إسحاق و كان في الأسارى أبو وداعة بن ضبيرة السهمي فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ إن له بمكة ابنا كيسا تاجرا ذا مال و كأنهم به جاء في طلب فداء أبيه ] فلما قالت قريش : لا تعجلوا بفداء أسراكم لا يأرب عليكم محمد و أصحابه قال المطلب بن أبي وداعة و هو الذي كان رسول الله صلى الله عليه و سلم عني : صدقتم لا تعجلوا و انسل من الليل و قدم المدينة فأخذه أباه بأربعة آلاف درهم فانطلق به (2/481)
قلت : و كان هذا أول أسير فدى ثم بعثت قريش في فداء أسرهم فقدم مكرز ابن حفص بن الأخيف في فداء سهيل بن عمرو و كان الذي أسره مالك بن الدخشم أخو بني سالم بن عوف فقال في ذلك :
( أسرت سهيلا فلا أبتغي ... أسيرا به من جميع الأمم )
( و خندف تعلم أن الفتى ... فتاها سهيل إذا يظلم )
( ضربت بذي الشفر حتى انثنى ... و أكرهت نفسي على ذي العلم )
قال ابن إسحاق : و كان سهيل رجلا أعلم من شفته السفلي
قال ابن إسحاق : و حدثني محمد بن عطاء أخو بني عامر بن لؤي أن عمر ابن الخطاب قال لرسول الله صلى الله عليه و سلم : دعني أنزع ثنية سهيل بن عمرو يدلع لسانه فلا يقوم عليك خطيبا في موطن أبدا فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ لا أمثل به فيمثل الله بي و إن كنت نبيا ]
قلت : هذا حديث مرسل بل معضل
قال ابن إسحاق : و قد بلغني أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال لعمر في هذا : [ إنه عسى أن يقوم مقاما لا تذمه ]
قلت : و هذا هو المقام الذي قامه سهيل بمكة حين مات رسول الله صلى الله عليه و سلم و ارتد من العرب و نجم النفاق بالمدينة و غيرها فقام بمكة فخطب الناس و ثبتهم على الدين الحنيف كما سيأتي في موضعه
قال ابن إسحاق : فلما قاولهم فيه مكرز و انتهى إلى رضائهم قالوا : هات الذي لنا قال : اجعلوا رجلي مكان رجله و خلوا سبيله حتى يبعث إليكم بفدائه فخلوا سبيل سهيل و حبسوا مكرزا عندهم
و أنشد له ابن إسحاق في ذلك شعرا أنكره ابن هشام فالله أعلم
قال ابن إسحاق : و حدثني عبد الله بن أبي بكر قال : و كان في الأسارى عمرو بن أبي سفيان صخر بن حرب
قال ابن إسحاق : و كانت أمه بنت عقبة بن أبي معيط قال ابن هشام : بل كانت أمه أخت أبي معيط
قال ابن هشام : و كان الذي أسره علي بن أبي طالب (2/481)
قال ابن إسحاق : و حدثني عبد الله بن أبي بكر قال : فقيل لأبي سفيان : افد عمرا ابنك قال : أيجتمع على دمي و مالي ! قتلوا حنظلة و أفدي عمرا ؟ دعوه في أيديهم يمسكوه ما بدا لهم
قال : فبينما هو كذلك محبوس بالمدينة إذ حرج سعد بن النعمان بن أكال أخويني عمرو بن عوف ثم أحد بني معاوية معتمرا و معه مرية له و كان شيخا مسلما في غنم له بالبقيع فخرج من هنالك معتمرا و لم يظن أنه يحبس بمكة إنما جاء معتمرا و قد كان عهد قريش أن قريشا لا يعرضون لأحد جاء حاجا أو معتمرا إلا بخير فعدا عليه أبو سفيان بن حرب بمكة فحبسه بابنه عمرو و قال في ذلك :
( أرهط ابن أكال أجيبوا دعاءه ... تعاقدتم لا تسلموا السيد الكهلا )
( فإن بني عمرو لئام أذلة ... لئن لم يكفوا عن أسيرهم الكبلا )
قال : فأجابه حسان بن ثابت يقول :
( لو كان سعد يوم مكة مطلقا ... لأكثر فيكم قبل أن يؤسر القتلا )
( بعضب حسام أو بصفراء نبعة ... تحن إذا ما أنضبت تحفز النبلا )
قال : و مشى بنو عمرو بن سفيان بن عوف إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فأخبره خبره و سألوه أن يعطيهم عمرو بن أبي سفيان فيفكوا به صاحبهم فأعطاهم النبي فبعثوا به إلى أبي سفيان فخلى سبيل سعد
قال ابن إسحاق : و قد كان في الأسارى أبو العاص بن الربيع بن عبد العزى بن عبد شمس بن أمية ختن رسول الله صلى الله عليه و سلم و زوج ابنته زينب قال ابن هشام : و كان الذي أسره خراش بن الصمة أحد بني حرام
قال ابن إسحاق : و كان أبو العاص من رجال مكة المعدودين مالا و أمانة و تجارة و كانت أمه هالة بنت خويلد أخت خديجة بنت خويلد و كانت خديجة هي التي سألت رسول الله صلى الله عليه و سلم أن يزوجه بابنتها زينب و كان لا يخالفها و ذلك قبل الوحى
و كان عليه السلام قد زوج ابنته رقية أو أم كلثوم من عتبة بن أبي لهب فلما جاء الوحي قال أبو لهب : اشغلوا محمدا بنفسه و أمر ابنه عتبة فطلق ابنة رسول الله صلى الله عليه و سلم قبل الدخول فتزوجها عثمان بن عفان رضي الله عنه و مشوا إلى أبي العاص فقالوا : فارق صاحبتك و نحن نزوجك بأي امرأة من قريش شئت قال : لا و الله إذا لا أفارق صاحبتي و ما أحب أن لي بامرأتي امرأة من قريش و كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يثني عليه في صهره فيما بلغني
قلت : الحديث بذلك في الثناء عليه في صهره ثابت في الصحيح كما سيأتي
قال ابن إسحاق : و كان رسول الله صلى الله عليه و سلم لا يحل بمكة و لا يحرم مغلوبا و كان الإسلام قد فرق بين زينب ابنة رسول الله صلى الله عليه و سلم و بين أبي العاص و كان لا يقدر على أن يفرق بينهما
قلت : إنما حرم الله المسلمات على المشركين عام الحديبية سنة ست من الهجرة كما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى (2/482)
قال ابن إسحاق : حدثني يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير عن أبيه عن عائشة قالت : لما بعث أهل مكة في فداء أسراهم بعثت زينب بنت رسول الله في فداء أبي العاص بمال و بعثت فيه بقلادة لها كانت خديجة أدخلتها بها على أبي العاص حين بنى عليها
قالت : فلما رآها رسول الله صلى الله عليه و سلم رق لها رقة شديدة و قال : [ إن رأيتم أن تطلقوا لها أسيرها و تردوا الذي لها فافعلوا ] قالوا : نعم يا رسول الله فأطلقوه و ردوا عليها الذي لها (2/484)
قال ابن إسحاق : فكان ممن سمى لنا ممن من عليه رسول الله صلى الله عليه و سلم من الأساري بغير فداء من بني أمية : أبو العاص بن ربيع و من بني مخزوم المطلب بن حنطب بن الحارث بن عبيدة بن مخزوم أسره بعض بني الحارث بن الخزرج فترك في أيديهم حتى خلوا سبيله فلحق بقومه
قال ابن إسحاق : و قد كان رسول الله صلى الله عليه و سلم قد أخذ عليه أن يخلي سبيل زينب يعني أن تهاجر إلى المدينة فوفى أبو العاص بذلك كما سيأتي و قد ذكر ذلك ابن إسحاق هاهنا فأخرنا لأنه أنسب و الله أعلم
و قد تقدم ذكر افتداء العباس بن عبد المطلب عم النبي صلى الله عليه و سلم نفسه و عقيلا و نوفلا بني أخويه بمائة أوقية من الذهب
و قال ابن هشام : كان الذي أسر أبا العاص أبو أيوب خالد بن زيد قال ابن إسحاق : و صيفي بن أبي رفاعة بن عائذ بن عبد الله بن عمر بن مخزوم ترك في أيدي أصحابه فأخذوا عليه ليبعثن لهم بفدائه فخلوا سبيله و لم يف لهم قال حسان بن ثابت في ذلك :
( ما كان صيفي ليوفي أمانة ... قفا ثعلب أعيا ببعض الموارد ) (2/484)
قال ابن إسحاق : و أبو عزة بن عبد الله بن عثمان بن أهيب بن حذافة بن جمح كان محتاجا ذا بنات قال : يا رسول الله لقد عرفت مالي من مال و إني لذو حاجة و ذو عيال فامنن علي عليه رسول الله صلى الله عليه و سلم و أخذ عليه ألا يظاهر عليه أحدا فقال أبو عزة يمدح رسول الله صلى الله عليه و سلم على ذلك :
( من مبلغ عني الرسول محمدا ... بأنك حق و المليك حميد )
( و أنت امرؤتدعو إلى الحق و الهدى ... عليك من الله العظيم شهيد )
( و أنت امرؤبوئب فينا مباءة ... لها درجات سهلة و صعود )
( فإنك من حاربته لمحارب ... شقي و من سالمته لسعيد )
( و لكن إذا ذكرت بدرا و أهله ... تأوب ما بي حسرة و قعود )
قلت : ثم إن أبا عزة هذا نقض ما كان عاهد الرسول عليه و لعب المشركين بعقله فرجع إليهم فلما كان يوم أحد أسر أيضا فسأل من النبي صلى الله عليه و سلم أن يمن عليه أيضا فقال النبي صلى الله عليه و سلم : [ لا أدعك تمسح عارضيك و تقول : خدعت محمد مرتين ! ] ثم أمر به فضربت عنقه كما سيأتي في غزوة أحد
و يقال : إن فيه قال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين ] و هذا من الأمثال التي لم تسمع إلا منه عليه السلام (2/485)
قال ابن إسحاق : و حدثني محمد بن جعفر بن الزبير قال : جلس عمير بن وهب الجمحي مع صفوان بن أمية في الحجر بعد مصاب أهل بدر بيسير و كان عمير بن وهب شيطانا من شياطين قريش و ممن كان يؤذي رسول الله صلى الله عليه و سلم و أصحابه و يلقون منه عناء و هو بمكة و كان ابنه و هب بن عمير في إساري بدر
قال ابن هشام : و الذي أسره رفاعة بن رافع أحد بني زريق
قال ابن إسحاق : فحدثني محمد بن جعفر عن عروة فذكر أصحاب القليب و مصابهم فقال صفوان : و الله ما إن في العيش [ بعدهم ] خير قال له عمير صدقت أما و الله لولا علي ليس عندي قضاؤه و عيال أخشى عليهم الضيعة بعدي لركبت إلى محمد حتى أقتله فغن لي فيهم علة ابني أسير في أيديهم
قال : فاغتنمها صفوان بن أمية فقال : على دينك أنا أقضيه عنك و عيالك مع عيالي أواسيهم ما بقوا لا يسعني شيء و يعجز عنهم
فقال له عمير : فاكتم على شأني و شأنك قال : سأفعل
قال : ثم أمر عمير بسيفه فشحذ له و سم ثم انطلق حتى قدم المدينة فبينما عمر بن الخطاب في نفر المسلمين يتحدثون عن يوم بدر ويذكرون ما أكرمهم الله به و ما أراهم في عدوهم إذ نظر عمر إلى عمير بن وهب و قد أناخ على باب المسجد متوشحا السيف فقال : هذا الكلب عدو الله عمير بن وهب ما جاء إلا لشر و هو الذي حرش بيننا و حزرنا للقوم يوم بدر ثم دخل على رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : يا نبي الله هذا عدو الله عمير بن وهب قد جاء متوشحا سيفه قال : فأدخله علي قال : فأقبل عمر حتى أخذ بحمالة سيفه في عنقه فلببه بها و قال لمن معه من الأنصار : ادخلوا على رسول الله صلى الله عليه و سلم فاجلسوا عنده و احذروا عليه من هذا الخبيث فإنه غير مأمون ثم دخل به على رسول الله صلى الله عليه و سلم فلما رآه رسول الله و عمر آخذ بحمالة سيفه في عنقه قال : [ أرسله يا عمر ادن يا عمير ] فدنا ثم قال : أنعم صباحا و كانت تحية أهل الجاهلية بينهم فقال رسول الله : [ قد أكرمنا الله بتحية خير من تحيتك يا عمير بالسلام تحية أهل الجنة ] قال : أما و الله يا محمد إن كنت بها لحديث عهد
قال : [ فما جاء بك يا عمير ؟ ] قال : جئت لهذا الأسير الذي في أيديكم فأحسنوا فيه
قال : [ فما بال السيف في عنقك ؟ ]
قال : قبحها الله من سيوف و هل أغنت شيئا !
قال : [ اصدقني ما الذي جئت له ؟ ] قال : ما جئت إلا لذلك
[ قال : بل قعدت أنت و صفوان بن أمية في الحجر فذكرتما أصحاب القليب من قريش ثم قلت : لولا دين علي و عيال عندي لخرجت حتى أقتل محمدا فتحمل لك صفوان بن أمية بدينك و عيالك على أن تقتلني له و الله حائل بينك و بين ذلك ]
فقال عمير : أشهد أنك رسول الله قد كنا يا رسول الله نكذبك بما كنت تأتينا به من خبر السماء و ما ينزل عليك من الوحي و هذا أمر لم يحضره إلا أنا و صفوان فو الله إني لأعلم ما أتاك به إلا الله فالحمد لله الذي هداني للإسلام و ساقني هذا المساق
ثم شهد شهادة الحق
[ فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم فقهوا أخاكم في دينه و علموه القرآن و أطلقوا أسيره ] ففعلوا
ثم قال : يا رسول الله إني كنت جاهدا على إطفاء نور الله شديد الأذى لمن كان على دين الله و أنا أحب أن تأذن لي فأقدم مكة فأعودهم إلى الله و إلى رسوله و إلى الإسلام لعل الله يهديهم و إلا آذيتهم في دينهم كما كنت أو ذي أصحابك في دينهم
فأذن له رسول الله صلى الله عليه و سلم فلحق بمكة
و كان صفوان حين خرج عمير بن وهب يقول : أبشروا بوقعة تأتيهم الآن في أيام تنسيكم وقعة بدر
و كان صفوان يسأل عنه الركبان حتى قدم راكب فأخبره عن إسلامه فخلف ألا يكلمه أبدا و لا ينفعه بنفع أبدا
قال ابن إسحاق : فلما قدم عمير مكة أقام بها يدعو إلى الإسلام و يؤذي من خالفه أذى شديدا فأسلم على يديه ناس كثير
قال ابن إسحاق : و عمير بن وهب أو الحارث بن هشام هو الذي رأى عدو الله إبليس حين نكص على عقبيه يوم بدر و فر هاربا و قال : إني برئ منكم إني أرى ما لا ترون و كان إبليس يومئذ في صورة سراقة بن مالك بن جعشم أمير مدلج
ثم إن الإمام محمد بن إسحاق رحمة الله تكلم على ما نزل من القرآن في قصة بدر و هو من أول سورة الأنفال إلى آخرها فأجاد و أفاد و قد تقصينا الكلام على ذلك في كتابنا التفسير فمن أراد الاطلاع على ذلك فلينظره ثم و لله الحمد و المنة
ثم شرع ابن إسحاق في تسمية من شهد بدرا من المسلمين فسرد أسماء من شهدها من المهاجرين أولا ثم أسماء من شهدها من الأنصار أو سها و خزرجها إلى أن قال : فجميع من شهد بدرا من المسلمين من المهاجرين و الأنصار من شهدها و من ضرب له بسهمه و أجره ثلاثمائة رجل و أربعة عشر رجلا
من المهاجرين ثلاثة و ثمانون
و من الأوس : أحد و ستون رجلا و من الخزرج : مائة و سبعون رجلا
و قد سردهم البخاري في صحيحه مرتبين على حروف المعجم بعد البداءة برسول الله صلى الله عليه و سلم ثم بأبي بكر و عثمان و علي رضي الله عنهم
و هذه تسمية من شهد بدرا من المسلمين مرتبين على حروف المعجم و ذلك من كتاب الأحكام الكبير للحافظ ضياء الدين محمد بن عبد الواحد المقدسي و غيره بعد البداءة باسم رئيسهم و فخرهم و سيد ولد آدم محمد رسول الله صلى الله عليه و سلم (2/486)
أسماء أهل بدر مرتبة على حروف المعجم (2/490)
أبي بن كعب النجاري سيد القراء الأرقم بن أبي الأرقم وأبو الأرقم عبد مناف ابن أسد بن عبد الله بن عمر بن مخزوم المخزومي أسعد بن يزيد بن خلدة بن عامر بن العجلان
أسود بن زيد بن ثعلبة بن عبيد بن غنم كذا قال موسى بن عقبة وقال الأموي : سواد بن رزام بن ثعلبة بن عبيد بن عدي شك فيه و قال سلمة بن الفضل عن ابن إسحاق : سواد بن زريق بن ثعلبة و قال ابن عائذ : سواد بن زيد
أسير بن عمرو الأنصاري أبو سليط و قيل أسير بن عمرو بن أمية بن لوذان بن سالم بن ثابت الخزرجي و لم يذكره موسى بن عقبة
أنس بن قتادة بن ربيعة بن خالد بن الحارث الأوسي كذا سماه موسى بن عقبة و [ سماه ] الأموي في السيرة : أنيس
قلت : و أنس بن مالك خادم النبي صلى الله عليه و سلم لما روى عمر بن شبة النميري حدثنا محمد بن عبد الله الأنصاري عن أبيه عن ثمامة بن أنس قال : قيل لأنس بن مالك أشهدت بدرا ؟ قال : و أين أغيب عن بدر لا أم لك !
وقال محمد بن سعد : أخبرنا محمد بن عبد الله الأنصاري حدثنا أبي عن مولى لأنس ابن مالك أنه قال لأنس : شهدت بدرا ؟ قال : لا أم لك ! وأين أغيب عن بدر
قال محمد بن عبد الله الأنصاري : خرج أنس بن مالك مع رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى بدر و هو غلام يخدمه
قال شيخنا الحافظ أبو الحجاج المزي في تهذيبه : هكذا قال الأنصاري و لم يذكر ذلك أحد من أصحاب المغازي
أنس بن معاذ بن أنس بن قيس بن عبيد بن زيد بن معاوية بن عمرو بن مالك بن النجار أنسة الحبشي مولى رسول الله صلى الله عليه و سلم أوس بن ثابت بن المنذر النجاري
أوس بن خولى بن عبد الله بن الحارث بن عبيد بن مالك بن سالم بن غنم بن عوف بن الخزرج الخزرجي و قال موسى بن عقبة : أوس بن عبد الله بن الحارث بن خولى أوس بن الصامت الخزرجي أخو عبادة بن الصامت إياس بن البكير بن عبد ياليل بن ناشب بن غيرة بن سعد بن ليث بن بكر حليف بني عدي بن كعب (2/490)
بجير بن أبي بجير حليف بني النجار تحاث بن ثعلبة بن خزمة بن أصرم بن عمرو بن عمارة البلوى حليف الأنصار بسبس بن عمرو بن ثعلبة بن خرشة بن زيد ابن عمرو بن سعيد بن ذبيان بن رشدان بن قيس بن جهينة الجهني حليف بني ساعدة و هو أحد العينين هو و عدي بن أبي الزغباء كما تقدم بشر بن البراء بن معرور الخزرجي الذي مات بخيبر من الشاة المسمومة بشير بن سعد بن ثعلبة الخزرجي والد النعمان بن بشير و يقال إنه أول من بايع الصديق بشير بن عبد المنذر أبو لبابة الأوسي رده عليه السلام من الروحاء و استعمله على المدينة و ضرب له بسهمه و أجره
حرف التاء
تميم بن يعار بن قيس بن عدي بن أمية بن جدارة بن عوف بن الحارث بن الخزرج تميم مولى خراش بن الصمة تميم مولى بني غنم بن السلم و قال ابن هشام : هو مولى سعد بن خيثمة (2/491)
ثابت بن أقرم بن ثعلبة بن عدي بن العجلان ثابت بن ثعلبة و يقال لثعلبة هذا : الجذع بن زيد بن الحارث بن حرام بن غنم بن كعب بن سلمة
ثابت بن خالد بن النعمان بن خنساء بن عمرو بن مالك بن عدي بن عامر بن غنم بن عدي بن النجار النجاري
ثابت بن عمرو بن زيد بن عدي بن سواد بن مالك بن غنم بن عدي بن النجار النجاري ثابت بن هزال الخزرجي ثعلبة بن حاطب بن عمرو بن عبيد بن أمية بن زيد بن مالك بن الأوس ثعلبة بن عمرو بن عبيد بن مالك النجاري ثعلبة بن عمرو ابن محصن الخزرجي ثعلبة بن عنمة بن عدي بن نابي السلمي ثقف بن عمرو من بني حجر آل بني سليم و هو من حلفاء بني غنم بن دودان بن أسد
حرف الجيم
جابر بن خالد بن [ مسعود بن ] عبد الأشهل بن حارثة بن دينار بن النجار النجاري جابر بن عبد الله بن رئاب بن النعمان بن سنان بن عبيد بن عدي بن غنم بن كعب بن سلمة السلمي أحد الذين شهدوا العقبة
قلت : فأما جابر بن عبد الله بن عمرو بن حرام السلمي أيضا فذكره البخاري فيهم في مسند عن سعيد بن منصور عن أبي معاوية عن الأعمش عن أبي سفيان عن جابر قال : كنت أمتح لأصحابي الماء يوم بدر
و هذا الإسناد على شرط مسلم لكن قال محمد بن سعد : ذكرت لمحمد بن عمر يعني الواقدي هذا الحديث فقال : هذا وهم من أهل العراق و أنكر أن يكون جابر شهد بدرا
و قال الإمام أحمد بن حنبل : حدثنا روح بن عبادة حدثنا زكريا بن إسحاق حدثنا أبو الزبير أنه سمع جابر بن عبد الله يقول : غزوت مع رسول الله صلى الله عليه و سلم تسع عشرة غزوة و لم أشهد بدرا و لا أحدا منعني أبي فلما قتل أبي يوم أحد لم أتخلف عن رسول الله صلى الله عليه و سلم عن غزاة
و رواه مسلم عن أبي خيثمة عن روح
جبار بن صخر السلمي جبر بن عتيك الأنصاري جبير بن إياس الخزرجي (2/492)
الحارث بن أنس بن رافع الخزرجي الحارث بن أوس بن معاذ بن أخي سعد بن معاذ الأوسي الحارث بن حاطب بن عمرو بن عبيد بن أمية بن زيد بن مالك بن الأوس رده عليه السلام من الطريق و ضرب له بسهمه و أجره الحارث بن خزمة بن عدي بن أبي غنم ابن سالم بن عوف بن عمرو بن عوف بن الخزرج حليف لبني زعورا بن عبد الأشهل الحارث بن الصمة الخزرجي رده عليه السلام لأنه كسر من الطريق و ضرب له بسهمه و أجره الحارث بن عرفجة الأوسي الحارث بن قيس بن خلدة أبو خالد الخزرجي الحارث ابن النعمان بن أمية الأنصاري حارثة بن سراقة النجاري أصابه سهم غرب و هو في النظارة فرفع إلى الفردوس حارثة بن النعمان بن رافع الأنصاري حاطب بن أبي بلتعة اللخمي حليف بني أسد بن عبد العزى بن قصي
حاطب بن عمرو بن عبيد بن أمية الأشجعي من بني دهمان هكذا ذكره ابن هشام عن غير ابن إسحاق و قال الواقدي : حاطب بن عمرو بن عبد شمس بن عبد ود كذا ذكره ابن عائذ في مغازيه و قال ابن أبي حاتم : حاطب بن عمرو بن عبد شمس سمعته من أبي و قال : هو رجل مجهول
الحباب بن المنذر الخزرجي و يقال كان لماء الخزرج معه يومئذ
حبيب بن أسود مولى بني سلمة و قال موسى بن عقبة : حبيب ابن سعد بدل أسود و قال ابن حاتم : حبيب بن أسلم مولى آل جشم بن الخزرج أنصاري بدرى
حريث بن زيد بن ثعلبة بن عبد ربه الأنصاري أخو عبد الله بن زيد الذي أرى النداء الحصين بن الحارث بن المطلب بن عبد مناف حمزة بن عبد المطلب بن هاشم عم رسول الله صلى الله عليه و سلم (2/493)
خالد بن البكير أخو إياس المتقدم خالد بن زيد أبو أيوب النجاري خالد بن قيس بن مالك بن العجلان الأنصاري خارجة بن الحمير حليف بني خنساء من الخزرج و قيل اسمه حارثة بن الحمير و سماه ابن عائذ خارجة فالله أعلم خارجة بن زيد الخزرجي صهر الصديق خباب بن الأرث حليف بني زهرة و هو من المهاجرين الأولين و أصله من بني تميم و يقال من خزاعة خباب مولى عتبة بن غزوان من المهاجرين الأولين خراش بن الصمة السلمي خبيب بن إساف بن عنبة الخزرجي خريم بن فاتك ذكره البخاري فيهم خليفة بن عدي الخزرجي خليد بن قيس بن النعمان بن سنان بن عبيد الأنصاري السلمي خنيس بن حذافة بن قيس بن عدي بن سعد بن سهم بن عمرو بن هصيص بن كعب بن لؤي السهمي قتل يومئذ فتأيمت منه حفصة بنت عمرو بن الخطاب خوات بن جبير الأنصاري ضرب له بسهمه و أجره لم يشهدها بنفسه خولى بن أبي خولى العجلي حليف بني عدي من المهاجرين الأولين خلاد بن رافع و خلاد بن سويد و خلاد بن عمرو بن الجموح الخزرجيون (2/494)
ذكوان بن عبد قيس الخزرجي ذو الشمالين بن عبد بن عمرو بن نضلة من غبشان ابن سليم بن ملكان بن أفصى بن حارثة بن عمرو بن عامر بني خزاعة حليف لبنى زهرة قتل يومئذ شهيدا قال ابن هشام : و اسمه عمير و إنما قيل له ذو الشمالين لأنه كان أعسر
حرف الراء
رافع بن الحارث الأوسي رافع بن عنجدة قال ابن هشام : هي أمه رافع بن المعلى بن لوذان الخزرجي قتل يومئذ ربعي بن رافع بن الحارث بن زيد بن حارثة بن الجد عجلان بن ضبيعة و قال موسى بن عقبة : ربعي بن أبي رافع ربيع بن إياس الخزرجي ربيعة بن أكثم بن سخبرة بن عمرو بن لكينر بن عامر بن ن غنم دودان ابن أسد بن خزيمة حليف لبني عبد شمس بني عبد مناف و هو من المهاجرين الأولين رخيلة بن ثعلبة بن خالد بن ثعلبة بن عامر بن بياضة الخزرجي رفاعة بن رافع الزرقي أخو خلاد بن رافع رفاعة بن عبد المنذر بن زنير الأوسي أخو أبي لبابة رفاعة بن عمرو بن زيد الخزرجي
حرف الزاي
الزبير بن العوام بن خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصى ابن عمة رسول الله صلى الله عليه و سلم و حواريه
زياد بن عمرو و قال موسى بن عقبة : زياد بن الأخرس بن عمرو الجهني و قال الواقدي : زياد بن كعب بن عمرو بن عدي بن رفاعة بن كليب بن برذعة بن عدي بن عمرو بن الزبعري بن رشدان بن قيس بن جهينة
زياد بن كبيد الزرقي زياد بن المزين بن قيس الخزرجي زيد بن أسلم بن ثعلبة ابن عدي بن عجلان بن ضبيعة زيد بن حارثة بن شرحبيل مولى رسول الله صلى الله عليه و سلم رضي الله عنه زيد بن الخطاب بن نفيل أخو عمر بن الخطاب رضي الله عنهما زيد بن سهل بن الأسود بن حرام النجاري أبو طلحة رضي الله عنه (2/495)
سالم بن عمير الأوسي سالم بن [ غنم بن ] عوف الخزرجي سالم بن معقل مولى أبي حذيفة السائب بن عثمان بن مظعون الجمحي شهد مع أبيه سبيع بن قيس بن عيشة الخزرجي سبرة بن فاتك ذكره البخاري سراقة بن عمرو النجاري سراقة بن كعب النجاري أيضا سعد بن خولة بني لؤي من المهاجرين الأولين سعد بن خيثمة الأوسي قتل يومئذ شهيدا سعد بن الربيع الخزرجي الذي قتل يوم أحد شهيدا سعد بن زيد بن مالك الأوسي و قال الواقدي : سعد بن زيد بن الفاكه الخزرجي سعد بن سهيل بن عبد الأشهل النجاري سعد بن عبيد الأنصاري سعد بن عثمان بن خلدة الخزرجي أبو عبادة و قال ابن عائذ : أبو عبيدة
سعد بن معاذ الأوسي و كان لواء الأوس معه
سعد بن عبادة بن دليم الخزرجي ذكره غير واحد منهم عروة و البخاري و ابن أبي الحاتم و الطبراني فيمن شهد بدرا و وقع في صحيح مسلم ما يشهد بذلك حين شاور النبي صلى الله عليه و سلم في ملتقى النفير من قريش فقال سعد بن عبادة : كأنك تريدنا يا رسول الله الحديث و الصحيح أن ذلك سعد بن معاذ
و المشهور أن سعد بن عبادة رده من الطريق قيل : لا ستنابته على المدينة و قيل لذعته حية فلم يتمكن من الخروج إلى بدر
حكاه السهيلي عن بن قتيبة فالله أعلم
سعد بن أبي وقاص مالك بن أهيب الزهري أحد العشرة سعد بن مالك أبو سهل قال الواقدي : تجهز ليخرج فمرض فمات قبل الخروج
[ سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل العدوي ابن عم عمر بن الخطاب يقال : قدم من الشام بعد مرجعه من بدر فضرب له رسول الله صلى الله عليه و سلم بسهمه و أجره ]
سفيان بن بشر بن عمرو الخزرجى سلمة بن أسلم بن حريش الأوسي سلمة ابن ثابت بن وقش بن زغبة سلمة بن سلامة بن وقش بن زغبة سلم بن الحارث النجاري سليم بن عمرو السلمي سليم بن قيس بن فهد الخزرجي سليم بن ملحان أخو حرام بن ملحان النجاري سماك بن أوس بن خرشة أبو دجانة و يقال سماك بن خرشة سماك بن سعد بن ثعلبة الخزرجي و هو أخو بشير بن سعد المتقدم سهل بن حنيف الأوسي سهل بن عتيك النجاري سهل بن قيس السلمي سهيل بن رافع النجاري الذي كان له و لأخيه موضع المسجد النبوي كما تقدم سهيل بن وهب الفهري و هو ابن بيضاء و هي أمه سنان بن أبي سنان بن محصن بن حرثان من المهاجرين حليف بني عبد شمس بن عبد مناف سنان بن صيفي السلمي سواد بن زريق بن زيد الأنصاري و قال الأموي : سواد بن رزام سواد بن غزية بن أهيب البلوى سويبط بن سعد بن حرملة العبدري سويد بن مخشى الطائي حليف بني عبد شمس و قيل اسمه أزيد بن حمير (2/496)
شجاع بن وهب بن ربيعة الأسدي أسد بن خزيمة حليف بني عبد شمس من المهاجرين الأولين شماس بن عثمان المخزومي قال ابن هشام : و اسمه عثمان بن عثمان و إنما سمى شماسا لحسنه كان في الجاهلية شقران مولى رسول الله صلى الله عليه و سلم قال الواقدي : لم يسهم له و كان على الأسرى فأعطاه كل رجل ممن له في الأسرى شيئا فحصل له أكثر من سهم
حرف الصاد
صهيب بن سنان الرومي من المهاجرين الأولين صفوان بن وهب بن ربيعة الفهري أخو سهيل بن بيضاء قتل شهيدا يومئذ صخر بن أمية بن خنساء السلمي
حرف الضاد
ضحاك بن حارثة بن زيد السلمي ضحاك بن عبد عمرو النجاري ضمرة بن عمرو الجهني و قال موسى بن عقبة : ضمرة بن كعب بن عمرو حليف الأنصار و هو أخو زياد ابن عمرو (2/497)
طلحة بن عبيد الله التميمي أحد العشرة قدم من الشام بعد مرجعهم من بدر فضرب له رسول الله صلى الله عليه و سلم بسهمه و أجره طفيل بن الحارث بن المطلب بن عبد مناف من المهاجرين و هو أخو حصين و عبيدة طفيل بن مالك بن خنساء السلمي طفيل بن النعمان بن خنساء السلمي ابن عم الذي قبله طليب بن عمير بن وهب بن أبي كبير بن عبد بن قصي ذكره الواقدي
حرف الظاء
ظهير بن رافع الأوسي ذكره البخاري
عاصم بن ثابت بن أبي الأقلح الأنصاري الذي حمته الدبر حين قتل بالرجيع عاصم ابن عدي بن الجد بن عجلان رده عليه السلام من الروحاء و ضرب له بسهمه و أجره عاصم بن قيس بن ثابت الخزرجي عاقل بن البكير أخو إياس و خالد و عامر عامر بن أمية بن زيد بن الحسحاس النجاري عامر بن الحارث الفهري كذا ذكره سلمة عن ابن إسحاق و ابن عائذ و قال موسى بن عقبة و زياد عن ابن إسحاق : عمرو بن الحارث عامر بن ربيعة بن مالك العنزي حليف بني عدي من المهاجرين عامر بن سلمة بن عامر ابن عبد الله البلوى القضاعي حليف بني سالم بن مالك بن سالم بن غنم قال ابن هشام : و يقال عمر بن سلمة عامر بن عبد الله بن الجراح بن هلال بن أهيب بن ضبة بن الحارث بن فهر أبو عبيدة بن الجراح أحد العشرة من المهاجرين الأولين عامر بن فهيرة مولى أبي بكر عامر بن مخلد النجاري عائذ بن ماعض بن قيس الخزرجي عبادة بن بشر بن وقش الأوسي عبادة بن قيس بن عامر الخزرجي عباد بن عيشة الخزرجي أخو سبيع المتقدم عبادة بن الخشخاش القضاعي عبادة بن الصامت الخزرجي عبادة بن قيس بن كعب بن قيس عبد الله بن أمية بن عرفطة عبد الله بن ثعلبة بن خزمة أخو بحاث المتقدم عبد الله بن جحش بن رئاب الأسدي عبد الله بن جبير ابن النعمان الأوسي
عبد الله بن الجد بن قيس السلمي عبد الله بن حق بن أوس الساعدي و قال موسى بن عقبة و الواقدي و ابن عائذ : عبد رب بن حق و قال ابن هشام : عبد ربه بن حق
عبد الله بن الحمير حليف لبني حرام و هو أخو خارجة بن الحمير من أشجع عبد الله ابن الربيع بن قيس الخزرجي عبد الله بن رواحة الخزرجي عبد الله بن زيد بن عبد ربه ابن ثعلبة الخزرجي الذي أرى النداء
عبد الله بن سراقة العدوي لم يذكره موسى بن عقبة و الواقدي و لا ابن عائذ و ذكره ابن إسحاق و غيره
عبد الله بن سلمة بن مالك العجلان حليف الأنصار عبد الله بن سهل بن رافع أخو بني زعورا عبد الله بن سهيل بن عمرو خرج مع أبيه و المشركين ثم فر من المشركين إلى المسلمين فشهدها معهم عبد الله بن طارق بن مالك القضاعي حليف الأوس عبد الله بن عامر من بلى ذكره ابن إسحاق
عبد الله بن عبد الله بن أبي سلول الخزرجي و كان أبوه رأس المنافقين عبد الله ابن عبد الأسد بن هلال بن عبد الله بن عمرو بن مخزوم أبو زوج أم سلمة قتل يومئذ عبد الله بن عبد مناف بن النعمان السلمي عبد الله بن عبس عبد الله بن عثمان ابن عامر بن عمرو بن كعب بن تيم بن مرة بن كعب أبو بكر الصديق رضي الله عنه
عبد الله بن عرفطة بن عدي الخزرجي
عبد الله بن عمر بن حرام السلمي أبو جابر عبد الله بن عمير بن عدي الخزرجي عبد الله بن قيس بن خالد النجاري عبد الله بن قيس صخر بن حرام السلمي عبد الله بن كعب بن عمرو بن عوف بن مبذول بن عمرو بن غنم بن مازن بن النجار جعله النبي صلى الله عليه و سلم مع عدي بن أبي الزغباء على النقل يوم بدر
عبد الله بن مخرمة بن عبد العزى من المهاجرين الأولين عبد الله بن مسعود الهذلى حليف بني زهرة من المهاجرين الأولين عبد الله بن مظعون الجمحي من المهاجرين الأولين عبد الله بن النعمان بن بلدمة السلمي عبد الله بن أنيسة بن النعمان السلمي عبد الرحمن بن جبر عمرو أبو عبيس الخزرجي عبد الرحمن بن عبد الله بن ثعلبة أبو عقيل القضاعي البلوى
عبد الرحمن بن عوف بن عبد عوف بن عبد الحارث بن زهرة بن كلاب الزهري أحد العشرة رضي الله عنهم عبس بن عامر بن عدي السلمي عبيدة بن التيهان أخو أبو الهيثم بن التيهان و يقال عتيك بدل عبيد
عبيد بن ثعلبة من بني غنم بن مالك عبيد بن زيد بن عامر بن عمرو بن العجلان بن عامر عبيد بن أبي عبيد
عبيدة بن الحارث بن المطلب بن عبد مناف أخو الحصين و الطفيل و كان أحد الثلاثة الذين بارزوا يوم بدر فقطعت يده ثم مات بعد المعركة رضي الله عنه
عتبان بن مالك بن عمرو الخزرجي عتبة بن ربيعة بن خالد بن معاوية البهراني حليف أمية بن لوذان عتبة بن عبد الله بن صخر السلمي عتبة بن غزوان بن جابر من المهاجرين الأولين
عثمان بن عفان بن أبي العاص بن أمية ين عبد شمس بن عبد مناف الأموي أمير المؤمنين أحد الخلفاء الأربعة و أحد العشرة تخلف على زوجته رقية بنت رسول الله صلى الله عليه و سلم يمرضها حتى ماتت فضرب له بسمه و أجره
عثمان بن مطغون الجمحي أبو السائب أخو عبد الله و قدامة من المهاجرين الأولين
عدي بن أبي الزغباء الجهني و هو الذي أرسله رسول الله صلى الله عليه و سلم و بسبس بن عمرو بين يديه عينا
عصمة بن الحصين بن وبرة بن خالد بن العجلان عصيمة حليف لبني الحارث بن سوار من أشجع و قيل من بني أسد بن خزيمة عطية بن نويرة بن عامر بن عطية الخزرجي عقبة بن عامر بن نابي السلمي عقبة بن عثمان بن خلدة الخزرجي أخو سعد بن عثمان
عقبة بن عمرو أبو مسعود البدري وقع في صحيح البخاري أنه شهد بدرا و فيه نظر عند كثير من أصحاب المغازي و لهذا لم يذكروه
عقبة بن وهب بن ربيعة الأسدي أسد خزيمة حليف لبني عبد شمس و هو أخو شجاع بن وهب من المهاجرين الأولين عقبة بن وهب بن كلدة حليف بني غطفان
عكاشة بن أبي طالب الهاشمي أمير المؤمنين أحد الخلفاء الأربعة و أحد الثلاثة الذين بارزوا يومئذ رضي الله عنه
عمار بن ياسر العنسي المذحجي من المهاجرين الأولين عمارة بن حزم بن زيد النجاري
عمر بن الخطاب أمير المؤمنين أحد الخلفاء الأربعة و أحد الشيخين المقتدي بهما رضي الله عنهما
عمر بن عمرو بن إياس من أهل اليمن حليف لبني لوذان بن عمرو بن سالم و قيل هو أخو ربيع وورقة عمرو بن ثعلبة بن وهب بن عدي بن مالك بن عدي بن عامر أبو حكيم
عمرو بن الحارث بن زهير بن أبي شداد بن ربيعة بن هلال بن أهيب بن ضبشة بن الحارث بن فهر الفهري عمرو بن سراقة العدوي من المهاجرين عمرو بن أبي سرح الفهري من المهاجرين و قال الواقدي وابن عائذ : معمر بدل عمرو عمرو بن زيد بن أمية بن سنان بن كعب بن غنم و هو في بني حرام عمرو ابن الجموح بن حرام الأنصاري عمرو بن قيس بن سواد بن مالك بن غنم
ذكره الواقدي و الأموي
عمرو بن قيس بن مالك بن عدي بن خنساء بن عمرو بن مالك بن عدي بن عامر أبو خارجة ولم يذكره موسى بن عقبة
عمرو بن عامر بن الحارث الفهري ذكره موسى بن عقبة عمرو بن معبد بن الأزعر الأوسي عمرو بن معاذ عمير بن الحارث بن ثعلبة ويقال عمرو بن الحارث بن لبدة بن ثعلبة السلمي بن حرام بن الجموح السلمي ذكره ابن عائذ و الواقدي
عمير بن الحمام بن الجموح ابن عم الذي قبله قتل يومئذ شهيدا عمير بن عامر بن مالك ابن الخنساء بن مبذول بن عمرو بن غنم بن مازن أبو داود المازني
عمير بن عوف مولي سهيل بن عمرو و سماه الأموي و غيره : عمرو بن عوف
و كذا وقع في الصحيحين في حديث بعث أبي عبيدة إلى البحرين
عمير بن مالك بن أهيب الزهري أخو سعد بن أبي وقاص قتل يومئذ شهيدا عنترة مولى بني سليم و قيل إنه منهم فالله أعلم عوف بن الحارث بن رفاعة بن الحارث النجاري و هو ابن عفراء بنت عبيد بن ثعلبة النجارية قتل يومئذ شهيدا عويم بن ساعدة الأنصاري من بني أمية بن زيد عياض بن غنم الفهري من المهاجرين الأولين رضي الله عنهم أجمعين (2/498)
غنام بن أوس الخزرجي ذكره الواقدي و ليس بمجمع عليه
حرف الفاء
الفاكه بن بشر بن الفاكه الخزرجي فروة بن عمرو بن ودفة الخزرجي
حرف القاف
قتادة بن النعمان الأوسي قدامة بن مظعون الجمحي من المهاجرين أخو عثمان و عبد الله قطبة بن عامر بن حديدة السلمي قيس بن السكن النجاري قيس بن أبي صعصعة عمرو بن زيد المازني كان على الساقة يوم بدر قيس بن محصن بن خالد الخزرجي قيس ابن مخلد بن ثعلبة النجاري (2/503)
كعب بن حمان و يقال جماز و قال ابن هشام : كعب بن غبشان و يقال : كعب بن مالك بن ثعلبة بن جماز و قال الأموي : كعب بن ثعلبة بن حبالة بن غنم الغساني من حلفاء بني الخزرج بن ساعدة
كعب بن زيد بن قيس النجاري كعب بن عمرو أبو اليسر السلمى كلفة بن ثعلبة أحد البكائين ذكره موسى بن عقبة كناز بن حصين بن يربوع أبو مرثد الغنوى من المهاجرين الأولين
حرف الميم
مالك بن الدخشم و يقال ابن الدخشن الخزرجي مالك بن أبي خولى الجعفي حليف بني عدي مالك بن ربيعة أبو أسيد الساعدي مالك بن قدامة الأوسي مالك بن عمرو أخو ثقف بن عمرو و كلاهما مهاجري و هما من خلفاء بني تميم بن دودان بن أسد مالك بن قدامة الأوسي مالك بن مسعود الخزرجي مالك بن ثابت بن نميلة المزني حليف لبني عمرو بن عوف مبشر بن المنذر بن زنبر الأوسي أخو أبي لبابة و رفاعة قتل يومئذ شهيدا المجذر بن ذياد البلوى مهاجري محرز بن عامر النجاري محرز ابن نضلة الأسدي حليف بني شمس مهاجري محمد بن مسلمة حليف بني عبد الأشهل مدلج و يقال مدلاج بن عمرو أخو ثقف بن عمرو مهاجري مرثد بن أبي مرثد الغنوى مسطح بن أثاثة بن عباد بن المطلب بن عبد مناف من المهاجرين الأولين و قيل اسمه عوف مسعود بن أوس الأنصاري النجاري مسعود بن خلدة الخزرجي مسعود بن ربيعة القاري حليف بني زهرة مهاجري مسعود بن سعد و يقال ابن عبد سعد بن عامر بن عدي بن جشم بن مجدعة بن حارثة بن الحارث مسعود بن سعد بن قيس الخزرجي مصعب بن عمير العبدري مهاجري كان معه اللواء يومئذ معاذ بن جبل الخزرجي معاذ بن الحارث النجاري و هذا هو ابن عفراء أخو عوف و معوذ معاذ بن عمرو بن الجموح الخزرجي معاذ بن ماعض الخزرجي أخو عائذ
معبد بن عباد بن قشير بن القذم بن سالم بن غنم و يقال معبد بن عبادة بن قيس و قال الواقدي : و قال ابن هشام : قشعر أبو خميصة
معبد بن قيس بن صخر السلمي أخو عبد الله بن قيس معتب بن عبيد بن إياس البلوى القضاعى معتب بن عوف الخزاعي حليف بني مخزوم من المهاجرين معتب ابن قشير الأوسي معقل بن المنذر السلمي معمر بن الحارث الجمحي من المهاجرين معن ابن عدي الأوسي معوذ بن الحارث الجمحي و هو ابن عفراء أخو معاذ بن عوف معوذ ابن عمرو بن الجموح السلمي لعله أخو معاذ بن عمرو المقاد بن عمرو البهراني و هو المقداد ابن الأسود من المهاجرين الأولين و هو ذو المقال المحمود ابن المتقدم ذكره و كان أحد الفرسان يومئذ مليل بن وبرة الخزرجي المنذر بن عمرو بن خنيس الساعدي المنذر بن قدامة بن عرفجة الخزرجي المنذر بن محمد بن عقبة الأنصاري من بني جحجبي مهجع مولى عمر بن الخطاب أصله من اليمن و كان أول قتيل من المسلمين يومئذ (2/504)
نصر بن الحارث بن عبد رزاح بن ظفر بن كعب نعمان بن عبد عمرو النجاري و هو أخو الضحاك نعمان بن عمرو بن رفاعة النجاري نعمان بن عصر بن الحارث حليف لبني الأوس نعمان بن مالك بن ثعلبة الخزرجي و يقال له قوقل نعمان بن يسار مولى لبني عبيد و يقال نعمان بن سنان نوفل بن عبيد الله بن نضلة الخزرجي
حرف الهاء
هانئ بن أبو بردة البلوى خال البراء بن عازب هلال بن أمية الواقفي ذكره في أهل بدر في الصحيحين في قصة كعب بن مالك و لم يذكره أحد من أصحاب المغازي
هلال بن المعلى الخزرجي أخو رافع بن المعلى
حرف الواو
واقد بن عبد الله التميمي حليف بني عدي المهاجرين وديعة بن عمرو بن جراد الجهني ذكره الواقدي و ابن عائذ ورقة بن إياس بن عمرو الخزرجي أخو ربيع بن إياس وهب بن سعد بن أبي سرح ذكره موسى بن عقبة و ابن عائذ و الواقدي في بني عامر بن لؤي و لم يذكره ابن إسحاق
حرف الياء
يزيد بن الأخنس بن حبيب بن جرة السلمي
قال السهيلي : شهد هو و أبوه و ابنه يعني بدرا و لا يعرف لهم نظير في الصحابة و لم يذكرهم ابن إسحاق و الأكثرون لكن شهدوا معه بيعة الرضوان
يزيد بن الحارث بن قيس الخزرجي و هو الذي يقال له ابن فسحم و هي أمه قتل يومئذ شهيدا ببدر يزيد بن عامر بن حديدة أبو المنذر السلمي يزيد بن المنذر بن سرح و هو أخو معقل بن المنذر (2/506)
أبو أسيد مالك بن ربيعة تقدم أبو الأعور بن الحارث بن ظالم النجاري و قال ابن هشام : أبو الأعور الحارث بن ظالم و قال الواقدي : أبو الأعور كعب بن الحارث ابن جندب بن ظالم أبو بكر الصديق عبد الله بن عثمان تقدم أبو حبة بن عمرو بن ثابت أحد بني ثعلبة بن عمرو بن عوف الأنصاري أبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة من المهاجرين و قيل اسمه مهشم أبو الحمراء مولى الحارث بن رفاعة بن عفراء أبو خزيمة ابن أوس بن أصرم النجاري أبو سبرة مولى أبي رهم بن عبد العزى من المهاجرين أبو سنان بن محصن بن حرثان أخو عكاشة و معه ابنه سنان من المهاجرين
أبو الصياح بن النعمان و قيل : عمير بن ثابت بن النعمان بن أمية بن امرئ القيس ابن ثعلبة رجع من الطريق و قتل يوم خيبر رجع لجرح أصابه من حجر فضرب له بسهمه أبو عرفجة من حلفاء بني جحجبي أبو كبشة مولى رسول الله صلى الله عليه و سلم أبو لبابة بشير بن عبد المنذر تقدم أبو مرثد الغنوى كناز بن حصين تقدم أبو مسعود البدرى عقبة بن عمرو تقدم أبو مليل بن زيد الأوسي (2/507)
فكان جملة من شهد بدرا من المسلمين ثلاثمائة و أربعة عشر رجلا منهم رسول الله صلى الله عليه و سلم
كما قال البخاري : حدثنا عمرو بن خالد حدثنا زهير حدثنا أبو إسحاق سمعت البراء بن عازب يقول : حدثنى أصحاب محمد صلى الله عليه و سلم و رضي عنهم ممن شهد بدرا أنهم كانو عدة أصحاب طالوت الذين جاوزوا معه النهر بضعة عشر و ثلاثمائة
قال البراء : لا و الله ما جاوز معه النهر إلا مؤمن
ثم رواه البخاري من طريق إسرائيل وسفيان الثوري عن أبي إسحاق عن البراء نحوه
قال ابن جرير : و هذا قول عامة السلف أنهم كانوا ثلاثمائة و بضعة عشر رجلا
و قال أيضا : حدثنا محمود حدثنا وهب عن شعبة عن أبي إسحاق عن البراء قال : استصغرت أنا و ابن عمر يوم بدر و كان المهاجرون يوم بدر نيفا على ستين والأنصار نيفا وأربعين ومائتين
هكذا وقع في هذه الرواية وقال ابن جرير : حدثنى محمد بن عبيد المحاربي أبو مالك الجبني عن الحجاج و هو ابن أرطاة عن الحكم عن مقسم عن ابن عباس قال : كان المهاجرون يوم بدر سبعين رجلا و كان الأنصار مائتين وستة و ثلاثين رجلا و كان حامل راية النبي صلى الله عليه و سلم على بن أبي طالب وحامل راية الأنصار سعد بن عبادة و هذا يقتضي أنهم كانوا ثلاثمائة و ستة رجال
قلت : و قد يكون هذا عد معهم النبي صلى الله عليه و سلم و الأول عدهم بدونه فالله أعلم
وقد تقدم عن ابن إسحاق أن المهاجرين كانوا ثلاثة وثمانين رجلا و أن الأوس أحد و ستون رجلا و سردهم
و هذا مخالف لما ذكره البخاري و لما روى عن ابن عباس فالله أعلم
و في الصحيح عن أنس أنه قيل له : شهدت بدرا ؟ فقال : و أين أغيب و في سنن أبي داود عن سعيد بن منصور عن أبي معاوية عن الأعمش عن أبي سفيان طلحة بن نافع عن جابر بن عبد الله بن عمرو بن جرام أنه قال : كنت أمتح لأصحابي الماء يوم بدر
و هذان لم يذكرهما البخاري و لا الضياء فالله أعلم (2/507)
قلت : و في الذين عدهم ابن إسحاق في أهل بدر من صرب له بسهم في مغنمها و إنه لم يحضرها تخلف عنها لعذر أذن له في التخلف بسببها و كانوا ثمانية أو تسعة و هم :
عثمان بن عفان تخلف على رقية بنت رسول الله صلى الله عليه و سلم يمرضها حتى ماتت فضرب له بسهمه و أجره
و طلحة بن عبيد الله كان بالشام أيضا فضرب له بسهمه و أجره
و أبو لبابة بشير بن عبد المنذر رده رسول الله صلى الله عليه و سلم من الروحاء حين بلغه خروج النفير من مكة فاستمله على المدينة و ضرب له بسهمه و أجره
و الحارث بن حاطب بن عبيد بن أمية رده رسول الله صلى الله عليه و سلم أيضا من الطريق و ضرب له بسهمه و أجره
و الحارث بن الصمة كسر بالروحاء فرجع فضرب له بسهمه زاد الواقدي : و أجره
و خوات بن جبير لم يحضر الوقعة و ضرب له بسهمه و أجره
و أبو الصياح بن ثابت خرج مع رسول الله صلى الله عليه و سلم فأصاب ساقه فصيل حجر فرجع و ضرب له بسهمه و أجره
قال الواقدي : و سعد أبو مالك تجهز ليخرج فمات بالروحاء فضرب له بسهمه و أجره (2/509)
و كان الذين استشهدوا من المسلمين يومئذ أربعة عشرة رجلا من المهاجرين ستة و هم : عبيدة بن الحارث بن المطلب قطعت رجله فمات بالصفراء رحمه الله و عمير بن أبي وقاص أخو سعد بن أبي وقاص بن سعيد و هو ابن ست عشرة سنة و يقال إنه كان قد أمره رسول الله صلى الله عليه و سلم بالرجوع لصغره فبكى فأذن له في الذهاب فقتل رضي الله عنه و حليفهم ذو الشمالين ابن عبد عمرو الخزاعي و صفوان بن بيضاء و عاقل بن البكير الليثي حليف بني عدي و مهجع مولى عمر بن الخطاب و كان أول قتيل قتل من المسلمين يومئذ
و من الأنصار ثمانية و هم : حارثة بن سراقة رماه حبان بن العرقة بسهم فأصاب حنجرته فمات و معوذ و عوف ابنا عفراء و يزيد بن الحارث و يقال : ابن فسحم و عمير بن الحمام و رافع بن المعلى بن لوذان و سعد بن خيثمة و مبشر بن عبد المنذر رضي الله عن جميعهم
و كان مع المسلمين سبعون بعيرا كما تقدم
قال ابن إسحاق : و كان معهم فرسان على أحدهما المقداد بن الأسود و اسمها بعزجة و يقال سبحة و على الأخرى الزبير بن العوام و اسمها اليعسوب
و كان معهم لواء يحمله مصعب بن عمير و رايتان يحمل إحداهما للمهاجرين علي ابن أبي طالب و التي للأنصار يحملها سعد بن عبادة
و كان رأس مشورة المهاجرين أبو بكر الصديق و رأس مشورة الأنصار سعد ابن معاذ (2/510)
و أما جمع المشركين : فأحسن ما يقال فيهم : إنهم كانوا ما بين التسعمائة إلى الألف و قد نص عروة و قتادة أنهم كانوا تسعمائة و ثلاثين رجلا
وقال الواقدي : كانوا تسعمائة و ثلاثين رجلا
وهذا التحديد يحتاج إلى دليل و قد تقدم في بعض الأحاديث أنهم كانوا أزيد من ألف فلعله عدد أتباعهم معهم و الله أعلم
و قد يقدم الحديث الصحيح عند البخاري عن البراء أنه قتل منهم سبعون و أسر سبعون
و هذا قول الجمهور و لهذا قال كعب بن مالك في قصيدة له :
( فأقام بالطعن المعطن منهم ... سبعون عتبة منهم و الأسود )
و قد حكى الواقدي الإجماع على ذلك و فيما قاله نظر فإن موسى بن عقبة و عروة ابن الزبير قالا خلاف ذلك و هما من أئمة هذا الشأن فلا يمكن حكاية الاتفاق بدون قولهما مرجوحا بالنسبة إلى الحديث الصحيح و الله أعلم
و قد سرد أسماء القتلى و الأساري ابن إسحاق و غيره و حرر ذلك الحافظ الضياء في أحكامه جيدا
و قد تقدم في غصون سياقات القصة ذكر أول من قتل منهم و هو الأسود بن عبد الأسد المخزومي و أول من فر و هو خالد بن الأعلم الخزاعي حليف أو العقيلي بني مخزوم و ما أفاده ذلك فإنه أسر و هو القائل في شعره :
( و لسنا على الأعقاب تدمى كلومنا ... و لكن على أقدامنا يقطر الدم )
فما صدق في ذلك
و أول من أسروا عقبة بن أبي معيط و النضر بن الحارث قتلا صبرا بين يدي رسول الله صلى الله عليه و سلم من بين الأساري و قد اختلف في أيهما قتل أولا على قولين
وأنه عليه السلام أطلق جماعة من الأساري مجانا بلا فداء منهم أبو العاص بن الربيع الأموي و المطلب بن حنطب بن الحارث المخزومي و صيفي بن أبي رفاعة كما تقدم و أبو عزة الشاعر و وهب بن عمير بن وهب الجمحي كما تقدم و فادي بقيتهم حتى عمه العباس أخذ منه أكثر مما أخذ من سائر الأسرى لئلا يحابيه لكونه عمه مع أنه قد سأله الذين أسروه من الأنصار أن يتركوا له فداءه فأبى عليهم ذلك و قال : لا تتركوا منه درهما
و قد كان فداؤهم متفاوتا فأقل ما أخذ أربعمائة و منهم من أخذ منه أربعون أوقية من ذهب
قال موسى بن عقبة : و أخذ من العباس مائة أوقية من ذهب
و منهم من استؤجر على عمل بمقدار فدائه كما قال الإمام أحمد : حدثنا علي بن عاصم
قال : قال داود : حدثنا عكرمة عن ابن عباس قال : كان ناس من الأسرى يوم بدر لم يكن لهم فداء فجعل رسول الله صلى الله عليه و سلم فداءهم أن يعلموا أولاد الأنصار الكتابة قال : فجاء غلام يوما يبكي إلى أمه فقالت : ما شأنك ؟ فقال : ضربني معلمي فقالت : الخبيث يطلب بذحل بدر ! و الله لا تأتيه أبدا
انفرد به أحمد و هو على شرط السنن و تقدم بسط ذلك كله و لله الحمد و المنة (2/510)
قال البخاري في هذا الباب : حدثنا عبد الله بن محمد حدثنا معاوية بن عمرو حدثنا أبو إسحاق عن حميد سمعت أنسا يقول : أصيب حارثة يوم بدر فجاءت أمه إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فقالت : يا رسول الله قد عرفت منزلة حارثة منى فإن يك في الجنة أصبر و أحتسب و إن تكن الأخرى فترى ما أصنع فقال : [ ويحك أو هبلت أو جنة واحدة هي ؟ إنها جنان كثيرة و إنه في جنة الفردوس ]
تفرد به البخاري من هذا الوجه
و قد روى من غير هذا الوجه من حديث ثابت و قتادة عن أنس و أن حارثة كان في النظارة و فيه : [ إن ابنك أصاب الفردوس الأعلى ]
و في هذا تنبيه عظيم على فضل أهل بدر فإن هذا الذي لم يكن بحبوحة القتال و لا في حومة الوغى بل كان من النظارة من بعيد و إنما أصابه سهم غرب و هو يشرب من الحوض و مع هذا أصاب بهذا الموقف الفردوس التي هي أعلى الجنان و أوسط الجنة و منه تفجر أنهار الجنة التي أمر الشارع أمته إذا سألوا الله الجنة أن يسألوه إياها
فإذا كان هذا حال هذا فما ظنك بمن كان واقفا في نحر العدو و عدوهم على ثلاثة أضعافهم عددا و عددا ؟ ! ثم روى البخاري و مسلم جميعا عن إسحاق بن راهوبة عن عبد الله بن إدريس عن حصين بن عبد الرحمن عن سعد بن عبيدة عن أبي عبد الرحمن السلمي عن علي بن أبي طالب قصة حاطب بن أبي بلتعة و بعثه الكتاب إلى أهل مكة عام الفتح و أن عمر استأذن رسول الله صلى الله عليه و سلم في ضرب عنقه فإنه قد خان الله و رسوله و المؤمنين فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ قد شهد بدرا و ما يدريك لعل الله اطلع على أهل بدر فقال : اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم ]
و لفظ البخاري : [ أليس من أهل بدر ؟ و لعل الله اطلع على أهل بدر فقال : اعملوا ما شئتم فقد وجبت لكم الجنة أو قد غفرت لكم ] فدمعت عينا عمر و قال : الله و رسله أعلم و روى مسلم عن قتيبة عن الليث عن أبي الزبير عن جابر أن عبدا لحاطب جاء رسول الله صلى الله عليه و سلم يشكو حاطبا قال : يا رسول الله ليدخلن حاطب النار فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ كذبت لا يدخلها إنه شهد بدرا و الحديبية ]
و قال الإمام أحمد : [ حدثنا سليمان بن داود حدثنا أبو بكر بن عياش حدثنى الأعمش عن أبي سفيان عن جابر قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : لن يدخل النار رجل شهد بدرا أو الحديبية ] تفرد به أحمد و هو على شرط مسلم و قال الإمام أحمد : [ حدثنا يزيد أنبأنا حماد بن سلمة عن عاصم بن أبي النجود عن أبي صالح عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : إن الله اطلع على أهل بدر فقال : اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم ]
و رواه أبو داود عن أحمد بن سنان و موسى بن إسماعيل كلاهما عن يزيد ابن هارون به
و روى البزار في مسنده : [ حدثنا محمد بن مرزوق حدثنا أبو حذيفة حدثنا عكرمة عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : إني لأرجو أن لا يدخل النار من شهد بدرا إن شاء الله ]
ثم قال : لا نعلمه يروى عن أبي هريرة إلا من هذا الوجه
قلت : و قد تفرد البزار بهذا الحديث و لم يخرجوه و هو على شرط الصحيح و الله أعلم
و قال البخاري في باب شهود الملائكة بدرا : حدثنا إسحاق بن إبراهيم حدثنا جرير عن يحيى بن سعيد عن معاذ بن رفاعة بن رافع الزرقي عن أبيه و كان أبوه من أهل بدر قال : جاء جبريل إلى النبي صلى الله عليه و سلم فقال : ما تعدون أهل بدر فيكم ؟ قال : من أفضل المسلمين أو كلمة نحوها
قال : و كذلك من شهد بدرا من الملائكة
انفرد به البخاري (2/512)
بعد وقعة بدر بشهر بمقتضى ما كان شرط زوجها أبو العاص للنبي صلى الله عليه و سلم كما تقدم
قال ابن إسحاق : و لما رجع أبو العاص إلى مكة و قد خلى سبيله يعني كما تقدم بعث رسول الله صلى الله عليه و سلم زيد بن حارثة و رجلا من الأنصار مكانه فقال : كونا ببطن يأجح حتى تمر بكما زينب فتصحباها فتأتياني بها فخرجا مكانهما و ذلك بعد بدر بشهر أو شيعه
فلما قدم أبو العاص مكة أمرها باللحوق بأبيها فخرجت تجهز
قال ابن إسحاق : فحدثنى عبد الله بن أبي بكر قال : حدثت عن زينب أنها قالت : بينا أنا أتجهز لقيتني هند بنت عتبة فقالت : يا ابنة محمد ألم يبلغني أنك تريدين اللحوق بأبيك ؟ قالت : فقلت : ما أردت ذلك فقالت : أي ابنة عم لاتفعلي إن كان لك حاجة بمتاع مما يرفق بك في سفرك أو بمال تتبلغين به إلى أبيك فإن عندي حاجتك فلا تضطني مني فإنه لا يدخل بين النساء ما بين الرجال قالت : والله ما أراها قالت ذلك إلا لتفعل قالت : ولكني خفتها فأنكرت أن أكون أريد ذلك
قال ابن إسحاق : فتجهزت فلما فرغت من جهازها قدم إليها أخو زوجها كنانة بن الربيع بعيرا فركبته و أخذ قوسه و كنانته ثم خرج بها نهارا يقود بها و هي في هودج لها و تحدث بذلك رجال من قريش فخرجوا في طلبها حتى أدركوها بذي طوى و كان أول من سبق إليها هبار بن الأسود بن المطلب بن أسد بن عبد العزي الفهري فروعها هبار بالرمح و هي في الهودج و كانت حاملا فيما يزعمون فطرحت و برك حموها كنانة و نثر كنانته ثم قال : و الله لا يدنو مني رجل إلا وضعت فيه سهما فتكركر الناس عنه
و أتى أبو سفيان في جلة من قريش فقال : يا أيها الرجل كف عنا نبلك حتى نكلمك فكف فأقبل أبو سفيان حتى وقف عليه فقال : إنك لم تصب خرجت بالمرأة على رؤس الناس علانية و قد عرفت مصيبتنا و نكبتنا و ما دخل علينا من محمد فيظن الناس إذ خرجت بابنته إليه علانية على رؤس الناس من بين أظهرنا أن ذلك عن ذل أصابنا و أن ذلك ضعف منا و وهن و لعمري مالنا بحبسها من أبيها من حاجة و مالنا من ثؤرة و لكن ارجع بالمرأة حتى إذا هدأت الأصوات و تحدث الناس أن قد رددناها فسلها سرا و ألحقها بأبيها قال : ففعل
و قد ذكر ابن إسحاق أن أولئك النفر الذين ردوا زينب لما رجعوا إلى مكة قالت هند تذمهم على ذلك :
( أفي السلم أعيارا جفاء و غلظة ... و في الحرب أشباه النساء العوارك )
و قد قيل أنها قالت ذلك للذين رجعوا من بدر بعد ما قتل منهم الذين قتلوا
قال ابن إسحاق : فأقامت ليالي حتى إذا هدأت الأصوات خرج بها ليلا حتى أسلمها إلى زيد بن حارثة و صاحبه فقدما بها ليلا على رسول الله صلى الله عليه و سلم [ و قد روى البيهقي في الدلائل من طريق عمر بن عبد الله بن عروة بن الزبير عن عروة عن عائشة فذكر قصة وردهم لها و وضعها ما في بطنها و أن رسول الله صلى الله عليه و سلم بعث زيد بن حارثة و أعطاه خاتمه لتجىء معه فتلطف زيد فأعطاه راعيا من مكة فأعطى الخاتم لزينب فلما رأته عرفته فقالت : من دفع إليك هذا ؟ قال : رجل في ظاهر مكة فخرجت زينب ليلا فركبت وراءه حتى قدم بها المدينة
قال : فكان رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : هي أفضل بناتي أصيبت في ]
قال : فبلغ ذلك على بن الحسين بن زين العابدين فأتى عروة فقال : ما حديث بلغني أنك تحدثته ؟ فقال عروة : والله ما أحب أن لي ما بين المشرق و المغرب و أني أنقض فاطمة حقا هولها و أما بعد ذلك أن لا أحدث به أبدا
قال ابن إسحاق : فقال في ذلك عبد الله بن رواحة أو أبو خيثمة أخو بني سالم بن عوف قال ابن هشام : هي لأبي خيثمة :
( أتاني الذي لا يقدر الناس قدره ... لزينب فيهم من عقوق و مأثم )
( و إخراجها لم يخز فيها محمد ... على مأقط و بيننا عطر منشم )
( و أمسى أبو سفيان من خلف ضمضم ... و من حر بنافي رغم أنف و مندم )
( قرنا ابنه عمرا و مولى يمينه ... بذى حلق جلد الصلاصل محكم )
( فأقسمت لا تنفك منا كتائب ... سراة خميس من لهام مسوم )
( نزوع قريش الكفر حتى نعلها ... بخاطمة فوق الأنوف بميسم )
( نزلهم أكناف نجد و نخلة ... و إن يتهموا بالخيل و الرجل نتهم )
( يد الدهر حتى لا يعوج سربنا ... و نلحقهم آثار عاد و جرهم )
( و يندم قوم لم يطيعوا محمدا ... على أمرهم وأى حين تندم )
( فأبلغ أبا سفيان إما لقيته ... لئن أنت لم تخلص سجودا و تسلم )
( فأبشر بخزي في الحياة معجل ... و سربال قار خالدا في جهنم )
قال ابن إسحاق : و مولى يمين أبي سفيان الذي عناه الشاعر هو عامر بن الحضرمي
و قال ابن هشام : إنما هو عقبة بن عبد الحارث بن الحضرمي فأما عامر بن الحضرمي فإنه قتل يوم بدر
قال ابن إسحاق : و قد حدثني يزيد بن أبي حبيب عن بكير بن عبد الله بن الأشج عن سليمان بن يسار عن أبي إسحاق الدوسي عن أبي هريرة قال : بعث النبي صلى الله عليه و سلم سرية أنا فيها فقال : [ إن ظفرتم بهبار بن الأسود و الرجل الذي سبق معه إلى زينب فحرقوهما بالنار ]
فلما كان الغد بعث إلينا فقال : إني قد كنت أمرتكم بتحريق هذين الرجلين إن أخذتموها ثم رأيت أنه لا ينبغي لأحد أن يحرق بالنار إلا الله عز و جل فإن ظفرتم بهما فاقتلوهما [
تفرد به ابن إسحاق و هو على شرط السنن و لم يخرجوه
و قال البخاري : حدثنا قتيبة حدثنا الليث عن بكير عن سليمان بن يسار عن أبي هريرة أنه قال : بعثنا رسول الله صلى الله عليه و سلم في بعث فقال ] إن وجدتم فلانا و فلانا فأحرقوهما بالنار [ ثم قال حين أردنا الخروج : ] إني أمرتكم أن تحرقوا فلانا و فلانا و إن النار لا يعذب بها إلا الله فإن وجدتموهما فاقتلوهما (2/516)
وقد ذكر ابن إسحاق أن أبا العاص أقام بمكة على كفره و استمرت زينب عند أبيها بالمدينة حتى إذا كان قبيل الفتح خرج أبو العاص في تجارة لقريش فلما قفل من الشام لقيته سرية فأخذوا ما معه و أعجزهم هربا و جاء تحت الليل إلى زوجته فاستجار بها فأجارته
فلما خرج رسول الله صلى الله عليه و سلم لصلاة الصبح و كبر و كبر الناس صرخت من صفة النساء : أيها الناس أجرت أبا العاص بن الربيع
فلما سلم رسول الله صلى الله عليه و سلم أقبل على الناس فقال : [ أيها الناس هل سمعتم انذى سمعت ؟ ] قالوا : نعم قال [ أما و الذي محمد بيده ما علمت بشيء حتى سمعت ما سمعتم و إنه يجير على المسلمين أدناهم ] ثم انصرف رسول الله صلى الله عليه و سلم فدخل على ابنته زينب فقال : [ أى بنية أكرمى مثواه و لا يخلص إليك فإنك لا تحلين له ]
قال : و بعث رسول الله صلى الله عليه و سلم فحثهم على رد ما كان معه فردوه بأسره لا يفقد منه شيئا
فأخذه أبو العاص فرجع به إلى مكة فأعطى كل إنسان ما كان له ثم قال : يا معشر قريش هل بقى لأحد منكم عندي مال لم يأخذه ؟ قالوا : لا فجزاك الله خيرا فقد وجدناك وفيا كريما
قال : فإني أشهد أن لا إله إلا الله و أن محمدا عبده و رسوله و الله ما منعني عن الإسلام عنده إلا تخوف أن تظنوا أني إنما أردت أن آكل أموالكم فلما أداها الله إليكم و فرغت منها أسلمت
ثم خرج حتى قدم على رسول الله صلى الله عليه و سلم
قال ابن إسحاق : فحدثني داود بن الحصين عن عكرمة عن ابن عباس قال : رد عليه رسول الله صلى الله عليه و سلم زينب على النكاح الأول و لم يحدث شيئا
و هذا الحديث رواه الإمام أحمد و أبو داود و الترمذي و ابن ماجه من حديث محمد ابن إسحاق و قال الترمذي : ليس بإسناده بأس
و لكن لا نعرف وجه هذا الحديث و لعله قد جاء من قبل حفظ داود بن الحصين
و قال السهيلي : لم يقل به أحد من الفقهاء فيما علمت
و في لفظ : ردها عليه رسول الله صلى الله عليه و سلم بعد ست سنين و في رواية : بعد سنتين بالنكاح الأول رواه ابن جرير و في رواية : لم يحدث نكاحا
و هذا الحديث قد أشكل على كثير من العلماء فإن القاعدة عندهم أن المرأة إذا أسلمت و زوجها كافر فإن كان قبل الدخول تعجلت الفرقة و إن كان بعده انتظر إلى انقضاء العدة فإن أسلم فيها استمر على نكاحها و إن انقضت و لم يسلم انفسخ نكاحها و زينب رضى الله عنها أسلمت حين بعث رسول الله صلى الله عليه و سلم و هاجرت بعد بدر بشهر و حرم المسلمات على المشركين عام الحديبية سنة ست و أسلم أبو العاص قبل الفتح سنة ثمان
فمن قال : ردها عليه بعد ست سنين أى من حين هجرتها فهو صحيح و من قال : بعد سنتين أي من حين حرمت المسلمات على المشركين فهو صحيح أيضا
و على كل تقدير فالظاهر انقضاء عدتها في هذه المدة التي أقلها سنتان من حين التحريم أو قريب منها فكيف ردها عليه بالنكاح الأول ؟
فقال قائلون : يحتمل ان عدتها لم ينقض و هذه قصة يمين يتطرق إليها الاحتمال
و عارض آخرون هذا الحديث بالحديث الأول الذي رواه أحمد و الترمذي و ابن ماجة من حديث الحجاج بن أرطاة عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه و سلم رد بنته على أبي العاص بن الربيع بمهر جديد قال الإمام أحمد : هذا حديث ضعيف واه و لم يسمعه الحجاج من عمرو بن شعيب إنما سمعه من محمد بن عبيد الله العرزمي و العرزمي لا يساوي حديثه شيئا و الحديث الصحيح الذي روى أن النبي صلى الله عليه و سلم أقرها على النكاح الأول
و هكذا قال الدار قطنى : لا يثبت هذا الحديث و الصواب حديث ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه و سلم ردها بالنكاح الأول
و قال الترمذي : هذا حديث في إسناده مقال و [ الذي ] العمل عليه عند أهل العلم أن المرأة إذا أسلمت قبل زوجها أنه أحق بها ما كانت في العدة و هو قول مالك و الأوزاعي و أحمد و إسحاق وقال آخرون : بل الظاهر انقضاء عدتها و من روى أنه جدد لها نكاحا فضعيف (2/520)
ففي قصة زينب و الحالة هذه دليل على أن المرأة إذا أسلمت و تأخر إسلام زوجها حتى انقضت عدتها فنكاحها لا ينفسخ بمجرد ذلك بل يبقى بالخيار إن شاءت تزوجت غيره و إن شاءت تربصت و انتظرت إسلام زوجها أي وقت كان و هي امرأته ما لم تتزوج
و هذا القول فيه قوة و له حظ من جهة الفقة و الله أعلم
و يستشهد لذلك بما ذكره البخاري حيث قال : نكاح من أسلم من المشركات و عدتهن : حدثنا إبراهيم بن موسى حدثنا هشام عن ابن جريح عن عطاء عن ابن عباس كان المشركون على منزلتين من رسول الله صلى الله عليه و سلم و المؤمنين كانوا لمشركي أهل الحرب يقاتلونهم و يقاتلونه و مشركي أهل عهد لا يقاتلهم و لا يقاتلونه
فكان إذا هاجرت امرأة من أهل الحرب لم تخطب حتى تحيض و تطهر فإذا طهرت حل لها النكاح فإن هاجر زوجها قبل أن تنكح ردت إليه و إن هاجر عبد منهم أو أمة فهما حران و لهما ما للمهاجرين
ثم ذكر من أهل العهد مثل حديث مجاهد
هذا لفظه بحروفه
فقوله ( فكان إذا هاجرت امرأة من أهل الحرب لم تخطب حتى تحيض و تطهر ) يقتضت أنها كانت تستبرئ بحيضة لا تعتد بثلاثة قروء و قد ذهب قوم إلى هذا
و قوله : فإن هاجر زوجها قبل أن تنكح ردت إليه يقتضي أنه و إن هاجر بعد انقضاء مدة الاستبراء و العدة أنها ترد إلى زوجها الأول ما لم تنكح زوجا غيره كما هو الظاهر من قصة زينب بنت النبي صلى الله عليه و سلم و كما ذهب إليه من العلماء و الله أعلم (2/522)
فيما قيل من أشعار في غزوة بدر العظمى (2/524)
فمن ذلك ما ذكره ابن إسحاق عن حمزة بن عبد المطلب و أنكرها ابن هشام :
( ألم تر أمرا كان من عجب الدهر ... و للحين أسباب مبينة الأمر )
( و ما ذاك إلا أن قوما أفادهم ... فحانوا تواص بالعقوق و بالكفر )
( عشية راحوا نحو بدر بجمعهم ... و كانوا رهونا للركية من بدر )
( و كنا طلبنا العير لم نبغ غيرها ... فساروا إلينا فالتقينا على قدر )
( فلما التقينا لم تكن مثنوية ... لنا غير طعن بالمثقفة السمر )
( و ضرب ببيض يختلى الهام حدها ... مشهرة الألوان بينة الأثر )
( و نحن يركنا عتبة الغي ثاويا ... و شيبة في قتلى تجرجم قي الجفر )
( و عمرو ثوى فيمن ثوى من حما بهم ... فشقت جيوب النائحات على عمرو )
( جيوب نساء من لؤي بن غالب ... كرام تفر عن الذوائب من فهر )
( أولئك قوم قتلوا في ضلالهم ... و خلوا لواء غير محتضر النصر )
( لواء ضلال قاد إبليس أهله ... فخاس بهم إن الخبيث إلى غدر )
( و قال لهم إذ عاين الأمر واضحا ... برئت إليكم ما بي اليوم من صبر )
( فإني أرى مالا ترون و إنني ... أخاف عقاب الله و الله ذو قسر )
( فقدمهم للحين حتى تورطوا ... و كان بما لم يخبر القوم ذا خبر )
( فكانوا غداة البئر ألفا و جمعنا ... ثلاث مئين كالمسدمة الزهر )
( و فينا جنود الله حين يمدنا ... بهم في مقام ثم مستوضح الذكر )
( فشد بهم جبريل تحت لوائنا ... لدا مأزق فيه مناياهم تجري )
و قد ذكر ابن إسحاق جوابها من الحارث بن هشام تركناها عمدا (2/524)
و قال علي بن أبي طالب و أنكرها ابن هشام :
( ألم تر أن الله أبلى رسوله ... بلاء عزيز ذي اقتدار و ذي فضل )
( بما أنزل الكفار دار مذلة ... فلاقوا هوانا من أسار و من قتل )
( فأمسى رسول الله قد عز نصره ... و كان رسول الله أرسل بالعدل )
( فجاء بفرقان من الله منزل ... مبينة آياته لذوي العقل )
( فآمن أقوام بذاك و أيقنوا ... فأمسوا بحمد الله مجتمعى الشمل )
( و أنكر أقوام فزاغت قلوبهم ... فزادهم ذو العرش خبلا على خبل )
( و أمكن منهم يوم بدر رسوله ... و قوما غضابا فعلهم أحسن الفعل )
( بأيديهم بيض خفاف عصوا بها ... و قد حادثوها بالجلاء و بالصقل )
( فكم تركوا من ناشئ ذي حمية ... صريعا و من ذي نجدة منهم كهل )
( تبيت عيون النائحات عليهم ... تجود بأسبال الرشاش و بالوبل )
( نوائح تنغى عتبة الغي و ابنه ... و شيبة تنعاه و تنعى أبا جهل )
( و ذا الرجل تنعى و ابن جدعان فيهم مسلبة حرى مبينة الثكل )
( ثوي منهم في بئر بدر عصابة ... ذوو نجدات في الحروب و في المحل )
( دعا الغى منهم من دعا فأجابه ... و للغي أسباب مرمقة الوصل )
( فأضحوا لدى دار الجحيم بمعزل ... عن الشغب و العدوان في أسفل السفل )
و قد ذكر ابن إسحاق نقيضها من الحارث أيضا تركناها قصدا (2/525)
و قال كعب بن مالك :
( عجبت لأمر الله و الله قادر ... على ما أراد ليس قاهر )
( قضى يوم بدر أن نلاقي معشرا ... بغوا و سبيل البغي بالناس جائر )
( و قد حشدوا و استنفروا من يليهم ... من الناس حتى جمعهم متكاثر )
( و سارت إلينا لا تحاول غيرنا ... بأجمعها و عامر )
( و فينا رسول الله حوله ... له معقل منهم عزيز و ناصر )
( و جمع بني النجار تحت لوائه ... يمشون في الماذي و النقع ثائر )
( فلما لقيناهم و كل مجاهد ... لأصحابه مستبسل النفس صابر )
( شهدنا بأن الله لا رب غيره ... و أن رسول الله بالحق ظاهر )
( و قد عريت بيض خفاف كأنها ... مقاييس يزهيها لعينيك شاهر )
( بهن أبدنا جمعهم فتبددوا ... و كان يلاقي الحين من هو فاجر )
( فكب أبو جهل صريعا لوجهه ... و عتبة قد غادرته و هو عاثر )
( و شيبة و التيمي غادرت في الوغى و ما منهم إلا بذي العرش كافر )
( فأمسوا وقود النار في مستقرها ... و كل كفور في جهنم صائر )
( تلظى عليهم و هي قد شب حميها ... تربد الحديد و الحجارة ساجر )
( و كان رسول الله قد قال أقبلوا ... فولوا و قالوا إنما أنت ساحر )
( لأمر أراد الله أن يهلكوا به ... و ليس لأمر حمه الله زاجر )
و قال كعب في يوم بدر :
( ألا هل أتى غسان في نأي دارها ... و أخبر شئ بالأمور عليمها )
( بأن قد رمتنا عن قسي عداوة ... معد معا جهالها و حليمها )
( لأنا عبدنا الله لم نرج غيره ... رجاء الجنان إذ أتانا زعيمها )
( نبي له قومه إرث عزة ... و أعراق صدق هذبتها أرومها )
( فساروا و سرنا فالقينا كأننا ... أسود لقاء لا يرجى كليمها )
( ضربناهم حتى هوى في مكرنا ... لمنحر سوء من لؤي عظيمها )
( فولوا و دسناهم ببيض صوارم ... سواء علينا حلفها و صميمها )
و قال كعب أيضا :
( لعمر أبيكما يا بني لؤي ... على زهو لديكم و انتخاء )
( لما حامت فوارسكم ببدر ... و لا صبروا به عند اللقاء )
( و ردناه و نور الله يجلو ... دجى الظلماء عنا و العظماء )
( رسول الله يقدمنا بأمر ... من أمر الله أحكم بالقضاء )
( فما ظفرت فوارسكم ببدر ... و ما رجعوا إليكم بالسواء )
( فلا تعجل أبا سفيان و راقب ... جياد الخيل تطلع من كداء )
( بنصر الله روح القدس فيها ... و ميكال فيا طيب الملاء ) (2/526)
و قال حسان بن ثابت قال ابن هشام و يقال هي لعبد الله بن الحارث السهمي :
( مستشعري حلق الماذي يقدمهم ... جلد النحيزة ماض غير رعديد )
( أعنى رسول إله الخلق فضله ... على البرية بالتقوى و بالجود )
( و قد زعمتم بأن تحموا ذماركم ... و ماء بدر زعمتم غير مورود )
( [ ثم وردنا و لم نسمع لقولكم ... حتى شربنا رواء غير تصريد ] )
( مستعصين بحبل غير منجذم ... مستحكم من حبال الله ممدود )
( فينا الرسول و فينا الحق نتبعه ... حتى الممات و نصر غير محدود )
( واف و ماض شهاب يستضاء به ... بدر على كل الأماجيد )
و قال حسان بن ثابت أيضا :
( ألا ليت شعري هل أتى مكة ... إبادتنا الكفار في ساعة العسر )
( قتلنا سراة القوم عند مجالنا ... فلم يرجعوا إلا بقاصمة الظهر )
( قتلنا أبا جهل و عتبة قبله ... و شيبة يكبو لليدين و للنحر )
( قتلنا سويدا ثم عتبة بعده ... و طعمه أيضا عند ثائرة القتر )
( فكم قد قتلنا من كريم مسود ... له حسب في قومه نابه الذكر )
( تركناهم للعاويات ينبنهم ... و يصلون نارا بعد حامية القمر )
( لعمرك ما حامت فوارس مالك ... و أشياعهم يوم التقينا على بدر ) (2/528)
و قال عبيد بن الحارث بن عبد المطلب في يوم بدر في قطع رجله في مبارزته هو و حمزة و علي مع عتبة و شيبة و الوليد بن عتبة و أنكرها ابن هشام :
( ستبلغ عنا أهل مكة وقعة ... يهب لها من كان عن ذاك نائيا )
( بعتبة إذ ولى و شيبة بعده ... و ما كان فيها بكر عتبة راضيا )
( فإن تقطعوا رجلي فإني مسلم ... أرجي بها عيشا من الله دانيا )
( مع الحوار أمثال التماثيل أخلصت من الجنة العليا لمن كان عاليا )
( و بعث بها عيشا تعرفت صفوه ... و عاجلته حتى فقدت الأدانيا )
( فأكرمني الرحمن من فضل منه ... بثوب من الإسلام غطى المساويا )
( و ما كان مكروها إلى قتالهم ... غداة دعا الأكفاء من كان داعيا )
( و لم يبغ إذ سألوا النبي سواءنا ... ثلاثتنا حتى حضرنا المناديا )
( لقيناهم كالأسد تخطر بالقنا ... نقاتل في الرحمن من كان عاصيا )
( فما برحت أقدامنا من مقامنا ... ثلاثتنا حتى أزير و المنائيا ) (2/528)
و قال ابن إسحاق : و قال حسان بن ثابت أيضا يذم الحارث بن هشام على فرارة يوم بدر و تركه قومه لا يقاتل دونهم :
( تبلت فؤادك في المنام خريدة ... تشفي الضجيع ببارد بسام )
( كالمسك تخلطه بماء سحابة ... أو عاتق كدم الذبيح مدام )
( نفج الحقيبة بوصها منتضد ... بلهاء غير و شيكة الأقسام )
( بنيت على قطن أجم كأنه ... فضلا إذا قعدت مداك رخام )
( و تكاد تكسل أن تجئ فراشها ... في جسم خرعبة و حسن قوام )
( أما النهار فلا أفتر ذكرها ... و الليل توزعني بها أحلامي )
( أقسمت أنساها و أترك ذكرها ... حتى تغيب في الضريح عظامي )
( بل من لعاذلة تلوم سفاهة ... و لقد عصيت على الهوى لوامى )
( بكرت إلى بسحرة بعد الكرى ... و تقارب من حادث الأيام )
( زعمت بأن المرء يكرب عمره ... عدم لمعتكر من الأصرام )
( إن كنت كاذبة الذي حدثني ... فنجوت منجي الحارث بن هشام )
( ترك الأحبة أن يقاتل دونهم ... و نجا برأس طمرة و لجام )
( يدر العناجيح الجياد بقفرة ... مر الدموك بمحصد و رجام )
( ملأت به الفرجين فارمدت به ... و ثوى أحبته بشر مقام )
( و بنو أبيه ورهطه في معرك ... نصر الإله به ذوي الإسلام )
( طحنتهم و الله ينفذ أمره ... حرب يشب سعيرها بضرام )
( لولا الإله و جريها لتركنه ... جزر السباع و دسنه بحوامى )
( من بين مأسور يشد وثاقه ... صقر إذا لاقى الأسنة حامي )
( و مجدل لا يستجيب لدعوة ... حتى تزول شوامخ الأعلام )
( بالعار و الذل المبين إذا رأى ... بيض السيوف تسوق كل همام )
( بيدي أغر إذا انتمى لم يخزه ... نسب القصار سميدع مقدام )
( بيض إذا لاقت حديدا صممت ... كالبرق تحت ظلال كل غمام )
قال ابن هشام : تركنا في آخرها ثلاث أبيات أقذع فيها (2/529)
قال ابن هشام : فأجابه الحارث بن هشام أخو أبي جهل عمرو بن هشام فقال :
( القوم أعلم ما تركت قتالهم ... حتى رموا فرسي بأشقر مزبد )
( و عرفت أني إن أقاتل واحدا ... أقتل و لا ينكي عدوي مشهدي )
( فصدت عنهم و الأحبة فيهم ... طمعا لهم بعقاب يوم مفسد ) (2/531)
و قال حسان أيضا :
( يا حار قد عولت غير معول ... عند الهياج و ساعة الأحساب )
( إذ تمتطي سرح اليدين نجيبه ... مرطي الجراء طويلة الأقراب )
( و القوم خلفك قد تركت قتالهم ... ترجو النجار و ليس حين ذهاب )
( ألا عطفت على ابن أمك إذ ثوى ... قعص الأسنة ضائع الأسلاب )
( عجل المليك له فأهلك جمعه ... بشنار مخزية و سوء عذاب )
و قال حسان أيضا :
( لقد علمت قريش يوم بدر ... غداة الأسر و القتل الشديد )
( بأنا حين تشتجر العوالي ... حماة الحرب يوم أبي الوليد )
( قتلنا ابني ربيعة يوم سارا ... إلينا في مضاعفة الحديد )
( و فر بها حكيم يوم جالت ... بنو النجار تخطر كالأسود )
( لقد لاقيتم ذلا و قتلا ... جهيزا نافذا تحت الوريد )
( و كل القوم قد ولوا جميعا ... و لم يلووا على الحسب التليد ) (2/531)
و قالت هند بنت أثاثة بن عباد بن المطلب ترثي عبيدة بن الحارث بن المطلب :
( لقد ضمن الصفراء مجدا و سؤددا ... و حلما أصيلا وافر اللب و العقل )
( عبيدة فابكيه لأضياف غربة ... و أرملة تهوى لأشعث كالجذل )
( و بكيه للأقوام في كل شتوة ... إذا احمرا آفاق السماء من المحل )
( و بكيه للأيتام و الريح زفزف ... و تشبيب قدر طالما أزبدت تغلي )
( فإن تصبح النيران قدمات ضوؤها ... فقد كان يذكيهن بالحطب الجزل )
( لطارق ليل أو لملتمس القرى ... و مستنبح أضحى لديه على رسل ) (2/532)
و قال الأموي في مغازيه : حدثني سعيد بن قطن قال : قالت عاتكة بنت عبد المطلب في رؤياها التي رأت و تذكر بدرا :
( ألما تكن رؤياي حقا و يأتكم ... بتأويلها فل من القوم هارب )
( رأى فأتاكم باليقين الذي رأى ... بعينيه ما تفرى السيوف القواضب )
( فقلتم و لم أكذب عليكم و إنما ... يكذبني بالصدق من هو كاذب )
( و ما جاء إلا رهبة هاربا ... حكيم و قد أعيت عليه المذاهب )
( أقامت سيوف الهند دون رءوسكم ... و خطية فيها الشبا و التغالب )
( كأن حريق النار لمع ظباتها ... إذا ما تعاطتها الليوث المشاغب )
( ألا بأبي يوم اللقاء محمدا ... إذا عض من عون الحروب الغوارب )
( مرى بالسيوف المرهفات نفوسكم ... كفاحا كما تمرى السحاب الجنائب )
( فكم بردت أسيافه من مليكة ... و زعزع ورد بعد ذلك صالب )
( فما بال قتلى في القليب و مثلهم ... لدي ابن أخي أسرى له ما يضارب )
( فكانوا نساء أم أتى لنفوسهم ... من الله حين ساق و الحين حالب )
( فكيف رأى عند اللقاء محمدا ... بنو عمه و الحرب فيها التجارب )
( ألم يغشكم ضربا يحار لوقعه ... الجبان و تبدو بالنهار الكواكب )
( حلفت لئن عادوا لنصطلينهم ... بحارا تردي تجر فيها المقانب )
( كأن ضياء الشمس لمع ظباتها ... لها من شعاع النور قرن و حاجب ) (2/532)
و قالت عاتكة أيضا فيما نقله الأموي :
( هلا صبرتم للنبي محمد ... ببدر و من يغشى الوغى حق صابر )
( و لم ترجعوا عن مرهفات كأنها ... حريق بأيدي المؤمنين بواتر )
( و لم تصبروا للبيض حتى أخذتم ... قليلا بأيدي المؤمنين المشاعر )
( و وليتم نفرا و ما البطل الذي ... يقاتل من وقع السلاح بنافر )
( أتاكم بما جاء النبيون قبله ... و ما ابن أخي البر الصدوق بشاعر )
( سيكفي الذي ضيعتم من نبيكم ... و ينصره الحيان عمرو و عامر ) (2/533)
وقال طالب بن أبي طالب يمدح رسول الله صلى الله عليه و سلم و يرثي أصحاب القليب من قريش الذين قتلوا يومئذ من قومه و هو بعد على دين قومه إذ ذاك :
( ألا إن عيني أنفدت دمعها سكبا ... تبكي على كعب و ما إن ترى كعبا )
( ألا إن كعبا في الحروب تخاذلوا ... و أرداهم ذا الدهر و اجتروا ذنبا )
( و عامر تبكي للملمات غدوة ... فياليت شعري هل أرى لهم قريا )
( [ هما أخواي لن يعدا لغية ... تعدو لن يستام جارهما غضبا ] )
( فيا أخوينا عبد شمس و نوفلا ... فدا لكما لا تبعثوا بيننا حربا )
( و لا تصبحوا من بعد ود و ألفة ... أحاديث فيها كلكم يشتكى النكبا )
( ألم تعلموا ما كان في حرب داحس ... وحرب أبي يكسوم إذ ملأوا الشعبا )
( فلولا دفاع الله لا شئ غيره ... لأصبحتم لا تمنعون لكم سربا )
( فما إن جنينا في قريش عظيمة ... سوى أن حمينا خير من وطئ التربا )
( أخا ثقة في النائبات مرزاء ... كريما نثاه لا بخيلا و لا ذربا )
( يطيف به العافون يغشون بابه ... يؤمون نهرا لا نزورا و لا صربا )
( فو الله لا تنفك نفسي حزينة ... تململ حتى تصدقوا الخزرج الضربا ) (2/533)
و قد ذكر ابن إسحاق أشعارا من جهة المشركين قوية الصنعة يرثون بها قتلاهم يوم بدر
فمن ذلك قول ضرار بن الخطاب بن مرداس أخي بني محارب بن فهر و قد أسلم بعد ذلك و السهيلي في روضة يتكلم على أشعار من أسلم منهم بعد ذلك :
( عجبت لفخر الأوس و الحين دائر ... عليهم غدا و الدهر فيه بصائر )
( و فجر بني النجار إن كان معشر ... أصيبوا ببدر كلهم ثم صائر )
( فإن يك قتلى غودرت من رجالنا ... فإنا رجالا بعدهم سنغادر )
( و تردى بنا الجرد العناجيج وسطكم ... بني الأوس حتى يشفي النفس ثائر )
( و وسط بني النجار سوف نكرها ... لها بالقنا و الدارعين زوافر )
( فنترك صرعى تعصب الطير حولهم ... و ليس لهم إلا الأماني ناصر )
( و تبكيهم من أرض يثرب نسوة ... لهن بها ليل عن النوم ساهر )
( و ذلك أنا لا تزال سيوفنا ... بهن دم ممن يحاربن مائر )
( فإن تظفروا في يوم بدر فإنما ... بأحمد أمسى جدكم و هو ظاهر )
( و بالنفر الأخيار هم أولياؤه ... يحامون في اللأواء و الموت حاضر )
( يعد أبو بكر و حمزة فيهم ... و يدعي على وسط من أنت ذاكر )
( أولئك لا من نتجت من ديارها ... بنو الأوس و النجار حين تفاخر )
( و لكن أبوهم من لؤي بن غالب ... إذا عدت الأنساب كعب و عامر )
( هم الطاعنون الخيل في كل معرك ... غداة الهياج الأطيبون الأكابر )
فأجابه كعب بن مالك بقصيدته التي أسلفناها و هي :
( عجبت لأمر الله و الله قادر ... على ما أراد ليس لله قاهر ) (2/534)
قال ابن إسحاق : و قال أبو بكر و اسمه شداد بن الأسود بن شعوب
قلت : و قد ذكر البخاري أنه خلف على امرأة أبي بكر الصديق حين طلقها الصديق و ذلك لما حرم الله المشركات على المسلمين و اسمها أم بكر :
( تحي بالسلامة أم بكر ... و هل لي بعد قومي من سلام )
( فماذا بالقليب قليب بدر ... من القينات و الشرب الكرام )
( و ماذا بالقليب قليب بدر ... من الشيزى تكلل بالسنام )
( و كم لك بالطوى طوى بدر ... من الحومات و النعم المسام )
( و كم لك بالطوى طوى بدر ... من الغايات و الدسع العظام )
( و أصحاب الكريم أبي على ... أخى الكأس الكريمة و الندام )
( و إنك لو رأيت أبا عقيل ... و أصحاب الثنية من نعام )
( إذا لظللت من وجد عليهم ... كأم السقب جائلة المرام )
( يخبرنا الرسول لسوف نحيا ... و كيف حياة أصداء وهام )
قلت : و قد أورد البخاري بعضها في صحيحه ليعرف به حال قائلها (2/535)
قال ابن إسحاق : و قال أمية بن أبي الصلت يرثي من قتل من قريش يوم بدر :
( ألا بكيت على الكرام ... بني الكرام أولى الممادح )
( كبكا الحمام على فروع ... الأيك في الغصن الجوانح )
( يبكين حرى مستكينات ... يرحن مع الروائح )
( أمثالهن الباكيات ... المعولات من النوائح )
( من يبكيهم يبكي على ... حزن و يصدق كل مادح )
( ماذا ببدر فالعقنقل ... من مرازبة جحاجح )
( فمدافع البرقين فالحنان من طرف الأواشح )
( شمط و شبان بها ... ليل مغاوير و حاوح )
( ألا ترون لما أرى ... و لقد أبان لكل لامح )
( أن قد تغير بطن مكة فهي موحشة الأباطح )
( من كل بطريق لبطريق نقى الود واضح )
( دغموص أبواب الملوك ... وجائب للخرق فاتح )
( و من السراطمة الخلا ... جمة الملاوثة المناجح )
( القائلين الفاعل ... ين الآمرين بكل صالح )
( المطعمين الشحم فوق ... الخبز شحما كالأنافح )
( نقل الجفان مع الجفا ... ن إلى جفان كالمناضح )
( ليست بأصغر لمن ... يعفو و لا رح رحارح )
( للضيف ثم الضيف ... بعد الضيف و البسط السلاطح )
( وهب المئين من المئي ... ن إلى المئين من اللواقح )
( سوق المؤبل ... للمؤبل صادرات عن بلادح )
( لكرامهم فوق الكرام ... مزية وزن الرواجح )
( كمثاقل الأرطال بال ... قسطاس بالأيدي الموائح )
( خذلتهم فئة و هم ... يحمون عورات الفضائح )
( الضاربين التقدمية بالمهندة الصفائح )
( و لقد عناني صوتهم ... من بين مستسق و صائح )
( لله در بني علي أيم منهم و ناكح )
( إن لم يغيروا غارة ... شعواء تحجر كل نابح )
( بالمقربات المبعدات ... الطامحات مع الطوامح )
( مردا على حرد إلى ... أسد مكالبة كوالح )
( و يلاق قرن قرنه ... مشى المصافح للمصافح )
( بزهاء ألف ثم ألف ... بين ذي بدن و رامح )
قال ابن هشام : تركنا منها بيتين نال فيهما من أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم (2/536)
قلت : هذا شعر المخذول المعكوس الذي حمله كثرة جهله و قلة عقله على أن مدح المشركين و ذم المؤمنين
و استوحش بمكة من أبي جهل بن هشام و أضرابه من الكفرة اللثام و الجهلة الطغام ولم يستوحش بها من عبد الله و رسوله و حبيبه و خليله فخر البشر و من وجهة أنور من القمر ذي العلم الأكمل و العقل الأشمل و من صاحبه الصديق المبادر إلى التصديق و السابق إلى الخيرات و فعل المكرمات و بذل الألوف و المئات في طاعة رب الأرض و السموات
و كذلك بقية أصحابه الغر الكرام الذين هاجروا من دار الكفر و الجهل إلى دار العلم و الإسلام رضي الله عن جميعهم ما اختلط الضياء و الظلام و ما تعاقبت الليالي و الأيام
و قد تركنا أشعارا كثيرة أوردها ابن إسحاق رحمه الله خوف الإطالة و خشية الملالة
و فيما أوردنا كفاية و لله الحمد و المنة
و قد قال الأموي في مغازية : سمعت أبي حدثنا سليمان بن أرقم عن ابن سيرين عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه و سلم عفا عن شعر الجاهلية
قال سليمان : فذكر ذلك الزهري فقال : عفا عنه إلا قصيدتين كلمة أمية التي ذكر فيها أهل بدر و كلمة الأعشى التي يذكر فيها الأخوص
و هذا الحديث غريب و سليمان بن أرقم هذا متروك و الله أعلم (2/538)
في غزوة بني سليم في سنة ثنتين من الهجرة النبوية
قال ابن إسحاق : و كان فراغ رسول الله صلى الله عليه و سلم من بدر في عقب شهر رمضان أو في شوال
و لما قدم المدينة لم يقم بها إلا سبع ليال حتى غزا بنفسه يريد بني سليم
قال ابن هشام : و استعمل على المدينة سباع بن عرفطة الغفاري أو ابن أم مكتوم الأعمى
قال ابن إسحاق : فبلغ ماء من مياههم يقال له الكدر فأقام عليه ثلاث ليال ثم رجع إلى المدينة و لم يلق كيدا فأقام بها بقية شوال و ذا القعدة و أفدى في إقامته تلك جل الأساري من قريش (2/539)
[ في ] غزوة السويق في ذي الحجة منها و هي غزوة قرقرة الكدر
قال السهيلي : و القرقرة : الأرض الملساء و الكدر : طير في ألوانها كدرة
قال ابن إسحاق : و كان أبو سفيان كما حدثني محمد بن جعفر بن الزبير و يزيد بن رومان و من لا أتهم عن عبد الله بن كعب بن مالك و كان من أعلم الأنصار حين رجع إلى مكة و رجع فل قريش من بدر نذر ألا يمس رأسه ماء من جنابه حتى يغزو محمدا
فخرج في مائتي راكب من قريش لتبر يمينه فسلك النجدية حتى نزل بصدر قناة إلى جبل يقال له نيب من المدينة على تريد أو نحوه
ثم خرج من الليل حتى أتي بني النضير تحت الليل فأتي حتى بن أخطب فضرب عليه بابه فأني أن يفتح له و خافه فانصرف عنه إلى الإسلام بن مشكم و كان سيد بني النضير في زمانه ذلك و صاحب كنزهم فاستأذن له فقراه و سقاه و بطن له من خبر الناس
ثم خرج في عقب ليلته حتى أتى أصحابه فبعث رجالا من قريش فأتوا ناحية منها يقال لها العرض فحرقوا في أصوار من نخل بها و وجدوا رجلا من الأنصار و حليفا له في حرث لهما فقتلوهما و انصرفوا راجعين
فنذر بهم الناس فخرج رسول الله صلى الله عليه و سلم في طلبهم
قال ابن هشام : و استعمل على المدينة أبا لبابة بشير بن عبد المنذر
قال ابن إسحاق : فبلغ قرقرة الكدر ثم انصرف راجعا و قد فاته أبو سفيان و أصحابه
و وجد أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم أزوادا كثيرة قد ألقاها المشركين يتخففون منها و عامتها سويق فسميت غزوة السويق
قال المسلمون : يا رسول الله أنطمع أن تكون هذه لنا غزوة ؟ قال : نعم
قال ابن إسحاق : و قال أبو سفيان فيما كان من أمره هذا و يمدح سلام بن مشكم اليهودي :
( و إني تخيرت المدينة واحدا ... لحلف فلم أندم و لم أتلوم )
( سقاني فرواني كميتا مدامة ... على عجل مني سلام بن مشكم )
( و لما تولى الجيش قلت و لم أكن ... لأفرحه : أبشر بعز و منعم )
( تأمل فإن القوم سر و إنهم ... صريح لؤي لا شماطيط جرهم )
( و ما كان إلا بعض ليلة راكب ... أتي ساعيا من غير خلة معدم ) (2/540)
في دخول علي بن أبي طالب رضي الله عنه على زوجته فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه و سلم
و ذلك في سنة ثنتين بعد وقعة بدر لما رواه البخاري و مسلم من طريق الزهري عن علي بن الحسين عن أبيه الحسين بن علي بن أبي طالب قال : كانت لي شارف من نصيبي من المغنم يوم بدر و كان النبي صلى الله عليه و سلم أعطاني شارفا مما أفاء الله من الخمس يومئذ فلما أردت أبتني فاطمة بنت النبي صلى الله عليه و سلم و اعدت رجلا صواغا من بني قينقاع أن يرتحل معي فنأتي بإذخر فأردت أن أبيعه من الصواغين فأستعين به في وليمة عرسي فبينا أنا أجمع لشارفي من الأقتاب و الغرائر و الحبال و شار فاي مناختان إلى جنب حجرة رجل من الأنصار حتى جمعت ما جمعت فإذا أنا بشارفي قد أحببت أسنمتهما و بقرت خواصرها و أخذ من أكبادهما فلم أملك عيني حين رأت المنظر فقلت : من فعل هذا ؟ قالوا : فعله حمزة بن عبد المطلب و هو هذا البيت و هو في شرب من الأنصار و عنده قيتة و أصحابه فقالت في غنائها :
* ألا يا حمزة للشرف النواء *
فوثب حمزة إلى السيف فأجب أسنمهما و بقر خواصرهما و أخذ من أكبادهما
قال علي : فانطلقت حتى أدخل على النبي صلى الله عليه و سلم و عنده زيد بن الحارثة فعرف النبي صلى الله عليه و سلم الذي لقيت فقال : مالك ؟ فقلت : يا رسول الله ما رأيت كاليوم ! عدا حمزة على ناقتي فأجب أسنمهما و بقر خواصرهما و ها هو ذا في البيت معه شرب
فدعا النبي صلى الله عليه و سلم بردائه فارتداه ثم انطلق يمشي و اتبعه أنا و زيد بن حارثة حتى جاء البيت الذي فيه حمزة فاستأذن عليه فأذن له فطفق النبي صلى الله عليه و سلم يلوم حمزة فيما فعل فإذا حمزة ثمل محمرة عيناه فنظر حمزة إلى النبي صلى الله عليه و سلم ثم صعد النظر فنظر إلى ركبتيه ثم صعد النظر إلى وجهه ثم قال حمزة : و هل أنتم إلا عبيد لأبي !
فعرف النبي صلى الله عليه و سلم أنه ثمل فنكص رسول الله صلى الله عليه و سلم على عقبيه القهقري فخرج و خرجنا معه
هذا لفظ البخاري في كتاب المغازي و قد رواه في أماكن أخر من صحيحه بألفاظ كثيرة
و في هذا دليل على ما قدمناه من أن غنائم بدر قد خمست لا كما زعمه أبو عبيد القاسم بن سلام في كتاب ( الأموال ) من الخمس إنما نزل بعد قسمتها و قد خالفه في ذلك جماعة منهم البخاري و ابن جرير و بينا غلطه في ذلك في التفسير و فيما تقدم و الله أعلم
و كان هذا الصنع من حمزة و أصحابه رضي الله عنهم قبل أن تحرم الخمر بل قد قتل حمزة يوم أحد كما سيأتي و ذلك قبل تحريم الخمر و الله أعلم
و قد يستدل بهذا الحديث من يرى أن عبارة السكران مسلوبة لا تأثير لها لا في طلاق و لا إقرار و لا غير ذلك كما ذهب إليه من ذهب من العلماء كما هو مقرر في كتاب الأحكام
و قال الإمام أحمد : حدثنا سفيان عن ابن أبي تجيح عن أبيه عن رجل سمع عليا يقول : أردت أن أخطب إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم ابنته فقلت : مالي من شئ ثم ذكرت عائدته و صلته فخطبتها إليه فقال : [ هل لك من شئ ؟ ] قلت : لا قال : [ فأين درعك الحطمية التي أعطيتك يوم كذا و كذا ؟ ] قال : هي عندي قال فأعطنيها قال : فأعطيتها إياه
هكذا رواه أحمد في مسنده و فيه رجل منهم
و قد قال أبو داود : [ حدثنا إسحاق بن إسماعيل الطالقاني حدثنا عبدة حدثنا سعيد عن أيوب عن عكرمة عن ابن عباس قال : لما تزوج علي فاطمة رضي الله عنهما قال له رسول الله صلى الله عليه و سلم : أعطها شيئا فال ما عندي شئ قال : أين درعك الحطمية ؟ ]
و رواه النسائي عن هارون بن إسحاق عن عبدة بن سليمان عن سعيد بن أبي عروبة عن أيوب السختياني به
و قال أبو داود : حدثنا كثير بن عبيد الحمصي حدثنا أبو حيوة عن شعيب بن أبي حمزة حدثني غيلان بن أنس من أهل حمص حدثني محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم أن عليا لما تزوج فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه و سلم أراد أن يدخل بها فمنعه رسول الله صلى الله عليه و سلم حتى يعطيها شيئا فقال يا رسول الله ليس لي شئ فقال له النبي صلى الله عليه و سلم : [ أعطها درعك ] فأعطاها درعه ثم دخل بها
و قال البيهقي في الدلائل : أخبرنا أبو عبد الحافظ حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب الأصم حدثنا أحمد بن عبد الجبار حدثنا يونس بن بكير عن ابن إسحاق حدثني عبد الله بن أبي نجيح عن مجاهد عن علي قال : خطبت فاطمة إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فقالت مولاة لي : هل علمت أن فاطمة قد خطبت إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فيزوجك فقلت : و عندي شئ أتزوج به ! فقالت : إنك إن جئت رسول الله صلى الله عليه و سلم زوجك
قال : فو الله ما زالت ترجيني حتى دخلت على رسول الله صلى الله عليه و سلم فلما أن قعدت بين يديه أفحمت فو الله ما استطعت أن أتكلم جلالة و هيبة
فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ ما جاء بك ؟ ألك حاجة ؟ ] فسكت فقال : [ لعلك جئت تخطب فاطمة ؟ ] فقلت : نعم فقال : [ و هل عندك من شئ تستحلها به ؟ ] فقلت : لا و الله يا رسول الله فقال [ ما فعلت درع سلحتها ؟ ]
فو الذي نفس علي بيده إنها لحطمية ما قيمتها أربعة دراهم فقلت : عندي فقال : [ قد زوجتكما فابعث إليها بها فاستحلها بها ] فإن لصدق فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه و سلم
قال ابن إسحاق : فولدت فاطمة لعلي حسنا و حسينا و محسنا ـ مات صغيرا ـ و أم كلثوم و زينب
ثم روى البيهقي من طريق عطاء بن السائب عن علي قال : جهز رسول الله صلى الله عليه و سلم فاطمة في خميل و قربة و وسادة أدم حشوها إذخر
و نقل البيهقي عن كتاب المعرفة لأبي عبد الله بن منده أن عليا تزوج فاطمة بعد سنة من الهجرة و ابتنى بها بعد ذلك بسنة أخرى
قلت : فعلي هذا يكون دخوله بها في أوائل السنة الثالثة من الهجرة فظاهر سياق حديث الشارفين يقتضى أن ذلك عقب وقعة بدر بيسير فيكون ذلك كما ذكرناه في أواخر السنة الثانية و الله أعلم (2/541)
في ذكر جمل من الحوادث في سنة ثنتين من الهجرة
تقدم ما ذكرناه من تزويجه عليه السلام بعائشة أم المؤمنين رضي الله عنها و ذكرنا ما سلف من الغزوات المشهورة و قد تضمن ذلك وفيات أعيان من المشاهير من المؤمنين و المشركين
فكان ممن توفى فيها : الشهداء يوم بدر و هم أربعة عشر ما بين مهاجري و أنصاري تقدم تسميتهم و الرؤساء من مشركي قريش و قد كانوا سبعين رجلا على المشهور و توفى بعد الوقعة بيسير أبو لهب عبد العزي بن عبد المطلب لعنه الله كما تقدم
و لما جاءت البشارة إلى المؤمنين من أهل المدينة مع زيد بن حارثة و عبد الله بن رواحة بما أحل الله بالمشركين و بما فتح على المؤمنين وجدوا رقية بنت رسول الله صلى الله عليه و سلم قد توفيت و ساووا عليها التراب
و كان زوجها عثمان بن عفان قد أقام عندها يمرضها بأمر النبي صلى الله عليه و سلم له بذلك و لهذا ضرب له بسهمه في مغانم بدر و أجره عند الله يوم القيامة
ثم زوجه بأختها الأخرى أم كلثوم بنت رسول الله صلى الله عليه و سلم و لهذا كان يقال لعثمان بن عفان ذو النورين و يقال : إنه لم يغلق أحد على ابنتي نبي واحدة بعد الأخرى غيره رضي الله عنه و أرضاه
و فيها حولت القبلة كما تقدم و زيد في صلاة الحضر على ما سلف
و فيها فرض الصيام صيام رمضان كما تقدم و فيها فرضت الزكاة ذات النصب و فرضت زكاة الفطر
و فيها خضع المشركون من أهل المدينة و اليهود الذين هم بها من بني قينقاع و بني النضير و بني قريظة و يهود بني حارثة و صانعوا المسلمين و أظهر الإسلام طائفة كثيرة من المشركين و اليهود و هم في باطن منافقون منهم من هو على ما كان عليه و منهم من انحل بالكلية فبقي مذبذبا لا إلى هؤلاء و لا هؤلاء كما وصفهم الله في كتابه
قال ابن جرير : و فيها كتب رسول الله صلى الله عليه و سلم المعاقل و كانت معلقة بسيفه
قال ابن جرير : و قيل إن الحسن بن علي ولد فيها
قال : و أما الواقدي فإنه زعم أن ابن سبرة حدثه عن إسحاق بن عبد الله أبي جعفر أن علي بن أبي طالب بني بفاطمة في ذي الحجة منها
قال : فإن كانت هذه الرواية صحيحة فالقول الأول باطل (2/545)
غزوة ذي أمر
في أولها كانت غزوة نجد ويقال لها غزوة ذي أمر
قال ابن إسحاق : فلما رجع رسول الله صلى الله عليه و سلم من غزوة السويق أقام بالمدينة بقية ذي الحجة أو قريبا منها ثم غزا نجدا يريد غطفان وهي غزوة ذي أمر قال ابن هشام : و استعمل على المدينة عثمان ابن عفان قال ابن إسحاق : فأقام بنجد صفرا كله أو قريبا من ذلك ثم رجع و لم يلق كيدا و قال الواقدي : بلغ رسول الله صلى الله عليه و سلم أن جمعا من غطفان من بني ثعلبة ابن محارب تجمعوا بذي أمر يريدون حربه فخرج إليهم من المدينة يوم الخميس لثنتي عشرة خلت من ربيع الأول سنة ثلاث و استعمل على المدينة عثمان ابن عفان فغاب أحد عشرة يوما و كان معه أربعمائة وخمسون رجلا و هربت منه الأعراب في رءوس الجبال حتى بلغ ماء يقال له ذو أمر فعسكر به وأصابهم مطر كثير فابتلت ثياب رسول الله صلى الله عليه و سلم فنزل تحت شجرة هناك و نشر ثيابه لتجف و ذلك بمرأى من المشركين واشتغل المشركون في شئونهم فبعث المشركون رجلا شجاعا منهم يقال له غورث بن الحارث أو دعثور ابن الحارث فقالوا : قد أمكنك الله من قتل محمد فذهب ذلك الرجل ومعه سيف صقيل حتى قام على رسول الله صلى الله عليه و سلم بالسيف مشهورا فقال : يا محمد من يمنعك مني اليوم ؟ قال : [ الله ] ودفع جبريل في صدره فوقع السيف من يده فأخذه رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : [ من يمنعك مني ] ؟ قال : لا أحد و أنا أشهد أن لا له إلا الله وأن محمدا رسول الله والله لا أكثر عليك جمعا أبدا فأعطاه رسول الله صلى الله عليه و سلم سيفه فلما رجع إلى أصحابه فقالوا : ويلك مالك ؟ فقال : نظرت إلى رجل طويل فدفع في صدري فوقعت لظهري فعرفت أنه ملك وشهدت أن محمدا رسول الله والله لا أكثر عليه جمعا وجعل يدعو قومه إلى الإسلام قال : ونزل في ذلك قوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ هم قوم أن يبسطوا إليكم أيديهم فكف أيديهم عنكم } الآية
قال البيهقي : وسيأتي في غزوة ذات الرقاع قصة تشبه هذه فلعلهما قصتان قلت : إن كانت هذه محفوظة فهي غيرها قطعا لأن ذلك الرجل اسمه غورث ابن الحارث أيضا لم يسلم بل استمر على دينه ولم يكن عاهد النبي صلى الله عليه و سلم ألا يقاتله والله أعلم
غزوة الفرع من بحران
قال ابن إسحاق : فأقام بالمدينة ربيعا الأول كله أو إلا قليلا منه ثم غدا يريد قريشا قال ابن هشام : واستعمل على المدينة ابن أم مكتوم قال ابن إسحاق : حتى بلغ بحران وهو معدن بالحجاز من ناحية الفرع و قال الواقدي : إنما كانت غيبته عليه السلام عن المدينة عشرة أيام فالله أ علم (3/3)
وقد زعم الواقدي أنها كانت في يوم السبت النصف من شوال سنة ثنتين من الهجرة فالله أعلم وهم المرادون بقوله تعالى : { كمثل الذين من قبلهم قريبا ذاقوا وبال أمرهم ولهم عذاب أليم }
قال ابن اسحاق : وقد كان فيما بين ذلك من غزو رسول الله صلى الله عليه و سلم أمربني قينقاع قال : وكان من حديثهم أن رسول الله صلى الله عليه و سلم جمعهم في سوقهم ثم قال : [ يا معشر يهود احذروا من الله مثل ما نزل بقريش من النقمة وأسلموا فإنكم قد عرفتم أني نبي مرسل تجدون ذلك في كتابكم وعهد الله إليكم ]
فقالوا : يا محمد أنت ترى أنا قومك ؟ ! لا يغرنك أنك لقيت قوما لا علم لهم بالحرب فأصبت منهم فرصة أما و الله لئن حاربناك لتعلمن أنا نحن الناس
قال ابن إسحاق : فحدثني مولى لزيد بن ثابت عن سعيد بن جبير و عن عكرمة عن ابن عباس قال : ما نزلت هؤلاء الآيات إلا فيهم : { قل للذين كفروا ستغلبون وتحشرون إلى جهنم و بئس المهاد قد كان لكم آية في فئتين التقتا } يعني أصحاب بدر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم وقريش : { فئة تقاتل في سبيل الله وأخرى كافرة يرونهم مثليهم رأى العين و الله يؤيد بنصره من يشاء إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار }
قال ابن إسحاق : وحدثني عاصم بن عمر بن قتاده أن بني قينقاع كانوا أول يهود نقضوا العهد و حاربوا فيما بين بدر و أحد
قال ابن هشام : فذكر عبد الله بن جعفر بن المسور بن مخرمه عن أبي عون قال : كان من أمر بني قينقاع أن امرأة من العرب قدمت بجلب لها فباعته بسوق بني قينقاع وجلست إلى صائغ هناك منهم فجعلوا يريدونها على كشف وجهها فأبت فعمد الصائغ إلى طرف ثوبها فعقده إلى ظهرها فلما قامت انكشفت سوأتها فضحكوا بها فصاحت فوثب رجل من المسلمين على الصائغ فقتله و كان يهوديا فشدت اليهود على المسلم فقتلوه فاستصرخ أهل المسلم المسلمين على اليهود فأغضب المسلمون فوقع الشر بينهم و بين بني قينقاع
قال ابن إسحاق : [ فحدثني عاصم بن عمر بن قتاده قال : فحاصرهم رسول الله صلى الله عليه و سلم حتى نزلوا على حكمه
فقام إليه عبد الله بن أبي بن سلول حين أمكنه الله منهم فقال : يا محمد أحسن في موالي و كانوا حلفاء الخزرج قال : فأبطأ عليه رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : يا محمد أحسن في موالي فأعرض عنه قال : فادخل يده في جيب درع النبي صلى الله عليه و سلم قال ابن هشام : و كان يقال لها ذات الفضول فقال له رسول الله صلى الله عليه و سلم : أرسلني
وغضب رسول الله صلى الله عليه و سلم حتى رأوا لوجهه ظللا ثم قال : ويحك أرسلني قال : لا و الله لا أرسلك حتى تحسن في موالي أربعمائة حاسر و ثلاثمائة دارع قد منعوني من الأحمر و الأسود تحصدهم في غداة واحدة ! إني و الله امروأ أخشى الدوائر قال : فقال له رسول الله صلى الله عليه و سلم : هم لك ]
قال ابن هشام : و استعمل رسول الله صلى الله عليه و سلم في محاصرته إياهم أبا لبابه بشير بن عبد المنذر و كانت محاصرته إياهم خمس عشرة ليله
قال ابن إسحاق : و حدثني أبي عن عباده بن الوليد عن عباده بن الصامت قال : لما حاربت بنو قينقاع رسول الله صلى الله عليه و سلم تشبث بأمرهم عبد الله بن أبي و قام دونهم ومشى عباده بن الصامت إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم و كان من بني عوف له من حلفهم مثل الذي لهم من عبد الله بن أبي فخلعهم إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم و تبرأ إلى الله و إلى رسوله من حلفهم و قال : يا رسول الله أتولى الله و رسوله و المؤمنين و أبرأ من حلف هؤلاء الكفار و ولايتهم
قال : و فيه و في عبد الله بن أبي نزلت الآيات من المائدة : { يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود و النصارى أولياء بعضهم أولياء بعض } الآيات حتى قوله : { فترى الذين في قلوبهم مرض يسارعون فيهم يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة } يعني عبد الله بن أبي إلى قوله { و من يتول الله و رسوله و الذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون } يعني عباده بن الصامت و قد تكلمنا على ذلك في التفسير (3/5)
قال يونس بن بكير عن ابن إسحاق : و كانت بعد وقعة بدر بستة أشهر
قال ابن إسحاق : و كان من حديثها أن قريشا خافوا طريقهم التي كانوا يسلكون إلى الشام حين كان من وقعة بدر ما كان فسلكوا طريق العراق فخرج منهم تجار فيهم أبو سفيان و معه فضة كثيرة و هي عظم تجارتهم و استأجروا رجلا من بكر بن وائل يقال له فرات بن حيان يعني العجلى حليف بني سهم ليدلهم على تلك الطريق
قال ابن إسحاق : فبعث رسول الله صلى الله عليه و سلم زيد بن حارثة فلقيهم على ماء يقال له القردة فأصاب تلك العير و ما فيها و أعجزه الرجال فقدم بها على رسول الله صلى الله عليه و سلم
فقال في ذلك حسان بن ثابت :
( دعوا فلجات الشام قد حال دونها ... جلاد كأفواه المخاض الأوارك )
( بأيدي رجال هاجروا نحو ربهم ... و أنصاره حقا و أيدي الملائك )
( إذا سلكت للغور من بطن عالج ... فقولا لها ليس الطريق هنالك )
قال ابن هشام : و هذه القصيدة في أبيات لحسان و قد أجابه فيها أبو سفيان ابن الحارث
و قال الواقدي : كان خروج زيد بن حارثة في هذه السرية مستهل جمادى الأولى على رأس ثمانية و عشرين شهرا من الهجرة و كان رئيس هذه العير صفوان بن أمية
و كان سبب بعثة زيد بن حارثة أن نعيم بن مسعود قدم المدينة و معه خبر هذه العير و هو على دين قومه و اجتمع بكنانة بن أبي الحقيق في بني النضير و معه سليط بن النعمان من أسلم فشربوا و كان ذلك قبل أن تحرم الخمر فتحدث بقضية العير نعيم بن مسعود و خروج صفوان بن أمية فيها و ما معه من الأموال فخرج سليط من ساعته فأعلم رسول الله صلى الله عليه و سلم فبعث من وقته زيد بن حارثة فلقوهم فأخذوا الأموال و أعجزهم الرجال و إنما أسروا رجلا أو رجلين و قدموا بالعير فخمسها رسول الله صلى الله عليه و سلم فبلغ خمسها عشرين ألفا و قسم أربعة أخماسها على السرية و كان فيمن أسر الدليل فرات بن حيان فأسلم رضي الله عنه
قال ابن جرير : و زعم الواقدي أن في ربيع من هذه السنة تزوج عثمان بن عفان أم كلثوم بنت رسول الله صلى الله عليه و سلم و أدخلت عليه في جمادى الآخرة منه (3/8)
و كان من بني طيء ثم أحد بني نبهان و لكن أمه من بني النضير
هكذا ذكره ابن إسحاق قبل جلاء بني النضير و ذكره البخاري و البيهقي بعد قصة بني النضير و الصحيح ما ذكره ابن إسحاق لما سيأتي فإن بني النضير إنما كان أمرها بعد وقعة أحد و في محاصرتهم حرمت الخمر كما سنبينه بطريقه إن شاء الله قال البخاري في صحيحه : ( قتل كعب بن الأشرف ) [ حدثنا علي بن عبد الله حدثنا سفيان قال عمرو : سمعت جابر بن عبد الله يقول : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : من لكعب بن الأشرف ؟ فإنه قد آذى الله و رسوله فقام محمد بن مسلمة فقال : يا رسول الله أتحب أن أقتله ؟ قال : نعم قال : فأذن لي أن أقول شيئا قال : قل
فأتاه محمد بن مسلمة فقال : إن هذا الرجل قد سألنا صدقة و إنه قد عنانا و إني قد أتيتك استسلفك
قال : و أيضا و الله لتملنه
قال : إنا قد اتبعناه فلا نحب أن ندعه حتى ننظر إلى أي شيء يصير شأنه و قد أردنا أن تسلفنا
قال : نعم أرهنوني قلت : أي شيء تريد ؟ قال : أرهنوني نسائكم
فقالوا : كيف نرهنك نساءنا و أنت أجمل العرب ! قال فأرهنوني أبناءكم قالوا : كيف نرهنك أبناءنا فيسب أحدهم فيقال : رهن بوسق أو وسقين ! هذا عار علينا و لكن نرهنك اللأمة قال سفيان : يعني السلاح
فواعده أ ن يأتيه ليلا فجاءه ليلا و معه أبو نائلة و هو أخو كعب من الرضاعة فدعاهم إلى الحصن فنزل إليهم فقالت له إمرأته : أين تخرج هذه الساعة ؟ و قال غير عمرو : قالت : أسمع صوتا كأنه يقطر منه الدم قال : إنما هو أخي محمد ابن مسلمة و رضيعي أبو نائلة إن الكريم لو دعي إلى طعنة بليل لأجاب !
قال : و يدخل محمد بن مسلمة معه رجلين فقال : إذا ما جاء فإني مائل بشعره فأشمه فإذا رأيتموني استمكنت من رأسه فدونكم فاضربوه و قال : مرة ثم أشمكم فنزل إليهم متوشحا و هو ينفح منه ريح الطيب فقال : ما رأيت كاليوم ريحا أي أطيب و قال غير عمرو : قال : عندي أعطر نساء العرب و أجمل العرب قال عمرو : فقال : أتأذن لي أن أشم رأسك ؟ قال : نعم فشمه ثم أشم أصحابه ثم قال : أتأذن لي ؟ قال : نعم فلما استمكن منه قال : دونكم فقتلوه ثم أتوا النبي صلى الله عليه و سلم فأخبروه ]
و قال محمد ابن إسحاق : كان من حديث كعب بن الأشرف وكان رجلا من طىء ثم أحد بني نبهان و أمه من بني النضير أنه لما بلغه الخبر عن مقتل أهل بدر حين قدم زيد بن حارثة و عبد الله بن رواحة قال : و الله لئن كان محمد أصاب هؤلاء القوم لبطن الأرض خير من ظهرها
فلما تيقن عدو الله من الخبر خرج إلى مكة فنزل على المطلب بن أبي وداعة بن ضبيرة السهمي و عنده عاتكة بنت أبي العيص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف فأنزلته و أكرمته و جعل يحرض على قتال رسول الله صلى الله عليه و سلم و ينشد الأشعار و يندب من قتل من المشركين يوم بدر فذكر ابن إسحاق قصيدته التي أولها :
( طحنت رحى بدر لمهلك أهله ... و لمثل بدر تستهل و تدمع )
وذكر جوابها من حسان بن ثابت رضي الله عنه و من غيره
ثم عاد إلى المدينة فجعل يشبب بنساء المسلمين و يهجو النبي صلى الله عليه و سلم و أصحابه
و قال موسى بن عقبة : و كان كعب بن الأشرف أحد بني النضير أو فيهم قد أذى رسول الله صلى الله عليه و سلم بالهجاء وركب إلى قريش فاستغراهم و قال له أبو سفيان و هو بمكة : أناشدك أديننا أحب إلى الله أم دين محمد و أصحابه ؟ و أينا أهدى في رأيك و أقرب إلى الحق ؟ إنا نطعم الجذور الكوماء و نسقي اللبن على الماء ونطعم ما هبت الشمال
فقال له كعب بن الأشرف : أنتم أهدى منه سبيلا !
قال فأنزل الله على رسول الله صلى الله عليه و سلم : { ألم ترى إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يؤمنون بالجبت و الطاغوت ويقولون للذين كفروا : هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلا أولئك الذين لعنهم الله و من يلعن الله فلن تجد له نصيرا } وما بعدها
قال موسى و محمد ابن إسحاق : [ و قدم المدينة يعلن بالعداوة ويحرض الناس على الحرب ولم يخرج من مكة حتى أجمع أمرهم على قتال رسول الله صلى الله عليه و سلم وجعل يشبب بأم الفضل بن الحارث و بغيرها من نساء المسلمين
قال ابن إسحاق : فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم كما حدثني عبد الله بن المغيث ابن أبي بردة : من لابن الأشرف ؟
فقال له محمد بن مسلمة أخو بني عبد الأشهل : أنا لك به يا رسول الله أنا أقتله قال : فافعل إن قدرت على ذلك ]
قال : فرجع محمد بن مسلمة فمكث ثلاث لا يأكل و لا يشرب إلا ما يعلق نفسه فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه و سلم فدعاه فقال له : لم تركت الطعام و الشراب ؟ فقال : يا رسول الله قلت لك قولا لا أدري هل أفي لك به أم لا قال : إنما عليك الجهد
قال : يا رسول الله إنه لا بد لنا أن نقول قال : فقولوا ما بدا لكم فأنتم في حل من ذلك
قال : فاجتمع في قتله محمد بن مسلمة و سلكان بن سلامة بن وقش و هو أبو نائلة أحد بني عبد الأشهل وكان أخا كعب بن الأشرف من الرضاعة وعباد بن بشر بن وقش أحد بني عبد الأشهل والحارث بن أوس بن معاذ أحد بني عبد الأشهل وأبو عبس بن جبر أخو بني حارثة
قال : فقدموا بين أيديهم إلى عدو الله كعب سلكان بن سلامة أبا نائلة فجاءه فتحدث معه ساعة فتناشدا شعرا و كان أبو نائلة يقول الشعر ثم قال : ويحك يا بن الأشرف شرف ! إني قد جئتك لحاجة أريد ذكرها لك فاكتم عني قال : أفعل
قال : كان قدوم هذا الرجل علينا بلاء عادتنا العرب ورمتنا عن قوس واحدة و قطعت عنا السبيل حتى ضاع العيال و جهدت الأنفس و أصبحنا قد جهدنا وجهد عيالنا
فقال كعب : أنا ابن الأشرف ! أما و الله لقد كنت أخبرك يا بن سلامة أن الأمر يصير إلى ما أقول
فقال له سلكان : إني قد أردت أن تبيعنا طعاما و نرهنك و نوثق لك و تحسن في ذلك
قال : ترهنوني أبناءكم ؟ قال : لقد أردت أن تفضحنا إن معي أصحابا لي على مثل رأي وقد أردت أن أتيك بهم فتبيعهم و تحسن في ذلك و نرهنك من الحلقة ما فيه وفاء
و أراد سلكان ألا ينكر السلاح إذا جاءوا بها فقال : إن في الحلقة لوفاء
قال : فرجع سلكان إلى أصحابه فأخبرهم خبره و أمرهم أن يأخذوا السلاح ثم ينطلقوا فيجتمعوا إليه فاجتمعوا عند رسول الله صلى الله عليه و سلم
قال ابن إسحاق : [ فحدثني ثور بن زيد عن عكرمة عن ابن عباس قال : مشى معهم رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى بقيع الغرقد ثم وجههم و قال : انطلقوا على اسم الله اللهم أعنهم ثم رجع رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى بيته وهو في ليلة مقمرة فانطلقوا حتى انتهوا إلى حصنه
فهتف به أبو نائلة و كان حديث عهد بعرس فوثب في ملحفته فأخذت امرأته بناحيتها و قالت : أنت امرؤ محارب و إن أصحاب الحرب لا ينزلون في هذه الساعة قال : إنه أبو نائلة لو وجدني نائما ما أيقظني فقالت : والله إني لأعرف في صوته الشر قال : يقول لها كعب : لو دعي الفتى لطعنة أجاب !
فنزل فتحدث معهم ساعة و تحدثوا معه ثم قالوا : هل لك يا ابن الأشرف أن نتماشى إلى شعب العجوز فنتحدث به بقية ليلتنا هذه ؟ قال : إن شئتم فخرجوا فمشوا ساعة
ثم إن أبا نائلة شام يده في فود رأسه ثم شم يده فقال : ما رأيت كالليلة طيبا أعطر قط ثم مشى ساعة ثم عاد لمثلها حتى اطمأن ثم مشى ساعة ثم عاد لمثلها فأخذ بفودي رأسه ثم قال : اضربوا عدو الله ! فاختلفت عليه أسيافهم فلم تغن شيئا
قال محمد بن مسلمة : فذكرت مغولا في سيفي فأخذته و قد صاح عدو الله صيحة لم يبقى حولنا حصن إلا أوقدت عليه نار قال : فوضعته في ثنته ثم تحاملت عليه حتى بلغت عانته فوقع عدو الله و قد أصيب الحارث بن أوس بجرح في رجله أو في رأسه أصابه بعض سيوفنا
قال : فخرجنا حتى سلكنا على بني أمية بن زيد ثم على بني قريظة ثم على بعاث حتى أسندنا في حرة العريض و قد أبطأ علينا صاحبنا الحارث بن أوس و نزفه الدم فوقفنا له ساعة ثم أتانا يتبع آثارنا فاحتملناه فجئنا به رسول الله صلى الله عليه و سلم آخر الليل و هو قائم يصلي فسلمنا عليه فخرج إلينا فأخبرناه بقتل عدو الله و تفل رسول الله صلى الله عليه و سلم على جرح صاحبنا و رجعنا إلى أهلنا فأصبحنا و قد خافت يهود بوقعتنا بعدو الله فليس بها يهودي إلا و هو خائف على نفسه ]
قال بن جرير : و زعم الواقدي أنهم جاءوا برأس كعب بن الأشرف إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم
قال ابن إسحاق : وفي ذلك يقول كعب بن مالك :
( فغودر منهم كعب صريعا ... فذلت بعد مصرعه النضير )
( على الكفين ثم و قد علته ... بأيدينا مشهرة ذكور )
( بأمر محمد إذ دس ليلا ... إلى كعب أخا كعب يسير )
( فماكره فأنزله بمكر ... و محمود أخو ثقة جسور )
قال ابن هشام : و هذه الأبيات في قصيدة له في يوم بني النضير ستأتي
قلت : كان قتل كعب بن الأشرف على يدي الأوس بعد وقعة بدر ثم إن الخزرج قتلوا أبا رافع بن أبي الحقيق بعد وقعة أحد كما سيأتي بيانه إنشاء الله و به الثقة
و قد أورد ابن إسحاق شعر حسان بن ثابت :
( لله در عصابة لاقيتهم ... يا ابن الحقيق و أنت يا ابن الأشرف )
( يسرون بالبيض الخفاف إليكم ... مرحا كأسد في عرين مغرف )
( حتى أتوكم في محل بلادكم ... فسقوكم حتفا ببيض ذفف )
( مستبصرين لنصر دين نبيهم ... مستصغرين لكل أمر مجحف )
قال محمد ابن إسحاق : و قال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ من ظفرتم به من رجال يهود فاقتلوه ] فوثب عند ذلك محيصة بن مسعود الأوسي على ابن سنينة رجل من تجار يهود كان يلابسهم و يبايعهم فقتله و كان أخوه حويصة بن مسعود أسن منه و لم يسلم بعد فلما قتله جعل حويصة يضربه و يقول : أي عدو الله أقتلته ؟ ! أما و الله لرب شحم في بطنك من ماله !
قال محيصة : فقلت و الله لقد أمرني بقتله من لو أمرني بقتلك لضربت عنقك ! قال : فوالله إن كان لأول إسلام حويصة و قال : و الله لو أمرك محمد بقتلي لتقتلني ؟ قال : نعم والله لو أمرني بضرب عنقك لضربتها !
قال : فواالله إن دينا بلغ بك هذا لعجب ! فأسلم حويصة
قال ابن إسحاق : حدثني بهذا الحديث مولى لبني حارثة عن إبنة محيصة عن أبيها
و قال في ذلك محيصة :
( يلوم ابن أم لو أمرت بقتله ... لطبقت ذفراه بأبيض قارب )
( حسام كلون الملح أخلص صقله ... متى ما أصوبه فليس بكاذب )
( و ما سرني أني قتلتك طائعا ... و أن لنا ما بين بصرى و مأرب )
و حكى ابن هشام عن أبي عبيده عن أبي عمرو المدني أن هذه القصة كانت بعد مقتل بني قريظة فإن المقتول كان كعب بن يهوذا فلما قتله محيصة عن أمر رسول الله صلى الله عليه و سلم يوم بني قريظة قال له أخوه حويصة ما قال فرد عليه محيصة بم تقدم فأسلم حويصة يومئذ فالله أعلم
تنبيه : ذكر البيهقي و البخاري قبله خبر بني النضير قبل وقعة أحد و الصواب إيرادها بعد ذلك كما ذكر ذلك محمد ابن إسحاق و غيره من أئمة المغازي
و برهانه : أن الخمر حرمت ليالي حصار بني النضير و ثبت في الصحيح أنه اصطبح الخمر جماعة ممن قتل يوم أحد شهيدا فدل على أن الخمر كانت إذ ذاك حلالا و إنما حرمت بعد ذلك
فتبين ما قلناه من أن قصة بني النضير بعد وقعة أحد و الله أعلم
تنبيه آخر : خبر يهود بني قينقاع بعد وقعة بدر كما تقدم و كذلك قتل كعب بن الأشرف اليهودي على يدي الأوس
و خبر بني النضير بعد وقعة أحد كما سيأتي و كذلك مقتل أبي رافع اليهودي تاجر أهل الحجاز على يدي الخزرج و خبر يهود بني قريظة بعد يوم الأحزاب و قصة الخندق كما سيأتي (3/9)
( فائدة ) ذكرها المؤلف في تسمية أحد قال : سمي أحد أحدا لتوحده من بين تلك الجبال
و في الصحيح : [ أحد جبل يحبنا و نحبه ] قيل : معناه أهله و قيل : لأنه كان يبشره بقرب أهله إذا رجع من سفره كما يفعل المحب و قيل : على ظاهره كقوله : { و إن منها لما يهبط من خشية الله } و في الحديث عن أبي عبس بن جبر : [ أحد يحبنا و نحبه و هو على باب الجنة و عير يبغضنا و نبغضه و هو على باب من أبواب النار ]
قال السهيلي مقويا لهذا الحديث : و قد ثبت أنه عليه السلام قال : [ المرء مع من أحب ]
و هذا من غريب صنع السهيلي فإن هذا الحديث إنما يراد به الناس و لا يسمى الجبل امرءا
و كانت هذه الغزوة في شوال سنة ثلاث قاله الزهري و قتادة و موسى ابن عقبة و محمد ابن إسحاق و مالك
قال ابن إسحاق : للنصف من شوال و قال قتادة : يوم السبت الحادي عشر منه
قال مالك : و كانت الواقعة في أول النهار و هي على المشهور التي أنزل الله فيها قوله تعالى : { و إذ غدوت من أهلك تبوئ المؤمنين مقاعد للقتال و الله سميع عليم إذ همت طائفتان منكم أن تفشلا و الله وليهما و على الله فليتوكل المؤمنون و لقد نصركم الله ببدر و أنتم أذلة فاتقوا الله لعلكم تشكرون إذ تقول للمؤمنين ألن يكفيكم أن يمدكم ربكم بثلاثة آلاف من الملائكة منزلين بلى إن تصبروا و تتقوا و يأتوكم من فورهم هذا يمددكم ربكم بخمسة آلاف من الملائكة مسومين } الآيات و ما بعدها إلى قوله : { ما كان الله ليذر المؤمنين على ما انتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب و ما كان الله ليطلعكم على الغيب }
و قد تكلمنا على تفاصيل ذلك كله في كتاب التفسير بما فيه الكفاية و لله الحمد و المنة
و لنذكر هاهنا ملخص الوقعة مما ساقه محمد ابن إسحاق و غيره من علماء هذا الشأن رحمه الله (3/18)
و كان من حديث أحد كما حدثني محمد بن مسلم الزهري و محمد بن يحيى بن حبان و عاصم بن عمرو بن قتادة و الحصين بن عبد الرحمن بن عمرو بن سعد بن معاذ و غيرهم من علمائنا كلهم قد حدث ببعض هذا الحديث عن يوم أحد و قد اجتمع حديثهم كلهم فيما سقت قالوا ـ أو من قال منهم ـ : لما أصيب يوم بدر من كفار قريش أصحاب القليب و رجع فلهم إلى مكة و رجع أبو سفيان بعيره مشى عبد الله بن أبي ربيعة و عكرمة بن أبي جهل و صفوان ابن أمية في رجال من قريش ممن أصيب آباؤهم و أبناؤهم و إخوانهم يوم بدر فكلموا أبا سفيان و من كانت له في تلك العير من قريش تجارة فقالوا : يا معشر قريش إن محمدا قد وتركم و قتل خياركم فأعينونا بهذا المال على حربه لعلنا ندرك منه ثأرا ففعلوا
قال ابن إسحاق : ففيهم كما ذكر لي بعض أهل العلم أنزل الله { إن الذين كفروا ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله فسينفقونها ثم تكون عليم حسرة ثم يغلبون و الذين كفروا إلى جهنم يحشرون }
قالوا : فاجتمعت قريش لحرب رسول الله صلى الله عليه و سلم حين فعل ذلك أبو سفيان و أصحاب العير بأحابيشها و من أطاعها من قبائل كنانة و أهل تهامة
و كان أبو عزة عمرو بن عبد الله الجمحي قد من عليه رسول الله صلى الله عليه و سلم يوم بدر و كان فقيرا ذا عيال و حاجة و كان في الأسارى فقال له صفوان بن أمية : يا أبا عزة إنك امرؤ شاعر فأعنا بلسانك و اخرج معنا فقال : إن محمدا قد من علي فلا أريد أن أظاهر عليه قال : بلى فأعنا بنفسك فلك الله إن رجعت أن أغنيك و إن قتلت أن أجعل بناتك مع بناتي يصبهن ما أصابهن من عسر و يسر
فخرج أبو عزة يسير في تهامة و يدعو بني كنانة و يقول :
( أيا بني عبد مناة الرزام ... أنتم حماة و أبوكم حام )
( لا يعدوني نصركم بعد العام ... لا تسلموني لا يحل إسلام )
قال : و خرج نافع بن عبد مناف بن وهب بن حذافة بن جمح إلى بني مالك بن كنانة يحرضهم و يقول :
( يا مال مال الحسب المقدم ... أنشد ذا القربى و ذا التذمم )
( من كان ذا رحم و من لم يرحم ... الحلف وسط البلد المحرم )
عند حطيم الكعبة المعظم
قال : و دعا جبير بن مطعم غلاما له حبشيا يقال له وحشي يقذف بحربة له قذف الحبشة قلما يخطئ بها فقال له : اخرج مع الناس فإن أنت قتلت حمزة عم محمد بعمي طعيمة بن عدي فأنت عتيق
قال : فخرجت قريش بحدها و حديدها و جدها و أحابيشها و من تابعها من بني كنانة و أهل تهامة و خرجوا معهم بالظعن التماس الحفيظة وألا يفروا
و خرج أبو سفيان صخر بن حرب و هو قائد الناس و معه زوجته هند بنت عتبة بن ربيعة
و خرج عكرمة بن أبي جهل بزوجته ابنة عمه أم حكيم بنت الحارث بن هشام بن المغيرة و خرج عمه الحارث بن هشام بزوجته فاطمة بنت الوليد بن المغيرة
و خرج صفوان بن أمية ببرزة بنت مسعود بن عمرو بن عمير الثقفية و خرج عمرو بن العاص بريطة بنت منبه بن الحجاج و هي أم ابنة عبد الله بن عمرو
و ذكر غيرهم ممن خرج بامرأته
قال : و كان وحشي كلما مر بهند بنت عتبة أو مرت به تقول : ويها أبا دسمة اشف و اشتف يعني تحرضه على قتل حمزة بن عبد المطلب
قال : فأقبلوا حتى نزلوا بعينين بجبل ببطن السبخة من قناة على شفير الوادي مقابل المدينة
فلما سمع بهم رسول الله صلى الله عليه و سلم و المسلمون قال لهم : [ قد رأيت و الله خيرا رأيت بقرا تذبح و رأيت في ذباب سيفي ثلما و رأيت أني أدخلت يدي في درع حصينة فأولتها المدينة ] و هذا الحديث رواه البخاري و مسلم جميعا عن [ أبي كريب عن أبي أسامة عن بريد بن عبد الله بن أبي بردة عن أبي بردة عن أبي موسى الأشعري عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : رأيت في المنام أني أهاجر من مكة إلى أرض بها نخل فذهب وهلي إلى أنها اليمامة أو هجر فإذا هي المدينة يثرب و رأيت في رؤياي هذه أني هززت سيفا فانقطع صدره فإذا هو ما أصيب من المؤمنين يوم أحد ثم هززته أخرى فعاد أحسن ما كان فإذا هو ما جاء الله به من الفتح و اجتماع المؤمنين و رأيت فيها أيضا بقرا و الله خير فإذا هم النفر من المؤمنين يوم أحد و إذا الخير ما جاء الله به من الخير و ثواب الصدق الذي أتانا بعد يوم بدر ] قال البيهقي : [ أخبرنا أبو عبد الله الحافظ أخبرنا الأصم أخبرنا محمد بن عبد الله بن عبد الحكم أخبرنا ابن وهب أخبرني ابن أبي الزناد عن أبيه عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة عن ابن عباس قال : تعقل رسول الله صلى الله عليه و سلم سيفه ذا الفقار يوم بدر قال ابن عباس : و هو الذي رأى فيه الرؤيا يوم أحد
و ذلك أن رسول الله صلى الله عليه و سلم لم جاءه المشركون يوم أحد كان رأيه أن يقيم بالمدينة فيقاتلهم فيها فقال له ناس لم يكونوا شهدوا بدرا : نخرج يا رسول الله إليهم نقاتلهم بأحد و رجوا أن يصيبهم من الفضيلة ما أصاب أهل بدر
فما زالوا برسول الله صلى الله عليه و سلم حتى لبس أداته ثم ندموا و قالوا يا رسول الله أقم فالرأي رأيك
فقال لهم : ما ينبغي لنبي أن يضع أداته بعد ما لبسها حتى يحكم الله بينه و بين عدوه
قال : و كان قال لهم يومئذ قبل أن يلبس الأداة : إني رأيت أني في درع حصينة فأولتها المدينة و أني مردف كبشا و أولته كبش الكتيبة و رأيت أن سيفي ذا الفقار فل فأولته فلا فيكم و رأيت بقرا يذبح فبقر و الله خير ]
رواه الترمذي و ابن ماجة من حديث عبد الرحمن ابن أبي الزناد عن أبيه به
و روى البيهقي [ من طريق حماد بن سلمة عن علي بن زيد عن أنس مرفوعا قال : رأيت فيما يرى النائم كأني مردف كبشا و كأن ضبة سيفي انكسرت فأولت أني أقتل كبش القوم و أولت كسر ضبة سيفي قتل رجل من عترتي ]
فقتل حمزة و قتل رسول الله صلى الله عليه و سلم طلحة وكان صاحب اللواء
و قال موسى ابن عقبة : ورجعت قريش واستجلبوا من أطاعهم من مشركي العرب و سار أبو سفيان بن حرب في جمع قريش وذلك في شوال من السنة المقبلة من وقعة بدر حتى نزلوا ببطن الوادي الذي قبلى أحد وكان رجال من المسلمين لم يشهدوا بدرا قد ندموا على ما فاتهم من السابقة وتمنوا لقاء العدو ليبلوا ما أبلى إخوانهم يوم بدر
فلما نزل أبو سفيان والمشركون بأصل أحد فرح المسلمون الذين لم يشهدوا بدرا بقدوم العدو عليهم و قالوا قد ساق الله علينا أمنيتنا
ثم إن رسول الله صلى الله عليه و سلم أري ليلة الجمعة رؤيا فأصبح فجاءه نفر من أصحابه فقال لهم : [ رأيت البارحة في منامي بقرا تذبح و الله خير و رأيت سيفي ذا الفقار انقصم من عند ضبته أو قال : به فلول فكرهته و هما مصيبتان و رأيت أني في درع حصينة و أني مردف كبشا ]
فلما أخبرهم رسول الله صلى الله عليه و سلم برؤياه قالوا : يا رسول الله ماذا أولت رؤياك ؟ قال : [ أولت البقر الذي رأيت بقرا فينا و في القوم و كرهت ما رأيت بسيفي
و يقول رجال : كان الذي رأى بسيفه : الذي أصاب وجهه فإن العدو أصاب وجهه يومئذ و قصموا رباعيته و خرقوا شفته يزعمون أن الذي رماه عتبه بن أبي وقاص و كان البقر من قتل المسلمين يومئذ
و قال : أولت الكبش أنه كبش كتيبة العدو يقتله الله و أولت الدرع الحصينة المدينة فامكثوا و اجعلوا الذراري في الآطام فإن دخل علينا القوم في الأزقة قاتلناهم و رموا من فوق البيوت و كانوا قد سكوا أزقة المدينة بالبنيان حتى صارت كالحصن ]
فقال الذين لم يشهدوا بدرا : كنا نتمنى هذا اليوم و ندعو الله فقد ساقه الله إلينا و قرب المسير
و قال رجل من الأنصار : متى نقاتلهم يا رسول الله إذا لم نقاتلهم عند شعبنا ؟ و قال رجال : ماذا نمنع إذا لم نمنع الحرب بروع ؟
و قال رجال قولا صدقوا به و مضوا عليه منهم حمزة بن عبد المطلب قال : و الذي أنزل عليك الكتاب لنجادلنهم
و قال نعيم بن مالك بن ثعلبة و هو أحد بني سالم : يا نبي الله لا تحرمنا الجنة فوالذي نفسي بيده لأدخلنها
فقال له رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ بم ] ؟ قال : بأني أحب الله و رسوله و لا أفر يوم الزحف
فقال له رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ صدقت ] و استشهد يومئذ
و أبى كثير من الناس إلا الخروج إلى العدو و لم يتناهوا إلى قول رسول الله صلى الله عليه و سلم و رأيه و لو رضوا بالذي أمرهم كان ذلك و لكن غلب القضاء و القدر و عامة من أشار عليه بالخروج رجال لم يشهدوا بدرا قد علموا الذي سبق لأصحاب بدر من الفضيلة
فلما صلى رسول الله صلى الله عليه و سلم الجمعة وعظ الناس و ذكرهم و أمرهم بالجد و الجهاد ثم انصرف من خطبته و صلاته فدعا بلأمته فلبسها ثم أذن في الناس بالخروج
فلما رأى ذلك رجال من ذوي الرأي قالوا : أمرنا رسول الله صلى الله عليه و سلم أن نمكث بالمدينة و هو أعلم بالله و ما يريد و يأتيه الوحي من السماء
فقالوا : يا رسول الله أمكث كما أمرتنا فقال : [ ما ينبغي لنبي إذا أخذ لأمة الحرب و أذن بالخروج إلى العدو أن يرجع حتى يقاتل و قد دعوتكم إلى هذا الحديث فأبيتم إلا الخروج فعليكم بتقوى الله و الصبر عند البأس إذا لقيتم العدو و انظروا ماذا أمركم الله به فافعلوا ]
قال : فخرج رسول الله صلى الله عليه و سلم و المسلمون فسلكوا على البدائع و هم ألف رجل و المشركون ثلاثة آلاف فمضى رسول الله صلى الله عليه و سلم حتى نزل بأحد
و رجع عنه عبد الله بن أبي بن سلول في ثلاثمائة فبقي رسول الله صلى الله عليه و سلم في سبعمائة
قال البيهقي : هذا هو المشهور عند أهل المغازي أنهم بقوا في سبعمائة مقاتل قال : والمشهور عن الزهري أنهم بقوا في أربعمائة مقاتل كذلك رواه يعقوب بن سفيان عن أصبغ عن ابن وهب عن يونس عن الزهري و قيل عنه بهذا الإسناد سبعمائة فالله أعلم
قال موسى ابن عقبة : و كان على خيل المشركين خالد بن الوليد و كان معهم مائة فرس و كان لواؤه مع عثمان بن طلحة قال : و لم يكن مع المسلمين فرس واحدة ثم ذكر الواقعة كما سيأتي تفصيلها إن شاء الله تعالى
و قال محمد ابن إسحاق : [ لما قص رسول الله صلى الله عليه و سلم رؤياه على أصحابه قال لهم : إن رأيتم أن تقيموا بالمدينة و تدعوهم حيث نزلوا فإن أقاموا أقاموا بشر مقام و إن هم دخلوا علينا قاتلناهم فيها ]
و كان رأي عبد الله بن أبي بن سلول مع رأي رسول الله صلى الله عليه و سلم في ألا يخرج إليهم
فقال رجال من المسلمين ممن أكرم الله بالشهادة يوم أحد و غيرهم ممن كان فاته بدر : يا رسول الله اخرج بنا إلى أعدائنا لا يرون أنا جبنا عنهم و ضعفنا
فقال عبد الله بن أبي : يا رسول الله لا تخرج إليهم فوالله ما خرجنا منها إلى عدو قط إلا أصاب منا و لا دخلها علينا إلا أصبنا منه
فلم يزل الناس برسول الله صلى الله عليه و سلم حتى دخل فلبس لأمته و ذلك يوم الجمعة حين فرغ من الصلاة و قد مات في ذلك اليوم رجل من بني النجار يقال له مالك ابن عمرو فصلى عليه ثم خرج عليهم و قد ندم الناس و قالوا : استكرهنا رسول الله صلى الله عليه و سلم و لم يكن لنا ذلك
فلما خرج عليهم قالوا : يا رسول الله إن شئت فاقعد فقال : [ ما ينبغي لنبي إذا لبس لأمته أن يضعها حتى يقاتل ] فخرج رسول الله صلى الله عليه و سلم في ألف من أصحابه
قال ابن هشام : و استعمل على المدينة ابن أم مكتوم
قال ابن إسحاق : حتى إذا كان بالشوط بين المدينة و أحد انخزل عنه عبد الله بن أبي بثلث الناس و قال : أطاعهم و عصاني ما ندري علام نقتل أنفسنا هاهنا أيها الناس
فرجع بمن تبعه من قومه من أهل النفاق و الريب و اتبعهم عبد الله بن عمر بن حرام السلمي والد جابر بن عبد الله فقال : يا قوم أذكركم الله ألا تخذلوا قومكم و نبيكم عندما حضر من عدوهم قالوا : لو نعلم أنكم تقاتلون ما أسلمناكم و لكنا لا نرى أن يكون قتال
فلما استعصوا عليه و أبوا إلا الإنصراف قال : أبعدكم الله أعداء الله فسيغني الله عنكم نبيه صلى الله عليه و سلم
قلت : و هؤلاء القوم هم المرادون بقوله تعالى { و ليعلم الذين نافقوا و قيل لهم تعالوا قاتلوا في سبيل الله أو ادفعوا قالوا : لو نعلم قتالا لاتبعناكم هم للكفر يومئذ أقرب منهم للإيمان يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم و الله أعلم بما يكتمون }
يعني أنهم كاذبون في قولهم : لو نعلم قتالا لاتبعناكم و ذلك لأن وقوع القتال أمره ظاهر بين واضح لا خفاء و لاشك فيه
و هم الذين أنزل الله فيهم { فما لكم في المنافقين فئتين و الله أركسهم بما كسبوا } الآية و ذلك أن طائفة قالت : نقاتلهم و قال آخرون : لا نقاتلهم كما ثبت و بين في الصحيح
و ذكر الزهري أن الأنصار استأذنوا حينئذ رسول الله صلى الله عليه و سلم في الإستعانة بحلفائهم من يهود المدينة فقال : لا حاجة لنا فيهم
و ذكر عروة بن موسى ابن عقبة أن بني سلمة و بني حارثة لما رجع عبد الله بن أبي و أصحابه همتا أن تفشلا فثبتها الله تعالى و لهذا قال : { إذ همت طائفتان منكم أن تفشلا و الله وليهما و على الله فليتوكل المؤمنون }
قال جابر بن عبد الله : ما أحب أنها لم تنزل و الله يقول : { و الله وليهما } كما ثبت في الصحيحين عنه
قال ابن إسحاق : [ و مضى رسول الله صلى الله عليه و سلم حتى سلك في حرة بني حارثة فذب فرس بذنبه فأصاب كلاب سيف فاستله فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم لصاحب السيف : شم سيفك أي أغمده فإني أرى السيوف ستسل اليوم ]
ثم قال النبي صلى الله عليه و سلم لأصحابه : [ من رجل يخرج بنا على القوم من كثب ـ أي من قريب ـ من طريق لا يمر بنا عليهم ] ؟ فقال أبو خيثمة أخو بني حارثة بن الحارث : أنا يا رسول الله فنفذ به في حرة بني حارثة و بين أموالهم حتى سلك به في مال لمربع ابن قيظي و كان رجلا منافقا ضرير البصر فلما سمع حس رسول الله و من معه من المسلمين قام يحثي في وجوههم التراب و يقول : إن كنت رسول الله فإني لا أحل لك أن تدخل في حائطي
قال ابن إسحاق : و قد ذكر لي أنه أخذ حفنة من التراب في يده ثم قال : و الله لو أعلم أني لا أصيب بها غيرك يا محمد لضربت بها وجهك فابتدره القوم ليقتلوه فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ لا تقتلوه فهذا الأعمى أعمى القلب أعمى البصر ] و قد بدر إليه سعد بن زيد أخو بني عبد الأشهل قبل نهي رسول الله صلى الله عليه و سلم فضربه بالقوس في رأسه فشجه
و مضى رسول الله صلى الله عليه و سلم حتى نزل الشعب من أحد في عدوة الوادي و في الجبل و جعل ظهره و عسكره إلى أحد و قال : لا يقاتلن أحد حتى آمره بالقتال
و قد سرحت قريش الظهر و الكراع في زروع كانت بالصمغة من فناة كانت للمسلمين فقال رجل من الأنصار حين نهى رسول الله صلى الله عليه و سلم عن القتال : أترعى زروع بني قيلة و لما نضارب ؟ !
و تعبأ رسول الله صلى الله عليه و سلم للقتال و هو في سبعمائة رجل و أمر على الرماة يومئذ عبد الله بن جبير أخا بني عمرو بن عوف و هو معلم يومئذ بثياب بيض و الرماة خمسون رجلا فقال : انضح الخيل عنا بالنبل لا يأتونا من خلفنا إن كانت لنا أو علينا فاثبت مكانك لا نؤتين من قبلك
و سيأتي شاهد هذا في الصحيحين إن شاء الله تعالى
قال ابن إسحاق : و ظاهر رسول الله صلى الله عليه و سلم بين درعين يعني لبس درعا فوق درع و دفع اللواء إلى مصعب بن عمير أخي بني عبد الدار
قلت : و قد رد رسول الله صلى الله عليه و سلم جماعة من الغلمان يوم أحد فلم يمكنهم من حضور الحرب لصغرهم منهم : عبد الله بن عمر كما ثبت في الصحيحين قال : عرضت على النبي صلى الله عليه و سلم يوم أحد فلم يجزني و عرضت عليه يوم الخندق و أنا ابن خمس عشرة فأجازني
و كذلك رد يومئذ أسامة بن زيد و زيد بن ثابت و البراء بن عازب و أسيد بن ظهير و عرابة بن أوس بن قيظى ذكره ابن قتيبة و أورده السهيلي و هو الذي يقول فيه الشماخ :
( إذا ما راية رفعت لمجد ... تلقاها عرابة باليمن )
و منهم ابن سعيد بن خيثمة ذكره السهيلي أيضا و أجازهم كلهم يوم الخندق
و كان قد رد يومئذ سمرة بن جندب و رافع بن خديج و هما ابنا خمس عشرة سنة فقيل : يا رسول الله إن رافعا رام فأجازه فقيل : يا رسول الله فإن سمرة يصرع رافعا فأجازه
قال ابن إسحاق : و تعبأت قريش وهم ثلاثة آلاف ومعهم مائتا فرس قد جنبوها فجعلوا على ميمنة الخيل خالد بن الوليد و على ميسرتها عكرمة بن أبي جهل بن هشام
و قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ من يأخذ هذا السيف بحقه ]
فقام إليه رجال فأمسكه عنهم حتى قام إليه أبو دجانة سماك بن خرشة أخو بني ساعده فقال : و ما حقه يا رسول الله ؟
قال : [ أن تضرب به في العدو حتى ينحني ]
قال : أنا آخذه يا رسول الله بحقه فأعطاه إياه
هكذا ذكره ابن إسحاق منقطعا
و قد قال الأمام أحمد : [ حدثنا يزيد و عفان قالا حدثنا حماد هو ابن سلمة أخبرنا ثابت عن النبي أن رسول الله صلى الله عليه و سلم أخذ سيفا يوم أحد فقال : من يأخذ هذا السيف ؟ فأخذ قوم فجعلوا ينظرون إليه فقال : من يأخذه بحقه ؟ فأحجم القوم فقال أبو دجانة سماك : أنا آخذه بحقه فأخذه ففلق به هام المشركين ]
و رواه مسلم عن أبي بكر عن عفان به
قال ابن إسحاق : و كان أبو دجانة رجل شجاعا يختال عند الحرب و كان له عصابة حمراء يعلم بها عند الحرب يعتصب بها فيعلم أنه سيقاتل
قال : فلما أخذ السيف من يد رسول الله صلى الله عليه و سلم أخرج عصابته تلك فاعتصب بها ثم جعل يتبختر بين الصفين
قال : [ فحدثني جعفر بن عبد الله بن أسلم مولى عمر بن الخطاب عن رجل من الأنصار من بني سلمة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم حين رأى أبا دجانة يتبختر : إنها لمشية يبغضها الله إلا في مثل هذا الموطن ] !
قال ابن إسحاق : و قد قال أبو سفيان لأصحاب اللواء من بني عبد الدار يحرضهم على القتال : يا بني عبد الدار قد وليتم لواءنا يوم بدر فأصابنا ما قد رأيتم و إنما يؤتى الناس من قبل راياتهم إذا زالت زالوا فإما أن تكفونا لواءنا و إما أن تخلوا بيننا و بينه فنكفيكموه
فهموا به و تواعدوه و قالوا : نحن نسلم إليك لواءنا ! ستعلم غدا إذا التقينا كيف نصنع و ذلك الذي أراد أبو سفيان
قال : فلما التقى الناس و دنا بعضهم من بعض قامت هند بنت عتبة في النسوة اللاتي معها و أخذن الدفوف يضربن بها خلف الرجال و يحرضن على القتال فقالت هند فيما تقول :
( ويها بني عبد الدار ... ويها حماة الأدبار )
( ضربا بكل بتار )
و تقول أيضا :
( إن تقبلوا نعانق ... و نفرش النمارق )
( أو تدبروا نفارق ... فراق غير وامق )
قال ابن إسحاق : و حدثني عاصم بن عمر بن قتادة أن أبا عامر عبد عمرو بن صيفي ابن مالك بن النعمان أحد بني ضبيعة و كان قد خرج إلى مكة مباعدا لرسول الله صلى الله عليه و سلم معه خمسون غلاما من الأوس و بعض الناس يقول : كانوا خمسة عشر و كان يعد قريشا أن لو قد لقي قومه لم يختلف عليه منهم رجلان
فلما التقى الناس كان أول من لقيهم أبو عامر في الأحابيش و عبدان أهل مكة فنادى : يا معشر الأوس أنا أبو عامر قالوا : فلا أنعم الله بك عينا يا فاسق و كان يسمى في الجاهلية الراهب فسماه رسول الله صلى الله عليه و سلم الفاسق
فلما سمع ردهم عليه قال : لقد أصاب قومي بعدي شر ! ثم قاتلهم قتالا شديدا ثم أرضخهم بالحجارة
قال ابن إسحاق : فأقبل الناس حتى حميت الحرب و قاتل أبو دجانة حتى أمعن في الناس
قال ابن هشام : و حدثني غير واحد من أهل العلم أن الزبير بن العوام قال : وجدت في نفسي حين سألت رسول الله صلى الله عليه و سلم السيف فمنعنيه و أعطاه أبا دجانة و قلت : أنا ا بن صفية عمته و من قريش و قد قمت إليه و سألته إياه قبله فأعطاه أبا دجانة و تركني و الله لأنظرن ما يصنع
فاتبعته فأخرج عصابة له حمراء فعصب بها رأسه فقالت الأنصار : أخرج أبو دجانة عصابة الموت : و هكذا كانت تقول له إذا تعصب فخرج و هو يقول :
( أنا الذي عاهدني خليلي ... و نحن بالسفح لدى النخيل )
( أن لا أقوم الدهر في الكيول ... أضرب بسيف الله و الرسول )
و قال الأموي : حدثني أبو عبيد في حديث النبي صلى الله عليه و سلم أن رجلا أتاه و هو يقاتل به فقال : لعلك إن أعطيتك تقاتل في الكيول ؟ قال : لا فأعطاه سيفا فجعل يرتجز و يقول :
( أنا الذي عاهدني خليلي ... أن لا أقوم الدهر في الكيول )
و هذا حديث يروى عن شعبة و رواه إسرائيل كلاهما عن أبي إسحاق عن هند بنت خالد أو غيره يرفعه
الكيول : يعني مؤخر الصفوف سمعته من عدة من أهل العلم و لم أسمع هذا الحرف إلا في هذا الحديث
قال ابن هشام : فجعل لا يلقى أحدا إلا قتله و كان في المشركين رجل لا يدع جريحا إلا ذفف عليه فجعل كل منهما يدنو من صاحبه فدعوت الله أن يجمع بينهما فالتقيا فاختلفا ضربتين فضرب المشرك أبا دجانة فاتقاه بدرقته فعضت بسيفه و ضربه أبو دجانة فقتله ثم رأيته قد حمل السيف على مفرق رأس هند بنت عتبة ثم عدل السيف عنها فقلت : الله و رسوله أعلم
و قد رواه البيهقي في الدلائل من طريق هشام بن عروة عن أبيه عن الزبير بن العوام بذلك
قال ابن إسحاق : قال أبو دجانة : رأيت إنسانا يحمس الناس حمسا شديدا فصمدت له فلما حملت عليه السيف ولول فإذا امرأة فأكرمت سيف رسول الله صلى الله عليه و سلم أن أضرب به امرأة
و ذكر موسى ابن عقبة أن رسول الله صلى الله عليه و سلم لما عرضه طلبه منه عمر فأعرض عنه
ثم طلبه منه الزبير فأعرض عنه فوجدا في أنفسهما من ذلك ثم عرضه الثالثة فطلبه أبو دجانة فدفعه إليه فأعطى السيف حقه
قال : فزعموا أن كعب بن مالك قال : كنت فيمن خرج من المسلمين فلما رأيت مثل المشركين بقتلى المسلمين قمت فتجاورت فإذا رجل من المشركين جمع اللأمة يجوز المسلمين و هو يقول : استوسقوا كما استوسقت جزر الغنم قال : و إذا رجل من المسلمين ينتظره و عليه لأمته فمضيت حتى كنت من ورائه ثم قمت أقدر المسلم و الكافر ببصري فإذا الكافر أفضلهما عدة و هيأة قال : فلم أزل أنتظرهما حتى التقيا فضرب المسلم الكافر على حبل عاتقه ضربة بالسيف فبلغت وركه و تفرق فرقتين ثم كشف المسلم عن وجهه و قال : كيف ترى يا كعب ؟ أنا أبو دجانة ! (3/19)
قال ابن إسحاق : و قاتل حمزة بن عبد المطلب حتى قتل أرطاة بن عبد شرحبيل بن هاشم بن عبد مناف بن عبد الدار و كان أحد النفر الذين يحملون اللواء
و كذلك قتل عثمان بن أبي طلحة و هو حامل اللواء و هو يقول :
( إن على أهل اللواء حقا ... أن يخضبوا الصعدة أو تندقا )
فحمل عليه حمزة فقتله
ثم مر به سباع بن عبد الزى الغبشاني و كان يكنى بأبي نيار
فقال حمزة : هلم إلي يا ابن مقطعة البظور و كانت أمه أم أنمار مولاة شريق بن عمرو بن وهب الثقفي و كانت ختانة بمكة فلما التقيا ضربه حمزة فقتله
فقال وحشي غلام جبير بن مطعم : و الله إني لأنظر لحمزة يهد الناس بسيفه ما يليق شيئا يمر به مثل الجمل الأورق إذ قد تقدمني إليه سباع فقال حمزة : هلم يا بن مقطعة البظور فضربه ضربة فكأنما أخطأ رأسه و هززت حربتي حتى إذا رضيت منها دفعتها عليه فوقعت في ثنته حتى خرجت من بين رجليه فأقبل نحوي فغلب فوقع فأمهلته حتى إذا مات جئت فأخذت حربتي ثم تنحيت إلى العسكر و لم يكن لي بشيء حاجة غيره
قال ابن إسحاق : و حدثني عبد الله بن الفضل بن عياش بن ربيعة بن الحارث عن سليمان بن يسار عن جعفر بن عمرو بن أمية الضمري قال : خرجت أنا و عبيد الله ابن عدي بن الخيار أحد بني نوفل بن عبد مناف في زمان معاوية فأدربنا مع الناس فلما مررنا بحمص و كان وحشي مولى جبير قد سكنها و أقام بها فلما قدمناها قال عبيد الله بن عدي : هل لك في أن نأتي وحشيا فنسأله عن قتل حمزة كيف قتله ؟ قال قلت له : إن شئت
فخرجنا نسأل عنه بحمص فقال لنا رجل و نحن نسأل عنه : إنكما ستجدانه بفناء داره و هو رجل قد غلبت عليه الخمر فإن تجداه صاحيا تجدا رجلا عربيا و تجدا عنده بعض ما تريدان و تصيبا عنده ما شئتما من حديث تسألانه عنه و إن تجداه و به بعض ما به فانصرفا عنه و دعاه
قال : فخرجنا نمشي حتى جئناه فإذا هو بفناء داره على طنفسة له و إذا شيخ كبير مثل البغاث و إذا هو صاح لا بأس به فلما انتهينا إليه سلمنا عليه
فرفع رأسه إلى عبيد الله بن عدي فقال ابن لعدي بن الخيار أنت ؟ قال : نعم قال : أما و الله ما رأيتك منذ ناولتك أمك السعدية التي أرضعتك بذي طوى فإني ناولتكها و هي على بعيرها فأخذتك بعرضيك فلمعت لي قدماك حتى رفعتك إليها فوالله ما هو إلا أن وقفت علي فعرفتهما !
قال : فجلسنا إليه فقلنا : جئناك لتحدثنا عن قتل حمزة كيف قتلته ؟ فقال : أما إني سأحدثكما كما حدثت رسول الله صلى الله عليه و سلم حين سألني عن ذلك
كنت غلاما لجبير بن مطعم و كان عمه طعيمة بن عدي قد أصيب يوم بدر فلما سارت قريش إلى أحد قل لي جبير : إن قتلت حمزة عم محمد بعمي فأنت عتيق
قال : فخرجت مع الناس و كنت رجلا حبشيا أقذف بالحربة قذف الحبشة قل ما أخطئ بها شيأ فلما التقا الناس خرجت أنظر حمزة و أتبصره حتى رأيته في عرض الناس كأنه الجمل الأورق يهد الناس بسيفه هدا ما يقوم له شيء فوالله إني لأتهيأ له أريده و أستتر منه بشجرة أو بحجر ليدنو مني إذ تقدمني إليه سباع بن عبد العزى فلما رآه حمزة قال : هلم إلي يا بن مقطعة البظور قال : فضربه ضربة كأنما أخطأ رأسه قال : و هززت حربتي حتى إذا رضيت منها دفعتها عليه فوقعت في ثنته حتى خرجت من بين رجليه و ذهب لينوء نحوي فغلب و تركته و إياها حتى مات ثم اتيته فأخذت حربتي ثم رجعت إلى العسكر و قعدت فيه و لم يكن لي بغيره حاجة إنما قتلته لأعتق
فلما قدمت مكة عتقت ثم أقمت حتى إذا افتتح رسول الله صلى الله عليه و سلم مكة هربت إلى الطائف فمكثت بها فلما خرج وفد الطائف إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم ليسلموا تعيت علي المذاهب فقلت : ألحق بالشام أو باليمن أو ببعض البلاد فوالله إني لفي ذلك من همي إذ قال لي رجل : ويحك ! إنه و الله لا يقتل أحدا من الناس دخل في دينه و شهد شهادة الحق
قال : فلما قال لي ذلك خرجت حتى قدمت على رسول الله صلى الله عليه و سلم المدينة فلم يرعه إلا بي
قائما على رأسه أشهد شهادة الحق فلما رآني قال لي : أوحشي أنت ؟ قلت : نعم يا رسول الله قال : اقعد فحدثني كيف قتلت حمزة ؟
قال : فحدثته كما حدثتكما فلما فرغت من حديثي قال : ويحك غيب عني وجهك فلا أرينك !
قال : فكنت أتنكب رسول الله صلى الله عليه و سلم حيث كان لئلا يراني حتى قبضه الله عز و جل
فلما خرج المسلمون إلى مسيلمة الكذاب صاحب اليمامة خرجت معهم و أخذت حربتي التي قتلت بها حمزة فلما التقى الناس رأيت مسيلمة قائما و بيده السيف و ما أعرفه فتهيأت له و تهيأ له رجل من الأنصار من الناحية الأخرى كلانا يريده فهززت حربتي حتى رضيت منها دفعتها عليه فوقعت فيه و شد عليه الأنصاري بالسيف فربك أعلم أينا قتله فإن كنت قتلته فقد قتلت خير الناس بعد رسول الله صلى الله عليه و سلم و قتلت شر الناس !
قلت : الأنصاري هو أبو دجانة سماك بن خرشة
و قال الواقدي في الردة : هو عبد الله بن زيد بن عاصم المازني و قال سيف بن عمرو : هو عدي بن سهل و هو القائل :
( ألم ترى أني و وحشيهم ... قتلت مسيلمة المفتتن )
( و يسألني الناس عن قتله ... فقلت : ضربت و هذا طعن )
و المشهور أن وحشيا هو الذي بدره بالضربة و ذفف عليه أبو دجانة لما روى ابن إسحاق عن عبد الله بن الفضل عن سليمان بن يسار عن ابن عمر قال : سمعت صارخا يوم اليمامة يقول : قتله العبد الأسود
و قد روى البخاري قصة قتل حمزة من طريق عبد العزيز بن عبد الله بن أبي سلمة الماجشون عن عبد الله بن الفضل عن سليمان بن يسار عن جعفر بن عمرو بن أمية الضمري قال : خرجت مع عبد الله بن عدي بن الخيار فذكر القصة كما تقدم و ذكر أن عبيد الله بن عدي كان معتجرا عمامة لا يرى منه وحشي إلا عينيه و رجليه فذكر من معرفته له ما تقدم
و هذه قيافة عظيمة كما عرف مجزز المدلجي أقدام زيد و ابنه أسامة مع اختلاف ألونهما
و قال في سياقته : فلما أن صف الناس للقتال خرج سباع فقال : هل من مبارز ؟ فخرج إليه حمزة بن عبد المطلب فقال له : يا سباع يا بن أم أنمار مقطعة البظور أتحاد الله و رسول ؟ ! ثم شد عليه فكان كأمس الذاهب !
قال : و كمنت لحمزة تحت صخرة فلما دنا مني رميته بحربتي فأضعها في ثنته حتى خرجت من بين وركيه قال : فكان ذلك آخر العهد به
إلى أن قال : فلما قبض رسول الله صلى الله عليه و سلم و خرج مسيلمة الكذاب قلت : لأخرج إلى مسيلمة فأقتله فأكافئ به حمزة قال : فخرجت مع الناس فكان من أمره ما كان قال : فإذا رجل قائم في ثلمة جدار كأنه جمل أورق ثائر الرأس قال : فرميته بحربتي فأضعها بين ثدييه حتى خرجت من بين كتفيه قال : و وثب إليه رجل من الأنصار فضربه بالسيف على هامته
قال عبد الله بن الفضل : فأخبرني سليمان بن يسار أنه سمع عبد الله بن عمر يقول : فقالت جارية على ظهر البيت : و أمير المؤمناه ! قتله العبد الأسود
قال ابن هشام : فبلغني أن وحشيا لم يزل يحد في الخمر حتى خلع من الديوان فكان عمر بن الخطاب يقول : قد قلت إن الله لم يكن ليدع قاتل حمزة ! قلت : و توفي وحشي بن حرب أبو دسمة و يقال أبو حرب بحمص و كان أول من لبس الثياب المدلوكه (3/34)
قال ابن إسحاق : و قاتل مصعب بن عمير دون رسول الله صلى الله عليه و سلم حتى قتل و كان الذي قتله ابن قمئة الليثي و هو يظن أنه رسول الله صلى الله عليه و سلم فرجع إلى قريش فقال : قتلت محمدا
قلت : و ذكر موسى بن عقبة في مغازيه عن سعيد بن المسيب أن الذي قتل مصعبا هو أبي بن خلف فالله أعلم
قال ابن إسحاق : فلما قتل مصعب بن عمير أعطى رسول الله صلى الله عليه و سلم اللواء علي بن أبي طالب
و قال يونس بن بكير عن ابن إسحاق : كان اللواء أولا مع علي بن أبي طالب فلما رأى رسول الله صلى الله عليه و سلم لواء المشركين مع عبد الدار قال : نحن أحق بالوفاء منهم أخذ اللواء من علي بن أبي طالب فدفعه إلى مصعب بن عمير فلما قتل مصعب أعطى اللواء علي بن أبي طالب
قال ابن إسحاق : و قاتل علي بن أبي طالب و رجال من المسلمين
قال ابن هشام : و حدثني مسلمة بن علقمة المازني قال : لما اشتد القتال يوم أحد جلس رسول الله صلى الله عليه و سلم تحت راية الأنصار و أرسل إلى علي : أن قدم الراية فقدم علي و هو يقول : أنا أبو القصم فناده أبو سعد بن أبي طلحة و هو صاحب لواء المشركين : هل لك يا أبا القصم في البراز من حاجة ؟ قال : نعم فبرزا بين الصفين فاختلفا ضربتين فضربه علي فصرعه ثم انصرف و لم يجهز عليه
فقال له بعض أصحابه : أفلا أجهزت عليه ؟ فقال : إنه استقبلني بعورته فعطفتني عليه الرحم و عرفت أن الله قد قتله
و قد فعل ذلك علي رضي الله عنه يوم صفين مع بسر بن أبي أرطاة لما حمل عليه ليقتله أبدى له عورته فرجع عنه
و كذلك فعل عمرو بن العاص حين حمل عليه علي في بعض أيام صفين أبدى عن عورته فرجع علي أيضا ففي ذلك يقول الحارث بن النضر :
( أفي كل يوم فارس غير منته ... و عورته وسط العجاجة بادية )
( يكف لها عنه علي سنانه ... و يضحك منها في الخلاء معاوية ! )
و [ ذكر يونس عن ابن إسحاق أن طلحة بن أبي طلحة العبدري حامل لواء المشركين يومئذ دعا إلى البراز فأحجم عنه الناس فبرز إليه الزبير بن العوام فوثب حتى صار معه على جمله ثم اقتحم به الأرض فألقاه عنه و ذبحه بسيفه فأثنى عليه رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : إن لكل نبي حواريا و حواري الزبير و قال : لو لم يبرز إليه لبرزت أنا إليه لما رأيت من إحجام الناس عنه ]
و قال ابن إسحاق : قتل أبا سعد بن أبي طلحة سعد بن أبي وقاص
و قاتل عاصم بن ثابت بن أبي الأقلح فقتل نافع بن أبي طلحة و أخاه الحلاس كلاهما يشعره سهما فيأتي أمه سلافة فيضع رأسه في حجرها فتقول : يا بني من أصابك ؟ فيقول : سمعت رجلا حين رماني يقول : خذها و أنا بن أبي الأقلح فنذرت إن أمكنها الله من رأس عاصم أن تشرب فيه الخمر
و كان عاصم قد عاهد الله لا يمس مشركا أبدا و لا يمسه و لهذا حماه الله منه يوم الرجيع كما سيأتي
قال ابن إسحاق : و التقى حنظلة بن أبي عامر و اسمه عمرو و يقال عبد عمرو بن صيفي و كان يقال لأبي عامر في الجاهلية الراهب لكثرة عبادته فسماه رسول الله صلى الله عليه و سلم الفاسق لما خالف الحق و أهله و هرب من المدينة هربا من الإسلام و مخالفة للرسول عليه السلام (3/39)
و حنظلة الذي يعرف بحنظلة الغسيل لأنه غسلته الملائكة كما سيأتي هو و أبو سفيان صخر بن حرب فلما علاه حنظلة رآه شداد بن الأوس و هو الذي يقال له ابن شعوب فضربه شداد فقتله فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ إن صاحبكم لتغسله الملائكة فاسألوا أهله ما شأنه ؟ ]
فسئلت صاحبته قال الواقدي : هي جميلة بنت أبي بن سلول و كانت عروسا عليه تلك الليلة
فقالت : خرج و هو جنب حين سمع الهاتفة فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : كذلك غسلته الملائكة !
و قد ذكر موسى بن عقبة أن أباه ضرب برجله في صدره فقال : ذنبان أصبتهما و لقد نهيتك عن مصرعك هذا و لقد و الله كنت وصولا للرحم برا بالوالد
قال ابن إسحاق : و قال ابن شعوب في ذلك :
( لأحمين صاحبي و نفسي ... بطعنة مثل شعاع الشمس )
و قال ابن شعوب :
( و لولا دفاعي يا بن حرب و مشهدي ... لألفيت يوم النعف غير مجيب )
( و لولا مكري المهر بالنعف فرفرت ... عليه ضباع أو ضراء كليب ) (3/41)
و قال أبو سفيان :
( و لو شئت نجتني كميت : طمرة ... و لم أحمل النعماء لابن شعوب )
( و مازال مهري مزجر الكلب منهم ... لدن غدوة حتى دنت لغروب )
( أقاتلهم و أدعي يا لغالب ... و أدفعهم عني بركن صليب )
( فبكي و لا ترعي مقالة عاذل ... و لا تسأمي من عبرة و نحيب )
( أباك و إخوانا له قد تتابعوا ... و حق لهم من عبرة بنصيب )
( و سلى الذي قد كان في النفس أنني ... قتلت من النجار كل نجيب )
( و من هاشم قرما كريما و مصعبا ... و كان لدى الهيجاء غير هيوب )
( فلو أنني لم أشفي نفسي منهم ... لكانت شجى في القلب ذات ندوب )
( فآبوا و قد أودى الجلابيب منهم ... بهم خدب من معبط و كئيب )
( أصابهم من لم يكن لدمائهم ... كفاء و لا في خطة بضريب )
فأجابه حسان بن ثابت :
( ذكرت القروم الصيد من آل هاشم ... و لست لزور قلته بمصيب )
( أتعجب أن أقصدت حمزة منهم ... نجيبا و قد سميته بنجيب )
( ألم يقتلوا عمرا و عتبة و ابنه ... و شيبة و الحجاج و ابن حبيب )
( غداة دعا العاصي عليا فراعه ... بضربة عضب بله بخضيب ) (3/41)
قال ابن إسحاق : ثم أنزل الله نصره على المسلمين و صدقهم وعده فحسوهم بالسيوف حتى كشفوهم عن العسكر و كانت الهزيمة لا شك فيها
و حدثني يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير عن أبيه عن عباد عن عبد الله بن الزبير عن الزبير قال : و الله لقد رأيتني أنظر إلى خدم هند بنت عتبة و صواحبها مشمرات هوارب ما دون أخذهن قليل و لا كثير إذ مالت الرماة على العسكر حين كشفنا القوم عنه و خلوا ظهورنا للخيل فأتينا من خلفنا و صرخ صارخ : ألا إن محمد قد قتل فانكفأنا و انكفأ القوم علينا بعد أن أصبنا أصحاب اللواء حتى ما يدنو أحد منهم
فحدثني بعض أهل العلم أن اللواء لم يزل صريعا حتى أخذته عمرة بنت علقمة الحارثية فرفعته لقريش فلاثوا به و اللواء مع صواب غلام لبني أبي طلحة حبشي و كان آخر من أخذه منهم فقاتل به حتى قطعت يداه ثم برك عليه فأخذ اللواء بصدره و عنقه حتى قتل عليه و هو يقول : اللهم هل أعزرت يعني اللهم هل أعذرت
فقال حسان بن ثابت في ذلك :
( فخرتم باللواء و شر فخر ... لواء حين رد إلى صواب )
( جعلتم فخركم في لعبد ... و ألأم من يطا عفر التراب )
( ظننتم و السفيه له ظنون ... و ما إن ذاك من أمر الصواب )
( بأن جلادنا يوم التقينا ... بمكة بيعكم حمر العياب )
( أقر العين أن عصبت يداه ... و ما إن تعصبان على خضاب )
و قال حسان أيضا في رفع عمرة بنت علقمة اللواء لهم :
( إذا عضل سيقت إلينا كأنها ... جداية شرك معلمات الحواجب )
( أقمنا لهم طعنا مبينا منكلا ... و حزناهم بالضرب من كل جانب )
( فلولا لواء الحارثية أصبحوا ... يباعون في الأسواق بيع الجلائب )
قال ابن إسحاق : فانكشف المسلمون و أصاب منهم العدو و كان يوم بلاء و تمحيص أكرم الله فيه من أكرم بالشهادة حتى خلص العدو إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فدث بالحجارة حتى وقع لشقه فأصيبت رباعيته و شج في وجهه و كلمت شفته و كان الذي أصابه عتبة بن أبي وقاص
[ فحدثني حميد الطويل عن أنس بن مالك قال : كسرت رباعية النبي صلى الله عليه و سلم يوم أحد و شج في وجهه فجعل يمسح الدم و يقول : كيف يفلح قوم خضبوا وجه نبيهم و هو يدعوهم إلى الله فأنزل الله : { ليس لك من الأمر شيء أو يتوب عليهم أو يعذبهم فإنهم ظالمون } ]
قال ابن جرير في تاريخه : [ حدثنا محمد بن الحسين حدثنا أحمد بن الفضل حدثنا أسباط عن السدي قال أتى بن قمئة الحارثي فرمى رسول الله صلى الله عليه و سلم بحجر فكسر أنفه و رباعيته و شجه في وجهه فأثقله و تفرق عنه أصحابه و دخل بعضهم المدينة و انطلق طائفة فوق الجبل إلى الصخرة و جعل رسول الله صلى الله عليه و سلم يدعو الناس : إلي عباد الله إلي عباد الله فاجتمع إليه ثلاثون رجلا فجعلوا يسيرون بين يديه فلم يقف أحد إلا طلحة و سهل بن حنيف فحماه طلحة فرمي بسهم في يده فيبست يده و أقبل أبي بن خلف الجمحي و قد حلف ليقتلن النبي صلى الله عليه و سلم فقال : بل أنا أقتله فقال : يا كذاب أين تفر فحمل عليه فطعنه النبي صلى الله عليه و سلم في جيب الدرع فجرح جرحا خفيفا فوقع يخور خوار الثور فاحتملوه و قالوا : ليس بك جراحة فما يجزعك ؟ قال : أليس قال : لألأ قتلنك ! لو كانت تجتمع ربيعة و مضر لقتلهم فلم يلبث إلا يوما أو بعض يوم حتى مات من ذلك الجرح
و فشا في الناس أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قد قتل فقال بعض أصحاب الصخرة : ليت لنا رسولا إلى عبد الله بن أبي فيأخذ لنا أمنة من أبي سفيان يا قوم إن محمدا قد قتل فارجعوا إلى قومكم قبل أن يأتوكم فيقتلوكم
فقال أنس بن النضر : يا قوم إن كان محمد قد قتل فإن رب محمد لم يقتل فقاتلوا على ما قاتل عليه محمد صلى الله عليه و سلم اللهم إني أعتزر إليك مما يقول هؤلاء و أبرأ إليك مما جاء به هؤلاء ثم شد بسيفه فقاتل حتى قتل !
و انطلق رسول الله صلى الله عليه و سلم يدعو الناس حتى انتهى إلى أصحاب الصخرة فلما رأوه وضع رجل سهما في قوسه يرميه فقال : أنا رسول الله ففرحوا بذلك حين وجدوا رسول الله صلى الله عليه و سلم و فرح رسول الله صلى الله عليه و سلم حين رأى أن في أصحابه من يمتنع به فلما اجتمعوا و فيهم رسول الله صلى الله عليه و سلم ذهب عنهم الحزن فأقبلوا يذكرون الفتح و ما فاتهم منه و يذكرون أصحابهم الذين قتلوا
فقال الله عز و جل في الذين قالوا : إن محمدا قد قتل فارجعوا إلى قومكم : { و ما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل } الآية
فأقبل أبو سفيان حتى أشرف عليهم فلما نظروا إليه نسوا ذلك الذي كانوا عليه و همهم أبو سفيان فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم ليس لهم أن يعلونا اللهم إن تقتل هذه العصابة لا تعبد في الأرض ثم ندب أصحابه فرموهم بالحجارة حتى أنزلوهم
فقال أبو سفيان يومئذ : اعل هبل حنظلة بحنظلة و يوم أحد بيوم بدر و ذكر تمام القصة و هذا غريب جدا فيه نكارة
قال ابن هشام : و زعم ربيح بن عبد الرحمن بن أبي سعيد عن أبيه عن أبي سعيد أن عتبة بن أبي وقاص رمى رسول الله صلى الله عليه و سلم فكسر رباعيته اليمنى السفلى و جرح شفته السفلى و أن عبد الله بن شهاب الزهري شجه في جبهته و أن عبد الله بن قمئة جرح وجنته فدخلت حلقتان من حلق المغفر في وجنته و وقع رسول الله صلى الله عليه و سلم في حفرة من الحفر التي عملها أبو عامر ليقع فيها المسلمون فأخذ علي بن أبي طالب بيده و رفعه طلحة بن عبيد الله حتى استوى قائما و مص مالك بن سنان أبو أبي سعيد الدم من وجه رسول الله صلى الله عليه و سلم ثم ازدرده فقال : من مس دمه دمي لم تمسه النار
قلت : و ذكر قتادة أن رسول الله صلى الله عليه و سلم لما وقع لشقه أغمي عليه فمر به سالم مولى أبي حذيفة فأجلسه و مسح الدم عن وجهه فأفاق و هو يقول : كيف يفلح قوم فعلوا هذا بنبيهم و هو يدعوهم إلى الله فأنزل الله : { ليس لك من الأمر شيء } الآية ]
رواه ابن جرير و هو مرسل و سيأتي بسط هذا في فصل وحده
قلت : كان أول النهار للمسلمين على الكفار كما قال الله تعالى { و لقد صدقكم الله وعده إذ تحسونهم بإذنه حتى إذا فشلتم و تنازعتم في الأمر و عصيتم من بعد ما أراكم ما تحبون منكم من يريد الدنيا و منكم من يريد الآخرة ثم صرفكم عنهم ليبتليكم و لقد عفا عنكم و الله ذو فضل على المؤمنين إذ تصعدون و لا تلوون على أحد و الرسول يدعوكم في أخراكم فأثابكم غما بغم } الآية (3/42)
قال الإمام أحمد : [ حدثنا سليمان بن داود أخبرنا عبد الرحمن بن أبي الزناد عن أبيه عن عبيد الله عن ابن عباس أنه قال : ما نصر الله في موطن كما نصر يوم أحد
قال : فأنكرنا ذلك فقال : بيني و بين من أنكر ذلك كتاب الله : إن الله يقول في يوم أحد : { و لقد صدقكم الله وعده إذا تحسونهم بإذنه } يقول ابن عباس : والحس القتل { حتى إذا فشلتم } إلى قوله { و لقد عفا عنكم و الله ذو فضل على المؤمنين } و إنما عنى بهذا الرماة و ذلك أ ن النبي صلى الله عليه و سلم أقامهم في موضع ثم قال : احموا ظهورنا فإن رأيتمونا نقتل فلا تنصرونا وإن رأيتمونا نغنم فلا تشركونا
فلما غنم النبي صلى الله عليه و سلم و أباحوا عسكر المشركين أكب الرماة جميعا فدخلوا في العسكر ينهبون وقد التقت صفوف أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم فهم هكذا وشبك بين أصابع يديه و التبسوا
فلما أخل الرماة تلك الخلة التي كانوا فيها دخلت الخيل من ذلك الموضع على أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم فضرب بعضهم بعضا فالتبسوا و قتل من المسلمين ناس كثير و قد كان لرسول الله و أصحابه أول النهار حتى قتل من أصحاب لواء المشركين سبعة أو تسعة و جال المسلمون جولة نحو الجبل و لم يبلغوا حيث يقول الناس الغار إنما كان تحت المهراس
وصاح الشيطان قتل محمد فلم يشك فيه أنه حق فما زلنا كذلك ما نشك أنه حق حتى طلع رسول الله صلى الله عليه و سلم بين السعدين نعرفه بتكفيه إذا مشى قال : ففرحنا كأنه لم يصبنا ما أصابنا قال : فرقى نحونا وهو يقول : اشتد غضب الله على قوم دموا وجه رسول الله و يقول مرة أخرى : اللهم إنه ليس لهم أن يعلونا حتى انتهى إلينا
فمكث ساعة فإذا أبو سفيان يصيح في أسفل الجبل : اعل هبل اعل هبل مرتين يعني آلهته أين ابن أبي كبشة ؟ أين ابن أبي قحافة ؟ أين ابن الخطاب ؟ فقال عمر ابن الخطاب : ألا أجيبه ؟ قال : بلى قال : فلما قال : اعل هبل قال : الله أعلى وأجل قال أبو سفيان : يا بن الخطاب قد أنعمت عينها فعاد عنها أو فعال عنها
فقال : أين ابن أبي كبشة أين ابن أبي قحافة أين ابن الخطاب ؟ فقال عمر : هذا رسول الله صلى الله عليه و سلم و هذا أبو بكر و هأنذا عمر
قال : فقال أبو سفيان : يوم بيوم بدر الأيام دول وإن الحرب سجال
قال : فقال عمر : لا سواء قتلانا في الجنة وقتلاكم في النار
قال : إنكم لتزعمون ذلك لقد خبنا إذن و خسرنا ! ثم قال أبو سفيان : أما أنكم سوف تجدون في قتلاكم مثلة و لم يكن ذلك عن رأي سراتنا قال : ثم أدركته حمية الجاهلية فقال : أما إنه إن كان ذلك لم نكرهه ]
وقد رواه ابن أبي حاتم والحاكم في مستدركه و البيهقي في الدلائل من حديث سلمان ابن داود الهاشمي به
و هذا حديث غريب و هو من مرسلات ابن عباس و له شواهد من وجوه كثيرة سنذكر منه ما تيسر إن شاء الله و به الثقة وعليه التكلان و هو المستعان
قال البخاري : حدثنا [ عبيد الله بن موسى عن إسرائيل عن أبي اسحاق عن البراء قال : لقينا المشركين يومئذ وأجلس النبي صلى الله عليه و سلم جيشا من الرماة وأمر عليهم عبد الله بن جبير و قال : لا تبرحوا إن رأيتمونا ظهرنا عليهم فلا تبرحوا وإن رأيتموهم ظهروا علينا فلا تعينونا
فلما لقينا هربوا حتى رأيت النساء يشتددن في الجبل رفعن عن سوقهن قد بدت خلاخلهن فأخذوا يقولون : الغنيمة الغنيمة فقال عبد الله : عهد إلي النبي صلى الله عليه و سلم ألا تبرحوا فأبوا فلما أبوا صرفت وجوههم
فأصيب سبعون قتيلا و أشرف أبو سفيان فقال : أفي القوم محمد ؟ فقال : لا تجيبوه فقال : أفي القوم ابن أبي قحافة ؟ فقال : لا تجيبوه أفي القوم ابن الخطاب ؟ فقال : إن هؤلاء قتلوا فلو كانوا أحياء لأجابوا
فلم يملك عمر نفسه فقال : كذبت يا عدو الله أبقى الله عليك ما يحزنك
فقال أبو سفيان : اعل هبل فقال النبي صلى الله عليه و سلم : أجيبوه قالوا : ما نقول ؟ قال : قولوا : الله أعلى و أجل
فقال أبو سفيان : لنا العزى و لا عزى لكم فقال النبي صلى الله عليه و سلم : أجيبوه قالوا : ما نقول ؟ قال : قولوا : الله مولانا و لا مولى لكم
قال أبو سفيان : يوم بيوم بدر و الحرب سجال و تجدون مثلة لم آمر بها و لم تسؤني ]
و هذا من أفراد البخاري دون مسلم (3/46)
و قال الإمام أحمد : [ حدثنا موسى حدثنا زهير حدثنا أبو إسحاق أن البراء بن عازب قال : جعل رسول الله صلى الله عليه و سلم على الرماة يوم أحد و كانوا خمسين رجلا عبد الله بن جبير قال : و وضعهم موضعا و قال : إن رأيتمونا تخطفنا الطير فلا تبرحوا حتى أرسل إليكم و إن رأيتمونا ظهرنا على العدو و أوطأناهم فلا تبرحوا حتى أرسل إليكم
قال : فهزموهم قال : فأنا و الله رأيت النساء يشتددن على الجبل و قد بدت أسواقهن و خلاخلهن رافعات ثيابهم
فقال أصحاب عبد الله بن جبير : الغنيمة أي قوم الغنيمة ظهر أصحابكم فما تنظرون ؟ قال عبد الله بن جبير : أنسيتم ما قال لكم رسول الله صلى الله عليه و سلم ؟ قالوا : إنا و الله لنأتين الناس فلنصيبن من الغنيمة
فلما أتوهم صرفت وجوههم فأقبلوا منهزمين فذلك الذي يدعوهم الرسول في أخراهم فلم يبق مع رسول الله صلى الله عليه و سلم غير اثني عشر رجلا
فأصابو منا سبعين رجلا و كان رسول الله صلى الله عليه و سلم و أصحابه أصابوا من المشركين يوم بدر أربعين و مائة : سبعين أسيرا و سبعين قتيلا
فقال أبو سفيان : أفي القوم محمد ؟ أفي القوم محمد ؟ أفي القوم محمد ؟ ثلاثا فنهاهم رسول الله صلى الله عليه و سلم أن يجيبوه
ثم قال : أفي القوم ابن أبي قحافة ؟ أفي القوم ابن أبي قحافة ؟ أفي القوم ابن الخطاب أفي القوم ابن الخطاب ؟ ثم أقبل على أصحابه فقال : أما هؤلاء فقد قتلوا و قد كفيتموهم فما ملك عمر نفسه أن قال : كذبت و الله يا عدو الله إن الذين عددت الأحياء كلهم و قد بقى لك ما يسوءك
فقال : يوم بيوم بدر و الحرب سجال إنكم ستجدون في القوم مثلة لم آمر بها و لم تسؤني ثم أخذ يرتجز : اعل هبل اعل هبل
فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : ألا تجيبونه ؟ قالوا : يا رسول الله و ما نقول ؟ قال : قولوا : الله أعلى و أجل
قال : إن العزى لنا و لا عزى لكم ؟ قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : ألا تجيبونه ؟ قالوا : يا رسول الله ما نقول ؟ قال : قولوا : الله مولانا و لا مولى لكم ]
و رواه البخاري من حديث زهير و هو ابن معاوية مختصرا و قد تقدم روايته له مطولة من طريق إسرائيل عن أبي إسحاق
و قال الإمام أحمد : [ حدثنا عفان حدثنا حماد بن سلمة أخبرنا ثابت و علي بن زيد عن أنس بن مالك أن المشركين لما رهقو النبي صلى الله عليه و سلم و هو في سبعة من الأنصار و رجل من قريش قال : من يردهم عنا و هو رفيقي في الجنة ؟ فجاء رجل من الأنصار فقاتل حتى قتل
فلما رهقوه أيضا قال : من يردهم عنا و هو رفيقي في الجنة ؟ حتى قتل السبعة
فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : ما أنصفنا أصحابنا ]
و رواه مسلم عن هدبة بن خالد عن حماد بن سلمة به
و قال البيهقي في الدلائل : بإسناده عن [ عمارة بن غزية عن أبي الزبير عن جابر قال : انهزم الناس عن رسول الله صلى الله عليه و سلم يوم أحد و بقي معه أحد عشر رجلا من الأنصار و طلحة بن عبيد الله و هو يصعد في الجبل فلحقهم المشركون فقال : ألا أحد لهؤلاء ؟ فقال طلحة : أنا يا رسول الله فقال : كما أنت يا طلحة فقال رجل من الأنصار : فأنا يا رسول الله فقاتل عنه و صعد رسول الله صلى الله عليه و سلم و من بقي معه ثم قتل الأنصاري فلحقوه فقال : ألا رجل لهؤلاء ؟ فقال طلحة مثل قوله فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم مثل قوله فقال رجل من الأنصار : فأنا يا رسول الله فقاتل و أصحابه يصعدون ثم قتل فلحقوه
فلم يزل يقول مثل قوله الأول و طلحة يقول : أنا يا رسول الله فيحبسه فيستأذنه رجل من الأنصار للقتال فيأذن له فيقاتل مثل من كان قبله
حتى لم يبقى معه إلا طلحة فغشوهما فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : من لهؤلاء ؟ فقال طلحة أنا فقاتل مثل قتال جميع من كان قبله و أصيبت أنامله فقال : حس فقال : لو قلت : بسم الله لرفعتك الملائكة و الناس ينظرون إليك حتى تلج بك في جو السماء ثم صعد رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى أصحابه و هم مجتمعون ]
و روى البخاري عن عبد الله بن أبي شيبة عن وكيع عن إسماعيل عن قيس بن أبي حازم قال : رأيت يد طلحة شلاء وقى بها النبي صلى الله عليه و سلم يوم أحد
و في الصحيحين من حديث موسى بن إسماعيل عن معتمر بن سليمان عن أبيه عن أبي عثمان النهدي قال : لم يبقى مع النبي صلى الله عليه و سلم في بعض تلك الأيام التي يقاتل فيهن غير طلحة و سعد عن حديثهما
و قال الحسن بن عرفة : [ حدثنا مروان بن معاوية عن هاشم بن هاشم السعدي سمعت سعيد بن المسيب يقول : سمعت سعد بن أبي وقاص يقول : نثل لي رسول الله صلى الله عليه و سلم كنانته يوم أحد و قال : ارم فداك أبي و أمي ]
و أخرجه البخاري عن عبد الله بن محمد عن مروان به
و في صحيح البخاري من [ حديث عبد الله بن شداد عن علي بن أبي طالب قال : ما سمعت النبي صلى الله عليه و سلم جمع أبويه لأحد إلا لسعد بن مالك فإني سمعته يقول يوم أحد : يا سعد ارمي فداك أبي و أمي ]
قال محمد ابن إسحاق : [ حدثني صالح بن كيسان عن بعض آل سعد عن سعد بن أبي وقاص أنه رمى يوم أحد دون رسول الله صلى الله عليه و سلم قال سعد : فلقد رأيت رسول الله صلى الله عليه و سلم يناولني النبل و يقول : ارم فداك أبي و أمي ! حتى إنه ليناولني السهم ليس له نصل فأرمي به ]
و ثبت في الصحيحين من [ حديث إبراهيم بن سعد عن أبيه عن جده عن سعد بن أبي وقاص قال : رأيت يوم أحد عن يمين النبي صلى الله عليه و سلم و عن يساره رجلين عليهما ثياب بيض يقاتلان أشد القتال ما رأيتهما قبل ذلك و لا بعده يعني جبريل و مكائيل عليهما السلام ]
و قال أحمد : [ حدثنا عفان أخبرنا ثابت عن أنس أن أبا طلحة كان يرمي بين يدي النبي صلى الله عليه و سلم يوم أحد و النبي صلى الله عليه و سلم خلفه يترس به و كان راميا و كان إذا رمى رفع رسول الله صلى الله عليه و سلم شخصه ينظر أين يقع سهمه و يرفع أبو طلحة صدره و يقول : هكذا بأبي أنت و أمي يا رسول الله لا يصيبك سهم نحري دون نحرك و كان أبو طلحة يسور نفسه بين يدي رسول الله صلى الله عليه و سلم و يقول : إني جلد يا رسول الله فوجهني في حوائجك و مرني بما شئت ] (3/49)
و قال البخاري : حدثنا أبو معمر حدثنا عبد الوارث حدثنا عبد العزيز عن أنس قال : لما كان يوم أحد انهزم الناس عن النبي صلى الله عليه و سلم و أبو طلحة بين يدي رسول الله صلى الله عليه و سلم مجوب عليه بحجفة له و كان أبو طلحة رجلا راميا شديد النزع كسر يومئذ قوسين أو ثلاثا و كان الرجل يمر معه الجعبة من النبل فيقول : انثرها لأبي طلحة
قال : و يشرف النبي صلى الله عليه و سلم ينظر إلى القوم فيقول أبو طلحة : بأبي انت و أمي لا تشرف يصيبك سهم من سهام القوم نحري دون نحرك و لقد رأيت عائشة بنت أبي بكر و أم سليم و إنهما لمشمرتان أرى خدم سوقهما تنقزان القرب على متونهما تفرغانه في أفواه القوم ثم ترجعان فتملآنها ثم تجيئان فتفرغانه في أفواه القوم و لقد وقع السيف من يدي أبي طلحة إما مرتين و إما ثلاثا
قال البخاري : و قال لي خليفة : حدثنا يزيد بن زريع حدثنا سعيد عن قتادة عن أنس عن أبي طلحة قال : كنت فيمن تغشاه النعس يوم أحد حتى سقط سيفي من يدي مرارا يسقط و آخذه و يسقط فآخذه
هكذا ذكره البخاري بصيغة الجزم و يشهد له قوله تعالى { ثم أنزل عليكم من بعد الغم أمنة نعاسا يغشى طائفة منكم و طائفة قد أهمتهم أنفسهم يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية يقولون : هل لنا من الأمر من شيء قل إن الأمر كله لله يخفون في أنفسهم ما لا يبدون لك يقولون : لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا هاهنا قل لو كنتم في بيوتكم لبرز الذين كتب عليم القتل إلى مضاجعهم و ليبتلي الله ما في صدوركم و ليمحص ما في قلوبكم و الله عليم بذات الصدور إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان إنما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا و لقد عفا الله عنهم إن الله غفور حليم }
قال البخاري : [ حدثنا عبدان أخبرنا أبو حمزة عن عثمان بن موهب قال : جاء رجل حج البيت فرأى قوما جلوسا فقال : من هؤلاء القعود ؟ قال : هؤلاء قريش قال : من الشيخ ؟ قالوا ابن عمر فأتاه فقال : إني سائلك عن شيء أتحدثني ؟ قال : أنشدك بحرمة هذا البيت : أتعلم أن عثمان بن عفان فر يوم أحد ؟ قال : نعم قال : فتعلمه تغيب عن بدر فلم يشهدها ؟ قال : نعم قال : فتعلم أنه تخلف عن بيعة الرضوان فلم يشهدها ؟ قال : نعم قال : فكبر
قال ابن عمر : تعال لأخبرك و لأبين لك عما سألتني عنه
أما فراره يوم أحد : فأشهد أن الله عفا عنه و أما تغيبه عن بدر فإنه كان تحته بنت النبي صلى الله عليه و سلم و كانت مريضة فقال له رسول الله صلى الله عليه و سلم إن لك أجر رجل ممن شهد بدرا و سهمه
و أما تغيبه عن بيعة الرضوان : فإنه لو كان أحد أعز ببطن مكة من عثمان بن عفان لبعثه مكانه فبعث عثمان و كانت بيعة الرضوان بعد ما ذهب عثمان إلى مكة فقال النبي صلى الله عليه و سلم بيده اليمنى : هذه يد عثمان فضرب بها على يده فقال : هذه لعثمان إذهب بهذا الآن معك ]
و قد رواه البخاري أيضا في موضع آخر و الترمذي من حديث أبي عوانة عن عثمان بن عبد الله بن موهب به
و قال الأموي في مغازيه عن ابن إسحاق : [ حدثني يحيى بن عباد عن أبيه عن جده سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول و قد كان الناس انهزموا عنه حتى بلغ بعضهم إلى المنقى دون الأعوص و فر عثمان بن عفان و سعد بن عثمان رجل من الأنصار حتى بلغوا الجلعب جبل بناحية المدينة مما يلي الأعوص فأقاموا ثلاثا ثم رجعوا فزعموا أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال لهم : لقد ذهبتم فيها عريضة ] (3/53)
و المقصود أن أحدا وقع فيها أشياء مما وقع في بدر منها : حصول النعاس حال التحام الحرب و هذا دليل على طمأنينة القلوب بنصر الله و تأييده و تمام توكلها على خالقها و بارئها
و قد تقدم الكلام على قوله تعالى في غزوة بدر : { إذ يغشيكم النعاس أمنة منه } الآية و قال هاهنا : { ثم أنزل عليكم من بعد الغم أمنة نعاسا يغشى طائفة منكم } يعني المؤمنين الكمل كما قال ابن مسعود و غيره من السلف : النعاس في الحرب من الإيمان و النعاس في الصلاة من النفاق و لهذا قال بعد هذا : { و طائفة قد أهمتهم أنفسهم } الآية
و من ذلك أن رسول الله صلى الله عليه و سلم استنصر يوم أحد كما استنصر يوم بدر بقوله : [ إن تشأ لا تعبد في الأرض ]
كما قال الإمام أحمد : [ حدثنا عبد الصمد و عفان قالا : حدثنا حماد حدثنا ثابت عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه و سلم كان يقول يوم أحد : اللهم إن تشأ لا تعبد في الأرض ]
و رواه مسلم عن حجاج بن الشاعر عن عبد الصمد عن حماد بن سلمة به
و قال البخاري : [ حدثنا عبد الله بن محمد حدثنا سفيان عن عمرو سمع جابر بن عبد الله قال : قال رجل للنبي صلى الله عليه و سلم يوم أحد : ( أرأيت إن قتلت فأين أنا ؟ قال : في الجنة فألقى تمرات في يده ثم قاتل حتى قتل ) ]
و رواه مسلم و النسائي من حديث سفيان بن عيينة به
و هذا شبيه بقصة عمير بن الحمام التي تقدمت في غزوة بدر رضي الله عنهما و أرضاهما (3/55)
قال البخاري : ما أصاب النبي صلى الله عليه و سلم من الجراح يوم أحد
[ حدثنا إسحاق بن نصر حدثنا عبد الرزاق عن همام بن منبه سمع أبا هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : اشتد غضب الله على قوم فعلوا بنبيه ـ يشير إلى رباعيته ـ اشتد غضب الله على رجل يقتله رسول الله في سبيل الله ]
و رواه مسلم من طريق عبد الرزاق [ حدثنا مخلد بن مالك حدثنا يحيى بن سعيد الأموي حدثنا ابن جريج عن عمرو بن دينار عن عكرمة عن ابن عباس قال : اشتد غضب الله على من قتله النبي في سبيل الله اشتد غضب الله على قوم دموا وجه رسول الله صلى الله عليه و سلم ]
و قال أحمد : [ حدثنا عفان حدثنا حماد أخبرنا ثابت عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال يوم أحد و هو يسلت الدم عن وجهه و هو يقول : كيف يفلح قوم شجوا نبيهم و كسروا رباعيته و هو يدعو إلى الله ] فأنزل الله : { ليس لك من الأمر شيء أو يتوب عليهم أو يعذبهم فإنهم ظالمون }
و رواه مسلم عن القعنبي عن حماد بن سلمة به
و رواه الإمام أحمد [ عن هشيم و يزيد بن هارون عن حميد عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه و سلم كسرت رباعيته و شج في وجهه حتى سال الدم على وجهه فقال : كيف يفلح قوم فعلوا هذا بنبيهم و هو يدعوهم إلى ربهم ] فأنزل الله تعالى : { ليس لك من الأمر شيء }
و قال البخاري : [ حدثنا قتيبة حدثنا يعقوب عن أبي حازم أنه سمع سهل بن سعد و هو يسأل عن جرح النبي صلى الله عليه و سلم فقال : أما و الله إني لأعرف من كان يغسل جرح رسول الله صلى الله عليه و سلم و من كان يسكب الماء و بما دووي قال : كانت فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه و سلم تغسله و علي يسكب الماء بالمجن فلما رأت فاطمة أن الماء لا يزيد الدم إلا كثرة أخذت قطعة من حصير فأحرقتها و ألصقتها فاستمسك الدم و كسرت رباعيته يومئذ و جرح وجهه و كسرت البيضة على رأسه ] (3/57)
و قال أبو داود الطيالسي في مسنده : [ حدثنا ابن المبارك عن إسحاق عن يحيى بن طلحة بن عبيد الله أخبرني عيسى بن طلحة عن أم المؤمنين عائشة قالت : كان أبو بكر إذ ذكر يوم أحد قال : ذاك يوم كله لطلحة ! ثم أنشأ يحدث قال : كنت أول من فاء يوم أحد فرأيت رجلا يقاتل في سبيل الله دونه و أراه قال : حمية قال : فقلت : كن طلحة حيث فاتني ما فاتني فقلت : يكون رجلا من قومي أحب إلي و بيني وبين المشركين رجل لا أعرفه و أنا أقرب إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم منه و هو يخطف المشي خطفا لا أخطفه فإذا هو أبو عبيدة بن الجراح فانتهينا إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم و قد كسرت رباعيته و شج في وجهه و قد دخل في وجنته حلقتان من حلق المغفر قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : عليكما صاحبكما يريد طلحة و قد نزف فلم نلتفت إلى قوله
قال : و ذهبت لأنزع ذاك من وجهه فقال : أقسم عليك بحقي لما تركتني فتركته فكره تناولها بيده فيؤذي رسول الله صلى الله عليه و سلم فأزم عليها بفيه فاستخرج إحدى الحلقتين و وقعت ثنيته مع الحلقة و ذهبت لأصنع ما صنع فقال : أقسمت عليك بحقي لما تركتني قال : ففعل مثل ما فعل في المرة الأولى فوقعت ثنيته الأخرى مع الحلقة
فكان أبو عبيدة رضي الله عنه من أحسن الناس هتما !
فأصلحنا من شأن رسول الله صلى الله عليه و سلم ثم أتينا طلحة في بعض تلك الجفار فإذا به بضع و سبعون من بين طعنة و رمية و ضربة و إذا قد قطعت إصبعه فأصلحنا من شأنه ]
وذكر الواقدي : عن ابن أبي سبرة عن إسحاق بن عبد الله بن أبي فروة عن أبي الحويرث عن نافع بن جبير قال : سمعت رجلا من المهاجرين يقول : شهدت أحدا فنظرت إلى النبل تأتي من كل ناحية و رسول الله صلى الله عليه و سلم وسطها كل ذلك يصرف عنه و لقد رأيت عبد الله بن شهاب الزهري يومئذ يقول : دلوني على محمد لا نجوت إن نجا و رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى جنبه ما معه أحد فجاوره فعاتبه في ذلك صفوان بن أمية فقال : و الله ما رأيته أحلف بالله إنه منا ممنوع خرجنا أربعة فتعاهدنا و تعاقدنا على قتله فلم نخلص إليه (3/58)
قال الواقدي : ثبت عندي أن الذي رمى في وجنتي رسول الله صلى الله عليه و سلم ابن قمئة و الذي رمى في شفته و أصاب رباعيته عتبة بن أبي وقاص
و قد تقدم عن ابن إسحاق نحو هذا و أن الرباعية التي كسرت له عليه السلام هي اليمنى السفلى
قال ابن إسحاق : [ و حدثني صالح بن كيسان عمن حدثه عن سعد بن أبي وقاص قال : ما حرصت على قتل أحد قط ما حرصت على قتل عتبة بن أبي وقاص و إن كان ما علمت لسيء الخلق مبغضا في قومه و لقد كفاني فيه قول رسول الله صلى الله عليه و سلم اشتد غضب الله على من دمى وجه رسوله ]
و قال عبد الرزاق : [ حدثنا معمر عن الزهري عن عثمان الحروري عن مقسم أن رسول الله صلى الله عليه و سلم دعا على عتبة بن أبي وقاص حين كسر رباعيته و دمى وجهه فقال : اللهم لا يحول عليه الحول حتى يموت كافرا ]
فما حال عليه الحول حتى مات كافرا إلى النار
و قال أبو سليمان الجوزجاني : [ حدثنا محمد بن الحسن حدثني إبراهيم بن محمد حدثني ابن عبد الله بن محمد بن أبي بكر بن حرب عن أبيه عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف أن رسول الله صلى الله عليه و سلم داوى وجهه يوم أحد بعظم بال ]
هذا حديث غريب رأيته في أثناء كتاب المغازي للأموي في وقعة أحد
و لما نال عبد الله بن قمئة من رسول الله صلى الله عليه و سلم ما نال رجع و هو يقول : قتلت محمدا
و صرخ الشيطان أزب العقبة يومئذ بأبعد صوت : ألا إن محمدا قد قتل
فحصل بهتة عظيمة في المسلمين و اعتقد كثير من الناس ذلك و صمموا على القتال عن حوزة الإسلام حتى يموتوا على ما مات عليه رسول الله صلى الله عليه و سلم منهم أنس بن النضر و غيره ممن سيأتي ذكره (3/59)
و قد أنزل الله تعالى التسلية في ذلك على تقدير وقوعه فقال تعالى : { و ما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم و من ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا و سيجزي الله الشاكرين و ما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله كتابا مؤجلا و من يرد ثواب الدنيا نؤته منها و من يرد ثواب الآخرة نؤته منها و سنجزي الشاكرين و كأي من نبي قاتل معه ربيون كثير فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله و ما ضعفوا و ما استكانوا و الله يحب الصابرين و ما كان قولهم إلا أن قالوا ربنا اغفر لنا ذنوبنا و إسرافنا في أمرنا و ثبت أقدامنا و انصرنا على القوم الكافرين فآتاهم الله ثواب الدنيا و حسن ثواب الآخرة و الله يحب المحسنين يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا الذين كفروا يردوكم على أعقابكم فتنقلبوا خاسرين بل الله مولاكم و هو خير الناصرين سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب بما أشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا و مأواهم النار و بئس مثوى الظالمين }
و قد تكلمنا عن ذلك مستقصى في كتاب التفسير و لله الحمد
و قد خطب الصديق رضي الله عنه في أول مقام قامه بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : أيها الناس من كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات و من كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت ثم تلا هذه الآية : { و ما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم } الآية قال : فكأن الناس لم يسمعوها قبل ذلك فما من الناس أحد إلا يتلوها (3/60)
و روى البيهقي في دلائل النبوة من طريق ابن أبي نجيح عن أبيه قال : مر رجل من المهاجرين يوم أحد على رجل من الأنصار و هو يتشحط في دمه فقال له : يا فلان أشعرت أن محمدا قد قتل فقال الأنصاري إن كان محمد صلى الله عليه و سلم قد قتل فقد بلغ الرسالة فقاتلوا عن دينكم !
فنزل { و ما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل } الآية
و لعل هذا الأنصاري هو أنس بن النضر رضي الله عنه و هو عم انس بن مالك
قال الإمام أحمد : حدثنا يزيد حدثنا حميد عن أنس أن عمه غاب عن قتال بدر فقال غبت عن أول قتال قاتله النبي صلى الله عليه و سلم للمشركين لئن الله أشهدني قتالا للمشركين ليرين ما أصنع
فلما كان يوم أحد انكشف المسلمون فقال : اللهم إني اعتذر إليك عما صنع هؤلاء يعني أصحابه و أبرأ إليك مما جاء به هؤلاء يعني المشركين ثم تقدم فلقيه سعد بن معاذ دون أحد فقال سعد : أنا معك
قال سعد : فلم أستطع أصنع ما صنع
فوجد فيه بضع و ثمانون من بين ضربة بسيف و طعنة برمح و رمية بسهم
قال : فكنا نقول : فيه و في أصحابه نزلت : { فمنهم من قضى نحبه و منهم من ينتظر }
و رواه الترمذي عن بن حميد و النسائي عن اسحاق بن راهوية كلاهما عن يزيد بن هارون به و قال الترمذي : حسن
قلت : بل على شرط الصحيحين من هذا الوجه
و قال أحمد : حدثنا بهز و حدثنا هاشم قالا : حدثنا سليمان بن المغيرة عن ثابت قال : قال أنس : عمي قال هاشم : أنس بن النضر سميت به و لم يشهد مع رسول الله صلى الله عليه و سلم يوم بدر قال : فشق عليه و قال : أول مشهد شهده رسول الله صلى الله عليه و سلم غبت عنه و لئن أراني الله مشهدا فيما بعد مع رسول الله صلى الله عليه و سلم ليرين الله ما أصنع قال : فهاب أن يقول غيرها
فشهد مع رسول الله صلى الله عليه و سلم يوم أحد قال : فاستقبل سعد بن معاذ فقال له أنس : يا أبا عمرو أين ؟ واها لريح الجنة أجده دون أحد قال : فقاتلهم حتى قتل فوجد في جسده بضع و ثمانون من ضربة و طعنة و رمية
قال : فقالت أخته عمتي الربيع بنت النضر : فما عرفت أخي إلا ببنانه و نزلت هذه الآية : { من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه و منهم من ينتظر و ما بدلوا تبديلا }
قال : فكانوا يرون أنها نزلت فيه و في أصحابه
و رواه مسلم عن محمد بن حاتم عن بهز بن أسد و رواه الترمذي و النسائي من حديث عبد الله بن المبارك و زاد النسائي و أبو داود و حماد بن سلمة أربعتهم عن سليمان بن المغيرة به و قال الترمذي : حسن صحيح (3/61)
و قال أبو الأسود عن عروة بن الزبير قال : كان أبي بن خلف أخو بني جمح قد حلف وهو بمكة ليقتلن رسول الله صلى الله عليه و سلم فلما بلغت إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم حلفته قال : [ بل أنا أقتله إن شاء الله ]
فلما كان يوم أحد أقبل أبي في الحديد مقنعا و هو يقول : لا نجوت إن نجا محمد
فحمل على رسول الله صلى الله عليه و سلم يريد قتله فاستقبله مصعب بن عمير أخو بني عبد الدار يقي رسول الله صلى الله عليه و سلم بنفسه فقتل مصعب بن عمير و أبصر رسول الله صلى الله عليه و سلم ترقوة أبي بن خلف من فرجة بين سابغة الدرع و البيضة بطعنة فيها بالحربة فوقع إلى الأرض عن فرسه و لم يخرج من طعنته دم
فأتاه أصحابه فاحتملوه وهو يخور خوار الثور فقالوا له : ما أجزعك ! إنما هو خدش
فذكر لهم قول رسول الله صلى الله عليه و سلم أنا أقتل أبيا ثم قال : و الذي نفسي بيده لو كان هذا الذي بي بأهل ذي المجاز لماتوا أجمعون
فمات إلى النار فسحقا لأصحاب السعير !
وقد رواه موسى بن عقبة في مغازيه عن الزهري عن سعيد بن المسيب نحوه
و قال ابن إسحاق : لما أسند رسول الله صلى الله عليه و سلم في الشعب أدركه أبي بن خلف و هو يقول : لا نجوت إن نجوت
فقال القوم : يا رسول الله يعطف عليه رجل منا ؟ فقال : رسول الله صلى الله عليه و سلم : دعوه
فلما دنا منه : تناول رسول الله صلى الله عليه و سلم الحربة من الحارث بن الصمة فقال بعض القوم كما ذكر لي فلما أخذها رسول الله صلى الله عليه و سلم انتفض انتفاضة تطايرنا عنه تطاير الشعر عن ظهر البعير إذا إنتفض ثم استقبله رسول الله صلى الله عليه و سلم فطعنه في عنقه طعنة تدأدا منها عن فرسه مرارا
وذكر الواقدي عن يونس بن بكير عن محمد بن إسحاق عن عاصم بن عمر بن قتادة عن عبد الله بن كعب بن مالك عن أبيه نحو ذلك
قال الواقدي : و كان ابن عمر يقول : مات أبي بن خلف ببطن رابغ فإني لأسير ببطن رابغ بعد هوى من الليل إذا أنا بنار تأججت فهبتها وإذا برجل يخرج منها بسلسلة يجذبها يهيجه العطش فإذا رجل يقول : لا تسقه فإنه قتيل رسول الله صلى الله عليه و سلم هذا أبي بن خلف و قد ثبت في الصحيحين كما تقدم [ من طريق عبد الرزاق عن معمر عن همام عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم اشتد غضب الله على رجل يقتله رسول الله في سبيل الله ]
و رواه البخاري [ من طريق بن جريج عن عمرو بن دينار عن عكرمة عن بن عباس : اشتد غضب الله على من قتله رسول الله بيده في سبيل الله ]
و قال البخاري : [ و قال أبو الوليد عن شعبة عن بن المنكدر سمعت جابرا قال : لما قتل أبي جعلت أبكي و أكشف الثوب عن وجهه فجعل أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم ينهونني و النبي صلى الله عليه و سلم لم ينه و قال النبي صلى الله عليه و سلم : لا تبكه أو ما تبكيه ما زالت الملائكة تظله بأجنحتها حتى رفع ]
هكذا ذكر هذا الحديث هاهنا معلقا وقد أسنده في الجنائز عن بندار عن غندر عن شعبة
و رواه مسلم و النسائي من طرق عن شعبة به (3/63)
و قال البخاري حدثنا عبدان أخبرنا عبد الله بن مبارك عن شعبة عن سعد بن إبراهيم عن أبيه إبراهيم أن عبد الرحمن بن عوف أتى بطعام و كان صائما فقال : قتل مصعب بن عمير و هو خير مني كفن في بردة إن غطى رأسه بدت رجلاه و إن غطى رجلاه بدا رأسه و أراه قال : و قتل حمزة هو خير مني ثم بسط لنا من الدنيا ما بسط أو قال : أعطينا من الدنيا ما أعطينا و قد خشينا أن تكون حسناتنا عجلت لنا ثم جعل يبكي حتى برد الطعام
انفرد به البخاري
و قال البخاري : [ حدثنا أحمد بن يونس حدثنا زهير حدثنا الأعمش عن شقيق عن خباب بن الأرت قال : هاجرنا مع النبي صلى الله عليه و سلم نبتغي وجه الله فوجب أجرنا على الله فمنا من مضى أو ذهب لم يأكل من أجره شيئا كان منهم مصعب بن عمير قتل يوم أحد لم يترك إلا نمرة كنا إذا غطينا بها رأسه خرجت رجلاه و إذا غطى بها رجلاه خرج رأسه فقال لنا النبي صلى الله عليه و سلم : غطوا بها رأسه و اجعلوا على رجله الإذخر و منا من أينعت له ثمرته فهو يهدبها ]
و أخرجه بقية الجماعة إلا بن ماجة من طرق عن الأعمش به
و قال البخاري : حدثنا عبيد الله بن سعيد حدثنا أبو أسامة عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة قالت : لما كان يوم أحد هزم المشركون فصرخ إبليس لعنة الله عليه : أي عباد الله أخراكم فرجعت أولاهم فاجتلدت هي وأخراهم فبصر حذيفة فإذا بأبيه اليمان فقال : أي عباد الله أبي أبي ! قال : قالت : فوالله ما احتجزوا حتى قتلوه فقال حذيفة يغفر الله لكم
قال عروة : فوالله ما زال في حذيفة بقية خير حتى لقي الله عز و جل
قلت : كان سبب ذلك أن اليمان وثابت بن وقش كانا في الآطام مع النساء لكبرهما و ضعفهما فقالا : إنه لم يبق من آجالنا إلا ظمء حمار فنزلا ليحضرا الحرب فجاء طريقهما ناحية المشركين فأما ثابت فقتله المشركون وأما اليمان فقتله المسلمون خطأ
و تصدق حذيفة بدية أبيه على المسلمين ولم يعاتب أحدا منهم لظهور العذر في ذلك (3/65)
قال ابن إسحاق : [ و أصيبت يومئذ عين قتادة بن النعمان حتى سقطت على وجنته فردها رسول الله صلى الله عليه و سلم بيده فكانت أحسن عينيه و أحدهما ]
و في الحديث [ عن جابر بن عبد الله أن قتادة بن النعمان أصيبت عينه يوم أحد حتى سالت على خده فردها رسول الله صلى الله عليه و سلم مكانها فكانت أحسن عينيه و أحدهما وكانت لا ترمد إذا رمدت الأخرى ]
و روى الدار قطني بإسناد غريب [ عن مالك عن محمد بن عبد الله بن أبي صعصعة عن أبيه عن أبي سعيد عن أخيه قتادة بن النعمان قال : أصيبت عيناي يوم أحد فسقطتا على وجنتي فأتيت بهما رسول الله صلى الله عليه و سلم فأعادهما مكانهما وبصق فيهما فعادتا تبرقان ]
و المشهور الأول أنه أصيبت عينه الواحدة و لهذا لما وفد ولده على عمر بن عبد العزيز قال له : من أنت : فقال له مرتجلا :
( أنا ا بن الذي سالت على الخد عينه ... فردت بكف المصطفى أحسن الرد )
( فعادت كما كانت لأول أمرها ... فيا حسنها عينا و يا حسن ما خد )
فقال عمر بن عبد العزيز عند ذلك :
( تلك المكارم لا قعبان من لبن ... شيبا بماء فعاد بعد أبوالا ! )
ثم وصله فأحسن جائزته رضي الله عنه (3/66)
قال ابن هشام : و قاتلت أم عمارة نسيبة بنت كعب المازنية يوم أحد
فذكر سعيد بن أبي زيد الأنصاري أن أم سعد بنت سعد بن الربيع كانت تقول : دخلت على أم عمارى فقلت لها : يا خالة أخبريني خبرك فقالت : خرجت أول النهار أنظر ما يصنع الناس ومعي سقاء فيه ماء فانتيهت إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم و هو في أصحابه و الدولة والريح للمسلمين فلما انهزم المسلمون انحزت إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فقمت أباشر القتال و أذب عنه بالسيف و أرمي عن القوس حتى خلصت الجراح إلي قالت : فرأيت على عاتقها جرحا أجوف له غور فقلت لها : من أصابك بهذا ؟ قالت : ابن قمأة أقمأه الله لما ولى الناس عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أقبل يقول : دلوني على محمد لا نجوت إن نجا فاعترضت له أنا ومصعب بن عمير و أناس ممن ثبت مع رسول الله صلى الله عليه و سلم فضربني هذه الضربة ولقد ضربته على ذلك ضربات و لكن عدو الله كانت عليه درعان
قال ابن إسحاق : و ترس أبو دجانة دون رسول الله صلى الله عليه و سلم بنفسه يقع النبل في ظهره و هو منحن عليه حتى كثر فيه النبل
قال ابن إسحاق : و حدثني عاصم بن عمر بن قتادة أن رسول الله صلى الله عليه و سلم رمى عن قوسه حتى اندقت سيتها فأخذها قتادة بن النعمان فكانت عنده
قال ابن إسحاق : و حدثني القاسم بن عبد الرحمن بن رافع أخو بني عدي بن النجار قال : انتهى أنس بن النضر عم أنس بن مالك إلى عمر بن الخطاب وطلحة بن عبيد الله في رجال من المهاجرين و الأنصار و قد ألقوا بأيديهم فقال : فما يجلسكم ؟ قالوا : قتل رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : فما تصنعون بالحياة بعده ! قوموا فموتوا على ما مات عليه رسول الله صلى الله عليه و سلم ثم استقبل القوم فقاتل حتى قتل و به سمي أنس بن مالك
فحدثني حميد الطويل عن أنس بن مالك قال : لقد وجدنا بأنس بن النضر يومئذ سبعين ضربة فما عرفه إلا أخته عرفته ببنانة
قال ابن هشام : و حدثني بعض أهل العلم أن عبد الرحمن بن عوف أصيب فوه يومئذ فهتم و جرح عشرين جراحة أو أكثر أصابه بعضها في رجله فعرج (3/67)
قال ابن إسحاق : و كان أول من عرف رسول الله صلى الله عليه و سلم بعد الهزيمة و قول الناس قتل رسول الله صلى الله عليه و سلم كما ذكر لي الزهري كعب بن مالك قال : رأيت عينيه تزهران من تحت المغفر فناديت بأعلى صوتي يا معشر المسلمين أبشروا هذا رسول الله صلى الله عليه و سلم فأشار رسول الله صلى الله عليه و سلم أن أنصت
قال ابن إسحاق : فلما عرف المسلمون رسول الله صلى الله عليه و سلم نهضوا به ونهض معهم نحو الشعب معه أبو بكر الصديق و عمر بن الخطاب و علي بن أبي طالب و طلحة بن عبيد الله و الزبير بن العوام و الحارث بن الصمة و رهط من المسلمين فلما أسند رسول الله صلى الله عليه و سلم في الشعب أدركه أبي بن خلف فذكر قتله عليه السلام أبيا كما تقدم
قال ابن إسحاق : و كان أبي بن خلف كما حدثني صالح بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف يلقى رسول الله صلى الله عليه و سلم بمكة فيقول : يا محمد إن عندي العوذ فرسا أعلفه كل يوم فرقا من ذرة أقتلك عليه فيقول رسول الله صلى الله عليه و سلم : بل أنا أقتلك إن شاء الله
فلما رجع إلى قريش و قد خدشه في عنقه خدشا غير كبير فاحتقن الدم فقال : قتلني و الله محمد فقالوا له : ذهب و الله فؤادك ! و الله إن بك بأس قال : إنه قد كان قال لي بمكة : أنا أقتلك فوالله لو بصق علي لقتلني ! فمات عدو الله بسرف و هم قافلون به إلى مكة (3/68)
قال ابن إسحاق : فقال حسان بن ثابت في ذلك :
( لقد ورث الضلالة عن أبيه ... أبي يوم بارزه الرسول )
( أتيت إليه تحمل رم عظم ... و توعده و أنت به جهول )
( و قد قتلت بنوا النجار منكم ... أمية إذ يغوث : يا عقيل )
( و تب ابنا ربيعة إذ أطاعا ... أبا جهل لأمهما الهبول )
( و أفلت حارث لما شغلنا ... بأسر القوم أسرته فليل )
و قال حسان بن ثابت أيضا :
( ألا من مبلغ عني أبيا ... فقد ألقيت في سحق السعير )
( تمنى بالضلالة من بعيد ... و تقسم أن قدرت مع النذور )
( تمنيك الأماني من بعيد ... و قول الكفر يرجع في غرور )
( فقد لاقتك طعنة ذي حفاظ ... كريم البيت ليس بذي فجور )
( له فضل على الأحياء طرا ... إذا نابت ملمات الأمور )
قال ابن إسحاق : فلما انتهى رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى فم الشعب خرج علي بن أبي طالب حتى ملأ درقته ماء من المهراس فجاء بها إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم ليشرب منه فوجد له ريحا فعافه و لم يشرب منه و غسل عن وجهه الدم و صب على رأسه و هو يقول : [ اشتد غضب الله على من دمى وجه نبيه ]
و قد تقدم شواهد ذلك من الأحاديث الصحيحة بما فيه الكفاية
قال ابن إسحاق : فبينا رسول الله صلى الله عليه و سلم في الشعب معه أولئك النفر من أصحابه إذ علت عالية من قريش الجبل قال ابن هشام : فيهم خالد بن الوليد
قال ابن إسحاق : فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ اللهم إنه لا ينبغي لهمأن يعلونا ]
فقاتل عمر بن الخطاب و رهط معه من المهاجرين حتى أهبطوهم من الجبل و نهض النبي صلى الله عليه و سلم إلى صخرة من الجبل ليعلوها و قد كان بدن رسول الله صلى الله عليه و سلم و ظاهر بين درعين فلما ذهب لينهض لم يستطع فجلس تحته طلحة بن عبيد الله فنهض به حتى استوى عليها
[ فحدثني يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير عن أبيه عن عبد الله بن الزبير عن الزبير قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول يومئذ : أوجب طلحة ] حين صنع برسول الله صلى الله عليه و سلم يومئذ ما صنع
قال ابن هشام : [ و ذكر عمر مولى عفرة أن رسول الله صلى الله عليه و سلم صلى الظهر يوم أحد قاعدا من الجراح التي أصابته و صلى المسلون خلفه قعودا ] (3/69)
قال ابن إسحاق : و [ حدثني عاصم بن عمر بن قتادة قال : كان فينا رجل أتي لا يدرى من هو يقل له قزمان فكان رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : إذا ذكر : إنه لمن أهل النار ]
قال : فلما كان يوم أحد قاتل قتالا شديدا فقتل هو وحده ثمانية أو سبعة من المشركين و كان ذا بأس فأثبنته الجراحة فاحتمل إلى دار بني ظفر
قال : فجعل رجال من المسلمين يقولون له : و الله لقد أبليت اليوم يا قزمان فأبشر
قال : بماذا أبشر ! فوالله إن قاتلت إلا عن أحساب قومي و لولا ذلك ما قاتلت !
قال : فلما اشتدت عليه جراحته أخذ سهما من كنانته فقتل به نفسه
و قد ورد مثل قصة هذا في غزوة خيبر كما سيأتي إن شاء الله
قال الإمام أحمد : [ حدثنا عبد الرزاق حدثنا معمر عن الزهري عن المسيب عن أبي هريرة قال : شهدنا مع رسول الله صلى الله عليه و سلم خيبر فقال لرجل ممن يدعي الإسلام : هذا من أهل النار
فلما حضر القتال قاتل الرجل قتالا شديدا فأصابته جراحة فقيل : يا رسول الله الرجل الذي قلت إنه في النار قاتل اليوم قتالا شديدا و قد مات فقال النبي صلى الله عليه و سلم : إلى النار
فكاد بعض القوم يرتاب فبينما هم على ذلك إذ قيل : فإنه لم يمت و لكن به جراح شديدة فلما كان من الليل لم يصبر على الجراح فقتل نفسه
فأخبر النبي صلى الله عليه و سلم بذلك فقال : الله أكبر أشهد أني عبد الله و رسوله
ثم أمر بلالا فنادى في الناس : إنه لا يدخل الجنة إلا نفس مسلمة و إن الله يؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر ! ]
و أخرجاه في الصحيحين من حديث عبد الرزاق به (3/71)
قال ابن إسحاق : و كان ممن قتل يوم أحد مخيريق و كان أحد بني ثعلبة بن الفطيون فلما كان يوم أحد قال : يا معشر يهود و الله لقد علمتم أن نصر محمد عليكم لحق قالوا : إن اليوم يوم السبت قال : لا سبت لكم
فأخذ سيفه و عدته و قال : إن أصبت فمالي لمحمد يصنع فيه ما شاء
ثم غدا إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فقاتل معه حتى قتل
فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم فيما بلغنا : [ مخيريق خير يهود ]
قال السهيلي : فجعل رسول الله صلى الله عليه و سلم أموال مخيريق و كانت سبع حوائط أوقافا بالمدينة لله
قال محمد بن كعب القرظي : و كانت أول وقف بالمدينة
و قال ابن إسحاق : و حدثني الحصين بن عبد الرحمن بن عمر بن سعد بن معاذ عن أبي سفيان مولى ابن أبي أحمد عن أبي هريرة أنه كان يقول : حدثوني عن رجل دخل الجنة لم يصل قط
فإذا لم يعرفه الناس سألوه من هو ؟ فيقول : أصيرم بني عبد الأشهل عمرو بن ثابت بن وقش (3/72)
قال الحصين : فقلت لمحمود بن أسد : كيف كان شأن الأصيرم ؟ قال : كان يأبى الإسلام على قومه فلما كان يوم أحد بدا له فأسلم ثم أخذ سيفه فغدا حتى دخل في عرض الناس فقاتل حتى أثبتته الجراحة قال : فبينما رجال من بني عبد الأشهل يلتمسون قتلاهم في المعركة إذا هم به فقالوا : و الله إن هذا للأصيرم ما جاء به ؟ لقد تركناه و إنه لمنكر لهذا الحديث فسألوه فقالوا : ( ما جاء بك يا عمرو ) أحدب على قومك أم رغبة في الإسلام ؟
فقال : بل رغبة في الإسلام آمنت بالله و برسوله و أسلمت ثم أخذت سيفي و عدوت مع رسول الله صلى الله عليه و سلم فقاتلت حتى أصابني ما أصابني
فلم يلبث أن مات في أيديهم فذكروه لرسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : [ إنه من أهل الجنة ]
قال ابن إسحاق : و حدثني أبي عن أشياخ من بني سلمة قالوا : كان عمرو بن الجموح رجلا أعرج شديد العرج و كان له بنون أربعة مثل الأسد يشهدون مع رسول الله صلى الله عليه و سلم المشاهد فلما كان يوم أحد أرادوا حبسه و قالوا : إن الله قد عذرك فأتى رسول الله صلى الله عليه و سلم و قال : إن بني يريدون أن يحبسوني عن هذا الوجه و الخروج معك فيه فوالله إني لأرجو أن أطأ بعرجتي هذه الجنة ! فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ أما أنت فقد عذرك الله فلا جهاد عليك ] و قال لبنيه : [ ما عليكم أن لا تمنعوه لعل الله أن يرزقه الشهادة ]
فخرج معه فقتل يوم أحد رضي الله عنه (3/73)
قال ابن إسحاق : و وقعت هند بنت عتبة ـ كما حدثني صالح بن كيسان ـ و النسوة اللآئي معها يمثلن بالقتلى من أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم يجدعن الآذان و الأ نوف حتى اتخذت هند من آذان الرجال و أنوفهم خدما و قلائد و أعطت خدمها و قلائدها و قرطها وحشيا و بقرت عن كبد حمزة فلاكتها فلم تستطع أن تسيغها فلفظتها
و ذكر موسى بن عقبة أن الذي بقر عن كبد حمزة وحشي فحملها إلى هند فلاكتها فلم تستطع أن تسيغها فالله أعلم
قال ابن إسحاق : ثم علت على صخرة مشرفة فصرخت بأعلى صوتها فقالت :
( نحن جزيناكم بيوم بدر ... و الحرب بعد الحرب ذات سعر )
( ما كان لي عن عتبة من صبر ... و لا أخي و عمه و بكر )
( شفيت نفسي و قضيت نذري ... شفيت وحشي غليل صدري )
( فشكر وحشي علي عمري ... حتى ترم أعظمي في قبري )
قال : فأجابتها هند بنت أثاثة بن عباد بن المطلب فقالت :
( خزيت في بدر و بعد بدر ... يا بنت وقاع عظيم الكفر )
( صبحك الله غداة الفجر ... م الهاشميين الطوال الزهر )
( بكل قطاع حسام يفري ... حمزة ليثي و علي صقري )
( إذ رام شيب و أبوك غدري ... فخضبا منه ضواحي النحر )
( و نذرك السوء فشر نذر )
قال ابن إسحاق : و كان الحليس بن زيان أخو بني الحارث بن عبد مناة ـ و هو يومئذ سيد الأحابيش ـ مر بأبي سفيان و هو يضرب في شدق حمزة بن عبد المطلب يزج الرمح و يقول : ذق عقق !
فقال الحليس : يا بني كنانة هذا سيد قريش يصنع بابن عمه ما ترون لحما !
فقال : ويحك اكتمها عني فإنها كانت ذلة (3/74)
قال ابن إسحاق : ثم إن أبا سفيان حين أراد الإنصراف أشرف على الجبل ثم صرخ بأعلى صوته : أنعمت فعال إن الحرب سجال يوم بيوم بدر اعل هبل أي ظهر دينك
فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم لعمر : [ قم يا عمر فأجبه فقل : الله أعلى و أجل لا سواء قتلانا في الجنة و قتلاكم في النار ]
فقال له أبو سفيان : هلم إلي يا عمر فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم لعمر : ائته فانظر ما شأنه فجاءه فقال له أبو سفيان : أنشدك الله يا عمر أقتلنا محمدا ؟ فقال عمر : اللهم لا و إنه ليسمع كلامك الآن قال : أنت عندي أصدق من ابن قمئة و أبر
قال ابن إسحاق : ثم نادى أبو سفيان : إنه قد كان في قتلاكم مثل و الله ما رضيت و ما سخطت و ما نهيت و لا أمرت
قال : و لما انصرف أبو سفيان نادى : إن موعدكم بدر العام المقبل
فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم لرجل من أصحابه : قل : نعم هو بيننا و بينكم موعد
قال ابن إسحاق : ثم بعث رسول الله صلى الله عليه و سلم علي بن أبي طالب فقال : اخرج في آثار القوم و انظر ماذا يصنعون و ما يريدون فإن كانوا قد جنبوا الخيل و امتطوا الإبل فإنهم يريدون مكة و إن ركبوا الخيل و ساقوا الإبل فهم يريدون المدينة و الذي نفسي بيده إن أرادوها لأسيرن إليهم فيها ثم
لأناجزنهم
قال علي : فخرجت في أثرهم أنظر ماذا يصنعون فجنبوا الخيل و امتطوا الإبل و وجهوا إلى مكة (3/75)
قال الإمام أحمد : [ حدثنا مروان بن معاوية الفزاري حدثنا عبد الواحد بن أيمن المكي عن ابن رفاعة الزرقي عن أبيه قال : لما كان يوم أحد و انكفأ المشركون قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : استووا حتى أثني على ربي عز و جل فصاروا خلفه صفوفا فقال :
اللهم لك الحمد كله اللهم لا قابض لما بسطت و لا باسط لما قبضت و لا هادي لمن أضللت ولا مضل لمن هديت ولا معطي لما منعت ولا مانع لما أعطيت ولا مقرب لما باعدت و لا مبعد لما قربت اللهم ابسط علينا من بركاتك و رحمتك و فضلك و رزقك
اللهم إني أسألك النعيم المقيم الذي لا يحول و لا يزول اللهم إني أسألك النعيم يوم العيلة و الأمن يوم الخوف
اللهم إني عائذ بك من شر ما أعطيتنا و شر ما منعتنا
اللهم حبب إلينا الإيمان و زينه في قلوبنا و كره إلينا الكفر و الفسوق و العصيان و اجعلنا من الراشدين
اللهم توفنا مسلمين و أحينا مسلمين و ألحقنا بالصالحين غير خزايا و لا مفتونين
اللهم قاتل الكفرة الذين يكذبون رسلك و يصدون عن سبيلك و اجعل عليهم رجزك و عذابك اللهم قاتل الكفرة الذين أوتوا الكتاب إله الحق ]
و رواه النسائي في اليوم و الليلة عن زياد بن أيوب عن مروان بن معاوية عن عبد الواحد بن أيمن عن عبيد بن رفاعة عن أبيه به (3/77)
قال ابن إسحاق : و فرغ الناس لقتالهم [ فحدثني محمد بن عبد الله بن عبد الرحمن ابن أبي صعصعة المازني أخو بني النجار أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : من رجل ينظر لي ما فعل سعد بن الربيع أفي الأحياء هو أم في الأموات ؟ فقال رجل من الأنصار : أنا
فنظر فوجده جريحا في القتلى و به رمق قال : فقال له : إن رسول الله صلى الله عليه و سلم أمرني أن أنظر أفي الأموات أنت أم في الأحياء
فقال : أنا في الأموات فأبلغ رسول الله صلى الله عليه و سلم سلامي و قل له : إن سعد بن الربيع يقول لك : جزاك الله عنا خيرا ما جزى نبيا عن أمته و أبلغ قومك عني السلام و قل لهم : إن سعد بن الربيع يقول لكم : إنه لا عذر لكم عند الله إن خلص إلى نبيكم و فيكم عين تطرف !
قال : ثم لم أبرح حتى مات و جئت النبي صلى الله عليه و سلم فأخبرته خبره ]
قلت : كان الرجل الذي التمس سعدا في القتلى محمد بن سلمة فيما ذكره محمد بن عمر الواقدي و ذكر أنه ناداه مرتين فلم يجبه فلما قال : إن رسول الله أمرني أن أنظر خبرك أجابه بصوت ضعيف و ذكره
و قال الشيخ أبو عمر في الإستيعاب : كان الرجل الذي التمس سعدا أبي بن كعب فالله أعلم
و كان سعد بن الربيع من النقباء ليلة العقبة رضي الله عنه و هو الذي آخى رسول الله صلى الله عليه و سلم بينه و بين عبد الرحمن بن عوف
قال ابن إسحاق : و خرج رسول الله صلى الله عليه و سلم فيما بلغني يلتمس حمزة بن عبد المطلب فوجده ببطن الوادي قد بقر بطنه عن كبده و مثل به فجدع أنفه و أذناه (3/78)
[ فحدثني محمد بن جعفر بن الزبير أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال حين رأى ما رأى : لولا أن تحزن صفية و تكون سنة من بعدي لتركته حتى يكون في بطون السباع و حواصل الطير و لئن أظهرني الله على قريش في موطن من المواطن لأمثلن بثلاثين رجلا منهم ]
فلما رأى المسلمون حزن رسول الله صلى الله عليه و سلم و غيظه على من فعل بعمه ما فعل قلوا : و الله لئن أظفرن الله بهم يوما من الدهر لنمثلن بهم مثلة لم يمثلها أحد من العرب
قال ابن إسحاق : فحدثني بريدة بن سفيان بن فروة الأسلمي عن محمد بن كعب و حدثني من لا أتهم عن ابن عباس أن الله أنزل في ذلك : { و إن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به و لئن صبرتم لهو خير للصابرين } الآية
قال : فعفا رسول الله صلى الله عليه و سلم و صبر و نهى عن المثلة
قلت : هذه الآية مكية و قصة أحد بعد الهجرة بثلاث سنين فكيف يلتئم هذا ؟ ! فالله أعلم
قال : و حدثني حميد الطويل عن الحسن عن سمرة قال : ما قام رسول الله صلى الله عليه و سلم في مقام قط ففارقه حتى يأمر بالصدقة و ينهى عن المثلة
قال ابن هشام : و لما وقف النبي صلى الله عليه و سلم على حمزة قال : [ لن أصاب بمثلك أبدا ما وقفت قط موقفا أغيظ إلي من هذا ! ]
ثم قال : [ جاءني جبريل فأخبرني أن حمزة مكتوب في السموات السبع : حمزة ابن عبد المطلب أسد الله و أسد رسوله ]
قال ابن هشام : و كان حمزة و أبو سلمة بن عبد الأسد أخوي رسول الله صلى الله عليه و سلم من الرضاعة أرضعتهم ثلاثتهم ثويبة مولاة أبي لهب (3/79)
و قال ابن إسحاق : [ و حدثني من لا أتهم عن مقسم عن ابن عباس قال : أمر رسول الله صلى الله عليه و سلم بحمزة فسجي ببردة ثم صلى عليه فكبر سبع تكبيرات ثم أتى بالقتلى يوضعون إلى حمزة فصلى عليهم و عليه معهم حتى صلى عليه اثنتين و سبعين صلاة ]
و هذا غريب و سنده ضعيف
قال السهيلي : و لم يقل به أحد من علماء الأمصار
و قد قال الإمام أحمد : حدثنا عفان حدثنا حماد حدثنا عطاء بن السائب عن الشعبي عن ابن مسعود قال : إن النساء كن يوم أحد خلف المسلمين يجهزن على جرحى المشركين فلو حلفت يومئذ رجوت أن أبرأن ليس أحد منا يريد الدنيا حتى أنزل الله : { منكم من يريد الدنيا و منكم من يريد الآخرة ثم صرفكم عنهم ليبتليكم }
فلما خالف أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم و عصوا ما أمروا به أفرد رسول الله صلى الله عليه و سلم في تسعة : سبعة من الأنصار و اثنين من قريش و هو عاشرهم فلما رهقوه قال : [ رحم الله رجلا ردهم عنا فلم يزل يقول ذا حتى قتل السبعة فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم لصاحبيه : ما أنصفنا أصحابنا ]
فجاء أبو سفيان فقال : اعل هبل فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ قولوا : الله أعلى و أجل ] فقالوا : الله أعلى و أجل
فقال أبو سفيان : لنا العزى و لا عزى لكم فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : قولوا : [ الله مولانا و لا مولى لكم ]
ثم قال أبو سفيان : يوم بيوم بدر يوم لنا و يوم علينا و يوم نساء و يوم نسر حنظلة بحنظلة و فلان بفلان
فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ لا سواء أما قتلانا فأحياء يرزقون و قتلاكم في النار يعذبون ]
قال أبو سفيان : قد كانت في القوم مثلة و إن كانت لعن غير ملإ منا ما أمرت و لا نهيت و لا أحببت و لا كرهت و لا ساءني و لا سرني
قال : فنظروا فإذا حمزة قد بقر بطنه و أخذت هند كبده فلاكتها فلم تستطع أن تأكلها فقال : رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ أأكلت شيئا ؟ قالوا : لا قال : ما كان الله ليدخل شيئا من حمزة في النار ]
قال : فوضع رسول الله صلى الله عليه و سلم حمزة فصلى عليه و جيء برجل من الأنصار فوضع إلى جنبه فصلى عليه فرفع الأنصاري و ترك حمزة و جيء بآخر فوضعه إلى جنب حمزة فصلى عليه ثم رفع و ترك حمزة حتى صلى عليه يومئذ سبعين صلاة
تفرد به أحمد و هذا إسناد فيه ضعف أيضا من جهة عطاء بن السائب فالله أعلم و الذي رواه البخاري أثبت حيث قال : [ حدثنا قتيبة حدثنا الليث عن ابن شهاب عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك أن جابر بن عبد الله أخبره أن رسول الله صلى الله عليه و سلم كان يجمع بين الرجلين من قتلى أحد في ثوب واحد ثم يقول : أيهم أكثر أخذا للقرآن ؟ فإذا أشير له إلى أحدهما قدمه في اللحد و قال : أنا شهيد على هؤلاء يوم القيامة و أمر بدفنهم بدمائهم و لم يصل عليهم و لم يغسلوا ]
تفرد به البخاري دون مسلم و رواه أهل السنن من حديث الليث بن سعد به
و قال أحمد : [ حدثنا محمد يعني ابن جعفر حدثنا شعبة سمعت عبد ربه يحدث عن الزهري عن ابن جابر عن جابر ابن عبد الله عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال في قتلى أحد : فإن كل جرح أو كل دم يفوح مسكا يوم القيامة و لم يصل عليهم ]
و ثبت أنه صلى عليهم بعد ذلك بسنين عديدة قبل وفاته بيسير كما قال البخاري : [ حدثنا محمد بن عبد الرحيم حدثنا زكريا بن عدي أخبرنا ابن المبارك عن حيوة عن يزيد بن أبي حبيب عن أبي الخير عن عقبة بن عامر قال : صلى رسول الله صلى الله عليه و سلم على قتلى أحد بعد ثمان سنين كالمودع للأحياء و الأموات ثم طلع المنبر فقال : إني بين أيديكم فرط وأنا عليكم شهيد و إن موعدكم الحوض و إني لأنظر إليه من مقامي هذا و إني لست أخشى عليكم أن تشركوا و لكني أخشى عليكم الدنيا أن تنافسوها ]
قال : فكان آخر نظرة نظرتها إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم
و رواه البخاري في مواضع أخر و مسلم و أبو داود و النسائي من حديث يزيد بن أبي حبيب به نحوه
و قال الأموي : حدثني أبي حدثنا الحسن بن عمارة عن حبيب بن أبى ثابت قال : قالت عائشة : خرجنا من السحر مخرج رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى أحد نستطلع الخبر حتى غدا طلع الفجر إذا رجل محتجر يشتد و يقول : لبث قليلا يشهد الهيجا حمل
قال : فنظرنا فإذا أسيد بن حضير ثم مكثنا بعد ذلك فإذا بعير قد أقبل عليه امرأة بين وسقين
قالت : فدنونا منها فإذا هي امرأة عمرو بن الجموح فقلنا لها : ما الخبر ؟ قالت : دفع الله عن رسول الله صلى الله عليه و سلم و اتخذ من المؤمنين شهداء { و رد الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيرا و كفى الله المؤمنين القتال و كان الله قويا عزيزا }
ثم قالت لبعيرها : حل ثم نزلت فقلنا لها : ما هذا ؟ قالت : أخي و زوجي
و قال ابن إسحاق : و قد أقبلت صفية بنت عبد المطلب لتنظر إليه و كان أخاها لأبيها و أمها فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم لابنها الزبير بن العوام : [ القها فارجعها لا ترى ما بأخيها ] فقال لها : يا أمه إن رسول الله صلى الله عليه و سلم يأمرك أن ترجعي قالت : و لم و قد بلغني أنه مثل بأخي و ذلك في الله فما أرضانا ما كان من ذلك لأحتسبن و لأصبرن إن شاء الله
فلما جاء الزبير إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم و أخبره بذلك قال : خل سبيلها فأتته فنظرت إليه و صلت عليه و استرجعت و استغفرت
قال ابن إسحاق : ثم أمر به رسول الله صلى الله عليه و سلم فدفن و دفن معه ابن أخته عبد الله بن جحش و أمه أميمة بنت عبد المطلب و كان قد مثل به غير أنه لم ينقر عن كبده رضي الله عنهما
قال السهيلي : و كان يقال له المجدع في الله قال : و ذكر سعد أنه هو و عبد الله بن جحش دعيا بدعوة فاستجيبت لهما فدعا سعد أن يلقى فارسا من المشركين فيقتله و يستلبه فكان ذلك و دعا عبد الله بن جحش أن يلقاه فارس فيقتله و يجدع أنفه في الله فكان ذلك
و ذكر الزبير بن بكار أن سيفه يومئذ انقطع فأعطاه رسول الله صلى الله عليه و سلم عرجونا فصار في يد عبد الله بن جحش سيفا يقاتل به ثم بيع في تركة بعض ولده بمائتي دينار
و هذا كما تقدم لعكاشة في يوم بدر (3/80)
و قد تقدم في صحيح البخاري أيضا أن رسول الله صلى الله عليه و سلم كان [ يجمع بين الرجلين و الثلاثة في القبر الواحد بل في الكفن الواحد ]
[ و إنما أرخص لهم في ذلك لما بالمسلمين من الجراح التي يشق معها أن يحفروا لكل واحد واحد و يقدم في اللحد أكثرهما أخذا للقرآن ]
[ و كان يجمع بين الرجلين المتصاحبين في اللحد الواحد كما جمع بين عبد الله بن حرام والد جابر و بين عمرو بن الجموح لأنهما كانا متصاحبين ]
[ و لم يغسلوا بل تركهم بجراحهم و دمائهم ]
كما روى ابن إسحاق : [ عن الزهري عن عبد الله بن ثعلبة بن صعير أن رسول الله صلى الله عليه و سلم لما انصرف عن القتلى يوم أحد قال : أنا شهيد على هؤلاء أنه ما من جريح يجرح في سبيل الله إلا و الله يبعثه يوم القيامة يدمي جرحه اللون لون دم والريح ريح مسك ]
قال : [ و حد ثني عمي موسى بن يسار أنه سمع أبو هريرة يقول : قال أبو القاسم صلى الله عليه و سلم : ما من جريح يجرح في الله إلا و الله يبعثه يوم القيامة وجرحه يدمي اللون لون الدم و الريح ريح مسك ]
وهذا الحديث ثابت في الصحيحين من غير هذا الوجه
و قال الإمام أحمد : [ حدثنا علي بن عاصم عن عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير عن بن عباس قال : أمر رسول الله صلى الله عليه و سلم يوم أحد بالشهداء أن ينزع عنهم الحديد و الجلود و قال : ادفنوهم بدمائهم و ثيابهم ]
رواه أبو داود و ا بن ماجه من حديث علي بن عاصم به
و قال الإمام أبو داود في سننه : [ حدثنا القعنبي أن سليمان بن المغيرة حدثهم عن حميد بن هلال عن هشام بن عامر أنه قال : جاءت الأنصار إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم يوم أحد فقالوا : قد أصابنا قرح و جهد فكيف تأمر ؟ فقال : احفروا و أوسعوا و اجعلوا الرجلين و الثلاثة في القبر الواحد
قيل يا رسول الله فأيهم يقدم ؟ قال : أكثرهم قرآنا
ثم رواه من حديث الثوري عن أيوب عن حميد بن هلال عن هشام بن عامر
فذكره وزاد : و أعمقوا ] (3/84)
قال ابن إسحاق : و قد احتمل ناس من المسلمين قتلاهم إلى المدينة فدفنوهم بها [ ثم نهى رسول الله صلى الله عليه و سلم عن ذلك ] و قال :
[ ادفنوهم حيث صرعوا ] وقد قال الإمام أحمد : حدثنا علي ابن إسحاق : حدثنا عبد الله و عتاب حدثنا عبد الله حدثنا عمر بن سلمة بن أبي يزيد المديني حدثني أبي سمعت جابر بن عبد الله يقول : استشهد أبي بأحد فأرسلني أخواتي إليه بناضح لهن فقلن : اذهب فاحتمل أباك على هذا الجمل فادفنه في مقبرة بني سلمة
فقال : فجئته و أعوان لي فبلغ ذلك نبي الله وهو جالس بأحد فدعاني فقال : [ و الذي نفسي بيده لا يدفن إلا مع إخوته ]
فدفن مع أصحابه بأحد
تفرد به أحمد
و قال الإمام أحمد : حدثنا محمد بن جعفر حدثنا شعبة عن الأسود بن قيس عن نبيح عن جابر بن عبد الله أن قتلى أحد حملوا من مكانهم فنادى منادي النبي صلى الله عليه و سلم : [ أن ردوا القتلى إلى مضاجعهم ]
و قد رواه أبو داود و النسائي من حديث الثوري و الترمذي و من حديث شعبة و النسائي أيضا و ابن ماجه من حديث سفيان بن عيينة كلهم عن الأسود بن قيس عن نبيح العيزي عن جابر بن عبد الله قال : خرج رسول الله من المدينة إلى المشركين يقاتلهم و قال أبي عبد الله : يا جابر لا عليك أن تكون في نظارى أهل المدينة حتى تعلم ما يصير أمرنا فإني و الله لولا أني أترك بنات لي بعدي لأحببت أن تقتل بين يدي (3/85)
قال : فبينا أنا في النظارين إذ جاءت عمتي بأبي وخالي عادلتهما على ناضح فدخلت بهما المدينة لتدفنهما في مقابرنا إذ لحق رجل ينادي : ألا إن النبي صلى الله عليه و سلم يأمركم أن ترجعوا بالقتلى فتدفنوها في مصارعها حيث قتلت فرجعنا بهما فدفناهما حيث قتلا فبينا أنا في خلافة معاوية بن أبي سفيان إذ جاءني رجل فقال يا جابر بن عبد الله و الله لقد أثار أباك عمال معاوية فبدا فخرج طائفة منه
فأتيته فوجدته على النحو الذي دفنته لم يتغير إلا ما لم يدع القتل أو القتيل
ثم ساق الإمام قصة وفائه دين أبيه كما هو ثابت في الصحيحين
وروى البيهقي : من طريق حماد بن زيد عن أيوب عن أبي الزبير عن جابر بن عبد الله قال : لما أجرى معاوية العين عند قتلى أحد بعد أربعين سنة استصرخنا إليهم فأتيناهم فأخرجناهم فأصابت المسحاة قدم حمزة فانبعث دما !
و في رواية ابن إسحاق عن جابر قال : فأخرجناهم كأنما دفنوا بالأمس
و ذكر الواقدي أن معاوية لما أراد أن يجري العين نادى مناديه : من كان له قتيل بأحد فليشهد قال جابر : فحفرنا عنهم فوجدت أبي في قبره كأنما هو نائم على هيئته ووجدنا جاره في قبره عمرو بن الجموح و يده على جرحه فأزيلت عنه فانبعث جرحه دما !
و يقال : إنه فاح من قبورهم مثل ريح المسك رضي الله عنهم أجمعين و ذلك بعد ست و أربعين سنة من يوم دفنوا
و قد قال البخاري : حدثنا مسدد حدثنا بشر بن المفضل حدثنا حسين المعلم عن عطاء عن جابر قال : لما حضر أحد دعاني أبي من الليل فقال لي : ما أراني إلا مقتولا في أول من يقتل من أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم و إني لا أترك بعدي أعز علي منك غير نفس رسول الله صلى الله عليه و سلم و إن على دينا فاقض و استوص بأخواتك خيرا
فأصبحنا و كان أول قتيل فدفنت معه آخر في قبره ثم لم تطب نفسي أن أتركه مع آخر فاستخرجته بعد ستة أشهر فإذا هو كيوم وضعته هيئة غير أذنه
وثبت في الصحيحين [ من حديث شعبة عن محمد بن المنكدر عن جابر أنه لما قتل أبوه جعل يكشف عنه الثوب و يبكي فنهاه الناس فقال رسول الله : تبكيه أو لا تبكيه لم تزل الملائكة تظله حتى رفعتموه ]
وفي رواية أن عمته هي الباكية
و قال البيهقي : [ حدثنا أبو عبد الله الحافظ و أبو بكر أحمد بن الحسن القاضي قالا : حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب حدثنا محمد ابن إسحاق : حدثنا فيض بن وثيق البصري حدثنا أبو عبادة الأنصاري عن الزهري عن عروة عن عائشة قالت : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم لجابر : يا جابر ألا أبشرك ؟ قال بلى بشرك الله بالخير فقال : أشعرت أن الله أحيا أباك فقال : تمن على عبدي ما شئت أعطكه قال : يا رب عبدتك حق عبادتك أتمنى عليك أن تردني إلى الدنيا فأقاتل مع نبيك و أقتل فيك مرة أخرى قال : إنه سلف مني أنه إليها لا يرجع ]
و قال البيهقي : [ حدثنا أبو الحسن محمد بن أبي المعروف الأسفراييني حدثنا أبو سهل بشر بن أحمد حدثنا أحمد بن الحسين بن نصر حدثنا علي بن المديني حدثنا موسى بن إبراهيم بن كثير بن بشير بن الفاكه الأنصاري قال : سمعت طلحة بن خراش بن عبد الرحمن بن خراش بن الصمة الأنصاري ثم السلمى قال : سمعت جابر بن عبد الله قال : نظر إلي رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال مالي أراك مهتما ؟ قال : قلت يا رسول الله قتل أبي و ترك دينا و عيالا فقال : ألا أخبرك ؟ ما كلم الله أحدا إلا من وراء حجاب و إنه كلم أباك كفاحا و قال له : يا عبدي سلني أعطك فقال : أسألك أن تردني إلى الدنيا فأقتل فيك ثانية فقال : إنه قد سبق مني القول : أنهم إليها لا يرجعون قال يا رب فأبلغ من ورائي ] فأنزل الله { و لا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون } الآية (3/86)
و قال ابن إسحاق : [ و حدثني بعض أصحابنا عن عبد الله بن محمد بن عقيل سمعت جابرا يقول : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم ألا أبشرك يا جابر ؟ قلت بلى قال : إن أباك حيث أصيب بأحد أحياه الله ثم قال له : ما تحب يا عبد الله ما تحب أن أفعل بك ؟ قال : أي ربي أحب أن تردني إلى الدنيا فأقاتل فيك فأقتل مرة أخرى ]
وقد رواه أحمد عن علي بن المديني عن سفيان بن عيينة عن محمد بن علي عن ربيعة السلمي عن ابن عقيل عن جابر و زاد : فقال الله : { إني قضيت أنهم إليها لا يرجعون }
و قال أحمد : [ حدثنا يعقوب حدثنا أبي عن ابن إسحاق حدثني عاصم بن عمرو بن قتادة عن عبد الرحمن بن جابر عن عبد الله عن جابر بن عبد الله قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول إذا ذكر أصحاب أحد : أما و الله لوددت أني غودرت مع أصحابه بحضن الجبل يعني سفح الجبل ]
تفرد به أحمد
و قد روى البيهقي [ من حديث عبد الأعلى بن عبد الله بن أبي فروة عن قطن بن وهب عن عبيد بن عمير عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه و سلم حين انصرف من أحد مر على مصعب بن عمير و هو مقتول على طريقه فوقف عليه فدعا له ثم قرأ : { من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه } الآية قال : أشهد أن هؤلاء شهداء عند الله يوم القيامة فأتوهم و زوروهم و الذي نفسي بيده لا يسلم عليهم أحد إلى يوم القيامة إلا ردوا عليه ]
و هذا حديث غريب و روي عن عبيد بن عمير مرسلا (3/88)
و روى البيهقي : [ من حديث موسى بن يعقوب عن عباد بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة قال : كان النبي صلى الله عليه و سلم يأتي قبور الشهداء فإذا أتى فرضة الشعب قال : { السلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار } ثم كان أبو بكر بعد النبي صلى الله عليه و سلم يفعله و كان عمر بعد أبي بكر يفعله و كان عثمان بعد عمر يفعله ]
قال الواقدي : [ كان النبي صلى الله عليه و سلم يزورهم كل حول فإذا بلغ نقرة الشعب يقول : { السلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار } ثم كان أبو بكر يفعل ذلك كل حول ثم عمر ثم عثمان و كانت فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه و سلم تأتيهم فتبكي عندهم و تدعو لهم و كان سعد يسلم ثم يقبل على أصحابه فيقول : ألا تسلمون على قوم يردون عليكم ]
ثم حكى زيارتهم عن أبي سعيد و أبي هريرة و عبد الله بن عمر و أم سلمة رضي الله عنهم
و قال بن أبي الدنيا : حدثني إبراهيم حدثني الحكم بن نافع حدثنا العطاف بن خالد حدثتني خالتي قالت : ركبت يوما إلى قبور الشهداء ـ و كانت لا تزال تأتيهم ـ فنزلت عند حمزة فصليت ما شاء الله أن أصلي و ما في الوادي داع و لا مجيب إلا غلاما قائما آخذا برأس دابتي فلما فرغت من صلاتي قلت هكذا بيدي : ( السلام عليكم ) قالت : فسمعت رد السلام علي يخرج من تحت الأرض أعرفه كما أعرف أن الله عز و جل خلقني و كما أعرف الليل و النهار فاقشعرت كل شعرة مني !
و قال محمد بن إسحاق [ عن إسماعيل بن أمية عن أبي الزبير عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : قال النبي صلى الله عليه و سلم لما أصيب إخوانكم يوم أحد جعل الله أرواحهم في أجواف طير خضر ترد أنهار الجنة و تأكل من ثمارها و تأوي إلى قناديل من ذهب معلقة في ظل العرش فلما وجدوا طيب مأكلهم و مشربهم و مقيلهم قالوا : من يبلغ إخواننا عنا أنا أحياء في الجنة نرزق لئلا ينكلوا عن الحرب و لا يزهدوا في الجهاد ؟
فقال الله عز و جل : أنا أبلغهم عنكم ] فأنزل الله في الكتاب قوله تعالى : { و لا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون }
و روى مسلم و البيهقي [ من حديث أبي معاوية عن الأعمش عن عبد الله بن مرة عن مسروق قال : سألنا عبد الله بن مسعود عن هذه الآية : { و لا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون }
فقال : أما إنا قد سألنا عن ذلك رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : أرواحهم في جوف طير خضر تسرح في أيها شاءت ثم تأوي إلى قناديل معلقة بالعرش قال : فبينما هم كذلك إذ اطلع عليهم ربك اطلاعة فقال : اسألوني ما شئتم فقالوا : يا ربنا و ما نسألك و نحن نسرح في الجنة في أيها شئنا ففعل ذلك بهم ثلاث مرات فلما رأوا أن لن يتركوا من أن يسألوا قالوا : نسألك أن ترد أرواحنا إلى أجسادنا في الدنيا نقتل في سبيلك مرة أخرى قال : فلما رأى أنهم لا يسألون إلا هذا تركوا ] (3/89)
قال موسى بن عقبة : جميع من استشهد يوم أحد من المهاجرين و الأنصار تسعة و أربعون رجلا
و قد ثبت في الحديث الصحيح عند البخاري عن البراء أنهم قتلوا من المسلمين سبعين رجلا فالله أعلم
و قال قتادة : عن أنس قتل من الأنصار يوم أحد سبعون و يوم بئر معونة سبعون و يوم اليمامة سبعون
و قال حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس أنه كان يقول : قارب السبعين يوم أحد و يوم بئر معونة و يوم مؤتة و يوم اليمامة
و قال مالك : عن يحيى بن سعيد الأنصاري عن سعيد بن المسيب قتل من الأنصار يوم أحد ويوم اليمامة سبعون و يوم جسر أبي عبيدة سبعون
و هكذا قال عكرمة و عروة و الزهري و محمد بن إسحاق في قتلى أحد و يشهد له قوله تعالى { أولما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم : أنى هذا } يعني أنهم قتلوا يوم بدر سبعين و أسروا سبعين
و عن ابن إسحاق : قتل من الأنصار ـ لعله من المسلمين ـ يوم أحد خمسة وستون أربعة من المهاجرين : حمزة و عبد الله بن جحش و مصعب بن عمير و شماس بن عثمان و الباقون من الأنصار
و سرد أسماءهم على قبائلهم و قد استدرك عليه ابن هشام زيادة على ذلك خمسة آخرين فصاروا سبعين على قول ابن هشام
و سرد ابن إسحاق أسماء الذين قتلوا من المشركين و هم اثنا و عشرون رجلا
و عن عروة : كان الشهداء يوم أحد أربعة أو قال سبعة و أربعين
و قال موسى بن عقبة : تسعة و أربعون و قتل من المشركين يومئذ ستة عشر رجلا
و قال عروة : تسعة عشر و قال ابن إسحاق : اثنان و عشرون
و قال الربيع عن الشافعي : [ و لم يؤسر من المشركين سوى أبي عزة الجمحي و قد كان في الأسارى يوم بدر فمن عليه رسول الله صلى الله عليه و سلم بلا فدية و اشترط عليه ألا يقاتله فلما أسر يوم أحد قال : يا محمد امنن علي لبناتي و أعاهد ألا أقاتلك فقال له رسول الله صلى الله عليه و سلم : لا أدعك تمسح عارضيك بمكة و تقول : خدعت محمدا مرتين ثم أمر به فضربت عنقه ]
و ذكر بعضهم أنه يومئذ قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين ! ] (3/91)
قال ابن إسحاق : ثم انصرف رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى المدينة فلقيته حمنة بنت جحش كما ذكر لي فلما لقيت الناس نعي إليها أخوها عبد الله بن جحش فاسترجعت و استغفرت له ثم نعي لها خالها حمزة بن عبد المطلب فاسترجعت و استغفرت له ثم نعي لها زوجها مصعب بن عمير فصاحت و ولولت فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ إن زوج المرأة منها لبمكان ! ] لما رأى من تثبتها عند أخيها و خالها و صياحها على زوجها
و قد قال ابن ماجة : حدثنا محمد بن يحيى حدثنا إسحاق بن محمد الفروي حدثنا عبد الله بن عمر عن إبراهيم ابن محمد بن عبد الله بن جحش عن أبيه عن حمنة بنت جحش أنه قيل لها : قتل أخوك فقالت : رحمه الله و إنا لله و إنا إليه راجعون فقالوا : قتل زوجك قالت : واحزناه !
فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ إن للزوج من المرأة لشعبة ما هي لشيء ] !
قال ابن إسحاق : و حدثني عبد الواحد بن أبي عون عن إسماعيل عن محمد عن سعد بن أبي وقاص قال : مر رسول الله صلى الله عليه و سلم بامرأة من بني دينار و قد أصيب زوجها و أخوها و أبوها مع رسول الله صلى الله عليه و سلم بأحد فلما نعوا لها قالت : ما فعل رسول الله صلى الله عليه و سلم ؟ قالوا : خيرا يا أم فلان هو بحمد الله كما تحبين قالت : أرونيه حتى أنظر إليه قال : فأشير لها إليه حتى إذا رأته قالت : كل مصيبة بعدك جلل
قال ابن هشام : الجلل يكون من القليل و الكثير و هو ههنا القليل قال امرؤ القيس :
( لقتل بني أسد ربهم ... ألا كل شيء خلاه جلل )
أي صغير و قليل
قال ابن إسحاق : فلما انتهى رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى أهله ناول سيفه ابنته فاطمة فقال : [ اغسلي عن هذا دمه يا بنية فوالله لقد صدقني في هذا اليوم ]
و ناولها علي بن أبي طالب سيفه فقال : و هذا فاغسلي عنه دمه فوالله لقد صدقني اليوم
فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ لئن كنت صدقت القتال لقد صدقه معك سهل بن حنيف و أبو دجانة ]
و قال موسى بن عقبة : في موضع آخر : و لما رأى رسول الله صلى الله عليه و سلم سيف علي مخضبا بالدماء قال : [ لئن كنت أحسنت القتال فقد أحسن عاصم بن ثابت بن أبي الأقلح و الحارث بن الصمة و سهل بن حنيف ]
و روى البيهقي : [ عن سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار عن عكرمة عن ابن عباس قال : جاء علي بن أبي طالب بسيفه يوم أحد قد انحنى فقال لفاطمة : هاك السيف حميدا فإنها قد شفتني
فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : لئن كنت أجدت الضرب بسيفك لقد أجاده سهل بن حنيف و أبو دجانة و عاصم بن ثابت و الحارث بن الصمة ]
قال ابن هشام : و سيف رسول الله صلى الله عليه و سلم هذا هو ذو الفقار
قال : و حدثني بعض أهل العلم عن ابن أبي نجيح قال : نادى مناد يوم أحد : لا سيف إلا ذو الفقار
قال : و حدثني بعض أهل العلم أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال لعلي : [ لا يصيب المشركون منا مثلها حتى يفتح الله علينا ] (3/93)
قال ابن إسحاق : و مر رسول الله صلى الله عليه و سلم بدار بني عبد الأشهل فسمع البكاء و النوائح على قتلاهم فذرفت عينا رسول الله صلى الله عليه و سلم ثم قال : [ لكن حمزة لا بواكي له ] فلما رجع سعد بن معاذ و أسيد بن الحضير إلى دار بني عبد الأشهل أمرا نساءهن أن يتحزمن ثم يذهبن فيبكين على عم رسول الله صلى الله عليه و سلم
فحدثني حكيم بن حكيم بن عباد بن حنيف عن بعض رجال بني عبد الأشهل قال : لما سمع رسول الله صلى الله عليه و سلم بكاءهن على حمزة خرج عليهن و هن في باب المسجد يبكين فقال : [ ارجعن يرحمكن الله فقد آسيتن بأنفسكن ]
قال : [ و نهى رسول الله صلى الله عليه و سلم يومئذ عن النوح ] فيما قال ابن هشام : و هذا الذي ذكره منقطع و منه مرسل
و قد أسند الإمام أحمد فقال : [ حدثنا زيد بن الحباب حدثني أسامة بن زيد حدثني نافع عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه و سلم لما رجع من أحد فجعل نساء الأنصار يبكين على من قتل من أزواجهن قال : فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : و لكن حمزة لا بواكي له ]
قال : ثم نام فاستنبه و هن يبكين قال : [ فهن اليوم إذا يبكين يندبن حمزة ]
و هذا على شرط مسلم
و قد رواه ابن ماجة [ عن هارون بن سعيد عن ابن وهب عن أسامة بن زيد الليثي عن نافع عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه و سلم مر بنساء بني عبد الأشهل يبكين هلكاهن يوم أحد فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : لكن حمزة لا بواكي له ]
فجاء نساء الأنصار يبكين حمزة فاستيقظ رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : [ ويحهن ما انقلبن بعد مرورهن فلينقلبن و لا يبكين على هالك بعد اليوم ]
و قال موسى بن عقبة : و لما دخل رسول الله صلى الله عليه و سلم أزقة المدينة إذا النوح و البكاء في الدور قال : ما هذا ؟ قالوا : هذه نساء الأنصار يبكين قتلاهم فقال : [ لكن حمزة لا بواكي له ] و استغفر له
فسمع ذلك سعد بن معاذ و سعد بن عبادة و معاذ بن جبل و عبد الله بن رواحة فمشوا إلى دورهم فجمعوا كل نائحة باكية كانت بالمدينة فقالوا : و الله لا تبكين قتلى الأنصار حتى تبكين عم النبي صلى الله عليه و سلم فإنه قد ذكر أنه لا بواكي له بالمدينة و زعموا أن الذي جاء با لنائح عبد الله بن رواحة فلما سمع رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : ما هذا ؟ فأخبر بما فعلت الأنصار بنسائهم فاستغفر لهم و قال لهم خيرا و قال : [ ما هذا أردت و ما أحب البكاء و نهى عنه ]
و هكذا ذكر ابن لهيعة عن أبي الأسود عن عروة بن الزبير سواء
قال موسى بن عقبة : و أخذ المنافقون عند بكاء المسلمين في المكر و التفريق عن رسول الله صلى الله عليه و سلم و تحزين المسلمين و ظهر غش اليهود و فارت المدينة بالنفاق فور المرجل
و قالت اليهود : لو كان نبيا ما ظهروا عليه و لا أصيب منه ما أصيب و لكنه طالب ملك تكون له الدولة و عليه
و قال المنافقون مثل قولهم و قالوا للمسلمين : لو كنتم أطعتمونا ما أصابكم الذين أصابوا منكم
فأنزل الله القرآن في طاعة من أطاع و نفاق من نافق و تعزية للمسلمين يعني فيمن قتل منهم فقال : { و إذ غدوت من أهلك تبوئ المؤمنين مقاعد للقتال و الله سميع عليم } الآيات كلها ـ كما تكلمنا على ذلك في التفسير ولله الحمد و المنة (3/94)
على ما بهم من القرح و الجراح في أثر أبي سفيان إرهابا له و لأصحابه حتى بلغ حمراء الأسد و هي على ثمانية أميال من المدينة
قال موسى بن عقبة : بعد اقتصاصه وقعة أحد و ذكره رجوعه عليه السلام إلى المدينة :
و قدم رجل من أهل مكة على رسول الله صلى الله عليه و سلم فسأله عن أبي سفيان و أصحابه فقال : نازلتهم فسمعتهم يتلاومون و يقول بعضهم لبعض : لم تصنعوا شيئا أصبتم شوكة القوم و حدهم ثم تركتموهم و لم تبتروهم فقد بقي منهم رؤوس يجمعون لكم
فأمر رسول الله صلى الله عليه و سلم [ ـ و بهم أشد القرح ـ بطلب العدو ليسمعوا بذلك و قال : لا ينطلقن معي إلا من شهد القتال فقال عبد الله بن أبي : أنا راكب معك فقال : لا
فاستجابوا لله و لرسوله على الذي بهم من البلاء فانطلقوا ]
فقال الله في كتابه : { الذين استجابوا لله و الرسول من بعد ما أصابهم القرح للذين أحسنوا منهم و اتقوا أجر عظيم }
قال : و أذن رسول الله صلى الله عليه و سلم لجابر حين ذكر أن أباه أمره بالمقام في المدينة على أخواته
قال : و طلب رسول الله صلى الله عليه و سلم العدو حتى بلغ حمراء الأسد
و هكذا روى ابن لهيعة عن أبي الأسود عن عروة بن الزبير سواء
و قال محمد ابن إسحاق في مغازيه : و كان يوم أحد يوم السبت النصف من شوال فلما كان الغد من يوم الأحد لست عشرة ليلة مضت من شوال أذن مؤذن رسول الله صلى الله عليه و سلم في الناس بطلب العدو و أذن مؤذنه : [ ألا يخرجن أحد إلا من حضر يومنا بالأمس فكلمه جابر بن عبد الله فأذن له ]
قال ابن إسحاق : و إنما خرج رسول الله صلى الله عليه و سلم مرهبا للعدو ليبلغهم أنه خرج في طلبهم ليظنوا به قوة و أن الذي أصابهم لم يوهنهم عن عدوهم
قال ابن إسحاق رحمه الله : فحدثني عبد الله بن خارجة بن زيد بن ثابت عن أبي السائب مولى عائشة بنت عثمان أن رجلا من بني عبد الأشهل قال : شهدت أحدا أنا و أخ لي فرجعنا جريحين فلما أذن مؤذن رسول الله صلى الله عليه و سلم بالخروج في طلب العدو قلت لأخي و قال لي : أتفوتنا غزوة مع رسول الله صلى الله عليه و سلم ؟ ! و الله ما لنا من دابة نركبها و ما منا إلا جريح ثقيل فخرجنا مع رسول الله صلى الله عليه و سلم و كنت ايسر جرحا منه فكان إذا غلب حملته عقبة و مشى عقبة حتى انتهينا إلى ما انتهى إليه المسلمون
قال ابن إسحاق : فخرج رسول الله صلى الله عليه و سلم حتى انتهى إلى حمراء الأسد و هي من المدينة على ثمانية أميال فأقام بها الاثنين و الثلاثاء و الأربعاء ثم رجع إلى المدينة
قال ابن هشام : [ و قد كان استعمل على المدينة ابن أم مكتوم ]
قال ابن إسحاق : حدثني عبد الله بن أبي بكر أن معبد بن أبي معبد الخزاعي و كانت خزاعة مسلمهم و كافرهم عيبة رسول الله صلى الله عليه و سلم بتهامة صفقتهم معه لا يخفون عنه شيئا كان بها و معبد يومئذ مشرك مر برسول الله صلى الله عليه و سلم و هو مقيم بحمراء الأسد فقال : يا محمد أما و الله لقد عز علينا ما أصابك في أصحابك و لوددنا أن الله عافاك فيهم
ثم خرج من عند رسول الله صلى الله عليه و سلم بحمراء الأسد حتى لقي أبا سفيان ابن حرب و من معه بالروحاء و قد أجمعوا الرجعة إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم و أصحابه و قالوا : أصبنا حد أصحابه و قادتهم و أشرافهم ثم نرجع قبل أن نستأصلهم ؟ ! لنكرن على بقيتهم فلنفرغن منهم
فلما رأى أبو سفيان معبدا قال : ما وراءك يا معبد ؟ قال : محمد قد خرج في أصحابه يطلبكم في جمع لم أرى مثله قط يتحرقون عليكم تحرقا قد اجتمع معه من كان تخلف عنه في يومكم و ندموا على ما صنعوا فيهم من الحنق عليكم شيء لم أرى مثله قط
قال : ويلك ما تقول ؟ قال : و الله ما أراك ترتحل حتى ترى نواصي الخيل
قال : فوالله لقد أجمعنا الكرة عليهم لنستأصل شأفتهم قال : فإني أنهاك عن ذلك و والله لقد حملني ما رأيت على أن قلت فيه أبياتا من شعر قال : و ما قلت ؟ قال : قلت :
( كادت تهد من الأصوات راحلتي ... إذ سالت الأرض بالجرد الأبابيل )
( تردي بأسد كرام لا تنابلة ... عند اللقاء و لا ميل معازيل )
( فظلت عدوا أظن الأرض مائلة ... لما سموا برئيس غير مخذول )
( فقلت ويل ابن حرب من لقائكم ... إذا تغطمطت البطحاء بالجيل )
( إني نذير لأهل البسل ضاحية ... لكل ذي إربة منهم و معقول )
( من جيش أحمد لا وخش قنابله ... و ليس يوصف ما أنذرت بالقيل )
قال : فثنى ذلك أبا سفيان و من معه
و مر به ركب من عبد القيس فقال : أين تريدون ؟ قالوا : المدينة قال : و لم ؟ قالوا نريد الميرة قال : فهل انتم مبلغون عني محمدا رسالة أرسلكم بها إليه و أحمل لكم إبلكم هذه غدا زبيبا بعكاظ إذ وافيتموها ؟ قالوا نعم قال : فإذا وافيتموه فأخبروه أنا قد أجمعنا السير إليه و إلى أصحابه لنستأصل بقيتهم
فمر الركب برسول الله صلى الله عليه و سلم و هو بحمراء الأسد فأخبروه بالذي قال أبو سفيان فقال : [ حسبنا الله و نعم الوكيل ]
و كذا قال الحسن البصري
و قد قال البخاري : [ حدثنا أحمد بن يونس أراه قال : حدثنا أبو بكر عن أبي حصين عن أبي الضحى عن ابن عباس : حسبنا الله و نعم الوكيل قالها إبراهيم عليه السلام حين ألقي في النار و قالها محمد صلى الله عليه و سلم حين قالوا : إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا و قالوا : حسبنا الله و نعم الوكيل ]
تفرد بروايته البخاري
و قد قال البخاري : [ حدثنا محمد بن سلام حدثنا أبو معاوية عن هشام عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها : { الذين استجابوا لله و الرسول من بعد ما أصابهم القرح للذين أحسنوا منهم و اتقوا أجر عظيم } قالت لعروة : يا بن أختي كان أبواك منهم الزبير و أبو بكر رضي الله عنهما لما أصاب رسول الله صلى الله عليه و سلم ما أصاب يوم أحد و انصرف عنه المشركون خاف أن يرجعوا فقال : من يذهب في إثرهم ؟ فانتدب منهم سبعون رجلا منهم أبو بكر و الزبير ]
هكذا رواه البخاري و قد رواه مسلم مختصرا من وجه عن هشام و هكذا رواه سعيد بن منصور و أبو بكر الحميدي جميعا عن سفيان بن عيينة و أخرجه ابن ماجة من طريقه عن هشام بن عروة به و رواه الحاكم في مستدركه من طريق أبي سعيد عن هشام بن عروة به و رواه من حديث السدي عن عروة و قال في كل منهما : صحيح و لم يخرجاه
كذا قال و هذا السياق غريب جدا فإن المشهور عند أصحاب المغازي أن الذين خرجوا مع رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى حمراء الأسد كل من شهد أحدا و كانوا سبعمائة كما تقدم قتل منهم سبعون و بقي الباقون
و قد روى ابن جرير من طريق العوفي عن ابن عباس قال : إن الله قذف في قلب أبي سفيان الرعب يوم أحد بعد الذي كان منه فرجع إلى مكة و كانت وقعة أحد في شوال و كان التجار يقدمون في ذي القعدة المدينة فينزلون ببدر الصغرى في كل سنة مرة و إنهم قدموا بعد وقعة أحد و كان أصاب المسلمين القرح و اشتكوا ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم و اشتد عليم الذي أصابهم و إن رسول الله صلى الله عليه و سلم ندب الناس لينطلقوا بهم و يتبعوا ما كانوا متبعين و قال لنا : [ ترتحلون الآن فتأتون الحج و لا يقدرون على مثلها حتى عام قابل ]
فجاء الشيطان يخوف أولياءه فقال : إن الناس قد جمعوا لكم فأبى عليه الناس أن يتبعوه فقال : إني ذاهب و إن لم يتبعني أحد
فانتدب معه أبو بكر و عمر و عثمان و علي و طلحة و الزبير و سعد و عبد الرحمن بن عوف و أبو عبيدة و ابن مسعود و حذيفة في سبعين رجلا فساروا في طلب أبي سفيان حتى بلغوا الصفراء فأنزل الله : { الذين استجابوا لله و الرسول من بعد ما أصابهم القرح للذين أحسنوا منهم و اتقوا أجر عظيم }
و هذا غريب أيضا
و قال ابن هشام : حدثنا أبو عبيدة أن أبا سفيان بن حرب لما انصرف يوم أحد أراد الرجوع إلى المدينة فقال لهم صفوان بن أمية : لا تفعلوا فإن القوم قد حربوا و قد خشينا أن يكون لهم قتال غير الذي كان فارجعوا فرجعوا (3/97)
فقال النبي صلى الله عليه و سلم و هو بحمراء الأسد حين بلغه أنهم هموا بالرجعة :
[ و الذي نفسي بيده لقد سومت لهم حجارة لو صبحوا بها لكانوا كأمس الذاهب ! ]
قال : و أخذ رسول الله صلى الله عليه و سلم في وجهه ذلك قبل رجوعه إلى المدينة معاوية بن المغيرة بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس جد عبد الملك بن مروان لأمه عائشة بنت معاوية و أبا عزة الجمحي و كان رسول الله صلى الله عليه و سلم قد أسره ببدر ثم من عليه فقال : يا رسول الله أقلني فقال : [ لا و الله لا تمسح عارضيك بمكة تقول خدعت محمدا مرتين اضرب عنقه يا زبير فضرب عنقه ]
قال ابن هشام : و بلغني [ عن ابن المسيب أنه قال : رسول الله صلى الله عليه و سلم : إن المؤمن لا يلدغ من جحر مرتين اضرب عنقه يا عاصم بن ثابت فضرب عنقه ]
و ذكر ابن هشام : أن معاوية بن المغيرة بن أبي العاص استأمن له عثمان على ألا يقيم بعد ثلاث فبعث رسول الله صلى الله عليه و سلم بعدها زيد بن حارثة و عمار بن ياسر و قال : ستجدانه في مكان كذا و كذا فاقتلاه ففعلا رضي الله عنهما (3/102)
قال ابن إسحاق : و لما رجع رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى المدينة كان عبد الله بن أبي كما حدثني الزهري له مقام يقومه كل جمعة لا ينكر له شرفا في نفسه و في قومه وكان فيهم شريفا إذا جلس رسول الله صلى الله عليه و سلم يوم الجمعة و هو يخطب الناس قام فقال : أيها الناس هذا رسول الله بين أظهركم أكرمكم الله به و أعزكم به فانصروه و عزروه و اسمعوا له و أطيعوا ثم يجلس
حتى إذا صنع يوم أحد ما صنع و رجع الناس قام يفعل ذلك كما كان يفعله فأخذ المسلمون بثيابه من نواحيه و قالوا : اجلس أي عدو الله و الله لست لذلك بأهل و قد صنعت ما صنعت
فخرج يتخطى رقاب الناس و هو يقول : و الله لكأنما قلت بجرا أن قمت أشدد أمره !
فلقيه رجال من الأنصار بباب المسجد فقالوا : ويلك ما لك ؟ قال : قمت أشدد أمره فوثب إلي رجال من أصحابه يجبذونني و يعنفونني لكأنما قلت بجرا أن قمت أشدد أمره
قالوا ويلك ارجع يستغفر لك رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : و الله ما أبغي أن يستغفر لي (3/103)
ثم ذكر ابن إسحاق : ما نزل في القرآن في قصة أحد من سورة آل عمران عند قوله { وإذ غدوت من أهلك تبوىء المؤمنين مقاعد للقتال و الله سميع عليم }
قال : إلى تمام ستين آية و تكلم عليها
و قد بسطنا الكلام على ذلك في كتابنا التفسير بما فيه كفاية ثم شرع ابن إسحاق في ذكر شهداء أحد و تعدادهم بأسمائهم و أسماء آبائهم على قبائلهم كما جرت عادته
فذكر من المهاجرين أربعة : حمزة و مصعب بن عمير و عبد الله بن جحش و شماس بن عثمان رضي الله عنهم و من الأنصار إلى تمام خمسة و ستين رجلا و استدرك عليه ابن هشام خمسة أخرى فصاروا سبعين على قول ابن هشام
ثم سمى ابن اسحاق من قتل من المشركين وهم اثنان و عشرون رجلا على قبائلهم أيضا
قلت : و لم يؤسر من المشركين سوى أبي عزة الجمحي كما ذكر الشافعي و غيره و قتله رسول الله صلى الله عليه و سلم صبرا بين يديه أمر الزبير و يقال : عاصم بن ثابت بن أبي الأفلح فضرب عنقه (3/103)
و إنما نورد شعر الكفار لنذكر جوابها من شعر الإسلام ليكون أبلغ في وقعها من الأسماع و الأفهام و أقطع لشبهة الكفرة الطعام
قال الإمام محمد ابن إسحاق رحمه الله : و كان مما قيل من الشعر يوم أحد قول هبيرة بن أبي وهب المخزومي و هو على دين قومه من قريش فقال :
( ما بال هم عميد بات يطرقني ... بالود من هند إذ تعدو عواديها )
( باتت تعاتبني هند و تعذلني ... و الحرب قد شغلت عني مواليها )
( مهلا تعذليني إن من خلقي ... ما قد علمت و ما إن لست أخفيها )
( مساعف لبني كعب بما كلفوا ... حمال عبء وأثقال أعانيها )
( و قد حملت سلاحي فوق مشترف ... ساط سبوح إذا تجري يباريها )
( كأنه إذا جرى عير بفدفدة ... مكدم لا حق بالعون يحميها )
( من آل أعوج يرتاح الندي له ... كجذع شعراء مستعل مراقيها )
( أعددته و رقاق الحد منتخلا ... و مارنا لخطوب قد ألاقيها )
( هذا و بيضاء مثل النهى محكمة ... لظت علي فما تبدو مساويها )
( سقنا كنانة من أطراف ذي يمن ... عرض البلاد على ما كان يزجيها )
( قالت كنانة أنى تذهبون بنا ... قلنا النخيل فأموها ومن فيها )
( نحن الفوارس يوم الجر من أحد ... هابت معد فقلنا نحن نأتيها )
( هابوا ضرابا و طعنا صادقا خذما ... مما يرون و قد ضمت قواصيها )
( تمت رحنا كأنا عارض برد ... و قام هام بني النجار يبكيها )
( كأن هامهم عند الوغى فلق ... من قيض ربد نفته عن أداحيها )
( أو حنظل ذعذعته الريح في غصن ... بال تعاوره منها سوافيها )
( قد نبذل المال سحا لا حساب له ... و نطعن الخيل شزرا في مآقيها )
( و ليلة يصطلي بالفرث جازرها ... يختص بالنقرى المثرين داعيها )
( و ليلة من جمادى ذات أندية ... جربا جمادية قد بت أسريها )
( لا ينبح الكلب فيها غير واحدة ... من القريس و لا تسري أفاعيها )
( أوقدت فيها لذي الضراء جاحمة ... كالبرق ذاكية الأركان أحميها )
( أورثني ذلك عمرو و والده ... من قبلة كان بالمشتى يغاليها )
( كانوا يبارون أنواء النجوم فما ... دنت عن السورة العليا مساعيها ) (3/105)
قال ابن إسحاق : فأجابه حسان بن ثابت رضي الله عنه فقال :
قال ابن هشام : و تروى لكعب بن مالك و غيره قلت : و قول ابن إسحاق أشهر و أكثر و الله أعلم :
( سقتم كنانة جهلا من سفاهتكم ... إلى الرسول فجند الله مخزيها )
( أوردتموها حياض الموت ضاحية ... فالنار موعدها و القتل لاقيها )
( جمعتموهم أحابيشا بلا حسب ... أئمة الكفر غرتكم طواغيها )
( ألا اعتبرتم بخيل الله إذ قتلت ... أهل القليب و من ألقينه فيها )
( كم من أسير فككناه بلا ثمن ... و جز ناصية كنا مواليها ) (3/106)
قال ابن إسحاق : و قال كعب بن مالك يجيب هبيرة بن أبي وهب المخزومي أيضا :
( ألا هل أتى غسان عنا و دونهم ... من الأرض خرق سيره متنعنع )
( صحارى و أعلام كأن قتامها ... من البعد نقع هامد متقطع )
( تظل به البزل العراميس رزحا ... و يحلوا به غيث السنين فيمرع )
( به جيف الحسرى يلوح صليبها ... كما لاح كتان التجار الموضع )
( به العين و الآرام يمشين خلفة ... و بيض نعام قيضه يتقلع )
( مجالدنا عن ديننا كل فخمة ... مذربة فيها القوانس تلمع )
( و كل صموت في الصوان كأنها ... إذا لبست نهي من الماء مترع )
( و لكن ببدر سائلوا من لقيتم ... من الناس و الأنباء بالغيب تنفع )
( و إن بأرض الخوف لو كان أهلها ... سوانا لقد أجلوا بليل فأقشعوا )
( إذا جاء منا راكب كان قوله ... أعدوا لما يزجى ابن حرب و يجمع )
( فمهما يهم الناس مما يكيدنا ... فنحن له من سائر الناس أوسع )
( فلو غيرنا كانت جميعا تكيده البرية ... قد أعطوا يدا و توزعوا )
( نجالد لا تبقى علينا قبيلة ... من الناس إلا أن يهابوا و يفظعوا )
( و لما أبتنوا بالعرض قالت سراتنا ... علام إذا لم نمنع العرض نزرع )
( و فينا رسول الله نتبع أمره ... إذا قال فينا القول لا نتظلع )
( تدلى عليه الروح من عند ربه ... ينزل من جو السماء و يرفع )
( نشاوره فيما نريد و قصرنا ... إذا ما اشتهى أنا نطيع و نسمع )
( و قال رسول الله لما بدو لنا ... ذروا عنكم هول المنيات و أطمعوا )
( و كونوا كمن يشرى الحياة تقربا ... إلى ملك يحيى لديه و يرجع )
( و لكن خذوا أسيافكم و توكلوا ... على الله إن الأمر لله أجمع )
( فسرنا إليهم جهرة في رحالهم ... ضحيا علينا البيض لا نتخشع )
( بملمومة فيها السنور و القنا ... إذا ضربوا أقدامها لا تورع )
( فجئنا إلى موج من البحر وسطه ... أحابيش منهم حاسر و مقنع )
( ثلاثة آلاف و نحن نصية ... ثلاث مئين إن كثرنا فأربع )
( نغاورهم تجري المنية بيننا ... نشارعهم حوض المنايا و نشرع )
( تهادى قسي النبع فينا و فيهم ... و ما هو إلا اليثربي المقطع )
( و منجوفة حرمية صاعدية ... يذر عليها السم ساعة تصنع )
( تصوب بأبدان الرجال و تارة ... تمر بأعراض البصار تقعقع )
( و خيل تراها بالفضاء كأنها ... جراد صبا في قرة يتريع )
( فلما تلاقينا و دارت بنا الرحا ... و ليس لأمر حمه الله مدفع )
( ضربناهم حتى تركنا سراتهم ... كأنهم بالقاع خشب مصرع )
( لدن غدوة حتى استفقنا عشية ... كأن ذكانا حر نار تلفع )
( و راحوا سراعا موجعين كأنهم ... جهام هراقت ماءه الريح مقلع )
( و رحنا و أخرانا بطاء كأننا ... أسود على لحم ببيشة ضلع )
( فنلنا و نال القوم منا و ربما ... فعلنا و لكن ما لدى الله أوسع )
( و دارت رحانا و استدارت رحاهم ... و قد جعلوا كل من الشر يشبع )
( و نحن أناس لا نرى القتل سبة ... على كل من يحمى الزمار و يمنع )
( جلاد على ريب الحوادث لا نرى ... على هالك عينا لنا الدهر تدمع )
( بنو الحرب لا نعيا بشيء نقوله ... و لا نحن مما جرت الحرب نجزع )
( بنو الحرب إن نظفر فلسنا بفحش ... و لا نحن من أظفارنا نتوجع )
( و كلنا شهابا يتقي الناس حره ... و يفرج عنه من يليه و يسفع )
( فخرت علي ابن الزبعري و قد سرى ... لكم طلب من آخر الليل متبع )
( فسل عنك في عليا معد و غيرها ... من الناس من أخزى مقاما و أشنع )
( و من هو لم يترك له الحرب مفخرا ... و من خده يوم الكريهة أضرع )
( شددنا بحول الله و النصر شدة ... عليكم و أطراف الأسنة شرع )
( تكر القنا فيكم كأن فروعها ... عزالي مزاد ماؤها يتهزع )
( عمدنا إلى أهل اللواء و من يطر ... بذكر اللواء فهو في الحمد أسرع )
( فخانوا و قد أعطوا يدا و تخاذلوا ... أبى الله إلا أمره و هو أصنع ) (3/107)
قال ابن إسحاق : و قال عبد الله بن الزبعري في يوم أحد و هو يومئذ مشرك بعد :
( يا غراب البين أسمعت فقل ... إنما تنطق شيئا قد فعل )
( إن للخير و للشر مدى ... و كلا ذلك وجه و قبل )
( و العطيات خساس بينهم ... و سواء قبر مثر و مقل )
( كل عيش و نعيم زائل ... و بنات الدهر يلعبن بكل )
( أبلغا حسان عني آية ... فقريض الشعر يشفي ذا العلل )
( كم ترى بالجر من جمجمة ... و أكف قد أترت و رجل )
( و سرابيل حسان سربت ... عن كماة أهلكوا في المنتزل )
( كم قتلنا من كريم سيد ... ماجد الجدين مقدام بطل )
( صادق النجدة قرم بارع ... غير ملتاث لدى وقع الأسل )
( فسل المهراس ما ساكنه ... بين أقحاف و هام كالحجل )
( ليت أشياخي ببدر شهدوا ... جزع الخزرج من وقع الأسل )
( حين حكت بقباء بركها ... و استحر القتل في عبد الأشل )
( ثم خفوا عند ذاكم رقصا ... رقص الحفان يعلوا في الجبل )
( فقتلنا الضعف من أشرافهم ... و عدلنا ميل بدر فاعتدل )
( لا ألوم النفس إلا أننا ... لو كررنا لفعلنا المفتعل )
( بسيوف الهند تعلوا هامهم ... عللا تعلوهم بعد نهل ) (3/110)
قال ابن إسحاق : فأجابه حسان بن ثابت رضي الله عنه :
( ذهبت بابن الزبعري وقعة ... كان منا الفضل فيها لو عدل )
( و لقد نلتم و نلنا منكم ... و كذاك الحرب أحيانا دول )
( نضع الأسياف في أكتافكم ... حيث نهوى عللا بعد نهل )
( نخرج الأصبح من أستاهكم ... كسلاح النيب يأكلن العصل )
( إذ تولون على أعقابكم ... هربا في الشعب أشباه الرسل )
( إذ شددنا شدة صادقة ... فأجأناكم إلى سفح الجبل )
( بخناطيل كأشداق الملا ... من يلاقوه من الناس يهل )
( ضاق عنا الشعب إذ نجزعه ... و ملأنا الفرط منه و الرجل )
( برجال لستم أمثالهم ... أيدوا جبريل نصرا فنزل )
( و علونا يوم بدر بالتقى ... طاعة الله و تصديق الرسل )
( و قتلنا كل رأس منهم ... و قتلنا كل جحجاح رفل )
( و تركنا في قريش عورة ... يوم بدر و أحاديث المثل )
( و رسول الله حقا شاهدا ... يوم بدر و التنابيل الهبل )
( في قريش من جموع جمعوا ... مثل ما يجمع في الخصب الهمل )
( نحن لا أمثالكم ولد استها ... نحضر البأس إذا البأس نزل )
2 (3/111)
قال ابن إسحاق : و قال كعب يبكي حمزة و من قتل من المسلمين يوم أحد رضي الله عنهم :
( نشجت و هل لك من منشج ... و كنت متى تدكر تلجج )
( تذكر قوم أتاني لهم ... أحاديث في الزمن الأعوج )
( فقلبك من ذكرهم خافق ... من الشوق و الحزن المنضج )
( و قتلاهم في جنان النعيم ... كرام المداخل و المخرج )
( بما صبروا تحت ظل اللواء ... لواء الرسول بذي الأضوج )
( غداة أجابت بأسيافها ... جميعا بنوا الأوس و الخزرج )
( و أشياع أحمد إذ شايعوا ... على الحق ذي النور و المنهج )
( فما برحوا يضربون الكماة ... و يمضون في القسطل المرهج )
( كذلك حتى دعاهم مليك ... إلى جنة دوحة المولج )
( وكلهم مات حر البلاء ... على ملة الله لم يحرج )
( كحمزة لما وفى صادقا ... بذي هبة صارم سلجج )
( فلاقاه عبد بني نوفل ... يبربر كالجمل الأدعج )
( فأوجره حربة كالشهاب ... تلهب في اللهب الموهج )
( و نعمان أوفى بميثاقه ... و حنظلة الخير لم يحنج )
( عن الحق حتى غدت روحه ... إلى منزل فاخر الزبرج )
( أولئك لا من ثوى منكم ... من النار في الدرك المرتج ) (3/112)
قال ابن إسحاق : و قال حسان بن ثابت يبكي حمزة و من أصيب من المسلمين يوم أحد و هي على روي قصيدة أمية بن أبي الصلت في قتلى المشركين يوم بدر
قال ابن هشام : و من أهل العلم بالشعر من ينكر هذه لحسان و الله أعلم :
( يا مى قومي فاندبي ... بسحيرة شجوا النوائح )
( كالحاملات الوقر بال ... ثقل الملحات الدوالح )
( المعولات الخامشا ... ت وجوه حرات صحائح )
( و كأن سيل دموعها الأ ... نصاب تخضب بالذبائح )
( ينقضن أشعارا لهن ... هناك بادية المسائح )
( و كأنها أذناب خيـ ... ل بالضحى شمس روامح )
( من بين مشرور و مج ... زور يذعذع بالبوارح )
( يبكين شجوا مسلبات ... كدحتهن الكوادح )
( و لقد أصاب قلوبها ... مجل له جلب قوارح )
( إذ أقصد الحد ثان من ... كنا نرجي إذ نشايح )
( أصحاب أحد غالهم ... دهر ألم له جوارح )
( من كان فارسنا و حا ... مينا إذا بعث المسالح )
( يا حمز لا و الله لا ... أنساك ما صر اللقائح )
( لمناخ أيتام و أض ... ياف و أرملة تلامح )
( و لما ينوب الدهر في ... حرب لحرب و هى لافح )
( يا فارسا يا مدرها ... يا حمز قد كنت المصامح )
( عنا شديدات الخطو ... ب إذا ينوب لهن فادح )
( ذكرتني أسد الرسو ... ل و ذاك مدرهنا المنافح )
( عنا و كان يعد إذ ... عد الشريفون الجحاجح )
( يعلوا القماقم جهرة ... سبط اليدين أغر واضح )
( لا طائش رعش و لا ... ذو علة بالحمل آنح )
( بحر فليس يغب جا ... را منه سيب أو منادح )
( أودى شباب أولى الحفا ... ئظ و الثقيلون المراجح )
( المطعمون إذا المشا ... تي ما يصفقهن ناضح )
( لحم الجلاد و فوقه ... من شحمه شطب شرائح )
( ليدافعوا عن جارهم ... ما رام ذو الضغن المكاشح )
( لهفي لشبان رزئـ ... ناهم كأنهم المصابح )
( شم بطارقة غطا ... رفة خضارمة مسامح )
( المشترون الحمد بالأ ... موال إن الحمد رابح )
( و الجامزون بلجمهم يوما ... إذا ما صاح صائح )
( من كان يرمى بالنوا ... قر من زمان غير صالح )
( ما إن تزال ركابه ... يرسمن في غبر صحاصح )
( راحت تبارى و هو في ... ركب صدورهم رواشح )
( حتى تئوب له المعا ... لي ليس من فوز السفائح )
( يا حمز قد أوحدتني ... كالعود شذ به الكوافح )
( أشكو إليك و فوقك الترب المكور و الصفائح )
( من جندل يلقيه فوقك ... إذ أجاد الضرح ضارح )
( في واسع يحشونه ... بالترب سوته المماسح )
( فعزاؤنا أنا نقو ... ل و قولنا برح بوارح )
( من كان أمسى و هو عما أوقع الحدثان جانح )
( فليأتنا فلتبك عيناه لهلكانا النوافح )
( القائلين الفاعلين ... ذوي السماحة و الممادح )
( من لا يزال ندى يديه له طوال الدهر مائح )
قال ابن هشام : و أكثر أهل العلم بالشعر ينكرها لحسان (3/113)
قال ابن إسحاق : و قال كعب بن مالك يبكي حمزة و أصحابه :
( طرقت همومك فالرقاد مسهد ... و جزعت أن سلخ الشباب الأغيد )
( و دعت فؤادك للهوى ضمرية ... فهواك غوري و صحوك منجد )
( فدع التمادي في الغواية سادرا ... قد كنت في طلب الغواية تفند )
( و لقد أنى لك أن تناهى طائعا ... أو تستفيق إذا نهاك المرشد )
( و لقد هددت لفقد حمزة هدة ... ظلت بنات الجوف منها ترعد )
( و لو أنه فجعت حراء بمثله ... لرأيت راسي صخرها يتبدد )
( قرم تمكن في ذؤابة هاشم ... حيث النبوة و الندى و السؤدد )
( و العاقر الكوم الجلاد إذا غدت ... ريح يكاد الماء منها يجمد )
( و التارك القرن الكمي مجدلا ... يوم الكريهة و القنا يتقصد )
( و تراه يرفل في الحديد كأنه ... ذو لبدة شثن البراثن أربد )
( عم النبي محمد و صفيه ... و رد الحمام فطاب ذاك المورد )
( و أتى المنية معلما في أسرة ... نصروا النبي و منهم المستشهد )
( و لقد إخال بذاك هندا بشرت ... لتميت داخل غصة لا تبرد )
( مما صبحنا بالعقنقل قومها ... يوما تغيب فيه عنها الأسعد )
( و ببئر بدر إذ يرد وجوههم ... جبريل تحت لوائنا و محمد )
( حتى رأيت لدى النبي سراتهم ... قسمين نقتل من نشاء و نطرد )
( فأقام بالعطن المعطن منهم ... سبعون عتبة منهم و الأسود )
( و ابن المغيرة إذ ضربنا ضربة ... فوق الوريد لها رشاش مزبد )
( و أمية الجمحي قوم ميله ... عضب بأيدي المؤمنين مهند )
( فاتاك فل المشركين كأنهم ... و الخيل تثفنهم نعام شرد )
( شتان من هو في جهنم ثاويا ... أبدا و من هو في الجنان مخلد ) (3/116)
قال ابن إسحاق : و قال عبد الله بن رواحة يبكي حمزة و أصحابه يوم أحد
قال ابن هشام : و أنشدنيها أبو زيد لكعب بن مالك فالله أعلم :
( بكت عيني و حق لها بكاها ... و ما يغني البكاء و لا العويل )
( على أسد الإله غداة قالوا ... أحمزة ذاكم الرجل القتيل )
( أصيب المسلمون به جميعا ... هناك و قد أصيب به الرسول )
( أبا يعلى لك الأركان هدت ... و أنت الماجد البر الوصول )
( عليك سلام ربك في جنان ... مخالطها نعيم لا يزول )
( ألا يا هاشم الأخيار صبرا ... فكل فعالكم حسن جميل )
( رسول الله مصطبر كريم ... بأمر الله ينطق إذ يقول )
( ألا من مبلغ عني لؤيا ... فبعد اليوم دائلة تدول )
( و قبل اليوم ما عرفوا و ذاقوا ... وقائعنا بها يشفى الغليل )
( نسيتم ضربنا بقليب بدر ... غداة أتاكم الموت العجيل )
( غداة ثوى أبو جهل صريعا ... عليه الطير حائمة تجول )
( و عتبة و ابنه خرا جميعا ... و شيبة عضه السيف الصقيل )
( و متركنا أمية مجلعبا ... و في حيزومه لدن نبيل )
( و هام بني ربيعة سائلوها ... ففي أسيافنا منها فلول )
( ألا يا هند فابكي لا تملي ... فأنت الوله العبرى الهبول )
( ألا يا هند لا تبدي شماتا ... بحمزة إن عزكم ذليل ) (3/117)
قال ابن إسحاق : و قالت صفية بنت عبد المطلب تبكي أخاها حمزة بن عبد المطلب و هي أم الزبير عمة النبي صلى الله عليه و سلم و رضي الله عنهم أجمعين :
( أسائلة أصحاب أحد مخافة ... بنات أبي من أعجم و خبير )
( فقال الخبير إن حمزة قد ثوى ... وزير رسول الله خير وزير )
( دعاه إله الحق ذو العرش دعوة ... إلى جنة يحيا بها و سرور )
( فذلك ما كنا نرجى و نرتجي ... لحمزة يوم الحشر خير مصير )
( فوالله لا أنساك ما هبت الصبا ... بكاء و حزنا محضري و مسيري )
( على أسد الله الذي كان مدرها ... يذود عن الإسلام كل كفور )
( فيا ليت شلوى عند ذاك و أعظمي ... لدى أضبع تعتادني و نسور )
( أقول و قد أعلى النعي عشيرتي ... جزى الله خيرا من أخ و نصير )
قال ابن إسحاق : و قالت نعم امرأة شماس بن عثمان تبكي زوجها و الله أعلم و لله الحمد و المنة :
( يا عين جودي بفيض غير إبساس ... على كريم من الفتيان لباس )
( صعب البديهة ميمون نقيبته ... حمال ألوية ركاب أفراس )
( أقول لما أتى الناعي له جزعا ... أودى الجواد و أودى المطعم الكاسي )
( و قلت لما خلت منه مجالسه ... لا يبعد الله منا قرب شماس )
قال : فأجابها أخوها الحكم بن سعيد بن يربوع يعزيها فقال :
( اقني حياءك في ستر و في كرم ... فإنما كان شماس من الناس )
( لا تقتلي النفس إذ حانت منيته ... في طاعة الله يوم الروع و الباس )
( قد كان حمزة ليث الله فاصطبري ... فذاق يومئذ من كأس شماس )
و قالت هند بنت عتبة امرأة أبي سفيان حين رجعوا من أحد :
( رجعت و في نفسي بلابل جمة ... و قد فاتني بعض الذي كان مطلبي )
( من أصحاب بدر من قريش و غيرهم ... بني هاشم منهم و من أهل يثرب )
( و لكنني قد نلت شيئأ و لم يكن ... كما كنت أرجو في مسيري و مركبي ) (3/118)
و قد أورد ابن إسحاق في هذا أشعارا كثيرة تركنا كثيرا منها خشية الإطالة و خوف الملالة و فيما ذكرنا كفاية و لله الحمد
و قد أورد الأموي في مغازيه من الأشعار أكثر مما ذكره ابن إسحاق كما جرت عادته و لا سيما هاهنا
فمن ذلك ما ذكره لحسان بن ثابت أنه قال في غزوة أحد فالله أعلم :
( طاوعوا الشيطان إذ أخزاهم ... فاستبان الخزي فيهم و الفشل )
( حين صاحوا صيحة واحدة ... مع أبو سفيان قالوا اعل هبل )
( فأجبناهم جميعا كلنا ... ربنا الرحمن أعلى و أجل )
( اثبتوا تستعملوها مرة ... من حياض الموت و الموت نهل )
( و اعلموا أنا إذا ما نضحت ... عن خيال الموت قدر تشتعل )
و كأن هذه الأبيات قطعة من جوابه لعبد الله بن الزبعري و الله أعلم
( آخر الكلام على وقعة أحد ) (3/119)
قد تقدم ما وقع في هذه السنة الثالثة من الحوادث و الغزوات و السرايا و من أشهرها وقعة أحد كانت في النصف من شوال منها و قد تقدم بسطها و لله الحمد
و فيها في أحد توفي شهيدا أبو يعلى و يقال أبو عمارة أيضا حمزة بن عبد المطلب عم رسول الله صلى الله عليه و سلم الملقب بأسد الله و أسد رسوله و كان رضيع النبي صلى الله عليه و سلم هو و أبو سلمة بن عبد الأسد أرضعتهم ثويبة مولاة أبي لهب كما ثبت ذلك في الحديث المتفق عليه
فعلى هذا يكون قد جاوز الخمسين من السنين يوم قتل رضي الله عنهم فإنه كان من الشجعان الأبطال و من الصديقين الكبار و قتل معه يومئذ تمام السبعين رضي الله عنهم أجمعين
و فيها عقد عثمان بن عفان على أم كلثوم بنت رسول الله صلى الله عليه و سلم بعد وفاة أختها رقية و كان عقده عليها في ربيع الأول منها و بنى بها في جمادى الآخرة منها كما تقدم فيها ذكره الواقدي
و فيها قال ابن جرير : ولد لفاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه و سلم الحسن بن علي بن أبي طالب قال : و فيها علقت بالحسين رضي الله عنهم (3/120)
في المحرم منها كانت سرية أبي سلمة بن عبد الأسد إلى طليحة الأسدي فانتهى إلى ما يقال له قطن
قال الواقدي : حدثنا عمر بن عثمان بن عبد الرحمن بن سعيد اليربوعي عن سلمة بن عبد الله بن أبي سلمة و غيره قالوا : شهد أبو سلمة أحدا فجرح جرحا على عضده فأقام شهرا يداوى فلما كان المحرم على رأس خمسة و ثلاثين شهرا من الهجرة دعاه رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : [ اخرج في هذه السرية فقد استعملتك عليها و عقد له لواء و قال : سر حتى تأتي أرض بني أسد فأغر عليهم و أوصاه بتقوى الله و بمن معه من المسلمين خيرا ]
و خرج معه في تلك السرية خمسون و مائة
فانتهى إلى أدنى قطن و هو ماء لبني أسد و كان هناك طليحة الأسدي و أخوه سلمة ابنا خويلد و قد جمعا حلفاء من بني أسد ليقصدوا حرب النبي صلى الله عليه و سلم فجاء رجل منهم إلى النبي صلى الله عليه و سلم فأخبره بما تمالأوا عليه فبعث معه أبا سلمة في سريته هذه
فلما انتهوا إلى أرضهم تفرقوا و تركوا نعما كثيرة لهم من الأبل و الغنم فأخذ ذلك كله أبو سلمة و أسر منهم معه ثلاثة مماليك و أقبل راجعا إلى المدينة فأعطى ذلك الرجل الأسدي الذي دلهم نصيبا وافرا من المغنم و أخرج صفي النبي صلى الله عليه و سلم عبدا و خمس الغنيمة و قسمها بين أصحابه ثم قدم المدينة
قال عمر بن عثمان : فحدثني عبد الملك بن عبيد عن عبد الرحمن بن سعيد بن يربوع عن عمر بن أبي سلمة قال : كان الذي جرح أبي أبو أسامة الجشمي فمكث شهرا يداويه فبرأ فلما برأ بعثه رسول الله صلى الله عليه و سلم في المحرم يعني من سنة أربع إلى قطن فغاب بضعة عشرة ليلة فلما دخل المدينة انتقض به جرحه فمات لثلاث بقين من جمادى الأولى
قال عمر : و اعتدت أمي حتى خلت أربعة أشهر و عشر ثم تزوجها رسول الله صلى الله عليه و سلم و دخل بها في ليال بقين من شوال فكانت أمي تقول : ما بأس بالنكاح في شوال و الدخول فيه قد تزوجني رسول الله صلى الله عليه و سلم في شوال و بنى فيه
قال : و ماتت أم سلمة في ذي القعدة سنة تسع و خمسين
رواه البيهقي
قلت : سنذكر في أواخر هذه السنة في شوالها تزيج النبي صلى الله عليه و سلم بأم سلمة و ما يتعلق بذلك من ولاية الأبن أمه في النكاح و مذاهب العلماء في ذلك
إنشاء الله تعالى و به الثقة (3/121)
قال الواقدي : و كانت في صفر يعني سنة أربع بعثهم رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى أهل مكة ليجيزوه
قال : و الرجيع على ثمانية أميال من عسفان
قال البخاري : حدثني إبراهيم بن موسى أخبرنا هشام بن يوسف عن معمر عن الزهري عن عمرو بن أبي سفيان الثقفي عن أبي هريرة قال : بعث النبي صلى الله عليه و سلم سرية عينا و أمر عليهم عاصم بن ثابت و هو جد عاصم بن عمر بن الخطاب
فانطلقوا حتى إذا كانوا بين عسفان و مكة ذكروا لحي من هذيل يقال لهم بنو لحيان فتبعوهم بقريب من مائة رام فاقتصوا آثارهم حتى أتوا منزلا نزلوه فوجدوا فيه نوى تمر تزودوه من المدينة فقالوا : هذا تمر يثرب فتبعوا آثارهم حتى لحقوهم
فلما انتهى عاصم و أصحابه لجأوا إلى فدفد و جاء القوم فأحاطوا بهم فقالوا : لكم العهد و الميثاق إن نزلتم إلينا ألا نقتل منكم رجلا فقال عاصم : أما أنا فلا أنزل في ذمة كافر اللهم أخبر عنا رسولك
فقاتلوهم حتى قتلوا عاصما في سبعة نفر بالنبل
و بقي خبيب و زيد و رجل آخر فأعطوهم العهد و الميثاق فلما أعطوهم العهد و الميثاق نزلوا إليهم فلما استمكنوا منهم حلوا أوتار قسيهم فربطوهم بها فقال الرجل الثالث الذي معهما : هذا أول الغدر ! فأبى أن يصحبهم فجروه و عالجوه على أن يصحبهم فلم يفعل فقتلوه
و انطلقوا بخبيب و زيد حتى باعوهما في مكة فاشترى خبيبا بنو الحارث بن عامر بن نوفل و كان خبيب هو قتل الحارث يوم بدر فمكث عندهم أسيرا حتى إذا أجمعوا قتله استعار موسى من بعض بنات الحارث يستحد بها فأعارته
قالت : فغفلت عن صبي لي فدرج إليه حتى أتاه فوضعه على فخذه فلما رأيته فزعت فزعة عرف ذلك مني و في يده الموسى فقال : أتخشين أن أقتله ؟ ما كنت لأفعل ذلك إن شاء الله
و كانت تقول : ما رأيت أسيرا قط خيرا من خبيب لقد رأيته يأكل من قطف عنب و ما بمكة يومئذ من ثمرة و إنه لموثق في الحديد و ما كان إلا رزقا رزقه الله
فخرجوا به من الحرم ليقتلوه فقال : دعوني أصلي ركعتين ثم انصرف إليهم فقال : لولا أن تروا أن ما بي جزع من الموت لزدت فكان أول من سن الركعتين عند القتل هو ثم قال : اللهم أحصهم عددا و اقتلهم بددا ثم قال :
( و لست أبالي حين أقتل مسلما ... على أي شق كان في الله مصرعي )
( و ذلك في ذات الإله و إن يشأ ... يبارك على أوصال شلو ممزع )
قال : ثم قام إليه عقبة بن الحارث فقتله و بعثت قريش إلى عاصم ليؤتوا بشيء من جسده يعرفونه و كان عاصم قتل عظيما من عظمائهم يوم بدر فبعث الله عليه مثل الظلة من الدبر فحمته من رسلهم فلم يقدروا منه على شيء
و قال البخاري : حدثنا عبد الله بن محمد حدثنا سفيان عن عمرو سمع جابر بن عبد الله يقول : الذي قتل خبيبا هو أبو سروعة
قلت : و اسمه عقبة بن الحارث و قد أسلم بعد ذلك و له حديث في الرضاع و قد قيل إن أبا سروعة و عقبة أخوان فالله أعلم (3/123)
هكذا ساق البخاري في كتاب المغازي من صحيحه قصة الرجيع ورواه أيضا في التوحيد و في الجهاد من طرق عن الزهري عن عمرو بن أبي سفيان و أسد بن الحارثة الثقفي حليف بني زهرة و منهم من يقول عمر بن أبي سفيان و المشهور عمرو
و في لفظ للبخاري : بعث رسول الله صلى الله عليه و سلم عشرة رهط سرية عينا و أمر عليهم عاصم بن ثابت بن أبي الأقلح و ساق بنحوه
وقد خالفه محمد بن إسحاق و موسى بن عقبة بن الزبير في بعض ذلك
ولنذكر كلام ابن إسحاق ليعرف ما بينهما من التفاوت و الإختلاف على أن ابن إسحاق في هذا الشأن غير مدافع كما قال الشافعي رحمه الله : من أراد المغازي فهو عيال على محمد بن إسحاق !
قال ابن إسحاق : حدثنا عاصم بن عمر بن قتادة قال : قدم على رسول الله صلى الله عليه و سلم بعد أحد رهط من عضل والقارة فقالوا يا رسول الله إن فينا إسلاما فابعث معنا نفرا من أصحابك يفقهوننا في الدين و يقرئوننا القرآن و يعلموننا شرا ئع الإسلام فبعث رسول الله صلى الله عليه و سلم معهم نفرا ستة من أصحابه وهم مرثد بن أبي مرثد الغنوي حليف حمزة بن عبد المطلب
قال ابن إسحاق : وهو أمير القوم
و خالد بن البكير الليثي حليف بني عدي وعاصم بن ثابت بن أبي الأقلح أخو بني عمرو بن عوف و خبيب بن عدي أخو بني جحجبة بن كلفة بن عمرو بن عوف و زيد بن الدثنة أخو بني بياضة بن عامر و عبد الله بن طارق حليف بني ظفر رضي الله عنهم
هكذا قال ابن إسحاق أنهم كانوا ستة و كذا ذكر موسى بن عقبة و سماهم كما قال ابن إسحاق
وعند البخاري : أنهم كانوا عشرة و عنده أن كبيرهم عاصم بن ثابت بن أبي الأقلح فالله أعلم
قال ابن إسحاق : فخرجوا مع القوم حتى إذا كانوا على الرجيع ماء لهذيل بناحية الحجاز من صدور الهدأة غدروا بهم فاستصرخوا عليهم هذيلا فلم يرع القوم و هم في رحالهم إلا الرجال بأيديهم السيوف قد غشوهم فأخذوا أسيافهم ليقاتلوا القوم فقالوا لهم : إنا و الله ما نريد قتلكم و لكنا نريد أن نصيب بكم شيئا من أهل مكة و لكم عهد الله و ميثاقه ألا نقتلكم
فأما مرثد و خالد بن البكير و عاصم بن ثابت فقالوا و الله لا نقبل من مشرك عهدا و لا عقدا أبدا و قال عاصم بن ثابت و لله أعلم و لله الحمد و المنة :
( ما علتي و أنا جلد نابل ... و القوس فيها وتر عنابل )
( تزل عن صفحتها المعابل ... الموت حق و الحياة باطل )
( و كل ما حم الإله نازل ... بالمرء والمرء إليه آيل )
( إن لم أقاتلكم فأمي هابل )
و قال : عاصم أيضا :
( أبو سليمان و ريش المقعد ... و ضالة مثل الجحيم الموقد )
( إذا النواحي افترشت لم أرعد ... و مجنأ من جلد ثور أجرد )
( و مؤمن بما على محمد )
و قال أيضا :
( أبو سليمان و مثلي رامي ... و كان قومي معشرا كراما )
قال : ثم قاتل حتى قتل و قتل صاحباه
فلما قتل عاصم أرادت هذيل أخذ رأسه ليبيعوه من سلافة بنت سعد بن سهيل
و كانت قد نذرت حين أصاب ابنيها يوم أحد : لئن قدرت على رأس عاصم لتشربن في قحفه الخمر
فمنعته الدبر فلما حالت بينهم و بينه قالوا : دعوه حتى يمسي فيذهب عنه فنأخذه فبعث الله الوادي فاحتمل عاصما فذهب به
و قد كان عاصم قد أعطى الله عهدا ألا يمسه مشرك و لا يمس مشركا أبدا تنجسا
فكان عمر بن الخطاب يقول حين بلغه أن الدبر منعته : يحفظ الله العبد المؤمن !
كان عاصم نذر ألا يمسه مشرك و لا يمس مشركا أبدا في حياته فمنعه الله بعد وفاته كما امتنع منه في حياته !
قال ابن إسحاق : و أما خبيب و زيد بن الدثنة و عبد الله بن طارق فلانوا و رقوا و رغبوا في الحياة و أعطوا بأيديهم فأسروهم ثم خرجوا بهم إلى مكة ليبيعوهم بها
حتى إذا كانوا بالظهران انتزع عبد الله بن طارق يده من القران ثم أخذ سيفه و استأخر عنه القوم فرموه بالحجارة حتى قتلوه فقبره بالظهران
و أما خبيب بن عدي و زيد بن الدثنة فقدموا بهما مكة فباعوهما من قريش بأسيرين من هذيل كانا بمكة
قال ابن إسحاق : فابتاع خبيبا حجير بن أبي إهاب التميمي حليف بني نوفل لعقبة بن الحارث بن عامر بن نوفل و كان أبو إيهاب أخا الحارث بن عامر لأمه ليقتله بأبيه
قال : و أما زيد بن الدثنة فابتاعه صفوان بن أمية ليقتله بأبيه فبعثه مع مولى له يقال له نسطاس إلى التنعيم و أخرجه من الحرم ليقتله و اجتمع رهط من قريش فيهم أبو سفيان بن حرب فقال له أبو سفيان حين قدم ليقتل : أنشدك بالله يا زيد أتحب أن محمدا الآن عندنا مكانك نضرب عنقه و أنك في أهلك ؟
قال : و الله ما أحب أن محمدا الآن في مكانه الذي فيه تصيبه شوكة تؤذيه و أني جالس في أهلي
قال : يقول أبو سفيان : ما رأيت من الناس أحدا يحب أحدا كحب أصحاب محمد محمدا !
قال : ثم قتله نسطاس
قال : و أما خبيب بن عدي : فحدثني عبد الله بن أبي نجيح أنه حدث عن ماوية مولاة حجير بن أبي إهاب و كانت قد أسلمت قالت : كان عندي خبيب حبس عندي في بيتي فلقد اطلعت عليه يوما و إن في يده لقطفا من عنب مثل رأس الرجل يأكل منه و ما أعلم في أرض الله عنبا يأكل !
قال ابن إسحاق : و حدثني عاصم بن عمر بن قتادة و عبد الله بن أبي نجيح أنهما قالا : قالت : قال : لي حين حضره القتل : ابعثي إلي بحديدة أتطهر بها للقتل قالت : فأعطيت غلاما من الحي الموسى فقلت له : ادخل بها على هذا الرجل البيت فقالت : فوالله إن هو إلا أن ولى الغلام بها فقلت : ماذا صنعت ؟ ! أصاب و الله الرجل ثأره يقتل هذا الغلام فيكون رجلا برجل
فلما ناوله الحديدة أخذها من يده ثم قال : لعمرك ما خافت أمك غدري حين بعثتك بهذه الحديدة إلي ! ثم خلى سبيله
قال ابن هشام : و يقال إن الغلام ابنها
قال ابن إسحاق : قال عاصم : ثم خرجوا بخبيب حتى جاءوا به إلى التنعيم ليصلبوه
و قال لهم : إن رأيتم أن تدعوني حتى أركع ركعتين فافعلوا قالوا : دونك فاركع فركع ركعتين أتمهما و أحسنهما ثم أقبل على القوم فقال : أما و الله لولا أن تظنوا أني إنما طولت جزعا من القتل لاستكثرت من الصلاة
قال : فكان خبيب أول من سن هاتين الركعتين عند القتل للمسلمين
قال : ثم رفعوه على خشبة فلما أوثقوه قال : اللهم إنا قد بلغنا رسالة رسولك فبلغه الغداة ما يفعل بنا ثم قال : اللهم أحصهم عددا و اقتلهم بددا و لا تغادر منهم أحدا ثم قتلوه
و كان معاوية بن أبي سفيان يقول : حضرته يومئذ فيمن حضره مع أبي سفيان و لقد رأيته يلقيني إلى الأرض فرقا من دعوة خبيب و كانوا يقولون : إن الرجل إذا دعي عليه فاضطجع لجنبه زلت عنه
و في مغازي موسى ابن عقبة : أن خبيبا و زيد بن الدثنة قتلا في يوم واحد و أن رسول الله صلى الله عليه و سلم سمع يوم قتلا و هو يقول : [ و عليكما أو و عليك السلام خبيب قتلته قريش ! ]
و ذكر أنهم لما صلبوا زيد بن الدثنة رموه بالنبل ليفتنوه عن دينه فما زاده إلا إيمانا و تسليما
و ذكر عروة و موسى بن عقبة أنهم لما رفعوا خبيبا على الخشبة نادوه يناشدونه : أتحب أن محمدا مكانك ؟
قال : لا و الله العظيم ما أحب أن يفديني بشوكة يشاكها في قدمه ! فضحكوا منه
و هذا ذكره ابن إسحاق في قصة زيد بن الدثنة فالله أعلم
قال موسى ابن عقبة : زعموا أن عمرو بن أمية دفن خبيبا
قال ابن إسحاق : و حدثني يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير عن أبيه عباد عن عقبة بن الحارث قال : سمعته يقول : و الله ما أنا قتلت خبيبا لأنا كنت أصغر من ذلك و لكن أبا ميسرة أخا بني عبد الدار أخذ الحربة فجعلها في يدي ثم أخذ بيدي و الحربة ثم طعنه بها حتى قتله
قال ابن إسحاق : و حدثني بعض أصحابنا قال : كان عمر بن الخطاب استعمل سعيد بن عامر بن حذيم الجمحي على بعض الشام فكانت تصيبه غشية و هو بين ظهري القوم فذكر ذلك لعمر و قيل : إن الرجل مصاب فسأله عمر في قدمة قدمها عليه فقال : يا سعيد ما هذا الذي يصيبك ؟ فقال : و الله يا أمير المؤمنين ما بي من بأس و لكني كنت فيمن حضر خبيب بن عدي حين قتل و سمعت دعوته فولله ما خطرت على قلبي و أنا في مجلس قط إلا غشي علي ! فزادته عند عمر خيرا
و قد قال الأموي : حدثني أبي قال : قال ابن إسحاق : و بلغنا أن عمر قال : من سره أن ينظر إلى رجل نسيج وحده فلينظر إلى سعيد بن عامر
قال ابن هشام : أقام خبيب في أيديهم حتى انسلخت الأشهر الحرم ثم قتلوه
و قد روى البيهقي : من طريق إبراهيم بن إسماعيل حدثني جعفر بن عمرو بن أمية عن أبيه عن جده عمرو بن أمية أن رسول الله صلى الله عليه و سلم كان بعثه عينا وحده قال : جئت إلى خشبة خبيب فرقيت فيها و أنا أتخوف العيون فأطلقته فوقع إلى الأرض ثم اقتحمت فانتبذت قليلا ثم التفت فلم أرى شيئا فكأنما بلعته الأرض فلم تذكر لخبيب رمة حتى الساعة
ثم روى ابن إسحاق عن محمد بن أبي محمد عن سعيد أو عكرمة عن ابن عباس قال : لما قتل أصحاب الرجيع قال ناس من المنافقين : يا ويح هؤلاء المفتونين الذين هلكوا هكذا لا هم أقاموا في أهلهم و لا هم أدوا رسالة صاحبهم
فأنزل الله فيهم : { و من الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا و يشهد الله على ما في قلبه و هو ألد الخصام } و ما بعدها
و أنزل الله في أصحاب السرية { و من الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله و الله رؤف بالعباد } (3/125)
قال ابن إسحاق : و كان مما قيل من الشعر في هذه الغزوة قول خبيب حين أجمعوا على قتله قال ابن هشام : ومن الناس من ينكرها له :
( لقد جمع الأحزاب حولي و ألبوا ... قبائلهم واستجمعوا كل جمع )
( و كلهم مبدي العداوة جاهد ... علي لأني في وثاق بمضبع )
( و قد جمعوا أبنائهم و نساء ... و قربت من جزع طويل ممنع )
( إلى الله أشكوا غربتي ثم كربتي ... و ما أصد الأعداء لي عند مصرعي )
( فذا العرش صبرني على ما يراد بي ... فقد بضعوا الحمى و قد ياس مطمعي )
( و ذلك في ذات الإله و إن يشأ ... يبارك على أوصال شلو ممزع )
( و قد خيروني الكفر و الموت دونه ... و قد هملت عيناي من غير مجزع )
( و ما بي حذار الموت إني لميت ... ولكن حذاري جحم نار ملفع )
( فوالله ما أرجو إذا مت مسلما ... على أي جنب كان في الله مضجعي )
( فلست بمبد للعدو تخشعا ... و لا جزعا إني إلى الله مرجعي )
و قد تقدم في صحيح البخاري بيتان من هذه القصيدة وهما قوله :
( فلست أبالي حين أقتل مسلما ... على أي شق كان في الله مصرعي )
( و ذلك في ذات الإله و إن يشأ ... يبارك على أوصال شلو ممزع )
و قال حسان بن ثابت يرثي خبيبا فيما ذكره بن اسحاق :
( ما بال عينك لا ترقا مدامعها ... سحا على الصدر مثل اللؤلؤ القلق )
( على خبيب فتى الفتيان قد علموا ... لا فشل حين تلقاه و لا نزق )
( فاذهب خبيب جزاك الله طيبة ... و جنة الخلد عند الحور في الرفق )
( ماذا تقولون إن قال النبي لكم ... حين الملائكة الأبرار في الأفق )
( فيم قتلتم شهيد الله في رجل ... طاغ قد أوعث في البلدان و الرفق )
قال ابن هشام : تركنا بعضها لأنه أقذع فيها
و قال حسان يهجو الذين غدروا بأصحاب الرجيع من بني لحيان فيما ذكره ابن إسحاق و الله أعلم ولله الحمد والمنة و التوفيق و العصمة :
( إنسرك الغدر صرفا لا مزاج له ... فأت الرجيع فسل عن دار لجيان )
( قوم تواصوا بأكل الجار بينهم ... فالكلب و القرد والإنسان مثلان )
( لو ينطق التيس يوما قام يخطبهم ... و كان ذا شرف فيهم و ذا شان )
و قال حسان بن ثابت أيضا يهجو هذيلا و بني لحيان على غدرهم بأصحاب الرجيع رضي الله تعالى عنهم أجمعين :
( لعمري لقد شانت هذيل بن مدرك ... أحاديث كانت في خبيب وعاصم )
( أحاديث لحيان صلوا بقبيحها ... و لحيان جرامون شر الجرائم )
( أناس هم من قومهم في صميمهم ... بمنزلة الزمعان دبر القوادم )
( هم غدروا يوم الرجيع و أسلمت ... أمانتهم ذا عفة و مكارم )
( رسول رسول الله غدرا و لم تكن ... هذيل توقي منكرات المحارم )
( فسوف يرون النصر يوما عليهم ... بقتل الذي تحميه دون الحرائم )
( أبابيل دبر شمس دون لحمه ... حمت لحم شهاد عظيم الملاحم )
( لعل هذيلا أن يروا بمصابه ... مصارع قتل أو مقاما لمأتم )
( و نوقع فيها وقعة ذات صولة ... يوافي بها الركبان أهل المواسم )
( بأمر رسول الله إن رسوله ... رأى رأي ذي حزم بلحيان عالم )
( قبيلة ليس الوفاء يهمهم ... و إن ظلموا لم يدفعوا كف ظالم )
( إذا الناس حلوا بالفضاء رأيتهم ... بمجرى مسيل الماء بين المخارم )
( محلهم دار البوار و رأيهم ... إذا نابهم أمر كرأي البهائم )
و قال حسان رضي الله عنه أيضا يمدح أصحاب الرجيع و يسميهم بشعره كما ذكره ابن إسحاق رحمه الله تعالى :
( صلى الإله على الذين تتابعوا ... يوم الرجيع فأكرموا و أثيبوا )
( رأس السرية مرثد و أميرهم ... و ابن البكير إمامهم و خبيب )
( و ابن لطارق و ابن دثنة منهم ... وافاه ثم حمامه المكتوب )
( و العاصم المقتول عند رجيعهم ... كسب المعالي إنه لكسوب )
( منع المقادة أن ينالوا ظهره ... حتى يجالد إنه لنجيب )
قال ابن هشام : و اكثر أهل العلم بالشعر ينكرها لحسان (3/132)
قال الواقدي : حدثني إبراهيم بن جعفر عن أبيه و عبد الله بن أبي عبيدة عن جعفر بن [ الفضل بن الحسن بن ] عمرو بن أمية الضمري و عبد الله بن جعفر عن عبد الواحد بن أبي عوف و زاد بعضهم على بعض قالوا : كان أبو سفيان بن حرب قد قال لنفر من قريش بمكة : ما أحد يغتال محمدا فإنه يمشي في الأسواق فندرك ثأرنا ؟ فأتاه رجل من العرب فدخل عليه منزله و قال له : إن أنت وفيتني خرجت إليه حتى أغتاله فإني هاد بالطريق خريت معي خنجر مثل خافية النسر قال : أنت صاحبنا وأعطاه بعيرا و نفقة و قال : اطو أمرك فإني لا آمن أن يسمع هذا أحد فينميه إلى محمد
قال : قال العربي : لا يعلمه أحد
فخرج ليلا على راحلته فسار خمسا و صبح ظهر الحي يوم سادسه ثم أقبل يسأل عن رسول الله صلى الله عليه و سلم حتى أتى المصلى فقال له قائل : قد توجه إلى بني عبد الأشهل
فخرج الأعرابي يقود راحلته حتى انتهى إلى بني عبد الأشهل فعقل راحلته ثم أقبل يؤم رسول الله صلى الله عليه و سلم فوجده في جماعة في أصحابه يحدث في مسجده فلما دخل و رآه رسول الله صلى الله عليه و سلم قال لأصحابه : [ إن هذا الرجل يريد غدرا و الله حائل بينه و بين ما يريده ] فوقف و قال : أيكم ابن عبد المطلب ؟ قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : أنا ابن عبد المطلب فذهب ينحني على رسول الله صلى الله عليه و سلم كأنه يساره فجبذه أسيد بن حضير و قال : تنح عن رسول الله صلى الله عليه و سلم و جذب بداخل إزاره فإذا الخنجر فقال : يا رسول الله هذا غادر
فأسقط في يد الأعرابي و قال : دمي دمي يا محمد و أخذه أسيد بن حضير يلببه فقال له النبي صلى الله عليه و سلم : [ اصدقني ما أنت و ما أقدمك فإن صدقتني نفعك الصدق و إن كذبتني فقد اطلعت على ما هممت به قال العربي : فأنا آمن ؟ قال : و أنت آمن فأخبره بخبر أبي سفيان و ما جعل له فأمر به فحبس عند أسيد بن حضير ثم دعا به من الغد فقال : قد أمنتك فاذهب حيث شئت أو خير لك من ذلك ؟ قال : و ما هو ؟ فقال أن تشهد أن لا إله إلا الله و أني رسول الله
فقال : أشهد أن لا إله إلا الله و أنك أنت رسول الله و الله يا محمد ما كنت أفرق من الرجال فما هو إلا أن رأيتك فذهب عقلي و ضعفت ثم اطلعت على ما هممت به فما سبقت به الركبان و لم يطلع عليه أحد فعرفت أنك ممنوع و أنك على حق و أن حزب أبي سفيان حزب الشيطان
فجعل النبي صلى الله عليه و سلم يتبسم و أقام أياما ثم استأذن النبي صلى الله عليه و سلم فخرج من عنده و لم يسمع له بذكر ]
و قال رسول الله صلى الله عليه و سلم لعمرو بن أمية الضمري و لسلمة أسلم بن حريس : [ اخرجا حتى تأتيا أبا سفيان بن حرب فإن أصبتما منه غرة فاقتلاه ]
قال عمرو : فخرجنا أنا و صاحبي حتى أتينا بطن يأجج فقيدنا بعيرنا و قال لي صاحبي : يا عمرو هل لك في أن نأتي مكة فنطوف بالبيت سبعا و نصلي ركعتين فقلت : أنا أعلم بأهل مكة منك إنهم إذا أظلموا رشوا أفنيتهم ثم جلسوا بها و إني أعرف بمكة من الفرس الأبلق فأبى علي فانطلقنا فأتينا مكة فطفنا أسبوعا و صلينا ركعتين فلما خرجت لقيني معاوية بن أبي سفيان فعرفني و قال : عمرو بن أمية و احزناه فنذر بنا أهل مكة فقالوا : ما جاء عمرو في خير و كان عمرو فاتكا في الجاهلية فحشد أهل مكة و تجمعوا و هرب عمرو و سلمة و خرجوا في طلبهما و اشتدوا في الجبل قال عمرو فدخلت في غار فتغيبت عنهم حتى أصبحت و باتوا يطلبوننا في الجبل و عمى الله عليهم طريق المدينة أن يهتدوا له فلما كان ضحوة الغد أقبل عثمان بن مالك بن عبيد الله التيمي يختلي لفرسه حشيشا فقلت لسلمة بن أسلم : إذا أبصرنا أشعر بنا أهل مكة و قد انفضوا عنا فلم يزل يدنو من باب الغار حتى أشرف علينا قال : فخرجت إليه فطعنته طعنة تحت الثدي بخنجري فسقط و صاح فاجتمع أهل مكة فأقبلوا بعد تفرقهم و رجعت إلى مكاني فدخلت فيه و قلت لصاحبي : لا تتحرك فأقبلوا حتى أتوه و قالوا : من قتلك ؟ قال : عمرو بن أمية الضمري فقال أبو سفيان : قد علمنا أنه لم يأت لخير و لم يستطع أن يخبرهم بمكاننا : فإنه كان بآخر رمق فمات و شغلوا عن طلبنا بصاحبهم فحملوه فمكثنا ليلتين في مكاننا حتى سكن عنا الطلب ثم خرجنا إلى التنعيم فقال صاحبي : يا عمرو بن أمية هل لك في خبيب بن عدي تنزله ؟ فقلت له أين هو ؟ قال : هو ذاك مصلوب حوله الحرس فقلت : أمهلني و تنحى عني فإن خشيت شيئا فانح إلى بعيرك فاقعد عليه فأت رسول الله صلى الله عليه و سلم فأخبره الخبر و دعني فإني عالم بالمدينة ثم استدرت عليه حتى وجدته فحملته على ظهري فما مشيت به إلا عشرين ذراعا حتى استيقظوا فخرجوا في أثري فطرحت الخشبة فما أنسى وجيبها يعني صوتها ثم أهلت عليه التراب برجلي فأخذت طريق الصفراء فأعيوا و رجعوا و كنت لا أدري مع بقاء نفسي فانطلق صاحبي إلى البعير فركبه و أتى النبي صلى الله عليه و سلم فأخبره و أقبلت حتى أشرفت على الغليل غليل ضجنان فدخلت في غار معي قوسي و أسهمي و خنجري فبينما أنا فيه إذ أقبل رجل من بني الديل بن بكر أعور طويل يسوق غنما و معزى فدخل الغار و قال : من الرجل ؟ فقلت : رجل من بني بكر فقال : و أنا من بني بكر ثم اتكأ و رفع عقيرته يتغنى و يقول :
( فلست بمسلم ما دمت حيا ... و لست أدين دين المسلمينا )
فقلت في نفسي : و الله إني لأرجو أن أقتلك فلما نام قمت إليه فقتلته شر قتلة قتلها أحد قط
ثم خرجت حتى هبطت فلما أسهلت في الطريق إذا رجلان بعثهما قريش يتجسسان الأخبار فقلت : استأسرا فأبى أحدهما فرميته فقتلته فلما رأى ذلك الآخر استأسر فشددته وثاقا ثم أقبلت به إلى النبي صلى الله عليه و سلم
فلما قدمت المدينة أتى صبيان الأنصار و هم يلعبون و سمعوا أشياخهم يقولون : هذا عمرو فاشتد الصبيان إلى النبي صلى الله عليه و سلم فأخبروه و أتيته بالرجل قد ربطت إبهامه بوتر قوسي فلقد رأيت النبي صلى الله عليه و سلم و هو يضحك ! ثم دعا لي بخير
و كان قدوم سلمة قبل قدوم عمرو بثلاثة أيام
رواه البيهقي
و قد تقدم أن عمرا لما أهبط خبيبا لم يرى له رمة و لا جسدا فلعله دفن مكان سقوطه و الله أعلم
و هذه السرية إنما استدركها ابن هشام على ابن إسحاق و ساقها بنحو من سياق الواقدي لها لكن عنده أن رفيق عمرو بن أمية في هذه السرية جبار بن صخر فالله أعلم و لله الحمد (3/135)
و قد كانت في صفر منها و أغرب مكحول رحمه الله حيث قال : إنها كانت بعد الخندق
قال البخاري : [ حدثنا أبو معمر حدثنا عبد الوارث حدثنا عبد العزيز عن أنس بن مالك قال : بعث رسول الله صلى الله عليه و سلم سبعين رجلا لحاجة يقال لهم القراء فعرض لهم حيان من بني سليم : رعل و ذكوان عند بئر يقال لها بئر معونة فقال القوم : و الله ما إياكم أردنا و إنما نحن مجتازون في حاجة للنبي صلى الله عليه و سلم فقتلوهم
فدعا النبي صلى الله عليه و سلم شهرا في صلاة الغداة و ذاك بدأ القنوت و ما كنا نقنت ]
و رواه مسلم من حديث حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس بنحوه
ثم قال البخاري : [ حدثنا عبد الأعلى بن حماد حدثنا يزيد بن زريع حدثنا سعيد عن قتادة عن أنس بن مالك أن رعلا و ذكوان و عصية و بني لحيان استمدوا رسول الله صلى الله عليه و سلم على عدو فأمدهم بسبعين من الأنصار كنا نسميهم القراء في زمانهم كانوا يحتطبون بالنهار و يصلون بالليل حتى إذا كانوا ببئر معونة قتلوهم و غدروا بهم فبلغ النبي صلى الله عليه و سلم فقنت شهرا يدعو في الصبح على أحياء من العرب : على رعا و ذكوان و عصية و بني لحيان قال أنس : فقرأنا فيهم قرآنا ثم إن ذلك رفع ( بلغوا عنا قومنا أنا قد لقينا ربنا فرضي عنا و أرضانا ) ]
ثم قال البخاري : [ حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا همام عن إسحاق بن عبد الله ابن أبي طلحة حدثني أنس بن مالك أن النبي صلى الله عليه و سلم بعث حراما أخا لأم سليم في سبعين راكبا و كان رئيس المشركين عامر ابن الطفيل خير رسول الله صلى الله عليه و سلم بين ثلاث خصال فقال : يكون لك أهل السهل و لي أهل المدر أو أكون خليفتك أو أغزوك بأهل غطفان بألف و ألف ]
فطعن عامر في بيت أم فلان فقال : غدة كغدة البكر في بيت امرأة من آل فلان ائتوني بفرسي فمات على ظهر فرسه
فانطلق حرام أخو أم سليم و هو رجل أعرج و رجل من بني فلان فقال : كونا قريبا حتى آتيهم فإن آمنوني كنتم قريبا و إن قتلوني أتيتم أصحابكم فقال : أتأمنوني حتى أبلغ رسالة رسول الله صلى الله عليه و سلم فجعل يحدثهم و أومأوا إلى رجل فأتاه من خلفه فطعنه قال همام : أحسبه حتى أنفذه بالرمح فقال : الله أكبر ! فزت و رب الكعبة ! فلحق الرجل فقتلوا كلهم غير الأعرج و كان في رأس جبل فأنزل الله علينا ثم كان من المنسوخ : ( إنا لقد لقينا ربنا فرضي عنا و أرضانا )
فدعا النبي صلى الله عليه و سلم ثلاثين صباحا على رعل و ذكوان و بني لحيان و عصية الذين عصوا الله و رسوله
و قال البخاري : حدثنا حبان حدثنا عبد الله أخبرني معمر حدثني ثمامة بن عبد الله بن أنس أنه سمع أنس ابن مالك يقول : لما طعن حرام بن ملحان ـ و كان خاله ـ يوم بئر معونة قال بالدم هكذا فنضحه على وجهه و رأسه و قال : فزت و رب الكعبة
و روى البخاري : [ عن عبيد بن إسماعيل عن أبي أسامة عن هشام بن عروة أخبرني أبي قال : لما قتل الذين ببئر معونة و أسر عمرو بن أمية الضمري قال له عامر بن الطفيل : من هذا ؟ و أشار إلى قتيل فقال له عمرو بن أمية : هذا عامر بن فهيرة قال : لقد رأيته بعد ما قتل رفع إلى السماء حتى أني لأنظر إلى السماء بينه و بين الأرض ثم وضع
فأتى النبي صلى الله عليه و سلم خبرهم فنعاهم فقال : إن أصحابكم قد أصيبوا و إنهم قد سألوا ربهم فقالوا : ربنا أخبر عنا إخواننا بما رضينا عنك و رضيت عنا فأخبرهم عنهم و أصيب يومئذ فيهم عروة بن أسماء بن الصلت فسمي عروة به و منذر بن عمرو و سمي به منذر ]
هكذا وقع في رواية البخاري مرسلا عن عروة
و قد رواه البيهقي : من حديث يحيى بن سعيد عن أبي أسامة عن هشام عن أبيه عن عائشة فساق من حديث الهجرة و أدرج في آخره ما ذكره البخاري هاهنا فالله أعلم
و روى الواقدي : عن مصعب بن ثابت عن أبي الأسود و عن عروة فذكر القصة و شأن عامر بن فهيرة و إخبار عامر بن الطفيل أنه رفع إلى السماء و ذكر أن الذي قتله جبار بن سلمى الكلابي
قال : و لما طعنه بالرمح قال : فزت و رب الكعبة
ثم سأل جبار بعد ذلك : ما معنى قوله : فزت ؟ قالوا : يعني بالجنة فقال : صدق و الله ثم أسلم جبار بعد ذلك لذلك !
و في مغازي موسى بن عقبة عن عروة أنه قال : لم يوجد جسد عامر بن فهيرة يرون أن الملائكة وارته
و قال يونس : عن ابن إسحاق : [ فأقام رسول الله صلى الله عليه و سلم يعني بعد أحد بقية شوال و ذا القعدة و ذا الحجة و المحرم ثم بعث أصحاب بئر معونة في صفر على رأس أربعة أشهر من أحد ]
فحدثني أبي إسحاق بن يسار عن المغيرة بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام و عبد الرحمن بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم و غيرهما من أهل العلم قالوا : قدم أبو براء عامر بن مالك بن جعفر ملاعب الأسنة على رسول الله صلى الله عليه و سلم بالمدينة فعرض عليه الإسلام و دعاه إليه فلم يسلم ولم يبعد و قال : يا محمد لو بعثت رجالا من أصحابك إلى أهل نجد فدعوهم إلى أمرك رجوت أن يستجيبوا لك
فقال صلى الله عليه و سلم : [ إني أخشى عليهم أهل نجد ]
فقال أبو براء : أنا لهم جار
فبعث رسول الله صلى الله عليه و سلم المنذر بن عمرو و أخا بني ساعدة المعنق ليموت في أربعين رجلا من أصحابه من خيار المسلمين فيهم الحارث بن الصمة و حرام بن ملحان أخو بني عدي بن النجار و عروة بن أسماء بن الصلت السلمي و نافع بن بديل بن ورقاء الخزاعي و عامر بن فهيرة مولى أبي بكر في رجال من خيار المسلمين
فساروا حتى نزلوا بئر معونة و هي بين أرض بني عامر و حرة بني سليم فلما نزلوا بعثوا حرام بن ملحان بكتاب رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى عامر بن الطفيل فلما أتاه لم ينظر في الكتاب حتى عدا على الرجل فقتله ثم استصرخ عليهم بني عامر فأبوا أن يجيبوا إلى ما دعاهم و قالوا : لن نخفر أبا براء و قد عقد لهم عقدا و جوارا
فاستصرخ عليهم قبائل من بني سليم عصية و رعلة و ذكوان و القارة فأجابوه إلى ذلك فخرجوا حتى غشوا القوم فأحاطوا بهم في رحالهم فلما رأوهم أخذوا أسيافهم ثم قاتلوا القوم حتى قتلوا عن آخرهم إلا كعب بن زيد أخا بني دينار بن النجار فإنهم تركوه به رمق فارتث من بين القتلى فعاش حتى قتل يوم الخندق
وكان في سرح القوم عمرو بن أمية الضمري و رجل من الأنصار من بني عمرو بن عوف فلم ينبئهما بمصاب القوم إلا الطير تحوم حول العسكر فقالا : و الله إن لهذه الطير لشأنا فأقبلا لينظرا فإذا القوم في دمائهم و إذا الخيل التي أصابتهم واقفة فقال الأنصاري لعمرو بن أمية : ماذا ترى ؟ فقال : أرى أن نلحق برسول الله صلى الله عليه و سلم فنخبره الخبر فقال الأنصاري : لكني لم أكن لأرغب بنفسي عن موطن قتل فيه المنذر بن عمرو و ما كنت لأخبر عنه الرجال فقاتل القوم حتى قتل و أخذ عمرو أسيرا فلما أخبرهم أنه من مضر أطلقه عامر بن الطفيل و جز ناصيته و أعتقه عن رقبة كانت على أمه فيما زعم !
قال : و خرج عمرو بن أمية حتى إذا كان بالقرقرة من صدر قناة أقبل رجلان من بني عامر حتى نزلا في ظل هو فيه و كان مع العامريين عهد من رسول الله صلى الله عليه و سلم و جوار لم يعلمه عمرو بن أمية و قد سألهما حين نزلا : ممن أنتما ؟ قالا : من بني عامر فأمهلهما حتى إذا ناما عدا عليهما و قتلهما و هو يرى أن قد أصاب بهما ثأرا من بني عامر فيما أصابوا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم
فلما قدم عمرو بن أمية على رسول الله صلى الله عليه و سلم أخبره بالخبر فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ لقد قتلت قتيلين لأدينهما ] ثم قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ هذا عمل أبي براء قد كنت لهذا كارها متخوفا ]
فبلغ ذلك أبا براء فشق عليه إخفار عامر إياه و ما أصاب أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم بسببه و جواره
فقال حسان بن ثابت في إخفار عامر أبا براء و يحرض بني أبي براء على عامر :
( بني أم البنين ألم يرعكم ... و أنتم من ذوائب أهل نجد )
( تهكم عامر بأبي براء ... ليخفره و ما خطأ كعمد )
( ألا أبلغ ربيعة ذا المساعي فمـ ... ا أحدثت في الحدثان بعدي )
( أبوك أبو الحروب أبو براء ... و خالك ماجد حكم بن سعد )
قال ابن هشام : أم البنين أم أبي براء و هي بنت عمرو بن عامر بن ربيعة بن عامر بن صعصعة
قال : فحمل ربيعة بن عامر بن مالك على عامر بن الطفيل فطعنه في فخذه فأشواه و وقع عن فرسه و قال : هذا عمل أبي براء إن أمت فدمي لعمي فلا يتبعن به و إن أعش فسأرى رأي
و ذكر موسى بن عقبة : عن الزهري نحو سياق محمد بن إسحاق : قال موسى : و كان أمير القوم المنذر بن عمرو و قيل : مرثد بن أبي مرثد
و قال حسان بن ثابت يبكي قتلى بئر معونة فيما ذكره ابن إسحاق : رحمه الله و الله أعلم :
( على قتلى معونة فاستهلي ... بدمع العين سحا غير نزر )
( على خيل الرسول غداة لاقوا ... و لاقتهم مناياهم بقدر )
( أصابهم الفناء بعقد قوم ... تخون عقد حبلهم بغدر )
( فيا لهفي لمنذر إذ تولى ... و أعنق في منيته بصبر )
( و كائن قد أصيب غداة ذاكم ... من أبيض ماجد من سر عمرو ) (3/139)
في صحيح البخاري عن ابن عباس أنه كان يسميها سورة بني النضير و حكى البخاري عن الزهري عن عروة أنه قال : كانت بنو النضير بعد بدر بستة أشهر قبل أحد
و قد أسنده ابن أبي حاتم في تفسيره عن أبيه عن عبد الله بن صالح عن الليث عن عقيل عن الزهري به
و هكذا روى حنبل بن إسحاق عن هلال بن العلاء عن عبد الله بن جعفر الرقي عن مطرف بن مازن اليماني عن معمر عن الزهري فذكر غزوة بدر في سابع عشر رمضان سنة ثنتين
قال : ثم غزا بني النضير ثم غزا أحدا في شوال سنة ثلاث ثم قاتل يوم الخندق في شوال سنة أربع
و قال البيهقي : و قد كان الزهري يقول : هي قبل أحد
قال : و ذهب آخرون إلى أنها بعدها و بعد بئر معونة أيضا
قلت : هكذا ذكر ابن إسحاق : كما تقدم فإنه بعد ذكره بئر معونة و رجوع عمرو بن أمية و قتله ذينك الرجلين من بني عامر و لم يشعر بعدهما الذي معهما من رسول الله صلى الله عليه و سلم و لهذا قال له رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ لقد قتلت رجلين لأدينهما ]
قال ابن إسحاق : ثم خرج رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى بني النضير يستعينهم في دية ذينك القتيلين من بني عامر اللذين قتلهما عمرو بن أمية للعهد الذي كان صلى الله عليه و سلم أعطاهما و كان بين بني النضير و بين بني عامر عهد و حلف فلما أتاهم صلى الله عليه و سلم قالوا : نعم يا أبا القاسم نعينك على ما أحببت
ثم خلا بعضهم ببعض فقالوا : إنكم لن تجدوا الرجل على مثل حاله هذه و رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى جنب جدار من بيوتهم قاعد فمن رجل يعلو على هذا البيت فيلقي عليه صخرة و يريحنا منه
فانتدب لذلك عمرو بن جحاش بن كعب فقال : أنا لذلك فصعد ليلقي عليه صخرة كما قال و رسول الله صلى الله عليه و سلم في نفر من أصحابه فيهم أبو بكر و عمر و علي فأتى رسول الله الخبر من السماء بما أراد القوم فقام و خرج راجعا إلى المدينة
فلما استلبث النبي صلى الله عليه و سلم أصحابه قاموا في طلبه فلقوا رجلا مقبلا من المدينة فسألوه عنه فقال : رأيته داخلا المدينة فأقبل أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم حتى انتهوا إليه فأخبرهم الخبر بما كانت يهود أرادت من الغدر به
قال الواقدي : [ فبعث رسول الله صلى الله عليه و سلم محمد بن مسلمة يأمرهم بالخروج من جواره و بلده ] فبعث إليهم أهل النفاق يثبتونهم و يحرضونهم على المقام و يعدونهم النصر فقويت عند ذلك نفوسهم و حمي حيي بن أخطب و بعثوا إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم : أنهم لا يخرجون و نابذوه بنقض العهود
فعند ذلك أمر الناس بالخروج إليهم قال الواقدي : فحاصروهم خمس عشرة ليلة
و قال ابن إسحاق : و أمر النبي صلى الله عليه و سلم بالتهيؤ لحربهم و المسير إليهم
قال ابن هشام : و استعمل على المدينة ابن أم مكتوم و ذلك في شهر ربيع الأول
قال ابن إسحاق : فسار حتى نزل بهم فحاصرهم ست ليال و نزل تحريم الخمر حينئذ و تحصنوا في الحصون [ فأمر رسول الله صلى الله عليه و سلم بقطع النخيل و التحريق فيها ] فنادوه : أن يا محمد قد كنت تنهى عن الفساد و تعيب من صنعه فما بال قطع النخيل و تحريقها
قال : و قد كان رهط من بني عوف بن الخزرج منهم عبد الله بن أبي و وديعة و مالك و سويد و داعس قد بعثوا إلى بني النضير : أن اثبتوا و تمنعوا فإنا لن نسلمكم إن قوتلتم قاتلنا معكم و إن أخرجتم خرجنا معكم فتربصوا ذلك من نصرهم فلم يفعلوا و قذف الله في قلوبهم الرعب فسألوا رسول الله أن يجليهم و يكف عن دمائهم على أن لهم ما حملت الإبل من أموالهم إلا الحلقة
و قال العوفي : عن ابن عباس [ أعطى كل ثلاثة بعيرا يعتقبونه و وسقا ]
رواه البيهقي
و روى [ من طريق يعقوب بن محمد عن الزهري عن إبراهيم بن جعفر بن محمود بن محمد بن سلمة عن أبيه عن جده عن محمد بن سلمة أن رسول الله صلى الله عليه و سلم بعثه إلى بني النضير و أمره أن يؤجلهم في الجلاء ثلاث ليال ]
و روى البيهقي و غيره أنه كانت لهم ديون مؤجلة [ فقال لهم رسول الله صلى الله عليه و سلم : ضعوا و تعجلوا ]
و في صحته نظر و الله أعلم
قال ابن إسحاق : فاحتملوا من أموالهم ما استقلت به الإبل فكان الرجل منهم يهدم بيته عن نجاف بابه فيضعه على ظهر بعيره فينطلق به فخرجوا إلى خيبر و منهم من سار إلى الشام فكان من أشراف من ذهب منهم إلى خيبر : سلام بن أبي الحقيق و كنانة بن الربيع بن أبي الحقيق و حيي بن أخطب فلما نزلوها دان لهم أهلها
فحدثني عبد الله بن أبي بكر أنه حدث أنهم استقبلوا بالنساء و الأبناء و الأموال معهم الدفوف و المزامير و القيان يعزفن خلفهم بزهاء و فخر ما رؤي مثله لحي من الناس في زمانهم
قال : و خلوا الأموال لرسول الله صلى الله عليه و سلم يعني النخيل و المزارع فكانت له خاصة يضعها حيث شاء [ فقسمها على المهاجرين الأولين دون الأنصار إلا أن سهل ابن حنيف و أبا دجانة ذكرا فقرا فأعطاهما و أضاف بعضهم الحارث بن الصمة حكاه السهيلي ]
قال ابن إسحاق : و لم يسلم من بني النضير إلا رجلان و هما يامين بن عمير بن كعب ابن عمرو بن جحاش و أبو سعد بن وهب فأحرزا أموالهما
قال ابن إسحاق : و قد حدثني بعض آل يامين أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال ليامين : [ ألم تر ما لقيت من ابن عمك و ما هم به من شأني ؟ ] فجعل يامين لرجل جعلا على أن يقتل عمرو بن جحاش فقتله لعنه الله
قال ابن إسحاق : فأنزل الله فيهم سورة الحشر بكمالها يذكر فيها ما أصابهم به من نقمته و ما سلط عليهم به رسول الله و ما عمل به فيهم ثم شرع ابن إسحاق يفسرها و قد تكلمنا عليها بطولها مبسوطة في كتابنا التفسير و لله الحمد
قال الله تعالى : { سبح لله ما في السموات و الأرض و هو العزيز الحكيم هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم لأول الحشر ما ظننتم أن يخرجوا و ظنوا أنهم مانعتهم حصونهم من الله فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا و قذف في قلوبهم الرعب يخربون بيوتهم بأيديهم و أيدي المؤمنين فاعتبروا يا أولي الأبصار و لولا أن كتب الله عليهم الجلاء لعذبهم في الدنيا و لهم في الآخرة عذاب النار ذلك بأنهم شاقوا الله و رسوله و من يشاق الله فإن الله شديد العقاب ما قطعتم من لينة أو تركتموها قائمة على أصولها فبإذن الله و ليخزي الفاسقين }
سبح سبحانه و تعالى نفسه الكريمة و أخبر أنه يسبح له جميع مخلوقاته العلوية و السفلية و أنه العزيز و هو منيع الجناب فلا ترام عظمته و كبرياؤه و أنه الحكيم في جميع ما خلق و جميع ما قدر و شرع فمن ذلك تقديره و تدبيره و تيسيره لرسول الله صلى الله عليه و سلم و عباده المؤمنين في ظفرهم بأعدائهم اليهود الذين شاقوا الله و رسوله و جانبوا رسوله و شرعه و ما كان من السبب المفضي لقتالهم كما تقدم حتى حاصرهم المؤيد بالرعب و الرهب مسيرة شهر و مع هذا فأسرهم بالمحاصرة بجنوده و نفسه الشريفة ست ليال فذهب بهم الرعب كل مذهب حتى صانعوا و صالحوا على حقن دمائهم و أن يأخذوا من أموالهم ما استقلت به ركابهم على أنهم لا يصحبون شيئا من السلاح إهانة لهم و احتقارا فجعلوا يخربون بيوتهم بأيديهم و أيدي المؤمنين فاعتبروا يا أولي الأبصار
ثم ذكر تعالى أنه لو لم يصبهم الجلاء و هو التسيير و النفي من جوار الرسول من المدينة لأصابهم ما هو أشد منه من العذاب الدنيوي و هو القتل مع ما ادخر لهم في الآخرة من العذاب الأليم المقدر لهم
ثم ذكر تعالى حكمة ما وقع من تحريق نخلهم و ترك ما بقي لهم و أن ذلك كله سائغ فقال : { ما قطعتم من لينة } و هو جيد التمر { أو تركتموها قائمة على أصولها فبإذن الله } إن الجميع قد أذن فيه شرعا و قدرا فلا حرج عليكم فيه و لنعم ما رأيتم من ذلك و ليس هو بفساد كما قاله شرار العباد إنما هو إظهار للقوة و إخزاء للكفرة الفجرة
و قد روى البخاري و مسلم جميعا [ عن قتيبة عن الليث عن نافع عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه و سلم حرق نخل بني النضير و قطع و هي البويرة ] فأنزل الله : { ما قطعتم من لينة أو تركتموها قائمة على أصولها فبإذن الله و ليخزي الفاسقين } (3/145)
و عند البخاري [ من طريق جويرية بن أسماء عن نافع عن بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه و سلم حرق نخل بني النضير و قطع و هي البويرة ] و لها يقول حسان بن ثابت :
( و هان على سراة بني لؤي ... حريق بالبويرة مستطير )
فأجابه أبو سفيان بن حارث يقول :
( أدام الله ذلك من صنيع ... و حرق في نواحيها السعير )
( ستعلم أينا منها بستر ... و تعلم أي أرضينا نضير )
قال ابن إسحاق : و قال كعب بن مالك يذكر إجلاء بني النضير و قتل كعب بن الأشرف فالله أعلم :
( لقد خزيت بغدرتها الحبور ... كذاك الدهر ذو صرف يدور )
( و ذلك أنهم كفروا برب ... عظيم أمره أمر كبير )
( و قد أوتوا معا فهما و علما ... و جاءهم من الله النذير )
( نزير صادق أدى كتابا ... و آيات مبينة تنير )
( فقالوا ما أتيت بأمر صدق ... و أنت بمنكر منا جدير )
( فقال بلى لقد أديت حقا ... يصدقني به الفهم الخبير )
( فمن يتبعه يهد لكل رشد ... و من يكفر به يخز الكفور )
( فلما أشربوا غدرا و كفرا ... وجد بهم عن الحق النفور )
( أرى الله النبي برأي صدق ... و كان الله يحكم لا يجور )
( فأيده و سلطه عليهم ... و كان نصيره نعم النصير )
( فغودر منهم كعب صريعا ... فذلت بعد مصرعه النضير )
( على الكفين ثم و قد علته ... بأيدينا مشهرة ذكور )
( بأمر محمد إذ دس ليلا ... إلى كعب أخا كعب يسير )
( فماكره فأنزله بمكر ... و محمود أخو ثقة جسور )
( فتلك بنو النضير بدار سوء ... أبارهم بما اجترموا المبير )
( غداة أتاهم في الزحف رهوا ... رسول الله و هو بهم بصير )
( و غسان الحماة مؤازروه ... على الأعداء و هو لهم وزير )
( فقال السلم و يحكم فصدوا ... و خالف أمرهم كذب و زور )
( فذاقوا غب أمرهم وبالا ... لكل ثلاثة منهم بعير )
( و أجلوا عامدين لقينقاع ... و غودر منهم نخل و دور )
و قد ذكر ابن إسحاق جوابها لسمال اليهودي فتركناها قصدا
قال ابن إسحاق : و كان مما قيل في بني النضير قول بن لقيم العبسي و يقال : قالها قيس بن بحر بن طريف الأشجعي :
( أهلي فداء لامرىء غير هالك ... أحل اليهود بالحسي المزنم )
( يقيلون في جمر العضاة و بدلوا ... أهيضب عودا بالودي المكمم )
( فإن يك ظني صادقا بمحمد ... ترو خيله بين الصلا و يرمرم )
( يؤم بها عمرو بن بهثة إنهم ... عدو و ماحي صديق كمجرم )
( عليهن أبطال مساعير في الوغى ... يهزون أطراف الوشيج المقوم )
( و كل رقيق الشفرتين مهند ... توورثن من أزمان عاد وجرهم )
( فمن مبلغ عني قريش رسالة ... فهل بعدهم في المجد من متكرم )
( بأن أخاهم فأعلمن محمدا ... تليد الندى بين الحجون و زمزم )
( فدينوا له بالحق تجسم أموركم ... و تسموا من إلى الدنيا إلى كل معظم )
( نبي تلافته من الله رحمة ... و لا تسألوه أمر غيب مرجم )
( فقد كان في بدر لعمري عبرة ... لكم يا قريش و القليب الملمم )
( غداة أتى في الخزرجية عامدا ... إليكم مطيعا للعظيم المكرم )
( معانا بروح القدس ينكى عدوه ... رسولا من الرحمن حقا بمعلم )
( رسولا من الرحمن يتلو كتابه ... فلما أنار الحق لم يتلعثم )
( أرى أمره يزداد في كل موطن ... علوا لأمر حمه الله محكم )
قال ابن إسحاق : و قال علي بن أبي طالب و قال ابن هشام : قالها رجل من المسلمين و لم أرى أحدا يعرفها لعلي :
( عرفت و من يعتدل يعرف ... و أيقنت حقا و لم أصدف )
( عن الكليم المحكم اللاء من ... لدى الله ذي الرأفة الأرأف )
( رسائل تدرس في المؤمنين ... بهن اصطفى أحمد المصطفى )
( فأصبح أحمد فينا عزيزا ... عزيز المقامة و الموقف )
( فيا أيها الموعدوه سفاها ... و لم يأت جورا و لم يعنف )
( ألستم تخافون أدنى العذاب ... و ما آمن الله كالأخوف )
( و أن تصرعوا تحت أسيافه ... كمصرع كعب أبي الأشرف )
( غداة رأى الله طغيانه ... و أعرض كالجمل الأجنف )
( فأنزل جبريل في قتله ... بوحي إلى عبده ملطف )
( فدس الرسول رسولا له ... بأبيض ذي هبة مرهف )
( فباتت عيون له معولات ... متى ينع كعب لها تذرف )
( و قلن لأحمد ذرنا قليلا ... فإنا من النوح لم نشتف )
( فخلاهم ثم قال اظعنوا ... دحورا على رغم الآنف )
( و أجلى النضير إلى غربة ... و كانوا بدار ذوي زخرف )
( إلى أذرعات ردافا و هم ... على كل ذي دبر أعجف )
و تركنا جوابها من سمال اليهودي قصدا (3/150)
ثم ذكر تعالى حكم الفيء و أنه حكم بأموال بني النضير لرسول الله صلى الله عليه و سلم و ملكها له فوضعها رسول الله صلى الله عليه و سلم حيث أراه الله تعالى
كما ثبت في الصحيحين [ عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب أنه قال : كانت أموال بني النضير مما أفاء الله على رسوله مما لم يوجف المسلمون عليه بخيل و لا ركاب فكانت لرسول الله صلى الله عليه و سلم خاصة فكان يعزل نفقة أهله سنة ثم يجعل ما بقي في الكراع و السلاح عدة في سبيل الله عز و جل ]
ثم بين تعالى حكم الفيء و أنه للمهاجرين و الأنصار و التابعين لهم بإحسان على منوالهم و طريقتهم : { و لذي القربى و اليتامى و المساكين و ابن السبيل كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم و ما آتاكم الرسول فخذوه و ما نهاكم عنه فانتهوا و اتقوا الله إن الله شديد العقاب }
قال الإمام أحمد : [ حدثنا عارم و عفان قالا : حدثنا معتمر سمعت أبي يقول : حدثنا أنس بن مالك عن نبي الله صلى الله عليه و سلم أن الرجل كان يجعل له من ماله النخلات أو كما شاء الله حتى فتحت عليه قريظة و النضير قال : فجعل يرد بعد ذلك
قال : و إن أهلي أمروني أن آتي نبي الله صلى الله عليه و سلم فأسأله الذي كان أهله أعطوه أو بعضه و كان نبي الله صلى الله عليه و سلم أعطاه أم أيمن أو كما شاء الله
قال : فسألت النبي صلى الله عليه و سلم فأعطانيهن فجاءت أم أيمن فجعلت الثوب في عنقي و جعلت تقول : كلا و الله الذي لا إله إلا هو لا أعطيكهن و قد أعطانيهن أو كما قالت فقال النبي صلى الله عليه و سلم : لك كذا و كذا و تقول : كلا و الله
قال : و يقول لك كذا و كذا و تقول : كلا و الله قال : و يقول لك كذا و كذا حتى أعطاها حسبت أنه قال عشرة أمثاله أو قال قريبا من عشرة أمثاله أو كما قال ]
أخرجاه بنحوه من طرق عن معتمر به
ثم قال تعالى : ذاما المنافقين الذين مالوا إلى بني النضير في الباطن كما تقدم و وعدوهم النصر فلم يكن من ذلك شيء بل خذلوهم أحوج ما كانوا إليهم و غروهم من أنفسهم فقال : { ألم ترى إلى الذين نافقوا يقولون لإخوانهم الذين كفروا من أهل الكتاب لئن أخرجتم لنخرجن معكم و لا نطيع فيكم أحدا أبدا و إن قوتلتم لننصرنكم و الله يشهد إنهم لكاذبون لئن أخرجوا لا يخرجون معهم و لئن قوتلوا لا ينصرونهم و لئن نصروهم ليولن الأدبار ثم لا ينصرون }
ثم ذمهم تعالى على جبنهم و قلة علمهم و خفة عقلهم النافع ثم ضرب لهم مثلا قبيحا شنيعا بالشيطان حين قال للإنسان : { اكفر فلما كفر قال : إني بريء منك إني أخاف الله رب العالمين فكان عاقبتهما أنهما في النار خالدين فيها و ذلك جزاء الظالمين } (3/153)
حين مر على ديار بني النضير و قد صارت يبابا ليس بها داع و لا مجيب و قد كانت بنو النضير أشرف من بني قريظة حتى حداه ذلك على الإسلام و أظهر صفة رسول الله صلى الله عليه و سلم من التوراة
قال الواقدي : حدثنا إبراهيم بن جعفر عن أبيه قال : لما خرجت بنو النضير من المدينة أقبل عمرو بن سعدى فأطاف في منازلهم فرأى خرابها و فكر ثم رجع إلى بني قريظة فوجدهم في الكنيسة فنفخ في بوقهم فاجتمعوا فقال الزبير بن باطا : يا أبا سعيد أين كنت منذ اليوم لم تزل و كان لا يفارق الكنيسة و كان يتأله في اليهودية قال : رأيت اليوم عبرا قد عبرنا بها رأيت منازل إخواننا خالية بعد العز و الجلد و الشرف الفاضل و العقل البارع قد تركوا أموالهم و ملكها غيرهم و خرجوا خروج ذل و لا و التوراة ما سلط هذا على قوم قط لله بهم حاجة و قد أوقع قبل ذلك بابن الأشرف ذي عزهم ثم بيته في بيته آمنا و أوقع بابن سنينة سيدهم و أوقع ببني قينقاع فأجلاهم و هم أهل جد يهود و كانوا أهل عدة و سلاح و نجدة فحصرهم فلم يخرج إنسان منهم رأسه حتى سباهم و كلم فيهم فتركهم على أن أجلاهم من يثرب يا قوم قد رأيتم ما رأيتم فأطيعوني و تعالوا نتبع محمدا و الله إنكم لتعلمون أنه نبي قد بشرنا به و بأمره ابن الهيبان أبو عمير و ابن حراش و هما أعلم يهود جاءانا يتوكفان قدومه و أمرانا باتباعه جاءانا من بيت المقدس و أمرانا أن نقرئه منهما السلام ثم ماتا على دينهما و دفناهما بحرتنا هذه
فأسكت القوم فلم يتكلم منهم متكلم
ثم أعاد هذا الكلام و نحوه و خوفهم بالحرب و السباء و الجلاء فقال الزبير بن باطا : قد و التوراة قرأت صفته في كتاب باطا التوراة التي نزلت على موسى ليس في المثاني الذي أحدثنا
قال : فقال له كعب بن أسيد : ما يمنعك يا أبا عبد الرحمن من اتباعه ؟ قال أنت يا كعب قال كعب فلم ؟ و التوراة ما حلت بينك و بينه قط
قال الزبير بل أنت صاحب عهدنا و عقدنا فإن اتبعته اتبعناه و إن أبيت أبينا
فأقبل عمرو بن سعدى على كعب فذكر ما تقاولا في ذلك إلى أن قال عمرو : ما عندي في أمره إلا ما قلت : ما تطيب نفسي أن أصير تابعا ! رواه البيهقي (3/155)
ذكرها البيهقي : في الدلائل و إنما ذكرها ابن إسحاق فيما رأيته من طريق هشام عن زياد عنه في جمادى الأولى من سنة ثنتين من الهجرة بعد الخندق و بني قريظة و هو أشبه مما ذكره البيهقي : و الله أعلم
و قال الحافظ البيهقي : [ أخبرنا أبو عبد الله الحافظ حدثنا أبو العباس الأصم حدثنا أحمد بن عبد الجبار و غيره قالوا : لما أصيب خبيب و أصحابه خرج رسول الله صلى الله عليه و سلم طالبا بدمائهم ليصيب من بني لحيان غرة فسلك طريق الشام ليرى أنه لا يريد لحيان حتى نزل بأرضهم فو جدهم قد حذروا و تمنعوا في رؤوس الجبال فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : لو أنا هبطنا عسفان لرأت قريش أن قد جئنا مكة ]
فخرج في مائتي راكب حتى نزل عسفان ثم بعث فارسين حتى جاءا كراع الغميم ثم انصرفا
فذكر أبو عياش الزرقي أن رسول الله صلى الله عليه و سلم صلى بعسفان صلاة الخوف
و قد قال الإمام أحمد : [ حدثنا عبد الرزاق حدثنا الثوري عن منصور عن مجاهد عن بن عياش قال : كنا مع رسول الله صلى الله عليه و سلم بعسفان فاستقبلنا المشركون عليهم خالد بن الوليد و هم بيننا و بين القبلة فصلى بنا رسول الله صلى الله عليه و سلم صلاة الظهر فقالوا : قد كانوا على حال لو أصبنا غرتهم ثم قالوا : تأتي الآن عليهم صلاة هي أحب إليهم من أبنائهم و أنفسهم ]
قال : فنزل جبريل بهذه الآيات بين الظهر و العصر : { و إذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة }
قال : فحضرت فأمرهم رسول الله صلى الله عليه و سلم فأخذوا السلاح [ فصففنا خلفه صفين ثم ركع فركعنا جميعا ثم رفع فرفعنا جميعا ثم سجد بالصف الذي يليه و الآخرون قيام يحرسونهم فلما سجدوا و قاموا جلس الآخرون فسجدوا في مكانهم ثم تقدم هؤلاء إلى مصاف هؤلاء و جاء هؤلاء إلى مصاف هؤلاء قال : ثم ركع فركعوا جميعا ثم سجد الصف الذي يليه و الآخرون قيام يحرسونهم فلما جلسوا جلس الآخرون فسجدوا ثم سلم عليهم ثم انصرف
قال : فصلاها رسول الله صلى الله عليه و سلم مرتين مرة بأرض عسفان ومرة بأرض بني سليم ]
ثم رواه أحمد عن غندر عن شعبة عن منصور به نحوه
و قد رواه أبو داود عن سعيد بن منصور عن جرير بن عبد الحميد و النسائي عن الفلاس عن عبد العزيز بن عبد الصمد عن محمد بن المثني و بندار عن غندر عن شعبة ثلاثتهم عن منصور به
و هذا إسناد على شرط الصحيحين و لم يخرجه واحد منهما
لكن روى مسلم [ من طريق أبي خيثمة زهير بن معاوية عن أبي الزبير عن جابر قال : غزونا مع رسول الله صلى الله عليه و سلم قوما من جهينة فقاتلوا قتالا شديدا فلما أن صلى الظهر قال المشركون : لو ملنا عليهم ميلة لاقتطعناهم
فأخبر جبريل رسول الله صلى الله عليه و سلم بذلك : و ذكر لنا رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : و قالوا : إنهم ستأتيهم صلاة هي أحب إليهم من الأولاد ] فذكر الحديث كنحو ما تقدم
و قال أبو داود الطيالسي : [ حدثنا هشام عن أبي الزبير عن جابر بن عبد الله قال : ( صلى رسول الله صلى الله عليه و سلم بأصحابه الظهر بنخل فهم به المشركون ثم قالوا : دعوهم فإن لهم صلاة بعد هذه الصلاة هي أحب إليهم من أبنائهم
قال فنزل جبريل على رسول الله صلى الله عليه و سلم فأخبره فصلى بأصحابه صلاة العصر فصفهم صفين بين أيديهم رسول الله و العدو بين يدي رسول الله صلى الله عليه و سلم فكبر و كبروا جميعا و ركعوا جميعا ثم سجد الذين يلونهم والآخرون قيام فلما رفعوا رؤوسهم سجد الآخرون ثم تقدم هؤلاء و تأخر هؤلاء فكبروا جميعا وركعوا جميعا ثم سجد الذين يلونه والآخرون قيام فلما رفعوا رؤوسهم سجد الآخرون ]
و قد استشهد البخاري في صحيحه برواية هشام هذه عن أبي الزبير عن جابر
و قال الإمام أحمد : [ حدثنا عبد الصمد حدثنا سعيد بن عبيد الهنائي حدثنا عبد الله بن شقيق حدثنا أبو هريرة أن رسول الله صلى الله عليه و سلم نزل بين ضجنان و عسفان فقال المشركون : إن لهؤلاء صلاة هي أحب إليهم من أبنائهم و أبكارهم و هي العصر فأجمعوا أمركم فميلوا عليهم ميلة واحدة
و إن جبريل أتى رسول الله صلى الله عليه و سلم و أمره أن يقيم أصحابه شطرين فيصلي ببعضهم و يقدم الطائفة الأخرى وراءهم و ليأخذوا حذرهم و أسلحتهم ثم تأتي الأخرى فيصلون معه و يأخذ هؤلاء حذرهم و أسلحتهم ليكون لهم ركعة ركعة مع رسول الله صلى الله عليه و سلم و لرسول الله ركعتان ]
و رواه الترمذي و النسائي من حديث عبد الصمد به و قال الترمذي : حسن صحيح
قلت : إن كان أبو هريرة شهد هذا فهو بعد خيبر و إلا فهو من مرسلات الصحابي و لا يضر ذلك عند الجمهور و الله أعلم
و لم يذكر في سياق حديث جابر عند مسلم و لا عند أبي داود الطيالسي أمر عسفان و لا خالد بن الوليد لكن الظاهر أنها واحدة
بقي الشأن في أن غزوة عسفان قبل الخندق أو بعدها ؟ فإن من العلماء منهم الشافعي من يزعم أن صلاة الخوف إنما شرعت بعد يوم الخندق فإنهم أخروا الصلاة يومئذ عن ميقاتها لعذر القتال و لو كانت صلاة الخوف مشروعة إذ ذاك لفعلوها و لم يؤخروها و لهذا قال بعض أهل المغازي : إن غزوة بني لحيان التي صلى فيها صلاة الخوف بعسفان كانت بعد بني قريظة
و قد ذكر الواقدي بإسناده عن خالد بن الوليد قال : لما خرج رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى الحديبية لقيته بعسفان فوقفت بإزائه و تعرضت له فصلى بأصحابه الظهر أمامنا فهممنا أن نغير عليه ثم لم يعزم لنا فأطلعه الله على ما في أنفسنا من الهم به فصلى بأصحابه صلاة العصر صلاة الخوف
قلت : و عمرة الحديبية كانت في ذي القعدة سنة ست بعد الخندق و بني قريظة كما سيأتي
و في سياق حديث أبي عياش الزرقي ما يقتضي أن آية صلاة الخوف نزلت في هذه الغزوة يوم عسفان فاقتضى ذلك أنها أول صلاة خوف صلاها و الله أعلم
و سنذكر إن شاء الله تعالى كيفية صلاة الخوف و اختلاف الروايات فيها في كتاب الأحكام الكبير إنشاء الله و به الثقة و عليه التكلان (3/156)
قال ابن إسحاق : ثم أقام رسول الله صلى الله عليه و سلم بالمدينة بعد غزوة بني النضير شهري ربيع و بعض جمادى ثم غزا نجدا يريد بني محارب و بني ثعلبة من غطفان و استعمل على المدينة أبا ذر
قال ابن هشام : و يقال عثمان بن عفان
قال ابن إسحاق : فسار حتى نزل نخلا و هي غزوة ذات الرقاع
قال ابن هشام : لأنهم رقعوا فيها راياتهم و يقال لشجرة هناك اسمها ذات الرقاع
و قال الواقدي : بجبل فيه بقع حمر و سود و بيض
و في حديث أبي موسى : إنما سميت بذلك لما كانوا يربطون على أرجلهم من الخرق من شدة الحر
قال ابن إسحاق : فلقى بها جمعا من غطفان فتقارب الناس و لم يكن بينهم حرب و قد خاف الناس بعضهم بعضا حتى صلى رسول الله صلى الله عليه و سلم بالناس صلاة الخوف
و قد أسند ابن هشام : حديث صلاة الخوف هاهنا عن عبد الوارث بن سعيد التنوري عن يونس بن عبيد عن الحسن عن جابر بن عبد الله و عن عبد الوارث عن أيوب عن أبي الزبير عن جابر و عن عبد الوارث عن أيوب عن نافع عن ابن عمر و لكن لم يذكر في هذه الطرق غزوة نجد و لا ذات الرقاع و لم يتعرض لزمان و لا مكان
و في غزوة ذات الرقاع التي كانت بنجد لقتال بني محارب و بني ثعلبة بن غطفان قبل الخندق نظر
و قد ذهب البخاري : إلى أن ذلك كان بعد خيبر و استدل على ذلك بأن أبا موسى الأشعري شهدها كما سيأتي و قدومه إنما كان ليالي خيبر صحبة جعفر و أصحابه و كذلك أبو هريرة و قد قال : صليت مع رسول الله صلى الله عليه و سلم في غزوة نجد صلاة الخوف
و مما يدل على أنها بعد الخندق أن ابن عمر إنما أجازه رسول الله صلى الله عليه و سلم في القتال أول ما أجازه يوم الخندق و قد ثبت عنه في الصحيح أنه قال : غزوت مع رسول الله صلى الله عليه و سلم قبل نجد فذكر صلاة الخوف
و قول الواقدي : إنه عليه السلام خرج إلى ذات الرقاع في أربعمائة و يقال سبعمائة من أصحابه ليلة السبت لعشر خلون من المحرم سنة خمس فيه نظر
ثم لا يحصل به نجاة من أن صلاة الخوف إنما شرعت بعد الخندق لأن الخندق كان في شوال سنة خمس على المشهور و قيل في شوال سنة أربع فتحصل على هذا القول مخلص من حديث ابن عمر فأما حديث أبي موسى و أبي هريرة فلا (3/160)
قال ابن إسحاق في هذه الغزوة : حدثني عمرو بن عبيد عن الحسن عن جابر بن عبد الله أن رجلا من بني محارب يقال له غورث قال لقومه من غطفان و محارب : ألا أقتل لكم محمدا ؟ قالوا : بلى و كيف تقتله ؟ قال أفتك به
قال : [ فأقبل إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم و هو جالس و سيف رسول الله صلى الله عليه و سلم في حجره فقال : يا محمد أنظر إلى سيفك هذا ؟ قال : نعم فأخذه ثم جعل يهزه و يهم فكبته الله ثم قال : يا محمد أما تخافني ؟ قال : لا ما أخاف منك ؟ قال : أما تخافني و في يدي السيف ؟ قال : لا يمنعني الله منك ثم عمد إلى سيف النبي صلى الله عليه و سلم فرده عليه ]
فأنزل الله عز و جل : { يا أيها الذين أمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ هم قوم أن يبسطوا إليكم أيديهم فكف أيديهم عنكم و اتقوا الله و على الله فليتوكل المؤمنون }
قال ابن إسحاق : و حدثني يزيد بن رومان أنها إنما أنزلت في عمرو بن جحاش أخي بني النضير و ما هم به
هكذا ذكر ابن إسحاق قصة غورث هذا عن عمرو بن عبيد القدري رأس الفرقة الضالة و هو و إن كان لا يتهم بتعمد الكذب في الحديث إلا أنه ممن لا ينبغي أن يروى عنه لبدعته و دعائه إليها
و هذا الحديث ثابت في الصحيحين من غير هذا الوجه و لله الحمد
فقد أورد الحافظ البيهقي هاهنا طرقا لهذا الحديث من عدة أماكن و هي ثابتة في الصحيحين من حديث [ الزهري عن سنان بن أبي سنان و أبي سلمة عن جابر أنه غزا مع رسول الله صلى الله عليه و سلم غزوة نجد فلما قفل رسول الله صلى الله عليه و سلم أدركته القائلة في واد كثير العضاة فتفرق الناس يستظلون بالشجر و كان رسول الله صلى الله عليه و سلم تحت ظل شجرة فعلق بها سيفه
قال جابر : فنمنا نومة فإذا رسول الله صلى الله عليه و سلم يدعونا فأجبناه و إذا عنده أعرابي جالس فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : إن هذا اخترط سيفي و أنا نائم فاستيقظت و هو في يده صلتا فقال : من يمنعك مني ؟ قلت : الله فشام السيف و جلس و لم يعاقبه رسول الله صلى الله عليه و سلم و قد فعل ذلك ]
و قد رواه مسلم أيضا [ عن أبي بكر بن أبي شيبة عن عفان عن أبان عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عن جابر قال : أقبلنا مع رسول الله صلى الله عليه و سلم حتى إذا كنا بذات الرقاع و كنا إذا أتينا على شجرة ظليلة تركناها لرسول الله صلى الله عليه و سلم فجاءه رجل من المشركين و سيف رسول الله صلى الله عليه و سلم معلق بشجرة فأخذ سيف رسول الله فاخترطه و قال لرسول الله صلى الله عليه و سلم : تخافني ؟ قال : لا قال : فمن يمنعك مني ؟ قال : الله يمنعني منك قال : فهدده أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم فأغمد السيف و علقه
قال : و نودي بالصلاة فصلى بطائفة ركعتين ثم تأخروا و صلى بالطائفة الأخرى ركعتين قال : فكانت لرسول الله صلى الله عليه و سلم أربع ركعات و للقوم ركعتين ]
و قد علقه البخاري بصيغة الجزم عن أبان به
قال البخاري : و قال : مسدد عن أبي عوانة عن أبي بشر إن اسم الرجل غورث بن الحارث و أسند البيهقي من طريق أبي عوانة عن أبي بشر عن سليمان بن قيس عن جابر قال : [ قاتل رسول الله صلى الله عليه و سلم محارب و غطفان بنخل فرأوا من المسلمين غرة فجاء رجل منهم يقال له : غورث بن الحارث حتى قام على رأس رسول الله صلى الله عليه و سلم بالسيف و قال : من يمنعك مني ؟ قال : الله فسقط السيف من يده فأخذ رسول الله صلى الله عليه و سلم السيف و قال : من يمنعك مني ؟ فقال : كن خير آخذ قال : تشهد أن لا إله إلا الله ؟ قال : لا و لكن أعاهدك على ألا أقاتلك و لا أكون مع قوم يقاتلونك
فخلى سبيله فأتى أصحابه و قال : جئتكم من عند خير الناس
ثم ذكر صلاة الخوف و أنه صلى أربع ركعات بكل طائفة ركعتين ]
و قد أورد البيهقي هنا طرق صلاة الخوف بذات الرقاع عن صالح بن خوات بن جبير عن سهل بن أبي حثمة و حديث الزهري عن سالم عن أبي في صلاة الخوف بنجد و موضع ذلك كتاب الأحكام و الله أعلم (3/161)
قال محمد ابن إسحاق : حدثني عمي صدقة بن يسار عن عقيل بن جابر عن جابر بن عبد الله قال : خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه و سلم في غزوة ذات الرقاع من نخل فأصاب رجل امرأة رجل من المشركين فلما انصرف رسول الله صلى الله عليه و سلم قافلا أتى زوجها و كان غائبا فلما أخبر الخبر حلف لا ينتهي حتى يهيرق في أصحاب محمد دما
فخرج يتبع أثر رسول الله صلى الله عليه و سلم فنزل رسول الله صلى الله عليه و سلم منزلا فقال : من رجل يكلؤنا ليلتنا ؟ فانتدب رجل من المهاجرين و رجل من الأنصار فقالا : نحن يا رسول الله قال : فكونا بفم الشعب من الوادي و هما عمار بن ياسر و عباد بن بشر
فلما خرجا إلى فم الشعب قال الأنصاري للمهاجري : أي الليل تحب أن أكفيكه أوله أم آخره ؟ قال : بل اكفني أوله فاضطجع المهاجري فنام و قام الأنصاري يصلي قال : وأتى الرجل فلما رأى شخص الرجل عرف أنه ربيئة القوم فرمى بسهم فوضعه فيه فانتزعه و وضعه و ثبت قائما قال : ثم رمى بسهم آخر فوضعه فيه فنزعه فوضعه و ثبت قائما قال : ثم عاد له بالثالث فوضعه فيه فنزعه فوضعه ثم ركع و سجد ثم أهب صاحبه فقال : اجلس فقد اثبت
قال : فوثب الرجل فلما رآهما عرف أنه قد نذرا به فهرب
قال : و لما رأى المهاجري ما بالأنصاري من الدماء قال : سبحان الله أفلا أهببتني أول ما رماك ؟ !
قال : كنت في سورة أقرؤها فلم أحب أن أقطعها حتى أنفذها قلما تابع علي الرمي ركعت فآذنتك و أيم الله لولا أن أضيع ثغرا أمرني رسول الله صلى الله عليه و سلم بحفظه لقطع نفسي قبل أن أقطعها أو أنفذها !
هكذا ذكره ابن إسحاق في المغازي و قد رواه أبو داود عن أبي توبة عن عبد الله ابن المبارك عن ابن إسحاق به
و قد ذكر الواقدي عن عبد الله العمري عن أخيه عبيد الله عن القاسم بن محمد عن صالح بن خوات عن أبيه حديث صلاة الخوف بطوله قال : و كان رسول الله صلى الله عليه و سلم قد أصاب في محالهم نسوة و كان في السبي جارية وضيئة و كان زوجها يحبها فحلف ليطلبن محمدا و لا يرجع حتى يصيب دما أو يخلص صاحبته ثم ذكر من السياق نحو ما أورده محمد ابن إسحاق
قال الواقدي : و كان جابر بن عبد الله يقول : بينا أنا مع رسول الله صلى الله عليه و سلم إذ جاء رجل من أصحابه بفرخ طائر و رسول الله صلى الله عليه و سلم ينظر إليه فأقبل إليه أبواه أو أحدهما حتى طرح نفسه في يدي الذي أخذ فرخه فرأيت أن الناس عجبوا من ذلك فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ أتعجبون من هذا الطائر أخذتم فرخه فطرح نفسه رحمة لفرخه ؟ فوالله لربكم أرحم بكم من هذا الطائر بفرخه ! ! ] (3/164)
قال محمد ابن إسحاق : [ حدثني وهب بن كيسان عن جابر بن عبد الله قال : خرجت مع رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى غزوة ذات الرقاع من نخل على جمل لي ضعيف فلما قفل رسول الله صلى الله عليه و سلم جعلت الرفاق تمضي و جعلت أتخلف حتى أدركني رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : مالك يا جابر ؟ قلت : يا رسول الله أبطأ بي جملي هذا قال : أنخه قال : فأنخته و أناخ رسول الله صلى الله عليه و سلم ثم قال : أعطني هذه العصا من يدك أو اقطع عصا من شجرة ففعلت فأخذها رسول الله صلى الله عليه و سلم فنخسه بها نخسات ثم قال : اركب فركبت فخرج و الذي بعثه بالحق يواهق ناقته مواهقة ]
قال : و تحدثت مع رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : [ أتبيعني جملك هذا يا جابر ؟ قال : قلت : بل أهبه لك قال : لا و لكن بعنيه قال : قلت : فسمنيه قال : قد أخذته بدرهم قال : قلت : لا إذا تغبنني يا رسول الله ! قال : فبدرهمين قال : قلت : لا قال : فلم يزل يرفع لي رسول الله صلى الله عليه و سلم حتى بلغ الأوقية قال : فقلت : أفقد رضيت ؟ قال : نعم قلت : فهو لك قال : قد أخذته
ثم قال : يا جابر هل تزوجت بعد ؟ قال : قلت : نعم يا رسول الله قال : أثيبا أم بكرا ؟ قال : قلت : بل ثيبا قال : أفلا جارية تلاعبها و تلاعبك !
قال : قلت يا رسول الله إن أبي أصيب يوم أحد و ترك بنات له سبعا فنكحت امرأة جامعة تجمع رءوسهن فتقوم عليهن قال : أصبت إن شاء الله أما إنا لو جئنا صرارا أمرنا بجزور فنحرت فأقمنا عليها يومنا ذلك و سمعت بنا فنفضت نمارقها قال : فقلت : و الله يا رسول الله ما لنا نمارق قال : إنها ستكون فإذا أنت قدمت فاعمل عملا كيسا قال : فلما جئنا صرارا أمر رسول الله صلى الله عليه و سلم بجزور فنحرت و أقمنا عليها ذلك اليوم فلما أمسى رسول الله صلى الله عليه و سلم دخل و دخلنا قال : فحدثت المرأة الحديث و ما قال لي رسول الله صلى الله عليه و سلم قالت : فدونك فسمع و طاعة
فلما أصبحت أخذت برأس الجمل فأقبلت به حتى أنخته على باب رسول الله صلى الله عليه و سلم ثم جلست في المسجد قريبا منه قال : و خرج رسول الله صلى الله عليه و سلم فرأى الجمل فقال : ما هذا ؟ قالوا : يا رسول الله هذا جمل جاء به جابر قال : فأين جابر فدعيت له قال : فقال : يا ابن أخي خذ برأس جملك فهو لك قال : و دعا بلالا فقال : اذهب بجابر فأعطه أوقية قال : فذهبت معه فأعطاني أوقية و زادني شيئا يسيرا
قال : فوالله ما زال ينمى عندي و يرى مكانه من بيننا حتى أصيب أمس فيما أصيب لنا يعني يوم الحرة ]
و قد أخرجه صاحب الصحيح من حديث عبيد الله بن عمر العمري عن وهب بن كيسان عن جابر بنحوه
قال السهيلي : في هذا الحديث إشارة إلى ما كان أخبر به رسول الله صلى الله عليه و سلم جابر بن عبد الله أن الله أحيا والده و كلمه فقال له : تمن علي و ذلك أنه شهيد و قد قال الله تعالى : { إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم و أموالهم } و زادهم على ذلك في قوله : { للذين أحسنوا الحسنى و زيادة } ثم جمع لهم بين العوض و المعوض فرد عليهم أرواحهم التي اشتراها منهم فقال : { و لا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون } و الروح للإنسان بمنزلة المطية كما قال ذلك عمر بن عبد العزيز قال : فلذلك اشترى رسول الله صلى الله عليه و سلم من جابر جمله و هو مطيته فأعطاه ثمنه ثم رده عليه و زاده مع ذلك قال : ففيه تحقيق لما كان أخبره به عن أبيه
و هذا الذي سلكه السهيلي هاهنا إشارة غريبة و تخيل بديع و الله سبحانه و تعالى أعلم
و قد ترجم الحافظ البيهقي في كتابه دلائل النبوة على هذا الحديث في هذه الغزوة فقال : باب ما كان ظهر في غزاته هذه من بركاته و آياته في جمل جابر بن عبد الله رضي الله عنه و هذا الحديث له طرق عن جابر و ألفاظ كثيرة و فيه اختلاف كثير في كمية ثمن الجمل و كيفية ما اشترط في البيع و تحرير ذلك و استقصاؤه لائق بكتاب البيع من الأحكام و الله أعلم و قد جاء تقييده بهذه الغزوة و جاء تقييده بغيرها ن كما سيأتي و مستبعد تعداد ذلك و الله أعلم (3/166)
و هي بدر الموعد التي تواعدوا إليها من أحد كما تقدم
قال ابن إسحاق : و لما رجع رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى المدينة من غزوة ذات الرقاع أقام بها بقية جمادى الأولى و جمادى الآخرة و رجبا ثم خرج في شعبان إلى بدر لميعاد أبي سفيان
قال ابن هشام : و استعمل على المدينة عبد الله بن عبد الله بن أبي بن سلول
قال ابن إسحاق : فنزل رسول الله صلى الله عليه و سلم بدرا و أقام عليه ثمانيا ينتظر أبا سفيان
و خرج أبو سفيان في أهل مكة حتى نزل مجنة من ناحية الظهران و بعض الناس يقول : قد بلغ عسفان ثم بدا له في الرجوع فقال : يا معشر قريش إنه لا يصلحكم إلا عام خصيب ترعون فيه الشجر و تشربون فيه اللبن فإن عامكم هذا عام جدب و إني راجع فارجعوا
فرجع الناس فسماهم أهل مكة جيش السويق يقولون : إنما خرجتم تشربون السويق
قال : و أتى مخشي بن عمرو الضمري و قد كان وادع النبي صلى الله عليه و سلم في غزوة ودان على بني ضمرة فقال : يا محمد أجئت للقاء قريش على هذا الماء ؟ قال : نعم يا أخا بني ضمرة و إن شئت رددنا إليك ما كان بيننا و بينك و جالدناك حتى يحكم الله بيننا و بينك
قال : لا و الله يا محمد ما لنا بذلك من حاجة
ثم رجع رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى المدينة و لم يلق كيدا
قال ابن إسحاق : و قد قال عبد الله بن رواحة يعني في انتظارهم أبا سفيان و رجوعه بقريش عامه ذلك قال ابن هشام : و قد أنشدنيها أبو زيد لكعب بن مالك :
( وعدنا أبا سفيان بدرا فلم نجد ... لميعاده صدقا و ما كان وافيا )
( فأقسم لو لاقيتنا فلقيتنا ... لأبت ذميما و افتقدت المواليا )
( تركنا به أوصال عتبة و ابنه ... و عمرا أبا جهل تركناه ثاويا )
( عصيتم رسول الله أف لدينكم ... و أمركم السيء الذي كان غاويا )
( فإني و إن عنفتموني لقائل ... فدى لرسول الله أهلي و مالي )
( أطعناه لم نعدله فينا بغيره ... شهابا لنا في ظلمة الليل هاديا )
قال ابن إسحاق : و قال حسان بن ثابت في ذلك :
( دعوا فلجات الشام قد حال دونها ... جلاد كأفواه المخاض الأوارك )
( بأيدي رجال هاجروا نحو ربهم ... و أنصاره حقا و أيدي الملائك )
( إذا سلكت للغور من بطن عالج ... فقولا لها ليس الطريق هنالك )
( أقمنا على الرس النزوع ثمانية ... بأرعن جرار عريض المبارك )
( بكل كميت جوزه نصف خلقه ... و قب طوال مشرفات الحوارك )
( ترى العرفج العامي تذري أصوله ... مناسم أخفاف المطي الرواتك )
( فإن تلق في تطوافنا و التماسنا ... فرات بن حيان يكن رهن هالك )
( و إن تلق قيس بن امريء القيس بعده ... يزد في سواد لونه لون حالك )
( فأبلغ أبا سفيان عني رسالة ... فإنك من غر الرجال الصعالك )
قال : فأجابه أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب و قد أسلم فيما بعد ذلك :
( أحسان إنا يا ابن آكلة الفغا ... و جدك نغتال الخروق كذلك )
( خرجنا و ما تنجو اليعافير بيننا ... و لو وألت منا بشد مدارك )
( إذا ما انبعثنا من مناخ حسبته ... مدمن أهل الموسم المتعارك )
( أقمت على الرس النزوع تريدنا ... و تتركنا في النخل عند المدارك )
( على الزرع تمشي خيلنا و ركابنا ... فما وطئت ألصقنه بالدكادك )
( أقمنا ثلاثا بين سلع و فارع ... بجرد الجياد و المطي الرواتك )
( حسبتم جلاد القوم عند فنائكم ... كمأخذكم بالعين أرطال آنك )
( فلا تبعث الخيل الجياد و قل لها ... على نحو قول المعصم المتماسك )
( سعدتم بها و غيركم كان أهلها ... فوارس من أبناء فهر بن مالك )
( فإنك لا في هجرة إن ذكرتها ... و لا حرمات دينها أنت ناسك )
قال ابن هشام : تركنا منها أبياتا لاختلاف قوافيها
و قد ذكر موسى ابن عقبة : عن الزهري و ابن لهيعة عن أبي الأسود عن عروة بن الزبير أن رسول الله صلى الله عليه و سلم استنفر الناس لموعد أبي سفيان و انبعث المنافقون في الناس يثبطونهم فسلم الله أولياءه و خرج المسلمون صحبة رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى بدر و أخذوا معهم بضائع و قالوا : إن وجدنا أبا سفيان و إلا اشترينا من بضائع موسم بدر ثم ذكر نحو سياق ابن إسحاق في خروج أبي سفيان إلى مجنة و رجوعه و في مقاولة الضمري و عرض النبي صلى الله عليه و سلم و المنابذة فأبى ذلك
قال الواقدي : خرج رسول الله صلى الله عليه و سلم إليها في ألف و خمسمائة من أصحابه و استخلف على المدينة عبد الله بن رواحة و كان خروجه إليها في مستهل ذي القعدة يعني سنة أربع
و الصحيح قول ابن إسحاق : أن ذلك في شعبان من هذه السنة الرابعة و وافق قول موسى ابن عقبة أنها في شعبان لكن قال : في سنة ثلاث و هذا وهم فإن هذه توعدوا إليها من أحد و كانت أحد في شوال سنة ثلاث كما تقدم و الله أعلم
قال الواقدي : فأقاموا ببدر مدة الموسم الذي كان يعقد فيها ثمانية أيام فرجعوا و قد ربحوا من الدرهم درهمين و قال غيره : فانقلبوا كما قال الله عز و جل : { فانقلبوا بنعمة من الله و فضل لم يمسسهم سوء و اتبعوا رضوان الله و الله ذو فضل عظيم } (3/169)
قال ابن جرير : و في جمادى الأولى من هذه السنة مات عبد الله بن عثمان بن عفان رضي الله عنه يعني من رقية بنت رسول الله صلى الله عليه و سلم و هو ابن ست سنين فصلى عليه رسول الله صلى الله عليه و سلم و نزل في حفرته والده عثمان بن عفان رضي الله عنه
قلت : و فيه توفي أبو سلمة عبد الله بن عبد الأسد بن هلال بن عبد الله بن عمر بن مخزوم القرشي المخزومي و أمه برة بنت عبد المطلب عمة رسول الله صلى الله عليه و سلم و كان رضيع رسول الله صلى الله عليه و سلم ارتضعا من ثويبة مولاة أبي لهب
و كان إسلام أبي سلمة و أبي عبيدة و عثمان بن عفان و الأرقم بن أبي الأرقم قديما في يوم واحد
و قد هاجر هو و زوجته أم سلمة إلى أرض الحبشة ثم عاد إلى مكة و قد ولد لهما بالحبشة أولاد ثم هاجر من مكة إلى المدينة و تبعته أم سلمة إلى المدينة كما تقدم
و شهد بدرا و أحدا و مات من آثار جرح جرحه بأحد رضي الله عنه و أرضاه
له حديث واحد في الإسترجاع عند المصيبة سيأتي في سياق تزويج رسول الله صلى الله عليه و سلم بأم سلمة قريبا
قال ابن جرير : و في ليالي خلون من شعبان منها ولد الحسين بن علي من فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه و سلم و رضي الله عنهم
قال : و في شهر رمضان من هذه السنة تزوج رسول الله صلى الله عليه و سلم زينب بنت خزيمة بن الحارث بن عبد الله بن عمرو بن عبد مناف بن هلال بن عامر بن صعصعة الهلالية
و قد حكى أبو عمر بن عبد البر عن علي بن عبد العزيز الجرجاني أنه قال : كانت أخت ميمونة بنت الحارث ثم استعزبه و قال : لم أره لغيره و هي التي يقال لها أم المساكين لكثرة صدقاتها عليهم و برها لهم و إحسانها إليهم و أصدقها ثنتي عشرة أوقية و نشا و دخل بها في رمضان و كانت قبله عند الطفيل بن الحارث فطلقها
قال أبو عمر بن عبد البر عن علي بن عبد العزيز الجرجاني : ثم خلف عليها أخوه عبيدة بن الحارث بن المطلب بن عبد مناف
قال ابن الأثير في الغابة : و قيل كانت تحت عبد الله بن جحش فقتل عنها يوم أحد
قال أبو عمر : و لا خلاف أنها ماتت في حياة رسول الله صلى الله عليه و سلم و قيل : لم تلبث عنده إلا شهرين أو ثلاثة حتى توفيت رضي الله عنها
و قال الواقدي : في شوال من هذه السنة تزوج رسول الله صلى الله عليه و سلم أم سلمة بنت أبي أمية
قلت : و كانت قبله عند زوجها أبي أولادها أبي سلمة بن عبد الأسد و قد كان شهد أحدا كما تقدم و جرح يوم أحد فداوى جرحه شهرا حتى برىء ثم خرج في سرية فغنم منها نعما و مغنما جيدا ثم أقام بعد ذلك سبعة عشر يوما ثم انتقض عليه جرحه فمات لثلاث بقين من جمادى الأولى من هذه السنة
فلما حلت في شوال خطبها رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى نفسها بنفسه الكريمة و بعث إليها عمر بن الخطاب في ذلك مرارا فتذكر أنها امرأة غيرى أي شديدة الغيرة و أنها مصبية أي لها صبيان يشغلونها عنه و يحتاجون إلى مؤنة تحتاج معها أن تعمل لهم في قوتهم فقال : أما الصبية فإلى الله و إلى رسوله أي نفقتهم ليس إليك و أما الغيرة فأدعو الله فيذهبها
فأذنت في ذلك و قالت لعمر آخر ما قالت له : قم فزوج النبي صلى الله عليه و سلم تعني قد رضيت و أذنت
فتوهم بعض العلماء أنها تقول لابنها عمر بن أبي سلمة و قد كان إذ ذاك صغيرا لا يلي مثله العقد و قد جمعت في ذلك جزءا مفردا بينت فيه الصواب في ذلك و لله الحمد و المنة
و أن الذي ولي عقدها عليه ابنها سلمة بن أبي سلمة و هو أكبر ولدها
و ساغ هذا لأن أباه ابن عمها فللابن ولاية أمه إذا كان سببا لها من غير جهة البنوة بالإجماع و كذا إذا كان معتقا أو حاكما
فأما محض البنوة فلا يلي بها عقد النكاح عند الشافعي وحده و خالفه الثلاثة : أبو حنيفة و مالك و أحمد رحمهم الله و لبسط هذا موضع آخر يذكر فبه و هو كتاب النكاح من الأحكام الكبير إن شاء الله قال الإمام أحمد : [ حدثنا يونس حدثنا ليث يعني ابن سعد عن يزيد بن عبد الله بن أسامة بن الهاد عن عمرو بن أبي عمرو عن المطلب عن أم سلمة قالت : أتاني أبو سلمة يوما من عند رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : لقد سمعت من رسول الله صلى الله عليه و سلم قولا سررت به قال : لا يصيب أحدا من المسلمين مصيبة فيسترجع عند مصيبته ثم يقول : اللهم آجرني في مصيبتي و اخلف لي خيرا منها إلا فعل به ] قالت أم سلمة : فحفظت ذلك منه
فلما توفي أبو سلمة استرجعت و قلت : اللهم آجرني في مصيبتي و اخلف لي خيرا منها ثم رجعت إلى نفسي فقلت : من أين لي خيرا من أبي سلمة ؟
فلما انقضت عدتي استأذن علي رسول الله صلى الله عليه و سلم و أنا أدبغ إهابا لي فغسلت يدي من القرظ و أذنت له فوضعت له وسادة أدم حشوها ليف فقعد عليها فخطبني إلى نفسي فلما فرغ من مقالته قلت : يا رسول الله ما بي أن لا تكون بك الرغبة و لكني امرأة بي غيرة شديدة فأخاف أن ترى مني شيئا يعذبني الله به و أنا امرأة قد دخلت في السن و أنا ذات عيال
فقال : [ أما ما ذكرت من الغيرة فسيذهبها الله عنك و أما ما ذكرت من السن فقد أصابني مثل الذي أصابك و أما ما ذكرت من العيال فإنما عيالك عيالي ] فقالت : فقد سلمت لرسول الله صلى الله عليه و سلم فقالت أم سلمة : فقد أبدلني الله بأبي سلمة خيرا منه رسول الله صلى الله عليه و سلم
و قد رواه الترمذي و النسائي من حديث حماد بن سلمة عن ثابت عن عمر بن أبي سلمة عن أمه أم سلمة عن أبي سلمة به و قال الترمذي حسن غريب و في رواية للنسائي عن ثابت عن ابن عمر بن أبي سلمة عن أبيه و رواه ابن ماجة عن أبي بكر بن أبي شيبة عن يزيد بن هارون عن عبد الملك بن قدامة الجمحي عن أبيه عن عمر بن أبي سلمة به
و قال ابن إسحاق : ثم انصرف رسول الله صلى الله عليه و سلم ـ يعني من بدر الموعد ـ راجعا إلى المدينة فأقام بها حتى مضى ذو الحجة و ولى تلك الحجة المشركون و هي سنة أربع
و قال الواقدي : و في هذه السنة يعني سنة أربع أمر رسول الله صلى الله عليه و سلم زيد بن ثابت أن يتعلم كتاب يهود
قلت : فثبت عنه في الصحيح أنه قال : تعلمته في خمسة عشر يوما و الله أعلم (3/172)
قال ابن إسحاق : ثم غزا رسول الله صلى الله عليه و سلم دومة الجندل
قال ابن هشام : في ربيع الأول ـ يعني من سنة خمس ـ و استعمل على المدينة سباع بن عرفطة الغفاري
قال ابن إسحاق : ثم رجع إلى المدينة قبل أن يصل إليها و لم يلق كيدا فأقام في المدينة بقية سنته
هكذا قال ابن إسحاق
و قد قال محمد بن عمر الواقدي بإسناده عن شيوخه عن جماعة من السلف قالوا : أراد رسول الله صلى الله عليه و سلم أن يدنو إلى أدانى الشام وقيل له : إن ذلك مما يفزع قيصر و ذكر له أن بدومة الجندل جمعا كبيرا و أنهم يظلمون من مر بهم و كان لها سوق عظيم و هم يريدون أن يدنو من المدينة
فندب رسول الله صلى الله عليه و سلم الناس فخرج في ألف من المسلمين فكان يسير الليل و يكمن النهار و معه دليل له من بني عذرة يقال له مذكور هاد خريت
فلما دنا من دومة الجندل أخبره دليله بسوائم بني تميم فسار حتى هجم على ماشيتهم و رعائهم فأصاب من أصاب و هرب من هرب في كل وجه و جاء الخبر أهل دومة الجندل فتفرقوا فنزل رسول الله صلى الله عليه و سلم بساحتهم فلم يجد فيها أحد فأقام بها أياما و بث السرايا ثم رجعوا و أخذ محمد بن سلمة رجلا منهم فأتى به رسول الله صلى الله عليه و سلم فسأله عن أصحابه فقال : هربوا أمس فعرض عليه رسول الله صلى الله عليه و سلم الإسلام فأسلم و رجع رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى المدينة
قال الواقدي : و كان خروجه عليه السلام إلى دومة الجندل في ربيع الآخر سنة خمس
قال : و فيه توفيت أم سعد بن عبادة و ابنها مع رسول الله صلى الله عليه و سلم في هذه الغزوة
و قد قال أبو عيسى الترمذي في جامعه : حدثنا محمد بن بشار حدثنا يحيى بن سعيد عن سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن سعيد بن المسيب أن أم سعد ماتت و النبي صلى الله عليه و سلم غائب فلما قدم صلى عليها و قد مضى لذلك شهر
و هذا مرسل جيد و هو يقتضي أنه عليه السلام غاب في هذه الغزوة شهرا فما فوقه على ما ذكره الواقدي رحمه الله (3/177)
و قد أنزل الله تعالى فيها صدر سورة الأحزاب فقال تعالى : { يا أيها الذين أمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ جاءتكم جنود فأرسلنا عليهم ريحا و جنودا لم تروها و كان الله بما تعملون بصيرا إذ جاءوكم من فوقكم و من أسفل منكم و إذ زاغت الأبصار و بلغت القلوب الحناجر و تظنون بالله الظنونا هنالك ابتلي المؤمنون و زلزلوا زلزالا شديدا و إذ يقول المنافقون و الذين في قلوبهم مرض ما وعدنا الله و رسوله إلا غرورا و إذ قالت طائفة منهم يا أهل يثرب لا مقام لكم فارجعوا و يستأذن فريق منهم النبي يقولون إن بيوتنا عورة و ما هي بعورة إن يريدون إلا فرارا و لو دخلت عليهم من أقطارهم ثم سئلوا الفتنة لأتوها وما تلبثوا بها إلا يسيرا و لقد كانوا عاهدوا الله من قبل لا يولون الأدبار و كان عهد الله مسئولا قل لن ينفعكم الفرار إن فررتم من الموت أو القتل و إذا لا تمتعون إلا قليلا قل من ذا الذي يعصمكم من الله إن أراد بكم سوءا أو أراد بكم رحمة و لا يجدون لهم من دون الله وليا و لا نصيرا قد يعلم الله المعوقين منكم و القائلين لإخوانهم هلم إلينا و لا يأتون البأس إلا قليلا أشحة عليكم فإذا جاء الخوف رأيتهم ينظرون إليك تدور أعينهم كالذي يغشى عليه من الموت فإذا ذهب الخوف سلقوكم بألسنة حداد أشحة على الخير أولئك لم يؤمنوا فأحبط الله أعمالهم و كان ذلك على الله يسيرا يحسبون الأحزاب لم يذهبوا و إن يأت الأحزاب يودوا لو أنهم بادون في الأعراب يسألون عن أنبائكم و لو كانوا فيكم ما قاتلوا إلا قليلا لقد لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله و اليوم الآخر و ذكر الله كثيرا و لما رأى المؤمنين الأحزاب قالوا هذا ما وعدنا الله و رسوله و صدق الله و رسوله و ما زادهم إلا إيمانا و تسليما من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر و ما بدلوا تبديلا ليجزي الله الصادقين بصدقهم و يعذب المنافقين إن شاء أو يتوب عليهم إن الله كان غفورا رحيما ورد الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيرا و كفى الله المؤمنين القتال و كان الله قويا عزيزا و أنزل الذين ظاهروهم من أهل الكتاب من صياصيهم و قذف في قلوبهم الرعب فريقا تقتلون و تأسرون فريقا و أورثكم أرضهم و ديارهم و أموالهم و أرضا لم تطأوها و كان الله على كل شىء قديرا }
و قد تكلمنا على كل من هذه الآيات الكريمات في التفسير و لله الحمد و المنة و لنذكر هاهنا ما يتعلق بالقصة إن شاء الله و به الثقة و عليه التكلان (3/178)
و قد كانت غزوة الخندق في شوال سنة خمس من الهجرة نص على ذلك ابن إسحاق : و عروة بن الزبير و قتادة و البيهقي : و غير واحد من العلماء سلفا و خلفا
و قد روى موسى ابن عقبة : عن الزهري أنه قال : ثم كانت وقعة الأحزاب في شوال سنة أربع
و كذلك قال الإمام مالك بن أنس فيما رواه أحمد بن حنبل عن موسى بن داود عنه
قال البيهقي : و لا اختلاف بينهم في الحقيقة لأن مرادهم أن ذلك بعد مضي أربع سنين و قبل استكمال خمس
و لا شك أن المشركين لما انصرفوا عن أحد واعدوا المسلمين إلى بدر العام القابل فذهب النبي صلى الله عليه و سلم و أصحابه كما تقدم في شعبان سنة أربع و رجع أبو سفيان بقريش لجدب ذلك العام فلم يكونوا ليأتوا إلى المدينة بعد شهرين فتعين أن الخندق في شوال سنة خمس و الله أعلم
و قد صرح الزهري بأن الخندق كانت بعد أحد بسنتين و لا خلاف أن أحد في شوال سنة ثلاث إلا على قول من ذهب إلى أن أول التاريخ من محرم السنة الثانية لسنة الهجرة و لم يعدوا الشهور الباقية من سنة الهجرة من ربيع الأول إلى آخرها كما حكاه البيهقي و به قال يعقوب بن سفيان الفسوي و قد صرح بأن بدرا في الأولى و أحدا في سنة ثنتين و بدر الموعد في شعبان سنة ثلاث و الخندق في شوال سنة أربع
و هذا مخالف لقول الجمهور فإن المشهور أن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب جعل أول التاريخ من محرم سنة الهجرة و عن مالك من ربيع الأول سنة الهجرة فصارت الأقوال ثلاثة و الله أعلم
و الصحيح قول الجمهور : أن أحدا في شوال سنة ثلاث و أن الخندق في شوال سنة خمس من الهجرة و الله أعلم فأما الحديث المتفق عليه في الصحيحين [ من طريق عبيد الله عن نافع عن ابن عمر أنه قال : عرضت على رسول الله صلى الله عليه و سلم يوم أحد و أنا ابن أربع عشرة سنة فلم يجزني و عرضت عليه يوم الخندق و أنا ابن خمس عشرة سنة فأجازني ] فقد أجاب عنها جماعة من العلماء منهم البيهقي بأنه عرض يوم أحد في أول الرابعة عشرة و يوم الأحزاب في أواخر الخامسة عشرة
قلت : و يحتمل أنه أراد أنه لما عرض عليه في يوم الأحزاب كان قد استكمل خمس عشرة سنة التي يجاز لمثلها الغلمان فلا يبقى على هذا زيادة عليها
و لهذا لما بلغ نافع بن عمر بن عبد العزيز هذا الحديث قال : إن هذا الفرق بين الصغير و الكبير ثم كتب به إلى الآفاق و اعتمد على ذلك جمهور العلماء و الله أعلم (3/180)
و هذا سياق القصة مما ذكره ابن إسحاق : و غيره
قال ابن إسحاق : ثم كانت غزوة الخندق في شوال سنة خمس
فحدثني يزيد بن رومان عن عروة و من لا أتهم عن عبيد الله بن كعب بن مالك و محمد بن كعب القزظي و الزهري و عاصم بن عمر بن قتادة و عبد الله بن أبي بكر و غيرهم من علمائنا و بعضهم يحدث ما لا يحدث بعض قالوا :
إنه كان من حديث الخندق : أن نفرا من اليهود منهم سلام بن أبي الحقيق النضري و حيي بن أخطب النضري و كنانة بن الربيع بن أبي الحقيق و هوذة بن قيس الوائلي و أبو عمار الوائلي في نفر من بني النضير و نفر من بني وائل و هم الذين حزبوا الأحزاب على رسول الله صلى الله عليه و سلم خرجوا حتى قدموا على قريش بمكة فدعوهم إلى حرب رسول الله صلى الله عليه و سلم و قالوا : إنا سنكون معكم عليه حتى نستأصله
فقالت لهم قريش : يا معشر يهود إنكم أهل الكتاب الأول و العلم بما أصبحنا نختلف فيه نحن و محمد أفديننا خير أم دينه ؟
قالوا : بل دينكم خير من دينه و أنتم أولى بالحق منه
فهم الذين أنزل الله فيهم : { ألم ترى إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يؤمنون بالجبت و الطاغوت و يقولون للذين كفروا هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلا أولئك الذين لعنهم الله و من يلعن الله فلن تجد له نصيرا } الآيات
فلما قالوا ذلك لقريش سرهم و نشطوا لما دعوهم إليه من حرب رسول الله صلى الله عليه و سلم فاجتمعوا لذلك و اتعدوا له
ثم خرج أولئك النفر من يهود حتى جاءوا غطفان من قيس عيلان فدعوهم إلى حرب النبي صلى الله عليه و سلم و أخبروهم أنهم يكونون معهم عليه و أن قريشا قد تابعوهم على ذلك و اجتمعوا معهم فيه
فخرجت قريش و قائدها أبو سفيان و خرجت غطفان و قائدها عيينة بن حصن بن حذيفة بن بدر في بني فزارة و الحارث بن عوف بن أبي حارثة المري في بني مرة و مسعر ابن رخيلة بن نويرة بن طريف بن سحمة بن عبد الله بن هلال بن خلاوة بن أشجع بن ريث بن غطفان فيمن تابعه من قومه من أشجع
فلما سمع بهم رسول الله صلى الله عليه و سلم و ما أجمعوا له من الأمر ضرب الخندق على المدينة
قال ابن هشام : يقال إن الذي أشار به سلمان
قال الطبري و السهيلي : أول من حفر الخنادق : منوشهر بن أيرج بن أفريدون و كان في زمن موسى عليه السلام
قال ابن إسحاق : فعمل فيه رسول الله صلى الله عليه و سلم ترغيبا للمسلمين في الأجر و عمل معه المسلمون و تخلف طائفة من المنافقين يعتذرون بالضعف و منهم من ينسل خفية بغير إذنه و لا علمه عليه الصلاة و السلام
و قد أنزل الله تعالى في ذلك قوله تعالى { إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله و رسوله و إذا كانوا معه على أمر جامع لم يذهبوا حتى يستأذنوه إن الذين يستأذنونك أولئك الذين يؤمنون بالله و رسوله فإذا استأذنوك لبعض شأنهم فأذن لمن شئت منهم و استغفر لهم الله إن الله غفور رحيم لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضا قد يعلم الله الذين يتسللون منكم لواذا فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم ألا إن لله ما في السموات و الأرض قد يعلم ما أنتم عليه و يوم يرجعون إليه فينبئهم بما عملوا و الله بكل شيء عليم }
قال ابن إسحاق : فعمل المسلمون فيه حتى أحكموه و ارتجزوا فيه برجل من المسلمين يقال له جعيل سماه رسول الله صلى الله عليه و سلم عمرا فقالوا فيما يقولون :
( سماه من بعد جعيل عمرا ... و كان للبائس يوما ظهرا )
و كانوا إذا قالوا : عمرا قال معهم رسول الله صلى الله عليه و سلم : عمرا و إذا قالوا ظهرا قال لهم : ظهرا
و قد قال البخاري : [ حدثنا عبد الله بن محمد حدثنا معاوية بن عمرو حدثنا أبو إسحاق عن حميد سمعت أنسا قال : خرج رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى الخندق فإذا المهاجرون و الأنصار يحفرون في غداة باردة و لم يكن لهم عبيد يعملون ذلك لهم فلما رأى ما بهم من النصب و الجوع قال : اللهم إن العيش عيش الآخرة فاغفر للأنصار و المهاجرة ] فقالوا مجيبين له :
( نحن الذين بايعوا محمدا ... على الجهاد ما بقينا أبدا )
و في الصحيحين من حديث شعبة عن معاوية بن قرة عن أنس نحوه
و قد رواه مسلم من حديث حماد بن سلمة عن ثابت و حميد عن أنس بنحوه
و قال البخاري : [ حدثنا أبو معمر حدثنا عبد الوارث عن عبد العزيز عن أنس قال : جعل المهاجرون و الأنصار يحفرون الخندق حول المدينة و ينقلون التراب على متونهم و يقولون :
( نحن الذين بايعوا محمدا ... على الإسلام ما بقينا أبدا )
قال : يقول النبي صلى الله عليه و سلم مجيبا لهم : اللهم إن لا خير إلا خير الآخرة فبارك في الأنصار و المهاجرة ]
قال : يؤتون بملء كفي من الشعير فيصنع لهم بإهالة سنخة توضع بين يدي القوم و القوم جياع و هي بشعة في الحلق و لها ريح منتن !
و قال البخاري : [ حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا عبد العزيز بن أبي حازم عن سهل بن سعد قال : كنا مع رسول الله صلى الله عليه و سلم في الخندق و هم يحفرون و نحن ننقل التراب على أكتادنا فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة فاغفر للمهاجرين و الأنصار ]
و رواه مسلم عن القعنبي عن عبد العزيز به
و قال البخاري : [ حدثنا مسلم بن إبراهيم حدثنا شعبة عن أبي إسحاق عن البراء بن عازب قال : كان رسول الله صلى الله عليه و سلم ينقل التراب يوم الخندق حتى أغمر بطنه أو اغبر بطنه يقول :
( و الله لولا الله ما اهتدينا ... و لا تصدقنا و لا صلينا )
( فأنزلن سكينة علينا ... و ثبت الأقدام إن لاقينا )
( إن الألى قد بغوا علينا ... إذا أرادوا فتنة أبينا )
و رفع بها صوته : أبينا أبينا ]
و رواه مسلم من حديث شعبة به
ثم قال البخاري : [ حدثنا أحمد بن عثمان حدثنا شريح بن مسلمة حدثني إبراهيم ابن يوسف حدثني أبي عن أبي إسحاق عن البراء يحدث قال : لما كان يوم الأحزاب و خندق رسول الله صلى الله عليه و سلم رأيته ينقل من تراب الخندق حتى وارى عني التراب جلدة بطنه و كان كثير الشعر فسمعته يرتجز بكلمات عبد الله بن رواحة و هو ينقل من التراب يقول :
( اللهم لولا أنت ما اهتدينا ... و لا تصدقنا و لا صلينا )
( فأنزلن سكينة علينا ... و ثبت الأقدام إن لاقينا )
( إن الألى قد بغوا علينا ... و إن أرادوا فتنة أبينا )
ثم يمد صوته بآخرها ]
و قال البيهقي في الدلائل : [ أخبرنا علي بن أحمد بن عبدان أخبرنا أحمد بن عبيد الصفار حدثنا إسماعيل بن الفضل البجلي حدثنا إبراهيم بن يوسف البلخي حدثنا المسيب بن شريك عن زياد بن أبي زياد عن أبي عثمان عن سلمان أن رسول الله صلى الله عليه و سلم ضرب في الخندق و قال :
( باسم الله و به هدينا ... و لو عبدنا غيره شقينا )
( يا حبذا ربا و حب دينا ) ]
و هذا غريب من هذا الوجه
و قال الإمام أحمد : [ حدثنا سليمان حدثنا شعبة عن معاوية بن قرة عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال و هم يحفرون الخندق : اللهم لا خير إلا خير الآخرة فأصلح الأنصار و المهاجرة ]
و أخرجاه في الصحيحين من حديث غندر عن شعبة (3/181)
قال ابن إسحاق : و قد كان في حفر الخندق أحاديث بلغتني من الله فيها عبرة في تصديق رسول الله صلى الله عليه و سلم و تحقيق نبوته عاين ذلك المسلمون
فمن ذلك : أن جابر بن عبد الله كان يحدث أنه اشتدت عليهم في بعض الخندق كدية فشكوها إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فدعا بإناء من ماء فتفل فيه ثم دعا بما شاء الله أن يدعو به ثم نضح الماء على تلك الكدية فيقول من حضرها : فوالذي بعثه بالحق لانهالت حتى عادت كالكثيب ما ترد فأسا و لا مسحاة
هكذا ذكره ابن إسحاق منقطعا عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه
و قد قال البخاري رحمه الله : [ حدثنا خلاد بن يحيى حدثنا عبد الواحد بن أيمن عن أبيه قال : أتيت جابرا فقال : إنا يوم الخندق نحفر فعرضت كدية شديدة فجاءوا النبي صلى الله عليه و سلم فقالوا : هذه كدية عرضت في الخندق فقال : أنا نازل
ثم قام و بطنه معصوب بحجر و لبثنا ثلاثة أيام لا نذوق ذواقا فأخذ النبي صلى الله عليه و سلم المعول فضرب فعاد كثيبا أهيل أو أهيم
فقلت : يا رسول الله إذن لي إلى البيت فقلت لامرأتي : رأيت بالنبي صلى الله عليه و سلم شيئا ما كان في ذلك صبر فعندك شيء ؟ قالت : عندي شعير و عناق فذبحت العناق و طحنت الشعير حتى جعلنا اللحم في البرمة ثم جئت النبي صلى الله عليه و سلم و العجين قد انكسر و البرمة بين الأثافى قد كادت أن تنضج فقلت : طعيم لي فقم أنت يا رسول الله و رجل أو رجلان قال كم هو ؟ فذكرت له فقال : كثير طيب قل لها لا تنزع البرمة و لا الخبز من التنور حتى آتي فقال : قوموا فقام المهاجرون و الأنصار
فلما دخل على امرأته قال : ويحك ! جاء النبي صلى الله عليه و سلم بالمهاجرين و الأنصار و من معهم قالت : هل سألك ؟ قلت : نعم فقال : ادخلوا و لا تضاغطوا فجعل يكسر الخبز و يجعل عليه اللحم و يخمر البرمة و التنور إذا أخذ منه و يقرب إلى أصحابه ثم ينزع فلم يزل يكسر الخبز و يغرف حتى شبعوا و بقي بقية قال : كلي هذا و أهدي فإن الناس أصابتهم مجاعة ]
تفرد به البخاري
و قد رواه الإمام أحمد عن وكيع عن عبد الواحد بن أيمن عن أبيه أيمن الحبشي مولى بني مخزوم عن جابر بقصة الكدية و ربط الحجر على بطنه الكريم
و رواه البيهقي : في الدلائل [ عن الحاكم عن الأصم عن أحمد بن عبد الجبار عن يونس بن بكير عن عبد الواحد بن أيمن عن أبيه عن جابر بقصة الكدية و الطعام و طوله أتم من رواية البخاري قال فيه : لما علم النبي صلى الله عليه و سلم بمقدار الطعام قال للمسلمين جميعا : قوموا إلى جابر فقاموا قال : فلقيت من الأحياء ما لا يعلمه إلا الله و قلت : جاءنا بخلق على صاع من شعير و عناق و دخلت على امرأتي أقول : افتضحت جاءك رسول الله صلى الله عليه و سلم بالخندق أجمعين فقالت : هل كان سألك كم طعامك ؟ قلت : نعم فقالت : الله و رسوله أعلم
قال : فكشفت عني غما شديدا قال : فدخل رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : خدمي و دعيني من اللحم و جعل رسول الله صلى الله عليه و سلم يثرد و يغرف اللحم و يخمر هذا و يخمر هذا فما زال يقرب إلى الناس حتى شبعوا أجمعين و يعود التنور و القدر أملأ ما كانا !
ثم قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : كلي و أهدي فلم تزل تأكل و تهدي يومها ]
و قد رواه كذلك أبو بكر بن أبي شيبة عن عبد الرحمن بن محمد المحاربي عن عبد الواحد بن أيمن عن أبيه عن جابر به و أبسط أيضا و قال في آخره : و أخبرني أنهم كانوا ثمانمائة أو قال : ثلاثمائة
و قال يونس بن بكير عن هشام بن سعد عن أبي الزبير عن جابر فذكر القصة بطولها في الطعام فقط و قال : و كانوا ثلاثمائة
ثم قال البخاري : [ حدثنا عمرو بن علي حدثنا أبو عاصم حدثنا حنظلة بن أبي سفيان عن أبي الزبير حدثنا ابن ميناء سمعت جابر بن عبد الله قال : لما حفر الخندق رأيت من النبي صلى الله عليه و سلم خمصا فانكفأت إلى امرأتي فقلت : هل عندك شيء فإني رأيت برسول الله صلى الله عليه و سلم خمصا شديدا ؟ فأخرجت لي جرابا فيه صاع من شعير و لنا بهيمة داجن فذبحتها فطحنت ففرغت إلى فراغي و قطعتها في برمتها ثم وليت إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فقالت : لا تفضحني برسول الله صلى الله عليه و سلم و بمن معه فجئته فساررته فقلت : يا رسول الله ذبحت بهيمة لنا و طحنت صاعا من شعير كان عندنا فتعال أنت و نفر معك فصاح رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : يا أهل الخندق إن جابرا قد صنع سؤرا فحيهلا بكم فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : لا تنزلن برمتكم و لا تخبزن عجينكم حتى أجيء
فجئت و جاء رسول الله صلى الله عليه و سلم يقدم الناس حتى جئت امرأتي فقالت : بك و بك فقلت : قد فعلت الذي قلت فأخرجت لنا عجينا فبسق فيه و بارك ثم عمد إلى برمتنا فبسق و بارك ثم قال : ادع خبازة فلتخبز معك و اقدحي من برمتك و لا تنزلوها
و هم ألف فأقسم بالله لأكلوا حتى تركوه و انحرفوا و إن برمتنا لتغط كما هي و إن عجيننا كما هو ]
و رواه مسلم عن حجاج بن الشاعر عن أبي عاصم به نحوه
و قد روى محمد ابن إسحاق هذا الحديث و في سياقه غرابة من بعض الوجوه فقال : [ حدثني سعيد بن ميناء عن جابر بن عبد الله قال : عملنا مع رسول الله صلى الله عليه و سلم في الخندق و كانت عندي شويهة غير جد سمينة قال : فقلت : و الله لو صنعناها لرسول الله صلى الله عليه و سلم
قال : و أمرت امرأتي فطحنت لنا شيئا من شعير فصنعت لنا منه خبزا و ذبحت تلك الشاة فشويناها لرسول الله صلى الله عليه و سلم
فلما أمسينا و أراد رسول الله صلى الله عليه و سلم الإنصراف عن الخندق قال : و كنا نعمل فيه نهارا فإذا أمسينا رجعنا إلى أهالينا فقلت : يا رسول الله أني قد صنعت لك شويهة كانت عندنا و صنعنا معها شيئا من خبز هذا الشعير فأنا أحب أن تنصرف معي إلى منزلي قال : و إنما أريد أن ينصرف معي رسول الله صلى الله عليه و سلم وحده
قال : فلما أن قلت ذلك قال : نعم ثم أمر صارخا فصرخ : أن انصرفوا مع رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى بيت جابر بن عبد الله قال : قلت : إنا لله و إنا إليه راجعون !
قال : فأقبل رسول الله صلى الله عليه و سلم و أقبل الناس معه فجلس و أخرجناها إليه قال : فبرك و سمى الله تعالى ثم أكل و تواردها الناس كلما فرغ قوم قاموا و جاء ناس حتى صدر أهل الخندق عنها ]
و العجب أن الإمام أحمد إنما رواه من طريق سعيد بن ميناء عن يعقوب بن إبراهيم بن سعد عن أبيه عن ابن إسحاق عنه عن جابر مثله سواء
قال محمد ابن إسحاق : [ و حدثني سعيد بن ميناء أنه قد حدث أن ابنة لبشير بن سعد أخت النعمان بن بشير قالت : دعتني أمي عمرة بنت رواحة فأعطتني حفنة من تمر في ثوبي ثم قالت : أي بنية اذهبي إلى أبيك و خالك عبد الله بن رواحة بغذائهما قالت فأخذتها و انطلقت بها فمررت برسول الله صلى الله عليه و سلم و أنا ألتمس أبي و خالي فقال : تعالي يا بنية ما هذا معك ؟ قالت : قلت : يا رسول الله هذا تمر بعثتني به أمي إلى أبي بشير بن سعد و خالي عبد الله بن رواحة يتغذيانه فقال : هاتيه قالت : فصببته في كفي رسول الله صلى الله عليه و سلم فما ملأتهما
ثم أمر بثوب فبسط له ثم دحا بالتمر عليه فتبدد فوق الثوب ثم قال لإنسان عنده : اصرخ في أهل الخندق أن هلم إلى الغداء
فاجتمع أهل الخندق عليه فجعلوا يأكلون منه و جعل يزيد حتى صدر أهل الخندق عنه و إنه ليسقط من أطراف الثوب ]
هكذا رواه ابن إسحاق و فيه انقطاع و هكذا رواه الحافظ البيهقي من طريقه و لم يزد
قال ابن إسحاق : [ و حدثت عن سلمان الفارسي أنه قال : ضربت في ناحية من الخندق فغلظت علي صخرة و رسول الله صلى الله عليه و سلم قريب مني فلما رآني أضرب و رأى شدة المكان علي نزل فأخذ المعول من يدي فضرب به ضربة لمعت تحت المعول برقة ثم ضرب به ضربة أخرى فلمعت تحته برقة أخرى قال : ثم ضرب به الثالثة فلمعت برقة أخرى قال : قلت : بأبي أنت و أمي يا رسول الله ! ما هذا الذي رأيت لمع تحت المعول و أنت تضرب ؟ قال : أوقد رأيت ذلك يا سلمان ؟ قال : قلت : نعم قال : أما الأولى فإن الله فتح علي باب اليمن و أما الثانية فإن الله فتح علي باب الشام و المغرب و أما الثالثة فإن الله فتح علي بها المشرق ]
قال البيهقي : و هذا الذي ذكره ابن إسحاق قد ذكره موسى ابن عقبة : في مغازيه و ذكره أبو الأسود عن عروة
ثم روى البيهقي [ من طريق محمد بن يونس الكديمي و في حديثه نظر لكن رواه ابن جرير في تاريخه عن محمد بن بشار و بندار كلاهما عن محمد بن خالد بن عثمة عن كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف المزني عن أبيه عن جده فذكر حديثا فيه أن رسول الله صلى الله عليه و سلم خط الخندق بين كل عشرة أربعين ذراعا قال : و احتق المهاجرون و الأنصار في سلمان فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : سلمان منا أهل البيت ]
قال عمرو بن عوف : [ فكنت أنا و سلمان و حذيفة و النعمان بن مقرن و ستة من الأنصار في أربعين ذراعا فحفرنا حتى إذا بلغنا الندى ظهرت لنا صخرة بيضاء مروة فكسرت حديدنا و شقت علينا فذهب سلمان إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم و هو في قبة تركية فأخبره عنها فجاء فأخذ المعول من سلمان فضرب الصخرة ضربة صدعها و برقت منها برقة أضاءت ما بين لابتيها ـ يعني المدينة ـ حتى كأنها مصباح في جوف ليل مظلم فكبر رسول الله صلى الله عليه و سلم تكبير فتح و كبر المسلمون ثم ضربها الثانية فكذلك ثم الثالثة فكذلك و ذكر ذلك سلمان و المسلمون لرسول الله صلى الله عليه و سلم و سألوه عن ذلك النور فقال : لقد أضاء لي من الأولى قصور الحيرة و مدائن كسرى كأنها أنياب الكلاب فأخبرني جبريل أن أمتي ظاهرة عليها و من الثانية أضاءت القصور الحمر من أرض الروم كأنها أنياب الكلاب و أخبرني جبريل أن أمتي ظاهرة عليها و من الثالثة أضاءت قصور صنعاء كأنها أنياب الكلاب و أخبرني جبريل أن أمتي ظاهرة عليها فأبشروا و استبشر المسلمون و قالوا : الحمد لله موعود صادق ]
قال : و لما طلعت الأحزاب قال المؤمنون : هذا ما وعدنا الله و رسوله و صدق الله و رسوله و ما زادهم إلا إيمانا و تسليما و قال المنافقون : يخبركم أنه يبصر من يثرب قصور الحيرة و مدائن كسرى و أنها تفتح لكم و أنتم تحفرون الخندق لا تستطيعون أن تبرزوا !
فنزل فيهم { و إذ يقول المنافقون و الذين في قلوبهم مرض ما وعدنا الله و رسوله إلا غرورا }
و هذا حديث غريب
و قال الحافظ أبو القاسم الطبراني : [ حدثنا هارون بن ملول حدثنا أبو عبد الرحمن حدثنا عبد الرحمن بن زياد عن عبد الله بن يزيد عن عبد الله بن عمرو قال : لما أمر رسول الله صلى الله عليه و سلم بالخندق فخندق على المدينة قالوا : يا رسول الله إنا وجدنا صفاة لا نستطيع حفرها فقام النبي صلى الله عليه و سلم و قمنا معه فلما أتاها أخذ المعول فضرب به ضربة و كبر فسمعت هدة لم أسمع مثلها قط فقال فتحت فارس ثم ضرب أخرى فكبر فسمعت هدة لم أسمع مثلها قط فقال فتحت الروم ثم ضرب أخرى فكبر فسمعت هدة لم أسمع قبلها قط فقال جاء الله بحمير أعوانا و أنصارا ]
و هذا أيضا غريب من هذا الوجه و عبد الرحمن بن زياد بن أنعم الإفريقي فيه ضعف فالله أعلم
و قال الطبراني أيضا : [ حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل حدثني سعيد بن محمد الجرمي حدثنا أبو نميلة حدثنا نعيم بن سعيد الغري أن عكرمة حدث عن ابن عباس قال : احتفر رسول الله صلى الله عليه و سلم الخندق و أصحابه قد شدوا الحجارة على بطونهم من الجوع فلما رأى ذلك رسول الله صلى الله عليه و سلم قال هل دللتم على رجل يطعمنا أكلة ؟ قال رجل : نعم قال : أما لا فتقدم فدلنا عليه فانطلقوا إلى بيت الرجل فإذا هو في الخندق يعالج نصيبه منه فأرسلت امرأته أن جيء فإن رسول الله صلى الله عليه و سلم قد أتانا فجاء الرجل يسعى و قال : بأبي أنت و أمي و له معزة و معها جديها فوثب إليها فقال النبي صلى الله عليه و سلم : الجدي من ورائها فذبح الجدي و عمدت المرأة إلى طحينة لها فعجنتها و خبزت
فأدركت القدر فثردت قصعتها فقربتها إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم و أصحابه فوضع رسول الله صلى الله عليه و سلم اصبعه فيها و قال : بسم الله اللهم بارك فيها اطعموا فأكلوا منها حتى صدروا و لم يأكلوا منها إلا ثلثها و بقي ثلثاها فسرح أولئك العشرة الذين كانوا معه أن اذهبوا و سرحوا إلينا بعدتكم فذهبوا فجاء أولئك العشرة فأكلوا منها حتى شبعوا ثم قام و دعا لربة البيت و سمت عليها و على أهل بيتها ثم مشوا إلى الخندق فقال : اذهبوا بنا إلى سلمان و إذا صخرة بين يديه قد ضعف عنها فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : دعوني فأكون أول من ضربها فقال : بسم الله فضربها فوقعت فلقة ثلثها فقال : الله أكبر قصور الشام و رب الكعبة ثم ضرب أخرى فوقعت فلقة فقال : الله أكبر قصور فارس و رب الكعبة ]
فقال عندها المنافقون : نحن نخندق على أنفسنا و هو يعدنا قصور فارس و الروم
ثم قال الحافظ البيهقي : [ أخبرنا علي بن أحمد بن عبدان أخبرنا أحمد بن عبيد الصفار حدثنا محمد بن غالب بن حرب حدثنا هوذة حدثنا عوف عن ميمون بن أستاذ الزهري حدثني البراء بن عازب الأنصاري قال : لما كان حين أمرنا رسول الله صلى الله عليه و سلم بحفر الخندق عرض لنا في بعض الخندق صخرة عظيمة شديدة لا تأخذ فيها المعاول فشكوا ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فلما رآها أخذ المعول و قال : بسم الله و ضرب ضربة فكسر ثلثها و قال : الله أكبر أعطيت مفاتيح الشام و الله إني لأبصر قصورها الحمر إن شاء الله ثم ضرب الثانية فقطع ثلثا آخر فقال : الله أكبر أعطيت مفاتيح فارس و الله إني لأبصر قصر المدائن الأبيض ثم ضرب الثالثة فقال : بسم الله فقطع بقية الحجر فقال : الله أكبر أعطيت مفاتيح اليمن و الله إني لأبصر أبواب صنعاء من مكاني الساعة ]
و هذا حديث غريب أيضا تفرد به ميمون بن أستاذ هذا و هو بصري روى عن البراء و عبد الله بن عمرو و عنه حميد الطويل و الجريري و عوف الأعرابي قال أبو حاتم عن اسحاق بن منصور عن بن معين : كان ثقة و قال علي بن المديني : كان يحيى بن سعيد القطان لا يحدث عنه
و قال النسائي : [ حدثنا عيسى بن يونس حدثنا ضمرة عن أبي زرعة السيباني عن أبي سكينة رجل من البحرين عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم قال : لما أمر رسول الله صلى الله عليه و سلم بحفر الخندق عرضت لهم صخرة حالت بينهم و بين الحفر فقام النبي صلى الله عليه و سلم و أخذ المعول و وضع رداءه ناحية الخندق و قال : و تمت كلمة ربك صدقا و عدلا لا مبدل لكلماته وهو السميع العليم فندر ثلث الحجر و سلمان الفارسي قائم ينظر فبرق مع ضربة رسول الله صلى الله عليه و سلم برقة ثم ضرب الثانية و قال : و تمت كلمة ربك صدقا و عدلا لا مبدل لكلماته و هو السميع العليم فندر الثلث الآخر و برقت برقة فرآها سلمان ثم ضرب الثالثة و قال : و تمت كلمة ربك صدقا و عدلا لا مبدل لكلماته و هو السميع العليم فندر الثلث الباقي
و خرج رسول الله صلى الله عليه و سلم فأخذ رداءه و جلس فقال سلمان : يا رسول الله رأيتك حين ضربت لا تضرب ضربة إلا كانت معها برقة قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : يا سلمان رأيت ذلك ؟ قال : إي و الذي بعثك بالحق يا رسول الله
قال : فإني حين ضربت الضربة الأولى رفعت لي مدائن كسرى و ما حولها و مدائن كثيرة حتى رأيتها بعيني فقال له من حضره من أصحابه : يا رسول الله ادع الله أن يفتحها علينا و يغنمنا ذراريهم و نخرب بأيدينا بلادهم فدعا بذلك
قال : ثم ضربت الضربة الثانية فرفعت لي مدائن قيصر و ما حولها حتى رأيتها بعيني قالوا : يا رسول الله ادع الله أن يفتحها علينا و يغنمنا ذراريهم و نخرب بأيدينا بلادهم فدعا
ثم قال : ثم ضربت الضربة الثالثة فرفعت لي مدائن الحبشة و ما حولها من القرى حتى رأيتها بعيني ثم قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : دعوا الحبشة ما ودعوكم و اتركوا الترك ما تركوكم ]
هكذا رواه النسائي مطولا و إنما روى منه أبو داود : [ دعوا الحبشة ما ودعوكم و اتركوا الترك ما تركوكم ] عن عيسى بن محمد الرملي عن ضمرة بن ربيعة عن أبي زرعة يحيى بن أبي عمرو السيباني به
ثم قال ابن إسحاق : و حدثني من لا أتهم عن أبي هريرة أنه كان يقول حين فتحت هذه الأمصار في زمان عمر و زمان عثمان و ما بعده : افتتحوا ما بدا لكم فوالذي نفس أبي هريرة بيده ما افتتحتم من مدينة و لا تفتحونها إلى يوم القيامة إلا و قد أعطى الله محمدا صلى الله عليه و سلم مفاتيحها قبل ذلك
و هذا من هذا الوجه منقطع أيضا و قد وصل من غير وجه و لله الحمد
فقال الإمام أحمد : [ حدثنا حجاج حدثنا ليث حدثني عقيل بن خالد عن بن شهاب عن سعيد بن المسيب أن أبا هريرة قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم : بعثت بجوامع الكلم و نصرت بالرعب و بينا أنا نائم أتيت بمفاتيح خزائن الأرض فوضعت في يدي ]
وقد رواه البخاري منفردا به عن يحيى بن بكير و سعد بن عفير كلاهما عن الليث به و عنده قال أبو هريرة : فذهب رسول الله صلى الله عليه و سلم و أنتم تنتثلونها
و قال الإمام أحمد : [ حدثنا يزيد حدثنا محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : نصرت بالرعب و أوتيت جوامع الكلم و جعلت لي الأرض مسجدا و طهورا و بينا أنا نائم أتيت بمفاتيح خزائن فتلت في يدي ]
و هذا إسناد جيد قوي على شرط مسلم و لم يخرجوه و في الصحيحين : [ إذا هلك قيصر فلا قيصر بعده و إذا هلك كسرى فلا كسرى بعده و الذي نفسي بيده لتنفقن كنوزهما في سبيل الله ]
و في الحديث الصحيح : [ إن الله زوى لي الأرض مشارقها و مغاربها و سيبلغ ملك أمتي ما زوى لي منها ] (3/186)
قال ابن إسحاق : و لما فرغ رسول الله صلى الله عليه و سلم من الخندق أقبلت قريش حتى نزلت بمجتمع الأسيال من رومة بين الجرف و زغابة في عشرة آلاف من أحابيشهم و من تبعهم من بني كنانة و أهل تهامة و أقبلت غطفان و من تبعهم من أهل نجد حتى نزلوا بذنب نقمى إلى جانب أحد
و خرج رسول الله صلى الله عليه و سلم حتى جعلوا ظهورهم إلى سلع في ثلاثة آلاف من المسلمين فضرب هنالك عسكره و الخندق بينه و بين القوم و أمر بالذراري و النساء فجعلوا فوق الآطام
قال ابن هشام : و استعمل على المدينة ابن أم مكتوم
قلت : و هذا معنى قوله تعالى { إذ جاؤكم من فوقكم و من أسفل منكم و إذ زاغت الأبصار و بلغت القلوب الحناجر و تظنون بالله الظنونا }
قال البخاري : حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا عبيد عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة : { إذ جاؤكم من فوقكم و من أسفل منكم و إذ زاغت الأبصار }
قالت : ذلك يوم الخندق (3/197)
قال موسى ابن عقبة : و لما نزل الأحزاب حول المدينة أغلق بنو قريظة حصنهم دونهم
قال ابن إسحاق : و خرج حيي بن أخطب النضري حتى أتى كعب بن أسد القرظي صاحب عقدهم و عهدم
فلما سمع به كعب أغلق باب حصنه دون حيي فاستأذن عليه فأبى أن يفتح له فناداه : و يحك يا كعب افتح لي قال : و يحك يا حيي إنك امرؤ مشئوم و إني قد عاهدت محمدا و لست بناقض ما بيني و بينه و لم أرى منه إلا وفاء و صدقا
قال : ويحك افتح لي أكلمك قال : ما أنا بفاعل قال : و الله إن أغلقت دوني إلا خوفا على جشيشتك أن آكل معك منها فأحفظ الرجل ففتح له فقال : و يحك يا كعب ! جئتك بعز الدهر و بحر طام
قال : و ما ذاك ؟ قال : جئتك بقريش على قادتها و سادتها حتى أنزلتهم بمجتمع الأسيال من رومة و بغطفان على قادتها و سادتها حتى أنزلتهم بذنب نقمى إلى جانب أحد قد عاهدوني و عاقدوني على ألا يبرحوا حتى نستأصل محمدا و من معه
فقال كعب : جئتني و الله بذل الدهر و بجهام قد هراق ماؤه يرعد ويبرق و ليس فيه شيء و يحك يا حيي فدعني و ما أنا عليه فإني لم أر من محمد إلا وفاء و صدقا
و قد تكلم عمرو بن سعد القزظي فأحسن فيما ذكره موسى ابن عقبة ذكرهم ميثاق رسول الله صلى الله عليه و سلم و معاقدتهم إياه على نصره و قال : إذا لم تنصروه فاتركوه و عدوه
قال ابن إسحاق : فلم يزل حيي بكعب يفتله في الذروة و الغارب حتى سمع له يعني في نقض عهد رسول الله صلى الله عليه و سلم و في محاربته مع الأحزاب على أن أعطاه حيي عهد الله و ميثاقه لئن رجعت قرش و غطفان و لم يصيبوا محمدا أن أدخل معك في حصنك حتى يصيبني ما أصابك
فنقض كعب بن أسد العهد و برىء مما كان بينه و بين رسول الله صلى الله عليه و سلم
قال موسى ابن عقبة : و أمر كعب بن أسد و بنو قريظة حيي بن أخطب أن يأخذ لهم من قريش و غطفان رهائن تكون عندهم لئلا ينالهم ضيم إن هم رجعوا و لم يناجزوا محمدا قالوا : و تكون الرهائن تسعين رجلا من أشرافهم فنازلهم حيي على ذلك فعند ذلك نقضوا العهد و مزقوا الصحيفة التي كان فيها العقد إلا بني سعنة أسد و أسيد و ثعلبة فإنهم خرجوا إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم
قال ابن إسحاق : فلما انتهى الخبر إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم و إلى المسلمين بعث سعد بن معاذ و هو يومئذ سيد الأوس و سعد بن عبادة و هو يومئذ سيد الخزرج و معهما عبد الله بن رواحة و خوات بن جبير قال : انطلقوا حتى تأتوا هؤلاء القوم فتنظروا أحق ما بلغنا عنهم فإن كان حقا فالحنوا لي لحنا و لا تفتوا في أعضاد المسلمين و إن كانوا على الوفاء فاجهروا به للناس قال : فخرجوا حتى أتوهم
قال موسى ابن عقبة فدخلوا معهم حصنهم فدعوهم إلى الموادعة و تجديد الحلف فقالوا : الآن و قد كسر جناحنا و أخرجهم يريدون بني النضير و نالوا من رسول الله صلى الله عليه و سلم فجعل سعد بن عبادة يشاتمهم فأغضبوه فقال له سعد بن معاذ : إنا و الله ما جئنا لهذا و لما بيننا أكبر من المشاتمة
ثم ناداهم سعد بن معاذ فقال : إنكم قد علمتم الذي بيننا و بينكم يا بني قريظة و أنا خائف عليكم مثل يوم بني النضير أو أمر منه فقالوا : أكلت أير أبيك فقال : غير هذا من القول كان أجمل بكم و أحسن
قال ابن إسحاق : نالوا من رسول الله صلى الله عليه و سلم و قالوا : من رسول الله ؟ لا عهد بيننا و بين محمد فشاتمهم سعد بن معاذ و شاتموه و كان رجلا فيه حدة فقال له سعد بن عبادة : دع عنك مشاتمتهم لما بيننا و بينهم أربى من المشاتمة
ثم أقبل السعدان و من معهما إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فسلموا عليه ثم قالوا : عضل و القارة أي كعذرهم بأصحاب الرجيع خبيب و أصحابه
فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : الله أكبر أبشروا يا معشر المسلمين
قال موسى ابن عقبة : ثم تقنع رسول الله صلى الله عليه و سلم بثوبه حين جاءه الخبر عن بني قريظة فاضطجع و مكث طويلا فاشتد على الناس البلاء و الخوف حين رأوه اضطجع و عرفوا أنه لم يأته عن بني قريظة خير ثم إنه رفع رأسه و قال : أبشروا بفتح الله و نصره
فلما أن أصبحوا دنا القوم بعضهم من بعض و كان بينهم رمي بالنبل و الحجارة
قال سعيد بن المسيب : [ قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : اللهم إني أسألك عهدك و وعدك اللهم إن تشأ لا تعبد ]
قال ابن إسحاق و عظم عند ذلك البلاء و اشتد الخوف و أتاهم عدوهم من فوقهم و من أسفل منهم حتى ظن المؤمنون كل ظن و نجم النفاق حتى قال معتب بن قشير أخو بني عمرو بن عوف : كان محمد يعدنا أن نأكل كنوز كسرى و قيصر و أحدنا لا يأمن على نفسه أن يذهب إلى الغائط !
و حتى قال أوس بن قيظي : يا رسول الله إن بيوتنا عورة من العدو و ذلك عن ملأ من رجال قومه فأذن لنا أن نرجع إلى دارنا فإنها خارج من المدينة
قلت : هؤلاء و أمثالهم المرادون بقوله تعالى : { و إذ يقول المنافقون و الذين في قلوبهم مرض : ما وعدنا الله و رسوله إلا غرورا و إذ قالت طائفة منهم يا أهل يثرب لا مقام لكم فارجعوا و يستأذن فريق منهم النبي يقولون إن بيوتنا عورة و ما هي بعورة إن يريدون إلا فرارا }
قال ابن إسحاق : فأقام رسول الله صلى الله عليه و سلم مرابطا و أقام المشركون يحاصرونه بضعا و عشرين ليلة قريبا من شهر و لم يكن بينهم حرب إلا الرميا بالنبل (3/198)
فلما اشتد على الناس البلاء بعث رسول الله صلى الله عليه و سلم كما حدثني عاصم بن عمر بن قتادة و من لا أتهم عن الزهري إلى عيينة بن حصن و الحارث بن عوف المري و هما قائدا غطفان و أعطاهما ثلث ثمار المدينة على أن يرجعا بمن معهما عنه و عن أصحابه فجرى بينه و بينهم الصلح حتى كتبوا الكتاب ولم تقع الشهادة و لا عزيمة الصلح إلا المراوضة
فلما أراد رسول الله صلى الله عليه و سلم أن يفعل ذلك بعث إلى السعدين فذكر لهما ذلك و استشارهما فيه
فقالا : يا رسول الله أمرا تحبه فنصنعه أم شيئا أمرك الله به لا بد لنا من العمل به أم شيئا تصنعه لنا ؟
فقال : [ بل شيء أصنعه لكم و الله ما أصنع ذلك إلا لأني رأيت العرب رمتكم عن قوس واحدة و كالبوكم من كل جانب فأردت أن أكسر عنكم من شوكتهم إلى أمر ما ]
فقال له سعد بن معاذ : يا رسول الله قد كنا و هؤلاء على الشرك بالله و عبادة الأوثان لا نعبد الله و لا نعرفه و هم لا يطمعون أن يأكلوا منها ثمرة واحدة إلا قرى أو بيعا أفحين أكرمنا الله بالإسلام و هدانا له و أعزنا بك و به نعطيهم أموالنا ؟ ما لنا بهذا من حاجة و الله لا نعطيهم إلا السيف حتى يحكم الله بيننا و بينهم !
فقال النبي صلى الله عليه و سلم : [ أنت و ذاك ] فتناول سعد بن معاذ الصحيفة فمحا ما فيها من الكتاب ثم قال : ليجهدوا علينا (3/201)
قال : فأقام النبي صلى الله عليه و سلم و أصحابه محاصرين و لم يكن بينهم وبين عدوهم قتال إلا أن فوارس من قريش منهم عمرو بن عبد ود بن أبي قيس أحد بني عامر بن لؤي و عكرمة بن أبي جهل و هبيرة بن أبي وهب المخزوميان و ضرار بن الخطاب بن مرداس أحد بني محارب بن فهر تلبسوا للقتال ثم خرجوا على خيلهم حتى مروا بمنازل بني كنانة فقالوا : تهيأوا يا بني كنانة للحرب فستعلمون من الفرسان اليوم
ثم أقبلوا تعنق بهم خيلهم حتى وقفوا على الخندق فلما رأوه قالوا : و الله إن هذه لمكيدة ما كانت العرب تكيدها ثم تيمموا مكانا من الخندق ضيقا فضربوا خيلهم فاقتحمت منه فجالت بهم في السبخة بين الخندق و سلع و خرج علي بن أبي طالب في نفر معه من المسلمين حتى أخذوا عليه الثغرة التي أقحموا منها خيلهم و أقبلت الفرسان تعنق نحوهم
و كان عمرو بن عبد ود قد قاتل يوم بدر حتى أثبتته الجراحة فلم يشهد يوم أحد فلما كان يوم الخندق خرج معلما ليرى مكانه فلما خرج هو و خيله قال : من يبارز ؟ فبرز له علي بن أبي طالب رضي الله عنه فقال له : يا عمرو إنك كنت عاهدت الله لا يدعوك رجل من قريش إلى إحدى خلتين إلا أخذتها منه قال : أجل قال له علي : فإني أدعوك إلى الله وإلى رسوله و إلى الإسلام قال : لا حاجة لي بذلك قال : فإني أدعوك إلى النزال قال له لما يا بن أخي فوالله ما أحب أن أقتلك ! قال له علي : لكني و الله أحب أن أقتلك فحمي عمرو عند ذلك فاقتحم عن فرسه فعقره و ضرب وجهه ثم أقبل على علي فتنازلا و تجاولا فقتله علي رضي الله عنه
و خرجت خيلهم منهزمة حتى اقتحمت من الخندق هاربة
قال ابن إسحاق و قال علي بن أبي طالب في ذلك :
( نضر الحضارة من سفاهة رأيه ... و نصرت رب محمد بصواب )
( فصدرت حين تركته متجدلا ... كالجذع بين دكادك و روابي )
( و عففت عن أثوابه و لو أنني ... كنت المقطر بزنى أثوابي )
( لا تحسبن الله خاذل دينه ... و نبيه يا معشر الأحزاب )
قال ابن هشام : و أكثر أهل العلم بالشعر يشك فيها لعلي
قال ابن هشام : و ألقى عكر عكرمة رمحه يومئذ و هو منهزم عن عمرو فقال في ذلك حسان بن ثابت :
( فر وألقى لنا رمحه ... لعلك عكرم لم تفعل )
( و وليت كعدو الظلي ... م ما إن يحور عن المعدل )
( و لم تلو ظهرك مستأنسا ... كأن قفاك قفا فزعل )
قال ابن هشام : الفزاعل : صغار الضباع
و ذكر الحافظ البهيقي في دلائل النبوة عن ابن اسحاق في موضع آخر من السيرة قال : خرج عمرو بن عبد ود و هو مقنع بالحديد فنادى : من يبارز ؟ فقام علي بن أبي طالب فقال : أنا لها يا نبي الله فقال : إنه عمرو اجلس ثم نادى عمرو : ألا رجل يبرز ؟ فجعل يؤنبهم و يقول : أين جنتكم التي تزعمون أنه من قتل منكم دخلها ؟ أفلا تبرزون إلى رجلا ؟ فقام على فقال : أنا يا رسول الله : اجلس ثم نادى الثالثة فقال :
( و لقد بحت من الندا ... ء لجمعهم : هل من مبارز )
( و وقفت إذ جبن المشجع موقف القرن المناجر )
( و لذاك إني لم أزل ... متسرعا قبل الهزاز )
( إن الشجاعة في الفتى ... و الجود من خير الغرائز )
قال : فقام علي رضي الله عنه فقال : يا رسول الله أنا فقال : إنه عمرو فقال : و إن كان عمرا ! فأذن له رسول الله صلى الله عليه و سلم فمشى إليه حتى أتى و هو يقول :
( لا تعجلن فقد أتا ... ك مجيب صوتك غير عاجز )
( في نية و بصيرة ... و الصدق منجي كل فائز )
( إني لأرجو أن أقيـ ... م عليك نائحة الجنائز )
( من ضربة نجلاء يبقى ذكرها عند الهزاهز )
فقال له عمرو : من أنت ؟ قال : أنا علي قال : بن مناف ؟ قال : أنا علي بن أبي طالب فقال : يا بن أخي من أعمامك من هو أسن منك فإني أكره أن أهريق دمك ؟
فقال له علي : لكني و الله لا أكره أن أهريق دمك ! فغضب فنزل و سل سيفه كأنه شعلة نار ثم أقبل نحو علي مغضبا و استقبله علي بدرقته فضربه عمرو في درقته فقدها و أثبت فيها السيف و أصاب رأسه فشجه و ضربه علي على حبل عاتقه فسقط و ثار العجاج و سمع رسول الله صلى الله عليه و سلم التكبير فعرفنا أن عليا قد قتله فثم يقول علي :
( أعلى تقتحم الفوارس هكذا ... عني و عنهم أخروا أصحابي )
( اليوم يمنعني الفرار حفيظتي ... و مصمم في الرأس ليس بنابي )
إلى أن قال :
( عبد الحجارة من سفاهة رأيه ... و عبدت رب محمد بصواب )
إلى آخرها
قال : ثم أقبل علي نحو رسول الله صلى الله عليه و سلم ووجهه يتهلل فقال له عمر بن الخطاب : هلا استلبته درعه فإنه ليس للعرب درع خير منها ؟ فقال : ضربته فاتقاني بسوأته فاستحيت ابن عمي أن أسلبه قال : و خرجت خيوله منهزمة حتى اقتحمت من الخندق
و ذكر ابن إسحاق فيما حكاه عن البيهقي أن عليا طعنه في ترقوته حتى أخرجها من مراقه فمات في الخندق و بعث المشركون إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم يشترون جيفته بعشرة آلاف فقال : [ هو لكم لا نأكل ثمن الموتى ]
و قال الإمام أحمد : [ حدثنا نصر بن باب حدثنا حجاج عن الحكم عن مقسم عن بن عباس أنه قال : قتل المسلمون يوم الخندق رجلا من المشركين فأعطوا بجيفته مالا فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : ادفعوا إليهم جيفته فإنه خبيث الجيفة خبيث الدية فلم يقبل منهم شيئا ]
وقد رواه البيهقي [ من حديث حماد بن سلمة عن حجاج و هو بن أرطأة عن الحكم عن مقسم عن ا بن عباس : أن رجلا من المشركين قتل يوم الأحزاب فبعثوا إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم أن ابعث إلينا بجسده و نعطيهم اثنى عشرة ألفا فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : لا خير في جسده ولا في ثمنه ]
و قد رواه الترمذي من حديث سفيان الثوري عن ابن أبي ليلى عن الحكم عن مقسم عن ابن عباس و قال : غريب
و قد ذكر موسى ابن عقبة : أن المشركين إنما بعثوا يطلبون جسد نوفل بن عبد الله المخزومي حين قتل و عرضوا عليه الدية فقال : [ إنه خبيث خبيث الدية فلعنه الله و لعن ديته فلا أرب لنا في ديته و لسنا نمنعكم أن تدفنوه ]
و ذكر يونس بن بكير عن بن اسحاق قال : و خرج نوفل بن عبد الله بن المغيرة المخزومي فسأل المبارزة فخرج إليه الزبير بن العوام فضربه فشقه باثنتين حتى فل في سيفه فلا و انصرف و هو يقول :
( إني امرؤ أحمي و أحتمي ... عن النبي المصطفى الأمي )
و قد ذكر ابن جرير أن نوفلا لما تورط في الخندق رماه الناس بالحجارة فجعل يقول : قتلة أحسن من هذه يا معشر العرب فنزل إليه علي فقتله و طلب المشركون رمته من رسول الله صلى الله عليه و سلم بالثمن فأبى عليهم أن يأخذ منهم شيئا و مكنهم من أخذه إليهم
و هذا غريب من وجهين
و قد روى البيهقي من طريق حماد بن يزيد عن هشام بن عروة عن أبيه عن عبد الله بن الزبير قال : جعلت يوم الخندق مع الصبيان و النساء في الأطم و معي عمرو بن أبي سلمة فجعل يطأطىء لي فأصعد على ظهره فأنظر قال : فنظرت إلى أبي و هو يحمل مرة هاهنا و مرة هاهنا فما يرتفع له شيء إلا أتاه فلما أمسى جاءنا إلى الأطم قلت : يا أبت رأيتك اليوم و ما تصنع قال : و رأيتني يا بني ؟ قلت : نعم قال : فدى لك أبي و أمي !
قال ابن إسحاق : و حدثني أبو ليلى عبد الله بن سهل بن عبد الرحمن بن سهل الأنصاري أخو بني حارثة أن عائشة أم المؤمنين كانت في حصن بني حارثة يوم الخندق و كان من أحرز حصون المدينة قال : و كانت أم سعد بن معاذ معها في الحصن قالت عائشة و ذلك قبل أن يضرب علينا الحجاب قالت : فمر سعد و عليه درع مقلصة قد خرجت منها ذراعه كلها و في يده حربته يرفل بها و يقول :
( لبث قليلا يشهد الهيجا حمل ... لا بأس بالموت إذا حان الأجل )
فقلت له أمه : إلحق بني فقد و الله أخرت قالت عائشة : فقلت لها : يا أم سعد و الله لوددت أن درع سعد كانت أسبغ مما هي قالت : و خفت عليه حيث أصاب السهم منه فرمي سعد بن معاذ بسهم فقطع منه الأكحل (3/202)
قال ابن إسحاق : حدثني عاصم بن عمر بن قتادة قال : رماه حبان بن قيس بن العرقة أحد بني عامر بن لؤي فلما أصابه قال : خذها مني و أنا ابن العرقة فقال له سعد : عرق الله وجهك في النار اللهم إن كنت أبقيت من حرب قريش شيئا فأبقني لها فإنه لا قوم أحب إلي أن أجاهد من قوم آذوا رسولك و كذبوه و أخرجوه اللهم و إن كنت وضعت الحرب بيننا و بينهم فاجعلها لي شهادة و لا تمتني حتى تقر عيني من بني قريظة (3/207)
قال ابن إسحاق : و حدثني من لا أتهم عن عبد الله بن كعب بن مالك أنه كان يقول : ما أصاب سعدا يومئذ إلا أبو أسامة الجشمي حليف بني مخزوم و قد قال أبو أسامة في ذلك شعرا قاله لعكرمة بن أبي جهل :
( أعكرم هلا لمتني إذ تقول لي ... فداك بآطام المدينة خالد )
( ألست الذي ألزمت سعدا مريشة ... لها بين أثناء المرافق عاند )
( قضى نحبه منها سعيد فأعولت ... عليه مع الشمط العذارى النواهد )
( و أنت الذي دافعت عنه و قد دعا ... عبيدة جمعا منهم إذ يكابد )
( على حين ما هم جائر عن طريقه ... و آخر مرعوب عن القصد قاصد )
قال ابن إسحاق : و الله أعلم أي ذلك كان
قال ابن هشام : و يقال أن الذي رمى سعدا خفاجة بن عاصم بن حبان
قلت : و قد استجاب الله دعوة وليه سعد بن معاذ في بني قريظة أقر الله عينه فحكم فيهم بقدرته و تيسيره و جعلهم هم الذين يطلبون ذلك كما سيأتي بيانه فحكم بقتل مقاتلتهم و سبي ذراريهم حتى قال له رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ لقد حكمت فيهم بحكم الله فوق سبع أرقعة ] (3/208)
قال ابن إسحاق : و حدثني يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير عن أبيه عباد قال : كانت صفية بنت عبد المطلب في فارع حصن حسان بن ثابت قالت : و كان حسان معنا فيه مع النسوة و الصبيان فمر بنا رجل من يهود فجعل يطيف بالحصن و قد حاربت بنو قريظة و قطعت ما بينها و بين رسول الله صلى الله عليه و سلم و ليس بيننا و بينهم أحد يدفع عنا و رسول الله صلى الله عليه و سلم و المسلمون في نحور عدوهم لا يستطيعون أن ينصرفوا عنهم إلينا إذ أتانا آت فقلت : يا حسان إن هذا اليهودي كما ترى يطيف بالحصن و إني و الله ما آمنة أن يدل على عوراتنا من وراءنا من يهود و قد شغل رسول الله صلى الله عليه و سلم و أصحابه فانزل إليه فاقتله قال : يغفر الله لك يا بنت عبد المطلب ! و الله لقد عرفت ما أنا بصاحب هذا
قالت : فلما قال لي ذلك و لم أر عنده شيئا احتجزت ثم أخذت عمودا ثم نزلت من الحصن إليه فضربته بالعمود حتى قتلته فلما فرغت منه رجعت إلى الحصن فقلت : يا حسان انزل فاستلبه فإنه لم يمنعني من سلبه إلا أنه رجل قال : ما لي بسلبه حاجة يا بنة عبد المطلب ! (3/208)
قال موسى بن عقبة : و أحاط المشركون بالمسلمين حتى جعلوهم في مثل الحصن من كتائبهم فحاصروهم قريبا من عشرين ليلة و أخذوا بكل ناحية حتى لا يدرى أتم أما لا
قال : و وجهوا نحو منزل رسول الله صلى الله عليه و سلم كتيبة غليظة فقاتلوهم يوما إلا الليل فلما حانت صلاة العصر دنت الكتيبة فلم يقدر النبي صلى الله عليه و سلم و لا أحد من أصحابه الذين كانوا معه أن يصلوا الصلاة على نحو ما أرادوا فانكفأت الكتيبة مع الليل فزعموا أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ شغلونا عن صلاة العصر ملأ الله بطونهم و قلوبهم و في رواية : و قبورهم نارا ]
فلما اشتد البلاء نافق ناس كثير و تكلموا بكلام قبيح (3/209)
فلما رأى رسول الله صلى الله عليه و سلم ما بالناس من البلاء و الكرب جعل يبشرهم و يقول : [ و الذي نفسي بيده ليفرجن عنكم ما ترون من الشدة و إني لأرجو أن أطوف بالبيت العتيق آمنا و أن يدفع الله إلي مفاتيح الكعبة و ليهلكن الله كسرى و قيصر و لتنفقن كنوزهن في سبيل الله ! ]
و قد قال البخاري : [ حدثنا إسحاق حدثنا روح حدثنا هشام عن محمد عن عبيدة عن علي عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال يوم الخندق : ملأ الله عليه بيوتهم و قبورهم نارا كما شغلونا عن الصلاة الوسطى حتى غابت الشمس ]
و هكذا رواه بقية الجماعة إلا ابن ماجة من طرق عن هشام بن حسان عن محمد بن سيرين عن عبيدة عن علي به و رواه مسلم و الترمذي من طريق سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن أبي حسان الأعرج عن عبيدة عن علي به و قال الترمذي حسن صحيح
ثم قال البخاري : [ حدثنا المكي بن إبراهيم حدثنا هشام عن يحيى عن أبي سلمة عن جابر بن عبد الله أن عمر بن الخطاب جاء يوم الخندق بعد ما غربت الشمس فجعل يسب كفار قريش و قال : يا رسول الله ما كدت أن أصلي حتى كادت الشمس أن تغرب قال النبي صلى الله عليه و سلم : و الله ما صليتها فنزلنا مع رسول الله صلى الله عليه و سلم بطحان فتوضأ للصلاة و توضأنا لها فصلى العصر بعد ما غربت الشمس ثم صلى بعدها المغرب ]
و قد رواه البخاري و مسلم و الترمذي و النسائي من طرق عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة به
و قال الإمام أحمد : [ حدثنا عبد الصمد حدثنا ثابت حدثنا هلال عن عكرمة عن ابن عباس قال : قاتل النبي صلى الله عليه و سلم عدوا فلم يفرغ منهم حتى أخر العصر عن وقتها فلما رأى ذلك قال : اللهم من حبسنا عن الصلاة الوسطى فاملأ بيوتهم نارا و املأ قبورهم نارا ]
و نحو ذلك تفرد به أحمد و هو من رواية هلال بن خباب العبدي الكوفي و هو ثقة يصحح له الترمذي و غيره (3/210)
و قد استدل طائفة من العلماء بهذه الأحاديث على كون الصلاة الوسطى هي صلاة العصر كما هو منصوص عليه في هذه الأحاديث و ألزم القاضي الماوردي مذهب الشافعي بهذا لصحة الحديث
و قد حررنا ذلك نقلا و استدلالا عند قوله تعالى : { حافظوا على الصلوات و الصلاة الوسطى وقوموا لله قانتين } (3/211)
و قد استدل طائفة بهذا الصنيع على جواز تأخير الصلاة لعذر القتال كما هو مذهب مكحول و الأوزاعي
و قد بوب البخاري ذلك و استدل بهذا الحديث و بقوله صلى الله عليه و سلم يوم أمرهم بالذهاب إلى بني قريظة ـ كما سيأتي ـ : [ لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة ]
و كان من الناس من صلي العصر في الطريق و منهم من لم يصلي إلا في بني قريظة بعد الغروب و لم يعنف واحدا من الفريقين و استدل بما ذكره عن الصحابة و من معهم في حصار تستر سنة عشرين في زمن عمر حيث صلوا الصبح بعد طلوع الشمس لعذر القتال و اقتراب فتح الحصن
و قال آخرون من العلماء و هم الجمهور منهم الشافعي : هذا الصنيع يوم الخندق منسوخ بشرعية صلاة الخوف بعد ذلك فإنها لم تكن مشروعة إذ ذاك فلهذا أخروها يومئذ و هو مشكل
قال ابن إسحاق : و جماعة ذهبوا إلى أن النبي صلى الله عليه و سلم صلى صلاة الخوف بعسفان و قد ذكرها ابن إسحاق و هو إمام في المغازي قبل الخندق و كذلك ذات الرقاع ذكرها قبل الخندق فالله أعلم
و أما الذين قالوا : إن تأخير الصلاة يوم الخندق وقع نسيانا كما حكاه شراح مسلم عن بعض الناس فهو مشكل إذ يبعد أن يقع هذا من جمع كبير مع شدة حرصهم على محافظة الصلاة كيف و قد روي أنهم تركوا يومئذ الظهر و العصر و المغرب حتى صلوا الجميع في وقت العشاء من رواية أبي هريرة و أبي سعيد
قال الإمام أحمد : [ حدثنا يزيد و حجاج قالا : حدثنا ابن أبي ذئب عن المقبري عن عبد الرحمن بن أبي سعيد الخدري عن أبيه قال : حبسنا يوم الخندق حتى ذهب هوي من الليل حتى كفينا و ذلك قوله : { و كفى الله المؤمنين القتال و كان الله قويا عزيزا } قال : فدعا رسول الله صلى الله عليه و سلم بلالا فأمره فأقام فصلى الظهر كما كان يصليها في وقتها ثم أقام العصر فصلاها كذلك ثم أقام المغرب فصلاها كذلك ثم أقام العشاء فصلاها كذلك و ذلك قبل أن ينزل قال حجاج : في صلاة الخوف { فإن خفتم فرجالا أو ركبانا } ]
و قد رواه النسائي عن الفلاس عن يحيى القطان عن ابن أبي ذئب به قال : شغلنا المشركون يوم الخندق عن صلاة الظهر حتى غربت الشمس فذكره
و قال أحمد : [ حدثنا هشيم حدثنا أبو الزبير عن نافع بن جبير عن أبي عبيدة بن عبد الله بن مسعود عن أبيه أن المشركين شغلوا رسول الله صلى الله عليه و سلم يوم الخندق عن أربع صلوات حتى ذهب من الليل ما شاء الله قال : فأمر بلالا فأذن ثم أقام فصلى الظهر ثم أقام فصلى العصر ثم أقام فصلى المغرب ثم أقام فصلى العشاء ]
و قال الحافظ أبو بكر البزاز : [ حدثنا محمد بن معمر حدثنا مؤمل يعني ابن إسماعيل حدثنا حماد يعني ابن سلمة عن عبد الكريم يعني ابن أبي المخارق عن مجاهد عن جابر بن عبد الله أن النبي صلى الله عليه و سلم شغل يوم الخندق عن صلاة الظهر و العصر و المغرب و العشاء فأمر بلالا فأذن و أقام فصلى الظهر ثم أمره فأذن و أقام فصلى العصر ثم أمره فأذن و أقام فصلى المغرب ثم أمره فأذن و أقام فصلى العشاء ثم قال : ما على وجه الأرض قوم يذكرون الله في هذه الساعة غيركم ]
تفرد به البزاز و قال : لا نعرفه إلا من هذا الوجه و قد رواه بعضهم عن عبد الكريم عن مجاهد عن أبي عبيدة عن عبد الله (3/211)
و كيف صرفهم الله بحوله وقوته استحبابا لرسول الله صلى الله عليه و سلم و صيانة لحوزته الشريفة فزلزل قلوبهم ثم أرسل عليهم الريح الشديدة فزلزل أبدانهم
قال الإمام أحمد : [ حدثنا أبو عامر حدثنا الزبير ـ يعني ابن عبد الله ـ حدثنا ربيح بن أبي سعيد الخدري عن أبيه قال : قلنا يوم الخندق يا رسول الله هل من شيء نقوله ؟ فقد بلغت القلوب الحناجر ! قال : نعم : اللهم استر عوراتنا و آمن روعاتنا قال : فضرب الله وجوه أعدائه بالريح ]
و قد رواه ابن أبي حاتم في تفسيره عن أبيه عن أبي عامر ـ و هو العقدي ـ عن الزبير بن عبد الله مولى عثمان بن عفان عن ربيح بن عبد الرحمن بن أبي سعيد عن أبيه عن أبي سعيد فذكره و هذا هو الصواب
و قال الإمام أحمد : [ حدثنا حسين عن ابن أبي ذئب عن رجل من بني سلمة عن جابر بن عبد الله أن النبي صلى الله عليه و سلم أتى مسجد الأحزاب فوضع رداءه و قام و رفع يديه مدا يدعو و لم يصلي قال : ثم جاء و دعا عليهم و صلى ]
و ثبن في الصحيحين [ من حديث إسماعيل بن أبي خالد عن عبد الله بن أبي أوفى قال : دعا رسول الله صلى الله عليه و سلم على الأحزاب فقال : اللهم منزل الكتاب سريع الحساب اهزم الأحزاب اللهم اهزمهم و زلزلهم و في رواية : اللهم اهزمهم و انصرنا عليهم ]
و روى البخاري [ عن قتيبة عن الليث عن سعيد المقبري عن أبيه عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه و سلم كان يقول : لا إله إلا الله وحده أعز جنده و نصر عبده و غلب الأحزاب وحده فلا شيء بعده ] (3/213)
و قال ابن إسحاق : و أقام رسول الله صلى الله عليه و سلم و أصحابه فيما وصف الله من الخوف و الشدة لتظاهر عدوهم عليهم و إتيانهم إياهم من فوقهم و من أسفل منهم
قال : ثم إن نعيم بن مسعود بن عامر بن أنيف بن ثعلبة بن قنفذ بن هلال بن خلاوة بن أشجع بن ريث بن غطفان أتى رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : يا رسول الله إني قد أسلمت و إن قومي لم يعلموا بإسلامي فمرني بما شئت فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ إنما أنت فينا رجل واحد فخذل عنا إن استطعت فإن الحرب خدعة ]
فخرج نعيم بن مسعود حتى أتى بني قريظة و كان لهم نديما في الجاهلية فقال : يا بني قريظة قد عرفتم ودي إياكم و خاصة ما بيني و بينكم قالوا : صدقت لست عندنا بمتهم
فقال لهم : إن قريشا و غطفان ليسوا كأنتم البلد بلدكم فيه أموالكم و أبناؤكم و نساؤكم لا تقدرون على أن تتحولوا منه إلى غيره و إن قريشا و غطفان قد جاؤا لحرب محمد و أصحابه و قد ظاهرتموهم عليه و بلدهم و نساؤهم و أموالهم بغيره فليسوا كأنتم فإن رأوا نهزة أصابوها و إن كان غير ذلك لحقوا ببلادهم و خلوا بينكم و بين الرجل ببلدكم و لا طاقة لكم به إن خلا بكم فلا تقاتلوا مع القوم حتى تأخذوا منهم رهنا من أشرافهم يكونون بأيديكم ثقة لكم على أن تقاتلوا معهم محمدا حتى تناجزوه قالوا : لقد أشرت بالرأي
ثم خرج حتى أتى قريشا فقال لأبي سفيان بن حرب و من معه من رجال قريش : قد عرفتم ودي لكم و فراقي محمدا و إنه قد بلغني أمر قد رأيت علي حقا أن أبلغكموه نصحا لكم فاكتموا عني قالوا نفعل
قال : تعلموا أن معشر يهود قد ندموا على ما صنعوا فيما بينهم و بين محمد و قد أرسلوا إليه : إنا قد ندمنا على ما فعلنا فهل يرضيك أن نأخذ لك من القبيلتين من قريش و غطفان رجالا من أشرافهم فنعطيكهم فتضرب أعناقهم ثم نكون معك على من بقي منهم حتى تستأصلهم فأرسل إليهم : أن نعم فإن بعثت إليكم يهود يلتمسون منكم رهنا من رجالكم فلا تدفعوا إليهم منكم رجلا واحدا
ثم خرج حتى أتى غطفان فقال : يا معشر غطفان إنكم أصلي و عشيرتي و أحب الناس إلي و لا أراكم تتهموني قالوا : صدقت ما أنت عندنا بمتهم قال : فاكتموا عني قالوا : نفعل ثم قال لهم مثل ما قال لقريش و حذرهم ما حذرهم
فلما كانت ليلة السبت من شوال سنة خمس و كان من صنيع الله تعالى لرسوله صلى الله عليه و سلم أن أرسل أبو سفيان بن حرب و رؤس غطفان إلى بني قريظة عكرمة بن أبي جهل في نفر من قريش و غطفان فقال لهم : إنا لسنا بدار مقام هلك الخف و الحافر فأعدوا للقتال حتى نناجز محمدا و نفرغ مما بيننا و بينه فأرسلوا إليهم : إن اليوم يوم السبت و هو يوم لا نعمل فيه شيئا و قد كان أحدث فيه بعضنا حدثا فأصابهم ما لم يخف عليكم و لسنا مع ذلك بالذين نقاتل معكم محمدا حتى تعطونا رهنا من رجالكم يكونون بأيدينا ثقة لنا حتى نناجز محمدا فإنا نخشى إن ضرستكم الحرب و اشتد عليكم القتال أن تنشمروا إلى بلادكم و تتركونا و الرجل في بلادنا و لا طاقة لنا بذلك منه
فلما رجعت إليهم الرسل بما قالت بنو قريظة قالت قريش و غطفان : و الله إن الذي حدثكم نعيم بن مسعود لحق فأرسلوا إلى بني قريظة : إنا و الله لا ندفع إليكم رجلا واحدا من رجالنا فإن كنتم تريدون القتال فاخرجوا فقاتلوا فقالت بنو قريظة حين انتهت إليهم الرسل بهذا : إن الذي ذكر لكم نعيم بن مسعود لحق ما يريد القوم إلا أن تقاتلوا فإن رأوا فرصة انتهزوها و إن كان غير ذلك انشمروا إلى بلادهم و خلوا بينكم و بين الرجل في بلدكم فأرسلوا إلى قريش و غطفان : إنا و الله ما نقاتل معكم حتى تعطونا رهنا
فأبوا عليهم و خذل الله بينهم و بعث الله الريح في ليلة شاتية شديدة البرد فجعلت تكفأ قدورهم و تطرح آنيتهم (3/214)
و هذا الذي ذكره ابن إسحاق من قصة نعيم بن مسعود أحسن مما ذكره موسى بن عقبة
و قد أورده عنه البيهقي في الدلائل فإنه ذكر ما حاصله : أن نعيم بن مسعود كان يذيع ما يسمعه من الحديث فاتفق أنه مر برسول الله صلى الله عليه و سلم ذات يوم عشاء فأشار إليه أن تعال فجاء فقال : ما وراءك ؟ فقال : إنه قد بعثت قريش و غطفان إلى بني قريظة يطلبون منهم أن يخرجوا إليهم فيناجزوك فقالت قريظة : نعم فأرسلوا إلينا بالرهن و قد ذكر فيما تقدم : أنهم إنما نقضوا العهد على يدي حيي بن أخطب بشرط أن يأتيهم برهائن تكون عندهم توثقة
قال : فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : إني مسر إليك شيئا فلا تذكره
قال : إنهم قد أرسلوا إلي يدعونني إلى الصلح و أرد بني النضير إلى دورهم و أموالهم
فخرج نعيم بن مسعود عامدا إلى غطفان و قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ الحرب خدعة و عسى أن يصنع الله لنا ]
فأتى نعيم غطفان و قريشا فأعلمهم فبادر القوم و أرسلوا إلى بني قريظة عكرمة و جماعة معه و اتفق ذلك ليلة السبت يطلبون منهم أن يخرجوا للقتال معهم فاعتلت اليهود بالسبت ثم أيضا طلبوا الرهن توثقة فأوقع الله بينهم و اختلفوا
قلت : و قد يحتمل أن تكون قريظة لما يئسوا من انتظام أمرهم مع قريش و غطفان بعثوا إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم يريدون منه الصلح على أن يرد بني النضير إلى المدينة و الله أعلم (3/216)
قال ابن إسحاق : فلما انتهى إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم ما اختلف من أمرهم وما فرق الله من جمعهم دعا حذيفة بن اليمان فبعثه إليهم لينظر ما فعل القوم ليلا
قال ابن إسحاق : فحدثني يزيد بن زياد عن محمد بن كعب القرظي قال : قال رجل من أهل الكوفة لحذيفة بن اليمان : يا أبا عبد الله أرأيتم رسول الله صلى الله عليه و سلم و صحبتموه ؟ قال : نعم يا بن أخي قال : فكيف كنتم تصنعون ؟ قال : و الله لقد كنا نجتهد قال : و الله لو أدركناه ما تركناه يمشي على الأرض و لحملناه على أعناقنا !
قال : فقال حذيفة : يا ابن أخي و الله لقد رأيتنا مع رسول الله صلى الله عليه و سلم بالخندق و صلى رسول الله صلى الله عليه و سلم هويا من الليل ثم التفت إلينا فقال : [ من رجل يقوم فينظر لنا ما فعل القوم ثم يرجع ؟ فشرط له رسول الله صلى الله عليه و سلم الرجعة أسأل الله أن يكون رفيقي في الجنة ] فما قام رجل من شدة الخوف و شدة الجوع و البرد فلما لم يقم أحد دعاني فلم يكن لي بد من القيام حين دعاني فقال : [ يا حذيفة اذهب فادخل في القوم فانظر ماذا يفعلون ولا تحدثن شيئاحتى تأتينا ]
قال : فذهبت فدخلت في القوم و الريح و جنود الله تفعل بهم ما تفعل لا تقر لهم قدرا ولا نارا ولا بناء فقام أبو سفيان فقال : يا معشر قريش لينظر امرؤ من جليسه
قال حذيفة : فأخذت بيد الرجل الذي كان إلى جنبي فقلت : من أنت ؟ قال فلان بن فلان ثم قال : يا معشر قريش إنكم و الله ما أصبحتم بدار مقام لقد هلك الكراع و الخف و أخلفتنا بنو قريظة و بلغنا عنهم الذي نكره و لقينا من شدة الريح ما ترون ما تطمئن لنا قدر ولا تقوم لنا نار و لا يستمسك لنا بناء فارتحلوا فإني مرتحل ثم قام إلى جمله وهو معقول فجلس عليه ثم ضربه فوثب به على ثلاث فما أطلق عقاله إلا و هو قائم و لولا عهد رسول الله صلى الله عليه و سلم إلي : لا تحدث شيئا حتى تأتيني لقتلته بسهم
قال حذيفة فرجعت إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم و هو قائم يصلي في مرط لبعض نسائه مرحل فلما رآني أدخلني إلى رجليه و طرح على طرف المرط ثم ركع و سجد و إني لفيه فلما سلم أخبرته الخبر و سمعت غطفان بما فعلت قريش فانشمروا راجعين إلى بلادهم
و هذا منقطع من هذا الوجه
و قد روى هذا الحديث [ مسلم بن الحجاج في صحيحه من حديث الأعمش عن إبراهيم بن يزيد التيمي عن أبيه قال : كنا عند حذيفة فقال له رجل : لو أدركت رسول الله صلى الله عليه و سلم قاتلت معه وأبليت فقال له حذيفة : أنت كنت تفعل ذلك ؟ لقد رأيتنا مع رسول الله صلى الله عليه و سلم ليلة الأحزاب في ليلة ذات ريح شديدة وقر فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : ألا رجل يأتيني بخبر القوم يكون معي يوم القيامة ؟ فلم يجبه منا أحد ثم الثانية ثم الثالثة مثله ثم قال : يا حذيفة قم فأتنا بخبر القوم فلم أجد بدا إذ دعاني باسمي أن أقوم فقال : ائتني بخبر القوم ولا تذعرهم علي قال : فمضيت كأنما أمشي في حمام حتى أتيتهم فإذا أبو سفيان يصلى ظهره بالنار فوضعت سهما في كبد قوسي وأردت أن أرميه ثم ذكرت قول رسول الله صلى الله عليه و سلم : لا تذعرهم علي
ولو رميته لأصبته فرجعت كأنما أمشي في حمام فأتيت رسول الله صلى الله عليه و سلم فأصابني البرد حين رجعت و قررت فأخبرت رسول الله صلى الله عليه و سلم و ألبسني من فضل عباءة كانت عليه يصلي فيها فلم أبرح نائما حتى الصبح فلما أن أصبحت قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : قم يا نومان ! ]
وقد روى الحاكم و الحافظ البيهقي في الدلائل هذا الحديث مبسوطا [ من حديث عكرمة بن عمار عن محمد بن عبد الله الدؤلي عن عبد العزيز بن أخي حذيفة قال : ذكر حذيفة مشاهدهم مع رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال جلساؤه : أما و الله لو كنا شهدنا ذلك لكنا فعلنا و فعلنا فقال حذيفة : لا تمنوا ذلك لقد رأيتنا ليلة الأحزاب و نحن صافون قعود و أبو سفيان و من معه فوقنا و قريظة اليهود أسفل منا نخافهم على ذرارينا و ما أتت علينا ليلة قط أشد ظلمة ولا أشد ريحا منها في أصوات ريحها أمثال الصواعق و هي ظلمة ما يرى أحدنا إصبعه
فجعل المنافقون يستأذنون النبي صلى الله عليه و سلم و يقولون : إن بيوتنا عورة و ما هي بعورة فما يستأذن أحد منهم إلا أذن له و يأذن لهم و يتسللون و نحن ثلاثمائة أو نحو ذلك إذ استقبلنا رسول الله صلى الله عليه و سلم رجلا رجلا حتى أتى علي و ما علي جنة من العدو و لا من البرد إلا مرط لامرأتي ما يجاوز ركبتي قال : فأتاني و أنا جاث على ركبتي فقال : من هذا ؟ فقلت حذيفة فقال : حذيفة ! فتقاصرت للأرض فقلت : بلى يا رسول الله كراهية أن أقوم فقمت فقال : إنه كائن في القوم خبر فأتني بخبر القوم قال : وأنا من أشد الناس فزعا و أشدهم قرا
قال فخرجت فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : اللهم احفظه من بين يديه و من خلفه وعن يمينه و عن شماله و من فوقه و من تحته قال : فوالله ما خلق الله فزعا و لا قرا في جوفي إلا خرج من جوفي فما أجد فيه شيئا ! قال : فلما وليت قال : يا حذيفة لا تحدثن في القوم شيئا حتى تأتيني ]
قال : فخرجت حتى إذا دنوت من عسكر القوم نظرت ضوء نار لهم توقد و إذا رجل أدهم ضخم يقول بيده على النار و يمسح خاصرته و يقول : الرحيل الرحيلى و لم أكن أعرف أبا سفيان قبل ذلك فانتزعت سهما من كنانتي أبيض الريش فأضعه في كبد قوسي لأرميه به في ضوء النار فذكرت قول رسول الله صلى الله عليه و سلم : لا تحدثن فيهم شيئا حتى تأتيني فأمسكت و رددت سهمي إلى كنانتي ثم إني شجعت نفسي حتى دخلت العسكر فإذا أدنى الناس مني بنو عامر يقولون : يا آل عامر الرحيل الرحيل لا مقام لكم و إذا الريح في عسكرهم ما تجاوز عسكرهم شبرا فوالله لأسمع صوت الحجارة في رحالهم و فرشهم الريح تضرب بها ثم إني خرجت نحو رسول الله صلى الله عليه و سلم فلما انتصف بي الطريق أو نحو من ذلك إذا أنا بنحو من عشرين فارسا أو نحو ذلك معتمين فقالوا : أخبر صاحبك أن الله قد كفاه
قال : فرجعت إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم و هو مشتمل في شملة يصلي فوالله ما عدا أن رجعت راجعني القر و جعلت أقرقف فأومأ إلي رسول الله صلى الله عليه و سلم بيده وهو يصلي فدنوت منه فأسبل على شملته و كان رسول الله صلى الله عليه و سلم إذا حزبه أمر صلى فأخبرته خبر القوم أخبرته أني تركتهم يرحلون قال : و أنزل الله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ جاءتكم جنود فأرسلنا عليها ريحا و جنودا لم تروها و كان الله بما تعملون بصيرا } يعني الآيات كلها إلى قوله : { ورد الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيرا و كفى الله المؤمنين القتال و كان الله قويا عزيزا } أي صرف الله عنهم عدوهم بالريح التي أرسلها عليهم و الجنود من الملائكة و غيرهم التي بعثها الله إليهم { و كفى الله المؤمنين القتال } أي لم يحتاجوا إلى منازلتهم و مبارزتهم بل صرفهم القوي العزيز بحوله و قوته
لهذا ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة قال : كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : [ لا إله إلا الله وحده صدق وعده و نصر عبده و أعز جنده و هزم الأحزاب وحده فلا شيء بعده ] (3/217)
و في قوله : { و كفى الله المؤمنين القتال } إشارة إلى وضع الحرب بينهم و بينهم
و هكذا وقع و لم ترجع قريش بعدها إلى حرب المسلمين كما قال محمد بن إسحاق رحمه الله : فلما انصرف أهل الخندق عن الخندق قال رسول الله صلى الله عليه و سلم فيما بلغنا : [ لن تغزوكم قريش بعد عامكم و لكنكم تغزونهم ]
قال : فلم تغز قريش بعد ذلك و كان يغزوهم بعد ذلك حتى فتح الله عليه مكة
و هذا بلاغ من ابن إسحاق
و قد قال الإمام أحمد : [ حدثنا يحيى عن سفيان حدثني أبو إسحاق سمعت سليمان ابن صرد رضي الله عنه يقول : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : الآن نغزوهم و لا يغزونا ]
و هكذا رواه البخاري من حديث إسرائيل و سفيان الثوري كلاهما عن أبي إسحاق السبيعي عن سليمان بن صرد به (3/221)
قال ابن إسحاق : و استشهد من المسلمين يوم الخندق ثلاثة من بني عبد الأشهل و هم سعد بن معاذ ـ و ستأتي وفاته مبسوطة ـ و أنس بن أوس بن عتيك بن عمرو و عبد الله بن سهل و الطفيل بن النعمان و ثعلبة بن غنمة الجشميان السلميان و كعب بن زيد النجاري أصابه سهم غرب فقتله
قال : و قتل من المشركين ثلاثة و هم : منبه بن عثمان بن عبيد بن السباق بن عبد الدار أصابه سهم فمات منه بمكة و نوفل بن عبد الله بن المغيرة اقتحم الخندق بفرسه فتورط فيه فقتل هناك و طلبوا جسده بثمن كبير كما تقدم و عمرو بن عبد ود العامري قتله علي بن أبي طالب
قال ابن هشام : و حدثني الثقة أنه حدث عن الزهري أنه قال : قتل علي يومئذ عمرو بن عبد ود و ابنه حسل بن عمرو قال ابن هشام : و يقال عمرو بن عبد ود و يقال عمرو بن عبد (3/222)
و ما أحل الله تعالى بهم من البأس الشديد مع ما أعد الله لهم في الآخرة من العذاب الأليم
و ذلك لكفرهم و نقضهم العهود التي كانت بينهم و بين رسول الله صلى الله عليه و سلم و ممالأتهم الأحزاب عليه فما أجدى ذلك عنهم شيئا و باءوا بغضب من الله و رسوله و الصفقة الخاسرة في الدنيا و الآخرة
و قد قال الله تعالى : { و رد الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيرا و كفى الله المؤمنين القتال و كان الله قويا عزيزا و أنزل الذين ظاهروهم من أهل الكتاب من صياصيهم و قذف في قلوبهم الرعب فريقا تقتلون و تأسرون فريقا و أورثكم أرضهم و ديارهم و أموالهم و أرضا لم تطأوها و كان الله على كل شيء قديرا }
قال البخاري : [ حدثنا محمد بن مقاتل حدثنا عبد الله حدثنا موسى بن عقبة عن سالم و نافع عن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه و سلم كان إذا قفل من الغزو و الحج و العمرة يبدأ فيكبر ثم يقول : لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك و له الحمد و هو على كل شيء قدير آيبون عابدون ساجدون لربنا حامدون صدق الله وعده و نصر عبده و هزم الأحزاب وحده ]
قال محمد بن إسحاق رحمه الله : و لما أصبح رسول الله صلى الله عليه و سلم انصرف عن الخندق راجعا إلى المدينة و المسلمون و وضعوا السلاح
فلما كانت الظهر أتى جبريل رسول الله صلى الله عليه و سلم كما حدثني الزهري معتجرا بعمامة من استبرق على بغلة عليها رحالة عليها قطيفة من ديباج فقال : أوقد وضعت السلاح يا رسول الله ؟ قال : نعم فال جبريل : ما وضعت الملائكة السلاح بعد و ما رجعت الآن إلا من طلب القوم إن الله يأمرك يا محمد بالمسير إلى بني قريظة فإني عامد إليهم فمزلزل بهم
فأمر رسول الله صلى الله عليه و سلم مؤذنا فأذن في الناس : [ من كان سامعا مطيعا فلا يصلين العصر إلا في بني قريظة ] قال ابن هشام : و استعمل على المدينة ابن أم مكتوم
و قال البخاري : [ حدثني عبد الله بن أبي شيبة حدثنا ابن نمير عن هشام عن أبيه عن عائشة قالت : لما رجع النبي صلى الله عليه و سلم من الخندق و وضع السلاح و اغتسل أتاه جبريل فقال : قد وضعت السلاح ! و الله ما وضعناه ! فاخرج إليهم قال : فإلى أين ؟ قال : هاهنا و أشار إلى بني قريظة فخرج النبي صلى الله عليه و سلم ]
و قال أحمد : [ و حدثنا حسن حدثنا حماد بن سلمة عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه و سلم لما فرغ من الأحزاب دخل المغتسل ليغتسل و جاء جبريل فرأيته من خلل البيت قد عصب رأسه الغبار فقال : يا محمد أوضعتم أسلحتكم ؟ فقال : وضعنا أسلحتنا فقال : إنا لم نضع أسلحتنا بعد انهد إلى بني قريظة ]
ثم قال البخاري : حدثنا موسى حدثنا جرير بن حازم عن حميد بن هلال عن أنس بن مالك قال : كأني أنظر إلى الغبار ساطعا في زقاق بني غنم موكب جبريل حين سار رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى بني قريظة
ثم قال البخاري : [ حدثنا عبد الله بن محمد بن أسماء حدثنا جويرية بن أسماء عن نافع عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم يوم الأحزاب : لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة فأدرك بعضهم العصر في الطريق فقال بعضهم لا نصلي حتى نأتيها و قال بعضهم : بل نصلي لم يرد منا ذلك فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه و سلم فلم يعنف واحدا منهم ]
و هكذا رواه مسلم عن عبد الله بن محمد بن أسماء به
و قال الحافظ البيهقي : [ حدثنا أبو عبد الله الحافظ و أبو بكر أحمد بن الحسن القاضي قالا : حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب حدثنا محمد بن خالد بن علي حدثنا بشر بن حرب عن أبيه حدثنا الزهري أخبرني عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك أن عمه عبيد الله أخبره أن رسول الله صلى الله عليه و سلم لما رجع من طلب الأحزاب وضع عنه اللأمة و اغتسل و استحم فتبدى له جبريل عليه السلام فقال : عذيرك من محارب ! ألا أراك قد وضعت اللأمة و ما وضعناها بعد !
قال : فوثب النبي صلى الله عليه و سلم فزعا فعزم على الناس ألا يصلوا صلاة العصر إلا في بني قريظة
قال : فلبس الناس السلاح فلم يأتوا بني قريظة حتى غربت الشمس فاختصم الناس عند غروب الشمس فقال بعضهم : إن رسول الله صلى الله عليه و سلم عزم علينا ألا نصلي حتى نأتي بني قريظة فإنما نحن في عزيمة رسول الله صلى الله عليه و سلم فليس علينا إثم و صلى طائفة من الناس احتسابا و تركت طائفة منهم الصلاة حتى غربت الشمس فصلوها حين جاءوا بني قريظة احتسابا فلم يعنف رسول الله صلى الله عليه و سلم واحدا من الفريقين ]
ثم روى البيهقي [ من طريق عبد الله العمري عن أخيه عبيد الله عن القاسم بن محمد عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه و سلم كان عندها فسلم علينا رجل و نحن في البيت فقام رسول الله صلى الله عليه و سلم فزعا و قمت في أثره فإذا بدحية الكلبي فقال : هذا جبريل أمرني أن أذهب إلى بني قريظة و قال : قد وضعتم السلاح لكنا لم نضع طلبنا المشركين حتى بلغنا حمراء الأسد و ذلك حين رجع رسول الله صلى الله عليه و سلم من الخندق فقام رسول الله صلى الله عليه و سلم فزعا و قال لأصحابه : عزمت عليكم ألا تصلوا العصر حتى تأتوا بني قريظة فغربت الشمس قبل أن يأتوها فقالت طائفة من المسلمين : إن رسول الله صلى الله عليه و سلم لم يرد أن تدعوا الصلاة فصلوا و قالت طائفة : و الله إنا لفي عزيمة رسول الله صلى الله عليه و سلم و ما علينا من إثم فصلت طائفة إيمانا و احتسابا و تركت طائفة إيمانا و احتسابا و لم يعنف رسول الله صلى الله عليه و سلم واحدا من الفريقين و خرج رسول الله صلى الله عليه و سلم فمر بمجالس بينه و بين بني قريظة فقال : هل مر بكم أحد ؟ فقالوا : مر علينا دحية الكلبي على بغلة شهباء تحته قطيفة ديباج فقال : ذلك جبريل أرسل إلى بني قريظة ليزلزلهم و يقزف في قلوبهم الرعب
فحاصرهم النبي صلى الله عليه و سلم و أمر أصحابه أن يستروه بالحجف حتى يسمع كلامهم فناداهم : يا إخوة القردة و الخنازير فقالوا : يا أبا القاسم لم تكن فحاشا
فحاصرهم حتى نزلوا على حكم سعد بن معاذ و كانوا حلفاءه فحك فيهم أن تقتل مقاتلتهم و تسبى ذراريهم و نساؤهم ]
و لهذا الحديث طرق جيدة عن عائشة و غيرها (3/223)
و قد اختلف العلماء في المصيب من الصحابة يومئذ من هو ؟ بل الإجماع على أن كلا من الفريقين مأجور و معذور غير معنف
فقالت طائفة من العلماء : الذين أخروا الصلاة عن وقتها المقدر لها حتى صلوها في بني قريظة هم المصيبون لأن أمرهم يومئذ بتأخير الصلاة خاص فيقدم على عموم الأمر بها في وقتها المقدر لها شرعا
قال أبو محمد بن حزم الظاهري في كتاب السيرة : وعلم الله أنا لو كنا هناك لم نصل العصر إلا في بني قريظة و لو بعد أيام !
و هذا القول ماش على قاعدته الأصلية في الأخذ بالظاهر
و قالت طائفة أخرى من العلماء : بل الذين صلوا الصلاة في وقتها لما أدركتهم و هم في مسيرهم هم المصيبون لأنهم فهموا أن المراد إنما هو تعجيل السير إلى بني قريظة لا تأخير الصلاة فعملوا بمقتضى الأدلة الدالة على أفضلية الصلاة في أول وقتها مع فهمهم عن الشارع ما أراد و لهذا لم يعنفهم و لم يأمرهم بإعادة الصلاة في وقتها التي حولت إليه يومئذ كما يدعيه أولئك و أما أولئك الذين أخروا فعذروا بحسب ما فهموا و أكثر ما كانوا يؤمرون بالقضاء و قد فعلوه
و أما على قول من يجوز تأخير الصلاة لعذر القتال كما فهمه البخاري حيث احتج على ذلك بحديث ابن عمر المتقدم في هذا فلا إشكال على من أخر و لا على من قدم أيضا و الله أعلم (3/226)
ثم قال ابن إسحاق : و قدم رسول الله صلى الله عليه و سلم علي بن أبي طالب و معه رايته و ابتدرها الناس
و قال موسى بن عقبة في مغازيه عن الزهري : فبينما رسول الله صلى الله عليه و سلم في مغتسله كما يزعمون قد رجل أحد شقيه أتاه جبريل على فرس عليه لأمته حتى وقف بباب المسجد عند موضع الجنائز فخرج إليه رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال له جبريل : غفر الله لك أوقد وضعت لسلاح ؟ ! قال : نعم فقال جبريل : لكنا لم نضعه منذ نزل بك العدو و ما زلت في طلبهم حتى هزمهم الله ـ و يقولون : إن على وجه جبريل لأثر الغبار ـ فقال جبريل : إن الله قد أمرك بقتال بني قريظة فأنا عامد إليهم بمن معي من الملائكة نزلزل بهم الحصون فاخرج بالناس
فخرج رسول الله صلى الله عليه و سلم في أثر جبريل فمر على مجلس بني غنم و هم ينتظرون رسول الله صلى الله عليه و سلم فسألهم فقال : مر عليكم فارس آنفا ؟ قالوا : مر علينا دحية الكلبي على فرس أبيض تحته نمط أو قطيفة ديباج عليه اللأمة فذكروا أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : ذاك جبريل و كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يشبه دحية الكلبي بجبريل فقال : [ الحقوني ببني قريظة فصلوا فيهم العصر ]
فقاموا و ما شاء الله من المسلمين فانطلقوا إلى بني قريظة فحانت صلاة العصر و هم بالطريق فذكروا الصلاة فقال بعضهم لبعض : ألم تعلموا أن رسول الله صلى الله عليه و سلم أمركم أن تصلوا العصر في بني قريظة و قال آخرون : هي الصلاة فصلى منهم قوم و أخرت طائفة الصلاة حتى صلوها في بني قريظة بعد أن غابت الشمس فذكروا لرسول الله صلى الله عليه و سلم من عجل منهم الصلاة و من أخرها فذكروا أن رسول الله صلى الله عليه و سلم لم يعنف واحدا من الفريقين
قال : فلما رأى علي بن أبي طالب رسول الله صلى الله عليه و سلم مقبلا تلقاه و قال : ارجع يا رسول الله فإن الله كافيك اليهود و كان علي قد سمع منهم قولا سيئا لرسول الله صلى الله عليه و سلم و أزواجه رضي الله عنهن فكره أن يسمع ذلك رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم لم تأمرني بالرجوع ؟ فكتمه ما سمع منهم فقال : أظنك سمعت في منهم أذى فامض فإن أعداء الله لو رأوني لم يقولوا شيئا مما سمعت فلما نزل رسول الله صلى الله عليه و سلم بحصنهم و كانوا في أعلاه نادى بأعلى صوته نفرا من أشرافهم حتى أسمعم فقال : أجيبوا يا معشر يهود يا إخوة القردة قد نزل بكم خزي الله عز و جل (3/227)
فحاصرهم رسول الله صلى الله عليه و سلم بكتائب المسلمين بضع عشرة ليلة و رد الله حيي بن أخطب حتى دخل حصن بني قريظة و قذف الله في قلوبهم الرعب و اشتد عليهم الحصار فصرخوا بأبي لبابة بن عبد المنذر ـ و كانوا حلفاء الأنصار ـ فقال أبو لبابة : لا آتيهم حتى يأذن لي رسول الله صلى الله عليه و سلم فقل له رسول الله صلى الله عليه و سلم : قد أذنت لك
فأتاهم أبو لبابة فبكوا إليه و قالوا : يا أبا لبابة ماذا ترى وماذا تأمرنا ؟ فإنه لا طاقة لنا بالقتال
فأشار أبو لبابة بيده إلى حلقه و أمر عليه أصابعه يريهم أنما يراد بهم القتل
فلما انصرف أبو لبابة سقط في يده و رأى أنه قد أصابته فتنة عظيمة فقال : و الله لا أنظر في وجه رسول الله صلى الله عليه و سلم حتى أحدث لله توبة نصوحا يعلمها الله من نفسي
فرجع إلى المدينة فربط يديه إلى جزع من جزوع المسجد و زعموا أنه ارتبط قريبا من عشرين ليلة
فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم حين غاب عليه أبو لبابة : أما فرغ أبو لبابة من حلفائه ؟ فذكر له ما فعل قال : [ لقد أصابته بعدي فتنة و لو جاءني لاستغفرت له و إذ قد فعل هذا فلن أحركه من مكانه حتى يقضي الله فيه ما يشاء ]
و هكذا رواه ابن لهيعة عن أبي الأسود عن عروة و كذا ذكره محمد بن إسحاق في مغازيه في مثل سياق موسى بن عقبة عن الزهري و مثل رواية أبي الأسود عن عروة
قال ابن إسحاق : و نزل رسول الله صلى الله عليه و سلم على بئر من آبار بني قريظة من ناحية أموالهم يقال لها بئر أنى فحاصرهم خمسا و عشرين ليلة حتى جهدهم الحصار و قذف في قلوبهم الرعب (3/229)
و قد كان حيي بن أخطب دخل معهم حصنهم حين رجعت عنهم قريش و غطفان وفاء لكعب بن أسد بما كان عاهد عليه فلما أيقنوا أن رسول الله صلى الله عليه و سلم غير منصرف عنهم حتى يناجزهم قال كعب بن أسد : يا معشر يهود قد نزل بكم من الأمر ما ترون و إني عارض عليكم خلالا ثلاثا فخذوا بما شئتم منها قالوا : و ما هن ؟ قال : نتابع هذا الرجل و نصدقه فوالله لقد تبين لكم أنه لنبي مرسل و أنه للذي تجدونه في كتابكم فتأمنون به على دمائكم و أموالكم و أبنائكم و نسائكم قالوا : لا نفارق حكم التوراة أبدا و لا نستبدل به غيره
قال : فإذا أبيتم علي هذه فهلم فلنقتل أبناءنا و نساءنا ثم نخرج إلى محمد و أصحابه رجالا مصلتين بالسيوف لم نترك وراءنا ثقلا حتى يحكم الله بيننا و بين محمد فإن نهلك نهلك و لم نترك وراءنا نسلا نخشى عليه و إن نظهر فلعمري لنجدن النساء و الأبناء
قالوا : أنقتل هؤلاء المساكين ؟ فما خير العيش بعدهم ؟ !
قال : فإن أبيتم علي هذه فالليلة ليلة السبت و إنه عسى أن يكون محمد و أصحابه قد أمنونا فيها فانزلوا لعلنا نصيب من محمد و أصحابه غرة
قالوا : أنفسد سبتنا و نحدث فيه ما لم يحدث فيه من كان قبلنا إلا من قد علمت فأصابه ما لم يخف عنك من المسخ
فقال : ما بات رجل منكم منذ ولدته أمه ليلة من الدهر حازما ثم إنهم بعثوا إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم أن ابعث إلينا أبا لبابة بن عبد المنذر أخا بني عمرو بن عوف و كانوا حلفاء الأوس نستشيره في أمرنا
فأرسله رسول الله صلى الله عليه و سلم فلما رأوه قام إليه الرجال و جهش إليه النساء و الصبيان يبكون في وجهه فرق لهم و قالوا : يا أبا لبابة أترى أن ننزل على حكم محمد ؟ قال : نعم و أشار بيده إلى حلقه أنه الذبح
قال أبو لبابة : فوالله ما زالت قدماي من مكانها حتى عرفت أني قد خنت الله و رسوله
ثم انطلق أبو لبابة على وجهه و لم يأت رسول الله صلى الله عليه و سلم حتى ارتبط في المسجد إلى عمود من عمده و قال : لا أبرح مكاني حتى يتوب الله علي مما صنعت و أعاهد الله ألا أطأ بني قريظة أبدا و لا أرى في بلد خنت الله و رسوله فيه أبدا
قال ابن هشام : و أنزل الله فيما قال سفيان بن عيينة عن إسماعيل بن أبي خالد عن عبد الله بن أبي قتادة : { يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول و تخونوا أماناتكم و أنتم تعلمون }
قال ابن هشام : أقام مرتبطا ست ليال تأتيه امرأته في وقت كل صلاة فتحله حتى يتوضأ و يصلي ثم يرتبط حتى نزلت توبته في قوله تعالى : { و آخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملا صالحا و آخر سيئا عسى الله أن يتوب عليهم إن الله غفور رحيم }
و قول موسى بن عقبة أنه مكث عشرين ليلة مرتبطا به و الله أعلم
و ذكر ابن إسحاق أن الله أنزل توبته على رسوله من آخر الليل و هو في بيت أم سلمة فجعل يبتسم فسألته أم سلمة فأخبرها بتوبة الله على أبي لبابة فاستأذنته أن تبشره فأذن لها فخرجت فبشرته فثار الناس إليه يبشرونه و أرادوا أن يحلوه من رباطه فقال : و الله لا يحلني منه إلا رسول الله صلى الله عليه و سلم فلما خرج رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى صلاة الفجر حله من رباطه رضي الله عنه و أرضاه (3/230)
قال ابن إسحاق : ثم إن ثعلبة بن سعية و أسيد بن سعية و أسد بن عبيد و هم نفر من بني هدل ليسوا من بني قريظة و لا النضير نسبهم فوق ذلك هم بنو عم القوم أسلموا في تلك الليلة التي نزلت فيها قريظة على حكم رسول الله صلى الله عليه و سلم
و خرج في تلك الليلة عمرو بن سعدى القرظي فمر بحرس رسول الله صلى الله عليه و سلم و عليهم محمد بن مسلمة تلك الليلة فلما رآه قال : من هذا ؟ قال : أنا عمرو بن سعدى و كان عمرو قد أبى أن يدخل مع بني قريظة في غدرهم برسول الله صلى الله عليه و سلم و قال : لا أغدر بمحمد أبدا فقال محمد بن مسلمة حين عرفه : اللهم لا تحرمني إقالة عثرات الكرام ثم خلى سبيله فخرج على وجهه حتى بات في مسجد رسول الله صلى الله عليه و سلم بالمدينة تلك الليلة ثم ذهب لم يدر أين توجه من الأرض إلى يومه هذا فذكر شأنه لرسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : [ ذاك رجل نجاه الله بوفائه ]
قال : و بعض الناس يزعم أنه كان أوثق برمة فيمن أوثق من بني قريظة
فأصبحت رمته ملقاة و لم يدر أين ذهب فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم فيه تلك المقالة و الله أعلم أي ذلك كان (3/232)
قال ابن إسحاق : فلما أصبحوا نزلوا على حكم رسول الله صلى الله عليه و سلم
فتواثبت الأوس فقالوا : يا رسول الله إنهم كانوا موالينا دون الخزرج و قد فعلت في موالي إخواننا بالأمس ما قد علمت يعنون عفوه عن بني قينقاع حين سأله فيهم عبد الله بن أبي كما تقدم
قال ابن إسحاق : فلما كلمته الأوس قال رسول الله صلى الله عليه و سلم يا معشر الأوس ألا ترضون أن يحكم فيهم رجل منكم ؟ قالوا : بلى قال : فذلك إلى سعد بن معاذ و كان رسول الله صلى الله عليه و سلم قد جعل سعد بن معاذ في خيمة لامرأة من أسلم يقال لها رفيدة في مسجده و كانت تداوي الجرحى فلما حكمه في بني قريظة أتاه قومه فحملوه على حمار قد وطأوا له بوسادة من أدم و كان رجلا جسيما جميلا ثم أقبلوا معه إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم و هم يقولون : يا أبا عمرو أحسن في مواليك فإن رسول الله صلى الله عليه و سلم إنما ولاك ذلك لتحسن فيهم فلما أكثروا عليه قال : قد آن لسعد ألا تأخذه في الله لومة لائم !
فرجع من كان معه من قومه إلى دار بني عبد الأشهل فنعى لهم رجال بني قريظة قبل أن يصل إليهم سعد عن كلمته التي سمع منه (3/232)
فلما انتهى سعد إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم و المسلمين قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ قوموا إلى سيدكم ] فأما المهاجرون من قريش فيقولون : إنما أراد الأنصار و أما الأنصار فيقولون : قد عم رسول الله صلى الله عليه و سلم المسلمين فقاموا إليه
فقالوا : يا أبا عمرو إن رسول الله صلى الله عليه و سلم قد ولاك أمر مواليك لتحكم فيهم
فقال سعد : عليكم بذلك عهد الله و ميثاقه أن الحكم فيهم لما حكمت ؟ قالوا : نعم قال : و على من هاهنا في الناحية التي فيها رسول الله صلى الله عليه و سلم و هو معرض عن رسول الله صلى الله عليه و سلم إجلالا له فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : نعم
قال سعد : فإني أحكم فيهم أن يقتل الرجال و تقسم الأموال و تسبي الذراري و النساء
قال ابن إسحاق : [ فحدثني عاصم بن عمر بن قتادة عن عبد الرحمن بن عمر بن سعد بن معاذ عن علقمة بن وقاص الليثي قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم لسعد : لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبعة أرقعة ]
و قال ابن هشام : حدثني من أثق به من أهل العلم أن علي بن أبي طالب صاح و هم محاصر و بني قريظة : يا كتيبة الإيمان و تقدم هو و الزبير بن العوام و قال : و الله لأذوقن ما ذاق حمزة أو أقتحم حصنهم فقالوا : يا محمد ننزل على حكم سعد بن معاذ (3/233)
و قد قال الإمام أحمد : [ حدثنا محمد بن جعفر حدثنا شعبة عن سعد بن إبراهيم سمعت أبا أمامة بن سهل سمعت أبا سعيد الخدري قال : نزل أهل قريظة على حكم سعد بن معاذ قال : فأرسل رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى سعد فأتاه على حمار فلما دنا قريبا من المسجد قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : قوموا لسيدكم أو خيركم ثم قال : إن هؤلاء نزلوا على حكمك قال : نقتل مقاتلهم ونسبي ذريتهم قال : فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : قضيت بحكم الله و ربما قال : قضيت بحكم الملك و في رواية الملك ]
أخرجاه في الصحيحين من طرق عن شعبة
و قال الإمام أحمد : [ حدثنا حجين و يونس قالا : حدثنا الليث بن سعد عن أبي الزبير عن جابر بن عبد الله أنه قال : رمي يوم الأحزاب سعد بن معاذ فقطعوا أكحله فحسمه رسول الله صلى الله عليه و سلم بالنار فانتفخت يده فنزفه فلما رأى ذلك قال : اللهم لا تخرج نفسي حتى تقر عيني من بني قريظة فاستمسك عرقه فما قطر قطرة حتى نزلوا على حكم سعد فأرسل إليه فحكم أن تقتل رجالهم و تسبى نساؤهم و ذراريهم يستعين بهم المسلمون فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : أصبت حكم الله فيهم و كانوا أربعمائة فلما فرغ من قتلهم انفتق عرقه فمات ]
و قد رواه الترمذي و النسائي جميعا عن قتيبة عن الليث به و قال الترمذي : حسن صحيح
و قال الإمام أحمد : [ حدثنا ابن نمير عن هشام أخبرني أبي عن عائشة قالت : لما رجع رسول الله صلى الله عليه و سلم من الخندق و وضع السلاح و اغتسل فأتاه جبريل و على رأسه الغبار فقال : قد وضعت السلاح فوالله ما وضعتها اخرج إليهم قال : رسول الله صلى الله عليه و سلم : أين ؟ قال : هاهنا و أشار إلى بني قريظة فخرج رسول الله صلى الله عليه و سلم إليهم قال هشام : فأخبرني أبي أنهم نزلوا على حكم النبي صلى الله عليه و سلم فرد الحكم فيهم إلى سعد قال : فإني أحكم أن تقتل المقاتلة و تسبى النساء و الذرية و تقسم أموالهم ]
قال هشام : قال أبي : فأخبرت أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ لقد حكمت فيهم بحكم الله ]
و قال البخاري : [ حدثنا زكريا بن يحيى حدثنا عبد الله بن نمير حدثنا هشام عن أبيه عن عائشة قالت : أصيب سعد يوم الخندق رماه رجل من قريش يقال له حبان بن العرقة رماه في الأكحل فضرب النبي صلى الله عليه و سلم خيمة في المسجد ليعوده من قريب فلما رجع رسول الله صلى الله عليه و سلم من الخندق وضع السلاح و اغتسل فأتاه جبريل و هو ينفض رأسه من الغبار فقال : قد وضعت السلاح ؟ و الله ما وضعته اخرج إليهم قال : النبي صلى الله عليه و سلم : فأين ؟ فأشار إلى بني قريظة فأتاهم رسول الله صلى الله عليه و سلم فنزلوا على حكمه فرد الحكم إلى سعد قال : فإني أحكم فيهم أن تقتل المقاتلة و أن تسبى النساء و الذرية و أن تقسم أموالهم ] قال هشام : فأخبرني أبي عن عائشة أن سعدا قال : اللهم إنك تعلم أنه ليس أحد أحب إلى أن أجاهدهم فيك من قوم كذبوا رسولك و أخرجوه اللهم فإني أظن أنك قد وضعت الحرب بيننا و بينهم فإن كان بقي من حرب قريش شيء فأبقني له حتى أجاهدهم فيك و إن كنت وضعت الحرب فافجرها و اجعل موتي فيها فانفجرت من لبته فلم يرعهم و في المسجد خيمة من بني غفار إلا الدم يسيل إليهم فقالوا : يا أهل الخيمة ما هذا الذي يأتينا من قبلكم ؟ فإذا سعد يغذو جرحه دما فمات منها
و هذا رواه مسلم من حديث عبد الله بن نمير به
قلت : كان دعا أولا بهذا الدعاء قبل أن يحكم في بني قريظة و لهذا قال فيه : و لا تمتني حتى تقر عيني من بني قريظة فاستجاب الله له فلما حكم فيهم و أقر الله عينه أي قرار دعا ثانيا بهذا الدعاء فجعلها الله له شهادة رضي الله عنه و أرضاه و سيأتي ذكر وفاته قريبا إن شاء الله (3/234)
و قد رواه الإمام أحمد من وجه آخر عن عائشة مطولا جدا و فيه فوائد فقال : حدثنا يزيد أنبأنا محمد بن عمرو عن أبيه عن جده علقمة بن وقاص قال : أخبرتني عائشة قالت : خرجت يوم الخندق أقفو الناس فسمعت وئيد الأرض ورائي فإذا أنا بسعد بن معاذ و معه ابن أخيه الحارث بن أوس يحمل مجنة قالت : فجلست إلى الأرض فمر سعد و عليه درع من حديد قد خرجت منها أطرافه فأنا أتخوف على أطراف سعد قالت : و كان سعد من أعظم الناس و أطولهم فمر و هو يرتجز ويقول :
( لبث قليلا يدرك الهيجا حمل ... ما أحسن الموت إذا حان الأجل )
قالت : فقمت فاقتحمت حديقة فإذا نفر من المسلمين فإذا فيهم عمر بن الخطاب و فيهم رجل عليه سبغة له تعني المغفر فقال عمر : ما جاء بك و الله إنك لجريئة و ما يؤمنك أن يكون بلاء أو يكون تحوز فما زال يلومني حتى تمنيت أن الأرض فتحت ساعتئذ فدخلت فيها فرفع الرجل السبغة عن وجهه فإذا هو طلحة بن عبيد الله فقال : يا عمر ويحك إنك قد أكثرت منذ اليوم و أين التحوز أو الفرار إلا إلى الله عز و جل
قالت : و يرمي سعدا رجل من قريش يقال له ابن العرقة و قال : خذها و أنا ابن العرقة
فأصاب أكحله فقطعه فدعا الله سعد فقال : اللهم لا تمتني حتى تقر عيني من بني قريظة
قالت : وكانوا حلفاء و مواليه في الجاهلية قالت فرقأ كلمه و بعث الله الريح على المشركين و كفى الله المؤمنين القتال و كان الله قويا عزيزا فلحق أبو سفيان و من معه بتهامة و لحق عيينة بن بدر و من معه بنجد
و رجعت بنو قريظة فتحصنوا في صياصيهم و رجع رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى المدينة و أمر بقبة من أدم فضربت على سعد في المسجد قالت : فجاء جبريل و إن على ثناياه لنقع الغبار فقال : أقد وضعت السلاح ! لا و الله ما وضعت الملائكة السلاح بعد اخرج إلى بني قريظة فقاتلهم
قالت : فلبس رسول الله صلى الله عليه و سلم لأمته و أذن في الناس بالرحيل أن يخرجوا فمر على بني غنم و هم جيران المسجد حوله فقال : من مر بكم ؟ قالوا : مر بنا دحية الكلبي و كان دحية الكلبي نشبه لحيته و سنه و وجهه جبريل عليه السلام
فأتاهم رسول الله صلى الله عليه و سلم فحاصرهم خمسا و عشرين ليلة فلما اشتد حصرهم و اشتد البلاء قيل لهم : انزلوا على حكم رسول الله صلى الله عليه و سلم فاستشاروا أبا لبابة ابن عبد المنذر فأشار إليهم أنه الذبح قالوا : ننزل على حكم سعد بن معاذ فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : انزلوا على حكم سعد بن معاذ فأتى به على حمار عليه إكاف من ليف قد حمل عليه و حف به قومه فقالوا : يا أبا عمرو حلفاؤك و مواليك و أهل النكاية و من قد علمت قالت : و لا يرجع إليهم شيئا و لا يلتفت إليهم حتى إذا دنا من دورهم التفت إلى قومه فقال : قد آن لي ألا أبالي في الله لومة لائم !
قالت : قال أبو سعيد : فلما طلع قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ قوموا إلى سيدكم فأنزلوه قال عمر سيدنا الله قال : أنزلوه قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : احكم فيهم فقال سعد : فإني أحكم فيهم أن تقتل مقاتلتهم و تسبى ذراريهم و تقسم أموالهم فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : لقد حكمت فيهم بحكم الله و رسوله ]
ثم دعا سعد فقال : اللهم إن كنت أبقيت نبيك من حرب قريش شيئا فأبقني لها و إن كنت قطعت الحرب بينه و بينهم فاقبضني إليك قالت : فانفجر كلمه و كان قد برىء حتى لا يرى منه إلا مثل الخرص و رجع إلى قبته التي ضرب عليه رسول الله صلى الله عليه و سلم
قالت عائشة : فحضره رسول الله صلى الله عليه و سلم و أبو بكر و عمر ن قالت فوالذي نفس محمد بيده إني لأعرف بكاء عمر من بكاء أبي بكر و أنا في حجرتي و كانوا كما قال الله : { رحماء بينهم }
قال علقمة : فقلت : يا أمه كيف كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يصنع ؟ قالت : [ كانت عينه لا تدمع على أحد و لكنه كان إذا وجد فإنما هو آخذ بلحيته ]
و هذا الحديث إسناده جيد وله شواهد من وجوه كثيرة و فيه التصريح بدعاء سعد مرتين مرة قبل حكمه في بني قريظة و مرة بعد ذلك كما قلناه أولا و لله الحمد و المنة
و سنذكر كيفية وفاته و دفنه و فضله في ذلك رضي الله عنه و أرضاه بعد فراغنا من القصة (3/236)
قال ابن إسحاق : ثم استنزلوا فحبسهم رسول الله صلى الله عليه و سلم بالمدينة في دار بنت الحارث امرأة من بني النجار قلت : هي نسيبة ابنة الحارث بن كرز بن حبيب بن عبد شمس و كانت تحت مسيلمة الكذاب ثم خلف عليها عبد الله بن عامر بن كريز ثم خرج صلى الله عليه و سلم إلى سوق المدينة فخندق فيها خنادق ثم بعث إليهم فضرب أعناقهم في تلك الخنادق فخرج بهم إليه أرسالا و فيهم عدو الله حيي بن أحطب و كعب بن أسد رأس القوم و هم ستمائة أو سبعمائة و المكثر لهم يقول : كانوا ما بين الثمانمائة و التسعمائة
قلت : و قد تقدم فيما رواه الليث عن أبي الزبير عن جابر أنهم كانوا أربعمائة فالله أعلم
قال ابن إسحاق : و قد قالوا لكعب بن أسد و هم يذهب بهم إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم أرسالا : يا كعب ما تراه يصنع بنا ؟ أفي كل موطن لا تعقلون ! ألا ترون الداعي لا ينزع و من ذهب به منكم لا يرجع هو و الله القتل ! (3/238)
فلم يزل ذلك الدأب حتى فرغ منهم و أتى بحيي بن أخطب و عليه حلة له فقاحية قد شقها عليه من كل ناحية قدر أنملة لئلا يسلبها مجموعة يداه إلى عنقه بحبل فلما نظر إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : أما و الله ما لمت نفسي في عداوتك و لكنه من يخذل الله يخذل ثم أقبل على الناس فقال : أيها الناس إنه لا بأس بأمر الله كتاب و قدر و ملحمة كتبها الله على بني إسرائيل ! ثم جلس فضربت عنقه
فقال جبل بن جوال الثعلبي :
( لعمرك ما لام ابن أخطب نفسه ... و لكنه من يخذل الله يخذل )
( لجاهد حتى أبلغ النفس عذرها ... و قلقل يبغي العز كل مقلقل ) (3/239)
و ذكر ابن إسحاق : قصة الزبير بن باطا و كان شيخا كبيرا قد قد عمي و كان قد من يوم بعاث على ثابت بن قيس بن شماس و جز ناصية فلما كان هذا اليوم أراد أن يكافئه فجاءه فقال : هل تعرفني يا أبا عبد الرحمن ؟ قال : و هل يجهل مثلي مثلك فقال له ثابت : أريد أن أكافئك فقال : إن الكريم يجزي الكريم
فذهب ثابت إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فاستطلقه فأطلقه له ثم جاءه فأخبره فقال شيخ كبير لا أهل له و لا ولد فما يصنع بالحياة ! فذهب إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فاستطلق له امرأته و ولده فأطلقهم له ثم جاءه فقال : أهل بيت بالحجاز لا مال لهم فما بقاؤهم على ذلك ؟ فأتى ثابت إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فاستطلق مال الزبير بن باطا فأطلقه له
ثم جاءه فأخبره فقال له : يا ثابت ما فعل الذي كان وجهه مرآة صينية تتراءى فيها عذارى حي كعب بن أسد ؟ قال : قتل
قال : فما فعل سيد الحضر و البادي حيي بن أخطب ؟ قال : قتل
قال : فما فغل مقدمتنا إذا شددنا و حاميتنا إذا فررنا : عزال بن شمول ؟ قال : قتل
قال : فما فعل المجلسان ؟ يعني بني كعب بن قريظة و بني عمرو بن قريظة قال : ذهبوا قتلوا قال : فإني أسألك يا ثابت بيدي عندك إلا ألحقتني بالقوم فوالله ما في العيش بعد هؤلاء من خير فما أنا بصابر لله فيلة دلو ناضح حتى ألقى الأحبة
فقدمه ثابت فضربت عنقه
فلما بلغ أبو بكر الصديق قوله : ( ألقى الأحبة ) قال : يلقاهم و الله في نار جهنم خالدا فيها مخلدا !
قال ابن إسحاق : ( فيلة ) بالفاء و الياء المثناة من أسفل و قال ابن هشام بالقاف و الباء الموحدة و قال ابن هشام : الناضح : البعير الذي يستقي عليه الماء لسقي النخل
و قال أبو عبيدة : معناه إفراغة دلو (3/240)
قال ابن إسحاق : وكان رسول الله صلى الله عليه و سلم قد أمر بقتل كل من أنبت منهم فحدثني شعبة بن الحجاج عن عبد الملك بن عمير عن عطية القرظي قال : كان رسول الله صلى الله عليه و سلم قد أمر أن يقتل من بني قريظة كل من أنبت منهم و كنت غلاما فوجدني لم أنبت فخلوا سبيلي
و رواه أهل السنن الأربعة من حديث عبد الملك بن عمير عن عطية القرظي نحوه
و قد استدل به من ذهب من العلماء إلى أن انبات الشعر الخشن حول الفرج دليل على البلوغ بل هو بلوغ في أصح قولي الشافعي و من العلماء من يفرق بين صبيان أهل الذمة فيكون بلوغا في حقهم دون غيرهم لأن المسلم قد يتأذى بذلك المقصد
و قد روى اسحاق عن أيوب بن عبد الرحمن أن سلمى بنت قيس أم المنذر استطلقت من رسول الله صلى الله عليه و سلم رفاعة بن شموال و كان قد بلغ فلاذ بها و كان يعرفهم قبل ذلك فأطلقه لها و كانت قالت : يا رسول الله إن رفاعة يزعم أنه سيصلي و يأكل لحم الجمل فأجابها إلى ذلك فأطلقه (3/241)
قال ابن إسحاق : و حدثني محمد بن جعفر بن الزبير عن عروة عن عائشة قالت : لم يقتل من نسائهم إلا امرأة واحدة قالت : و الله إنها لعندي تحدث معي تضحك ظهرا و بطنا و رسول الله صلى الله عليه و سلم يقتل رجالها في السوق إذ هتف هاتف باسمها أين فلانة ؟ قالت : أنا و الله قالت : قلت لها : ويلك ما لك ؟ قالت : أقتل ! قلت : ولم ؟ قالت لحدث أحدثته قالت : فانطلق بها فضربت عنقها
و كانت عائشة تقول : فوالله ما أنسى عجبا منها طيب نفسها و كثرة ضحكها و قد عرفت أنها تقتل !
و هكذا رواه الإمام أحمد عن يعقوب بن إبراهيم عن أبيه عن محمد ابن إسحاق به
قال ابن إسحاق : هي التي طرحت الرحى على خلاد بن سويد فقتلته يعني فقتلها رسول الله صلى الله عليه و سلم به
قال ابن إسحاق في موضع آخر : و سماها نباتة امرأة الحكم القرظي (3/242)
قال ابن إسحاق : ثم إن رسول الله صلى الله عليه و سلم قسم أموال بني قريظة و نساءهم و أبناءهم على المسلمين بعد ما أخرج الخمس و قسم للفارس ثلاثة أسهم سهمين للفرس و سهما لراكبه و سهما للراجل و كانت الخيل يومئذ ستا و ثلاثين قال : و كان أول فيء وقعت فيه السهمان و خمس
قال ابن إسحاق : و بعث رسول الله صلى الله عليه و سلم سعيد بن زيد بسبايا من بني قريظة إلى نجد فابتاع بها خيلا و سلاحا و كان رسول الله صلى الله عليه و سلم قد اصطفى من نسائهم ريحانة بنت عمرو بن خنافة إحدى نساء بني عمرو بن قريظة و كان عليها حتى توفي عنهما و هي في ملكه و قد كان رسول الله صلى الله عليه و سلم قد عرض عليها الإسلام فامتنعت ثم أسلمت بعد ذلك فسر رسول الله صلى الله عليه و سلم بإسلامها و قد عرض عليها أن يعتقها و يتزوجها فاختارت أن تستمر على الرق ليكون أسهل عليها فلم تزل عنده حتى توفي عليه الصلاة و السلام
ثم تكلم ابن إسحاق على ما نزل من الآيات في قصة الخندق من أول سورة الأحزاب و قد ذكرنا ذلك مستقصى في تفسيرها ولله الحمد والمنة (3/242)
و قد قال ابن إسحاق : و استشهد من المسلمين يوم بني قريظة خلاد بن سويد بن ثعلبة بن عمرو الخزرجي طرحت عليه رحا فشدخته شدخا شديدا فزعموا أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : ( إن له لأجر شهيدين )
قلت : كان الذي ألقى عليه الرحى تلك المرأة التي لم يقتل من بني قريظة امرأة غيرها كما تقدم و الله أعلم
قال ابن إسحاق : و مات أبو سنان بن محصن بن حرثان من بني أسد بن خزيمة و رسول الله صلى الله عليه و سلم محاصر بني قريظة فدفن في مقبرتهم اليوم (3/243)
قد تقدم أن حبان بن العرقة لعنه الله رماه بسهم فأصاب أكحله فحسمه رسول الله صلى الله عليه و سلم كيا بالنار فاستمسك الجرح و كان سعد قد دعا الله ألا يميته حتى حتى يقر عينه من بني قريظة و ذلك حين نقضوا ما كان بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه و سلم من العهود والمواثيق و الذمام و مالوا عليه مع الأحزاب فلما ذهب الأحزاب و انقشعوا عن المدينة و باءت بني قريظة بسواد الوجه و الصفقة الخاسرة في الدنيا و الآخرة و سار إليهم رسول الله صلى الله عليه و سلم ليحاصرهم كما تقدم فلما ضيق عليهم و أخذهم من كل جانب أنابوا أن ينزلوا على حكم رسول الله صلى الله عليه و سلم فيحكم فيهم بما أراد الله فرد الحكم فيهم إلى رئيس الأوس و كانوا حلفاءهم في الجاهلية و هو سعد بن معاذ فرضوا بذلك و يقال : بل نزلوا ابتداء على حكم سعد لما يرجون من حنوه عليهم و إحسانه و ميله إليهم و لم يعلموا بأنهم أبغض إليه من أعدادهم من القردة و الخنازير لشدة إيمانه و صدقيته رضي الله عنه و أرضاه
فبعث إليه رسول الله صلى الله عليه و سلم و كان في خيمة في المسجد النبوي فجيء به على حمار تحته إكاف قد وطيء تحته لمرضه و لما قارب خيمة الرسول صلى الله عليه و سلم أمر عليه السلام من هناك بالقيام له قيل : لينزل من شدة مرضه و قيل توقيرا له بحضرة المحكوم عليهم ليكون أبلغ في نفوذ حكمه و الله أعلم
فلما حكم فيهم بالقتل و السبي و أقر الله عينه و شفى صدره منهم و عاد إلى خيمته من المسجد النبوي صحبه رسول الله صلى الله عليه و سلم دعا الله عز و جل أن تكون له شهادة و اختار الله له ما عنده فانفجر جرحه من الليل فلم يزل يخرج منه الدم حتى مات رضي الله عنه
قال ابن إسحاق : فلما انقضى شأن بني قريظة انفجر بسعد بن معاذ جرحه فمات منه شهيدا
حدثني معاذ بن رفاعة الزرقي قال : حدثني من شئت من رجال قومي : أن جبريل أتى رسول الله صلى الله عليه و سلم حين قبض سعد بن معاذ من جوف الليل معتجرا بعمامة من استبرق فقال : يا محمد من هذا الميت الذي فتحت له أبواب السماء و اهتز له العرش ؟ قال : فقام رسول الله صلى الله عليه و سلم سريعا يجر ثوبه إلى سعد فوجده قد مات رضي الله عنه
هكذا ذكره ابن إسحاق رحمه الله (3/243)
و قد قال الحافظ البيهقي في الدلائل : [ حدثنا أبو عبد الله الحافظ حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب حدثنا محمد بن عبد الله بن عبد الحكم حدثنا أبي و شعيب بن الليث قالا : حدثنا الليث بن سعد عن يزيد بن الهاد عن معاذ بن رفاعة عن جابر بن عبد الله قال : جاء جبريل إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : من هذا العبد الصالح الذي مات فتحت له أبواب السماء و تحرك له العرش ؟
قال : فخرج رسول الله صلى الله عليه و سلم فإذا سعد بن معاذ قال : فجلس رسول الله صلى الله عليه و سلم على قبره و هو يدفن فبينما هو جالس إذ قال : سبحان الله مرتين فسبح القوم ثم قال : الله أكبر الله أكبر فكبر القوم ثم قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : عجبت لهذا العبد الصالح شدد عليه في قبره حتى كان هذا حين فرج له ]
و روى الإمام أحمد : و النسائي [ من طرق يزيد بن عبد الله بن أسامة بن الهاد و يحيى بن سعيد عن معاذ بن رفاعة عن جابر قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم لسعد يوم مات و هو يدفن : سبحان الله لهذا الصالح الذي تحرك له عرش الرحمن و فتحت له أبواب السماء شدد عليه ثم فرج الله عنه ]
و قال ابن إسحاق : [ حدثني معاذ بن رفاعة عن محمود بن عبد الرحمن بن عمرو ابن الجموح عن جابر بن عبد الله قال : لما دفن سعد و نحن مع رسول الله صلى الله عليه و سلم سبح رسول الله صلى الله عليه و سلم فسبح الناس معه ثم كبر فكبر الناس معه فقالوا : يا رسول الله مم سبحت ؟ قال : لقد تضايق على هذا العبد الصالح قبره حتى فرج الله عنه ]
و هكذا رواه الإمام أحمد عن يعقوب بن إبراهيم بن سعد عن أبيه عن ابن إسحاق به
قال ابن هشام : و مجاز هذا الحديث قول عائشة : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ إن للقبر ضمة لو كان أحد ناجيا منها لكان سعد بن معاذ ]
قلت : و هذا الحديث قد رواه الإمام أحمد : [ حدثنا يحيى عن شعبة عن سعد بن إبراهيم عن نافع عن عائشة عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : إن للقبر ضغطة و لو كان أحد ناجيا منها لنجا سعد بن معاذ ]
و هذا الحديث على شرط الصحيحين إلا أن الإمام أحمد رواه عن غندر عن شعبة عن سعد بن إبراهيم عن إنسان عن عائشة به
و رواه الحافظ البزار [ عن نافع عن ابن عمر قال : حدثنا عبد الأعلى بن حماد حدثنا داود عن عبد الرحمن حدثنا عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : لقد هبط يوم مات سعد بن معاذ سبعون ألف ملك إلى الأرض لم يهبطوا قبل ذلك و لقد ضمه القبر ضمة ثم بكى نافع ] !
و هذا إسناد جيد لكن قال البزار : رواه غيره عن عبيد الله عن نافع مرسلا
ثم رواه البزار [ عن سليمان بن سيف عن أبي عتاب عن سكين بن عبد الله بن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب عن نافع عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : لقد نزل لموت لسعد بن معاذ سبعون ألف ملك ما وطئوا الأرض قبلها
و قال حين دفن : سبحان الله لو انفلت أحد من ضغطة القبر لانفلت منها سعد ]
و قال البزار : [ حدثنا إسماعيل بن حفص عن محمد بن فضيل حدثنا عطاء بن السائب عن مجاهد عن ابن عمر قال : اهتز العرش لحب لقاء الله سعد بن معاذ فقيل : إنما يعني السرير و رفع أبويه على العرش قال : تفتحت أعواده قال : و دخل رسول الله صلى الله عليه و سلم قبره فاحتبس فلما خرج قيل له : يا رسول الله ما حبسك ؟ قال : ضم سعد في القبر ضمة فدعوت الله فكشف عنه ]
قال البزار : تفرد به عطاء بن السائب قلت : و هو متكلم فيه
و قد ذكر البيهقي رحمه الله بعد روايته ضمة سعد رضي الله عنه في القبر أثرا غريبا فقال : [ حدثنا أبو عبد الله الحافظ حدثنا أبو العباس حدثنا أحمد بن عبد الجبار حدثنا يونس عن ابن إسحاق حدثني أمية بن عبد الله أنه سأل بعض أهل سعد : ما بلغكم من قول رسول الله صلى الله عليه و سلم في هذا ؟ فقالوا : ذكر لنا أن رسول الله صلى الله عليه و سلم سئل عن ذلك فقال : كان يقصر في بعض الطهور من البول ] (3/245)
و قال البخاري : [ حدثنا محمد بن المثنى حدثنا الفضل بن مساور حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن أبي سفيان عن جابر قال : سمعت النبي صلى الله عليه و سلم يقول اهتز العرش لموت سعد بن معاذ ]
و عن الأعمش [ حدثنا أبو صالح عن جابر عن النبي صلى الله عليه و سلم مثله فقال رجل لجابر ؟ فإن البراء بن عازب يقول : اهتز السرير ؟ فقال : إنه كان بين هذين الحيين ضغائن سمعت النبي صلى الله عليه و سلم يقول : اهتز عرش الرحمن لموت سعد بن معاذ ]
و رواه مسلم عن عمرو الناقد عن عبد الله بن إدريس و ابن ماجة عن علي بن محمد عن أبي معاوية كلاهما عن الأعمش به و ليس عندهما زيادة قول الأعمش عن أبي صالح عن جابر
و قال أحمد : [ حدثنا عبد الرزاق عن ابن جريج أخبرني أبو الزبير أنه سمع جابر ابن عبد الله يقول : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول و جنازة سعد بن معاذ بين أيديهم : اهتز لها عرش الرحمن ]
و رواه مسلم عن عبد بن حميد و الترمذي عن محمود بن غيلان كلاهما عن عبد الرزاق به
قال الإمام أحمد : [ حدثنا يحيى بن سعيد حدثنا عوف حدثنا أبو نضرة سمعت أبا سعيد عن النبي صلى الله عليه و سلم : اهتز العرش لموت سعد بن معاذ ]
و رواه النسائي عن يعقوب بن إبراهيم عن يحيى به
و قال أحمد : [ حدثنا عبد الوهاب عن سعيد قال قتادة : حدثنا أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال و جنازته موضوعة : اهتز لها عرش الرحمن ]
و رواه مسلم عن محمد بن عبد الله الأزدي عن عبد الوهاب به
و قد روى البيهقي من حديث المعتمر بن سليمان عن أبيه عن الحسن البصري قال : اهتز عرش الرحمن فرحا بروحه
و قال الحافظ البزار : [ حدثنا زهير بن محمد ن حدثنا عبد الرزاق حدثنا معمر عن قتادة عن أنس قال : لما حملت جنازة سعد قال المنافقون : ما أخف جنازته ! و ذلك لحكمه في بني قريظة فسئل رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : لا و لكن الملائكة تحملته ]
إسناد جيد
و قال البخاري : [ حدثنا محمد بن بشار حدثنا غندر حدثنا شعبة عن أبي إسحاق سمعت البراء بن عازب يقول : أهديت للنبي صلى الله عليه و سلم حلة حرير فجعل أصحابه يمسونها و يعجبون من لينها فقال : أتعجبون من لين هذه ؟ لمناديل سعد بن معاذ خير منها أو ألين ]
ثم قال : رواه قتادة و الزهري سمعنا أنسا عن النبي صلى الله عليه و سلم
و قال أحمد : [ حدثنا عبد الوهاب عن سعيد هو ابن أبي عروبة عن قتادة عن أنس بن مالك أن أكيدر دومة أهدى إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم جبة و ذلك قبل أن ينهي عن الحرير فلبسها فعجب الناس منها فقال : و الذي نفسي بيده لمناديل سعد بن معاذ في الجنة أحسن من هذه ]
و هذا إسناد على شرط الشيخين و لم يخرجوه و إنما ذكره البخاري تعليقا
و قال أحمد : [ حدثنا يزيد حدثنا محمد بن عمرو حدثني واقد بن عمرو بن سعد بن معاذ قال محمد : و كان واقد من أحسن الناس و أعظمهم و أطولهم قال : دخلت على أنس بن مالك فقال لي : من أنت ؟ قلت : أنا واقد بن عمرو بن سعد بن معاذ فقال : إنك بسعد لشبيه ثم بكى و أكثر البكاء و قال : رحمة الله على سعد ! كان من أعظم الناس و أطولهم ثم قال : بعث رسول الله صلى الله عليه و سلم جيشا إلى أكيدر دومة فأرسل إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم بجبة من ديباج منسوج فيها الذهب فلبسها رسول الله صلى الله عليه و سلم فقام على المنبر و جلس فلم يتكلم ثم نزل فجعل الناس يلمسون الجبة و ينظرون إليها فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : أتعجبون منها ؟ لمناديل سعد بن معاذ في الحنة أحسن مما ترون ]
و هكذا رواه الترمذي و النسائي من حديث محمد بن عمرو به و قال الترمذي : حسن صحيح (3/247)
قال ابن إسحاق بعد ذكر اهتزاز العرش لموت سعد بن معاذ : و في ذلك يقول رجل من الأنصار :
( و ما اهتز عرش الله من موت هالك ... سمعنا به إلا لسعد أبي عمرو )
قال : و قالت أمه يعني كبيشة بنت رافع بن معاوية بن عبيد بن ثعلبة الخدرية الخزرجية حين احتمل سعد على نعشه تندبه :
( ويل أم سعد سعدا ... صرامة و حدا )
( و سؤددا و مجدا ... و فارسا معدا )
( سد به مسدا ... يقدها ما قدا ) (3/249)
قال : يقول رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ كل نائحة تكذب إلا نائحة سعد بن معاذ ]
قلت : كانت وفاته بعد انصراف الأحزاب بنحو من خمس و عشرين ليلة إذ كان قدوم الأحزاب في شوال سنة خمس كما تقدم فأقاموا قريبا من شهر ثم خرج رسول الله صلى الله عليه و سلم لحصار بني قريظة فأقام عليهم خمسا و عشرين ليلة ثم نزلوا على حكم سعد فمات بعد حكمه بقليل فيكون ذلك في أواخر ذي القعدة أو أوائل ذي الحجة من سنة خمس و الله أعلم
و هكذا قال محمد بن إسحاق : إن فتح بني قريظة كان في ذي القعدة و صدر ذي الحجة قال : و ولى تلك الحجة المشركون (3/250)
قال ابن إسحاق : و قال حسان بن ثابت يرثي سعد بن معاذ رضي الله عنه :
( لقد سجمت من دمع عيني عبرة ... و حق لعيني أن تفيض على سعد )
( قتيل ثوى في معرك فجعت به ... عيون ذواري الدمع دائمة الوجد )
( على ملة الرحمن وارث جنة ... مع الشهداء وفدها أكرم وفد )
( فإن تك قد وعدتنا و تركتنا ... و أمسيت في غبراء مظلمة اللحد )
( فأنت الذي يا سعد أبت بمشهد ... كريم و أثواب المكارم و المجد )
( بحكمك بحي قريظة بالذي ... قضى الله فيهم ما قضيت على عمد )
( فوافق حكم الله حكمك فيهم ... و لم تعف إذ ذكرت ما كان من عهد )
( فإن كان ريب الدهر أمضاك في الألى ... شروا هذه الدنيا بجناتها الخلد )
( فنعم مصير الصادقين إذا دعوا ... إلى الله يوما للوجاهة و القصد ) (3/250)
قال البخاري : [ حدثنا حجاج بن منهال حدثنا شعبة حدثنا عدي بن ثابت أنه سمع البراء بن عازب قال : قال النبي صلى الله عليه و سلم لحسان : اهجهم أو هاجهم و جبريل معك قال البخاري : و زاد إبراهيم بن طهمان عن الشيباني عن عدي بن ثابت عن البراء بن عازب قال : قال النبي صلى الله عليه و سلم يوم قريظة لحسان بن ثابت : اهج المشركين فإن جبريل معك ]
و قد رواه البخاري أيضا و مسلم و النسائي من طرق عن شعبة بدون الزيادة التي ذكرها البخاري يوم بني قريظة
قال ابن إسحاق رحمه الله : و قال ضرار بن الخطاب بن مرداس أخو بني محارب بن فهر في يوم الخندق قلت : و ذلك قبل إسلامه :
( و مشفقة تظن بنا الظنونا ... و قد قدنا عرندسة طحونة )
( كأن زهاءها أحد إذا ما ... بدت أركانه للناظرين )
( ترى الأبدان فيها مسبغات ... على الأبطال و اليلب الحصينا )
( و جردا كالقداح مسومات ... نؤم بها الغواة الخاطئينا )
( كأنهم إذا صالوا وصلنا ... بباب الخندقين مصافحونا )
( أناس لا نرى فيهم رشيدا ... و قد قالوا ألسنا راشدينا )
( فأحجرناهم شهرا كريتا ... و كنا فوقهم كالقاهرين )
( نراوحهم و نغدو كل يوم ... عليهم بالسلاح مدججينا )
( بأيدينا صوارم مرهفات ... نقد بها المفارق و الشئونا )
( كأن وميضهن معريات ... إذا لاحت بأيدي مصلتينا )
( وميض عقيقة لمعت بليل ... ترى فيها العقائق مستبينا )
( فلولا خندق كانوا لديه ... لدمرنا عليهم أجمعينا )
( و لكن حال دونهم و كانوا ... به من خوفنا متعوذينا )
( فإن نرحل فإنا قد تركنا ... لدى أبياتكم سعدا رهينا )
( إذا جن الظلام سمعت نوحا ... على سعد يرجعنا الحنينا )
( و سوف نزوركم عما قريب ... كما زرناكم متوازرينا )
( بجمع من كنانة غير عزل ... كأسد الغاب إذ حمت العرينا )
قال : فأجابه كعب بن مالك أخو بني سلمة رضي الله عنه فقال :
( و سائلة تسائل ما لقينا ... و لو شهدت رأتنا صابرين )
( صبرنا لا نرى لله عدلا ... على ما نابنا متوكلينا )
( و كان لنا النبي وزير صدق ... به نعلوا البرية أجمعينا )
( نقاتل معشرا ظلموا و عقوا ... و كانوا بالعداوة مرصدينا )
( نعالجهم إذا نهضوا إلينا ... بضرب يعجل المتسرعينا )
( ترانا في فضافض سابغات ... كغدران الملا متسربلينا )
( و في أيماننا بيض خفاف ... بها نشفي مراح الشاغبينا )
( بباب الخندق كأن أسدا ... شوابكهن يحمين العرينا )
( فوارسنا إذا بكروا و راحوا ... على الأعداء شوسا معلمينا )
( لننصر أحمدا و الله حتى ... نكون عباد صدق مخلصينا )
( و يعلم أهل مكة حين ساروا ... و أحزاب أتوا متحزبينا )
( بأن الله ليس له شريك ... و أن الله مولى المؤمنينا )
( فإما تقتلوا سعدا سفاها ... فإن الله خير القادرينا )
( سيدخله جنانا طيبات ... تكون مقامة للصالحينا )
( كما قد ردكم فلا شريدا ... بغيظكم خزايا خائبينا )
( خزايا لم تنالوا ثم خيرا ... و كدتم أن تكونوا دامرينا )
( بريح عاصف هبت عليكم ... فكنتم تحتها متكمهينا )
قال ابن إسحاق : و قال عبد الله بن الزبعري السهمي في يوم الخندق قلت : و ذلك قبل أن يسلم :
( حي الديار محا معارف رسمها ... طول البلى و تراوح الأحقاب )
( فكأنما كتب اليهود رسومها ... إلا الكنيف و معقد الأطناب )
( قفرا كأنك لم تكن تلهو بها ... في نعمة بأوانس أتراب )
( فاترك تذكر ما مضى من عيشة ... و محلة خلق المقام يباب )
( و اذكر بلاء معاشر و اشكرهم ... ساروا بأجمعهم من الأنصاب )
( أنصاب مكة عامدين ليثرب ... في ذي غياطل جحفل جبجاب )
( يدع الحزون مناهجا معلومة ... في كل نشز ظاهر و شعاب )
( فيها الجياد شوازب مجنوبة ... قب البطون لواحق الأقراب )
( من كل سلهبة و أجرد سلهب ... كالسيد بادر غفلة الرقاب )
( جيش عيينة قاصد بلوائه ... فيه و صخر قائد الأحزاب )
( قرمان كالبدرين أصبح فيهما ... غيث الفقير و معقل الهراب )
( حتى إذا وردوا لمدينة و ارتدوا ... للموت كل مجرب قضاب )
( شهرا و عشرا قاهرين محمدا ... و صحابه في الحرب خير صحاب )
( نادوا برحلتهم صبيحة قلتم ... كدنا نكون بها مع الخياب )
( لولا الخنادق غادروا من جمعهم ... قتلى لطير سغب و ذئاب )
قال : فأجابه حسان بن ثابت رضي الله عنه فقال :
( هل رسم دارسة المقام يباب ... متكلم لمحاور بجواب )
( قفر عفارهم السحاب رسومه ... و هبوب كل مطلة مرباب )
( و لقد رأيت بها الحلول يزينهم ... بيض الوجوه ثواقب الأحساب )
( فدع الديار وذكر كل خريدة ... بيضاء آنسة الحديث كعاب )
( واشك الهموم إلى الإله و ما ترى ... من معشر ظلموا الرسول غضاب )
( ساروا بأجمعهم إليه و ألبوا ... أهل القرى و بوادي الأعراب )
( جيش عيينة و ابن حرب فيهم ... متخمطون بحلبة الأحزاب )
( حتى إذا وردوا المدينة و ارتجوا ... قتل الرسول ومغنم الأسلاب )
( و غدوا علينا قادرين بأيديهم ... ردوا بغيظهم على الأعقاب )
( بهبوب معصفة تفرق جمعهم ... و جنود ربك سيد الأرباب )
( فكفى الإله المؤمنين قتالهم ... و أثابهم في الأجر خير ثواب )
( من بعد ما قنطوا ففرق جمعتهم ... تنزيل نصر مليكنا الوهاب )
( و أقر عين محمد و صحابه ... و أذل كل مكذب مرتاب )
( عاتى الفؤاد موقع ذي ريبة ... في الكفر ليس بطاهر الأثواب )
( علق الشقاء بقلبه ففؤاده ... في الكفر آخر هذه الأحقاب )
قال : و أجابه كعب بن مالك رضي الله عنه أيضا فقال :
( أبقى لنا حدث الحروب بقية ... من خير نحلة ربنا الوهاب )
( بيضاء مشرفة الذري و معاطنا ... حم الجذوع غزيرة الأحلاب )
( كاللوب يبذل جمها وحفيلها ... للجار و ابن العم و المنتاب )
( و نزائعا مثل السراج نمى بها ... علف الشعير و جزة المقضاب )
( عرى الشوى منها و أردف نحضها ... جرد المتون و سائر الآراب )
( قودا تراح إلى الصياح إذا غدت ... فعل الضراء تراح للكلاب )
( و تحوط سائمة الديار و تارة ... تردى العدى و تؤوب بالأسلاب )
( حوش الوحوش مطارة عند الوغى ... عبس اللقاء مبينة الإنجاب )
( علفت على دعة فصارت بدنا ... دخس البضيع خفيفة الأقصاب )
( يغدون بالزغف المضاعف شكه ... و بمترصات في الثقاف صياب )
( و صوارم نزع الصيافل علبها ... و بكل أروع ماجد الأنساب )
( يصل اليمين بمارن متقارب ... و كلت وقيعته إلى خباب )
( و أغر أزرق في القناة كأنه ... في طخية الظلماء ضوء شهاب )
( و كتيبة ينفي القران قتيرها ... و ترد حد قواحز النشاب )
( جأوى ململمة كأن رماحها ... في كل مجمعة صريمة غاب )
( تأوى إلى ظل اللواء كأنه ... في صعدة الخطى فيء عقاب )
( أعيت أبا كرب و أعيت تبعا ... و أبت بسالتها على الأعراب )
( و مواعظ من ربنا نهدي بها ... بلسان أزهر طيب الأثواب )
( عرضت علينا فاشتهينا ذكرها ... من بعد ما عرضت على الأ حزاب )
( حكما يراها المجرمون بزعمهم ... حرجا و يفهمها ذوو الألباب )
( جاءت سخينة كي تغالب ربها ... فليغلبن مغالب الغلاب )
قال ابن هشام : حدثني من أثق به حدثني عبد الملك بن يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال له لما سمع منه هذا البيت : [ لقد شكرك الله يا كعب على قولك هذا ]
قلت : و مراده بسخينة قريش و إنما كانت العرب تسميهم بذلك لكثرة أكلهم الطعام السخن الذي لا يتهيأ لغيرهم غالبا من أهل البوادي فالله أعلم
قال ابن إسحاق : و قال كعب بن مالك أيضا :
( من سره ضرب يمعمع بعضه ... بعضا كمعمعة الأباء المحرق )
( فليأت مأسدة تسن سيوفها ... بين المذاد و بين جذع الخندق )
( دربوا بضرب المعلمين و أسلموا ... مهجات أنفسهم لرب المشرق )
( في عصبة نصر الإله نبيه ... بهم و كان بعبده ذا مرفق )
( في كل سابغة تخط فضولها ... كالنهي هبت ريحه المترقرق )
( بيضاء محكمة كأن قتيرها ... حدق الجنادب ذات شك موثق )
( جدلاء يحفزها نجاد مهند ... صافي الحديدة صارم ذي رونق )
( تلكم مع التقوى تكون لباسنا ... يوم الهياج و كل ساعة مصدق )
( نصل السيوف إذا قصرن بخطونا ... قدما و نلحقها إذا لم تلحق )
( فترى الجماجم ضاحيا هاماتها ... بله الأكف كأنها لم تخلق )
( نلقي العدو بفخمة ملمومة ... تنفي الجموع كقصد رأس المشرق )
( و نعد للأعداء كل مقلص ... ورد و محجول القوائم أبلق )
( تردي بفرسان كأن كماتهم ... عند الهياج أسود طل ملثق )
( صدق يعاطون الكماة حتوفهم ... تحت العماية بالوشيج المزهق )
( أمر الإله بربطها لعدوه ... في الحرب إن الله خير موفق )
( لتكون غيظا للعدو و حيطا ... للدار إن دلفت خيول النزق )
( و يعيننا الله العزيز بقوة ... منه و صدق الصبر ساعة نلتقي )
( و نطيع أمر نبينا و نجيبه ... و إذا دعا لكريهة لم نسبق )
( و متى ينادى للشدائد نأتها ... و متى نرى الحومات فيها نعنق )
( من يتبع قول النبي فإنه ... فينا مطاع الأمر حق مصدق )
( فبذاك ينصرنا و يظهر عزنا ... و يصيبنا من نيل ذاك بمرفق )
( إن الذين يكذبون محمدا ... كفروا و ضلوا عن سبيل المتقي )
قال ابن إسحاق : و قال كعب بن مالك أيضا :
( لقد علم الأحزاب حين تألبوا ... علينا و راموا ديننا ما نوادع )
( أضاميم من قيس بن عيلان أصفقت ... و خندف لم يدروا ما هو واقع )
( يذودوننا عن ديننا و نذودهم ... عن الكفر و الرحمن راء و سامع )
( إذا غايظونا في مقام أعاننا ... على غيظهم نصر من الله واسع )
( و ذلك حفظ الله فينا و فضله ... علينا و من لم يحفظ الله ضائع )
( هدانا لدين الحق و اختاره لنا ... و لله فوق الصانعين صنائع )
قال ابن هشام : و هذه الأبيات في قصيدة له ـ يعني طويلة ـ
قال ابن إسحاق : و قال حسان بن ثابت في مقتل بني قريظة :
( لقد لقيت قريظة ما ساءها ... وما وجدت لذل من نصير )
( أصابهم بلاء كان فيه ... سوى ما قد أصاب بني النضير )
( غداة أتاهم يهوي إليهم ... رسول الله كالقمر المنير )
( له خيل مجنبة تعادى ... بفرسان عليها كالصقور )
( تركناهم و ما ظفروا بشيء ... دماؤهم عليها كالعبير )
( فهم صرعى تحوم الطير فيهم ... كذاك يدان ذو العند الفجور )
( فأنذر مثلها نصحا قريشا ... من الرحمن إن قبلت نذيري )
قال : و قال حسان بن ثابت أيضا في بني قريظة :
( تعاقد معشر نصروا قريشا ... و ليس لهم ببلدتهم نصير )
( هم أوتوا الكتاب فضيعوه ... و هم عمي من التوراة بور )
( كفرتم بالقرآن و قد أتيتم ... بتصديق الذي قال النذير )
( فهان على سراة بني لؤي ... حريق بالبويرة مستطير )
فأجابه أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب فقال :
( أدام الله ذلك من صنيع ... و حرق في طوائفها السعير )
( ستعلم أينا منها بنزه ... و تعلم أي أرضينا تضير )
( فلو كان النخيل بها ركابا ... لقالوا لا مقام لكم فسيروا )
قلت : و هذا قاله أبو سفيان بن الحارث قبل أن يسلم و قد تقدم في صحيح البخاري بعض هذه الأبيات
و ذكر ابن إسحاق جواب حسان في ذلك لجبل بن جوال الثعلبي تركناه قصدا
قال ابن إسحاق : و قال حسان بن ثابت أيضا يبكي سعدا و جماعة ممن استشهدوا يوم بني قريظة :
( ألا يا لقومي هل لما حم دافع ... و هل ما مضى من صالح العيش راجع )
( تذكرت عصرا قد مضى فتهافتت ... بنات الحشا و انهل مني المدامع )
( صبابة وجد ذكرتني إخوة ... و قتلى مضى فيها طفيل و رافع )
( و سعد فأضحوا في الجنان و أوحشت ... منازلهم فالأرض منهم بلاقع )
( وفوا يوم بدر للرسول و فوقهم ... ظلال المنايا و السيوف اللوامع )
( دعا فأجابوه بحق و كلهم ... مطيع له في كل أمر و سامع )
( فما نكلوا حتى توالوا جماعة ... و لا يقطع الآجال إلا المصارع )
( لأنهم يرجون منه شفاعة ... إذا لم يكن إلا النبيون شافع )
( فذلك يا خير العباد بلاؤنا ... إجابتنا لله و الموت ناقع )
( لنا القدم الأولى إليك و خلفنا ... لأولنا في ملة الله تابع )
( و نعلم أن الملك لله وحده ... و أن قضاء الله لا بد واقع ) (3/251)
و كان تاجرا مشهورا بأرض الحجاز
قال ابن إسحاق : و لما انقضى شأن الخندق و أمر بني قريظة و كان سلام بن أبي الحقيق و هو أبو رافع فيمن حزب الأحزاب على رسول الله صلى الله عليه و سلم و كانت الأوس قبل أحد قد قتلت كعب بن الأشرف فاستأذن الخزرج رسول الله صلى الله عليه و سلم في قتل سلام بن أبي الحقيق و هو بخيبر فأذن لهم
قال ابن إسحاق : فحدثني محمد بن مسلم الزهري عن عبد الله بن كعب بن مالك قال : و كان مما صنع الله لرسوله صلى الله عليه و سلم أن هذين الحيين من الأنصار : الأوس و الخزرج كانا يتصاولان مع رسول الله صلى الله عليه و سلم تصاول الفحلين لا تصنع الأوس شيئا فيه غناء عن رسول الله صلى الله عليه و سلم إلا و قالت الخزرج : و الله لا يذهبون بهذه فضلا علينا عند رسول الله صلى الله عليه و سلم فلا ينتهون حتى يوقعوا مثلها و إذا فعلت الخزرج شيئا قالت الأوس مثل ذلك
قال : و لما أصابت الأوس كعب بن الأشرف في عداوته لرسول الله صلى الله عليه و سلم قالت الخزرج : و الله لا يذهبون بها فضلا علينا أبدا
قال : فتذاكروا من رجل لرسول الله صلى الله عليه و سلم في العداوة كابن الأشرف ؟ فذكروا ابن أبي الحقيق و هو بخيبر فاستأذنوا الرسول صلى الله عليه و سلم في قتله فأذن لهم
فخرج من الخزرج من بني سلمة خمسة نفر : عبد الله بن عتيك و مسعود بن سنان و عبد الله بن أنيس و أبو قتادة الحارث بن ربعي و خزاعى بن أسود حليف لهم من أسلم فخرجوا و أمر عليهم رسول الله صلى الله عليه و سلم عبد الله بن عتيك و نهاهم أن يقتلوا وليدا أو امرأة
فخرجوا حتى إذا قدموا خيبر أتوا دار ابن أبي الحقيق ليلا فلم يدعوا بيتا في الدار حتى أغلقوه على أهله قال : و كان في عيلة له إليها عجلة قال : فأسندوا إليها حتى قاموا على بابه فاستأذنوا فخرجت إليهم امرأته فقالت : من أنتم ؟ قالوا : أناس من العرب نلتمس الميرة قالت : ذاكم صاحبكم فادخلوا عليه فلما دخلنا أغلقنا علينا و عليه الحجرة تخوفا أن يكون دونه مجاولة تحول بيننا و بينه قال : فصاحت امرأته فنوهت بنا فابتدرناه و هو على فراشه بأسيافنا فوالله ما يدلنا عليه في سواد الليل إلا بياضه كأنه قبطية ملقاة قال : فلما صاحت بنا امرأته جعل الرجل منا يرفع عليها سيفه ثم يذكر نهي رسول الله صلى الله عليه و سلم فيكف يده و لولا ذلك لفرغنا منها بليل قال : فلما ضربناه بأسيافنا تحامل عليه عبد الله بن أنيس بسيفه في بطنه حتى أنفذه و هو يقول : قطني قطني أي حسبي حسبي
قال : و خرجنا و كان عبد الله بن عتيك سيء البصر قال : فوقع من الدرجة فوثئت يده وثئا شديدا و حملناه حتى نأتي به منهرا من عيونهم فندخل فيه فأوقدوا النيران و اشتدوا في كل وجه يطلبوننا حتى إذا يئسوا رجعوا إليه فاكتنفوه و هو يقضي
قال : فقلنا : كيف لنا بأن نعلم بأن عدو الله قد مات ؟ قال : فقال رجل منا : أنا أذهب فأنظر لكم فانطلق حتى دخل في الناس قال : فوجدتها ـ يعني امرأته ـ و رجال يهود حوله و في يدها المصباح تنظر في وجهه و تحدثهم و تقول : أما و الله قد سمعت صوت ابن عتيك ثم أكذبت نفسي و قلت : أنى ابن عتيك بهذه البلاد ! ثم أقبلت عليه تنظر في وجهه فقالت : فاظ و إله يهود فما سمعت كلمة كانت ألذ على نفسي منها
قال : ثم جاءنا فأخبرنا فاحتملنا صاحبنا و قدمنا على رسول الله صلى الله عليه و سلم فأخبرناه بقتل عدو الله و اختلفنا عنده في قتله كلنا يدعيه قال : فقال : هاتوا أسيافكم فجئنا بها فنظر إليها فقال لسيف عبد الله بن أنيس : هذا قتله أرى فيه أثر الطعام
قال ابن إسحاق : فقال حسان بن ثابت في ذلك :
( لله در عصابة لاقيتهم ... يا ابن الحقيق و أنت يا بن الأشرف )
( يسرون بالبيض الخفاف إليكم ... مرحا كأسد في عرين مغرف )
( حتى أتوكم في محل بلادكم ... فسقوكم حتفا ببيض ذفف )
( مستبصرين لنصر دين نبيهم ... مستصغرين لكل أمر مجحف )
هكذا أورد هذه القصة الإمام محمد بن إسحاق رحمه الله
و قد قال الإمام أبو عبد الله البخاري : حدثنا إسحاق بن نصر حدثنا يحيى بن آدم حدثنا ابن أبي زائدة عن أبيه عن أبي إسحاق عن البراء بن عازب قال : بعث النبي صلى الله عليه و سلم رهطا إلى أبي رافع فدخل عليه عبد الله بن عتيك بيته ليلا و هو نائم فقتله
قال البخاري : حدثنا يوسف بن موسى حدثنا عبد الله بن موسى عن إسرائيل عن أبي إسحاق عن البراء قال : بعث رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى أبي رافع اليهودي رجالا من الأنصار و أمر عليهم عبد الله بن عتيك و كان أبو رافع يؤذي رسول الله صلى الله عليه و سلم و يعين عليه و كان في حصن له بأرض الحجاز فلما دنوا منه و قد غربت الشمس و راح الناس بسرحهم قال عبد الله : اجلسوا مكانكم فإني منطلق متلطف للبواب لعلي أن أدخل فأقبل حتى دنا من الباب ثم تقنع بثوبه كأنه يقضي حاجته و قد دخل الناس فهتف به البواب : يا عبد الله إن كنت تريد أن تدخل فادخل فإني أريد أن أغلق الباب فدخلت فكمنت فلما دخل لناس أغلق الباب ثم علق الأغاليق على ود قال : فقمت إلى الأقاليد و أخذتها و فتحت الباب و كان أبو رافع يسمر عنده و كان في علالي له فلما ذهب عنه أهل سمره صعدت إليه فجعلت كلما فتحت بابا أغلقت علي من داخل فقلت : إن القوم نذروا بي لم يخلصوا إلي حتى أقتله فانتهيت إليه فإذا هو في بيت مظلم وسط عياله لا أدري أين هو من البيت قلت : أبا رافع قال : من هذا ؟ فأهويت نحو الصوت فأضربه بالسيف ضربة و أنا دهش فما أغنيت شيئا و صاح فخرجت من البيت فأمكث غير بعيد ثم دخلت إليه فقلت : ما هذا الصوت يا أبا رافع ؟ فقال : لأمك الويل إن رجلا في البيت ضربني قبل بالسيف قال : فأضربه ضربة أثخنته و لم أقتله ثم وضعت صبيب السيف في بطنه حتى أخذ في ظهره فعرفت أني قتلته فجعلت أفتح الأبواب بابا بابا حتى انتهيت إلى درجة له فوضعت رجلي و أنا أرى أني قد انتهيت فوقعت في ليلة مقمرة فانكسرت ساقي فعصبتها بعمامة حتى انطلقت حتى جلست على الباب فقلت : لا أخرج الليلة حتى أعلم أقتلته فلما صاح الديك قام الناعي على السور فقال : أنعي أبا رافع ناصر أهل الحجاز فانطلقت إلى أصحابي فقلت : النجاة فقد قتل الله أبا رافع فانتهيت إلى النبي صلى الله عليه و سلم فحدثته فقال : ابسط رجلك فبسطت رجلي فمسحها فكأنما لم أشتكها قط
قال البخاري : حدثنا أحمد بن عثمان بن حكيم الأودي حدثنا شريح حدثنا إبراهيم بن يوسف عن أبيه عن أبي إسحاق سمعت البراء قال : بعث رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى أبي رافع عبد الله بن عتيك و عبد الله بن عتبة في ناس معهم فانطلقوا حتى دنوا من الحصن فقال لهم عبد الله بن عتيك : امكثوا أنتم حتى أنطلق أنا فأنظر قال : فتلطفت حتى أدخل الحصن ففقدوا حمارا لهم فخرجوا بقبس يطلبونه قال : فخشيت أن أعرف قال : فغطيت رأسي و جلست كأني أقضي حاجة فقال : من أراد آن يدخل فليدخل قبل أن أغلقه فدخلت ثم اختبأت في مربط حمار عند باب الحصن فتعشوا عند أبي رافع و تحدثوا حتى ذهب ساعة من الليل ثم رجعوا إلى بيوتهم
فلما هدأت الأصوات و لا أسمع حركة خرجت قال : و رأيت صاحب الباب حيث وضع مفتاح الحصن في كوة فأخذته ففتحت به باب الحصن قال : قلت : إن نذر بي القوم انطلقت على مهل ثم عمدت إلى أبواب بيوتهم فغلقتها عليهم من ظاهر
ثم صعدت إلى أبي رافع في سلم فإذا البيت مظلم قد طفىء سراجه فلم أدر أين الرجل فقلت : يا أبا رافع قال : من هذا ؟ فعمدت نحو الصوت فأضربه و صاح فلم تغن شيئا قال : ثم جئته كأني أغيثه فقلت : مالك يا أبا رافع و غيرت صوتي قال : لا أعجبك لأمك الويل ! دخل علي رجل فضربني بالسيف قال : فعمدت إليه أيضا فأضربه أخرى فلم تغن شيئا فصاح و قام أهله ثم جئت و غيرت صوتي كهيئة لمغيث فإذا هو مستلق على ظهره فأضع السيف في بطنه ثم أنكفىء عليه حتى سمعت صوت العظم ثم خرجت دهشا حتى أتيت السلم أريد أن أنزل فأسقط منه فانخلعت رجلي فعصبتها ثم أتيت أصحابي أحجل فقلت : انطلقوا فبشروا رسول الله صلى الله عليه و سلم فإني لا أبرح حتى أسمع الناعية فلما كان في وجه الصبح صعد الناعية فقال : أنعي أبا رافع قال : فقمت أمشي ما بي قلبة فأدركت أصحابي قبل أن يأتوا رسول الله صلى الله عليه و سلم فبشرته تفرد به البخاري بهذه السياقات من بين أصحاب الكتب الستة ثم قال : قال الزهري : قال أبي بن كعب : فقدموا على رسول الله صلى الله عليه و سلم و هو على المنبر فقال : أفلحت الوجوه قالوا : أفلح وجهك يا رسول الله قال : أفتكتموه ؟ قالوا : نعم قال : ناولني السيف فسله فقال : أجل هذا طعامه في ذباب السيف
قلت : يحتمل أن عبد الله بن عتيك لما سقط من تلك الدرجة انفكت قدمه و انكسرت ساقه و وثئت رجله فلما عصبها استكن ما به لما هو فيه من الأمر الباهر و لما أراد المشي أعين على ذلك لما هو فيه من الجهاد النافع ثم لما وصل إلى رسول الله صلى الله عليه و استقرت نفسه ثاوره الوجع في رجله فلما بسط رجله و مسح رسول الله صلى الله عليه و سلم ذهب ما كان بها من بأس في الماضي و لم يبق بها وجع يتوقع حصوله في المستقبل جمعا بين هذه الرواية و التي تقدمت و الله أعلم هذا و قد ذكر موسى بن عقبة في مغازيه مثل سياق محمد بن إسحاق و سمى الجماعة الذين ذهبوا إليه كما ذكره ابن إسحاق و إبراهيم و أبو عبيد (3/261)
ذكره الحافظ البيهقي في الدلائل تلو مقتل أبي رافع
قال الإمام أحمد : [ حدثنا يعقوب حدثنا أبي عن ابن إسحاق حدثني محمد بن جعفر بن الزبير عن ابن عبد الله بن أنيس عن أبيه قال : دعاني رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : إنه قد بلغني أن خالد بن سفيان بن نبيح الهذلي يجمع لي الناس ليغزوني وهو بعرنة فائته فاقتله قال : قلت : يا رسول الله انعته لي حتى أعرفه قال : إذا رأيته وجدت له قشعريرة ]
قال : فخرجت متوشحا سيفي حتى وقعت عليه و هو بعرنة مع ظعن يرتاد لهن منزلا و حين كان وقت العصر فلما رأيته وجدت ما وصف لي رسول الله صلى الله عليه و سلم من القشعريرة فأقبلت نحوه و خشيت أن يكون بيني و بينه مجاولة تشغلني عن الصلاة فصليت و أنا أمشي نحوه أوميء برأسي للركوع و السجود فلما انتهيت إليه قال : من الرجل ؟ قلت : رجل من العرب سمع بك و بجمعك لهذا الرجل فجاءك لذلك قال : أجل أنا في ذلك قال : فمشيت معه شيئا حتى إذا أمكنني حملت عليه السيف حتى قتلته ثم خرجت و تركت ظعائنه مكبات عليه
فلما قدمت على رسول الله صلى الله عليه و سلم فرآني قال : [ أفلح الوجه قال : قلت : قتلته يا رسول الله قال : صدقت قال : ثم قام معي رسول الله صلى الله عليه و سلم فدخل في بيته فأعطاني عصا فقال : أمسك هذه عندك يا عبد الله بن أنيس قال : فخرجت بها على الناس فقالوا : ما هذه العصا ؟ قال : قلت : أعطانيها رسول الله صلى الله عليه و سلم و أمرني أن أمسكها قالوا : أولا ترجع إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فتسأله عن ذلك قال : فرجعت إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فقلت : يا رسول الله لم أعطيتني هذه العصا ؟ قال : آية بيني و بينك يوم القيامة إن أقل الناس المتخصرون يومئذ
قال : فقرنها عبد الله بسيفيه فلم تزل معه حتى إذا مات أمر بها فضمت في كفنه ثم دفنا جميعا ]
ثم رواه الإمام أحمد عن يحيى بن آدم عن عبد الله بن إدريس عن محمد بن إسحاق عن محمد بن جعفر بن الزبير عن بعض ولد عبد الله بن أنيس أو قال : عن عبد الله بن عبد الله بن أنيس عن عبد الله بن أنيس فذكر نحوه
و هكذا رواه أبو داود عن أبي معمر عن عبد الوارث ن عن محمد بن إسحاق عن محمد بن جعفر عن عبد الله بن أنيس عن أبيه فذكر نحوه و رواه الحافظ البيهقي من طريق محمد بن سلمة عن محمد بن إسحاق عن محمد بن جعفر بن الزبير عن عبد الله بن عبد الله بن أنيس عن أبيه فذكره
و قد ذكر قصته عروة بن الزبير و موسى بن عقبة في مغازيهما مرسلة فالله أعلم
قال ابن هشام : و قال عبد الله بن أنيس في قتله خالد بن سفيان :
( تركت ابن ثور كالحوار و حوله ... نوائح تفري كل جيب مقدد )
( تناولته و الظعن خلفي و خلفه ... بأبيض من ماء الحديد المهند )
( عجوم لهام الدارعين كأنه ... شهاب غضى من ملهب متوقد )
( أقول له و السيف يعجم رأسه ... أنا ابن أنيس فارس غير قعدد )
( أنا ابن الذي لم ينزل الدهر قدره ... رحيب فناء الدار غير مزند )
( و قلت له خذها بضربة ماجد ... خفف على دين النبي محمد )
( و كنت إذا هم النبي بكافر ... سبقت إليه باللسان و باليد )
قلت : عبد الله بن أنيس بن حرام أبو يحيى الجهني صحابي مشهور كبير القدر كان فيمن شهد العقبة و شهد أحدا و الخندق و ما بعد ذلك و تأخر موته بالشام إلى سنة ثمانين على المشهور و قيل توفي سنة أربع و خمسين و الله أعلم
و قد فرق علي بن الزبير و خليفة بن خياط بينه و بين عبد الله بن أنيس أبي عيسى الأنصاري الذي روى عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه دعا يوم أحد بإداوة فيها ماء فحل فمها و شرب منها كما رواه أبو داود و الترمذي من طريق عبد الله العمري عن عيسى بن عبد الله بن أنيس عن أبيه ثم قال الترمذي : و ليس إسناده يصح و عبد الله العمري ضعيف من قبل حفظه (3/267)
قال محمد ابن إسحاق بعد مقتل أبي رافع
و حدثني يزيد بن أبي حبيب عن راشد مولى حبيب بن أوس الثقفي عن حبيب بن أوس حدثني عمر ابن العاص من فيه قال : لما انصرفنا يوم الأحزاب عن الخندق جمعت رجالا من قريش كانوا يرون رأي و يسمعون مني فقلت لهم : تعلمون و الله أني أرى أمر محمد يعلو الأمور علوا منكرا و إني لقد رأيت أمرا فما ترون فيه ؟ قالوا : و ما رأيت ؟
قال : رأيت أن نلحق بالنجاشي فنكون عنده فإن ظهر محمد على قومنا كنا عند النجاشي فإنا إن نكن تحت يديه أحب إلينا من أن نكون تحت يدي محمد و إن ظهر قومنا فنحن من قد عرفوا فلن يأتينا منهم إلا خير
قالوا إن هذا لرأي قلت : فاجمعوا لنا ما نهدي له فكان أحب ما يهدى إليه من أرضنا هو الأدم فجمعنا له أدما كثيرا
ثم خرجنا حتى قدمنا عليه فوالله إنا لعنده إذ جاءه عمرو بن أمية الضمري و كان رسول الله صلى الله عليه و سلم قد بعثه إليه في شأن جعفر و أصحابه
قال : فدخل عليه ثم خرج من عنده : قال فقلت لأصحابي : هذا عمرو بن أمية لو قد دخلت على النجاشي فسألته إياه فأعطانيه فضربت عنقه فإذا فعلت رأت قريش أني قد أجزأت عنها حين قتلت رسول محمد
قال : فدخلت عليه فسجدت له كما كنت أصنع فقال مرحبا بصديقي هل أهديت لي من بلادك شيئا ؟ قال : قلت : نعم أيها الملك قد أهديت لك أدما كثيرا قال : ثم قربته إليه فأعجبه و اشتهاه ثم قلت له : أيها الملك إني قد رأيت رجلا خرج من عندك و هو رسول رجل عدو لنا فأعطنيه لأقتله فإنه قد أصاب من أشرافنا و أخيارنا
قال : فغضب ثم مد يده فضرب بها أنفه ضربة ظننت أنه قد كسره فلو انشقت الأرض لدخلت فيها فرقا !
ثم قلت : أيها الملك و الله لو ظننت أنك تكره هذا ما سألتكه
قال : أتسألني أن أعطيك رسول رجل يأتيه الناموس الأكبر الذي كان يأتي موسى فتقتله ؟ قال : قلت : أيها الملك أكذاك هو ؟ قال : ويحك يا عمرو أطعني و اتبعه فإنه و الله لعلى حق و ليظهرن على من خالفه كما ظهر موسى بن عمران على فرعون و جنوده
قال : قلت : أفتبايعني له على الإسلام قال نعم فبسط يده فبايعته على الإسلام
ثم خرجت على أصحابي و قد حال رأي عما كان عليه و كتمت أصحابي إسلامي ثم خرجت عامدا إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم لأسلم فلقيت خالد بن الوليد و ذلك قبيل الفتح و هو مقبل من مكة فقلت : أين أبا سليمان ؟ فقال : و الله لقد استقام الميسم و إن الرجل لنبي أذهب و الله أسلم فحتى متى ! قال : قلت : و الله ما جئت إلا لأسلم
قال : فقدمنا المدينة على النبي صلى الله عليه و سلم فتقدم خالد بن الوليد فأسلم و بايع ثم دنوت فقلت يا رسول الله إني أبايعك على أن تغفر لي ما تقدم من ذنبي و لا أذكر ما تأخر
قال : فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ يا عمرو بايع فإن الإسلام يجب ما كان قبله و إن الهجرة تجب ما كان قبلها ]
قال : فبايعته ثم انصرفت
قال ابن إسحاق : و قد حدثني من لا أتهم أن عثمان بن طلحة بن أبي طلحة كان معهما أسلم حين أسلما فقال عبد الله بن أبي الزبعري السهمي :
( أنشد عثمان بن طلحة خلفنا ... و ملقى نعال القوم عند المقبل )
( و ما عقد الآباء من كل حلفة ... و ما خالد من مثلها بمحلل )
( أمفتاح بيت غير بيتك تبتغي ... و ما تبتغي من بيت مجد مؤثل )
( فلا تأمنن خالدا بعد هذه ... و عثمان جاءا بالدهيم المعضل )
قلت : كان إسلامهم بعد الحديبية و ذلك أن خالد بن الوليد كان يومئذ في خيل المشركين كما سيأتي بيانه فكان ذكر هذا الفصل في إسلامهم بعد ذلك أنسب و لكن ذكرنا ذلك تبعا للإمام محمد بن إسحاق رحمه الله تعالى لأن أول ذهاب عمرو بن العاص إلى النجاشي كان بعد وقعة الخندق و الظاهر أنه ذهب بقية سنة خمس و الله أعلم (3/270)
ذكر البيهقي بعد وقعة الخندق من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس في قوله تعالى : { عسى الله أن يجعل بينكم و بين الذين عاديتم منهم مودة } قال : هو تزويج النبي صلى الله عليه و سلم بأم حبيبة بنت أبي سفيان فصارت أم المؤمنين و صار معاوية خال المؤمنين
ثم قال البيهقي : أنبأنا أبو عبد الله الحافظ حدثنا أحمد بن نجدة حدثنا يحيى بن عبد الحميد أنبأنا ابن المبارك عن معمر عن الزهري عن عروة عن أم حبيبة أنها كانت عند عبيد الله بن جحش و كان رحل إلى النجاشي فمات و إن رسول الله صلى الله عليه و سلم تزوج بأم حبيبة و هي بأرض الحبشة و زوجها إياه النجاشي و مهرها أربعة آلاف درهم و بعث بها مع شرحبيل بن حسنة و جهزها من عنده و ما بعث رسول الله صلى الله عليه و سلم بشيء قال : و كان مهور أزواج النبي صلى الله عليه و سلم أربعمائة
قلت : و الصحيح أن مهور أزواج النبي صلى الله عليه و سلم كانت ثنتي عشرة أوقية و نشا و الوقية أربعون درهما و النش النصف و ذلك يعدل خمسمائة درهم
ثم روى البيهقي من طريق ابن لهيعة عن أبي الأسود عن عروة أن عبيد الله بن جحش مات بالحبشة نصرانيا فخلف على زوجته أم حبيبة رسول الله صلى الله عليه و سلم زوجها منه عثمان بن عفان رضي الله عنه
قلت : أما تنصر عبيد الله بن جحش فقد تقدم بيانه و ذلك على أثر ما هاجر مع المسلمين إلى أرض الحبشة استزله الشيطان فزين له دين النصارى فصار إليه حتى مات عليه لعنة الله و كان يعير المسلمين فيقول لهم : أبصرنا و صأصأتم و قد تقدم شرح ذلك في هجرة الحبشة
و أما قول عروة : إن عثمان زوجها منه فغريب لأن عثمان كان قد رجع إلى مكة قبل ذلك ثم هاجر إلى المدينة و صحبته زوجته رقية كما تقدم و الله أعلم
و الصحيح ما ذكره يونس عن محمد بن إسحاق قال : بلغني أن الذي ولى نكاحها ابن عمها خالد بن سعيد بن العاص
قلت : و كان وكيل رسول الله صلى الله عليه و سلم في قبول العقد أصحمة النجاشي ملك الحبشة كما قال يونس عن محمد بن إسحاق حدثني أبو جعفر محمد بن علي بن الحسين قال : بعث رسول الله صلى الله عليه و سلم عمرو بن أمية الضمري إلى النجاشي فزوجه أم حبيبة بنت أبي سفيان و ساق عنه أربعمائة دينار
و قال الزبير بن بكار : حدثني محمد بن الحسن عن أبيه عن عبد الله بن عمرو بن زهير عن إسماعيل بن عمرو أن أم حبيبة بنت أبي سفيان قالت : ما شعرت و أنا بأرض الحبشة إلا برسول النجاشي جارية يقال لها أبرهة كانت تقوم على ثيابه و دهنه فاستأذنت علي فأذنت لها فقالت : إن الملك يقول لك : إن رسول الله صلى الله عليه و سلم كتب إلي أن أزوجكه فقلت : بشرك الله بالخير و قالت : يقول لك الملك : وكلي من يزوجك
قالت : فأرسلت إلى خالد بن سعيد بن العاص فوكلته و أعطيت أبرهة سوارين من فضة و خذمتين من فضة كانتا علي و خواتيم من فضة في كل أصابع رجلي سرورا بما بشرتني به
فلما أن كان من العشي أمر النجاشي جعفر بن أبي طالب و من كان هناك من المسلمين أن يحضروا و خطب النجاشي و قال : الحمد لله الملك القدوس المؤمن العزيز الجبار و أشهد أن لا إله إلا الله و أن محمدا عبده و رسوله و أنه الذي بشر به عيسى بن مريم أما بعد فإن رسول الله صلى الله عليه و سلم طلب أن أزوجه أم حبيبة بنت أبي سفيان فأجبت إلى ما دعا إليه رسول الله صلى الله عليه و سلم و قد أصدقها أربعمائة دينار ثم سكب الدنانير بين يدي القوم
فتكلم خالد بن سعيد فقال : الحمد لله أحمده و أستغفره و أشهد أن لا إله إلا الله و أشهد أن محمدا عبده و رسوله أرسله بالهدى و دين الحق ليظهره على الدين كله و لو كره المشركون أما بعد فقد أجبت إلى ما دعا إليه رسول الله صلى الله عليه و سلم و زوجته أم حبيبة بنت أبي سفيان فبارك الله لرسول الله صلى الله عليه و سلم
و دفع النجاشي الدنانير إلى خالد بن سعيد فقبضها ثم أرادوا أن يقوموا فقال : اجلسوا فإن من سنة الأنبياء إذا تزوجوا أن يؤكل طعام على التزويج فدعا بطعام فأكلوا ثم تفرقوا
قلت : فلعل عمرو بن العاص لما رأى عمرو بن أمية خارجا من عند النجاشي بعد الخندق إنما كان في قضية أم حبيبة فالله أعلم
لكن قال الحافظ البيهقي : ذكر أبو عبد الله بن مندة أن تزويجه عليه السلام بأم حبيبة كان في سنة ست و أن تزويجه بأم سلمة كان في سنة أربع
قلت : و كذا قال خليفة و أبو عبيد الله معمر بن المثنى و ابن البرقي و أن تزويج أم حبيبة كان في سنة ست و قال بعض الناس : سنة سبع قال البيهقي : هو أشبه
قلت : قد تقدم تزويجه عليه السلام بأم سلمة في أواخر سنة أربع و أما أم حبيبة فيحتمل أن يكون قبل ذلك و يحتمل أن يكون بعده و كونه بعد الخندق أشبه لما تقدم من ذكر عمرو بن العاص أنه رأى عمرو بن أمية عند النجاشي فهو في قضيتها و الله أعلم
و قد حكى الحافظ ابن الأثير في الغابة عن قتادة أن أم حبيبة لما هاجرت من الحبشة إلى المدينة خطبها رسول الله صلى الله عليه و سلم و تزوجها
و حكى بعضهم أنه تزوجها بعد إسلام أبيها بعد الفتح و احتج هذا القائل بما رواه مسلم من طريق عكرمة بن عمار اليماني عن أبي زميل سماك بن الوليد عن ابن عباس أن أبا سفيان قال : يا رسول الله ثلاث أعطينهن قال : نعم قال : تؤمرني على أن أقاتل الكفار كما كنت أقاتل المسلمين قال : نعم قال : و معاوية تجعله كاتبا بين يديك قال : نعم قال : و عندي أحسن العرب و أجمله أم حبيبة بنت أبي سفيان أزوجكها الحديث بتمامه
قال ابن الأثير : و هذا الحديث مما أنكر على مسلم لأن أبا سفيان لما جاء يجدد العقد قبل الفتح دخل على ابنته أم حبيبة فثنت عنه فراش النبي صلى الله عليه و سلم فقال : و الله ما أدري أرغبت بي عنه أو به عني ؟ قالت : بل هذا فراش رسول الله صلى الله عليه و سلم و أنت رجل مشرك فقال : و الله لقد أصابك بعدي يا بنية شر و قال ابن حزم : هذا الحديث وضعه عكرمة بن عمار و هذا القول منه لا يتابع عليه و قال آخرون : أراد أن يجدد العقد لما فيه بغير إذنه من الغضاضة عليه و قال بعضهم : لأنه اعتقد انفساخ نكاح ابنته بإسلامه
و هذه كلها ضعيفة و الأحسن في هذا أنه أراد أن يزوجه ابنته الأخرى عمرة لما رأى في ذلك من الشرف له و استعان بأختها أم حبيبة كما في الصحيحين و إنما و هم الراوي في تسميته أم حبيبة و قد أوردنا لذلك خبرا مفردا
قال أبو القاسم بن سلام : توفيت أم حبيبة سنة أربع و أربعين و قال أبو بكر بن أبي خيثمة : توفيت قبل معاوية بسنة و كانت وفاة معاوية في رجب سنة ستين (3/273)
ابن رئاب بن يعمر بن صبرة بن مرة بن كبير بن غنم بن دودان بن أسد بن خزيمة الأسدية أم المؤمنين و هي بنت أميمة بنت عبد المطلب عمة رسول الله صلى الله عليه و سلم و كانت قبله عند مولاه زيد ابن حارثة رضي الله عنه
قال قتادة و الواقدي و بعض أهل المدينة : تزوجها عليه السلام سنة خمس زاد بعضهم في ذي القعدة قال الحافظ البيهقي : تزوجها بعد بني قريظة و قال خليفة بن خياط و أبو عبيدة معمر بن المثنى و ابن مندة : تزوجها سنة ثلاث و الأول أشهر و هو الذي سلكه ابن جرير و غير واحد من أهل التاريخ
و قد ذكر غير واحد من المفسرين و الفقهاء و أهل التاريخ في سبب تزويجه إياها عليه السلام حديثا ذكره أحمد بن حنبل في مسنده تركنا إيراده قصدا لئلا يضعه من لا يفهم على غير موضعه
و قد قال الله تعالى في كتابه العزيز : { و إذ تقول للذي أنعم الله عليه و أنعمت عليه أمسك عليك زوجك و اتق الله و تخفي في نفسك ما الله مبديه و تخشى الناس و الله أحق أن تخشاه فلما قضى زيد منها وطرا زوجناكها لكيلا يكون على المؤمنين حرج في أزواج أدعيائهم إذا قضوا منهن وطرا و كان أمر الله مفعولا ما كان على النبي من حرج فيما فرض الله له سنة الله في الذين خلوا من قبل و كان أمر الله قدرا مقدورا }
و قد تكلمنا على ذلك في التفسير بما فيه كفاية
فالمراد بالذي أنعم الله عليه هاهنا زيد بن حارثة مولى رسول الله صلى الله عليه و سلم أنعم الله عليه بالإسلام و أنعم عليه رسول الله صلى الله عليه و سلم بالعتق و زوجه بابنة عمته زينب بنت جحش
قال مقاتل بن حبان : و كان صداقه لها عشرة دنانير و ستين درهما و خمارا و ملحفة و درعا و خمسين مدا و عشرة أمداد من تمر فمكثت عنده قريبا من سنة أو فوقها ثم وقع بينهما فجاء زوجها يشكو إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فكان صلى الله عليه و سلم يقول له : اتق الله و أمسك عليك زوجك
قال الله : { و تخفي في نفسك ما الله مبديه } قال علي بن الحسين زين العابدين و السدي : كان رسول الله قد علم أنها ستكون من أزواجه فهو الذي كان في نفسه عليه السلام
و قد تكلم كثير من السلف هاهنا بآثار غريبة و بعضها فيه نظر تركناها (3/277)
قال الله تعالى : { فلما قضى زيد منها وطرا زوجناكها } ذلك أن زيدا طلقها فلما انقضت عدتها بعث إليها رسول الله صلى الله عليه و سلم يخطبها إلى نفسها ثم تزوجها و كان الذي زوجها منه رب العالمين تبارك و تعالى كما ثبت في صحيح البخاري عن أنس بن مالك أن زينب بنت جحش كانت تفخر على أزواج النبي صلى الله عليه و سلم فتقول : زوجكن أهليكن و زوجني الله من فوق سبع سماوات
و في رواية من طريق عيسى بن طهمان عن أنس قال : كانت زينب تفخر على نساء النبي صلى الله عليه و سلم و تقول : أنكحني الله من السماء و فيها أنزلت آية الحجاب { يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم إلى طعام غير ناظرين إناه } الآية
و روى البيهقي [ من حديث حماد بن زيد عن ثابت عن أنس قال : جاء زيد يشكو زينب فجعل رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : اتق الله و أمسك عليك زوجك قال أنس : فلو كان رسول الله صلى الله عليه و سلم كاتما شيئا لكتم هذه ] فكانت تفخر على أزواج النبي صلى الله عليه و سلم تقول : زوجكن أهليكن و زوجني الله من فوق سبع سماوات ثم قال : رواه البخاري عن أحمد عن محمد بن أبي بكر المقدمي عن حماد بن زيد
ثم روى البيهقي [ من طريق عفان عن حماد بن زيد عن ثابت عن أنس قال : جاء زيد يشكو إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم من زينب بنت جحش فقال النبي صلى الله عليه و سلم : أمسك عليك أهلك ] فنزلت : { و تخفي في نفسك ما الله مبديه }
ثم قال : رواه البخاري : عن محمد بن عبد الرحيم عن معلى بن منصور عن محمد مختصرا و قال ابن جرير : حدثنا ابن حميد حدثنا جرير عن مغيرة عن الشعبي قال : كانت زينب تقول للنبي صلى الله عليه و سلم : إني لأدل عليك بثلاث ما من نسائك امرأة تدل بهن أن جدي و جدك واحد تعني عبد المطلب فإنه أبو أبي النبي صلى الله عليه و سلم و أبو أمها أميمة بنت عبد المطلب و أني أنكحنيك الله عز و جل من السماء و أن السفير جبريل عليه السلام
و قال الإمام أحمد : [ حدثنا هاشم ـ يعني ابن القاسم ـ حدثنا النضر حدثنا سليمان ابن المغيرة عن ثابت عن أنس قال : لما انقضت عدة زينب قال النبي صلى الله عليه و سلم لزيد : اذهب فاذكرها علي فانطلق حتى أتاها و هي تخمر عجينها قال : فلما رأيتها عظمت في صدري حتى ما أستطيع أن أنظر إليها أن رسول الله صلى الله عليه و سلم ذكرها فوليتها ظهري و نكصت على عقبي و قلت : يا زينب أبشري أرسلني رسول الله صلى الله عليه و سلم يذكرك قالت : ما أنا بصانعة شيئا حتى أوأمر ربي عز و جل ثم قامت إلى مسجدها و نزل القرآن و جاء رسول الله صلى الله عليه و سلم فدخل عليها بغير إذن قال أنس : و لقد رأيتنا حين دخل عليها رسول الله صلى الله عليه و سلم أطعمنا عليها الخبز و اللحم فخرج الناس و بقي رجال يتحدثون في البيت بعد الطعام فخرج رسول الله صلى الله عليه و سلم و اتبعته فجعل يتبع حجر نسائه يسلم عليهن و يقلن : يا رسول الله كيف وجدت أهلك ؟ فما أدري أنا أخبرته و القوم قد خرجوا أو أخبر قال : فانطلق حتى دخل البيت فذهبت أدخل معه فألقى الستر بيني و بينه و نزل لحجاب و وعظ القوم بما وعظوا به : { لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم } الآية ]
و كذا رواه مسلم و النسائي من طريق سليمان بن المغيرة (3/278)
فناسب نزول الحجاب في هذا العرس صيانة لها و لأخواتها من أمهات المؤمنين و ذلك وفق الرأي العمري
قال البخاري : [ حدثنا محمد بن عبد الله الرقاش حدثنا معتمر بن سليمان سمعت أبي حدثنا أبو مجلز عن أنس بن مالك قال : لما تزوج رسول الله صلى الله عليه و سلم زينب بنت جحش دعا القوم فطعموا و جلسوا يتحدثون فإذا هو يتهيأ للقيام فلم يقوموا فلما رأى ذلك قام فلما قام قام من قام و قعد ثلاثة نفر و جاء النبي صلى الله عليه و سلم ليدخل فإذا القوم جلوس ثم إنهم قاموا فانطلقوا فجئت فأخبرت النبي صلى الله عليه و سلم أنهم قد انطلقوا فجاء حتى دخل فذهبت أدخل فألقى الحجاب بيني و بينه ] فأنزل الله تعالى { يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبي } الآية
و قد رواه البخاري في مواضع أخر و مسلم و النسائي من طرق عن معتمر ثم رواه البخاري منفردا به من حديث أيوب عن أبي قلابة عن أنس نحوه
و قال البخاري : [ حدثنا أبو معمر حدثنا عبد الوارث حدثنا عبد العزيز بن صهيب عن أنس بن مالك قال : بني على النبي صلى الله عليه و سلم بزينب بنت جحش بخبز و لحم فأرسلت على الطعام داعيا فيجيء قوم فيأكلون و يخرجون ثم يجيء قوم فيأكلون و يخرجون فدعوت حتى ما أجد أحدا أدعوه فقلت يا نبي الله ما أجد أحدا أدعوه قال : ارفعوا طعامكم و بقي ثلاثة رهط يتحدثون في البيت فخرج النبي صلى الله عليه و سلم فانطلق إلى حجرة عائشة فقال : السلام عليكم أهل البيت و رحمة الله و بركاته قالت : و عليك السلام و رحمة الله و بركاته كيف وجدت أهلك بارك الله لك ! فتقرى حجر نسائه كلهن و يقول لهن كما يقول لعائشة و يقلن له كما قالت عائشة ثم رجع النبي صلى الله عليه و سلم فإذا رهط ثلاثة في البيت يتحدثون و كان النبي صلى الله عليه و سلم شديد الحياء فخرج منطلقا نحو حجرة عائشة فما أدري أخبرته أم أخبر أن القوم خرجوا فخرج حتى إذا وضع رجله في أسكفة الباب و أخرى خارجه أرخى الستر بيني و بينه و أنزلت آية الحجاب ]
تفرد به البخاري من هذا الوجه ثم رواه منفردا به عن إسحاق هو ابن نصر عن عبد الله بن بكير السهمي عن حميد بن أنس بنحو ذلك و قال : رجلان بدل ثلاثة فالله أعلم
قال البخاري : و قال إبراهيم بن طهمان عن الجعد أبي عثمان عن أنس فذكر نحوه
و قد قال ابن أبي حاتم : [ حدثنا أبي حدثنا أبو المظفر حدثنا جعفر بن سليمان عن الجعد أبي عثمان اليشكري عن أنس بن مالك قال : أعرس رسول الله صلى الله عليه و سلم ببعض نسائه فصنعت أم سليم حيسا ثم حطته في تور فقالت : اذهب إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم و أخبره أن هذا منا له قليل قال أنس : و الناس يومئذ في جهد فجئت به فقلت : يا رسول الله بعثت بهذا أم سليم إليك و هي تقرئك السلام و تقول : إن هذا منا لهو قليل فنظر إليه ثم قال : ضعه في ناحية البيت ثم قال : اذهب فادع لي فلانا و فلانا فسمى رجالا كثيرا قال : و من لقيت من المسلمين فدعوت من قال لي و من لقيت من المسلمين فجئت و البيت و الصفة و الحجرة ملاء من الناس فقلت : يا أبا عثمان كم كانوا قال : كانوا زهاء ثلاثمائة
قال أنس : فقال لي رسول الله صلى الله عليه و سلم : جيء فجئت به إليه فوضع يده عليه و دعا و قال ما شاء الله ثم قال : ليتحلق عشرة عشرة و يسموا و ليأكل كل إنسان مما يليه فجعلوا يسمون و يأكلون حتى أكلوا كلهم فقال لي رسول الله صلى الله عليه و سلم : ارفعه قال : فجئت فأخذت التور فنظرت فيه فلا أدري أهو حين وضعته أكثر أم حين رفعته
قال : و تخلف رجال يتحدثون في بيت رسول الله صلى الله عليه و سلم و زوج رسول الله صلى الله عليه و سلم التي دخل بها معهم مولية وجهها إلى الحائط فأطالوا الحديث فشقوا على رسول الله صلى الله عليه و سلم و كان أشد الناس حياء و لو علموا كان ذلك عليهم عزيزا فقام رسول الله صلى الله عليه و سلم فسلم على حجره و على نسائه فلما رأوه قد جاء ظنوا أنهم قد ثقلوا عليه ابتدروا الباب فخرجوا و جاء رسول الله صلى الله عليه و سلم حتى أرخى الستر و دخل البيت و أنا في الحجرة فمكث رسول الله صلى الله عليه و سلم في بيته يسيرا و أنزل الله القرآن ] فخرج و هو يقرأ هذه الآية : { يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم إلى طعام غير ناظرين إناه و لكن إذا دعيتم فادخلوا فإذا طعمتم فانتشروا و لا مستأنسين لحديث إن ذلكم كان يؤذي النبي فيستحي منكم و الله لا يستحي من الحق و إذا سألتموهن متاعا فاسألوهن من وراء حجاب ذلكم أطهر لقلوبكم و قلوبهن و ما كان لكم أن تؤذوا رسول الله و لا أن تنكحوا أزواجه من بعده أبدا إن ذلكم كان عند الله عظيما إن تبدوا شيئا أو تخفوه فإن الله كان بكل شيء عليما }
قال أنس : فقرأهن علي قبل الناس و أنا أحدث الناس بهن عهدا
و قد رواه مسلم و الترمذي و النسائي جميعا عن قتيبة عن جعفر بن سليمان عن الجعد أبي عثمان به و قال الترمذي : حسن صحيح و رواه مسلم أيضا عن محمد بن رافع عن عبد الرزاق عن معمر عن الجعد أبي عثمان به
و قد روى هذا الحديث البخاري و الترمذي و النسائي من طرق عن أبي بشر الأحمسي الكوفي عن أنس بنحوه و رواه ابن أبي حاتم من حديث أبي نضرة العبدي عن أنس بنحوه و لم يخرجوه و رواه ابن جرير من حديث عمرو بن سعيد و من حديث الزهري عن أنس نحو ذلك (3/280)
قلت : كانت زينب بنت جحش رضي الله عنها من المهاجرات الأول و كانت كثيرة الخير و الصدقة و كان اسمها أولا برة فسماها النبي صلى الله عليه و سلم زينب و كانت تكنى بأم الحكم
قالت عائشة رضي الله عنها : ما رأيت امرأة قط خيرا في الدين من زينب و أتقى لله و أصدق حديثا و أوصل للرحم و أعظم أمانة و صدقة
و ثبت في الصحيحين كما سيأتي في حديث الإفك عن عائشة أنها قالت : و سأل رسول الله صلى الله عليه و سلم عني زينب بنت جحش و هي التي كانت تساميني من نساء النبي صلى الله عليه و سلم فعصمها الله بالورع فقالت : يا رسول الله أحمى سمعي و بصري ما علمت إلا خيرا
و قال مسلم بن الحجاج في صحيحه : [ حدثنا محمود بن عيلان ن حدثنا الفضل بن موسى الشيباني حدثنا طلحة بن يحيى بن طلحة عن عائشة أم المؤمنين قالت : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : أسرعكن لحوقا بي أطولكن يدا قالت : فكنا نتطاول أينا أطول يدا قالت : فكانت زينب أطولنا يدا لأنها كان تعمل بيدها و تتصدق ]
انفرد به مسلم
قال الواقدي و غيره من أهل السير و المغازي و التواريخ : توفيت سنة عشرين من الهجرة و صلى عليها أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه و دفنت بالبقيع و هي أول امرأة صنع لها النعش (3/283)
قال البيهقي : كان يقال : في المحرم منها سرية محمد بن مسلمة قبل نجد و أسروا فيها ثمامة بن أثال اليمامي
قلت : لكن في سياق ابن اسحاق عن سعيد المقبري عن أبي هريرة أنه شهد ذلك و هو إنما هاجر بعد خيبر فيؤخر إلى ما بعدها و الله أعلم
و هي السنة التي كان في أوائلها غزوة بني لحيان على الصحيح
قال ابن إسحاق : و كان فتح بني قريظة في ذي القعدة و صدر من ذي القعدة و صدر من ذي الحجة و ولى تلك الحجة المشركون يعني في سنة خمس كما تقدم
قال : ثم أقام رسول الله صلى الله عليه و سلم بالمدينة ذا الحجة و المحرم و صفرا و شهري ربيع و خرج في جمادى الأولى على رأس ستة أشهر من فتح بني قريظة إلى بني لحيان يطلب بأصحاب الرجيع خبيب و أصحابه و أظهر أنه يريد الشام ليصيب من القوم غرة قال ابن هشام : و استعمل على المدينة ابن أم مكتوم
و المقصود أنه عليه السلام لما انتهى إلى منازلهم هربوا من بين يديه فتحصنوا في رؤوس الجبال فمال إلى عسفان فلقي بها جمعا من المشركين و صلى بها صلاة الخوف
و قد تقدم ذكر هذه الغزوة في سنة أربع و هنالك ذكرها البيهقي
و الأشبه ما ذكره ابن إسحاق أنها كانت بعد الخندق و قد ثبت أنه صلى بعسفان يوم بني لحيان فلتكتب هاهنا و تحول من هناك اتباعا لإمام أصحاب المغازي في زمانه و بعده كما قال الشافعي رحمه الله : من أراد المغازي فهو عيال على محمد ابن إسحاق
و قد قال كعب بن مالك في غزوة بني لحيان :
( لو أن بني لحيان كانوا تناظروا ... لقوا عصبا في دارهم ذات مصدق )
( لقوا سرعانا يملأ السرب روعه ... أمام طحون كالمجرة فيلق )
( و لكنهم كانوا وبارا تتبعت ... شعاب حجاز غير ذي متنفق )
( في دارهم ذات مصدق ) (3/285)
قال ابن إسحاق : ثم قدم رسول الله صلى الله عليه و سلم المدينة فلم يقم بها إلا ليالي قلائل حتى أغار عيينة بن حصن بن حذيفة بن بدر الفزاري في خيل من غطفان على لقاح النبي صلى الله عليه و سلم بالغابة و فيها رجل من بني غفار و معه امرأته فقتلوا الرجل و احتملوا المرأة في اللقاح
قال ابن إسحاق : فحدثني عاصم بن عمرو بن قتادة و عبد الله بن أبي بكر و من لا أتهم عن عبد الله بن كعب بن مالك ـ كل قد حدث في غزوة ذي قرد بعض الحديث ـ أنه كان أول من نذر بهم سلمة بن عمرو بن الأكوع الأسلمي غدا يريد الغابة متوشحا قوسه و نبله ومعه غلام لطلحة بن عبيد الله معه فرس له يقوده حتى إذا علا ثنية الوداع نظر إلى بعض خيولهم فأشرف في ناحية سلع ثم صرخ : واصباحاه ! ثم خرج يشتد في آثار القوم و كان مثل السبع حتى لحق بالقوم فجعل يردهم بالنبل و يقول :
( خذها و أنا ابن الأكوع ... اليوم يوم الرضع )
فإذا وجهت الخيل نحوه انطلق هاربا ثم عارضهم فإذا أمكنه الرمي رمى ثم قال :
( خذها و أنا ابن الأكوع ... اليوم يوم الرضع )
قال : فيقول قائلهم : أو يكعنا هو أول النهار
قال : و بلغ رسول الله صلى الله عليه و سلم صياح ابن الأكوع فصرخ بالمدينة : الفزع الفزع فترامت الخيول إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فكان أول من انتهى إليه من الفرسان المقداد بن الأسود ثم عباد بن بشر و سعد بن زيد و أسيد بن ظهير ـ يشك فيه ـ و عكاشة بن حصن و محرز بن نضلة أخو بني أسد بن خزيمة و أبو قتادة الحارث بن ربعى أخو بني سلمة و أبو عياش عبيد بن زيد بن صامت أخو بني زريق قال : فلما اجتمعوا إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم أمر عليهم سعد بن زيد ثم قال : اخرج في طلب القوم حتى ألحقك في الناس و قد قال النبي صلى الله عليه و سلم لأبي عياش فيما بلغني عن رجال من بني زريق : يا أبا عياش لو أعطيت هذا الفرس رجلا هو أفرس منك فلحق بالقوم قال أبو عياش : فقلت يا رسول الله أنا أفرس الناس ثم ضربت الفرس فوالله ما جرى بي خمسين ذراعا حتى طرحني فعجبت من ذلك فزعم رجال من زريق أن رسول الله صلى الله عليه و سلم أعطى فرس أبي عياش معاذ بن ماعص أو عائذ بن ماعص بن قيس بن خلدة و كان ثامنا قال : و بعض الناس يعد سلمة بن الأكواع ثامنا و يطرح أسيد بن ظهير فالله أعلم أي ذلك كان قال : و لم يكن سلمة بن الأكواع يومئذ فارسا قد كان أول من لحق بالقوم على رجليه
قال : فخرج الفرسان حتى تلاحقوا فحدثني عاصم بن عمر بن قتادة أن أول فارس لحق بالقوم محرز بن نضلة و كان يقال له الأخرم و يقال له قمير و كانت الفرس التي تحته لمحمود بن مسلمة و كان يقال للفرس ذو اللمة فلما انتهى إلى العدو قال لهم : قفوا معشر بني اللكيعة حتى يلحق بكم من وراءكم من أدباركم من المهاجرين و الأنصار قال : فحمل عليه رجل منهم فقتله و جال الفرس فلم يقدر عليه حتى وقف على آريه من بني عبد الأشهل أي رجع إلى مربطه الذي كان فيه في المدينة
قال ابن إسحاق : و لم يقتل يومئذ من المسلمين غيره قال ابن هشام : و قد ذكر غير واحد من أهل العلم أنه قد قتل معه أيضا وقاص بن مجزز المدلجي
قال ابن إسحاق : و حدثني بعض من لا أتهم عن عبد الله بن كعب بن مالك أن محرزا كان على فرس لعكاشة بن محصن يقال لها الجناح فقتل محرز و استلب جناح فالله أعلم
قال : ولما تلاحقت الخيل قتل أبو قتادة حبيب بن عيينة و غشاه برده ثم لحق بالناس و أقبل رسول الله صلى الله عليه و سلم في المسلمين قال ابن هشام : و استعمل على المدينة ابن أم مكتوم فإذا حبيب مسجى ببرد أبي قتادة فاسترجع الناس و قالوا : قتل أبو قتادة
فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ ليس بأبي قتادة و لكنه قتيل لأبي قتادة ووضع عليه بردة لتعرفوا أنه صاحبه ]
قال : و أدرك عكاشة بن محصن أوبارا و ابنه عمرو بن أوبار و هما على بعير فانتظمهما بالرماية فقتلهما جميعا و استنقذوا بعض اللقاح قال : و سار رسول الله صلى الله عليه و سلم حتى نزل بالجبل من ذي قرد و تلاحق به الناس فأقام عليه يوما و ليلة و قال له سلمة بن الأكوع : يا رسول الله لو سرحتني في مائة رجل لاستنقذت بقية السرح و أخذت بأعناق القوم فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم فيما بلغني : إنهم الآن ليغبقون في غطفان فقسم رسول الله صلى الله عليه و سلم في أصحابه في كل مائة رجل جذورا و أقاموا عليها ثم رجع قافلا حتى قدم المدينة
قال : و أقبلت امرأة الغفاري على ناقة من إبل النبي صلى الله عليه و سلم حتى قدمت عليه المدينة فأخبرته الخبر فلما فرغت قالت : يا رسول الله إني قد نذرت لله أن أنحرها إن نجاني الله عليها قال : فتبسم رسول الله صلى الله عليه و سلم ثم قال : [ بئسما جزيتها أن حملك الله عليها و نجاك بها ثم تنحرينها إنه لا نذر في معصية الله و لا فيما لا تملكين إنما هي ناقة من إبلي فارجعي إلى أهلك على بركة الله ]
قال ابن إسحاق : و الحديث في ذلك عن أبي الزبير المكي عن الحسن البصري
هكذا أورد ابن إسحاق هذه القصة بما ذكر من الإسناد و السياق
و قد قال البخاري رحمه الله بعد قصة الحديبية و قبل خيبر : غزوة ذي قرد و هي الغزوة التي أغاروا على لقاح النبي صلى الله عليه و سلم قبل خيبر بثلاث
حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا حاتم عن يزيد بن أبي عبيد سمعت سلمة بن الأكوع يقول : خرجت قبل أن يؤذن بالأولى و كانت لقاح النبي صلى الله عليه و سلم ترعى بذي قرد قال : فلقيني غلام لعبد الرحمن بن عوف فقال : أخذت لقاح النبي صلى الله عليه و سلم فقلت : من أخذها ؟ قال : غطفان قال : فصرخت ثلاث صرخات : واصباحاه ! قال : فأسمعت ما بين لابتي المدينة ثم اندفعت على وجهي حتى أدركتهم و قد أخذوا يستقون من الماء فجعلت أرميهم بنبلي و كنت راميا و أقول : أنا ابن الأكوع اليوم يوم الرضع و أرتجز حتى استنقذت اللقاح منهم و استلبت منهم ثلاثين بردة
قال : و جاء النبي صلى الله عليه و سلم و الناس فقلت : يا رسول الله قد حميت القوم الماء و هم عطاش فابعث إليهم الساعة فقال : [ يا ابن الأكوع ملكت فأسجح ] ثم رجعنا و يردفني رسول الله صلى الله عليه و سلم على ناقته حتى قدمنا المدينة
و هكذا رواه مسلم عن قتيبة به و رواه البخاري عن أبي عاصم السهلي عن يزيد ابن أبي عبيدة عن مولاه سلمة بنحوه
و قال الإمام أحمد : حدثنا هاشم بن القاسم حدثنا عكرمة بن عمار حدثني إياس بن سلمة بن الأكوع عن أبيه قال : قدمنا المدينة زمن الحديبية مع رسول الله صلى الله عليه و سلم فخرجت أنا و رباح غلام النبي صلى الله عليه و سلم بظهر رسول الله صلى الله عليه و سلم و خرجت بفرس لطلحة بن عبيد الله أريد أن أنديه مع الإبل فلما كان بغلس أغار عبد الرحمن بن عيينة على إبل رسول الله صلى الله عليه و سلم فقتل راعيها و خرج يطردها هو و أناس معه في خيل فقلت : يا رباح اقعد على هذا الفرس فألحقه بطلحة و أخبر رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه قد أغير على سرحه
قال و قمت على تل فجعلت وجهي من قبل المدينة ثم ناديت ثلاث مرات : يا صباحاه ! قال : ثم اتبعت القوم معي سيفي و نبلي فجعلت أرميهم و أعقر بهم و ذلك حين يكثر الشجر فإذا رجع إلي فارس جلست له في أصل شجرة ثم رميت فلا يقبل إلي فارس إلا عقرت به فجعلت أرميهم و أنا أقول :
( خذها و أنا ابن الأكوع ... و اليوم يوم الرضع )
قال : فألحق برجل منهم فأرميه و هو على راحلته فيقع سهمي في الرجل حتى انتظم كتفه فقلت :
( خذها و أنا ابن الأكوع ... و اليوم يوم الرضع )
فإذا كنت في الشجر أحرقتهم بالنبل فإذا تضايقت الثنايا علوت الجبل فرديتهم بالحجارة فما زال ذاك شأني و شأنهم أتبعهم و أرتجز حتى ما خلق الله شيئا من ظهر رسول الله صلى الله عليه و سلم إلا خلفته وراء ظهري فاستنقذته من أيديهم ثم لم أزل أرميهم حتى ألقوا أكثر من ثلاثين رمحا و اكثر من ثلاثين بردة يستخفون منها و لا يلقون من ذلك شيئا إلا جعلت عليه حجارة و جمعته على طريق رسول الله صلى الله عليه و سلم حتى إذا امتد الضحى أتاهم عيينة بن بدر الفزاري مددا لهم و هم في ثنية ضيقة ثم علوت الجبل فأنا فوقهم فقال عيينة : ما هذا الذي أرى ؟ قالوا : لقينا من هذا البرح ما فارقنا بسحر حتى الآن و أخذ كل شيء بأيدينا و جعله وراء ظهره فقال عيينة : لولا أن هذا يرى أن وراءه طلبا لقد ترككم ليقم إليه نفر منكم فقام إلي نفر منهم أربعة فصعدوا في الجبل فلما أسمعتهم الصوت قلت : أتعرفونني ؟ قالوا : و من أنت ؟ قلت : أنا ابن الأكوع و الذي كرم وجه محمد لا يطلبني رجل منكم فيدركني و لا أطلبه فيفوتني فقال رجل منهم : إن أظن قال : فما برحت مقعدي ذلك حتى نظرت إلى فوارس رسول الله صلى الله عليه و سلم يخللون الشجر و إذا أولهم الأخرم الأسدي و على أثره أبو قتادة فارس رسول الله صلى الله عليه و سلم و على أثره المقداد بن الأسود الكندي فولى المشركون مدبرين و أنزل من الجبل فأخذ عنان فرسه فقلت : يا أخرم ائذن القوم ـ يعني احذرهم ـ فإني لا آمن أن يقتطعوك فاتئد حتى يلحق رسول الله صلى الله عليه و سلم و أصحابه قال : يا سلمة إن كنت تؤمن بالله و اليوم الآخر و تعلم أن الجنة حق و النار حق فلا تحل بيني و بين الشهادة !
قال : فخليت عنان فرسه فيلحق بعبد الرحمن بن عيينة و يعطف عليه عبد الرحمن فاختلفا طعنتين فعقر الأخرم بعبد الرحمن و طعنه عبد الرحمن فقتله فتحول عبد الرحمن على فرس الأخرم فيلحق أبو قتادة بعبد الرحمن فاختلفا طعنتين فعقر بأبي قتادة و قتله أبو قتادة و تحول أبو قتادة على فرس الأخرم
ثم إني خرجت أعدو في أثر القوم حتى ما أرى من غبار صحابة النبي صلى الله عليه و سلم شيئا و يعرضون قبل غيبوبة الشمس إلى شعب فيه ماء يقال له ذو قرد فأرادوا أن يشربوا منه فأبصروني أعدو وراءهم فعطفوا عنه و أسندوا في الثنية ثنية ذي بئر و غربت الشمس و ألحق رجلا فأرميه فقلت : خذها و أنا ابن الأكوع و اليوم يوم الرضع قال : فقال : يا ثكل أم أكوع بكرة فقلت : نعم أي عدو نفسه و كان الذي رميته بكرة و أتبعته سهما آخر فعلق به سهمان و يخلفون فرسين فجئت بهما أسوقهما إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم وهو على الماء الذي أجليتهم عنه ذو قرد و إذا بنبي الله صلى الله عليه و سلم في خمسمائة و إذا بلال قد نحر جزورا مما خلفت فهو يشوى لرسول الله صلى الله عليه و سلم من كبدها و سنامها
فأتيت رسول الله صلى الله عليه و سلم فقلت : يا رسول الله خلني فأنتخب من أصحابك مائة فآخذها على الكفار بالعشوة فلا يبقى منهم مخبر إلا قتلته فقال : [ أكنت فاعلا ذلك يا سلمة ؟ ] قال : قلت : نعم و الذي أكرمك فضحك رسول الله صلى الله عليه و سلم حتى رأيت نواجذه في ضوء النار ثم قال : إنهم يقرون الآن بأرض غطفان فجاء رجل من غطفان فقال : مروا على فلان الغطفاني فنحر لهم جزورا فلما أخذوا يكشطون جلدها رأوا غبرة فتركوها و خرجوا هرابا
فلما أصبحنا قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ خير فرساننا أبو قتادة و خير رجالتنا سلمة ] فأعطاني رسول الله صلى الله عليه و سلم سهم الفارس و الراجل جميعا ثم أردفني وراءه على العضبان راجعين إلى المدينة
فلما كان بيننا و بينهم قريب من ضحوة و في القوم رجل من الأنصار كان لا يسبق جعل ينادي : هل من مسابق ألا رجل يسابق إلى المدينة ؟ فأعاد ذلك مرارا و أنا وراء رسول الله صلى الله عليه و سلم مردفي فقلت له : أما تكرم كريما و لا تهاب شريفا ؟
قال : لا إلا رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : قلت يا رسول الله بأبي أنت و أمي خلني فلأسابق الرجل قال : [ إن شئت ] قلت : أذهب إليك فطفر عن راحلته و ثنيت رجلي فطفرت عن الناقة ثم إني ربطت عليه شرفا أو شرفين يعني استبقيت من نفسي ثم إني عدوت حتى ألحقه فأصك بين كتيفيه بيدي قلت : سبقتك و الله أو كلمة نحوها قال : فضحك و قال إن أظن حتى قدمنا المدينة و هكذا رواه مسلم من طرق عن عكرمة بن عمار بنحوه و عنده : فسبقته إلى المدينة فلم نلبث إلا ثلاثا حتى خرجنا إلى خيبر و لأحمد هذا السياق
ذكر البخاري و البيهقي هذه الغزوة بعد الحديبية و قبل خيبر و هو أشبه مما ذكره ابن إسحاق و الله أعلم فينبغي تأخيرها إلى أوائل سنة سبع من الهجرة فإن خيبر كانت في صفر منها (3/286)
و أما قصة المرأة التي نجت على ناقة النبي صلى الله عليه و سلم و نذرت نحرها لنجاتها عليها فقد أوردها ابن إسحاق بروايته عن أبي الزبير عن الحسن البصري مرسلا وقد جاء متصلا من وجوه أخر
و قال الإمام أحمد : [ حدثنا عفان حدثنا حماد بن زيد حدثنا أيوب عن أبي قلابة عن أبي المهلب عن عمران بن حصين قال : كانت العضباء لرجل من بني عقيل و كانت من سوابق الحاج فأخذت العضباء معه قال : فمر به رسول الله صلى الله عليه و سلم و هو في وثاق و رسول الله صلى الله عليه و سلم على حمار عليه قطيفة فقال : يا محمد علام تأخذوني و تأخذون سابقة الحاج ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : نأخذك بجريرة حلفائك ثقيف قال : و كانت ثقيف قد أسروا رجلين من أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم و قال فيما قال : ( إني ) مسلم فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : لو قلتها و أنت تملك أمرك أفلحت كل الفلاح قال : و مضى رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : يا محمد إني جائع فأطعمني و إني ظمآن فاسقني فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : هذه حاجتك ثم فدى بالرجلين و حبس رسول الله صلى الله عليه و سلم العضباء لرحله ]
قال : ثم إن المشركين أغاروا على سرح المدينة فذهبوا به و كانت العضباء فيه و أسروا امرأة من المسلمين قال : و كانوا إذا نزلوا أراحوا إبله بأفنيتهم قال : فقامت المرأة ذات ليلة بعد ما نوموا فجعلت كلما أتت على بعير رغا حتى أتت على العضباء فأتت على ناقة ذلول مجرسة فركبتها ثم وجهتها قبل المدينة قال : و نذرت إن الله أنجاها عليها لتنحرنها فلما قدمت المدينة عرفت الناقة فقيل : ناقة رسول الله صلى الله عليه و سلم
قال : و أخبر رسول الله صلى الله عليه و سلم بنذرها أو أتته فأخبرته فقال : بئس ما جزيتيها أو بئس ما جزتها إن أنجاها الله عليها لتنحرنها قال : ثم قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ لا وفاء لنذر في معصية الله و لا فيما لا يملك ابن آدم ]
و رواه مسلم عن أبي الربيع الزهراني عن حماد بن زيد (3/293)
قال ابن إسحاق : و كان مما قيل من الأشعار في غزوة ذي قرد قول حسان بن ثابت رضي الله عنه :
( لولا الذي لاقت و مس نسورها ... بجنوب ساية أمس في التقواد )
( للقينكم يحملن كل مدجج ... حامي الحقيقة ماجد الأجداد )
( و لسر أولاد اللقيطة أننا ... سلم غداة فوارس المقداد )
( كنا ثمانية و كانوا جحفلا ... لجبا فشكوا بالرماح بداد )
( كنا من القوم الذين يلونهم ... و يقدمون عنان كل جواد )
( كلا و رب الراقصات إلى منى ... يقطعن عرض مخارم الأطواد )
( حتى نبيل الخيل في عرصاتكم ... و نؤب بالملكات و الأولاد )
( رهوا بكل مقلص و طمرة ... في كل معترك عطفن و واد )
( أفنى دوابرها و لاح متونها ... يوم تقاد به ويوم طراد )
( فكذاك إن جيادنا ملبونة ... و الحرب مشعلة بريح غواد )
( و سيوفنا بيض الحدائد تجتلي ... جنن الحديد و هامة المرتاد )
( أخذ الإله عليهم لحرامه ... و لعزة الرحمن بالأسداد )
( كانوا بدار ناعمين فبدلوا ... أيام ذي قرد وجوه عناد )
قال ابن إسحاق : فغضب سعد بن زيد أمير سرية الفوارس المتقدمين أمام رسول الله صلى الله عليه و سلم على حسان و حلف لا يكلمه أبدا و قال : انطلق إلى خيلي و فوارسي فجعلها للمقداد فاعتذر إليه حسان بأنه وافق الروى اسم المقداد ! ثم قال أبياتا يمدح بها سعد بن زيد :
( إذا أردتم الأشد الجلد ... أو ذا غناء فعليكم سعدا )
( سعد بن زيد لا يهد هدا )
قال : فلم تقع منه بموقع
و قال حسان بن ثابت في يوم ذي قرد :
( أظن عيينة إذ زارها ... بأن سوف يهدم فيها قصورا )
( فأكذبت ما كنت صدقته ... و قلتم سنغنم أمرا كبيرا )
( فعفت المدينة إذ زرتها ... و آنست للأسد فيها زئيرا )
( و ولوا سراعا كشد النعام ... و لم يكشفوا عن ملط حصيرا )
( أمير علينا رسول المليك ... أحبب بذاك إلينا أميرا )
( رسول يصدق ما جاءه ... و يتلو كتابا مضيئا منيرا )
و قال كعب بن مالك في يوم ذي قرد يمدح الفرسان يومئذ من المسلمين :
( أيحسب أولاد اللقيطة أننا ... على الخيل لسنا مثلهم في الفوارس )
( و إنا أناس لا نرى القتل سبة ... و لا ننثني عند الرماح المداعس )
( و إنا لنقري الضيف من قمع الذرى ... و نضرب رأس الأبلج المتشاوس )
( نرد كماة المعلمين إذا انتحوا ... بضرب يسلي نخوة المتقاعس )
( بكل فتى حامي الحقيقة ماجد ... كريم كسرحان العضاة مخالس )
( يذودون عن أحسابهم و بلادهم ... ببيض تقد الهام تحت القوانس )
( فسائل بني بدر إذا ما لقيتهم ... بما فعل الإخوان يوم التمارس )
( إذا ما خرجتم فاصدقوا من لقيتم ... و لا تكتموا أخباركم في المجالس )
( و قولوا زللنا عن مخالب خادر ... به و حر في الصدر ما لم يمارس ) (3/294)
البخاري و هي غزوة المريسع قال محمد ابن إسحاق : و ذلك في سنة ست و قال موسى ابن عقبة سنة أربع و قال النعمان بن راشد عن الزهري : كان حديث الإفك في غزوة المريسيع هكذا رواه البخاري عن المغازي موسى ابن عقبة أنها كانت في سنة أربع و الذي حكاه عنه وعن عروة أنها كانت في شعبان سنة خمس و قال الواقدي : كانت ليلتين من شعبان سنة خمس في سبعمائة من أصحابه
و قال محمد بن إسحاق بن يسار بعد ما أورد قصة ذي قرد : فأقام رسول الله صلى الله عليه و سلم بالمدينة بعض جمادى الآخرة و رجب ثم غزا بني المصطلق من خزاعة في شعبان سنة ست قال ابن هشام : و استعمل على المدينة أبا ذر الغفاري و يقال نميلة بن عبد الله الليثي
قال ابن إسحاق : حدثني عاصم بن عمر بن قتادة و عبد الله بن أبي بكر و محمد بن يحيى بن حيان كل قد حدثني بعض حديث بني المصطلق قالوا : بلغ رسول الله صلى الله عليه و سلم أن بني المصطلق يجمعون له وقائدهم الحارث بن أبي ضرار أبو جويرية بنت الحارث التي تزوجها رسول الله صلى الله عليه و سلم بعد هذا فلما سمع بهم خرج إليهم حتى لقيهم على ماء من مياههم يقال لها المريسيع من ناحية قديد إلى الساحل فتزاحم الناس و اقتتلوا فهزم الله بني المصطلق و قتل منهم و نقل رسول الله صلى الله عليه و سلم أبناءهم و نساءهم و أموالهم فأفاءهم عليه و قال الواقدي : خرج رسول الله صلى الله عليه و سلم لليلتين مضتا من شعبان سنة خمس من الهجرة في سبعمائة من أصحابه إلى بني المصطلق و كانوا حلفاء بني مدلج فلما انتهى إليهم دفع راية المهاجرين إلى أبي بكر الصديق و يقال إلى عمار بن ياسر و راية الأنصار إلى سعد بن عبادة ثم أمر عمر بن الخطاب فنادى في الناس أن قولوا : لا إله إلا الله تمنعوا بها أنفسكم و أموالكم فأبوا فتراموا بالنبل ثم أمر رسول الله صلى الله عليه و سلم المسلمين فحملوا حملة رجل واحد فما أفلت منهم رجل واحد و قتل منهم عشرة و أسر سائرهم و لم يقتل من المسلمين إلا رجل واحد
و ثبت في الصحيحين من حديث عبد الله بن عون قال : كتبت إلى نافع أسأله عن الدعاء قبل القتال فقال : قد أغار رسول الله صلى الله عليه و سلم على بني المصطلق و هم غارون في أنعامهم تسقى على الماء فقتل مقاتلهم و سبي سبيهم فأصاب يومئذ ـ أحسبه قال ـ جويرية بني الحارث و أخبرني عبد الله بن عمر بذلك و كان بذلك الجيش
قال ابن إسحاق : و قد أصيب رجل من المسلمين يقال له هشام بن صبابة أصابه رجل من الأنصار و هو يرى أنه من العدو فقتله خطأ
و ذكر ا بن إسحاق أن أخاه مقيس بن صبابة قدم من مكة مظهرا للإسلام فطلب دية أخيه هشام من رسول الله صلى الله عليه و سلم لأنه قتل خطأ فأعطاه ديته ثم مكث يسيرا ثم عدا على قاتل أخيه فقتله و رجع مرتدا إلى مكة و قال في ذلك :
( شفى النفس أن قد بات بالقاع مسندا ... يضرج ثوبيه دماء الأخادع )
( و كانت هموم النفس من قبل قتله ... تلم فتحميني وطاء المضاجع )
( حللت به و ترى وأدركت ثؤرتي ... و كنت إلى الأوثان أول راجع )
( ثأرت به فهرا و حملت عقله ... سراة بني النجار أرباب فارع )
قلت : و لهذا كان مقيس هذا من الأربعة الذين أهدر رسول الله صلى الله عليه و سلم يوم الفتح دماءهم و إن وجدوا معلقين بأستار الكعبة (3/297)
قال ابن إسحاق : فبينا الناس على ذلك الماء وردت واردة الناس و مع عمر بن الخطاب أجير له من بني غفار يقال له جهجاه بن مسعود يقود فرسه فازدحم جهجاه و سنان بن وبر الجهني حليف بني عوف بن الخزرج على الماء فاقتتلا فصرخ الجهني : يا معشر الأنصار و صرخ جهجاه : يا معشر المهاجرين فغضب عبد الله بن أبي بن سلول و عنده رهط من قومه فيهم زيد بن أرقم غلام حدث فقال : أوقد فعلوها ؟ قد نافرونا و كاثرونا في بلادنا ! و الله ما أعدنا و جلابيب قريش هذه إلا كما قال الأول : ( ( سمن كلبك يأكلك ! ) أما و الله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل ثم أقبل على من حضره من قومه فقال : هذا ما فعلتم بأنفسكم أحللتموهم بلادكم و قاسمتموهم أموالكم أما و الله لو أمسكتم عنهم ما بأيديكم لتحولوا إلى غير داركم فسمع ذلك زيد بن أرقم فمشى به إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فأخبره الخبر و عنده عمر بن الخطاب فقال : مر به عباد بن بشر فليقتله فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ فكيف يا عمر إذا تحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه لا و لكن أذن بالرحيل ] و ذلك في ساعة لم يكن رسول الله صلى الله عليه و سلم يرتحل فيها فارتحل الناس
و قد مشى عبد الله بن أبي بن سلول إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم حين بلغه أن زيد بن أرقم بلغه ما سمع منه فحلف بالله ما قلت ما قال و لا تكلمت به و كان في قومه شريفا عظيما فقال من حضر رسول الله صلى الله عليه و سلم من الأنصار من أصحابه : يا رسول الله عسى أن يكون الغلام أوهم في حديثه و لم يحفظ ما قال الرجل جدبا على ابن أبي و دفعا عنه
فلما استقل رسول الله صلى الله عليه و سلم و سار لقيه أسيد بن حضير فحياه بتحية النبوة و سلم عليه و قال : يا رسول الله و الله لقد رحت في ساعة منكرة ما كنت تروح في مثلها ؟ فقال له رسول الله صلى الله عليه و سلم : أو ما بلغك ما قال صاحبكم ؟ قال : أي صاحب يا رسول الله ؟ قال : عبد الله بن أبي قال : و ما قال ؟ قال : زعم أنه إن رجع إلى المدينة أخرج الأعز منها الأذل قال : فأنت و الله يا رسول الله تخرجه إن شئت هو و الله الذليل و أنت العزيز ثم قال : يا رسول الله ارفق فوالله لقد جاءنا الله بك و إن قومه لينظمون له الخرز ليتوجوه فإنه ليرى أنك قد استلبته ملكا
ثم مشى رسول الله صلى الله عليه و سلم بالناس يومهم ذلك حتى أمسى و ليلتهم حتى أصبح و صدر يومهم ذلك حتى آذتهم الشمس ثم نزل بالناس فلم يلبثوا أن وجدوا مس الأرض فوقعوا نياما و إنما فعل ذلك ليشغل الناس عن الحديث الذي كان بالأمس من حديث عبد الله بن أبي ثم راح رسول الله صلى الله عليه و سلم بالناس و سلك الحجاز حتى نزل على ماء بالحجاز فويق النقيع يقال له بقعاء فلما راح رسول الله صلى الله عليه و سلم هبت على الناس ريح شديدة فآذتهم و تخوفوها فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ لا تخوفوها فإنما هبت لموت عظيم من عظماء الكفار فلما قدموا المدينة وجدوا رفاعة بن زيد بن التابوت أحد بني قنينقاع و كان عظيما من عظماء اليهود و كهفا للمنافقين مات ذلك اليوم ]
و هكذا ذكر موسى بن عقبة و الواقدي
و زوى مسلم [ من طريق الأعمش عن أبي سفيان عن جابر نحو هذه القصة إلا أنه لم يسم الذي مات من المنافقين قال : هبت ريح شديدة و النبي صلى الله عليه و سلم في بعض أسفاره فقال هذه لموت منافق فلما قدمنا المدينة إذا هو قد مات عظيم من عظماء المنافقين ]
قال ابن إسحاق : و نزلت السورة التي ذكر الله فيها المنافقين في ابن أبي و من كان على مثل أمره فأخذ رسول الله صلى الله عليه و سلم بأذن زيد بن أرقم و قال : [ هذا الذي أوفى لله بأذنه ] قلت : و قد تكلمنا على تفسيرها بتمامها في كتابنا التفسير بما فيه كفاية عن إعادته هاهنا و سردنا طرق هذا الحديث عن زيد بن أرقم و لله الحمد و المنة فمن أراد الوقوف عليه أو أحب أن يكتبه هاهنا فليطلبه من هناك و بالله التوفيق
قال ابن إسحاق : حدثني عاصم بن عمر بن قتادة أن عبد الله عبد الله بن أبي بن سلول أتى رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : يا رسول الله إنه بلغني أنك تريد قتل عبد الله بن أبي فيما بلغك عنه فإن كنت فاعلا فمر لي به فأنا أحمل لك رأسه فوالله لقد علمت الخزرج ما كان بها من رجل أبر بوالده مني و إني أخشى أن تأمر به غيري فيقتله فلا تدعني نفسي أن أنظر إلى قاتل عبد الله بن أبي يمشي في الناس فأقتله فأقتل مؤمنا بكافر فأدخل النار
فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ بل نترفق به و نحسن صحبته ما بقي معنا ] و جعل بعد ذلك إذا أحدث الحدث كان قومه هم الذين يعاتبونه و يأخذونه و يعنفونه فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم لعمر بن الخطاب حين بلغه ذلك من شأنهم : [ كيف ترى يا عمر ؟ أما و الله لو قتلته يوم قلت لي لأرعدت له آنف لو أمرتها اليوم بقتله لقتلته ] فقال عمر : قد و الله علمت لأمر رسول الله صلى الله عليه و سلم أعظم بركة من أمري
و قد ذكر عكرمة و ابن زيد و غيرهما أن ابنه عبد الله رضي الله عنه وقف لأبيه عبد الله بن أبي بن سلول عند مضيق المدينة فقال : قف فوالله لا تدخلها حتى يأذن رسول الله صلى الله عليه و سلم في ذلك فلما جاء رسول الله صلى الله عليه و سلم استأذنه في ذلك فأذن له فأرسله حتى دخل المدينة
قال ابن إسحاق : و أصيب يومئذ من بني المصطلق ناس و قتل علي بن أبي طالب منهم رجلين : مالكا و ابنه
قال ابن هشام : و كان شعار المسلمين : يا منصور أمت أمت
قال ابن إسحاق : و كان رسول الله صلى الله عليه و سلم أصاب منهم سبيا كثيرا فقسمهم في المسلمين (3/299)
و قال البخاري : [ حدثنا قتيبة بن سعيد أخبرني إسماعيل بن جعفر عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن عن محمد بن يحيى بن حبان عن ابن محيريز أنه قال : دخلت المسجد فرأيت أبا سعيد الخدري فجلست إليه فسألته عن العزل فقال أبو سعيد : خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه و سلم في غزوة بني المصطلق فأصبنا سبيا من سبي العرب فاشتهينا النساء و اشتدت علينا العزوبة و أحببنا العزل و قلنا نعزل و رسول الله صلى الله عليه و سلم بين أظهرنا قبل أن نسأله فسألناه عن ذلك فقال : ما عليكم ألا تفعلوا ما من نسمة كائنة إلى يوم القيامة إلا كائنة ] و هكذا رواه مسلم (3/302)
قال ابن إسحاق : و كان فيمن أصيب يومئذ من السبايا جويرية بنت الحارث بن أبي ضرار فحدثني محمد بن جعفر بن الزبير عن عروة عن عائشة قالت : لما قسم رسول الله صلى الله عليه و سلم سبايا بني المصطلق وقعت جويرية بنت الحارث في السهم لثابت بن قيس بن شماس أو لابن عم له فكاتبته على نفسها و كانت امرأة حلوة ملاحة لا يراها أحد إلا أخذت بنفسه فأتت رسول الله صلى الله عليه و سلم لتستعينه في كتابتها قالت : فوالله ما هو إلا أن رأيتها على باب حجرتي فكرهتها و عرفت أنه سيرى منها ما رأيت فدخلت عليه فقالت : يا رسول الله أنا جويرية بنت الحارث بن أبي ضرار سيد قومه و قد أصابني من البلاء ما لم يخفى عليك فوقعت في السهم لثابت بن قيس بن شماس أو لابن عم له فكاتبته على نفسي فجئتك أستعينك على كتابتي
قال : [ فهل لك في خير من ذلك ؟ قالت : و ما هو يا رسول الله ؟ قال : أقضي عنك كتابك و أتزوجك قالت : نعم يا رسول الله قد فعلت ]
قالت : و خرج الخبر إلى الناس أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قد تزوج جويرية بنت الحارث فقال الناس : أصهار رسول الله صلى الله عليه و سلم فأرسلوا ما بأيديهم
قالت : فلقد أعتق بتزويجه إياها مائة أهل بيت من بني المصطلق فما أعلم امرأة أعظم على قومها منها
ثم ذكر ابن إسحاق قصة الإفك بتمامها في هذه الغزوة و كذلك البخاري و غير واحد من أهل العلم و قد حررت طرق ذلك كله في تفسير سورة النور فليلحق بكماله إلى هاهنا و بالله المستعان
و قال الواقدي : حدثنا حرام عن هشام بن عروة عن أبيه قال : قالت جويرية بنت الحارث : رأيت قبل قدوم النبي صلى الله عليه و سلم بثلاث ليال كأن القمر يسير من يثرب حتى وقع في حجري فكرهت أن أخبر به أحدا من الناس حتى قدم رسول الله صلى الله عليه و سلم فلما سبينا رجوت الرؤيا قالت : فأعتقني رسول الله صلى الله عليه و سلم و تزوجني و الله ما كلمته في قومي حتى كان المسلمون هم الذين أرسلوهم و ما شعرت إلا بجارية من بنات عمي تخبرني الخبر فحمدت الله تعالى
قال الواقدي : و يقال إن رسول الله صلى الله عليه و سلم جعل صداقها عتق أربعين من بني المصطلق
و ذكر موسى بن عقبة : عن بني المصطلق أن أباها طلبها و افتداها ثم خطبها منه رسول الله صلى الله عليه و سلم فزوجه إياها (3/302)
و هذا سياق محمد بن إسحاق حديث الإفك :
قال ابن إسحاق : حدثني الزهري عن علقمة بن وقاص و سعيد بن المسيب و عروة بن الزبير و عبيد الله بن عبد الله بن عتبة قال الزهري : و كل قد حدثني بهذا الحديث و بعض القوم كان أوعى له من بعض و قد جمعت كل الذي حدثني القوم
قال ابن إسحاق : و حدثني يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير عن أبيه عن عائشة و عبد الله بن أبي بكر عن عمرة بنت عبد الرحمن عن عائشة عن نفسها حين قال فيها أهل الإفك ما قالوا فكل قد دخل في حديثها عن هؤلاء جميعا يحدث بعضهم ما لم يحدث صاحبه و كل كان عنها ثقة فكلهم حدث عنها بما سمع قالت :
كان رسول الله صلى الله عليه و سلم إذا أراد سفرا أقرع بين نسائه فأيتهن خرج سهمها خرج بها معه فلما كان غزوة بني المصطلق أقرع بين نسائه كما كان يصنع فخرج سهمي عليهن معه فخرج بي رسول الله صلى الله عليه و سلم قالت : و كان النساء إذ ذاك يأكلن العلق لم يهجهن اللحم فيثقلن و كنت إذا رحل لي بعيري جلست في هودجي ثم يأتي القوم الذين كانوا يرحلون لي فيحملونني و يأخذون بأسفل الهودج فيعرفونه فيضعونه على ظهر البعير فيشدونه بحباله ثم يأخذون برأس البعير فينطلقون به
قالت : فلما فرغ رسول الله صلى الله عليه و سلم من سفره ذلك و وجه قافلا حتى إذا كان قريبا من المدينة نزل منزلا فبات به بعض الليل ثم أذن مؤذن في لناس بالرحيل فارتحل الناس و خرجت لبعض حاجتي و في عنقي عقد لي فيه جزع ظفار فلما فرغت انسل من عنقي و لا أدري فلما رجعت إلى الرحل ذهبت ألتمسه في عنقي فلم أجده و قد أخذ الناس بالرحيل فرجعت إلى مكاني الذي ذهبت إليه فالتمسته حتى وجدته و جاء القوم خلافي الذين كانوا يرحلون لي البعير و قد كانوا فرغوا من رحلته فأخذوا الهودج و هم يظنون أني فيه كما كنت أصنع فاحتملوه فشدوه على البعير و لم يشكوا أني فيه ثم أخذوا برأس البعير فانطلقوا به
فرجعت إلى العسكر و ما فيه داع و لا مجيب قد انطلق الناس قالت : فتلففت بجلبابي ثم اضطجعت في مكاني و عرفت أن لو افتقدت لرجع الناس إلي
قالت : فوالله إني لمضطجعة إذ مر بي صفوان بن المعطل السلمي و كان قد تخلف عن العسكر لبعض حاجته فلم يبت مع الناس فرأى سوادي فأقبل حتى وقف علي و قد كان يراني قبل أن يضرب علينا الحجاب فلما رآني قال : إنا لله و إنا إليه راجعون ! ظعينة رسول الله صلى الله عليه و سلم ؟ و أنا متلففة في ثيابي قال : ما خلفك يرحمك الله ؟ قالت : فما كلمته ثم قرب إلي البعير فقال : اركبي و استأخر عني
قالت : فركبت و أخذ برأس البعير فانطلق سريعا يطلب الناس فوالله ما أدركنا الناس و ما افتقدت حتى أصبحت و نزل الناس فلما اطمأنوا طلع الرجل يقود بي فقال أهل الإفك ما قالوا و ارتج العسكر و و الله ما أعلم بشيء من ذلك
ثم قدمنا المدينة فلم ألبث أن اشتكيت شكوى شديدة لا يبلغني من ذلك شيء
و قد انتهى الحديث إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم و إلى أبوي لا يذكرون لي منه قليلا و لا كثيرا إلا أني قد أنكرت من رسول الله صلى الله عليه و سلم بعض لطفه بي كنت إذا اشتكيت رحمني و لطف بي فلم يفعل ذلك بي في شكواي ذلك فأنكرت ذلك منه كان إذا دخل علي و عندي أمي تمرضني قال : كيف تيكم ؟ لا يزيد على ذلك
قالت : حتى وجدت في نفسي فقلت : يا رسول الله حين رأيت ما رأيت جفائه لي : لو أذنت لي فانتقلت إلى أمي فمرضتني قال لا عليك قالت : فانقلبت إلى أمي و لا علم لي بشيء مما كان حتى نقهت من وجعي بعد بضع و عشرين ليلة و كنا قوما عربا لا نتخذ في بيوتنا هذه الكنف التي تتخذها الأعاجم نعافها و نكرهها إنما كنا نخرج في فسح المدينة و إنما كانت النساء يخرجن في كل ليلة في حوائجهن فخرجت ليلة لبعض حاجتي و معي أم مسطح ابنة أبي رهم بن المطلب قالت : فوالله إنها لتمشي معي إذ عثرت في مرطها فقالت : تعس مسطح و مسطح لقب و اسمه عوف
قالت : فقلت : بئس لعمرو الله ما قلت لرجل من المهاجرين و قد شهد بدرا قالت : أوما بلغك يا بنت أبي بكر ؟ قالت : قلت : و ما الخبر ؟ فأخبرتني بالذي كان من قول أهل الإفك قلت : أوقد كان هذا ؟ قالت : نعم و الله لقد كان قالت : فوالله ما قدرت على أن أقضي حاجتي و رجعت فوالله ما زلت أبكي حتى ظننت أن البكاء سيصدع كبدي قالت : و قلت لأمي : يغفر الله لك تحدث الناس بما تحدثوا به و لا تذكرين لي من ذلك شيئا ! قالت : أي بنية خففي عليك الشأن فوالله لقل ما كانت امرأة حسناء عند رجل يحبها لها ضرائر إلا كثرن و كثر الناس عليها
قالت : و قد قام رسول الله صلى الله عليه و سلم فخطبهم و لا أعلم بذلك فحمد الله و أثنى عليه ثم قال : [ أيها الناس ما بال رجال يؤذونني في أهلي و يقولون عليهم غير الحق و الله ما علمت عليهم إلا خيرا و يقولون ذلك لرجل و الله ما علمت منه إلا خيرا و لا يدخل بيتا من بيوتي إلا و هو معي ]
قالت : و كان كبر ذلك عند عبد الله بن أبي بن سلول في رجال من الخزرج مع الذي قال مسطح و حمنة بنت جحش و ذلك أن أختها زينب بنت جحش كانت عند رسول الله صلى الله عليه و سلم و لم تكن امرأة من نسائه تناصبني في المنزلة عنده غيرها
فأما زينب فعصمها الله بدينها فلم تقل إلا خيرا و أما حمنة فأشاعت من ذلك ما أشاعت تضارني لأختها فشقيت بذلك
فلما قال رسول الله صلى الله عليه و سلم تلك المقالة قال أسيد بن حضير : يا رسول الله إن يكونوا من الأوس نكفيكهم و إن يكونوا من إخواننا من الخزرج فمرنا أمرك فوالله إنهم لأهل أن تضرب أعناقهم
قالت : فقام سعد بن عبادة و كان قبل ذلك يرى رجلا صالحا فقال : كذبت لعمر الله ما تضرب أعناقهم أما و الله ما قلت هذه المقالة إلا أنك قد عرفت أنهم من الخزرج و لو كانوا من قومك ما قلت هذا فقال أسيد بن حضير : كذبت لعمر الله و لكنك منافق تجادل عن المنافقين
قالت : و تساور الناس حتى كاد يكون بين هذين الحيين من الأوس و الخزرج شر
و نزل رسول الله صلى الله عليه و سلم فدخل علي فدعا علي بن أبي طالب و أسامة بن زيد فاستشارهما فأما أسامة فأثنى خيرا و قاله ثم قال : يا رسول الله أهلك و ما نعلم منهم إلا خيرا و هذا الكذب و الباطل و أما علي فإنه قال : يا رسول الله إن النساء لكثير و إنك لقادر على أن تستخلف و سل الجارية فإنها ستصدقك فدعا رسول الله صلى الله عليه و سلم بريرة يسألها قالت : فقام إليها علي فضربها ضربا شديدا و يقول : اصدقي رسول الله صلى الله عليه و سلم قالت : فتقول : و الله ما أعلم إلا خيرا و ما كنت أعيب على عائشة شيئا إلا أني كنت أعجن عجيني فآمرها أن تحفظه فتنام عنه فتأتي الشاة فتأكله !
قالت : ثم دخل علي رسول الله صلى الله عليه و سلم و عندي أبواي و عندي امرأة من الأنصار و أنا أبكي و هي تبكي فجلس فحمد الله و أثنى عليه ثم قال : [ يا عائشة إنه قد كان ما بلغك من قول الناس فاتقي الله و إن كنت قد قارفت سوءا مما يقول الناس فتوبي إلى الله فإن الله يقبل التوبة عن عباده ] قالت : فوالله إن هو إلا أن قال لي ذلك فقلص دمعي حتى ما أحس منه شيئا وانتظرت أبوي أن يجيبا عني رسول الله صلى الله عليه و سلم فلم يتكلما
قالت : و ايم الله لأنا كنت أحقر في نفسي و أصغر شأنا ينزل الله في قرآنا يقرأ به و يصلى به و لكني كنت أرجو أن يرى النبي صلى الله عليه و سلم في نومه شيئا يكذب الله به عني لما يعلم من براءتي و يخبر خبرا و أما قرآنا ينزل في فوالله لنفسي كانت أحقر عندي من ذلك قالت : فلما لم أر أبوي يتكلمان قلت لهما : ألا تجيبان رسول الله صلى الله عليه و سلم ؟ فقالا : و الله ما ندري بما نجيبه قالت : و و الله ما أعلم أهل بيت دخل عليهم ما دخل على أبي بكر في تلك الأيام قالت : فلما استعجما علي استعبرت فبكيت ثم قلت : و الله لا أتوب إلى الله مما ذكرت أبدا و الله إني لأعلم لئن أقررت بما يقول الناس و الله يعلم أني منه بريئة لأقولن ما لم يكن و لئن أنا أنكرت ما يقولون لا تصدقوني قالت : ثم التمست اسم يعقوب فما أذكره فقلت : و لكن سأقول كما قال أبو يوسف : { فصبر جميل و الله المستعان على ما تصفون } قالت : فوالله ما برح رسول الله صلى الله عليه و سلم مجلسه حتى تغشاه من الله ما كان يتغشاه فسجى بثوبه و وضعت وسادة من أدم تحت رأسه فأما أنا حين رأيت من ذلك ما رأيت فوالله ما فزعت و ما باليت قد عرفت أني بريئة و أن الله غير ظالمي و أما أبواي فوالذي نفس عائشة بيده ما سري عن رسول الله صلى الله عليه و سلم حتى ظننت لتخرجن أنفسهما فرقا من أن يأتي من الله تحقيق ما قال الناس
قالت : ثم سري عن رسول الله صلى الله عليه و سلم فجلس و إنه ليتحدر من وجهه مثل الجمان في يوم شات فجعل يمسح العرق عن وجهه و يقول : أبشري يا عائشة قد أنزل الله عز و جل براءتك قالت : قلت : الحمد لله
ثم خرج إلى الناس و تلا عليهم ما أنزل الله عز و جل من القرآن في ذلك ثم أمر بمسطح بن أثاثة و حسان بن ثابت و حمنة بنت جحش و كانوا ممن أفصح بالفاحشة فضربوا حدهم
و هذا الحديث مخرج في الصحيحين عن الزهري و هذا السياق فيه فوائد جمة
و ذكر حد القذف لحسان و من معه رواه أبو داود بسننه
قال ابن إسحاق : و قال قائل من المسلمين في ضرب حسان و أصحابه :
( لقد ذاق حسان الذي كان أهله ... و حمنة إذ قالوا هجيرا و مسطح )
( تعاطوا برجم الغيب زوج نبيهم ... و سخطة ذي العرش الكريم فأترحوا )
( و آذوا رسول الله فيها فجللوا ... مخازي تبقى عمموها و فضحوا )
( و صبت عليهم محصدات كأنها ... شآبيب قطر في ذرا المزن تسفح ) (3/304)
و قد ذكر ابن إسحاق أن حسان بن ثابت قال شعرا يهجو فيه صفوان بن المعطل و جماعة من قريش ممن تخاصم على الماء من أصحاب جهجهاه كما تقدم أوله هي :
( أمسى الجلابيب قد عزوا و قد كثروا ... و ابن الفريعة أمسى بيضة البلد )
( قد ثكلت أمه من كنت صاحبه ... أو كان منتشبا في برثن الأسد )
( ما لقتيلي الذي أغدو فآخذه ... من دية فيه يعطاها و لا قود )
( ما البحر حين تهب الريح شامية ... فيغطئل و يرمي العبر بالزبد )
( يوما بأغلب مني حين تبصرني ... ملغيظ أفري كفري العارض البرد )
( أما قريش فإني لا أسالمها ... حتى ينيبوا من الغيات للرشد )
( و يتركوا اللات و العزى بمعزلة ... و يسجدوا كلهم للواحد الصمد )
( و يشهدوا أن ما قال الرسول لهم ... حق فيوفوا بحق الله والوكد )
قال : فاعترضه صفوان بن المعطل فضربه بالسيف و هو يقول :
( تلق ذباب السيف عني فإنني ... غلام إذا هوجيت لست بشاعر )
و ذكر أن ثابت بن قيس بن شماس أخذ صفوان حين ضرب حسان فشده وثاقا فلقيه عبد الله رواحة فقال : ما هذا ؟ فقال : ضرب حسان بالسيف فقال عبد الله : هل علم رسول الله صلى الله عليه و سلم بشيء من ذلك ؟ قال : لا فأطلقه ثم أتوا كلهم رسول الله صلى الله عليه و سلم قال ابن المعطل : يا رسول الله آذاني و هجاني فاحتملني الغضب فضربته فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : يا حسان أتشوهت على قومي إذ هداهم الله ثم قال : أحسن يا حسان فيما أصابك فقال : هي لك يا رسول الله فعوضه منها بيرحاء التي تصدق بها أبو طلحة و جارية قبطية يقال لها سيرين جاءه منها ابنه عبد الرحمن
قال : و كانت عائشة تقول : سئل عن ابن المعطل فوجد رجلا حصورا ما يأتي النساء ثم قتل بعد ذلك شهيدا رضي الله عنه (3/310)
قال ابن إسحاق : ثم قال حسان بن ثابت يعتذر من الذي كان في شأن عائشة :
( حصان رزان ما تزن بريبة ... و تصبح غرثى من لحوم الغوافل )
( عقيلة حي من لؤي بن غالب ... كرام المساعي مجدهم غير زائل )
( و إن الذي قد قيل ليس بلائط ... بك الدهر بل قيل امرىء بي ماحل )
( فإن كنت قد قلت الذي قد زعمتم ... فلا رفعت سوطي إلي أناملي )
( فكيف و ودي ما حييت و نصرتي ... لآل رسول الله زين المحافل )
( و إن لهم عزا ترى الناس دونه ... قصارا و طال العز كل التطاول )
ولتكتب هاهنا الآيات من سورة النور و هي من قوله : { إن الذين جاءوا بالإفك عصبة منكم لا تحسبوه شرا لكم بل هو خير لكم لكل امرىء منه ما اكتسب من الإثم } إلى : { مغفرة و رزق كريم } و ما أوردناه هنالك من الأحاديث و الطرق و الآثار عن السلف و الخلف و بالله التوفيق (3/311)
و قد كانت في ذي القعدة سنة ست بلا خلاف و ممن نص على ذلك الزهري و نافع مولى ابن عمر و قتادة و موسى بن عقبة و محمد بن إسحاق بن يسار و غيرهم و هو الذي رواه ابن لهيعة عن أبي الأسود عن عروة أنها كانت في ذي القعدة سنة ست
و قال يعقوب بن سفيان : حدثنا إسماعيل بن الخليل عن علي بن مسهر أخبرني هشام بن عروة عن أبيه : قال : خرج رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى الحديبية في رمضان و كانت الحديبية في شوال
و هذا غريب جدا عن عروة
و قد روى البخاري و مسلم [ جميعا عن هدبة عن همام عن قتادة أن أنس بن مالك أخبره أن رسول الله صلى الله عليه و سلم اعتمر أربع عمر في ذي القعدة إلا العمرة التي مع حجته عمرة من الحديبية في ذي القعدة و عمرة من العام المقبل في ذي القعدة و من الجعرانة في ذي القعدة حيث قسم غنائم حنين و عمرة مع حجته ]
و هذا لفظ البخاري (3/312)
و قال ابن إسحاق : ثم أقام رسول الله صلى الله عليه و سلم بالمدينة رمضان و شوالا و خرج في ذي القعدة معتمرا لا يريد حربا قال ابن هشام : و استعمل على المدينة نميلة بن عبد الله الليثي
قال ابن إسحاق : و استنفر العرب ومن حوله من أهل البوادي من الأعراب ليخرجوا معه وهو يخشى من قريش أن يعرضوا له بحرب أو يصدوه عن البيت فأبطأ عليه كثير من الأعراب
و خرج رسول الله صلى الله عليه و سلم بمن معه من المهاجرين و الأنصار و من لحق به من العرب و ساق معه الهدى و أحرم بالعمرة ليأمن الناس من حربه و ليعلم الناس أنه إنما خرج زائر لهذا البيت و معظما له
قال ابن إسحاق : و حدثني محمد بن مسلم بن شهاب الزهري عن عروة بن الزبير عن المسور بن مخرمة و مروان بن الحكم أنهما حدثاه قالا : خرج رسول الله صلى الله عليه و سلم عام الحديبية يريد زيارة البيت لا يريد قتالا و ساق معه الهدي سبعين بدنة و كان الناس سبعمائة رجل و كانت كل بدنة عن عشرة نفر و كان جابر بن عبد الله فيما بلغني يقول : كنا أصحاب الحديبية أربع عشرة مائة
قال الزهري : و خرج رسول الله صلى الله عليه و سلم حتى إذا كان بعسفان لقيه بشر بن سفيان الكعبي فقال رسول الله هذه قريش قد سمعت بمسيرك فخرجوا معهم العوذ المطافيل قد لبسوا جلود النمور و قد نزلوا بذي طوى يعاهدون الله لا تدخلها عليهم أبدا و هذا خالد بن الوليد في خيلهم قد قدموا إلى كراع الغميم
قال : فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ يا ويح قريش ! قد أكلتهم الحرب ماذا عليهم لو خلوا بيني و بين سائر العرب فإن هم أصابوني كان ذلك الذي أرادوا و إن أظهرني الله عليهم دخلوا في الإسلام وافرين و إن لم يفعلوا قاتلوا و بهم قوة فما تظن قريش ؟ فوالله لا أزال أجاهد على هذا الذي بعثني الله به حتى يظهره الله أو تنفرد هذه السالفة ثم قال : من رجل يخرج بنا على طريق غير طريقهم التي هم بها ؟ ]
قال ابن إسحاق : فحدثني عبد الله بن أبي بكر أن رجلا من أسلم قال : أنا يا رسول الله فسلك بهم طريقا وعرا أجرل بين شعاب فلما خرجوا منه و قد شق ذلك على المسلمين فأفضوا إلى أرض سهلة عند منقطع الوادي قال رسول الله : [ قولوا : نستغفر الله و نتوب إليه فقالوا ذلك فقال : و الله إنها للحطة التي عرضت على بني إسرائيل فلم يقولوها ]
قال ابن شهاب : فأمر رسول الله صلى الله عليه و سلم الناس فقال : اسلكوا ذات اليمين بين ظهري الحمض في طريق يخرجه على ثنية المرار مهبط الحديبية من أسفل مكة
قال : فسلك الجيش ذلك الطريق فلما رأت خيل قريش قترة الجيش قد خالفوا عن طريقهم ركضوا راجعين إلى قريش
و خرج رسول الله صلى الله عليه و سلم حتى إذا سلك في ثنية المرار بركت ناقته فقال الناس ! خلأت فقال : [ ما خلأت و ما هو لها بخلق و لكن حبسها حابس الفيل عن مكة لا تدعوني قريش اليوم إلى خطة يسألوني فيها صلة الرحم إلا أعطيتهم إياها ]
ثم قال : الناس انزلوا قيل له : يا رسول الله ما بالوادي ماء ينزل عليه فأخرج سهما من كنانته فأعطاه رجلا من أصحابه فنزل به في قليب من تلك القلب فغرزة في جوفه فجاش بالرواء حتى ضرب الناس عنه بعطن
قال ابن إسحاق : فحدثني بعض أهل عن رجال من أسلم أن الذي نزل في القليب بسهم رسول الله صلى الله عليه و سلم ناجية بن جندب سائق بدن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال ابن إسحاق : و قد زعم بعض أهل العلم أن البراء بن عازب كان يقول : أنا الذي نزلت بسهم رسول الله صلى الله عليه و سلم فالله أعلم أي ذلك كان ثم استدل ابن إسحاق للأول أن جارية من الأنصار جاءت البئر و ناجية أسفله يميح فقالت :
( يا أيها المائح دلوي دونكا ... إني رأيت الناس يحمدونكا )
( يثنون خيرا و يمجدونكا )
فأجابها فقال :
( قد علمت جارية يمانية ... أني أنا المائح و أسمي ناجية )
( و طعنة ذات رشاش واهية ... طعنتها عند صدور العاديه )
قال الزهري في حديثه : فلما اطمئن رسول الله صلى الله عليه و سلم أتاه بديل بن ورقاء في رجال من خزاعة فكلموه و سألوه ما الذي جاء به ؟ فأخبرهم أنه لم يأت يريد حربا و إنما جاء زائرا للبيت و معظما لحرمته ثم قال لهم نحو ما قال لبشر بن سفيان فرجعوا إلى قريش فقالوا : يا معشر قريش إنكم تعجلون على محمد و إن محمدا لم يأت لقتال إنما جاء زائرا لهذا البيت فاتهموهم و جبهوهم و قالوا : و إن جاء و لا يريد قتالا فوالله لا يدخلها علينا عنوة و لا تحدث بذلك عنا العرب
قال الزهري : و كانت خزاعة عيبة نصح رسول الله صلى الله عليه و سلم مسلمها و مشركها لا يخفون عنه شيئا كان بمكة
قال : ثم بعثوا إليه مكرز بن حفص بن الأخيف أخا بني عامر بن لؤي فلما رآه رسول الله صلى الله عليه و سلم مقبلا قال : هذا رجل غادر فلما انتهى إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم و كلمه قال له رسول الله صلى الله عليه و سلم نحو مما قال لبديل و أصحابه فرجع إلى قريش فأخبرهم بما قال له رسول الله صلى الله عليه و سلم ثم بعثوا بحليس بن علقمة أو ابن زبان و كان يومئذ سيد الأحابيش و هو أحد بني الحارث بن عبد مناة بن كنانة فلما رآه رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : إن هذا من قوم يتألهون فابعثوا الهدي في وجهه حتى يراه فلما رأى الهدي يسيل عليه من عرض الوادي في قلائده قد أكل أوباره من طول الحبس عن محله رجع إلى قريش و لم يصل إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم إعظاما لما رأى فقال لهم ذلك قال : فقالوا له : اجلس فإنما أنت أعرابي لا علم لك
قال ابن إسحاق : فحدثني عبد الله بن أبي بكر أن الحليس غضب عند ذلك و قال : يا معشر قريش و الله ما على هذا حالفناكم و لا على هذا عاهدناكم أيصد عن بيت الله من جاءه معظما له ؟ و الذي نفس الحليس بيده لتخلن بين محمد و بين ما جاء له أو لأنفرن بالأحايش نفرة رجل واحد قالوا : مه كف عنا حتى نأخذ لأنفسنا ما نرضى به
قال الزهري في حديثه : ثم بعثوا إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم عروة بن مسعود الثقفي فقال : يا معشر قريش إني قد رأيت ما يلقى منكم من بعثتموه إلى محمد إذ جاءكم من التعنيف و سوء اللفظ و قد عرفتم أنكم والد و أني ولد و كان عروة لسبيعة بنت عبد شمس و قد سمعت بالذي نابكم فجمعت من أطاعني من قومي ثم جئتكم حتى آسيتكم بنفسي قالوا : صدقت ما أنت عندنا بمتهم
فخرج حتى أتى رسول الله صلى الله عليه و سلم فجلس بين يديه ثم قال : يا محمد أجمعت أوشاب الناس ثم جئت بهم إلى بيضتك لتفضها بهم ؟ إنها قريش قد خرجت معها العوذ المطافيل قد لبسوا جلود النمور يعاهدون الله لا تدخلها عليهم عنوة أبدا و أيم الله لكأني بهؤلاء قد انكشفوا عنك غدا
قال : و أبو بكر الصديق رضي الله عنه خلف رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : امصص بظر اللات ! أنحن ننكشف عنه ؟ قال : من هذا يا محمد ؟ قال : هذا ابن أبي قحافة قال : أما و الله لولا يد كانت لك عندي لكفأتك بها و لكن هذه بهذه قال : ثم جعل يتناول لحية رسول الله صلى الله عليه و سلم و هو يكلمه و المغيرة بن شعبة واقف على رأس رسول الله صلى الله عليه و سلم في الحديد قال : فجعل يقرع يده إذ يتناول لحية رسول الله صلى الله عليه و سلم و يقول : اكفف يدك عن وجه رسول الله صلى الله عليه و سلم قبل ألا تصل إليك قال : فيقول عروة : ويحك ما أفظك و أغلظك !
قال : فتبسم رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال له عروة : من هذا يا محمد ؟ قال : هذا ابن أخيك المغيرة بن شعبة قال : أي غدر و هل غسلت سوأتك إلا بالأمس !
قال الزهري : فكلمه رسول الله صلى الله عليه و سلم بنحو مما كلم به أصحابه و أخبره أنه لم يأت يريد حربا فقام من عند رسول الله صلى الله عليه و سلم و قد رأى ما يصنع به أصحابه لا يتوضأ إلا ابتدروا وضوءه و لا يبصق بصاقا إلا ابتدروه و لا يسقط من شعره شيء إلا أخذوه فرجع إلى قريش فقال : يا معشر قريش إني قد جئت كسرى في ملكه و قيصر في ملكه و النجاشي في ملكه و إني و الله ما رأيت ملكا في قومه قط مثل محمد في أصحابه ! و لقد رأيت قوما لا يسلمونه لشيء أبدا فروا رأيكم
قال ابن إسحاق : و حدثني بعض أهل العلم أن رسول الله صلى الله عليه و سلم دعا خراش بن أمية الخزاعي فبعثه إلى قريش بمكة و حمله على بعير له يقال له الثعلب ليبلغ أشرافهم عنه ما جاء له فعقروا به جمل رسول الله صلى الله عليه و سلم و أرادوا قتله فمنعه الأحابيش فخلوا سبيله حتى أتى رسول الله صلى الله عليه و سلم
قال ابن إسحاق : و حدثني بعض من لا أتهم عن عكرمة عن ابن عباس أن قريشا كانوا بعثوا أربعين رجلا منهم أو خمسين أمروهم أن يطيفوا بعسكر رسول الله صلى الله عليه و سلم ليصيبوا لهم من أصحابه أحدا فأخذوه فأتى بهم رسول الله صلى الله عليه و سلم فعفا عنهم و خلى سبيلهم و قد كانوا رموا في عسكر رسول الله صلى الله عليه و سلم بالحجارة و النبل
ثم دعا عمر بن الخطاب ليبعثه إلى مكة فيبلغ عنه أشراف قريش ما جاء له فقال : يا رسول الله إني أخاف قريشا على نفسي و ليس بمكة من بني عدي أحد يمنعني و قد عرفت قريش عداوتي إياها و غلظتي عليها و لكني أدلك على رجل أعز بها مني عثمان بن عفان
فدعا رسول الله صلى الله عليه و سلم عثمان بن عفان فبعثه إلى أبي سفيان و أشراف قريش يخبرهم أنه لم يأت لحرب و إنما جاء زائرا لهذا البيت معظما لحرمته
فخرج عثمان إلى مكة فلقيه أبان بن سعيد بن العاص حين دخل مكة أو قبل أن يدخلها فحمله بين يديه ثم أجاره حتى بلغ رسالة رسول الله صلى الله عليه و سلم فانطلق عثمان حتى أتى أبا سفيان و عظماء قريش فبلغهم عن رسول الله صلى الله عليه و سلم ما أرسله به فقالوا لعثمان حين بلغ رسالة رسول الله صلى الله عليه و سلم : إن شئت أن تطوف بالبيت فطف قال : ما كنت لأفعل حتى يطوف به رسول الله صلى الله عليه و سلم
و احتبسته قريش عندها فبلغ رسول الله صلى الله عليه و سلم و المسلمين أن عثمان قد قتل قال ابن إسحاق : [ فحدثني عبد الله بن أبي بكر أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال حين بلغه أن عثمان قد قتل : لا نبرح حتى نناجز القوم ] (3/312)
و دعا رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى البيعة و كانت بيعة الرضوان تحت الشجرة و كان الناس يقولون : بايعهم رسول الله صلى الله عليه و سلم على الموت و كان جابر بن عبد الله يقول : إن رسول الله صلى الله عليه و سلم لم يبايعنا على الموت و لكن بايعنا على ألا نفر
فبايع رسول الله صلى الله عليه و سلم الناس و لم يتخلف عنه أحد من المسلمين حضرها إلا الجد بن قيس أخو بني سلمة و كان جابر بن عبد الله يقول : و الله لكأني أنظر إليه لاصقا بإبط ناقته قد ضبأ إليها يستتر من الناس
ثم أتى رسول الله صلى الله عليه و سلم أن الذي ذكر من أمر عثمان باطل
قال ابن هشام : و ذكر وكيع عن إسماعيل بن أبي خالد عن الشعبي أن أول من بايع رسول الله صلى الله عليه و سلم بيعة الرضوان أبو سنان الأسدي
قال ابن هشام : و حدثني من أثق به عمن حدثه بإسناد له عن ابن أبي مليكة عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه و سلم بايع لعثمان فضرب بإحدى يديه الأخرى
و هذا الحديث الذي ذكره ابن هشام بهذا الإسناد ضعيف لكنه ثابت في الصحيحين
قال ابن إسحاق : قال الزهري : ثم بعثت قريش سهيل بن عمرو أخا بني عامر بن لؤي إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم و قالوا : ائت محمدا و صالحه و لا يكن في صلحه إلا أن يرجع عنا عامه هذا فوالله لا تتحدث العرب أنه دخلها عنوة أبدا
فأتاه سهيل بن عمرو فلما رآه رسول الله صلى الله عليه و سلم مقبلا قال : قد أراد القوم الصلح حين بعثوا هذا الرجل
فلما انتهى سهيل إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم تكلم فأطال الكلام و تراجعا ثم جرى بينهما الصلح
فلما التأم الأمر و لم يبقى إلا الكتاب وثب عمر فأتى أبا بكر فقال : يا أبا بكر أليس برسول الله ؟ قال : بلى قال : أولسنا بالمسلمين ؟ قال : بلى قال : أوليسوا بالمشركين ؟ قال : بلى قال : فعلام نعطي الدنية في ديننا ؟ قال : أبو بكر : يا عمر الزم غرزه فإني أشهد أنه رسول الله قال عمر : و أنا أشهد أنه رسول الله
ثم أتى رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : يا رسول الله ألست برسول الله ؟ قال : بلى قال : أولسنا بالمسلمين ؟ قال : بلى قال : أوليسوا بالمشركين ؟ قال : بلى قال : فعلام نعطي الدنية في ديننا ؟ قال : أنا عبد الله و رسوله لن أخالف أمره و لن يضيعني
و كان عمر رضي الله عنه يقول : ما زلت أصوم و أتصدق و أصلي و أعتق من الذي صنعت يومئذ مخافة كلامي الذي تكلمته يومئذ حتى رجوت أن يكون خيرا (3/319)
قال : [ ثم دعا رسول الله صلى الله عليه و سلم علي بن أبى طالب رضي الله عنه فقال : اكتب : بسم الله الرحمن الرحيم قال : فقال سهيل : لا أعرف هذا و لكن اكتب : باسمك اللهم قال : فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : اكتب باسمك اللهم فكتبها ثم قال : اكتب : هذا ما صالح عليه محمد رسول الله سهيل بن عمرو قال : فقال سهيل : لو شهدت أنك رسول الله لم أقاتلك و لكن اكتب اسمك و اسم أبيك قال : فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : اكتب : هذا ما صالح عليه محمد بن عبد الله سهيل بن عمرو اصطلحا على وضع الحرب عن الناس عشر سنين يأمن فيهن الناس و يكف بعضهم عن بعض على أنه من أتى محمدا من قريش بغير إذن وليه رده عليهم و من جاء قريش ممن مع محمد لم يردوه عليه و أن بيننا عيبة مكفوفة و أنه لا إسلال و لا إغلال و أنه من أحب أن يدخل في عقد محمد و عهده دخل فيه و من أحب أن يدخل في عقد قريش و عهدهم دخل فيه ]
فتواثبت خزاعة فقالوا : نحن في عقد محمد و عهده و تواثبت بنو بكر فقالوا : نحن في عقد قريش و عهدهم
و إنك ترجع عامك هذا فلا تدخل علينا مكة و إنه إذا كان عام قابل خرجنا عنك فدخلتها بأصحابك فأقمت بها ثلاثا معك سلاح الراكب : السيوف في القرب لا تدخلها بغيرها (3/320)
قال : فبينا رسول الله صلى الله عليه و سلم يكتب الكتاب هو و سهيل بن عمرو إذ جاء أبو جندل بن سهيل بن عمرو يرسف في الحديد قد انفلت إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم
و قد كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم قد خرجوا و هم لا يشكون في الفتح لرؤيا رآها رسول الله صلى الله عليه و سلم فلما رأوا ما رأوا من الصلح و الرجوع و ما تحمل عليه رسول الله صلى الله عليه و سلم في نفسه دخل على الناس من ذلك أمر عظيم حتى كادوا يهلكون
فلما رأى سهيل أبا جندل قام إليه فضرب وجهه و أخذ بتلبيبه و قال : يا محمد قد لجت القضية بيني و بينك قبل أن يأتيك هذا قال : صدقت فجعل ينتره بتلبيبه و يجره يعني يرده إلى قريش و جعل أبو جندل يصرخ بأعلى صوته : يا معشر المسلمين أرد إلى المشركين يفتنونني في ديني
فزاد ذلك الناس إلى ما بهم
فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ يا أبا جندل اصبر و احتسب فإن الله جاعل لك و لمن معك من المستضعفين فرجا و مخرجا إنا قد عقدنا بيننا و بين القوم صلحا و أعطيناهم على ذلك و أعطونا عهد الله و إنا لا نغدر بهم ]
قال : فوثب عمر بن الخطاب مع أبي جندل يمشي إلى جنبه و يقول : اصبر أبا جندل فإنما هم المشركون و إنما دم أحدهم دم كلب قال : و يدني قائم السيف منه قال : يقول عمر : رجوت أن يأخذ السيف فيضرب أباه ! قال : فضن الرجل بأبيه و نفذت القضية
فلما فرغ رسول الله صلى الله عليه و سلم من الكتاب أشهد على الصلح رجالا من المسلمين و رجالا من المشركين : أبو بكر الصديق و عمر بن الخطاب و عبد الرحمن بن عوف و عبد الله بن سهيل بن عمرو و سعد بن أبي وقاص و محمود بن مسلمة و مكرز بن حفص و هو يومئذ مشرك و علي بن أبي طالب و كتب و كان هو كاتب الصحيفة
و كان رسول الله صلى الله عليه و سلم مضطربا في الحل و كان يصلي في الحرم فلما فرغ من الصلح قام إلى هديه فنحره ثم جلس فحلق رأسه و كان الذي حلقه في ذلك اليوم خراش بن أمية بن الفضل الخزاعي فلما رأى الناس أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قد نحر و حلق تواثبوا ينحرون و يحلقون
قال ابن إسحاق : [ و حدثني عبد الله بن أبي نجيح عن مجاهد عن ابن عباس قال : حلق رجال يوم الحديبية و قصر آخرون فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم يرحم الله المحلقين قالوا : و المقصرين يا رسول الله ؟ قال : يرحم الله المحلقين قالوا : و المقصرين يا رسول الله ؟ قال : يرحم الله المحلقين قالوا : و المقصرين يا رسول الله ؟ قال : و المقصرين ]
قالوا : يا رسول الله فلم ظاهرت الترحيم للمحلقين دون المقصرين ؟ قال : [ لم يشكو ]
و قال عبد الله بن أبي نجيح : حدثني مجاهد عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه و سلم أهدى عام الحديبية في هداياه جملا لأبي جهل في رأسه برة من فضة ليغيظ بذلك المشركين
هذا سياق محمد بن إسحاق رحمه الله لهذه القصة و في سياق البخاري كما سيأتي مخالفة في بعض الأماكن لهذا السياق كما ستراها إن شاء الله و به الثقة و لنوردها بتمامها و نذكر في الأحاديث الصحاح و الحسان ما فيه ( غناء ) إن شاء الله تعالى و عليه التكلان و هو المستعان
قال البخاري : حدثنا خالد بن مخلد حدثنا سلمان بن بلال حدثنا صالح بن كيسان عن عبيد الله بن عبد الله عن زيد بن خالد قال : خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه و سلم عام الحديبية فأصابنا مطر ذات ليلة فصلى بنا رسول الله صلى الله عليه و سلم الصبح ثم أقبل علينا بوجهه فقال : [ أتدرون ماذا قال ربكم ] ؟ فقلنا الله و رسوله أعلم فقال : قال الله تعالى : [ أصبح من عبادي مؤمن بي و كافر بي فأما من قال : مطرنا برحمة الله و بفضل الله فهو مؤمن بي كافر بالكوكب و أما من قال : مطرنا بنجم كذا فهو مؤمن بالكوكب كافر بي ]
و هكذا رواه في غير موضع من صحيحه و مسلم من طرق عن الزهري و قد روى عن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله عن أبي هريرة (3/321)
و قال البخاري : [ حدثنا عبيد الله بن موسى عن إسرائيل عن أبي إسحاق عن البراء قال : تعدون الفتح فتح مكة و قد كان فتح مكة فتحا و نحن نعد الفتح بيعة الرضوان يوم الحديبية كنا مع النبي صلى الله عليه و سلم أربع عشرة مائة و الحديبية بئر فنزحناها فلم نترك فيها قطرة فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه و سلم فأتاها فجلس على شفيرها ثم دعا بإناء من ماء فتوضأ ثم مضمض و دعا ثم صبه فيها فتركناها غير بعيد ثم إنها أصدرتنا ما شئنا نحن و ركابنا ]
انفرد به البخاري
و قال ابن إسحاق : في قوله تعالى : { فجعل من دون ذلك فتحا قريبا } : صلح الحديبية قال الزهري فما فتح في الإسلام فتح قبله كان أعظم منه إنما كان القتال حيث التقى الناس فلما كانت الهدنة و وضعت الحرب أوزارها و أمن الناس كلم بعضهم بعضا و التقوا فتفاوضوا في الحديث و المنازعة فلم يكلم أحد في الإسلام يعقل شيئا إلا دخل فيه و لقد دخل في تينك السنتين مثل من كان دخل في الإسلام قبل ذلك أو أكثر
قال ابن هشام : و الدليل على ما قاله الزهري أن رسول الله صلى الله عليه و سلم خرج إلى الحديبية في ألف و أربع مائة رجل في قول جابر ثم خرج عام فتح مكة بعد ذلك بسنتين في عشرة آلاف
و قال البخاري : [ حدثنا يوسف بن عيسى حدثنا ابن فضيل حدثنا حصين عن سالم عن جابر قال : عطش الناس يوم الحديبية و رسول الله صلى الله عليه و سلم بين يديه ركوة فتوضأ منها ثم أقبل الناس نحوه فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : ما لكم ؟ قالوا يا رسول الله ليس عندنا ما نتوضأ به و لا ما نشرب إلا ما في ركوتك فوضع النبي صلى الله عليه و سلم يده في الركوة فجعل الماء يفور من بين أصابعه كأمثال العيون قال : فشربنا و توضأنا فقلنا لجابر : كم كنتم يومئذ ؟ قال : لو كنا مائة ألف لكفانا كنا خمس عشرة مائة ]
و قد رواه البخاري أيضا و مسلم من طرق عن حصين عن سالم بن أبي الجعد عن جابر به (3/324)
و قال البخاري : حدثنا الصلت بن محمد حدثنا يزيد بن زريع عن سعيد عن قتادة قلت لسعيد بن المسيب : بلغني أن جابر بن عبد الله كان يقول : كانوا أربع عشرة مائة فقال لي سعيد : حدثني جابر : كانوا خمس عشرة مائة الذين بايعوا النبي صلى الله عليه و سلم يوم الحديبية
تابعه أبو داود حدثنا قرة عن قتادة تفرد به لبخاري
ثم قال البخاري : [ حدثنا علي بن عبد الله حدثنا سفيان قال عمرو : سمعت جابرا قال : قال لنا رسول الله صلى الله عليه و سلم يوم الحديبية : أنتم خير أهل الأرض و كنا ألفا و أربعمائة و لو كنت أبصر اليوم لأريتكم مكان الشجرة ]
و قد روى البخاري أيضا و مسلم من طرق [ عن سفيان بن عيينة به و هكذا رواه الليث بن سعد عن أبي الزبير عن جابر قال : إن عبدا لحاطب جاء يشكوه فقال : يا رسول الله ليدخلن حاطب النار فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : كذبت لا يدخلها شهد بدرا و الحديبية ]
رواه مسلم
و عند مسلم أيضا من طرق عن ابن جريج أخبرني أبو الزبير أنه سمع جابرا يقول : أخبرتني أم ميسر أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول عند حفصة لا يدخل أحد النار إن شاء الله من أصحاب الشجرة الذين بايعوا تحتها فقالت حفصة : بلى يا رسول الله فانتهرها فقالت حفصة : { و إن منكم إلا واردها } فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : قد قال تعالى : { ثم ننجي الذين اتقوا و نذر الظالمين فيها جثيا }
قال البخاري : و قال عبيد الله بن معاذ : حدثنا أبي حدثنا شعبة عن عمرو بن مرة حدثني عبد الله بن أبي أوفى قال : كان أصحاب الشجرة ألفا و ثلاثمائة و كانت أسلم ثمن المهاجرين
تابعه محمد بن بشار حدثنا أبو داود حدثنا شعبة
هكذا رواه البخاري معلقا عن عبد الله و قد رواه مسلم عن عبيد الله بن معاذ عن أبيه عن شعبة به و عن محمد بن المثنى عن أبي داود عن إسحاق بن إبراهيم عن النضر ابن شميل كلاهما عن شعبة به
ثم قال البخاري : حدثنا علي بن عبد الله حدثنا سفيان عن الزهري عن عروة عن مروان و المسور بن مخرمة قالا : خرج النبي صلى الله عليه و سلم عام الحديبية في بضع عشرة مائة من أصحابه فلما كان بذي الحليفة قلد الهدي و أشعر و أحرم منها
تفرد به البخاري و سيأتي هذا السياق بتمامه
و المقصود أن هذه الروايات كلها مخالفة لما ذهب إليه ابن إسحاق من أن أصحاب الحديبية كانوا سبع مائة
و هو و الله أعلم إنما قال ذلك تفقها من تلقاء نفسه من حديث إن البدن كن سبعين بدنة و كل منها عن عشرة على اختياره فيكون المهلون سبعمائة
و لا يلزم أن يهدي كلهم و لا أن يحرم كلهم أيضا فقد ثبت أن رسول الله صلى الله عليه و سلم بعث طائفة منهم فيهم أبو قتادة و لم يحرم أبو قتادة حتى قتل ذلك الحمار الوحشي فأكل منه هو و أصحابه و حملوا منه إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم في أثناء الطريق فقال : [ هل منكم أحد أمره أن يحمل عليها أو أشار إليها ؟ قالوا : لا قال : فكلوا ما بقي من الحمار ]
و قد قال البخاري : حدثنا شعبة بن الربيع حدثنا علي بن المبارك عن يحيى عن عبد الله بن أبي قتادة أن أباه حدثه قال : انطلقنا مع النبي صلى الله عليه و سلم عام الحديبية فأحرم أصحابي و لم أحرم (3/325)
و قال البخاري : [ حدثنا محمد بن رافع حدثنا شبابة بن سوار الفزاري حدثنا شعبة عن قتادة عن سعيد بن المسيب عن أبيه قال : لقد رأيت الشجرة ثم أتيتها بعد فلم أعرفها
حدثنا موسى حدثنا أبو عوانة حدثنا طارق عن سعيد بن المسيب عن أبيه أنه كان فيمن بايع تحت الشجرة فرجعنا إليها العام المقبل فعميت علينا ]
و قال البخاري أيضا : [ حدثنا محمود حدثنا عبيد الله عن إسرائيل عن طارق بن عبد الرحمن قال : انطلقت حاجا فمررت بقوم يصلون فقلت : ما هذا المسجد ؟ قالوا : هذه الشجرة حيث بايع النبي صلى الله عليه و سلم بيعة الرضوان فأتيت سعيد بن المسيب فأخبرته فقال سعيد : حدثني أبي أنه كان فيمن بايع رسول الله صلى الله عليه و سلم تحت الشجرة قال : فلما كان من العام المقبل نسيناها فلم نقدر عليها
ثم قال سعيد : إن أصحاب محمد لم يعلموها و علمتموها أنتم ! فأنتم أعلم ؟ ]
و رواه البخاري و مسلم من حديث الثوري و أبي عوانة و شبابة عن طارق
و قال البخاري : حدثنا سعيد حدثني أخي عن سليمان عن عروة بن يحيى عن عباد بن تميم قال : لما كان يوم الحرة و الناس يبايعون لعبد الله بن حنظلة فقال ابن زيد : على ما بايع ابن حنظلة الناس ؟ قيل له : على الموت فقال : لا أبايع على ذلك أحدا بعد رسول الله صلى الله عليه و سلم و كان شهد معه الحديبية
و قد رواه البخاري أيضا و مسلم من طرق عن عمرو بن يحيى به (3/327)
و قال البخاري : حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا حاتم عن يزيد بن أبي عبيد قلت لسلمة بن الأكوع : على أي شيء بايعتم رسول الله صلى الله عليه و سلم يوم الحديبية ؟ قال : على الموت
و رواه مسلم من حديث يزيد بن أبي عبيد
و في صحيح مسلم عن سلمة أنه بايع ثلاث مرات في أوائل الناس و وسطهم و أواخرهم
و في الصحيح عن معقل بن يسار أنه كان آخذا بأغصان الشجرة عن وجه رسول الله صلى الله عليه و سلم و هو يبايع الناس و كان أول من بايع رسول الله صلى الله عليه و سلم يومئذ أبو سنان و هو وهب بن محصن أخو عكاشة بن محصن و قيل سنان بن أبي سنان
و قال البخاري : [ حدثني شجاع بن الوليد سمع النضر بن محمد حدثنا صخر بن الربيع عن نافع قال : إن الناس يتحدثون أن ابن عمر أسلم قبل عمر و ليس كذلك و لكن عمر يوم الحديبية أرسل عبد الله إلى فرس له عند رجل من الأنصار أن يأتي به ليقاتل عليه و رسول الله صلى الله عليه و سلم يبايع عند الشجرة و عمر لا يدري بذلك فبايعه عبد الله فانطلق فذهب معه حتى بايع رسول الله صلى الله عليه و سلم و هي التي تحدث الناس أن ابن عمر أسلم قبل عمر ]
و قال هشام بن عمار : [ حدثنا الوليد بن مسلم حدثنا عمر بن محمد العمري أخبرني نافع عن ابن عمر أن الناس كانوا مع النبي صلى الله عليه و سلم يوم الحديبية تفرقوا في ظلال الشجرة فإذا الناس محدقون بالنبي صلى الله عليه و سلم فقال : يا عبد الله انظر ما شأن الناس قد أحدقوا برسول الله صلى الله عليه و سلم فوجدهم يبايعون فبايع ثم رجع إلى عمر فخرج فبايع ]
تفرد به البخاري من هذين الوجهين (3/328)
قال في كتاب المغازي : [ حدثنا عبد الله بن محمد حدثنا سفيان سمعت الزهري حين حدث هذا الحديث حفظت بعضه و ثبتني معمر عن عروة بن الزبير عن المسور بن مخرمة و مروان بن الحكم يزيد أحدهما على صاحبه قالا : خرج النبي صلى الله عليه و سلم عام الحديبية في بضع عشرة مائة من أصحابه فلما أتى ذا الحليفة قلد الهدي و أشعره و أحرم منها بعمرة و بعث عينا له من خزاعة
و سار النبي صلى الله عليه و سلم حتى إذا كان بغدير الأشطاط أتاه عينه قال : إن قريشا جمعوا لك جموعا و قد جمعوا لك الأحابيش و هم مقاتلوك و صادوك عن البيت و مانعوك
فقال : أشيروا أيها الناس علي أترون أن أميل إلى عيالهم و ذراري هؤلاء الذين يريدون أن يصدون عن البيت فإن يأتون كان الله قد قطع عينا من المشركين و إلا تركناهم محروبين قال أبو بكر : يا رسول الله خرجت عامدا لهذا البيت لا تريد قتل أحد و لا حرب أحد فتوجه له فمن صدنا قاتلناه قال : امضوا على اسم الله ]
هكذا رواه هاهنا و وقف و لم يزد شيئا على هذا
و قال في كتاب الشهادات : حدثني عبد الله بن محمد حدثنا عبد الرزاق أنبأنا معمر أخبرني الزهري أخبرني عروة بن الزبير عن المسور بن مخرمة و مروان بن الحكم يصدق كل واحد منهما حديث صاحبه قالا : خرج رسول الله صلى الله عليه و سلم زمن الحديبية حتى إذا كانوا ببعض الطريق قال النبي صلى الله عليه و سلم : إن خالد بن الوليد بالغميم في خيل لقريش طليعة فخذوا ذات اليمين فوالله ما شعر بهم خالد حتى إذا هم بقترة الجيش فانطلق يركض نذيرا لقريش
و سار النبي صلى الله عليه و سلم حتى إذا كان بالثنية التي يهبط عليهم منها بركت به راحلته فقال الناس : حل حل فألحت فقالوا : خلأت القصواء خلأت القصواء فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : ما خلأت القصواء و ما ذاك لها بخلق و لكن حبسها حابس الفيل ثم قال : و الذي نفسي بيده لا يسألوني خطة يعظمون فيها حرمات الله إلا أعطيتهم إياها ثم زجرها فوثبت
فعدل عنهم حتى نزل بأقصى الحديبية على ثمد قليل الماء يتبرضه الناس تبرضا فلم يلبثه الناس حتى نزحوه و شكي إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم العطش فانتزع سهما من كنانته ثم أمرهم أن يجعلوه فيه فوالله مازال يجيش لهم بالري حتى صدروا عنه فبينما هم كذلك إذا جاء بديل بن ورقاء الخزاعي في نفر من قومه من خزعة ـ و كانوا عيبة نصح رسول الله صلى الله عليه و سلم من أهل تهامة ـ فقال : إني تركت كعب بن لؤي و عامر بن لؤي نزلوا أعداد مياه الحديبية معهم العوذ المطافيل و هم مقاتلوك و صادوك عن البيت
فقال النبي صلى الله عليه و سلم : إنا لم نجيء لقتال أحد و لكن جئنا معتمرين و إن قريشا قد نهكتهم الحرب و أضرت بهم فإن شاءوا ماددتهم مدة و يخلوا بيني و بين الناس فإن أظهر فإن شاءوا أن يدخلوا فيما دخل فيه الناس فعلوا و إلا فقد جموا و إن هم أبوا فوالذي نفسي بيده لأقاتلنهم على أمري هذا حتى تنفرد سالفتي و لينفذن أمر الله
قال بديل : سأبلغهم ما تقول فانطلق حتى أتى قريشا فقال : إنا قد جئناكم من عند هذا الرجل و سمعناه يقول قولا فإن شئتم أن نعرضه عليكم فعلنا فقال سفهاؤهم : لا حاجة لنا أن تخبرنا عنه بشيء و قال ذوو الرأي منهم : هات ما سمعته يقول قال : سمعته يقول كذا و كذا فحدثهم بما قال رسول الله صلى الله عليه و سلم فقام عروة بن مسعود فقال : أي قوم ألست بالوالد ؟ قالوا : بلى قال : أولستم بالولد ؟ قالوا بلى قال : فهل تتهموني ؟ قالوا : لا قال : ألستم تعلمون أني استنفرت أهل عكاظ فلما بلحوا علي جئتكم بأهلي و ولدي و من أطاعني ؟ قالوا : بلى قال : فإن هذا قد عرض لكم خطة رشد اقبلوها و دعوني آتيه فقالوا ائته
فأتاه فجعل يكلم النبي صلى الله عليه و سلم فقال النبي صلى الله عليه و سلم نحوا من قوله لبديل فقال عروة عند ذلك : أي محمد أرأيت إن استأصلت أمر قومك هل سمعت بأحد من العرب اجتاح أهله قبلك ؟ و إن تكن الأخرى فإني و الله لا أرى وجوها و إني لأرى أشوابا من الناس خليقا أن يفروا و يدعوك
فقال له أبو بكر : امصص بظر اللات ! أنحن نفر عنه و ندعه ؟ ! قال : من ذا ؟ قالوا : أبو بكر قال : أما والذي نفسي بيده لولا يد كانت لك عندي لم أجزك بها لأجبتك
قال : و جعل يكلم النبي صلى الله عليه و سلم فكلما تكلم أخذ بلحيته و المغيرة بن شعبة قائم على رأس رسول الله صلى الله عليه و سلم و معه السيف و عليه المغفر فكلما أهوى عروة بيده إلى لحية رسول الله صلى الله عليه و سلم ضرب يده بنعل السيف و قال له : أخر يدك عن لحية رسول الله صلى الله عليه و سلم فرفع عروة رأسه فقال من هذا ؟ قالوا : المغيرة بن شعبة فقال : أي غدر ألست أسعى في غدرتك !
و كان المغيرة بن شعبة صحب قوما في الجاهلية فقتلهم و أخذ أموالهم ثم جاء فأسلم فقال النبي صلى الله عليه و سلم : أما الإسلام فأقبل و أما المال فلست منه في شيء ثم إن عروة جعل يرمق أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم بعينيه قال : فوالله ما تنخم رسول الله صلى الله عليه و سلم نخامة إلا وقعت في كف رجل منهم فدلك بها وجهه و جلده و إذا أمرهم ابتدروا أمره و إذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه و إذا تكلم خفضوا أصواتهم عنده و ما يحدون إليه النظر تعظيما له
فرجع عروة إلى أصحابه فقال : أي قوم و الله لقد وفدت على الملوك وفدت على قيصر و كسرى و النجاشي و الله إن رأيت ملكا قط يعظمه أصحابه ما يعظم أصحاب محمد محمدا و الله إن تنخم نخامة إلا وقعت في كف رجل منهم فدلك بها وجهه و جلده و إذا أمرهم ابتدروا أمره و إذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه و إذا تكلم خفضوا أصواتهم عنده و ما يحدون النظر إليه تعظيما له و إنه قد عرض عليكم خطة رشد فاقبلوها
فقال رجل من بني كنانة : دعوني آتيه فقالوا : ائته فلما أشرف على النبي صلى الله عليه و سلم و أصحابه قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : هذا فلان و هو من قوم يعظمون البدن فابعثوها له فبعثت له و استقبله الناس يلبون فلما رأى ذلك قال : سبحان الله ما ينبغي لهؤلاء أن يصدوا عن البيت فلما رجع إلى أصحابه قال : رأيت البدن قد قلدت و أشعرت فما أرى أن يصدوا عن البيت
فقام رجل منهم يقال له مكرز بن حفص فقال : دعوني آتيه قالوا : ائته فلما أشرف عليهم قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : هذا مكرز و هو رجل فاجر فجعل يكلم النبي صلى الله عليه و سلم فبينما هو يكلمه إذ جاء سهيل بن عمرو
قال معمر : فأخبرني أيوب عن عكرمة أنه لما جاء سهيل بن عمرو قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ لقد سهل لكم من أمركم ]
قال معمر : قال الزهري في حديثه : فجاء سهيل فقال : هات فاكتب بيننا و بينكم كتابا فدعا النبي صلى الله عليه و سلم الكاتب فقال النبي صلى الله عليه و سلم : اكتب بسم الله الرحمن الرحيم فقال سهيل أما الرحمن فوالله ما أدري ما هو و لكن اكتب باسمك اللهم كما كنت تكتب فقال المسلمون : و الله لا نكتبها إلا بسم الله الرحمن الرحيم فقال النبي صلى الله عليه و سلم : اكتب باسمك اللهم
ثم قال : هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله فقال سهيل : و الله لو كنا نعلم أنك رسول الله ما صددناك عن البيت و لا قاتلناك و لكن اكتب محمد بن عبد الله فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : و الله إني لرسول الله و إن كذبتموني اكتب محمد بن عبد الله
قال الزهري : و ذلك لقوله : لا يسألوني خطة يعظمون فيها حرمات الله إلا أعطيتهم إياها
فقال النبي صلى الله عليه و سلم : على أن تخلوا بيننا و بين البيت فنطوف به
قال سهيل : و الله لا تتحدث العرب أنا أخذنا ضغطة و لكن ذلك من العام المقبل
فكتب فقال سهيل : و على أنه لا يأتيك منا رجل و إن كان على دينك إلا رددته إلينا
قال المسلمون : سبحان الله كيف يرد إلى المشركين و قد جاء مسلما
فبينما هم كذلك إذ جاء أبو جندل بن سهيل بن عمرو يرسف في قيوده و قد خرج من أسفل مكة حتى رمى بنفسه بين أظهر المسلمين فقال سهيل : هذا يا محمد أول من أقاضيك عليه أن ترده إلي فقال النبي صلى الله عليه و سلم إنا لم نقض الكتاب بعد قال : فوالله إذا لم أصالحك على شيء أبدا قال النبي صلى الله عليه و سلم : فأجزه لي قال ما أنا بمجيزه لك قال : بلى فافعل قال : ما أنا بفاعل قال مكرز : بلى قد أجزناه لك
قال أبو جندل : أي معشر المسلمين أرد إلى المشركين و قد جئت مسلما ألا ترون ما قد لقيت ؟ ! و كان قد عذب عذابا شديدا في الله فقال عمر رضي الله عنه : فأتيت رسول الله صلى الله عليه و سلم فقلت : ألست نبي الله حقا ؟ قال : بلى قلت : ألسنا على الحق و عدونا على الباطل ؟ قال : بلى قلت : فلم نعطي الدنية في ديننا إذن ؟
قال : إني رسول الله و لست أعصيه و هو ناصري
قلت : أولست كنت تحدثنا أنا سنأتي البيت فنطوف به ؟ قال : بلى فأخبرتك أنا نأتيه العام ؟ قال : قلت : لا قال : فإنك آتيه و مطوف به
قال : فأتيت أبا بكر فقلت : يا أبا بكر أليس هذا نبي الله حقا قال : بلى قلت : ألسنا على الحق و عدونا على الباطل قال : بلى قال : قلت : فلم نعطي الدنية في ديننا إذن قال : أيها الرجل إنه لرسول الله و ليس يعصي ربه و هو ناصره فاستمسك بغرزه فوالله إنه على الحق
قلت : أليس كان يحدثنا أنا سنأتي البيت و نطوف به ؟ قال : بلى أفخبرك أنك تأتيه العام فقلت : لا قال : فإنك آتيه و مطوف به
قال الزهري : قال عمر : فعملت لذلك أعمالا
قال : فلما فرغ من قضية الكتاب قال رسول الله صلى الله عليه و سلم لأصحابه : قوموا فانحروا ثم احلقوا
قال : فوالله ما قام منهم رجل حتى قال ذلك ثلاث مرات فلما لم يقم منهم أحد دخل على أم سلمة فذكر لها ما لقي من الناس فقالت أم سلمة : يا نبي الله أتحب ذلك ؟ اخرج ثم لا تكلم أحدا منهم كلمة حتى تنحر بدنك و تدعو حالقك فيحلقك
فخرج فلم يكلم أحدا منهم حتى فعل ذلك : نحر بدنه و دعا حالقه فحلقه فلما رأوا ذلك قاموا فنحروا و جعل بعضهم يحلق بعضا حتى كاد بعضهم يقتل بعضا غما
ثم جاءه نسوة مؤمنات فأنزل الله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات فامتحنوهن } حتى بلغ { بعصم الكوافر } فطلق عمر يومئذ امرأتين كانتا له في الشرك فتزوج إحداهما معاوية بن أبي سفيان و الأخرى صفوان بن أمية
ثم رجع النبي صلى الله عليه و سلم إلى المدينة فجاءه أبو بصير رجل من قريش و هو مسلم فأرسلوا في طلبه رجلين فقالوا : العهد الذي جعلت لنا فدفعه إلى الرجلين فخرجا به حتى بلغا ذا الحليفة فنزلوا يأكلون من تمر لهم فقال أبو بصير لأحد الرجلين : و الله إني لأرى سيفك هذا يا فلان جيدا فاستله الآخر فقال : أجل و الله إنه لجيد لقد جربت به ثم جربت فقال أبو بصير : أرني أنظر إليه فأمكنه منه فضربه حتى برد و فر الآخر حتى أتى المدينة فدخل المسجد يعدو فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم حين رآه : [ لقد رأى هذا ذعرا ]
فلما انتهى إلى النبي صلى الله عليه و سلم قال : قتل و الله صاحبي و إني لمقتول فجاء أبو بصير فقال : يا نبي الله قد و الله أوفى الله ذمتك قد رددتني عليهم ثم أنجاني الله منهم
فقال النبي صلى الله عليه و سلم : [ ويل أمه ! مسعر حرب لو كان له أحد ! ]
فلما سمع ذلك عرف أنه سيرده إليهم فخرج حتى أتى سيف البحر
قال : و ينفلت منهم أبو جندل بن سهيل بن عمرو فلحق بأبي بصير فجعل لا يخرج من قريش رجل قد أسلم إلا لحق بأبي بصير حتى اجتمعت منهم عصابة فوالله ما يسمعون بعير خرجت لقريش إلى الشام إلا اعترضوا لها فقتلوهم و أخذوا أموالهم
فأرسلت قريش إلى النبي صلى الله عليه و سلم تناشده بالله و بالرحم لما أرسل إليهم فمن أتاه فهو آمن فأرسل النبي صلى الله عليه و سلم إليهم فأنزل الله تعالى : { و هو الذي كف أيديهم عنكم و أيديكم عنهم ببطن مكة من بعد أن أظفركم عليهم } حتى بلغ : { الحمية حمية الجاهلية }
و كانت حميتهم أنهم لم يقروا أنه نبي الله و لم يقروا بسم الله الرحمن الرحيم و حالوا بينهم وبين البيت
فهذا سياق فيه زيادات و فوائد حسنة ليست في رواية ابن إسحاق عن الزهري فقد رواه عن الزهري عن جماعة منهم سفيان بن عيينة و معمر و محمد بن إسحاق كلهم عن الزهري عن عروة عن مروان و مسور فذكر القصة
و قد رواه البخاري في أول كتاب الشروط عن يحيى بن بكير : عن الليث بن سعد عن عقيل عن الزهري عن عروة عن مروان بن الحكم و المسور بن مخرمة عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم فذكر القصة
و هذا هو الأشبه فإن مروان و مسورا كانا صغيرين يوم الحديبية و الظاهر أنهما أخذاه عن الصحابة رضي الله عنهم أجمعين
و قال البخاري : حدثنا الحسن بن إسحاق حدثنا محمد بن سابق حدثنا مالك بن مغول سمعت أبا حصين قال : قال أبو وائل : لما قدم سهيل بن حنيف من صفين أتيناه نستخبره فقال : اتهموا الرأي فلقد رأيتني يوم أبي جندل و لو أستطيع أن أرد على رسول الله صلى الله عليه و سلم أمره لرددت و الله و رسوله أعلم و ما وضعنا أسيافنا عن عواتقنا لأمر يفظعنا إلا أسهلن بنا إلى أمر نعرفه قبل هذا الأمر ما نسد منها خصما إلا انفجر علينا خصم ما ندري كيف نأتي له
و قال البخاري : حدثنا عبد الله بن يوسف أخبرنا مالك عن زيد بن أسلم عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه و سلم كان يسير في بعض أسفاره و كان عمر بن الخطاب يسير معه ليلا فسأله عمر بن الخطاب عن شيء فلم يجبه رسول الله صلى الله عليه و سلم ثم سأله فلم يجبه ثم سأله فلم يجبه فقال عمر بن الخطاب : ثكلتك أمك يا عمر نزرت رسول الله صلى الله عليه و سلم ثلاث مرات كل ذلك لا يجيبك
قال عمر : فحركت بعيري ثم تقدمت أمام المسلمين و خشيت أن ينزل في قرآن فما نشبت أن سمعت صارخا يصرخ بي قال : فقلت : لقد خشيت أن يكون نزل في قرآن فجئت رسول الله صلى الله عليه و سلم فسلمت عليه فقال : [ لقد أنزلت علي الليلة سورة لهي أحب إلي مما طلعت عليه الشمس ] ثم قرأ : { إنا فتحنا لك فتحا مبينا }
قلت : و قد تكلمنا على سورة الفتح بكاملها في كتابنا التفسير بما فيه الكفاية و لله الحمد و المنة و من أحب أن يكتب ذلك هنا فليفعل (3/329)
و تلخيص ذلك ما أورده الحافظ البيهقي عن الواقدي :
في ربيع الأول منها أو الآخر بعث رسول الله صلى الله عليه و سلم عكاشة بن محصن في أربعين رجلا إلى [ غرو مرزوق ] فهربوا منه و نزل على مياههم و بعث في آثارهم و أخذ منهم مائتي بعير فاستاقها إلى المدينة
و فيها كان بعث أبي عبيدة بن الجراح إلى ذي القصة بأربعين رجلا أيضا فساروا إليهم مشاة حتى أتوها في عماية الصبح فهربوا منه في رؤس الجبال فأسر منهم رجلا فأتى به على رسول الله صلى الله عليه و سلم و بعثه محمد بن مسلمة في عشرة نفر و كمن القوم لهم حتى باتوا [ فقتل ] أصحاب محمد بن مسلمة كلهم و أفلت هو جريحا
و فيها كان بعث زيد بن حارثة بالجموم فأصاب امرأة من مزينة يقال لها حليمة فدلتهم على محلة من محال بني سليم فأصابوا منها نعما و شاء و أسروا جماعة من المشركين و كان فيهم زوج حليمة هذه فوهبه رسول الله صلى الله عليه و سلم لزوجها و أطلقهما
و فيها كان بعث زيد بن حارثة أيضا في جمادى الأولى إلى بني ثعلبة في خمسة عشر رجلا فهربت منه الأعراب فأصاب من نعمهم عشرين بعيرا ثم رجع بعد أربع ليال
و فيها خرج زيد بن حارثة في جمادى الأولى إلى العيص
قال : و فيها أخذت الأموال التي كانت مع أبي العاص بن الربيع فاستجار بزينب بنت رسول الله صلى الله عليه و سلم فأجارته
و قد ذكر ابن إسحاق قصته حين أخذت العير التي كانت معه و قتل أصحابه و فر هو من بينهم حتى قدم المدينة و كانت امرأته زينب بنت رسول الله صلى الله عليه و سلم قد هاجرت بعد بدر فلما جاء المدينة استجار بها فأجارته بعد صلاة الصبح فأجاره لها رسول الله صلى الله عليه و سلم و أمر الناس برد ما أخذوا من عيره فردوا كل شيء كانوا أخذوه منه حتى لم يفقد منه شيئا فلما رجع بها إلى مكة و أدى إلى أهلها ما كان لهم معه من الودائع أسلم و خرج من مكة راجعا إلى المدينة فرد عليه رسول الله صلى الله عليه و سلم زوجته بالنكاح الأول و لم يحدث نكاحا و لا عقدا كما تقدم بيان ذلك
و كان بين إسلامه و هجرتها ست سنين و يروي سنتين
و قد بينا أنه لا منافاة بين الروايتين و أن إسلامه تأخر عن وقت تحريم لمؤمنات على الكفار بسنتين و كان إسلامه في سنة ثمان في سنة الفتح لا كما تقدم في كلام الواقدي من أنه سنة ست فالله أعلم
و ذكر الواقدي : في هذه السنة أن دحية بن خليفة الكلبي أقبل من عند قيصر قد أجازه بأموال و خلع فلما كان بحسمى لقيه ناس من جذام فقطعوا عيه الطريق فلم يتركوا معه شيئا فبعث إليهم رسول الله صلى الله عليه و سلم زيد بن حارثة أيضا رضي الله عنه
قال الواقدي : حدثني عبد الله بن جعفر عن يعقوب بن عتبة قال : خرج علي رضي الله عنه في مائة رجل إلى أن نزل إلى حي من بني أسد بن بكر و ذلك أنه بلغ رسول الله صلى الله عليه و سلم أن لهم جمعا يريدون أن يمدوا يهود خيبر فسار إليهم بالليل و كمن بالنهار و أصاب عينا لهم فأقر له أنه بعث إلى خيبر يعرض عليهم على أن يجعلوا لهم تمر خيبر
قال الواقدي رحمه الله تعالى : و في سنة ست في شعبان كانت سرية عبد الرحمن بن عوف إلى دومة الجندل و قال له رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ إن هم أطاعوا فتزوج بنت ملكهم فأسلم القوم فتزوج عبد الرحمن بنت ملكهم تماضر بنت الإصبع الكلبية و هي أم أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف ]
قال الواقدي : في شوال سنة ست كانت سرية كرز بن جابر الفهري إلى العرنيين الذين قتلوا راعي رسول الله صلى الله عليه و سلم و استاقوا النعم فبعث رسول الله صلى الله عليه و سلم في آثارهم كرز بن جابر في عشرين فارسا فردوهم
و كان من أمرهم ما أخرجه البخاري و مسلم [ من طريق سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن أنس بن مالك أن رهطا من عكل و عرينة ـ و في رواية : من عكل أو عرينة ـ أتوا رسول الله صلى الله عليه و سلم فقالوا : يا رسول الله إنا أناس أهل ضرع و لم نكن أهل ريف فاستوخمنا المدينة فأمر لهم رسول الله صلى الله عليه و سلم بذود و راع و أمرهم أن يخرجوا فيه فيشربوا من ألبانها و أبوالها فانطلقوا حتى إذا كانوا بناحية الحرة قتلوا راعي رسول الله صلى الله عليه و سلم و استاقوا الذود و كفروا بعد إسلامهم فبعث النبي صلى الله عليه و سلم في طلبهم فأمر بهم فقطع أيديهم و أرجلهم و سمر أعينهم و تركهم في الحرة حتى ماتوا و هم كذلك ]
قال قتادة : [ فبلغنا أن رسول الله صلى الله عليه و سلم كان إذا خطب بعد ذلك حض على الصدقة و نهى عن المثلة ]
و هذا الحديث قد رواه جماعة عن قتادة و رواه جماعة عن أنس بن مالك
و في رواية مسلم [ عن معاوية بن قرة عن أنس أن نفرا من عرينة أتوا رسول الله صلى الله عليه و سلم فأسلموا و بايعوه و قد وقع في المدينة الموم ـ و هو البرسام ـ فقالوا : هذا الموم قد وقع يا رسول لو أذنت لنا فرجعنا إلى الإبل قال : نعم فاخرجوا فكونوا فيها فخرجوا فقتلوا الراعين و ذهبوا بالإبل
و عنده سار من الأنصار قريب عشرين فأرسلهم إليهم و بعث معهم قائفا يقتص أثرهم فأتى بهم فقطع أيديهم و أرجلهم و سمر أعينهم ]
و في صحيح البخاري [ من طريق أيوب عن أبي قلابة عن أنس أنه قال : قدم رهط من عكل فأسلموا و اجتووا المدينة فأتوا رسول الله صلى الله عليه و سلم فذكروا ذلك له فقال : الحقوا بالإبل و اشربوا من أبوالها و ألبانها فذهبوا و كانوا فيها ما شاء الله فقتلوا الراعي و استاقوا الإبل فجاء الصريخ إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فلم ترتفع الشمس حتى أتى بهم فأمر بمسامير فأحميت فكواهم بها و قطع أيديهم و أرجلهم و ألقاهم في الحرة يستسقون فلا يسقون حتى ماتوا و لم يحمهم ]
و في رواية عن أنس قال : فلقد رأيت أحدهم يكدم الأرض بفيه من العطش
قال أبو قلابة : فهؤلاء قتلوا و سرقوا و كفروا بعد إيمانهم و حاربوا الله و رسوله صلى الله عليه و سلم
و قد روى البيهقي [ من طريق عثمان بن أبي شيبة عن عبد الرحمن بن سليمان عن محمد بن عبيد الله عن أبي الزبير عن جابر أن رسول الله صلى الله عليه و سلم لما بعث في آثارهم قال : اللهم عم عليهم الطريق و اجعلها عليهم أضيق من مسك جمل قال : فعمى الله عليهم السبيل فأدركوا فأتي بهم فقطع أيديهم و أرجلهم و سمل أعينهم ]
و في صحيح مسلم : إنما سملهم لأنهم سملوا أعين الرعاء (3/338)
أعني سنة ست من الهجرة
فيها نزل فرض الحج كما قرره الشافعي رحمه الله زمن الحديبية في قوله تعالى { و أتموا الحج و العمرة لله }
و لهذا ذهب إلى أن الحج على التراخي لا على الفور لأنه صلى الله عليه و سلم لم يحج إلا في سنة عشر
و خالفه الثلاثة مالك و أبو حنيفة و أحمد فعندهم أن الحج يجب على كل من استطاعه على الفور و منعوا أن يكون الوجوب مستفادا من قوله تعالى : { و أتموا الحج و العمرة لله } و إنما في هذه الآية الأمر بالإتمام بعد الشروع فقط و استدلوا بأدلة قد أوردنا كثيرا منها عند تفسير هذه الآية من كتابنا التفسير و لله الحمد و المنة بما فيه كفاية
و في هذه السنة حرمت المسلمات على المشركين تخصيصا لعموم ما وقع به الصلح عام الحديبية على أنه لا يأتيك منا أحد و إن كان على دينك إلا رددته علينا فنزل قوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات فامتحنوهن الله أعلم بإيمانهن فإن علمتموهن مؤمنات فلا ترجعوهن إلى الكفار لا هن حل لهم و لا هم يحلون لهن } الآية
و في هذه السنة كانت غزوة المريسيع التي كان فيها قصة الإفك و نزول براءة أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها كما تقدم
و فيها كانت عمرة الحديبية و ما كان من صد المشركين رسول الله صلى الله عليه و سلم و كيف وقع الصلح بينهم على وضع الحرب بينهم عشر سنين فأمن الناس فيهن بعضهم بعضا و على أنه لا إغلال و لا إسلال و قد تقدم كل ذلك مبسوطا في أماكنه و لله الحمد و المنة و ولي الحج في هذه السنة المشركون
قال الواقدي : و فيها في ذي الحجة منها بعث رسول الله صلى الله عليه و سلم ستة نفر مصطحبين حاطب بن أبي بلتعة إلى المقوقس صاحب الإسكندرية و شجاع بن وهب بن أسد بن جذيمة شهد بدرا إلى الحارث بن أبي شمر الغساني يعني ملك عرب النصارى و دحية بن خليفة الكلبي إلى قيصر و هو هرقل ملك الروم و عبد الله بن حذافة السهمي إلى كسرى ملك الفرس و سليط بن عمرو العامري إلى هوذة بن علي الحنفي و عمرو بن أمية الضمري إلى النجاشي ملك النصارى بالحبشة و هو أصحمة بن الحر (3/342)
قال شعبة عن الحاكم عن عبد الرحمن بن أبي ليلى في قوله { و أثابهم فتحا قريبا } قال : خيبر
و قال موسى بن عقبة : لما رجع رسول الله صلى الله عليه و سلم من الحديبية مكث عشرين يوما أو قريبا من ذلك ثم خرج إلى خيبر و هي التي وعده الله إياها
و حكى موسى عن الزهري أن افتتاح خيبر في سنة ست و الصحيح أن ذلك في أول سنة سبع كما قدمنا
قال ابن إسحاق : ثم أقام رسول الله صلى الله عليه و سلم بالمدينة حين رجع من الحديبية ذا الحجة و بعض المحرم ثم خرج في بقية المحرم إلى خيبر
و قال يونس بن بكير عن محمد بن إسحاق عن الزهري عن عروة عن مروان و المسور قالا : انصرف رسول الله صلى الله عليه و سلم عام الحديبية فنزلت عليه سورة الفتح بين مكة و المدينة فقدم المدينة في ذي الحجة فأقام بها حتى سار إلى خيبر فنزل بالرجيع : واد بين خيبر و غطفان فتخوف أن تمدهم غطفان حتى أصبح فغدا عليهم
قال البيهقي : و بمعناه رواه الواقدي عن شيوخه في خروجه أول سنة سبع من الهجرة
و قال عبد الله بن إدريس : عن إسحاق حدثني عبد الله بن أبي بكر قال : لما كان افتتاح خيبر في عقيب المحرم و قدم النبي صلى الله عليه و سلم في آخر صفر
قال ابن هشام : و استعمل على المدينة نميلة بن عبد الله الليثي
و قد قال الإمام أحمد : [ حدثنا عفان حدثنا وهيب حدثنا خثيم يعني ابن عراك عن أبيه أن أبا هريرة قدم المدينة في رهط من قومه و النبي صلى الله عليه و سلم في خيبر و قد استخلف سباع بن عرفطة يعني الغطفاني على المدينة قال : فانتهيت إليه و هو يقرأ في صلاة الصبح في الركعة الأولى كهيعص و في الثانية ويل للمطففين فقلت في نفسي : ويل لفلان إذا اكتال ( اكتال ) بالوافي و إذا كال كال بالناقص
قال : فلما صلى رددنا شيئا حتى أتينا خيبر و قد افتتح النبي صلى الله عليه و سلم خيبر قال : فكلم المسلمين فأشركونا في سهامهم ]
و قد رواه البيهقي من حديث سليمان بن حرب عن وهيب عن خثيم بن عراك عن أبيه عن نفر من بني غفار قال : إن أبا هريرة قدم المدينة فذكره
قال ابن إسحاق : و كان رسول الله صلى الله عليه و سلم حين خرج من المدينة إلى خيبر سلك على عصر و بني له فيها مسجدا ثم على الصهباء ثم أقبل بجيشه حتى نزل به بواد يقال له الرجيع فنزل بينهم وبين غطفان ليحول بينهم و بين أن يمدوا أهل خيبر كانوا لهم مظاهرين على رسول الله صلى الله عليه و سلم فبلغني أن غطفان لما سمعوا بذلك جمعوا ثم خرجوا ليظاهروا اليهود عليه حتى إذا ساروا منقلة سمعوا خلفهم في أموالهم و أهليهم حسا ظنوا أن القوم قد خالفوا إليهم فرجعوا على أعقابهم فأقاموا في أموالهم و أهليهم و خلوا بين رسول الله صلى الله عليه و سلم و بين خيبر
و قال البخاري : حدثنا عبد الله بن مسلمة عن مالك عن يحيى بن سعيد عن بشير أن سويد بن النعمان أخبره أنه خرج مع رسول الله صلى الله عليه و سلم عام خيبر حتى إذا كانوا بالصهباء ـ و هي من أدنى خيبرـ صلى العصر ثم دعا بالأزواد فلم يؤت إلا بالسويق فأمر به فثرى فأكل و أكلنا ثم قام إلى المغرب فمضمض ثم صلى و لم يتوضأ (3/344)
و قال البخاري : حدثنا عبد الله بن مسلمة حدثنا حاتم بن اسماعيل عن يزيد بن أبي عبيد عن سلمة بن الأكوع قال : خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى خيبر فسرنا ليلا فقال رجل من القوم لعامر : يا عامر ألا تسمعنا من هنيهاتك ؟ و كان عامر رجلا شاعرا فنزل يحدو بالقوم يقول :
( لا هم لولا أنت ما اهتدينا ... و لا تصدقنا و لا صلينا )
( فاغفر فداء لك ما أبقينا ... و ألقين سكينة علينا )
( و ثبت الأقدام إن لاقينا ... إنا إذا صيح بنا أبينا )
( و بالصياح عولوا علينا )
فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : من هذا السائق ؟ قالوا عامر بن الأكوع قال : يC ! فقال رجل من القوم : وجبت يا نبي الله لولا أمتعتنا به !
فأتينا خيبر فناصرناهم حتى أصابتنا مخمصة شديدة ثم إن الله فتحها عليهم فلما أمسى الناس مساء اليوم الذي فتحت عليهم أوقدوا نيرانا كثيرة فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم ما هذه النيران على أي شيء توقدون ؟ قالوا : على لحم قال : على أي لحم ؟ قالوا : لحم الحمر الإنسية قال النبي صلى الله عليه و سلم : أهريقوها و اكسروها فقال رجل يا رسول الله أو نهريقها و نغسلها ؟ فقال : أو ذاك فلما تصاف الناس كان سيف عامر قصيرا فتناول به ساق يهودي ليضربه فيرجع ذباب سيفه فأصاب عين ركبة عامر فمات منه فلما قفلوا قال سلمة : رآني رسول الله صلى الله عليه و سلم و هو آخذ بيدي قال : مالك ؟ قلت : فداك أبي و أمي زعموا أن عامرا حبط عمله قال النبي صلى الله عليه و سلم : [ كذب من قاله إن له لأجرين ـ و جمع بين اصبعيه ـ إنه لجاهد مجاهد قل عربي مشى بها مثله ]
و رواه مسلم من حديث حاتم بن اسماعيل و غيره عن يزيد عن أبي عبيد [ و يروى نشأ بها مثله قال السهيلي و يروى : قل عربي مشابها ] مثله و يكون منصوبا على الحالية من نكرة و هو سائغ إذا دلت على تصحيح معنى كما جاء في الحديث ( فصلى وراءه رجال قياما )
و قد روى ابن إسحاق قصة عامر بن الأكوع من وجه آخر فقال : حدثني محمد بن الحارث التيمي عن أبي الهيثم بن نصر بن دهر الأسلمي أن أباه حدثه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول في مسيره إلى خيبر لعامر بن الأكوع و هو عم سلمة بن عمرو بن الأكوع : [ انزل يا بن الأكوع فخذ لنا من هناتك ] قال : فنزل يرتجز لرسول الله صلى الله عليه و سلم :
( و الله لولا الله ما اهتدينا ... و لا تصدقنا و لا صلينا )
( إنا إذا قوم بغوا علينا ... و إن أرادو فتنة أبينا )
( فأنزلن سكينة علينا ... و ثبت الأقدام إن لاقينا )
فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : يرحمك ربك فقال عمر بن الخطاب : وجبت يا رسول الله لو أمتعتنا به فقتل يوم خيبر شهيدا ثم ذكر صفة قتله كنحو ما ذكره البخاري
قال ابن إسحاق : [ و حدثني من لا أتهم عن عطاء بن أبي مروان الأسلمي عن أبيه عن أبي معتب بن عمرو أن رسول الله صلى الله عليه و سلم لما أشرف على خيبر قال لأصحابه و أنا فيهم : قفوا ثم قال : اللهم رب السموات وما أظللن و رب الأرضيين و ما أقللن و رب الشياطين و ما أضللن ورب الرياح و ما أذرين فإنا نسألك خير هذه القرية و خير أهلها و خير ما فيها و نعوذ بك من شرها و شر أهلها و شر ما فيها أقدموا بسم الله ]
وهذا حديث غريب جدا من هذا الوجه
و قد [ رواه الحافط البيهقي عن الحاكم عن الأصم عن العطاردي عن يونس بن بكير عن إبراهيم بن إسماعيل بن مجمع عن صالح بن كيسان عن أبي مروان الأسلمي عن أبيه عن جده قال : خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى خيبر حتى إذا كنا قريبا و أشرفنا عليها قال رسول الله صلى الله عليه و سلم للناس : قفوا فوقف الناس فقال : اللهم رب السموات السبع وما أظللن ورب الأرضين السبع و ما أقللن و رب الشياطين و ما أضللن فإنا نسألك خير هذه القرية و خير أهلها و خير ما فيها و نعوذ بك من شر هذه القرية و شر أهلها و شر ما فيها أقدموا بسم الله ] (3/346)
قال [ ابن إسحاق : و حدثني من لا أتهم عن أس بن مالك قال : كان رسول الله صلى الله عليه و سلم إذا غزا قوما لم يغر عليهم حتى يصبح فإن سمع أذانا أمسك فإن لم يسمع أذانا أمسك و إن لم يسمع أذانا أغار فنزلنا خيبر ليلا فبات رسول الله صلى الله عليه و سلم حتى أصبح لم يسمع أذانا فركب و ركبنا معه و ركبت خلف أبي طلحة و إن قدمي لتمس قدم رسول الله صلى الله عليه و سلم و استقبلنا عمال خيبر غادين قد خرجوا بمساحيهم و مكاتلهم فلما رأوا رسول الله صلى الله عليه و سلم و الجيش قالوا : محمد و الخميس معه ! فأدبروا هربا فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : الله أكبر خربت خيبر إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين ]
قال ابن إسحاق : حدثنا هرون عن حميد عن أنس بمثله
و قال البخاري : [ حدثنا عبد الله بن يوسف حدثنا مالك عن حميد الطويل عن أنس بن مالك أن رسول الله أتى خيبر ليلا و كان إذا أتى قوما بليل لم يغر بهم حتى يصبح فلما أصبح خرجت اليهود بمساحيهم و مكالتهم فلما رأوه قالوا : محمد و الله محمد و الخميس ! فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : خربت خيبر إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين ]
تفرد به دون مسلم (3/348)
و قال البخاري : [ حدثنا صدقة بن الفضل حدثنا أبو عيينة حدثنا أيوب عن محمد بن سيرين عن أنس بن مالك قال : صبحنا خيبر بكرة فخرج أهلها بالمساحي فلما بصروا النبي صلى الله عليه و سلم قالوا : محمد و الله محمد و الخميس ! فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : الله أكبر خربت خيبر إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين قال : فأصبنا من لحوم الحمر فنادى منادي النبي صلى الله عليه و سلم : إن الله و رسوله ينهيانكم عن لحوم الحمر فإنها رجس ] تفرد به البخاري دون مسلم : ( فائدة : قال السهيلي : فيه إباحة التفاؤل لأنه لما رأى بأيديهم المساحي و المعاول و هي من آلات الهدم و الحفر قال ذلك و العرب تسمى الجيش الكثيف خميسا لأن له ساقة و مقدمة و جناحين و قلبا قال : و ليس من تخميس الغنيمة لأن هذا حكم شرعي )
و قال الإمام أحمد : [ حدثنا عبد الرزاق حدثنا معمر عن قتادة عن أنس قال لما أتى النبي صلى الله عليه و سلم خيبر فوجدهم حين خرجوا إلى زرعهم و مساحيهم فلما رأوه و معه الجيش نكصوا فرجعوا إلى حصنهم فقال النبي صلى الله عليه و سلم : الله أكبر خربت خيبر إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين ]
تفرد به أحمد و هو على شرط الصحيحين
و قال البخاري : [ حدثنا سليمان بن حرب حدثنا حماد بن زيد عن ثابت عن أنس بن مالك قال صلى الله عليه و سلم الصبح قريبا من خيبر بغلس ثم قال : الله أكبر خربت خيبر إنا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين ]
فخرجوا يسعون بالسكك فقتل النبي صلى الله عليه و سلم المقاتلة و سبى الذرية و كان في السبي صفية فصارت إلى دحية الكلبي ثم صارت إلى النبي صلى الله عليه و سلم فجعل عتقها صداقها
قال عبد العزيز بن صهيب لثابت : يا أبا محمد أأنت قلت لأنس : ما أصدقها ؟ فحرك ثابت رأسه تصديقا له تفرد به دون مسلم و قد أورد البخاري و مسلم النهي عن لحوم الحمر الأهلية من طرق تذكر في كتاب الأحكام
و قال الحافظ البيهقي : أنبأنا أبو طاهر الفقيه أنبأنا خطاب بن أحمد الطوسي حدثنا محمد بن حميد الأبيوردي حدثنا محمد بن الفضل عن مسلم الأعور الملائي عن أنس بن مالك قال : كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يعود المريض و يتبع الجنائز و يجيب دعوة الملوك و يركب الحمار و كان يوم بني قريظة و النضير على حمار و يوم خيبر على حمار مخطوم برسن ليف و تحته إكاف من ليف
و قد روى هذا الحديث بتمامه الترمذي عن علي بن حجر عن علي بن مسهر و ابن ماجه عن محمد بن الصباح عن سفيان و عن عمر بن رافع عن جرير كلهم عن مسلم و هو ابن كيسان الملائي الأعور الكوفي عن أنس به و قال الترمذي : لا نعرفه إلا من حديثه و هو يضعف
قلت : و الذي ثبت في الصحيح عند البخاري عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه و سلم أجرى في زقاق خيبر حتى انحسر الإزار عن فخذه فالظاهر أنه كان يومئذ على فرس لا على حمار
ولعل هذا الحديث إن كان صحيحا محمول على أنه ركبه في بعض الأيام و هو محاصرها و الله أعلم
و قال البخاري : حدثنا محمد بن سعيد الخزاعي حدثنا زياد بن الربيع عن ابي عمران الجوني قال : نظر أنس إلى الناس يوم الجمعة فرأى طيالسة فقال : كأنهم الساعة يهود خيبر (3/349)
و قال البخاري : [ حدثنا عبد الله بن مسلمة حدثنا حاتم عن يزيد بن أبي عبيد عن سلمة بن الأكوع قال : كان علي بن أبي طالب تخلف عن رسول الله صلى الله عليه و سلم في خيبر و كان رمدا فقال : أنا أتخلف عن النبي صلى الله عليه و سلم ؟ فلحق به
فلما بتنا الليلة التي فتحت خيبر قال : لأعطين الراية غدا أو ليأخذن الراية غدا رجل يحبه الله و رسوله يفتح عليه فنحن نرجوها فقيل هذا علي فأعطاه ففتح عليه ]
و روى البخاري أيضا و مسلم عن قتيبة عن حاتم به
ثم قال البخاري : [ حدثنا قتيبة حدثنا يعقوب بن عبد الرحمن عن أبي حازم قال : أخبرني سهل بن سعد أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال يوم خيبر : لأعطين هذه الراية غدا رجلا يفتح الله على يديه يحب الله و رسوله و يحبه الله و رسوله قال : فبات الناس يدوكون ليلتهم أيهم يعطاها فلما أصبح الناس غدوا على النبي صلى الله عليه و سلم كلهم يرجو أن يعطاها فقال : أين علي بن أبي طالب ؟ فقالوا هو يا رسول الله يشتكي عينيه قال : فأرسل إليه فأتى فبصق رسول الله صلى الله عليه و سلم في عينيه و دعا له فبرأ حتى كأن لم يكن به وجع فأعطاه الراية فقال علي : يا رسول الله أقاتلهم حتى يكونوا مثلنا ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : انفذ على رسلك حتى تنزل بساحتهم ثم ادعهم إلى الإسلام و أخبرهم بما يجب عليهم من حق الله تعالى فيه فوالله لأن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك من أن يكون لك حمر النعم ]
و قد رواه مسلم و النسائي جميعا عن قتيبة به
و في الصحيح مسلم و البيهقي [ من حديث سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم لأعطين الراية غدا رجلا يحب الله و رسوله و يحبه الله و رسوله يفتح الله عليه قال عمر : فما أحببت الإمارة إلا يومئذ !
فدعا عليا فبعثه ثم قال : اذهب فقاتل حتى يفتح الله عليك و لا تلتفت قال علي : على ما أقاتل الناس ؟ قال : قاتلهم حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله و أن محمد عبده و رسوله فإذا فعلوا ذلك فقد منعوا منا دماءهم و أموالهم إلا بحقها و حسابهم على الله ]
لفظ البخاري
و قال الإمام أحمد : [ حدثنا مصعب بن المقدام و جحش بن المثنى قالا : حدثنا إسرائيل حدثنا عبد الله بن عصمة العجلي سمعت أبا سعيد الخدري رضي الله عنه يقول : إن رسول الله صلى الله عليه و سلم أخذ الراية فهزها ثم قال : من يأخذها بحقها ؟ فجاء فلان فقال : أنا قال : امض ثم جاء رجل آخر فقال : امض ثم قال النبي صلى الله عليه و سلم : و الذي كرم وجه محمد لأعطينها رجلا لا يفر فقال : هاك يا علي
فانطلق حتى فتح الله عليه خيبر و فدك و جاء بعجوتها و قديدها ]
تفرد به أحمد و إسناده لا بأس به و فيه غرابة
و عبد الله بن عصمة و يقال ابن أعصم و هكذا يكنى بأبي علوان العجلي و أصله من اليمامة سكن الكوفة و قد وثقه ابن معين و قال أبو زرعة : لا بأس به و قال أبو حاتم : شيخ و ذكره ابن حبان في الثقات و قال : يخطىء كثيرا وذكره في الضعفاء و قال : يحدث عن الأثبات مما لا يشبه حديث الثقات حتى يسبق إلى القلب أنها موهومة أو موضوعة
و قال يونس بن بكير عن محمد ابن إسحاق : [ حدثني بريدة بن سفيان بن فروة الأسلمي عن أبيه عن سلمة بن عمرو بن الأكوع رضي الله عنه قال : بعث النبي صلى الله عليه و سلم أبا بكر رضي الله عنه إلى بعض حصون خيبر فقاتل ثم رجع و لم يكن فتح و قد جهد
ثم بعث عمر رضي الله عنه فقاتل ثم رجع و لم يكن فتح فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم لأعطين الراية غدا رجلا يحبه الله و رسوله و يحب الله و رسوله يفتح الله على يديه و ليس بفرار
قال سلمة : فدعا رسول الله صلى الله عليه و سلم علي بن أبي طالب رضي الله عنه و هو يومئذ أرمد فتفل في عينيه ثم قال : خذ الراية و امض بها حتى يفتح الله عليك
فخرج بها و الله يأنح يهرول هرولة و إنا لخلفه نتبع أثره حتى ركز رايته في رضم من حجارة تحت الحصن فاطلع يهودي من رأس الحصن فقال : من أنت ؟ قال : أنا علي بن أبي طالب فقال اليهودي : غلبتم و ما أنزل على موسى فما رجع حتى فتح الله على يديه ]
و قال البيهقي : [ أنبأنا الحاكم أنبأنا الأصم أنبأنا العطاردي عن يونس بن بكير عن الحسين بن واقد عن عبد الله بن بريدة أخبرني أبي قال : لما كان يوم خيبر أخذ اللواء أبو بكر فرجع و لم يفتح له و قتل محمود بن مسلمة و رجع الناس
قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : لأدفعن لوائي غدا إلى رجل يحب الله و رسوله و يحبه الله و رسوله لن يرجع حتى يفتح الله له فبتنا طيبة نفوسنا أن الفتح غدا فصلى رسول الله صلى الله عليه و سلم صلاة الغداة ثم دعا باللواء و قام قائما فما منا من رجل له منزلة من رسول الله صلى الله عليه و سلم إلا و هو يرجو أن يكون ذلك الرجل حتى تطاولت أنا لها و رفعت رأسي لمنزلة كانت لي منه فدعا علي بن أبي طالب و هو يشتكي عينيه قال : فمسحها ثم دفع إليه اللواء ففتح له فسمعت عبد الله بن بريدة يقول : حدثني أبي أنه كان صاحب مرحب ]
قال يونس : قال ابن إسحاق : كان أول حصون خيبر فتحا حصن ناعم و عنده قتل محمود بن مسلمة ألقيت عليه رحى منه فقتلته
ثم روى البيهقي [ عن يونس بن بكير عن المسيب بن مسلمة الأزدي حدثنا عبد الله بن بريدة عن أبيه قال : كان رسول الله صلى الله عليه و سلم ربما أخذته الشقيقة فلبث اليوم و اليومين لا يخرج فلما نزل خيبر أخذته الشقيقة فلم يخرج إلى الناس و إن أبا بكر أخذ راية رسول الله صلى الله عليه و سلم ثم نهض فقاتل قتالا شديدا ثم رجع فأخذها عمر فقاتل قتالا شديدا هو أشد من القتال الأول ثم رجع فأخبر بذلك رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : لأعطينها غدا رجلا يحب الله و رسوله و يحبه الله و رسوله يأخذها عنوة و ليس ثم علي فتطاولت لها قريش و رجا كل رجل منهم أن يكون صاحب ذلك فأصبح و جاء علي بن أبي طالب على بعير له حتى أناخ قريبا و هو أرمد قد عصب عينه بشقة برد قطري فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : ما لك ؟ قال : رمدت بعدك قال : ادن مني فتفل في عينه فما وجعها حتى مضى لسبيله ] (3/351)
ثم أعطاه الراية فنهض بها و عليه جبة أرجوان حمراء قد أخرج خملها فأتى مدينة خيبر و خرج مرحب صاحب الحصن و عليه مغفر يماني و حجر قد ثقبه مثل البيضة على رأسه و هو يرتجز و يقول :
( قد علمت خيبر أني مرحب ... شاك سلاحي بطل مجرب )
( إذا الليوث أقبلت تلهب ... و أحجمت عن صولة المغلب )
فقال علي رضي الله عنه :
( أنا الذي سمتني أمي حيدره ... كليث غابات شديد القسورة )
( أكيلكم بالصاع كيل السندرة )
قال : فاختلفا ضربتين فبدره علي بضربة فقد الحجر و المغفر و رأسه و وقع في الأضراس و أخذ المدينة
و قد روى الحافظ البزار عن عباد بن يعقوب عن عبد الله بن بكر عن حكيم بن جبير عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قصة بعث أبي بكر ثم عمر يوم خيبر ثم بعث علي فكان الفتح على يديه و في سياقه غرابة و نكارة و في إسناده من هو متهم بالتشيع و الله أعلم
و قد روى مسلم و البيهقي و اللفظ له من طريق عكرمة بن عمار عن إياس بن سلمة بن الأكوع عن أبيه فذكر حديثا طويلا و ذكر فيه رجوعهم عن غزوة بني فزارة قال : فلم نمكث إلا ثلاثا حتى خرجنا إلى خيبر قال : و خرج عامر فجعل يقول :
( و الله لولا أنت ما اهتدينا ... و لا تصدقنا و لا صلينا )
( و نحن من فضلك ما استغنينا ... فأنزلن سكينة علينا )
( و ثبت الأقدام إن لاقينا )
قال : فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ من هذا القائل ؟ فقالوا : عامر فقال : غفر لك ربك قال : و ما خص رسول الله صلى الله عليه و سلم قط أحدا به إلا استشهد ] فقال عمر و هو على جمل : لولا متعتنا بعامر !
قال : فقدمنا خيبر فخرج مرحب و هو يخطر بسيفه و يقول :
( قد علمت خيبر أني مرحب ... شاكي السلاح بطل مجرب )
( إذا الحروب أقبلت تلهب )
قال : فبرز له عامر رضي الله عنه و هو يقول :
( قد علمت خيبر أني عامر ... شاكي السلاح بطل مغامر )
قال : فاختلفا ضربتين فوقع سيف مرحب في ترس عامر فذهب يسعل له فرجع على نفسه فقطع أكحله فكانت فيها نفسه
قال سلمة : [ فخرجت فإذا نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم يقولون : بطل عمل عامر قتل نفسه !
قال : فأتيت رسول الله صلى الله عليه و سلم و أنا أبكي فقال : ما لك ؟ فقلت : قالوا : إن عامرا بطل عمله فقال : من قال ذلك ؟ فقلت : نفر من أصحابك فقال : كذب أولئك بل له الأجر مرتين ]
قال : و أرسل رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى علي رضي الله عنه يدعوه و هو أرمد و قال : [ لأعطين الراية اليوم رجلا يحب الله و رسوله قال : فجئت به أقوده قال : فبصق رسول الله صلى الله عليه و سلم في عينه فبرأ فأعطاه الراية ] فبرز مرحب و هو يقول :
( قد علمت خيبر أني مرحب ... شاكي السلاح بطل مجرب )
( إذا الحروب أقبلت تلهب )
قال : فبرز له علي و هو يقول :
( أنا الذي سمتني أمي حيدره ... كليث غابات كريه المنظرة )
( أوفيهم بالصاع كيل السندرة )
قال : فضرب مرحبا ففلق رأسه فقتله و كان الفتح
هكذا وقع في هذا السياق أن عليا هو الذي قتل مرحبا اليهودي لعنه الله
و قال أحمد : حدثنا حسين بن حسن الأشقر حدثني قابوس بن أبي ظبيان عن أبيه عن جده عن علي قال : لما قتلت مرحبا جئت برأسه إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم
و قد روى موسى بن عقبة عن الزهري أن الذي قتل مرحبا هو محمد بن مسلمة
و كذلك قال محمد بن إسحاق : حدثني عبد الله بن سهل أحد بني حارثة عن جابر بن عبد الله قال : خرج مرحب اليهودي من حصن خيبر و هو يرتجز و يقول
( قد علمت خيبر أني مرحب ... شاكي السلاح بطل مجرب )
( أطعن أحيانا و حينا أضرب ... إذا الليوث أقبلت تلهب )
( إن حماي للحمى لا يقرب )
قال : فأجابه كعب بن مالك :
( قد علمت خيبر أني كعب ... مفرج الغماء جري صلب )
( إذ شبت الحرب و ثار الحرب ... معي حسام كالعقيق عضب )
( يطأكم حتى يذل الصعب ... بكف ماض ليس فيه عيب )
قال : و جعل مرحب يرتجز و يقول : هل من مبارز ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ من لهذا ؟ فقال محمد بن مسلمة : أنا له يا رسول الله أنا و الله الموتور و الثائر قتلوا أخي بالأمس فقال : قم إليه اللهم أعنه عليه ]
قال : فلما دنا أحدهما من صاحبه دخلت بينهما شجرة عمرية من شجر العشر المسد فجعل كل واحد منهما يلوذ من صاحبه بها كلما لاذ بها أحدهما اقتطع بسيفه ما دونه حتى برز كل واحد منهما لصاحبه و صارت بينهما كالرجل القائم ما فيها فنن ثم حمل على محمد بن مسلمة فضربه فاتقاه بالدرقة فوقع سيفه فيها فعضت به فاستله و ضربه محمد بن مسلمة حتى قتله
و قد رواه الإمام أحمد عن يعقوب بن إبراهيم عن أبيه عن ابن إسحاق بنحوه
قال ابن إسحاق : و زعم بعض الناس أن محمدا ارتجز حين ضربه و قال :
( قد علمت خيبر أني ماض ... حلو إذا شئت و سم قاض )
و هكذا رواه الواقدي عن جابر و غيره من السلف أن محمد بن مسلمة هو الذي قتل مرحبا
ثم ذكر الواقدي أن محمدا قطع رجلي مرحب فقال له : أجهز علي فقال : لا ذق الموت كما ذاقه محمود بن مسلمة فمر به علي و قطع رأسه فاختصما في سلبه إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فأعطى رسول الله صلى الله عليه و سلم محمد بن مسلمة سيفه و رمحه و مغفره و بيضته قال : و كان مكتوبا على سيفه :
( هذا سيف مرحب ... من يذقه يعطب ) (3/355)
ثم ذكر ابن إسحاق أن أخا مرحب و هو ياسر خرج بعده و هو يقول : هل من مبارز ؟
فزعم هشام بن عروة أن الزبير خرج له فقالت أم صفية بنت عبد المطلب : يقتل ابني يا رسول الله فقال : بل ابنك يقتله إن شاء الله فالتقيا فقتله الزبير
قال : فكان الزبير إذا قيل له : و الله إن كان سيفك يومئذ صارما يقول : و الله ما كان بصارم و لكني أكرهته
و قال يونس عن ابن إسحاق عن بعض أهله عن أبي رافع مولى رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : خرجنا مع علي إلى خيبر بعثه رسول الله صلى الله عليه و سلم برايته فلما دنا من الحصن خرج إليه أهله فقاتلهم فضربه رجل منهم من يهود فطرح ترسه من يده فتناول علي باب الحصن فترس به عن نفسه فلم يزل في يده و هو يقاتل حتى فتح الله عليه ثم ألقاه من يده فلقد رأيتني في نفر معي سبعة أنا ثامنهم نجهد على أن نقلب ذلك الباب فما استطعنا أن نقلبه
و في هذا الخبر جهالة و انقطاع ظاهر
و لكن روى الحافظ البيهقي و الحاكم من طريق مطلب بن زياد عن ليث بن أبي سليم عن أبي جعفر الباقر عن جابر أن عليا حمل الباب يوم خيبر حتى صعد المسلمون عليه فافتتحوها و إنه جرب بعد ذلك فلم يحمله أربعون رجلا !
و فيه ضعف أيضا و في رواية ضعيفة عن جابر : ثم اجتمع عليه سبعون رجلا و كان جهدهم أن أعادوا الباب
و قال البخاري : [ حدثنا مكي بن إبراهيم حدثنا يزيد بن أبي عبيد قال : رأيت أثر ضربة في ساق سلمة فقلت : يا أبا مسلم ما هذه الضربة ؟ قال : هذه ضربة أصابتني يوم خيبر فقال الناس : أصيب سلمة فأتيت النبي صلى الله عليه و سلم فنفث فيه ثلاث نفثات فما اشتكيتها حتى الساعة ] (3/359)
ثم قال البخاري : [ حدثنا عبد الله بن مسلمة حدثنا ابن أبي حازم عن أبيه عن سهل قال : التقى النبي صلى الله عليه و سلم و المشركون في بعض مغازيه فاقتتلوا فمال كل قوم إلى عسكرهم و في المسلمين رجل لا يدع من المشركين شاذة و لا فاذة إلا اتبعها فضربها بسيفه فقيل : يا رسول الله ما أجزأ منا أحد ما أجزأ فلان قال : إنه من أهل النار فقالوا : أينا من أهل الجنة إن كان هذا من أهل النار ؟ ! فقال رجل من القوم لأتبعنه فإذا أسرع و أبطأ كنت معه حتى جرح فاستعجل الموت فوضع نصاب سيفه بالأرض و ذبابه بين ثدييه ثم تحامل عليه فقتل نفسه فجاء الرجل إلى النبي صلى الله عليه و سلم فقال : أشهد أنك رسول الله قال : و ما ذاك ؟ فأخبره فقال : إن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة فيما يبدو للناس و إنه من أهل النار و يعمل بعمل أهل النار فيما يبدو للناس و إنه من أهل الجنة ]
رواه أيضا عن قتيبة عن يعقوب عن أبي حازم عن سهل فذكره مثله أو نحوه
ثم قال البخاري : [ حدثنا أبو اليمان حدثنا شعيب عن الزهري أخبرني سعيد بن المسيب أن أبا هريرة قال : شهدنا خيبر فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم لرجل ممن معه يدعي الإسلام : هذا من أهل النار فلما حضر القتال قاتل الرجل أشد القتال حتى كثرت به الجراحة حتى كاد بعض الناس يرتاب فوجد الرجل ألم جراحه فأهوى بيده إلى كنانته فاستخرج منها أسهما فنحر بها نفسه فاشتد رجال من المسلمين فقالوا : يا رسول الله صدق الله حديثك انتحر فلان فقتل نفسه فقال : قم يا فلان فأذن : إنه لا يدخل الجنة إلا مؤمن و إن الله يؤيد الدين بالرجل الفاجر ! ] (3/360)
و قد روى موسى بن عقبة [ عن الزهري قصة العبد الأسود الذي رزقه الله الإيمان و الشهادة في ساعة واحدة و كذلك رواها ابن لهيعة عن أبي الأسود عن عروة قالا : و جاء عبد حبشي أسود من أهل خيبر كان في غنم لسيده فلما رأى أهل خيبر أخذوا السلاح سألهم قال : ما تريدون ؟ قالوا : نقاتل هذا الرجل الذي يزعم أنه نبي
فوقع في نفسه ذكر النبي فأقبل بغنمه حتى عمد لرسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : إلى ما تدعو ؟ قال : أدعوك إلى الإسلام إلى أن تشهد أن لا إله إلا الله و أني رسول الله و ألا تعبد إلا الله قال : فقال العبد : فماذا يكون لي إن شهدت بذلك و آمنت بالله ؟ قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : الجنة إن مت على ذلك
فأسلم العبد فقال : يا نبي الله إن هذه الغنم عندي أمانة فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : أخرجها من عسكرنا و ارمها بالحصا فإن الله سيؤدي عنك أمانتك ففعل فرجعت الغنم إلى سيدها فعرف اليهودي أن غلامه قد أسلم
فقام رسول الله صلى الله عليه و سلم فوعظ الناس فذكر الحديث في إعطائه الراية عليا و دنوه من حصن ليهود و قتله مرحبا و قتل مع علي ذلك العبد الأسود فاحتمله المسلمون إلى عسكرهم فأدخل في الفسطاط فزعموا أن رسول الله صلى الله عليه و سلم اطلع في الفسطاط ثم اطلع على أصحابه فقال : لقد أكرم الله هذا العبد و ساقه إلى خير قد كان الإسلام في قلبه حقا و قد رأيت عند رأسه اثنتين من الحور العين ! ]
و قد روى الحافظ البيهقي من طريق ابن وهب عن حيوة بن شريح عن ابن الهاد عن شرحبيل بن سعد عن جابر بن عبد الله قال : كنا مع رسول الله صلى الله عليه و سلم في غزوة خيبر فخرجت سرية فأخذوا إنسانا معه غنم يرعاها فذكر نحو قصة هذا العبد الأسود و قال فيه : قتل شهيدا و ما سجد لله سجدة !
ثم قال البيهقي : [ حدثنا محمد بن محمد بن محمد الفقيه حدثنا أبو بكر القطان حدثنا أبو الأزهر حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا حماد حدثنا ثابت عن أنس أن رجلا أتى رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : يا رسول الله إني رجل أسود اللون قبيح الوجه لا مال لي فإن قاتلت هؤلاء حتى أقتل أدخل الجنة ؟ قال : نعم
فتقدم فقاتل حتى قتل فأتى عليه رسول الله صلى الله عليه و سلم و هو مقتول فقال : لقد حسن الله وجهك و طيب ريحك و كثر مالك و قال : لقد رأيت زوجتيه من الحور العين يتنازعان جبته عليه يدخلان فيما بين جلده و جبته ]
ثم روى البيهقي [ من طريق ابن جريج أخبرني عكرمة بن خالد عن ابن أبي عمار عن شداد بن الهاد أن رجلا من الأعراب جاء رسول الله صلى الله عليه و سلم فآمن به و اتبعه فقال : أهاجر معك فأوصى به النبي صلى الله عليه و سلم بعض أصحابه فلما كانت غزوة خيبر غنم رسول الله صلى الله عليه و سلم فقسمه و قسم له فأعطى أصحابه ما قسم له و كان يرعى ظهرهم فلما جاء دفعوا إليه فقال : ما هذا ؟ قالوا : قسم قسمه لك رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : ما على هذا اتبعتك و لكني اتبعتك على أن أرمي هاهنا و أشار إلى حلقه بسهم فأموت فأدخل الجنة فقال : إن تصدق الله يصدقك
ثم نهضوا إلى قتال العدو فأتى به رسول الله صلى الله عليه و سلم يحمل و قد أصابه سهم حيث أشار فقال النبي صلى الله عليه و سلم : هو هو ؟ قالوا : نعم قال : صدق الله فصدقه
و كفنه النبي صلى الله عليه و سلم في جبة النبي صلى الله عليه و سلم ثم قدمه فصلى عليه و كان مما ظهر من صلاته : اللهم هذا عبدك خرج مهاجرا في سبيلك قتل شهيدا و أنا عليه شهيد ]
و قد رواه النسائي عن سويد بن نصر عن عبد الله بن المبارك عن ابن جريج به نحوه (3/361)
قال ابن إسحاق : و تدنى رسول الله صلى الله عليه و سلم الأموال يأخذها مالا مالا و يفتتحها حصنا حصنا و كان أول حصونهم فتح حصن ناعم و عنده قتل محمود بن مسلمة ألقيت عليه رحى منه فقتلته ثم القموص حصن بني أبي الحقيق
و أصاب رسول الله صلى الله عليه و سلم منهم سبايا منهن صفية بنت حيي بن أخطب و كانت عند كنانة بن الربيع بن أبي الحقيق و بنتي عم لها فاصطفى رسول الله صلى الله عليه و سلم صفية لنفسه و كان دحية بن خليفة قد سأل رسول الله صلى الله عليه و سلم صفية فلما اصطفاها لنفسه أعطاه ابنتي عمها (3/363)
قال : و فشت السبايا من خيبر في المسلمين و أكل الناس لحوم الحمر فذكر نهي رسول الله صلى الله عليه و سلم إياهم عن أكلها
و قد اعتنى البخاري بهذا الفصل فأورد النهي عنها من طرق جيدة
و تحريمها مذهب جمهور العلماء سلفا و خلفا و هو مذهب الأئمة الأربعة
و قد ذهب بعض السلف منهم ابن عباس إلى إباحتها و تنوعت أجوبتهم عن الأحاديث الواردة في النهي عنها
فقيل : لأنها كانت ظهرا يستعينون بها في الحمولة و قيل : لأنها لم تكن خمست بعد و قيل لأنها كانت تأكل العذرة يعني جلالة و الصحيح أنه نهى عنها لذاتها فإن في الأثر الصحيح [ أنه نادى منادي رسول الله صلى الله عليه و سلم : إن الله و رسوله ينهيانكم عن لحوم الحمر فإنها رجس ]
فأكفأوها و القدور تفور بها
و موضع تقرير ذلك في كتاب الأحكام
قال ابن إسحاق : [ حدثني سلام بن كركرة عن عمرو بن دينار عن جابر بن عبد الله و لم يشهد جابر خيبر أن رسول الله صلى الله عليه و سلم حين نهى الناس عن أكل لحوم الحمر أذن لهم في لحوم الخيل ]
و هذا الحديث أصله ثابت في الصحيحين [ من حديث حماد بن زيد عن عمرو بن دينار عن محمد بن علي عن جابر رضي الله عنه قال : نهى رسول الله صلى الله عليه و سلم يوم خيبرعن لحوم الحمر و رخص في الخيل ]
لفظ البخاري
قال ابن إسحاق : [ و حدثنا عبد الله بن أبي نجيح عن مكحول أن النبي صلى الله عليه و سلم نهاهم يومئذ عن أربع : عن إتيان الحبالى من النساء و عن أكل الحمار الأهلي و عن أكل كل ذي ناب من السباع و عن بيع المغانم حتى تقسم ]
و هذا مرسل (3/363)
و قال ابن إسحاق : [ و حدثني يزيد بن أبي حبيب عن أبي مرزوق مولى تجيب عن حنش الصنعاني قال : غزونا مع رويفع بن ثابت الأنصاري المغرب فافتتح قرية من قرى المغرب يقال لها جربة فقام فينا خطيبا فقال : أيها الناس إني لا أقول فيكم إلا ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول فينا يوم خيبر قام فينا رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : لا يحل لامرىء يؤمن بالله و اليوم الآخر أن يسقي ماءه زرع غيره يعني إتيان الحبالى من السبي و لا يحل لامرىء يؤمن بالله و اليوم الآخر أن يصيب امرأة من السبي حتى يستبرأها و لا يحل لامرىء يؤمن بالله و ليوم الآخر أن يبيع مغنما حتى يقسم و لا يحل لامرىء يؤمن بالله و اليوم الآخر أن يركب دابة من فيء المسلمين حتى إذا أعجفها ردها فيه و لا يحل لامرىء يؤمن بالله و اليوم الآخر أن يلبس يوما من فيء المسلمين حتى إذا أعجفه رده فيه ]
وهكذا روى هذا الحديث أبو داود من طريق محمد بن إسحاق و رواه الترمذي عن حفص بن عمرو الشيباني عن ابن وهب عن يحيى بن أيوب عن ربيعة بن سليم عن بشر بن عبيد الله عن رويفع بن ثابت مختصرا و قال : حسن
و في صحيح البخاري [ عن نافع عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه و سلم نهى يوم خيبر عن لحوم الحمر الأهلية و عن أكل الثوم ]
و قد حكى ابن حزم عن علي و شريك بن الحنبل أنهما ذهبا إلى تحريم البصل و الثوم النيء و الذي نقله الترمذي عنهما الكراهة فالله أعلم (3/364)
و قد تكلم الناس في الحديث الوارد في الصحيحين [ من طريق الزهري عن عبد الله و الحسن ابني محمد بن الحنفية عن أبيهما عن أبيه علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه و سلم نهى عن نكاح المتعة يوم خيبر و لحوم الحمر الأهلية ]
هذا لفظ الصحيحين من طريق مالك و غيره عن الزهري و هو يقتضي تقييد تحريم نكاح المتعة بيوم خيبر
و هو مشكل من وجهين : أحدهما أن يوم خيبر لم يكن ثم نساء يتمتعون بهن إذ قد حصل لهم الإستغناء بالسباء عن نكاح المتعة
الثاني : أنه قد ثبت في صحيح مسلم [ عن الربيع بن سبرة عن معبد عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه و سلم أذن لهم في المتعة زمن الفتح ثم لم يخرج من مكة حتى نهى عنها و قال : إن الله قد حرمها إلى يوم القيامة ]
فعلى هذا يكون قد نهى عنها ثم أذن فيها ثم حرمت فيلزم النسخ مرتين و هو بعيد
و مع هذا فقد نص الشافعي على أنه لا يعلم شيئا أبيح ثم حرم ثم أبيح ثم حرم غير نكاح المتعة وما حداه على هذا رحمه الله إلا اعتماده على هذين الحديثين كما قدمناه
و قد حكى السهيلي و غيره عن بعضهم أنه ادعى أنها أبيحت ثلاث مرات و حرمت ثلاث مرات و قال آخرون : أربع مرات و هذا بعيد جدا و الله أعلم (3/365)
و اختلفوا أي وقت أول ما حرمت فقيل : في خيبر و قيل : في عمرة القضاء و قيل : في عام الفتح وهذا يظهر و قيل : في أوطاس و هو قريب من الذي قبله و قيل : في تبوك و قيل : في حجة الوداع
رواه أبو داود
و قد حاول بعض العلماء أن يجيب عن حديث علي رضي الله عنه بأنه وقع فيه تقديم و تأخير
و إنما المحفوظ فيه ما رواه الإمام أحمد : [ حدثنا سفيان عن الزهري عن الحسن و عبد الله ابني محمد عن أبيهما و كان حسن أرضاهما في أنفسهما أن عليا قال لابن عباس : إن رسول الله صلى الله عليه و سلم نهى عن نكاح المتعة و عن لحوم الحمر الأهلية زمن خيبر ]
قالوا : فاعتقد الراوي أن قوله خيبر ظرف للمنهي عنهما و ليس كذلك إنما هو ظرف للنهي عن لحوم الحمر فأما نكاح المتعة فلم يذكر له ظرفا و إنما جمعه معه لأن عليا رضي الله عنه بلغه أن ابن عباس أباح نكاح المتعة و لحوم الحمر الأهلية كما هو المشهور عنه فقال له أمير المؤمنين علي : إنك امرؤ تائه [ إن رسول الله صلى الله عليه و سلم نهى عن نكاح المتعة و لحوم الحمر الأهلية يوم خيبر ]
فجمع له النهي ليرجع عما كان يعتقده في ذلك من الإباحة
و إلى هذا التقرير كان ميل شيخنا الحافظ أبي الحجاج المزي تغمده الله برحمته آمين
و مع هذا ما رجع ابن عباس عما كان يذهب إليه من إباحة الحمر و المتعة
أما النهي عن الحمر فتأوله بأنها كانت حمولتهم و أما المتعة فإنما كان يبيحها عند الضرورة في الأسفار و حمل النهي على ذلك في حال الرفاهية و الوجدان و قد تبعه على ذلك طائفة من أصحابه و أتباعهم و لم يزل ذلك مشهورا عن علماء الحجاز إلى زمن ابن جريج
و قد حكي عن الإمام أحمد بن حنبل رواية كمذهب ابن عباس و هي ضعيفة
و حاول بعض من صنف في الحلال نقل رواية عن الإمام بمثل ذلك و لا يصح أيضا و الله أعلم و موضع تحرير ذلك في كتاب الأحكام و بالله المستعان
قال ابن إسحاق : ثم جعل رسول الله صلى الله عليه و سلم يتدنى الحصون و الأموال [ فحدثني عبد الله بن أبي بكر أنه حدثه بعض من أسلم أن بني سهم من أسلم أتوا رسول الله صلى الله عليه و سلم فقالوا : يا رسول الله لقد جهدنا و ما بأيدينا شيء فلم يجدوا عند رسول الله صلى الله عليه و سلم شيئا يعطيهم إياه فقال : اللهم إنك قد عرفت حالهم و أن ليست لهم قوة وأن ليس بيدي شيء أعطيهم إياه فافتح عليهم أعظم حصونها عنهم غناء و أكثرها طعاما و ودكا فغدا الناس ففتح عليهم حصن الصعب بن معاذ و ما بخير حصن كان أكثر طعاما و ودكا منه ]
قال ابن إسحاق : [ و لما افتتح رسول الله صلى الله عليه و سلم من حصونهم ما افتتح و حاز من الأموال ما حاز انتهوا إلى حصنهم الوطيح و السلالم و كان آخر حصون خيبر افتتاحا فحاصرهم رسول الله صلى الله عليه و سلم بضع عشرة ليلة ]
قال ابن هشام : و كان شعارهم يوم خيبر : يا منصور أمت أمت
قال ابن إسحاق : و حدثني بريدة بن سفيان الأسدي الأسلمي عن بعض رجال بني سلمة عن أبي اليسر كعب بن عمرو قال : إني لمع رسول الله صلى الله عليه و سلم بخيبر ذات عشية إذ أقبلت غنم لرجل من يهود تريد حصنهم و نحن محاصروهم فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : من رجل يطعمنا من هذه الغنم ؟ قال أبو اليسر : فقلت : أنا يا رسول الله قال : فافعل
قال : فخرجت أشتد مثل الظليم فلما نظر إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم موليا قال : اللهم أمتعنا به قال : فأدركت الغنم و قد دخلت أولها الحصن فأخذت شاتين من أخراها فاحتضنتهما تحت يدي ثم جئت بهما أشتد كأنه ليس معي شيء حتى ألفيتهما عند رسول الله صلى الله عليه و سلم فذبحوهما فأكلوهما
فكان أبو اليسر من آخر أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم موتا و كان إذا حدث هذا الحديث بكى ثم قال : أمتعوا بي لعمري ! حتى كنت من آخرهم
و قال الحافظ البيهقي في الدلائل : [ أخبرنا أبو محمد عبد الله بن يوسف الأصبهاني حدثنا أبو سعيد بن الأعرابي حدثنا سعدان بن نصر حدثنا أبو معاوية عن عاصم الأحول عن أبي عثمان النهدي أو عن أبي قلابة قال : لما قدم النبي صلى الله عليه و سلم خيبر قدم و الثمرة خضرة قال : فأسرع الناس إليها فحموا فشكوا ذلك إليه فأمرهم أن يقرسوا الماء في الشنان ثم يجرونه عليهم إذا أتى الفجر و يذكرون اسم الله عليه ففعلوا ذلك فكأنما نشطوا من عقل ]
قال البيهقي : و رويناه عن عبد الرحمن بن رافع موصولا و عنه : بين صلاتي المغرب و العشاء (3/366)
و قال الإمام أحمد : [ حدثنا يحيى و بهز قالا : حدثنا سليمان بن المغيرة حدثنا حميد بن هلال حدثنا عبد الله بن مغفل قال : دلي جراب من شحم يوم خيبر فالتزمته فقلت : لا أعطي أحدا منه شيئا قال : فالتفت فإذا رسول الله صلى الله عليه و سلم يبتسم ]
و قال أحمد : [ حدثنا عفان حدثنا شعبة عن حميد بن هلال عن عبد الله بن مغفل قال : كنا نحاصر قصر خيبر فألقي إلينا جراب فيه شحم فذهبت فأخذته فرأيت النبي صلى الله عليه و سلم فاستحييت ]
و قد أخرجاه صاحبا الصحيح من حديث شعبة و رواه مسلم أيضا عن شيبان بن فروخ عن عثمان بن المغيرة
و قال ابن إسحاق : [ و حدثني من لا أتهم عن عبد الله بن مغفل المزني قال : أصبت من فيء خيبر جراب شحم قال : فاحتملته على عنقي إلى رحلي و أصحابي قال : فلقيني صاحب المغانم الذي جعل علها فأخذ بناحيته و قال : هلم حتى تقسمه بين المسلمين قال : و قلت : لا و الله لا أعطيكه قال : و جعل يجاذبني الجراب قال : فرآنا رسول الله صلى الله عليه و سلم و نحن نصنع ذلك فتبسم ضاحكا ثم قال لصاحب المغانم : خل بينه و بينه قال : فأرسله فانطلقت به إلى رحلي و أصحابي فأكلناه ]
و قد استدل الجمهور بهذا الحديث على الإمام مالك في تحريمه شحوم ذبائح اليهود و ما كان غلبهم عليه غيرهم من المسلمين لأن الله تعالى قال : { و طعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم } قال : لكم قال : و ليس هذا من طعامهم فاستدلوا عليه بهذا الحديث و فيه نظر و قد يكون هذا الشحم مما كان حلالا لهم و الله أعلم
و قد استدلوا بهذا الحديث على أن الطعام لا يخمس و يعضد ذلك ما رواه الإمام أبو داود : [ حدثنا محمد بن العلاء حدثنا أبو معاوية حدثنا إسحاق الشيباني عن محمد بن أبي مجالد عن عبد الله بن أبي أوفى قال : قلت : كنتم تخمسون الطعام في عهد رسول الله صلى الله عليه و سلم ؟ فقال : أصبنا طعاما يوم خيبر و كان الرجل يجيء فيأخذ منه قدر ما يكفيه ثم ينصرف ]
تفرد به أبو داود و هو حسن (3/369)
كان من شأنها أنه لما أجلى رسول الله صلى الله عليه و سلم يهود بني النضير من المدينة كما تقدم فذهب عامتهم إلى خيبر و فيهم حيي بن أخطب و بنو أبي الحقيق و كانوا ذوي أموال و شرف في قومهم و كانت صفية إذ ذاك طفلة دون البلوغ ثم لما تأهلت للتزويج تزوجها بعض بني عمها فلما زفت إليه و أدخلت إليه بنى بها و مضى على ذلك ليال رأت في منامها كأن قمر السماء قد سقط في حجرها فقصت رؤياها على ابن عمها فلطم وجهها و قال : أتتمنين ملك يثرب أن يصير بعلك !
فما كان إلا مجيء رسول الله صلى الله عليه و سلم و حصاره إياهم فكانت صفية في جملة السبي و كان زوجها في جملة القتلى و لما اصطفاها رسول الله صلى الله عليه و سلم و صارت في حوزه و ملكه كما سيأتي و بني بها بعد استبرائها و حلها وجد أثر تلك اللطمة في خدها فسألها ما شأنها فذكرت له و ما كانت رأت من تلك الرؤيا الصالحة رضي الله عنها و أرضاها
قال البخاري : [ حدثنا سليمان بن حرب حدثنا حماد بن زيد عن ثابت عن أنس بن مالك قال : صلى النبي صلى الله عليه و سلم الصبح قريبا من خيبر بغلس ثم قال : الله أكبر خربت خيبر إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين ]
فخرجوا يسعون في السكك فقتل النبي صلى الله عليه و سلم المقاتلة و سبي الذرية و كان في السبي صفية فصارت إلى دحية الكلبي ثم صارت إلى النبي صلى الله عليه و سلم فجعل عتقها صداقها
و رواه مسلم أيضا من حديث حماد بن زيد و له طرق عن أنس
و قال البخاري : حدثنا آدم عن شعبة عن عبد العزيز بن صهيب قال : سمعت أنس بن مالك يقول : سبى النبي صلى الله عليه و سلم صفية فأعتقها و تزوجها قال ثابت لأنس : ما أصدقها ؟ قال : أصدقها نفسها فأعتقها
تفرد به البخاري من هذا الوجه
قال البخاري : [ حدثنا عبد الغفار بن داود حدثنا يعقوب بن عبد الرحمن و حدثنا أحمد بن عيسى حدثنا وهب أخبرني يعقوب بن عبد الرحمن الزهري عن عمرو مولى المطلب عن أنس بن مالك قال : قدمنا خيبر فلما فتح صلى الله عليه و سلم الحصن ذكر له جمال صفية بنت حيي بن أخطب و قد قتل زوجها و كانت عروسا فاصطفاها النبي صلى الله عليه و سلم لنفسه فخرج بها حتى بلغ سد الصهباء حلت فبنى بها رسول الله صلى الله عليه و سلم ثم صنع حيسا في نطع صغير ثم قال لي : آذن من حولك فكانت تلك وليمته على صفية ثم خرجنا إلى المدينة فرأيت النبي صلى الله عليه و سلم يحوي لها وراءه بعباءة ثم يجلس عند بعيره فيضع ركبته و تضع صفية رجلها على ركبته حتى تركب ]
تفرد به دون مسلم
و قال البخاري : [ حدثنا سعيد بن أبي مريم حدثنا محمد بن جعفر بن أبي كثير أخبرني حميد أنه سمع أنسا يقول : أقام رسول الله صلى الله عليه و سلم بين خيبر و المدينة ثلاث ليال يبنى عليه بصفية فدعوت المسلمين إلى وليمته و ما كان فيها من خبز و لحم و ما كان فيها إلا أن أمر بلالا بالأنطاع فبسطت فألقى عليها التمر و الأقط و السمن فقال المسلمون : إحدى أمهات المؤمنين أو ما ملكت يمنيه ؟ فقالوا : إن حجبها فهي إحدى أمهات المؤمنين و إن لم يحجبها فهي مما ملكت يمينه فلما ارتحل وطأ لها خلفه و مد الحجاب ]
انفرد به البخاري
و قال أبو داود : [ حدثنا مسدد حدثنا حماد بن زيد عن عبد العزيز بن صهيب عن أنس بن مالك قال : صارت صفية لدحية الكلبي ثم صارت لرسول الله صلى الله عليه و سلم ]
و قال أبو داود : [ حدثنا يعقوب بن إبراهيم قال : حدثنا ابن علية عن عبد العزيز بن صهيب عن أنس قال : جمع السبي ـ يعني بخيبر ـ فجاء دحية فقال : يا رسول الله أعطني جارية من السبي قال : اذهب فخذ جارية فأخذ صفية بنت حيي فجاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : يا نبي الله أعطيت دحية قال يعقوب : صفية بنت حيي سيدة قريظة و النضير ما تصلح إلا لك قال : ادعوا بها فلما نظر إليها النبي صلى الله عليه و سلم قال : خذ جارية من السبي غيرها و إن رسول الله صلى الله عليه و سلم أعتقها و تزوجها ]
و أخرجاه من حديث ابن علية
و قال أبو داود : حدثنا محمد بن خلاد الباهلي حدثنا بهز بن أسد حدثنا حماد بن سلمة حدثنا ثابت عن أنس قال : وقع في سهم دحية جارية جميلة فاشتراها رسول الله صلى الله عليه و سلم بسبعة أرؤس ثم دفعها إلى أم سلمة تصنعها و تهيئها قال حماد : و أحسبه قال : و تعتد في بيتها صفية بنت حيي
تفرد به أبو داود
قال ابن إسحاق : فلما افتتح رسول الله صلى الله عليه و سلم القموص حصن بني أبي الحقيق أتى بصفية بنت حيي بن أخطب و أخرى معها فمر بهما بلال ـ و هو الذي جاء بهما ـ على قتلى من قتلى يهود فلما رأتهم التي مع صفية صاحت و صكت وجهها و حثت التراب على رأسها فلما رآها رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ أعزبوا عني هذه الشيطانة ] و أمر بصفية فحيزت خلفه و ألقى عليها رداءه فعرف المسلمون أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قد اصطفاها لنفسه
و قال رسول الله صلى الله عليه و سلم لبلال فيما بلغني حين رأى بتلك اليهودية ما رأى : [ أنزعت منك الرحمة يا بلال حتى تمر بامرأتين على قتلى رجالهما ! ]
و كانت صفية قد رأت في المنام و هي عروس بكنانة بن الربيع بن أبي الحقيق أن قمرا وقع في حجرها فعرضت رؤياها على زوجها فقال : ما هذا إلا أنك تمنين ملك الحجاز محمدا فلطم وجهها لطمة خضر عينها منها فأتى بها رسول الله صلى الله عليه و سلم و بها أثر منه فسألها ما هذا فأخبرته الخبر
قال ابن إسحاق : [ و أتى رسول الله بكنانة بن الربيع و كان عنده كنز بني النضير فسأله عنه فجحد أن يكون يعلم مكانه فأتى رسول الله صلى الله عليه و سلم رجل من اليهود فقال لرسول الله صلى الله عليه و سلم : إني رأيت كنانة يطيف بهذه الخربة كل غداة فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم لكنانة : أرأيت إن وجدناه عندك أقتلك ؟ قال : نعم فأمر رسول الله صلى الله عليه و سلم بالخربة فحفرت فأخرج منها بعض كنزهم ثم سأله عما بقي فأبى أن يؤديه فأمر به رسول الله صلى الله عليه و سلم الزبير بن العوام فقال : عذبه حتى تستأصل ما عنده و كان الزبير يقدح بزنده في صدره حتى أشرف على نفسه ثم دفعه رسول الله إلى محمد بن مسلمة فضرب عنقه بأخيه محمود بن مسلمة ] (3/371)
قال ابن إسحاق : [ و حاصر رسول الله صلى الله عليه و سلم أهل خيبر في حصنيهم الوطيح و السلالم حتى إذا أيقنوا بالهلكة سألوه أن يسيرهم و أن يحقن دماءهم ففعل و كان رسول الله صلى الله عليه و سلم قد حاز الأموال كلها الشق و النطاة و الكتيبة و جميع حصونهم إلا ما كان من ذينك الحصنين فلما سمع بهم أهل فدك قد صنعوا ما صنعوا بعثوا إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم أن يسيرهم و يحقن دماءهم و يخلوا له الأموال ففعل و كان ممن مشى بين رسول الله صلى الله عليه و سلم و بينهم في ذلك محيصة بن مسعود أخو بني حارثة
فلما نزل أهل خيبر على ذلك سألوا رسول الله صلى الله عليه و سلم أن يعاملهم في الأموال على النصف و قالوا : نحن أعلم بها منكم و أعمر لها فصالحهم رسول الله صلى الله عليه و سلم على النصف على أنا إذا شئنا أن نخرجكم أخرجناكم و عامل أهل فدك بمثل ذلك ] (3/375)
قال الواقدي : لما تحولت اليهود من حصن ناعم و حصن الصعب بن معاذ إلى قلعة الزبير حاصرهم رسول الله صلى الله عليه و سلم ثلاثة أيام فجاء رجل من اليهود يقال له عزال فقال : يا أبا القاسم تؤمنني على أن أدلك على ما تستريح به من أهل النطاة و تخرج إلى أهل الشق فإن أهل الشق قد هلكوا رعبا منك ؟
قال : فأمنه رسول الله على أهله و ماله فقال له اليهودي : إنك لو أقمت شهرا تحاصرهم ما بالوا بك إن لهم تحت الأرض دبولا يخرجون بالليل فيشربون منها ثم يرجعون إلى قلعتهم
فأمر رسول الله صلى الله عليه و سلم بقطع دبولهم فخرجوا فقاتلوا أشد القتال و قتل من المسلمين يومئذ نفر و أصيب من اليهود عشرة و افتتحه رسول الله صلى الله عليه و سلم و كان آخر حصون النطاة و تحول إلى الشق و كان به حصون ذوات عدد فكان أول حصن بدأ به منها حصن أبي فقام رسول الله صلى الله عليه و سلم على قلعة يقال لها سموان فقاتل عليها أشد القتال فخرج منهم رجل يقال له عزول فدعا إلى البراز فبرز إليه الحباب بن المنذر فقطع يده اليمنى من نصف ذراعه و وقع السيف من يده و فر اليهودي راجعا فاتبعه الحباب فقطع عرقوبه و برز منهم آخر فقام إليه رجل من المسلمين فقتله اليهودي فنهض إليه أبو دجانة فقتله و أخذ سلبه و أحجموا عن البراز فكبر المسلمون ثم تحاملوا على الحصن فدخلوه و أمامهم أبو دجانة فوجدوا فيه أثاثا و متاعا و غنما و طعاما و هرب من كان فيه من المقاتلة و تقحموا الجزر كأنهم الضباب حتى صاروا إلى حصن البزاة بالشق و تمنعوا أشد الإمتناع فزحف إليهم رسول الله صلى الله عليه و سلم و أصحابه فتراموا و رمى معهم رسول الله صلى الله عليه و سلم بيده الكريمة حتى أصاب نبلهم بنانه عليه الصلاة و السلام فأخذ عليه السلام كفا من الحصا فرمى حصنهم بها فرجف بهم حتى ساخ في الأرض و أخذهم المسلمون أخذا باليد
قال الواقدي : [ ثم تحول رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى أهل الأخبية و الوطيح و السلالم حصني أبي الحقيق و تحصنوا أشد التحصن و جاء إليهم كل من كان انهزم من النطاة إلى الشق فتحصنوا معهم في القموص و في الكتيبة و كان حصنا منيعا و في الوطيح و السلالم و جعلوا لا يطلعون من حصونهم حتى هم رسول الله صلى الله عليه و سلم أن ينصب المنجنيق عليهم
فلما أيقنوا بالهلكة و قد حصرهم رسول الله صلى الله عليه و سلم أربعة عشر يوما نزل إليه بن أبي الحقيق فصالحه على حقن دمائهم و يسيرهم و يخلون بين رسول الله صلى الله عليه و سلم و بين ما كان لهم من الأرض و الأموال و الصفراء و البيضاء و الكراع و الحلقة و على البز إلا ما كان على ظهر إنسان يعني لباسهم فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : و برئت منكم ذمة الله و ذمة رسوله إن كتمتم شيئا فصالحوه على ذلك ]
قلت : و لهذا لما كتموا و كذبوا و أخفوا ذلك المسك الذي كان فيه أموال جزيلة تبين أنه لا عهد لهم فقتل ابني أبي الحقيق و طائفة من أهله بسبب نقض العهود منهم و المواثيق
و قال الحافظ البيهقي : حدثنا أبو الحسن علي بن محمد المقري الأسفراييني حدثنا الحسن بن محمد بن إسحاق حدثنا يوسف بن يعقوب حدثنا عبد الواحد بن غياث حدثنا حماد بن سلمة حدثنا عبيد الله بن عمر فيما يحسب أبو سلمة عن نافع عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قاتل أهل خيبر حتى ألجأهم إلى قصرهم فغلب على الأرض و الزرع و النخل فصالحوه على أن يجلوا منها و لهم ما حملت ركابهم و لرسول الله صلى الله عليه و سلم الصفراء و البيضاء و يخرجون منها و اشترط عليهم ألا يكتموا و لا يغيبوا شيئا فإن فعلوا فلا ذمة لهم و لا عهد
فغيبوا مسكا فيه مال و حلي لحيي بن أخطب و كان احتمله معه إلى خيبر حين أجليت النضير فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم حينئذ : ما فعل مسك حيي الذي جاء به من النضير ؟ فقال : أذهبته النفقات و الحروب فقال : العهد قريب و المال أكثر من ذلك فدفعه رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى الزبير فمسه بعذاب و قد كان حيي قبل ذلك دخل خربة فقال : قد رأيت حييا يطوف في خربة هاهنا فذهبوا فطافوا فوجدوا المسك في الخربة
فقتل رسول الله صلى الله عليه و سلم ابني أبي الحقيق و أحدهما زوج صفية بنت حيي بن أخطب و سبى رسول الله صلى الله عليه و سلم نسائهم و ذراريهم و قسم أموالهم بالنكث الذي نكثوا (3/375)
و أراد إجلاءهم منها فقالوا : يا محمد دعنا نكون في هذه الأرض نصلحها و نقوم عليها و لم يكن لرسول الله صلى الله عليه و سلم و لا لأصحابه غلال يقومون عليها و كانوا لا يفرغون أن يقوموا عليها فأعطاهم خيبر على أن لهم الشطر من كل زرع و نخيل و شيء ما بدا لرسول الله صلى الله عليه و سلم
و كان عبد الله بن رواحة يأتيهم كل عام فيخرجها عليهم ثم يضمنهم الشطر فشكوا إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم شدة خرصه و أرادوا أن يرشوه فقال : يا أعداء الله تطمعوني السحت ! و الله لقد جئتكم من عند أحب الناس إلي و لأنتم أبغض إلي من عدتكم من القردة و الخنازير و لا يحملني بغضي إياكم و حبي إياه على أن لا أعدل عليكم
فقالوا : بهذا قامت السموات و الأرض !
قال : فرأى رسول الله صلى الله عليه و سلم بعين صفية خضرة فقال : [ يا صفية ما هذه الخضرة ؟ ] فقالت : كان رأسي في حجر ابن أبي الحقيق و أنا نائمة فرأيت كأن قمرا وقع في حجري فأخبرته بذلك فلطمني و قال : تتمنين ملك يثرب
قالت و كان رسول الله صلى الله عليه و سلم من أبغض الناس إلي قتل زوجي و أبي فما زال يعتذر إلي و يقول : [ إن أباك ألب علي العرب و فعل ما فعل حتى ذهب ذلك من نفسي ]
و كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يعطي كل امرأة من نسائه ثمانين وسقا من تمر كل عام و عشرين وسقا من شعير فلما كان في زمان عمر غشوا المسلمين و ألقوا ابن عمر من فوق بيت ففدعوا يديه فقال عمر : من كان له سهم بخيبر فليحضر حتى نقسمها فقسمها بينهم فقال رئيسهم : لا تخرجنا دعنا نكون فيها كما أقرنا رسول الله صلى الله عليه و سلم و أبو بكر فقال عمر : أتراني سقط على قول رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ كيف بك إذا وقصت بك راحلتك نحو الشام يوما ثم يوما ثم يوما ]
و قسمها عمر بين من كان شهد خيبر من أهل الحديبية
و قد رواه أبو داود مختصرا من حديث حماد بن سلمة
قال البيهقي : و علقه البخاري في كتابه فقال : و رواه حماد بن سلمة قلت : و لم أره في الأطراف فالله أعلم
و قال أبو داود : [ حدثنا سليمان بن داود المهري حدثنا ابن وهب أخبرني أسامة بن زيد الليثي عن نافع عن عبد الله بن عمر قال : لما فتحت خيبر سألت يهود رسول الله صلى الله عليه و سلم أن يقرهم على أن يعملوا على النصف مما خرج منها فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : أقركم فيها على ذلك ما شئنا ]
فكانوا على ذلك و كان التمر يقسم على السهمان من نصف خيبر و يأخذ رسول الله صلى الله عليه و سلم الخمس و كان أطعم كل امرأة من أزواجه من الخمس مائة و سق من تمر و عشرين وسقا من شعير
فلما أراد عمر إخراج اليهود أرسل إلى أزواج النبي صلى الله عليه و سلم فقال لهن : من أحب منكن أن أقسم لها مائة وسق فيكون لها أصلها و أرضها و ماؤها و من الزرع مزرعة عشرين وسقا من شعير فعلنا و من أحب أن نعزل الذي لها في الخمس كما هو فعلنا
و قد روى أبو داود من حديث محمد بن إسحاق حدثني نافع عن عبد الله بن عمر أن عمر قال : أيها الناس إن رسول الله صلى الله عليه و سلم عامل يهود خيبر على أن يخرجهم إذا شاء فمن كان له مال فليلحق به فإني مخرج يهود فأخرجهم (3/378)
و قال البخاري : [ حدثنا يحيى بن بكير حدثنا الليث عن يونس عن ابن شهاب عن سعيد بن المسيب أن جبير بن مطعم أخبره قال : مشيت أنا و عثمان بن عفان إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فقلنا : أعطيت بني المطلب من خمس خيبر و تركتنا و نحن و هم بمنزلة واحدة منك فقال : إنما بنو هاشم و بنو المطلب شيء واحد قال جبير بن مطعم : و لم يقسم النبي صلى الله عليه و سلم لبني عبد شمس و بني نوفل شيئا ]
تفرد به دون مسلم
و في لفظ أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ إن بني هاشم و بني عبد المطلب شيء واحد إنهم لم يفارقونا في جاهلية و لا إسلام ]
قال الشافعي : دخلوا معهم في الشعب و ناصروهم في إسلامهم و جاهليتهم
قلت : و قد ذم أبو طالب بني عبد شمس و نوفلا حيث يقول :
( جزى الله عنا عبد شمس و نوفلا ... عقوبة شر عاجل غير آجل )
و قال البخاري : [ حدثنا الحسن بن إسحاق حدثنا محمد بن ثابت حدثنا زائدة عن عبيد الله بن عمرو عن ابن عمر قال : قسم رسول الله صلى الله عليه و سلم يوم خيبر للفرس سهمين و للراجل سهما ]
قال : فسره نافع فقال : إذا كان مع الرجل فرس فله ثلاثة أسهم و إن لم يكن معه فرس فله سهم
و قال البخاري : [ حدثنا سعيد بن أبي مريم حدثنا محمد بن جعفر أخبرني زيد عن أبيه أنه سمع عمر بن الخطاب يقول : أما و الذي نفسي بيده لولا أن أترك آخر الناس ببانا ليس لهم شيء ما فتحت على قرية إلا قسمتها كما قسم النبي صلى الله عليه و سلم خيبر و لكني أتركها خزانة لهم يقتسمونها ]
و قد رواه البخاري أيضا من حديث مالك و أبو داود عن أحمد بن حنبل عن ابن مهدي عن مالك عن زيد بن أسلم عن أبيه عن عمر به
و هذا السياق يقتضي أن خيبر بكمالها قسمت بين الغانمين
و قد قال أبو داود : [ حدثنا ابن السرح أنبأنا ابن وهب أخبرني يونس عن ابن شهاب قال : بلغني أن رسول الله صلى الله عليه و سلم افتتح خيبر عنوة بعد القتال و ترك من ترك من أهلها بعد القتال ]
و بهذا قال الزهري : [ خمس رسول الله صلى الله عليه و سلم خيبر ثم قسم سائرها على من شهدها ]
و فيما قاله الزهري نظر فإن الصحيح أن خيبر لم تقسم و إنما قسم نصفها بين الناس كما سيأتي بيانه (3/380)
و قد احتج بهذا مالك و من تابعه على أن الإمام مخير في الأراضي المغنومة إن شاء قسمها و إن شاء أرصدها لمصالح المسلمين و إن شاء قسم بعضها و أرصد بعضها لما ينوبه في الحاجات و المصالح
قال أبو داود : [ حدثنا الربيع بن سليمان المؤذن حدثنا أسد بن موسى حدثنا يحيى بن زكريا حدثني سفيان عن يحيى بن سعيد عن بشير بن يسار عن سهل بن أبي حثمة قال : قسم رسول الله صلى الله عليه و سلم خيبر نصفين نصفا لنوائبه و نصفا بين المسلمين : قسمها بينهم على ثمانية عشر سهما ]
تفرد به أبو داود ثم رواه أبو داود من حديث بشير بن يسار مرسلا فعين نصف النوائب الوطيح و الكتيبة و السلالم و ما حيز معها و نصف المسلمين الشق و النطاة و ما حيز معها و سهم رسول الله صلى الله عليه و سلم فيما حيز معهما
و قال أيضا : [ حدثنا حسين بن علي حدثنا محمد بن فضيل عن يحي بن سعيد عن بشير بن يسار مولى الأنصار عن رجال من أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم أن رسول الله صلى الله عليه و سلم لما ظهر على خيبر فقسمها على ستة و ثلاثين سهما جمع كل سهم مائة سهم فكان لرسول الله صلى الله عليه و سلم و للمسلمين النصف من ذلك و عزل النصف الثاني لمن نزل به من الوفود و الأمور و نوائب الناس ]
تفرد به أبو داود
قال أبو داود : [ حدثنا محمد بن عيسى حدثنا مجمع بن يعقوب بن مجمع بن يزيد الأنصاري سمعت أبي يعقوب بن مجمع يقول عن عمه عبد الرحمن بن يزيد الأنصاري عن عمه مجمع بن حارثة الأنصاري ـ و كان أحد القراء الذين قرأوا القرآن ـ قال : قسمت خيبر على أهل الحديبية فقسمها رسول الله صلى الله عليه و سلم على ثمانية عشر سهما و كان الجيش ألفا و خمسمائة فيهم ثلثمائة فارس فأعطى الفارس سهمين و أعطى الراجل سهما ]
تفرد به أبو داود
و قال مالك عن الزهري [ أن سعيد بن المسيب أخبره أن النبي صلى الله عليه و سلم افتتح بعض خيبر عنوة ]
و رواه أبو داود ثم قال أبو داود : قريء على الحارث بن مسكين و أنا شاهد أخبركم ابن وهب حدثني مالك بن أنس عن ابن شهاب أن خيبر بعضها كان عنوة و بعضها صلحا و الكتيبة أكثرها عنوة و فيها صلح قلت لمالك : و ما الكتيبة ؟ قال : أرض خيبر و هي أربعون ألف عذق قال أبو داود : و العذق : النخلة و العذق : العرجون
و لهذا قال البخاري : حدثنا محمد بن بشار حدثنا خرمي حدثنا شعبة حدثنا عمارة عن عكرمة عن عائشة قالت : لما فتحت خيبر قلنا : الآن نشبع التمر
حدثنا الحسن حدثنا قرة بن حبيب حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله بن دينار عن أبيه عن ابن عمر قال : ما شبعنا ـ يعني من التمر ـ حتى فتحنا خيبر
و قال ابن إسحاق : كانت الشق و النطاة في سهمان المسلمين الشق : ثلاثة عشر سهما و نطاة خمسة أسهم قسم الجميع على أ لف و ثمانمائة سهم و دفع ذلك إلى من شهد الحديبية من حضر خيبر و من غاب عنها و لم يغب عن خيبر ممن شهد الحديبية إلا جابر بن عبد الله فضرب له بسهمه
قال : و كان أهل الحديبية ألفا و أربعمائة و كان معهم مائتا فرس لكل فرس سهمان فصرف إلى كل مائة رجل سهم من ثمانية عشر سهما و زيد المائتا فارس أربعمائة سهم لخيولهم
و هكذا رواه البيهقي من طريق سفيان بن عيينة عن يحيى بن سعيد عن صالح بن كيسان أنهم كانوا ألفا و أربعمائة معهم مائتا فرس
قلت : و ضرب رسول الله صلى الله عليه و سلم معهم بسهم و كان أول سهم من سهمان الشق مع عاصم بن عدي
قال ابن إسحاق : و كانت الكتيبة خمسا لله تعالى و سهم النبي صلى الله عليه و سلم و سهم ذوي القربى و اليتامى و المساكين و ابن السبيل و طعمة أزواج النبي صلى الله عليه و سلم و طعمة أقوام مشوا في صلح أهل فدك منهم محيصة بن مسعود أقطعه رسول الله صلى الله عليه و سلم ثلاثين وسقا من تمر و ثلاثين وسقا من شعير قال : و كان وادياها اللذان قسمت عليه يقال لهما وادي السرير ووادي خاص
ثم ذكر ابن إسحاق تفاصيل الإقطاعات منها فأجاد و أفاد رحمه الله
قال : و كان الذي ولى قسمتها و حسابها جبار بن صخر بن أمية بن خنساء أخو بني سلمة و زيد بن ثابت رضي الله عنهما
قلت : وكان الأمير على خرص نخيل خيبر عبد الله بن رواحة فخرصها سنتين ثم لما قتل رضي الله عنه في يوم مؤتة ولى بعده جبار بن صخر رضي الله عنه
و قد قال البخاري : [ حدثنا إسماعيل حدثني مالك عن عبد المجيد بن سهيل عن سعيد بن المسيب عن أبي سعيد الخدري و أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه و سلم استعمل رجلا على خيبر فجاء بتمر جنيب فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : أكل تمر خيبر هكذا ؟ قال لا و الله يا رسول الله إنا لنأخذ الصاع من هذا بالصاعين و الصاعين بالثلاثة فقال : لا تفعل بع الجمع بالدراهم ثم ابتع بالدراهم جنيبا ]
قال البخاري : و قال الدراوردي عن عبد المجيد عن سعيد بن المسيب أن أبا سعيد و أبا هريرة حدثاه أن رسول الله صلى الله عليه و سلم بعث أخا بني عدي من الأنصار إلى خيبر و أمره عليها و عن عبد المجيد عن أبي صالح السمان عن أبي سعيد و أبي هريرة مثله (3/381)
قلت : كان سهم النبي صلى الله عليه و سلم الذي أصاب مع المسلمين مما قسم بخيبر و فدك بكمالها و هي طائفة كبيرة من أرض خيبر نزلوا من شدة رعبهم منه صلوات الله و سلامه عليه فصالحوه و أموال بني النضير المتقدم ذكرها مما لم يوجف المسلمون عليه بخيل و لا ركاب
فكانت هذه الأموال لرسول الله صلى الله عليه و سلم خاصة و كان يعزل منها نفقة أهله لسنة ثم يجعل ما بقي مجعل مال الله يصرفه في الكراع و السلاح و مصالح المسلمين
فلما مات صلوات الله و سلامه عليه اعتقدت فاطمة و أزواج النبي صلى الله عليه و سلم ـ أو أكثرهن ـ أن هذه الأراضي تكون موروثة عنه و لم يبلغهن ما ثبت عنه من قوله صلى الله عليه و سلم : [ نحن معشر الأنبياء لا نورث ما تركناه فهو صدقة ]
و لما طلبت فاطمة و أزواج النبي صلى الله عليه و سلم و العباس نصيبهم من ذلك و سألوا الصديق أن يسلمه إليهم ذكر لهم قول رسول الله صلى الله عليه و سلم [ لا نورث ما تركنا صدقة ] و قال : أنا أعول من كان يعول رسول الله صلى الله عليه و سلم و الله لقرابة رسول الله صلى الله عليه و سلم أحب إلى أن أصل من قرابتي
و صدق رضي الله عنه و أرضاه فإنه البار الراشد في ذلك التابع للحق
و طلب العباس و علي على لسان فاطمة إذ قد فاتهم الميراث أن ينظرا في هذه الصدقة و أن يصرفا ذلك في المصارف التي كان النبي صلى الله عليه و سلم يصرفها فيها فأبى عليهم الصديق ذلك و رأى أن حقا عليه أن يقوم فيما كان يقوم فيه رسول الله صلى الله عليه و سلم و أن لا يخرج من مسلكه و لا عن سنته
فتغضبت فاطمة رضي الله عنها عليه في ذلك و وجدت في نفسها بعض الموجدة
و لم يكن لها ذلك و الصديق من قد عرفت هي و المسلمون محله و منزلته من رسول الله صلى الله عليه و سلم و قيامه في نصرة النبي صلى الله عليه و سلم في حياته و بعد وفاته فجزاه الله عن نبيه و عن الإسلام و أهله خيرا
و توفيت فاطمة رضي الله عنها بعد ستة أشهر ثم جدد علي البيعة بعد ذلك فلما كان أيام عمر بن الخطاب سألوه أن يفوض أمر هذه الصدقة إلى علي و العباس و ثقلوا عليه بجماعة من سادات الصحابة ففعل عمر رضي الله عنه ذلك و ذلك لكثرة أشغاله و اتساع مملكته و امتداد رعيته
فتغلب علي على عمه العباس فيها ثم تساوقا يختصمان إلى عمر و قدما بين أيديهما جماعة من الصحابة و سألا منه أن يقسمها بينهما فينظر كل منهما فيما لا ينظر فيه الآخر
فامتنع عمر من ذلك أشد الإمتناع و خشي أن تكون هذه القسمة تشبه قسمة المواريث و قال : انظرا فيها و أنتما جميع فإن عجزتما عنها فادفعاها إلي و الذي تقوم السماء والأرض بأمره لا أقضي فيها قضاء غير هذا
فاستمرا فيها و من بعدهما إلى ولدهما إلى أيام بني العباس تصرف في المصارف التي كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يصرفها فيها أموال بني النضير و فدك و سهم رسول الله صلى الله عليه و سلم من خيبر (3/384)
و أما من شهد خيبر من العبيد و النساء فرضخ لهم رسول الله صلى الله عليه و سلم شيئا من الغنيمة و لم يسهم لهم
قال أبو داود : [ حدثنا أحمد بن حنبل حدثنا بشر بن المفضل عن محمد بن زيد حدثني عمير مولى أبي اللحم قال : شهدت خيبر مع سادتي فكلموا في رسول الله صلى الله عليه و سلم فأمر بي فقلدت سيفا فإذا أنا أجره فأخبر أني مملوك فأمر لي بشيء من طريق المتاع ]
و رواه الترمذي و النسائي جميعا عن قتيبة عن بشر بن المفضل به و قال الترمذي : حسن صحيح و رواه ابن ماجة عن علي بن محمد عن وكيع عن هشام بن سعد عن محمد بن زيد بن المهاجر عن منقذ عن عمير به
و قال محمد بن إسحاق : [ و شهد خيبر مع رسول الله صلى الله عليه و سلم نساء فرضخ لهن من الفيء و لم يضرب لهن بسهم
حدثني سليمان بن سحيم عن أمية بنت أبي الصلت عن امرأة من بني غفار قد سماها لي قالت : أتيت رسول الله صلى الله عليه و سلم في نسوة من بني غفار فقلنا : يا رسول الله قد أردنا أن نخرج معك إلى وجهك هذا ـ و هو يسير إلى خيبر ـ فنداوي الجرحى و نعين المسلمين بما استطعنا فقال : على بركة الله
قالت : فخرجنا معه قالت : و كنت جارية حدثة السن فأردفني رسول الله صلى الله عليه و سلم على حقيبة رحله قالت : فوالله لنزل رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى الصبح و نزلت عن حقيبة رحله قالت : و إذا بها دم مني و كانت أول حيضة حضتها قالت : فتقبضت إلى الناقة و استحييت فلما رأى رسول الله صلى الله عليه و سلم ما بي و رأى الدم قال : مالك ؟ لعلك نفست قالت : قلت : نعم قال : فأصلحي من نفسك ثم خذي إناء من ماء فاطرحي فيه ملحا ثم اغسلي ما أصاب الحقيبة من الدم ثم عودي لمركبك
قالت : فلما فتح الله علينا خيبر رضخ لنا من الفيء و أخذ هذه القلادة التي ترين في عنقي فأعطانيها و علقها بيده في عنقي فوالله لا تفارقني أبدا و كانت في عنقها حتى ماتت ثم أوصت أن تدفن معها
قالت : و كانت لا تطهر من حيضها إلا جعلت في طهورها ملحا و أوصت به أن يجعل في غسلها حين ماتت ]
و هكذا رواه الإمام أحمد و أبو داود من حديث محمد بن إسحاق به
قال شيخنا أبو الحجاج المزي في أطرافه : و رواه الواقدي عن أبي بكر بن أبي سبرة عن سليمان بن سحيم عن أم علي بنت أبي الحكم عن أمية بنت أبي الصلت عن النبي صلى الله عليه و سلم به
و قال الإمام أحمد : [ حدثنا حسن بن موسى حدثنا رافع بن سلمة الأشجعي حدثني حشرج بن زياد عن جدته أم أبيه قالت : خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه و سلم في غزاة خيبر و أنا سادسة ست نسوة قالت : فبلغ النبي صلى الله عليه و سلم أن معه نساء قالت : فأرسل إلينا فدعانا قالت : فرأينا في وجهه الغضب فقال : ما أخرجكن و بأمر من خرجتن ؟ قلنا خرجنا نناول السهام و نسقي السويق و معنا دواء للجرحى و نغزل الشعر فنعين به في سبيل الله قال : فمرن فانصرفن
قالت : فلما فتح الله عليه خيبر أخرج لنا سهاما كسهام الرجال فقلت لها : يا جدة و ما الذي أخرج لكن ؟ قالت : تمرا
قلت : إنما أعطاهن من الحاصل فأما أنه أسهم لهن في الأرض كسهام الرجال فلا ! و الله أعلم ]
و قال الحافظ البيهقي : و في كتابي عن أبي عبد الله الحافظ أن عبد الله الأصبهاني أخبره حدثنا الحسين بن الجهم حدثنا الحسين بن الفرج حدثنا الواقدي حدثني عبد السلام بن موسى بن جبير عن أبيه عن جده عن عبد الله بن أنيس قال : خرجت مع رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى خيبر و معي زوجتي و هي حبلى فنفست في الطريق فأخبرت لرسول الله صلى الله عليه و سلم فقال لي : انقع لها تمرا فإذا انغمر فأمر به لتشربه ففعلت فما رأت شيئا تكرهه فلما فتحنا خيبر أجدى النساء و لم يسهم لهن فأجدى زوجتي و ولدي الذي ولد قال عبد السلام : لست أدري غلام أو جارية (3/386)
و من انضم إليهم من أهل اليمن على رسول الله صلى الله عليه و سلم و هو مخيم بخيبر
قال البخاري : [ حدثنا محمد بن العلاء حدثنا أبو أسامة حدثنا بريد بن عبد الله بن أبي بردة عن أبي بردة عن أبي موسى قال : بلغنا مخرج النبي صلى الله عليه و سلم و نحن باليمن فخرجنا مهاجرين إليه أنا و إخوان لي أنا أصغرهم أحدهما أبو بردة و الآخر أبو رهم إما قال : في بضع و إما قال : في ثلاثة و خمسين أو اثنين و خمسين رجلا من قومي
فركبنا سفينة فألقتنا سفينتنا إلى النجاشي بالحبشة فوافقنا جعفر بن أبي طالب فأقمنا معه حتى قدمنا جميعا فوافقنا النبي صلى الله عليه و سلم حين افتتح خيبر فكان أناس من الناس يقولون لنا ـ يعني لأهل السفينة ـ : سبقناكم بالهجرة
و دخلت أسماء بنت عميس ـ و هي ممن قدم معنا ـ على حفصة زوج النبي صلى الله عليه و سلم زائرة و قد كانت هاجرت إلى النجاشي فيمن هاجر فدخل عمر على حفصة و أسماء عندها فقال حين رأى أسماء : من هذه ؟ قالت : أسماء ابنة عميس قال عمر : آلحبشية هذه ؟ البحرية هذه ؟ قالت أسماء : نعم قال : سبقناكم بالهجرة فنحن أحق برسول الله صلى الله عليه و سلم منكم فغضبت و قالت : كلا و الله كنتم مع رسول الله صلى الله عليه و سلم يطعم جائعكم و يعظ جاهلكم و كنا في دار ـ أو في أرض ـ البعداء و البغضاء بالحبشة و ذلك في الله و في رسول الله صلى الله عليه و سلم و ايم الله لا أطعم طعاما و لا أشرب شرابا حتى أذكر ما قلت للنبي صلى الله عليه و سلم و أسأله و و الله لا أكذب و لا أزيغ و لا أزيد عليه
فلما جاء النبي صلى الله عليه و سلم قالت : يا نبي الله إن عمر قال كذا و كذا قالت : قال : فما قلت له ؟ قالت : قلت كذا و كذا قال : ليس بأحق بي منكم و له و لأصحابه هجرة واحدة و لكم أنتم أهل السفينة هجرتان ]
قالت : فلقد رأيت أبا موسى و أهل السفينة يأتوني أرسالا يسألوني عن هذا الحديث ما من الدنيا شيء هم به أفرح و لا أعظم في أنفسهم مما قال لهم النبي صلى الله عليه و سلم
قال أبو بردة : قالت أسماء : فلقد رأيت أبا موسى و إنه ليستعيد هذا الحديث مني
و قال أبو بردة عن أبي موسى : [ قال النبي صلى الله عليه و سلم إني لأعرف أصوات رفقة الأشعريين بالقرآن حين يدخلون بالليل و أعرف منازلهم من أصواتهم بالقرآن بالليل و إن كنت لم أر منازلهم حين نزلوا بالنهار و منهم حكيم بن حزام إذا لقي العدو ـ أو قال الخيل ـ قال لهم : إن أصحابي يأمرونكم أن تنظروهم ]
و هكذا رواه مسلم عن أبي كريب و عبد الله بن براد عن أبي أسامة به
ثم قال البخاري : [ حدثنا إسحاق بن إبراهيم حدثنا حفص بن غياث حدثنا بريد بن عبد الله عن أبي بردة عن أبي موسى قال : قدمنا على النبي صلى الله عليه و سلم بعد أن افتتح خيبر فقسم لنا و لم يقسم لأحد لم يشهد الفتح غيرنا ]
تفرد به البخاري دون مسلم و رواه أبو داود و الترمذي و صححه من حديث بريد به
و قد ذكر محمد بن إسحاق أن رسول الله صلى الله عليه و سلم بعث عمرو بن أمية الضمري إلى النجاشي يطلب منه من بقي من أصحابه بالحبشة فقدموا صحبة جعفر و قد فتح النبي صلى الله عليه و سلم خيبر
قال : و قد ذكر سفيان بن عيينة عن الأجلح عن الشعبي أن جعفر بن أبي طالب قدم على رسول الله صلى الله عليه و سلم يوم فتح خيبر فقبل رسول الله صلى الله عليه و سلم بين عينيه و التزمه و قال : [ ما أدري بأيهما أنا أسر بفتح خيبر أم بقدوم جعفر ]
و هكذا رواه سفيان الثوري عن الأجلح عن الشعبي مرسلا
و أسند البيهقي [ من طريق حسن بن حسين العرزمي عن الأجلح عن الشعبي عن جابر قال : لما قدم رسول الله صلى الله عليه و سلم من خيبر قدم جعفر من الحبشة فتلقاه و قبل جبهته و قال : و الله ما أدري بأيهما أفرح بفتح خيبر أم بقدوم جعفر ]
ثم قال البيهقي [ حدثنا أبو عبد الله الحافظ حدثنا الحسين بن أبي إسماعيل العلوي حدثنا أحمد بن محمد البيروتي حدثنا محمد بن أحمد بن أبي طيبة حدثني مكي بن إبراهيم الرعيني حدثنا سفيان الثوري عن أبي الزبير عن جابر قال : لما قدم جعفر بن أبي طالب من أرض الحبشة تلقاه رسول الله صلى الله عليه و سلم فلما نظر جعفر إليه حجل ـ قال مكي : يعني مشى على رجل واحدة ـ إعظاما لرسول الله صلى الله عليه و سلم فقبل رسول الله صلى الله عليه و سلم بين عينيه ]
ثم قال البيهقي : في إسناده من لا يعرف إلى الثوري
قال ابن إسحاق : و كان الذين تأخروا مع جعفر من أهل مكة إلى أن قدموا معه خيبر ستة عشر رجلا و سرد أسماءهم و أسماء نسائهم و هم : جعفر بن أبي طالب الهاشمي و امرأته أسماء بنت عميس و ابنه عبد الله ولد بالحبشة و خالد بن سعيد بن العاص بن أمية بن عبد شمس و امرأته أمينة بنت خلف بن أسعد و ولداه سعيد و أمة بنت خالد ولدا بأرض الحبشة و أخوه عمرو بن سعيد بن العاص و معيقيب بن أبي فاطمة و كان إلى آل سعيد بن العاص
قال : و أبو موسى الأشعري عبد الله بن قيس حليف آل عتبة بن ربيعة و أسود بن نوفل بن خويلد بن أسد الأسدي و جهم بن قيس بن عبد شرحبيل العبدري و قد ماتت امرأته أم حرملة بنت عبد الأسود بأرض الحبشة و ابنه عمرو و ابنته خزيمة ماتا بها رحمهم الله و عامر بن أبي وقاص الزهري و عتبة بن مسعود حليف لهم من هذيل و الحارث بن خالد بن صخر التيمي و قد هلكت بها امرأته ريطة بنت الحارث رحمها الله و عثمان بن ربيعة بن أهبان الجمحي و محمية بن جزء الزبيدي حليف بني سهم و معمر بن عبد الله بن نضلة العدوي و أبو حاطب بن عمرو بن عبد شمس و مالك بن ربيعة بن قيس بن عبد شمس العامريان و مع مالك هذا امرأته عمرة بنت السعدي و الحارث بن عبد شمس بن لقيط الفهري
قلت : و لم يذكر ابن إسحاق أسماء الأشعريين الذين كانوا مع أبي موسى الأشعري و أخويه أبا بردة و أبا رهم و عمه أبا عامر بل لم يذكر من الأشعريين غير أبي موسى و لم يتعرض لذكر أخويه و هما أسن منه كما تقدم في صحيح البخاري
و كأن ابن إسحاق رحمه الله لم يطلع على حديث أبي موسى في ذلك و الله أعلم
قال : و قد كان معهم في السفينتين نساء من نساء من هلك من المسلمين هنالك و قد حرر هاهنا شيئا كثيرا حسنا (3/389)
قال البخاري : حدثنا علي بن عبد الله حدثنا سفيان سمعت الزهري و سأله إسماعيل بن أمية قال : أخبرني عنبسة بن سعيد أن أبا هريرة أتى رسول الله صلى الله عليه و سلم و سأله ـ يعني أن يقسم له ـ فقال بعض بني سعيد بن العاص : لا تعطه فقال أبو هريرة : هذا قاتل ابن قوقل فقال : واعجبا لوبر تدلى من قدوم الضأن
تفرد به دون مسلم
قال البخاري : [ و يذكر عن الزبيدي عن الزهري أخبرني عنبسة بن سعيد أنه سمع أبا هريرة يخبر سعيد بن العاص قال : بعث رسول الله صلى الله عليه و سلم أبانا على سرية من المدينة قبل نجد
قال أبو هريرة : فقدم أبان و أصحابه على النبي صلى الله عليه و سلم بخيبر بعد ما افتتحها و إن حزم خيلهم لليف
قال أبو هريرة : فقلت : يا رسول الله لا تقسم لهم فقال أبان : و أنت بهذا يا وبر تحدر من رأس ضأن و قال النبي صلى الله عليه و سلم : يا أبان اجلس و لم يقسم لهم ]
و قد أسند أبو داود هذا الحديث عن سعيد بن منصور عن إسماعيل بن عياش عن محمد بن الوليد الزبيدي به نحوه
ثم قال البخاري : [ حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا عمرو بن يحيى بن سعيد أخبرني جدي و هو سعيد بن عمرو بن سعيد بن العاص أن أبان بن سعيد أقبل إلى النبي صلى الله عليه و سلم فسلم عليه فقال أبو هريرة : يا رسول الله هذا قاتل ابن قوقل فقال أبان لأبي هريرة : واعجبا لك يا وبر تردى من قدوم ضأن تنعي علي امرءا أكرمه الله بيدي و منعه أن يهينني بيده ؟ ]
هكذا رواه منفردا به هاهنا و قال في الجهاد بعد حديث الحميدي [ عن سفيان عن الزهري عن عنبسة بن سعيد عن أبي هريرة قال : أتيت رسول الله صلى الله عليه و سلم و هو بخيبر بعد ما افتتحها فقلت : يا رسول الله أسهم لي فقال بعض آل سعيد بن العاص : لا تقسم له فقلت : يا رسول الله هذا قاتل ابن قوقل الحديث ]
قال سفيان : حدثنيه السعيدي ـ يعني عمرو بن يحيى بن سعيد ـ عن جده عن أبي هريرة بهذا
ففي هذا الحديث التصريح من أبي هريرة بأنه لم يشهد خيبر و تقدم في أول هذه الغزوة رواه الإمام أحمد من طريق عراك بن مالك عن أبي هريرة و أنه قدم على رسول الله صلى الله عليه و سلم بعد ما افتتح خيبر فكلم المسلمين فأشركونا في أسهامهم
و قال الإمام أحمد : [ حدثنا روح حدثنا حماد بن سلمة عن علي بن زيد عن عمار بن أبي عمار قال : ما شهدت مع رسول الله صلى الله عليه و سلم مغنما قط إلا قسم لي إلا خيبر فإنها كانت لأهل الحديبية خاصة ]
قلت : و كان أبو هريرة و أبو موسى جاءا بين الحديبية و خيبر
و قد قال البخاري : حدثنا عبد الله بن محمد حدثنا معاوية بن عمر حدثنا أبو إسحاق عن مالك بن أنس حدثني ثور حدثني سالم مولى [ عبد الله ] بن مطيع أنه سمع أبا هريرة يقول : افتتحنا خيبر فلم نغنم ذهبا و لا فضة إنما غنمنا الإبل و البقر و المتاع و الحوائط ثم انصرفنا مع رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى وادي القرى و معه عبد له يقال له مدعم أهداه له بعض بني الضبيب فبينما هو يحط رحل رسول الله صلى الله عليه و سلم إذ جاءه سهم عاثر حتى أصاب ذلك العبد فقال الناس : هنيئا له الشهادة فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ كلا و الذي نفسي بيده إن الشملة التي أصابها يوم خيبر لم تصبها المقاسم لتشتعل عليه نارا ]
فجاء رجل حين سمع ذلك من رسول الله صلى الله عليه و سلم بشراك أو شراكان فقال : هذا شيء كنت أصبته فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ شراك أو شراكين من النار ] (3/392)
قال البخاري : [ رواه عروة عن عائشة عن النبي صلى الله عليه و سلم ثم قال : حدثنا عبد الله بن يوسف حدثنا الليث حدثني سعيد عن أبي هريرة قال : لما فتحت خيبر أهديت لرسول الله صلى الله عليه و سلم شاة فيها سم ]
هكذا أورده هاهنا مختصرا
و قد قال الإمام أحمد : [ حدثنا حجاج حدثنا ليث عن سعيد بن أبي سعيد عن أبي هريرة قال : لما فتحت خيبر أهديت للنبي صلى الله عليه و سلم شاة فيها سم فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : اجمعوا لي من كان هاهنا من يهود فجمعوا له فقال النبي صلى الله عليه و سلم : إني سائلكم عن شيء فهل أنتم صادقي عنه ؟ قالوا : نعم يا أبا القاسم فقال لهم رسول الله صلى الله عليه و سلم : من أبوكم ؟ قالوا أبونا فلان فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : كذبتم بل أبوكم فلان قالوا : صدقت و بررت فقال : هل أنتم صادقي عن شيء إذا سألتكم عنه ؟ قالوا : نعم يا أبا القاسم و إن كذبنا عرفت كذبنا كما عرفته في أبينا فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : من أهل النار ؟ فقالوا : نكون فيها يسيرا ثم تخلفونا فيها
فقال لهم رسول الله صلى الله عليه و سلم و الله لا نخلفكم فيها أبدا
ثم قال لهم : هل أنتم صادقي عن شيء إذا سألتكم ؟ فقالوا : نعم يا أبا القاسم فقال : هل جعلتم في هذه الشاة سما ؟ فقالوا : نعم قال : ما حملكم على ذلك ؟ قالوا : أردنا إن كنت كاذبا أن نستريح منك و إن كنت نبيا لم يضرك ]
و قد رواه البخاري في الجزية عن عبد الله بن يوسف و في المغازي أيضا عن قتيبة كلاهما عن الليث به و قال البيهقي : [ أنبأنا أبو عبد الله الحافظ أنبأنا أبو العباس الأصم حدثنا سعيد بن سليمان حدثنا عباد بن العوام عن سفيان بن حسين عن الزهري عن سعيد بن المسيب و أبي سلمة بن عبد الرحمن عن أبي هريرة أن امرأة من يهود أهدت لرسول الله صلى الله عليه و سلم شاة مسمومة فقال لأصحابه : أمسكوا فإنها مسمومة و قال لها : ما حملك على ما صنعت ؟ قالت : أردت أن أعلم إن كنت نبيا فسيطلعك الله عليه و إن كنت كاذبا أريح الناس منك قال : فما عرض لها رسول الله صلى الله عليه و سلم ]
رواه أبو داود عن هارون بن عبد الله عن سعيد بن سليمان به
ثم روى البيهقي عن طريق عبد الملك بن أبي نضرة عن أبيه عن جابر بن عبد الله نحو ذلك
و قال الإمام أحمد : [ حدثنا شريح حدثنا عباد عن هلال ـ هو ابن خباب ـ عن عكرمة عن ابن عباس أن امرأة من اليهود أهدت لرسول الله صلى الله عليه و سلم شاة مسمومة فأرسل إليها فقال : ما حملك على ما صنعت ؟ قالت : أحببت ـ أو أردت ـ إن كنت نبيا فإن الله سيطلعك عليه و إن لم تكن نبيا أريح الناس منك
قال : فكان رسول الله صلى الله عليه و سلم إذا وجد من ذلك شيئا احتجم قال : فسافر مرة فلما أحرم وجد من ذلك شيئا فاحتجم ]
تفرد به أحمد و إسناده حسن
و في الصحيحين [ من حديث شعبة عن هشام بن زيد عن أنس بن مالك أن امرأة يهودية أتت رسول الله صلى الله عليه و سلم بشاة مسمومة فأكل منها فجيء بها إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فسألها عن ذلك قالت : أردت لأقتلك فقال : ما كان الله ليسلطك علي أو قال : على ذلك قالوا : ألا تقتلها ؟ قال : لا ]
قال أنس : فما زلت أعرفها في لهوات رسول الله صلى الله عليه و سلم
و قال أبو داود : [ حدثنا سليمان بن داود المهري حدثنا ابن وهب أخبرني يونس عن ابن شهاب قال : كان جابر بن عبد الله يحدث أن يهودية من أهل خيبر سمت شاة مصلية ثم أهدتها لرسول الله صلى الله عليه و سلم فأخذ رسول الله صلى الله عليه و سلم الذراع فأكل منها و أكل رهط من أصحابه معه ثم قال لهم رسول الله صلى الله عليه و سلم : ارفعوا أيديكم
و أرسل رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى المرأة فدعاها فقال لها : أسممت هذه الشاة ؟ قالت اليهودية : من أخبرك ؟ قال : أخبرتني هذه التي في يدي و هي الذراع قالت : نعم قال : فما أردت بذلك ؟ قالت : قلت : إن كنت نبيا فلن تضرك و إن لم تكن نبيا استرحنا منك
فعفا عنها رسول الله صلى الله عليه و سلم و لم يعاقبها و توفي بعض أصحابه الذين أكلوا من الشاة و احتجم النبي صلى الله عليه و سلم على كاهله من أجل الذي أكل من الشاة حجمه أبو هند بالقرن و الشفرة و هو مولى لبني بياضة من الأنصار ]
ثم قال أبو داود : [ حدثنا وهب بن بقية حدثنا خالد عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة أن رسول الله صلى الله عليه و سلم أهدت له يهودية بخيبر شاة مصلية نحو حديث جابر قال : فمات بشر بن البراء بن معرور فأرسل إلى اليهودية فقال : ما حملك على الذي صنعت ؟ فذكر نحو حديث جابر فأمر رسول الله صلى الله عليه و سلم فقتلت و لم يذكر أمر الحجامة ]
قال البيهقي : و رويناه من حديث حماد بن سلمة عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة
قال : و يحتمل أنه لم يقتلها في الإبتداء ثم لما مات بشر بن البراء أمر بقتلها
و روى البيهقي [ من حديث عبد الرزاق عن معمر عن الزهري عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك أن امرأة يهودية أهدت إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم شاة مصلية بخيبر فقال : ما هذه ؟ قالت : هدية و حذرت أن تقول صدقة فلا يأكل
قال : فأكل و أصحابه ثم قال : أمسكوا ثم قال للمرأة : هل سممت ؟ قالت : من أخبرك هذا ؟ قال : هذا العظم لساقها و هو في يده قالت : نعم قال : لم قالت : أردت إن كنت كاذبا أن نستريح منك و إن كنت نبيا لم يضرك قال : فاحتجم رسول الله صلى الله عليه و سلم على الكاهل و أمر أصحابه فاحتجموا و مات بعضهم ]
قال الزهري : فأسلمت فتركها النبي صلى الله عليه و سلم
قال البيهقي : هذا مرسل و لعله قد يكون عبد الرحمن حمله عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه
و ذكر ابن لهيعة [ عن أبي الأسود عن عروة و كذلك موسى بن عقبة عن الزهري قالوا : لما فتح رسول الله صلى الله عليه و سلم خيبر و قتل منهم من قتل أهدت زينب بنت الحارث اليهودية و هي ابنة أخي مرحب لصفية شاة مصلية و سمتها و أكثرت في الكتف و الذراع لأنه بلغها أنه أحب أعضاء الشاة إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم
فدخل رسول الله صلى الله عليه و سلم على صفية و معه بشر بن البراء بن معرور و هو أحد بني سلمة فقدمت إليهم الشاة المصلية فتناول رسول الله صلى الله عليه و سلم الكتف و انتهش منها و تناول بشر عظما فانتهش منه فلما استرط رسول الله صلى الله عليه و سلم لقمته استرط بشر بن البراء ما في فيه فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : ارفعوا أيديكم فإن كتف هذه الشاة يخبرني أني نعيت فيها فقال بشر بن البراء : و الذي أكرمك لقد وجدت ذلك في أكلتي التي أكلت فما منعني أن ألفظها إلا أني أعظمتك أن أبغضك طعامك فلما أسغت ما في فيك لم أرغب بنفسي عن نفسك و رجوت أن لا تكون استرطتها و فيها نعي فلم يقم بشر من مكانه حتى عاد لونه كالطيلسان و ماطله وجعه حتى كان لا يتحول حتى يحول ]
قال الزهري : [ قال جابر : و احتجم رسول الله صلى الله عليه و سلم يومئذ حجمه مولى بني بياضة بالقرن و الشفرة و بقي رسول الله صلى الله عليه و سلم بعده ثلاث سنين حتى كان وجعه الذي توفي فيه فقال : ما زلت أجد من الأكلة التي أكلت من الشاة يوم خيبر عدادا حتى كان هذا أوان انقطاع أبهري ]
فتوفي رسول الله صلى الله عليه و سلم شهيدا
و قال محمد بن إسحاق : [ فلما اطمأن رسول الله صلى الله عليه و سلم أهدت له زينب بنت الحارث امرأة سلام ابن مشكم شاة مصلية و قد سألت أي عضو أحب إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فقيل لها الذراع فأكثرت فيها من السم ثم سمت سائر الشاة ثم جاءت بها فلما وضعتها بين يديه تناول الذراع فلاك منها مضغة فلم يسغها و معه بشر بن البراء بن معرور قد أخذ منها كما أخذ رسول الله صلى الله عليه و سلم فأما بشر فأساغها و أما رسول الله صلى الله عليه و سلم فلفظها ثم قال : إن هذا العظم يخبرني أنه مسموم
ثم دعا بها فاعترفت فقال : ما حملك على ذلك قالت : بلغت من قومي ما لم يخف عليك فقلت : إن كان كذابا استرحت منه و إن كان نبيا فسيخبر
قال : فتجاوز عنها رسول الله صلى الله عليه و سلم و مات بشر من أكلته التي أكل ]
قال ابن إسحاق : [ و حدثني مروان بن عثمان بن أبي سعيد بن المعلى قال : كان رسول الله صلى الله عليه و سلم قد قال في مرضه الذي توفي فيه ـ و دخلت عليه أخت بشر بن البراء بن معرور ـ : يا أم بشر إن هذا الأوان وجدت فيه انقطاع أبهري من الأكلة التي أكلت مع أخيك بخيبر ]
قال ابن هشام : الأبهر : العرق المعلق بالقلب
قال : فإن كان المسلمون ليرون أن رسول الله صلى الله عليه و سلم مات شهيدا مع ما أكرمه الله به من النبوة
و قال الحافظ أبو بكر البزار : [ حدثنا هلال بن بشر و سليمان بن يوسف الحراني قالا : حدثنا أبو غياث سهل بن حماد حدثنا عبد الملك بن أبي نضرة عن أبيه عن أبي سعيد الخدري أن يهودية أهدت إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم شاة سميطا فلما بسط القوم أيديهم قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : أمسكوا فإن عضوا من أعضائها يخبرني أنها مسمومة فأرسل إلى صاحبتها : أسممت طعامك ؟ قالت : نعم قال : ما حملك على ذلك ؟ قالت : إن كنت كذابا أن أريح الناس منك و إن كنت صادقا علمت أن الله سيطلعك عليه
فبسط يده و قال : كلوا بسم الله قال : فأكلنا و ذكرنا اسم الله فلم يضر أحدا منا ]
ثم قال : لا يروى عن عبد الملك بن أبي نضرة إلا من هذا الوجه
قلت : و فيه نكارة و غرابة شديدة و الله أعلم
و ذكر الواقدي [ أن عيينة بن حصن قبل أن يسلم رأى في منامه رؤيا و رسول الله صلى الله عليه و سلم محاصر خيبر فطمع من رؤياه أن يقاتل رسول الله صلى الله عليه و سلم فيظفر به فلما قدم على رسول الله صلى الله عليه و سلم خيبر وجده قد افتتحها فقال : يا محمد أعطني ما غنمت من حلفائي ـ يعني أهل خيبر ـ فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : كذبت رؤياك و أخبره بما رأى
فرجع عيينة فلقيه الحارث بن عوف فقال : ألم أقل إنك توضع في غير شيء و الله ليظهرن محمد على ما بين المشرق و المغرب و إن يهود كانوا يخبروننا بهذا أشهد لسمعت أبا رافع سلام بن أبي الحقيق يقول : إنا لنحسد محمدا على النبوة حيث خرجت من بني هارون إنه لمرسل و يهود لا تطاوعني على هذا و لنا منه ذبحان واحد بيثرب و آخر بخيبر قال الحارث : قلت لسلام : يملك الأرض ؟ قال : نعم و التوراة التي أنزلت على موسى وما أحب أن تعلم يهود بقولي فيه ] (3/394)
قال ابن إسحاق : فلما فرغ رسول الله صلى الله عليه و سلم من خيبر انصرف إلى وادي القرى فحاصر أهلها ليالي ثم انصرف راجعا إلى المدينة
ثم ذكر من قصة مدعم و كيف جاءه سهم غارب فقتله و قال الناس : هنيئا له الشهادة فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ كلا و الذي نفسي بيده إن الشملة التي أخذها يوم خيبر لم يصبها المقاسم لتشتعل عليه نارا ]
و قد تقدم في صحيح البخاري نحو ما ذكره ابن إسحاق و الله أعلم
و سيأتي ذكر قتاله عليه السلام بوادي القرى
قال الإمام أحمد : [ حدثنا يحيى بن سعيد عن محمد بن يحيى بن حبان عن أبي عمرة عن زيد بن خالد الجهني أن رجلا من أشجع من أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم توفي يوم خيبر فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه و سلم فقال : صلوا على صاحبكم فتغير وجوه الناس من ذلك فقال : إن صاحبكم غل في سبيل الله ففتشنا متاعه فوجدنا خرزا من خرز يهود ما يساوي درهمين ]
و هكذا رواه أبو داود و النسائي من حديث يحيى بن سعيد القطان و رواه أبو داود و بشر بن المفضل و ابن ماجة من حديث الليث بن سعد ثلاثتهم عن يحيى بن سعيد الأنصاري به
و قد ذكر البيهقي أن بني فزارة أرادوا أن يقاتلوا رسول الله صلى الله عليه و سلم مرجعه من خيبر و تجمعوا لذلك فبعث إليهم يواعدهم موضعا معينا فلما تحققوا ذلك هربوا كل مهرب و ذهبوا من طريقه كل مذهب
و تقدم أن رسول الله صلى الله عليه و سلم لما حلت صفية من استبرائها دخل بها بمكان يقال له سد الصهباء في أثناء طريقه إلى المدينة و أولم عليها بحيس و أقام ثلاثة أيام يبني عليه بها و أسلمت فأعتقها و تزوجها و جعل عتاقها صداقها و كانت إحدى أمهات المؤمنين كما فهمه الصحابة لما مد عليها الحجاب و هو مردفها وراءه رضي الله عنها
و ذكر محمد بن إسحاق في السيرة قال : لما أعرس رسول الله صلى الله عليه و سلم بصفية بخيبر ـ أو ببعض الطريق ـ و كانت التي جملتها إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم و مشطتها و أصلحت من أمرها أم سليم بنت ملحان أم أنس بن مالك و بات بها رسول الله صلى الله عليه و سلم في قبة له و بات أبو أيوب متوشحا بسيفه يحرس رسول الله صلى الله عليه و سلم و يطيف بالقبة حتى أصبح فلما رأى رسول الله صلى الله عليه و سلم مكانه قال : [ مالك يا أبا أيوب ؟ ] قال : خفت عليك من هذه المرأة و كانت امرأة قد قتلت أباها و زوجها و قومها و كانت حديثة عهد بكفر فخفتها عليك فزعموا أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ اللهم احفظ أبا أيوب كما بات يحفظني ]
ثم قال : [ حدثني الزهري عن سعيد بن المسيب فذكر نومهم عن صلاة الصبح مرجعهم من خيبر و أن رسول الله صلى الله عليه و سلم كان أولهم استيقاظا فقال : ماذا صنعت بنا يا بلال ؟ قال : يا رسول الله أخذ بنفسي الذي بنفسك قال : صدقت ثم اقتاد ناقته غير كثير ثم نزل فتوضأ و صلى كما كان يصليها قبل ذلك ]
و هكذا رواه مالك عن الزهري عن سعيد مرسلا و هذا مرسل من هذا الوجه
و قد قال أبو داود : [ حدثنا أحمد بن صالح حدثنا ابن وهب أخبرني يونس عن ابن شهاب عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه و سلم حين قفل من غزوة خيبر فسار ليلة حتى إذا أدركنا الكرى عرس و قال لبلال : اكلأ لنا الليل قال : فغلبت بلالا عيناه و هو مستن إلى راحلته فلم يستيقظ النبي صلى الله عليه و سلم و لا بلال و لا أحد من أصحابه حتى ضربتهم الشمس و كان رسول الله صلى الله عليه و سلم أولهم استيقاظا ففزع رسول الله صلى الله عليه و سلم و قال : يا بلال قال : أخذ بنفسي الذي أخذ بنفسك بأبي أنت و أمي يا رسول الله قال فاقتادوا رواحلهم شيئا ثم توضأ رسول الله صلى الله عليه و سلم فأمر بلالا فأقام الصلاة و صلى لهم الصبح فلما أن قضى الصلاة قال : من نسي صلاة فليصلها إذا ذكرها فإن الله تعالى يقول : { و أقم الصلاة لذكري } ]
قال يونس : و كان ابن شهاب يقرأها كذلك
و هكذا رواه مسلم عن حرملة بن يحيى عن عبد الله بن وهب به و فيه أن ذلك كان مرجعهم من خيبر و في حديث شعبة عن جامع بن شداد عن عبد الرحمن بن أبي علقمة عن ابن مسعود أن ذلك كان مرجعهم من الحديبية ففي رواية عنه أن بلالا هو الذي كان يكلؤهم و في رواية عنه أنه هو الذي كان يلكؤهم
قال الحافظ البيهقي : فيحتمل أن ذلك كان مرتين قال : و في حديث عمران بن حصين و أبي قتادة نومهم عن الصلاة و فيه حديث الميضأة فيحتمل أن ذلك إحدى هاتين المرتين أو مرة ثالثة
قال : و ذكر الواقدي في حديث أبي قتادة أن ذلك كان مرجعهم من غزوة تبوك
قال : و روى زافر بن سليمان عن شعبة عن جامع بن شداد عن عبد الرحمن عن ابن مسعود أن ذلك كان مرجعهم من تبوك فالله أعلم
ثم أورد البيهقي ما رواه صاحب الصحيح من قصة عوف الأعرابي عن أبي رجاء عن عمران بن حصين في قصة نومهم عن الصلاة و قصة المرأة صاحبة السطيحتين و كيف أخذوا منهما ماء روى الجيش بكماله و لم ينقص ذلك منهما شيئا
ثم ذكر ما رواه مسلم من حديث ثابت البناني عن عبد الله بن رباح عن أبي قتادة و هو حديث طويل و فيه نومهم عن الصلاة و تكثير الماء من تلك الميضأة و قد رواه عبد الرزاق عن معمر عن قتادة
و قال البخاري : [ حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا عبد الواحد عن عاصم عن أبي عثمان عن أبي موسى الأشعري قال : لما غزا رسول الله صلى الله عليه و سلم خيبرا و قال : لما توجه رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى خيبر أشرف الناس على واد فرفعوا أصواتهم بالتكبير : الله أكبر لا إله إلا الله فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : اربعوا على أنفسكم إنكم لا تدعون أصم و لا غائبا إنكم تدعون سميعا قريبا و هو معكم و أنا خلف دابة رسول الله صلى الله عليه و سلم فسمعني و أنا أقول : لا حول و لا قوة إلا بالله فقال : يا عبد الله بن قيس قلت : لبيك يا رسول الله قال : ألا أدلك على كلمة من كنز الجنة ؟ قلت : بلى يا رسول الله فداك أبي و أمي قال : لا حول و لا قوة إلا بالله ]
و قد رواه بقية الجماعة من طرق عن عبد الرحمن بن مل أبي عثمان النهدي عن أبي موسى الأشعري
و الصواب أنه كان مرجعهم من خيبر فإن أبا موسى إنما قدم بعد فتح خيبر كما تقدم (3/401)
قال ابن إسحاق : و كان رسول الله صلى الله عليه و سلم ـ فيما بلغني ـ قد أعطى ابن لقيم العبسي حين افتتح خيبر ما بها من دجاجة أو داجن و كان فتح خيبر في صفر فقال ابن لقيم في فتح خيبر :
( رميت نطاة من الرسول بفيلق ... شهباء ذات مناكب و فقار )
( و استيقنت بالذل لما شيعت ... و رجال أسلم وسطها و غفار )
( صبحت بني عمرو بن زرعة غدوة ... و الشق أظلم أهله بنهار )
( جرت بأبطحها الذيول فلم تدع ... إلا الدجاج تصيح بالأسحار )
( و لكل حصن شاغل من خيلهم ... من عبد الأشهل أو بني النجار )
( و مهاجرين قد أعلموا سماهم ... فوق المغافر لم ينو لفرار )
( و لقد علمت ليغلبن محمد ... و ليثوين بها إلى أصفار )
( فرت يهود عند ذلك في الوغى ... تحت العجاج غمائم الأبصار ) (3/405)
على ما ذكره ابن إسحاق بن بشار رحمه الله و غيره من أصحابه المغازي
فمن خير المهاجرين ربيعة بن أكثم بن سخبرة الأسدي مولى بني أمية و ثقيف بن عمرو و رفاعة بن مسروح حلفاء بني أمية و عبد الله بن الهبيب بن أهيب بن سحيم بن غيرة من سعد بن ليث حليف بني أسد و ابن أختهم و من الأنصار بشر بن البراء بن معرور من أكلة الشاة المسمومة مع رسول الله صلى الله عليه و سلم كما تقدم و فضيل بن النعمان السلميان و مسعود بن سعد بن قيس بن خالد بن عامر بن زريق الزرقي و محمود بن مسلمة الأشهلي و أبو ضياح حارثة بن ثابت بن النعمان العمري و الحارث بن حاطب و عروة بن مرة بن سراقة و أوس [ بن ] الفائد و أنيف بن حبيب و ثابت بن أثلة و طلحة و عمارة بن عقبة رمى بسهم فقتله و عامر بن الأكوع ثم سلمة بن عمرو بن الأكوع أصابه طرف سيفه في ركبته فقتله رحمه الله كما تقدم و الأسود الراعي و قد أفرد ابن إسحاق هاهنا قصته و قد أسلفناها في أوائل الغزوة و لله الحمد والمنة
قال ابن إسحاق : و ممن استشهد بخيبر فيما ذكره ابن شهاب من بني زهرة مسعود بن ربيعة حليف لهم من القارة ومن الأنصار ثم من بني عمرو بن عوف أوس بن قتادة رضي الله عنهم أجمعين (3/406)
قال ابن إسحاق : و لما فتحت خيبر كلم رسول الله صلى الله عليه و سلم الحجاج بن علاط السلمي ثم البهزي فقال : يا رسول الله إن لي بمكة مالا عند صاحبتي أم شيبة بنت أبي طلحة ـ و كانت عنده له منها معرض بن الحجاج ـ و مالا متفرقا في تجار أهل مكة فأذن لي يا رسول الله فأذن له فقال : إنه لا بد لي يا رسول الله من أن أقول قال : قل
قال الحجاج : فخرجت حتى إذا قدمت مكة وجدت بثنية البيضاء رجالا من قريش يستمعون الأخبار و يسألون عن أمر رسول الله صلى الله عليه و سلم و قد بلغهم أنه قد سار إلى خيبر و قد عرفوا أنها قرية الحجاز ريفا و منعة و رجالا و هم يتجسسون الأخبار من الركبان
فلما رأوني قالوا : الحجاج بن علاط ـ قال : و لم يكونوا علموا بإسلامي ـ عنده و الله الخبر أخبرنا يا أبا محمد فإنه قد بلغنا أن القاطع قد سار إلى خيبر و هي بلد يهود و ريف الحجاز قال : قلت : قد بلغني ذلك و عندي من الخبر ما يسركم فالتبطوا بجنبي ناقتي يقولون : إيه يا حجاج ؟ قال : قلت : هزم هزيمة لم تسمعوا بمثلها قط و قد قتل أصحابه قتلا لم تسمعوا بمثله قط و أسر محمد أسرا و قالوا : لا نقتله حتى نبعث به إلى مكة [ فيقتلوه بين أظهرهم بمن كان أصاب من رجالهم قال : فقاموا و صاحوا بمكة ] و قالوا : قد جاءكم الخبر و هذا محمد إنما تنتظرون أن يقدم به عليكم فيقتل بين أظهركم
قال : قلت : أعينوني على جمع مالي بمكة و على غرمائي فإني أريد أن أقدم خيبر فأصيب من فل محمد و أصحابه قبل أن يسبقني التجار إلى ما هنالك قال : فقاموا فجمعوا لي ما كان لي كأحث جمع سمعت به قال : و جئت صاحبتي فقلت : مالي و كان لي عندها مال موضوع فلعلي ألحق بخيبر فأصيب من فرص البيع قبل أن يسبقني التجار
قال : فلما سمع العباس بن عبد المطلب الخبر و ما جاءه عني أقبل حتى وقف إلى جنبي و أنا في خيمة من خيم التجار فقال : يا حجاج ما هذا الذي جئت به ؟ قال : قلت : و هل عندك حفظ لما وضعت عندك ؟ قال : نعم قال : قلت : فاستأخر حتى ألقاك على خلاء فإني في جمع مالي كما ترى فانصرف حتى أفرغ قال : حتى إذا فرغت من جمع كل شيء كان لي بمكة و أجمعت الخروج لقيت العباس فقلت : احفظ علي حديثي يا أبا الفضل فإني أخشى الطلب ثلاثا ثم قل ما شئت قال : أفعل قلت : فإني و الله تركت ابن أخيك عروسا على بنت ملكهم ـ يعني صفية بنت حيي ـ و قد افتتح خيبر و انتثل ما فيها و صارت له و لأصحابه قال : ما تقول يا حجاج ؟ قال : قلت : إى و الله فاكتم عني و لقد أسلمت و ما جئت إلا لآخذ مالي فرقا عليه من أغلب عليه فإذا مضت ثلاث فأظهر أمرك فهو و الله على ما تحب قال : حتى إذا كان اليوم الثالث لبس العباس حلة له و تخلق و أخذ عصاه ثم خرج حتى أتى الكعبة فطاف بها فلما رأوه قالوا : يا أبا الفضل هذا و الله التجلد لحر المصيبة ! قال : كلا و الله الذي حلفتم به لقد افتتح محمد خيبر و نزل عروسا على بنت ملكهم و أحرز أموالهم و ما فيها و أصبحت له و لأصحابه قالوا : من جاءك بهذا الخبر ؟ قال : الذي جاءكم بما جاءكم به و لقد دخل عليكم مسلما و أخذ أمواله فانطلق ليلحق بمحمد و أصحابه فيكون معه فقالوا : يا لعباد الله ! انفلت عدو الله أما و الله لو علمنا لكان لنا و له شأن قال : و لم ينشبوا أن جاءهم الخبر بذلك
و هكذا ذكره ابن إسحاق هذه القصة منقطعة
و قد أسند ذلك الإمام أحمد بن حنبل فقال : حدثنا عبد الرزاق حدثنا معمر سمعت ثابت يحدث عن أنس قال : لما افتتح رسول الله صلى الله عليه و سلم خيبر قال الحجاج بن علاط : يا رسول الله إن لي بمكة مالا و إن لي بها أهلا و إني أريد أن آتيهم أفأنا في حل إن نلت منك أو قلت شيئا ؟ فأذن رسول الله صلى الله عليه و سلم أن يقول يقول ما شاء امرأته حين قدم فقال : اجمعي لي ما كان عندك فإني أريد أن أشتري من غنائم محمد و أصحابه فإنهم قد استبيحوا و أصيبت أموالهم
قال : و فشا ذلك بمكة فانقمع المسلمون و أظهر المشركون فرحا و سرورا
قال : و بلغ الخبر العباس فعقر و جعل لا يستطيع أن يقوم قال معمر : فأخبرني عثمان الخزرجي عن مقسم قال : فأخذ ابنا يقال له قثم و استلقى ووضعه على صدره و هو يقول
( حبي قثم ... شبه ذي الأنف الأشم )
( بني ذي النعم ... برغم من زعم )
قال : ثابت عن أنس : ثم أرسل غلاما له إلى حجاج بن علاط فقال : ويلك ما جئت به و ماذا تقول ؟ فما وعد الله خير مما جئت به فقال : حجاج بن علاط : اقرأ على أبي الفضل السلام و قل له فليخل لي في بعض بيوته لآتيه فإن الخبر على ما يسره فجاء غلامه فلما بلغ الدار قال : أبشر يا أبا الفضل قال : فوثب العباس فرحا حتى قبل بين عينيه فأخبره ما قال حجاج فأعتقه
قال : ثم جاءه الحجاج فأخبره أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قد افتتح خيبر و غنم أموالهم و جرت سهام الله في أموالهم و اصطفى رسول الله صلى الله عليه و سلم صفية بنت حيي و اتخذها لنفسه و خيرها أن يعتقها و تكون زوجه أو تلحق بأهلها فاختارت أن يعتقها و تكون زوجته قال : و لكني جئت لمال كان هاهنا أردت أن أجمعه فأذهب به فاستأذنت رسول الله صلى الله عليه و سلم فأذن لي أن أقول ما شئت فأخف علي ثلاثا ثم اذكر ما بدا لك
قال : فجمعت امرأته ما كان عندها من حلي أو متاع فجمعته و دفعته إليه ثم انشمر به فلما كان بعد ثلاث أتى العباس امرأة الحجاج فقال ما فعل زوجك ؟ فأخبرته أنه ذهب يوم كذا و كذا و قالت : لا يحزنك الله يا أبا الفضل لقد شق علينا الذي بلغك قال : أجل لا يحزنني الله و لم يكن بحمد الله إلا ما أحببنا فتح الله خيبر على رسوله و جرت فيها سهام الله و اصطفى رسول الله صلى الله عليه و سلم صفية لنفسه فإن كانت لك حاجة في زوجك فالحقي به قالت : أظنك و الله صادقا ؟ قال : فإني صادق و الأمر على ما أخبرتك ثم ذهب حتى أتى مجالس قريش و هم يقولون إذا مر بهم : لا يصيبك إلا خير يا أبا الفضل لم يصبني إلا خير بحمد الله أخبرني الحجاج بن علاط أن خيبر فتحها الله على رسوله و جرت فيها سهام الله و اصطفى صفية لنفسه و قد سألني أن أخفي عنه ثلاثا و إنما جاء ليأخذ ماله و ما كان له من شيء هاهنا ثم يذهب
قال : فرد الله الكآبة التي كانت بالمسلمين على المشركين و خرج المسلمون من كان دخل بيته مكتئبا حتى أتى العباس فأخبرهم الخبر فسر المسلمون و رد ما كان من كآبة أو غيظ أو حزن على المشركين
و هذا الإسناد على شرط الشيخين و لم يخرجه أحد من أصحاب الكتب الستة سوى النسائي عن إسحاق بن إبراهيم عن عبد الرزاق به نحوه
و رواه الحافظ البيهقي من طريق محمود بن غيلان عن عبد الرزاق و رواه أيضا من طريق يعقوب بن سفيان عن زيد بن المبارك عن محمد بن ثور عن معمر به نحوه و كذلك ذكر موسى بن عقبة في مغازيه أن قريشا كان بينهم تراهن عظيم و تبايع منهم من يقول : يظهر محمد و أصحابه ومنهم من يقول : يظهر الحليفان و يهود خيبر و كان الحجاج بن علاط السلمي ثم البهزي قد أسلم و شهد مع رسول الله صلى الله عليه و سلم فتح خيبر و كان تحته أم شيبة أخت عبد الدار بن قصي و كان الحجاج مكثرا من المال و كانت له معادن أرض بني سليم فلما ظهر رسول الله صلى الله عليه و سلم على خيبر استأذن الحجاج رسول الله صلى الله عليه و سلم في الذهاب إلى مكة يجمع أمواله فأذن له نحو ما تقدم و الله أعلم
قال السهيلي رحمه الله : و روينا في سبب إسلام الحجاج هذا أمرا عجيبا مع الجن
قال : و هو والد نصر بن حجاج الذي نفاه عمر بن الخطاب رضي الله عنه من المدينة بسبب افتتان بعض جواري المدينة و فيه تقول الفريعة بنت همام أم الحجاج بن يوسف الثقفي :
( ألا سبيل إلى خمر فأشربها ... و لا سبيل إلى نصر بن حجاج )
قال : فلما ذهب إلى الشام فهوى امرأة أبي الأسود السلمي و أضنى من حبها و كان يقال له الضنى ومات بذلك
قال ابن إسحاق : و مما قيل من الشعر في غزوة خيبر قول حسان :
( بئس ما قاتلت خيابر عما ... جمعوا من مزارع و نخيل )
( كرهوا الموت فاستبيح حماهم ... و أقروا فعل الذميم الذليل )
( أمن الموت يهربون فإن المو ... ت موت الهزال غير جميل )
و قال كعب بن مالك فيما ذكره ابن هشام عن أبي زيد الأنصاري :
( و نحن وردنا خيبرا و فروضه ... بكل فتى عاري الأشاجع مذود )
( جواد لدى الغايات لا واهن القوى ... جريء على الأعداء في كل مشهد )
( عظيم رماد القدر في كل شتوة ... ضروب بنصل المشرفي المهند )
( يرى القتل مدحا إن أصاب شهادة ... من الله يرجوها و فوزا بأحمد )
( يذود و يحمي عن ذمار محمد ... و يدفع عنه باللسان و باليد )
( و ينصره من كل أمر يريبه ... يجود بنفس دون نفس محمد )
( يصدق بالأنباء بالغيب مخلصا ... يريد بذاك العز و الفوز في غد ) (3/407)
قال الواقدي : [ حدثني عبد الرحمن بن عبد العزيز عن الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال : خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه و سلم من خيبر إلى وادي القرى و كان رفاعة بن زيد بن وهب الجذامي قد وهب لرسول الله صلى الله عليه و سلم عبدا أسود يقال له مدعم فكان يرحل لرسول الله صلى الله عليه و سلم فلما نزلنا بوادي القرى انتهينا إلى يهود و قدم إليها ناس من العرب فبينا مدعم يحط رحل رسول الله صلى الله عليه و سلم قد استقبلتنا يهود بالرمي حين نزلنا و لم نكن على تعبية و هم يصيحون في آطامهم فيقبل سهم عائر فأصاب مدعما فقتله فقال الناس : هنيئا له الجنة فقال النبي صلى الله عليه و سلم : كلا و الذي نفسي بيده إن الشملة التي أخذها يوم خيبر من المغانم لم تصبها المقاسم لتشتعل عليه نارا فلما سمع بذلك الناس جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم بشراك أو شراكين فقال النبي صلى الله عليه و سلم : شراك من نار أو شراكان من نار و هذا الحديث في الصحيحين من حديث مالك عن ثور بن يزيد عن أبي الغيث عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم بنحوه ]
قال الواقدي : فعبى رسول الله أصحابه للقتال و صفهم و دفع لواءه إلى سعد بن عبادة و راية إلى الحباب بن المنذر و راية إلى سهل بن حنيف و راية إلى عباد بن بشر ثم دعاهم إلى الإسلام و أخبرهم إن أسلموا أحرزوا أموالهم و حقنوا دماءهم و حسابهم على الله
قال : فبرز رجل منهم فبرز إليه الزبير بن العوام فقتله ثم برز آخر فبرز إليه علي فقتله حتى قتل منهم أحد عشر رجلا كلما قتل منهم رجلا دعا من بقي منهم إلى الإسلام
و لقد كانت الصلاة تحضر ذلك اليوم فيصلي بأصحابه ثم يعود فيدعوهم إلى الإسلام و إلى الله عز جل و رسوله و قاتلهم حتى أمسى و غدا عليهم فلم ترتفع الشمس قيد رمح حتى أعطوا بأيديهم و فتحها عنوة و غنمهم الله أموالهم و أصابوا أثاثا و متاعا كثيرا
و أقام رسول الله صلى الله عليه و سلم بوادي القرى أربعة أيام فقسم ما أصاب على أصحابه و ترك الأرض و النخيل في أيدي اليهود و عاملهم عليها فلما بلغ يهود تيماء ما وطىء به رسول الله صلى الله عليه و سلم خيبر و فدك ووادي القرى صالحوا رسول الله صلى الله عليه و سلم على الجزية و أقاموا بأيديهم أموالهم
فلما كان عمر أخرج يهود خيبر و فدك و لم يخرج أهل تيماء ووادي القرى لأنهما داخلتان في أرض الشام و يرى أن ما دون وادي القرى إلى المدينة حجاز و من وراء ذلك من الشام
قال : ثم انصرف رسول الله صلى الله عليه و سلم راجعا إلى المدينة بعد أن فرغ من خيبر ووادي القرى و غنمه الله عز و جل
قال الواقدي : حدثني يعقوب بن محمد عن عبد الرحمن بن عبد الله بن أبي صعصعة عن الحارث بن عبد الله بن كعب عن أم عمارة قالت : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم بالجرف و هو يقول : [ لا تطرقوا النساء بعد صلاة العشاء ] قالت : فذهب رجل من الحي فطرق أهله فوجد ما يكره فخلى سبيلها و لم يهجر و ضن بزوجته أن يفارقها و كان له منها أولاد و كان يحبها فعصى رسول الله صلى الله عليه و سلم فرأى ما يكره (3/412)
ثبت في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه و سلم لما افتتح خيبر عامل يهودها عليها على شطر ما يخرج منها من تمر أو زرع
و قد ورد في بعض ألفاظ هذا الحديث على أن يعملوها من أموالهم و في بعضها : و قال : لهم النبي صلى الله عليه و سلم : [ نقركم فيها ما شئنا ]
و في السنن أنه كان يبعث عليهم عبد الله بن رواحة يخرصها عليهم عند استواء ثمارها ثم يضمنهم إياه فلما قتل عبد الله بن رواحة بمؤتة بعث جبار بن صخر كما تقدم و موضع تحرير ألفاظه و بيان طرقه كتاب المزارعة من كتاب الأحكام إن شاء الله و به الثقة
و قال محمد بن إسحاق : سألت ابن شهاب كيف أعطى رسول الله صلى الله عليه و سلم يهود خيبر نخلهم ؟ فأخبرني أن رسول الله صلى الله عليه و سلم افتتح خيبر عنوة بعد القتال و كانت خيبر مما أفاء الله عليه خمسها و قسمها بين المسلمين و نزل من نزل من أهلها على الجلاء بعد القتال فدعاهم رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : [ إن شئتم دفعت إليكم هذه الأموال على أن تعملوها و تكون ثمارها بيننا و بينكم فأقركم ما أقركم الله ]
فقبلوا و كانوا على ذلك يعملونها و كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يبعث عبد الله بن رواحة فيقسم ثمرها و يعدل عليهم في الخرص
فلما توفى الله نبيه صلى الله عليه و سلم أقرها أبو بكر بأيديهم على المعاملة التي عاملهم عليها رسول الله صلى الله عليه و سلم حتى توفي ثم أقرهم عمر بن الخطاب صدرا من إمارته ثم بلغ عمر أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : في وجعه الذي قبضه الله فيه : [ لا يجتمعن بجزيرة العرب دينان ] ففحص عمر عن ذلك حتى بلغه الثبت فأرسل إلى يهود فقال : إن الله أذن لي في إجلائكم و قد بلغني أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ لا يجتمعن في جزيرة العرب دينان ] فمن كان عنده عهد من رسول الله صلى الله عليه و سلم فليأتني به أنفذه له و من لم يكن عنده عهد فليتجهز للجلاء فأجلى عمر من لم يكن عنده عهد رسول الله صلى الله عليه و سلم
قلت : قد ادعى يهود خيبر في أزمان متأخرة بعد الثلاثمائة أن بأيديهم كتابا من رسول الله صلى الله عليه و سلم فيه أنه وضع الجزية عنهم
و قد اغتر بهذا الكتاب بعض العلماء حتى قال بإسقاط الجزية عنهم من الشافعية الشيخ أبو علي بن خيرون و هو كتاب مزور [ مكذوب مفتعل لا أصل له و قد بينت بطلانه من وجوه عديدة في كتاب مفرد ]
و قد تعرض لذكره و إبطاله جماعة من الأصحاب في كتبهم كابن الصباغ في مسائله و الشيخ أبي الحامد في تعليقته و صنف فيه ابن المسلمة جزءا منفردا للرد عليه و قد تحركوا به بعد السبعمائة و أظهروا كتابا فيه نسخة ما ذكره الأصحاب في كتبهم و قد وقفت عليه فإذا هو مكذوب فإن فيه شهادة سعد بن معاذ و قد كان مات قبل زمن خيبر و فيه شهادة معاوية بن أبي سفيان و لم يكن أسلم يومئذ و في آخره : و كتبه علي بن أبي طالب و هذا لحن و خطأ و فيه وضع الجزية و لم تكن شرعت بعد فإنها إنما شرعت أول ما شرعت و أخذت من أهل نجران و ذكروا أنهم وفدوا في حدود سنة تسع و الله أعلم
ثم قال ابن إسحاق : و حدثني نافع مولى عبد الله بن عمر عن ابن عمر قال : خرجت أنا و الزبير بن العوام و المقداد بن الأسود إلى أموالنا بخيبر نتعاهدها فلما قدمنا تفرقنا في أموالنا قال : فعدي علي تحت الليل و أنا نائم على فراشي ففدعت يداي من مرفقي فلما استصرخ علي صاحباي فأتياني فسألاني من صنع هذا بك ؟ فقلت : لا أدري فأصلحا من يدي ثم قدما بي على عمر فقال : هذا عمل يهود خيبر
ثم قام في الناس خطيبا فقال : أيها الناس إن رسول الله صلى الله عليه و سلم كان عامل يهود خيبر على أنا نخرجهم إذا شئنا و قد عدوا على عبد الله بن عمر ففدعوا يديه كما بلغكم مع عدوتهم على الأنصاري قبله لا نشك أنهم كانوا أصحابه ليس لنا هناك عدو غيرهم فمن كان له مال من خيبرفليلحق به فإني مخرج يهود فأخرجهم
قلت : كان لعمر بن الخطاب سهمه الذي بخيبر و قد كان وقفه في سبيل الله و شرط في الوقف ما أشار به رسول الله صلى الله عليه و سلم كما هو ثابت في الصحيحين و شرط أن يكون النظر فيه للأرشد فالأرشد من بناته و بنيه
قال الحافظ البيهقي في الدلائل : جماع أبواب السرايا التي تذكر بعد فتح خيبر و قبل عمرة القضية و إن كان تاريخ بعضها ليس بالواضح عند أهل المغازي (3/414)
قال الإمام أحمد : [ حدثنا بهز حدثنا عكرمة بن عمار حدثنا إياس بن سلمة حدثني أبي قال : خرجنا مع أبي بكر ابن أبي قحافة و أمره رسول الله صلى الله عليه و سلم علينا فغزونا بني فزارة فلما دنونا من الماء أمرنا أبو بكر فعرسنا فلما صلينا الصبح أمرنا أبو بكر فشننا الغارة فقتلنا على الماء من مر قبلنا
قال سلمة : ثم نظرت إلى عنق من الناس فيه الذرية و النساء نحو الجبل و أنا أعدو في آثارهم فخشيت أن يسبقوني إلى الجبل فرميت بسهم فوقع بينهم و بين الجبل قال : فجئت بهم أسوقهم إلى أبي بكر حتى أتيته على الماء و فيهم امرأة من فزارة عليها قشع من أدم و معها ابنة لها من أحسن العرب قال : فنفلني أبو بكر بنتها قال : فما كشفت لها ثوبا حتى قدمت المدينة ثم بت فلم أكشف لها ثوبا قال : فلقيني رسول الله صلى الله عليه و سلم في السوق فقال لي : يا سلمة هب لي المرأة قال : فقلت : و الله يا رسول الله لقد أعجبتني وما كشفت لها ثوبا قال : فسكت رسول الله صلى الله عليه و سلم و تركني حتى إذا كان من الغد لقيني رسول الله صلى الله عليه و سلم في السوق فقال : يا سلمة هب لي المرأة قال : فقلت : يا رسول الله و الله لقد أعجبتني و ما كشفت لها ثوبا قال : فسكت رسول الله صلى الله عليه و سلم و تركني حتى إذا كان يوم الغد لقيني رسول الله صلى الله عليه و سلم في السوق فقال : يا سلمة هب لي المرأة لله أبوك قال : قلت : يا رسول الله و الله ما كشفت لها ثوبا و هي لك يا رسول الله قال : بعث رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى أهل مكة و في أيديهم أسارى من المسلمين ففداهم رسول الله صلى الله عليه و سلم بتلك المرأة ]
و قد رواه مسلم و البيهقي من حديث عكرمة بن عمار به (3/417)
ثم أورد البيهقي [ من طريق الواقدي بأسانيده أن رسول الله صلى الله عليه و سلم بعث عمر بن الخطاب رضي الله عنه في ثلاثين راكبا و معه دليل من بني هلال و كانوا يسيرون الليل و يكمنون النهار فلما انتهوا إلى بلادهم هربوا منهم و كر عمر راجعا إلى المدينة فقيل له : هل لك في قتال خثعم ؟ فقال : إن رسول الله صلى الله عليه و سلم لم يأمرني إلا بقتال هوازن في أرضهم ] (3/418)
ثم أورد [ من طريق إبراهيم بن لهيعة عن أبي الأسود عن عروة و من طريق موسى بن عقبة عن الزهري أن رسول الله صلى الله عليه و سلم بعث عبد الله بن رواحة في ثلاثين راكبا فيهم عبد الله بن رواحة إلى يسير بن رزام اليهودي حتى أتوه بخيبر و بلغ رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه يجمع غطفان ليغزوه بهم فأتوه فقالوا : أرسلنا إليك رسول الله صلى الله عليه و سلم ليستعملك على خيبر فلم يزالوا به حتى تبعهم في ثلاثين رجلا مع كل رجل منهم رجل رديف من المسلمين فلما بلغوا قرقرة نيار و هي من خيبر على ستة أميال ندم يسير بن رزام فأهوى بيده إلى سيف عبد الله بن رواحة ففطن له عبد الله بن رواحة فزجر بعيره ثم اقتحم يسوق بالقوم حتى استمكن من يسير ضرب رجله فقطعها و اقتحم يسير و في يده مخراش من شوحط فضرب به وجه عبد الله بن رواحة فشجه شجة مأمومة و انكفأ كل رجل من المسلمين على رديفه فقتله غير رجل واحد من اليهود أعجزهم شدا و لم يصب من المسلمين أحد و بصق رسول الله صلى الله عليه و سلم في شجة عبد الله بن رواحة فلم تقيح و لم تؤذه حتى مات ] (3/418)
روي من طريق الواقدي بإسناده أن رسول الله صلى الله عليه و سلم بعث بشير بن سعد في ثلاثين راكبا إلى بني مرة من أرض فدك فاستاق نعمهم فقاتلوه و قتلوا عامة من معه و صبر هو يومئذ صبرا عظيما و قاتل قتالا شديدا ثم لجأ إلى فدك فبات بها عند رجل من اليهود ثم كر راجعا إلى المدينة
قال الواقدي : ثم بعث إليهم رسول الله صلى الله عليه و سلم غالب بن عبد الله و معه جماعة من كبار الصحابة فذكر منهم أسامة بن زيد و أبا مسعود البدري و كعب بن عجرة
ثم ذكر مقتل أسامة بن زيد لمرداس بن نهيك حليف بني مرة و قوله حين علاه بالسيف : لا إله إلا الله و أن الصحابة لاموه على ذلك حتى سقط في يده و ندم على ما فعل
و قد ذكر هذه القصة يونس بن بكير عن ابن إسحاق عن شيخ من بني سلمة عن رجال من قومه أن رسول الله صلى الله عليه و سلم بعث غالب بن عبد الله الكلبي إلى أرض بني مرة فأصاب مرداس بن نهيك ( حليفا لهم من الحرقة فقتله أسامة قال ابن إسحاق : فحدثني محمد بن أسامة بن محمد بن أسامة عن أبيه عن جده أسامة بن زيد قال : أدركته أنا و رجل من الأنصار ـ يعني مرداس بن نهيك ) فلما شهرنا عليه السيف قال : أشهد أن لا إله إلا الله فلم ننزع عنه حتى قتلناه
فلما قدمنا على رسول الله صلى الله عليه و سلم أخبرناه فقال : [ يا أسامة من لك بلا إله إلا الله فقلت يا رسول الله إنما قالها تعوذا من القتل قال : فمن لك يا أسامة بلا إله إلا الله
فوالذي بعثه بالحق مازال يرددها علي حتى تمنيت أن ما مضى من إسلامي لم يكن و أني أسلمت يومئذ و لم أقتله فقلت إني أعطي الله عهدا ألا أقتل رجلا يقول لا إله إلا الله أبدا فقال : بعدي يا أسامة فقلت بعدك ]
و قال الإمام أحمد : [ حدثنا هشيم بن بشير أنبأنا حصين عن أبي ظبيان قال : سمعت أسامة بن زيد يحدث قال : بعثنا رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى الحرقة من جهينة قال : فصبحناهم و كان منهم رجل إذا أقبل القوم كان من أشدهم علينا و إذا أدبروا كان حاميتهم قال : فغشيته أنا و رجل من الأنصار فلما تغشيناه قال : لا إله إلا الله فكف عنه الأنصاري و قتلته فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : يا أسامة أقتلته بعد ما قال لا إله إلا الله ؟ ! قال : فقلت : يا رسول الله إنما كان متعوذا من القتل قال : فكررها علي حتى تمنيت أني لم أكن أسلمت إلا يومئذ ]
و أخرجه البخاري و مسلم من حديث هشيم به نحوه
و قال ابن إسحاق : حدثني يعقوب بن عتبة عن مسلم بن عبد الله الجهني عن جندب بن مكيث الجهني قال : بعث رسول الله صلى الله عليه و سلم غالب بن عبد الله الكلبي كلب ليث إلى بني الملوح بالكديد و أمره أن يغير عليهم و كنت في سريته فمضينا حتى إذا كنا بالقديد لقينا الحارث بن مالك بن البرصاء الليثي فأخذناه فقال : إني إنما جئت لأسلم فقال له غالب بن عبد الله : إن كنت إنما جئت لتسلم فلا يضيرك رباط يوم و ليلة وإن كنت على غير ذلك استوثقنا منك
قال : فأوثقه رباطا و خلف عليه رويجلا أسود كان معنا و قال : امكث معه حتى نمر عليك فإن نازعك فاحتز رأسه و مضينا حتى أتينا بطن الكديد فنزلنا عشية بعد العصر فبعثني أصحابي إليه فعمدت إلى تل يطلعني على الحاضر فانبطحت عليه و ذلك قبل غروب الشمس فخرج رجل منهم فنظر فرآني منبطحا على التل فقال لامرأته : إني لأرى سوادا على هذا التل ما رأيته في أول النهار فانظري لا تكون الكلاب اجترت بعض أوعيتك فنظرت فقالت : و الله ما أفقد منها شيئا قال : فناوليني قوسي و سهمين من نبلي فناولته فرماني بسهم في جنبي أو قال في جبيني فنزعته فوضعته و لم أتحرك ثم رماني بالآخر فوضعه في رأس منكبي فنزعته فوضعته و لم أتحرك فقال لامرأته : أما و الله لقد خالطه سهماي و لو كان ربيئة ربيئة لتحرك فإذا أصبحت فابتغي سهمي فخذيهما لا تمضغهما على الكلاب
قال : فأملهنا حتى إذا راحت روائحهم و حتى احتلبوا و عطنوا و سكنوا و ذهبت عتمة من الليل شننا عليهم الغارة فقتلنا و استقنا النعم و وجهنا قافلين به و خرج صريخ القوم إلى قومهم بقربنا قال : و خرجنا سراعا حتى نمر بالحارث بن مالك بن البرصاء و صاحبه فانطلقنا به معنا و أتانا صريخ الناس فجاءنا مالا قبل لنا به حتى إذا لم يكن بيننا و بينهم إلا بطن الوادي من قديد بعث الله من حيث شاء ماء ما رأينا قبل ذلك مطرا و لا حالا و جاء بما لا يقدر أحد أن يقدم عليه فلقد رأيتهم وقوفا ينظرون إلينا ما يقدر أحد منهم أن يقدم عليه و نحن نجذبها أو نحدوها ـ شك النفيلي ـ فذهبنا سراعا حتى أسندنا بها في المسلك ثم حدرنا عنه حتى أعجزنا القوم بما في أيدينا
و قد رواه أبو داود من حديث محمد بن إسحاق في روايته عبد الله بن غالب و الصواب غالب بن عبد الله كما تقدم
و ذكر الواقدي هذه القصة بإسناد آخر و قال فيه : و كان معه من الصحابة مائة و ثلاثون رجلا
ثم ذكر البيهقي من طريق الواقدي سرية بشير بن سعد أيضا إلى ناحية خيبر فلقوا جمعا من العرب و غنموا نعما كثيرا و كان بعثه في هذه السرية بإشارة أبي بكر و عمر رضي الله عنهما و كان معه من المسلمين ثلاثمائة رجل و دليله حسيل بن نويرة و هو الذي كان دليل النبي صلى الله عليه و سلم إلى خيبر قاله الواقدي (3/419)
قال يونس عن محمد بن إسحاق : كان من حديث قصة أبي حدرد و غزوته إلى الغابة ما حدثني جعفر بن عبد الله بن أسلم عن أبي حدرد قال : تزوجت امرأة من قومي فأصدقتها مائتي درهم قال : [ فأتيت رسول الله صلى الله عليه و سلم أستعينه على نكاحي فقال : كم أصدقت ؟ فقلت : مائتي درهم فقال : سبحان الله و الله لو كنتم تأخذونها من واد ما زدتم و الله ما عندي ما أعينك به ] فلبث أياما ثم أقبل رجل من جشم بن معاوية يقال له رفاعة بن قيس ـ أو قيس بن رفاعة ـ في بطن عظيم من جشم حتى نزل بقومه و من معه بالغابة يريد أن يجمع قيسا على محاربة رسول الله صلى الله عليه و سلم و كان ذا اسم و شرف في جشم قال : فدعاني رسول الله صلى الله عليه و سلم و رجلين من المسلمين فقال : [ اخرجوا إلى هذا الرجل حتى تأتوا منه بخبر و علم و قدم لنا شارفا عجفاء فحمل عليه أحدنا فوالله ما قامت به ضعفا حتى دعمها الرجال من خلفها بأيديهم حتى استقلت و ما كادت و قال : تبلغوا على هذه ]
فخرجنا و معنا سلاحنا من النبل و السيوف حتى إذا جئنا قريبا من الحاضر مع غروب الشمس فكمنت في ناحية و أمرت صاحبي فكمنا في ناحية أخرى من حاضر القوم و قلت لهما : إذا سمعتماني قد كبرت و شددت في العسكر فكبرا و شدا معي
فوالله إنا كذلك ننتظر أن نرى غرة أو نرى شيئا و قد غشينا الليل حتى ذهبت فحمة العشاء و قد كان لهم راع قد سرح في ذلك البلد فأبطأ عليهم و تخوفوا عليه فقام صاحبهم رفاعة بن قيس فأخذ سيفه فجعله في عنقه فقال : و الله لأتيقنن أمر راعينا و لقد أصابه شر فقال نفر ممن معه : و الله لا تذهب نحن نكفيك فقال : لا إلا أنا قالوا : نحن معك فقال : و الله لا يتبعني منكم أحد و خرج حتى مر بي فلما أمكنني نفحته بسهم فوضعته في فؤاده فوالله ما تكلم فوثبت إليه فاحترزت رأسه ثم شددت ناحية العسكر و كبرت و شد صاحباي و كبرا فوالله ما كان إلا النجا ممن كان فيه عندك بكل ما قدروا عليه من نسائهم و أبنائهم و ما خف معهم من أموالهم و استقنا إبلا عظيمة و غنما كثيرة فجئنا بها إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم و جئت برأسه أحمله معي فأعطاني من تلك الإبل ثلاثة عشر بعيرا في صداقي فجمعت إلي أهلي (3/422)
قال ابن إسحاق : [ حدثني يزيد بن عبد الله بن قسيط عن ابن عبد الله بن أبي حدرد عن أبيه قال : بعثنا رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى إضم في نفر من المسلمين منهم أبو قتادة الحارث بن ربعي و محلم بن جثامة بن قيس فخرجنا حتى إذا كنا ببطن إضم مر بنا عامر بن الأضبط الأشجعي على قعود له معه متيع له و وطب من لبن فسلم علينا بتحية الإسلام فأمسكنا عنه و حمل عليه محلم بن جثامة فقتله لشيء كان بينه و بينه و أخذ بعيره و متيعه فلما قدمنا على رسول الله صلى الله عليه و سلم أخبرناه الخبر فنزل فبنا القرآن ] { يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله فتبينوا و لا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمنا تبتغون عرض الحياة الدنيا فعند الله مغانم كثيرة كذلك كنتم من قبل فمن الله عليكم فتبينوا إن الله كان بما تعملون خبيرا }
هكذا رواه الإمام أحمد عن يعقوب عن أبيه عن محمد بن إسحاق عن يزيد بن عبد الله بن قسبط عن القعقاع بن عبد الله بن أبي حدرد عن أبيه فذكره
قال ابن إسحاق : [ حدثني محمد بن جعفر سمعت زياد بن ضميرة بن سعد الضمري يحدث عن عروة بن الزبير عن أبيه و عن جده قالا ـ و كانا شهدا حنينا ـ قالا : فصلى رسول الله صلى الله عليه و سلم صلاة الظهر فقام إلى ظل شجرة فقعد فيه فقام إليه عيينة بن بدر فطلب بدم عامر بن الأضبط الأشجعي و هو سيد عامر : هل لكم أن تأخذوا منا الآن خمسين بعيرا و خمسين إذا رجعنا إلى المدينة ؟ فقال عينة بن بدر : و الله لا أدعه حتى أذيق نساءه من الحزن مثل ما أذاق نسائي فقام رجل من بني ليث يقال له ابن مكيل و هو قصير من الرجال فقال : يا رسول الله ما أجد لهذا القتيل شبها في غرة الإسلام إلا كغنم وردت فرميت أولاها فنفرت أخراها اسنن اليوم و غير غدا فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : هل لكم أن تأخذوا خمسين بعيرا الآن و خمسين بعيرا إذا رجعنا إلى المدينة ؟ فلم يزل بهم حتى رضوا بالدية فقام قوم محلم بن جثامة : إيتوا به حتى يستغفر له رسول الله صلى الله عليه و سلم : قال : فجاء رجل طوال ضرب اللحم في حلة قد تهيأ فيها للقتل فقام بين يدي النبي صلى الله عليه و سلم فقال النبي صلى الله عليه و سلم : اللهم لا تغفر لمحلم قالها ثلاثا فقام و إنه ليتلقى دموعه بطرف ثوبه ]
قال محمد بن إسحاق : زعم قومه أنه استغفر له بعد ذلك
و هكذا رواه أبو داود من طريق حماد بن سلمة عن ابن إسحاق و رواه ابن ماجة عن أبي بكر بن أبي شيبة عن أبي خالد الأحمر عن ابن إسحاق عن محمد بن جعفر عن زيد بن ضميرة عن أبيه و عمه فذكر بعضه
و الصواب كما رواه ابن إسحاق عن محمد بن جعفر عن زياد بن سعد بن ضميرة عن أبيه و عن جده و هكذا رواه أبو داود من طريق ابن وهب عن عبد الرحمن بن أبي الزناد و عن عبد الرحمن بن الحارث عن محمد بن جعفر عن زياد بن سعد بن ضميرة عن أبيه و جده بنحوه كما تقدم
و قال ابن إسحاق : حدثني سالم أبو النضر أنه قال : لم يقبلوا الدية حتى قام الأقرع بن حابس فخلا بهم و قال : يا معشر قيس سألكم رسول الله صلى الله عليه و سلم قتيلا تتركونه ليصلح بين الناس فمنعتموه إياه أفأمنتم أن يغضب عليكم رسول الله صلى الله عليه و سلم فيغضب الله لغضبه و يلعنكم رسول الله صلى الله عليه و سلم فيلعنكم الله بلعنته لكم لتسلمنه إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم أو لآتين بخمسين من بني تميم كلهم يشهدون أن القتيل كافر ما صلى قط فلا يطلبن دمه فلما قال ذلك لهم أخذوا الدية
و هذا منقطع معضل
و قد روى ابن إسحاق عمن لا يتهم عن الحسن البصري أن محلما لما جلس بين يديه عليه الصلاة و السلام قال له : أمنته ثم قتلته ؟ ثم دعا عليه
قال الحسن : فوالله ما مكث محلم إلا سبعا حتى مات فلفظته الأرض ثم دفنوه فلفظته الأرض ثم دفنوه فلفظته الأرض فرضموا عليه الحجارة حتى واروه فبلغ رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : [ إن الأرض لتطابق على من هو شر منه و لكن الله أراد أن يعظكم في حرم ما بينكم لما أراكم منه ]
و قال ابن جرير : حدثنا وكيع حدثنا جرير عن ابن إسحاق عن نافع عن ابن عمر قال : بعث رسول الله صلى الله عليه و سلم محلم بن جثامة مبعثا فلقيهم عامر بن الأضبط فحياهم بتحية الإسلام ـ و كانت بينهم هنة في الجاهلية ـ فرماه محلم بسهم فقتله فجاء الخبر إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فتكلم في عيينة و الأقرع فقال الأقرع : يا رسول الله سن اليوم و غير غدا فقال عيينة : لا و الله حتى تذوق نساؤه من الثكل ما أذاق نسائي محلم في بردين فجلس بين يدي رسول الله صلى الله عليه و سلم ليستغفر له فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ لا غفر الله لك ] فذكروا ذلك له فقال : [ إن الأرض لتقبل من هو شر من صاحبكم و لكن الله أراد أن يعظكم من حرمتكم ] ثم طرحوه في جبل فألقوا عليه من الحجارة و نزلت : { يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله فتبينوا } الآية
و قد ذكر موسى بن عقبة عن الزهري و رواه شعيب عن الزهري عن عبد الله بن وهب عن قبيصة بن ذؤيب نحو هذه القصة إلا أنه لم يسم محلم بن جثامة و لا عامر بن الأضبط و كذلك رواه البيهقي عن الحسن البصري بنحو هذه القصة و قال : و فيه نزل قوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله فتبينوا } الآية
قلت : و قد تكلمنا في سبب نزول هذه الآية و معناها في التفسير بما فيه الكفاية و لله الحمد و المنة (3/423)
ثبت في الصحيحين من طريق الأعمش عن سعد بن عبيدة عن أبي عبد الرحمن الحبلي عن علي بن أبي طالب قال : استعمل النبي صلى الله عليه و سلم رجلا من الأنصار على سرية بعثهم و أمرهم أن يسمعوا له و يطيعوا قال : فأغضبوه في شيء فقال : اجمعوا لي حطبا فجمعوا فقال أوقدوا نارا فأوقدوا ثم قال : ألم يأمركم رسول الله صلى الله عليه و سلم أن تسمعوا لي و تطيعوا ؟ قالوا : بلى قال : فادخلوها قال : فنظر بعضهم إلى بعض و قالوا : إنما فررنا إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم من النار قال : فسكن غضبه و طفئت النار
فلما قدموا على النبي صلى الله عليه و سلم ذكروا ذلك له فقال [ لو دخلوها ما خرجوا منها إنما الطاعة في المعروف ]
و هذه القصة ثابتة أيضا في الصحيحين من طريق يعلى بن مسلم عن سعيد بن جبير عن ابن عباس و قد تكلمنا على هذه بما فيه كفاية في التفسير و لله الحمد و المنة (3/426)
و يقال القصاص و رجحه السهيلي و يقال عمرة القضية فالأولى قضاء عما كان أحصر عام الحديبية و الثاني من قوله تعالى : { و الحرمات قصاص } و الثالث من المقاضاة التي كان قاضاهم عليها على أن يرجع عنهم عامه هذا ثم يأتي في العام القابل و لا يدخل مكة إلا في جلبان السلاح و ألا يقيم أكثر من ثلاثة أيام
و هذه العمرة هي المذكورة في قوله تعالى في سورة الفتح المباركة : { لقد صدق الله و رسوله الرؤيا بالحق لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين محلقين رؤسكم و مقصرين لا تخافون } الآية و قد تكلمنا عليها مستقصى في كتابنا التفسير بما فيه كفاية
و هي الموعود بها في قوله عليه الصلاة و السلام لعمر بن الخطاب حين قال له : ألم تكن تحدثنا أنا سنأتي البيت و نطوف به ؟ قال : [ بلى أفأخبرتك أنك تأتيه عامك هذا ؟ قال : لا قال : فإنك آتيه و مطوف به ]
و هي المشار إليها في قول عبد الله بن رواحة حين دخل بين يدي رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى مكة يوم عمرة القضاء و هو يقول :
( خلوا بني الكفار عن سبيله ... اليوم نضربكم على تأويله )
( كما ضربناكم على تنزيله )
أي هذا تأويل الرؤيا التي كان رآها رسول الله صلى الله عليه و سلم جاءت مثل فلق الصبح
قال ابن إسحاق : فلما رجع رسول الله صلى الله عليه و سلم من خيبر إلى المدينة أقام بها شهري ربيع و جماديين و رجبا و شعبان و شهر رمضان و شوالا يبعث فيما بين ذلك سراياه
ثم خرج من ذي القعدة في الشهر الذي صده قيه المشركون معتمرا عمرة القضاء مكان عمرته التي صدوه عنها
قال ابن هشام : و استعمل على المدينة عويف بن الأضبط الدؤلي
و يقال لها عمرة القصاص لأنهم صدوا رسول الله صلى الله عليه و سلم في ذي القعدة في الشهر الحرام من سنة ست فاقتص رسول الله صلى الله عليه و سلم منهم فدخل مكة في ذي القعدة في الشهر الحرام الذي صدوه فيه من سنة سبع
بلغنا عن ابن عباس أنه قال : فأنزل الله تعالى في ذلك { و الحرمات قصاص }
و قال معتمر بن سليمان عن أبيه في مغازيه : لما رجع رسول الله صلى الله عليه و سلم من خيبر أقام بالمدينة و بعث سراياه حتى استهل ذو القعدة فنادى في الناس : [ أن تجهزوا للعمرة فتجهزوا و خرجوا إلى مكة ]
و قال ابن إسحاق : و خرج معه المسلمون ممن كان صد معه في عمرته تلك و هي سنة سبع فلما سمع به أهل مكة خرجوا عنه و تحدثت قريش بينها أن محمدا في عسرة و جهد و شدة
قال ابن إسحاق : فحدثني من لا أتهم عن عبد الله بن عباس قال : صفوا له عند دار الندوة لينظروا إليه و إلى أصحابه فلما دخل رسول الله صلى الله عليه و سلم المسجد اضطبع بردائه و أخرج عضده اليمنى ثم قال : [ رحم الله امرءا أراهم اليوم من نفسه قوة ]
ثم استلم الركن ثم خرج يهرول و يهرول أصحابه معه حتى إذا واراه البيت منهم و استلم الركن اليماني مشى حتى يستلم الركن الأسود ثم هرول كذلك ثلاثة أطواف و مشى سائرها فكان ابن عباس يقول : كان الناس يظنون أنها ليست عليهم و ذلك أن رسول الله صلى الله عليه و سلم إنما صنعها لهذا الحي من قريش للذي بلغه عنهم حتى حج حجة الوداع فلزمها فمضت السنة بها
و قال البخاري : حدثنا سليمان بن حرب حدثنا حماد ـ هو ابن زيد ـ عن أيوب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : قدم رسول الله صلى الله عليه و سلم و أصحابه فقال المشركون : إنه يقدم عليكم وفد وهنهم حمى يثرب فأمرهم النبي صلى الله عليه و سلم أن يرملوا الأشواط الثلاثة و أن يمشوا ما بين الركنين و لم يمنعه أن يأمرهم أن يرملوا الأشواط كلها إلا الإبقاء عليهم
قال أبو عبد الله : و [ زاد بن سلمة ـ يعني حماد بن سلمة ـ عن أيوب عن سعيد عن ابن عباس قال : لما قدم النبي صلى الله عليه و سلم لعامهم الذي استأمن قال : ارملوا ليرى المشركون قوتهم و المشركون من قبل قعيقعان ]
و رواه مسلم عن أبي الربيع الزهراني عن حماد بن زيد و أسنده البيهقي طريق حماد بن سلمة
و قال البخاري : حدثنا علي بن عبد الله حدثنا سفيان حدثنا إسماعيل بن أبي خالد سمع ابن أبي أوفى يقول : لما اعتمر رسول الله صلى الله عليه و سلم سترناه من غلمان المشركين و منهم أن يؤذوا رسول الله صلى الله عليه و سلم
و سيأتي بقية الكلام على هذا المقام
قال ابن إسحاق : و حدثني عبد الله بن أبي بكر أن رسول الله صلى الله عليه و سلم حين دخل مكة في تلك العمرة دخلها و عبد الله بن رواحة آخذ بخطام ناقته يقول :
( خلوا بني الكفار عن سبيله ... خلوا فكل الخير في رسوله )
( يا رب إني مؤمن بقيله ... أعرف حق الله في قبوله )
( نحن قتلناكم على تأويله ... كما قتلناكم على تنزيله )
( ضربا يزيل الهام عن مقيله ... و يذهل الخليل عن خليله )
قال ابن هشام : نحن قتلناكم على تأويله إلى آخر الأبيات لعمار بن ياسر في غير هذا اليوم ـ يعني يوم صفين ـ قاله السهيلي
قال ابن هشام : و الدليل على ذلك أن ابن رواحة إنما أراد المشركين و المشركون لم يقروا بالتنزيل و إنما يقاتل على التأويل من أقر بالتنزيل
و فيما قاله ابن هشام نظر فإن الحافظ البيهقي روى من غير وجه عن عبد الرزاق عن معمر عن الزهري عن أنس قال : لما دخل النبي صلى الله عليه و سلم مكة في عمرة القضاء مشى عبد الله بن رواحة بين يديه و في رواية و هو آخذ بغرزه و هو يقول :
( خلوا بني الكفار عن سبيله ... قد نزل الرحمن في تنزيله )
( بأن خير القتل في سبيله ... نحن قتلناكم على تأويله )
و في رواية بهذا الإسناد بعينه :
( خلوا بني الكفار عن سبيله ... اليوم نضربكم على تنزيله )
( ضربا يزيل الهام عن مقيله ... و يذهل الخليل عن خليله )
( يا رب إني مؤمن بقيله )
و قال يونس بن بكير عن هشام بن سعد عن زيد بن أسلم أن رسول الله صلى الله عليه و سلم دخل عام القضية مكة فطاف بالبيت على ناقته و استلم الركن بمحجنة قال ابن هشام : من غير علة و المسلمون يشتدون حوله و عبد الله بن رواحة يقول :
( باسم الذي لا دين إلا دينه ... باسم الذي محمد رسوله )
( خلوا بني الكفار عن سبيله )
قال موسى ابن عقبة عن الزهري : ثم خرج رسول الله صلى الله عليه و سلم من العام القابل من عام الحديبية معتمرا في ذي القعدة سنة سبع و هو الشهر الذي صده المشركون عن المسجد الحرام حتى إذا بلغ يأجج وضع الأداة كلها الحجف و المجان و الرماح و النبل و دخلوا بسلاح الراكب السيوف و بعث رسول الله صلى الله عليه و سلم بين يديه جعفر بن أبي طالب إلى ميمونة بنت الحارث العامرية فخطبها عليه فجعلت أمرها إلى العباس و كان تحته أختها أم الفضل بنت الحارث فزوجها العباس رسول الله صلى الله عليه و سلم
فلما قدم رسول الله صلى الله عليه و سلم أمر أصحابه قال : [ اكشفوا عن المناكب و اسعوا في الطواف ] ليرى المشركون جلدهم و قوتهم و كان يكايدهم بكل ما استطاع فاستكف أهل مكة الرجال و النساء و الصبيان ينظرون إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم و أصحابه و هم يطوفون بالبيت و عبد الله بن رواحة يرتجز بين يدي رسول الله صلى الله عليه و سلم متوشحا بالسيف و هو يقول :
( خلوا بني الكفار عن سبيله ... أنا الشهيد أنه رسوله )
( قد أنزل الرحمن في تنزيله ... في صحف تتلى على رسوله )
( فاليوم نضربكم على تأويله ... كما ضربناكم على تنزيله )
( ضربا يزيل الهام عن مقيله ... و يذهل الخليل عن خليله )
قال : و تغيب رجال من أشراف المشركين أن ينظروا إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم غيظا و حنقا و نفاسة و حسدا و خرجوا إلى الخندمة فقام رسول الله صلى الله عليه و سلم بمكة و أقام ثلاث ليال و كان ذلك آخر القضية يوم الحديبية
فلما أتى الصبح من اليوم الرابع أتاه سهيل بن عمرو و حويطب بن عبد العزى و رسول الله صلى الله عليه و سلم في مجلس الأنصار يتحدث مع سعد بن عبادة فصاح حويطب بن عبد العزى : نناشدك الله و العقد لما خرجت من أرضنا فقد مضت الثلاث فقال سعد بن عبادة : كذبت لا أم لك ليس بأرضك و لا بأرض آبائك و الله لا يخرج ثم نادى رسول الله صلى الله عليه و سلم سهيلا و حويطبا فقال : [ إني قد نكحت فيكم امرأة فما يضركم أن أمكث حتى أدخل بها و نصنع الطعام فنأكل و تأكلون معنا ] فقالوا : نناشدك الله و العقد إلا خرجت عنا
فأمر رسول الله صلى الله عليه و سلم أبا رافع فأذن بالرحيل و ركب رسول الله صلى الله عليه و سلم حتى نزل ببطن سرف و أقام المسلمون و خلف رسول الله صلى الله عليه و سلم أبا رافع ليحمل ميمونة و أقام بسرف حتى قدمت عليه ميمونة و قد لقيت ميمونة و من معها عناء و أذى من سفهاء المشركين و من صبيانهم فقدمت على رسول الله صلى الله عليه و سلم بسرف فبنى بها ثم أدلج فسار حتى أتى المدينة
و قدر الله أن يكون موت ميمونة بسرف بعد ذلك بحين فماتت حيث بنى بها رسول الله صلى الله عليه و سلم ثم ذكر قصة ابنة حمزة إلى أن قال : و أنزل الله عز و جل في تلك العمرة { الشهر الحرام بالشهر الحرام و الحرمات قصاص } فاعتمر رسول الله صلى الله عليه و سلم في الشهر الحرام الذي صد فيه
و قد روى ابن لهيعة عن أبي الأسود عن عروة بن الزبير نحوا من هذا السياق و لهذا السياق شواهد كثيرة من أحاديث متعددة
ففي الصحيح البخاري من طريق فليح بن سليمان عن نافع عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه و سلم خرج معتمرا فحال كفار قريش بينه و بين البيت فنحر هديه و حلق رأسه بالحديبية و قاضاهم على أن يعتمر العام المقبل و لا يحمل سلاحا إلا سيوفا و لا يقيم بها إلا ما أحبوا
فاعتمر من العام المقبل فدخلها كما كان صالحهم فلما أن أقام بها ثلاثا أمروه أن يخرج فخرج
و قال الواقدي : حدثني عبد الله بن نافع عن أبيه عن ابن عمر قال : لم تكن هذه عمرة قضاء و إنما كانت شرطا على المسلمين أن يعتمروا من قابل في الشهر الذي صدهم فيه المشركون
و قال أبو داود : حدثنا النفيلي حدثنا محمد بن سلمة عن محمد بن إسحاق عن عمرو بن ميمون سمعت أبا حاضر الحميري يحدث أن ميمون بن مهران قال : خرجت معتمرا عام حاصر أهل الشام ابن الزبير بمكة و بعث معي رجال من قومي بهدي
قال : فلما انتهينا إلى أهل الشام منعونا أن ندخل الحرم قال : فنحرت الهدي مكاني ثم أحللت ثم رجعت فلما كان من العام المقبل خرجت لأقضي عمرتي فأتيت ابن عباس فسألته فقال : أبدل الهدي فإن رسول الله صلى الله عليه و سلم أمر أصحابه أن يبدلوا الهدي الذي نحروا عام الحديبية في عمرة القضاء
تفرد به أبو داود من حديث أبي حاضر عثمان بن حاضر الحميري عن ابن عباس فذكره
و قال الحافظ البيهقي : [ أنبأنا الحاكم أنبأنا الأصم حدثنا أحمد بن عبد الجبار حدثنا يونس بن بكير عن ابن إسحاق حدثني عمرو بن ميمون قال : كان أبي يسأل كثيرا : هل كان رسول الله صلى الله عليه و سلم أبدل هديه الذي نحر حين صده المشركون عن البيت ؟ و لا يجد في ذلك شيئا حتى سمعته يسأل أبا حاضر الحميري عن ذلك فقال له : على الخبير سقطت ! حججت عام ابن الزبير في الحصر الأول فأهديت هديا فحالوا بيننا و بين البيت فنحرت في الحرم و رجعت إلى اليمن و قلت : لي برسول الله صلى الله عليه و سلم أسوة فلما كان العام المقبل حججت فلقيت ابن عباس فسألته عما نحرت علي بدله أم لا ؟ قال : نعم فأبدل فإن رسول الله صلى الله عليه و سلم و أصحابه قد أبدلوا الهدي الذي نحروا عام صدهم المشركون فأبدلوا ذلك في عمرة القضاء فعزت الإبل عليهم فرخص لهم رسول الله صلى الله عليه و سلم في البقر ]
و قال الواقدي : حدثني غانم بن أبي غانم عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر قال : جعل رسول الله صلى الله عليه و سلم ناجية بن جندب الأسلمي على هديه يسير بالهدي أمامه يطلب الرعي في الشجر معه أربعة فتيان من أسلم و قد ساق رسول الله صلى الله عليه و سلم في عمرة القضية ستين بدنة
فحدثني محمد بن نعيم المجمر عن أبيه عن أبي هريرة قال : كنت مع صاحب البدن أسوقها
قال الواقدي : و سار رسول الله صلى الله عليه و سلم يلبي و المسلمون معه يلبون و مضى محمد بن سلمة بالخيل إلى مر الظهران فيجد بها نفرا من قريش فسألوا محمد بن مسلمة فقال : هذا رسول الله صلى الله عليه و سلم يصبح هذا المنزل غدا إن شاء الله و رأوا سلاحا كثيرا مع بشير بن سعد فخرجوا سراعا حتى أتوا قريشا فأخبروهم بالذي رأوا من السلاح و الخيل ففزعت قريش و قالوا : و الله ما أحدثنا حدثا و إنا على كتابنا و هدنتنا ففيم يغزونا محمد في أصحابه ؟
و نزل رسول الله صلى الله عليه و سلم مر الظهران و قدم رسول الله صلى الله عليه و سلم السلاح إلى بطن يأجج حيث ينظر إلى أنصاب الحرم و بعثت قريش مكرز بن حفص بن الأحنف في نفر من قريش حتى لقوه ببطن يأجج و رسول الله صلى الله عليه و سلم في أصحابه و الهدي و السلاح قد تلاحقوا فقالوا : يا محمد ما عرفت صغيرا و لا كبيرا بالغدر تدخل بالسلاح في الحرم على قومك و قد شرطت لهم ألا تدخل إلا بسلاح المسافر السيوف في القرب فقال النبي صلى الله عليه و سلم : إني لا أدخل عليهم السلاح فقال مكرز بن حفص : هذا الذي تعرف به البر و الوفاء ثم رجع سريعا بأصحابه إلى مكة
فلما أن جاء مكرز بن حفص بخبر النبي صلى الله عليه و سلم خرجت قريش من مكة إلى رؤوس الجبال و خلوا مكة و قالوا : لا ننظر إليه و لا إلى أصحابه
فأمر رسول الله صلى الله عليه و سلم بالهدي أمامه حتى حبس بذي طوى و خرج رسول الله صلى الله عليه و سلم و أصحابه و هو على ناقته القصواء و هم محدقون به يلبون و هم متوشحون السيوف فلما انتهى إلى ذي طوى وقف على ناقته القصواء و ابن رواحة آخذ بزمامها و هو يرتجز بشعره و يقول :
( خلوا بني الكفار عن سبيله ) إلى آخره
و في الصحيحين [ من حديث ابن عباس قال : قدم رسول الله صلى الله عليه و سلم و أصحابه صبيحة رابعة ـ يعني من ذي القعدة سنة سبع ـ فقال المشركون : إنه يقدم عليكم وفد قد وهنتهم حمى يثرب فأمر رسول الله صلى الله عليه و سلم أن يرملوا الأشواط الثلاثة و أن يمشوا بين الركنين و لم يمنعه أن يرملوا الأشواط كلها إلا الإبقاء عليهم ]
قال الإمام أحمد : [ حدثنا محمد بن الصباح حدثنا إسماعيل بن زكريا عن عبد الله بن عثمان عن أبي الطفيل عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه و سلم لما نزل مر الظهران من عمرته بلغ أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم أن قريشا تقول : ما يتباعثون من العجف فقال أصحابه : لو انتحرنا من ظهرنا فأكلنا من لحومه و حسونا من مرقه أصبحنا غدا حين ندخل على القوم و بنا جمامة فقال : لا تفعلوا و لكن اجمعوا لي من أزوادكم فجمعوا له و بسطوا الأنطاع فأكلوا حتى تركوا و حشا كل واحد منهم في جرابه
ثم أقبل رسول الله صلى الله عليه و سلم حتى دخل المسجد و قعدت قريش نحو الحجر فاضطبع بردائه ثم قال : لا يرى القوم فيكم غميزة فاستلم الركن ثم رمل حتى إذا تغيب بالركن اليماني مشى إلى الركن الأسود فقالت قريش : ما يرضون بالمشي أما إنهم لينفرون نفر الظباء ! ففعل ذلك ثلاثة أطواف فكانت سنة ]
قال أبو الطفيل : و أخبرني ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه و سلم فعل ذلك في حجة الوداع
تفرد به أحمد من هذا الوجه
و قال أبو داود حدثنا أبو سلمة موسى حدثنا حماد ـ يعني ابن سلمة ـ أنبأنا أبو عاصم الغنوي عن أبي الطفيل قال : قلت لابن عباس : يزعم قومك أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قد رمل بالبيت و أن ذلك سنة ؟ فقال : صدقوا و كذبوا قلت : ما صدقوا و ما كذبوا ؟ قال : صدقوا رمل رسول الله صلى الله عليه و سلم و كذبوا ليس بسنة إن قريشا زمن الحديبية قالت : دعوا محمدا و أصحابه حتى يموتوا موت النغف فلما صالحوه على أن يجيئوا من العام المقبل فيقيموا بمكة ثلاثة أيام فقدم رسول الله صلى الله عليه و سلم و المشركون من قبل قيعقعان فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم لأصحابه : [ ارملوا بالبيت ثلاثا ] قال : و ليس بسنة
وقد رواه مسلم من حديث سعيد الجريري و عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي حسين و عبد الملك بن سعيد بن أبجر ثلاثتهم عن أبي الطفيل عامر بن واثلة عن ابن عباس به نحوه
و كون الرمل في الطواف سنة مذهب الجمهور [ فإن رسول الله صلى الله عليه و سلم رمل في عمرة القضاء و في عمرة الجعرانة أيضا ] كما رواه أبو داود و ابن ماجة من حديث عبد الله بن عثمان بن خثيم عن أبي الطفيل عن ابن عباس فذكره
و ثبت في حديث جابر عند مسلم و غيره [ أنه عليه السلام رمل في حجة الوداع في الطواف ] و لهذا قال عمر بن الخطاب : فيم الرملان و قد أطال الله الإسلام ؟ و مع هذا لا نترك شيئا فعله رسول الله صلى الله عليه و سلم و موضع تقرير هذا كتاب الأحكام
و كان ابن عباس في المشهور عنه لا يرى ذلك سنة كما ثبت في الصحيحين [ من حديث سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار عن عطاء عن ابن عباس قال : إنما سعى النبي صلى الله عليه و سلم بالبيت و بالصفا و المروة ليري المشركين قوته ]
لفظ البخاري
و قال الواقدي : لما قضى رسول الله صلى الله عليه و سلم نسكه في القضاء دخل البيت فلم يزل فيه حتى أذن بلال الظهر فوق ظهر الكعبة و كان رسول الله صلى الله عليه و سلم أمره بذلك فقال عكرمة بن أبي جهل : لقد أكرم الله أبا الحكم حين لم يسمع هذا العبد يقول ما يقول ! و قال صفوان بن أمية : الحمد لله الذي أذهب أبي قبل أن يرى هذا و قال خالد بن أسيد : الحمد لله الذي أمات أبي و لم يشهد هذا اليوم حتى يقوم بلال ينهق فوق البيت و أما سهيل بن عمرو و رجال معه لما سمعوا بذلك غطوا وجوههم
قال الحافظ البيهقي : قد أكرم الله أكثرهم بالإسلام
قلت : كذا ذكره البيهقي من طريق الواقدي أن هذا كان في عمرة القضاء و المشهور أن ذلك كان في عام الفتح و الله أعلم (3/428)
فقال ابن إسحاق : حدثني أبان بن صالح و عبد الله بن أبي نجيح عن عطاء و مجاهد عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه و سلم تزوج ميمونة بنت الحارث في سفره ذلك و هو حرام و كان الذي زوجه إياها العباس بن عبد المطلب
قال ابن هشام : كانت جعلت أمرها إلى أختها أم الفضل فجعلت أم الفضل أمرها إلى زوجها العباس فزوجها رسول الله صلى الله عليه و سلم و أصدقها عنه أربعمائة درهم
و ذكر السهيلي أنه لما انتهت إليها خطبة رسول الله صلى الله عليه و سلم لها و هي راكبة بعيرا قالت : الجمل و ما عليه لرسول الله صلى الله عليه و سلم
قال : و فيها نزلت الآية : { و امرأة مؤمنة إن وهبت نفسها للنبي إن أراد النبي أن يستنكحها خالصة لك من دون المؤمنين }
و قد روى البخاري من طريق أيوب عن عكرمة عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه و سلم تزوج ميمونة و هو محرم و بنى بها و هو حلال و ماتت بسرف
قال السهيلي و روى الدارقطني من طريق أبي الأسود يتيم عروة و من طريق مطر الوراق عن عكرمة عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه و سلم تزوج ميمونة و هو حلال
قال : و تأولوا رواية ابن عباس الأولى أنه كان محرما أي في شهر حرام كما قال الشاعر :
( قتلوا ابن عفان الخليفة محرما ... فدعا فلم أر مثله مخذولا )
أي في شهر حرام
قلت : و في هذا التأويل نظر لأن الروايات متظافرة عن ابن عباس بخلاف ذلك و لا سيما من قوله : ( تزوجها و هو محرم و بنى بها و هو حلال ) و قد كان في شهر ذي القعدة أيضا و هو شهر حرام
و قال محمد بن يحيى الذهلي حدثنا عبد الرزاق قال : قال لي الثوري : لا يلتفت إلى قول أهل المدينة أخبرني عمرو عن أبي الشعثاء عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه و سلم تزوج و هو محرم
قال أبو عبد الله : قلت لعبد الرزاق : روى سفيان الحديثين جميعا عن عمرو عن أبي الشعثاء عن ابن عباس و ابن خثيم عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : نعم أما حديث ابن خثيم فحدثنا هاهنا ـ يعني باليمن ـ و أما حديث عمرو فحدثنا ثم ـ يعني مكة ـ
و أخرجاه في الصحيحين من حديث عمرو بن دينار به
و في صحيح البخاري من طريق الأوزاعي حدثنا عطاء عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه و سلم تزوج ميمونة و هو محرم فقال سعيد بن المسيب : و هم ابن عباس و إن كانت خالته ما تزوجها إلا بعد ما أحل
و قال يونس عن ابن إسحاق : حدثني بقية عن سعيد بن المسيب أنه قال : هذا عبد الله بن عباس يزعم أن رسول الله صلى الله عليه و سلم نكح ميمونة و هو محرم فذكر كلمته إنما قدم رسول الله صلى الله عليه و سلم مكة فكان الحل و النكاح جميعا فشبه ذلك على ابن عباس
وروى مسلم و أهل السنن [ من طرق عن يزيد بن الأصم العامري عن خالته ميمونة بنت الحارث قالت : تزوجني رسول الله صلى الله عليه و سلم و نحن حلالان بسرف ]
لكن قال الترمذي : روى غير واحد هذا الحديث عن يزيد بن الأصم مرسلا أن رسول الله صلى الله عليه و سلم تزوج ميمونة
و قال الحافظ البيهقي : [ أنبأنا أبو عبد الله الحافظ أنبأنا أبو عبد الله محمد بن عبد الله الأصفهاني الزاهد حدثنا إسماعيل بن إسحاق القاضي حدثنا سليمان بن حرب حدثنا حماد بن زيد حدثنا مطر الوراق عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن عن سليمان بن يسار عن أبي رافع قال : تزوج رسول الله صلى الله عليه و سلم ميمونة و هو حلال و بنى بها و هو حلال و كنت الرسول بينهما ]
و هكذا رواه الترمذي و النسائي جميعا عن قتيبة عن حماد بن زيد به ثم قال الترمذي : حسن و لا نعلم أحدا أسنده عن حماد عن مطر و رواه مالك عن ربيعة عن سليمان مرسلا
و رواه سليمان بن بلال عن ربيعة مرسلا
قلت : و كانت وفاتها بسرف سنة ثلاث و ستين و يقال : سنة ستين رضي الله عنها (3/439)
قد تقدم ما ذكره موسى بن عقبة أن قريشا بعثوا إليه حويطب بن عبد العزى بعد مضي أربعة أيام ليرحل عنهم كما وقع به الشرط فعرض عليهم أن يعمل وليمة عرسه بميمونة عندهم و إنما أراد تأليفهم بذلك فأبوا عليه و قالوا : بل اخرج عنا فخرج و كذلك ذكره ابن إسحاق
و قال البخاري : حدثنا عبيد الله بن موسى عن إسرائيل عن أبي إسحاق عن البراء قال : اعتمر النبي صلى الله عليه و سلم في ذي القعدة فأبى أهل مكة أن يدعوه يدخل مكة حتى قاضاهم على أن يقيموا بها ثلاثة أيام فلما كتبوا الكتاب كتبوا : هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله قالوا : لا نقر بهذا لو نعلم أنك رسول الله ما منعناك شيئا و لكن أنت محمد بن عبد الله قال : [ أنا رسول الله و أنا محمد بن عبد الله ] ثم قال لعلي بن أبي طالب : [ امح رسول الله قال : لا و الله لا أمحوك أبدا فأخذ رسول الله صلى الله عليه و سلم الكتاب و ليس يحسن يكتب فكتب : هذا ما قاضى عليه محمد بن عبد الله لا يدخل مكة السلاح إلا السيف في القراب و ألا يخرج من أهلها بأحد أراد أن يتبعه و ألا يمنع من أصحابه أحدا أراد أن يقيم بها ] (3/442)
فلما دخل و مضى الأجل أتوا عليا فقالوا : قل لصاحبك : اخرج عنا فقد مضى الأجل فخرج النبي صلى الله عليه و سلم فتبعته ابنة حمزة تنادي : يا عم يا عم فتناولها علي فأخذ بيدها و قال لفاطمة : دونك ابنة عمك فحملتها فاختصم فيها علي و زيد و جعفر فقال علي أنا أخذتها و هي ابنة عمي و قال جعفر ابنة عمي و خالتها تحتي و قال زيد : ابنة أخي فقضى بها النبي صلى الله عليه و سلم لخالتها و قال : [ الخالة بمنزلة الأم ] و قال لعلي : [ أنت مني و أنا منك ] و قال لجعفر : [ أشبهت خلقي و خلقي ] و قال لزيد : [ أنت أخونا و مولانا ] قال علي : ألا تتزوج ابنة حمزة قال : [ إنها ابنة أخي من الرضاعة ]
تفرد به البخاري من هذا الوجه
و قد روى الواقدي قصة ابنة حمزة فقال : [ حدثني ابن أبي حبيبة عن داود بن الحصين عن عكرمة عن ابن عباس أن عمارة ابنة حمزة بن عبد المطلب و أمها سلمى بنت عميس كانت بمكة
فلما قدم رسول الله صلى الله عليه و سلم كلم علي بن أبي طالب رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : علام نترك ابنة عمنا يتيمة بين ظهراني المشركين ؟ فلم ينه النبي صلى الله عليه و سلم عن إخراجها فخرج بها فتكلم زيد بن حارثة و كان وصي حمزة و كان النبي صلى الله عليه و سلم قد آخى بينهما حين آخى بين المهاجرين فقال : أنا أحق بها ابنة أخي فلما سمع بذلك جعفر قال : الخالة والدة و أنا أحق بها لمكان خالتها عندي أسماء بنت عميس و قال علي : ألا أراكم تختصمون ! هي ابنة عمي و أنا أخرجتها من بين أظهر المشركين و ليس لكم إليها سبب دوني و أنا أحق بها منكم فقال النبي صلى الله عليه و سلم : أنا أحكم بينكم أما أنت يا زيد فمولى الله و مولى رسول الله و أما أنت يا جعفر فتشبه خلقي و خلقي و أنت يا جعفر أولى بها تحتك خالتها و لا تنكح المرأة على خالتها و لا على عمتها فقضى بها لجعفر ]
قال الواقدي : فلما قضى بها لجعفر قام جعفر فحجل حول رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : ما هذا يا جعفر ؟ فقال : يا رسول الله كان النجاشي إذا أرضى أحدا قام فحجل حوله فقال للنبي صلى الله عليه و سلم : تزوجها فقال : ابنة أخي من الرضاعة [ فزوجها رسول الله صلى الله عليه و سلم سلمة بن أبي سلمة فكان النبي صلى الله عليه و سلم يقول : هل جزيت أبا سلمة ]
قلت : لأنه ذكر الواقدي و غيره أنه هو الذي زوج رسول الله صلى الله عليه و سلم بأمه أم سلمة لأنه كان أكبر من أخيه عمر بن أبي سلمة و الله أعلم
قال ابن إسحاق : و رجع رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى المدينة في ذي الحجة و تولى المشركون تلك الحجة قال ابن هشام : و أنزل الله في هذه العمرة فيما حدثني أبو عبيدة قوله تعالى : { لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين محلقين رؤوسكم و مقصرين لا تخافون فعلم ما لم تعلموا فجعل من دون ذلك فتحا قريبا } يعني خيبر (3/442)
ذكر البيهقي هاهنا سرية ابن أبي العوجاء السلمي إلى بني سليم
ثم ساق بسنده عن الواقدي : حدثني محمد بن عبد الله بن مسلم عن الزهري قال : لما رجع رسول الله صلى الله عليه و سلم من عمرة القضية رجع في ذي الحجة من سنة سبع فبعث ابن أبي العوجاء السلمي في خمسين فارسا فخرج العين إلى قومه فحذرهم و أخبرهم فجمعوا جمعا كثيرا و جاءهم ابن أبي العوجاء و القوم معدون فلما أن رآهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم و رأوا جمعهم دعوهم إلى الإسلام فرشقوهم بالنبل و لم يسمعوا قولهم و قالوا : لا حاجة لنا إلى ما دعوتم إليه فرموهم ساعة و جعلت الأمداد تأتي حتى أحدقوا بهم من كل جانب فقاتل القوم قتالا شديدا حتى قتل عامتهم و أصيب ابن أبي العوجاء بجراحات كثير فتحامل حتى رجع إلى المدينة بمن بقي معه من أصحابه في أول يوم من شهر صفر سنة ثمان
فصل : قال الواقدي : في الحجة من هذه السنة ـ يعني سنة سبع ـ رد رسول الله صلى الله عليه و سلم ابنته زينب على زوجها أبي العاص بن الربيع و قد قدمنا الكلام على ذلك و فيها قدم حاطب بن أبي بلتعة من عند المقوقس و معه مارية و سيرين و قد أسلمتا في الطريق و غلام خصي
قال الواقدي : و فيها اتخذ رسول الله صلى الله عليه و سلم منبره درجتين و مقعده قال : و الثابت عندنا أنه عمل في سنة ثمان (3/444)
فصل في إسلام عمرو بن العاص و خالد بن الوليد و عثمان بن طلحة بن أبي طلحة رضي الله عنهم و كان قدومهم في أوائل سنة ثمان على ما سيأتي
قد تقدم طرف من ذلك فيما ذكره ابن إسحاق بعد مقتل أبي رافع اليهودي و ذلك في سنة خمس من الهجرة
و إنما ذكره الحافظ البيهقي هاهنا بعد عمرة القضاء فروي من طريق الواقدي : أنبأنا عبد الحميد بن جعفر عن أبيه قال عمرو بن العاص : كنت للإسلام مجانبا معاندا حضرت بدرا مع المشركين فنجوت ثم حضرت أحدا فنجوت ثم حضرت الخندق فنجوت
قال : فقلت في نفسي : كم أوضع ! و الله ليظهرن محمد على قريش فلحقت بمالي بالرهط و أقللت من الناس ـ أي من لقائهم ـ
فلما حضر الحديبية و انصرف رسول الله صلى الله عليه و سلم في الصلح و رجعت قريش إلى مكة جعلت أقول : يدخل محمد قابلا مكة بأصحابه ما مكة بمنزل و لا الطائف و لا شيء خير من الخروج و أنا بعد ناء عن الإسلام و أرى لو أسلمت قريش كلها لم أسلم
فقدمت مكة و جمعت رجالا من قومي و كانوا يرون رأي و يسمعون مني و يقدمونني فيما نابهم فقلت لهم : كيف أنا فيكم ؟ قالوا ذو رأينا و مدرهنا في يمن نقيبة و بركة أمر قال : قلت : تعلمون إني و الله لأرى أمر محمد أمرا يعلوا الأمور علوا منكرا و إني قد رأيت رأيا قالوا : و ما هو ؟ قلت : نلحق بالنجاشي فنكون معه فإن يظهر محمد كنا عند النجاشي فإنا أن نكون تحت يد النجاشي أحب إلينا من أن نكون تحت يد محمد و إن تظهر قريش فنحن من قد عرفوا
قالوا : هذا الرأي قال : قلت : فاجمعوا ما نهديه له ـ و كان من أحب ما يهدى إليه من أرضنا الأدم ـ فجمعنا له أدما كثيرا ثم خرجنا حتى قدمنا على النجاشي فوالله إنا لعنده إذ جاء عمرو بن أمية الضمري و كان رسول الله صلى الله عليه و سلم قد بعثه بكتاب كتبه يزوجه أم حبيبة بنت أبي سفيان فدخل عليه ثم خرج من عنده فقلت لأصحابي : هذا عمرو بن أمية الضمري و لو قد دخلت على النجاشي فسألته إياه فأعطانيه فضربت عنقه فإذا فعلت ذلك سرت قريش و كنت قد أجزأت عنها حين قتلت رسول محمد
فدخلت على النجاشي فسجدت له كما كنت أصنع فقال : مرحبا بصديقي أهديت لي من بلادك شيئا ! قال : قلت : نعم أيها الملك أهديت لك أدما كثيرا ثم قدمته فأعجبه و فرق منه شيئا بين بطارقته و أمر بسائره فأدخل في موضع و أمر أن يكتب و يحتفظ به فلما رأيت طيب نفسه قلت : أيها الملك إني قد رأيت رجلا خرج من عندك و هو رسول عدو لنا قد وترنا و قتل أشرافنا و خيارنا فأعطينيه فأقتله فغضب من ذلك و رفع يده فضرب بها أنفي ضربة ظننت أنه كسره فابتدر منخراي فجعلت أتلقى الدم بثيابي فأصابني من الذل ما لو انشقت بي الأرض دخلت فيها فرقا منه
ثم قلت : أيها الملك لو ظننت أنك تكره ما قلت ما سألتك قال : فاستحيا و قال : يا عمرو تسألني أن أعطيك رسول من يأتيه الناموس الأكبر الذي كان يأتي موسى و الذي كان يأتي عيسى لتقتله
قال عمرو : فغير الله قلبي عن ما كنت عليه و قلت في نفسي : عرف هذا الحق العرب و العجم و تخالف أنت ! ثم قلت : أتشهد أيها الملك بهذا ؟ قال : نعم أشهد به عند الله يا عمرو فأطعني و اتبعه فوالله إنه لعلى الحق و ليظهرن على من خالفه كما ظهر موسى على فرعون و جنوده
قلت أتبايعني له على الإسلام ؟ قال : نعم فبسط يده فبايعني على الإسلام ثم دعا بطست فغسل عني الدم و كساني ثيابا و كانت ثيابي قد امتلأت بالدم فألقيتها ثم خرجت على أصحابي فلما رأوا كسوة النجاشي سروا بذلك و قالوا : هل أدركت من صاحبك ما أردت ؟ فقلت لهم : كرهت أن أكلمه في أول مرة و قلت أعود إليه
فقالوا : الرأي ما رأيت
قال : ففارقتهم و كأني أعمد إلى حاجة فعمدت إلى موضع السفن فأجد سفينة قد شحنت تدفع قال : فركبت معهم و دفعوها حتى انتهوا إلى الشعبة و خرجت من السفينة و معي نفقة فابتعت بعيرا و خرجت أريد المدينة حتى مررت على مر الظهران ثم مضيت حتى إذا كنت بالهدة فإذا رجلان قد سبقاني بخير كثير يريدان منزلا و أحدهما داخل في الخيمة و الآخر يمسك الراحلتين قال : فنظرت فإذا خالد بن الوليد قال : قلت : أين تريد ؟ قال : محمدا دخل الناس بالإسلام فلم يبق أحد به طعم و الله لو أقمت لأخذ برقابنا كما يؤخذ برقبة الضبع في مغارتها
قلت : و أنا و الله قد أردت محمدا و أردت الإسلام فخرج عثمان بن طلحة فرحب بي فنزلنا جميعا في المنزل
ثم اتفقنا حتى أتينا المدينة فما أنسى قول رجل لقيناه ببئر أبي عتبة يصيح : يا رباح يا رباح يا رباح فتفاءلنا بقوله و سرنا ثم نظر إلينا فأسمعه يقول : قد أعطت مكة المقادة بعد هذين فظننت أنه يعنيني و يعني خالد بن الوليد و ولى مدبرا إلى المسجد سريعا فظننت أنه بشر رسول الله صلى الله عليه و سلم بقدومنا فكان كما ظننت
و أنخنا بالحرة فلبسنا من صالح ثيابنا ثم نودي بالعصر فانطلقنا حتى اطلعنا عليه و إن لوجهه تهللا و المسلمون حوله قد سروا بإسلامنا فتقدم خالد بن الوليد فبايع ثم تقدم عثمان بن طلحة فبايع ثم تقدمت فوالله ما هو إلا أن جلست بين يديه فما استطعت أن أرفع طرفي حياء منه قال : فبايعته على أن يغفر لي ما تقدم من ذنبي و لم يحضرني ما تأخر فقال : [ الإسلام يجب ما كان قبله و الهجرة تجب ما كان قبلها ]
قال : فوالله ما عدل بي رسول الله صلى الله عليه و سلم و بخالد بن الوليد أحدا من أصحابه في أمر حزبه منذ أسلمنا و لقد كنا عند أبي بكر بتلك المنزلة و لقد كنت عند عمر بتلك الحالة و كان عمر على خالد كالعاتب
قال عبد الحميد بن جعفر شيخ الواقدي : فذكرت هذا الحديث ليزيد بن حبيب فقال : أخبرني راشد مولى حبيب بن أبي أوس الثقفي عن مولاه حبيب عن عمرو بن العاص نحو ذلك
قلت : كذلك رواه محمد بن إسحاق عن يزيد بن أبي حبيب عن راشد عن مولاه حبيب قال : حدثني عمرو بن العاص من فيه فذكر ما تقدم في سنة خمس بعد مقتل أبي رافع و سياق الواقدي أبسط و أحسن
قال الواقدي عن شيخه عبد الحميد : فقلت ليزيد بن أبي حبيب : وقت لك متى قدم عمرو و خالد ؟ قال : لا إلا أنه قال قبل الفتح قلت : فإن أبي أخبرني أن عمرا و خالدا و عثمان بن طلحة قدموا الهلال صفر سنة ثمان
و في صحيح مسلم ما يشهد لسياق إسلامه و كيفية حسن صحبته لرسول الله صلى الله عليه و سلم مدة حياته و كيف مات و هو يتأسف على ما كان منه في مدة مباشرته الإمارة بعده عليه الصلاة و السلام و صفة موته رضي الله عنه (3/446)
قال الواقدي : حدثني يحيى بن المغيرة بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام قال سمعت أبي يحدث عن خالد بن الوليد قال : لما أراد الله بي ما أراد من الخير قذف في قلبي الإسلام و حضرني رشدي فقلت : قد شهدت هذه المواطن كلها على محمد صلى الله عليه و سلم فليس في مواطن أشهده إلا أنصرف و أنا أرى في نفسي أني موضع في غير شيء و أن محمدا سيظهر
فلما خرج رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى الحديبية خرجت في خيل من المشركين فلقيت رسول الله صلى الله عليه و سلم في أصحابه بعسفان فقمت بإزائه و تعرضت له فصلى بأصحابه الظهر أمامنا فهممنا أن نغير عليهم ثم لم يعزم لنا ـ و كانت فيه خيرة ـ فاطلع على ما في أنفسنا من الهم به فصلى بأصحابه صلاة العصر صلاة الخوف فوقع ذلك منا موقعا و قلت : الرجل ممنوع فاعتزلنا و عدل عن سنن خيلنا و أخذ ذات اليمين
فلما صالح قريشا بالحديبية و دافعته قريش بالرواح قلت في نفسي : أي شيء بقي ؟ أين أذهب ؟ إلى النجاشي ؟ فقد اتبع محمدا و أصحابه عنده آمنون فأخرج إلى هرقل فأخرج من ديني إلى نصرانية أو يهودية ؟ فأقيم في عجم فأقيم في داري بمن بقي ؟ فأنا في ذلك إذ دخل رسول الله صلى الله عليه و سلم مكة في عمرة القضية فتغيبت و لم أشهد دخوله و كان أخي الوليد بن الوليد قد دخل مع النبي صلى الله عليه و سلم في عمرة القضية فطلبني فلم يجدني فكتب إلي كتابا فإذا فيه : بسم الله الرحمن الرحيم أما بعد فإني لم أر أعجب من ذهاب رأيك عن الإسلام و عقلك عقلك ! و مثل الإسلام جهله أحد ؟ و قد سألني رسول الله صلى الله عليه و سلم عنك و قال : أين خالد ؟ فقلت يأتي الله به فقال : [ مثله جهل الإسلام و لو كان جعل نكايته و حده مع المسلمين كان خيرا له و لقدمناه على غيره ] فاستدرك يا أخي ما قد فاتك من مواطن صالحة
قال : فلما جاءني كتابه نشطت للخروج و زادني رغبة في الإسلام و سرني سؤال رسول الله صلى الله عليه و سلم عني و أرى في النوم كأني في بلاد ضيقة مجدبة فخرجت في بلاد خضراء واسعة فقلت : إن هذه لرؤيا فلما أن قدمت المدينة قلت : لأذكرنها لأبي بكر فقال : مخرجك الذي هداك الله للإسلام و الضيق الذي كنت فيه من الشرك
قال : فلما أجمعت الخروج إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم قلت : من أصاحب إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم ؟ فلقيت صفوان بن أمية فقلت : يا أبا وهب أما ترى ما نحن فيه ؟ إنما نحن كأضراس و قد ظهر محمد على العرب و العجم فلو قدمنا على محمد و اتبعناه فإن شرف محمد لنا شرف ؟ فأبى أشد الإباء فقال : لو لم يبق غيري ما اتبعته أبدا
فافترقنا و قلت : هذا رجل قتل أخوه و أبوه ببدر فلقيت عكرمة بن أبي جهل فقلت له مثل ما قلت لصفوان بن أمية فقال لي مثل ما قال لي صفوان بن أمية قلت : فاكتم علي قال : لا أذكره
فخرجت إلى منزلي فأمرت براحلتي فخرجت بها إلى أن لقيت عثمان بن طلحة فقلت : إن هذا لي صديق فلو ذكرت له ما أرجو ثم ذكرت من قتل من آبائه فكرهت أن أذكره ثم قلت : و ما علي وأنا راحل من ساعتي فذكرت له ما صار الأمر إليه فقلت : إنما نحن بمنزلة ثعلب في جحر لو صب فيه ذنوب من ماء لخرج و قلت له نحوا مما قلت لصاحبي فأسرع الإجابة و قلت له : إني غدوت اليوم و أنا أريد أن أغدوا و هذه راحلتي بفج مناخة قال : فاتعدت أنا و هو يأجج إن سبقني أقام و إن سبقته أقمت عليه
قال : فأدلجنا سحرا فلم يطلع الفجر حتى التقينا بيأجج فغدونا حتى انتهينا إلى الهدة فنجد عمرو بن العاص بها قال : مرحبا بالقوم فقلنا : و بك فقال : إلى أين مسيركم ؟ فقلنا : و ما أخرجك ؟ فقال : و ما أخرجكم ؟ قلنا : الدخول في الإسلام و اتباع محمد صلى الله عليه و سلم قال : و ذاك الذي أقدمني
فاصطحبنا جميعا حتى دخلنا المدينة فأنخنا بظهر الحرة ركابنا فأخبر بنا رسول الله صلى الله عليه و سلم فسر بنا فلبست من صالح ثيابي ثم عمدت إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فلقيني أخي : فقال أسرع فإن رسول الله صلى الله عليه و سلم قد أخبر بك فسر بقدومك و هو ينتظركم
فأسرعنا المشي فاطلعت عليه فما زال يتبسم إلى حتى وقفت عليه فسلمت عليه بالنبوة فرد على السلام بوجه طلق فقلت : إني أشهد أن لا إله إلا الله و أنك رسول الله فقال [ تعال ] ثم قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ الحمد لله الذي هداك قد كنت أرى لك عقلا رجوت ألا يسلمك إلا إلى خير ] قلت يا رسول الله إني قد رأيت ما كنت أشهد من تلك المواطن عليك معاندا للحق فادع الله أن يغفرها لي فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ الإسلام يجب ما كان قبله ] قلت : يا رسول الله على ذلك قال : [ اللهم اغفر لخالد بن الوليد كل ما أوضع فيه من صد عن سبيل الله ]
قال خالد : و تقدم عثمان و عمرو فبايعا رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : و كان قدومنا في صفر سنة ثمان قال : و الله ما كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يعدل بي أحدا من أصحابه فيما حز به (3/450)
قال الواقدي : حدثني ابن أبي سبرة عن إسحاق بن عبد الله بن أبي فروة عن عمر بن الحكم قال : بعث رسول الله صلى الله عليه و سلم شجاع بن وهب في أربعة و عشرين رجلا إلى جمع من هوازن و أمره أن يغير عليهم فخرج و كان يسير الليل و يكمن النهار حتى جاءهم و هم غارون و قد أوعز إلى أصحابه ألا تمنعوا في الطلب فأصابوا نعما كثيرة وشاء فاستاقوا ذلك حتى إذا قدموا المدينة فكانت سهامهم خمسة عشر بعيرا كل رجل و زعم غيره أنهم أصابوا سبيا أيضا و أن الأمير اصطفى عنهم جارية وضيئة ثم قدم أهلوهم مسلمين فشاور النبي صلى الله عليه و سلم أميرهم في ردهن إليهم فقال : نعم فردوهن و خير الجارية التي عنده فاختارت المقام عنده
و قد تكون هذه السرية هي المذكورة فيما رواه الشافعي عن مالك عن نافع عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه و سلم بعث سرية قبل نجد فكان فيهم عبد الله بن عمر قال : فأصبنا إبلا كثيرا فبلغت سهامنا اثني عشرا بعيرا و نفلنا رسول الله صلى الله عليه و سلم بعيرا بعيرا
أخرجاه في الصحيحين من حديث مالك و رواه مسلم أيضا من حديث الليث و من حديث عبد الله كلهم عن نافع عن ابن عمر بنحوه
و قال أبو داود : حدثنا هناد حدثنا عبدة عن محمد بن إسحاق عن نافع عن ابن عمر قال : بعث رسول الله صلى الله عليه و سلم سرية إلى نجد فخرجت فيها فأصبنا نعما كثيرا فنفلنا أميرنا بعيرا بعيرا لكل إنسان ثم قدمنا على رسول الله صلى الله عليه و سلم فقسم بيننا غنيمتنا فأصاب كل رجل منا اثنا عشر بعيرا بعد الخمس و ما حاسبنا رسول الله صلى الله عليه و سلم بالذي أعطانا صاحبنا و لا عاب عليه ما صنع فكان لكل منا ثلاثة عشر بعيرا بنفله (3/453)
قال الواقدي : حدثنا محمد بن عبد الله [ عن ] الزهري قال : بعث رسول الله صلى الله عليه و سلم كعب بن عمير الغفاري في خمسة عشر رجلا حتى انتهوا إلى ذات أطلاح من الشام فوجدوا جمعا من جمعهم كثيرا فدعوهم إلى الإسلام فلم يستجيبوا لهم و رشقوهم بالنبل فلما رأى ذلك أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم قاتلوهم أشد القتال حتى قتلوا فارتث منهم رجل جريح في القتلى فلما أن برد عليه الليل تحامل حتى أتى رسول الله صلى الله عليه و سلم فهم بالبعثة إليهم فبلغه أنهم ساروا إلى موضع آخر (3/454)
و هي سرية زيد بن حارثة في نحو من ثلاثة آلاف إلى أرض البلقاء من أطراف الشام
قال محمد بن إسحاق : بعد قصة عمرة القضية : فأقام رسول الله صلى الله عليه و سلم بالمدينة بقية ذي الحجة ـ وولى تلك الحجة المشركون ـ و المحرم و صفرا و شهري ربيع و بعث في جمادى الأولى بعثه إلى الشام الذين أصيبوا بمؤتة
[ فحدثني محمد بن جعفر بن الزبير عن عروة بن الزبير قال : بعث رسول الله صلى الله عليه و سلم بعثه إلى مؤتة في جمادى الأولى من سنة ثمان و استعمل عليهم زيد بن حارثة و قال : إن أصيب زيد فجعفر بن أبي طالب على الناس فإن أصيب جعفر فعبد الله بن رواحة على الناس ]
فتجهز الناس ثم تهيأوا للخروج و هم ثلاثة آلاف
و قال الواقدي : [ حدثني ربيعة بن عثمان عن عمرو بن الحكم عن أبيه قال : جاء النعمان بن فنحص اليهودي فوقف على رسول الله صلى الله عليه و سلم مع الناس فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : زيد بن حارثة أمير الناس فإن قتل زيد فجعفر بن أبي طالب فإن قتل جعفر فعبد الله بن رواحة فإن قتل عبد الله بن رواحة فليرتضي المسلمون بينهم رجلا فليجعلوه عليهم ]
فقال النعمان : أبا القاسم إن كنت نبيا فلو سميت من سميت قليلا أو كثيرا أصيبوا جميعا إن الأنبياء من بني إسرائيل كانوا إذا سموا الرجل على القوم فقالوا : إن أصيب فلان ففلان فلو سموا مائة أصيبوا جميعا ثم جعل يقول لزيد : اعهد فإنك لا ترجع أبدا إن كان محمد نبيا فقال زيد أشهد أنه نبي صادق بار صلى الله عليه و سلم
رواه البيهقي (3/455)
قال ابن إسحاق : فلما حضر خروجهم ودع الناس أمراء رسول الله صلى الله عليه و سلم و سلموا عليهم فلما ودع عبد الله بن رواحة مع من ودع بكى فقالوا : ما يبكيك يا بن رواحة فقال : أما و الله ما بي حب الدنيا و لا صبابة بكم و لكني سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقرأ آية من كتاب الله يذكر فيها النار { و إن منكم إلا واردها كان على ربك حتما مقضيا } فلست أدري كيف لي بالصدر بعد الورود ؟ !
فقال المسلمون : صحبكم الله و دفع عنكم و ردكم إلينا صالحين
فقال عبد الله بن رواحة :
( لكنني أسأل الرحمن مغفرة ... و ضربة ذات فرغ تقذف الزبدا )
( أو طعنة بيدي حران مجهزة ... بحربة تنفذ الأحشاء و الكبدا )
( حتى يقال إذا مروا على جدثي ... أرشده الله من غاز و قد رشدا )
قال ابن إسحاق : ثم إن القوم تهيأوا للخروج فأتى عبد الله بن رواحة رسول الله صلى الله عليه و سلم فودعه ثم قال :
( فثبت الله ما آتاك من حسن ... تثبيت موسى و نصرا كالذي نصروا )
( إني تفرست فيك الخير نافلة ... الله يعلم أني ثابت البصر )
( أنت الرسول فمن يحرم نوافله ... و الوجه منه فقد أزرى به القدر )
قال ابن إسحاق : ثم خرج القوم و خرج رسول الله صلى الله عليه و سلم يشيعهم حتى إذا ودعهم و انصرف قال عبد الله بن رواحة :
( خلف السلام على امرىء ودعته ... في النخل خير مشيع و خليل )
و قال الإمام أحمد : [ حدثنا عبد الله بن محمد حدثنا أبو خالد الأحمر عن الحجاج عن الحكم عن مقسم عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه و سلم بعث إلى مؤتة فاستعمل زيدا فإن قتل زيد فجعفر فإن قتل جعفر فابن رواحة فتخلف ابن رواحة فجمع مع النبي صلى الله عليه و سلم فرآه فقال : ما خلفك ؟ فقال : أجمع معك قال : لغدوة أو روحة خير من الدنيا و ما فيها ]
و قال أحمد : [ حدثنا أبو معاوية حدثنا الحجاج عن الحكم عن مقسم عن ابن عباس قال : بعث رسول الله صلى الله عليه و سلم عبد الله بن رواحة في سرية فوافق ذلك يوم الجمعة قال : فقدم أصحابه و قال : أتخلف فأصلي مع رسول الله صلى الله عليه و سلم الجمعة ثم ألحقهم قال : فلما صلى رسول الله صلى الله عليه و سلم رآه فقال : ما منعك أن تغدو مع أصحابك ؟ فقال : أردت أن أصلي معك الجمعة ثم ألحقهم فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : لو أنفقت ما في الأرض جميعا ما أدركت غدوتهم ]
و هكذا رواه الترمذي عن أحمد بن منيع عن أبي معاوية ثم قال : لا نعرفه إلا من هذا الوجه و قال شعبة : لم يسمع الحكم عن مقسم إلا خمسة أحاديث ـ و عدها شعبة ـ و ليس هذا الحديث منها
قلت : و الحجاج بن أرطاة في روايته نظر و الله أعلم
و المقصود من إيراد هذا الحديث أنه يقتضي أن خروج الأمراء إلى مؤتة كان يوم جمعة و الله أعلم (3/456)
قال ابن إسحاق : ثم مضوا حتى نزلوا معان من أرض الشام فبلغ الناس أن هرقل قد نزل مآب من أرض البلقاء في مائة ألف من الروم و انضم إليه من لخم و جذام و القين و بهراء و بلى مائة ألف منهم عليهم رجل من بلى ثم أحد إراشة يقال له مالك بن زافلة
و في رواية يونس عن ابن إسحاق : فبلغهم أن هرقل نزل بمآب في مائة ألف من الروم و مائة ألف من المستعربة
( و قيل : كان الروم مائتي ألف و من أعداهم خمسون ألفا و أقل ما قيل : إن الروم كانوا مائة ألف و من العرب خمسون ألفا حكاه السهيلي )
فلما بلغ ذلك المسلمين أقاموا على معان ليلتين ينظرون في أمرهم و قالوا : نكتب إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم نخبره بعدد عدونا فإما أن يمدنا بالرجال و إما أن يأمرنا بأمره فنمضي له قال : فشجع الناس عبد الله بن رواحة و قال : يا قوم و الله إن التي تكرهون للتي خرجتم تطلبون الشهادة و ما نقاتل الناس بعدد و لا قوة و لا كثرة ما نقاتلهم إلا بهذا الدين الذي أكرمنا الله به فانطلقوا فإنما هي إحدى الحسنيين إما ظهور و إما شهادة
قال : فقال الناس : قد و الله صدق ابن رواحة فمضى الناس
فقال عبد الله بن رواحة في محبسهم ذلك :
( جلبنا الخيل من أجأ و فرع ... تعر من الحشيش إلى العكوم )
( حذوناها من الصوان سبتا ... أزل كأن صفحته أديم )
( أقامت ليلتين على معان ... فأعقب بعد فترتها جموم )
( فرحنا و الجياد مسومات ... تنفس في مناخرها سموم )
( فلا و أبي مآب لنأتينها ... و إن كانت بها عرب و روم )
( فعبأنا أعنتها فجاءت ... عوابس و الغبار لها بريم )
( بذي لجب كأن البيض فيه ... إذا برزت قوانسها النجوم )
( فراضية المعيشة طلقتها ... أسنتنا فتنكح أو تئيم )
قال ابن إسحاق : فحدثني عبد الله بن أبي بكر أنه حدث عن زيد بن أرقم قال : كنت يتيما لعبد الله بن رواحة في حجره فخرج بي في سفره ذلك مردفي على حقيبة رحله فوالله إنه ليسير ليلتئذ سمعته و هو ينشد أبياته هذه :
( إذا أدنيتني و حملت رحلي ... مسيرة أربع بعد الحساء )
( فشأنك أنعم و خلاك ذم ... و لا أرجع إلى أهلي ورائي )
( و جاء المسلمون و غادروني ... بأرض الشام مشتهي الثواء )
( و ردك كل ذي نسب قريب ... إلى الرحمن منقطع الإخاء )
( هنالك لا أبالي طلع بعل ... و لا نخل أسافلها رواء )
قال : فلما سمعتهن منه بكيت فخفقني بالدرة و قال : ما عليك يا لكع أن يرزقني الله الشهادة و ترجع بين شعبتي الرحل ؟
ثم قال عبد الله بن رواحة في بعض سفره ذلك و هو يرتجز :
( يا زيد زيد اليعملات الذبل ... تطاول الليل هديت فانزل )
قال ابن إسحاق : ثم مضى الناس حتى إذا كانوا بتخوم البلقاء لقيتهم جموع هرقل من الروم و العرب بقرية من قرى البلقاء يقال لها مشارف ثم دنا العدو و انحاز المسلمون إلى قرية يقال لها مؤتة فالتقى الناس عندها فتعبى لهم المسلمون فجعلوا على ميمنتهم رجلا من بني عذرة يقال له قطبة بن قتادة و على ميسرتهم رجلا من الأنصار يقال له عباية بن مالك
و قال الواقدي : حدثني ربيعة بن عثمان عن المقبري عن أبي هريرة قال : شهدت مؤتة فلما دنا منا المشركون رأينا ما لا قبل لأحد به من العدة و السلاح و الكراع و الديباج و الحرير و الذهب فبرق بصري فقال لي ثابت بن أرقم : يا أبا هريرة كأنك ترى جموعا كثيرة ؟ قلت : نعم قال : إنك لم تشهد بدرا معنا إنا لم ننصر بالكثرة
رواه البيهقي (3/458)
قال ابن إسحاق : ثم التقى الناس فاقتتلوا فقاتل زيد بن حارثة براية رسول الله صلى الله عليه و سلم حتى شاط في رماح القوم ثم أخذها جعفر فقاتل القوم حتى قتل و كان جعفر أول رجل من المسلمين عقر في لإسلام
و قال ابن إسحاق : و حدثني يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير عن أبيه عباد حدثني أبي الذي أرضعني و كان أحد بني مرة بن عوف و كان في تلك الغزوة غزوة مؤتة قال : و الله لكأني أنظر إلى جعفر حين اقتحم عن فرس له شقراء ثم عقرها ثم قاتل القوم حتى قتل و هو يقول :
( يا حبذا الجنة و اقترابها ... طيبة و بارد شرابها )
( و الروم روم قد دنا عذابها ... كافرة بعيدة أنسابها )
( علي إن لاقيتها ضرابها )
و هذا الحديث قد رواه أبو داود من حديث أبي إسحاق و لم يذكر الشعر
و قد استدل به من جوز قتل الحيوان خشية أن ينتفع به العدو كما يقول أبو حنيفة في الأغنام إذا لم تتبع في السير و يخشى من لحوق العدو و انتفاعهم بها أنها تذبح و تحرق ليحال بينهم و بين ذلك و الله أعلم
قال السهيلي : و لم ينكر على جعفر أحد فدل على جوازه إلا إذا أمن أخذ العدو له و لا يدخل ذلك في النهي عن قتل الحيوان عبثا قال ابن هشام : و حدثني من أثق به من أهل العلم أن جعفر أخذ اللواء بيمينه فقطعت فأخذ اللواء بشماله فقطعت فاحتضنه بعضديه حتى قتل و هو ابن ثلاث و ثلاثين سنة فأثابه الله بذلك جناحين في الجنة يطير بهما حيث يشاء و يقال : إن رجلا من الروم ضربه يومئذ ضربة فقطعته نصفين (3/461)
قال ابن إسحاق : و حدثني يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير عن أبيه عباد قال : حدثني أبي الذي أرضعني و كان أحد بني مرة بن عوف قال : فلما قتل جعفر أخذ عبد الله بن رواحة الراية ثم تقدم بها و هو على فرسه فجعل يستنزل نفسه و يتردد بعض التردد و يقول :
( أقسمت يا نفس لتنزلنه ... لتنزلن أو لتكرهنه )
( إن أجلب الناس و شدوا الرنة ... مالي أراك تكرهين الجنة )
( قد طال ما قد كنت مطمئنة ... هل أنت إلا نطفة في شنة )
و قال أيضا :
( يا نفس إلا تقتلي تموتي ... هذا حمام الموت قد صليت )
( وما تمنيت فقد أعطيت ... إن تفعلي فعلهما هديت )
يريد صاحبيه زيدا و جعفرا ثم نزل فلما نزل أتاه ابن عم له بعرق من لحم فقال : شد بهذا صلبك فإنك قد لقيت في أيامك هذه ما لقيت فأخذه من يده فانتهش منه نهشة ثم سمع الحطمة في ناحية الناس فقال : و أنت في الدنيا ! ثم ألقاه من يده ثم أخذ سيفه ثم تقدم فقاتل حتى قتل رضي الله عنه
قال : ثم أخذ الراية ثابت بن أرقم أخو بني العجلان فقال : يا معشر المسلمين اصطلحوا على رجل منكم قالوا : أنت قال : ما أنا بفاعل فاصطلح الناس على خالد بن الوليد فلما أخذ الراية دافع القوم و خاشى بهم ثم انحاز و انحيز عنه حتى انصرف الناس (3/462)
قال ابن إسحاق : و لما أصيب القوم قال رسول الله صلى الله عليه و سلم ـ فيما بلغني ـ : [ أخذ الراية زيد بن حارثة فقاتل بها حتى قتل شهيدا ثم أخذها جعفر فقاتل بها حتى قتل شهيدا قال : ثم صمت رسول الله صلى الله عليه و سلم حتى تغيرت وجوه الأنصار و ظنوا أنه قد كان في عبد الله بن رواحة بعض ما يكرهون ثم قال : أخذها عبد الله بن رواحة فقاتل بها حتى قتل شهيدا
ثم قال : لقد رفعوا إلى الجنة فيما يرى النائم على سرر من ذهب فرأيت في سرير عبد الله بن رواحة ازورارا عن سريري صاحبيه فقلت : عم هذا ؟ فقيل لي : مضيا و تردد عبد الله بن رواحة بعض التردد ثم مضى ]
هكذا ذكر ابن إسحاق هذا منقطعا
و قد قال البخاري : [ حدثنا أحمد بن واقد حدثنا حماد بن يزيد عن أيوب عن حميد بن هلال عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه و سلم نعى زيدا و جعفرا و ابن رواحة للناس قبل أن يأتهم خبر فقال : أخذ الراية زيد فأصيب ثم أخذها جعفر فأصيب ثم أخذها ابن رواحة فأصيب و عيناه تذرفان حتى أخذ الراية سيف من سيوف الله حتى فتح الله عليهم ]
تفرد به البخاري و رواه في موضع آخر و قال فيه و هو على المنبر : [ و ما يسرهم أنهم عندنا ]
و قال البخاري : [ حدثنا أحمد بن أبي بكر حدثنا مغيرة بن عبد الرحمن المخزومي و ليس بالخزامي عن عبد الله بن سعيد عن نافع عن عبد الله بن عمر قال : أمر رسول الله صلى الله عليه و سلم في غزوة مؤتة زيد بن حارثة فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : إن قتل زيد فجعفر و إن قتل جعفر فعبد الله بن رواحة قال عبد الله : كنت فيهم في تلك الغزوة فالتمسنا جعفر بن أبي طالب فوجدناه في القتلى و وجدنا في جسده بضعا و تسعين من ضربة و رمية ]
تفرد به البخاري أيضا
و قال البخاري أيضا : حدثنا أحمد حدثنا ابن وهب عن عمرو عن ابن أبي هلال ( هو سعيد بن أبي هلال الليثي ) قال : و أخبرني نافع أن ابن عمر أخبره أنه وقف على جعفر بن أبي طالب يومئذ و هو قتيل فعددت به خمسين بين طعنة و ضربة ليس منها شيء في دبره
و هذا أيضا من أفراد البخاري
و وجه الجمع بين هذه الرواية و التي قبلها أن ابن عمر اطلع على هذا العدد و غيره اطلع على أكثر من ذلك أو أن هذه في قبله أصيبها قبل أن يقتل فلما صرع إلى الأرض ضربوه أيضا ضربات في ظهره فعد ابن عمر ما كان في قبله و هو في وجوه الأعداء قبل أن يقتل رضي الله عنه
و مما يشهد لما ذكره ابن هشام من قطع يمينه و هي ممسكة اللواء ثم شماله
ما رواه البخاري : حدثنا محمد بن أبي بكر حدثنا عمر بن علي عن إسماعيل بن أبي خالد عن عامر قال : كان ابن عمر إذا حيى ابن جعفر قال : السلام عليك يابن ذي الجناحين و رواه أيضا في المناقب و النسائي من حديث يزيد بن هارون عن إسماعيل بن أبي خالد
و قال البخاري : حدثنا أبو نعيم حدثنا سفيان عن إسماعيل عن قيس بن أبي حازم قال : سمعت خالد بن الوليد يقول : لقد دق في يدي يوم مؤتة تسعة أسياف فما بقي في يدي إلا صفيحة يمانية
ثم رواه عن محمد بن المثنى عن يحيى عن إسماعيل حدثني قيس سمعت خالد بن الوليد يقول : لقد دق في يدي يوم مؤتة تسعة أسياف و صبرت في يدي صفيحة يمانية
انفرد به البخاري
و قال الحافظ أبو بكر البيهقي : [ حدثنا أبو نصر بن قتادة حدثنا أبو عمرو مطر حدثنا أبو خليفة الفضل بن الحباب الجمحي حدثنا سليمان بن حرب حدثنا الأسود بن شيبان عن خالد بن سمير قال : قدم علينا عبد الله بن رباح الأنصاري و كانت الأنصار تفقهه فغشيه الناس فغشيته فيمن غشيه فقال : حدثنا أبو قتادة فارس رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : بعث رسول الله صلى الله عليه و سلم جيش الأمراء و قال : عليكم زيد بن حارثة فإن أصيب زيد فجعفر فإن أصيب جعفر فعبد الله بن رواحة قال : فوثب جعفر و قال : يا رسول الله ما كنت أرغب أن تستعمل زيدا علي قال : امض فإنك لا تدري أي ذلك خير
فانطلقوا فلبثوا ما شاء الله فصعد رسول الله صلى الله عليه و سلم المنبر فأمر فنودي : الصلاة جامعة فاجتمع الناس على رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : أخبركم عن جيشكم هذا إنهم انطلقوا فلقوا العدو فقتل زيد شهيدا فاستغفر له ثم أخذ اللواء جعفر فشد على القوم حتى قتل شهيدا شهد له بالشهادة و استغفر له ثم أخذ اللواء عبد الله بن رواحة فأثبت قدميه حتى قتل شهيدا فاستغفر له ثم أخذ اللواء خالد بن الوليد و لم يكن من الأمراء هو أمر نفسه ثم قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : اللهم إنه سيف من سيوفك أنت تنصره فمن يومئذ سمي خالد سيف الله ]
و رواه النسائي من حديث عبد الله بن المبارك عن الأسود بن شيبان به نحوه و فيه زيادة حسنة و هو أنه عليه السلام لما اجتمع إليه الناس قال : باب خير باب خير و ذكر الحديث
و قال الواقدي : [ حدثني عبد الجبار بن عمارة بن غزية عن عبد الله بن أبي بكر عن عمرو بن حزم قال : لما التقى الناس بمؤتة جلس رسول الله صلى الله عليه و سلم على المنبر و كشف الله له ما بينه و بين الشام فهو ينظر إلى معتركهم فقال : أخذ الراية زيد بن حارثة فجاءه الشيطان فحبب إليه الحياة و كره إليه الموت و حبب إليه الدنيا فقال : الآن حين استحكم الإيمان في قلوب المؤمنين تحبب إلي الدنيا ! فمضى قدما حتى استشهد فصلى عليه رسول الله صلى الله عليه و سلم و قال : استغفروا له فقد دخل الجنة و هو شهيد ]
قال الواقدي : [ و حدثني محمد بن صالح عن عاصم بن عمرو بن قتادة أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : لما قتل زيد أخذ الراية جعفر بن أبي طالب فجاءه الشيطان فحبب إليه الحياة و كره إليه الموت و مناه الدنيا فقال : الآن حين استحكم الإيمان في قلوب المؤمنين يمنيني الدنيا ! ثم مضى قدما حتى استشهد فصلى عليه رسول الله صلى الله عليه و سلم و قال : استغفروا لأخيكم فإنه شهيد دخل الجنة و هو يطير في الجنة بجناحين من ياقوت حيث شاء من الجنة
قال : ثم أخذ الراية عبد الله بن رواحة فاستشهد ثم دخل الجنة معترضا فشق ذلك على الأنصار فقيل : يا رسول الله ما اعتراضه ؟ قال : لما أصابته الجراح نكل فعاتب نفسه فتشجع و استشهد و دخل الجنة ]
فسري عن قومه
قال الواقدي : [ و حدثني عبد الله بن الحارث بن الفضيل عن أبيه قال : لما أخذ خالد بن الوليد الراية قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : الآن حمي الوطيس ]
قال الواقدي : [ فحدثني العطاف بن خالد قال : لما قتل ابن رواحة مساء بات خالد بن الوليد فلما أصبح غدا و قد جعل مقدمته ساقة و ساقته مقدمة و ميمنته ميسرة و ميسرته ميمنة قال : فأنكروا ما كانوا يعرفون من راياتهم و هيئتهم و قالوا : قد جاءهم مدد فرعبوا و انكشفوا منهزمين قال : فقتلوا مقتلة لم يقتلها قوم
و هذا يوافق ما ذكره موسى بن عقبة رحمه الله في مغازيه فإنه قال بعد عمرة الحديبية : ثم صدر رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى المدينة فمكث بها ستة أشهر ثم إنه بعث جيشا إلى مؤتة و أمر عليهم زيد بن حارثة و قال : إن أصيب فجعفر بن أبي طالب أميرهم فإن أصيب جعفر فعبد الله بن رواحة أميرهم فانطلقوا حتى إذا لقوا ابن أبي سبرة الغساني بمؤتة و بها جموع من نصارى العرب و الروم بها تنوخ و بهراء فأغلق ابن أبي سبرة دون المسلمين الحصن ثلاثة أيام ثم التقوا على زرع أحمر فاقتتلوا قتالا شديدا فأخذ اللواء زيد بن حارثة فقتل ثم أخذه جعفر فقتل ثم أخذه عبد الله بن رواحة فقتل ثم اصطلح المسلمون بعد أمراء رسول الله صلى الله عليه و سلم على خالد بن الوليد المخزومي فهزم الله العدو و أظهر المسلمي ]
قال : و بعثهم رسول الله صلى الله عليه و سلم في جمادى الأولى ـ يعني من سنة ثمان ـ
قال موسى بن عقبة : و زعموا أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ مر علي جعفر في الملائكة يطير كما يطيرون و له جناحان ]
قال : و زعموا ـ و الله أعلم ـ أن يعلى بن أمية قدم على رسول الله صلى الله عليه و سلم بخبر أهل مؤتة فقال له رسول الله صلى الله عليه و سلم : إن شئت فأخبرني و إن شئت أخبرك قال : أخبرني يا رسول الله قال : فأخبرهم رسول الله صلى الله عليه و سلم خبرهم كله و وصفه لهم فقال : و الذي بعثك بالحق ما تركت من حديثهم حرفا لم تذكره و إن أمرهم لكما ذكرت فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ إن الله رفع لي الأرض حتى رأيت معتركهم ]
فهذا السياق فيه فوائد كثيرة ليست عند ابن إسحاق و فيه مخالفة لما ذكره ابن إسحاق من أن خالد إنما حاشى بالقوم حتى تخلصوا من الروم و عرب النصارى فقط
و موسى بن عقبة و الواقدي مصرحان بأنهم هزموا جموع الروم و العرب الذين معهم و هو ظاهر الحديث المتقدم عن أنس مرفوعا : [ ثم أخذ الراية سيف من سيوف الله ففتح الله على يديه ]
رواه البخاري و هذا هو الذي رجحه و مال إليه الحافظ البيهقي بعد حكاية القولين لما ذكرناه من الحديث
( قلت : ويمكن الجمع بين قول ابن إسحاق و بين قول الباقين و هو أن خالد لما أخذ الراية حاشى بالقوم المسلمين حتى خلصهم من أيدي الكافرين من الروم و المستعربة فلما أصبح و حول الجيش ميمنة و ميسرة و مقدمة و ساقة كما ذكره الواقدي توهم الروم أن ذلك عن مدد جاء إلى المسلمين فلما حمل عليهم خالد هزموهم بإذن الله و الله أعلم ) (3/463)
و قد قال ابن إسحاق : [ حدثني محمد بن جعفر عن عروة قال : لما أقبل أصحاب مؤتة تلقاهم رسول الله صلى الله عليه و سلم و المسلمون معه قال : و لقيهم الصبيان يشتدون و رسول الله صلى الله عليه و سلم مقبل مع القوم على دابة فقال : خذوا الصبيان فاحملوهم و أعطوني ابن جعفر فأتي بعبد الله فأخذه فحمله بين يديه فجعلوا يحثون عليهم التراب و يقولون : يا فرار فررتم في سبيل الله فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : ليسوا بالفرار و لكنهم الكرار إن شاء الله عز و جل ]
و هذا مرسل من هذا الوجه و فيه غرابة (3/469)
( و عندي أن ابن إسحاق قد وهم في هذا السياق فظن أن هذا الجمهور الجيش و إنما كان الذين فروا حين التقا الجمعان و أما بقيتهم فلم يفروا بل نصروا كما أخبر ذلك رسول الله صلى الله عليه و سلم و هو على المنبر في قوله : ثم أخذ الراية سيف من سيوف الله ففتح الله على يديه فما كان المسلمون ليسمونهم فرارا بعد ذلك و إنما تلقوهم إكراما و إعظاما و إنما كان التأنيب و حثي التراب للذين فروا و تركوهم هنالك و قد كان فيهم عبد الله بن عمر رضي الله عنهما )
و قد قال الإمام أحمد : [ حدثنا حسن حدثنا زهير حدثنا يزيد بن أبي زياد عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن عبد الله بن عمر قال : كنت في سرية من سرايا رسول الله صلى الله عليه و سلم فحاص الناس حيصة و كنت فيمن حاص فقلنا : كيف نصنع و قد فررنا من الزحف و بؤنا بالغضب ؟ ثم قلنا : لو دخلنا المدينة قتلنا ثم قلنا : لو عرضنا أنفسنا على رسول الله صلى الله عليه و سلم فإن كانت لنا توبة و إلا ذهبنا فأتيناه قبل صلاة الغداة فخرج فقال : من القوم ؟ قال : قلنا : نحن الفرارون فقال : لا بل أنتم العكارون أنا فئتكم و أنا فئة المسلمين قال فأتيناه حتى قبلنا يده ]
ثم رواه [ عن غندر عن شعبة عن يزيد بن أبي زياد عن ابن أبي ليلىعن ابن عمر قال : كنا في سرية ففررنا فأردنا أن نركب البحر فأتينا رسول الله صلى الله عليه و سلم فقلنا : يا رسول الله نحن الفرارون فقال : لا بل أنتم العكارون ]
و رواه أبو داود و الترمذي و ابن ماجة من حديث يزيد بن أبي زياد و قال الترمذي : حسن لا نعرفه إلا من حديثه
و قال أحمد : [ حدثنا إسحاق بن عيسى و أسود بن عامر قالا : حدثنا شريك عن يزيد بن أبي زياد عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن ابن عمر قال : بعثنا رسول الله صلى الله عليه و سلم في سرية فلما لقينا العدو انهزمنا في أول غادية فقدمنا المدينة في نفر ليلا فاختفينا ثم قلنا : لو خرجنا إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم و اعتذرنا إليه
فخرجنا إليه فلما لقيناه قلنا : نحن الفرارون يا رسول الله قال : بل أنتم العكارون و أنا فئتكم قال الأسود : و أنا فئة كل مسلم ]
قال ابن إسحاق : حدثني عبد الله بن أبي بكر بن عمرو بن حزم عن عامر بن عبد الله بن الزبير أن أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه و سلم قالت لامرأة سلمة بن هشام بن المغيرة : مالي لا أرى سلمة يحضر الصلاة مع رسول الله صلى الله عليه و سلم و مع المسلمين ؟
قالت : ما يستطيع أن يخرج كلما خرج صاح به الناس : يا فرار فررتم في سبيل الله حتى قعد في بيته ما يخرج و كان في غزاة مؤتة (3/469)
قلت : لعل طائفة منهم فروا لما عاينوا كثرة جموع الروم و كانوا على أكثر من أضعاف الأضعاف فإنهم كانوا ثلاثة آلاف وكان العدو على ما ذكروه مائتي ألف و مثل هذا يسوغ الفرار على ما قد تقرر فلما فر هؤلاء ثبت باقيهم و فتح الله عليهم و تخلصوا من أيدي أولئك و قتلوا منهم مقتلة عظيمة كما ذكره الواقدي و موسى بن عقبة من قبله (3/471)
و مما يؤيد ذلك أيضا و يزيده قوة و يشهد له بالصحة ما رواه الإمام أحمد :
حدثنا الوليد بن مسلم حدثني صفوان بن عمرو عن عبد الرحمن بن جبير بن نفير عن أبيه عن عوف بن مالك الأشجعي قال : خرجت مع من خرج مع زيد بن حارثة من المسلمين في غزوة مؤتة و وافقني مددي من اليمن ليس معه غير سيفه فنحر رجل من المسلمين جزورا فسأله المددي طابقة من جلده فأعطاه إياه فاتخذه كهيئة الدرقة و مضينا فلقينا جموع الروم و فيهم رجل على فرس له أشقر عليه سرج مذهب و سلاح مذهب فجعل الرومي يغري بالمسلمين و قعد له المددي خلف صخرة فمر به الرومي فعرقب فرسه فخر و علاه فقتله و حاز فرسه و سلاحه فلما فتح الله للمسلمين بعث إليه خالد بن الوليد فأخذ من السلب قال عوف : فأتيته فقلت : يا خالد أما علمت أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قضى بالسلب للقاتل ؟ قال : بلى و لكني استكثرته فقلت : لتردنه إليه أو لأعرفنكها عند رسول الله صلى الله عليه و سلم ـ فأبى أن يرد عليه
قال عوف : فاجتمعنا عند رسول الله صلى الله عليه و سلم فقصصت عليه قصة المددي و ما فعل خالد فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ يا خالد رد عليه ما أخذت منه ]
قال عوف : فقلت : دونك يا خالد ألم أف لك ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : و ما ذاك ؟ فأخبرته فغضب رسول الله صلى الله عليه و سلم و قال : [ يا خالد لا ترد عليه هل أنتم تاركوا أمرائي ؟ لكم صفوة أمرهم و عليهم كدره ]
قال الوليد : سألت ثورا عن هذا الحديث فحدثني عن خالد بن معدان عن جبير بن نفير عن عوف بنحوه
و رواه مسلم و أبو داود من حديث جبير بن نفير عن عوف بن مالك به نحوه
و هذا يقتضي أنهم غنموا منهم و سلبوا من أشرافهم و قتلوا من أمرائهم
و قد تقدم فيما رواه البخاري أن خالد رضي الله عنه قال : اندقت في يدي يوم مؤتة تسعة أسياف وما ثبت في يدي إلا صفيحة يمانية
و هذا يقتضي أنهم أثخنوا فيهم قتلا و لو لم يكن كذلك لما قدروا على التخلص منهم و هذا وحده دليل مستقل و الله أعلم و هذا هو اختيار موسى بن عقبة و الواقدي و البيهقي و حكاه ابن هشام عن الزهري
قال البيهقي رحمه الله : اختلف أهل المغازي في فرارهم و انحيازهم فمنهم من ذهب إلى ذلك و منهم من زعم أن المسلمين ظهروا على المشركين و أن المشركين انهزموا
قال : و حديث أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه و سلم : [ ثم أخذها خالد ففتح الله عليه ] يدل على ظهورهم عليهم و الله أعلم
قلت : و قد ذكر ابن إسحاق أن قطبة بن قتادة العذري ـ و كان رأس ميمنة المسلمين ـ حمل على مالك بن زافلة
قال ابن هشام : و يقال زافلة و هو أمير أعراب النصارى فقتله و قال يفتخر بذلك :
( طعنت ابن زافلة بن الأراش ... برمح مضى فيه ثم انحطم )
( ضربت على جيده ضربة ... فمال كما مال غصن السلم )
( و سقنا نساء بني عمه ... غداة رقوقين سوق النعم )
و هذا يؤيد ما نحن فيه لأن من عادة أمير الجيش إذا قتل أن يفر أصحابه ثم إنه صرح في شعره بأنهم سبوا من نسائهم و هذا واضح فيما ذكرناه و الله أعلم (3/471)
و أما ابن إسحاق فإنه ذهب إلى أنه لم يكن إلا المخاشاة و التخلص من أيدي الروم و سمى هذا نصرا و فتحا أي باعتبار ما كانوا فيه من إحاطة العدو بهم و تراكمهم و تكاثرهم و تكاثفهم عليهم و كان مقتضى العادة أن يصطلموا بالكلية فلما تخلصوا منهم و انحازوا عنهم كان هذا غاية المرام في هذا المقام
و هذا محتمل لكنه خلاف الظاهر من قوله عليه الصلاة و السلام : [ ففتح الله عليهم ]
و المقصود أن ابن إسحاق يستدل على ما ذهب إليه فقال : و قد قال فيما كان أمر الناس و أمر خالد بن الوليد مخاشاته بالناس و انصرافه بهم قيس بن المحسر اليعمري يعتذر مما صنع يومئذ و صنع الناس يقول :
( فوالله لا تنفك نفسي تلومني ... على موقفي و الخيل قابعة قبل )
( وقفت بها لا مستحيزا فنافذا ... و لا مانعا من كان حم له القتل )
( على أنني آسيت نفسي بخالد ... ألا خالد في القوم ليس له مثل )
( و جاشت إلى النفس من نحو جعفر ... بمؤتة إذ لا ينفع النابل النبل )
( و ضم إلينا حجزتيهم كليهما ... مهاجرة لا مشركون و لا عزل )
قال ابن إسحاق : فبين قيس ما اختلف فيه الناس من ذلك في شعره أن القوم حاجزوا و كرهوا الموت و حقق انحياز خالد بمن معه
قال ابن هشام : و أما الزهري فقال ـ فيما بلغنا عنه ـ : أمر المسلمون عليهم خالد بن الوليد ففتح الله عليهم و كان عليهم حتى رجع إلى المدينة (3/473)
قال ابن إسحاق : [ حدثني عبد الله بن أبي بكر عن أم عيسى الخزاعية عن أم جعفر بنت محمد بن جعفر بن أبي طالب عن جدتها أسماء بنت عميس قالت لما أصيب جعفر و أصحابه دخل علي رسول الله صلى الله عليه و سلم و قد ذبغت أربعين منا و عجنت عجيني و غسلت بني و دهنتهم و نظفتهم فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : ( ائتني ببني جعفر ) فأتيته بهم فشمهم و ذرفت عيناه فقلت : يا رسول الله بأبي أنت و أمي ! ما يبكيك ؟ أبلغك عن جعفر و أصحابه شيء ؟ قال : نعم أصيبوا هذا اليوم قالت : فقمت أصيح و اجتمع إلى النساء و خرج رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى أهله فقال : لا تغفلوا عن آل جعفر أن تصنعوا لهم طعاما فإنهم قد شغلوا بأمر صاحبهم ]
و هكذا رواه الإمام أحمد من حديث ابن إسحاق و رواه ابن إسحاق من طريق عبد الله بن أبي بكر عن أم عيسى عن أم عون بنت محمد بن جعفر عن أسماء فذكر الأمر بعمل الطعام و الصواب أنها أم جعفر و أم عون
و قال الإمام أحمد : [ حدثنا سفيان حدثنا جعفر بن خالد عن أبيه عن عبد الله بن جعفر قال : لما جاء نعي جعفر حين قتل قال النبي صلى الله عليه و سلم : اصنعوا لآل جعفر طعاما فقد أتاهم أمر يشغلهم أو أتاهم ما يشغلهم ] و هكذا رواه أبو داود و الترمذي و ابن ماجه من حديث سفيان بن عيينة عن جعفر بن خالد بن سارة المخزومي المكي عن أبيه عن عبد الله بن جعفر و قال الترمذي : حسن
ثم قال محمد بن إسحاق : [ حدثني عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه و سلم قالت : لما أتى نعي جعفر عرفنا في وجه رسول الله صلى الله عليه و سلم الحزن قالت : فدخل عليه رجل فقال : يا رسول الله [ إن النساء ] عنيننا و فتننا و قال : ارجع إليهن فأسكتهن
قالت : فذهب ثم رجع فقال له مثل ذلك قالت : و ربما ضر التكلف ـ يعني أهله ـ قالت : قال : فاذهب فأسكتهن فإن أبين فاحث في أفواههن التراب قالت : [ قلت ] في نفسي : أبعدك الله ! فوالله ما تركت نفسك و ما أنت بمطيع رسول الله صلى الله عليه و سلم قالت : و عرفت أنه لا يقدر يحثي في أفواههن التراب ]
انفرد به ابن إسحاق من هذا الوجه و ليس في شيء من الكتب
و قال البخاري : [ حدثنا قتيبة حدثنا عبد الوهاب سمعت يحيى بن سعيد قال : أخبرتني عمرة قالت : سمعت عائشة تقول : لما قتل زيد بن حارثة و جعفر بن أبي طالب و عبد الله بن رواحة جلس رسول الله صلى الله عليه و سلم يعرف في وجهه الحزن قالت عائشة : و أنا أطلع من صائر الباب ـ شق ـ فأتاه رجل فقال : أي رسول الله إن نساء جعفر و ذكر بكاءهن فأمره أن ينهاهن قالت : فذهب الرجل ثم أتى فقال : و الله لقد غلبننا فزعمت أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : فاحث في أفواههن من التراب ]
قالت عائشة رضي الله عنها : فقلت : أرغم الله أنفك ! فوالله ما أنت تفعل ذلك و ما تركت رسول الله صلى الله عليه و سلم من العناء
و هكذا رواه مسلم و أبو داود و النسائي من طرق عن يحيى بن سعيد الأنصاري عن عمرة عنها
و قال الإمام أحمد : [ حدثنا وهب بن جرير حدثنا أبي سمعت محمد بن أبي يعقوب يحدث عن الحسن بن سعد عن عبد الله بن جعفر قال : بعث رسول الله صلى الله عليه و سلم جيشا استعمل عليهم زيد بن حارثة و قال : إن قتل زيد أو استشهد فأميركم جعفر فإن قتل أو استشهد فأميركم عبد الله بن رواحة فلقوا العدو فأخذ الراية زيد فقاتل حتى قتل ثم أخذ الراية جعفر فقاتل حتى قتل ثم أخذها عبد الله بن رواحة فقاتل حتى قتل ثم أخذ الراية خالد بن الوليد ففتح الله عليه و أتى خبرهم النبي صلى الله عليه و سلم فخرج إلى الناس فحمد الله و أثنى عليه و قال : إن إخوانكم لقوا العدو و إن زيدا أخذ الراية فقاتل حتى قتل أو استشهد ثم أخذ الراية بعده جعفر بن أبي طالب فقاتل حتى قتل أو استشهد ثم أخذ الراية عبد الله بن رواحة فقاتل حتى قتل أو استشهد ثم أخذ الراية سيف من سيوف الله خالد بن الوليد ففتح الله عليه قال : ثم أمهل آل جعفر ثلاثا أن يأتيهم ثم أتاهم فقال : لا تبكوا على أخي بعد اليوم ادعوا لي بني أخي قال : فجيء بنا كأننا أفرخ فقال ادعوا لي الحلاق فجيء بالحلاق فحلق رؤوسنا ثم قال : أما محمد فشبيه عمنا أبي طالب و أما عبد الله فشبيه خلقي و خلقي ثم أخذ بيدي فأشالها و قال : اللهم اخلف جعفرا في أهله و بارك لعبد الله في صفقة يمينه قالها ثلاث مرات قال : فجاءت أمنا فذكرت له يتمنا و جعلت تفرح له فقال : العيلة تخافين عليهم و أنا وليهم في الدنيا و الآخرة ؟ ]
و رواه أبو داود ببعضه و النسائي في السير بتمامه من حديث وهب بن جرير به (3/474)
و هذا يقتضي أنه عليه الصلاة و السلام أرخص لهم في البكاء ثلاثة أيام ثم نهاهم عنه بعدها و لعله معنى الحديث الذي رواه الإمام أحمد من حديث الحكم بن عبد الله بن شداد عن أسماء أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال لها لما أصيب جعفر : [ تسلبي ثلاثا ثم اصنعي ما شئت ]
تفرد به أحمد
فيحتمل أنه أذن لها في التسلب و هو المبالغة في البكاء و شق الثياب و يكون هذا من باب التخصيص لها بهذا لشدة حزنها على جعفر أبي أولادها و قد يحتمل أن يكون أمرا لها بالتسلب و هو المبالغة في الإحداد ثلاثة أيام ثم تصنع بعد ذلك ما شاءت مما يفعله المعتدات على أزواجهن من الإحداد المعتاد و الله أعلم و يروي : تسلي ثلاثا ـ أي تصبري ـ و هذا بخلاف الرواية الأخرى و الله أعلم
فأما الحديث الذي قال الإمام أحمد : [ حدثنا يزيد حدثنا محمد بن طلحة حدثنا الحكم بن عيينة عن عبد بن شداد عن أسماء بنت عميس قالت : دخل رسول الله صلى الله عليه و سلم اليوم الثالث من قتل جعفر فقال : لا تحدي بعد يومك هذا ] فإنه من أفراد أحمد أيضا و إسناده لا بأس به و لكنه مشكل إن حمل على ظاهره لأنه قد ثبت في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ لا يحل لامرأة تؤمن بالله و اليوم الآخر أن تحد على ميتها أكثر من ثلاثة أيام إلا على زوج أربعة أشهر و عشرا ]
فإن كان ما رواه الإمام أحمد محفوظا فتكون مخصوصة بذلك أو هو أمر بالمبالغة في الإحداد هذه الثلاثة أيام كما تقدم و الله أعلم
قلت : و رثت أسماء بنت عميس زوجها بقصيدة تقول فيها :
( فآليت لا تنفك نفسي حزينة ... عليك و لا ينفك جلدي أغبرا )
( فلله عينا من رأى مثله فتى ... أكر و أحمى في الهياج و أصبرا )
ثم لم تنشب أن انقضت عدتها فخطبها أبو بكر الصديق رضي الله عنه فتزوجها فأولم و جاء الناس للوليمة فكان فيهم علي بن أبي طالب فلما ذهب الناس استأذن علي أبا بكر رضي الله عنهما في أن يكلم أسماء من وراء الستر فأذن له فلما اقترب من الستر نفحه ريح طيبها فقال لها علي : ـ على وجه البسط ـ من القائلة في شعرها :
( فآليت لا تنفك نفسي حزينة ... عليك و لا ينفك جلدي أغبرا )
قالت : دعنا منك يا أبا الحسن فإنك امرؤ فيك دعابة !
فولدت للصديق محمد بن أبي بكر ولدته بالشجرة بين مكة و المدينة و رسول الله صلى الله عليه و سلم ذاهب إلى حجة الوداع فأمرها أن تغتسل و تهل وسيأتي في موضعه
ثم لما توفي الصديق تزوجها بعده علي بن أبي طالب و ولدت له أولادا رضي الله عنه و عنها و عنهم أجمعين (3/477)
قال ابن إسحاق : [ فحدثني محمد بن جعفر بن الزبير عن عروة بن الزبير قال : فلما دنوا من المدينة تلقاهم رسول الله صلى الله عليه و سلم و المسلمون
قال : و لقيهم الصبيان يشتدون و رسول الله صلى الله عليه و سلم مقبل مع القوم على دابة فقال : خذوا الصبيان فاحملوهم و أعطوني ابن جعفر فأتي بعبد الله بن جعفر فحمله بين يديه قال : و جعل الناس يحثون على الجيش التراب و يقولون : يا فرار فررتم في سبيل الله ! قال : فيقول رسول الله صلى الله عليه و سلم ليسوا بالفرار و لكنهم الكرار إن شاء الله ]
و هذا مرسل
و قد قال الإمام أحمد : [ حدثنا أبو معاوية حدثنا عاصم عن مؤرق العجلي عن عبد الله بن جعفر قال : كان رسول الله صلى الله عليه و سلم إذا قدم من سفر تلقى الصبيان من أهل بيته و إنه قدم من سفر فسبق بي إليه قال : فحملني بين يديه ثم قال : جيء بأحد بني فاطمة إما حسن و إما حسين فأردفه خلفه فدخلنا المدينة ثلاثة على دابة ]
و قد رواه مسلم و أبو داود و النسائي و ابن ماجة من حديث عاصم الأحول عن مؤرق به
و قال الإمام أحمد : [ حدثنا روح حدثنا ابن جريج حدثنا خالد بن سارة أن أباه أخبره أن عبد الله بن جعفر قال : لو رأيتني و قثما و عبيد الله ابني العباس و نحن صبيان نلعب إذا مر النبي صلى الله عليه و سلم على دابة فقال : ارفعوا هذا إلي فحملني أمامه و قال لقثم : ارفعوا هذا إلي فجعله وراءه و كان عبيد الله أحب إلى عباس من قثم فما استحى من عمه أن حمل قثما و تركه قال : ثم مسح على رأسه ثلاثا و قال كلما مسح : اللهم اخلف جعفرا في ولده ]
قال : قلت لعبد الله : ما فعل قثم ؟ قال : استشهد ؟ قال : قلت : الله و رسوله أعلم الخير قال : أجل
و رواه النسائي في اليوم و الليلة من حديث ابن جريج به
و هذا كان بعد الفتح فإن العباس إنما قدم المدينة بعد الفتح فأما الحديث الذي رواه الإمام أحمد : [ حدثنا إسماعيل حدثنا حبيب بن الشهيد عن عبد الله بن أبي مليكة قال : قال عبد الله بن جعفر لابن الزبير : أتذكر إذ تلقينا رسول الله صلى الله عليه و سلم أنا و أنت و ابن عباس ؟ قال : نعم فحملنا و تركك ]
و بهذا اللفظ أخرجه البخاري و مسلم من حديث حبيب بن الشهيد و هذا يعد من الأجوبة المسكتة و يروى أن عبد الله بن عباس أجاب به ابن الزبير أيضا و هذه القصة قصة أخرى كانت بعد الفتح كما قدمنا بيانه و الله أعلم (3/478)
أما زيد بن حارثة بن شراحيل بن كعب بن عبد العزى بن امرىء القيس بن عامر بن النعمان بن عامر بن عبدود بن عوف بن كنانة بن بكر بن عوف بن عذرة بن زيد اللات بن رفيدة بن ثور بن كلب بن وبرة بن ثعلب بن حلوان بن عمران بن الحاف بن قضاعة الكلبي القضاعي فهو مولى رسول الله صلى الله عليه و سلم و ذلك أن أمه ذهبت تزور أهلها فأغارت عليهم خيل فأخذوه فاشتراه حكيم بن حزام لعمته خديجة بنت خويلد و قيل اشتراه رسول الله صلى الله عليه و سلم لها فوهبته من رسول الله صلى الله عليه و سلم قبل النبوة فوجده أبوه فاختار المقام عند رسول الله صلى الله عليه و سلم فأعتقه و تبناه فكان يقال له زيد بن محمد و كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يحبه حبا شديدا
و كان أول من أسلم من الموالي و نزل فيه آيات من القرآن منها قوله تعالى : { و ما جعل أدعياءكم أبناءكم } و قوله تعالى : { ادعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله } و قوله تعالى { ما كان محمد أبا أحد من رجالكم } و قوله : { و إذ تقول للذي أنعم الله عليه و أنعمت عليه أمسك عليك زوجك و اتق الله و تخفي في نفسك ما الله مبديه و تخشى الناس و الله أحق أن تخشاه فلما قضى زيد منها وطرا زوجناكها } الآية أجمعوا أن هذه الآيات أنزلت فيه و معنى : ( أنعم الله عليه ) أي بالإسلام ( و أنعمت عليه ) أي بالعتق و قد تكلمنا عليها في التفسير
و المقصود أن الله تعالى لم يسمي أحدا من الصحابة في القرآن غيره و هداه إلى الإسلام و أعتقه رسول الله صلى الله عليه و سلم و زوجه مولاته أم أيمن و اسمها بركة فولدت له أسامة بن زيد فكان يقال له الحب بن الحب ثم زوجه بابنة عمته زينب بنت جحش و آخى بينه و بين عمه حمزة بن عبد المطلب و قدمه في الإمرة على ابن عمه جعفر بن أبي طالب يوم مؤتة كما ذكرناه
و قد قال الإمام أحمد : و الإمام الحافظ أبو بكر بن أبي شيبة ـ و هذا لفظه ـ : [ حدثنا محمد بن عبيد عن وائل بن داود : سمعت البهي يحدث أن عائشة كانت تقول : ما بعث رسول الله صلى الله عليه و سلم زيد بن حارثة في سرية إلا أمره عليهم و لو بقي بعد لاستخلفه ]
و رواه النسائي عن أحمد بن سلمان عن محمد بن عبيد الطنافسي به
و هذا إسناد جيد قوي على شرط الصحيح و هو غريب جدا و الله أعلم
و قال الإمام أحمد : [ حدثنا سليمان حدثنا إسماعيل أخبرني ابن دينار عن ابن عمر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه و سلم بعث بعثا و أمر عليهم أسامة بن زيد فطعن بعض الناس في إمرته فقام رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : إن تطعنوا في إمرته فقد كنتم تطعنون في إمرة أبيه من قبل و أيم الله إن كان لخليقا للإمارة و إن كان لمن أحب الناس إلي و إن هذا لمن أحب الناس إلي بعده ]
و أخرجاه في الصحيحين عن قتيبة عن إسماعيل ـ هو ابن جعفر بن أبي كثير المدني ـ عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر فذكره و رواه البخاري من حديث موسى بن عقبة عن سالم عن أبيه و رواه البزار من حديث عاصم بن عمر عن عبيد الله بن عمر العمري عن نافع عن ابن عمر ثم استغربه من هذا الوجه
و قال الحافظ أبو بكر البزار : [ حدثنا عمر بن إسماعيل عن مجالد عن الشعبي عن مسروق عن عائشة قالت : لما أصيب زيد بن حارثة و جيء بأسامة بن زيد و أوقف بين يدي رسول الله صلى الله عليه و سلم فدمعت عينا رسول الله صلى الله عليه و سلم فأخر ثم عاد من الغد فوقف بين يديه فقال : ألاقي منك اليوم ما لقيت منك أمس ]
و هذا الحديث فيه غرابة و الله أعلم
و قد تقدم في الصحيحين أنه لما ذكر مصابهم و هو عليه السلام فوق المنبر جعل يقول [ أخذ الراية زيد فأصيب ثم أخذها جعفر فأصيب ثم أخذها عبد الله بن رواحة فأصيب ثم أخذها سيف من سيوف الله ففتح الله عليه ]
قال : و إن عينيه لتذرفان و قال : [ و ما يسرهم أنهم عندنا ] و في الحديث الآخر أنه شهد لهم بالشهادة فهم ممن يقطع لهم بالجنة
و قد قال حسان بن ثابت يرثي زيد بن حارثة و ابن رواحة :
( عين جودي بدمعك المنزور ... و اذكري في الرخاء أهل القبور )
( و اذكري مؤتة و ما كان فيها ... يوم راحوا في وقعة التغوير )
( حين راحوا و غادروا ثم زيدا ... نعم مأوى الضريك و المأسور )
( حب خير الأنام طرا جميعا ... سيد الناس حبه في الصدور )
( ذاكم أحمد الذي لا سواه ... ذاك حزني له معا و سروري )
( إن زيدا قد كان منا بأمر ... ليس أمر المكذب المغرور )
( ثم جودي للخزرجي بدمع ... سيدا كان ثم غير نزور )
( قد أتانا من قتلهم ما كفانا ... فبحزن نبيت غير سرور ) (3/480)
و أما جعفر بن أبي طالب بن عبد المطلب بن هاشم فهو ابن عم رسول الله صلى الله عليه و سلم و كان أكبر من أخيه علي بعشر سنين و كان عقيل أسن من جعفر بعشر سنين و كان طالب أسن من عقيل بعشر سنين
أسلم جعفر قديما و هاجر إلى الحبشة و كانت له هناك مواقف مشهورة و مقامات محمودة و أجوبة سديدة و أحوال رشيدة و قد قدمنا ذلك في هجرة الحبشة ولله الحمد
و قد قدم على رسول الله صلى الله عليه و سلم يوم خيبر فقال عليه الصلاة و السلام : [ ما أدري أنا بأيهما أسر أبقدوم جعفر أم بفتح خيبر ] و قام إليه و اعتنقه و قبل بين عينيه و قال له يوم خرجوا من عمرة القضية : [ أشبهت خلقي و خلقي ] فيقال : إنه حجل عند ذلك فرحا كما تقدم في موضعه و لله الحمد و المنة
و لما بعثه إلى مؤتة جعل في الإمرة مصليا ـ أي نائبا ـ لزيد بن حارثة و لما قتل وجدوا فيه بضعا و تسعين ما بين ضربة سيف و طعنة برمح و رمية بسهم و هو في ذلك كله مقبل غير مدبر و كانت قد طعنت يده اليمنى ثم اليسرى و هو ممسك للواء فلما فقدهما احتضنه حتى قتل و هو كذلك فيقال : إن رجلا من الروم ضربه بسيف فقطعه باثنتين رضي الله عن جعفر و لعن قاتله
و قد أخبرعنه رسول الله صلى الله عليه و سلم بأنه شهيد فهو ممن يقطع له بالجنة و جاء بالأحاديث تسميته بذي الجناحين
و روى البخاري عن ابن عمر أنه كان إذا سلم على ابنه عبد الله بن جعفر يقول : السلام عليك يابن ذي الجناحين
و بعضهم يرويه عن عمر بن الخطاب نفسه و الصحيح ما في الصحيح عن ابن عمر
قالوا : لأن الله تعالى عوضه عن يديه بجناحين في الجنة و قد تقدم بعض ما روي في ذلك
قال الحافظ أبو عيسى الترمذي : [ حدثنا علي بن حجر حدثنا عبد الله بن جعفر عن العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة قال : قال صلى الله عليه و سلم : رأيت جعفرا يطير في الجنة مع الملائكة ]
و تقدم في حديث أنه رضي الله عنه قتل و عمره ثلاث و ثلاثون سنة و قال ابن الأثير في الغابة كان عمره يوم قتل إحدى و أربعين قال : و قيل غير ذلك
قلت : و على ما قيل إنه كان أسن من علي بعشر سنين يقتضي أن عمره يوم قتل تسع و ثلاثون سنة لأن عليا أسلم و هو ابن ثمان سنين على المشهور فأقام بمكة ثلاث عشرة سنة و هاجر و عمره إحدى و عشرون سنة و يوم مؤتة كان في سنة ثمان من الهجرة و الله أعلم
و قد كان يقال لجعفر بعد قتله الطيار لما ذكرنا و كان كريما جودا ممدحا و كان لكرمه يقال له : أبا المساكين لإحسانه إليهم
قال الإمام أحمد : و حدثنا عفان بن وهيب حدثنا خالد عن عكرمة عن أبي هريرة قال : ما احتذى النعال و لا انتعل و لا ركب المطايا و لا لبس الثياب من رجل بعد رسول الله صلى الله عليه و سلم أفضل من جعفر بن أبي طالب
و هذا إسناد جيد إلى أبي هريرة و كأنه إنما يفضله في الكرم فأما في الفضيلة الدينية فمعلوم أن الصديق و الفاروق بل و عثمان بن عفان أفضل منه و أما أخوه علي رضي الله عنهما فالظاهر أنهما متكافئان أو علي أفضل منه
و إنما أراد أبو هريرة تفضيله في الكرم بدليل ما رواه البخاري : حدثنا أحمد بن أبي بكر حدثنا محمد بن إبراهيم بن دينار أبو عبد الله الجهني عن ابن أبي ذئب عن سعيد المقبري عن أبي هريرة أن الناس كانوا يقولون : أكثر أبو هريرة و إني كنت ألزم رسول الله صلى الله عليه و سلم بشبع بطني خبزا لا آكل الخمير و لا ألبس الحرير و لا يخدمني فلان و فلانة و كنت ألصق بطني بالحصباء من الجوع و إن كنت لأستقري الرجل الآية هي معي كي ينقلب بي فيطعمني و كان خير الناس للمساكين جعفر بن أبي طالب و كان ينقلب بنا في فيطمعنا ما كان في بيته حتى إن كان ليخرج إلينا العكة التي ليس فيها شيء فنشقها فنلعق ما فيها
تفرد به البخاري
و قال حسان بن ثابت يرثي جعفرا :
( و لقد بكيت و عز مهلك جعفر ... حب النبي على البرية كلها )
( و لقد جزعت و قلت حين نعيت لي ... من للجلاد لدى العقاب و ظلها )
( بالبيض حين تسل من أغمادها ... ضربا و إنهال الرماح و علها )
( بعد ابن فاطمة المبارك جعفر ... خير البرية كلها و أجلها )
( رزءا و أكرمها جميعا محتدا ... و أعزها متظلما و أذلها )
( للحق حين ينوب غير تنحل ... كذبا و أنداها يدا و أقلها )
( فحشا و أكثرها إذا ما يجتدى ... فضلا و أنداها يدا و أبلها )
( بالعرف غير محمد لا مثله ... حي من أحياء البرية كلها ) (3/483)
و أما ابن رواحة فهو عبد الله بن رواحة بن ثعلبة بن امرىء القيس بن عمرو بن امرىء القيس الأكبر بن مالك بن الأغر بن ثعلبة بن كعب بن الخزرج بن الحارث بن الخزرج أبو محمد و يقال : أبو رواحة و يقال : أبو عمرو الأنصاري الخزرجي و هو خال النعمان بن بشير أخته بنت رواحة
أسلم قديما و شهد العقبة و كان أحد النقباء ليلتئذ لبني الحارث بن الخزرج و شهد بدرا و أحدا و الخندق و الحديبية و خيبر و كان يبعثه على خرصها كما قدمنا و شهد عمرة القضاء و دخل يومئذ و هو ممسك بزمام ناقة رسول الله صلى الله عليه و سلم و قيل بغرزها ـ يعني الركاب ـ و هو يقول :
( خلوا بني الكفار عن سبيله )
الأبيات كما تقدم
و كان أحد الأمراء الشهداء يوم مؤتة كما تقدم و قد شجع المسلمين للقاء الروم حين اشتوروا في ذلك و شجع نفسه أيضا حتى نزل بعدما قتل صاحباه و قد شهد له رسول الله صلى الله عليه و سلم بالشهادة فهو ممن يقطع له بدخول الجنة
و يروى أنه لما أنشد النبي صلى الله عليه و سلم شعره حين ودعه الذي يقول فيه :
( فثبت الله ما آتاك من حسن ... تثبيت موسى و نصرا كالذي نصروا )
قال له رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ و أنت فثبتك الله ] قال : هشام بن عروة : فثبته الله حتى قتل شهيدا و دخل الجنة
و روى حماد بن زيد عن ثابت عن عبد الرحمن بن أبي ليلى أن عبد الله بن رواحة أتى رسول الله صلى الله عليه و سلم يخطب فسمعه يقول : اجلسوا فجلس مكانه خارجا من المسجد حتى فرغ الناس من خطبته فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه و سلم فقال : [ زادك الله حرصا على طواعية الله و طواعية رسوله ]
و قال البخاري في صحيحه : و قال معاذ : اجلس بنا نؤمن ساعة
و قد ورد الحديث المرفوع في ذلك عن عبد الله بن رواحة بنحو ذلك فقال الإمام أحمد : [ حدثنا عبد الصمد عن عمارة عن زياد النحوي عن أنس قال : كان عبد الله بن رواحة إذا لقي الرجل من أصحابه يقول : تعال نؤمن بربنا ساعة فقال ذات يوم لرجل فغضب الرجل فجاء فقال : يا رسول الله ألا ترى ابن رواحة ؟ يرغب عن إيمانك إلى إيمان ساعة ! فقال النبي صلى الله عليه و سلم : رحم الله ابن رواحة إنه يحب المجالس التي تتباهى بها الملائكة ]
و هذا حديث غريب جدا
و قال البيهقي : حدثنا الحاكم حدثنا أبو بكر حدثنا محمد بن أيوب حدثنا أحمد بن يونس حدثنا شيخ من أهل المدينة عن صفوان بن سليم عن عطاء بن يسار أن عبد الله بن رواحة قال لصاحب له : تعال حتى نؤمن ساعة قال : أولسنا بمؤمنين ؟ قال : بلى و لكنا نذكر الله فنزداد إيمانا
و قد روى الحافظ أبو القاسم اللكي من حديث أبي اليمان عن صفوان بن سليم عن شريح بن عبيد أن عبد الله بن رواحة كان يأخذ بيد الرجل من أصحابه فيقول : قم بنا نؤمن ساعة فنجلس في مجلس ذكر
و هذا مرسل من هذين الوجهين و قد استقصينا الكلام على ذلك في أول شرح البخاري و لله الحمد و المنة
و صحيح البخاري عن أبي الدرداء قال : كنا مع رسول الله صلى الله عليه و سلم في سفر في حر شديد و ما فينا صائم إلا رسول الله - و عبد الله بن رواحة رضي الله عنه
و قد كان من شعراء الصحابة المشهورين ومما نقله البخاري من شعره في رسول الله صلى الله عليه و سلم :
( و فينا رسول الله نتلو كتابه ... إذا انشق معروف من الفجر ساطع )
( يبيت يجافي جنبه عن فراشه ... إذا استثقلت بالمشركين المضاجع )
( أتى بالهدى بعد العمى فقلوبنا ... به موقنات أن ما قال واقع )
و قال البخاري : حدثنا عمران بن ميسرة حدثنا محمد بن فضيل عن حصين عن عامر عن النعمان بن بشير قال : أغمي على عبد الله بن رواحة فجعلت أخته عمرة تبكي و اجبلاه و اكذا و اكذا تعدد عليه فقال حين أفاق : ما قلت شيئا إلا قيل لي : أنت كذلك ؟
حدثنا قتيبة حدثنا خيثمة عن حصين عن الشعبي عن النعمان بن بشير قال : أغمي على عبد الله بن رواحة بهذا فلما مات لم تبك عليه
و قد قدمناه ما رثاه به حسان بن ثابت مع غيره
و قال شاعر من المسلمين ممن رجع من مؤتة مع من رجع رضي الله عنهم :
( كفى حزنا أني رجعت و جعفر ... و زيد و عبد الله في رمس أقبر )
( قضوا نحبهم لما مضوا لسبيلهم ... و خلفت للبلوى مع المتغير )
و سيأتي إن شاء الله تعالى بقية ما رثي به هؤلاء الأمراء الثلاثة من شعر حسان بن ثابت و كعب بن مالك رضي الله عنهما و أرضاهما (3/486)
فمن المهاجرين جعفر بن أبي طالب و مولاهم زيد بن حارثة الكلبي و مسعود بن الأسود بن حارثة بن نضلة العدوي و وهب بن سعد بن أبي سرح فهؤلاء أربعة نفر
و من الأنصار عبد الله بن رواحة و عباد بن قيس الخزرجيان و الحارث بن النعمان بن إساف بن نضلة النجاري و سراقة بن عمرو بن عطية بن خنساء المازني أربعة نفر
فمجموع من قتل من المسلمين يومئذ هؤلاء الثمانية على ما ذكره ابن إسحاق لكن قال ابن هشام : و ممن استشهد يوم مؤتة فيما ذكره ابن شهاب الزهري : أبو كليب و جابر ابنا عمرو بن زيد بن عوف بن مبذول المازنيان و هما شقيقان لأب و أم و عمرو و عامر ابنا سعد بن الحارث بن عباد بن سعد بن عامر بن ثعلبة بن مالك بن أفصى فهؤلاء أربعة من الأنصار أيضا فالمجموع على القولين اثنا عشر رجلا
و هذا عظيم جدا أن يتقاتل جيشان متعاديان في الدين أحدهما و هو الفئة التي تقاتل في سبيل الله عدتها ثلاثة آلاف و أخرى كافرة و عدتها مائتا ألف مقاتل من الروم مائة ألف و من نصارى العرب مائة ألف يتبارزون و يتصاولون ثم مع هذا كله لا يقتل من المسلمين إلا اثنا عشر رجلا و قد قتل من المشركين خلق كثير !
هذا خالد وحده يقول : لقد اندقت في يدي يومئذ تسعة أسياف و ما صبرت في يدي إلا صفيحة يمانية فماذا ترى قد قتل بهذه الأسياف كلها ! دع غيره من الأبطال و الشجعان من حملة القرآن و قد تحكموا في عبدة الصلبان عليهم لعائن الرحمن في ذلك الزمان و في كل أوان
و هذا مما يدخل في قوله تعالى : { قد كان لكم آية في فئتين التقتا فئة تقاتل في سبيل الله و أخرى كافرة يرونهم مثليهم رأى العين و الله يؤيد بنصره من يشاء إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار } (3/489)
و هم : زيد بن حارثة و جعفر بن أبي طالب و عبد الله بن رواحة رضي الله عنهم
قال : الإمام العالم الحافظ أبو زرعة عبد الله بن عبد الكريم الرازي نضر الله وجهه في كتابه دلائل النبوة ـ و هو كتاب جليل ـ : حدثنا صفوان بن صالح الدمشقي حدثنا الوليد حدثنا ابن جابر و حدثنا عبد الرحمن بن إبراهيم الدمشقي حدثنا الوليد و عمرو ـ يعني ابن عبد الواحد ـ قالا : حدثنا ابن جابر سمعت سليم بن عامر الخبائري يقول : أخبرني أبو أمامة الباهلي سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : [ بينا أنا نائم إذ أتاني رجلان فأخذا بضبعي فأتيا بي جبلا وعرا فقالا : اصعد فقلت : لا أطيقه فقالا : إنا سنسهله لك قال : فصعدت حتى إذا كنت في سواء الجبل إذا أنا بأصوات شديدة فقلت ما هؤلاء الأصوات ؟ فقالا : عواء أهل النار ثم انطلقا بي فإذا بقوم معلقين بعراقيبهم مشققة أشداقهم تسيل أشداقهم دما فقلت : ما هؤلاء ؟ فقالا : هؤلاء الذين يفطرون قبل تحلة صومهم فقال : خابت اليهود و النصارى ] قال : سليم : سمعه من رسول الله صلى الله عليه و سلم أم من رأيه ؟
[ ثم انطلقا بي فإذا بقوم أشد شيء انتفاخا و أنتن شيء ريحا كأن ريحهم المراحيض قلت : من هؤلاء ؟ قالا : هؤلاء قتلى الكفار ثم انطلقا بي فإذا بقوم أشد انتفاخا و أنتن شيء ريحا كأن ريحهم المراحيض قلت : من هؤلاء ؟ قالا : هؤلاء الزانون و الزواني ثم انطلقا بي فإذا بنساء ينهش ثديهن الحيات فقلت : ما بال هؤلاء ؟ قالا : هؤلاء اللاتي يمنعن أولادهن ألبانهن ثم انطلقا بي فإذا بغلمان يلعبون بين بحرين قلت : من هؤلاء ؟ قالا هؤلاء ذراري المؤمنين
ثم أشرفا بي شرفا فإذا بنفر ثلاثة يشربون من خمر لهم فقلت : من هؤلاء ؟ قالا : هذا جعفر بن أبي طالب و زيد بن حارثة و عبد الله بن رواحة ثم أشرفا بي شرفا آخر فإذا أنا بنفر ثلاثة فقلت : من هؤلاء ؟ قالا : هذا إبراهيم و موسى و عيسى عليهم السلام و هم ينتظرونك ] (3/490)
قال ابن إسحاق : و كان مما بكى به أصحاب مؤتة قول حسان :
( تأوبني ليل بيثرب أعسر ... و هم إذا ما نوم الناس مسهر )
( لذكرى حبيب هيجت لي عبرة ... سفوحا و أسباب البكاء التذكر )
( بلى إن فقدان الحبيب بلية ... و كم من كريم يبتلى ثم يصبر )
( رأيت خيار المسلمين تواردوا ... شعوبا و خلفا بعدهم يتأخر )
( فلا يبعدن الله قتلى تتابعوا ... بمؤتة منهم ذو الجناحين جعفر )
( و زيد و عبد الله حين تتابعوا ... جميعا و أسباب المنية تخطر )
( غداة مضوا بالمؤمنين يقودهم ... إلى الموت ميمون النقيبة أزهر )
( أغر كضوء البدر من آل هاشم ... أبي إذا سيم الظلامة مجسر )
( فطاعن حتى مال غير مؤسد ... بمعترك فيه القنا متكسر )
( فصار مع المستشهدين ثوابه ... جنان و ملتف الحدائق أخضر )
( و كنا نرى في جعفر من محمد ... وفاء و أمرا حازما حين يأمر )
( و ما زال في الإسلام من آل هاشم ... دعائم عز لا يزلن و مفخر )
( هم جبل الإسلام و الناس حولهم ... رضام إلى طود يروق و يبهر )
( بهاليل منهم جعفر و ابن أمه ... علي و منهم أحمد المتخير )
( و حمزة و العباس منهم و منهم ... عقيل و ماء العود من حيث يعصر )
( بهم تفرج اللأواء في كل مأزق ... عماس إذا ما ضاق بالناس مصدر )
( هم أولياء الله أنزل حكمه ... عليهم و فيهم ذا الكتاب المطهر )
و قال كعب بن مالك رضي الله عنه :
( نام العيون و دمع عينك يهمل ... سحا كما و كف الطباب المخضل )
( في ليلة وردت علي همومها ... طورا أحن و تارة أتململ )
( و اعتادني حزن فبت كأنني ... ببنات نعش و السماك موكل )
( و كأنما بين الجوانح و الحشا ... مما تأوبني شهاب مدخل )
( و جدا على النفر الذين تتابعوا ... يوما بمؤتة أسندوا لم ينقلوا )
( صلى الإله عليهم من فتية ... و سقى عظامهم الغمام المسبل )
( صبروا بمؤتة للإله نفوسهم ... حذر الردى و مخافة أن ينكلوا )
( فمضوا أمام المسلمين كأنهم ... فنق عليهن الحديد المرفل )
( إذ يهتدون بجعفر و لوائه ... قدام أولهم فنعم الأول )
( حتى تفرجت الصفوف و جعفر ... حيث التقى وعث الصفوف مجدل )
( فتغير القمر المنير لفقده ... و الشمس قد كسفت و كادت تأفل )
( قرم علا ... بنيانه من هاشم فرعا أشم و سؤددا ما ينقل )
( قوم بهم عصم الإله عباده ... و عليهم نزل الكتاب المنزل )
( فضلوا المعاشر عزة و تكرما ... و تغمدت أحلامهم من يجهل )
( لا يطلقون إلى السفاه حباهم ... و يرى خطيبهم بحق يفصل )
( بيض الوجوه ترى بطون أكفهم ... تندى إذا اعتذر الزمان الممحل )
( و بهديهم رضي الإله لخلقه ... و بحدهم نصر النبي المرسل ) (3/491)
و كتبه إليهم يدعوهم إلى الله عز و جل و إلى الدخول في دين الإسلام
ذكر الواقدي أن ذلك كان في آخر سنة ست في ذي الحجة بعد عمرة الحديبية و ذكر البيهقي هذا الفصل في هذا الموضع بعد غزوة مؤتة و الله أعلم
و لا خلاف بينهم أن بدء ذلك كان قبل فتح مكة و بعد الحديبية لقول أبي سفيان لهرقل حين سأله : هل يغدر ؟ فقال : لا و نحن منه في مدة لا ندري ما هو صانع فيها
و في لفظ البخاري : و ذلك في المدة التي ماد فيها أبو سفيان رسول الله صلى الله عليه و سلم
و قال محمد بن إسحاق : كان ذلك ما بين الحديبية و وفاته عليه السلام و نحن نذكر ذلك هاهنا و إن كان قول الواقدي محتملا و الله أعلم
و قد روى مسلم عن يوسف بن حماد المعني عن عبد الأعلى عن سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه و سلم كتب قبل مؤتة إلى كسرى و قيصر و إلى النجاشي و إلى كل جبار يدعوهم إلى الله عز و جل و ليس بالنجاشي الذي صلى عليه (3/494)
و قال يونس بن بكير عن محمد بن إسحاق حدثني الزهري عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة عن عبد الله بن عباس حدثني أبو سفيان من فيه إلي في قال : كنا قوما تجارا و كانت الحرب حصرتنا حتى نهكت أموالنا فلما كانت الهدنة ـ هدنة الحديبية ـ بيننا و بين رسول الله صلى الله عليه و سلم لم نأمن إن وجدنا أمنا فخرجت تاجرا إلى الشام مع رهط من قريش فوالله ما علمت بمكة امرأة و لا رجلا إلا و قد حملني بضاعة و كان وجه متجرنا من الشام غزة من أرض فلسطين فخرجنا حتى قدمنا و ذلك حين ظهر قيصر صاحب الروم على من كان في بلاده من الفرس فأخرجهم منها و رد عليه صليبه الأعظم و قد كان استلبوه إياه فلما أن بلغه ذلك و قد كان منزله بحمص من الشام فخرج منها يمشي متشكرا إلى بيت المقدس ليصلي فيه تبسط له البسط و يطرح عليها الرياحين حتى انتهى إلى إلياء فصلى بها
فأصبح ذات غداة مهموم يقلب طرفه إلى السماء فقالت له بطارقته : أيها الملك لقد أصبحت مهموما ؟ فقال : أجل فقالوا : و ما ذاك ؟ فقال : أريت في هذه الليلة أن ملك الختان ظاهر فقالوا : و الله ما نعلم أمة من الأمم تختن إلا اليهود و هم تحت يديك و في سلطانك فإن كان قد وقع ذلك في نفسك منهم فابعث في مملكتك كلها فلا يبقى يهودي إلا ضربت عنقه فتستريح من هذا الهم
فإنهم من ذلك من رأيهم يديرونه بينهم إذ أتاهم رسول صاحب بصرى برجل من العرب قد وقع إليهم فقال : إن هذا الرجل من العرب من أهل الشاء و الإبل يحدثك عن حدث كان في بلاده فسأله عنه فلما انتهى إليه قال لترجمانه : سله ما هذا الخبر الذي كان في بلاده ؟ فسأله فقال : هو رجل من العرب من قريش يزعم أنه نبي و قد اتبعه أقوام و خالفه آخرون و قد كانت بينهم ملاحم في مواطن فخرجت من بلادي و هم على ذلك
فلما أخبره الخبر قال : جردوه فإذا هو مختتن فقال : هذا و الله الذي أريت لا ما تقولون أعطه ثوبه انطلق لشأنك
ثم إنه دعا صاحب شرطته فقال له : قلب لي الشام ظهرا لبطن حتى تأتي برجل من قوم هذا أسأله عن شأنه
قال أبو سفيان : فوالله إني و أصحابي بغزة إذ هجم علينا فسألنا : ممن أنتم ؟ فأخبرناه فساقنا إليه جميعا
فلما انتهينا إليه قال أبو سفيان : فوالله ما رأيت من رجل قط أزعم أنه كان أدهى من ذلك الأغلف ـ يريد هرقل ـ
قال : فلما انتهينا إليه قال : أيكم أمس به رحما ؟ فقلت : أنا قال : أدنوه مني قال : فأجلسني بين يديه ثم أمر أصحابي فأجلسهم خلفي و قال : إن كذب فردوا عليه قال أبو سفيان : فلقد عرفت أني لو كذبت ما ردوا علي و لكني كنت امرءا سيدا أتكرم و أستحي من الكذب و عرفت أن أدنى ما يكون في ذلك أن يرووه عني ثم يتحدثوا به عني في مكة فلم أكذبه
فقال : أخبرني عن هذا الرجل الذي خرج فيكم فزهدت له شأنه و صغرت له أمره ( فوالله ما التفت إلى ذلك مني و قال لي : أخبرني عما أسألك عنه من أمره ) فقلت : سلني عما بدا لك
فقال : كيف نسبه فيكم ؟ فقلت : محضا من أوسطنا نسبا
قال : فأخبرني هل كان من أهل بيته أحد يقول مثل قوله فهو يتشبه به ؟ فقلت : لا
قال : فأخبرني هل له ملك فاستلبتموه إياه فجاء بهذا الحديث لتردوه إليه ! فقلت : لا
قال : فأخبرني عن أتباعه من هم ؟ فقلت : الأحداث و الضعفاء و المساكين فأما أشرافهم و ذوو الأنساب منهم فلا قال : فأخبرني عن صحبه أيحبه و يكرمه أم يقليه و يفارقه ؟ قلت : ما صحبه رجل ففارقه
قال : فأخبرني عن الحرب بينكم و بينه ؟ فقلت : سجال يدال علينا و ندال عليه
قال : فاخبرني هل يغدر ؟ فلم أجد شيئا أغره به إلا هي قلت : لا و نحن منه في مدة و لا نأمن غدره فيها فوالله ما التفت إليها مني
قال : فأعاد علي الحديث قال : زعمت أنه من أمحضكم نسبا و كذلك يأخذ الله النبي لا يأخذه إلا من أوسط قومه و سألتك هل كان من أهل بيته أحد يقول مثل قوله فهو يتشبه به ؟ فقلت : لا و سألتك : هل كان له من ملك فاستلبتموه إياه فجاء بهذا الحديث لتردوا عليه ملكه ؟ فقلت : لا
و سألتك عن أتباعه فزعمت أنهم الأحداث و الضعفاء و المساكين و كذلك أتباع الأنبياء في كل زمان
و سألتك عمن يتبعه أيحبه و يكرمه أم يقليه و يفارقه ؟ فزعمت أنه قل من يصحبه فيفارقه و كذلك حلاوة الإيمان لا تدخل قلبا فتخرج منه
و سألتك كيف الحرب بينكم و بينه ؟ فزعمت أنها سجال يدال عليكم و تدالون عليه و كذلك يكون حرب الأنبياء و لهم تكون العاقبة و سألتك هل يغدر فزعمت أنه لا يغدر
فلئن كنت صدقتني ليغلبن على ما تحت قدمي هاتين و لوددت أني عنده فأغسل عن قدميه !
ثم قال : الحق بشأنك قال : فقمت و أنا أضرب إحدى يدي على الأخرى و أقول : يا عباد الله لقد أمر أمر ابن أبي كبشة و أصبح ملوك بني الأصفر يخافونه في سلطانهم
قال ابن إسحاق : و حدثني الزهري قال : حدثني أسقف من النصارى قد أدرك ذلك الزمان قال : قدم دحية بن خليفة على هرقل بكتاب رسول الله صلى الله عليه و سلم فيه : بسم الله الرحمن الرحيم : من محمد رسول الله إلى هرقل عظيم الروم سلام على من اتبع الهدى أما بعد فأسلم تسلم يؤتك الله أجرك مرتين فإن أبيت فإن إثم الأكارين عليك
قال : فلما انتهى إليه كتابه و قرأه أخذه فجعله بين فخذه و خاصرته ثم كتب إلى رجل من أهل رومية كان يقرأ من العبرانية ما يقرأ يخبره عما جاء من رسول الله صلى الله عليه و سلم فكتب إليه : إنه النبي الذي ينتظر لا شك فيه فاتبعه فأمر بعظماء الروم فجمعوا له في دسكرة ملكه ثم أمر بها فأشرجت عليهم و اطلع عليهم من علية له و هو منهم خائف فقال : يا معشر الروم إنه قد جاءني كتاب أحمد و إنه و الله النبي الذي كنا ننتظر و مجمل ذكره في كتابنا نعرفه بعلاماته و زمانه فأسلموا و اتبعوه تسلم لكم دنياكم و آخرتكم فنخروا نخرة رجل واحد و ابتدوروا أبواب الدسكرة فوجدوها مغلقة دونهم
فخافهم و قال : ردوهم علي فردوهم عليه فقال لهم : يا معشر الروم إني إنما قلت لكم ههذه المقالة أختبركم بها لأنظر كيف صلابتكم في دينكم ؟ فلقد رأيت منكم ما سرني فوقعوا له سجدا ثم فتحت لهم أبواب الدسكرة فخرجوا
و قد روى البخاري قصة أبي سفيان مع هرقل بزيادات أخر أحببنا أن نوردها بسندها و حروفها من الصحيح ليعلم ما بين السباقين من التباين و ما فيهما من الفوائد
قال البخاري : قبل الإيمان من صحيحه : حدثنا أبو اليمان الحكم بن نافع أنبأنا شعيب عن الزهري أخبرني عبيد الله بن عتبة بن مسعود أن عبد الله بن عباس أخبره أن أبا سفيان أخبره أن هرقل أرسل إليه في ركب من قريش و كانوا تجارا بالشام في المدة التي كان رسول الله صلى الله عليه و سلم ماد فيها أبو سفيان و كفار قريش فأتوه و هم بإيلياء فدعاهم في مجلسه و حوله عظماء الروم ثم دعاهم و دعا بالترجمان فقال : أيكم أقرب نسبا بهذا الرجل الذي يزعم أنه نبي ؟ قال أبو سفيان : فقلت : أنا أقربهم نسبا قال : أدنوه مني و قربوا أصحابه فاجعلوهم عند ظهره ثم قال لترجمانه : قل لهم : إني سائل هذا عن هذا الرجل فإن كذبني فكذبوه [ قال ] فوالله لولا [ الحياء من ] أن يأثروا عني كذبا لكذبت عنه
ثم كان أول ما سألني عنه أن قال : كيف نسبه فيكم ؟ قلت : هو فينا ذو نسب
قال : فهل قال هذا القول منكم أحد قط قبله ؟ قلت : لا قال : فهل كان من آبائه من ملك ؟ قلت : لا
قال : فأشراف الناس اتبعوه أم ضعفاؤهم ؟ قلت : بل ضعفاؤهم قال : أيزيدون أم ينقصون ؟ قلت : بل يزيدون قال : فهل يرتد أحد منهم سخطة لدينه بعد أن يدخل فيه ؟ قلت : لا قال : فهل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال ؟ قلت : لا قال : فهل يغدر ؟ قلت : لا و نحن منه في مدة لا ندري ما هو فاعل فيها قال : و لم يمكني كلمة أدخل فيها شيئا غير هذه الكلمة قال : فهل قاتلتموه ؟ قلت نعم قال : فكيف كان قتالكم إياه ؟ قلت : الحرب بيننا و بينه سجال ينال منا و ننال منه قال : ماذا يأمركم ؟ قلت : يقول : اعبدوا الله وحده و لا تشركوا به شيئا و اتركوا ما يقول آباؤكم و يأمرنا بالصلاة و الصدق و العفاف و الصلة
فقال للترجمان : قل له : سألتك عن نسبه فزعمت أنه فيكم ذو نسب و كذلك الرسل تبعث في نسب قومها
و سألتك : و سألتك : هل قال أحد منكم هذا القول قبله ؟ فذكرت أن لا فقلت : لو كان أحد قال هذا القول قبله لقلت : رجل يتأسى بقول قيل قبله
و سألتك : هل كان من آبائه من ملك ؟ فذكرت أن لا فلو كان من آبائه من ملك قلت رجل يطلب ملك أبيه
و سألتك : هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال ؟ فذكرت أن لا فقد أعرف أنه لم يكن ليذر الكذب على الناس و يكذب على الله !
و سألتك : أشراف الناس اتبعوه أم ضعفاءهم ؟ فذكرت أن ضعفاءهم اتبعوه و هم أتباع الرسل
و سألتك : أيزيدون أم ينقصون ؟ فذكرت أنهم يزيدون و كذلك أمر الإيمان حتى يتم
و سألتك : أيرتد أحد منهم سخطة لدينه بعد أن يدخل فيه ؟ فذكرت أن لا و كذلك الإيمان حين تخالط بشاشته القلوب
و سألتك : هل يغدر ؟ فذكرت أن لا و كذلك الرسل لا تغدر
و سألتك : بم يأمركم ؟ فذكرت أنه يأمركم أن تعبدوا الله و لا تشركوا به شيئا و ينهاكم عن عبادة الأوثان و يأمركم بالصلاة و الصدق و العفاف
فإن كان ما تقول حقا فسيملك موضع قدمي هاتين و قد كنت أعلم أنه خارج لم أكن أظن أنه منكم فلو أعلم أني أخلص إليه لتجشمت لقاءه و لو كنت عنده لغسلت عن قدميه
ثم دعا بكتاب رسول الله صلى الله عليه و سلم الذي بعث به مع دحية إلى عظيم بصرى فدفعه إلى هرقل فإذا فيه : [ بسم الله الرحمن الرحيم : من محمد عبد الله و رسوله إلى هرقل عظيم الروم سلام على من اتبع الهدى أما بعد فإني أدعوك بدعاية الإسلام أسلم تسلم يؤتك الله أجرك مرتين فإن توليت فإن عليك إثم الأريسين و يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا و بينكم ألا نعبد إلا الله و لا نشرك به شيئا و لا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون ]
قال : أبو سفيان : فلما قال ما قال و فرغ من قراءة الكتاب كثر عنده الصخب و ارتفعت الأصوات و أخرجنا فقلت لأصحابي حين خرجنا : لقد أمر أمر ابن أبي كبشة إنه يخافه ملك بني الأصفر !
فما زلت موقنا أنه سيظهر حتى أدخل الله على الإسلام
قال : و كان ابن الناطور صاحب إيلياء و هرقل أسقف على نصارى الشام يحدث أن هرقل حين قدم إيلياء أصبح يوما خبيث النفس فقال بعض بطارقته : قد استنكرنا هيئتك قال ابن الناطور : و كان هرقل حزاء ينظر في النجوم فقال لهم حين سألوه : إني رأيت حين نظرت في النجوم ملك الختان قد ظهر فمن يختتن من هذه الأمة ؟ قالوا : ليس يختتن إلا اليهود و لا يهمنك شأنهم و اكتب إلى مدائن ملكك فليقتلوا من فيهم من اليهود
فبينما هم على أمرهم أتى هرقل برجل أرسل به ملك غسان فخبرهم عن خبر رسول الله صلى الله عليه و سلم فلما استخبره هرقل قال : اذهبوا فانظروا أمختتن هو أم لا ؟ فنظروا إليه فحدثوه أنه مختتن و سأله عن العرب فقال : هم يختتنون فقال هرقل : هذا ملك هذه الأمة قد ظهر ثم كتب إلى صاحب له برومية و كان نظيره في العلم
و سار هرقل إلى حمص فلم يرم حمص حتى أتاه كتاب من صاحبه يوافق رأي هرقل على خروج النبي صلى الله عليه و سلم و أنه نبي فأذن هرقل لعظماء الروم في دسكرة له بحمص ثم أمر بأبوابها فغلقت ثم اطلع فقال : يا معشر الروم هل لكم في الفلاح و الرشد و أن يثبت لكم ملككم ؟ فتبايعوا لهذا النبي
فحاصوا حيصة حمر الوحش إلى الأبواب فوجدوها قد غلقت فلما رأى هرقل نفرتهم و أيس من الإيمان قال : ردوهم علي و قال : إني إنما قلت مقالتي آنفا اختبر بها شدتكم على دينكم فقد رأيت
فسجدوا له و رضوا عنه فكان ذلك آخر شأن هرقل
قال البخاري : و رواه صالح بن كيسان و يونس و معمر عن الزهري
و قد رواه البخاري في مواضع كثيرة في صحيحه بألفاظ يطول استقصاؤها و أخرجه بقية الجماعة إلا ابن ماجة من طرق عن الزهري
و قد تكلمنا على هذا الحديث مطولا في أول شرحنا لصحيح البخاري بما فيه كفاية و ذكرنا ما فيه من الفوائد و النكت المعنوية و اللفظية و لله تعالى الحمد و المنة (3/494)
و قال ابن لهيعة عن الأسود عن عروة قال : خرج أبو سفيان بن حرب إلى الشام تاجرا في نفر من قريش و بلغ هرقل شأن رسول الله صلى الله عليه و سلم فأراد أن يعلم ما يعلم من شأن رسول الله صلى الله عليه و سلم فأرسل إلى صاحب العرب الذي بالشام في ملكه يأمره أن يبعث إليه برجال من العرب يسألهم عنه فأرسل إليه ثلاثين رجلا منهم أبو سفيان بن حرب فدخلوا عليه في كنيسة إيلياء التي في جوفها فقال هرقل : أرسلت إليكم لتخبروني عن هذا الذي بمكة ما أمره ؟ قالوا ساحر كذاب و ليس بنبي
قال : أخبروني من أعلمكم به و أقربكم منه رحما ؟ قالوا : هذا أبو سفيان ابن عمه و قد قاتله
فلما أخبروه ذلك أمر بهم فأخرجوا عنه ثم أجلس أبا سفيان فاستخبره قال : أخبرني يا أبا سفيان ؟ فقال : هو ساحر كذاب
فقال هرقل : إني لا أريد شتمه و لكن كيف نسبه فيكم ؟ قال : هو و الله من بيت قريش
قال : كيف عقله و رأيه ؟ قال : لم نعب له رأيا قط
قال هرقل : هل كان حلافا كذابا مخادعا في أمره ؟ قال : لا و الله ما كان كذلك
قال : لعله يطلب ملكا أو شرفا كان لأحد من أهل بيته قبله ؟ قال أبو سفيان : لا ثم قال : من يتبعه منكم هل يرجع إليكم منهم أحد ؟ قال : لا
قال هرقل : هل يغدر إذا عاهد ؟ قال : لا إلا أن يغدر مدته هذه
فقال هرقل : و ما تخاف من مدته هذه ؟ قال : إن قومي أمدوا حلفاءهم على حلفائه و هو بالمدينة قال هرقل : إن كنتم أنتم بدأتم فأنتم أغدر
فغضب أبو سفيان و قال : لم يغلبنا إلا مرة واحدة و أنا يومئذ غائب و هو يوم بدر ثم غزوته مرتين في بيوتهم نبقر البطون و نجدع الآذان و الفروج
فقال هرقل : كاذبا تراه أم صادقا ؟ فقال : بل هو كاذب
فقال : إن كان فيكم نبي فلا تقتلوه فإن أفعل الناس لذلك اليهود
ثم رجع أبو سفيان
ففي هذا السياق غرابة و فيه فوائد ليست عند ابن إسحاق و لا البخاري
و قد أورد موسى بن عقبة في مغازيه قريبا مما ذكره عروة بن الزبير و الله أعلم
و قال ابن جرير في تاريخه : حدثنا ابن حميد حدثنا سلمة حدثنا محمد ابن إسحاق عن بعض أهل العلم قال : إن هرقل قال لدحية بن خليفة الكلبي حين قدم عليه بكتاب رسول الله صلى الله عليه و سلم : و الله إني لأعلم أن صاحبك نبي مرسل و أنه الذي كنا ننتظر و نجده في كتابنا و لكني أخاف الروم على نفسي و لولا ذلك لاتبعته فاذهب إلى صغاطر الأسقف فاذكر له أمر صاحبكم فهو و الله في الروم أعظم مني و أجوز قولا عندهم مني فانظر ماذا يقول لك ؟
قال : فجاء دحية فأخبره بما جاء به من رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى هرقل و بما يدعو إليه فقال صغاطر : صاحبك و الله نبي مرسل نعرفه بصفته و نجده في كتابنا باسمه
ثم دخل و ألقى ثيابا كانت عليه سودا و ليس بياضا ثم أخذ عصاه فخرج على الروم في الكنيسة فقال : يا معشر الروم إنه قد جاءنا كتاب من أحمد يدعونا فيه إلى الله و إني أشهد أن لا إله إلا الله و أن أحمد عبده و رسوله قال : فوثبوا إليه وثبة رجل واحد فضربوه حتى قتلوه
قال : فلما رجع دحية إلى هرقل فأخبره الخبر قال : قد قلت لك إنا نخافهم على أنفسنا فصغاطر و الله كان أعظم عندهم و أجوز قولا مني
و قد روى الطبراني من طريق يحيى بن سلمة بن كهيل عن أبيه عن عبد الله بن شداد عن دحية الكلبي قال : بعثني رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى قيصر صاحب الروم بكتاب فقلت : استأذنوا لرسول رسول الله صلى الله عليه و سلم فأتي قيصر فقيل له : إن على الباب رجلا يزعم أنه رسول رسول الله ففزع لذلك و قال : أدخله فأدخله عليه و عنده بطارقته فأعطيته الكتاب فإذا فيه بسم الله الرحمن الرحيم من محمد رسول الله إلى قيصر صاحب الروم فنخر ابن أخ له أحمر أزرق سبط فقال : لا تقرأ الكتاب اليوم فإنه بدأ بنفسه و كتب : صاحب الروم و لم يكتب ملك الروم
قال : فقرىء الكتاب حتى فرغ منه ثم أمرهم فخرجوا من عنده ثم بعث إلي فدخلت عليه فسألني فأخبرته فبعث إلى الأسقف فدخل عليه ـ و كان صاحب أمرهم يصدرون عن رأيه و عن قوله ـ فلما قرأ الكتاب قال الأسقف : هو و الله الذي بشرنا به موسى و عيسى الذي كنا ننتظر قال قيصر : فما تأمرني ؟ قال الأسقف : أما أنا فمصدقه و متبعه فقال قيصر : أعرف أنه كذلك و لكن لا أستطيع أن أفعل إن فعلت ذهب ملكي و قتلني الروم
و به قال محمد بن إسحاق عن خالد بن يسار عن رجل من قدماء أهل الشام قال : لما أراد هرقل الخروج من أرض الشام إلى القسطنطينية لما بلغه من أمر النبي صلى الله عليه و سلم جمع الروم فقال : يا معشر الروم إني عارض عليكم أمورا فانظروا فيما أردت بها قالوا : ما هي ؟
قال : تعلمون و الله أن هذا الرجل لنبي مرسل نجده نعرفه بصفته التي وصف لنا فهلم فلنتبعه فتسلم لنا دنيانا و آخرتنا
فقالوا : نحن نكون تحت أيدي العرب و نحن أعظم الناس ملكا و أكثره رجالا و أقصاه بلدا !
قال : فهلم أعطيه الجزية كل سنة أكسر عني شوكته و أستريح من حربه بما أعطيه إياه قالوا : نحن نعطي العرب الذل و الصغار بخرج يأخذونه منا و نحن أكثر الناس عددا و أعظمه ملكا و أمنعه بلدا ! لا و الله لا نفعل هذا أبدا
قال : فهلم فلأصالحه على أن أعطيه أرض سورية و يدعني و أرض الشام قال : و كانت أرض سورية فلسطين و الأردن و دمشق و حمص و ما دون الدرب من أرض سورية و ما كان وراء الدرب عندهم فهو الشام
فقالوا نحن نعطيه أرض سورية و قد عرفت أنها سرة الشام لا نفعل هذا أبدا
فلما أبوا عليه قال : أما و الله لترون أنكم قد ظفرتم إذا امتنعتم منه في مدينتكم
قال : ثم جلس على بغل له فانطلق حتى إذا أشرف على الدرب استقبل أرض الشام ثم قال : السلام عليك يا أرض سورية تسليم الوداع ثم ركض حتى دخل إلى القسطنطينية و الله أعلم (3/502)
قال ابن إسحاق : ثم بعث رسول الله صلى الله عليه و سلم شجاع بن وهب أخا بني أسد بن خزيمة إلى المنذر بن الحارث بن أبي شمر الغساني صاحب دمشق
قال الواقدي : و كتب معه : [ سلام على من اتبع الهدى و آمن به و أدعوك إلى أن تؤمن بالله وحده لا شريك له يبقى لك ملكك ]
فقدم شجاع بن وهب فقرأه عليه فقال : و من ينزع ملكي ! إني سأسير إليه (3/506)
روى البخاري [ من حديث الليث عن يونس عن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه و سلم بعث بكتابه مع رجل إلى كسرى و أمره أن يدفعه إلى عظيم البحرين فدفعه عظيم البحرين إلى كسرى فلما قرأه كسرى مزقه
قال : فحسبت أن ابن المسيب قال : فدعا عليه رسول الله صلى الله عليه و سلم أن يمزقوا كل ممزق ]
و قال عبد الله بن وهب : [ عن يونس عن الزهري حدثني عبد الرحمن بن القاري أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قام ذات يوم على المنبر خطيبا فحمد الله و أثنى عليه و تشهد ثم قال : أما بعد فإني أريد أن أبعث بعضكم إلى ملوك الأعاجم فلا تختلفوا علي كما اختلف بنو إسرائيل على عيسى بن مريم ]
فقال المهاجرون : يا رسول الله إنا لا نختلف عليك في شيء أبدا فمرنا و ابعثنا
فبعث شجاع بن وهب إلى كسرى فأمر كسرى بإيوانه أن يزين ثم أذن لعظماء فارس ثم أذن لشجاع بن وهب فلما أن دخل عليه أمر كسرى بكتاب رسول الله صلى الله عليه و سلم أن يقبض منه فقال شجاع بن وهب : لا حتى أدفعه أنا إليك كما أمرني رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال كسرى : ادنه فدنا فناوله الكتاب
ثم دعا كاتبا له من أهل الحيرة فقرأه فإذا فيه : ( من محمد عبد الله و رسوله إلى كسرى عظيم فارس ) قال : فأغضبه حين بدأ رسول الله صلى الله عليه و سلم بنفسه و صاح و غضب و مزق الكتاب قبل أن يعلم ما فيه و أمر بشجاع بن وهب فأخرج فلما رأى ذلك قعد على راحلته ثم سار ثم قال : و الله ما أبالي على أي الطريقين أكون إذا أديت كتاب رسول الله صلى الله عليه و سلم !
قال : و لما ذهب عن كسرى سورة غضبه بعث إلى شجاع ليدخل عليه فالتمس فلم يوجد فطلب إلى الحيرة فسبق
فلما قدم شجاع على النبي صلى الله عليه و سلم أخبره بما كان من أمر كسرى و تمزيقه لكتاب رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ مزق كسرى ملكه ]
و روى محمد بن إسحاق [ عن عبد الله بن أبي بكر عن أبي سلمة أن رسول الله صلى الله عليه و سلم بعث عبد الله بن حذافة بكتابه إلى كسرى فلما قرأه مزقه فلما بلغ رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : مزق ملكه ]
و قال ابن جرير : [ حدثنا ابن حميد حدثنا سلمة حدثنا ابن إسحاق عن يزيد بن أبي حبيب قال : و بعث عبد الله بن حذافة بن قيس بن عدي بن سعيد بن سهم إلى كسرى بن هرمز ملك فارس و كتب معه : بسم الله الرحمن الرحيم من محمد رسول الله إلى كسرى عظيم فارس سلام على من اتبع الهدى و آمن بالله و رسوله و شهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له و أن محمد عبده و رسوله و أدعوك بدعاء الله فإني أنا رسول الله إلى الناس كافة لأنذر من كان حيا و يحق القول على الكافرين فإن تسلم تسلم و إن أبيت فإن إثم المجوس عليك ]
قال : فلما قرأه شقه و قال : يكتب إلي بهذا و هو عبدي ؟ !
قال : ثم كتب كسرى إلى باذام و هو نائبه على اليمن : أن ابعث إلى هذا الرجل بالحجاز رجلين من عندك جلدين فليأتياني به
فبعث باذام قهرمانه ـ و كان كاتبا حاسبا بكتاب فارس ـ و بعث معه رجلا من الفرس يقال له خرخرة و كتب معهما إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم يأمره أن ينصرف معهما إلى كسرى و قال : لأباذويه : إيت بلاد هذا الرجل و كلمه و ائتني بخبره
فخرجا حتى قدما الطائف فوجدا رجلا من قريش في أرض الطائف فسألوه عنه فقال : هو بالمدينة و استبشر أهل الطائف ـ يعني و قريش ـ بهما و فرحوا و قال بعضهم لبعض : أبشروا فقد نصب له كسرى ملك الملوك كفيتم الرجل !
فخرجا حتى قدما على رسول الله صلى الله عليه و سلم فكلمه أباذويه فقال : شاهنشاه ملك الملوك كسرى قد كتب إلى الملك باذام يأمره أن يبعث إليك من يأتيه بك و قد بعثني إليك لتنطلق معي فإن فعلت كتب لك إلى ملك الملوك ينفعك و يكفه عنك و إن أبيت فهو من قد علمت فهو مهلكك و مهلك قومك و مخرب بلادك
و دخلا على رسول الله صلى الله عليه و سلم و قد حلقا لحاهما و أعفيا شواربهما فكره النظر إليهما و قال : [ ويلكما من أمركما بهذا ؟ ! ] قالا : أمرنا ربنا ـ يعنيان كسرى ـ فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ و لكن ربي أمرني بإعفاء لحيتي و قص شاربي ] ثم قال : [ ارجعا حتى تأتياني غدا ]
قال : و أتى رسول الله صلى الله عليه و سلم الخبر من السماء بأن الله قد سلط على كسرى ابنه شيرويه فقتله (3/507)
في شهر كذا و كذا في ليلة كذا و كذا من الليل سلط عليه ابنه شيرويه فقتله
قال : فدعاهما فاخبرهما فقالا : هل تدري ما تقول ؟ إنا قد نقمنا عليك ما هو أيسر من هذا فنكتب عنك بهذا و نخبر الملك باذام ؟ قال : [ نعم أخبراه ذاك عني و قولا له : إن ديني و سلطاني سيبلغ ما بلغ كسرى و ينتهي إلى الخف و الحافر و قولا له : إن أسلمت أعطيتك ما تحت يديك و ملكتك على قومك من الأبناء ]
ثم أعطى خرخرة منطقة فيها ذهب و فضة كان أهداها إليه بعض الملوك
فخرجا من عنده حتى قدما على باذام فأخبراه الخبر فقال : و الله ما هذا بكلام ملك و إني لأرى الرجل نبيا كما يقول و ليكونن ما قد قال فلئن كان هذا حقا فهو نبي مرسل و إن لم يكن فسنرى فيه رأينا
فلم ينشب باذام أن قدم عليه كتاب شيرويه : أما بعد فإني قد قتلت كسرى و لم أقتله إلا غضبا لفارس لما كان استحل من قتل أشرافهم و نحرهم في ثغورهم فإذا جاءك كتابي هذا فخذ لي الطاعة ممن قبلك و انطلق إلى الرجل الذي كان كسرى قد كتب فيه فلا تهجه حتى يأتيك أمري فيه
فلما انتهى كتاب شيروية إلى باذام قال : إن هذا الرجل لرسول فأسلم و أسلمت الأبناء من فارس من كان منهم باليمن
قال : و قد قال باذويه لباذام : ما كلمت أحدا أهيب عندي منه فقال له باذام هل معه شرط ؟ قال : لا
قال الواقدي رحمه الله : و كان قتل كسرى على يدي ابنه شيروية ليلة الثلاثاء لعشر ليال مضين من جمادى الآخرة من سنة سبع من الهجرة لست ساعات مضت منها
قلت : و في شعر بعضهم ما يرشد أن قتله كان في شهر حرام و هو قول بعض الشعراء :
( قتلوا كسرى بليل محرما ... فتولى لم يمتع بكفن )
و قال بعض شعراء العرب :
( و كسرى إذ تقاسمه بنوه ... بأسياف كما اقتسم اللحام )
( تمخضت المنون له بيوم ... أتى و لكل حاملة تمام )
و روى الحافظ البيهقي [ من حديث حماد بن سلمة عن حميد عن الحسن عن أبي بكرة أن رجلا من أهل فارس أتى رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : إن ربي قد قتل الليلة ربك
قال : و قيل له : ـ يعني النبي صلى الله عليه و سلم ـ إنه قد استخلف ابنته فقال : لا يفلح قوم تملكهم امرأة ]
قال البيهقي : و روى في [ حديث دحية بن خليفة أنه لما رجع من عند قيصر وجد عند رسول الله صلى الله عليه و سلم رسل كسرى و ذلك أن كسرى بعث يتوعد صاحب صنعاء و يقول له : ألا تكفيني أمر رجل قد ظهر بأرضك يدعوني إلى دينه ؟ ! لتكفينه أو لأفعلن بك
فبعث إليه فقال لرسله : أخبروه أن ربي قد قتل ربه الليلة ] فوجدوه كما قال
قال : و روى داود بن أبي هند عن عامر الشعبي نحو هذا
ثم روى البيهقي [ من طريق أبي بكر بن عياش عن داود بن أبي هند عن أبيه عن أبي هريرة قال : أقبل سعد إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : إن في وجه سعد خبرا فقال : يا رسول الله هلك كسرى فقال : لعن الله كسرى أول الناس هلاكا فارس ثم العرب ]
قلت : الظاهر أنه لما أخبر رسول الله صلى الله عليه و سلم بهلاك كسرى لذينك الرجلين يعني الأميرين اللذين قدما من نائب اليمن باذام فلما جاء الخبر بوفق ما أخبر به عليه السلام و شاع في البلاد و كان سعد بن أبي وقاص أول من سمع جاء إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فأخبره بوفق إخباره عليه السلام و هكذا بنحو هذا التقرير ذكره البيهقي رحمه الله
ثم روى البيهقي من غير وجه عن الزهري أخبرني أبو سلمة بن عبد الرحمن أنه بلغه أن كسرى بينما هو في دسكرة ملكه بعث له ـ أو قيض له ـ عارض يعرض عليه الحق فلم يفجأ كسرى إلا برجل يمشي و في يده عصا فقال : يا كسرى هل لك في الإسلام قبل أن أكسر هذه العصا ؟ فقال كسرى : نعم لا تكسرها فولى الرجل فلما ذهب أرسل كسرى إلى حجابه فقال : من أذن لهذا الرجل علي ؟ فقالوا : ما دخل عليك أحد فقال : كذبتم قال : فغضب عليهم و تهددهم ثم تركهم
قال : فلما كان رأس الحول أتى ذلك الرجل و معه العصا فقال : يا كسرى هل لك في الإسلام قبل أن أكسر هذه العصا ؟ قال : نعم لا تكسرها
فلما انصرف عنه دعا حجابه فقال لهم كالمرة الأولى
فلما كان العام المستقبل أتاه ذلك الرجل معه العصا فقال له : هل لك يا كسرى في الإسلام قبل أن أكسر العصا ؟ فقال : لا تكسرها لا تكسرها فكسرها فاهلك الله كسرى عند ذلك
و قال الإمام الشافعي : [ أنبأنا ابن عيينة عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : إذا هلك كسرى فلا كسرى بعده و إذا هلك قيصر فلا قيصر بعده و الذي نفسي بيده لتنفقن كنوزهما في سبيل الله ]
أخرجه مسلم من حديث ابن عيينة و أخرجاه من حديث الزهري به
قال الشافعي : و لما أتي كسرى بكتاب رسول الله صلى الله عليه و سلم مزقه فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ يمزق ملكه و حفظنا أن قيصر أكرم كتاب رسول الله صلى الله عليه و سلم و وضعه في مسك فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : ثبت ملكه ] (3/510)
قال الشافعي و غيره من العلماء : و لما كانت العرب تأتي الشام و العراق للتجارة فأسلم من أسلم منهم شكوا خوفهم من ملكي العراق و الشام إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : [ إذا هلك كسرى فلا كسرى بعده و إذا هلك قيصر فلا قيصر بعده ]
قال : فباد ملك الأكاسرة بالكلية و زال ملك قيصر عن الشام بالكلية و إن ثبت لهم ملك في الجملة ببركة دعاء رسول الله صلى الله عليه و سلم لهم حين عظموا كتابه و الله أعلم
قلت : و في هذا إشارة عظيمة بأن ملك الروم لا يعود أبدا إلى أرض الشام
و كانت العرب تسمي قيصر لمن ملك الشام مع الجزيرة من الروم و كسرى لمن ملك الفرس و النجاشي لمن ملك الحبشة و المقوقس لمن ملك الإسكندرية و فرعون لمن ملك مصر كافرا و بطليموس لمن ملك الهند و لهم أعلام أجناس غير ذلك و قد ذكرناها في غير هذا الموضع و الله أعلم
و روى مسلم [ عن قتيبة و غيره عن أبي عوانة عن سماك عن جابر بن سمرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : لتفتحن عصابة من المسلمين كنوز كسرى في القصر الأبيض ]
و روى أسباط عن سماك عن جابر بن سمرة مثل ذلك و زاد : و كنت أنا و أبي فيهم فأصبنا من ذلك ألف درهم (3/513)
قال يونس بن بكير عن ابن إسحاق : [ حدثني الزهري عن عبد الرحمن بن عبد القاري أن رسول الله صلى الله عليه و سلم بعث حاطب بن أبي بلتعة إلى المقوقس صاحب الإسكندرية فمضى بكتاب رسول الله صلى الله عليه و سلم إليه فقبل الكتاب و أكرم حاطبا و أحسن نزله و سرحه إلى النبي صلى الله عليه و سلم و أهدى له مع حاطب كسوة و بغلة بسرجها و جاريتين إحداهما أم إبراهيم و أما الأخرى فوهبها رسول الله صلى الله عليه و سلم لمحمد بن قيس العبدي ]
رواه البيهقي
ثم روى من طريق عبد الرحمن بن زيد بن أسلم عن أبيه حدثنا يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب عن أبيه عن جده حاطب بن أبي بلتعة قال : بعثني رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى المقوقس ملك الإسكندرية قال : فجئته بكتاب رسول الله صلى الله عليه و سلم فأنزلني في منزله و أقمت عنده ثم بعث إلي و قد جمع بطارقته و قال : إني سائلك عن كلام فأحب أن تفهم عني قال : قلت : هلم قال أخبرني عن صاحبك أليس هو نبي ؟ قلت : بلى هو رسول الله قال : فما له حيث كان هكذا لم يدع على قومه حيث أخرجوه من بلده إلى غيرها ؟ قال : فقلت : عيسى بن مريم أليس تشهد أنه رسول الله ؟ قال : بلى قلت : فما له حيث أخذه قومه فأرادوا أن يصلبوه ألا يكون دعا عليهم بأن يهلكهم الله حيث رفعه الله إلى السماء الدنيا ؟ فقال لي : أنت حكيم قد جاء من عند حكيم هذه هدايا أبعث بها معك إلى محمد و أرسل معه يبذرقة يبذرقونك إلى مأمنك
قال : فأهدى إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم ثلاث جوار منهن أم إبراهيم ابن رسول الله صلى الله عليه و سلم و واحدة وهبها رسول الله صلى الله عليه و سلم لحسان بن ثابت الأنصاري و أرسل إليه بطرف من طرفهم
و ذكر ابن إسحاق أنه أهدى إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم أربع جوار إحداهن مارية أم إبراهيم و الأخرى سيرين التي وهبها لحسان بن ثابت فولدت له عبد الرحمن بن حسان
قلت : و كان في جملة الهدية غلام أسود خصي اسمه مأبور و خفان ساذجان أسودان و بغلة بيضاء اسمها الدلدل
و كان مأبور هذا خصيا و لم يعلموا بأمره بادىء الأمر فصار يدخل على مارية كما كان من عادتهم ببلاد مصر فجعل بعض الناس يتكلم فيهما بسبب ذلك و لا يعلمون بحقيقة الحال و أنه خصي حتى قال بعضهم : إنه الذي أمر رسول الله صلى الله عليه و سلم علي بن أبي طالب بقتله فوجده خصيا فتركه و الحديث في صحيح مسلم من طريق حماد بن سلمة
قال ابن إسحاق : و بعث رسول الله صلى الله عليه و سلم سليط بن عمرو بن عبدود أخا بني عامر بن لؤي إلى هوذة بن علي صاحب اليمامة و بعث العلاء بن الحضرمي إلى جيفر بن الجلندي و عمار بن الجلندي الأزديين صاحبي عمان (3/514)
ذكرها الحافظ البيهقي هاهنا قبل غزوة الفتح فساق من طريق موسى بن عقبة و عروة بن الزبير قالا : بعث رسول الله صلى الله عليه و سلم عمرو بن العاص إلى ذات السلاسل من مشارف الشام في بلى و عبد الله و من يليهم من قضاعة
قال عروة بن الزبير : و بنو بلى أخوال العاص بن وائل فلما صار إلى هناك خاف من كثرة عدوه فبعث إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم يستمده فندب رسول الله صلى الله عليه و سلم المهاجرين الأولين فانتدب أبو بكر و عمر في جماعة من سراة المهاجرين رضي الله عنهم أجمعين و أمر عليهم رسول الله صلى الله عليه و سلم أبا عبيدة بن الجراح
قال موسى بن عقبة : فلما قدموا على عمرو قال : أنا أميركم و أنا أرسلت إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم أستمده بكم فقال المهاجرون : بل أنت أمير أصحابك و أبو عبيدة أمير المهاجرين فقال عمرو : إنما أنتم مدد أمددته
فلما رأى ذلك أبو عبيدة ـ و كان رجلا حسن الخلق لين الشيمة ـ قال : تعلم يا عمرو أن آخر ما عهد إلي رسول الله صلى الله عليه و سلم أن قال : [ إذا قدمت على صاحبك فتطاوعا ] و إنك إن عصيتني لأطيعنك فسلم أبو عبيدة الإمارة لعمرو بن العاص
و قال محمد بن إسحاق : [ حدثني محمد بن عبد الرحمن بن عبد الله بن الحصين التميمي قال : بعث رسول الله صلى الله عليه و سلم عمرو بن العاص يستنفر العرب إلى الإسلام و ذلك أن أم العاص بن وائل كانت من بني بلى فبعثه رسول الله صلى الله عليه و سلم يتألفهم بذلك حتى إذا كان على ماء بأرض جذام يقال له السلاسل ـ و به سميت تلك الغزوة ذات السلاسل ـ قال : فلما كان عليه و خاف بعث إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم يستمده فبعث إليه أبا عبيدة بن الجراح بالمهاجرين الأولين فيهم أبو بكر و عمر و قال لأبي عبيدة حين وجهه : لا تختلفا
فخرج أبو عبيدة حتى إذا قدم عليه قال له عمرو : إنما جئت مددا لي فقال له أبو عبيدة : لا و لكن على ما أنا عليه و أنت على ما أنت عليه
و كان أبو عبيدة رجلا لينا سهلا هينا عليه أمر الدنيا فقال له عمرو : بل أنت مددي فقال له أبو عبيدة : يا عمرو إن رسول الله صلى الله عليه و سلم قد قال لي : لا تختلفا و إنك إن عصيتني أطعتك فقال له عمرو : فإني أمير عليك و إنما أنت مدد لي قال : فدونك فصلى عمرو بن العاص بالناس ]
و قال الواقدي : حدثني ربيعة بن عثمان عن يزيد بن رومان أن أبا عبيدة لما آب إلى عمرو بن العاص فصاروا خمسمائة فساروا الليل و النهار حتى وطىء بلاد بلى و دوخها و كلما انتهى إلى موضع بلغه أنه كان بهذا الموضع جمع فلما سمعوا بك تفرقوا حتى انتهى إلى أقصى بلاد بلى و عذرة و بلقين و لقي في آخر ذلك جمعا ليس بالكثير فاقتتلوا ساعة و تراموا بالنبل ساعة و رمي يومئذ عامر بن ربيعة و أصيبت ذراعه و حمل المسلمون عليهم فهزموا و أعجزوا هربا في البلاد و تفرقوا و دوخ عمرو ما هناك و أقام أياما لا يسمع لهم بجمع و لا مكان صاروا فيه و كان يبعث أصحاب الخيل فيأتون بالشاء و النعم فكانوا ينحرون و يذبحون و لم يكن في ذلك أكثر من ذلك و لم تكن غنائم تقسم
و قال أبو داود [ حدثنا ابن المثنى حدثنا وهب بن جرير حدثنا أبي سمعت يحيى بن أيوب يحدث عن يزيد بن أبي حبيب عن عمران بن أبي أنس عن عبد الرحمن بن جبير عن عمرو بن العاص قال : احتلمت في ليلة باردة في غزوة ذات السلاسل فأشفقت إن اغتسلت أن أهلك قال : فتيممت ثم صليت بأصحابي الصبح فذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : يا عمرو صليت بأصحابك و أنت جنب ؟ قال : فأخبرته بالذي منعني من الإغتسال و قلت : إني سمعت الله يقول : { و لا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما } فضحك نبي الله صلى الله عليه و سلم و لم يقل شيئا ]
حدثنا محمد بن سلمة أخبرنا ابن وهب حدثنا ابن لهيعة و عمرو بن الحارث عن يزيد بن أبي حبيب عن عمران بن أنس عن عبد الرحمن بن جبير عن أبي قيس مولى عمرو بن العاص ـ و كان على سرية فذكر الحديث بنحوه ـ قال : فغسل مغابنه و توضأ وضوءه للصلاة ثم صلى بهم فذكر نحوه و لم يذكر التيمم
قال أبو داود : و روى هذه القصة عن الأوزاعي عن حسان بن عطية و قال فيه : فتيمم
و قال الواقدي : [ حدثني أفلح بن سعيد عن أبي عبد الرحمن بن رقيش عن أبي بكر بن حزم قال : كان عمرو بن العاص حين قفلوا احتلم في ليلة باردة كأشد ما يكون من البرد فقال لأصحابه : ما ترون و الله احتلمت فإن اغتسلت مت فدعا بماء فتوضأ و غسل فرجه و تيمم ثم قام فصلى بهم فكان أول من بعث عوف بن مالك بريدا
قال عوف : فقدمت على رسول الله صلى الله عليه و سلم في السحر و هو يصلي في بيته فسلمت عليه فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : عوف بن مالك ؟ فقلت : عوف بن مالك يا رسول الله قال : صاحب الجزور ؟ قلت : نعم و لم يزد على هذا بعد ذلك شيئا ثم قال : أخبرني فأخبرته بما كان من مسيرنا و ما كان بين أبي عبيدة و عمرو بن العاص و مطاوعة أبي عبيدة فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : يرحم الله أبا عبيدة بن الجراح
قال : ثم أخبرته أن عمرا صلى بالناس و هو جنب و معه ماء لم يزد على أن غسل فرجه و توضأ فسكت رسول الله صلى الله عليه و سلم
فلما قدم عمرو على رسول الله صلى الله عليه و سلم سأله عن صلاته فأخبره فقال : و الذي بعثك بالحق إني لو اغتسلت لمت لم أجد بردا قط مثله و قد قال تعالى : { و لا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما }
قال : فضحك رسول الله صلى الله عليه و سلم و لم يبلغنا أنه قال شيئا ]
و قال ابن إسحاق : [ حدثني يزيد بن أبي حبيب عن عوف بن مالك الأشجعي قال : كنت في الغزوة التي بعث فيها رسول الله صلى الله عليه و سلم عمرو بن العاص و هي غزوة ذات السلاسل فصحبت أبا بكر و عمر فمررت بقوم و هم على جزور قد نحروها و هم لا يقدرون على أن يبعضوها و كنت امرءا جازرا فقلت لهم : تعطوني منها عشرا على أن أقسمها بينكم ؟ قالوا : نعم فأخذت الشفرة فجزأتها مكاني و أخذت منها جزءا فحملته إلى أصحابي فاطبخناه و أكلناه فقال أبو بكر و عمر : أنى لك هذا اللحم يا عوف ؟ فأخبرتهما فقالا : لا و الله ما أحسنت حين أطعمتنا هذا ثم قاما يتقيآن ما في بطونهما منه
فلما أن قفل الناس من ذلك السفر كنت أول قادم على رسول الله صلى الله عليه و سلم فجئته و هو يصلي في بيته فقلت : السلام عليك يا رسول الله و رحمة الله و بركاته فقال : أعوف بن مالك ؟ فقلت : نعم بأبي أنت و أمي فقال : صاحب الجزور ؟ و لم يزد على ذلك شيئا ]
هكذا رواه محمد بن إسحاق عن يزيد بن أبي حبيب عن عوف بن مالك و هو منقطع بل معضل
قال الحافظ البيهقي : و قد رواه ابن لهيعة و سعيد بن أبي أيوب عن يزيد بن أبي حبيب عن ربيعة بن لقيط عن مالك بن زهدم أظنه عن عوف بن مالك فذكر نحوه إلا أنه قال : فعرضته على عمر فسألني عنه فأخبرته فقال : قد تعجلت أجرك و لم يأكله
ثم حكي عن أبي عبيدة مثله و لم يذكر فيه أبا بكر و تمامه كنحو ما تقدم
و قال الحافظ البيهقي : [ أنبأنا أبو عبد الله الحافظ و أبو سعيد بن أبي عمرو قالا : حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب الأصم حدثنا يحيى بن أبي طالب حدثنا علي بن عاصم حدثنا خالد الحذاء عن أبي عثمان النهدي سمعت عمرو بن العاص يقول : بعثني رسول الله صلى الله عليه و سلم على جيش ذات السلاسل و في القوم أبو بكر و عمر فحدثت نفسي أنه لم يبعثني على أبي بكر و عمر إلا لمنزلة لي عنده قال : فأتيته حتى قعدت بين يديه فقلت : يا رسول الله من أحب الناس إليك ؟ قال : عائشة ؟ قلت : إني لست أسألك عن أهلك قال : فأبوها قلت : ثم من ؟ قال : عمر قلت : ثم من ؟ حتى عدد رهطا قال : قلت في نفسي : لا أعود أسأل عن هذا ]
و هذا الحديث مخرج في الصحيحين [ من طريق خالد بن مهران الحذاء عن أبي عثمان النهدي و اسمه عبد الرحمن بن مل حدثني عمرو بن العاص أن رسول الله صلى الله عليه و سلم بعثه على جيش ذات السلاسل فأتيته فقلت : أي الناس أحب إليك ؟ قال : عائشة قلت : فمن الرجال ؟ قال : أبوها قلت : ثم من ؟ قال : ثم عمر بن الخطاب فعدد رجالا ] و هذا لفظ البخاري و في رواية قال عمرو : فسكت مخافة أن يجعلني في آخرهم (3/516)
قال الإمام مالك عن وهب بن كيسان عن جابر قال : بعث رسول الله صلى الله عليه و سلم بعثا قبل الساحل و أمر عليهم أبا عبيدة بن الجراح و هم ثلاثمائة قال جابر : و أنا فيهم
فخرجنا حتى إذا كنا ببعض الطريق فني الزاد فأمر أبو عبيدة بأزواد ذلك الجيش فجمع كله فكان مزودي تمرا فكان يقوتنا كل يوم قليلا قليلا حتى فني و لم يكن يصيبنا إلا تمرة تمرة قال : فقلت : و ما تغني تمرة ؟ فقال : لقد وجدنا فقدها حين فنيت !
قال : ثم انتهينا إلى البحر فإذا حوت مثل الظرب قال : فأكل منه ذلك الجيش ثماني عشرة ليلة ثم أمر أبو عبيدة بضلعين من أضلاعه فنصبا ثم أمر براحلته فرحلت ثم مر تحتها فلم يصبهما
أخرجاه في الصحيحين من حديث مالك بنحوه
و هو في الصحيحين أيضا من طريق سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار عن جابر قال : بعثنا رسول الله صلى الله عليه و سلم في ثلاثمائة راكب و أميرنا أبو عبيدة بن الجراح نرصد عيرا لقريش فأصابنا جوع شديد حتى أكلنا الخبط فسمي ذلك الجيش جيش الخبط قال : و نحر رجل ثلاث جزائر ثم نحر ثلاث جزائر ثم ثلاثا فنهاه أبو عبيدة قال : و ألقى البحر دابة يقال لها العنبر فأكلنا منها نصف شهر و ادهنا حتى ثابت إلينا أجسامنا و صلحت ثم ذكر قصة الضلع
فقوله في الحديث : ( نرصد عيرا لقريش ) دليل على أن هذه السرية كانت قبل صلح الحديبية و الله أعلم و الرجل الذي نحر لهم الجزائر هو قيس بن سعد بن عبادة رضي الله عنهما
و قال الحافظ البيهقي : [ أنبأنا أبو بكر بن إسحاق حدثنا إسماعيل بن قتيبة حدثنا يحيى بن يحيى حدثنا أبو خيثمة و هو زهير بن معاوية عن أبي الزبير عن جابر قال : بعثنا رسول الله صلى الله عليه و سلم و أمر علينا أبا عبيدة نتلقى عيرا لقريش و زودنا جرابا من تمر لم يجد لنا غيره فكان أبو عبيدة يعطينا تمرة تمرة قال : فقلت : كيف كنتم تصنعون بها ؟ قال : كنا نمصها كما يمص الصبي ثم نشرب عليها الماء فتكفينا يومنا إلى الليل و كنا نضرب بعصينا الخبط ثم نبله بالماء فنأكله
قال : فانطلقنا إلى ساحل البحر فرفع لنا على ساحل البحر كهيئة الكثيب الضخم فأتيناه فإذا به دابة تدعى العنبر فقال أبو عبيدة : ميتة ثم قال : لا بل نحن رسل رسول الله صلى الله عليه و سلم و في سبيل الله و قد اضطررتم فكلوا قال : فأقمنا عليه شهرا و نحن ثلاثمائة حتى سمنا و لقد كنا نغرف من وقب عينه بالقلال الدهن و نقتطع منه القدر كالثور أو كقدر الثور و لقد أخذ منا أبو عبيدة ثلاثة عشر رجلا فأقعدهم في عينه و أخذ ضلعا من أضلاعه فأقامها ثم رحل أعظم بعير منها فمر تحتها و تزودنا من لحمها وشائق فلما قدمنا المدينة أتينا رسول الله صلى الله عليه و سلم فذكرنا ذلك له فقال : هو رزق أخرجه الله لكم فهل معكم شيء من لحمه تطعمونا ؟ ]
قال : فأرسلنا إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فأكل منه
و رواه مسلم عن يحيى بن يحيى و أحمد بن يونس و أبو داود عن النفيلي ثلاثتهم عن أبي خيثمة زهير بن معاوية الجعفي الكوفي عن أبي الزبير محمد بن مسلم بن تدرس المكي عن جابر بن عبد الله الأنصاري به
قلت : و مقتضى أكثر هذه السياقات أن هذه السرية كانت قبل صلح الحديبية و لكن أوردناها هاهنا تبعا للحافظ البيهقي رحمه الله فإنه أوردها بعد مؤتة و قبل غزوة الفتح و الله أعلم
و قد ذكر البخاري [ بعد غزوة مؤتة سرية أسامة بن زيد إلى الحرقات من جهينة فقال : حدثنا عمرو بن محمد حدثنا هشيم أنبأنا حصين بن جندب حدثنا أبو ظبيان قال : سمعت أسامة بن زيد يقول : بعثنا رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى الحرقة فصبحنا القوم فهزمناهم و لحقت أنا و رجل من الأنصار رجلا منهم فلما غشيناه قال : لا إله إلا الله فكف الأنصاري و طعنته برمحي حتى قتلته فلما قدمنا بلغ النبي صلى الله عليه و سلم فقال : يا أسامة أقتلته بعد ما قال لا إله إلا الله ؟ قلت : كان متعوزا فما زال يكررها حتى تمنيت أني لم أكن مسلما قبل ذلك اليوم ]
و قد تقدم هذا الحديث و الكلام عليه فيما سلف
ثم روى البخاري من حديث يزيد بن أبي عبيد عن سلمة بن الأكوع قال : غزوت مع رسول الله صلى الله عليه و سلم سبع غزوات و خرجت فيما يبعث من البعوث تسع غزوات علينا مرة أبو بكر و مرة أسامة بن زيد رضي الله عنهما (3/521)
ثم ذكر الحافظ البيهقي هاهنا موت النجاشي صاحب الحبشة على الإسلام و نعي رسول الله صلى الله عليه و سلم له إلى المسلمين و صلاته عليه
فروى [ من طريق مالك عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه و سلم نعى إلى الناس النجاشي في اليوم الذي مات فيه و خرج بهم إلى المصلى فصف بهم و كبر أربع تكبيرات ]
أخرجاه من حديث مالك و أخرجاه أيضا من حديث الليث عن عقيل عن الزهري عن سعيد و أبي سلمة عن أبي هريرة بنحوه
و أخرجاه [ من حديث ابن جريج عن عطاء عن جابر قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : مات اليوم رجل صالح فصلوا على أصحمة ]
و قد تقدمت هذه الأحاديث أيضا و الكلام عليها و لله الحمد
قلت : و الظاهر أن موت النجاشي كان قبل الفتح بكثير فإن في صحيح مسلم أنه لما كتب إلى ملوك الآفاق كتب إلى النجاشي و ليس هو بالمسلم و زعم آخرون كالواقدي أنه هو و الله أعلم
و روى الحافظ البيهقي [ من طريق مسلم بن خالد الزنجي عن موسى بن عقبة عن أبيه عن أم كلثوم قالت : لما تزوج النبي صلى الله عليه و سلم أم سلمة قال : قد أهديت إلى النجاشي أواقي من مسك و حلة و إني لأراه قد مات و لا أرى الهدية إلا سترد علي فإن ردت علي ـ أظنه قال ـ قسمتها بينكن أو فهي لك ]
قال : فكان كما قال رسول الله صلى الله عليه و سلم مات النجاشي و ردت الهدية فلما ردت عليه أعطى امرأة من نسائه أوقية من ذلك المسك و أعطى سائره أم سلمة و أعطاها الحلة و الله أعلم (3/524)
و قد ذكرها الله تعالى في القرآن في غير موضع فقال تعالى : { لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح و قاتل أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد و قاتلوا و كلا وعد الله الحسنى } الآية و قال تعالى : { إذا جاء نصر الله و الفتح و رأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا فسبح بحمد ربك و استغفره إنه كان توابا } (3/526)
و كان سبب الفتح بعد هدنة الحديبية ما ذكره محمد بن إسحاق : حدثني الزهري عن عروة بن الزبير عن المسور بن مخرمة و مروان بن الحكم أنهما حدثاه جميعا قالا : كان في صلح الحديبية أنه من شاء أن يدخل في عقد محمد و عهده دخل و من شاء أن يدخل في عقد قريش و عهدهم دخل فتواثبت خزاعة و قالوا : نحن ندخل في عقد محمد و عهده و تواثبت بنو بكر و قالوا : نحن ندخل في عقد قريش و عهدهم
فمكثوا في تلك الهدنة نحو السبعة أو الثمانية عشر شهرا ثم إن بني بكر وثبوا على خزاعة ليلا بماء يقال له الوتير و هو قريب من مكة و قالت قريش : ما يعلم بنا محمد و هذا الليل و ما يرانا من أحد فأعانوهم عليهم بالكراع و السلاح و قاتلوهم معهم للضغن على رسول الله صلى الله عليه و سلم
و إن عمرو بن سالم ركب عندما كان من أمر خزاعة و بني بكر بالوتير حتى قدم على رسول الله صلى الله عليه و سلم يخبر الخبر و قد قال أبيات شعر فلما قدم على رسول الله صلى الله عليه و سلم أنشدها إياه :
( يا رب إني ناشد محمدا ... حلف أبيه و أبينا الأتلدا )
( قد كنتم ولدا و كنا والدا ... ثمت أسلمنا فلم ننزع يدا )
( فانصر رسول الله نصرا أبدا ... و ادع عباد الله يأتوا مددا )
( فيهم رسول الله قد تجردا ... إن سيما خسفا وجهه تربدا )
( في فيلق كالبحر يجري مزبدا ... إن قريشا أخلفوك الموعدا )
( و نقضوا ميثاقك المؤكدا ... و جعلوا لي في كداء رصدا )
( و زعموا أن لست أدعو أحدا ... فهم أذل و أقل عددا )
( هم بيتونا بالوتير هجدا ... و قتلونا ركعا و سجدا )
فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ نصرت يا عمرو بن سالم ] فما برح حتى مرت بنا عنانة في السماء فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ إن هذه السحابة لتستهل بنصر بني كعب ]
و أمر رسول الله صلى الله عليه و سلم الناس بالجهاز و كتمهم مخرجه و سأل الله أن يعمي على قريش خبره حتى يبغتهم في بلادهم
قال ابن إسحاق : و كان السبب الذي هاجهم أن رجلا من بني الحضرمي اسمه مالك بن عباد من حلفاء الأسود ابن رزن خرج تاجرا فلما توسط أرض خزاعة عدوا عليه فقتلوه و أخذوا ماله فعدت بنو بكر على رجل من بني خزاعة فقتلوه فعدت خزاعة قبيل الإسلام على بني الأسود بن رزن الدئلي و هم مفخر بني كنانة و أشرافهم سلمى و كلثوم و ذؤيب فقتلوهم بعرفة عند أنصاب الحرم
قال ابن إسحاق : و حدثني رجل من الديل قال : كان بنو الأسود بن رزن يودون في الجاهلية ديتين ديتين و نودي دية دية لفضلهم فينا
قال ابن إسحاق : فبينا بنو بكر و خزاعة على ذلك إذ حجز بينهم الإسلام فلما كان يوم الحديبية و دخل بنو بكر في عقد قريش و دخلت خزاعة في عقد رسول الله صلى الله عليه و سلم و كانت الهدنة اغتنمها بنو الديل من بني بكر و أرادوا أن يصيبوا من خزاعة ثأرا من أولئك النفر فخرج نوفل بن معاوية الديلي في قومه و هو يومئذ سيدهم و قائدهم و ليس كل بني بكر تابعة فبيت خزاعة و هم على الوتير ـ ماء لهم ـ فأصابوا رجلا منهم وتحاوزوا و اقتتلوا و رفدت قريش بني بكر بالسلاح و قاتل معهم من قريش من قاتل بالليل مستخفيا حتى حاوزوا خزاعة إلى الحرم فلما انتهوا إليه قالت بنو بكر : إنا قد دخلنا الحرم إلهك إلهك ! فقال كلمة عظيمة : لا إله اليوم يا بني بكر أصيبوا ثأركم فلعمري إنكم لتسرقون في الحرم أفلا تصيبون ثأركم !
و لجأت خزاعة إلى دار بديل بن ورقاء بمكة و إلى دار مولى لهم يقال له رافع و قد قال الأخزر بن لعط الديلي في ذلك
( ألا هل أتى قصوى الأحابيش أننا ... رددنا بني كعب بأفوق ناصل )
( حسبناهم في دارة العبد رافع ... و عند بديل محبسا غير طائل )
( بدار الذليل الآخذ الضيم بعد ما ... شفينا النفوس منهم بالمناصل )
( حبسناهم حتى إذا طال يومهم ... نفحنا لهم من كل شعب بوابل )
( نذبحهم ذبح التيوس كأننا ... أسود نباري فيهم بالقواصل )
( هم ظلمونا و اعتدوا في مسيرهم ... و كانوا لدى الأنصاب أول قاتل )
( كأنهم بالجزع إذ يطردونهم ... قفا ثور حفان النعام الجوافل )
قال : فأجابه بديل بن عبد مناة بن سلمة بن عمرو بن الأجب و كان يقال له بديل بن أم أصرم فقال :
( تعاقد قوم يفخرون و لم ندع ... لهم سيدا يندوهم غير نافل )
( أمن خيفة القوم الأولى تزدريهم ... تجيز الوتير خائفا غير آيل )
( و في كل يوم نحن نحبو حباءنا ... لعقل و لا يحبى لنا في المعاقل )
( و نحن صبحنا بالتلاعة داركم ... بأسيافنا يسبقن لوم العواذل )
( و نحن منعنا بين بيض و عتود ... إلى خيف رضوى من مجر القبائل )
( و يوم الغميم قد تكفت ساعيا ... عبيس فجعناه بجلد حلاحل )
( أإن أجمرت في بيتها أم بعضكم ... بجعموسها تنزون إن لم نقاتل )
( كذبتم و بيت الله ما إن قتلتم ... و لكن تركنا أمركم في بلابل )
قال ابن إسحاق : [ فحدثني عبد الله بن أبي سلمة أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : كأنكم بأبي سفيان قد جاءكم يشد في العقد و يزيد في المدة ]
قال ابن إسحاق : ثم خرج بديل بن ورقاء في نفر من خزاعة حتى قدموا على رسول الله صلى الله عليه و سلم فأخبروه بما أصيب منهم و مظاهرة قريش بني بكر عليهم ثم انصرفوا راجعين حتى لقوا أبا سفيان بعسفان قد بعثته قريش إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم يشد العقد و يزيد في المدة و قد رهبوا للذي صنعوا فلما لقى أبو سفيان بديلا قال : من أين أقبلت يا بديل ؟ و ظن أنه قد أتى رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : سرت في خزاعة في هذا الساحل في بطن هذا الوادي قال : فعمد أبو سفيان إلى مبرك ناقته فأخذ من بعرها ففته فرأى فيه النوى فقال : أحلف بالله لقد جاء بديل محمدا
ثم خرج أبو سفيان حتى قدم على رسول الله صلى الله عليه و سلم المدينة فدخل على ابنته أم حبيبة فلما ذهب ليجلس على فراش رسول الله صلى الله عليه و سلم طوته فقال : يا بنية ما أدري أرغبت بي عن هذا الفراش أورغبت به عني ؟ فقالت : هو فراش رسول الله صلى الله عليه و سلم و أنت مشرك نجس فلم أحب أن تجلس على فراشه فقال : يا بنية و الله لقد أصابك بعدي شر !
ثم ذهب إلى أبي بكر فكلمه أن يكلم له رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : ما أنا بفاعل ثم أتى عمر بن الخطاب فكلمه فقال عمر : أنا أشفع لكم إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم ! فوالله لو لم أجد لكم إلا الذر لجاهدتكم به ثم خرج فدخل على علي بن أبي طالب و عنده فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه و سلم و عندها حسن غلام يدب بين يديهما فقال : يا علي إنك أمس القوم بي رحما و أقربهم مني قرابة و قد جئت في حاجة فلا أرجعن كما جئت خائبا فاشفع لي إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : ويحك أبا سفيان ! و الله لقد عزم رسول الله صلى الله عليه و سلم على أمر ما نستطيع أن نكلمه فيه فالتفت إلى فاطمة فقال : يا بنت محمد هل لك أن تأمري بنيك هذا فيجير بين الناس فيكون سيد العرب إلى آخر الدهر ؟ فقالت : و الله ما بلغ بني ذلك أن يجير بين الناس و ما يجير أحد على النبي صلى الله عليه و سلم
فقال : يا أبا الحسن إني أرى الأمور قد اشتدت علي فانصحني قال : و الله ما أعلم شيئا يغني عنك و لكنك سيد بني كنانة فقم فأجر بين الناس ثم الحق بأرضك فقال : أوترى ذلك مغنيا عني شيئا ؟ قال : لا و الله ما أظن و لكن لا أجد لك غير ذلك
فقام أبو سفيان في المسجد فقال : أيها الناس إني قد أجرت بين الناس ثم ركب بعيره فانطلق فلما أن قدم على قريش قالوا : ما وراءك ؟ قال : جئت محمدا فكلمته فوالله ما رد علي شيئا ثم جئت ابن أبي قحافة فوالله ما وجدت فيه خيرا ثم جئت عمر فوجدته أعدى عدو ثم جئت عليا فوجدته ألين القوم و قد أشار علي بأمر صنعته فوالله ما أدري هل يغني عنا شيئا أم لا ؟ قالوا : بماذا أمرك قال : أمرني أن أجير بين الناس ففعلت قالوا : هل أجاز ذلك محمد ؟ قال : لا قالوا : ويحك ما زادك الرجل على أن لعب بك فما يغني عنا ما قلت فقال : لا و الله ما وجدت غير ذلك
( فائدة ذكرها السهيلي فتكلم على قول فاطمة في هذا الحديث : و ما يجير أحد على رسول الله صلى الله عليه و سلم على ما جاء في الحديث : [ و يجير على المسلمين أدناهم ] قال : وجه الجمع بينهما بأن المراد بالحديث من يجير واحدا أو نفرا يسرا و قول فاطمة : فمن يجير عددا من غزو الإمام إياهم فليس له ذلك قال : كان سحنون و ابن الماجشون يقولان : إن أمان المرأة موقوف على إجازة الإمام لقوله لأم هانىء : [ قد أجرنا من أجرت يا أم هانىء ] قال : و يروى هذا عن عمرو بن العاص و خالد بن الوليد و قال أبو حنيفة : لا يجوز أمان العبد و في قوله عليه السلام : [ و يجير عليهم أدناهم ] ما يقتضي دخول العبد و المرأة و الله أعلم
و قد روى البيهقي من طريق حماد بن سلمة عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال : قالت بنو كعب :
( اللهم إني ناشد محمدا ... حلف أبينا و أبيه الأتلدا )
( فانصر هداك الله نصرا أعتدا ... و ادع عباد الله يأتوا مددا )
و قال موسى بن عقبة في فتح مكة : ثم إن بني نفاثة من بني الديل أغاروا على بني كعب و هم في المدة التي بين رسول الله صلى الله عليه و سلم و بين قريش و كانت بنو كعب في صلح رسول الله صلى الله عليه و سلم و كانت بنو نفاثة في صلح قريش فأعانت بنو بكر بني نفاثة و أعانتهم قريش بالسلاح و الرقيق و اعتزلتهم بنو مدلج و وفوا بالعهد الذي كانوا عاهدوا عليه رسول الله صلى الله عليه و سلم و في بني الديل رجلان هما سيداهم سلمى بن الأسود و كلثوم بن الأسود و يذكرون أن ممن أعانهم صفوان بن أمية و شيبة بن عثمان و سهيل بن عمرو
فأغارت بنو الديل على بني عمرو و عامتهم زعموا نساء و صبيان و ضعفاء الرجال فألجأوهم و قتلوهم حتى أدخلوهم إلى دار بديل بن ورقاء بمكة
فخرج ركب من بني كعب حتى أتوا رسول الله صلى الله عليه و سلم فذكروا له الذي أصابهم و ما كان من أمر قريش عليهم في ذلك فقال لهم رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ ارجعوا فتفرقوا في البلدان ]
و خرج أبو سفيان من مكة إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم و تخوف الذي كان فقال : يا محمد اشدد العقد و زدنا في المدة فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : و لذلك قدمت ؟ هل كان من حدث قبلكم ؟ فقال معاذ الله ! نحن على عهدنا و صلحنا يوم الحديبية لا نغير و لا نبدل
فخرج من عند رسول الله صلى الله عليه و سلم و أتى أبا بكر فقال : جدد العقد و زدنا في المدة فقال أبو بكر : جواري في جوار رسول الله صلى الله عليه و سلم و الله لو وجدت الذر تقاتلكم لأعنتها عليكم
ثم خرج فأتى عمر بن الخطاب فكلمه فقال عمر بن الخطاب : ما كان من حلفنا جديدا فأخلقه الله و ما كان منه مثبتا فقطعه الله و ما كان منه مقطوعا فلا وصله الله ! فقال له أبو سفيان : جزيت من ذي رحم شرا
ثم دخل على عثمان فكلمه فقال عثمان : جواري في جوار رسول الله صلى الله عليه و سلم ثم اتبع أشراف قريش يكلمهم فكلهم يقول : عقدنا في عقد رسول الله صلى الله عليه و سلم
فلما يئس مما عندهم دخل على فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه و سلم فكلمها فقالت : إنما أنا امرأة و إنما ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال لها : فأمري أحد ابنيك فقالت : إنهما صبيان ليس مثلهما يجير قال : فكلمي عليا فقالت : أنت فكلمه
فكلم عليا فقال له : يا أبا سفيان إنه ليس أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم يفتات على رسول الله صلى الله عليه و سلم بجوار و أنت سيد قريش و أكبرها و أمنعها فأجر بين عشيرتك قال : صدقت و أنا كذلك فخرج فصاح : ألا إني قد أجرت بين الناس و لا و الله ما أظن أن يخفرني أحد
ثم دخل على النبي صلى الله عليه و سلم فقال : يا محمد إني قد أجرت بين الناس و لا و الله ما أظن أن يخفرني أحد و لا يرد جواري فقال : أنت تقول يا أبا حنظلة فخرج أبو سفيان على ذلك
فزعموا ـ و الله أعلم ـ أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال حين أدبر أبو سفيان : [ اللهم خذ على أسماعهم و أبصارهم فلا يرونا إلا بغتة و لا يسمعوا بنا إلا فجأة ]
و قدم أبو سفيان مكة فقالت له قريش : ما وراءك ؟ هل جئت بكتاب من محمد أو عهد ؟ قال : لا و الله لقد أبى علي و قد تتبعت أصحابه فما رأيت قوما لملك عليهم أطوع منهم له غير أن علي بن أبي طالب قد قال لي : التمس جوار الناس عليك و لا تجر أنت عليه و على قومك و أنت سيد قرش و أكبرها و أحقها ألا تخفر جواره فقمت بالجوار ثم دخلت على محمد فذكرت له أني قد أجرت بين الناس و قلت : ما أظن أن تخفرني فقال : أنت تقول ذلك يا أبا حنظلة فقالوا مجيبين له : رضيت بغير رضى و جئتنا بما لا يغني عنا و لا عنك شيئا و إنما لعب بك علي لعمر الله ! ما جوارك بجائز و إن إخفارك عليهم لهين
ثم دخل على امرأته فحدثها الحديث فقالت : قبحك الله من وافد قوم ! فما جئت بخير
قال : و رأى رسول الله صلى الله عليه و سلم سحابا فقال : [ إن هذه السحاب لتبض بنصر بني كعب ]
فمكث رسول الله صلى الله عليه و سلم ما شاء الله أن يمكث بعد ما خرج أبو سفيان ثم أخذ في الجهاز و أمر عائشة أن تجهزه و تخفي ذلك
ثم خرج رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى المسجد أو إلى بعض حاجاته فدخل أبو بكر على عائشة فوجد عندها حنطة تنسف و تنقى فقال لها : يا بنية لم تصنعين هذا الطعام ؟ فسكتت فقال : أيريد رسول الله صلى الله عليه و سلم أن يغزو ؟ فصمتت فقال : يريد بني الأصفر ـ و هم الروم ـ ؟ فصمتت قال : فلعله يريد أهل نجد ؟ فصمتت قال : فلعله يريد قريشا ؟ فصمتت
قال : فدخل رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال له : يا رسول الله أتريد أن تخرج مخرجا ؟ قال : نعم قال : فلعلك تريد بني الأصفر ؟ قال : لا قال : أتريد أهل نجد ؟ قال : لا قال : فلعلك تريد قريشا ؟ قال : نعم قال أبو بكر : يا رسول الله أليس بينك و بينهم مدة ؟ قال : [ ألم يبلغك ما صنعوا ببني كعب ؟ ]
قال : و أذن رسول الله صلى الله عليه و سلم في الناس بالغزو و كتب حاطب بن أبي بلتعة إلى قريش و أطلع الله رسوله صلى الله عليه و سلم على الكتاب و ذكر القصة كما سيأتي
و قال محمد بن إسحاق : حدثني محمد بن جعفر عن عروة عن عائشة أن أبا بكر دخل على عائشة و هي تغربل حنطة فقال : ما هذا ؟ أمركم رسول الله صلى الله عليه و سلم بالجهاز ؟ قالت : نعم فتجهز قال : و إلى أين ؟ قالت : ما سمى لنا شيئا غير أنه قد أمرنا بالجهاز
قال ابن إسحاق : ثم إن رسول الله صلى الله عليه و سلم أعلم الناس أنه سائر إلى مكة و أمر بالجد و التهيؤ و قال : [ اللهم خذ العيون و الأخبار عن قريش حتى نبغتها في بلادها ] فتجهز الناس
فقال حسان يحرض الناس و يذكر مصاب خزاعة :
( عناني و لم أشهد ببطحاء مكة ... رجال بني كعب تحز رقابها )
( بأيدي رجال لم يسلوا سيوفهم ... و قتلى كثير لم تجن ثيابها )
( ألا ليت شعري هل تنالن نصرتي ... سهيل بن عمرو حرها و عقابها )
( و صفوان عودا حز من شفر استه ... فهذا أوان الحرب شد عصابها )
( فلا تأمنن يا ابن أم مجالد ... إذا احتلبت صرفا و أعصل نابها )
( و لا تجزعوا منها فإن سيوفنا ... لها وقعة بالموت يفتح بابها ) (3/526)
قال محمد بن إسحاق : حدثني محمد بن جعفر عن عروة بن الزبير و غيره من علمائنا قالوا : لما أجمع رسول الله صلى الله عليه و سلم المسير إلى مكة كتب حاطب بن أبي بلتعة كتابا إلى قريش يخبرهم بالذي أجمع عليه رسول الله صلى الله عليه و سلم من الأمر في السير إليهم ثم أعطاه امرأة زعم محمد بن جعفر أنها من مزينة و زعم لي غيره أنها سارة مولاة لبعض بني عبد المطلب و جعل لها جعلا على أن تبلغه قريشا فجعلته في رأسها ثم فتلت عليه قرونها ثم خرجت به
و أتى رسول الله صلى الله عليه و سلم الخبر من السماء بما صنع حاطب فبعث علي بن أبي طالب و الزبير بن العوام فقال : [ أدركا امرأة قد كتب معها حاطب بن أبي بلتعة بكتاب إلى قريش يحذرهم ما قد أجمعنا له من أمرهم ]
فخرجا حتى أدركاها بالحليفة حليفة بني أبي أحمد فاستنزلاها فالتمساه في رحلها فلم يجدا فيه شيئا فقال لها علي : إني أحلف بالله ما كذب رسول الله صلى الله عليه و سلم و لا كذبنا و لتخرجن لنا هذا الكتاب أو لنكشفنك فلما رأت الجد منه قالت : أعرض فأعرض فحلت قرون رأسها فاستخرجت الكتاب منها فدفعته إليه فأتى به رسول الله صلى الله عليه و سلم
فدعا رسول الله صلى الله عليه و سلم حاطبا فقال : [ يا حاطب ما حملك على هذا ؟ ] فقال : يا رسول الله أما و الله إني لمؤمن بالله و برسوله ما غيرت و لا بدلت و لكنني كنت امرءا ليس لي في القوم من أصل و لا عشيرة و كان لي بين أظهرهم ولد و أهل فصانعتهم عليهم
فقال عمر بن الخطاب : يا رسول الله دعني فلأضرب عنقه فإن الرجل قد نافق ! فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ و ما يدريك يا عمر لعل الله قد اطلع على أصحاب بدر يوم بدر فقال : اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم ]
و أنزل الله في حاطب : { يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي و عدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة } إلى آخر القصة
هكذا أورد ابن إسحاق هذه القصة مرسلة و قد ذكر السهيلي أنه كان في كتاب حاطب : أن رسول الله قد توجه إليكم بجيش كالليل يسير كالسيل و أقسم بالله لو سار إليكم وحده لنصره الله عليكم فإنه منجز له ما وعده
قال : و في تفسير ابن سلام أن حاطبا كتب : إن محمد قد نفر فإما إليكم و إما إلى غيركم فعليكم الحذر
و قد قال البخاري : [ حدثنا قتيبة حدثنا سفيان عن عمرو بن دينار أخبرني الحسن بن محمد أنه سمع عبيد الله بن أبي رافع سمعت عليا يقول : بعثني رسول الله صلى الله عليه و سلم أنا و الزبير و المقداد فقال : انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ فإن بها ظعينة معها كتاب فخذوه منها فانطلقنا تعادى بنا خيلنا حتى أتينا الروضة فإذا نحن بالظعينة فقلنا : أخرجي الكتاب فقالت : ما معي فقلنا : لتخرجن الكتاب أو لنلقين الثياب
قال : فأخرجته من عقاصها فأتينا به رسول الله صلى الله عليه و سلم فإذا فيه : من حاطب بن أبي بلتعة إلى ناس بمكة من المشركين يخبرهم ببعض أمر رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : يا حاطب ما هذا ؟ فقال : يا رسول الله لا تعجل علي إني كنت امرءا ملصقا في قريش يقول : كنت حليفا و لم أكن من أنفسها و كان من معك من المهاجرين من لهم قرابات يحمون بها أهليهم و أموالهم فأحببت إذ فاتني ذلك من النسب فيهم أن أتخذ عندهم يدا يحمون قرابتي و لم أفعله ارتدادا عن ديني و لا رضا بالكفر بعد الإسلام
فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : أما إنه قد صدقكم فقال عمر : يا رسول الله دعني أضرب عنق هذا المنافق ! فقال : إنه قد شهد بدرا و ما يدريك لعل الله قد اطلع على من شهد بدرا فقال : اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم ]
فأنزل الله سورة : { يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي و عدوكم أولياء } إلى قوله : { فقد ضل سواء السبيل }
و أخرجه بقية الجماعة إلا ابن ماجة من حديث سفيان بن عيينة و قال الترمذي : حسن صحيح
و قال الإمام أحمد : [ حدثنا حجين و يونس قالا : حدثنا ليث بن سعد عن أبي الزبير عن جابر بن عبد الله أن حاطب بن أبي بلتعة كتب إلى أهل مكة يذكر أن رسول الله صلى الله عليه و سلم أراد غزوهم فدل رسول الله صلى الله عليه و سلم على المرأة التي معها الكتاب فأرسل إليها فأخذ كتابها من رأسها و قال : يا حاطب أفعلت ؟ قال : نعم قال : أما إني لم أفعله غشا لرسول الله صلى الله عليه و سلم و لا نفاقا قد علمت أن الله مظهر رسوله و متمم له أمره غير أني كنت غريبا بين ظهرانيهم و كانت والدتي معهم فأردت أن أتخذ يدا عندهم فقال له عمر : ألا أضرب رأس هذا ؟ فقال : أتقتل رجلا من أهل بدر ؟ و ما يدريك لعل الله قد اطلع إلى أهل بدر فقال : اعملوا ما شئتم ]
تفرد بهذا الحديث من هذا الوجه الإمام أحمد و إسناده على شرط مسلم و لله الحمد (3/536)
قال ابن إسحاق : [ فحدثني محمد بن مسلم بن شهاب الزهري عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة عن ابن عباس قال : ثم مضى رسول الله صلى الله عليه و سلم لسفره و استخلف على المدينة أبا رهم كلثوم بن حصين بن عتبة بن خلف الغفاري و خرج لعشر مضين من شهر رمضان فصام و صام الناس معه حتى إذا كان بالكديد بين عسفان و أمج أفطر ثم مضى حتى نزل مر الظهران في عشرة آلاف من المسلمين ]
و قال عروة بن الزبير : كان معه اثنا عشر ألفا و كذا قال الزهري و موسى بن عقبة فسبعت سليم و بعضهم يقول ألفت سليم و ألفت مزينة و في كل القبائل عدد و إسلام و أوعب مع رسول الله صلى الله عليه و سلم المهاجرون و الأنصار فلم يتخلف عنه منهم أحد
و روى البخاري عن محمود عن عبد الرزاق عن معمر عن الزهري نحوه
و قد روى البيهقي [ من حديث عاصم بن علي عن الليث بن سعد عن عقيل عن الزهري أخبرني عبيد الله بن عبد الله عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه و سلم غزا غزوة الفتح في رمضان
قال : و سمعت سعيد بن المسيب يقول مثل ذلك لا أدري أخرج في ليال من شعبان فاستقبل رمضان أو خرج في رمضان بعد ما دخل ؟ غير أن عبيد الله بن عبد الله أخبرني أن ابن عباس قال : صام رسول الله صلى الله عليه و سلم حتى بلغ الكديد ـ الماء الذي بين قديد و عسفان ـ أفطر فلم يزل يفطر حتى انصرم الشهر ]
و رواه البخاري عن عبد الله بن يوسف عن الليث غير أنه لم يذكر الترديد بين شعبان و رمضان
و قال البخاري : [ حدثنا علي بن عبد الله حدثنا جرير عن منصور عن مجاهد عن طاوس عن ابن عباس قال : سافر رسول الله صلى الله عليه و سلم في رمضان فصام حتى بلغ عسفان ثم دعا بإناء فشرب بها ليراه الناس فأفطر حتى قدم مكة ]
قال : و كان ابن عباس يقول : [ صام رسول الله صلى الله عليه و سلم في السفر و أفطر فمن شاء صام و من شاء أفطر و قال يونس : عن ابن إسحاق عن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله عن ابن عباس قال : مضى رسول الله صلى الله عليه و سلم لسفرة الفتح و استعمل على المدينة أبا رهم كلثوم بن الحصين الغفاري و خرج لعشر مضين من رمضان فصام و صام الناس معه حتى أتى الكديد بي عسفان و أمج فأفطر و دخل مكة مفطرا فكان الناس يرون أن آخر الأمر من رسول الله صلى الله عليه و سلم الفطر و أنه نسخ ما كان قبله ]
قال البيهقي : فقوله : ( خرج لعشر مضين من رمضان ) مدرج في الحديث و كذلك ذكره عبيد الله بن إدريس عن ابن إسحاق
ثم روى من طريق يعقوب بن سفيان عن جابر عن يحيى عن صدقة عن ابن إسحاق أنه قال : خرج رسول الله صلى الله عليه و سلم لعشر مضين من رمضان سنة ثمان
ثم روى البيهقي من حديث أبي إسحاق الفزاري عن محمد بن أبي حفصة عن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله عن ابن عباس قال : كان الفتح لثلاث عشرة خلت من شهر رمضان قال البيهقي : و هذا الإدراج وهم إنما هو من كلام الزهري
ثم روى من طريق ابن وهب عن يونس عن الزهري قال : غزا رسول الله صلى الله عليه و سلم غزوة الفتح ـ فتح مكة ـ فخرج من المدينة في رمضان و معه من المسلمين عشرة آلاف و ذلك على رأس ثمان سنين و نصف سنة من مقدمه المدينة و افتتح مكة لثلاث عشرة بقين من رمضان
و روى البيهقي [ من طريق عبد الرزاق عن معمر عن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه و سلم خرج في رمضان و معه عشرة آلاف من المسلمين فصام حتى بلغ الكديد ثم أفطر ]
قال الزهري : و إنما يؤخذ بالأحدث فالأحدث قال الزهري : فصبح رسول الله صلى الله عليه و سلم مكة لثلاث عشرة ليلة خلت من رمضان ثم عزاه إلى الصحيحين من طريق عبد الرزاق فالله أعلم
و روى البيهقي [ من طريق سعيد بن عبد العزيز التنوخي عن عطية بن قيس عن أبي سعيد الخدري قال : آذننا رسول الله صلى الله عليه و سلم بالرحيل عام الفتح لليلتين خلتا من رمضان فخرجنا صواما حتى بلغنا الكديد فأمرنا رسول الله صلى الله عليه و سلم بالفطر فأصبح الناس مرضى منهم الصائم و منهم المفطر حتى إذا بلغنا المنزل الذي نلقى العدو أمرنا بالفطر فأفطرنا أجمعين ]
و قد رواه الإمام أحمد [ عن أبي المغيرة عن سعيد بن عبد العزيز حدثني عطية بن قيس عمن حدثه عن أبي سعيد الخدري قال : آذننا رسول الله بالرحيل عام الفتح لليلتين خلتا من رمضان فخرجنا صواما حتى بلغنا الكديد فأمرنا رسول الله بالفطر فأصبح الناس منهم الصائم و منهم المفطر حتى إذا بلغ أدنى منزل يلقى العدو أمرنا بالفطر فأفطرنا أجمعون ]
قلت : فعلى ما ذكره الزهري من أن الفتح كان يوم الثالث عشر من رمضان و ما ذكره أبو سعيد من أنهم خرجوا من المدينة في ثاني شهر رمضان يقتضي أن مسيرهم كان بين مكة و المدينة في إحدى عشرة ليلة
و لكن روى البيهقي عن أبي الحسين بن الفضل عن عبد الله بن جعفر عن يعقوب بن سفيان عن الحسن بن الربيع عن ابن إدريس عن محمد بن إسحاق عن الزهري و محمد بن علي بن الحسين و عاصم بن عمرو بن قتادة و عمرو بن شعيب و عبد الله بن أبي بكر و غيرهم قالوا : كان فتح مكة في عشر بقيت من شهر رمضان سنة ثمان
و قال أبو داود الطيالسي : [ حدثنا وهيب عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جابر عن عبد الله قال : خرج رسول الله صلى الله عليه و سلم عام الفتح صائما حتى أتى كراع الغميم و الناس معه مشاة و ركبانا و ذلك في شهر رمضان فقيل : يا رسول الله إن الناس قد اشتد عليهم الصوم و إنما ينظرون كيف فعلت ؟ فدعا رسول الله صلى الله عليه و سلم بقدح فيه ماء فرفعه فشرب و الناس ينظرون فصام بعض الناس و أفطر البعض حتى أخبر النبي صلى الله عليه و سلم أن بعضهم صائم فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : أولئك العصاة ]
و قد رواه مسلم من حديث الثقفي و الداروردي عن جعفر بن محمد
و روى الإمام أحمد [ من حديث محمد بن إسحاق حدثني بشير بن يسار عن ابن عباس قال : خرج رسول الله صلى الله عليه و سلم عام الفتح في رمضان فصام و صام المسلمون معه حتى إذا كان بالكديد دعا بماء في قعب و هو على راحلته فشرب و الناس ينظرون يعلمهم أنه قد أفطر فأفطر المسلمون ]
تفرد به أحمد (3/539)
و أبي سفيان بن الحارث بن عبد المطلب ابن عم رسول الله و عبد الله بن أمية بن المغيرة المخزومي أخي أم سلمة أم المؤمنين و هجرتهم إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فوجدوه في أثناء الطريق و هو ذاهب إلى فتح مكة
قال ابن إسحاق : و قد كان العباس بن عبد المطلب لقي رسول الله صلى الله عليه و سلم ببعض الطريق
قال ابن هشام : لقيه بالجحفة مهاجرا بعياله و قد كان قبل ذلك مقيما بمكة على سقايته و رسول الله صلى الله عليه و سلم عنه راض فيما ذكره ابن شهاب الزهري
قال ابن إسحاق : و قد كان أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب و عبد الله بن أبي أمية قد لقيا رسول الله صلى الله عليه و سلم أيضا بنيق العقاب فيما بين مكة و المدينة و التمسا الدخول عليه فكلمته أم سلمة فيهما فقالت : يا رسول الله ابن عمك و ابن عمتك و صهرك قال : [ لا حاجة لي بهما أما ابن عمي فهتك عرضي و أما ابن عمتي فهو الذي قال لي بمكة ما قال ]
قال : فلما خرج إليهما الخبر بذلك و مع أبي سفيان بني له فقال : و الله ليأذن لي أو لآخذن بيد بني هذا ثم لنذهبن في الأرض حتى نموت عطشا و جوعا فلما بلغ ذلك النبي صلى الله عليه و سلم رق لهما ثم أذن لهما فدخلا عليه فأسلما و أنشده أبو سفيان قوله في إسلامه و اعتذر إليه مما كان مضى منه :
( لعمرك إني يوم أحمل راية ... لتغلب خيل اللات خيل محمد )
( لكا لمدلج الحيران أظلم ليله ... فهذا أواني حين أهدي و أهتدي )
( هداني هاد غير نفسي و نالني ... مع الله من طردت كل مطرد )
( أصد و أنأى جاهدا عن محمد ... و أدعى و إن لم أنتسب من محمد )
( هم ما هم من لم يقل بهواهم ... و إن كان ذا رأي يلم و يفند )
( أريد لأرضيهم و لست بلائط ... مع القوم ما لم أهد في كل مقعد )
( فقل لثقيف لا أريد قتالها ... و قل لثقيف تلك : غيري أو عدي )
( فما كنت في الجيش الذي نال عامرا ... و لا كان عن جرا لساني و لا يدي )
( قبائل جاءت من بلاد بعيدة ... نزائع جاءت من سهام و سردد )
قال ابن إسحاق : فزعموا أنه حين أنشد رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ و نالني مع الله من طردت كل مطرد ] ضرب رسول الله صلى الله عليه و سلم بيده في صدره و قال : [ أنت طردتني كل مطرد ] (3/543)
و لما انتهى رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى مر الظهران نزل فيه فأقام كما روى البخاري [ عن يحي بن بكير عن الليث و مسلم عن أبي الطاهر عن ابن وهب كلاهما عن يونس عن الزهري عن أبي سلمة عن جابر قال : كنا مع رسول الله صلى الله عليه و سلم بمر الظهران نجتني الكباث و إن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : عليكم بالأسود منه فإنه أطيب قالوا : يا رسول الله أكنت ترعى الغنم ؟ قال : نعم و هل من نبي إلا و قد رعاها ]
و قال البيهقي [ عن الحاكم عن الأصم عن أحمد بن عبد الجبار عن يونس بن بكير عن سنان بن إسماعيل عن أبي الوليد سعيد بن مينا قال : لما فرغ أهل مكة و رجعوا أمرهم رسول الله صلى الله عليه و سلم بالمسير إلى مكة فلما انتهى إلى مر الظهران نزل بالعقبة فأرسل الجناة يجتنون الكباث فقلت لسعيد : و ما هو ؟ قال : تمر الأراك
قال : فانطلق ابن مسعود فيمن يجتني قال : فجعل أحدهم إذا أصاب حبة طيبة قذفها في فيه و كانوا ينظرون إلى دقة ساقي ابن مسعود و هو يرقى في الشجرة فيضحكون فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : تعجبون من دقة ساقيه ؟ فوالذي نفسي بيده لهما أثقل في الميزان من أحد ! ]
و كان ابن مسعود ما اجتنى من شيء جاء به و خياره فيه إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال في ذلك :
( هذا جناي و خياري فيه ... إذ كل جان يده إلى فيه )
و في الصحيحين عن أنس قال : [ أنفجنا أرنبا و نحن بمر الظهران فسعى القوم فلغبوا و أدركتها فأخذتها فأتيت بها أبا طلحة فذبحها و بعث إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم بوركها و فخذيها فقبله ] (3/545)
و قال ابن إسحاق : و نزل رسول الله صلى الله عليه و سلم مر الظهران و قد عميت الأخبار على قريش فلا يأتيهم خبر عن رسول الله صلى الله عليه و سلم و لا يدرون ما رسول الله صلى الله عليه و سلم فاعل و خرج في تلك الليالي أبو سفيان بن حرب و حكيم بن حزام و بديل بن ورقاء يتجسسون الأخبار و ينظرون هل يجدون خبرا أو يسمعون به
و ذكر ابن لهيعة عن أبي الأسود عن عروة أن رسول الله صلى الله عليه و سلم بعث بين يديه عيونا خيلا يقتصون العيون و خزاعة لا تدع أحدا يمضي وراءها فلما جاء أبو سفيان و أصحابه أخذتهم خيل المسلمين و قام إليه عمر يجأ في عنقه حتى أجاره العباس بن عبد المطلب و كان صاحبا لأبي سفيان
قال ابن إسحاق : و قال العباس حين نزل رسول الله صلى الله عليه و سلم مر الظهران قلت : واصباح قريش ! و الله لئن دخل رسول الله صلى الله عليه و سلم مكة عنوة قبل أن يأتوه فيستأمنوه إنه لهلاك قريش إلى آخر الدهر
قال : فجلست على بغلة رسول الله صلى الله عليه و سلم البيضاء فخرجت عليها حتى جئت الأراك فقلت : لعلي أجد بعض الحطابة أو صاحب لبن أو ذا حاجة يأتي مكة فيخبرهم بمكان رسول الله صلى الله عليه و سلم ليخرجوا إليه فيستأمنوه قبل أن يدخلها عليهم عنوة
قال : فوالله إني لأسير عليها و ألتمس ما خرجت له إذ سمعت كلام أبي سفيان و بديل بن ورقاء و هما يتراجعان و أبو سفيان يقول : ما رأيت كالليلة نيرانا قط و لا عسكرا قال : يقول بديل : هذه و الله خزاعة حمشتها الحرب قال : يقول أبو سفيان : خزاعة أذل و أقل من أن تكون هذه نيرانها و عسكرها
قال : فعرفت صوته فقلت : يا أبا حنظلة ؟ فعرف صوتي فقال : أبو الفضل ؟ قال : قلت : نعم قال : مالك فدى لك أبي و أمي !
قال : قلت : ويحك يا أبا سفيان ! هذا رسول الله صلى الله عليه و سلم في الناس فقال : واصباح قريش و الله ! فما الحيلة فداك أبي و أمي ؟ قال : قلت : و الله لئن ظفر بك ليضربن عنقك فاركب في عجز هذه البغلة حتى آتي بك رسول الله صلى الله عليه و سلم فأستأمنه لك
قال : فركب خلفي و رجع صاحباه و قال عروة : بل ذهبا إلى النبي صلى الله عليه و سلم فأسلما و جعل يستخبرهما عن أهل مكة
و قال الزهري و موسى بن عقبة : بل دخلوا مع العباس على رسول الله صلى الله عليه و سلم (3/546)
قال : فجئت به كلما مررت بنار من نيران المسلمين قالوا : من هذا ؟ فإذا رأوا بغلة رسول الله صلى الله عليه و سلم و أنا عليها قالوا : عم رسول الله صلى الله عليه و سلم على بغلة رسول الله صلى الله عليه و سلم حتى مررت بنار عمر بن الخطاب فقال : من هذا ؟ و قام إلي فلما رأى أبا سفيان على عجز الدابة قال : أبو سفيان عدو الله ! الحمد لله الذي أمكن منك بغير عقد و لا عهد
و زعم عروة بن الزبير أن عمر وجأ في رقبة أبي سفيان و أراد قتله فمنعه منه العباس
و هكذا ذكر موسى بن عقبة عن الزهري أن عيون رسول الله صلى الله عليه و سلم أخذوهم بأزمة جمالهم فقالوا : من أنتم ؟ قالوا : وفد رسول الله صلى الله عليه و سلم فلقيهم العباس فدخل بهم على رسول الله فحادثهم عامة الليل ثم دعاهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله فشهدوا و أن محمدا رسول الله فشهد حكيم و بديل و قال أبو سفيان : ما أعلم ذلك ثم أسلم بعد الصبح ثم سألوه أن يؤمن قريشا فقال : من دخل دار أبي سفيان فهو آمن ـ و كانت بأعلى مكة ـ و من دخل دار حكيم بن حزام فهو آمن و كانت بأسفل مكة ـ و من أغلق بابه فهو آمن قال العباس ثم خرج عمر يشتد نحو رسول الله صلى الله عليه و سلم و ركضت البغلة فسبقته بما تسبق الدابة البطيئة الرجل البطيء
قال : فاقتحمت عن البغلة فدخلت على رسول الله صلى الله عليه و سلم و دخل عليه عمر فقال : يا رسول الله هذا أبو سفيان قد أمكن الله منه بغير عقد و لا عهد فدعني فلأضرب عنقه ؟ قال : قلت : يا رسول الله إني قد أجرته ثم جلست إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فأخذت برأسه فقلت : و الله لا يناجيه الليلة دوني رجل
فلما أكثر عمر في شأنه قال قلت : مهلا يا عمر ! فوالله أن لو كان من رجال بني عدي بن كعب ما قلت هذا و لكنك قد عرفت أنه من رجال بني عبد مناف
فقال : مهلا يا عباس فوالله لإسلامك يوم أسلمت كان أحب إلي من إسلام الخطاب لو أسلم ! و ما بي إلا أني قد عرفت أن إسلامك كان أحب إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم من إسلام الخطاب فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : اذهب به يا عباس إلى رحلك فإذا أصبحت فأتني به (3/547)
قال : فذهبت به إلى رحلي فبات عندي فلما أصبح غدوت به إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فلما رآه رسول الله قال : [ ويحك يا أبا سفيان ألم يأن لك أن تعلم أنه لا إله إلا الله ؟ فقال : بأبي أنت و أمي ! ما أحلمك و أكرمك و أوصلك ! و الله لقد ظننت أن لو كان مع الله غيره لقد أغنى عني شيئا بعد !
قال : ويحك يا أبا سفيان ألم يأن لك أن تعلم أني رسول الله ؟ قال : بأبي أنت و أمي ما أحلمك و أكرمك و أوصلك ! أما هذه و الله فإن في النفس منها حتى الآن شيئا !
فقال له العباس : و يحك أسلم و أشهد أن لا إله إلا الله و أن محمد رسول الله قبل أن تضرب عنقك ؟
قال : فشهد شهادة الحق فاسلم ]
قال العباس : فقلت يا رسول الله إن أبا سفيان رجل يحب هذا الفخر فاجعل له شيئا
قال : [ نعم من دخل دار أبي سفيان فهو آمن ] زاد عروة : [ و من دخل دار حكيم بن حزام فهو آمن ] و هكذا قال موسى ابن عقبة عن الزهري [ و من أغلق عليه بابه فهو آمن و من دخل المسجد فهو آمن ]
فلما ذهب لينصرف قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ يا عباس احبسه بمضيق الوادي عند خطم الجبل حتى تمر به جنود الله فيراها ]
و ذكر موسى بن عقبة عن الزهري أن أبا سفيان و بديلا و حكيم بن حزام كانوا وقوفا مع العباس عند خطم الجبل و ذكر أن سعدا لما قال لأبي سفيان
( اليوم يوم الملحمة : ... اليوم تستحل الحرمة )
فشكا أبو سفيان إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فعزله عن راية الأنصار و أعطاها الزبير بن العوام فدخل بها من أعلى مكة و غرزها بالحجون و دخل خالد من أسفل مكة فلقيه بنو بكر و هذيل فقتل من بني بكر عشرين و من هذيل ثلاثة أو أربعة و انهزموا فقتلوا بالحزورة حتى بلغ قتلهم باب المسجد
قال العباس : فخرجت بأبي سفيان حتى حبسته بمضيق الوادي حيث أمرني رسول الله صلى الله عليه و سلم أن أحبسه
قال : و مرت القبائل على راياتها كلما مرت قبيلة قال : يا عباس من هؤلاء ؟
فأقول : سليم فيقول : مالي و لسليم ثم تمر به القبيلة فيقول : يا عباس من هؤلاء ؟
فأقول مزينة فيقول : مالي و لمزينة حتى نفدت القبائل ما تمر به قبيلة إلا سألني عنها فإذا أخبرته قال : مالي و لبني فلان حتى مر رسول الله صلى الله عليه و سلم في كتيبته الخضراء و فيها المهاجرون و الأنصار لا يرى منهم إلا الحدق من الحديد
فقال : سبحان الله يا عباس ! من هؤلاء ؟ قال : قلت : هذا رسول الله صلى الله عليه و سلم في المهاجرين و الأنصار قال : ما لأحد بهؤلاء من قبل و لا طاقة و الله يا أبا الفضل لقد أصبح ملك ابن أخيك الغداة عظيما !
قال : قلت : يا أبا سفيان إنها النبوة قال : فنعم إذن
قال : قلت النجاء إلى قومك
حتى إذا جاءهم صرخ بأعلى صوته : يا معشر قريش هذا محمد قد جاءكم فيما لا قبل لكم به فمن دخل دار أبي سفيان فهو آمن
فقامت إليه هند بنت عتبة [ فأخذت بشاربه ] فقالت : اقتلوا الحميت الدسم الأحمس قبح من طليعة قوم
فقال أبو سفيان : ويلكم لا تغرنكم هذه من أنفسكم فإنه قد جاءكم مالا قبل لكم به من دخل دار أبي سفيان فهو آمن
قالوا : قاتلك الله ! و ما تغني عنا دارك ؟ و من أغلق عليه بابه فهو آمن و من دخل المسجد فهو آمن
فتفرق الناس إلى دورهم و إلى المسجد
و ذكر عروة بن الزبير أن رسول الله صلى الله عليه و سلم لما مر بأبي سفيان قال له : إني لأرى وجوه كثيرة لا أعرفها لقد كثرت هذه الوجوه علي ؟ فقال له رسول الله : [ أنت فعلت هذا و قومك إن هؤلاء صدقوني إذ كذبتموني و نصروني إذ أخرجتموني ]
ثم شكا إليه قول سعد بن عبادة حين مر عليه فقال : يا أبا سفيان :
( اليوم يوم الملحمة ... اليوم تستحل الحرمة )
فقال رسول الله : [ كذب سعد بل هذا يوم يعظم الله فيه الكعبة و يوم تكسى فيه الكعبة ]
[ و ذكر عروة أن أبا سفيان لما أصبح صبيحة تلك الليلة التي كان عند العباس و رأى الناس يجنحون للصلاة و ينتشرون في استعمال الطهارة خاف و قال العباس : ما بالهم ؟ قال : إنهم قد سمعوا النداء فهم ينتشرون للصلاة فلما حضرت الصلاة و رآهم يركعون و يسجدون بسجوده قال : يا عباس ما يأمرهم بشىء إلا فعلوه ؟ قال : نعم و الله لو أمرهم بترك الطعام و الشراب لأطاعوه
و ذكر موسى ابن عقبة عن الزهري [ أنه لما توضأ رسول الله صلى الله عليه و سلم جعلوا يتكففون ] فقال : يا عباس ما رأيت كالليلة و لا ملك كسرى و قيصر ! ] و قد قال روى الحافظ البيهقي عن الحاكم و غيره عن الأصم عن أحمد بن عبد الجبار عن يونس بن بكير عن ابن إسحاق حدثني الحسين بن عبد الله بن عبيد الله بن عباس عن عكرمة عن ابن عباس فذكر هذه القصة بتمامها كما أوردها زياد البكائي عن ابن إسحاق منقطعة فالله أعلم
على أنه قد روى البيهقي [ من طريق أبي بلال الأشعري عن زياد البكائي عن محمد بن إسحاق عن الزهري عن عبيد الله عن ابن عباس قال : جاء العباس بأبي سفيان إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : فذكر القصة إلا أنه ذكر أنه أسلم من ليلته قبل أن يصبح بين يدي رسول الله صلى الله عليه و سلم و أنه قال له رسول الله صلى الله عليه و سلم : من دخل دار أبي سفيان فهو آمن قال أبو سفيان : و ما تسع داري ؟ فقال : و من دخل الكعبة فهو آمن قال : و ما تسع الكعبة ؟ فقال : و من دخل المسجد فهو آمن قال : و ما يسع المسجد ؟ فقال : و من أغلق عليه بابه فهو آمن فقال أبو سفيان : هذه واسعة ]
و قال البخاري : [ حدثنا عبيد بن إسماعيل حدثنا أبو أسامة عن هشام عن أبيه قال : لما سار رسول الله صلى الله عليه و سلم عام الفتح فبلغ ذلك قريشا خرج أبو سفيان بن حرب و حكيم بن حزام و بديل بن ورقاء يلتمسون الخبر عن رسول الله صلى الله عليه و سلم فأقبلوا يسيرون حتى أتوا مر الظهران فإذا هم بنيران كأنها نيران عرفة فقال أبو سفيان : ما هذه ؟ كأنها نيران عرفة ؟ فقال بديل بن ورقاء : نيران بني عمرو فقال أبو سفيان : عمرو أقل من ذلك فرآهم ناس من حرس رسول الله صلى الله عليه و سلم فأدركوهم فأخذوهم فأتوا بهم رسول الله صلى الله عليه و سلم فأسلم أبو سفيان
فلما سار قال العباس : احبس أبا سفيان عند خطم الجبل حتى ينظر إلى المسلمين فحبسه العباس فجعلت القبائل تمر مع رسول الله صلى الله عليه و سلم تمر كتيبة كتيبة على أبي سفيان فمرت كتيبة فقال : يا عباس من هذه ؟ قال : هذه غفار قال : مالي و لغفار ثم مرت جهينة فقال مثل ذلك ثم مرت سعد بن هذيم فقال مثل ذلك و مرت سليم فقال مثل ذلك حتى أقبلت كتيبة لم ير مثلها فقال : من هذه ؟ قال : هؤلاء الأنصار عليهم سعد بن عبادة معه الراية فقال سعد بن عبادة : يا أبا سفيان اليوم يوم الملحمة اليوم تستحل الكعبة فقال أبو سفيان : يا عباس حبذا يوم الذمار
ثم جاءت كتيبة و هي أقل الكتائب فيهم رسول الله صلى الله عليه و سلم و أصحابه و راية رسول الله صلى الله عليه و سلم مع الزبير بن العوام فلما مر رسول الله صلى الله عليه و سلم بأبي سفيان قال : ألم تعلم ما قال سعد بن عبادة ؟ فقال : ما قال ؟ قال : كذا كذا فقال : كذب سعد و لكن هذا يوم يعظم الله فيه الكعبة و يوم تكسى فيه الكعبة و أمر رسول الله صلى الله عليه و سلم أن تركز رايته بالحجون ]
قال عروة : و أخبرني نافع بن جبير بن مطعم قال : سمعت العباس يقول للزبير بن العوام : هاهنا أمر رسول الله صلى الله عليه و سلم أن تركز الراية ؟ قال : نعم
قال : و أمر رسول الله صلى الله عليه و سلم خالد بن الوليد أن يدخل من أعلى مكة من كداء و دخل رسول الله صلى الله عليه و سلم من كدى فقتل من خيل خالد بن الوليد يومئذ رجلان حبيش بن الأشعر و كرز بن جابر الفهري و قال أبو داود : [ حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا يحيى بن آدم حدثنا إدريس عن محمد بن إسحاق عن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه و سلم عام الفتح جاءه العباس بن عبد المطلب بأبي سفيان بن حرب فأسلم بمر الظهران فقال له العباس : يا رسول الله إن أبا سفيان رجل يحب هذا الفخر فلو جعلت له شيئا ؟ قال : نعم من دخل دار أبا سفيان فهو آمن و من أغلق بابه فهو آمن ] (3/549)
ثبت في الصحيحين [ من حديث مالك عن الزهري عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه و سلم دخل مكة و على رأسه المغفر فلما نزعه جاءه رجل فقال : إن ابن خطل متعلق بأستار الكعبة فقال : اقتلوه ]
قال مالك : و لم يكن رسول الله صلى الله عليه و سلم فيما نرى و الله أعلم محرما
و قال أحمد : [ حدثنا عفان حدثنا حماد حدثنا أبو الزبير عن جابر أن رسول الله صلى الله عليه و سلم دخل يوم فتح مكة و عليه عمامة سوداء ]
و رواه أهل السنن الأربعة من [ حديث حماد بن سلمة و قال الترمذي : حسن صحيح و رواه مسلم عن قتيبة و يحيى بن يحيى عن معاوية بن عمار الدهني عن أبي الزبير عن جابر أن رسول الله صلى الله عليه و سلم دخل مكة و عليه عمامة سوداء من غير إحرام ]
و روى مسلم من [ حديث أبي أسامة عن مساور الوراق عن جعفر بن عمرو بن حريث عن أبيه قال : كأني أنظر إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم يوم فتح مكة و عليه عمامة حرقانية سوداء قد أرخى طرفها بين كتفيه ]
و روى مسلم في صحيحه و الترمذي و النسائي من [ حديث عمار الدهني عن أبي الزبير عن جابر أن رسول الله صلى الله عليه و سلم دخل مكة و عليه عمامة سوداء ]
و روى أهل السنن الأربعة من [ حديث يحيى بن آدم عن شريك القاضي عن عمار الدهني عن أبي الزبير عن جابر قال : كان لواء رسول الله صلى الله عليه و سلم يوم دخل مكة أبيض ]
و قال ابن إسحاق [ عن عبد الله بن أبي بكر عن عائشة : كان لواء رسول الله صلى الله عليه و سلم يوم الفتح أبيض و رايته سوداء تسمى العقاب و كانت قطعة من مرط مرجل ]
و قال البخاري : [ حدثنا أبو الوليد حدثنا شعبة عن عبد الله بن قرة قال : سمعت عبد الله بن مغفل يقول : رأيت رسول الله صلى الله عليه و سلم يوم فتح مكة على ناقته و هو يقرأ سورة الفتح يرجع و قال : لولا أن يجتمع الناس حولي لرجعت كما رجع ]
و قال محمد بن إسحاق : [ حدثني عبد الله بن أبي بكر أن رسول الله صلى الله عليه و سلم لما انتهى إلى ذي طوى وقف على راحلته معتجرا بشقة برد حبرة حمراء و إن رسول الله صلى الله عليه و سلم ليضع رأسه تواضعا لله حين رأى ما أكرمه الله به من الفتح حتى إن عثنونه ليكاد يمس واسطة الرحل ]
و قال الحافظ البيهقي : [ أنبأنا أبو عبد الله الحافظ أنبأنا دعلج بن أحمد حدثنا أحمد بن علي الأبار حدثنا عبد الله بن أبي بكر المقدسي حدثنا جعفر بن سليمان عن ثابت عن أنس قال : دخل رسول الله صلى الله عليه و سلم مكة يوم الفتح و ذقنه على رحله متخشعا ]
و قال : [ أنبأنا أبو عبد الله الحافظ أنبأنا أبو بكر بن بالويه حدثنا أحمد بن صاعد حدثنا إسماعيل بن أبي الحارث حدثنا جعفر بن عون حدثنا إسماعيل بن أبي خالد عن قيس عن ابن مسعود أن رجلا كلم رسول الله صلى الله عليه و سلم يوم الفتح فأخذته الرعدة فقال : هون عليك فإنما أنا ابن امرأة من قريش تأكل القديد ]
قال : و هكذا رواه محمد بن سليمان بن فارس و أحمد بن يحيى بن زهير عن إسماعيل بن أبي الحارث موصولا
ثم رواه عن أبي زكريا المزكي عن أبي عبد الله محمد بن يعقوب عن محمد بن عبد الوهاب عن جعفر بن عون عن إسماعيل بن قيس مرسلا و هو المحفوظ
و هذا التواضع في هذا الموطن عند دخوله صلى الله عليه و سلم مكة في مثل هذا الجيش الكثيف العرمرم بخلاف ما اعتمده سفهاء بني إسرائيل حين أمروا أن يدخلوا باب بيت المقدس و هم سجود ـ أي ركع ـ يقولون حطة فدخلوا يزحفون على أستاههم و هم يقولون : حنطة في شعرة !
و قال البخاري : [ حدثنا القاسم بن خارجة حدثنا حفص بن ميسرة عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة أخبرته أن رسول الله صلى الله عليه و سلم دخل عام الفتح من كداء التي بأعلى مكة تابعة أبو أسامة و وهب في كداء ]
[ حدثنا عبيد بن إسماعيل حدثنا أبو أسامة عن هشام عن أبيه دخل رسول الله صلى الله عليه و سلم عام الفتح من أعلى مكة من كداء ]
و هو أصح إن أراد أن المرسل أصح من المسند المتقدم انتظم الكلام و إلا فكداء بالمد هي المذكورة في الروايتين و هي في أعلى مكة و كدى مقصورة في أسفل مكة و هذا هو المشهور و الأنسب
و قد تقدم أنه عليه السلام بعث خالد بن الوليد من أعلى مكة و دخل هو عليه السلام من أسفلها من كدى و هو في صحيح البخاري و الله أعلم
و قد قال البيهقي : [ أنبأنا أبو الحسين بن عبدان أنبأنا أحمد بن عبيد الصفار حدثنا عبد الله بن إبراهيم بن المنذر الخزامي حدثنا معن حدثنا عبد الله بن عمر بن حفص عن نافع عن ابن عمر قال : لما دخل رسول الله صلى الله عليه و سلم عام الفتح رأى النساء يلطمن وجوه الخيل فتبسم إلى أبي بكر و قال : يا أبا بكر كيف قال حسان ؟ فأنشده أبو بكر رضي الله عنه :
( عدمت بنيتي إن لم تروها ... تثير النقع من كتفي كداء )
( ينازعن الأعنة مسرجات ... يلطمهن بالخمر النساء )
فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : ادخلوها من حيث قال حسان ! ] (3/554)
و قال محمد بن إسحاق : حدثني يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير عن أبيه عن جدته أسماء بنت أبي بكر قالت : لما وقف رسول الله صلى الله عليه و سلم بذي طوى قال أبو قحافة لابنة له من أصغر ولده : أي بنية اظهري بي على أبي قبيس قالت : و قد كف بصره قالت : فأشرفت به عليه فقال : أي بنية ماذا ترين ؟ قالت : أرى سوادا مجتمعا
قال : تلك الخيل قالت : و أرى رجلا يسعى بين يدي ذلك السواد مقبلا و مدبرا قال : أي بنية ذلك الوازع ـ يعني الذي يأمر الخيل و يتقدم إليها ـ ثم قالت : قد و الله انتشر السواد فقال : قد و الله إذا دفعت الخيل فأسرعي بي إلى بيتي
فانحطت به و تلقاه الخيل قبل أن يصل إلى بيته قالت : و في عنق الجارية طوق من ورق فيلقاها رجل فيقتطعه من عنقها
قالت فلما دخل رسول الله صلى الله عليه و سلم مكة و دخل المسجد أتى أبو بكر بأبيه يقوده فلما رآه رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ هلا تركت الشيخ في بيته حتى أكون أنا أتيه فيه ؟ ! ] قال أبو بكر : يا رسول الله هو أحق أن يمشي إليك من أن تمشي أنت إليه
قال : فأجلسه بين يديه ثم مسح صدره ثم قال : أسلم فأسلم قالت : و دخل به أبو بكر و كان رأسه كالثغامة بياضا فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ غيروا هذا من شعره ]
ثم قام أبو بكر فأخذ بيد أخته و قال : أنشد الله و الإسلام طوق أختي ؟ فلم يجبه أحد قال : فقال : أي أخية احتسبي طوقك فوالله إن الأمانة في الناس اليوم لقليل ! يعني به الصديق ذلك اليوم على التعيين لأن الجيش فيه كثرة و لا يكاد أحد يلوي على أحد مع انتشار الناس و لعل الذي أخذه تأول أنه من حربي و الله أعلم
و قال الحافظ البيهقي : [ أنبأنا عبد الله الحافظ أنبأنا أبو العباس الأصم أنبأنا بحر بن نصر أنبأنا ابن وهب أخبرني ابن جريج عن أبي الزبير عن جابر أن عمر بن الخطاب أخذ بيد أبي قحافة فأتى به النبي صلى الله عليه و سلم فلما وقف به على رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : غيروه و لا تقربوه سوادا ]
قال ابن وهب : و أخبرني عمر بن محمد عن زيد بن أسلم أن رسول الله صلى الله عليه و سلم هنأ أبا بكر بإسلام أبيه
قال ابن إسحاق : فحدثني عبد الله بن أبي نجيح أن رسول الله صلى الله عليه و سلم حين فرق جيشه من ذي طوى أمر الزبير بن العوام أن يدخل في بعض الناس من كداء و كان الزبير على المجنبة اليسرى و أمر سعد بن عبادة أن يدخل في بعض الناس من كدى
قال ابن إسحاق : فزعم بعض أهل العلم أن سعدا حين وجه داخلا قال : اليوم يوم الملحمة اليوم تستحل الحرمة
فسمعها رجل قال ابن هشام : يقال إنه عمر بن الخطاب فقال يا رسول الله أتسمع ما يقول سعد بن عبادة ؟ ما نأمن أن يكون له في قريش صولة فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم لعلي [ أدركه فخذ الراية منه فكن أنت تدخل بها ]
قلت و ذكر غير محمد بن إسحاق أن رسول الله صلى الله عليه و سلم لما شكا إليه أبو سفيان قول سعد بن عبادة حين مر به و قال : يا أبا سفيان اليوم يوم الملحمة اليوم تستحل الحرمة ـ يعني الكعبة ـ
فقال النبي صلى الله عليه و سلم : [ بل هذا يوم تعظم فيه الكعبة ] و أمر بالراية ـ راية الأنصار ـ أن تؤخذ من سعد بن عبادة كالتأديب له و يقال : إنها دفعت إلى ابنه قيس بن سعد و قال موسى بن عقبة عن الزهري : دفعها إلى الزبير بن العوام فالله اعلم
و ذكر الحافظ بن عساكر في ترجمة يعقوب بن إسحاق بن دينار حدثنا عبد الله بن السري الأنطاكي حدثنا عبد الرحمن بن أبي الزناد و حدثنا قال موسى بن عقبة عن أبي الزبير عن جابر بن عبد الله قال : دفع رسول الله صلى الله عليه و سلم الراية يوم فتح مكة إلى سعد بن عبادة فجعل يهزها و يقول : اليوم يوم الملحمة : يوم تستحل الحرمة
قال : فشق ذلك على قريش و كبر في نفسهم فعارضت امرأة رسول الله صلى الله عليه و سلم في مسيره و أنشأت تقول :
( يا نبي الهدى إليك لجاحي قريش ولات حين لجاء )
( حين ضاقت عليهم سعة الأر ... ض و عادهم إله السماء )
( و التقت حلقتا البطان على القو ... م و نودوا بالصليم الصلعاء )
( إن سعدا يريد قاسمة الظهـ ... ر باهل الحجون و البطحاء )
( خزرجي لو يستطيع من الغيـ ... ظ رمانا بالنسر و العواء )
( فانهينه إنه الأسد الأسـ ... ود و الليث والغ في الدماء )
( فلئن أقحم اللواء و نادى ... يا حماة اللواء أهل اللواء )
( لتكونني بالبطاح قريش ... بقعة القاع في أكف الإماء )
( إنه مصلت يريد لها الرأ ... ى صموت كالحية الصماء )
قال : فلما سمع رسول الله صلى الله عليه و سلم هذا الشعر دخله رحمة لهم و رأفة بهم و أمر بالراية فأخذت من سعد بن عبادة و دفعت إلى ابنه قيس بن سعد
قال : فيروى أن عليه الصلاة و السلام أحب ألا يخيبها إذ رغبت إليه و استغاثت به و أحب ألا يغضب سعد فأخذ الراية منه فدفعها إلى ابنه (3/557)
قال ابن إسحاق : و ذكر ابن أبي نجيح في حديثه أن رسول الله صلى الله عليه و سلم أمر خالد بن الوليد فدخل من الليط أسفل مكة في بعض الناس و كان خالد على المجنبة اليمنى و فيها أسلم و سليم و غفار و مزينة و جهينة و قبائل من قبائل العرب و أقبل أبو عبيدة بن الجراح بالصف من المسلمين ينصب لأهل مكة بين يدي رسول الله صلى الله عليه و سلم و دخل رسول الله صلى الله عليه و سلم من أذاخر حتى نزل بأعلى مكة فضربت له هنالك قبة
و روى البخاري من حديث الزهري [ عن علي بن الحسين عن عمرو بن عثمان عن أسامة بن زيد أنه قال زمن الفتح : يا رسول الله أين تنزل غدا ؟ فقال : و هل ترك لنا عقيل من رباع ثم قال : لا يرث الكافر المؤمن و لا المؤمن الكافر ]
ثم قال البخاري : [ حدثنا أبو اليمان حدثنا شعيب حدثنا أبو الزبير عن عبد الرحمن عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : منزلنا إن شاء الله إذا فتح الله الخيف حيث تقاسموا على الكفر ]
و قال الإمام أحمد : [ حدثنا يونس حدثنا إبراهيم ـ يعني ابن سعد ـ عن الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : منزلنا غدا إن شاء الله بخيف بني كنانة حيث تقاسموا على الكفر ]
و رواه البخاري من حديث إبراهيم بن سعد به نحوه
و قال ابن إسحاق : و حدثني عبد الله بن أبي نجيح و عبد الله بن أبي بكر أن صفوان بن أمية و عكرمة بن أبي جهل و سهيل بن عمرو كانوا قد جمعوا ناسا بالخندمة ليقاتلوا و كان حماس بن قيس بن خالد أخو بني بكر يعد سلاحا قبل قدوم رسول الله صلى الله عليه و سلم و يصلح منه فقالت له امرأته : لماذا تعد ما أرى ؟ قال : لمحمد و أصحابه فقالت : و الله ما أرى يقوم لمحمد و أصحابه شيء ! قال : و الله إني لأرجو أن أخدمك بعضهم ثم قال :
( إن يقبلوا اليوم فما لي عله ... هذا سلاح كامل و أله )
( و ذو غرارين سريع السلة )
قال : ثم شهد الخندمة مع صفوان و عكرمة و سهيل فلما لقيهم المسلمون من أصحاب خالد ناوشوهم شيئا من قتال فقتل كرز بن جابر أحد بني محارب بن فهر و حبيش بن خالد بن ربيعة بن أصرم حليف بني منقذ و كانا في جيش خالد فشذا عنه فسلكا غير طريقه فقتلا جميعا و كان قتل كرز قبل حبيش
قالا : و قتل من خيل خالد أيضا سلمة بن الميلاء الجهني و أصيب من المشركين قريب من اثني عشر أو ثلاثة عشر ثم انهزموا فخرج حماس منهزما حتى دخل بيته ثم قال لامرأته : أغلقي علي بابي قالت : فأين ما كنت تقول ؟ فقال :
( إنك لو شهدت يوم الخندمة ... إذ فر صفوان و فر عكرمة )
( و أبو يزيد قائم كالمؤتمة ... و استقبلتهم بالسيوف المسلمة )
( يقطعن كل ساعد و جمجمة ... ضربا فلا يسمع إلا غمغمة )
( لهم نهيت خلفنا و همهمة ... لم تنطقي في اللوم أدنى كلمة )
قال ابن هشام : و تروى هذه الأبيات للرعاش الهذلي
قال : و كان شعار المهاجرين يوم الفتح و حنين و الطائف : ( يا بني عبد الرحمن ) و شعار الخزرج : ( يا بني عبد الله ) و شعار الأوس : ( يا بني عبيد الله )
و قال الطبراني : [ حدثنا علي بن سعيد الرازي حدثنا أبو حسان الزيادي حدثنا شعيب بن صفوان عن عطاء بن السائب عن طاووس عن ابن عباس عن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : إن الله حرم هذا البلد يوم خلق السموات و الأرض و صاغه حين صاغ الشمس و القمر و ما حياله من السماء حرام و إنه لا يحل لأحد قبلي و إنما حل لي ساعة من نهار ثم عاد كما كان ]
فقيل له : هذا خالد بن الوليد يقتل ؟ فقال : [ قم يا فلان فأت خالد بن الوليد فقل له فليرفع يده من القتل ]
فأتاه الرجل فقال : إن النبي صلى الله عليه و سلم يقول : اقتل من قدرت عليه ! فقتل سبعين إنسانا فأتي النبي صلى الله عليه و سلم فذكر ذلك له فأرسل إلى خالد فقال : [ ألم أنهك عن القتل ؟ ] فقال : جاءني فلان فأمرني أن أقتل من قدرت عليه فأرسل إليه : [ ألم آمرك ؟ ] قال : أردت أمرا و أراد الله أمرا فكان أمر الله فوق أمرك و ما استطعت إلا الذي كان فسكت عنه النبي صلى الله عليه و سلم فما رد عليه شيئا (3/560)
قال ابن إسحاق : و قد كان رسول الله صلى الله عليه و سلم قد عهد إلى أمرائه ألا يقاتلوا إلا من قاتلهم غير أنه أهدر دم نفر سماهم و إن وجدوا تحت أستار الكعبة و هم : عبد الله بن سعد بن أبي سرح كان قد أسلم و كتب الوحي ثم ارتد فلما دخل رسول الله صلى الله عليه و سلم مكة و قد أهدر دمه فر إلى عثمان و كان أخاه من الرضاعة فلما جاء به ليستأمن له صمت عنه رسول الله صلى الله عليه و سلم طويلا ثم قال : نعم فلما انصرف مع عثمان قال رسول الله صلى الله عليه و سلم لمن حوله : [ أما كان فيكم رجل رشيد يقوم إلى هذا حين رآني قد صمت فيقتله ] فقالوا : يا رسول الله هلا أومأت إلينا ؟ فقال : [ إن النبي لا يقتل بالإشارة ]
و في رواية : [ إنه لا ينبغي لنبي أن تكون له خائنة الأعين ]
قال ابن هشام : و قد حسن إسلامه بعد ذلك و ولاه عمر بعض أعماله ثم ولاه عثمان
قلت : و مات و هو ساجد في صلاة الصبح أوبعد انقضاء صلاتها في بيته
قال ابن إسحاق : و عبد الله بن خطل رجل من بني تيم بن غالب
قلت : و يقال إن اسمه عبد العزى بن خطل و يحتمل أنه كان كذلك ثم لما أسلم سمي عبد الله
و لما أسلم بعثه رسول الله صلى الله عليه و سلم مصدقا و بعث معه رجلا من الأنصار و كان معه مولى له فغضب عليه غضبة فقتله ثم ارتد مشركا و كان له قينتان فرتني و صاحبتها فكانتا تغنيان بهجاء رسول الله صلى الله عليه و سلم و المسلمين فلهذا أهدر دمه و دم قينتيه فقتل و هو متعلق بأستار الكعبة اشترك في قتله أبو برزة الأسلمي و سعيد بن حريث المخزومي و قتلت إحدى قينتيه و استؤمن للأخرى
قال : و الحويرث بن نقيذ بن وهب بن عبد قصي و كان ممن يؤذي رسول الله صلى الله عليه و سلم بمكة و لما تحمل العباس بفاطمة و أم كلثوم ليذهب بهما إلى المدينة يلحقهما برسول الله صلى الله عليه و سلم أول الهجرة نخس بهما الحويرث هذا الجمل الذي هما عليه فسقطتا إلى الأرض فلما أهدر دمه قتله علي بن أبي طالب
قال : و مقيس بن صبابة لأنه قتل قاتل أخيه خطأ بعد ما أخذ الدية ثم ارتد مشركا قتله رجل من قومه يقال له نميلة بن عبد الله
قال : و سارة مولاة لبني عبد المطلب و لعكرمة بن أبي جهل لأنها كانت تؤذي رسول الله صلى الله عليه و سلم و هي بمكة
قلت : و قد تقدم عن بعضهم أنها التي تحملت الكتاب من حاطب بن أبي بلتعة و كأنها عفي عنها أو هربت ثم أهدر دمها و الله أعلم
فهربت حتى استؤمن لها من رسول الله صلى الله عليه و سلم فأمنها فعاشت إلى زمن عمر فأوطأها رجل فرسا فماتت و ذكر السهيلي أن فرتني أسلمت أيضا
قال ابن إسحاق : و أما عكرمة بن أبي جهل فهرب إلى اليمن و أسلمت امرأته أم حكيم بنت الحارث بن هشام و استأمنت له من رسول الله صلى الله عليه و سلم فأمنه فذهبت في طلبه حتى أتت به رسول الله صلى الله عليه و سلم فأسلم
و قال البيهقي : [ أنبأنا أبو طاهر محمد بن محمد بن محمس الفقيه أنبأنا أبو بكر محمد بن الحسين القطان أنبأنا أحمد بن يوسف السلمي حدثنا أحمد بن الفضل حدثنا أسباط بن نصر الهمداني قال : زعم السدي عن مصعب بن سعد عن أبيه قال : لما كان يوم فتح مكة أمن رسول الله صلى الله عليه و سلم الناس إلا أربعة نفر و امرأتين و قال : اقتلوهم و إن وجدتموهم متعلقين بأستار الكعبة و هم عكرمة بن أبي جهل و عبد الله بن خطل و مقيس بن صبابة و عبد الله بن سعد بن أبي سرح ]
فأما عبد الله بن خطل فأدرك و هو متعلق بأستار الكعبة فاستبق إليه سعيد بن حريث و عمار بن ياسر فسبق سعيد عمارا و كان أشب الرجلين فقتله و أما مقيس فأدركه الناس في السوق فقتلوه و أما عكرمة فركب البحر فأصابتهم قاصف فقال أهل السفينة لأهل السفينة : أخلصوا فإن آلهتكم لا تغني عنكم شيئا هاهنا فقال عكرمة : و الله لئن لم ينجي في البحر إلا الإخلاص فإنه لا ينجي في البر غيره ! اللهم إن لك علي عهدا إن أنت عافيتني مما أنا فيه أن آتي محمدا حتى أضع يدي في يده فلأجدنه عفوا كريما فجاء فأسلم
و أما عبد الله بن سعد بن أبي سرح فإنه اختبأ عند عثمان بن عفان فلما دعا رسول الله صلى الله عليه و سلم الناس إلى البيعة جاء به حتى أوقفه على النبي صلى الله عليه و سلم
فقال : يا رسول الله بايع عبد الله فرفع رأسه فنظر إليه ثلاثا كل ذلك يأبى فبايعه بعد ثلاث ثم أقبل على أصحابه فقال : [ أما كان فيكم رجل رشيد يقوم إلى هذا حين رآني كففت يدي عن بيعته فيقتله ؟ ] فقالوا ما يدرينا يا رسول الله ما في نفسك هلا أومأت إلينا بعينك ؟ فقال : [ إنه لا ينبغي أن يكون لنبي خائنة أعين ]
و رواه أبو داود و النسائي من حديث أحمد بن الفضل به نحوه
و قال البيهقي : [ أنبأنا أبو عبد الله الحافظ أنبأنا أبو العباس الأصم أنبأنا أبو زرعة الدمشقي حدثنا الحسن بن بشر الكوفي حدثنا الحكم بن عبد الملك عن قتادة عن أنس بن مالك قال : أمن رسول الله صلى الله عليه و سلم الناس يوم فتح مكة إلا أربعة : عبد العزى بن خطل و مقيس بن صبابة و عبد الله بن سعد بن أبي سرح و أم سارة
فأما عبد العزى بن خطل فإنه قتل و هو متعلق بأستار الكعبة قال : و نذر رجل أن يقتل عبد الله بن سعد بن أبي سرح إذا رآه و كان أخا عثمان بن عفان من الرضاعة فأتى به رسول الله صلى الله عليه و سلم ليشفع له فلما أبصر به الأنصاري اشتمل على السيف ثم أتاه فوجده في حلقة رسول الله صلى الله عليه و سلم فجعل يتردد و يكره أن يقدم عليه فبسط النبي صلى الله عليه و سلم فبايعه ثم قال للأنصاري : قد انتظرتك أن توفي بنذرك ؟ قال : يا رسول الله هبتك أفلا أومضت إلي ؟ قال : إنه ليس للنبي أن يومض
و أما مقيس بن صبابة فذكر قصته في قتله رجلا مسلما بعد إسلامه ثم ارتداده بعد ذلك
قال : و أما أم سارة فكانت مولاة لقريش فأتت النبي صلى الله عليه و سلم فشكت إليه الحاجة فأعطاها شيئا ثم بعث معها رجل بكتاب إلى أهل مكة فذكر قصة حاطب بن أبي بلتعة ]
و روى محمد بن إسحاق عن عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم أن مقيس بن صبابة قتل أخوه هشام يوم بني المصطلق قتله رجل من المسلمين و هو يظنه مشركا فقدم مقيس مظهرا للإسلام ليطلب دية أخيه فلما أخذها عدا على قاتل أخيه فقتله و رجع إلى مكة مشركا فلما أهدر رسول الله صلى الله عليه و سلم دمه قتل و هو بين الصفا و المروة
و قد ذكر ابن إسحاق و البيهقي شعره حين قتل قاتل أخيه و هو قوله :
( شفى النفس من قد بات بالقاع مسندا ... يضرج ثوبيه دماء الخادع )
( و كانت هموم النفس من قبل قتله ... تلم و تنسيني وطاء المضاجع )
( قتلت به فهرا و غرمت عقله ... سراة بني النجار أرباب فارع )
( حللت به نذري و أدركت ثؤرتي ... و كنت إلى الأوثان أول راجع )
قلت : و قيل : إن القينتين اللتين أهدر دمهما كنتا لمقيس بن صبابة هذا و أن ابن عمه قتله بين الصفا و المروة و قال بعضهم : قتل ابن خطل الزبير بن العوام رضي الله عنه
و قال ابن إسحاق : حدثني سعيد بن أبي هند عن أبي مرة مولى عقيل بن أبي طالب أن أم هانيء ابنة أبي طالب قالت : لما نزل رسول الله صلى الله عليه و سلم بأعلى مكة فر إلي رجلان من أحمائي من بني مخزوم
قال ابن هشام : هما الحارث بن هشام و زهير بن أبي أمية بن المغيرة
قال ابن إسحاق : و كانت عند هبيرة بن أبي وهب المخزومي قالت : فدخل علي أخي علي بن أبي طالب فقال : و الله لأقتلنهما فأغلقت عليهما باب بيتي ثم جئت رسول الله صلى الله عليه و سلم و هو بأعلى مكة فوجدته يغتسل من جفنة إن فيها لأثر العجين و فاطمة ابنته تستره بثوبه فلما اغتسل أخذ ثوبه فتوشح به ثم صلى ثماني ركعات من الضحى ثم انصرف إلي فقال : [ مرحبا و أهلا بأم هانىء ما جاء بك ؟ ] فأخبرته خبر الرجلين و خبر علي فقال : [ قد أجرنا من أجرت و أمنا من أمنت فلا نقتلهما ]
و قال البخاري : [ حدثنا أبو الوليد حدثنا شعبة عن عمرو بن مرة عن ابن أبي ليلى قال : ما أخبرنا أحد أنه رأى النبي صلى الله عليه و سلم يصلي الضحى غير أم هانىء فإنها ذكرت أنه يوم فتح مكة اغتسل في بيتها ثم صلى ثماني ركعات قالت : و لم أره صلى صلاة أخف منها غير أنه يتم الركوع و السجود ]
و في صحيح مسلم من [ حديث الليث عن يزيد بن أبي حبيب عن سعد بن أبي هند أن أبا مرة مولى عقيل حدثه أن أم هانىء بنت أبي طالب حدثته أنه لما كان عام الفتح فر إليها رجلان من بني مخزوم فأجارتهما قالت : فدخل علي علي فقال : أقتلهما فلما سمعته أتيت رسول الله صلى الله عليه و سلم و هو بأعلى مكة فلما رآني رحب و قال ما جاء بك ؟ قلت : يا نبي الله كنت أمنت رجلين من أحمائي فأراد علي قتلهما فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : قد أجرنا من أجرت يا أم هانىء ثم قام رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى غسله فسترت عليه فاطمة ثم أخذ ثوبا فالتحف به ثم صلى ثماني ركعات سبحة الضحى ]
و في رواية أنها دخلت عليه و هو يغتسل و فاطمة ابنته تستره بثوب فقال : [ من هذه ؟ قالت أم هانىء قال : مرحبا بأم هانىء قالت : يا رسول الله زعم ابن أمي علي بن أبي طالب أنه قاتل رجلين قد أجرتهما ؟ ! فقال : قد أجرنا من أجرت يا أم هانىء قالت : ثم صلى ثماني ركعات ]
و ذلك ضحى فظن كثير من العلماء أن هذه كانت صلاة الضحى و قال آخرون : بل كانت هذه صلاة الفتح و جاء التصريح بأنه كان يسلم من كل ركعتين
و هو يرد على السهيلي و غيره ممن أن صلاة الفتح تكون ثمانيا بتسليمة واحدة و قد صلى سعد بن أبي وقاص يوم فتح المدائن في إيوان كسرى ثماني ركعات يسلم من كل ركعتين و لله الحمد (3/563)
قال ابن إسحاق : [ و حدثني محمد بن جعفر بن الزبير عن عبيد الله بن عبد الله بن أبي ثور عن صفية بنت شيبة أن رسول الله صلى الله عليه و سلم لما نزل بمكة و اطمأن الناس خرج حتى جاء البيت فطاف به سبعا على راحلته يستلم الركن بمحجن في يده [ فلما قضى طوافه دعا عثمان بن طلحة فأخذ منه مفتاح الكعبة ففتحت له فدخلها فوجد فيها حمامة من عيدان فكسرها بيده ثم طرحها ثم وقف على باب الكعبة و قد استكف له الناس في المسجد ]
و قال موسى ابن عقبة : [ ثم سجد سجدتين ثم انصرف إلى زمزم فاطلع فيها و دعا بماء فشرب منها و توضأ و الناس يبتدرون وضوءه و المشركون يتعجبون من ذلك و يقولون : ما رأينا ملكا قط و لا سمعنا به ـ يعني مثل هذا ـ و أخر المقام إلى مكانه اليوم و كان ملصقا بالبيت ] (3/569)
قال محمد ابن إسحاق : [ فحدثني بعض أهل العلم أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قام على باب الكعبة فقال : لا إله إلا الله وحده لا شريك له صدق وعده و نصر عبده و هزم الأحزاب وحده ألا كل مأثرة أو دم أو مال يدعى فهو موضوع تحت قدمي هاتين إلا سدانة البيت و سقاية الحاج ألا و قتيل الخطأ شبه العمد بالسوط و العصا ففيه الدية مغلظة مائة من الإبل أربعون منها في بطونها أولادها يا معشر قريش إن الله قد أذهب عنكم نخوة الجاهلية و تعظمها بالآباء الناس من آدم و آدم من تراب ثم تلا هذه الآية : { يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر و أنثى } الآية كلها ثم قال : يا معشر قريش ما ترون أني فاعل فيكم ؟ قالوا : خيرا أخ كريم و ابن أخ كريم قال : اذهبوا فأنتم الطلقاء
ثم جلس رسول الله صلى الله عليه و سلم في المسجد فقام إليه علي بن أبي طالب و مفتاح الكعبة في يده فقال : يا رسول الله اجمع لنا الحجابة مع السقاية صلى الله عليك فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : أين عثمان بن طلحة ؟ فدعي له فقال : هاك مفتاحك يا عثمان اليوم يوم بر و وفاء ]
و قال الإمام أحمد : [ حدثنا سفيان عن ابن جدعان عن القاسم بن ربيعة عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم يوم فتح مكة و هو على درج الكعبة : الحمد لله الذي صدق وعده و نصر عبده و هزم الأحزاب وحده ألا إن قتيل العمد الخطأ بالسوط أو العصا فيه مائة من الإبل ]
و قال مرة أخرى : [ مغلظة فيها أربعون خلفة في بطونها أولادها ألا إن كل مأثرة كانت في الجاهلية و دم و دعوى ]
و قال مرة : [ و مال تحت قدمي هاتين إلا ما كان من سقاية الحاج و سدانة البيت فإنهما أمضيتهما لأهلهما على ما كانت ]
و هكذا رواه أبو داود و النسائي و ابن ماجة من حديث علي بن زيد بن جدعان عن القاسم بن ربيعة بن جوشن الغطفاني عن ابن عمر به (3/570)
قال ابن هشام : [ و حدثني بعض أهل العلم أن رسول الله صلى الله عليه و سلم دخل البيت يوم الفتح فرأى فيه صور الملائكة و غيرهم و رأى إبراهيم مصورا في يده الأزلام يستقسم بها فقال : قاتلهم الله جعلوا شيخنا يستقسم بالأزلام ما شأن إبراهيم و الأزلام : { ما كان إبراهيم يهوديا و لا نصرانيا و لكن كان حنيفا مسلما و ما كان من المشركين } ثم أمر بتلك الصور كلها فطمست ]
و قال الإمام أحمد : [ حدثنا سليمان أنبأنا عبد الرحمن عن موسى بن عقبة عن أبي الزبير عن جابر قال : كان في الكعبة صور فأمر رسول الله صلى الله عليه و سلم عمر بن الخطاب أن يمحوها فبل عمر ثوبا و محاها به فدخلها رسول الله صلى الله عليه و سلم و ما فيها منها شيء ]
و قال البخاري : [ حدثنا صدقة بن الفضل حدثنا ابن عيينة عن ابن أبي نجيح عن مجاهد عن أبي معمر عن عبد الله ـ هو ابن مسعود ـ قال : دخل رسول الله صلى الله عليه و سلم مكة يوم الفتح و حول البيت ستون و ثلاثمائة نصب فجعل يطعنها بعود في يده و يقول : جاء الحق و زهق الباطل جاء الحق و ما يبدىء الباطل و ما يعيد ]
و قد رواه مسلم من حديث ابن عيينة
و روى البيهقي [ عن ابن إسحاق عن عبد الله بن أبي بكر عن علي بن عبد الله ابن عباس عن أبيه قال : دخل رسول الله صلى الله عليه و سلم يوم الفتح مكة و على الكعبة ثلاثمائة صنم فأخذ قضيبه فجعل يهوي به إلى الصنم و هو يهوي حتى مر عليها كلها ]
ثم روى [ من طريق سويد بن سعيد عن القاسم بن عبد الله عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه و سلم لما دخل مكة وجد بها ثلاثمائة و ستين صنم فأشار إلى كل صنم بعصا و قال : جاء الحق و زهق الباطل إن الباطل كان زهوقا فكان لا يشير إلى صنم إلا و يسقط من غير أن يمسه بعصاه ]
ثم قال : و هذا و إن كان ضعيفا فالذي قبله يؤكده
و قال حنبل بن إسحاق : [ أنبأنا أبو الربيع عن يعقوب القمي حدثنا جعفر بن أبي المغيرة عن ابن أبزي قال : لما افتتح رسول الله صلى الله عليه و سلم مكة جاءت عجوز شمطاء حبشية تخمش وجهها و تدعو بالويل فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : تلك نائلة أيست أن تعبد ببلدكم هذا أبدا ]
و قال ابن هشام : [ حدثني من أثق به من أهل الرواية في إسناد له عن ابن شهاب عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة عن ابن عباس أنه قال : دخل رسول الله صلى الله عليه و سلم مكة يوم الفتح على راحلته فطاف عليها و حول الكعبة أصنام مشدودة بالرصاص فجعل النبي صلى الله عليه و سلم يشير بقضيب في يده إلى الأصنام و يقول : جاء الحق و زهق الباطل إن الباطل كان زهوقا فما أشار إلى صنم منها في وجهه إلا وقع لقفاه و لا أشار إلى قفاه إلا وقع لوجهه حتى ما قي منها صنم إلا وقع ] فقال تميم بن أسد الخزاعي :
( و في الأصنام معتبر و علم ... لمن يرجو الثواب أو العقابا )
و في صحيح مسلم [ عن شيبان بن فروخ عن سليمان بن المغيرة عن ثابت عن عبد الله بن رباح عن أبي هريرة في حديث فتح مكة قال : و أقبل رسول الله صلى الله عليه و سلم حتى أقبل على الحجر فاستلمه و طاف بالبيت و أتى إلى صنم إلى جانب البيت كانوا يعبدونه و في يد رسول الله صلى الله عليه و سلم قوس و هو آخذ بسيتها فلما أتى على الصنم فجعل يطعن في عينه و يقول : جاء الحق و زهق الباطل إن الباطل كان زهوقا فلما فرغ من طوافه أتى الصفا فعلى عليه حتى نظر إلى البيت فرفع يديه و جعل يحمد الله و يدعو بما شاء أن يدعو ]
و قال البخاري : [ حدثنا إسحاق بن منصور حدثنا عبد الصمد حدثنا أبي حدثنا أيوب عن عكرمة عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه و سلم لما قدم مكة أبى أن يدخل البيت و فيه الآلهة فأمر بها فأخرجت فأخرج صورة إبراهيم و إسماعيل عليهما السلام و في أيديهما الأزلام فقال : قتلهم الله ! لقد علموا ما استقسما بها قط ثم دخل البيت فكبر في نواحي البيت و خرج و لم يصل ]
تفرد به البخاري دون مسلم
و قال الإمام أحمد : [ حدثنا عبد الصمد حدثنا همام حدثنا عطاء عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه و سلم دخل الكعبة و فيها ست سوار فقام إلى كل سارية فدعا و لم يصل فيه ]
و رواه مسلم عن شيبان بن فروخ عن همام بن يحيى العوذي عن عطاء به
و قال الإمام أحمد : [ حدثنا هارون بن معروف حدثنا ابن وهب أخبرني عمرو بن الحارث أن بكيرا حدثه عن كريب عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه و سلم حين دخل البيت وجد فيه صورة إبراهيم و صورة مريم فقال : أما هم فقد سمعوا أن الملائكة لا تدخل بيتا فيه صورة هذا إبراهيم مصورا فما باله يستقسم ؟ ! ]
و قد رواه البخاري و النسائي من حديث ابن وهب به
و قال الإمام أحمد : [ حدثنا عبد الرزاق أنبأنا معمر أخبرني عثمان الخزرجي أنه سمع مقسما يحدث عن ابن عباس قال : دخل رسول الله صلى الله عليه و سلم البيت فدعا في نواحيه ثم خرج فصلى ركعتين ]
تفرد به أحمد
و قال الإمام أحمد : [ حدثنا إسماعيل أنبأنا الليث عن مجاهد عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه و سلم صلى في البيت ركعتين ]
قال البخاري : [ و قال الليث حدثنا يونس أخبرني نافع عن عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه و سلم أقبل يوم الفتح من أعلى مكة على راحلته مردفا أسامة بن زيد و معه عثمان بن طلحة من الحجبة حتى أناخ في المسجد فأمر أن يؤتى بمفتاح الكعبة فدخل و معه أسامة بن زيد و بلال و عثمان بن طلحة فمكث فيه نهارا طويلا ثم خرج فاستبق الناس فكان عبد الله بن عمر أول من دخل فوجد بلالا وراء الباب قائما فسأله : أين صلى رسول الله صلى الله عليه و سلم ؟ فأشار له إلى المكان الذي صلى فيه
قال عبد الله : و نسيت أن أسأله كم صلى من سجدة ]
و رواه الإمام أحمد [ عن هشيم حدثنا غير واحد و ابن عون عن نافع عن ابن عمر قال : دخل رسول الله صلى الله عليه و سلم و معه الفضل بن عباس و أسامة بن زيد و عثمان بن طلحة و بلال فأمر بلالا فأجاف عليهم الباب فمكث فيه ما شاء الله ثم خرج ]
قال ابن عمر : فكان أول من لقيت منهم بلالا فقلت : أين صلى رسول الله صلى الله عليه و سلم ؟ قال : هاهنا بين الأسطوانتين
قلت : و قد ثبت في صحيح البخاري و غيره [ أنه عليه السلام صلى في الكعبة تلقاء وجهة بابها من وراء ظهره فجعل عمودين عن يمينه و عمودا عن يساره و ثلاثة أعمدة وراءه و كان البيت يومئذ على ستة أعمدة و كان بينه و بين الحائط الغربي مقدار ثلاثة أذرع ] (3/571)
قال ابن هشام : [ و حدثني بعض أهل العلم أن رسول الله صلى الله عليه و سلم دخل الكعبة عام الفتح و معه بلال فأمره أن يؤذن و أبو سفيان بن حرب و عتاب بن أسيد و الحارث بن هشام جلوس بفناء الكعبة فقال عتاب : لقد أكرم الله أسيدا ألا يكون سمع هذا فسمع منه ما يغيظه ! فقال الحارث بن هشام : أما و الله لو أعلم أنه محقا لاتبعته فقال أبو سفيان : لا أقول شيئا لو تكلمت لأخبرت عني هذه الحصا
فخرج عليهم رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : قد علمت الذي قلتم ثم ذكر ذلك لهم فقال الحارث و عتاب : نشهد أنك رسول الله ! ما اطلع على هذا أحد كان معنا فنقول أنه أخبرك ]
و قال يونس بن بكير عن ابن إسحاق : [ حدثني بعض آل جبير بن مطعم أن رسول الله صلى الله عليه و سلم لما دخل مكة أمر بلالا فعلا على الكعبة على ظهرها فأذن عليها بالصلاة فقال بعض بني سعيد بن العاص : لقد أكرم الله سعيدا إذ قبضه قبل أن يسمع هذا الأسود على ظهر الكعبة !
و قال عبد الرزاق عن أيوب قال ابن أبي مليكة : أمر رسول الله صلى الله عليه و سلم بلالا فأذن يوم الفتح فوق الكعبة فقال رجل من قريش للحارث بن هشام : ألا ترى إلى هذا العبد أين صعد ؟ فقال : دعه فإن يكن الله يكرهه فسيغيره ]
و قال يونس بن بكير و غيره [ عن هشام بن عروة عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه و سلم أمر بلالا عام الفتح فأذن على الكعبة ليغيظ به المشركين ] (3/575)
و قال محمد بن سعد [ عن الواقدي عن محمد بن حرب عن إسماعيل بن أبي خالد عن أبي إسحاق أن أبا سفيان بن حرب بعد فتح مكة كان جالسا فقال في نفسه : لو جمعت لمحمد جمعا ؟ فإنه ليحدث نفسه بذلك إذ ضرب رسول الله صلى الله عليه و سلم بين كتفيه و قال : إذا يخزيك الله ! قال : فرفع رأسه فإذا رسول الله صلى الله عليه و سلم قائم على رأسه فقال : ما أيقنت أنك نبي حتى الساعة ]
قال البيهقي : [ و قد أخبرنا أبو عبد الله الحافظ ـ إجازة ـ أنبأنا أبو حامد أحمد بن الحسن المقري أنبأنا أحمد بن يوسف السلمي حدثنا محمد بن يوسف الفريابي حدثنا يونس بن أبي إسحاق عن أبي السفر عن ابن عباس قال : رأى أبو سفيان رسول الله صلى الله عليه و سلم يمشي و الناس يطأون عقبيه فقال بينه و بين نفسه : لو عاودت هذا الرجل القتال ؟ فجاء رسول الله صلى الله عليه و سلم حتى ضرب بيده في صدره فقال : إذا يخزيك الله ]
فقال : أتوب إلى الله و أستغفر الله مما تفوهت به
ثم روى البيهقي [ من طريق ابن خزيمة و غيره عن أبي حامد بن الشرقي عن أبي محمد بن يحيى الذهلي حدثنا موسى بن أعين الجزري حدثنا أبي عن إسحاق بن راشد عن سعيد بن المسيب قال : لما كان ليلة دخل الناس مكة ليلة الفتح لم يزالوا في تكبير و تهليل و طواف بالبيت حتى أصبحوا فقال أبو سفيان لهند : أتري هذا من الله ؟ قالت : نعم هذا من الله قال : ثم أصبح أبو سفيان فغدا إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : قلت لهند : أتري هذا من الله ؟ قالت : نعم هذا من الله فقال أبو سفيان : أشهد أنك عبد الله و رسوله و الذي يحلف به ما سمع قولي هذا أحد من الناس غير هند ] (3/576)
و قال البخاري : [ حدثنا إسحاق حدثنا أبو عاصم عن ابن جريج أخبرني حسن بن مسلم عن مجاهد أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : إن الله حرم مكة يوم خلق السموات و الأرض فهي حرام بحرام الله إلى يوم القيامة لا تحل لأحد قبلي و لا تحل لأحد بعدي و لم تحلل لي إلا ساعة من الدهر لا ينفر صيدها و لا يعضد شوكها و لا يختلى خلاؤها و لا تحل لقطتها إلا لمنشد فقال العباس بن عبد المطلب : إلا الإذخر يا رسول الله فإنه لا بد منه للدفن و البيوت ؟ فسكت ثم قال : إلا الإذخر فإنه حلال ]
و عن ابن جريج أخبرني عبد الكريم ـ هو ابن مالك الجزري ـ عن عكرمة عن ابن عباس بمثل هذا أو نحو هذا و رواه أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم
تفرد به البخاري من هذا الوجه الأول و هو مرسل و من هذا الوجه الثاني أيضا (3/577)
و بهذا و أمثاله استدل من ذهب إلى أن مكة فتحت عنوة و للوقعة التي كانت في الخندمة كما تقدم و قد قتل فيها قريب من عشرين نفسا من المسلمين و المشركين و هي ظاهرة في ذلك و هو مذهب جمهور العلماء
و المشهور عن الشافعي أنها فتحت صلحا لأنها لم تقسم و لقوله صلى الله عليه و سلم ليلة الفتح : [ من دخل دار أبي سفيان فهو آمن و من دخل الحرم فهو آمن و من أغلق بابه فهو آمن ]
و موضع تقرير هذه المسألة في كتاب الأحكام الكبير إن شاء الله تعالى
و قال البخاري : [ حدثنا سعيد بن شرحبيل حدثنا الليث عن المقبري عن أبي شريح الخزاعي أنه قال لعمرو بن سعيد و هو يبعث البعوث إلى مكة : ائذن لي أيها الأمير أحدثك قولا قام به رسول الله صلى الله عليه و سلم الغد من يوم الفتح سمعته أذناي و وعاه قلبي و أبصرته عيناي حين تكلم به أنه حمد الله و أثنى عليه ثم قال : إن مكة حرمها الله و لم يحرمها الناس لا يحل لامرىء يؤمن بالله و اليوم الآخر أن يسفك بها دما و لا يعضد بها شجرا فإن أحد ترخص بقتال رسول الله صلى الله عليه و سلم فقولوا : إن الله أذن لرسوله و لم يأذن لكم و إنما أذن لي فيها ساعة من نهار و قد عادت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس فليبلغ الشاهد الغائب ]
فقيل لأبي شريح : ماذا قال لك عمرو ؟ قال : قال : أنا أعلم بذلك منك يا أبا شريح إن الحرم لا يعيذ عاصيا و لا فارا بدم و لا فارا بجزية
و روى البخاري أيضا و مسلم عن قتيبة عن الليث بن سعد به نحوه
و ذكر ابن إسحاق أن رجلا يقال له ابن الأثوع قتل رجلا في الجاهلية من خزاعة يقال له أحمر بأسا فلما كان يوم الفتح قتلت خزاعة ابن الأثوع و هو بمكة قتله خراش بن أمية فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ يا معشر خزاعة ارفعوا أيديكم عن القتل لقد كثر القتل إن نفع لقد قتلتم رجلا لأدينه ]
قال ابن إسحاق : [ و حدثني عبد الرحمن بن حرملة الأسلمي عن سعيد بن المسيب قال : لما بلغ رسول الله صلى الله عليه و سلم ما صنع خراش بن أمية قال : إن خراشا لقتال ]
و قال ابن إسحاق : [ و حدثني سعيد بن أبي سعيد المقبري عن أبي شريح الخزاعي قال : لما قدم عمرو بن دينار مكة لقتال أخيه عبد الله بن الزبير جئته فقلت له : يا هذا إنا كنا مع رسول الله صلى الله عليه و سلم حين افتتح مكة فلما كان الغد من يوم الفتح عدت خزاعة على رجل من هذيل فقتلوه و هو مشرك فقام رسول الله صلى الله عليه و سلم فينا خطيبا فقال : يا أيها الناس إن الله قد حرم مكة يوم خلق السموات و الأرض فهي حرام من حرام الله إلى يوم القيامة فلا يحل لامرىء يؤمن بالله و اليوم الآخر أن يسفك فيها دما و لا يعضد فيها شجرا لم تحل لأحد كان قبلي و لا تحل لأحد يكون بعدي و لم تحل لي إلا هذه الساعة غضبا على أهلها ألا ثم قد رجعت كحرمتها بالأمس فليبلغ الشاهد منكم الغائب فمن قال لكم إن رسول الله صلى الله عليه و سلم قد قاتل فيها فقولوا : إن الله قد أحلها لرسوله و لم يحلها لكم يا معشر خزاعة ارفعوا أيديكم عن القتل فلقد كثر إن نفع لقد قتلتم قتيلا لأدينه فمن قتل بعد مقامي هذا فأهله بخير النظرين
إن شاءوا فدم قاتله و إن شاءوا فعقله ثم ودى رسول الله صلى الله عليه و سلم ذلك الرجل الذي قتلته خزاعة ]
فقال عمرو لأبي شريح : انصرف أيها الشيخ فنحن أعلم بحرمتها منك إنها لا تمنع سافك دم و لا خالع طاعة و لا مانع جزية
فقال أبو شريح : إني كنت شاهدا و كنت غائبا و قد أمرنا رسول الله صلى الله عليه و سلم أن يبلغ شاهدنا غائبنا و قد أبلغتك فأنت و شأنك (3/577)
قال ابن هشام : و بلغني أن أول قتيل وداه رسول الله صلى الله عليه و سلم يوم الفتح جنيدب بن الأكوع قتلته بنو كعب فوداه رسول الله صلى الله عليه و سلم بمائة ناقة
و قال الإمام أحمد : [ حدثنا يحيى عن حسين عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال : لما فتحت مكة على رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : كفوا السلاح إلا خزاعة من بني بكر فأذن لهم حتى صلى العصر ثم قال : كفوا السلاح فلقى رجل من خزاعة رجلا من بني بكر من غد بالمزدلفة فقتله فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه و سلم فقام خطيبا فقال : فرأيته و هو مسند ظهره إلى الكعبة قال : إن أعدى الناس على الله من قتل في الحرم أو قتل غير قاتله أو قتل بدخول الجاهلية و ذكر تمام الحديث ]
و هذا غريب جدا
و قد روى أهل السنن بعض هذا الحديث
فأما ما فيه من أنه رخص لخزاعة أن تأخذ بثأرها من بني بكر إلى العصر من يوم الفتح فلم أره إلا في هذا الحديث و كأنه إن صح من باب الإختصاص لهم مما كانوا أصابوا منهم ليلة الوتير و الله أعلم
و روى الإمام أحمد [ عن يحيى بن سعيد و سفيان بن عيينة و يزيد بن عبيد كلهم عن زكريا بن أبي زائدة عن عامر الشعبي عن الحارث بن مالك بن البرصاء الخزاعي سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول يوم فتح مكة : لا تغزى هذه بعد اليوم إلى يوم القيامة ]
و رواه الترمذي عن بندار عن يحيى بن سعيد القطان به و قال حسن صحيح
قلت : فإن كان نهيا فلا إشكال و إن كان نفيا فقال البيهقي : معناه على كفر أهلها
و في صحيح مسلم [ من حديث زكريا بن أبي زائدة عن عامر الشعبي عن عبد الله بن مطيع عن أبيه مطيع بن الأسود العدوي قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم يوم فتح مكة : لا يقتل قرشي صبرا بعد اليوم إلى يوم القيامة ] و الكلام عليه كالأول سواء (3/579)
قال ابن هشام : [ و بلغني أن رسول الله صلى الله عليه و سلم حين افتتح مكة و دخلها قام على الصفا يدعو و قد أحدقت به الأنصار فقالوا فيما بينهم : أترون رسول الله صلى الله عليه و سلم إذ فتح الله عليه أرضه و بلده يقيم بها ؟
فلما فرغ من دعائه قال : ماذا قلتم ؟ قالوا : لا شيء يا رسول الله فلم يزل بهم حتى أخبروه فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : معاذ الله ! المحيا محياكم و الممات مماتكم ]
و هذا الذي علقه ابن هشام قد أسنده الإمام أحمد بن حنبل في مسنده فقال : [ حدثنا بهز و هاشم قالا : حدثنا سليمان بن المغيرة عن ثابت و قال هاشم : حدثني ثابت البناني حدثنا عبد الله بن رباح قال : وفدت وفود إلى معاوية أنا فيهم و أبو هريرة و ذلك في رمضان فجعل بعضنا يصنع لبعض الطعام قال : و كان أبو هريرة يكثر ما يدعونا قال هاشم : يكثر أن يدعونا إلى رحله قال : فقلت : ألا أصنع طعاما فأدعوهم إلى رحلي ؟ قال : فأمرت بطعام يصنع فلقيت أبا هريرة من العشاء قال : قلت : يا أبا هريرة الدعوة عندي الليلة قال : استبقتني ؟ قال هاشم : قلت : نعم فدعوتهم فهم عندي
فقال أبو هريرة : ألا أعلمكم بحديث من حديثكم يا معشر الأنصار ؟ فذكر فتح مكة قال : أقبل رسول الله صلى الله عليه و سلم فدخل مكة قال : فبعث الزبير على أحد المجنبتين و بعث خالدا على المجنبة الأخرى و بعث أبا عبيدة على الجسر و أخذوا بطن الوادي و رسول الله صلى الله عليه و سلم في كتيبته و قد وبشت قريش أوباشها قال : قالوا : نقدم هؤلاء فإن كان لهم شيء كنا معهم و إن أصيبوا أعطيناه الذي سألنا
قال أبو هريرة : فنظر فرآني فقال : يا أبا هريرة فقلت : لبيك رسول الله فقال : اهتف لي بالأنصار و لا يأتيني إلا أنصاري فهتفت بهم فجاءوا فأطافوا برسول الله صلى الله عليه و سلم قال : فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : أترون إلى وباش قريش و أتباعهم ؟ ثم قال بيديه إحداهما على الأخرى : احصدوهم حصدا حتى توافوني بالصفا
قال : فقال أبو هريرة : فانطلقنا فما يشاء واحد منا أن يقتل منهم ما شاء و ما أحد منهم يوجه إلينا منهم شيئا
قال : فقال أبو سفيان : يا رسول الله أبيحت خضراء قريش لا قريش بعد اليوم !
قال : فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : من أغلق بابه فهو آمن و من دخل دار أبي سفيان فهو آمن قال : فغلق الناس أبوابهم
قال : و أقبل رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى الحجر فاستلمه ثم طاف بالبيت قال : و في يده قوس آخذ بسية القوس قال : فأتى في طوافه على صنم إلى جانب البيت يعبدونه قال : فجعل يطعن بها في عينه و يقول : جاء الحق و زهق الباطل إن الباطل كان زهوقا
قال : ثم أتى الصفا فعلاه حيث ينظر إلى البيت فرفع يديه فجعل يذكر الله بما شاء أن يذكره و يدعوه
قال : و الأنصار تحت قال : يقول بعضهم لبعض : أما الرجل فأدركته رغبة في قريته و رأفة بعشيرته
قال أبو هريرة : و جاء الوحي و كان إذا جاء لم يخف علينا فليس أحد من الناس يرفع طرفه إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم حتى يقضي
قال هاشم : فلما قضى الوحي رفع رأسه ثم قال : يا معشر الأنصار أقلتم : أما الرجل فأدركته رغبة في قريته و رأفة بعشيرته ؟ قالوا : قلنا ذلك يا رسول الله قال : فما أسمى إذا ؟ ! كلا إني عبد الله و رسوله هاجرت إلى الله و إليكم فالمحيا محياكم و الممات مماتكم
قال : فأقبلوا إليه يبكون و يقولون : و الله ما قلنا الذي قلنا إلا الضن بالله و رسوله
قال : فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : إن الله و رسوله يصدقانكم و يعذرانكم ]
و قد رواه مسلم و النسائي من حديث سليمان بن المغيرة زاد النسائي و سلام بن مسكين
و رواه مسلم أيضا من حديث حماد بن سلمة ثلاثتهم عن ثابت عن عبد الله بن رباح الأنصاري نزيل البصرة عن أبي هريرة به نحوه (3/581)
و قال ابن هشام : [ و حدثني ـ يعني بعض أهل العلم ـ أن فضالة بن عمير بن الملوح ـ يعني الليثي ـ أراد قتل النبي صلى الله عليه و سلم و هو يطوف بالبيت عام الفتح فلما دنا منه قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : أفضالة ؟ قال : نعم فضالة يا رسول الله قال : ماذا كنت تحدث به نفسك ؟ قال : لا شيء كنت أذكر الله قال : فضحك النبي صلى الله عليه و سلم ثم قال استغفر الله ثم وضع يده على صدره فسكن قلبه
فكان فضالة يقول : و الله ما رفع يده عن صدري حتى ما من خلق شيء أحب إلي منه ]
قال فضالة : فرجعت إلى أهلي فمررت بامرأة كنت أتحدث إليها فقال : هلم إلي الحديث ؟ فقال : لا و انبعث فضالة يقول :
( قالت هلم إلي الحديث فقلت لا ... يأبى عليك الله و الإسلام )
( لو ما رأيت محمدا و قبيله ... بالفتح يوم تكسر الأصنام )
( لرأيت دين الله أضحى بينا ... و الشرك يغشى وجهه الإظلام ) (3/583)
قال ابن إسحاق : [ و حدثني محمد بن جعفر بن الزبير عن عروة عن عائشة قالت : خرج صفوان بن أمية يريد جدة ليركب منها إلى اليمن فقال عمير بن وهب : يا نبي الله إن صفوان بن أمية سيد قومه و قد خرج هاربا منك ليقذف نفسه في البحر فأمنه يا رسول الله صلى الله عليك فقال : هو آمن
فقال : يا رسول الله فأعطني آية يعرف بها أمانك فأعطاه رسول الله صلى الله عليه و سلم عمامته التي دخل فيها مكة
فخرج بها عمير حتى أدركه و هو يريد أن يركب في البحر فقال : يا صفوان فداك أبي و أمي الله الله في نفسك أن تهلكها هذا أمان من رسول الله صلى الله عليه و سلم و قد جئتك به قال : ويلك اعزب عني فلا تكلمني قال : أي صفوان فداك أبي و أمي أفضل الناس و أبر الناس و أحلم الناس و خير الناس ابن عمك عزه عزك و شرفه شرفك و ملكه ملكك قال : إني أخافه على نفسي قال : هو أحلم من ذلك و أكرم
فرجع معه حتى وقف على رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال صفوان : إن هذا يزعم أنك قد أمنتني ؟ قال : صدق قال : فاجعلني بالخيار فيه شهرين قال : أنت بالخيار أربعة أشهر ]
ثم حكى ابن إسحاق [ عن الزهري أن فاختة بنت الوليد امرأة صفوان و أم حكيم بنت الحارث بن هشام امرأة عكرمة بن أبي جهل و قد ذهبت وراءه إلى اليمن فاسترجعته فأسلم فلما أسلما أقرهما رسول الله صلى الله عليه و سلم تحتهما بالنكاح الأول ] (3/584)
قال ابن إسحاق : و حدثني سعيد بن عبد الرحمن بن حسان بن ثابت قال : رمى حسان ابن الزبعري و هو بنجران ببيت واحد ما زاد عليه :
( لا تعدمن رجلا أحلك بغضه ... نجران في عيش أحذ لئيم )
فلما بلغ ذلك ابن الزبعري خرج إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فأسلم و قال حين أسلم :
( يا رسول المليك إن لساني ... راتق ما فتقت إذ أنا بور )
( إذ أباري الشيطان في سنن الغي ... و من مال ميله مغرور )
( آمن اللحم و العظام لربي ... ثم قلبي الشهيد أنت النذير )
( إنني عنك زاجر ثم حيا ... من لؤي و كلهم مغرور )
قال ابن إسحاق : و قال عبد الله بن الزبعري أيضا حين أسلم :
( منع الرقاد بلابل و هموم ... و الليل معتلج الرواق بهيم )
( مما أتاني أن أحمد لامني ... فيه فبت كأنني محموم )
( يا خير من حملت على أوصالها ... عيرانة سرح اليدين غشوم )
( إني لمعتذر إليك من الذي ... أسديت إذ أنا في الضلال أهيم )
( أيام تأمرني بأغوى خطة ... سهم و تأمرني بها مخزوم )
( و أمد أسباب الردى و يقودني ... أمر الغواة و أمرهم مشئوم )
( فاليوم آمن بالنبي محمد ... قلبي و مخطيء هذه محروم )
( مضت العداوة و انقضت أسبابها ... و دعت أواصر بيننا و حلوم )
( فاغفر فدى لك والدي كلاهما ... زللي فإنك راحم مرحوم )
( و عليك من علم المليك علامة ... نور أغر و خاتم مختوم )
( أعطاك بعد محبة برهانه ... شرفا و برهان الإله عظيم )
( و لقد شهدت بأن دينك صادق ... حق و أنك في المعاد جسيم )
( و الله يشهد أن أحمد مصطفى ... مستقبل في الصالحين كريم )
( قرم على بنيانه من هاشم ... فرع تمكن في الذرى و أروم )
قال ابن هشام : و بعض أهل العلم في الشعر ينكرها له
قلت : كان عبد الله بن الزبعري السهمي من أكبر أعداء الإسلام و من الشعراء الذين استعملوا قواهم في هجاء المسلمين ثم من الله عليه بالتوبة و الإنابة و الرجوع إلى الإسلام و القيام بنصره و لذب عنه (3/585)
قال ابن إسحاق : و كان جميع من شهد فتح مكة من المسلمين عشرة آلاف من بني سليم سبعمائة و يقول بعضهم : ألف و من بني غفار أربعمائة و من أسلم أربعمائة و من مزينة ألف و ثلاثة نفر و سائرهم من قريش و الأنصار و حلفائهم و طوائف العرب من تميم و قيس و أسد
و قال عروة و الزهري و موسى بن عقبة : كان المسلمون يوم الفتح الذين مع رسول الله صلى الله عليه و سلم اثني عشر ألفا فالله أعلم (3/586)
قال ابن إسحاق : و كان مما قيل من الشعر في يوم الفتح قول حسان بن ثابت :
( عفت ذات الأصابع فالجواء ... إلى عذراء منزلها خلاء )
( ديار من بني الحسحاس قفر ... تعفيها الروامس و السماء )
( و كانت لا يزال بها أنيس ... خلال مروجها نعم و شاء )
( فدع هذا و لكن من لطيف ... يؤرقني إذا ذهب العشاء )
( لشعثاء التي قد تيمته ... فليس لقلبه منها شفاء )
( كأن خبيئة من بين رأس ... يكون مزاجها عسل و ماء )
( إذا ما الأشربات ذكرن يوما ... فهن لطيب الراح الفداء )
( نوليها الملامة إن ألمنا ... إذا ما كان مغت أو لحاء )
( و نشربها فتتركنا ملوكا ... و أسدا ما ينهنهها اللقاء )
( عدمنا خيلنا إن لم تروها ... تثير النقع موعدها كداء )
( ينازعن الأعنة مصغيات ... على أكتافها الأسل الظماء )
( تظل جيادنا متمطرات ... يلطمهن بالخمر النساء )
( فإما تعرضوا عنا اعتمرنا ... و كان الفتح و انكشف الغطاء )
( و إلا فاصبروا لجلاد يوم ... يعز الله فيه من يشاء )
( و جبريل رسول الله فينا ... و روح القدس ليس له كفاء )
( و قال الله قد أرسلت عبدا ... يقول الحق إن نفع البلاء )
( شهدت به فقوموا صدقوه ... فقلتم لا نقوم و لا نشاء )
( و قال الله قد سيرت جندا ... هم الأنصار عرضتها اللقاء )
( لنا في كل يوم من معد ... سباب أو قتال أو هجاء )
( فنحكم بالقوافي من هجانا ... و نضرب حين تختلط الدماء )
( ألا أبلغ أبا سفيان عني ... مغلغلة فقد برح الخفاء )
( بأن سيوفنا تركتك عبدا ... و عبد الدار سادتها الإماء )
( هجوت محمدا فأجبت عنه ... و عند الله في ذاك الجزاء )
( أتهجوه و لست له بكفء ... فشركما لخيركما الفداء )
( هجوت مباركا برا حنيفا ... أمين الله شيمته الوفاء )
( أمن يهجو رسول الله منكم ... و يمدحه و ينصره سواء )
( فإن أبي و والده و عرضي ... لعرض محمد منكم وقاء )
( لساني صارم لا عيب فيه ... و بحري لا تكدره الدلاء )
قال ابن هشام : قالها حسان قبل الفتح
قلت : و الذي قاله متوجه لما في أثناء هذه القصيدة مما يدل على ذلك و أبو سفيان المذكور في البيت هو أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب
قال ابن هشام : و بلغني عن الزهري أنه قال : لما رأى رسول الله صلى الله عليه و سلم النساء يلطمن الخيل بالخمر تبسم إلى أبي بكر رضي الله عنه
قال ابن إسحاق : و قال أنس بن زنيم يعتزر إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم مما كان قال فيهم عمرو بن سالم الخزاعي ـ يعني لما جاء يستنصر عليهم ـ كما تقدم :
( أأنت الذي تهدي معد بأمره ... بل الله يهديهم و قال لك اشهد )
( و ما حملت من ناقة فوق رحلها ... أبر و أوفى ذمة من محمد )
( أحث على خير و أسبغ نائلا ... إذا راح كالسيف الصقيل المهند )
( و أكسى لبرد الخال قبل ابتذاله ... و أعطى لرأس السابق المتجرد )
( تعلم رسول الله أنك مدركي ... و أن وعيدا منك كالأخذ باليد )
( تعلم رسول الله أنك قادر ... على كل صرم متهمين و منجد )
( تعلم أن الركب ركب عويمر ... هم الكاذبون المخلفو كل موعد )
( و نبو رسول الله أني هجوته ... فلا حملت سوطي إلا إذن يدي )
( سوى أنني قد قلت ويل ام فتية ... أصيبوا بنحس لا بطلق و أسعد )
( أصابهم من لم يكن لدمائهم ... كفاء فعزت عبرتي و تبلدي )
( و إنك قد أخبرت أنك ساعيا ... بعبد بن عبد الله و ابنه مهود )
( ذؤيب و كلثوم و سلمى تتابعوا ... جميعا فإن لا تدمع العين أكمد )
( و سلمى و سلمى ليس حي كمثله ... و إخوته و هل ملوك كأعبد )
( فإني لا ذنبا فتقت و لا دما ... هرقت تبين عالم الحق و اقصد )
قال ابن إسحاق : و قال بجير بن زهير بن أبي سلمى في يوم الفتح :
( نفى أهل الحبلق كل فج ... مزينة غدوة و بنو خفاف )
( ضربناهم بمكة يوم فتح النبى الخير بالبيض الخفاف )
( صبحناهم بسبع من سليم ... و ألف من بني عثمان واف )
( نطا أكتافهم ضربا و طعنا ... و رشقا بالمريشة اللطاف )
( ترى بين الصفوف لها حفيفا ... كما انصاع الفواق من الرصاف )
( فرحنا و الجياد تجول فيهم ... بأرماح مقومة الثقاف )
( فأبنا غانمين بما اشتهينا ... و آبو نادمين على الخلاف )
( و أعطينا رسول الله منا ... مواثقنا على حسن التصافي )
( و قد سمعوا مقالتنا فهموا ... غداة الروع منا بانصراف )
و قال ابن هشام : و قال عباس بن مرداس السلمي في فتح مكة :
( منا بمكة يوم فتح محمد ... ألف تسيل به البطاح مسوم )
( نصروا الرسول و شاهدوا آياته ... و شعارهم يوم اللقاء مقدم )
( في منزل ثبتت به أقدامهم ... ضنك كأن الهام فيه الحنتم )
( جرت سنابكها بنجد قبلها ... حتى استقام لها الحجاز الأدهم )
( الله مكنه له و أذله ... حكم السيوف لنا وجد مزحم )
( عود الرياسة شامخ عرنينه ... متطلع ثغر المكارم خضرم )
و ذكر ابن هشام في سبب إسلام عباس بن مرداس أن أباه كان يعبد صنما من حجارة يقال له ضمار فلما حضرته الوفاة أوصاه به فبينما هو يوما يخدمه إذ سمع صوتا من جوفه و هو يقول :
( قل للقبائل من سليم كلها ... أودي ضمار و عاش أهل المسجد )
( إن الذي ورث النبوة و الهدى ... بعد ابن مريم من قريش مهتدي )
( أودي ضمار و كان يعبد مدة ... قبل الكتاب إلى النبي محمد )
قال : فحرق عباس ضمار ثم لحق برسول الله صلى الله عليه و سلم فأسلم و قد تقدمت هذه القصة بكاملها في باب هواتف الجان مع أمثالها و أشكالها و لله الحمد و المنة (3/587)
قال ابن إسحاق : فحدثني حكيم بن حكيم بن عباد بن حنيف عن أبي جعفر محمد بن علي قال : بعث رسول الله صلى الله عليه و سلم خالد بن الوليد حين افتتح مكة داعيا و لم يبعثه مقاتلا و معه قبائل من العرب و سليم بن منصور و مدلج بن مرة فوطئوا بني جذيمة بن عامر بن عبد مناة بن كنانة فلما رآه القوم أخذوا السلاح فقال خالد : ضعوا السلاح فإن الناس قد أسلموا
قال ابن إسحاق : و حدثني بعض أصحابنا من أهل العلم من بني جذيمة قال : لما أمرنا خالد أن نضع السلاح قال رجل منا يقال له جحدم : ويلكم يا بني جذيمة إنه خالد ! و الله ما بعد وضع السلاح إلا الإسار و ما بعد الإسار إلا ضرب الأعناق و الله لا أضع سلاحي أبدا
قال : فأخذه رجال من قومه فقالوا : يا جحدم أتريد أن تسفك دماءنا ؟ ! إن الناس قد أسلموا و وضعت الحرب و آمن الناس
فلم يزالوا به حتى نزعوا سلاحه و وضع القوم سلاحهم لقول خالد
قال ابن إسحاق : فقال حكيم بن حكيم عن أبي جعفر قال : فلما وضعوا السلاح أمر بهم خالد فكتفوا ثم عرضهم على السيف فقتل من قتل منهم
فلما انتهى الخبر إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم رفع يديه إلى السماء ثم قال : [ اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد بن الوليد ]
قال ابن هشام : حدثني بعض أهل العلم أنه انفلت رجل من القوم فأتى رسول الله صلى الله عليه و سلم فأخبره الخبر فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ هل أنكر عليه أحد ؟ ] فقال : نعم قد أنكر عليه رجل أبيض ربعة فنهمه خالد فسكت عنه و أنكر عليه رجل آخر طويل مضطرب فاشتدت مراجعتهما فقال عمر بن الخطاب : أما الأول يا رسول الله فابني عبد الله و أما الآخر فسالم مولى أبي حذيفة
قال ابن إسحاق : [ فحدثني حكيم بن حكيم عن أبي جعفر قال : ثم دعا رسول الله صلى الله عليه و سلم علي بن أبي طالب فقال : يا علي اخرج إلى هؤلاء القوم فانظر في أمرهم و اجعل أمر الجاهلية تحت قدميك
فخرج علي حتى جاءهم و معه مال قد بعث به رسول الله صلى الله عليه و سلم فودى لهم الدماء و ما أصيب لهم من الأموال حتى إنه ليدي ميلغة الكلب ! حتى إذا لم يبق شيء من دم و لا مال إلا وداه بقيت معه بقية من المال فقال لهم علي حين فرغ منهم : هل بقي لكم دم أو مال لم يود لكم ؟ قالوا : لا قال : فإني أعطيكم هذه البقية من هذا المال احتياطا لرسول الله صلى الله عليه و سلم مما لا يعلم و لا تعلمون
ففعل ثم رجع إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فأخبره الخبر فقال : أصبت و أحسنت ثم قام رسول الله صلى الله عليه و سلم فاستقبل القبلة قائما شاهرا يديه حتى إنه ليرى ما تحت منكبيه يقول : اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد بن الوليد ثلاث مرات ]
قال ابن إسحاق : و قد قال بعض من يعذر خالدا أنه قال : ما قاتلت حتى أمرني بذلك عبد الله بن حذافة السهمي و قال : إن رسول الله صلى الله عليه و سلم قد أمرك أن تقاتلهم لامتناعهم من الإسلام
قال ابن هشام : قال أبو عمرو المد يني : لما أتاهم خالد بن الوليد قالوا : صبأنا صبأنا
و هذه مرسلات و منقطعات
و قد قال الإمام أحمد : [ حدثنا عبد الرزاق حدثنا معمر عن الزهري عن سالم بن عبد الله بن عمر عن ابن عمر قال : بعث رسول الله صلى الله عليه و سلم خالد بن الوليد إلى بني ـ أحسبه قال ـ جذيمة فدعاهم إلى الإسلام فلم يحسنوا أن يقولوا : أسلمنا فجعلوا يقولون : صبأنا صبأنا و خالد يأخذ بهم أسرا و قتلا
قال : و دفع إلى كل رجل منا أسيرا حتى إذا أصبح يوما أمر خالد أن يقتل كل رجل منا أسيره قال ابن عمر : فقلت : و الله لا أقتل أسيري و لا يقتل أحد من أصحابي أسيره قال : فقدموا على النبي صلى الله عليه و سلم فذكروا صنيع خالد فقال النبي صلى الله عليه و سلم و رفع يديه : اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد مرتين ]
و رواه البخاري و النسائي من حديث عبد الرزاق به نحوه
قال ابن إسحاق : و قد قال لهم جحدم لما رأى ما يصنع خالد : يا بني جذيمة ضاع الضرب قد كنت حذرتكم مما وقعتم فيه
قال ابن إسحاق : و قد كان بين خالد و بين عبد الرحمن بن عوف ـ فيما بلغني ـ كلام في ذلك فقال له عبد الرحمن : عملت بأمر الجاهلية في الإسلام ؟ فقال : إنما ثأرت بأبيك
فقال عبد الرحمن : كذبت قد قتلت قاتل أبي و لكنك ثأرت لعمك الفاكه بن المغيرة حتى كان بينهما شر
فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : [ مهلا يا خالد دع عنك أصحابي فوالله لو كان لك أحد ذهبا ثم أنفقته في سبيل الله ما أدركت غدوة رجل من أصحابي و لا روحته ]
ثم ذكر ابن إسحاق قصة الفاكه بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم عم خالد بن الوليد في خروجه هو و عوف بن عبد عوف بن عبد الحارث بن زهرة و معه ابنه عبد الرحمن و عفان بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس و معه ابنه عثمان في تجارة إلى اليمن و رجوعهم و معهم مال لرجل من بني جذيمة كان هلك باليمن فحملوه إلى ورثته فادعاه رجل منهم يقال له خالد بن هشام و لقيهم بأرض بني جذيمة فطلبه منهم قبل أن يصلوا إلى أهل الميت فأبوا عليه فقاتلهم فقاتلوه حتى قتل عوف و الفاكه و أخذت أموالهما
و قتل عبد الرحمن قاتل أبيه خالد بن هشام و فر منهم عفان و معه ابنه عثمان إلى مكة فهمت قريش بغزو بني جذيمة فبعث بنو جذيمة يعتذرون إليهم بأنه لم يكن عن ملأ منهم و ودوا لهم القتيلين و أموالهما و وضعوا الحرب بينهم
يعني فلهذا قال خالد لعبد الرحمن : إنما ثأرت بأبيك يعني حين قتلته بنو جذيمة
فأجابه بأنه قد أخذ ثأره و قتل قاتله و رد عليه بأنه إنما ثأر بعمه الفاكه بن المغيرة حين قتلوه و أخذوا أمواله
و المظنون بكل منهما أنه لم يقصد شيئا من ذلك و إنما يقال هذا في وقت المخاصمة فإنما أراد خالد بن الوليد نصرة الإسلام و أهله و إن كان قد أخطأ في أمر و اعتقد أنهم ينتقصون الإسلام بقولهم : صبأنا صبأنا و لم يفهم عنهم أنهم أسلموا فقتل طائفة كثيرة منهم و أسر بقيتهم و قتل أكثر الأسرى أيضا و مع هذا لم يعزله رسول الله صلى الله عليه و سلم بل استمر به أميرا و إن كان قد تبرأ منه في صنيعه ذلك و ودى ما كان جناه خطأ في دم أو مال
ففيه دليل لأحد القولين بين العلماء في أن خطأ الإمام يكون في بيت المال لا في ماله و الله أعلم
و لهذا لم يعزله الصديق حين قتل مالك بن نويرة أيام الردة و تأول عليه ما تأول حين ضرب عنقه و اصطفى امرأته أم تميم فقال له عمر بن الخطاب اعزله فإن في سيفه رهقا فقال الصديق : لا أغمد سيفا سله الله على المشركين (3/591)
و قال ابن إسحاق : حدثني يعقوب بن عتبة بن المغير بن الأخنس عن الزهري عن ابن أبي حدرد الأسلمي قال : كنت يومئذ في خيل خالد بن الوليد فقال فتى من بني جذيمة و هو في سني و قد جمعت يداه إلى عنقه برمة و نسوة مجتمعات غير بعيد منه : يا فتى قلت : ما تشاء ؟ قال : هل أنت آخذ بهذه الرمة فقائدي إلى هؤلاء النسوة حتى أقضي إليهن حاجة ثم تردني بعد فتصنعوا ما بدا لكم
قال : قلت : و الله ليسير ما طلبت فأخذت برمته فقدته بها حتى وقفته عليهن فقال اسلمي حبيش على نفد العيش :
( أرأيت إذ طالبتكم فوجدتكم ... بحلية أو ألفيتكم بالخوانق )
( ألم يك أهلا أن ينول عاشق ... تكلف إدلاج السرى و الودائق )
( فلا ذنب لي قد قلت إذ أهلنا معا ... أثيبي بود قبل إحدى الصفائق )
( أثيبي بود قبل أن تشحط النوى ... و ينأى الأمير بالحبيب المفارق )
( فإني لا ضيغت سر أمانة ... و لا راق عيني عنك بعدك رائق )
( سوى أن ما نال العشيرة شاغل ... عن الود إلا أن يكون التوامق )
قالت : و أنت فحييت عشرا و تسعا و ترا و ثمانية تترى
قال : ثم انصرفت به فضربت عنقه
قال ابن إسحاق : فحدثني أبو فراس بن أبي سنبلة الأسلمي عن أشياخ منهم عمن كان حضرها منهم قالوا : فقامت إليه حين ضربت عنقه فأكبت عليه فما زالت تقبله حتى ماتت عنده !
و روى الحافظ البيهقي من طريق الحميدي عن سفيان بن عيينة عن عبد الملك بن نوفل بن مساحق أنه سمع رجلا من مزينة يقال له ابن عصام عن أبيه قال : كان رسول الله صلى الله عليه و سلم إذا بعث سرية قال : [ إذا رأيتم مسجدا أو سمعتم مؤذنا فلا تقتلوا أحدا ]
قال : فبعثنا رسول الله صلى الله عليه و سلم في سرية و أمرنا بذلك فخرجنا قبل تهامة فأدركنا رجلا يسوق بظعائن فقلنا له : أسلم فقال : و ما الإسلام ؟ فأخبرناه به فإذا هو لا يعرفه قال : أفرأيتم إن لم أفعل ما أنتم صانعون ؟ قال : قلنا نقتلك فقال : فهل أنتم منظري حتى أدرك الظعائن ؟ قال : قلنا نعم و نحن مدركوك
قال : فأدرك الظعائن فقال : اسلمي حبيش قبل نفاد العيش فقالت الأخرى : اسلم عشرا و تسعا و ترا و ثمانيا تترى ثم ذكر الشعر المتقدم إلى قوله : و ينأى الأمير بالحبيب المفارق ثم رجع إلينا فقال : شأنكم قال : فقدمناه فضربنا عنقه قال : فانحدرت الأخرى من هودجها فجثت عليه حتى ماتت
ثم روى البيهقي من طريق أبي عبد الرحمن النسائي حدثنا محمد بن علي بن حرب المروزي حدثنا علي بن الحسين بن واقد عن أبيه عن يزيد النحوي عن عكرمة عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه و سلم بعث سرية فغنموا و فيهم رجل فقال لهم : إني لست منهم إني عشقت امرأة فلحقتها فدعوني أنظر إليها نظرة ثم اصنعوا بي ما بدا لكم فإذا امرأة أدماء طويلة فقال لها : اسلمي حبيش قبل نفاد العيش ثم ذكر البيتين بمعناهما
قال : فقالت : نعم فديتك ! قال : فقدموه فضربوا عنقه فجاءت المرأة فوقعت عليه فشهقت شهقة أو شهقتين ثم ماتت
فلما قدموا على رسول الله صلى الله عليه و سلم أخبروه الخبر فقال : [ أما كان فيكم رجل رحيم ! ] (3/595)
قال ابن جرير : و كان هدمها لخمس بقين من رمضان عامئذ
قال ابن إسحاق : ثم بعث رسول الله صلى الله عليه و سلم خالد بن الوليد إلى العزى و كانت بيتا بنخلة يعظمه قريش و كنانة و مضر و كان سدنتها و حجابها من بني شيبان من بني سليم حلفاء بني هاشم فلما سمع حاجبها السلمي بمسير خالد بن الوليد إليها علق سيفه عليها ثم اشتد في الجبل الذي هي فيه و هو يقول :
( أيا عز شدي شدة لا شوى لها ... على خالد ألقي القناع و شمري )
( أيا عز إن لم تقتلي المرء خالدا ... فبوئي بإثم عاجل أو تنصري )
قال : فلما انتهى خالد إليها هدمها ثم رجع إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم
و قد روى الواقدي و غيره أنه لما قدمها خالد لخمس بقين من رمضان فهدمها و رجع فأخبر رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : ما رأيت ؟ قال : لم أر شيئا فأمره بالرجوع فلما رجع خرجت إليه من ذلك البيت امرأة سوداء ناشرة شعرها تولول فعلاها بالسيف و جعل يقول :
( يا عزى كفرانك لا سبحانك ... إني رأيت الله قد أهانك )
ثم خرب ذلك البيت الذي كانت فيه و أخذ ما كان فيه من الأموال رضي الله عنه و أرضاه ثم رجع فأخبر رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : [ تلك العزى و لا تعبد أبدا ]
و قال البيهقي : [ أنبأنا محمد بن أبي بكر الفقيه أنبأنا محمد بن جعفر أنبأنا أحمد بن علي حدثنا أبو كريب عن ابن فضيل عن الوليد بن جميع عن أبي الطفيل قال : لما فتح رسول الله صلى الله عليه و سلم مكة بعث خالد بن الوليد إلى نخلة و كانت بها العزى فأتاها و كانت على ثلاث سمرات فقطع السمرات و هدم البيت الذي كان عليها ثم أتى رسول الله صلى الله عليه و سلم فأخبره فقال : ارجع فإنك لم تصنع شيئا
فرجع خالد فلما نظرت إليه السدنة و هم حجابها أمنعوا هربا في الجبل و هم يقولون : يا عزى خبليه يا عزى عوريه و إلا فموتي برغم !
قال : فأتاها خالد فإذا امرأة عريانة ناشرة شعرها تحثو التراب على رأسها و وجهها فعممها بالسيف حتى قتلها ثم رجع إلى النبي صلى الله عليه و سلم فأخبره فقال : تلك العزى ] (3/597)
لا خلاف أن عليه الصلاة و السلام أقام بقية شهر رمضان يقصر الصلاة و يفطر
و هذا دليل من قال من العلماء أن المسافر إذا لم يجمع الإقامة فله أن يقصر و يفطر إلى ثماني عشر يوما في أحد القولين و في القول الآخر كما هو مقرر في موضعه
قال البخاري : [ حدثنا أبو نعيم حدثنا سفيان و حدثنا قبيصة حدثنا سفيان عن يحيى بن أبي إسحاق عن أنس بن مالك قال : أقمنا مع رسول الله صلى الله عليه و سلم عشرا يقصر الصلاة ]
و قد رواه بقية الجماعة من طرق متعددة عن يحيى بن أبي إسحاق الحضرمي البصري عن أنس به نحوه
ثم قال البخاري : [ حدثنا عبدان حدثنا عبد الله أنبأنا عاصم عن عكرمة عن ابن عباس قال : أقام رسول الله صلى الله عليه و سلم تسعة عشرة يوما يصلي ركعتين ]
و رواه البخاري أيضا من وجه آخر زاد البخاري و أبو حصين كلاهما و أبو داود و الترمذي و ابن ماجه [ من حديث عاصم بن سليمان الأحول عن عكرمة عن ابن عباس به
في لفظ لأبي داود : سبعة عشر يوما ]
و [ حدثنا أحمد بن يونس حدثنا أحمد بن شهاب عن عاصم عن عكرمة عن ابن عباس قال : أقمنا مع رسول الله صلى الله عليه و سلم في سفر تسع عشرة نقصر الصلاة
قال ابن عباس : فنحن نقصر ما بيننا و بين تسع عشرة فإذا زدنا أتممنا ]
و قال أبو داود : [ حدثنا إبراهيم بن موسى حدثنا ابن علية أنبأنا علي بن زيد عن أبي نضرة عن عمران بن حصين ما قال : غزوت مع رسول الله صلى الله عليه و سلم و شهدت معه الفتح فأقام ثماني عشرة ليلة لا يصلي إلا ركعتين يقول : يا أهل البلد صلوا أربعا فإنا سفر ]
و هكذا رواه الترمذي من حديث علي بن زيد بن جدعان و قال : هذا حديث حسن
ثم روى أبو داود من حديث محمد بن إسحاق عن الزهري [ عن عبيد الله بن عبد الله عن ابن عباس قال : أقام رسول الله صلى الله عليه و سلم عام الفتح خمس عشرة ليلة يقصر الصلاة ] ثم قال : رواه غير واحد عن ابن إسحاق : لم يذكروا ابن عباس و قال ابن إدريس [ عن محمد بن إسحاق عن الزهري و محمد بن علي بن الحسين و عاصم بن عمرو بن قتادة و عبد الله بن أبي بكر و عمرو بن شعيب و غيرهم قالوا : أقام رسول الله صلى الله عليه و سلم بمكة خمس عشرة ليلة ] (3/598)
قال البخاري : [ حدثنا عبد الله بن مسلمة عن مالك عن ابن شهاب عن عروة عن عائشة عن النبي صلى الله عليه و سلم و قال الليث : حدثني يونس عن ابن شهاب أخبرني عروة بن الزبير أن عائشة قالت : كان عتبة بن أبي وقاص عهد إلى أخيه سعد أن يقبض ابن وليدة زمعة و قال عتبة : إنه ابني : فلما قدم رسول الله صلى الله عليه و سلم مكة في الفتح أخذ سعد بن أبي وقاص ابن وليدة زمعة فأقبل به إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم و أقبل معه عبد بن زمعة فقال سعد بن أبي وقاص : هذا ابن أخي عهد إلي أنه ابنه قال عبد بن زمعة : يا رسول الله : هذا أخي هذا ابن زمعة ولد على فراشه فنظر رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى ابن وليدة زمعة فإذا هو أشبه الناس بعتبة بن أبي وقاص فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : هو لك هو أخوك يا عبد بن زمعة من أجل أنه ولد على فراشه
و قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : احتجبي منه يا سودة لما رأى من شبه عتبة بن أبي وقاص ]
قال ابن شهاب : قالت عائشة : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ الولد للفراش و للعاهر الحجر ] قال ابن شهاب : و كان أبو هريرة يصرح بذلك
و قد رواه البخاري أيضا و مسلم و أبو داود و الترمذي جميعا عن قتيبة عن الليث به
و ابن ماجة من حديثه و انفرد البخاري بروايته له من حديث مالك عن الزهري
ثم قال البخاري : [ حدثنا محمد بن مقاتل أنبأنا عبد الله أنبأنا يونس عن ابن شهاب أخبرني عروة بن الزبير أن امرأة سرقت في عهد رسول الله صلى الله عليه و سلم في غزوة الفتح ففزع قومها إلى أسامة بن زيد يستشفعونه
قال عروة : فلما كلمه أسامة فيها تلون وجه رسول الله صلى الله عليه و سلم و قال : أتكلمني في حد من حدود الله ؟ فقال أسامة : استغفر لي يا رسول الله
فلما كان العشي قام رسول الله صلى الله عليه و سلم خطيبا فأثنى على الله بما هو أهله ثم قال : أما بعد فإنما هلك الناس قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه و إذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد و الذي نفس محمد بيده لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها ! ]
ثم أمر رسول الله صلى الله عليه و سلم بتلك المرأة فقطعت يدها فحسنت توبتها بعد ذلك و تزوجت
قالت عائشة : كانت تأتي بعد ذلك فأرفع حاجتها إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم
و قد رواه البخاري في موضع آخر و مسلم من حديث ابن وهب عن يونس عن الزهري عن عروة عن عائشة به
و في صحيح مسلم من حديث سبرة بن معبد الجهني قال : [ أمرنا رسول الله صلى الله عليه و سلم بالمتعة عام الفتح حين دخل مكة ثم لم يخرج حتى نهى عنها ]
و في رواية فقال : [ ألا إنها حرام حرام من يومكم هذا إلى يوم القيامة ]
و في رواية في مسند أحمد و السنن أن ذلك كان في حجة الوداع فالله أعلم
و في صحيح مسلم [ عن أبي بكر بن أبي شيبة عن يونس بن محمد عن عبد الواحد بن زياد عن أبي العميس عن إياس بن سلمة بن الأكوع عن أبيه أنه قال : رخص لنا رسول الله صلى الله عليه و سلم عام أوطاس في متعة النساء ثلاثا ثم نهانا عنه ]
قال البيهقي : و عام أوطاس هو عام الفتح فهو و حديث سبرة سواء
قلت : من أثبت النهي عنها في غزوة خيبر قال : إنها أبيحت مرتين و حرمت مرتين و قد نص على ذلك الشافعي و غيره
و قد قيل : إنها أبيحت و حرمت أكثر من مرتين فالله أعلم و قيل : إنها إنما حرمت مرة واحدة و هي هذه المرة في غزوة الفتح
و قيل : إنها إنما أبيحت للضرورة فعلى هذا إذا وجدت ضرورة أبيحت و هذا رواية عن الإمام أحمد
و قيل : بل لم تحرم مطلقا و هي على الإباحة هذا هو المشهور عن ابن عباس و أصحابه و طائفة من الصحابة و موضع تحرير ذلك في الأحكام (3/600)
قال الإمام أحمد : [ حدثنا عبد الرزاق حدثنا ابن جريج أنبأنا عبد الله بن عثمان بن خثيم أن محمد بن الأسود ابن خلف أخبره أن أباه الأسود رأى رسول الله صلى الله عليه و سلم يبايع الناس يوم الفتح قال : جلس عند قرن مستقبله فبايع الناس على الإسلام و الشهادة قلت : و ما الشهادة ؟ قال : أخبرني محمد بن الأسود بن خلف أنه بايعهم على الإيمان بالله و شهادة أن لا إله إلا الله و أن محمد عبده و رسوله ]
تفرد به أحمد
و عند البيهقي : [ فجاءه الناس الكبار و الصغار و الرجال و النساء فبايعهم على الإسلام و الشهادة ]
و قال ابن جرير : ثم اجتمع الناس بمكة لبيعة رسول الله صلى الله عليه و سلم على الإسلام فجلس لهم ـ فيما بلغني ـ على الصفا و عمر بن الخطاب أسفل من مجلسه فأخذ على الناس السمع و الطاعة لله و لرسوله فيما استطاعوا (3/602)
قال : فلما فرغ من بيعة الرجال بايع النساء و فيهن هند بنت عتبة متنقبة متنكرة بحديثها لما كان من صنيعها بحمزة
فهي تخاف أن يأخذها رسول الله صلى الله عليه و سلم بحدثها ذلك فلما دنين من رسول الله صلى الله عليه و سلم ليبايعهن قال : [ بايعنني على أن لا تشركن بالله شيئا ] فقالت هند : و الله إنك لتأخذ علينا ما لا تأخذه من الرجال
[ و لا تسرقن ] فقالت : و الله إني كنت أصبت من مال أبي سفيان الهنة بعد الهنة و ما كنت أدري أكان ذلك علينا حلالا أم لا ؟ فقال أبو سفيان ـ و كان شاهدا لما تقول ـ : أما ما أصبت فيما مضى فأنت منه في حل
فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : و إنك لهند بنت عتبة ؟ قالت : نعم فاعف عما سلف عفا الله عنك
ثم قال : [ و لا يزنين ] فقالت : يا رسول الله و هل تزني الحرة !
ثم قال : [ و لا تقتلن أولادكن ] قالت : قد ربيناهم صغارا أفنقتلهم كبارا ؟ فأنت و هم أعلم ! فضحك عمر بن الخطاب حتى استغرق
ثم قال : [ و لا يأتين ببهتان يفترينه بين أيديهن و أرجلهن ] فقالت : و الله إن إتيان البهتان لقبيح و لبعض التجاوز أمثل
ثم قال : [ و لا يعصينني ] فقالت : في معروف فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم لعمر : [ بايعهن و استغفر لهن الله إن الله غفور رحيم ]
فبايعهن عمر و كان رسول الله صلى الله عليه و سلم [ لا يصافح النساء و لا يمس إلا امرأة أحلها الله أو ذات محرم منه ]
و ثبت في الصحيحين [ عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت : لا و الله ما مست يد رسول الله صلى الله عليه و سلم يد امرأة قط و في رواية : ما كان يبايعهن إلا كلاما و يقول : إنما قولي لامرأة واحدة كقولي لمائة امرأة ]
و في الصحيحين [ عن عائشة أن هندا بنت عتبة امراة أبي سفيان أتت رسول الله صلى الله عليه و سلم فقالت : يا رسول الله إن أبا سفيان رجل شحيح لا يعطيني من النفقة ما يكفيني و يكفي بني فهل علي من حرج إذا أخذت من ماله بغير علمه ؟ قال : خذي من ماله بالمعروف ما يكفيك و يكفي بنيك ]
و روى البيهقي [ من طريق يحيى بن بكير عن الليث عن يونس عن ابن شهاب عن عروة عن عائشة أن هند بنت عتبة قالت : يا رسول الله ما كان مما على وجه الأرض أخباء أو خباء ـ الشك من أبي بكر ـ أحب إلي من أن يذلوا من أهل أخبائك ـ أو خبائك ـ ثم ما أصبح اليوم على ظهر الأرض أهل أخباء أو خباء أحب إلي من أن يعزوا من أهل أخبائك أو خبائك فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : و أيضا و الذي نفس محمد بيده قالت : يا رسول الله إن أبا سفيان رجل شحيح فهل علي حرج أن أطعم من الذي له ؟ قال : لا بالمعروف ]
و رواه البخاري عن يحيى بن بكير بنحوه و تقدم ما يتعلق بإسلام أبي سفيان
و قال أبو داود : [ حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا جرير عن منصور عن مجاهد عن طاووس عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم يوم فتح مكة : لا هجرة و لكن جهاد و نية و إذا استنفرتم فانفروا ]
و رواه البخاري عن عثمان بن أبي شيبة و مسلم عن يحيى بن يحيى عن جرير (3/603)
و قال الإمام أحمد : [ حدثنا عفان حدثنا وهب حدثنا ابن طاووس عن أبيه عن صفوان بن أمية أنه قيل له : إنه لا يدخل الجنة إلا من هاجر فقلت له : لا أدخل منزلي حتى أسأل رسول الله ما سأله فأتيته فذكرت له فقال : لا هجرة بعد فتح مكة و لكن جهاد و نية و إذا استنفرتم فانفروا ]
تفرد به أحمد
و قال البخاري : [ حدثنا محمد بن أبي بكر حدثنا الفضيل بن سليمان حدثنا عاصم عن أبي عثمان النهدي عن مجاشع بن مسعود قال : انطلقت بأبي معبد إلى النبي صلى الله عليه و سلم ليبايعه على الهجرة فقال : مضت الهجرة لأهلها أبايعه على الإسلام و الجهاد ]
فلقيت أبا معبد فسألته فقال : صدق مجاشع
و قال خالد عن أبي عثمان عن مجاشع أنه جاء بأخيه مجالد
و قال البخاري : [ حدثنا عمرو بن خالد حدثنا زهير حدثنا عاصم عن أبي عثمان قال : حدثني مجاشع قال : أتيت رسول الله بأخي بعد يوم الفتح فقلت : يا رسول الله جئتك بأخي لتبايعه على الهجرة قال : ذهب أهل الهجرة بما فيها فقلت : على أي شيء تبايعه ؟ قال : أبايعه على الإسلام و الإيمان و الجهاد ]
فلقيت أبا معبد بعد و كان أكبرهما سنا فسألته فقال : صدق مجاشع
و قال البخاري : حدثنا محمد بن بشار حدثنا غندر حدثنا شعبة عن أبي بشر عن مجاهد قال : قلت لابن عمر : أريد أن أهاجر إلى الشام ؟ فقال : لا هجرة و لكن انطلق فاعرض نفسك فإن وجدت شيئا و إلا رجعت
و قال أبو النصر : أنبأنا شعبة أنبأنا أبو بشر سمعت مجاهدا قال : قلت لابن عمر فقال : لا هجرة اليوم ـ أو بعد رسول الله صلى الله عليه و سلم ـ مثله
حدثنا إسحاق بن يزيد حدثنا يحيى بن حمزة حدثني أبو عمرو الأوزاعي عن عبدة بن أبي لبابة عن مجاهد بن جبير أن عبد الله بن عمر قال : لا هجرة بعد الفتح
و قال البخاري : [ حدثنا إسحاق بن يزيد أنبأنا يحيى بن حمزة أنبأنا الأوزاعي عن عطاء بن أبي رباح قال : زرت عائشة مع عبيد بن عمير فسألها عن الهجرة فقالت : لا هجرة اليوم و كان المؤمنون يفر أحدهم بدينه إلى الله عز و جل و إلى رسوله مخافة أن يفتن عليه فأما اليوم فقد أظهر الله الإسلام فالمؤمن يعبد ربه حيث يشاء و لكن جهاد و نية ] (3/605)
و هذه الأحاديث و الآثار دالة على أن الهجرة إما الكاملة أو مطلقا قد انقطعت بعد فتح مكة لأن الناس دخلوا في دين الله أفواجا و ظهر الإسلام و ثبتت أركانه و دعائمه فلم تبق هجرة
اللهم إلا أن يعرض حال يقتضي الهجرة بسبب مجاورة أهل الحرب و عدم القدرة على إظهار الدين عندهم فتجب الهجرة إلى دار الإسلام و هذا ما لا خلاف فيه بين العلماء
و لكن هذه الهجرة ليست كالهجرة قبل الفتح كما أن كلا من الجهاد و الإنفاق في سبيل الله مشروع و رغب فيه إلى يوم القيامة و ليس كالإنفاق و لا الجهاد قبل الفتح فتح مكة
قال الله تعالى : { لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح و قاتل أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد و قاتلوا و كلا وعد الله الحسنى } الآية
و قد قال الإمام أحمد : [ حدثنا محمد بن جعفر حدثنا شعبة عن عمرو بن مرة عن أبي البختري الطائي عن أبي سعيد الخدري عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه قال : لما نزلت هذه السورة : { إذا جاء نصر الله و الفتح } قرأها رسول الله حتى ختمها و قال : الناس خير و أنا و أصحابي خير و قال : لا هجرة بعد الفتح و لكن جهاد و نية ]
فقال له مروان : كذبت و عنده رافع بن خديج و زيد بن ثابت قاعدان معه على السرير فقال أبو سعيد : لو شاء هذان لحدثاك و لكن هذا يخاف أن تنزعه عن عرافة قومه و هذا يخشى أن تنزعه عن الصدقة ! فرفع مروان عليه الدرة ليضربه فلما رأيا ذلك قالا : صدق
تفرد به أحمد (3/606)
و قال البخاري : حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا أبو عوانة عن أبي بشر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : كان عمر يدخلني مع أشياخ بدر فكأن بعضهم وجد في نفسه فقال : لم تدخل هذا معنا و لنا أبناء مثله ؟ فقال عمر : إنه ممن قد علمتم فدعاهم ذات يوم فأدخله معهم فما رأيت أنه أدخلني فيهم يومئذ إلا ليريهم فقال : ما تقولون في قول الله عز و جل : { إذا جاء نصر الله و الفتح } ؟ فقال بعضهم : أمرنا أن نحمد الله و نستغفره إذا نصرنا و فتح علينا و سكت بعضهم فلم يقل شيئا فقال لي : أكذلك تقول يا ابن عباس ؟ فقلت : لا فقال : ما تقول ؟ فقلت : هو أجل رسول الله صلى الله عليه و سلم أعلمه له قال : { إذا جاء نصر الله و الفتح } فذلك علامة أجلك { فسبح بحمد ربك و استغفره إنه كان توابا } قال عمر بن الخطاب : لا أعلم منها إلا ما يقول
تفرد به البخاري
و هكذا رواه من غير وجه عن ابن عباس أنه فسر ذلك بنعي رسول الله صلى الله عليه و سلم في أجله و به قال مجاهد و أبو العالية و الضحاك و غير واحد كما قال ابن عباس و عمر بن الخطاب رضي الله عنهما
فأما الحديث الذي قال الإمام أحمد : [ حدثنا محمد بن فضيل حدثنا عطاء عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : لما نزلت : { إذا جاء نصر الله و الفتح } قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : نعيت إلى نفسي بأنه مقبوض في تلك السنة ]
تفرد به الإمام أحمد و في إسناده عطاء بن أبي مسلم الخراساني و فيه ضعف تكلم فيه غير واحد من الأئمة و في لفظه نكارة شديدة و هو قوله : بأنه مقبوض في تلك السنة و هذا باطل فإن الفتح كان في سنة ثمان في رمضان منها كما تقدم بيانه و هذا ما لا خلاف فيه
و قد توفي رسول الله صلى الله عليه و سلم في ربيع الأول من سنة إحدى عشرة بلا خلاف أيضا
و هكذا الحديث الذي رواه الحافظ أبو القاسم الطبراني رحمه الله حدثنا إبراهيم بن أحمد بن عمر الوكيعي حدثنا أبي حدثنا جعفر بن عون عن أبي العميس عن أبي بكر بن أبي الجهم عن عبد الله بن عبيد الله بن عتبة عن ابن عباس قال : آخر سورة نزلت من القرآن جميعا : { إذا جاء نصر الله و الفتح }
فيه نكارة أيضا و في إسناده نظر أيضا و يحتمل أن يكون أنها آخر سورة نزلت جميعها كما قال و الله أعلم
و قد تكلمنا على تفسير هذه السورة الكريمة بما فيه كفاية و لله الحمد و المنة
و قال البخاري : حدثنا سليمان بن حرب حدثنا حماد بن زيد عن أيوب عن أبي قلابة عن عمرو بن سلمة ـ قال لي أبو قلابة : ألا تلقاه فنسأله ؟ فلقيته فسألته ـ قال : كنا بماء ممر الناس و كان يمر بنا الركبان فنسألهم : ما للناس ما للناس ؟ ما هذا الرجل ؟ فيقولون : يزعم أن الله أرسله و أوحي إليه كذا فكنت أحفظ ذاك الكلام فكأنما يغري في صدري و كانت العرب تلوم بإسلامهم الفتح فيقولون : اتركوه و قومه فإنه إن ظهر عليهم فهو نبي صادق
فلما كانت وقعة أهل الفتح بادر كل قوم بإسلامهم و بدر أبي قومي بإسلامهم فلما قدم قال : جئتكم و الله من عند النبي حقا قال : صلوا صلاة كذا في حين كذا و صلاة كذا في حين كذا فإذا حضرت الصلاة فليؤذن أحدكم و ليؤمكم أكثركم قرآنا فنظروا فلم يكن أحد أكثر قرآنا مني لما كنت أتلقى من الركبان
فقدموني بين أيديهم و أنا ابن ست أو سبع سنين و كانت علي بردة إذا سجدت تقلصت عني فقالت امرأة من الحي : ألا تغطون عنا است قارئكم ؟ فاشتروا فقطعوا لي قميصا فما فرحت بشيء فرحي بذلك القميص
تفرد به البخاري دون مسلم (3/607)
قال الله تعالى : { لقد نصركم الله في مواطن كثيرة و يوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئا و ضاقت عليكم الأرض بما رحبت ثم وليتم مدبرين ثم أنزل الله سكينته على رسوله و على المؤمنين و أنزل جنودا لم تروها و عذب الذين كفروا و ذلك جزاء الكافرين ثم يتوب الله من بعد ذلك على من يشاء و الله غفور رحيم } (3/610)
و قد ذكر محمد بن إسحاق بن يسار في كتابه : أن خروج رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى هوازن بعد الفتح في خامس شوال سنة ثمان و زعم أن الفتح كان لعشر بقين من شهر رمضان قبل خروجه إليهم خمس عشرة ليلة
و هكذا روى ابن مسعود و به قال عروة بن الزبير و اختاره أحمد و ابن جرير في تاريخه
و قال الواقدي : خرج رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى هوازن لست خلون من شوال فانتهى إلى حنين في عاشره و قال أبو بكر الصديق : لن نغلب اليوم من قلة ! فانهزموا فكان أول من انهزم بنو سليم ثم أهل مكة ثم بقية الناس
قال ابن إسحاق : و لما سمعت هوازن برسول الله صلى الله عليه و سلم و ما فتح الله عليه من مكة جمعها ملكها مالك بن عوف النصري فاجتمع إليه مع هوازن ثقيف كلها و اجتمعت نصر و جشم كلها و سعد بن بكر و ناس من بني هلال و هم قليل و لم يشهدها من قيس عيلان إلا هؤلاء و غاب عنها و لم يحضرها من هوازن كعب و كلاب و لم يشهدها منهم أحد له اسم و في بني جشم دريد بن الصمة شيخ كبير ليس فيه شيء إلا التيمن برأيه و معرفته بالحرب و كان شيخا مجربا و في ثقيف سيدان لهم و في الأحلاف قارب بن الأسود بن مسعود بن معتب و في بني مالك ذو الخمار سبيع بن الحارث و أخوه أحمر بن الحارث و جماع أمر الناس إلى مالك بن عوف النصري (3/610)
فلما أجمع المسير إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم أحضر مع الناس أموالهم و نساءهم و أبناءهم فلما نزل بأوطاس اجتمع إليه الناس و فيهم دريد بن الصمة في شجار له يقاد به فلما نزل قال : بأي واد أنتم ؟ قالوا : بأوطاس قال : نعم مجال الخيل لا حزن ضرس و لا سهل دهس مالي أسمع رغاء البعير و نهاق الحمير و بكاء الصغير و يعار الشاء ؟ قالوا : ساق مالك بن عوف مع الناس أموالهم و نساءهم و أبناءهم قال أين مالك ؟ قالوا : هذا مالك و دعي له
قال : يا مالك إنك قد أصبحت رئيس قومك و إن هذا يوم كائن له ما بعده من الأيام مالي أسمع رغاء البعير و نهاق الحمير و بكاء الصغير و يعار الشاء ؟ قال : سقت مع الناس أبناءهم و أموالهم قال : و لم ؟ قال : أردت أن أجعل خلف كل رجل أهله و ماله ليقاتل عنهم
قال : فانقض به ثم قال : راع ضأن و الله ! هل يرد المنهزم شيء ؟ ! إنها إن كانت لك لم ينفعك إلا رجل بسيفه و رمحه و إن كانت عليك فضحت في أهلك و مالك
ثم قال : ما فعلت كعب و كلاب ؟ قال : لم يشهدها منهم أحد قال : غاب الحد و الجد لو كان يوم علاء و رفعة لم تغب عنه كعب و كلاب و لوددت أنكم فعلتم ما فعلت كعب و كلاب فمن شهدها منكم ؟ قالوا : عمرو بن عامر و عوف بن عامر قال : ذانك الجذعان من عامر لا ينفعان و لا يضران ثم قال : يا مالك إنك لم تصنع بتقديم البيضة بيضة هوازن إلى نحور الخيل شيئا
ثم قال دريد لمالك بن عوف : ارفعهم إلى متمنع بلادهم و علياء قومهم ثم الق الصباء على متون الخيل فإن كانت لك لحق بك من وراءك و إن كانت عليك ألفاك ذلك و قد أحرزت أهلك و مالك
قال : و الله لا أفعل إنك قد كبرت و كبر عقلك ! ثم قال مالك : و الله لتطيعنني يا معشر هوازن أو لأتكأن على هذا السيف حتى يخرج من ظهري و كره أن يكون لدريد فيها ذكر أو رأي فقالوا : أطعناك
فقال دريد : هذا يوم لم أشهده و لم يفتني :
( يا ليتني فيها جذع ... أخب فيها و أضع )
( أقود وطفاء الزمع ... كأنها شاة صدع )
ثم قال مالك للناس : إذا رأيتموهم فاكسروا جفون سيوفكم ثم شدوا شدة رجل واحد
قال ابن إسحاق : و حدثني أمية بن عبد الله بن عثمان أنه حدث أن مالك بن عوف بعث عيونا من رجاله فأتوه و قد تفرقت أوصالهم فقال : ويلكم ما شأنكم ؟ قالوا : رأينا رجالا بيضا على خيل بلق فوالله ما تماسكنا أن أصابنا ما ترى فوالله ما رده ذلك عن وجهه أن مضى على ما يريد
قال ابن إسحاق : و لما سمع بهم نبي الله صلى الله عليه و سلم بعث إليهم عبد الله بن أبي حدرد الأسلمي و أمره أن يدخل في الناس فيقيم فيهم حتى يعلم علمهم ثم يأتيه بخبرهم
فانطلق ابن أبي حدرد فدخل فيهم حتى سمع و علم ما قد أجمعوا له من حرب رسول الله صلى الله عليه و سلم و سمع من مالك و أمر هوازن ما هم عليه ثم أقبل حتى أتى رسول الله صلى الله عليه و سلم فأخبره الخبر
فلما أجمع رسول الله صلى الله عليه و سلم السير إلى هوازن ذكر له أن عند صفوان بن أمية أدراعا له و سلاحا فأرسل إليه و هو يومئذ مشرك فقال : [ يا أبا أمية أعرنا سلاحك هذا نلقى فيه عدونا غدا ]
فقال صفوان : أغصبا يا محمد ؟ قال : [ بل عارية مضمونة حتى نؤديها إليك ] قال ليس بهذا بأس
فأعطاه مائة درع بما يكفيها من السلاح فزعموا أن رسول الله صلى الله عليه و سلم سأله أن يكفيهم حملها ففعل
هكذا أورد هذا ابن إسحاق من غير إسناد
و قد روى يونس بن بكير [ عن ابن إسحاق عن عاصم بن عمر بن قتادة عن عبد الرحمن بن جابر بن عبد الله عن أبيه و عن عمرو بن شعيب و الزهري و عبد الله بن أبي بكر بن عمرو بن حزم و غيرهم قصة حنين فذكر نحو ما تقدم و قصة الأدراع كما تقدم و فيه أن ابن أبي حدرد لما رجع فأخبر رسول الله صلى الله عليه و سلم خبر هوازن كذبه عمر بن الخطاب فقال له ابن أبي حدرد : لئن كذبتني يا عمر فربما كذبت بالحق فقال عمر : ألا تسمع ما يقول يا رسول الله ؟ فقال : قد كنت ضالا فهداك الله ]
و قد قال الإمام أحمد : [ حدثنا يزيد بن هارون أنبأنا شريك عن عبد العزيز بن رفيع عن أمية بن صفوان بن أمية عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه و سلم استعار من أمية يوم حنين أدراعا فقال : أغصبا يا محمد ؟ فقال : بل عارية مضمونة قال : فضاع بعضها فعرض عليه رسول الله صلى الله عليه و سلم أن يضمنها له فقال : أنا اليوم يا رسول الله في الإسلام أرغب ]
و رواه أبو داود و النسائي من حديث يزيد بن هارون به
و أخرجه النسائي من رواية إسرائيل [ عن عبد العزيز بن رفيع عن ابن أبي مليكة عن عبد الرحمن بن صفوان بن أمية أن رسول الله صلى الله عليه و سلم استعار من صفوان دروعا ] فذكره
و رواه من حديث هشيم عن حجاج عن عطاء أن رسول الله صلى الله عليه و سلم استعار من صفوان بن أمية أدراعا و أفراسا و ساق الحديث
و قال أبو داود : [ حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا جرير عن عبد العزيز بن رفيع عن أناس من آل عبد الله بن صفوان أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : يا صفوان هل عندك من سلاح ؟ قال : عارية أم غصبا ؟ قال : بل عارية فأعاروه ما بين الثلاثين إلى الأربعين درعا و غزا رسول الله صلى الله عليه و سلم حنينا فلما هزم المشركون جمعت دروع صفوان ففقد منها أدراعا فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم لصفوان : قد فقدنا من أدراعك أدراعا فهل نغرم لك ؟ قال : لا يا رسول الله إن في قلبي اليوم ما لم يكن يومئذ ]
و هذا مرسل أيضا (3/611)
قال ابن إسحاق : ثم خرج رسول الله صلى الله عليه و سلم معه ألفان من أهل مكة مع عشرة آلاف من أصحابه الذين خرجوا معه ففتح الله بهم مكة فكانوا اثني عشر ألفا
قلت : و على قول عروة و الزهري و موسى بن عقبة يكون مجموع الجيشين اللذين سار بهم إلى هوازن أربعة عشر ألفا لأنه قدم باثني عشر ألفا إلى مكة على قولهم و أضيف إليهم ألفان من الطلقاء
و ذكر ابن إسحاق أنه خرج من مكة في خامس شوال قال : و استخلف على أهل مكة عتاب بن أسيد بن أبي العيص بن أمية بن عبد شمس الأموي
قلت : و كان عمره إذ ذاك قريبا من عشرين سنة
قال : و مضى رسول الله صلى الله عليه و سلم يريد لقاء هوازن
ثم ذكر قصيدة العباس بن مرداس السلمي في ذلك منها قوله :
( أبلغ هوازن أعلاها و أسفلها ... مني رسالة نصح فيه تبيان )
( إني أظن رسول الله صابحكم ... جيشا له في فضاء الأرض أركان )
( فيهم سليم أخوكم غير تارككم ... و المسلمون عباد الله غسان )
( و في عضادته اليمنى بنو أسد ... و الأجربان بنو عبس و ذبيان )
( تكاد ترجف منه الأرض رهبته ... و في مقدمه أوس و عثمان )
قال ابن إسحاق : أوس و عثمان قبيلا مزينة
قال : [ و حدثني الزهري عن سنان بن أبي سنان الديلي عن أبي واقد الليثي أن الحارث بن مالك قال : خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى حنين و نحن حديثو عهد بالجاهلية
قال : فسرنا معه إلى حنين قال : و كانت لكفار قريش و من سواهم من العرب شجرة عظيمة خضراء يقال لها ذات أنواط يأتونها كل سنة فيعلقون أسلحتهم عليها و يذبحون عندها و يعكفون عليها يوما
قال : فرأينا و نحن نسير مع رسول الله صلى الله عليه و سلم سدرة خضراء عظيمة قال : فتنادينا من جنبات الطريق : يا رسول الله اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : الله أكبر ! قلتم و الذي نفسي بيده كما قال قوم موسى لموسى : اجعل لنا إلها كما لهم آلهة قال : إنكم قوم تجهلون إنها السنن ! لتركبن سنن من كان قبلكم ]
و قد روى هذا الحديث الترمذي عن سعيد بن عبد الرحمن المخزومي عن سفيان و النسائي عن محمد بن رافع عن عبد الرزاق عن معمر كلاهما عن الزهري كما رواه ابن إسحاق عنه و قال الترمذي : حسن صحيح و رواه ابن أبي حاتم في تفسيره من طريق كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف عن أبيه عن جده مرفوعا
و قال أبو داود : [ حدثنا أبو توبة حدثنا معاوية بن سلام عن زيد بن سلام أنه سمع أبا سلام عن السلولي أنه حدثه سهل بن الحنظلية أنهم ساروا مع رسول الله صلى الله عليه و سلم يوم حنين فأطنبوا السير حتى كان العشية فحضرت صلاة الظهر عند رسول الله صلى الله عليه و سلم فجاء رجل فارس فقال : يا رسول الله إني انطلقت بين أيديكم حتى طلعت جبل كذا و كذا فإذا أنا بهوازن عن بكرة أبيهم بظعنهم و بنعمهم و شائهم اجتمعوا إلى حنين
فتبسم رسول الله صلى الله عليه و سلم و قال : تلك غنيمة المسلمين غدا إن شاء الله ثم قال : من يحرسنا الليلة ؟ قال أنس بن أبي مرثد : أنا يا رسول الله قال : فاركب فركب فرسا له وجاء إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال له رسول الله صلى الله عليه و سلم : استقبل هذا الشعب حتى تكون في أعلاه و لا نغرن من قبلك الليلة
فلما أصبحنا خرج رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى مصلاه فركع ركعتين ثم قال : هل أحسستم فارسكم ؟ قالوا : يا رسول الله ما أحسسناه فثوب بالصلاة فجعل رسول الله صلى الله عليه و سلم يصلي و يلتفت إلى الشعب حتى إذا قضى صلاته قال : أبشروا فقد جاء فارسكم فجعل ينظر إلى خلال الشجر في الشعب و إذا هو قد جاء حتى وقف على رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : إني انطلقت حتى إذا كنت في أعلى هذا الشعب حيث أمرني رسول الله صلى الله عليه و سلم فلما أصبحت طلعت الشعبين كليهما فنظرت فلم أر أحدا فقال له رسول الله صلى الله عليه و سلم : هل نزلت الليلة ؟ قال : لا إلا مصليا أو قاضي حاجة فقال له رسول الله صلى الله عليه و سلم : قد أوجبت فلا عليك ألا تعمل بعدها ! ]
و هكذا رواه النسائي عن محمد بن يحيى عن محمد بن كثير الحراني عن أبي توبة الربيع بن نافع به (3/615)
قال يونس بن بكير و غيره عن محمد بن إسحاق : [ حدثني عاصم بن عمرو بن قتادة عن عبد الرحمن بن جابر بن عبد الله عن أبيه قال : فخرج مالك بن عوف بمن معه إلى حنين فسبق رسول الله صلى الله عليه و سلم إليها فأعدوا و تهيئوا في مضايق الوادي و أحنائه
و أقبل رسول الله و أصحابه حتى انحط بهم الوادي في غمة الصبح فلما انحط الناس ثارت في وجوههم الخيل فشدت عليهم و انكفأ الناس منهزمين لا يقبل أحد على أحد
و انحاز رسول الله صلى الله عليه و سلم ذات اليمين يقول : أين أيها الناس ؟ هلموا إلي أنا رسول الله أنا رسول الله أنا محمد بن عبد الله
قال : فلا شيء و ركبت الإبل بعضها بعضا فلما رأى رسول الله صلى الله عليه و سلم أمر الناس و معه رهط من أهل بيته : علي بن أبي طالب و أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب و أخوه ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب و الفضل بن العباس و قيل الفضل بن أبي سفيان و أيمن بن أم أيمن و أسامة بن زيد و من الناس من يزيد فيهم قثم بن العباس و رهط من المهاجرين منهم أبو بكر و عمر و العباس آخذ بحكمة بغلته البيضاء و هو عليها قد شجرها قال : و رجل من هوازن على جمل له أحمر بيده راية سوداء في رأس رمح طويل أمام هوازن و هوازن خلفه إذا أدرك طعن برمحه و إذا فاته الناس رفع رمحه لمن وراءه فاتبعوه
قال : فبينما هو كذلك إذ هوى له علي بن أبي طالب و رجل من الأنصار يريدانه قال : فيأتي علي من خلفه فضرب عرقوبي الجمل فوقع على عجزه و وثب الأنصاري على الرجل فضربه ضربة أطن قدمه بنصف ساقه فانجعف عن رحله
قال : و اجتلد الناس فوالله ما رجعت راجعة الناس من هزيمتهم حتى وجدوا الأسارى مكتفين عند رسول الله صلى الله عليه و سلم ]
و رواه الإمام أحمد عن يعقوب بن إبراهيم الزهري عن أبيه عن محمد بن إسحاق
قال ابن إسحاق : [ و التفت رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى أبي سفيان بن الحارث بن عبد المطلب و كان ممن صبر يومئذ و كان حسن الإسلام حين أسلم و هو آخذ بثفر بغلة رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : من هذا ؟ قال ابن أمك يا رسول الله ] (3/618)
قال ابن إسحاق : و لما انهزم الناس تكلم رجال من جفاة الأعراب بما في أنفسهم من الضغن فقال أبو سفيان صخر بن حرب ـ يعني و كان إسلامه بعد مدخولا و كانت الأزلام بعد معه يومئذ ـ قال : لا تنتهي هزيمتهم دون البحر ! و صرخ كلدة جبلة بن الحنبل و هو مع أخيه صفوان بن أمية ـ يعني لأمه ـ و هو مشرك في المدة التي جعل له رسول الله صلى الله عليه و سلم : ألا بطل السحر اليوم فقال له صفوان : اسكت فض الله فاك فوالله لأن يربني رجل من قريش أحب إلي من أن يربني رجل من هوازن
و قال الإمام أحمد : [ حدثنا عفان بن مسلم حدثنا حماد بن سلمة أنبأنا إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة عن أنس بن مالك أن هوازن جاءت يوم حنين بالنساء و الصبيان و الإبل و الغنم فجعلوها صفوفا يكثرون على رسول الله صلى الله عليه و سلم فلما التقوا ولى المسلمون مدبرين كما قال الله تعالى فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : يا عباد الله أنا عبد الله و رسوله ثم قال : يا معشر الأنصار أنا عبد الله و رسوله
قال : فهزم الله المشركين و لم يضرب بسيف و لم يطعن برمح
قال : و قال رسول الله صلى الله عليه و سلم يومئذ : من قتل كافرا فله سلبه قال : فقتل أبو طلحة يومئذ عشرين رجلا و أخذ أسلابهم
و قال أبو قتادة : يا رسول الله إني ضربت رجلا على حبل العاتق و عليه درع له فأجهضت عنه فانظر من أخذها قال : فقام رجل فقال : أنا أخذتها فأرضه منها و أعطنيها قال : و كان رسول الله صلى الله عليه و سلم لا يسأل شيئا إلا أعطاه أو سكت فسكت رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال عمر : و الله لا يفيئها الله على أسد من أسد الله و يعطيكها فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : صدق عمر ] (3/619)
قال و لقي أبو طلحة أم سليم و معها خنجر فقال أبو طلحة : ما هذا ؟ فقالت : إن دنا مني بعض المشركين أن أبعج في بطنه فقال أبو طلحة : أما تسمع ما تقول أم سليم ؟ فضحك رسول الله صلى الله عليه و سلم فقالت : يا رسول الله أقتل من بعدنا من الطلقاء انهزموا بك فقال : [ إن الله قد كفى و أحسن يا أم سليم ]
و قد روى مسلم منه قصة خنجر أم سليم و أبو داود قوله : [ من قتل قتيلا فله سلبه ] كلاهما من حديث حماد بن سلمة به
و قول عمر في هذا مستغرب و المشهور أن ذلك أبو بكر الصديق
و قال الإمام أحمد : [ حدثنا عبد الصمد بن عبد الوارث حدثنا أبي حدثنا نافع أبو غالب شهد أنس بن مالك فقال العلاء بن زياد العدوي : يا أبا حمزة بسن أي الرجال كان رسول الله صلى الله عليه و سلم إذ بعث ؟ فقال : ابن أربعين سنة قال : ثم كان ماذا ؟ قال : ثم كان بمكة عشر سنين و بالمدينة عشر سنين فتمت له ستون سنة ثم قبضه الله إليه قال : بسن أي الرجال هو يومئذ ؟ قال : كأشب الرجال و أحسنه و أجمله و ألحمه
قال : يا أبا حمزة و هل غزوت مع رسول الله صلى الله عليه و سلم ؟ قال : غزوت معه يوم حنين فخرج المشركون بكرة فحملوا علينا حتى رأينا خيلنا وراء ظهورنا و في المشركين رجل يحمل علينا فيدقنا و يحطمنا فلما رأى ذلك رسول الله صلى الله عليه و سلم نزل فهزمهم الله فولوا فقام رسول الله صلى الله عليه و سلم حين رأى الفتح فجعل يجاء بهم أسارى رجلا رجلا فيبايعونه على الإسلام فقال رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم : إن علي نذرا لئن جيء بالرجل الذي كان منذ اليوم يحطمنا لأضربن عنقه قال : فسكت نبي الله صلى الله عليه و سلم و جيء بالرجل فلما رأى نبي الله صلى الله عليه و سلم قال : يا نبي الله تبت إلى الله قال : و أمسك نبي الله صلى الله عليه و سلم أن يبايعه ليوفي الآخر نذره قال : و جعل ينظر إلى النبي صلى الله عليه و سلم ليأمره بقتله و يهاب رسول الله صلى الله عليه و سلم فلما رأى النبي صلى الله عليه و سلم أنه لا يصنع شيئا بايعه فقال : يا نبي الله نذري ؟ قال : لم أمسك عنه منذ اليوم إلا لتوفي نذرك فقال : يا رسول الله ألا أومأت إلي ؟ قال : إنه ليس لنبي أن يومىء ]
تفرد به أحمد
و قال أحمد : [ حدثنا يزيد حدثنا حميد الطويل عن أنس بن مالك قال : كان من دعاء النبي صلى الله عليه و سلم يوم حنين : اللهم إنك إن تشأ لا تعبد في الأرض بعد اليوم ]
إسناده ثلاثي على شرط الشيخين و لم يخرجه أحد من أصحاب الكتب من هذا الوجه (3/620)
و قال البخاري : [ حدثنا محمد بن بشار حدثنا غندر حدثنا شعبة عن أبي إسحاق سمع البراء بن عازب ـ و سأله رجل من قيس : أفررتم عن رسول الله صلى الله عليه و سلم يوم حنين ؟ ـ فقال : لكن رسول الله صلى الله عليه و سلم لم يفر كانت هوازن رماة و إنا لما حملنا عليهم انكشفوا فأكببنا على الغنائم فاستقبلتنا بالسهام و لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه و سلم على بغلته البيضاء و إن أبا سفيان آخذ بزمامها و هو يقول : أنا النبي لا كذب ]
و رواه البخاري عن أبي الوليد عن شعبة به و قال :
( أنا النبي لا كذب ... أنا ابن عبد المطلب )
قال البخاري : [ و قال إسرائيل و زهير يعني عن أبي إسحاق عن البراء ثم نزل عن بغلته ]
و رواه مسلم و النسائي عن بندار و زاد مسلم : و أبي موسى كلاهما عن غندر به
و روى مسلم [ من حديث زكريا بن أبي زائدة عن أبي إسحاق عن البراء قال : ثم نزل فانتصر و هو يقول :
( أنا النبي لا كذب ... أنا ابن عبد المطلب )
اللهم نزل نصرك ]
قال البراء : [ و لقد كنا إذا حمي البأس نتقي برسول الله صلى الله عليه و سلم و إن الشجاع الذي يحاذي به ]
و روى البيهقي [ من طرق أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال يومئذ : أنا ابن العواتك ]
و قال الطبراني : [ حدثنا عباس بن الفضل الأسفاطي حدثنا عمرو بن عوف الواسطي حدثنا هشيم أنبأنا يحيى بن سعيد عن عمرو بن سعيد العاص عن شبابة عن ابن عاصم السلمي أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال يوم حنين : أنا ابن العواتك ]
و قال البخاري : [ حدثنا عبد الله بن يوسف أنبأنا مالك عن يحيى بن سعيد عن عمرو بن كثير بن أفلح عن أبي محمد مولى أبي قتادة عن أبي قتادة قال : خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه و سلم عام حنين فلما التقينا كانت للمسلمين جولة فرأيت رجلا من المشركين قد علا رجلا من المسلمين فضربته من ورائه على حبل عاتقه بالسيف فقطعت الدرع و أقبل علي فضمني ضمة وجدت منها ريح الموت ثم أدركه الموت فأرسلني فلحقت عمر فقلت : ما بال الناس ؟ فقال : أمر الله ] (3/622)
و رجعوا و جلس رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : [ من قتل قتيلا له عليه بينة فله سلبه فقمت فقلت : من يشهد لي ؟ ثم جلست فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم مثله فقلت : من يشهد لي ؟ ثم جلست فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم مثله فقلت : من يشهد لي ثم جلست : ثم قال رسول الله صلى الله عليه و سلم مثله فقمت فقال مالك يا أبا قتادة ؟ فأخبرته فقال رجل : صدق سلبه عندي فأرضه مني فقال أبو بكر : لا و الله إذا تعمد إلى أسد من أسد الله يقاتل عن الله و رسوله فيعطيك سلبه ؟ ! فقال النبي صلى الله عليه و سلم : صدق فأعطه فأعطانيه فابتعت به مخرفا في بني سلمة فإنه لأول مال تأثلته في الإسلام ]
و رواه بقية الجماعة إلا النسائي من حديث يحيى بن سعيد به
قال البخاري : [ و قال الليث بن سعد : حدثني يحيى بن سعيد عن عمرو بن كثير بن أفلح عن أبي محمد مولى أبي قتادة أن أبا قتادة قال : لما كان يوم حنين نظرت إلى رجل من المسلمين يقاتل رجلا من المشركين و آخر من المشركين يختله من ورائه ليقتله فأسرعت إلى الذي يختله فرفع يده ليضربني فأضرب يده فقطعتها ثم أخذني فضمني ضما شديدا حتى تخوفت ثم نزل فتحلل فدفعته ثم قتلته و انهزم المسلمون فانهزمت معهم فإذا بعمر بن الخطاب في الناس فقلت له : ما شأن الناس ؟ قال : أمر الله !
ثم تراجع الناس إلى رسول الله فقال رسول الله : من أقام بينة على قتيل فله سلبه فقمت لألتمس بينة على قتيلي فلم أر أحدا يشهد لي فجلست ثم بدا لي فذكرت أمره لرسول الله صلى الله عليه و سلم فقال رجل من جلسائه : سلاح هذا القتيل الذي يذكر عندي فأرضه مني فقال أبو بكر : كلا لا يعطه أضيبع من قريش و يدع أسدا من أسد الله يقاتل عن الله و رسوله قال : فقام رسول الله فأداه إلي فاشتريت به مخرفا فكان أول مال تأثلته ]
و قد رواه البخاري في مواضع أخر و مسلم كلاهما عن قتيبة عن الليث بن سعد به
و قد تقدم من رواية نافع أبي غالب عن أنس أن القائل لذلك عمر بن الخطاب فلعله قاله متابعة لأبي بكر الصديق و مساعدة و موافقة له أو قد اشتبه على الراوي و الله أعلم (3/623)
و قال الحافظ البيهقي : [ أنبأنا الحاكم أنبأنا الأصم أنبأنا أحمد بن عبد الجبار عن يونس بن بكير عن محمد بن إسحاق حدثني عاصم بن عمر عن عبد الرحمن بن جابر عن أبيه جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال يوم حنين حين رأى من الناس ما رأى : يا عباس ناد : يا معشر الأنصار يا أصحاب الشجرة فأجابوه : لبيك لبيك فجعل الرجل يذهب ليعطف بعيره فلا يقدر على ذلك فيقذف درعه عن عنقه و يأخذ سيفه و ترسه ثم يؤم الصوت حتى اجتمع إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم منهم مائة فاستعرض الناس فاقتتلوا و كانت الدعوة أول ما كانت للأنصار ثم جعلت آخرا للخزرج و كانوا صبرا عند الحرب و أشرف رسول الله صلى الله عليه و سلم في ركائبه فنظر إلى مجتلد القوم فقال : الآن حمي الوطيس
قال : فوالله ما راجعه الناس إلا و الأسارى عند رسول الله صلى الله عليه و سلم مكتفون فقتل الله منهم من قتل و انهزم منهم من انهزم و أفاء الله على رسوله صلى الله عليه و سلم أموالهم و أبناءهم ]
و قال ابن لهيعة [ عن أبي الأسود عن عروة و ذكر موسى بن عقبة في مغازيه عن الزهري أن رسول الله صلى الله عليه و سلم لما فتح الله عليه مكة و أقر بها عينه خرج إلى هوازن و خرج معه أهل مكة لم يغادر منهم أحدا ركبانا و مشاة حتى خرج النساء يمشين على غير دين نظارا ينظرون و يرجون الغنائم و لا يكرهون مع ذلك أن تكون الصدمة برسول الله صلى الله عليه و سلم و أصحابه قالوا : و كان معه أبو سفيان بن حرب و صفوان بن أمية و كانت امرأته مسلمة و هو مشرك لم يفرق بينهما
قالوا : و كان رئيس المشركين يومئذ مالك بن عوف النصري و معه دريد بن الصمة يرعش من الكبر و معه النساء و الذراري و النعم فبعث رسول الله صلى الله عليه و سلم عبد الله بن أبي حدرد عينا فبات فيهم فسمع مالك بن عوف يقول لأصحابه : إذا أصبحتم فاحملوا عليهم حملة رجل واحد و اكسروا أغماد سيوفكم و اجعلوا مواشيكم صفا و نساءكم صفا
فلما أصبحوا اعتزل أبو سفيان و صفوان و حكيم بن حزام وراءهم ينظرون لمن تكون الدائرة و صف الناس بعضهم لبعض و ركب رسول الله صلى الله عليه و سلم بغلة له شهباء فاستقبل الصفوف فأمرهم و حضهم على القتال و بشرهم بالفتح ـ إن صبروا ـ
فبينما هم كذلك إذ حمل المشركون على المسلمين حملة رجل واحد فجال المسلمون جولة ثم ولوا مدبرين فقال حارثة بن النعمان : لقد حزرت من بقي مع رسول الله صلى الله عليه و سلم حين أدبر الناس فقلت : مائة رجل
قالوا : و مر رجل من قريش بصفوان بن أمية فقال : : أبشر بهزيمة محمد و أصحابه فوالله لا يجتبرونها أبدا فقال له صفوان : تبشرني بظهور الأعراب ؟ فوالله لرب من قريش أحب إلي من رب من الأعراب و غضب صفوان لذلك
قال عروة : و بعث صفوان غلاما له فقال : اسمع لمن الشعار ؟ فجاءه فقال : سمعتهم يقولون : يا بني عبد الرحمن يا بني عبد الله يا بني عبيد الله فقال : ظهر محمد و كان ذلك شعارهم في الحرب ] (3/625)
قالوا : و كان رسول الله صلى الله عليه و سلم لما غشيه القتال قام في الركابين و هو على البغلة فرفع يديه إلى الله يدعوه و يقول : [ اللهم إني أنشدك ما وعدتني اللهم لا ينبغي لهم أن يظهروا علينا و نادى أصحابه و زمرهم : يا أصحاب البيعة يوم الحديبية الله الله الكرة على نبيكم و يقال حرضهم فقال : يا أنصار الله و أنصار رسوله يا بني الخزرج يا أصحاب سورة البقرة و أمر بأصحابه من ينادي بذلك و قالوا : و قبض قبضة من الحصباء فحصب بها وجوه المشركين و نواصيهم كلها و قال : شاهت الوجوه ] (3/626)
و أقبل أصحابه إليه سراعا يبتدرون و زعموا أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ الآن حمي الوطيس
فهزم الله أعداءه من كل ناحية حصبهم منها و اتبعهم المسلمون يقتلونهم و غنمهم الله نساءهم و ذراريهم و فر
مالك بن عوف حتى دخل حصن الطائف هو و أناس من أشراف قومه
و أسلم عند ذلك ناس كثير من أهل مكة حين رأوا نصر الله رسوله صلى الله عليه و سلم و إعزازه دينه ]
رواه البيهقي
و قال ابن وهب : [ أخبرني يونس عن الزهري أخبرني كثير بن العباس بن عبد المطلب قال : قال العباس :
شهدت مع رسول الله صلى الله عليه و سلم يوم حنين فلزمته أنا و أبو سفيان بن الحارث لا نفارقه و رسول الله صلى الله عليه و سلم على بغلة بيضاء أهداها له فروة بن نفاثة الجذامي فلما التقى الناس ولى المسلمون مدبرين فطفق رسول الله صلى الله عليه و سلم يركض بغلته قبل الكفار قال العباس : و أنا آخذ بلجامها أكفها إرادة ألا تسرع و أبو سفيان آخذ بركاب رسول الله صلى الله عليه و سلم
و قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : أي عباس ناد أصحاب السمرة قال : فوالله لكأنما عطفتهم حين سمعوا
صوتي عطفة البقر على أولادها ! فقالوا : يا لبيكاه يا لبيكاه !
قال : فاقتتلوا هم و الكفار و الدعوة في الأنصار يقولون : يا معشر الأنصار ثم قصرت الدعوة على بني الحارث بن
الخزرج فقالوا : يا بني الحارث بن الخزرج
فنظر رسول الله صلى الله عليه و سلم و هو على بغلته كالمتطاول عليها إلى قتالهم فقال : هذا حين حمي الوطيس ثم
أخذ حصيات فرمى بهن وجوه الكفار ثم قال : انهزموا و رب محمد قال : فذهبت أنظر فإذا القتال على هيئته فيما
أرى قال : فوالله ما هو إلى أن رماهم رسول الله صلى الله عليه و سلم بحصياته فما زلت أرى حدهم كليلا و
أمرهم مدبرا ]
و رواه مسلم عن أبي الطاهر عن ابن وهب به نحوه و رواه أيضا عن محمد بن رافع عن عبد الرزاق عن
معمر عن الزهري نحوه
و روى مسلم [ من حديث عكرمة بن عمار عن إياس بن سلمة بن الأكوع عن أبيه قال : غزونا مع رسول
الله صلى الله عليه و سلم حنينا فلما واجهنا العدو تقدمت فأعلو ثنية فاستقبلني رجل من المشركين فأرميه بسهم و
توارى عني فما دريت ما صنع ثم نظرت إلى القوم فإذا هم قد طلعوا من ثنية أخرى فالتقوا هم و صحابة رسول الله
صلى الله عليه و سلم فولى أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم و أرجع منهزما و علي بردتان متزر بإحداهما
مرتد بالأخرى قال : فأستطلق إزاري فجمعتهما جميعا و مررت على النبي صلى الله عليه و سلم و أنا منهزم و هو
على بغلته الشهباء فقال : لقد رأى ابن الكوع فزعا فلما غشوا رسول الله صلى الله عليه و سلم نزل عن البغلة ثم
قبض قبضة من تراب من الأرض و استقبل به وجوههم و قال : شاهت الوجوه فما خلق الله منهم إنسانا إلا ملأ
عينيه ترابا من تلك القبضة فولوا مدبرين فهزمهم الله و قسم رسول الله صلى الله عليه و سلم غنائمهم بين
المسلمين ]
و قال أبو داود الطيالسي في مسنده : [ حدثنا حماد بن سلمة عن يعلى بن عطاء عن عبد الله بن يسار عن أبي عبد الرحمن الفهري قال : كنا مع رسول الله صلى الله عليه و سلم في حنين فسرنا في يوم قائظ شديد الحر فنزلنا تحت ظلال السمر فلما زالت الشمس لبست لأمتي و ركبت فرسي فأتيت رسول الله صلى الله عليه و سلم و هو في فسطاطه فقلت : السلام عليك يا رسول الله و رحمة الله و بركاته قد حان الرواح يا رسول الله ؟ قال : أجل ثم قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : يا بلال فثار من تحت سمرة كأن ظله ظل طائر فقال : لبيك و سعديك و أنا فداؤك ! فقال : أسرج لي فرسي فأتاه بدفتين من ليف ليس فيهما أشر و لا بطر
قال : فركب فرسه فسرنا يومنا فلقينا العدو و تسامت الخيلان فقاتلناهم فولى المسلمون مدبرين كما قال الله تعالى فجعل رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : يا عباد الله أنا عبد الله و رسوله و اقتحم رسول الله صلى الله عليه و سلم عن فرسه و حدثني من كان أقرب إليه مني أنه أخذ حفنة من التراب فحثا بها وجوه العدو و قال : شاهت الوجوه ]
قال يعلى بن عطاء : [ فحدثنا أبناؤهم عن آبائهم قالوا : ما بقي أحد إلا امتلأت عيناه و فمه من التراب و سمعنا
صلصلة من السماء كمر الحديد على الطست الحديد فهزمهم الله عز و جل ]
و رواه أبو داود السجستاني في سننه عن موسى بن إسماعيل عن حماد بن سلمة به نحوه
و قال الإمام أحمد : [ حدثنا عفان حدثنا عبد الواحد بن زياد حدثنا الحارث بن حصين حدثنا القاسم بن عبد
الرحمن بن عبد الله بن مسعود عن أبيه قال : قال عبد الله بن مسعود : كنت مع رسول الله صلى الله عليه و سلم
يوم حنين فولى عنه الناس و ثبت معه ثمانون رجلا من المهاجرين و الأنصار فنكصنا على أعقابنا نحوا من ثمانين قدما و لم
نولهم الدبر و هم الذين أنزل الله عليهم السكينة قال : و رسول الله صلى الله عليه و سلم على بغلته يمضي قدما
فحادت به بغلته فمال عن السرج فقلت له : ارتفع رفعك الله فقال : ناولني كفا من تراب فضرب به وجوههم
فامتلأت أعينهم ترابا قال : أين المهاجرين و الأنصار ؟ قلت : هم أولاء قال : اهتف بهم فهتفت بهم فجاءوا
سيوفهم بأيمانهم كأنها الشهب و ولى المشركون أدبارهم ]
تفرد به أحمد
و قال البيهقي : [ أنبأنا أبو عبد الله الحافظ أخبرني أبو الحسين محمد بن أحمد بن تميم القنطري حدثنا أبو قلابة
حدثنا أبو عاصم حدثنا عبد الله بن عبد الرحمن الطائفي أخبرني عبد الله بن عياض بن الحارث الأنصاري عن
أبيه أن رسول الله صلى الله عليه و سلم أتى هوازن في اثني عشر ألفا فقتل من أهل الطائف يوم حنين مثل من قتل
يوم بدر قال : و أخذ رسول الله صلى الله عليه و سلم كفا من حصى فرمى بها في وجوهنا فانهزمنا ]
و رواه البخاري في تاريخه و لم ينسب عياضا
و قال مسدد : [ حدثنا جعفر بن سليمان حدثنا عوف بن عبد الرحمن مولى أم برثن عن من شهد حنينا كافرا
قال : لما التقينا نحن و رسول الله صلى الله عليه و سلم لم يقوموا لنا حلب شاة فجئنا نهش سيوفنا بين يدي رسول الله
صلى الله عليه و سلم حتى إذا غشيناه فإذا بيننا و بينه رجال حسان الوجوه فقالوا : شاهت الوجوه فارجعوا فهزمنا
من ذلك الكلام ]
رواه البيهقي
و قال يعقوب بن سفيان : [ حدثنا أبو سفيان حدثنا أبو سعيد عبد الرحمن بن إبراهيم حدثنا الوليد بن مسلم
حدثني محمد بن عبد الله الشعبي عن الحارث بن بدل النصري عن رجل من قومه شهد ذلك يوم حنين و عمرو بن
سفيان الثقفي قالا : انهزم المسلمون يوم حنين فلم يبق مع رسول الله صلى الله عليه و سلم إلا عباس و أبو سفيان بن
الحارث
قال : فقبض رسول الله صلى الله عليه و سلم قبضة من الحصباء فرمى بها في وجوههم قال : فانهزمنا فما خيل إلينا
إلا أن كل حجر أو شجر فارس يطلبنا قال الثقفي : فأعجرت على فرسي حتى دخلت الطائف ]
و روى يونس بن بكير في مغازيه عن يوسف بن صهيب بن عبد الله أنه لم يبق مع رسول الله يوم حنين إلا رجل
واحد اسمه زيد
و روى البيهقي [ من طريق الكديمي حدثنا موسى بن مسعود حدثنا سعيد بن السائب بن يسار الطائفي عن
السائب بن يسار عن يزيد بن عامر السوائي أنه قال عند انكشافة انكشفها المسلمون يوم حنين : فتبعهم الكفار و أخذ
رسول الله صلى الله عليه و سلم قبضة من الأرض ثم أقبل على المشركين فرمى بها وجوههم و قال : ارجعوا شاهت
الوجوه فما أحد يلقى أخاه إلا و هو يشكو قذى في عينيه ]
ثم روى من طريقين آخرين عن أبي حذيفة [ حدثنا سعيد بن السائب بن يسار الطائفي حدثني أبي السائب بن يسار
سمعت يزيد بن عامر السوائي ـ و كان شهد حنينا مع المشركين ثم أسلم بعد ـ قال : فنحن نسأله عن الرعب الذي
ألقى الله في قلوب المشركين يوم حنين : كيف كان ؟ قال : فكان يأخذ لنا بحصاة فيرمي بها في الطست فيطن قال :
كنا نجد في أجوافنا مثل هذا ] (3/627)
و قال البيهقي : [ أنبأنا أبو عبد الله الحافظ و محمد بن موسى بن الفضل قالا : حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب حدثنا العباس بن محمد بن بكير الحضرمي حدثنا أبو أيوب بن جابر عن صدقة بن سعيد عن مصعب بن شيبة عن أبيه قال : خرجت مع رسول الله صلى الله عليه و سلم يوم حنين و الله ما أخرجني إسلام و لا معرفة به و لكن أبيت أن تظهر هوازن على قريش ! فقلت و أنا واقف معه : يا رسول الله إني أرى خيلا بلقا فقال : يا شيبة إنه لا يراها إلا كافر فضرب يده في صدري ثم قال : اللهم اهد شيبة ثم ضربها الثانية فقال : اللهم اهد شيبة ثم ضربها الثالثة ثم قال : اللهم اهد شيبة قال فوالله ما رفع يده عن صدري في الثالثة حتى ما كان أحد من خلق الله أحب إلي منه ]
ثم ذكر الحديث في التقاء الناس و انهزام المسلمين و نداء العباس و استنصار رسول الله صلى الله عليه و سلم حتى هزم الله المشركين
و قال البيهقي : [ أنبأنا أبو عبد الله الحافظ حدثنا أبو محمد أحمد بن عبد الله المزني حدثنا يوسف بن موسى حدثنا هشام بن خالد حدثنا الوليد بن مسلم حدثني عبد الله بن المبارك عن أبي بكر الهذلي عن عكرمة مولى ابن عباس عن شيبة بن عثمان قال : لما رأيت رسول الله صلى الله عليه و سلم يوم حنين قد عري ذكرت أبي و عمي و قتل علي و حمزة إياهما فقلت : اليوم أدرك ثأري من رسول الله صلى الله عليه و سلم
قال : فذهبت لأجيئه عن يمينه فإذا بالعباس بن عبد المطلب قائم عليه درع بيضاء كأنها فضة ينكشف عنها العجاج فقلت : عمه و لن يخذله قال : ثم جئته عن يساره فإذا أنا بأبي سفيان بن الحارث بن عبد المطلب فقلت : ابن عمه و لن يخذله قال : ثم جئته من خلفه فلم يبق إلا أن أساوره سورة بالسيف إذ رفع شواظ من نار بيني و بينه كأنه برق فخفت أن يمحشني فوضعت يدي على بصري و مشيت القهقرى فالتفت رسول الله صلى الله عليه و سلم و قال : يا شيب ادن مني اللهم أذهب عنه الشيطان قال : فرفعت إليه بصري و لهو أحب إلي من سمعي و بصري فقال : يا شيب قاتل الكفار ] (3/631)
و قال ابن إسحاق : و قال شيبة بن عثمان بن أبي طلحة أخو بني عبد الدار قلت : اليوم أدرك ثأري ـ و كان أبوه قد قتل يوم أحد ـ اليوم أقتل محمد قال : فأدرت برسول الله صلى الله عليه و سلم لأقتله فأقبل شيء حتى تغشى فؤادي فلم أطق ذاك و علمت أنه ممنوع مني
و قال محمد بن إسحاق : [ و حدثني والدي إسحاق بن يسار عمن حدثه عن جبير بن مطعم قال : إنا لمع رسول الله صلى الله عليه و سلم يوم حنين و الناس يقتتلون إذ نظرت إلى مثل البجاد الأسود يهوي من السماء حتى وقع بيننا و بين القوم فإذا نمل منثور قد ملأ الوادي فلم يكن إلا هزيمة القوم فما كنا نشك أنها الملائكة ]
و رواه البيهقي عن الحاكم عن الأصم عن أحمد بن عبد الجبار عن يونس بن بكير عن ابن إسحاق به (3/633)
و زاد فقال : خديج بن العرجاء النصري ـ يعني في ذلك ـ :
( و لما دنونا من حنين و مائه ... رأينا سوادا منكر اللون أخصفا )
( بملمومة شهباء لو قذفوا بها ... شماريخ من عروى إذا عاد صفصفا )
( و لو أن قومي طاوعتني سراتهم ... إذا ما لقينا العارض المتكشفا )
( إذا ما لقينا جند آل محمد ... ثمانين ألفا و استمدوا بخندفا ) (3/633)
و قد ذكر ابن إسحاق من شعر مالك بن عوف النصري رئيس هوازن يوم القتال و هو في حومة الوغا يرتجز و يقول :
( أقدم محاج إنه يوم نكر ... مثلي على مثلك يحمي و يكر )
( إذا أضيع الصف يوما و الدبر ... ثم احزألت زمر بعد زمر )
( كتائب يكل فيهن البصر ... قد أطعن الطعنة تقذي بالسبر )
( حين يذم المستكن المنجحر ... و أطعن النجلاء تعوي و تهر )
( لها من الجوف رشاش منهمر ... تفهق تارات و حينا تنفجر )
( و ثعلب العامل فيها منكسر ... يا زيد يابن همهم أين تفر )
( قد نفد الضرس و قد طال العمر ... قد علم البيض الطويلات الخمر )
( أنى في أمثالها غير غمر ... إذ تخرج الحاصن من تحت الستر )
و ذكر البيهقي من طريق يونس بن بكير عن ابن إسحاق أنه أنشد من شعر مالك أيضا حين ولى أصحابه منهزمين و ذلك قوله بعد ما أسلم و قيل هي لغيره :
( اذكر مسيرهم و الناس كلهم ... و مالك فوقه الرايات تختفق )
( و مالك مالك ما فوقه أحد ... يوم حنين عليه التاج يأتلق )
( حتى لقوا الناس حين البأس يقدمهم ... عليهم البيض و الأبدان و الدرق )
( فضاربوا الناس حتى لم يروا أحدا ... حول النبي و حتى جنه الغسق )
( حتى تنزل جبريل بنصرهم ... فالقوم منهزم منا و معتلق )
( منا و لو غير جبريل يقاتلنا ... لمنعتنا إذا أسيافنا الفلق )
( و قد وفى عمر الفاروق إذ هزموا ... بطعنة كان منها سرجه العلق ) (3/634)
قال ابن إسحاق : و لما هزم المشركون و أمكن الله رسوله منهم قالت امرأة من المسلمين :
( قد غلبت خيل الله خيل اللات ... و الله أحق بالثبات )
قال ابن هشام : و قد أنشدنيه بعض أهل الرواية للشعر :
( قد غلبت خيل الله خيل اللات ... و خيله أحق بالثبات )
قال ابن إسحاق : فلما انهزمت هوازن استحر القتل من ثقيف في بني مالك فقتل منهم سبعون رجلا تحت رايتهم و كانت مع ذي الخمار فلما قتل أخذها عثمان بن عبد الله بن ربيعة بن الحارث بن حبيب فقاتل بها حتى قتل فأخبرني عامر بن وهب بن الأسود أن رسول الله صلى الله عليه و سلم لما بلغه قتله قال : [ أبعده الله فإنه كان يبغض قريشا ]
و ذكر ابن إسحاق عن يعقوب بن عتبة أنه قتل مع عثمان هذا غلام له نصراني فجاء رجل من الأنصار ليسلبه فإذا هو أغرل فصاح بأعلى صوته : يا معشر العرب إن ثقيفا غرل !
قال المغيرة بن شعبة الثقفي : فأخذت بيده و خشيت أن تذهب عنا في العرب فقلت : لا تقل كذلك فداك أبي و أمي إنما هو غلام لنا نصراني ثم جعلت أكشف له القتلى فأقول له : ألا تراهم مختتنين كما ترى !
قال ابن إسحاق : و كانت راية الأحلاف مع قارب بن الأسود فلما انهزم الناس أسند رايته إلى شجرة و هرب هو و بنو عمه و قومه فلم يقتل من الأحلاف غير رجلين : رجل من بني غيرة يقال له وهب و رجل من كبة يقال له الجلاح فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم حين بلغه قتل الجلاح : [ قتل اليوم سيد شباب ثقيف إلا ما كان من ابن هنيدة ] يعني الحارث بن أويس (3/635)
قال ابن إسحاق : فقال العباس بن مرداس يذكر قارب بن الأسود و فراره من بني أبيه و ذا الخمار و حبسه نفسه و قومه للموت :
( ألا من مبلغ غيلان عني ... و سوف إخال يأتيه الخبير )
( و عروة إنما أهدي جوابا ... و قولا غير قولكما يسير )
( بأن محمدا عبد رسول ... لرب لا يضل و لا يجور )
( وجدناه نبيا مثل موسى ... فكل فتى يخايره مخير )
( و بئس الأمر أمر بني قسي ... بوج إذا تقسمت الأمور )
( أضاعوا أمرهم و لكل قوم ... أمير و الدوائر قد تدور )
( فجئنا أسد غابات إليهم ... جنود الله ضاحية تسير )
( نؤم الجمع جمع بني قسي ... على حنق نكاد له نطير )
( و أقسم لو هم مكثوا لسرنا ... إليهم بالجنود و لم يغوروا )
( فكنا أسد لية ثم حتى ... أبحناها و أسلمت النصور )
( و يوم كان قبل لدى حنين ... فأقلع و الدماء به تمور )
( من الأيام لم تسمع كيوم ... و لم يسمع به فوم ذكور )
( قتلنا في الغبار بني حطيط ... على راياتها و الخيل زور )
( و لم يك ذو الخمار رئيس قوم ... لهم عقل يعاقب أو نكير )
( أقام بهم على سنن المنايا ... و قد بانت لمبصرها الأمور )
( فأفلت من نجا منهم حريضا ... و قتل منهم بشر كثير )
( و لا يغني الأمور أخو التواني ... و لا الغلق الصريرة الحصور )
( أحانهم و حان و ملكوه ... أمورهم و أفلتت الصقور )
( بنو عوف تميح بهم جياد ... أهين لها الفصافص و الشعير )
( فلولا قارب و بنو أبيه ... تقسمت المزارع و القصور )
( و لكن الرياسة عمموها ... على يمن أشار به المشير )
( أطاعوا قاربا و لهم جدود ... و أحلام إلى عز تصير )
( فإن يهدوا إلى الإسلام يلفوا ... أنوف الناس ما سمر السمير )
( فإن لم يسلموا فهم أذان ... بحرب الله ليس لهم نصير )
( كما حكت بني سعد و حرت ... برهط بني غزية عنقفير )
( كأن بني معاوية بن بكر ... إلى الإسلام ضائنة تخور )
( فقلنا أسلموا إنا أخوكم ... و قد برئت من الإحن الصدور )
( كأن القوم إذا جاءوا إلينا ... من البغضاء بعد السلم عور ) (3/636)
و لما انهزمت هوازن وقف ملكهم مالك بن عوف النصري على ثنية مع طائفة من أصحابه فقال : قفوا حتى تجوز ضعفاؤكم و تلحق أخراكم
قال ابن إسحاق : فبلغني أن خيلا طلعت و مالك و أصحابه على الثنية فقال لأصحابه : ماذا ترون ؟ قالوا : نرى قوما واضعي رماحهم بين آذان خيلهم طويلة بوادهم فقال : هؤلاء بنو سليم و لا بأس عليكم منهم فلما أقبلوا سلكوا بطن الوادي ثم طلعت خيل أخرى تتبعها فقال لأصحابه : ماذا ترون ؟ قالوا : نرى قوما عارضي رماحهم أغفالا على خيلهم فقال : هؤلاء الأوس و الخزرج و لا بأس عليكم منهم فلما انتهموا إلى أصل الثنية سلكوا طريق بني سليم ثم طلع فارس فقال لأصحابه : ماذا ترون ؟ فقالوا : نرى فارسا طويل الباد واضعا رمحه على عاتقه عاصبا رأسه بملاءة حمراء قال : هذا الزبير بن العوام و أقسم باللات ليخالطنكم فاثبتوا له فلما انتهى الزبير إلى أصل الثنية أبصر القوم فصمد لهم فلم يزل يطاعنهم حتى أزاحهم عنها (3/637)
[ و أمر رسول الله صلى الله عليه و سلم بالغنائم فجمعت من الإبل و الغنم و الرقيق و أمر أن تساق إلى الجعرانة فتحبس هناك
قال ابن إسحاق : و جعل رسول الله صلى الله عليه و سلم على الغنائم مسعود بن عمرو الغفاري ] (3/638)